قضايا

صائب المختار: التاريخ المزيف حقيقة أم افتراء

تعد ظاهرة تزييف التاريخ وتأليف الأكاذيب شائعة في ثقافتنا الحاضرة، وتعتبر حالياً من المعتقدات الصحيحة والراسخة في عقولنا، وأصبح الكثير منا يؤمن جازماً أن التاريخ العربي والإسلامي هو تاريخ مزيّف مملوء بالأكاذيب!! وأتساءل هنا، هل حقاً أن تاريخنا الاسلامي كاذب ومزيّف؟ لو سألنا محرك البحث جوجل عن حقيقة التاريخ المزيف فسوف يدلّنا على موقع ويكيبيديا، ومنه أقتبس ما يلي "عملياّ، التاريخ المزيّف (Pseudohistory) هو كذبة كبيرة تتميز بمزاعم عظيمة عن وقائع تاريخية تحاول تفسيرها بطرق غير نزيهة علمياً خلال المراجعة التاريخية". ويُعَرِف الكاتبان مايكل شيرمر وأليكس غروبمان التاريخ الزائف بأنه "إعادة كتابة الماضي لأغراض شخصية أو سياسية حالية".

إن مصطلح التاريخ المزيّف يشير إلى عملية خلق ونشر روايات أو ادعاءات خالية من الأدلة الصارمة لأثبات صحتها، وينقصها الدليل العلمي. وغالباً ما يعتمد، من يحاول تزييف التاريخ، على حكايات أو مرويات غير موثقة، أو نظرية مؤامرة، بينما يعتمد العاملون في مجال البحث العلمي التاريخي على تحليل دقيق للمصادر الأولية وتدقيق صارم من قبل علماء ومؤرخين آخرين لتأكيد صحة المعلومة التاريخية. وهذا ما يجعل كتابة التاريخ المزيّف مكشوفة وواضحة في عيون الباحثين والمؤرخين.

يتضمن تزييف التاريخ، عملية تغيير أو تعديل الوقائع التاريخية بشكل مقصود ومتعمّد، للحصول على هدف معيّن أو غاية خاصة. وعامل التَعَمد والإصرار في تزييف التاريخ هنا مهم، لأنه يؤكد إصرار الشخص الذي يُزيّف التاريخ على التعمّد في إضافة معلومة كاذبة لحدث تاريخي معيّن، أو تشويه ممنهج للحدث التاريخي. ولو انعدم عامل التعمّد في إضافة المعلومة غير الصحيحة، لكان اجتهاداً خاطئاً ولا يعتبر تزييف أو تشويه للتاريخ.

ظهر مصطلح التاريخ المزيّف في أوروبا، في بداية القرن التاسع عشر. ويتفق الجميع على أن المجتمع الإسلامي والعربي في هذه الفترة كان في حالة سبات عميق، مما يوحي بأن المجتمع العربي والإسلامي ليس له دور في ابتداع هذه الأكاذيب والأعمال المشينة. من ذلك يمكن الاستنتاج أن فكرة تزييف التاريخ هي صناعة غربية (أوروبية). ومن الأمثلة التي ذُكِرت عن محاولات تزييف التاريخ، الفرضية التي روّج لها الكاتب غراهام هانكوك، أن المعالم الحضارية القديمة كالأهرامات المصرية وستون هنج، بُنيت بحضارات قديمة سابقة لها تملك تقنيات تفوق ما يملكه البشر في الوقت الحاضر. وكذلك يُصَنّف إنكار الهولوكوست على أنه تاريخ زائف حسب المرويات الغربية.

والمهم عندنا هو صحة التاريخ الإسلامي. يُعَرّف التاريخ لغوياً بأنه التوثيق الزمني للأحداث، كقولنا "كتابكم المؤرخ في كذا، وقولنا زارنا فلان بتاريخ كذا". إن توثيق الأحداث التاريخية المعروفة بشكل واضح ومتفق عليه عند المؤرخين يُخرجه من دائرة الشك والتشويش إلى دائرة اليقين. لكن الاحداث التاريخية لا تُنقل دائماً بشكل كامل، بل يوجد في معظم الأحيان نقص أو خلط أو اختلاف في كتابة الحدث التاريخي وتوثيقه، وهذا يشكل مدخلاً للتلاعب بالتاريخ، وهو طبعاً مكشوف ومعروف عند المؤرخين. يُمكن استغلال هذا الفراغ التاريخي لإدخال معلومات تاريخية كاذبة معيّنة أو إهمال متعمّد لأحداث معيّنة، وتشويه معلومات أخرى، وبهدف معيّن. والمعروف إن من يقوم بمثل هذه الاعمال هم فئة من الناس لها مآرب ومقاصد خاصة، قد تكون شخصية أو طائفية أو مادية أو غيرها. بالطبع، هناك مجموعة من العلماء والباحثين والمؤرخين، يعملون بجد وإخلاص من أجل توثيق التاريخ الصحيح، لكن هناك أيضاً مجموعة تعمل على تزييف وتشويش التاريخ لأهداف معينة كما ذكرنا ذلك.

التاريخ يكتبه المنتصرون

الملاحظ أن مؤرخي العصر الحديث، يغلب عليهم التأثُر بميولهم وأفكارهم الشخصية دون التجرد والحيادية في كتابة التاريخ، مما يجعل المقولة التاريخية متضاربة بين مصدر وآخر، ويقلل من مصداقيتها، وبالتالي تُحدِث بلبلة في المعلومات وتقلل من ثقة القارئ بالتاريخ. وهذا ينقلنا إلى مقولة أخرى شائكة هي " التاريخ يكتبه المنتصرون" والتي اكتسبت مصداقية واسعة في عقول الناس وأصبحت حقيقة مقبولة، لكن الصحيح أن هذه المقولة قد أُسيء فهمها، فالمنتصرون هنا هم رجال السياسة والاعلام وهم ليسوا مؤرخين. من ذلك يتضح أن كلام المنتصرين يشوبه التشتت وانعدام الثقة والمصداقية، كونهم لا يعملون في مجال العلوم التاريخية. يُذكر أن هذه المقولة (التاريخ يكتبه المنتصرون) ظهرت في عام 1940، ونسبت إلى المفكر الألماني والتر بنيامين، من أجل أن يُفَرِّق بين المؤرخ الصادق الذي يلتزم بالحيادية، سواء أن كان منتصراً أم مهزوماً، وبين مُدوّن الأخبار الذي يتأثر بالمنتصر، علماً أن المدونين لا يعتبرون مؤرخين بالمقياس العلمي. والحقيقة، أن التاريخ لا يكتبه المنتصرون وإنمّا يكتبه المؤرخون الذين هم علماء يتمتعون بمصداقية ونزاهة العلم ويسعون لكتابة التاريخ الصحيح حصراً.

إن أحداث التاريخ المعروفة لا يمكن تغييرها، فمثلاً انتصار اليابانيين على الامريكان في معركة بيرل هاربر لا يمكن التشكيك فيه، ولا يمكن قلب الحقيقة لتُظهِر أن اليابانيين خسروا المعركة، وكذلك استسلام اليابانيين بعد قنبلة هيروشيما. إن كل ما يفعله المنتصرون، المتمثلين بوسائل الاعلام والتواصل الاجتماعي أو بعض الأشخاص المغرضين (وهؤلاء لا يعتبرون مصادر تاريخية معتمدة) يهدف إلى إظهار شجاعة وبسالة مقاتليهم وجُبن وانهزام قوات العدو في قصص وروايات مبالغ فيها أو كاذبة، وتكون مكشوفة. ولنا حالياً مثال حيً، متمثلاً بحرب غزّة ومحاولات الاعلام الغربي في تبرئة الجيش الإسرائيلي من جرائم الحرب والابادة الجماعية، وتحميل الفلسطينيين مسؤولية الحرب وجرائمها، لكن المحاولات مكشوفة وواضحة للمتابعين.

ويجب التفريق بين تزييف أو تشويش التاريخ وبين تضارب أو اختلاف المعلومات حول الحدث التاريخي، فعندما يتعَمّد المؤلف كتابة معلومات تاريخية غير حقيقية لسبب أو قصد معين، فانه يَكذب ويزيّف التاريخ، والمهم في هذه الحالة وجود عامل التعَمُد وسوء النية في تزييف المعلومة التاريخية. لكن هناك معلومات تاريخية قد لا يتفق المؤرخون على صحتها، وليس القصد فيها الكذب أو التزييف. وهذا التضارب في المعلومات يستوجب البحث عن صحة أو دقة المعلومة التاريخية. فمثلا توصف الحروب الصليبية عند مؤرخي المشرق بأنها هجمات بربرية وحشية ضد المد الإسلامي، بينما يصفها الاوربيون بانها حرب مقدسة ضد الشر والاشرار، وليس في هذا كذب أو تزييف من الطرفين بل تعبير عما يشعر به كل طرف تجاه الآخر وتجاه الحرب.

يمكن اعتبار المؤرخين الإسلاميين القدماء، كالطبري والبلاذري وابن الاثير وغيرهم، من أصدق من كتب التاريخ الاسلامي، ذلك لأنهم عاشوا في زمن أقرب نسبياً من غيرهم لأحداث التاريخ التي كتبوها، وكانوا مدفوعين بمصداقية وروح العلم والعلماء، ولم يكن لهم دافع أو مصلحة في كتابة أكاذيب أو تزييف للتاريخ.

والملاحظ، كما ذُكر سابقاً، إن الكلام عن كذب أو تزييف التاريخ لم يظهر إلا في العصر الحديث ومن أشخاص ليس لهم مصداقية علمية في كتابة أو توثيق الأحداث التاريخية، وذلك بسبب انتشار وتوفر وسائل الاعلام وسهولة استعمالها من دون مانع ولا رقيب.

الخلاصة أنه لا يوجد تاريخ مزيّف، بل محاولات بائسة لتشويه التاريخ، يقوم بها اشخاص لهم نوايا سيئة واهداف معينة. وهي في الغالب محاولات مكشوفة، لا تخفى على كل من له اطلاع أو معرفة بالأحداث التاريخية، ولو بسيطة، لتاريخ الحدث. ونشهد اليوم مثالاً حياً على تزييف التاريخ، الحرب الأوكرانية، حيث ينشر الاعلام الغربي اخباراً وقصص كاذبة عن الهجوم الروسي على أوكرانيا بهدف تجريم روسيا من ناحية وإضفاء المعايير الأخلاقية والإنسانية على الجانب الأوروبي الاوكراني. ولا يفوتني أن أذكر أن تاريخ العالم العام هو تاريخ غير كامل يشوبه نقص كبير للأحداث التاريخية، وهو أمر طبيعي ومعروف، وما زال المؤرخون والعلماء يعملون جاهدين وبإخلاص لإكمال الصورة التاريخية. ولو كان التاريخ كاملاً لأنتفت الحاجة إلى دراسات وابحاث المؤرخين وعلماء الآثار والمنّقبين.

***

صائب المختار

 

في المثقف اليوم