قضايا

غالب المسعودي: الدور الإقصائي للمرجعيات الثقافية الشرق أوسطية

المنطلقات النظرية لتشخيص الأزمة الحضارية

إن فهم أزمة التخلف الحضاري في الشرق الأوسط يتطلب تجاوز التفسيرات السهلة التي تُلقي بالمسؤولية كاملة على القوى الخارجية، والتوجه بدلاً من ذلك نحو النقد الذاتي العميق للبنى الثقافية والفكرية الداخلية. أكد المفكر الجزائري مالك بن نبي، وهو أحد أبرز من قدموا قراءة ناقدة لإخفاقات الأمة وعلل تخلفها، أن مشكلة كل شعب في جوهرها هي "مشكلة حضارته". وهذا يعني أنه لا يمكن لشعب أن يفهم مشكلته أو يحلها ما لم يرتفع بفكرته إلى مستوى الأحداث الإنسانية ويتعمق في فهم العوامل التي تبني الحضارة وتهدمها.

تشير هذه المقاربة إلى أن الضعف الحضاري الراهن هو نتاج استنفاد للشروط الداخلية للفاعلية الحضارية، وليس مجرد حادث عارض ناتج عن الغزو الخارجي. إن تبني هذا الإطار المنهجي يدعم الفرضية الأساسية للبحث، وهي:

أن التخلف الحضاري في المنطقة ليس حالة سلبية محضة، بل هو نتيجة موضوعية لسلسلة من المساهمات القصدية وغير القصدية من قبل المرجعيات الثقافية التي عملت على تجميد العقل وإقصاء عوامل التجديد.

كما أن التغلغل الاستعماري ما كان ليتم بنجاح لولا وجود "قابلية الاستعمار" داخل المجتمعات المستهدفة. هذه القابلية تنبع من طبيعة النفس البشرية، كما أشار إليها ابن خلدون ومالك بن نبي، حيث تمنح الطرف الأقوى صفة الكمال، بينما يرى الطرف المغلوب نفسه ضعيفاً ومستغَلاً. المستعمِر، ممثلاً للقوة الغالبة، يستغل هذا الضعف وينشر الطاقة السلبية في نفوس المستعمَرِين.

لا تنجح الدولة الغازية في غزوها الثقافي والفكري إلا إذا كان المجتمع المستعمَر يمتلك "القابلية للاستعمار". وتتجسد هذه القابلية في تفكك البنية الاجتماعية والثقافية وفي الركود الفكري وغياب المدرسة العقلية الواعية. وبالتالي، فإن الاحتلال الخارجي ليس سوى نتيجة لهذا الفراغ الداخلي. إن الإصرار على إلقاء اللوم فقط على "المؤامرة العالمية" يتجاهل حقيقة أن المسؤولية مشتركة، وأن المُرسَل إليه يتحمل مسؤولية هذا الغزو بقدر ما يتحمله الغرب الثقافي الغازي، نتيجة لوضعه الثقافي الهش. هذا التأصيل المنهجي يُوجب التركيز على كيفية مساهمة المرجعيات الثقافية في إنتاج هذه القابلية.

سيادة "الجمود الفكري" وتكريس العقلية التقليدية

يشكل الجمود الفكري أحد الركائز الأساسية التي ساهمت المرجعيات الثقافية في تكريسها، مما أدى إلى تثبيت حالة التخلف الحضاري. الجمود يُعرَّف بأنه صفة تشير إلى كل ما هو صلب وثابت وغير منتج، ويعمّه الركود وعدم الاستجابة للتغيير والتطور. المجتمعات التي يسودها الجمود الفكري هي بالضرورة مجتمعات بدائية في استعمال العقل.

تتميز العقلية العربية بتباين بين العقلية البدائية والعقلية التقليدية. إن إدامة هذا الجمود الفكري ليس مجرد تقاعس، بل هو شكل من أشكال القمع المعرفي. فالحفاظ على ركود العقل يضمن بقاء النظم القائمة التي تسيطر على تفسير المعرفة وإنتاجها، مما يعوق أي محاولة لتحسين العقلية العربية. هذه البيئة الثقافية، التي تفتقر إلى النقد والإنتاج الذاتي، تهيئ المجتمع نفسياً وفكرياً للقبول بالتبعية.

 الموقف الإقصائي من الأدوات المعرفية الحديثة

تتجلى القصدية في تكريس التخلف من خلال موقف بعض المرجعيات الثقافية الرافض للأدوات التكنولوجية التي من شأنها أن تحدث ثورة في نشر المعرفة. لقد أدت هذه المقاومة الفكرية إلى استمرار حالة العجز. ورغم التغيرات الجوهرية والعملاقة التي شهدها العالم خلال الربع الأخير من القرن العشرين، ظلت المنظومات الفكرية العربية تترنح وتدور في مكانها، عاجزة تماماً عن فهم واستيعاب أبعاد هذه التغيرات وإدراك مقاصدها.

إن الضرورة القصوى لتجديد الفكر العربي تنبع من أولوية إصلاح العقل الذي إذا ظل جامداً، فإنه سيقود حتماً إلى الانبهار الشديد بثقافة الغازي وفكره. هذا الانبهار هو الذي ينتج التبعية الثقافية، لأن المقلِّد دائمًا أضعف من المبدع، مما يؤكد أن الإخفاق في الإصلاح الداخلي يسبق الهزيمة الخارجية ويديمها.

التوظيف الاستعماري للانقسام العرقي والديني

استغل الاستعمار بمهارة الهشاشة الناتجة عن الدور الإقصائي للمرجعيات الداخلية، مجسداً سياسة "فرِّق تسُد". ففي السودان والهند، عملت بريطانيا، على سبيل المثال، على خلق ثنائيات متنافرة للسيطرة على المجتمع من خلال توظيف طرف ضد آخر.

في سياق المغرب العربي، انتهجت فرنسا سياسة تهدف إلى التفريق بين العرب والبربر، بالاعتماد على أدبيات استعمارية تروج لـ "أسطورة" تفوق العنصر البربري على "العنصر العربي الغازي". هذا التوظيف للمرجعيات العرقية والمغالطات التاريخية خدم المشروع الاستعماري بوضوح، حيث ضمنت فرنسا بقاءها من خلال استخدام الجزائريين ضد بعضهم البعض لإضعافهم. إن نجاح هذه السياسات الاستعمارية يعود إلى وجود استعداد مجتمعي داخلي للارتداد إلى الهويات الجزئية.

استغلال المرجعيات الثقافية في الغزو الثقافي

لا يعتمد الغزو الاستعماري على القوة العسكرية فقط، بل يركز بشكل كبير على الغزو الفكري والثقافي الذي وُصف بأنه أخطر أنواع الهجمات المدبرة والمخططة. إن القوة الدافعة وراء الثقافة الغربية الغازية ليست جيشاً من العسكر بقدر ما هي "جيش من المشتغلين بالثقافة وآلياتها ووسائل إنتاجها."

إن نجاح هذا الغزو يعتمد على وجود حالة نفسية وفكرية لدى المجتمع المستعمَر، أساسها الانبهار الشديد بثقافة الغازي وفكره. إن عملية التقليد الناتجة عن هذا الانبهار هي نوع من التسليم بتفوق المقلَّد على المقلِّد، مما يؤدي إلى التبعية وإضعاف أي ملكة إبداعية محلية.

التداعيات الهيكلية المترتبة على المرجعية الإقصائية

يُظهر التحليل أن المرجعيات الثقافية في الشرق الأوسط قد ساهمت بشكل متعمد أو غير مباشر في تكريس أزمة حضارية مزدوجة:

داخلياً، عن طريق تجميد العقل وإقصاء الإصلاح.

وخارجياً، عن طريق توفير الغطاء الشرعي للاستعمار.

إن المساهمات القصدية في تكريس التخلف تتلخص في الحفاظ على احتكار المعرفة وتسيس الهوية الطبيعية وتحويلها إلى أيديولوجيا طائفية متوحشة. هذه الأفعال أدت إلى إنتاج هشاشة مدنية مزمنة، تتميز بتفشي الفساد وغياب الكفاءة والاعتماد الكلي على العصبية.

بالإضافة إلى ذلك، اتسمت أشكال مقاومة الغزو الثقافي التي تبنتها بعض المرجعيات الثقافية بالسلبية وعدم الفعالية. فقد اعتمدت هذه الأشكال على الاحتجاج اللفظي والتمسك السطحي بالتراث بدلاً من تبني آليات الإبداع والانفتاح الانتقائي، على غرار ما فعلته شعوب أخرى كاليابان. وهذا يؤكد أن الموقف السلبي من الغزو الثقافي كان بحد ذاته مساهمة في الفشل الحضاري.

الضرورات المنهجية للتجديد وإصلاح الهوية الجمعية

إن تجاوز الدور الإقصائي للمرجعيات الثقافية يتطلب استراتيجية واضحة ترتكز على محورين أساسيين:

إصلاح العقل: يجب إعطاء الأولوية القصوى لإصلاح العقل العربي واستلهام روح النهضة المتميزة بالانفتاح، والاستكشاف، والقابلية للنقد، والمراجعة. هذا يتطلب فك الارتباط بين السلطة الروحية واحتكار المعرفة، وتشجيع الإبداع مقابل التقليد، لأن التقليد لن يخلق أي ملكة إبداعية.

تأسيس الهوية المدنية: يجب تأسيس الهوية الجمعية على أسس متينة تتجاوز الولاء للعنصر العرقي أو المذهبي. وهذا يتطلب التزام الطوائف والمذاهب باحترام بعضها البعض، والالتزام بالمصالح الوطنية العليا، والأهم من ذلك تلافي الخلط بين المذهبية والسياسة، لمنع تأبيد الصراع.

الاستنتاجات

تحييد الهوية عن السياسة: تطبيق مبدأ المواطنة المدنية كإطار وحيد للتعايش السياسي، والعمل على حصر المذهبية في الإطار الاجتماعي والروحي، بعيداً عن السلطة التنفيذية والتشريعية، للحد من الهشاشة المدنية التي تسببت في هجرة الكفاءات.

تبني المقاومة الفعالة: تحويل المقاومة الثقافية من مجرد "احتجاج لفظي" سلبي إلى مشروع ثقافي فاعل ومنتج، قادر على استيعاب تكنولوجيا العصر والعلوم الحديثة بشكل نقدي ومبدع، لإنهاء حالة التبعية الثقافية الناجمة عن الانبهار بالغازي.

***

غالب المسعودي

........................

المراجع

مالك بن نبي.. تراث يقارب التخلف وعلله | أخبار ثقافة - الجزيرة نت

colonialism.iicss.iq

ابحاث العدد 2 - موقع مجلة الاستعمار

zu.edu.ly

الغزو الثقافي الغربي (أسبابه، ومخاطره، ونتائجه)

ahewar.org

شاكر النابلسي - محنة المفكرين العرب في علاج الغزو الثقافي - الحوار المتمدن (“شاكر النابلسي - محنة المفكرين العرب في علاج الغزو الثقافي”)

tanwair.com

الجمود والتجديد في العقلية العربية: مكاشفات نقدية - علي أسعد وطفة - مجلة نقد وتنوير

shabwaah-press.info

علماء المسلمين حرموا استخدام آلة الطباعة - شبوة برس

mohamedrabeea.net

alfaisalmag.com

الحركة الإصلاحية النهضوية وقضية المذهبية | مجلة الفيصل

asjp.cerist.dz

من التنوع إلى الانقسامية.. بحث في علاقة الطوائف بالطائفية: بين حتمية الهويات الفسيفسائية والتوظيف السياسي والتداعيات المجتمعية | ASJP

almothaqaf.com

قراءة في سياسة فرنسا الاستعمارية في الجزائر: فرق تسد (1) - صحيفة المثقف

asjp.cerist.dz

توظيف الدين في الخطاب الاستعماري بالمغرب خلال القرن 20 م - ASJP

 

في المثقف اليوم