قضايا

عبد السلام فاروق: تجلي الجميل.. هرمنوطيقا الجمال بين الذاكرة والغياب

عندما يعود بك الزمن إلى كتب التقطتها من أرفف كانت يوما تتنفس ثقافة، تشعر كأنك تلمس ظل إنسان. هكذا التقطت كتاب "تجلي الجميل" لهانس جادامر، بترجمة الدكتور سعيد توفيق، في تلك الأيام الباكرة من الألفية، حين كان المركز القومي للترجمة ورشة للعقل، يديرها الدكتور جابر عصفور. كان يصر أن يضع بين يدي كل كتاب جديد، كأنه يمنحني قطعة من عالم لم نعشه. اليوم، تغيرت الرفوف، وصارت الكتب كالغرباء في وطن نسي لغته.
جادامر، الفيلسوف الذي رأى في الفن مرآة للوجود، يفتح في هذا الكتاب أفقًا تأويليا لاستعادة الجمال من سجن الحداثة. يذكرنا بأن الفن القديم لم يكن مجرد لوحة تعلق، بل كان حكاية تنسجها الجماعة، وطقسا يذوب فيه الفرد بالكل. أما اليوم، فالفن تحول إلى كيانٍ معزول، يسكن المتاحف كأشباح، بعيدًا عن نبض الحياة. هذه المفارقة التي يكشفها جادامر ليست نقدًا للفن، بل صرخة ضد اغتراب الإنسان عن جذوره.
الترجمة، هنا، ليست نقلًا لغويا، بل إحياء لروح النص. الدكتور سعيد توفيق، كمترجم خبيرٍ بدهاليز الفلسفة، نجح في أن يجعل النص الألماني ينطق بالعربية بسلاسة نهر. لم يخن جادامر، بل حمله بلغة تليق بثراء أفكاره، كأنما يضع القارئ في حوارٍ مع فيلسوف يهمس: "الجمال ليس فكرة، بل تجربة نعيشها".
لكن، أينا يذكر تلك الأيام؟ أيام كان الكتاب هدية من صديقٍ مثقفٍ كجابر عصفور، يغريك بكل إصدار جديد كأنه سر يكشف. المركز القومي للترجمة كان خيمة تجمع المشتغلين بالكلمة، أما اليوم، فكأنما الثقافة صارت غيمة تمر من بعيد، لا تمطر إلا نادرًا.
لم يكن جادامر في كتابه هذا يحاور الفن وحده بل كان يحاور الزمن نفسه. زمن انشق إلى شظايا: ماضٍ كان الجمال فيه جزءًا من نسيج الوجود اليومي وحاضر صار الفن فيه لغزا يحلل في مختبرات النخبة. الكتاب، بترجمة سعيد توفيق التي تشبه عبور النص من ضفة الاغتراب إلى ضفة الحميمية، يطرح سؤالا جوهريا: هل يمكن أن نستعيد الجمال كـ" حدث" يلمسنا قبل أن يكون فكرة نفككها؟
هنا، يفتح جادامر نافذة على الهرمنيوطيقا كفن للفهم، لا كمنهجٍ جاف. إنه يرى أن العمل الفني ليس شيئا نفسره، بل شيئا نعيشه، كالضوء الذي يخترقنا دون أن نمسك به. لكن الحداثة حولت هذا الضوء إلى شيء، إلى سلعة تعرض في سوق القيمة الرمزية. الفن الذي كان يوماً صلاة جماعية صار طقسا فرديا، والمتحف الذي كان يجب أن يكون بيت الذاكرة صار مقبرة للأشياء الميتة.
الدكتور سعيد توفيق، بوعي المترجمِ الذي يعرف أن الفلسفة حكاية قبل أن تكون مصطلحات، نجح في أن ينسج لغة عربية تحمل ثقل الأسئلة الوجودية دون أن تنكسر. ترجمته ليست مرآة عاكسة بل هي حوار صامت بين لغتين، بين عقلين. كأنما يقول لنا: الفلسفة الألمانية يمكن أن تولد من جديد تحت شمس العربية، إذا وجدت من يحملها باحترام الحرفِ وروح المعنى.
أما جابر عصفور، صديقي الذي أهداني الكتاب مع عشرات الكتب الأخرى، فكان يرى في الترجمة مقاومة ثقافية. المركز القومي للترجمة، في عصره، كان مشروعا لإنقاذ الذاكرة من طوفانِ التسطيح. اليوم، حين أزور مقر المركز، أشم رائحة الغياب. الرفوف التي كانت تضج بالكتب كأنها خلية نحل صارت متحفا للصمت. حتى الكتب الجديدة تبدو كغرباء في بلد لا يتذكر لغته.
ما يفعله جادامر في "تجلي الجميل" هو تفكيك وهم الاستقلاليةِ الذي يحيطُ بالفن الحديث. حين يقول إن الجمال كان في الماضي حدثا جماعيا، فهو يشير إلى أن أزمة الفن هي في جوهرها أزمة انفصالِ الإنسانِ عن عالمه. الفن لم يعد ينبع من الحياة، بل صار يسكن في جزرٍ معزولة: لوحة تعرض، سمفونية تسمع، رواية تقرأ... كل شيء منفصل عن سياقه الحيوي.
لكن هل يمكن أن نعود؟ هل يمكن أن نستعيدَ تلك اللحظة التي كان فيها الفن تنفسا مشتركا؟ جادامر لا يقدم إجابات جاهزة، بل يفتح أبواب الأسئلة. هو يذكرنا بأن الهرمنيوطيقا ليست أداة لفك الشفرات، بل هي استعداد للاستماعِ إلى ما يقوله العمل الفني لنا الآن، في هذا الزمنِ بالذات. الفن الحقيقي لا ينتمي إلى ماضيه، بل ينتمي إلى كل لحظة نعيشه فيها من جديد.
في زمنٍ تسيطر عليه ثقافة الاستهلاكِ، حيث يختزل الجمال في "إنستجرام" والصورةِ السريعة، يبدو كتاب جادامر كنداءِ صحوة. نداء يوقظنا من سباتِ العادة، ويدعونا إلى أن نرى الفن كـ "لقاء" وجودي، لا كـ "شيء" نحصيه في سجل الإنجازات.
أما أنا، الذي قرأت الكتاب في زمنٍ كان جابر عصفور يملأُه بالكتب كأنها أطفال يولدون من رحمِ الثقافة، أتساءل: هل صارت الترجمة اليوم مجرد نشاطٍ بيروقراطي؟ أم أن هناك من لا يزال يؤمن بأن الكتب جسور نعبر بها إلى ذواتنا قبل أن نعبر بها إلى الآخرين؟
تبقى كلمات جادامر، في هذا الكتاب، كالندبة التي تذكرنا بأننا جرحنا الجمال حين فصلناه عن الحياة. وتبقى الترجمة، حين تكون أمينة، كالوشم الذي يحمل قصص الأجداد على جلد الأحفاد.
"تجلي الجميل" ليس كتابا عن الفن فحسب، بل سيرة جمالٍ ضائعٍ بين الماضي والحاضر. يذكرنا بأن النقد الحداثي للفن قد يكون مرآة لأزمتنا نحن: أزمة انفصالٍ عن العالم، وعن بعضنا. وكأن جادامر يناجينا: عودوا إلى حيث كان الجمال ينبع من الحياة، لا من المتاحف.
هكذا كانت الكتب أيام جابر عصفور: جسورا بين العوالم. أما الآن، فكثير من الجسورِ صار خرابا، وكثير من الأسرار بلا حكاة. ولكن، يبقى الكتاب بصمة نور في ظلام الزمن الرديء.
***
عبد السلام فاروق

في المثقف اليوم