قضايا
ضياء خضير: شيء عن قضايا الحداثة، والحداثة البعدية
في حوار مع الأستاذ عباس عبيد جاسم رئيس تحرير مجلة (الأديب الثقافية) العراقية المستقلة، جرى على صفحته في الفيس بك، طرحت سؤالا أو ملاحظة تتعلق بالعنوان الجانبي الموازي للمجلة، الذي يقول إنها (مجلة تعنى بقضايا الحداثة والحداثة البعدية)، وددت فيه أن أرى شيئا من التوضيح الخاص بعنوان لا يجعلنا نكتفي في هذه المجلة وفي كثير من المطبوعات والخطابات الثقافية عندنا بالعناية بالحداثة وقضاياها، بل نتعدى ذلك إلى ما نسميه (الحداثة البعدية)، أو ما بعد الحداثة، التي تتجاوز مفاهيم الحداثة ومصطلحاتها وأوضاعها التاريخية لتؤسس مجتمعات قائمة على أسس علمية واقتصادية واجتماعية وجنسية مختلفة، ولا تقتصر على المفاهيم والمصطلحات الأدبية والإبداعية ذات الطابع النظري، وحدها.
وهو طموح مشروع بطبيعة الحال إذا كانت لدينا تعريفات محددة وواضحة لما نعنيه بالحداثة، وما بعد هذه الحداثة في مجتمع عراقي وعربي لم يخرج في غالبيته العظمى بعد من بطن ماضيه، وما زال يئن تحت وطأة التمزقات الطائفية والإثنية والقومية، وسيطرة القوى السياسية والحزبية البعيدة عن الإيمان بفلسفة العقد الاجتماعي الحديث في الحكم بأبسط مفاهيمه، وما يتصل بذلك من بناء مؤسسات ديمقراطية حديثة تستجيب لحاجات الناس الواقعية وتراعي ظروفهم العملية المتصلة بحريتهم وكرامتهم الإنسانية.
ولست أدري في الواقع عن أيّ (حداثة) نتكلم هنا، والكيفية التي تمكننا من العناية بقضاياها الأساسية، ثم (البعدية) التي نشأت كرد فعل على نظريات الحداثة وسردياتها الكبرى، كما عرفها العالم الحديث في أوربا وأمريكا منذ قرون، في مطبوعة ثقافية وأدبية من هذا النوع..! وما إذا كان استخدام مصطلحاتها المترجمة في خطابنا الأدبي والنقدي بهذه الكيفية أو تلك كافيًا لضمان تحقيقنا لهذه الحداثة وتوطيننا لمفاهيمها في بيئتنا العراقية والعربية المناظرة، أم أن الأمر يتجاوز ذلك إلى ما هو أهمُّ وأوسع من ذلك..!؟
فالحداثة كما نعرف مشروع غربي بدأ منذ القرن الثامن عشر في أقل تقدير، وليست مشروعا عراقيا أو عربيا، وأنها لم تستكمل حتى الآن بعضَ أهدافها في مواطنها الاوربية والأميركية الأصلية، التي تغطي طائفة كبيرة من العناصر التي تشمل الثقافة والفنون والمعتقدات الدينية والسياسية والأفكار والفلسفات، بالإضافة للتطورات العلمية والتكنولوجية المرافقة، وما تعرضت له المجتمعات الغربية، وتلك المرتبطة بها والخاضعة لتأثيرها من تحولات جذرية، وإخفاقات أو صعوبات بسبب من هذه الحداثة، وكانت محلا دائما للحراك الاجتماعي والسياسي والنقاش الفكري في المؤسسات الفكرية والجامعات ومراكز البحوث، فضلا عن الجانب الأدبي والثقافي، الذي يظل انعكاسا وعاملا فاعلا ومنفعلًا،مؤثّرا ومتأثرا على نحو ما بما حوله من تطورات واتجاهات اجتماعية واقتصادية وتكنولوجية مرافقة.
والكثير من المفكرين الغربيين يرون أن هذه (الحداثة) لم تنجز أهدافها بعد، وأنها ما زالت "حداثة ناقصة" بعبارة الألماني يورغن هابرماس، سواء فيما يتعلق منها بالدوافع الخاصة بالمناهج الفكرية والثقافية المتبعة، كالمنهج البنيوي الذي سيطر على الساحة النقدية الأوربية، والفرنسية منها بشكل خاص ردحًا من الزمن قبل أن يتراجع قليلا وتخف وطأته، ويخلي الساحة لمناهج فكرية وفلسفية أخرى، أم بالحداثة البعدية، التي ما زالت تتلمس طريقها بعد أن شهدت وضع العقل الغربي في طريق محفوف بالمخاطر والمشكلات والتحديات التي يفرضها عصر البرمجيات الإلكترونية والفضاء السيبراني والذكاء الاصطناعي الآخذ بالاتساع والسيطرة المخيفة والمثيرة للتساؤلات هذه الأيام. وغير ذلك من تطورات علمية وضعت الحداثة وتيار ما بعد الحداثة postmodernism، الذي كان الوريث الشرعي للنجاحات والمشكلات التي خلّفها عصر النهضة الأوربي، في دائرة الشك والاتهام، حتى وصل الحال عند بعضهم إلى إعلان نهاية هذه الحداثة والدعوة إلى التخلي عنها، وتبني خطابات مغايرة لها.
ويكفي أن نشير بهذا الصدد، مثلا، إلى ما طرح ضمن هذه الحداثة البعدية من آراء نقدية تتعامل مع النص وتأويله بطريقة عدمية باعتباره لعبا حرّا للدوال، وأن كل فهم هو، في الواقع، إساءةُ فهم، وكل قراءة هي إساءة قراءة، وغير ذلك من غرائب وعجائب نقدية تداولها بعض نقادنا ومثقفينا الحداثيين العرب بطريقة ببغاوية أحينا باعتبارها فتوحا ثقافية ونقدية لا شكّ فيها، ولا غبار عليها، مع أن ثمة شكوكا في مدى فهمهم لها وتقديرهم للسياقات التاريخية التي ظهرت فيها. وهي، في أفضل أحوالها، نوع من التقليد أو إعادة الإنتاج لما لدى الآخرين، يلتقي أصحابها مع السلفيين ويجعلهم، كما يقول عبد الإله بلقزيز، حلفاء لهم! وتغنينا بحداثة الآخرين وما بعد حداثتهم يجعلنا كما يقول هذا المفكر المغربي مثل تلك الصلعاء التي تفاخر بشعر جارتها..
أقول إن التزامنا النظري بهذه الحداثة المستنسخة أو الموضوعة على المستوى الخطابي ببعديها القبلي والبعدي، اللذين نصرّ على جعلهما عنوانا من عناوين مشروع عملنا الأدبي والثقافي والفكري في هذه المجلة وفي غيرها، قد لا يخلو من المبالغة والبعد عن الواقع، في الوقت الذي لا نعرف فيه حتى الآن إن كنا قد بدأنا بالفعل مشرع حداثة حقيقيا في مجتمعنا العراقي على صعيد الإنتاج الصناعي والزراعي والتكنولوجي والعلمي والتربوي والإعلامي القائم في عالم اليوم المتحضّر، وما يتصل به من تغيير للمفاهيم الفكرية والدينية والتربوية والأخلاقية والاجتماعية الحاكمة، وما يرافقها من بنى تحتية وفوقية، مادية ومعنوية مكمّلة، كانت المجتمعات الغربية قد بدأت بها وأنجزت الكثير منها منذ قرون، كما قدمنا. والمشكلة الجوهرية هي هذا الفصل القائم بين فكر الحداثة والتراكم التاريخي الذي أنتج منظومة البنى الديمقراطية والعلمانية secularism والحداثة الفكرية نفسها، بما فيها فكر ما بعد الحداثة الذي يعدّه الكثيرون نوعا من تفكير الحداثة في نفسها ومراجعة لمنجزاتها.
ويكفي أن ننظر إلى (دگتنا) العشائرية العراقية التي لا تعترف بغير "سناينها" أو تقاليدها المتبعة في الأخذ بالثأر وتحصيل الحقوق بعيدا عن القانون المدني للدولة الحديثة، أو إلى شوارعنا العراقية وما تمتلئ به كلّ عام بمناسبة عاشوراء من حشود مليونية تسدّ المنافذ والآفاق، وتتدفق من كل حدب وصوب دون هدف واضح غير الإعلان عن الإيمان بمبادئ العدالة المفقودة التي ضحّى الإمام الحسين من أجلها في بلد يُعدّ اليوم من أكثر بلدان العالم فسادا، لنرى ان كان ما نتحدث عنه من حداثة أولية أو بعدية ارتبطت، أول ما ارتبطت، بتحرير الذات من الأوهام وإرث الماضي الثقيل، حقيقيا وفاعلا. وما إذا كنا بحاجة فعلية إلى مراجعة اختياراتنا، وإعادة نظر في مفاهيمنا الثقافية والأدبية الخاصة بهذه الحداثة للتأكد من مواقع أقدامنا. وأن ما نحتاجه، أكثر من غيره ربما، هو شيء من التواضع الذي نعرف فيه أنفسنا، ونقدّر احتياجتنا وأولوياتنا الثقافية والفكرية تقديرًا واقعيا بالنظر إلى ذواتنا وعلاقتنا مع الآخر، وقياس ما عندنا إلى ماعنده؛ دون أن يقلل ذلك من خصوصيتنا وحماسنا، وما نمتلك من طموح فكري وثقافي ينظر إلى الحاضر والمستقبل بكل آفاقه الحداثية وما بعد الحداثية بشيء من الاطمئنان والثقة بالنفس في بلد غنيّ بتاريخه وثرواته وموقعه الجغرافي وإمكانات شعبه.
لا يمكن الخلاص من واقعنا وما فيه من إرث ثقيل عن طريق القفز عليه، ولا حتى عن طريق التصالح مع ما هو سلبي فيه، وأنما محاولة تقليص الفجوة الزمنية بيننا وبين العصر إلى أقلّ عدد ممكن من السنوات.
ولا يتم ذلك عن طريق الانتماء إلى ماض ذهب ولن يعود، ولا إلى حداثة غربية لا علاقة حقيقية لنا بها، وإنما عن طريق معرفة واقعنا التاريخي وإمكاناتنا المتوفرة، وما يمكن أن نتوفر علية من إنتاج ذاتي وتجديد وابتكار من شأنه تحفيز إمكانات الأمة واستثارة ما يختزنه وجدان شعوبها من أمل وعمل تصنع به حياتها ومصائرها من جديد، وتطور وسائلها وأدواتها وطرق تفكيرها لتكون متلائمة مع المتغيرات التي يفرضها مشروع هذه الحداثة.
وما يجري من عمليات استيلاء وهمية، ذات طبيعة لفظية وبلاغية مقنّعة على مكاسب حداثة الآخرين وما بعد حداثتهم، والتغنّي ببعض مقولاتهم ومفاهيمهم النقدية والفلسفية بالترجمة أو المحاكاة، لا يعدو أن يكون حركة اعتماد في المكان نفسه، وإرضاءً لغرور شخصي، وتطمينا لكبرياء وطنية غير قادرة على الاعتراف بحقيقة عريها وتأخرها التاريخي، وتخلفها عن العمل على اللحاق بركب الثقافة والحضارة الحديثة بطريقة أخرى أكثر فاعلية وواقعية. وهي جزء مما صار يسميه البعض فوبيا ضياع الهوية والحاجة للحضور الأصيل في العالم بعيدا عن التلفيق والكذب والادعاء.
***
الدكتور ضياء خضير