قضايا

قاسم حسين صالح: إشكالية أدباء العراق في

الشاعر عبد الرزاق عبد الواحد

توطئة: انشغل الشعراء وغيرهم (بقضية!) لخصها الشاعر والأعلامي علي العلاق (بلقاء اجراه علي صادق مع الشاعر عمر السراي وردت فيه جزئية قالها السراي بأن عبد الرزاق ليس شاعرا كبيرا او عظيما، نعم انه شاعر وشاعر جميل ولديه قصائد جميلة، و لم يقل انه كبير وعظيم. ويضيف بأن المضحك في الأمر ان هناك اشخاصا لا تربطهم بالادب والشعر اي رابطة، ولم يسمعوا لرزاق ولا يعرفونه، اعطوا اراءهم للنيل من عمر)

*

وعن عبد الرزاق نقول:

ان القارئ للعلاقة بين السلطة والشاعر من بدء الدولة الأموية الى الآن يجد انها تتمحور في موقفين:اما ان تغدق على الشاعر ليكون مداحّها واذاعتها واعلامها الجماهيري، واما ان تضطهده اقتصاديا ونفسيا، وان تطلّب الأمر.. قطعت رأسه الذي فيه لسانه.

قليل من الخلفاء والسلاطين والأمراء في امتنا تصرفوا مع الشعراء والفنانين تصرفا حكيما وانسانيا و(براغماتيا) كما تصرف الملك (فيليب) مع الفنان (فيلاسكس). فقد كان هذا الفنان مشتركا في مؤامرة ضد الملك الاسباني فيليب، فاعدم المتآمرين جميعهم الا فيلاسكس فقد جعله فنان البلاط. كان قتله سهلا كالآخرين، غير ان الملك فكّر بذكاء بأن الموهبة تكون في العادة نادرة، وأنه يمكن ان يستثمرها.. وكان له ما اراد. فلقد انتج فيلاسكس لوحات فنية رائعة خلدت الملك فيليب، والأهم انها شكلّت انعطافة جديدة في تطور الفن الاسباني، على العكس تماما من موقف سلطة فرانكو التي اعدمت شاعر اسبانيا العظيم الشاب (لوركا).. فخسرت اسبانيا والانسانية موهبة وعبقرية لا تعوّض.

اما في تاريخنا العربي والاسلامي فالحال ادهى وأمّر.. اترك استحضار مآسيه لذاكرتكم. لكن اللافت ان سيكولوجيا العلاقة هذه بين الشاعر (والفنان والعالم والمفكر) وبين السلطة لم تتغير. ففي سبيل المثال ، لنأخذ الشاعر عبد الرزاق عبد الواحد، فما الذي فعله اكثر من مدحه لصدام حسين. والواقع ان مدحه له كان لقاء ثمن يحتاجه مزاج الشاعر:بيت قيل عنه أنه فاخر. وكان (السلطان) ينفّذ له رغباته، حتى انه طلب منه ذات يوم ان تكون في البيت (مسنايه).. فكانت!.

وعبد الرزاق لم يفعل اكثر مما فعله شاغل الدنيا الهائل العظيم (المتنبي) الذي مدح حاكما وضيعا مغتصبا للسلطة ليوليه على امارة ولو بسعة مدينة حلب. ولما لم يستجب كافور لطلبه هجاه المتنبي بافضع ما في قاموس لسان العرب من مفردات بذيئة!. ولم يفعل اكثر مما فعل شاعرنا الخالد (الجواهري) الذي كان سكرتيرا للملك فيصل الأول ومدحه بقصائد كثيرة.. ومدح ملك المغرب وملك الأردن (يبن الملوك وللملوك رسالة.. من حقها بالحق كان رسولا).. ونوري السعيد ايضا :(أبا صباح وأنت العسكري.. ).. وحتى احمد حسن البكر وصدام حسين:(نعمتم صباحا قادة البعث واسلموا..) ثم هجاهم شرّ هجاء بعد انقلاب 14رمضان 1963:

(أمين لا تغضب وان اغرقت.. عصابة بالدم شهر الصيام،

وان غدا العيد وافراحه.. مأتما في كل بيت يقام).

ويبقى هو الجواهري، صاحب الروائع الخالدات (أخي جعفرا، قف بالمعرّة، دجلة الخير.. )، الذي يمتلك كارزما ما امتلكها شاعر مثله ، والساكن في قلوب العراقيين.. والتاريخ.

ثم ، ألم يكن (عبد الرزاق) افضل من شعراء (كبار) يتنفسون الآن هواء الوطن الذي حرموه منه؟. ومن من هؤلاء الشعراء نظم قصائد وجدانية غاية في الرقة والمشاعر الانسانية الراقية كالتي نظمها عبد الرزاق؟. ومن من شعراء الاسلام ، والشيعة تحديدا، نظم قصائد في (الحسين) كالتي تدفقت بها عبقريته، وهو الصابئي اصلا وفصلا؟!. ثم من (الأخطر)، ان كان في الأمر خطورة سياسية او اخلاقية: الشاعر العبقري والفنان الموهوب والعالم المبدع، أم بعثيون كانوا كبارا في الجيش والمخابرات احتلوا مراكز مهمة في حكومة ما بعد 2006؟، أم الآف الفاسدين الذين نهبوا ملايين الدولارات ولم يحاسبوا؟ أم سياسيون في النهار وقادة ميلشيات وارهاب في الليل؟

انا شخصيا (وبيننا لقاءات وجلسات سمر) اكره في عبد الرزاق عبد الواحد سلوكه، وأدين مدحه للطغاة والطغيان، واساءاته لعدد من المثقفين.. غير اننا لا نختلف بشأن عبقريته، بل نكاد نضع موهبته فوق منارة لا تقل علّوا عن منارات المتنبي والمعري والجواهري. نعم.. منحه الطاغية لقب (شاعر القادسية).. ولكن، منح ايضا وسام بوشكين بمهرجان الشعر العالمي في بطرسبرج، ودرع جامعة كامبردج وشهادة الاستحقاق في مهرجان ستروكا بيوغسلافيا وجوائز وتقديرات اخرى.. فلماذا ضحينا بعبقرية شاعر في عصر صار فيه ميلاد شاعر معجزة.. عصر الكومبيوتر الذي لا يجود لنا زمانه بشعراء وفنانين ومبدعين كما جادت به الأزمنة القديمة؟. ولماذا لا نتفق من الآن على ان يكون هؤلاء، اعني الشاعر العبقري والفنان الموهوب والعالم المبدع والمفكر الأصيل .. خارج الممنوع من الصرف.. السياسي؟

ومع ان هذا الموقف يحمّل الشاعر مسؤولية جرائم الطاغية، الا انه مشروع، شرط ان يكون مبدأ" ينطبق على جميع الشعراء الذين امتدحوا الطاغية ونظامه. فالواقع يشير الى ان عددا من الشعراء الذين امتدحوا صدام بقصائد وصفوها ب(العصماء) وكانوا يتباهون بها امام طلبتهم.. تولوا الآن مسؤوليات ثقافية وعلمية!، يحتفى بهم في اتحاد الأدباء وتخصص لهم أمسيات.. ما يعني ان عبد الرزاق افضل منهم لأنه لم يتلوث برذيلة النفاق.

كان موقفا خاطئا اننا تركنا شاعرا عبقريا يموت في الغربة، والخطأ الآخر، الذي كان بالإمكان تداركه وما تداركناه، ان نحرمه من رغبته في ان يدفن في وطن احبه بصدق وشفافية:

(ياعراق هنيئا لمن لا يخونك، هنيئا لمن اذ تكون طعينا يكونك، ، هنيئا لمن يلفظ آخر انفاسه تتلاقى عليه جفونك).

*

توثيق

هذا النص نشر في كتابنا (في سيكولوجيا الشعر والشاعر) الصادر عن اتحاد الأدباء، وبموافقة امينه العام الشاعر عمر السراي.. الذي لم يقترح رفع المقالة من الكتاب، لأنه يحترم الرأي الآخر.

وتبقى حقيقة سيكولوجية هي:

ان متابعتي للعملية السياسية في العراق اوصلتني الى ابتكار مصطلح جديد في علم النفس هو (الحول العقلي).. تبين لي الآن ان المصابين به ليسوا سياسيين فقط، بل وادباء وشعراء ايضا!

***

ا. د. قاسم حسين صالح

16 تموز 2024

في المثقف اليوم