قضايا
إبراهيم برسي: المنابر الثقافية.. مساحات للمبدعين أم مصانع لترويض الفكر؟

في عالمٍ تتشابك فيه الخيوط الخفية بين الثقافة والسلطة، حيث تلتقي الأيديولوجيا بالمنظومات الاجتماعية، تظهر المنابر الثقافية كأمواج بحرٍ هادئ. تسرّب في أعماقها التوجهات التي تخلق واقعًا موازياً. هي ليست فقط مساحات تعبير أو فرص للمبدعين، بل هي أيضًا مسارح للتدجين الفكري واللغوي. تأخذ هذه المنابر شكلها في الكلمة المكتوبة والصوت المسموع، وفي الأفكار التي تُعلن وتلك التي يُتجاهل وجودها تحت مسميات التنوير والتطوير. هي في الحقيقة رقعة شطرنج، يلعب فيها المثقفون كقطعٍ معدّة مسبقًا، ما بين حركات مؤثرة وضغوط هائلة. هذا الواقع لا يُختصر في المجال الأدبي والفني فقط، بل يمتد ليشمل المجال الاجتماعي والسياسي، مما يجعل المنابر الثقافية بوابات تمهد للقبول أو الرفض بناءً على مفاهيم فكرية وأيديولوجية قد تُحكم بأطر ضيقة، ساعية لتشكيل الوعي الجمعي بما يخدم المؤسسات التي تقف وراءها.
تبدو هذه الهيمنة الناعمة، التي تظهر كالشمس المشرقة، وكأنها منارة للحرية الفكرية. ولكن تحت هذه الأنوار الزائفة، تسكن الأسلاك المشدودة التي تقيد الأرواح المبدعة. إنها الفخ الهادئ الذي يتسلل عبر البوابات التي اعتقدنا أنها مفتوحة للمغامرة الفكرية، لكننا نكتشف أن كل نافذة محاطة بجدران غير مرئية، تمارس العنف على الفكر قبل أن تجرؤ كلماتنا على الخروج. بل إن هذه الجدران تتسلل إلى أعماق الوعي، لتزرع فينا الخوف من تجاوزها.
يُفرض على المثقف أن يتقيد بالحدود المفروضة، مما يجعله يُشجع على الانغماس في رتابة الفكر السائد الذي يتم تبجيله. وهكذا، تصبح الحرية الفكرية نفسها عنصرًا مائعًا، غير قابل للتحقق. يتخللها شعور دائم بالمراقبة والرقابة الذاتية، مما يعطل قدرة المثقف على التعبير بصدق أو على التحرر من القيود التي فرضتها المؤسسات الثقافية.
المثقف العضوي، الذي لا يرضى أن يكون مجرد تابع لمؤسسة أو منبر، يصطدم دائمًا بهذه الحقيقة المرة. فهو يسعى دائمًا للهروب من أسر هذه المنابر التي تبدو وكأنها مشغولة بتشكيل العقل الجمعي ليتناسب مع الأيديولوجيات السائدة. يقول غرامشي، الذي عاش هذا الصراع عن كثب: “إن المثقف العضوي هو الذي يرتبط مباشرةً بجماهيره، لا بكتابة أو أفكار محفوظة، بل بمعركة الفكر ضد الهيمنة”. إن هذا المثقف ليس مجرد فردٍ مبدع، بل هو محور تحدٍ جوهري في مواجهة الهياكل التي تفرض علينا خطابات مستهلكة وخططًا تهدف لتصفية الأصوات التي تحمل فكرًا نقديًا حقيقيًا. المثقف العضوي هنا لا يعكس فقط فكره الشخصي، بل هو الرابط الحيوي بين الوعي الفردي والجماعي، رافضًا الانزلاق إلى فخ “المثقف المدجن”، الذي يُقيد حريته في مساحة محدودة ومؤطرة بأطر ثقافية تحجم أفكاره وتوجهاته.
لكن، في صمتٍ بين الجمل والشعارات، يبرز السؤال: هل يمكن لهذا المثقف العضوي أن يبدع في فضاءٍ من هذا النوع؟ أم أن الفضاءات الثقافية المُشتركة في تخليق الرموز تصبح مؤسسات طاردة للحرية؟ وهنا، يلمع من بعيد، مثل شعاع ضوء في الظلام، قول ميشيل فوكو: “السلطة ليست فقط في يد الحكومة، بل تتناثر في شظايا عبر المساحات الاجتماعية والثقافية”. هذا التفتيت للسلطة يظهر كيف أن كل منبر ثقافي هو جزء من شبكة أوسع من الأيديولوجيات التي تعمل على صياغة “الخطاب المقبول”. وهكذا، تجد المحاولات الحقيقية للخلق، تلك التي تزعزع الركائز الهشة للثقافة السائدة، نفسها خارج سياقات القبول العام. في كثير من الأحيان، يُجبر المثقف على الاختيار بين الخضوع للسلطة الثقافية السائدة أو العيش على هامش تلك الثقافة. كأن الانزلاق إلى الفضاء الثقافي السائد يتطلب التنازل عن الأصالة والانحراف عن قيم الإبداع الحر، فتصبح المساحات الممنوحة للمثقف داخل هذه المنابر ثقوبًا ضيقة يصعب التنفس منها.
المثقف العضوي، في هذا السياق، يصبح صوته الداخلي المتعدد، سعيه المستمر للهروب من الدائرة المغلقة التي تفرض عليه كلمات محدودة وأفكار متشابهة. هل يمكن له أن يعيش في هذه المتاهات الثقافية ويظل كما هو؟ لا شك أنه سيواجه معركة دائمة بين فرديته وبين محاولات تطويعه لجعل صوته ينسجم مع اللحن الذي تفرضه المؤسسة الثقافية. الإبداع الحقيقي في هذه المساحات ليس سهلاً، بل هو مواجهة مستمرة مع الزمن والأفكار الجاهزة، إذ يصبح الابتكار صراعًا مريرًا ضد معايير مفروضة. لكن رغم ذلك، يجد المثقف العضوي نفسه مضطرًا أحيانًا، رغم محاولات التحرر، للركض في حلبة تلك المعايير، محاولًا التسلل منها بطرق مبتكرة. هذا النضال المستمر ليس فقط من أجل الظهور في هذه المنابر، بل أيضًا من أجل الحفاظ على كينونته الفكرية من الانحلال أو التذويب في الثقافة الرسمية التي تسعى لقمع الصوت الفردي.
وهكذا، يبقى السؤال قائمًا: هل يستطيع المثقف العضوي أن يستمر في تقديم الإبداع الحُر في فضاءٍ ثقافي مُسطح؟ أم أن الفضاء نفسه هو الذي يقيد إبداعه، محيلًا إياه إلى سجين داخل جدرانٍ غير مرئية؟ ما يطرحه هذا السؤال ليس فقط عن الحرية، بل عن الشكل الذي تتخذه هذه الحرية داخل هيكل ثقافي مترابط، حيث يظل الصوت الفردي همسًا، ضائعًا وسط زمجرة الصخب المؤسسي. في هذا المجال، يظل لسان الفيلسوف الأرجنتيني هوغو غوتيريز حيًا: “الإبداع هو المقاومة؛ والتقيد هو الخضوع”. هذا القول، الذي يربط بين الإبداع والمقاومة، يضع المثقف في موقع دائم التحدي ضد الهياكل الثقافية السائدة. لا يجب أن تكون المقاومة على شكل رد فعل، بل كحركة متجددة نحو التجديد، حيث يظل الصوت المبدع مستمرًا رغم محاولات العرقلة، والحرية تتجسد في هذا التمرد المستمر على الأطر الضيقة التي تصوّب نحو قمع الفكر والتعبير.
من هنا، يتضح أن المثقف العضوي، في معركته الفكرية هذه، لا يعيش في عزلة عن الواقع، بل هو في قلبه. يتنفس من خلاله، يخلق ويمزج بين ما هو فردي وما هو جماعي. لكنه يظل في صراع دائم من أجل تلوين هذه الفضاءات الثقافية بألوانه الخاصة، التي ترفض الانصياع للترتيب الذي يفرضه المجتمع أو الثقافة المؤسسية. وبالتالي، لن تظل هذه المنابر مجرد مساحات لتعبير حر، بل تتحول إلى محيطات هائلة من الدوائر التي تتحكم في مجريات الفكر. وتظل القدرة على الإبداع هي القوة الوحيدة التي ترفع الأصوات خارج الحواجز المرسومة.
***
إبراهيم برسي