أقلام حرة
علي الطائي: متى تموت يا أبي؟

لم تكنْ تلكَ الجملةُ، التي قالها ابنٌ في خلوتِهِ — أو تسرّبتْ من خاطرِهِ في ساعةِ مللٍ — سوى صدىً عميقٍ لانهيارِ مبدأٍ، وتهاوي صرحٍ من صروحِ الأخلاقِ.
"متى تموتُ يا أبي؟" ليستْ سؤالًا مباشرًا، بل فاجعةٌ أخلاقيةٌ تهزُّ أساسَ الأسرةِ، وتمتحنُ جوهرَ الروحِ.
كيف يمكنُ أن يبلغَ الإنسانُ تلكَ اللحظةَ التي يتمنى فيها أفولَ من أنجبهُ وربّاهُ؟
هلْ لأنَّ الأبَ أصبحَ عبئًا؟
أم لأنَّ الجيلَ الجديدَ باتَ يرى في الشيخوخةِ قبحًا، وفي الحكمةِ عبثًا، وفي المحبةِ عبوديةً؟
الأبُ ليسَ مجردَ جسدٍ يشيخُ، ولا معاشًا يُسحبُ، ولا اسمًا يُوقَّعُ به على صكوكِ الوراثةِ.
الأبُ، في الفهمِ الوجوديِّ، هو التاريخُ الحيُّ، هو خزانُ الوجعِ، والمعلّمُ الصامتُ، والجدارُ الذي احتميتَ خلفَهُ حينَ كنتَ تخافُ من الظلامِ، وتصرخُ ليلًا بلا معنىً.
هو من دفنَ أحلامَهُ لينمو حلمُكَ.
هو من آثرَ الصمتَ حينَ ثرثرتَ أنتَ بالخطأِ، وانتظركَ حتى تفهمَ.
هو من تظاهرَ بالقسوةِ كي لا تكبرَ ضعيفًا، ثم بكى ليلًا كي لا تراهُ ينهارُ.
هو من اقتطعَ من صحتِهِ ليُوفّرَ لكَ دفءَ الشتاءِ، ووهبكَ قميصَهُ دونَ أن يسألَكَ عن المقاسِ.
هو من صمتَ حينَ آلمتهُ كلماتُكَ، كي لا تُحرجَ من نفسِكَ، وادّعى أنَّهُ لم يسمعْ شيئًا.
هو من ظلّ واقفًا خلفَ بابِكَ كلما تأخرتَ، لا لينهرَكَ، بل ليطمئنَّ أن قلبَهُ عادَ حيًّا برجوعِكَ.
هو من تلاشتْ أحلامُهُ بين جدرانِكَ، لكنهُ لم يندمْ، بل رأى فيها امتدادًا لحلمِهِ القديمِ فيكَ.
هو من خبّأَ وجعَهُ بين السجائرِ أو الشايِ المُرِّ، وابتسمَ كي لا تفهمَ أنَّهُ يتألّمُ.
هو من باعَ زمنَهُ ليشتريَ لكَ ساعةً واحدةً من الراحةِ، ثم عادَ لحياتِهِ المعلّقةِ بلا صوتٍ.
هو من قرأكَ في صمتِكَ، وفهمكَ في غضبِكَ، ولم يطلبْ مقابلًا لفهمِهِ.
هو من تحمّلَ تقلّباتِكَ، وإهمالَكَ، وانشغالَكَ، ثم دعا لكَ دونَ أن ينتظرَ شكرًا أو زيارةً.
هو من عانقكَ دونَ أن يعانقَ، وأحبكَ أكثرَ مما عرفتَ الحبَّ في عمرِكَ كلِّهِ.
هو من اختصرَ الحياةَ في أمنيتينِ: أن تنجحَ، وأن لا تبكيَ بعدهُ.
ينقلبُ الابنُ حينَ ينهارُ المعنى، حينَ يُستبدَلُ الوفاءُ بالمصلحةِ، وتُقدَّمُ الراحةُ على التضحيةِ.
حينَ يظنُّ أنَّ الأبَ لم يعدْ صالحًا للعصرِ، وأنَّ الهاتفَ الذكيَّ أذكى من حكمةِ الشيبِ.
حينَ ينشأُ جيلٌ تعلّمَ أنْ يُحبَّ ذاتَه فقطْ، دونَ أنْ يفهمَ أنَّ الذاتَ لا تكتملُ إلّا حينَ تحبَّ الآخرينَ.
حينَ تصبحُ الثقافةُ معلبةً، والرحمةُ افتراضيةً، والعلاقاتُ مرتبطةٌ بمقدارِ النفعِ.
ينقلبُ الابنُ حينَ تنطفئُ فيهِ جذوةُ الحياءِ، ويغيبُ عنهُ سؤالٌ: "ماذا لو كنتُ أنا مكانَه بعدَ عشرينَ عامًا؟"
حينَ يتعاملُ مع أبيهِ كموظفٍ متقاعدٍ من العاطفةِ، لا كرجلٍ حملَ البيتَ على كتفيهِ وهوَ ينزفُ صبرًا.
حينَ لا يرى في تجاعيدِ والدِهِ قصةً، بل يراها عبئًا على صورتِهِ المثاليةِ أمامَ الناسِ.
حينَ يختزلُ الأبَ في قائمةِ طلباتٍ: خذْ، اجلسْ، اسكتْ، ارتحْ، ولا يدري أنَّ الأبَ لا يحتاجُ راحةً بقدرِ ما يحتاجُ حضورًا.
حينَ ينسى أنَّ هذا الشيخَ الذي يهتزُّ جسدُه، كانَ يومًا سورًا منيعًا أمامَ الجوعِ والخوفِ والذلِّ.
حينَ يصبحُ التقديرُ مشروطًا بالعطاءِ، لا بالانتماءِ، ويتحولُ البرُّ إلى مناسبةٍ موسميةٍ تُنشرُ على وسائلِ التواصلِ.
حينَ يبتعدُ الابنُ ليبني حياتَه، لكنهُ يهدمُ بعدَه أعمدةَ حياةِ أبيهِ، دونَ أنْ يشعرَ.
وحينَ يُقارنُ الأبَ برجلٍ في مسلسلٍ، أو شخصيةٍ افتراضيةٍ على الشاشةِ، دونَ أنْ يُدركَ أنَّ الأبَ ليسَ أسطورةً خياليةً، بل ملحمةً حقيقيةً صامتةً.
ينقلبُ الابنُ حينَ يموتُ في داخلِهِ الطفلُ الذي كانَ يركضُ نحوَ حضنِ أبيهِ خائفًا، ويولدُ مكانَه إنسانٌ بلا ذاكرةٍ.
موتُ الأبِ ليسَ موتَ الجسدِ، الأبُ يموتُ حينَ يسقطُ من قلبِ ابنِهِ.
حينَ يُختصرُ في سؤالٍ إداريٍّ: "هل أخذتَ دواءكَ؟"
حينَ تُلقى عليه الأوامرُ لا الكلماتُ الحنونةُ: "اجلسْ هنا… لا تتحركْ… لا تتكلمْ كثيرًا"
حينَ تُنتزعُ منهُ سلطتُه، وتُسحبُ منهُ كرامتُه على سريرِ المرضِ، أو في زاويةِ النسيانِ.
يموتُ الأبُ حينَ يُنظرُ إليه كجثةٍ مؤجلةٍ، لا ككائنٍ حيٍّ يستحقُّ أنْ يُكرَّمَ حيًّا قبلَ أنْ يُدفنَ ميتًا.
الفلسفةُ والبِرُّ: ما وراءَ السلوكِ
البرُّ بالأبِ ليسَ فعلًا اجتماعيًا نفعلهُ خوفًا من اللومِ، أو طلبًا للبركةِ، أو طمعًا بالجنةِ.
البرُّ موقفٌ فلسفيٌّ عميقٌ من الحياةِ، لأنَّهُ اعترافٌ بفضلِ من سبقكَ، وقبولٌ بفكرةِ أنَّكَ لستَ أصلَ الخليقةِ، بل فرعًا منها.
الابنُ العاقلُ لا يبرُّ أباَه لأنَّهُ مثاليٌّ، بل لأنَّهُ أبٌ.
لأنَّهُ الإنسانُ الوحيدُ الذي لو اجتمعتْ الأرضُ كلُّها ضدَّه، سيبقى يحميكَ — وإنْ بصمتٍ، وإنْ بضعفٍ، وإنْ من تحتِ الترابِ.
متى تموتُ يا أبي؟
سؤالٌ لا يجرؤُ على النطقِ بهِ سوى من ماتَ قلبُه قبلَ أبيهِ.
لأنَّ الأبَ لا يموتُ حتى وهوَ ميتٌ… فصوتُه باقٍ في كلماتِنا، وظلُّه يرافقُنا حينَ نخافُ،
وملامحُه تطلُّ من ملامحِنا دونَ أنْ نشعرَ.
فكيفَ تتمنى موتَكَ أنتَ، حينَ تتمنى موتَ أبيكَ؟
أليسَ هو امتدادَكَ؟
أليسَ من الغباءِ أنْ تُقطعَ الجذورُ وتطلبَ من الأغصانِ أنْ تبقى خضراءَ؟
إلى الأبِ الذي يشيخُ:
أيها الأبُ، إنْ قالها ابنُكَ أو فكّرَ بها، فلا تحزنْ…
ربما لم يقرأْ فيكَ جيدًا، أو لم تُعلّمهُ الحياةُ كيفَ يراكَ.
ربما لم يكنْ قلبُه ناضجًا ليفهمَ أنَّكَ لم تكنْ عالةً، بل عِبرةً.
ربما ستأتي لحظةٌ يركعُ فيها أمامَ قبرِكَ، ويبكي كما لم يبكِ طفلٌ من قبلُ، ويهمسُ:
"اغفرْ لي يا أبي… لقد كنتَ كلَّ شيءٍ، ولم أركَ."
***
د. علي الطائي
4-6-2025