قراءات نقدية
أحمد لمقدم: قراءة في تيمات قصيدة "هُجُوعُ مَا بَعْدَ المُنْتَصَفِ" لمجيدة محمدي

تقوم قصيدة "هُجُوعُ مَا بَعْدَ المُنْتَصَفِ" للشاعرة مجيدة محمدي على تيمات متشابكة تعيد تشكيل تجربة الوجود الإنساني داخل فضاء شعري يمزج بين الضياع والانتظار، بين الحضور والغياب، حيث تتقاطع الأزمنة داخل ذات مأزومة تتأمل مصيرها في لحظة من الترقب والتلاشي. لا يقتصر النص على كونه تجربة فردية، بل يتحول إلى مشهد شعري مكثف يجسّد حالة وجودية تتأرجح بين الحسم والتردد، بين الماضي المنسحب والمستقبل المتعثر، في دائرة من الظلال والمعاني المتداخلة.
منذ السطر الأول، تتجلى تيمة الفقد بوصفها المحرّك الأساسي للنص:
"كغصن انفصل عن جذعه، استلقى مثل فكرة لم تكتمل."
هذه الصورة البصرية القوية ترسم إحساسًا بالتمزق واللااكتمال، حيث لا يصبح الانفصال مجرد فعل مادي، بل يتحوّل إلى حالة وجودية تعكس إحساس الذات بكونها كيانًا منقسمًا، بين نصف مضى ونصف ينتظر المصير، وكأنها عالقة في مسافة برزخية بين زمنين لا يلتقيان. هنا، تيمة البرزخية تتجلى بوضوح، حيث لا شيء يكتمل إلا الفقد، وكأن الوجود الإنساني كله محكوم بحالة من التعليق الدائم.
يلعب الزمن دورًا محوريًا في تشكيل بنية النص، حيث يتأرجح بين ماضٍ ينسحب كمدٍّ بعيد ومستقبل يتكسر كالأمواج على ضفة الأمل المنكمش. هنا، يظهر الزمن بوصفه حالة غير مستقرة، أقرب إلى مدّ وجزر لا يترك أثرًا واضحًا. هذا الإحساس يتعزز أكثر في السؤال الذي تطرحه الشاعرة: "أيُّ نصفٍ يتوحد في هذا السكون المفرط؟"، حيث يتحول الزمن إلى معضلة، إذ لا يكون الحاضر سوى فراغ ثقيل بين ماضٍ لا يعود ومستقبل يتبدد قبل أن يأتي. بذلك، تصبح تيمة الزمن العالق عنصرًا أساسيًا في تشكيل الإحساس بالضياع.
يصل الإحساس بالعجز إلى ذروته حين تصف الشاعرة لحظة التخلّي: "حين تصير المفاصل أثقل من الذكريات، والطرق أطول من أي نية للرجوع." في هذه الصورة، يتحوّل الزمن إلى ثقل مادي يرهق الجسد ويتخنه يالعجز، فتغدو الذكريات -وهي عنصر غير ملموس- أكثر خفّة من الجسد ذاته، مما يعكس مدى الإرهاق الوجودي الذي تعيشه الذات. هذا الإحساس يتسع في صورة الرغبات الخفية التي "تتسلل كقط ضجر، تقلّب في الدرج المغلق عن بقايا قصيدة لم تُكتب، عن نص مؤجل، عن اسم كان له يومًا، ولم يعد." هنا، تيمة البحث عن الذات المفقودة تصبح أكثر حضورًا، حيث لا يكون الماضي مجرد ذكرى، بل شيء يواصل التسلل كهاجس، كظلّ يلاحق الكائن دون أن يمنحه يقينًا أو خلاصًا.
تأخذ تيمة النور والظلال بعدًا خاصًا في النص، لكنها لا تُطرح ضمن الثنائية الكلاسيكية-المستهلكة التي تجعل من النور رمزًا للخلاص، بل يتم تفكيكها بحيث يصبح الضوء نفسه كيانًا مترددًا عاجزا على منح الوضوح أو التنوير الحقيقي. تصف الشاعرة الضوء بأنه "ضعيف كمصباح موتى، يتسلل من أطراف الستائر كشفق نادم، يلقي بظل باهت على جدار خالٍ، لكنه لا يضيء شيئًا." في هذه الصورة، لا يعود النور مصدرًا للحقيقة، بل يتحوّل إلى مجرد ظلّ شاحب، ضوء متردد غير قادر على خنق العتمة واختراقها أو كشف الطريق. هذا العمق في توظيف النور والظلال يجعل منهما عنصرين يعكسان تيمة الحيرة والتردد التي تطغى على القصيدة ككل.
على الرغم من كل الإحساس بالفقد، لا تصل القصيدة إلى حدّ العدمية المطلقة، بل تترك ثغرة للأمل، ولو كان أملًا مؤجلًا أو غائمًا، في خاتمتها:
"إنه وعد الشمس التي قد تأتي… رغم رهج السديم."
هذه الجملة الأخيرة لا تُلغي ثقل التيمات السابقة، لكنها تمنح القصيدة بعدًا جديدا مفتوحًا على احتمالات تبقي إمكانية الخروج من دوائر التلاشي قائمة، ولو وسط الغموض الذي يحجب الرؤية. هنا، تيمة الرجاء الغامض تمنح النص لحظة تنفس أخيرة، وكأن الذات/الشاعرة رغم كل شيء، لا تزال تمتلك احتمال العودة.
تنتمي "هُجُوعُ مَا بَعْدَ المُنْتَصَفِ" إلى نصوص الاغتراب الوجودي التي تتأمل المصير الإنساني من خلال تيمات الفقد، الزمن العالق، الجسد المثقل، الحيرة، والأمل المؤجل. القصيدة تنجح في خلق عالم شعري يتأرجح بين اللااكتمال والرغبة في الاكتمال، حيث يصبح الإنسان كيانًا معلقًا بين النوم واليقظة، بين الحضور والغياب، داخل لحظة برزخية لا تنتمي إلى أي زمن محدد، وإنما إلى الفراغ الذي يتوسط كل الأشياء...
***
أحمد لمقدم – كاتب وناقد
............................
" هُجُوعُ مَا بَعْدَ المُنْتَصَفِ"
كغصن إنفصل عن جذعه ،
إستلقى مثل فكرةٍ لم تكتمل،
نصف عمرٍ مضى، نصف نومٍ آت،
ولا شيء يكتمل إلا الفقد.
الرُّوحُ كَمِزلاجِ نافذةٍ صَدِئ،
تَتَأرْجَحُ بينَ ماضٍ يَنْحَسِرُ كمدٍّ بَعيد،
ومُسْتَقْبَلٍ يَتَكَسَّرُ كالأمْوَاجِ عَلى ضِفَّةِ الأَمَلِ المُنْكَمِش.
أَيُّ نِصْفٍ يَتَوَحَّدُ في هَذَا السُّكُونِ المُفْرِط؟
أَيُّ ظِلٍّ لِلرَّجُلِ الذِي يَتَأَمَّلُ خَطُّوْطَ وَجْهِهِ
فِي مِرْآةٍ تُشْبِهُ زُجَاجَ المَطَرِ المُتَكَهِّف؟
*
إنَّهُ وَقْتُ التَّخَلِّي،
حينَ تَصِيرُ المَفَاصِلُ أَثْقَلَ مِنِ الذِّكْرَيَات،
والطُّرُقُ أَطْوَلَ مِنْ أَيِّ نِيَّةٍ لِلرُّجُوع.
الرَّغْبَاتُ الخَفِيَّةُ تَتَسَلَّلُ كَقِطٍّ ضَجِر،
تُقَلِّبُ فِي الدَّرْجِ المُغْلَقِ
عَنْ بَقَايَا قَصِيدَةٍ لَمْ تُكْتَبْ،
عَنْ نَصٍّ مُؤَجَّلٍ،
عَنْ اسْمٍ كَانَ لِه يَوْمًا،
وَلَمْ يَعُدْ.
*
النُّورُ هُنا ضَعِيفٌ كَمِصْبَاحِ مَوْتَى،
يَتَسَلَّلُ مِنْ أَطْرَافِ السِّتَائِرِ كَشَفَقٍ نَادِم،
يُلْقِي بِظِلٍّ بَاهِتٍ عَلَى جِدَارٍ خَالٍ،
لَكِنَّهُ لا يُضِيءُ شَيْئًا.
*
هَذَا النِّصْفُ الَّذِي يتَمَدَّدُ فِيهِ
لَيْسَ لَيْلًا،
وَلَيْسَ يَقَظَة،
لَيْسَ عُمُرًا،
وَلَيْسَ مَوْتًا.
*
إِنَّهُ أَثَرُ خُطُوَاتٍ فِي طِينٍ قَدِيم،
إِنَّهُ وَعْدُ الشَّمْسِ الَّتِي قد تَأْتِي...رغم رهج السديم ...
***
مجيدة محمدي