قراءات نقدية
طارق الحلفي: قراءة في قصيدة "برج بابل" للشاعر جمال مصطفى (6)

"عود من السماق يحصده الإله..." (6)
كنت قد كتبت في المدخل الى هذه القصيدة المثيرة وفي الفقرة الأخيرة.. باننا "سنبحر مع الشاعر جمال مصطفى في قراءة "بانوراميته" ... بالتفصيل..". واليوم نبدأ بالمقاطع من (41ـ 50)..
"حين تكون القصيدة مفتوحة كأفق وملمومة كقطرة ماء"
القسم السادس: " عود من السماق يحصده الإله..." (6)
لعبة النيازك ومحنة الغضب الإلهي
(41)
"أيّامَ كانَ البرجُ تَوأمَهُ القصيدهْ
صَعَدا معاً نَحْوَ السماءِ لِيلْعبا صيْدَ النيازِكْ
غضبَ الإلهُ على القصيدةِ: حرّضَتْ بُرجاً رزيناً
أنْ يَخِفَّ لِيَجْمَحا صُعُداً كَهالِكةٍ وهالِكْ
التابعونَ يُردِّدونْ:
صدقَ الإلهْ"
البرج والقصيدة:
يُصوّر هذا المقطع العلاقة الحميمية بين البرج والقصيدة، حيث يشكّلان معًا ثنائية متكاملة من البناء والخيال.. من المادة والفكر.. من الثبات والتحليق. إلا أن هذه العلاقة المتمردة، التي تدفعهما معًا للصعود واللعب بالنيازك، تثير غضب الإله، فيتحوّل الإبداع إلى فعلٍ خطِر، والقصيدة إلى مُحرِّضةٍ تُخرج البرج عن رزانته وثقله الماديّ.
تحالفٌ ضد الجاذبية:
"أيّامَ كانَ البرجُ تَوأمَهُ القصيدهْ
صَعَدا معاً نَحْوَ السماءِ لِيلْعبا صيْدَ النيازِكْ"
يبدأ النص بتصوير البرج والقصيدة ككيانين توأميْن، كأنهما روح وجسد.. أو مادة وفكرة تتحدان في مغامرةٍ سماوية.. غير أن هذا الصعود ليس مجرد فعلٍ جماليّ، بل هو لعبٌ بالنيازك، أي تمرُّدٌ على النظام الكوني، انه تجاوزٌ لدور البرج كرمزٍ للاستقرار، وتحويله إلى كائنٍ طائر، حالِم، يشبه القصيدة ذاتها.
الخطاب السلطويّ ضد الإبداع:
"غضبَ الإلهُ على القصيدةِ: حرّضَتْ بُرجاً رزيناً
أنْ يَخِفَّ لِيَجْمَحا صُعُداً كَهالِكةٍ وهالِكْ"
الغضب الإلهيّ هنا ليس موجّهًا إلى البرج، بل إلى القصيدة، لأنها كانت الشرارة، الفكرة التي جعلت البناء الصلب يهوى خلفها في جنون الصعود. القصيدة هي التي أفسدت رزانة البرج، جعلته يهيم في السماء، كأنها تقودُه إلى الهلاك.
التبرير الديني للسلطة:
"التابعونَ يُردِّدونْ:
صدقَ الإلهْ"
في النهاية، نجد التابعين يكرّسون السرديّة الرسمية، يُردّدون ما قيل لهم، يُضفون الشرعية على الغضب الإلهيّ، ويحوّلون تحرّر البرج إلى خطيئة. كأن النص يشير إلى السلطة التي ترفض أي انفلاتٍ عن السيطرة، او خروج عن سلطتها، سواء كان ذلك في المعمار أو في الشعر.. ماديًا او روحيًا، لذا تستعين بأتباعها لتبرير القمع وطمس التمرُّد.
البرج والشعر بين الجموح والقمع:
تتماهى القصيدة مع البرج، في علاقة رمزية تحتفي بالمغامرة والطموح، في مشهد مدهش يمزج بين الخيال والطموح الإنساني الجامح. فالبرج والشعر كتوأمين.. يسعيان إلى اقتناص المستحيل، إلى ملامسة الضوء، وإلى تجاوز المحدود نحو المطلق.
لكن القصيدة، هذا الكائن المتمرد، تثير سخط الإله، لأنها تجرأت على تحريض البرج، ذاك الصرح الرزين، على التمرد والانطلاق ككائن جموح، في حركة تصعيدية تجعل منه ومن القصيدة معًا في مصير واحد: "كهالِكةٍ وهالِكْ". هنا، يتجسد الصراع الأزلي بين السلطة والإبداع.. بين الثبات والتحول.. بين القداسة والمروق، حيث لا يكون الإبداع إلا نوعًا من الخطيئة.
هذا المقطع يرسم جدليّة أزلية بين الإبداع والسلطة، بين الرغبة في التحليق والقيود المفروضة على كل ما يريد أن يسمو. ويبقى السؤال المعلّق: هل غضب الإله هو حقيقة، أم هو مجرد أداةٍ لضبط طموح الإنسان؟
جدلية البناء والإنسان
(42)
"في مفْخَرِ القَرْميدِ يُسْمَعُ عامِلانْ
يَتَحاورانْ:
هذا البِناءُ ويا لَهُ بُرْجاً ولكنْ
لو أنَّ قرْميدو كإقصيدو اكتفى
عن بُرْجِهِ القرْميدِ بالبُرْجِ القصيدهْ
أو كانَ شَيَّدَها مَساكِنْ
لِمَنْ مِثْلي ومِثْلِكَ ها هنا بالأمْسِ بابِلَهُ الجديدهْ"
مرة اخرى البرج والقصيدة:
يطرح الشاعر هنا رؤية فلسفية واجتماعية تتأمل في جدوى البناء الماديّ مقابل البناء الشعريّ، وفي دور المعمار بين التفاخر السلطويّ والوظيفة الإنسانية. عبر حوارٍ بين عاملين، ينفتح النص على تساؤل جوهريّ: هل كان الأجدر أن يُستبدل برج القرميد ببرج القصيدة؟ أم أن يُشيَّد ليسكنه البسطاء بدل أن يكون صرحًا مجرَّدًا؟
البرج/ بين التفاخر والجدوى:
"في مفْخَرِ القَرْميدِ يُسْمَعُ عامِلانْ
يَتَحاورانْ"
منذ البداية، يُشير النص إلى أن البرج ليس مجرد بناء، بل هو "مفخرٌ"، أي رمزٌ للتباهي السلطويّ والمجد الفارغ. ومع ذلك، فإن العمّال ـ وهم الفئة التي تبنيه ـ هم أول من يطرحون التساؤل حول معناه الحقيقيّ.
برج القرميد أم برج القصيدة؟"
"هذا البِناءُ ويا لَهُ بُرْجاً ولكنْ
لو أنَّ قرْميدو كإقصيدو اكتفى
عن بُرْجِهِ القرْميدِ بالبُرْجِ القصيدهْ"
يُقدِّم الحوار مقارنة بين البناء الماديّ (قرميدو) والبناء الشعريّ (إقصيدو). البرج هنا، رغم عظمته، يبدو وكأنه فائضٌ عن الحاجة، بينما القصيدة، رغم تجردها من المادة، تُطرَح كبديل أكثر صدقًا ودوامًا. فهل البناء الحقيقيّ يكمن في الحجر أم في الكلمة؟ وهل كان الشعر سيكفي ليبني مجدًا أبقى من القرميد؟
المأوى المفقود/ سؤال العدالة الاجتماعية:
"أو كانَ شَيَّدَها مَساكِنْ
لِمَنْ مِثْلي ومِثْلِكَ ها هنا بالأمْسِ بابِلَهُ الجديدهْ"
هنا، يصل الحوار إلى ذروته الأخلاقية: ماذا لو لم يكن البرج رمزًا للترف والسلطة، بل مأوًى للفقراء؟ هل كانت "بابل الجديدة" ستولد على أسس أكثر عدالة؟
نقد معماريّ برؤية إنسانية:
يُثير هذا المقطع تساؤلًا وجوديًّا حول معنى البناء: هل هو مجرّد استعراض للقوة، أم ينبغي أن يكون فعلًا يخدم الناس؟ وبالأخص العمّال، بوصفهم صانعي البرج، الذين يُدركون أكثر من غيرهم أن العظمة لا تُقاس بارتفاع القرميد، بل بقدرته على احتضان البشر.
جدلية الوجود والعدم
(43)
يا نَغمةَ البرجِ التي صعَدَتْ إلى لا مُنْتهاهْ
هو لا صداكِ ولا صداهْ
هو هكذا في البدْءِ كانَ كَلا يَكونْ
بُرْجاً إلهْ
مِن تَحتِهِ عَرْشُ الظنونِ وفوقَهُ العَدُمُ المَتاهْ"
البرجُ بين النغمة والصمت:
يُقدِّم الشاعر هنا تأملًا فلسفيًا عميقًا حول طبيعة برج بابل، بوصفه كيانًا يتأرجح بين الصوت والصمت.. بين الحضور والغياب.. بين الوجود والعدم.. فالنص لا يتعامل مع البرج كحجرٍ وصروح، بل كفكرةٍ تُحلّق نحو المطلق، لتجد نفسها في الفراغ.
النغمة الصاعدة/ الموسيقى كتجلٍّ للمعنى:
"يا نَغمةَ البرجِ التي صعَدَتْ إلى لا مُنْتهاهْ"
يبدأ النص بصورةٍ موسيقية، حيث تتحوَّل العمارة إلى نغمة، والصعود الهندسي إلى تسامٍ صوتيّ. هذا التشبيه يُحوِّل البرج إلى رمزٍ للطموح الإنسانيّ نحو الأبدية، لكنه طموحٌ يحمل في جوهره التناقض، لأن اللا مُنتهى ليس موطنًا للنغم، بل للفراغ.
البرج والصدى/ البحث عن الهوية الضائعة:
"هو لا صداكِ ولا صداهْ"
ينفي النص عن البرج أن يكون صدىً لنغمة، كما ينفي عنه أن يكون هو ذاته مصدر النغمة. هنا يتجلى البرج بوصفه كيانًا لا يمكن استيعابه: هو موجودٌ ولكنه بلا هوية، صاعدٌ ولكنه بلا أثر.. إنّه برجٌ لا يُعيد صوتًا، لأنه لم يكن صوتًا أصلًا، بل فراغًا يطمح لأن يكون ممتلئًا.
البرج والإله/ التجاوز المستحيل:
"هو هكذا في البدْءِ كانَ كَلا يَكونْ
بُرْجاً إلهْ"
يستحضر الشاعر هنا بعدًا ميتافيزيقيًا عميقًا، حيث يبدو البرج وكأنه يسعى لأن يكون كيانًا إلهيًا، لكنه مُدانٌ منذ البدء بعدم الاكتمال. فهو ليس موجودًا بشكلٍ تام، وليس غائبًا بالكامل، بل هو في حالة بينيّة، ككائنٍ يحاول أن يكون إلهًا لكنه يظلّ مجرد برجٍ مصنوعٍ من ظنون البشر.
المتاهة العلوية/ عبثية الطموح الإنسانيّ:
"مِن تَحتِهِ عَرْشُ الظنونِ وفوقَهُ العَدُمُ المَتاهْ"
يصل النص إلى ذروته الفلسفية، حيث يُوضع البرج بين عرش الظنون والسقف العدم. إنّه كيانٌ تشيّده الأوهام، ويتلاشى في الضياع. هذه الصورة تُحيل إلى عبثية الصعود، حيث لا يُفضي الطموح الإنسانيّ إلا إلى الضياع في متاهة لا نهاية لها.
البرج كغربة أبدية:
يقدّم المقطع نظرة تشاؤمية إلى برج بابل، حيث يتحوَّل من رمزٍ للإنجاز إلى استعارةٍ للفراغ. إنّه ليس بناءً، بل تجربة وجودية تُلامس المستحيل. يُقدِّم النص البرج ككيانٍ يبحث عن صوت، عن معنى، عن اكتمال، لكنه محكومٌ بأن يظلّ ظلًا لما لا يُمكن أن يكونه.. طللا شبحيا في اذهان من أوجدوه ومجدوه أسطروه..
جدلية السلطة والعبودية
(44)
الأمَّهاتُ بِبابِلٍ يَخْشيْنَ مِن غضَبِ الإلهِ
على الذَراري
فَلَسوفَ يَفتكُ بالعبيدِ إذا رآهُمْ يَصعدونَ
إلى الدَراري
إلّاهُ ما مِن سَيّدٍ أبَداً
ولكنْ
أتُراهُ حَقّاً مثْلما قد صَوّرُوهْ؟
أم حاجِباهُ وكاهِناهُ ومَن يُخطِّطُ في الظلامِ
ومَنْ تَكَرَّشَ بالأضاحي والنُذورْ؟"
غضبُ الإلهِ وخوفُ الأمهات:
يُقدّم هذا المقطع رؤيةً عميقة للتوتر القائم بين السلطة الإلهية كما يراها العوام، وبين الحقيقة المستترة خلف الرموز الدينية والسياسية. فالبرج هنا ليس مجرد بناء، بل مساحة للصراع بين الخوف والطموح.. بين العبودية والتحرر.. بين الصورة المشوّهة للإله والحقيقة المغيّبة عنه.
الأمهات والخوف/ سلطة العقيدة على الأجيال:
"الأمَّهاتُ بِبابِلٍ يَخْشيْنَ مِن غضَبِ الإلهِ
على الذَراري"
تظهر الأمّهات بوصفهن حاملات القلق الأزليّ، ينظرن إلى أبنائهن بوجل، يخشين عليهم من صعودٍ قد يكون هلاكًا. الموروث الديني والاجتماعي يجعلهنّ حارسات الخضوع، يُلقّنّ أبناءهن الطاعة خشية أن يغضب الإله، وكأنّ الطموح نحو العُلى خطيئة، وكأنّ السماء حكرٌ على القادرين، وليس للعبيد فيها نصيب.
العبيد والنجوم/ الحلم المحظور:
"فَلَسوفَ يَفتكُ بالعبيدِ إذا رآهُمْ يَصعدونَ
إلى الدَراري"
يطرح المقطع مفارقة بين العبودية والطموح، حيث يُمنع العبيد من الصعود إلى النجوم، وكأنّ التراتبية الاجتماعية مقدّسة. هنا، لا يُصبح القمع فقط واقعًا دنيويًا، بل يمتد إلى الفضاء الميتافيزيقي، حيثُ الإله ذاته يبدو وكأنه يحرس هذه الحدود الطبقية ويباركها.
حقيقة الإله/ بين التصوير والواقع:
"إلّاهُ ما مِن سَيّدٍ أبَداً
ولكنْ
أتُراهُ حَقّاً مثْلما قد صَوّرُوهْ؟"
يثير الشاعر في هذه الأسطر تساؤلًا وجوديًا خطيرًا: هل الإله الذي يُروّج له الكهنة هو ذاته الحقيقة المطلقة؟ أم أنّ الصورة التي نعرفها ليست سوى بناءٍ اجتماعيّ، خاضعٌ لمن يُخططون في الخفاء؟ هذه الفكرة تُحيل إلى إشكالية استخدام الدين كأداة للهيمنة، حيث يُستخدم اسم الإله لتبرير الاستبداد ومنع الضعفاء من المطالبة بحقوقهم.
الكهنة والسلطة/ الإله كأداةٍ للحكم:
"أم حاجِباهُ وكاهِناهُ ومَن يُخطِّطُ في الظلامِ
ومَنْ تَكَرَّشَ بالأضاحي والنُذورْ؟"
يصل النص إلى ذروته في كشف تحالف السلطة الدينية مع الاستغلال السياسي. فالإله الذي يخشاه الناس قد لا يكون سوى ظلّ أولئك الذين يستفيدون من الخوف، من الكهنة الذين يُصمّمون صورة الإله بما يتوافق مع مصالحهم، ومن المتخمين بالنذور والأضاحي.
الإله بين الخوف والتحرر
هذا المقطع ليس مجرد انتقادٍ للسلطة الدينية، بل هو محاولة لإعادة تعريف العلاقة بين الإنسان والإله. فهو يدعو إلى التساؤل عمّا إذا كان الإله إلهًا للحرية أم إلهًا يُستخدم لحراسة الطبقات والامتيازات. في النهاية، يتركنا النص أمام حيرة وجودية: هل ما نعبده حقيقة، أم انعكاسٌ لمن يسيطر علينا؟
هل يشيخ المعمار أم الفكرة؟
(45)
هلْ شابَ بُرْجُكَ يا مُهَنْدِسُ
أهلُ بابِلَ، بعضهُمْ قالَ:
الحجارةُ مِن أعالي البرجِ قدْ سقَطتْ
على أحَدِ البيوتْ
والمُغرضونَ يُروِّجونَ بِأنَّ بُرْجَ العَنْكَبوتْ ...."
البرجُ بين التهالك والتأويل:
يُثير هذا المقطع جدلية التحوّل والتآكل، بين صمود الأبنية واهتراء المعاني.. بين الحقيقة والشائعات.. وبين الواقع والمرويات المتناقلة. إنه سؤالٌ عن الزمن، عن الثبات، وعن الصورة التي يُراد لنا أن نراها في مقابل ما يحدث في الخفاء.
المهندس والبرج/ سؤال الزمن والتغيّر:
"هلْ شابَ بُرْجُكَ يا مُهَنْدِسُ"
يبدأ المقطع باستفهامٍ توبيخيّ موجّه إلى المهندس، وهو ليس مجرد بنّاء، بل رمزٌ للعقل البشري، للقدرة على الخلق، وللرؤية الطامحة إلى الثبات والخلود. ولكن الزمن، الذي لا يعترف بالكمال، يفرض منطقه على كل شيء، حتى على أكثر البُنى صلابةً. فالسؤال ليس عن المادّة فحسب، بل عن فكرة البرج ذاتها: هل تآكلت مبادئه كما تآكلت حجارته؟
الحجارة الساقطة/ بين الحادثة والعلامة:
"أهلُ بابِلَ، بعضهُمْ قالَ:
الحجارةُ مِن أعالي البرجِ قدْ سقَطتْ
على أحَدِ البيوتْ"
السقوط هنا ليس مجرد حدث عرضي، بل هو نذيرٌ بانهيار، سواء كان ماديًا أو رمزيًا. الحجارة التي تتساقط قد تكون دليلًا على تصدّع في البناء، أو انهيارًا في الفكرة التي قام عليها البرج ذاته. وسقوطها على أحد البيوت يشير إلى أن هذا التهالك لا يظل محصورًا في البرج وحده، بل تمتدّ تداعياته إلى المجتمع، إلى بابل نفسها.
الشائعات والمغرضون/ الصراع على الرواية:
"والمُغرضونَ يُروِّجونَ بِأنَّ بُرْجَ العَنْكَبوتْ ...."
هنا يظهر الصراع بين التأويلات. فبينما يرى البعض أن البرج ما زال قائمًا لكنه يتداعى، يروّج "المغرضون" لفكرة أن البرج لم يكن إلا "برج العنكبوت"—أي هشًا، واهنًا منذ البداية، بلا قوة حقيقية.
وهذا يفتح باب التأويل:
* هل البرج كان أسطورة هشّة منذ البداية، بناها الوهم لا الحقيقة؟
* أم أنّه بُني على أسسٍ متينة، لكن الزمن والتآكل الطبيعي جعلاه يبدو ضعيفًا؟
* أم أنّ هناك من يريد تشويه صورة البرج عمدًا، لضرب رمزيته وتحطيم أثره في النفوس؟
البرج بين الحقيقة والتفسير:
هذا المقطع يعكس جدلية التاريخ، حيث لا ينهار شيءٌ دون أن تنقسم الروايات حوله. فهل نحن أمام انهيارٍ حقيقي، أم أننا ضحايا للخطاب المسيطر؟ هل نرى الواقع كما هو، أم كما يريد لنا "المغرضون" أن نراه؟ البرج قد يكون أيقونة، وقد يكون مجرد سراب، لكن السؤال الأهم: مَن يتحكم بالرؤية، ومن يكتب التاريخ؟
بين الوهم والحقيقة
(46)
في البرج سَلّةُ موبِقاتٍ كانَ
قد زعَمَ المُؤرِّخُ أنها ألْفٌ وسَلّهْ
زعَمَ المُؤرِّخُ ثُم لَم يَملأْ لَنا
مِنهنَّ حتّى سَلَّتَيْنِ فما أَضَلّهْ
يا بُرْجُ إنَّ المُنصفينَ أقَلُّ قِلَّهْ"
المؤرخ والبرج:
يضعنا هذا المقطع أمام مفارقة التأريخ والتأويل.. بين ما يُروى وما يُثبت.. بين الزعم واليقين. البرج هنا ليس مجرد بناء، بل فضاءٌ تتحرك فيه السرديات، حيث يختلط الحقّ بالزيف، والمعرفة بالتضليل.
الموبقات والعدد/ لعبة الرموز والمبالغة:
"في البرجِ سَلّةُ موبقاتٍ كانَ
قد زعَمَ المُؤرِّخُ أنها ألْفٌ وسَلّهْ"
في أعماق البرج تكمن "سلّة موبقات" – خطايا وآثام يزعم المؤرخون عددها "ألفٌ وسلّة"، في إشارة بليغة تستحضر حكايات "ألف ليلة وليلة". تلك الملحمة التي تجسدت فيها موبقات الخيانة.. ابتداء بمأساة شهريار حين اكتشف خيانة زوجة أخيه، ثم صُدم بخيانة زوجته أيضًا، هذه الصدمة المزدوجة حوّلت نظرته للنساء إلى حكم قاسٍ شامل، دفعه لإعدام زوجته، معتقداً أن الخطأ متأصل في جميع النساء.
كما وانها إشارة إلى المبالغة في تصوير الخطيئة وكأنها طاغية، شاملة، لا حدود لها. لكن هذه الصياغة الساخرة تكشف في جوهرها عن النقد الحادّ للمبالغة في التشويه التاريخي، حيث تُصبح الأرقام مجرد أدوات للإيهام،
المؤرخ المتناقض/ بين الزعم والإثبات:
"زعَمَ المؤرخُ ثُمّ لم يملأْ لَنا
مِنهنَّ حتى سلّتينِ فما أضلّهْ"
يُسلط المقطع الضوء على التناقض بين الادعاء والإثبات. فالمؤرخ الذي يدّعي وجود ألف موبقة يعجز حتى عن تقديم دليلٍ على اثنتين منها. وهنا إدانة لنهج بعض المؤرخين الذين لا يعتمدون على الحقائق بقدر ما يصوغون السرديات وفق مصالح أو تصورات مسبقة.
ندرة الإنصاف في عالم التأريخ:
"يا بُرْجُ إنَّ المُنصفينَ أقَلُّ قِلَّهْ"
يصل النص إلى ذروته: الندرة المؤلمة للإنصاف.. فالحقيقة دائمًا ضائعة بين التضخيم والإنكار، والمُنصفون ـ الذين يبحثون عن الحقيقة بحياد ـ قلّة نادرة وسط جوقة المبالغات والخرافات.
البرج كرمز للتاريخ المغدور:
هذا المقطع يمثل رؤية فلسفية ونقدية للتاريخ كمساحةٍ للتزييف والتأويلات الملتبسة. البرج هنا ليس مجرد معمار، بل مرآة للحقيقة المشوهة بين أيدي المؤرخين. وبين زيف الروايات وندرة المنصفين، يظل البرج شاهدًا صامتًا على تاريخٍ قيل عنه أكثر مما هو عليه حقًا. وبين زعم المؤرخين وشكّ العارفين، يبقى البرج شاهداً على التاريخ، لكنه أيضًا ضحيته.
البرج بين الفناء والبعث الشعري
(47)
البرْجُ غادَرَ بُرْجَهُ جسَداً بِبابِلْ
جَسَداً تُقُوِّضُهُ المَعاولْ
ألْفاً مِن الأعوامِ، كانْ
يأوي إليهِ: إلى رُفاتِهْ
شُعراءُ ما بَعْدَ الخرابِ المُنْتَمونَ إلى بُناتِهْ"
الزمن والخراب:
في هذا المقطع، تتجلى ثنائية الفناء والخلود، حيث يصبح البرج كائنًا حيًا يترك جسده في بابل، لكنه لا يختفي تمامًا، بل يُعيد إحياء ذاته من خلال الشعراء الذين جاؤوا بعد الخراب. إنّه برجٌ ينهار ماديًا، لكنه يظل قائمًا في الذاكرة والإبداع، وهو ما يعكس رؤية فلسفية حول ديمومة الفكرة رغم زوال الشكل.
البرج بين الجسد والروح:
"البرْجُ غادَرَ بُرْجَهُ جسَداً بِبابِلْ
جَسَداً تُقُوِّضُهُ المَعاولْ"
يفتتح الشاعر المقطع بتصوير البرج كيانًا حيًّا يغادر جسده، وكأنه يتخلى عن ماديته ليبقى في صورة أخرى. إنه ليس مجرد بناءٍ يتداعى، بل كائنٌ تتآكله المعاول لكنه ينجو من الفناء المطلق. فالبرج هنا لا يُقاس بوجوده الفيزيائي، بل بما يمثله من رمزية ومعانٍ متوارثة.
ألف عامٍ من التآكل:
"ألْفاً مِن الأعوامِ، كانْ
يأوي إليهِ: إلى رُفاتِهْ"
يمتد الزمن ليصبح البرج أطلالًا تقاوم النسيان. فالرقم "ألف" يوحي بطول المأساة، وكأن البرج ظل شاهدًا على تقلبات التاريخ، ورغم مرور العصور، لا يزال يمارس دوره كملاذٍ لأرواح الباحثين عن الحقيقة.
شعراء الخراب وبُنَاة الحلم:
"شُعراءُ ما بَعْدَ الخرابِ المُنْتَمونَ إلى بُناتِهْ"
هنا تتحقق المفارقة العميقة: البرج لم يعد قائمًا، لكن الشعراء الذين جاؤوا بعد الخراب هم امتدادٌ للبنّائين الأوائل. فكأنّ هؤلاء الشعراء لا يكتفون برثاء الماضي، بل يسعون إلى إعادة تشييد البرج من جديد بالكلمات والرؤى. في هذا المشهد، يصبح الشعر وسيلةً للبناء الرمزي في مقابل الهدم المادي.
رؤية فلسفية/ الفناء والخلود في صراع أبدي:
هذا المقطع لا يتحدث عن برج بابل كأثرٍ مادي فقط، بل يطرحه كرمزٍ للمعرفة والخلق الإنساني، الذي قد يُدمَّر جسديًا لكنه يظل خالدًا عبر اللغة والإبداع. فالبرج ليس مجرد حجارة، بل فكرةٌ تتجدد كلما حملها الشعراء في قلوبهم وأقلامهم.
البرج كمرآة للتحولات
(48)
في بابِ (لا تَحْزنْ) مِن اللوحِ الكتابْ
.............
وهناكَ عُشٌّ في أعالي البُرْجِ
أو بيتٌ لِمالِكْ
أيّامَها ما كانَ يُنْعَتُ بالحزينْ
نَعْتُ الحزينِ أتاهُ مِن بعْدِ الخرابْ"
**
بين الحزن والخلود:
في هذا المقطع، يستحضر الشاعر سردية البرج من زاوية وجدانية، حيث يتناول فكرة التحول من الاستقرار إلى الحزن، ومن العلو إلى الخراب. البرج هنا ليس مجرد بناء مادي، بل كيانٌ يعكس تغيرات الزمن والهوية، ويشهد على التحولات التي طرأت على من سكنه أو ارتبط به رمزيًا.
تناص ديني واستدعاء فلسفي:
"في بابِ (لا تَحْزنْ) مِن اللوحِ الكتابْ"
يبدأ المقطع بإشارة إلى باب يحمل اسمًا مطمئنًا: "لا تحزن"، مما قد يوحي بتناصٍ مع النصوص الدينية التي تدعو إلى التسليم أمام الأقدار وعدم الاستسلام للألم. ومع ذلك، فإن هذه العبارة تتناقض مع سياق المقطع الذي ينتهي بالحزن بعد الخراب، وكأن الشاعر يشير إلى المفارقة بين الأمل في البدايات والواقع الذي فرضته النهايات.
البرج بين العُش والبيت:
"وهناكَ عُشٌّ في أعالي البُرْجِ
أو بيتٌ لِمالِكْ"
هنا، يتحول البرج من رمزٍ للضخامة والسلطة إلى مكانٍ حميمي يأوي عشًّا أو بيتًا. هذا التحول يحمل دلالة التواضع والانكماش بعد السقوط، فبعد أن كان البرج صرحًا شاهقًا، صار مجرد ملاذٍ صغير لكائنٍ حي. كما أن استخدام اسم "مالك" لا يوحي بتجسيد رمزي لشخصيةٍ تاريخية أو وجودية، بل للطائر/ مالك الحزين ذو الرقبة الطويلة والوحيد في البحيرات والمستنقعات دائمًا، والذي جاء اسمه من طأطأة الرأس او الوحدة.. والمعروف عنه بناء اعشاشه في الأماكن العالية كالمنائر والمداخن..
الحزن والخراب/ متى بدأ الانحدار؟
"أيّامَها ما كانَ يُنْعَتُ بالحزينْ
نَعْتُ الحزينِ أتاهُ مِن بعْدِ الخرابْ"
يؤكد الشاعر على التغير الزمني في وصف البرج، فحين كان قائمًا، لم يكن يوصف بالحزن، لكن بعد انهياره أصبح الحزن ملازمًا له. هذه الجملة تحمل إشارة فلسفية إلى أن الحزن ليس سمة الأشياء في ذاتها، بل نتيجة لما يطرأ عليها من أحداث. وكأن الخراب لا يصيب الجدران فقط، بل يصيب الروح والذاكرة أيضًا، فيحوّل المجد السابق إلى مرثية دائمة.
رؤية تحليلية/ البرج ككائن حيّ متحوّل:
يرسم هذا المقطع صورة البرج ككائنٍ يتغير عبر الزمن، فهو لم يولد حزينًا، لكنه صار كذلك بعد الخراب. وهذه الفكرة تنطبق على الحضارات والمجتمعات وحتى الأفراد، إذ يمرون بمراحل الصعود والازدهار، قبل أن يأتي زمن التراجع والانهدام والحزن. البرج هنا ليس مجرد بناء مادي، بل استعارة للحضارات التي تتألق ثم تتلاشى، وللأفراد الذين يمرون من القوة إلى الهشاشة.
الغرورُ في مواجهة الخلود
(49)
البرجُ يَغتابُ القصيدةَ:
ما القصيدةُ؟
ليس أكثَرَ مِن كلامٍ، مِن جُمَلْ
أنّى تُقارَنُ بي أنا!
وأنا أنا
حتّى حُطامي عندما أنهارُ يَبدو كالجَبلْ؟"
البرجُ والقصيدة:
في هذا المقطع، نواجه صراعًا وجوديًا بين البرج والقصيد.. بين الماديّ الشاهق واللغويّ العابر، حيث يتجسّد البرج ككيان مغرور يتعالى على الشعر، وينظر إليه باعتباره مجرد كلامٍ وجُملٍ لا تُقارن بعظمته. لكن هل هذا الغرور حقيقة أم وهم؟
البرج كصوتٍ للجبروت والتفوّق:
يبدأ المقطع بصيغةٍ لافتة:
"البرجُ يَغتابُ القصيدةَ: ما القصيدةُ؟"
هنا، تتحوّل القصيدة إلى موضوعٍ للنميمة والانتقاص، وكأنّ البرج، رمز القوّة والتشييد، يستخفّ بما هو غير ملموس، متسائلًا:
"ليس أكثرَ مِن كلامٍ، مِن جُمَلْ، أنّى تُقارَنُ بي أنا!"
إنّه التجسيد الأقصى لعقلية السلطة، التي ترى القيمة فيما هو محسوسٌ وماديّ، بينما تزدري الفنّ والشعر باعتبارهما مجرد كلماتٍ عابرة.
عظمة الانهيار/ تناقض الغرور والهشاشة:
لكن المفارقة تكمن في النهاية، حيث يقول البرج:
"وأنا أنا، حتى حُطامي عندما أنهارُ يَبدو كالجَبلْ!"
هنا، يشي البرج دون قصدٍ بهشاشته المتخفّية خلف الغرور، فحتى لحظة سقوطه يُحاول أن يُضفي عليها عظمةً متخيّلة. غير أنّ القصيدة، على عكس البرج، لا تسقط ولا تتحطم، بل تظلّ خالدةً في الذاكرة والزمن، تتنقّلُ بين الأجيال، بينما مصير البرج هو الانهيار الحتميّ.
صراع الزمن والخلود:
في جوهره، هذا المقطع حوارٌ داخليّ بين المادة والروح.. بين الغرور والتواضع.. بين الفناء والخلود. البرج يرى نفسه مركز الكون، لكنّه يغفل عن حقيقةٍ قاسية: أنّ الجُمل التي يحتقرها ستبقى حيّة بعد سقوطه، بينما لن يبقى منه سوى الحُطام.
خيانةُ الخلقِ واغتيالُ الأمل
(50)
في الحُجْرةِ الخَمْسينَ
إزميلٌ مِن الألْماسِ
سارِقُهُ بهِ طَعَنَ الذي لَولاهُ ما كانتْ
لِثيرانِ القصيدةِ أجنِحهْ
الحجرةُ الخَمْسونَ مقبرةٌ
وقرْميدو يقولُ: أنا الذي أغْلَقتُها:
فيها لآمالي الطعينةِ أضرِحَهْ"
الإزميلُ والضريح:
في هذا المقطع، نُلقي نظرةً داخل "الحجرةِ الخمسين"، التي تتحوّل من مكانٍ للحِرفة والإبداع إلى مقبرةٍ للأحلام والطموحات، حيثُ يتمزّق الصانعُ بين أداةِ الخلق وأداةِ القتل، بين البناء والهدم، بين الأمل والخيانة.
الإزميلُ/ أداةُ النحت أم أداةُ الطعن؟:
يبدأ المقطع بصورةٍ مدهشة:
"إزميلٌ مِن الألماسِ،
سارِقُهُ بهِ طَعَنَ الذي لَولاهُ ما كانتْ
لِثيرانِ القصيدةِ أجنِحةٌ"
الإزميل، الذي يُفترض أن يكون رمزًا للإبداع والنحت والتشكيل، يتحوّل إلى سلاحِ طعنٍ وغدر. إنّه أداةُ الخلق التي خُوِّنَت، وأصبحت أداةَ قتلٍ للخالق نفسه. إنّ الذي تعرّض للطعن هو من منح "ثيران القصيدة أجنحةً"، أي من منح الخيالَ انطلاقته، لكنّه يُقتل غدرًا بمنحوتته ذاتها. هنا تتجلّى مفارقةُ الفعل الإنساني، حين يغدو ما نُبدعه هو ذاتُه ما يدمّرنا.
الحجرةُ الخمسون/ من مَعملٍ إلى مَقبرة:
"الحجرةُ الخمسونَ مقبرةٌ"
بهذه الجملة القاطعة، يتحوّل الفضاءُ من مكانٍ للإبداع إلى مكانٍ للموت، حيثُ تُدفنُ الطموحات التي أُجهِضت قبل أن تُحلّق.
قرْميدو والقرار القاتل:
في الخاتمة، نسمعُ صوت "قرْميدو"، الذي يُعلن فِعل الإغلاق والوأد:
"أنا الذي أغلقتها: فيها لآمالي الطعينةِ أضرحةٌ"
هنا يتخذ المقطع بُعدًا أكثر فلسفيةً وذاتيةً: هل الحجرة هي مقبرةٌ للأمل الجماعي، أم أنّها ضريحٌ شخصيّ لصوتٍ يُمثّل الإنسان نفسه، الذي وأد أحلامه بيديه؟ إنّه الصراع الأبديّ بين الطموح والتخاذل، بين الرغبة في التحليق والخوف من السقوط.
بين الأمل والخيانة:
يُعيدنا هذا المقطع إلى جدليّةٍ عميقة، كيف يمكن أن يكون الإبداعُ قاتلًا؟ وكيف يُمكن أن يكون الأملُ ضريحًا؟ الحجرةُ الخمسون ليست مجرد فضاءٍ مغلق، بل هي مرآةٌ للحظةٍ إنسانيةٍ مريرة، حين نكون نحن القتلةَ وأصحابَ الضحايا في آنٍ واحد.
***
طارق الحلفي
......................
* رابط القصيدة //
https://www.almothaqaf.com/nesos/971491
* رابط المدخل //
https://www.almothaqaf.com/readings-5/979452
* رابط القسم الاول //
https://www.almothaqaf.org/readings-5/979564
* رابط القسم الثاني //
https://www.almothaqaf.com/readings-5/979680
* رابط القسم الثالث//
https://www.almothaqaf.com/readings-5/979779
* رابط القسم الرابع//
https://www.almothaqaf.com/readings-5/980014
* رابط القسم الخامس//
https://www.almothaqaf.com/readings-5/980259