قراءات نقدية

عماد خالد رحمة: بين الفطانة والهمّة.. قراءة هيرمينوطيقية -أسلوبية

في مديح الفضائل الإنسانية في شعر الكستي البيروتي:

أولاً: المدخل الهيرمينوطيقي – سياق القول وفلسفته.

القصيدة تنفتح على بيت مفتاحي يمثل أطروحة الشاعر:

 "أخو الفطانة لا تغنيه فطنته

ما لم تقدمه للعلياء همته"

هنا يضع الكستي البيروتي معادلة قيمية تفضي إلى أن الذكاء وحده لا يكفي ما لم يقترن بالهمّة العالية والعمل الدؤوب. هذا المبدأ يعكس خلفية فكرية قريبة من فلسفة الأخلاق العملية عند أرسطو، حيث الفضيلة ليست في الملكة فقط، بل في الفعل الذي يحقق الغاية.

في السياق التاريخي، تعكس هذه الرؤية المناخ الاجتماعي العثماني المتأخر في بيروت، حيث كانت القيم الأرستقراطية (الشرف، النسب، الذكاء) تتعرض لاختبار أمام قيم الكفاءة والاجتهاد. ومن خلال هذا الوعي، يدعو الشاعر إلى تجاوز التعويل على الحظ أو المظاهر، نحو العمل المثمر، كما في قوله:

"لكن أرى السعي منه في مناكبها

حقاً عليه وإن طالت مشقته"

ثانياً: التحليل الأسلوبي – اللغة والبنية الإيقاعية

القصيدة موزونة، وهو الذي يمنح النص نَفَساً خطابياً متدفقاً، يسمح للشاعر بالجمع بين النبرة الوعظية والاحتفائية. ويظهر في النص استخدام مكثف للأضداد والمقابلات، مثل:

"أسود القلب" مقابل "بياض اللون".

"العسر" مقابل "اليسر".

"القوي" مقابل "العاجز".

هذا التوتر الدلالي يخلق ديناميكية فكرية، ويعكس وعي الشاعر بأن الحقيقة الأخلاقية لا تتجلى إلا من خلال المقارنة بين القيم ونقائضها.

كما أن المعجم الشعري يتحرك بين مجالين:

1. مجال القيم الإنسانية: الفطانة، الهمّة، المعرفة، الوفاء، المروءة.

2. مجال الرموز الطبيعية والكونية: الشمس، النجوم، الليث، البرق.

هذا المزج يضفي على النص بعدًا رمزيًا، إذ تصبح الظواهر الكونية استعارات للقيم البشرية (الشمس رمز النور الفكري، الليث رمز القوة، البرق رمز الحدة واللمعان).

ثالثاً: التحليل الرمزي – البنى الدلالية العميقة

القصيدة تتحرك من فكرة عامة (الفضائل لا تكتمل إلا بالفعل) إلى تجسيد حي لهذه الفضائل في شخص ممدوح محدد. الممدوح هنا يصبح "الرمز الحي" للقيم التي دعا إليها الشاعر في المطلع.

الفطانة + الهمّة: الممدوح ليس فقط ذكياً، بل طموحاً فاعلاً.

المروءة + الوفاء: تكرار الدعوة لمصاحبة "الحر مكثار الوفاء" يؤكد مركزية الوفاء كفضيلة اجتماعية.

الصفاء الداخلي: قوله عن الممدوح "مبارك الوجه صافي القلب" يجعل الصفاء رمزاً للوحدة بين الظاهر والباطن، وهي قيمة صوفية في عمقها.

رابعاً: البنية النفسية للشاعر – صورة الذات في النص

الشاعر في هذا النص ليس مجرّد مادح؛ بل هو مربٍ أخلاقي، يوجّه خطابه أولاً إلى القارئ/المستمع، ثم يجسد المثال في شخص الممدوح. هذه الحركة تكشف عن بنية نفسية قائمة على:

1. نزعة تعليمية: رغبة في ترسيخ قيم السعي، الوفاء، النبل.

2. نزعة مثالية: البحث عن نموذج بشري يجمع الفضائل النظرية والعملية.

3. نزعة اعترافية: حين يقول "أحسنت نية قصدي بالأخاء له" يصرّح بدوره العاطفي والأخلاقي في العلاقة مع الممدوح، مما يمنح النص بعدًا شخصياً.

خامساً: التكامل بين الفكرة والشخصية الممدوحة

القصيدة تُبنى بنيوياً على منطق "المقدمة الأخلاقية" ثم "التجسيد الشخصي"، وهذا النمط شائع في مدائح الحكماء والشعراء الوعاظ. الممدوح، في نظر الشاعر، هو تجسيد لمعاني:

- العقل النيّر: "منوَّر الفكر في ليل المشاكل"

- التوازن النفسي: "في حالة العسر لم يخطر بفكرته غمّ"

الاستقرار الاجتماعي: "من معشرٍ هم كنوز الدهر"

سادساً: الخاتمة التأويلية

في ضوء المنهج الهيرمينوطيقي، يمكن القول إن هذه القصيدة لا تُقرأ فقط كنص مدحي، بل كخطاب قيمي موجّه إلى مجتمع يواجه تحديات تآكل القيم أمام اعتبارات النسب أو الحظ أو المظهر. الممدوح هنا هو "الرمز التأويلي" الذي يمنح النص وحدته الداخلية، ويجعل القيم المجرّدة قابلة للتصوّر والتطبيق.

وبالمنهج الأسلوبي، يظهر أن التكرار والطباق والمجاز الطبيعي أدوات لبناء شبكة من المعاني المتوازنة بين الجمالية والمضمون. أما المنهج الرمزي، فيكشف أن الشاعر لا يستخدم الأسد والبرق والشمس لمحض الزخرفة، بل لترسيخ صورة الفضائل الإنسانية كقوى طبيعية لا تزول.

***

بقلم: عماد خالد رحمة - برلين

..........................

نص القصيدة:

أخو الفطانة لا تغنيه فطنته

ما لم تقدمه للعلياء همته

ومن ترفع قدراً دون معرفةٍ

تبرأت منهُ في دنياه رفعته

وأسود القلب لم تحمد مآثره

ولو زهت ببياض اللون عمته

والحظ في الناس رزق ساقه قدرٌ

منهُ لكل امرء تأتيه قسمته

لكن ارى السعي منه في مناكبها

حقاً عليه وان طالت مشقته

وان من قال قد تأتي الأمور بلا

سعي وفيما ادعى كانت ادلته

كم عاجزٍ طال باع والقويُّ غدا

قصير باعٍ ولم تنفعهُ قوَّته

والليث أمسى على ما فيهِ من شرسٍ

مع البعوضة لا تخفى قضيته

قلنا له نادرُ الأشياء ليس لهُ

حكمٌ يرى عند من زانتهُ حكمته

وانما نحن بالأمر الذي ظهرت

اسبابهُ وجرت في الناس كثرته

فاجنح إلى ما له اهل النهى جنحت

تكن فتى اعربت عنه فتوته

واسلك طريقاً بها تلقى النجاح ولا

تصحب من الناس من تؤذيك صحبته

ولازم الحر مكثار الوفاء ودع

عنك الدنيَّ الذي قلت مرؤته

وان مدحت فكن للمدح منتقداً

بمن تباهي النجومَ الزهرَ مدحته

مثل الحسين الذي جأت مقاصده

بكل خير وقد طابت سريرته

مولى روت عنه أبناء العلا خبرا

وحدثت عن صفات الروض سيرته

حسن الثناء له في ذاته شغفٌ

لولا معانيه لم تظهر مزيته

مبارك الوجه صافي القلب قد عجنت

بالحلم والجود والانصاف طينته

صفا به الوقت عزا واصطفاه لنا

وكيف لا نصطفيه وهو صفوته

حسوده من علاه لم يصب غرضا

ولم تكن اخطأته قط نعمته

من لا يقر بما حازت مناقبه

من الكمال فقد زاغت بصيرته

منوَّرُ الفكر في ليل المشاكل قد

فاقت على الشمس أشراقاً أشعته

في حالة العسر لم يخطر بفكرته

غمٌّ وفي اليسر لا تبدو مسرته

فهو الشفوق الذي نفنى الهموم به

وهو الصديق الذي تبقى مودته

سميره في نعيم لا يرى نكداً

ولا تحط عن الاقران حرمته

من معشرٍ هم كنوز الدهر وهوبهم

فريدة العقد تلقاه وزينته

فيا له اللَه من شهم له شرف

قد أشرقت في سماء العصر طلعته

من مشرق الشمس قد سارت لمغربها

مقرونةً بتحايا الحمد شهرته

ذو منطق لا أرى دراً يقاس به

ومظهر زانت الأيام بهجته

لو يسمع البرق ما يحكى لقلت له

من أين أنت إذا لاحت اسرته

احسنت نية قصدي بالاخاء له

إذ كان أشرف من ترجى أُخوته

فأوصلتني لما أرجوه من أمل

ونية المرء في الدنيا مطيته

سواه يحوي المنى بالحظ وهو حوت

بالعلم رتبةَ ازمير فضيلته

هنأته وهناء الأكرمين غنىً

بها ولي منه ما ترضاه شيمته

وصيغة المدح قد نادى مجوهرها

يا سعد ارخ وفت بالمجد رتبته"

 

في المثقف اليوم