قراءات نقدية

منير توما: نسيم عاطف الأسدي في سيمفونية حبٍّ حالمة

من خلال مجموعته الشعرية “ضربٌ على أوتار القصيدة“

أصدر الشاعر الدكتور نسيم عاطف الأسدي مؤخرًا مجموعة شعرية جديدة تحمل عنوان “ضربٌ على أوتار القصيدة” حيث تتنوّع قصائد هذه المجموعة بموضوعاتها التي يغلب عليها الطابع الرومانسي المُتَّسِم بطابع الحب والغرام والغزل مع وجود عدد من القصائد ذات صبغة نقدية ثائرة تعكس ما يسود أحوال الوطن العربي من ظروفٍ سياسية بائسة يعتريها الفساد بأشكال وصور متعدّدة الأوجه، ولكننا في هذهِ المجموعة الشعرية سنتناول بالتعليق والتعقيب على قصائد الجانب الرومانسي الغالب في هذه المجموعة.

إنّنا نجد في شعر نسيم الأسدي الوجدان الرومانسي للشاعر متلاقيًا مع التعبير الذاتي ليعبِّر عن تجاربهِ تعبيرًا مليئًا بالصور الشعرية والإيحاءات الغنيّة الموحية الخصبة.

إنّ شعر الدكتور نسيم الذاتي (subjective poetry) تعبيرٌ أصيل وصادق عن أحاسيسهِ ومشاعرِهِ وعواطفِهِ ووجدانه النابع من واقع خصب بذاتيّتهِ وذائقتهِ ومن قوة الخيال الخالق الذي هو البوتقة التي تنصهر فيها كل عناصر هذا العالم من ذهنية وشعورية.

ينتمي نسيم الأسدي إلى المدرسة الرومانسية في مجموعته الشعرية هذه إلى حدٍ كبير، تلك المدرسة التي يحلوا لعشاقها التغني بِلوعة وألم البُعد والفراق، هذا التغني الذي يدغدغ حواس المستمع، ويحمله إلى دنيا من شجن لطيف ولحنٍ أليف، دون أن يبعث في السامع أسى أو يدفع به إلى الإشفاق أو التعاطف على الشاعر الولهان المُتيّم المتألم بفعل وضعهِ الغرامي تجاه المحبوبة. أي أنّ الشاعر الرومانسي هنا يستعذب الشجن، ويحلّق في جو المعاناة، ويتغنى بالألم في كبرياء وعزّة، وفي رقّة وعذوبة كأنّهُ يداوي بنفسِهِ جراحَهُ، ويشدو لروحهِ بما يُرَوِّح عن نفسه. وهو في قصيدة “عودي أليَّ” (ص79) يظهر وكأنَّه يشقي نفسَهُ فذلك هو غايته ومبتغاهُ، حتى تنصهر روحهُ بالألم لتصدر عنها أعذب الألحان، فقد جاء في هذه القصيدة قول الشاعر:

عودي فَطَعمُ البُعدِ يُهلِكُني أسًى

والشوقُ يَفري في الفؤادِ وَيَقطَعُ

*

عودي فإنَّ العشقَ بَعدَكِ تائهٌ

يبكي بمحرابِ الغرامِ ويركَعُ

*

ما كُلُّ هذا الهجرِ يا أُمنيّتي

فالشوقُ مذبوحٌ هُنا يتوجَعُ

*

أتَرَكتِني وحدي يُجرِّحُني الصَّدى

وأناكِ يُطرِبُها أنيني تَسْمَعُ

*

عودي إليَّ فمَن سيُشعِلُ مُهجَتي

ولها بمحكَمَةِ الهوى مَنْ يشفَعُ

*

عودي إليَّ فليسَ طيفُكِ كافيًا

والصَّبرُ شابَ فليسَ صَبرُهُ ينفَعُ

لقد صوَّر شاعرنا نسيم الأسدي في الأبيات التالية من قصيدة “رُدّي تراتيلَ الغرامِ” (ص74)، عاطفةَ الحب تصويرًا شعريًا جميلًا، محَّص فيهِ تلكَ العاطفة النبيلة وشرّحها تشريحًا وجدانيًا رائعًا موفقًا ومجموع ما سجله من خفقاتِ قلبِهِ وهمساتِ روحِهِ يلقي الأضواء على نفسية هذا العاشق الصادق الذي يحلِّق في الأجواء العالية، فشاعرنا بتوصيفِهِ كشاعر الحب والجمال، قد أحبَّ في كلِّ أطوارهِ حُبًّا غامرًا أصيلًا، وكان يلتمس في حُبِّهِ ينبوع الشعر وصفاء الروح، فسجّل نتاج تجاربِهِ في شعرهِ الذي قبسه مِن الهام وجدِهِ ووحي عذابِهِ وبلائِهِ في العشق كما يتضح في أبيات هذه القصيدة التي يقول فيها شاعرنا:

صَلَّيتُ في محراب عينيها سُدًى

فبغيرِ عيني لحظُ عينيكِ انشغَلْ

*

للأمسِ ذكرانا يُسافِرُ عُمرُها

طيفًا يُغَرِّدُ في أمانينا الأملْ

*

أضحى السُّهادُ رفيقَ أحلامِ الصِّبا

ومضى يُسامِرُ لَيلَنا طيفُ الخجَلْ

*

ضَيّعتِ أيامَ السعادةِ كلَّها

تترنَّمين بضَربِ أوتارِ الزَّعَلْ

*

وَبِنا الغرامُ تَصَلَّبَتْ أقدامُهُ

فإليكِ بي يمشي الغرامُ وقد وَجِلْ

*

قد هامَ قلبي ينتشي مُتأمِّلًا

لكنّهُ رامَ السرابَ فما وَصَلْ

وهكذا، فشاعرنا مُحِبٌّ عاشقٌ ينظر للحب كمعنى مقدّس سام، ويظل هنا سادنًا ينشده أجمل ألحانِهِ وأرقّها، ويعيشُ في دنيا من الحب والجمال مليئة بالجمال والقداسة والسمو الروحي النبيل.

وما ورد في أبيات القصيدة أعلاه يفصح عن شأن الشعراء الصادقين مرهفي الحسّ والحالمين كشاعرنا د. نسيم الأسدي الذي رسم في هذه المجموعة الشعرية، عواطفه ومشاعره وأحاسيسه بصدقٍ وأمانة في شعرهِ وسجّل لنا خفقات قلبه واعترافات حبهِ.

ونرى في شعرهِ هنا عدة أوتار.. فهو أحيانًا يُمعِن في تصوير صبواتهِ العاطفية قريبة المزاج من شعراء الرومانسية المحلّقين والمتعبدين في معبد الجمال كأنّه يصلي للحب في شعرٍ يشكّل قصيدةً حالمة يكشف من خلالها لنا اللثام عن قلب أشرق الحب في ثناياه، فإذا هو خفقة من خففاتِهِ وومضة من ومضاتهِ، فهو مفتونٌ بالجمال يمتزج فيشعرهِ هنا الجمال والفن والحُسن وهو يصوِّر عاطفة الحب بصورة دقيقة تدل على عمق تجربتهِ في هذا السبيل وعلى فهمه لسرائر روح المرأة وتلوّنها. والرقة عند شاعرنا طبع أصيل عنده وقد ابتكر تعبيرات وكلمات موحية وأضاف ألى قاموس الوجدان تعبيرات قوية ومعاني عميقة رائعة في قصيدتهِ “فلنتَفِقْ” (ص27) حيث يقول فيها:

فلنتفِقْ! / أنّا إلى بحرِ الغرامِ سننطلقْ.. /

وسنقطِفُ الشوقَ المُدَلّى / من كرومِ الحُبِّ /

مِن قيثارةِ الأملِ المُحلّى / بينَ نغْماتِ السّرابِ /

بينَ آهاتِ القلقْ… / فلنتفقْ!

*

أنتِ المزيجُ الأوَليُّ.. /

الآخِرِيُّ.. الدُّنيويُّ.. / الدائريُّ.. السّرمديُّ /

الكوكبِيُّ.. المُستبيحُ المُحتَرِقْ…. / أنت المرايا.. /

والثنايا.. والزّوايا / والخبايا.. والهدايا.. /

والكتابةُ والورقْ…. / أنتِ التّحضُّرُ.. /

والتّبَشُّرُ.. والتبعثُرُ.. / والتبختُرُ.. / والتفكّرُ /

والتشرذُمُ والنَّسَقْ…. / أنتِ التفتُّحُ.. /

والتفسُّحُ.. والتبجُّحُ.. / والتأرجُحُ.. أنتِ

إنشادُ الحَبَقْ….

وفي قصيدة “ما عادَ ينفعُ في الغرامِ عتابُ” (ص 42) نلمس حرارة العاشق المدمن وصدق المحب المفتون وتلكَ العاطفة الدافقة حين يصوِّر مشاعره وأحاسيسهُ نحو محبوبتهِ الحسناء في أنغامٍ عذبة تسيل رقةً وجمالًا موسيقى معبِّرة عن روح العاشق وقلبه الواله.. وشاعرنا بكونهِ هنا شاعرًا رومانسيًا حالمًا يتمنى أن تخلو له الدنيا هو ومن يحب ليسعد بالعاطفة بعيدًا عن ضجيج العالم.. ليبقى معها في حالة الحب الصادق. ولقد ابدع الشاعر نسيم الأسدي في شعر الحب (Love Poetry) أيّما إبداع وأصدقه واستحدث تعبيراتْ جديدة وتراكيب جميلة أضافها إلى قاموسه الشعري. وفي شعرهِ نجد أنَّ الذاتية (subjectivity) عنده قوية وعميقة في فنه وحياتهِ. ونلمس عند هذه النقطة الصدق الشعوري لديه الذي يكون شعر الشاعر دليلًا على سمات وملامح الصورة الحقيقية الصادقة لما يختلج في نفسِهِ. وهذه الخاصية الرئيسية في شعر نسيم الأسدي هي من أبرز سمات المذهب الرومانسي عنده حيث يتحلّى بأصالة الابداع (originality of creativity) التي تبرز دائمًا في أشعار الحب والغزل لديهِ.

وبهذا فإنّ اختيار نسيم الأسدي للكلمة المؤثرة هي أول خطوة للبناء الفني للقصيدة الشعرية، وشاعرنا يجيد اختيار الكلمة المؤثرة ويحسن التوزيع الموسيقي للكلمات الشعرية كما نرى في قصيدتهِ آنفة الذكر أعلاه، ففي تلك القصيدة نرى أنها تكاد تجمع أكثر الخصائص البيانية لشعر نسيم الأسدي بما فيها من ألفاظ سلسة مشرقة أنيقة مثل (الحب دينُ العاشقين – تداعب هُدْبَهُ الأهداب – عبدوا الغرام – الحب تغريد الصباح وورده – إلى الغرامِ مآبُهم – غيابُهن تواجد – حضورهن غياب)، وكل هذه المعاني تكشفه الأبيات التالية من هذه القصيدة:

إني أُحَلِّقُ في مقاماتِ الهوى

حُرًّا تداعبُ هُدْبَهُ الأهدابُ

*

ما ضَيَّعَ العُشّاقَ شيءٌ مثلما

فَعلَ الفراقُ، وفي الوصالِ حسابُ

*

الحُبُّ دينُ العاشقين فكلُّهُم

عبدوا الغرامَ وبايعوهُ وتابوا

*

الحبُّ تغريدُ الصباحِ ووردُهُ

مَن قال إنّه لوعةٌ وعذابُ!؟

*

أهلُ الغرامِ إلى الغرامِ مآبُهُم

ذاب الهوى في العاشقينَ فذابوا

*

بعضُ النساءِ غيابُهُنَّ تواجدٌ

وحضورُهُنّ مع الحبيبِ غيابُ

وبعد كلّ تلكَ الرومانسية من عذوبة ورقة، ومن التصوير التعبيري الرفيع للحب الذي يتبناه شاعرنا، فإنّنا نندهش عند قراءة قصيدة “العزُّ تحت تصرفي وجهنم” (ص 19) حيث يظهر شاعرنا الذي عهدنا رقته في قصائد الحب والغزل وكأنّه شهريار الذي يتحكّم بالنساء مُبديًا استعلاءً تجاههنَّ انطلاقًا من النزعة الذكورية للرجل في تعامله مع النساء، وإنّنا نعتقد على سبيل التكهن والافتراض أنّ شاعرنا في تلك القصيدة التي سنورد مقطوعةً منها لاحقًا، قد اندفع إلى كلماته الحادّة مع المحبوبة خاصةً وإلى النساء عمومًا، بفعلِ حادثةٍ ما قد بدت من سلوكِ أو تصرّف امرأةٍ معه، فأغضبتهُ وأثارت حفيظتَهُ وأساءت إلى كرامتهِ وعنفوانهِ وشموخهِ كرجل، فانطلق يتعالى على المرأة والنساء بشكل عام في قصيدتهِ هذهِ من خلال كلماتهِ النفّاذة النابعة من تأثيرات الطاقة الجنسية (اللبيدو) التي تُشعِر الرجال عادةً بتفوقهم على الجنس اللطيف، وتحَفّزهم على التعامل مع النساء بفوقية، ولكنَّ الحق يقتضي أنه اذا اعتبرنا توجُّه شاعرنا إلى النساء بهذا الشكل وبهذه السطوة شعرًا، انتقاصًا مِن مكانتهم وكيانهم، فإنّنا لا نستطيع أن ننكر جمالية التركيب اللغوي لهذه القصيدة مع بعض التحفظ من مضمونها لشدة اللهجة الغاضبة للشاعر الذي عهدناه في معظم أشعاره الخاصة بالحب، شاعرًا يذوب حبًّا ووجدًا في محبوباتهِ من النساء بكلِّ رقةٍ وتوهجًا إنسانيًا. وإليكم النص التالي من هذهِ القصيدة:

قد ساءَها في الحُبِّ أني احكُمُ

أُلقي النساءَ إلى الفَنا أو أرحَمُ

*

وبأنّني سلطانُ مملكة الهوى

والعزُّ تحتَ تَصرُّفي وجهَنَّمُ

*

وبإنني إذما أمرتُ فجازمٌ

قولي حسامٌ أيَّ أمرٍ يَحسِمُ

*

وبنظرةٍ تمشي الأمورُ كما أرى

فالرِّمشُ مني نافذٌ مُتَحَكِّمُ

*

الحبُّ بعدي ميّتٌ مُتمزِّقٌ

وبلمسةٍ أُحيي الهوى فَيُبَرعِمُ

*

إنّ النساءَ خواتمٌ في إصبعي

كحروفِ أبياتِ القصيدةِ أنظِمُ

وأخيرًا وليس آخرًا، ومما تقدّم نستخلص أنّ الشاعر الدكتور نسيم عاطف الأسدي كان في شعره حلو الأسلوب، جزل اللفظ، جيّد اختيار الكلام، وإنّ لألفاظه ومعانيهِ رونقًا أخّاذًا، وإنّ في شعره في مجموعته هذه موسيقى تتناغى ألفاظُها، وفيها إنسكابٌ جمالي، وسلسلة من الصور بومضاتٍ جمالية ورصانة مكينة تفيض بالذوب الإنساني الذي يجعل شاعرنا ينطلق في وجدانيّتهِ الرومانسية في هذه المجموعة وفي مجموعاته الشعرية السابقة كما عَوَّدنا دائمًا.

فلهُ منّا أجمل التحيات وأطيب التمنيات بدوام التوفيق والمزيد من الإبداع والعطاء.

***

بقلم: د. منير توما – كفر ياسيف

في المثقف اليوم