قراءات نقدية
جبَّار ماجد البهادليّ: الوَاقعُ الدِّيستُوبي والشَّعرُ..
رُؤىً احتجَاجِيَّةٌ في مُدوَّنةِ (عَلَى أكتافِ يَومٍ تَمُّوزيٍّ)
يرى الكاتب والأديب والشَّاعر والناقد الإنكَليزي المفكِّر (ماثيو أرنولد) ، إحدى شخصيات العصر الفيكتوري الإبداعية المهمَّة أنَّ الشعر، هو (نقدٌ للحياةِ) . أي أنَّه مِرآةٌ صوريَّةٌ ناطقةٌ عن تجلِّيات الحياة بشتَّى ضروبها (السلبيَّة والإيجابية) ؛ لذلك فإنَّ الاعتقاد اليقيني بأهمية الشعر ومدى خطورة فتوحاته الفكريَّة والإنسانيَّة في كشف الواقع (المَا حَولَ) ، كانت أولى مناط اهتمامه في بوتقة إنتاجه الفكري والأدبي مقدِّمَاً إيَّاهُ على كلِّ نتاجاته الإبداعية النقدية والفلسفيَّة والتعليميَّة الأُخرى في هذه التعدُّدية التي شكَّلت باكورة بُناةِ أفكاره الرئيسة في تخليق فنيَّة إنتاجه المُترَاتب عِلمَّاً وعَملاً وفلسفةً.
فإذا الشعر لم يكن مِهمَازاً تنبيهياً مُوقِظَاً، ولم ينتقد منظومة القيم والمعايير الحياتية (الاجتماعية والسياسيَّة والاقتصاديَّة والفكريَّة الفلسفيَّة) السائدة. ويُظهِرُ في الوقت نفسه الحقائق الخفيَّة وعللَ التمظهُرات الإنسانية ومواطن القُبح والجمال المَسكوت عنها، والتي تؤثِّر على المشاعر الإنسانية والتفكير الإنساني وتؤدِّي إلى التغيير والتحسين الإيجابي، لم يكُنْ في الحقيقة شعراً صادقاً ومهمَّاً ومؤثِّراً بالمعنى التأصيلي؛ كونه شعراً لا يحتوي على عمقٍ فنِّيٍّ أوجماليٍّ ينتقد أنساق الظلم والجَور وفروضَ الحيفِ والاستبداد التي يُمارسها الساسة والطًّغاة. ولا يدعو البِتَّةً إلى عقيدة التحرُّر الفكري التوحيدي المجتمعي، ويظهر الحقيقة الإنسانية على شاكلتها الطبيعية دون زيفٍ أو مُرَاءَاتٍ خادعةٍ.
هذا التمايز الفكري المتفرِّد الرؤيوي على مستوى الشعر هو ما كان يعتقده أرنولد حقيقةً ثابتةً في رسالة الشعر الجيِّد الصادق المؤثِّر مثلما يعتقده غيرهُ الآخرونَ من شعراء التحرير والرفض الاحتجاجي في دنيا المَعمورة من أجل تطوير الثقافة والفنون وتعزيز الفكر وسيادة الحُريَّة والعدالة وتحسين واقع المجتمع، والنهوض به فكرياً وعلمياً وعملياً باستمرار لمواجهة الصِّعاب والتَّحديات.
إنَّ العلاقة بين الواقع الحياتي الدِّيستوبي والشعر الاحتجاجي تمثِّل ماهيتها عَلاقةَ مفاهيم تكامليةٍ متصلةٍ بعضها ببعضٍ اتِّصالاً وثيقاً ومُرتبطاً بـ (الشعر والأدب والفكر والسياسة) على حدٍّ سواءٍ، ولا يمكنُ الفكاك عن بعضها. وذلك كون الواقع الديستوبي القائم يُشير حدُّهُ التعريفي الظاهر إلى أنَّه مصطلح فكريٌّ يصف مجتمعاً إنسانياً واقعياً قريباً أو مخياليَّاً بعيداً يعاني من عدة ارتكاساتٍ وانكساراتٍ نكوصيةٍ وخيباتِ وجعٍ كبيرةٍ ومؤلمةٍ فرضت نفسها علية بشكل مقصود وبفعل فاعلٍ.
ويشكو في الوقت نفسه ظروفاً سيِّئةً مريرةً لا تنقطع؛ نتيجةَ تأثير السياسات الحكومية الهوجاء للأنظمة الاستبدادية الحاكمة الفاسدة، ونتيجةَ إثرَ عوامل الاضطهاد الجمَّة والتمييز والقهر وانعدام الحريات أو نقصها، وكثرة الأمراض الاجتماعية والسياسية، وتفشي ظواهر الفقر والفاقة. ونتيجةً أيضاً لظهور بعض المظاهر التواصلية والأساليب السياسية والتكنلوجية الوهميَّة الحديثة الخدَّاعة.
لهذه الأسباب الحقيقية الجمَّة وغيرها من المُسبِّبات الفعليَّة الراهنة ظهرت الحاجة الذاتية إلى قيام الشعر الاحتجاجي الذي يُعدُّ ظاهرةً ثقافيةً من ظواهر الشعر الانتقادي الثائر، ولوناً نسقياً ثقافياً رفضياً حداثوياً من أنساق النقد الثقافي المُعصرن الذي يُضِيءُ فيه الشاعر الحاذق بشعره التخليقي مناطق الحياة المضمرة والظاهرة المعتمة؛ كونه يدعو إلى ضَفافِ التغيير الاجتماعي والسياسي والاقتصادي الفكري من خلال وسائل التعبير الشعوري الذاتي الجمعي بأدواته، الغضب والاحتجاج الرفضي للفساد والظلم والاضطهاد، والدفاع عن حقوق الإنسان وحريته وكرامته المهدورة.
هذه الأسباب والمؤثِّرات مجتمعةً هي التي تظهر حجم العَلاقة المَتينة بين الواقع الديستوبي والشعر الاحتجاجي. وتوضِّح البَونَ المَسافِي الشَّاسعَ بينَ الشَاعر الثائر والواقع الحياتي المتأزِّم المَائر الذي يُشكِّلُ (رؤىً اشعريَّةً) فيها التي تُمثِّلُ المُعادل الموضوعي لخطٍّ هذه العَلاقة الجدلية الثنائية المُتضادة.
ومثل هذا الشعر الاحتجاجي نجد له في مجتمعنا العربي حضوراً كبيراً مائزاً في أشعار كلٍّ من محمود درويش وعبد الوهاب البياتي ونزار قباني وأحمد شوقي وجبران خليل جبران وأحمد مطر. ومن الأجانب نجده ماثلاً عند بابلو نيرودا، ودان براون، وألبير كامو وغيرهم من شعراء الرفض.
لم تَكُنْ اللُّغةُ الشِّعريَّةُ وحدَها كافيةً لتعميد العمل الشعري الإبداعي بماء النجاح والتفوّق وتنقيته وتطهيره من لَممِ الشَّوائبِ التي تكدِّر صفوه ما لم تكن هناك مجموعة من التحشيدات والاصطفافات والتفرُّدات النوعيَّة لمزايا من التَّقنيات الفنيَّة والجمالية الأخرى التي تتعاضد وتتساند بنائياً؛ لتؤدِّي دوراً مهمَّاً وتمايزاً نوعيَّاً في تكامل العمل الأدبي ونضوجه فنيَّاً في آليات القراءة والتلقِّي المعرفي.
اللُّغةُ هذا الوعاءُ اللُّغويُّ والفكري المعرفي البوتقي المُحلِّق في سماء التجنيس الإبداعي، والذي هو أحد مظاهر الوعي الشعري الراسخ في صنع وتخليق القيم الفنيَّة والجماليَّة الإبداعيَّة الخاصَّة بالشاعر، هو ما يُميِّز إمكانات وقدرة الشاعر العراقي المعاصر (جَنان السَّعدي) في تأثيث بُنيَانِ عمارة مخطوطته الفِكريَّة وهندسة مجموعته الشعرية الموسومة بـ (نَعشٌ عَلَى أكتافِ يومٍ تَموزيِّ) .
تِلكَ العلامةُ أو النقطة الضوئية اللَّافتة الأثر في تبويب عتبتها العنوانية (ثريا النصِّ) وتأثيثها بهالةِ حسَّاساتٍ بَرَقِيَّةٍ من مجسَّات الإثارة الصادمة والتأمُّل والتفكُّر المعنوي بقيمة الأثر الإبداعي. والِّتي تُحيل القارئ النابه والمتلقِّي في مُوازاتها النصيَّة، وفي ثَراء لغتها ومعانيها الدلالية القريبة منها والبعيدة إلى أجواء ومُناخات الخطاب الشعري وتقفِّي آثار ولُقَى أقانيم متنه وعوالمه الداخلية المحتدمة بؤرته بالتناقضات الواقعية والصراعات الموضوعيَّة والحمولات الفكرية العديدة الراهنة.
إنَّ قراءةً تأمُّليَّةً لِلَافتةِ عتبةِ العِنوانِ الرئيسةِ (نَعشٌ عَلَى أكتافِ يَومٍ تَمُّوزيّ) تُشير إلى أِنَّه يجمع بين الواقعية والرمزية والأسطوريَّة بكلِّ مَفاصلها وتَداعياتها المُثيرة. فَمُفردة مَثلُ لفظة (النَّعش) الواقعيَّة القريبة من حياة الناس اليوميَّة تُعطيكَ في التَّفكيك اللُّغوي لِشفراتِ هذه العَتبة أكثر من دلالةٍ رمزيَّةٍ ومَعنىً شِعريّ واقعي وتَاريخيّ وأسطوريّ.
فالنعشُ يرمزُ إلى دالةِ المَوت والحزن على تضحيات الناس والشهداء الثوار من أبناء البلد، ويعبِّر عن العزيمة والإصرار وتأكيد روح التحدِّي. أمَّا حَمْلُهُ على الأكتاف فَيَرمزُ إلى عزم أبناء الشعب على مواجهة مخاطر العقابيل والمصاعب المُحدِقة بهم. فضلاً عن أنَّه يرمز إلى الفخر والاعتزاز؛ كونه حصاداً مَحمولاً على الأكتاف في يوم تَمُّوزي خالدٍ عظيمٍ. ذلك اليوم التاريخي الذي فجَّرَ فيه الشعب العراقيُّ ثورته التحرُّرية واستقلاله الذاتي من المَلكيَّة ومن ربيبها الاستعمار الغربي في حُلَّةٍ ثوريةٍ جديدةٍ تمثِّل بداية الخلاص والتلاشي لِمُهيمناتِ الظلم والفساد التي تحفُّ به.
ومن حقِّ الشاعر جَنان السَّعدي أنْ يفتخر بهذا اليوم التُّمُّوزيّ الثائر في عنونته الرئيسة المتحوِّلة أصلاً من عتبة نصٍّ فرعيٍّ داخلي جُزئي. وإنَّ مصدر هذا الفخر التَّمُّوزي ومرجعياته الثقافية؛ كونه يرمز لإلهِ الجنس والخِصب والنماء والربيع وإله (الحياةِ والموتِ) في الأساطير السومريَّة والأكاديَّة والبابليَّة. وقِصَّة تَمُّوز أو (دُمُوزُّي) مع آلهة الحبِّ (عِشتار) معروفة في الأساطير البابلية القديمة.
وعلى وفق ذلك التفكيك اللُّغويّ لدلالات الشفرة العنوانية، فإنَّ الرمز الثقافي لها يمثَّلُ رمزاً للثورة الجديدة والتحوِّل، وللخِصب والتَّكاثر والنماء والحبِّ والجمال، وفي الوقت ذاته يعتبرُ أكثر عمقاً وبلاغةً؛ بسبب تعبيراته الشعريَّة والبلاغيَّة القويَّة، وتأثيراته النفسية التراثية التاريخية الحديثة.
فهذه المجموعة الشعرية التي اشتملت على أربعين نصَّاً شعريَّاً على الرغم من كونها تزخر بشعرية الرفض ومعاني الاحتجاج والمواجهة والتحدِّي، فإنَّها في الوقت ذاته تحوي على عدَّةِ قصائد تضمَّنت معاني الحبَّ والغزل الجمالي الرُّوحي والحسِّي الشفيف معاً. فضلاً عن قصائد أخرى في أغراض الفخر والمديح والثناء والرثاء لوحدة موضوعات كبيرة من الوقائع والأحداث التاريخية والرمزية والدينية المهمَّة التي مَنحتِ الخطابَ هالةً من جماليات السُّمو والرقي الإبداعي.
إنَّ ما يعزِّزُ شعرية الاحتجاج ويُكرِّس ديمومة لُغة الرفض الديستوبي لمناهضة الفساد الواقعي في خلطة هذه المجموعة الشعرية البركانية الواثبة التي تحمل نعشها الرمزي (التابوتي) على أكتافها جمراً مُميتاً قاتلاً، مُرحِّبَاً بقدوم الموت إيثاراً للتضحية من أجل حياةٍ حرةٍ عزيزة تُسرُّ فرح الصديق وتغيظ قلب العِدى. تِلكَ الصَّرخةُ الإنسانيَّة المُتعالية التي وجَّهها الشاعر في مُستهلِ تصديره الإهدائي إلى الغيارى من الأحرار والشرفاء من أبناء الشعب الأُباةِ والحُمّاةِ وَبُنَاةِ الأرض الحقيقيين الأصلاء حينَ قال: (إلَى بُنَاةِ الأرضِ وَحُماتِهَا... إلَى أسيادِ أنفُسِهُم ... إلَى الغَيارَى) .
وبالرغم من تلك الروح الثوريَّة المُهتاجة والاحتقان الوطني الذاتي الذي يؤرِّق مشاعر السعدي ويحفر نُدُوباً وأخاديدَ شقيَّةَ في قلبه الدامي جروحاً، فإنَّ الشاعر بَدَأ أولى بواكير قصائده الشعرية في هذه المدوَّنة بقصيدة غزلٍ ذاتيٍّ شفيفٍ يُخفِّف فيها من وقع شدَّة الغيظ والاحتقان النفسي والشعور بمرارة الخَيبة والنكوص والفشل في محاولةٍ منه؛ وذلك تحبيباً وترغياً لذائقة متلقيه في فتح شهيته القرائية للتواصل معه بنصوص هذه المجموعة التي سَتمضي كما مضت السنونُ الخمسون من العمر سريعاً، مانحةً ذلك الشَّيب الرجولي الخضيب وسامةً وإجلالاً ومهابةً ووقاراً:
مَنْ مَنحَ الشَّيبَ الوَسامَةَ
خَمسونَ مَرَّتْ
يَغرُسْنَ أقمَارَاً فِي الوَجنَاتِ
وَفِي الصَّدرِ يَعصُرْنَ شَهدَاً فِي العَناقيدِ الزَاهيَةِ
ومن خلال هذه القيم البنيوية الوطنية والثوريَّة والجماليَّة التي احتشدت بها مضامين هذه الخطاطة التدوينية، نرى بحياديةٍ موضوعيةٍ وصدقٍ أنَّ مجموعة جَنان السعدي (نعشٌ على أكتافِ يومٍ تَمُّوزيٍّ) على الرغم من بساطة لغتها التعبيرية ووضوح انزياحات أُسلوبيتها الصورية، فّإنَّها تحقِّق في مركزيَّة اشتغالاتها النقديَّة معايير وآليَّات وقواعد فنِّ الشعريَّة بشكلٍّ مُتقنٍّ ومُتمايزللقارئ.
وتُظهِرُ في الوقتِ نفسِهِ مقدرةَ الشاعر السَّعدي الشِّعريَّة وموهبته الإبداعية الكبيرة في فهمه لتجلِّيات الواقع الحياتي وتماهيه مع تمظهراته الحركية الإنسانية الدائبة؛ وذلك من خلال أُسلوبه الشعري المُتعدِّد الألوان والاتِّجاهات والتَّقانات الفنيَّة التي ترجمها في معجمه الشعري إلى أفعال حقيقيةٍ مُكتنزةٍ بالألفاظ والمفردات الثَّرة. ومن ثُمَّ تحويلها إلى قصائد صوريةٍ تضجُّ بسهامها النُّباليةِ ومقصدياتها الانتقادية الواضحة في رصد رهان الواقع وتحدياته المصيرية التي عبَّرت عنها لغته.
ومن يقراً قصائد هذه المجموعة بتامُّلٍ، ويفكِّكُ شفرات معانيها الدلالية بوعيٍّ وحسٍّ نقديٍّ متأنٍّ، سيلحظ بوضوح أنَّ الشاعر في إنتاجه الفكري من الشعر لا يقفُ على مسافةٍ واحدةٍ في موضوعة أو خصيصةٍ مُعيَّنةٍ ما، بل على الخلاف من ذلك فقد كان التنوُّع الفكري لوحدة الموضوع سبيله الضارب في تدشين مُحتوياتها بأكثر من قضيةٍ أو غرضٍ شعريٍّ يَفرضُ نفسه على فضاء خطابه.
ونفهم من خلال هذه التعدِّدية والثراء التنوُّعي الموضوعي أنَّ أسلوبية الشاعر وقاموسه الشعري اللُّغوي تنوَّعت مضامينهُ وتعدَّدت أساليبه بكثرة تنوُّعها وتشابكها العضوي الوحدوي. فثمَّة أساليب متعددة زخرَ بها خطابهُ الشِّعري لا يمكن تخطيها وتجاوزها دون أنْ نَّقفَ على مقصديات رؤاها.
1- أُسلوبيةُ الرِّفضِ والاحتجاجِ:
ومن بين الأساليب الشعرية المُهمَّة التي اِتَّبعَهَا الشَّاعر السعدي ومنحها الأولوية والتبكير النوعي والعددي في تأثيث هندسة هذه المجموعة أسلوب الرفض والاحتجاج الذي يُعدُّ من أجرأ الأساليب الحديثة مُواجهةً وإقدَامَاً وَبسالةً التي خاضها الشاعر بحذرٍ وقوَّةٍ في ترجمة الواقع السِّلبي وتصوير ما كان منهُ مَقمُوعاً أو مَسكوتاً عنه بقصدٍ أو غَيرِ قَصدٍ عبرَ مَراياهُ الشِّعريَّةِ الناطقة بالحياة، وتوجيهه برسائل نصيَّةٍ شائقةٍ إلى المتلقِّي تمكِّنه من فهمه وهضمه من خلال صياغاته الشعرية المباشرة تارةً، وغموضه الفنِّي وإيحاءاته الدلاليَّة والرمزيَّة العميقة التي امتزجتْ مَعهَا تارةً أخرى.
لقد حفرت مخالب بؤس الواقع المتردِّي، وأنشبت أظفارها الطويلة المؤلمة نُدُوباً عميقةً وجروحاً كبيرةً لا تندمل في روح الشاعر المائرة التي لا تحتمل وقع ألم السكوت، وترفضُ بوعي دواعي الخنوع والمهادنة والاستسلام، ولا تقبله بَديلاً عن شعار الحُريَّة الحمراء. فقد كانت حصيلة إنتاجه الفكري في مضمارهذا المَشروع الصعب المراس عشر قصائد جادت بها صفحات هذه المجموعة. مثل، (المُصباحُ السحريُّ، هُروبٌ بِطعمِ الشَّهدِ، الفَقراءُ يُوتوبيا الأوطانِ، المُخبرُ العَلنِي، مَفعولٌ بِهِ، الجَامعةُ العَربيةُ مَعَ التَّحيةِ، أينَ العُروبةُ؟ ق. ق. ج، أطنانُ الذَّهبِ، اِعترافٌ)، وغيرها من القصائد.
حتى أنَّ الكثير من قصائد الشاعر ونصوصه في هذا التوجُّه الأُسلوبي جعلنا نستشعر بوعيٍّ ما خفي من آثار الواقع ونتلمَّس خطورته المستقبلية، بل جعلنا نتألم بِحقٍّ لِمَا يَحصلُ لهذا البلد الجريح على مدى تاريخه الخالد الوطني الأصيل وحضارته الكونية الضاربة جذورها في أعماق التاريخ:
لَا تَقرَبُوا الأوطانَ وَأنتُمُ حُفَاةْ
اِنتعِلُوا الطُّغَاةَ وَالبُغاةْ
وَاِنتعلُوا حَاشيةَ مِسخِ رَذِيلَةٍ
أفعَالُهَا مِسخُ أَحذيةِ الوُلَاةْ
أقوَالُهَا إفكٌ بَينَ مَكرُوهٍ وَمَشبوهٍ
مَردُودةٌ فِي قِلاعِهَا الصَّلاةْ
2- الأسلوبُ الرمزيُّ الدينيُّ التاريخيُّ:
من خلال أُسلوبهِ المُتنوُّع في هذه المجموعة عَمدَ جَنان السعدي في الكثير من قصائده الشعرية على استدعاء الرُّموز الدينيَّة المُهمَّة واستحضار الشخصيَّات البُطوليَّة التاريخية المؤثِّرة في التراث العربي عَامَّةً والعراقيَّة بِوجهٍ خَاصٍ؛ لِمَّا لها من أثر بَالغٍ وَكبيرٍ في نفوس محبيها من عامة النَّاس وخاصَّتهم. وأنَّ تأثيرها الأبدي مازال قائماً في حياتهم الدينية التاريخية وإحياء طقوسهم الشعبويَّة.
لقد تَمكَّنَ السَّعدي جَنان من استذكار الوقائع الدِينيةِ والأحداث السياسية التاريخية وإسقاط دلالاتها ومضامينها المعنوية العميقة على رهان عقابيل الواقع وتجلِّياته الخبيئة. فَأحداثٌ مثلُ واقعة الطفِّ التاريخية وغيرها من الوقائع والرموز والشخصيات التاريخية البارزة أمثال الإمام الحسين بن علي وأخيه أبي الفضل العباس وأختهما زينب بنت علي بن أبي طالب، أبطالُ ثورةِ كربلاء في واقعة الطفِّ التاريخية ورموزها المكانية قد أخذت من فكر الشاعر واهتمامه العقائدي والآيدلوجي الجمِّ نصيباً وحظَّاً وافراً كبيراً لا يستهان به في مثل هذه المدوَّنة التي ضمَّت سبع قصائد تُرثي وتتغنّى بمآثر أل البيت الأطهار وتُمجِّد تَاريخَهم الدِّيني والسِّياسي عبرَ مَجسَّاتِ التَّراسل الزمكاني الطويل.
إنَّ قصائد ونصوصاً استحضارية مثل هذه النصوص، (خُذْ حَتَّى تَرضَى، أَيَا فُراتُ، مِنْ كُلِّ فَجٍّ، صَوتُ الطَّفِ المُجلجلُ، رَبيبُ الحُسينِ، حِينَ بَكَى الفُراتُ، الوَعدُ الصَّادقُ)، وَغيرُها من الأمكنة الأعلَام التي أخذنا فيها الشاعر لأعماق التاريخ الحسيني الضاربة جذوره في رحلة الطَّف الخالدة.
أَقسِمُ يَا فُراتْ
كَذِئبِ يُوسفَ
بَريْءٌ مَاؤُكَ مِنْ ظَمَأِ الحُسَينِ
مَا زِلتَ تَبكِي كَمَا الزَّينبيَّاتْ
بِلَهفَةٍ تَشتَاقُ لِلشِّفاهِ الذَابلَاتْ
النَابضَاتِ بِالتَرتِيلِ وَالدُّعاءِ والصَّلَاةْ
3- الأُسلوبُ الغزليُ العَاطفيُّ والحِسِّي:
إنَّ توظيف الشاعر لغزلياته الذاتية والعاطفية الشفيفة في مثل هكذا مدوَّنةٍ مُكتظةٍ بأساليب حائط الصدِّ وفعل المقاومة والرفض الواقعي ليس نزوةً فكريةً أو بطراً سياحياً أو من باب الاستراضة أو النزهة الترويحة للنفس الأمَّارة بالتسلية وحبِّ الغرائزية القريبة من اللِّبيدو الجِنسي؛ بل هي في الحقيقة من باب الذات الأنوية الشاعريَّة الأمَّارة بالحُبِّ الصادق الذي يجمع بين ثنائية (الأمل والألم) .
ذلك الحبُّ الذي يَمُدُّه بشحنات سلاح الدفاع القويَّة لمواجهة رهان الواقع التداولي الفاسد. هذا من جهةٍ ومن جهةٍ أُخرى إحساس الشَّاعر واستشعاره الرُّوحي بنفسية قارئه الناقد ومتلقيه العادي والنابه وحبُّهما الآسر في أنْ يشاركاه غمرة المشاعر الغزلية المحبَّبة التي تُقلِّل من غُلواء الشُّعورية الثورية وطغيان آثارها الإنسانية المُؤلِمة التي فرضت سطوتها القويَّة على قصائد الديوان الأخرى.
فوجود موضوعات الغزل وسط هذا الجوِّ الشعري المُلبَّد بِغُيوم المَقاومة وأمطار الرفض هي أشبه بروائح عطور الورود وأنداء شذاها الفوَّاح الذي تبثُّه في الفضاء المكاني لإنعاش النفوس وتجدِّدها بالحياة. فما كان من الشاعر إلَّا وقد عَمِلَ جاهداً في إنتاج ستة نصوصٍ شعريَّةٍ لإحياء هذه المجموعة التي ابتدأت بقصائد مثل، (خَمسونَ، لَهَا كُلُّ الحُروفِ طَيِّعةٌ، مَا بَعدَ الإبداعِ، مَراسيلٌ، كَأنَّهَا هِيَ، صُعُودٌ لِلأسفلِ). ونصوص غزليَّاته تُعدُّ مُحاولةً جادَّةً للحرب، لكن من أجل الإمتاع.
إنَّ قصائد السَّعدي الغزليَّة كُتبتْ بِلغُةٍ شِعريةٍ مَائزةٍ اِمتزجت فيها العفويَّة الفطرية بالقصديَّةِ دون أنْ تَشعرَ فيها بِتَرَهُّلٍ لُغويٍّ أو استطرادٍ إملاليٍّ جافٍ؛ بل كانت تبعثُ الرُّوح الجماليَّة الهادئة في نفس القارئ، وتمدُّهُ في شاعريتها الرُّوحية والحسيَّة بشآبيب أمطار المطاولة والتفكير بعذوبتها النصيَّة التي تُشعركَ بأنَّ شاعرها السَّعدي يَعيشُ مرحلة الشَّباب العُمرية لا نهاياتِ العُمرِ الخَريفيةِ.
حِينَ ضَممتُهَا بِرِقَةٍ شَهيِّةٍ كَانتْ أَكثرَ مِنْ تُفاحةٍ شَاميَّةٍ
مَسحتُ تَحتَ خَدَّيهَا تَقاطرَ العِطرُ فُوَّاحَاً كَماءِ الزَّهرِ
عَصَرتُ مَنهَا الشِّفَاهَ، سَالَ الشَّهدُ رِضَابَا نَادِرَاً
4- أُسلوبيَّةُ شِعريَّةِّ الجَمعِ بينَ الذَّاتي، والذَّاتي الجَمعِي (المُشتركُ):
لقد كان للذات الفرديَّة الشَّاعرية والذات الجمعية للآخر مجالٌ واسعٌ في اشتغالات الشاعر ورؤاه الفكرية، وأنَّ أغلب القصائد التي قِيلَتْ في هذا المجال الحيوي، هي نصوص تتماهى في بناء موضوعاتها الفكرية القريبة والبعيدة مع هُوية الآخر، سواءٌ أكان هذا الآخر إنسانيَّاً فرديَّاً مؤنَّثاً كالحبيب أو الصديق أم جمعياً مكانياً مشتركاً في الصفات والواجبات والحقوق وسيميائية الأهواء والتمنيَّات التي هي ليست مَطلباً فرديَّاً فَحسب؛ وإنَّما هي مُدخلات فردية تَوحدَنَتْ معَ شخوصها
الفاعلية وزمكانيتها الوجودية؛ لتنتجَ لنا مخرجاتٍ جمعيةً مُشتركةً وآفاقاً رحبة تنفتح على الواقع.
فَنُصوصٌ سِتةٌ مثل، (نَظراتُ العَرافةِ، وَلَا وَقَتَ لِلانتظارِ، وَعِتابٌ، وَكَمَا أخبرنِي، وَاُدخلوهَا آمنينَ، وَلَيستْ أكثرَ مِنْ فِكرةٍ) ، استطاعت بأفكار وحداتها الموضوعية المتنوِّعة عبر أثير مجسَّاتها النَّصيَّة الباعثة أنْ تنقل لنا محطَّاتٍ مختلفةً من رؤى وأفكار الشاعر وهو يتماهى ويتفاعل مع عوالم محيطه الخارجي إنساناً ومكاناً ووجوداً، ويتعاتب معه وكأنَّه رفيق حياته وصديق عشرته الأليف معه. حتى أضحى المكان قريباً من نفسه، والزمان تاريخه الماضي والحاضر والمستقبل.
وقد مارس الشاعر الغواية الذاتية مع أفكاره وتطلعاته وحاول استلطافها والتعايش معها على أنَّها جزء من ذاته الجمعية وهمّه الإنساني اليومي. وقد يخرج في أسلوبه المشترك إلى التناهي معَ هُويةِ الآخرِ وكأنَّه الحبيب المعشوق الذي قضى شطراً من عمره لأجله في البحث عنه عبر هذا التناسل الزمني الصعب. وهذا يعني أنَّ السَّعدي في شعريته تمكَّن من الخروج من ذاتيته الشعرية الضيقة إلى أفاق وضفاف وشطآن الجمعية الاشتراكية المتوحدنة روحاً وجسداً لا ينفصلان عنهما.
فَوقَ أَعمِدَةِ الكَهربَاءِ المُعَطَّلةِ الَّتي تُقاومُ الصَّدَأ دُونَ هَوَادَةٍ
أَرسِمُ بِالطُبشُورِ مَدرَسَةً
أُعَلِّمُ صِبيانَ الأَحيَاءِ الفَقيرَةِ حُبَّ الوَطنِ
أبنِي مِئذنَةُ لِلحُبِّ نَاقوسَ إخَاءٍ
أُكحِّلُ أَعيُنَ الصَّبايَا بِماءِ دِجلةَ والفُرَاتْ
5- أُسلوبيةُ الجمعِ بينَ الوَاقعي والأُسطوري (الرَّمزي):
ليس غريباً على شاعر مثل جَنان السَّعدي أنَّه قرأ تاريخ بلاده وأدرك تأثيرات عراقة حضارته المُهمَّة، واكتسب موحيات ثقافة مجتمعه الرافديني الواسعة من خلال موهبته الإبداعية وملكته الشعرية واستعداده الفطري المتنامي مع مثيرات ثقافة المُكتسب الذي وظَّفه كمهاراتٍ إجرائيةٍ في مركزية اشتغالاته الشعرية في هذا الأُسلوب الجَمعي الذي مَزجَ فيه بصدقٍ بين الواقعية والرمزية عَبرَ شعرية الواقعية السِّحرية التي أوحتْ لَه وَمَهَّدت الطريق إلى إنتاج وتخليق وصُنعِ نُصوصٍ نَاضجةٍ مثل، (أُولمبيادُ، وَنَعشٌ عَلَى أكتافِ يَومٍ تَمُّوزيّ، وَالكُرسِيٌّ وأخواتُهُ، وَأصواتٌ وَأشواقٌ) .
بهذه القصائد الأربع استطاع السَّعدي جَنان ومن خلالها أنْ ينفذَ بهدوءٍ إلى استحضار مُهيمنات وقائع الحدث الموضوعيَّة ومزجها برباط الرمزية التاريخية الحقيقية أو القريبة من ضفاف الواقع. والتي يستمدُّ منها تاريخ حياته وجذوره الإحيائية المتأصِّلة في فتوحات خطابه الشعري المواظب.
فالشاعر الذي يُسقطُ الرموز التاريخية والوقائع الحَدَثِيَةَ المَاضية على بنيان واقعه الحياتي الآني والمستقبلي، مُدرِكُ تماماً لِخُطَى مشروعه الشعري الثقافي الفكري، وهو على يقينٍ أنَّه مكين من أدواته الشعرية في رسم خارطة بيت الواقع المُغيَّب وتشخيصه وتفعيله؛ ليثيرَ فينا روح الاستنهاض الثوري بدلاً من انسداد الأفق وتلاشي آثار الأمل الذي يُعدُّ خلاصاً من براثن الهيمنة الواقعية.
فما أحوجنا لقراءة نصِّ مثل، (نَعشٌ عَلَى أكتافِ يَومٍ تَمُّوزيٍّ) الذي جسَّد فيه الشاعر معاني الحبِّ والإيثار والتضحية والتبجيل لِمَقدَمِ مِثلِ هذَا اليوم التاريخي الذي أشرقت فيه شمس على العراق بضوئها الساطع لِتُنيرَ عهداً جديداً لِحياة ينشدُها كُلُّ الشرفاء الأحرار من دُعاة الحرية والاستقلال.
لَا أَعلمُ سِرَّ هَذَا اليّومِ
اِختفاءُ الشَّمسِ مَثَلَاً فِي يَومٍ تَمُوزِي
الكُلُّ يَعلمُ مَاذَا يَعنِي تَموُّزُ العِراقِ
مِنْ دُمُوزِي إلهِ الرَّعِي والخِصبِ السُّومريِّ
إِلَى نَضجِ الرُّطُبِ وَحُمرَةِ الخُدودِ وَسُيولِ العَرقِ
6- الأٌسلوبُ المَكانيُّ وتَشكُّلاتُ الطبيعةِ:
شكَّلت مُهيمنات الواقع الطبيعي الكونية بمختلف عناصرها المكانية الثابتة والمُتحركة حضوراً فنيَّاً وجماليَّاً موضوعيَّاً لافتاً في شعرية جَنان السعدي وتحديداً في منحنيات خطابه وتعرجاته البينية المتشابكة. فتفاعل الشاعر معها وتأثَّر بها؛ بسبب رهافة حسِّه ورقةِ مشاعره الشخصيَّة وَحُبِّه الجمِّ لها؛ كونه أديباً مفعماً يَرسمُ خطوط الواقع الطبيعي بمخياله الفنِّي الجامح ويستلهم عناصر الطبيعة وتكويناتها المؤثِّرة، ويوظَّف مفرداتها وحقولها الدلالية ورموزها الإيحائية الفاعلة في لوحاتٍ تجريبيةٍ من خلال قصائده الذاتية والجمعية التي يشحنها بطاقاتٍ فنيةٍ تعبيريةٍ صُوريةٍ خارقةٍ الأثرَ.
وقد اتَّضحت حركة الشاعر الفعلية مساره الصوري في تماهيه الشعوري وتجسيده الذاتي والحيوي لعناصر شعاب الطبيعة الكونية وشغفه بها وبوحداتها الوجودية المتعدِّدة في أربع قصائد -من نصوص هذه المجموعة- كَلَوحَاتٍ دالةٍ على وقع عتباتها العنوانية ومعانيها الدلالية المكانية والرمزية في هذه العنوانات، (لَهَا تُغنِّي العَنادلُ، وَالبَيدرُ، وَمِنْ وَحيِّ الذَّاكرةِ، وَاِحتذيتُ كُلَّ القَتلةِ) .
واللَّافتُ في هذهِ النُّصوصِ الشِّعرية أنَّ علاقة الشاعر بمصادر الطبيعة علاقة روحية وجمالية؛ كونه استلهم منها صورها الحركية الساخنة وأشياءَها الهَادِرَةَ الجَامحة، ولم يقترب من عناصرها الهادئة الوادعة إلَّا القليل المناسب لطيِّات حُقول نصوصه المكانية التي تُعبِّر بصدقٍ عن مكنوناتها الوجودية وموحياتها الدلالية (سماءً وماءً ومطراً وشمساً وزُهوراً) ومثاباتٍ مكانيةً زاخرة بالعطاء.
هَلْ سَمَعتُم عَنْ سَمَاءٍ تَمطُرُ الخُبزَ؟
السَّماءُ فِي بِلادِي تَمطرُ الخُبزَ كَمَا تَمطرُ الزُّهورَ وَالأولادَ
تَمطرُ المَوتَ والقَتلَى ، تَمطرُ الطِّفلَ الرَّضيعَ وَحَرمَلةْ
تَمطرُ البَردَ وَالشَّمشَ المُحرِقَةْ
تَمطرُ زُهَا حَديدٍ وَوَردةَ العِراقيَّةَ
كُل التَّناقضَاتِ تَمطرُهَا بِعُنفٍ سَماءً بِلادِي
حَتَّى التَّاريخَ والحضَارَةَ
7َ- أُسلوبُ استحضارِ الذَّاكرةِ الزمانيَّةٍ:
من بين الأساليب الموضوعية المُهمَّة الأخرى التي شغلت همَّ الشاعر السَّعدي استحضار الذاكرة الزمكانية واستدعاؤها لآثار موضوع الحصار الاقتصادي كحدثٍ مُهمٍّ مرَّ به تاريخ العراق السياسي المعاصر؛ نتيجةَ استمراءِ الألم وبسبب فشل الأنظمة الدكتاتورية الشمولية الحاكمة، والتي دفع ثمنها الباهظ المواطن البسيط ابن هذا البلد الذي لا يملك سوى قوته اليومي وأثاثه الحياتي المعيشي الذي اضطرّ إلى بيعه والتنازل عنهَ من أجل أنْ يؤمِّنَ لعائلته سدادَ لقمة العيش الشريف.
وقد ظهرت اشتغالات الشاعر لهذا المسار الحيوي في قصيدته الدالة على أفق معانيها الحَدَثيِةِ (من ذاكرة الحصارِ) . وهي إشارة واضحة لسنين الحصار الاقتصادي الثماني التي أكلت الغالي والنفيس من عمر المواطن العراقي البسيط الأعزل الذي آثرَ بَيعَ أثاثِ بيتهِ وبَعض محتويات عيشه المهمَّة والكمالية من أجل أنْ يعيشَ شريفاً في الوجود وفي مواجهةٍ جهاديةٍ مع الموتِ البطيء الذي يستشعره كلَّ يوم شبحاً يطاره في الحياة. فما كان من الشاعر إلَّا وقد استعادت ذاكرته الشعرية صور سنين الحصار الجائر من خلال تقنية الاسترجاع الفنيَّة التي احتشدت بها موضوعة القصيدة.
صَديقِي اللَّدُودُ لَا تَفعلْ أرجُوكَ
تَذَكَّرْ يَومَ بِعتَنِي شُبَّاكَ دَارِكَ
وَوَهبتُكَ عَبَاءَةَ جَدِّي وَسِجَّادَةَ الصَّلاةِ والمِسْبَحَةَ
كَانَّ مِلْحُ الحِصَارِ قَاسيَاً
كُنَّا نَتبادَلُ الدَّمعَ فِي الأفرَاحِ عَلَى نُدرتِهَا
نُراقِصُ إِنسانَ بُؤْبِؤِنَا بِوُدٍّ
نَقتسمُ رَغيفَ الطِّينِ فِي سَطحِ دَارِنَا
8- أُسلوبُ الثُّنائياتِ المُتضادةِ:
لم ينسَ الشاعر السعدي الخوض في غمار الثنائيَّات الشِّعرية المتضادة التي أوجد لها مكاناً علياً رحباً في ديمومة نصوصه الشعرية المتعدِّدة الموضوعات في معترك تناقضاتها الجدلية والوجودية وحركة صراعها الأبدي القائم الذي لا يمكن أنْ ينتهي. فعنصر الخير لا بدَّ له من صنوٍّ آخر وهو الشرُّ، والحياة لا بدَّ لها من الموت، والوجود لا مناص له من عدم، والبياض الدال على النقاوة لا بدَّ له من السواد المعتم الحالك، والنجاح السارُّ لا بدَّ أنْ يقابله الفشل الضارُّ، وكُلُّ فِعلٍ له رَدٍّ فِعلٍ آخرَ.
كلّ هذه المُهيمنات من المفردات التناقضية ومتجاوراتها الدلالية هي التي شكلَّت تمظهرات هذا الحقل الدلالي القائم على صراع الذات مع هُويات نظيراته الأخرى حبَّاً بالحياة وقياماً للتشبث بها. وخير من يمثِّلُ أُسَّ حركة هذه المتناقضات التضادية قصيدة (دَعوةٌ ونداءٌ) التي قامت على المقارنة التقاربية بين دفَّان الموتى (حفَّار القبور) ، وفنَّان الطين (نحَّاتُ الشخصيَّاتِ والرموزِ) . فعلى الرغم من كونهما يصنعان بإرادتهما الفنيَّة والعمليَّة أشكال وصور الحياة وشواهدها الرمزية فإنَّهما يواجهان في الوقت ذاته الموت الآخروي المقابل للحياة الدنيوية. فَلُكلِّ وجودٍ لهُ ما يُخالفه في العمل والأثر.
يَنحتُ الدَّفانُ قُبورَنَا وَالعَلَامَةْ
وَينحتُ الفَّنَّانُ الطِّينَ بِابتسَامَةْ
هَذَا بِمطرقَةٍ وَذَا بِمثلِهَا وَكِلاهُمَا رَاحلانِ وَإيَّانَا
فَمهلاً لِكلِّ النَاحتينَ قُلوبَنَا فَزَعَاً وَرُعُبَا
9- الأُسلوبُ التَّأمُّليُّ الفلسفيُّ:
وعلى الرغم من سيطرة الأساليب الحسيَّة التقليديَّة المعنوية المخياليَّة على فقرات خطابه الشعري وسطوتها التي فرضتها بكثرة على ظلال مدونته الشعرية (نعشٌ على أكتاف يوم تَمُّوزي) ، فقد انزاح الشاعر السعدي قليلاً إلى ناصية التأمُّل الفكري الفلسفي وزيَّن قصيدته الموسومة عتبتها (تحتَ ظلالِ الفناءِ) ، مُصرَّاً بها على أنْ ينقلنا إلى رحاب عوالم الفناء وموحيات الهلاك في مقاربةٍ شعريةٍ تداوليةٍ بين الشَّاعر ذاته صاحب الكلمة المُزهرة والأشجار الطيِّبة المُثمرة، وبين الضمير الحيِّ الظاهر والمغيَّب الخبء المستتر، وبين مُنبِّهات الصحوة وَمُغيَّبات الغفوة، وبين رمز الموت والخلود، والسعادة والشقاء الأبدي، وحياة الغربة والبقاء الذي هو جوهر عمارة الإنسان والبنيان.
فمثل هذه المفردات التأمُّلية الفذة تبعث في أعماق النفس الإنسانية عوامل الإثارة ومنشطات التأمُّل والتفكر والانبعاث الوجودي لـ (أكونُ أو لَا أكونُ) الذي صوَّر الحياة بطريقة جمالية وروحيَّة يحلقُ معها القارئ الواعي المواظب مع نسيج شعريته إلى مرافئ الفكر وشطآن الفضيلة وعوالم السحر والوجود والعدم التي هي من مفردات قيمِ الحياة وأشيائها الفذة الفلسفية الضاربة في جذور القِدِم. وعلى وفق تلك الأساليب التعدِّدية استطاع جَنان السَّعدي بمشروعه الشعري أنْ يَحفرَ لهُ مَكاناً بينَنَا.
يَموتُ الشَّاعرُ كَالأشجارِ المُثمرَةِ
وَلَنْ تَموتَ الكَلمةُ تَبقَى مُزهرةِ
يَغيبُ الضَّميرُ أو يُغَيَّبُ أحيَانَاً
هَلْ يَموتُ؟ عِندَ البَعضِ رُبَّمَا
***
تَقديمٌ: د. جبَّار ماجد البهادليّ / نَاقدٌ وكاتبٌ عراقيّ