قراءات نقدية
مثنى كاظم صادق: إينانا.. رواية نوفيلا بطعم الوهم الآيدلوجي

إينانا في الموروث العراقي، هي آلهة رافدينية ترتبط بالحب والجمال، والحرب والعدالة والسلطة السياسية، وكانت تعبد في سومر وعبدها الأكاديون والبابليون والآشوريون تحت اسم عشتار... وقد اختار الأديب سالم الزيدي عنوان روايته (إينانا)(1) التي تمثل اسم فتاة عراقية أيضاً هي قسيمة بطولة الرواية مع حبيبها (مخلص) الذي بقي مخلصاً للوهم الآيدلوجي دون تحديثٍ لأفكارهِ السابقة التي آمن بها أيام فتوته الباكرة، كما هو حال آلاف الشباب الذين وقعوا تحت نير الآيدلوجيات التي دخلت إلى العراق في الربع الأول من القرن العشرين ومنتصفه... ثم دفعوا ثمن ذلك باهضاً (إعدامات / سجون / معتقلات / فصل وظيفي / الهروب إلى الخارج).....
رواية النوفيلا أي الرواية القصيرة وهي ليست من النوع الأدبي الجديد؛ لأن هنالك روايات قصيرة من هذا النوع لأدباء كبار كأرنست همنجواي وديكنز وسواهم وهي نشأت في إيطاليا في القرن الرابع عشر...
وبما أن العنوان يمثل عتبة إجرائية تقارب المحتوى فأقول: إن العنوان هو نص خارجي يكمل النص الداخلي... إن الأفكار الأساسية في الرواية هي الآتي: شاب يساري يغترب بسبب الاضطهاد والملاحقة ويعيش في غربة ويتوقف الزمن لديه عند زمن الأفكار التي آمن بها في صباه التي أصبحت لاتلائم الواقع السياسي المحلي ولا المتغيرات العالمية في موازين القوى الكبرى... بعد التغيير الذي حدث في العراق يأتي (مخلص) بطل الرواية الذي يمثل الشخصية الرئيسة، ويحاول أن يتكيفَ مع الواقع الجديد لكن بصعوبة... فقد وجد من تركهم في حالة تغير ذهني حتى صديقه الذي نظمه سياسياً (قرر الذهاب إلى صديقه الذي كان السبب في انتمائه إلى الحزب حين كان طالباً في الإعدادية) ص 11 ليجد صديقه هذا ومسؤوله بعد عقود من الزمن يقول له (أنا لم يعد لدي أي علاقة بالحزب منذ عشرات السنين توقفتُ عن النشاط السياسي تماماً وأنا الآن مشغول بأمور البيت والوظيفة معذرة) ص 14 وهنا يحدث التقابل السلبي بين مخلص الذي بقي الزمن متوقفاً عنده وبين مسؤوله الذي وعى التغيير؛ فتخلى عن أحلام شبابه المتراكمة وبدأ يفكر بواقعية....إن التجاذب الفكري والنفسي والعاطفي في هذه الرواية كشف حقيقة الشباب المخدوع الذي استعمل كوقود للصراعات على السلطة... وبدأ (مخلص) يقارن بين ما بقي عليه وما هم عليه أعني أصدقاءه في الحزب أو الحياة (تفاقمت المشاكل بين مخلص وأصدقائه القدامى بسبب مواقفه الصارمة) ص53 ف(مخلص) يشهد تحولَ من حوله في الوعي الجديد وبقائه بوعيه القديم... فبدأ يلوك الذكريات (تجول في المدينة وتوقف عند الجدار الذي كان فيه صيد لرجال الأمن عندما كان يكتب شعارات الحزب في ساعة متأخرة من الليل) ص 20 فظل يصارع هاجسين الأول أفكاره القديمة والآخر الواقع الجديد، وفي مسار محاذٍ أيضاً يجد حبيبته السابقة (إينانا) قد تغيرت عندما أصبحت مديرة مدرسة وتلبس الحجاب (لم يعلم أن إينانا قد تغيرت كثيراً لم تعد تلك الفتاة المتحررة من التقاليد المجتمعية كما عرفها) ص 9.... وفي ظل الأوضاع الأمنية المتوترة يقنع حبيبته (إينانا) بالزواج منه وسداد دين حبها له وحبه لها بالزواج؛ ليعوض إحساسه بالهزيمة الفكرية بالانتصار الاجتماعي... وبدأ الحبيبان يحادثان بعضهما يومياً بالهاتف لكن في ليلة ذات وضع أمني متوتر وعند نفاد رصيد هاتفه بالليل أرسل (مخلص) ابن أخته كي يشتري له الرصيد؛ لكنه وجد المحل مقفلاً، فأراد من ابن أخته أن يذهب إلى محل أبعد !!! لكن أخت (مخلص) منعت ابنها من الخروج قائلة لأخيها: (إن الوضع الأمني متوتر فقد انفجرت سيارة عصر اليوم في المنطقة فرد عليها ــــــــ مخلص ـــــــــ بعصبية إذا لم تسمحي له بالذهاب اذهبي أنتِ.. نظرت له أخته بتساؤل وأنت كيف تقبل أن أختك تخرج في ساعة متأخرة من الليل؟ ماذا سيقول أبناء المحلة؟ وماذا سأقول للدوريات عن سبب خروجي؟ هل يصدقوني أنني خرجت لشراء رصيد للهاتف؟) ص 61 فيجيبها بغباء تام (في أوربا المرأة تخرج في أي وقت دون إحراج أو خوف) ص 62 فتجيبه إجابة واعية (أخي نحن في بلاد محترقة وليس في أوربا) ص 62 لم أجد كمتلقٍ أي قناعة في حوار (مخلص) مع أخته فوقع البطل في فخ عدم الإقناع والتعلي؛ فثمة وضوح لأنانيته وخوفه على نفسه من الخروج في الليل... وقعت الرواية في المباشرة والتقريرية بنقد الوضع السياسي وإدانته والاحتجاج الدائم عليه بشكل مباشر(وجد أحد الموظفين الذين يعرفهم جيداً يدير قسماً في الدائرة علماً أن هذا الشخص لا يمتلك الشهادة التي تؤهله لهذا المنصب.....) ص 67 فالنقد جاء مباشراً جداً بالإسهاب حول هذا الموظف... كما جاءت الحوارات قريبة إلى حوارات المسرح أكثر منها إلى حوارات الروايات، ولعل ذلك؛ لأن الكاتب هو مخرج ومؤلف مسرحي أيضاً... فضلاً عن خلو الرواية من المنلوج الداخلي تقريباً مع أن المنلوج الداخلي هو من أعمق الأدوات في الكشف عن دواخل الشخصية وأفكارها الداخلية... يحيط الرواية خيط من الحب ذو التغذية الراجعة الذي كاد أن ينتهي بالزواج لولا أن اُتهم الخطيبان بتفجير السيارة المفخخة التي انفجرت قربهما بسبب تلقي (مخلص) لمكالمة هاتفية بعد الانفجار... فكرة الرواية متداولة ومعروفة إلا أن الإضافة المائزة فيها هي كشف المراهقة السياسية لجيل ضاع بسبب الأدلجة والولاء الأعمى وزيف الوعي.
***
د. مثنى كاظم صادق
..................
(1) إينانا / رواية قصية جداً / سالم الزيدي / الطبعة الأولى 2024 دار رؤى للطباعة والنشر / كركوك