أقلام فكرية

محمد فرَّاح: فَلْسَفَةُ الصَّمْتُ: مُوجَزٌ في مَعَانِي ودَلاَلاَتِ السُّكُوتِ وإِطْرَاقُ الوِجْدَانِ

يشكل الصمت منظومة سكونية متعددة الوظائف، فهو قدرة على إِجَادَة وحَذَاقَة ذرء الكلمات والمفردات والمصطلحات والألفاظ بقصدية، إذ في الصمت توجد الأفكار، فمن لا يعير أي إهتمام للكلمات، سنجده يتجاوز البَقْبَاقَ والتَّلْهُوقَ، أي الشخص الثَّرْثَارُ وكثير التَّقَعُّرِ فِي قَوْلِهِ، عَلَى جَميع الأصعدة.

يرتبط الصمت في دلالته المتداولة بالسكوت، فعندما يراد التعبير عن إطراق أحد من الناس للصمت يقال إنه يفضل السكوت، فالفعل الذي يستخدم للتعبير عن ذارئ الكلام لا يشتق من الصمت بل من السكوت، وكأن بالصمت اسم لا يتحقق إلا من خلال فعل السكوت.

لهذا لا يمكننا أن نقول أن السكوت أداة للتفاعل بين الناس، بل هو أداة لقتل التواصل فيما بينهم البين، لكنه يشكل في الحقيقة أداة تفكير وتأمل وإِخْفاءٌ ، وإِضْمارٌ ، وتَعْمِيَةٌ ، وتسَتُّرٌ قوي، خاصة وأن له بعداً سلطوياً وايديولوجياً نتعرف عليه فيما بعد.

ففعل السكوت فعل ساكن زمنيا بطيء الزوال والتلاشي، وغير قابل البتة للتجدد، ويتبدى بشكل ثابت وقار نسبيا، يبقى الصمت والهدوء والسكون والسكوت دائماً سيد الموقف بين الناس، فيوفر لأفراد المجتمع وسائل لذبول التواصل وإخفاء التعابير الحقيقية، ويتخذ شكل إبرة سقطت في كومة من القش، فيحمل دلالات ومعاني غير قابلة للتجاوز والفهم والتأويل.

يظل الصمت ثابتا في جوهره، منظما بدقة، وساكنا لا شيء يطابقه ويعبر عن حقيقته الثاوية خلفه، إنه وبكل بساطة، حالة سيكولوجية ووجدانية وذهنية ووجودية بإمتياز، لا يمكن التعبير عنه وتبليغه أو إيصاله للآخرين.

ذلك أن الصمت والسكوت قابل للتوظيف في حياتنا اليومية لأغراض عديدة ومختلفة، وقلنا إن ماهية وحقيقة الصمت تكمن في كونه يطابق بين الفكرة والخَافِي، أي الخَفِيّ فيها، والمَخْفِيّ، أو حتى المُخْتَفِي، والمَحْجوب، والمُتَواري، والمَسْتور، ثم المُضْمَر فيها، إن الصمت بمثابة قمة جبل الجليد يخفي كثلة ضخمة من الأفكار والتصورات والآراء والمنظورات والمعتقدات والقيم والمعايير والسنن والأعراف والممارسات والمقترحات الثقيلة على الأفراد.

إن اعتمادنا لهذا الوصف يسهل علينا القول بأن الصمت يشكل بعداً من أبعاد الإنسانية المضمرة، لكن إذا سألنا أي واحد ممن نعرف، لأي شيء يصلح الصمت؟ أكيد أن الجواب سيكون هو: الانْقِطاع عن العالم ، والإِحْجامٌ عن الأغيار، بل والإِعْراضُ عنهم، من خلال الإِمْتَناعِ عن التحدث معهم ، وإِمْساكُ الكلام مع الآخرين، وإِنْفِصالُ عن هذا العالم، وكَفٌّ عن التواصل مع البشر، ففي عالم تهيمن فيه مواقع التواصل الاجتماعي، تبدو كلمة الصمت كلمة رَهِيبة ، وشَنِيعة، إن لم نغالي فنقول أنها فَظِيعة ، وقَبِيحة ، ومُرَوِّعة ، ولا تخطر على البال لكونها مُرِيعة ، ومُرْعِبة ، ومُفْزِعة لغوغاء الناس ودهمائهم، أي أن سواد الناس لن يقبلوا هاته الفكرة بحماس، بسبب انتشار التكنولوجيات الجديدة والوسائط المتعددة في الاتصال التي شرعت التواصل وأهملت عدم التواصل أو التزام الصمت، كما نلحظ هيمنة قوية للخطابات المسترسلة، في حين ندعوا لهيمنة صَوَامِتُ مسترسلة!

وهذه المنظومة السُّكْتِيَّةُ (جمع سُكُوتٌ، سُكْتٌ.) مركبة من ثنائية الجَاثِمُ والمَجْثُومِ. من جهة أولى، لكونها حالةً أو نشاطاً سيكولوجيا وَاجِماً أو هادئاً، ومن جهة ثانية، نقول أنها حمَّالَةٌ للدلالات والمعاني، كما أنه من خلال العدد المحدود من السُّكْتِ المُحْجَمِ يستطيع الصمت أن ينشئ ما لا نهاية له من الأفكار والتصورات والآراء والمنظورات والمعتقدات والقيم والمعايير والسنن والأعراف والإمكانات المُضْمَرَّةُ والدَّالَةُ على مستوى الذهن.

لذلك فإن الصمت العقلي صمت ينظم الفكر وغير قابل للتحقق البتة في شكل خاص، لهذا يجعل من التجربة الذاتية الباطنية لِذَاتٍ ما منغلقة ومعزولة على ذات أخرى في تعبير مُلْتَحِمٍ ومُتَوَاشِجٍ، وليس يظهر إلا على شكل إنشادٍ ، وسَكينَةٍ ، وسُكُوتٍ ، وسُكُونٍ ، وشَدْوٍ ، وصَمْتٍ ، وطَرَبٍ وهَمْسَةٍ أو هُدُوءٍ محدد. خاص بفرد متميز عن غيره، ولا يشترك في صمته مع الآخرين.

إن الصمت يقدم لنا نموذج البنية القطائعية بالمعنى الأكثر حرفية للكلمة والأكثر شمولا في الآن نفسه، فهو يضع السكون في علاقة معقدة داخل الخطاب، منتجا بذلك مجالا خاصا داخل الفكر العقلي للفرد.

وأخيراً إن الصمت هو النظام السكوني الأكثر اقتصادا، فهو خلافا للثرثرة لا يتطلب أي مجهود فيزيائي أو بدني، ولا يعاني العقل-الذهن فيه شيئاً، إنه الحالة الأكثر عمقاً في وجود الإنسان.

من هنا تطرح إشكالية الصلة بين الصمت والفكر، ونجيب بدون أخذ ورد، أن الصمت محايث للفكر لا مفارق له، ذلك أن الفكر فعالية لا يقوم له قائم خارج الصمت، وقد تثبت الدراسات الدماغية وعلوم الأعصاب والإدراك وتدعم وترجح أطروحة تعالق وترابط الصمت بالفكر داخل الدماغ-الذهن.

ذلك أن الذهن هو مجموع المواصفات الضرورية المتبناة من طرف العلماء، لكي يتمكن الأفراد من إستعمال أي ملكة، لعل من بينها ملكة الصمت، والتي هي ملكة مضادة للسان، ويمكنها أن تشتغل وتُمَارَسَ بِدُونِهِ.

والصمت لا يَقْتَنِصُ من الشيء غير ملمحه المُبْتَذَلُ ويفضل ذرء الوظيفة الأكثر عمومية للشيء، لأنه يعبر عنها، ويذرئ تسللها إلى الخارج، ويَحْجُبُ صُورَتَهُ عن أنظارنا، لأن صورة الصمت عن الفكر لا تتوارى البتة، عن الصمت والسكوت وهو يقوم بعملية التفكير!

لهذا يختفي الصمت وراء الكلمات، كما تتوارى عنا حالتنا السيكولوجية المُضطربة لإجبار حمولتها من أجل الظفر بالتجربة المعاشة على نحو أصيل، فالصمت يشكل حقيقة التجربة الحميمية التي نعيشها من الداخل.

إذا كان الصمت في الحقيقة يقتضي وجود الفكر سلفا، كما أن فعل السكوت فعل يقترن بالشيء قصد معرفته وتقمصه، لأن الصمت علامة على وجود الفكر، لأنهما وُضِعَا بشكل موضوعي، فالصمت يحتوي الفكر، والفكر يَسْكُنُ الصمت، والفصل بينهما أمر غير وارد وغير مقبول البتة، لكونهما مرتبطان ومتحدان، ولا يجوز القول بأسبقية أحدهما على الآخر، لأنهما وبكل بساطة يتكونان معا وفي آن واحد.

وهذا يعني أن قيمة الصمت بالنسبة للإنسان، أنه كينونة أودع فيها الإنسان عالما خاصا به إلى جانب العالم الآخر الواقعي، وبالتالي يصبح بمثابة عالم أول متأصل في الذات البشرية وأودع كل شيء فيه، بما في ذلك إحساساته الوجدانية والعاطفية والسيكولوجية عموماً.

ونحن ضيوف هذا العالم الصامت داخلنا ونقيم عنده وننعم بالخيرات والمسرات الجمة التي يغدقها علينا بكل سخاء، وطبعا نشعر بحقيقة وجودنا خلال مقامنا في واحاته، أي طوال حياتنا، ويبدوا أن الصمت والسكوت مشاكس عنيد يتأصل فينا دون استئذان، فيتملكنا ويسكننا رغماً عنا، إننا مسكونون بالصمت، نصمت كثيراً ونتكلم قليلاً، لا أحد يستطيع إنكار صمته، من أجل جمع رمقه ونفسه، أصاب بالدهشة والذهول، حين أكتشف أن البعض منا لا يعترف بحقيقة الصمت، وأنه غير قادر من الإفلات منه، ولا شفاء يرجى منه، إنه مرض عصابي بلغة فرويد يصيب الحضارة الإنسانية.

يسود الاعتقاد أننا حينما نصمت فإننا نكون في حالة تعبير عن أفكارنا ومشاعرنا بإرادتنا الحرة وننغلق على الآخر بموضوعية ووضوح تامين، فنخرج من عالمنا الواقع، لندخل إلى عالم الصمت الأرحب والأوسع، هو عالم مسيج خاص بي، عالم محكوم بسلطة السكينة والحركة، إنه عالم متناقض!

بمعنى أن الصمت هو في نفس الوقت الشكل الوحيد لوجود الفكر، وحقيقته ونمط تحققه، وغالبا ما لا نتساءل هل يوجد صمت بدون تفكير أو تفكير بدون صمت؟ كما لا يوجد دخان بدون نار أو نار بدون دخان، لا يوجد كذلك صمت بدون تفكير، ولهذا فإن المثل الشعبي المغربي القائل: ب "أن السكوت علامة الرضى" لم يصب هذه المرة، فالخطاب الصامت أو الفكر الصامت هو فكر صَاخِبٌ قياس على حَياةٍ صَاخِبَةٍ : مُضْطَرِبَةٍ وغير مستقرَّة.

ونقلب المثل الشعبي فنقول: "السكوت علامة الحَرَدِ ، والغَضَب ،والتنافُرِ ،والحَذَرِ، والخَشْيَةِ، والخَوْفِ ، والرَفْضِ ، والعِصيانِ المتَمَرُّدِ ، والمُخالَفَةِ ، والمُعارَضَةِ ، والمُقاوَمَةِ."، نقف عند هذه الأخيرة، فنقول: "كل صمت وسكوت هو مُقَاوَمَةٌ وَإِزْعَاجٌ لِلثَّرْثَارِ.".

ونحذر هنا من قصدنا أن الصمت أداة للفكر، فالمقصود به أن الصمت يضمر، عكس أي أداة التي تظهر، أي شيء، أو عن فكرة توجد داخله وقد تكون خارجة عنه فيتلقفها كونها بادية للعيان ويعمل على إضمارها.

حينما ننظر في حقيقة الصمت، نجده ينطوي، تبعا لبنيته الداخلية المعقدة، على علاقة استيلاب محسومة يشعر بها الكائن الصامت، فأن نلتزم الصمت، وبالأحرى أن ننتج خطابا صامتا، لا نسمعه إلا نحن مع ذواتنا، ليس معناه أن ننغلق على ذاتنا هكذا، وننطوي على قوقعتنا الداخلية، بل معناه وبكل بساطة أن نسود ونسيطر ونقاوم ونرغب ونزعج أنفسنا والآخرين، من خلال قمعهم ونكون نحن من نمتلك القوة والسيادة والهيمنة، أو وبكل وضوح نمتلك سلطة، الصمت إذن تملك للسلطة، ونقصد هنا سلطة النفي القطعي التي يمارسها الصامت بشكل روتيني، خاصة عندما يقوم بتعليق الحكم ليس بالمعنى الهوسرلي، بل تعليق الحكم بمعنى تفضيل الصمت على الكلام في كثير من الأحايين، ولهذا نفضل السكوت من خلال لم الشتات المتناثر بداخلنا وعدم الإفصاح عنه، فتعليق الحكم تَدِلَّةٌ على الشعور بالسيادة والخلود إلى راحة لا هروب عنها.

ومن ثم نخلص إلى مشكلة الصمت وعلاقتها بالشروط التي يشرطها عليه المجتمع، هذا الأخير يمارس تأثيراً جانبيا قويا على الصمت، فقد نسكت لنرضي المجتمع أو نرضاه، أي المجتمع الذي ننتمي إليه، بمعنى نتوخَّى استمالته واستدراجه لصالحنا، ذلك أن قدرة المرء على تبليغ ما بداخله للمجتمع لا يمكن أن يتحقق إلا في حالة كثمان، أي عَدَم الإِفصاح عن أمرٍ أو أحاسيس، وتفضيل إِخفاؤها، ذلك الصمت لا يعمل إلا على الإشارة إلى تلك القدرة الخفية وتمثيلها بطريقة صحيحة، فليست سلطة الصمت سوى سلطة موكولة إلى صاحبها الذي فضل الصمت والتَّأَفُّفِ وأخذ الحيطة والحذر من التلفظ لجهة معينة داخل المجتمع.

ولهذا لا يجب علينا أن ننسى أن الصمت يستمد سلطته من الخارج، أي من المجتمع والمحيط الأسري، وأقصى ما يفعله الصمت هو أن يخفي هذه السلطة ويُبْطِنها، ويضْمِرها ، ويُسِرَّها عنده في مجاله الذهني الخاص به، وهذه السلطة تتحدد بحدود التفويض الذي يسندها لها المجتمع والمحيط العائلي دائماً، فيصبح هذا المجتمع ومؤسساته بمثابة قوى ضغط تمارس على الصامت وتراقبه من خلال العديد من الإجراءات التي يكون دورها هو الحد من خطورة كل من يفضل السكون، لدرجة التحكم في تلفظه المحتمل، وإخفاء سَمْتِهِ الرَّهِيبُ والمُقْلِقُ.

لا يخفى على أحد كيف يتم استبعاد وعزل كل من يفضل الصمت، لأنه وبكل بساطة لا يقول لنا كل شيء أو بعض شيء، وهناك أشياء خاصة تعرفها الذات الصامتة تتقاطع وتتعاضد مع ما يعرفه المجتمع، فتشكل [هذه الأشياء الخاصة التي تعرفها الذات الصامتة] سياجاً معقدا يُفْسِدُ أقنعة المجتمع التنكرية باستمرار.

هناك حدود حمراء بمثابة طابوهات المجتمع تلك المتعلقة على سبيل المثال لا الحصر، بالجنس، والدين، والإله، والمرأة، والدولة، والسلطة الحاكمة، والسياسة عموماً، هي أحد المجالات التي تمارس فيها تقويضات رهيبة لا يجوز الحديث عنها، بل يُخَافُ كثيراً على الصامت عنها الذي لا يقدم موقفاً صريحاً [يتوافق ورأي المجتمع السائد] عنها.

يبدو أن الصمت في ظاهره شيء بسيط، لكن في عمقه شيء خطير جداً، لهذا يُخَافُ من أن يكون الصامت لا يتوافق والرأي السائد في المجتمع وتوجهات الدولة، ولا شيء يستغرب في هذا، ما دام الصمت ليس هو ما يظهر بل ما يتخفى ويتستر عن الظهور والتلفظ، لهذا نقول أن الصمت رغبة، لكنه رغبة مُقاوِمَةٌ ومُتَعَطِّشَةٌ ومُزْعِجَةٌ كثيراً، لأنه يترجم الصراعات وتوترات أنظمة السلطة وتناقضاتها، ولهذا فالصامت يعاني في صمت وخفاء ويصارع الغير ويتصارع مع ذاته، إن الصمت صِرَاعٌ نُحَاوِلُ دَائِماً أَنْ نَخْرُجَ مُنْتَصِرِينَ عليه، لكن ما يفتأ يهزمنا ويحبطنا دائماً .

على سبيل الخَتْمِ؛ يمكننا القول الآن أن الإنسان يتحدد أيضاً، بعد عديد من المُحَدِّدَاتِ التي تَحُدُّهُ، أنه "كائن صامت" "Être silencieuse"، ينفصل عن العالم الواقعي ويعيش عالما جديدا انعزاليا يركن فيه للصمت، لكنه صمت سَيَّالٌ، لأنه نتاج للفكر والعقل والذهن، ويتسم بالخلق والإبداع.

لهذا لا وجود للفكر في استقلال عن الصمت إنهما يتكونان ويشتغلان في آن واحد، ونستطيع في ضيافة الصمت أن نعبر بعمق عما يجري في عالم أفكارنا: إنه قادر على امتلاك عمق الفكر والوجدان، وانصات للوجود كما عبر عن ذلك هايدغر.

كما يشكل الصمت أخيراً منظومة صاخبةٌ ضاغطةٌ ومُعَبِّرَةٌ عن الخطاب الإيديولوجي السائد في المجتمع وتوجهات الدولة والمحيط الأسري.

***

محمد فرَّاح – الرباط

تخصص فلسفة

في المثقف اليوم