أقلام فكرية
حاتم حميد محسن: معنى الحكمة والفرق بينها وبين المعرفة؟

يمكن القول ان مفهوم الحكمة لا يتناسب بشكل مريح مع مجتمع المساواة المضاد للنخبوية. في عصر تهيمن عليه المادية والاستهلاكية والعلم والتكنلوجيا، والتخصص وتقسيم العمل، سيكون المفهوم فضفاضا جدا وكبيرا جدا وشديد الغموض. حينما تكون رؤوسنا معلقة في التلفونات الذكية والاجهزة اللوحية، ومنشغلين بالفواتير والكشوفات البنكية، سوف لن يكون لدينا وقت او مساحة ذهنية لمفهوم الحكمة وحتى للفكرة. لكن الاشياء لم تكن دائما بهذه الصورة. ان كلمة "حكمة" ظهرت 222 مرة في العهد القديم، الذي يتضمن جميع كتب الحكمة السبعة: ايوب، المزامير، الأمثال، الجامعة، نشيد الانشاد، كتاب الحكمة، وسفر سيراخ.
هنا بعض ما ورد في سفر الجامعة (الواعظ) Ecclesiastes 7:12:
فالحكمة هي دفاع، والنقود دفاع: لكن الحكمة كأعلى شكل للمعرفة تحفظ حياة منْ يمتلكها(1).
ان كلمة "فلسفة" تعني حرفيا "حب الحكمة"، والحكمة هي الهدف الشامل للفلسفة، او على الاقل، الفلسفة القديمة.
في حوار ليسز لافلاطون، يخبر سقراط الشاب ليسز بانه بدون الحكمة سيكون بلا قيمة لأي شخص آخر: ولذلك، ايها الولد، اذا كنت حكيما، كل الناس سيكونون اصدقائك وعشيرتك، لأنك ستكون مفيدا وجيدا، لكن اذا لم تكن حكيما، سوف لن يحبك ابوك او امك ولا عشيرتك او أي شخص آخر.
الراعية إلهة اثينا، مدينة ليسز، هي إلهة الحكمة، التي تنبثق من جمجمة زيوس. رمزيتها، ورمزية الحكمة، هي البوم، الطير الجارح الذي يشق طريقه اثناء الظلام.
في الحقيقة ان "الحكمة" تُشتق من أصل هندو- اوربي بدائي، "يرى". في الاساطير الاسكندنافية، قام اودين بقلع احدى عينيه وقدمها الى ميمير مقابل شراب من المعرفة او الحكمة الجيدة، رمزيا يعني استبدال نمط من الإدراك بنمط آخر أعلى منه.
الحكمة كمعرفة
لكن ما هي بالضبط الحكمة؟ الناس غالبا ما يتحدثون عن "المعرفة" و "الحكمة" كما لو انهما شيئا واحدا. هناك احدى الفرضيات بان الحكمة معرفة، او كمية كبيرة من المعرفة. اذا كانت الحكمة معرفة، عندئذ يجب ان تكون نوعا معينا من المعرفة، كما في تعليم سجل التلفون او أسماء جميع الانهار في العالم، ربما تُعد حكمة. واذا كانت الحكمة نوعا معينا من المعرفة، عندئذ هي ليست معرفة علمية او تقنية، وسيكون كل شخص معاصر أكثر حكمة من الفلاسفة القدماء. سيكون أي شاب تارك للدراسة في القرن الواحد والعشرين أكثر حكمة من سينيكا او سقراط.
لنتذكّر: ان معبد الالهة أعلن ان سقراط هو اكثر الناس حكمة ليس لأنه عرف كل شيء وانما لأنه عرف مدى ما لايعرف.
لايزال، يبدو ان الحكمة اكثر من "المعرفة السلبية"، او بدلا من ذلك انا ربما اكون مشكك للغاية حول كل شيء ومع ذلك اعتبر نفسي حكيما به. او ان الحكمة تعتمد على امتلاك معايير ابستمية عالية، امتلاك معيار عالي للاعتقاد بشيء ما، وحتى معيار عالي لتسمية تلك العقيدة معرفة.
الحكمة كرأي صحيح
في حوار مينو لافلاطون، يلاحظ سقراط ان الناس ذوي الحكمة والفضيلة يبدون فقيرين جدا في نقل تلك الخصائص. ثيموستوكلس كان قادرا على تعليم ابنه كليفانتوس مهارات مثل الوقوق منتصبا على ظهر الحصان ورمي الرماح، لكن لم ينسب احد قط الى هذا المسكين أي شيء من حكمة والده، ونفس الشيء يقال عن ليسيماخوس وابنه ارستيدس، وبيركليس واولاده. اذا لم يكن بالامكان تعلّم الحكمة، حتى بواسطة احكم شعب أثينا، عندئذ هي ليست نوعا من المعرفة.
يسأل مينو، اذا كانت الحكمة لا تُعلّم هل ظهر اناس طيبون في أي وقت مضى؟ يجيب سقراط بان الفعل الصحيح ممكن تحت اشراف من هو ليس صاحب معرفة: الفرد الذي لديه معرفة بالطريق الى لاريسا (مدينة في ثساليا) ربما يعطي ارشادا جيدا، لكن الفرد الذي لديه فقط الرأي الصائب حول الطريق، ولم يكن يعرف عنه ابدا، ربما يعطي وبنفس المقدار ارشادا جيدا. طالما لايمكن تعليم الحكمة، فهي لا يمكن ان تكون معرفة، واذا لم تكن معرفة، فهي تكون فقط رأي صحيح – هذا يوضح لماذا لم يتمكن حكماء مثل ثيمستوكلس و ليساماتس و بيركلس من نقل حكمتهم حتى الى اولادهم . الناس الحكماء لايختلفون عن العرافون والانبياء والشعراء الذين يقولون العديد من الاشياء الصحيحة عندما يستلهمون دينيا لكن لا معرفة واقعية لديهم بما يقولون.
الحكمة كفهم للأسباب
ارسطو يعطي فكرة اخرى في الميتافيزيقا عندما يقول ان الحكمة هي فهم الأسباب. لا واحدة من الحواس الخمس تُعتبر حكمة لأنها رغم انها تعطي معرفة حسية موثوقة، لكنها غير قادرة على تمييز الاسباب البعيدة لأي شيء.
ونفس الشيء، نحن نفترض الفنانين اكثر حكمة من الحرفيين لأن الفنانين يعرفون سبب الشيء، ولهذا يمكنهم التعليم، بينما الحرفيين لا يستطيعون ذلك. بكلمة اخرى، الحكمة هي فهم العلاقات الصحيحة بين الاشياء التي تستدعي مزيد من المنظورات البعيدة المُزاحة، وربما ايضا القدرة او الرغبة للانتقال بين المنظورات.
في نزاعات توسكولان، يقتبس شيشرون نموذج حكمة لفيلسوف ما قبل سقراط اناكساجوراس الذي حين اُبلغ بوفاة ابنه قال، "كنت أعلم اني سأموت". بالنسبة لشيشرون، الحكمة الحقيقية تعتمد على إعداد المرء نفسه لكل الاحتمالات لكي لا يندهش او يؤخذ على حين غرة. ومن الصحيح ان الحكمة، التي هي فهم الاسباب والارتباطات، ارتبطت الى الابد بكل من الفهم العميق والاستشراف.
طريقة للرؤية
باختصار، الحكمة ليست نوعا من المعرفة بنفس المقدار الذي تكون فيه كطريقة للرؤية. عندما نتخذ خطوات للوراء، مثل عندما نستحم او نذهب في إجازة، نحن نبدأ في رؤية الصورة الأكبر. في اللغة المشتركة، "الحكمة" لها مضادان: "السخافة" و "الحمق"، واللذان كلاهما مشتقان من الكلمة اللاتينية follies، وتستلزم على التوالي، النقص وفقدان المنظور.
في غرس منظور اوسع، من المفيد، بالطبع، ان يكون قابل للمعرفة، ولكن ايضا من المفيد ان يكون ممكن التفكير فيه، مفتوح الذهن، وغير متحيز – ولهذا يبحث الناس دائما عن نصيحة "مستقلة".
فوق كل ذلك، من المفيد ان يكون المنظور شجاعا لأن النظرة من الأعلى، مع انها قد تكون مبهجة، وبالنهاية محررة، لكنها قبل ذلك هي مخيفة ... لأنها تصارع مع الكثير مما تعلّمنا الاعتقاد فيه. الشجاعة، طبقا لارسطو، هي اول الصفات الانسانية لأنها هي التي تتوقف عليها كل الصفات الاخرى.
Psychology Today, May23, 2025
***
حاتم حميد محسن
.......................
الهوامش
(1) في تفسير للعبارة هي انها تسلط الضوء على الفوائد المتفوقة للحكمة على مجرد المعرفة. انها تعني ان الحكمة الحقيقية ليست فقط في تراكم المعلومات وانما في ما يمكّن الفرد في النهاية من عيش حياة هادفة ذات معنى ومنجزة.