أقلام فكرية
ابراهيم طلبه سلكها: فلسفة الهندسة

مقدمة: تُعَدُّ الهندسة من أقدم وأعمق الأنشطة الإنسانية التي أسهمت في تشكيل ملامح الحضارة، إذ جمعت منذ نشأتها بين الإبداع العقلي والدقة العملية، وبين التصور النظري والإنجاز الملموس. فهي علمٌ وفنٌّ في آنٍ واحد، يستند إلى مبادئ رياضية وعلمية صارمة، ولكنه لا ينفصل عن المخيلة الإنسانية التي تمنح الأفكار شكلًا ومعنى. ومن هنا، تبرز الحاجة إلى بحثٍ يتناول معنى الهندسة وطبيعتها، بدءًا بتحديد مفهومها الدقيق وخصائصها العامة التي تميزها عن سائر مجالات المعرفة.
غير أنّ النظر في الهندسة لا يكتمل إلا عبر المنظور الفلسفي؛ فالفلسفة والهندسة تمثلان معًا شراكة فكرية في بناء العوالم الممكنة، حيث يضع الفيلسوف الأسس المفهومية والنظرية، بينما يحوّل المهندس هذه الرؤى إلى واقع ملموس. وفي هذا السياق، يصبح الفيلسوف والمهندس شريكين في مشروع واحد: إبداعي، نقدي، وواقعي في الوقت ذاته.
كما أن فلسفة التعليم الهندسي تضطلع بدور محوري في تشكيل عقلية المهندس، إذ تدمج بين المعارف التقنية والقيم الإنسانية، وتؤسس لوعي نقدي يجعل من الممارسة الهندسية نشاطًا مسؤولًا وأخلاقيًّا. وهذا ما يقود إلى بحث فلسفة الهندسة ذاتها، من خلال إبراز أهمية الفلسفة للهندسة، واستعراض الاتجاهات النقدية في فلسفة العلم التي مهّدت لتطورها، فضلًا عن تحليل الأسس الفلسفية والأخلاقية للهندسة التي تضمن أن يكون الإنجاز التقني في خدمة الإنسان لا على حسابه.
وعليه، فإن هذا البحث ينطلق أولًا من تحديد معنى الهندسة وطبيعتها عبر الوقوف على تعريفها وخصائصها العامة، قبل الانتقال إلى استكشاف العلاقة الجدلية بين الفلسفة والهندسة بوصفهما شريكين في ابتكار العوالم الممكنة، ثم تحليل دور كلٍّ من الفيلسوف والمهندس في صياغة الرؤية وتحقيقها. كما يتناول البحث دور فلسفة التعليم الهندسي في تشكيل العقلية الإبداعية والمسؤولة، وصولًا إلى التعمق في فلسفة الهندسة ذاتها من حيث أهميتها، والأسس النقدية التي تمهّد لها، وقواعدها الفلسفية والأخلاقية. وبهذه الخطوات، تتضح معالم الإطار النظري الذي يوجّه بقية محاور الدراسة.
إشكالية البحث وأسئلته
ينطلق البحث من سؤال محوري يعبر عن مشكلته، وهو: ما هي فلسفة الهندسة؟ ويناقش هذا السؤال من خلال التساؤلات الفرعية التالية:
1- ما معنى "الهندسة"؟
2- ما الأسس الفلسفية للهندسة؟
3- ما طبيعة العلاقة بين الفيلسوف والمهندس؟
4- هل فلسفة التعليم الهندسي مهمة للمهندس؟
5- لماذا الفلسفة مهمة للهندسة؟
6- ما هي فلسفة الهندسة؟
منهجية البحث
يعتمد البحث في عرضه للإجابة عن تلك الأسئلة على عدة مناهج، هي:المنهج التاريخي، المنهج التحليلي، المنهج النقدي، المنهج المقارن.
محاور البحث
المقدمة.
المحور الأول: معنى الهندسة وطبيعتها
المحور الثاني: الفلسفة والهندسة (شراكة في بناء العوالم الممكنة).
المحور الثالث: الفيلسوف والمهندس.
المحور الرابع: فلسفة التعليم الهندسي.
المحور الخامس: فلسفة الهندسة
الخاتمة.
الهوامش
المحور الأول: معنى الهندسة وطبيعتها
1- تعريف الهندسة
نستطيع أن نعرض بانوراما متنوعة ومتميزة لتعريفات الهندسة تجمع بين الأبعاد الكلاسيكية والفلسفية والعلمية والتاريخية، بالإضافة إلى الجانب المؤسسي كما يلى:
أ- التعريفات الكلاسيكية والفلسفية
1- التعريف الكلاسيكي: "فن توجيه القوى العظمى في الطبيعة لخدمة الإنسان وراحته".(1)
2- تعريف الهندسة كفن وقدرة: تسخير الموارد الطبيعية بعد الاستنتاج العلمي، مع تأكيد على البعدين "القدرة" و"الفن" اللذين لا يفسَّران إلا فلسفيًا، وربط فلسفة العلم بفلسفة الهندسة لتوسيع أفق التعاون بين العلماء والمهندسين.(2)
ب- التعريفات العلمية/المنطقية
1- يعرّف لوجنبيهِل (Luegenbieh 2010) الهندسة بأنها: "تحويل العالم الطبيعي باستخدام المبادئ العلمية والرياضيات لتحقيق غاية عملية، مع إحالة ضمنية إلى فلسفة العلم والمنطق.(3)
2- تعريف لاتوماس تردجولد: "تطبيق المبادئ العلمية للتحويل الأمثل للموارد إلى منتجات وأنظمة نافعة للبشرية".(4)
3- تعريف مجلس المهندسين الأمريكي (1941): "التطبيق الإبداعي للمبادئ العلمية لتصميم وتطوير وتشغيل أنظمة وهياكل وأجهزة، مع مراعاة الكفاءة، والسلامة، ووظائفها المقصودة".(5)
ج- التعريفات العملية/الوظيفية
الهندسة كحلّ للمشكلات: "التطبيق العملي للمبادئ العلمية بطريقة إبداعية لتصميم وتطوير وتنفيذ حلول تقنية في ظروف محددة، بطريقة اقتصادية وآمنة، مع السمات الرئيسية: العلم، الرياضيات، التصميم".(6)
د- التعريف التاريخي
رفض ديفيس (Davis 2005) فكرة التعريفات الفلسفية للهندسة والمنهج اللغوي في تناولها. ويقترح أن جميع المحاولات لتعريف الهندسة فلسفيًا سوف: (أ) تكون دائرية (أي تستخدم كلمة "الهندسة" أو مرادفًا لها أو مصطلحًا إشكاليًا بنفس القدر)؛ (ب) تكون عرضة لأمثلة مضادّة جادة (إما لأنها تستبعد أنشطة تندرج بوضوح ضمن الممارسة الهندسية، أو لأنها تدرج أنشطة لا تنتمي إليها بوضوح)؛ (ج) تكون مجردة إلى حدّ يجعلها غير مُفيدة؛ أو (د) تعاني مزيجًا من هذه العيوب... واقتراح تعريف تاريخي قائم على جوهر ثابت تحدده الممارسة والمجتمع المهني في فترة زمنية معينة، حيث المهنة تعرّف ذاتها عبر ممارسيها الأحياء.(7)
2- الخصائص العامة للهندسة
يقدم ميتشام Mitcham (1994) الخصائص العامة للهندسة فيتبنى مقاربة فلسفية لغوية لتعريف الهندسة، تقوم على تحليل اللغة والمصطلحات بدل الانطلاق من التجارب العملية مباشرة.بدلًا من محاولة صياغة تعريف جامد للهندسة، يمكن فهمها عبر دراسة استخدام كلمة "الهندسة" والمصطلحات القريبة منها: الابتكار، الإبداع، التصميم، التقنية، العلم…الأهم هو النظر إلى العلاقات المتبادلة بين هذه الكلمات، لأن معانيها تتداخل وتشكل سياق فهمنا للهندسة.من المنظور الفلسفي اللغوي، البداية تكون من الكلمات التي نصف بها التجربة الهندسية، لا من التجربة نفسها، لفهم كيف نبني تصوراتنا عنها.(8)
يصنف فينشينتيVincenti) 1990) أنواع المعرفة الهندسية إلى ست فئات، وكل فئة تمثل جانبًا أساسيًا من أدوات وعقلية المهندس:
1- مفاهيم التصميم الأساسية
- الشكل أو البنية الأكثر شيوعًا وكفاءةً لتطبيق هذا المبدأ.
- الفكرة الجوهرية لعمل الجهاز (المبدأ التشغيلي).
2- المعايير والمواصفات
- تحويل الأهداف العامة للجهاز إلى أرقام وحدود كمية دقيقة.
- تحديد مقاييس الأداء المطلوبة.
3- الأدوات النظرية
- المعادلات الرياضية والأساليب الحسابية.
- قد تستند إما إلى قوانين علمية أو إلى خبرة سابقة موثوقة.
4- البيانات الكمية
- معلومات دقيقة مثل الثوابت الكونية، خواص المواد، ظروف التشغيل، عوامل الأمان… إلخ.
5- الاعتبارات العملية
- المعرفة المستمدة من الممارسة الميدانية والتجارب الفعلية.
- غالبًا تكون معرفة ضمنية يصعب توثيقها بالكامل.
6- وسائل وأدوات التصميم
الطرق الإجرائية، أساليب التفكير، والمهارات الحدسية التي تساعد على تنفيذ التصميم.(9)
المحور الثانى: الفلسفة والهندسة (شراكة في بناء العوالم الممكنة)
منذ البدايات الأولى للتاريخ، شكّل التفكير الفلسفي والهندسة ركيزتين أساسيتين في مسيرة التطور الإنساني. فبينما تضع الفلسفة الأسس الفكرية والقيمية التي ترشد مسارات البشر، توفر الهندسة الأدوات العملية لترجمة تلك الأفكار إلى واقع ملموس. ورغم أن المجالين يبدوان متوازيين ظاهريًا، إلا أن التجارب التاريخية تكشف عن تداخل عميق بينهما، إذ كان تفاعلهما مصدرًا دائمًا للإلهام والإبداع. فالهندسة ليست مجرد معادلات أو تقنيات جامدة، بل عملية قائمة على الإبداع والرؤية والتصور للمستقبل، وهي مجالات تغذيها الفلسفة وتمنحها إطارًا لفهم العالم وإعادة صياغته وفق حاجات الإنسان. ومن هنا يبرز السؤال: ما طبيعة الرابط الجوهري الذي يجمع بين الفلسفة والهندسة؟
قد يبدو للوهلة الأولى أن الفلسفة والهندسة مجالان متباعدان، لكن التأمل يكشف عن روابط عميقة بينهما. فالمهندسون في ممارساتهم اليومية يتحركون بين الملموس والمجرد، والجزئي والكلي، عبر التصميم والتنظير والاختبار والنمذجة. وهم يتعاملون مع "العوالم الممكنة" لا باعتبارها خيالات نظرية، بل بوصفها جوهر عملهم، كما قال ثيودور فون كارمان Theodore Von Karman : "العلماء يكتشفون العالم الموجود، أما المهندسون فيبتكرون العالم الذي لم يكن موجودًا قط."(10)
ورغم أن المشكلات الفلسفية العميقة حول طبيعة الوجود قد لا تكون في صلب اهتمامات المهندس، فإن الفلسفة تظل قادرة على إغناء الممارسة الهندسية، سواء بتحسين جودة التصميم أو بإعداد الطلاب إعدادًا أعمق للحياة المهنية.
منذ أقدم الحضارات، ارتبطت النهضة العمرانية والحضارية بإنجازات هندسية كبرى: الجسور، الطرق السريعة، السدود، المطارات، شبكات المياه، ومواد البناء المقاومة للكوارث. في تلك العصور، كان تدريب المهندسين يتم عبر علاقة مباشرة بين المعلّم والتلميذ، حيث تُنقل المعرفة شفهيًا ممزوجة بالأبعاد المنطقية والفلسفية والفنية، بما في ذلك القدرة على التعامل مع عدم اليقين. آنذاك، لم يكن هناك فصل واضح بين المهندس والمعماري، وكانت المهنة أقرب إلى الفن منها إلى العلم.(11)
أما في العصر الحديث، فقد انفصلت مسارات المعماريين والمهندسين، إذ اتجه المعماري نحو المجالات اللغوية والجمالية، بينما اعتمد المهندس على الأساليب العددية والخوارزميات والحلول الجاهزة. غير أن الإفراط في هذا الاعتماد أضعف الإبداع، وأفقد التعليم الهندسي روح الابتكار التي كانت تُبنى على تفاعل المعلّم والتلميذ. هنا يثور سؤال مهم: أي فلسفة يجب أن يتضمنها التعليم الهندسي المعاصر؟ هل هي الفلسفة الخالصة، أم فلسفة العلم؟ نظرًا لأن المهندس يسعى إلى خدمة المجتمع عبر حلول عملية، فإن فلسفة العلم تبرز كخيار أمثل. فهي تمنحه القدرة على صياغة الأفكار بأسلوب منهجي ولغوي قبل الانتقال إلى الأرقام، وتتيح له التفكير في بدائل متعددة بدل الاكتفاء بحل واحد، ثم اختيار الأنسب وفق معايير السرعة والتكلفة والأمان.(12)
تؤكد الاتجاهات الحديثة في فلسفة الهندسة أن المهنة تمر بأزمة عالمية تدفعها، ولو مؤقتًا، إلى العودة إلى الأسس الفلسفية والمنطقية قبل الشروع في القياس الكمي. فالمنهجيات الهندسية، رغم دقتها، تقوم غالبًا على افتراضات تقريبية تحتاج إلى نقد وتحليل فلسفي لتعزيز فعاليتها.(13)
وفي عصر الإنترنت، يتضاعف هذا الاحتياج؛ فالمعرفة الرقمية متاحة بكثرة، لكن من دون تفكير نقدي تصبح مجرد تراكم معلومات بلا روح. الفلسفة، وبخاصة فلسفة العلوم، تمنح المهندس أدوات للتحقق والتحليل وإعادة صياغة المعلومات في شكل يمكن تحويله إلى حلول نافعة للمجتمع. كما تساعده على الاحتفاظ بالمعلومات واستدعائها حية وفعّالة، بدل أن تتحول إلى أوراق مهملة أو محفوظات جامدة.(14)
في نهاية المطاف، ليست الهندسة مجرد ممارسة تقنية ولا الفلسفة مجرد تأمل نظري، بل كلاهما وجهان لعملة واحدة في مسيرة الإبداع الإنساني. الفلسفة تمنح المهندس القدرة على التفكير النقدي، والنظر إلى المشكلات من زوايا متعددة، وتخيل حلول لم تُجرَّب بعد. والهندسة بدورها تمنح الفلسفة جسدًا ماديًا تتجسد فيه الأفكار وتتحول إلى واقع. وعندما يتصالح العقل الفلسفي مع اليد الهندسية، يصبح الإنسان قادرًا على بناء عوالم جديدة، لا يحدها سوى أفق الخيال، ولا يحكمها إلا منطق الإبداع.
فليس من المدهش أن توجد علاقة وثيقة بين الفلسفة والهندسة، إذ إن هذا الترابط ينسجم تمامًا مع طبيعة الفلسفة الشمولية، التي تشمل في مجال اهتمامها وتأملها كل ما يمكن أن يثير التفكير البشري. ومع ذلك، ما قد يغيب عن ذهن البعض، خاصة في ظل الزخم الذي تحظى به فلسفة العلوم، هو أن الهندسة ربما تكون أكثر احتياجًا للتأمل والتحليل الفلسفي مقارنة بمجالات إنسانية أخرى. السبب وراء ذلك يكمن في التأثير الكبير - وغالبًا غير الملموس في بدايته - الذي أحدثته الهندسة وما تزال تحدثه في تشكيل عالمنا. لقد أسهمت الهندسة في بناء واقع جديد لم يكن ليخطر على بال أجدادنا، وهو تأثير يستحق منا التقدير والفهم العميق لفهم ماهية هذا التحول وآثاره المتعددة.(15)
الهندسة تُعتبر بطبيعتها ذات طابع فلسفي عميق، حيث يتداخل نشاطها بشكل وثيق مع جوانب معرفية (إبستمولوجية) وميتافيزيقية وأخلاقية ومنطقية وجمالية. ومن خلال تعاملها مع المشكلات المعقدة، تصبح الهندسة بمثابة ممارسة للفلسفة التطبيقية. وعلى الرغم من أنها قد لا تصل إلى المستويات الفكرية العليا التي بلغها أمثال هيغل أو هايدغر أو هابرماس، إلا أنها بلا شك تسعى جاهدة لتقديم حلول لبعض القضايا والتحديات التي يواجهها العالم.(16)
المحور الثالث: الفيلسوف والمهندس
المهندس هو الشخص الذي يمارس مهنة الهندسة، ويختصّ بتصميم وإنتاج الأدوات والآليات، ساعيًا إلى تطوير منتجات أسرع وأكثر كفاءة وأقل تكلفة. يتّسم المهندسون بالإبداع والقدرة على حل المشكلات، ويعملون في ثلاثة عوالم متداخلة:العالم الافتراضي، الذي يضم المبادئ والنظريات العلمية.العالم غير المادي، حيث تتحوّل الأفكار إلى مشاريع محددة وملكية فكرية.العالم المادي، حيث تُجسَّد المشاريع في منتجات ملموسة.(17)
وهكذا يؤدى المهندس دوره، حيث يظهر ليس فقط كمنفذ للتقنيات، بل كفاعل في ثلاثة مستويات متكاملة (العلمي، الفكري، المادي). هذا التقسيم يهيئ الأرضية لفهم كيف يمكن للفلسفة أن تتداخل مع الهندسة في كل مستوى.
يبدأ المهندس بتحويل الأفكار إلى تصاميم مستندة إلى المبادئ العلمية والرياضيات، ثم يصوغها في شكل مشاريع قابلة للتنفيذ، وأخيرًا يُنتجها باستخدام التكنولوجيا، ناقلًا إياها من عالم الفكرة إلى عالم الواقع.وتثور هنا تساؤلات أساسية: ما المفاهيم الجوهرية في الهندسة التي يجب تحديدها لتأسيس فلسفة للهندسة؟ وما المفاهيم الفلسفية التي يمكن توظيفها في صياغة هذه الفلسفة؟ إن المهندس الملمّ بفلسفة الهندسة والمبادئ المنطقية قادر على ابتكار حلول بديلة للواقع القائم، إذ لا تقتصر قيمة المهندس على المعرفة الثابتة، بل تكمن في ديناميكية التفكير الفلسفي التي تمنحه الحيوية والفاعلية والنجاح في مساره المهني.(18)
تتسم مهام المهندسين بتنوّع كبير، يشمل: التصميم، والتشخيص، والبحث لتطوير المنتجات، والتصنيع، وإدارة المشروعات، والهندسة الموجهة للمبيعات، إضافة إلى التعليم. كما يعملون في صناعات متعددة، وفي مشروعات تختلف من حيث الميزانية، والوقت، والمواد، والسوق.(19)
لذلك ينص الميثاق الملكي الخاص بمؤسسة المهندسين المدنيين، والذي يعود تاريخه إلى عام 1829، على أن مهنة الهندسة المدنية تُعرَّف بأنها "فن استخدام القوى الطبيعية العظيمة في خدمة الإنسان وراحته". كما جاء في إحدى الفقرات اللاحقة أن "الأعمال والخدمات" التي يقوم المهندسون بإنشائها أو تقديمها "تسهم في تعزيز رفاهية البشرية، مما يتطلب مستوى عاليًا من المعرفة والخبرة المهنية لتحقيق أفضل استخدام للموارد المحدودة، مع الأخذ بعين الاعتبار الحفاظ على البيئة ودعم الصحة والسلامة العامة".(20)
تؤكد المهام الهندسية أن الهندسة ليست مجالًا أحادي الوظيفة، بل تشمل أدوارًا بحثية، إنتاجية، تعليمية، وإدارية، مما يزيد من أهمية النظرة الفلسفية التي تمنح المهندس مرونة فكرية للتعامل مع هذا التنوع.
ومن خصائص المهندس التفكير العملي وإيجاد حلول قابلة للتطبيق، وهي قدرات تدعمها المقاربات الفلسفية. وعندما تُرفع المعرفة الفلسفية الهندسية إلى مستوى التطبيق العملي، يمكن للمهندس توظيفها في السياقات المناسبة، كما يمكنه نقلها إلى الأجيال الجديدة بصورة مبسّطة وفق مبادئ فلسفة الهندسة، ما يعزز قدرته على إنتاج المعرفة وتوظيفها في الأوقات والمواضع الملائمة لمعالجة المشكلات.(21)
منذ بداياتها، أولت الهندسة اهتمامًا كبيرًا بقضايا التعليم، لا سيما في الولايات المتحدة، بدرجة تفوق المهن العلمية الأخرى. فبالمقارنة مع الأطباء أو المحامين وأساتذتهم، نجد أن المهندسين وأساتذة الهندسة خاضوا نقاشات معمّقة حول محتوى المنهج الهندسي وبنيته المثلى. وقد انشغلوا بطبيعة التعليم الهندسي ربما أكثر مما انشغل الفلاسفة بتعليم الفلسفة. وأي فحص نقدي لمسألة التعليم ينطوي بالضرورة على قضايا فلسفية، تمتد من العلاقة بين المعرفة والفعل، إلى الأبعاد الأنثروبولوجية والسياسية للتعلّم، وإن لم يُصرَّح بها دائمًا. وبقدر ما تسعى فلسفة الهندسة إلى إظهار ما هو ضمني، فإنها تُعمّق النقاش حول التعليم الهندسي.(22)
كل هذا يكشف عن تقليد طويل من الانشغال بجودة التعليم الهندسي، بل تفوقه على مثيله في مجالات علمية أخرى، ما يعكس إدراكًا مبكرًا لأهمية البنية التعليمية في تشكيل الممارسة الهندسية.
ينطلق المهندس في تصميمه من مشكلة، أي من حالة جهل تُعَدّ نقصًا في المعرفة، وهو ما يعادل طرح سؤال يوجّه نحو غاية محددة. ويتطلب ذلك معرفة بالوسائل التي تحقق الغاية، وبكيفية الحصول عليها وتوظيفها، ومعرفة بالقيم الكامنة خلف الهدف، وبكيفية تعديل هذا الهدف في ضوء تلك القيم عند الحاجة. وترتبط هذه العملية بفرضيات إبستمولوجية تتجاوز العقلانية النظرية والعملية، لتشمل التفكير الغائي القائم على القدرة الانعكاسية في إصدار الأحكام.(23)
يثير هذا السؤال إشكالية لافتة: إذا كانت الهندسة بطبيعتها متصلة بالفكر الفلسفي، فما الفائدة التي يجنيها المهندس من دراسة الفلسفة؟ يمكن تناول هذا السؤال من زوايا متعددة، غير أن أحد أبرز الجوانب يتمثل في تنمية التفكير النقدي، الذي يُعد من المهارات المطلوبة بشدة في مختلف التخصصات. فهذا التفكير يقوم على تجاوز الأطر التقليدية والنظر إلى القضايا من زوايا غير مألوفة. وفي هذا السياق، أشار مايكل بروكس في مجلة New Scientist إلى الحاجة إلى "مفكرين مرنين" بدلاً من الاقتصار على تخريج المزيد من المتخصصين في مجالات العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات. وعلى المستوى التعليمي، لفت ديفيد غولدبرغ الانتباه إلى ما سماه "المناهج المكسورة" في التعليم الهندسي الجامعي، مؤكداً ضرورة إدماج مهارات التفكير النوعي ذات الجذور الفلسفية. ومن هنا تبرز الفلسفة كأداة مثالية لصقل شخصية "المهندس المفكر"، باعتبارها علماً متشعباً أثبت حضوره في مختلف الحقول.(24)
لا شك أن المهندس المتأمل ذو النزعة الفلسفية سيكون أفضل أداءً. فقد جادل شون (Schön, 1983) بأن الممارسين في مجالات متعددة يستطيعون تحسين أدائهم عبر إدماج التأمل في حياتهم المهنية، ليس بصورة مستمرة، بل في اللحظات المناسبة أثناء العمل أو بعد إنجازه. فبعد كل مشروع، ينبغي للمهندس مراجعة ما قام به، وكيف قام به، وما كان يمكن تحسينه. ورغم أن معظم الناس يمارسون ذلك بدرجة ما، فإن تحويله إلى ممارسة منهجية يُسهم في تحسين الأداء المهني، ويفتح المجال للتفكير العميق في أسس الممارسة الهندسية، وفحص الفلسفة الضمنية التي توجهها، بما يتيح فرصة لجعلها أوضح وأدق صياغة.(25)
وهكذا يجب دمج التأمل كأداة تطوير ذاتي ومهني، بما يجعل الفلسفة ممارسة حية داخل العمل الهندسي، وليست مجرد إطار نظري.
الخلاصة: ان العلاقة بين الفيلسوف والمهندس هي علاقة تكامل لا تناقض، فالفيلسوف يمنح المهندس الإطار المفاهيمي الذي يضبط منهجه ويكشف أبعاده الأخلاقية، والمهندس بدوره يمنح الفيلسوف برهانًا عمليًا على صلاحية الفكر وقدرته على تغيير الواقع. وحين يدرك المهندس أهمية التفكير الفلسفي، يصبح أكثر قدرة على ابتكار حلول مستدامة ومسؤولة، وحين يستلهم الفيلسوف من إبداعات الهندسة، تتجدد أسئلته وتُختبر أفكاره أمام تحديات العصر. وبذلك، فإن الفيلسوف والمهندس يشتركان في مهمة واحدة: فهم العالم والعمل على تحسينه، أحدهما بالعقل المجرد، والآخر بالفعل الملموس، في تآزر يثري كليهما ويخدم الإنسان والمجتمع.
المحور الرابع: فلسفة التعليم الهندسى
يُعَدّ التعليم الهندسي ركيزة أساسية في تطوّر المجتمعات الحديثة، إذ يجمع بين المعرفة العلمية الدقيقة والمهارات التطبيقية المتقدمة، في إطار تحكمه القيم الأخلاقية للممارسة المهنية. ومع تسارع التحولات التكنولوجية وتزايد التحديات البيئية والاقتصادية والاجتماعية، أصبح التعليم الهندسي مطالبًا بتجاوز نقل المعارف التقنية نحو بناء عقلية نقدية قادرة على التفكير المنهجي، وحل المشكلات بطرق مبتكرة، واتخاذ قرارات مسؤولة أخلاقيًا. ومن ثمّ تبرز الحاجة إلى رؤية فلسفية شاملة للتعليم الهندسي تجمع بين الأسس العلمية والبعد الإنساني ودور المهندس في خدمة المجتمع، بما يضمن مخرجات تعليمية قادرة على الإسهام في التنمية المستدامة وتعزيز الازدهار الوطني، وهذا ماسوف نشرحه فى الصفحات التالية.
إن تحقيق نتائج مثلى في ميدان التدريب الهندسي يتطلب أن يركّز النظام التعليمي على ترسيخ النقاش النقدي وتنمية التفكير العقلاني، بدلًا من الاقتصار على الحفظ الآلي. فغياب البعد الفلسفي في التعليم يحصر عملية التعلم في التلقين الجامد، بينما تعمل الفلسفة والمنطق على تحرير الذهن من القيود، وتفتح المجال أمام النقد المستمر وتطوير المعرفة بشكل متجدد. إن فلسفة الهندسة، بوصفها إطارًا فكريًا، توجّه المهندسين نحو الابتكار واستكشاف تقنيات غير مألوفة. فالاختراع يرتبط بتراكم معرفي نقدي يربط بين المعلوم والمجهول، ويحفّز العقل على الخوض في مناطق معرفية جديدة لإطلاق الإبداع. أما الانغلاق في حدود المعرفة الراهنة فيؤدي إلى إنتاج أنماط متكررة، ويفتقر إلى روح التجديد الفلسفي. ومن ثم فإن الحماس للبحث، المستند إلى فلسفة العلم والهندسة، يُعدّ شرطًا أساسيًا لتنمية المهارات الهندسية.(26)
وبذلك يجب دمج الفلسفة في التعليم الهندسي، حيث توجد علاقة الجوهرية بين الإبداع والقدرة النقدية. فلسفة الهندسة هنا ليست ترفًا فكريًا، بل أداة عملية لإطلاق التفكير غير النمطي. على المستوى المهني، يُترجم ذلك إلى قدرة المهندس على ابتكار حلول غير مسبوقة، وعلى المستوى الفلسفي، يرسّخ قناعة بأن المعرفة الحقيقية تتطلب الانفتاح على المجهول لا الاكتفاء بالمعلوم.
تطرح النظم التعليمية، وخصوصًا في مجال الهندسة، تساؤلات أساسية: هل يمكن للتراكم المعرفي الساكن أن ينتج مهندسين مبدعين ومستقلين؟ وهل يكفي التركيز على الجانب التقني البحت، أم أن دمج العلوم الاجتماعية والفلسفة الإنسانية ضروري لضمان معرفة ديناميكية ومستدامة؟ إن المعرفة اللغوية المؤسسة على مبادئ فلسفية يمكن أن تفضي إلى قواعد منطقية تولّد نتائج مرنة وقابلة للتطوير. وإذا أراد المهندس تبني هذا المسار، فعليه أن يدرّب نفسه على المبادئ الفلسفية والمنطقية من خلال بناء رصيد لغوي ومعرفي قبل الانخراط في الحلول التقنية. وقد أظهر تاريخ العلوم أن الإنسان بدأ مسيرته الفكرية ضمن إطار فلسفي، وجمع معارفه تدريجيًا قبل أن تتبلور الرياضيات والعلوم والهندسة كمجالات مستقلة، ومع ذلك حقق تطبيقات عملية ناجحة بفضل العقل والذاكرة والمنطق، في مسار ديناميكي تقدمي.(27)
وعليه فان فلسفة اللغة والمنطق ليست بعيدة عن الهندسة، بل تشكّل بنيتها التحتية الذهنية. المهندس الذي يمتلك خلفية فلسفية يتمكن من فهم القيم والأخلاقيات والسياقات الاجتماعية لمشاريعه، ما يمنحه رؤية أوسع تتجاوز حدود الكفاءة .
ينبغي أن يتضمن المنهج التدريبي الكلاسيكي لأي مهندس مجموعة من المحاور الأساسية الداعمة لمسيرته المهنية، يمكن إجمالها في ما يلي:
1- إتقان أساسيات الفيزياء والرياضيات الضرورية لفهم المبادئ العلمية التي يقوم عليها العمل الهندسي.
2- الاطلاع على الأنشطة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، إضافةً إلى دراسة تاريخ تطور الهندسة لفهم السياق الأوسع للممارسة المهنية.
3- امتلاك القدرة على تصميم المشاريع الهندسية وتقييمها من حيث الجدوى والتطبيق العملي، مع توظيف المعارف والمهارات المتنوعة في هذا التقييم.
4- الاستفادة من خبرات ومعارف وتساؤلات المهندسين ذوي الكفاءة العالية والخبرة الواسعة.(28)
يمثل إخضاع ممارسات التعليم في الهندسة والتكنولوجيا لفحص نقدي خطوة أساسية لضمان ملاءمتها لمتطلبات العصر. ويقتضي ذلك إعادة النظر في الأساس المعرفي، والمناهج الدراسية، وأساليب التدريس، مع تعميق الوعي بالمسؤوليات العلمية والأخلاقية والمجتمعية والتكنولوجية للمهندسين. كما يستلزم الأمر الاستمرار في إلهام المبتكرين وتشجيعهم على مواجهة تحديات العقود المقبلة. ومن ثم تبرز الحاجة إلى بحث الأساس الفلسفي للهندسة، في أبعاده المعرفية (الإبستمولوجية)، والوجودية (الأنطولوجية)، والأخلاقية، بما يتيح الإجابة عن أسئلة محورية: ما الذي يميز الهندسة عن العلم من جهة والتكنولوجيا من جهة أخرى؟ ما ماهية الهندسة في جوهرها العميق؟ ما المعايير التي تحدد الفرق بين المهندس والتقني؟ وأخيرًا، ما طبيعة المسؤوليات المجتمعية والتكنولوجية الملقاة على عاتق المهندسين في أدوارهم المختلفة؟(29)
ومن الضروري أن يخضع التعليم الهندسي لمعايير دقيقة تستند إلى أسئلة فلسفية وعملية معًا، إذ يمكن للمهندس أن يقدم خدماته لمجتمعه عبر أنشطة متنوعة وتصميمات إنشائية وإجراءات إدارية، إلا أن هذه الخدمات قد تحمل مخاطر على المدى المتوسط أو البعيد. فعلى سبيل المثال، قد يؤدي سحب المياه الجوفية باستخدام مضخات عالية القدرة إلى آثار بيئية وأخلاقية سلبية، ما يجعله مخالفًا لجماليات وأخلاقيات الممارسة الهندسية، خاصة على مستوى الشركات أو الإدارات المحلية.
لذلك، يجب أن تتضمن مراحل التعليم الهندسي التفصيلية الخطوات التالية:
1- تدريس أساسيات الهندسة والرياضيات والمنهجيات العلمية، مع التمكن من التوصل إلى استنتاجات منطقية.
2- استخدام المعلومات العددية واللفظية بشكل رئيس في إعداد التجارب وتصميم الأجهزة عند الحاجة.
3- امتلاك القدرة والمنهجية والبرمجيات اللازمة لمعالجة المعلومات العددية واللفظية بكفاءة.
4- السعي لتحقيق الأهداف المطلوبة من خلال تصميمات مفيدة ومنهجية.
5- تحديد المشكلات الهندسية، وحلولها، وصياغتها، بالإضافة إلى تقييم إمكانية تطبيقها.
6- الالتزام بالمبادئ المهنية والأخلاقية، وتحمل المسؤولية تجاه الأهداف المرجوة.
7- تقديم حلول للمشكلات الهندسية على المستويات المحلية، الإقليمية، والعالمية، مع دمجها لتحقيق التكامل.
8- إدراك أن حل المشكلات الهندسية لا يقتصر على التعليم الجامعي والتدريب، بل يشمل أيضًا الخبرة المكتسبة بعد التخرج من خلال النقد والتفسير المستمر.
9- استكمال المعرفة الأساسية بمراعاة المناهج والمنهجيات الحديثة والمتطورة.
10- بهدف التوصل إلى حلول متكاملة.
11- إتقان استخدام التقنيات العملية والأساليب الحديثة في الأجهزة والتطبيقات الهندسية.
12- إتقان لغة أجنبية واحدة على الأقل، شائعة الاستخدام، لمواكبة التطورات التكنولوجية والعلمية العالمية.(30)
ويمكن تلخيص المتطلبات الرئيسة للتعليم الهندسي في النقاط التالية:
1- تحديد المشكلات الهندسية وزيادة القدرة على إيجاد الحلول.
2- تطوير التصميمات وفق التخطيط والتحقق الميداني.
3- تعزيز مهارات العمل المشترك مع مختلف التخصصات الهندسية.
4- دعم العمل الجماعي داخل التخصص الواحد مع تنوع الأفكار.
5- تشجيع الطلاب على المشاركة في الأنشطة الأكاديمية والاجتماعية.
6- نشر القيم الأخلاقية المهنية خلال فترة التعليم.
7- تنمية مهارات النقاش النقدي لدى الطلاب.
8- تحسين قدرات العروض التقديمية وكتابة التقارير والبرمجيات.
9- تمكين الطلاب من تطبيق منهجيات الحل العملي للمشكلات.
10- تزويدهم بمهارات التعلم مدى الحياة.
11- تنمية القدرة على مشاركة المعلومات وتطبيق التقنيات الحديثة.
12- الحفاظ على مستوى عالٍ من الطموح المهني.(31)
وفي ضوء التحولات الحديثة، يشهد التعليم الهندسي إعادة صياغة جذرية، استجابةً للإمكانات التي توفرها التكنولوجيا التعليمية، وللاحتياجات المجتمعية المستجدة. وقد ظهرت برامج تعليمية متعددة التخصصات ومشتركة التخصصات، وأصبح إلى جانب التعليم الهندسي الأساسي تركيز متزايد على التعليم العام، والابتكار، وريادة الأعمال. كما اندمجت عوالم السوق والجامعة في تفاعل مباشر، مما جعل قضايا المنافسة في التعليم العالي، والقيم الأخلاقية، والنظرة إلى الطالب بوصفه "عميلًا"، موضوعات للنقاش الدولي. وفي هذا الإطار، يظل التعليم الهندسي عنصرًا محوريًا في تحقيق الازدهار الوطني.(32)
الخلاصة: إن فلسفة التعليم الهندسي المعاصر تقوم على مبدأ التكامل بين المعرفة النظرية، والمهارات العملية، والمسؤولية الأخلاقية والاجتماعية. فالهندسة لم تعد مجرد ممارسة تقنية تهدف إلى إنتاج حلول وظيفية، بل أصبحت فعلًا إنسانيًا له تأثير مباشر على حياة الأفراد والمجتمعات، وعلى التوازن البيئي والاقتصادي. وبقدر ما ينجح التعليم الهندسي في ترسيخ قيم الإبداع، والانفتاح على التخصصات الأخرى، والالتزام بالمبادئ المهنية، بقدر ما يصبح المهندس عنصرًا فاعلًا في صياغة المستقبل. ومن هنا، فإن تطوير المناهج، وربطها بالبحث العلمي والابتكار، وتعزيز الوعي الأخلاقي، هو السبيل لضمان أن يظل التعليم الهندسي قوة دافعة للتقدم، وجسرًا بين المعرفة والمجتمع.
ان إدخال الفلسفة في المنهج الدراسي لمرحلة البكالوريوس في الهندسة سيكون أمرًا مفيدًا. إذ يمكن لدراسة تاريخ العلوم والهندسة أن توفر قاعدة صلبة من السياق لطلاب الهندسة، غير أن تدريس مقرر في الفلسفة يمتلك القدرة على تمكين طلاب الهندسة، بل وطلاب الدراسات العليا أيضًا، من النظر إلى أنشطة مهنتهم من منظور جديد. فالهندسة تنطوي على استخدام المعرفة والمساهمة في تطويرها ضمن مجالات واسعة ومتنوعة، كما أن المنطق المستخدم فيها متباين في طبيعته، وتحتوي أغلب الممارسات الهندسية على اعتبارات أخلاقية جوهرية، فضلًا عن أن الجوانب الجمالية قد تكون أساسية في مخرجات العملية الهندسية.وباستخدام الأدوات التي توفرها الفلسفة، سيكون من المفيد لمعلّمي الهندسة أن يعيدوا فحص كيفية صياغة برامجهم التعليمية، مع السعي لتحقيق توازن بين الجوانب العلمية وغير العلمية. وأخيرًا، ينبغي للمهندسين أن يكونوا مسؤولين أمام المجتمع، محليًّا ودوليًّا.(33)
عدسة الفلسفة تُمكِّن المهندسين من النظر إلى الأمور بمنظور أكثر شمولية، لكنها ليست الجانب الوحيد الذي يستحق التركيز الإيجابي داخل إطار الفلسفة. إذ يرتبط تشكيل المهندس بمسارين أساسيين: التعليم والخبرة العملية. لذلك، تصبح الفلسفات العامة للتعليم وفلسفات تدريس الهندسة على درجة عالية من الأهمية والارتباط. علاوة على ذلك، يُبرز هذا الموضوع بشكل خاص في الوقت الراهن بسبب ما يُعرف بمشكلة المناهج الدراسية، حيث تواجه البرامج التعليمية ضغطًا متزايدًا لتضمين مجموعة واسعة من المكوّنات استجابةً لمتطلبات الاعتماد الأكاديمي.(34)
المحور الخامس : فلسفة الهندسة
1- أهمية الفلسفة للهندسة
تُعامَل الهندسة والفلسفة، في التصور الشائع، على أنهما مجالان منفصلان تمامًا، كما لو كان كل منهما جزيرة كبرى تفصلها عن الأخرى مسافة شاسعة من المياه. فكثير من الناس يرون أن الهندسة لا شأن لها بالفلسفة، بل إن بعض المشتغلين بالهندسة – فضلًا عن فلاسفة – يذهبون أبعد من ذلك، معتبرين العلاقة بينهما علاقة توتر أو حتى خصومة. فالهندسة، تقليديًا، تتوزع إلى فروع عدة مثل الهندسة المدنية، والميكانيكية، والكهربائية، والكيميائية، والنووية، وهندسة الحاسوب، في حين تنقسم الفلسفة بدورها إلى مجالات مثل المنطق، ونظرية المعرفة، والميتافيزيقا، والأخلاق، والجماليات، والفلسفة السياسية. وقد درج بعض الفلاسفة، خصوصًا في حقلَي الأخلاق والجماليات، على توجيه النقد إلى مجالات محددة من عالم الهندسة.(35)
تاريخيًا، نشأت الفلسفة في اليونان في القرن الخامس قبل الميلاد كطريقة حياة متميزة، حيث، وفقًا لأرسطو، حلت دراسة الطبيعة (الفيزيس) محل المرويات الأسطورية عن الآلهة. إلا أن الفلسفة المعاصرة نادرًا ما تتناول الطبيعة مباشرة، بل تميل إلى دراسة الظواهر واللغة. أما الهندسة، فقد بدأت في القرنين السابع عشر والثامن عشر كفنّ عسكري مكرس لتصميم آلات الحرب كالمدافع والمنجنيقات، وبناء التحصينات، ثم انتقل مصطلحها إلى "الهندسة المدنية" ليشير إلى نقل تلك المعارف إلى مجالات غير عسكرية.(36)
منذ ستينيات القرن العشرين، وُجّهت انتقادات حادّة للمجتمع الهندسي، متهمةً المهندسين بالمساهمة في تهديد الحضارة عبر تصميم الأسلحة النووية، وتشويه الثقافة الحضرية بأنظمة النقل، وتعزيز النزعات السلطوية بتقنيات الاتصالات، وتجريد الحياة الإنسانية من بعدها الشخصي بوساطة الحواسيب. كما طالتهم اتهامات بتلويث البيئة، وتشويه الفضاء الإنساني بهياكل قبيحة ومنتجات استهلاكية عديمة الجدوى. ورأى مارتن هيدجر أن هذه الإخفاقات الأخلاقية والجمالية تنبع من الموقف الهندسي ذاته، القائم على اختزال الطبيعة إلى "موارد" في إطار من السيطرة يسميه "الجشتل" (Gestell). وقد فُسِّرت أفكاره أحيانًا بوصفها هجومًا على "علوم الاصطناع" عند هربرت سيمون (1969)، بما تحمله من نزعة أنطولوجية اختزالية ورؤية معرفية افتراضية. كما ربطت بعض المفكرات النسويات بين الممارسة الهندسية وهيمنة الذكور، وما يترتب عليها من موت الطبيعة وتلاشي الرعاية بالعالم.(37)
تطرح هذه الانتقادات تحديًا مباشرًا للتعريف الكلاسيكي للهندسة الذي صاغه توماس تردجولد في القرن الثامن عشر، وما زال يتكرر في مصادر مرجعية مرموقة مثل الموسوعة البريطانية وموسوعة ماكجرو- هيل: "الهندسة هي تطبيق المبادئ العلمية للتحويل الأمثل للموارد الطبيعية إلى هياكل وآلات ومنتجات وأنظمة وعمليات تعود بالنفع على البشرية." غير أن النسخة التي قد يخرج بها الخطاب النقدي المعاصر تبدو مغايرة تمامًا، إذ تصوّر الهندسة على أنها "الفنّ العلمي الذي يستخدمه بعض البشر لتدمير الطبيعة وتلويث العالم بطرق عبثية أو ضارة بالحياة الإنسانية."(38)
وتأسيس فلسفة للهندسة يتطلب:
أولا تحديد المفاهيم الأساسية التي تشكّل بنيتها المعرفية والعملية. ومن هذه المفاهيم: طبيعة الهندسة بوصفها نشاطًا علميًا–إبداعيًا، دورها في تحويل الموارد إلى منتجات وأنظمة، علاقتها بالابتكار والتقنية، وأثرها على المجتمع والبيئة. كما يستلزم الأمر تعريف الحدود الفاصلة والروابط المشتركة بين الهندسة وغيرها من التخصصات العلمية والإنسانية.
ثانيًا: إدماج مفاهيم فلسفية مركزية في صياغة هذه الفلسفة، من أبرزها: التحليل المفهومي لفهم الاستخدامات النظرية والعملية للمصطلحات والمفاهيم الهندسية، التأمل النقدي في الممارسة والفكر بهدف تعميق الفهم وتوسيع الرؤية أو نقد الأسس النظرية، والانفتاح على القضايا الشاملة التي تتجاوز حدود التخصص، مثل أسئلة الخير (الأخلاق)، والمعرفة (الإبستمولوجيا)، والوجود (الميتافيزيقا). وتكمن أهمية هذه المقاربة في جعل الفلسفة أداة لفهم الهندسة كجزء من مشروع إنساني متكامل، لا مجرد ممارسة تقنية.(39)
وفى الفلسفة المعاصرة نجد تصورات مختلفة تتعلق بالهندسة، فرغم تنوّع اتجاهاتها، يمكن تمييز سماتها الجامعة في أربعة محاور:
1- التحليل المفهومي: لفهم دقيق للأفكار واستخداماتها النظرية والعملية، بما يشمل المنطق كأداة تنظيم للفكر.
2- التأمل النقدي: لمراجعة الممارسات والرؤى، وتعزيز الفهم أو نقد الأسس المعرفية والقيمية.
3- الانفتاح على القضايا الشاملة: عبر تجاوز التخصص الواحد نحو أسئلة كبرى حول الخير، والمعرفة، والوجود، ما يمنحها طابعًا بين–تخصصي.
4- الفلسفة كأسلوب حياة: حيث تتجاوز الفلسفة كونها نظرية مجردة لتصبح ممارسة عملية توجه فهم الإنسان لواقعه وتضبط سلوكه وفقه.(40)
وتاريخيًا، انبثقت معظم التخصصات الأكاديمية الحديثة من الفلسفة: فقد خرجت العلوم الطبيعية من الفلسفة الطبيعية بفضل أعلام مثل بيكون وديكارت ونيوتن، وتطورت العلوم الاجتماعية انطلاقًا من الفلسفة الاجتماعية لدى ماركس ودوركايم وفيبر، كما نشأت علوم الاقتصاد وعلم النفس والأنثروبولوجيا من رحم التفكير الفلسفي. وبذلك، تحتفظ الفلسفة بموقع مرجعي نقدي يتيح لها التأثير في مسارات المعرفة الأخرى.(41)
الخلاصة: بفضل هذه الخصائص، تملك الفلسفة - أكثر من غيرها من العلوم الإنسانية - قدرة فريدة على إثراء الهندسة، ليس فقط على المستوى المعرفي، بل أيضًا على مستوى توجيه الممارسة المهنية ضمن أطر أخلاقية وإنسانية مستدامة.(42)
وهكذا يمكننا ان نتساءل:
أولًا: لماذا الفلسفة مهمّة للهندسة؟
ويمكن تشبيه الهندسة بالفلسفة، أو على الأقل بفهمٍ معاصرٍ لما تُكوّنه الفلسفة. وقد صرّح آدم مورتون Adam Mortonبأن «الفلسفة أشبه بالهندسة... فهي معنية قبل كل شيء بالموضوعات التي لا يتطابق فيها النظرية مع الدليل توافقًا كاملًا، وحيث تدفعنا الحاجات العملية إلى النظر في نظريات نعلم أنها ليست صحيحة تمامًا. نحن نقبل هذه النظريات غير الكاملة لأننا بحاجة إلى بعض المعتقدات التي ترشدنا في الأمور العملية. لذلك، إلى جانب النظريات، نحتاج إلى قواعد إبهام (rules of thumb) وأنواع مختلفة من النماذج».(43)
تتجلى أهمية الفلسفة للهندسة في ثلاثة أبعاد رئيسية:
1- الدفاع عن الذات: تمكين المهندسين من مواجهة الانتقادات الفلسفية الموجّهة لممارساتهم وتقنياتهم.
2- المصلحة الذاتية: توفير فهم أعمق للسياقات الأخلاقية والاجتماعية المرتبطة بالمهنة، بما يعزّز الوعي بالمسؤولية.
3- المعرفة الذاتية: إدراك أن الهندسة تمثل نموذجًا جديدًا للفلسفة في الحياة اليومية، حيث تتحول الأفكار إلى بنى وأنظمة ملموسة.
يمثّل هذا التداخل الثالث بين الهندسة والفلسفة ما يشبه حركة الصفائح التكتونية في علم الجيولوجيا؛ فهو لا يقتصر على إقامة جسور بين المجالين، بل يشهد تراكبًا حقيقيًا بين “قارات” فكرية، ينتج عنه تغييرات عميقة وإن بدت بطيئة أو غير ملحوظة للوهلة الأولى. وتتطلب هذه العلاقة وعيًا ذاتيًا متزايدًا من الطرفين: الفلاسفة والمهندسين.(44)
ثانيًا: هل يمكن للهندسة أن تُضيف شيئًا للفلسفة؟
عند طرح السؤال: ما الذي يمكن أن تقدّمه الفلسفة - عبر التحليل المفهومي والتأمل النقدي والتفكير البين–تخصصي - للهندسة؟ نجد أن الإجابة تكمن في السؤال ذاته: أليست هذه الصفات كامنة أيضًا في الممارسة الهندسية؟ فالتحليل المفهومي يظهر في صياغة النماذج والتصاميم، والتأمل النقدي يتجلى في مراجعة الحلول والتقنيات، والتفكير البين–تخصصي هو شرط جوهري في مشاريع تجمع بين الفيزياء، والاقتصاد، والبيئة، وعلم الاجتماع.كلما اتسعت قدرتنا على صناعة العالم، اتسع وعينا بأنه عالم مصنوع. لقد انتقل الإنسان من العيش في عالم طبيعي، إلى عالم "مصنوع يدويًا"، ثم إلى عالم مُهندَس بالكامل. في هذا الانتقال، برزت تحولات فلسفية جذرية: أُعيد النظر في مفاهيم مثل "الطبيعة" و"الجوهر"، وحلّت "العملية" محل "المادة"، وأصبحت المعرفة مؤطرة بالاقتصاد والسياسة بقدر ما هي نتاج منهج علمي، كما احتلت القضايا الأخلاقية صدارة النقاشات العامة والمهنية.(45)
ثالثًا: ما هو البعد الأخلاقي والمعرفي والجمالي للهندسة
مجالات مثل: أخلاقيات الطب، وأخلاقيات البيئة، وأخلاقيات الحوسبة، وأخلاقيات الهندسة تمثل مجرد قمة جبل جليد فلسفي في عالم يشهد:
1- طفرات ميتافيزيقية: من الكوزمولوجيات العلمية إلى وجوديات المخاطرة والواقع الافتراضي.
2- انفجارات معرفية: من الإحساس عن بُعد إلى الذكاء الاصطناعي والمعلومات كسلعة.
3- تركيبات جمالية جديدة: من المواقع التفاعلية إلى التمثيلات البصرية والرسومية.
اليوم، كل شيء - من الطعام والسكن والنقل والاتصالات إلى الفن والأدب - يخضع لإعادة تشكيل هندسية. التكنولوجيا تتخلّل العالم، والفلسفة تتخلّل التكنولوجيا. نحن نعيش في عالم مشبع بالتكنولوجيا، لكن هذه التكنولوجيا نفسها مشبعة بالفكر الفلسفي. بل إن التحولات في "عالم الحياة" التي تناولتها فلسفات ما بعد الحداثة هي ذاتها التي يصنعها المهندسون - لكنهم غالبًا يلتزمون الصمت، الأمر الذي يؤدي، على نحو مفارِق، إلى تهميش دورهم رغم أنهم من يشكّلون البنية التحتية الثقافية للعصر.(46)
لتناول الصلة الخاصة بين الأخلاق والجماليات في الهندسة يكفي الإشارة كمثال إلى مركز الأخلاقيات للهندسة والعلوم في جامعة كيس ويسترن ريزيرف، حيث يذكر على موقعه أن مهمته هي "تزويد المهندسين والعلماء وطلاب العلوم والهندسة بالموارد اللازمة لفهم المشكلات ذات الأبعاد الأخلاقية المهمة التي تنشأ في عملهم، ومعالجتها، وخدمة أولئك الذين يعززون التعلم ويدعمون فهم البحث والممارسة المسؤولة في العلوم والهندسة".(47)
يمكن توضيح العلاقة بين الفلسفة والهندسة من خلال المثال التالي:
يُعد مركز زيروكس للأبحاث (Xerox PARC) أحد أبرز مؤسسات الابتكار في القرن العشرين. ففي ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، طوّر المركز تقنيات رائدة مثل: واجهات المستخدم الرسومية (GUI)، وفأرة الحاسوب، والمفاهيم الأساسية للحوسبة الشخصية. ومع ذلك، أخفقت الشركة الأم في استثمار هذه الابتكارات تجاريًا.جزء من نجاح المركز كان نتيجة تفاعله العميق مع الثقافة والفكر الفلسفي، لكن هذا التفاعل لم يُترجم إلى رؤية استراتيجية فعّالة. على سبيل المثال، كان رئيس التكنولوجيا بالمركز، مارك وايزر (Mark Weiser)، متأثرًا بأعمال فلاسفة ومفكرين كبار مثل هربرت سيمون، ومايكل بولاني، وهانز–جورج جادامر، ومارتن هايدجر. وقد صاغ وايزر مفهوم الحوسبة المنتشرة (Ubiquitous Computing – UbiComp)، الذي يقوم على دمج الحواسيب بسلاسة في تفاصيل الحياة اليومية، بحيث تختفي الأجهزة عن الأنظار وتبقى التجربة في المقدمة.(48)
من منظور فلسفي، يمكن القول إن المهندسين يعيشون "ما بعد الحداثة" من خلال ممارساتهم التصميمية، حتى وإن لم يُسمّوا ذلك صراحة. فعملية التصميم الهندسي تجسّد مبادئ ما بعد الحداثة مثل: اللاتمركز، وتعدّد الحدود، والنظام الناشئ؛ وهي سمات يتناولها الفلاسفة بالنقاش، لكن المهندسين يطبّقونها عمليًا دون أن يعلنوا عنها كإطار فكري.(49)
الخلاصة: المهندسون، في هذا السياق، هم "الفلاسفة غير المعترَف بهم" في عالم ما بعد الحداثة. فالهندسة المعاصرة لم تعد مجرّد تطبيق تقني للعلوم، بل أصبحت طريقة فلسفية لعيش الحياة وصياغة العالم. ومن هنا تأتي الدعوة:"أيها المهندسون في العالم، تفلسفوا! ليس لديكم ما تخسرونه… سوى صمتكم."(50)
رابعا: هل يوجد مبرر للمهندسين لتجاهل الفلسفة؟
رغم أن الفلسفة لم تولِ الهندسة الاهتمام الكافي، فإن ذلك لا ينبغي أن يكون مبررًا للمهندسين لتجاهل الفلسفة. ذلك أن للفلسفة أهمية بالغة للهندسة لثلاثة أسباب رئيسة:
أولًا، تزوّد الفلسفة المهندسين بالأدوات الفكرية لفهم النقد الفلسفي الموجَّه إلى مهنتهم والدفاع عنها. وهناك بالفعل تقليد فلسفي مرتبط بالهندسة، غير أن هذا التقليد أُهمل حتى من قِبَل المهندسين أنفسهم.
ثانيًا، تُعد الفلسفة - ولا سيما الأخلاق التطبيقية - أداة أساسية لمساعدة المهندسين على التعامل مع المسائل الأخلاقية والمهنية المعقدة، وهو ما تؤكده الدراسات التحليلية لمقررات "أخلاقيات المهنة" ضمن برامج تعليم الهندسة في الولايات المتحدة.
ثالثًا، نظرًا للطبيعة المفهومية والثقافية الجوهرية للهندسة، فإن الانشغال الفلسفي بماهيتها ومعانيها يمثل ضرورة معرفية ومهنية في آن واحد.(51)
وعلى عكس التصور السائد، تمثل الفلسفة عنصرًا محوريًا في بنية التفكير الهندسي. فإهمال المهندسين وطلبة الهندسة - فضلًا عن مستخدمي منتجاتها وخدماتها - للتحليل والتأمل الفلسفي، ينطوي على خطأ مزدوج: خطأ تاريخي يتمثل في تجاهل الإرث الفلسفي للهندسة، وخطأ مهني يتمثل في فقدان أدوات التفكير النقدي الضرورية لمواجهة التحديات المعاصرة. وفي المقابل، تظل الهندسة أيضًا ذات أهمية للفلسفة، إذ لم يبذل الفلاسفة جهدًا كافيًا لفهم الواقع التقني الذي يبادرون في كثير من الأحيان إلى نقده. ولو صحّح الفلاسفة هذا الموقف، لأصبحت الفلسفة أكثر إسهامًا في تطور الهندسة مما هي عليه الآن.(52)
الفلسفة تحتاج الهندسة بقدر ما تحتاج الهندسة الفلسفة. هذا التوازن في الطرح يضيف بعدًا نقديًا للموقف، فهو لا يضع المهندسين في موقع المتلقي السلبي، بل في موقع الشريك الفكري.
خامسا: لماذا إذًا يحتاج المهندسون إلى الفلسفة؟
1- تنبع حاجة المهندسين إلى الفلسفة من سببين رئيسين: الدفاع أمام النقد الفلسفي ومعالجة التحديات الأخلاقية والمهنية الداخلية.
أولًا، يواجه المهندسون منذ قرون نقدًا فلسفيًا واسع النطاق، ما دفع بعضهم إلى دراسة الفلسفة بوصفها أداة دفاعية لبناء حصون فكرية تُمكّنهم من مقاومة هذا النقد. ومن هنا نشأت مدرسة متميزة من "الفلاسفة المهندسين" - وهي مدرسة لم تحظَ حتى اليوم بالاعتراف الكافي، سواء في المعاهد والكليات الهندسية أو في كليات الآداب التي تُدرّس الفلسفة. من أبرز رموز هذه المدرسة:
1- إرنست كاب (1808–1896): فيلسوف ألماني معاصر لماركس، هاجر إلى تكساس وأصبح رائدًا في مجاله هناك. رأى في التكنولوجيا امتدادًا معقدًا للقدرات البشرية، وكان أول من صاغ مصطلح "فلسفة التكنولوجيا" أو "فلسفة الهندسة".
2- بيتر إنجلمان (1855–حوالي 1941): من مؤسسي الهندسة الاحترافية في روسيا، دعا إلى تعليم غير تقني للمهندسين يشمل إدراك التأثيرات الاجتماعية للتقنية.
3- فريدريش ديساور: مخترع العلاج بالأشعة السينية العميقة، ومعارض للنازية، تحاور مع فلاسفة كبار مثل كارل ياسبرز، أورتيغا إي غاسيت، ومارتن هايدغر. قدّم تفسيرًا فلسفيًا للهندسة باعتبارها تجربة تتجاوز الظواهر لتلامس "الشيء في ذاته".
4- صامويل فلورمان: مهندس مدني في نيويورك، دافع عن الهندسة بوصفها نشاطًا إنسانيًا ذا قيمة وجودية، لا مجرد وسيلة لتحقيق أهداف خارجية.(53)
الخلاصة : أن الفلسفة تمثل درعًا فكرية للمهندس أمام النقد، وأن بعض المهندسين تبنّوها فعلًا كجزء من تكوينهم المهني.. فالفلسفة، بفروعها ولغتها وأدواتها، تقدّم للمهندس الكثير من الإمكانات لفهم ذاته، ومن ثم ربط هذا الفهم بالمجتمع الأوسع.(54)
ومن المؤكد أن الاعتبارات الفلسفية أصبحت في الوقت الراهن ذات صلة وثيقة بمهنة الهندسة، وهو ما يتضح من مبادرة الأكاديمية الملكية للهندسة في المملكة المتحدة، التي نشرت مؤخرًا مقالًا يمهّد لمشروع بعنوان "فلسفة الهندسة". ويهدف هذا المشروع عمومًا إلى تحقيق فهم أعمق لطبيعة مهنة الهندسة والانضباط الأكاديمي المرتبط بها.(55)
2- تُعدّ الفلسفة، ولا سيما الأخلاق، ضرورة داخلية للممارسة الهندسية، إذ يواجه المهندسون قضايا مهنية لا تكفي الحلول التقنية وحدها لمعالجتها، مثل التساؤل: ما الذي ينبغي فعله؟ وكيف ينبغي إنجازه؟ وهذه أسئلة قيمية تتجاوز حدود الحسابات والمعادلات. ويرى كلايف دايم أن البعد الجمالي – وبالتالي الأخلاقي – يُستبعد أحيانًا من تحليل التصميم لأغراض التبسيط، غير أنه يؤكد أن الاعتبارات الأخلاقية تظل حاسمة في صياغة القرارات الهندسية، ولا سيما فيما يتصل بالسلامة والمخاطر وحماية البيئة، وهي قضايا تستلزم إصدار أحكام معيارية دقيقة لتقدير آثارها في التصميم.(56)
بهذا المعنى، تمثل الأخلاق - بوصفها فرعًا من الفلسفة - ضرورة عملية داخلية في المهنة الهندسية، وهو ما تعترف به الأوساط المهنية ذاتها. ولتوضيح هذه النقطة على نحو أعمق، يمكن مقارنة دور العلوم من جهة، والفنون الليبرالية (العلوم الإنسانية والاجتماعية) من جهة أخرى، في تعليم المهندسين.وتبرز هنا دراسة حالة تتعلق بنظام اعتماد مناهج التعليم الهندسي في الولايات المتحدة، من خلال مجلس الاعتماد للهندسة والتكنولوجيا (ABET) الذي تأسس في صورته الأولى عام 1932 بوصفه مجلس تطوير المهندسين المحترفين. هذا المجلس يضع المعايير التي تحدد متطلبات التعليم الهندسي، بما في ذلك إدماج البعد الفلسفي والأخلاقي في تكوين المهندس.(57)
المعايير الحالية لـ ABET
تشترط البرامج الهندسية المعتمدة من مجلس الاعتماد للهندسة والتكنولوجيا (ABET) حدًّا أدنى من المحتوى الأكاديمي موزعًا على النحو الآتي:
1- سنة دراسية كاملة على الأقل في الرياضيات والعلوم الأساسية.
2- نصف سنة دراسية في العلوم الإنسانية والاجتماعية.
3- سنة ونصف في الموضوعات الهندسية التخصصية.
إلى جانب ذلك، تتضمن البرامج مقررات إلزامية لتطوير المهارات اللغوية، مثل الكتابة والتواصل الشفهي. وإذا ما ضُمّت هذه المقررات إلى متطلبات العلوم الإنسانية والاجتماعية، فإن مجموعها يعادل سنة كاملة من الدراسات الإنسانية (studia humanitatis).(58)
2- الاتجاهات النقدية في فلسفة العلم وتمهيدها لفلسفة الهندسة
مهّد نقد توماس كون Thomas Kuhn وكارل بوبر Karl Popper لفلسفة العلم الطريق نحو فلسفة الهندسة، عبر مراجعة التصور الوضعي المنطقي الذي رأى البحث العلمي عملية منطقية- رياضية مستندة إلى الفيثاغورية وجاليليو، ومُعززة بنجاحات نيوتن. اعتبر الوضعيون أن فهم الطبيعة الأمثل يتم بالمنهج المنطقي- الرياضي، حتى أن بعض العلماء، مثل ستيفن هوكينج Stephen Hawking، توقعوا أن تتمكن الحواسيب المبرمجة منطقيًا من القيام بالبحث العلمي مستقبلًا.(59)
لكن انتقادات كون وبوبر كشفت عن محدودية هذا النموذج:أظهر كون أن تقدم المعرفة لا يحدث عبر تراكم خطّي ومستمر، بل من خلال ثورات مفهومية تقطع مع النماذج السابقة، بحيث يفتح كل تحول نوعي مجالًا لأسئلة جديدة لم يكن ممكنًا طرحها ضمن الإطار القديم.أما بوبر، فركّز على فكرة أن العلم يتطور من خلال التفنيد لا من خلال التراكم، وأن قابلية النظرية للدحض هي معيارها العلمي.(60)
هذه الرؤية الثورية لطبيعة المعرفة تقترب كثيرًا من عملية التصميم الهندسي، التي لا تسير بدورها على خط واحد، بل تنبثق من القفزات الإبداعية التي يفرضها البحث عن حلول جديدة. تمامًا كما أن كل نموذج علمي جديد يولّد مشكلات لم تكن مطروحة سابقًا، فإن كل حل هندسي ناجح يفتح الباب أمام تحديات جديدة ومسارات مبتكرة. من هنا، يتضح أن فلسفة الهندسة يمكن أن تستفيد من النقد الإبستمولوجي لكون وبوبر، ليس فقط لفهم العلم، بل لتطوير تصور أعمق لدينامية الإبداع الهندسي نفسه.
استنادًا إلى ما سبق طرحه، يمكن توضيح التحوّل من نظرة "المتفرج العلمي" إلى نظرة "المشارك الهندسي" من خلال أمثلة إضافية: أحدها من الفلسفة البراجماتية، والثاني من علم الأحياء وعلم الاجتماع والاقتصاد، والثالث من صميم الممارسة الهندسية نفسها.
1- معيار رويـس للاتساق الذاتي المرجعي
قدّم جوزايا رويـس دعمًا لتحوّل جون ديوي من موقف المتفرج إلى المشارك، عبر معيار الاتساق الذاتي الذي يشترط أن يفسّر أي نموذج للكون نفسه، بما في ذلك العالِم وطريقته في إنتاج المعرفة. فالمعرفة، عند رويـس، لا تكتمل إلا بمشاركة فعلية وتجريبية، ما يجعل التعلم عنصرًا بنيويًا في كل فهم للعالم، وهو ما ينسحب على الممارسة الهندسية حيث يتضمن أي تصميم تصورًا لدور المهندس وسياق عمله.(61)
2- مكانة الهندسة في التطور البيولوجي والاجتماعي- الاقتصادي
يكشف التباين بين النموذج النيو- دارويني والنموذج الهندسي عن اختلاف جذري في فهم الحياة: فالأول يراها نتاجًا عشوائيًا للطفرات والانتقاء الطبيعي بلا غاية مسبقة، كما أكّد ستيفن جاي جولد، بينما الثاني يبرز الكائنات ـ وخاصة الإنسان ـ كفاعلين يعيدون تشكيل بيئتهم ويبتكرون حلولًا للتحديات. وهكذا تتحول الهندسة من مجرد نشاط تقني إلى فلسفة مشاركة واعية في صنع شروط الوجود، مقابل فلسفة المشاهدة.(62)
يبدو تطوّر الحياة، في منظور العلم الكلاسيكي، سلسلة أحداث عشوائية محكومة بالصدفة، بينما يكشف المنظور الهندسي عنها كقفزات تصميمية وابتكارات إبداعية. وهذا يتضح خصوصًا عند استحضار داروين الذي استلهم "الانتقاء الطبيعي" من "الانتقاء الاصطناعي" في تربية الكائنات؛ إذ إنّ الأخير يمثّل ممارسة تصميمية واعية، لا مجرد حالة فرعية ضمن آليات طبيعية غير موجَّهة.(63)
يمثل الانتقال من النموذج النيو- دارويني إلى النموذج الهندسي تحولًا في فهم آلية التطور؛ إذ لم يعد الاصطفاء يُنظر إليه بوصفه عملية عشوائية، بل باعتباره اختيارًا متعمّدًا. ويعزز هذا التصور ما تطرحه الفيزياء الكمومية من فكرة شمولية الاختيار. ووفق المنظور الهندسي، لا يقتصر هذا الاختيار على التكيف مع بيئات ثابتة، بل يهدف إلى التعلم وتوسيع فرص البقاء عبر خلق بيئات جديدة غير متوازنة. وفي هذا السياق، يرى جيمس شابيرو (James A. Shapiro) أن الطفرات البيولوجية موجّهة وليست مجرد أخطاء عشوائية، بينما يعتبر روبرت ريد (Robert Reid) أن هذه التغيرات تمثل استراتيجية تجريبية لتعزيز القدرة على التكيّف واستكشاف مجالات جديدة للتطور.(64)
3- نموذج "بيوسوما" الهندسي لجورج بوجلياريللو
يطرح نموذج "بيوسوما" الهندسي الذي قدّمه جورج بوجلياريللو رؤية مغايرة للمنظور النيو- دارويني، إذ يرى أن التقدّم الهندسي الحديث يحدّ من فاعلية الانتقاء الطبيعي، لأنه يسمح ببقاء أفراد كانوا سيُستبعدون في الظروف الطبيعية. فعلى سبيل المثال، مكّن اكتشاف الأنسولين مرضى السكري من النوع الأول من النجاة، كما أدّت العلاجات الطبية الحديثة لمرض التليف الكيسي إلى رفع متوسط أعمار المصابين من نحو 12 عامًا في عشرينيات القرن العشرين إلى حوالي 46 عامًا اليوم. ويؤكد توماس ماكيون (Thomas McKeown) أن جانبًا كبيرًا من التحسّن الصحي في الدول الصناعية يعود إلى إنجازات هندسية وقائية، مثل تنقية المياه، التي أتاحت لأشخاص ذوي مناعة ضعيفة البقاء والتكاثر. وبذلك، يشكّل التقدّم الهندسي تحديًا جوهريًا للإطار النيو- دارويني التقليدي الذي يجد صعوبة في تفسير هذه الظواهر.(65)
على عكس التصورات التي تنظر إلى الهندسة باعتبارها نشاطًا مصطنعًا أو مناقضًا لمسار التطور الطبيعي، يرى المهندس البارز جورج بوجلياريلو (2003) أن الهندسة الحديثة تمثل امتدادًا منسجمًا وعضويًا لمسار التطور البيولوجي. فوفق رؤيته، يمكن قراءة تاريخ الحياة على الأرض بوصفه مشروعًا هندسيًا متناميًا، تتجلى فيه عمليات الابتكار والتكيف على نحو مستمر. ويؤكد بوجلياريلو وزملاؤه أن الهندسة ليست نشاطًا فرديًا فحسب، بل هي أيضًا ممارسة اجتماعية تشكّل جزءًا من البنية الثقافية والحضارية للمجتمعات. وفي إطار نظريته "البيوسوما" (Biology–Society–Machine)، يُعاد تفسير التطور البيولوجي باعتباره عملية تعليمية تطورية ذاتية التمكين، تقوم على التجريب المستمر والتطوير الذاتي، وتؤدي إلى ابتكار أساليب جديدة أكثر قوة وتنوعًا لأداء المهام، وحل المشكلات، وصياغة بيئات مستقبلية أكثر ملاءمة.(66)
الكوزمولوجيا الهندسية تصور فلسفي يرى الكون نتاج عمل "مهندس أعظم" كما في حوار طيماوس لأفلاطون، حيث كل عناصره تجليات لعقل هندسي كوني.تستلهم هذه الرؤية "إشراقة كارنو" التي تدرك أن العمليات غير مثالية، خلافًا للتصور الميكانيكي الكلاسيكي، مما يجعل الديناميكا الحرارية الهندسية أوسع وأكثر واقعية.وتنسجم مع الفلسفة البراجماتية لجون ديوي وتعريف هربرت سايمون للهندسة كسعي لبناء مستقبل أفضل، غايتها النهائية "بناء الخير".(67)
لماذا يُطلب من المهندسين دراسة العلوم الإنسانية؟يؤكد معيار ABET أن دراسة العلوم الإنسانية والاجتماعية للمهندسين ليست مجرد إضافة ثقافية تهدف إلى توسيع أفق المعرفة، بل هي عنصر جوهري يخدم أهداف المهنة الهندسية ذاتها. فهذه الدراسات تُسهم في تنمية وعي المهندسين بمسؤولياتهم الاجتماعية، وتمكّنهم من إدراك أثر قراراتهم على الأفراد والمجتمعات، وأخذ العوامل الاجتماعية والإنسانية في الحسبان عند صياغة الحلول الهندسية. ويشدد المعيار على أن إدماج مقررات العلوم الإنسانية والاجتماعية في البرامج الهندسية أمر لا غنى عنه، إذ لا يمكن المبالغة في التأكيد على أهمية هذه الفلسفة التربوية في إعداد مهندس متكامل قادر على العمل بمسؤولية ورؤية شاملة.(68)
تنبع أهمية هذا التوجه من أن الهندسة ليست نشاطًا تقنيًا بحتًا، بل عملية إنسانية–اجتماعية معقدة. فالمهندس الذي يفتقر إلى الخلفية الإنسانية قد يقدّم حلولًا مثالية من الناحية التقنية لكنها غير ملائمة ثقافيًا أو أخلاقيًا، أو قد تغفل الأبعاد البيئية والاجتماعية للمشكلة. إدراج العلوم الإنسانية في تعليم المهندسين يضمن أن المخرجات الهندسية تراعي القيم الإنسانية، وأن المهندس يصبح عنصرًا فاعلًا في خدمة المجتمع لا مجرد منفّذ للتقنيات.
يلاحظ أن تعريف ABET للتصميم الهندسي يتجنب، بمهارة، الإشارة إلى الغاية الجوهرية التي يتضمنها التعريف الكلاسيكي للهندسة. فبينما يرى "تردغولد" أن الهندسة هي "تطبيق المبادئ العلمية من أجل المنفعة البشرية"، تكتفي ABET بوصفها كعملية تهدف إلى تلبية "احتياجات مطلوبة" أو تحقيق "أهداف محددة". وكما تمثل الرياضيات والعلوم الأساس النظري للعلوم الهندسية، فإن الفنون الليبرالية تُشكّل القاعدة الفكرية للتصميم الهندسي. بل يمكن القول إن التصميم الهندسي هو في جوهره تطبيق إبداعي لأنماط التفكير والمثل العليا المستمدة من العلوم الإنسانية والاجتماعية، بما يربط التقنية بالإنسان ويجعل الابتكار أكثر وعيًا بسياقه الاجتماعي والثقافي.
يمكن توضيح أهمية دمج البعد الإنساني في التعليم والممارسة الهندسية من خلال مثالين:
1- فاوست – المثال الأدبي: في الجزء الثاني من مسرحية فاوست لغوته، يتحول البطل إلى مهندس مدني يشق القنوات ويصرف المستنقعات، محققًا إنجازات تقنية بارزة، لكنه يتسبب - من غير قصد - في مقتل أبرياء. يكشف هذا المثال عن خطورة الانفصال بين الكفاءة التقنية والوعي الأخلاقي.
2- بيتر بالتشينسكي – المثال الواقعي الرمزي: مهندس روسي رفض فصل المعرفة التقنية عن المبادئ الإنسانية، فدفع حياته ثمنًا لذلك، حيث أعدمه ستالين. لاحقًا، عاد اسمه في فترة البيريسترويكا رمزًا للضمير المهني والاستقامة الأخلاقية في الهندسة.
من هذا المنطلق، تؤكد معايير ABET أن "القدرة على التواصل ضرورية لخريج الهندسة"، وأن "فهم الاعتبارات الأخلاقية والاجتماعية والاقتصادية والسلامة أمر أساسي لمسيرة هندسية ناجحة". وابتداءً من عام 2000، أُعيدت صياغة المعايير لتشمل 11 مخرجًا للتعلم، من أبرزها:
1- الفهم العميق للمسؤولية المهنية والأخلاقية.
2- القدرة على التواصل الفعّال.
3- تعليم واسع يتيح إدراك الأثر المجتمعي للهندسة.
4- معرفة بالقضايا المعاصرة.(69)
وباختصار، تنظر معايير الاعتماد إلى عناصر تشمل:
1- المعرفة والفهم (الرياضيات، والعلوم، والتقنيات)،
2- تحليل هندسي (بما في ذلك القدرة على تحديد المشكلات وصياغتها)،
التصميم الهندسي،
3- إجراء البحوث (بما في ذلك القدرة على تصميم التجارب)،
4- إدراك الحاجة إلى معايير أخلاقية رفيعة في ممارسة الهندسة مع تحمل مسؤوليات المهنة تجاه البشر والبيئة،
5- العمل في بيئات متعددة التخصصات،
6- والتفاعل مع المجتمع على نطاق واسع.(70)
إن المعايير المهنية للهندسة، كما تصوغها جهات الاعتماد، وما تفرضه من دمجٍ للعلوم الإنسانية والاجتماعية في تعليم المهندس، لا تأتي من فراغ، بل تعكس إدراكًا عميقًا بأن الممارسة الهندسية لا تنفصل عن الأبعاد الأخلاقية والاجتماعية والثقافية. والأمثلة التي عرضناها، من "فاوست" الخيالي إلى بالتشينسكي الواقعي، تُظهر بجلاء أن القرارات التقنية يمكن أن تحمل آثارًا بعيدة المدى على حياة البشر والمجتمع. من هنا يصبح الانتقال إلى طرح أسئلة أعمق أمرًا طبيعيًا؛ أسئلة تمسّ جوهر العلاقة بين الهندسة والفلسفة، ومنها:
1- ما المقصود بـ "التعريفات المقبولة عمومًا" للعلوم الإنسانية والاجتماعية؟ هل هذه التعريفات تاريخية واجتماعية النشأة؟ وهل الفلسفة، بما هي فرع منها، تخضع هي الأخرى للتكوين الثقافي والاجتماعي؟
2- ما الفلسفة أصلًا؟ وما علاقتها بالفنون الليبرالية؟ وهل يمكن أن تكون الفلسفة، لكونها ذُكرت أولًا، أكثر أهمية من غيرها من فروع العلوم الإنسانية؟
3- إذا كانت الفلسفة، وخصوصًا الأخلاق، ذات أهمية للمهنة، فما الذي يمكن أن تقدّمه بشكل ملموس للهندسة؟(71)
3- الأسس الفلسفية والأخلاقية للهندسة
ليس صحيحًا أن الفلسفة أسهمت في تطوّر الهندسة كما فعلت مع العلوم الأخرى، إذ سعت الهندسة دائمًا إلى التمايز عنها، بل والنظر إليها كضدّ. فقد لاحظ "لويس بوتشياريللي" في دراساته أن المهندسين يرون الانشغال بالتأملات الفلسفية أمرًا غير ذي جدوى، بل يُستخدم لفظ "الفلسفة" بينهم بمعنى سلبي. غير أنّه يخلص إلى أن التصميم الهندسي عملية اجتماعية، وحين يواجه المهندسون بدائل متعددة يثور سؤال جوهري: "أيّها أفضل؟" وهو سؤال فلسفي يستدعي التحليل المفهومي والتأمل العقلاني. وهكذا، من غير وعي صريح، أخذ المهندسون يشيدون جسورًا نحو الفلسفة، خاصة في مجال الأخلاق، وأدركوا أن عملهم ينطوي على بُعد أخلاقي عميق.(72)
في هذا السياق، قام عدد من المهندسين البارزين - مثل ستيفن أونجر، رولاند شينزينجر، تشارلز هاريس، مايكل رابنز، آرن فيسيليد، وأليستير جن - بثلاثة إسهامات أساسية:
1- إجراء تحليلات مفهومية لما يُعدّ "صحيحًا" و"خاطئًا" في الممارسة الهندسية.
2- تعميق التأمل في الأبعاد الأخلاقية للتجربة الهندسية.
3- تطوير بحوث بين–تخصصية تتناول مواثيق السلوك المهني، والإجراءات التأديبية، واستراتيجيات التعليم الأخلاقي، وغيرها.(73)
وراء كل هذا، يكمن دافع أخلاقي عميق في جوهر التفكير الهندسي: ضرورة البقاء على اتصال - مع الواقع البشري، ومع حدود الفهم والتنفيذ، لتفادي كثير من الكوارث. فهل نحن جميعًا مهندسون؟ وهل نحن جميعًا فلاسفة؟ في حياتنا اليومية، نقوم بأفعال هندسية (تصميم، ترتيب، تنفيذ...) مثل حزم صندوق بشكل فعّال، أو حل مشكلة في ترتيب المنزل. كما أننا نقوم بأفعال فلسفية، حين نحلل مفاهيم، أو نتأمل في قراراتنا، أو نراجع قيمنا. ولأن المهندسين يمارسون الفلسفة بدرجة ما، والفلاسفة بدورهم يمارسون نوعًا من الهندسة الفكرية، فمن الطبيعي أن يتقاطع المجالان، بل أن يتداخلا تداخلًا حقيقيًا.(74)
قد تكون الهندسة، عبر تاريخها، قد تشكّلت في سياقات اجتماعية وثقافية دفعتها إلى النأي بنفسها عن الفلسفة، كما قد تكون الفلسفة، بدورها، قد نظرت إلى الهندسة بعين التجاهل أو الريبة. غير أن تحوّلات العصر - من الثورة التكنولوجية إلى تعقّد المشكلات البيئية والاجتماعية - جعلت الفصل بينهما أقل قابلية للاستمرار. فقد باتت الهندسة المعاصرة غنية بالأسئلة المفاهيمية والقيمية، حتى غدت ممارسة فلسفية بامتياز، فيما أخذت الفلسفة تكتشف في عالم الهندسة ميدانًا جديدًا لتطبيق أدواتها النقدية والتحليلية. وهكذا، لم يعد اللقاء بين المجالين خيارًا فكريًا طوعيًا، بل ضرورة يفرضها واقع معاصر يحتاج إلى تفكير متكامل يجمع بين دقة التصميم ورحابة التأمل.(75)
يمكن تطوير فلسفة للهندسة بالاستناد إلى التيارات الكبرى في الفلسفة المعاصرة، كما أوضح كارل ميتشام وروبرت ماكاي (2007). ويقترحان النظر إلى هذه الفلسفة في ضوء ستة اتجاهات رئيسية: الظاهراتية، ما بعد الحداثة، التحليلية، اللغوية، البراجماتية، والتوماوية. وتفتح هذه التيارات آفاقًا متباينة لفهم الهندسة، إذ يمنح كل منها مقاربة مميزة تقوم على خلفيات معرفية ومنهجية مختلفة. ولا يُتعامل مع هذه الاتجاهات كحدود مغلقة، بل كآفاق فكرية تتطلب استكشافًا تأمليًا متعدد المناهج يعكس خصوصية كل تيار.(76)
ترتبط الهندسة بمسائل ميتافيزيقية وأنطولوجية كالتخيل ووصف المشكلات، مما يستلزم تفسيرات فلسفية ومنطقية لاختيار الحلول المثلى. ورغم ندرة المكوّنات الفلسفية في الهندسة مقارنة بمجالات البحث الأخرى، توجد أرضية مشتركة مع الفلسفة في الأخلاق والجماليات ونظرية المعرفة وغيرها، وإن كان الاهتمام المشترك برز مؤخرًا خاصة في الأخلاق. ولتعميق الفهم قبل الحلول التطبيقية، يحتاج المهندسون إلى توظيف المنهج الفلسفي واللغوي، مما يجعل العمل الهندسي نشاطًا ذهنيًا ديناميكيًا.(77)
من هذا المنطلق، وبالاستناد إلى أفكار كارل ميتشام وروبرت ماكاي، يمكن تناول فلسفة الهندسة عبر ستة موضوعات رئيسية تمثل التيارات الكبرى في الفلسفة المعاصرة، كل منها يقدم رؤية مميزة لفهم الممارسة الهندسية:
1- النهج الظاهراتي: ينطلق من اعتبار الهندسة تجربة معاشة حية، لا مجرد منظومة نظرية مجردة. يركز هذا النهج على وصف المعنى الذي تحمله الممارسة الهندسية بالنسبة للمهندس نفسه، حيث تُعاش العملية الهندسية في الواقع العملي كظاهرة حية ومتجددة.
2- النهج ما بعد الحداثي: يطرح تساؤلات فلسفية جذرية حول وجود الهندسة ككيان موحد ومستقر. يشكك في المفاهيم الجوهرانية ويعتبر الهندسة خطابًا اجتماعيًا وثقافيًا متغيرًا، مما يدعو إلى تفكيك التصورات المسبقة عنها وإعادة النظر في ماهيتها.
3- الفلسفة التحليلية للهندسة: تركز على التمييز المفهومي بين الهندسة والعلوم الطبيعية، وتسلط الضوء على الأنماط المنطقية والمعرفية الخاصة التي تميز العمل الهندسي. كما تدعو إلى تطوير أخلاقيات مهنية للهندسة تدمج التفكير الفلسفي مع الممارسة التقنية.
4- الفلسفة اللغوية: تنظر إلى الهندسة بوصفها "لعبة لغوية" تحكمها قواعد ومصطلحات خاصة تكتسب معناها في سياق الممارسة الهندسية اليومية، مستلهمة من فلسفة فيتغنشتاين التي ترى أن المعنى ينبثق من الاستخدام العملي للغة.
5- الفلسفة البراجماتية للهندسة: تعطي الأولوية للوظيفة الاجتماعية والمعرفية للهندسة، معتبرة أن قيمتها تنبع من أثرها العملي والجدوى التي تحققها في حياة الإنسان والمجتمع. كما تحلل العلاقة بين الهندسة وسياقاتها الاقتصادية والسياسية باعتبارها نشاطًا حيويًا ذو تبعات ملموسة.
6- الفلسفة التوماوية للهندسة: تسعى إلى إدماج الهندسة ضمن النسق الفلسفي الكلاسيكي، حيث تُربط بالمجالات الأساسية الثلاثة: الميتافيزيقا، ونظرية المعرفة، والأخلاق. تقدم هذه الرؤية فهمًا شموليًا للهندسة من منظور يدمج الغاية، والغاية الأخلاقية، والسببية في إطار متكامل.(78)
لا شك أن الفلسفة والهندسة نشاطان إنسانيان ينبثقان من جذور مشتركة في صميم الممارسة البشرية. فالفلسفة يمكن النظر إليها على أنها هندسة للمفاهيم، حيث تُنظّم الفكر وتحلّل الأفكار بصورة منهجية وعميقة. في المقابل، تمثل الهندسة بحثًا عمليًا عن الحكمة، تتجسد في عملية الصنع والبناء التي تهدف إلى تحويل الأفكار إلى واقع ملموس يخدم الإنسان والمجتمع.(79)
الخلاصة: يجب على المهندسين أن يمتلكوا القدرة على التعامل مع الشرح الفلسفي واللغوي لعمليات التصميم، والنمذجة، وصياغة المشكلات، وحلّها في مراحلها الأولى، من خلال قواعد منطقية تقود إلى نتائج عقلانية قبل الانتقال إلى المعالجة العددية. وعلى الرغم من إدراك الفلاسفة لدور الحلول الهندسية وعمليات اتخاذ القرار، فإن المهندسين أنفسهم ينبغي أن يؤسّسوا خلفية فلسفية واضحة قبل الخوض في الرموز والمعادلات المعقدة. فعندما تكون مشكلة هندسية محدّدة بوضوح لغويًا وفلسفيًا، يصبح تحويلها إلى صيغة رياضية مجرد ترجمة من لغة بشرية إلى رموز، والعكس صحيح، إذ يمكن لأي صيغة رياضية واضحة أن تتحول إلى شرح لغوي مبني على فلسفة العلم والمنطق..(80)
كسر الحواجز الصارمة بين الجوانب الهندسية والفلسفية يستلزم تبنّي فلسفة خاصة للهندسة، فهي ليست مجرد ترف فكري، بل ضرورة ملحّة في عصرنا هذا. لقد ترسّخت المبادئ الفلسفية عبر أكثر من 2300 عام منذ عهد اليونان القدماء، وحافظت على حضورها كمنهج منهجي وتأملي يُثري كل مجالات المعرفة الإنسانية. اليوم، بات من الممكن للهندسة أن تستثمر هذه الإرث الفلسفي لتطوير ممارساتها، وتوسيع أُفقها نحو فهم أعمق وأكثر شمولية.(81)
تُسهم فلسفة الهندسة في تنمية التفكير النقدي والتأملي لدى المهندسين، فتجعلهم قادرين على تجاوز الحسابات التقنية نحو إدراك الأبعاد الأخلاقية والاجتماعية لتصاميمهم. كما تدعم الابتكار بفتح آفاق معرفية تتخطى الحلول التقليدية، وتبني جسورًا بين العلوم والتخصصات الإنسانية، بما يحقق توازنًا بين التقنية والقيم. ومن ثم، فهي ليست ترفًا معرفيًا، بل جوهرًا للحياة الهندسية الحديثة يمكّن المهندس من صياغة مستقبل واعٍ وأخلاقي ينسجم فيه العلم مع المسؤولية.
تركّز فلسفة الهندسة على فهم أفعالنا كفاعلين في العالم، وتحليل طبيعة البحث والاستكشاف في الممارسة الهندسية. تتجاوز هذه الفلسفة النظرة العلمية المنطقية والرياضية التي سيطرت على القرن العشرين، لتقدم رؤية أشمل تُدرك المهندس كحلّال للمشكلات، ويُعتبر "التصميم" جوهر هذه المشكلات. تشمل مجالات التصميم أسئلة متنوعة مثل: كيفية إنشاء أنظمة الري، وتخطيط المدن، وتصميم الأدوات، وبناء الاقتصاد، واختيار السياسات الجمركية، وتنظيم نظم الحكم بما يحفظ الأمن والنمو. وتمتد هذه الرؤية أيضًا إلى تصميم عمليات البحث والتطوير داخل المجتمع، مما يبرز دور الهندسة كعامل فعّال في تشكيل مستقبل الحياة البشرية.(82)
من هذا المنظور، لا يُختزل المهندس في كونه مجرد صانع أدوات أو مبتكرًا لتحف صناعية، بل يُنظر إليه أيضًا كمصمم ومطوّر للأنظمة الشاملة. يُعدّ أحد الأركان الأساسية في فهم هوية المهندس هو قدرته على تغيير مجريات الأحداث المتوقعة علميًا، بل وتعديل بنية الواقع ووظائفه، رغم محدودية هذه القدرة حسب الإمكانات والمعارف المتاحة. ويُشكّل "منظور الهندسة" امتدادًا طبيعيًا لفلسفتها، إذ يركز على فهم طبيعة العالم من زاوية الفعل الهندسي الفعلي. هذا المنظور يعيد تحديد مكانة الهندسة ودورها في الكون، ويختلف جذريًا عن النظرة العلمية التقليدية التي تصوّر العالم كآلة حتمية خاضعة لقوانين صارمة، وتُدرس عبر فلسفة علمية منطقية- رياضية هيمنت على القرن العشرين.(83)
يعاني معظم طلاب الهندسة عالميًا من ضعف في مهارات كتابة التقارير والمقالات، ويرجع ذلك غالبًا إلى نقص خلفياتهم الفلسفية. إذ تُعتبر مبادئ فلسفة الهندسة أساسًا أكثر ديناميكية وعمقًا لفهم المقررات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية المرتبطة بالممارسة الهندسية، مما يعزز قدرة المهندس على التعبير والتحليل بشكل فعّال ومتسق.(84)
يمكن جمع الفروع المختلفة للفلسفة معًا عبر النظر في النقاط التالية، التي أشار إليها كارل ميتشام (1994) فيما يتعلق بأهمية فلسفة الهندسة، مع مزجها بدرجات متفاوتة لتشكيل رؤية متكاملة:
1- التحليل المفهومي: وهو ضروري لتوضيح وتصحيح المصطلحات المستخدمة في السياقات النظرية والعملية، ويرتكز أساسًا على المنطق كأداة لفهم أدق وأوضح.
2- الفحص التأملي: يوفر مجالًا للممارسة الفكرية العميقة، ويعمل على توسيع البصيرة لفهم أبعاد التجربة الهندسية بشكل أوسع، مع التركيز على مجالات جوهرية في الفلسفة مثل الأخلاق، ونظرية المعرفة، والميتافيزيقا، غالبًا ضمن مناهج عقلانية منظمة.
3- التفكير في جوانب التجربة الشمولية: يشمل أبعادًا تتجاوز التخصصات الفردية، وقد ينطوي على مقاربات بين تخصصية، متعددة التخصصات، عابرة للتخصصات، أو حتى مناهضة للتخصصات، ويركز على القضايا الكبرى المتعلقة بما هو صواب وخير (الأخلاق)، والمعرفة (الإبستمولوجيا)، وبنية الواقع (الميتافيزيقا).
4- ممارسة أسلوب مميّز في الحياة والتفكير: يُنظر إليها كخير في ذاته، كونها تمثل معرفة فريدة بالواقع ومبادئ إرشادية للفرد أو الجماعة. ويتجلى هذا المعنى في ما يُعرف بـ"الفلسفة الشخصية" للأفراد أو "فلسفة" المؤسسات.
بهذا الإطار، تصبح فلسفة الهندسة أكثر من مجرد دراسة نظرية، بل ممارسة حياتية متعمقة تمزج بين التحليل الدقيق والتأمل الفلسفي الواسع، لتشكيل رؤية شمولية ومتكاملة تعزز من دور المهندس وتعمق فهمه للعالم الذي يعمل فيه.(85)
الخاتمة
1- الهندسة مجال معرفي وأخلاقي وفلسفي، يجمع بين الإبداع العقلي والدقة العلمية.
2- الفلسفة والهندسة شراكة في بناء العوالم الممكنة، حيث يضع الفيلسوف الإطار النظري ويحوّله المهندس إلى واقع.
3- فلسفة التعليم الهندسي ضرورة لإعداد مهندس يجمع بين الكفاءة التقنية والوعي الأخلاقي.
4- فلسفة الهندسة توجه الممارسة التقنية نحو خدمة الإنسان والمجتمع.
5- الاتجاهات النقدية في فلسفة العلم أسهمت في تمهيد الطريق لنشوء فلسفة الهندسة.
6- الأسس الأخلاقية للهندسة تضمن مسؤولية المهندس تجاه المجتمع والبيئة.
7- تطوير الهندسة المعاصرة يتطلب إحياء بعدها الفلسفي وربطه بالقيم الإنسانية.
8- أهمية الفلسفة للمهندسين:
- تعميق الفهم النظري للممارسة الهندسية: تمنح الفلسفة المهندس قدرة على استيعاب الأسس المفاهيمية والأنطولوجية التي يقوم عليها عمله، بدل الاكتفاء بالجانب التطبيقي فقط.
- تعزيز التفكير النقدي والإبداعي: تساعد الفلسفة المهندسين على طرح الأسئلة الصحيحة، وتقييم الفرضيات والحلول بعمق، ما يفتح المجال أمام الابتكار.
- تأسيس إطار أخلاقي للمهنة: توفر الفلسفة أدوات لتحديد ما هو مقبول أو مرفوض من الناحية الأخلاقية في القرارات الهندسية، خصوصًا في القضايا التي تمس حياة الإنسان والبيئة.
- ربط الهندسة بالسياق الإنساني والاجتماعي: تُظهر الفلسفة كيف أن المشاريع الهندسية لا تنفصل عن احتياجات المجتمعات وقيمها وثقافتها.
- مواجهة التحديات المعقدة: تساعد الفلسفة المهندسين على التعامل مع المشكلات متعددة الأبعاد، التي تتطلب توازناً بين الجدوى التقنية، والاعتبارات البيئية، والآثار الاجتماعية.
- إكساب رؤية شمولية للمستقبل: من خلال الفلسفة، يتبنى المهندس منظورًا بعيد المدى، يضع الاستدامة والمسؤولية تجاه الأجيال القادمة في صلب قراراته.
- تطوير الهوية المهنية: تعزز الفلسفة شعور المهندس بذاته كمفكر وصانع قرار، وليس مجرد منفذ للحلول التقنية.
***
دكتور ابراهيم طلبه سلكها
2025
..........................
الهوامش
1- Diane P. Michelfelder And others: Philosophy and Engineering Reflections on Practice, Principles and Process, Springer Dordrecht Heidelberg New York London, VOLUME 15, 2013, p- vi
2- Zekâi Sen: Engineering science and philosoph, International Research Journal of Engineering Science, Technology and Innovation Vol. 1(1) pp. 14- 25, April, 2012, pp- 16- 17
3- Loc- Cit
4- Carl Mitchman: The Importance of Philosophy to Engineering, Teorema, Vol. XVI I/3, 1998, p- 29
5- Viorel Guliciuc and Emilia Guliciuc: Philosophy of Engineering and Artifact in the Digital Age, Cambridge Scholars Publishing, first published 2010, p- 7
6- Durmuş Günay: The Philosophy of Technology and Engineering, Journal of University Research, April 2018, Volume 1, Issue 1, Page: 7- 13, p- 8
7- Zekâi Sen: Op- Cit, p- 17
8- Loc- Cit
9- William Bulleit: Philosophy of Engineering: What It Is and Why It Matters, New York, NY: Oxford University Press, p- 7
10- Louis L. Bucciarelli: Engineering Philosophy, Kroes, P. & Mejiers, A., (eds). Elsiver Science, 2003, p- 1
11- Zekâi Sen: Op- Cit, p- 17
12- Ibid, p- 15
13- Loc- Cit
14- Ibid, p- 16
15- Gregory Bassett and others: Philosophical Perspectives On Engineering And Technological Literacy, I, Iowa State University: http://lib.dr.iastate.edu/ece_books/1, p- 15
16- Ibid, p- 34
17- Durmuş Günay: Op- Cit, p- 8
18- Zekâi Sen Op- Cit, p- 21
19- Gregory Bassett and others: Op- Cit, p- 15
20- Louis L. Bucciarelli: Engineering Philosophy, Kroes, P. & Mejiers, A., (eds). Elsiver Science, 2003, p- 43
21- Zekâi Sen: Op- Cit, pp- 15- 16
22- Diane P. Michelfelder And others: Op- Cit, p- vii
23- Gregory Bassett and others: Op- Cit, p- 34
24- Diane P. Michelfelder And others: Op- Cit, p- 3
25- William Bulleit: Op- Cit, p- 7
26- Zekâi Sen Op- Cit, p- 22
27- Loc- Cit
28- Gregory Bassett and others: Op- Cit, p- 1
29- Zekâi Sen Op- Cit, p- 22
30- Ibid, pp- 23- 24
31- Ibid, p- 23
32- William Grimson: The Philosophical Nature of Engineering a characterization of Engineering using the language and activities of Philosophy, American Society for Engineering Education, 2007, p- 13
33- Ibid, p- 35
34- Durmuş Günay: Op- Cit, p- 8
35- Carl Mitchman Op- Cit, pp- 28- 29
36- Ibid, p- 36
37- Ibid, p- 29
38- Loc- Cit
39- Viorel Guliciuc and Emilia Guliciuc: Philosophy of Engineering and Artifact in the Digital Age, Cambridge Scholars Publishing, first published 2010, p- 6
40- Carl Mitchman: Op- Cit, p- 37
41- Loc- Cit
42- William Grimson: Op- Cit, p- 12
43- Carl Mitchman: Op- Cit, pp- 37- 38
44- Ibid, p- 41
45- Ibid, p- 42
46- William Grimson: Op- Cit, p- 13
47- Carl Mitchman: Op- Cit, p- 42
48- Ibid, p- 43
49- Loc- Cit
50- Loc- Cit
51- Ibid, p- 27
52- Ibid, p- 28
53- William Grimson: Op- Cit, p- 13
54- Loc- Cit
55- Carl Mitchman: Op- Cit, p- 30
56- Ibid, p- 31
57- Loc- Cit
58- Loc- Cit
59- Terry Bristol: The Philosophy of Engineering and the Engineering Worldview, Oxford, Clarendon Press, p- 4
60- Ibid, pp- 7- 8
61- Ibid, p- 10
62- Ibid, pp- 11- 12
63- Ibid, p- 12
64- Ibid, p- 13
65- Ibid, pp- 13- 14
66- Ibid, p- 14
67- Ibid, p- 17
68- Carl Mitchman: Op- Cit, pp- 33- 34
69- Gregory Bassett and others Op- Cit, p- 35
70- Carl Mitchman: Op- Cit, p- 32
71- Ibid, pp- 34- 35
72- Ibid, pp- 38- 39
73- Ibid, p- 39
74- Ibid, p- 40
75- Loc- Cit
76- Durmuş Günay: Op- Cit, pp- 15- 16
77- Zekâi Sen: Op- Cit, p- 16
78- Durmuş Günay: Op- Cit, p- 16
79- Ibid, p- 18
80- Zekâi Sen: Op- Cit, 2012, p- 24
81- Loc- Cit
82- Terry Bristol: Op- Cit, p- 1
83- Loc- Cit
84- Zekâi Sen: Op- Cit, pp- 17- 18
85- Zekâi Sen: Ibid, p- 19