أقلام فكرية

غريب دوحي: المذهب الكلبي واحتقار الذات...

"أنا مواطن العالم".. ديوجين الكلبي

تميز الإنسان عن سائر الكائنات الأخرى في طريقة معيشته، فالحيوانات تعيش على نمط واحد لا يعرف التقدم، أما الإنسان فيتطلع الى التقدم والارتقاء دائماً لوصول الى (المثل العليا) رغم ما تحيط به من مؤثرات وما تتجاذبه من شهوات ونقصد بالمثل العليا هي الأخلاق الممثلة بالخير والشر، الحق والباطل، الفضيلة والرذيلة، الى غير ذلك من الأمور التي بحثتها الفلسفة اليونانية التي تحررت من قيود الدين وعقدة الإله الجبار المتكبر الذي يدس أنفه في كل صغيرة وكبير على العكس من الفلسفة الإسلامية التي ظلت أسيرة الدين فلم تنزع جلبابه حتى تحولت الى فلسفة صوفية ترى إن الفضيلة العليا ما هي إلا الاتحاد بذات الله كي يصل الإنسان من خلال هذا الاتحاد الى صفة الكمال.

لقد مرت الفلسفة اليونانية بمراحل وتشعبت الى مذاهب، هذه المذاهب والمدارس ولدت من رحم الفلسفة الأم التي كان يمثلها طاليس وسقراط وأفلاطون وأرسطو.

ومن بين هذه المذاهـب الفلسفيـة " المذهـب الكلبـي " الذي أسـسه الفيلسوف اليوناني " انستاس " احد أتباع سقراط، غير إن " ديوجين " كان الشخصية الأكثر بروزاً في المذهب الكلبي وليس من المستغرب أن يكون الكلب مثلاً أعلى لمدرسة فلسفية شغلت حيزاً كبيراً من الزمان والمكان في العصور القديمة فهو معروف بالوفاء وليس في الحيوانات أشد حباً لصاحبه منه وهو أيقظ الحيوانات عيناً، وقد حفل التراث العربي بالعديد من الكتب التي الفت في الحيوان واختصت صفحات منها بالحديث عن الكلب مثل كتاب " الحيوان " للجاحظ و " حياة الحيوان " للدميري كما أشار أبو حيان التوحيدي في كتابه " الإتباع والمؤانسة " إليه.

ويبدو إن العالم البيولوجي الروسي " بافلوف " 1849 – 1936 قد آثر إلا أن يكون الكلب حقلاً لتجاربه عند دراسته للغدد الهضمية فقد أراد من خلال تجاربه أن يعرف كيف يفكر الكلب ومتى تم ذلك فسيعرف بافلوف كيف يفكر الإنسان سواء كان عالماً أو فيلسوفاً أو أديباً أو سياسياً، وهكذا اثبت بافلوف إن هناك أواصر بيولوجيـة بين الإنسـان والكلـب فيما أسمـاه بـ (الانعكـاس الشرطي) أو (الاستجابة الشرطية).

مزايا الفلسفة الكلبية:

حدد المذهب الكلبي خصائصه من خلال موقف رجاله من الأخلاق والقيم السائدة في عصرهم ومع ذلك فقد اختلف مؤرخو الفلسفة في تفسير هذه التسمية التي لحقت بهم فهناك ثلاثة آراء بهذا الصدد (الأول بقول إن أصحاب هذا المذهب كانوا يجتمعون في مكان اسمه (الكلب السريع)، والثاني يرى إن أتباع هذا المذهب كانوا ينبحون على الرذيلة كما ينبح الكلب الحارس عند الخطر، أما الرأي الثالث فمنسوب الى الفارابي في قوله عن الكلاب إنهم كانوا يرون إطراح الفرائض المفروضة عن الناس ومحبة أقاربهم وإخوانهم وبغض غيرهم من سائر الناس وإنما توجد هذا الخلق عند الكلاب فقط، وفي الأخلاق تفيد احتقار العرب والتقاليد والرأي العام ومرجع ذلك الى إن الكلبين الذين كانوا يشترطون للانضمام الى زمرتهم أن ينزل المريد عن مكانته الاجتماعية).

  " المعجم الفلسفي مراد وهبة ص553 – 554 "

ومعنى هذا أن يحتقر المريد نفسه ويسمى بذلك كلباً ويكون بذلك مبعث اعتزاز وفخر للعضو الجديد.

ومن مزايا هذا المذهب إن أتباعه يرون إن الآلهة منزهة عن الحاجة وخير الناس من تخلق بأخلاق الله فقلل من حاجاته جهد الطاقة وقنع بالقليل وتحمل الآلام واستهان بها واحتقر الغنى وزهد في اللذائذ. وان الفقر والعمل الشاق المؤلم وسوء السمعة أمور نافعة تسهل للإنسان تحصيل الفضيلة وتعينه على نيل الحرية، ومن أجل ذلك زهدوا في اللذائذ ولم يحترموا أعراف الناس ولا قوانين البلاد وإنما يحترمون ما تمليه عليهم الحكمة والعقل، ولما كانوا لا يحترمون عوائد الناس ويرتكبون ما يتحرج الناس من فعله من غير خشية ولا احتشام وكانوا في ذلك كالكلاب أطلق عليهم أهل زمانهم اسم (الكلبيين).

 "موسوعة احمد امين – مبادئ الفلسفة ص94"

 ديوجين الشخصية الأكثر بروزاً في المدرسة الكلبية:

يعد ديوجين 404 – 323 ق. م من ابرز رجال المذهب الكلبي ويعتبره المؤرخون أشهر زاهد متقشف في العالم القديم، بل إن البعض يذهب أكثر من هذا فاعتبروه نبياً شاد دينه على العقل، ويوصف بأنه كان يعيش على الخبز اليابس والماء والنبيذ فهي أهم مقومات حياته وقيل انه كان يسكن في برميل ويتجول نهاراً في شوارع أثينا وبيده مصباح موقد وإذا سئل عن سر هذا قال إنني ابحث عن الحقيقة، جاء ذكره في كتاب " معجم الفلاسفة المختصر " للدكتور خلف جراد: انه رفض كل شئ ما عدا الواقع المحسوس ودعا الى تحرير الإنسان من قيود الأسرة والمجتمع وأنكر تعدد الآلهة وجميع العبادات واعتبرها من اختراع الإنسان وزائدة عن حاجته ونجد ذكر لاسم ديوجين مبثوثاً في كتب الحكم مثل كتاب " مختار الحكم " لأبي الوفاء البشر بن فاتك يصفه قائلاً... " كان حكيم أهل زمانه وكان زاهداً لا مسكن له ولا مأوى، لا يمتنع عن الطعام إذا جاع عند من وجده، يحبه الناس بالحق وقد قنع بثوبين من الصوف فلم يزل ذلك حاله حتى فارق الدنيا... "

وبما انه ليس له بيت يسكن قيل له يوماً: لماذا لم تتخذ لك بيتاً تستريح فيه ؟ قال: وأنا إنما استرحت إذ ليس لي بيت، و سمي بالكلب لأنه لا يحتشم أحداً وحين قيل له لماذا سميت بالكلب ؟ قال: لأني أبصبص للأخيار واهرأ على الأشرار، وعندما أعيد عليه السؤال مرة أخرى قال: لأني انبح على الجهلاء وأتملق للحكماء وكان يقول: " إذا رأيت كلباً ترك صاحبه وتبعك فارجمه بالحجارة لأنه سوف يتركك كما ترك صاحبه... "

وقال ديوجين عن المرأة: إن المرأة هي أذى لا بد منه وعندما عاب قوم من المترفين على معيشته رد عليهم: " لو أردت أن أعيش عيشكم لقدرت، ولو أردتم ان تعيشوا عيشتي لم تقدروا.."

وهكذا كان ديوجين اقرب الى النبي الشرقي منعه الى الفيلسوف اليوناني فقد روي عنه كان يرتدي في عز الشتاء معطفاً ممزقاً، وكان يسكن في برميل ويتغذى على الخبز والماء وقد احتقر الأخلاق والأعراف والعقائد كما احتقر الأقوياء والأساتذة.

سئل مرة عن الوقت المناسب لتناول الغذاء فأجاب قائلاً حسب الحالة فحين يكون الإنسان غنياً فانه يأكل متى ما يريد وحين يكون فقيراً فعندما يستطيع.

وكان يستمني علناً أمام الناس وهو يقول: كم يكون المرء سعيداً لو انه يكفيه أن يفرك بطنه كي لا يعود يشعر بالجوع.  

وحين قابله لاسكندر وقال له: اطلب مني ما تريد وستحصل عليه، رد عليه ديوجين قائلاً: ابتعد أنت تحجب الشمس عني.

وحين سئل ما هو وطنه قال: أنا مواطن العالم.  

وختاماً فلم يكن أصحاب هذا المذهب إلا رجال عاديين فلاسفة كغيرهم، ليسوا طغاة أو جبابرة أو قادة فتوحات عسكرية أو مؤسسو إمبراطوريات بل كانوا أصحاب مبادئ وقيم احترموها وعاشوا في سياقاتها مختارين لا مجبرين لهذا فقد أزهروا في حدائق التاريخ الكبيرة فأصبحوا من الخالدين. 

***

غريب دوحي

 

في المثقف اليوم