أقلام فكرية

حاتم حميد محسن: هل السعادة تتعلق فقط بالحاضر؟

يقول الشعراء خذوا وقتا لتشمّوا رائحة الورود، لا تعيشوا فقط في الحاضر. عندما يكون الماضي ممتلئاً بالأسى والمستقبل يدعو الى القلق، فربما يبدو من المعقول ان الحاضر وحده يقدم السعادة. لكننا في هذا المقال نجادل بما يعاكس ذلك، اي ان الحاضر لا يعني كل ما يتعلق بالسعادة – خاصة عندما نعني بالحاضر اللحظة الحاضرة المباشرة المنفصلة عن الماضي والمستقبل.

مع ان السعادة يحيط بها الغموض ويصعب تعريفها، لكننا نقول دون شك ان السعادة يجب على الأقل ان تتضمن استجابة محسوسة من جانب الكائن الواعي نحو أشياء جيدة في حياته. لذا فان السعادة هي دائما حول الحياة ولا تُعرّف أبدا وفق لحظات مختزلة ومباشرة من المتعة تؤخذ بشكل منعزل، وانما طبقا للعديد من مظاهر الحياة الجيدة التي هي ذاتها معقدة ومؤلفة من عدة أجزاء. دعونا نسمي تلك المظاهر بـ  الكليات "wholes". "كليات" الحياة نعني بها الأحداث والعمليات التطورية المستمرة بدلا من ان تكون حالات ساكنة  وهي تتضمن، مكونات من الحاضر المعاش، الماضي المعاش وكذلك المستقبل الذي سيُعاش. هي ايضا تدمج أحداثا لحيوات اخرى لا تُعد تؤخذ مجتمعة لتشكل نوعا من "مجموعة من الأحداث". الحياة وفق هذا المعنى مرتبطة بشكل لا ينفصم، بأحداث تمتد مؤقتا لتدمج الماضي والحاضر والمستقبل، وهي ليست مجرد سلسلة من اللحظات مثلما السمفونية ليست مجرد سلسلة من النغمات. الماضي والحاضر والمستقبل يشكلون كليات أحداث الحياة وهم المادة الاساسية للتجربة. بالضد من الكثير من الفكر المعاصر، ان لحظات الحاضر المعزولة يتم تجريدها من الكليات الملموسة التي تشكل التجربة الحقيقية لأغراض التحقيق الفلسفي بنفس الطريقة التي يتم بها تجريد الأعضاء الحية المنعزلة من الكائن الكلي لأغراض التحقيق البايولوجي. التجريد هو دائما مسألة تفكيك ما تم العثور عليه في الواقع التجريبي من خلال الفصل التأملي لما لا يمكن فصله في الواقع. ومع ان هذا قد يقوم بمهمة التحقيق فقط عبر توجيه التركيز، لكن المرء يجب ان لا ينتابه قصر النظر تجاه العنف الذي يلحقه بالحقيقة الملموسة.

تعبير واضح عن الموقف المعاصر المهيمن في هذا الموضوع يمكن العثور عليه في مقالة أخيرة نُشرت من جانب معهد الفن والافكار لإستاذ الفلسفة ستيفن كامبيل هاريس Campbell Harris بعنوان "الحاضر هو كل السعادة". يشير كامبيل الى الشكوك في الفرق الذي يطرحه علماء النفس عادة بين السعادة كـ "حكم حول شعور المرء بالقناعة او عدمها اثناء حياة المرء الكلية ، والسعادة كاستجابة شعورية فورية لّلحظة الحاضرة. كما هو يوضح، "القناعة بالحياة، ليست منفصلة عن الرفاهية العاطفية وانما جزء منها". كذلك، هو صائب في القول، ان الانفصال المفترض بين التجربة المعاشة والذكريات المسجلة، التي تؤخذ لدعم الفرق بين الرفاهية العاطفية الفورية والقناعة الكلية للحياة، هو ايضا ضعيف. الذكريات تدخل الى معظم او كل ما نسميه "التجربة الحاضرة"، بحيث لا يمكن فصلها. هذا الزواج الذي لا يمكن فصله يتم توضيحه بشكل جميل من جانب الروائي الفرنسي مرسيل بروست مؤلف رواية (البحث عن الزمن المفقود) الذي يعبر عنه شعريا  في عمله الشهير "سلسلة مادلين". بينما هو يستمتع بواحدة من الكعكات الصغيرة مع الشاي هو فجأة يستحضر ذاكرته الطفولية، حين استمتع قبل عدة سنوات بتلك الفتات التي اُعطيت له من جانب عمته صباح يوم الاحد .

وفق هذه الرؤية، ولكن في سياق فلسفي، البروفيسورة ماريا شيختمان Marya schehtman في تفسيرها لنظرية جون لوك ترى ان الذاكرة تشكل استمرارية الذات او الهوية الفردية، تقول:  "انها خاصية حاسمة ومميزة لذاكرة ذواتنا الماضية، حيث لا يتم اعتبار المنظور الذي يتم تذكره فيها مجرد شيء، بل يتم اعادة تجربته ايضا". (لوك والنقاش الحالي حول الهوية الفردية،2021).

توقّع المستقبل، ايضا،يلعب دورا في الحاضر المعاش – ربما كل الوقت ما عدى في لحظات صرف الانتباه او النوم العميق. وكما يحصل في حياتنا اليومية، نحن لا ننشغل ابدا فقط في لحظة حاضرة تؤخذ منعزلة وانما نحن دائما نمتد مؤقتا عندما نستخدم مخزون ماضينا في فهم الحاضر لتوقّع المستقبل. وهكذا ماضي المرء المُعاش، والحاضر والمستقبل هم (كما تقول شيختمان) في كل الحالات وُجد انهم ينمون مجتمعين  لصنع تجربة المرء المُعاشة. الفيلسوف الفرنسي هنري برجسون تحدّث شعريا وفلسفيا حول هذا في عمله (مدخل الى الميتافيزيقا،1903) : "هناك تتابع في الحالات، كل حالة تعلن عن ما يليها وتحتوي على ما قبلها".

لكن ألا يصطدم هذا  مع ادّعاء كامبيل هاريس والرؤية الواسعة الانتشار التي يمثلها بان "الحاضر هو كل ما يتعلق بالسعادة"؟ اذا كان الماضي والحاضر والمستقبل ينمون مجتمعين ومترابطين بإحكام  ليشكلوا كلّ موحد ومتماسك في التجربة، وان "الكثير مما نسميه "تجربة حاضرة" مرتبط بذاكرتنا طالما نحن دائما نتوقع ما يحدث لاحقا مما حدث سابقا" (الحاضر هو كل ما يتعلق بالسعادة،2022)، عندئذ كيف يمكن القول ان الحياة "هي فقط سلسلة من اللحظات"، او ان سعادتنا تعتمد فقط على تلك اللحظات؟ الحاضر الفوري، مأخوذا كلحظة بدون أبعاد وبدون عمق ماضي- مستقبل، هو كالشكل المجرد من تجربة معاشة واقعية كتتابع فقط من هذه النقاط، والنقاط ذاتها كأشياء فعلية تُصنع منها تجربة الحياة، هي تبنّي ما يسميه الفيلسوف والرياضي الفريد نورث وايتهد (العلم والعالم الحديث،1925) مغالطة وضع الملموس في غير محله التي تخلط بين تجريداتنا وبين المادة الملموسة للواقع. وكما يتبين من خطوط المغناطيسية في الفيزياء، الكل لايتجاوز فقط الأجزاء وانما يسبقها. كذلك مع التجربة. نحن نبدأ بتجربتنا الملموسة ومن ثم في تفكيرنا حولها، نجرّد منها لحظات فردية للتجربة.

السقوط في الزمن

سوف نسلّم بالارتباط الذي لا مفر منه حسب كامبيل هاريس بين الذاكرة، توقّع المستقبل، وتجربة الحاضر، وبشكل غير مباشر الربط بين الحكم على القناعة الكلية بالحياة والعواطف الايجابية المحسوسة فوريا كالبهجة. اول خطوة نختلف عندها هي عندما  يقترح كامبيل اننا لا يجب ان "نفضل القناعة (الرضا) على العديد من العواطف الايجابية الاخرى، مثل البهجة، الاثارة، الاتصال ". بدلا من ذلك، وبينما نعترف بالدور المهم لكل واحد من تلك العواطف في الحياة الجيدة، لكننا نرى ان الإحساس بالقناعة الكلية للحياة له أهمية خاصة عندما نأخذ بالاعتبار الطبيعة الكلية للتجربة المعاشة.

يفترض كامبيل ان "غياب الحجج المقنعة يوضح سبب هذا التفوق النوعي لهذه القناعة على كل المشاعر الاخرى". الفرنسي الوجودي البير كامو (1913-1960) يؤيد هذه الفكرة. اذا كان المعنى الموضوعي غائبا تماما من العالم والحياة كانت سخيفة، كما يرى كامو، فربما يتبع ذلك اننا يجب ان نتوقف عن البحث عن المعنى وراء المتع العابرة مهما صادف ان نعمل في هذه اللحظة. لكن حتى كامو بالتأكيد وجد بعض المعنى في القناعة الكلية للحياة أمام السخافة من خلال كتاباته.

الفينومينولوجي مارتن هايدجر(1889-1976) يعرض عدة حجج حول تفوّق القناعة الكلية للحياة. في عمله الشهير (الوجود والزمن،1927)، يكتب ان الكائن البشري (الذي يسميه دازين والتي تعني بالألمانية الوجود) له تركيب ثلاثي يرسم بدقة الماضي والحاضر والمستقبل. دازين هو في العالم كوجود ملقى – بمعنى وجود اُسقط دون ان يُسأل عن عائلة، تربية، ثقافة، لحظة تاريخية، تطور طبيعي وغيره.

وليم باريت عبّر عن هذه النقطة بجدارة:

"انا لم أختر والديّ" لذا قبل ان يختبر المرء ذاته او أي شيء لأجل تلك المسألة، سيجد ذاته سلفا ضمن اسم ودور في مكان وزمان معينين. بالنسبة لنا كوجودات مُلقى بها، الماضي والحاضر بدرجة ما هما غير مختارين، لذا فان معاني النشاطات التي ننشغل بها تصبح ذات معنى فقط في ضوء تطوراتها المستقبلية. لذلك فان دازين هو دائما موجّه نحو مستقبله. فمثلا، عندما أكتب حاليا، تكمن في ذهنيتي الخلفية رؤية خام عن إستكمال ونشر ما أكتب. مع ذلك، هذا لا يجب ان يُفسر كهدف ثابت لي مرئي بالضرورة ، وان جهودي ستكون بلوغ الرؤية المذكورة. بدلا من ذلك، الرؤية هي مرنة وعرضة للتعديل في كل الأوقات. كل ما أعرفه على وجه اليقين عندما أكتب هذه الكلمات، هو اني ربما بدلا من ذلك أهمل هذه المقالة او احاول ان عمل منها منولوج صوتي .

دازين كوجود اُلقي به لتوجيه نفسه للمستقبل (الذي يسميه هايدجر اختصارا thrown projection)، هو دائما بطريقة ما منشغل مباشرة بالعالم. يجب ان يتعامل مع كائنات بشرية اخرى بالاضافة الى كل انواع المخلوقات الاخرى في بيئته عند التهيؤ نحو مستقبله المفتوح من وجهة نظر مرتكزة في ماضيها. فمثلا، أثناء كتابة هذا المقال، أحتسي شايا ساخنا أخضر واستبعد القهوة، انا اتعامل مع مراوغات جهازي اللابتوب القديم، بينما افحص ايضا الايميل والطلبات وصياغة الفواتير لفعاليات عملي في مجال الطعام . ربما لا حاجة للقول الآن ان التوسع المؤقت في التعامل مع العالم يرتبط مع الحاضر.

مع الأخذ بالإعتبار لكل ذلك، يرى هايدجر الدازين نوع من الزمانية المجسدة، ليست حاضرة فقط في مكانها وزمانها، وانما في كل الحالات الممتدة على طول زمانها لأنها تتعامل مع حاضرها لكي تتهيأ نحو مستقبلها بالإعتماد على ماضيها. في الحقيقة، في مختلف المقاطع من كتاب الوجود والزمن، يقول هايدجر ان دازين هو فقط التقدم الخطي للماضي والحاضر والمستقبل (temporality).

من أجل ماذا؟

الأساس لهذه الثلاثية الزمنية هي ما يسميه هايدجر مقتفيا اثر ارسطو الغرض for the sake of which . بالضبط كما يبدو، هذا الغرض هو لأجل وجود الدازين او الكائن البشري.

التفسيرات المعاصرة لهايدجر عادة تأخذ هذه الفكرة كما لو كانت حول مهنة الفرد. لكن لأجل ماذا  او الغرض يمكن ان يكون عدة أشياء غير المهنة، وانها ليست ثابتة ولا خاصة. يمكن ان تكون هناك عدة أغراض، وهي يمكن ان تتغير طوال حياة الفرد. يقول روب جلبرت :انه أكثر من مجرد كاتب، انا أرى نفسي كرجل أعمال في مجال الأغذية ، طباخ، موسيقي، مهرج، صديق. هذه كلها اشياء لأجل غرض ومعظمها لا استلم منها قرشا واحدا. لإجل هذا النقاش نستطيع القول ببساطة ان الغرض يسمح لنا بالحكم على القناعة الكلية بالحياة. السبب هو واضح: هذه القناعة تتماشى مع حياة تتوافق مع غرض الفرد، وفقدانها يتماشى مع حياة لا تتوافق مع غرض الفرد، او حياة لم يتحدد بها غرض الفرد في المقام الاول. الرضا العام عن الحياة هو مسالة العثور على غرض الفرد ومواءمة حياة الفرد معه.

من المهم ان غرض الفرد لا يُعطى ابدا. انه يستلزم معطيات تتضمن المواهب، التأثيرات الاجتماعية والثقافية، الضغوط، الميول الوراثية المسبقة. لكن الغرض ذاته لا يُعطى ابدا بشكل اوتاماتيكي بواسطة هذه المعطيات. استخراج المعادن من خام ظروف الفرد هو عمل ابداعي. انه حصرا بيد الفرد، وانه الأعظم أهمية في كل الأعمال طبقا لهايدجر.

ان الغرض لا يعني الإنهماك او الهوس بالشيء. انه سوف لن يحقق وظيفته المتمثلة في ارساء حياتنا، وذلك فقط لان الحياة المكرسة حصريا للتفكير في هدف الفرد بالكاد تتطور وتحتوي على القليل من الاشياء الاخرى التي يمكن ان يرتكز عليها هدف الفرد.  وبعبارة اخرى، هدفنا ليس للتفكير في هدفنا وانما، حالما يتم التفكير والاعتراف به، فان هدف الفرد سيستقر بقوة في الخلفية الذهنية، ليشير الى انخراطنا بأي شيء كان  في ذهننا. ذلك لا يعني ابدا ان دوره التأسيسي في حياتنا يمنعنا من ان نكون عفويين او في اتّباع اللحظة الحاضرة. في الحقيقة، انه فقط بعد توافق حياتنا مع الهدف، سوف لن تكون هناك حاجة للتفكير والتركيز في سؤال الهدف. تحقيق عفوية هادفة وحالات من التدفق دون اعتبار لهدفك هو كما لو ان شخصا ما ليس لديه آلة موسيقية فجأة يلتقط الغيتار ويعزف ويغني مقطوعة متقنة من موسيقى فلمنكو.

قناعة الحياة من خلال السعادة:

كامبيل – هاريس يعرض تجربة فكرية تتألف من اثنين من السيناريوهات: واحد فيه قناعة الحياة الكلية هي الحاضر، وآخر تكون فيه القناعة غائبة. كونك تأملت الاثنين، سنسأل أي سيناريو تفضل:

"في الاول، حياتك اليومية في معظمها متوترة وباعثة على القلق، مع انفجارات للبهجة والمتعة احيانا. مع ذلك، عندما تفكر بحياتك انت تجد انه – رغم صعوباتها – انت مقتنع. انت تشعر صنعت فرقا في العالم وتحكم على حياتك بانها جديرة بالاستحقاق. في السيناريو الآخر تكون حياتك اليومية معظمها ممتعة . انت نادرا ما تشعر بالحزن او عدم الراحة او الخوف. لكن عندما تاخذ وقتا لتفكر حول حياتك، انت تشعر بفراغ. انت تتمتع بحياتك، ولكن حتما ذلك لن يجعلك مقتنعا".

كامبيل هارس يستعمل هذه التجربة الفكرية لتوضيح الفرق بين السعادة من القناعة بالحياة والسعادة من المشاعر الفورية كالبهجة. في فلسفة السعادة،منذ ايام افلاطون، جرت المقارنة بين الحياة الجيدة eudaimont والمتعة على التوالي كنوعين اساسيين للسعادة يُفترض ان كامبيل يفضل النوع الاخير الذي تكون فيه الحياة اكثر متعة، طالما يبدو (على الاقل كما يعرضه) يتضمن سعادة كلية حاضرة اكثر من الاولى. لكننا نعتقد ان أغلبنا سيفضل الاولى لأن الحياة بدون أي هدف يتعدى المتعة الفورية تبدو فقيرة – في الحقيقة حياة بدون سعادة حقيقية. اذا كان ذلك هو الموقف، فان السيناريوهين  كما عُرضا هما اسيء فهمهما. الفرد في السيناريو الاول، رغم انه مرهق، سوف لن يكون تعيسا في النهاية طالما ان الرضا العام عن الحياة قائم لإرساء سعادته الدائمة. والسيناريو الأخير يتضح تعيسا نتيجة لغياب الرضا. في الحقيقة، كيف لا تشعر بالحزن اذا كنت تشعر بالفراغ بشكل غريب عندما تتأمل في حياتك؟.

يقول كامبيل هارس "نحن نخدع أنفسنا عندما نعتقد اننا عند النظر الى حياتنا ككل، نستطيع تجاوزها". لكن ذلك لا ينفي قدرتنا على النظر لحياتنا بالكامل من الداخل. بالتأكيد، نحن كبشر فانين، حياتنا بالكامل غير متجسدة لنا طالما ان رحيلنا في الموت هو وحده يشير لإكتمالها. غير ان ذلك لا يعني اننا لا نستطيع مواجهة كامل حياتنا من داخلها. في الحقيقة، هناك إحساس لا يسعنا فيه الاّ القيام بهذا أحيانا.

ربما الأكثر أهمية، هو تأسيس قناعتنا الكلية في الحياة (مهما كانت ناقصة) والتي بدورها تؤسس سعادتنا. يجب ان تتم هذه القناعة لتتناسب مع سياق حياتنا. المدرس يجب ان يجد طلابا، الفنان يجب ان يجد وسيطا،على الأقل ان يجد مشاهدين. اذا وجدنا هذا التناسب مهما كان ناقصا، سيبقى ثابتا كأساس لحياتنا ككل، يقودنا نحو رضا من خلال السعي وراء كل أنواع المرح. كل هذه الانواع من البهجة تنمو مجتمعة الى كلّ لا ينفصل من السعادة.

ان أنقى وسيلة للاعجاب باللحظة يمكن العثور عليها في فن التأمل، وهو المثال الذي يعرضه كامبيل هاريس. انه خصيصا هنا حينما ننسى حياتنا الكلية ونفقد أنفسنا في الحاضر. المعارضة للإعتقاد الشائع بان الحاضر هو كل ما يتعلق بالسعادة ليس اقتراح ان نتخلص من الوصية البوذية لنصبح اكثر التصاقا بالحاضر. بل، انه اقتراح باننا نوسّع فكرة تركيز كامل الذهن لتتضمن الماضي المتجذر الذي يجعل الحاضر ممكنا، بالاضافة للمستقبل المفتوح . بهذا المعنى، ربما الماضي والحاضر والمستقبل كلها تشبه الحاضر للتجربة.

يجادل وايتهد ان التجربة هي عملية أكثر من كونها وجودا: انها تدفق مستمر، ولا وجود هناك للحظة ثابتة نتوقف عندها. التجربة تشبه نهرا كما يذكر هيرقليطس في عدم امكانية النزول في النهر مرتين بحيث نتوقع انه في المرة الثانية كالاولى. برجسون يوضح ذلك : "خذ أبسط الإحساس، إفترض انه يستمر ... الوعي المصاحب لهذا الاحساس لا يمكن ان يبقى مشابه لذاته للحظتين متعاقبتين لأن اللحظة الثانية دائما تحتوي بالاضافة للاولى، الذكرى التي أورثتها اللحظة الاولى". (مدخل الى الميتافيزيقا،1903).

اذا قبلنا المعنى الشائع على نطاق واسع للحاضر، باعتباره دمجا للماضي والمستقبل، فسيتبيّن بشكل تافه ان الموقف المعاصر هو الصحيح. اذا كان كل ما هناك هو الحاضر، فلا يمكن ان يكون هناك شيء آخر للسعادة.

*** 

حاتم حميد محسن

في المثقف اليوم