أقلام فكرية

علي محمد اليوسف: الماهيّة في المنهج الوجداني الظاهراتي

يذهب هوسرل صاحب المنهج الظاهراتي (الفينامينالوجيا) وفي سبق لشيلر له إلى أن استخدام المنهج الحدسي الانفعالي الوجداني النفسي الذي يعنى بمعرفة (الماهيات) المقصود بالماهيات هنا ليس جواهر الاشياء وانما الماهيات هنا هي (القيم) الوجدانية النفسية التي يجسدها السلوك القصدي بالحياة. وتشمل ابعادا فلسفية تتجاوز مبحث الاخلاق والعاطفة.

الماهيات بمعنى القيم الانسانية التي مصدرها العاطفة والنفس وليس بمعنى جواهر الاشياء التي لا يدركها العقل المباشر كموضوعات له كذلك هي الماهيات التي هي جواهر الاشياء ايضا لا تكون موضوعات ادراكية يعيها العقل. ومن المهم جدا هنا الانتباه الى التفريق بين الماهية التي هي سلوك وجداني انفعالي نفسي من جهة وهذا ما يعنى بدراسته هوسرل وبين الماهية الجوهر في الاشياء المحتجب خلف الصفات الخارجية لذلك الشيء الذي تقود محاولات العقل فهمه وادراكه الى منهج الميتافيزيقا في تغليب تفكير العواطف والوجدانات القلبية الروحانية على تفكير العقل المنضبط بالصرامة المادية..

الامر المهم الذي يجب الاشارة له ان الماهية سواء اكانت جوهرا في الاشياء يحتجب خلف الصفات الخارجية لها او الماهية التي هي القيم السلوكية الانفعالية التي يمارسها الفرد بالحياة فكلاهما بالعرف والمنهج الفلسفي لا يشكلان موضوعين مستقلين لادراك العقل المعرفي لهما. ولكي يكون الموضوع مدركا عقليا يتوجب توفرالاستقلالية فيه وليس شرطا الاستقلالية المحددة بابعاد المادة . فالخيال يصنع موضوعات ادراكية للعقل ليست متعينة بابعاد مادية يدركها الحس. وفي كلتا الحالتين فان ادراك العقل لموضوعاته انما هي تجريد لغوي. وفي هذا المعنى تصبح مقولة الفيلسوف الامريكي سيلارز الوجود لغة صائبة تماما.

وبناءا عليه اذا كانت الماهية جوهرا في الاشياء او كانت الماهية قيمة وجدانية فكلتاهما ليستا موضوعين لادراك العقل. اذن مالفرق بينهما منهجيا؟ الفرق المنهجي بينهما هو ليس في اختلاف منهج الاستدلال المعرفي لهما وانما الاختلاف يكمن في عجز الادراك العقلي في فهمهما فهما مباشرا واقعيا أوالوعي المتخارج عقليا معهما.

محاولة معرفة ماهيات الاشياء كجواهر تحتجب خلف الصفات الخارجية لها تقود حتما المنهج الفلسفي الذي يتبعه الفيلسوف الى السقوط في براثن الميتافيزيقا التي يعتبرها كانط وفلاسفة الماركسية والوجودية مسعى عبثي لا جدوى منه. 

في اختلاف منهجي ومعرفي حين تكون الماهيات هي القيم الوجدانية الانفعالية والنفسية السلوكية في الفلسفة الظاهراتية لدى هوسرل واشياعه فان المنهج المعرفي يكون هو (الحدس). ماهية الشيء كجوهر كما مر بنا هي الخاصية المتفردة لذلك الشيء التي تحجبها الصفات الخارجية. وهناك من الفلاسفة مثل بيركلي وهيوم يرون ان الشيء بذاته كينونة موحدة لا انفصال فيها بين جوهردفين وصفات بائنة وانما ادراكها يكون في ادراك الكلية الموجودية لها كينونة مستقلة استقلالية تامة عن رغائب الانسان. ويستشهدون على ذلك باننا ندرك الصفات الخارجية للحيوان انها هي ادراكنا ماهيته الحقيقية ولا يوجد فرق بين جوهرالحيوان وصفاته الخارجية خارج ادراكنا الكينونة الموجودية للحيوان كائنا حيّا في الطبيعة.

اذن الماهية او الجوهر حتى عند الانسان ليست موضوعا لادراك عقلي من قبل غيره لا حسيا ولا وعيا بها.. اما اذا كانت الماهية حسب منهج الظاهراتية لدى هوسرل وشيلر على سبيل المثال فهي (القيم) الوجدانية الانفعالية النفسية التي نعيها حدسا عقليا. غير مباشر ولا منظور كموضوع يدركه العقل كمثل ادراكه موجودات عالمنا الخارجي المادية والخيالية في تعبير تجريد اللغة الافصاح عنها.

شيلر الذي لا تتقاطع فلسفته لا مع هوسرل ولا مع دلتاي يعترف بأن الماهية التي تختلف عن الجوهر الثابت بالاشياء في حال تاكيد وجوده التموضعي التكويني فيها فهي ايضا لا يدركها العقل المباشركموضوع. وانما ندركها حدسا انفعاليا ناتجا عن سلوك نفسي قصدي بالحياة كما تذهب له الظاهراتية.

الشيء الذي نراه مهما هو الاختلاف بين الماهيات المحتجبة خلف الصفات الخارجية للاشياء انها محكومة بالثبات اللامتغير. باستثناء تاثير عوامل خارجية موضوعية تؤثر بالصفات الخارجية التي بدورها تؤثر بالماهيات الداخلية نسبيا. تاثيرات العوامل الموضوعية الخارجية المؤثرة في الصفات الخارجية لموجودات عالمنا الخارجي انما تكون (ظرفية) بمعنى زائلة التاثير الدائم بالصفات الخارجية.

انه لمن المهم الاشارة الى ان فلسفة سارتر حول ماهية الانسان انه يعتبرها عملية تصنيع الانسان لذاته بتاثير المورثات الجينية من جهة ومؤثرات البيئة والمحيط وسلوك الانسان بالحياة من جهة ثانية. يمكننا هنا التساؤل هل ماهية الانسان التصنيعية ذاتيا تكون موضوعا ادراكيا للعقل؟ الجواب من المحال ان تكون ماهية الانسان مدركة من غيره بل منه هو صانعها فقط. بتعبير آخر وعي الانسان لذاته هو وعيه لماهيته أي لجوهره.

اود هنا الاشارة الى مقولة سارتر (جوهر الانسان انه بلا جوهر) صحيحة جدا رغم ما تحمله من التباس معرفي فلسفي في تاكيد ان جوهر الانسان هو تصنيع ذاتي يماشي عمر الانسان بتخارج جدلي بينه وبين مجتمعه ومحيطه.. لذا نجد الطفل يجيء الحياة وهو خال من الجوهر لا يعي اهمية تصنيع ذاته المفروضة عليه قسرا  مكتسبا من العائلة والمحيط وغير ذلك. ما عدا المورثات الجينية الفطرية التي هي الصفات الخارجية له مثل شكل الوجه ولون العينين وشعره وطوله وغير ذلك التي بمجموعها صفات خارجية ليس لها علاقة تخارجية مع تصنيع الانسان لماهيته الذاتية المتفردة. لذا لا تشكل مجمل الصفات الخارجية للانسان ماهيته بخلاف الحيوان الذي صفاته الخارجية هي ماهيته كونه لا يعي مثل الانسان اهمية تصنيع ماهيته كما يفعل الانسان طوال سني عمره. بل تبقى  صفات الانسان الخارجية نسبية التاثير في تصنيعه لماهيته او لجوهره فلا فرق بين اللفظتين...

الماهية والكينونة الشيئية

كينونة الاشياء التي تتكون من الصفات الخارجية والمضمون بمعنى الجوهر او الماهية في حال اثبات انفصالهما الاستقلالي ضمن الكينونة الموحدة للشيء يكون تاثير العوامل الظرفية الخارجية هامشيا في وجود الجوهر الدفين بالقياس الى مؤثرات العقل في تناوله معرفة الاشياء والوعي بها.

واطلق كانط على المؤثرات العقلية بالاشياء والموجودات مصطلح (مقولات العقل) واجملها باثنتي عشرة مقولة هي تمثّل رد فعل العقل التخليقي في مدركاته. وهذه المقولات العقلية بحسب اجتهادنا انما هي المقولات التي يصدرها العقل في معالجته وعي الاشياء معرفيا والتاثير التغييري بها في تخارج معرفي وليس في تاثير جدلي. من المهم التفريق بين التخليق العقلي بمعنى تغيير مدركات وعي العقل وبين السطحية المثالية التي تذهب بان الافكار هي التي تخلق الموجودات المادية. إن من المهم تاكيد أن العقل جوهر خالد ماهيته التفكير المعرفي المجرد بحسب تعبير ديكارت. بمعنى وظيفة العقل في علاقته وعي الاشياء هي تخليق فكري لا يمتلك الوسائل المادية في خلق موجودات عالمنا بالفكر.

فرق التخارج المعرفي مع الاشياء التي يدركها كلا من الحس والعقل انها تمثل تراكم الخبرة العقلية في التاثير المباشر بالاشياء من اجل هدف قصدي فالعقل لايعقل ما لا قيمة ولا معنى له.

اما الجدل الديالكتيكي فهو ظاهرة طبيعية يحكمها التضاد في المادة والتاريخ وليس التكامل المعرفي في عملية التخارج غير المنظورالمؤثر في تطور الاشياء. ويحصل الجدل نتيجة توافر عوامل موضوعية لا دخل لعقل الانسان ولا لرغائبه تاثير مباشر في استمرارية استحداث الظواهر والتكوينات الجديدة المخلية بالتضاد الظواهر التي استنفدت نفسها وحضورها.

ظاهرة الديالكتيك التي تحكم (احيانا) واؤكد على احيان بعض الجوانب المادية في حياتنا وفي التاريخ ايضا تصنع المستحدث الجديد بما يعجز عنه الوعي وتعبير اللغة كوسيلتي تجريد العقل خلقهما.

اما اذا اخذنا (الماهيات) على انها القيم الوجدانية الانفعالية التي يرافقها السلوك القصدي فنجدها رغم عدم امكانية ان تكون موضوعات مباشرة لادراكات العقل الا اننا يمكننا معرفتها ومعرفة تاثيرها بواسطة منهج الحدس حسب نظرية فينامينالوجيا هوسرل. الحدس العقلي هو المعرفة القبلية الاستباقية التي لا يلازمها منطق التجريب التطبيقي كما هي خاصية العقل في وعيه لمدركاته.

الظاهراتية الهوسلرية والماهية

شعار فينامينولوجيا هوسرل هو التوجه الى الاشياء في ذاتها من خلال الوعي الخالص. وبما ان هدف الظاهراتية لدى فلاسفة الفينومينولوجيا يتقدمهم هوسرل هو الوصول الى الماهيات فقد انتهج هوسرل ما سمي (الايبوخية) اي تعليق الحكم. كما وضع العالم المكاني – الزماني بين قوسين. وعدم اتخاذ الاعتقاد الطبيعي لهذا العالم والتوقف عن اتخاذ اي موقف اثبات او نفي ازاء وجود الموضوعات.(نقلا عن ويكيبيديا الموسوعة.)

الوضعية التي تسلم بوجود حقائق موضوعية مستقلة عن الوعي الفردي وتاشير الفينامينالوجيا المغلوط تجاهها يؤكد ما تريد نفيه الظاهراتية في وجود حقائق مستقلة عن الوعي الفردي  والمقصود بتلك الحقائق هو (الماهيات) غير المتاح لنا ادراكها مستقلة منفردة كموضوعات.

ولكي تتوخى الوضعية الانزلاق نحو الميتافيزيقا في معالجتها الماهيات انكرت ان تكون تلك الحقائق التي نادت بها المنطقية تقع تحت هيمنة وسطوة الوعي الفردي المعرفي. وهو ما سبق وقال به كانط ومن بعده فلاسفة الوجودية الذين كانت مواقفهم متذبذبة بين الوعي القصدي الذي يعالج مواضيعا ادراكية. وبين الظاهراتية التي تنادي معالجتها الواقع وهي بالحقيقة تجنح نحو منهج الميتافيزيقا. هيدجر وسارتر المتاثران بهوسرل وقعا بهذا الفخ.

 الظاهراتية التي اخذت عن كانط واسبينوزا ان الاشياء كينونة موجودية تتكون من عرض هو الصفات وجوهر هو الماهيات التي لا يدركها الوعي الفردي. كما تؤكد الظاهراتية على اهمية ما تسميه (خبرة الوعي) الذي يمثل خبرته بالاشياء وخبرته بذاته. الوعي ليس منهجا ادراكيا مستقلا عن العقل في محاولته كشفه الماهيات. وعجز الوعي مستمد من مرجعية عجز العقل له في محدودية هذا الاخير ادراكه الماهيات. وهو ما كان ذهب له كانط.

 وللخلاص من هذا المازق التعجيزي في مبحث المعرفة نادت الماركسية بعبث الركض وراء معرفة الماهيات التي تقود الى نفق الميتافيزيقا. وخبرة الوعي بالاشياء الذي ابتدعته الظاهراتية ليست خبرة منعزلة عن الوقوف ومعرفة بماذا يستطيع العقل التفكير به وبماذا يعجز العقل ادراكه. ولا يمتلك الوعي خاصية مستقلة عن العقل تجعله يستطيع تمثيل خبرته بالاشياء وخبرته بذاته. الوعي ليس ذاكرة تخزين الخبرات التي اكتسبها العقل ليدفنها الذهن بمخزن الذاكرة التراكمي.

***

علي محمد اليوسف

في المثقف اليوم