قضايا
درصاف بندحر: علينا ألا نملك شيئا حتى لا نفقده
يقول أرسطو "أن ما دفع الناس في الأصل وما يدفعهم اليوم إلى البحوث الفلسفية الأولى هي الدهشة"
وحدها الدهشة تنزع عن الأشياء أُلفتها لنجد أنفسنا أمام حيرة السؤال.
الدهشة بالمعنى الفكري هي حالة التنبه الذهني اليقظ التي يتكثف فيها التأمل وتتسم بالانتباه الذكي.. هي حالة تنكسر فيها الرتابة، وتنقشع من خلالها الغفلة ليتجلى التبصر.
مفردة فلسفة مصدرها إغريقية وتعني ’’حب الحكمة‘‘. هي واحدة من أهم مجالات الفكر الإنساني في تطلعه للوصول إلى معنى الحياة.
في سعينا إلى معرفة الحكمة من وجود الحياة، الحكمة من الموت .. نحن نقوم بفعل فلسفي. ومن المفيد في هذا السياق الإطلاع على الفلسفة الرواقية.
ظهرت الرواقية لأول مرة في اليونان منذ حوالي 300 سنة قبل الميلاد، عندما فقد تاجر يدعى "زينو" جميع ممتلكاته في سفينة غرقتْ. لمواجهة هذه الكارثة التي حلت به بدأ في ممارسة الفلسفة في "ستوا بويكيل"، أحد أروقة "أغورا "الأثينية، الذي تستمدّ منه الرواقية اسمها.
اهتم الرواقيون كثيرا بالتمييز بين ما نستطيع وما لا نستطيع السيطرة عليه، بأنه لا مفر من تنسيق أفكارنا وسلوكياتنا مع مسار الطبيعة الحتمي. كان الرواقيون يصنفون من ينجح في القيام بهذا الفعل بأنه إنسان فاضل. وبهذا الشكل، كانوا يصنفون الحزن على موتٍ الأحبة بأنه خطأ جسيم.
ربما يعد هذا القول للوهلة الأولى مبالغا فيه بل وشديد القسوة لأنه ليس هناك من شخص طبيعي لا يحزن على فقدان أحبته.
بالتمعن في الفلسفة الرواقية نتبين أن مشاعر الرواقيين تجاه من يحبونهم أكثر ثراءً من مشاعرنا نحن غير الرواقيين، لأنهم يُذكِّرون أنفسهم في كل لحظة بمدى قيمة اللحظة التي تجمعهم بمن يحبون. عندما يختبرون موت شخص عزيز، يشعرون ببداية حزن، لكنهم يسيطرون على حزنهم ويحولونه نحو كل ذكرى طيبة كانت قد جمعتهم بمن فارقهم وهو ما يمكنهم من تخطي الألم جراء خطب لا يملكون شيئا حياله.
إن العمل على تطوير قدرتنا على التكيف مع آثار الفقد على نفسيتنا يمكننا من أن نحب إنسانًا ما، بكل صدق، وهو لا يزال على قيد الحياة. لكن موته لا يمنعنا من الحياة.
ما يساعدنا على ألا نغرق في الحزن على من فقدنا هو المهارة في الانتقال من حالة الشجن إلى حالة الرضا والتسليم.
في رسالة العلامة العربي المسلم يعقوب ابن إسحاق الكندي*"في دفع الأحزان" يُعرِّف الحزن بأنه" ألم نفساني، ناتج عن فقد أشياء محبوبة، أو عن عدم تحقق رغبات مقصودة، وعلى هذا، فإن سبب الحزن هو إما فقد محبوب، أو عدم تحقق مطلوب."
ويضيف الكندي أنه علينا ألا نملك شيئا حتى لا نفقده، فيكون فقدانه سبباً للحزن، ولأن الحرص لا تدوم معه ملكية، فيجب علينا أن لا نملك شيئا.
ما يصفه الكندي هو حالة من الحرية تحلق فيها النفس عاليا دون قيود لتبلغ مرتبة السمو عن عالم المحسوسات إلى عالم أرفع، هو عالم الروحانيات.
نخلص من خلال هذا أن الحياة فرصة تجمعنا بمن نحب وجب علينا أن نستغلها في عيش لحظات السعادة معهم، في تقاسم مشاعر الود والرحمة والإيثار.
إن الفقد حتمي وهو خارج عن سيطرتنا. الفقد ومن بعده الشعور بالحزن على شخص رحل، قد يحمل في طياته وجود ذكرى عذبة ذات قيمة. قد يكون الاحتفاء بالذكرى المبهجة هو العزاء.
ما يجعل لكل شخص، لكل ذكرى قيمة حقيقية، هو ادراكنا لعدم خلودها، لفنائها. حين ندرك هذه الحقيقة تصبح للمشاعر قيمة أرفع. هكذا يصبح الحزن متأصلا في الحب بسبب إداركنا العميق انه سيزول يوما.
***
درصاف بندحر – تونس
..................
الهوامش:
* أبو يوسُف يعقوب بن إِسْحَاق الْكِندي (185 هـ/805 - 256 هـ/873) علّامة عربي مسلم برع في الفلك والفلسفة والكيمياء والفيزياء والطب والرياضيات والموسيقى وعلم النفس والمنطق الذي كان يعرف بعلم الكلام.
يعرف عند الغرب باسم (باللاتينية: Alkindus)، ويعد الكندي أول الفلاسفة المشّائِين المسلمين (مؤسس المدرسة المشائية هو الفيلسوف اليوناني أرسطو الذي سماه تلاميذه المشّاء لأنه كان يعلمهم وهو يمشي)
كما اشتهر الكندي بجهوده في تعريف العرب والمسلمين بالفلسفة اليونانية القديمة والهلنستية.