قضايا

محمد الزموري: كيف تشكل المعلومات العقول

قراءة فلسفية في حرب الإدراك والمعرفة

إن الإنسان، كما وصفه أرسطو، حيوان عاقل، غير أن هذا التعريف يتعرض اليوم لهزة عميقة تحت وطأة حرب جديدة لا تُشن بالرصاص، بل بالمعلومات. يفتح ديفيد كولون، في عمله عن "حرب المعلومات"، نافذة على مشهد معقد حيث تصبح العقول ساحات معارك، وتتحول الحقيقة إلى ميدان غامض تحجبه الضبابية والتضليل.

تجسد الحرب، وفق كولون، حالةً من الصراع تتجاوز ميادين القتال التقليدية إلى ما يسميه ميشيل فوكو حرب السلطة على الأجساد والعقول معًا. فالحرب المعاصرة لا تعتمد على القوة الفيزيائية وحدها، بل على ما سماه جان بودريار بـمحاكاة الواقع، حيث تُستبدل الحقيقة بواقع افتراضي مصطنع، وتصبح المعلومة أداة للاحتلال الذهني. لم تعد الحرب صدامًا بين الجيوش بقدر ما صارت نزاعًا على السيطرة على الإدراك ذاته، حيث تتحول الأكاذيب إلى حقائق بفعل التكرار والإيحاء.

يرى كولون أن الأدوات الرئيسية لحرب المعلومات تتمثل في الأخبار الزائفة وإعادة تشكيل السرديات، حيث يُستبدل الواقع بمزيج من الحقائق المشوهة والأساطير الإعلامية. هنا نستحضر مقولة نيتشه الشهيرة ": ليست هناك حقائق، بل تأويلات"، إذ تصبح الحقيقة ذاتها ميدانًا للصراع. وفي هذا المشهد، تتآكل قدرة الإنسان على التمييز بين الحقيقي والزائف، مما يؤدي إلى حالة من العمى المعرفي الذي وصفه هابرماس بأنه "انحسار المجال العمومي العقلاني".

تحلل رؤية كولون دور الدول، لكنها تتجاوز الحدود التقليدية، إذ لم تعد الدول وحدها الفاعل الرئيس، بل ظهرت قوى خفية، شبكات متعددة الجنسيات، وشركات تقنية عابرة للقارات تشارك في إعادة تشكيل الإدراك الجمعي. هنا نستعيد تصور ألفين توفلر للقوة في عصر المعرفة، حيث قال: "من يملك المعرفة، يملك القوة"، لكن المعرفة هنا ليست تحريرية، بل سلاح للتوجيه والتلاعب. تتشكل الدول كواجهات، فيما تحتل الشركات الكبرى مثل منصات التواصل الاجتماعي موقع الحاكم الخفي الذي يمارس السيطرة الناعمة من خلال التلاعب بالاهتمامات والسرديات.

يرى كولون أن ساحة الحرب الحقيقية هي الدماغ البشري ذاته، حيث يتم استهداف القدرة على التفكير الحر، واستبدالها بأنماط استهلاكية مبرمجة. هنا تبرز مقاربة هايدغر حول خطر التقنية حين قال: "جوهر التقنية ليس تقنيًا، بل هو طريقة في كشف الوجود وتحجبه في آنٍ واحد". فالذكاء الاصطناعي ووسائل التواصل الاجتماعي أصبحا أدوات لصناعة اللافكر الذي يُحيل الإنسان إلى كائن مستهلك للترفيه اللحظي فاقدًا للتأمل والنقد.

يتقاطع تحذير كولون مع ما أطلق عليه جان بودريار عصر ما بعد الحقيقة، حيث تغدو الأخبار المزيفة، ونظريات المؤامرة، والمحتوى الموجه أدوات لإنتاج واقع افتراضي قائم على الهلوسة الجمعية. في هذا العصر، تُمحى الحدود بين الحقيقة والوهم، بين الواقع والصورة، مما يولد ما سماه بودريار بـ*"التزوير الشامل للواقع".

في إشارة كولون إلى دور الصحافة، يستحضر استعارة الصحفي ديفيز الذي قال: "الصحافة بلا تحقق من الحقائق كالجسد بلا جهاز مناعي". هنا نواجه أزمة الإعلام في العصر الرقمي، حيث تتهاوى معايير التحقق، ويصبح السوق هو المعيار الوحيد للبقاء. هذه الحالة تجسد ما حذر منه نعوم تشومسكي حين تحدث عن تصنيع القبول، حيث يتم تشكيل الرأي العام بما يخدم القوى المسيطرة، مما يؤدي إلى خلق مجتمع مستسلم للعناوين الجذابة والخداع البصري.

إن السيطرة على العقول لا تتحقق عبر القمع المباشر، بل من خلال الإغواء والإلهاء، وهو ما أشار إليه كولون حين تحدث عن شبكات التواصل الاجتماعي كأقوى سلاح معلوماتي. يتردد هنا صدى رؤية مارك فيشر حول الواقعية الرأسمالية، حيث تصبح وسائل التواصل الاجتماعي سجونًا لذيذة تستهلك وقتنا وأرواحنا بينما نظن أننا أحرار. إن الإدمان على المحتوى الرقمي ليس سوى الوجه الجديد للعبودية المعاصرة، حيث يُحاصر الإنسان في دوائر لا نهائية من التمرير والمشاهدة دون إنتاج أو تأمل.

رغم قتامة المشهد، يلمح كولون إلى إمكانات غير متوقعة للمقاومة، كما في تلك الحكاية عن مصنع الذخيرة الذي توقف توسعه بسبب استهلاك تيك توك للكهرباء. هنا تتجسد مفارقة نهاية الوسائل العسكرية أمام تفاهة الاستخدامات الرقمية، مما يفتح المجال أمام تساؤل فلسفي: هل يمكن للسلاح الذي يوجه ضد العقول أن ينقلب ضد صانعيه؟ ربما هنا يتردد صدى مقولة حنة أرندت: "في كل أزمة تكمن فرصة جديدة للظهور".

لقد أشار سقراط قديمًا إلى أن الحياة غير مدروسة لا تستحق أن تعاش، واليوم، أكثر من أي وقت مضى، نحتاج إلى إعادة فحص ما نتلقاه، وما نؤمن به، وما نشارك فيه. حرب المعلومات ليست مجرد حرب على الحقيقة، بل حرب على إمكان التفكير ذاته. وكما قال كانط: "التنوير هو خروج الإنسان من قصوره الذي جلبه على نفسه"، فإن مقاومتنا تكمن في إعادة إحياء ملكة النقد والتأمل، والعودة إلى جوهر الإنسان كذات مفكرة تتجاوز إغراءات المحاكاة الرقمية نحو أفق الحقيقة والمعرفة الحرة.

***

الأستاذ محمد إبراهيم الزموري

في المثقف اليوم