قضايا
فرانسوا دي لاروشفوكو: عن التقــاعد
بقلم: فرانسوا دي لاروشفوكو
François de La Rochefoucauld
ترجمة : عبد الوهاب البراهمي
***
سيطول حديثي لو قدّمت بالخصوص هنا، كل المبررات الطبيعية التي تحمل المسنّين على الانسحاب من الحياة العامّة: تغيّر أمزجتهم وشكلهم وضعف أعضاءهم، يقودهم دون أن يشعروا، مثل سائر الحيوانات، إلى الابتعاد عن الاختلاط بنظرائهم. إنّ الكبرياء، وهو قرين حبّ الذات، يقوم إذن مقامَ لامعقول: فهم لا يستطيعون أن يُمدَحوا بأشياء تطري الآخرين؛ فقد عرّفتهم التجربة ثمن ما يرغب فيه الناس في شبابهم، واستحالة الاستمتاع به طويلا ؛ فالسبل التي تبدو متاحة للشباب لبلوغ العظمة واللذة والشهرة ولكلّ ما يرفع البشر، قد أغلقت دونهم، إمّا بموجب الصدفة أو لتصرفهم أو بموجب الشهوة وظلم الآخرين،؛ والطريق إليها طويلة ومضنية، حينما نكون قد تهنا عنها مرّة. وتبدو لهم الصعوبات مُتعذّر تجاوزها، ويحول السنّ دون الزعم بذلك. إنهم يصبحون غير مكترثين بالصداقة، لا لكونهم لم يعثروا ربّما على صداقة حقيقيّة فحسب، بل لأنّهم قد شهدوا موت عدد كبير من أصدقاءهم، ولم يكن لهم من الوقت ولا الفرص للتفويت في الصداقة، ويُقنعنون أنفسهم بسهولة بأنّهم كانوا أكثر وفاء ممّن تبقّى لهم من الأصدقاء. وليس لهم نصيب في أولى الخيرات التي شغلت خيالهم، بل ليس لهم تقريبا أيّ نصيب حتّى في المجد: فما حصلّوه منه قد ذبل مع الزمن، وغالبا ما يفقد الناس من المجد في كبرهم أكثر مما يحصّلوه. يخلع عنهم كلّ يوم يمرّ قطعة من ذواتهم؛ وليس لهم ما يكفي من الحياة للاستماع بما لديهم، ناهيك عن تحقّق ما يرغبون فيه؛ فهم لا يرون أمامهم سوى أحزانا وأمراضا و تصاغرا؛ فقد رأوا كلّ شيء، ولاشيء يمكن أن ينال لديهم فضل الجديد؛ فقد أبعدهم الزمن دون أن يدركوا وجهة النظر التي تلاؤم رؤيتهم للأشياء، والتي يجب أن يُروا منها. فأكثرهم سعادة قد تألموا أيضا، و الآخرون قد لحق بهم كره؛ ولم يبق لهم من حظّ ، سوى أن يخفوا ربمّا عن النّاس ما لم يظهروه كثيرا. إنّ ذوقهم، وقد خدعته رغبات غير مجدية، يلتفت إذن صوب الأشياء الصامتة والجامدة؛ البناءات والفلاحة والاقتصاد، وتخضع دراسة كل هذه الأشياء لإرادتهم؛ يقتربون منها أو يبتعدون كما يشاءون؛ إنّهم مالكون لمصائرهم واهتماماتهم؛ فكل ما يرغبون فيه تحت إمرتهم، ولكونهم تجاوزوا تبعيتهم للعالم حولهم، فهم يفعلون كلّ ما يخلّصهم منه. وأكثرهم حكمة يعرف كيف يستغلّ ما تبقى له من الوقت لخلاصه، وبما أنّه لا يملك سوى نصيبا صغيرا من هذه الحياة، فقد طلب حياة أرفع. أمّا الآخرون فليس لهم سوى أنفسهم شاهدا على بؤسهم، ويروق لهم ضعفهم وقصورهم؛ ويقوم لديهم أقلّ تراخ مقام سعادة؛ والطبيعة الناقصة هي أكثر حكمة منهم ، فهي تنزع عنهم جهد الرغبة ؛ وأخيرا هم ينسون العالم، الذي هو على استعداد كبير لنسيانهم؛ ويجدون في تقاعدهم عزاء في طمعهم، ويحملون، مع كثير من المتاعب واللايقين والضعف، عن عطف أحيانا وبموجب دافع أحيانا أخرى وفي الغالب عن تعوّد، عبء حياة لا طعم لها ومتهالكة".
***
........................
* أعمال" فرانسوا دي لاروشفوكو "تأملات متنوّعة" الجزء الأول.