قضايا

علي الطائي: حواريات الطب والأدب: عصا الخنفساء

يتحدَّثُ علماءُ النفس عن موضوع من أهم موضوعات هذا العلم في النفسلوجيةِ الحديثة وهو العقل الباطن. والعقل الباطن هو العقل القديم الذي نشأ منذ نشوء الإنسان، والذي كان يعتمد عليه في تحصيل معاشه وفي الحفاظ على حياتهِ بين آلاف الحيوانات المفترسة.

فهو الآلةُ التي أودَعها الإله فيه لكي يحافظ على حياته على هذه الأرض. وهذا العقل الباطنُ هو منشأ العقائد. وهو العنصر الأهم في نشوء السحر والإيمان بالأساطير والخرافات.

وقبل أن ننتقل إلى حيثيات عنوان هذه المقالة لابد من أن نعترف بأن الأساطير في الزمن القديم كانت من أهم الركائز التي يعتمد عليها الإنسان في حياته. الخوف من الرعد مثلا أو الخوف من الزلازل والأمطار الشديدة والرياح العاتية دعت الإنسان القديم إلى الالتجاء إلى الأساطير ومن ثم محاولة وضع حد لها من خلال ابتكار آليات سحرية يتصورون أنهم بها يستطيعون إيقاف سطوتها وبطشها. وحتى عهد قريب كان العربُ يفعلون أشباه هذا العمل. حينما يهرب العبدُ منهم وهو الذي أسمَوهُ بالعبد "الآبق"، يربطون خنفساء بخيط صغير إلى عصاً مثبتةٍ في الأرض، فتدور الخنفساء حول العصا محاولةً الإفلات من الخيط والأسر، لكنها تقع بالنتيجة في شرك هذه العصا، وتجد نفسها قريبةً من العصا وقد زاد أسرها. هذه اللعبة السحرية كان العرب في الجاهلية يظنون فيها وسيلةً ناجعةً من أجل الإمساك بالعبد الآبق. فهم يحاكون هذه الخنفساء بالعبد، ويتصورون بأن العبد سوف يدور في الفلاةِ ثم يعود إلى خيمته كما عادت الخنفساءُ إلى العصا في الوسط.

هذه إحدى الوسائل التي جنحَ إليها الإنسان بسبب ضعفه أو عدم قدرته على تحقيق ما يريده. وبعض الأقوام كانوا يحرقون اللبن في النار حتى يجف ظناً منهم أنهم بهذه الوسيلة يوقفون وابلَ المطر الذي جرف محاصيلهم وحيواناتهم وبيوتهم. وما إلى ذلك من الأمثلة الكثيرة التي كانت الركيزة الأولى من ركائز التخلص من سطوة الطبيعة أو كل ما ينافي اللذة والراحة والسعادة في الإنسان حسب اعتقادهم.

 العقل الباطن وكما قرره علماء النفس الحديث هو منشأ العقائد والفنون والأدب من شعر ونثر وخطب وغيرها. أما العقل الواعي فهو منشأ المعارفِ والعلوم والتكنولوجيا الحديثة والصناعة المتطورة بل وحتى الزراعة المتطورة، لكن كم من البشر يمتلك هذا العقل الواعي حتى يكون مبتكرا مؤثرا في المجتمع؟ عددُ هؤلاء ليس كبيراً. وبكلمه أخرى، إن كل البشر يملكون العقل الباطن، لكن ليس كل البشر يملكون عقلا واعيا مؤثراً. نعم، هم يملكون عقلا واعيا لكن ليس مؤثراً كالعقل الباطن عندهم. أي أن العقل الباطنَ يعمل دونما رقابةٍ، بينما العقل الواعي يعمل بعد أن توجد الرقابة عليه أو قواعد المنطق والعلم. لذلك نجد في كل عصر من العصور، وخاصة في عصر الثورات والغزوات أن العقل الباطن وما يتمثل فيه من العقائد الدينية مثلاً أو السياسية، هو الذي يقود البشر في تلك الأعصر، فيحرك الناس دون شعور منهم، وكأنهم منومون مغناطيسيا إلى الغزو وفتح البلدان والفجور بالنساء من أجل إشباع رغبتهم أو رغباتهم ومنها الرغبة الجنسية بعد تحليل هذا الاعتداء بشتى الطرق.

 أما العقل الواعي والذي لا يتمثل إلا في عددٍ قليلٍ من الناس فإنهُ لا يزال غيرَ مؤثّر في كل تغيير لأن العقل الواعي يتحدث مع الآخرين وفقاً للقوانين المنطقية والعلمية وهذه لا يفهمها أكثرُ الناس. فهي غير مؤثرةٍ في المجتمع الجاهلِ إلا قليلاً. لذلك نجد أن الزعماء الفاسدين والطغاةَ وعلى مر التاريخ يمتد حكمُهم سنوات طويلة. طبعاً إذا عرفوا كيف يسوسون الناس من خلال التنويم المجتمعي أو الإيحاء. فهم يعزفون على وتر العقيدة الدينية أو على نطاق ضيقٍ من الطائفية من خلال التركيز على العاطفة المجنونة الهوجاء والتي مصدرها العقل القديم أو العقل الباطن، أو ربما على أمنياتٍ هزيلةٍ من أمثال التخلص من الفقر أو الأمراض أو توفير السكن الملائم أو المعيشة الكريمة، ومنها زيادة الرواتب مثلاً، وتقليل الضرائب. وهذا ما يمارسهُ الغربُ وقد نجحوا إلى حد كبير. أما الزعماء الذين يتحدثون بالمنطق وقواعد العلم والأخلاق، فإنهم ،على الأغلب، يفشلون في البقاء في مناصبهم. ولو أحصينا عددَ الزعماء الذين يتبعون الحالة الثانية فإنهم لا يتعدون أصابع اليد الواحدة.

لو عدنا إلى مجتمعاتنا الشرقية وبالذات العربية منها، فإننا نجد أنها ساحة خصبة يمكن لآلاف الطلاب والدارسين للنفسلوجية الحديثة أن يكتبوا البحوث والأطروحات وينالوا الشهادات العالية في هذا المجال. مجتمعاتنا العربية الإسلامية تؤمن بالعقل الباطن وتستهين بالعقل الواعي. حدثنا التاريخ عن شعوب تختلف عقائديا مع الدولة العثمانية وتوجهاتها الطائفية وقد حاربت معها الإنجليز في الحرب العالمية الأولى، والدافع الأول في هذا هو العقل الباطن المتمثل في العقيدة الدينية، وأن الدولة العثمانية هي الأفضل بعدما كانت هي السبب الأول في تخلف الشعوب وكما هو معروف. ورغم الفساد والمحسوبية والرشوة والتخلف في كل مجالات الحياة التي عاشتها شعوبُنا وبلداننا ومنها العراق فإنهم يقفون بدافع العقيدة الدينية معهم وكلهم يقينٌ بأن الإنجليز هم من الكفار ولا يحملون لهم الخير لأنهم يختلفون معهم في العقيدة والثقافة.

لجأ الناس في مثل هذه المجتمعات المتخلفة إلى وسائل كثيرةٍ متعلقة بالعقل الباطن ومنها الأساطير والخرافات، وعملوا على إشاعتها بين الجماعات الطائفية والعرقية من أجل جمع الناس حول عصا واحدة، وهي عصا الخنفساء، حتى وجدنا كثيراً من الانشقاق بين طائفتين أو اكثر تنتميان إلى الإسلام أو المسيحية وتتقاتلان من أجل إثبات حقيقة توهموها وهي ليست حقيقة تاريخية معترف بها أو متفق عليها عقلاً ونقلا. وحينما يعيا الطرفان من إقناع أحدهما الآخر، يلجأ أحدُهما أو كلاهما إلى طريق الخرافة والإيحاء المجتمعي أو النفسي فيتكؤون على جهالات العقل الباطن، وهو العقل القديم حسب ما يصنفه علماء النفس. إذن، هناك عودةٌ إلى القديم البالي، وهذه العودةُ هي بمثابةِ وأدٍ للعقل الواعي. فنجد المجتمع لا يستجيبُ لأي خطيبٍ أو مصلحٍ أو عالمٍ يحدِّثهم بمنطق العلم الحديث، ونجدهم يتجمعون حول "المنبر" الذي يشيع الخرافة والأسطورة. وهذا المنبرُ أشبه بعصا الخنفساء التي كان يستخدمها العرب في الجاهلية من أجل الإمساك بالعبد الآبق كما أسلفنا. نجد الآلافَ يصطفون في مناسبات دينيةٍ يدعو إليها رجلٌ يدَّعي التدين ويعرفُ من أين تؤكل الكتف، فأشاع بعلمٍ أو بدون علمٍ ما يعتقد بأنه اليقين أو الحقائق الدينية التي تيقَّن منها بطرق ملتويه هي أشبه بالجدال العقيم والتظليل منها إلى الحقيقة المنطقية التي تبتنى على الأدلة العقلية والنقلية المعتبرة. فنجد هذا الداعية مثلا لا يعترف بكتاب المسلمين الأول وهو القرآن بل يدّعي أنهُ محرَّفٌ، لأنه لا يشفي غليله في تقرير ما يريده وما يود أن يلقنه للمحيطين به.

 انتشرت الخرافةُ في كل مذاهب المسلمين من خلال ابتكار طقوسٍ معينة تعددت صورها ومظاهرها وحرص مبتكروها على شدِّ عقول أتباعهم إليها كالذي نقرأ عنه في تاريخ القرون الوسطى لأوروبا من خلال ابتكار ممارسات ونحوتٍ وتماثيلَ ورقصاتٍ معينةٍ ونشر الأعلامِ من القماش الملون ومسيرات تدق فيها الطبول وتنفخ فيها المزامير من أجل حشد الناس بطريقه الإيحاء النفسي والعدوى المجتمعية. ولم يجدوا وسيلةً أنجع من هذه بغرضِ السيطرة على المجتمع ومقدّراته. وصل الأمر عند هؤلاءِ إلى أنهم اعتبروا الناس عبيداً يعملون في أراضيهم ومزارعهم الواسعة التي استولوا عليها باسم المقدَّس. وهذا ما نشاهده الآن في مجتمع مثل العراق والذي يعد نسخةً مشابهً لما كان يحدث قبل مئات من السنين في تلك البلدان التي تطورت هذه الأيام، فأصبحنا نُهين العقل الواعي ونتمسك بالعقل القديم، العقل الحيواني، الذي يشترك فيه الحيوانُ والإنسان، كما أسلفنا.

أكتب هذه المقالة وأعلم سلفاً أنها لن تؤثر في من يقرأ من هؤلاء المؤمنين بالعقل القديم، وممن سلكوا سبل العقيدة الجامدة والتي لا تستند إلى عقل واعٍ أو منطق أو قواعد علمية سليمة. لكن لابد لنا من أن نطلق العِنان لأقلامنا مؤمنين بأن الإنسان لابد أن يعودَ فيؤمن بقدراتِ العقل الواعي لأنه الوسيلةُ التي أوصلتنا إلى قمة التطور، والذي بفضلهِ نمسك الهاتف المحمول أو نركب السيارة الفارهة وننام تحت أجهزةِ التبريد الحديثة وكل ما له علاقة برفاهية الإنسان. هذه كلها نتاجٌ للعقل الواعي.

 أما العربي والذي بقي مهووساً بأسطورةِ الحضارة القديمة، فبقي إلى هذه اللحظة مؤمنا بالعقل القديم. لذلك نجده يتشبث بإلقاء الخطب الرنانة وكتابةِ القصائد العصماء التي لا تغني ولا تُشبع من جوع. ولا نعلم متى نعي ما حولنا حتى نعيد لعقلنا الواعي هيبته لأن لكل زمان عقل لابد أن نعيش فيه، وآنَ الأوانُ كي نهجر هذه المحاكاة، محاكاة الجهل في المجتمع وأن نقفز بعقلنا الذي سوف نحاسَبُ عليه أمام رب الأرباب وهو العقل الواعي وليس العقل الباطن، لأن الثاني هو مما نحن مجبورون عليه ولا نستطيع تغييره لأنه بمثابه الروح لأجسامنا. هذا الإيحاء بالجهل والخرافة والأساطير التي نراها يوميا في مجتمعاتنا المسلمة لابد أن تتغير يوما، ولنا صولات وجولات في الضرب على هذا الوتر، وتر إيقاظ العقل الواعي من سباته، لعلنا نلحق بالأمم الواعية، أو على الأقل نفلت من عبودية عصا الخنفساء!!

***

بقلم: د. علي الطائي

في المثقف اليوم