قضايا

مصطفى غلمان: الوعي بوصفه تمرّدًا ناعمًا على بنية السلطة

إلى الكاتب المصري محمد فكري الجزار

"هل يمكن للوعي أن يوجد خارج المؤسسة؟"

هل بمقدور الإنسان، كمواطن وككائن قلق، أن يخلق مساحة للفكر لا تخضع لشروط الانتماء ولا لإملاءات النظام الرمزي القائم؟

يبدو هذا السؤال اليوم أكثر إلحاحًا من أي وقت مضى، في زمن تتكاثر فيه المؤسسات وتتقلص فيه الحرية، حيث لم تَعُد السلطة مجرد جهاز سياسي، بل تحوّلت إلى بنية شاملة من المعاني تسكن اللغة والمناهج والإعلام، وحتى مخيلتنا الفردية.

لقد نبّه ميشيل فوكو إلى أن السلطة لا تُمارَس فقط من فوق، بل تتخلل التفاصيل اليومية للحياة. فالمدرسة والمستشفى والجامعة ووسائل الإعلام، ليست سوى أجهزة لإنتاج الطاعة الرمزية، تُعلّمنا كيف نفكر، ومتى نشك، وبأي لغة نعبّر عن قلقنا. من هنا تصبح المؤسسة، في جوهرها، سلطة على الوعي قبل أن تكون تنظيماً للأفعال.

لكنّ الإنسان لا يُختزل في كونه موضوعاً للضبط. فيه دائمًا هامش تمرّد لا يمكن للمؤسسة السيطرة عليه كلياً. إننا نحمل في وعينا بذرَة الشك، تلك الطاقة التي تجعلنا نرفض الاكتفاء بما هو قائم. لذلك، فالسؤال عن "الوعي من خارج المؤسسة" هو في حقيقته سؤال عن الإنسان الممكن فينا. الإنسان الذي لا يُصالح الزيف، ولا يرضى بأن يكون مجرد ترسٍ في ماكينة كبرى اسمها النظام الاجتماعي.

بيد أن هذا الوعي الحرّ لا يُبنى بالخطاب فقط، بل بالتجربة والجرأة. فالمؤسسة تُغري بالانتماء لأنها تُوفّر الأمان. إنها تحدد لك المعنى، وتختصر عليك السؤال، وتمنحك هوية جاهزة. أما الوعي الخارج عنها، فهو مغامرة في المجهول، يتطلّب شجاعة وجودية تشبه ما وصفه سورين كيركغارد حين تحدث عن "قفزة الإيمان"، قفزة نحو الحرية التي لا ضمانات فيها سوى ذاتك.

أن نصنع وعيًا من خارج المؤسسة، يعني أن نتعلم فنّ العيش في المسافة. أن نكون قريبين بما يكفي لفهم النظام، وبعيدين بما يكفي لرفضه حين ينحرف. هذه المسافة الأخلاقية هي ما سمّاه إدوارد سعيد "الموقع الهامشي للمثقف"، ذاك الذي لا يتماهى مع السلطة ولا ينغلق في عزلة النخبة، بل يقف في منطقة التوتر بين الولاء والنقد.

في هذا السياق، يمكن للمواطن الحرّ، لا كفاعل سياسي بل ككائن أخلاقي، أن يسهم في صناعة وعي جماعي مختلف. وعي لا يُختزل في الشعارات ولا في ردود الفعل، بل يتأسس على المساءلة الهادئة، العميقة، والصبورة. فأن نسائل لا يعني أن نعارض، بل أن نُضيء؛ أن نمنح الفكر فرصة ليتنفس خارج الضجيج.

لكنّ الصعوبة الكبرى تكمن في الاندماج دون الذوبان. في عالم يفرض علينا أن نكون متشابهين كي نُقبَل، يصبح التفكير المستقل فعلاً شبه متمرد. كيف يمكن أن نعيش في جماعة لا تُحبّ من يفكر خارج قطيعها؟

قد يكون جواب إيمانويل ليفيناس مقنعا، إذ يرى أنه "ليس في الهروب من الآخر، بل في الإصغاء إليه دون أن نُلغي ذاتنا". الوعي الحرّ لا يقوم على النفي، بل على الاعتراف. أن نعترف بتعدد الرؤى، وبأن الحقيقة ليست ملكية فردية بل أفق مشترك نقترب منه ولا نمتلكه. وفي ضوء ذلك، تصبح المواطنة فعلاً فلسفيًا بامتياز. ليست مجرد انتماء قانوني، بل قدرة على مساءلة الجماعة دون خيانة لها. فالمواطن الحرّ لا يعيش خارج المؤسسات، لكنه يرفض أن تكون تلك المؤسسات سقفًا لوعيه. إنه يعمل على تحويلها من أدوات للسيطرة إلى فضاءات للنقاش، من رموز للجمود إلى محركات للتجدد.

وهنا نصل إلى سؤال الراهن: كيف يمكن أن يُولد هذا الوعي في زمن العزوف، وسط جيل تائه بين ثقل الموروث وسطوة الصورة؟

ربما يكون الجواب في العودة إلى الإنصات للذات المفكرة. تلك التي ترفض الاندماج في ضجيج الخطاب الجاهز، وتسعى لإعادة بناء علاقتها بالمعنى، بالمعرفة، وبالمسؤولية. فالوعي الخارج عن المؤسسة لا يولد من الغضب وحده، بل من حبّ الحقيقة أكثر من حبّ الأمان.

إنه وعي لا يرفع شعار الثورة بقدر ما يُمارس ثورة صامتة في العمق:

*حين نعلّم أبناءنا كيف يسألون بدل أن يكرّروا.

*حين نكتب لا لنبرّر بل لنُزعج.

*حين نُصغي إلى المختلف دون خوف.

*حين نُدرك أن الفكر ليس وسيلة للتكيّف بل طريق نحو الكرامة.

إن بناء وعي من خارج المؤسسة ليس دعوة إلى الفوضى، بل إلى استعادة الحرية كشرط للإنسانية. فكل مؤسسة، مهما بلغت قوتها، تبقى محتاجة إلى ذاك الكائن الحرّ الذي يذكّرها بأن صلاحها في أن تُسائل نفسها. ذلك هو جوهر الوعي النقدي. أن يكون ضميراً يقظاً، لا معادياً ولا خانعاً، بل حارساً للمعنى في زمنٍ فقد فيه المعنى قيمته.

فحين نصير قادرين على التفكير من خارج الأسوار، وحين نجرؤ على أن نكون ذواتنا رغم الضجيج، وحين نُدرك أن مسؤوليتنا الأولى هي أن نحمي وعينا من الترويض، عندها فقط نكون قد بدأنا فعلًا رحلة الإنسان نحو الحرية الممكنة.

***

د. مصطفى غَلــــمَــان

في المثقف اليوم