قراءات نقدية

عبد السلام فاروق: "صلاة القلق" الرواية الفائزة بالبوكر

تكتب التاريخ بأظافر الحائرين!

في عالم تتداخل فيه الهزائم بالأسئلة، والأوجاع بالأساطير، تطفو رواية "صلاة القلق" للكاتب المصري محمد سمير ندا كمرآة مشرعة على جراح عربية لم ترتق بإبرة الزمن، بل نزفت حروفا تبحث عن ذاكرة ضائعة. من قرية صعيدية تحاصر بأوهام النصر، إلى أجساد تتحول إلى سلاحف تحت وطأة وباء غامض، ينسج الكاتب خريطة سردية تختبر الهوية في زمن التشوهات. 

لا يكتفي سمير ندا بسرد حكاية عن ماض مثقل بالهزائم، لكنه يحفر في جداريات التاريخ بأظافر الخيال، ليكشف كيف تصادر السلطة حق الإنسان في الحقيقة، وتحوله إلى كائن مسوخ يرقص على إيقاع أوهامها. عبر ثماني حكايات متشابكة، تتحول "نجع المناسي" – بوبائها الغامض وجدرانها الناطقة – إلى استعارة مرعبة لعالمنا العربي: جيتو مغلق تديره صحف الدعاية، وحروب وهمية تخفي خلفها جوعا للحرية. 

بينما يحتفي النقاد بالرواية كـ"صوت جريء" حصد جائزة البوكر العربية (2025)، تظل أسئلتها الأكثر إيلاما عالقة في الذهن: كيف نكتب تاريخنا دون أن نصبح شخصيات في رواية مأساوية؟ وهل يكفي الأدب لإنقاذنا من متاهة الهزائم التي نعيشها مرتين: مرة على الأرض، ومرة في الذاكرة؟

 محمد سمير ندا.. ابن الحكايات المتنقلة 

ولد محمد سمير ندا في بغداد عام 1978، ابنا لأب من أدباء جيل الستينيات، وأم عملت في وزارة الثقافة المصرية. نشأ في بيت تقرأ فيه كتب محمد حسنين هيكل قبل النوم، وتحفظ فيه مسودات الأب بين أوراق المكتبة الهائلة. تنقل بين العراق ومصر وليبيا، فاكتسب "تنوعا ثقافيا" صاغ وعيه ككاتب يبحث عن الهوية في فسيفساء الجغرافيا. 

لم يخلق ندا ليكون مديرا ماليا في مشروع سياحي، بل ليحمل قلما يقلب صفحات التاريخ ويمسك بجراح الأمة. بدأ برواية "مملكة مليكة" (2016)، ثم "بوح الجدران" (2021)، التي اعتبرها تحررا من ظل الأب، قبل أن يصل إلى ذروة نضجه مع "صلاة القلق" (2024)، التي حولته من كاتب واعد إلى صاحب "صوت جريء" يرمي الحجارة في بحيرات الأدب الراكدة. 

فوز "صلاة القلق" بجائزة البوكر العربية (2025) اعتراف بجرأة كاتب يرفض أن يكون "مخدرا للوعي". الجائزة، بقيمتها 50 ألف دولار، لم تمنح للرواية لأنها تمس جرحا عربيا نازفا: صدمة الهزيمة، ووهم السيادة، وآلة تزييف الوعي التي تديرها السلطة. 

الرواية تعيد طرح سؤال قديم جديد: من يملك حق كتابة التاريخ؟ هل هو المنتصر الذي يروي الحكاية بالدبابات، أم المقهورون الذين تختزل أصواتهم إلى همسات؟ هنا، يختار سمير ندا أن يكون صوت "حكيم"، الطفل الأخرس الذي يكتب فضائح القرية على الجدران. حكيم هو الاستعارة الأقوى لكاتب عربي يجبر على الصمت، لكنه يرفض أن يغمض عينيه. 

الرواية، برغم ثقلها السياسي، لم تنس أن تكون أدبا: لغة شعرية تنساب كأنها ترتيل، شخصيات تخرج من الأعماق لتذكرنا بأننا جميعا – في النهاية – نسكن "صناديق معتمة" تحت الحصار. 

الأدب والتغيير 

"الكاتب الحقيقي لا يحل الأزمات، لكنه يلقي بالحجارة في المياه الراكدة"، يقول محمد سمير ندا. ربما لن تنهي "صلاة القلق" حربا، لكنها كشفت أن الأدب العربي لم يمت بعد. فبينما تترجم الرواية إلى لغات العالم، يبقى السؤال: هل نستحق نحن – كقراء – هذا الأدب الجريء؟ أم أننا سنظل نعيش في "نجع المناسي" الخاص بنا، ننتظر معجزة لن تأتي؟ 

لا يمكن فصل "صلاة القلق" عن سياقها التاريخي الذي تنبثق منه: هزيمة 1967، التي لم تكن مجرد كارثة عسكرية، بل زلزالا هدم أسطورة "القيادة الثورية"، وكشف عن مجتمع مثقل بأوهام السيادة والبطولة. قرية "نجع المناسي" ليست إلا استعارة للعالم العربي الذي تحول إلى جيتو مغلق، تديره سلطة تبيع الوهم كسلعة، وتحول الهزيمة إلى "حرب دائمة" ضد عدو مجهول. هنا، يذكرنا محمد سمير ندا بجرأة غسان كنفاني في "رجال في الشمس"، حيث الموت البطيء تحت أشعة الواقع المحرق. 

الوباء الذي يشوه أجساد أهل النجع ليس سوى الانزياح الأبرز للكارثة الجماعية: تشوه الذاكرة، وانزياح الهوية، وتحويل الإنسان إلى كائن مسوخ، يركض خلف أسطورة "النصر القادم" التي تروجها صحيفة "صوت الحرب". هذه الآلية التضليلية ليست ابتكارا أدبيا، بل هي استنساخ لدور الإعلام الناصري في تحويل الهزيمة إلى "نصر مؤجل"، كما حدث في أعقاب 1967. 

المثقف والسلطة

في الرواية، تبرز شخصية "خليل الخوجة" كممثل للسلطة التي تعيد إنتاج الوهم عبر خطاب ثوري مزيّف، بينما تشبه شخصية "حكيم" الطفل الأخرس، المثقف العربي الذي تقيده السلطة بأصفاد الصمت، فيلجأ إلى الكتابة على الجدران، كفعل مقاومة صامت. لكن هل تكفي الكتابة على الجدران لمواجهة آلة السلطة؟ التاريخ يجيب أن الثورات لا تندلع من الجدران، بل من بطون الجياع، كما حدث في انتفاضة الخبز عام 1977، التي تتزامن زمانيا مع أحداث الرواية. 

اللافت أن ندا، رغم جرأته، يقع في فخ التناقض ذاته الذي ينتقده: فخاتمة الرواية التي تشرح كل شيء عبر تقرير طبي، تعيد إنتاج منطق السلطة المستبدة التي تفرض رواية واحدة للحقيقة، مكرسة بذلك إيمانا زائفا بـ"العقلانية العلمية" كبديل للخرافة، دون أن تدرك أن العلم نفسه قد يصير أداة للقمع إذا تحالف مع السلطة. 

البنية السردية

الرواية تقدم نفسها كـ"فسيفساء" من ثماني حكايات، لكن هذا التعدد يشبه – في رأيي – محاولة كتابة تاريخ بديل للهزيمة عبر وجهات نظر المهمشين. هنا، يذكرنا ندا بتقنية غسان كنفاني في "باب الشمس"، حيث تتداخل الأصوات لتكشف زيف الرواية الرسمية. لكن الفارق الجوهري هو أن خوري احتفظ بغموض المأساة، بينما ندا ينهي روايته بـ"تقرير طبي" يغلق الأبواب على التأويل، وكأنه يعيد إنتاج خطاب السلطة التي ترفع شعار "الحقيقة العلمية الواحدة". 

البوكر العربية: جائزة للتاريخ أم للأدب؟ 

يعتبر فوز "صلاة القلق" بالبوكر اعترافا بأهمية طرح الأسئلة المحرمة عن الهزيمة وتزييف الوعي، لكن الجوائز الأدبية – في العالم العربي – غالبا ما تكون جزءا من لعبة ثقافية تدار من أبراج عاجية. فهل نالت الرواية الجائزة لأنها "مزعجة" فعلا، أم لأنها تعبر عن وعي زائف يظن أنه يزعج السلطة بينما هو يدور في فلكها؟ التاريخ يعلمنا أن الأنظمة العربية ترحب بأدب ينتقد الماضي، شرط ألا يمس حاضرها. 

الأدب كـ"شاهد زور"!

"صلاة القلق" تذكرنا بأن الأدب العربي ما زال يعيش في ظل هزيمة 1967، كشاهد يدلي بشهادة متحيزة عن الجريمة. لكن الأدب الحقيقي – في رأيي – ليس من يصف الجريمة، بل من يبحث عن المجرم الحقيقي خلف ستار الأبطال المزيفين. الرواية نجحت في فضح أوهام الماضي، لكنها فشلت في اقتحام أسوار الواقع الراهن، حيث تعاد إنتاج الهزيمة يوميا تحت مسميات جديدة: "الاستقرار"، "مكافحة الإرهاب"، و"الشرعية الدولية". 

السؤال الذي يظل معلقا: متى سنكتب رواية عن هزائمنا دون أن نتحول نحن نفسنا إلى "شخصيات روائية" تائهة في متاهة التاريخ؟

***

د. عبد السلام فاروق

 

في المثقف اليوم