قراءات نقدية
منذر فالح الغزالي: البنى السردية في رواية "ياسمين سومري"

للأديبة السورية سمر الديك
مقدمة: تعتبر رواية "ياسمين سومري" للأديبة السورية سمر الديك نصاً سردياً غنياً بالدلالات والعلاقات البنيوية التي يمكن استكشافها من خلال المنهج البنيوي. يركز هذا المنهج على دراسة النص الأدبي باعتباره بنية متكاملة، مؤلفة من عناصر متداخلة تربطها علاقات داخلية، بهدف الكشف عن القوانين والأنظمة التي تحكم بناء النص وتوليد المعنى فيه.
1. بنية الشخصيات والعلاقات:
تتميز الرواية ببنية شخصيات معقدة، حيث تتنوع الأدوار والعلاقات بينها. يمكن تحليل هذه البنية من خلال الثنائيات الضدية والمتشابهة.
* هيفاء وعصام: يمثلان ثنائية زوجية، ولكن علاقتهما تشهد صراعات وتوترات، خاصةً بسبب تدخلات الأم والأخت. يمكن اعتبار عصام ممثلاً للسلطة الذكورية التقليدية، بينما تمثل هيفاء صوتاً نسوياً يسعى للتحرر. "اسمعي جيداً، وتذكري ذلك دائماُ: إنْ لمْ تعجبك طريقة عيشنا، وطريقة تصرفاتي معك، يمكنك أن تغادري البيت بلا رجعة، لقد سئمت هذه الحياة، وسئمت من نظراتك الغريبة هذه."[i] هنا يبرز صراع السلطة الذكورية.
لكن، من جهةٍ أخرى هيفاء وعصام يمثلان ثنائية متوافقة، على اعتبار أنهما زوجان يجمعهما الحب والهدف المشترك للأسرة والأولاد.. لنستمع إلى هذا المونولوج الذي يبرز مشاعر الرضا في قلب هيفاء… "أحمد الله على نعمة الحبّ الذي يسود في بيتنا، رغم بعض المنغصات، ولكن في كل بيت توجد من المشكلات التي قد تسبب المتاعب للجميع، لكن الأهمّ أنني وعصام نتبادل الاحترام والتفاهم في كل صغيرة وكبيرة، يجمعنا حبّ عميق، وهدف واحد مشترك، أن نتفانى من أجل مستقبل ولدينا[ii]."
* هيفاء وسوسن: تمثلان ثنائية ضدية، حيث تتسم علاقتهما بالغيرة والحقد. سوسن تمثل الشخصية السلبية التي تعيق سعادة هيفاء واستقرارها… "كم كانت سوسن تحمل ضدّها من الحقد والغيرة بسبب نجاحها في عملها! بينما هي فشلت حتى في الدراسة، وبقيت جليسة الدار لا تتوانى عن إثارة المشاكل داخل الأسرة، لسبب أو بدون سبب."[iii]
* هيفاء ورجل الياسمين: يمثل هذا الرجل عنصراً غامضاً ومتكرراً في حياة هيفاء، ويمكن اعتباره رمزاً للحب الضائع أو الحلم المنشود. علاقته بهيفاء تتجاوز الواقع لتلامس البعد الرمزي والصوفي…"لكن لمْ تعرف لماذا يتكرر حضوره معها؟! هذه هي المرة الثانية، هل سيعود مرة أخرى؟"[iv]
2. بنية الأحداث والحبكة:
تتكون حبكة الرواية من سلسلة من الأحداث المتداخلة التي تتصاعد وتيرتها تدريجياً. يمكن تحليل بنية الأحداث من خلال:
1. الصراع الرئيسي: يتمثل في صراع هيفاء من أجل الحفاظ على هويتها وتحقيق ذاتها في ظل القيود الاجتماعية والأسرية. "لا لن أضعف ولن أستسلم للمشاكل التي تحيكها سوسن وأمها بين الحين والآخر. سأقاوم كل تلك العقبات وأضع ملحاً على جرحي الذي ينزف بين الحين والآخر."[v]
2. الأحداث المحورية: تشمل زواج هيفاء، والصراعات الأسرية، وظهور رجل الياسمين، وأحداث الثورة السورية، وهجرة هيفاء وأولادها. يصف الاقتباس التالي بداية الثورة كحدثٍ محوريٍّ في الرواية:"… وكان العام 2011 عام الانتفاضة ضد الطغيان، والسياسات الرعناء التي أدخلت البلاد في نفق مظلم، نفق لا أحد يعلم له نهاية، سمعت هيفاء رنين الهاتف...واعتبرها ألم فظيع لم تعرف له سبباً…[vi]"
3. التوازي والتكرار: يتكرر ظهور رجل الياسمين كعنصرٍ دلاليٍّ هام، وكذلك تتكرر صور العنف والفقد. هذه التوازيات والتكرارات تساهم في تعميق المعنى الرمزي للرواية. "قبل أن تغلق النافذة، شاهدت رجلاً ينزف بغزارة، يقوم ويسقط، والرصاص ينهال عليه بلا رحمة، ما إن سقط على الأرض، حتى نظر الى الشرفة التي كانت خلفها هيفاء، رمقها بنظرة عتاب أوجعت قلبها، واستخرج من جيب قميصه الممزق والملطخ بالدماء، زهرة ياسمين لوّث بياضها دمه الحار، ولوّح لها بها، وسقط بلا حراك."[vii]
3. بنية المكان والزمان:
يلعب المكان والزمان دوراً هاماً في بنية الرواية، حيث يساهمان في تشكيل الأحداث والشخصيات.
بنية المكان:
تتنوع الأمكنة في الرواية، حيث تنتقل الأحداث بين البيت والمدينة والمزرعة وبلاد الاغتراب. هذه الأمكنة تمثل عوالم مختلفة لهيفاء، وتعكس تحولاتها النفسية والاجتماعية. لاحظ دفء اللغة في وصف البيت وتفاصيله الإنسانية: "كان بيتهم يغصّ بالنساء والرجال، كل شيء لم يكن طبيعياً فيه، لكنها بفطرة الطفولة لم تفهم ما يجري في بيتهم بعد ان كان آمناً[viii]."، وبرودها وحياديتها حين تصف مكانزالاغتراب، على الرغم من أن الراوي في كليهما هو الراوي العالم ذاته: "لقد حطّت رحالها أخيراً في مدينة مرسيليا، ثاني أكبر مدينة في فرنسا بعد باريس، فهي تُعد من أهم موانئ البحر الأبيض المتوسط[ix]".
بنية الزمان:
تتناول الرواية فترةً زمنيةً واسعةً، تمتد من طفولة هيفاء إلى نضوجها، وتشمل أحداثاً تاريخية هامة مثل الثورة السورية، وما تبعها من اغتراب. الزمن في الرواية ليس خطياً، بل يتداخل فيه الماضي والحاضر والمستقبل، ما يجعل السرد في حالة من الحيوية والتنقل القلق، الذي يشي بحال البطلة هيفاء القلقة غير المستقرة، المشتتة الذهن بين ذكريات عذبة، وحاصرٍ قاسٍ، ومستقبلٍ غامض. الاقتباس التالي يصف تأثير الماضي على الحاضر في وجدان هيفاء… "لمْ تغادر ذاكرة هيفاء تلك الليلة الشاتية الباردة، ولم يغادرها ذلك الصراخ والعويل اللذين حوّلا ذاك الصباح الى كابوس مرعب ظلّ يرافقها مدى الحياة!"[x].
4. بنية اللغة والأسلوب:
تتميز لغة الرواية بالشاعرية والرمزية، حيث تستخدم الكاتبة الصور الفنية والتشبيهات والاستعارات للتعبير عن المشاعر والأفكار.
* الرمزية: يعتبر الياسمين رمزاً محورياً في الرواية، حيث يمثل الحب والجمال والأمل المفقود. كما أن رجل الياسمين يحمل دلالات رمزية تتعلق بالخلاص والتحقق… "يا إلهي! ما الذي يحدث؟! لماذا أنا مرتبكة الى هذا الحدّ؟! مَنْ هذا الذي يحمل راية الوطن خفّاقة لوحده في هذا الطريق؟! أيعقل أن يكون هو نفسه رجل الياسمين؟!"
* التكرار: يتكرر استخدام بعض الكلمات والعبارات، مثل "الحزن" و"الفقد" و"الوطن"، للتأكيد على الثيمات الرئيسية للرواية. "لقد أصبح الإنسان قارةً للحزن[xi]..."، "في الغربة، عليك أن تتكيّف مع المحيط الجديد الذي ساقك القدر إليه[xii]"
* التناص: تحيل الرواية إلى بعض النصوص الأدبية والتاريخية، مما يثري دلالاتها ويمنحها عمقاً ثقافياً، يمثّل استحضار اسم جيكا، المناضل المصري في ثورة يناير ربطاً فكرياً بين الثورة في سوريا، وثورات الربيع العربي المتمثلة بثورة يناير في مصر، ومن ناحية أخرى، يمثل هذا التناص الحالة الإنسانية الشاملة لأبطال الثورة السورية، باعتبارهم ثاروا على الطغيان، وهي حركة ثورية عامة وقيمة إنسانية عليا، "هل أصبحت أمنية هذا الجيل الفتيّ، الجيل الذي بدأ يحلم بالحرية، والكرامة، والخبز، الجيل الذي بدأ يسعى الى تأسيس دولة للقانون، تحفظ البلاد والشعب، وتصون كرامته، وتحقق أمنياته في الحرية والتقدم والسلام، هل أصبح همّه اليوم أن يحظى بجنازةٍ كالتي حظي بها جيكا؟![xiii]"
5. الثنائيات الضدية على مستوى الموضوعات:
تعتمد الرواية على عدة ثنائيات ضدية تساهم في بناء الصراع الدرامي وتعميق الدلالات:
1. ثنائية الحب والكراهية: يتجلى صراع الحب والكراهية في علاقة هيفاء بكل من عصام وسوسن. "على الرغم من زواجهما التقليدي، إلاّ أنّ مشاعر الحبّ بينهما أصبحت رابطاً قوياً يربطهما، لكن الحياة لن تكون هانئة سعيدة كما يتمنى الانسان، فبعد ثلاث سنوات على زواجهما، بدأت المشاكل تطفو على السطح وتعجّ بأمان البيت، وكانت بوصلة الاتهام تتجه دائما صوب سوسن!"[xiv]
2. ثنائية الحياة والموت: يحضر الموت بقوة في الرواية، خاصةً مع أحداث الثورة والحرب، مما يخلق توتراً وجودياً. "لماذا يتكاثر الموت في بلادنا؟! ولماذا الرصاص يعشق أجساد أبنائنا الفتية؟!"[xv]
3. ثنائية الأمل واليأس: تتأرجح هيفاء بين الأمل في غدٍ أفضل واليأس من الواقع المرير. "يا كريم، يا صديقي العزيز...اكتشفت كأنَّني أعرفك منذ زمنٍ طويلٍ، لمحتُ في عينيك حزني... شعرت هيفاء بأنَّ سُحباً سوداء من الضياع تحتضنها...لكنَّها قاومت حتَّى لا تشعر باليأس[xvi]..."
4. ثنائية الشرق والغرب: تبرز ثنائية الشرق والغرب في انتقال هيفاء إلى فرنسا واكتشافها لثقافة مختلفة. "في الغربة، عليك أن تتكيّف مع المحيط الجديد الذي ساقك القدر إليه، وعليك الاندماج في هذا المجتمع الجديد[xvii]."
الخاتمة:
تعتبر رواية "ياسمين سومري" للأديبة السورية سمر الديك، بنيةً سرديةً متكاملة، تتداخل فيها الشخصيات والأحداث والأمكنة والأزمنة واللغة لتشكل عالماً روائياً غنياً بالدلالات. من خلال المنهج البنيوي، يمكننا الكشف عن العلاقات الداخلية التي تربط عناصر الرواية، وفهم القوانين التي تحكم بناء النص وتوليد المعنى فيه. تتناول الرواية قضايا إنسانية واجتماعية وسياسية مهمة، وتقدم رؤيةً عميقةً للواقع السوري المعاصر وتجربة الاغتراب والبحث عن الذات.
***
دراسة نقدية بقلم: منذر فالح الغزالي
بون/ ألمانيا الاتحادية في 4/5/2025
........................
[i] ياسمين سومري ص 18
[ii] ياسمين سومري ص15
[iii] ياسمين سومري ص14
[iv] ياسمين سومري ص26
[v] ياسمين سومري ص16
[vi][vi] ياسمين سومري ص28
[vii] ياسمين سومري ص25
[viii] ياسمين سومري ص34
[ix] ياسمين سومري ص82
[x] ياسمين سومري ص34
[xi] ياسمين سومري ص11
[xii] ياسمين سومري ص63
[xiii] ياسمين سومري ص 31
[xiv] ياسمين سومري ص16
[xv] ياسمين سومري ص23
[xvi] ياسمين سومري ص154
[xvii] ياسمين سومري ص63