قراءات نقدية
عماد خالد رحمة: المنهج الرمزي الأسلوبي في قصيدة "ضحكات الثعالب"

للشاعر الفلسطيني محمود السرساوي
دراسة نقدية تحليلية، مع تطبيق المنهج الرمزي الأسلوبي والنفسي والهيرمينوطيقي والسيميائي، مع التركيز على البنى النفسية والنبض الشعري.
تعدُّ القصيدة العربية الحديثة، بما فيها من سمات شعرية وأسلوبية، مرآةً تعكس الواقع الاجتماعي والسياسي، وكذلك الانشغالات النفسية والفكرية للشاعر. ومن بين هذه القصائد، تبرز قصيدة "ضحكات الثعالب" للشاعر الفلسطيني محمود السرساوي، كواحدة من الأعمال الشعرية التي تعكس التوتر العميق بين الذات الفلسطينية والواقع المعاش تحت وطأة الاحتلال والمنافي. عبر هذه القصيدة، لا يقتصر السرساوي على نقل تجربة الفرد الفلسطيني المعذَّب، بل يعبر عن قضايا أكبر تتعلق بالهوية والذاكرة الجماعية والمقاومة.
تهدف هذه الدراسة إلى تحليل وتفكيك النص الشعري باستخدام مجموعة من المناهج النقدية المتنوعة، من أبرزها المنهج الرمزي الأسلوبي، الذي يكشف عن غموض الرموز ودلالاتها العميقة، والمنهج النفسي الذي يعمق فهمنا للبنية النفسية للشاعر في سياق محيطه الاجتماعي والسياسي. كما سيتم الاستعانة بالمنهج الهيرمينوطيقي لفهم تفاعل النص مع محيطه الثقافي والسياسي، بالإضافة إلى المنهج السيميائي لفك شفرة العلامات اللغوية والرمزية التي يبتكرها الشاعر.
سأتناول هذا البحث التوترات التي تتولد بين اللغة النثرية الشعرية والبنية النحوية، وأثر ذلك في بناء النص وتوجيه معانيه. من خلال قراءة معمقة، سأحاول كشف ما تحت السطح الشعري من نبض حزين وتوترات نفسية، وكيف يُحسن الشاعر استخدام الرموز والصور البلاغية لتمثيل التجربة الفلسطينية المتشظية بين الأمل واليأس، وبين الحنين والحزن.
كما أتطرق في هذا التحليل إلى تسليط الضوء على بنية القصيدة الإيقاعية والوزنية التي، وإن كانت تبدو على السطح خالية من الانتظام، إلا أنها في الحقيقة تمثل اضطراب الشاعر الداخلي، الذي لا يظل أسيراً للإيقاع التقليدي بل يبحث عن أشكال من الحرية والتعبير.
من خلال هذه الدراسة، أسعى إلى تقديم قراءة نقدية متعددة الأبعاد لهذه القصيدة، التي تُعتبر نموذجاً للتجربة الفلسطينية في الشعر المعاصر، ومصدراً خصباً لدراسة اللغة الشعرية في مواجهة الواقع السياسي والنفسي القاسي.
قصيدة "ضحكات الثعالب" للشاعر الفلسطيني محمود السرساوي تتيح فرصاً متعددة لتحليل عميق وقراءة نفسية، سيميائية، ورمزية للرموز والمفردات التي يبني عليها النص.
يعتمد محمود السرساوي على الرمزية بشكل مكثف ليجسد موضوعات الألم والحزن والصراع الداخلي. الرموز التي يتعامل معها الشاعر تعكس مجموعة من المفاهيم التي تتجاوز المعنى المباشر للكلمات لتفتح الباب أمام تأويلات عميقة.
الرمز "ضحكات الثعالب":
الثعالب في الأدب العربي غالباً ما تمثل المكر والخداع والخيانة. هنا قد تكون الثعالب رموزاً للقوى المستعمرة أو القمعية التي تعامل مع الفلسطينيين بمكر وتخطيط خبيث. ربما تشير إلى "ضحكات" غادرة تخفي وراءها عواقب مأساوية، مثلما تفعل الثعالب في أساطير كثيرة، تضحك في الظلام بينما تدبر الخيانة.
- الرمز "الغياب" و"الرجوع":
صورة العودة التي تتكرر ("أعود... أعود") تكشف عن الصراع الداخلي بين الأمل واليأس، بين الرغبة في العودة إلى الأرض أو الوطن وبين الفقدان المستمر. يرمز الغياب إلى الحضور الغائب للمحب أو للوطن، والعودة هي رغبة مستمرة للمصالحة مع الذات والمكان.
- الرمز "العناقيد" و"الشموس":
العناقيد غالباً ما تحمل رمزية البذرة والخصوبة في الثقافة العربية، في سياق القصيدة قد تكون العناقيد رمزا للذاكرة أو الأمل الذي لم يتحقق أو للحقوق الضائعة. كما أن "الشموس" تعكس سعي الشاعر لاستخراج النور من ظلام التشرذم والشتات.
- المنهج النفسي:
في القصيدة، يمكننا تحليل جوانب من النفسية المعذبة والمشتتة للشاعر الفلسطيني في لحظات فقدانه وتناقضاته الداخلية.
تعبير الشاعر عن صراع داخلي:
الشاعر يمر بتجربة نفسية معقدة حيث تجسد قصيدته تناقضات مشاعر الفقد، الندم، والحب المتناثر. تعبيره عن "أكاد أباعد بيني وبيني" يشير إلى انفصال نفسي عميق، وصراع داخلي بين الذات والواقع، وهي إشارة إلى حالة الانشطار الشخصي والوطني.
- الهويات المتعددة والاضطراب النفسي:
الجملة "كأن الذي عاد بي ليس بي" تعكس صراعاً هوياتياً يعيشه الفلسطيني في المنفى، حيث يتعرض لشعور بالغربة سواء تجاه ذاته أو تجاه محيطه. قد تكون هذه الكلمات أيضاً تعبيراً عن الاغتراب النفسي، وكأن الشاعر يشكك في هويته أو في دوره في الحاضر.
- الاغتراب والموت الرمزي:
تكرار الشاعر السرساوي للحديث عن الموت ("أما كنت انفض رملي الأخير") يعكس حالة من الإحباط الوجودي والروحي. الموت في القصيدة ليس فقط موتاً جسدياً، بل موتاً رمزياً مرتبطاً بفقدان الأمل أو فقدان العائلة أو الوطن.
- المنهج الهيرمينوطيقي:
التحليل الهيرمينوطيقي يعتمد على فهم النص وتفسيره في سياق المعاني التي يتخطى ظاهر النص، ويحتاج إلى فك شفرة الرموز داخل سياق الشعر والمجتمع.
- الأساطير والإشارات الثقافية:
الشاعر يتحدث عن "إعادة الأساطير" ليظهر كيف أن الفلسطيني، بما في ذلك الشاعر نفسه، يحمل عبء التاريخ ويمزج بين الواقع والخيال لبناء مقاومة ضد محو الهوية. الأساطير هنا ليست مجرد حكايات قديمة، بل هي أداة للمقاومة، لنقل ذاكرة الشعب الفلسطيني.
- الذاكرة الجماعية:
"أعدت الأساطير من ملح يومي" تحمل في طياتها الإشارة إلى الذاكرة الجماعية لشعب فلسطيني ضحى بالكثير ولا يزال يقاوم تحت الاحتلال. الأسطورة هنا تتشكل من المعاناة اليومية والاحتفاظ بالذاكرة على الرغم من التغيرات القاسية.
التفاعل مع الملتقى السياسي والإنساني:
القصيدة تتوجه إلى "الثعالب" التي قد تمثل الأنظمة أو القوى المعادية التي تهدد الأمة الفلسطينية. الشاعر يطرح أسئلة إنكارية كـ"أليس الشهيد بداية عمري؟" ليبني علاقة بين الألم الشخصي والجماعي، ويعكس التفاعل بين السياسي والإنساني في نفس الوقت.
- المنهج السيميائي:
من خلال السيميولوجيا، يمكن دراسة العلامات والرموز اللغوية التي يستخدمها الشاعر.
علامة "السيوف والعذاب":
السيوف ترمز إلى الصراع والعنف، بينما العذاب قد يرمز إلى الألم الفلسطيني المستمر. السيوف والعذاب ليسا مجرد صور حسية، بل هما علامات على الاستمرار في الكفاح ضد الظلم والاحتلال.
- العلامات الصوتية:
الصوتيات في القصيدة تشكل جزءاً من الأداء الشعري حيث يلاحظ التكرار اللغوي ("أعود... أعود") الذي ينقل الإحساس بالدوران في حلقة مفرغة من الحزن والصراع.
- الظلال والأضواء:
كما هو الحال مع "الشموس" و"ظلال المقل"، يستخدم الشاعر التناقضات السيميائية بين الضوء والظلام لتمثيل الأمل واليأس، الاستيقاظ والموت، الحياة والدمار، وهي عناصر حيوية في فهم التوتر الداخلي للشاعر.
- البنية النحوية والوزن والقافية:
من الناحية النحوية والوزنية، تظل القصيدة محكمة الأسلوب والوزن، لكن هناك بعض الملاحظات:
١- التكرار:
تكرار الجملة "أعود... أعود" يظهر بشكل ملفت، مما قد يثقل الوزن الموسيقي ويحول النص إلى دائرة مغلقة من الحزن والتوق. هذا التكرار يعزز الدلالة الرمزية للعودة المستمرة إلى موضوع الفقد.
٢- التوازن بين الجمل:
من الناحية النحوية، بعض الجمل تأتي طويلة جدًا بحيث يصعب تتبع المعنى بالكامل من دون توقف أو تنفس، مثل: "وما في دمائي سواك رفيق / وتعصين نزفي". هذا التوتر قد يكون مقصودًا لإظهار الضغوط النفسية على الشاعر.
٣- القافية:
القافية في القصيدة متنوعة بين السطور، مما يساهم في إبراز التشويش العاطفي والحالة الوجدانية المتقلبة للشاعر. حيث يتم الخروج أحياناً عن الإيقاع التقليدي في مواضع معينة، مما يعكس التوتر داخل النص.
- الخاتمة:
قصيدة "ضحكات الثعالب" للشاعر محمود السرساوي تجمع بين العديد من المناهج النقدية لتعبّر عن ألم الفلسطيني وتوتره الوجداني والنفسي. الرمزية الحاضرة في النص تتداخل مع الهويات الثقافية والسياسية، مما يجعل القصيدة لوحة شعورية تحمل فيها الألم والتمرد والأمل.
***
بقلم: عماد خالد رحمة - برلين
..........................
ضحكات الثعالب
أعود... أعود
يداك وكأس الغياب وصلبي وعتم الطريق
وكم قلت تبت
تناثر حولي المكان الشهي العصي الأسير
وما في رجوعي سوى حسرتين
وما في ضلوعي سوى جمرتين
ومافي دمائي سواك رفيق
وتعصين نزفي...
صباح الزهور التي أيقظتني على لمس نارك
ويقظة كل العيون النبية عند انتظارك
وتنسين أني
أعدت الأساطير من ملح يومي
وجندت صفا من الياسمين ليعبر دارك
أعود أعود
ألم عن النهر رف القبل
ورعش العيون المجرح قبل ارتعاش الشفاه
ونبض السماء على الضفتين
وطيف العناقيد بعد التداني
وخمر النشيد الذي لم يقل
كأن الذي عاد بي ليس بي
كأني خسرت شراع الكلام
وزهو الغمام
وصبو الحجل
كأني ترقبت هذا الغياب
وضيعت نفس الطريق لألقى
عناقيد روحي
وقد لوحتها شموس المقل
**
أكاد أباعد بيني وبيني
وأرمي بأوزار حلم قديم
تمرد كالريح بين الأيادي
وأزهر كالصمت خلف الشفق
ومازلت أخشى اغتصاب نشيدي
ودمع حبيبي
وما شب مني
ليعبر قبلي حنين الورق
أكاد أرى الروح يا صاحبي
تشق البلاغة في دمعتيك
تميط اللثام عن الأغنيات
وتفزع من شهوة الإنزلاق أمام يديك
أكاد أراك أكاد أراني
واقرأفي نزوة الخادعين ذبول القرار
أحقا تريد الخروج عليهم
وتخلع ذئب السكوت الممرغ في الاعتذار
أما كنت انفض رملي الأخير
وانس سؤالي تماما تماما
لماذا استباحوا حليب العناق وخانوا الكلام
أليس الشهيد بداية عمري
أما صان نبضي وغنى لهيبي
أليس البعيد قيامة قلبي
من الغيب يصرخ اين حبيبي
وأين الرفاق الذين أحبوا جنون الجذور بنا والتعب
هنا نفترق
أزيحوا الستائر عنكم قليلا
فقد هد قلبي رنين الخطب
فكيف اتكأتم على سر قبري
وقلتم نجدل شعر البراري
ونرفض أن تستبد الجراح
أصدق ما كان أو قيل عني
أصدق زهو البيان الأخير
أصدق نهر المقابر فينا
أصدق شهد الندى والشجر
أيكفي صراخ الأرامل يكفي
أتكفي الصور
لأنسل وحدي
بريء الأغاني التي زاملتني بهذا السفر
إذن فاسمعوني
وقولوا لكل الثعالب شكرا
حرسنا العنب
حرسنا النصوص
حرسنا الرؤوس
حصدنا التعب
أيا اعدقائي
قليلا لنبدأ فينا الحساب
فمن عاش عاش
ومن مات مات
ولكن فينا انتمت غيمة
وأبصر سجن
وهب تراب
فكيف أصالح بين السيوف وبين العذاب
وماذا أقول لطير الأماني
إذا ما دعاني حريق العتاب..............
***
مقاطع من قصيدة ضحكات الثعالب