قراءات نقدية
عبد السلام فاروق: أدب الاغتراب المعاصر
أدب الاغتراب أدب قديم. عُرف فى بداياته بأدب المنفَى، حيث كان نوعاً من أدب التأسِّى والحنين للوطن، كقصائد (محمود سامى البارودى) التى كتبها فى سريلانكا، وأندلسيات (أحمد شوقى) التى كتبها فى منفاه ببرشلونة، وأزجال (بيرم التونسي) الحزينة فى باريس وليون بفرنسا.
وخلال فترات القلاقل السياسية التى واكبت الاحتلال الإسرائيلى لفلسطين، حدثت موجات من النزوح والهجرة، وآثر الأدباء المنكوبون والمعوزون والمضطهدون أن يهاجروا إلى أمريكا. أرض الأحلام. وهناك أنشأ بعض الشعراء كياناً أدبياً أسموه (الرابطة القلمية) ليستوعب أدباء أمريكا الشمالية. فى حين أنشأ شعراء آخرين كياناً شبيهاً فى أمريكا الجنوبية تحت اسم: (العصبة الأندلسية).
تلك بدايات أدب المهجر الذى أحدث هزةً فى الأوساط الأدبية فى مصر والمشرق، ليس فقط بسبب ثراء محتواه وغزارة إنتاجه، لكن أيضاً بفضل حسن تنظيمه وتبنيه للاتجاهات الحداثية فى الشعر كالاتجاه الرومانسي الذى ساد أوروبا خلال فترات سابقة. هكذا ظهرت "مدرسة المهجر" كاتجاه شعرى وتيار أدبى منفصل وله خصائصه وسماته التى تميزه، وهكذا عرفت الذائقة الأدبية أشعار (إيليا أبو ماضى) و(ميخائيل نعيمة) و(جبران خليل جبران).
استمر الاضطهاد السياسي، واستمر نزوح الأدباء الشوام.. فكان منهم (أدونيس) و(نزار قبانى) و(محمود درويش).. ثلاثة من عمالقة الشعر فى القرن العشرين. أثارهم الاضطهاد، وأثْرتهم الحرية وأثرت أعمالهم بفيوض المعانى.
لم يقتصر نزوح الأدباء على الشعراء، فقد كانت هناك طائفة أخرى من الروائيين والناقدين وكتاب القصة والمسرح المغتربين.. (محمود السعدنى) مثلاً عاش حياته مطارداً مكروهاً من كل الأنظمة العربية فى تلك الفترة بسبب قلمه اللاذع. كما اختار الروائى السودانى (الطيب صالح) حياة الغربة والارتحال التى بدأها بروايته الشهيرة "موسم الهجرة إلى الشمال" والتى يبدو أنها بشّرت بارتحاله هو إلى بريطانيا.
والسؤال الذى قد يراودك هنا: هل هناك وجود لأدب المهجر اليوم ؟ والإجابة نعم، بل هو أقوى وأغزر مما كان فى الماضى. إذن: لماذا لا نعلم عنه هنا فى الشرق شيئاً؟!.. هذا هو السؤال.
غربة الكاتب العربي...
تحدث الدكتور حليم بركات أستاذ علم النفس الاجتماعى بجامعة ميتشجن عن عدد من المفكرين والأدباء العرب الذين عرفهم وعاصرهم، وعن غربتهم الداخلية والخارجية. وبدأ حديثه فى هذا الكتاب بالشاعر أدونيس، الذى ما كاد يغترب فى بلد مجاور هو لبنان، بعد تجربة السجن المريرة، حتى كتب ديوان (أوراق فى الريح) الذى عبّر فيه عن مأساة المغترب. وعندما تناول اغتراب الفكر الفلسطينى تحدث عن تجربة المفكر هشام شرابي،مؤسس مركز الدراسات العربية المعاصرة فى جامعة جورج تاون، والصداقة التى جمعتهما معاً، وكيف أنهما التقيا يوماً بأدونيس فى صيف عام 1982 يتساءل ثلاثتهم كيف يسير الناس فى البلدان العربية بارتياح وهدوء هكذا رغم الاجتياح الإسرائيلي للبنان ؟! وقرروا حينئذٍ إنشاء كيان هو "منظمة حقوق الإنسان العربية" وقاموا بدعوة عدد من كبار المفكرين والشعراء العرب كان من بينهم: ( أحمد عبد المعطى حجازى، وأحمد بهاء الدين، وسعد الدين ابراهيم، ونوال السعداوى، وكمال أبو ديب وآخرين ). وكان حليم بركات قد قام قبل ذلك بإصدار مجلتى: (آفاق) و(مواقف) مع الشاعر أدونيس. ثم قام بإنشاء (المؤسسة الثقافية العربية) و(آلف جاليري) فى واشنطن. مما يشير إلى أهمية إقامة مثل تلك الكيانات الجامعة لأنشطة المثقفين والأدباء من المغتربين.
وكما أن هناك غربة إجبارية لبعض الأدباء كالشاعر (محمود درويش) الذى تنقل بين عدد من البلدان العربية والأوروبية حتى استقر فى باريس.. اختار أدباء آخرون غربةً اختيارية مفضلين الكتابة فى المهجر على الكتابة الروتينية الكئيبة فى أرض الوطن، مثلما حدث مع الشاعر (أحمد عبد المعطى حجازى) الذى عاش فى باريس عدة سنوات، كتب فيها عدداً من أجمل قصائده.. ففى ديوانه: (مرثية للعمر الجميل) يقول فى قصيدة: "مسافرٌ أبداً"
أسافر الليلةَ فجأة..
ولا أرجو السلامة!
أعبر تحت الناطحات.. تحت ظلِّ المركبات
بما تبقّى من فؤادى من ثبات
وفى خيالى من وسامة
أمسح هذه المناظر المقامة
حتى يلوحُ مأمنى فى القاع
رطْباً متكسّرَ الشعاع
ويصهل الجوادُ عالكاً لجامه!
أعبرُ أرضَ المدنِ الشمّاءِ بادىَ الجهامة
أطفو على ليلاتها الزرقاء أشدو فى الطريق
أمنحُ قلبي كل يومٍ لفتاةٍ.. أو صديق
لكننى أأبَى الإقامة!
مضى حليم بركات فى كتابه يستعرض الغربة التى يستشعرها فى كتابات طائفة أخرى من الأدباء العرب أمثال: (عبد الرحمن منيف) و (جبرا ابراهيم جبرا) و ( الطيب صالح) و(إدوارد سعيد) و (سعد الله ونوس) و(مروان قصّاب)..تحدث عن الاشتياق للحرية فى ظل الاضطهاد والتسلط. وعن بحث الأديب عن دوره المجتمعى الفاعل وهويته الثقافية مع هامش الحرية التى يتمتع بها فى الغرب.
ورغم أن الكتاب أسهب فى الحديث عن طائفة محددة من الشعراء والأدباء والمفكرين، وعن مآلات الغربة فى أدبهم، لم يتطرق كثيراً للنشاط الأدبى المهجرى بصورته الأكثر اتساعاً. إذ لم يعد أدب المهجر قاصراً على الأمريكتين. لقد اتسعت دائرة الهجرة، واتسعت معها رقعة النشاط الأدبى، وإن كان لا يزال مجهولاً لدينا فى المشرق العربي !!.
ألمانيا على سبيل المثال شهدت نشاطاً أدبياً كبيراً منذ الثمانينيات، تَمثَّل فى المجموعة الأدبية التى أسسها الروائى السورى (رفيق شامى) تحت اسم"الريح الجنوبية"، واتحاد الفنانين الأجانب -أى المغتربين. وقد أصدر مع زملائه 13 مجلداً تحتوى على مختارات من أدب الكُتّاب المغتربين خلال تلك الفترة. ولم يقتصر نشاط تلك الطائفة من الأدباء على الأدب المقروء، بل أصدروا عدة أشرطة كاسيت فى مختلف فروع الأدب كالسيرة الذاتية والشعر وأدب الأطفال. هناك شعراء وأدباء آخرون مقيمون فى ألمانيا منهم مثلاً الشاعر العراقى خالد المعالى، والذى لا يري أن شعره ينتمى لأدب المنفى وأنه يكتب بشكل مستقل حر، ولا يري أهمية كبري فى تشكيل حركة تضم أدباء المهجر، وهو رأى الكثيرين من أدباء المهجر من أنصار الفن للفن، فهم يكتبون لأنفسهم وذواتهم ما يمكن أن يُدعى أدب التطهر.
فى كندا هناك طائفة من الأدباء مثل الشاعر الكويتي (محمد جابر النبهان)، والشاعرة السورية (جاكلين سلام).. فالمرأة لا تغيب أبداً عن المشهد الثقافى سواءً فى الداخل أو فى الخارج.
استراليا أيضاً شهدت نشاطاً أدبياً واسعاً منذ فترة طويلة قد تصل إلى نصف قرن ! فالبعض يؤكد أن عدد الصحف والمجلات العربية التى صدرت فى استراليا منذ 1957 يصل إلى مائة جريدة ومجلة! بالإضافة لعشرات الكتب والدواوين والمؤلفات الأدبية بمختلف أنواعها واتجاهاتها. إلى جانب تأسيس رابطة تدعى: (رابطة إحياء التراث العربي) عام 1981. وقد أصدرت الدكتورة (هدى صحناوى) كتاباً اعتبرت فيه الشاعر والروائى المغترب (قصي الشيخ عسكر) رائداً من رواد الأدب المهجرى المعاصر فى بريطانيا. مدللةً على رؤيتها تلك بمناقشتها لنصوصه الشعرية وتجربته الأدبية الدسمة.
إذن نحن أمام نشاط أدبي متشعب ودائم فى كل مكان يقيم فيه العرب. فلماذا لا نلحظه هنا؟!
***
د. عبد السلام فاروق