قراءات نقدية
عبد النبي بزاز: تعدد الموضوعات ووفرتها والنزعة المجازية في "شذرات بلورية"

ارتأى الأديب المغربي عبده حقي إدراج منجزه الإبداعي " شذرات بلورية " ضمن نصوص سردية. وهي عبارة عن نصوص تتميز بالانفتاح والامتداد على عوالم لا محدودة، و غير محددة بأفكارها الوجودية الأنطولوجية، وأسلوبها الموزع بين التكثيف، وصبغة الجمال البلاغي المرتهن لرؤية ذات أبعاد وقيم كونية كالحب، والخلود، والجمال والقبح، والشيطان والملائكة، والموت والحياة، والعبث.. داخل نسق من متضادات ومفارقات مثل النور والظلام، والفرح والحزن، والانتصارات والهزائم.
ورغم أن نصوص المجموعة يطبعها الانفتاح الدلالي، والكثافة التعبيرية المخترقة بِنَفَس مجازي فهي لا تخلو من تيمات وعناصر حاولنا استخلاصها من سياق موسوم بعمق المعاني، وسعة الرؤية ؛ كعنصر التحول الذي ورد في العديد من النصوص كما في الشذرة 12: " الغرفة التي كانت ذات يوم عارية، تحولت إلى ركح من الأحلام. تحولت الجدران المتشققة منحدرات بلورية شاهقة، وتحولت ألواح الأرضية البالية إلى بحر متلألئ من ضوء القمر. " ص 7، وفي الشذرة 86، حيث يتحول المشمش إلى اللون البنفسجي: " يتحول المشمش إلى اللون البنفسجي المكدوم.. " ص 18، وتحول العشاق إلى غبار بعد معاناة من صبابة العشق، ولوعة الهوى: " وتنهدات العشاق الذين تحولوا منذ فترة طويلة إلى غبار." ص 24، تحول يأخذ صفة منحى فضفاض حينا: " لم أشفى فقط، بل تحولت. " ص 58، وعميق أحيانا أخرى يتغلغل بالدواخل موقعا أنغام توق جامح، وغبطة عارمة: " تحولت الموسيقى، وتحولت إلى الاستبطان. " ص68، يرقى بالمشاعر الباطنية إلى مقامات الصفاء والنقاء: " وتحولت العواطف إلى دوامة من الإحساس النقي. " ص 77، والخرسانة كمادة صلبة مكونة من الإسمنت وركام الرمل والحصى إلى بحر من الذهب: " تحولت الخرسانة تحت قدمي إلى بحر من الذهب السائل.. " ص 80، تحول قد يصير أكثر تعقيدا واشتباكا: " خرجت من شرنقة الوجود، عابرا عالقا في شبكة التحول الدقيقة. " ص 82، في حالة العلوق في شبكة التحول المتشا بكة بشكل دقيق ومحكم، وتحول الكرسي إلى شخص منحن: " أصبح الكرسي ذو الذراعين الموجود في الزاوية شخصا منحنيا.. " ص 109، والساعة المعلقة على الحائط إلى حارس هيكلي: " تحولت ساعة الجد المعلقة على الحائط إلى حارس هيكلي.." ص110. وعنصر التداخل الموسوم بالاندغام والانصهار كما حدث للسارد مع الكون الذي تداخل معه إلى حد تعايش تم عبر انجذاب غدا حلولا في الذات وانصهارا معها: " لم أكن أعيش في الكون فحسب، بل كان الكون يعيش في داخلي." ص12، ويشمل القلوب كذلك والأرواح من خلال خيوط اندماج، وأواصر ارتباط: " لقد كان رابطا، واندماجا للقلوب، واندماجا للأرواح. " ص 22، وذوبان في نهر الوجود الغني بحمولات هادرة متدفقة دون توقف أو انقطاع: " والذوبان في الذات في نهر الوجود الذي يتمظهر عبر رقصة تضم روحين متواشجين: " لم نكن سوى روحين، متشابكين في رقصة الوجود.. " ص 73، ليشمل، أي التداخل، الألوان كذلك في تحد لحدود المنطق ونواميسه: " تداخلت الألوان الزاهية مع بعضها البعض، وازدهرت النباتات المستحيلة متحدية المنطق.. " ص 85، مع ما يميز النباتات من نضارة الألوان وجماليتها وبهائها، ليبلغ هذا الاتحاد والتوحد أرقى رتبه وأرفعها في قوله: " أصبحا واحدا، واندمجت أرواحهما قي سيمفونية من العاطفة والرغبة التي تردد صداها في أروقة الخلد. " ص 135، التي تطال حلم الخلود وتغدو جزءا من عوالمه، وطرفا من أطرافه. كما اعتمد الكاتب عناصر ذات صبغة جمالية أثرت أسلوب النصوص / الشذرات، ونوعت صيغها، وقوالبها التعبيرية ؛ كالتشبيه في مثل قوله: " مثل نجم سقط من كوكب مكسور. " ص5، وقوله: " أصبح الزمن شيئا مرنا، يتمدد وينكمش مثل لحن منسي. " ص 63، وتوظيف اللون في عدة أشكال ومستويات: " العالم ينزف لونا أبيض. لم يلتهم اللون الأحمر العنيف لغروب الشمس.." ص 5، موزع بين الأبيض، والأحمر، والأخضر: " العالم ينزف باللون الأخضر. " ص 31، بل دوامة ألوان: " واجهت دوامة من الألوان." ص 72، شكلت، وأفرزت مشهدا خاصا: " لقد تحول العالم إلى مشهد من الألوان.. " ص95، في تحديد رمزية ودلالات هذه الألوان: " الرمز الأحمر يرمز إلى العاطفة.. كان اللون البرتقالي يمثل الفرح.. يرمز اللون الأصفر إلى الصداقة.. يمثل اللون الأخضر النمو والتطور.. يرمز الأزرق إلى الثقة.. والأرجواني يرمز إلى الروحانية. " ص 119. وكلها ألوان يتشكل منها قوس قزح: " تمتزج ألوان قوس قزح معا في انسجام.." ص 119، كتمهيد لنزعة رومانسية أثثت بعض نصوص / شذرات المجموعة ضمن معجم وردت فيه مفردات وعبارات مثل (حفيف، أوراق الشجر، زقزقة العصافير، رائحة الأزهار، همس النسيم): " حفيف أوراق الشجر، وزقزقة العصافير غير المرئية.." ص5، وفي: " في أنفاس الربيع. كل وعد همس حمله النسيم، واختلط برائحة الأزهار الحلوة.." ص44. وفي الشق السردي اعتمدت الشذرات على ذكر شخصيات تعاني من فقر: " صبي صغير مستلق تحت بطانيات رثة، يحلم بالتحليق في سماء مطلية بغبار النجوم. " ص7، لا يمنعها من امتطاء صهوة الحلم. والعامل الكادح الذي يتشبث هو أيضا بخيوط الحلم: " كان العامل المرهق، الذي كانت أطرافه مثقلة بالكدح، يجد عزاءه في رؤى المروج الخضراء حيث يذوب الوقت مثل ضباب الصباح. " ص7، نفس الحالة مع عجوز تخوض غمار الحلم: " امرأة عجوز، متجعدة وهشة، تطارد الفراشات بأجنحة من الزجاج الملون في حديقة الورود المستحيلة. " ص 7، وصورة رجل أعمال يتحسس ساعة جيبه، وامرأة شابة تحت طائلة حالة عشق متوتر، وفرح طفل يتم تصريفه عبر ضحكات تغمر أصداؤها أماكن يعمها الهجر، ويغمرها السكون: " رجل أعمال يتفقد ساعة جيبه إلى الأبد، وامرأة شابة تمسك برسالة حب ممزقة، وضحكات طفل يتردد صداها في الممرات المهجورة. " ص 59. واقترانا بالجانب السردي داخل متن نصوص الأضمومة، وفي تصور مختلف ومنزاح لكتابة القصة نقرأ: " كانت قصصها عبارة عن خيوط من الذهب والفضة، تنسج قصة تجاوزت حدود المألوف، وتجرأت على استكشاف عوالم ما هو استثنائي. " ص71، فبالإضافة إلى قيمة القصص الرفيعة وتشبيهها بخيوط من الذهب والفضة فإنها زاغت عن السائد والمألوف مستشرفة آفاقا مغايرة، وأبعادا مختلفة فغدا للقارئ دورا منتجا وفعالا: " اكتشفت وجودي. ليس كمجرد متفرج ن ولكن كبطل الرواية.. " ص 9، يتجاوز حدود التلقي والاستهلاك إلى المشاركة والمساهمة في خلق المنتوج السردي، وصناعة عناصره ومكوناته : " لم أعد قارئا سلبيا، بل مشاركا نشطا، ضائعا وموجودا في نسيج الكلمات المعقد. " ص9. وتعدد صفات ومواقع " الأنا " من وجودية: " أنا مهد الحياة، الحضن الذي يحمل أسرار الكون. " ص 32، إلى خفية مضمرة يجللها الكتمان، وتطوقها حدوده وحصونه: " أنا المذكرات المنسية، بقايا الزمن، وعاء الذكريات، أنا حارس الأسرار.. " ص 49، بما تؤتمن عليه من رغبات، وأحلام، ومشاعر، وأفكار..: " أنا نافذة الروح، المرآة التي تعكس أعمق الأفكار والرغبات، أنا اللوحة التي رسمت عليها الأحلام.. " ص 49، من خلال صور وتمظهرات وتجليات شفافة ومعبرة. وما تزخر به من أبعاد رمزية متعددة المعاني والدلالات: " أنا نذير التغيير، ورمز لرقصة الخلق والدمار الأبدية التي تشكل الكون. " ص 82، تقوم على ثنائية الهدم والتشييد الصادر عن رؤية كونية شاملة. واعتمد الكاتب كذلك عنصر الاستلهام تجديدا وتنويعا لمتنه الشذري السردي، فاستحضر الأوديسة: " لأنني في هذه الأوديسة الليلية.." ص 43، وتقنيات الكتابة الحديثة بمذاهبها ومدارسها من سريالية وتجريد: " وأنسج خيوط السريالية والتجريد.. " ص 48، وأعلام بارزين في مجال المعرفة والعلوم كعالم الرياضيات اليوناني إقليدس الملقب بأبي الهندسة: " ذات الأشكال الهندسية المستحيلة التي تحدت إقليدس.. " ص 98، وأسطورة سيزيف بحمولاتها الرمزية المجسدة لمفهوم العبث: " سيزيف محكوم عليه بدحرجة صخرة إلى أعلى التل إلى الأبد.. " ص142.
ورغم ما حاولنا إبرازه وكشفه من موضوعات وعناصر نصوص / شذرات المجموعة يظل الجانب المجازي، وجانب الموضوعات طاغيا ومهيمنا عبر أشكال وألوان يصعب الإحاطة بها، وسنكتفي بالإشارة إلى بعضها في مثل: " لقد شهدت على دموع تساقطت كالمطر، فابتلت في الأرض، وغذت تربة الحزن. " ص 8، باستعارة التربة للحزن، والقفل للانتظار في قوله: " أدخلت المفتاح في قفل الانتظار.. " ص 38، والدخان للندم: " مغطى بدخان الندم.. " ص 41، والمظلة للأحلام: " تحت مظلة الأحلام المنسية.." ص 46. والموضوعات من رحلة، وحكمة، وشك، وموت، وقبح وجمال، وشِعْر التي تعددت وتوالت فاتحة أفقا غنيا بعمق معانيه، وبعد دلالاته.
***
عبد النبي بزاز
.................
* شذرات بلورية (نصوص سردية) عبده حقي، مطبعة ألو مكتبة فاس 2025.