شهادات ومذكرات
عبد الأمير كاظم زاهد: محنة ابي عيسى الوراق.. رزايا التعصب

شهد القرن الثالث الهجري ازدهارا في الحياة العلمية في العالم الإسلامي وانتشر العلم في بغداد والمشرق والاندلس من شتى أصناف المعرفة، وظهر في ذلك القرن عدد كبير من العلماء الكبار منهم الكندي، وجابر ابن حيان (ت200هـ)
لقد كانت المهمة المعرفية الاساسية هي فهم الفلسفة اليونانية ولاسيما الافلاطونية الحديثة منها ومحاولة دمجها في نسق المعرفة الإسلامية وبما يتفق مع الدين والعقل، ومن ذلك جهدهم في تكييف المفاهيم مثل مفهوم الوجود الازلي والممكن والضروري، ومفهوم النبوة، وآل الامر الى تطوير الجهود والتعبير عن افكارالفلاسفة ومفاهيم الفلسفية بسهولة كما ظهر عند الفارابي (950م) في المدينة الفاضلة، وتأثر المشهد المعرفي بالوافد الفلسفي ثم تطورت علوم القرن الثالث فشمل علم الكلام وفكر التصوف و تحقق بدايات الفكر الإسلامي، وتكونت نظرياتهم للكون والتاريخ والانسان فكانت عند المسلمين مقاربة لما عند السريانية في انطاكيه (1) وشمل التطور العلوم التطبيقية مثل الطب والفلك والهندسة والكيمياء والرياضيات والبصريات
وفي بدايات هذا القرن تأسس بيت الحكمة كمركز عالمي للترجمة وتجميع مخطوطات الثقافة العالمية والمدونات العلمية من التراث اليوناني والهندي والفارسي التي ترجمها ودرسها المسلمون وقدموا لها لوائح نقدية مهمة بحيث صار بيت الحكمة مركز أبحاث في غاية الأهمية في ذلك العالم المترامي
لقد ترجم حنين ابن إسحاق، وثابت بن قرة كتب الطب والفلسفة والرياضيات الى اللغة العربية وفي هذا العصر كان الخوارزمي مؤسس علم الجبر يرتب اختراعاته المهمة ويعلن اختراع النظام العشري، وكان البيروني الرجل المهم في تطوير الرياضيات والفيزياء وفي هذا القرن نوقشت في الاروقة العلمية قضايا مهمة جدا منها مثلا قضية خلق القران، فالجوهر في القول بخلق القران يعني ان كتاب الله جل تعالى راعي إشكاليات أزمنة النزول والأزمنة القادمة التي جعلتها (خاتمية الرسالة) ضمن السقف الذي يهيمن عليه النزول، وعليه فان هذه المسألة فتحت الباب لمناقشة وتكييف النص القراني مقاصديا ليعالج الفقيه مشكلات الانسان، فيكون القران مفتاح الحل وليس مغلاق التفكير البشري، وبذلك تتصاعد وتأثر الفكر العقلاني، وتنضج قضية القدر والحرية والإرادة ومسؤولية الانسان عن افعاله، وعلى الرغم من تمتع هذه الأفكار بالأدلة العقلية الباهرة، وقف المحافظون المتترسين بقدر كبير من التعصب ضدها وزعموا انها تمس أصول العقيدة -حسب فهمهم - وحولوها الى مادة في صراع سياسي ضد القوى العقلانية ومقدمة لظهور كتلة (متعصبة) احتكرت لنفسها فهم الدين واطلقت على ذاتها (الفرقة الناجية) او (اهل السنة) ........ الخ
وكانت جماعة الفقهاء والمتكلمين آنذاك تنقسم الى صنفين:
الأول: الصنف الذي يقبل الراي الاخر، ويؤمن بحق العلماء في الاجتهاد والنقد، ومنهم فقهاء الحنفية مثل الشيباني والفقيه سفيان الثوري، ومتكلمو المعتزلة الأوائل والشيعة الامامية والماتريدية
والثاني: التيار المحافظ الذي تزعمه (رواه الحديث) وكتاب السنن والسيرة، وهم كتلة صلبة الاعتقاد ومسيجة بعقل غير مرن لفهم القرآن فقاوموا مفهوم التعددية الثقافية
وممن عاش في هذا القرن عالم الاديان والمعتقدات (أبو عيسى الوراق وهو محمد بن هارون _ت 247هـ) وكان الرجل محل اختلاف بين اهل العلم في عقيدته فمنهم من قال انه كان شيعيا وقد ذكره النجاشي في كتابه الرجال فقال (له كتاب في الامامة واخر في السقيفة وكتاب في اختلاف الشيعة، وكتاب المقالات في الأديان المقارنة) (2)
وقال عنه الداماد الاسترابادي في الرواشح السماوية (انه من أجلة المتكلمين في اصحابنا وافضلهم) ونقل نص النجاشي (3) وممن ذكره الشريف المرتضى في المسائل وفي كتابه الشافي وبه نقل اراءه التي في كتاب المقالات ذلك الكتاب العظيم المفقود حاليا
قال الداماد: والاصحاب يكثرون من النقل عنه في نقض العثمانية والعامة يبغضونه جدا لتدليله على امامة علي ابن ابي طالب بالبراهين وذكر منهم التفتازاني في المقاصد وقبله فخر الدين الرازي في كتابه الأربعين فقد قدحوا به واتهموه بشتى التهم ثم يختم بقولة (وبالجملة لا مطعن ولا غميزة فيه) ونقل عن المرتضى ان ابا عيسى الوراق قد رماه المعتزلة كما رموا ابن الراوندي بشتى التهم وذكرة ابن داود في الممدوحين (4) ونزهه عن المجروحين في كتابه الرجالي) ويخلص الداماد الاسترابادي بعد ان يذكر مؤلفاته ومنها تلك التي يذكر فيها الاحاديث التي وضعها بنو امية (توليدات بني امية) وقال ان الطريق الية حسن لأنه من الممدوحين لكن مؤلف كتاب (ال نوبخت) وصفه انه ذو عقيدة مزعزعة ووصفه بانة متأثر بالمانوية لأنه طالع كتبهم وترجم الكثير منها وبسببها داخله الشك (5) فصدرت عنه اراء يلام عليها وقال: كان يتلون مع الفرق المختلفة بخاصة المعتزلة والشيعة ومن ذلك رده على الجاحظ (ت 255) في كتاب الامامة (6) وكان الوراق من اشهر من تصدى للجاحظ ذي النزعة العثمانية مبرهنا على تهافت افكاره
وفي كتاب (الإمامة) و(السقيفة) يوافق الوراق عقيده الامامية وقد اثنى عليها علماء الشيعة ويقال ان المفيد (ت 413هـ) كانيقتني كتابه (السقيفة) وكان حجمه قرابة (200) ورقة وقال فيه (انه لم يترك لغيره زيادة عليه)، أي انه كتاب استوفى تماما ابحاثه.
وله كتب مهمة اهمهاٍ كتاب المقالات وهو في تاريخ الأديان وشرح المعتقدات وهو من الكتب المهمة بل اوثق الكتب القديمة وقد رجع اليه كل كتاب المقالات والملل والنحل بعده اما الشريف المرتضى فقال ان الوراق اطنب في شبهات الثنوية مما اثار مما اثار شبهة ثنويته عليه لكنه لم يكن يعتقدها بل اطنب في عرضها وتفصيلها وانكر المرتضى انه الف كتاب النوح على البهائم وقال لا يبعد ان يكون بعض الثنوية استغلوا مكانته فكتبوه على لسانه (7) ففي الكتاب لا يجوز ذبح الحيوانات كما تقول الثنوية وكانت هذه التهمة مما رماه بها المعتزلة قال: وليس لنا ان نضيف له هذه التهمة اذا انه لم يكن متظاهرا باعتقادها حتى لو لم يتبرا منها فالحمل أصلا على صحة الحالة الايمانية وان التكفير لا يكون الا بدليل قاطع
والراي: يبدو لي ان سعة اطلاع ابي عيسى الوراق على الأديان والآراء والمقالات دعته الى عرضها عرضا مفصلا و(غير متحيز) أي عرض موضوعي لما فيها من افكار ومفاهيم، فعرض الأفكار يختلف عن نقدها فالغوص والتأمل في الأفكار يفضي الى ممارسة ثقافية متجذرة وواعية وتنأى بنفسها عن الاكراهات الدينية والمذهبية وتنتمي الى المنطق النقدي الملازم للانفتاح العقلي على الثقافات، وهذا الفهم الانطولوجي الجذري لعلاقة الدين بالحياة وتاريخ الانسان يكسب صاحبه قدرة على ابداء آراء جريئة في الديانات القدرية اي التي لا اختيار له فيها ومن المؤسف اننا وجدنا ان الحرية الاعتزالية خاصمته هي الاخرى وسقطت في
اكراه الناس على أفكار محددة، فكل اراء الوراق تنتهي الى جمجمة واحده في زمنة هي الخراب الذي لا يرتضي للعالم سوى الهدم ولا يستطيع ان يفهم ان الطريق لحياه الكرامة تبدأ بالتعقل وتنتهي بفهم دلالات اللغة، وقد يؤدي هذا الى الانفصام عن انتماءاته السابقة وإعادة النظر فيها . وعند الباحثين المنصفين ان ك الاوراق مسلما بقدر ما كان مستعدا ان لا يخشى فتاوي الفقهاء، الذين يتحدثون باسم الاله وقد دفع الوراق ثمن التفرد والتأمل والممارسة الحرة للمعرفة بان اتهمة السلفيون بالزندقة واتهمه المعتزلة بالهرطقة
وخاصة اليهود والمسيحيون لانه كتب في الرد عليهم، ولم يحتل مكانة عند الشيعة الامامية رغم انه من اقطاب الجدل الديني واقدم من كتب في شروح التفسوقد اخذوا عنه الكثير – ولم يشيروا لاسمه، تلك اذن احدى محن المفكرين في عالم منغمس بالتعصب.
***
ا. د. عبد الأمير كاظم زاهد
......................
(1) احمد عبد الباقي: حكام الحضارة العربية في ق 3 /ص 54 ابن النديم الفهرس 1/340
(2) النجاشي 288
(3) الراماد الرواشح ص 93
(4) م.ن ص 94 – 95
(5) عباس الاشتياني: ال النوبختي
(6) م.ن ص 110
(7) م.ن 113 ظ الشافي 13