قراءات نقدية

سعاد الراعي: جدلية الذات والعشق.. قراءة في قصيدة "نداء البحر"

للشاعر جميل حسين الساعدي

قصيدة "نداء البحر" للشاعر جميل حسين الساعدي تعبر عن تجربة وجدانية تزاوج بين الحب العاطفي والحوار الفلسفي مع عناصر الطبيعة الملهمة. انها تتسم بثراء رمزي ودلالات إنسانية وإبداعية تظهر في تفاعل البحر مع الحضور الأنثوي، ما يجعل البحر فضاءً لبوح الشاعر ووسيطًا لعلاقة أزلية بين الذات والعشق.

هذه القصيدة تنبض بروح رومانسية عذبة، تعكس تمازجاً فريداً بين جمال الصور الشعرية وعذوبة الموسيقى اللغوية. يتجلى فيها إحساس عميق بالحب، حيث تنساب الكلمات كالموج لتخلق عالمًا من السحر والدهشة.

القصيدة تزخر بصور حية مفعمة بالمشاعر، حيث يصبح كل شيء في الكون مرآة للحبيبة. في البيت الأول، نجد الشاعر يرى في كل زهرة عطراً من شذاها، وفي كل درب أثراً لخطاها. هنا، تتجسد فكرة الامتزاج الكلي بين العاشق والمعشوق، حيث تصبح الطبيعة وسيلة تعبير عن الحب.

الصورة التي يرسمها الشاعر للبحر في الأبيات اللاحقة تأسر القلوب؛ فهو يراه مخلصًا يحمل أغنيات الحبيبة وصدى كلماتها. الشاعر يوظف البحر كرمز للامتداد والحنين، وكأنه الوسيط الروحي بينه وبين محبوبته، وهو ما يظهر في البيت:

"إنه البحر يناديني فهل... قد سحرتِ البحر قبلي فالتقاكِ".

هذا التساؤل الممزوج بالدهشة والحنين يبرز جمال الصورة الشعرية، حيث يصبح البحر شخصية فاعلة ومأخوذة بسحر الحبيبة.

إيقاع القصيدة سلس ومتناغم، حيث يتنقل القارئ بين الأبيات دون انقطاع في تدفق المعنى أو الشعور. القافية العذبة، التي تتكرر برقة وانسجام، تضفي على النص إيقاعًا يشبه تلاطم أمواج البحر، مما يعمق الأثر الشعري.

تكرار الكلمات مثل "أنتِ" و"البحر" يعكس شغف الشاعر وافتتانه، ويمنح النص إيقاعًا دائريًا، وكأن الحب يعود دائمًا إلى نقطة البداية. استخدام الكلمات مثل "سناكِ"، "ملاكِ"، و"هواكِ" يشكل موسيقى داخلية، إذ تلتقي الحروف ذات النغم الرقيق لتنسجم مع روح النص.

القصيدة تعبر عن حب مطلق، حب يتخطى الزمان والمكان، حب يجعل الشاعر يرى محبوبته حتى في الغياب، وكأنها جزء من كيانه. فكرة الحضور الدائم للمحبوبة، حتى في غيابها الجسدي، تُعبر عن نوع نادر من الاندماج العاطفي. يقول:

غائبٌ في آخر الدنيا أنا

وبعيدٌ عنكِ لكنني أراكِ

هذه الأبيات تفيض بالحنين وتعبر عن قدرة الحب على إلغاء الحواجز بين القلوب.

القصيدة تنتهي بتصعيد عاطفي مذهل، حيث يتعهد الشاعر بالاحتفاظ بحبه مهما حدث:

ســــوفَ أصطادُكِ يــــا حوريّتي

أنتِ والبحــــر جميعـــاً في شباكـي

كما ويعلن الشاعر أنه هجر الناس والدنيا من أجل هواها ويظهر تفانيه المطلق، ويُبرز الطابع الاستثنائي لهذا الحب الذي بات مركز حياته:

قدْ هجـــرتُ الناسَ والدنيا معـا

لمْ يَعُـــــدْ يشغلني إلّا هـــــــواكِ

باختصار، هذه القصيدة تمثل سيمفونية شعرية تتناغم فيها الصور الرومانسية مع الموسيقى الشعرية الراقصة مع رقصة البحر العاشق، لتخلق عملاً أدبيًا ينبض بالحب والتحدي، فتخلق تجربة قرائية تفتح آفاق التأمل في الحب والعلاقة بين الإنسان والطبيعة، متمثلة في هذا الحوار بين الشاعر والبحر والحبيبة، مما يرفع من قيمتها الأدبية والفنية.

***

سعاد الراعي

.........................

جميل حسين الساعدي: نداء البحر

 

في المثقف اليوم