قراءات نقدية

فاطمة عبد الله: تفكيك الوهم وتعرية المعنى

قراءة نقدية في تمثيلات الذات والرغبة والقداسة في نص (الوهم العاري) للشاعرة د. مرشدة جاويش

التمهيد النظري: تنتمي هذه القراءة إلى مقاربة نقدية مركبة في محاولة لاستجلاء مستويات اشتغال اللغة وتكثيف الذات وإزاحة المعنى في نص (الوهم العاري) للدكتورة مرشدة جاويش كأنموذج شعري نسوي ما بعد حداثي يعيد تعريف العلاقة بين الجسد والهوية والغياب والمقدس...

موقع النص في الخريطة الشعرية الحديثة

ينتمي نص "الوهم العاري" إلى فضاء الشعر الحداثي النسوي حيث تنتج اللغة معانيها لا كمرآة للواقع بل كمختبر جمالي وانفعالي للذات وهي تمر بأزمات الوعي والجسد والعلاقة بالآخر. فالنص لا يروى من الخارج بل يمارس من الداخل إذ تكتب فيه الشاعرة انكشافات الذات في حالة من التعرية الوجودية مستعينة بشحنة رمزية عالية ترتكز على المفارقة واللغة المجازية الكثيفة والخلط بين الخطاب الصوفي والمشهد الحسي...

البنية اللغوية والدلالية: من الثبات إلى الانزلاق

يشتغل النص ضمن منطق الانزياح الدلالي والانفلات من البنية الخطية في التعبير لتوليد شبكة دلالية مفتوحة:

"ما زِلْتَ بعيداً كَأنِّي أراكَ تُعانِقُ لَوْنَ الهَبَاءِ وتَنْقُرُ في النّارِ أهدابَ مَنْ باعَها الوَقْتُ"

تتأسس هذه العبارة على مفارقة لغوية: رؤية الغياب. فالهباء رمز العدم يعانق، والنار رمز التطهير أو العقاب تنقر أهدابها، وهي إشارة أنثوية محملة بدلالات جسدية. هكذا ينقلب فعل المشاهدة إلى وهم بصري وتتحول اللغة إلى فضاء للتعمية أكثر من التعيين.

وهنا تحضر رؤية بول ريكور عن الشعر بوصفه:

"نظاماً من العلامات ينتج المعنى عبر الانزياح لا عبر المطابقة فكل صورة شعرية هي اختلاق لإمكانية تأويل لا نهائية."...

تقويض المعنى وإنتاج التعدد

عند قراءة النص من منظور جاك دريدا نلاحظ أن البنية النصية لا تؤسس لمعنى قار أو متماسك، بل تعمل على تفكيك كل مرجعية دلالية مستقرة. فالمعنى في هذا السياق لا يُبنى على الحضور أو الثبات، بل على التوتر الدلالي والتأجيل المستمر لما يفترض أن يقال، فيما يسميه دريدا بـ"الاختلاف" (différance)—وهو تأجيل المعنى وانزياحه بفعل اللعب اللغوي.

"هَلْ أفْرَطْتَ في شَهْقَةِ العَارِ حَتّى اسْتَعْذَبْتَ انْكِشافَ النّسَاءِ؟"

في هذه العبارة، يتولد المعنى من تقاطع الحقل الحسي (شهقة العار، انكشاف النساء) مع الحقل الاجتماعي الأخلاقي. فكلمة "العار" لا تستخدم هنا كقيمة أخلاقية سلبية، بل تنقلب إلى لحظة انكشاف ملتبسة بالمتعة، بما ينسف المعنى الأخلاقي التقليدي للخطيئة ويحوله إلى فضاء دلالي مفتوح على التواطؤ واللذة. إن اللغة لا تظهر هنا معنى واحداً، بل تتعدد تأويلاتها بفعل المفارقة والانزياح الرمزي.

ومن هنا تكتسب مقولة دريدا وجاهتها حين يقول:

"اللغة لا تنتج التشابه بل الفرق، وكل علامة تحمل أثر علامة أخرى بداخلها."

فالنص لا يبوح بمعناه بل يؤجله ويستدرج القارئ إلى لعبة لا نهائية من التفسير حيث يتحول المعنى إلى أثر، لا إلى حضور مكتمل.

الجسد والهوية والرغبة المكبوتة

يلعب الجسد في النص دوراً محورياّ لكنه ليس جسداً بيولوجياً مباشراّ بل جسداً رمزياً ونفسياً تسكنه الرغبة وتتحرك فيه الذاكرة اللاواعية:

"هلْ أَنا الماءُ الّذي دَلَكَتْهُ الغُيُومُ عَلَى خَاصِرَةِ الرُّوحِ؟"

في هذا المشهد، يتم تشتيت الذات إلى عناصر طبيعية: ماء وغيوم وخاصرة. إنها صورة للذوبان لا للتماسك حيث تتحلل الهوية في عنصرها الأنثوي الأصل (الماء)، في استدعاء لاواعي للأمومة والانتماء الأول وربما حتى لآليات التحلل الأنوي كما طرحها جاك لاكان Lacan حين قال:

"الرغبة ليست ما نريده، بل ما يفتقده خطاب الآخر فينا."

الرغبة في النص ليست رغبة جنسية مباشرة بل رغبة في انكشاف الذات دون قناع. حتى الخيانة التي يلمح إليها لاحقاً ليست فعلاً ضد الآخر بل ضد صورة الذات التي رسمتها المرايا....

زمن الفقد والذاكرة الجمالية: اللقاء المجهض كمشهد تأويلي

واحدة من أقوى لحظات النص تكمن في استحضار فكرة اللقاء الفائت باعتباره جوهر الخسارة والتأجيل:

"وَاللِّقَاءُ الّذي أَفْلَتَ مِنْ شِبَاكِ الزَّمَانِ كَسَرَ المَرَايَا وانْدَسَّ في فَمِ صَدًى لَمْ نَكُنْ قَدْ نَطَقْنَاهُ"

المرايا هنا لا تعكس الحقيقة بل تنكسر لحظة المواجهة كأنها تعيد إنتاج ذات مفتتة لا ترى إلا صدى لما لم ينطق بعد وهي رؤية تتقاطع مع مفهوم انكسار الأنا في خطاب الآخر كما يطرحه جاك لاكان. ومن هذا المنظور، تبدو هذه اللحظة كمأساة إدراك متأخر، تسكن وجدان الذات كبذرة فقد لا شفاء منه. ومن هنا تتجلى رؤية والتر بنيامين في قوله:

"اللحظة التي لا تلتقط تصبح ذكرى ناقصة تسكن الألم."....

المقدس والمدنس: استحضار الإله بوصفه مرآة خيانة الذات

في تصعيد درامي يبلغ ذروته، يجعل النص من الخيانة فعلاً وجودياً لا يواجه الآخر فقط، بل يواجه الإله نفسه:

"لِتَبقَى تَحْمِلُ اسْمَكَ كَمَنْ يَحْمِلُ خِيَانَتَهُ فِي وَجْهِ الإلَهِ"

فالاسم هنا، بوصفه هوية يتحول إلى عبء، وحمل الخيانة لا يقاس اخلاقياً فحسب، بل وجودياً إذ تختبر فيه الذات أمام سلطة عليا. وهو شكل من أشكال الاعتراف المقلوب، لا بوصفه سعياً للخلاص كما في اعترافات أوغسطين، بل كمواجهة جمالية وجودية تتقاطع مع أطروحات نيتشه، لا سيما حين يقول في هكذا تكلم زرادشت:

"على الإنسان أن يحتمل عُريه في وجه السماء."

وهنا يصبح "الوهم العاري" نصاً يتحدى ثنائية الخطيئة/الخلاص، ليكتب الذات في أقصى لحظات انكشافها وعزلتها الرمزية....

الأسلوب والإنشاء الفني: تفكيك البنية الجمالية للنص

يتسم البناء الفني في نص "الوهم العاري" بجملة من الخصائص الأسلوبية التي تكرس انزياحه عن النموذج الخطي التقليدي وتمنحه طابعه الحداثي والتجريبي:

تفكك الخطاب الخطي المباشر: يقوم النص على فواصل شعورية ومقاطع وجدانية تنأى عن السرد أو التسلسل المنطقي، ما يعكس بنية داخلية تشبه تداعي المعاني أو تيار الوعي حيث تتولد الصورة من الإحساس لا من الحكاية.

هيمنة السؤال التهديمي: تستخدم أدوات الاستفهام لا بهدف تحصيل إجابة، بل كاستراتيجية لهدم اليقين وإرباك المرجعيات الثابتة. فالسؤال هنا لا يكشف، بل يزيد كثافة الغموض، بما يعزز من التوتر الدلالي للنص.

التكثيف الرمزي والإيقاعي: يعتمد النص على صور شعرية مركبة ذات وظائف شعورية لا وصفية، تتكئ على المجاز والمفارقة والاشتباك الدلالي بين الحسي والمتعالي، ما يضفي عليه بعداً موسيقياً داخلياً حتى في غياب الوزن التقليدي.

الحس الرؤيوي للنص: لا يقدم النص ذاته بوصفه شهادة على تجربة واقعية، بل كنوع من الرؤيا الجمالية والوجودية التي تنبع من الداخل، وتكتب بوصفها كشفاً عن اللاوعي أو استبصاراً شعرياً لما لا يقال عادة في الخطابات اليومية أو المباشرة....

وبذلك يعد نص (الوهم العاري) ممارسة شعرية حداثية تجريبية تعكس ما أسماه رولان بارت بـ"كتابة الدرجة الصفر"، حيث تتخلى اللغة عن سلطتها المرجعية لتصبح طقساً تأويلياً مفتوحاً على الاحتمال واللايقين. ومن هذا المنظور، تؤسس الشاعرة لكتابة نسوية وجودية تحرر الجسد من أسر التصنيفات الجاهزة وتعيد تخييل العلاقة بين الذات والآخر المقدس ضمن أفق لا نهائي من الرغبة والفقد والاعتراف المعكوس. كما يقول بول ريكور: "نحن لا نعيش التجربة إلا حين نرويها ولا نرويها إلا بلغتها الرمزية"، وهكذا يتحول النص إلى شكل من النجاة الجمالية من صمت الذات وعتبة المعنى.

***

قراءة نقدية من إنجاز فاطمة عبدالله

....................

الوَهْمُ العَارِي

ما زِلْتَ بعيداً

كَأنِّي أراكَ تُعانِقُ لَوْنَ الهَبَاءِ

وتَنْقُرُ في النّارِ

أهْدابَ مَنْ باعَها الوَقْتُ

وارتَدَّ عنها الغِطاءُ

هَلْ أفْرَطْتَ في شَهْقَةِ العَارِ

حَتّى اسْتَعْذَبْتَ انْكِشافَ النّسَاءِ؟

وهَلْ كُنْتَ حَقّاً

تُبيحُ الحُرُوفَ لِعَيْنِ العَلانِيَةِ

مِثْلَ احْتِرَاقِ السُّؤَالِ؟

لَمْ تَكُنْ

تَحْتَ كَفِّ الحَنَانِ

سِوَى نَفْسِكَ المُتَّكِئَةِ

عَلَى هامِشِ الرِّيحِ

تُسَرِّحُ ظِلَّكَ

في سُوقِ أشْبَاهِهَا

ما أجْمَلَ الفَجْوَةَ

حينَ تُبَاغِتُ رَغْبَتَهَا

مِنْ جِهَةٍ لا تَرَاهَا المَرَايَا

وتَسْحَبُهَا

مِنْ رَجْعِهَا المُسْتَهَانِ

أتُرَاكَ

سَتُسْعِفُ هذَا الضِّيَاءَ اليَتِيمَ

بِأَثَرٍ نَسِيَتْهُ الآلِهَةُ فِي مَمْشَاهَا؟

أمْ أَنَّكَ

سَتُرَتِّبُ حُمَّاكَ

فَوْقَ ضَفَائِرِهَا

وتَعُودُ إلَيْنَا

بِصَوْتِ الحُطَامِ؟

حينَ جِئْتَ منَ الفَجِّ

كُنتُ أَنا

بِاسْميَ الأوَّلِ

الذي خَبَّأَتْهُ النُّبُوءَاتُ

في نَفَسِ اللَّيْلِ

وكانَتِ النَّوافِذُ

تُدِيرُ ارْتِجَافَ الصَّبَاحِ

كَأَنَّهَا تُنصِتُ

لِأُنثى

تَخَلَّتْ عنَ الشَّوْقِ

لِتَحْمِلَ ما لا يُقال

هلْ أَنا الماءُ

الّذي دَلَكَتْهُ الغُيُومُ

عَلَى خَاصِرَةِ الرُّوحِ

في خِلْسَةِ الانْكِشَافِ؟

لَنْ أَقُولَ

بِأَنَّ صَدَى الجُرْحِ

افْتَرَشَ السَّماءَ

وَارْتَفَعَ بي

لَنْ أَقُولَ

بِأَنَّكَ كُنْتَ

سُلالَةَ ما لَمْ يَقُلْهُ الغِيَابُ

كُنَّا

وَرَاءَ الخَيَالِ

وما وافَى سِوَى ظِلٍّ

خَلَقْنَاهُ مِنْ نَسْيِاننَا

لِيَنْفَلِتَ الآنَ

كَهَمْسٍ أَضَاعَ اتِّجَاهَ المَخَاضِ

هلْ صَدَّقْتَ

نَبْرَةَ ما انْسَكَبَ مِنْهَا؟

أقُولُ:

إنَّها لَحْظَةٌ

لِلْخِيَانَةِ

بِوَجْهٍ مَكْشُوفٍ

وَغَزَلٍ يُرَى مِنْ جِهَاتِ المَكَانِ

وَاللِّقَاءُ

الّذي أَفْلَتَ

مِنْ شِبَاكِ الزَّمَانِ

كَسَرَ المَرَايَا

وانْدَسَّ في فَمِ صَدًى

لَمْ نَكُنْ قَدْ نَطَقْنَاهُ

لِتَبقَى

تَحْمِلُ اسْمَكَ

كَمَنْ يَحْمِلُ خِيَانَتَهُ

فِي وَجْهِ الإلَهِ

***

مرشدة جاويش

 

في المثقف اليوم