قراءات نقدية

كريم عبد الله: قراءة نقدية لنصّ: بعيداً عن جمهورية أفلاطون للشاعرة چنور نامق

مواسم الغروب: رحلة بين الوجود والزوال

***

1- البنية واللغة:

يعد نصّ /بعيداً عن جمهورية أفلاطون/ نصًّا شعريًّا معاصرًا مليئًا بالصور الفنية المكثفة والرموز التي تتنقل بين مستويات عدة من التأمل الفلسفي والوجودي، إلى جانب التشبيهات الحسية التي تربط الذات بالعالم الطبيعي. من خلال استخدام الشاعرة للزمن والفصول الطبيعية، يطغى على النص الطابع الانفعالي والتشويش الوجودي، إذ أن الشخص الذي يتحدث في القصيدة لا يملك تصوّرًا ثابتًا لوجوده في سياق الزمان والمكان.

2- الطبيعة وعلاقتها بالذات:

إحدى السمات البارزة في النص هي تداخل المواسم والفصول مع مشاعر الشاعرة، ما يخلق نوعًا من الوحدة بين الذات الطبيعية والوجود البشري. يمكن للقارئ أن يلحظ حضور الفصول الأربعة كرموز دائمة للتغير والانتقال، الأمر الذي يعكس حالة عدم الاستقرار والاضطراب التي تعيشها الشاعرة.

الشتاء الذي يبدو /بيضاءً بيضاءً/ يرمز إلى النقاء والبرودة، لكنه في الوقت ذاته يحمل غربة الداخل والشعور بالعزلة.

الصيف الذي /يذروَ رمادَ إنتظاري/ يجسد الحنين والعذاب الناتج عن الانتظار الذي لا يفضي إلى شيء، مما يترك خلفه رمادًا غير منتج.

الخريف الذي /يمرّ من جنبيَ مرتديًا عباءةً صفراءَ/ يضفي على النص شعورًا بالشيخوخة والفقدان، حيث الخريف يرمز إلى النضوج الزائل والتحولات الحتمية.

أما الربيع، فيُحتَسَبُ كرمزٍ للأمل المتجدد، لكنه في النص لا يأتي حاملًا للبشرى المتوقعة، بل يتساقط تحت ضغط /الهسيس/ من الأطواق الخضراء للشعر.

هذه الفصول، وإن كانت تمثل دورة حياة طبيعية، إلا أنها تصبح مشهدًا للاضطراب الوجودي، وهو ما يعكس شعور الشاعرة العميق بتشتت الذات والعجز عن التكيف مع العالم المحيط.

3- الرمزية والخيال:

النص مليء بالرموز التي تحمل معانٍ فلسفية وتجريدية تعكس الصراع الداخلي. الشاعرة تستعير من العالم الطبيعي صورًا حية وساخرة لتصف تجربتها الشخصية:

الذبابة التي /تَتَيَبّسُ/ في الشاعرة تصبح صورة للحظة الموت أو التوقف، في مقابل العصفورة التي تبرز كرمز للحركة والتغيير.

النحلة التي /تخطفُ قبلةً/ من الشاعرة تظهر كرمز للرغبة والألم، حيث أن النحلة، بوصفها كائنًا طائرًا، تُجسد التوق الدائم والمستمر للحب والحرية، لكن كل قبلة تُخطف وتُسقط تُعتبر خسارة على مستوى الذات.

النملة التي /تطمسُ تاريخ الأرضِ بحبة قمحٍ ثقيلةٍ/ تمثل الموت الزاحف أو الفناء الذي لا مفر منه، في حين أن العنكبوت والدودة يرمزان إلى الموت البطيء والمجهول الذي يحاصر وجود الشاعرة.

هذا العالم المليء بالكائنات الصغيرة التي تتفاعل مع الشاعرة يشير إلى نوع من التلاعب بالأقدار، حيث يتم اختطاف لحظات الوجود والحب والتاريخ في عالم لا يبدو أنه يحتفظ بأي شيء مستمر أو ثابت.

4- الوجود والعدم:

يتحول النص إلى بحث عن معنى الوجود من خلال اللغة المكسورة والملتهبة التي تسود الأبيات. الشاعرة تتساءل عن طبيعة وجودها في هذا العالم، وتطرح تساؤلات وجودية عن جدوى الحياة والآلام التي تتراكم بمرور الزمن:

السؤال الوجودي الذي يظهر في قولها: /لِمَ غدوتُ موسماً مدمراً غيرَ مُتصالحٍ/ يعكس شعورًا بالفقدان والعزلة.

التوتر بين الفصول (الربيع والصيف والخريف والشتاء) يشير إلى محاولات عديدة لإيجاد الاستقرار، لكن الواقع يكشف عن تقلبات وصراعات لا يمكن التنبؤ بها.

القصيدة تصبح مساحة للشعور بالعجز أمام دورة الحياة التي لا تتوقف، وهذا يظهر بوضوح في التشبيهات التي تلجأ إليها الشاعرة في وصف تجربتها الوجودية.

5- التمرد على التوقعات والروتين:

تظهر الشاعرة كمتمردة على الرتابة الدنيوية والوجودية، حيث تشير إلى سعيها للخروج من النظام المنطقي والمرتب الذي تحاول الفلسفات الكبرى (مثل أفلاطون) فرضه على الوجود. ففي إشارة إلى /جمهورية أفلاطون/، يبرهن النص على رفض النظام المثالي الذي يقترحه أفلاطون، ليحل محله العالم غير المثالي، حيث الألم والفوضى والغياب سيّد الموقف.

6- الانتصار على الفوضى:

رغم كل هذا التوتر والفوضى التي تسود النص، فإن الشاعرة تصل إلى لحظة من الوعي الذاتي المتجدد، يتمثل في الختام حيث تقوم /خيالي بمَحوِ مواسمي/. هذا يشير إلى محاولة تصالح الشاعرة مع نفسها، وتحريرها من أسر المواسم والأوقات التي سلبتها قدرتها على التفاعل مع العالم.

7- خاتمة:

نص /بعيدًا عن جمهورية أفلاطون/ هو نصّ فلسفيّ بامتياز، يستحضر تداخلًا بين الواقع والفنتازيا، بين الحياة والموت، بين الوجود والعدم. الشاعرة چنور نامق تقدم من خلال هذه القصيدة رؤية كونية معقدة، تتفاعل فيها الذات مع عناصر الطبيعة والعالم المحيط بها، وتبحث عن مواضع التوازن في عالم دائم التغير والتقلب. النص يتسم بالانفتاح على أكثر من قراءة، وهو يعكس حالة من البحث المستمر عن معنى في عالم مليء بالتحولات والصراعات.

***

بقلم: كريم عبد الله – العراق

..........................

بعيداً عن جمهورية أفلاطون

شعر: چنور نامق

ترجمة: مكرم رشيد الطالباني

***

أنا  موسمٌ آخرَ الآنَ

وموعد غروبي غير معلومٌ

تَتَيَبّسُ فيَّ ذبابةٌ

وتستَكينُ بغربةٍ على غصنِ ضفيرتي الموشحة بالهموم

عصفورةٌ

يزورني الشتاءُ

ويبدو بيضاءً بيضاءً

فيما الصيفُ يذروَ رمادَ إنتظاري

والخريفُ يمرّ من جنبيَ

مرتدياً عباءةً صفراءَ

ويحسدُني الربيع

ليقطفَ بالهسيسِ أطواقَ شَعريَ الخضراءِ

ليتساقطَ بدوره

**

الآنَ أنا جزءٌ آخرَ من جسدِ النساء الغاضبات

متقرفصةٌ أمام الجناتِ

يحدقنَ فيَّ بحسَدٍ

هن لن يكفنَ عن الماراثون وأنا من زياراتي المفاجئة

الآنَ أنا نهرٌ آخرَ

لن تسمحَ الهموم الصغيرةَ لـ(فيرمينيا) أن تتعرّفَ علي الأسماكُ

تُلَوِنُني الأمطارُ

تغترِفُني طحالبُ الحياةِ

الآنَ أنا نهرٌ آخرَ

تخطفُ نحلةٌ منيّ قبلَةً

لتسقطَ على بضعِ خطواتِ منيّ

لتطمسَ نملةٌ تاريخ الأرضِ

بحبة قمحٍ ثقيلةٍ

فيما  يهدمُ دارَ خياليَ غُرابٌ

ومن ثم تخطِفُ نحلةٌ أخرى قبلةً منيّ

لتسقطَ على بضعِ خطواتٍ منيّ

والآن تجدني ملأى بنحلاتٍ تواقاتٍ للقُبَلِ

بنملاتٍ ذي أحمالٍ ثِقالٍ

بعصافيرَ أضطربتْ نومها

**

وزعةٌ تلتهمُ البعوضَ

على مرأى من الشمسِ

فيما فراشةٌ تتلذّذُ بكلتا قدميها من قبلاتِ شفاهيَ

شبحٌ ينشرُ كفنٌ خُيّطَ حديثاً أمام مرآى ناظريّ

ملاكان يتشاجران حول الوجود

الصيفُ يرشني بالنارِ

والشتاءُ يُجَمّدُني

والخريفُ يُغَطّيني بعباءةٍ ناصعةِ البياضِ

فيما ها هو الربيعُ يسيرُ أمامَ جنازاتِ النحلاتِ

الوقتُ متأخرٌ وصخبُ موسمي هذا لا ينتهي

عنكبوتٌ

يبحثُ كيديكَ في ثنايا شعري عن القملِ

فيما تحرثُ دودةٌ أرضَ شُجَيراتي

يُبَلِغُني نورٌ بنبأ رحيلِ البرقِ

فيما الأشجارُ ترقصُ فيّ لدرجةٍ أهتزُّ

يا إلهي

لِمَ غدوتُ موسماً مدمراً غيرَ مُتصالحٍ

المزهریاتُ تملأُ نفسها من عِطريَ كلّ مساء

المسافرونَ يُعيدونَ آمالي إلى أحضانِ الحياةِ

بملء سلالهم

تَتَيبسُّ صرصورٌ بأمر النور على بضعِ خطواتٍ من إحدى شجيراتِ رغبتي

حان وقتُ غروبيَ الآن

يخطفُ عصفورٌ، نملةٌ ناظري

ونحلةٌ تخطفُ شفاهي

على إثر وقعَ أقدامهِ

يقوم خيالي بمَحوِ مواسمي

 

في المثقف اليوم