قراءات نقدية

طارق الحلفي: قراءة في قصائر الشاعر الحنظل عادل "طلبتُ حتفي"..

"صراخ الروح العالي"

"لم أكن اظن ان الظلال ستدركني.. ظلال ما استغبرته.. وما استأخرته من ايامي".. هذا ما تردد في خاطري وانا اطالع هذه القصائر "طلبتُ حتفي".. للشاعر الحنظل عادل.. الذي اجده فيها واقفًا أمام تجربة شعرية جديدة وعميقة.. مفعمة بالألم والحنين والفقد، من خلال ما رسمه، من لوحة إنسانية مؤثرة تتنقل بين مشاعر الحب والخسارة والندم.

قبل ان اتسقط ثمار هذه القصائر او ان اتعرض الى مميزاتها وخصائصها الفنية التي وجدت انها تتمحور حول:

* اللغة الشعرية: التي تتميز بالرمزية العميقة والإيحاءات الشعورية المكثفة، حيث يستخدم الشاعر استعارات مذهلة كـ "أراقص نبضي" و"يرفع أستار الفردوس".

* البناء الدرامي: الذي يعتمد على التدرج العاطفي المؤلم، من لحظات الانتظار والشوق إلى مراحل الفقد والحزن العميق.

* الصور الشعرية: مذهلة ومكثفة، تتجلى في تشخيص المشاعر وإعطائها أبعاداً إنسانية متعددة.

أضف الى ذلك انها تكشف عن دلالات عميقة في التجربة الإنسانية المتعددة الأبعاد.. خاصة حين يمتزج الحب بالألم.. والانتظار بالفقد.. فالشاعر يستحضر امرأة تشبه "عشتار"، ويصور علاقة معقدة مليئة بالتناقضات والمشاعر المتداخلة.

لقد استطاع الشاعر الحنظل عادل ان يوظف التقنيات الشعرية المثيرة للدهشة من خلال:

- البراعة في توظيف الاستعارات

- التنوع في إيقاع اللغة

- الاستخدام مبتكر للصور الشعرية

وسواها من التقنيات التي تمنح القارئ لحظات ممتعة وسارة من التأمل والاتقاد الذي يولده التفاعل مع كل "قصيرة"..

ان القراءة التفصيلية التي اسعى اليها هنا، للغوص في مفردات ومفاصل هذه القصائر.. والإنزياحات الأدبية والفكرية والنفسية والمعرفية لا تحدها، بل تأتي استكمالًا لمتعة التبصر في هذه التجربة المبهرة..

1

"حينَ جئتُ اليكِ

حاملاً روحي على لهفةِ اللقاء

أراقصُ نبضي بلا احتراس

كالساعي الى موعدهِ الأوّل

لم أعرف

أنني سأعود ..

الى حتفي"

اللقاءُ بين اللهفةِ والمصير..

"حينَ جئتُ إليكِ

حاملاً روحي على لهفةِ اللقاء"

يبدأُ المقطعُ بتصويرٍ لحالةِ التوقِ العاطفيِّ، حيثُ يأتي الراوي مُندفعًا نحو محبوبتهِ، محمولًا بروحٍ تشتعلُ بالشوق. اللهفةُ هنا ليست مجرّد مشاعر عابرة، بل حالة وجودية، تجعلُ اللقاءَ أشبهَ بحدثٍ مصيريّ، تتوحّدُ فيه الذاتُ مع نبضِ الانتظار.

رقصةُ القلبِ بلا احتراس..

"أراقصُ نبضي بلا احتراس

كالساعي إلى موعدهِ الأوّل"

يُبرزُ المقطعُ عفويّةَ الحبِّ في بدايتهِ، حيثُ ينغمسُ العاشقُ بكاملِ كيانهِ دون حذر، كما لو كان في لقائهِ الأوّل، حيثُ الأحلامُ لا تعرفُ الخوفَ، والتوقُ لا يَحملُ معهُ احتمالَ الفقد. إنّها لحظةٌ منطلقةٌ تمامًا نحو الآخر، تفيضُ بالاندفاعِ والثقة.

التحوّلُ الصادم.. من اللقاءِ إلى الفناء..

"لم أعرف

أنني سأعود..

إلى حتفي"

هنا، يحدثُ الانقلابُ الدراميُّ في المشهد: اللهفةُ التي حملت العاشقَ نحو اللقاءِ لم تكن سوى طريقٍ إلى الهلاك. فبدلًا من العثورِ على الحُبِّ أو السعادة، يجدُ الراوي نفسَهُ عائدًا إلى حتفه، وكأنَّ اللقاءَ كان كمينًا شعوريًا، أو لحظةَ انكشافٍ قاسية.

الحبُّ كقدرٍ مجهول..

المقطعُ يُجسّدُ المفارقةَ الأزليةَ بين التوقِ والخسارة. أحيانًا، نندفعُ نحو من نُحبُّ بكلِّ ما فينا، دون أن نُدركَ أنّنا نتقدّمُ نحو مصيرٍ مجهول، قد يكون نهايةً لا عودةَ منها.

**

2

"أربعونَ عاما

بين دمعةٍ وأخرى

أنتَ لن تجدَ عمرا آخر

يجودُ بالبُكاء

فاسقِ إن استَطَعت ..

تجاعيدَ خَدّيك

واحرقْ بناضبِ الدَمعِ..

جُرحَك"

البكاءُ كزمنٍ مستمرّ..

"أربعونَ عامًا

بين دمعةٍ وأخرى"

يبدأُ هذا المقطعُ بتحديدِ زمنٍ طويلٍ مُتشظٍّ بين الدموع، فالأربعونَ عامًا، ليست مجرد عددٍ، بل تصبح حالةً شعوريةً ممتدة، تُختصرُ بين دمعةٍ وأخرى.. والزمنُ هنا لا يُقاسُ بالأيامِ أو العقود، بل يُقاسُ بالبكاءِ، وكأنّ الحياةَ ليست سوى محطاتٍ متتابعةٍ من الحزن.

لا عمرَ آخر للحزن..

"أنتَ لن تجدَ عمرًا آخر

يجودُ بالبكاء"

يتحوّلُ الخطابُ إلى نبرةِ الحقيقةِ القاسية، حيثُ يواجهُ الراوي ذاتَه أو المتلقي بحتميةِ الزمنِ الضائع في الحزن. لا يوجدُ عُمرٌ آخر يمكن أن يُمنحَ للحزنِ أو البكاء، وكأنَّ الشاعرَ يقول: هذا هو زمنك الوحيد، فماذا ستفعل به؟

الدموعُ كوقودٍ للذكرى والاحتراق

"فاسْقِ إن استطعت..

تجاعيدَ خَدّيك،

واحرق بناضبِ الدمعِ..

جُرحَك"

في هذه الصورةِ المكثّفة، تتحوّل الدموعُ من وسيلةٍ للبكاءِ إلى طقسٍ شعائريّ:

* سقايةُ التجاعيدِ بالدموع: كأنّ الزمنَ يُروى بالحزن، والشيخوخةُ تُصبحُ تربةً خصبةً للذكرياتِ المؤلمة.

* إحراق الجُرحِ بالدمع الناشف: حيثُ يتحوّلُ البكاءُ من تنفيسٍ إلى أداةِ تطهيرٍ، لكن بثمنٍ باهظ، فبدلًا من أن يُبرِد الجرح، يُلهبهُ أكثر.

الحزنُ كاختيارٍ لا مهربَ منه..

المقطعُ يعكسُ جدليّة الزمنِ والحزن، وكيفَ أنّ بعضَ الجراحِ لا تُشفى، بل تتحوّلُ إلى طقوسٍ يوميّة تُمارَسُ بين التجاعيدِ والدموع. هنا، البكاءُ ليس ضعفًا، بل طقسُ حياةٍ ممتدة، حيثُ يصبحُ الجرحُ كيانًا لا يُفارقُ صاحبه.

**

3

بَسطتُ كالمَجنونِ كلتا يدَيّ

مُبتهجاً

بكِ.. بي

ليُسقِطَ في غفلَتي

ما أدّخَرَ من دِفئكِ

ذلكَ الأحمقُ..

قلبي

"

القلبُ الأحمقُ ووهْمُ الامتلاءِ..

"بسطتُ كالمجنونِ

كلتا يديّ مبتهجًا

بكِ.. بي"

يفتتحُ المقطعُ بصورةٍ تجسدُ الفرحَ الطاغي والمطلق.. الشاعرُ يبسطُ يديه بلا حذرٍ، كالمجنونِ الذي لا يُفكّر بعواقب فرحه.. ليس الامتدادُ الجسديُّ هنا إلا انعكاسًا لانفتاحِ الروحِ وتوهّم الامتلاءِ بالآخر، وكأنَّ الحبيبَ أصبحَ سببًا مزدوجًا للفرح: فهو يُبتهجُ بها، لكنه في الوقتِ نفسهِ يُبتهجُ بنفسه لأنّه معها، في لحظةِ توحّدٍ زائف.

السقوطُ في الغفلةِ.. والخديعةُ الدافئة..

"ليسقِطَ في غفلتي

ما أدّخرَ من دفئكِ"

يحدثُ التحوّلُ فجأةً، حيثُ يُدركُ الشاعر أنَّه لم يكن يحتضنُ حرارةً حقيقية، بل كان يسقطُ ضحيةً لوهم الدفء المدّخر. الغفلةُ هنا ليست نسيانًا عابرًا، بل هي حالةُ انخداعٍ عاطفيّ، حيثُ يكتشفُ أنَّ دفءَ الحبيبِ لم يكنْ حقيقياً أو دائمًا.

القلبُ.. ذلكَ الأحمقُ..

"ذلك الأحمقُ..

قلبي"

في النهايةِ، يُلقي الشاعرُ اللومَ على قلبهِ، واصفًا إيّاه بالأحمق، وكأنّه طفلٌ ساذجٌ صدّقَ السرابَ واستثمرَ في حبٍّ لم يكن كما تخيّل. القلبُ هنا ليس مُجرد عضوٍ نابضٍ.. بل هو كيانٌ مستقلٌ.. كائنٌ ساذجٌ يسقطُ في المصيدةِ مرارًا وتكرارًا، غيرَ متعلّمٍ من تجاربهِ السابقة.

الدفءُ الذي لم يكن..

المقطعُ يُجسّدُ الفرحَ العاطفيّ المندفعَ الذي يتحوّلُ إلى خيبةٍ صامتة، حيثُ يكونُ الاحتواءُ في البدايةِ وهمًا يُكتشفُ لاحقًا. الشاعرُ يختصرُ هذهِ الرحلةَ بين الابتهاجِ والسقوطِ في كلمةٍ واحدة: "الأحمق"، ليكونَ القلبُ هو الضحيةُ الأبديةُ التي لا تتعلمُ من التجربة.

**

4

لمّا ارتحلتِ

أفقتُ كسيرا

كصَقرٍ طوتهُ الشِباك

كسرتُ أجنحَتي

صرتُ في السَبعينَ يتيما

أحملُ زلّاتي

"

الغيابُ الذي يُكسِرُ الأجنحة..

"لمّا ارتحلتِ

أفقتُ كسيرًا"

يبدأُ المقطعُ بصدمةِ الغيابِ التي تأتي كإفاقةٍ موجعة، حيثُ لا يكونُ الوعيُ هنا مُحرِّرًا، بل لحظةَ انكسارٍ حادٍّ تُعرّي هشاشةَ الذات بعد الفقد. الرحيلُ يُنتج كسرًا داخليًا، ليس في الجسدِ فحسب، بل في الروحِ التي باتت حطامًا وذكرى لمجدٍ مضى.

الصقرُ الجريح.. الاستعارةُ الموجعة..

"كصقرٍ طوتهُ الشباك

كسرتُ أجنحتي"

يشبِّهُ الشاعرُ نفسهُ بالصقر، وهو رمزٌ للقوةِ والحريّةِ والكبرياءِ، لكنهُ هنا ليس محلّقًا، بل مُستَلبٌ، مُقيَّدٌ، ضحيةُ شباكٍ أحكمت قبضتَها عليه. الأسوأُ من ذلكَ أنَّه لم يكتفِ بالسقوط، بل هو مَن كسرَ أجنحتهِ بنفسهِ، وكأنّه يجلدُ ذاتهُ على العجزِ عن الطيرانِ من جديد.

اليُتمُ في السبعين.. التيهُ في الندم..

"صرتُ في السبعينَ يتيمًا

أحملُ زلّاتي"

هُنا يتحوّلُ الزمنُ إلى شاهدٍ على الوحشة. السبعونَ ليستْ مُجرَّد عمرٍ، بل هي عقودٌ من الوحدةِ التي لم يملأها شيء بعد الغياب.. المفارقةُ القاسيةُ تكمنُ في وصفِ النفسِ بـ "اليتيم"، رغمَ أنَّ هذهِ الكلمةَ ترتبطُ غالبًا بفقدانِ الأهلِ في الطفولة، إلا أنَّ الشاعرَ يستخدمُها ليُشيرَ إلى خسارةٍ متأخرة، لكنها أشدُّ وطأةً، لأنها تُجرِّدُ المرءَ من آخرِ سندٍ لهُ في الحيا. أمّا الزلّاتُ فهي الأخطاءُ أو الندوبُ التي يُثقلُ بها الماضي كاهلهُ، وكأنَّهُ يُحمِّلُ نفسهُ مسؤوليةَ الخسارةِ أو عجزَهُ عن استعادتها.

انكسارٌ بلا تعافٍ..

المقطعُ يُقدّمُ صورةً مُكثّفةً للفقدِ المُرّ الذي لا يُجبرهُ الزمن، حيثُ يصبحُ المُحبُّ أسيرًا للندمِ والتقدّمِ في العمر بلا عزاءٍ ولا تعافٍ. إنهُ صقرٌ لم يعد يُحلق، بل فقدَ حتى الرغبةَ في المحاولة، مُحاطًا بحطامِ جناحيهِ وذكرياتِ ما كانَ يومًا سماءً مفتوحةً أمامه.

**

5

أمقُتُ بَعدكِ الذكريات

جَمالُها المُميتُ..

كالسَوط

مزّقَ ما بقيَ منّي

كبائسٍ..

لم يقتُلهُ الانتحار

"

الذكرياتُ كأدواتِ تعذيب..

"أمقُتُ بَعدكِ الذكريات"

يبدأ المقطعُ بتصريحٍ قويٍّ ومباشرٍ عن رفض الذكرياتِ ونبذها، رغم أن الذكرى في العادة تكون عزاءً لمن فقد، أو سلوانًا للوحيد، لكن هنا تتحوّلُ إلى عبءٍ نفسيّ ثقيل، وكأنها لعنةٌ تستمرُّ في مطاردةِ الشاعر. الذكرياتُ لا تُواسيه، بل تزيدُ من معاناته، فهي جزءٌ من الفقد، بل ربما أكثر إيلامًا منهُ، لأنها تُبقيه في دائرة الألم دون مخرج.

الجَمالُ المُميت.. حين تُصبح الذكرى سيفًا ذا حدّين

"جَمالُها المُميتُ..

كالسَوط"

يُبرز الشاعرُ المفارقةَ المؤلمةَ بين كون الذكرى جميلةً لكنها في ذات الوقت تُميتُ صاحبها. فهي ليستْ مُجردُ صورٍ تُعاد في الذهن، بل هي سوطٌ يلهبُ الروحَ ويُمزّقُ البقايا. وهذا التوصيف يُحوّل الذكرى إلى أداة تعذيبٍ لا تُبقي ولا تذر، تُعيد الألمَ في كلّ لحظة، تُبقي الفقدَ حاضرًا أكثر من الغيابِ نفسه.

البؤسُ والانتحار.. البقاءُ في العذابِ دون خلاص..

"مزّقَ ما بقيَ منّي

كبائسٍ..

لم يقتُلهُ الانتحار"

الصورةُ هنا تصلُ إلى ذروتها القاتمة؛ فالشاعرُ لا يجد ما تبقى منهُ الّا البؤس، ليس مجردَ بؤس.. بل كابوسًا لا يُمكن الاستيقاظُ منه، كابوسًا يملكُ وعيًا ذاتيًا.. كيانًا حزينًا لم يمت.. رغم محاولات التخلص من هذا البؤس. الانتحارُ هنا رمزٌ للخلاصِ الذي لم يحدث، وكأنَّ هذا الكابوسَ.. تمامًا مثل الذكرى.. محكومٌ عليهِ بالبقاءِ للأبد، مُستمرٌ في تمزيق ما تبقى من الشاعرِ دون رحمة.

العذابُ المستمرّ..

يُقدّمُ المقطعُ رؤيةً قاسيةً للذكرى، إذ لا يرى فيها الشاعرُ حنينًا، ولا تعزيةً، بل كابوسًا وجلدًا ذاتيًا مستمرًا. إنها حالةُ فَقْدٍ لا نهاية لها، مُعاناةٌ ترفضُ أن تخمدَ مع الزمن، بل تزيدُ من حدتها، فتُبقي الشاعرَ مُحاصرًا بين الجمالِ الذي لا يستطيعُ العيشَ بدونه، والعذابِ الذي لا يستطيعُ تحمّله.

**

6

أنتَ..

أسرفتَ في الشُربِ بذاكَ الكأس

الذي أصلَحتَ كَسرَه

منذُ عُقود

لا تَعي

أنّكَ لن تثمل.. مرّتين

بذاتِ الكأس ..

وتَنجو"

وهمُ اللذةِ المُتكرّرة.. حين لا يُصلح الكسرُ ما انكسر..

"أنتَ..

أسرفتَ في الشُربِ بذاكَ الكأس

الذي أصلَحتَ كَسرَه

منذُ عُقود"

يبدأُ المقطعُ بخطابٍ مُباشرٍ للشخصيّة المُخاطبة، حيثُ يبدو الشاعر وكأنّه يُعاتبُ نفسَهُ أو يُخاطبُ شخصًا غارقًا في الوهم. الكأسُ هنا ليس مجرد كأسٍ مادي، بل رمزٌ لشيء انكسر في الماضي.. ربما علاقة، ربما حلم، ربما تجربة قديمة.. وحاول المخاطَب إصلاحه، لكن عبثًا حاول. فعل "أسرفتَ في الشُرب" يوحي بالإفراط في التمسك بالماضي، بالإصرار على استعادة تجربةٍ انتهت، رغم وضوح هشاشتها.

الإدمانُ على الوهم.. واستحالة العودة إلى ذات النشوة..

"لا تَعي

أنَّكَ لن تثمل.. مرّتين

بذاتِ الكأس ..

وتنجو"

تتّضحُ الفكرةُ أكثر في هذه الأسطر، حيثُ يُحذّرُ الشاعرُ من الوقوع في وهم تكرار اللذة القديمة. فالمخاطَب يعتقدُ أنه يستطيع أن يستعيد الشعور ذاته الذي اختبره في الماضي، لكنهُ لا يدركُ أن التجربة لا يُمكنُ أن تتكرر بنفس النقاء والبهجة.. حتى لو بدا الكأسُ مُرمّمًا، إلا أن التصدّع يظلّ موجودًا، والتجربة لن تعود كما كانت.

الهلاكُ في إعادة المحاولة

"وتنجو"

تأتي النهايةُ مُباغتةً وقاطعةً، حيثُ يضعُ الشاعرُ الحقيقة بوضوح: لن ينجو من يُحاول أن يختبر ذات اللذة مرتين. فالتجربةُ الأولى كانت بريئةً، أما الثانية فهي محكومةٌ بالمعرفة، بالخذلان، بالندم. وكأنّ الشاعر يقول: من جرّب الانكسار مرةً، لن يخرج سالمًا إن أعاد التجربة، بل سيكون السقوطُ أشدّ إيلامًا.

الثمن الباهظ للشرب.. مرتين.. من ذات الكأس..

يطرحُ المقطعُ تأمّلًا عميقًا حول استحالة استعادة الماضي كما كان، وحول إصرار الإنسان على خداع نفسه بالعودة إلى شيء انتهى منذ زمن. إنهُ تذكيرٌ قاسٍ بأننا لا نشربُ من ذات الكأس مرتين دون أن ندفع الثمن.

**

7

لا عذرَ أخمدُ به حُزني

حينَ فقَدتُكِ

بلا وَعي

يا لَلجَهل

تركتُ الريحَ بينَنا

ترفعُ أستار الفردوس"

الخذلان أمام الفقد.. والجهل الذي لا يُصلح ما ضاع..

"لا عذرَ أخمدُ به حُزني

حينَ فقدتُكِ

بلا وعي"

يفتتحُ الشاعرُ المقطع باعترافٍ قاطعٍ بالعجز؛ فليس هناك عذرٌ يخفّفُ عنه وطأةَ الفقد، ولا مبررٌ يستطيع أن يُسكن الحزن. إنهُ فقدانٌ لم يكن تدريجيًا، بل مباغتًا، فـ"بلا وعي" تُشير إلى الصدمة.. إلى انطفاء العلاقة دون إدراكٍ كاملٍ من طرف الشاعر، أو ربما إلى إهمالٍ ما جعلهُ غير مُدركٍ لما كان يحدث حتى فات الأوان.

الريحُ بين الحبيبين.. واليد التي لم تُمسك بالفردوس..

"يا لَلجَهل..

تركتُ الريحَ بينَنا"

ينتقلُ الشاعرُ من الحزن إلى تأنيب الذات، حيثُ يُدركُ أن الجهل لم يكن فقط في عدم الوعي بالفقد، بل في ترك المسافة بينه وبين الآخر تكبرُ حتى تسرّبت الريح بينهما. و "الريح " هنا رمزٌ للفجوة، لسوء الفهم، لعدم التمسّك بما كان عليهما الحفاظ عليه. لم تكن هذه الريح مجرد عابرٍ خفيف، بل كانت قوةً قادرةً على إزاحة الحجاب بين الحبيبين، ورفع "أستار الفردوس"، أي تعرية الحقيقة القاسية: أنه لم يعد هناك ملاذٌ أو حب محفوظ.

الفردوس الضائع إلى الأبد..

"ترفعُ أستار الفردوس"

الفردوسُ هنا ليس مجرد مكان، بل حالة من الطمأنينة والحب، والتي لم يتمكن الشاعر من الحفاظ عليها. رفعُ الأستار يُشير إلى زوال السِتر عن الحقيقة، إلى أن العلاقة لم تعُد كما كانت، وربما إلى انكشاف هشاشتها أمام قوى الزمن والخذلان.

يُصوّر هذا المقطعُ الندم القاتل على الفقد، والاعتراف بأنّ الأخطاء لا تُمحى بالعذر، وأنّ بعض الفجوات بين البشر تكبر حتى تصبح هاويةً لا جسر لها. إنه نصٌ عن الخسارة التي لا رجوع عنها، وعن الحسرة التي لا دواء لها إلا القبول المتأخر بالحقيقة.

**

8

كيفَ للدَقائقِ أن تَمضي

بَعدَكِ

يأبى قلبي اجتيازَ الزمَن

منتظراً.. بلا يأس

أن تدُبَّ أحرُفٌ منكِ

الى هاتفي"

الزمن المتوقّف في غيابكِ.. والانتظار الذي لا يلين..

"كيفَ للدقائقِ أن تَمضي

بعدَكِ"

يفتتحُ الشاعرُ المقطعَ بتساؤلٍ وجوديّ، حيثُ يُصبحُ مرور الوقت مستحيلًا في غياب الحبيبة. فالمسافة بين اللحظات تتّسعُ، والدقائق التي كانت تمضي بسلاسةٍ في حضورها تتحوّلُ إلى عبء ثقيل، إلى زمنٍ جامدٍ يأبى أن يتحرّك.

القلبُ العالق في لحظة الفقد

"يأبى قلبي اجتيازَ الزمَن"

القلبُ هنا ليس مجرّد عضوٍ ينبض، بل كيانٌ يرفضُ التأقلم مع الواقع الجديد. الزمنُ يستمرّ، لكنهُ يظلُّ عالقًا في لحظة الفقد، في انتظارِ شيءٍ يُعيده إلى الحياة. واللافتُ أنّه رغم هذا التمسّك بالماضي، لا يبدو اليأس حاضرًا بالكامل، بل هناك مساحةٌ للأمل، وإن كانت معلّقةً على خيطٍ رفيع.

الهاتف كنافذةٍ للأمل المعلّق

"منتظراً..

بلا يأس

أن تدُبَّ أحرُفٌ منكِ

إلى هاتفي"

يتحوّل الهاتفُ هنا إلى رمزٍ للرجاء، نافذةٍ مُعلقةٍ بين الصمت والكلمات، بين النسيان والتواصل. فحتى في الغياب، لا يزال هناك أملٌ بأن تصل رسالة، كلمة، حرفٌ واحدٌ يعيد الحياة إلى هذا الانتظار.

التمسّك بالأمل رغم استحالته..

المقطعُ يصوّرُ حالةَ التوقّف في الزمن بعد الفقد، وكيف يمكن للغياب أن يجعل حتى الدقائق تمرّ بصعوبة. إنه نصٌّ عن التمسّك بالأمل رغم استحالته، عن الانتظار الذي يرفضُ الاعترافَ بالنهاية، وعن هشاشة الإنسان أمام الحبّ والغياب.

**

9

لستِ امرأةً أخرى

بلّلَتْ شوقي كأمطارِ صَيف

عشتارٌ أنتِ

في ملَكوتِها

شبَكتُ كفَيَّ

جثَوتُ أدعو

الّا يطلَّ الصَباح"

عِشْتَارُ الحُبِّ.. والرَجاءُ الذي يَخشَى الصَباح..

"لستِ امرأةً أخرى"

يبدأ الشاعرُ المقطعَ بالتفرُّدِ والتمييز، نافياً أن تكون الحبيبةُ مجرّد امرأةٍ أخرى عابرة. إنها ليست كغيرها، بل هي التي روَت عطشَ الشوق، كما تفعل أمطار الصيف حين تسقطُ فجأةً، مُنعشةً الروحَ وملوّنةً الأرضَ بالحياة.

عشتارُ الحُبّ والقداسة..

"عشتارٌ أنتِ

في ملكوتها"

يُشبِّهُ الشاعرُ محبوبتَهُ بالإلهةِ عشتار، ربةِ الحبّ والجمال والخصب، مُضفيًا عليها بُعدًا أسطوريًا مقدّسًا. فهي ليست فقط معشوقةً، بل كيانٌ سماويّ، ملكةٌ في معبدها الخاص، لا تُقارنُ بالبشر. هذا التشبيه يُبرزُ عمقَ المشاعر، وارتقاءَ العلاقة إلى مستوى يفوقُ الحبَّ العاديّ، ليُصبح ضربًا من العشقِ الإلهيّ.

الخشوعُ والرهبة في حضرةِ الحبّ..

"شبَكتُ كفَيَّ،

جثَوتُ أدعو،

ألّا يطلَّ الصباح"

يأخذنا هذا المشهدُ إلى صورة العابد الذي يسجدُ أمام معبوده، يملؤهُ الرجاءُ والخوفُ معًا. فالشاعرُ لا يريدُ أن ينتهي هذا الليل، هذا الزمن الذي يجمعه بها. الصباحُ لا يُمثّلُ النور هنا، بل الفقدان، اللحظة التي قد تُنتزعُ منهُ محبوبتُه، فيُفضّلُ أن يبقى الليلُ ممتدًا إلى الأبد.

ترنيمةٌ للعشقِ..

هذا المقطعُ هو ترنيمةٌ للعشقِ الذي يختلطُ بالقداسة، للحبِّ الذي يتجاوزُ المألوف، ليُصبحَ صلاةً وهمسًا للآلهة. إنه رفضٌ للزمن الذي يُهدّد الوصال، وتوسّلٌ للبقاء في حضرة العشق الأبديّ.

**

10

إعذريني

أتيتُك لا أجيدُ التماسَ الطَريق

كما الأعمى بلا عصا

وليس عندي فراسةُ شاعر

فكانت عثرَتي

بوّابةَ الآخرة"

العِشْقُ كَضَياع.. وَالمَحْبُوبَةُ بَابُ الآخِرَة..

"اعذريني"

يبدأُ الشاعرُ بنداءِ الاعتذارِ الصادقِ، وكأنّهُ يُدركُ مُسبقًا أنّ ما اقترفهُ لا غفرانَ له. الاعتذارُ هنا ليس مجردَ طلبٍ للعفو، بل هو إحساسٌ بالعجزِ أمامَ قدرٍ محتومٍ لا مهربَ منه.

الضَياعُ فِي دُروبِ العِشق..

"أتيتُك لا أجيدُ التماسَ الطريق

كما الأعمى بلا عصا"

يتجلى في هذا التصوير إحساسٌ مُطلقٌ بالتيهِ والضياعِ أمامَ الحبيبة. فهو لم يأتِ إليها واثقًا، ولا عاشقًا يُمسِكُ بمصيرهِ بيديه، بل جاء تائهًا، كالأعمى الذي لا يملكُ حتى عصاهُ ليستدلَّ بها على الطريق. هذا التشبيه يُبرزُ مدى ضعفهِ أمامها، وكيف أنّهُ فقدَ كلّ قدرةٍ على توجيهِ خطاه.

حينَ تَكُون العَثْرَةُ قَدَرًا..

"وليس عندي فراسةُ شاعر

فكانت عثرتي

بوابة الآخرة"

يُقرّ الشاعرُ أنّهُ لم يكن حكيمًا ولا شاعرًا قادِرًا على التنبؤِ بالمآلات، بل وقع ببراءةٍ في حبٍّ لم يُدرك أنه سيكون نهايته. العثرةُ هنا ليست مجرد خطأ عابر، بل قدرٌ مفصليّ، تحوُّلٌ جعلهُ يعبرُ نحو "الآخرة"، حيثُ النهاية المطلقة، الموت أو الفناء العاطفيّ.

الحبَّ.. من صورِ الموت..

هذا المقطعُ هو صورةٌ للحبِّ الذي يُلقي بصاحبهِ في التهلكة، العشق الذي لا مخرجَ منه إلا العبورُ إلى الآخرة. الحبيبةُ ليست فقط وجهةً، بل بابٌ نحو الفناءِ التام، وكأنّ الحبَّ عند الشاعرِ ليس إلا صورةً أخرى من صورِ الموت..

سيظل الشاعر عادل الحنظل محدقًا بما ينحدر من صراخ روحه العالي.. متواطئًا به على نفسه..

**

طارق الحلفي

..........................

الرابط:/

https://www.almothaqaf.com/nesos/980544

تعليقات (2)
This comment was minimized by the moderator on the site
الشاعر المبدع والناقد المتألق طارق الحلفي

تحايا قلبية

يسرني كثيرا أن أرى هذا الفيض من التحليل والتشريح للنصوص القصيرة، لا أخفي انبهاري في الكثير من الاشارات التي وردت والتي تعبر تماما عما اردت الذهاب اليه على الرغم من أن تأويلات الناقدين قد تتشعب أو تحيد قليلا عن المقصد الحقيقي. أن مثل هذا النقد يشير أن صاحبه ذو خبرة في النفسية الانسانية وما يعتريها من خلجات في مواقف متعددة.

تحتوي النصوص على ترميز ما، يومئ الى حالة معينة، وأجد أنك فككت الكثير من ذلك بما في ذلك الرسائل التي قصدت ايصالها بطريقة أو بأخرى.

أشكرك من القلب على هذا الجهد والوقت الذي استغرقته في دراستك، ودمت شاعرا وناقدا مبدعا.
This comment was minimized by the moderator on the site
أسعدني انا الاخر ان تكون قراءتي قد لامست ما كنتَ تريد اليه الذهاب..
فالتقيتك حيثما يستوجب اللقاء..

لتبق ابدا بالعافية اخي الغالي الحنظل عادل
لا توجد تعليقات على هذه المقالة حالياً.
شارك بتعليقك
Posting as Guest
×
0   Characters
Suggested Locations

في المثقف اليوم