قراءات نقدية

قراءات نقدية

قراءة موجزة لقصيدة الشاعر طارق الحلفي "الراقصة"

القصيدة تتهادى بين ثنايا الخيال والرهافة، متجسدة في صورة لوحة تسكن الجدار، لكنها ليست جامدة، بل كيان نابض بالحياة يتوق إلى الانعتاق.  يرسم الشاعر مشهدًا شديد الحساسية، حيث الضوء يتسلل ببهائه، والنسيم يخفق بعشق:

"ونسيم شفه وجد الهبوب"

 فيبعث الحياة والحيوية في اللوحة الساكنة، حتى تغدو الرقصة قدرًا حتميًا، لا مجرد رغبة عابرة للراقصة:" نزلت خجلى من اللوحة جذلى"

يبرع النص في تصوير العلاقة بين الحركة والسكون، بين التجريد والتجسد، حتى يبدو النسيم عاشقًا لعوب والراقصة معشوقة مولّهة وشغوفة تهفو إلى الالتحام به.

لحظة المسّ الأولى بينهما ليست مجرد تفاعل عابر، بل هي احتراق وجداني يهزّ الجمود والصمت، ويوقظ فتنة دفينة في أعماق راقصة اللوحة.

تنساب الكلمات كرقصة خجلى، تتدرج من التردد إلى الاندفاع، حيث يتجلى التحول الجمالي من السكون إلى الحركة، من الجمود إلى الحياة:

 " هي قد مدت ذراعيها اليه

ـ أيدس الرقص ما بين يديّ وسيسأل؟

ابتهالًا: راقصيني"

ثم، في لحظة مهيبة، يتلاشى النسيم، تاركًا خلفه ضحكات الستائر ودهشتها:

" دهشة غصت من الضحك

أكاليل الستارة

حينما حركها الريح

وغادر"

وكأن الحكاية كلها كانت ومضة عابرة بين الحقيقة والخيال، بين الحضور والغياب.

 هذه الخاتمة المدهشة تترك القارئ بين غموض ساحر ودهشة تتراقص في فضاء النص، حيث يبقى السؤال معلقًا: هل كانت الرقصة حلمًا أم انبثاقًا للحياة من سكون الفن؟

القصيدة تأخذنا الى حكاية ممتعة تستحق قراءتها بتمعن وباستمتاع.

لقد أحببت راقصتك أيها الحلفي  

**

سعاد الراعي

................

راقصة

لوحة فوق الجدار

ابيضًا كان الجدار

وشعاع يهرق الضوء بهاء من خلال النافذة

ونسيم شفه وجد الهبوب

فتثنى مرحًا تحمله

لوعة رقص.. فاستدار

حينها مست ذراعيه بعفو معصميها

نزلت خجلى من اللوحة جذلى

ضرجتها فتنة وارتج صمت

حينما طاش عليها الامر

اختالت طروبا

وتأنت بابتسام محض لحظة..

بأناة..

هي قد مدت ذراعيها اليه

ـ أيدس الرقص ما بين يديّ وسيسأل؟

ابتهالًا: راقصيني

لم يهفهف حولها الا هنيهه

ما احتضنها!

ما اعتصرها!

حينما مست ذراعيه يديها

ومضى يلتاث في الصالة وقتا

منذ.. لا تدري ولكن!

وتلاشى..

.....

.....

دهشة غصت من الضحك

أكاليل الستارة

حينما حركها الريح

وغادر

***

طارق الحلفي

https://almothaqaf.org/nesos/979942

هذه الرواية، للكاتبة العراقية المغتربة إنعام كجه جي، تبحث مخلّفات الحقبة الدكتاتورية في العراق، وتأثيرها السياسي والاجتماعي والنفسي في عيّناتٍ عراقيّةٍ مختارة، تمثّل الطيف الواسع للعراقيين، من الذين قفزوا من السفينة قبل أن تغرق، أي هرب الكثير منهم، واستقرارهم في بلدان اللجوء الأوروبي، حيث فتّش عن تلك العينات باحثون متخصّصون من عدّة دوائر صحية. بحثوا أمرهم في إحدى لجان البرلمان الأوروبي، فاختاروا تلك العيّنات بعد تدقيق، وأرسلوهم إلى مدينة بازل السويسرية، ليجرّبوا فيهم عقاراً جديداً للإدمان العقائدي. هذه العيّنات، هم أربع شخصيّات من مرجعياتٍ مختلفة، جعلوها تتجاور في مكانٍ واحد؛ حاتم الحاتمي، الذي يعرّف نفسه؛ مدمن قومية عربية، وغزوان البابلي؛ خرّيج سجون، ومن محبي أهل البيت، وبشيرة حسّون؛ يسارية، ودلاله؛ مبشّرةٌ آثورية. هيّأت لهم شركات صناعة الدواء إقامةً على طرف المدينة، في سكنٍ جامعيٍّ غير بعيدٍ عن مواقع الشركات.

المهووسون بالأوهام

وقد انتُدب مشرفاً لهم على معالجتهم عراقيٌّ أيضاً، دكتور بلاسم؛ اختصاصي في الطب النفسي، وبات يسمّى بينهم" حلّال العقد"، وهي شخصيةٌ مثيرةٌ للجدل بأفكارها المتفتّحة المطروحة في الرواية. أحبّ سندس ابنة بشيرة من طليقها، وتأسّف لأنّه لم تكن ضمن الفريق الذي يشرف عليه. حين أُوكلت المهمة، إلى بلاسم، ضحك على تشخيص العراقيين عامةً، بأنّهم مدمنو عقائد، وأسرى أوهام، تدفعهم إلى رفض أيِّ واقعٍ جديد، وحين جادلهم بأنّ هذه مشكلتهم الخاصة، أوضحوا له بأنّ لهم تأثيراً في حياة الآخرين، فتخشاهم دول اللجوء، حيث يجلب المهووسون بتلك الأوهام لمواطنيها الضرر. بلاسم الذي راح يعالجهم، بالاستماع إلى اعترافاتهم، وقصص حياتهم وأفكارهم، يعتقد بأنّهم بالغوا في توصيف الأضرار التي يسبّبها هؤلاء المهووسون، وأنّهم أخطأوا الهدف، فلم يُسمع عن عراقيٍّ نفّذ عمليةً إرهابيّة في أوروبا، فيرى أنّ العراقيين مظلومون، فهم كـ" سلسبيل له سمعة خل".

حنوٌّ عجيب

يعجب السارد العليم من دول اللجوء، بحنوّها الواضح على المحتمين بها اكثر من بلادهم، هناك يجتهدون في تطبيب أجسادهم وترميم نفوسهم، وإصلاح عطب أرواحهم. بطواعية، يدعونهم إلى تقبّل فكرة العلاج من الإدمان العقائدي، حيث لم يُجبروا عليها، ووضعوا تواقيعهم على الالتزام بتنفيذها عبر إجازةٍ صيفيّةٍ مغريةٍ في سويسرا، ولهذا سمّت الروائية إنعام كجه جي الرواية" صيف سويسري" وهو عنوانٌ جاذبٌ للقارئ، الذي كلّما توغّل في قراءة صفحاتها، يمضي قدماً، لمعرفة مصائر الشخصيات العراقية المنتخبة، إلى أين تؤول، وهل ستشفى من إدمانها العقائدي، وبقولٍ أكبر؛ هل يمكن إشفاؤهم من ذاكرة الماضي؟. الجمل الرشيقة، التي أتقنت كجه جي صياغتها، وكذلك المقاطع القصيرة بعنواناتها الدالّة على محتوى كلّ مقطع، تحفّز القارئ على قراءة الرواية بشغف.

قومي ويساريّة

جاء السرد من قبل راوٍ عليم، ويتناوب معه في الروي حاتم الحاتمي. وصوت سندس، الذي تُختتم به الرواية. سردهم تمثّل في طرح ماضي هذه الشخصيات في العراق، ومن ثمّ مآلهم الآن في المنفى، في فترة العلاج السويسري.

ترمي كجه جي سنّارة التشويق للقارئ منذ الصفحة الأولى، حيث يتحدّث الراوي المشارك حاتم حاتمي عن ولعه بالتي يصحو وينام وهو يتمتم باسمها، فهي لم تفارقه بعد كلّ تلك السنوات في العراق وفي بلد لجوئه الأوروبي. يعلم القارئ بعد صفحاتٍ كثيرةٍ من الرواية، أنّ تلك التي يتحدّث عنها حاتم هي بشيرة، التي تتداعي ذكرياته في العراق عنها، حين كان ضابط أمن، ويتذكّر الحادثة المرعبة، التي أرعبت أهل الحي، حين أُمر الرفاق البعثيون بقتل رفاقهم، وهنا الحاتمي يقتل صديقه "أبو محمد". وهو يقرّ في جلسات العلاج بكلّ الممارسات القمعية، التي أُمر بها ونفّذها، حيث كان ضابط أمن، من ضمن مهمّاته، مراقبة بشيرة اليسارية، إذ كانت جارته، يراقبها بتكليفٍ من قبل السلطات الأمنية. وهو الذي أنقذها حينما زجّت في السجن، فأناب المحقق بالتحقيق معها، ومن ثمّ بطريقته الخاصة، أطلق سراحها. بشيرة علمت لاحقاً أنّه هو من كان يراقبها. فواجهته بذلك في مجمع إقامتهم السويسري. ذاك يقود إلى تجديد علاقة حبٍّ نشأت في بغداد، فقد كان يحبّها، منذ ذلك الوقت. الآن علمت بحبّه القديم لها فتزوّجا. كجه جي ركّزت على شخصيّتي الحاتمي وبشيرة، بصفتهما يمثّلان أكبر تيارين سياسيين سائدين في العراق؛ القومي والماركسي.

بين الوطن والمنفى

مسار السرد، يمرّ عبر غربال المقارنة بين الوطن والمنفى والتداعي الحر للأفكار والعواطف، فسونيا، الممرّضة، التي تناولهم الحبوب البرتقالية والصفراء والخضراء، تلك الحبوب التي فعلت فعلها، فأعتقت الألسن المربوطة، فأفصحت وباحت بحيثيات ماضيها. الممرضة أثارت في الحاتمي ذكرياته مع النساء في بغداد؛ الزوجة، التي وجّه لها صفعة، بعد أن غسلت بدلته الحزبية، التي أهداها إليه الرفيق القائد، وظلّ يرتديها بعرقها طوال أسبوعين، هو نوعٌ من عبادة الفرد، التي تجسّده الدكتاتوريات. غير الزوجة، هناك الفتاة التي تكتب الشعر، التي يريد أن يجعلها زوجة ثانية انتقاماً من الأولى، غير ذلك مغامراته مع (الكاولية). لكنّ السفن لم تجرِ كما يشتهي النظام الدكتاتوري آنذاك، فيحكي قصّة طلبه اللجوء، إذ اختار أن يكون إنسانيّاً لأسبابٍ مرضيّة، فلا أحد يصدّق لجوءه السياسي والنظام مازال قائماً آنذاك. وها هو في بازل، يفكّر في مصائر رفاقه. فقد كان عازماً على عدم تغيير قناعاته الفكرية، فهي محفوظةٌ في" بقجة الممتلكات الثمينة" .

تأتي الرواية على سيرة بشيرة حسون، التي كانت مترددةً في قبول دعوة رعاية المهاجرين للذهاب إلى سويسرا، لأجل العلاج من إدمان العقائد، وهي اليسارية، فاشترطت رفقة ابنتها لها، كحجّة لعدم الذهاب، لكنّهم وافقوا، ومن ثمّ أدركت بأنّها فرصةٌ لأن تسترخي في بازل، في سويسرا قبلة الميسورين العرب، بصيفها الرائق، على ضفاف بحيرة جنيف، الأثرياء الذين يصفها حزبها بأنهّم "مصاصو دماء الشغيلة. لا بدّ من تأميم ثرواتهم ومصانعهم. انتزاع أراضيهم وتوزيعها على الفلاحين وأبناء الشعب". ومع عدم وجود رغبةٍ حقيقيةٍ في تحقيق أغراض فكرة العلاج من الإدمان العقائد "ستضحك على دائرة الاندماج وتذهب لتمدّ ساقيها في شمس بازل". سخريّتها وصلت إلى أنّها تموت من الضحك، وهي تستمع إلى قصص نظرائها. هذه الساخرة، تعتبر نفسها ذات تاريخٍ نضاليٍّ مشرف" اغتصبوها ولم تعترف. تلوّثت لكنّها خرجت نظيفةً من عار الوشاية. ينحني الرفاق لتضحيتها. والرفيقات"، زوّجوها ستراً لها من رجلٍ غريب الطباع، يرطن بأسماء أساطين الفلسفة الماركسية والأدب الروسي. تشرّدت معه بين العواصم بيروت ودمشق وعدن، وحين وصلوا قبرص، حمل أغراضه ورحل.

وإذا كان حاتم وبشيرة، بعد انتهاء الإجازة السويسرية، عادا إلى ألمانيا، منفاهما الأول، واستقرا هناك، فإنّ غزوان عاد إلى العراق، وأصبح ذا نفوذ ديني، أما دلاله، فقد عادت أيضاً إلى موطنها في كردستان، وهي المبشّرة ضمن شهود يهو، وهي منظمةٌ تبشيريّةٌ انتشرت في الولايات المتحدة الأميركية، وهي كانت محظورةً في العراق، كان زوجها لاعب كرة قدم عراقي . دمّرت زواجها ومضت بعيداً في مهمتها التبشيريّة، فسُجنت مرّات عدة، وبالنتيجة تركت زوجها في العراق، وهربت إلى المنفى.

وفاق وشقاق

في بداية الرواية، تصوّر فنتازي من قبل الراوي العليم، عن مقهى بغدادي، تجتمع فيه شخصيات العراق في تاريخه القريب والبعيد، هو "مقهى وفاق"، بكلّ ما لهذه الكلمة من معنى، فتتوافق فيه شخصيّاتٌ مثل الملك غازي وعبد الكريم قاسم وصدام حسين ونوري السعيد، وسليمة باشا ويونس بحري، والرفيق فهد والسيد الصدر، جميعهم يتقاسمون التخوت. بهذا التوافق الفنتازي، يتحقّق حلميّاً كلّ ما هو معاكسٌ للواقع الحقيقي، حيث" يصبح اللامعقول معقولاً، تجفّ سواقي الدم التي لوّثت دجلة وعكّرت الفرات.." هي رؤيةٌ تلوّح بأن ما صار اليه العراق، من توزّع أبنائه في الشتات، ما هو إلاّ نتيجة اللا توافق بين مكوّناته في التاريخ القريب، وتحديداً في القرن العشرين. اللا توافق، صوّرته كجه جي، بمقهى فنتازي أيضاً، في أواخر صفحات الرواية، سمّته هنا" مقهى الشقاق"، فترسم هنا صوراً معاكسةً لشخصيّات مقهى التوافق ذاتها، وكلّ واحدةٍ منها، تجلس بمفردها، مثلاً" جلس الملك غازي يلعب الشطرنج وحيداً. يدير ظهره لعبد الكريم قاسم" عكس الطاولة الجامعة بينهما في مقهى التوافق. وتُذكر الشخصيّات ذاتها ولكنّهم هنا مستعدّون للتضارب بالكراسي. بهذا تلقي كجه جي تبعة انهيار البلاد على الأيدلوجيات المتصارعة، حيث في الشرق، لا معنى للاختلاف سوى الخصومة، وإقصاء الرأي الآخر. ما شكّل أرضية دكتاتورية، نمت فيها جميع السلبيات القاتلة، مثل تأليه الدكتاتور، والتعصب الأعمى، واستخدام أبشع أنواع العنف في تعذيب المعارضين.

بهذه الفنتازيا السوداء، تريد كجه جي إقناع القارئ بأنّه هذا هو الواقع العراقي الحقيقي" لا غشاوة على عيني المشاهد ولا مونتاج يتلاعب بالصور، يقصقص ويلصق كما يشاء". هذه الفنتازيا، تبدو معلّلةً لمحصّلة الرواية من أنّ شخوصها فقدوا الإيمان بقدرة العلاج السويسري، على انتشالهم من الخدر وجمود الماضي، بهتوا من أنّ حبوب العلاج حوّلت غزوان الساخر، الذي التزم بابتلاعها إلى شخصٍ رزينٍ متجهّم مثل حارس سجن، كأنّه صفن صفنةً كبيرةً على ماضيه المُعذّب، غزوان الذي "عاش خيبات متتالية لا تجتمع إلاّ في عمر واحد إلاّ لعراقي" . إذ ذاك بدء الباقون بالتحايل على ابتلاعها، خشية أن يتحوّلوا مثل غزوان. وإذا كان تناول العقار ركناً أساسياً، فإنّ عدم التزامهم يعني فشل التجربة، ومن ثم استمرار ولائهم لماضيهم، ماضي التعصّب لعقائدهم.

***

باقر صاحب - كاتب عراقي

...........................

* صدرت الرواية عن منشورات تكوين والرافدين- الكويت- بغداد- بيروت عام 2024.

 

يُعَدُّ الشعر من أبرز أشكال التعبير التي تعكس مشاعر الإنسان بكل تفاصيلها، وتتناول قضاياه الأساسية، خاصةً في أوقات الأزمات والصراعات. في هذا السياق، يأتي كتاب "الشعر نداء للسلام: دراسات لأصوات شعرية عربية" للناقد والمخرج السينمائي اليمني حميد عقبي، المقيم في فرنسا، ليقدّم أصواتًا شعرية متنوعة تتناول موضوع السلام. يستعرض الكتاب تجارب اثني عشر شاعرًا، وهم: صبري يوسف، أحمد الفلاحي، ابتسام أبو سعدة، سمير بيّة، دورين سعد، بدر السُّويطي، مفتاح العلواني، آية الوشيش، عبد الودود سيف بن سيف، مروة أبو ضيف، سرجون فايز كرم، وفخر العزب. تأتي هذه الأصوات من خلفيات ثقافية متعددة، مما يُثري الحوار حول دور الشعر في معالجة قضايا الحرب والسلم.

يتناول عقبي في مقدمته أهمية الشعر في معالجة هذه القضايا، مشيرًا إلى الفعاليات الثقافية التي تُعقد سنويًا لتعزيز الحوار في هذا الشأن. من خلال هذا العمل، يسعى عقبي إلى تقديم رؤى جديدة حول قدرة الشعر على تجسيد الأحلام والطموحات الإنسانية في عالم مليء بالتحديات، مما يجعل هذا الكتاب خطوة مهمة نحو تعزيز الوعي الثقافي والإنساني في المجتمع العربي. يتألف الكتاب من 204 صفحات، وصدر عن دار صبري يوسف في ستوكهولم، السويد، في مطلع هذا العام 2025.

تجارب شعراء من ثقافات متنوعة

استعرض عقبي في كتابه تجارب شعراء مميزين، بدءًا بالأديب والتشكيلي السوري صبري يوسف، الذي يُعتبر واحدًا من الأصوات الأدبية والفنية المؤثرة في المشهد الثقافي العربي. يجمع يوسف بين موهبة الكتابة وفن الرسم، مما يُتيح له التعبير عن رؤيته للعالم من خلال عدة أبعاد فنية. يتميز بأسلوبه الشعري الذي يحمل تأملات عميقة حول الحياة والإنسان والطبيعة، حيث تعتمد نصوصه على الرمزية والتشبيهات المبتكرة، مما يعكس تجربته الشخصية كفنان يعيش في زمن الفوضى والصراعات.

السَّلامُ مطرٌ نقيٌّ 

يهطلُ مِن أحضانِ السَّماءِ 

نعمةً عَلى جبينِ البشرِ! 

*

خُصوبةٌ يانعةٌ متدلِّيةٌ 

مِن عُيُونِ اللَّيلِ .. 

مِن نقاوةِ النَّدى! 

*

نورٌ يزدادُ سُطُوعاً كَوَجْهِ الصَّباحِ

تظهر هذه الأبيات أسلوبًا رمزيًا قويًا، حيث يُجسّد السلام كنعمة تُهطل من السماء، مما يعكس الأمل في الخلاص. استخدام الاستعارة يعزز من شعور القارئ بجمالية السلام، في مواجهة قسوة الواقع.

أما أحمد الفلاحي، الشاعر اليمني البارز، فيُعتبر من أبرز الأصوات الشعرية المعاصرة في اليمن. وُلِد في بيئة ثقافية غنية ساهمت في تشكيل رؤيته الشعرية الفريدة. من خلال تنوع نصوصه وعمقها، يعبر الفلاحي عن القضايا الإنسانية والاجتماعية، مُبرزًا معاناة الشعب اليمني في ظل الأزمات والصراعات. يتميز أسلوبه بلغة مكثفة وصور رمزية قوية تعكس قلق الإنسان العربي في مواجهة واقعه المعقد.

"الآن وقد بدأ العام"

ألآن وقد بدأ العام، 

ماذا يعني؟ 

الحرب ما زالت تبيض، 

والأطفال يلتحفون الرَّماد، 

وأسماك الزِّينة تركض في الحوض. 

لا جدوى سوى الآهات 

تكرّر زفراتها، 

والأوطان تسكب عبراتها، 

والموتى 

يتوسّدون اللَّحد. 

الكربون يفيض بالماء، 

والبيئة تغتاظ.

تتسم هذه الأبيات بالقلق والاحتدام، حيث تعكس معاناة الشعب اليمني. الصور الشعرية المكثفة تُظهر الفوضى التي تعيشها المجتمعات، ويبرز استخدام الرموز مثل "الأطفال يلتحفون الرَّماد" عمق المأساة الإنسانية.

من جهة أخرى، تُعد ابتسام أبو سعدة، الشاعرة الفلسطينية، من الأسماء اللامعة في الساحة الأدبية العربية. وُلدت في بيئة غنية بالتاريخ والثقافة، مما شكل لها مصدر إلهام دائم في كتاباتها. تعبر قصائدها عن الآلام والتجارب الإنسانية التي يعيشها الشعب الفلسطيني، مستندةً إلى الذاكرة والحنين. تتميز أسلوبها الشعري بالتجديد والعمق، حيث تمتزج فيه المشاعر الخاصة بالمعاناة مع القدرة على تصوير الجمال.

أخبريه حين أموت.. 

أن ثمة لاجئة تعبت من الشتات وحطت على صدره 

امرأة تفتش بين أغصان الأشجار العتيقة على أحرفٍ 

نقشها العشق قديمًا فلم تمت. 

تعبث بالأوراق اليابسة عن أثرٍ لقبلاتكما المختبئة خلف الأسوار 

تخبِّئ آخر رصاصة يحملها مقاوم في صدرها.. سيُنهيها بها يومًا.. 

وأن ثمة موتًا يعيش في قلبي ولا يقتله.. 

أخبريه كم كان حزنه متورِّطًا في حزني 

وكم كان وجعه متوغِّلاً في لحمي.

تتجاوز هذه الأبيات حدود الألم الشخصي لتصبح تأملًا في الهوية والحنين. تُبرز الشاعرة الصراع بين الحياة والموت، مما يُكسب النص عمقًا عاطفيًا يعكس تجارب اللاجئين.

عبد الودود سيف بن سيف، رمزٌ للشعر اليمني المعاصر، حيث تمتد تجربته لأكثر من نصف قرن، رغم قسوة الواقع والأزمات المستمرة التي تعصف باليمن. بعيدًا عن الأضواء، يجد الشاعر في منصات التواصل الاجتماعي متنفسًا لنشر قصائده، متجاوزًا بذلك غياب الدعم الإعلامي الذي يعاني منه الكثير من المبدعين.

تتسم قصائد بن سيف بتجسيد المعاناة الإنسانية تحت وطأة الحرب، حيث يعيش الشاعر في عالم يتبدل فيه ثمن الرصاص ليصبح أقل من ثمن الخبز. هذه الصورة تعكس واقعًا مأساويًا يتمثل في مفارقات الحياة والموت، حيث تتقاطع الأبعاد الإنسانية مع القسوة التي تفرضها الظروف.

تداعيات.. بدخول عمر الرَّابع والسَّبعين. 

١ ـ متعّبٌ! ودمي مطبِقٌ في خناق دمي. أحتمي بعناد الطَّلاسم؟ 

أم أرتمي صوب اَخر قبَّرةٍ سوف تسطعُ جاهشةً من زنادِ فمي؟ 

أم أؤجِّلُ هذا الدُّعاءَ وهذا الدُّعاءَ إلى حلمٍ مرجأٍ، سوف يصدحُ 

ثانيةً، ربّما، من رمادِ شذى الياسمين؟ 

الطَّواحينُ عامرةٌ. والسَّلاطينُ إنْ كسروا أمةً؛ أسروا أمّةً. 

وليكنْ! تلك أحلامهم. هم يخافون عنفَ الشّذى، ونعافُ صنوفَ 

الأذى. فلماذا إذا افتتحوا قريةً قاسمونا البطولةَ؟ 

إنَّ الشَّجى يستجرُّ الشَّجى. والرَّمادُ إذا حاصر الجمرَ أرمدها عنوةً. 

فلندع ما "لروما" لقيصرها! ولنقلْ: إنَّ بعضَ الرَّثاءِ، إذن، صالحٌ 

للهجاءِ.

تعبّر الأبيات عن حالة من الألم والاختناق، حيث يصف الشاعر معاناته الداخلية ويطرح أسئلة وجودية حول الهروب من الواقع. يتردد بين الأمل والإحباط، مشيرًا إلى حلم هش قد يصدح من "رمادِ شذى الياسمين". كما يتناول الظلم الاجتماعي والسياسي، متسائلًا عن الهوية والانتماء في ظل الاستبداد. في النهاية، يعكس استمرار الألم، مشيرًا إلى أن الحزن يمكن أن يحمل قيمة في التعبير الفني، مما يجسد رحلة البحث عن الأمل في سياق المعاناة.

يُعَدُّ الدكتور سرجون فائز كرم، الشاعر اللبناني، صوتًا مميزًا في عالم الشعر المعاصر. ينسج كرم قصائده بأحلام نابضة بالمحبة، متجاوزًا قسوة البعد عن الوطن. نصوصه ليست مجرد كلمات، بل لوحات حية تنبض بروح بيروت المتعبة، التي تحمل في طياتها أملًا لا ينطفئ. تتداخل مشاعر الغربة والحنين، مما يجعل من بيروت رمزًا خالدًا للحياة التي تعاند القبح والانكسار.

من خلال صور متشابكة ودلالات ساحرة، يفتح كرم نافذة على عالم شعري يمزج بين التشظي الداخلي والرغبة في السلام. تتجاوز قصائده حدود الألم لتكون دعوة للتأمل في قوة الحب والإبداع، حتى في وجه الصراعات. كل نص يُعتبر استكشافًا لذاته، حيث لا ينسى وطنه لحظة. تتكرر أسماء المدن في قصائده، مما يجعل القارئ يشعر وكأنه يعيش اللحظة بكل ما فيها من معاناة.

بيروت

الغربان تتداعى إلى الاجتماع 

فتتداعى فيه. 

*

في يدي البرهان 

حين يخرج ظلّي في مظاهرة خلفي 

كي يمسك يديك فوق علبة سجائري 

تشعلان لينطفئ الكون 

فأرى… 

*

في بيروت 

أحبّ الناس وأكره جثّة القصيدة 

التي تفوح بي ومنّي، 

وأصلّي أن يعود الله غدًا من حيث جاء 

وثغره الباسم 

وردة ملء يديه.

تتسم الأبيات بالحنين والارتباط بالوطن. استخدام الرمزية يعكس التوتر بين الجذور والغربة، ويظهر كيف يمكن للشعر أن يكون وسيلة للتعبير عن الحب والافتقاد.

تفرض الحرب نفسها كواقع مؤلم في أغلب الكتابات الإبداعية اليمنية، مما يجعل من الصعب على المبدعين ابتكار وهم السعادة في وطن يعاني. في خضم هذه المعاناة، تبرز تجربة الشاعر فخر العزب، الذي يعبّر في قصائد عن الألم والبحث عن الأمل والسلام. تتسم نصوص العزب بالتكثيف والتشظي، مثلما يتجلى في قصيدته "التقاطات"، حيث يُستخدم "الوعل اليماني" كرمز للحوار الذاتي، مما يجسد القوة والصمود في مواجهة الخراب.

التقاطات

أخبِّئ نفسي في قرن وعلٍ يماني 

هكذا أصافح التاريخ 

وأصاحبه في حله وترحاله 

وأكوِّن نديمه 

حين يشرب النَّبيذ من أباريق الجرار. 

*

أكوِّر نفسي في نعيق غراب 

يستريح على ساحل "صيرة" 

تحت عيون شمس الظهيرة 

وهو يفكر كيف يقضي يومه في معية البشر 

(غاق.. غاق) 

وأنا بلا صدى 

كاسمٍ عالقٍ في هامشٍ منسي.

تُبرز هذه الأبيات قوة الرموز، مثل "الوعل اليماني"، كوسيلة للحوار الذاتي. النص يعكس الصمود في مواجهة الأزمات، ويظهر كيف يمكن للفن أن يكون ملاذًا في أوقات الشدة.

بدر السويطي، شاعر ومترجم وروائي عربي، ينسج قصائده من عمق الأحلام، ويطلقها كزفرة تحمل آهات الحياة، لكنه يظل مبتسمًا، متمسكًا بالأمل. تتجلى في عناوين دواوينه عناصر النفي والغياب، مما يعكس حلمه بالسلام والوطن. ورغم غنى تجربته الشعرية، إلا أنها لم تحظَ بالاهتمام النقدي الكافي.

نموذج من ديوان "شوارع برائحة القهوة والمطر"

مرَّتِ الأيَّامُ بلذَّتِها ومرارتِها 

بلهفةِ شاعرٍ يَترقَّبُ المَواعيدَ 

يرتشفُ قهوتَهُ الصَّباحيّةِ 

وينظرُ للساعةِ مُرتبكاً 

قَلقٌ كعصفورٍ على غُصنٍ 

يرتجفُ قلبُهُ مِنْ شدَّةِ القًلَقِ 

وثرثرةِ الرِّيحِ في أكشاكِ الهواتفِ 

العموميَّةِ المطليّةِ بالأحمرِ 

تردِّدُ كذبةَ نيسان 

لتزهر الأحلامُ في الرَّبيعِ 

لقاءٌ وعناقٌ 

يا إلهي لقَدْ مرَّ الزَّمنُ مِنْ هنا 

حَاملاً على ظهرهِ ما تبقَّى مِنَ الزَّمنِ 

كحافلاتِ "لندن" الحَمراء 

تَقلُّ الرُّكَّابَ إلى وجهتهم 

وتُكمِلُ مسيرَها في صخبِ المدينةِ 

الَّتي كانَتْ تجلسُ بالقربِ منّي 

وأنا أحاولُ حَلَّ أحيائِها المتقاطعةِ 

هكذا مرَّ الزَّمنُ 

في مدائنِ المطرِ والضَّبابِ 

وذهبت إلى النِّسيانِ 

لأكملَ سيرةَ النَّفي والغيابِ!

تُعبر هذه الأبيات عن الزمان والمكان كعوامل مؤثرة في تجربة الإنسان. الأسلوب السلس يعكس الأمل في الحياة، رغم المعاناة، مما يجعلها تعبيرًا عن البحث عن الجمال في الفوضى.

تُبرز قصائد دورين سعد الشاعرة اللبنانية عمق المعاناة الإنسانية، مسلطةً الضوء على كوارث الواقع وآلام المرأة، الضحية الكبرى للأزمات الاقتصادية والسياسية. تتجنب الهروب إلى المتخيّل، بل تسعى لجعله يعيد تشكيل الواقع، فتطرح أسئلة وجودية عميقة دون إجابات جاهزة. تعكس كتاباتها جماليات التعبير بلغة بسيطة، تلامس الجروح المؤلمة، وتجسد مشاعر معقدة تعكس حالة المرأة التي فقدت القدرة على الاستمتاع بالحياة.

لا تسألها

لا تسلْ عن حزنٍ حفر في عيني امرأةٍ 

أو ابتسامةٍ غابت عن شفَتي وردةٍ 

كانت تُضيء الحياة، 

تلك المرأة لا تُشبه نساء الأرض. 

لا تُفرحها حفلة راقصة 

ولا يُغريها غنَّآء…

تُبرز هذه الأبيات الصراع الداخلي للمرأة. الأسلوب المباشر يعكس الألم والمعاناة، مما يُكسب النص طابعًا واقعيًا، ويعبر عن حالة فقدان الأمل.

كما تمثل الشاعرة الليبية آية الوشيش صوتًا شابًا يتجاوز الحدود التقليدية للشعر، مُعَبِّرةً عن واقع مجتمعها المليء بالتناقضات والصراعات. تجمع في كتاباتها بين السخرية الحادة والبوح الأنثوي الشجاع، مُسلِّطةً الضوء على تجارب ذاتية ومجتمعية في مواجهة الأزمات الكبرى مثل الحروب والفقدان.

وانتظرتُكَ

حتَّى جفَّ قلبي 

وصارَ زيتونة 

مجعَّدة 

انتظرت المواعيد 

الَّتي حلفت بابتسامتك العريضة 

أنَّها حقيقيّة 

خلف تكَّات السَّاعة 

كان قلبي يركض كلّ ليلة 

أعدُّ الثَّواني وأراقصها 

وأصنع من الصَّبر حجاباً 

لكنَّك لم تأتِ.

تُعبر الأبيات عن الانتظار والأمل المفقود، حيث تتداخل الصور الشعرية لتظهر التجربة الإنسانية المعقدة. الأسلوب يمزج بين السخرية والجدية، مما يجعل النص مستنيرًا بتجارب الحياة.

أسلوب أدبي متنوع

في كتابه "الشعر نداء للسلام"، يتبنى حميد عقبي أسلوبًا أدبيًا متنوعًا يجمع بين السلاسة والعمق، مما يتيح للقارئ الانغماس في عالم من المشاعر والأفكار. يتسم أسلوبه بالرمزية، حيث يستخدم الصور الشعرية لتجسيد القضايا الإنسانية المعقدة، مثل الحرب والسلام.

يمثل أسلوب عقبي في الكتابة جسرًا بين الألم والأمل، حيث يسلط الضوء على قوة الشعر كوسيلة للتعبير عن التجارب الفردية والجماعية. من خلال تناوله للوضع النفسي وتأثير البيئة، يظهر كيف يمكن للكلمة أن تكون أداة للتغيير والتواصل في عالم مضطرب. إن هذا الكتاب، بعمقه ورمزيته، يدعونا جميعًا للتفكر في دور الأدب في بناء عالم أكثر فهمًا وتسامحًا.

كما تكمن أهمية هذا الكتاب في دراسة تجارب متنوعة ونصوص جديدة تنتمي أغلبها إلى ما بعد الحداثة، حيث لا تزال دراسة مثل هذه النصوص قليلة. ومثل هذه الأعمال يصعب أن يتم تطبيق مناهج النقد القديمة أو المتداولة، فهي تتميز بالتداخل مع فنون صورية وأجناس متعددة. وكان تناول عقبي لها بعين سينمائي وفنان تشكيلي، ولم يكن تشريحًا نقديًا أكاديميًا. في تحليله للنصوص، نلمس كأنه أشبه بالدراماتورج الذي يحاول معالجة هذه النصوص مسرحيًا، أو السيناريست الذي يبحث عن المشهدية واللقطات المؤثرة التي تحمل عمقًا رمزيًا ودلاليًا وجماليات بصرية. اتبع عقبي منهج التحليل الموضوعي والنفسي، لكنه يذهب أكثر من مجرد تقديم تحليلات نقدية للدراسة الأكاديمية، كونه حاول محاورة المبدع عبر نصه وفهمه، والكشف عن نداء السلام الذي قد يأتي همسًا أو صراخًا أو مجرد حلم في هذه النصوص. كل هذه الأصوات من بلدان أصابتها الحرب والخراب ويعبث بها الموت، صورت نصوصهم لقطات من هذا الرعب المخيف والقلق النفسي وفداحة الفقد، ولكن يظل الأمل والحلم وحب الحياة والعشق للجمال رغم قسوة الواقع ورعبه.

في ختام هذا الاستعراض، يتضح أن كتاب "الشعر نداء للسلام" لحميد عقبي لا يقتصر على كونه مجرد مجموعة من النصوص الشعرية، بل هو تأمل عميق في الإنسانية وآلامها. يعكس الكتاب قضايا معقدة تتعلق بالسلام والحرب، مستندًا إلى تجارب شعراء من خلفيات متنوعة. يمثل أسلوب عقبي في الكتابة جسرًا بين الألم والأمل، حيث يسلط الضوء على قوة الشعر كوسيلة للتعبير عن التجارب الفردية والجماعية.

***

محمد المخلافي - كاتب وباحث/ يمني

في قصيدة "مطر على خدّ الطّين"، ينسج الشّاعر العراقيّ حسين السيّاب خيوط تجربته الشّعريّة على نولِ كلماته، يرسم بدموع الحنين لوحة فنّيّة لتأمّلاته في الرّوح والوجود، يتناول مجموعة من المواضيع، بما فيها الحنين إلى الوطن، البحث عن الحبّ وعن الذّات، اليأس والتّأمّل في سرّ الحياة والموت، هذه المواضيع تجعل القصيدة مؤثّرة، وتعكس شدّة المشاعر الّتي يتمّ التّعبير عنها.

في هذا المقال، أقدّم رؤية شاملة، وتحليلا مفصّلا للقصيدة، أتناول فيه الرّموز والصّور الشّعريّة المستخدمة، والمضامين الرئيسيّة، اللّغة والإيقاع.

تسير بنا هذه القصيدة عبر دروب الرّوح؛ لتأخذنا في مسار عميق داخل أنفسنا، فتتكشّف لنا خبايا الذّات وأغوارها، وتتجسّد أمامنا صور من الواقع، ممزوجة بأحلام الشّاعر وتطلّعاته. 

في كلّ بيت من الأبيات، يتردّد صدىً لمشاعر إنسانيّة عميقة، تتجاوز حدود الزّمان والمكان، وتلامس قلوبنا بلطف، مثيرة فينا تساؤلات وجوديّة عميقة.

 تعكس هذه المشاعر تجربة إنسان يعيش في خضمّ زمن عصيب، يحمل في أعماقه حبّا لوطنه، وشوقا إلى الحياة.

يحمل العنوان صورة المطر على الطّين، وهو مشهد يختزل في بساطته جمال الطّبيعة وعظمتها، فقطرات المطر تتراقص على سطح الأرض، لترسم لوحة بديعة، تمتزج فيها ألوان السّماء والأرض في تناغم.

يرمز المطر إلى الحياة والخصوبة، بينما يرمز الطّين إلى الأرض والوطن والانتماء، فهو يحتضن البذور، لينبت منها الزّرع، إنّهما معا يشكّلان دورة الحياة في أبهى صورها. قطرات المطر تنهمر على الأرض، فتغسلها وتنقّيها، وتذكّرنا بقدرة الطّبيعة على التّجدّد والبعث من جديد.

هذه الثّنائيّة تخلق توازنا بين عنصريّ الحياة والموت، وتعكس رؤية الشّاعر للوجود؛ كدورة مستمرّة من الخلق والفناء، وهي دعوة للتّأمّل في أبسط مظاهر الوجود.

ينتقل بعد ذلك إلى الحديث عن ذاته، حيث يقول: "من دون جناح أغرّد خارج السّرب"، يصف نفسه بأنّه خارج السّرب، ليعبّر عن إحساسه بالاغتراب والوحدة والانعزال عن المجتمع، يشعر بالانفصال عن الآخرين، وأنّه يعيش في عالم خاصّ به مليء بالتّساؤلات والتّناقضات، يشبّه نفسه بطائر يغرّد، لكنّه بلا أجنحة، أيّ يحاول التميّز والتّفرّد عن الآخرين، لكنّه يفتقر إلى الأدوات أو القدرات الّتي تمكّنه من ذلك.

هذا الاغتراب ليس إحساسا شخصيّا فقط، بل هو وصف لحالة الضّياع الّتي يعيشها الإنسان العربيّ في عالمنا الحديث، حيث تسود الفرديّة والتّنافس، وصعوبة إيجاد مكانه.

يشعر السيّاب أنّه غريب عن ذاته، وغريب عن العالم من حوله، وهذا الشّعور يتفاقم مع تزايد الضّغوط النّفسيّة والاجتماعيّة الّتي يعيشها، يبحث عن ملاذ آمن، وعن مكان يشعر فيه بالانتماء، لكنّه يجد نفسه تائها في متاهة الحياة، حيث يحيط به الخوف والقلق.

هذه الحالة من الضّياع والاغتراب تعكس أزمة الهويّة الّتي يعيشها الإنسان العربيّ، الّذي يجد صعوبة في التّوفيق بين هويّته التّقليديّة وبين متطلّبات العصر الحديث.

يستخدم الشّاعر رموزا أخرى في قصيدته، مثل الغيم، الّذي يرمز به إلى الأحلام والأماني، أمّا السّرب فيرمز إلى الجماعة والمجتمع.

"يقرع طبول النّشوة": يستخدم رمزَ الطبول للتّعبير عن الفرح أو الاحتفال، لكنّه فرح محاط بالوحدة، كأنّه صدىً للاحتفال، يتردّد في مكان خالٍ، ويُعزَف في عزلة وانفراد.

"على حافّة القمر المنسيّ أجلس": يستعير صورة حافّة القمر، لتجسيد عزلته ووحدته، وكأنّه يجلس في مكان مهجور ومنسيّ.

تضيء هذه الرّموز لتكشف عن أعماق تجربته الإنسانيّة، فتدعونا إلى الاقتراب أكثر من روحه الشّاعرة، نستشعر صراعه في الحياة بين رغباته في الانتماء والوحدة، وبين إحساسه بالاغتراب، يعبّر عن أعمق مشاعره وأفكاره وآماله بطريقة مؤثّرة، يستخدمها كنوافذ تطلّ على عالمه الدّاخليّ، من خلالها نستشعر ألمه وأمله، يقول: "الغيم صاحبي"، وهذه استعارة لصفة الصّداقة مع الغيم، وتصوير لعلاقته الوثيقة بالطّبيعة، وكأنّه يجد في الغيم صديقا ورفيقا.

كما تتوشّح القصيدة بلغة مكثّفة قويّة ومؤثّرة، تتناغم فيها التّراكيب اللّغويّة الأنيقة، فتتجلى قدرته على تطويع اللّغة وتحويلها إلى أداة فنّيّة قادرة على التّعبير عن مكنوناته.

من أبرز الصّور الشّعريّة في القصيدة: "أطرّز النّجمات على خدّ اللّيل"، و"أتأمّل القيامة على أبواب المتاهة"، و"محمولاً على أكتافِ الذّنوب".

تشير هذه الصّور إلى رؤية الشّاعر إلى الكون والحياة، فالنّجوم الّتي يطرّزها على خدّ اللّيل ترمز إلى الأمل والتّفاؤل، يشبه اللّيل بصفحةٍ أو قماش أسود، والنّجوم كخيوط أو نقوش يطرّز بها هذا اللّيل، ليضفي عليه جمالا وبهجة، بينما القيامة الّتي يتأمّلها على أبواب المتاهة فترمز إلى الخوف والقلق.

قد تشير المتاهة إلى الحياة بصعوباتها وضياعها، بينما القيامة تحمل معنى النّهاية والموت، وهذا التّصوير يعكس تفكير الشّاعر في الموت كحقيقة قادمة بعد متاهة الحياة.

كما يظهر الحنين إلى الوطن والحبيبة في عدّة أبيات:

- "عواصفُ حنين تجتاحني": يصف الحالة الشّوق الجارفة الّتي تنتابه، مستخدما كلمة "عواصف"؛ للتّعبير عن قوّة هذا الشّعور وتأثيره عليه.

- "ثمّةَ لحظاتٌ لا تنسى كنتُ فيها بينَ ذراعيكِ أستريحُ من تعبِ الرّحلةِ": يستحضر ذكريات ولحظات دافئة قضاها في وطنه مع الحبيبة، فيشعر بالحنين إلى تلك الأيّام الّتي أحسّ فيها بالرّاحة والأمان والاستقرار.

- أحنُّ للشّتاء.. أطرِّزُ النّجماتِ على خدّ اللّيل": يعبّر عن حنينه إلى مظاهر طبيعيّة وأجواء معيّنة في وطنه، مثل فصل الشّتاء ونجوم اللّيل، حيث يرتبط ذلك لديه بذكريات جميلة وأوقات سعيدة.

- أتأمَّلُ القيامةَ على أبوابِ المتاهةِ": هذا البيت يحمل دلالاتٍ رمزيّة عميقة، ويمكن تفسيره على أنّه تعبير عن الحنين إلى الماضي، وإلى فترة ذهبيّة في تاريخ الوطن، حيث كانت الحياة أبسط وأكثر نقاء.

يستخدم السيّاب التّشبيهات والمشاهد الحسّيّة بشكل كبير للتّعبير عن المشاعر، مثل: "عواصف الحنين" و"تطريز النّجمات"، ممّا يجعل القارئ يشعر بقوّة الشّوق الّذي يعاني منه.

يوظّف بعض الرّموز مثل "المعبد" و"المتاهة"؛ للتّعبير عن أبعاد أعمق، مثل البعد التّاريخيّ والثّقافيّ، ويستخدم بعض التّناقضات في القصيدة، وبعض الصّور القويّة الموحيّة، للتّعبير عن حالة نفسيّة قلقة، وعن حالة الاغتراب والضّياع الّتي يعيشها، مثل: "وحيداً يقفُ بالمقلوب"، الّتي تشير إلى الفوضى والقلق، و"بينما تتسرّبُ زمرُ الجنِّ من الشّطآنِ"، الّتي تعكس بعض الأفكار السّلبيّة المتسلّلة إلى وعيه، أمّا "الشّطآن" فتمثّل المكان المألوف الّذي يتحوّل هنا إلى مصدر للتّهديد.

هذا التّصوير يخلق جوّا من الخوف وعدم الاستقرار، والشّعور أنّ قوىً مجهولة تتسلّل إلى حياتنا وتزعزع استقرارنا.

"يتلظّى دمي"، هذه العبارة تصوّر حالة الغضب أو الانفعال الشّديد أو الإثارة. يستعير صفة التّلظّي (الاشتعال) للدّم؛ ليصوّر الشّوق أو الحنين الملتهب الّذي يجتاحه.

يعكس هذا التّصوير عمق التّوتّر الّذي يتخبّط فيه الإنسان، والقلق الوجوديّ الّذي يساوره تجاه ما يهدّد استقراره.

يقول أيضا: أطرِّزُ النّجماتِ على خدّ اللّيلِ، الغافي على أسوارِ معبد ''إينانا''، يرسم هنا صورة ليل ساكن ومهيب، حيث يغفو اللّيل على أسوار معبد "إينانا"، إلهة الحبّ والحرب عند السّومريين، وهو من أقدم المعابد في العراق.

تطريز النّجمات على خدّ اللّيل، يضفي جمالا ورونقا على هذا المشهد، وكأنّه يزيّن ظلمة اللّيل بأضواء سماويّة.

هذا المزيج بين اللّيل، المعبد، والنّجوم يخلق أجواءً من السّحر والغموض.

"أتأمَّلُ القيامةَ على أبوابِ المتاهةِ"، بعد جمال اللّيل، ينتقل إلى مشهد معاكس تماما، حيث يتأمّل القيامة، محوّلا إدراك القارئ من المحسوس إلى الرّوحاني. هذه القيامة ليست قيامة منتظرة، بل هي قيامة متأمّلة على "أبواب المتاهة".

تشير المتاهة إلى الضّياع والتّيه، وكأنّ القيامة لن تأتي إلا بعد معاناة وتخبّط، وهذا ما يعكس رؤية قاتمة لحياتنا، حيث يرى أنّ الخلاص أو القيامة بعيد المنال.

"بشبقِ الصّمتِ أداوي خربشاتِ المطر على وجهي"، هنا يكمن المزج بين المتعة والألم، ممّا يوحي بلذّة كامنة في الصّمت، بينما "خربشات المطر" على الوجه، توحي بآثار الحزن والمعاناة.

يداوي الشّاعر آلامه بالصّمت، فالصّمت هو ملاذه الوحيد وراحته، يستعير صفة الشّبق للصّمت؛ ليصور احتياجه إلى الهدوء والسّلام، وكأنّه يجد في الصّمت ملاذا يشفيه من آثار المطر.

"حين شقَّ شطُّ البداياتِ مجرىً لحكايةٍ تسلّلَتْ من مخيِّلةِ الفرات"، في هذا البيت يشير إلى بداية قصّة أو تجربة جديدة.

"شطّ البدايات" يمثّل نقطة انطلاق، و"مجرى الحكاية" يجسّد مسار هذه التّجربة، والفرات، النّهر العظيم، هو مصدر الإلهام والإبداع، وكأنّ الحكاية قد ولدت من رحم هذا النّهر العظيم الّذي يشير به إلى الوطن.

"تمسّكتُ بأظافر الشّيطان، يمّمتُ وجهيَ شطرَ بابِ الأزل"، قوى الشّر هي "أظافر الشّيطان" الّتي ترمز إلى الخطايا والمعاصي، لكنّه في الوقت نفسه يتّجه نحو "باب الأزل"، أيّ نحو الله، أو الحقيقة المطلقة، ويستعير صورة أظافر الشّيطان لتجسيد حالة من الإصرار والعزيمة القويّة، في سبيل تحقيق هدف غير مشروع.

هذا التّناقض يعكس الصّراع بين الخير والشّر، بين الانجذاب إلى الملذّات ورغبة الإنسان في الوصول إلى الحقيقة.

"أسعى إليكِ، محمولاً على أكتافِ الذّنوب"، هذا البيت يكشف عن عمق العلاقة بين الشّاعر والمخاطب (المرأة)، فهو يسعى إليها، محمّلا بالأوزار، وهذا ما يعكس فكرة أنّ الحبّ قد يكون مرتبطا بالخطيئة، أو أنّ الإنسان قد يرتكب الخطايا بدافع الحبّ، قد يكون محمّلا بالهموم أيضا، الّتي تثقل عليه مسيرته فيعبّر عنها بالأوزار، يستعير أيضا صورة الأكتاف الّتي تحمل الأثقال؛ ليصوّر الشّعور بالذّنب أو الخطايا الّتي تثقل كاهله.

"فكِّي أبوابكِ الثّمانيَ لنتقاسمَ الخطايا السّبع"، يستعير هنا صورة الأبواب الّتي تفتح؛ لتصوّر الانفتاح على الآخر وتقاسم المسؤوليّة أو المصائب معه، ويطلب من حبيبته أن تفتح له أبوابها، لتشاركه خطاياه.

الأبواب الثمّانية قد ترمز إلى أبواب الجنّة أو النّار، وتقاسم الخطايا السّبع يشير إلى تحمّل تبعات الحياة وأوزارها، وهذا يقود إلى التّفكير في الموت وما بعده.

"وتظلّين خطيئتي المقدّسة الّتي لا تبصرُ النّورَ"، يستعير صفة القداسة للخطيئة، لإظهار حالة العشق، أو التّعلّق بشيء يعتبره خطيئة، لكنّه يحمل قيمة عالية في قلبه، ويخفيه عن النّاس كَسِرٍّ مكتوم في أعماق قلبه، أو كعاشق يخفي عن العالمين معشوقته، يجعلها سرّا بينه وبين نفسه، يتقبّلها بكلّ ما فيها من ألم ولذّة، أو كجرح لا يندمل، لكنّه يمنحنه شعورا فريدا لا يريد أن يشاركه فيه أحد.

"الخطايا السّبع" تشير إلى الخطايا الكبرى، لكنّه يضفي عليها بعدا مقدّسا، حيث يعتبر المرأة "خطيئته المقدّسة الّتي لا تبصر النّور"، وهذا التّعبير يوحي أنّ الحبّ، حتّى لو كان مرتبطا بالخطيئة، يبقى شيئا مقدّسا وساميا.

هذا البيت الشّعريّ عميق ومثير للتّساؤلات، فهو مليء بالرّموز الدّينيّة، ما يجعله غنيّا بالمعاني والإيحاءات، سأحاول تفكيكه وتحليله بشكل مفصّل:

- "فكِّي أبوابكِ الثّمانيَ": يرمز بها إلى أبواب بيتها أو قلبها، أو إلى الحواجز والصّعوبات الّتي يجب عليه تجاوزها ها للوصول إلى تلك المرأة، يطلب منها أن تكشف له عن هذه الجوانب وأن تفتح له قلبها. يمكن اعتبار الأبواب؛ كرمز لطبقات شخصيّة المرأة أو جوانبها المتعدّدة.

- "لنتقاسمَ الخطايا السّبع: يشير إلى الخطايا السّبع المميتة في المسيحيّة، مستخدما هذا المفهوم الدّينيّ بشكل مجازيّ، وقد يعني أيضا، الاعتراف بالضّعف البشريّ، والتّورّط في العلاقة والمشاركة في الألم والمعاناة، وهذا ما يعكس فكرة أن الإنسان خطّاء بطبعه، وأنّ الشّاعر والمرأة ليسا استثناء من ذلك.

- "وتظلّين خطيئتي المقدّسةَ الّتي لا تبصرُ النّور": يصف خطيئته بالمقدّسة، وهذا يضفي عليها طابعا خاصّا، ممّا يعني الحبّ المحرّم الّذي يشير إلى أنّ علاقته بالمرأة هي "خطيئة" في نظر المجتمع أو الدّين، إن كانت من دين آخر ويحرّم عليه الارتباط بها، لكنّها في نظره "مقدّسة" بسبب الحبّ الشّدّيد الّذي يكنّه لها.

- "الّتي لا تبصر النّور": هذه العبارة تعمّق فكرة السّريّة، وقد تعني أنّ هذه الخطيئة تبقى مخفيّة عن أعين النّاس، ولا يمكن البوح بها علنا، فهذه الخطيئة (العلاقة) الّتي لا يراها أحد هي شأن شخصيّ بين الشّاعر والمرأة، ولا يمكن لأحد آخر تفهّمها.

على الجانب الآخر.. رغم مما تحمله هذه القصيدة من أوجاع وإحساس بالاغتراب، إلّا أنّها توقد جذوة الأمل في القلب، فمثلا نجد احتفاءً عميقا بجمال الطّبيعة في العنوان، الّذي يحمل صورة المطر الملامس لخدّ الطّين، ثمّ تصوير لمشهد اللّيل المرصّع بالنّجوم، والحنين إلى الشّتاء.

هذا الاحتفاء بجمال الطّبيعة يعكس حساسيّة الشّاعر المرهفة، وقدرته على استشعار الجمال في مظاهر الحياة، وهذا الشّوق إلى الحبيبة، يمثّل قوّة دافعة تدفعه إلى الأمام، ويوقظ فيه الأمل.

يتفكّر الشّاعر في قيمة الوجود ومعنى الحبّ، الحياة والموت. هذا التّفكّر هو بحث عن المعنى، ما يضفي على القصيدة عمقا فلسفيّا وإنسانيّا، وفي النّهاية يتقبّل فكرة الخطيئة كجزء من التّجربة الإنسانيّة، ويراها بعين مختلفة، حيث تصبح "خطيئته المقدّسة"، وهذا ما يشير إلى قدرته على تجاوز الألم والمعاناة، وتحويلها إلى جزء من تجربته الرّوحيّة.

عن الإيقاع في القصيدة: نلاحظ بعض التّفعيلات المتنوّعة، ما يخلق إيقاعا حرّا يتماشى مع تدفّق المشاعر والأفكار، ويعبّر عنها بطريقة مباشرة وغير مباشرة. لا يقتصر الإيقاع على مستوى الأسطر والجمل فقط، بل يمتدّ إلى مستوى الكلمات والأصوات، والتّنوّع في طول الجمل وبعض التّكرار؛ وذلك لخلق إيقاع حرّ ومتجدّد، فالسيّاب يختار كلماته بعناية؛ لتكون متناغمة من حيث الأصوات والحروف، وهذا ما يخلق بعض الإيقاع الدّاخليّ، الّذي يضفي على القصيدة جمالا خاصّا.

أيضا: استخدم الشّاعر الأفعال المضارعة مثل: (أغرّد، يقرع، تتسرّب، يتلظّى، تجتاحني، أستريح، أجلس، أنظر، تدور، أحنّ، أطرّز، أتأمّل، أداوي، أسعى، نتقاسم، تظلّين، تبصر)، وذلك لإضفاء الحيويّة والاستمراريّة على النّصّ وجعله أكثر تأثيرا في المتلقّي، أو لإبراز إحساسه بالزّمن المتدفّق، والإفصاح عن مشاعره المتغيّرة، سواء كانت فرحا أو حزنا، أملا أو يأسا.

وبعد.. تحمل هذه القصيدة رؤية السيّاب للعالم والإنسان، ويمكن القول إنّها قصيدة مركّبة، تجمع بين عناصر اليأس والأمل، وتعبّر عن مشاعر متناقضة ومتضاربة، تعكس حالة الإنسان في مواجهة صعوبات الحياة وتحدّياتها، وتصوّر صراعه الدّائم بين الألم والمعاناة، وحياته الّتي تتأرجح بين لحظات الحزن والفرح.

***

صباح بشير - أديبة وناقدة فلسطينيّة

......................

مطرٌ على خدِّ الطّين

بقلم: حسين السياب

من دونِ جناحٍ أغرِّدُ خارجَ السّرب

توهّمتُ، وأُوهِمتُ أنّ الغيمَ صاحبي

وظلّي هناك...

يقرعُ طبولَ النّشوةِ

وحيداً يقفُ بالمقلوب

بينما تتسرّبُ زمرُ الجنِّ من الشّطآنِ!

يتلظّى دمي

عواصفُ حنين تجتاحني

ثمّةَ لحظاتٌ لا تنسى

كنتُ فيها بينَ ذراعيكِ

أستريحُ من تعبِ الرّحلةِ

دونَ قلقٍ

دون خوفٍ من مكانٍ

على حافَّةِ القمر المنسيِّ أجلسُ

أنظرُ لسنيِّ العمرِ

الّتي تدورُ في ساعةِ أبي

أحنُّ للشّتاء..

أطرِّزُ النّجماتِ على خدّ اللّيلِ

الغافي على أسوارِ معبد ''إينانا"

أتأمَّلُ القيامةَ على أبوابِ المتاهةِ

بشبقِ الصّمتِ أداوي خربشاتِ المطر على وجهي

حين شقَّ شطُّ البداياتِ مجرىً لحكايةٍ تسلّلَتْ

من مخيِّلةِ الفرات

تمسّكتُ بأظافر الشّيطان

يمّمتُ وجهيَ شطرَ بابِ الأزل

أسعى إليكِ

محمولاً على أكتافِ الذّنوب

فكِّي أبوابكِ الثّمانيَ لنتقاسمَ الخطايا السّبعةَ

وتظلّين خطيئتي المقدّسةَ الّتي لا تبصرُ النّور..

 

لا يمثل العنوان المصمم بعناية مجرد بطاقة تعريف للعمل الأدبي، بل يمتلك قوة تأثيرية هائلة تُساهم في توجيه القارئ، وإثارة اهتمامه، وحتى ترسيخ الكتاب في ذاكرته، فيمكن للعناوين الجيدة أن تصبح بوابات تجذب ذلك القارئ، مانحة إيّاه وعوداً ضمنية حول الأسلوب والمحتوى، أو ربما تُوقعه في شبكة من التوقعات والانطباعات التي قد تنتهي، في بعض الحالات، إلى خيانة للنص ذاته.

تتجاوز أهمية العنوان مجرد الجاذبية الأولى؛ فهو يلعب دوراً محورياً في تسويق الكتاب، خاصة في ظل هذه الموجة الكبيرة من الطباعة والنشر، وتعدد الخيارات أمام القراء، إذ تستطيع العناوين المميزة إثارة الفضول وتحفيز النقاشات، فعلى سبيل المثال لا الحصر، نجح عنوان مثل "ووترفون" للروائي نعيم آل مسافر، أو "إنجيل موكا" للشاعر علي فرحان، أو "نزيلات هاديس" للشاعرة إبتهال بليبل، أو "بتريكور" للشاعرة ذكريات عبد الله وغيرها من العناوين المشابهة، في أنْ يلفت أنتباهي –على أقل تقدير- ويدعوني للبحث في دلالته ومدى أرتباطه بمحتوى المطبوع، وهذا الأمر يبدو نسبيا ويختلف من شخص لآخر، حسب الذائقة الشخصية والتوجهات الفكرية.

تكمن قوة العنوان ربما في المخاطرة التي تكتنف هذه العملية، فالسعي وراء العناوين الجذابة قد يؤدي إلى تبسيط مفرط قد يقلل من قيمة العمل الأدبي، فقد تُختار كلمات مختزلة لا تعكس عمق المحتوى أو تفرده، مما يؤدي إلى انطباع غير دقيق عن النص، وعلى العكس من ذلك تكمن المخاطرة الكبرى أيضا في خلق توقعات عالية من خلال العنوان، قد تؤدي إلى إحباط القارئ أو خيبته، إذا فشل النص في الوفاء بما يَعِدُ به العنوان.

يشير جيرار جينيت في كتابه الذائع الصيت "عتبات النص" (Paratexts: Thresholds of   Interpretation) إلى أن العنوان يُعدّ جزءاً من العتبات النصية، وهي تلك العناصر التي تسبق النص وتوجه فهمه، فبالنسبة له لا يُعد مجرد عنصر تسويقي، بل هو بداية لتوجيه القارئ نحو توقعات معينة، يرسمها في ذهنه، ومن خلاله يتعرض إلى نوع من الغواية، حيث يُعدّ بمثابة فخ فكري يستثير الفضول، إلا أن هذا الفضول –كما ألمحنا سابقاً- قد يتسبب في خيانة النص نفسه إذا لم يطابق النص الواقع الذي يوحي به العنوان.

وفي هذا السياق، تظهر غواية القارئ كعملية إبداعية تهدف إلى خلق حالة من الجذب للقارئ نحو النص، فقد ينجذب إلى العنوان لأنه يَعِدُه بشيء جديد أو مثير، ولكن ما يحدث في بعض الأحيان هو أن هذا الوعد لا يتطابق مع محتوى النص، وهنا تكمن المفارقة بين العنوان الذي يعِد بشيء لافت للنظر، وبين النص الذي قد لا يكون قادراً على الوفاء بهذا الوعد، هذه الخيانة قد تكون مقصودة كجزء من استراتيجية فنية تهدف إلى تشويش القارئ وإثارة تساؤلاته حول العمل الأدبي.

قد تكون الخيانة، في بعض الأحيان، جزءاً من عملية إبداعية تهدف إلى تفكيك المعاني وتقويض التوقعات، يصبح العنوان، في مثل هذه الحالات، أداة للتمويه، حيث يعكس صورة مشوهة عن النص ويثير تساؤلات حول موثوقية المعنى الذي يقدمه العمل، وقد يكون هذا التحدي بين العنوان والنص، بين الواقع والمخيلة، وسيلة لتحفيز القارئ على إعادة التفكير في النص بشكل أعمق، فخيانة العنوان قد تكون خطوة أولى في اكتشاف عمق النص، وتفكيك طبقات المعنى التي لا تظهر إلا بعد تجاوز التوقعات المبدئية.

وهناك جانب آخر بالغ الأهمية، لا يمكن إغفاله، في دراسة العناوين يكمن في علاقتها بالسياقات الثقافية والاجتماعية التي تُنتج فيها، إذ أنَّ العنوان، بوصفه عتبة نصية وفقاً لنظرية جيرار جينيت، لا ينفصل عن الإطار الثقافي الذي ينتمي إليه النص، بل يعكس بوعي أو دون وعي التوجهات الفكرية والقيم الاجتماعية التي يتفاعل معها الكاتب، ففي هذا السياق، يتحول العنوان إلى مرآة تعكس روح العصر وتحدياته، فهو ليس مجرد علامة تجارية لتسويق الكتاب فقط، بل أداة تواصل مع القارئ تعبر عن انتماء النص إلى منظومة فكرية محددة.

ويمكن النظر أيضا إلى العناوين بوصفها مؤشرات للاتجاهات الأدبية السائدة؛ فهي تكشف عن نزعات الحداثة أو ما بعد الحداثة في الأدب من خلال اختيار الألفاظ، والتكثيف، وأحياناً اللعب باللغة أو الخروج عن المألوف، فالعناوين التي تستخدم كلمات غريبة أو مفاهيم فلسفية قد تعكس رغبة في استفزاز القارئ ودفعه إلى التفكير، بينما العناوين التي تركز على البساطة والوضوح قد تهدف إلى التقرب من الجمهور.

يُستخدم العنوان أيضاً لإبراز الهويات الثقافية أو التوجهات الأيديولوجية، حيث نجد أن بعض العناوين تحمل إشارات إلى التراث المحلي، كالمجموعة القصصية (كُلُلوش) للقاصة رغد السهيل، بينما تسعى أخرى إلى تجاوز الحدود الثقافية باستخدام مفردات ذات طابع عالمي، كـ (بوغيز العجيب) للروائي ضياء جبيلي، هذه الاختيارات ليست اعتباطية، بل تعكس رؤية الكاتب لموقعه، وما إذا كان يسعى إلى توطيد هويته الثقافية أو الرغبة بالخروج من أفق هذه الهويّة نحو العالمية، أو اللا محلية، على أقل تقدير.

لذا تتطلب لعبة العنوان مهارات نقدية متقدمة من الكاتب والقارئ، فهو ليس مجرد نافذة للاقتراب من النص، بل هو التحدي الأول الذي يُجبر القارئ على إعادة تقييم كل ما يعلمه عن النصوص والأدب بشكل عام، فالعلاقة بين العنوان والنص ليست علاقة ثابتة، بل هي علاقة متأرجحة ومركبة، يُصبح فيها العنوان نقطة البداية التي تحدد مسار القراءة، وتُثير الأسئلة الأكثر عمقًا حول الأدب ذاته.

***

أمجد نجم الزيدي

من خلال مجموعته الشعرية “ضربٌ على أوتار القصيدة“

أصدر الشاعر الدكتور نسيم عاطف الأسدي مؤخرًا مجموعة شعرية جديدة تحمل عنوان “ضربٌ على أوتار القصيدة” حيث تتنوّع قصائد هذه المجموعة بموضوعاتها التي يغلب عليها الطابع الرومانسي المُتَّسِم بطابع الحب والغرام والغزل مع وجود عدد من القصائد ذات صبغة نقدية ثائرة تعكس ما يسود أحوال الوطن العربي من ظروفٍ سياسية بائسة يعتريها الفساد بأشكال وصور متعدّدة الأوجه، ولكننا في هذهِ المجموعة الشعرية سنتناول بالتعليق والتعقيب على قصائد الجانب الرومانسي الغالب في هذه المجموعة.

إنّنا نجد في شعر نسيم الأسدي الوجدان الرومانسي للشاعر متلاقيًا مع التعبير الذاتي ليعبِّر عن تجاربهِ تعبيرًا مليئًا بالصور الشعرية والإيحاءات الغنيّة الموحية الخصبة.

إنّ شعر الدكتور نسيم الذاتي (subjective poetry) تعبيرٌ أصيل وصادق عن أحاسيسهِ ومشاعرِهِ وعواطفِهِ ووجدانه النابع من واقع خصب بذاتيّتهِ وذائقتهِ ومن قوة الخيال الخالق الذي هو البوتقة التي تنصهر فيها كل عناصر هذا العالم من ذهنية وشعورية.

ينتمي نسيم الأسدي إلى المدرسة الرومانسية في مجموعته الشعرية هذه إلى حدٍ كبير، تلك المدرسة التي يحلوا لعشاقها التغني بِلوعة وألم البُعد والفراق، هذا التغني الذي يدغدغ حواس المستمع، ويحمله إلى دنيا من شجن لطيف ولحنٍ أليف، دون أن يبعث في السامع أسى أو يدفع به إلى الإشفاق أو التعاطف على الشاعر الولهان المُتيّم المتألم بفعل وضعهِ الغرامي تجاه المحبوبة. أي أنّ الشاعر الرومانسي هنا يستعذب الشجن، ويحلّق في جو المعاناة، ويتغنى بالألم في كبرياء وعزّة، وفي رقّة وعذوبة كأنّهُ يداوي بنفسِهِ جراحَهُ، ويشدو لروحهِ بما يُرَوِّح عن نفسه. وهو في قصيدة “عودي أليَّ” (ص79) يظهر وكأنَّه يشقي نفسَهُ فذلك هو غايته ومبتغاهُ، حتى تنصهر روحهُ بالألم لتصدر عنها أعذب الألحان، فقد جاء في هذه القصيدة قول الشاعر:

عودي فَطَعمُ البُعدِ يُهلِكُني أسًى

والشوقُ يَفري في الفؤادِ وَيَقطَعُ

*

عودي فإنَّ العشقَ بَعدَكِ تائهٌ

يبكي بمحرابِ الغرامِ ويركَعُ

*

ما كُلُّ هذا الهجرِ يا أُمنيّتي

فالشوقُ مذبوحٌ هُنا يتوجَعُ

*

أتَرَكتِني وحدي يُجرِّحُني الصَّدى

وأناكِ يُطرِبُها أنيني تَسْمَعُ

*

عودي إليَّ فمَن سيُشعِلُ مُهجَتي

ولها بمحكَمَةِ الهوى مَنْ يشفَعُ

*

عودي إليَّ فليسَ طيفُكِ كافيًا

والصَّبرُ شابَ فليسَ صَبرُهُ ينفَعُ

لقد صوَّر شاعرنا نسيم الأسدي في الأبيات التالية من قصيدة “رُدّي تراتيلَ الغرامِ” (ص74)، عاطفةَ الحب تصويرًا شعريًا جميلًا، محَّص فيهِ تلكَ العاطفة النبيلة وشرّحها تشريحًا وجدانيًا رائعًا موفقًا ومجموع ما سجله من خفقاتِ قلبِهِ وهمساتِ روحِهِ يلقي الأضواء على نفسية هذا العاشق الصادق الذي يحلِّق في الأجواء العالية، فشاعرنا بتوصيفِهِ كشاعر الحب والجمال، قد أحبَّ في كلِّ أطوارهِ حُبًّا غامرًا أصيلًا، وكان يلتمس في حُبِّهِ ينبوع الشعر وصفاء الروح، فسجّل نتاج تجاربِهِ في شعرهِ الذي قبسه مِن الهام وجدِهِ ووحي عذابِهِ وبلائِهِ في العشق كما يتضح في أبيات هذه القصيدة التي يقول فيها شاعرنا:

صَلَّيتُ في محراب عينيها سُدًى

فبغيرِ عيني لحظُ عينيكِ انشغَلْ

*

للأمسِ ذكرانا يُسافِرُ عُمرُها

طيفًا يُغَرِّدُ في أمانينا الأملْ

*

أضحى السُّهادُ رفيقَ أحلامِ الصِّبا

ومضى يُسامِرُ لَيلَنا طيفُ الخجَلْ

*

ضَيّعتِ أيامَ السعادةِ كلَّها

تترنَّمين بضَربِ أوتارِ الزَّعَلْ

*

وَبِنا الغرامُ تَصَلَّبَتْ أقدامُهُ

فإليكِ بي يمشي الغرامُ وقد وَجِلْ

*

قد هامَ قلبي ينتشي مُتأمِّلًا

لكنّهُ رامَ السرابَ فما وَصَلْ

وهكذا، فشاعرنا مُحِبٌّ عاشقٌ ينظر للحب كمعنى مقدّس سام، ويظل هنا سادنًا ينشده أجمل ألحانِهِ وأرقّها، ويعيشُ في دنيا من الحب والجمال مليئة بالجمال والقداسة والسمو الروحي النبيل.

وما ورد في أبيات القصيدة أعلاه يفصح عن شأن الشعراء الصادقين مرهفي الحسّ والحالمين كشاعرنا د. نسيم الأسدي الذي رسم في هذه المجموعة الشعرية، عواطفه ومشاعره وأحاسيسه بصدقٍ وأمانة في شعرهِ وسجّل لنا خفقات قلبه واعترافات حبهِ.

ونرى في شعرهِ هنا عدة أوتار.. فهو أحيانًا يُمعِن في تصوير صبواتهِ العاطفية قريبة المزاج من شعراء الرومانسية المحلّقين والمتعبدين في معبد الجمال كأنّه يصلي للحب في شعرٍ يشكّل قصيدةً حالمة يكشف من خلالها لنا اللثام عن قلب أشرق الحب في ثناياه، فإذا هو خفقة من خففاتِهِ وومضة من ومضاتهِ، فهو مفتونٌ بالجمال يمتزج فيشعرهِ هنا الجمال والفن والحُسن وهو يصوِّر عاطفة الحب بصورة دقيقة تدل على عمق تجربتهِ في هذا السبيل وعلى فهمه لسرائر روح المرأة وتلوّنها. والرقة عند شاعرنا طبع أصيل عنده وقد ابتكر تعبيرات وكلمات موحية وأضاف ألى قاموس الوجدان تعبيرات قوية ومعاني عميقة رائعة في قصيدتهِ “فلنتَفِقْ” (ص27) حيث يقول فيها:

فلنتفِقْ! / أنّا إلى بحرِ الغرامِ سننطلقْ.. /

وسنقطِفُ الشوقَ المُدَلّى / من كرومِ الحُبِّ /

مِن قيثارةِ الأملِ المُحلّى / بينَ نغْماتِ السّرابِ /

بينَ آهاتِ القلقْ… / فلنتفقْ!

*

أنتِ المزيجُ الأوَليُّ.. /

الآخِرِيُّ.. الدُّنيويُّ.. / الدائريُّ.. السّرمديُّ /

الكوكبِيُّ.. المُستبيحُ المُحتَرِقْ…. / أنت المرايا.. /

والثنايا.. والزّوايا / والخبايا.. والهدايا.. /

والكتابةُ والورقْ…. / أنتِ التّحضُّرُ.. /

والتّبَشُّرُ.. والتبعثُرُ.. / والتبختُرُ.. / والتفكّرُ /

والتشرذُمُ والنَّسَقْ…. / أنتِ التفتُّحُ.. /

والتفسُّحُ.. والتبجُّحُ.. / والتأرجُحُ.. أنتِ

إنشادُ الحَبَقْ….

وفي قصيدة “ما عادَ ينفعُ في الغرامِ عتابُ” (ص 42) نلمس حرارة العاشق المدمن وصدق المحب المفتون وتلكَ العاطفة الدافقة حين يصوِّر مشاعره وأحاسيسهُ نحو محبوبتهِ الحسناء في أنغامٍ عذبة تسيل رقةً وجمالًا موسيقى معبِّرة عن روح العاشق وقلبه الواله.. وشاعرنا بكونهِ هنا شاعرًا رومانسيًا حالمًا يتمنى أن تخلو له الدنيا هو ومن يحب ليسعد بالعاطفة بعيدًا عن ضجيج العالم.. ليبقى معها في حالة الحب الصادق. ولقد ابدع الشاعر نسيم الأسدي في شعر الحب (Love Poetry) أيّما إبداع وأصدقه واستحدث تعبيراتْ جديدة وتراكيب جميلة أضافها إلى قاموسه الشعري. وفي شعرهِ نجد أنَّ الذاتية (subjectivity) عنده قوية وعميقة في فنه وحياتهِ. ونلمس عند هذه النقطة الصدق الشعوري لديه الذي يكون شعر الشاعر دليلًا على سمات وملامح الصورة الحقيقية الصادقة لما يختلج في نفسِهِ. وهذه الخاصية الرئيسية في شعر نسيم الأسدي هي من أبرز سمات المذهب الرومانسي عنده حيث يتحلّى بأصالة الابداع (originality of creativity) التي تبرز دائمًا في أشعار الحب والغزل لديهِ.

وبهذا فإنّ اختيار نسيم الأسدي للكلمة المؤثرة هي أول خطوة للبناء الفني للقصيدة الشعرية، وشاعرنا يجيد اختيار الكلمة المؤثرة ويحسن التوزيع الموسيقي للكلمات الشعرية كما نرى في قصيدتهِ آنفة الذكر أعلاه، ففي تلك القصيدة نرى أنها تكاد تجمع أكثر الخصائص البيانية لشعر نسيم الأسدي بما فيها من ألفاظ سلسة مشرقة أنيقة مثل (الحب دينُ العاشقين – تداعب هُدْبَهُ الأهداب – عبدوا الغرام – الحب تغريد الصباح وورده – إلى الغرامِ مآبُهم – غيابُهن تواجد – حضورهن غياب)، وكل هذه المعاني تكشفه الأبيات التالية من هذه القصيدة:

إني أُحَلِّقُ في مقاماتِ الهوى

حُرًّا تداعبُ هُدْبَهُ الأهدابُ

*

ما ضَيَّعَ العُشّاقَ شيءٌ مثلما

فَعلَ الفراقُ، وفي الوصالِ حسابُ

*

الحُبُّ دينُ العاشقين فكلُّهُم

عبدوا الغرامَ وبايعوهُ وتابوا

*

الحبُّ تغريدُ الصباحِ ووردُهُ

مَن قال إنّه لوعةٌ وعذابُ!؟

*

أهلُ الغرامِ إلى الغرامِ مآبُهُم

ذاب الهوى في العاشقينَ فذابوا

*

بعضُ النساءِ غيابُهُنَّ تواجدٌ

وحضورُهُنّ مع الحبيبِ غيابُ

وبعد كلّ تلكَ الرومانسية من عذوبة ورقة، ومن التصوير التعبيري الرفيع للحب الذي يتبناه شاعرنا، فإنّنا نندهش عند قراءة قصيدة “العزُّ تحت تصرفي وجهنم” (ص 19) حيث يظهر شاعرنا الذي عهدنا رقته في قصائد الحب والغزل وكأنّه شهريار الذي يتحكّم بالنساء مُبديًا استعلاءً تجاههنَّ انطلاقًا من النزعة الذكورية للرجل في تعامله مع النساء، وإنّنا نعتقد على سبيل التكهن والافتراض أنّ شاعرنا في تلك القصيدة التي سنورد مقطوعةً منها لاحقًا، قد اندفع إلى كلماته الحادّة مع المحبوبة خاصةً وإلى النساء عمومًا، بفعلِ حادثةٍ ما قد بدت من سلوكِ أو تصرّف امرأةٍ معه، فأغضبتهُ وأثارت حفيظتَهُ وأساءت إلى كرامتهِ وعنفوانهِ وشموخهِ كرجل، فانطلق يتعالى على المرأة والنساء بشكل عام في قصيدتهِ هذهِ من خلال كلماتهِ النفّاذة النابعة من تأثيرات الطاقة الجنسية (اللبيدو) التي تُشعِر الرجال عادةً بتفوقهم على الجنس اللطيف، وتحَفّزهم على التعامل مع النساء بفوقية، ولكنَّ الحق يقتضي أنه اذا اعتبرنا توجُّه شاعرنا إلى النساء بهذا الشكل وبهذه السطوة شعرًا، انتقاصًا مِن مكانتهم وكيانهم، فإنّنا لا نستطيع أن ننكر جمالية التركيب اللغوي لهذه القصيدة مع بعض التحفظ من مضمونها لشدة اللهجة الغاضبة للشاعر الذي عهدناه في معظم أشعاره الخاصة بالحب، شاعرًا يذوب حبًّا ووجدًا في محبوباتهِ من النساء بكلِّ رقةٍ وتوهجًا إنسانيًا. وإليكم النص التالي من هذهِ القصيدة:

قد ساءَها في الحُبِّ أني احكُمُ

أُلقي النساءَ إلى الفَنا أو أرحَمُ

*

وبأنّني سلطانُ مملكة الهوى

والعزُّ تحتَ تَصرُّفي وجهَنَّمُ

*

وبإنني إذما أمرتُ فجازمٌ

قولي حسامٌ أيَّ أمرٍ يَحسِمُ

*

وبنظرةٍ تمشي الأمورُ كما أرى

فالرِّمشُ مني نافذٌ مُتَحَكِّمُ

*

الحبُّ بعدي ميّتٌ مُتمزِّقٌ

وبلمسةٍ أُحيي الهوى فَيُبَرعِمُ

*

إنّ النساءَ خواتمٌ في إصبعي

كحروفِ أبياتِ القصيدةِ أنظِمُ

وأخيرًا وليس آخرًا، ومما تقدّم نستخلص أنّ الشاعر الدكتور نسيم عاطف الأسدي كان في شعره حلو الأسلوب، جزل اللفظ، جيّد اختيار الكلام، وإنّ لألفاظه ومعانيهِ رونقًا أخّاذًا، وإنّ في شعره في مجموعته هذه موسيقى تتناغى ألفاظُها، وفيها إنسكابٌ جمالي، وسلسلة من الصور بومضاتٍ جمالية ورصانة مكينة تفيض بالذوب الإنساني الذي يجعل شاعرنا ينطلق في وجدانيّتهِ الرومانسية في هذه المجموعة وفي مجموعاته الشعرية السابقة كما عَوَّدنا دائمًا.

فلهُ منّا أجمل التحيات وأطيب التمنيات بدوام التوفيق والمزيد من الإبداع والعطاء.

***

بقلم: د. منير توما – كفر ياسيف

فالنتاين

(الى كلِّ الآمرين بالحبّ المشعِّ بياضا وفضيلة، والناهين عن البغضاء والرياء والخطيئة)

***

في عيدِ ميلادِ الحدائقِ

راودتني وردة ٌ عن عِطرها..

بيضاءَ كانتْ مثلَ أحلام ِ الطفولةِ..

قلتُ في نفسي: سأقطفها

*

مددتُ يدي..

فكرَّ عليَّ سِربٌ من فراشات ٍ..

سقطتُ مُضَرَّجا ً بالخوفِ

مَغشِيّا ً عليّا

*

هل كان يومَ الحَشْر ِ؟

أمْ أنّ الذي أبصرتهُ هذيٌ ثقيلُ الهذر ِ

من أثر ِ الحُمَيّا؟

*

أبصرتُ أزهارَ الحديقة ِ تشتكي حَمَقي !

وحين نكرْتُ

جاء الصوتُ يشهدُ للحديقة ِ من يَديّا

*

فخجلتُ مني

واسْتحْتْ عينايَ من وجهي !

وروحي غادرَتْ جسدي فصحتُ بها:

أغيثني

فقالتْ: لاتَ وقتَ ندامة ٍ

فاخلدْ بنار الإثم ِ ملعونا ً شقِيّا

*

فسقطتُ ثانية ً ببئر الخوفِ

مغشيّا ً عليّا

*

قُمْ صاحَ صوتٌ...

فاستفقتُ

وجدتُ " عشقائيلَ " قربي..

قال: تهديكَ المَلاكُ السومرية ُ:

عِشقَها وكتابَ عِفتِها..

فخذهُ بقوّة ٍ

واصْدعْ بنورِ صَباحِهِ الليلَ الدّجيّا

*

وتقولُ: يا يحيى السماويُّ

الذي خَبَرَ الخنادقَ.. والحدائقَ..

والعذاباتِ.. المسرّات ِ..

الذي مضغَ اللظى والصّابَ..

والعذبَ الشّهيّا

*

إني قَبَلتُكَ تائِبا ً

فاحذرْ جنوحَا ً عن صِراطِ الياسمين ِ..

كُن ِ الحديقة َ للفراشةِ..

والظليلة َ للحَمامَة ِ..

للضّرير ِ الدربَ والعكازَ..

للرّاعي الرّبابة َ..

للغزالِ الخائِفِ الظمآن ِ رِيّا..

*

وتقولُ:

يا يحيى السّماويُّ الفراتيّ التسابيح ِ

الشهيدُ الحيُّ.. والحيُّ الشهيدُ

وخاتمُ العشّاق ِ في عصر ٍ يضجُّ

خنا ً وغيّا:

*

اليومَ قد أكملتُ سِفْرَكَ..

فانطلِقْ برسالة ِ العشقِ المُقدَّس ِ

كنْ رسولي في الهوى حتى يُعادَ الإعتِبارُ

لعَقلِ " قيسِ بنِ الملوّحِ " و" الشريدِ السّومريِّ "

ويسْتعيدَ عَفافهُ: الوَجْدُ.. التهَيُّمُ..

يَسْتحيلُ العِشقُ خبزا ً للقلوبِ

فلا يعودُ الحزنُ سيماءَ المُحَيّا

*

وتقولُ:

يا يحيى السّماويُّ المُضرَّجُ بالتبتّل ِ

كنْ بعِزّة ِ سَيِّدِ الشّجَر ِ النخيل ِ:

يموتُ مُنتصِبا ً..

ومثلَ الوردِ: لو ذبحوهُ يبقى عطرُهُ

يذكو شذِيّا

*

العِشْقُ بابٌ للخلودِ

فإنَّ " قيسَ بنَ الملوّح ِ " لمْ يزلْ لليوم ِ حَيّا!

*

فاحفظْ وصِيَّتها المُقدَّسة َ الأخيرة َ:

لا تخنْ شرفَ النخيل ِ

ولا تمُتْ إلآ " بلالا ً " سومريّا!

***

القراءة:

1- السياق والبنية الفنية:

يُقدّم الشاعر يحيى السماوي في قصيدته "فالنتين" رؤيةً وجوديةً تتعانق فيها الذات الشاعرة مع رمزية الحب المقدس والصراع الأخلاقي، عبر لغة شعرية مكثفة تستدعي التراث الثقافي العراقي "السومري" والأساطير العربية "كقيس بن الملوّح".

تُبنى القصيدة على حوار درامي بين الشاعر وذاته، وبينه وبين كينونات رمزية "كالفراشات، الصوت الغيبي، الملاك السومري"، مما يُضفي طابعًا أسطوريًا على النص.

2- الثيمات الرئيسية:

أ- الصراع بين البراءة والإثم: تبدأ القصيدة باغراء الوردة البيضاء، رمز الطفولة والنقاء، لكن محاولة قطفها تُقابل بمقاومة سرب الفراشات، وكأنها حراس للحديقة المقدسة. هذا الصراع يعكس التناقض بين رغبة الإنسان في امتلاك الجمال وبين قدسيته التي ترفض الانتهاك، مما يولد الشعور بالذنب "سقطت مضرجًا بالخوف".

ب- التكفير والخلاص:

يتحول الخطاب من فضاء الحديقة "الطبيعة" إلى فضاء ديني "يوم الحشر، نار الإثم"، حيث تُلام الذات على "حماقتها"، وتنفصل الروح عن الجسد في إشارة إلى الانهيار الأخلاقي. لكن الصوت الغيبي "قمْ... اصْدعْ بنور صباحه الليل الدجيّا" يمنح فرصة للخلاص عبر تبني رسالة الحب المقدس.

ج- الهوية الثقافية:

يربط السماوي بين الحب والتاريخ العراقي عبر شخصيات مثل "الشريد السومري" و"بلالًا سومريًا"، مؤكدًا أن الحب ليس عاطفة فردية بل تراكمٌ حضاريًّ. الإشارة إلى "الفراتي" و"النخيل" يربط النص بجغرافيا العراق، مع تحويلها إلى رمز للصمود "يموت منتصبًا مثل النخيل".

د- الشهادة والخلود:

تُقدَّم فكرة الموت كفعل مقاومة "لا تَمُتْ إلا بلالًا سومريًا"، حيث يتحول الشاعر إلى شهيد حي يحمل رسالة الحب في زمن "الخنا والغي". هنا، يصبح العشق بابًا للخلود، كما في أسطورة قيس الذي لم يمت رغم موته الجسدي.

3- الأدوات الفنية:

أ- التناص:       

يحاور النص نصوصًا دينية "إشارات إلى يوم القيامة، الصراط"، وأدبية "قيس بن الملوّح، بلال الحبشي"، وأسطورية "الملاك السومري"، مما يخلق حوارًا بين الماضي والحاضر.

ب- الرمزية:

- الوردة البيضاء: البراءة المفقودة.

- الفراشات: حراس الفضيلة أو ضمير الجماعة.

- النخيل: الصمود والهوية.

- النار/الليل الدجيّ: الخطيئة والجهل.

ج- المفارقة:

استخدام لغة دينية لوصف العشق "سِفْرَكَ"، "رسولي في الهوى" يرفع الحب إلى مرتبة القداسة، في مقابل تشويه القيم في العصر الحديث "عصر يضج خنا وغيّا".

د- التكرار:

تكرار سقوط الشاعر "سقطت مغشيًّا عليّا" يعكس دورته بين الخطيئة والتكفير، بينما تكرار فعل "تقول" يُؤنسن صوت الملاك، جاعلًا الوصية حوارًا داخليًا.

4- السياق التاريخي والاجتماعي:

لا يمكن فصل النص عن سيرة السماوي العراقي المهاجر، الذي عاش الحرب والمنفى. ف"الخنادق" و"العذابات" تشير إلى عنف الواقع، بينما تمثل الحديقة فضاءً مثاليًا للمقاومة بالجمال. الدعوة إلى "أن يكون الرسول في الهوى" هي محاولة لاستعادة الإيمان بالإنسان وسط الدمار.

5- الخاتمة:

"فالنتين" ليست قصيدة حب تقليدية، بل بيانٌ فلسفيًّ يدعو إلى تحويل العشق إلى فعل ثوري ضد الانحطاط الأخلاقي والسياسي. السماوي يصهر الموروث الديني والأسطوري في بوتقة الحداثة، مقدّمًا الحب كمشروع خلاص فردي وجماعي، حيث الجمال (الوردة) والمقاومة (النخيل) وجهان لروح واحدة.

***

بهيج حسن مسعود

 

(قراءة سيميائية - تقنية للمشهد التأسيسي في فيلم "المسألة الكبرى" بين الخطاب البصري والأيديولوجيا السياسية)

المشهد البصري الفخم "المشهد التأسيسي" / "Establishing Shot" الذي قدمه المخرج محمد شكري جميل في فيلم "المسألة الكبرى" كما ترونه بجلاء من خلال هذه الصورة المنتقاة من استهلال الفيلم مثَّل علامة فارقة في تاريخ السينما العراقية، حيث كان تجسيداً عميقاً لمدرسة "السرد البصري المركب" / "Complex Visual Narrative". وقد تجلت في هذا المشهد براعة المخرج في توظيف التقنيات السينمائية لخدمة المضمون الفكري والجمالي معاً. المشهد، في جوهره، كشف عن أيديولوجيا عميقة حولت الموت من نهاية حتمية إلى بداية متجددة، ومن حدث فردي إلى ظاهرة جمعية. العراقيون، في هذا السياق البصري، في تحول دائم إلى "مشاريع استشهاد" كيانات معلقة بين الحضور والغياب، بين الحياة والموت، في حالة انتظار دائم للحظة التحول النهائي. هذا التوظيف السينمائي المعقد يكشف عن عمق الوعي الجمعي العراقي بفكرة الموت كمصير جماعي مؤجل، وعن تحول الاستشهاد من حدث تاريخي إلى أيديولوجيا ثقافية مستمرة. المشهد، بهذا المعنى، ليس مجرد تصوير جمالي للحظة درامية، بل هو نص بصري عميق يكشف عن البنى العميقة للوعي الجمعي العراقي المعاصر.

وفي إطار التحليل السيميائي العميق للمشهد، كانت حركة الفرسان من اليمين إلى اليسار قد شكلت خروجاً واعياً على المألوف في السينما الغربية. وهي حركة معاكسة لاتجاه القراءة في الثقافة الانكليزية حركة خلقت توتراً دلالياً كشف عن استثمار المخرج تقنية بث الدلالات في خلق توتر بصري يتناغم مع موضوع الفيلم الذي تناول ثورة العشرين ومقاومة الاحتلال الإنجليزي. وكان هذا التوظيف قد أسس لخطاب بصري مقاوم عبر اللغة السينمائية نفسها.

تجلّت في هذا المشهد براعةٌ استثنائيةٌ في توظيف تقنية التصوير الظِّلي، حيث تجاوزَ المخرجُ حدودَ الجماليات البصرية، ليؤسسَ خطاباً بصرياً عميقاً حول ثنائية الوجود والعدم في الوعي العراقي المعاصر. وقد استثمرَ المخرجُ تقنيةَ الإضاءة الخلفية بحرفيةٍ عالية، محوِّلاً الفرسانَ إلى أيقوناتٍ رمزية تراقصت على حافة الأفق، في حوارٍ بصريٍّ مع قرص الشمس المتوهج أو الغارب. الإضاءة الخلفية (Backlight) لعبت دوراً محورياً في تجريد الفرسان من فرديتهم وتحويلهم إلى رموز مجردة للتضحية. هذا التجريد البصري يتوازى مع التجريد المفاهيمي للموت في الثقافة العراقية المعاصرة، حيث تحول الاستشهاد من فعل فردي إلى مشروع جمعي مستمر.

اكتسبت حركةُ الفرسان "البطيئة والمنتظمة" / "Synchronized Slow Motion" بُعداً روحياً عميقاً عبر تناغمها مع لحظات الغروب أو الشروق الكونيتان، وتجلّت براعةُ المخرج في توظيف الواقعية الشاعرية، حيث تحولت الأجسادُ البشرية إلى رموزٍ مجردةٍ عبّرت عن فلسفة المقاومة والخلود.1079 shokri

أسّسَ المشهدُ لما يمكن تسميته بـ "جماليات الصمود الجمعي" حيث تحولت حركةُ الفرسان نحو الأفق إلى طقسٍ بصريٍّ حاكى الموروثَ الملحمي العراقي. وعبر توظيف تقنية "الإضاءة المنخفضة" / "Low-Key Lighting"  خلقَ المخرجُ تضاداً درامياً بين ظلال الفرسان السوداء والخلفية المتوهجة، مؤسساً لخطابٍ بصريٍّ رفضَ ثنائية الاستسلام والمقاومة، وأكّدَ على حتمية المواجهة التاريخية.

كما مثّلَ هذا المشهدُ ذروةَ الصورة المتحركة، حيث تحولت الحركةُ الجسدية للفرسان إلى حركةٍ فكريةٍ أسّست لأيديولوجيا المقاومة المستمرة. وعبر هذا التوظيف البارع للعناصر السينمائية، تحولَ المشهدُ من مجرد لقطةٍ جماليةٍ إلى وثيقةٍ بصريةٍ أرّخت لروح الصمود العراقي في مواجهة كل أشكال الهيمنة والاحتلال. توازى التجريد البصري مع التجريد المفاهيمي للموت في الثقافة العراقية المعاصرة، حيث تحول الاستشهاد من فعل فردي إلى مشروع جمعي مستمر من خلال تتابع حركة الفرسان باتجاه غياب قرص الشمس وهذا ما يؤكد عليه خطاب السلطة في كون المواطن العراقي مشروع استشهاد مؤجل وبهتاف واحد "نموت نموت ويحيا الوطن" وبتراتبية طوعية أدلجتها أغنيات التوجيه السلطوي كما في "إحنا مرة نعيش" إشارة للولادة "ومرة نموت" إشارة للغياب الطبيعي والقسري والذي لابد أن يكون من أجل الوطن ظاهرياً من أجل السلطة تعبوياً "مرّة بكل عمرنا" أي تجريد الإنسان من حريته وتقبل هذا المفهوم وفي النهاية يا حبذا لو كان هذا المسار الحتمي من أجل الوطن.

التل بارتفاعه المهيب مَثّل عنصراً محورياً في بناء المشهد، إذ عمل كحد فاصل بين عالمين: العالم الأرضي بواقعيته المادية، والعالم السماوي برمزيته الميثولوجية. وقد عززت زاوية التصوير المنخفضة هذا الفصل البصري، مؤكدة على ثنائية الحياة والموت، مع الحفاظ على جسر بصري بينهما من خلال حركة الفرسان المستمرة نحو الأفق.

في المستوى الأيديولوجي، كشف المشهد عن بعد مستتر خلف جمالياته البصرية. فلم يكن مجرد لقطة سينمائية جمالية، بل كان تجسيداً بصرياً لمنظومة أيديولوجية متكاملة. وقد وظف المخرج الأسلوب البصري على مستويين متوازيين: جمالي: قدم صورة مثالية للاستشهاد، وأيديولوجي أسس لثقافة تطبيع الموت وتقديسه.

الفروسية، كعنصر درامي وثقافي، لعبت دوراً حيوياً محورياً في تشكيل المعنى. فالفارس على صهوة جواده مثَّل امتداداً لتقليد عربي عريق يربط بين الفروسية والشرف والشجاعة. هذا الارتباط حوَّل الاستشهاد من مجرد موت إلى فعل بطولي نبيل، يستحق أن يُؤدى بكل ما يليق به من كبرياء وشموخ. العلاقة بين الفارس وجواده تجاوزت البعد المادي لتصبح تجسيداً للوحدة بين الإرادة والفعل، بين الروح والجسد. الجواد هنا ليس مجرد وسيلة حركة، بل هو امتداد لروح الفارس وإرادته، يشاركه رحلته نحو المصير المحتوم بنفس الكبرياء والشموخ.

وفي قراءة تحليلية أولى لما مر والتي سيظهر في قادم المقالة ما يخالفها، برزت الحركة البطيئة للفرسان "البطيئة والمنتظمة" / "Synchronized Slow Motion" كلحظة تأمل وجودي عميق، وليست تردداً أو خوفاً من المجهول. إنها لحظة وعي كامل بالمصير، حيث تحوّل الزمن من تتابع خطي إلى لحظة ممتدة من التأمل الواعي. البطء هنا يعمل كآلية سينمائية لتكثيف المعنى وتعميق الدلالة، محولاً الحركة المادية إلى تأمل روحي وليس استسلاماً. كما إنّ الانسياب البطيء لحركة الفرسان كشف عن جدلية عميقة أخرى بين الإرادة والقدر. فهو ليس استسلاماً سلبياً للمصير، بل قبولاً واعياً به، تجلى ذلك في التناغم بين حركة الفرسان وحركة الشمس نحو الغروب أو حتى الشروق في رؤية معاكسة. هذا التناغم حول القلق من المجهول إلى سكينة روحية عميقة، والخوف من الموت إلى تصالح مع المصير. حيث نشير بقوة الى أن المشهد مثل نموذجاً لكيفية توظيف الفن السينمائي كأداة للهندسة الاجتماعية والسيطرة السياسية الفكرية.

لكن في قراءة أخرى مضادة نجد أن المخرج قد نجح في خلق مشهد يعمل على مستويين متناقضين. فبينما قدم ظاهر المشهد الصورة التي تريدها السلطة، فرسان يتجهون نحو الاستشهاد في لحظة مهيبة، جاءت الموسيقى الجنائزية الحزينة، مقترنة بالحركة البطيئة المترددة للفرسان، لتكشف عن الحقيقة المؤلمة خلف قناع البطولة السياسية المؤدلجة المفروضة.

لم تكن تقنية الحركة البطيئة مجرد خيار جمالي، بل كانت تعبيراً صامتاً عن مقاومة المصير المفروض. فقد اختار المخرج إظهار التردد والخوف الطبيعي من الموت، كاشفاً بذلك زيف الخطاب الرسمي. وكان التباين اللوني والتدرج الضوئي قد أسهما في خلق عمق بصري خدم الرؤية الدرامية، فيما عزز التكوين الذهبي من جماليات المشهد وقوته التعبيرية. وهكذا تحول المشهد إلى وثيقة نقدية كشفت العنف الرمزي للسلطة، متخفياً خلف جمالية بصرية بدت للوهلة الأولى متماهية مع الخطاب الرسمي. وكانت تلك براعة عظيمة من المخرج في استخدام الفن كأداة للمقاومة الناعمة، حيث نجح في قول الحقيقة دون الاصطدام المباشر مع السلطة.

وفي النهاية، مثَّل هذا المشهد في ضوء الوعي النقدي المعاصر الحر نموذجاً متميزاً في السينما العراقية، جمع بين البراعة التقنية والعمق الفكري، وأظهر قدرة المخرج على خلق خطاب بصري متعدد المستويات، حمل في طياته رسائل مضادة للخطاب الرسمي، مغلفة بجماليات سينمائية رفيعة المستوى.

***

بقلم الكاتب والناقد: كاظم نعمة اللامي

أبو جويدة

 

قدمت دائرة السينما والمسرح الفرقة الوطنية للتمثيل ضمن الموسم المسرحي 2024 على مسرح المنصور يوم الاثنين 2024/11/26 الساعة الحادية عشر صباحاً ولمدة ثلاثة أيام/مسرحية مملكة الالعاب. تأليف وإخراج: محمد حماد.

 أهم ما يميز الفنون عبر التاريخ هو دورها الاجتماعي الذي أثرت من خلالها على حياة الأفراد والجماعات، (أفلاطون) صاحب المبدأ المثالي يؤكد على أثر الفن في السلوك الاجتماعي.

تبدأ المسرحية بتحرك دمى(الفارس) و(العروسة) و(الجندي) و(راعي البقر) في محل ألعاب، خروج هذه الدمى وتحركها من اماكنها على الرفوف بمحل الألعاب لتقف ستوب كادر، وبمجرد دخول صاحب المحل جاء يبحث عن مفاتيحه التي نساها، استغرب بائع الدمى من وقوفهم بهذه الكيفية وتركت أماكنها، واتهمهم انهم عصابة دخلت لتسرق المحل، وبالمقابل هم ايضا اتهموه انه سارق اتى في الظلام حاملاً مصباح يدوي لينير له الطريق.

وبعد نقاش وجدال بين الطرفين اخبرهم البائع نيته ببيع محل الالعاب كون الدمى أصبحت لا يفضلها الأطفال في ألعابهم، ولا يقتنيها، بعد أن دخل جهاز المحمول الى حياتهم.

 تحايلت الدمى على صاحب المحل بأن لا يستغني عنهم ويفرط فيهم من خلال بيع المحل، إلا أنه أصر على موقفه، وبعد كثرة الإلحاح وافق شرط أن يدخل كل منهم في تحدِ مع جهاز الموبايل، ومن هنا أنطلق الصراع بين شخصيات الدمى من جهة وجهاز الموبايل من جهة أخرى وسط حالة من الدهشة والاثارة والتشويق لجذب انتباه المتلقي الصغير وهو من يُحكم المنازلة ومن ينتصر تكون الغلبة له.

أول نزال بدأ بين لعبة الفارس يقابله الموبايل، وكل منهم يطرح ما عنده من أفعال وفوائد للمجتمع انتهت المنازلة بفوز الفارس على جهاز المحمول. ثم تبدأ الجولات تباعاً بين راعي البقر والمحمول، انتهت المنازلة بفوزالمحمول. وكذا الحال مع المنازلة الثالثة مع الجندي يفوز ايضاً الجهاز على غريمه. المنازلة الأخيرة تكون بين باربي والموبايل، اشرك الحكم الجمهور بسؤاله لهم (هل تحبون العروسة ام جهاز الموبايل) ينقسم جمهور الأطفال ما بين مُحب للدمية وآخر مُحب للموبايل فينتهي النزال بتعادل الطرفين.675 show

فكرة العمل جميلة جدا وجديدة الى حد ما، إلا أن الربع الأول من المسرحية أفلت الكادر ايقاع العمل ووقع في الرتابة مما سبب حالة من الضوضاء في اماكن جلوس الأطفال وهذا أثر على سير العمل، رغم محاولة الممثلين من إشراك المتلقي الصغير الذي جاءوا بشغف وحب واندفاع لمشاهدة المسرحية، تغير مسار العمل بعد ذلك ومسك الممثلون زمام الأمر بمساعدة الأغاني والموسيقى المصاحبة للعمل التي أضفت جواً من البهجة والمرح في نفوس الأطفال.

جاءت نهاية المسرحية بعيدة نوعاً ما عن اقناع الاطفال الصغار بفوز جهاز الموبايل على ألعاب الدمى، سيما وأن المسرحية كانت تحاكي مراحل عمرية مهمة من (6-9) سنة و(9-12) سنة أي المراحل الستة من المدرسة.

 يؤشر على أداء الممثلين لمسرح الأطفال الحاجة إلى التفاعل مع جمهوره بصورة تجعلهم أكثر انتباها للعرض.

أزياء الشخصيات بسيطة جدا من حيث التصميم واختيار الالوان غير موفق لمسرح الاطفال، فالاطفال اعتادوا على مشاهدة تغيير المشاهد والألوان الزاهية ذات البهرج الواضح، كانت واضحة بسيطة واقعية لا لبس فيها، لعموم الشخصيات، شخصية العروسة تحتاج الكثير من العناية والبهرجة واستخدام الألوان الزاهية المحببة للطفل في هذه المرحلة، أما الهاتف الخلوي (الموبايل) يحتاج الكثير من العناية في تصميم وتنفيذ زي الشخصية، واظهاره بشكل أكثر اقناعاً وقرباً للطفل من حيث التصميم واللون.

تبدو لعبة راعي البقر مقحمة غريبة عن ثقافة الطفل المعاصر.

يحسب الى العمل فقرة تبديل الأزياء في اعلى يمين ويسار المسرح لجانبي الصراع شخصيات الدمى مع الهاتف، الاضاءة رغم أنها كانت موفقة في مواطن كثيرة في المسرحية، وجود البقعة على مكان تغيير وتبديل الأزياء في كلا الجانبين يكون أكثر راحة لنظر المتلقي لو كانت البقعة موجهة الى الجانب الايمن حيث الممثلون الدمى وبالمقابل بقعة اخرى الى جانب الصراع في اعلى يمين المسرح والتي تمثلت في مكان تبديل وتغيير ازياء جهاز الخلوي.676 show

تنتهي المسرحية وعلى الرغم من فوز وتمكن جهاز الموبايل، الا ان صاحب محل بيع الدمى يعزف عن رأيه ويقرر الاحتفاظ بالدمى وعدم بيع المحل.

فالنهاية جاءت بعيدة عن الإقناع والتصديق لما آلت اليه الاحداث، وعلى غير توقع المتلقي الصغير.

 نبارك لقائد العمل المؤلف والمخرج محمد حماد، وكادر مسرحية مملكة الالعاب، (اسراء ياسين باربي)، (حميد عباس صاحب محل الالعاب)، (منتظر خضير الموبايل)، (صادق والي الفارس)، (شوقي فريد راعي البقر)، (مصطفى الطيب الجندي).

نبارك للجنود المجهولين خلف الستار من التقنيين والفنيين والاداريين على الأزياء (وجدان عبد الله) والاكسسوارات (انتصار عبد كشيش)، تصميم الديكور (خالد وليد)، الاضاءة (محمد رحيم)، الماكياج (هشام جواد).

***

ا.د. فاتن جمعة سعدون

تقدم مجموعة "البابا الطائر Flying Pope " للياباني "بانيا ناتسواشي " (BAN'YA. NATSUISHI) عددا من النصوص المختزلة الغرائبية المختلفة شكلا ومضمونا عن الهايكو الكلاسيكي. يحملنا الهايجن المغامر خلال تلك النصوص المليئة بالمساحات البيضاء، في رحلة روحية عبر العالم كي نتأمل تفاصيله اللامتناهية بشغف واهتمام. وقارئ بانيا ناتسواشي هو قارئ غير عادي، مثقف ومغامر، يتوقف عند كل لفظة، يمتلك هذا القارئ ذهنية متقدة تسهم في تشكيل بنية النصوص.

يسعى بانيا ناتسواشي -من خلال "البابا الطائر" التي تعدّ مِلاحة شعريّة في عالمنا المتشابك- إلى تجديد اللغة من خلال تناول المفردة المستحدثة والمواكبة لروح العصر، بما فيه من مستجدات وتفاصيل جديدة لامتناهية. فقد يلجأ البعض إلى التأويل بحثا عن ماهية "البابا" المحيرة، فهي تارة تعرج إلى السماء في رحلة روحية، وتارة أخرى تغوص في البحار أو تهيم في الصحراء، أو تتألم في جوف الأرض، متجاوزة بذلك حدود الزمان والمكان والثقافة والعقائد واللغة أيضا. وقد يرى البعض الآخر أنها تعكس تأملات الهايجن وقلقه الداخلي تجاه ما يحدث في العالم، بحثا عن السكينة والسلام. هذه الرؤية ما بعد الحداثية أصبحت تنظر إلى الشعر على أنّه مسألة معقّدة ومتراكبة تتداخل فيها الإدراكات المتعدّدة، والمناهل المعرفيّة، ويتسع بها شكل الوجود، بعيدا عن المنظور الكلاسيكي الذي يُخضع الهايكو إلى اللحظة الجمالية "الساتوري" المنبثقة من فلسفة الزن البوذية.

ولعل "بانيا" استلهم "البابا" كـ"معادل موضوعي" ينقل من خلاله مشاعر الإنسان المعاصر، وتجاربه اليومية في مشهديات لافتة وساحرة أشبه بالأساطير، والفلكلور الشعبي، وقصص المغامرات. مع ذلك يظهر البابا الطائر على طبيعته البشرية، حين يعزف على البيانو باكيا معتصر الفؤاد:

عازفًا على التشيلو

البابا الطائر

ينزف الدموع

(ت. محمد عضيمة)

وأحيانا يؤدي بعض الطقوس الدينية كالصيام والصلاة، وقد يغفل عن أدائها أحيانا:

مرّ على صيامهِ

أسبوعٌ كاملٌ؟

البابا الطّائرُ في السَّماء.

(ت. محمد عضيمة)

وقد يظهر على هيئة طفل صغير تائه عندما يتلاشى قوس قزح، وفي صورة أخرى يحمل كلبه العجوز:

عندَ اختفاءِ قوسِ القُزحِ

قد يغدو طفلاً  تائهاً

البابا الطائرُ في السَّماء.

**

ولدٌ صغيرٌ يحمِلُ

كلبَهُ العجوزَ

البابا الطائرُ في السَّماء.

(ت. محمد عضيمة)

على الرغم من تلك القراءات التي تقدم اقتراحات حول طبيعة البابا الطائر، تظل نصوص "البابا الطائر" مفتوحة على الاحتمالات، عصية على تقديم معنى أو تأويل بعينه، ونكتشف، في نهاية تجوالنا وتأملاتنا في هذا العالم، أنها عبارة عن لوحات تحتوي على تشكلات سحابية متنوعة تحلق في السماء، تبدو في مشهديات فانتازية غير معقولة أو منطقية، لكنها ممتعة وفاتنة ومدهشة: 

فئرانُ الصَّحراءِ

تردُّ تحيةَ

البابا الطائرِ في السَّماء.

يقدم هذا النص تصورا حداثيا لا يأبه بالمعاني ولا يقدم كل شيء للمتلقي، كأنه  يريد أن يخبرنا أن الإبداع الحقيقي لا يكمن فقط في ما يُقال، ولكن أيضًا في المساحة الفارغة من البوح. تعد تلك المساحات البيضاء "ma" في اليابانية، بمثابة  " لوحات فنية غير مكتملة -( ويبدو أن ثقافة اليابان تزخر بالمساحات البيضاء التي هي أكثر بلاغة من الكلمات)- تسهم في خلق نص عميق ومدهش. يقوم القارئ بملـء البياض الأشبه بفراغات اللوحة، أو الأجزاء الصامتة في المقطوعة الموسيقية. في هذه الحالة لا تكون مهمة الهايجن تقديم نص مكتمل، حيث يعتمد على حنكة القارئ الذي يضفي على النص مسحة من تجاربه وعالمه الخاص. يُستخدم البياض كوسيلة للإيحاء بأن هناك أشياء لا تزال كامنة تحتاج إلى مساحة أكبر للتأمل في عوالم النص. تشير (فيرجينيا لا شاريه) إلى أن "البياض هو الخلاصة التي لا يمكن شرحها، والنقاء الذي لا يمكن تجربته، إنها لحظة الصدق التي لا تلد غيرها، فالبياض في النص لا شكل له ولا حدود، لأنه حالة أصيلة وهو مكتمل بحد ذاته. الفراغ في النص الخطي هو مساحة الحرية التي لا اتجاه لها" وهي بهذا المعنى لا تخضع النص للتفسير والتأويل، إنما تضعه صوب احتمالات لا حدود لها.

يقول بانيا ناتسواشي في "البابا الطائر":

يُتشدُ قصائدَ هايكو

بلا مواسمَ أو فصولِ

البابا الطائرُ في السَّماء.

يلخص هذا النص تحديدا سمات الهايكو الجمالية التي تبناها بانيا ناتسواشي، وغيره من أعضاء "جمعية هايكو العالم" التي ارتكزت مفاهيمها على هايكاي باشو وبوسون وإيسا، ثم انطلقت فيما بعد – لاسيما في فترة ما بعد الحرب – نحو الكتابة التي تقترب من أدب ما بعد الحداثة، تحت تأثير التيارات الجديدة في الواقع الثقافي والاجتماعي والاقتصادي والفكري في العصر الحديث، وتنامي تيارات العولمة والتطور التكنولوجي المتسارع. وانطلاقا من الدعوة إلى تجديد المسار الإبداعيّ وتطوير الأساليب الإبداعية، كان التجريب هو الأداة الناجعة في كتابة موضوعات تلامس الواقع المعاصر.

تظهر نصوص "البابا الطائر" جنوح بانيا ناتسواشي إلى التجريب بتبنيه طريقة الـ"موكي هايكو" التي تستغني عن الكلمة الموسمية وكلمات القطع، تعبر عن وجهة نظر الكاتب، ومشاعره وقضايا العالم، بدلا من اللجوء إلى تناول الطبيعة كأساس في الكتابة الإبداعية. فمهمة الشاعر الأساسيّة – في تصوّر "بانيا" - هي التعبير عن قلق الإنسان وهمومه في حياتنا المعاصرة، والانطلاق به نحو المستقبل.

تنشأ التجربة الجماليَّة في نص الهايكو كعامل مشترك بين الهايجن، عبر الحدس عندما يتماهى بشكل عفوي  مع الأشياء الحسية من حوله، وبين القارئ عبر التصور الذهني لحظة القراءة والتفاعل مع النص. تلك العلاقة بين الكاتب والمتلقي هي ما تخلق المساحة البيضاء؛ فالنص يظل غير مكتمل، لأنه بعد كتابته في انتظار القارئ الذي يعيد قراءته من زوايا أخرى مختلفة، ويعيد تشكيله من جديد، فيزداد النص – بعد إعادة تكوينه – وهجا وثراء. تدخل هذه اللحظة التأملية (أو ما يسمى حالة الوعي) كاتب الهايكو (ومن ثم المتلقي) إلى التجربة الفورية، وتقوم ببلورة الرؤى الفنية لدى كل منهما.

الأرضُ

دمعةٌ كبيرةٌ

في نظرِ البابا الطائرِ في السَّماء.

يقدم النص صورة غير معتادة في شعرية الهايكو، لكنها مثيرة وممتعة. حتما سيدفع البياض قارئ النص للتساؤل: كيف تكون الأرض دمعة كبيرة؟ إنها صورة الأرض الحزينة التي تحوى في جوفها آلام وآهات البشرية. إنها صورة تجعل بؤبؤ العين يتسع حين تخيلها، وتزداد حركته يمنة ويسرة، ويتحرك من الأعلى إلى الأسفل، ومن الأسفل إلى الأعلى، نتيجة الارتباك الذهني والانفعالي، وتزايد حدة التوتر، لحظة التوحد معها، وخلق لحظة مشعة بالفتنة والجمال. يمثل البياض الصورة الظلّية التي تجمع المحتوى الأساسي للّوحة في نص الهايكو -تماما مثلما نتمعن في ظلال الأشياء، لحظة انعكاس القمر على صفحة الليل- ومن غموض تلك الظلال يتولد سحر الفن في لوحة الليل الفاتنة. 

يعتمد الهايكو في الأساس على ما لم يُذكر في النص، عبر مساحات بيضاء متعمدة غير مرئية تخلق حدة وتوترا بين جزئي النص. تتوازى أحيانا هذه المساحات البيضاء مع النص المرئي على الصفحة، مما يبعث ببعض الرسائل المشفرة للقارئ. تقوم عملية القطع -سواء بوضع كلمة قطع "كيرجي" أم بدونها- بالمزج بين صورتين متناقضتين، وإحداث نوع من التناغم بينهما، كما تمنح النص لمحات جمالية. تحدث عملية القطع فجوة توتر شعري تنشا من المفارقة الناشئة من الجمع بين المتناقضات وطرحها في سياق متناغم، وغاية ذلك هو تقديم رؤىً جديدة للعالم.

في قِنديلٍ من المِلحِ الصَّخريِّ

يَحبِسُ الشَّمسَ

البابا الطائرُ في السَّماء.

 يجمع النص بين مشهدين غرائبيين: الأول صورة قنديل من الملح الصخري والأخرى هو حدث غير متوقع، مما يجعل القارئ يدخل عالما حلميا من الفانتازيا مليئا بالمتناقضات، لكنه حتما سينجذب إلى سحره وفتنته، ولن يملّ التجوال في أروقته الخرافية.

في "البابا الطائر" نستشعر صدى شيء ما خارج نطاق أسطر النصوص الثلاثة. إنها لحظة الاكتشاف التي تعد عنصرا حيويا في أي شكل إبداعي، حتى في طبيعة الأشياء المألوفة لدى الرائي (الهايجن/ المستكشف). في تلك اللحظة الجمالية المتشظية يمكنُ للكمالِ أن يتحققَ عبرَ التفاصيلِ الدقيقة للأشياءِ. ففي لحظات الفراغ والسكون، سيان أكنت في بقعة جبلية أم في مدينة مزدحمة وصاخبة، "ستكشفُ الأشياء لك عن ذاتِها، وسينتجُ عن ذلك كلِه نوعٌ من البهجةِ والرهبةِ والاحتفاءِ والعَجبِ، وللحظةٍ ما، سَيتبدى لكَ الكمالُ". "بروس روس" (Bruce Ross) - جوهر الهايكو The essence of haiku). هنا تصبح المساحة البيضاء بمثابة ممر جبلي يسمح للعابر (الهايجن) بالتأمل الذاتي، أو لوحة داخلية فارغة يتأمل من خلالها العالم: 

عندَ اختفاءِ قوسِ القُزحِ

قد يغدو طفلاً تائهاً

البابا الطائرُ في السَّماء.

*

عندما ينزِلُ المطرُ

تزدادُ كثافةُ حاجبيِّ

البابا الطائرِ في السَّماء.

*

الأرضُ

دمعةٌ كبيرةٌ

في نظرِ البابا الطائرِ في السَّماء.

(ت. محمد عضيمة)

تعكس هذه النصوص الثلاثة حدود اللغة أمام ضخامة العالم، حين نفكر في الاحتمالات اللامحدودة التي تكمن خارج حدود النص. هذا الإحساس بالانفتاح والنقص هو ما يجعل الهايكو شكلاً أدبيًا عميقًا وفاتنا.  نستشعر نهاية كل سطر عملية القطع (على الرغم من عدم وجود الكلمة أو العلامة) التي هي بمثابة فاصل يخلق نوعا من التشويق والدهشة، ويظل القارئ  في لحظات من التأمل الذهني يشكل بنية النص، ويكمل الفجوات الناقصة في الصورة الحسية أو المتخيلة.  تخلق المساحات البيضاء المتعمدة غير المرئية حدة وتوترا بين جزئي النص، أحيانا تتوازى مع النص المرئي على الصفحة، مما يبعث ببعض الرسائل المشفرة للقارئ. تقوم عملية القطع بالمزج بين صورتين متناقضتين، وتطرحهما في سياق متناغم، وغاية ذلك هو تقديم رؤىً جديدة للعالم الذي نحيا فيه.

***

حسني التهامي - مصر

 

أُعيدُ الشعرَ تاجًا فوقَ رأسٍ

بهِ الدنيا تتيهُ على سِواها

هكذا يفتحُ لنا الشاعر ابنُ الثمانيةَ عشرَ ربيعاً (حيدر كرّار) مغاليقَ قلبه الصغير ومكنونات نفسه الإبداعية، وما فيها من حبٍّ للشعر، ومنزلةٍ رفيعة له ترتقي الى مكانة تاجٍ مرصَّعٍ بيواقيت الفنِّ الجميل، طريقاً مُخطَّطاً لأملٍ راودهُ عن نفسه، وحلمٍ رافقَ لياليه وأحلامه أملاً، وعشقَ عمرٍ، وهدفٍ، عملَ ويعملُ منْ أجل الوصول اليه غايةً عليا، منذ نعومةِ أظفارِ وعيهِ الغضِّ الرقيق، وتفتُّح موهبته، وهو يتوغلُ، ويتجوّل في بساتين الشعر العربيّ دراسةً مُختارةً (الفرع الأدبي/ المدرسة الإعدادية/ كربلاء)، ليجد نفسهُ وسط عالم الأدب، وسحره وغواياته، ممتطيّاً صهوة الشعر موهبةً وهوايةً ومحبةً واختياراً، لينطلَ به، فينهل من ينبوعه ما يسقي برعم الموهبة الشعرية ماءً وغذاءً وعشقاً، ليكبر ... ويرتفع ... ويُزهرَ ... فيثمر كتابةً ونشراً (في الصحفِ والمجلات والمواقع الألكترونية)، ليغدو فرحاً غامراً يملأ نفسه بهجةً ومسرةً ،وحلماً يتحقّق، وهو مايزالُ على مقاعد الدراسة الإعدادية، فكيف بعد عشرة أعوامٍ، وبعد عشرين، وثلاثين... و.. وبعد تجربة أعمق فأعمق، وأغزرَ فأغزر؟ إنّه الشاعر الذي جعل من تاريخ الشعر العربيّ وإضاءاته وقيمه الفنية والبلاغية، وبنائه الرصين المتين البنيان، ومجده الخالد التليد، مصباحاً يحمله ليضيءَ به دربه الأدبي، ومثالاً يحتذيه:

على خُطى الفرزدقِ كنتُ أسعى

أُحيي مجدَ مَنْ سادوا ذُراها

وفعلاً سار على خطاهم، ليحي مجدهم، وهو البرعم الصغير الخصب المزروع في بستان الشعر العربي المعاصر، وأوراق أشجاره المثمرة متوجهة بفخر نحو هذا التاريخ العميق الجذور، والغزير من الثمار اليانعة القطوف، والكواكب السيّارة عبر الزمن. فهو ينهلُ منْ نبع الشعر العربيّ القديم؛ لأنه الجذرُ والسدرة التي يستريح في ظلالها الوارفة، مستمتعاً بثمارها اليانعة. ولا يفوته الحديث والجديد في بستان الشعر.

حيدر كرّار - الموهبة الاستثنائية - يتجوّل في عوالم الشعر، قديمِه وحديثِه، وهو يحملُ قلمه، وخزينه الأدبي والمعرفي، راسماً وبائحاً بما في أحاسيسهِ وعواطفه، وتجربته الغرّة الذاتية، وما يحملُ من فكرٍ إنسانيٍّ ووطني، وكأنّه قد اشتعلَ رأسُه شيباً وخبرةً مترامية الزمان والمكان:

غدوتُ الفجرَ من رحمِ التحدّي

تُضيءُ رؤايَ دربَ السائرينَ

*

أنا طيرُ السما لا شيءَ يحني

جناحي نحوَ أرضِ الظالمينَ

هذا هو شاعرنا الغضُّ الطريُّ، يرفض الظلم، ويمقت الظالمين، ويرفعُ على كتفيه روح التحدي والحقَّ، محلِّقاً حرّاً مثل طيرٍ يأبى القفصّ، ويقاوم كي لا يُصطاد بسهام القهرِ والجورِ والطغاة. فلقد وُلد حرّاً أبيّاً، راسماً لنفسه العلا طريقاً ومُقاماً وموئلاً، نجماً ساطعاً برّاقاً، وكأنه مناضل عاش غمار النضال الطويل، حتى ابيضَّ شعرُ رأسه:

فلا نَجمٌ يُنافسُني شعاعًا

ولا قمرٌ يُساومُني سَناهَا

*

كذا كُتِبَ الخلودُ على جبيني

أنا للحقِّ إنْ دارتْ رحاها

هذا الشاعرُ الغضُّ الغرير حين يتأمل الحياةَ، ويتوغل في معناها، منْ خلال تجربته القصيرة فيها، وكأنّه حكيمٌ خبرها طويلاً، وعايش غمراتها بكلِّ ما تضطرب وتموج، من تجاربَ مُعلِّمة تكتنز بها النفس، ويستقيم العُود، لتمدَّ الإنسان بوعي وإدراكٍ خلال السنين، فيكبرُ معها ليمنح الآخرين عمق ما تكتنز من تجارب، ومعانٍ وعِبَر، وما تمنحه من معرفةٍ ليقدمها حكمةً وعِظةً، ويُشرعَ أبوابَها أمام المتلقي طبقاً دسماً جاهزاً:

المشردون في الساحات

يراقبون اللافتات العتيقة

كأنها نصوص مقدسة

بينما العشاق القدامى

يمزقون تذاكرهم الأخيرة

ويشطبون أسماءهم

من دفاتر الأمنيات

*

أما العابرون

فلا يعرفون من المدينة

إلا ظلالهم

الراكضة خلف الغياب

*

ما معنى الانتظار؟

العجائز في الشرفات

يفتحون الراديو القديم

ليتأكدوا أن العالم لم ينطفئ بعد

(من قصيدة "المدينة لا تنام")

موهبة الشاعر حيدر كرّار تتجسّد بجلاء بين تعاطيه فنّ الشعر بشكليه الكلاسيكي الفراهيدي، والجديد بشكله النثري (قصيدة النثر)، وبإمكانية ومقدرة واضحة، تتجلّى في قصائده، ولا تخفى على البصر الفنيّ والبصيرة الخبيرة المتابعة. كما أنّ لها من جماليات الشعر بجوانبها المختلفة وعناصرها المتعدّدة: من عاطفة وأحاسيس، وخيال خصب، وأسلوب فيه من الجودة الكثير، والبلاغة التعبيرية، والبيان بمختلف عناصره ووظائفها، والسلامة اللغوية، وهو ما يشير الى إمكانيات الشاعر، وموهبته الكبيرة، وثقافته اللغوية والشعرية، ومتابعاته وقراءاته، ونضجه الفكري، ووعيه بمجريات ما يجري حوله في وطنه، وما يراه في العالم حولنا، وموقفه الشخصي من خلال قناعاته. وهو تجاوزٌ لسِنِّه المبكر.

لم يكتفِ حيدر كرّار بما أسلفنا من أغراض شعرية عامة، تلمس حياة الناس والوطن، وموقفه، لكنّه طرقَ أبواب الذاتيات، معبّراً عن عاطفة الحبِّ في نفسه الطريّة العود، ودور الحبِّ في تنقية القلب والنفس، وجماله وحلاوة أحاسيسه، يقول في قصيدة (ربيعُ الحبِّ) بأسلوبه الرقيق الجميل مختاراً الألفاظ المناسبة للحال، ولعاطفة الحبِّ:

تَراقَصَ زَهرُهُ في كُلِّ رَوضٍ

وَغَرَّدَ طَيرُهُ لَحْنَ السُّرُورِ

*

فَيا أَهلَ الهَوى، هَلْ مِنْ رَبيعٍ

يُضيءُ قُلُوبَنا بَعدَ الدُّهُورِ؟

*

رَأيتُ الحُبَّ يَسري في رُبَاهُ

كَنَهرٍ فاضَ مِنْ عَينِ الزُّهُورِ

*

فَصِرْتُ أَجُوبُ بُسْتانَ التَّمنِّي

وَأَحْمِلُ مِنْ دُناهُ عَطْرَ نُورِي

*

إِذَا مَرَّ الهَوى فَافْتَحْ قُليبًا

يكُونُ لِحُبِّهِ أَرضَ الطُّهُورِ

*

فَلا تَخشَ الخُطُوبَ وَعِشْ هَنِيئًا

فَإِنَّ الحُبَّ يَصْنَعُ مِنْكَ نُورِي

إنَّ هذا الأسلوب الرقيق الشفاف والجميل صوراً، وأداءً تعبيرياً، والمُترَف بوشيٍّ مُحلّىً بالعاطفة والحسِّ المرهف، إنّه ميزة يتحلّى بها الشاعر بما يجعله – إنْ واصلَ فيه – وطوَّره، يجعله من شعراء الغزل الرقيق ليدخلَ النفسَ بسلاسة وعذوبة:

وَلا تَحْسَبْ صَبَاحَ العُمْرِ يفْنَى

إِذَا غَنَّتْ عَلَى الأَغْصَانِ طِيرِي

*

فَكُلُّ الحُبِّ في الدُّنيا رَبِيعٌ

وَإِنْ جَارَتْ عَلَيهِ يَدُ الدُّهُورِ

*

فَأَزهِرْ كَالمدى وَازْهُو بِوَصْلٍ

يَجُودُ عَلَى الفُؤَادِ بِمَا يُسرِّي

*

وَدَعْ أَيَّامَكَ الغَبْرَاءَ تَمْضِي

فَإِنَّ الحُبَّ يَغْسِلُ كُلَّ زُورِ

يمتاز شعره شكلياً – كما ذكرنا – بأنه على اللونين العمودي الفراهيدي والحديث المتجدّد، وهو في الاثنين يجيد الصياغة، بمكنةٍ واضحة، تدلّ على مقدرة، وإمكانية، وموهبة استثنائية، وجودة، ومعرفة دقيقة بالشكلين، وكأنه خبير قديم فيهما، وهو ما نفتقده في الغالبية العظمى ممن يكتبون ما يسمونه شعراً (قصيدة نثر). وإنَّ لتجربته الغضّة فرصةً في التنامي والرقي والتطوّر أكثر فأكثر مع السنين والخبرة الإضافية، ومواصلة المعرفة وتطوير الذات الشعرية والشاعرية، والثقافية العامة. وهو ما يؤهّله لأخذ مكانته العالية في وادي عبقر، وعالم الشعر اللذيذ. فهو لم يكتفِ بما ذكرنا من أغراض شعرية، بل تجاوزها الى العميق من المضامين والمعاني والأفكار، مستنداً أيضاً الى عالم السرد الغني الواسع الذي يضيف جمالية أخرى من جماليات فنّ السرد القصصي، مما يزيد من غنى القصيدة، وتوسيع عالمها الحسّي والخيالي والصُوَري، يقول في قصيدته (شارع الوقت):

الساعةُ الثامنةُ إلا قليلاً،

والشارعُ يمتدُّ كحبلِ غسيلٍ

عليهِ ثيابُ الزمنِ المنشورة.

*

العجوزُ الذي يجلسُ في الزاويةِ،

يعدُّ المارةَ كأنهم دقائقُ مفقودةٌ

من عمرهِ.

والطفلُ الذي يبيعُ الحلوى،

يرسمُ حلمَهُ على زجاجِ السياراتِ.

*

في شارعِ الوقت،

لا أحدَ يعرفُ إلى أينَ يمضي،

ولا أحدَ يسألُ عن وجهتِكَ.

فقط الريحُ

تطوي الأيامَ كصفحاتِ جريدةٍ قديمة.

لِنتمعّنْ في الصور المدهشة المستحدَثة، المختارة بدقةِ صياغةٍ شعرية ماهرة حاذقة، ومخيال خصب غزير الأرجاء واسع الأنحاء، عامر بالصور والتشكيل اللوني بريشة الكلمات، والبلاغة الماهرة استعارةً وكنايةً وتشبيهاً ومجازاً:

(كحبل غسيل)، (ثياب الزمن المنشورة)، (كأنهم دقائقُ مفقودةٌ)، (يرسمُ حلمَهُ على زجاجِ السياراتِ)، (شارعِ الوقت)، (تطوي الأيامَ كصفحاتِ جريدةٍ قديمة).

(حيدر كرّار) ابن التسعة عشر ربيعاً، البرعم الشعريِّ، وقد بدأ ربيعُ الشعر عنده يسقي موهبته وتجربته، لينمو ويُزهر بألوان الفنِّ الجميل، هو شاعر قادمٌ على عربةِ أبوللو الشعرية، وهو يملأها، ويُضيئها بمصباح شعره البرّاق. ولسنا مبالغين:

فـ(المكتوب باين من عنوانِهِ).

***

عبد الستار نورعلي

شباط 2025

قصيدة /النهر اليابس/ للشاعر العراقي رياض الكاتب تتسم بأسلوب شعري يجمع بين الرمزية والوجدانية، وتعرض تصويرًا مؤلمًا لواقع قريته المنكوبة، حيث يتداخل فيها الألم والموت والحياة. نرصد في القصيدة عدة جوانب أسلوبية ونقدية يمكن تفصيلها على النحو التالي:

1. استخدام الرمزية:

النهر اليابس في العنوان والمفردات الأخرى مثل /المرايا/، /السنين العجاف/، و/الصقيع/ ليست مجرد صور طبيعية، بل تمثل حالة من القحط الروحي والوجودي، حيث يصبح النهر الذي كان مصدر حياة ومصدر خصب، يابسًا، في إشارة إلى ضياع الأمل والجفاف المعنوي. النهر اليابس يشير إلى موت الأحلام وآمال الناس في ظل الحروب والمحن التي تعرضت لها المنطقة.

2. التراكيب البلاغية:

تمثل القصيدة مجموعة من التراكيب البلاغية الموحية التي تخلق إيقاعًا شعريًا خاصًا، مثل /شتاء صيفي/ و/غيمة بلا مطر/. هذه التناقضات تثير تساؤلات حول ماهية الزمن والمكان، وتظهر كيف أن الأشياء التي يفترض أن تكون متناقضة تصبح في الواقع جزءًا من واقع واحد غير طبيعي. كما أن استخدام /غيمة بلا مطر/ يوحي بالفراغ والعجز.

3. الصور الشعرية:

القصيدة مليئة بالصور الشعرية التي تخلق حسًا بصريًا وذاتيًا عميقًا. مثلًا، /لوحة على جدار التراب في شارع الشمس/ و/ثوب قريتي الأخضر/ تحمل دلالات قوية على الارتباط بالطبيعة والتراب كمكان تاريخي وثقافي، لكنها أيضًا تمثل فقدانًا للزمن الجميل. هذا التصوير يمنح القارئ إحساسًا بالزمن المنقضي، ويثير الأسئلة حول معنى الهوية والوطن.

4. الإيقاع الداخلي:

القصيدة تتسم بإيقاع داخلي مشدود يعكس التوترات النفسية للراوي والشخصيات. تتداخل المفردات والمجازات مثل /زمن الحداثة/ و/فصل واحد/ للإشارة إلى تشظي الزمن وفقدان انسجامه. هذا التشظي يظهر من خلال الاستخدام المكثف للصور السريعة والمجزأة، التي تجسد حالة من التمزق في الذاكرة والتاريخ.

5. التأثير العاطفي والوجداني:

القصيدة تنضح بالحزن والأسى، حيث تُصور بمرارة ضياع ملامح الحياة الماضية في قريته، سواء من خلال اختفاء النهر أو موت الطيور المهاجرة. هذه الرموز تشير إلى الافتقاد للأصالة والهوية في ظل ظروف قاسية.

6. الأبعاد الاجتماعية والسياسية:

في خلفية القصيدة، هناك إشارة واضحة إلى المعاناة الاجتماعية والسياسية للعراق والمنطقة العربية، كما يتضح من ذكر /الزهور الشهداء/ و/المبازل/ و/التمور/ التي تمثل واقعًا مأساويًا من الحروب والمجاعات والنزاعات. عبر هذه الصور، يعكس الشاعر تأثيرات هذه الأوضاع على المجتمعات البسيطة، حيث يندمج الألم الشخصي في صورة جماعية.

الختام:

قصيدة /النهر اليابس/ للشاعر رياض الكاتب تعكس ببراعة صورة مجتمع يواجه الجفاف الروحي والوجودي، من خلال لغة رمزية غنية بالصور الشعرية التي تثير في القارئ مشاعر الأسى والرفض. ومن خلال التفاعل بين الزمان والمكان، يبرز الشاعر صورة من صور المعاناة الإنسانية في ظل العوامل الاجتماعية والسياسية، مما يجعل القصيدة نموذجًا للأدب الذي ينطلق من خصوصية المكان نحو التعميم الإنساني.

*** 

بقلم: كريم عبد الله - العراق

...........................

النهر اليابس

في زحمة المرايا جلست قريتي تمشط نخلها على ضفاف النهر اليابس، تحيط بها  سنين عجاف ولوحة على جدار التراب في شارع الشمس مرسوم فيها زهور الشهداء، واقف على اعتاب الباب شتاء صيفي يرتدي غيمة بلا مطر وصقيع صلاحيته نافذة مذ دخل الجفاف، قباب الطين مازال اثرها في اقدام المجالس ونكهة العفوية عطرها يغطي الناحية القديمة في ثوب قريتي الاخضر، مواسم (الطيور المهاجرة) والاكواخ الخشبية ورائحة العنبر بين امواج النهر تمتطي هبوب الريح ، جمعتها الاهوار في صورة جنوبية تشبه العقال وعباءة ثلجية يرتديها المالك الحزين عندما يبحث عن بركة من بقايا المبازل، ثمة طقوس تشرينية على منافذ دروب السماء امطرت سوادا في نواحي الذكرى، امسية التمور استهلها البرحي بقراءة سورة الالوان صفقت جميع الفصول في زمن الحداثة ما عاد في لباسها فصل واحد، هناك الف اغنية جمعتها قريتي في قرص واحد كلها تندب ذلك النهر اليابس.

***

رياض الكاتب – العراق

 

"الجميلات النائمات" لكاواباتا الياباني و"ذكرياتي مع غانياتي الحزينات" لماركيز

أجملُ ما في الكتابة الإبداعيّة أنّها تُعرّي صاحبَها وتتغلغلُ في ثنايا نفسيّته وأفكاره، وتَعْرضُه على القارئ بجرأة وسَطوة، تجعلُ هذا القارئ يُسحَرُ ويَدهَش ويتمنّى ويحلم، ولكنّه يظلّ لا يتعدّى ذلك.

كلّ إنسان يتمنّى في ساعات من عمره لو بإمكانه أنْ يقفَ على مُرتفع ليروي لكلّ الناس عمّا يحلم، وبماذا يُفكّر، ليعترف أمامهم بكلّ خطاياه، يكشف لهم أسرارَه الخاصّة ويُشركُهم في همومه التي تُعذّبه. لكنّ هذه هي منحة الخالق التي خَصّ بها المُبدعين وحدَهم وحرمَ الآخرين منها، فكان المبدعون مرافقي الزمن، خالدين بخلوده، بينما يضمحلُّ الآخرون ويغدَوْن كما لو أنّهم لم يكونوا.

ويظلّ الزمنُ رفيقَ المُبدع اللدود، يُطاردُه في كلّ تحرّكاته ويُذَكِّرُه بأنّه له بالمرصاد. وهذا ما دفع هنري جيمس (1843 – 1916) ليقول: "أرصدوا ما حولكم في شكل متواصل، أرصدوا قدومَ العمر.. وأنا نفسي أرصد انهياري الخاص. بهذه الطريقة كلّ شيء يمكن أن يكون مفيداً.. أو هذا ما آمله على الأقل. لذا أحاول أن ألتقط من الزمن أفضلَ ما يُعطيه". وقد تكون هذه المُلازَمةُ القاتلة للزمن هي التي دفعت بفرجينيا وولف (1882-1941) إلى اقتناعها بعَدَميّة جدوى الحياة بقولها "أجل.. إنّ هذا ما أفكّر فيه، إننا نعيشُ من دون مستقبل. وهذه هي غرابة الأمر، إذ نبدو كمَن يطرقُ أنفَه على باب موصد" وتُقرر الانتحار برَمي نفسها في الماء، وتفارقُ الحياة قانعة راضية بما اختارت.

لكن معظم الناس يتشاغلون عن الزَّمن، يتهرّبون منه، ويحاولون نسيانه، وفي بعض الحالات تَحدّيه.

حقيقة إنسانيّة يعيشها كلُّ إنسان، أنّ عبورَ الواحد للعقد السابع من عمره يجد نفسَه مشدودا من حيث لا يدري بالماضي البعيد الذي كانَه يوما، فتجده ينتهز أيّة فرصة ليعودَ بجُلسائه، والأكثر بنفسه، إلى أيام زمان التي كانت ومضَت، يتحسّرُ عليها، ويشتاق إليها، ويتمنّى لو تعود. ويجد نفسَه في أحلامه المُتَقاربة يعود إلى البيت الذي وُلد وكَبُر فيه، ولأفراد الأسرة، وللحارة والأقارب والجيران، ويعيش من جديد ما كان له من صَداقات وخلافات مع هذا وذاك، وأيّة قصص حبّ كانت له مع هذه الفتاة من الأقارب أو الجيران، وقد تأخذُ به الأحلام، وعلى ليال مُتقاربة ليعيشَ من جديد قصّةَ حبّ كانت قد عصَفت به في شبابه وتركت أثرَها على حياته كلّها.

هكذا يجد الواحدُ نفسَه تتأرجحُ ما بين ماضٍ كان، ويُلاحقه بقوّة، وحاضر يعيشُه لم تعُد له فيه أيّةُ آمالٍ وطموحات، وإنّما عقاربُ ساعة تُذكِّرُه في كلّ نظرة إليها بأنَّ العمرَ يمضي، وساعةَ الرّحيل قادمةٌ، فيستزيدُها بالسّرعة ليرتاحَ ويتخلّصَ ممّا هو فيه إذا كان زاهدا في حياته، أو يرتجفُ مع كل نَقلة لعقاربها، ويُخَيّلُ له تَرَصُّدُ رسول الموت به ليَحملَه وينقلَه إلى حيث المُسْتَقرّ الأبديّ.

وإذا كان الإنسان العاديّ يكتفي بسَرد بعض قصص ماضيه للأصدقاء المُقَرّبين منه أو يحتفظُ بها لنفسه خوفا من تعليقات الناس وانتقاداتهم والنَّيْل منه وقد تقدّمَت به السنون، فإنّ المُبدعَ من الكُتّاب والشعراء يجد نفسَه في صراع شديد يُعاني منه، وفي انشداد كبير لتفريغ ما يختزنُ في ذاكرته على مدى سنين عمره كلّها بسَرد سيرته الذاتية ليخلّدَها لأنّه يراها الأكثرَ صدقا وأمانة للإنسان الذي كانَه.

وتزدادُ المشكلةُ وتتأزّم، وقد تؤدّي إلى خلافات وعداوات في مجتمع كمجتمعنا العربي المُحافظ، المُتمَسّك بالعادات والتَّقاليد والمَفاهيم الجاهليّة والقَبَليّة والتَّباينات المَذهبيّة والدينيّة والعائليّة فلا يرضى ولا يؤمن بأيّة علاقة صداقة بريئة بين رجل وامرأة، وتثور ثائرتُه إذا عرف بقصّة حبّ بين شاب وفتاة، والوَيل لهما إذا كانا ينتميان لدينَيْن أو مَذْهَبَيْن مُختلفَين. وكم من ضحيّة لاقت مصيرَها بقَتْلها للمحافظة على شرَف العائلة، وكم من نزاعات دامية وحتى حروب قامت.

يجد المُبدع العربي في وطننا العربي نفسَه مُحاصرةً بكلّ هذه القُيود والمُحرّمات، والذين تمرّدوا وكسروا القيود لاقوا الأَمَرَّيْنَ وخاصّة إذا كانت مُبدعةً أمثال ليلى بعلبكي وأحلام مستغانمي وحنان الشيخ وكوليت خوري وسلوى النعيمي. ويذكر كلّنا العاصفةَ التي واجهتها غادة السمّان عندما نشرَتْ رسائلَ غسان كنفاني الغراميّة لها.

ويعترف محمود شقير في كتابه "أنا والكتابة" قائلا: "ولأعترف بأنّ الخوفَ انعكس بشكل أو بآخر على كتاباتي. وإذا ما تذكّرنا المحرّمات الثلاثة: الجنس والسياسة والدين، التي يُحْظَرُ على الكاتب في البلدان العربية الاقترابَ منها إلّا على نحو طفيف، فإنّ نتاجي الإبداعي يُعاني من هذا الخوف، وحين يتعلّقُ الأمر بالكتابة، فإنّني أخاف من السلطة الدينيّة في المقام الأول ثم من السلطة الاجتماعيّة، يأتي بعدها الخوفُ من السلطة السياسيّة ثالثا، ومن الاحتلال الإسرائيلي في المقام الأخير" ويعترف بأنّه لم يُفكّر بكتابات لها هذه الدرجة من التحدّي. والرّقابة الداخليّة لديَّ قويّة إلى الحدِّ الذي لا يجعلني أفكِّرُ بكتابة من هذا النوع". (أنا والكتابة. محمود شقير. مكتبة كل شيء 2023 حيفا ص188 وص190)

والآن إلى منزل ذكريات محمود شقير

هذه المقدّمة الطويلة قصدتُ بها التّمهيدَ لتناول رواية محمود شقير الأخيرة "منزل الذكريات" إصدار (نوفل 2024) التي يصفها بالنوفيلا، أيّ الرواية القصيرة رغم عدد صفحاتها التي تصل إلى 177 صفحة.

وأتخيّل محمود شقير وقد تجاوز الثمانين من عمره، يجلس أمام نافذة بيته ينظر إلى البعيد ويُقلِّبُ بين يديه روايتَيْ الكاتب الياباني ياسوناري كاواباتا "الجميلات النائمات" والكاتب الكولومبي غابرئيل غارسيا ماركيز "ذكرياتي مع غانياتي الحزينات" ويشطح به الخيالُ إلى سنوات بعيدة تُعيدُ له رفاقَ الطفولة وزملاءَ المدرسة وأصدقاءَ فترَتَي المُراهقة والشباب وما فيهما من تقلّبات، ومفاجآت، وحبّ، وألم. ويسقطُ الكتابان من يديه فينتبه إلى نفسه ويُفاجَأ ببطلَي كاواباتا وماركيز يبتسمان له ويقولان معا:

- استمر في بَوْحك الجميل، نحن في شوق للمزيد.

فينتفضُ ويستعيذُ بالله من الشيطان الرجيم، ويُقسم أنّ كلّ ما باح به من تدابير محمد الأصغر، وحاشا له، وهو الإنسان المحافظ الملتزم بعادات وتقاليد أهله، ولا تُشغله إلّا قضايا وهموم أبناء شعبه الرّازح تحت الاحتلال، وأمَّته التي تعيشُ كلَّ هذا الذلّ في هذا الزمن الرّديء، فحاشا له أنْ يلتفتَ لمثل هذه التّرْهات والمُغريات.

وقبل أنْ ينهيَ كلامَه يدخلُ محمد الأصغر يُرحِّب بالضَّيفَيْن العزيزين ويدعوهما للانضمام إلى الحضور الذين ملأوا صحنَ الدّار للمُشاركة في تشييع جثمان زوجته سناء التي فتك بها كوفيد 19.

وهكذا نأى الكاتبُ محمود شقير بنفسه عن كلّ ما قد يجلبُ عليه كلامُ الناس من المَتاعب، وحَمَّلَ هذا العِبْءَ الثقيلَ لقريبه وقرينه محمد الأصغر الذي اعتاد على السّهرات الجميلة والقصص برفقة قريبه رهوان.

ويتجلّى محمود شقير في إطلاق خياله تاركا قرينَه وصنيعتَه محمد الأصغر ليمارسَ حياتَه التي تحلو له ما بين تخييلٍ لا ضوابطَ له، وواقعٍ يدمي القلوبَ من ظلم المُحتل وتَفَلُّتِ المُجرمين، وشعبٍ ضعيفٍ يعاني كلّ صُروف الظلم، لكنّه لا يفقدُ الأملَ في المستقبل.

محمد الأصغر ليس غريبا علينا، فقد عرفناه في قصص وروايات محمود شقير يتقمَّص شخصيتَة ويتستّر عليها، ويُطلق العِنانَ لنفسه لتنطلقَ كما يحلو لها في هذه الحياة التي يعيشُها بحلوها ومُرّها، وكما عرفنا محود شقير هكذا يكون محمد الأصغر نموذجا للإنسان المُنفتحِ على الحياة والناس، الوفيِّ والمُحبِّ لزوجته سناء التي تُرافقه في السّرّاء والضّرّاء، وتبقى له نِعْمَ الزوجة. وإذا كان قد خَتَم قصصَ "نوافذ للبَوْح والحنين" بجلسته الهادئة الدافئة مع سناء وهما يحتسيان القهوة بتفاؤل ووئام تحتضنُه ويحتضنُها.. فإنه ابتدأ روايتَه "منزل الذكريات" بموت سناء ومشاهد مأتمِها وتشييعها إلى مَرقدها الأخير، وإحساسِه الكبير المؤلم بفَقْد شريكة حياته، وتَشكَّكَ في قدرته على العيش وحدَه بدون سناء وأنه، كما يقول" ربّما لن أعيش بعد سناء سوى سنة واحدة أو سنتين. وأنا أشعر بضراوة الفَقْد، حين أجد مكانَها شاغرا في السّرير، وحين يكون الفراغُ المُتشكِّلُ فيه أكبرَ ممّا يُمكن احتمالُه في أيّ حال. أشعر بوحشة ضارية تلفُّ غرفة نومنا والبيتَ ومحيطَ البيت والحيّ، وأينما نظرتُ تكبر الوحشةُ ويُعلن الموتُ هيمنتَه على الأمكنة المُحيطة بي، ويُعذّبني وجهُ سناء الشاحبُ وعيناها المغمضتان على فراغ" (ص10)

وتُعذّبه الكوابيس التي تُحاصره في الليل، وتدفعه للشك في في حقيقة موت سناء، لربّما تعرّضت لحالة إغماء؟ وتسرّعوا في دفنها، وفكّر بنبش قبرها وإخراجِها من القبر لكي يتأكّدَ من حقيقة موتها. (ص12)

وظلّ لفترة يتخيّل سناء تعيش معه، تزورُه، تنام إلى جانبه، تُشاركه في شرب القهوة الصّباحيّة، وتستحمُّ بنعومة وهو يراقبها عاريةً والماءُ ينسكبُ على جسدها، وتُرافقه في تجواله في شوارع وأزقّة القدس، ويتناول معها وجبةَ الغذاء في المطعم الذي اعتادا على الأكل فيه.

لحظة التَّحوّل في مشاعر محمد الأصغر

الإنسان بطبيعته وُجد ليعيش مع غيره من الناس، ولا يجد سعادته إلّا برفقة أنيس يُؤنسه ويُشاركه في حياته، والرجل وجَد أنيسَه في المرأة، والمرأةُ وجدَتْه في الرجل. ولا يختلف محمد الأصغر عن غيره من البشر، فما كاد الأسبوع الثالث ينقضي على فراقه لسناء حتى بدأت الوحدةُ تُزعجه، وإهمالُ الناس له يُضايقه، وشوقُه لأنيس يملأ عليه حياتَه يُدغدغ مشاعرَه ويذكّره بكلام عجائزِ حَيّه "أعزب دهر ولا أرمَل شهر".

وكانت لحظةُ التَّحوّل بدخول جارته الأرملةِ أسمهان التي فقدت زوجَها قبل خمسة أشهر من جرّاء إصابته بفيروس الكورونا عليه بجسدها الطويل الفتّان بما يبعثه من إثارة وجاذبيّة مثيرة للفضول. جاءت أسمهان كما قالت لتأخذَ ملابسَ المرحومة سناء للتبرع بها صَدَقة عن روحها لمَن تحتاج إليها من النساء. (ص22) لكنّها بتلميحات جنسية واضحة قالت له:

-كانت سناء غاطسة في النّعيم معك.

وتابعت بكلماتها المُثيرة له: انتبه لنفسك، طوال سنوات وهي تمصُّ دمَك، وأنت تكتبُ عنها يا عيني أحلى كلام. (ص23)

وتركته يستعيد كلماتها ونغَمَة صوتها وتلميحاتها، وفي أحلام ليله بدأت تُزاحمُ سناءَ في الاستئثار به. تأتيه سناء بقميص نومها الداخليّ، تقتربُ منه وتنام إلى جواره ملتصقة به بشغف وإذا ما فتح عينيه ونظر إليها يكتشف أنها أسمهان بكل ما لديها من شَبَق ومكبوتات فيُشَدُّ إلى جسدها الفتّان النّابض بالحياة. (ص28)

وهكذا بدأت الأيام تُبعد بمحمد الأصغر عن سناء وذكراها، فالبعيدُ عن العَين بعيدٌ عن القلب. وأخذت الحياة تفعل فعلَها، ووجد نفسَه وقد استسلم للنوم يحلم "كمَن يقف على مَفْرق طرق، مهموما حائرا مُشتّتا" وكان رهوان المُنقذَ له من حيرته بأنْ جاءه وعرض عليه الخروجَ من سجنه البيتي إلى مكان سيجد فيه الرّاحةَ والاستمتاع، ولم يتردد محمد الأصغر ولم يستفسر، فقد كان راغبا في الخروج من حالة الحزن والحيرة والضّياع، ارتدى ثيابه وتعطّر كما لو أنه ذاهب إلى حفل استقبال. (ص29)

وأخذه رهوان إلى بيت "فريال" التي تبيع المُتعة لطالبيها من مُحبّي المغامرة. وكنّا قد تعرّفنا على بيت فريال في مجموعة "نوافذ للبوح والحنين ص203، ووجد محمد الأصغر نفسَه مندفعا نحو فريال بجسدها الجميل "وقوامِها الرّشيق وتنورتِها القصيرة التي تكشف مساحةً غير قليلة من فخذَيْها، وبلوزتِها التي تنمُّ عن نهدين مُكتنزين وهي تنثر شعرَها على صدرها في حركة إغراء، " (ص30) وسارع رهوان الذي لاحظ اندفاعَ محمد الأصغر نحو فريال بتَقديمه لها بقوله: "أقدّمُ لك أحدَ أبناء عائلتي، العم محمد الأصغر، محرّر الكتب ومُصحّح الصحف قبل صدورها وذهابها إلى القرّاء، الذي ماتت زوجته قبل أسابيع ، وهو الآن فاقدٌ مُلتاعٌ، محتاجٌ إلى مَن تُسْري عنه وتقتلعُ الحزنَ من صدره وتمنحُه الحبّ والحنان." وفاجأته في هذا الموقف زوجته سناء تُعاتبه وتؤنّبه على فعلته قائلة:

-ما الذي تنوي أن تفعله يا محمد؟ هل وقعتَ في حبائل رهوان؟ وإلى أين يأخذُك هذا الدّاشر وأنتَ عجوز طاعن في السّن؟!!

فتضايق، وكاد يشتبك معها في شجار، وقال لها بغضب:

-اسمعي يا سناء، نامي واتركيني أنام" (30-32)

وقرّر بعد زيارته لقبر سناء ألّا يعود مرّة ثانية لزيارته، وحتى انجذابه إلى الكَنَبة التي كان يجلس هو وسناء عليها خفّ وانصرف إلى مراقبة بيوت الحيّ من خلف زجاج شرفته. وبدأت أسمهان تُشغله فيتذكّر حديثها عن النسيان بمرور الزمن، ويندفع في قراءة كتابي ماركيز وكاواباتا عن الجميلات الصغيرات النائمات، ويشدّان به ليحذو حذوهما فيكتب رواية شبيهة لما كتبا.

وهنا كانت المشكلة، ومنها انبثق الحلُّ.

المشكلة في الصيغة التي يُقدّم فيها الكاتبُ تفاصيلَ مغامراته الماضية والتي يفكر بالخَوض فيها مُتَشَبِّها ببطلَي ماركيز وكاواباتا للقارئ العربي المحافظ الرّافض لما يمسّ العادات والتقاليد والمُعتقدات الدينيّة.

ووجد الحلّ السّريع في إمكانيّة البَوح بكل أسرار حياته الخاصّة الماضية والحاضرة، ويبدو للقارئ في ذات الوقت مِثالَ الطهارة والنَّقاء والالتزام بكلّ مَفاهيم المجتمع الذي يُعايشه، وذلك باختياره كتابة رواية لما تُتيحُه له الرواية من الحريّة في بناء عالم كما يحلو له، تعيش فيه نماذج متنوّعة ومتناقضة من الناس، تتصرّف كما تريد.

ووجد في "الواقعيّة السِّحريّة" المَخْرَج الأمثل، وكان قد فعل ذلك في أعمال سابقة له، وأتى بشخصيات يرفضها المجتمع المُحافظ مثل شخصيّة المغنية شاكيرا والرّاقصات العاهرات في "نوافذ للبوح والحنين"، ورهوان بكل أفعاله المُنافية لمفاهيم مجتمعه. ولم يثُر أحد على الكاتب، ولم تُوَجَّه إليه سهامُ الاتّهام بالخيانة والدَّعارة ونَشْر الفَساد. كما أنّه أتى بشخصيّات مشهورة ومحبوبة مثل لاعب كرة القدم البرازيلي رونالدو ومايكل جاكسون ورامبو وهو يرى "أن المَزج والتّقابل والتّعايش وتبادل التّأثير، وخلط الواقعي بالخيالي الذي يتبدّى في قصصي التي تحمل أسماء هؤلاء النجوم، يقود المتلقي إلى حالة من التأمّل ومن التفكير في أوضاعنا التي تصل حدّ السرياليّة حينا، والضّحك المُبكي حينا آخر". (أنا والكتابة ص80)

وهو في قَصِّه هذا استحضر شخصياتِ بطلَي ماركيز وكاواباتا وكذلك ماريا زخاروفا الروسيّة، وكُثْرا من الذين ذكرهم في قصصه ورواياته السّابقة. وتحاشى السّهامَ ضدّه بجعل محمد الأصغر يقوم مقامَه ويظهر بدلا منه أمام الناس.

فالكاتب منذ الصفحة الأولى من "منزل الذكريات" انتزع القارئ من واقعه المَعيش الذي تعوّدَ عليه ورضيَ به إلى أجواء يتداخلُ فيها الواقع باللاواقع بتَوافق تام وتناسُقِ العناصر المُتَضادّة مع بعضها. فنلتقي في تشييع سناء زوجة محمد الأصغر بشخصيّات مختلفة منها التي نعرفها ولا تزال على قيد الحياة مثل رهوان وبعضٍ من عائلة محمد الأصغر، ونلتقي بعدد من شخصيات قصصه ورواياته التي كتبها، وبطلَي رواية ياسوناري كاواباتا وماركيز، وهكذا نرى تَجَمُّعَ شخصيات مختلفة، منها شخصياتٌ هو خلقَها في رواياته وقصصه، وشخصيّاتٌ ماتت منذ سنوات، وأخرى أبطالُ روايات لكُتّاب غير عرب. كلّهم اجتمعوا معا لتشييع سناء زوجة محمد الأصغر. هذا التّداخل ما بين الشخصيات في الواقع المرئي وفي اللاواقع المُتَخيّل جعل حتى محمد الأصغر نفسه يتساءل بحيرة ودهشة:

-"هل أحلم؟ هل أهلوس؟ أم هو عالمي الذي أدمنتُه مع الكتب وأبطال الروايات؟ ولو أنّ أمي ما زالت على قيد الحياة كانت ستُصابُ بالحيرة والذهول، وستقولُ إنّني ممسوس ولم أعد مالكا قوايَ العقلية" (ص10)

هذا الواقع الذي يتقاطع فيه العالمُ الرّوحيّ بالعالم الماديّ، وما هو خارق للطبيعة والدُّنيوي، ويتعايش فيه الواقعُ مع اللاواقع بتوافق وقبول هو ما اتُّفِقَ عليه باسم "الواقعيّة السحرية" التي تَميّز بها كُتّابُ أمريكا اللاتينية مثل ماركيز منذ روايته "مائة عام من العزلة" ومن ثم اكتسحت العالم الروائي وأصبحت الوسيلةَ المفضَّلةَ عند الكاتب للهروب من المُواجهة المُباشرة إلى التستُّر بخَلْق هذا العالم السّحريّ بشخصياته المختلفة ليقول ما يريد ولينتقدَ ويثيرَ ويٌحرّضَ ويبوحَ بقصص حبّه ويكشف أسرارَ الآخرين من خلال شخصيّات روايته المُتعايشين معا بتَصاف وقبول.

وإذا كان محمود شقير في رواياته وقصصه السابقة مثل: "احتمالات طفيفة" و "صورة شاكيرا" و "ابنة خالتي كوندوليزا" قد لامس "الواقعيّة السحرية" بخَفَر وتهيّب، فإنّه ازداد بأسا وتفاعلا ومُمارسة في قصص "نوافذ للبوح والحنين" حتى نجدَه في "منزل الذكريات" يعيش هذا الواقع السحري الذي خلقَه، ومنه ينطلق ليُوَجّه سهامَه في كلّ الاتجاهات وليقولَ كلمتَه بقوّة ووضوح.

فمنزل الذكريات هي نموذج ممتاز للواقعيّة السحرية، فيها تتشابك الشخصياتُ وتتداخلُ المشاهد، فلا يتمَكَّن القارئ من التّمييز بين الواقع والخيال وحياةِ الواحد اليومية وما يعيشُه في أحلامه، ويُطلق لنفسه الحرية فيشتم جُندَ الاحتلال ويتمنى زوالَهم، ويفضح تدميرَهم لحياة الناس بإطلاق المجرمين والقَتَلة والعملاء للاعتداء على الناس، وتقويض أمنهم، وتنغيص حياتهم، وتمزيق وحدتهم وتشتيت شملهم كما يفعل البلطجي جميحان شقيق أسمهان وعصابتُه من المجرمين، وحماية الاحتلال للموبقات كي تنتشرَ في المجمتع بتأمين بيوت العاهرات ومجالسِ شُرْب الخمور التي تُقامُ قريبةً من معسكرات المُحتل كما رأينا بيت فريال.

"السّهل المُمتنع والسُّخرية النّاعمة" ما ميّزا أسلوب محمود شقير السّرديّ في معظم كتاباته، ويلمس القارئ السّخرية الناعمة القويّة في عرض وشرح وتفسير ووصف وحوار محمود شقير. ويقول محمود شقير "إنّ هذه السّخرية جاءته نتاجا أكيدا للأوضاع المُرّة التي نحياها تحت الاحتلال، حيث العُسْفُ والاذلالُ ومصادرةُ الأرض وتغييرُ مَعالمِ المَشهد الفلسطيني وخَلقُ مَشهد آخر غريب من جهة، ومن جهة أخرى ثمّة التّخلّفُ الذي نُعاني منه وانهيارُ القيم، وتراجعُ العقلانيّة وانتشارُ النَّزَعات العشائريّة والعائلية المتخلّفة، وتعريضُ مجتمعنا وحياتنا إلى مصير بائس لم نشهده من قبل (أنا والكتابة ص126).

الحلم مَهْرَب ومَصْيدة محمد الأصغر

استخدم محمود شقير الحلمَ بصورة جميلة في المواقف التي تستحيل أن تجري في الواقع في العديد من قصصه السابقة. وفي بعض قصص مجموعة "نوافق للبوح والحنين" يجد في الحلم وسيلته ليلتقي الجميلة المغنية شاكرا ويُجالسها ويحدثها وهي في كامل عُريها ص 170 ومرّة ثانية صفحة 181. وفي روايته "منزل الذكريات"

شكّل الحلم عنصرا أساسيا في حياة محمد الأصغر، وقام بمهمّتين متناقضتين:

الأولى أنّه كان القَيْدَ الذي شلّ حياتَه وحدّد مَسارَه وسَببَ ما لاقاه من مَشاكلَ وآلام.

الثانية تحوّل ليكون المَهْربَ الذي يجد فيه فرصة للابتعاد عن مُضايقات الغَيْر له.

في الحلم كانت تعزيتُه عن فَقْد زوجته سناء التي كانت تأتيه، رغم موتها، كلَّ ليلة وتنامُ إلى جانبه وتتناول معه وجبةَ الفطور ويتجوّلُ برفقتها في شوارع وأزقّة القدس.

وفي الحلم كانت تحضرُ إليه أسمهان بفتنتها وإغرائها، ولا تغيبُ عن فكره حتى ساعات النهار.

وزارته الصغيرة الفاتنة سميرة وقضى معها الساعات.

وفي الحلم يزوره بطلا مركيز وكاواباتا يحادثانه ويتحاوران معه ويشدّانه إلى عالمهما السّحري الجميل، يقرأ في روايتيهما ويشعر بأنهما يتسبّبان باجتذابه نحو تجربة لم يُفكر فيها من قبل حتى أصبح رهينتهما، وأمنيتُه فقط أن ينجحَ في كتابة قصة كالتي كتباها. (ص34).

ولكن الحلم أصبح سببَ تعاسته والقَيدَ الذي شلّ حياتَه وحدّد مسارَه، وما لاقاه من مشاكلَ وآلام، وتضاءل دورُه وانحصر، كما ذكرتُ أعلاه، ليكونَ المَهْربَ الذي يجد فيه فرصةً للابتعاد عن مُضايقات الغير له.

حتى سناء زوجته أصبحت المُلاحقةَ له في الأحلام والمُراقبةَ، فلا يقوم بعمل أو يُفكر بغيرها، وخاصة بأسمهان، حتى تكونَ له بالمرصاد، فتلومُه وتوبّخه حتى أنها أصبحت تُضايقه، وصارحها بضيق واضح بقوله لها ساعة اعترضته وهو في بيت فريال بلومها له لقبوله عروض رهوان له بزيارة بيت العاهرات:

-اسمعي يا سناء، نامي واتركيني أنام. (ص32)

ومن ساعتها قرّر الابتعاد عن سناء والانقطاع عن زيارة قبرها.

وأحلامه، خاصة بأسمهان، واستحواذها على فكره وأعصابه كانت السببَ في وقوعه بحبائلها حيث قالت له بعد زيارتها له لأخذ ملابس سناء:

-شُفتَك قبل ليلتين في المَنام.

وكان هو قد تذكّر لقاءَه بها في الحلم وتساءل:

هل تَمكّنتْ من الإطلال على حلمي أم كان لها حلمُها الخاص؟ (ص49)

وفي لقاء آخر صارحته باتّهامها له بمضايقتها والاعتداء عليها:

-أنتَ عملتَ العَمايل معي، تخطّيْتَ الحدودَ يا محمد. هل نسيتَ حلمَك المفضوح؟ وأنت تتنعمُ بجسدي وما تقول إلّا أنّه حلال عليك.

وحاول الدّفاع عن تهوِّره معها في الحلم بقوله:

-لقد التبس عليَّ الأمر لأنكِ جئتِ إليَّ بقميص داخليّ اعتادت سناء أن ترتديَه.

فقاطعته قائلة:

-ولا تنسَ أنّكَ كلما جئتُ إلى بيتك، تخترقُ جسدي بعينيك.

وهدّدته قائلة:

-لازم تُصْلح الخطأَ الذي ارتكبتَه، أو أرفعُ الأمر إلى أخي جميحان. والزواج هو دواء كل علّة. (51-55)

ولم يتأخر أخوها جميحان، وجاءه مُهدّدا شاتما مُتّهما إيّاه:

-أنتَ مَسَستَ شرفَ أختي، وتخطيتَ الحدودَ معها في حلمك الآثم، وبنظرات عينيك الآثمتين.

وصفعه على وجهه وضغط على عنقه حتى كاد يختنقُ، وأمره بأنْ يتزوج أختَه أسمهان.

وبالفعل تزوّجها. (ص66)

وظلّ جميحان يلاحقُ محمد الأصغر وأحلامَه، وأجبره على الذهاب إلى المسجد والصلاة خمس مرات في اليوم، ثم أجبره على القيام بالعُمرة.

وعندما قال محمد الأصغر لجميحان:

-بأيّ حقّ يُحاسَبُ المرء على أحلامه مهما اشتطت هذه الأحلام؟

أجابه جميحان:

-هذه الأحلام تشير إلى رغبة فاسقة فاجرة تحقّقت، أو هي في طريقها إلى التحقّق. والمطلوبُ منك محاصرة الأحلام المرفوضة ودحرَها، وعدم الاقتراب من أيّ شيء يُعكرُ قُدْسيّة الزواج. (ص119)

وبدأ محمد الأصغر يخافُ الأحلامَ وما تجرّ عليه من ويلات، ولكنه لا يستطيع التّحَكّمَ بها. وفكّر في التّوقّف عن النّوم فلا ينام مُطلقا كي لا يحلمَ. ولكن كيف يُمكنه ذلك وقد يغلبُه النُّعاسُ فينام ويحلم؟

ويعود جميحان ليطارده في أحلامه، فيباغته مرة مع أسمهان وهو في الحمام يستحم مع الفاتنة الصغيرة سميرة، وأخرى يأتيه وهو يلعب بالسيف في كلّ اتّجاه مهدّدا متوعّدا. (ص132) ممّا دفعه للتّفكير بالهرب من البيت والبلدة خوفا من اعتداءات جميحان.

ولم تتوقف ملاحقات جميحان لمحمد الأصغر، واضطره على التَّنازل لزوجته أسمهان عن كلّ ما يملك وحتى البيت، وبعد أن حصل على التّوكيل من أخته أسمهان قام بإجباره على الطلاق منها، وطرَدَه من البيت. (ص171) فالتجأ إلى قريبه رهوان وسَكن عنده.

علاقة محمد الأصغر ببطلي كاواباتا ومركيز ما بين الإعجاب والتّحدّي

يقول محمد الأصغر قرين محمود شقير وبطل منزل ذكرياته:

-"أوّل كتابين انشدَّ اهتمامي نحوهما وفضّلتُهما على غيرهما هما رواية "الجميلات النائمات" للياباني كاواباتا ورواية "ذكرياتي مع غانياتي الحزينات" للكولومبي ماركيز". وكانا دافعا قويّا لتفكيره بتصرّفاتهما وليسأل نفسَه:

-هل كان العجوزان مضطرّين إلى الدّخول في تجاربَ مع فتيات شابات وهما طاعنان في السنّ، بينما يُفتَرضُ فيهما أن يحترما شيخوختيهما فلا يُفرِّطا في الرّكض وراء المُتَع الزائلة؟

واستمرّت حياةُ محمد الأصغر، بطل محمود شقير تتأرجحُ ما بين حياته الخاصّة التي يُمارسها في حياته اليومية وحياته التي يعيشها في أحلامه وكوابيسه. وما بين الحياتين نجدهُ يعيش في عالم أحلامه وكوابيسه، ولا تكون حياتُه اليوميةُ إلّا صَدى ونتيجةً لها ومُوجِّهةً لكلّ أفكاره وتصرّفاته. وتوالت الجلساتُ التي تجمعهم، وتعدّدت الأحاديث والمواضيع وتبادل الهموم وأوجاعها، وحدّثه كلٌّ منهما عن متعة النوم في السرير إلى جوار فتاة مُخَدَّرة عذراء. وكيف أنّه بهذه الساعات التي ينامُها إلى جانب الصغيرة الفاتنة النائمة يستعيدُ الشريطَ الطويل من ذكرياته عن مغامراته في سنوات الفتوّة والوقوف على تفاصيلها، وكأنّه بذلك يردُّ على العَجْز الذي يأتي مُرافقا لسنوات الشيخوخة، وكأنّه في الوقت ذاته تعبيرٌ عن العَزاء بأنّ حياة العجوز لم تذهب خواءً وسُدى، ولم تكن مجرّد خيبات تليها خيبات. (ص105).

وازدادت رغبة بطل شقير في كتابة روايةٍ شبيهة، بل وتتفوَّقُ على ما كتبا مع إدراكه للفروق الكبيرة ما بين المجتمعات التي عاشها ويعيشها كلٌّ منهم. وقلّدهما في التّوجه لبيت العاهرات طالبا أنْ يقضي ساعات مع فتاة صغيرة يتأملها وهي بكامل عُريِها ساعات الليل وهو يتمدّدُ إلى جانبها.

وانبهر محمد الأصغر بجمال الفتيات وخاصة سميّرة، التي انتبه إلى أنّها كانت تريدُه وتحاولُ إغراءَه وهي تتظاهرُ بالنَّوم إلى جانبه بحركاتها، حتى أنّها زارته في بيته ودخلت الحمامَ معه واستحمّا (ص160-161). وهذا مما أشعره بالغرور، فأراد المُباهاة بجميلاته أمام بطلَيْ ماركيز وكاواباتا، وبدافع داخلي أنْ يريهما أنَّ الفتاة الفلسطينيّة تتفوَّقُ على غيرها بالجمال والفتنة.

الاحتلال وظلمُه للناس، وحمايتُه للظّواهر السلبيّة وزيادتها

لم يتجاهل محمد الأصغر بطل محمود شقير وجودَ المحتل الإسرائيلي والمُضايقات والتَّعَدّيات التي يقوم بها ضدّ الجماهير العربية في الأراضي المحتلة، ولم ينج هو، رغم تقدّمه بالسّن، من مُهاجمة الجنود لبيته وتوقيفِه بتهمة التّحريض ضدَّ المُحتلين ومن ثم لأنّ ابنَ أخيه مُتَّهم بعمل مُناهض. (ص73-75) كذلك اعتُقل رهوان (ص156)

ويذكر بعضا من موبقات الاحتلال التي تُدمّر العلاقات الاجتماعية والسلوكية، وكيف يعمل المحتّلُّ على حماية تجّار المُخدّرات وعملاء الاحتلال الذين يحملون السلاح جهارا ويهدّدون أبناء جلدتهم من المواطنين العُزَّل، ويتجاهل عن قصْد تصرّفات المجموعات العابثة والفَوْضويّة، والمجموعات الإجراميّة المُتمَّثلة في جميحان ومجموعته، ورعايته لبيوت العاهرات الليلية والملاهي المختلفة كبيت فريال المُقام قريبا من المستوطنة، وجُند الاحتلال (ص35)، هذه البيوت التي تجذب إليها مختلف انتماءات الناس. ويفضح تصرّفات المُحتَلّ الذي يقوم بتزويد الناس بمختلف المواد والحاجيّات وحتى بالأدوية المَغشوشة مُنتهية الصّلاحيّة. (ص39) ويصفه أنّه احتلال استعماري طاغ(ص45).

ويشير إلى ما وصلت إليه الحياة المعيشيّة للناس، وضَعف العلاقات الاجتماعية نتيجة لظلم المُحتَل، وسيطرة مجموعات الإجرام وتجّار المخدّرات والعملاء حتى لم يعد الضّعيفُ أو المسكين أو المُعتَدى عليه من قِبَل البلطجيّة والفوضويين يجد مَن يقف إلى جانبه ويمدّ له يدَ المساعدة، كما جرى معه هو عندما اعتدَتْ بعض هذه المجموعات من الزعران (ص93) على بيته وسبَّبت بعضَ الأضرار، واختطاف ثلاثة شبّان ملثمين له من بيته وتهديدهم له بالموت إذا لم يصمت ونطق بأيّة كلمة. ولم يجد مَن يقف إلى جانبه ومساندته حتى من أبناء عائلته، ولكلٍّ أسبابه التي شرحها، وشعر أنّهم لا يملكون ردّا على مًن تعرّض له وعلى مًن يتعرّض له لاحقا في ظلّ غياب القانون (ص58-61).

وما جرى لمحمد الأصغر في علاقته بجميحان البلطجي الذي لاحقه وضايقه وأجبره على الزواج من شقيقته أسمهان، واضطره على الذهاب إلى المسجد وأداء الصلاة ومن ثم على القيام بالعُمرة وبعدها على تسجيل كل ما يملك حتى داره باسم أسمهان وأخيرا اختلق أسبابا واهية ليُجبره على الطلاق ثم طرده من البيت واستولى عليه. وما هذا إلّا صورة مُصَغّرّة لما يُعانيه الناس العاديين في ظلّ الاحتلال وحمايته لأمثال جميحان وغيره من العملاء والبلطجيّة.

محمد الأصغر نموذج للفلسطيني الصّامد

قد يبدو محمد الأصغر للقارئ، نتيجة لما جرى له من قبل جميحان، ضعيفا مستسلما لا يجرؤ على الرّفض والدّفاع عن نفسه حتى إذا ضُرب وأهينَ وطُرد من بيته، ولكن محمد الأصغر الحقيقي هو الذي نرافقه وهو يواجه جنودَ الاحتلال وتعدِّياتهم واعتقالاتهم بقوّة وصمود وثقة بالنّفس (ص74-75).

وفي حديثه مع بطلي كاواباتا وماركيز يتوسّع في الكلام حول ما يُعانيه الشعب من ظلم المحتلين وصمود الناس وتقديمهم التضحيات الكبيرة (116) وعندما يخبره رهوان بعد أن خرج من الاعتقال "أن المحققين يرونك مُحرِّضا ولديهم قناعة أنّك تجتمع بشباب عائلة العبداللات وتبثُّ فيهم روحا مُعادية، فأنت في نظرهم مٌحرِّض بشكل مباشر من خلال الاجتماعات، وغير مباشر من خلال الكتب المسمومة "(ص157-158) وتمنى محمد الأصغر بعد سماعه كلمات رهوان "لو أنّ البغل جميحان يُقدِّر كم أنا عرضة للأذى من المحتلين فيعتقني من أذاه" (ص158).

فمحمد الأصغر كان ضعيفا ومُستسلما وخاضعا لأبناء شعبه أمثال جميحان ومجموعات الشباب، فهو يشفق عليهم ويرثي لهم لأنَّهم ضحيّة الاحتلال وثمرته ونتيجة للأوضاع المعيشيّة السيّئة التي يُعاني منها الناس، أمّا مع المحتل وجنوده فكان قويّا ثابتا لا يضعف ولا يهين ومُثابرا على الرفض والمقاومة بما يبثُّه في الشباب من روح المقاومة والصّمود، وبما يكتبه في كتبه التي يقرؤها الكثيرون.

وما هذه الكلمات التي ينهي بها محمد الأصغر سيرته "أمّا جنود الاحتلال فقد ذابوا في ثنايا الليل مثل عصابة من لصوص أو مثل قُطّاع طرق نَهّابين" (ص176) إلّا الشهادة التي تؤكد قوّة وعزيمة وصمود محمد الأصغر في رفض المحتلّ ومقاومتة.

مفاجأة محمود شقير

استطاع محمود شقير في الكثير من رواياته وقصصه القصيرة أن يخلق شخصية محمد الأصغر لتكون مشابهة له إلى حدّ التّطابق بكل ما يتَّصف من الصّفات التي تُقرّبُه من القارئ وتُحبّبه به، فالكثير من الصّفات، وخاصّة في كلامه وسُخريَّته النّاعمة، وهدوئه وتفكيره المُتّزن ونمط حياته البسيطة هي نفسها التي نعرف محمود شقير بها.

ويُفاجئني الصديق الكاتب محمود شقير في الأمسية التي شاركنا فيها حول روايته "منزل الذكريات" في مدينة حيفا يوم 6.2.2025 بقوله لي هامسا إنّ "ع" الذي يسطو على كتُب محمد الأصغر هو مَن يُمثّله، وليس محمد الأصغر. وعدتُ في ساعات الليل المتأخرة لأكتب له عبر الواتس آب: " العزيز محمود. راجعتُ اليوم شخصيّة "ع" في مجموعة "نوافذ للبوح والحنين" فهل هو بالفعل الذي قلتَ إنّك هو؟ فالشَّبَه بينك وبين محمد الكبير أكثر ومع محمد الأصغر تطابق كامل. فعَنْ أيّ محمود آخر قصدتَ بأنّك هو؟

وجاء جوابه: "ع هو أنا محمود شقير/ أنظر آخر مشهد في "نوافذ/ محمد الكبير هو أخي وجه الشبه بيننا أنّه شيوعي وأنا كذلك. دمتَ وسلمتَ."

ولم يُقنعني بذلك لأنّ شخصيّة "ع" كما عرفناها ورافَقْناها في مجموعة "نوافذ للفرح والحنين" مناقضة لشخصية محمود شقير اللهم إلّا إذا قبلنا بما يراه علم النفس إنّ هناك من الناس مَن يرَوْن شبيها لهم ومُتمّما لشخصيتهم في مَن هو النّقيضُ والمُغايرُ لكلّ ما يتّصفون به.

وأرى في شخصيّة محمد الكبير في مجموعة "نوافذ للبوح والحنين" و"منزل الذكريات" الشخصية الأقرب من شخصية "ع" إلى شخصية محمود شقير، فهو مثله انتمى للحزب الشيوعي واعتُقل وعُذّب ونُفي لسنوات عديدة وتشرّد إلى أن عاد وسُمح له بالإقامة في القدس. ولكن شخصيّة محمد الأصغر تظل هي الأكثر مطابقة لشخصيته.

وإذا ما قبلنا بما يقوله محمود شقير فإنّه يؤكّد بذلك ما قد يحدثُ لبعض الرّوائيين حيث تتمرّد عليهم شخصيّة يخلقونها في عملهم الروائي وتخرج عن طاعتهم وتتصرّفُ بحرية تامة. ويحدث أيضا أن يُلقي الروائي من صفاته على أكثر من شخصيّة من شخصيات روايته فيُرى في كلّ منها أو في إحداها فقط.

القدس تظلُّ في القلب وجُنود الاحتلال إلى التّلاشي

رغم ظلم المحتل وتفشّي الجريمة والاعتداءات، وانحسار الشعور بالأمان ظلّ محمد الأصغر، كغيره من الناس، العاشقَ لمدينته القدس، يتجوَّلُ في شوارعها وأزقتها، يتحدّث إلى الناس في أسواقها، يتناول الطعام في مطاعمها مع زوجته سناء والجلوس مع أصدقائه في مَقاهيها.

وكانت نهاية بطل "منزل ذكريات" محمود شقير أن صَحا في بيت رهوان على ضجيج في الخارج وطَرَقات شديدة على الباب واقتحام عدد من جنود الاحتلال بهدف اعتقاله مع رهوان.

لكنّ جنود الاحتلال ذابوا في ثنايا الليل مثل عصابة من لصوص أو مثل قُطّاع طُرق نهّابين.

وكان هو ورهوان يستقبلان الشمس ويضحكان باستمتاع، وعلى مقربة منهما وقفت أسمهان مبتسمة مشجّعةً، وقد تحرّرت من سطوة أخيها المجرم الشيطان.

نهاية الكلام لمحمود شقير

وحتى لا يطول الكلام وتتشعّب النّقاط أنهي بكلمات محمود شقير نفسه التي قالها في كتابه "أنا والكتابة ص242" لتكون الخاتمة:

"أعترف أنّ الكتابة هي مصدرُ قوّتي الوحيدةِ تقريبا، أستطيعُ عبرَ الكتابة أنْ أخوضَ صراعي المشروع ضدّ التَّخلّفِ والجَهل وضدّ التَّسلّطِ والاستغلال، أستطيعُ أنْ أُعرِّيَ كلّ خَلَلٍ وأيّةَ مظاهرَ سلبيّةٍ من حولي، كما أستطيعُ أنْ أُعزّزَ النّفورَ من كلّ ما يتناقضُ مع الحسّ الإنساني السّليم. ولولا الكتابةُ التي تهَبُ معنى أكيدا لحياتي لَما استطعتُ مُواصلةَ العيش."

***

د. نبيه القاسم - الرامة

 

القصيدة /مطرٌ في عينيّ/ للشاعرة هنده السميراني هي نص شعري يعكس عمق الحزن والقلق الذي يعيشه الشاعر في مواجهة الحياة، بتمثيل استبصاري للواقع الداخلي للذات التي تعيش لحظة من الأسا والضياع. من خلال دراسة نقدية أسلوبية لهذه القصيدة، يمكن تحليلها عبر مجموعة من الأبعاد الجمالية واللغوية والفكرية التي تقدمها.

1. البنية اللغوية والتعبير المجازي:

القصيدة تميزت باستخدام العديد من الصور البلاغية والاستعارات التي تتسلسل في نسقٍ مؤثر لتعكس الألم الداخلي، مثل /تتسَلَّلُ فِي جُنْحِ الْأَسَى/ و/تتَكَاثَفُ سُحُبُ الْأَحْزَانِ/. هذه الاستعارات تستخدم سحب الحزن والضوء والتأمل الداخلي لخلق حالة درامية ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالحالة النفسية للشاعرة. السحب هنا ليست فقط صورًا بصرية ولكنها تعبير عن تراكمات الألم، بينما الظلام الذي يحيط بالشاعرة يعد استعارة للحالة النفسية المظلمة التي تحيط بها.

المفارقة:

تظهر المفارقة في تضاد الكلمات مثل /تَتَمَنَّعُ وَتَفِرُّ مِنْ ظَلاَمٍ/ حيث تتقاطع الرغبة في الضوء (الحروف المضيئة) مع الهروب من الظلام الداخلي. هذا التنافر بين الأمل والواقع الحزين يُظهر الصراع الدائم بين الذات الداخلية وتحديات الحياة.

2. الرمزية:

المطر: المطر في العنوان والعناصر الأخرى من النص يُمكن تفسيره كرمزية للعاطفة الجياشة أو الندم والحزن. المطر هو نوع من /الانسكاب/ الداخلي الذي يعكس غزارة المشاعر التي تتراكم في النفس، سواء أكانت أحزانًا أم أملاً ضائعًا.

الظلام والنور: كذلك، يظهر التوتر بين الظلام والنور كرمزية لصراع النفس بين الإحباط والإرادة. الظلام يرمز إلى اليأس أو عدم الفهم، بينما النور يرمز إلى المحاولات المستمرة للبحث عن إجابات أو طريق للخروج.

الأسئلة الوجودية: /أَيَّ السُّبُلِ تَقْتَفِيهَا؟/ و/أَيَّ الدُّرُوبِ تَسْلُكُ؟/ تشير إلى تائهة الشاعرة في بحثها عن معنى لحياتها أو لمشروعها الإبداعي. هذا التردد في اتخاذ القرار والضياع يبرزان الحالة الوجودية التي تعيشها الذات في حالة حيرة وتوهان.

3. الإيقاع والتنقل بين الأزمنة:

الشاعرة تنتقل بين الزمن الحاضر والماضي من خلال ذكر السنوات والتجارب: /عِجَافِ السِّنِينِ/، مما يعكس مرور الزمن المؤلم. كما يظهر التنقل بين الأمل واليأس في تتابع سريع، ما يعزز شعور المتلقي بالتحولات السريعة والمفاجئة التي تعيشها الشاعرة.

4. الأسلوب الشعري والانسياب:

استخدام الشاعرة للأسلوب الشعري المنساب والمتتابع بين الجمل الطويلة والعبارات المتقطعة يعكس تذبذب المشاعر بين الفقد والأمل. تميزت الجمل بجزالة الكلمات وثراء الأسلوب، إلا أنها تواكب شعور بالشتات والتعب العقلي. هذا الأسلوب يعكس كثافة الشعور الحزين والإحساس بالانفصال الداخلي.

5. التأثير العاطفي والفكري:

القصيدة تعكس حالة من الانكسار النفسي، لكن على الرغم من هذا، فإن هناك بحثًا مستمرًا عن المعنى والتعبير. الشاعرة تستمر في استخدام البحث عن الكلمات المعبرة عبر الألم: /تُضِيئُنِي فَتَتَمَنَّعُ/، ما يجعل القصيدة تمتلك تأثيرًا عاطفيًا قويًا على المتلقي.

الخاتمة:

هذه القصيدة تقدم صورة متكاملة عن المعاناة الداخلية، تجمع بين الفلسفة الوجودية والشاعرية العالية. تتشابك الصور الرمزية مع الأسلوب المتقن، مما يعكس قدرة الشاعرة هنده السميراني على التعبير عن تضاعف الألم مع فترات من البحث عن الذات والأمل. هذه القصيدة تجعل القارئ يتأمل في أسئلة الحياة الكبرى: ماذا نفعل عندما يتلاشى الفرح؟ وكيف نواجه ظلامنا الداخلي؟

***

بقلم: كريم عبد الله - العراق

.......................

مَطَرٌ.. فِي عَيْنَيّ!!

عِنْدَ مَغِيبِ الْفَرَحِ وَالشَّجَنُ يَتَسَلَّلُ فِي جُنْحِ الْأَسَى إِلَيّ، تَتَكَاثَفُ سُحُبُ الْأَحْزَانِ فِي سَمَاءِ وُجُودِي، تَتَهَاوَى أَعْمِدَةُ الضِّيَاءِ وَ يُرْخِي عَلَيّ سَوَادٌ مُقِيمٌ! أُنَاجِي حُرُوفًا تُضِيئُنِي فَتَتَمَنَّعُ وَتَفِرُّ مِنْ ظَلاَمٍ يَسْكُنُ فُؤَادِي! تَرْتَعِدُ فَرَائِصُ الْكَلِمَاتِ مِنْ لَسْعِ الْجَفَاءِ وَتَأْوِي إِلَى كَهْفِ الظُّنُونِ! أَنُوءُ بِحِمْلِ عِجَافِ السِّنِينِ قَصَّتْ جَنَاحَ أَحْلاَمِي! أَقِفُ عَلَى شَفَا الْأُمْنِيَاتِ وَأَنْسِجُ مِنْ خُيُوطِ الصَّبْرِ لِبَاسًا يَعْصِمُنِي مِنْ صَقِيعِ الْجُحُودِ! تَتَزَاحَمُ عَلَى جَلَدِي جُيُوشُ الْأَذَى، فَأُقْبِلُ بِقَلْبٍ قُدَّ مِنْ نُورٍ وَأُدْبِرُ.. وَالْخَيْبَة!! أَتَبَعْثَرُ وَالرُّوحُ تَتَلَجْلَجُ فِي شِبَاكِ الْحَيْرَةِ : أَيَّ السُّبُلِ تَقْتَفِيهَا لِتُلَمْلِمَ شَتَاتَ قَصِيدَةٍ تَرْثِي فِيهَا عُيُونًا مَا فَتِئَتْ تُمْطِرُ وَجَعًا وَلاَ يَرْتَوِي جَسَدٌ مَلَّ الْأَنِينَ ؟! أَيَّ الدُّرُوبِ تَسْلُكُ لِتُعَانِقَ ظِلاَلَ الْمَعْنَى دُونَ خَوْفٍ مِنْ بَرَاثِنِ الصَّمْتِ الرَّجِيمِ؟!

وَتَضِيعُ أَنَاي وَالرُّوحُ فِي شِعَابِ رِحْلَةِ السُّؤَالِ لاَ يَظْفَرُ بِالْجَوَابِ الْمُبِينِ..!!

***

هنده السميراني - -تونس- فيفري 2025-

قراءة في رواية "منزل الذّكريات" للأديب محمود شقير

رواية "منزل الذّكريات" للأديب محمود شقير، الصّادرة عن دار "نوفل هاشيت أنطوان" في بيروت، تتكوّن من مئة وسبعة وسبعين صفحة، وثلاث وستّين لوحة سرديّة، يستلهمها أديبنا من روايتي "الجميلات النّائمات" للكاتب الياباني ياسوناري كاواباتا و"ذكريات عن عاهراتي الحزينات" لماركيز، محاولا استكشاف أبعاد تجربة الشّيخوخة الإنسانيّة، متناولا أسرار الرّغبات وقوّة الذّاكرة في مواجهة الفقدان، ومن خلال مقارنة عميقة، يكشف عن أوجه الشّبه والاختلاف في تجربة الشّيخوخة عبر الثّقافات، ويفتح للقارئ نافذة على الأدب العالميّ، ويدفعه للغوص في أعماق الرّوايتين المذكورتين؛ ليسافر عبر الزّمان والمكان، بحثا عن أصداء مشتركة بين هذه الرّوايات الثّلاث.

حيكت هذه الرّواية من وحي الواقع الفلسطينيّ، بخيوط تناص ذكيّ محكم، فيه حوار مع عملاقي الأدب كاواباتا وماركيز، حول الشّيخوخة ومعانيها، يتأمّلون في زوال الشّباب ويبحثون عن معنى الحياة بعد ذبولها، فتلقي أنّات الشّيخوخة ببطل الرّواية، مع أنّات بطليّ كاواباتا وماركيز، وكأنّما يتمّ البحث عن إجابة لسؤال أزليّ، ما معنى الشّيخوخة في حياة الإنسان؟

في عالم كواباتا الإبداعيّ، يدخلنا الكاتب إلى أعماق نفس "إيغوشي" العجوز، الّذي يحاول استعادة شبابه الضّائع في عالم الأحلام، تعود إليه ذكرى النّساء اللّواتي مررن بحياته، لكنّ القدر يخبّئ له مفاجأة مؤلمة، إذ تفارق فتاته الحياة وتتركه غارقا في تأثّره.

أَمّا عجوز ماركيز، ففي غياهب العمر ووحدة العزلة، يقرّر الاحتفال بعيد ميلاده بطريقة غريبة، يبحث عن فتاة عذراء تعيد إليه شبابه، فيجد فاتنة تبيع نفسها لتنفق على أسرتها المعدمة، وحين تقف أمامه بكلّ براءتها وجمالها، يتذكّر كلّ امرأة أحبّها، فيدرك قيمة الأنثى ويسمو عن أهواء الغريزة.

هذان العجوزان هما طيفان يحضران من كتابين، ويخلقان فانتازيا تطغى على الواقع وتحيله طيفا خياليّا، وفي غياهب الوحدة، يذوي بطل الرّواية "محمّد الأصغر"، وهو كاتب عجوز ومحرّر للصّحف، في السّابعة والثّمانين من عمره، يمثّل انعكاسا للعجوزين المذكورين، لكنّه يحمل في طيّاته خصوصيّة التّجربة العربيّة، في توليفة فنّيّة ثريّة بالرّمزيّة والمعاني.

تتوفّى رفيقة دربه سناء وتترك له شبح فقدانها المرير، وفي كلّ صباح، يصنع فنجانين من القهوة، أحدهما له والآخر لها، ومع كلّ رشفة يتخيّلها أمامه، وكأنّها لم تغادره قطّ، يتحدّث إليها ويسمع صوتها، وتكون حاضرة في صحوه ومنامه.

تمحورت شخصيّة محمّد حول الهرب إلى عالم الذّكريات، فكان بيته مرآة لحالته النّفسيّة، وبوصفه راويا قدّم لنا نظرة عميقه لعالمه الدّاخليّ، وعلاقته بالماضي والحاضر وخوفه من المستقبل، وفي ليلة ما وبعد لقائه بأسمهان، جامعة التبرّعات، انغمس في حلم عميق تمادى فيه معها؛ ليتبيّن له لاحقا أنّ أحلامه لم تعد ملاذا آمنا، بل أصبحت مكشوفه أمام أعين المتطفّلين، حيث تفكّ أسمهان مع أخيها "جميحان" شفره هذه الأحلام، وينتهي الأمر بإجبار محمّد على الزّواج منها؛ فتتحوّل حياته إلى جحيم بسبب تسلّط جميحان وأتباعه الزّعران عليه، فيلجأ إلى صديقيّه العجوزين في سهرة متخيّلة، يبوح لهما بمعاناته.

كان يحدّث نفسه قائلا (ص10): هل أحلم؟ هل أهلوس؟ أم هو عالمي الّذي أدمنته مع الكتب وأبطال الرّوايات؟

في هذا النّص الرّوائيّ، يلتقي عبق الشّرق والغرب في لوحة جميلة، تتداخل فيها شخصيّات كواباتا وماركيز، مع أبطال شقير (محمّد الأصغر، القنفذ ورهوان وقيس، فريال وسميره وأسمهان، ثمّ جميحان) وتتشابك مع رموز أدبيّة وتاريخيّة؛ لتعطي للنّصّ عمقا تاريخيّا وثقافيّا، كأحمد شوقي، خليل السّكاكيني، الحجّاج بن يوسف، عليّ بن أبي طالب، وأبي ذرّ الغفّاريّ، ويضيف كتاب أخبار النّساء لابن القيّم الجوزيّة، وشعر الأصمعيّ وعلقمة، لمسة من الرّقة والجمال على هذا النّصّ الإبداعيّ.

كما يرد ذكر الرّئيس الأمريكيّ "جو بايدن" (ص104)، وتبرز مقولة عمر بن الخطاب (ص86) كصدى لواقعنا المعاصر، حيث يتردّد سؤال الهويّة والحرّيّة: متى استعبدتم النّاس وقد ولدتهم أمّهاتهم أحرارا؟

المكان.. خريطة نفسيّة لشخوص العمل:

تتعدّد الأماكن في النّص منها المغلق؛ كالبيت الّذي يمثّل الملاذ الآمن لمحمّد، فيعكس حياته الخاصّة وعلاقاته بزوجتيه، وهو المكان الّذي اجتمع فيه بأصدقائه المتخيّلين. كان مكانا للذّكريات والأحلام، وللحزن والوحدة أيضا، أمّا نزل فريال، فجسّد الجانب المظلم والمغري من الحياة.

كما رسم النّصّ صورة حيّة عن مدينة القدس الّتي تحتضن الأحداث؛ فتتجلّى فيها مأساة شعبنا وصورة الإنسان المتأمّل في مصير حياته، الباحث عن بصيص من الحبّ والدّفء في عالم مضنٍ.

يصف مدارس القدس العريقة، مقاهيها ومطاعمها وأسواقها النّابضة بالحياة، يصوّر لنا كيف تحافظ على هويّتها الأصيلة رغم كلّ شيء. وعن الوطن بوصفه مكانا مفتوحا، فقد حمل دلالات عميقة، فهو هويّة وجذور ورمز للانتماء والأصالة، وبالتّالي فهو فضاء ثقافيّ واجتماعيّ وتاريخيّ ونفسيّ، تجسَّد كعنصر أساسيّ في تشكيل وعيّ الشّخوص وتحديد مسارها.

يشير الكاتب أيضا، إلى غياب القانون، حيث يصبح الفرد رهينه للفوضى والعنف، وتسلّط المجرمين يقول (ص60): "ألجأ إلى العائلة لحمايتي من الأشرار في غياب القانون، وهو الغائب الأكبر في زمن الاحتلال".

كما تظهر اليابان وكولومبيا في النّصّ، وهما تمثّلان عالما بعيدا عن الواقع الفلسطينيّ، وفي حوار متخيّل تتجلّى فيه تباينات المعاناة الإنسانيّة المختلفة، يواجه محمّد صديقيّه العجوزين قائلا (ص116): "ننشغل هنا في فلسطين بتقديم التّضحيات، وفي توديع الشّهداء، إلّا أنّ العجوزين ساهيان لاهيان، لا يؤرّقهما أيّ همّ أو غمّ ممّا نقاسيه نحن".

يردّ العجوز اليابانيّ منتفضا (ص117): "مازلنا نعاني من إشعاعات القنبلة الذّريّة الّتي أسقطت على هيروشيما". ويقول عجوز ماركيز: "نحن في كولومبيا عانينا من أنظمه الاستبداد، ومن تجّار المخدّرات".

 الأبعاد الزّمنيّة في الرّواية:

لا يقتصر دور الزّمن في هذه الرّواية على كونه إطارا زمنيّا محدّدا، بل يتجاوز ذلك إلى مستوى أعمق، فهو رمز عميق يعكس حالة البطل النّفسيّة والمجتمعيّة المتردّية، كما أنّ تداخل الماضي والحاضر في وعيّ البطل، يعكس حالة الحنين إلى الماضي ورغبة في الهروب من الحاضر المؤلم.

يستخدم الكاتب الزّمن كسلاح للسّخرية من الأوضاع الحاليّة، حيث يصور الزّمن كوحش يبتلع كلّ شيء جميل، لكنّه في الوقت نفسه يترك بصيصا من الأمل في المستقبل.

يدور الحدث في الزّمن الحاضر ممّا يمنح القارئ انطباعا أنّ الأحداث تجري الآن. هذا الاختيار الزّمنيّ ليس اعتباطيّا، بل هو عنصر أساسيّ في البناء الرّوائيّ، يعكس اهتمام الكاتب بقضايا الوطن الملحّة، ويقدّم لنا صورة معاصره للحياة، فهو يتناول تحدّيات المجتمع الرّاهنة بواقعيّة ملحوظه، ممّا يخلق التّشويق والإثارة، ويقرّب القارئ من شخصيات العمل والأحداث.

تمّ توظيف الزّمن كأداة فنّيّة مؤثّرة، تعمّق رؤيتنا للواقع، من خلاله يتجسّد إحساس محمّد بالعجز واليأس، كما في قوله (ص11): "أعيش حربي الخاصّة مع الزّمن".

يوجّه انتقادات لاذعة للزّمن الّذي نعيشه، مستنكرا الانحطاط الأخلاقيّ، معربا عن استيائه من واقع يعجّ بالفساد، يقول (ص58): "الزّمن الّذي ابتلينا فيه بطفيليّين زعران، وتجّار مخدّرات وعملاء، يحملون السّلاح يهدّدون به أبناء جلدتهم من المواطنين العزّل".

يصف الزّمن على امتداد النّصّ بأوصاف مختلفة، فمثلا يقول (ص62): "هذا زمن السّفلة والأوباش"، ويقول (ص97): "هذا الزّمن الغشوم"، وفي (ص162) "هذا الزّمن الخوّان" وفي (ص116) "زمن ضمور القدرة على تنفيذ الرّغبات".

 في أعماق اللّاوعيّ، الأحلام بوّابة إلى عالم آخر:

لجأ الكاتب إلى الحوار الدّاخليّ بشكل مكثّف؛ ليعبّر عن صراع محمّد مع ذكرياته وأحلامه ومخاوفه، ينسج النّصّ من خيوط الأحلام والكوابيس الّتي تعكس مكنونات نفس البطل المأزومة بفقد زوجته، وبعض الجوانب الخفيّة من شخصيّته ونفسيّته، وفي كلّ حلم أو كابوس، نستشعر نبضا خافقا يترجم آلامه من الفراق والفقد، نتجوّل في متاهات ذهنه، ونشهد صراعاته الدّاخليّة العميقة، ونستكشف دوافعه وخفاياه.

من خلال عالم الأحلام واللّاوعي، يسافر القارئ إلى عالم موازٍ، ينبض بالأسرار والمفاجآت، ويتمّ التّعبير عن الواقع الاجتماعيّ والسّياسيّ، وعن قضايا فلسفيّة ووجوديّة، أمّا أحلام اليقظة فجسّدت انعكاسا لرغبات محمّد وأمانيه؛ لتؤكّد على التّناقض الصّارخ بين عالمه الواقعيّ والمتخيّل، وتكشف عن تقلّبات مشاعره بينهما، في ظلّ تمسكّه ببصيص الأمل في بستان ذاكرته.

يكتب (ص11): "قرّرت مواصلة العيش، وليس معي من عدّة أو عتاد سوى الذّاكرة، أتّكئ عليها واستخرج منها بين الحين والآخر ما يساعدني على تجرّع الآلام، والنّظر إلى المستقبل بتفاؤل".

العنوان "منزل الذّكريات".. مفتاح لعمق النّصّ:

يعود به الزّمن الى الوراء، وتمرّ المشاهد في ذهنه وكأنّها شريط سينمائيّ، يتذكّر كوثر صديقه الطّفولة، ويحنّ إلى أيّام الشّباب وزواجه من سناء، يستعيد ذكرياته مع أسمهان فيشعر بالشّفقة عليها، فهي مسلوبة الإرادة وضحيّة للظّلم والقهر، تعيش مع أخيها الطّاغية الّذي استبدّ بهما وسلب بيته، فيقول ملتاعا (ص172): "سلّمته مفتاح البيت وأنا أشعر أنّني أسلّم تاريخي وتاريخ سناء، وذكرياتنا الّتي كانت لنا في هذا البيت".

بذلك يتجلّى عنوان الرّواية "منزل الذّكريات"؛ كمرآه تعكس بريق أيّام سعيدة مضت، ونبع حنين لا ينضب، يلوذ به قلب محمّد الحزين.

هذا العنوان، هو مفتاح لفهم عمق النّصّ وتشابكاته النّفسيّة والاجتماعيّة، إذ يرمز المنزل إلى الملاذ الآمن والذّكريات واكتشاف الذّات، فهو المكان الّذي يلجأ إليه البطل هربا من صخب الحاضر؛ ليعيش في عالم الأحلام.

أمّا الذّكريات فهي تداعيات وارهاصات تتحكّم في حاضر البطل، تربطه بماضيه وتمنحه الشّعور بالاستمراريّة والانتماء، لكنّها تبقيه أسيرا للماضي بشوق وعاطفة تسود السّطور، وهنا يكمن التّساؤل عن معنى الحياة والوجود، فهل الذّكريات نعمه أم نقمه؟

هكذا.. يحمل العنوان في طيّاته دلالات عميقه ومتشعبة، فهو يرمز إلى المكان والزّمان والشّخصيّة والعاطفة.

 مرايا الكلمات والإسقاط السّياسيّ في النّصّ:

يمارس الكاتب فنّا دقيقا هو فنّ الإسقاط؛ وذلك لتقديم صورة إبداعيّة تتجاوز الظّاهر، وتعكس حقيقة ما وراءها، فيسقط الواقع على شخصيّات العمل، الّذين يمثّلون امتدادا للواقع السّياسيّ الّذي نعيشه بسلوكيّاتهم وأفكارهم وحواراتهم، ذات المعاني العميقة، يقدّم إشارات رمزيّة تدعونا إلى التّوقّف عندها، فالشّخصيّة الشّريرة "جميحان" تجسّد إفرازات السّلطة والأنظمة المستبدّة والاحتلال.

أمّا "أسمهان" فتمثّل الشّعوب الضّعيفة المستسلمة، ورغم الهوان الّذي تعيشه إلّا أنّها تحترم جلّادها وتخلص له.

يتابع محمّد في نقد حالنا وأحوالنا، محدّثا نفسه، متأمّلا الواقع (ص155): "هل سيهبّ رهوان للدّفاع وهو الّذي لن يجرؤ على الوقوف في وجه التيّار الكاسح للمتزمّتين؟ هل يستطيع ابن العائلة "قيس" الّذي لم ينجز ما بقي من فصول روايته حتّى الآن أن يتدخّل ولو من خلال الكتابة؛ لوضع النّقاط على الحروف ولنقد حاله الانحطاط الّتي وصلنا إليها، حيث لا احترام للرّأيّ والرّأيّ الآخر، وحيث هيمنة الصّوت والرّأيّ الواحد وتفشّي الجهل في كلّ مفاصل المجتمع؟"

يتابع: "هل ينفعك عجوز كواباتا وعجوز ماركيز، وهما الحرّان الطّليقان في بلديهما؟"

هذا الحوار الدّاخليّ يشرح الكثير، فالكاتب بذكاء يستخدم أسئلة مفتوحة، تحمل إشارات واضحة إلى التّحدّيات الجسيمة الّتي نواجهها، إذ يمثّل قيس الجيل الشّاب الّذي يحلم بالتّغيير ويسعى لاستخدام الأدوات المتاحة؛ كالإعلام والثّقافة لنقل صوته إلى العالم، لكنّه لا يفعل، لا يكتب ولا يكمل روايته!

هذا الشّعور بالعجز عن إتمام مهمّته، ينبع من الأوضاع الّتي نعيشها، وذلك ما يشير إلى دور المثقّفين، فقيس هو الكاتب الّذي يمتلك القدرة على التّأثير من خلال كتاباته، لكنّه يتردّد في استخدام هذه القدرة، ما يعكس حاله التّيه الّتي يعيشها الكثير من مثقّفينا، حيث يتصارعون بين رغبتهم في التّغيير وبين خوفهم من العواقب، في واقع يغيب فيه احترام الآراء وتكبّل حريّه التّعبير، مما يضعف نشاط المثقّف ويعرقل إنتاجه الفكريّ.

أمّا "التيّار الكاسح للمتزمّتين" فيجسّد تلك الفئة المتشدّدة، الّتي تتّسم بالتّعصب والرّفض القاطع لأيّ رأي مخالف لها، ما يؤدّي إلى زيادة الإنقسام في المجتمع، ويؤثّر سلبا على النّسيج الإجتماعيّ والثّقافيّ فيه.

شخصيّة "رهوان" أيضا، هي استعارة للقيادات المتردّدة في اتّخاذ القرارات الحاسمة، أمّا عجوزا "كواباتا" و"ماركيز" فهما نموذجان للدّول الصّديقة الّتي لا تقدّم المساعدة، بسبب الاختلاف الثّقافيّ، أو اختلاف الظّروف والأوضاع، أو المصالح والتّوجّهات أو لأيّ سبب آخر.  وعن اسم "جميحان" فيشير إلى شخص سريع الحركة والفعل، هو اسم عربيّ يعود أصله إلى الجذر اللّغويّ "جمح" الّذي يدلّ على الحركة السّريعة والاندفاع، وأحيانا القوّة والعنف، أمّا "حان" فتدلّ على الوقت المناسب أو الحاضر، ولشخصيّة "جميحان" علاقة وثيقة بين اسمه وصفاته الّتي تتوافق مع سلوكه العنيف، وقدرته على التّأثير في الآخرين وإخافتهم، مستغلّا بطشه لتحقيق أهدافه، متّخذا من الدّين ستارا لتبرير أفعاله وتغطية زلّاته.

من هنا فاختيار الكاتب لاسم "جميحان" لم يكن مصادفة، وربّما يكون نوعا من السّخرية اللّغويّة، فقد وظّفت في النّصّ بعض المواقف والكلمات السّاخرة، الّتي تتراوح بين النّقد اللّاذع وبين الفكاهة الّتي تخفّف من وطأة الواقع، وتسمح بتقبّله.

إنّها سخرية تحمل في طيّاتها وعيا عميقا، تشدّ انتباه المتلقّي وتخاطب العقل والوجدان، تجعل الأفكار أكثر تأثيرا، وتكشف عن مكامن الخلل، وتحرّك الوعي إلى إعادة النّظر في المسلّمات والبديهيّات.

 بين ثنايا السّطور، تأمّلات وهمسات الكاتب:

في ثنايا السّطور، ينثر الكاتب حِكَما استقاها من تجاربه، ينتقد التّفكير الذّكوريّ الّذي يقيّد المرأة، فمثلا يكتب عن أسمهان (ص90): "لم يسمح لها بمواصلة تعلّمها في المدرسة، أخرجها منها وألزمها البقاء في البيت، كما لو أنّ فضيحة ستحلّ بالعائلة". ويقول عن فريال (ص31): "تأسّيت على الجمال الّذي لا يسنده ثقافة رصينة وارفة".

نتذكّر هنا ما ورد من شعر بشر الفزاريّ حيث يقول: لا خير في حسن الجسوم وطولها، إذا لم يزن حسن الجسوم عقول.

كما يشير إلى غياب ثقافة القراءة في مجتمعاتنا العربيّة، ويتساءل على لسان محمّد عن مصير كتبه بعد رحيله؛ وكأنّها جزء من روحه سيفارقها رغما عنه، يقول (ص83): "هي كتب في بعضها وصف عميق لما نحن فيه من تخلّف وانحطاط، وإشارات صحيحة إلى طريق الخروج مما نحن فيه من تخبّط وبؤس، وفوضى وجهل وخراب، لكن.. قلّة هم الَّذين يقرأون الكتب، وقلّة هم الَّذين يدركون إلى أين نحن سائرون".

 وبعد.. تترك هذه الرّواية أثرا عميقا في نفوس القرّاء، فهي رواية توسّع المدارك وتثير العواطف وتشعل الحواسّ، تحمل رسالة هامّة عن الحياة والذّاكرة الّتي توجهّنا عبر متاهات الزّمن، فالذّاكرة هي الكنز الّذي نحمله معنا أينما ذهبنا، وهي شاهد على التّاريخ الشّخصيّ والجماعيّ، وأداة للبقاء والتحدّي في وجه النّسيان والمحو، وهي أيضا الجرح الّذي لا يندمل، والجسر الّذي نبني عليه مستقبلنا.

***

صباح بشير

06.02.2025

كنت قد كتبت في المدخل الى هذه القصيدة المثيرة وفي الفقرة الأخيرة.. باننا "سنبحر مع الشاعر جمال مصطفى في قراءة "بانوراميته" ... بالتفصيل..". واليوم نبدأ بالمقاطع من (11ـ 20)..

"حين تكون القصيدة مفتوحة كأفق وملمومة كقطرة ماء"، القسم الثالث: "في هزيع البرج تحتاط الطيور.."

دهشةُ الصعود ومكرُ الارتفاع

(11)

"البُرجُ أعْرَقُ مِنكِ بابِلْ

البُرجُ أحلامُ الأوائِلْ

في لَجْمِ غطْرسةِ البُغاةِ الآلِههْ

مَنْ يَحْسبونَ الأرضَ سَلَّةَ فاكِههْ

والناسَ تَحْتَهُمو عبيدا

......................

البُرجُ فاجأَهُمْ صعودا"

عراقة البرج:

يتوهّج هذا النص الشعري بإشراقات فلسفية وإنسانية تتجاوز الظاهر لتغوص في أعماق الدلالة والرؤية. فالشاعر، وهو يقارن بين البرج وبابل، يجعل من البرج كياناً يتسامى على المدينة نفسها، إذ يقول: "البُرجُ أعْرَقُ مِنكِ بابِلْ"، فيلفت انتباهنا إلى أن العمارة ليست حجارة صماء، بل تجسيدٌ للأحلام، وإرادةٌ للمقاومة، وتاريخٌ يتجاوز من بناه أو حكمه.

ثم تأتي العبارة "البُرجُ أحلامُ الأوائِلْ" لترسّخ أن البنيان ليس مجرد صرح مادي، بل هو تجلٍّ لروح الأجيال، صدى لتطلعات الإنسان الذي يسعى لكبح جماح الطغيان، في "لَجْمِ غطْرسةِ البُغاةِ الآلِهَهْ"، حيث يستحضر الشاعر الطغاة الذين نصّبوا أنفسهم آلهة، مستبدين بالناس، معتبرين الأرض مجرد "سَلَّةَ فاكِههْ"، ينهبونها، بينما البشر في نظرهم "عبيدا". هنا، يفضح النص ذهنية المستبدّ، الذي يرى العالم متاعاً، والناس أدواتٍ لا شركاء في الوجود.

لكن البرج، وهو رمز للإرادة الإنسانية، يخرج عن السيطرة، يفاجئ الطغاة "صعودا"، في انقلاب على منطقهم القمعي، كأن الأحجار ذاتها تتمرّد، وكأن الأحلام، مهما خُنِقَت، تصرّ على العلوّ والخلود، شاهدةً على عظمة الإنسان أمام هشاشة الطغيان.

هذا النص يفتح أبواب التأمل العميق في علاقة الإنسان بالسلطة والتاريخ.. مما يجعل القارئ يتساءل عن مصير الإنسان في تحدي الطغاة ومواجهة قوى الاستبداد..

"البرجُ.. بين الخرافة والتجلي"

(12)

"في البدءِ كان البرجُ محمولاً

على رُخِّ الخُرافةْ

حتى أناخَ بأرضِ بابلْ

أخَذَتُهُ مِنهُ قصيدتي

كالهودجِ الحَلَزونِ تحملُهُ زرافةْ

وبهِ تَطوفُ على المدائِنْ"

البرج والقصيدة:

يغوص هذا المقطع الشعري في جدلية الخرافة والواقع، فيكشف بأسلوب رمزي كيف تتحول الأسطورة إلى حقيقة ملموسة، وكيف تتجلى العمارة كفكرة عابرة للزمن. يستهل الشاعر بقوله: "في البدءِ كان البرجُ محمولاً / على رُخِّ الخُرافةْ"، حيث يستدعي طائر الرُخّ الأسطوري، ذاك الكائن الخرافي الجبار، ليسلط به الشاعر الضوء على دور الخرافات والأساطير في بناء المعتقدات والتصورات الإنسانية، من خلال الاشارة إلى أن البرج بدأ كحلم مستحيل، كمحض أسطورة تتناقلها الألسن. لكنه سرعان ما يرسو في "أرضِ بابلْ"، لينتقل من فضاء الخيال إلى أرض الواقع، وكأن الشاعر يوثّق رحلة الفكرة من الوهم إلى التجسيد.

غير أن اللافت هنا هو التدخل الشعري، حيث يقول: "أخَذَتُهُ مِنهُ قصيدتي"، فيجعل من الشعر قوة قادرة على امتلاك المعمار، وكأن الكلمات ليست مجرد وصف، بل إعادة خلق للواقع.. انها القوة التحويلية للكلمة والشعر التي تظهر.. وكأن القصيدة تحتضن البرج وتحمِل معانيه وتاريخه..

تتجلى عبقرية النص في إضفاء بعد جمالي جديد على البرج، فبدلاً من أن يكون حجراً صامتاً، يصبح كائناً متحركاً في صورة "الهودجِ الحَلَزونِ تحملُهُ زرافةْ"، في مشهد يمزج الغرائبية بالسلاسة، ويمنح البرج طابعاً حيًّا، متنقلاً، غير مستقر.. بمعنى آخر.. يشير إلى انفتاح المعاني وتجوالها في آفاق متعددة، لتجعل القارئ يتفاعل مع المضمون الإبداعي، مما يثري الفكر ويغذي الروح، ويدعو إلى التأمل في معاني الوجود والحضارة..

ثم تأتي الذروة في قوله: "وبهِ تَطوفُ على المدائِنْ"، في إشارة إلى انتشار الأفكار، إلى أن العمارة ليست مجرد بناء جامد، بل إرثٌ حضاري يتجاوز المكان، كأنها رسالةٌ متنقلة تحملها الأزمنة والشعوب.. وان ببطئ

" سفرٌ في سماوات بابل"

(13)

"في البُرْجِ بُرْجٌ لِلْطيورِ

مَعاً تَطيرُ لِكيْ تُطَرِّزَ في الصباحِ

سماءَ بابِلْ"

بُرْجٌ الطيور:

هذا المقطع الشعري يعكس جماليات اللغة العربية وعمق المعاني التي تحملها، حيث يُعبّر عن الأمل والانطلاق في فضاء جديد.. انه يُشرّع نافذة على رؤية تتجاوز المادي إلى الرمزي، حيث لا يكتفي الشاعر بالنظر إلى البرج كصرح معماري، بل يكتشف في داخله "بُرْجٌ لِلْطيورِ"، في إشارة إلى أن كل بناء يحمل في جوهره بعدًا آخر، أكثر شفافية وحرية. فالبرج هنا ليس مجرد كيان حجري، بل فضاء للحياة، للحركة، وللتحليق، مما يضفي عليه طابعًا إنسانيًا وروحيًا يتجاوز صرامة المعمار إلى انفتاح الرؤية.

ثم تأتي الصورة البديعة "مَعاً تَطيرُ لِكيْ تُطَرِّزَ في الصباحِ / سماءَ بابِلْ..  لحظة الانتعاش والإبداع، التي من خلالها يرسم الشاعر لوحةً حيةً للطيران الجماعي للطيور، لكنه لا يكتفي بوصف الحركة، بل يضفي عليها بُعدًا إبداعيًا عبر فعل "تُطَرِّزَ"، وكأن الطيور تغزل خيوط الصباح على قماش السماء، في استعارة تحتفي بالجمال الخالص.

هذه الصورة تحيل إلى الفكرة الفلسفية العميقة بأن المعمار ليس مجرد بناء صاعد نحو الأعلى، بل هو امتدادٌ لما حوله، يندمج مع الطبيعة، يتفاعل مع الضوء والهواء والحياة. كما أن وجود الطيور يرمز إلى الحرية، في مقابل ما قد يمثله البرج من سطوة الإنسان على المكان، مما يخلق جدلية بين الثبات والحركة.. بين الجثوم والتحليق.. بين السلطة والانعتاق، بين الحجر والكائن الحي، في توازن شعري بديع بين الفكرة والصورة.

"حيثُ تتكلم الغابة"

(14)

"هِيَ حُجْرَةُ الشامانِ

فارِغةٌ تَماماً

لَو دَخَلْتَ تَصيرُ غابَةْ

هِيَ حُجْرَةُ الشامانِ

فيها قد تُفَقِّهُكَ الأيائِلُ بالتَخاطُرِ

فِقْهَ إبْكاءِ السَحابَةْ"

حُجْرَةُ الشامانِ:

الشاعر يفتح أبواب الإدراك على فضاء يتجاوز المألوف فيغوص في عوالم الغموض والروحانية، حيث تتحول „حُجْرَةُ الشامانِ“، التي تبدو فارغةً تمامًا، إلى كونٍ آخر يعجّ بالحياة.. يتسع لتحولات مدهشة. الشاعر يوظف المفارقة بين "الفراغ" و"الامتلاء"، فالغرفة التي تبدو خاوية تتحوّل بمجرد الدخول إليها إلى „غابَةْ“، في دلالة على أن الوعي، لا المادة، هو الذي يمنح الأشياء حقيقتها.. قد تمثل الحجرة هنا العقل الباطن، أو الروح، فيما تشير الغابة إلى رمزية الطبيعة والحياة.

ثم تأتي الصورة المدهشة في قوله: „فيها قد تُفَقِّهُكَ الأيائِلُ بالتَخاطُرِ“، إذ يجعل من الأيائل معلمين روحيين، ينقلون الحكمة عبر التخاطر، في استدعاءٍ لرمزية الحيوان في الموروث الشاماني، حيث تُعدّ الكائنات جزءًا من نسيج الكون الروحي، قادرة على الإيحاء والتعليم. لكن الدرس هنا ليس مألوفًا، إنه „فِقْهَ إبْكاءِ السَحابَةْ“، وهو تعبير مدهش يكثّف فكرة الحكمة المتجاوزة، حيث يصبح الفقه – وهو عادةً مجال العقل والاستنباط – مرتبطًا بقدرة غامضة على استدرار المطر، وكأن المعرفة هنا ليست فقط إدراكًا، بل تماهٍ مع الطبيعة.. عن اتصال حميمي، او انصهارٌ في إيقاع الكون.. لالتقاط مشاعر الكون نفسه..

في هذا المقطع، يخلق الشاعر توليفةً بين الفلسفة والروحانية والشعر، إذ يجعل من الغرفة فضاءً للتحوّل، ومن الطبيعة نصًا يُقرأ دون كلمات، ليؤكد أن المعنى لا يُلقى جاهزًا، بل يُكتشف عبر التجربة والانفتاح على أسرار الوجود.

هذا النص لا يقدم إجابات مباشرة، بل يخلق جوًّا من الغموض والرهبة، مستدعيًا القارئ للتأمل في أعماق ذاته والعالم من حوله.

"إشراقة الصديق.. نارٌ تُضيء البرج“

(15)

"في باب مانعةِ الصواعقِ

عَنْهُ في اللوح الكتابِ إشارةٌ:

أنْ سوفَ يَجترحُ الصديقُ …...

إنارةَ البُرْجِ المُعَلّى

لَمْ يذكروا مَن كانَ ذيّاكَ الصديقُ

لَربّما خوفاً عليهِ كأنّهُ

قد كانَ (تِسْلا)"

العلم والصداقة:

يتجلى في هذا المقطع الشعري إبداع شاعر متمكن من نسج خيوطًا دلالية متشابكة وذات أبعاد فكرية وتاريخية مشحونة بالدلالات، حيث يستدعي الشاعر ثنائية النبوءة والتجاهل، العبقرية والنسيان، الحقيقة والتغييب. فالشاعر لم يكتفِ بتقديم صورة بصرية، بل غاص في أعماق المعاني، واستنطق الرموز، ليقدم لنا لوحة فنية متكاملة، تتجاوز حدود النص الشعري إلى آفاق أرحب من الفكر والفلسفة.

يتميز المقطع بصياغة لغوية رصينة، وكلمات مختارة بعناية، تعكس عمق تفكير الشاعر.

في البداية، يضعنا أمام مشهد غامض عند "باب مانعةِ الصواعقِ"، وهي صورة توحي بالحماية والمنع، لكنها في ذات الوقت تستبطن الإشارة إلى قوة هائلة مخبأة، وكأننا أمام مدخل إلى سرّ منسيّ.. وقد تحمل في طياتها إشارة إلى الحماية والإيمان، وأن هناك قوة أعلى تحمي الإنسان..

ثم تأتي الإشارة إلى "اللوح الكتابِ"، وهو استدعاء ديني يرمز إلى الأزلية والثبات، حيث تُكتب الأقدار والمعارف العظمى، لكن المفارقة تكمن في أن هذا اللوح، رغم احتوائه على النبوءة، لم يُصرّح باسم "الصديق" الذي "يجترحُ إنارةَ البُرْجِ المُعَلّى"، أي أنه سيشعل النور في القمم، في استدعاء رمزي لعصر الاكتشافات والاختراعات، وللروح التي تحاول اختراق الظلام بالمعرفة.

غير أن الغموض يزداد، إذ يتساءل الشاعر: "لَمْ يذكروا مَن كانَ ذيّاكَ الصديقُ"، ليشير إلى تهميش المتفرّدين في التاريخ، قبل أن يفاجئنا بالخاتمة: "لَربّما خوفاً عليهِ كأنّهُ قد كانَ (تِسْلا)". وهنا تتجلى عبقرية النص، حيث يستدعي نيكولا تسلا، المخترع الذي أحدث ثورة في الكهرباء لكنه تعرض للتهميش، في إشارة إلى أن العباقرة غالبًا ما يُحاربون أو يُنسون، رغم أنهم هم من يضيئون العالم.

بهذا، ينسج النص رؤية فلسفية حول علاقة السلطة بالمعرفة، حيث يُخشى على المبدعين أو يُحجب ذكرهم، وكأن النور الذي يشعلونه ليس مجرد طاقة، بل فعل تمرّد يهدد المألوف ويكشف المستور.

وهْمُ السلطة وبريقُ الزوال

(16)

"هي حُجْرَةُ التيجانِ

تَدْخُلُها بِقِيراطَيْنِ مِن ذَهَبٍ

دقائِقَ

كامبِراطورٍ، كَقَيْصَرَ أو كَكِسرى أو كَسلْطانٍ

كما مَلِكِ المُلوكْ

العرشُ فيها، الصولَجانُ، الخاتَمُ الطُغْراءُ

وحْدَكَ ها هنا الآنَ المُتَوَجُّ

بَيْنَ مَن قد تَوَّجوكْ"

غرفة التيجان:

يتناول هذا المقطع الشعري بنية السلطة ورمزية التتويج، ليكشف هشاشة العروش التي تبدو متألقة في ظاهرها لكنها محكومة بزمنٍ لا يرحم.

الشاعر يبدأ بمشهد يوحي بالفخامة الملوكية: "هي حُجْرَةُ التيجانِ"، حيث تُستدعى رمزية المُلك، لا بوصفه منصبًا ثابتًا، بل كطَقس عابر، إذ أن الدخول إليها لا يكون إلا بثمن، "بِقِيراطَيْنِ مِن ذَهَبٍ"،"، تُبرز قيمة الثروة والمكانة التي تصحب الدخول إلى عالم الملوك.. وهو ثمن رمزي، يوحي بأن المجد يُشترى لحظيًا، لكنه غير دائم، مجرد، وقتًا محدودًا.. دقائق معدودة من السيادة، كحكمٍ على حافة الفناء.

ثم ينتقل النص إلى تشبيه الحاكم المتوّج بأساطين السلطة عبر التاريخ: " كامبِراطورٍ، كَقَيْصَرَ أو كَكِسرى أو كَسلْطانٍ / كما مَلِكِ المُلوكْ "في استدعاءٍ لمختلف أنظمة الحكم، لو تتناوب الحضارات على قمة الهرم.. وكأن الشاعر يؤكد أن التاج واحد وإن تبدّلت الرؤوس التي تحمله. كذلك لا يمثل "الصولَجانُ، الخاتَمُ الطُغْراءُ"، الا رموزًا تتجسد فيها الإرادة والقوة.. غير أن المفارقة تتجلى في أن هذا التتويج، رغم طقوسه المهيبة، ليس إلا لحظة عابرة، إذ يقول: "وحْدَكَ ها هنا الآنَ المُتَوَجُّ / بَيْنَ مَن قد تَوَّجوكْ"، فالمشهد بأسره ليس سوى مسرح للآخرين، أولئك الذين صنعوا هذا المجد الزائف.

بهذا، يكشف النصّ بمهارة أدبية كيف أن السلطة لا تمنح صاحبها خلودًا، بل تجعل منه دمية في يد التاريخ، لحظة مجد تذوب في نهر الزمن، وتاجًا يُثقل الرأس أكثر مما يُتوّجه.

صراعٌ أبديّ ودورةٌ لا تنتهي

(17)

في حجرةِ الشطرنجِ يَمتَدُّ السِجالُ إلى الشروقْ

والفائزونَ يُكَرَّمونَ

بأنْ يزوروا حُجْرةَ الأسرارِ ما فوقَ الغيومِ

ليَسألوا: أنّى وكيفَ متى وأين؟

.................

في الصُبْحِ سادِنُ حُجْرةِ الشطْرنجِ

يَشْطفها بِخُرطومِ المياهِ مِن الدماءِ

ويُوقِظُ الصَرْعى مِن الجيْشيْنِ

يُوقِفُهُمْ على ذاتِ المَرَبَّعِ مِن جديدْ"

حُجرة الشطرنج:

يتخذ هذا المقطع الشعري من حجرة الشطرنج فضاءً رمزياً للصراع الوجودي، حيث تمتد المعركة "إلى الشروق"، في إشارة إلى أن المواجهة ليست لحظةً عابرة، بل امتدادٌ مستمر يتجاوز حدود الزمن، وكأن الحياة ذاتها لعبةٌ شطرنجية لا تنتهي إلا لتبدأ من جديد. غير أن اللافت هنا هو تكريم الفائزين، لا بمنحهم جوائز مادية، بل بإعطائهم فرصة "أنْ يزوروا حُجْرةَ الأسرارِ ما فوقَ الغيومِ"، وهو مشهد يتجاوز البعد الأرضي ليأخذنا إلى أفقٍ ميتافيزيقي، حيث تتاح لهم معرفة الأسرار الكبرى، لكن دون إجابات حاسمة، إذ تبقى الأسئلة مفتوحة: "أنّى وكيفَ متى وأين؟"، في إشارة إلى أن حتى النصر لا يهبُ اليقين.

ثم تأتي الذروة الصادمة مع الصبح، حين يدخل "سادنُ حُجْرةِ الشطرنجِ"، فيتجلى دوره كمُنظّمٍ للعبة الأبدية، إذ "يَشْطفها بِخُرطومِ المياهِ مِن الدماءِ"، مما يحوّل المشهد إلى استعارة للحروب التي تُخاض مرارًا، حيث تُمحى آثار الدم لكن المعركة تستأنف، ويتحوّل القتلى إلى بيادق جديدة: "ويُوقِظُ الصَرْعى مِن الجيْشيْنِ / يُوقِفُهُمْ على ذاتِ المَرَبَّعِ مِن جديدْ"، مما يعكس عبثية الصراع، حيث لا نهاية للمعركة، بل مجرد إعادة تدوير للجنود، وكأن التاريخ ذاته رقعة شطرنج تُعاد صياغتها بنفس القواعد، مهما تغيّرت الوجوه.

بهذا، يصوغ الشاعر رؤيةً فلسفية للقدر الإنساني، حيث تظل الحروب دائرة، والأسئلة قائمة، فيما يظل اللاعبون مجرد بيادق في رقعةٍ لا تبوح بكل أسرارها.

وقد يصور هذا المقطع الشعري كفضاء رمزي يعبر عن صراع الشاعر الداخلي في عملية كتابة القصيدة، وكأن القصيدة نفسها جولة شطرنج يسعى فيها للوصول إلى عمق المعنى، والولوج إلى "حُجرة الأسرار ما فوق الغيوم"، رمز الإلهام والمعرفة العليا.

فالسِجالُ يبدأ ممتدًا "... إلى الشروق".. انها رحلة الشاعر الليلة بحثاً عن الكلمات والمعاني والصور الشعرية، التي قد تستمر حتى بزوغ الفجر، حيث تتوهج لحظة الإبداع بانتصار الفكرة، فتُكرَّم القصيدة بحصولها على لمحة من الأسرار. بهذا التكريم يسمح للشاعر أن يسأل الأسئلة الكبرى "أنّى وكيفَ متى وأين؟"؛ استكشاف متسلسل لكل شيء غامض، بحثًا عن الحقيقة.

في "الصُبْحِ"، يعود السادن/ الشاعر، ليطهّر وينظف مسوداته من الكلمات والابيات والمقاطع التي اسقطها من القصيدة.. والتي كانت ضحايا الالغاء والتبديل.. إيذانًا بجولة جديدة.. مراجعة للعمل وتوكيدًا لنتائجه في تأثيث قصيدته.. خلال المراجعة يعود/ يوقظ الشاعر لـ (كل) ما كتب وما شطب "يُوقِظُ الصَرْعى مِن الجيْشيْنِ"، لتعود إلى مكانها "على ذاتِ المَرَبَّعِ"، أي للبت في الخيارات.. كدلالةً على تكرار دورة الصراع الإبداعي. او في إشارة إلى أن الصراع مع الإبداع لا ينتهي؛ فبعد كل قصيدة تبدأ معركة جديدة بحثًا مفردة او صورة او عن نص آخر.

الموتُ الذي لا يموت

(18)

"في حُجْرةِ الحُجُراتِ

نعْشٌ

في النهارِ يطوفُ مرفوعاً بِذاتِهْ

...............

في حُجْرةِ الحُجُراتِ

نعْشٌ

يَختفي ليْلاً فلا يبقى هناكَ سوى بَناته"

النعش وبناته

يستحضر الشاعر مشهدًا غامضًا يتجاوز دلالاته المباشرة، لينسج رؤية فلسفية عن الموت والخلود، الحضور والغياب، والتناقض الذي يحكم دورة الحياة.. فهو يقدم تماهياً عميقاً بين رمزية "بنات نعش" وأبعاد الحياة والموت، حيث تتجلى صورة الكون في هيئة نعشٍ يطوف في النهار شامخًا، رمزًا للوجود الإنساني في مواجهة الزمن وعبوره المستمر.

النص يبدأ بصياغةٍ مدهشة: "في حُجْرةِ الحُجُراتِ / نعْشٌ"، مما يخلق صورة ذات أبعاد متعددة، فـ "حُجرة الحُجرات" توحي بعمقٍ سرّي، كأننا أمام جوهر الأشياء ومخبأ الأسرار، حيث يكمن النعش، لكنه ليس جمادًا هامدًا، بل يتحرك في وضح النهار: "يطوفُ مرفوعاً بِذاتِهْ"، مما يبعث شعورًا بالغرابة والرهبة، وكأن الموت نفسه لا يخضع لقوانين الطبيعة، بل يظل حاضرًا متجولًا بين الأحياء، منتصبًا بذاته، لا يحتاج لمن يحمله، بل كأنه كائنٌ له استقلاليته وقدرته على الحركة.

لكن في الليل، يتحوّل المشهد تمامًا: "يَختفي ليْلاً فلا يبقى هناكَ سوى بَناتهْ"، في صورة تتسم بالغموض الميتافيزيقي، إذ أن اختفاء النعش يوحي بأن الموت ليس نهاية، بل هو أصلٌ يُخلف وراءه أثرًا، يتمثل في "بناته"، واللواتي قد يرمزن إلى التركة التي يتركها الراحل، سواء كانت أفكاره، موروثه، أو تأثيره المستمر في الوجود. وهي أيضًا إشارة أسطورية للكوكبة التي تبقى مرئية لتشهد على غياب مَن رحلوا..

انها رؤية فلسفية مذهلة: الموت ليس فناءً مطلقًا، بل حضورٌ متكرر، يتجلى نهارًا كواقعٍ لا يمكن تجاهله، ويذوب ليلاً تاركًا خلفه امتداداته، كأن الغياب ذاته نوعٌ من الحضور، وكأن "النعش" ليس فقط تابوتًا، بل هو فكرةٌ لا تموت.

الصراع بين السحر والعلم

(19)

في بابِ (هاروتٌ وماروتٌ) مِن اللوحِ الكتابْ

قالا لِقرْميدو: سنجعلُ فوقَ بُرْجِكَ

غيْمةً في صيْفِ بابلَ

تُنعشُ البرْجَ العظيمَ وتَغْسلُهْ

لكِنَّ قرْميدو تَوَجّسَ:

عنْدنا تِسْلا، كذلكَ عندنا الشامانُ

يَجْتَرِحانِ ما شِئْنا بِلا سِحْرٍ،

بِأيْدينا نُصُمِّمُ ما نُريدُ ونَجْعَلُهْ ...........

بين هاروت وماروت

يمزج هذا المقطع بين الأسطورة والتاريخ والعلم، ليخلق فضاءً تأويليًا واسعًا يعكس جدلية القوة، بين الغيبي والإنساني، وبين السحر والعقل، وبين التقاليد والحداثة.

يبدأ النص بإحالة دينية إلى قصة "هاروت وماروت"، وهما الملكان اللذان ورد ذكرهما في القرآن بصفتهما معلّمين للسحر، مما يمنح المشهد بعدًا ميثولوجيًا غامضًا. في هذا السياق، يقف "قرْميدو"، الذي يبدو وكأنه رمزٌ للمعمار أو للحضارة التي تبني مجدها بيدها، أمام وعدٍ قادمٍ من قوى عليا: "سنجعلُ فوقَ بُرْجِكَ / غيْمةً في صيْفِ بابلَ / تُنعشُ البرْجَ العظيمَ وتَغْسلُهْ"، وهي صورة شعرية تنطوي على دلالات التطهير والتجديد والخلود، فالماء هنا ليس مجرد فيض سماوي، بل امتدادٌ للرحمة، ولإرادةٍ تسعى لصيانة البنيان وحمايته من الزمن..

لكن المفارقة تنشأ من موقف "قرْميدو"، الذي "تَوَجّسَ"، فهو لا يرى في هذه الهبة الإلهية ضرورة، بل يستعيض عنها بالمعرفة البشرية: "عندنا تِسْلا، كذلكَ عندنا الشامانُ"، في استدعاء عبقري لشخصية نيكولا تسلا، رمز الحداثة والكهرباء، والشامان، الذي يمثل الحكمة الروحية المستندة إلى الحدس والعرافة.

يؤكد قرميدو استقلالية الإنسان عن القوى الغيبية بقوله: "بِأيْدينا نُصُمِّمُ ما نُريدُ ونَجْعَلُهْ"، وهو تعبير عن لحظة تاريخية فارقة، حيث يقف الإنسان في مواجهة الميثولوجيا، ليؤكد أنه قادرٌ على اجتراح المعجزات بلا حاجةٍ إلى السحر.

النص يطرح جدلية فلسفية عميقة حول الصراع بين الإيمان بالقدرات الغيبية والاعتماد على الذات، ليترك القارئ أمام تساؤل مفتوح: هل نحن بحاجة إلى معجزة، أم أن معجزتنا تكمن في وعينا ومعرفتنا وإرادتنا؟

الزمن كذاكرةٍ أسطورية

(20)

الطابقُ العشرونَ مُتْحَفُ (سوفَ كانَ) وفيهِ: أجنحةٌ

لِجبرائيلَ، ألواحُ الزمرّدِ، نَعْلُ آدمَ، مشطُ حواءَ، البراقُ،

وفُلْكُ نوحٍ، صُورُ إسْرافيلَ، والرُخُّ الذي عَبَرَ البِحارَ

مُحَلِّقاً بالسندبادِ، فَرائِصُ الأسرار تَرتعدُ ارتعاداً في

ضميرِ الغيبِ قُرْبَ عمامةِ الخَضِرِ، الدفوفُ تَزُفُّ بَدراً مِثْلَ

فاكهةٍ يُقَطِّعُهُ بِخِنْجَرِهِ إلهُ المَدِّ سْكْراناً لِيأكُلَهُ أهِلَّهْ

في (سَوفَ كانْ):

حَجَرُ الفَلاسِفةِ، الهِيولى، والبَهيموثُ المُحَنّطُ،

واهتزازُ ضفيرةِ الزمَنِ المُولِّهُ والمُوَلَّهْ"

متحف "سوفَ كان":

يستدعي الشاعر شخوصًا وأساطيرَ ورموزًا دينيةً وتاريخيةً لتشكل نسيجًا من التأملات حول الزمن، والذاكرة، والخيال البشري.. انها رحلةً ساحرةً في الزمن. فالعنوان المستتر "سوفَ كان" يجسد تناقضًا زمنيًا عميقًا، إذ يجمع بين المستقبل والماضي في تركيبٍ واحد، وكأنه يشير إلى أن الماضي ليس ثابتًا، بل هو امتدادٌ متحولٌ في الزمن، يتجدد بتأويلاتنا له.

ان افتتاحية " الطابقُ العشرونَ مُتْحَفُ (سوفَ كانَ)"، تشي بأننا أمام فضاءٍ رمزيٍّ معلّق بين الأرض والسماء، حيث تترابط العناصر الميثولوجية والدينية والأسطورية داخل متحفٍ يعرض إرث البشرية الروحي والمعرفي. ففيه "أجنحةٌ لِجبرائيلَ، ألواحُ الزمرّدِ، نَعْلُ آدمَ، مشطُ حواءَ، البراقُ"، حيث يتجاور المقدس مع الحلمي، والتاريخي مع الخرافي، في انسجامٍ يذكرنا بموسوعات المعرفة القديمة، التي لم تكن تفصل بين الدين والأسطورة والعلم.

في هذا المتحف أيضًا، "الرُخُّ الذي عَبَرَ البِحارَ مُحَلِّقاً بالسندبادِ"، في استدعاءٍ للخيال السردي العربي، حيث تندمج الأسطورة بالحكاية، ويتحول الزمن إلى كيانٍ عضوي ينبض داخل الذاكرة الجماعية.

أما المشهد الأكثر غرابةً فيأتي مع "الدفوفُ تَزُفُّ بَدراً مِثْلَ فاكهةٍ يُقَطِّعُهُ بِخِنْجَرِهِ إلهُ المَدِّ سْكْراناً لِيأكُلَهُ أهِلَّهْ"، حيث تتجلى رمزية القمر، الذي يتعرض للذبح كفريسةٍ للزمن، وكأن الشاعر يرمز إلى الفناء والتحوّل المستمر للأشياء، متمثلًا بالقمر في سيرورته من البزوغ حتى التمام.. ومن الاكتمال حتى المحاق.. ليعاود دورته..

ويُختتم المقطع بإشاراتٍ أكثر عمقًا: "حَجَرُ الفَلاسِفةِ، الهِيولى، والبَهيموثُ المُحَنّطُ، واهتزازُ ضفيرةِ الزمَنِ"، حيث يتحول الزمن إلى ضفيرةٍ حية، تهتز بين أيدي المبدعين والعلماء والفلاسفة، في تصويرٍ مدهشٍ للزمن ككيانٍ ديناميكي، لا كخطٍ جامدٍ في الماضي.

بهذا، يقيم النص احتفاليةً معرفيةً وزمنيةً، حيث يصبح الماضي مشروعًا مستقبليًا، والحكايات القديمة ليست محض ذكريات، بل طاقةٌ متجددةٌ تُعيد تشكيل وعينا بالعالم.

***

طارق الحلفي

......................

* رابط القصيدة //

  https://www.almothaqaf.com/nesos/971491

* رابط المدخل //

https://www.almothaqaf.com/readings-5/979452

* رابط القسم الاول //

  https://www.almothaqaf.org/readings-5/979564

* رابط القسم الثاني //

https://www.almothaqaf.com/readings-5/979680

للشاعر اسماعيل عزيز - العراق

قصيدة /حين يضحك الندى/ للشاعر إسماعيل عزيز هي قصيدة تتسم بالعاطفة العميقة والرمزية المكثفة، وتعبّر عن الحيرة والتأمل في الحياة والمصير، عبر صور بلاغية وتصويرية تتمحور حول التغيرات الطبيعية والوجودية. القصيدة تجمع بين الفلسفة والتجربة الشعرية، مما يجعلها تلامس مشاعر القارئ من خلال الأسلوب المتأمل الذي يعكس حالة من القلق والبحث عن معنى الحياة والوجود. نستطيع من خلال تحليل الأسلوب البلاغي لهذه القصيدة استكشاف عدة جوانب جمالية وفكرية.

1. الصور البلاغية والرمزية:

القصيدة مليئة بالصور البلاغية المعقدة التي تحاول التعبير عن مشاعر الشاعر في مواجهة الحياة وتحدياتها. تتراوح الصور بين الخيال البصري والصوتي، لتخلق مشهداً شعرياً يغمر القارئ.

/المطر الساقط فوق ربى أيامك/: بدايةً، يقدّم الشاعر المطر كرمز للتغيير والذكريات الماضية التي تمثل الماضي البعيد. المطر هنا ليس مجرد عنصر طبيعي، بل يمثل حنينًا أو تغييرات تُترك وراءها آثار تتداخل مع الزمان.

/يحمل طعم الحصرم/: إشارة إلى طعم الحزن أو الفقد، فالحصرم هو الثمر غير الناضج، مما يرمز إلى شيء غير مكتمل أو غير مُحقق بعد، وهي صورة تعبّر عن مشاعر الشاعر من خلال طعم غير مكتمل.

/فلا يجمع النهر إلا صرير العواصف/: هذه الصورة تخلق التوتر بين النهر الذي يرمز إلى التدفق والاستمرارية، والعواصف التي تمثل الصعوبات والمشاكل. يصبح النهر هنا ساحة للصراع بين الحركة السلسة والصعاب التي تواجهها الحياة.

/وفي بوابة الرمس لملمة من عزاء/: يخلق الشاعر صورة حزينة تمزج بين الموت أو الفقد والتعزية. /بوابة الرمس/ تشير إلى قبر أو مكان الظلمة والموت، بينما /لملمة من عزاء/ تدل على محاولة التخفيف من الحزن. الصورة توحي بأن الحياة والموت يتداخلان في لحظة واحدة.

2. الأسلوب السردي والتأملي:

القصيدة تعتمد على الأسلوب السردي الذي يتنقل بين الوقائع العاطفية والخيالية، ويستعرض مشاهد من الطبيعة والحياة. هناك سرد لصور متتالية تعكس تأملات الشاعر حول الحياة:

/اصغي قليلا/: هذه الجملة تأخذ القارئ إلى حالة من الاستماع والتأمل، مما يجعل النص يبدو وكأن الشاعر يوجه رسالة خاصة للمتلقي، فيحثه على التفكير في الواقع الذي يمر به.

/تلفت قليلاً/: هي دعوة إلى التنبه والوعي، ربما للبحث عن إجابة أو رؤية أفضل للأمور التي تحيط بالشاعر.

3. التكرار والتوتر الداخلي:

التكرار في القصيدة يُستخدم لتحقيق توتر داخلي بين الوجود والألم. الشاعر يكرر بعض الأسئلة والتوجهات التي تجعل القارئ يشعر بالحيرة والضياع:

/ألا تسمع؟/: تكرار السؤال هنا يخلق شعورًا بالاستفهام المستمر عن الحياة والعالم المحيط، وكأن الشاعر يحاول أن يقنع ذاته أو القارئ بالحقيقة التي يسعى إلى كشفها.

/أثقال الهموم تومض من فوق مشارفها/: هذه الصورة تبرز الوزن الثقيل للمشاعر أو الأفكار التي يواجهها الشاعر، وتستمر الصورة الحسية عبر التوتر بين الصمت والضجيج.

4. الرمزية في الكلمات:

الشاعر يعمد إلى استخدام كلمات تحمل معانٍ رمزية، مثل /الرواسي/ و/طبول حرب/. هذه الكلمات لا تشير فقط إلى مشهد طبيعي، بل تحمل دلالات عميقة تتعلق بالصراع الداخلي والتحديات التي يواجهها الفرد:

/الرواسي/: تستخدم للإشارة إلى الثبات والصمود، ولكن هذه الرواسي يتم /استقبالها/ من قبل الأعاصير، مما يشير إلى أن الثبات لا يعني بالضرورة السلام أو الاستقرار في الحياة، بل يمكن أن يتعرض للموجات العاتية من التحديات.

/زمجرة السحب كطبول حرب/: هنا يظهر الصراع بين الكائنات الطبيعية كرمز للصراع الداخلي الذي يعيشه الشاعر. طبول الحرب تشير إلى الاقتراب من لحظة الأزمة أو القرار الصعب.

5. التوازن بين الأمل والضياع:

رغم جميع الصور الحزينة والصراعات التي تعرضها القصيدة، هناك إشارات متقطعة للأمل، مثل /في كل تيه دليل/ و**/انتظر حتى يتسلل الشذا من غبار التراب/**. هذا التوازن بين الأمل والضياع يعكس حالة من اليأس، ولكنه يشير في الوقت نفسه إلى أنه حتى في أصعب اللحظات يمكن أن يجد الإنسان بصيصًا من النور.

/يتسلل الشذا من غبار التراب/: تشير هذه الصورة إلى أن الجمال أو الراحة يمكن أن تأتي من أماكن غير متوقعة، حتى من داخل المعاناة نفسها. هذه الجملة تمثل الأمل الذي يتسلل بصمت، رغم العواصف والهموم التي تسيطر على العالم الخارجي.

6. الأسلوب الصوتي:

القصيدة تحتوي على العديد من العناصر الصوتية التي تعزز الإحساس بالحدة والتوتر في النص:

/زمجرة السحب/ و**/طبول حرب/**: تستخدم هذه الأصوات القوية لخلق صورة حية للعواصف والمشاكل القادمة. هذه الأصوات تعكس حالة من التوتر والقلق المستمر في حياة الشاعر.

الخاتمة:

قصيدة /حين يضحك الندى/ هي نص شعري مليء بالصور البلاغية التي تُعبّر عن توترات النفس البشرية بين الأمل والضياع، بين الحياة والموت، بين القوة والضعف. الشاعر إسماعيل عزيز يستخدم الرمزية والتكرار ليخلق حالة من التأمل الوجودي العميق، حيث تعكس الصور الطبيعية الصراع الداخلي والتساؤلات الفلسفية التي قد يواجهها الفرد في حياته. في النهاية، تبقى القصيدة تحمل شعورًا بالبحث المستمر عن معنى وجودي وحقيقة تتسلل من تحت غبار التحديات.

***

بقلم: كريم عبد الله - العراق

....................

حين يضحك الندى

المطر الساقط فوق ربى ايامك، يحمل طعم الحصرم، فلا يجمع النهر الا صرير العواصف، ولم يكن الندى اقل منفعة منك، ففي دجى الليل قبلة من دجى، وفي بوابة الرمس لملمة من عزاء، اليك الحديث، انت؛ اصغي قليلا، لم تكن الاغصان التي احرقت مما صفا نورها وطاب دخانها، ولا البرق في لمعانه من النوع المضيء، فاقصر خطاك، وتلفت قليلا. فهذا القطر ينتهي نهرا حتى وإن قل. ألست ترى؟ اثقال الهموم تومض من فوق مشارفها قبب المنابر كالرواسي تستقبل هوج الأعاصير، ألا تسمع ؟ زمجرة السحب كطبول حرب يرتد صداها على لمعان السفوح. ولكن في كل تيه دليل، فانتظر حتى يتسلل الشذا من غبار التراب.

***

اسماعيل عزيز- العراق

 

قصيدة /قصيدة من نور/ للشاعرة رشا السيد أحمد هي نص شعري يعبر عن لحظة من النور الداخلي والسكينة الروحية التي تتولد في القلب والروح، حيث تحاكي تجربة فنية ونفسية ذات طابع جمالي راقٍ. يمكننا تحليل القصيدة نقديًا عبر بعض النقاط الأسلوبية والجمالية التي تشكلها.

1. البنية اللغوية والصور البلاغية:

القصيدة تتميز باستخدامها للصور البلاغية بشكل مكثف، حيث تقوم الشاعرة بخلق صور مرئية سمعية ونفسية تربط القارئ بالحالة الشعورية التي تعيشها الذات الشاعرة. على سبيل المثال:

/كقصيدة دافئة في برد البعد/: هنا تستخدم الشاعرة التوصيف المزدوج بين /القصيدة/ و/البرد/، ما يجعلنا نشعر بالصراع بين البعد والدفء الذي تحمله القصيدة، وبالتالي يجسد الصراع الداخلي بين العزلة والنور الذي تطرحه.

/فرحت كفراشة سعيدة برشفة الرحيق/: تمثيل الفرح هنا بـ/الفراشة/ يدل على حالة خفيفة ورقيقة من السعادة، إذ تحاكي صورة لطيفة تعكس الطمأنينة التي تعيشها الروح.

هذه الصور الشعرية تحمل دلالات عاطفية قوية وتضفي طابعًا جماليًا يوحي بالصفاء الداخلي والحب.

2. التراكيب الاستعارية والمجازية:

القصيدة ككائن حي: استخدام الشاعرة للقصيدة ككائن حي /قصيدة دافئة/ التي /تخلل قلبي/ يُظهِر الشِعر كحالة تنبض بالحياة والروحانية. كما أنها تُفعِّل الوعي الإنساني وتحاكي تجارب عاطفية ومعرفية داخلية.

الأنوثة والروحانية: هناك تلميحات مباشرة إلى الأنوثة في الشطر: /فوقفت على رؤوس أصابعها وراحت ترقص فرحًا به/. الرقصة هنا كاستعارة تمثل البهجة الداخلية التي تفيض من الروح، بالإضافة إلى تمثيل الحركة النعمة والجمال الأنثوي.

الضوء والنور: العنصر المهيمن في القصيدة هو النور، ويظهر في جمل مثل /تخلل قلبي/ و/عزفت بموسيقى عذبة/، حيث يكون النور رمزا للسلام الداخلي والتحرر من الظلام الروحي. النور يتخلل الحياة ويرتبط بالسلام الداخلي والحب، مما يعكس الحالة الشعورية المضيئة التي تحيا بها الذات.

3. الأنماط الإيقاعية:

الإيقاع الشعري في القصيدة يشكل وحدة تناغمية بين الأفكار والعواطف. من خلال الألفاظ السلسة والتركيبات السمعية التي تنساب بسهولة، تنجح الشاعرة في خلق موسيقى داخلية تتناغم مع موضوع القصيدة. العبارات مثل /ثم عزفت بموسيقا عذبة/ توحي بتكرار النغمة الموسيقية في الطرح الشعري، ما يعزز تأثير الفكرة العاطفية وتراكمها في ذهن المتلقي.

4. المفارقة والرمزية:

القصيدة تمثل حالة من التوازن بين الضوء والظلام، النور والظلام، ولكن تظل المفارقة الوحيدة التي تظهر في النص هي الازدواجية بين البُعد القاسي والمضيء، حيث تبدأ القصيدة بالحديث عن /برد البعد/ قبل أن ينتقل النص إلى لحظة تذوب فيها هذه المسافة ويمتلئ بالضوء، كما في الجمل /عبرتني برقة إشراقته/ و/روحي وقلبي لعوالم النور السعيدة/. هذا التحول يبرز معركة بين الألم الذي قد يصاحب البعد وبين التجديد الذي يجلبه النور.

5. الحالة الفكرية والعاطفية:

القصيدة تعكس حالة من الرفعة الروحية التي تنبثق من الداخل وتضئ كل الزوايا المظلمة في النفس. تتحدث عن ذلك الانفتاح العاطفي الذي يغمرها، لتخلق حالة من التأمل والانسجام الداخلي، /لكوني قصيدة من ضياء/. هذا الإحساس بالانبعاث يُعيد الشاعرة إلى حالة من الطمأنينة حيث تتحول الروح إلى قصيدة مضيئة بفضل هذا النور الذي يملأ القلب والروح.

6. الأسلوب الشاعري:

الشاعرة استخدمت أسلوبًا معبرًا عن التفاعل بين الإنسان والعالم المحيط، ولكن الأسلوب يجسد روحًا تحلق في الفضاءات الروحية أكثر من أي شيء آخر. اللغة هنا بسيطة ورقيقة، لكنها تحمل في طياتها الكثير من العمق العاطفي والفكري.

الخاتمة:

قصيدة /قصيدة من نور/ هي بمثابة إعلان عن حالة من السمو الروحي والتصالح الداخلي، حيث يُرمَز إلى النور كإشراقة عاطفية وفكرية تغير مسار الروح وتعطيها طاقة جديدة. الشاعرة استطاعت أن تتلاعب بالكلمات لخلق صور ذهنية تبعث في القارئ شعورًا بالسلام والبهجة والتطهير الروحي، مستخدمةً الأسلوب البلاغي المتين الذي يعكس براعته في تصوير الأحاسيس الداخلية وتحويلها إلى تجربة شعرية ناعمة ومتدفقة.

***

بقلم: كريم عبد الله – العراق

..........................

قصيدة من نور

كقصيدة دافئة في برد البعد ذاك النور تخلل قلبي فجأة وعبر ردهات روحي فوقفت على رؤوس أصابعها وراحت ترقص فرحا به كفراشة سعيدة برشفة الرحيق ذات صباح ربيعي ثم عزفت بموسيقا عذبة و غنت الكون حبا بينما كانت ملكات روحي العليا تلتقط من الكون تلك الإشراقات الرائعة و تحدث داخلي تلك الومضات السعيدة فتولد بصدري كل الأفكار البراقة وهي تقول هكذا أنت مثل بدر في قبة السماء يعبرني برقة إشراقته هكذا أنت برق يحدث داخلي الانخطاف الذي ينقلني وروحي وقلبي لعوالم النور السعيدة لأكون قصيدة من ضياء.

***

سيدة المعبد - المانيا - سوريا.

6.2.2025م

 

قصيدة /قسوة الحياة/ للشاعرة شنيا عبد المجيد هي رحلة داخل أعماق الذات الإنسانية، التي تعاني من ألم الحياة وقسوتها. الشاعرة في هذه القصيدة لا تقدم مجرد سردٍ لمشاعر الحزن، بل تسلّط الضوء على التناقضات الداخلية التي يعيشها الإنسان في لحظات الشكوى والتأمل في معاناته.
من أول وهلة، تثير القصيدة سؤالاً كبيرًا عن الحياة نفسها. الشاعرة تبدأ بالتعبير عن تأثير الحياة عليها، في صورة جمل بسيطة لكنها عميقة في دلالاتها:
/شوهتني الحياة كثيراً.. / أكاد أضيع!/
هذه الجملة تعكس شعورًا بالضياع العميق، الذي يتعدى مجرد فقدان الاتجاه المكاني. الضياع هنا يعبر عن تشتت الهوية وافتقاد الذات في محيطٍ مليء بالشدائد. إن الشاعرة لا تشير إلى الجرح الجسدي فقط، بل تتحدث عن الضرر الذي لحق بها على مستوى الروح، والكيان الداخلي، الذي أصبح مهددًا بالتفتت.
اللغة الرمزية والتشبيه المتقن
من أبرز سمات القصيدة هو استخدام الشاعرة للرمزية، التي تُقدّم رؤية معقدة عن قسوة الحياة وتكرار المعاناة. في سطور مثل /الحياة مثل صخرة سيزيف، / ملتصقة بظهري/
تنقل الشاعرة إلى القارئ صورة مأساوية مأخوذة من أسطورة سيزيف اليونانية. سيزيف، الذي كان يُجبر على دفع صخرة ضخمة إلى قمة جبل، ليشاهدها تسقط كلما اقترب من القمة، هو رمز للعبث واللامعنى في محاولات الإنسان المستمرة للفرار من قدره أو إيجاد السكينة. الشاعرة، من خلال هذا التشبيه، تطرح فكرة المجهود الذي لا جدوى منه، وأنه في كل مرة يقترب الإنسان من الوصول إلى هدفه أو راحته، يجد نفسه عائدًا من حيث بدأ. تتكرر هذه الصورة في جملة
/كلما أخطو أعود للوراء/
لتؤكد شعور الشاعرة بأن محاولات التغيير والتقدم في الحياة تواجهها مقاومة غير مرئية، وتصبح خطوة إلى الأمام وكأنها رحلة بلا نهاية.
الطبيعة كمرآة للحالة النفسية
عندما تصف الشاعرة
/خوخ حديقتنا، لم يعد له طعم كما كان/
فإنها تعكس بمهارة تحوّل الداخل إلى الخارج. الطبيعة هنا لا تمثل مجرد خلفية للألم، بل هي جزء من هذا الألم ذاته. الفقدان الذي تشعر به الشاعرة لا يقتصر على البشر أو العلاقات الشخصية، بل يمتد ليشمل الأشياء والأماكن التي كانت تحمل معها معنى وجمالًا. الخوخ، الذي كان في الماضي رمزًا لبهجة بسيطة وسعادة عابرة، أصبح الآن بلا طعم، تمامًا مثل الحياة التي أصبحت باهتة وغير قابلة للاستمتاع. هذه الصورة هي واحدة من أقوى الصور في القصيدة، فهي تكشف عن استحالة إيجاد اللذة في الأشياء بعد أن فقدت الحياة معناها.
التوسل والانكسار في الدعاء
يستمر التوتر بين الألم والأمل في القصيدة عبر نداء الشاعرة لشخص آخر، الذي يبدو أنه يحمل مفتاح خلاصها أو نجاة قلبها. /خذ بيدي.. / ولا تدع الحياة تفعل بي ذلك/
هو نداء يحمل في طياته استغاثة، ويعكس الحالة التي تضع فيها الشاعرة نفسها أمام حالة من العجز التام. إن هذا النداء ليس فقط للشخص الآخر، بل هو أيضًا توسل للقدر، محاولة للبحث عن يد تمتد وسط الظلام، لتعيد التوازن، ولتوقف صراع الحياة المستمر. إن التضرع الذي تحمله هذه الكلمات يتجاوز حدود الحب الشخصي ليشمل السعي الحثيث للهروب من التدمير الداخلي. كما أن الشاعرة في هذه اللحظة تتنازل عن كامل استقلالها، مطالبة بمعونة أخرى تمنحها القوة لاستعادة توازنها.
الختام وتأملات في النطق والصمت
/فبدونك يفقد النطق لساني/
هذه الجملة الختامية تختزل المدى الذي وصل إليه الصراع الداخلي. الشاعرة تُظهر في هذه العبارة نوعًا من العجز الشامل، إذ يفقد الإنسان قدرته على التعبير عن نفسه بشكل كامل إذا غابت عن حياته تلك اليد التي كانت تسانده. النطق هنا ليس مجرد الكلام، بل هو تعبير عن الهوية والوجود. الصمت، إذن، هو فقدان القدرة على التفاعل مع الحياة كما كانت من قبل. إن الشاعرة لا تشير فقط إلى غياب الشخص الآخر، بل أيضًا إلى غياب المعنى في حياتها، إلى درجة أن الكلمات نفسها تفقد قوتها وتصبح عاجزة عن نقل ما في داخلها.
الخاتمة
هذه القصيدة هي نصٌ عميق يتناول مشاعر الفقد والضياع، ويستعرض بشفافية وصدق الحالة الإنسانية التي تلامس قسوة الحياة وضغطها. من خلال الصور الرمزية واللغة المعبرة، تنقل الشاعرة في قصيدتها إحساسًا عميقًا بالتشتت الداخلي والتعب النفسي، وتطرح تساؤلاتٍ حول معنى الوجود والتقدم في الحياة. القصيدة لا تقدم حلولًا أو إجابات، لكنها تفتح المجال للتأمل في الألم البشري، والبحث المستمر عن الخلاص، سواء في الآخر أو في الذات. إن قوة القصيدة تكمن في قدرتها على تفعيل هذا الألم وجعله يتردد في أذهاننا، ليظل حيًا في ذاكرتنا حتى بعد أن ينقضي النص.
***
بقلم: د. كريم عبد الله – العراق
.......................


  1. قسوة الحياة

    بقلم: الشاعرة شنيا عبدالمجيد/ كردستان

    ترجمة الاستاذ: علي عزيز – كردستان

  2. ***

    شوهتني الحياة كثيراً..

    أكاد أضيع!

    لساني لم یعد یغني كعادته

    أصابعي لا تفوح منها رائحة الشعر

    الحياة مثل صخرة "سيزیف" ،

    ملتصقة بظهري

    كلما اخطو اعود للوراء

    عيناي بنسمة تمتلىء بالدموع

    خوخ حديقتنا، لم یعد له طعم كما كان

    كل شيء عكس ما كان عليه

    مع كل هذا الألم والتحطم خذ بيدي..

    ولا تدع الحياة تفعل بي ذلك

    حتى تستقيم خطواتي المتعرجة

    فبدونك يفقد النطق لساني.

 

قراءة نقدية تحليلية لقصيدة: مدينة الرياح للشاعرة سينسيا روتا – ايطاليا.

المقدمة: قصيدة /مدينة الرياح/ للشاعرة الإيطالية سينسيا روتا تنتمي إلى الفضاء الشعري الذي يلتقط حالة مَشْحونة بالعاطفة والتوق، لكنها في ذات الوقت تحتفظ بكثير من الغموض والتعقيد. تتداخل فيها صورٌ حسّية مع عوالم نفسية تعكس تقاطعات الذاكرة والمكان، ما يجعل القصيدة شديدة الرقة والعمق. في هذه القصيدة، لا يُفترض بالمكان أن يكون مجرد خلفية للأحداث، بل يتحوّل إلى شخصية قادرة على التأثير في الوعي الشعري وتوجيهه نحو آفاق من الحنين والذكريات، بل وأحيانًا الألم.

المدينة بين التجسيد والتعالي:

في مطلع القصيدة، تخلق الشاعرة علاقة استعارة مكثفة بين الذات الحبيبة والمدينة. في هذا السياق، تُقدّم المدينة ككائن حي، حيث تقول:

أنتِ مثل هذه المدينة التي تأخذ أنفاسك بمجرد رؤيتها.

هنا، نجد أن المدينة تصبح حالة شعورية تعبر عن اضطراب داخلي، فهي ليست مجرد معمار أو فضاء جغرافي، بل هي تجسيد للمشاعر التي تهب حياة للأماكن، بل وتستحوذ على كل الحواس. على مستوى السطح، هذا التصوير يعكس الجمال الذي يمكن أن يبعث الحياة في الذهن، ولكنه يتعدى ذلك ليجسد علاقة الشخص بالمدينة بوصفها تجسيدًا لتلك اللحظات المفاجئة التي تدهش الذات وتدهشها، وكأنها تسلبها أنفاسها.

لكن المدينة ليست مجرد مكان للمشاعر، بل هي أيضًا وعي مستمر، تجسد عبره الرياح وهي عنصر يتحكم في حركة الشاعر ومسيرته. تأتي الرياح هنا كرمزية للمجهول، الخارج عن إرادة الشاعرة، الذي يُساقُ نحو المجهول بفعل هذه الرياح التي تدفعه وتحمله بعيدًا. تعكس الرياح في القصيدة معنى التحول المستمر، حيث لا تقف الحياة عند لحظة أو مكان معين، بل تظل تتجدد في حركة دائمة. القصيدة تُقدّم لنا مدينة لا تسكن، كما لو كانت تُحيي كل لحظة بتجددها المتواصل.

البحر: بين الاستقرار والتمرد:

الانتقال من المدينة إلى البحر في القصيدة ليس اعتباطيًا، بل يعكس تطورًا في تصوّر الشاعرة للحالة النفسية التي تمرّ بها. البحر، بما هو عنصر طبيعي مهيب، يتجسد هنا كرمز للمشاعر الجياشة والهادئة في ذات الوقت. تقول الشاعرة:

أنتِ هذا البحر / دَفْءٌ على جوانب الأرض.

 هنا، تضاف إلى البحر صورة أخرى تتعلق بالاحتضان والراحة، كما لو أن المدينة والبحر يعكسان نوعًا من التناغم الذي يجمع بين القسوة والحنان.

لكن، في المقابل، يتخذ البحر في أماكن أخرى من القصيدة بعدًا مغايرًا، وهو ما يبدو في تصويره كعنصر يثير القشعريرة ويُثير الجسد:

رؤية فاتنة عند الغروب، قشعريرة / عندما يذوب الجسد، وخزة مرحة.

هنا، البحر يزداد قوةً وحضورًا، ولكنه في ذات الوقت يثير في الشاعرة حالة من التوتر الداخلي، مما يعكس علاقة أكثر إرباكًا مع المشاعر الإنسانية المتقلبة. البحر هو المكان الذي تتنفس فيه الشاعرة بحرية، لكنه في ذات الوقت هو المكان الذي يفتح الجرح ويشعر بالنزيف العاطفي.

الرحيل والحنين:

إن فكرة الرحيل تشغل جزءًا كبيرًا من القصيدة، وهي لا تتعلق فقط بمغادرة المكان، بل هي تمثل هجرًا عاطفيًا وغيابًا إنسانيًا. تُصور الشاعرة السفن المغادرة في صورة رمزية قوية، وتقول:

أنتِ السفن المغادرة / عندما تفصلين الأسوار.

هذا الرحيل ليس مجرد حركة جسدية، بل هو إعلان عن المسافة العاطفية، وكأن المكان والإنسان يرتبطان ارتباطًا لا يُنفصل، وأن المغادرة هي نوع من الانقطاع بين الجسد والذاكرة.

الحنين في القصيدة يُصوَّر كنوع من التعذيب المستمر الذي يُجسّد شعاع الشمس الملون والمُلعون في الوقت ذاته:

أنتِ الحنين / شعاع من الشمس، ملعون، / الذي يجرح الروح أولًا.

يطوّق الحنين الشاعرة كظل لا ينفك يلاحقها. والمفارقة هنا تكمن في أن هذا الحنين ليس تعبيرًا عن اشتياق سهل ومحبب، بل هو ألم مُستمر، تتفتح أمامه الجروح، لكنه في الوقت نفسه يشعّ نورًا غامضًا، كما في

ثم يظهر مجددًا في الشوارع الخالية.

الشوارع هنا، التي تبدو مهجورة، تتحوّل إلى فضاء موحش يحضر فيه الحنين كمُتربّص لا يرحم. إنها شوارع مليئة بالغياب، الشوارع التي لا تعود إلى سابق عهدها بعد أن تخلفها الذكريات.

العزلة والصمت:

في الجزء الأخير من القصيدة، تتجسد العزلة بشكلٍ حاسم، حيث تسير الشاعرة وحيدًة بين /المباني الصامتة/، في رحلة داخلية في ظل صمتٍ غارق في التأمل:

وحيدة، أسير بين المباني الصامتة / ألوان خفية تضيء.

العزلة في هذه اللحظة تتخذ بعدًا وجوديًا، فالشاعرة لا تعاني فقط من الافتراق عن المدينة أو الحبيبة، بل تعاني من الفقد المستمر لذاتها وسط هذا الصمت. هذا الصمت الذي يتجسد في المباني الصامتة، تُشعر الشاعرة وكأن العالم الخارجي قد سكنه الفراغ، ليبقى /ألوان خفية/ هي الرفيق الوحيد، تلك الألوان التي لا تراها إلا من هو في حالة وعي داخلي شديد.

الختام:

أنّ قصيدة /مدينة الرياح/، تقدم لنا سينسيا روتا مكانًا ليس مجرد فضاء مادي، بل هو مادة حية، مليئة بالذكريات، بالصراع، وبالحنين. المدينة، في هذه القصيدة، ليست محض جغرافيا، بل هي كائن يتنفس ويؤلم ويحمل في طياته لحظات الغياب والانقطاع. والمفارقة التي تكمن في هذه القصيدة هي أن الشاعر لا يبحث عن الحلول، بل يكتفي بالتعبير عن الفوضى الداخلية التي تسكنه. في النهاية، لا تكون المدينة فقط خلفيةً للمشاعر، بل هي تشبع كل أفق داخلي، وتصبح مرآةً للروح المتحولة، تمامًا كما الرياح التي تحملنا بلا عودة.

***

بقلم: كريم عبد الله – العراق

......................

مدينة الرياح

أنتِ مثل هذه المدينة

التي تأخذ أنفاسك بمجرد رؤيتها

ساحرة على وقع الرياح

التي تدفعني وتحملني بعيدًا...

ذلك الوَلْسِ السحري الذي يحول...

أنتِ هذا البحر

دَفْءٌ على جوانب الأرض

رؤية فاتنة عند الغروب، قشعريرة

عندما يذوب الجسد، وخزة مرحة

تسقط البخار في السماء...

أنتِ السفن المغادرة

عندما تفصلين الأسوار

كلما رأيتكِ تغادرين...

أنتِ الحنين

شعاع من الشمس، ملعون،

الذي يجرح الروح أولًا

ثم يظهر مجددًا في الشوارع الخالية.

وحيدة، أسير بين المباني الصامتة

ألوان خفية تضيء

تدفئ حتى الحدّ

بينما اليوم يتغلب على الحزن.

الرائحة نفسها، الطعم المكثف.

النظرة نفسها التي لا تُدرك...

***

سينسيا روتا - ايطاليا

 

الأسلوب السردي والتعبيري: القصيدة تُعبر عن حالة من التأمل في شهر ديسمبر، مُجسدًا في صورة /العجوز/ الذي يحمل في طياته ذكريات مريرة وآمالًا ضاعت مع الزمن. الأسلوب السردي يعكس هذا التوتر بين الماضي والحاضر من خلال صراع الزمان والمكان. يُظهر الشاعر نزوعًا للتعبير عن تلك اللحظات التي تتداخل فيها مشاعر الحزن والندم والتأمل العميق.

 الصور الشعرية والرمزية:

/ديسمبر/ في القصيدة هو أكثر من مجرد شهر، بل هو شخصية متجسدة، /العجوز/، مما يضفي بعدًا إنسانيًا على الشهر الذي يرمز للزمن المتقدم. الشاعر يُصور الأجواء في ديسمبر بأنها تحمل توترات وحروبًا داخلية، مثل /يرتجف أحيانًا من أصوات الألعاب النارية/ و/يضرب السحاب بعضه/ وهي صور رمزية للمتاعب والصراعات النفسية.

التقنيات البلاغية:

يبرز في القصيدة استخدام الاستعارة والتشبيه بشكل جلي، مثل /يغيب عن ناظر الليالي أحيانًا/ و"يغني قصص ماضية في نشر وقاحتها"، حيث يعكس الشاعر بمهارة فوضى الذكريات التي تتداخل مع الواقع. كما نجد أسلوب الجناس في /ليقضم ديسمبر أظافره"/ و/ندمًا على مقعد تركه في يوم رحيله/، حيث يحمل هذا التشبيه تأثيرًا دراميًا يعزز من صورة الندم والحسرة.

 التكرار وإيقاع القصيدة:

يظهر التكرار في القصيدة مع تكرار الإشارة إلى شهر ديسمبر، مما يُعزز من حس الانتظار والرتابة في مرور الوقت. الإيقاع يأتي خفيفًا في بعض الجمل الثقيلة التي تدعو للتفكير العميق، مثل /أحيانا يصفع السحاب بعضه بعضا/، مما يضيف تأثيرًا صوتيًا على القراءة ويعكس الخضم الداخلي للأحداث.

 البُعد النفسي والتاريخي:

الشاعرة تُدخل البُعد النفسي من خلال تقديم ديسمبر كرمز للأحزان والندم والتذكير بالماضي القاسي. كما تتضمن القصيدة رمزية تاريخية، حيث يشير الشاعر إلى /الهيبة التي تركها في موسم سابق قد شوته الشمس/، مما يعكس شدة الحرارة والاحتراق التي تذكر بحروب أو أحداث صعبة، ما يضفي معنى عميقًا للمشاعر المرتبطة بهذا الشهر.

الخلاصة:

القصيدة تسلط الضوء على الحنين والندم من خلال صورة ديسمبر كرمز للعجوز الذي يحمل ذاكرة الماضي وآلامه. الأسلوب البلاغي المستخدم يحقق توازنًا بين الصور الشعرية والرمزية، مما يعزز الشعور بالزمن الضائع والندم. تُظهر القصيدة القدرة على التعبير عن الذكريات والمشاعر المتناقضة التي تخلق توترًا بين الماضي والحاضر.

***

بقلم: كريم عبد الله - العراق

....................

ديسمبر العجوز

للآن لم يبرح ديسمبر مكانه؛ فهو يرتجف أحيانا من أصوات الألعاب النارية وينثرها في بقعة لا تكاد يلمها بؤبؤ عين الفضاء الصامت، فتثور الأغصان متمايلة بدافع الثورة على الرياح القصية المحملة آمالا شاخت من قِدْمها، وأحيانا يصفع السحاب بعضه بعضا؛ كي يفرض هيبته التي تركها في موسم سابق قد شوته الشمس على أحر من قصص ماضية في نشر وقاحتها على مرمى النجوم الخجولة والتي تغيب عن ناظر الليالي أحيانا، فليقضم ديسمبر أظافره ندما على مقعد تركه في يوم رحيله.

***

احلام البياتي

 

يقول هانز جورج غادامير، أحد أبرز المنظرين في التأويلية الفلسفية (الهرمنيوطيقا) حيث يقول في كتابه "الحقيقة والمنهج" (1960):

"إن فهم النصوص ليس مجرد إعادة بناء لمعناها الأصلي، بل هو حوار مستمر بين القارئ والنص، حيث تتجدد الدلالات وفقاً لأفق توقعات القارئ وسياقه الثقافي."

يأتي نص "أمطار الحزن" للأديب فاضل ضامد بوصفه نصاً شعرياً نثرياً مشبعاً بالإيحاءات الرمزية والاستعارات الكثيفة حيث يوظف الكاتب ثيمة المطر بوصفها عنصراً دلالياً يعكس الحزن الجمعي والتجربة الوجودية للذات في علاقتها بالتاريخ والثقافة. في هذه القراءة محاولة للكشف عن البنية الجمالية والدلالية للنص. و السعي إلى استقصاء جدلية الحزن والأمل التي تشكل جوهر الرؤية الشعرية من خلال تحليل التكرار الإيقاعي الصور الاستعارية والتفاعل النصي مع "أنشودة المطر" لبدر شاكر السيّاب.

البنية الجمالية والتقنيات الأسلوبية

يتسم النص ببنية متقطعة تعكس التوتر الشعوري حيث يعتمد الكاتب على الجمل القصيرة المشحونة عاطفياً مما يعزز الإحساس بالتدفق الوجداني المتصاعد. يتجلى ذلك في استخدام التكرار الصوتي والدلالي لبعض المفردات المركزية مثل:

"مطر، حزن، نحن"

حيث يؤدي هذا التكرار دوراً نفسياً وجمالياً.إذ لا يقتصر على الإيقاع الداخلي بل يسهم في ترسيخ الحالة الرثائية للنص.

على مستوى الأسلوب يوظف الكاتب المفارقة في تصوير المطر، إذ يتحول من كونه عنصراً طبيعياً إلى رمز مزدوج يعكس الألم والتجدد في آنٍ واحد مما يعمّق البعد التأويلي للنص ويمنحه قابلية للقراءة المتعددة. فالمطر في هذا السياق لا يغسل الأحزان بل يستدعيها ليصبح جزءًا من دورة الذاكرة والحنين.

التوظيف الرمزي والاستعاري في النص

نجد أن المطر بوصفه استعارة للحزن والتاريخ الجمعي، يُحمل المطر في النص معاني تتجاوز كونه ظاهرة طبيعية ليصبح رمزاً للحزن الممتد عبر الزمن إذ يعكس التجربة الجمعية للمعاناة. وفقاً لغاستون باشلار، فإن المطر في الأدب "يغسل الأحزان لكنه يستدعي الذاكرة العميقة للإنسان"، وهذا ما يتجلى في النص حيث يربط المطر بين الفقدان والتذكر بدلًا من أن يكون مجرد علامة على التطهير أو البدايات الجديدة.

العلاقة الجدلية بين الحزن والأمل

في فلسفة هيغل عن الجدل، يُنظر إلى التناقضات بوصفها ضرورية لنشوء تحولات جديدة حيث "لا يمكن للأمل أن يوجد دون معاناة تماماً كما يولد النور من قلب الظلام". هذه الجدلية تنعكس في النص حيث لا يُقدم الحزن كحالة ثابتة. بل كشرط ضروري لتحقق الأمل. ففي السطر الأخير من النص نجد:

"فالمطر وعد الحياة، وقصيدة العشق الأولى."

وهذا يعزز الرؤية الفلسفية التي ترى في الألم نواةً لإمكانية التجدد والبعث.

 استدعاء العصفور كرمز للأمل والتجدد

يظهر العصفور في النص كرمز للحياة والحرية لكنه محاصر في سياق شعري يجعل منه عنصراً هشاً أمام قسوة الواقع. هذه المفارقة تخلق توتراً بين التطلع إلى الأمل والشعور بالعجز، مما يعكس بنية وجدانية تتقاطع مع التجربة الإنسانية الأوسع.

التناص مع "أنشودة المطر" للسيّاب

يرى رولان بارت أن "كل نص هو نسيج من التناصات"، أي أنه لا يوجد نص مستقل تماماً عن غيره. في "أمطار الحزن"، يظهر التناص بشكل واضح مع "أنشودة المطر" للسيّاب، لكن النص لا يعيد إنتاجها بل يعيد تشكيلها وفق رؤية حداثية تتجاوز البنية الكلاسيكية.

التقاطعات والاختلافات بين النصين

في "أنشودة المطر"، يرتبط المطر بأسطورة الخلاص بينما في "أمطار الحزن"، يصبح المطر حاملًا لذاكرة الحزن والتناقضات الوجودية.

النص الجديد ينهل من روح السيّاب لكنه لا يكررها بل يعيد إنتاجها برؤية ذاتية أكثر ارتباطاً بالراهن.

هذا التفاعل النصي يمنح القراءة أبعاداً متعددة الطبقات حيث يتحرك النص بين الاستلهام والتجاوز مما يعكس مرونة الخطاب الشعري الحديث.

البعد الثقافي والسياقي للنص

ينتمي النص إلى تيار الحداثة الأدبية الذي يدمج بين النثري والشعري، حيث تتماهى الحدود بين التعبير الذاتي والرؤية الجمعية. كما أن البعد الثقافي العراقي حاضر بقوة، إذ يتقاطع مع التجربة الشعرية العراقية الحديثة التي طالما عكست أزمات الإنسان العربي والعراقي على وجه الخصوص.

النص يستحضر الذاكرة الثقافية للحزن بوصفها مكوناً أساسياً للهوية مما يجعله مفتوحاً على تأويلات تتجاوز البعد الذاتي وصولاً إلى البعد الاجتماعي والسياسي. هذا التداخل بين الفردي والجمعي و بين الحزن والتجدد و بين الماضي والمستقبل، يعكس رؤية فلسفية عميقة حول طبيعة الوجود والتاريخ.

يقدم نص "أمطار الحزن" للأديب فاضل ضامد تجربة شعرية حداثية تتسم بالكثافة الرمزية والاستعارية حيث يوظف المطر بوصفه عنصراً جدليًا يجمع بين الحزن العميق وإمكانية الأمل. من خلال بنيته المتقطعة إيقاعه الداخلي وتوظيفه للذاكرة الثقافية يعكس النص رؤية حداثية للحزن لا بوصفه مجرد انفعال وجداني بل كجزء من سيرورة وجودية وثقافية.

***

إنجاز القراءة فاطمة عبد الله

..................

أمطارُ الحُزن

مثلَ دبٍّ قطبيٍّ، كانت غيماتُنا الوارفةُ الظلال، والشتاءُ يعتَمرُها قُبَّعاتٌ ليزيدَ سَحنةَ الظلامِ لونًا بَنَفْسَجيًّا، فَيَحيا قوسُ قُزَحَ حينَ يَهطُلُ المطرُ، لِتَرتَجِفَ أكتافُنا، نَرقُصُ بَردًا، نَدخُلُ البيوتَ ونُشعِلُ أرواحَنا، نُدفِئُ نارَ الموقدِ المُلتَهِبِ فينا منذَ عصرِ الحروبِ والجوعِ يَصولُ في البُطونِ.

نحنُ شَعبٌ توالَتْ عليهِ أمطارُ الحُزنِ لِتَستَخلِصَ مِنهُ كلَّ ما هو فَرَح. يا عُصفورَ المطرِ، حُطَّ على أكتافِنا وابْنِ عُشَّكَ، نحنُ شَجَرٌ تَحَمَّلْنا العَطَش، رُبَّما تُعيدُ لنا عِيدانُ عُشِّكَ الرُّوحَ المُمتلِئَةَ بالنُّثِّ الأبيضِ، فَنَنحَني تَحتَكَ لِنَهطِلَ مَعَكَ زَرعًا نَحلِفُ بهِ مِن كلِّ شرٍّ قادِم.

مَطرٌ... لا تَنتَظِرْ أوامِرَ الهُطول، لا تَنتَظِرْ حَبَّاتِكَ تَكبَرْنَ، انزِلْ مِثلَ الحُبِّ ماءً زُلالًا نُصَفِّي بهِ قلوبَنا المضروبةَ بالجُنون. انزِلْ لِنَحتَمِيَ بكَ ونَحتَفِلَ بكَ، سَنَزرَعُ أرواحَنا نَخيلًا وعَنبَرًا وعِطرًا وتُرابًا.

يا مَطرُ، ما زالَ السَّيَّابُ يَهطُلُ مَعَكَ شِعرًا، والكُتُبُ بَلَّلَها القُرَّاءُ وأنتَ تَمرُّ على جَبينِها لِتُعيدَ الخِطابَ الأبديَّ: أُنشودةُ المطر .

فانهمِرْ يا مَطرُ، اغسِلْ وُجوهَ الأزقَّةِ الحزينةِ، واخضَرَّ في قلوبِ العابرينَ، وامتَزِجْ بنَبضِ الأرضِ لِتُزهِرَ مِن جديدٍ، فالمَطرُ وِعدَةُ الحياةِ، وقَصِيدَةُ العِشقِ الأولى!

***

فاضل ضامد - العراق

2025

تنتصر لإنسانية المواطن العراقي الأصيل

يندرج فيلم "سائق الإسعاف" للمخرج هادي ماهود ضمن نطاق الدكيّودراما "الدراما الوثائقية" لأنه يعتمد بالأساس على حدث وقع على أرض الواقع وتناولته الكثير من وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمكتوبة وربما لم يترك هذا الحدث لصانع الفيلم شيئًا يقوله أو يبني عليه قصته المشحونة بالدراما والترقّب والتشويق. ولعل السينارست والمخرج هادي ماهود قد انتبه إلى ظاهرة لم يلتفت إليها كثيرون من أقرانه المخرجين وهي التضليل الإعلامي، وتشويه صورة الآخر المعادي لها أو الذي لا ينسجم مع طروحاتها الفكرية والسياسية فتعْمَد إلى دمْغهِ بالإرهاب، وتنميطه ضمن خانة التخلّف، والرجعية، وعدم مواكبة روح العصر. غير أنّ المخرج اللمّاح هادي ماهود قد راهن على الجانب الإنساني لشخصية عراقية إشكالية وهي شخصية سائق الإسعاف التي جسّدها الفنان التشكيلي جبّار الجنابي وشحنها بالكثير من المُعطيات الإنسانية التي تنظر إلى الحرب وتداعياتها من زاوية إنسانية متحضرة سواء اعتمد على ضميره الشخصي اليقظ أو على ديانته التي لا تسمح بمعاملة الأسير معاملة سيئة. وبالمقابل قدّم لنا شخصية الجندي العراقي المغلوب على أمره الذي لا يعرف أكثر من تنفيذ الأوامر التي يُصدرها الضباط الكبار الذين يعمل تحت إمرتهم. وقد أدّى هذا الدور الممثل علي ريسان بطريقة مُقنعة رغم قناعاته السلبية التي سوف تتصدّع شيئًا فشيئًا وهو يرى مُعطيات انهيار الدولة الدكتاتورية التي تبيّن أنها نمر من ورق. أمّا الشخصية الثالثة وهي المُجنّدة الأمريكية جيسيكا دون لينج التي أدّتها الممثلة التونسية حياة حرزي من دون انفعالات مفرطة فقد كانت مستوفية لشروطها الفنية التي أوصلت من خلالها كمًا كبيرًا من المشاعر والأحاسيس الداخلية التي تنتاب أسيرة حرب جريحة تعرضت للإصابة في رأسها وساقيها في بيئة معادية. وثمة شخصيات أخرى لا تقل أهمية عن هذا المثلّث البشري المتساوي الأضلاع رغم اختلاف الأصول والمرجعيات مثل حارس المستشفى أو الشخصيات السياسية والعسكرية المؤدلَجة التي تصب جام غضبها على كل ما هو أمريكي من دون العودة إلى التفاصيل والمواقف المنفردة التي لا ينبغي لها أنّ تؤخذ بجريرة المواقف والآراء الأمريكية العامة.1012 ambulans

قصائد الدكتاتور المهلهلة

يستهل المخرج فيلمه بمطلع قصيدة ركيكة للدكتاتور صدام حسين يقول فيه: "أطلقْ لها السيف لا خوفٌ ولا وجلُ / أطلق لها السيف وليشهد لها زُحلُ". ولعل المخرج هادي ماهود أراد أن يبيّن لنا الهواجس المتعددة لهذا الدكتاتور الذي يُنظِّر في كل شيء؛ فهو يتحدث عن الصناعة، والزراعة، والإشارات المرورية، وحركة سير المركبات، ويكتب الروايات البائسة، ويدوّن الأشعار المجردة من المعاني، والخالية من الدلالات والصور الشعرية المُعبرة. ولعل هذا التشتت يعبّر لنا خير تعبير عن شخصيته السايكوباثية المريضة التي سوف تؤثر، مع الأسف الشديد، في شريحة واسعة من الشعب العراقي، وخاصة في الطبقة السياسية وبعض صنوف الجيش العراقي كالأمن، والاستخبارات، والحرس الجمهوري، والحمايات الخاصة بأمن الرئيس وسلامته حتى أنّ الكثرين منهم كانوا يقلّدونه في لبسهِ وطريقة كلامه بنبرته القروية المعروفة.

يتضمن هذا الفيلم القصير مُقتطفات خبرية إذاعية في المجمل تتعالق مع ثيمة الفيلم الرئيسة التي تتمحور على أسْر المجندة الأمريكية جيسيكا لينج في 23 مارس / آذار 2003 وتحريرها يوم 1 أبريل / نيسان في العام ذاته من قِبل القوات الخاصة الأمريكية التي لم تلقَ أي مقاومة تُذكر كما روّج لها الإعلام الأمريكي بغية رفع معنويات القطعات العسكرية الموجودة في العراق على وجه التحديد.

من بين الأخبار التي تتدفق من الإذاعة العراقية نسمع:"جرت معركة شديدة جدًا بين وحدات الجيش العراقي وعلوج الاستعمار الأمريكي والبريطاني". ومع أنّ كلمة "عِلْج" تعني "الشديد والغليط من الرجال" إلّا أنّ وزير الإعلام السابق محمد سعيد الصحاف لم يقصد هذا المعنى وإنما أخذ  بالمعاني الأخر من بينها "الحمار" أو "الكافر" لكي يصف الغزاة، ويقلّل من شأنهم، بينما هم في حقيقة الأمر يتقدمون ويجتاحون مدن العراق العراق تباعًا مع الإقرار بأنهم واجهوا مقاومة حقيقية شرسة في بعض مدن العراق مثل مدينة "أم قصر" و الناصرية وبغداد لاحقًا. ومع أنّ بلدانًا عدة مثل فرنسا وألمانيا وبلجيكا قد جدّدت معارضتها للحرب إلّا أنّ وزير الخارجية الأمريكي كولن باول كرّر مطالبتهُ للعالم بطرد البعثات الدبلوماسية العراقية المتواجدة فيها. ومن ضمن الأخبار الإذاعية التي تتعالق مع ثيمة الفيلم نسمع تصريح الناطق العسكري الأمريكي بأنّ "رتلًا عسكريًا تابعًا لسرية الصيانة الأمريكية 507 قد ضلّ طريقه وتعرّض لكمين عراقي. وقال الكابتن جيّ لا روزا، المتحدث باسم حملة مشاة البحرية الخامسة عشر أنّ جنديين قُتلا في الهجوم، وذكر شهود عيان أنّ مجندة أمريكية أُسِرتْ ونُقلت إلى جهة مجهولة بعد تعرّضها لجروحٍ بليغة". قد يبدو هذا الحدث طبيعيًا ويمكن أن يقع في أية حرب، وأي بلد في العالم. غير أن معالجة الحدث من وجهة نظر إنسانية هي التي ستقلب موازين هذا الفيلم وتنتشلهُ من النَفَس التقريري الذي اعتدنا عليه في الأخبار وحتى في بعض الأفلام الروائية والوثائقية النمطية. وهذا هو سرّ نجاح الفيلم وتألق مخرجه هادي ماهود الذي شحن ثيمة الفيلم بمعطيات فنية وإنسانية على حدٍ سواء.

ليس غريبًا أن تتمنى جيسيكا بأنّ هذه الحرب سوف تنتهي قريبًا وتعود إلى أهلها وذويها وأصدقائها الذين تفتقدهم وتشتاق إليهم جميعًا مثل اشتياقها للوطن الذي تحنّ إليه بوصفه مرتعًا للطفولة ومَنجمًا للذكريات الجميلة التي لا تنضب. لا شكّ في أنّ الأم هي أقرب الناس إلى جيسيكا فهي التي تحذِّرها من المخاطر، وتُحيطها علمًا بأنّ الجميع بخير، وهم ينتظرون عودتها على أحرّ من الجمر.1013 ambulans

أحد المسؤولين الحزبيين الذين يرتدون البزة العسكرية يسأل عن المجندة الجريحة ليس من باب الاطمئنان عليها وإنما بوصفها ورقة رابحة للمساومة أو التفاوض مستقبلًا فيخبره الطبيب بأنّ لديها ضربات في الرأس وكسور في الأطراف السفلى ويأمر نقيب عسكري بإبعادها عن هذا المكان فتُنقل إلى مستشفى الولادة الذي لا يلفت الانتباه إلى وجودها. وينصحهم بعدم الاحتكاك بالقوات الأمريكية ويطلب منهم الاتصال بمديرية الاستخبارات العسكرية إذا ما دعت الحاجة إلى ذلك.

تضارب وجهات النظر

في أول احتكاك بين سائق الإسعاف والجندي المسؤول عن الأسيرة تتكشف لنا النيات الطيبة للأول وتتضح النزعة العدوانية للثاني، فالسائق ينظر لها كـ "خطيّة" أي مسكينة، أسيرة ومصابة، بينما ينظر لها الجندي كمجندة أمريكية غزت بلاده.

 تتخلل الفيلم استذكارات الأم التي تعرب فيها عن حُبها واشتياقها اللامحدود فتبادلها البنت المشاعر ذاتها، ولا تدخر وسعًا في الإعراب عن لهفتها الكبيرة باللقاء المُرتَقب.

لقد تحولت المجندة إلى "ورطة" بالنسبة إلى الجندي المسؤول عن حمايتها وهو يريد أن يتخلّص منها بأسرع وقت ممكن فلقد أتعبتهُ ساعات الواجب الطوال ويريد أن يرتاح قليلًا لكنّ السائق يقترح عليه أن يفتح المذياع ويسمع ما يشاء لكي يُبعد عنه النعاس فتأتيه عبر الأثير أغنية "فوت بيها وعالزلم خلّيها / والله لرقاب العدو نساويها" ثم يتبعهُ مذيع إخباري يتحدث عن تغطية للحرب التي تدور رُحاها في العراق فيتململ الجندي متذمرًا من الحروب المتواصلة التي تنهش في أجساد العراقيين. وحينما يغيّر الموجة يطلب الجندي سماع القرآن الكريم مُبررًا ذلك بأنه ذاهب إلى الموت ومن الأفضل أن يشنّف سمعه بالقرآن الكريم.

يأمر العميد الركن غيدان عبدالله الجندي المكلف بحماية الأسيرة أن يأخذ سيارة الإسعاف ويُوقفها على الكورنيش المُطل على نهر الفرات بمواجهة القوات الأمريكية ويرشّها بالنزين ويُوقد فيها النار. وحينما يسأله عن مصير المجندة الأمريكية يأتيه الرد القاسي والمُفجع "إلى جهنم" بحجة أنّ القوات الأمريكية ضربت سيارة إسعاف مدنية وأبادت كل من فيها. ويأمر الجندي بأن ينفّذ أوامره لكن السائق سيعترض لأنه مهمته الأساسية هي نقل الحرجى والمصابين وليس حرقهم في الهواء الطلق. ولكي لا يحتدم النقاش استشهد سائق الإسعاف بآيات من سورة "الإنسان" حيث يقول الله جلّ في علاه:" وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَىٰ حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا، إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا". فقد ساوى الله بين المسكين واليتيم والأسير لأنّ هذا الأخير مغلوب على أمره حيث يتوجب علينا إطعامه، وإكساءه، والمحافظة على صحته وسلامته لحين إخلاء سبيله. لا يبذل السائق جهدًا كبيرًا في إقناع الجندي بأنّه سوف يتحمّل ذنبًا كبيرًا يجب ألّا يقترفه في اللحظات الأخيرة من عمر النظام الآيل للسقوط. فالمستشفى قد فرغ ولم يبقَ فيه سوى حارس واحد نزع ملابسة العسكرية وارتدى الزي الشعبي. فطلب منه أن يذهب لأهله ويترك الباقي عليه لأن الجميع سيذهبون إلى بيوتهم ولن يبقى أحد. يذهب السائق للصلاة وحينما يعود يكتشف أن الجندي قد نزع ملابسه العسكرية وترك سلاحه وغادر المكان كليًا تاركًا خلفه المجندة الأسيرة. تعلن الإذاعة الأمريكية من جهتها بأنّ المسؤولين الأمريكيين يحذرون جنودهم بأنّ هناك معركة عنيفة، ومقاومة شديدة تنتظرهم في بغداد وإلى الشمال منها في تكريت؛ المدينة التي ولد فيها صدام حسين. غالبية الجنود نزعوا ملابسهم العسكرية وارتدوا الدشاديش والزي المدني وانضموا إلى السكّان المدنيين. وهناك 28 ألف فدائي مقاتل بقوا في المدينة وفقًا للاستخبارات العسكرية الأمريكية ويمكن أن يلحقوا الضرر بقوات الاحتلال الأمريكي.1014 ambulans

نهاية مُعبرة ومُستقبل مجهول

ينتهي الفيلم نهاية مُعبرة ومدروسة حينما يُقْدم أربعة جنود عراقيين على تبديل ملابسهم العسكرية بملابس مدنية مقابل أن يأخذ أسلحتهم وملابسهم العسكرية التي يخبئها خلف محتويات المحل. ثمة مشاهد لنهب الدوائر والمؤسسات الحكومية والحزبية. أمّا حارس المستشفى الذي لم يهرب ولكنه قلع هو الآخر ملابسة وارتدى الزي الشعبي مُدعيًا بأن الهزيمة ليست من شيمه. تُنقل الأسيرة إلى المستشفى ثانية لنرى القوات الخاصة الأمريكية وهي تُدهم المستشفى وتحرر المجندة من أسرها.

يعزز المخرج فيلمه ببعض المعلومات المهمة التي يتابع من خلالها مصير المجندة فنعرف أنّ جيسيكا لينج قد عادت إلى بلدها كبطلة حيث رأيناها تصافح الرئيس جورج بوش الأبن. أمّا سائق الإسعاف صباح خزعل فما زال يواصل عمله في المستشفى وبعد سنتين سوف تتعرّض سيارته إلى قصف القوات الإيطالية عند محاولة إنقاذ سيدة عراقية حامل ينقلها إلى مستشفى الولادة الأمر الذي يفضي إلى حرق وتفحّم السيدة ومرافقاتها وإصابة السائق بحروق متعددة.

كان أداء الممثلين الثلاثة مُقنعًا إلى حد كبير ولم نلحظ عليهم الانفعال الفائض عن الحاجة الأمر الذي أوحى لنا بعفوية الأداء وسلاسة تقمّص الشخصيات التي كانت تعيش ظرفًا استثنائيًا بكل المقاييس. وقد تمكن المخرج هادي ماهود من إدارتهم جميعًا بما في ذلك الشخصيات السياسية والأمنية والعسكرية. كما نجح الفنان رعد بركات في تطعيم الفيلم بموسيقى تصويرية تتناغم تمامًا من طبيعة الأحداث المُفجعة سواء للشخصيات العراقية التي تهيمن على مدار الفيلم أو للمجندة الأمريكية التي يقف خلفها الأهل والأصدقاء في الطرف الآخر من الكرة الأرضية. وفي السياق ذاته لا بدّ من الإشادة بدور مدير التصوير عبد الخالق الجواري الذي نقلنا إلى صُلب الحدث وجعلنا نتفاعل معه في لحظات التوتر والانفعال وهي كثيرة ضمن تفاصيل الفيلم، أو لحظات الاسترخاء التي يمكن تلمّسها بين آوان وآخر. وفي الختام لا بدّ من الاعتراف بأنّ النجاح الأساسي لهذا الفيلم قائم على براعة السيناريو الذي كتبه المخرج هادي ماهود وما انطوى عليه من معالجة فنية لوت عنق الفكرة الرئيسة وروّضتها لمصلحة وجهة النظر الإنسانية التي تبنّاها سائق الإسعاف ونجح في إيصالها إلى المتلقين من دون زعيق أو ثرثرة لغوية فارغة. كانت النهاية شديدة الدلالة ولم يسهب السينارست في الحديث عنها لأنها لا تحتاج إلى القول بأن الإدارة الأمريكية قد سلّمت دفة سفينة البلاد إلى الأحزاب الدينية. وينبغي ألا تفوتنا الإشادة بالترجمة الدقيقة التي تبنتها الممثلة المبدعة لبوة صالح حيث أتاحت للمتلقي الأجنبي فرصة استيعاب الفيلم من دون أخطاء لغوية تُربك تدفق المعاني وتؤرق انسيابها العفوي الجميل.

***

عدنان حسين أحمد – كاتب وناقد

تقوم قصيدة "هُجُوعُ مَا بَعْدَ المُنْتَصَفِ" للشاعرة مجيدة محمدي على تيمات متشابكة تعيد تشكيل تجربة الوجود الإنساني داخل فضاء شعري يمزج بين الضياع والانتظار، بين الحضور والغياب، حيث تتقاطع الأزمنة داخل ذات مأزومة تتأمل مصيرها في لحظة من الترقب والتلاشي. لا يقتصر النص على كونه تجربة فردية، بل يتحول إلى مشهد شعري مكثف يجسّد حالة وجودية تتأرجح بين الحسم والتردد، بين الماضي المنسحب والمستقبل المتعثر، في دائرة من الظلال والمعاني المتداخلة.

منذ السطر الأول، تتجلى تيمة الفقد بوصفها المحرّك الأساسي للنص:

"كغصن انفصل عن جذعه، استلقى مثل فكرة لم تكتمل."

هذه الصورة البصرية القوية ترسم إحساسًا بالتمزق واللااكتمال، حيث لا يصبح الانفصال مجرد فعل مادي، بل يتحوّل إلى حالة وجودية تعكس إحساس الذات بكونها كيانًا منقسمًا، بين نصف مضى ونصف ينتظر المصير، وكأنها عالقة في مسافة برزخية بين زمنين لا يلتقيان. هنا، تيمة البرزخية تتجلى بوضوح، حيث لا شيء يكتمل إلا الفقد، وكأن الوجود الإنساني كله محكوم بحالة من التعليق الدائم.

يلعب الزمن دورًا محوريًا في تشكيل بنية النص، حيث يتأرجح بين ماضٍ ينسحب كمدٍّ بعيد ومستقبل يتكسر كالأمواج على ضفة الأمل المنكمش. هنا، يظهر الزمن بوصفه حالة غير مستقرة، أقرب إلى مدّ وجزر لا يترك أثرًا واضحًا. هذا الإحساس يتعزز أكثر في السؤال الذي تطرحه الشاعرة: "أيُّ نصفٍ يتوحد في هذا السكون المفرط؟"، حيث يتحول الزمن إلى معضلة، إذ لا يكون الحاضر سوى فراغ ثقيل بين ماضٍ لا يعود ومستقبل يتبدد قبل أن يأتي. بذلك، تصبح تيمة الزمن العالق عنصرًا أساسيًا في تشكيل الإحساس بالضياع.

يصل الإحساس بالعجز إلى ذروته حين تصف الشاعرة لحظة التخلّي: "حين تصير المفاصل أثقل من الذكريات، والطرق أطول من أي نية للرجوع." في هذه الصورة، يتحوّل الزمن إلى ثقل مادي يرهق الجسد ويتخنه يالعجز، فتغدو الذكريات -وهي عنصر غير ملموس- أكثر خفّة من الجسد ذاته، مما يعكس مدى الإرهاق الوجودي الذي تعيشه الذات. هذا الإحساس يتسع في صورة الرغبات الخفية التي "تتسلل كقط ضجر، تقلّب في الدرج المغلق عن بقايا قصيدة لم تُكتب، عن نص مؤجل، عن اسم كان له يومًا، ولم يعد." هنا، تيمة البحث عن الذات المفقودة تصبح أكثر حضورًا، حيث لا يكون الماضي مجرد ذكرى، بل شيء يواصل التسلل كهاجس، كظلّ يلاحق الكائن دون أن يمنحه يقينًا أو خلاصًا.

تأخذ تيمة النور والظلال بعدًا خاصًا في النص، لكنها لا تُطرح ضمن الثنائية الكلاسيكية-المستهلكة التي تجعل من النور رمزًا للخلاص، بل يتم تفكيكها بحيث يصبح الضوء نفسه كيانًا مترددًا عاجزا على منح الوضوح أو التنوير الحقيقي. تصف الشاعرة الضوء بأنه "ضعيف كمصباح موتى، يتسلل من أطراف الستائر كشفق نادم، يلقي بظل باهت على جدار خالٍ، لكنه لا يضيء شيئًا." في هذه الصورة، لا يعود النور مصدرًا للحقيقة، بل يتحوّل إلى مجرد ظلّ شاحب، ضوء متردد غير قادر على خنق العتمة واختراقها أو كشف الطريق. هذا العمق في توظيف النور والظلال يجعل منهما عنصرين يعكسان تيمة الحيرة والتردد التي تطغى على القصيدة ككل.

على الرغم من كل الإحساس بالفقد، لا تصل القصيدة إلى حدّ العدمية المطلقة، بل تترك ثغرة للأمل، ولو كان أملًا مؤجلًا أو غائمًا، في خاتمتها:

"إنه وعد الشمس التي قد تأتي… رغم رهج السديم."

هذه الجملة الأخيرة لا تُلغي ثقل التيمات السابقة، لكنها تمنح القصيدة بعدًا جديدا مفتوحًا على احتمالات تبقي إمكانية الخروج من دوائر التلاشي قائمة، ولو وسط الغموض الذي يحجب الرؤية. هنا، تيمة الرجاء الغامض تمنح النص لحظة تنفس أخيرة، وكأن الذات/الشاعرة رغم كل شيء، لا تزال تمتلك احتمال العودة.

تنتمي "هُجُوعُ مَا بَعْدَ المُنْتَصَفِ" إلى نصوص الاغتراب الوجودي التي تتأمل المصير الإنساني من خلال تيمات الفقد، الزمن العالق، الجسد المثقل، الحيرة، والأمل المؤجل. القصيدة تنجح في خلق عالم شعري يتأرجح بين اللااكتمال والرغبة في الاكتمال، حيث يصبح الإنسان كيانًا معلقًا بين النوم واليقظة، بين الحضور والغياب، داخل لحظة برزخية لا تنتمي إلى أي زمن محدد، وإنما إلى الفراغ الذي يتوسط كل الأشياء...

***

أحمد لمقدم – كاتب وناقد

............................

" هُجُوعُ مَا بَعْدَ المُنْتَصَفِ"

كغصن إنفصل عن جذعه ،

إستلقى مثل فكرةٍ لم تكتمل،

نصف عمرٍ مضى، نصف نومٍ آت،

ولا شيء يكتمل إلا الفقد.

الرُّوحُ كَمِزلاجِ نافذةٍ صَدِئ،

تَتَأرْجَحُ بينَ ماضٍ يَنْحَسِرُ كمدٍّ بَعيد،

ومُسْتَقْبَلٍ يَتَكَسَّرُ كالأمْوَاجِ عَلى ضِفَّةِ الأَمَلِ المُنْكَمِش.

أَيُّ نِصْفٍ يَتَوَحَّدُ في هَذَا السُّكُونِ المُفْرِط؟

أَيُّ ظِلٍّ لِلرَّجُلِ الذِي يَتَأَمَّلُ خَطُّوْطَ وَجْهِهِ

فِي مِرْآةٍ تُشْبِهُ زُجَاجَ المَطَرِ المُتَكَهِّف؟

*

إنَّهُ وَقْتُ التَّخَلِّي،

حينَ تَصِيرُ المَفَاصِلُ أَثْقَلَ مِنِ الذِّكْرَيَات،

والطُّرُقُ أَطْوَلَ مِنْ أَيِّ نِيَّةٍ لِلرُّجُوع.

الرَّغْبَاتُ الخَفِيَّةُ تَتَسَلَّلُ كَقِطٍّ ضَجِر،

تُقَلِّبُ فِي الدَّرْجِ المُغْلَقِ

عَنْ بَقَايَا قَصِيدَةٍ لَمْ تُكْتَبْ،

عَنْ نَصٍّ مُؤَجَّلٍ،

عَنْ اسْمٍ كَانَ لِه يَوْمًا،

وَلَمْ يَعُدْ.

*

النُّورُ هُنا ضَعِيفٌ كَمِصْبَاحِ مَوْتَى،

يَتَسَلَّلُ مِنْ أَطْرَافِ السِّتَائِرِ كَشَفَقٍ نَادِم،

يُلْقِي بِظِلٍّ بَاهِتٍ عَلَى جِدَارٍ خَالٍ،

لَكِنَّهُ لا يُضِيءُ شَيْئًا.

*

هَذَا النِّصْفُ الَّذِي يتَمَدَّدُ فِيهِ

لَيْسَ لَيْلًا،

وَلَيْسَ يَقَظَة،

لَيْسَ عُمُرًا،

وَلَيْسَ مَوْتًا.

*

إِنَّهُ أَثَرُ خُطُوَاتٍ فِي طِينٍ قَدِيم،

إِنَّهُ وَعْدُ الشَّمْسِ الَّتِي قد تَأْتِي...رغم رهج السديم ...

***

مجيدة محمدي

(مُدَّ لي حبل جـواب)

أيُّـهـا الـسِّـرُّ الـخـرافـيُّ الـذي أعـجَـزَنـي

حـتـى اسْـتـحـالْ

*

 شِـبْـهَ تـفـسـيـر ٍ

لـمـعـنـى الـوهْـم ِ فـي ذاكـرة ِ الـغـيْـبِ

وقـامـوسِ الـخـيـالْ

*

يـا سـؤالا ً

كـلّـمـا فـكّـرتُ فـي مضـمـونِـه ِ

يـفـرعُ لـيْ ألـفُ سـؤالْ

*

أيُّـهـا الـسَّـهْـلُ ..

الـعـصِـيُّ ..

الـواضـحُ ..

الـغـامـضُ ..

يـا مَـنْ كـلـمـا ازدَدْتَ احْـتِـلالا ً لـيْ

حـمَـدتُ الـلـهَ وازدَدْتُ خـشـوعـا ً

وابـتِـهـالْ

*

أيُّـهـا الـمـالِـكُ والـمـمـلـوكُ ..

والـعـاقِـلُ والـمـخـبـولُ ..

والـرَّحـمَـة ُ والـنـقـمـة ُ ..

والشِركُ الحَلالْ

*

لـيـس يـعـنـيـنـي الـذي قـيـلَ

ومـا سـوف يُـقـالْ

*

فـأنـا سِـيّـانِ بـعـد الـمـوت ِ عـنـدي

أنْ تُـغـطّـيـنـي بـشـوك ٍ

أو بـزهـرِ الـبـرتـقـالْ

*

فـتـعـالَ الانَ ..

عَـمِّـدْنـي بـلـثـم ٍ

قـبـلَ أنْ يـحـمـلـنـي الـصَّـحْـبُ إلى الـقبرِ ..

تـعـالْ ..

*

فـمـتـى

هُـدهُـدُكَ الـمـوعـودُ يـأتـي

حـامـلا ً بُـشـراهُ بـالـفـردوسِ

والـخـمـر ِ البتوليِّ الـعناقيدِ

الخرافيِّ المنالْ؟

*

جَـفَّ صـوتـي

وأنـا أعـبُـرُ صـحـراءَ ظـنـونـي ..

مُـدَّ لـيْ حَـبْـلَ جـواب ٍ

مـرَّ عـامـانِ ..

وعـامٌ ..

ثـمَّ عقدٌ ..

وأنـا الـمـرمِـيُّ فـي بـئـر ِ الـسُّـؤالْ

*

مـا الـذي أنـبَـضـنـي؟

مَـنْ دَجَّـن َ الـذئـبَ بـغـابـاتـي

فـأضـحـى

حـارسَ الـوردِ

وعـبـدا ً لـلـغـزالْ؟

*

فـأنـا كـنـتُ رمـيـمـا ً ..

لم أكـن أعـرفُ لـلـمِـحـرابِ مـعـنـى ..

وكـؤوسـي لم تـكـن تـنـهـلُ

إلآ

مـن يـنـابـيـع ِ الـضَّـلالْ

*

كـيـف أصْـبَـحْـتُ إمـامـا ً

فـأؤمّ الـطـيـرَ والأنهـارَ والأزهـارَ

إنْ كَـبَّـرَ عـصـفـورٌ

ونـادى لـصـلاة ِ الـعِـشـقِ " صـوفـائـيـلُ " ..

تـغـدو قِـبـلـتـي الأولـى

وأغـدو

لـلـمُـصـلّـيـن " بِـلالْ "؟

*

ودلـيـلا ً

فـي مَـزاراتِ مـجـانـيـن ِ الـهـوى ..

مُـفـتـي ديـار ِ الـوجـدِ ..

نـاطـورَ بـسـاتـيـن ِ الـوصـالْ؟

*

وأمـيـرَ الـجـنِّ فـي مـمـلـكـة ِ الأنـسِ ..

وقـاضـي الـعـدلِ

فـي مـحـكـمـة ِ الـعُـشـبِ ..

وجلادَ لـصـوصِ الـمـطـرِ الأخـضـر ِ ..

كـيـف اشـتـعَـلَ الـرّأسُ هُـيـامـا ً

بكَ يـا ذاتَ الـجـلالْ؟

*

كـيـفَ أصْـبَـحْـتُ بـشـيـرا ً بـالـمـواويـل ِ ..

نـذيـرا ً لـلأحـابـيـل ِ ..

نـديـمـا ً لـلـقـنـاديـل ِ ..

هَـزوءا ً بالمـجـاهـيـل ِ ..

ولـيَّ الـعـهـدِ فـي مـمـلـكـة ِ الـحـزنِ

وفلاحَ بـسـاتـيـنِ الـخـيـالْ؟

*

أزرعُ الـغـيـمَ

فـأجـنـي الـضّـوءَ

والـمـاءَ الـزُّلالْ

*

والـحـصـى أغـرسُـهُ فـي واحـة ِ الـحُـلـم ِ

فـيـغـدو

حـيـن تـسـقـيـنـي طِـلا الـلـثـم ِ

عـنـاقـيـدَ يـواقـيـتَ ..

وتـفـاحـا ً ..

وأعـذاقَ لآلْ 

*

تُـشـمِـسُ الـلـيـلَ إذا تـعـرى

وتـرمـي عـن مَـرايـا الـجـيـدِ شـالا ً ..

و " حِـجـابـا ً " عـن ضُـحـى الـوجـهِ البتوليِّ

فـتـغـتـاظ ُ الـفـوانـيـسُ ..

فـنــلـهـو:

نـجـمـةً مـلـعـبُـهـا حُـضـنُ هِـلالْ    

*

فـتـعـالْ

*

لـكَ عـنـدي غـابة ٌ مـن شـجَـرِ الـعـشـقِ

ونـهـرٌ مـن جـنـون ٍ

وسـمـاواتُ دَلالْ ..

***

يحيى السماوي

.......................

قصيدة تعجُّ بالرمزية والصوفية والإنزياحات اللغوية، وتتناول ثيمات الوجود ، والحيرة الوجودية، والبحث عن الذات في خضمّ التناقضات. ليتنا نستطيع الغوص في تحليلها؟! فلننظر إلى هذه الحيرة الوجودية حين يعبّر الشاعر عن تساؤلات وجودية عميقة بقوله: ما الَّذِي أَنبضني؟ كيف أَصبحت؟ وكأنه يحاول فك لغز وجوده وتحولاته من "رميم" إلى إمامٍ روحيّ.

ولننظر لهذه التناقضات الظاهرة في النص: (المالك/المملوك، العاقل/المخبول، الرحمة/النقمة...) والتي تعكس صراع الذات مع تناقضات الوجود.

ما هذا العشق الصوفي يا شاعرنا الجميل والذي يُكرّس الحب كدينٍ بديل " صلَاة العشق، مفتِي ديار الوجد "، ويجعل من المحبوب معبودًا .

لنتوه قليلا في هذا المنفى الداخلي: "صحراء ظنونِي، بئر السؤَالْ" الرامز للعزلة والضياع في متاهات الفكر.

لا بد من الإشارة للرمزية الدينية:

"بِلَال": مؤذن النبي محمد "ص" ، هنا يصبح الشاعر "بِلَال" المصلين في معبد الحب.

"الْفردوس": جنّة العشق التي يعد بها الهدهد (رمز البشارة في الثقافة الصوفية).

الانزياحات:

- الانزياح الزمني وتداخل الأزمنة (الماضي، الحاضر، المستقبل) لتعكس تشظي الذات.

- الانزياح المكاني والإنتقال من الصحراء إلى الجنّة، ومن بساتين الوصال إلى محكمة العشب، لخلق عالمٍ سحريّ.

لا بد من الإشارة لتحوّل الذات برواية الشاعر لرحلته من الانهيار "رميم" إلى النهوض كقائدٍ روحي "إِماما"، "أَمير الْجن". هذا التحول الذي يعكس قوة الخيال في إعادة تشكيل الواقع، خاصة في سياق المنفى الذي عاشه الشاعر، حيث يصبح الشعر ملاذًا وجوديا.

مباركة هذه الخاتمة بمنحىً تفاؤلي رغم الحيرة:

"لـكَ عـنـدي غـابة ٌ مـن شـجَـرِ الـعـشـقِ

ونـهـرٌ مـن جـنـون ٍ

وسـمـاواتُ دَلالْ .."

والتي قدمتَ فيها "العشق" كغابةٍ خصبة تعوض جفاف المنفى، وتُعيد بناء عالمك الداخلي.

تقبلوا مروري بود مع للإعتذار عن الإطالة والتقصير بحق النص

***

بهيج حسن مسعود

 

قراءة نقدية تحليلية لقصيدة "النفق"، للشاعرة مارلين باسيني - المكسيك.

قصيدة /النفق/ للشاعرة: مارلين باسيني هي نص شعري غني بالرمزية ويعبر عن رحلة داخلية مليئة بالتناقضات والتحديات النفسية والوجودية. من خلال استخدام النفق كرمز أساسي، تقدم الشاعرة صورة معقدة للحالة البشرية التي تتراوح بين الموت والحياة، بين الفقدان والتجدد. القصيدة تتناول موضوعات العدم، الانتقال، والتجديد، مقدمة رؤية شعرية تنطوي على دلالات فلسفية وعاطفية.

1. الرمزية والتشبيهات:

القصيدة تعتمد بشكل أساسي على الرمزية التي تشد الانتباه منذ البداية. النفق، الذي يظهر في العنوان وفي السطور الأولى، يمثل ليس فقط الانتقال الزمني بل أيضًا التحول الروحي والنفسي. يبدأ النص بـ /دقت الساعة ساعة الصفر/، مشيرًا إلى لحظة حاسمة من التغيير أو التحول الجذري، حيث يقترب الفرد من نقطة البداية والنهاية في الوقت نفسه.

وفي السطور اللاحقة، يتضح أن الشاعرة تستخدم الرمزية على مستوى عميق لتصوير التحولات الداخلية: /العيون على الهارب، ابتسامة، اسم يتكرر كتعويذة/. هذا المزيج بين البصر والسمع يشير إلى حيرة الإنسان في مواجهته للمجهول، وتكرار الاسم كتعويذة يوحي بمحاولة الإنسان التمسك بالأمل أو القوة في لحظات الضعف.

2. الصور الحسية والصوتية:

القصيدة ممتلئة بالصور الحسية التي تعزز التجربة الشعورية وتُدخل القارئ في عالمها الداخلي. /قبلة في فم الجشع/، و/المطر ينهمر/ و/صوت ناعم بين طبقات النسيم/ هي صور تنقل إحساسًا بالحركة والانتقال، وتساهم في خلق جو من التأمل العميق. الشاعرة تمزج بين الأصوات والمرئيات، مما يعمق الفهم لرحلة الداخل والبحث عن الذات.

كما أن /المطر ينهمر/ يضيف بعدًا دراميًا للقصيدة، حيث أن المطر غالبًا ما يُرمز إلى التجدد والنقاء، لكنه هنا يُذكر في سياق /أيام من عدم اليقين/، ما يخلق توترًا بين الأمل واليأس.

3. التوقف والتحول:

القصيدة تتناول بشكل خاص مفهوم التوقف والتحول، /التوقف الجسدي المفاجئ يكسر الحبل الفضي الرقيق جدا/. الحبل الفضي هو رمز تقليدي في الأدب الفلسفي والروحانيات للاتصال بين الروح والجسد، واستخدامه هنا يوحي بقطع هذا الاتصال في لحظة فاصلة من التحول. هذا التوقف المفاجئ يشير إلى مرحلة انتقالية أو /لحظة الصفر/ التي تسبق البداية الجديدة.

كما أن /النفق المعقد/ يعكس الحالة المعقدة للعقل البشري في محاولة لفهم الذات والوجود في وسط كل هذه التغييرات والتحولات. ومع ذلك، هناك إحساس بالتطلع إلى المستقبل، وهو ما يتجلى في /ما كان نزهة في دار الأيتام قد تحول/؛ فقد تتواجد الإشارة هنا إلى الانتقال من الطفولة والبراءة إلى النضج والتطور الشخصي.

4. الوجود والتجدد:

في نهاية القصيدة، يتكرر theme الولادة الجديدة والولادة الروحية. هذه الولادة الجديدة تمثل التجدد والتطلع إلى بداية جديدة، /حتى تصل إلى البداية من الولادة الجديدة المتوقع/. إن هذا التشبيه يعكس فكرة التغيير المستمر في الحياة البشرية، وفكرة أن نهاية شيء قد تكون بداية شيء آخر.

الصورة الختامية عن /الدوامات المضيئة/ و/رقصة الأحلام/ تخلق إحساسًا بالتحرر والانطلاق، كما لو أن السحب قد انقشعت لتفسح الطريق للولادة الجديدة المنتظرة. التناوب بين الظلام والضوء، بين الخوف والأمل، هو ما يعطي القصيدة عمقًا فلسفيًا وفنيًا.

5. الأسلوب الفني والموسيقى الشعرية:

الأسلوب الفني الذي تستخدمه مارلين باسيني يعكس إيقاعًا شعريًا غير تقليدي ولكنه يشد الانتباه إلى لُحمة الكلمات وصوتها. القصيدة مليئة بالصور السريالية التي تخلق جوًا من الغموض والتوتر، وهو ما يعكس تمامًا الرحلة النفسية التي تسلكها الشخصية في النص. الموازنة بين الفضاءات الصوتية والمرئية تعطي القصيدة طابعًا موسيقيًا في بعض الأحيان، ويعزز ذلك من التجربة الشاملة للقارئ.

6. الخاتمة:

قصيدة /النفق/ للشاعرة مارلين باسيني تفتح المجال لتفسير عميق للحالة الإنسانية في لحظات التحول الكبيرة، حيث تتداخل العواطف، والذكريات، والآمال المستقبلية لتخلق صورة شاعرية مليئة بالتناقضات بين الظلام والنور، الموت والحياة، النهاية والبداية. إن استخدام النفق كرمز للتحول العميق يتوافق مع المواضيع الوجودية التي تطرحه القصيدة، ليعكس في النهاية مسعى الإنسان الأبدي للبحث عن المعنى والغاية في قلب التجربة الإنسانية.

***

بقلم: كريم عبد الله – العراق

..................

النفق

دقت الساعة ساعة الصفر""

حان الوقت للانتقال إلى إعادة الضبط

من خلال نفق الطريق الأبدي دائمًا...

على خريطة ذهنية في ميكروثانية

أفلورا مدى الحياة

العيون على الهارب

ابتسامة

اسم يتكرر كتعويذة

قبلة في فم الجشع

صرخة

المنزل

الشجرة...

صوت ناعم

بين طبقات النسيم

المطر ينهمر

أيام من عدم اليقين

الوجود الشره لكل ما كان

التوقف الجسدي المفاجئ

يكسر الحبل الفضي الرقيق جدا

الكثافة الآن شكل أثيري...

النفق المعقد

وضوح السماء مقدم

ما كان نزهة في دار الأيتام

لقد تحول

في هالة معطرة بالورود...

أحاط بالطريق

الدوامات المضيئة

إنهم يدورون في رقصة الأحلام

وفي ترحيب خفي بالأجنحة

إنهم يفسحون الطريق

حتى تصل إلى البداية

من الولادة الجديدة المتوقع. "

***

مارلين باسيني - المكسيك

لكامل عبد الحسين الكعبي - العراق

الأسلوب السردي والتعبيري: القصيدة تعكس أسلوبًا سرديًا يعبر عن التوتر الداخلي للصراع بين الحياة والموت، بين الأمل واليأس. الشاعر يمزج بين الوصف المباشر للمشاعر والتأملات الفلسفية حول الذات والزمان والمكان. لغة القصيدة معقدة، تشي بإحساس حاد من التناقضات، حيث يُستعمل الشتاء والصقيع كمجازات لفترات من الحياة الموحشة أو المعزولة.

الرمزية:

ديسمبر في القصيدة هو الشهر الذي يتحدى /الصقيع/ - وهو صقيع داخلي أو نفسي، كما يُحتمل أن يكون صقيعًا اجتماعيًا أو سياسيًا. الرمزية قوية في تصوير الموت أو النهاية (الموت المتكرر) عبر الحبل المنفلت والقلق الداخلي. الكلمة /معاق/ تشير إلى صعوبة التجديد أو التغيير في تلك اللحظة الزمنية.

التقنيات اللغوية:

الشاعر يستخدم العديد من الصور البلاغية المميزة مثل /القصيدة حبلى/، و/كَيّ المياسم/، و/النعاس من الاصفرار/، التي تخلق توترًا بين الحركية والجمود. الصور المبالغ فيها تجعل التجربة الإيحائية أكثر غموضًا وتعقيدًا، مما يعكس التوترات النفسية للفرد الموصوف.

التوتر بين الحياة والموت:

القصيدة مليئة بالتناقضات بين الحياة والموت. /المطر الأعزل/ و/الشمس بلا أصابع/ يشيران إلى غياب الفعالية في العالم الخارجي، بينما /مطرٌ/ و/شمسٌ/ يمكن أن يكونا رمزين للأمل الذي لا يكتمل. كما أن صراع /دفء ديسمبر/ مع /الصقيع/ يسلط الضوء على التحدي الداخلي بين الرغبة في البقاء والركود في وضعية متجمدة.

البنية والتأثير العاطفي:

البنية غير التقليدية للقصيدة، التي تتنقل بين العبارات المتشابكة والمركبة، تسهم في خلق الإحساس بالتوتر المستمر. التشابك بين الجمل الطويلة، مع الغموض في بعض الأجزاء، يعكس القلق المتنامي في الذات الشاعرة. كما أن العبارات التي تحتوي على أسئلة غير مباشرة مثل /مَنْ يفتح أبوابَهُ الموصدّة؟/ تبين العجز والانسداد الذي يشعر به الشاعر.

الخلاصة:

القصيدة /دفءُ 'ديسمبر' يتحدّىٰ الصقيع/ تتسم بعمقها الرمزي واللغوي، وتعبّر عن معاناة شديدة مصحوبة برغبة في التغيير والإفلات من القيود. تُستخدم صور الشتاء والصقيع كأدوات بلاغية للتعبير عن الفترات المظلمة في الحياة، بينما يأتي الأمل في دفء ديسمبر كنوع من التحدي لهذا الجمود. اللغة المشحونة بالصور المجازية والأفكار الفلسفية تجعل القصيدة معقدة ومليئة بالتأملات الوجودية.

***

 بقلم: كريم عبد الله - العراق

.........................

دفءُ 'ديسمبر' يتحدّىٰ الصقيع

وهوَ يقبعُ في زاويةِ الليلِ نصلاً شهرٌ معاقٌ كقصيدةٍ حُبلىٰ تنجلي أبياتُها بولادةٍ قيصريةٍ لمحتُ بصيصاً مثقوباً بدخانٍ ذي جفونٍ كبرقِ شتاءٍ يلظّ تجاعيدهُ مثل كَيِّ المياسمِ يمتصُّ منِّي بقايا ارتشاف رضيتُ أنْ أجترَّ أخيلتي لتبعثَ في صهيلها رسائلَ الرياحِ ثَمّةَ غبارٌ يحيطُ بي وقلقٌ يسيّرني حتّىٰ غدوتُ هباءً عذباً يشتهي حججاً مائيةً وبراهينَ بلا زعانف بعيداً عن كلِّ الفضاءاتِ الجريحةِ كي لا أصاب بامتعاضٍ طريٍّ أو قلقٍ أعمى فعندي ما يكفي لاستقطابِ ألوانٍ أخرىٰ كي أشاغلها يموتُ النعاسُ من الاصفرار ويتبرعمُ الاخضرارُ علىٰ شفتيهِ بهواءٍ عَلَنيٍّ ورئاتٍ تتوجسُ يطيرُ بلا أجنحةٍ قبلَ أنْ تصفعني عيناه فأنام يهدهدني مطرٌ أعزل وتوقظني شمسٌ بلا أصابعَ ما كنتُ إذ انفلتَ الحبلُ بقعرِ الانطواءِ منطوياً لكنَّهُ صاغَ ليَ من قلبهِ لجاماً حذّرني من الجموحِ بيدَ أنِّي وجدتهُ منتفخاً كاليابسةِ متضخِّماً كزهورٍ لا تبيض يتحدّىٰ بدفئهِ الواهمِ طغيانَ الصقيعِ ينتظرُ شمساً شاسعةً وجارحةً ولكن مَنْ يفتح أبوابَهُ الموصدّة!؟ مَنْ يُجمّر صقيعه!؟ ليلُهُ دامسٌ ونهارُهُ منزَوٍ في مخابئِ القتامةِ يدورُ في أفلاكٍ قديمةٍ لا عزاءَ لكَ فاذهب إلى موتِكَ الذي يتكرّر مصحوباً بالعافية.

***

كَامِل عبد الحُسين الكَعْبِي -العِراقُ _ بَغْدادُ

 

الرثائية الخاصّة برحيل د. ريكان ابراهيم

أرى ان قصيدة الشاعر المُتفرّد " د. مصطفى علي " والتي حملتْ عنوان " الأولُ الموهوبُ في القرية " والمُهداة الى الشاعر والباحث النفسي

الراحل " د. ريكان ابراهيم، والتي جرى نشرها في " صحيفة

-2025-2-2المثقف " في يوم الاحد الموافق شباط

نعم، قلتُ انني أٍرى أن هذه القصيدة واحدة من القصائد والمراثي المهمة والصادقة والموجعة في الشعرين العراقي والعربي كذلك.

وبكل صراحة ووضوح وصدق، فان قصيدة الدكتور " مصطفى علي " الرثائية هذه قد ذكّرتني بعيون قصائد الرثاء في شعرنا العربي الخالد، ولا يُخفى علينا نحن الشعراء والأدباء والكتّاب فقد اصبح شعرنا مكتنزاً وحافلاً بقصائد ودواوين شعرية في غاية الاهمية والابداع والجمال، وكذلكَ شهدنا تجارب جديدة وتحديثات واضافات جوهرية تماماً. وأعتقد ان قصيدة الشاعر " مصطفى علي " هذه، تستحق الفحص والقراءات النقدية والذوقية والانطباعية أَيضاً.

إذاً: اقرأوا معي هذه الابيات الشعرية الطاعنة في الحزن والوجع والخسارات والفقدان المُر والغياب الفاجع، وسلطة وفلسفة ووحشية الموت الغامض والقاسي والذي " مهما تعددتْ اسبابه فهو واحد "،

حيثُ يجيئنا ويداهمنا ويختطف أرواحنا بلا أيَّة مقدّمات ولا شفرات ولا اشارات ربّانية وروحية ونورانية.

يقول الدكتور مصطفى علي في ابياته الفاجعة الآتية:

" وأتى أخي

لِيُعيدَ مَزْهوّاً على آذانِنا

ذاتَ الحِكايةِ عن فتىً

شَهِدَتْ مواهبَهُ الدفاترُ والصُفوفْ

*

حتى إذا غرستْ أناملُهُ زهورَ الياسمينْ

رَفَلت شذىً بِأريجِها كلِّ الرُفوفْ

*

كَشُجيْرَةِ البستانِ وارفةٍ ودانيةِ القُطوفْ

*

وَعُذوقُها حُبلى بِناضِجةِ الثِمارِ فَواكِهَ

الألبابِ من شتى الصُنوفْ

*

كَشَفتْ أساريرَ النُفوسِ فأشْرَقتْ

شمسٌ بها بعدَ الكُسوفْ

*

فَتَرَمّمتْ فيها الرضوضُ نقاهةً

وَتَحصّنتْ بالروحِ من شَبَحِ الوساوسِ والحُتوفْ

*

واليومَ قد بلغَ النهايةَ بعدما

شرِبَ المرارةَ كلّها من شَرِّ داءْ

*

وَرَمٍ تَشعّبَ في الخَلايا هازِئاً

بِمَشارِطِ الجَرّاحِ كيداً والدَواءْ

*

في البَدْءِ قاوَمَ جاهداً سَرَطانَهُ

بِرؤى القوافي والقصائدِ إنّما

لَمْ تمنحِ المعلولَ آلاءَ الشفاءْ

*

في آخِرِ المشوارِ سلّمَ راضياً

بالموتِ حقّاً حيثُ خاتمةِ التوجّعِ

والتميّزِ والمَطافْ "

وكذلك فقد لفتت انتباهي واهتمامي مجموعة من ابيات هذه القصيدة، وذلك لاكتنازها بلغة شعرية عربية وعميقة وأَصيلة ومتمكّنة في صوغ وابتكار واقتناص الصور الشعرية واللحظات الخفية والسيروية من خلال سيرة أخينا وصديقنا الانسان و الحكيم في  علم النفس البشرية المُعقدّة والغرائبية، وكذلك فأن صديقنا الباحث والشاعر المُعتّق، قد كان شاعراً كبيراً وأَديباً أريحياً وكريماً ونبيلاً بما تعجز الكلمات عن توصيف علمه وبحوثه وقصائده المُبهرة والجريئة والثورية والساخرة حدَّ المرارة والنقد اللاذع. ولذا فهي تستحق الجمع والتقديم والقراءات والبحوث والرسائل والاطاريح الاكاديمية في معظم الجامعات والكليات العراقية والعربية.

والآن يمكننا النظر وفحص هذه الابيات السيروية المهمة، والتي تنمُّ عن صداقة وأخوّة ورفقة وعراقية حقيقية بين الشاعرين الدكتورين ريكان ومصطفى.  وهي ليست قائمة على الادعاءات و العنتريات والتنمّر الفض والتبجح الفج والبعيد كل البُعد عن الرؤى والخطابات الشعرية واخلاقيات الكتابة، وجماليات الشعر ورفعته وسموّه. وكذلك لطف ونبل وأحلام وابعاد وعوالم الشعراء والمبدعين الحقيقيين:

"هُوَ أوّلُ الأشبالِ تلميذاً بِقريتنا

يُكرّمُهُ الزعيمْ

*

أهداهُ مكتبةً بِها ألْفا كِتابْ

كَرَماً وَجوداً من لَدُنْ عبدِ الكريمْ

*

لِفَتىً لَبيبٍ بعدَ أنْ طرقَ النبوغَ مُبكّراً

ومضى يلحّنُ نفْسَهُ وَنفوسَ مرضاهُ

التي قد هَمّها ضَرَرٌ أليمْ "

لأخينا وصديقنا الراحل الكبير الدكتور "ريكان ابراهيم" الرحمةُ والطمأنينة والفردوس الاعلى، وعلى روحه السلام.

دمتَ بخير وعافية وشاعرية أخي ابا الجيداء الشاعر القدير والوفي والنبيل أَبداً.

***

سعد جاسم

 

اهتم الأدباء العرب بالأدب الروسي وتأثروا به منذ نهاية القرن التاسع عشر، واطلعوا عليه في الغالب من ترجماته الى اللغات الأوروبية. وانعكست أصداء القضايا الاجتماعية والعلاقات بين البشر، والتناقضات بين التراث والحديث والصراع بين الآباء والبنين، والأسئلة المتعلقة بمعنى الحياة وتنظيم العالم، والقضايا الميتافزيقية، على إبداع الأديب العربي وفكره. وما عدا الروائي السوداني الراحل الطيب صالح لم أقرأ لأحد من الأدباء العرب، من صرح بأن الأدب الروسي لا يعجبه. ودون شك فإن الأدب الروسي ترك ظلاله على أعمال رواد القصة العربية بما في ذلك محمود تيمور في مصر والريحاني وميخائيل نعيمة في لبنان وحنا مينا في سوريا والطاهر وطار في الجزائر ومحمود السيد في العراق وعلى ممثلي الأجيال التالية الذين أبدوا دائما إعجابهم به وبأفكاره وموضوعاته.

وفي هذا السياق استمدت القصة العراقية منذ نشوئها من الرواية الروسية التزامها بالهمّ الاجتماعي وطابعها الأيديولوجي المحض، وفي أحيان كثيرة على حساب المستوى الفني. ونجد بصمات الأدب الروسي واضحة أكثر في الأدب القصصي في خمسينات القرن الماضي في العراق، وحتى على روائيين من الرواد متميزين في الأدب العراقي، لا سيما عبد الملك نوري وفؤاد التكرلي وغائب طعمة فرمان. وعموما فإن عبد الملك نوري والتكرلي ظاهرة متفردة في تاريخ القصة العراقية، بل والعربية، ولم ينخرط القصاصان في التيار الأدبي العام الجارف الذي ساد في الخمسينيات والنصف الأول من الستينيات، والذي بالغ بإضفاء الطابع الأيديولوجي على الأدب، وسعى الأديبان التكرلي ونوري للبحث عن أدوات ومضامين جديدة للعمل الأدبي القصصي، فاهتم عبد الملك بالجوانب النفسية، فيما ركز التكرلي على المشاغل الوجودية للإنسان.

إن فؤاد التكرلي منح الحدث الاجتماعي في قصصه أبعادا أرحب، وتفادى حصرها بأطر موضوعة من خارج العمل الأدبي. وأدرك بصورة مبكرة إن تلك الأطر تظل حاجزا أمام انطلاقة العملية الإبداعية الفنية لجيل الخمسينيات ومنتصف الستينيات وحالت دون البحث عن آفاق جديدة. فتلك الأطر غدت بفعل عوامل خارج الأبداع تيارا لا فكاك منه، على الأقل بالنسبة لجيله. وعلى الرغم من إن الشكل الاجتماعي والأجواء البغدادية شكلت خلفية لأجواء قصص التكرلي، فإن مضامين أعماله والأسئلة التي طرحتها أحداث وشخوص قصصه، كانت ذات أبعاد فلسفية وأخلاقية، عن جوهر الوجود الإنساني، وكوامن النفس الإنسانية وضالتها، واستجابتها للظرف الإنساني الذي عايشته، وأصداء أخلاقية لمحيطها. ويلوح البعد الاجتماعي في أعمال التكرلي في غالب الأحيان، شكلا للعمل القصصي الروائي، لا غير. ويمكن للتحقق من ذلك أكثر بمقارنة الأعمال الروائية للتكرلي بأعمال واحد من أبناء جيله، الراحل غائب طعمة فرمان 1927- 1990)، الذي كان يؤكد دوماً اعتزازه وإعجابه بأدب التكرلي، وحرصه خلال وجوده في موسكو على إيصال أعماله الجديدة للتكرلي ليتعرف على رأيه فيها، وذلك يعود أيضا الى أن الرجلين كانا صديقي طفولة.

لقد ظلت الهموم الاجتماعية بحد ذاتها تمثل محورا لروايات غائب طعمة فرمان، الذي كان يبحث دائما عن مكوّنات الشخصية العراقية، ويسعى لاستعادة نكهة الأجواء البغدادية التي عفا عليها الزمن، ليس لغاية وإنما لحد ذاتها كأجواء، لذلك فإن غائبا كان مولعا بأسماء شوارع بغداد وأزقتها والأسواق والجسور القديمة وأرقام باصات مصلحة نقل الركاب (الاتوبيس)، وحرص حتى في روايته وقصصه القصيرة حتى التي جرت أحداثها خارج البلد على بعث المناخ لعراقي وشخوصه، دون التطرق بوضوح الى الهم الوجودي الشامل.

 ويظهر المنحى الفلسفي والأخلاقي بشكل جلي في واحدة من روايات التكرلي  التي كانت من بين آخر رواياته "المسرات والأوجاع". ويتناول التكرلي في روايته فترة تاريخية طويلة من حياة العراق، تمتد قرابة مئة عام، ويرسم طيفا واسعا من الشخوص المختلفة في مكوناتها النفسية وانتماءاتها، ولكن هناك شخصية" توفيق" التي تربط هذا الكم من الشخوص والأحداث. بيد أن السارد يتجاهل انعطافات التاريخ الكبيرة والكثير من تفاصيله التي تبدو مهمة، رغم إن تحولاته تكون أحيانا طاحونة قاتلة لسحق الأنسان وهو يمارس حياته اليومية، على خلفية الأحداث التي تموج بها البلد. أن " توفيق" (الشخصية الرئيسية في الرواية) يظل مراقبا للأحداث الكبيرة، التي تعاقبت على العراق دون أي تفاعل أو مشاركة فيها، روحيا أو عمليا، وليس لديه التزام عقائدي محدد، الأحداث بالنسبة له لا تعدو غير أنباء وسائل أعلام، ويلوح إن المتعة بالجنس والأكل واللهو بلعبة القمار، أو في سهرة مع صديق، أو مغامرة مع زوجة صديق أو قريب أو امرأة عابرة، بالنسبة له جوهر الحياة، وما يُغني معناها.

ومن الصعوبة العثور على جواب بسيط، عن ماذا أراد إن يقول الروائي في عمله الكبير والمهم "المسرات والأوجاع"، ولذا فعلينا إن نجد مفاتيح في داخل العمل الروائي نفسه، للكشف عن أسراره. ويبدو أن المتلقي يستطيع الإمساك بأحد المفاتيح التي تساعده على فهم جوانب كثيرة من رواية "المسرات والأوجاع" وشخصيتها الرئيسية بالتعرف على رواية "سانين" التي تأتي الشخصية الرئيسية في الرواية "توفيق" على ذكرها مرات عديدة، مع انه يتحدث عن روايات أخرى، ويقول توفيق ان "سانين" تركت أثرا عميقا في روحه، ويقرأها أول مرة وهو في آخر صف للمرحلة الثانوية، أي مرحلة تكوينه الفكري: ويروي السارد "في شهر حزيران، حين كانت تتجمع هموم الامتحان المقبل وبدايات الحر، قرأ، بالصدفة، رواية ضخمة مترجمة عن الأدب الروسي، وجد عنوانها مكتوبا بقلم الرصاص على صفحة البداية (سانيين أو ابن الطبيعة) ولم يعرف اسم مؤلفها أو مَن ترجمها بسبب تمزق غلافيها الخارجي والداخلي. استحوذت عليه النهار كله. أنهاها والليل في آواخره وأهله نيام والدار ساكنة. شعر، جالسا بذهول في فراشه، بأن أمرا ما عظيما ومرعبا، تَكَشَف له عبر هذه الصفحات التي تبعث على الجنون والهياج والتمرد والرغبة الصادقة بضرب الرأس بالحائط. كأن نارا مقدسة تناوشت روحه فألهبتها وأهاجت فيه العواطف، لم يعد يحتمل جدران غرفته..."(المسرات والأوجاع ص 28، دار المدى، الطبعة الأولى. 1998). ويعود توفيق الى رواية "سانين" في مرحلة نضوجه حيث يكتب في مذكراته عام 1975 حين يذكر انه قرأ "الغريب" لألبير كامو، التي لم تعجبه، ولكنه يقول إن هناك عنصرا يجمع بين "سانين" " الساكن في روحي"  وبين ميرسو (بطل الغريب). ويضيف "غير ان الاول (سانين) أكثر حيوية وإنسانية وأقدر على الأقناع من الثاني" (ص120). ويعود "توفيق" لقراءة الرواية مرة جديدة عام 1977 ويكتب في دفتر مذكراته: "قرأت سانين مرة ثالثة بعد أن أخبرني عبد القادر (صديقه) انه جلّدها للمحافظة عليها فطلبتها منه فجلبها لي. حسدتُ سانين، كما هي عادتي كل مرة، حسدته لإدراكه ويقينه وسيطرته على ذاته وجرأته وصفاته الأخرى التي جعلت منه أنسانا عاديا وأسطوريا في نفس الوقت، ولكم تحسرت أن تنتهي الصفحة الأخيرة وان اضطر الى مفارقة هذا المخلوق وهو يقفز من القطار، تاركا هذا يمضي بدونه الى أفق مجهول"(173).

وتتحول سانين بذلك الى خلفية عريضة لرواية المسرات والأوجاع. إن تأكيد توفيق رواية سانين وعدم ذكر التكرلي اسم كاتب الرواية الروسي، ميخائيل ارتسيباشيف، ولا مترجمتها الأديب المصري المعروف إبراهيم المازني، ومروره بشكل عابر بحدثها الأخير فقط، ينطوي على أهمية بالنسبة للكشف عن أبعاد العمل الروائي لا سيما لأديب مجرب مثل فؤاد التكرلي، ولست اعرف هل إن أغفال تلك المعلومات يتعلق بلعبة روائية أيهاميه، للفصل بين سانين وتوفيق؟ فتوفيق يلوح كأنه " سانين"  بمواصفات عراقية، أو انه وجه من وجوهه الشرقية، أو امتداد من امتداداته.

ورواية سانين من أعمال الأديب الروسي ميخائيل ارتسيباشيف (1878- 1927) ورأت النور لأول مرة عام 1907 وجذبت الأنظار لها، وبعثت الآمال به كروائي واعد، بعد ظهور قصته "موت لاندا"  التي تناول بها شخصية كرست حياتها للبحث عن فكرة وانتهت بموت عبثي. وكتب في العامين 1905 و1906 قصصاً قصيرة عن الثورة الروسية الأولى (1905) التي خلقت هزيمتها مشاعر الإحباط لدى المثقفين (الانتلجينتسيا). وأصبح من تداعيات الهزيمة، الركض وراء المتع الجنسية التي تهاوت الى الانحطاط الأخلاقي، وانتشرت كالوباء ظواهر الانحلال والانحراف الجنسي. وعلى خلفية تلك الموجة ظهرت الرواية     وعكست من جهة انتشار ذلك الوباء، ومن ناحية أخرى ساعدت على اتساعه. وحظيت الرواية بسرعة بنجاح لا حدود له، وتصدرت قوائم المبيعات وتألق نجم مؤلفها. وشتمها النقاد المحافظون بما ذلك ليف تولستوي، لكونها رواية لاأخلاقية وصبوا جام سخطهم عليها. واستقبلها المجددون بتحفظ. ولكن الرواية كانت حدثا مثيرا، وفرضت نفسها على الجميع، وكان لا بد من قراءتها. وبقيت " سانين"  على مدى عدة سنوات، أنجيلا لكل تلميذ وتلميذة في روسيا. ومثلت الرواية بتناولها العلاقات الجنسية بشكل مفضوح بالنسبة لذلك الزمن، خروجا على تقاليد الأدب الروسي الذي ظل محتشما في تناوله الموضوع الجنسي. والرواية بأحداثها وشخوصها دعوة ليكون الأنسان معتدا بنفسه، وأن يهتدي بميوله ونزعاته. ويحصر ارتسيباشيف تلك الميول والنزعات بالغريزة الجنسية. وليس ثمة مكان للحب في فلسفته، فالحب برأيه، من اختلاق الفن والثقافة، فالرغبة، كما تؤكد أحداث الرواية، هي الدافع الحقيقي الوحيد في حياة الأنسان. وقامت الفلسفة الحياتية لبطل ارتسيباشيف (سانين) على الإيمان بالفردية الخالصة، وتأكيد "الحرية الذاتية"، والحياة الفردية الحرة، التي لا تحددها أية التزامات اجتماعية أو أخلاقية. وانحصر معنى الحياة بالنسبة له" بالشعور بالمسرات والأوجاع". وليس في وعي "سانين" افكار ذات بعد اجتماعي. وتلتف كلها على "محور" الوجود الفردي وحريته.

ويدرج عدد من مؤرخي الأدب الروسي ميخائيل ارتسيباشيف، الذي هاجر من روسيا بعد اندلاع الثورة البلشفية عام 1917، وأصبح واحداً من ألد أعدائها، في المدرسة "الطبيعية الجديدة"، التي تشكلت لمعارضة الأدب ذي المنحى الاجتماعي الذي مثله بسطوع حينذاك مكسيم غوركي والجماعة التي التفت حوله. إن أصداء "سانين" في رواية القاص العراقي الكبير فؤاد التكرلي، لا يمكن في أي حال من الأحوال أن تنقص من أهميتها ومكانتها في الأدب العراقي، والعربي عموما. وتظل المسرات والأوجاع عملا أدبيا أصيلا قائما بذاته. وكأي عمل أدبي أصيل، ستتعدد قراءاته والاجتهادات بتفسيره، والبحث عن مفاتيح لكنه  اسراره.

***

د. فالح الحمـراني

"حين تكون القصيدة مفتوحة كأفق وملمومة كقطرة ماء" (2)

كنت قد كتبت في المدخل الى هذه القصيدة المثيرة وفي الفقرة الأخيرة.. باننا "سنبحر مع الشاعر جمال مصطفى في قراءة "بانوراميته".. بالتفصيل.."

واليوم نستكمل قراءتنا بالمقاطع الخمس الاخرى.. 

القسم الثاني: قناديل برائحة الندى..

الحيرة والبحث عن الهوية

(6)

"قافانِ

في (قَلَقِ) الوجودْ

والّلامُ بينهما أسيرةْ

اللّامُ أنتَ فيا تُرى

ما أنتَ بالقافَيْنِ فاعِلْ؟

....................

حَسَناً أُشَيِّدُ بُرْجَ بابِلْ"

يستند هذا المقطع إلى رؤية فلسفية عميقة تستدعي أبعادًا لغوية ورمزية ودينية، حيث تتجسد الكلمات ككيانات حية تنبض بالقلق الوجودي، وتصبح الحروف أداةً لاستكشاف المعاني الكبرى للوجود والصراع بين الثبات والتحول.

"قافانِ / في (قَلَقِ) الوجودْ / والّلامُ بينهما أسيرةْ"

يبدأ الشاعر بلعبة لغوية ذكية، حيث يربط بين حرفي "القاف" وحالة "القلق"، وكأن الوجود نفسه قائم على ثنائية الحرفين، في تلميح إلى تكرار الدوائر الوجودية وحتمية الدوران بين حالتين متناقضتين أو متكاملتين. أما "اللام"، فتصبح أسيرة بين هاتين القافين، وكأنها تمثل عنصرًا وسطًا أو ضائعًا بين قوتين متصارعتين. هذه الصورة الرمزية قد تُحيل إلى الإنسان نفسه، العالق بين تناقضات الحياة، بين القدر والحرية، بين الحتمية والاختيار.

"اللّامُ أنتَ فيا تُرى / ما أنتَ بالقافَيْنِ فاعِلْ؟"

يستدعي هذا التساؤل بعدًا وجوديًا حادًا، حيث يتحول المخاطَب إلى "اللام"، أي إلى الكائن الذي يقف بين الثنائيات، عاجزًا عن تحديد موقعه أو قدره. إنه استفهام ميتافيزيقي يفتح أفق التأويل: هل الإنسان مجرد حرف في منظومة كبرى لا يتحكم فيها، أم هو فاعل قادر على إعادة تشكيل المعنى؟

"حَسَناً أُشَيِّدُ بُرْجَ بابِلْ"

يصل النص إلى ذروته الرمزية باستدعاء "برج بابل"، الأيقونة التاريخية التي ارتبطت بالتمرد الإنساني ومحاولة بلوغ المطلق، لكنها أيضًا كانت سبب التشتت والضياع اللغوي. هنا قد يكون "بابل" رمزًا للمحاولة المستمرة لإعادة بناء المعنى وسط الفوضى، لكنه قد يكون أيضًا إشارة إلى عبثية المسعى البشري أمام القدر المحتوم.

هذا المقطع القصير يفيض بالدلالات، حيث تمتزج الفلسفة بالرمزية، ويصبح الحرف لبنةً في صرح المعنى، فيما يتحول القلق الوجودي إلى مادة للبناء والهدم في آنٍ واحد. إنها رؤية تطرح التساؤل دون أن تمنح إجابة، لكنها تمنح القارئ تجربة تأملية عميقة حول اللغة والوجود والمصير.

قدسية الرموز وجلال حضورها

(7)

"إنَّ المداخِلَ سَبْعةٌ

زوجٌ مِن الثيرانِ كانَ مُجَنَّحاً

في كُلِّ مَدْخَلْ

لو جاءَ

تَعلو كالمصاعِدِ بالمُبَجَّلْ"

يتجلى في هذا المقطع بعدٌ رمزي عميق يمتزج فيه الأسطوري بالديني، والمادي بالميتافيزيقي، ليشكّل رؤية فلسفية حول العبور، والترقي، والمهابة المرتبطة بالمكان والرمز. فالنص يقتبس عناصر من التاريخ والأسطورة، ليعيد تشكيلها في بناء لغوي محكم ذي دلالات مفتوحة.

"إنَّ المداخِلَ سَبْعةٌ"

يبدأ النص بتحديد العدد "سبعة"، وهو رقم ذو دلالات رمزية عميقة في الأديان والأساطير، فهو عدد السماوات السبع، وعدد أبواب الجحيم في بعض المعتقدات، كما أنه يحيل إلى مفهوم الكمال والدورة الكونية المغلقة. اختيار العدد هنا ليس عبثيًا، بل يُلمّح إلى مكان مهيب، ربما معبد أو قصر أو فضاء يتجاوز المادي إلى الغيبي.

"زوجٌ مِن الثيرانِ كانَ مُجَنَّحاً / في كُلِّ مَدْخَلْ"

هنا نلحظ استدعاءً واضحًا للثيران المجنحة (اللاماسو) التي زينت مداخل المعابد والقصور الآشورية والبابلية، والتي كانت تمثل الحماية والقوة الإلهية. وجودها في كل مدخل يعزز فكرة المهابة والقدسية، وكأنّ الداخل إلى هذا المكان يخضع لطقس عبور تحت أنظار هذه الكائنات الحارسة، التي تمثل مزيجًا بين القوة الأرضية (الثور) والسمو الروحي (الأجنحة).

"لو جاءَ / تَعلو كالمصاعِدِ بالمُبَجَّلْ"

هنا يتحول المكان إلى كيان حيّ يستجيب لقدوم "المبجّل"، في إشارة إلى شخصية مقدسة أو استثنائية. صعوده لا يكون سيرًا طبيعيًا، بل أشبه بالارتقاء الآلي، وكأنّه يحظى بقوة غير مرئية ترفعه نحو العظمة. هذه الصورة تعزز البعد الميتافيزيقي للنص، حيث يصبح العبور إلى المكان ارتقاءً روحانيًا، لا مجرد حركة جسدية.

البنية الإبداعية والرمزية

يعتمد الشاعر على لغة مكثفة، تتكئ على الرمز والاستدعاء التاريخي، مما يمنح النص عمقًا فلسفيًا ودينيًا. فالمداخل ليست مجرد أبواب، بل بوابات إلى مستوى آخر من الوجود، والثيران المجنحة ليست مجرد منحوتات، بل كائنات حارسة تمثل سلطة عليا، والمبجّل ليس فردًا عاديًا، بل كيان يمتلك امتياز العبور والارتقاء.

هذا المقطع يفتح أبواب التأويل على مصراعيها، فهو قد يكون استعارة عن السلطة الإلهية، أو عن الطقوس الدينية، أو حتى عن فكرة التفاضل البشري، حيث لا يحظى الجميع بالصعود، بل أولئك الذين يستحقون "التبجيل".

التكرار بين البداية والنهاية

(8)

"إنَّ المَخارِجَ سبعةٌ أيضاً

ولكِنْ لا امتِيازْ

فيها سوى أنَّ الحقيقةَ كالمَجازْ

ويُقالُ:

عندَ الفجْر تَكْتظُّ المَخارِجُ بالسُكارىَ

خَرجوا كما دخَلوا حَيارى"

يواصل هذا المقطع استناده إلى البناء العددي الرمزي، إذ يقابل بين "المداخل السبعة" التي وردت في المقطع السابق و"المخارج السبعة" هنا، ليؤكد فكرة الدورات الوجودية المتكررة، حيث الدخول والخروج ليسا سوى صورتين لحركة الإنسان في العالم، وكأنّ الحياة ليست إلا دائرة مغلقة، يتوهم فيها الإنسان الفارق بين البداية والنهاية.

"إنَّ المَخارِجَ سبعةٌ أيضاً / ولكِنْ لا امتِيازْ"

يكشف الشاعر منذ البداية عن مفارقة عميقة؛ فبينما كانت المداخل موضع تميّز وسمو، تبدو المخارج بلا امتياز، وكأن العظمة تكمن فقط في لحظة العبور الأولى، فيما يصبح الخروج مجرد تكرار بلا معنى. هذا يلمح إلى جدلية الأمل والخيبة، حيث يظن الإنسان أنّ دخوله إلى تجربة ما سيمنحه التميز، لكنه حين يغادرها يكتشف أن لا فرق بينه وبين غيره، وكأن النهاية تُسقط كل أوهام التفاضل.

"فيها سوى أنَّ الحقيقةَ كالمَجازْ"

هنا يصل النص إلى تأمل فلسفي عميق، إذ يذوّب الحدود بين الحقيقة والمجاز، وكأنّ الحياة نفسها ليست سوى استعارة، أو أن المجاز يمتلك من الحقيقة أكثر مما نظن. هذا التشكيك في الفواصل بين الواقع والخيال يفتح أفقًا تأويليًا واسعًا، حيث لا شيء يقيني، وكل إدراك هو مجرد تفسير مؤقت لعالم متحول.

"ويُقالُ: / عندَ الفجْر تَكْتظُّ المَخارِجُ بالسُكارىَ / خَرجوا كما دخَلوا حَيارى"

يأتي هذا المشهد ليؤكد عبثية الرحلة الإنسانية، إذ يرمز "السُكارى" هنا إلى أولئك الذين ظنّوا أنّهم وجدوا في الداخل ما يروي عطشهم الروحي، لكنهم عند الخروج لم يزدادوا إلا حيرة. الفجر هنا قد يكون رمزًا لانكشاف الحقيقة، لكن المفارقة تكمن في أنّ الخروج لا يمنح اليقين، بل يعيد الإنسان إلى حيرته الأولى، ليصبح الخروج مجرد تكرار للدخول، لا تحوّلًا جوهريًا.

البعد الفلسفي والرمزي

يُعيد النص طرح الأسئلة الكبرى حول جدوى التجربة الإنسانية، وحول وهم التميّز، وحول العلاقة بين الحقيقة والوهم. فالحركة الدائرية (سبعة مداخل وسبعة مخارج) تلمّح إلى قدر الإنسان في إعادة الأخطاء نفسها، بينما الإشارة إلى "السُكارى" تمنح النص بعدًا دنيويًا، حيث يكون السكر هنا رمزًا للبحث عن معنى، لكنّ النهاية تبقى دائمًا ضائعة.

هذا المقطع يفيض بالحكمة والعمق، ويؤسس لحالة تأملية تتجاوز الشعر إلى الفلسفة، حيث تتلاشى الحدود بين البداية والنهاية، وبين اليقين والشك، في لغة مكثفة تحمل أبعادًا صوفية وإنسانية عميقة.

التاريخ والتراتب الطبقي

(9)

"إنْ كانَ سينُ هوَ الإلهْ

أو كان مَرْدوخُ الإلهْ

أو كانَ جَدُّهُما

النتيجةُ واحِدةْ:

نحْنُ العبيدُ، نَظلُّ في الوادي

وهُمْ أعلى الجَبَلْ

.....................

البرجُ حَلْ"

يتكئ هذا المقطع على بعد فلسفي ورمزي عميق، مستحضرًا الأسطورة والتاريخ والدين ليعيد تشكيل رؤيته للسلطة والوجود الإنساني. إنه نص يفيض بالتأملات حول علاقة الإنسان بالقداسة، سواء أكانت دينية أم دنيوية، في محاولة لكشف طبيعة الفارق بين القابعين في "الوادي" والساكنين "أعلى الجبل".

البنية الفكرية والفلسفية

"إنْ كانَ سينُ هوَ الإلهْ / أو كان مَرْدوخُ الإلهْ / أو كانَ جَدُّهُما / النتيجةُ واحِدةْ"

يفتح الشاعر النص بتعداد أسماء آلهة قديمة؛ "سين" إله القمر عند السومريين، و "مردوخ" الإله البابلي الذي تبوأ الصدارة بعد صراعات طويلة، و "جدّهما" الذي قد يكون إشارة إلى إله أسبق، ربما "إنليل" أو "أنو". هذا الاستدعاء التاريخي لا يأتي عبثًا، بل ليؤكد فكرة الحتمية: مهما تغيّرت الأسماء، فإن النتيجة تظل واحدة، وكأن التاريخ يعيد نفسه، ولا فرق بين أشكال السلطة المختلفة.

الجدلية الاجتماعية والسياسية

"نحْنُ العبيدُ، نَظلُّ في الوادي / وهُمْ أعلى الجَبَلْ"

هنا تكثيف واضح للعلاقة الجدلية بين الحاكم والمحكوم، بين المقدس والدنيوي، بين من يقطن المرتفعات ومن يظل في المنخفضات. فالجبل رمز للقوة والهيمنة، والوادي رمز للخضوع والمحدودية. هذا التوصيف يحمل دلالة طبقية واجتماعية عميقة، حيث السلطة تحتكر العلو، بينما يبقى الإنسان العادي أسير القاع. إنها إشارة إلى ثبات البنى الاجتماعية، حيث يظل "العبيد" في موضعهم، بينما يسكن "الآلهة" قمة الهرم، وكأن الارتقاء أمر محظور على العامة.

البعد الرمزي والديني

"البرجُ حَلْ"

تأتي هذه الجملة كنهاية مكثفة وعميقة للمقطع، حيث يتم تقديم "البرج" كحلّ. لكنه حل يحمل معاني مزدوجة؛ فإما أنه يمثل وسيلة للعبور من الوادي إلى الجبل، أي محاولة الإنسان لاختراق السلطة والقداسة، أو أنه يمثل الفخ ذاته، حيث كان برج بابل، على سبيل المثال، رمزًا للتحدي الذي انتهى إلى التشتت والانقسام.

اللغة والإبداع الفني

جمالية النص تكمن في تكثيفه للمعاني ضمن تراكيب موجزة لكنها مفتوحة التأويل. فالتكرار في الأسماء يمنح الإحساس بالدائرة المغلقة، بينما التناقض بين "الوادي" و"الجبل" يخلق توترًا دراميًا يعكس طبيعة الصراع الإنساني المستمر. أما الخاتمة "البرجُ حَلْ"، فهي ذروة النص، حيث تفتح باب التساؤلات أكثر مما تمنح إجابات، لتترك القارئ في تأمل طويل حول ماهية الحل الحقيقي.

الخاتمة

هذا المقطع الشعري ينجح في تقديم رؤية فلسفية واجتماعية عميقة حول العلاقة بين الإنسان والسلطة، مستخدمًا رموزًا تاريخية وأسطورية لتجسيد ثنائية القهر والتطلع، والاستكانة والتمرد. إنه نص يطرح الأسئلة الكبرى حول المصير الإنساني، ويُجبر القارئ على التأمل في موقعه بين "الوادي" و"الجبل"، وبين القداسة والاستعباد، وبين السكون والرغبة في الصعود.

المعرفة وسموها لحماية الحقيقة

(10)

"ها أنتَ تَصعدُ،

ها هِيَ الثيرانُ

جَنّحَها على الجُدْرانِ ناحِتُها

لِتَنْفَتِحَ السقوفُ

..............

البرجُ مكتبةٌ طوابِقُهُ رفوفُ"

يأخذنا هذا المقطع في رحلة تأملية تمزج بين الحسية والرمزية، حيث يعبر الشاعر عن فكرة الصعود والتسامي عبر صور ديناميكية ترتبط بالمكان والفكر. يبدأ النص بصوت مباشر مخاطبًا المتلقي: "ها أنتَ تَصعدُ"، وهي دعوة للارتقاء سواء على المستوى الذهني أو الروحي.

"ها هِيَ الثيرانُ / جَنّحَها على الجُدْرانِ ناحِتُها"

تستحضر الصورة هنا الثيران المجنحة، التي ليست مجرد كائنات مادية، بل تمثل قوة متصاعدة، قادرة على تخطي حدود المكان (الجُدْران) وفتح أفق جديد من الاحتمالات. هذه الثيران المجنحة هي رمز للطموح والإبداع، ولها دلالة أسطورية تتمثل في كونها حارسًا يحمي الحقيقة والمعرفة.

"لِتَنْفَتِحَ السقوفُ"

في هذه الجملة، يصبح الصعود عملية تحرر من القيود، حيث تتسع الأفق ويتساقط الحواجز المادية، ليغدو الفضاء رحبًا ومتسعًا للمعرفة والتفكير. السقوف هنا قد تشير إلى القيود التي تمنع الفكر من الانطلاق، وحين تفتح، يصبح العقل قادرًا على التوسع والانتقال إلى آفاق جديدة.

"البرجُ مكتبةٌ طوابِقُهُ رفوفُ"

البرج، الذي كان رمزًا للهيمنة والسلطة في العديد من الأساطير، يتحول هنا إلى مكتبة، مما يعكس تحولًا رمزيًا كبيرًا. فالمكتبة، برفوفها المليئة بالكتب والمعرفة، تمثل الارتقاء الروحي والفكري. الطوابق هنا تشير إلى مستويات من المعرفة، وكل رف يمثل فكرة أو نصًا يتراكم فوق الآخر في بناء فكري لا نهائي.

البعد الفلسفي والرمزي

المقطع يعكس علاقة الإنسان بالمكان والفكر، ويستخدم الرمزية لتعكس تطلعاته. الصعود، الثيران المجنحة، السقوف المفتوحة، والمكتبة كلها علامات على البحث المستمر عن الحقيقة والمعرفة، وفتح الأفق نحو آفاق جديدة من الإبداع.

***

طارق الحلفي – شاعر وناقد

.............

* رابط القصيدة

https://www.almothaqaf.com/nesos/971491

* رابط المدخل

https://www.almothaqaf.com/readings-5/979452

* رابط القسم الاول

https://www.almothaqaf.org/readings-5/979564

حيث يسكن الحب

حيث تعزف الأوتار الذهبية ألحانًا شديدة الحلاوة

وتقيم العديد من الألوان الحمراء مكانها

هناك أيضًا يسكن حبي

عندما يلامس لحن العصفور روحي

وتتفاخر علامات الربيع بألوانها

تتفاخر أيضًا ألوان حبي

إذا جاء المطر وظلّت الغيوم فوقي

وإذا سقطت دموعي كقطرات تتساقط على نافذتي

فإنها تنقّي قلبي حتى يسطع الحب مجددًا

وما يأتي في طريقي، سواء كان سعيدًا أو حزينًا

أعرف أن غدًا سيحمل يومًا أكثر إشراقًا

فأنا أنظر إلى السماوات وأعلم أن أعظم حب يسكن هناك

***

بقلم: كريستي راينز  - الولايات المتحدة الامريكية.

...................

القراءة:

قصيدة /حيث يسكن الحب/ للشاعرة كريستي راينز هي رحلة عاطفية تسلط الضوء على جوهر الحب كقوة تُجدد الروح وتمنح الأمل. القصيدة تتخذ من الطبيعة مرجعًا رمزيًا لتحمل معاني أعمق عن الحب، والشجاعة، والتفاؤل. والان , لنلقِ نظرة نقدية تحليلية على أهم جوانب هذه القصيدة.

1. الرمزية الطبيعية:

تبدأ القصيدة باستخدام رمزية الطبيعة لتصوير مشاعر الحب. الأوتار الذهبية التي تعزف ألحانًا حلوة، والألوان الحمراء التي ترمز للحب، كلها عناصر طبيعية تعبّر عن نقاء وجمال الحب. من خلال هذه الصور، تُظهر الشاعرة كيف يندمج الحب مع محيطنا الطبيعي، حيث يشترك في جماله وقوته. يربط الحب في هذه القصيدة ليس فقط بالشعور الداخلي ولكن أيضًا بالعالم الخارجي، مما يعزز فكرة أن الحب لا يتواجد فقط في القلب، بل هو حالة شاملة تؤثر في كل شيء من حولنا.

2. التحول والشفاء:

القصيدة تتناول فكرة التجدد والشفاء من خلال التفاعل مع عناصر الطبيعة. يشير سقوط الدموع إلى الألم، لكن هذه الدموع تصبح وسيلة للتنقية والشفاء، مثلما يمحو المطر الغيوم ويمنح الأرض حياة جديدة. هذه الفكرة تظهر جلية في قولها /فإنها تنقّي قلبي حتى يسطع الحب مجددًا/، حيث تبرز قدرة الحب على الشفاء والتجديد بعد الفترات الصعبة. الشاعرة هنا تستحضر مبدأ التفاؤل بأن الألم يمكن أن يؤدي إلى نقاء أكبر في الروح.

3. الزمن والتفاؤل:

تستمر الشاعرة في التأكيد على أن ما يحدث في الحاضر، سواء كان لحظات من الفرح أو الحزن، ليس إلا مرحلة عابرة. في السطر / وما يأتي في طريقي، سواء كان سعيدًا أو حزينًا / أعرف أن غدًا سيحمل يومًا أكثر إشراقًا/، تنقل لنا الشاعرة رؤية مشرقة نحو المستقبل. هذا التفاؤل هو عنصر أساسي في القصيدة، حيث تتواجد دائمًا في الخلفية فكرة أن الحب لا يتوقف عن العطاء والنمو، حتى في ظل التحديات.

4. الروحانية والاتصال بالسماء:

في نهاية القصيدة، تجد الشاعرة الأمل والمغزى الأكبر في السماء، حيث /أعظم حب يسكن هناك/. هذه الجملة تحمل بعدًا روحانيًا، حيث ينقل الحب إلى مستوى أعلى من الأرض ويجعله شيئًا كونيًا متجاوزًا للحدود البشرية. الربط بين الحب السماوي والحب الأرضي يعكس الرؤية الشاملة التي تجعل من الحب عنصرًا لا محدودًا يمتد إلى ما هو أبعد من الحياة اليومية.

5. الأسلوب الشعري والتأثير العاطفي:

الشاعرة تتسم بالبساطة في أسلوبها، مما يجعل القصيدة قريبة من القلب وسهلة الفهم. كما أن الاستخدام المكثف للصور الشعرية يجعل الكلمات حية ومؤثرة. تخلق هذه الصور عالمًا شعريًا مليئًا بالألوان والأصوات واللحظات العاطفية التي تحفز الخيال، مما يمنح القصيدة طابعًا مرهفًا وعميقًا في آن واحد.

6. الخاتمة:

هذه القصيدة هي تجسيد لرحلة روحية وعاطفية، تبحث عن الحب كقوة تجدد الروح وتحمل الأمل. من خلال الاستخدام الرمزي للطبيعة، تعكس الشاعرة قدرة الحب على الشفاء والتحول، وتؤكد على أن الأمل لا يموت مهما كانت الصعاب. القصيدة تُظهر كيف أن الحب ليس مجرد شعور بل قوة حية تتجدد مع مرور الزمن وتستمد قوتها من الروح والطبيعة والسماء.

***

بقلم: كريم عبد الله – العراق

في شعر الدكتور علاوي كيطان العقابي

يقال أنَّ كل محكيٍّ مثالي يستهل بوضعية وكيفية مستقرة إلى أنْ تأتي قوة تشوش عليه وتلك القوة تنتج من مؤثرات سواء أكانت المؤثرات سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية وحتى ذوقية، ولربما من حالات وعي فكري تُغير ما استوت عليها الأزمان وسكرت بها العقول، أو طابت لها النفوس وبحركة الزمن تجد أنَّ ما قيل غير ما في الواقع؛ لذا وجدنا منذ أول قراءة لقصيدة في التاريخ العربي التي حبَّذ الشاعر فيها الطلل وبكى عند دوارسه؛ لما في الزمن الماضي من إسقاطات مهما كانت تعسفية إلا أنَّها سرعان ما تُعَدُّ من متخيلات يوتوبية، إذ يستذكر المستذكرون الماضي، فيستشعرونه أجمل من الحاضر، وهذا هو ديدن حياة المجتمعات والأفراد على السواء، نراهم ينسون متاعبهم حين يمر الزمن عليها، فيطلقون الحسرات أسفاً؛ وذلك بفضل معاناتهم من الواقع، وتغيُّر العادات والتقاليد التي عاشت الناس عليها؛ لما للحياة الماضية من بساطة لاتحتاج إلى منافسة وكدّ، أو طغيان الماديات على المعنويات كما نجده في حاضرنا.

ويبدو أنَّ الشاعر الدكتور علاوي كيطان العقابي، هو واحد ممن قارن بين الماضي والحاضر، استدعاه ذلك أنْ ينظم أكثر من نص يعالج فيه الفرق بين الاثنين، إذ يروي ذلك في قصيدته الأولى (تسبيحةُ المطر) التي يقول فيها:

كانوا يقولون لنا:

من نعمةِ اللهِ على الناسِ المطرْ

تعشوشبُ الأرضُ

ويزدانُ الشجرْ

ويستحمُّ السعفُ من غبارِهِ

وترقدُ الشمسُ بحضنِ الليلِ والرذاذْ

ويُشرِقُ القمرْ.

ولما كان الشاعر يعيش تحت ظلال الشجر في بساتين بدرة الشماء وبالقرب من أهاليها الفلاحين الذين ينمازون بالطيبة والفطرة النقية، وهو المتعلم النابه والشاعر الشفاف، يرى أنَّ الناس كانت وما تزال بحاجة إلى المطر؛ رغبة منهم في استسقاء أراضيهم التي هي الأخرى تنتظر ذلك المطر، فكل شيء فرِح به (الأرض، والشجر وسعفه، والشمس، وحتى القمر)، وجميع تلك الأشياء الجامدة تعبر عن فرح الإنسان، فالعلاقة بين الإنسان وبين محيطه علاقة جمال طالما أنَّ وشائج السعادة تمنحه ثمارها "ولعل المحاكاة الوجدانية بين الموجودات هي بذاتها تمثل الشعر الحي والتي منها تعلم الشاعر محاكاة الآخر" (الكون الشعري : 11) فالشعر هو"أعلى أشكال التعبير وهو يعبر عن سر اتصال الإنسان بالوجود، أنَّه طقس عقلي وروحي، وهو إفصاح جمالي متعال" (العقل الشعري:97)، ما يجعل الشاعر يعبر عما يعتريه، لذا يقول شاعرنا العقابي:

مضى بنا العمرُ

وصار الليلُ والنهارُ

والشروقُ والغروبُ

يُنذرُ بالسفرْ

أيقونةُ الليلِ على قيثارةِ النقيقْ

وصحوةُ الشمسِ على مزالقِ الطريقْ

ومشيةٌ على حَذرْ

صارتْ جميعُ تلكمُ الحكايا

تدعو إلى الضجرْ

مطرْ … مطرْ … مطرْ.

ويبدو في منحىَ آخر أنَّ الوجع يتأتي حين تزدحم على الإنسان مسؤوليات تراكمية بفعل التطور الحضاري، فيكون بحاجة إلى تلبية متطلباتها؛ لذا يرافقها تغير النوع النفسي، وهو كالنوع التشريحي مؤلَّف من عدد قليل من الصفات الأساسية الثابتة التي تتجمع حولها صفات ثانوية متغيرة متحولة، فهذه الصفات الثانوية هي التي تمكِّن البيئات والأحوال والتربية وما إليها من مختلف العوامل أنْ تغيرها بسهولة. (ينظر: السنن النفسية لتطور الأمم، جوستاف لوبون: 39-40) ومن ذلك نظرة الشاعر ولا سيما للمطر، فبعد دوره الفاعل في إخصاب الأرض حين كانت النوايا حسنة، والبساطة تنشر ضفائرها على وسائد الأمان والسلام، لكن كل شيء تغير حتى الفكر، ولعلنا نضيف أنَّ العولمة أيضاً ساعدت على تغيير الأفكار والأعراف، فأخرجت الإنسان من دائرة المألوف إلى اللامألوف، فكل شيء اليوم في تباب في رؤيا الشاعر، فالحياة لم تسلك طرق الأمس، بل ركائزها ما عادت تخلص لها النية في ثباتها وتجديد ديمومتها نحو خطى فضلى.

وفي نص آخر بعنوان (على أطلال الدرابين) التي يقول فيها:

الله يا تلك الليالي الماطرةْ …

يا مَوقِدَ التوتِ المُعتّق ..

بالمواويل الحنينة …

ياهزّةَ الرأسِ البريئة ..

حينَ تُطرِبُها ترانيمُ الرُّعاةْ …

وأزاؤها حَلَقٌ تطوفُ الأُمنياتْ…

فهو يتحدث عن بساطة الحياة التي كان يعيشها الناس، مستذكراً عمر الطفولة البكر الذي يمثل الفطرة الصالحة التي لم تدنسها الأدناس مثلما هو الآن في عالم الضجيج والمخاتلة في نيل ما لم يستحقة المرء في زمننا الديستوبي العجيب وسنينه العجاف؛ ما استدعى الشاعر أن يستحضر الماضي الجميل، فلفظة (الله) في السياق تدل على مدح ذلك الماضي بجماله وعذوبته وبراءته بقوله: (الله يا تلك الليالي الماطرةْ)، بينما الدفء على مواقد التوت وماحولها حيث يترنم الرعاة بمواويلهم المستمدة من الأسلاف، أمَّا(هزة الرأس البريئة) إشارة إلى الطرب المغموس بالبراءة والنقاء، وهناك حَلقٌ من الأمنيات كثار ينتظرها أولئك الرعاة الذين يحتفلون كلَّ حين أينما حلَّت عصيُّهم واشتاقت أرواحهم؛ لأن يعبِّروا عن سعادتهم بآمالهم المرجوة.

ثم يقول:

يا عطر حائطِنا المُرصَّعِ …

بالمناجلِ والسنابلْ …

حينَ ترشقُهُ شآبيبُ المطرْ ...

ولعل المطر لدى الزراع هو الأمل الكبير لريِّ سعادتهم بسقي زروعهم؛ ما جعله يومئ إلى ذلك بالمناجل والسنابل.

الله يا تنورنا الطيني …

في غَبَشِ الطّلوعْ ..

ودفيف أُمّي في الرُّقاق المُقمِره ..

والبُلبلُ الفتّان يبدأُ عزفَهُ …

حدَّ الدُّموعْ …

مستذكراً التنور الذي يصنع الرقاق المقمرة، إشارة إلى إيقاده بأطراف الليل (وقت السحر حين القمر يشع على أرغفة الخبز الحارة) كناية عن الخير العميم، بينما البلبل الذي يغرد على الشجر يوحي بالذكريات التي تبلل الخواطر، وتجني للذكريات سلسال الدموع، فكل ما في الذكرى عبق حلمٍ راحل، فمتعلقات الجسد راحلة، بينما سياحة الروح في أوجاق الماضي باقية تختزنها بنوك الذاكرة ذات الوعاء المترف بالرجع الخالد الجميل.

أما في قصيدته (ليل بغداد) التي يستذكر فيها جمال بغداد حين كان طالباً، فقد درس في جامعاتها ما جعله يجد الفرق بين العالمين وعلى الرغم من أيام الحصار التي عاشها في تسعينيات القرن الماضي ككل العراقيين إلا أنَّ يوتوبيا الماضي ظلت عالقة في ذاكرته، إذ يقول:

يا أُنسَ روحي إنَّ هجرَكِ موجعي

ما كانَ في خُلدي بأنْ تتمنعي

ما زالَ سفرُ العشقِ تحتَ وسادتي

والذكرياتُ تمورُ بين أضالعي

ما زلتُ بين دفاتري مستلقياً

كيما أشمَّ عبيرَها بمدامعي.

نجده يحنُّ إلى بغداد العبقة بمواسم الحب والجمال، فهو العاشق لها، بينما هي الآن تتمنع عليه؛ لأنَّها تغيرت، فصارت ليس كما كانت عليه بالأمس، فما بقي من بغداد غير عشقها اليوتوبي الأثير وذكرياتها التي طبعت بين أضالعه، أي في قلبه العاشق الرؤوم ذلك الحب العميق. ولعل الدفاتر إشارة إلى مذكراته التي وثَّق فيها كلَّ موقف جميل أو مشاهدة عذبة.

وفي قراءتنا الدقيقة للنص نجده يقارن بين ماضيها وحاضرها وحركة الأحداث التي انتابتها فجعلتها حطاماً خائراً ولاسيما بعد احتلالها عام 2003 م وما تلاها من أحداث قاهرة، دمرت كلَّ معالمها الجميلة كما تغيرت نفوس أهليها بعدما اشرأبت بما أصابها من فداحة القهر والظلم والتقتيل والتشريد، فانهارت حتى منظومة القيم فيها، واستوطن الأغراب وحكمت المادية والأنانية والمحسوبيات الحزبية البلاد، فصارت منزعاً للطائفية المقيته؛ ما جعل الشاعر يهرع لاستجلاب الماضي الذي لم تقرع الفتنة فيه أبوابه مثلما يحصل اليوم؛ ومن ذلك قوله:

حتى هوى صرحُ الجمالِ مُهشَّما

والقبحُ والهذيانُ صكَّ مسامعي

ماذا جرى لا النيراتُ حواضرٌ؟

والشمسُ في ميقاتها لم تطلعِ

أينَ النوارسُ؟ لم تعدْ سوّاحةً

أينَ الرياض؟ تناسلتْ معْ بلقعِ؟

أينَ الزهورُ؟ ألم تعدْ فوّاحةً؟

والنرجسُ الفينانُ لوحةُ مبدعِ.

إنَّ الذي أصابها حطَّم صرح كلِّ ما هو جميل فيها، بينما القبح والهذيان صكَّ المسامع في حين أنَّ النيرات اختفت، إشارة إلى حواضنها الثقافية والفكرية، بل أنَّ آفة الغي هي التي تسلطت بدلاً من المؤسسات العلمية وتراثها المجيد في عصر أنهكته الأفكار الرجعية، ثمَّ يقول:

أينَ (المضايفُ)؟ لم تعد أبوابها

مهوى الجياع، ألمْ يعد من جائعِ؟

أينَ الطبول؟ ألم يغرد لحنُها

يوما لتوقظَ صائماً من مهجعِ؟

الليلُ أليلُ والصباحُ ممزقٌ

والسائرونَ كلحنِ نايٍ موجعِ

كلٌّ تبعثرَ واستكانَ بضدِّهِ

والناسُ بينَ مخاصمٍ ومنازعِ.

فحين يسأل عن المضايف، فهو ينسف بقاءها اليوم، وكأنَّه يقول لامضايف تشرع أبوابها للجياع، كما أنَّه يخبر بأنَّ الطبول غادرت، ولم يغرد لحنها؛ لإيقاظ الصائمين للسحور، إشارة إلى غياب ممارسة شعائر الدين الحقَّة. فالليل أمسى أليَلاً، والصباح أضحى ممزقاً، بينما السائرون صاروا مثلما هو لحن موجع؛ لما يحملون على ظهورهم من كتل الهموم المضنية، وأنَّهم صاروا متخاصمين متفرقين لما يحملونه من توجهات فكرية، وسبل غرقت في فوضى الخلافات، ما جعل الخصومات والنزاعات تلتهب فيما بينهم.

وهكذا حملت نصوص الشاعر عبق الماضي، إذ علقت في ذهنة روعتها، وهو يتذكر ما كانت عليه الحياة بالأمس حيث الجمال الباسق بالنيات الصافية وبالفطرة النقية التي تستطيب بها النفوس، بينما الحاضر يراه ممثِّلاً لفوضى صارخة، تُشعره أنَّ الحياة لم تعد إلا جحيماً لا يطاق.

***

بقلم: د. رحيم عبد علي الغرباوي

تُعد اللهجات والكلمات العامية جزءًا أصيلًا من الهوية الثقافية للمجتمعات، حيث تنبع من الحياة اليومية وتعكس طبيعة التواصل الإنساني في أبسط صوره. أما الهايكو، فهو شكل شعري يعتمد على البساطة والتكثيف والتقاط اللحظات العابرة، ما يجعله ميدانًا خصبًا للتجريب اللغوي والتعبير بأساليب جديدة ومبتكرة ومنها استخدام الكلمات العامية.

في هذا السياق، يلجأ بعض شعراء الهايكو إلى إدخال الكلمات العامية ضمن نصوصهم، إما لإضفاء طابع محلي على النص، أو لتعزيز الإحساس بالمشهدية والآنية ، أو حتى لكسر الرتابة التي قد تفرضها الفصحى في بعض السياقات. لكن هذا الاستخدام يطرح أسئلة جوهرية حول تأثيره على جمالية النص، ومدى تقبله خاصة في ظل التحديات التي يفرضها من حيث الترجمة والتلقي.

أسباب استخدام الكلمات العامية في الهايكو

يختار بعض شعراء الهايكو إدخال المفردات العامية في نصوصهم لعدة أسباب، منها:

1-القرب من الواقع والمصداقية

العامية لغة الحياة اليومية، واستخدامها في الهايكو يجعل المشهد أكثر صدقًا وحيوية، مما يعزز تفاعل القارئ مع النص. فهي تحمل روح العفوية والتلقائية التي تتناسب مع طبيعة الهايكو الذي يلتقط لحظات عابرة بدون تكلف.

2- التعبير عن الهوية الثقافية والمحلية

تعكس الكلمات العامية ملامح المجتمع وثقافته وتقاليده، ما يجعل الهايكو وسيلة لحفظ اللهجات المحلية وتوثيقها داخل الأدب. فإدخال العامية يضفي على النص طابعًا محليًا يميز كل شاعر عن الآخر ويخلق ارتباطًا بين النص والبيئة التي نشأ فيها.

3- كسر القوالب التقليدية والتجديد اللغوي

لطالما كان الأدب مجالًا للتجريب والتطوير، واستخدام العامية في الهايكو يعد شكلًا من أشكال كسر القواعد اللغوية الجامدة، وفتح المجال لأساليب جديدة أكثر مرونة وحيوية.

4- إضفاء بصمة خاصة وتميّز الأسلوب

لكل شاعر طريقته الفريدة في تشكيل لغته الشعرية، وعندما يستخدم العامية بذكاء، فإنه يمنح نصوصه طابعًا مميزًا يختلف عن غيره من الشعراء، مما يجعل أسلوبه أكثر تفرّدًا.

5- إيصال رسائل مشفرة ورمزية

في بعض الحالات، تحمل الكلمات العامية دلالات اجتماعية أو سياسية لا يمكن للفصحى التعبير عنها بنفس العمق. قد تكون هذه الدلالات مرتبطة بالصراع الاجتماعي والثقافي والسياسي بين الأفراد والجماعات، أو أنها تعكس جدلية العلاقة بين المركز والهامش، أو بين الريف والمدينة، أو بين الأنا والآخر…إلخ.

6- مرونة اللغة أمام التحولات المجتمعية

اللغة العامية متغيرة باستمرار، حيث تتأثر بالمتغيرات الاجتماعية والتكنولوجية، مما يجعل استخدامها في الهايكو وسيلة للتعبير عن التحولات اللغوية في المجتمع. بعض المفردات العامية تندمج تدريجيًا في اللغة الفصحى، وهذا يخلق ديناميكية لغوية تُغني الشعر وتعكس تطور اللغة مع الزمن.

7- إضفاء تأثير صوتي وإيقاعي خاص

بعض المفردات العامية تمتاز بإيقاع مميز يجعل وقعها على الأذن أكثر جاذبية من نظيراتها الفصحى وبالتالي تكون أكثر استجابة وقبولا من المتلقي.

التحديات والمعوقات

رغم المزايا التي يمنحها استخدام العامية في الهايكو، إلا أن هناك تحديات لا يمكن إغفالها، ومنها:

1-التواصل الثقافي المحدود

يمكن أن تؤدي العامية إلى حصر فهم النصوص في بيئة معينة، مما قد يقلل من فرص تفاعل الجمهور الأوسع مع الهايكو، خاصة أن أحد أبرز سمات هذا الشعر هو عالميته وقدرته على تجاوز الحدود الثقافية.

2- صعوبة الترجمة وفقدان بعض الدلالات

لا يمكن ترجمة بعض المفردات العامية دون فقدان جزء من دلالاتها الأصلية، إذ إن بعض التعابير تحمل إيحاءات أو معانٍ ضمنية لا يوجد لها مقابل مباشر في اللغات الأخرى.

3- احتمالية فقدان البعد الجمالي والبساطة

قد يؤدي الاستخدام المفرط أو العشوائي للعامية إلى إضعاف بنية الهايكو، خاصة إذا لم تكن المفردات المختارة دقيقة أو منسجمة مع روح النص .

4- عدم استقرار بعض المفردات العامية

تتغير المفردات العامية مع الزمن، فبعض الكلمات التي تُستخدم اليوم قد تصبح غير مفهومة بعد فترة، مما يؤثر على استمرارية النصوص ويجعلها مرتبطة بزمن معين .

خاتمة

يُعد استخدام العامية في الهايكو خيارًا إبداعيًا يمنح النصوص طابعًا أكثر حيوية وارتباطًا بالواقع، لكنه يتطلب وعيًا دقيقًا بطبيعة المفردات المستخدمة وسياقها. فعندما تُستخدم العامية بذكاء واعتدال بما يخدم الصور الشعرية يمكن أن تضيف بُعدًا جديدًا للنص ومع ذلك، فإن الإفراط فيها أو استخدامها بشكل غير مدروس قد يؤدي إلى تقليل تأثير النص وقابليته للفهم خارج نطاقه المحلي.

***

عباس محمد عمارة

في قصيدته (حين أضعْتُ الطريق الى بانكستاون) بقافيتيها، إذ كتبها على مقاطع من شعر التفعيلة، ومن قافيتين مختلفتين، القاف في أكثرها، والنون في المقطعين الأخيرين، وهما خاتمة القصة الشعرية (المفاجأة)، بعد الحبكة الفنية شعرية الأداء بعيداً عن حبكة القصة السردية الحكائية الروائية، يروي لنا شاعرنا الكبير يحيى السماوي حكايةَ العودة إلى نُزُل بانكستاون حيث كان نازلاً في مدينة سدني، بعد رحلةِ يوم طويل، ولقاء حميم مع أصدقائه.

هذه الحكاية (القصة) هي مزيجٌ من الرواية منْ خلال (السرد، ومثلث البداية والوسط والنهاية القصصية المنهجية)، ووصفه لطريق عودته الى مقامه في الفندق، وما عاشه من لحظات من الأحاسيس والمشاعر التي انتابته، والاشتياق الى سومر (العراق) وأحبابه هناك، واصفاً ايضاً مشاهداته لمدينة سدني.

لم تنسَ مشاعرُهُ، ولا وحيُه، ذكرَ الإلهة السومرية الأم (اينانا) التي توحّدَتْ مع الشاعر – لكثرة ما أوحت له من قصائد، وتناصات شعرية – توحّدت معه في كينونةٍ واحدةً، ليصبحا كياناً متوحِّداً، ملتحماً لا انفصام بينهما، وروحاً واحدةً، في جسد وقلب الشاعر، وكأنّه بالمرور عليها لاشعورياً، وإنّما بوحاً عفوياً طبيعياً سلساً، يرمز بذلك الى الأم والحبيبة و(الأرض/سومر) عموماً، لكون إينانا رمزاً للخصب، والحبِّ بمعناه الشمولي، ومنه حبُّ الوطن.

كلُّ هذا وهو يتوجّه صوب النُزُل، بمعنى أنّ الوحيّ هبط من عمق وادي عبقر ليلقي رحالَه في أحاسيس السماويّ الكامنة، والتي كانت على حافة الانتظار لتتفجر في سيلٍ شعريٍّ، إذ هبطَ المُفجِّرُ (شيطان شعره عشقائيل)، فكانت القصيدة بقافيتين، توحدهما اللحظة الحسية المُلهِمَة، مقسمةً على ما بثته من شحنة حكائية مسرودة شعرياً.

وكما أسلفتُ فإنَّ عنصر القصِّ السرديّ، هو أحد عناصر إرهاصات وخصائص الشاعرية في جوانب من قصائد شاعرنا الكبير، والذي يحتاج إلى التأمل والبحث الاستقرائي التحليلي.

السرد في القصيدة ليس السردَ بمفهومه الفنيّ القصصيّ المنهجي، وإنما بفنيته وبنيته الشعرية والشاعرية. فهو عند السماويّ ليس حكايةَ أحداثٍ وشخصياتٍ وأماكن وزمن معيّن، وصراع وحبكة وتشابك، وإنّما رواية شعرية تكتبها الأحاسيس والمشاعر التي اضطربت، وتلاطمت وتصارعت في نفسه وقلبه ووجدانه، فتشابكتْ وتواشجتْ والتحمت في صراع داخليٍّ بعيدٍ عن التنافر والانفصام، بل تلاقت وتلاقحت لتولد هذه القصيدة الباهرة التي رافقت شاعرنا لحظةً بلحظة، وهو يتوجه صوب مكان إقامته؛ لأنّها منْ مسارات وشعابِ مشاعرهِ وعواطفه، ومعاناته ومعايشته التي اجتاحته في لحظةٍ ذاتِ شعرٍ جيّاش فيّاضٍ، يملأ كأسَ المتلقي بلذيذ المدام، ومثير الكلام، فاخذت بتلابيب الولادة الشعرية نحو لحظة غياب صوفية عشقية، تتسامى على المكان والزمان، لترتقي مدارجَ الهيام بسكرةِ الكلام، يحكي لنا إلهامُه من خلالها بما اعتراه من مشاعر، ووجد، وحرارة، وسيل شعريٍّ يتدفق دون عوائق، ولا مطبات حسية، ليسردَ، ويصفَ ببانوراما فنيّة بلاغيةٍ، ولغةٍ مُترَفة، رقيقة الحاشيةِ، جميلةِ الإيقاعِ، برّاقةِ التصوير، عُرفَ بها الشاعر. بانوراما على شاشةٍ عريضةِ، ولوحةٍ ملوّنة بالوجدان، والبلاغة المُصاغةِ بمقدرة راقية التصوير والخَلقِ الفنيّ، تعرضُ ما مرَّ به، وكيف أضاع طريق النُزُل وهو في غمرة القصيدة، التي أمسكت بتلابيب أحاسيسه، فعايش هواجسها وإرهاصاتها ومخاضها، ليأتينا على جواد قصيدة جامحة، لا تنتظر الميدان لتتسابقَ، لأنّها هي السباقُ والمضمارُ نحو هدفها ونهاية رحلتها الشعرية (المفاجأة)، إذ وجد عنوان النزل في جيبه مع المفاتيح، مثلما هي (القصيدة) العِقدُ الفريدُ في جيدِ مملكة الشعر الخالدة.

لقد أثار فينا الشاعر الكبير الفضولَ القرائيَّ، وشدّنا الى هذه الرحلة صوب نهايتها، بحبلٍ من الجمالِ والسحرِ، وفوق عربةِ لذة الاهتزاز الحسيّ والرعشة الشعورية، ليوصلنا سالمين غانمين، فائزين بلوحةٍ تشكيلية مدهشة مرسومةٍ بالكلمات والمشاعر، ملوَّنةٍ بريشةِ الخَلْق الشعري. فالحكاية والأحداث والشخصيات والمكان فيها هي جَمْعُ الأحاسيس والهواجس والمخيال الثرِّ التى هزَّت الشاعر، بل هي الشاعرُ نفسُه في ذروة مخاضِ القصيدة، وبقضِّه وقضيضِه.

***

عبد الستار نورعلي

..........................

حين أضعْتُ الطريق الى بانكستاون

الصبحُ في سيدني طويلٌ

كانتظارِ قصيدةٍ عذراءَ

تأبى أنْ تطِلَّ على

الورَقْ

*

ومساءُ سيدني روضةٌ ضوئيةٌ

أزهارُها غسَقٌ

بحبلِ الضوءِ شُدَّ الى الشفقْ

*

وأنا الغريبُ السومريُّ

مُفتِّشًا عني أحَدِّقُ في الوجوهِ

لعلَّ وجها سومريَّا

يستضيءُ السندبادُ بهِ

يمدُّ إليهِ صوتًا من لِسانِ الضادِ

يُنجي السندبادَ الضائعَ الحيرانَ من شبحِ

الغرَقْ

*

الوقتُ مصلوبٌ

وشمسُ الإنتظارِ بلا ألقْ

*

سأعودُ قال السومريُّ المُسرِفُ / المُتَزَهِّدُ

الطفلُ / الفتى

الشيخُ المُخَضَّبُ بالتبتُّلُ

والمُضَرَّجُ بالنَزَقْ

*

سأعودُ قالَ الى متاهةِ غرفتي

فلربَّما

ستطِلُّ من تحتِ الجفونِ المُغمضاتِ

إلهةُ الأمطارِ " إينانا "

لِتُطفئَ غابةَ النيرانِ في جسدي المُفخَّخِ بالشبَقْ

*

وتؤمُّ بيْ فوقَ السريرِ

صلاةَ " حلاّجٍ " بماءِ لظى تهيُّمِهِ

احترَقْ

*

وتصبُّ ليْ كأسًا من القبلاتِ ..

تُطعِمني رغيفًا من طحينِ أُنوثةٍ

فهيَ الوديعةُ كالحامةِ والرقيقةُ كالفراشةِ

أو أرقْ

*

مُتعكِّزًا ظلّي مشيتُ ..

عبرتُ جسرًا ..

جزتُ ساحاتٍ وأرصفةً

أضَعتُ الدربَ .. أينَ أنا ؟

سأرجعُ قلتُ في نفسي

ولكني نسيتُ اسْمَ الذي أودعتُ فيهِ حقيبتي

ودواءَ وحشِ السُّكّرِيِّ

وشاحنَ التلفونِ ..

أثقَلني الرَّهَقْ

*

قدمايَ مُتعبتانِ

تشتكيانِ وخزَ تنمُّلٍ

والدربُ نحوَ الفندقِ استعصى عليَّ

فمنْ يُعيدُ الى مراعي القوسِ

ظبيَ السهمِ غافلَ مُقلةَ الراعي المُكبَّلِ بالمتاهةِ

فانطلقْ

*

نحو البعيدةِ

بُعدَ قلبي عن يديَّ

وقربَ شمسٍ والنجومِ

عن الحَدَقْ

*

وَعَدَتْ بثوبٍ من حريرِ العشبِ

يسترُ عُريَ صحرائي

وتغسلُ مُقلتيَّ من الأرقْ

*

وتهشُّ عن غزلانِ رأسي في مفازةِ غربتي

ذئبَ القلقْ

*

فأنا اصطباحي في المساءِ ..

وفي الصباحِ المُغتَبَقْ

*

لأعودَ طفلاً ضاحكَ الأحداقِ

دُميتُهُ الغسَقْ

...............

مُستهزئا من سوءِ ذاكرةٍ

يُقهقِهُ في قرارتِهِ الغريبُ السومريُّ

فقد تذكَّرَ

أنَّ في مفتاحِ غرفتِهِ الذي في جيبِهِ

عنوانَ فندقِهِ وخارطةَ الطريقِ الى المكانْ

*

مُتَعَثِّرًا بِظلالِ خطوتِهِ

يسيرُ السومريُّ الانَ نحو سريرِهِ

في نُزْلِ " بانكستاونْ "

***

يحيى السماوي

21/3/2023

 

قصيدة "ثورة الأجراس" للشاعرة ظمياء ملكشاهي هي قصيدة غنية بالصور الشعرية التي تعكس صراع الذات في مواجهة الخيبة والفقدان، وتستخدم فيها اللغة بشكل أسلوبي معقد يعكس التوتر الداخلي والتساؤلات الوجودية.

الأسلوب الشعري: القصيدة تتميز بأسلوب سردي تأملي، حيث تُقدّم الشاعرة نفسها في حالة من التوهان بين الذكريات والتجارب المؤلمة. يظهر الأسلوب في استخدام المفردات الرمزية، مثل "الأجراس" و"الظلال" و"النهر الشاحب"، التي تُعبّر عن حالة من الجمود الداخلي والخواء الروحي. كما أن استخدام الألوان والتضاد بين "البياض الناصع" و"فصول من الانتظار المقيت" يعكس التنافر بين الأمل والخوف، وبين الضوء والظلام.

التكرار والرمزية: تكرار عبارة "لم أعد أسمع الأجراس" يشكل محورًا أساسيًا في القصيدة، حيث يُستخدم لتمثيل تغيّر الحال وتبدّد الأمل. الأجراس، التي كانت تُمثل الأمل أو الاتصال، تختفي تدريجيًا، ما يعكس تفكك الروابط الداخلية والروحية للشاعرة. كما أن "الأجراس" تظل تُقرع في الخلفية كصوت مفقود، مثل رغبة في العودة إلى حالة من الهدوء الداخلي، ولكنها تتحول إلى غياب مرير.

الصور الشعرية والتشبيه: توظف الشاعرة صورًا شعرية مثيرة، مثل "أسير بمحاذاة ظلي" و"نهر شاحب"، وهي صور تعكس الانفصال عن الذات والفقدان العميق. صورة "معتقة في جب الأسئلة المبهمة" ترمز إلى تراكم الأسئلة الوجودية والبحث المستمر عن إجابات لا تأتي.

الموضوع والصراع الداخلي: القصيدة تعبر عن حالة من الفقدان والتغيير العاطفي، حيث تُظهر الشاعرة نفسها في حالة من العزلة الداخلية، في صراع مع الذكريات، ومع تساؤلات حول العودة والاستمرار. هي في حالة هروب من الحقيقة المريرة، وأمل ضائع في أن تُعيد الأجراس الصوت الذي فقدته.

الختام: القصيدة تسلط الضوء على العلاقة بين الإنسان وذاته من خلال تشابك الحلم والواقع، والمقاومة الداخلية التي تتجسد في صور مؤلمة ومعبرة. الأسلوب الشعري المعتمد على التكرار والرمزية يمنح النص عمقًا عاطفيًا ويعزز من التأثير النفسي على القارئ، مما يعكس الصراع الأزلي بين الأمل واليأس.

***

بقلم: كريم عبد الله - العراق

.........................

ثورة الأجراس

أسير بمحاذاة ظلي مذ عرفتك شاطئا، أمنحه العزيمة ليسبقني أليك وأسنده ببعض الاكاذيب الجميلة التي تستنزف حقائقي الدامغة. لكنني اليوم سحقته بقسوة بالغة ،شمس فاترة ومغيب طويل ونهر شاحب ،فصول من الانتظار المقيت تبقع البياض الناصع لستائري الخيالية فتحتضر حكايتي، مرتخية اقدامي ،لم اعد اسمع الاجراس وهي تقرع معا ،يرعبني أن افقد اصدائي، وها انا أسير بلا ظل، اعود وحيدة في ازقة روحي تتناوشني معاول التفاهة وارخبيلات الضياع المبهمة ،اريد حلما لأطوي الذروة سريعا قبل أن تستنزفني الأنهار الميتة فاغفو على أرقي احدق في ظلام الظلال الهاربة، لا اسمع الاجراس وهي تغني، لم اعد أنتظرك، يفزعني أن لا افعل، لا تزقزق العصافير صباحا على سطوري ،تغلق اهدابها بصمت وقور معلنة خريف اقصوصة نمت بلا ترتيب على غابة في قمر، تنتصب الاقواس في مدينتي النائية ،اخلع زهوي واصيخ السمع لهمهمات الريح التي تقترب، لم اعد اسمع الاجراس تقرع في ٱن واحد، هل ستعود وتمضي ؟؟؟معتقة في جب الأسئلة المبهمة اجوس في الاجوبة المستحيلة

***

ظمياء ملكشاهي - كردستان

 

لم يطقْ الفيلسوف والأديب جان بول سارتر (1905-1980) والأديب الروسي / الأمريكي فلاديمير نابوكوف (1899- 1977) بعضهما البعض الآخر. وحقا، ما يمكن أن يكون مشتركًا بين أشهر أديب روسي مهاجر، وبين المفكر الوجودي الذي تبنى الأفكار اليسارية ببعدها الإنساني! ناهيك عن حقيقة انعدام القواسم المشتركة في المقاربات الأدبية. لقد كان جان بول سارتر على النقيض تمامًا من نابوكوف سواء في مبادئه الجمالية، أو في نظرته للعالم. فسارتر داعية التزام الأدب بقضية، على الأقل النثري، ونابوكوف لا يري في الأدب سوى الأسلوب وقيمته الجمالية/ الفنية، رافضا الأعمال ذات المضامين الاجتماعية، والعقائدية بكل أشكالها.

وقد عبّر الكاتبان عن كراهيتهما المتبادلة بطريقة حاذقة للغاية: عن طريق تبادل مراجعات سلبية لروايات بعضهما، مشحونة بتلميحات للطعن بالآخر. وأثار جان بول سارتر المواجهة في مقالة نقدية له بعنوان "اليأس"، التي كرسها للتعليق على رواية لنابوكوف بنفس الاسم، قال فيها:" يبدو لي أن هذا الإصرار على التحليل والتدمير الذاتي يميز أسلوب نابوكوف النثري تمامًا. إنه كاتب موهوب للغاية، ولكنه كاتب قصاصات". وفسر وجهة نظره هذه: " وأنا إذ أوجه هذا الاتهام، فإنني أشير إلى آباء نابوكوف الروحيين، ولا سيما إلى دوستويفسكي: لأن بطل هذه الرواية الغريبة، يشبه إلى حد كبير شخصيات روايات دستويفسكي: "المراهق" و"الزوج الأبدي" و"مذكرات من بيت ميت"، كل هؤلاء المجانين المحنكين العنيدين" الذين يلهون في جحيم العقل، يسخرون من كل شيء وينشغلون باستمرار بتبرير الذات - بينما يمكن للمرء أن يرى من خلال النسج غير المحكم لاعترافاتهم المتغطرسة والمزيفة الرعب والعجز عن الدفاع عن النفس. الفرق هو أن دوستويفسكي كان يؤمن بأبطاله، بينما لم يؤمن نابوكوف بأبطاله، أو بالأحرى بفن الرواية بشكل عام"

وتابع: " إن انفصال نابوكوف عن التربة (الوطن والعالم)، ... انفصال مطلق. فهو غير مهتم بالمجتمع، ولو لمجرد التمرد عليه، لأنه لا ينتمي إلى أي مجتمع. وهذا هو ما يقود بطل روايته "اليأس" كارلوفيتش" في النهاية إلى جريمته المكتملة، وهذا ما دفع كارلوفيتش في النهاية إلى ارتكاب جريمته، وإجبار نابوكوف على أن يقدم لنا مضمون فارغ باللغة الإنجليزية".974 sartar

لم يظل نابوكوف صامتا، واستغل أول فرصة أتيحت له، لتصفية حساباته مع سارتر. وكان ذلك عندما تلقى عرضًا لمراجعة رواية لسارتر. لذا فإن اللهجة القاسية التي اتسمت بها مراجعته كانت نابعة من رغبته في الانتقام من مراجعة سارتر السلبية للترجمة الفرنسية لروايته (نابوكوف) "اليأس". واتضح ذلك بجلاء من في مراجعته للترجمة الإنجليزية لرواية سارتر " الغثيان". وقال:" إن رواية الغثيان من وجهة نظر أدبية، لا تستحق الترجمة على الإطلاق. فالرواية تنتمي إلى ذلك الصنف من الأعمال التي تبدو درامية، ولكنها في الحقيقة ركيكة للغاية، وعلى غرارها قدم مجموعة من الكتاب من الدرجة الثانية: باربوس وسيلين وأمثالهما".

يتنقل روكانتين بين المقهى والمكتبة العامة، ويتعرف، بالصدفة، على شاذ جنسياً ثرثاراً، ويستغرق في التأمل، ويكتب يومياته، وأخيراً يجري حواراً طويلاً ومضجراً مع زوجته السابقة التي أصبحت محظية رجل أسمر ذو ميول كوسموبوليتية. وولع روكانتين بالأغنية الأمريكية التي تصدح من أسطوانة جرامافون في أحد المقاهي: " قريباً ستتركينني يا حبيبتي". وود أن يكون صلبا كهذه الأسطوانة مع الأغنية التي انقدت اليهودي (الذي كتبها) والمطربة (التي تغنيها)" من " الانغماس في الوجود".

يتخيل روكانتين موسيقيا: رجل حليق الذقن في بروكلين ذو" حاجبين أسودين كالفحم"، ب "خواتم في أصابعه"، يسجل لحنًا وهو بغرفة في الطابق الحادي والعشرين من ناطحة سحاب. كانت حرارة الجو رهيبة. ولكن سرعان ما يظهر"توم" (وهو صديقه على ما يبدو) ومعه زمزمية مسطحة، وأصبحا في حالة سكر شديدة (في ترجمة السيد ألكسندر الفخمة: "يترعان الكؤوس بالويسكي". لقد تأكدتُ أن هذه أغنية حقيقية من كلمات الكندي شيلتون بروكس وغنتها المطربة الكوميدية صوفي تاكر.

ولعل اللحظة الرئيسية في الكتاب هي التبصر الذي ينتاب روكانتين، والذي أسفر عن اكتشافه بأن "غثيانه" هو نتيجة لضغوط العالم الخارجي العبثي وغير المتبلور، ولكنه مع ذلك عالم حقيقي للغاية. ومن سوء حظ الكتاب إن كل هذا يبقى على المستوى التأملي المحض، وكان من الممكن أن تكون طبيعة هذا الاكتشاف على نحو آخر، ولنقل ذاتويا، من الفكرة الفلسفية التي تقول بأنه لا وجود لشيء غير الذات أو غير الأنا أو لا وجود حقيقي إلا لعقل الفرد، لما انعكس تأثيره على بقية الرواية بأي شكل من الأشكال. وعندما يفرض المؤلف خياله الفلسفي الباطل، ووفق هواه على شخص عاجز اخترعه لهذا الغرض، فإنه يحتاج إلى موهبة كبيرة لإنجاح الخدعة الروائية. وحقا لا أحد يجادل روكانتين عندما يقرر أن العالم الخارجي موجود. لكن سارتر لم يتمكن من جعل العالم الخارجي موجودًا كعمل فني.

وكما كتب نابوكوف: "ارتبط اسم سارتر، كما أعرف، بالفلسفة التي نشأت في المقاهي الباريسية وأصبحت الآن موضة. ولا بد أن تكون هذه الترجمة الإنجليزية لرواية سارتر الأولى" الغثيان" (التي نشرت في باريس عام 1938) قد لاقت بعض النجاح، مادام هناك عدد لا بأس به من "السكتولوجيين (اعذروا المصطلح المنمق)، من يسمون اليوم ب " الوجوديين".

 وعُرض على نابوكوف بعد ذلك بفترة وجيزة، أن يكتب مراجعة لمجموعة مقالات سارتر "ما هو الأدب؟" لكن الكاتب رفض:" لقد قرأتُ النسخة الفرنسية الأصلية للكتاب، وأعتقد أنها تافهة. وبصراحة، لا تستحق المراجعة". وكان نابوكوف يرى أن سارتر "أسوأ من كامو". علما انه وصف كامو بـ "المقرف".

***

د. فالح الحمــراني

تعرضت الرواية القصيرة جدا الى الكثير من الجدل، والذي أعطاها هذا النوع من التجنيس لأول مرة على مستوى العالم العربي هو الروائي (حميد الحريزي) وهي لا تنتمي الى الرواية القصيرة ولا الى الرواية المعتادة حيث الدراما والتراجيديا أو الكوميديا وما تتطلبه هذه الروايات من حبكة سينمية على كافة المستويات. ولذلك سوف يأخذ هذا النوع من التجنيس الروائي القصير جدا مديات طويلة حتى تستقر وتشتهر أكثر مما عليه الآن، كذلك لو أخذنا بنظر الإعتبار الى ان الرواية بشكلٍ عام وكجنس أدبي أتخذت الف سنة حتى إستقرت وانتشرت بما نعرفه اليوم وايضا الموسيقى أخذت وقتا طويلا حتى إستقرت في الذائقة السمعية. أما الرواية التي إعتاد عليها القاريء والتي تأخذ العديد من الصفحات وأحيانا تصل الى أجزاء ومجلدات مثلما الرواية الشهيرة (الدون الهاديء) للروسي (ميخائيل شولوخوف) والتي تألفت من أربعة أجزاء وكل جزء منها شمل أكثر من خمسمئة صفحة وأما الجزء الرابع وصل الى سبعمائة صفحة من القطع الكبير ومن طباعة ونشر دار المدى. وهذه الرواية وحدها يجب عليك التفكير كيف تستطيع حملها بكل أجزائها بينما الرواية القصيرة جدا هي عبارة عن كتيبٍ ضئيل للغاية تحمله مثلما تحمل تلفونك المحمول وهذا يعني تستطيع قرائتها في أي مكان وتنهيها على وجه السرعة مع الإستفادة من معانيها وفحواها. لكننا بصدد ما يراه القارئ والمتلقي بخصوص هذا التجنيس الروائي وكيف سيقتنع القارئ؟. ولذلك علينا أن نترك الأمر للنقد والنقاد والمثقف النخبوي ويتوجب علينا أن نعرف أنّ النقد إتخذ مراحلاً عديدة ومدارس كثيرة حتى وصل الى التجريب الذي منح حميد الحريزي أن ينطلق وفق مفهوم التجريب القانوني والمعمول به أدبيا ليكتشف لنا هذا النوع من التجنيس الروائي والذي تجلّى واضحا في رواياته القصيرة جدا ومنها رواية المقايضة، أرض الزعفران، المجهول، القداحة الحمراء، وغيرها. وأعتقد سوف تتعرض الرواية القصيرة جدا الى الدحض والنقض والموافقة أيضا بذات الوقت لأن أي مبدع سواء إن كان حميد أو غيره سيتعرض للنقد وعلى كافة أنواعه لأن النقد أول مابدأ شفهيا: على سبيل المثال حين يقرأ شخصا شعرا معينا سوف نقول فورا (الله) أو جميل وغيرها من معاني الإعجاب ثم تطور وجاء سقراط وبعده إفلاطون وغيرهم، وحتى القرآن الكريم إستخدم النقد ضد الشعراء وفق الآية (الشعراء يتبعهم الغاوون) ثم تطور النقد على يد القاهر الجرجاني (إن عبتَ الناس عابوك وإن تركتَ الناس تركوك). في ذلك الوقت لم يكن للنقد إصول وقوانين حتى جاء القرن التاسع عشر وأصبح للنقد إصولا ومعاييرا وجاءت المدارس العديدة ومنها الرمزية والرومانسية وغيرها وجاءت المصطلحات النقدية على سبيل المثال السيميوطيقي بالنسبة للناطقين باللغة الفرنسية والسيميولوجي للناطقين بالإنكلوسكسون والسيميائي لشعوب الشرق، ثم جاءت المدارس العديدة منها الأسلوبية والالسنية والسوريالية والبنيوية والتكعيبية حتى وصلنا الى الحداثة بعد الحرب العالمية ثم مابعد الحداثة ثم التجريب الذي وصلنا بعد أربعين عام من ظهوره في الغرب. التجريب الذي من خلاله ظهر النص المفتوح الذي اكتشفه إمبرتوإيكو 1958 وهذا النص اُطلق عليه الكثير من المصطلحات، فلماذا نبخل على حميد الحريزي أن يطلق على هذا النوع الجديد بالرواية القصيرة جدا؟ والتي بدورها ستأخذ مدارها الطويل حتى نستطيع أن نقول أنها السائدة والرائدة لآن البعض منهم قد يعزيها الى إسلوب الحكاية أو أدب الحكائين والمنابر وأنا شخصياً لا أميل الى ذلك. بل، أعطيها هذا التجنيس الذي جاء به حميد، على الرغم من أنها لاتهتم بالوصف الخارجي والوصف الداخلي المتعلَق بالمشهد السردي، يعني الخارجي على سبيل المثال كيف هي السماء وكيف هي الطرقات والأشجار والجداول وغيرها. أما الداخلي هو الشعور النفسي لشخوص الرواية وحركاتهم وتقاسيم وجوههم وغيرها. كل ذلك تختزلها الرواية القصيرة جدا لتعطينا خالص الكلام بإسلوب ٍسلسٍ لين وناعم ومثير ومشوّق.

أنا اقول: من خلال التجريب ومافعله حميد لنتركه لتأويل المستقطب أو المتلقي وهو الذي يملاْ الفراغات الناقصة وابداء الرأي والنصح. ثم هناك العديد من الروائيين العالميين كتبوا بما يشبه هذا النوع من التجنيس ومنها (الجندي الجريح) لغابرييل غارسيا ماركيز، هذه التي هزت المشاعر الإنسانية وقتها ولازالت. الكاتب الدنماركي (هانس اندرسن) ايضا كتب هذا النوع ومن ضمنها الروايات القصيرة جدا لكن وقتها لاأحد يستطيع أن يجتهد مثلما إجتهد حميد وأطلق هذا المسمى الجديد لأعماله الرشيقة الخالية من السمنة والكروش المتدليّة فيستحق أن نقف عنده ونعتبره إنجاز واكتشاف جديد يصلح حتى في البرامج التلفزيونية كأضواء، او قفشات، أو حلقات خماسية أو ثلاثية مثلما نراها اليوم لدى الدراما السورية القصيرة جدا والتي تعرض مثل هكذا روايات قصيرة جدا ومنها خماسية الحب الحرام، أو علاقات محرمة وغيرها العديد على هذه الشاكلة. لكن الإمكانيات العراقية ضحلة جدا للاسف في هذا المجال لأنّ السينما والمسرح مغيبان في هذه الفترة حيث سلطة الكهنوت فكيف بإبداع كهذا الذي نتحدث عنه لدى حميد الحريزي.

لنستعرض بعض الروايات القصيرة جدا لحميد الحريزي وبشكل مختصر: رواية (أرض الزعفران) خمسة فصول عن امراة تسمى (ضويّة) أم الكرامات وخرافاتها وما أكثرهنّ اليوم لآن الخرافة مازالت مزدهرة حتى اليوم على الرغم من فضحها من كبار الكتاب ومنهم ابو العلاء المعري في رسالة الغفران. هذه المرأة ضوية يتناولها حميد بإسلوب ممتع من خلال زبد الكلام وخيره ماقل ودل، هذه المرأة تستغفل هي وزوجها الورع المزيّف جميع من في القرية التي تسكنها بحجة أنها تمتلك الكرامة في الشفاء وقراءة الكف وغيرها حتى تصبح من أثرى الأثرياء كما حال سياسونا اليوم وحيلهم في كسب المال. وفي الأخير وفي صباح ذات يوم ما من أحد يرى ضويّة، أي أنها أخذت الجمل بما حمل وتركت القرية بناسها الذين يضربون الأخماس بالأسداس دون علمٍ ولا دراية ولاتمحيص بسبب تصديقهم الأعمى للخرافة والقديسين المزيفين.

ثم (رواية القداحة الحمراء) التي تحكي عن النضال اليساري للشيوعيين والأكراد في الأهوار وفي تلك الحقبة حيث كان يحكم الطاغية بجبروته وقسوته. فتوضّح لنا هذه الرواية مامدى التضحية للمناضلين ومسيرتهم التي بقيت في الذاكرة العراقية.

وبعدها رواية (المقايضة) التي تحكي عن أرض يسكنها من يملكون الذيول في مؤخراتهم تعبيراً عن شيء يراد به التنكيل أو لغرض زرع الإستغراب في نفوس الناس. وهذه كانت في جنوب العراق تطلق على الطائفة الثانية فيقال عنهم من أنهم لديهم ذيول ويختلفون عن سائر البشر وعن الطائفة الآخرى، وهذه تقال لا لشيء سوى للتنكيل والحط من شأن الآخرين. وفي يوم حقيقي ذهب أحد الأشقياء الى المؤذن صباحا في مدينة السماوة وهو من الطائفة الأخرى التي تحتلف عن طائفة الشقي، وخلع سروال المؤذن ليرى ذيله وما من ذيل هناك. أما قصة حميد فهي إقتربت من تلك القصة القصيرة (بلد العميان) للكاتب هربرت جورج ويلز الانكليزي 1904 والتي أخذت شهرتها كقصة قصيرة بحيث يصبح العميان يرون كل العالم وكانه عبارة عن بلدهم فقط. ثم ياتي شخصا مبصرا ويرى هذه البلدة المصابة بمرض العمى فلقبوه بالأعور حتى يصبح ملكا في بلد العميان لان هناك قصور في الرؤيا الحقيقية فحتما سيتبعها قصور في التصور والمخيال والمعرفة. أو مثل تلك المدينة التي كان كل شعبها مجانين فيتطلب من الحاكم ان يكون مجنونا كي يستقر في حكمه على المجانين فيتوجب عليه أن يكون مثلهم والأّ سوف يُخلع من حكمه. فرواية الذيول لحميد الحريزي هي ساخرة ومثيرة للغاية ومختصرة إختصارا شديدا تستحق أن نطلق عليها بالرواية القصيرة جدا.

أيضا هناك رواية قصيرة جدا عنوانها (المجهول) وهي تحكي عن السجين العراقي لمدة عشرين عاما ويخرج في الانتفاضة ليرى سقوط صدام، وهكذا تدور الأحداث عن الإستغراب والدهشة وتغيير ملامح الطرقات لدى هذا السجين الذي ينتهي به الأمر دون الإستفادة من عمره وناسه وأهله وحياته بينما هو المناضل العتيد ويبقى الساقطون يلهون في الأرض فسادا ولا زالوا. وغيرها من الروايات القصيرة جدا التي سردها حميد بإسلوبه الماتع الغير ممل بل كان في أقصى إجتهاده لكي يعطي للمتلقي مفاهيمه التي يريد أن يقولها على شكل ٍرشيق ومنسرحٍ ودسمٍ في المعاني.

في الأخير أقول: أن فن التجريب لهذا النوع من الروي القصير جدا له طاقاته الهائلة في الإبداع لآنه يدخلنا في مديات التأويل على أكثر من مفصل ومفصل علاوة على التكثيف والعصارة واختزال الوصف في مجمل الروايات الاّ أن حميد ربما اشتغل على القاريء وانا قلت: هو الذي يملك التصويت الكامل إتجاه هذا النوع. القاريء هو من يعطي ويضيف ويؤول ويشرح وهذه هي العلامة البارزة في فن التجريب. يعني لو ان الروائي اختزل موضوعة الضوء في غرفة ما وفي النهار فأن القاريء عليه أن يعرف آن فتح الضوء في الليل وفي الغرفة ذاتها يختلف عنه في النهار، وفتح ستائر المنزل في النهار على الفضاء الخارجي يختلف عنه عند فتحها في الليل. وهذه يُعمل بها في أغلب الأفلام السينمائية وحسب مهمة المخرج ومعرفته بالرواية والسيناريو.

ويبقى هذا التجنيس الذي جاء به حميد ينتظر الزمن فجميع الفنون كما قلت أعلاه أخذت وقتا طويلا. وكل اكتشاف جديد سوف ياخذ مداه حتى يكون لامعا ساطعا في المدى الواسع. يعني على سبيل المثال فن السينما أول مابدأ قبل 700 عام في اوربا وهو يتمثل في كيفية تلك اللعبة للآطفال وكيف كنا نضع رؤوسنا داخل علبة صفيح مع تغطية رؤوسنا بملاءة خفيفة ومن ثم ننظر من ثقب صغير لنرى الأشخاص يتحركون على هيئة خيال أو ظل وكاننا في صالة سينما مصغرة. ثم تطورت السينما من صامتة (شارلي شابلن) الى صوتية وأصبحت بشكلها المثير للجدل وأبعادها الثلاثية وكيفية تسليط الضوء وتناغم حركة الشفاه مع الصورة. القصد من ذلك كل الفنون أخذت المديات الطويلة في الإنتشار ماعدا السيناريو فهو الوحيد الذي إنتشر بسرعة مذهلة حيث تجاوز الخمسين سنة فقط ووصل الى ماهو عليه الآن. واليوم أغلى أجر يتقاضاه هو السيناريست في بلدان الغرب وليس في بلداننا التي لاتقدّر هذا العمل البارع. فذات يوم قال المخرج الشهير (الفريد هتشكوك) حين يكتمل السيناريو هذا يعني لقد إكتمل الفلم. ومن هذا المنطلق يمكننا القول: أن حميد الحريزي إشتغل بصيغة السيناريو بإعتباره ملخصاً ومضغوطا للعمل الروائي الطويل وهذه مهمة ليست بالسهلة على الإطلاق وإنما تتطلب الذكاء والجهد والمعرفة الرصينة مثلما ذت يوم كان الممثل الراحل والشيوعي الشهير (كيرك دوغلاص) أراد كاتبا لسيناريو فيلم (سبارتكوس) وبالفعل بحث كثيرا حتى وجد السيناريست اليساري والشيوعي أيضا (دالتون ترامبو) وبفضل هذا الرجل السيناريست أصبح فلم سبارتكوس الذي تناول قضية العبيد في الإمبراطورية الرومانية هو الأجمل في القرن العشرين على الإطلاق.

وفي الأخير أقول ياترى: كم من الزمن سيتخذ هذا المنجز الجديد أوالرواية القصيرة جدا من إكتشاف البارع الروائي حميد الحريزي؟. وإذا هناك من يعترض على الإختراع الجديد فلابد من القول لشد الأزر لحميد الحريزي وفقا لماقاله (جان ككتو):

مايلومكَ الناس عليه

إعمل به ِ

فهذا هوأنت

***

هاتف بشبوش / شاعر وناقد عراقي

 

تُعد رواية “اللجنة” لصنع الله إبراهيم أحد أهم الأعمال التي كسرت القوالب التقليدية للسرد العربي الحديث. فمن خلال بنيتها التجريبية، وتحليلها العميق للسلطة والاستلاب، تقدم الرواية قراءة نقدية لأنظمة القهر السياسي والاقتصادي، مما يجعلها وثيقة أدبية تحمل بعدًا فلسفيًا يتجاوز زمنها. حيث تجاوزت القوالب التقليدية للسرد لتقدم نصًا عميقًا ومتعدد الأبعاد.

استطاع صنع الله إبراهيم أن يمزج بين السرد الفني والنقد الاجتماعي والفلسفي، مما يجعل الرواية وثيقة إنسانية تكشف عن تحولات النظام العالمي وهيمنة الرأسمالية وآليات الاستلاب.

يستنطق صنع الله واقع الهيمنة السياسية والاقتصادية عبر أسلوبه الفريد. يتعامل مع الكلمات كأدوات مواجهة ضد البنى الفوقية التي تمارس استلابها اليومي على الفرد والمجتمع.

إن نصوصه، والتي منها “اللجنة”، ليست مجرد سرديات أدبية بل مساحات للتحليل البنيوي للسلطة والهوية. تجعل القارئ أمام مرآة تعكس تناقضاته مع النظام السائد.

صنع الله، الذي ينهل من تجارب الواقعية الاشتراكية ويناهض الهياكل الاقتصادية النيوليبرالية، يقدم الأدب كفعل مقاومة لا كوسيلة ترفيه.

تُعد رواية “اللجنة” نموذجًا أدبيًا جريئًا يستنطق منظومة الاستبداد السياسي والاقتصادي.

في الرواية، يتم استدعاء البطل أمام ‘اللجنة’ ليخضع لاستجوابات غامضة حول قضايا لا تُوضح طبيعتها بالكامل. تتلاعب اللجنة بأسئلتها وتوقعاته، مما يضعه في حالة دائمة من القلق والارتباك.

هذا الغموض يعكس كيف تعمل السلطة الحديثة على تحييد الفرد وتجريده من إرادته تحت مبررات بيروقراطية لا يمكنه فهمها أو مقاومتها، والتي تتخفى خلف أقنعة البيروقراطية.

يظهر هذا بوضوح في التجربة العبثية التي يخوضها البطل مع “اللجنة”، حيث تكشف الرواية عبر سيرورتها عن كيفية استلاب الفرد من خلال الإذعان لسلطة غامضة وغير محددة، ما يجعل الإنسان خاضعًا لنظام يفرغ هويته المتجذرة من محتواها ويضعه في حالة وجودية من الانفصال عن الذات.

هذا المظهر يتقاطع مع تحليلات فوكو حول السلطة التي لا تتجلى في مؤسسات محددة فقط، بل تتخلل أنسجة المجتمع عبر خطابها وآلياتها الرمزية. “اللجنة” ليست مجرد مؤسسة، بل هي تعبير عن عقلية التحكم التي تحكم العالم الحديث، حيث تُطمس الحدود بين ما هو واقعي وما هو تمثيلي.

تعتمد الرواية على بنية سردية تتسم بالتجريبية والعبثية. يعكس هذا فلسفة عدمية مضمرة تسائل جدوى الأنظمة الوضعية في احتواء الوجود الإنساني.

يمكن قراءة ذلك من خلال عدسة التحليل البنيوي الذي يركز على كيف أن السرد ذاته يتحول إلى أداة للتشكيك في الثنائيات الكبرى.

تشبه تجربة البطل في ‘اللجنة’ ما طرحه ألبير كامو في ‘أسطورة سيزيف’، حيث يجد الإنسان نفسه في مواجهة أنظمة عبثية، لا يستطيع فهمها أو التكيف معها. البطل، رغم محاولاته للإجابة على أسئلة اللجنة أو فهم دوافعها، يبقى عالقًا في دائرة مغلقة من القهر وعدم اليقين.

هذا الانفصال عن المنطق والعدالة يعكس أزمة الوجود الإنساني في عالم تتحكم فيه قوى فوقية مجهولة، مما يثير تساؤلات حول الثنائيات الكبرى: المعرفة والجهل، الحقيقة والوهم، الفرد والجماعة.

نجد هنا صدى لأفكار رولان بارت حول “موت المؤلف”، حيث يغيب صوت الكاتب ليحل مكانه نص مفتوح للتأويل.

في “اللجنة”، يصبح البطل رمزًا لذواتنا المعذبة، العاجزة عن فهم عالمها، ما يخلق نوعًا من التوتر النفسي بين القارئ والنص.

من خلال تسليط الضوء على مركزية “اللجنة”، تُبرز الرواية نقدًا عميقًا للرأسمالية العالمية التي تحكمها “لجان” رمزية تسير الاقتصاد والسياسة في الخفاء. إن استعراض الرواية لهذه الفكرة يقترب من رؤية ماركس حول الهيمنة الطبقية، حيث تُصبح السلطة أداة لشرعنة الاستغلال الممنهج للأفراد.

يبرز صنع الله إبراهيم الصراع بين الهويات المحلية والأدوات الرأسمالية الكونية، في محاولة لاستعادة ما يسميه غرامشي بـ“الهيمنة الثقافية”.

ففي الرواية، يتم توظيف وسائل الإعلام والتعليم والبيروقراطية كوسائل لفرض هذه الهيمنة، مما يؤدي إلى إنتاج سرديات تتلاعب بالوعي الجمعي وتُعيد تشكيله وفقًا لمصالح الطبقة المسيطرة.

اختيار صنع الله للغة حادة ومتقشفة يعكس الرغبة في فضح زيف البنية الخطابية السائدة.

تتسم اللغة بالواقعية والجفاف، ما يجعلها أداة لزعزعة الاستقرار العاطفي للقارئ.

تُستخدم اللغة في الرواية بأسلوب يتجنب الوصف الزائد أو الزخرف.

فعلى سبيل المثال، وصف مشهد استدعاء البطل أمام اللجنة يأتي مباشرًا وجافًا، ما يجعل القارئ يشعر بثقل اللحظة وعدميتها.

هذه الحدة اللغوية ليست مجرد اختيار أسلوبي، بل هي أداة تُظهر الانفصال بين الفرد والمؤسسات المحيطة به ووضعه في مواجهة مباشرة مع وحشية الواقع.

يشبه ذلك استخدام كامو في “الغريب” للغة كوسيلة لتجسيد العبثية.

النصوص في “اللجنة” ليست فقط أدوات تعبير، بل هي أيضًا كيانات فلسفية تُحرض على التفكير.

الرواية تُمثل مثالًا على ما يُمكن أن نُسميه بـ“اللغة المقاومة”، تلك التي لا تخضع للقواعد المألوفة التي تهدف إلى تسكين القارئ أو جذبه، بل تصدمه وتعيد ترتيب علاقته بالعالم.

بهذا المعنى، تتجاوز الرواية حدود السرد التقليدي لتصبح نصًا فلسفيًا يطرح أسئلة حول كيفية استخدام الخطاب لتكريس الهيمنة أو لفضحها.

تتقاطع هذه الفكرة مع رؤى جاك دريدا حول التفكيك؛ حيث اللغة ليست ثابتة ولا بريئة، بل هي وسيط يتلاعب بالمعاني وينزعها من يقينيتها.

بهذا، تتحول “اللجنة” إلى مختبر تفكيكي يُظهر هشاشة الأنظمة السياسية والثقافية، ويُعيد للقارئ دور المُفكر والمُفسر بدلًا من كونه مستهلكًا للنص.

“اللجنة” ليست مجرد نص أدبي، بل هي نص فلسفي متعدد الطبقات يحاكم السلطة وهيمنتها على الأفراد في عالم يعج بالسرديات المتجذرة في أنظمة الاستلاب والقهر.

إن الرواية، عبر بنائها المعماري المعقد ولغتها المتقشفة والعبثية، تدفع القارئ إلى إعادة التفكير في موقعه كفرد ضمن منظومة أوسع تحاول استلابه من ذاته.

في هذه الرواية، يكشف صنع الله إبراهيم كيف يمكن للسردية الأدبية أن تكون مرآة فلسفية تجسد قضايا الإنسان الحديث: قضايا الهوية، والاغتراب، والاستلاب في مواجهة هيمنة الرأسمالية العالمية وآلياتها الخفية.

إن “اللجنة” تُعيد طرح تساؤلات وجودية كبرى عن موقع الفرد بين القوى الأكبر التي تتحكم بمصيره، مما يجعلها نصًا يتجاوز أبعاده السردية ليصبح فعلًا فكريًا ومقاومًا في آنٍ واحد.

لا يمكن قراءة الرواية دون التفكير في تأثيرها البعيد على وعي القارئ.

فهي تقدم نقدًا عميقًا للأنظمة القمعية، بطريقة تجعل القارئ متورطًا عاطفيًا وفكريًا.

كما أن تجربة البطل في مواجهة اللجنة تُذكرنا بتحليل أدورنو وهوركهايمر عن “جدل التنوير”، حيث تصبح الأدوات التي يفترض أن تحرر الإنسان هي ذاتها التي تقيده وتخضعه.

صنع الله إبراهيم يدعو القارئ، بشكل غير مباشر، إلى المقاومة الفكرية لتلك السرديات الهيمنية، وإلى التفاعل معها بتساؤل دائم.

ختامًا، يمكننا القول إن “اللجنة” ليست مجرد عمل أدبي، بل هي وثيقة إنسانية تحمل في طياتها رؤية فلسفية عميقة لنظام الهيمنة العالمية.

بهذا المعنى، تقف ‘اللجنة’ في مصاف الروايات العالمية الكبرى التي تناقش قضايا الإنسان المعاصر مثل ‘1984’ لجورج أورويل و’محاكمة’ كافكا.

إنها ليست مجرد انعكاس للواقع العربي، بل هي أيضًا صرخة إنسانية ضد كل أشكال القهر والاغتراب التي يعاني منها الفرد في مواجهة أنظمة تسعى لتفريغه من جوهره.

بمهارة نادرة، يجعل صنع الله من السردية وسيلة لتفكيك الخطابات السلطوية وكشف تناقضاتها، ليبقى النص شاهدًا حيًا على قدرة الأدب على الوقوف في وجه التسلط، والتحريض على استعادة الإنسان لإنسانيته المسلوبة.

***

إبراهيم برسي

 

في نص (هوية حلم) الشاعرة فاطمة عبد الله

تتميز قصيدة "هوية حلم" للشاعرة الدكتورة فاطمة عبد الله بعمقها الدلالي وجمالياتها اللغوية، إذ تطرح رؤية عميقة حول معاني الهوية والوجود من خلال مرآة الأحلام.

يُمكن اعتبار هذه القصيدة رحلة استكشافية داخل الذات الإنسانية، حيث تلتقي الأفكار والمشاعر والأمنيات.

بداية: عنوان النص مثير، ونادر وجوده أو لفظه بين العامة. فهل هناك هوية للحلم؟

العنوان " هوية الحلم "

""هوية الحلم" هو عنوان يحمل دلالات عميقة تشير إلى الانتماء والتعريف بالذات من خلال الحلم.

يتضمن مفهوم الهوية عناصر متعددة: الفردية، الطموح، الألم، والبحث عن المعنى.

فالأحلام ليست مجرد رؤى ليلية، بل هي تجليات لرغباتنا وآمالنا، وتعبير عن واقعنا الداخلي.

الارتباط العنوان بالنص:

في النص الذي كتبته الشاعرة فاطمة عبد الله دل، تظهر هذه الهوية في مجموعة من الصور الشعرية التي تعكس الصراع بين الحلم والواقع.

حلم الشاعرة، الذي يتجسد في "حلم البنفسج"، هو رمز للأمل والجمال الذي تضرع للسماء، ولكنه يواجه واقع "سحيق الشقاء" و"حكاية الخواء".

هنا نجد التضاد بين ما يمثله الحلم من نور وأمل، وما يعبر عنه الواقع من ألم ومرارة.

إن الشاعرة ترسم صورة للانتظار العبثي ومحاولة التكيف مع الألم العميق الذي يكتنف الهوية.

فهي تشبّه نفسها بــ"سيزيف" الذي يحمل صخرة بلا نهاية، مما يعكس شعوراً بالعجز والإحباط. الهوية هنا ليست فقط مرتبطة بالحلم بل أيضاً بالمعاناة وفقدان الأمل.

الإشارة إلى الهوية في النص .

تتجلى "هوية الحلم" في مواقف الشاعرة من الحياة، حيث تذكر كيف أن أملها يتآكل بين صراعات الوجود.

تمثلت الهوية في شموليتها، فهي الهوية الناتجة من التراب، من "لون واسم وعمر وقدر".

هذا المعنى يشير إلى تجربة شخصية ربما تعكس تجارب جماعية، مما يجعل من الحلم هوية ليست فردية فقط، بل تمتد لتشمل معاناة مجتمعات كاملة.

باختصار، عنوان "هوية الحلم" يبرز الصراع الدائم بين الطموح والواقع، ويجسد معاناة الأفراد على صعيد البحث عن الذات وتعريفها في عالم مليء بالتحديات.

تظل الهوية في حالة تشكل دائم بين الفرح والألم، وفي النهاية، تصبح الأحلام هي ما يحدد هذا الواقع المتجذر في الذاكرة والوجود.

نهاية تأويل الحلم ...

البنية اللغوية والبلاغة:

تستثمر الشاعرة بلاغة اللغة العربية بذكاء شديد، فتستخدم الاستعارات والتشبيهات لتثري معاني النص وتفتح آفاقاً جديدة للتأويل.

فمثلاً، قد نجدها تصف الحلم ككائن حي يختزل فيه كل الأماني والطموحات المعلقة في الفضاء، مما يمنح القارئ إحساساً بالمدى الذي يمكن أن تصل إليه هذا الحلم، بل ويجعل منه شخصية فاعلة في القصيدة.

التيمة الأساسية:

تدور التيمة الأساسية حول مفهوم الهوية، تلك الفكرة المعقدة التي ترتبط بالجذور والانتماءات والأحلام.

في "هوية حلم"، تبرز الصراعات الداخلية للإنسان بين واقعه وهويته المنشودة.

تتجلى هذه التيمة في استخدام الشاعرة للألفاظ المتناقضة، مما يعكس التوتر بين السعي نحو تحقيق الهوية المثلى والواقع المرير الذي يعيش فيه الفرد.

العمق النفسي:

يتضمن النص عمقاً نفسياً واضحاً، حيث تعبر الشاعرة عن مشاعر الحيرة والقلق التي تصاحب محاولات اكتشاف الذات.

يمكننا أن نعتبر الحلم هنا وسيطاً يُفضي إلى إدراك الهوية الحقيقية، مما يمنح القارئ شعوراً بالتعاطف مع شغف البحث عن الذات.

التوظيف الرمزي:

تظهر الرمزية في اختيار الصور الشعرية، فكل صورة تحمل في طياتها معاني متعددة قد تُفهم في سياقات مختلفة، مما يُغني تجربة القراءة ويفتح أمام القارئ فرصاً للاكتشاف الشخصي.

هذا الاستخدام الرمزي يعكس قدرة الشاعرة على نقل الأفكار المعقدة بأسلوب جمالي يُشعرنا بحضور الأحلام كجزء لا يتجزأ من الهوية الإنسانية.

التوظيف الزمني والمكاني:

تمتاز القصيدة بتوظيف الزمان والمكان بشكل يعكس الحالة النفسية للشاعرة.

فالزمان يتأرجح بين الماضي والمستقبل، بينما المكان يتمثل في فضاءات مفتوحة تعكس حرية الأحلام، لكن سرعان ما تعود للوقوف عند حدود الواقع المؤلم.

الخاتمة:

إن قصيدة "هوية حلم" للدكتورة فاطمة عبد الله ليست مجرد نص شعري عابر، بل هي تجسيد للتجربة الإنسانية مليئة بالحلم والبحث، حيث تعلو الأصوات وتختلط الأسئلة.

تستحق هذه القصيدة قراءات متعددة وموضوعات نقاش، فهي تعكس تناقضات الهوية وتنوع التجربة الإنسانية ببلاغة وإتقان، مما يجعلها ضمن الأعمال الشعرية المتميزة في الأدب العربي المعاصر.

أخيرًا، قصيدة ما زالت تتسع للنقد والتأويل، استثمار رائع وكبير للجمال اللغوي.

أطيب التمنيات للشاعرة العميقة

***

محمد خالد النبالي - عمان / الأردن

.........................

هُوِيَّةُ حُلْم

حُلْمٌ تَسَلَّلَ في الفَجْرِ

عَلَى أَجْنِحَةِ النُّورِ

تَوَشَّحَ بِنَمَشِ الفَرَاشَاتِ

وَتَعَرَّشَ عَلَى ضَفَائِرِ الأَمَلِ

تَضَرَّعَ لِلسَّمَاءِ بِأَكُفِّ المُنَى

كَسُنُونُوَةٍ هَائِمَةٍ بِالدِّفْءِ

*

إِنَّهُ حُلْمُ البَنَفْسَجِ

سَقَطَ بِغَيْرِ عَمْدٍ فِي سَحِيقِ الشَّقَاءِ

بَاتَ حِكَايَةَ الخَوَاءِ

وَشُحُوبَ رَبِيعٍ وَالهَبَاءِ

هُنَاكَ، فَوْقَ الأَرْصِفَةِ البَارِدَةِ

أَمُوتُ وَأَحْيَا وَأَتَجَرَّعُ السَّقَمَ

أَنَا المُجَرْجِرُ فَوْقَ نِصَالِ الأَلَمِ

سِيزِيفُ أَنَا

*

يَغْشَى الضَّبَابُ انْتِظَارِي العَبَثِيَّ

مِثْلَ انْتِظَارِ غُودُو

كَبَحَّارٍ مَهْزُومٍ أَعُودُ بِمِلْحِ الخَسَارَاتِ

وَالمَخْدُوعِ بِغِنَاءِ السِّيرِينَاتِ

وَكُلُّ شَيْءٍ بَيْنَ أَضْوَاءِ المُدُنِ الكَبِيرَةِ

يَغْدُو كِذْبَةَ نَيْسَانَ

وَيَحْتَرِقُ حَطَبُ القَلْبِ فِي هَسِيسِ لَيْلٍ

وَيَبْقَى رَمَادُ الانْكِسَارِ

*

يَنْحَبُ القَصَبُ

يَبْكِي الصَّفْصَافُ

جُرْحًا لَا يَبْرَأُ

وَوَجَعًا لَا يَهْدَأُ

وَصَدْعًا لَا يَأْرِبُ

*

أَنَا القَادِمُ مِنَ التُّرَابِ

بِلَوْنٍ وَاسْمٍ وَعُمْرٍ وَقَدَرٍ

وَالحُلْمُ هُوِيَّتُهُ السَّرَابُ

***

فاطمة عبد الله

 

هذه هي مشاعري - إلِيزَا مَاشِيَا – ايطاليا

في لحظة ما من الطريق

أدركت أنك إلى جانبي

ربما أُرسلت لتكون عوني

تحت السماء المضيئة، وجسدي المتعب

*

قدمت لي رشفة من إكسير الحب

وكان حديثك صريحًا منذ اللحظة الأولى

وكما في الأزمنة البعيدة، قبَّلت ظهر

يدي، ومنذ تلك اللحظة، فُتح لك قلبي.

*

ما أشعر به هو انعكاسك

أفكاري منذ البداية كانت تنبض معك

وفي عينيك أرى جوهري الحقيقي

*

أرى نفسك في قالبك الحقيقي

الذي يتجدد كل يوم كهدية

حتى وإن لم تكن الحضور مضمونة.

***

إلِيزَا مَاشِيَا – ايطاليا.

القراءة النقدية:

القصيدة التي بين أيدينا، /هذه هي مشاعري/ للشاعرة الإيطالية إلِيزَا مَاشِيَا، هي قصيدة تتميز بالشفافية العاطفية وتقديم تجربة شعورية إنسانية مليئة بالتفاصيل الدقيقة التي تبرز تفاعلات النفس البشرية في سياق علاقة حب أو تواصل عاطفي عميق.

الأسلوب الأدبي:

الرمزية والتشابيه: الشاعرة تستخدم الرمزية بشكل لافت، حيث تقدم المشاعر والأفكار بصورة تتجاوز الواقع الحسي إلى عالم أعمق يعكس الصراع الداخلي والتساؤلات الوجودية. مثلًا، حين تقول: /قدمت لي رشفة من إكسير الحب/, فإن هذه الصورة تمثل العاطفة كعلاج أو إكسير يحيي الروح. هذه الصورة تجعل من الحب فكرة سامية ومنقذة.

التكرار: في القصيدة نجد التكرار الذي يعزز الفكرة المركزية. مثلًا، /منذ اللحظة الأولى/، /منذ تلك اللحظة/، وهو تكرار يعبر عن التأكيد على اللحظة الفاصلة التي تغيرت فيها العلاقة بين الشاعرة والمحبوب. هذا التكرار يساهم في إبراز التحول العاطفي الذي مرّت به الشاعرة.

الزمن والمكان: هناك تداخل بين الزمن والمكان في القصيدة، وهو ما يعكس مشاعر الشاعرة. على سبيل المثال، في سطر /في لحظة ما من الطريق/, نجد أن الشاعرة تستخدم الزمن بطريقة غير دقيقة، ربما تقصد به لحظة من الوعي أو الإدراك، لا لحظة مادية. أما المكان فهو يتنقل بين السماء المضيئة والطريق والجسد المتعب، مما يعكس الحركية والتغير المستمر في الحالة العاطفية.

اللغة العاطفية والشفافية: اللغة هنا شفافة تمامًا وتحرص على نقل الأحاسيس الداخلية للشاعرة بشكل مباشر، مما يجعل القارئ يشعر وكأنه جزء من التجربة نفسها. العاطفة تترجم بتفاصيل دقيقة، مثل قبلة على ظهر اليد التي تفتح الباب للقلوب والمشاعر.

الدلالات العاطفية والوجدانية:

الإدراك المتأخر والتواصل: تشير الشاعرة في بداية القصيدة إلى لحظة إدراك مفاجئة: /أدركت أنك إلى جانبي/. هذا الإحساس بالوجود المفاجئ للشخص الآخر يعكس أهمية اللقاء واللقاء العاطفي الذي يحدث في وقت غير متوقع ولكن له أثر عميق.

الحب كإكسير: من خلال جملة /رشفة من إكسير الحب/, تجعل الشاعرة من الحب مصدرًا للحياة. هذا الحب لا يقتصر على العاطفة البسيطة بل يُعتبر قوة تجدد الحياة، مما يبرز فكرة أنّ الحب هو العنصر الذي يحيي الروح ويمنح الشخص قوّة داخلية.

انعكاس الذات: في السطور التالية، تعبر الشاعرة عن فكرة غاية في التأمل، حيث تقول: /ما أشعر به هو انعكاسك/. وهنا تكمن فكرة أن المحبوب ليس مجرد شخص آخر، بل هو مرآة للشاعرة نفسها، تعكس مشاعرها وأفكارها. العيون، في هذا السياق، تصبح وسيلة لرؤية الذات بوضوح أكثر.

التجدد في الحب: تشير الشاعرة إلى أن الحب والمشاعر في العلاقة ليست ثابتة، بل هي كهدية تتجدد كل يوم، مما يعكس فكرة الديناميكية والتغير المستمر في الحب.

البنية الشعرية:

البنية الشعرية للقصيدة تقليدية إلى حد ما من حيث استخدام الأسطر الشعرية المتوازية، مما يجعل القصيدة سريعة القراءة وواضحة في إيصال مشاعرها. الأبيات تتسم بالبساطة والوضوح، مما يجعل الرسالة الشعورية تصل مباشرة إلى القارئ دون تعقيد.

الخلاصة:

القصيدة /هذه هي مشاعري/ هي تعبير شعري عن تفاعلات داخلية معقدة في علاقة عاطفية. الشاعرة تستخدم الأسلوب الرمزي والعاطفي لتعرض تجربتها في الحب والتواصل مع الآخر. استخدام الصور الشعرية واللغة الشفافة يعزز من قوة المشاعر التي تعبر عنها، مما يجعلها قصيدة مثيرة للتأمل وتحفز القارئ على التفكير في معنى الحب والعلاقات الإنسانية.

***

بقلم: كريم عبد الله – العراق

 

في المثقف اليوم