قراءات نقدية

قراءات نقدية

نحو تأصيل نظرية ما بعد نصّيّة في قراءة الخطاب الأدبي

لم يعد سؤال النصّ، في الفكر الأدبي المعاصر، سؤالاً عن كيان لغوي معزول أو بنية منضبطة تستمد شرعيتها من انسجامها الداخلي فحسب، بل أصبح سؤالاً عن الكيفيات التي تُنتِج من خلالها اللغة أثرَها في المتلقي، وعن الآليات التي يتحوّل عبرها الخطاب من مجرد كلام مكتوب إلى نصّ حيّ. ومع التحوّلات الجمالية والمعرفية التي عرفها الأدب خلال النصف الثاني من القرن العشرين، وارتقاء النظرية الأدبية إلى مستوى مساءلة الثوابت، ظهرت مفارقات نقدية جديدة تسعى إلى إعادة تعريف ماهية النصّ. من أبرز هذه المفارقات: نصّية اللانصّ ولانصّية النص؛ وهما مفهومان يُعيدان تحديد المسافة بين النصّ وما يجاوره، ويبرزان الديناميّة الدقيقة التي تربط بين الشكل والمضمون، بين الظاهر والخفيّ، وبين بنية الخطاب وطاقته على إنتاج الدلالة.

لا تقتصر أهمية هذين المفهومين على كونهما صياغتين متقابلتين؛ بل يفتحان الباب لقراءة معمقة للحداثة الأدبية وللبنى الما بعد–نصّيّة، حيث تتخلخل الحدود، ويصبح النصّ فضاءً متحركًا يتشكّل باستمرار وفق شروط التأويل والاستقبال.

أولاً: مفهوم نصّيّة اللانصّ.. حين تتحول الفوضى إلى بنية

يحيل مفهوم نصّية اللانصّ إلى قدرة الخطاب الذي يتعمّد خرق القواعد النصّية التقليدية على أن يتحوّل، رغم ذلك، إلى نص مكتمل من حيث الأثر والمعنى. ففي مقابل النص الخطيّ، الملتزم بالحبكة والمقولات السردية، تبرز نصوص تتفلت من التسلسل، وتفكّك اللغة، وتكسر التجنيس الأدبي، وتشتغل على الشذرات، والمقاطع، واليوميات، والكتابة الحرة، لكنّها تُنتج، عبر هذه الفوضى المنظمة، بنية دلالية ليست أقل قوة من النصوص المحكومة بنظام.

1. جمالية التشظّي

تكمن قوة نصّية اللانصّ في أنّ التشظّي ذاته يصبح عنصرًا بنائيًا. إن غياب الترتيب ليس نقصًا، بل استراتيجية جمالية، وخلخلة النظام ليست خروجًا عليه بقدر ما هي إعادة صياغة لحدوده. هنا تتحول الفوضى إلى آلية نصيّة، واللانظام إلى شكل بديل من التنظيم، في سياق تتداخل فيه الأزمنة والرؤى والطبقات السردية.

2. تفكيك سلطة الشكل

يعمل هذا المفهوم على إسقاط قداسة الشكل، وتحرير الكتابة من النماذج الموروثة. فالنصّ، في هذه الرؤية، لا يكون نصًّا لأنه منضبط، بل لأنه فعّال. الناقص، المنقطع، المشطور، قد يكون أكثر نصّيّة من المكتمل، لأنه يخلق توتراً دلالياً، ويستفزّ القارئ، ويستدعي مشاركته في بناء المعنى.

3. أمثلة وتمثيلات

يمكن ملاحظة هذا النمط في العديد من الكتابات المعاصرة:

- نصوص ما بعد الحداثة الغربية (بورخيس، كاليطو، بارت)،

- اليوميات الممزّقة والنصوص الهاجسية،

- الروايات التي تحوّل الذاكرة والهلوسة واللاضروريات إلى مكونات نصية.

هذه النصوص لا تُنتج نصّيّتها من الانضباط، بل من الانتهاك: انتهاك التسلسل، انتهاك المنطق، انتهاك القالب.

ثانياً: مفهوم لانصّيّة النص… اكتمال يخفي العطب

إذا كانت نصّيّة اللانصّ تمثّل الوجه الجمالي للانفلات، فإن لانصّيّة النص هي الوجه الكامن خلف اكتمال مخادع. هنا نجد نصوصًا تتوفر على جميع العناصر الشكلية: بنية سردية، شخصيات، زمن، لغة محكمة، تقسيم واضح للفصول… لكنّه، مع ذلك، يظل نصًّا بلا نصّيّة، لأنّه عاجز عن إنتاج المعنى أو إثارة الأسئلة أو منح القارئ خبرة جمالية تتجاوز ظاهر الترتيب.

1. الامتلاء الوهمي

النصّ الذي يسقط في لا نصّيّته هو نص يغرق في اكتماله، ويكتفي بالتقعيد المسبق، وينساق وراء حبكة نمطية، أو يكرر خطابات مستهلكة، أو يركّب الشخصيات تركيبًا سطحيًا لا عمق فيه. إنّه نصّ يجري وفق آلية ميكانيكية، لكنه يفتقر إلى الروح.

2. الشكل بوصفه قناعًا

في هذا السياق، يتحول الشكل إلى قناع، وإلى تمويه يخفي غياب الرؤية الفكرية والعمق الإنساني. فالاكتمال الشكلي ليس قيمة في ذاته ما لم يُضِف إلى التجربة القرائية أفقًا جديدًا. والنصّ الذي يُنتج نفسه عبر الوصفة الجاهزة، مهما بدا متينًا، يظل نصًّا بلا نصّيّة.

3. انهيار الدلالة رغم انتظام البناء

لا نصّيّة النص ليست فوضى، بل انعدام الأثر داخل النظام. إنه نصّ ينتظم ليمارس الفراغ، ويكتمل ليخفي العطب، ويُتقن هندسته ليُبطل روحه.

ثالثاً: المسافة بين المفهومين.. فضاء القراءة المابعد – نصّيّة

ليست العلاقة بين المفهومين علاقة تضاد صارم، بل علاقة توتر خصب يفتح مجالًا لقراءة أعمق للخطاب الأدبي. فالنصوص الأكثر حداثة هي التي تتحرك داخل هذا المجال الوسيط: نصوص تمتلك بعض سمات اللانصّ، لكنها لا تقع في الفوضى غير المنتِجة، ونصوص تمتلك بعض سمات النص الكامل لكنها تتجاوز انغلاقه.

1. النص ككائن دينامي

أصبح النص في نظرية ما بعد البنيوية كائنًا متحركًا:

- يتشكّل،

- يتفكّك،

- ويتحوّل بحسب طرائق التلقي،

لا بحسب الترتيب الذي يخططه المؤلف.

اللانصّ قد يتحوّل نصًّا بمجرد أن يمنح القارئ أداة للتأويل، والنصّ قد يفقد نصّيّته إذا انعدم أثره.

2. القارئ بوصفه شرطًا للنصّية

تلعب نظرية التلقي دورًا جوهريًا هنا. فالنصّية ليست خاصية داخلية فقط، بل نتيجة تفاعل بين النصّ والقارئ.

- نصّ مفكك قد يصبح نصًّا عظيمًا إذا أحسن القارئ تأويله،

- ونصّ مكتمل قد ينهار إذا بقي مغلقًا دون جدوى.

3. بين النظام والفوضى

يُعيد هذا التوتر صياغة الحدود بين النظام والفوضى:

- فثمة فوضى خلاقة تُنتج النصّ،

- وثمة نظام عقيم يلغيه.

رابعاً: نحو نظرية مابعد – نصّيّة

تكشف دراسة هذين المفهومين عن ضرورة تجاوز التصنيفات التقليدية للنصوص. فالعصر الأدبي الراهن، بمختلف تجاربه وتجريبياته، يتطلّب نظرية نقدية جديدة تُدرك أنّ النصّ ليس بنية مغلقة، بل مجالًا مفتوحًا للتجريب والتأويل.

1. النص بوصفه إمكانًا

النصّ ليس ما هو مكتوب على الصفحة، بل ما يمكن أن يكونه.

إنه إمكان، احتمال، أفق يتشكّل في القراءة.

2. الكتابة باعتبارها مجازفة

الكتابة، وفق هذه الرؤية، ليست إنتاجًا لمنتج نهائي، بل مغامرة مفتوحة على احتمالات التشكيل.

فالكاتب الذي يتقن الفوضى أكثر من النظام قد يخلق نصًّا يفيض بالمعنى.

والكاتب الذي يتقن النظام دون روح قد ينتج عملاً متماسكًا لكنه ميت.

3. إعادة تأويل مفهوم “النص”

إن نصّيّة اللانصّ ولانصّيّة النص ليستا سوى تجليات للتحول الأكبر:

النص أصبح سؤالًا، والكتابة أصبحت تجربة حدّية، والمعنى لم يعد معطى بل عملية إنتاج مستمرة.

إن مقاربة مفهومي نصّيّة اللانصّ ولانصّيّة النص تكشف بجلاء عن التحوّلات التي مست طبيعة الكتابة في الأدب المعاصر. لم يعد النص يُقاس ببنيته وحدها، بل بقدرته على توليد الدلالة، وبمستوى التوتر الإبداعي الذي يخلقه بين نظام الشكل وفوضى المحتمل. وبين الفوضى التي تتنظّم من الداخل، والنظام الذي ينهار من الداخل أيضًا، تتشكّل خرائط جديدة للقراءة النقدية، تجعل النصّ فضاء مفتوحًا لصناعة المعنى، لا كيانًا مغلقًا محكومًا بمعايير الأمس.

وهكذا، فإن النصّ لا يكتمل إلا حين يتجاوز نفسه، ولا يفقد نصّيّته إلا حين يكتفي بذاته. وفي هذا الجدل المستمر تتأسس جماليات الكتابة الحديثة، ويتجدد الأدب بوصفه فعلاً معرفيًا وجماليًا لا يتوقف عن إعادة إنتاج شروط وجوده.

***

حسن لمين - كاتب مغربي

أقربُ ما يمكن قوله عن سيد أحمد علي بلال أنّه كاتبٌ ينتمي إلى “الهامش المضيء”.. ذلك الهامش الذي لا يطلب الاعتراف، لكنه يُنتج أدبًا يعلّمك أن العالم يبدأ من التفاصيل الصغيرة.. من حجرٍ على ضفة النيل.. من سكةٍ تفضي إلى الميناء.. من صمتٍ يسبق الكلمة.

كلما حاولتُ الكتابة عنه، شعرت بأنني لا أقرأه بل أستعيده.. كأن نصوصه ليست مادّةً للقراءة، بل آثارٌ لرحلةٍ بدأت في قرية حزيمة وتواصلت بين أمواج بورتسودان. هناك، في التماسّ بين التراب والملح، يتشكّل هذا الصوت الذي لا يجد مكانه في خانةٍ جاهزة.

 شاعرٌ يحمل النهر في نبرته، وساردٌ يشرّح اللحظة كأنها لُقية أثر، ومترجمٌ يختبر حدود اللغة ويجعلها أكثر قدرة على الاحتمال.. هكذا بدا لي أوّل مرة عندما عرفت كتاباته؛ وحين قرأت له للمرّة الأولى شعرت بأنني أمام كاتبٍ يختبر الحافة.. ثمّ اكتملت الرؤية عبر تلك المحادثات الهاتفية الطويلة التي كنتُ أتحاور فيها مع محمد خلف ـ بثقله الفلسفي وشغفه بالحفر في المعنى ـ وعادل القصاص، ذلك السارد الذي يعرف أين يضع إصبعه على نبض الحكاية..

هناك، في تقاطع أصواتنا عن الموضوعات المختلفة، أخذ نصّ بلال شكله الأكثر وضوحًا.. والأكثر غموضًا معًا. عندها فقط شعرت أنّ بلال يُكتب مرتين: مرة على الورق، ومرة في وعينا الجمعي. ومع طول النقاش، بدا بلال كأنه يخرج من النص ليجلس قربنا.. يناقشنا في ما لم نجرؤ على تسميته، كأن الكتابة ذاتها تُعيد تشكيل حضور الكاتب في الوعي، وتجعل القراءة حدثًا يتجاوز الورق إلى تلك المنطقة التي يُولد فيها المعنى من احتكاك ثلاث ذواتٍ تبحث ـ كلٌّ بطريقته ـ عن جوهر النص.

كاتبٌ لا تُشغله الزينة بقدر ما تشغله القدرة على الإصغاء لما تقوله الأشياء حين تصمت. هكذا اقتربتُ منه أوّل مرة: شاعرًا يلتقط ارتجافة الوجود، وكاتب مذكّراتٍ يعرف أن الذاكرة ليست وعاءً بل طريقة نظر، ومترجمًا يفتح للعربية نافذةً على ما وراءها..

ومنذ قراءتي الأولى له، أدركت أنّه ليس شاعرًا فقط، بل كائنًا يقيس المسافة بين القلب والعالم، ويحوّل كلّ خطوةٍ في الذاكرة إلى جملةٍ تتنفس..

في “عنابر ديم التيجاني” لا يضع المؤلفُ سيرته على الطاولة كما تُوضع وثيقةٌ للمراجعة، بل يترك للمكان أن يكتب نفسه بنفسه. الحيّ العمالي في الميناء يتحوّل إلى معملٍ للوعي: أجسادٌ تعود برائحة الملح والزيت، أسماء عمّالٍ تشبه إيقاع خطاهم، غرفٌ ضيّقة لكنّها “تتّسع بما يفيض عن العيش من معنى”. هذا النص ليس نوستالجيا تبرّج الماضي، بل نقدٌ حميمي للماضي وهو يتلبّس الحاضر. فالذاكرة هنا ليست أرشيفًا للصور؛ إنها حقلُ صراعٍ على الدلالة، على من يملك الحق في تسمية الأشياء: “أكان ذلك بيتًا أم عنبرًا؟.. أكانت طفولةً أم ورديةً إضافية في المصنع؟”.

في هذا الكتاب يلتقي المنظور الاجتماعي بالمنظور الجمالي دون أن يتكلّف التنظير: المكان يُعاد ترتيبه بصبرِ رسّامٍ يعرف أن الضوء يأتي متأخرًا لكنه يأتي.

ولأنني أؤمن، على طريقة غرامشي، بأن “لكل إنسانٍ وظيفةٌ فكرية وإن لم يُدركها بعد”، أقرأ بلالًا بوصفه أحد تمثّلات “المثقف العملي” الذي لم يكتفِ ببلاغة الأسلوب، بل اختبر اللغة في ورشة الواقع. نصوصه لا تُزخرف الفقر بل تُعرّيه.. لا تُغنّي للبحر بل تلتقط “المِلح” على وجوه العائدين. هنالك في “عنابر ديم التيجاني” اقتصادٌ سردي يلامس القسوة من غير ادّعاء البطولة؛ جملٌ قصيرة، لقطاتٌ مكثّفة، وحوارٌ خفيض مع طبقاتٍ من الصمت. هذه كتابةٌ تعرف أن التاريخ ليس سيرة الزعماء فقط، بل “سيرةُ الممرّ اليومي إلى لقمة العيش”.

أما “وقع الغطاء عنّي” فهو كتابُ الجملة التي لا تتصالح بسهولة، كتابُ الشعر حين يختبر النثر، والنثر حين “يطلب وزنه الخاص”. هناك، تتجاور ثنائيات الميلاد والفناء، السيولة والجفاف، النور والعتمة.. لا باعتبارها استعارةً تهرب من الجسد إلى الفراغ بل كـ”بنيةٍ إدراكية” تقترح على القارئ أن يرى العالم بما يتخلّف عنه من ظلّ.

أرى أن هذا الديوان كتب على إيقاع “تلعثمٍ مقصود”: الكلمات تتقدّم خطوةً وتتراجع خطوتين، كأنّ الشاعر يحفر في طبقات اللغة ليُبرز ما تراكم فيها من كثافة ما يراكمه اليوميّ على العين. “القصيدة”، هنا، ليست طبقةٌ لغوية لا تتورّط في ما تحتها؛ إنها طريقةُ نظر. وكم أحببتُ ذلك الوميض الذي يخرج من احتكاك المفردة بالمكان: ماءُ الشمال النيلي وهو يعلّمنا رياضة الانتماء، طينُ القرية وهو يوقّع باسمه على أجسادنا، الشارعُ وهو يتحوّل إلى جملةٍ اعتراضية في الوعي.

ولأن الشعر، كما يلمّح إرنست بلوخ، “وعدٌ بما لم يكتمل بعد”، فإن قصائد بلال لا تُعيد إنتاج اليأس الرومانسي، بل تضع اليأس في مواجهة سؤال العمل.. ليس عنده ترف التعالي اللغوي على جراح الجماعة؛ لغته تقطع المسافة بين الخاص والعام بلا ارتباك، كأنها تقول: “ما لم يفكّر فيه الناس بصوتٍ عالٍ، ينبغي للقصيدة أن تجرّبه”. هنا يظهر أثرُ التكوين البصري في الكتابة: توزيعُ البياض، إدارةُ الصمت، لقطاتٌ تشتغل مثل مونتاجٍ هادئ.. تلاشي مشهد، دخول آخر. حتى الاستعارة عنده “تتلفّت” أكثر ممّا تتباهى، تُشير بدل أن تُقرّر، وتترك للمشهد أن يقول نصفه الأخير.

وليس من باب المصادفة أن يظهر وجهُ بلال الآخر في الترجمة. حين ترجم “تصوّف: منقذو الآلهة” لنيكوس كازانتزاكيس، بدا لي أنه لا ينقل نصًّا من لغةٍ إلى أخرى، بل يعبر “حاجز الروح” إلى منطقةٍ ثالثة.. منطقةٌ يُختبَر فيها معنى أن تستعيد العربيةُ حسّها بأن تكون بيتًا يفتح نوافذه على المتوسط. الترجمة هنا ليست وظيفةً تقنية؛ إنها “اختبارٌ وجودي” للغة كما يقول فالتر بنجامين في روح فكرته.. استمرارٌ لحياة النص في لسانٍ آخر. كأن بلال وهو يمشي مع كازانتزاكيس على حافة المعنى، يستعيد ما فُقِد من شجاعة السؤال في العربية الحديثة: “هل يمكن للإنسان أن يخلُص إذا خلّص اللغة؟.. وهل يمكن للغة أن تخلُص إذا خلُص الإنسان؟”. هنا أسمع صوته لا صوت المؤلف المُترجم عنه: صوتُ سودانيٍّ جرّب المنفى واحتفظ بالمعجم الحارّ للجذور.

ولستُ أخفي نزوعي إلى قراءة بلال مرآةً لجيلٍ سودانيٍّ كاملٍ تعلّم القسوة في المدرسة الخطأ. ذلك الجيل المتشظّي بين المنفى والمكان، بين أثينا ونيقوسيا ولندن من جهة، وبين حزيمة وبورتسودان من جهةٍ أخرى؛ جيلٌ يكتب وهو يحدّق في التقويم السياسي، يترجِم وهو يقيس المسافة بين “هويةٍ تضيق” و”عالمٍ يتّسع”. أشعر أحيانًا أن بلالًا يعالج في تجربته العصبيّةَ المرهفة لهويةٍ تحت القصف.. هو لا يعلن ذلك، لكنه يتركه في هوامش الجمل: صمتٌ أطول من اللازم، تردّدٌ محسوب، ميلٌ إلى “المجاز العِملي” أكثر من الاستعارة المفخّمة. هناك لغةٌ نُسجت لتُرى لا لتُصفّق. وهذه إحدى فضائله الكبرى.

 هل أُغالِي حين أقول إن “عنابر ديم التيجاني” عملٌ يُدرَّس في السرد الاجتماعي العربي؟.. ربما. لكنني أرى أنه نصٌّ يذكّرنا بأن كتابة الناس عن الناس فعلٌ سياسي حتى حين يتظاهر بالحياد. يكفي أن تلتقط اسم عاملٍ بورتسوداني وتُعيد له نسبَه في اللغة؛ يكفي أن تفصل بين “الوظيفة” و”الإنسان” لتفكّك عُقدةً كاملة في اقتصاد المعنى. هنا تقترب الكتابة من النقد الماركسي لأدلجة اليومي: لا لرفع شعارات، بل لإظهار كيف تصنع البنيةُ الفوقية أشكالَ إدراكنا للحياة. بلال يفعل هذا بكياسة شاعرٍ لا يحب الخطب.. يترك الفكرة تمشي على قدمين، تمرّ، تلمحها، فتتبعها.

ومع ذلك، لا يُخضِع بلالُ النصَّ لصرامة الأطروحة؛ يخلّصه دائمًا بجرعةِ حنانٍ غير معلَنة. “نبرة اعترافٍ” تتسرّب بين السطور: اعترافٌ بحكايةٍ شخصيةٍ لكنها قابلةٌ لأن تكون حكاية الجميع. أحيانًا يقول كأنه يحدّث عابرًا أمام الميناء: “لا أريد أن أتذكّر.. لكنّ المكان يصرّ”. وأحيانًا يعترف بحذر: “لم أكُن شاعرًا.. كنتُ صبيًّا أتعلّم كيف أرى”. هذه العبارات الصغيرة هي التي تحوّل السيرة إلى “حياةٍ قابلةٍ للمشاركة”، وتُعيد للنصّ فضيلته الأولى: الأصالة بلا ادّعاء.

أمّا حين يُمسك الشعر بتقنياته البصرية، فإن مشاهد بلال تبدو ـ حرفيًا ـ قابلةً للّوحة والسينما. زاويةُ رؤيةٍ منخفضة تلاحق صعود العمال على السلّم المعدني.. كتفٌ تبتلّ بعرقٍ يشبه المطر.. ضحكةٌ تُقطع بالموج.. لقطةُ يدٍ تقلب رغيفًا على صاجٍ مُسخّن، وأخرى تبحث في جيب معطفٍ عن تذكرةِ عبورٍ قديمة. هذه “الحِرَفية الهادئة” في صوغ اللقطة تمنح السرد إيقاعًا بصريًا بلا ضجيج. وأحسب أن هذا السبب بالذات هو ما يجعل “وقع الغطاء عني” أكثر من مجموعة نصوص: إنه مختبرٌ لتدريب الحدقة على الإصغاء.

 في الخلفية، تتردّد أسئلةٌ لا تُجاب مرّةً واحدة. ماذا تفعل الترجمةُ بالهوية؟ هل تفتح اللغةُ نافذةً أم تستبدل بابًا بباب؟.. وما مصير الشاعر حين يقضي عمره بين معجمين: معجم الطفولة ومعجم العالم؟ هنا يتسرّب صوت فاروفاكيس ـ لا كسلطةٍ فكرية بل كرفيق حِجاج ـ حين يقول بطريقةٍ ما إن “المعرفة ليست منفصلة عن علاقات الإنتاج.. بل منسوجةٌ فيها”. أقرأ بلالًا على هذا الضوء: شاعرًا ومترجمًا وصاحب مذكّراتٍ يختبر كيف نعيش في اللغة بينما نعمل ونُجرّب ونهاجر ونعود. إنّه يذكّرنا بأن الثقافة ليست “ترفًا إضافيًا”، بل جزءٌ من منظومة العيش نفسها؛ ومع كلّ ضربةٍ تتوارى.. تظهر شرارةُ الفهم.

كأنّ مشروعه كله يقف عند هذه الجملة: “أريد لغةً تَصْدُقُني حين أكذب عليها”. لذلك يتخفّف من الزينة وينحاز إلى ما يسميه بلوخ “الدفء الأنطولوجي” للأمل.. ذلك الأمل الذي لا يجهل فداحة الواقع لكنه يراهن على إمكانٍ يظلّ مفتوحًا. لا يكتب بلال ليُحسّن العالم؛ يكتب ليجعله مرئيًا. وهذا، في زمن يلتهم فيه الضجيجُ أعصاب الكلمات، أعظم ما يمكن للأدب أن يفعله.

أعرف أن بعض النقاد سيطلبون “سيرةً رسمية” وتواريخَ مفصّلةً وصورًا.. لكنّني أفضّل، هنا، أن أترك الأثر يقودني. ما يهمّني هو هذا “الجوّ الجمالي” الذي يربط بين الشعر والمكان والترجمة: ثلاثيّةٌ تصنع صوتًا لا يشبه سواه. شاعرٌ يُعيد إلى العربية قدرتها على التواضع الوقور، وساردٌ يدرّبنا على سماع الغرف وهي تتنفّس، ومترجمٌ يؤمن بأن الكلمات لا تعيش مرّةً واحدة. ذلك كلّه يجعل سيد أحمد علي بلال أكثر من اسمٍ في فهرس؛ يجعله تجربةً اعتقاديّة في الأدب.. تجربةً تقول بلا تردّد: “ما لم نُنقذه في اللغة، سيضيع منّا في الحياة”.

ولعلّ أجمل ما في هذا المشروع أنّه لا يطلب اعترافًا، بل يُولّد اعترافًا مضادًا في القارئ. أكتبُ عنه الآن وأشعر أنني أكتب عن نفسي وعن جيلٍ بأكمله.. جيلٍ صار الخروجُ من البيت فيه فعلًا يوميًا، وصارت العودةُ إليه فنًّا عسيرًا. لهذا أقول: كأن بلال يكتب من المكان الذي كنتُ أحلم به.. من تلك العتبة التي تفصل بين “أنا” و”نحن”، بين “السيرة” و”المشهد”، بين “القصيدة” و”الممرّ”. هناك، في المنطقة الرمادية التي تتطلّب شجاعة النظر لا براعةَ القول، يتقدّم صوته بهدوءٍ وثقةٍ ومضاء. وهناك، أيضًا، سنُدرك ـ إذا أصغينا بما يكفي ـ أن الماء لم يكن يومًا عنصرًا طبيعيًا فقط.. بل “لغةٌ ثانية” تعلّمنا كيف نُمسك بالعالم، وكيف يفلت منّا، وكيف نواصل الكتابة.. كي لا يضيع.

***

إبراهيم برسي

دراسة هيرمينوطيقية - سيميائية في شعر ناديا نواصر (ورّاقة الجزائر)

يمثّل الشعر الجزائري المعاصر فضاءً حيّاً وقلقاً في آن، تتجاذبه أسئلة الكينونة والهوية واللغة في سياق الانكسارات الوطنية والإنسانية التي شهدتها المنطقة العربية. وفي هذا الإطار تأتي تجربة الشاعرة ناديا نواصر، الملقّبة بـ ورّاقة الجزائر، لتقدّم صوتاً يتوغّل في الجرح الجمعي، ويعيد تفكيك العلاقة بين الإنسان والتاريخ والمعنى.

قصيدة «فتنة التاريخ» ليست مجرد بناء لغوي، بل هي معمار رؤيوي يتشابك فيه:

١- الصوفي بالوجودي.

٢- الأسطوري بالتاريخي.

٣- المنفى بالذاكرة.

٤- الذات بالروح الجمعية.

تنهض القصيدة على توتّر لغوي ودلالي يتجاور فيه القدري واليومي، ويغدو السؤال محوراً مركزياً يشطر العالم إلى معنى ولا معنى، إلى وجود يُكتب في الهامش، وإلى مقاومة تتشكّل على صهيل القصيدة.

أكتب هذه الدراسة لأكشف عمّا تحت الجلد الشعري من:

١- نبض وتوتّر ورموز.

٢- حركة دلالية تتجاوز ظاهر العبارة.

٣- طاقات تأويلية تنتج طبقات متعددة للقراءة.

٤- سرد شعري يؤرّخ لما يتجاوز حدود التاريخ المدون.

وسوف تنبني الدراسة على تكامل المناهج:

١- الهيرمينوطيقيا التأويلية لفك شفرات المعنى العميق.

٢- الأسلوبيّة لتحليل الانزياحات وطرائق التعبير.

٣- الرمزية لاستجلاء البنى المجازية الدافعة لمحمولات النص.

٤- السيميائيات ومنهج غريماس لاستخراج محاور الأدوار وقوى الصراع

٥- المستويات الجمالية واللغوية والانفعالية والتخييلية.

بهدف إبراز كيف يتحول النص إلى حقل مقاومة لغوي وفلسفي يسائل التاريخ ويعيد تشكيل أفق المعنى الإنساني.

ثانياً: تحليل هيرمينوطيقي تأويلي:

تقوم القصيدة على مفهوم «الفتنة» لا بوصفها غواية جمالية فقط بل:

١- فتنة التاريخ حين يخون الذاكرة.

٢- فتنة المعنى حين ينزلق إلى اللاجدوى.

٣- فتنة الوجود حين يصبح المنفى قدراً.

اللغة ليست أداة توصيفية، بل فاعل في إنتاج العالم. فالقصيدة تصعد من اللحن إلى الحكمة، ومن الأسطورة إلى الوعي.

المعنى هنا متردّد كما ورد في النص:

 «للراهن المتردد على فلسفة المعنى»

وهذا التردد هو بوصلة القراءة التأويلية:

معنى يبحث عن نفسه عبر تأويل لا ينتهي.

ثالثاً: تحليل أسلوبي:

أبرز الظواهر الأسلوبية:

1. الشعرنة الكونية

 «الأغاني القادمة من هندسة الكون.

2. تأنيث اللغة وديننتهاتقول وراقة الجزائر ناديا نواصر:

 «وكأن اللغة أنثى تمشط صباح ظفيراتها»

3. الصورة المركّبة والمتعدّدة الطبقات، تقول:

«السنابل حديث العشيات الندية»

4. تكرار الثنائيات الضدية:

(وجود/غياب — معنى/لا معنى — حرية/قهر).

اللغة هنا تتوتّر بين الانسياب والغموض، بين الوضوح والانزياح.

رابعاً: التحليل الرمزي:

الرمز دلالته المحتملة:

السنابل الحياة، الخصوبة، المستقبل

نهر الحكمة المعرفة التطهيرية

سيزيف العذاب الأبدي والمقاومة

الريح الاغتراب والهوية المراوغة

الوردة المذبوحة اغتيال الجمال بالواقع.

الرمز ليس حلية، بل محرّك دلالي يفتح النص على أفق وجودي عميق.

خامساً: التحليل النفسي–الوجودي

النص يفصح عن:

١- قلق المصير (نكون أو لا نكون).

٢- إحساس الجمع بالخذلان والغياب.

٣- نزوع صوفي نحو الخلاص الروحي.

٤- اغتراب وجودي أمام تاريخ عقيم.

الذات الشعرية هنا ممزقة بين:

الانتماء إلى الوطن / والبحث عن وطن داخلي // الهويّة الجمعية / والفردانية الحارقة

سادساً: التحليل السيميائي وفق منهج غريماس:

نستخرج البنية السردية الخفية:

محاور الأدوار في النص:

الدور السيميائي التمثيل داخل القصيدة:

١- المرسل التاريخ/الذاكرة/الجرح

المرسل إليه الذات الجمعية/الإنسان

الفاعل القصيدة – اللغة – المقاومة

الموضوع المعنى – الهوية – الخلاص

المساعد الحكمة – الأسطورة – الصبر

المانع الخذلان – القهر – اللاجدوى

٢- الصراع السيميائي هو جوهر القصيدة:

المعنى ⇽⇿ العبث

الهوية ⇽⇿ التيه.

سابعاً: مستويات التحليل النصي:

- المستوى أبرز ملامحه:

١- الانفعالي التوتر الوجداني الدائم بين الأمل والانكسار

٢- التخيّلي صور كثيفة تُحيل على ذاكرة رمزية وأساطير

٣- العضوي صور الجسد: اللحن/القلب/الرغبة → دلالة الحياة

اللغوي انزياحات تركيبية – جمل اسمية ذات ثِقل دلالي.

ثامناً: التحليل البلاغي والنحوي

١- بلاغياً:

استعارات متلاحقة، تشخيص مكثف، مزاوجة بين الحسي والمجرّد

٢- نحوياً:

سيادة الجملة الاسمية → ثبات الوجود في مواجهة التبدد

استخدام فعل المضارع → استمرارية القلق والمقاومة

تاسعاً: مقارنة دلالية ضمن الأنساق المعرفية للنص:

- نسق التاريخ نسق الأسطورة نسق الوجود.

- ذاكرة الخيبات سيزيف / الفتنة سؤال «نكون أو لا نكون»

- سرد الألم الجمعي الوردة المذبوحة رحلة بحث عن معنى.

- النص يرفض أن يكون وصفاً للحاضر… بل إعادة كتابة للتاريخ على صهوة الشعر.

الخاتمة:

تكشف قصيدة «فتنة التاريخ» لورّاقة الجزائر الشاعرة ناديا نواصر عن رؤية شعرية تمارس النقد الوجودي للتاريخ، وتعيد مساءلة الحقيقة من موقع الجرح، وتحوّل الشعر إلى فضاء مقاومة رمزية يستعيد إنسانية الإنسان المهدّدة.

لقد أظهر التحليل بأن القصيدة:

١- تنحت ذاتها كترويج فلسفي جمالي.

٢- تنحاز للحياة رغم وطأة الخذلان.

٣- توظّف الأسطورة والتصوّف لإضاءة العتمات.

٤- تبني بنية صراع دلالي بين معنى يتولّد و لا معنى يتوحش.

وهكذا يتحوّل الشعر إلى ما يشبه مانيفستو روحي

يعلن أن عندما تقول:

"الإنسان ليس ابن التاريخ فقط… بل ابن مقاومته للتاريخ".

هذه الدراسة لا تُغلق النص، بل تفتح احتمالات قراءة جديدة،

فالنص العميق — كما التاريخ نفسه —فتنة لا تنتهي.

***

بقلم: عماد خالد رحمة - برلين

........................

نص: فتنة التاريخ

شعر: نادية نواصر

 الاغاني القادمة من هندسة الكون

 تكابد احتباس اللحن في مضيق اللغة

وكأن اللغة أنثى تمشط صباح ظفيراتها

الشعر الأشقر يمضي الى فتنة التاريخ

بإيماءة المتصوف يلقي عصاه في نهر الحكمة

الوافدون إلى صخب المساءات يتهجون تقاسيم النهارات

للراهن المتردد على فلسفة المعنى

للسنابل حديث العشيات الندية

وهي تعجن طين الرؤيا لتشكل ما انبلج عن فجر الاغاني الشفيفة

الراحلون على ممرات الجمر

كتبوا رسائل خيباتهم واستووا في صفوف الغياب

عند أول هزيع للخذلان

والوافدون إلى صخب السؤال يتهجون قطار العمر

في ممرات الحلم المؤجل

وعلى صهيل القصيدة يرتبون اوراق الرفض

لابسين عباءة الوقت وجبة القهر المبين

أيتها الطلاسم المتشكلة في رغوة البحث

الممزوجة بكيمياء الريح الهاربة إلى اللامعنى

كيف توغل كينونة الاشياء في اللاجدوى

ويظهر التاويل على شفاه الوردة المذبوحة بسكين الرغبة

الهندية الحمراء التي هيأت الارض لعاشقها

دست تحت وسادة الليل المفتون بآخر نجمة

كراسة الأساطير المنسية على صخر المحنة

واردت دانتيل الريح الصاخبة عند أول موسم للقطاف

نكون او لا نكون هي خطانا المكللة بالصندل والريحان والصبار

هل يأتي الخفق على شكل ضربة شمس؟

وهو يمشي إلى تفاصيل السؤال

ميراج خيول الجريئة باتجاه سيزيف الذي عشق صخرته

إذ اتماهى في تعب التدحرج

وهو يعيد نشيد الروح إلى الصدر المفتون بغوايات العراء

النازحون إلى فداحة اليقطين

ياتون على شكل الجرحى حين يناسبهم انين الروح

باحثين عن منفاهم الجميل في وطن بلا بحر، بلا مدن، بلا كل شيء

لا هوية للريح، لا طعم ولا لون، ولا رائحة، غير شكل الاوراق المتساقطة على جسد الطين

والطيور المحلقة خارج السرب تقول تفردها عند امتزاج الأبيض بالاسود

يا مرايا الوقت الجحود كيف نمضي إلى صفوة العمر

في ظل الذي غالط المعنى، وغافل النسيان

 

قراءة تتقصّى تشكّلات الواقع في الخطاب الرّوائي

تصدير: يكون الأدب واقعيّا متى أعاد إنتاج الواقع سيميائيّا برؤيا فنّيّة خاصّة ومختلفة.

تقديم: قامت الواقعيّة كمفهوم أدبيّ عامّ على مبدأ تعامُل الأدب مع الواقع بطرق ومن زوايا نظر عديدة؛ بما أنّ كلّ أثر أدبيّ مهما كان نوعه هو بالضّرورة سليل أديمه الحضاريّ والاجتماعيّ وخاصّة في فنّ الرّواية الذي بات الأكثر استقطابا للأدباء والقرّاء كليهما باعتبار ما ينعكس فيه من أصداء الواقع حتّى قيل: (إنّ الرّواية هي الشّكل الأدبي الأقوى والتّعبير الأنسب عن الواقع... فلا توجد رواية مهما كانت طبيعتها تاريخيّة أو خياليّة أو رمزيّة... خالية من آثار الواقع - محمّد الخبو - " مداخل إلى قصصيّة المعنى") فمابالنا بالرّواية الواقعيّة التى عرفت مسيرة متطوّرة مع التّحوّلات التّاريخيّة والعلميّة والنّظريات الفلسفيّة في العالم والتي انضمّت إليها الرّواية العربيّة في مرحلة متأخّرة عن الأدب الغربي بشكل جعل لها ملامحها المرتبطة بالواقع العربي وبالهويّة الثّقافيّة العربيّة رغم انصياعها النّسبيّ والمتفاوت إلى الأصول العامّة للواقعيّة الغربيّة على الأقل في مستوى البُنى الفنّيّة للخطاب السّردي. ومن البديهيّ أن يكون للواقع العربيّ وما شهده من تغيّرات وما شمله من تناقضات واهتزازات أثرُه في تطوّر الرّواية العربيْة عامة والتّونسيّة خاصّة والتي كان لتيّار الحداثة فكريّا والالتزام فنّيّا تأثيره العميق والواضح على شكلها ومضامينها؛ تأثيرا انسحب على الإبداعات الرّوائيّة النّسائيّة بدورها. وقد سجّل العقدان الثامن والتّاسع من القرن العشرين تزايدَ انخراط المرأة في الحياة الأدبيّة ليس بدافع منافسة الرّجُل وتجاوز دونيتها إنّما لإثبات وجودها الإنسانيّ وإبراز قدرتها على الإنجاز والإبداع حيث طفقت بالفعل تفرض وجودَها في كتابة الرّواية بمقوّمات التيّار الأدبي السائد آنذاك في سياق مرحلة انتقاليّة بين الواقعيّة النّقديّة (التي تزامنت مع مرحلة الالتزام في الشّعر وبروز جماعة الطّليعة) وبين بدايات التّوجّه نحو تّيّار التّجريب بحثا عن مُمكِنات كتابة جديدة. ولمعت خلال تلك المرحلة أسماء كاتبات سجّلن الإضافة البارزة والحقيقة بالتّنويه إلى المدوّنة الأدبيّة التّونسيّة وربّما حتّى العربيّة أذكر من بينهنّ مثلا: صاحبة الإسم المستعار زكيّة عبد القادر في رواية " آمنة " 1983 عروسيّة النّالوتي في رواية " مراتيج " 1985 وعلياء التّابعي في " زهرة الصّبّار " 1985 (بغضّ النّظر عن تاريخ إصدارها: أفريل 2003). وهي روايات تعاقدت مع الواقع بشواهده وروافده بطرق متباينة في فترة تاريخيّة ساخنة عاشتها البلاد التّونسيّة على وقع أحداث خطيرة من الصّراعات السّياسيّة والإيديولوجيّة بين نظام الحكم والمعارضة النّقابيّة واليساريّة خاصّة وبين القوى اليساريّة والقوى اليمينية التي سرعان ما انتشرت وتغلغلت في المجتمع منذ نشأتها مع منتصف السّبعينيات. من هنا كان اختيار رواية " زهرة الصّبّار " التي كُتِبت بقلمٍ وظّف شواهدَ ذاك الواقع وروافدَه برؤيا نسائيّة يساريّة في منتهى الثّوريّة منطلقا في تناول موضوع الرّواية الواقعيّة النّسائيّة في تونس.

وأعني بالشواهد تلك السّمات والدّلائل التي استمدّها الخطاب السّردي من الواقع التّونسي في مرحلة تاريخيّة حدّدتها علياء التّابعي كفضاء ومادّة لروايتها.

وأعني بالرّوافد جملة المرجعيّات الثّقافيّة والمعرفيّة التي صحبت ذلك الواقع وحدّدت هويته وساهمت في تكوين الرؤيا السّرديّة للرّواية على مدى الوعي بقضاياه ومشاكله.

فكيف أنشأت علياء التّابعي من هته السّمات والمرجعيّات مُنجَزا روائيا استطاع أن يكون؟؟

 شواهد الواقع التونسي في رواية "زهرة الصَّبّار":

تمتدّ هذه الرّواية الصّادرة عن دار الجنوب للنّشر - تونس - ضمن سلسلة عيون المعاصرة على 140 صفحة وعلى تسعة فصول متفاوتة من حيث الكم متفرّقةٌ، ترتيبُها العدديّ على غير نظام زمنيّ او مشهديّ جليّ، قدّمها الدّكتور هشام الرّيفي في 20 صفحة. لم تخلُ واجهتُها / عَتباتُها مِن شواهد سواء في مستوى العنوان الذي يحيل على الغطاء النّباتي والعلامة المميّزة لجبال الشّمال الغربي ذاك العماد الرّفيع لتونس الدّاخل؛ مُتّكأ تونس السّاحل. أو في مستوى تسجيل المؤلّفة في عقب الرّواية لتواريخ تأليفها ومراجعتها (ص 170: تمّت... تونس 84 - 1985... روجِعَت في المنستير 1987 / 1989) أو على مستوى التّنبيه الذي صحب الإهداء المُترع بالعرفان للأساتذة، والمؤلّفة منهم وتعرف مقدار فضلهم على البلاد والعباد، (ص 29) التنبيه المراوغ يروم تنصّل الرّواية من شواهد الواقع فيعمّق توريطها فيه بأحداثها وشخصيّاتها: (تنبيه: كلّ شخصيّات الرّواية ووقائعها خياليّة وكلّ تشابه بينها وبين أشخاص حقيقيين محض صدفة لا دخل للكاتبة فيه) وهذا يغلُب على القارئ عدم تصديقِه في حقيقة الأمر بعد إتمام القراءة.

قام البناء الدّرامي للرّواية (أو هيكل الأعمال على حدّ تسمية النّاقد الصّادق قسومة) على لقاء عاديّ في ظاهره بين امرأة سمّتها المؤلّفة " رجاء " ورجُل سمّته " أحمد " جمعتهما قصّة حبّ مقبورة رغم عمقها. كان لقاء مراجعة ومحاسبة أكثر منه لقاء عتاب بين حبيبين شطّت بهما النّوى طيلة أكثر من خمس سنوات: حدث وحيد ذاتيّ استغرق ليلة واحدة تناسلت منه أحداث عقد كامل من الزّمن بين منتصف سبعينيّات القرن العشرين ومنتصف ثمانينيّاته تداخل فيها الذّاتيّ والموضوعيّ في حركة سرد لا تقوم على منطق ناظم لهذه الأحداث بقدر ما تقوم على استدعائها حسب ظهور الشّخصيات. فاستوعب اللّقاءُ تاريخَ مرحلة سياسيّة واجتماعيّة وثقافيْة بأسرها. أجادت المؤلّفةُ، في الإلمام بها، إستخدامَ الوسائل الرّوائيّة الحديثة من تنويع لأصوات السّارد وزوايا نظره، ولأشكال توظيف الحوار الدّائر بين الحبيبين أثناء لقائهما، وخاصّة تنويع استخدامات تقنيتَيْ الاستبطان والتّذكّر (flash bac) بشكل مكّن من وضع الشخصيّات في محيطها الواقعيّ وجعلها تخبر عن ملامحها وتركيبتها وعلاقاتها من حيث هي نماذج من مكوّنات المجتمع التّونسيّ ونخبته المثقّفة.

هذا اللّقاء الحدث الذي تنفرط منه أزمنةُ الرّواية وشخصيّاتُها وأحداثُها ومشاهدُها لتنتظم فيه وتعود إليه في بناء دائريّ مغلق كما السّجن الكبير المحدق بالوطن ومَن فيه؛ استغرق من زمن النّصّ (زمن الحبكة) ليلة واحدة، كما ذكرتُ سلفا، بدأت بعد عودة أحمد من باريس مصطحبا ابنه من زوجته الفرنسيّة (آن) إلى أرض الوطن وبعد الوصول إلى منزل شقيقته بالمرسى حيث ترك ابنه في رعايتها ليتّجه مع بداية اللّيل إلى باب الخضراء حيث تُقيم " رجاء " واستمرّ إلى أن (ص 169: أذّن عبد الباسط للفجر وتحرّكت ستائر غرفة رجاء بنسائم الفجر الاطمئنان) فترة زمنيّة كانت كافية قياسا إلى سعة خيال المؤلّفة لاستدعاء زمن تونسيّ مُتعدّد (من عصر عليسة وحنّبعل إلى عصر الأغالبة ثمّ عصر البايات والإستعمار الفرنسي ومعارك التّحرير الوطني وعصر الاستبداد والحكم الفردي وما ترتّب عنه من معارك)، وزمن عربي تعاورته الخيبات، وزمن عالمي ممتدّ من الثّورات (الاتّحاد السوفييتي والصّين) إلى الحروب النزاعات (كوبا جنوب أفريقيا) إلّا انّ الزّمن الموضوعي السّائد والبارز والمتداخل مع الزّمن النّفسي للشّخصيات وتحديدا شخصّة " رجاء " في الرّواية هو بالأساس زمن اليسار في تونس؛ زمن ما بعد أزمة "حركة آفاق / perspectives " التي احتدّت ملاحقةُ السُّلطةِ لعناصرها بسبب مُشاركتِها في تنظيم التّحرّكات في عقب هزيمة حزيران / جوان 1967 إلى أن تلاشى وجودها في 1975. هو زمن حكاية " رجاء " مع اليسار التّونسي مع حبيبها " أحمد " الذي تركها وهي في أمسّ الحاجة إليه وفرّ إلى باريس دون سابق إنذار ومع زوجها " عادل " صديقه الذي أحاطها برعايته وأخلص لها وهو يعلم أنّ قلبها ليس له. وزمن حكاية تونس الوطن مع عشّاق الدّاخل الذين كانوا (ص 118 119: يساريين في واقع يمينيّ يريدون إخضاعه لمعادلات صيغت في الاتّحاد السّوفييتي أوالصّين...) وزُناة الخارج الذين (ص 34: خادنتهم ورقصت لهم ولم تُقلع عن آفة التّبرّج لهم...). حكاية تونس التي توالت عليها التّواريخُ الحالكة (ص 143: جانفي الأسود وخميسه الدّامي 1978.. ص 163 وخريف 1981 الذي زوّرت فيه الانتخابات الرّئاسيّة…).

هكذا حضر الزّمن في تعدّده واقعيّا متظافرا يؤرّخ لما منعته حُجُب التّاريخ الرّسميّ في تونس والعالم بطريقة السّرد الأدبي وليس بطريقة التّوثيق العلمي في كتابة روائيّة تنبش في التّفاصيل المغمورة تنفض عنها غبار النسيان وتسائلها عن حقيقة الذي كان. سنلاحظ أنّ ملامحها بدأت تتبلور أكثر مع روايات القرن 21 مع العديد من الأدباء

شّخصيّات الرّواية بدورها تحمل في أحوالها وأقوالها وأفعالها والفضاء المكاني الذي تتحرّك فيه شواهدَ هذا الواقع: " فرجاء" التي قدّرت لها المؤلفة وزر دور بطولة الرّواية بما يعنيه من صراعات وجدانيّة ووجوديّة واجتماعيّة باعتبارها امرأة مثقّفة في مجتمعنا الذّكوري ويساريّة ثوريٍة في بلد يحكمه الاستبداد. وشاءت لها أن تكون نَبتَة صبّار لم يستطع أن يُزهر ونُزِعَ عنه شَوكُه رغم توقها للإزهار تعيش (ص 91: الصّراع المرير مع كلّ سلطة عمياء وأوّلها سلطة الأب). شابّة تونسيّة من العاصمة استفادت مع جيلها من البنات من سياسة التّعليم العمومي الحداثيّة والملزمة قانونا بتعليم البنات والأولاد على قدم المساواة شأنها شأن المؤلّفة وتخرّجت أستاذة مثل المؤلّفة أيضا من كلّية الآداب بتونس. ولمّا عُيّنت للتّدريس بمنطقة ريفيّة جبليّة (مكثر من ولاية سليانة) ينبُت فيها الصّبّار ليُزهر ويُثمر وجدت نفسها تُقيم مع باحثة أوروبيّة في علم الآثار جاءت إلى بلادنا في مهمّة "علميّة " وجها لوجه، ممّا أثار في داخلها وبعمق مسألة الهويّة بمختلف أبعادها (ص 128: فإذا البلاد أوسع من مدينة وإذا تضاريسها تروي تاريخا عريقا ضاربا في القِدم... واحتدّت بداخلي أزمة الهويّة) ووجدت نفسها تدافع بشراسة عن فلسطين في وجه تلميذ صرّح بأن قضيّة فلسطين تهمّ الفلسطينيين وحدهم وبأنّ مشاكل تونس أولى باهتمامنا. وقد أصابها ما أسمته (ص 157: داء النّفور من الجزء الأوروبي في المدينة وأضربت عن دخوله وبدأت تتسكّع في الأحياء العتيقة). فكانت مجسّدة لأزمة التّضارب بين الوعي بحركة التاريخ ودور المثقّف وبين إكراهات الواقع المحاصر بسلطة الحكم الفردي والسّجون التي تفتح أبوابها لابتلاع الشباب المناضل والتي ذكرتها المؤلّفة بأسماءها جميعا تقريبا (برج الرّومي - رجين معتوق - السّجن المدني - سجن المرناقيّة...) على لسان الشخصيّات كشواهد على ضريبة الاصطفاف ضدّ السّلطة التّي سدّدها أمثال أحمد (حبيب رجاء اليساري المعتدل الذي دفعه شرخُ الإحباط إلى الهجرة نحو فرنسا ليبني مستقبله الفرديّ بنجاح هناك دون أن يلتفت إلى ما يحصل للبلاد ولا لرجاء بعده) أو عادل ابن قفصة المناجم (زوج رجاء الذي حاول الّتخفيف من وطأة تخلّي أحمد عنها.. اليساري الذي تشبّث بالإيديولوجيا بقدر تشبّعه بها فدفع أسنانه وحياة شقيقه سامي تحت التّعذيب في السجن ثمنا لذلك) وفي مختلف هذه المتناقضات الجزئيّة والكلّيّة حشرت المؤلّفة رجاء لتقيّم من خلالها طبيعة تعامل الفكر اليساري مع الواقع التّونسي وكأنّها تسلّط الضّوء وبطريقتها الرّوائيّة علي أسباب فشله بشقّيه المعتدل والمتطرّف (ص 106 بين رجُلين خسرتُ حياتي كلّها رجُلِ مجنون سكنه الدّمار ورجُل راهن حتّى النّهاية على انقلاب الموازين. كِلاكما أحمق.... بين غبيّين وقفتُ غبيٍّ ظنّ نفسه مشطورا فقامر على الجانب المظلم لأنّه يعطيه وهم القوة، وغبيٍّ كلّف نفسه عناء تغيير العالم فصلبوه والحال أنّ الأرض كلّها كانت في متناوله ولكنّه بصق على الحلول السّهلة)

وبين هذه الوقائع والأزمات والانكسارات كانت شخصية رجاء في حدّ ذاتها بمثابة شاهد من الواقع الاجتماعي يرمز إلى البلاد التونسيّة في انهياراتها وانزلاقاتها واهتزازاتها.. في انشطارها وحيرتها بين الشمال والجنوب والمدينة والبحر والحبّ والسّياسة وأيضا في بحثها قُدُما عن البعث والخلاص وفجر جديد ليس خلوا من هويتها الرّوحانيّة (فجر يؤذّن فيه "عبد الباسط عبد الصّمد" ويزهر فيه الصّبّار ويثمر) وهذا ما تحيل عليه رمزيّة الإسم في حدّ ذاتها (رجاء) فضلا عن رمزيّة الأماكن التي اجتمعت في الرّواية بكلّ تفاصيلها وأسمائها كما هي في الواقع (قرطاج، المرسى، حي الخضراء، نوتر دام، لافاييت، دار الثقافة ابن رشيق ،البلماريوم، سوسة، قفصة مكثر...) بتنوّع مشاهدها ومعمارها وتضاريسها وشواهد تاريخها حتى لكأنّ أدوات السّرد تضع القارئ أمام جغرافيا تونس من وجهة نظر أدبيّة ليدركها بشكل مختلف.

 روافد الواقع التّونسي في رواية " زهرة الصّبّار":

بما أنّ الرّواية هي عمل لغويّ بالأساس، يختار مبدعُها في العادة لغةَ مُنجَزه وفق رسالته الأدبيّة وما يتناسب مع مكوّنات السّرد فيها ووفق السّياق الثّقافي والاجتماعي الذي تنتمي إليه. واللّغة في هذه الرّواية جاءت لتتناسب مع انتماء المؤلّفة إلى سلك التعليم وإلى فئة مثقّفي اليسار التّونسي الذين استلهمت منهم شخصيات روايتها لذلك جعلتهم يتكلّمون عربيّة فصيحة تجمع بين البلاغة وسلاسة الإبلاغ في الغالب وكأنّها بذلك تعمل على تجذير عملها الأدبيّ في أديمه الحضاريّ، من جهة وتثبت من جهة ثانية أن لا تعارض بين اللّغة العربيّة حين نُجِيد استخدامَها وبين الكتابة الواقعيّة التي قد لا تستوجب أصلا استعمال اللّهجة العامّيّة. فأنشات عالمها الروائيّ وأفكارها ورؤاها التي ألبستها للشّخصيات المجسّدة لها من تلك اللّغة الفصحى الميسّرة في رقيّ وطعّمتها في بعض الوضعيات الانفعاليّة التي ألمّت بالشّخصيّات باللّهجة التّونسيّة المكحيّة ومختلف أبجدياتها حتى السّوقيّةمنها والدّخيلة (الفرنسيّة بالأساس). بل ونجدها وبشكل طريف وعلى غير المعتاد تعمد إلى وضع هامش لشرح مفردات اللّهجة المحكيّة كلّ حين والحال أنّ مثل هذه الهوامش توضع في العادة لشرح مفردات اللّغة الفصحى خاصّة إذا كانت من الحوشيّ. (ص 80: التكعرير: لوك الكلام / التجلطيم: القول الجارح / التكمبين: الدّسّ والإيقاع والكيد / البونية: قبضة اليد كناية عن منطق القوّة...) فإذا بنا أمام رافد واقعي يضع اللّغة الفصحى والمحكيّة كلتيهما على محكّ الاستعمال المتلازم المتكامل في المجتمع مخالفة لما يروّج له بعض الأدباء من أنّ كتابة الواقع تكون (أعمق وقعا ابلغ أداء إذا كانت بلغة عامّة النّاس). وهذا نهج أدبيّ اعتبره الأستاذ " محمود طرشونة " من قبيل (تطبيق وجهة النّظر التّجريبيّة) وكذلك هو موقف ثقافيّ ليس غريبا عن علياء التّابعي التي جعلت شخصية رجاء وهي تخاطب أحمد أوتسترجع محادثاتها مع عادل أو مع صديقتها هدى تضع (ص 70: التّوحيدي في مواجهة مع " مونتاني "، ثورة يولية 1952 في مواجهة ثورة أكتوبر 1917 ، وأشعار الشّابّي والبيروني في مواجهة اشعار " اليوت " و"ماوتسي تونغ " أغاني صليحة وعبد الحليم حافظ وأمّ كلثوم في مواجهة أغاني " ميريام ماكيبا " و" ليو فيري" ) وفي مواضع أخرى تضع (ص 146: مقولات ابن رشد والطّبري في مواجهة نظريات " فوكو " و" بارت " و" شتراوس") وكذلك مقولات النّفّري الطّاهر بن عاشور في مواجهة مقولات ماركس ولينين معلنة أنّها (ص 145: راجعت أخطاءها النّظريّة والعلميّة وأنّه يجب الآن الحفر في الواقع بعيدا عن مقولات ماركس ولينين وتقرير خروتشاف...) بذلك نقلت المؤلّفة جملة الرّوافد الثّقافيّة المتنوّعة تنوّعا ممتدّا عبر الزّمان (القديمة والمعاصرة) وعبر المكان (العربيّة التّونسيّة والأجنبيّة) التي تفاعلت في طبع شخصيّة التّونسيين عموما بشيء من الازدواجيّة الثّقافيّة حتى في طريقة عيشهم اليوميّة، والتي أثّرت حتما في تشكيلِ وعيِ المثقفين وفكرِهم وتبعا لذلك في قراءتِهم لواقِعِهم وتحديدِ مواقفهم إزاءَه بمن فيهم المؤلّفة التى وظّفت رصيدها المعرفيَّ والثقافيَّ في مُنجَزِها الرّوائيِّ توظيفا يسمح بإدراجه ضمن المنحى التّجريبي. هذا المنحى الذي يتّضح أكثر من خلال عملِها على استنطاقِ ما زخرت بِهِ فصولُ الرّواية من روافدَ ومرجعيات ومساءلتها بحثا عن مُمكِنات تصحيح المسار (ص 110: الآن عرفتَ وعليك تصحيحُ المسار) في الحياة والعمل وإعادة هيكلة اليسار ليستطع تجاوز فشله إذ كان (ص 120: تربة مهيّئة لنموّ الهزيمة) لذلك لم يخل الخطاب على امتداد فصول الرّواية من طرح الأسئلة المستفزّة والمُحفّزة منها ما تعلّق بقيم المجتمع (ص 61: هل تعنينا عُذريّة الرّحم أم عُذريّة القلب؟) ومنها ما تعلّق بقيَم الوجود (ص 62: فلتبحث معي عن المعنى... المعنى؟؟ وهل وجدته انت؟؟) وكذلك (ص 113: هل يلومني على استقلاليتي أم ألومه على رزمة المسلّمات والبديهيات التي يحملها فوق ظهره؟) ومنها ما تعلّق بالابستيمولوجيا أيضا (ص 146: أنا أجهل نفسي، فكيف أعرف غيري؟) وكذلك ( ص 92: لماذا نحنّ إلى الخطإ من جديد ولا نتعلّم شيئا ولا نفهم أنّنا بلا مجد حقيقيّ؟؟) أسئلة رغم أنّها تبدو عامّة إلّا أنّها تخلّلت تفاصيل الواقع في الرّواية لتحمل المتلقّي على التوقّف عن (التّربيت المنافق على كتف التّاريخ المزيّف التّوقّف عند جلد الذّات) ولتَحمِله على التّفكير في الحلول والبدائل..

هكذا جاءت الرّواية مرتبطة بسياقها التّاريخي الجغرافي كما جاءت ايضا مرتبطة بسياقها الحضاريّ قائمة على رؤيا إبداعيّة لا تروم التّسجيل بقدر ما تروم المراجعة والتّحليل من أجل التّمكّن من النّقد الذّاتي نقدا بنّاءً وتصحيح المسار كما صرخت المؤلّفة على لسان رجاء (ص 62: والانبعاث من جديد مثل طائر الفينيق ينبعث من رماده).

 خاتمة:

بدا الواقع بشواهده وروافده في هذه الرّواية (وروايات أخرى متزامنة معها) محمولا وحاملا في آن واحد. فهو محمول كمشاهد وأحداث وشخصيّات ومحطّات تاريخيّة... مثّلت المادّة التي أنشئ منها الخطاب الرّوائي. وهو حامل لجملة الرّموز والمواقف التي جسّدت الرّؤيا الإبداعيّة بل الإيديولوجيّة لعلياء التّابعي كشاهدة على خيبة امل وطنية في مرحلة من تاريخ تونس، وكشاهدة أيضا على مرحلة أدبيّة كانت وراء بلوغ الرّوائيّة تونس مستوى يّعتدّبه به.

حتّى لكأنها وهي تكتب زهرة الصّبّار على هذا المنحى التّجريبي، كانت تكتب العالم الدّاخلي للمثقفين من جيلها بما في ذلك عالمها الدّاخليّ بِلُغتِها وثقافتِها ومواقفها ومشاعرها الشّخصيّةِ. فلم تجعل روايتَها بمثابةِ سجلّ للوضع السّياسيّ والإجتماعي في تونس ولا بمثابة سجلّ لليسار التّونسي وفهرسةِ مكتبته فقط ، بقدر ما جعلتها واعزا للمراجعة والنّقد الذّاتي مدفوعة " برجاء " وقف النّزيف المترتّب عن الصّراع بين السّلطة والمعارضة وبين قوى اليمين وقوى اليسار، والذّهاب نحو تضميد الجراح برؤيا جديدة قوامها أنّ الوطن بجميع أرجائه برّه وبحره أريافِه ومدنِه يبقى وطن الجميع مهما اختلف أبناؤه وتقطّعت بهم السّبل ، كي لا يظلّوا على مَرّ التّاريخ يتحسّرون (ص 147 على حياة ذهبت قبل أن تُعطي ثمار الهزّات المُرّة، قبل أن يُزهر الصّبّار...).

 ***

بقلم: كوثر بلعابي

.......................

المصادر:

1 - رواية " زهرة الصّبّار" لعلياء التّابعي عن دار الجنوب للنّشر - تونس - ضمن سلسلة عيون المعاصرة

2 - رواية " مراتيج " لعروسية النّالوتي عن دار الجنوب للنّشر - تونس - ضمن سلسلة عيون المعاصرة

 المراجع:

1 - كتاب " طرائق تحليل القصّة " للصادق قسومة عن دار الجنوب ضمن سلسلة مفاتيح

2 - كتاب " مباحث في الأدب التّونسي المعاصر" لمحمود طرشونة " عن المطابع الموحّدة بالشرقيّة - تونس - 1989

3 - كتاب " عروسيّة النّالوتي المهاجرة إلى أعماق الذّات" منشورات منتدى الفكر التّنويري التّونسي ضمن سلسلة أعلام الثّقافة التّونسيّة..

4 - مقال" الهوية في الرّواية النّسائيّة التّونسيّة: زهرة الصّبّار لعلياء التّابعي مثالا " مجلّة الحياة الثقافيّة العدد 213 الصّادر في ماي 2010.

1 ـ شَغَفُ السُّؤَالِ وَرَهَانَاتُ الإجَابَةِ: سُئِلَ الصَّحابيّ الجَليلُ عبد الله بن عبَّاس (رضي الله عنهما) يَومًا: بأنَّىَ أصَبْتَ هذا العِلم؟ فأجاب بقولِهِ البليغِ " بِلسَانٍ سئولٍ وقَلبٍ عَقُولٍ "، أي أنَّ السُّؤالَ دومًا هو مفتاح المعرفةِ المُخلص الذي لا يخطئ الطَّريق، وهو البوَّابةُ السِّحريَّةُ التي يمكن من خلالها التقاطُ واقتناصُ كُنْه الأشياءِ وتفاصيلها المختبئةِ عن الأنظارِ وربما عن الألبابِ أيضاً، ويظلُّ السؤالُ في عُرْفِ النُّصوصِ الفلسفيَّة واللغويَّةِ هو الحَرَاك المُدهش لحالاتِ السُّكونِ المعرفيَّةِ وهو أشبه بأصوات وهتاف الثَّائرين وقريب التَّشبيه بفوران البراكِين المحمومة لما يتضمنه السؤالُ من تسارعٍ ذهنيٍّ بحثًا عن إجابةٍ شافيَةٍ.

ولعلَّ المُؤَسِّسَ الاجتماعيَّ العَربيَّ ابن خلدون لم يتنبَّه وهو يسطِّر مُقدمَته الخالدة الذِّكر إلى خَصيصةٍ رئيسةٍ تميز العقل العربي وليست الثَّقافةَ العَربيَّة فحسب، وهي هوس الإنسانِ العربيِّ وشغفه بالسُّؤالِ كنَمطٍ ثقافيٍّ متميزٍ، هذا الشَّغف الذي شغَل العَربيَّ جعله دائم الولوع بإلقاء أسئلتِه محاكِمًا تراثه لاسيما الشَّعبي حتى استحالتْ حَكاياه الشَّعبيَّة التي أسهم هو دونما قصدٍ في تأطيرها إلى جزءٍ أصيلٍ من عقيدته الاجتماعيَّة التي تتحكم في سلوكِه الفرديِّ والاجتماعيِّ على السَّواء بنسب تكاد تكون مُتساوية، وربما ثراء التُّراثِ الاستفهاميِّ الذي يدور في فَلَكِ الحكايةِ والتي عبر عنها العربي القديم بقصصه وحكاياه ونوادره وطرائفه المرتبطة بواقعه وماضيه هو الذي دفع هذا المواطنُ العربيُّ ولا يزال يدفعه إلى أخذه ـ أسئلة التُّراثِ ـ أساسا راسخًا متينًا لثقافته التي تتحكم في دوافعه واتجاهاته ومن ثم استجاباته الاجتماعيَّة.

والرَّسولُ الكريمُ مُحَمَّد (ص) قد استخدمَ السؤالَ قبل إلقاءِ الحديثِ؛ بغرض تهيئةِ الأذهانِ إلى ما سيلقى عليها، ولقد تعددت الأحاديث التي بدأت بأدواتِ الاستفهام مثل: ألا أحدثكم، ألا تسمعون، أترى بكم سبقك أصحابك؟هل شعرت أن الله؟ ألا أدلكم؟.وقد اتبع الرسول (ص) المناقشة والحوار كأسلوب تربوي قوي الأثر وأكثرها نفعاً، فاعتمد على الخبرة المباشرة في أغلب مواقف التعليم، كما أنه أحسن استغلال حاجاتِ المسلمين للاستفهامِ والسؤالِ عن أمور الدين.

وإذا تدبرنا صور الحوار والمناقشة في القرآن الكريم والسنة النبوية لاستطعنا استقراءَ الأيديولوجية الإسلامية لهما، فالحوار والمناقشة بطول القرآن الكريم وعرض السنة النبوية تتضمنا التفاعلِ والمشاركةِ، ويقوم فيها المناقش / السائل بدور رئيس في منظومة التحاور مع الآخر / الآخرين، وهذا الدور يتوقف عليه نجاح هذه المنظومةِ أو فشلها في تحقيقِ الهدفِ المرجو من تلك المناقشةِ.

وتظهر ملامحُ هذه الأيديولوجيَّة أيضاً في انتقال المعرفةِ من شخصٍ لآخر، حتى تصبح المعرفةُ (الخبرة) مشاعاً بينهما. ويؤدي هذا التواصل إلى تفاهم مشترك بين هذين الشخصين أو أكثر. وهذا التواصل والتفاعل بين أطراف المناقشة يحققان تقدماً في نقل المعلومات والأفكار والمفاهيم، والذي يساعد بالضرورةِ على فهم حقيقة إيمانية أو سنة كونية أو تحقيق الاستسلام للعقيدة الربانية الصَّحِيحة. كُلُّ مَا سَبق يُؤكد حَقِقة مَفادها أن السؤال وأشكال وأنماط استخدامه هو انتصار المعرفة عن طريق تقرير إجابة شافية واجبة له.

2 ـ الفَارِسُ القَدِيْمُ.. فَرَسُ الحَدَاثَةِ الدَائِم:

يمكن أن تتناولَ قصيدة شاعرٍ ما عن طريق التَّناصِ النقديِّ السَّابق، وذلك من خلال الاعتماد على منظورٍ نقديٍّ معينٍ أو رؤى وطروحات نقديَّة متقدمةٍ عن التناولِ الرَّاهن للشَّاعر والقصيدة، وهذا في الغالب أمر بدهي قد لا يحتاج إلى تنظير أو سرد طويل، لكن هذه القاعدة بالضرورة لا تصلح تطبيقا على شاعرنا صلاح عبد الصبور، فهو وقصيدته لا يصلحان أبدا للتناول من معطيات سابقة عليهما؛ لا من حياة الشاعر كعرف النقاد الأوائل الذين اعتادوا أن يربطوا ويدمجوا الشاعر بالنص كوجهين متماثلين لعملة واحدة وهم بذلك أفسدوا النص في تناوله أحيانا، ومارسوا فعل الإقصاء على الشاعر بتقييد حياته داخل نص لغوي أحيانا أخرى، ولا يمكن تناول قصيدة صلاح عبد الصبور من خلال التأريخ الأدبي الذي جعل نصه قاصرا على حقبة تاريخية معينة عُرفت بقصيدة التفعيلة أو حركة الشعر الحر أو القصيدة الجديدة، فكل هذا محاولات قمعية تمارس كرها على الشاعر والنص والقارئ على السواء.

لكن صلاح عبد الصبور كونه شاعر الأسئلة المدهشة لا يمكن تناول نصوصه الشعرية إلا باعتبارها إحداثيات لغوية وفكرية تأبى تقييد الإجابة والاستجابة عنها، وترفض رفضا واضحاً أن تكون الإجابة عن التساؤلات المتضمنة داخل مشروعه الشعري نهائية وقطعية لا يمكن تجاوزها، لذا فمن الأحرى عند تناول شعر الفارس القديم صلاح عبد الصبور صاحب ديوان (أحلام الفارس القديم) التعامل مع نص دون إشارات مرجعية نقدية سابقة لأن هذا سيخل بفعل التلقي المدهش.

وربما تبدو مشكلة وتظهر للناقد الذي سيتعمد تناول نصوص صلاح عبد الصبور من خلال طروحات سابقيه لاسيما وإن كانوا من أساطين وأباطرة النقد لذلك فهو أحرى بالاستخدام النقدي السابق، هذه المشكلة تتلخص في كون نصوص صلاح عبد الصبور تمثل أيقونة لغوية أقرب إلى جماليات المقاومة، بمعنى أنك من الصعب تنبؤ ما سيطرحه الفارس القديم في نصه استنادا لطرح شعري سابق، فصلاح عبد الصبور يمثل ومعه الشعراء أمل دنقل وأدونيس ومحمد علي شمس الدين وقاسم حداد ومحمد عفيفي مطر حركات احتجاجية ضد ممارسات النقد القمعي الذي يسعى جاهدا بغيل كلل أن يقمع النص في زوايا محددة لا يمكن رؤيته إلا من خلال عدساتها المحدبة والمقعرة والمستوية.

لكن من يملك اللغة احتجاجاً والصورة الشعرية سؤالاً حائرا وقلقا ومدهشا من الصعب اقتناص قصيدته والتعامل معها على أنها مجرد سرد أو حكي لغوي لفظي يحمل مضمونا يمكن فك شفرته تاريخيا أو اجتماعيا، وهذا التوصيف ينطبق تمام الوصف وكماله على شاعرنا الفارس القديم صلاح عبد الصبور والذي دوما يراهن على نصه بتيمة لغوية وقصدٍ شعري أشبه بالصدر والعجز في الشعر العمودي التقليدي لكن هذه المرة من خلال تشكيل لغوي فكري يبدأ بالتقرير وينتهي بدهشة السؤال، تماما مثلما يصنع الشاعر الاستثنائي (أدونيس) الذي يبدأ نصه بعبارات وجمل شعرية تقريرية تجعلك تطمئن للنص وصاحبه والطريق الوثير الذي تمشي فيه، حتى يباغتك بسؤال يجعلك مجبرا بين أمرين؛ إما أن تقفز طوعا ومستسلما داخل النص لتكون جزءً أصيلا منه ومن تشكيله اللغوي، او أن تضطر إلى التخلي المطلق عن إرهاصات التكوين النقدي القديم لديك.

ومن جُمْلَةِ هَذه الإحداثيات الشعرية التي تم تجسيدها في بدايات تقريرية ثم طرح سؤال مباغت يستدعي القلق والدهشة، يقول صلاح عبد الصبور:

 " لكنها قديمة معروفة لهيبها دموع

 معذرة يا صحبتي، قلبي حزين

 من أين أتي بالكلام الفرح؟ ".

وأيضا يقول:

 " الله وحده الذي يعلم ما غاية هذا الوله المؤرق

 يعلم هل تدركنا السعاده

 أم الشقاء والندم؟

وكيف توضعُ النهايةُ المعاده

الموتُ أو نوازع السأمْ؟ ".

3 ـ غوَايَةُ النَّصِّ:

ثمة علامات يمكنك أن تقتنصها وأنت تتناول نص صلاح عبد الصبور تتمثل بغير استطراد في غواية النص؛ بمعنى أن الشَّاعر على الدوام قد يدفعك إلى الاستسلام بتقرير حالاته النفسية تماما مثلما جاء في قصيدته الافتتاحية لديوان (أحلام الفارس القديم) بعنوان (أغنية للشتاء) التي يقول فيها:

" أموت... لا يعرفني أحد

أموت لا يبكي أحد

وقد يقال بين صحبي ـ في مجامع المسامره

مجلسه كان هنا، وقد عبر

فيمن عبر

يرحمه الله

ينبئني شتاء هذا العام أن ما ظننته..

شفايَ كان سمِّي

وأن هذا الشعر حين هزني أسقطني

ولست أدري منذ كم من السنين قد جُحت

لكنني من يومها ينزف رأسي ".

وبينما يبدو القارئ مستسلماً للحالة الوجدانية الأكثر حزنا في النص، يضطر لأن يكون إيجابيا إزاء تلك الحالة ليس فقط عن طريق التضامن النفسي مع الشاعر وحالته، إنما عن طريق البحث عن طرائق وسبل للخروج من تلك الحالة السلبية التقريرية حتمية النهاية، والغواية التي يصنعها النص هي وعي شديد من الشاعر لأنه يدفع القارئ دفعا لمجاوزة حد القراءة وتخوم التلقي المعتاد إلى مساحات من التخطي لدور القارئ التقليدي الذي يجد نفسه صوب الفعل الشعري محاولا أن يضع نهايات أخرى أو يواطن الشاعر في محنته يقول صلاح عبد الصبور:

" الليلُ ثوبُنا، خباؤنا

رُتْبَتُنا، شارَتُنا، التي بها يعرفُنا أصحابُنا

لا يعرف الليل سوى من فقد النهار

هذا شعارنا

لا تبكنا يا أيها المستمع السعيد

فنحن مزهوُّون بانهزامنا ".

وبنفس الغواية التي يصنعها صلاح عبد الصبور في نصه الشعري، ينجح تمام النجاح وفلاحه في عرض لحظات إنسانية أكثر عمقاً، مستخدماً في ذلك كافة مستويات التَّتابع النَّصِّي، الذي يمكن توصيفه على سبيل الاجتهاد لا التقعيد النقدي النهائي بأنه نص قلق على الدوام. فهو يقدم مشهداً يبدو برمته حزين الوصف والملامح يمكنك كقارئ أن تكمل بقية المشهد ورغم ذلك يجعلك أكثر قلقا عن طريق صور شعرية متتابعة وسريعة تجوبها ألفاظ ومساحات لغوية مغايرة لجو النص العام. يقول صلاح عبد الصبور في قصيدة (أغنية إلى الله):

" حزني ثقيلٌ فادحٌ هذا المساء

كأنه عذابُ مصفدين في السعير

حزين غريب الأبوين

لأنه تكوَّن ابن لحظةٍ مفاجئة

ما مخضته بطن

أراه فجأةً إذا يمتد وسط ضحكتي

مكتمل الخِلقةِ

موفورَ البدن

كأنه استيقظ من تحت الركام

بعد سباتٍ في الدهور ".

ونفس الفعل الشعري الذي مارسه صلاح عبد الصبور، يحاول إعادة إنتاجه مرات أخرى وهو بذلك يدشن وحده اللغة فعلا انقلابيا لا مجرد ألفاظ متراصة بغير دلالة، وهذا الفعل الشعري الانقلابي من بالغ الصعوبة أن يقبل لعبة رهانات تحديد الزمن أو وقت القصيدة، لأنه نص في المطلق، وتعامل قصدي مع الحدث والحالة الشعرية لا مع وقتها المنقضي، لذلك هذا الملمح الشعري يؤكد لما تم ذكره من قبل بأنه من الصعب تأريخ الشاعر من خلال قصيدته ولا يمكن توثيق التطور الشعري لشاعر مثل صلاح عبد الصبور بدأ كما انتهى لا من حيث التطور على مستوى الاستعمال اللغوي للمفردات أو من خلال الصورة الشعرية إنما من حيث البدء بالعبارات والجمل الشعرية التقريرية انتهاء بطرح الأسئلة المثيرة لأسئلة أخرى. يقول صلاح عبد الصبور في قصيدته (أغنية من فيينا):

" ثم نزلنا للطريق واجمين

لما دخلنا في مواكب البشر

المسرعين الخطو نحو الخبز والمئونة

المسرعين الخطو نحو الموت

في جبهة الطريق، انفلتت ذراعها

في نصفه، تباعدت، فرّقنا مستعجلٌ يشد طفلته

في آخر الطريق تُقْتُ ـ ما استطعت ـ لو رأيتْ

ما لونُ عينيها؟

وحين شارفنا ذرى الميدان غمغَمت بدون صوت

كأنها تسألني... من أنتْ؟ ".

4 ـ فِي قَصِيْدَتِنَا.. لَيْلٌ:

على غرار رواية إحسان عبد القدوس الرائعة (في بيتنا رجل) والتي تم تقديمها على شاشة السينما في ستينيات القرن الماضي بصورة تعادل إبهار الحدث الروائي نفسه يمثل الليل حدثا مهما داخل النص الشعري عند صلاح عبد الصبور، وهو ليل ليس بالضرورة ليل ينتمي لخريطة النظريات النقدية التقليدية وإن كانت صورة الليل تماثل الصور الشعرية التقليدية التي توحي بالعزلة والضيق الداخلي واتساع الزمن والحزن الكئيب، إلا أن نظرية المحاكاة الشعرية وتركيب الصور بطريقة أقرب إلى المشاكلة بعيدة تماما عن صورة الليل في نصوص الفارس القديم صلاح عبد الصبور.

وصورة الليل في نصوص صلاح عبد الصبور هي تدفق يفيض بدلالات مصاحبة لطبيعة الطقس الزمني ولتلقائية المشاعر القوية التي يسرها الشاعر فنجده يصَوِّبُ اللغة تجاه الليل بمفردات مصاحبة مثل: وأن كل ليلة باردة تزيده بعدا / الليل سكرنا وكأسنا / الله لا يحرمني الليل ولا مرارته / في ركني الليلي في المقهى الذي تضيئه مصابح حزينة / ثم تساقط المساء فوقنا / في آخر المساء شعشعت سحابة بنور / وهكذا مات المساء.

5 ـ يَبْدُو عَاشِقًا:

تربط معظم النظريات النقدية المتقدمة والمتأخرة زمنيا النص الشعري بعالمه الخارجي، أي قصة الشاعر وإحداثياته الشخصية المتواترة ومحيطه الاجتماعي، والناقد في ضوء ذلك يشبه الشرطي أو رجل المباحث السري الذي يتتبع الجاني في خفية من اقتناص تفاصيل تزيح الستار عن سر أو غموض، وهكذا يصنع الناقد في ضوء الإحالات الخارجية للنص الشعري، فيحاول إيجاد علاقة تماثل بين النص وصاحبه رغم أن الشاعر ـ أي شَاعر ـ هو صوت استثنائي قد ينفصل تمام الانفصال عن تفاصيله الاعتيادية ومكوناته الاجتماعية وهو ينظم قصيدته ويبدعها مما يجعل مهمة الناقد البوليسي صعبة وهو يتتبع شاعره لاصطياد حكما نقديا عن النَّصِّ.

ورغم أن تأطير نصوص الفارس القديم صلاح عبد الصبور جعلته بحكم النقاد حبيس الطرح القومي والتيار الإنساني المهموم بقضايا مجتمعه إلا أن غلبة الجانب الإنساني جعلته يبوح بسر العاشق بملامح قد لا تكون متماثلة بالشاعر التقليدي العاشق، لكننا مضطرون قبوله عاشقا استثنائيا بسطوة نصوصه غير المسكوت عنها، والتي تبوح بأسرار العشق والعاشق بطريقة معاصرة، ويمكن إعلان لحظة القبض على صلاح عبد الصبور عاشقا من خلال الجمل الشعرية التي تخللت نصوصه ومنها ما يقول في قصيدته (الحب في هذا الزمان):

" اليوم.. يا عجائب الزمان !

قد يلتقي في الحب عاشقان

من قبل أن يبتسما

ذكرت أننا كعاشقين عصريين

يا رفيقتي

ذقنا الذي ذقناه

من قبل أن نشتهيه

ورغم علمنا بأن ما ننسجه ملاءًة لفرشنا

تنقضه أنامل الصباح ".

وفي قصيدة (أغلى من العيون) يضيئ صلاح عبد الصبور مساحات واسعة من حالات الحب البسيطة وفيها مكاشفة لغوية سهلة بغير تعقيد أو استطراد يدفع القارئ للملل التدريجي، ففي الوقت الذي يصطنع أي شاعر حالة الحب داخل قصيدته فنجده يصب لعناته ويوجه براكينه الثائرة في صدر قارئه ويبالغ في رصد وتحليل مشاهداته على حالته تلك، نرى صلاح عبد الصبور بسيطا جدا في سرده الشعري حتى يظن القارئ أنه يقدم تعويذة قصيرة عن الحب بغير أبطال أو معارك وهمية أو قصص أسطورية، وتحديدا في قصيدة (أغلى من العيون) نلمح تمازجا قويا بين لغة القصيدة وحكايتها وبين لغتنا المعاصرة التي نستخدمها في حديثنا اليومي المعتاد أو في حديثنا بالهاتف، وكأن صلاح عبد الصبور في مشروعه الشعري الذي بدأه بديوان (الناس في بلادي) كان على وعي شديد بلغة المواطن العصرية التي تخلو من الغرابة والوحشة، لذا لجأ صلاح عبد الصبور في قصيدته إلى لغة مباشرة ومفردات معاصرة شديدة الصلة بواقعه بجانب حرصه على غنائية الجمل الشعرية، يقول صلاح عبد الصبور:

" عيناك عشّي الأخير

أرقد فيهما، ولا أطير

هدبهما وثير

خيرهما وفير

وعندما حط جناح قلبي النزق

بينهما، عرفت أنني أدركت

نهاية المسير ".

ويقول في المقطع الثاني من نفس القصيدة مستخدما سلاحه الاستفهامي الذي يبدأ بعبارة تمثل صدر الكلام ثم استفسار أو تساؤل يجسد عجز البيت الشعري:

" من أين نبع رائق يفيض حبنا

يغمرنا سعادة كأننا طفلان

لم نعرف التجوال في هذا الزمان

أي نسيم ناعم هذا الحنان

وأي كأس حلوة تلك التي نذوقها

حين تطل من عيوننا قلوبنا المجنحة

تبحث في الأحداق عن طعامها ومائها

ثم تنام في أمان ".

وصلاح عبد الصبور حينما ينظم الحب شعرا فهو لا يقتصر عند حد الوصف والتوصيف، بل يتجاوز هذا الشرح الاعتيادي إلى تقمص دور الناصح الأمين، وهنا لا يستطيع عبد الصبور أن يتخلى عن دوره الاجتماعي أو الطابع القومي الذي طغى على شعر هذه المرحلة الشعرية التي يمثلها هو بجانب شاعر الرفض أمل دنقل، فهو عاشق غير مبتذل، وشاعر يؤمن ويقدر دوره الاجتماعي في التنوير والتبصير، نجده يقول:

" يطيب لي في آخر المساء أن أقول كلمتين

شفاعة أرفعها إليك يا سيدة النساء

الحب يا حبيبتي أغلى من العيون

صونيه في عينيكِ

واحفظيه

الحب يا حبيبتي مليكنا الحنون

كوني له مطيعة سميعة

الحب يا حبيبتي هدية الحياة لي، ولك

لمتعبين حائرين في السنين

الحب يا حبيبتي فردوسنا الأمين

حين تؤود ظهرنا الرياح

وتنتهي لشاطئ المنون ".

6 ـ أقْنِعَةُ صَلاح عَبْد الصَّبُورِ الشَّعْرِيَّة:

اتفق كثير من النقاد والمنظرين للفكر العربي المعاصر أن نصوص الصوفية وأخبارهم وحكاياهم هي المصدر الرئيس لشعر التفعيلة وأجازوا بأن النص الصوفي هو الذي شكل قصيدة النثر الحديثة، مستندين في ذلك إلى علامات متشابهة بين النصين / الصوفي والشعري، من تلك الملامح والعلامات الأقنعة المستعارة أو اللغة المجازية التي لا تكشف عن معنى محدد يبصره الرائي بسهولة ويسر، ومنها اللغة الرمزية التي يتكبد القارئ فهم دلالاتها الضمنية، وأيضا استخدام التساؤل الاستفهامي بصورة توحي بإقرار الإجابة بغير تفكير أو الاختيار من بدائل، وصلاح عبد الصبور يكاد يكون قريب الشبه بين شاعرين أجادا في استخدام الأقنعة الشعرية في نصوصهما؛ أمل دنقل وأدونيس، والفارس القديم وإن كان استخدم أقنعة شخصية مثل لوركا وبودلير وغيرهما، إلا أن الوقوف النقدي الإجباري سيكون عند قصيدتي (مذكرات الملك عجيب بن الخصيب) و (مذكرات الصوفي بشر الحافي) لما يمثلان من إشارتين تراثيتين يمكن توصيفهما بالإحالة المؤثرة والفاعلة.

وأظن أن وقوفي الإجباري عند حافة القصيديتين قد جعلني أؤكد أن استلهام صلاح عبد الصبور لرموز تراثية هو إحالة رمزية من الذاتي إلى العام، وشهادة لعصر مشهود ولإحداثيات استشرافية قد تقع في المستقبل، ففي قصيدة (مذكرات الملك عجيب بن الخصيب) نرى صلاح عبد الصبور يقدم نقدا لمجتمعه من خلال الارتكان إلى صورة تراثية، ونظرا لطبيعة صلاح عبد الصبور البعيدة تمام البعد عن المواجهات السياسية أو الفكرية التي تحمل قدرا بعيدا من المشاحنة والعراك غير الإيجابي فالتجأ إلى شخصية الملك عجيب بن الخصيب ليقدم من خلاله نظرته لعصره مستعينا في ذلك بأحد أدوات المتصوفة وهو الالتفات بالخطاب بين الأنا والآخر، وعلى حين يبدو صلاح عبد الصبور في مجمل نصوصه رقيقا في بداياتها إلا أن تلك القصيدة الطويلة نسبيا يبدو أكثر مكاشفة وحدة بغير مقدمات، ويسعى كأمل دنقل وأحمد عبد المعطي حجازي في قصائدهما الغاضبة في جلد المجتمع وفكره ورفض سطوة المدينة وأضوائها، يقول في المطع الأول من القصيدة:

" لم آخذ الملك بحد السيف، بل ورثته

عن جدي السابع والعشرين (إن كان الزنا

 لم يتخلل في جذورنا

لكنني أشبهه في صورة أبدعها رسامه

رسامُه... كان عشيقَ الملكة).

وهو يسعى في رسم ملامح مجتمعه الذي ضج بالمنافقين ومدعي المعرفة والثقافة ووصول الكثير من المنتفعين إلى أصحاب السلطة وصناعة القرار على حساب أهل العلم والثقافة الحقيقيين، ورغم الإحالة التاريخية داخل نصه إلا أنه يعكس استشرافاً لغد آخر يعقب النص الشعري ذاته ويكشف فساداً قائماً وآخر يجيئ، وربما سبب نجاح القصيدة المعاصرة تحديدا جيل صلاح عبد الصبور أنها تناولت العصر ومعطياته ولم تغرورق في الأطر الذهنية المبهمة والتي حصرت قصيدة النثر نفسها في فلك التضييق الذهني المحض الذي دفع القارئ إلى العزوف عن شكل ومضمون هذا النمط الشعري، وفي قصيدة (مذكرات الملك عجيب بن الخصيب) يراهن عبد الصبور في نصه إلى مجاوزة الدهشة إلى المعرفة، والتلميح إلى التصريح، ويقامر على تقرير القارئ وموافقته لأحداث ومشاهدات القصيدة مما يدفع القارئ أن يتضامن مع النص والقصة الشعرية، يقول عبد الصبور:

" قصر أبي في غابة التنين

يضج بالمنافقين والمعلمين والمؤدبين

من بينهم مؤدبي الأمين (جورجياس)

وكان لوطيا مسيحيا

ورغم تعاليمه قد عرفت النساء

إماء أبي كن حين يجن المساء

يجئن إليَّ يلاعبنني ويضاجعنني

ويفضحن لي ما يسرُّ أبي

إليهم، حين تثور الدماء، وتهمد ظمأى

فيسحب ثوبه

وحين يطيب له كاهنوه، فتبتل رغبته بالرذاذ

ويحمد ربه ".

ومزية شاعر الزمن الجريح صلاح عبد الصبور أنه أحد رواد المسرح الشعري ولعل رائعته (مأساة الحلاج) خير دليل على ريادته لهذا الفن الأدبي، وهذه المزية هي التي دفعته لأن يكون أوبراليا في نصه بعنى أنه لا يكتفي بصوته الشعري، بل يتجاوز الذاتية إلى خلق مساحة من الفضفضة أو البوح الجماعي عن طريق اصطناع أصوات شعرية أخرى تعبر النص وتتخلله من أجل مشاركة القارئ في ارتداء قناع شعري يجسد صوته أو حالته، وهذا ما أراده حقا صلاح عبد الصبور في المقطع الخامس من القصيدة إذ تعددت الأصوات الشعرية المصاحبة لموت الملك، وتلك الأصوات هي معادل موضوعي لفصائل وطوائف المجتمع التي تختلف في رؤاه صوب المشهد الواحد، يقول عبد الصبور:

" صوت حيران:

هناء محا ذاك العزاء المقدما

صوت فرحان:

فما عبس المحزون حتى تبسما

صوت ريان:

فأنتَ هلالٌ أزهر اللون مشرقُ

صوت أسيان:

وكان أبوك البدر يلمع في السما

صوت غضبان:

وأنت كليث الغاب همك همه

صوت بالدمعة نديان:

وكان المليك الراحل اليوم قشعما ".

ولجوء صلاح عبد الصبور إلى التاريخ والقصص الشعبي ليس هروبا إلى تاريخ ميت، أو النزوح بمنأى عن المعارك المباشرة وجها لوجه بقصد ما يريد أن يجعل القارئ المثقف أكثر وعيا وإدراكاً لواقعه ومجتمعه والحالات الطارئة التي تعتريه من وقت إلى آخر وهو أحد أدوار المثقف الأخلاقي أي الذي يلتزم بقضايا مجتمعه حتى وإن كانت الصياغة الشعرية غير مباشرة، وهذا اللجوء أشبه بكتابات صادق جلال العظم الفكرية حينما كان يلجأ إلى التاريخ ليس هروبا لكن لكشف البنى الإيديولوجية والثقافية للمجتمع تحديدا في كتبه (النقد الذاتي بعد الهزيمة)، و (ذهنية التحريم)، و(نقد الفكر الديني) أو حتى في كتابه (في الحب والحب العذري) وهو إحياء للتراث عن طريق ربطه بأحداث حية مشهودة وبقضايا ومشكلات يحياها المواطن المصري بخاصة والعربي بصفة عامة، وربما كلاهما / عبد الصبور والعظم كانا يريدان إعادة النظر على السواء في التراث والواقع المجتمعي القائم آنذاك. يقول صلاح عبد الصبور:

" لو قلت كل ما تسره الظنون

لقلتمو مجنون

الملك مجنون

لكنني أبحث عن يقين

في مجلس الصبح أنا تاج وصولجان

تقطيب عينين وبسمتانْ

أو بسمة تعقبها تقطيبتانْ

وعلى كل حال

لها أوانْ

لكنني في مخدعي إنسانْ ".

7 ـ تَغْرِيْدَاتُ صَلاحِ عبدِ الصَّبُورِ.. مُمْكِنَاتُ المُسْتَقْبَلِ:

والقصيدة الثانية التي تجبرنا للوقوف عند حدودها هي قصيدة (مذكرات الصوفي بشر الحافي) وهي عن الصوفي أبي نصر بشر بن الحارث، ودوما يعتقد النقاد المتأخرون أن اقتناص الشعر أو القاص صورة الماضي هو جمود الحاضر وتيبس مفاصله، لكن النظريات النقدية المعاصرة لا ترى الأمر كذلك، بل هي تصر على الدور الكاشف للتراث في إماطة اللثام وإزاحة الغموض عن واقع المجتمع الراهن، وقد يلتمس الشاعر في ماضيه علامات وإشارات يمكن من خلالها البوح بنقد عقلاني وموضوعي لمجتمعه، وهذا تماما ما صنعه صلاح عبد الصبور في قصيدته، فهو اعتبر أن عنايته بالصوفي بشر الحافي هو عناية بمجتمع قائم والكشف عن ممكنات المستقبل الآتي، لذلك فبدايات القصيدة تبدو قصيرة وسريعه تماثل مجتمع عربي متسارع، يقول صلاح عبد الصبور:

" حين فقدنا الرضا

بما يريد القضا

لم تنزل الأمطار

لم تورق الأشجار

لم تلمع الأثمار

حين فقدنا الرضا

حين فقدنا الضحكا

تفجرت عيوننا.. بكا ".

ولا أريد أن أبالغ في أن صلاح عبد الصبور يكاد يعبر زمنه التاريخي في ابتداع شبكة التواصل الاجتماعي (تويتر) بتغريداته الشعرية القصيرة جدا والتي تجسدت في قصيدته (مذكرات الصوفي بشر الحافي)، حيث نلمح جملا شعرية قصيرة رغم بساطتها اللغوية إلا أنك تقف أمامها لتسبر أغوار معانيها، لاسيما وأنها تتمثل في صورة أمرية وكأنها نصائح أو توجيهات ينبغي الالتزام بها، يقول صلاح عبد الصبور:

" احرص ألا تسمع

احرص ألا تنظر

احرص ألا تلمس

احرص ألا تتكلم

قف...!

قف...!

وتعلق في حبل الصمت المبرم

ينبوع القول عميق

لكن الكف صغيرة

من بين الوسطى والسبابة والإبهام

يتسرب في الرمل... كلام ".

خاتمة:

إن الحديث عن المنجز الشعري عند صلاح عبد الصبور طويل لاسيما وأنه شاعر لا يمكن اقتناصه بأحكام نقدية سابقة، وبات من الصعب إحالة نصوصه الشعرية إلى سيرته الذاتية التي قصدنا بوعي إلى عدم تناولها بدعوى أن الشاعر دوما في غياب، أما النص فهو شديد الحضور وهو ما استدعى قراءة معاصرة لنصوص شاعر متميز وهو نفسه لم يسع في نصوصه الشعرية إلى إضفاء عقدة التخمة والأنا في الحديث عنه، بل كان دوما صوتا لغيره، وتجاوز الصوت الآخر إلى حضور أصوات أخرى متباينة في قصيدته، وربما جاءت القراءة المعاصرة نتيجة منطقية لشاعر شكل ثورة في الشعر هو وصاحبه أحمد عبد المعطي حجازي بقصيدة التفعيلة التي رفضها آنذاك المفكر المصري عباس محمود العقاد، فجاءت اللغة بسيطة كوجوه الناس، وأتت الصور الشعرية سريعة وأكثر تسارعاً لتتزامن وعصر القصيدة.

***

د. بليغ حمدي إسماعيل

أستاذ المناهج وطرق تدريس اللغة العربية

كلية التربية جامعة المنيا

يتضمن ديوان "على شرفة التمني" للشاعرة السورية نبيلة علي متوج العديد من عناصر الإبداع الشعري بمسوحات جمالية ومجازية تبوئها قيمة فنية ودلالية ترقى بها لمستوى رفيع لما تزخر به من سمات التغيير والتجديد، بحيث ارتكزت جل نصوصه على مقومات الشعر الأساسية من إيقاع، ومجاز فضلا عن موضوعات اندغمت في منظومة المدونة الشعرية وأضفت عليها عمقا في التعبير، وسعة وتنويعا في المعاني والدلالات.

فعلى مستوى الإيقاع، الذي تعددت استعمالاته وتنوعت، من َروِيّ انتهت به مقاطعها كما في نص " أصعب قصيدة " التي تنتهي أواخرها بحرف النون: " وأنا بكتب قصايد من زمان.. / أنت الأمان.. / وعبير وإيمان ../ أيمن كمان.. " ص12، والياء في قولها: " ليتك تأتي.. / تكسر قيود حرفي.. " ص14، وفي نص " دموع الليل " حيث تضفي الفاء المنونة، والقافية المشكلة من الياء والتاء: " يا من سكنتني، / وجعا أليفا / بردا شفيفا / همهمة حكاية.. / ليس لها نهاية ! " ص80، على المقاطع نبرة موسيقية منفتحة ومنسابة. بالإضافة إلى التشبيه كعنصر بلاغي ورد بصيغ متنوعة ارتبط فيها بأداة الكاف: " حيث تتقافز الهواجس ككائنات خرافية " ص7، وفي: " تولد وتكبر / كعرائش العنب " ص 45، ومجردا منها كما في: " فأنا النجمة العالية المتألقة بين أحضان المساء" ص 46، إلا أن الملفت في الديوان هو غزارة الصور الشعرية، وما تحفل به من مظاهر جمالية، وأبعاد دلالية، مثل ما ورد في " قصيدة عذراء ": " وكل ارتجافة دم / تكتب سطورا في سِفْر الغياب " ص 7، وهي صورة تستدعي عمقا في الرؤية، وسعة في أدوات الاستقراء لفك رمزية أبعادها، واستشراف امتدادات معانيها ؛ حيث تتكفل ارتجافة دم بتدوين سطور في كتاب الغياب، وما تحمله ارتجافة الدم من دلالات ومعاني، مع استعارة فعل الكتابة لهذه الارتجافة التي ترسم كلماتها في سجل الغياب، وفي قصيدة " أول همس " حيث نقرأ: " شرب الليل ثمالة عتمته / من حزني / أزرعك على شرفاتي / براعم حب " ص10، فالليل يرتوي من سواد حلكته التي تعتعها سُكْر، والتي عب من خمرتها الليل، وما ينتجه الحزن من براعم حب تزرعها الشاعرة على شرفاتها، وهي صورة مركبة تؤلف بين متناقضات (حزن وبراعم حب). ونثر الحقول ألحانا، في تصوير لحقول يتم توزيعها على شكل ألحان تنتشر في خضم صمت عبر عطر الغروب، مما ُيوَلِّد أسئلة يجللها العجب والغرابة إذ كيف تغدو الحقول ألحانا؟ وكيف للغروب أن يتضوع عطرا وشذى ينتشر في ملحمة الصمت؟ صور ما تفتأ تتوالى: " عسي أن يكبر حلمي.. / طفلا على صدر أم تاقت لضمه.. / بعد عقم ! " ص15، في تصوير للحلم الذي ُيْرجى أن يتطور كطفل نما وكبر على صدر أم رزقت به بعد عقم مما ضاعف من شوقها لضمه إليها بحب وشغف ولهفة، وتصوير للوحشة وهي تنسل من ثقوب الظلام: " تسللت الوحشة من ثقوب الظلام " ص 17، وما يحمله من معاني متعددة الأبعاد بوصف دال ومعبر يجعل للظلام منافذ / ثقوب َتعْبُر منها الوحشة لمعانقة رحاب الأنس والألفة. وصور أخرى أكثرا اختزالا ك: " تأبطت أحزاني / أخفيتها " ص 19، في تصوير للاحتفاظ بالأحزان وإخفائها وهو ما يدل، بشكل أو بآخر، على القدرة على المقاومة، وتَحَمُّل ثِقْل الهموم و وِزْرها ورفض الاستسلام لحالات الضعف الناتجة عن أفعال ومواقف حبلى بمظاهر جور ناتج عن خلل يسود ويحكم علاقات الأفراد داخل مجتمع متعدد الأعطاب والأوصاب ، أو في تعليق الأحلام على مشجب الصباح: " وأن أعلق أحلامي / على مشجب الصباح " ص 27،  فالصباح كزمن يشهد انطلاقة يوم جديد تتوق فيه النفوس لتحقيق ما تحمله، وما تحلم به من أمنيات وآمال. وإلى جانب فيض الصور التي تزخر بها قصائد الديوان، والتي تتميز بطابع الاختلاف والتفرد وردت تعابير متنوعة تنحو نفس المنحى وتنسج على نفس المنوال منها ما طغى عليها الطابع الرومانسي: " وأمامي أسراب من السنونو / مهاجرة إلى مطالع الفجر " ص37، وكذلك في قولها: " وعالمي ملون / بالفرح والفراشات " ص 38، وأيضا: " كنت أعرف أن قلبك حديقة غناء / وموطن الفراشات والجمال " ص 46، وكلها تعابير تتآلف وتجتمع لتشكيل صور ومشاهد رومانسية تمتح من معجم يتشكل من عناصر الطبيعة ومكوناتها مثل الطيور (سنونو)، وحشرات جميلة (فراشات)، وتنتقل لوصف يحمل نفس الطابع في التغني بجمال المرأة: " يا امراة مغناجا / يحبس الأنفاس دلالها / َتتَنَقَّل برشاقة فراشة / على أكمام الزهور.. " ص42، في نوع حركاتها (المغناج)، وما يطبعها من رشاقة وخفة ك (فراشة تنتقل بين الزهور) مع استيحاء ينهل من عناصر الطبيعة: " أرسم لها الكلمات / بلون الدفلى / وشقائق النعمان../ رياض بنفسج يغمرني شذاها " ص 43، كالشجر(شجر الدفلى)، وأزهار(بنفسج) وما تعبق به من طيب عطر وشذى. كما أن هناك تعابير مختلفة من حيث الصيغة والدلالة مثل: " أتنفسك حياة " ص 19، وفي قول الشاعرة: " أرتب ما تبعثر مني " ص 29، فكيف يمكن تنفس شخص حياة آخر؟ وترتيب ما تبعثر من الذات، وإظهار النوائب وهو مشرئبة متطلعة: " تشرئب النوائب " ص 35، وتسريج الرؤى التي تصير لها خيولا تمتطي صهوتها: " أسرج لها خيول رؤاي " ص 35، وتتحول القصيدة إلى كتابة الشاعر: " أراك فيها / أجمل قصيدة.. / ما انفكت تكتبني ! " ص40، وكلها تعابير تنأى عن الأساليب النمطية المعهودة بما تجترحه من ِصَيغ ومعاني مختلفة ومنزاحة. ويمكن الإشارة كذلك إلى موضوع الإبداع داخل نصوص المجموعة والصادر عن رؤية تكشف عما يحيط به من معاناة ومكابدة شبيهة بالمخاض كما يتجلي في قولها: " أيتها القصيدة.. / َتعَسَّر المخاض " ص22، وما تحظى به، أي القصيدة، من تعهد ورعاية بعد مخاض الولادة: " ضممتك لجناحي / كي يكبر زغب ريشك / وتحلقي " ص22، في تشبيهها بطائر صغير يكبر، وينمو زغب ريشه، وهو في حضن أمه وحمايتها، إلى أن يصير قادرا على التحليق والطيران. إبداع من خاصياته وميزاته التحرر من كل أنواع الأسر والقيود بحثا عن أجواء تتيح له حرية الخلق والتعبير: " حروفي خصبة / بذرة حياة / تأبى القيد أو الخنوع " ص 24، كما نلاحظ بروز عنصر التآلف في الجمع بين أطراف متناقضة ومتباينة كما في نص " قصيدة عذراء " حيث نقرأ: " وفي عمق هذا المعبد / القلبي، تتآخى الأصوات المتناقضة، آذان ومزامير " ص7، حيث تلتقي الأديان عبر تجاذب ينبذ كل تنافر صادر عن خلفيات تطفح بأنواع الحقد والغل والكراهية. كما كان للغناء والطرب حضور بين دفتي الديوان من خلال صوت " فيروز " الذي يتسرب إلى النفوس والأذهان وما يشيعه فيها من غبطة تبدد ما تراكم فيها من رواسب هم وكدر: " مع صوت " فيروز" الشجي / يملأ دقائق صباحي" ص 29. وعنصر المكان الذي تجسد في " دمشق " التي استحوذت على مشاعر الشاعرة، وسيطرت على كيانها فغدت مصدر إلهام، ومنبع حب وشوق: " دمشق / أزرعك في دفاتري حقول حب / وفي قلبي نبضات حنين../ أسافر في هواك بعيدا " ص33.

ف " نوافذ على شرفة التمني " ديوان شعري زاوج بين عناصر الإبداع الإيقاعية والبلاغية عبر رؤية كرست الاختلاف، وأسست لإوالياته بما رسمته من أشكال تعبيرية تجسدت في نصوص تهدف إلى إرساء لبنات تجربة شعرية تروم التغيير والتجديد.

عبد النبي بزاز ـ المغرب

.....................

ــ على شرفة التمني (شعر) نبيلة علي متوج، سوريا 2025.

بعنوان "معراجُ الفتنة"

تجيء قصيدة «معراجُ الفتنة» بوصفها مساحةً يتقاطع فيها الوجدُ الحميم مع التوتر الروحي، ويتجاور فيها الجسد مع الرمز، فتبدو — في ظاهرها — نصّاً غزلياً متّقداً، لكنها — في جوهرها — بنيةٌ دلالية مركّبة تتوسّل لغةً متوّهجة لتقول ما يتجاوز حدود الغرام العابر. إنها نصّ لا يُقرأ بعيون العاشق وحده، بل بعين الناقد الذي يُحسن الإصغاء إلى ما يتوارى خلف اللفظة، وإلى ما يتسرّب عبر الصمت بين السطور.

تتعالق في هذا النص مستوياتٌ متعدّدة من المعنى، بحيث تستدعي قراءاتٍ مختلفة: قراءة هيرمينوطيقية تكشف خريطة المقاصد والهوامش الخفيّة، وقراءة أسلوبية تُفكّك الموسيقى الداخلية والتوتّر الإيقاعي، وقراءة رمزية تستنطق الحقول الاستعارية التي تصنع المنظور الروحي للنص، إضافةً إلى مقاربة سيميائية تستعين بنموذج غريماس لتتبّع ديناميّة الفعل وصراع الفواعل، فضلاً عن مستويات نفسيّة ودينيّة ووطنية تعطي القصيدة امتدادها التأويلي المفتوح.

تتقدّم ناديا نواصر هنا بجرأة لغوية تُجاور المقدّس بالغريزة، وتخترق الفضاء العاطفي ببلاغة مُرهِقة في جمالها، حتى يتحوّل العشق إلى معراج، والفتنة إلى امتحان يختبر حدود الذات وهي تتأرجح بين الهبوط والصعود. إنّ هذا النص، بما يملكه من حرارة وصهد، يضع القارئ أمام تجربة تتجاوز الحبّ بوصفه انفعالاً، لتجعل منه مساراً وجودياً تتداخل فيه المعرفة والرغبة والطقس.

ومن هنا؛ تأتي هذه الدراسة لتعيد تفكيك هذا المعمار اللغوي والدلالي، ولتفتح أفقاً نقدياً يستوعب تعدّد الطبقات التي يقوم عليها النص: من اشتعالات الصباح الأولى، إلى صعود الروح في معارج الفتنة، إلى ذلك السؤال العميق الذي يبقى مُعلّقاً:

هل المعراج خلاص، أم بوّابة أخرى للاحتراق؟

بهذه الأسئلة، يبدأ البحث… وبها أيضاً يظلّ النص مفتوحاً على احتمالاته.

١. تمهيدٌ منهجيّ:

أتعامل مع القصيدة كنصٍّ ديناميكي: ليس محض تعبيرٍ عن حالةٍ وجدانية فحسب، بل منظومةُ معاني تُنتَج وتُعادُ إنتاجها داخل علاقةٍ تفاعليّة بين المخاطَب/المخاطِب/الزمن/المكان/الرمز. المنهج متعددُ الأوجه: هيرمينوطيقا تؤوّلية لالتقاط المقاصد والآفاق الدلاليّة، تحليل أسلوبي لبيان أدوات الخطاب والبناء الصوتي، قراءة رمزيّة لاستجلاء المستويات الاستعاريّة، سيمياء تطبيقية عبر نموذج غريماس لاستخراج أدوار الفعل، مع تدخّل لقراءات نفسيّة ودينيّة لبيان جذور الإيحائيّات. أختم بمقارنة نصّيّة رباعيّة المستويات.

٢. العنوان: «معراجُ الفتنة» — دلالة مركّبة

١- معراج: صورة صعودٍ روحي، رحلةُ انتقالٍ من مستوى إلى آخر (مستعار من المعراج النبوي: رحلة ترتقي بالروح).

٢- الفتنة: إغراء، امتحان، هزّة تخلخل الاستقرار؛ قد تكون جسديّة أو معنوية أو سياسية.

٣- التركيب يفصح عن توترٍ مركزي: صعودٌ مُرضٍ لكنه خطير، لقاء بلاغي بين التقدّس والتحرّش، بين الخلاص والاختبار. العنوان يوحي بأن اللقاء/العشق هو مسار ترتقي فيه الروح لكنّه أيضاً معرّض للسقوط — فتنةٌ تجعل المعراج امتحاناً.

٣. الخطاب والبنية الصوتية:

١- الافتتاح: «يجيئني الصباح مشتعل العينين» — صياغة فعلية مُباشرة، الصباح هنا فاعلٌ، لا ظرف؛ الصباح يجيء وهو مشتعِلٌ بالعينيْن: تشخيصٌ لجسد الصباح بصور إنسانية.

تكرارُ ضمائر التوجّه والوقوفات القصيرة يولّد إيقاعاً نبضيّاً مقاطِعاً، يناسب حالة التهيّج والانتشاء.

٢- اللغةُ تَتوهّج بلحنٍ صوتيّ: تعددُ الأصوات (رنات الهاتف، أغنية، نشيج) يعطي النصّ موسيقى داخلية.

٣- التناصّ الدالّ: مفردات دينية/طوباويّة (معراج، محراب، سيد العارفين) تختلط بمفردات الغزل (عطرك، قبلة، نشيد)، ما يؤسس لغة هجينة بين التديّن والغرام.

٤. قراءات مفرداتية — تفسير مفردات محورية:

١- مشتعل العينين: الصورةُ الأولى تُشير إلى شدةِ البصرِ/الوجود؛ العينان هنا ليستا وسيلة نظر فحسب بل محرّكان للنصّ؛ اشتعال كدلالة على الإيقاظ والرغبة.

٢- متوهج اللغة: اللغة ليست وسيطاً جامداً بل نَارٌ تتوهّج، أي أنها عامل فِعلٍ فاعل في الحياة الروحية.

رنات هاتفك → معارج الفتنة: الحداثة التقنية تُؤسِّس جسراً بين البعد المادّي والفَتنة الروحية؛ رنّات الهاتف عاملُ استدعاءٍ للمعراج والغواية معاً.

٣- ملكة هذا الوجود / سيدة الخفق: تمثُّل المتكلِّم/المتكلِّم إليها كسلطةٍ في الحبّ، لكن ثنائيّة “سيد” و“ملكة” تحمل إمكانية الخضوع والاستبداد معاً.

٤- قلم الحكمة المرفوع عن العشّاق: إسقاطٌ لمقاييس العقلانية حين يغيب عن عشّاق الهوى؛ يُشرَع المجال للجنون.

٥- صهدي / رغدي / مهوى رغائبي: تكرارُ مفردات الجسد والرغبة باللّهجة الذاتية يخلق امتلاكًا وشعورًا بالتمكين والافتتان الذاتي.

٦- احتواك بين الجلد واللحم: الجسد كمكان امتلاك ومحطة نشيدٍ حميميّ؛ امتزاجٌ بين الوشائج البدنية والوجدانية.

٥. السيمياء التطبيقية: نموذج غريماس (خرائط الفاعلات):

نحيل النصّ إلى نموذج الفاعلات لنكشف ديناميّة الفعل:

١- الفاعل : «أنا» الشاعرة/المخاطبة — الفاعل المشتاق الذي يُستدعى ويستقبل.

٢- الموضوع/المبتغى: الوصول إلى حالة الانصهار الروحي/المعراج/الانتشاء التام.

٣- المرسل: «الصباح المشتعل» و«رنات الهاتف» و«الفتنة» نفسها: عناصرٌ تغرّبُ الفاعل وتدفعه إلى السعي.

٤- المرسل إليه/المتلقي: «أنت»/«سيد العارفين»/المخاطَب الذي يُمنح القدرة على منح المعراج والانتشاء، أو على افتضاح الفتنة.

٥- المساعد: اللغةُ المتوهّجة، العطر، الصوت، الصور التي تُعانق الروح.

٦- المعارض/المعيق : «الحكمة» المرفوعة عن العشاق، «الفتنة» كقوّة متذبذبة، امتيازُ الجنون كمعارض للمنهج العقليّ.

٧- العملية التحويلية: انتقالٌ من وضع الاستسلام إلى حالة المعراج؛ العملية ليست خطيّة بل دوّارة، فيها احتمال للسقوط أو للاكتمال.

الخريطة تُظهر نصًّا دراميًا: رغبة تقابل اختباراً، ولغةٌ تعمل كوسيطٍ تحوّل حالة الوهج إلى معراجٍ أو إلى فتنَةٍ مدمِّرة.

٦. البُنى الرمزية والدلالية العميقة :

١- المعراج كمجاز مزدوج: صعودٌ وتطهير، لكنه معرّض بالـ«فتنة»؛ هنا المعراج ممكنٌ إذا استسلم الفرد لفتنة المحبوب — أو قد يُفضي إلى الضياع.

٢- النار/الصهد/الاحتراق: حضور واضح لرمزية النار كدفءٍ وخطرٍ؛ «صهد الروح» يشير إلى لهيب داخلي يغذي البلاغة والعشق وفيه إمكانُ الهلاك.

٣- المحراب/هيبة الجبل/الرماد: عناصرٌ طقوسية تعبّر عن قداسةٍ ومآلٍ؛ الرماد دلالة على ما تبقّى من احتراق سابق، والمحراب مكان عبادة/التقرب.

٤- النهر/القبلة/الجلد واللحم: رموز جسديّة للموت/الولادة، للاندماج بين العاشق والمعشوق، وللتماهي كطقسِ اتحادٍ.

٧. قراءة نفسيّة ودينيّة:

١- نفسيّاً: النص يستدعي آليات الاندماج والهوية المختلّة. قول الشاعرة «عارية من حكمتي وصوابي» هو استسلامٌ لاندفاعٍ عاطفي يتجاوز الضبط الذاتي ـ علامة على نزعة تحوّل الحبّ إلى حالة فقدان للذات المؤلوفة. «قلم الحكمة» المرفوع يرمز إلى تعطيل الضوابط العقلية في مواجهة العشق، وهو تحول معروف في دراسات الارتباط والهيجان العاطفي.

٢- دينيّاً/روحانياً: توظيف صور المعراج والمحراب والسيد العارفين يشي بتداخل بين تجربة الحب وتجربة الارتقاء الروحي. الحبُّ هنا يملك طابعًا طقوسيًا يقارب تجربة الالتقاء بالقدس — ما يطرح تساؤلاً أخلاقياً: هل الحب وسيلة للخلاص أم امتحانٌ للخطيئة؟ النص يترك الإجابة مفتوحة.

٨. البُعد الجمالي والوَطني:

١- جماليّاً: اللغة معبّرةٌ ومشحونةٌ بصورٍ مركّبة، اقتصاد أبياتٍ مع تخطيطات صوتيةٍ مقصودةٍ، ومزيج من الحداثي والطقوسي يولد جمالاً محمّلاً بتوتر. التأثير الجمالي يأتي من الاصطدام بين المقدّس والمدنّي، بين الطقوس والهواتف، بين الصعود والفتنة.

٢- وطنيّاً: لفظات مثل «مدار»، «سكان المدار»، «هيبة الجبل» و«الغربة» في قصائد الشاعرة عامةً قد تُستغلّ لقراءات متعدّدة عن الهوية والاغتراب والتحرّر؛ في هذا النص، لا توجد إشارة صريحة للوطن لكنّ استحضار «المدار» و«السكان» يفتح إمكانية قراءة متخيّلة تتعلّق بالانتماء والمكان. هذه القراءة تبقى افتراضية وتحتاج استدلالًا من مجمل شعر نواصر.

٩. المقارنة على أربع مستويات:

أ. المستوى الانفعالي:

النص مشحون بمشاعر متداخلة: انتشاء، ذهول، لهفة، تهوّر، تخوّف: خليطٌ من النشوة والقلق. الانفعال يتدرّج من الاندفاع («هيا — اتهجاني عبر اللغة») إلى التساؤل الختامي غير المطروح هنا لكنه ضمني: إمكانية السقوط واردة.

ب. المستوى التخييلي (الخيالي):

الخيال واسع ومُولِّد للصور الطقسية والمادية معًا: معارج، محراب، نهر جارف، بلور النار، صهدي — كلّها تصنع فضاءً تخييليًا متعدّد الطبقات، يمزج الممكن بالمستحيل.

ج. المستوى العضوي (الجسدي):

الحضور الجسدي قوي: الجلد، اللحم، القبلة، نشيد على صدر عاشقة؛ الجسد ليس موضوعًا بل وسيط للمعراج والفتنة، هو المساحة التي تختبر العلاقة وتحمل الآثار.

د. المستوى اللغوي:

اللغة مُشتغلة على مستويات: بلاغة تصويرية، تكرّرات اسمية فعلية، صياغات طقسية/محدِّثة، ومزج بين خطاب الديني/الطوباوي والخطيبة الغزلية؛ تُنتج موسيقى داخلية وتوترًا نحو اللامتحقّق.

١٠. ما لا يُقال: الفراغ الإيحائي:

النص يترك فراغات استراتيجية: هوية المخاطَب غير محددة، ظروف اللقاء غير مفصّلة، خاتمة المعراج غير محسومة. هذا الفراغ هو مورد دلالي: يدعو القارئ إلى الاشتراك في كتابة النص، ويترك الإمكانية مفتوحة للقراءات التاريخية والاجتماعية.

9. خاتمة: هندسة الألم/الفتنة وإمكانيات القراءة المستقبلية:

«معراج الفتنة» نصٌّ يسترقّ بين لحظة الطقوس ولحظة الغواية: لغةٌ متوهّجة، صور جسدية وروحية، ومعمارٌ دراميّ محوره اختبارُ الهوية والهوى. القراءة الهيرمينوطيقية تُبدّي أن النصّ لا يعطينا إجاباتٍ نهائية بل يقدّمُ معمارًا للشكّ: هل يقدّم المعراج خلاصًا أم محنة؟ هل الفتنة طريقٌ للتحرّر أم للتآكل؟ إنّ أغنى ما فيه أنه يترك القارئ في معراجٍ من التساؤل، حيث تصبح اللغة نفسها معبراً ومحرّكاً في آنٍ معًا.

يبدو أنّ قصيدة «معراجُ الفتنة» ليست مجرّد نصّ يُقرأ، بل تجربة تُعاش؛ مسارٌ تتقدّم فيه الذات عبر مستوياتٍ متتالية من الانخطاف والوعي، ومن الانجذاب والاحتراق. وإذا كان العشق في ظاهر القصيدة حالةَ انتشاءٍ لغويّ، فإنه في بنيتها العميقة تحوّلٌ رمزيّ يختبر قدرة اللغة على حمل الأثقال الوجودية الأكثر هشاشةً وتوهّجاً.

لقد بدا جليّاً من خلال التحليلات المتعدّدة—الهيرمينوطيقية، الأسلوبية، الرمزية، السيميائية، النفسية، والدينية—أن النصّ يعمل وفق معمارٍ دلاليّ معقّد، يقوم على توتّرٍ جوهري بين قطبين: الرغبة كقوّة صاعدة والفتنة كاختبارٍ مُهدِّد. بهذا المعنى، يصبح «المعراج» حركةً مزدوجة: ارتقاءٌ يشتهي الاكتمال، وهاويةٌ تُلوّح دائمًا بإمكانية السقوط. ولا ينفصل هذا الفعل المزدوج عن الجسد الذي يُمثّل في النصّ مرآةً للروح، ولا عن اللغة التي تتحوّل إلى شرفةٍ يطلّ منها القارئ على ما لا يُقال.

إنّ هذا النص لا يمنح قارئه يقيناً نهائياً؛ بل يتركه مُعلّقًا في المسافة بين اللمسة والدهشة، بين الهمس والاحتراق، بين العشق بوصفه خلاصًا، والعشق بوصفه فتنةً لا يخرج منها المرء سالمًا. وربما هنا تكمن قوّة القصيدة: أنّها تفتح بابًا إلى منطقةٍ من الحبّ لا تُفسَّر بالعقل وحده، ولا تُختزل بالرغبة وحدها، بل تتشكّل في التقاء الطقوس بالغواية، وفي احتدام اللغة كجسدٍ آخر للعاشق.

وهكذا، تغدو «معراج الفتنة» شهادةً على قدرة الشعر العربي الحديث على مزج الروحاني بالجسدي، والغنائي بالدلالي، والحميمي بالكوني، ليقدّم نصًّا تتجاور فيه الفكرة والنبض، ويتحوّل العشق فيه إلى خريطةٍ وجودية تُضيء كلَّ ما حاولت اللغة إخفاءه.

وبين بداية المعراج ونهايته، يبقى السؤال مفتوحًا:

هل يرتقي العاشق لأنه يحبّ؟ أم لأنه يحترق؟

ولعلّ جمال النصّ أنه يترك الإجابة في يد قارئه—لا في يد الناقد ولا الشاعر—كي يختبر هو أيضًا معراجه الخاص بين الفتنة والخلاص.

***

بقلم: عماد خالد رحمة - برلين

.........................

معراج الفتنة

شعر نادية نواصر

يجيئني الصباح مشتعل العينين

متوهج اللغة

متوجا بعطرك، صوتك والشوق الذي تناساه ليلنا

وتحملني رنات هاتفك إلى معارج الفتنة والانتشاء

وحدي ملكة هذا الوجود

سيدة الخفق المكتظ بجنون عشقي اليك

اتهجاني عبر اللغة التي تخاتل روحي

وراني فيك مفعمة بالصهيل الذي يقول حنيني حد احتراق بلاغتي

يا سيد العارفين بأمر الروح، يوم ادنيتني منك

اهتز تراب دهشتي واعتراني ذهول الوله

مشيت في محراب عينيك

عارية من حكمتي وصوابي

العشاق يا اناي رفع عنهم قلم الحكمة

ويجوز لهم من الجنون ما لا يجوز لباقي سكان المدار

الصباح الذي يعيد ترتيبي فيك

صباح للغواية والبوح والهمس الفاتن

كأنثى من بلور النار، ومن صهد الروح التي تصاعدت بك إلى معراح روحي

يا صهدي، ويا رغدي ومهوى رغائبي

يا كل هذا النهر الجارف لاسئلة القلب وهي تتشكل فيك

كما تتشكل القبلة على صدر عاشقة من عاشقها المستبد

اني معك ولك ومنك واليك وفيك

اسطورة من رقة النون الاستثنائية

في عمر سخر لك تنهيدة الروح

واحتواك بين الجلد واللحم

***

 

للشاعر السوري توفيق أحمد

تأتي قصيدة «سوسنتان إليه هناك» للشاعر توفيق أحمد بوصفها نصّاً ينتمي إلى الجغرافيا المركّبة للشعر العربي الحديث، تلك التي يتجاور فيها الوجدان الفردي مع الذاكرة الجماعية، ويتداخل فيها الحنين العاطفي بقلق الوجود، وتتجاور الرموز الحسيّة مع البنى العميقة للخطاب الديني والوطني. إنّها قصيدة تتّخذ من الصورة الشعرية بوّابة إلى معنى أبعد، ومن الجرح مدخلًا إلى معرفة الذات، ومن الانتظار حقلًا لصراعٍ بين الرغبة وإكراهات الزمن.

في هذه الدراسة، لا اتعامل مع النص على أنّه بنية لغوية جمالية فحسب، بل بوصفه شبكة دلالية متشابكة تستدعي قراءة هيرمينوطيقية تأويلية تَسبر المخبوء تحت سطح اللغة، وتستنطق ما يطفو وما يتوارى في الإيقاع، والصورة، والرمز. ولأجل هذا، تتّسع المنهجية لتشمل مقارباتٍ أسلوبية ورمزية وسيميائية — مع تطبيق نموذج غريماس — بما يسمح بتفكيك البنى السردية الكامنة في القصيدة، وتحديد مواقع الفاعلين والأدوار والعلاقات، وتتبّع حركة الرغبة وهي تتشكّل وتتعثّر.

كما تنفتح القراءة على مستوياتٍ أربعة: الانفعالي، التخييلي، العضوي، واللغوي، لتبيّن كيف يتوزّع المعنى بين الوجدان والصورة والجسد والبنية التعبيرية. وتستكشف الدراسة أيضاً ما تحت الجلد الشعري من نبضٍ نفسي وديني، وما تقترحه مفردات القمح والفضّة والجرح والسوسنة من امتدادات ثقافية ووطنية، في سياقٍ ينتمي إلى الذاكرة السورية التي تُملي حضورها على النص ولو بصمتٍ خافت.

بهذا كلّه، تُقدِّم هذه الدراسة مشروعاً تأويليًا يروم الكشف عن آليات اشتغال القصيدة، وعن تلك التوترات التي تُحرّكها بين الحضور والغياب، الحب والجرح، الزمن والانتظار، وصولاً إلى فهمٍ أعمق للشعر بوصفه ممارسة معرفية وجمالية تُعيد تشكيل الوجود عبر اللغة.

منهجية: هيرمينوطيقـيّـة تأويلية، أسلوبيّة، رمزيّة، جماليّة-وطنيّة، وسيميائيّة بتطبيق نموذج غريماس؛ مع غوصٍ في البُنى النفسيّة والدينيّة، وقراءةٍ في الأنساق المعرفيّة، وتفسير المفردات، ومقارنةٍ بين المستويات: الانفعالي، التخييلي، العضوي، واللغوي.

١. مقدّمة منهجيّة وسياقيّة:

تقدّم هذه القصيدة خطاباً شعرياً ينسحب بين التوّجه الوجداني والوعي التأمّلي؛ عنوانها (سوسنتان / إليهِ هناك) يحيلان فوراً إلى ثنائية: زهرة/حضورٍ أنثويّ، ومكانٍ بَعِيد أو ذهنيّ (هناك). سأقرأ النص بوصفه نصّ تأسيسيّ له مواقع أدوارٍ فعلية وسردية، وأطّبق على بنيته نموذجَ غريماس لاستخراج محاور الأدوار، ثم أتنقّل بين مستويات التحليل البلاغي والنفسي والديني والوطني لمعرفة ما «تحت الجلد» من نبضٍ وتوترٍ ورمز.

٢. قراءة نصّية مجملة (ملامح أولية):

القصيدة تنقسم إلى لقاطتين أو موقِفين: القسم الأول (مِن فِضَّة...) يعتمد صوراً طبيعية (الفضّة، القمح، النجوم) وتسلسلًا تأمّلياً حول الزمان والمرأة والوصال؛ القسم الثاني (يا داميَ القلب...) يزداد حوارياً ونبرة السؤال والنداء، ويختتم بإيحاءٍ ثوريّ/غزلي («سنشعل الأرضَ بالفوضى و"بالغزل"»). ثمة توترٌ بين الحضور والغياب، بين ما يُعطى (ورد، زمن، كتاب) وما يُنتظر (وصول، إجابة).

٣. المعجم والمفردات: دلالات وملاحظة اصطلاحية.

فضّة / سِلْسالُ هذا العمرِ: «فضّة» مادّة ثمينة، و«سلسال العمر» تركيبٌ يربط المادة بالزمن؛ الدلالة: الزمنُ كَزينةٍ وجَرَسٍ في آن، يلمع ويثقل.

قمح / شجن: قمح رمز للغذاء والحياة، وشجن رمز للشجن الحاضر؛ المزج يخلق ثنائية مادية-وجدانية.

سوسنة / امرأة / وصول: السوسنة رمز أنثوي تقليدي (جمال، نقاء، هدوء)، و«الوصال» هو موضوع الرغبة.

١- نجوم للعابرين: نجوم كهباتٍ عابرة، إضاءات مؤقتة؛ إشارة إلى ما يُعطى للمجتمعات أو المارة.

٢- ضمائر المخاطَب (كَ، لَكَ، إلخ): تُنفِشُ الخطاب بوجهٍ مخاطَب واضح: شخصٌ موجود «هناك» لديه بيت وشرفات واستقبال الزمان.

٣- كتاب/أجراس الحنين/الغزل/الفوضى: رموز للتسجيل والذاكرة والصيرورة والتمرّد؛ الكتاب هنا وسيط ومقدّمة للاحتواء والانتظار.

٤- ملاحظة لغوية: النبرة تجمع بين الفصحى الموزونة واللهجة الشعرية المعاصرة في تركيب مضمر ومحكم.

٤. الأسلوبية والبنيات البلاغيّة:

١- التصوير المركب: مزج عناصر حسّية (الفضّة، القمح، النجوم) مع مشاعر داخلية (شجن، وجد)؛ يعطي النص كثافةً تصويريّة.

٢- التكرار والإيقاع الداخلي: تردّد عناصر زمنية ــ «أزمنة/أيام/نهارك» ــ يشدّ الانتباه إلى البُعد الزمني كقضية محورية.

٣- السؤال الخطابي: «هل وصلت؟» «هل في البال أغنية؟» يفجّران حوارًا داخليًا ويحوّلان النص إلى طقس سؤال وانتظار.

٤- التباين الاستعاري: «رماكَ في يمٍّ من الأشواق» استعارةُ غمرٍ تؤكّد قوة الاشتياق وغموضه.

٥. الرمزية والدلالات الثقافية والوطنية.

السلالات الرمزية في النص ذات امتدادات وطنية محتملة: القمح كرمز للأرض والرزق (بُعد وطني/اجتماعي)؛ الكتاب رمزّ للذاكرة والهوية؛ النجوم للعابرين قد تشير إلى النازحين أو المارة في تاريخٍ جارٍ. النص لا يذكر الوطن صراحة، لكن بلالغته الرمزية يقترح أزمة حضور/غياب في زمنٍ متقلّب، ما يفتح الباب لقراءة وطنية تتصل بزمن الحرب والرحيل والحنين إلى الألفة.

٦. الغوص في البنى النفسية والدينية:

١- الحنين كقوّة نفسيّة محركة: الحنين يُعرّف النص؛ هو المرسل (أو الدافع) الذي يضع الشخص في حالة انتظار دائمة.

٢- الجرح/الدميّة القلبية: في القسم الثاني، «يا دامي القلب» و«أنا بصدرِكَ جرحٌ» يضعان الجسد كمكان للكتابة والجرح، وحيث أن الجرح لا يُعرف كم يغطّ ريشة اليأس بالأمل ــ هذه صورة نفسية عميقة عن الصراع الداخلي بين الاستسلام والأمل.

٣- البُعد الديني: مفردات مثل «نهارك» و«كتابك» و«أجراس الحنين» قد تُستعاد في هياكل دينية طقسية: الكتاب كمرجع، النهار كرمز للأنوار الإلهية، والأجراس كنداء روحي؛ لكن النص لا يتّجه مباشرة إلى الطاعة، بل إلى صيغة إنسانية أكثر توتراً.

٧. تطبيق نموذج غريماس: محاور الأدوار:

أطبق هنا نموذج غريماس لاستخراج الأدوار الستة الأساسية وتوزيعها داخل النص:

١- الفاعل / المبتغِي الفعلي): «الشاعر/الراوي» أو المتحرك العاطفي الذي يسعى إلى «الوصال/الوصول/الإجابة».

٢- المفعول به / الشيء المبتغى): «وصول المرأة/الوصال/إجابة السؤال» — حضور السوسنة أو المرأة، أو الكتاب كرمز للقاء.

٣- المرسل  / المرسل): «الحنين/الزمن/الماضي» — الذي يبعث الحاجة والرغبة؛ أحيانًا «المرأة» ذاتها كمرسل عندما تحدد زمن وصولها.

٤- المتلقي  / المستقبل): الشاعر نفسه، وربما القارئ؛ يتقاطع مع الفاعل في الكثير من المواضع.

٥- المساعد / الساعد): «القصيدة/النساء/النجوم/الكتاب» — عناصر تُيسّر مسعى الوصول؛ القصيدة وظيفة وساطة.

٦- المعاكس (المعارض): «الزمن الضبابي/السؤال الخفي/النسيان/الغياب» — عوامل تمنع الوصل.

ملاحظة بنيويّة: هناك تشابك في الأدوار: الحنين يعمل كمرسل ومُعاكس في آن، والكتاب يشتغل كوسيط ومُخَلِّف للأثر. هذا التداخل يشي بخاصية الوعي الشعري المعاصر: لا فصل واضح بين الدوافع والعقبات.

٨. البرنامج السيميائي (منظومة السرد بحسب غريماس):

الرؤية الوظائفية:

1. الرغبة (الشاعر يريد الوصول/إجابة).

2. المهمة (توزيع الكتاب، انتظار، السؤال).

3. المعوقات (ضباب الطريق، السؤال الذي أخفاكَ).

4. الوسائل (القصيدة/النساء/النجوم).

5. النتيجة المحتملة (وصول/لا وصول؛ إشعال الأرض بالفوضى/بالحب).

الخطاب التحويلي: التوتر بين الإمكان/اليقين: الشاعر يستخدم صيغة ترقب («هل وصلت؟») وصيغ إعلان («سنشعل الأرض»)، ما ينبّه إلى تحول احتمالي من الانتظار إلى عمل/ثورة (عاطفية أو اجتماعية).

٩. مستويات القراءة: مقارنةٌ منهجية:

أ. المستوى الانفعالي؛

القصيدة تستثمر انفعال الشوق والحنين؛ الانفعال موجّه ومباشر: نداءات وأسئلة ونبرة ألم حميمي (جرح، دامي القلب). تستفز القارئ لتبني موقف وجداني مع الشاعر/الناطق.

ب. المستوى التخييلي (الخَيالي):

صور مركبة (فضّة، قمح، نجوم) تولّد عالماً تخييليًا مماكناً بين المادة والرمز. التصورات تشكّل فضاءً بصريًا مكثفًا: بيتٌ يطلّ من شرفة، يمّ أشواق، مدارك لا تُرى... الخيال هنا يعمل كخريطة لاتجاه الرغبة.

ج. المستوى العضوي:

الجسد حاضر كمكان للجرح والحنين («بصْدِركَ جُرحٌ»، «يا دامِي القلب»). العضوية تترجم الانفعال إلى حسّ بدني: الدم، الجرح، القلب. هذا يجعل النص قريبًا من التجربة الحسية، لا مقتصرًا على مجاز فقط.

د. المستوى اللغوي؛

النص يستخدم لغة فصيحة مزخرفة، تراعي الوزن الإيقاعي الداخلي وبعض التلاعب البنيوي (قلب تراكيب، فجاءات محورية كسؤال «هل وصلت؟»). اللغة هنا جسر بين الحسي والمجازي، وتعمل على تضخيم الإحساس بالانتظار.

١٠. البنى المعرفية والمرجعيات الثقافية:

القصيدة تعمل داخل أنساق معرفية تتقاطع فيها: الأدب الغنائي العربي (الحنين والمرأة)، التراث الرمزي (القمح كأرض/حياة، الفضّة كزينة للزمن)، والخبرة المعاصرة للفراغ والانتظار (نتيجة تاريخية واجتماعية). لا يبدو النص ملتفًا حول مرجع ديني محدّد، لكنه يستحضر طقوسًا بشرية (الكتاب، الأجراس، الشرفات) ذات دلالات اجتماعية وروحية.

١١. مقاربة نفسية-رمزية: ما تحت الجلد الشعري:

الشاعر يعاني من ازدواجية: رغبة في الإمساك بالوجود (المرأة/الوصال) ووعيٌ بأن الزمن يسرق هذا الإمساك.

الجرح هنا ليس مجرد ألم؛ بل موقع للكتابة (القصيدة تُولد من الجرح).

الانتظار يتخذ صفة طقس مُبدع: الشاعر ينتظر ليستعيد ذاكرة أو لكي يتم إطلاقِ فعل (الغزل/الفوضى).

التوتر بين «الأمل/اليأس» مركزي: تغطّي ريشة اليأس بالأمل أو العكس، ما يشير إلى عملية دفاعية نفسية تقلب الألم إلى إبداع.

١٢. قراءات ممكنة على المستوى الوطني والاجتماعي:

لو ما قرأنا النص في ظلّ سياق سوري (مؤلف سوري): قد تَقرأ مفردات مثل القمح والنجوم والكتاب والشموع كرموز للذاكرة الجماعية، والبيت كشرفة للوطن، والرحيل كيمّة لعهد النزوح والانتظار. العبارات الأخيرة («سنشعل الأرض بالفوضى و"بالغزل"») قد تُفهم كدعوة لتغيير طقوسية: فوضىٌ تبديلية تُقابَل بالغزل، أي إعادة خلق للحياة عبر الحب أو الشعر.

١٣. عناصر الاستعصاء والتناقض داخل النص:

التناقض بين «فضّة» (لمعان) و«يمّ الأشواق» (غمر)؛ بين «أجراس الحنين» (رصانة) و«سنشعل الأرض بالفوضى» (ثورة).

التردد بين سؤال شغوف وحوارٍ مكتوم: السؤال الذي أخفاكَ يعني أن هناك سرًا أو عنادًا يعيق التواصل.

هذا التنافر هو ما يعطي القصيدة طاقتها الدرامية: لا مصالحة سهلة بين الرغبة والواقع.

١٤. الخلاصة التفسيرية:

القصيدة نصّ اشتياقٍ يمزج بين الصدق الجسدي (جرح، قلب) والدلالة الرمزية (سوسنة، كتاب، قمح). من خلال نموذج غريماس نرى شبكة أدوار متداخلة: الشاعر يسعى للوصول والموت في انتظار الإجابة؛ الحنين هو المرسل والمُعكِّس؛ الزمن والضباب هما العقبة. جمالية النص تكمن في توظيف صور يومية صارخة لتكوين فلسفة عن التحرّك البشري بين الخوف والأمل، الهشاشة والثبات. كما توفّر القصيدة مشهداً انتقالياً: من انتظارٍ قديم إلى قرار فاعل (إشعال الأرض بالفوضى/الغزل)، مما يشي بتحول شعري واستعداد للفعل.

١٥. اقتراحات:

1. تحليل مفرداتي معمّق: مقاربة دلالات «سوسنة/قمح/فضّة» عبر التراث والمتنّ الشعري العربي الحديث.

2. مقارنة نصّية: وضع القصيدة جنب أعمال أخرى لتوفيق أحمد لكشف ثيماته المتكررة.

3. تطبيقات سيميائية إضافية: بناء مخطط سببيّة لغريماس مفصّل مع اقتباسات موضوعة في العقد السيميائي.

4. تتبع السياق التاريخي: قراءة القصيدة في ضوء المأساة السورية كِردٍّ محتمل على التجربة الجماعية .

5. عرض مناقشات نقدية: جمع آراء قرّاء ونقاد ومقارنتها مع النتائج السيميائية.

١٦. أسئلة بحثية لورقة نقدية أعمق أو فصل آخر:

كيف يبني الشاعر «الجرح» كمصدرٍ للخطاب الشعري، وما علاقة ذلك بالهوية الجماعية؟

ما وظيفة «الكتاب» في القصيدة: توثيق أم فتنة أم وسيلة تواصل فاشلة؟

هل تُؤشر نهاية القصيدة إلى فعلٍ ثوري حقيقي أم هي استعارة للتجدد العاطفي؟

كيف تتقاطع الأدوار الغريماسية مع البنيات النفسية للشاعر توفيق أحمد ؟

١٧. خاتمة:

«سوسنتان إليه هناك» قصيدة تنزّ في العمق: ليست مجرد حنينٍ إلى امرأة، بل استدراجٌ لأسئلة عن الزمان والذاكرة والهوية والقدرة على الفعل. بتطبيق الهرمينوطيقا والأسلوبية والرمزية وغريماس، نُجلي شبكة علاقاتٍ تكشف أن الشعر هنا وسيلة لتأطير الجرح وتحويله إلى فعل معرفي وجمالي، فتصير القصيدة مقاماً لتوحيد الشعور والفعل والمعنى.

***

بقلم: عماد خالد رحمة - برلين

.......................

سَوْسَنَتان..

إليهِ هناكَ ...

شعر: توفيق أحمد

- ١ -

مِنْ فِضَّةٍ سَلْسالُ هذا العُمْرِ

مِنْ قَمْحٍ ومِنْ شَجَنٍ

بِكَ وجْدُ مجنونٍ وحِكْمَةُ سوسَنةْ

بِكَ أَزْمِنَةْ

نَسِيَتْ على شُرُفاتِ بيتِكَ لُعْبَةَ الأيَّامِ

وانْسَكَبَتْ بِصَدْرِكَ أَنْجُماً للعابرينْ

حَدَّدْتَ لامرأةٍ زمانَ وصولِها

وسَأَلْتَ: هل وَصَلَتْ؟

فأخفاكَ السؤالْ

ورماكَ في يَمٍّ من الأشواقِ

واسْتَبْقَاكَ خَلْفَ أُنوثةِ التكوينِ

تَبْحَثُ عَنْ مَدارٍ لا تَراهُ سوى مَدارِكْ

هي فُرْصَةٌ لأقولَ شيئاً ظَلَّ مختبئاً بِصَدْري

وارْتَقَيْتُ إليهِ أَقْبِسُ فيهِ جُرْحاً مِنْ نهارِكْ

إنَّ القصيدةَ والنِّساءَ ومايُوزِّعُهُ الحنينُ

على كتابي بانتظارِكْ .

-٢-

يا داميَ القَلْبِ هَلْ في البالِ أُغنيةٌ

لمْ نَكتَشِفْها بقاموسِ الحنينِ؟ قُلِ

*

أنا بِصَدْرِكَ جُرْحٌ لَسْتُ أعرفُ كَمْ

أَغُطُّ ريشةَ يأسي فيهِ بالأملِ

*

نَحْنُ اخْتَصَرْنا حكاياتٍ وأزمنةً

وحَسْبُنا أننا سِرْنا ولم نَصِلِ

*

كانَ الطريقُ ضَباباً كيف تسألُني:

ماذا تَرَكْتَ لأجراسِ الحنينِ ولي؟

*

وزِّعْ كتابَكَ .. يومَ الوجْدُ يُطفِئُنا

سَنُشعِلُ الأرضَ بالفوضى و " بالغَزَلِ"

 

تعكس حالة الرواية الإسكوتلاندية نوعا من نمط الأدب الثانوي أو بعبارة أوضح أدب الأكثرية الثانوية. وأستعير هذا التعبير من دولوز وغوتاري كما ورد في كتابهما الشهير "نحو الأدب الثانوي" وموضوعه كافكا. ويبدو لي أن الإسكتلانديبن مثله.

فهم يكتبون بلغة غريبة، وهي غير لسانهم الأصلي الغيليك. ويعيشون في بلد يرتبط بالتاج البريطاني، وإن كان لدى بعضهم مشروع انفصالي على شاكلة استقلال الهند. ولو لا التجاور الجغرافي لوقع المحظور وأعلنت إسكوتلاندا انفصالها.

ولديهم رغبة بالتكامل مع الأوروبيين بعكس الإنكليز الذين يفضلون إغلاق أبواب قلعتهم.

ولم يحمل أعباء هذه الهموم أحد أكثر من حلقة أدباء غلاسكو. وأذكر من بينهم ألاسدير غراي وابنه الروحي روج غلاس. وأضيف طبعا كاتب البوكر، والذي كان أول من توج بها إسكوتلاندا عن روايته "كم تأخر الوقت. كم تأخر".

و برأيي كان يشير بالعنوان إلى الزمن الإسكوتلاندي وإلى نضج الهوية الغيلية وانبعاثها على غرار بقية القوميات والوطنيات في أوروبا وجنوب أمريكا.

تعرفت على كيلمان عن طريق صديقه الدكتور سكوت هايمس والذي خصص له بيبلوغرافيا شاملة. وأعتقد أنها أفضل مدخل يضيء لك كيلمان، أو جيمي كما يحب أن يدعوه، ومن الداخل.

فنور القلب مثل النجوم للبدوي في الصحراء. تقوده إلى مأمنه حتى لو لم يكن معه نار. وكيلمان لا يهتدي إلا بمحبته وغرامه لإسكوتلاندا، جغرافيا الأرض، وشكل القبة السماوية، وهي تنفتح وتغلق أبوابها بين الليل والنهار. ولمزيد من الإعراب عن انتمائه سمح لشخصياته أن تعبر عن نفسها بصوتها الخاص. فاختار الكتابة باللغة الثالثة. وهذه المرة أستعير هذا الاصطلاح من عميد المسرح العربي توفيق الحكيم. ويضاف إلى ذلك الأخطاء الإملائية المتعمدة ليطابق بين الحرف وصوته المقابل. وبهذه الطريقة شق كيلمان لنفسه طريقه. وكان يحرص على تعديله بين عمل وآخر حتى وصل إلى لغة مشذبة ومعلقة بالهواء. لا هي فصحى ولا هي عامية، وقريبة من لغة الصحف والأفلام، وذلك في عمله المهاجر "طريق التراب" والذي تدور أحداثه في أمريكا.

وكان قد مهد لهذا الأسلوب بلغة مرتجلة، تتكلم شخصياتها ولا تفكر. أو تفكر ولا تتكلم. ولجأ إلى ذلك في روايته التي رشحت أيضا للبوكر وهي بعنوان "النفور".

ولا تحلو كتابات كيلمان من مورثات سلفه ألكسندر تروكي. كلاهما يشاغب ولا يضع العواقب بحسبانه، وذلك قبل أن يغمره الندم، ويتحول إلى فريسة لضميره. غير أن كيلمان يستيقظ من هذا الكابوس في كل مرة، ويراجع حساباته. بمعنى أنه لا يبت بأي أمر، ويتبنى سياسة النهايات المفتوحة، ويترك الأزمة مؤجلة حتى يجد الحل. وإذا انتهى تروكي لتدمير نفسه، وسقط في حفرة أدب الإيروتيكا والمخدرات (تيمنا بالأمريكي وليام بوروز مؤلف "الوليمة العارية")، يردع كيلمان نفسه ويكتب عن دايستوبيا سياسية، وبأسلوب تجريبي كما فعل في "تفاصيل مترجمة"، وهي رواية بدون أحداث وتعتمد على تبادل البرقيات على شاكلة "الصندوق الأسود" للإسرائيلي عاموس عوز.

بلغ كيلمان حوالي الثمانين عاما. وغطى في سنواته الأخيرة قضايا تهم البشرية، من مشكلة كردستان في العراق، وحتى ظاهرة الاتحاد الروسي. ولنكون دقيقين قلق أوروبا الغربية من الروس. ولكنه حافظ على إخلاصه لأبناء الطبقة البائسة وكتب عن محنتهم مع ظروف حياتهم القاسية بلغة يتقاسمها الإحساس بالتمرد الممتزج باللامبالاة المسؤولة - لا الوجودية، والقيام بالواجب الذي يفرضه عليه وعيه الاستثنائي لهوية حضارته وتاريخه.

وختاما برأيي جيمس كيلمان اليوم هو آخر الأحياء الذين حملوا مشعل رواية اسكوتلاندية بإطار أوروبي وإنساني.

***

د. صالح الرزوق

حلب 2025

للدكتور ناصر مؤنس

هل وَصَلْتَ؟

– لا، يا عَشَّابُ.

أنتَ على الطَّريقِ إلى الحُقولِ النائِيَةِ.

بهذه الجمل أستهل مقالتي عن كتاب العشاب للصديق العزيز دكتور ناصر مؤنس الذي تربطني به علاقة صداقة حميمية منذ العام 1999، يعني أكثر من ربع قرن من الزمان والسنين، حينما ساهم مع الفنان الشكيلي المهندس حقي جاسم من السويد في ربيع العام 1999 بمدينة أوسلو عاصمة النرويج بلد الفايكنغ في شمال الكرة الأرضية في مهرجان كلمة من بلاد الرافدين (Ord fra Mesopotamia) بأعمال تشكيلية وكذلك قام ناصر بتصميم ملصق المهرجان الذي استمر ثلاثة أيام. استمرت علاقتنا بعد ذلك حيث ساهم مع خمسة فنانين عراقيين في العام 2001 بمعرض في مدينة درامن (جنوب أوسلو 40 كم).

يمتاز الفنان ناصر مؤنس (أبو إيكار) بأسلوبه الصوفي في معظم أعماله المبنية على قصائد شعرية يكتبها ويصوغها بطريقته الخاصة. وهذا مايميزه عن بقية الفنانين التشكيليين. يجمع ناصر بين الشعر الحر والفن التشكيلي الغرافيكي، وهذا قلما ونادرا ما نجده عند الفنانين التشكيليين والشعراء.

ان الصياغات الصوفية القائمة على الاستعارات الصريحة والمكنية تسبغ رونقا خاصا على أعماله الجميلة. قد يتبادر في البداية الى ذهن القارىء بأن فكرة الكتاب تعود الى بحث جلجامش السومري عن سرمد الحياة (يتفق معظم المؤرخين أن جلجامش كان ملكًا تاريخيًا لدولة الوركاء السومرية، وأنه حكم لفترة من الزمن خلال عصر فجر السلالات (2900-2350 قبل الميلاد)، ولكن بعد التعمق في فهم ما يجول في خاطر صديقنا ناصر مؤنس يفهم قصده وسره الصوفي.

العُشْبُ لُغَةٌ حينَ يَضيعُ الكلام.

يقول: العَشَّاب.

(هو)

يُنْبِتُ بُذورَ الكلمات، ويَجْهَلُ ما ستكون عليه الثَّمَرة.

 لربَّما أنك باحثٌ في الأغصانِ

عما لا يَظْهَرُ إلا في الجُذُور "

جلالُ الدينِ الرومي (ص 4)

أن الاستشهاد بمقولة جلال الدين الرومي تسبر غور فكرة هذا الكتاب وتكون مفتاحا لفهم المقصود. ولهذا تراه يطوف في أرض الله الواسعة لعله يجد غايته في فهم العالم السفلي والعلوي كما هو في النص التالي:

" أراد أن يَكْتُبَ عن بُقاعٍ شاسعةٍ، ومَجَرّاتٍ بعيدة.

نْذُرُ حياتَهُ للشِّعْر والأسفار، للطَّبيعةِ المَوْلُودَةِ من جديد،

ولسِحْر الفَضاءِ غير المُتَناهي.

أراد أن يَطُوفَ في الأرض بلا غاية." (ص 5)

وعندما نتمعن في الجملة السابقة أعلاه ندرك الهدف من سفر العشاب في بقاع العالم المختلفة كما جاب بقاع الأرض الملك جلجامش بحثا عن عشبة الخلود.

" اسْتَرْخى قربَ جِذْعِ شجرة،

شاعِرًا بالامتنانِ للعَتَمَة.

رأى الأثرَ الذي يَرْسُمُه ظلُّ قاربِ يُبْحِرُ في بحيرة.

رأى أطيافَ العالمِ تَلْمَعُ على قماشِ روحِه.

رأى الإلهَ يَجْلِسُ وسطَ زهرة.

سَمِعَ البَدائيَّ يقول: الإلهُ في الرَّعْدِ والنار.

سَمِعَ الساحرَ يقول: الإلهُ كامِنٌ في الكلمات.

سَمِعَ الحكيمَ يقول: الإلهُ مُجَرَّدُ حَدْسٍ، وعلينا ألاّ نُؤمِنَ بما

لا نستطيعُ إثْباتَه.

سَمِعَ الشاعرَ يقول: بَصيرتُنا لا تَعْبَأُ بمُكَافآتِ الرَّبّ.

سَمِعَ الآثاريَّ يقول: كانت لدينا ثقةٌ أ كبرُ بالأسطورةِ قبلَ

اكتشافِ الدين.

سَمِعَ الفلكيَّ يقول: رُوّادُ الفضاءِ هم البحّارةُ الأوائلُ في بحر الكوا كب.

سَمِعَ المُحاربِ يقول: نَعْرفِ الآنَ أنّ فِكْرَةَ القَتْلِ قد تمَّ

تصنيعُ ها في الأفرانِ النَّوويةِ للأديان.

أُنظُرْ كيف تَحْفِرُ الروحُ الأرضَ الرطبة،

كيف هبطَت الملائكةُ من السماء،

ومن الصرخةِ التي أطلقَها الإنسانُ الأول، وُلِدَ الإله:

صوتُ "الأنا" القادمِ من وراءِ الحياة.

أُنظُرْ إلى الصمتِ الذي يقعُ في الجانبِ الآخر من الزُّرقة،

إلى الطبيعةِ غير المُرَوَّضة، وسُكوتِ المجهول.

أُنظُرْ: الظُّلْمةُ تَزْدَري البهاءَ الذي لم تَنَلْ حَظْوَتَه،

والغِلظةُ التي تَنْتَصِر." (ص 7)

بعد استرخاء العشاب تحت ظل شجرة سمع أصوات مختلفة قادمة من الماضي السحيق بدأت تحاوره وتشرح له أسباب وجود مختلف الكائنات والظواهر الطبيعية وغير في هذا العالم الذي لا يمكنه ادراكها وفهمها بمحض نفسه وتفكيره الذي لا يمكن أن يصل الى هذا المستوى من التألق والفهم. ولهذا لا يود العشاب التحدث عن التشابه بين الآلام والأفكار، وإنما يريد أن يتكلم عن أوراد الصوفيون التي يتلونها في حلقات الذكر الجماعية أو في خلوتاهم الفردية في صوامعهم وبلوغهم حالة الاندماج الروحاني والاتحاد بالخالق الأحد. وكذلك التحدث عن أعشاب الشفاعة والخلاص من العالم الدنيوي الى عالم التألق الروحاني.، كما هو في الأبيات التالية:

"لا يُريد أن يتحدّثَ عن التَّشابُهِ بين الآلامِ والأفكار،

يُريد أن يتكلَّمَ عن الأورادِ الوَهميّةِ التي يُبدِعُها الصوفيّون،

عن أعشابِ الشفاعةِ والخلاص،

عن الدَّمِ الذي يَقْطُرُ من شجرةِ الحياة،

فتتحوّلُ القطراتُ إلى أزهار ورد

عن الكلماتِ المُطَرَّزَةِ على ألواحِ الصلوات. " (ص 9)

وبعد جهد جهيد والبحث المضني والدؤوب عن عشبة الخلود توصل العشًاب الى القرار التالي:

" لا يُريد أن يَبحثَ عن عُشبةِ الخلود،

يُريد أن يَصنعَها.

جَمَعَ السِّحرَ والعَقاقير،

جَمَعَ الأضاحي، مِسكَ الجِنِّ، الإيمانَ، الجَزَعَ البَدائي،

جَمَعَ التُّرابَ، الرمادَ، الحكمةَ والعدالة.

جَمَعَ الورد والقراص والخشخاش وسنبل المحبة.

أصغى إلى الافتِتانِ السِّريِّ، الخافِتِ، الوَديع،

وأراد أن يَصنعَ تِرياقَهُ الخاصَّ لشفاءِ الروح.

تَذكَّرَ الأسلافَ الذينَ عرَفوا طريقَ الغابات.

تَذكَّرَ أجدادَهُ الموتى، وهُم يَظهَرونَ بأجسادٍ شَفيفة.

تَذكَّرَهم كيفَ يمرُّونَ عبرَ الجُدران، والأشجار، والأشخاص.

تَذكَّرَ أرواحَهم تَسمَعُ شَدوَ الطبيعة،

وتَرقصُ على إيقاعِ ماضٍ بعيد.

تَذكَّرَ خَيالاتِهم مُرتديةً أوراقَ حشيشةِ القروح،

تَذكَّرَ الصلواتِ الخافتة، الطقوسَ الغامضة، قوَّةَ الإيحاء،

تَذكَّرَ ضيوفَ الأولياء وأحلافَهم.

وضَعَ يَدَهُ على فمِ القصيدةِ لِتَصمُت،

وأوقَدَ نِيرانَه. " (ص27-28)

ولا يزال العشًاب يفتش عن عشبة الخلود في غابات الأرض المتناهية الأطراف ذات الأبعاد الهندسية الكبيرة، توقف برهة وهو يفكر ويلتقط أنفاسه من السعي الحثيث للحصول على أكسير الخلود.

"حَاوَلَ الْتِقَاطَ يَقَظَةِ التَّاريِخِ،

بَحَثَ عَنْ زَهْرَةٍ تُشْبِهُ حَيَاتَهُ.

فَتَّشَ بَيْنَ الصُّخُور،ِ

فِي المِيَاهِ العَميقَةِ،

عَنْ عُشْبٍ بَعِيدٍ عَن ضَجِيجِ السُّطُوحِ.

جَمَعَ هَدِيرَ الجَدَاوِلِ وَهَسْهَسَةَ المَاءِ،

حَفِيفَ اللهَبِ، أزَيِزَ الحَشَرَاتِ،

وَريِحَ النَّعْنَاعِ وَمَا يُتَدَاوَى بِهِ،

وَمَا تَكَسَّرَ عَلَى الأرَضِ،

وَمَا لاَ تَدُومُ خُضْرَتُهُ.

ثُمَّ أوَقَدَ نِيرَانَهُ.

اِسْتَنَدَ إِلىَ شَجَرَةٍ،

وَرَاحَ يَقْرَأ فِي دَفْتَر الذِّكْرَيَاتِ:

القَلْبُ كَاهِنٌ صَلَّى مِنْ أجَلِ الثَّمَرَةِ.

هُوَ ابْنُ فُيُوضَاتٍ،

وَحْدَهُ يَعْرفِ مَعْنَى اليَقِينِ المَوْجُودِ فِي الصَّلَاةِ.

وَحْدَهُ يَعْلَمُ أنَّ العُشْبَ مِثْلُ اللُّغَةِ.

وَهَا هُوَ يَدْخُلُ نَهْرَ الفَرَادِيسِ المُسْتَرَدَّةِ،

أرَادَ أن يَصْنَعَ دَوَاءً لِدَاءِ الرُّوحِ،

وَيَتَعَلَّمَ كَيْفَ يَمُوتُ ". (ص 44-45)

توصل العشاب الى أن:

" الصُّوفِيُّونَ،

الْمُتَعَبِّدُونَ،

آبَاءُ الصَّحْرَاءِ،

الزُّهَّادُ وَالنُّسَّاكُ،

هَؤُلاَءِ وَحْدَهُمْ،

سَادَةُ الرَّفْضِ.

عَشَّابُونَ،

يُشِيرُونَ إِلىَ الْأبَدِ،

وَيُطْلِقُونَ صَيْحَاتٍ نَحْوَ مُسْتَحِيلٍ

لَنْ يَسْتَطِيعَ أحَدٌ بُلُوغَهُ.

صُوفِي عَشَّابٌ،

لَبَّى دَعْوَةَ الْأثَير،ِ

وَمِنْ قَصْفَةِ الرَّعْدِ حَصَلَ عَلَى ضَوْئِهِ الْعَادِلِ". (ص62)

ويجوب العشاب الأرض والجبال والصحاري والفيافي، علًه يجد ضالته، ألا وهي عشبة الخلود. طما هو واضح من النص التالي:

العَشَّابُ يَطُوفُ بَيْنَ نَفَسِ الأرَضِ وَعِطْر البَرَاريِ يَبْحَثُ عَنْ

شِفَاءٍ أوَ قَصِيدَةٍ. هُوَ الوَرعِ، الحُرُّ، النَّزيِهُ وَالكَريِمُ، النَّقِيُّ

وَالحَالِمُ. لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْهُ النَّهَمُ. جَائِعٌ لِلثِّمَار فَقَطْ، وَلاَ يُريِدُ

افْتِرَاسَ كَائِنٍ " (ص70)

وكذلك:

" يَا حَاجُّ،

يَا حَاجَّ إِلىَ الْحُقُولِ النَّائِيَةِ،

أيَّهَا السَّيِّدُ الَّذِي يُعَلِّقُ نُذُورَهُ

عَلَى شَجَرَةِ الْكَوْنِ،

قُلْ لِهٰذَا الْعَشَّابِ،

لِهٰذَا السِّرِّ الرَّفِيفِ،

لِهٰذَا الرَّجَاءِ الثَّمِلِ الَّذِي يُثْقِلُ الْمُقَدَّسَ،

لِهٰذَا الْقَلَمِ الْمُلْتَفِّ بِوَرْدِهِ وَأوَرَاقِهِ،

لِهٰذَا اللَّوْنِ الَّذِي يَصُبُّ سِحْرَهُ

عَلَى رَق عَتِيقٍ،

لِهٰذَا التَّوَاطُؤِ بَيْنَ الْكَلِمَاتِ وَالْأعَشَابِ،

لِهٰذَا التَّنَاغُمِ الْأ عَظَمِ لِلْوُجُودِ،

لِهٰذَا الطَّوَافِ الَّذِي لاَ يَعْتَريِهِ تَعَبٌ". (ص 88)

وفي الصفحة 101، يقول ناصر مؤنس:

" إنّنا نؤمن بأنّ "طاقة الأعشاب "ضرورةٌ لحفظ حيويّة

الشعر، فهي التي تُعيد تشييد صروح الأمل فوق أرض

الخراب. وغالبًا ما يُشبَّه فعل الكتابة الشعريّة بشعاع نورٍ

ساطع؛ إذ يُتصوَّر الفعلُ الشعريّ كرؤيةٍ خالصة تحمل

ادّعاءً عظيمًا، هو ادّعاء تجاوز الزمن. لكن إلى جانب

استعارة النور، تعترف الثقافة الروحيّة باستعارة أخرى هي

استعارة القلب، التي تُلطّف من غطرسة العقل.

إنّ الأمر لا يستلزم عنفًا ولا ارتقاءً نحو حقيقة أسمى؛ بل

على العكس، التواضع هو ما يليق بالشعر. عليه أن ينزل

من عليائه ليتّصل بنمط آخر من المعرفة. ولتحقيق تلك

اللحظة الحميمة، ينبغي للشعر أن يستلهم من الحقول

المجاورة، أن يُصغي لما حوله كي يجد نفسه من جدي".

وينتقل أبو أيكار الى الشامانية المنتشرة في مناطق مختلفة من العالم مثل سيبيريا في روسيا الاتحادية وشمال أوراسيا وشمال آسيا، وتوجد أيضا في الأمريكيتين بين االهنود الحمر (لسكان الأصليين) واليابان

في ديانة السنتو والهند الصينية وكوريا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية.

" الشامانيّةُ من أقدمِ أشكالِ الرّوحانيّة. ولا إنسانَ كاملًا في

الروحانية، كما لا إنسانَ كاملًا في الشِّعر. ففي الروحانية

يُطِلُّ علينا الكائنُ في تاريخِه الكونيّ، في توقِه إلى الوجود.

وفي الشعر نلتقي بالإنسان الملموس: الفرد، الشغوف،

الخالق. الروحانيةُ تسعى وتهتدي بنور القلب، والشِّعرُ لقاءٌ

وإتقانٌ واكتشافٌ لنعمةِ الكينونة".(ص104)

وهنا فهم العشاب أن السعي للحصول على عشبة الخلود ليس بالسهل وما عليه إلا أن يتعايش مع الواقع ويسلك طريق العمل من أجل سعادة نفسه وغيره من البشر.

وأخيرا يكتب الصديق الدكتور ناصر مؤنس في ختام كتابه:

"هل تُقدّم المعرفةُ الروحية أجوبةً لأسئلة الشعر؟

لا جوابَ واحدًا صحيحًا. فالقصائد لا تُطالِب قارئها بالقراءة،

بل هي التي تقرأُ قارئَها، حيث يلتقي العقلُ بالجسدِ

والرّوح. أمّا جوابي فهو: اجعل القصيدة علاجًا، ولو كان بلا

برهانٍ صُلب. يكفي أن تؤمن بهذا العلاج لتُ شفى، لتشكر

الوجود على هِباته، ولتتلاشى المتاهة.

.» لا يُنهى أي عملٍ فنّي، إنما يُهجَر «: وكما قال بول فاليري

وأنا، في محاولتي هذه، لا أنهي الكتاب، بل أهجره، أضعه في

منامٍ بلا صحو".(ص 107-108)

اسم الكتاب: العَشَّاب – (حاجٌّ إلى الحُقولِ النَّائيةِ)

شِعرٌ وتَرجَمَةٌ غُرافيكيَّة.

اسم المؤلف: ناصر مؤنس

تصميم الغلاف: ناصر مؤنس

الطبعة الأولى: 2025

الترقيم الدولي: 9781326155087

الناشر: دارمخطوطات

***

د. سناء عبد القادر مصطفى

ورواية (نهر الرمان) لشوقي كريم..

يعد الموت في الفلسفة والأدب، لحظة كشف للمعنى، لا مجرد نهاية بيولوجية.. فهو الحدّ الذي تتعرّى عنده الأسئلة الوجودية الكبرى: من نحن؟ ولماذا نعيش؟ وما جدوى الوجود إنْ كان مصيره الفناء؟..

في الفلسفة، رأى (هايدجر) الموت، إمكان الوجود الأصيل.. لأن الإنسان لا يكتشف ذاته إلّا حين يعي حتمية موته..

أمّا (أفلاطون) فعدَّهُ تحرّراً للروح من سجن الجسد.. و(نيتشه) جعَلَهُ شرطاً لتجدّد الحياة.. إذ لا تولد القيم إلّا من رماد الفناء.. وهكذا صار الموت مرآة الوجود، ومقياس التجربة الإنسانية..

وفي الأدب، تحوَّلَ الموت مِن حدث مأساوي إلى تجربة تأويلية.. كما في (جدارية) محمود درويش، و (نهر الرمان) لشوقي كريم حسن.. حيث يُستعاد الموت، لا كفناء، بل كحوار مع الغياب ومعنى البقاء.. فهو في النص الأدبي رمز للتحول والعبور، وفي الشعر والرواية يصبح لغة أخرى للحياة، تنطلق بصمتها، وتؤكد أنّ الإنسان لا يموت إلّا ليكتمل وجوده في الذاكرة والمعنى..

وتنتمي رواية شوقي كريم حسن (نهر الرمان)  إلى تيار سردي يرى أن الحقيقة لا تُقدَّم جاهزة، بل تُنتَج عبر التأويل.. ولذلك لا يظهر الموت في (نهر الرمان) بوصفهِ واقعة، بل بوصفهِ فضاءً للمعنى يتحرك فيه السارد والقارئ معاً..

ووفقاً للهرمينوطيقا الحديثة المتمثلة في فلسفة (غادامير، وريكور) فهم يرون أنَّ الحدث لا معنى له بذاته.. بل يصبح ذا معنى حين نؤوِّله.. وهو جوهر معالجة شوقي كريم حسن، الذي يرى أنَّ الموت ليس ما يحصل للجسد، بل ما يحصل للدلالة، والموت كتأويل لا كصدمة..

وفي الرواية، تنشأ لحظة الموت باعتبارها نقطة الانكشاف التي تنسحب منها كل الأقنعة.. فلا يموت أحد فجأةً؛ بل ينكشف موته في الروح واللغة والذاكرة، كما لو أن الموت نافذة، أو مرآة، أو نصّ ثانٍ يُكتب في الظلال.. وبهذا يتحول الموت إلى تفسير عميق للوجود الإنساني، تفسير للعلاقة بالآخر.. وتفسير للخيبات.. ولخراب المدن.. ولفساد القوانين.. وللهشاشة الإنسانية.. فالموت إذن، ليس حدّاً، بل تأويلاً للعالم..

والنهر في الرواية ليس عنواناً فقط، بل كيان صحيح يشتغل كأداة تأويلية.. وشاهدٌ لا يموت.. بينما يموت البشر، يبقى النهر حياً، مما يجعله قادراً على قراءة ما لا يستطيع البشر فهمه..

والنهر مؤوِّل التاريخ، وكل موت يسقط قرب النهر يتحول إلى (نص) يقرأه النهر ويحتفظ بدلالته.. هو أرشيف غير مرئي، يعيد ترتيب ما تنهار له الذاكرة الجمعية..

والنهر قانون فوق القوانين.. لأنَّ قوانين الإنسان قد تُلغى وتُبدَّل وتُسوَّف.. أما قانون النهر فهو ثابت.. ما يسقط فيه يعود إلى جوهره.. وهذا ما يمنح النهر معنى القانون الطبيعي الأخلاقي، الذي يتفوق على القانون البشري المأزوم والملوث..

والموت من منظور الوجودية التأويلية، وخاصةً عند (هايدغر، وريكور)، هو أوضح لحظة للذات.. والإنسان في الرواية يظهر ككائن لا يفهم نفسه إلّا في لحظة المواجهة مع نهايته.. فالموت هنا ليس عدواً، بل يفسّر للذات ويوضّح للإنسان ما عاشه، وما ضيّعه، وما تمنى أن يكونه.. ويعيد ترتيب الذاكرة.. فتتحول الحياة إلى دفتر أخير يعاد كتابته وهيكلته: المحبة، الخيانات، الوطن، القوانين المكسورة، والأحلام..

فالموت يعيد ترتيبها وفق ما يسمى بدائرة الفهم التي تجعل النهاية تفسيراً للبداية.. والموت يعرّي زيف القوانين، فحين يقترب السارد من الموت يكتشف أن القوانين التي عاش تحتها ليست عادلة.. وإنّ الزمن السياسي كان وما زال غامضاً.. وإنَّ العدالة لم تتحقق.. والموت يصبح معيار الحقيقة لا يترك مجالاً للمجاملة ولا للنفاق..

وإنَّ المقارنة التأويلية مع جدارية محمود درويش ليس تشابهاً تقنياً، بل وجودياً.. فالاثنان يواجهان الموت بوصفهِ كتاب معنى.. كديوان أو نص روائي.. ففي ديوان (جدارية) لمحمود درويش، يفتح الموت باباً للنص: (هذا هو اسمك).. فالنص يعيد الإنسان من الموت إلى المعنى..

وفي رواية (نهر الرمان) لشوقي كريم حسن، يعيد النهر كل موت إلى جذره الدلالي.. كأن كل موت يحتاج إلى تأويل..

والموت عند درويش محاورة.. وعند شوقي، قارئاً صامتاً، بينما النهر هو الذي يتكلم بدلاً عنه.. وكِلا النصين يعتبر الموت فرصة أخيرة لفهم الحياة لا لإنهائها.. لكن الفرق الجوهري هو أنَّ درويش يواجه الموت فردياً من خلال الجسد واللغة.. بينما شوقي يواجهه جماعياً من خلال معاناة الإنسان وخراب المدن..

وذاكرة العراقي الذي عاش الموت يومياً لعقود طويلة، وبكل أنواعه.. فالموت في رواية (نهر الرمان) مساحة للفهم، لا للحضور والعدم.. وهو تفسير يقدّم الحقيقة التي تهرب منها الحياة.. والنهر عقلٌ رمزي يرى ما لا يراه البشر.. وإنَّ القوانين زائلة، لكن قانون الموت ثابت.. ولذلك فهو أعدل من كل قوانين البشر..

وفي الرواية، الموت ليس هزيمة، بل يتشكل من الألم.. وهو فرصة أخيرة لقول الحقيقة..

ورواية (نهر الرمان) تؤسس لرؤية تأويلية تجعل الموت أفقاً معرفياً، لا نهاية مادية.. وتقرأ الموت بوصفهِ كشفاً وتفسيراً، لا استعادة للذاكرة.. ومحكمة أخيرة للمعنى.. وبهذا تصبح الرواية جدارية عراقية، تقف إلى جانب جدارية درويش، ولكن بصوت محمّل بتجربة الأرض العراقية، وذاكرة إنسانها ومعاناته في الاضطهاد والحروب والإرهاب والدم.. وتكشف التشوّهات التي خلفتها الحروب والخوف من السلطة المتجبرة، وهروب وضياع الإنسان في الشتات والمهاجر..

والقاص والروائي (شوقي كريم حسن) في كل رواياته وقصصهِ القصيرة، دائماً ما يعرّي الواقع، ويمثّل أدبه سرداً إنسانياً غاضباً، يعكس وجدان الإنسان العراقي في أكثر من نصف قرن من الاضطرابات..

إلّا أنه في رواية (نهر الرمان) جعلَ من الموت منظومة من المعاني والتأويلات، ليواجه الإنسان من خلاله حدوده القصوى.. لأنه ليس نهاية الإنسان، بل ليكتب من خلاله آلامه وعذاباته ويقينياته..

فتعد هذه الرواية بحق، نَفَس جديد يصبح فيه النهر مساراً للوعي، لا مجرى، فيغدو مرآة للذات وهي تواجه وتتأمل معنى نهايتها.. وشوقي كريم حسن نجح حين لم يكسر النسق السردي، بل أعاد تشكيله، بحيث ظلت الشخصيات واقعية، لكن رؤيتها للعالم تنفتح على أسئلة وجودية.. بعد أن جعلت الموت تجربة معرفية، لا حادثاً وفقداناً..

فالرواية عمّقتْ الأسئلة الفلسفية، ونجحت حين جعلت للموت معنى لا نهاية.

***

حسين علاوي

 

التمثيل التخيلي لمستويات دلالية مركبة

الفصل الأول ـ المبحث (6)

***

توطئة: يتمظهر النص الروائي في أجزاء وفصول رواية (حياة الكاتب السرية) من جلة مكونات وعناصر خاصة من النمذجة التي يقترحها التفاعل الدينامي بشكل متراتب وذي تأثير متبادل وروح الخلايا المركبة من جزيئات البنيات التكوينية والعلامات والأخبار والتقارير التي تخضع في نمو مسار معطيات السرد إلى سنن توالدية وتحولات ومواريات سردية وخطابية متعددة في مستوى الإحالات والعلاقات الأكثر غورا في منظومة عضوية حالات وبنيات السرد الروائي.

ــ آليات الحكي وتفاصيل حكاية قديمة

تكشف لنا النتائج الدراسية التي توصلنا إليها في بعض مباحث دراستنا السابقة للرواية موضع بحثنا فتوصلنا في هذا المبحث إلى محورية (آليات الحكي) الذي كشفنا فيه عن مختلف المحكيات التي تكونت في مسار المتن السردي من الانساق والتخييلات في الأنماط التالية (النسق الواقعي ــ الاشارات الزمنية ــ نموالشخصية وتطور طباعها ــ اتساع الوصف ــ الحوافز الظهورية والضمنية) بوصفها أفاقا لاشتغال تقنية (تداخلات وتعالقات المغامرة السردية) بلوغا نحو محكي المتن وما تتمظهر من خلاله من مواضع ومواقع حياة الشخصية الروائية ناثان فاولز ونزوعاته وعلاقاته اللامشخصة إزاء حكايات وعقد جرت في تفاصيل زمان غير محدد شكلا ومدلولا.

1ـ الداخل الشخوصي ومسافة الأشياء الحادثة:

من خلال استعراضنا لحياة الشخصية فاولز عبر تمظهرات حيواته المغلقة على تواريخ زمن لا يمكننا ترجمته إلا من خلال وسائط شخوصية وعقدوية تتمثل بأشد أوجه الانماذج الضدية المنشطة من خلال تفكيكية وتماسكية هجرانه لحياة الكاتب دون ورود مقدمات من شأنها تبرير ذلك الانفصال بين الكاتب وزمنه التخييلي بصورة مفاجئة. نتبين من خلال محكيات الرواية أن فاولز كان مبتئسا من: (ولى زمن الألفة ومعاقرة المشروب معا في أجواء من الفرح ومودة السكان الاعتيادية. حتى دفء الطقس المؤنس هجر المكان. بات الشك والارتياب يهيمنان على الجو في كل مكان. وقد ازدادت حدت التوتر اليوم حين عنونت صحيفة أسبوعية محلية موضوع غلافها ــ أسرار جزيرة بومون السوداء ــ. / ص 115الرواية) على هذا النحو كان جميع أهالي بومون يصابون بالجنون إلى جانب الخوف من وجود قاتل بارد الدم بينهم على الجزيرة. بهذا المعنى تتصاعد وتيرة الخوف من الداخل والخارج الشخوصي وعلى مسافة مخبوءة من تطورات الأحداث الروائية والأوصاف للأشياء المؤثرة: (دفعني صوت التنبيه الصادر من هاتفي إلى الخروج من تحت كومة الأغطية، فركت النوم من عيني قبل أن أكتشف ما ظهر على الشاشة. كان لوران لافوري قد نشر توا مقالتين متتاليتين.. دخلت إلى مدونته. كان منشوره الأول يستعرض صورة لوجهه المتورم. فقد روى أنه كان ضحية اعتداء تعرض له في الليلة السابقة ــ وقد زعم أن مجموعة من الزبائن هاجمته، متهمة إياه بتأجيج الهوس الذي بدأ يستولي على الجزيرة بتغريداته. / ص116 الرواية) إن ما يميز هذا الشكل الإنتاجي هو ارتباط المنتج بظواهر متبدية ومحاقبة، أي ما يعدها كمؤشرات في صلب استراتيجية الإنتاج، بلوغا نحو جملة علاقات وأواصر تصب في حيز السنن المتبدية كأدلة جزئية داخل المتبدي والمحاقب، بمعنى ما أن وحدات السرد التي كان يتابع السارد المشارك قراءتها من على الشاشة هي سيرورة الإدراك إلى ذلك الواقع المصاغ في التفكير والسؤال المداري، كما هو الحال مع مدارات أخرى من الوقائع: (لم يكن لافوري مخطئا في استنتاجه الأخير، لا بل كان متبصرا. كان الصحافي يرصد مشاعر الكراهية ويجسدها. يعيش في الوقت نفسه لحظة مجد ومعاناة حقيقية. كان يظن بحق أنه يؤدي واجبه المهني ليس إلا. / ص117 الرواية).

2ــ أبولين شابوي وكريم عمراني سيرة ذاتية مضللة:

تطفح على مستوى مدارية المتن الروائي حكاية أبولين شابوي وزوجها كريم عمراني ومن خلال ما قرأنا من سيرة أبولين شابوي نلاحظ أن هناك معطيات سردية تتعلق بكيفية ووسيلة اقترانها  بكريم عمراني كزوجا: (أما المقالة الثانية التي نشرها الصحافي فكانت عن التحقيق الذي تجريه الشرطة، وبنوع خاص التحقيق في شخصية الضحية وقصتها: في العام 1980 ولدت أبولين شابوي، وكانت شهرتها مرينياك قبل الزواج. أرتادت مدرسة سانت كلوتيلد ثم ثانوية فينيلون سانت ماري. كانت فتاة خجولا ولامعة ــ خلال سهرة للطلاب تعرفت إلى كريم عمراني، وهو تاجر مخدرات صغير يجري الصفقات عند جادة لاشيابيل ووقعت في غرامه. / ص117الرواية) تخبرنا الرواية من خلال الوحدات الخاصة بكريم عمراني بأنه ترك تحصيله الدراسي في مجال الحقوق، وهو متحدث حصيف، غالبا يبدو شارد الذهن، يميل إلى اليسار المتطرف، من عادته الشروع في الأحلام، فكان يحلم بأن يصبح فيدل كاسترو. أصبحت أبولين أكثر تغيبا عن حصصها وانتقلت لتسكن معه في كوخ وضيع في شارع شاتودان، شيئا فشيئا أصبح كريم عمراني يتعاطى المخدرات وكان يحتاج دائما إلى المزيد من المال لدفع ثمن جرعاته. غرقت أبولين في حياة منحرفة رغم الجهود الكثيفة التي بذلتها أسرتها لإخراجها من هذه الأجواء. بدأت ممارسة الدعارة ولكن سرعان ما لم يعد المال الذي تجنيه منها كافيا، فأصبحت متواطئة مع كريم وغاصت مع في حياة الشرذمة والانحراف. غدا السارد المشارك غاطسا في تفاصيل سيرة أبولين شابوي وكريم عمراني وإلى درجة ينأى بجريمة قتلها خارج حدود جزيرة بومون وسكانها.

ــ كشوفات الموقع الشخوصية وصراع خفايا الرسائل

تمنحنا الوحدات السردية في الفصول الروائية من رواية (حياة الكاتب السرية) ذلك التحول في علاقة ناثان فاولز بالسارد المشارك، خصوصا وهو الأخير الذي تصدى له فاولز عندما حاول التسلل إلى منزله وقد قام فاولز حينها بأطلاق رصاصة نحوه في الموقع الحجري الذي يفصل ما بين شاطىء البحر ومنزله، ولكنه اليوم أي ــ فاولز ــ راح يستقبله بحفاوة كبيرة لم يعهد لمثلها من قبل السارد المشارك: (دعاني فاولز إلى الجلوس وجلس قبالتي: ــ سأدخل في صلب الموضوع، خاطبني وعيناه تحدقان في عيني إن استدعيك إلى هنا، فذلك لأني بحاجة إليك؟. / ص121 الرواية) نتبين من خلال تلك الجلسة الحوارية التي استغرقت تقريبا من الصفحات (ص121. ص122. ص123. ص124) جملة محكومة بغاية الرجاء من فاولز نفسه (أنا بحاجة إلى مساعدتك) وبعد زمن من الحوار نكتشف حجم الخطورة في طلب فاولز من السارد المشارك الذي كان يساوم فاولز بالمقابل من إسداء هذه الخدمة له. كان رفاييل ــ السارد المشارك ــ قد وضع حقيبة في المرة الأولى من لقائهم الأول تحتوي على مسودة روايته الأولى: (ما أريده هو أن تقرأ مخطوطتي؟ بهدوء فتح فاولز الحقيبة لإخراج الرواية التي رميتها له خلال لقائنا الأول: لقد قرأت نصك أيها الصغير! أجابني والبسمة مرسومة على شفتيه. أعطاني مخطوطة ــ خجل القمم ــ والسرور باد على وجهه لأنه تمكن من الإيقاع بي. / حسنا هل ستقبل بمساعدتي، نعم أو قطعا لا؟ بكل جدية، حدق فاولز في عيني من دون أن يرمش له جفن: ــ ماذا تريدني أن أفعل؟ ــ أولا، أريد منك أن تستعلم عن امرأة من هي؟ ــ صحافية سويسرية موجودة على الجزيرة أسمها ماتيلد موني. / ص126 الرواية) على أساس من هذا، ينمو فعل بحث رفاييل في المنزل الذي كانت تسكن فيه ماتيلد موني، ذلك بعد خروج صاحبة المنزل العجوز بصحبة امرأة مسنة إلى الكنيسة. وبعد صراع رفاييل في البحث في مقتنيات غرفة ماتيلد تمهدها مطاردة ذلك الكلب له داخل المنزل، وبعد البحث المضني: (كان من الواضح أن ماتيلد تجري تحقيقا حول فاولز. لم يكن هناك جهاز كمبيوتر على مكتبها، ولكن كانت هناك العشرات من المقالات المطبوعة المظللة بقلم ستابيلو، كنت أعرف هذه الأوراق، إنها تلك التي كانت تظهر دائما حين أجري بحثا في شبكة الأنترنيت: المقابلات القديمة نفسها من حقبة التسعينيات التي أجريت قبل أن يعتزل فاولز الكتابة، ثم مقالتان مرجعيتان الأولى نشرتها صحيفة ــ نيويورك تايمز) في العام 2010 بعنوان ــ الرجل الخفي ــ والثانية نشرتها ــ فانيتي فير الأمريكية قبل ثلاث سنوات بعنوان ــ فاولز أو خطأ والعكس صحيح ــ / ص136 الرواية) كما سنلاحظ أن هذه الشخصية رفاييل بأعتبارها فاعلا ذاتيا تزاوج ــ على طول خط السرد ــ بين السرد والتبئير، فهي التي تتكلم وهي كذلك التي ترى، وسيتم من خلالها نقل أغلب الخطاب الروائي لهذه الرواية.

ــ تعليق القراءة:

تتجلى فضاءات رواية (حياة الكاتب السرية) من خلال أحداثها وأفعالها ومحاورها الزمنية والمكانية والشخوصية وحبكتها البوليسية التي تحتل المراحل الغامضة من زمن الرواية. فالحكاية الروائية تتبع سياق تسلسل الأحداث، تمتاز بموضوعة روائية كبيرة في البناء والأسلوب والنمو الدلالي. الرواية كأصوات سردية تطل من على المشاهد ضمن أداة الناظم الخارجي ويتحول بدورها إلى ناظم داخلي عندما يسجل آثار التحولات والأفعال في الرواية. سوف يواجه القارئ عند قراءة الرواية مدى تجليات الرؤية السردية وتصورات الفعل الروائي وهو يتأرجح في حدود التماهي بين شخوص الرواية وخطابها التشويقي في السرد والتبئير والتنصيص المركب.

***

حيدر عبد الرضا

قراءة في رموز واسقاطات النص

من بين الوجوه الأدبية التي لفتت انتباهي في الآونة الأخيرة، يبرز اسم رضوان علوي بوصفه أحد الاكتشافات الإبداعية المدهشة التي تعرفت إليها خلال ملتقى الشعر عن غزة الجريحة. لقد كان حضوره هناك أشبه بشعلة داخل عتمة، إذ قدّم عرضاً ذا طبيعة مسرحية تقترب من روح المونودراما، عرضاً ترك في نفسي أثراً لا يزول، بما حمله من حرارة الأداء وصدق الانفعال وقدرته على تحويل الجرح الفلسطيني إلى طاقة درامية نابضة. ولعل هذه القدرة ليست وليدة اللحظة، فالرجل ينشط منذ سنوات في المسرح والمونودراما والسيناريو، ويُتقن تحويل الكلمة إلى فعل مسرحي، واللحظة إلى مرآة تتقاطع فيها الذات مع صدى العالم. ولم يكتفِ علوي بالخشبة، بل اتجه إلى الكتابة، فكان من آخر أعماله كتاب مشوق بعنوان «مذكرات رجل خمسيني» الذي يبدو أقرب إلى السيرة الذاتية، وقد أثار فضولي بالتوازي مع الكتاب الذي نحن بصدد قراءته الآن: «لن أذهب إلى كانوسا» الصادر عن دار هيبوريبجيوس سنة 2025. عنوان هذا الكتاب وحده كان كافياً ليشدّني قبل القراءة، لما ينطوي عليه من موقف، ولما يستدعيه من رمزية تاريخية، ولما يحمله من إيحاءات سيادية تتعلق بعلاقة الدولة بذاتها وبالآخر. وقد دخلت عالم النص وأنا أحمل قناعة مسبقة بأنني أمام عمل مشبع بروح الأنفة والاعتزاز، تلك الروح التي عبر عنها رئيس الجمهورية في إحدى تصريحاته حين أكد أن كرامة الشعب والجزائر، أرض الشهداء، خط أحمر لا يُمسّ.

ومع التوغل في النص، تتبدى منذ الصفحات الأولى بنيته العميقة، بنية تقوم على خطاب درامي متوتر، يتخذ شكل المونودراما التي يواجه فيها البطل ذاته، وصوراً غامضة، وأصواتاً تتخلل ذاكرته. في الصفحات 7 إلى 15 يفرض النص نفسه باعترافٍ ممتدّ تتصارع فيه صورتان: صورة الذات المتشبثة بالذاكرة الوطنية، وصورة الصوت المتقنع بحجة الانفتاح والتسامح وهو في جوهره امتداد ناعم للاستعمار. يقول السارد في الصفحة 10: «أنت وطن، والوطن لا يُباع ولا يُخدع»، وهي جملة تكثّف الصراع الوجودي الذي يشكل هيكل الكتاب: صراع الذاكرة ضد النسيان، الهوية ضد التلاشي، الكرامة ضد الخضوع. بهذه الثنائية، يعلن النص منذ بدايته أنه ليس مجرد خطاب سياسي، بل سرد وجودي يتجاوز الحدث نحو ما يسميه فلاسفة التأويل بالبنية العميقة للمعنى.

من خلال هذا البناء الدرامي، تنفتح القراءة السيميائية لتكشف شبكة العلامات التي ينسجها الكاتب بعناية. فالجزائر هنا ليست جغرافيا، بل أمّ حقيقية ورمزية في آن واحد. في الصفحة 8 أتت العبارة: «كانت أمي ترضعني معنى الكرامة مع اللبن»، لتجعل من الأم دالاً مزدوجاً يشير إلى الأم البيولوجية كما يشير إلى الوطن بوصفه حضناً للمعنى. أما فرنسا، فهي ليست دولة بل ظلّ يلاحق الذاكرة، وصوت يطالب بالنسيان. في الصفحة 20 يتجلى هذا التوتر حين يقول الصوت: «دعنا نفتح صفحة جديدة»، فيجيبه السارد: «دفتر التاريخ امتلأ بالدم، لم تبق فيه صفحة بيضاء». هنا لا تكون الصفحة البيضاء مجرد ورق، بل رمزاً لطلب محو الألم، في حين يتحول الدم إلى رمز للذاكرة الحيّة التي لا تقبل المساومة.

ويمتد الخط السيميائي ليشمل صورة الرئيس الذي لا يظهر كشخص بل كرمز. ففي الصفحات 30 إلى 35 يبدو الحاكم بوصفه امتداداً لروح الجزائر لا كفرد، فيرد وصفه بأنه «الابن الشرعي للأم الجزائرية» (ص 31)، مما يجعله داخل النص تمثيلاً لوحدة الشعب والسلطة في المعنى الوطني. ويحضر بومدين كطيف لا يغيب، كقيمة أكثر منه حدثاً، حين يرد في الصفحة 33: «ظلّ الجزائر الذي لا يغيب». وفي هذه الإحالات، ينسج الكاتب سلطة رمزية تتجاوز السياسي نحو الأسطوري.

غير أن الرمز الذي يشكل قلب النص هو «كانوسا». الامتناع عن الذهاب إليها ليس رفضاً لحادثة تاريخية، بل رفضٌ لجوهر الذلّ. في الصفحات 12 إلى 14 يتحول هذا الرمز إلى دعامة وجودية: فالذهاب إلى كانوسا ليس فعلاً سياسياً فقط، بل سقوط في الوجود الزائف عند هيدغر، في حين يصبح رفض الذهاب إليها إعلاناً لوجود أصيل، وجود لا يتخلى عن ذاته أمام ضغط الخارج.

وإذا كان القسم الأول من النص مشبعاً بالبعد السياسي والرمزي، فإن القسم الممتد بين الصفحات 40 و60 يأخذ طابعاً شعرياً يتأمل هشاشة الإنسان وقوة الكلمة. هنا يتصدر الشاعر المشهد بوصفه علامة سيميائية قائمة بذاتها، فهو ليس راوياً فقط، بل حامل ذاكرة. في الصفحة 43 يقول: «الكلمة أضعف من الرصاصة، لكنها تصنع موتاً أبقى»، وهي عبارة تشخص جوهر الكتاب: مقاومة بالكلمة، وأسطرة للشهادة، وتقديس للذاكرة. وتبلغ الرمزية أوجها حين تظهر فلسطين في الصفحة 58 بأنها «وطن في السماء»، وطن يتجاوز الخرائط، وطن يصنعه الجرح والحلم معاً.

وعند مقاربة النص مقارنةً بأعمال أخرى، يتضح انتماؤه إلى ثلاثة عوالم أدبية كبرى: عالم أدب المقاومة كما لدى درويش، عالم المسرح السياسي كما عند سعد الله ونوس، وعالم الالتزام الوجودي كما عند سارتر. لكنه يقترب أيضاً من رؤية فانون في «معذبو الأرض» حين يتحدث عن الاستعمار الذي لا يموت إلا إذا مات في الذاكرة، وهو ما نجده في الصفحات 18–25 حيث يحذّر السارد من محاولات «تبييض» التاريخ. ومع ذلك يختلف نص علوي في كونه يمنح الكلمة دوراً يعادل الفعل، والشعر مرتبة توازي المقاومة، وفلسطين مكانة سماوية ليست للتفاوض بل للإقامة الروحية.

وبعد هذا كله، يبدو أن «لن أذهب إلى كانوسا» ليس نصا خطابيا بل بناءً رمزياً معقداً، تحكمه شبكة من العلامات المتشابكة: الأم التي ترمز إلى الوطن، والوطن الذي يصبح ابناً، والرئيس الذي يتحول إلى مرآة، والشاعر الذي يتخذ شكل شهيد آخر، وفلسطين التي تطفو فوق الأرض، وكانوسا التي تغدو نفيًا وجوديًا. إنه كتاب يكتب الجزائر بوصفها ذاكرة لا تُنسى، ويكتب فلسطين بوصفها فكرة لا تنطفئ، ويكتب الإنسان بوصفه كائناً يرفض أن يتخلى عن جراحه لأنها شواهد وجوده.

***

ليلى تبّاني - الجزائر

يعدُّ فيلم "فاطمة" (Fatima 2020) للمخرج ماركو بونتيكورفو، أحدث معالجة سينمائيّة لواحدة من أشهر الأحداث الدينية في القرن العشرين (نهاية الألفيّة الثانية)، يقدم الفيلم توثيقًا دراميًّا للأحداث التي جرت في بلدة "فاطمة" في البرتغال عام 1917، حيث ادّعى ثلاثة أطفال من الرعاة هم: (لوسيا دوس سانتوس وابنا عمها: فرانسيسكو وجاسينتا مارتو) أنّهم شاهدوا أكثر من مرّة سيدة "مشرقة أكثر من الشمس" قادمة من الجنّة، وأخبرتهم بأخبار غيبيّة عن الحروب المستقبليّة وعن موت فرانسيسكو وجاسينتا وأمور أخرى، والتي تحققت بالفعل لاحقًا.

ترصد الدراما الصراع الذي واجهه هؤلاء الأطفال، بين إصرارهم على صدق مشاهدتهم وبين ضغوط السلطات العلمانيّة المعادية للدين في الجمهوريّة البرتغاليّة الأولى، وكذلك شكوك الكنيسة الكاثوليكية نفسها مع إنكار أهاليهم في بداية الأمر، ويبلغ الحدث ذروته فيما عُرف بمعجزة الشمس في 13 أكتوبر عام 1917، التي شهدها جمع غفير يُقدّر بمئة ألف أو يزيدون.

يستند هذا الفيلم وكذلك الرواية الرسمية للكنيسة إلى النص الأصلي الموثق لهذه الظهورات وهو "مذكرات الأخت لوسيا" (Memoirs of Sister Lucia) التي كتبتها بعد سنوات، تقدّم هذه الرواية تفسيرًا لاهوتيًّا كاثوليكيًّا للحدث، إذ عرّفت السيدة القادمة من الجنّة نفسها على أنّها "سيدة المسبحة" (Lady of the Rosary)، وطلبت من الأطفال الصلاة والتكفير عن الخطايا، وأوكلت هذا الأمر إلى لوسيا بوصفها رسولة المسيح إلى هذا العالم، وقد فسرتها الكنيسة الكاثوليكية رسميًّا منذ عام 1930 بأنّها السيّدة مريم العذراء.

غير أنّ هذا التفسير الكاثوليكي الرسمي يتجاهل مفارقات جوهريّة، تفتح بابًا واسعًا للتأويل، وأولى هذه المفارقات هو مكان الحدث، حيث يحمل اسمًا عربيًّا إسلاميًّا يعود إلى فترة الحكم الإسلامي في الأندلس، وتنسب الروايات التاريخيّة الشائعة الاسم إلى أميرة مسلمة (موريسكية) من القرن الثاني عشر تُدعى "فاطمة"، مما يضعنا أمام مفارقة أوليّة: حدث يُفسر مسيحيًّا، يقع في مسرح يحمل اسمًا إسلاميًّا، وهذه المفارقة مصحوبة بالانزياحات الرمزيّة والبصريّة التي يقدمها الفيلم نفسه – والتي سنناقشها لاحقا – تدعونا إلى تجاوز التفسير الرسمي نحو تحليل أعمق للرموز والخطاب.

لا تتوقف المفارقات عند الاسم وحسب، بل تتجلى بوضوح أكبر في النص البصري للفيلم الذي ينحرف عن النص الأصلي بطرق تحمل دلالات عميقة.

1-  من الأشواك إلى المسامير:

يذكر النص الأصلي، أنّ السيّدة أظهرت للأطفال قلبًا محاطًا بالأشواك، وهذه إحالة واضحة إلى تاج الأشواك الذي وُضع على رأس السيّد المسيح، والذي يجسّد آلامه، ولكن الفيلم، في معالجته الدراميّة، يظهر المشهد على أنّ السيّدة كشفت عن منطقة صدرها لتري الأطفال تلك المسامير النابتة في صدرها وجريان دمها، وهذا الترخيص الفني من المخرج ليس بريئًا من الناحية التأويليّة، إذ كان المخرج يهدف – على الأغلب – لربط آلام مريم بمسامير صلب المسيح، ولكنّه بقصد أو بغير قصد فتح بابًا لتناص مع سياق آخر تماما، ويحمل دلالات أخرى، فالمسمار رمز غائب عن لاهوت مريم العذراء، ولكنّه رمز محوري وحاضر بقوّة في الذاكرة الإسلاميّة الشيعيّة كأداة مرتبطة بآلام السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) في حادثة (مسمار الباب)، لقد استبدل الفيلم رمزًا مسيحيًّا خالصًا (الأشواك) برمز مشترك (المسمار)، وهو يمتلك إحالة أقوى في السياق الإسلامي الشيعي لحادثة الدار الفاطمي.

2-  مركزيّة المسبحة:

تعرّف السيدة القادمة من الجنّة نفسها على أنّها "سيّدة المسبحة"، وفي حين يُفسّر هذا مباشرة بـ"المسبحة الورديّة" (Rosary) الكاثوليكيّة، فإنّ هذا التوازي الوظيفي مع تسبيح فاطمة الزهراء في التراث الإسلامي الشيعي لا يمكن إغفاله نقديًّا (تأويليًّا)، فكلاهما عبادة ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالشخصيّة المقدّسة (مريم، فاطمة عليهما السلام)، وكلاهما يُستخدم كأداة للذكر.

3-  المعجزة "حادثة الشمس":

إنّ الدليل الأكبر الذي قُدّم للحشود (معجزة الشمس) له نظير نمطي مدهش في التراث الإسلامي، فظاهرة "سقوط الشمس" في الظهور الأخير للسيّدة تجد صداها في كرامة "ردّ الشمس" للإمام عليّ عليه السلام (زوج السيدة فاطمة عليها السلام)، إنّ تكرار نمط المعجزة الكونيّة الشمسيّة كدليل إثبات في كلا السياقين يربط سياق السيّدة في البرتغال بسياق "علي وفاطمة" عليهما السلام.

4-  تحليل الخطاب:

إذا كان الإطار الرمزي الخارجي (الاسم، المسمار، المسبحة، المعجزة) يهيئ المسرح لقراءة مغايرة، فإنّ الخطاب الداخلي للسيّدة في الفيلم يكاد يُصرّح بهذه القراءة عبر ثغرات عميقة:

أ- أزمة الهويّة: اللافت أنّ السيّدة لم تقل صراحة أنا مريم العذراء أو أمّ المسيح أو ما شابه، بل عرفت نفسها على أنّها "سيّدة المسبحة" مما يحيل إلى قراءة مختلفة تمامًا للحدث عن القراءة الكاثوليكيّة، والأكثر دهشة وغرابة من ذلك – كما يظهر في الفيلم - هو حديث السيّدة المتكرر عن مريم العذراء وكأنّها شخص آخر، وهذا (انفصام لغوي)، ويعدّ دليلا تأويليًّا قويًّا على أنّ الذات المتكلّمة ليست هي الذات المشار إليها (مريم العذراء عليها السلام).

ب- أزمة اللاهوت: يكشف خطاب السيّدة عن تناقضات مع العقيدة التي يُفترض أنها تمثلها، فهي تطالب الجمهور (الذي يُفترض أنّهم من المؤمنين) بالإيمان، كما حدث مع الطفل المقعد، إذ طلبت أمه من لوسيا أن تطلب له الشفاء من السيّدة، فطالبتهم السيدة بالإيمان ليُشفى الطفل، مما أثار استغراب الأم قائلة "ابني مؤمن!"، وهذا يشير إلى أنّ السيدة لم تطالبهم بتعميق إيمانهم، بل هي طالبت بالإيمان، مما يعني (ربّما) أنّها تطالبهم بإيمان مغاير عن إيمانهم.

كما أنّها طالبتهم بالتوقف عن إهانة الله، وقالت: "الله أبعد من أن يهان فعلا"، وهذا المفهوم غريب جدًّا، فالله لا يُهان بذنوب العباد، وهذه لغة أراها غريبة عن اللغة المسيحيّة، ولكنّها لغة قرآنيّة بامتياز، يقول سبحانه: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَّكُمْ ۚ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ ۚ سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۗ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا) (المائدة، 73)، والأغرب من ذلك إخبارها للوسيا بأنّها ستهديهم إلى ابنها، ولا أعلم كيف تهديم لابنها وهم يعبدونه في الأصل، فهل تريد الإشارة إلى أنّ كيفية اتباعهم باطلة؟، أم أنّها تقصد شخصًا آخر غير المسيح؟، هذا في حال كونها مريم، أم في كونها فاطمة الزهراء عليها السلام فالمسألة واضحة، وهذا التحليل يعضّد التأويلات المغايرة للرموز المذكورة في الحادثة الأصلية والفيلم السينمائي الذي جسّدها.

إنّ قراءة فيلم (Fatima 2020) بمعزل عن سياقه الرسمي الكاثوليكي، وباستخدام النقد التأويلي، تكشف عن نسق دلالي متكامل ومدهش، فعندما تجتمع الرموز التي حللناها مع الخطاب الداخلي فإنّنا نصل إلى ضرورة رمزيّة.

يخلص هذا المقال إلى أنّ فيلم "فاطمة" والنص الأصلي للحدث نفسه، بغض النظر عن قصديّة المؤلّف، هو نص مفتوح، يُنتج معنى يتجاوز تفسيره الرسمي، إنّه نص يروي قصّة ظهور حقيقي لمريم العذراء (بحسب التفسير الكاثوليكي) ولكنّه يضمر بقوّة قصّة فاطمة الزهراء (عليها السلام)، فإمّا أن يكون الظهور ظهورًا فاطميًّا أوّل بتأويل مسيحي، أو أنّه ظهور مريمي حقيقي، يضمر المعنى الحقيقي لهذا الظهور، وهو: فاطمة الزهراء، رمز الحبّ والسلام من جهة، والثورة على الظلم من جهة أخرى.

***

حيدر مجيد اليعقوبي – جامعة الكوفة – كليّة الآداب

للشاعرة اللبنانية دلال برّو الساحلي

تعتبر قصيدة «بحبوبِ المطرْ والرذاذُ فمي» نصّ غنائيّ يحاكِي تجارب الفقد والحضور المتردِّد، مع موسيقى داخلية تشدُّها مرجعياتٍ ثقافية وغنائية (بيتهوفن، «رسالة إلى إليزا»)، ومناخاتٍ موسمية (آذار، نيسان)، ورموز دينية ووطنية (مئذنة، «الله أكبر»، طقوس). منهاج القراءة هنا ينزع إلى فتح النصّ طبقةً بعد طبقة: الكشف عن دلالاته الظاهرة والباطنة، تتبُّع شبكة الصور والأساليب، وربط دلالاته بالبنى النفسية والدينية والوطنية التي تنزوي أو تندلع تحت الجلد الشعري.

1. التركيبة العامّة والصوت السرديّ:

١- الاسم الصوتيّ للقصيدة: صوت مُحاور مخاطَبٌ (أنتَ) — مخاطبٌ ثالثٌ غالبًا حنونٌ أو جارحٌ — والصوت الراوي/المخاطِبة يحمل مرارةً وحنينًا متقاطعين. تكرار صيغة الفعل «تركتَ يدي» يعمل كقيمة محورية تُعيدنا إلى فعل الانفصال المادي والرمزي: اليدُ هنا ليست فقط عضوًا بل رمزُ الفعل، رمزُ الحضور، رمزُ الإمساك بالعالم. تكرر العبارة يضخُّ لهيبًا من الخسارة ويحوّل الضياع إلى طقسٍ شعريّ.

٢- النّبرة: تُمزج فيها القداسة بالحنين واللوعة بالتهكّم الطفيف. الخطاب يسير بين السرد الشعري (صور الطبيعة، الشهور) والمخاطبة الموسيقية (بيتهوفن)، فيتشكّل نصًّا متعدد الأصوات: صوت عاشق، صوت متذكّر، صوت ناقد ذاتيّ.

2. البنية الموضوعية: الموسيقى، المطر، الشهور، واليد المغيَّبة:

١ - الموسيقى كإطار إشكالي:

افتتاح القصيدة بالإشارة إلى بيتهوفن و«رسالة إلى إليزا» يضع الموسيقى كقلبٍ للذاكرة والوجع. الموسيقى هنا ليست زخرفة: هي حافظة الذاكرة والمكث النفسي؛ هي «الزمان» الذي يعزف الحنين. «قد تركتَ يدي تعزف زوايا ومسامات» صورة تكثّف فكرة أن اليد المادية تترك أثرًا موسيقيًا/مكانيًا: الزوايا والمسامات مكانية وحسّية في آن، كأن الفقد يترك الخريطة التي تعبرها الريح.

٢ - المطر والرذاذ ـ أمواج الشوق:

العنوان ذاته «بحبوبِ المطرْ والرذاذُ فمي» يقوم بتفكيك الحواس: المطر كحبيبات (تفصيل، دقّة) والرذاذُ في الفم — صورة تُحوّل المطر إلى فعل كلامٍ أو ذوق: الشاعرة تتذوقُ الغياب. هنا تداخل حسيّ (سماعي/لمسي/ذوقي) يفضي إلى تجربة شِعريّة متعدّدة البُعد.

٣ - الشهور: آذار ونيسان ورمزية الربيع

تردُّ الشهور (آذار، نيسان) أكثر من كونها فواصل زمنية؛ هي رموز استدعائية: آذار (مارس) يرتبط بالذروة الشتويّة/بداية الربيع وأحيانًا في الذاكرة العربية بحدثية سياسية (مثلاً: حركة آذار/مارس في بلدان العرب أو دلالات وطنية محلية)، ونيسان (أبريل) يحمل وعد التفتح. قول الشاعرة «أنّ.. ربما أنّ / "نيسانَ" آتْ..؟» يدل على رهبة الأمل، على مفارقة: هل يأتي الربيع؟ أم أنّ الزمن قد تآكل حتى أمل الربيع صار احتمالًا متردّدًا؟ التردّد في الجملة النحوية (الشرط ـ الاستفهام ـ العلامة الإيقاعية) يعكس تقلب النفس بين انتظارٍ ويأس.

3. البُنى الأسلوبيّة والصوتيّة:

١- التكرار (أنفورّا): «تركتَ يدي» — تكرار يبني إيقاعًا وصدىً دراميًا، يُرسّخ فعل الفقد كطقس متكرر.

الاستطراد/القطع: الترقيم المتقطع، والشرطات، والمواضع النثرية تُشبه موسيقى البيانو: مفاتيح دقيقة ومفاتيح مفصولة.

٢- الصور المجازية المركبة: «ترسمُ الريح أخيلةً وهودج» ـ «هودج» مجاز للنقل/السفر يقترن بخيالٍ يعود إلى العوالم الشرقية، فيحدث تقاطع بين الغرب (بيتهوفن) والشرق (هودج، شهرزاد).

٣- التناصّ: إشارات مباشرة إلى بيتهوفن و«إليزا» وشهرزاد تعطي النص أفقًا بينيًّا غنيًا: تجمع بين التراث الغربي الكلاسيكي والتراث الشرقّي الشعبي/السردي.

٤- التناص الموسيقي: شيفرات إيقاعية وكسر في الجملة تُشبه عازفًا يفقد إيقاعه، أو عازفًا يترك مقطوعة نصفَة على البيانو.

4. البُعد الرمزي والسيميائي:

١- اليد رمز مركزي: اليد تمثل الفعل والالتقاط والقدرة على الإمساك بالعالم. «تركتَ يدي» يرمز إلى فقدان القدرة على المواصلة، أو تلقي الأثر، أو فقدان التواصل الحسيّ. اليد «مدبوغة ببقايا نغمات» توحّي بأن أثر الموسيقى قد دبغ الجلد، أي ترك علامة دائمة.

٢- الموسيقى والكتابة.

الموسيقى تُعرض كرسالة حب (رسالة إلى إليزا)؛ كذلك الكتابةُ الشعريّة تشبه الرسالة، وتتحول القصيدة إلى سِجلّ من محاولات التأويل والإعادة: كيف نقرأ الرسائل التي تتركها الأجساد والأمكنة؟ الموسيقى تُعيد تشكيل الوجود بمنطقٍ خارج المنطق اللفظي.

٣- الشهور كرموز أيديولوجية.

آذار ونيسان يمكن قراءتهما موسمياً — فجر الربيع — وسياسيًا كدلالات زمنية لذكرى أو انقلاب أو حراك. الشاعرة لا تقول، لكنها تستثمر دلالات الشهور لتلوين المزاج: آذار كطقس حزن يتخذ شكل «أريكة الثلج»، ونيسان كوعد متردِّد.

٤- الرموز الدينية: «مئذنة الحرمان» و«الله أكبر»

٥- المقاربة الدينية هنا مركّبة: «مئذنة الحرمان» تتداخل مع تكبير «الله أكبر» في لحظة «مباحة»، والتضاد بين مقدّس وممنوع أو مباح هنا يشي بثنائيات: الخلاص/الحرمان، الصلاة/الغنائية، الطقس الديني/الطرب الإنساني. «مئذنة الحرمان» هي استعارة قوية: المئذنة هنا لا تُنادِي لصلاة الفرح بل تُنادي على غياب أو حظر؛ هي مئذنةٌ تصدُر منها صرخات الحرمان بدل الأذان. هذا الاستخدام يحيل إلى توترٍ بين الدين كمصدر رجاءٍ وميدان للغياب أو القمع.

5. البُعد النفسيّ: الحنين، الفقد، الندم:

الهيمنة في النصّ نفسية: الشاعرة تؤسس نصًّا منفرجًا حول «اليد المغيّبة» كرمز للخسارة الذاتية، والذاكرة الموسيقية كقُربٍ مؤجل، والحنين كقوة تنتظم في طبقات. «مُذ كان الحنينُ كبيراً» تشير إلى تاريخية الشعور: الحنين ليس حدثًا عابرًا بل حالة متجذّرة. التكرار الإيقاعي والنغمات المعترَضة تعملان كآليات للاستعادة العاطفية: إعادة العزف على ذاكرةٍ مشروخة تحاول أن تُعيد تشكيل الإيقاع.

6. البُعد الديني والوطني: قراءة تآزرية:

القصيدة تشتغل على نصفقة بين الديني والوطني: «مئذنة الحرمان» و«الله أكبر» غايتها ليست الوعظ بل إبراز التوتر: كيف يصبح المقدس وسمًا للحرمان؟ في السياق اللبناني، مثل هذه الصور قد تستحضر لحظات تاريخية من التوتر الطائفي والسياسي، لكن الشاعرة لا تتحول إلى رويترٍ سياسي: هي تستثمر العلامات لخلق روحٍ حالمة/مؤلمة تعكس جمعًا إنسانيًا يتألم من الانقسامات. لذا يمكن قراءة القصيدة كقضيب شبه وطني/اجتماعي يختزن ألم الذاكرة المشتركة، دون أن تكون قصيدةً دعائية.

7. المقاطع المفتاحية — قراءة تأويلية قريبة:

أ. الافتتاحية:

«بحبوبِ المطرْ والرذاذُ فمي / على رائعة بيتهوفن و"رسالة إلى إليزا"»

التزاوج بين المطر والموسيقى يقترح استعارة حسّية مركبة: المطرُ هناك ليس مجرد حالة جوية بل خبرة صوتية وذوقية. «الرذاذ فمي» يوحّي بالكلام الذي يتشكل من حزن الرطوبة، وبمقدرة الشاعرة على تذوق الغياب بلعًا.

ب. «تركتَ يدي تعزفُ زوايا ومسامات»

الجملة تشتغل كمقولةٍ مركزية: اليدُ التي تُترك تعزف رقةً على بنية المكان (زوايا) وعلى بنية الجسد (مسامات): الفقد يُعزف على الفراغ نفسه.

ج. «بَقافل اللوز والزهرُ عيني»

صورة ربيعية تعود لتخفي حزنًا: قوافل اللوز تظلّ رمزية للربيع والخصوبة؛ لكن هنا الزهرُ في العين: لا يرى الزهر، بل تُقحم العين الزهر، أي أنَّ النظر مُلبّس بالأمل المؤجل.

د. «تركتَ يدي مُخلّفةْ على أريكة الثلج / على مراسمِ آذارْ»

أريكة الثلج: مفارقة بصرية تدمج الراحة (أريكة) والبرد (ثلج): استقرار مؤلم. مراسم آذار: طقس موسمي/ذكرى. اليد تُترك في طقس ميت/بارد؛ الفقد يتحول إلى طقس.

هـ. «قدْ.. تَشبهني مِئذنة الحرمانْ / حين "الله أكبر" مُباحْ»

هنا قمة العبارة الرمزية: الشاعرة تُشبّه ذاتها بمئذنةٍ لا تؤذن إلا للحرمان، ونغمة «الله أكبر» تصبح مباحة — أي أنها محرّفة أو مُستباحة كناية عن استباحة المقدّسات أو استباحة الحزن باسم الدين. هناك نقد مبطن أو تأمل في استغلال المقدس أو في انقسام القيم.

8. تفصيل دلالي لبعض المفردات والمركبات المهمة:

١- حُبُوب المطر: دلالة على تفتيت الكل إلى ذرّات صغيرة؛ تقصّي التفاصيل في الحزن.

٢- الرذاذُ فمي: المزج بين حاسة التذوّق والإحساس بالمطر؛ الكلام الذي يبلع الحزن كالرذاذ.

٣- رسالة إلى إليزا: تناص مباشر لمقطوعة شهيرة تعبّر عن حنين رومانسي أو فقدٍ صغيرٍ جميل/مرير.

٤- زوايا ومسامات: تصوير مكاني/جسدي؛ ترك أثر الفقد في المكان والجسد معًا.

٥- هودج: رمز شرقي للنقل والستر؛ يقرأ كحِمل الذكريات أو الرحلة.

٦ - قوافل اللوز: تقليد ربيعي؛ اللوز رمز لتفتحٍ أولي، تلمّح إلى ربيع مُعَقَد.

٧ - أريكة الثلج: صورة تضادّية تخلق شعورًا بالراحة الميتة والجمود العاطفي.

٨ - مراسم آذار: إضفاء طابع طقسي أو تذكاري على شهور الربيع، يحتمل البُعد السياسي.

٩ - شهرزاد الليالي: مرجعية سردية؛ شهرزاد ترمز إلى الحكاية التي تنقذ من الموت بالقصة، إذن هناك بحث عن الخلاص عبر الحكاية/الليل.

١٠ - مئذنة الحرمان: مركب رمزّي قوي: المئذنة مألوفة كنداءٍ، لكنها هنا تصدح بالحرمان، أي انقلاب الوظيفة الروحية.

١١ - صومعة الموسيقى: تركيب استعارى يجمع بين «الصومعة» كمكان انفصال عن العالم و«الموسيقى» كقُدسٍ داخلي؛ موضع الانطفاء الذاتي للغناء.

9. القراءات التأويلية الممكنة (مستويات):

1. قراءة شخصية/عاطفية: قصيدة حبّ/فقدٍ؛ علاقة انتهت وتركت أثرًا موسيقيًا في الجسد والزمان.

2. قراءة نفسية: نص عن سويداء الذاكرة؛ اليد رمز الفاعلية التي فقدت، والموسيقى تمثل ترجمة نفسية لصدى الفقد.

3. قراءة دينية/روحانية: توتر بين المقدس والممنوع؛ «مئذنة الحرمان» و«الله أكبر» كدلالات لصراع بين الدين والحرمان الإنساني.

4. قراءة وطنية/اجتماعية: الشهور والطقوس الدينية والصور الجماعية قد تشير إلى ذكريات وطنية أو لحظات تحوّل اجتماعي (مناسبات سياسية أو أعيادٍ تحمل ذاكرة مؤلمة).

5. قراءة سيميائية: النص شبكة من علاماتٍ قابلة لإعادة القراءة؛ موسيقى/مطر/شهور/يد = نظام علامات لا يثبت دلالة واحدة بل يتنوع باختلاف القارئ.

10. الخاتمة والتوصيات البحثية:

قصيدة دلال برّو الساحلي تنجح في أن تكون مشهدًا متعدد الأبعاد: هي رسالة حب مُنهَكة، هي معزوفة فقد، هي تأمل ديني/وطني في فضاءٍ واحد. البراعة في النص تكمن في توحيد التناصّات (الغربي والشرقي)، والحواس، والزمن، والطقوس، في لغةٍ تكاد تُغني. الشعر هنا ليس تعبيرًا عن حدث واحد، بل هو مشهدُ ذاكرةٍ مركّب يتحوّل مع كلّ قراءة إلى فضاءٍ جديد من المعنى.

***

بقلم: عماد خالد رحمة - برلين

........................

بحبوبِ المطرْ والرذاذُ فمي

على رائعة بيتهوفن

و " رسالة إلى إليزا "

مِنكَ إليّ ,

قد تركتَ يدي

تعزفُ زوايا ومساماتْ

ترسمُ الريح أَخيلةَ وهودجْ

و تقترفُ إثماً

أنّ.. ربما أنّ

" نيسانَ " آتْ..؟

**

بقوافل اللوز والزهرُ عيني

تركتَ يدي مَدبوغة ببقايا

نغماتٍ تعترفُ لِخيولك

و بالذي كانَ وكانْ..

فهلْ تبكي يوماً على جَيدِ

خِسارتها،الفرسان ؟..

**

تركتَ يدي

مُخلّفةْ على أريكة الثلج

تركتَ يدي

على مراسمِ آذارْ

و ما أدراك

ما لُغز الغاباتْ

و الأشجار على تكايا

شهرزاد الليالي

و ما لمز الآهاتْ

- مُذ كان الحنينُ كبيراً –

على سبيل الحرير والشطآنْ..

**

قدْ.. تَشبهني مِئذنة الحرمانْ

حين " الله أكبر " مُباحْ

نسيتُ أنّي،

في صومعة الموسيقى

أطفأتُ أُغنيتي

و نَفَس المصباحْ ؟

***

دلال برّو الساحلي / 14 / آذار

 

للشاعرة التونسية بهيجة البعطوط

تنهض قصيدة «حبر الغياب» للشاعرة التونسية بهيجة البعطوط على بنيةٍ رمزيةٍ مشحونةٍ بكثافةٍ روحيةٍ ولغويةٍ تُحيل القارئ إلى فضاءاتٍ من التأمل والوجد والانخطاف الوجداني. إنها نصٌّ يكتب ذاته في تخوم الصمت والانتظار والحنين، حيث يتجلّى الغياب لا بوصفه فقداً بل حضوراً مغايراً، يفيض بدلالاتٍ روحيةٍ وعاطفيةٍ مركّبة، تمتزج فيها أنوثةُ النداء بقداسة الوحي، والحنين الإنساني بتجربةٍ أقرب إلى الطقس الصوفي.

يُعيد هذا النص ترتيب العلاقة بين المقدّس والعاطفي، وبين الكلمة والسكوت، وبين الحضور والغياب، مستعيراً من المعجم القرآني إشاراتٍ أنطولوجيةً عميقة، من مثل: "زكريا"، "مريم"، "الوحي"، و"المحراب"، ليمنح التجربة الفردية بعداً كونيّاً وروحياً. إنها قصيدة تتكئ على التناصّ المقدّس لتعيد صياغة الذات الأنثوية في حالتها القصوى: العشق المتعالي الذي يتحوّل فيه الغياب إلى رحمٍ للانتظار والكتابة.

تسعى هذه الدراسة إلى قراءة القصيدة وفق المنهج الهيرمينوطيقي التأويلي، للكشف عن تعدّد مستويات المعنى، والوقوف على ما تحت الجلد الشعري من نبضٍ ورمزٍ وتوترٍ صوفيّ. كما سأطبّق أدوات المنهج الأسلوبي والرمزي والسيميائي، مع توظيف منهج غريماس البنيوي الدلالي في تحليل محاور الأدوار (الفاعل/المفعول/المرسل/المتلقي...)، للكشف عن دينامية الخطاب الشعري وطاقته التخيلية.

وسأعمل على مقاربة النص أيضاً من خلال مستوياته الانفعالية، التخييليّة، العضويّة، واللغويّة، في محاولةٍ لفهم الكيفية التي يتحوّل فيها الحنين إلى طقسٍ لغويّ، والكتابة إلى صلاةٍ تُدوَّن بالحبر الغائب والحضور الموحى.

إنها قراءة تتقصّد الغوص في أعماق القصيدة لا لشرحها، بل لتأويلها بوصفها نصاً كاشفاً لتجربة وجودية وأنثوية ودينية متداخلة، حيث يتحوّل "الغياب" من حدثٍ شعوريّ إلى نظامٍ دلاليٍّ كامل يعيد تعريف العلاقة بين الإنسان والكتابة والقداسة.

1. مقدِّمة:

قصيدة «حِبْرُ الغِياب» نصٌّ وجدانيّ يتحرّك بين البوح العاطفيّ والتأمّل الروحيّ؛ عنوانها نفسه يُفرِضُ معادلةً دلاليّةً: الحِبر كفعل كتابةٍ ووعاءِ أثرٍ، والغياب كموضوعٍ/متحفِّزٍ للكتابة. هذه المفارقة تَضعُ النصَّ في خانة الشعر الصوفيّ–الوجداني الذي يستثمرُ الرمز الدينيّ والخطاب البشريّ العاطفيّ. مَن قرأ دراسات نقديّة سابقة أشار إلى هذا التقاطع الرمزيّ والدينيّ في نصوص الشاعرة بهيجة البعطوط.

2. قراءة هيرمينوطيقيّة - تأويليّة (المعنى العميق):

١- تكوين المعنى: القصيدة تبدأُ بمشهدٍ سماعيّ/روحيّ (إيحاءٌ لزكريا بألا يكلم الناس إلّا همساً)، ثم تنتقلُ إلى تجربةِ انقياد وجدانيّ يقودُ المتكلِّمة إلى «كهف الصمت». هذا التحوّلُ يقرِئُ المكانة الوجوديّة للحبِّ/الغياب: ليس فقط غيابَ الحبيب، بل حالةُ انسحابٍ تأمّليّ تستدعي الصلاةَ والذكرى.

٢- البنية التأويلية الدينيّة: الاستدعاءان النصّيان (زكريا، ومريم بنت عمران بالإيحاء) يحوِّلان البوحَ العاديّ إلى خطابٍ مُقدَّس، يجعل من عاشقةٍ إنسانيةٍ قريبةٍ من سيرةٍ نبوية/مريمية؛ وهنا تتداخلُ حميميّة الحبِّ مع طقوس الذّكر والتقديس. هذا التأويل يفتحُ النصّ على بعدٍ صوفيّ: الغيابُ يصبح امتحاناً وصياغةً للترتيل الداخليّ.

3. القراءة الأسلوبيّة والرمزيّة (اللغة والصورة):

المفردات المحورية وشرحها:

١- الوجد: حالةُ اشتعالٍ وجدانيّ تقودُ المتكلّمة إلى «لهفةٍ» و«انقياد»؛ هي المحركُ العاطفيّ المركزيّ.

٢- كهف الصمت: رمزٌ مزدوجٌ (حِمايةٌ/سجن)؛ الحماية لأنّه مكانٌ للترتيل؛ السجن لأنّه عزلةٌ عن العالم.

٣- تراتيل الهمس: تركيبٌ بديع يملأ الصمتَ بصوتٍ داخليّ، يربطُ بين الطقوسيّة (تراتيل) واللّطافة (همس).

٤- محْراب الذكرى: استعارةٌ تعبديّة تُقدّس الذاكرةَ كشكلٍ من العبادة.

٥- حِبْرُ الغِياب (العنوان): الحبر هنا ليس مادّة الكتابة فقط، بل أثرُ الغياب الذي يُسجل على صفحة الوعي.

٦- الأسلوب: اللغة فصيحةٌ عالية، مشحونةٌ بمفرداتٍ تعبديّةٍ وإيقاعيّةٍ؛ التكرار الفعلي (أحمِلُك، أتوجّع، أتألم) يُنَمِّي إيقاع الانفعال الداخليّ ويخلقُ موسيقىً داخل النصّ. هذا ما لاحظه نقّادٌ في قراءات سابقة.

4. تطبيقُ نموذج غريماس السيميائي:

أُطبّق هنا مُركَّبَ المحاور الأساسيّة بغريماس لاستخراج الأدوار داخل النص:

١- الفاعل/الموضوع:

٢- الموضوع: «الوصال/الحضور» أو استرداد الحبيب (أو الشفاء مِن الغياب).

٣- الفاعل/المطلِب: المتكلِّمة/الراوية التي تُريدُ استعادة الحضور والدفء الروحيّ.

٤- المرسِل/المُرسَل إليه:

٥- المرسل: الصوت الشعريّ ذاته — أحيانًا النصّ يتضمّن توجيهًا إلى زكريا (إيحاءٌ كتابي/ثقافي) أو إلى الذات/القارئ.

٦- المتلقي: الحبيبُ الغائب، وأيضًا ذاتُ الشاعرة الداخلية، وربما القارئ/المؤمن.

٧- المساعد/ المعارض:

المساعدون: الذكرى، التراتيل، الرمزُ الدينيّ الذي يمنح الحضورَ تبريراً ووسيلةً للتماسك.

المعارضون: الغيابُ نفسه، الصمتُ الاجتماعيّ (الورى)، وربما الزمنُ/المحن.

٨- الوظيفة: العنوان والحوار الداخليّ يعملان كقناةٍ تُحوّل الافتقاد إلى كتابةٍ (الحبر).

هذا التتبُّع يُظهر أن النصّ ليس مجرد سيرةِ شوق، بل مسرَّدٌ سيميائيّ متكامل تُحرِّكه قوى وتأثيرات معنويّة ودينيّة.

5. البُنى النفسيّة والدينيّة:

١- البنية النفسيّة: المتكلّمة تمرُّ بما يمكن وصفه بـ«فصامٍ وجدانيّ مؤقّت» بين التعلّق والانسحاب: اشتعالُ الوجد يقابله انسحابٌ إلى كهف الصمت. الهمسُ والتراتيل تعملان كآلياتِ تكيُّفٍ نفسية تُقَنين الشوقَ في شكلٍ تعبديّ.

٢- البنية الدينيّة: الاستعارات والمراجع (زكريا، مريم، المحراب، التسبيح) تُحوِّلُ الوجدَ العاطفيّ إلى فعلٍ عباديّ؛ الحُبُّ يصبحُ نوعًا من الذكر والاستغراق الروحيّ، ما يجعله قريبًا من تجربة العاشق الصوفيّ الذي يعبدُ محبوبَه عبر الذكر والانتظار.

6. المقارنة على المستويات المطلوبة:

١- المستوى الانفعالي: نصٌّ شديد الانفعال مُشبَعٌ بالشوق والوله. الانفعال هنا ليس صرخةً بل ترتيلٌ داخليّ، ما يضبط العاطفة ويحوّلها إلى بصيرةٍ وحضورٍ باطنِيّ.

٢- المستوى التخييلي (الخيالي): الخيالُ يعملُ عبر صورٍ دينيّةٍ/أيقونيّة (المحراب، الكهف، التراتيل) ويمنح النصَّ بعدًا أسطورياً، ففيه تتحولُ العلاقَةُ إلى طقس.

٣- المستوى العضوي (التجريبي-الجسدي): الجسد هنا مُشارٌ إليه بعباراتٍ مثل: «امتَلأ قلبي»، «فأخذ الوجد بيدي»، «تُمطر المقلتان على وجنتَيّ» — أي أن العاطفة تُظهرُ أثرها العضويّ والبدنيّ (الدموع، الخفقان)، فتتداخلُ النفسُ والجسد في أداء الشعور.

٤- المستوى اللغوي: مستوى فصيح راقٍ، استعمال معطوفاتٍ تعبديةٍ، تكرارٍ بنائيّ، وتوظيف صورةٍ بلاغيّةٍ كثيفة تجعل من كل كلمةٍ حاملَ وزنٍ دلاليّ. المصادر النقديّة أشارت إلى هذا الاتساق الأسلوبي.

7. ما تحت الجلد الشعريّ — نبض، توتر ورمز:

١- النبض: إيقاع التكرار والحركة من النشوة إلى الانكسار (من «أخذ الوجد بيدي» إلى «صِرْتُ نَسْيًا مَنْسِيًا») يعطي النصّ نبضًا درامياً يحبس القارئ/المتلقي.

٢- التوتر: التوترُ قائمٌ بين التعلّق (الاشتياق) والرغبة في التقديس (التحوّل إلى صورةٍ مريمية). هذا التوتر هو المحرِّك الدراميّ للنصّ.

٣- الرمز: الرموز الدينيّة/المريمية تعمل كخيوطٍ تربط الشعر بحقلٍ ثقافيّ/روحيّ أوسع، فتجعل النصّ يتخطى الحكاية الشخصيّة إلى مستوىٍ جماعيٍّ/مقدَّس.

8. أمثلة تفسيرية لبعض المفردات المفتاحية (توضيحات نصّية):

«ألا يُكلم الناس ثلاث ليالٍ إلا همسًا» — قد يكون استعارةً لامتصاصِ طاقة الكلام العام وإدخالها في تواضعٍ داخليّ؛ ثلاث ليالٍ رمزٌ للامتحان/الكتابة/اقتراب الوحي.

«كهف الصمت» — ليس مجرد مكان عزلة، بل فضاء للاختبار النفسيّ والروحيّ؛ الكهف مكانُ تأمّلٍ في التراث الدينيّ (أمثال الغار) وفي مشاهد الصوفية.

«حِبر الغياب» — الكتابة بوصفها أثر الغياب؛ غيابُ الحبيب يترك حبرًا يكتب به الشاعر/الشاعرة قصة حيادٍ منسيّ.

9. ملاحظات وطنية/سياقية (المقام الثقافي):

الشاعرة بهيجة البعطوط تنتمي إلى فضاءٍ تونسّيّ أدبيّ نشط، ونصوصها تُنشر في منابرٍ أدبيّةٍ عربية، وتستثمرُ الحسّ القوميّ/الوجدانيّ بما يُقربُ الشعر من طقوس الجماعة والذاكرة الثقافية. لذلك يمكن قراءة النص أيضًا كنتاجٍ أدبيّ يُفعِّل ذاكرةً دينية/أدبية في المشهد العربي.

10. خاتمة توصيفية نقدية:

«حِبْرُ الغِياب» نصٌّ متكامل البناء يدمجُ العاطفة بالقداسة، واللغة بالفعل الطقسيّ. استخدام الشاعرة للرمز الدينيّ لم يطفُ خِلالَ المشهد الشعريّ فحسب، بل شكّلَ وسيلةً لتقنينِ الوحشة وتحويلها إلى كتابةٍ مُقدَّسة. تطبيقُ نموذج غريماس يبيّن أن القوىَ في النص ليست فقط داخلية (وجد)، بل هي علاقاتُ فعلٍ وسلطةٍ (غياب/حضور، مرسل/متلقي، مساعد/معارض) تُحرِّك دالّاته. من ناحيةٍ أسلوبيّةٍ، اللغة رفيعة، والإيقاع داخليّ، والتراكيب مأثورة بصبغةٍ تعبديّةٍ تجعل القارئ يشعر بأنّه أمام نصٍّ يجمعُ بين الخطاب الدينيّ والخطاب العاطفيّ.

***

بقلم: عماد خالد رحمة - برلين

..........................

حِبْرُ الغِياب

كَمَا أُوحِيَ لِزَكَرِيَّا

أَلَّا يُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ إِلَّا هَمْسًا،

أَخَذَ الْوَجْدُ بِيَدِي وَلَهًا،

وَقَادَنِي إِلَى كَهْفِ الصَّمْتِ،

فَغَدَا صَوْتِي تَرْتِيلَ هَمْسٍ،

وَامْتَلَأَ قَلْبِي بِكَ صَبَابَةً،

حَتَّى صَارَ الْفُؤَادُ عَصِيًّا.

*

يَسْجُدُ خَافِقِي خُشُوعًا،

وَيَهْجَعُ بِمِحْرَابِ الذِّكْرَى هُجُوعًا،

فَتُمْطِرُ الْمُقْلَتَانِ عَلَى وَجْنَتَيَّ.

*

فَانْتَبَذْتُ مِنَ الْوَرَى مَكَانًا قَصِيًّا،

كَمَرْيَمَ بِنْتِ عِمْرَانَ،

أَحْمِلُكَ فِي الْحَشَا شَوْقًا وَلَهْفَةً،

وَبَيْنَ أَسْرَارِ الذِّكْرَى أَتَوَجَّعُ،

وَبِمَخَاضِ السِّنِينَ أَتَأَلَّمُ.

*

كَالرَّجَاءِ بِحِبْرِ الْغِيَابِ

أُنَادِيكَ؛

أَهُزُّ جِذْعَ الْحَنِينِ،

أَنْتَظِرُ وَصْلَكَ رُطْبًا جَنِيًّا،

فَلَا يَعُودُ إِلَّا صَدَى صَوْتِي،

وَصِرْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا.

***

 

لم يكن المبدع يومًا في انسجام مع السلطة، ولن يكون بينهما وفاق طالما أن جوهر الإبداع يقوم على الانكشاف الحر للحقيقة عبر تشظّي الروح الكلية، وعلى الخيال الذي لا يتحقق إلا في فضاء الحرية، فكما يقول أدونيس: لا إبداع بلا حرية. في المقابل، تقوم السلطة بطبيعتها على القانون والنظام والحدود، مستندة إلى أشكال متعددة مثل سلطة الأب والحاكم والإله، وهكذا تتصادم البنيتان، فكل منهما ينفي الآخر ويعارضه.

ومع ذلك، قد يحدث توافق أو تقاطع بين الطرفين في بعض الأحيان، خصوصًا في المجتمعات الطبقية أو الشمولية، وهذا الشدّ والجذب الدائم هو ما يضخ في الإبداع حيويته وفرادته، وحتى حين يبدو أن هناك انسجامًا عابرًا بين المبدع والسلطة، فإنه غالبًا ما يخفي صراعًا داخليًا مستمرًا، هو في حقيقته صراع أبدي بين الحرية والنظام، بين الممكن والمفروض، بين ما نطمح إليه وما هو قائم بالفعل، وهو ما سنحاول كشفه من خلال النص المسرحي "شكون أنت"، لمحمد الأشعري، الصادر عن منشورات المركز الدولي لدراسات الفرجة في طبعته الأولى سنة 2024.

إن الكتابة الإبداعية في تناولها لتاريخ السلطة، لاسيما المعاصر منها، تعد مخاطرة كبيرة، لأن استجماع الأحداث التاريخية في قصة درامية تروى من وجهة نظر إبداعية، يسائل الحدث التاريخي في صدقيته وتخيّله، غير أن الرهان ليس رصد هذه العلاقة الجدلية بين الإبداعية والتاريخ، بل تتبع حضور السلطة في الخطاب الإبداعي المسرحي عند محمد الأشعري من خلال شخصية البصري الذي ترك في الذاكرة الجمعية للمغاربة آثارا يصعب تجاوزها، لاسيما أن هذا الحضور القوي لخطاب السلطة غالبا ما يؤدي إلى خطاب مباشر يقل فيه فعل الإبداعية المسرحية.

المسرحية باعتبارها حادثة لاحقة

لطالما كان الصراع لبنة أساسية في البناء الدرامي المسرحي، لكن صراع مسرحية "شكون أنت" بدأ قبل المسرحية بكثير، قبل أن يتحول إلى صراع درامي في ثنايا النص المسرحي، وهو ما عبر عنه محمد بهجاجي في تقديمه للمسرحية قائلا: "يعود الأشعري إلى المسرح، هذه المرة، بنص بالدارجة المغربية، وبعنوان مكثف الدلالات والمرجعيات "شكون أنت"؟ والذي هو في الأصل، عنوان رسالة الصحافي خالد الجامعي التي كان قد نشرها بجريدة "لوبنيون" يوم 22 نونبر 1993، بعد أن خاطبه إدريس البصري وزير الدولة في الداخلية والإعلام آنذاك "شكون أنت"، وذلك إثر كتابته لمقال تحليلي ينتقد فيه نظام الحسن الثاني"[1].

يتبين أن النص الدرامي في جوهره إعداد مسرحي لحادثة/قصة بين خالد الجامعي وإدريس البصري، حيث الصراع عمودي بين رمسيس وقدره المحتوم، لكن دون إثارة عاطفتي الرحمة والخوف كما في التراجيديا، لأن الأفعال الدرامية للشخصية المحورية تصدر عن شر مطلق، وهذا ما يجعل المسرحية مختلفة البناء والطرح والهدف.

وإذا كانت الحادثة الحقيقية التي جاءت في التقديم هي البؤرة الدلالية الخارج–نصية لتشكل الشرارة الأولى لفكرة المسرحية، فإنها ولاشك المحرك الأساس للفعل الدرامي المسرحي، بل وتقدم هذه الإرشادات التي لا تنتمي لبناء الفعل المسرحي دلالات هامة لتوجيه فعل القراءة، القراءة التي تستحضر السياق السياسي/التاريخي، هذا السياق الذي جعل النص يخضع لهيمنة نوع معين من القراءة، حيث تتشكل الحكاية في سياق انتقالي خطير من عُمر دولة، نهاية مرحلة وبداية أخرى.

يتقلب رمسيس، رجل السلطة القوي، من حال إلى حال، الهذيان والتعقل، الانسحاب والصمود، الحياة والموت، الانصياع والمؤامرة، وهي الثنائيات الضدية التي استطاع المؤلف محمد الأشعري تبئيرها في وضعيات مختلفة للكشف عن الوجه المرعب للسلطة/رمسيس، وذلك في قالب درامي سيكولوجي يعكس عبقرية إبداعية في بناء عوالم نفسية متقدة.

إن قراءة هذا النص الدرامي بعيدا عن السياق السياسي/التاريخي يجعل المتلقي يتيه بين البياضات الكثيرة التي تحتاج إلى ملء لتشكيل المعنى الكلي للنص، باعتباره كشفا عن الحقيقة في ذاتها ولذاتها، أي حضورا جزئيا للخير والفضيلة والحق، المقولات الكلية التي تعتبر الغاية القصوى لكل فن، وذلك بمماحكة إبداعية عبقرية تسائل الجانب الغرائزي في الإنسان وميله للسلطة والبطش.

النص الدرامي "شكون أنت" نص يفيض بحمولته الدلالية الإبداعية على الخارج/الواقع، وليس الواقع هو الذي يفيض بأحداثه على النص، لأن رمسيس ليس شخصية بعينها، وإن كانت تبدو كذلك، وإنما هي في حقيقة الأمر رمز لفساد السلطة عبر التاريخ، ونهاية رمسيس الغامضة والمأساوية، هي نهايات كثيرة في الواقع، التاريخ يعيد نفسه لكن يتشكل برؤية إبداعية مسرحية خاصة في سياق الإبداعية المغربية. لأن قراءة النص خارج هذا السياق، سيجعله أكثر فيضا بالدلالات المتوارية بين الإبداع والسلطة، بينما الهدف الأسمى للمسرحية هو الكشف عن الحقيقة الفنية.

اللامفكر فيه أو دفاعا عن رمسيس

إن النص الدرامي باعتباره عملا فنيا لا يمكن قراءته إلا في سياق الإبداعية التي تجعل منه خطابا مفارقا للواقع، أو واقعا من منظور إبداعي يختلف عن الكتابة التاريخية وكتابة السيرة، فعودة ديونيسوس أو حضور اللاوعي في العمل التخييلي، وإن كان معدا عن قصة حقيقية، هو حضور للرغبات الدفينة وتجلّ للاوعي الجمعي مادمنا نتحدث عن حضور لشخصية عامة/تاريخية في عمل إبداعي.

يقول مارتن هايدغر "إن العمل الفني يفتتح وجود الموجود على طريقته، ويتم هذا الانفتاح في العمل الفني، بمعنى الكشف، بمعنى حقيقة الموجود، حقيقة الموجود تضع نفسها في العمل الفني. الفن هو وضع الحقيقة –نفسها- في العمل الفني"[2] العمل الفني الذي يعتبره هايدغر كشفا عن الحقيقة، وهي وإن كانت تاريخية فهي لا زمنية وفوق زمنية، كما أنها قد تكون سيكولوجية بارتباطها بالمؤلف والمتلقي، أو بالنص الدرامي نفسه (لاوعي النص).

فهذا الوجود الذي يتيحه العمل الفني هو انفتاح لوجود سابق يرتبطان بما جاء في المسرحية ارتباطا شكليا يخضع لقواعد الكتابة المسرحية ولتسلسل بناء الأحداث المسرحية، وكذا للرؤية الإبداعية للمؤلف محمد الأشعري التي لا تستطيع التنصل من الإيديولوجية اليسارية التي تصبو لكشف حقيقة الموجود من وجهة نظر إبداعية/فنية معينة، انتقالا من النضال إلى الإبداع، الإبداع الذي يستبطن إيديولوجيته الكامنة، أو الإبداع الذي يتضمن كل أساليب الإدانة والرفض للسلطة وتجلياتها في شخصية رمسيس، فقناع الرغبة التي لا يجد المؤلف حرجا في كشفها بشكل مباشر في سياق لاوعي النص وجهت فعل القراءة، لأن "شكون أنت" نص مسرحي يحمل في طياته قضية تاريخية وسياسية بمماحكة إبداعية، يقول المؤلف قبل افتتاح المسرحية: "كل تشابه بين شخصيات هذه المسرحية وشخصيات حقيقية، هو تشابه مقصود، والمؤلف إذ يؤكد ذلك، يعتذر للشخصيات الحقيقية إذا لم يكن التشابه دقيقا بما فيه الكفاية"[3]. هل هو إشباع لرغبة دفينة في الانتقام أم أن المؤلف ترفع عن ذكر الحقيقة التاريخية في الحقيقة الفنية؟ ماذا لو كان رمسيس ضحية للسلطة؟ وهل يمكن الفصل بين رمسيس والسلطة؟

الإبداع لغة الرغبة، بل هو الموضوع المفضل لها، ذلك باعتبار رمسيس/البصري موضوعا لرغبة كامنة في اللاشعور الجمعي للمغاربة، وكذا اللاشعور الفردي للمؤلف، والذي تحول بفعل ميكانيزمات اللاوعي  إلى الشعور من خلال شخصية رمسيس بكل ملامحه الدرامية، والذي يسجد بدوره الشر المطلق للسلطة، أو تمثلا للشر المطلق بالمعنى العام.

وإن أفضل تجلّ لهذه الدوافع الفردية والجماعية تكمن في التداعي الحر من خلال برولوغ طويل على لسان رمسيس الذي استطاع فيه المؤلف كشف القناع عن شخصية مهلوسة تعاني انفصاما مزمنا يعكس صراعا نفسيا عميقا، فقد جاء على لسان رمسيس: "ولكن شي وقت كان رمسيس هو أنا، بغيت نقول كنت أنا هو رمسيس، ولكن شي وقت آخر مبقاش رمسيس بقيت أنا بوحدي، وعاود شي وقت آخر مبقيتش أنا، لي بقا هو رمسيس، وجا الوقت اللي خاص فيه واحد فينا يخوي"[4].

الصراع النفسي بين ما كان وما أصبح عليه رمسيس، أو ما يريد أن يكونه، ألم الذكريات المشعة في الذاكرة، التي تجعل من الشخصية المحورية تتنكر لنفسها، ليس باعتبارها ذاتا موجودة، لكن ذاتا موجودة بماضيها المظلم الذي يستوجب الهروب، يقول رمسيس: "وقفت مرة أخرى قدام المرايا، شفت مزيان، لقيت الشخص اللي في المرايا ماشي أنا"[5]، إنه هروب مستمر من الماضي بحمولته المقززة، وتنكر مستمر للذات الموجودة في ماضيها، والتي تجد نفسها موجودة في حاضرها الذي تتحرق فيه للتخلص من الشخص في المرآة/الماضي، فرمسيس يسعى للتخلص من رمسيس في قالب من التداعي الحر الذي يكشف عن البناء النفسي المضطرب للشخصية.

إن تأنيب الضمير، والسعي للتخلص من رمسيس الطاغية، هو في حقيقة الأمر، جانب يحث القارئ على التعاطف، التعاطف مع شخصية تبدي الندم لما اقترفت من تعذيب وقتل، وتسعى بكل الطرق للهرب من الذكريات التاريخية، فهل تعاطف الأشعري مع رمسيس أم أن الأمر يخضع لبنية الشخصية المسرحية؟ أليس الندم على اقتراف جرم يستدعي التعاطف؟ هنا تصبح صورة البصري في مرآة الأشعري ضبابية الملامح، غير واضحة المعالم، وإن كان الهدف الضمني إظهار صورة رجل السلطة الطاغية.

وعندما يشتد الوضع، ويبلغ الألم مداه، ألم الذكريات، يلجأ المؤلف للسخرية باعتبارها أسلوبا يخفف من صدامية الأحداث وتواترها المتصاعد، وينوع تقديمها ويخفف من حدتها، وهي نادرة، لكنها تكشف عن التقلبات النفسية لرمسيس، الذي يقول: "زدت تأكدت بأن الشخص لي فالمرايا ماشي أنا، حليت فمي، خرجت لساني، شيرت بيدي..."[6] ولكن هذه السخرية التي تأتي في زخم حضور الذكرى سرعان ما تكف عن الظهور، فرغم أنه وسيلة لكسر إيقاع اللوم والعتاب وخروج من حالة التيه إلا أن رمسيس يعود إلى تداعياته النفسية والظلم والمؤامرات في قالب دراماتيكي مثير ينم عن عبقرية في نسج التاريخي والتخييلي في النص الدرامي.

لقد كان المشهد الأول صراعا نفسيا بين حضور الماضي ونفيه، لكن المشهد الثاني يكشف عن رمسيس جديد، جعلته مايا أكثر تعقلا للتفكير في المرحلة الجديدة، من مسرح الصراعات النفسية إلى مسرح الصراعات الواقعية التخييلية التي تؤثثها مرحلة العهد الجديد، بين البقاء أو الموت، الصدام أو الاستسلام، يقول "رمسيس 2: وعلاش غادي نسدو، خصنا نوجدو راسنا، الوقت تبدلات، خصنا نتبدلو معاها، خصنا نخرجو شويا ونشوفو الدنيا، ونتلاقاو مع الناس الجداد"[7]، لم يكن رمسيس جبانا، بل حاول العودة مرارا إلى مسرح الأحداث، لكن كل شيء كان ينذر بفوات الأوان، فهل فات الأوان فعلا؟ وماذا لو عاد إلى مسرح السلطة؟

وفي خضم تقلبات السلطة، يحاول رمسيس الثاني أن يجد لنفسه موضعا في المرحلة الجديدة، لتتقلب أحواله بين تنكر الأصدقاء والمؤامرة على السلطة التي كان ذات يوم عقلها ويدها، إنه مواطن عاديّ الآن، لقد فقد المخلوق السلطوي العجيب كل أنيابه التي مزق بها أعداءه ذات يوم قريب، هكذا أصبحت الصورة في المرآة تتضح شيئا فشيئا، وكأن البرولوغ ليس إلا آلية لجعل القارئ يتقرب لشخصية رمسيس.

حاول رمسيس الثاني التأقلم مع الوضع الجديد، لكنه يدرك حجم الخسارة بفقد قائده الذي كان إلى جانبه يشكلان السلطة المطلقة بكل معانيها، تقول مايا:"معلوم ماشي ساهل، المدينة كانت ناعسة كاتحلم، والجبل اللي كيعطيها الظل والما والنعمة ناعس حتى هو، تيحلم ولا ما تيحلمش، وواحد النهار من تفيق المدينة كتلقى الجبل طاح، مابقاو منو غير جوج رخامات بويض، تكتب في وحدة منهم سنة الميلاد وفي الأخرى سنة الوفاة"[8].

إن هذه التقلبات المفاجئة جعلت رمسيس الثاني ضد السلطة الجديدة، بل حاول التآمر عليها بعد أن كان صورتها المطلقة، جاء في المسرحية "رمسيس 2: ما عندو ما يفكر، لمعلم مربوط في الجبل القديم، ملي طاح طاح معاه، ما قدرش يفكر فبني جديد، باغي غير يحضي الأنقاض ويجري على الميخالة، ويلصق الطريفات مع بعضياتها، خصنا نقلبوا على شي حد آخر"[9]. لكن رمسيس الثاني يفشل في كل شيء، ويصبح مشغولا بالحفاظ على رأسه، لقد انتهى بعد مسار طويل في دهاليز السلطة إلى مواطن عاد جدا، لكن تاريخه الحافل بالانتهاكات والتعذيب ظل يلاحقه باستمرار.

رمسيس باعتباره تجسيدا للشر المطلق

وبمماحكة رمزية عميقة يُظهر المؤلف القدَر الذي حاول رمسيس إقناعه بالبدء من جديد، وأن يجعله شخصية عادية تتخبط في اليومي، لكن يكون كل شيء قد انتهى وفات أوانه، يقول "المؤلف: واش كاين شي تفلية بحال هاد الشي اللي كتقول، بغيت منبقاش أنا؟ إوا؟ هادا عمر وأنت، أنت، ودبا ملي بدات كتسمع شي جنازة فالكولوارات، لواه بغيت ما نبقاش انا؟"[10].

انتهى كل شيء، وفر الجميع ممن كان ذات يوم يطلب لقاؤه فلا يستجيب، إن الجاه في حالة رمسيس مرتبط بالسلطة، وإذا ما اختفت هذه الأخيرة اختفى معها جزء من الهوية المزيفة للمرء، لأنها ليست هوية حقيقية بقدر ما هي هوية مصطنعة مرتبطة بكائن هلامي اسمه السلطة، يقول "رمسيس1: أراي لي السميات (يضرب على جبهته) فين مشات السميات؟ أراي لي السميات. مايا: (غاضبة) مبقات سميات، سلات، ما فهمتيش؟ سلات، مبقات لا سميات لا سيدي زكري، كلشي سلا"[11].

وكأن كل شيء يحتكم لعجلة التاريخ، حيث البداية والسقوط للرجل الثاني في هرم السلطة، لقد كانت السلطة بهذا المعنى آلة فتاكة ضد-إنسانية، على الأقل في سياق النص الدرامي، حيث جردت رمسيس من إنسانيته وآدميته لتظهر الجانب البربري من خلال البطش والقتل، جاء في النص: "كان يا مكان، حتى كان للي كان، كانت مسكينة كتطحن، طحنت الحب، وطحنت التبن، طحنت لي جاي وطحنت لي غادي، طحنت العود والحجر، ورياح البر والحوت اللي فقاع البحر.. ملي ملقات ما تطحن، دخلت تحت اضراسها طحنت عظامها"[12].

يدرك رمسيس أن حياته مقترنة بالسلطة القديمة، وأنه مات بموت الرجل الأول في هرم السلطة، وأنه ما عاد له وجود قط، يقول "رمسيس 2: أنا مكينش، أنا دازت كنازتي في التلفزيون، أنا الشخص دالمرايا... أنا شكون"[13]، مات رمسيس موتا رمزيا بموت قائده، لتسمع طلقات نارية بعد خروجه من المكتب، ليترك المؤلف/الأشعري بياضات حول النهاية، بين الانتحار والاغتيال أو طلقة عشوائية في الهواء، نهاية مفتوحة على قراءات كثيرة، لكنها حتما مأساوية لنهاية طاغية.

تثير شخصية رمسيس الكثير من الأسئلة الوجودية المرتبطة بالإنسان/السلطة، رمسيس الأول مدعاة التعاطف بسبب صراعه النفسي، الذي يؤدي إلى رمسيس الإنسان أو الذي يسعى لاستعادة إنسانيته، ورمسيس الثاني السادي والمتآمر والقاتل، ازدواجية تؤدي إلى فهم أعمق للشخصية، الشخصية الإنسان والشخصية السلطة وكلتاهما تؤديان إلى الشخصية التاريخية التي اتضحت معالمها في مرآة الأشعري تدريجيا.

إن مسرحية "شكون أنت" لمحمد الأشعري، مسرحية تاريخية، تستمد أحداثها من قصة تاريخية في قالب درامي رمزي، ترسم ملامح السلطة الانتقالية في المغرب، وما رافقها من تقلبات عميقة على مستوى بنية الحكم، مجسدا هذا الاضطراب في شخصية رمسيس1 ورمسيس 2 ومايا والمؤلف بأسلوب ماتع يبتعد عن المباشرة التي تقتل الإبداع، هذا الإبداع الذي يتضمن عودة ديونيسوس/اللاوعي الذي حاول من خلاله المؤلف كبح جماحه أو تغليفه على الأقل ليتناسب مع تنامي الأحداث الدرامية، لكنه أيضا لاوعي جمعي لكل المغاربة، حيث الندوب لم تلتئم بعد، لاسيما بالنسبة للقراء الذين عاشوا في فترة إدريس البصري، فكانت صورة رمسيس في قالب إبداعي مسرحي مثير، استطاع من خلالها الأشعري أن يقوم بمسرحة قصة تاريخية دون مغالاة تخييلية أو مغالاة تاريخية، وهي العنصر الذي يشكل فرادة المؤلف في نسج الأحداث الدرامية.

ومهما يكن الأمر الذي كان دافعا لكتابة هذه المسرحية، إلا أنها مسرحية جريئة من رجل سلطة سابق، ومناضل يساري نذر حياته للدفاع عن مبادئ اليسار في سياق تاريخي وسياسي متوتر، والمثقف الحقيقي هو الذي يظهر الحقيقة في وجه السلطة كما يقول نعوم تشومسكي... فهل كان الأشعري موفقا في رسم معالم رمسيس/إدريس البصري كما تبدت في مرآته المسرحية؟

وإذا كانت صورة رمسيس/البصري قد ظهرت جليا في مرآة الأشعري، فإن الشخصية المحورية قد أظهرت بدورها ملامح المؤلف باعتبار انعكاس صورته في المرآة أيضا، حيث تظهر صورة ضمنية للمبدع المناضل الذي كان جزءا من سردية مرحلة عرفت بسنوات الجمر والرصاص، حيث الظلام والخوف والعنف من شبح السلطة المجسدة للشر المطلق، وإذا كان القارئ قد استطاع رسم ملامح تقريبية لشخصية رمسيس في مرآة الأشعري فإن الأشعري قد بدت بعض ملامحه في مرآة الإبداعية المسرحية التي خلقت فرادة نص شكون أنت.

***

عبيد لبروزيين

......................

[1] - محمد الأشعري، شكون أنت، نص مسرحي، المركز الدولي لدراسات الفرجة، ط1، 2024، ص: 07

[2] - مارتن هايدغر، أصل العمل الفني، تر أبو العيد دودو، منشورات الجمل 2023 ص 93 94

[3] - محمد الأشعري، شكون أنت، نص مسرحي، م س، ص 11

[4] - محمد الأشعري، شكون أنت، نص مسرحي، م س، ص: 18

[5] - نفسه، ص ص: 19 20

[6] - نفسه، ص 20

[7] - محمد الأشعري، شكون أنت، نص مسرحي، م س، ص: 34

[8] - نفسه، ص: 39

[9] - محمد الأشعري، شكون أنت، نص مسرحي، م س، ص: 40

[10] - نفسه، ص: 57

[11] - نفسه، ص: 86

[12] - نفسه، ص ص: 89 90

[13] - محمد الأشعري، شكون أنت، نص مسرحي، م س، ص: 109

 

للشاعر العراقي المغترب عبد الستارنورعلي

يبدو الشاعر العراقي المغترب عبد الستار نورعلي؛ وقد بلغ الثالثة والثمانين من عمره، وكأنه أراد أن يعبر في قصيدته "انتظار القطار الأخير " عن معنى رمزي يمثل شعور الإنسان الذي يتقدم في السن باقتراب نهاية العمر، فمن يبلغ الثالثة والثمانين يشعر وكأنه يقترب من محطة الرحيل، متفكرا فيما بعد الرحيل، وكيف ستكون آخر مغامرة وآخر رحلة يقوم بها مرغما دون أي خيار آخر، وهي رحلة لا تشبه أي من تلك الرحلات التي اختارها طوعا من قبل.

حالة قد لا يشعر بها من هو في مقتبل العمر، إذ لا يشعر بثقل هذه اللحظة ورهبتها إلا من ينتظرها، والانتظار صعبٌ، فالذي يعيش ثمانية عقود يفكر في هذه اللحظة مليا متأملا في رحلته إلى المجهول، وهي رحلةٌ لم يعد أحد منها من قبل ليحدثنا عن عالمها الأثيري المبهم.

هذا العماء وعدم معرفة الإنسان أين سيتجه مصيره يخلق عادة تقاطعات وأبعادا فكرية، منها:

البعُد الصوفي متمثلا في الزهد في الدنيا وانتظار اللقاء.

والبُعد الفلسفي متمثلا في زمنٌ متقدم وتأمل في الذات والوجود.

والبُعد الوجودي متمثلا في المعنى والوجود والفناء والخوف من الصحو أو اليقظة التي تكشف المعنى.

القصيدة إذن يمكن أن تُقرأ كمرسى لرؤية إنسان متأمل "هاد ئ ورصين"، يبحث عن معنى، وأصعب ما في الحياة هو البحث عن المعنى. !

بدأ الشاعر قصيدته بقول:

إني أنا الْهاد ئُ والرَّصين

والْباحثُ عنْ زاويةٍ ساكنةٍ،

لا تقتضي وسادةً مليئةً

وأقف هنا عند قوله: "والْباحثُ عنْ زاويةٍ ساكنةٍ "، فهو حضور واضح لحالة المكان الصوفي (الزاوية) التي تُسَّمى أيضا "الربط" أو "الخَوانق"، وهي أماكن يتخذها الصوفية للعبادة والعزلة الروحية، وقد نشأت في العالم الإسلامي منذ القرن الثالث الهجري تقريبا، وكانت مراكز للتربية الصوفية والسلوك الروحي. فهي المكان الذي يجتمع فيه الصوفية للذكر والعبادة والتأمل، ويقيم فيه الشيخ والمريدون "الأتباع"، وهي تؤدي وظيفة المدرسة الروحية؛ فهي تُخرِّج المريدين وتُعلِّمهم الأدب الصوفي والسلوك. وتُعدُّ بمثابة محرابٍ للصفاء وملاذٍ من صخب الدنيا، يجتمع فيه من أراد الله لا السلطان.

والشاعر بذلك أراد توضيح حالة الزهد التي يعيشها، فـ "زاوية ساكنة" ترمز لمكان تأمليٍّ، يعتبر مخر جا من مطاردة الدنيا وضغوطها. فالزهد في التصوف ليس فقط رفض المتاع، بقدر كونه الرغبة في القرب من الذات والحقيقة. وفي هذا السياق وضع الشاعر نفسه خارج لعبة السلطة:

بالسَّيفِ والْخناجرِ،

والشَّوكِ والْحناجرِ،

أرصفةِ الشَّوارع

فهي كلّها رموزٌ للصراع والافتراس، أراد الابتعاد عنها ليلجأ إلى زاويةً ساكنة.

وهذا الموقف يتقاطع مع روح التصوف الإسلامي الذي ترى فيه حركة الذات نحو المحراب الداخلي أو سلطان الباطن، وليس سلطان الخارج.

وإذا عدنا إلى العنوان: "في انتظار القطار الأخير" سنجد أن المحطة الأخيرة في عمر الشاعر تمثل لحظة التحول أو العبور تشبهًا بالتصوف. ففي التصوف، هناك فكرة "الموت قبل الموت" أو "المراقبة" التي تستعد لها الذات، وهي ليست موتا ماديا فقط، وإنما هي موت للأنانيات والعالم والهوى. والشاعر بهذا المعنى لا ينتظر القطار كمجرد نهاية بيولوجية، وإنما كوسيلة حركة للعبور إلى زاوية ساكنة، ربما اللقاء أو الفناء أو الوحدة، أو الوعي بجوهر الوجود. وهذا ما يدفعنا لاستدعاء مفهوم "الفناء" عند المتصوفة، أو "تذوب الذات في الحق"، أو "فناء المحب في المحبوب".

أما المنطلق "الهادئ والرصين" فهو يشير إلى حالة أكثر من مجرد التقدم في العمر، بمعنى أنه يشير إلى حالة تراكم روحاني وتجربة تأملية، هي التي جعلت الشاعر يقف في طرف الانتظار، مع يقين أو ربما شكّ، أو في الأقل تأمل في ما بعد، وهو الآخر بعدٌ صوفي.

فضلاً عن ذلك تحتوي القصيدة على رموز لافتة:

ورأسِ ذاكَ الْمُبصِرِ الْعتيدِ،

داخلَ ذاكَ النَّفقِ الْبعيدِ،

صاحبُتُ شارعَ الْكفاح والرَّشيدِ،

فرموز مثل: "شارع الكفاح "، "النفق البعيد"، "رأس ذلك المبصر العتيد"، كأن الشاعر أراد من خلالها أن يرمز إلى أشياء أخرى، فمن خلال هذا، شارع الكفاح الذي يقع في وسط بغداد القديمة، وكان مسرحا للتظاهرات، إلى الحياة الدنيا، أراد ان يرمز إلى الكفاح والصراع. وربما رمز في " النفق البعيد" إلى مرحلة العبور أو الظلمة التي تسبق النور، أو الوعي الذي ينتقل من الظاهر إلى الباطن. أما "الرأس المبصر العتيدِ "فيمكن أن يرمز إلى الحكمة والرؤية الصوفية، أو ربما المعلّم الداخلي. وهذه الرموز تتوافق مع خطاب الصوفية الذي ينتقل من الحياة الفعلية إلى الحياة الباطنية، ومن الماضي إلى الحاضر، ومن الحيازة إلى الفناء. والشاعر في هذا الإطار لا يتحدث عن عمره المتقدم، وإنما يتحدث عن موقف وجودي من الزمن والوعي، وهو موقفُ صفاء وتأهب.

كما انضوت القصيدة على بعد تأملي فلسفي وجودي، فهو حين يردِّد:

سكرْتُ دهراً، وصحوْتُ أدهرا

ونمْتُ عصراً، ويقظْتُ أعصرا

تجد هنا حضور الزمن بشكل قو ي "دهر"" أدهر" "عصر " "أعصرا". فالزمن ليس مجرد حين خارجي، بقدر كونه تجربة وجودية. كذلك السُكر والصحو، والنوم واليقظة. هي الأخرى رموز متضادة تلمح إلى حالة مستمرة من الوعي والنسيان، من التجربة والنسيان، من الحياة والموت الرمزي. وهذا بعد فلسفي، ففي الفلسفة الوجودية نجد أن الزمن والوجود والثبات والمصير موضوعات مركزية. مثلا: إن واجه الإنسان العدم أو تحسس محدوديته الزمنية، فإنه يدرك وجوده بطريقة مختلفة

وفي هذا المنحى يصبح انتظار القطار الأخير انتظارا زمنيا ووجوديا، وليس فقط

إشارة إلى انتهاء العمر، فهو يشير إلى انتهاء مرحلة من مراحل وعي الذات،

والانطلاق نحو مرحلة أخرى، ربما لا نعرفها، ولكننا ندركها بالتسليم أو التأمل.

وفي الاتجاه الوجودي نفسه تجد في قول الشاعر:

لا عيبَ، لا خوفَ منَ السُّكر،

يكونُ فيه الرَّجلُ السَّكران أوهى..

منْ نسيج الْعنكبوتْ،

الْخوفُ منْ صَحوٍ يكونُ..

الرَّجلُ الصَّاحي كبركان يثورْ.

إشارة إلى أن فكرة الصحوة والسُّكر تأتي كمفارقة، لإنَّ السكْر يجعل الرجل "أضعف من نسيج العنكبوت"، ولكن الصحوة تجعل الرجل "كبركان يثور". بمعنى أن الوعي أو اليقظة أكبر خطراً أو إثارة من النسيان. ومن الناحية الفلسفية يمكن أن نقرأ هذا كمقاومة للغفلة المريحة، وكدعوة للصحوة الأخلاقية أو الوجودية التي تتطلب مواجهة، صحوة تدفع إلى الثورة أو المطالبة بالتغيير. ففي الاتجاه الوجودي، تواجه الذات عدمها أو محدوديتها، وتصدمها الحرية والمسؤولية، فتسعى إلى موقف جديد.

من هذا المنطلق، نرى الشاعر لا ينتظر القطار الأخير بصمت ولا استسلام، وإنما ينتظره في حالة استحضار روحي وعقلي فمن كان سِكيراً، يعيش غفلة؛ أما مَنْ يصحو، فهو على شفير ثوران، أي حركة، وربما اعتراض، وربما استرجاع. وهنا تتداخل العلاقة بين الزهد والتأمل والفعل، فتلك الحالة ليست مجرد انتظار ساكن بقدر كونها انتباهاً يَوَقظُ الروح لتتهيأ الى المسير إلى المحطة الأخيرة، وتنظر إليها على أنها ليست نهاية محض، فهي قد تكون بدايةً لنوع آخر من الوعي أو التحرر.

في النص أيضاً هناك إشارات صارخة إلى:

وما وقفْتُ في بلا ط سلطانٍ، ولا الْأبوابْ،

أنتظر الرضى أو الْأكياسَ أو

ما يمنحُ الْحُجّابْ،

أو نظرةً منْ أعين الذ ئابْ

وهذا في واقعه رفض للمكانة الاجتماعية التقليدية، للسلطان، للانتظار البيروقراطي أو الانتظار الذي يرضي السلطان. فالشاعر هنا أعلنها صريحة أنه لم يسلك طريق الرياسة أو التمكين، ولم يجعل رضى الآخرين من النخب والسلطان والحجاب، مقياساً لذاته. هذه إصرار على الذات، على الحرية الداخلية يتقاطع بالتأكيد مع الفكر الوجودي الذي يقول بأن الإنسان يصنع ذاته بفعل اختياره.

من هنا أرى انتظار القطار الأخير ليس استسلاما للسلطة أو للبنى التي يضغط فيها الزمن، وإنما هو فعل رفض لها. أقول هذا رغم أن الشاعر نفسه أخبرني أنه أراد من خلالها الإشارة إلى تقدمه في العمر، مثلما فهمت من قوله في رسالة بعثها لي: "وقد أشرت رمزاً لتقدم عمري (83 عاماً) واقتراب قطار العمر من محطته الأخيرة".

وأجد في المحور الانزياحي صورة للنهاية والتحول، فالقطار الأخير في النص رمزيٌ جداً، فهو لا يرمز فقط لنهاية زمنية، وإنما يتحدث عن نهاية تجربة، وانتقال إلى مابعدها، وهذا الانتقال بحد ذاته ربما يكون لقاءً، وربما فراغاً، وربما وحدة. في التقليد الصوفي، هناك مفهوم "المرحل" أو "الدار الآخرة"، ولكن هناك أيضاً مفهوم "البقاء مع الحق" أو "اللقاء بالمحبوب". وإذا بحثنا عن هذا البُعد في سياق حياة الشاعر، فإن تقدمه في السن يقترب من تلك المحطة، لحظة معرفة أن الزمن المحدود سيحمله إلى محطة لا يعود منها، أو ربما يعود منها متغيراً.

فمن المنظور الوجودي، ينتاب الإنسان عند الاقتراب من النهاية شعورٌ بالقلق أو الهلع الوجودي، لأنه يدرك أن وجوده ليس أبديا، وأنه سيفارق ما عرفه من علاقات ومواقع وأحباب وواقع إلى حيث العدم، أو الخلود. وفي هذه القصيدة يبدو هذا القلق مغلفا بسكينة "أنا الهادئ والرصين" إلا أن وجوده يعني أن الشاعر يعترف صراحة، وبلا تردد، بأنه راكب هذا القطار حتما، وأن عليه أن يستعدّ لهذه اللحظة، والاستعداد هنا ليس بالتهويل، وإنما بموقف الزهد والصفاء الداخلي.

أما حيث العدم أو الخلود فالقصيدة لا تحدد ما بعد القطار، لكنها تستشعر المسافة وتصفها بالـ "نفقٌ بعيدٌ "، وهذه هي المسافة الحقيقية بين الواقع والحلم، بين الحاضر والمتوقع، بين الدال والمدلول، هي المساحة الحقيقية التي يعيشها الشاعر. ومن منظور فلسفي/صوفي هذه المساحة هي المكان الذي ت زهر فيه الحكمة، ليس من خلال النجاح في الوصول فقط، وإنما في الانتظار والتأمل أيضا.

وهذا يدلنا على حقيقة تغيب أحيانا عن بالنا، أو ربما نغيبها قسرا هربا منها، وهي كيف يستعد الإنسان ا لذي يتقدم به العمر لعصر جديد يتجاوز الزمان والمكان التقليديين ولاسيما حينما يشعر أن القطار الأخير ليس فقط القطار البيولوجي الذي يتحكم به التقدم في السن فحسب، وإنما هو القطار العابر إلى بعدٍ ما بعد مادي. وإن كانت القصيدة لم تشر صراحة لذلك، فإن هذا التأويل يفتح أمامنا أفقا بحثيا غنيا. إذ توجد في الصوفية والوجودية على حدٍ سواء مكونات وعي الذات بمحدوديتها، ومواجهة العدم أو النهاية، والحرية الداخلية، والصحوة أو التنبه إلى الحياة والموت. وبرأيي أن هذه المكونات تتجلى في هذه القصيدة بما يعني أن الشاعر واع لعمره، وواع للانتظار، وواع أيضا بأنه لم يسلك المسارات التقليدية.

وإنما من خلال التقاطع في رفض المظاهر الخارجية: السلطان، الرضا، الأكياس،

لصالح الذات الداخلية والوعي الداخلي.

وهذا يعني أننا نقف أمام حالة إنسانية تتجرد من الزينة وتتوجه إلى الجوهر، وهو ما يُقرأ صوفياً ووجودياً بأن الإنسان يعترف بأنه "موجود ويحتضر" ومن ثم ينتج موقفه من هذا الوجود.

لكن ثمة فروق مهمة تستحق التنبه لها، وهي أن الصوفية غالبا ًتنحو نحو فكرة "الفناء في الحق"، وزوال الذات الشخصية في البعد الروحي، والوصول إلى الوحدة. أما الوجودية فتركز على الفرد، وجوده، الاختيار، المساءلة، غالبا دون تأكيد صريح على "الحق المطلق " أو الوحدة المطلقة ولاسيما في التيارات الإلحادية. ومن النقد الوجودي أن بعضهم يرى في الوجودية تشكيكا في الثوابت والقيم، وانكفاء على الذات، وربما نوعا من العدمية. وفي قصيدة عبد الستار هذه يتوازى هذان الاتجاهان، حيث هناك تأمل صوفي في الإشارة إليه من خلال: الزهد، انتظار القطار، السكون. وهناك وعي وجودي من خلال صور: العمر، الصحوة، رفض السلطة، الحرية الداخلية. السؤال الذي يمكن أن نتطرق إليه هنا: هل الشاعر يطمح إلى الفناء أم إلى الحرية؟ وهل يرى القطار الأخير كتحرر من الذات أ م كبقاء أمام مسؤولية الذات؟

وفي قراءة إنزياحية أي انتقالية زمن نهاية وبداية، ربما يكون القطار الأخير ليس

نهاية محضة، وإنما هو نقطة تحول مصيرية، وحينها يتحقق الجمع بين الصوفي من حيث الفناء/الوحدة، والوجودي من حيث المسؤولية/الاختيار. وهذا يعني أن الشاعر نجح في ربط المعنى بالمعنى.

وقد يكون هذا الربط وليد امتلاء القصيدة بالتضادا ت مثل: الهاد ئ/الثائر،

السكون/الصحوة، الشارع/النفق، السُّكر /اليقظة، الانتظار/التحرُّك. فهذا الخلق اللغوي وإن كان يؤسس لمشهد وجودي تأملي يتضح من خلاله أن الذات في حالة عطف بين عالميْن، عالم الماضي والحاضر، وعالم الدنيا وما بعدها، وعالم الغفلة واليقظة، إلا أنه يسهم في خلق الربط المطلوب لتحقيق الانتقال.

فالسُّكر هنا ليس مجرد ثمالة بالمعنى الحسي المعروف، وإنما هو ثمالة للزمن أو

للوعي. والنسيج العنكبوتي جاء كرمز هشٍّ يضاهي هشاشة الإنسان في غياب

الصحوة. الصحوة نفسها تتحول إلى ثوران، وحركة لم تكن مطروحة في السُّكْر. ومن ثم يبدو الشاعر كمن يستعد للانفجار، أو للتحول، أو للعبور الذي أراه أقرب الاحتمالات إلى واقع الشاعر نفسه.

ولذلك دلالات منها الصوت الشعري والضمير، فالضمير "أنا " نجده حاضرا بقوة: "إني أنا الهادئ … الباحث …" وهذا بحد ذاته يضع الشاعر في موقع متأمل ومعلّق بالحياة، ليس متلقياً سلطة الآخر أو الزمن، وإنما حرّ يعلم ويحدّد موقفه وفق إرادته لا وفق مطالب السلطان. هناك أيضا صيغة الخطاب: الشاعر يخاطب القارئ أو الذات، لكن أيضا يخاطب الحياة أو الزمن أو الموت ضمن ضمير متفاعل، وهذا القبض بين الذات والآخر، بين الشاعر والزمن، بين الانتظار والرحيل، أسس لتوتر شعري وجودي.

كما أن لغة النفي والرفض واضحة في القصيدة: "ولم أمسح الأكتاف… وما وقفت في بلاط سلطان …" هذا النفي يشير إلى اختيار لم يكن مَنحى زمنه أو مساره. وهذا يعزز فكرة أن الشاعر يحتشد في محطة النهاية بوعي خاص، ليس كمسافر منسحب أو مهزوم وإنما كباحث عن الحقيقة والمعنى.

بعد هذه الجولة من حقنا أن نسأل بلا توقف: ماذا تمثل المحطة الأخيرة في حياة كل منا؟ هل هي نهاية نهائية، أم انتقال إلى بعد آخر سواء كان روحانيا، أو رقميا أو رمزيا؟ وكيف يفهم الشاعر هذا الانتقال؟ وما علاقة الصحوة بالسُّكْر؟ ففي النص، السكْر ضعيف، والسكْر ليس مرفوضا بالضرورة، لكن مكمن الخطر في الصحوة، هي الخطورة، وهي الانفجار. فهل الصحة في الحياة هي الصحوة، أم في التوازن بين الغفلة والوعي؟

وكيف يتعاطى الشاعر مع الزمن؟ هل الزمن يسرق أم يمنح؟ وكيف يعكس تقدُّم العمر موقفا تأمليا؟ً

وقال الشاعر إنه لم يقف في بلاط سلطان، ولم ينتظر الرضا أو الحُجّاب، ولم يطلب نظرة من الذئاب، فهل يشير هذا إلى استقلال؟ وفي الانتظار الأخير هل يصير الإنسان مسؤولا عن عبوره أو عن اختياره؟ وهل القطار الأخير يمكن أن يكون رمزاً لتحول في أشكال الوعي نحو ما بعد مادي؟ وهل الزاوية الساكنة قد تصبح "واجهة دماغ إلى دماغ" في المستقبل؟ وهي أسئلة ليس من اليسير الإجابة عنها، لكن كل الذي أستطيع قوله إن قصيد ة عبد الستار نورعلي التي تحدَّث فيها عن عمره ليست مجرد بيان شعري لعمر متقدم، وإنما هي موقف وجودي مؤثّر، يجمع بين الصوفية في الزُهد والانتظار والزاوية الساكنة، والفلسفة الوجودية في الزمن والحرية والصحوة والقلق من النهاية. إنها تمثل "انتظار القطار الأخير" كمحطة رمزية نحو التحول، نحو ما بعد العمر، وربما نحو اللقاء أو الوحدة أو التجاوز.__

***

الدكتور صالح الطائي

الدكتور مصطفى عبد القادر – قاص وروائي ومسرحي مواليد 1957- من سوريا – ديرالزور- يحمل دكتوراه بالقانون الدولي – صدر له ثلاثة مجموعات قصتين ورواية – وعنده أكثر من مخطوط –

مجموعاته القصصيّة:

1- حانات بغداد.

2- امرأة لا تشبه النساء.

3- ورواية: خمارة وادي الموت.

عضو اتحاد الكتاب العرب – يكتب في الصحف والمجلات والدوريات – شارك في العديد من النشاطات الأدبية.

اخترنا له في دراستنا هذه قصة (امرأة لا تشبه النساء) وهي من المجموعة القصصيّة التي تحمل الاسم نفسه.

البنية السرديّة أو الحكائيّة لقصة – امرأة لا تشبه النساء:

"ممدوح" شاب موظف صغير، علاقاته الاجتماعية جيدة مع الآخرين، عيبه الخاص به هو تعاطيه الخمر الذي أدمن عليه. و"هدى" فتاة لأسرة ميسورة، تقدم ممدوح لخطبتها، رفضت الأم والأخ قبوله زوجا لهدى كونه يتعاطى الخمر، والدها رجل متنور لم يفرض أو يمنع الزواج بل قدم النصيحة لهدى:(إن ممدوح موظف بسيط، أخلاقه طيبة، ليس لدي اعتراض عليه، سوى أنه يتعاطى المشروبات الروحية. فكري جيداً قبل أن تحسمي أمرك. إن وافقت ستتحملين مسؤوليّة اختيارك. أمك رفضته، وكذلك أخوك، أما أنا فأترك لك مطلق الحريّة في الرفض أو القبول. أرجو أن يكون قرارك عاقلاً وحكيماُ.).

ها هي "هدى" تتحمل وحدها مسؤولية اختيارها. مرت السنون سريعا وأصبح لممدوح وهدى أولاداً، ولكن ممدوح لم يترك الخمر، بل ازداد إدمانا، وتمادى كثيراً في إهمال زوجته وأولاده، حتى نالهم البؤس والأسى في مطعمهم ومشربهم وأسلوب حياته. ما ميز "هدى" هو صبرها على معاناتها وإهمال زوجها، والداع لله له أن يخلصه مما هو فيه، بل ما زاد الطين بلّة، هو بدء توجهه نحو ملاحقة العاهرات، حتى كانت الليلة التي اتفق بها مع إحدى مومسات المدينة أن تأتيه ليلا إلى منزله، فجاءت في الموعد المقرر، استقبلها وذهب لزوجته لعمل فنجاني قهوة بذريعة أن صديقا له قد زاره في هذا الوقت.. عملت ما طلبه منها وجاءت به دون أن تدخل الغرفة.. أخذ من يدها صينية القهوة واغلق الباب خلفه. ولكن هاجس هدى جعلها تحس أن هناك أمراً غير طبيعي يجري داخل الغرفة.. تعرى ممدوح لمتابعة مستلزمات اللقاء.. وإذا بهدى تجده عارياً تماما مع عاهرته.. لم تقل له سوى إذا لزمك شيء فأن جاهزة.. شعر بعمق الصدمة فتوقفت كل احاسيسه وشهوته.. ارتدى ثيابه وودع العاهرة.. شعر بوخزات أبر تنغرز في مسامات جلده فتؤلمه. فكر بعيداً.. حسم أمره ومشى بخطوات خجولة وجلة.. فتح باب غرفة أولاده فوجد "هدى" ممددة بينهم، تنتحب بصوت مكتوم بائس. جلس قرب رأسها.. مدّ يداً بأصابع مرتعشة خائفة مترددة، مسح بلطف دمعة حرى عن خدها، فبدت سحنتها الخمريّة نقيّة ناعم، نظرت إليه بعنين عسليتين معاتبتين، فأحس بأنه في حضور ملكة فينيقيّة وسط حقول من الخضرة والزهور. أخذ كفها الصغيرة بكفه وضغط عليها، فازدادت دموعها بالانهمار، قرب فمه من أذنها.. همس بصوت ترشح من حروفه لكنة الندم والانكسار.. أعتذر لكل ما حصل.

البنية الفكريّة للقصة:

تدخل القصة في نسق الأدب الاجتماعي المتعلق بحياة المرأة، التي تطمح أن تكون زوجة وأم وصاحبة منزل خاص بها. وبالتالي، فإن ما تتشح به القصة فكريّاً، هو القول بأن ضعف الفتاة وعدم قدرتها على اختيار شريك حياتها بيدها، رغم أن الموافقة من قبلها على من يتقدم للزواج منها تظل محدودة، وغالباً ما تكون الموافقة محصورة بولي أمرها في مجتمعاتنا المتخلفة، فهذا ما ينعكس على حياة الفتاة سلباً أو إيجابا انطلاقاً من القول إن الزواج (نصيب). هذا إضافة إلى مسألة أساسيّة أراد القاص "مصطفى عبد القادر" طرحها هنا وهي قضية الحب الذي يجري بين الفتيات والشباب في مجتمعاتنا المتخلفة، فالحب هنا ليس أكثر من قضية إعجاب، على اعتبار أن علاقات الحب محرّمة، ويظل الجنس هو العامل الرئيس المحرك لها في مجتمع لم يتحقق فيه الانفتاح الجنسي، الأمر الذي تظل فيه مسألة الخيانة الزوجية قائمة عند الطرفين بنسبة غير قلية بعد الزواج، كون معرفة الطرفين لبعضهما قبل الزواج تظل ناقصة، وتبدأ بالانكشاف على التوالي شيئاً فشيئاً بعد الزواج، حتى تصل الأمور في نهاية المطاف إلى طلب الطلاق من قبل الرجل أو المرأة. وقليلة هي الحالات التي تصمد فيها المرأة على نصيبها إذا كان الرجل سيئاً كحالة "ممدوح" مع "هدى" رغم أن والدتها قالت لها بضرورة طلب الطلاق منه قبل أن يكثر أولادها، إلا أن "هدى" صبرت على قهرها وظلمها وإهمالها بصمت حفاظاً على حياتها الزوجيّة وانتظار اليوم الذي ستتغير فيه حياة زوجها (السكير)، وهذا ما تم أخيرا، وجعلت القاص يمنحها صفة امرأة غير عاديّة. أو امرأة لا تشبه النساء.

البنية الفنية والجماليّة للقصة:

إن البنية السيمائيّة أو الدلاليّة لعنوان القصة (امرأة لا تشبه النساء)، تؤكد لنا جوهر البنية الفكريّة للقصة، وهي أن المرأة تظل عاجزة عن تحقيق اختيار الزوج المناسب لها بسبب طبيعة المجتمع الذكوري، الذي يعطي الحق للرجل فقط في اختيار شريكة حياته، من جهة، ثم غياب المعرفة الحقيقية بين الطرفين بسبب قلة الاختلاط بين الجنسين، وعلى هذا الأساس غالبا ما تفشل حالات الزواج، والزوجة العاقلة هي التي تستطيع الصبر والمقاومة من أجل استمرار الحياة الزوجية والحفاظ عليها.

اللغة في القصة:

لقد اعتنى القاص "مصطفى عبد القادر" عناية بالغة باللغة التي صيغت بطريقة أقرب إلى الشاعريّة. حيث تجد فيها الكثير من المحسنات البديعيّة، وكثرة الانزياحات اللغويّة، والصور البيانيّة كالتشبيه والاستعارة والكنايّة، كما ظهر لنا كل ذاك التعدد في نوعيّة الجمل التي كانت تنوس بين الخبر والانشاء، هذا إضافة إلى ورود الجمل ذات المعنى الحقيقي والمعنى المجازي، الأمر الذي يجعل المتلقي يشعر بأن مسألة التعامل مع البلاغة عند "مصطفى عبد القادر" تأتي بشكل مدروس كحرفة يمتهنها بشكل متعمد،

لقد جاءت اللغة في عمومها عند القاص سليمة وفصيحة، استخدمت بقدرات تعبيريّة باهرة، وهذا يدل في الحقيقة على الثراء والغنى اللغوي من حيث قدرة التعبير وقوة التصوير في آن واحد عند القاص، كما يدل ذلك على أن القاص حاز على لغة فنيّة خاصة به. وهذه القدرة لا تأتي إلا من خلال وعي القاص أيضاً بقضايا المجتمع بأفراحها وأحزانها، إضافة لعمق تجربته.

الصورة في قصة (امرأة لا تشبه النساء):

يأتي الاهتمام النقدي بدراسة بناء الصورة في الأدب بشكل عام، وفي القص الأدبي بشكل خاص، من منطلق أن الصورة أساس الخلق الفني، كونها تحمل المواقف الاجتماعيّة والفنيّة والجماليّة والتخيليّة وخلجات الروح الداخليّة للقاص في النص الأدبي. كما وتسهم في فهم تجربة الأديب الإبداعيّة ذاته من خلال قدرة الصورة على بناء الأشكال المجازيّة التي تنقل رؤية الأديب للمتلقي. وتعمل على تحويل الواقع الحسي إلى عوالم إبداعيّة خلاقة.

لنتابع بعض هذه الصور الإبداعيّة التي جادت بها قريحة وخبرة وعمق تجربة القاص "مصطفى عبد القادر". وهو هنا يتكئ على صور جمعت بين الحسيّة والتخيليّة، لتترك المتلقي في حالة اندهاش من قدرته على الغوص في أعماق شخوصه. حيث يقول:

(سار بخطى ملتوية في شوارع المدينة الغافية في حضن الليل.. والوقت يوغل في التأخر منفلتاً من بين أصابع الحياة المترعة بالكأبة حوله.). و(أحست بقلبها المفطور يرف بين أضلاعها). و(مقطعاً أوصال السكون بنغماته المزعجة وإيقاعاته المنفرة). أو في قوله: (مع تنفس الصباح وانسحاب خيوط الليل المتلاشية). الخ

لقد استطاع القاص أن يجعل من صوره التخيليّة داخل قصته أكثر حسيّة وجماليّة، وبذلك تميز القاص بحشد التفاصيل الأساسيّة للحدث، ونقل هذه التفاصيل عبر وعي حاذق للقاص الذي استمد هذه الصور عبر الحواس أولاً، وعبر التخيل والمجاز ثانياً، مما ساهم في رسم صور بصريّة حققت قدرته التأثيريّة على المتلقي.

ملاك القول:

إن الكاتب أو الأديب الحقيقي هو الذي يلتزم بالواقع المحيط به، وينحاز لجذوره الاجتماعيّة والطبقيّة وتناقضاتها والعمل على تصويرها وطرح الحلول لها إن أمكن.

أو بتعبير آخر: إن الأديب الحق هو الذي يلتزم بواقعه بالقدر الذي يلتزم فيه بقيمه ومبادئه التي يبشر بها في كتاباته. (فالعناية بالطابع المحلي هي الطريق إلى العالميّة.) فلا سبيل لعالميّة الفن إلا إذا اهتم الأديب وعبر أولاً عن البيئة المحليّة التي عاش فيها. إن هموم الإنسان ومعاناته اليوم قد تختلف في الشكل، إلا أنها تتلاقى من حيث الجوهر. والتجارب الأدبية بشكل عام تهدف إلى تحرير الإنسان من غربته وقهره واستلابه وجوعه ومقاومة من يعمل على امتصاص قوته وجهده وسلبه حريته وعقله.

من هذا المنطلق جاءت واقعيّة قصة (امرأة لا تشبه النساء)، حيث سعى القاص جاهداً إلى تصوير حياة أسرة انحرف فيها الأب عن مسار دوره في بناء أسرة وتربية أولاد وبناء مجتمع سليم. فجاءت أحداث القصة واقعيّة ومألوفة في الحس الشعبي والأدبي عموماً. ومن هنا ركزت هذه القصة على تصوير الشخصيات والمشاكل والتحديات التي تواجه الزوجة وزوجها وأولادهما بروح واقعية لا مست جوانب كثيرة من الحقيقة.

***

د. عدنان عويّد

كاتب وباحث وناقد أدبي من سوريا.

............................

امرأة لا تشبه النساء

بقلم: مصطفى عبد القادر

سار بخطى ملتوية في شوارع المدينة الغافية في حضن الليل، والوقت يوغل في التأخر منفلتاً من بين أصابع الحياة المترعة بالكأبة حوله.

كلما مرت سيارة بقربه، قذفته برشقة من مياه الأمطار الممزوجة بالأوحال، فتصطبغ ثيابه باللون البني، ويعلو صوته بالسباب والشتائم لاعناً من أعطى هؤلاء شهادات القيادة.

كان قد خرج لتوه من الخمارة التي اعتاد الجلوس فيها يومياً لاحتساء الخمر.

مشى على الرصيف بخطوات بطيئة متعرجة يتأرجح في كل الاتجاهات... انعطف يميناً صوب منطقته المقفرة الموحشة التي تكثر فيها الحفر والأوساخ ويخيم عليها الظلام.

وضع يده على الجدار متلمساً طريقه، متحاشياً السقوط.. صرخ بأعلى صوته:

يلعن أبوك يا بلدية.. لماذا لا تستبدلين أعمدة الكهرباء المحترقة منذ سنة.؟!... ثيابه المبللة أثقلت جسمه.. أحس بالتعب.. وسع فرجة ساقيه اختصاراً للوقت. لم يعد يحس بأطرافه المتخشبة من شدّة البرد.

ها هو يلج منزله ويصفق درفة الباب وراءه بقوة.. نهضت زوجته من فراشها على صوت الارتطام.. تلقته في باحة الدار، وقادته إلى الغرفة بقلب مثقل بالحزن والشفقة.. نزعت عنه ثيابه الرطبة.. ألبسته منامته بعد أن نشفت شعر رأسه.. مددته فوق فراشه، وغطت جسمه بلحاف سميك.. لملمت ثيابه المتسخة بالأوحال، وضعتها في الماء الفاتر والصابون، غسلتها جيداً ونشرتها على حبل الغسيل بعد أن توقف المطر.. انتظرت آذان الفجر.. توضأت.. صلت.. وغرورقت عيناها بالدموع وهي رافعة ذراعيها إلى الأعلى داعية ربها أن يعيد زوجها إلى رشده ويخلصه من إدمانه المقيت.. التفتت إلى يسارها فوقعت عيناها على أطفالها الثلاثة وهم نيام.. كانت وجوههم تنطق بالطهر والبراءة.. أحست بقلبها المفطور يرف بين أضلاعها..عادت بها الذاكرة لسبع سنوات خلت، عندما تقدم ممدوح لخطبتها.. كان شاباً وسيماً يتدفق حيوية ونضارة، حينذاك، ترك لها أبوها حرية الاختيار بعد نصحها قائلاً:

- إن ممدوح موظف بسيط، أخلاقه طيبة، ليس لدي اعتراض عليه، سوى أنه يتعاطى المشروبات الروحية. فكري جيداً قبل أن تحسمي أمرك. إن وافقت ستتحملين مسؤولية اختيارك. أمك رفضته، وكذلك أخوك، أما أنا فأترك لك مطلق الحريّة في الرفض أو القبول. أرجو أن يكون قرارك عاقلاً وحكيماُ. ها هي هدى تتحمل وحدها مسؤولية اختيارها.

كم من مرة كاشفته بضرورة ترك الخمر، واختلفت معه لأجل ذلك. كان دائماً يعدها بأنه سيستغني عنه عما قريب، لأن أولاده أحوج إلى المال الذي ينفقه على هذا السم، وإلى الآن لم يستطع أن يفي بوعده.

مع تنفس الصباح وانسحاب خيوط الليل المتلاشية، نظرت هدى إلى ساعة الحائط، فوجدت عقاربها تشير إلى الخامسة. قامت تجرجر جسدها المتعب.. غطت أطفالها جيداً خشية البرد.. أطفأت النور واندست بينهم، ليطغى شخير زوجها على الغرفة مقطعاً أوصال السكون بنغماته المزعجة وإيقاعاته المنفرة.. تقلبت في فراشها برأس المثقل بالهموم.. أوقدت فيه قناديل المرارة والخيبة.. تدلت أمامها خارطة حياتها البائسة.. زوجها.. اولادها الذين ساءت صحتهم.. لقمة عيشهم المتردية يوما بعد يوم.. لباسهم الذي لم يكونوا ليرتضوا به.. الديون المتراكمة. هنا تذكرت نصيحة أمها لها بعد سنتين من الزواج:

- أطلبي الطلاق يا هدى، واتركي له ابنه قبل أن يكثر أولادك ويقصموا ظهرك. هذا رجل لا يعرف المسؤوليّة، ستندمين على كل يوم قضيته في كنفه.. وتهرمين قبل أوانك.

- سألت هدى نفسها.. هل كانت أمي محقة في كلامها لو أني طلبت الطلاق وقتذاك؟. هل كان ممدوح سيبقى دون زواج؟. حتماً سيتزوج، ويكون ابني تحت رحمة لا يعرف الحنان إلى قلبها طريقاً.. لا.. لا أستطيع أن أتخيل ذلك، إنه قدري وقد ارتضيت به. وعلي بالصبر عسى يهديه الله ويثوب إلى رشده.

قبل أن ينهض ممدوح من فراشه أحس بجفاف حلقه وفمه. تلمس رأسه المحشو بمطارق من حديد. ارتطمت عيناه بسقف الغرفة فذكره لونه الباهت بحياته التي آلت لهذا الرميم. لم يفكر أبداً انها ستكون على هذه الصورة. إنه يحس بغربة عن هدى. لم يشعر أبداً انها تشبه فتاة أحلامه في شيء. عمره معها يمضي بطيئاً.. بارداً.. إيقاعه ممل. لا جديد فيه يدفع للتفاؤل، حتى أن واجباته الزوجية تحولت إلى آلة صماء معطلة فقدت أساب تشغيلها، رغم أنه يحفز مخيلته على اصطناع عوالم حب لاهبة. فيستدعي كل ما هو مثير ومحرض، لكن الخذلان يمنعه من إتمام حصاده. إنه لا يشك بفحولته المتأججة. يعرف تماماً إمكانياته الغريزية التي تلح عليه دائماً وتأرقه. تمنى لو أن أحواله المادية تسعفه لتزوج أربع نساء، وهو واثق من عدله معهن جميعاً.

- بالأمس وأثناء صعوده إلى الحافلة ارتطم فخذه بعجيزة فتاة غضة، تملك قواماً يتفجر أنوثة، فتحركت فحولته، حينها أسر في نفسه:

- إلى متى أبقى قابعاً في غياهب العطش والجفاف والحرمان؟. إلى متى سيبقى زهري ذابلاً؟. إلى متى أظل أعيش وسط صحراء قاحلة يلفني الوهم والسراب؟. الليلة سأتحرر من قيودي وأخلع عني رداء التعفف المصطنع. سأمزق ستائر الخجل، وأفتح نوافذي لنداوة الربيع.. أليس عاراً أن أبحث عن حياتي الضائعة، إنما العار كل العار أن أدير ظهري لها.

- بعد انتصاف الليل، ولج غرفة الاستقبال القريبة من الباب الرئيس لمنزله، أغلق وراءه بابها دون أن يحدث أي صوت يوقظ النيام...تقدم نحوها وهو ثمل كخيط لفحته نسمه هواء خفيفة. جلس بقربها على الأريكة ورائحة الخمر تفوح من فمه، مدّ يده إلى فخذها، والقى برأسه فوق صدرها العارم ممرغاً وجهه بوسادتين من الحرير.. أنامله راحت تمسح اللحم البض بكل ليونة ونعومة.. فمه أطبق على شفتيها الورديتين بقوة، بينا يده اليمنى طوقت كتفيها، وأطلق لليسرى تداعب هضابها وتضاريسها كأخطبوط حظي بفريسة بعد جوع طال أمده، خاطبته بصوت خافت:

- هل أحكمت إغلاق باب الغرفة؟.

- أجابها بلسان أثقله الخمر.

- لا داعي لذلك.

- تقصد لا يوجد أحد في البيت؟.

- لا تخافي.. ما من أحد يجرأ على دخول غرفة الاستقبال عندما يكون لدي ضيوف.

- حتى زوجتك؟.

- اطمئني. سأخبرها أن صديقي حسام هنا.

- خرج ممدوح وطلب من زوجته أن تعد فنجانيين من القهوة وعاد على عجل.. ماهي إلا دقائق حتى قرع باب الغرفة قرعاً خفيفاً... نهض مدوح وفتحه فتحة موربة.. تناول صينية القهوة وأعاد إغلاقه.

أطلق ضحكة تنم عن اعتداده بنفسه، وقال بلهة المنتصر:

- ألم أقل لك لا أحد يتجرأ على دخول الغرفة حين يكون لدي ضيوف. هذه الصينية تناولتها من يد زوجتي.

- أشعل سيجارة وضعها في فمها وأخرى له، مج منها مجّة عميقة، ونفث دخانه بزفرة مكبوتة لها وقع يشبه حفيف الأفعى.. شربا قهوتهما وهما يتبادلان أحاديث الغرام، بينما راحت عيناه تلتهم الجسد العاري أمامه بكل تفاصيله المشجعة على الالتحام. لقد اتفقت معه على قضاء نصف ساعة في بيته بعد أن تمسكت بالمبلغ الذي يرضيها.. كانت على عجلة من أمرها نظراً لوجود موعد آخر.. خاطبته بلهجة رقيقة حركت فيه كل مشاعر الفحولة.

- لقد مضى نصف الوقت يا عزيزي وأنا ورائي سهر طويل.

انتبه ممدوح من غفلته فهب واقفاً كالعصا، وبدأ يخلع ثيابه دون تردد، وعندما هم باعتلائها فتح باب الغرفة دون استئذان، أطل من خلاله وجه هدى الموسوم بالخيبة والاستنكار. تناول ممحوح قميصه بحركة لا شعورية ليستر به عورته.. بلع ريقه من شدّة الخوف المباغت.. حملق في وجه زوجته بعينين ذابلتين، مذعورتين.. حدجته هدى بنظرة شاخصة أطلقت الكثير من سهام القهر واللوم والاتهام.. الألسن انعقدت.. التنهدات توقفت.. حرارة الشهوة المتقدة انطفأت.. العيون جحظت.. والوجوه اصفرت.

- قالت هدى لزوجها بصوت مخنوق وهي تحاول التمسك برباطة جأشها خشية أن تنهار وتسقط من هول الطعنة: أنا ذاهبة لأنام، إذا احتجت شيئاً أخبرني.

- أغلقت الباب ومضت إلى غرفتها بخطى متعثرة، وقلب مكتوم بنار الخيانة المشهودة. تلقت طعنة جارحة طعنت كبرياء الأنثى فيها، ومرغت كرامتها بالتراب، لكنها كضمت غيضها، وضغطت على أعصابها خشية انفلاتها.

- جلس ممدوح على الأريكة وحيداً.. ذاهلاً.. ساهماً من هول الصعقة، رمى برأسه على كتفه حائراً متلجلجاً، تشظت أفكاره نتفاً مبعثرة هنا وهناك، قذفها خلفاً حتى وصلت بداية حياته مع هدى. توقف كثيراً عند محطات تقصيره معها، وكذلك مع أولاده الثلاثة الذين لم يكن يهتم بهم، أو يضحي لأجلهم. لقد صفعته هدى بنظرتها الجارحة صفعة لن ينساها في حياته. كان يتوقع أي شيء إلا أن تقتحم عليه خلوته دون استئذان.. انتابه يأس شديد.. شعر بصداع يكاد يفلق رأسه نصفين.. ضغط بأصابعه على صدغيه.. وود أن يضرب رأسه بجدار عسى أن يريحه من غليانه.. أشعل سيجارة.. وثانية.. وثالثة.. تمطى ضميره الغالي بداخله.. أفاق تواً من نومه.. تطاول وانتفخ حتى أن الغرفة لم تتسع له. شعر بوخزات أبر تنغرز في مسامات جلده فتؤلمه. فكر بعيداً بعيداً.. حسم أمره ومشى بخطوات خجولة وجلة.. فتح باب غرفة أولاده فوجد هدى ممددة بينهم، تنتحب بصوت مكتوم بائس. جلس قرب رأسها.. مدّ يداً بأصابع مرتعشة خائفة مترددة، مسح بلطف دمعة حرى عن خدها، فبدت سحنتها الخمريّة نقيّة ناعم، نظرت إليه بعنين عسليتين معاتبتين، فأحس بأنه في حضور ملكة فينيقيّة وسط حقول من الخضرة والزهور. أخذ كفها الصغيرة بكفه وضغط عليها، فازدادت دموعها بالانهمار، قرب فمه من أذنها.. همس بصوت ترشح من حروفه لكنة الندم والانكسار.

 

تحددت ملامح الحركة الشعرية في السبعينات وسماتها الأساسية من خلال ثلاثة عناصر، سرى مفعولها في المتن الشعري لأزيد من عقد من الزمان، ويمكن القول أن الصدى لازال مستمرا حتى الآن:

يتثمل العنصر الأول في عمق التجديد الذي أحدثه جيل السبعينات بشكل يختلف جذريا عن النتاج الشعري لدى الأجيال السابقة.

وأما العنصر الثاني فيتعلق بصياغة مفاهيم نظرية ومقولات في النقد الأدبي، سرت بدهشة من خلال المتابعات النقدية والمطارحات التي كان رواده يتداولونها حول مسائل وقضايا فكرية ونقدية. ورغم ما قيل عن تعالي هذه المقولات، وطموحها الزائد في مقابل الإمكانية الإبداعية المطروحة، إلا أنها أسهمت بشكل مثير في بث روح بالغة الحماس في الحياة الثقافية آنذاك.

ويتجلى العنصر الثالث في تنوع الأشكال الإجرائية المستقلة التي أتاحت لهذا الجيل أن يذيع نتاجاته، ويحقق أقصى درجة من الإعلان عن عنصري الإبداع والنقد، ومنها الندوات، والمقاهي الثقافية، والصحف والمجلات التي ساعدت على طرح الأمر بشكل واسع(1).

إلى هذا الجيل المفعم بالتجريب والتجديد ينتسب الشاعر المغربي عبد الله راجع، أحد رواد القصيدة المغربية المعاصرة، وصوتها المفعم بالعمق والأصالة، والتوق لاجتراح رؤى وآفاق شعرية متجددة.

تفتقت قريحة شاعرنا ضمن سياق اجتماعي وسياسي مفعم بالصدام والرعب والإحباط، وتبخر أحلام بناها جيل الشباب بعد الفكاك من ربقة الاستعمار. أما على المستوى الفني فقد تشكلت حساسية شعرية اهتمت بالتجريب في بنية القصيدة المغربية، وخلق متخيل شعري يواكب التحول العميق الذي أحدثته نظيرتها المشرقية، وذلك بالانتقال من الشكل العمودي إلى التفعيلة، وتطويع اللغة والإيقاع، وتوظيف الموروث بشتى تجلياته المضيئة للتحرر من قوانين السائد والمألوف.

تشكلت الحروف الأولى لصوته المتميز من مزيج ضم شعراء النهضة، إلى جانب قمم الشعر الفرنسي كبودلير ورامبو ومالارميه وغيرهم. إلا أنه، وهو المؤمن بحتمية الوفاء لجذور القصيدة العربية، لم يُخف انكبابه المستمر على شعر أبي الطيب المتنبي، والتوغل في المتاهات الفنية التي أبدعها أبو تمام، والذي يصفه بالشاعر المهووس بالتغيير وإحداث خراب داخل هذا العالم.

ولأن الكتابة مسؤولية، ومعترك لا يليق إلا بمناضل متمرس بعتاده، فلابد من زمن يسبقها لينحت الشاعر أداته الفنية. صرّح في مقابلة مع الناقد جهاد فاضل قائلا:

" كان لابد أن أخلق مسارا شعريا يميزني لكي أتأكد من أنني فعلا أصبحت شاعرا. وقد اقتضى مني ذلك مرحلة من الزمن لا أعتقدها قصيرة هي في حدود العشر سنوات. ولكن عندما اقتنعت بأنني أستطيع أن أكتب كما ينبغي، أقدمت على تجربتي الأولى."(2)

في المسار الذي اختطه راجع لنفسه تحتفي الكتابة بالسرد والمجاز والإيقاع، واستدعاء نماذج تاريخية تجعل من المتن الشعري فضاء لمعالجة واقع القهر والانتكاس (عبد الكريم الخطابي، الحلاج، عبد الرحمن الأشعث...)، وتعكس قلق الشاعر المعاصر إزاء الإشكالات السياسية والاجتماعية، وواجب إدانتها لتحرير ذاته من قوانين السائد والموروث. ينسج شيئا من وجعه بخيوط ملحمة النضال التي قادها عبد الكريم الخطابي في جبال الريف المغربية متوعدا:

"لجبال الريف عيونٌ ترصد أمواج البحر المتوسطْ

كيف إذن حين افتضّت سفن الغزو شواطئ سبتهْ

وامتلأت برذاذ الدهشة والحزن عيون الأطفالْ

لم تصهل في منعرجات الريف خيول «الخطَّابي»

أو تتحرّك راياتك يا أنَوالْ؟

كي تكشفَ أوراق الغَبَشِ المتمدِّد شرْخًا يتقيّح في

ذاكرةِ الريف لعل غضون البحر الغاضبْ

تُفرزُ ثانيةً وجه الخطّابيْ إذ يقرأ فاتحة (الحركةِ)

والموت أمام الباب المسدودْ

فتموجُ الشطآن برائحة الزعتر والبارودْ؟"

(مكاشفات من دفتر الغربة)

الكتابة تحريض. ولأنها قدره فإن شاعرنا يعلن القصيدة عالما جديدا، يلوذ به من انهزموا على مستوى الحياة اليومية. وباللغة التي ظلت حتى زمن قريب أداة اتصال وتوصيل، سيسهم راجع في تغيير الواقع، أو نسفه إن لزم الأمر لإعادة تركيبه في صورة جميلة:

آت تسبقني لغة جُبت لأتقنها

أطراف المعمور

لغة تخرج من تيه الصمت

البارد، وتخرج من أعماق

الديجور

كي تملأ باسمك يا سيف الدولة

رمل الصحراء وأشجار الشام.

(أوراق متساقطة من ديوان أبي الطيب المتنبي)

الكتابة تمنع إزاء الفوضى، لذا تحفّظ شاعرنا على دعاوى التجاوز والاختراق التي تطال أدوات الشاعر الأساسية. إن هناك أصولا ينبغي أن تٌقدّس وفي مقدمتها اللغة. يجب التمييز بين اختراق التعبير المألوف وبين تحطيم الأصول؛ وهذه الدعوة إلى المشي بحذر وسط ركام الحداثة تتسق مع نحت قصيدة معاصرة، تهتم بتطوير الأصل بدل الاكتفاء بالخروج على مواضعات اللغة والموسيقى. كن قادرا على اختراق العالم واخترقه، يقول راجع، ولكن اخترقه بأداة طيعة، اخترقه بأداة سليمة!

الكتابة انكفاء، وهو مالم يمكن لشاعرنا الإفلات منه في فترة حالكة، خيم على وجدان شعرائها أثر نكسة 67، وكآبة العجز والحيرة ونهش الذات. بدا وكأن الجميع يواجهون قدرا سياسيا مفعما بالقهر والعنف، ويتوجب على الكلمة الحرة أن تتصدى له، وتنفعل إزاء الأحداث بروح مفعمة بالأمل والحلم:

"ولست جديرا بكل بلاد

يكون المرور إليها جواز سفر

جدير بكل بلاد جوازاتها أن

تحب القمر

وأن يملأ الكادحون بها المُدنا

لذلك أرحل عنكم وعني

فما وجدت نبضتي مستقرا

ولا جبهتي وطنا."

(جبهة تتغضن قبل الأوان)

والكتابة انهماك، لذا لم يكن شاعرنا ذاتا تحاور العالم فحسب، وإنما سعيا محموما لتأسيس قصيدة مغربية معاصرة، تضيء جغرافيا شبه منسية في قوائم الشعراء. لقد حاصر الكتابة وحاصرته ليستكمل بمسؤولية والتزام، ما بدأه جيل الستينات قبله، أمثال محمد السرغيني، وأحمد المجاطي، وعبد الكريم الطبال، ومحمد الخمار، ويفسح للخصوصية المغربية موطئ قلم في ديوان العرب:

"ها وردة أولى:

هي الأرض التي تحبو على

كتفي، تترك في القصيدة

لحمها

وأنا امتداد الحلم في الجسد

المحاصر بالكتابة

لاشيء ينقذني من الأرض

التي تمشي

سوى الأرض التي تأتي

وليس رحيل أحبابي سوى

مر سحابة."

(تروبادور)

***

حميد بن خيبش

.......................

1- شعبان يوسف: شعراء السبعينات. المجلس الأعلى للثقافة 2001.

2- جهاد فاضل: أسئلة الشعر. الدار العربية للكتاب

للشاعر التونسي محمد علي الحدّاد

تتأسّس القصيدة الحديثة على التوتّر الدائم بين اللغة والعالم، بين الذات ومرآتها، وبين التجربة الشعرية والمطلق الإنساني الذي تسعى إلى الإمساك به. ومن هذا المنطلق تبرز قصيدة «صحراء من لهاث الماء» للشاعر التونسي محمد علي الحدّاد بوصفها نصّاً كثيفاً يتجاوز حدود القول الشعري المألوف إلى فضاءٍ تأويليٍّ رحبٍ، تتشابك فيه الأصوات، وتتعالق الرموز، وتتوالد المعاني في دوائر من العطش والبحث والانبعاث. فهي قصيدة لا تكتفي بأن تقول العالم، بل تعيد تأويله في ضوء رؤيا وجوديّة مشبعة بالأسى والتمرّد، وبنزعة صوفية وجمالية تعيد تعريف العلاقة بين الشاعر والكون واللغة.

يأتي هذا البحث قراءةً نقديّة تحليلية موسّعة تستند إلى المنهج الهيرمينوطيقي التأويلي في سعيها إلى الكشف عن طبقات المعنى العميقة، وإلى المنهج الأسلوبي لتحليل البنى اللغوية والتصويرية المولِّدة للدلالة، وإلى المنهج الرمزي والسيميائي، خصوصًا وفق مقاربة أ. ج. غريماس في استخراج محاور الفعل (الفاعل/المفعول/المرسل/المرسل إليه/الساعد/المعيق) داخل البنية النصيّة. كما أحاول استنطاق النص على المستويات الجمالي والوطني والوجودي والنفسي والديني، للكشف عمّا يختبئ تحت الجلد الشعري من نبضٍ وتوتّرٍ ورمزٍ، وما يفيض به من إشاراتٍ معرفية وجمالية تُحوّل القصيدة إلى كيانٍ متعدّد الطبقات والدلالات.

ففي هذه القصيدة، يتّخذ الماء — رمز الحياة والخلاص — هيئةً لهاثٍ لا ينتهي، فيتحوّل إلى استعارة كبرى للعطش الإنساني إلى المعنى، وللصراع الأزلي بين الظمأ والارتواء، الحضور والغياب، الخطيئة والتطهّر. ومن خلال هذا الصراع، يرسم الشاعر محمد علي الحدّاد ملامح ذاتٍ قلقة، متشظّية، تكتب وجودها في مواجهة الخواء والخراب، محوّلة الشعر إلى وسيلة للمقاومة والنجاة، وإلى مرآةٍ للوجدان الجمعي الذي يتأرجح بين الحلم والانكسار.

تهدف هذه الدراسة إلى تفكيك البنى الدلالية والرمزية والجمالية في هذا النص المركّب، وقراءة ما تنطوي عليه من أنساقٍ فكرية ومعرفية تتقاطع فيها الأسطورة بالدين، والذات بالوطن، والمطلق باليومي، لتغدو القصيدة خريطة تأويلية للوجود الإنساني في أكثر حالاته عطشاً وتمزّقاً.

سأعود هنا إلى تقسيم الدراسة إلى عدة محاور:

أولًا: التمهيد النظري والمنهجي

1. المنهج الهيرمينوطيقي التأويلي:

يتعامل مع النص بوصفه شبكة من المعاني المفتوحة، لا تُفهم إلا في ضوء تجربة القارئ والتاريخ والموروث الرمزي.

2. المنهج الأسلوبي:

يركّز على تشكّل المعنى عبر اللغة، من خلال التكرار، والانزياح، والتراكيب التصويرية.

3. المنهج الرمزي والسيميائي (غريماس):

هنا سأعتمد المربع السيميائي و"محاور الأدوار" (الفاعل/المفعول/المرسل/المرسل إليه/الساعد/المعيق) لفكّ خريطة الفعل داخل النص.

4. المستوى الجمالي والوطني:

تحليل كيف يتحوّل الشعر إلى خطاب وجودي ووطني مضمر، وكيف تتجلى التونسية كهوية رمزية أكثر من كونها جغرافيا.

5. المستوى النفسي والديني:

استكشاف التوتر الداخلي بين المقدّس والمدنّس، بين الخطيئة والخلاص، بين الإنسان والله والشاعر واللغة.

ثانياً: القراءة التأويلية العامة للنص

العنوان: "صحراء من لهاث الماء"

يؤسس العنوان مفارقة أنطولوجية: الصحراء (الجفاف المطلق) / لهاث الماء (العطش الدائم للماء، أو اللهاث خلف الحياة).

هذه الثنائية تمثّل البنية التوليدية للنص بأكمله: جدلية الظمأ والارتواء، الغياب والحضور، الموت والحياة.

العنوان هنا ليس توصيفاً مكانياً بل رمزاً كونياً للوجود المأزوم — وجود الإنسان الذي يحيا عطشاً لمعنى لا يُنال.

ثالثاً: المستويات الدلالية والرمزية

1. المستوى الرمزي

النص مشبع بصور تنتمي إلى حقلين رمزيين:

رموز الماء والنار: (الماء، اللهاث، الحريق، الانصهار، المطر، الطوفان، الخرائب).

هذه الرموز تُعيد إنتاج صراع التطهير والهلاك.

رموز الأنثى والخصوبة: (حلمة الضوء، بكارة الماء، مشيمة، عروس الغرباء، امرأة الليل، زنوبيا).

الأنثى هنا ليست جسداً، بل وسيطاً للخلاص أو الفناء.

الماء في النص يتحوّل من عنصر حياة إلى مرآة للعطش، والنار من تطهير إلى لعنة الخلق، ما يجعل النص يتحرك في فضاء "ما بعد الخلق"، في حالة تفكّك كوني.

2. المستوى الأسلوبي، الشاعر محمد علي الحدّاد يبني نصه على الانزياح اللغوي المتتابع:

كثافة الأفعال في صيغة المضارع (يوزّع، يبعثر، ينوء، يتمترس.. .)

→ تُوحي باستمرار الحدوث لا بانقطاعه، كأن الزمن متكرر في حلقة من الوجود المنهك.

هيمنة الجمل الفعلية مقابل الجمل الاسمية → دليل على قلق الوجود.

الاستعارة المركّبة: (قهوة تصطلي بالليلَك / الليل ينوء بكربته القمرية / العريشة تتمترس / أصيص الذاكرة).

هذه الانزياحات اللغوية تكشف عن وعي شعري حداثي يعيد تشكيل اللغة لا وصفها.

3. المستوى النفسي:

النص اعتراف طويل بالمنفى الداخلي، فيه تنكشف ذات ممزقة بين الحنين والخذلان:

"فأنا منسيّ.. لا يسع البرزخ صراخي"

"ولا حاجة لي لتأويل حروفه على حبل الغسيل"

"أمارس وطناً حميميّاً مختلفاً.. في خيمة لا وطن فيها"

الشاعر يُنشد "وطناً ميتافيزيقياً" لا أرضياً، وطناً في اللغة نفسها.

والموت عنده ليس نهاية، بل حالة دائمة من الانتظار والتطهّر.

الصحراء النفسية هي داخل الذات، لا خارجها.

4. المستوى الديني:

النص يوظف تناصّاً مكثفاً مع الكتب المقدسة:

سفر التكوين / السامري / العجل / البرزخ / الأعاصير / الأعمدة / البوم / القلاع / العراء.

هذه المفردات ليست تزييناً بل تأويل شعري للأسطورة الدينية.

حين يقول:

"هنا.. لا قُدس.. ولا قُدّاس.. فسفر التكوين أعاد كتابته الأرجاس"

فهو يُسقط المقدّس في دائرة التجديف الرمزي، حيث يتمرد الشاعر محمد علي الحدّاد على التكوين الإلهي ليعيد خلق العالم بشعره.

إنه "نبيّ الشعر" المخلوع من جنّته.

رابعاً: التحليل السيميائي وفق نموذج غريماس

١- الدور السيميائي

٢- العنصر في النص

٣- الوظيفة والدلالة

٤- المرسل

٥- الذات الباحثة عن الخلاص/المعنى

٦- دافع البحث عن "الماء/الحقيقة"

٧- المرسل إليه.

الشاعر نفسه والإنسان الجمعي

الغاية هي النجاة من العطش الوجودي

٨- الفاعل.

٩- "الأنا الشعرية"

تقوم بفعل المقاومة والبحث.

١٠- المفعول به.

"الماء" بوصفه رمز الحياة والمعرفة

يمثل الهدف المستحيل

١١- الساعد

الرموز الأنثوية / الذاكرة / المطر / الحلم

أدوات جزئية تمنح الشاعر لحظات كشف

١٢- المعيق.

الصحراء / الخراب / النسيان / النظام الاجتماعي / الأعراب

قوى تحبط سعي الذات نحو الخلاص

بهذا يتجلى النص كرحلة بطولية من الجفاف إلى الارتواء الرمزي، لا تتحقق أبداً — فالماء يظل "لهاثاً"، لا وصولًا.

- خامساً: المستوى الوطني والأنساق المعرفية

القصيدة تُضمّر خطاباً سياسياً وجودياً:

"الأعراب يسفّوننا النشيد المازوشي"

"المسيرة الخطيرة أدخلتني مخفرًا مباح الشجب والتنديد"

الشاعر محمد علي الحدّاد هنا يعرّي الخطاب القومي العربي المهزوم، ويحوّله إلى صورة صحراء تلتهم المعنى والحرية.

الوطن يتحوّل من كيان جغرافي إلى مأزق معرفي وأخلاقي.

في المستوى المعرفي، القصيدة تشتغل ضد أنساق السلطة، وضد "لغة الطاعة"، مكرّسة لغة الهذيان الخلّاق كبديل للقول المألوف.

سادساً: المقارنة بين المستويات الأربعة

المستوى

١- الطبيعة الشعورية

٢- الوظيفة الجمالية

الانفعالي

توتر، حنين، قلق، فزع، تمرد

يخلق توتراً متصاعداً في الإيقاع والصور

التخييلي

بنية أسطورية تحاكي الخلق والتدمير

يجعل النص مفتوحاً على التأويل

العضوي

٣- وحدة الإيقاع الداخلي والمجازات المتصلة

يربط بين الصحراء والماء والأنثى

اللغوي

٤- اشتغال على التنافر الدلالي والرمزي.

يؤسس جماليات الغموض والاختراق

سابعاً: الخاتمة التأويلية

قصيدة "صحراء من لهاث الماء" نصّ ما بعد وجودي، يتجاوز الواقعي والسياسي ليؤسس ميتافيزيقيا العطش.

الشاعر يقف في تخوم البرزخ بين الإنسان واللغة، بين الفناء والتطهر.

تتجلى فيه الذات التونسية المبدعة كصوت للكون العربي المنفي في ذاته.

إنه نص لا يُقرأ بل يُؤوَّل، ولا يُؤوَّل بل يُعاش.

"وأنا صحراء من لهاث الماء"

جملة تلخّص المصير الإنساني كلّه:

الوجود لهاث دائم نحو ماءٍ لا يُدرك.

***

بقلم: عماد خالد رحمة - برلين

............................................

صحراء من لهاث الماء

بقلم: محمد علي الحدّاد

أكتفي بشامتي.. وبغمض مُسترق..

وببكارة الماء.. وبحِلمة الضوء..

وبمشيمة عالقة.. أو مختنقة..

وبوحوحة الغرباء.. والهباءة.. فالفيافي..

وأوّزّع عليكم رمادي

لعّلّكم تعرفوني.. في الزّحام..

وفي خريف المداخن..

*

وضراوة لجنّيّات حوراوات يَسْرِقْنَ كيس

أحزاني المثقوب..

ويُلقينه في البحر..

ويُحَرِّفْنَ ٱنحدار دموعي الغائمة لمجرى

الجداول..

فلا صوت لي يا حنيني فَأُُلّحِّن لها..

تقاطر الوحشة في المزاريب..

وٱنسكاب أمطار الخرائب في الخوابي..

*

وتَبَعْثُرِي في بروج الرحيل مثل ـ سِنِّمَّارْ ـ ..

وفي جنّاز بعض العقبان الصديقة

فأنا منسيّ.. لا يَسَعُ البرزخ صراخي..

والأعاصير تُعجبني لمّا تهبني خدودا..

و شفاها تتّأّخر..

عن موعد التفّاح القاني..

تلاعبني.. بمخايل الخرّوب..

وبالخطاف يحوم على رأسي

بالرّغم وأنّني لست هو ذلك

الخزّاف المنبوذ.. إنّمّا أنا توأمه الباكي..

*

وقد أنهكني ذلك الليل المتوّحش ينوء بكربته القمريّة..

النابتة بظهره شجرا وضيئًا.

في ٱقتتاله مع القنافذ الوديعة.. لطالما.. ٱستجارت منه بحموضة الكروم..

يتمترس وراء عريشة.. في طوفان لا سفينة فيه..

ولا من جبل يُعتصم به.. ولا من زِناد لبندقيّة..

تُشعل فتائل الدّيجور..

ثمّ لا مناص من غربتي.. وهذه عروس الغرباء..

سيرتشف دمع حتفي البُومُ

في صفصافه..

.. وإن تَنَّكَرَا لي شجر الجّبٌوز والطريق..

.. .. .سأشتهي من الورد الحريق..

تَغَافَلْ أَيَا طَيْرُ عَنِّي.. تَغَافَلْ..

فما جدوى أن تَتَبَاكَى عَلَيّ..

سيتخّطّفني أنيني..

فلا تفتح منقارك للرّيح..

.. مِثْلَ الأقفال يفتحها الصّديد..

و دَعْكَ منّي.. ومن شجرة ٱمالي.. التي أكلها السّوس..

.. .. .. .. .. . أَبْدَلَتْ رعشتها بِدَّقِ حَجَرٍ على حَجَرْ..

*

ها هو ذاك المستفحل في كتابة ـ أَجنْدَاـ

.. هَاكَذّيّة.. لثورته التجريبّيّة.. يثرثر للحالمين..

و لِذي نهنهات مكمودة.. كضّبي يخرج لسانه للرّيح..

وللمغبونين.. يَعِدُهُمْ بِثَلْمِ لسان الثعالب.

ويُعَّشِّمُّهُّمْ بقرص وجنة الدّجى..

ويُمَّنِّيهم بلثمتين من ورد قُدُودِ الحِسَان..

ولا حاجة لي لتأويل حروفه على حبل الغسيل

في البُكور..

فالنّهار أصبح يتلّقّف لزوجة التنّبأ يلّفّها بالنّارنج وبشيء من دياثته.. و بهتافاته المُتَبَالِهَة..

فأنا متصّدّع أدّخن قهوة تصطلي باللّيلك

وجدير بي أن أهوي إلى نفسي.. وأموء..

وجدار بعيد يمسكني بقوّة..

يدعوني للتشّقّق والهطول..

ممتزجًا بذاتِ الأكمام بخضرتها لا تخطر ببالها..

بِقيثارِ حَافَّةِ السماء

تحت ظُلَلِ الصنوبر و الهندباء..

مغتسلا بالمكوث.. لديها..

منتفظًا بقماط الليل المتنّصل..

يعدو الليل في شوارع من رقعة شطرنج

ثمّ يجالس الأصدقاء متنّكرين بأبّهّتي القارسة..

ويناورونني..

.. .بِمَتَانَةِ الجرح يعرفني الإنتظار كريمًا

وأكثر تبّسّمًّا..

ولكّنّها لن تغفر مرارة صبري المتّشّبّث بأغاني الغجر..

وسَتُسْبِلُ دون تَرَّيُثٍ ستائر الغمام..

.. .. .. .. هل ٱستبيحت هامتي بالفزوع..

وبها ٱطمأنّت ولها غَارَتْ..

ك رذاذ..

لم يُصَّلِّ يوما بالسىراديب المعتمة..

.. .. .. .. .. .. .. .. يطفح جاري المُشّعّث بعلقم ٱمرأة الليل..

وجارته تنشر تغريدة..

على حبل شهوتها..

وتُلْقِمُهُ حجرا بالنهار وتفضحه..

جزاء تنّكره للحياة..

.. .. .. .. .. .. .. .. أيّها السّاقي لا تشنق ذاكرتي اليوم بأصيصك..

بل ٱتركني للغد فخيوط الحرير تشّمّع..

لساني في الرّيح..

فبإثم المهرّج وبٱسمه التنّكري يَسكر الموّلعون فوق حبل النميمة البيضاء تسوّد بالتّدّرج..

وبتسلية لاعبة النّرد.. هل.. تمكر بالياسمين تغريه..

و.. تهديه اللون الأسود..

.. هكذا.. في مقبرة مطّلّة من حديقة زنجيّة

ينغمس السرول..

في ضحكة ظلاله بحركة البيادق..

و.. زنوبيا عشقي تحرق ٱخضرار الحدائق..

من أجل خصوبة لا تقلق..

و فحولة لا ترتاح..

.. .. .. وأنا صحراء من لهاث الماء..

وحده النّرد يغسل الحواس صمتًا أنثويًّا بمشعل نار..

ٱخر ممالك الخيلاء تسقط أسيرة خيال لاعبة النّرد..

تُنجدها الخيول الضاعنة المعارك..

يندلع الجمهور مُتَدَاكِكًا في رقصته بلا صخب جارح

يحيي مٱثر الهنود الحمر..

واليتامى يتحّلّقّون حول كبير المَنْكِبَيْن له خزائن الشّحًة المقرفة والتي هي فقط..

تتقاطر منها أقمصة قوس قزح..

يا لضَحاياها الكُثر.. ويالضُحاها..

يظّنّان بأنّ ٱرتحالي سيغدو ٱرتياح الحقائب

والسحائب و المراكب..

لكّنها الرعود تعيد ترتيب الصدى كيفما بثّته الغرانيق

في لواعج ليل يهيض من دون أوكار..

و صَايَحَتْنِي بوميضها.. المواسم..

شلاّلاً من.. الزُلال.. موجًا.. . وأشتاتًا..

سأتحّمّل وحدي أوزار الرخام..

وعُزلتي.. بجناح مقفوص..

.. .. . إِنْ تَنْسَيْنَ غروبي..

فَسَيَكْفِيكِ قاربٌ بلا مجذاف.. دوح حنان..

لتَسْتَلْقِينَ بين أضلاعه فتنة حافية..

كٱمرأة تهاجر فيه.. لوطن الماء.. لٱنصهار حارق

من نِرْفَانَا..

لعّلّها تُصافي بوهجه خيباتي.. لأتحّرّر بين سباخ الأرخبيل..

*

وأنتَ يا خريف تَذّبُلِّي.. بأوراقكَ المُتلّبّخة في عرائي..

وتُلبسني إيّاها منقوعة بطحالب الصّخور..

وتأتيني يَدُكَ وهي على كَتِفِ غراب..

تزاوراني.. من وراء الظّل..

.. و تنسيان القناع.. في حريق القلاع..

و هذا السّخيم..

من دون أن يُسْعِفَنِي ويَسْكُبَنِي بماء أو دلاء..

يُوَّبِّخُ فراخ الطّير.. إِذْ تَرْكُنُ واجفة..

دون أن يَسْكُنَنِي السّيل..

وتتقمّصّني البذور..

و هذان التوأمان يهوّمان.. ويُذّبِّلاَنِ لي عينيهما..

*

لا عري لي فلقد فقدته ٱمتشاقي الطفولي..

مذ ضاعت سراويل الغبطة في النّشيد الهامشيّ..

إذ ينعقه.. ميثاق رماد جديد لتّتّاريّين جدد..

.. يستنكفون بذاري..

ويطبخون سرّا فلفله طازجّا ببهاري..

.. .. .. .. .. .في خيمة لا وطن فيها.. .. .

أمارس وطنا حميميًّا مختلفًا..

والبلاد زَعْمٌ لا يمكن وصفه.. تحت رشق العواء..

والأعراب يسّفّوننا النشيد المازوشي

في متاهة النفق..

والمسيرة الخطيرة أدخلتني مخفرًا مباح

الشّجب والتّنديد..

وألهتني بالتحديق بأفواه زاعقة فاغرة التحليق..

وعّلّقتني بمشجب الأسئلة الحُّرّة..

ودُهِسْتُ بأقدام جحافل المحزونين..

*

هنا.. لا قُدْسَ.. ولا قُدَّاسْ.. فسِفر التكوين

أعاد كتابته الأرجاس..

و للكنعانيّ المجهول الٱن.. أن يُفنّده..

بِتَأَوُّلِهِ.. برفقة صفعات تتلّهّبّه

من عسس الأحباس..

و للسّامريّ أن يتحّرّق بِخُوَاره.. وهو يَغُّشُّنَا

بِعِجْلِهِ النُّحاسيّ..

وقال لي مخصيّ ٱبن مخزيّ.. هل يتبّخر

دَسَمٌ مسموم في دمك..

وهل يلفظه.. أم يتنّثره طهرك في الأبهر..

و أنا.. لا ٱية لي إلاّ المقت.. وكَفَى بالشِعر وكيلا..

وقال لي البحر.. تَحَرَّرْ مِنْكَ وَمِنِّي..

فما عادت لي ضفاف.. تَحْمِيكَ.. و تُؤْوِيك..

وقال شِعْرُكَ يا غريقي يتحّمّم

في جهّنّم عليه اللّعنة..

وإليك التِّيه..

ما غرّدت البلابل في الجِنان..

*

نلتقي في جهّنّم إذن يا حبيبي..

لنستصرخ علّو الموجة..

فالحِمام بك يترّسّل.. بقدمك اليمنى..

والحَمام ينقم منك.. هو الجائع من مخمصته.. ٱتٍ.. وٱت..

ليأكل من رأسك..

إن لم تكتب شِعر القمح والسنابل..

إن تَهَّيَّبْتَ السلاسل..

ونَكَسْتَ قَدْحَ زِندك..

وبوجع الحناجر.. والمحابر..

لم تُقاتل..

قُضِيَ الأمر الذي فيه تمرح الشّاعرية..

ولكّنّك لن تزعق الٱن.. وستتمّهّل..

وسَتَحْجُل فقط في حديقة بيتك

بالقدم اليسرى..

*

يا.. ذاتِ الأكمام.. في سمائكِ سوسن الصّبر..

وخيبةُ الزّعفران.. هي خيمتي لا أوتاد لها..

إنّها تَقْلِبُنِي على نفسي.. مغلول الدمع..

أتَلَّقَّفُ عريي كساءً مرّقّعًا بالتفاسير..

.. .. .. . إنّمّا خجولاً بحبّ الكائنات الجريحة..

***

🇹🇳 حمّام الأنف café rossignol

بتاريخ 15/ جويلية /2025

 

للشاعرة: رجاء نور الدين

في فضاءِ الشعر المعاصر، حيث تتداخلُ الأصواتُ وتتشابكَ الرؤى وتتقاطعُ الأزمنةُ الداخلية والخارجية، تبرزُ قصيدة «أمشي بلا معناك» للشاعرة السورية رجاء نور الدين بوصفها نصّاً يتشكّل من طبقاتٍ عميقةٍ من الغياب والوعي والحنين، ويتأسّس على لغةٍ مشدودة إلى ذاتٍ تبحث عن معنى في ظلالٍ بلا ملامح. إنّها قصيدةٌ تنتمي إلى ذلك النمط من الشعر الذي لا يكتفي بالتعبير، بل يسعى إلى إعادة تشكيل التجربة الإنسانية عبر شبكةٍ من العلامات والرموز والتجليات الروحية، حيث يتحوّل الحب إلى طقسٍ تأويلي، والغياب إلى منهج قراءة، والذات إلى أفقٍ مفتوحٍ على احتمالات التأويل.

تأتي هذه الدراسة في محاولةٍ لتفكيك البنى النصّية والجمالية والرمزية التي تنتظم هذا النصّ، وذلك عبر مقاربة هيرمينوطيقية ـ تأويلية تتقاطع مع المنهج الأسلوبي والسيميائي، وتغوص في الأعماق النفسية والدينية التي تحكم حركة الصورة والخيال. فالنصّ هنا ليس مجرّد خطابٍ عاطفيّ، بل فضاءٌ يتنفّس لغته الخاصة، ويبني معماراَ دلاليّاً تُشارك القارئ في تشييده، ويستدعي في الوقت نفسه إحالاتٍ صوفية، ونداءاتٍ وطنية، وتعابير وجودية تجعل القصيدة أشبه برحلةٍ نحو الداخل، لا نحو الآخر وحده.

إنّ دراسة هذا النصّ ليست بحثاً عن إجابات، بل قراءةٌ لأسباب الأسئلة نفسها، ومحاولةٌ للقبض على تلك اللحظة الشعرية التي يلتقي فيها المعنى بمعناه الغائب، والذات بظلّها، والحلم بغصنه المعلّق في ليلٍ طويلٍ لا يَعدُ بفجرٍ إلا ليؤخِّرَه.

1. مدخلُ الدراسة وإطارها المنهجيّ:

تقع هذه القراءة في تقاطع مناهج: الهيرمينوطيقيا التأويلية التي تُفسِّح المجال لتعدُّد الآفاق التأويلية للنصّ، والمنهج الأسلوبي الذي يُحلّل اللغة والإيقاع والدوال البلاغية، والمنهج السيميائي الذي يحرّك النصّ كشبكة من العلامات والدلالات. كما نُضيف بعداً نفسياً وتحليلاً دينياً لِما تستثيره الصور من مشاهد داخلية، ونقرأ الأفق الجمالي والوطني كنطاقين يمسّان صيرورة المعنى وصدى النصّ في الفضاء الاجتماعي والثقافي.

2. قراءة إجمالية ـ الفكرة المحورية

القصيدة منظومة اشتياق متأمّلة عن الغياب والحضور، عن الجسد والذكرى، وعن السعي في مسارات فراغ لا تُملأُ إلاّ بشِقّ من نورٍ ساطع أو بظلّ يعود ليعيد تشكيل الذات. صوت الشاعرة رجاء نور الدين هنا سائر في عزلةٍ مضمّخة بالحزن الصوفي، يسوق الغياب كفاعلٍ مهيمن، ويحوّل الحلم إلى غصنٍ معلقٍ تنتظره المصادفة. ثيمة الرحيل والانتظار تتماهى مع مشهد دنيويّ/مقدّس: الفجر يُولَدُ من ظلمةٍ، والغياب يحفظ، واللقاء يبقى رهين صدفةٍ مؤجّلة.

3. الهيرمينوطيقا التأويلية: أفق النصّ والقارئ

١- بنية النفي والتأكيد: العنوان «أمشي بلا معناك» يدشّن نفياً يليه حضورٌ قلبيّ («والقلب يمشي وراك»)؛ هذا التناوب يُنتج شرخاً إشكالياً بين جسدٍ يمشي وذاتٍ لا تزال معلّقة بالحضور الداخلي.

٢- أفق التأويل المتعدّد: النصّ يستدعي قراءات شخصية (عاطفية)، صوفية (الغياب كطريق للتطهّر)، ووطنية/اجتماعية (الحنين كوطن داخلي). القارئ يُشارك في تهجّؤ الغياب عبر نصّ يُشركه في أداء لفظيّ ووجداني.

٣- التأويل كعملية فعلية: القصيدة لا توافق على معنى واحد؛ بل تُنشر احتمالاته: الغياب حافظ، الفجر ابن الليل، الحلم على غصن، كلها دعوات لتأويلاتٍ زمنية ومكانية.

4. التحليل الأسلوبي: اللغة، الإيقاع، الصورة

١- اللغة: بسيطة في مفرداتها، مركّبة في تركيبها؛ جملاً اتصالية متتابعة تُشكّل موسيقى داخلية. تُستخدم أفعال الحضور والغور (أمشي، يمشي، تهجِّي، اتعثرت) لتوليد حركة زمنية متواصلة.

٢- الصور البلاغية: استعارات مركبة («الغيب حفظني عن ظهر غيم»، «الابن الشرعي لليل المظلم») واستعارات محمَّلة بدلالات أخلاقية/وجودية. الصور هنا لا تزيّن فقط، بل تبني علائقاً دلالية: الغيب حافظ، الفجر مخلوق من الظلام، الغصن حامل حلم.

٣- الإيقاع والتكرار: تكرار فعل المشي/التحرّك يخلق إيقاعاً سيرياً، وتعاقب الجمل والتراكيب يشي بانسيابية الهمس لا بعنف الخطاب.

٤- التجريد والتشخيص: تحويل الغياب إلى فاعل («الغيب حفظني») وتشخيص الفجر كابن لليل يُمنح نصّاً أسطورياً.

5. العلامات والدوال الرمزية (سيميائية):

١- المشي/المكانة: «أمشي» دال على حركة الوجود وشروطه، لكنه هنا مشوّه بحضور داخلي لصوتٍ وذكرى؛ المشي بلا معناك يعني حركة بلا مشاة معنوي.

٢- القلب: هو دال مركزي للاتجاه الداخلي؛ يمشي وراء المعشوق كظلّ، منطوٍ على حيوية الوجد.

٣- الغيب/الغيم: الغيب هنا حافظ وساتر، و«ظهر غيم» يحيل إلى غطاء يقي من البوح، وفيه إيماءة دينية: الغيب كمصدر حفظ وإخفاء.

٤- الفجر/الليل: ثنائية كلاسيكية لِلانبعاث/الظلمة، لكن الفجر يُعطى هنا صفة «ابن شرعيّ للّيل المظلم»، مما يجعل النور نتيجة علاقة جنسية رمزية بين الظلمات، أي أن الولادة الذاتية للنور من الظلام مشوبة برحم تاريخي وجرح.

٥- الغصن/الندى/الطين/الإيقونة: الغصن موضع تعليق الحلم، الندى رمز رقة الشعر، الطين رمز تشكيل الوجود والوجه، والإيقونة رمز للتقديس الشخصي والذاكرة المحفوظة.

6. البنى النفسية: الاشتياق، الفقد، الهوية

١- الذات المتشقّقة: الشاعرة تقدم ذاتًا ممزقة بين حركة جسدية وصمتٍ داخلي؛ هذه الانقسامية تعكس بنية نفسية قوامها فقدان التكامُل واحتياج لتعويض.

٢- الحنين كهوية: الفعل الشعري هنا محاولات إبداع هوية عبر إعادة تشكيل الحبيب/الوجود داخل مشهد داخلي (تخزين العطر، عناق الشوق، نسيان الذاكرة عند أول محطة).

٣- الندم والذنب: إشارات مثل «المسلوب من كل ثمار الخطيئة» تقود إلى بنية نفسية مذنبة/مُغتصبة، حيث الضياع الجنسي/الأخلاقي يتحوّل إلى فقدان الثمار والوفرة.

7. البعد الديني والطقوسي:

١- مجازات دينية: الغيب والحفظ والليل والفجر، كما وصف «الابن الشرعي للّيل المظلم»، تستحضر لغة توريات/قرآنية في معرضها الرمزي؛ الفجر رمز للقيامة والولادة، والغيب سلطان الحفظ الإلهي.

٢- الطابع الصوفي: «بقلبٍ صوفي حزين» صراحةً تُعلن انزياح النصّ إلى ذوق صوفي حيث الحبّ تجربة تطهيرية؛ الشوق هنا ليس شهوة فقط بل رحلة تزكية.

٣- الإيقونيات والقداسة: تحويل الوجه إلى «أيقونة» يعني تقديس المحبوب وتحويل ذاك الوجه إلى رمز عبادة شخصية داخلية.

8. البعد الوطني والاجتماعي (قراءة استعاريّة)

رغم أن النص شخصي، إلا أن ثيمات الغياب والبحث والفقد يمكن قراءتها تعبيرًا عن فقدان أوسع — وطنٍ أو ذاكرة جماعية. تعليق الحلم على غصن وانتظار مصادفة اللقاء قد يرمز إلى أملٍ وطني يتأرجح بين احتمالات العودة والفرص الضائعة. كذلك «المسؤول من كل ثمار الخطيئة» قد يُقَرأ كشعور مجتمعي بالمسروقات أو الضياع الأخلاقي في سياق تاريخي.

9. القراءة التفصيلية سطرًا سطرًا (مقتطفات محورية):

«أمشي بلا معناك / والقلب يمشي وراك» — افتتاحية تشدّ التنافر بين الفعل والمشاعر؛ الحركة البدنية بلا مرافق روحي

«الغيب حفظني عن ظهر غيم / فكان لي أن أتهجى الغياب» — الغيب يحمي ويغطي؛ الشاعرة تتعلم تهجّي الغياب كحرفٍ لغوي.

«ليدركني الفجر ذاك / الابن الشرعي لليل المظلم» — الفجر يُؤنسَب بعلاقة قرابية للّيل، هنا ولادة النور من رحم الظلمة.

«فلا منديل يجفف دمعه / ولا يد تربت على غصنه» — عزلة كاملة؛ لا عزاء. الغصن الذي يبكي لا يجد مواساة.

«المسلوب من كل ثمار / الخطيئة» — شعور بالاغتصاب الأخلاقي أو الحرمان من الثمار نتيجة فعلٍ ما۔

«ولأني اعرف اسمي / تعثرت بالضوء» — معرفة الاسم ليست قوة كاملة؛ المعرفة تحمل مسؤولية تُعرّض للارتطام بالضوء/الحقيقة.

«من رياح طرقت باب / القلب ولم تستأذن العبور» — العبور العاطفي/القسري؛ الاندفاع العاطفي كشرفٍ للهجوم على المساحة الشخصية.

«رسمت ظلك مدداً / ضمخته بكل عطورك / التي سكنتني» — تشخيص الفقد وتحويله إلى حضورّ محنّط في العطر والظل.

«كمولوي يستجدي الهواء / بين كفيه ولا يمسكه» — صورة متألمة للعدم؛ اليد التي تريد الإمساك بالهواء لا تملك شيء.

«كمرأة باتت تنسج الندى / لترشه على وجه الصباح» — امرأةٌ كائنة من رقة الندى، تقوم بصنع صباحٍ جديد من هباتها.

10. المستوى الجمالي واللغوي: الخلاصة الفنية

القصيدة تعمل بجمالية المعنى المركب: لغة لا تهرول نحو البلاغة المزخرفة، بل تُنقّب عن صرامة الصورة ودفء الإيقاع. استخدام الاستعارة المكدسة (الغيب، الفجر، الغصن، الأيقونة) يمنح النص عمقًا أيقونيًا يجعل كل صورة بوابة لتأويل آخر. الجمالية هنا هي جمالية الحزن المتفرد، التي تجمع ما بين اللغة الكلاسيكية والروح المعاصرة.

11. المقاربة البنيوية والنقدية: نقاط القوة والمواضع الممكن تنميتها

نقاط القوة: صور مكثفة ومترابطة داخليًا.

صوت شاعري ذي طاقة تأملية صوفية وحسيّة في الوقت نفسه.

استثمار ثنائيات (ضوء/ظلام، غياب/حضور) بذكاء دلالي.

ما يمكن تعزيزه:

توسيع مشهد السرد ليوضح بعضاً من السياق (هل الغياب مرتبط بشخص بعينه أم بفكرة/مكان؟) دون فقدان الغموض المنتج.

تقطيع إيقاعي قدّم بعض الانقطاع المفاجئ بين الصور؛ ضبط إيقاعي طفيف قد يثري الوحدة الموسيقية للنص.

12. إمكانات تأويلية ومقارنة نصّية:

١- قراءة صوفية: الحب كطريق تزكية، والغياب كحجاب ثم تمهيد.

٢- قراءة نفسية: الغياب يتصرف كصدمة بطارية تُعيد ترتيب الذاكرة.

٣- قراءة وطنية: الحنين إلى وطن مفقود تُضمره صور التعليق والانتظار.

٤- مقارنة: يمكن وضع النص جنبًا إلى جنب مع شعرية نازك الملائكة أو ماريانا بونيفاسيو في استثمارها لثنائيات الضوء/الظلام وعدّة صور الأيقونة، لبيان خصوصية الأسلوب وعمقه.

13. خاتمة: ما تقدّمه القصيدة لفضاء الشعر المعاصر «أمشي بلا معناك» نصّ يختصر تجربة إنسانية مشتركة: أن يمشي الجسد وتبقى الذاكرةُ جاثية، أن يولد الفجر من ليلٍ شرّ، وأن يبقى الحلم معلقًا على غصن المصادفة. رجاء نور الدين تُقدّم صوتاً شاعرياً حافظاً لمعاجم الرموز الكلاسيكية، لكنّه معاصر في حسّه الوجودي والاجتماعي. القصيدة تمثل نموذجاً لقصيدة ذاتيّة متأنّية، قادرة على فتح آفاق تأويلية واسعة بين الصوفية والسياسة والنفسية.

***

بقلم: عماد خالد رحمة - برلين

...........................

أمشي بلا معناك والقلب يمشي وراك

الغيب حفظني عن ظهر غيم

فكان لي أن اتهجى الغياب

ليدركني الفجر ذاك

الابن الشرعي لليل المظلم

فلا انسى ان أغلق الفجر خلفي

لتبقى حبيس دهر

يبكي غيمه وحيداً

فلا منديل يجفف دمعه

ولا يد تربت على غصنه

المسلوب من كل ثمار

الخطيئة

ولاني اعرف اسمي

تعثرت بالضوء

وتهجيت السكون صدفة

من رياح طرقت باب

القلب ولم تستأذن العبور

دخلت ترسم تفاصيل شوق

يرتل عطر الغياب

ترشقه على عبورك الفضفاض

علَّ الريح تمشط شعرَ اللقاء

وترميه من شرفة معلقة

مابين صدري وراحتيك

ولكنهم أبوا

إلا أن يتركوا المساحة

للصدفة

وبقلبي الصوفي الحزين

رسمت ظلك مدداً

ضمخته بكل عطورك

التي سكنتني

وعانقت الشوق فيك

كمولوي يستجدي الهواء

 بين كفيه ولا يمسكه

*

كامرأة باتت تنسج الندى

لترشه على وجه الصباح

وتعجن الطين بريق وجهك

وتخبئه في ايقونة

نسيت ذاكرتها عند أول

محطة عبور

ولأنها سيدة الغياب

علّقت حلمها على غصن

علّه يصادفُ

 شوقكَ

يوماً

***

رجاء نور الدين

 

الحنينُ ليس مجرّدَ انفعالٍ عابرٍ أو رعشةٍ وجدانية تُلامس القلب في لحظةٍ شرود، بل هو حالةٌ وجودية مركّبة، يتقاطع فيها الزمنُ مع الذاكرة، وتتداخل فيها صورةُ الذات مع أطياف ما غاب وما لم يكتمل. إنّه عودةٌ لا تحدث فعلاً، بل تُستعادُ في الداخل؛ استدعاءٌ لنهاراتٍ بعيدةٍ وأمكنةٍ غابرة، تستحيل في الوجدان أكثر صفاءً مما كانت عليه في الواقع. ولأنَّ الحنين يقيمُ في الهامش بين الحقيقة والوهم، فهو يملك القدرة على إعادة تشكيل الماضي وفق رغبةٍ تتجاوز الوقائع إلى الحلم. ومن هنا كان الحنين جوهرَ السؤال الإنساني عن المعنى: لماذا تكتسب الأشياء قيمتها حين تفلت من اليد؟ ولماذا يتحوّل الغياب إلى حضور أشدّ وقعاً من الوجود نفسه؟ إنه محاولةُ الإنسان للاحتفاظ بما يتساقط منه، وتثبيتُ ما لا يمكن تثبيته—الزمن.

1. مدخل ومنهجية العمل:

هذه الدراسة تقرأ القصيدة عبر علاقاتٍ متداخلة من التأويل:

1. المنهج الهيرمينوطيقي لالتقاط معاني النص كأفق تأويل متعدِّد يعتمد تخييل القارئ وسياق الشاعرة إيمان السويلمي .

2. المنهج الأسلوبي لتحليل اللغة، الإيقاع، الإسقاطات البلاغية والدوال الصوتية.

3. التحليل الرمزي والسيميائي لكشف نظام العلامات داخل النص (القلب، النار، النافذة، الحقيبة...) ودلالاتها الثقافية.

4. المستوى الجمالي والوطني للنظر في كيف يتحول الرمز العاطفي إلى رمز وجودي/وطني (وطنٌ داخل الحقيبة).

5. البنى النفسية والدينية لكشف أنساق الفقد، الافتقاد، المقدس والندبة التي تصوغ تجربة الحب في القصيدة.

الهدف: استنباط قراءات متعددة متكاملة تُبرز النص كمساحة زمنية ونفسية وثقافية، لا كمجرد خبر شعري.

2. قراءة إجمالية للقصيدة — الفكرة المركزية:

القصيدة تبني تصوّرا للحب لا كامتلاك مادي أو لقاء خارجي، بل كـ«خلق مكان داخلي» لا يُغْلَب؛ الحب جرحٌ وجمرٌ ووطنٌ داخلي محفوظ. الحب هنا فعلُ خلقٍ وترك أثر/نقش في الذات: ليسَ أن يُؤخذ القلب، بل أن يُبقى «مكان» لا يسكنه سواه. الحضور يكون كذلك في الغياب — حضور متعدِّد الطبقات: في الصوت، في الطقس، في الأشياء اليومية (نافذة ـ تجاعيد ـ ارتباك اليد).

3. التحليل الهيرمينوطيقي التأويلي:

١- الأفق النصّي: القصيدة تقدم نصًا إرشاديًا عن الحب: جملةُ تعريفاتٍ متتابعة (ليس الحب أن... بل الحب أن...) تشكل حركة تأويلية تصعد من النفي إلى التصريح. هذه البنية تكسب القصيدة طابعا تربوياً/مقنعاً كما لو أن القصيدة تحاول تأسيس مفهومٍ جديد عن الحب.

٢- الأفق القارئ/القارئ المُؤول: القارئ يتعامل مع نص مكتنز بصورٍ ممكنة التفعيل: «جمر صوتك»، «مكان صغير» و«حقيبة السفر». كل علامة تفتح مساحة تأويل — مجاورة النصوص الدينية، تجارب الغربة، تجارب الافتقاد.

٣- التأويل متعدد الطبقات: النص لا يقدم معنى واحداً، بل مجموعة من دلالات متداخلة: وجودي، نفسي، اجتماعي، وطني.

4. التحليل الأسلوبي (اللغة والبلاغة والإيقاع):

١- الأسلوب النحوي: تكرار البناء النفي ـ التصريحي: «ليسَ... بل...»؛ يعطي عتبة منهجية تعريفية ويعمل كإطار شعري متماسك.

٢- الصور الاستعارية: امتزاج الأجناس: «جمر صوتك» (استعارة حية تجمع بين الحسي والصوتي)، «وطنٌ نحمله داخل حقيبة السفر» (استعارة استعرافية تحمل منطقًا وجوديًا وسياسيًا).

٣- الدلالات الصوتية: توازن بين حروفٍ رخوة وحادة يحقق وقعًا موسيقيًا داخليًا مناسبًا للّون الوجداني (مثلاً تكرار السين والنون يشي برقة وحنين).

٤- التكرار والأنفاس اللغوية: تكرار الفعل «أترك»، «أحملك»، «انتظر» يولِّد إيقاعًا سرديًا يركّز التجربة من الذاكرة نحو الانتظار.

٥- المقامات السجلّية: استعمال خطاب مباشر (نداء: «يا من كنتَ دهشتي») مقترنًا بمستوى وصفي تأملي يمنح القصيدة حيوية بين الحميميّة والعامة.

5. السيميائيات: نظام العلامات والدلالات

تحلل العلامات الرئيسة ودلالاتها المحتملة:

١- القلب/القلب يؤخذ: القلب علامة على الذات/المكان العاطفي؛ النفي هنا يدل على رفض لقراءة الحب كامتلاك.

٢- الجمر/النار: رمزٌ مزدوج: حرارة الحب، لكنه أيضًا جرح يستلهم موتًا/تكفينًا؛ النوم على الرماد واستيقاظ الفجر يشير إلى دورة ألم/تجدد.

٣- النافذة/التجاعيد/اليد: علامات الحضور في الأشياء اليومية — تُحوِّل الحبيب إلى طقس يومي ومقدس.

٤- حقيبة السفر/الوطن: استبدال الوطن بمحمول شخصي يؤشر إلى تجربة غربة ونزعة حماية؛ الحقيبة هنا علامة على هشاشة الوطن وإتاحته للسرقة، فالحب يتحول إلى وطنٍ هش لكنه مقدّس.

٥- الجرح والندبة: الحب «جرحٌ جميل»، وهو علامة تضع الذات في مسار الرحمة والألم كشرط للاكتمال.

6. البُعد النفسي: آليات الافتقاد والتعلق والهوية.

١- الاشتياق/الاحتلال الداخلي: النص يصور الحب كخلق «مكان» داخلي؛ هذا القراء يقارب مفاهيم الارتباط (attachment) حيث يصبح الآخر جزءًا من بنية الذات.

٢- الجرح كمصدر للهوية: النزف اليومي دون شفاء يدل على مرور الحب في نمط من الحزن المصاحب للتحول — هو جرح يكرّس علاقة ثابته بالهوية: الهوية المُحبّة.

٣- آلية الدفاع: «أترك لي هذا المكان الصغير» هو طلب للحفاظ على حد شعوريّ، مثل حدود النفور أو مساحة الاستقلال في العلاقة، حماية لذاتٍ مهددة بالاستلاب.

٤- الزمن النفسي: الحضور في الغياب — رؤية الحبيب في ضوء النافذة والتجاعيد — تكشف عن زمن داخلي لا يتطابق مع الزمن الخارجي؛ زمن تأبيدي يحفظ العلاقة في طقوس الذاكرة.

7. البُعد الديني والطقوسي:

المقامات الطقوسية: استعمال لغة مشحونة (جمر، صلاة ضمنيّة عبر الإيقاعات الليلية) تجعل من الحب طقساً يومياً مقدسًا: النوم على رماد الصوت، الفجر المذعور، كل ذلك يذكر بعناصر التكفير والقيامة الرمزية.

الاستعارات الدينية/الكتابية: استخدام مفردات مثل «وطن»، «جمر»، «نُزِف» قد تستدعي خلفياتٍ دينية/مقدّسة (ضحايا، تبرّع بالنفس، حِفاظ على شيء مُقَدَّس). النص لا يصرّح بمذهبٍ ما، لكنه يُفعل شعورًا دينيًا/روحيًا في الحب الذي يكتسب خاصية المُقدّس.

القداسة الشخصية: الحبيب يتحول إلى قدّاس داخلي؛ الحقيبة الوطن المقدّس تُحفظ كما يُحفظ المقدّس في النصوص الدينية.

8. البُعد الوطني/السياسي (قراءة استعاريّة):

١- الوطن والحقيبة: عبارة «وطنٌ نحمله داخل حقيبةِ السفر» تُقلب المعنى من علاقة وطن/مكان إلى وطن/حمل شخصي. هذا قد يرتبط بتجربة الشتات والنفي: الوطن يصبح ذاكرة شخصية محفوظة خشية السرقة أو الضياع.

٢- الخوف من السلب: «نخاف أن نضعه أرضًا كي لا يسرقهُ أحد» تُعبر عن شعورٍ جماعي تاريخي بالهشاشة أمام قوى خارجية — الحب كوعي وطني مُصغّر.

٣- التقاطع بين الخاص والعام: القصيدة تكشف أن الوجد الشخصي يمكن أن يكون متنًا لتجارب وطنية، وأن الحميميّة قد تصبح عملة مقاومة للحضور السلطوي أو النزوح الثقافي.

9. المستوى الجمالي: لُغة القصيدة وصورتها الفنية

١- التكثيف والصورة المركبة: التركيز على صور مركزة (جمر صوتك، وطن داخل حقيبة) يمنح القصيدة طاقة جمالية تُقنع القارئ بتصورٍ واحد قوي.

٢- التوازن بين العذوبة والمرارة: الأسلوب الحميمي المُقاس بالواقعية اليومية (النافذة، اليد) مع استعارات مؤلمة (النزف، الجمر) يولّد جماليةٍ مزدوجة: لحم وجرح.

٣- الأنا الشاعرة: صوتُ متكلمٍ أقوى ما في النص — يؤسس علاقة مباشرة وصريحة مع القارئ، تجعل من التجربة فردية لكنها قابلة للتعميم.

10. قراءة تفصيلية سطر بـ سطر (مقتطفات محورية):

«ليسَ الحُبُّ أن تأخذَ قلبي...»: افتتاحية تفكيك الفكرة النمطية للحب كامتلاك، وتوجيه القارئ نحو تعريفٍ بديل.

«أن تخلقَ في داخلي مكانًا لا يستطيعُ أحدٌ أن يسكنَهُ بعدكَ»: تكوين الحب كعمل خلقي؛ المكان هنا ليس مكانًا فيزيائيًا بل معمار نفساني.

«جمر صوتك... يستيقظُ منه الفجر مذعورًا»: تصوير صوت المحبوب كشرارة تبقى حيّة، والفجر كزمن يزلزلها — صورة للحضور الذي يزعزع الزمن.

«هو وطنٌ نحملهُ داخلَ حقيبةِ السفر»: تجسيد للحب كوطن، والحقيبة كرمز لحمل الذاكرة/الهوية خلال التنقل والتهجير.

«خذ كل شيءٍ مني... لكن اترك لي هذا المكان»: ذروة النص: استسلام ثنائي مع طلب حدود؛ الحب إذن توازن بين العطاء والحفاظ على مساحة ذاتيّة.

11. إمكانات قرائية واختلافات التفسير:

قراءة رومانسية بحتة: الحب كخلق داخلي واحتفاء بالجروح.

١- قراءة هجرة/نسيبية: الحقيبة والوطن يوحيان بتجربة اللاجئ أو المنفي — الحب يتحول إلى مخزون ذاكرة.

٢- قراءة دينية/صوفية: الجمر والرماد والدورة الليلية/الفجرية تُفهم كعملية تطهير وذكر.

٣- قراءة نقدية اجتماعية: الخوف من سرقة الوطن يشير إلى قلق ثقافي/سياسي، والحب عمل مقاومة نفسية.

كل قراءة مقبولة ضمن أفق هيرمينوطيقي شرط أن تُؤسَّس على دلائل نصية.

13. خاتمة:

قصيدة «ما الحب !؟...» لإيمان السويلمي نص غني متعدد المستويات: لغة حميمة متزنة بصور قوية، وتأويلات ممكنة تمتد من النفسي إلى الديني والوطني. تجعل القصيدة من الحب «خلقًا» داخليًا مقدسًا ـ جرحًا ووطناً في آنٍ واحد. هذا التداخل هو ما يمنح النص عمقه وإمكانية قراءات متجددة.

***

بقلم: عماد خالد رحمة - برلين

..........................

ما الحب !؟...

ليسَ الحُبُّ أن تأخذَ قلبي...

فكلُّ القلوبِ تُؤخذُ حينَ تُغوى،

بل الحُبُّ أن تخلقَ في داخلي

مكانًا لا يستطيعُ أحدٌ أن يسكنَهُ بعدكَ.

*

أن تتركَ في صدري

جمرَ صوتِكَ،

ينامُ على رمادهِ الليلُ،

ويستيقظُ منهُ الفجرُ مذعورًا...

*

ليسَ الحُبُّ أن نلتقي،

بل أنْ نظلَّ نلتقي

حتى ونحنُ غائبون،

أنْ أراكَ في ضوءِ النافذة،

وفي تجاعيدِ الوقت،

وفي ارتباكِ يدي حينَ أكتبُ اسمَكَ صدفةً.

*

الحُبُّ يا من كنتَ دهشتي

ليسَ وعدًا ولا ميثاقًا،

هو جرحٌ جميلٌ

ننزفُ منهُ كلَّ يومٍ دونَ أنْ نُشفى،

هو وطنٌ نحملهُ داخلَ حقيبةِ السفر،

ونخافُ أن نضعَهُ أرضًا

كي لا يسرقهُ أحد.

*

خذْ كلَّ شيءٍ منّي...

خُذْ أيامي، وضحكتي، ونومي،

لكنْ اتركْ لي هذا المكانَ الصغيرَ

الذي خلقتَهُ فيَّ،

فلا أنتَ تستطيعُ استرجاعَه،

ولا الزمانُ يستطيعُ محوَه.

 

تبدو سيرة الزهرة رميج الذاكرة المنسية (فضاءات، 2016) وكأنها لا تمثل نهاية لمسار إبداعي بل بداية لتأمل جديد في معنى الكتابة ذاتها. فالسيرة، التي جرت العادة أن تُكتب في ختام الرحلة بوصفها تتويجًا لمسار أدبي طويل، جاءت هنا لتُثير السؤال لا لتُجيب عنه: هل تمثل السيرة لحظة اكتمال، أم لحظة استعادة لماضٍ لا يكتمل أبدًا؟

الكتابة في جوهرها فعل استحضار للمنسيّ، والذاكرة هي منجمها الأول. كل سرد، مهما بدا متخيلًا، ينطلق من رواسب التجربة ومن ترسبات العيش التي يسعى المبدع إلى تثبيتها بالكلمات. هكذا تتبدى الذاكرة المنسية كرحلة داخل اللاوعي، محاولة للقبض على ما أفلت من التذكر، ولملمة الشذرات التي ظلت معلقة بين الذاكرة والنسيان.

وإذا كانت بعض مشاهد هذه السيرة تمتد جذورها في روايات الزهرة رميج السابقة مثل عزوزة وأخاديد الأسوار، فإن هذا الامتداد يؤكد أن السيرة تنبني على تراكم سردي يمهّد لها ويغذيها. فهي لحظة وعي بما سبقها من كتابة، ووعي الكاتبة بذاتها الكاتبة.

فرادة الذاكرة المنسية تتجلى في الطريقة التي وُلدت بها. فالكاتبة لم تُقرر كتابة سيرتها بدافع ذاتي، بل استجابت لطلب من قارئ مهتم، هو الأستاذ الجامعي رشيد بيي، الذي رأى في مسارها ما يستحق التوثيق البصري عبر فيلم وثائقي. غير أن هذا الفيلم لم يُنجز، وبقيت السيرة الأثر الوحيد لتلك الرغبة. تقول رميج في التوطئة: «ولأني مدينة بكتابة هذه السيرة لرشيد بيي»، اعتراف يضع السيرة منذ البداية في موقع «الاستدعاء»، لا «الاختيار». إنها سيرة تحت الطلب، كتبَتها لتستجيب لأسئلة الآخر، لكنها في العمق استجابة لأسئلة الذات.

من هنا جاءت بنية الكتاب على شكل مشاهد أو شذرات غير متسلسلة زمنياً. فالزمن في هذه السيرة ليس خطيًا بل استرجاعي، يتشكل من ومضات الذاكرة لا من ترتيب الأحداث. وهذا ما يمنح النص حيوية سردية، تجعله أقرب إلى حكايات تتقاطع فيها الذات بالآخر، والذاكرة بالكتابة.

وتُذكّرنا هذه الطريقة في كتابة السيرة بتجارب عربية أخرى أعادت النظر في معنى كتابة الذات. فجبرا إبراهيم جبرا في البئر الأولى وشارع الأميرات جمع شتات ذاته الموزعة في رواياته السابقة، ليحوّلها إلى سردٍ اعترافيّ ناضج. أما إحسان عباس، فكتب غربة الراعي بعد إلحاح من أخيه، رغم قناعته بأن حياته لا تستحق التأريخ، فإذا بها من أصدق السير في الأدب العربي الحديث. بينما محمد زفزاف رفض كتابة سيرته أصلاً، مفضلاً أن تُقرأ حياته في نصوصه الروائية، مؤكداً أن كل رواية كتبها كانت مرآةً له.

تتقاطع تجربة الزهرة رميج مع هؤلاء جميعًا في نقطة جوهرية: أن السيرة ليست قرارًا إراديًا بقدر ما هي استجابة لنداء داخلي أو خارجي يُعيد ترتيب العلاقة بين الحياة والكتابة. فالأدب، في النهاية، ينمو من تلاقح التجارب وتشابك المصائر الإنسانية، كما تنمو شجرة تتغذى من جذور الآخرين لتُثمر فرادتها الخاصة.

الذاكرة المنسية نصّ مفتوح على التأمل، واحتفاء بالكتابة كوسيلة لإنقاذ الذات من محوها. كتبته الزهرة رميج استجابةً لطلب، لكنها وجدت فيه لحظة مصالحة مع ماضيها، وإعلانًا بأن الكتابة لا تنتهي حتى حين تظن أنها تختم نفسها.

***

حسن لمين - كاتب مغربي

للشاعر: أحمد يوسف داود

تقف قصيدة "أُريدُ رَحيلاً لِهذا السَّواد" للشاعر السوري أحمد يوسف داود عند الحدّ الفاصل بين الفاجعة والرجاء، بين انكشاف الروح وخذلان التاريخ، بين عراء الحرف وفضيحة الواقع. إنّها ليست مجرّد قصيدة رثاء للوطن أو للزمن، بل محاولة لالتقاط ما تبقّى من الإنسان في لحظة السقوط، ولتضميد جراح المعنى حين تعجز اللغة عن حمل ثقل الألم. هنا لا ينطق الشاعر بوصفه فرداً، بل بوصفه ذاتاً جَمْعيّة، تتماهى مع رُوح بلادٍ تنهكها الحروب، تتفسّخ في سواد الخيبة، وتظلّ — رغم كل شيء — تبحث عن ضوءٍ غير مُسمّى.

تضع القصيدة القارئ أمام مسرحٍ هيرمينوطيقيّ معقّد، تتداخل فيه الأصوات، وتتقاطع الطبقات الشعورية، ويتحوّل الخطاب من الذاتي إلى الجمعي، ومن الوجداني إلى الرمزي، ومن الرثاء إلى صيغة احتجاج صامت. هي نصّ يطلب تأويلاً، لأنّ كلّ مفردة فيه تعمل كـ"علامة" تتجاوز حدود الكلمات إلى بنى أعمق من اللغة — إلى الجسد، والذاكرة، والذعر، والأسى الوطني الذي يتراكم منذ عقود.

وعلى مستوى البنية، تنتمي القصيدة إلى شعر الأزمة، حيث تتحوّل الوظائف السيميائية للأدوار (الفاعل، المفعول، المرسل، المتلقي…) وفق نموذج غريماس إلى منظومة متشابكة، يتبدّل فيها الفاعل بين الروح والوطن، ويتحوّل الوطن من كيان إلى جرح، ومن جرح إلى "سواد" يبتلع الذات. هذا السواد ليس لوناً، بل نظاماً وجودياً، شبكةً من الرموز التي تُختبر بالتأويل لا عبر القراءة السطحية.

تستدعي القصيدة مقاربات متعدّدة:

١- هرمينوطيقياً: نخوض في لُبس المعاني، وفي طبيعة الصوت الشعري الذي يتردّد بين الانكسار والرجاء.

٢- أسلوبياً: نتتبّع جرس الكلمات، نبرة الخفوت، الموسيقى الداخلية، انسياب الجمل نحو الحزن الكبير.

٣- رمزياً: نقرأ الظلمة والهشيم والرماد بوصفها استعارات لوعيٍ مأزوم ومجتمعٍ محطم.

٤- وجمالياً: نرصد انزلاق اللغة من فضاء التجميل إلى فضاء الشهادة.

٤- نفسيًا ودينيًا: نكشف التحوّلات في خطاب الروح: بين الخذلان، والابتهال، والسؤال الميتافيزيقي لحكمة العدالة والغيب.

٥- سيميائياً: نعيد اكتشاف ماهية "السواد" كفاعلٍ مهيمن قادر على ابتلاع الذات وتوجيه مصائرها.

بهذا المعنى، نحن أمام قصيدةٍ تُطلّ من شرفة الخراب، لا لتبكيه، بل لتسأل: هل ثمّة مخرجٌ من هذا السواد؟

إنّها قصيدةٌ تُستعاد لأنّها لا تُغلق باب التأويل، بل تُضاعف احتمالاته.

1. مقدّمة ومقاربة منهجيّة:

تستدعي هذه القصيدة قراءاتٍ مُتعدِّدة الأفق: هي نصٌّ وجدانيٌّ ووطنيٌّ في آنٍ، يشتغلُ على توترٍ بين الانفعال الفرديّ وجراح الجماعة. ستعتمد هذه الدراسة مقاربةً هيرمينوطيقيّة–تأويليّة للكشف عن نوايا النصّ وظلاله، مع توظيف المنهج الأسلوبي لقراءة الوسائل البلاغيّة والإيقاعيّة، والمنهج الرمزي للكشف عن دلالات الصور، ثم استحضار أداة غريماس السيميائيّة لاستخراج محاور الأدوار الفاعلة في حقل الدلالة. سنغوص أيضاً في البُنى النفسيّة والدينيّة الكامنة «تحت الجلد الشعري» ونقارن النصّ على مستوياتٍ عدّة: انفعاليًّا، تخييليًّا، عضويًّا ولغويًّا وجماليًّا. الهدف: إظهار كيف يصبح الحزن هنا تجربة وجوديّة-وطنيّة مُركّبة تُعيد تشكيل الذات وتؤسِّس خطابًا شعريًّا مقاومًا بالتحنّنِ على حدود اللغة.

2. قراءة هيرمينوطيقيّة - تأويلية: سياق النصّ وأفقه الدلاليّ

القصيدةُ تبدأ بلحظة «هَزيعٍ من الوحشة»؛ أي لحظةٍ فجرية/لحمية لوعيٍ مفجوع. الوقع الوجوديّ واضح: الروح تصرخ بلا صوت، وتخلع معطفها لتضمّد جراح البلاد. هذا الفعل الرمزي (خلع المعطف) يضع الذات في موقف عارٍ متحمّل، مستعدٍّ للمسح والعلاج، لكن في الوقت نفسه مكشوف أمام العنف التاريخيّ. القراءة الهيرمينوطيقيّة تقرأ النصّ كحكاية استدعاء:

الفرد يستدعي تعاطفَ الآخر—أو بالأدقْ يعلن عن استحالة التعاطف الكافي ("الدمع ماعاد يكفي")—وبذلك تُصبح القصيدة شهادةً ونَداءً ومضادًّا للصمت السياسيّ والاجتماعيّ.

نقرأ النصّ كذلك كأرشيف حزن: كلّ وحدة لفظيّة تضيف طبقةً من الألم، من الفردي إلى الجماعي، من الليل إلى القمر، من المطر إلى الرماد. الهيرمينوطيقا هنا تُظهر أن كلّ صورة ليست انعكاسًا فقط، بل عملُ تأويلٍ داخليّ يطلب القارئ أن يُكمل المقطوعة بإحساسه الشخصيّ والتاريخيّ.

3. الأسلوب والبناء البلاغيّ والإيقاعيّ

1. الأسلوب التكثيفيّ: الشاعر يعمل بتكثيفٍ عاطفيّ وبصريّ؛ الجمل قصيرة أحيانًا، تبدو كأنها تنهض من ألمٍ متهرِّئٍ.

2. التكرار والتحوير: تتكرّر صور البكاء، الليل، القمر، والرماد، لكن مع تحويرٍ طفيف يثبّت حركة النصّ: من البكاء كفعلٍ فرديّ إلى البكاء كغريزة اجتماعيّة.

3. الأسلوب التصويريّ/الانفعاليّ: الصور التشخيصيّة (الروح تصرخ، الليل يرسل أقمارَه) تمنح النصّ حيويّةً أسطوريّة، تجعل الموت/الدمع/الفرحُ رموزًا عامّة.

4. الإيقاع الصوتيّ: تناغم الحروف الساكنة والمتحركة، وتوظيف الوقفات (علامات التعجب والاستفهام) يخلق إيقاعًا مُتقطّعًا ينسجم مع حالة الفزع واليقظة.

4. السيمياء (منهج غريماس): أدوارٌ ومحاور داخل الحكاية الشعريّة

نحاول هنا تطبيق مخطط غريماس لتحويل البنية الدلاليّة إلى شبكة أدوار:

١- المرسل: القصيدة/الذات الشاعرة التي تطلب الرحيل وتُعلِن الفاجعة؛ قد يُقرأ المرسل أيضاً كـ«الضمير الوطني» الذي يتوجّه إلى القارئ أو التاريخ.

٢- المرسل إليه/المرسَل إليه: القارئ، الجماعة، أو الضمير الجمعيّ (البلد، المواطن). أيضاً يمكن أن يُنظر إلى «البلاد» كمرسل إليه يحتاج إلى الإنقاذ.

٣- الموضوع/المطلوب: «رحيل هذا السواد»—رحيل الظلمة/الحزن/الاحتلال/اللاعدالة؛ هو الهدف الذي تطمح الذات إلى تحقيقه أو رؤيته.

٤- الفاعل/البطل: الروح الشاعرة، أو الذات المتكلّمة التي تقوم بفعل النداء والعلاج.

٥- المساعدون: صور الليل/القمر/البكاء—كعناصر تُسهم في التعبير وكوسائل إثبات الوجود؛ أو الدموع التي هي "لم تعد تكفي" فيصبح المساعد عاجزًا، لكن مفرداته تساعد على بناء الحزن.

٦- المعارضون/المعوقات: السواد/الخذلان/الخيانة/الظلم—قوى تمنع الرحيل، أو تجعل الرحيل تعبيرًا عن اليأس. كذلك «الصمت» كمُعارض (عدم الاستجابة).

٧- المرسل الحقيقي/النهائي: التاريخ، القدر، أو الذاكرة الجماعية التي تدفع بالذات إلى الصراخ.

بهذا التوزيع، النصّ يكشف وظيفةً حكيّة: هو ملحمةُ نداءٍ لا تنتهي، حيث الذات (الفاعل) تُسعى لإيجاد مخرج (الرحيل عن السواد)، لكن المعوقات تتحوّل إلى قوىً داخليّة تُجمد الفعل وتعيده إلى دائرة التكاثر.

5. البُنى النفسيّة والدينيّة تحت الجلد الشعريّ

البنية النفسيّة:

فعل الخلع (خلع المعطف): فعلُ تعرٍّ أمنيّ ونفسيّ؛ يمثل رغبة في مواجهة الجرح مباشرة دون وسائط. يشير إلى نوع من التضحية الطقسيّة: عرض الجسد/الروح للعلاج على الرأي العام. نفسيةُ الضحية هنا مزيج من الصدمة واليقظة: تصرخ الروح بلا صوت لأنّ اللغة قد هُمشت.

١- الإنهاك والجمود: "الدمع ماعاد يكفي" = نفاد الوسائل التقليدية للشفاء؛ هذا هو مؤشر انكسار جماعيّ/نفسيّ.

٢- الاستسلام الإجرائي: الجزء الأخير "فدعوت البكاء... ولكنه راح يخدعنِي" يشي برؤية نفسيّة عن الخداع: الحزن الذي يتحوّل إلى روتين خدّاع يمتصّ الفعلَ ويترك الروحَ سوداء.

البنية الدينيّة والطقوسيّة:

القصيدة توظّف رموزًا تضرب في العمق الدينيّ: الليل/القمر/المطر/الرماد—كلّها صور ذات نبرة طقوسيّة. المطر هنا ليس رحمة فحسب، بل "مطر من ذهول"؛ رمزيته تتحرّر من دلالتها القرآنيّة/التقليديّة لتصبح حالة وعي. الرماد له دلالة الترميم والتطهير من جهة، ودلالة الهلاك من جهة أخرى.

فعل الدعاء والدخول في حالة "قلقٍ آمل" يُشير إلى توتر دينيّ: ثقة مُعلقة بين استدعاء الفرح وانتظار معجزة أو رحمة إلهيّة لا تأتي. هذا التوتر يطرح الأسئلة الكبرى عن وجود الله/القدرة الإلهية في زمن المصاب.

6. المستوى الرمزي والدلاليّ (تفكيك الصور المفتاحيّة)

الروح تصرخ من غير صوت: الصرخة الصامتة كرمز للمعاناة التي لا تُسمع—سواء بفعل القمع أو بفعل النشاز الكلاميّ.

١- خلع المعطف: إشارة إلى التخلّي عن الحِمى، أو التقدم لشفاء الجراح؛ قد يرمز كذلك إلى فقدان الحماية والكرامة.

٢- الدمع الذي ما عاد يكفي: يرمز إلى استنفاد وسائل الحزن التقليدية، والانتقال إلى حالة من الفراغ العاطفي/الاستسلام.

٣- الليل وأقمارُه: الليل يتصرف كمن يواسي، لكن الأقمار هنا قد تكون أقنعة تواسي أو تدّعي الرفقة؛ "قمرٌ يستحي" يكشف عن مفارقة: حتى عناصر الكون تشعر بالخجل أمام حجم الفوضى.

٤- مطر من ذهول وغيمة من رماد: المزج بين المطر (رمز للحياة) والرماد (رمز للهلاك) يولّد دلالة مركّبة: الحياة تصفرّ، والهلاك يصبح هو ماء الوجود.

٥- السرير الضيّق للبكاءِ: صورة جسمانيّة تُحوّل البكاء إلى فعلٍ عضويّ عيان—والتجمّد من الحَسرة يشير إلى موتٍ داخليّ للأحاسيس.

٦- الخيانة والعمر: مخاطبة "يا صديق الخيانات يا عمر" تُحوّل الزمن إلى مُتآمر؛ العمر ذاته يحمل خياناتٍ لا تُغتفر.

7. شرح بعض المفردات الدلاليّة والعمل اللغوي عليها

١- هَزيعُ الوحشة: "هَزيع" لحظة فجرية أو شُعاع، هنا تربط الوحشة بلحظة تحوّل؛ الوحشة ليست حالة دائمة بل لحظة مُعلنة.

٢- مِعطفُها: ليس مجرد لباس، بل عنوانٌ للحمى والاحتماء، والخلع هنا رمز للشجاعة أو العري.

٣- مَخذولة: صيغة مبالغة للخذلان، تحمل معنى التترك وعدم الإمكان؛ الروح "مخذولة" أي مُترَكة على الحزن وحده.

٤- مباذلُ ما يدّعي: كلمة مركبة؛ "مباذل" جمع مبْذَل؟ تُقرب إلى مَناحي العرض والتباهي—القمر "يستحي" من تظاهر الكون بما ليس فيه.

٥- مطر من ذهول: تركيبٌ جديدٌ ومبتكر، يقوّي البُعد الإبداعيّ في النصّ؛ المطر ليس هنا سببًا للحياة بل نتيجة ذهولٍ جماعيّ.

٦- هَباءٌ يمرّ بلا صخب: الرمز إلى عبثية الدنيا؛ الهباء موت بلا أثر.

8. المقارنة التحليلية على مستويات متعددة

أ. المستوى الانفعالي:

النصّ يعتمد على تصعيدٍ انفعالي: من الصرخة الصامتة إلى استدعاء البكاء إلى استسلامٍ ثقيل. الانفعال هنا متدرّج لكنه متراكم—لا ينفجر في ثورة واحدة، بل يتراكم كما يتراكم الرماد على لهب لم يعد قابلاً للاحتراق.

ب. المستوى التخييلي (الخيالي):

الخيال في القصيدة غنيّ ومباشر: صور الليل/القمر/المطر والرماد تولّد هذا العالم اللامرئيّ الذي يمثل الوطن والذاكرة. التخييُل هنا وسيلةٌ لصياغة الحقيقة القاسية بطريقة تجعلها قابلة للتحمل والشهادة.

ج. المستوى العضوي (الجسدي):

القصيدة توظيفٌ للجسد: المعطف، السرير، دمعُ العين، تجمّدُ الحسرة—كلّها مؤشرات على أن الحزن ليس مجرد حالة ذهنية بل احتلال للجسد. هذا التحويل يجعل من الحزن مرضًا عضويًا، ومن الشعر دواءً أو شهادةً.

د. المستوى اللغوي والأعراف الجمالية

لغويًا، النص يختزل ويكثّف ويبتكر تراكيب تشدّ الانتباه ("مطر من ذهول")، ويتحرّك بين مستوى البيان والمجاز والصورة الأسطورية. من حيث الأعراف الجمالية، القصيدة تنتمي إلى مدرسة حداثيّة متأثرة بالرؤية الرمزيّة/الوجوديّة: قصيدة الشهادة، قصيدة الوطن الممزق، وقصيدة السرد الذاتي–الاجتماعي.

9. لحظة الإدهاش وجوهر النصّ:

لحظةُ الإدهاش في النصّ تتجسّد حين يتقاطعُ المفهومُان المتقابلان: المطرُ (رمز الحياة) و/مع الرماد (رمز الهلاك). هذه المفارقة تُحدث صدمةً معرفيّة تُجبر القارئ على إعادة قراءة العالم: الحياة تصبح مادةً للدهشة والهلاك يصبح ماء الوجود. الإدهاش أيضًا في عبارة "الدمع ماعاد يكفي الفواجع"؛ إدهاشٌ أخلاقيّ: لم يعد العالم قادراً على استيعاب المآسي، وحتى أدوات التعزية تنهار.

جوهر النصّ: هو صرخة توثّق فقدان فعل الراحة/العزاء في زمن الأزمات، وهو رغبة في الرحيل، لكن الرحيل هنا ليس خروجاً جغرافياً محضاً بل هجرة روحيّة عن سطوة السواد. الرحيل رمز لتحوّل، للبحث عن مشهدٍ إنسانيٍ أقلّ تلوّثاً.

10. انساقٌ معرفيّة ونهايةٌ تفسيرية:

النصّ يعمل عبر أنساق معرفيّة متداخلة:

١- أنساقُ الذاكرة والتاريخ: الجراح كذاكرةٍ جماعية.

٢- أنساقُ المعنى الديني/الطقسي: المطر/القمر/الرماد تُستدعى بصفتها إشاراتٍ طقسيّة.

٣- أنساقُ الجسد: الحزن كمرض عضويّ.

٤- أنساقُ البلاغة: التجريد، التكثيف، والابتكار اللغويّ.

٥- التفسير الخاتمي: القصيدة هي شهادةٌ شعريّة تطالب بالرحيل كخيار إنسانيّ أخلاقيّ عند حدود الاستحالة. إنها ليست نزعة انفعاليّة هاربة بل محاولةٌ لإعادة تركيب الذات مقابل الخراب. الشاعر هنا لا يُسقط الخسارة فحسب، بل يحاول جعلها مادة فاعلة للوعي والشعر: تحويل الألم إلى خطاب يطالب بالرحيل—ربما ليس هروبًا، بل ولادةً ممكنة.

11. توصيات بحثيّة ونقديّة لاحقة:

1. تحقيق نصّي: مقارنة مخطوطات/طبعات القصيدة إن وجدت، لتتبّع التبديل اللفظيّ.

2. دراسة علاقية مع نصوصٍ وطنية ومعاصرة حول نفس الثيمات (الحزن، الرحيل، السواد) لمقارنة الأوجه الأسلوبيّة.

3. قراءة نفسية أعمق: تطبيق مناهج التحليل النفسيّة (فرويد/يُونْغ) على الصور (الرماد، المعطف، السرير) لاستنباط آليات التكافل/الانفصال.

4. بحث سيميائي تطبيقيّ أوسع باستخدام غريماس: تحليل شبكيّ يتجاوز الأدوار إلى علاقات الحقول السرديّة.

خاتمة:

قصيدة «أُريدُ رَحيلاً لِهذا السَّوادْ!» هي نصٌّ مركّب—وجوديّ ووطنيّ، جسديٌّ ورمزيّ—يُقدّم تجربةً شعريّةً بليغةً عن استنفاد وسائل العزاء وعن الرغبة في الرحيل كخلاص. بالعمل عبر أدوات الهيرمينوطيقا والأسلوب والتحليل السيميائي لغريماس نكتشف لوحةً شعريّةً تتكوّن من جراحٍ جماعيّةٍ تُحوّل الشاعر إلى شاهدٍ، وإلى مبكيٍ ومُدَوِّنٍ لتاريخٍ لا يريد أن يُنسى. النصّ يدعونا، في النهاية، إلى أن نُسمع صرخته من غير صوت، وأن نُعيد التفكير في الرحيل كعمل مقاومةٍ وجوديّة.

***

بقلم: عماد خالد رحمة - برلين

............................

أُريدُ رَحيلاً لِهذا السَّوادْ!.

بقلم: أحمد يوسف داود

في هَزيعٍ من الوَحشةِ

الرُّوحُ تَصرُخُ من غَيرِ صَوتٍ

وتُلقي بِمِعطفِها جانِباً

كي تُضمِّدَ ـ عارِيَةً ـ ما تَرى

من جِراحِ البلادْ!.

*

أَعوَلَتْ بُرهَةً من فَجيعَتِها

إنّما الدَمعُ ماعادَ يَكفي الفَواجِعَ..

أنّتْ فَضاقَ الأنينُ بِها

فأقامَتْ على الحُزنِ مَخذولةً

في ثِيابِ الحِدادْ!.

*

يُرسِلُ اللّيلُ أقمارَهُ كي تُسامِرَها

فتُفيقُ مَواجِعُها:

كلُّ مافي فَمِ الأرضِ صَوتُ نَشيجٍ

فمَنْ سوف يَمسحُ أجْفانَها

كي تَذوقَ الرُّقادْ؟!.

*

يَستَحي قَمرٌ من مَباذِلِ ما يَدّعي

فيغيبُ على خَجلٍ والبَقيَّةُ تُغمِضُ..

والروحُ مَشغولةٌ بِأساها

يَفيضُ على لَيلِها مَطرٌ من ذُهولٍ

تَغّصُّ بهِ غَيمَةٌ من رَمادْ!.

*

لَمحةٌ من هَباءٍ تَمُرُّ بلا صَخبٍ..

كيف ضاق سَريرُ البُكاءِعلى دَمعِهِ

فتجَمَّدَ من حَسرةٍ؟!..

ياصَديقَ الخِياناتِ ياعُمرُ

هل ظلَّ للرّوحِ من فرحٍ قد يُعادْ؟!.

*

لاتُجِبْني فإني على قَلقٍ آمِلٍ..

(ماتَفتّحَ وَردُكَ يَوماً لأُبصِرَ أَلوانَهُ)

هكذا قالتِ الرُّوحُ لي فدَعَوتُ البَكاءَ..

ولكنّهُ راحَ يخدَعُني فأَلِفْتُ الخَديعَةَ

حتى تَصيَّدَ روحي السَّوادْ!.

 

تبدو رواية قصر التاجر للكاتبة منى الثابت وكأنها ليست عن المسيب فحسب بل عن الإنسان في علاقته بالمكان حين يصبح المكان ذاكرة وهوية وكياناً فاعلاً فالكاتبة لا تقدم المدينة بوصفها فضاءً جغرافياً ثابتاً بل ككائن يخلق أبناءه، ويمتص تاريخهم ويعيد إنتاجهم في سرديته الخاصة.

 "قد يصعب تحديد ميلاد وعينا بالوجود في هذا العالم بدقة، هل يولد لحظة إبصارنا النور؟ أم لحظة نطقنا الكلمة الأولى؟ أم إنه لاهذا ولاذاك؟ يقيناً، إنه حين تبدأ الذاكرة تسجيل أول المشاهد، أول خطوة على طريق الحياة الدبق المعبد بصمغ الذكريات والمشاعر"

"فأبعد ذكرى تُشكل البداية، وماقبلها اللاشيء..."

منذ المشهد الافتتاحي للرواية، حيث يُعاد بعث البطلين من نجمين في السماء إلى جسدين على الأرض، تضعنا الرواية أمام رؤية كونية أنثروبولوجية للمكان، المكان ليس مجرد خلفية للأحداث، بل أصل الوجود ذاته.

أنثروبولوجيا القصر.. الطبقة والسلطة والذاكرة

القصر في الرواية ليس بناءً معمارياً، بل بنية اجتماعية، إنه يمثل البيت الكبير كما يسميه علماء الأنثروبولوجيا أي النظام الرمزي الذي يُعيد إنتاج الهرمية والسلطة والتمييز بين السيد والتابع، الرجل والمرأة، النخبة والعامة.

" لم تخلع الخاتون السواد مذ توفى زوجها، ولزمت الإمساك بعصاه لا لحاجة بها، إنما كجزء من هندامها ..كما داومت على التختم بخاتمها الذهبي المزين بحجر فيروز دائري الشكل، مكملاً لشكل يدها المعروقة التي وشمتها بنقاط خضراء اللون .."

الخاتون الكبيرة، بما تحمله من سلطة مهيمنة، والباشا، رمز النظام الأبوي ـ الإقطاعي، يشكلان وجهين لسلطة المكان، في حين تأتي شخصية شمسة بوصفها محاولة لكسر هذه البنية عبر وعيها المختلف وجسدها الرافض للتوريث الرمزي للعبودية الأنثوية.

شمسة والبحث عن ضوء المكان

تمثل شمسة في الرواية الوجه الإنساني للمكان، تسكنها المسيب كما تسكن النخلة الفراتية عذوبة الماء ومرارة الملح، شمسة ليست بطلة في سياق رومانسي فقط، بل هي امتداد لأنثى الأرض العراقية، التي تُعيد تشكيل الذاكرة الجمعية في مواجهة التسلط العثماني والثورة المتأخرة.

" شمسة ذات الستة عشر ربيعاً، كان لها من أسمها نصيب شكلاً ومضموناً . أفصحت ملامحها بصدق عما وراءها فلم تكُ بكماء الملامح  وجهها البيضوي وضّاء القسمات بسحنته الحنطية وشى بحيويتها …."

من منظور أنثروبولوجيا الأدب، يمكن القول إن شمسة تجسد ما تسميه مارغريت ميد "الذات الثقافية" أي المرأة التي تعي موقعها في نسق اجتماعي - رمزي وتعيد إنتاجه من داخل التجربة لا من خارجها.

" أبطنت شمسة سيلاً من الاستفهامات نحو مسلمات كثيرة يُحظر عليها الخوض فيها، وهذا ماجعلها تجاهد تمردها المستتر بتصرفات مثالية بعض الشيء تكفيراً عمّا اعتقدت أنه سوء في سريرتها.."

الفرات بوصفه أرشيفًا ثقافياً

نهر الفرات في الرواية ليس مجرى مائياً بل حامل للزمن الاجتماعي؛ هو شاهد على التحولات من زمن العبودية إلى زمن الثورة، من التقاليد إلى الأسئلة الوجودية،فكل مشهد على ضفافه يعيد ترتيب العلاقة بين الإنسان والمقدس، بين الذاكرة والأسطورة، وكأن الكاتبة يستخدم الفرات كـ"أرشيف أنثروبولوجي" يحفظ روح الجماعة، وأحلامها، وخيباتها.

الرواية كبحث أنثروبولوجي

ينتمي قصر التاجر إلى ما يمكن تسميته بـ الأدب الأنثروبولوجي؛ أي الأدب الذي يتعامل مع الإنسان بوصفه نص ثقافي مفتوح، ويُعيد قراءة العادات، المعتقدات، اللغة، والسلطة من داخل السرد.

" تزين مضيف النساء بباقات الورد الدمشقي بمختلف ألوانه، وتخلل أغصان الياس . وضعت الباقات في مزهريات كريستال على طاولات الخشب الجانبية بين الأرائك، حيث وضع على كل طاولة مزهرية وشمعدان فضي وكمكُم أو كلبدان (عبارة عن إبريق نحاسي صغير له شكل الكرة من الوسط بقاعدة مخروطية وعنق طويل ورفيع ينتهي بما يشبه الزهرة المثقبة، يستعمل لرش ماء الورد وأحياناً تثبت في ثقوبه أعواد البخور الرفيعة) أما الطاولة الكبيرة في الوسط فقد وضعت عليها مزهريتان …"

خاتمة: من سرد المكان إلى وعي المكان

في نهاية الرواية يتضح أن المسيب ليست مجرد إطار زمني أو مسرح للأحداث، بل ذاكرة جمعية تتجسد عبر اللغة فكل حجر وبستان وضفة نهر في النص هو كائن يروي حكايته الخاصة.

بهذا المعنى يحول الكاتب المكان من فضاء مادي إلى فضاء رمزي ـ أنثروبولوجي، ومن الجغرافيا إلى الوجود.

" وقفت شمسة مع نجيب في الشرفة المطلة على الفرات يتأملان غروب الشمس، فقالت شمسة بيقين وبراءة:

- صدقت أمي عندما أخبرتني أن الشمس حين تغيب تغفو في النهر

- أبتسم نجيب لكلامها ثم وجه إليها سؤالاً ماكراً:

وكيف يكون الماء بارداً ليلاً وقد نزلت الشمس فيه ياشمسة؟

اتسعت عيناها وردت بثقة كبيرة :

لأن الشمس نائمة …."

رواية قصر التاجر هي نص عن المكان في جوهره، عن كيف يصنع الإنسان المكان، وكيف يُعيد المكان صناعة الإنسان إنها شهادة أدبية على أن المكان في الأدب العراقي ليس ديكوراً بل ذاكرة حية تقاوم النسيان.

***

د. فاطمة الثابت

لست أدري من الذي اقترح شعار «الرِّياض تَقرأ» شِعارًا لمعرض الرِّياض الدَّولي للكِتاب. غير أنَّه يظهر أنه لا يُدرِك دلالات مثل هذه العبارة، التي تبدو هزليَّة ساخرة، يمكن أن تُقال عن صَبيٍّ أضحى يقرأ، إجابة عن سائل: أهو يقرأ؟ أو عن أُمِّيٍّ تعلَّم القراءة على كِبَر، فصار يقرأ! ومن هنا فإنَّ هذا الشِّعار ينطوي على إهانةٍ للرِّياض وأهلها، وكأنَّنا نقول للعالم: «الحمد لله أيها الناس، (الرِّياض تَقرأ أخيرًا، أو تفكُّ الخط)!» يا للفخر، بشَّرك الله بالخير، هذا خبر مدهش حقًّا!

هٰكذا قفز بنا (ذو القُروح)، بلا مقدِّمات إلى هذا الموضوع. فتساءلتُ:

ـ «الرِّياض تَقرأ؟» معقول؟!

ـ بالطبع (الرِّياض) تَقرأ منذ أن أصبحت عاصمة للمملكة، وكانت قبل ذلك، كما تقرأ عواصم عَرَبيَّة أخرى منذ القِدَم؛ بمعنى القراءة الثَّقافي والحضاري. بل إنَّ القراءة والكتابة ثمرةٌ عَرَبيَّةٌ أصلًا، منذ ابتكر الكنعانيُّون أو الفينيقيُّون العَرَب رموزها في القرن العاشر قبل الميلاد تقريبًا، وما كان العالَم يعرف قبلئذٍ أبجديَّةً قط، وإنمَّا عرف الكتابة المسماريَّة المقطعيَّة في(العراق)، أو التصويريَّة الهيروغليفيَّة في (مِصْر). والكتابات الأوغاريتيَّة الكنعانيَّة- المكتشفة حديثًا بقرية (رأس شُمرة)، شمالي مدينة (اللَّاذقيَّة) في (سوريَّة)- هي بعض شواهد على تاريخٍ من تعليم العَرَب العالمَ القراءة والكتابة، وإنْ بات تاريخهم المعاصر تعتوره عُقَد النقص، حتى إنَّه ليُباهي بأنه: يَقرأ، كبقيَّة خلق الله!

ـ لعلَّ تلك العبارة «الرِّياض تَقرأ» ما هي إلَّا اجترار لعبارة، لا تقلُّ سقمًا، أُطلِقت خلال القرن الماضي: «القاهرة تَكتب، وبيروت تَطبع، وبغداد تَقرأ».

ـ وهي كذلك عبارة فكاهيَّة؛ وكأنَّ (القاهرة) لا تَقرأ، بل تَكتب فقط، أو كأنَّ (بغداد) لا تَكتب، بل تَقرأ، أمَّا (بيروت)، فلا تَقرأ ولا تَكتب، وإنَّما تطبع! وأمَّا بقية العَرَب، فلا يقرؤون ولا يكتبون ولا يطبعون، طبعًا! كلام بلا محصول، يُعْجِبُ العُربان لما فيه من ضروب البديع والتلاعب بالألفاظ، الذي يَطربون له عادةً! والواضح من هذا كله أنَّ العَرَب المتأخِّرين مغرمون عمومًا برنين الألفاظ، والترديد طربًا بما يسمعون، بلا تفكير في معناه.

ـ كيف؟

ـ ثمَّة ظاهرة ثقافيَّة عَرَبيَّة لافتة من خلال هذا السياق. وهي أنه ما أن تُطلَق عبارة، مهما كانت ركيكة، أو غير موفَّقة في مبناها ومعناها، حتى يتبارَى العَرَب، ولا سيما عبر الإعلام، في علكها دهرًا من الدُّهور، حتى ينجم غيرها. ما يذكِّرنا بالعبارة العَرَبيَّة القائلة: «فسارت مثَلًا!» مع الفارق؛ من حيث إنَّ المثَل إشارة إلى موقفٍ قصصيٍّ بعبارة مختزلة دالَّة. بخلاف ما نحن بصدده، وإنَّما الشاهد في الظاهرة الثقافيَّة العَرَبيَّة من حبِّ التكرار والترديد، بلا تفكير في المعنى. وربما جاءت هذه الظاهرة امتدادًا أيضًا للأنماط الشفويَّة الجماعيَّة التي لفتت (مليمان باري وألبرت لورد)، أو (جيمز مونرو)، في التراث الشِّعري الشَّفوي العَرَبي؛ إذ ما أن يقول شاعرٌ صيغةً شِعريَّةً معجِبة، حتى تجترُّها أفواه العشرات من الشعراء، لعقود من السنين أو لقرون.(1) وتلكم ثقافة القطيع: تثاءبت القبيلة كلُّها، لمَّا تثاءب شيخها!

-2-

ـ من حكاية «الرياض تَقرأ»، وسالفة الترديد بلا تفكير، دعنا نستأنف القراءة في قضيَّة النَّظم والنصِّية، التي قاربنا بعض جوانبها في المساق السابق. فآفة الترديد ليست بشفويَّة فحسب، بل هي مستشرية في عالم الكتابة والكتَّاب أيضًا.

ـ قد رأينا كيف انتهى الأمر بـ(أبي حيَّان التوحيدي)(2) إلى أن يثلب في كتابه «مثالب الوزيرين» نفسه هو وفهمه، بل إلى أن يثلب أدبه، حينما استدعته مناكفة بعض معاصريه، ممَّن يجمعون بين الشِّعر والكتابة، إلى الخروج من الكتابة الأدبية إلى التنظير النقدي. فإذا هو يخلط الحقَّ بالباطل، والنثر بالشِّعر، مستحسنًا قول القائل:

وإنَّ أَشعَـرَ بيتٍ أنت قائلُـهُ

بيتٌ يُقال، إذا أَنشدتَـهُ، صَدَقـا

وكان خليقًا- لو كان يعي ضُروب الكلام كما ادَّعى، وافتراق طبائعها ووظائفها- أن يكتب: «وما أبردَ ما قال القائل:...»! كما كان حقُّ البيت الذي رفع رايته أن يكون:

وإنَّ أَسخفَ بيتٍ أنت قائلُـهُ

بيتٌ يُقال، إذا أَنشدتَـهُ، صَدَقـا!

وهنا جلَّينا البون الشاسع بين (أبي حيَّان التوحيدي، -414هـ) و(عبدالقاهر الجرجاني، -471/ 474هـ) في الوعي النصوصي. ونضيف إنَّ لأبي حيان بعدئذٍ أن يردِّد علينا، معتذرًا أو هاجيًا، مع (شِمْر بن عمرو الحنفي)(3):

لَـوْ كُنْتُ في رَيْمانَ لَسْتُ بِبارِحٍ

أَبَــدًا وسُدَّ خَصاصُهُ بِـالطِّينِ

لِـي فـي ذَراهُ مَآكِـلٌ ومَشـارِبٌ

جــاءَتْ إلَـيَّ مَنِيَّتِـي تَبْغِينـي

ولَقَدْ مَرَرْتُ عَلَى اللَّئِيمِ يَسُبُّنِي

فَمَضَيْتُ ثُمَّتَ قُلْتُ لا يَعْنِيني(4)

غَضْـبانَ مُمْـتَلِئًا عَلَـيَّ إِهـابُـهُ

إِنِّــي ورَبِّكَ سُخْطُهُ يُرْضِِينـي

يا رُبَّ نِكْسٍ إِنْ أَتَتْـهُ مَنِيَّتي

فَرِحٍ وخِرْقٍ إِنْ هَلَكْتُ حَزِينِ

-3-

ـ ماذا عن (النَّظم)؟ [سألتُ].

ـ أمَّا نَظْم الشِّعر، فمنه هوسٌ مَرَضيٌّ لدَى بعض الشُّعراء بنظم القوافي، يُفسِد بناء القصيد، ويضيع معه المعنى. و(هوسيَّة النَّظم، وتضييع المعانى) يتجلَّيان، مثلًا، في قصيدة (أحمد شوقي)، تحت عنوان «في الانقلاب العُثماني وسقوط السُّلطان عبد الحميد».(5)

ـ معروف أنَّ (شوقيًّا) كان يكتب شِعره كـ(جريدة يوميَّة)، لا يفوِّت حادثةً في العالَم أجمع إلَّا عرَّج عليها بقصيدة طويلة.

ـ وما كذلك الشِّعر، لا عند العرب ولا عند غيرهم، منذ أن عُرِف الشِّعر. ولذلك، كان يسرد مطوَّلاته، التي يُعِدُّ لها قوائم القوافي، كما يُعِدُّ صاحب مطعمٍ قوائم الطعام. حتى يبدو أنه لا يترك كلمة في معجم (الفيروزآبادي)، «القاموس المحيط»، أو غيره، إلَّا استقصَى النَّظْمَ عليها.

ـ ولقد كان باعث تأليف تلك المعجمات أصلًا خدمة الشُّعراء النظَّامين، من أمثال (شوقي)، ومن سلف على شاكلته من الناظمين.

ـ ولذلك لا غرابة أن تجد في قصائده كثيرًا من الحشو، والركيك إلى جوار الرَّصين، والأبيات التي لا تضيف إلى المعنى شيئًا يُذكَر. ففي تلك القصيدة، التي يستهلُّها ببيته:

سَل يَلـدِزًا ذاتَ القُصـورِ

هَـلْ جاءَهـا نَبَـأُ البُـدورِ

ستسبح مضطرًّا في بيته:

والرَّوض فـي حَجـْمِ الـدُّنا

والبَحـر فـي حَجـْمِ الغَديرِ

وهو من تلك الأبيات المحشوَّة حشوًا، لا لشيء سِوَى للإتيان بكلمة (الغدير). ثمَّ هو هنا يتحدَّث عن أميرات القصور العثمانيَّة. ليقول عنهنَّ بعد أبيات:

أَمسَــينَ فــي رِقِّ العَــبيـ

ـلِ وبِتْـنَ فـي أَسْـرِ العَشيرِ

مــا يَنتَهِيـنَ مِـنَ الصَّـلا

ةِ ضَــراعَـةً ومِــنَ النُّـذورِ

يَطلُبـــنَ نُصـــرَةَ رَبِّهِــنَّ

ورَبُّهُـــــنَّ بِـلا نَصــــيرِ

صَــبَغَ السَّــوادُ حَـبِـيرَهُنَّ

وكــانَ مِن يَـقَـقِ الحُـبـورِ

فلا تدري ماذا أراد أن يقول عنهن؟

ـ بل كيف أمست هؤلاء الأميرات في «رِقِّ العَبيل»؟

ـ كأنَّه لم يجد كلمة أخرى غير «العَبيل». ولو قال: «في رِقِّ العَبيد»، لكان قال شيئًا ذا معنى.

ـ ثمَّ ما علاقة «الصلاة» و«النذور» بالموضوع؟

ـ العلاقة أنَّ في بطن الشاعر كلمة (النذور) على حرف الراء، ولا بدَّ أن يضع عليها بيتًا. وإلَّا أنَّى له بنظم ثمانين بيتًا في الموضوع، إنْ لم يستغلَّ للتقفية كلَّ الكلمات ذات الرِّدف المنتهية بالراء؟! بل أنَّى له أن يُعَدَّ «أمير الشُّعراء» دون تلك المطوَّلات النَّظْميَّة؟!

***

أ. د. عبد الله بن أحمد الفَيفي

..............................

(1)  إشارة إلى نظريَّة (مليمان باري)، التي لخَّصها تلميذه (ألبرت لورد)، حول النَّظم في الملاحم اليوغسلافيَّة. (يُنظر مثلًا: Lord, Albert, The Singer of Tales؛ مونرو، جيمز، النَّظْم الشَّفوي في الشِّعر الجاهلي).

(2)  (1992)، أخلاق الوزيرَين: «مثالب الوزيرَين الصَّاحب بن عبَّاد وابن العميد»، تحقيق محمَّد بن تاويت الطنجي، (بيروت: دار صادر)، 8- 9.

(3)  الأصمعي، (1993)، الأصمعيَّات، أحمد محمَّد شاكر وعبدالسلام محمَّد هارون، (القاهرة: دار المعارف)، 141- 142.

(4)  في رواية «أَمُرُّ على اللَّئيم». وهي أبلغ؛ لدلالة على أنَّ ذلك ديدنه، وليست بحالةٍ بعينها. وثُمَّت: بمعنى ثُمَّ. قال (الفراهيدي، العَين، (ثم)): «ثُمَّ: حَرْف من حروف النَّسَق، لا تُشرِّكُ ما قبلَها بما بعدَها، إِلَّا أنَّها تُبَيِّنُ الآخِرَ من الأوَّل، ومنهم مَن يُلزِمُها هاءَ التأنيث فيقول: ثُمَّتَ كانَ كذا وكذا.» وثُمَّ، وثُمَّتَ، وثُمَّتْ، كلُّها: حروف نَسَق. وقليلًا ما تجد إعلاميًّا معاصرًا يفرِّق بين (ثُمَّ) و(ثَمَّ)؛ فتسمعه يردِّد: «ومِن ثُمَّ»! وهو تعبير لا علاقة له باللُّغة العَرَبيَّة. والصواب: «ومِن ثَمَّ»، أي «ومن هناك». على الرغم من أنَّ «ثَمَّ» كلمةٌ ما زالت مستعملة في بعض لهجات الجزيرة العَرَبيَّة، بمعنى: هناك. ومن تخليطات المعجم المشار إليه، «معجم العَين»، قوله: «ثَمَّ معناه: هناكَ، للتبعيد، وهنالِكَ للتقريبِ!» فقلبَ ما كان حقُّه القول: «هناكَ للتقريب، وهنالِكَ للتبعيد.» وهو ممَّا يشكِّك في نسبة هذا المعجم إلى (الخليل). إلَّا أن يكون في النصِّ تصحيف، وهو الراجح، وأصله كلامه: «ثَمَّ معناه: هنالكَ، للتبعيد، وهناك للتقريب.» ولا تعليق لمحقِّقي هذا المعجم، ولا يحزنون، كالعادة!

(5)  ديوانه الأعمال الشِّعريَّة الكاملة، (بيروت: دار العودة، 1988)، 1: 119.

لا يبدأ البحر من الموج، بل من الداخل… من تلك اللحظة التي يقرر فيها الإنسان أن يغادر اليابسة ليس هربًا منها، بل بحثًا عن ذاته التي غمرها الغبار…

في “وقائع من أوجاع رجل غامر صوب البحر” لا يكتب واسيني الأعرج رواية عن الهروب، بل عن امتحان الوجود حين يتقاطع فيه الجسد بالماء، والذاكرة بالوجع، والحلم بالعدم.

كل موجة في النص ليست سوى سؤالٍ مؤجل عن معنى النجاة…

لا أحد يغامر صوب الموج إلا حين تضيق اليابسة بالمعنى… والبحر، كما يراه واسيني، ليس مكانًا، وإنما سؤالٌ مفتوحٌ على احتمالات الخلاص والهلاك معًا.

في هذه الرواية، الرجل الذي غامر صوب البحر ليس بطلًا في المعنى التقليدي، بل كائنٌ مثقلٌ بما يسميه ميلان كونديرا “ثقل الوجود”.

ذلك الثقل الذي لا يُحتمل لأنه نابع من الذاكرة، من التاريخ الشخصي والجمعي، من كل ما نحمله معنا دون أن نعرف كيف نضعه جانبًا…

يقول كونديرا: “إن أخفّ لحظة في حياتنا قد تكون أثقلها لأننا ندرك فيها كل ما لا يمكننا العودة إليه.”

هنا تتقاطع خفة كونديرا مع ثقل واسيني، ويتحوّل البحر إلى مسرحٍ للجدل بينهما؛ خفة الهروب وثقل العودة، خفة الموج وثقل الحلم، خفة الغياب وثقل البقاء.

واسيني الأعرج يكتب هذه الرواية كمن يصوّرها بعدسة داخلية. كل مشهد يبدو وكأنه لقطة من فيلمٍ يعرف المخرج أنه لن يُعرض أبدًا إلا داخل الذاكرة.

نرى المناضل الهارب وهو يعبر الأزمنة كأنها دهاليز، يسمع صدى أصواتٍ من الطفولة والسجن والمنفى، فتتداخل الأزمنة في وعيه كما تتشابك خطوط الضوء في لوحةٍ سريالية.

إنّه سينمائي في بنية السرد وتشكيلي في لغته، لا يصف المشهد بل يلوّنه، لا يسرد الأحداث وإنما يعزفها ويوزّع إيقاعاتها.

حين يكتب عن تظاهرةٍ عمالية، تبدو الجموع كريشةٍ كثيفة تتحرك داخل لوحةٍ حيّة: وجوه تلمع بالعرق، قبضات ترتجف، أقدام تتقاطع، وهتافات تتكسّر على صخور القمع.

وعندما يصف انهيار المصنع القديم، تتحوّل اللغة إلى مشهدٍ بطيء: صوت الحديد وهو يئنّ، الماء المتدفّق في الأنفاق، خوذةٌ صفراء تطفو، وعينٌ تتسع ثم تختفي في العتمة.

هذه المشاهد لا تُقرأ بل تُرى… وكل لقطةٍ تُصوّر الجمال في لحظة الموت، والحرية في لحظة الانهيار.

الرواية في جوهرها حوار بين الذاكرة والجسد.

البطل يحمل ذاكرته كما يحمل البحر ملوحته، لا يستطيع أن يتخلّص منها حتى وهو يفرّ منها.

يظن أن البحر سيغسله من ماضيه، لكنه يكتشف أن الماء لا يُطهّر من الذاكرة بل يعمّقها… في كل موجةٍ يسمع صوتًا قديمًا، وفي كل اتساعٍ يرى وجهًا رحل.

إنها ذاكرة تنبض تحت الجلد، تشبه ما وصفه كونديرا حين قال: “الإنسان لا يملك إلا ذاكرته، وكل محاولةٍ لنسيانها ليست سوى نوعٍ من الموت المؤجّل.”

لكن واسيني لا يكتب المأساة بل يكتب الجمال الذي يتسرّب من بين شقوقها…

الجمال الذي يشبه ضوءًا خافتًا ينعكس على سطح ماءٍ ملوث، ومع ذلك يضيء.

هذا الحسّ الجمالي لا يبتعد عن الموقف الإنساني، بل يعضده؛ فالجمال هنا ليس ترفًا بل مقاومة.

إنّ تصوير الألم بهذا العمق هو فعلٌ اشتراكي في جوهره، لأنه يُعيد للإنسان صوته وسط ضجيج السلطة.

نلمح صدى كامو وهو يقول في أسطورة سيزيف: “علينا أن نتخيل سيزيف سعيدًا”، كأنّ واسيني يريدنا أن نتخيل هذا الرجل الهارب سعيدًا أيضًا، لا لأنه نجا، بل لأنه قاوم.

الحرية في الرواية ليست نقيض الأسر فحسب، بل امتحان المسؤولية كما عند سارتر: “الإنسان محكوم عليه بالحرية.”

بطل واسيني يعرف أنه حرّ، لكنه يدرك أيضًا أن هذه الحرية ثقلٌ آخر لا يُحتمل، لأنها تُلزمه بأن يواجه نفسه.

فالهروب إلى البحر لا يُنقذ من شيء، بل يكشف كل شيء…

في عمق الموج لا يسمع المرء سوى صوته، ولا يرى سوى ظله، وهنا تبلغ الرواية ذروتها التأملية:

إنّ الإنسان لا يهرب من الخارج بل من ذاته، وحين يصل إلى أقصى المدى يكتشف أن البحر ليس نهايةً بل مرآة.

وفي تلك المرآة تتجلّى البنية التشكيلية للنص؛ فكل موجةٍ جملة، وكل دوّامةٍ فكرة.

اللغة عند واسيني تشبه الريشة المبلّلة، تترك أثرًا لكنها لا تحدد شكلًا نهائيًا.

وهذا ما يجعل النص مفتوحًا على التأويل كلوحةٍ تجريدية، وعلى التأمل كفيلمٍ لا يكتمل.

نقرأه كما نُشاهد لوحةً لبول كلي أو مشهدًا لبرغمان، لا نسأل ماذا يحدث بل كيف يحدث… ولماذا يؤلمنا.

إنّ الرواية تمزج الواقعي بالأسطوري، السياسي بالوجداني، الحلم بالكوابيس، لتخلق عالمًا يُشبه ما بعد الوعي.

البطل هناك وليس هناك، يعيش وينسحب، يرى البحر في داخله كما يراه أمامه.

في لحظاته الأخيرة على الشاطئ، نسمعه يهمس: “البحر أمامي… والذاكرة خلفي… والريح في صدري تُعلّمني أن لا مفرّ من ذاتي.”

هذا الهمس يُعيدنا إلى السؤال الأول: هل يمكن للهروب نحو البحر أن يكون خلاصًا؟ ربما لا.

لكن في هذا الفشل بالوصول يكمن كلّ المعنى.

في النهاية، “وقائع من أوجاع رجل غامر صوب البحر” ليست رواية عن البحر بقدر ما هي رواية عن الإنسان الذي لم يتعلّم بعد كيف يعيش خفيفًا دون أن يفقد عمقه.

واسيني الأعرج كتب نصًا ينتمي إلى الجغرافيا الإنسانية لا إلى الوطن فحسب، نصًا يقف إلى جانب أعمال ميلان كونديرا وألبير كامو وجان بول سارتر في بحثه عن التوازن بين الحلم والعبث، بين الخفة والثقل، بين النجاة والانكسار.

ولعلّ أبلغ ما يمكن قوله عن هذه الرواية هو ما قاله كونديرا:

“كل حياة إنسان هي بحثٌ عن نغمةٍ لم تكتمل.”

واسيني وجد نغمة وجعه في البحر… وترك لنا نحن القرّاء ومهمة الإصغاء إليها، علّنا نتعلّم كيف نحمل أوجاعنا دون أن نغرق.

***

إبراهيم برسي

الحدث السردي هو بمثابة توثيق مرحلة سياسية مظلمة، هي الحرب الطائفية التي اشتعلت نيرانها الحارقة، في فترة خيم الرعب والخوف على قلوب الناس. في شق لحمة المجتمع ومكوناته وحتى تمزيق اواصل العائلة الواحدة، في بدعة الانتقام وغسل الدم بين الطائفتين، وهي من الظواهر السلبية والسيئة جداً من مخلفات الاحتلال، في دخول الطائفتين (الشيعية والسنية) في حرب اهلية وكسر العظم بين الجانبين، في سفك دماء ابنائها بذرائع مجنونة عفا عليها الزمن وبال، بذريعة حفظ نقاوة الدم لدى الطرفين، وحتى هدر الدم بلا رحمة، إذا لم يرضخوا الى طلبات الطائفين، بقرار طلاق الزوج والزوجة، إذا هما من طائفتين مختلفتين، والرفض يعني بكل بساطة يقدم قربانا على مذبح الطائفية، في دولة في عقلية حكامها المشرفين، هي العقلية العشائرية والطائفية حتى العظم، هذا ما حدث فعلاً في الواقع المعيشي، بعد الاحتلال الأمريكي عام 2003. الحدث السردي يسرد حدث محدود في فترة زمنية قصيرة، لكن له امتدادات زمنية طويلة وخلفيات عميقة الدلالة والمعنى، تتجاوز اعواماً، هي بالضبط في ساعة خروج الطائفية من كهفها المظلم، إنها حادثة واقعية من الآلاف من القصص الواقعية المشابهة، فكان الموت يطارد الجميع على عل الهوية والاسم، هي حرب الانتقام الدموي بين الطائفتين (الشيعية والسنية)، حتى وصلت هذه الحرب الى مستويات خطيرة، حرب وانتقام بلا رحمة، حتى داخل العائلة الوحدة، الزوج شيعي والزوجة سنية، وإذ لم يرضخون لطلب الطلاق، يقتل أحدهما بدم بارد، مثلما حث لهذا الزوج المغدور (الشيعي) رفض طلب طلاق زوجته أم طفلتين، فجاءت طعنة الموت الغادرة، من طرف طائفة زوجته (السنية) واشقاء زوجها يطالبون بالانتقام وغسل العار، باهدار دم زوجته، حتى تتساوى معادلة، الانتقام مقابل الانتقام، إن هذا الواقع خارج تصور العقل والمنطق، بل انه يمثل السريالية الغريبة والمرعبة. لقد برعت الأديبة (سعاد الراعي) في احترافية راقية، في الصياغة الفنية والمنطلقات الفكرية الدالة، في أسلوبها الواقعي الرصين، وفي دراماتيكية الأحداث المتلاحقة، التي تشد القارئ شداً، ولم تترك مجالاً له أن يأخذ انفاسه، بالحبكة الفنية المتصاعدة نحو الذروة، مرهفة في تتبع تفاصيل الحدث السردي المركز بالتكثيف، الذي أخذ صيغة الوصف التصويري، بأن يجعل القارئ، يشاهد ويقرأ تفاصيل الرعب  بالمشاهد والمنتاج السينمائي، وكأننا أمام فيلم الرعب، مثل ما عودتنا الافلام الامريكية (افلام الرعب اكشن) لذا فإننا أمام فيلم رعب (الرعب اكشن الطائفي)، أمام حادثة من آلاف الحوادث، بذريعة نقاوة الدم الطائفي وصيانته من الإخلال به، أن يتجول الموت بحرية ويلاحق أبناء الطائفتين. كأنهما في مطاردة الموت الطائفي.

- احداث المتن السردي:

الزوج (الشيعي) رفض ان يرضخ لمطالب الطائفة الاخرى (السنية) بالطلاق من زوجته وام لطفلتين، فقتل بدم بارد، وضع الزوجة ام لطفلتين في موقف خطير يهدد حياتها من قبل أشقاء زوجها المقتول بالانتقام منها بالانتقام المتبادل، جاء دورها لتساق لقربان مذبح الطائفية، رغم توسلاتها ودموعها الباكية (- انا لست عدوتكم، أنا أم تحمل على كتفيها جرح هذا الواقع مثلكم) ص17. ولكن قصاص الانتقام اخذ قراره ولا رجعة عنه، بحجة أن زوجها قتل من طائفتها، وهي المرشحة لغسل الدم، كأنها أصبحت في عقليتهم مجرمة وقاتلة، ودمها أصبح حلالاً، هو الهدف والمنال، دمها يشبع عطش الطائفية للانتقام، ويهددها احد اشقاء زوجها (- سأجعلك جارية تحت قدمي حتى تُقبري). هكذا حفرت الطائفية انهار من الدماء في البطش والانتقام في المجتمع العراقي، وجدت الزوجة ان جرحها الداخلي ينزف، لم يعد لها خيار، اما ان تختار الموت، أو تختار الهروب إلى المجهول، أنها معضلة حياتية: كيف الخلاص من هذا المأزق ؟!. (- أية حفرة مظلمة وقعت فيها؟ واي مستقبل ينتظر أبنتيَّ) ص22. وقررت في داخلها، لن تستسلم للموت وللمذبح الطائفية، وقررت بشجاعة الزوجة (عفراء) ان تبحث عن كوة الخلاص حتى لو عبر على جثتها، وقررت ان تتصل بجارتها القديمة الطيبة (ام احمد) سبق وان هربت ابنائها الى خارج العراق، وفعلا اتصلت خلسة في الليل، لعل لديها خيط من النجاة، لترد عليها (أم أحمد) بقولها (كل عقدة ولها حل يا أبنتي، فلا تيأسي، أنا هنا كأمك، بانتظار أن تبوحي لي بما تختلج روحك) ص26. لتقول لها بصوت مهموم مليء بالقهر (خلصيني يا خالة.... اني اموت كل يوم ألف مرة). وتدبر لها سائق ثقة وامين، يساعدها في الهروب بسيارته الى خارج العراق، واتفقت على الموعد خلسة في الليل، وجاء السائق بالموعد المحدد، ليقول لها (- أنا من طرف ام احمد.... اسرعي قبل ان يفيق احد) ص30، أخذت طفلتيها وغادروا البيت مسرعين والخوف يأكل قلوبهم، لكن يراودها الأمل بالخلاص من الجحيم الطائفي الجاثم على صدرها (لن اعود إلى القبر، ولو كان الطريق الى الحرية مفروشاً بالخوف)، ولن تبيع نفسها وطفلتيها للخوف والمصير المجهول، ولن تسمح للطائفية ان تملك روحها وتكسرها بالخيبة والانهزام، وتنفست الصعداء حين تجاوزت السيارة بغداد، ويطمئنها السائق بقوله (- الآن أنتم في امان) وطلبت من السائق أن يحول اتجاه السيارة من صوب السليمانية الى صوب الحدود الاردنية، واتفقت على السعر الاجرة، واستجاب لطلبها، لان اهلها في عمان الاردن، وبدأ الأمل يكبر بتجاوز الخطر والمجهول (كان الموت يعرف عنواني في الأمس، أما المجهول فليس له عنوان. هذا حسن) ص55. وحين وصلت الحدود، نزعت خاتم الزواج، وكذلك خاتم الذهب المرصع بالعقيق ولفتهم في ورقة، وطلبت من السائق أن يسلم رسالتها الى (ام احمد) وكتبت في رسالتها (سلمي خاتم الزواج الى حيدر الجلاد، اخو زوجي، ليعرف أنني طلقتهم جميعاً دون رجعة / اما خاتم العقيق، فهو هدية صغيرة من ابنتكِ عفراء لتذكرنني بها) ص71. هكذا انتهت مأساة (عفراء) أم طفلتين، خرجت من فم الموت والمجهول الى بر الامان، كانت رحلة شاقة وصعبة، لكن تحملتها كامرأة قوية، وقفت بصلابة وشجاعة أمام الموت والمجهول، وخلعت خاتم الطائفية الثقيل، وحين نزعت أساورها الذهبية كاجرة لاتعاب السائق، رفض أن يقبلها (- لا داعي يا اختي...... / لا داعي ان تخلعي اساوركِ) هكذا المرأة انتصرت على الصعاب وسجلت أهدافاً (لقد طلقتكم جميعا.... لا قبيلة / لا طائفة / لا قانون، يمكن ان يعيدني الى الوراء) ص73. لتكتب لها مستقبل جديد بنفسها، حرة، ولو جرحت الف مرة.

ملاحظة: اشكركم من اعماق قلبي الى الاهداء الذي يخصني

***

جمعة عبد الله

 

مقدمة الدراسة: تنهض قصيدة «صمتُ المرايا» للشاعرة التونسية بهيجة البعطوط بوصفها نصّاً يتجاوز حدود البوح العاطفي إلى فضاءٍ تأمليٍّ تتقاطع فيه المجازات الوجدانية مع الأسئلة الوجودية. فهي ليست مجرّد اعترافٍ شعريٍّ عن فَقْدٍ أو لوعة، بل هي تجلٍّ تأويليٌّ لمعنى الذات حين تنكسر في مواجهة غياب الآخر، وحين يتحوّل الحبّ من وعدٍ بالخلاص إلى جرحٍ يفتح على المطلق. في هذا النص، يصبح الصمت لغةً، والمرآة كياناً وجوديّاً يعكس ما وراء الصورة — إنها محاولةٌ للقبض على ما يتفلّت من الإدراك، وتدوين ما لا يُقال.

من هنا تأتي أهمية مقاربة هذا النص من خلال المنهج الهيرمينوطيقي التأويلي الذي يُعنى بقراءة ما تخفيه العلامة أكثر مما تصرّح به، إلى جانب المنهج الأسلوبي الذي يضيء البنية اللغوية والإيقاع الداخلي، والمنهج الرمزي والسيميائي الذي يُعنى بتفكيك شبكة العلامات والدوالّ ضمن النص وفق مقاربة غريماس لمربّع الأدوار السيميائية (الفاعل/ المفعول/ المرسل/ المتلقي...). كما تنفتح الدراسة على البعد النفسي والديني والجمالي، بوصف الشعر هنا مرآةً لانكسارات الذات الباحثة عن يقينٍ في عالمٍ ملبّدٍ بالضياع، ووسيلةً لالتقاط لحظة الإدهاش بين الصمت والكشف، بين الغياب والحضور.

تسعى هذه القراءة النقدية إلى الغوص في ما تحت الجلد الشعري من توتّرٍ ونبضٍ ورمز، واستنطاق الأنساق المعرفية والانفعالية التي تحكم النص على مستوياتٍ عدّة: التخييلي، العضوي، اللغوي، الجمالي، والوطني. فقصيدة "صمت المرايا" لا تُقرأ على سطحها الغنائيّ فقط، بل تُفكّك كنصٍّ وجوديٍّ يُعيد مساءلة العلاقة بين الذات والمرآة، بين الصمت والقول، بين العشق والوعي.

نقودُ قراءتنا بثلاث دعامات منهجية متكاملة:

1. الهيرمينوطيقا التأويلية: قراءة المقاصد والآفاق الدلالية للنص، تتبع الأفق التأويلي بين ما يجيزه الخطاب الشعري وما يطلبه القارئ من فهم.

2. الأسلوبية والرمزية: فحص الوسائل الأسلوبية (الصورة، الموسيقى، الإيقاع، التراكيب) وكشف رموز النص الدلالية المتكرّرة.

3. السيميائيات (غريماس): تفكيك العلاقات الفاعلية داخل النص عبر "مخطط الأدوار" (الفاعل/ المفعول/ المرسل/ المتلقي/ المرشد/ المعارِض) لبيان البناء السردي الإنساني داخل الصوت الشعري.

نضيف طبقات: تحليل نفسي (الذات، الجرح، آليات الترميم) وقراءة دينية/ تصوفية (مجازات الغياب، الوجد، النبض). النص سيُقرأ على مستويين: ما يقوله لفظاً (الظاهر) وما يقال تحت الجلد الشعري (الباطن).

1. البنية السطحية: عناصر النص وملامحه الأسلوبية

القصيدة مقسَّمة إلى مقاطعٍ قصيرة واضحة، نبرة المتكلِّم–الأنا الأناشيدية تخاطب غائباً (أنتَ)، وتوظف موسيقى داخلية عبر تكرار الحركات، الصور الحسية، وتناوب بين جُمَلٍ إخبارية وإِناجيّة. من أبرز السمات الأسلوبية:

١- الصيغة الخطابية: مخاطبة مباشرة "تُنَاجِيكَ" — تضع القارئ في موقع شهود الحزن والود.

٢-الصور المركبة: "طَيْفُك"، "خَرَائِطُ العَالَمِ"، "زُجَاجًا مَكْسُورًا" — مزج بين الخرائط والمرايا والزجاج والخريف، مشهد بصري حادّ.

٣-الاستعارة المجازية الموسيقية: "سمنفونية عشق"، "لحنُ الجَوَى" — الموسيقى رمز للتماهي والاستمرارية.

٤- التضادّات/ المفارقات: حبٌّ لكنه "ألم"، غياب لكن "تَغْفُو بين نبضي" — ثنائية الحضور/ الغياب تُحرك النص.

٥-اللغة متوسطة المستوى بين الفصاحة والعامية الخفيفة: كلمات قوية ذات وقع فصيح ("مَثْقَلَةُ الوَجْدِ"، "أُرَمِّمُ شَظَايَا") مع صور قريبة من الوجدان اليومي.

هذه السمات تعطي القصيدة نبرة تأمّلية حيوية، توازن بين الحضور الغنائي والصرامة التأملية.

2. الحقول الدلالية ومفردات المفصل (تفسير مفردات محورية):

نُعرّف الحقول المفرداتية الرئيسة: الغياب/ الوجود (طيف، غياب، ألا أرانِي)، الموسيقى/ اللفظ (أوتار، لحن، قوافل القصيدة، حروف الرَّوي)، الخراب/ الترميم (زجاج مكسور، شظايا، أرمم)، الجسد/ النفس (نبض، قلب، روح)، الخريفي/ الزمني (خريف، أيام)، الحسية/ الشمّ (رذاذ العطر المنثور).

تفسير بعض المفردات:

١- طيفك: لا يعني وجوداً مادياً بل انعكاس حضوره في الذاكرة — علامة لوجود خيالي أو أثر.

٢- خرائط العالم حين أشتاق: الخريطة هنا مجاز للتمثيل المعرفي؛ الحضور يتحول إلى شبكة معانٍ تنظم العالم الداخلي للشاعرة.

٣- قوافل القصيدة: القصيدة كعملية حمل واحتفاء بالحبيب: اللغة تتحرك كقافلة، تنتقل من لحن إلى لحن.

٤- زجاج مكسر: رمزية تقليدية للذات المجروحة، حالة الانكسار والشفافية المفقودة؛ كذلك تشير إلى رؤية مشوّهة للواقِع.

٥- رذاذ عطرك المنثور بين السطور: الحضور الحسي/ الشمّي الذي يواصل وجوده عبر النص المكتوب؛ علامة على ديمومة الذاكرة.

3. القراءة الهيرمينوطيقية / مستويات التأويل

نحو تأويلات ممكنة للنص بوضع فرضيات متعددة مدعومة بالأدلة اللفظية:

أ. التأويل العاطفي/ الوجداني:

القصيدة سرد لوجدان يعاني انفصالاً لكنه يُعيد صياغة الغياب باعتباره نمط معرفة: الفقد لم يحلّ؛ بل أعطى فهماً جديداً (ـ"لم يُطفئني الفقد بل أنار بصيرتي" — هذه العبارة ضمنية في قطعة أخرى لكن هنا نفس المنطق موجود: الترميم عبر الألم). الوجدان يتحرك بين شوق واستسلام وترميم.

ب. التأويل النفسي:

الزجاج المكسور، الشظايا، عدم القدرة على الرؤية أمام المرايا، تدلّ على اضطراب في الهوية أو انقسام الذات. الفعل الشعري هنا يقوم بدور العلاج: "أُرَمِّمُ شَظَايَا الأَيَّامِ" → الشعر كفعل سُدْوِي/ شفائي يعيد ترتيب شظايا الذاكرة.

ج. التأويل الديني/ الصوفي:

مخاطبة الروح والمآل نحو "مَلاذي" و"الرجاء" و"تغفو بين نبضي" يستحضر لغة دعائية/ مناجاة أقرب إلى خطاب العاشق في التصوف: الحبيب كمبدأ غيبي/ إلهي أو رمز للمعرفة العليا؛ الغياب لا يبطله بل يجعل الحبيب حاضراً في القلب كحضور خفي (حضور القلب/ الباطن). كذلك "الروح تناجيك" تقترب من صيغة الابتهال.

د. التأويل المعرفي/ الأنساق المعرفية:

النص يقيم أنساقاً معرفية: الذاكرة كخريطة، القصيدة كقافلة، الجسد كمرآة زجاجية، والعطر كعلامة حسية محفوظة بين السطور. هذه الأنساق تُظهِر كيف ينظّم الشاعر العالم داخلياً: عبر خرائط، مخطوطات، مرايا، وأنغام. قراءة هيرمينوطيقية تتتبّع الانتقال من صورة إلى أخرى كعملية تفسيرية داخل النص نفسه.

4. سيميائيات غريماس — مخطط الأدوار

نطبق هنا مخطط غريماس البسيط: (المرسل ـ الموضوع/ الموضوع ـ المستقبل/ المتلقي ـ الفاعل ـ المعاون ـ المعارض). نحاول استخلاص "الأدوار" داخل النص الشعري:

١- الفاعل: «أنا الشاعرة»/ الضمير المتكلم (أنا المتكلمة) — الذي يسعى/ يشتاق.

٢- المرسل: الذاكرة/ الحنين/ القصد الذاتي للشعر — الدافع الذي يرسله إلى الفاعل. أحياناً يمكن اعتبار "الماضي" أو "الذكرى" مرسلاً لأنه يوجّه الفاعل نحو البحث عن المعنى.

٣- المرسَل إليه/ المتلقي: الحبيب «أنتَ»/ أو الذات الممثلة بالحضور — الذي سيستقبل فعل الحنين أو القصيدة.

٤- الموضوع: الاتحاد/ إدراك الحضور/ الرؤية الذاتية؛ أو استرجاع الحب بكيانٍ ثابت. أحياناً الموضوع هو «الهوية المكتملة» أو «الراحة/ الملاذ».

٥- المعاون: القصيدة، الذاكرة، الألق، الحواس (العطر، اللحن) — أدوات الفاعل في السعي.

٦- المعارض: الغياب، الضياع، الشظايا، الزوابع النفسية — عناصر تعيّق الوصول.

نرسم منها محورين رئيسين: محور سعي (أنا —> موضوع: لقاء/ إدراك) ومحور عائق (غياب/ شظايا) يَحُولان دون الوصول بينما القصيدة/ الذاكرة تعملان كمساعدة. هذا المخطط يبيّن بنية الصراع الشعري: حركة مستمرة بين السعي والعتبة.

5. التحليل الأسلوبي المفصل (تفكيك الآليات):

أ. التواصيف البلاغية؛

١- التشخيص: النجوم "تبتسم خجلاً" تشخيص للطبيعة تردّ على حالة الشاعرة.

٢- التشبيه: "كأنك سمفونية عشق" — تنصيص على تداخل الموسيقى مع العاطفة.

٣- الاستعارة: "قوافل القصيدة" — تحويل القصيدة لفعالية اجتماعية/ حركية.

٤- التكرار: تكرار الحقول (الحنين، الخسارة) يقوّي الإيقاع العاطفي.

ب. النحو والصياغة:

التناوب بين الجمل الخبرية والإناجية يعطي النص ديناميكية: الأخبار تُثبت الحالة، والإنابة (يا، أنت) تُشعل اللهفة.

الاستعانة بأزمنة حالية ومستمرة ("تُعانقُ طيفك"، "تتساقط دموعي") تُبقي الحدث حاضراً ومتحركاً داخلياً.

ج. الإيقاع الداخلي والموسيقى:

رغم عدم اتّباع القصيدة لوزن تقليدي صارم، إلا أن هناك إيقاعات داخلية تعتمد على تكرار الأصوات (موسيقى حروفية) وتراكيب لعبارات موسيقية: "لحنِ الحبِّ... لحنُ الجَوَى". هذه «موسيقى معنوية» تعزز الانفعال.

6. البنى النفسية: الانكسار، الترميم، الذات المجروحة

الذات الشاعرة في النص تبدو مُنزوية ومقسّمة:

١- الانكسار: "أشبه زجاجًا مكسورًا" — دلالة على فقدان السلام الداخلي، انقسام في الإدراك.

٢- الترميم: "أُرَمِّمُ شَظَايَا الأَيَّامِ" — الشعر كفعل إصلاح، إرادة بصرية لترتيب العالم.

٣- الاستبقاء الحسي: العطر المنثور، النبض، الأوتار → علامات تجعل الذات مرتبطة بالجسم والحواس، لا تختزل في مجرد فكرة.

نستطيع أن نقرأ النص كـ"عملٌ من الذاكرة المتألمة" يقوم على تجميع الذات، وفيه الشعر عملية علاجية.

7. البعد الديني/ الصوفي:

الخطاب الحواري مع الحبيب يشابه مناجاة العاشق للمعشوق في التصوف:

"روحِي تُنَاجِيكَ" — اللغة الدينية للدعاء.

"مَلاذِي وَكُلَّ الرَّجَاءِ" — وصف الحبيب كمأوى ومرجع إيماني نفسي.

"تَغْفُو بين نَبضي" — فكرة الحضور المستور: أن الحبيب ليس غائباً كلياً بل حاضر في شكل غيبوي حاضر في الباطن.

هذا لا يعني بالضرورة أن الحبيب إلهي، لكن النص يشبّه حالة الحبّ بالابتهال، ويستعمل مفردات تعبّدية للتأكيد على قُدسية التجربة العاطفية.

8. المقارنة بين مستويات: انفعالي، تخييلي، عضوي، لغوي/ جمالي.

أ. المستوى الانفعالي:

النص مشحون بالشوق والوجع والحنين. المشاعر مركّزة ومكثفة، تترجم في صور مباشرة (دموع، نبض) وفي صور استعادية (خرائط، شظايا). انفعال الشاعرة يتجه نحو الاحتفاظ بالمحبوب داخلياً لا لتحطيمه أو نسبته للخارج.

ب. المستوى التخييلي (الخيالي):

الخيال شعري وغزير — يجمع بين الصور الممكنة (العطر، الزجاج) والرمزيات الكبرى (القافلة، الخريطة). الخيال يبني عالماً داخلياً ذا ترابط ايقوني: الذاكرة كخريطة والقصيدة كقافلة. هذا المستوى يُنتج حسّاً بطوليّاً صغيراً للصراع الداخلي.

ج. المستوى العضوي:

الصور الجسدية (نبض، قلب، روح) تجعل المشاعر متجسّدة — لا مجرد فكرة بل حالة عضوية تتألم وتستعيد. استخدام فعل الشرب/ الارتشاف "أرتشف صمتي ولوعتي" يحوّل الصمت إلى مادة تُشرب، أي ملموسة.

د. المستوى اللغوي والجمالي (الأعراف):

اللغة تميل إلى الفصاحة والرصانة، تضع النص في سُلّم جمالي عربي معاصر يمزج تقاليد الغزل العربي مع الحرية الشكلية للقصيدة الحديثة. الاعراف: مخاطبة مباشرة، ازدواج بين البساطة التصويرية وعمق الاستعارة، احترام للحدة الشعرية دون تطريب زائد.

9. لحظة الإدهاش (المفاجأة الجمالية):

في هذا النص، لحظة الإدهاش مركّزة في المقطع الذي يربط بين الخرائط والحنين، تقول:

"فأنتَ خَرَائِطُ العَالَمِ حِينَ أَشْتَاقُ،

وحِينَ يُدْرِكُنِي الضَّيَاعُ."

هنا يتحوّل الحبيب إلى «خريطة» — لا يكون مجرد فرد بل نظام يُنظِّم الوجود. الإدهاش في تحويل الدال من شخصٍ إلى هيكل معرفي منطقي (خريطة) يخلخل القارئ ويكشف عن قدرة النص على خلق معنى مركب: الحبيب ليس فقط موضوع عشق بل مركز معرفي يعيد ترتيب العالم. كذلك إدهاش قوي في "أحتضنك بمفردات الهوى" — مفردات تصبح أجساداً تُعانق.

10. قراءة سيميائية أكثر تفصيلاً (علامات، رموز، أكواد):

١- المرآة: في عنوان النص "صمت المرايا" وداخل النص "أقف أمام المرايا فلا أرانِي" — المرايا هنا علامة الهوية والاختلاف: المرايا تصمت أو تكذب أو تُخفي؛ وعنوان القصيدة يضع الصمت كآلية انعكاس مقلوبة: لا انعكاس بل مفارقة. المرايا بوصفها رمزاً للذات المفقودة، أو للهوية التي لا تجيب.

٢- الخريطة: رمز للمعرفة، النظام، الاتجاه. الشعور بالحنين يصبح نشاطًا معرفيًا.

٣- الزجاج المكسور: رمز للانقسام، الشفافية المشتتة، رؤية محطمة للواقع.

٤- العطر: علامة ذاكرة حسية تدل على استمرار الحضور رغم الغياب.

الأكواد هنا: الحسي (شمّ، صوت، بصر) يقابلها الكود النفسي (حنين، ألم). النص يستخدم الأكواد الحسية لإيصال الأكواد النفسية.

11. الأنساق المعرفية داخل النص:

النص يبني شبكة من المعارف، أي مفاهيم مبنيّة داخلياً:

1. الذاكرة الخريطة (الذاكرة كنسق معرفي تنظيمي).

2. اللغة القافلة (اللغة كجماعة وكمسيرة).

3. الحضور الطيف (الحضور كتمظهر غير مادي).

4. الذات، المرآة، الزجاج (هوية متكسّرة/ لامرئية).

قراءة هذه الأنساق تكشف أن الشاعرة لا تكتب فقط عن فقدان؛ بل عن طريقةٍ للمعرفة: كيف تُنظَّم الذكريات، كيف تكتب الذات نفسها على هيئة خريطة أو قافلة.

12. المقارنة مع أنماط شعرية (سياق وطني/ أدبي):

شعريّاً، النص ينتمِي إلى تقاليد الغزل المعاصر العربي الذي يمزج بين الحسية والرمزية والتأمل، لكن بصبغة انشائية معاصرة.

على المستوى الوطني (التونسي/ المنطقة المغاربية) — دون الدخول في سِيَر شخصية للكاتبة — يمكن القول أن النص ينسجم مع تيارات حديثة تهتم بالذات والذاكرة والوجود بعد الحريات الاجتماعية والتحولات السياسية: الشعراء المغاربيون غالباً ما يوظّفون رموز الغياب / الذاكرة لتجربة فردية تتماهى مع التاريخ. (ملاحظة منهجية: هذا ربط عام ثقافي لا يفترض نية سياسية صريحة في النص).

13. اقتراحات لقراءات بديلة ونقاط بحث لاحقة:

١- قراءة نسوية: كيف تُصوِّر المرأة الذاتية (أنا الشاعرة) داخل فضاء الذكر/ الغياب؟ هل هناك طابع تحرري في "أحتضنك بمفردات الهوى"؟

٢- قراءة بينية: ربط النص بنصوص غزلية/ تصوفية عربية كلاسيكية (ابن الفارض، جلال الدين الرومي) أو الحداثيين (نزار قباني، أدونيس) لبيان التوارث.

٣- تحليل سيميائي معمّق: بنية العلامات داخل كل مقطع، وكيف تتفاعل نظم العلامات عبر القصيدة.

٤- تحليل صوتي/ موسيقي: إخراج وزن داخلي، دراسة التكرارات الصوتية وتأثيرها على الإيقاع الدلالي.

14. خاتمة موجزة: خلاصات وتلخيص التحليل

1. الذات المتكلّمة في القصيدة هي فاعل مُجروح لكنه فعال: يحوّل الألم إلى فعل شعري (الترميم/ الكتابة).

2. الغياب ليس فراغاً بل مجالاً مُكتنزاً بعلامات: طيف، خريطة، عطر — الحبيب حاضر كشبكة من الإشارات.

3. الشعر هنا يتخذ دور المعاون العلاجي، واللغة قافلة تنقل التجربة وتبني الهوية.

4. المفردات المركزية (مرآة، زجاج، خريطة، لحن، عطر) تعمل كـ"نظام علامات" متكامل يحمل الدلالات النفسية والروحية.

5. لحظة الإدهاش تتجلّى حين يتحوّل الحبيب إلى "خريطة العالم" — أي حين يتعدّى النص حدود الغزل إلى بناء معرفي يغيّر تصور القارئ عن العلاقة بين الحبيب والعالم.

15. مادة ملحقة: مخطط غريماس مختصر (نصّياً).

١- الفاعل: «الـأنا الشاعرة» — تسعى للوصول/ للاتحاد.

٢- المرسل: الذاكرة/ الحنين/ الماضي — تحفّز السعي.

٣- المرسل إليه/ المتلقي: «أنتَ» (الحبيب) أو الذات المندمجة.

٤- الموضوع: إدراك الحضور/ الهوية/ الترميم.

٥-المعاون: القصيدة، الذاكرة، العطر، اللحن.

٦- المعارض: الغياب، الضياع، الشظايا.

***

بقلم: عماد خالد رحمة - برلين

..........................

صَمْتُ المَرَايَا

كُلُّ شَيْءٍ هُنَا صَامِتٌ،

إلَّا رُوحِي تُنَاجِيكَ...

تَتَسَلَّلُ الكَلِمَاتُ،

تُعَانِقُ طَيْفَكَ،

فَتَبْتَسِمُ النُّجُومُ خَجَلًا.

*

أَرْتَشِفُ صَمْتِي وَلَوْعَتِي،

أَبْحَثُ عَنْكَ فِي لَحْنِ الحُبِّ...

فَأَنْتَ خَرَائِطُ العَالَمِ حِينَ أَشْتَاقُ،

وحِينَ يُدْرِكُنِي الضَّيَاعُ.

*

سَأَكْتُبُكَ قَوَافِلَ القَصِيدَةِ،

مَلاَمِحُكَ حُرُوفُ الرَّوِيِّ،

وَصَوْتُكَ لَحْنُ الجَوَى.

*

يَا مَلاذِي وَكُلَّ الرَّجَاءِ،

أَلْتَقِيكَ بَيْنَ حُرُوفِي،

أَتَنَفَّسُ رَذَاذَ عِطْرِكَ

المَنْثُورَ بَيْنَ السُّطُورِ،

فَأَحْتَضِنُكَ بِمُفْرَدَاتِ الهَوَى.

*

لَمْ يَكُنْ حُبًّا، بَلْ أَلَمًا،

كَانَ سَرَابًا وَأَضْغَاثَ أَحْلَامٍ،

غَدَوْتُ مَثْقَلَةَ الوَجْدِ،

أُرَمِّمُ شَظَايَا الأَيَّامِ،

أَقِفُ أَمَامَ المَرَايَا،

فَلَا أَرَانِي.

*

أُشْبِهُ زُجَاجًا مَكْسُورًا،

يَرَى اليَقِينَ غَرِيبًا،

وَالأَقْدَارَ مُشَتَّتَةً.

*

وفي حَضْرَةِ الغِيَابِ،

مَا زِلْتَ تَغْفُو بَيْنَ نَبْضِي،

بَيْنَ ارْتِجَافِ قَلْبِي المُتَيَّمِ.

***

بهيجة البعطوط – تونس

 

تضم مجموعة " ِورْد الروح " الشعرية للشاعرة جيهان بن رابحي أهم مكونات وعناصر الشعر من إيقاع متنوع، وعناصر بلاغية ومجازية، وموضوعات مختلفة تؤثث متنها الشعري، وتضفي عليه جمالية في التعبير، وعمق في المعاني والدلالات مما يرهص بأواليات بداية شعرية تمتلك عناصر وأدوات إبداعية قمينة بتأسيس أفق شعري موسوم بالرقي والتطور.

ولعل ما يميز نصوص المجموعة نسجها على منوال إيقاعي يطبع جل أساليبها وتعابيرها وهو مل نلحظه من أول نص " مزامير الزهد " في روي الراء المشبعة: " ضاقت به الِفكَرُ/ أستتر / يعتكر / َصَدرُ/ ُيخْتصرُ/ تعتصر.../ أتزر إلى آخر نص في المجموعة " أسطورة الرغد " حيث يتحول الروي إلى دال مشبعة: " الرَّغَدِ / َيدِ.../ ِشدَدِ ". وآخر داخلي كما في: " أكمامها تفيأت / وطلعها تفلقت " ص 32، من قصيدة " حفنة رسائل " حيث تتجانس وتتجاوب التاء والفاء لخلق جرس داخلي يثري نمط الإيقاع وينوعه، وفي حرف الراء و القاف والتاء: " إن الزفرة خارقة / حارقة " ص 81، وما تشكله من لون موسيقي بإيقاع متجاوب. وآخر بلاغي جمالي كالجناس المتمثل في قول الشاعرة: " عذرا عذرا / يا مُقْلا" ص 81، وهو جناس تام تكرر أيضا في: " والآن الآن... " ص 87، وفي قولها: " تربو سنابل ملأى َحبّا، حُبّا... " ص 86، في حركة الفتحة في حَبّا الأولى وحُبّا الثانية التي توزعت بين النصب والضم، وما يسبغه ذلك على المعنى من سمات الاختلاف والتنوع. والتشبيه كمكون بلاغي: " كالقشة حيرى شاردة " ص 19، مقترن بالأداة ( الكاف )، ومجرد عنها في قولها: " هي النجوم ذئاب ناعمة " ص 41، بفتحه لآفاق متعددة المعاني والأبعاد جماليا ودلاليا. إلا إن ما يميز شعر المجموعة بشكل لافت هو طابعها المجازي، وما يرسمه من صور، وما يصوره من لوحات دالة ومعبرة تطالعنا منذ النص الأول " مزامير الزهد " التي ورد فيها: " أنا دم الصمت في الأسحار غازلة / أسرار بوحي، وحزني ملؤه عبر " ص 15، فصورة منادمة الصمت، وغزل الأسرار بخيوط الوحي تفتح وتنفتح على أفق يستدعي الغوص في امتداداته، والضرب في مجاهله عدة معرفية وجمالية شاملة، وقولها: " تلهث في عري " ص57، حيث تختزل شدة الجهد والتعب في إهاب العري والانكشاف، وما يحملانه من أبعاد ومعاني، وما يزخران به من رموز وإشارات تحتاج إلى مقدرات جمة، وأدوات قراءة واستقراء ِعدّة لتفكيك ترابطاتها، وتحديد طبيعة علاقاتها الإبداعية، وقولها أيضا: " من كبة دهشتنا / ينسل سؤال... " ص 80، مع طرح نوع ما يجمع بين الدهشة والسؤال من تجاذب وتنابذ يحيط بكليهما و يجلل كنههما وامتداداتهما ؛ وكيف تقود الدهشة المفعمة بهالات الإبهار إلى اجتراح سؤال منسل ومتسلل من زحمة الارتباك والقلق والحيرة. وكيف يقدم المنديل كهدية فوق بساط حنين: " منديل مهدى / فوق بساط حنين " ص82، فيغدو للحنين بساط تقدم فوق جنباته الهدية، وينزاح به عن فراش تطأه الأقدام إلى مسرح لمنح الهدايا، ويتم رسم صورة للفراغ الذي تصير له سقوف تملأ فراغاتها: " وملأت سقوف فراغك... " ص 85، وما تزخر به السقوف من دلالات رمزية كتوفير الحماية ودرء ما يمكن أن ينجم من انكشاف وانفضاح. إلى غيرها من صور تروم اختراق نمطية الوصف المعهودة بإرساء إواليات تعبير وتصوير ترهص باجتراح أشكال مختلفة ومنزاحة والتي لا تسمح حدود هذه القراءة بمتابعة جلها.

ويقودنا الجانب المجازي وما ينتجه من صور إلى الوقوف عند بعض التعابير التي تكرس وتجسد نمط الاختلاف داخل متن المجموعة كما في قول الشاعرة: " أتجرع نفسي ألفظها " ص 19، وما يعكسه ذلك مما تمور به النفس من أهواء ومشاعر مؤلمة وممضة تحتم تجرعها ولَفْظها بَصْقها لعدم استساغتها واستمرائها في استعمال تعبيري يعكس ذلك لكن بأسلوب تصويري ينأى عن الشائع والمألوف. وملْأْ الكأس من نهر الفراغ: " أتحسس الكأس أملأها / من نهر فراغ " ص 20، فكيف للكأس أن ُتملأ من نهر فراغ ؟! وخرق واختراق الصمت الذي يخنق البوح: " أخرق صمتا / يخنق بوحي " ص56، وللصمت أن يخنق البوح ؟! والقدرة على صنع حُبّ يُغْزَل من صوف: " وصنعتك حبا / أغزله من صوف..." ص 89، وكلها تعابير صيغت بأساليب تختلف عن الشائع والمُتّبَع. وتضمنت النصوص كذلك استيحاءات متنوعة المرجعيات ؛ من الموروث الشعري القديم كما ورد في: " دعك، ودعك من اللوم " ص 52، على نهج ما ورد في قول الشعر العباسي أبي نواس: " دع عنك لومي فإن اللوم إغراء / وداوني بالتي كانت هي الداء " في موقفه عمن يلومه ويعاتبه على شرب الخمر مؤكدا بأن ذلك يضاعف من رغبته في الإقبال على معاقرتها والعَبِّ من كؤوسها لأنها تعالجه من وصب كل هم وكدر، وقولها أيضا: " لو صدقت/ من عرقوب " ص88، في إشارة إلى عرقوب كشخص يضرب به المثل، في التراث العربي، في إخلاف المواعيد، والإخلال بالوعود كما ورد في قصيدة " البردة " الشهيرة لكعب بن زهير: " كانت مواعيد عرقوب لها مثلا / وما مواعيدها إلا الأباطيل ". ومن النص القرآني في مثل قولها: " ما مت ما قتلت / شبهت لي منيتي " ص 32، حيث ورد في سورة "النساء" عن عيسى عليه السلام من قوله تعالى: " وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم"، وعن قصة حواء التي أكلت من الشجرة المحرمة كما ورد في سورة " طه ": " فأكلا منها فبدت لهما سوءاتهما... " والتي كانت سببا في خروج آدم وحواء من الجنة، وهو ما حورته الشاعرة بإيحاء وترميز: " وأنا في حلقك حواء / أنهش تفاحة حتفي " ص 56، وذكر مدى صبر أيوب، وتحمله لآلام المرض ومضاعفاته: " في حرقة من صبر أيوب " ص85، كما ورد ذكر العديد من الموضوعات،توزعت بين ما هو ذاتي كالحيرة الداخلية، حيث تعبر عن ذلك: " لا حيلة لي ولا مأوى ألوذ به / ضاقت بي الأرض، زاد اليأس يعتكر " ص 13، فلا تجد غير الله ملاذا آمنا يمنحها الرأفة والرحمة والطمأنينة: " حتى اهتديت إلى نجواك سابحة / أنت الملاذ، وفيك الخير يختصر " ص13، وينقيها من الذنوب،ويشفيها من المعاصي: " يا رب داو فإن الداء أثقلني / في الذنب أرسف والرمضاء تعتصر " ص 14، فهو مصدر الغوث والرحمة: " أنت المغيث إذا حلت بنا غِيَر / أنت الرحيم بنا بالعفو تقتدر " ص16، وما هو موضوعي قومي كالقضية الفلسطينية، وما تعيشه من مآسي يقترفها العدو الصهيوني الغاشم، حيث تقول: " فالأَقصى... مُقصى / والحائط فيه حزين... بدلتم بمقابر كل حدائقها / فأرى الشعب مهين " ص 79، الذي يمعن في التنكيل بالمواطنين الفلسطينيين بلا رأفة ولا هوادة متنكرا لكل المواثيق الحقوقية والإنسانية: " وفلسطين / تجر جنائزها " ص80، ووطني في تصوير ما يعج به المجتمع من اختلالات من قبيل أساليب القمع التي تغتال الأحلام، وتجهز على الطموحات: " بالبطش تعلو أيادي القمع في فزع / تَبَّتْ أيادي تُميت الحلم في بلدي " ص94، وتعليق كل المرامي المشروعة، والأهداف المرجوة على حبال التسويف والمماطلة مع استخدام كل أنواع الترهيب، وأساليب القمع والتضييق: " راهنت في المجد بالأحرار من وطني / ملوا من القهر والتسويف في كبد " ص 95. مما يحول دون تحقيق الأماني المنشودة، والأماني المأمولة.

لنخلص أخيرا إلى أن مجموعة " ِورْد الروح " الشعرية تتكون من عناصر وأدوات إيقاعية وبلاغية تمنحها ميزات تستجيب لشروط الإبداع الأساسية انسجاما مع روحه الخالية من أية شوائب تمس أصل جوهره، وعمق كنهه، وهو ما يستشعره ويلمسه القارئ للمجموعة الموسومة نصوصها بجمالية التعبير، وتنوع الموضوعات، وانسيابية الإيقاع، وبعد المعاني والدلالات مما يحمل ويثبت أكثر من دليل على امتلاك الشاعرة لمقدرات بارزة على الخلق والابتكار جديرة بالرقي بشعرها إلى مراتب أفضل، وتبويئها مقامات أسمى وأرفع.

***

عبد النبي بزاز

................

وِرْد الروح (شعر) جيهان بن رابحي، مطبعة بلال، فاس 2025.

الحسن بن هانئ المَعروف بأبي نُوَاس (145 - 198 ه / 762- 813 م)، شاعر عربي مِنْ أشهرِ شُعَراءِ العصرِ العَبَّاسِي، وَمِنْ كِبار شُعَراءِ الثَّورةِ التجديدية. أحدثَ انقلابًا في مَضمونِ الشِّعْرِ العربيِّ وأُسلوبِه، فَقَدْ تجاوزَ الأغراضَ التقليدية كالمَدْحِ والفَخْرِ، واتَّجَهَ إلى مَواضيع جديدة تُعبِّر عَن التَّرَفِ والتَّحَرُّرِ. وكانَ وَصْفُ الخَمْرِ أبرزَ هذه المواضيع التي ارتبطَ اسْمُه بِها، وَقَدْ قَدَّمَ رُؤيةً فِكريةً مُتكاملة جعلتْ مِنَ الخمر رمزًا للحياةِ والحُرِّيةِ والتَّمَرُّد.

تَجَلَّى أُسلوبُه الفَنِّي في طريقته في رَسْمِ صُورةِ الخَمْر، إذ اتَّسَمَتْ بالدِّقَّةِ والتفصيلِ والحيوية، فَقَد استعارَ مِنْ مُعْجَمِ الضَّوْءِ واللونِ والحركةِ مَا يُضْفي على الصُّورةِ طَابَعًا بَصَريًّا يَكَاد يُحوِّل المَشْهَدَ إلى لَوْحَةٍ فَنِّية، كما لجأ إلى الأساليبِ البَلاغيَّة مِنْ تَشْبيهٍ واستعارةٍ وكِناية، لِيَمنحَ الخَمْرَ صِفَاتٍ إنسانيَّة تَجْعلها شَخصيةً حَيَّةً تَتفاعل معَ الشاعر. ولا يَكْتفي بوصفِ مَظْهَرِها أوْ طَعْمِها، بَلْ يَربِط بَيْنَ لَوْنِها ورائحتها وتأثيرِها النَّفْسِيِّ، فَيَصْنَع لَوْحَةً حِسِّية مُتكاملة تَتجاوز الماديِّ إلى الجَمَاليِّ.

تُمثِّل الخَمْرُ في شِعْرِهِ رمزًا للحَياةِ والمُتعةِ، والتَّمَرُّدِ على القِيَمِ التقليدية، والتَّحَرُّرِ مِنَ القُيودِ الاجتماعيةِ والدِّينية، فَهِيَ لَيْسَتْ مُجرَّد شَراب، بَلْ وسيلة للتَّحَرُّرِ مِنْ سُلطةِ الدِّينِ والمُجتمعِ، والهُروبِ مِنَ الواقعِ القاسي، والتقاليدِ الصارمةِ التي كَبَّلَت الإنسانَ، وتَجسيد لفلسفةِ اللذةِ والاحتفاءِ بالجسدِ واللحظةِ الآنِيَّة.

بِهَذا المَعنى، تَتَحَوَّلُ الخَمْرُ إلى رمزٍ للبحثِ عَن الذاتِ، والتصالحِ معَ الرَّغَبَاتِ الإنسانية المَكبوتة. وَتَجْرِبَتُهُ مَعَ الخَمْرِ حِسِّية في ظاهرِها، لكنَّها تَنْطوي على نَزْعة فِكرية تُمجِّد الحُرِّيةَ الفردية، وتَحْتفي بالإنسانِ في طَبيعته الأوَّلِيَّةِ البِدَائية الغريزية الشَّهْوانية. وَالخَمْرُ لَدَيْهِ رَمْزٌ دُنيوي، مُرتبط بالمُتعةِ والمَجالسِ واللهوِ والعبثِ، وإنْ كانتْ تُخْفي وَراءها احتجاجًا على النِّفَاقِ الاجتماعيِّ والقُيودِ الأخلاقية.

وَتَعْكِسُ قصائدُه صِرَاعًا داخليًّا بَيْنَ اللذةِ والذَّنْبِ، وَبَيْنَ النَّزْعةِ الحِسِّيةِ والنَّزْعةِ الأخلاقية، وَهُوَ مَا يُضْفي على تَجرِبته عُمْقًا إنسانيًّا يَتجاوز حُدودَ اللهوِ والمُجُونِ الظاهريِّ.

لَمْ تَكُن الخَمْرُ عِندَه مُجرَّد شَرابٍ يَسْقي الأجسامَ، بَلْ كانتْ رمزًا فلسفيًّا يَعكِس مَوْقِفَه مِنَ الحَياةِ والوُجودِ والحُرِّية. وَهُوَ يَرى في الخَمْرِ خَلاصًا مِنَ الزَّيْفِ والنِّفَاقِ، وعَوْدَةً إلى الصِّدْقِ الطبيعيِّ في الإنسانِ. وَمِنْ خِلال هذا الرَّمْزِ، أعلنَ تَمَرُّدَه على الزُّهْدِ المُصْطَنَعِ، وَدَعَا إلى فَلسفةٍ جديدة تَحْتفي بالحياةِ ولَذَّاتِها، وَتُؤْمِن بأنَّ المُتعةَ الصادقةَ وَجْهٌ آخَر للحقيقة.

والشاعرُ الفرنسيُّ شارل بودلير (1821 م - 1867 م) مِنْ أبرزِ شُعراءِ القرنِ التاسع عَشَر في فرنسا، وَيُعْتَبَرُ رائد الحَداثة الشِّعْرية الأُوروبية. وَقَدْ شَكَّلَت الخَمْرُ في تَجرِبته الشِّعْريةِ رمزًا مَركزيًّا يُجسِّد الصِّراعَ بَيْنَ الجسدِ والرُّوحِ، بَيْنَ الواقعِ والمِثال، فَهِيَ عِنده لَيْسَتْ مُجرَّد شَراب، بَلْ حالة وُجودية يَسْعى مِنْ خِلالِها إلى تَجاوزِ بُؤْسِ الواقعِ، والارتقاءِ إلى عَالَمٍ مِنَ الجَمالِ والنَّشْوةِ الفَنِّية.

تَتَّخِذُ الخَمْرُ عِندَه بُعْدًا رمزيًّا عميقًا، فَهِيَ تُمثِّل وَسيلةً للتَّحَرُّرِ مِنْ قُيودِ الواقعِ الماديِّ، والانفلاتِ مِنْ ثِقَلِ الزَّمَنِ والمَلَلِ، فَهِيَ لَيْسَتْ مُجرَّد أداة للسُّكْرِ أو المُتعةِ الحِسِّية، بَلْ هِيَ رمزٌ للتَّحليقِ في فَضاءِ الإبداعِ، والانعتاقِ مِنَ الواقعِ المُبْتَذَلِ نَحْوَ عَالَمٍ أكثر صَفَاءً وَنَقَاءً. كَما تَرتبط الخَمْرُ في شِعْرِه بِفِكرةِ التَّمَرُّدِ على النِّظامِ الاجتماعيِّ والأخلاقيِّ، إذْ يَرى فيها وسيلةً للانفصالِ عَن المُجتمعِ البُرْجُوازيِّ الذي يَرفُض قِيَمَه المادية والسَّطْحية.

في فلسفته الشِّعْريةِ، تُمثِّل الخَمْرُ طريقًا نَحْوَ المُطْلَقِ الفَنِّي والرُّوحي، فَهُوَ يَرى أنَّ الإنسان يعيش في عَالَمٍ ناقصٍ وَمَلِيء بالبُؤْسِ والشَّقَاءِ والتَّعَاسةِ، وأنَّ الخَمْرَ تَمْنحه لَحْظَةً مُؤقَّتة مِنَ الكَمالِ والانسجامِ معَ الكَوْن. إنَّها رِحْلة آنِيَّة نَحْوَ السُّمُوِّ، يَستطيع الشاعرُ مِنْ خِلالِها أنْ يَقْترب مِنَ الجَمالِ المِثاليِّ الذي لا يَبْلُغُه في الواقع. وهَكذا، تَتحوَّل الخَمْرُ إلى رمزٍ للفَنِّ ذاتِه، لأنَّهما يَمْنحان الإنسانَ لَحْظةً مِنَ الخَلاصِ مِنْ عُبوديَّةِ الواقعِ.

يَرتبط وَصْفُ الخَمْرِ عِندَه بحالته النَّفْسِيَّةِ المُضْطَرِبَة، فَهُوَ يَعيشُ صِراعًا دائمًا بَيْنَ رَغْبته في الصُّعودِ الرُّوحيِّ وَسُقوطِهِ في عَبَثِ الواقع، وتُمثِّل الخَمْرُ بالنِّسْبَةِ إلَيْه حَلًّا مُؤقَّتًا للقلقِ الوُجوديِّ الذي يُعانيه، إذْ تَمْنحه شُعورًا زائفًا بالطُّمَأنينة، لكنَّها في الوَقْتِ نَفْسِه تُذكِّره بِزَيْفِ تِلْك الطُّمَأنينةِ وَزَوالِها السريع.

وَمِنْ هَذا المَنظورِ، تَظهَر الخَمْرُ كَمِرْآةٍ لِتَمَزُّقِ ذاتِ الشاعرِ بَيْنَ الحُلْمِ والهاوية، بَيْنَ النَّشْوَةِ واليأسِ، في صُورةٍ فَنِّية تُعبِّر عَن التناقضِ الإنسانيِّ العميق. وَهُوَ يَرى في الخَمْرِ تَجْسيدًا لحالةِ الشاعرِ ذَاتِه، فَكَمَا يَسْكَر الإنسانُ بالخَمْرِ لِيَهْرُبَ مِنْ واقعِه، يَسْكَر الشاعرُ بالشِّعْرِ لِيَتَحَرَّرَ مِنَ العَالَمِ العاديِّ، وَيَصْنَعَ عَالَمَه الخاص.

تُشكِّل الخَمْرُ في الشِّعْرِ العربيِّ والغَربيِّ رمزًا مُركَّبًا تَتداخل فيه اللذةُ والتَّمَرُّدُ والبحثُ عَن الخَلاص. وإذا كانَ أبو نُوَاس جَعَلَ مِنَ الخَمْرِ أداةً للتَّمَرُّدِ على القِيَمِ الدِّينية والاجتماعيةِ في العَصْرِ العَبَّاسِيِّ، فإنَّ بودلير جَعَلَ مِنها وسيلةً للهُروبِ مِنْ عَبثيةِ الواقعِ والاغترابِ الوُجوديِّ.

رَغْمَ المَسافةِ الزمنيةِ والثقافية، يَشترك أبو نُوَاس وبودلير في جَعْلِ الخَمْرِ أداةً للحُرِّيةِ والتَّحَرُّرِ، الأوَّل مِنْ سُلْطَةِ الدِّينِ والمُجتمعِ، والثاني مِنْ ثِقَلِ الوُجودِ والزمنِ. لكنَّ الاختلافَ الجَوهريَّ أنَّ خَمْرَ أبي نُوَاس احتفالٌ بالحَياة، بَيْنَما خَمْر بودلير هُروب مِنَ الحَياة.

***

إبراهيم أبو عواد / كاتب من الأردن

يُعد الشعر المعاصر مساحة للتعبير عن تجربة الذات الإنسانية في مواجهة الزمن، الغياب، الألم، والحنين.

تقدم الشاعرة هيلانة عطالله في قصيدتها "ضوءٌ لا يشبه الفجر" نموذجاً للشعر العربي الحديث الذي يمزج بين التجربة الذاتية العاطفية، الرمز النفسي، والبعد الروحي، ليكشف عن عالم داخلي غني بالنبض الشعوري والرمزي.

تهدف هذه الدراسة إلى تحليل النص بطريقة موسعة، باستخدام:

1. المنهج الهيرمينوطيقي التأويلي لفهم المعاني الضمنية للنص.

2. المنهج الأسلوبي والرمزي لدراسة الصور والاستعارات والتكرارات.

3. المنهج السيميائي وفق غريماس لاستخراج أدوار الفاعل، المفعول، المرسل، المتلقي.

4. تحليل البنى النفسية والدينية والجمالية.

5. مقارنة النص على المستويات الانفعالية، التخيلية، العضوية، واللغوية.

الفصل الأول: التحليل الهيرمينوطيقي التأويلي

1. الليل والضوء:

تبدأ القصيدة بـ: "في عمق الليل، يلوح ضوءٌ خفيف"

١- الليل: يمثل الانعزال النفسي والمرحلة التأملية التي يعيشها الفرد.

٢- الضوء: رمز الأمل، الذاكرة، أثر التجربة الإنسانية السابقة.

٣- التباين بين الليل والضوء يعكس التوتر الشعوري بين الغياب والوجود، الظلام والنور.

2. أثر الماضي' تقول الشاعرة هيلانة عطاالله:

"ربما هو أثر يدٍ مرّت على القلب يومًا ثم مضت"

يشير هذا النص إلى الذاكرة المتجسدة في الجسد والنفس.

يمثل الماضي كعنصر فعال في تشكيل الوعي الحالي، رغم مرور الزمن.

3. العودة كتصالح نفسي،تقول :

"العودة ليست طريقاً نُسافر فيه... وإنما أن نهدأ في حضن عزلتنا"

العودة هنا ليست مكاناً، بل حالة نفسية ومعرفية للسلام الداخلي وإعادة بناء الذات.

يظهر تصالح الشاعرة هيلانة عطا الله وجعها دون استسلام للألم.

الفصل الثاني: التحليل الأسلوبي والرمزي:

1. الرموز البارزة:

الرمز الدلالة.

١- الضوء الأمل، الذاكرة، أثر التجربة الإنسانية

٢- الليل الغموض، الانعزال، التأمل

العودة السلام النفسي، تصالح الذات

الهواء التجدد، استعادة الحيوية بعد غياب

2. الأسلوبية:

١- تراكيب قصيرة: تخلق إيقاعًا داخليًا متدرجًا.

٢- التكرار في كلمة "العودة": يبرز محور النص النفسي والمعرفي.

٣- الصور مكثفة: تمزج بين الرمز والواقع بطريقة تشعر القارئ بالسكينة والحنين.

الفصل الثالث: التحليل السيميائي وفق غريماس

1. أدوار الشخصيات داخل النص

الدور النص الوظيفة الدلالية:

١- الفاعل الذات/النفس منسج التجربة الداخلية

٢- المفعول القلب/الروح استقبال أثر الماضي والعاطفة

٣- المرسل الشاعرة/الوعي الراوي نقل التجربة والتأمل للقارئ

المتلقي القارئ/الوعي المشترك المشاركة في التجربة الشعورية

الأداة اللغة، الصور، الضوء، الليل نقل المعنى النفسي والرمزي

٤- الهدف إعادة التوازن النفسي، إدراك الذات الغاية الإنسانية والروحية للنص.

2. تحليل الوظائف السيميائية:

١- الإرسال والاستقبال: النص يرسل مشاعر وتأملات الذات للقارئ، وتستقبل النفس القارئ تجربة التأمل والتصالح.

٢- المفعولية: الصور الرمزية تخلق انعكاساً وجدانياً لدى القارئ.

الفصل الرابع: البنى النفسية والدينية

١- البنى النفسية: النص يكشف عن صراع داخلي هادئ، ويبرز تجربة الألم والحنين والتصالح النفسي.

٢- البنى الدينية والروحية، تقول:

"الأرواح لا تموت من الانتظار" → تأمل في البقاء واستمرارية الروح.

العودة: رمزية صوفية للتأمل والسلام الداخلي.

النص يعكس وعياً نفسياً وروحياً متوازناً بين الفقد والاستمرارية.

الفصل الخامس: المستوى الجمالي والوطني.

جمالية النص تكمن في:

1. الصور المكثفة واللغة المدروسة بعناية.

2. الإيقاع النفسي الداخلي الذي يخلق انسيابًا شعوريًا متدرجًا.

البعد الوطني/الإنساني: النص يعكس تجربة الإنسان العربي في مواجهة الغياب، الألم، انتظار الذات.

الفصل السادس: مقارنة المستويات التحليلية

المستوى التحليل:

١- الانفعالي إثارة الحنين والسكينة، التصالح مع النفس

٢- التخييلي بناء فضاء شعوري متخيّل بين الليل والضوء

٣- العضوي استجابات جسدية للقارئ (تنفس، إحساس بالهدوء)

اللغوي تراكيب مختصرة، تكرار مفتاحي، أسلوب مكثف ومتوازن

الفصل السابع: تفسير المفردات المفتاحية

المفردة التفسير:

١-الضوء أثر التجربة الإنسانية، الأمل، الذاكرة

٢-الليل الانعزال النفسي، الغموض، التأمل

٣-العودة السلام الداخلي، تصالح الذات، إدراك الذات

٤-الهواء التجدد، استعادة الحيوية بعد الغياب

الفصل الثامن: قراءة في الأنساق المعرفية

النص يربط بين الخبرة الفردية والوعي الجمعي.

تحويل الألم والغياب إلى تجربة معرفية وجمالية.

الصور الرمزية (الضوء، الليل، العودة) تعمل كمؤشرات لتفعيل الوعي الذاتي والوجدان الجمعي.

الفصل التاسع: الخاتمة

قصيدة "ضوءٌ لا يشبه الفجر" للشاعرة السورية هيلانة عطا الله تمثل نموذجاً للشعر العربي المعاصر الذي يدمج بين:

1. التأمل النفسي العميق.

2. الرمزية الجمالية والروحية.

3. البنية السيميائية المتكاملة وفق غريماس.

4. اللغة المكثفة والمدروسة بعناية.

القصيدة تفتح آفاقًا معرفية وانفعالية، وتعيد بناء الذات من خلال التأمل والذاكرة والوعي بالوجع والعودة إلى السلام الداخلي، لتكون شهادة على قدرة الشعر على الجمع بين الجمال والمعنى، الذات والعالم، الألم والأمل.

***

بقلم: عماد خالد رحمة - برلين

........................

هيلانة عطا الله

ضوءٌ لا يشبه الفجر

في عمقِ الليل،

يلوحُ ضوءٌ خفيف.

لا يشبهُ الفجر،

ولا مصابيحَ الطرقات.

ضوءٌ بلا إعلان،

يمرُّ من ناحيةٍ

نسينا أنّ للنفس بابًا إليها.

ربما هو أثرُ يدٍ

مرّت على القلبِ يومًا

ثم مضت،

وظلَّ القلبُ

يحتفظُ بحرارتِها .

نتأملُهُ بسكينةٍ كنا قد نسيناها

فنتنفّسُ

كما لو أن الهواءَ كان مهاجراً،

وها هو يعود.

الأرواحُ لا تموتُ من الانتظار.

هي فقط

تنكمش قليلاً

لتتّسع حين يحين وقتها.

والعودة

ليست طريقًا نُسافرُ فيه،

ولا بابًا نطرقه،

ولا يدًا نمسكُها خوفًا من الفقد.

العودة

أن نهدأ

في حضنِ عزلتِنا ونقول:

ها أنا قد عرفتُ الوجعَ

لكنه لم يكسرْني،

لم أرحل .

كلُّ ما في الأمر

أنني

كنتُ أتذكّر الطريق.

 

لا زلت أأكد بأن النقد الأدبي يجب أن لا يقتصر على الأدباء المشهورين فحسب، بل يجب أن يتجه إلى تلك الأقلام الشابة التي تبحث لها عن موقف أو محط قدم في الساحة الأدبيّة، وهنا يأتي دور الناقد الأدبي العضوي في تسليط الضوء على مثل هؤلاء، فهم في المحصلة سر استمراريّة الأدب ونسغ الحياة فيه. والشاعرة "سهام السعيد" هي من هؤلاء الأدباء الشباب الذين يبحثون عن بقعة ضوء لإبداعاتهم.

الشاعرة "سهام" التي تشبعت بحس وطني عال، وعشق لوطنها، تجذر في أعماق قلبها ونسيج عواطفها، وراح يشكل حيزاً واسعاّ من وعيها وثقافتها، تعاتب وطنها سوريا الذي كانت تجد فيه قبل الأزمة المأساة التي حلت به في العقدين الآخرين الأمن والاستقرار ودفء الروح وآمل المستقبل... قائلة له بعد أن حل به الدمار وعمّ الفساد وانتشر الفقر والجوع والتشرد والهجرة:

لا... أنت لم تعد وطني الذي ترعرعت فيه ووجدت ذاتي وانتمائي وأمني واستقراري، لأنك لم تستطع الحفاظ على عهدك بأن تكون وطن الأمن والأمان، والاستقرار ولم تعد تستطيع أن تأمن لنا لقمة العيش، وبالتالي أنت لم تعد قدري الذي عليّ أن أنفذ طواعية ما تأمرني به.. لأنك تركت قلبي سائباَ يعصره ألم ما حل به، ولم تعد قادراً أن تسيجه بأسوار الحب والدفء والحنان.

لا.. أنت لست وطناً

لأنك

لم تحسن العزف

على أوتاري

لأنك لست قدراً

تلزمني به أقداري...

لست وطناّ لأنك

لم تقيّد نبض قلبي

بالأسوار.

نعم أنت اليوم وطن الخراب والدمار والفساد. أما وطني الذي عرفته وترعرعت فيه، فهو شلال من العشق يرفض علي بالضرورة أن أحبه وأضحي من أجله، ها أنت اليوم تبكيني، وتمزق كل أحلامي وآمالي.. ومع كل ذلك لا أستطيع التخلي عنك رغم كل ما حل بي من محن.. تعال وكن كطائر الفينيق... وعلمني من جديد كيف أعشق أرضك، وكيف أقاوم بالبارود والنار من نالوا من هيبتك وكرامتك، علمني كيف أكون جنديّاً ثائرا يجيد الدفاع عنك وعني معاً. تقول:

أنا وطني شلال عشق

يُلزمني الحب بالإجبار

أنا وطني أبكاني عليه

ومزق خيمة أمطاري

علمني كيف أعشق أرضه

دربني كيف أسحق من وقف ضده

بالبارود وبالنار...

جبار وطني جندني

وزرعني في صف

الثوار...

نعم ..علمني يا وطني كيف أحب، وكيف أغار عليك من طعنات الغدر وأواجه كل أساطيل قوى الشر التي راحت تحاصرك في البر والبحر. تخاطبه:

أنا وطني

علمني كيف أحب

وكيف أغار عليه

من طعنات الغدار...

أسطولاً أصبح يأسرني

يملك شطي وبحاري.

البنية الجماليّة والفنيّة في القصيدة:

الصورة في القصيدة:

يعود الاهتمام بالصورة بوصفها أداة الشاعر التي تحكم شخصيته الفنيّة في أداء التعبير من جهة، ومن جهة أخرى تعد مقياساً فنيّاً وشخصيّاً للمبدع الذي أنتجها. فهي المادة التي تتركب من اللغة بدلالاتها اللغويّة والموسيقيّة والتخيليّة، التي تجمع بين عناصر التشبيه و الاستعارة والكناية والتمثيل و حسن التعليل.

لقد شكلت الصورة عنصرًا بارزًا ومهمًّا في هذا النص الشعري، إذ لجأت الأديبة "سهام سعيد" إلى تغليف أفكار النص وتثبيتها في نفس وذهنية القارئ بالصور إلى جانب ارتباط اللفظ المعنى، وهذا ما أيقظ العواطف، في لغتها التصويريّة. لقد كانت الشاعرة أكثر قدرة على التعبير في بوحها من التقرير. وبالتالي كلما كان الأدب تعبيريًّا كانت الصور هي التي تتشكل في ذهن القارئ. أما حين يكون الأدب تقريريًّا فإن الأفكار تطغى على الصور.

لقد جاءت الصورة عندها جزئيّة ومباشرة ومشبعة بمفردات البلاغة من تشبيه واستعارة وكناية ومجاز: (لم تحسن العزف على أوتاري)، (لم تقيّد نبض قلبي بالأسوار)، (أنا وطني شلال عشق)، (ومزق خيمة امطاري).

ولكون الشاعرة استطاعت أن تجعل من تراسل صورها حكاية أو اقصوصة عتاب ورغبة في النهوض والتحدي، فقد أَلَفَتْ هذه الصور الجزئيّة مع بعضها نسيجاً حيّاً من الدلالات المتكاملة والمترابطة ليس مع بعضها فحسب، بل ومع مكونات وخلجات الشاعرة النفسيّة والفكريّة أيضاً لتصبح في الغالب صوراً جديدةً من نسج جديد، يتراءى فيها عالم الشاعرة الداخلي وارتباطه بعالمها الخارجي، الذي تدفقت عواطفها وأحاسيسها نحوه دون حساب من أجل الارتقاء به وتجاوز محنته.

هذا وقد تماها الخيال في قصيدة الشاعرة بالصورة والمجاز. فالخيال المعتمد على أساليب البيان من استعارة ومجاز وتشبيه، يفسِّر مدى ارتباط هذا الخيال بعواطف المتلقي والتأثير فيها من جهة، وبأسباب تجلي هذا الجمال وقدرته على إبراز المعاني في القصيدة وتوضيحها من جهة ثانية.. وبالتالي مدى قرب هذا الجمال ذاته وسرعة إدراكه من قبل المتلقي من جهة ثالثة.

النغم والايقاع في القصيدة:

لقد تمرد الشاعر المعاصر وخاصة شاعر قصيدة (النثر) على الوزن والقافية، ولجأ إلى التنويع في الصوت والنغم، وأصبح الاهتمام بالإيقاع الداخلي يزداد، لكونه أشمل من الوزن والقافيّة ويتعدى في الدلالة. وقد تطور الإيقاع فانتقل من نظام الصوت المتشابه، ومن نظام الوزن الصارم في الشعر إلى إيقاع جديد متحرر متسامح مع نفسه، ومن ثمة صار الصوت يؤدي دوراً بالغ الأهميّة في التأثير على المتلقي بما يحمل من خصوصيات في التنغيم والنبر والجهر والهمس عند الالقاء من جهة، ثم اعتماد الشاعر الحديث على الصورة بوصفها مطلباً يُفضي إلى موسيقى جديدة تُنغمها مشاعره وانفعالاته المرتبطة بالموقف من جهة ثانيّة، وهذا ما أعطى قيمة أكبر للإيقاع النفسي، وللنسق الكلامي، لا لصورة الوزن العروضي للبيت الشعري.

إن كل هذه المعطيات التي تمثله قصيدة النثر الحديثة نجدها في قصيدة " غربة الأوطان" للشاعرة "سهام السعيد. لقد استطاعت عبر كل الصور الحسيّة والتخيليّة التي وظفتها في النص الشعري، أن تمنح المتلقي من خلال ترابطها، وعمق دلالاتها وسهولة لغتها، وترابط الدال والمدلول فيها أن يحقق رتماً موسيقياً داخلياً لنصها كاد أن يعوض ما فقده النص من وزن وقافية. تقول الشاعرة: (أنا وطني شلال عشق .. يُلزمني الحب بالإجبار...أنا وطني أبكاني عليه ومزق خيمة امطاري.. علمني كيف أعشق أرضه...دربني كيف أسحق ضده بالبارود وبالنار...). فبهذه الانسيابيّة في تلاحق الصور بكل جماليتها ومصداقيتها، يشعر المتلقي بشفافيّة الرتم الموسيقي في هذه الصور وما تحمله من مواقف تهز وتحرك خوالج الروح والجسد معا. لقد استطاعت الشاعرة عبر كل الصور الحسيّة والتخيليّة وقافية (السجع) التي وظفتها في النص الشعري، أن تمنح المتلقي من خلال ترابطها، وعمق دلالاتها وجماليّة لغتها، وترابط الدال والمدلول فيها، أن تحقق رتماً موسيقياً داخلياً لنصها كاد أن يعوض ما فقده النص من وزن، أو موسيقى خارجيّة.

العاطفة في القصيدة:

العاطفة هي الانفعال النفسي المصاحب للنص، وفي القصيدة نلمس بشكل واضح الانفعال الهادئً الايجابي المشبع بالإنسانيّة والأمل. كما نلمس في القصيدة جانباً واضحا يحمل هماً وطنيّاً وإنسانيّاً عاماً.. أما دوافع عاطفة الشاعرة فهي ضياع وطنها في حرب أهليّة طاحنة لم يسلم منها لا الحجر ولا البشر، والأهم انهيار قسم كبير من القيم الإنسانيّة العميقة والثابتة فيه، نعم هي عاطفة جياشة، تحمل هماً فرديّا في مضمونها إلا أنه هم إنساني عام في دلالاته.

لغة القصيدة:

لقد توشحت لغة القصيدة بالسماحة والسهولة والترابط والسبك والعذوبة والنعومة والرقة والشفافيّة. والأهم أنها كانت لفةً فصيحةً بسيطةً في الظاهر، وهذا ما يجعل المتلقي يشعر بأنها لغته هو التي يعبر فيها عن آماله وطموحاته ومعاناته، بيد أنها ليست لغة تقريريّة. إن حسن اللفظ في القصيدة حقق إلى جانب كل سماتها التي أشرنا إليها، رنتها الموسيقية اللذيذة في الأذن أيضاً، فكانت اللفظة الواحدة منسجمة مع بقية أجزاء الكلام، وهنا يكمن سر غرابة السبك وبراعة الصياغة وفن التعبير.

***

د. عنان عويّد

كاتب وباحث وناقد أدبي من سوريا

........................

(غربة الأوطان)

بقلم: الشاعرة سهام السعيد

***

لا.. أنت لست وطناً

لأنك

لم تحسن العزف

على أوتاري

لأنك لست قدراً

تلزمني به أقداري...

لست وطناّ لأنك

لم تقيّد نبض قلبي

بالأسوار.

أنا وطني شلال عشق

يُلزمني الحب بالإجبار

أنا وطني أبكاني عليه

ومزق خيمة أمطاري

علمني كيف أعشق أرضه

دربني كيف أسحق من وقف ضده

بالبارود وبالنار...

جبار وطني جندني

وزرعني في صف

الثوار...

أنا وطني

علمني كيف أحب

وكيف أغار عليه

من طعنات الغدار...

أسطولاً أصبح يأسرني

يملك شطي وبحاري.

 

يمثل النص السردي بعنوان " أحز رقبة الوقت" نموذجًا بارزًا للكتابة الشعرية-السردية المعاصرة، حيث يلتقي الشعر بالقصّ، والخيال بالانفعال، في فضاء مفتوح من الرمزية والوجودية والتأمل النفسي. ينحو النص نحو الاستكشاف الدقيق لذوات متعددة متشابكة، سواء في المقام النفسي أو الروحي، مستفيدًا من تقنيات اللعب بالزمن والفضاء والرموز. تكمن أهمية التحليل في كشف ما وراء النص من دفقات انفعالية، وأنساق معرفية، وأدوار فاعلية تهيمن على أحداثه.

1. التحليل الهيرمينوطيقي التأويلي:

أ. التفسير العام:

النص يطرح صورة الذات في مواجهة الزمن والفراغ والوجود. الرمز المركزي هو "البالون والخيط"، كدلالة على رغبة الإنسان في الإمساك بالزمن أو بتجربة الانفعال، لكنه يظل متفلتًا، ما يكرس حالة من السعي اللا متناهية والحيرة الوجودية.

ب. التوتر النفسي:

"أزعلُ وأركضُ وراء الخيط": انفعال متكرر، يدل على الصراع بين الرغبة والقدرة، الرمز هنا يشي بالتحكم والتلاعب بالواقع.

- القطّ الصامت: رمز للوعي العميق أو الذات المستترة، يمثل المرشد أو الشاهد على الفوضى الداخلية للمتكلمة.

ج. الرموز البارزة:

١-:الإبرة: رمز دقيق للحدث الصغير المؤثر، أو لمعاناة النفس الدقيقة.

٢- الظلّهيرة/النهار/الليل: تمثل التغيرات المزاجية والانفعالية، مع دلالة على مرور الزمن.

٣- العصفور الأزرق والريشة: رموز الحرية، الانتقال الروحي، وأحيانًا المكيدة أو الخديعة في إطار المخيلة.

2. التحليل الأسلوبي:

أ. السرد والصياغة:

النص يتميز بأسلوب متقطع، متسارع أحيانًا وبطيء أحيانًا أخرى، مما يعكس الحالة الانفعالية للذات. التكرار مثل "أضحك.. وأضحك" يوحي بمحاولة استقرار نفسي، والتكرار أداة إيقاعية تعكس حالة الانسداد أو التأمل العميق.

ب. اللغة والتعبير:

١- اللغة غنية بالصور المبتكرة: "رأسي المرفوع إلى فوق محطة رصد"، "القطّ كلّه كتلة مخفية الملامح".

٢- استخدام الاستعارات: "النهار كله.. والليل كله.. فرصة كأداء تتمطّى في الظّهيرة" يشير إلى تحولات داخلية ومعرفية، واستعمال كلمة "أداء" يعطي بعدًا فلسفيًا يرتبط بالفعل والمعنى.

3. التحليل الرمزي:

١- الخيط/البالون: الرغبة في الإمساك بالحياة، سعي النفس وراء لحظة متقلبة.

٢-:القطّ: الوعي أو النفس اللاواعية، مراقب للصراعات الداخلية.

٣- الإبرة: الخطر أو الألم الخفي.

٤- النهار/الليل/الظّهيرة: تمثيل مراحل الوعي، والتغيير المزاجي، والانفصال عن الواقع.

٥- العصفور الأزرق: رمز التطلع والحرية، لكنه أيضًا عنصر المخاطرة.

4. تحليل السيميائية (تطبيق نموذج غريماس).

المحور الشخصية / الدور الدلالة:

١- الفاعل المتكلمة / الذات الرغبة في السيطرة على الواقع الداخلي والخارجي

٢- المفعول الخيط/البالون، القطّ، الإبرة الأهداف أو الأشياء التي تؤثر في الذات

٣- المرسل النص / الوعي الشعري إيصال التوتر النفسي، الحالة الانفعالية

٤- المتلقي القارئ / الذات الواعية استقبال الرموز، التفكّر في الانفعال

المساعد الفضاء الداخلي (الصالون، الغرفة) تشكيل الحيز الرمزي للصراع الداخلي

٥- المعوق الفوضى، الغياب، الفراغ عناصر تعطل التوازن النفسي

5. قراءة الأنساق المعرفية:

النص يدمج بين: الوعي النفسي: التعبير عن العواطف الداخلية المتقلبة.

١- الوعي الرمزي: استخدام رموز واضحة للتعبير عن مفاهيم الوجود، الزمن، الحرية.

٢- الوعي المعرفي: استحضار العمليات العقلية، مثل التفكير في الأشياء اليومية (المطبخ، القهوة، الكهرباء).

6. مقارنة المستويات:

المستوى الملاحظات

الانفعالي الغضب، الحزن، اللعب، الفزع، السعادة العابرة

التخييلي الرموز (القط، العصفور، الخيط)، الصور الخيالية المتغيرة باستمرار

العضوي حركات الجسد، التنفس، التمدد، المشي، الضحك

اللغوي تكرار الجمل، الجمل القصيرة، الاستفهام الداخلي، اللعب بالعلامات الإيقاعية

7. الخلاصة:

النص يمثل تجربة شعورية ومعرفية مركّبة، تجمع بين الواقع الداخلي والخارجي، بين الفعل والرمز، بين الانفعال والحلم. ويتيح القارئ الغوص في مستويات متعددة من الخبرة الإنسانية، إذ يفتح الباب للتأمل في الزمن، الهوية، الحواس، والانفعال. استخدام أيمن معروف للرموز اليومية المرتبطة بالعالم الداخلي يشكل نصًا متعدد الطبقات، يمكن قراءته من مناهج متعددة: النفسية، الفلسفية، والجمالية.

***

بقلم: عماد خالد رحمة - برلين

......................

أحزُّ رَقَبَةَ الوقتِ..

بقلم: أيمن معروف

أرمي بالوني في هذا الفراغ.. وأركض.

*

يفلتُ الخيطُ من يدي.

أزعلُ، وأركضُ وراءَ الخيطِ. يضحكُ الخيطُ ويركضُ، وأنا أركضُ وراءَهُ وأبكي. يعلو الخيطُ ويهبطُ.. يهبطُ ويعلو.. وأنا ألهثُ وأنطّ.

رأسي المرفوعُ إلى فوقٍ محطةُ رصدٍ.. ويداي شبكةُ صيد.

*

يتهادى الخيطُ ويهبطُ..

يهبطُ بالوني.. يهبط.. يهبط.. فأثبُ عليه.. أثبُ عليه وأخطفه بين أحضاني مثل نورسٍ ضالّ.

*

على الكنبةِ في الصالونِ، القطُّ طوالَ الليلِ يموء.

ألتفتُ. أُطفئُ الضوءَ الجانبيَّ وأدعُ العتمةَ كلّها للقطِّ، وأنا أدخلُ أحراشي الملبّدة، أفسّرُ سيكولوجيَّتي الخاصَّة، وعيني على القطِّ.

*

القطُّ صامتٌ كالكنبةِ. الكنبةُ سوداء كالليلِ.

أفركُ عيني.. أُشعلُ ضوءًا.. أتمطّى، أتحسَّسُ حنجرتي.. وألعن التدخين. أُجْهِزُ على الخفِّ تحت الطاولة.. أنتعلُه بعصبيةٍ وأتجهُ صوبَ المغسلة. أفتحُ الحنفيةَ وأغلقُها. أتجهُ صوبَ الغاز في المطبخ، أضعُ دلّةَ القهوة على الغاز. لا أريدُ القهوة.. أفكّرُ بالشاي. الشايُ نفدَ البارحةَ.. والقهوة كذلك.. الغازُ انتهى. أذهبُ إلى الصالون.. أفتحُ المذياع. الكهرباءُ مقطوعةٌ أيضًا.

جَهْجَهَةُ الفجرِ تتسرَّبُ من شقوقِ الباب. على الكنبةِ في الصالون، القطُّ صامتٌ.. طوالَ الليلِ يموء. أجلسُ على كنبةٍ مجاورةٍ وأتطلّعُ في القطِّ. رأسُهُ ممدودٌ على شكلِ كرةٍ بيضويةٍ موضوعةٍ إلى جانب الذيل. الذيلُ ملفوفٌ كعشٍّ. القطُّ كلُّهُ كتلةٌ مخفيةُ الملامح. آخُذُ شهيقًا.. تحرجُني حنجرتي، فأسعلُ. يفزعُ القطُّ.. يفتحُ عينَيْه بنعاسٍ، يموءُ ويتفَرَّسُ في وجهي، يتمطّى. يقفزُ عن الكنبةِ ويتجهُ نحو السرير، وأنا أبقى صامتةً على الكنبة، في الصالون.

*

ذلك الصباحُ كلّه ذهب في التلألؤ والفكرة..

وأنا محاطةٌ بالكوابيس وخيوط الذّهب. أنقرُ على خشبِ الكنبةِ.. وأدندنُ بتفاهةٍ.. وأحيانًا أموءُ كقطّ. أعثرُ دون قصدٍ على إبرةٍ في كومةِ الصمت قرب الباب. أمدُّ يدي وألتقطُها. أضحكُ من لَقِيّةِ الصباحِ.. إبرةٌ في فراغ. أُمرّنُ نفسي على هذا الهُراء المُقَطَّن.. ثم أتعلمُ هذا القليل من الهواءِ الذي يتصادفُ مع تكّة الباب كما أتعلمُ حياكةَ جوربي في الظلام، لإيماني أنّ الضوء لا يقول لنا أشياءً مهمةً عن اللمعان، كما هو التاريخ لا يقول لنا أشياءً مهمة عن التراب.

*

تسقطُ الإبرةُ من يدي على البلاط.. فأسمعُ رنينَها الغامق الذي مازال يلسع جسمي كوخز الإبر. ينفرطُ المكانُ القليل ويتعدّد.. فأتهدّم في انفراط المكان.. وأصفن.

*

الجداريّةُ المائلة على الحائطِ مائلةٌ بشكلٍ صحيح.

أخمنُ البرتقالةَ التي في يد المرأة كناريًّا يُعشِّشُ في فضاء الكف، بينما تتوزع باقي اللوحة مساحات من ألوان مركّبةٍ تتخلّلها دروبٌ ملبّدةٌ بالحصى.

*

كلّ ذلك الصباح ذهب في التلألؤ والفكرة، وأنا مقرفصةٌ وسط الغرفة مكتظّة وكظيمة، بينما الظّهيرة تلوحُ، وهي تسيلُ أسيانةً مثل نمر.

*

ما الذي جاء بي إلى هنا كي أشعلَ سيجارةً في فم الوجود وألعبَ النّرد مع هذه الكائنات؟

*

البيتُ عشُّ ضباع، والبابُ مؤامرة.

أرمي العلبَ الفارغة في نهار الناس ولا أغلق باب المصادفة على الليل. لي الظّهيرة كلها تتعقّبني أسيانةً. ذبابةٌ زرقاء تطنُّ في هذا الفراغ مثل بارجةٍ حربيةٍ في البحر الميت. أعلقُ خرزةً زرقاء على باب الوقت، ثم أقلب الحصى تحت بيارق الظّهيرة، التي تسيل.

*

أدْعَكُ جسدي مثل قطة.. وأضحك.

أقبضُ على مزلاج الباب.. وأضحك. لا بدَّ من الضحك في الليل أو النهار.. لا بدَّ من الضحك.

*

الضحك.. فنجانُ قهوةٍ في الصباح الملبّد كأحجية.

أضحك.. وإذا كان ثمّة حمّى أصفع النافذة وأركن، لطلّة النسيم.

*

ما شأني بالمؤامرة والباب.. أنسى.

ما شأني بالبيت وعش الضباع.. أتخلّى. لا أدخل.. ولا أخرج.. وإذا كان ثمّة دخول، أسمّي البيت – الظّهيرة – عش دبابير.. وأضحك. وإذا كان ثمّة خروج، أسمّي الباب – المؤامرة – فرصة.. وأخرج.

أبدأ يومي هكذا، من الإفاقة حتى النوم. أجعل صباحي طريًّا وناعماً وأملس، ثم أنزلق فيه كحلزونة.. وأضحك.

لا بدَّ من الضحك..

الضحك.. فنجان قهوة.

*

غريبٌ، هو الضحك.

إيه.. إيه.. غريبٌ هذا الفراغ الذي هو رأس أفعى.

*

غريب، أعطيه ولا يأخذ. أنام قاتمة.. وأفيق قاتمةً في الفراغ.

ترنّ بوالين غريبة في الهواء. تصفرُ ريح.. ولا صوت. أسوّي مزاجي بضحكة، ولا أتعمّد قراءة العزلة. معرضةٌ نجوم الظّهيرة لشيء.. ومتروك بابي هكذا، في المشاع.

*

غريب.. تشرق شمس ولا لزوم لي. تغرب شمس ولا لزوم لي.

النهار كله.. والليل كله.. فرصةٌ كأداء تتمطّى في الظّهيرة. سأضع قبعةً على رأسي وأغيم..، قلت. لن أنتظر السماء حتى تهطل.. ولا الغيمة حتى تنزل إلى النهر. لا سماء.. ولا غيمة.. ولا نهر.. أو هطول.

*

الجحيم، التي في يدي، والجحيم الذي في الكلام سأهبُه المغفرة حتى يستقيم.

أرمي حجراً وأرسم دوائر كابية، ثم أركن للعصفور الأزرق وهو يتخبّط بين مسام الهواء ويخبط النافذة على الحافة. أضع ريشةً كالهنود الحمر وأكمن في دغْل اللحظة وفي السكون العميق، لا أخرّبش. أتنقل بخفّة طائر من كمين إلى كمين، وأنتظر. كم هو عمق الليل.. وكم هو قاعي. بين ركام الغبار المترسّب على الباب والمكدّس في غرفتي.. لا أقدر على التخمّن. أجلس على عشب الخرافة ويداي فوق رأسي كوسادة وأحدّق في مغاور الفضاء. يعبر شلح أزرق.. أظنّه الطائر في انتظار المكيدة. هكذا في الظّهيرة. الظّهيرة، الأسيانة، مثل نمر.

 

لا تأتي الحرب في نص (ساق تحدّق) للدكتور جمال العتابي كخلفية لأحداث متلاحقة، وإنما كقدر يتسرب إلى الجسد والوعي، كقوة جارفة تهز الكائن البشري في أعماقه قبل أن تحطم ملامح العالم الخارجي، فمنذ اللحظة الأولى، يُلقى بالقارئ مباشرة وسط أجواء تمتلئ بالدخان وصرخات الجرحى، حيث يتقاطع الرفض/ الوعي مع السلطة/ مشعلي الحروب، حين تتآكل الحدود بين الواجب العسكري الألزامي والصرخة الإنسانية التي لا تجد طريقها إلى النجاة.

ليست الشخصية الرئيسية (الطبيب طالب) بطلاً بالمعنى التقليدي للكلمة، بل هي وعي يقف على الحافة، بين قسمه الطبي الذي يربطه بالحياة، وبين مشاهد الموت التي تملأ الأفق بلا نهاية، فكل عملية بتر يجريها تتحول إلى سؤال، وكأن كل عضو يقطع يأخذ معه جزءاً من الروح والذاكرة (هذه ليست مجرّد ساق. إنها طريق، ذاكرة، خطوة أولى نحو بيت، أو نحو قبر) حيث لا نكون، وفي اللحظة التي تحدق فيها الساق المبتورة في وجه الطبيب، أمام تفصيل غرائبي عابر، بل أمام حقيقة ترى أن الجسد، وتلك الساق، ليس مادة صماء، بل تاريخ كامل من الخطوات والبيوت والأحلام، وأن ما يُفقد على الطاولة البيضاء لا يقل فداحة عما يسقط في ساحات القتال.

يبنى النص بلغة مشبعة بالصور الحسية، لغة تجعل القارئ يشم رائحة اللحم المحترق ويسمع صوت العظم وهو يُقص، ويرى العيون المفتوحة للأطراف المبتورة وهي تلاحق الطبيب في يقظته وكوابيسه، ليست هذه الحسية تزييناً، بل هي وسيلة للنفاذ إلى التجربة من داخلها، كما لو أن النص يريد أن يضع القارئ في صميم ما يعيشه أبطاله، حيث لا فاصل بين الدم والحبر، بين غرفة العمليات وليل الجندي الذي يصرخ في داخله دون أن يسمعه أحد.

تأخذ القصة شكل شظايا متفرقة، عمليات جراحية، مذكرات يكتبها الطبيب، أوراق مطوية في جيوب الجنود، كوابيس ليلية، أصوات تختلط بالظلام، وصية تُخط على جدار غرفة الأطباء، ولكن هذا التشظي لا يُعد خللاً، وإنما جزء من معنى النص نفسه، لأن الحرب لا تنتج حكايات متماسكة، بل تشظي الزمن إلى لحظات منفصلة، وهكذا تأتي القصة كأنها وعي، كذات مذهولة تلتقط ما يمكن التقاطه من معنى وسط الخراب.

ليست الساق في هذه القصة مجرد تفصيل جسدي، بل رمز للذاكرة (رجلي كانت أول مَن يدخل البيت. كنت أطأ بها تراب أهلي . تعرف الطريق… أكثر مما أعرفه)، فحين تُبتر، لا يُقطع عضو فقط، بل يُقطع تاريخ يرتبط بحياة الإنسان وصلته بها، وكأنه يطال شبكة كاملة من المعاني التي تكون وجود الإنسان، لهذا يهتز الطبيب كل مرة، لأنه لا يرى في العملية فعلاً جراحياً محايداً، بل قطيعة وجودية بين الكائن وجسده، بين حياته وما تبقى منها بعد فقدان جزء أساسي من كيانه.

لكن النص لا يتوقف عند صدمة البتر وحدها، بل يتعقب ارتداداتها في وعي الطبيب، في مذكراته وكوابيسه وسيجارته المشتعلة في الممرات المعتمة، في الأصوات التي تخرج من الأطراف المبتورة، والورقة التي تقول "روحي لم تُبتر"، ووصية الطبيب التي تدعو إلى سؤال الجريح عما بقي فيه لا عما فُقد منه، هذه كلها تجعل القصة تتحول من حكاية حرب إلى تأمل في معنى الإنسان حين يُنتزع من جسده.

يبدو الطبيب ممزقاً بين وعيه المهني وارتباكه الداخلي، ففي كل مرة يخلع قفازيه ليكتب في دفتره أو ليطفئ سيجارته، يبدو كمن يحاول عبثاً أن يضع حداً لما يتسرب إليه من صور الدماء والأطراف المبتورة والعيون المفتوحة على الطاولات المعدنية الباردة، فعبارة (قلبي يُبتر مع كل عضو يُقطع) ليست جملة عابرة، بل صرخة وعي يكشف فيها أن الإنسان لا يمكن أن ينجو من الخراب، حتى لو وقف في صف الحياة.

عندما يقول الجندي ساخراً (خذوا الباقي... يمكن يصيروا شهداء قبلي) ليست سخرية مرة فقط، وإنما محاولة لمقاومة العبث، ولمواجهة ما لا يمكن احتماله، بلغة تحتفظ بآخر ما تبقى من إنسانية مهددة بالانطفاء، لكن الطبيب هنا لا يضحك، لأنه يعرف أن ما يُفقد ليس مجرد أعضاء، بل أجزاء من الذات، وأن النجاة التي يقدمها في مواجهة الحرب تأتي ناقصة، محملة بثمن لا يمكن استرداده.

تخلق البنية التي اعتمدها العتابي، بانتقالها بين المونولوجات الداخلية والمشاهد الحسية والوثائق الصغيرة، نصاً يبدو وكأنه يخرج من قلب التجربة، لا من خارجها، فلا مسافة آمنة هنا بين الراوي والحدث، بل انغمار كامل، يجعل القارئ يعيش حالات التمزق والقلق والكوابيس، ولهذا تظل القصة تدور في ذهن القارئ، لأنها لا تقدم خلاصاً ولا عزاءً، بل تكشف هشاشة العالم والإنسان في مواجهة حرب غاشمة تأكل كل شيء ولا تشبع.

لكن القصة تتركنا أمام أسئلة لا جواب لها، فماذا يبقى من الإنسان حين يُفقد جسده؟ هل يمكن للروح أن تظل متماسكة رغم التمزق المادي؟ هل تكفي الذاكرة أو الحلم أو اللغة لتعويض ما يسقط في الحرب؟ إذ تظل الأطراف المبتورة في الصناديق المعدنية، والطبيب يواصل تدوين ملاحظاته، والحرب تستمر، والجنود الذين نجوا يحملون في أجسادهم علامات الفقد التي لا تزول، ومع ذلك، ووسط هذا الخراب، تظل هناك أصوات تصرخ (روحي لم تُبتر)، وكأن الإنسان، رغم كل شيء، يبحث عن بقايا معنى لا تقوى الحرب على تمزيقه.

***

أمجد نجم الزيدي

 

تكون الذات عادة أسيرة العالم الذي يعوم حول الباث، وهي منفتحة بدرجات كبيرة ومساحة واسعة، فالباث المالك لهذه الذات لايشعر بأنّه ملكه، بل هي مسخّرة للتعبير والسفر خارج حدودها؛ فالشعرية وتقنيتها ليست محصورة بشكلها الأناي، وإنما هي انعكاس فعال بين الذات المالكة والجماعة التي حولها أو الطقوس المؤلمة والأوجاع المنتشرة في العالم. فجمالية الذات تظهر بين تكوينات التموضع النصّي للنصّ الشعري؛ وتسخير الذات خارج الأنا المخصخصة للذاتية الشخصية، فهنا تصبح الذات ذات تمليك خاص ولكنها لاتميل إلى الشاعر بقدر ميلها إلى الآخر من جهة وإلى عكس الوقائع والارتباطات الموضوعية مع الآخرين من جهة أخرى. لذلك فمهمة الذات التوظيف الآني بقدر كبير وليس الماضوي، وإن بحثت في الماضي فهي تبحث الآن بكلّ تأكيد. فعندما يكون النصّ الشعري خارج التفكّر، وهو في مناطق الـ فلاش باكية، تظهر الحالات الماضوية بشكلها الآني، لأنّ الذات تبحث عن الآن، وهي آنية قبل كل شيء، ولكن بترتيب زمني، ترتيب ذا علاقة مع الأفعال وتفاعلها، وعندما يزور الشاعر بعض الشرود الذهني، يعكس لنا حالته الشعرية بتواصلٍ خلاق، فيقودنا من الماضي إلى الحاضر.

لاتبحث الذات عن المعاني العادية بل تسافر إلى أبعاد أخرى؛ أبعاد ليست قريبة ومطروحة بالشكل اليومي المعتاد، بل المعاني غير المعروفة، والكلمات الغريبة غير المستهلكة؛ وقد عمل السرياليون بهذا الاتجاه، وها هو رامبو مثلا: " ليس الشعر إذن، في نظر رامبو، ولا في نظر تلامذته السرياليين، طريقة معرفة بالمعنى العادي للمعرفة. بل هو الطريق التي بقيت لنا كي نتعرف إلى الأساطير الإنسانية بوجوهها التي لاتحصى. وما دامت الأساطير شيئا غير معروف فإنّ الكلمات التي تحملها لايمكن أن تعرف كذلك (1)".

عند انتقال الذات العادية إلى ذات شاعرة من الطبيعي أن تنتقل معها الحسية الجمالية، أو توجد منافذ فعّالة تؤدي إلى العنصر الجمالي، فالذات الشاعرة تحمل من منظومة الدهشة بما لايقارن مع غيرها، ومنظومة الدهشة هي الجمالية بذاتها، إذن يصبح لدينا بالإضافة إلى البعد الذاتي الجمالي، البعد الجمالي الذاتي؛ من خلال تموضع الذات الجديدة والتي دائما يتمّ البحث عنها، وهنا تبدأ العلاقات مابين المتخيل " الذاتي " والذات الشاعرة (أو العاملة) الجديدة.

إنّ السعي إلى الإيمان الذاتي والبحث عن المعاني من خلالها ليس إلا بداية للحسية الجديدة التي تعلّقَ الباث بها وراح مع التنقيب عن مفهومية الآخر والتقرّب من الموضوعاتية المطروحة على مستوى الوعي اللغوي في النصّ الشعري، ومستوى الوعي الذاتي في التأسيس الجديد. فهناك المستوى الداخلي للذات والمستوى الخارجي؛ ففي المستوى الداخلي هناك الاستقلالية في اتخاذ قرار الـ " أنا " حيث تميل هذه الاستقلالية إلى معرفة الآخر من خلالها والولوج إلى تمثله من خلال الكلمة والعبارة في النصّ الشعري، وهذا مايحدث كثيرا حيث ترتد الـ " أنا " من المستوى الداخلي إلى المستوى الداخلي عند التفكير بالآخر واتخاذه كمصدر مهم في تمثيل أوجاعه أو محيطه أينما كان، فهو متآخ مع دواخل الشاعر، وهناك الكثير من المشاهد الشعرية الواضحة تبين هذا التحليق في النصّ الشعري. وأما المستوى الثاني فهو المستوى الخارجي، فهنا يتمّ نقل الحدث الخارجي بواسطة التصوير العيني " البصرية " والتي تشتغل من خلال الأنا المنفصلة عن الآخرين، وترسم مساحة جميلة بين المساحة الداخلية والمساحة الخارجية.

المشهد الشعري، لاشعوري تصويري، وعبارة عن ديناميكية خلاقة، حيث نذهب إلى اللامألوف بواسطة الجنون الخلاق، الذي يدفعنا أكثر وأكثر نحو الحرية وحرية اللاشعور. فأسبقية التركيب الرمزي هو كل حالة تركيبية رمزية على أساس تفكيري، وعلى حسية متجددة، مما تدعونا إلى حالة من تأصيل خيالي، وهناك دعوة تموضعية ضمن المنظور الرمزي؛ وهذه الدعوة تدفعنا أكثر ونحن في غرفة الخيال نحو التأسيس والخلق الشعري. ومن هنا ندخل الى طبيعة المرء السيكولوجية، والمحتاجة الى نقاط من الانطلاق نحو الذات العاملة من جهة (حيث تشكل لدينا طبيعة شعرية ضمن حسيّة جديدة) والمنظور الخارجي من جهة أخرى، والذي تديره العين ضمن التفكر الجديد. وهذا الدوران جعلنا ذو تبنّي لمواقف جديدة، فالرؤية تلتقط الجديد ولا حاجة لها بالأشياء المُلتقطة، فربما هي مترسبة في الذهنية، ويتم تحريكها من خلال رؤية خيالية داخلية جديدة، فتدفعنا إلى خيال جديد. " الصورة عند الرمزيين إفراز خيالي متوتر يجمع بين الانكشاف والتحجب، وبين الكيف الحسي للصور والدلالة الكلية المجردة، بين النسق المثالي الذي يحدده الخيال، والأساس المادي للتجربة وهو الذي تبدأ منه الصور(2)". وهذا مايقودنا إلى الغور البعيد نحو اللاشعور، والاعتناء بالمنطقتين الداخلية: البعد الحدسي، والخارجية مع البعد الخيالي؛ فالمنطقة الداخلية الذاتية تعتني بالاثر العميق، والمنطقة الخارجية تقودنا إلى رؤى خارجية لالتقاط الممكن منها ضمن المنظومة الخيالية.

نذهب وعلاقة الحالة الذاتية مع الحالتين النفسية والفكرية، وهي مكونات لصيرورة غير منتهية في الشعر الحديث، وقد ذهب السرياليون بقوة أكبر نحو الأشياء، فالعالم يعوم من حولنا يعوم ونحن ننظر إليه نظرات غارقة، ومن خلال هذه النظرات الغارقة ننزل إلى قاع البحر (ماهية الأشياء وما حولها) فكلّ شيء من حولنا، قد تكون هذه الاشياء تحمل معاني تافهة، وهي ليست تمثيلية قصوى، ولكنّها مهمة، فلا ينظر إليها كلّ مدقق، فالمسافر الذي يبحث عن غربة، قد يراه بعضنا موضوعا تافها، ولكنّه مهما، فقد ازداد العالم من حولنا معاناة جديدة لرجل من طراز جديد؛ أقول من طراز جديد لأنّه بحث في ذاته، واستجابت تلك الذات إلى رغبة المعاناة ورحلته الجديدة. " الشعر هو موقف ووجهة نظر نرنو من خلالها إلى الأشياء، الشعر هو في الأشياء وفي موقفنا من الأشياء. إنّه حالة نفسية وفكرية، أسلوب ما، في التعاطي مع العالم والحكم عليه وفهمه وتمثله. إلا أنّ هذه الحالة تكون مطمورة تحت ركام الحسّ ونفايات المنطق ولابدّ من تدريب الإنسان كي يستعيد تلك الحالة من جديد (3) ".

لاتقلّ ميزة المشهد الشعري عن قيمته الجمالية في التعبير اللاشعوري، فعند إحالة الذات من الداخل إلى الآخر، يكون قد تبرع بموقف كما يتبرع بزمرة دمه للآخر دون معرفة مسبقة؛ فجلّ ماتملكه المخيلة تاجها الجمالي، ليكون السلطان الأول لها وهي ترسم المعاني بشكل لغوي امتدادي لكي تطرب باب المتلقي، علما ما نزفته لايمثلها تماما، تذهب إلى بعد اقترابي في الزمنية النازفة.

في هذا الزمن الإشاري لاتحتاج الذات إلى معينات، فهي وحدة إشارية، أشارت إلى الآخر بواسطة المنظور النظري، مما استدعى استبدال الكلمات بكلمات أكثر إثارة لكي يضمن الباث براءة المشار إليه بواسطة الذات الكاشفة.

الخروج من الحسية الداخلية وإلى الحسية الخارجية، يعني أنّ هناك توظيفات جديدة مع كلّ مائدة خيالية يتم التعلق خلفها، وما تحوي تلك المائدة من ملذّات تبعث على الأريحية، وكذلك المشهد الشعري فإنّه يبعث على أريحية فكرية خارج التفكر، بل يقودنا إلى مزاج حيوي ويدفعنا إلى الشيئية خارج الأشياء. فالشاعر تزداد ألوان متعته من خلال الشيئية، لذلك لايقترب من الأشياء؛ فاللذة الجمالية، هي القيمة الذاتية والتي تدفع الشاعر إلى التمعن أكثر فأكثر والإبحار في الأشياء؛ فاللذة الانفرداية تنظر إلى الجسد بشكله الانفرادي، بينما اللذة الجماعية فهي من اللذات المشتبكة وعديدة التفردات ولايمكننا السيطرة عليها، فتتعدد من خلالها الذوات، وكلّ ذات تتعلق بلذة؛ ونبقى مع لذة التفرّد فهي الأقرب إلى الذات الشاعرة والتي تبحث عن القيمة الجمالية بين مشاهد النصوص، وتعلقها في الذائقة الشعرية.

يمثل اللاشعور قيمة، قيمة ديناميكية عند الوعي الكتابي؛ وقد ذهب فرويد مع هذه القيمة (في العلاج الإكلينيكي)؛ فالمحتويات المكبوتة تخرج وتصبح حالة من الوعي، وهنا تمثل قيمة من اللاشعور، فتظهر لدينا حالة من المقاومة الكتابية؛ وخصوصا أننا في الشعرية؛ وهذا يعني أن تشكل قيمة من الشعرية الفائضة أيضا عند التفكر اللاشعوري في حالة المقاومة الواعية من جهة وحالة النتاجات النفسية التي تمنحنا حبّ المقاومة والديمومة الكتابية بأحضان القصائدية من جهة أخرى. فاللاشعور عند الكتابة يتمظهر عند الشعور، وهو حالة من حالات النسيان في تصويب الزمكانية، فالنتاج الثقافي والأحلام كلها ملتويات إفرازية تخرج عند اللاشعور الكتابي.

إن التقديرات الجمالية من الأعمال الخلاقة؛ فالفنان عندما يجمع أعماله وأدواته وابتكاراته ويوظفها كعمل جمالي، فهذا العمل نعتبره ذا فكرة خلاقة، فقد رأى " هيغل " بأن الأعمال الجمالية يجب أن تكون أعمالا محسوسة، كالتمثال والأشياء في الطبيعة الحرة وغير ذلك، ولكن يرى غيره مايخالف ذلك، فالعمل الجميل عندما يغزو التوظيفات الشعرية عن طريق المسلك القصائدي وحالة الجنون الخلاقة التي تؤدي وتنفذ إلى النصوص الجمالية فهو لايعتمد المحسوسات المباشرة؛ بالعكس فإن الشاعر قد يبحث عن حسية جديدة، حسية تميل إلى الجمالية قبل كلّ شيء واتقانها بشكلها الجديد لكي تنبت المؤثرات الجمالية وتبرق كحالة لامثيل لها.

الأعمال التي تثير الحواس من جديد هي تلك الأعمال التي تتكئ على الحالة الجمالية بأفعال تفاعلية تحرّك النصّ الشعري وتجعل منه ايقونة فعالة؛ فإنّ كلّ عضو من أعضاء الإدراك الحسّي من الممكن أن يكون مادة للعمل الجمالي.

تتحمّل اللقطة البصرية البعد الجمالي الذي نقلته بوسيلة البصر، بينما تتحمل اللقطة الحسية البعد الجمالي الذي رُسم بوسيلة الحس؛ وفي اللقطتين يتباعد المنظور الجمالي، فكلما ابتعد المنظور قلـت الأخطاء المنظورة، وكذلك من الناحية الحسية كلما تعمقت الحسية في المنظور الشعري قلت الأخطاء المنظورة وانشغلت المشاهد بحركات الأفعال والجمل ومجاوراتها التي تقودنا إلى البعد الجمالي في النصّ الشعري؛ وهكذا يمتزج الجمال بواسطة الأشياء والألفاظ لإنتاج حالة من حالات ومسالك فريدة النوع في النصّ الشعري الحديث.

***

كتابة: علاء حمد

...........................

1- ص 64، عصر السريالية، والاس فاولي، ترجمة: خالدة سعيد، دار التكوين، سورية

2- ص 267، الخيال مفهوماته ووظائفه، د. عاطف جوده نصر

3-ص 234، الرمزية والسريالية في الشعر الغربي والعربي، إيليا الحاوي، دار الثقافة، بيروت

رواية المفكرة الشخصية وهستيريا الذاكرة الشخوصية

توطئة: عكست الخطابات الروائية المتمركزة على محور مركزية الأنا، ذلك الاختزال المفضفض في مسألة الابتعاد عن الحظوة الموضوعية، ما جعل مثل نموذج هذه الروايات ذا نزعة ذاتية ــ شخصية، ضيقة في آفاقها وتفاصيل مسرودها الذي يتركز غالبا في الحديث عن شواغل الذات وفضاءاتها المتوقفة على محاورات وتوصيفات وأفعال لا تتسع إلا لتشمل قوقعة الذات الراوية وهمومها وهواجسها الدانية.

ــ شواغل السرد في وقائع هامشية الحكي

يبدو للقارئ النخبوي (الناقد) أن محطات رواية (ساعة بغداد) هي ذلك النوع من الروايات الموغلة في هواجسها الآنوية والحسية الفجة التي لا تطال سوى الكلام عن أحوال ومواقف قامت كاتبتها باختزالها في شروط خاصة من الصناعة الشواهدية. إذ إنها لا تكترث سوى بما يجول في خواطرها من علاقات وصداقات وتفاعلات أواصرية مع وقائع ميدانية من زمن الأفعال السردية، بل هي لا تتعدى في وسائلها وفرضياتها الإنتاجية صورة فتاة تكتب عن يومياتها بطريقة بعيدة عن المخيلة المؤسسة على شروط إثراء النص وسمو الدلالات بما يتأتى من أفعال تقانية خاصة. أنا شخصيا حاولت غض النظر عن الكتابة حول هذه الرواية بعد الإفراغ من قراءتها ولكن ما أثارني حقا حجم الترويج والفبركة الإعلامية في حق هذه الرواية وصاحبتها معا، لذا قررت الكتابة عنها لغرض الكشف وتسليط الضوء على حجم المغالطات الشنيعة في مكونات هذه الرواية بوصفها فاعلا عن أفعال لها الأساس المنظوري في عملية البناء الروائي. بعد زمن قراءتنا لرواية شهد الرواي ــ ساعة بغداد ــ لم نكتشف بأن هناك من تجليات دينامية متبدية في عناصر الموضوعة الروائية، ناهيك عن سطحية آليات الحكاية وهدر خطابها في إنتاج علاقات أشبه ما تكون بالمذكرات أو اليوميات العادية والخالية من أية قيمة إنتاجية لتجربة رواية ما. ولو حاولنا نبين مستوى موضوعة الرواية لما وجدنا فيها سوى دلائل رابطة وشواهد مفعلة بين علاقة الشخصية المشاركة مع الجيران ومع صديقاتها المتشعبات بقصص العشق والمواعدة وسرقة القبلات في الشوارع الضيقة وبعض الحدائق: (عاشت نادية تفاصيل قصتنا، ولكنها كانت غير متحمسة، كانت تكرر أمامي بين مدة وأخرى جملة لا أحبها ولا أعرف كيف أرد عليها: ــ أنت تحبين فاروق أكثر من حبي لأحمد. / ص83 الرواية) على هذا النحو نتعرف على مواطن تشكل بذاتها ثلاثة أرباع السرد في الرواية، ومثلها ما كان مرتبطا بهجرة العوائل العراقية إلى خارج البلاد من جراء تزايد حجم الفاقة والعوز بين مستويات العوائل في الحي.

1ــ هوامش السرد وممكنات تفعيل الحضور النصي:

تفرض مظاهر الرواية منذ عتباتها الاستهلالية ذلك القصد التكويني الذي يشكل بذاته النظرة الأولى من قواسم الزمن السردي، حيث المادة السردية انسجاما واتساقا مع مستوى أحلام البطلة المشاركة عنصرا ساردا، إذ تسعى الراوية إلى تأسيس أشبه بمرحلة الأحداث الأولى من زمن انبناء النص كحال هذه الفقرات: (قبل أن أغمض عيني، رأيتها تبتسم وهي نائمة، تحرك شفتيها ببطء كأنها تتحدث مع نفسها. اقتربت منها وأنا مندهشة ووضعت وجهي مباشرة أمام وجهها، شاهدت أطيافا ملونة تتحرك حول جبينها، خيالات لم أر مثلها من قبل. / ص12 الرواية) الشخصية الساردة في الرواية تحفل بخلق عوالم حلمية خاصة في رؤية الأشياء عبر حدود وقائعها ومستوى تمثيلاتها في ذاتها التي تمتاز بإيراد الأسئلة والبحث في آفاقها الزمانية والمكانية، بلوغا نحو خيالات تتعلق بنمو بصيرة الشخصية أحيانا.

2ــ الزمن النذير في سرداب خيالات الضوء والظلام:

غالبا ما تراودنا تجليات الرؤية السردية في رواية (ساعة بغداد) من خلال عين التصورات المتواطنة في تفاصيل المشاهد البانورامية وامتداداتها المؤطرة بصوت وخطاب الراوي، لذا فإن أغلب الأفعال التي جاءت تحت سقف الملجأ كمأوى مفسحا المجال لتعالي موجات الظلام وتراقص أصيص ظلال الأجساد على رقع الجدران والمسافات القصيرة الفارغة بين عائلة وأخرى، لذا وجدنا الشخصية الساردة لها من حجم الرؤى ما تبلغ بها (رؤية جوانية ذاتية) أو ما يمكننا تسميته ب (الفاعل الداخلي). أي إن الساردة الشخصية ترى الأشياء أحيانا ضمن الفضاء الداخلي وتطرح مؤولات أخيلتها ضمن صورة متداخلة في مساحة مشهدية مؤطرة: (قبل أن أعود إلى مكاني ما، أشعل أحدهم سجارته بعود ثقاب، شاهدت ظلي يتحرك على الجدار ثم راح يكبر ويتمدد على سقف الملجأ ويتلاشى، بقيت واقفة في مكاني أفكر في ظلي... إلى أين ذهب في هذا الوقت؟! أين تختفي ظلالنا من هذه الحياة؟ هل أنا في الحقيقة ظل نفسي؟. / ص14 الرواية) سنلاحظ بأن هذه الشخصية هي من تولت في أغلب الأحيان تقنيتي (السرد ــ التبئير) لاسيما في حالة التماهي الكلية مع فواعل تقنية خاصة ك(رؤية برانية خارجية ــ رؤية برانية داخلية ــ رؤية جوانية داخلية) فالسارد الشخصية يرى السرد صورة تقف من خلالها تفاصيل الأشياء والأحوال، ويتبين من خلال وحدات أخرى في عملية السرد، بأن الساردة الشخصية: (في خيالي أعدت الناس الذين شاهدتهم في الملجأ إلى بيوتهم في شارعنا، رتبت تلك البيوت في خطوط مستقيمة ورسمت منها سفينة كبيرة تشبه المحلة التي ولدنا فيها، ثم رسمت دخانا أبيض يصعد ببطء نحو الغيوم. / ص17 الرواية). إن الكيفية التشكيلية للساردة الشخصية تمنحها حالات حلمية واقعة ما بين (محسوسية الرؤية ــ ذاتية الموضوعة) بلوغا نحو مفصليات أكثر تعلقا بحيوية مؤثرات الزمن والسفر من خلال حلم سفينة النجاة.

3ــ التخييل المفرط وأزدواجية الواقع:

لقد اعتمدت شهد الراوي في روايتها (ساعة بغداد) سطحين للسرد، أو مستويين: مستوى أول يجري في تقديم مادة الفتاة التي تدخل الأحلام، ورغم هشاشة هذا المستوى، غير إنه يجري في مواضع أكثر تناسبا وريشة الرسام، ومستوى ثان يكشف فيه عملية ما يخفيه المستوى الأول ببناء عوالم أكثر محكومية ببناء السرد والمسرود. تكشف وجوه الرواية عن شخصيات عديدة منها إجمالا الجيران الذين همو نصفهم بمغادرة الحي والآخرين الذين ينتظرون دورهم في عجلة الهجرة، كما ولا يخفى ظهور ذلك الرجل الكاشف للوقائع عن ظهر غيب فيما حولته الساردة الشخصية إلى فتاة ساحرة تماشيا مع نزوعاتها الحلمية والعاطفية.

ــ تعليق القراءة:

إن الطبيعة المزدوجة في رواية (ساعة بغداد) تمتلك بالتركيز موضوعة مزدوجة تحاكي صور الدمار والحرب حالات ومغامرات الحب والعشق في الأحداث وكأنها حلت كترنيمة في المزاوجة والطرح التناقضي: ولماذا كل هذه المغالاة في حب الصديقات ما يصل درجة العشق أحيانا؟ عموما أن الرواية محملة بخصائص الحالة الذاتية المفرطة ما جعل أحداثها تبدو وكأنها رواية المفكرة الشخصية التي توقع شخصيتها وشخوصها في هستيريا الصراع العاطفي والذاكراتي.

***

حيدر عبد الرضا

 

قراءة رمزية ونفسية في شعر العشق الكوني للشاعر وسيم الروسان

يظلّ الشعر، منذ فجر الوعي الإنساني، أداةً لاكتناه ما لا يمكن قوله، ومرآةً تنعكس عليها الأسئلة الكبرى التي تربك الوجدان والعقل معاً. ومن بين هذه الأسئلة، يبرز سؤال الحب والموت بوصفه جوهر التجربة الإنسانية وذروة تناقضها: فهل الحب انبثاق للحياة أم طريق إلى الفناء؟ وهل الموت نقيض الحب أم استمراره في صورة أخرى؟

في القصيدة موضوع الدراسة، نواجه نصاً يحتشد بالتوهج الوجداني والرمزية الكونية، حيث يمتزج الجسد بالروح، والعاطفة بالتأمل، والذات بالعالم. الشاعر هنا لا يكتب غزلاً تقليدياً، بل يؤسس ميتافيزيقا للعشق، تجعل من الحب معادلاً للوجود، ومن الفقد معادلًا للحقيقة.

وسأحاول في هذه القراءة أن أستعين بمناهج التحليل الرمزي والمنهج الأسلوبي والتحليل النفسي (اليونغي) والتأويل الهيرمينوطيقي لفهم البنية العميقة للنص من حيث الدلالة، والصورة، والمجاز، والإيقاع، والرمز، والبنية النفسية المتخفية خلف اللغة.

أولاً: جدلية الحب والموت – الوجود في انفتاحه وتناقضه

يفتتح الشاعر نصه بسؤالٍ وجوديٍّ لافت:

«أفي الموت حب كما في الحب موت؟!»

سؤال يختزل الفلسفة كلها في جدليتها الأبدية بين الكينونة والعدم. فالحب، كما يرى هيغل، ليس سوى “تلاشي الذات في الآخر”، أي موت رمزي يهب للحياة معناها الأسمى. أما الشاعر وسيم روسان فيجعل من الحب والموت توأمين متعانقين، إذ يكتشف أن كلاهما يقود إلى التجاوز، إلى عبور الذات نحو مطلقها.

إنه يتساءل، فيقول:

 «في كل درب وجدت الموت، ففي أي موت سأجد الحب؟!»

وهنا يتحول الموت إلى رمزٍ للتحول لا للفناء، كما في فلسفة نيتشه الذي يرى أن كل موت هو شرطٌ لحياة أعمق. الحب عند الشاعر الروسان ليس لذّة ولا عاطفة، بل قدر كونيّ، موتٌ من نوعٍ آخر يفضي إلى الولادة.

ثانياً: الحبيبة بوصفها رمزًا كونيًّا – الأنثى كمرآة الوجود

في المقاطع التالية، تتجلى الأنثى بوصفها صورةً كونية لا مجرد كائن بشري. فهي ضوء، وبحر، وسماء، ومطر، وياسمين، وموسيقى. يقول الشاعر وسيم الروسان:

 «لياسمين شفتيك رائحة الجنة، لتمور نهديك مذاق الأبدية»

هذه اللغة الغنية بالمجاز الحسيّ تجعل من الأنثى تجلّيًا للخصب الكوني، وهو ما يشبه تصوّر يونغ لـ “الأنيمـا” — أي الصورة الأنثوية الكامنة في لاوعي الرجل، التي تمثل بوابة الخلاص الروحي.

وهنا لا نرى حبًّا بشريًا فحسب، بل طقسًا مقدسًا للاتحاد بين الأضداد: بين البحر والعطش، بين النور والعتمة، بين الجسد والروح. الأنثى في النص ليست موضوعًا للرغبة بل وسيطٌ بين العالمين، بين المرئي والمتعالي، تمامًا كما في التجربة الصوفية عند ابن عربي الذي رأى في الأنثى مظهراً للحقيقة الإلهية.

ثالثاً: الرمز والإيقاع – الشعر كحركة تأملية للروح

من الناحية الأسلوبية، يتحرك النص بإيقاعٍ متدرجٍ بين الهمس والانفجار، بين الإقرار والدهشة. الجمل الشعرية قصيرة لكنها تنفتح على دلالات واسعة، تحاكي ما يسميه باشلار “إيقاع الحلم المائي”.

الصور الشعرية تنبثق من عناصر الطبيعة: البحر، المطر، النهر، الغزالة، المرآة، النور. وهذه العناصر تُعاد صياغتها كرموزٍ للذات الإنسانية وهي تبحث عن مركزها.

فعندما يقول الشاعر الروسان:

«هل القصيدة مرآة النهر الوحيدة؟!»

يضعنا أمام تساؤل ميتاشعري عميق، فالشعر ذاته يتحول إلى مرآة للمرآة، أي تأمل الوعي في ذاته، فيحاكي البنية التأويلية (الهيرمينوطيقية) التي لا تنتهي: المعنى يولّد معنى، والقصيدة تعكس ما لا يمكن القبض عليه.

رابعاً: البعد النفسي – من العشق إلى الوعي

من المنظور النفسي، يتبدى النص كتعبيرٍ عن رحلة الانصهار بالآخر. فالحب هنا وسيلة للمعرفة، والمرأة تصبح رمزاً للذات العليا التي يبحث عنها الشاعر في أعماقه.

تعبيراته مثل:

 «كنتِ أنت فكنتُ أنا»

تكشف ما يسميه كارل غوستاف يونغ بـ “الاندماج بالأنيما”، أي اتحاد الأنا بالظل الأنثوي في محاولة لبلوغ التكامل النفسي.

لكن هذا الاتحاد لا يخلو من الألم، لأن الشاعر يدرك أن الحب – كالموت – لا يمنح الخلاص إلا عبر الاحتراق الداخلي. لذا فإن النص كله يبدو مثل عملية تطهير نفسي، كما في التصور الفرويدي للحب كـ "استبدالٍ للغريزة العدوانية بطاقة الجمال".

خامساً: بين الحضور والغياب – الشعر كمسكن للروح.

ينتهي النص بلحظة انكشافٍ شديدة الحساسية، يقول:

«فأي بحر سيخبر عينيك أن تخففا عني وطأة الزمن؟!»

إنه سؤال الوعي بالزمن، بالهشاشة، وباستحالة الإمساك باللحظة. هنا يتحول الحب إلى ذاكرةٍ جمالية للوجود، وإلى مقاومة صامتة للفناء.

فالقصيدة ليست غزلاً، بل تأملٌ في معنى أن تكون عاشقًا — أي أن تحمل عبء الوعي والحنين معًا. في هذا المعنى، تلتقي القصيدة بروح ريلكه الذي كتب: «الحب هو العمل الأخير لمن يريد أن يصير إنسانًا».

خاتمة:

في هذا النص البديع، ينجح الشاعر في تحويل التجربة العاطفية إلى رحلة أنطولوجية نحو الذات والعالم. الحب والموت، الحضور والغياب، الجسد والروح — كلها أضدادٌ تذوب في لغةٍ منسوجة على خيوط الضوء والماء.

إنها قصيدة تكتب الإنسان من جديد: كائناً يُحبّ لأنه يموت، ويموت لأنه يعي معنى الحب.

لغة النص، بصورها الغنية وتوترها الإيقاعي ومجازها الكوني، تجعل منه مرآةً لجوهر الشعر نفسه: بحثًا لا ينتهي عن الحقيقة في وجه الجمال، وعن الخلاص في وجه الفناء.

***

بقلم: عماد خالد رحمة - برلين

......................

أفي الموت حب كما في الحب موت؟!

في كل درب وجدت الموت

ففي أي موت سأجد الحب؟!

في أي ريح سأجد المطر؟!

للنهر مسار ثابت، فكيف حاد النهر في

عن صواب البحر؟!

2-

ماذا أقول عن وجهك ذي الصباحات الملائكية؟!

ماذا أقول عن ابتسامتك التي تسافر في روحي مثل طائر؟!

لياسمين شفتيك رائحة الجنة.

لتمور نهديك مذاق الأبدية.

وحيث تكونين يكون البحر بقلبه المجنح وعينيه الزرقاوين!

3-

ما سر هذا الضوء الذي تحفره شفتاك

في خاصرة الأقحوان؟!

ما عدد الشجيرات التي تغرسها عيناك

في بساتين روحي؟!

هل أبالغ إذا قلت

إن البحر نقطة في بحر أنوثتك؟!

شعرك مرآة سماء حالمة.

وجهك يعكس الطمأنينة

مثل مساء أليف.

اسمك يتدفق عذوبة في شرايين الموسيقى.

نظراتك تنهمر فرحا" مثل عيد من مطر.

و ابتسامتك أميرة تحتفي بها الأشجار

يغني لها الحجر.

و كنت أنت فكنت أنا،

و كانت سماء فكان بحر!

4-

قلبي يستحق جمالك

فهل جمالك يستحق جنوني؟!

و هل تعرفين بأن جنوني يبتكر المطر؟!

قبليني إذا" لأنطق العالم بكلمة واحدة: أحبك.

عندما تحبينني يصير قلبك مفتاحا" لقلبي.

و عندما احبك يصير قلبي مفتاحا" لهذا الكون!

5-

عندما نظرت إلى عينيك أول مرة

رأيت طفلتين جميلتين كأنما ينبض فيهما المسيح!

و عندما قبلني نعاس الحديقة نظرت إلى عينيك

مرة" أخرى فرأيت البحر كله محمولا" في سمكتين بنيتين

و عرفت بأني لا أعيش النظرة ذاتها مرتين!

و قلت في نفسي:

فيك من ليلى ما يجعلني أخاف على الذئب منك!!

فأي بحر سيخبر عينيك أن تخففا عني وطأة الزمن؟!

و ماذا سأفعل غدا" حين يصير وجهك الجذر الوحيد لقلبي؟!

6-

هل القصيدة مرآة النهر الوحيدة؟!

كيف لمرآة أن تعرف كيف تفكر المرآة؟!

و لماذا تعطي الغزالة تفاحها للذئب،

و تعصر ليمونها في فم النهر؟!

***

وسيم الروسان

 

للشاعرة لبنى خناتي

بين الحرف والهاوية، تقف لبنى خناتي على تخوم الذات واللغة، لتعلن في قصيدتها «هوية معلقة» ميلاداً جديداً للوعي المأزوم، ذلك الوعي الذي يتلمّس ملامحه في مرايا الكتابة ليكتشف أن الصورة قد انطفأت في العمق. فهذه القصيدة ليست مجرد تأمل في ضياع الهوية، بل هي سفرٌ تأويلي في اغتراب الذات الأنثوية والإنسانية معًا، في مواجهة واقعٍ مضطربٍ تتنازع فيه اللغة والوجود والذاكرة.

إنها قصيدة تُخاطب اللاوعي قبل الوعي، وتتحرك بين طبقات الرمز والتصوير والوجع، كأنها مرثيةٌ للكينونة، أو نشيدٌ صامتٌ لروحٍ تبحث عن خلاصها. ومن هنا تأتي قراءتنا لهذه التجربة عبر مناهج متعددة تتقاطع في رؤيتها للقصيدة: المنهج الرمزي الذي ينفذ إلى عمق العلامة الشعرية، والمنهج الأسلوبي الذي يرصد البنية اللغوية والإيقاعية، والمنهج النفسي الذي يكشف التوترات الداخلية، وأخيراً المنهج الهيرمينوطيقي (التأويلي) الذي يسعى إلى فهم النص بوصفه دائرة دلالية مفتوحة على تعدد القراءات.

أولًا: البنية الدلالية والرمزية:

تقوم قصيدة «هوية معلقة» على جدلية الذات والبحث عن المعنى، إذ تقول الشاعرة لبنى خناتي:

 «أُعلّق الحرف فوق الوقت أسئلة

وأرتق الصمت كي تغفو حكاياتي»

يبدو الحرف هنا رمزاً للوجود، والوقت رمزاً للفناء، أما الأسئلة فهي جسر الوعي الذي لا يجد أرضاً يقف عليها. فالشاعرة لا تكتب من أجل الإجابة، بل لتؤكد أن الأسئلة نفسها فعل مقاومة ضد العدم.

- الرمزية المركزية تتجسد في الهوية المعلقة — تلك الهوية التي لا تستقر على انتماء محدد، ولا تجد في اللغة سوى مرآة مشروخة. في قولها:

 «أدلّ نفسي على نفسي فتخطئها

ويختفي الوصف في لبس الإشارات»

يتجلى الضياع الوجودي بأبهى صوره: الذات تبحث عن ذاتها ولا تعثر عليها إلا في الضياع. وكأننا أمام إعادة إنتاجٍ لثيمة «الاغتراب الهايدغري» حيث يصبح الكائن منفيًا في العالم، غريبًا حتى عن كينونته.

ثانيًا: التحليل النفسي – الهوية كجرحٍ وجودي:

من المنظور النفسي، يمكن قراءة القصيدة بوصفها رحلة داخل اللاوعي الممزق بين الرغبة في الانتماء والخوف من الذوبان. إن قولها:

 «كأن عمري مصلوب على غده

والأمس يجلد ما أبقته خيباتي»

يُحيل إلى صورة الصلب الرمزية التي تعبّر عن ألمٍ داخليٍّ ممتد، وعن شعورٍ بالذنب أو العجز أمام الزمن. إنها الذات التي تعاقب نفسها، لأن الماضي لم يكن على قدر التوق، ولأن المستقبل ما زال مؤجّلًا.

وفقًا لمدرسة كارل يونغ، فإن هذا الصراع يعكس مواجهة «الأنا» لظلّها — ذلك الجزء المكبوت من الذات الذي يرفض الخضوع للوعي. فالشاعرة هنا لا تواجه العالم الخارجي فقط، بل تواجه ذاتها بوصفها سؤالًا غير محسوم، وكأنها تقول: «أنا مرآةٌ تبحث عمّن يعكسها».

ثالثًا: المنهج الأسلوبي – بين الإيقاع والتوتر:

من الناحية الأسلوبية، تهيمن على القصيدة نغمة موسيقية متوترة، لا تستقر على نسقٍ واحد، بل تتراوح بين الانسياب والحدّة.

نلحظ هذا في التوازي الإيقاعي بين الجمل:

 «أُعلّق الحرف فوق الوقت أسئلة»

«وأرتق الصمت كي تغفو حكاياتي»

هنا يتكرر الفعل بصيغة المضارع («أعلّق»، «أرتق») ليعكس استمرارية الفعل الداخلي — فعل الكتابة بوصفها محاولة دائمة لترميم الذات.

تستثمر الشاعرة كذلك أسلوب التضاد في ثنائيات مثل:

الريح / الأزمان، الليل / الصبح، الغد / الأمس — وهي ثنائيات تكشف عن توترٍ دائمٍ بين القوى الداخلية والخارجية التي تشدّ الذات إلى جهتين متناقضتين.

أما الصور الشعرية، فهي لا تُرسم لتصف، بل لتكشف. فقولها:

 «فلم أقابل بها وجهًا أُعَرفه

سوى خرابٍ علا فوضى هوياتي»

يقدّم صورة مركّبة تجمع بين الخراب والفوضى بوصفهما حالتين نفسيتين ودلاليتين في آن، مما يجعل الصورة الشعرية انعكاسًا لبنية الانكسار الداخلي.

رابعًا: القراءة الهيرمينوطيقية – تعدد المعنى وتأويل الوجود:

من منظور التأويل، تنفتح القصيدة على قراءات لا نهائية، لأنّها لا تُقدّم حقيقة، بل تخلقها. فالشاعرة لا تُعرّف الهوية تعريفًا ماهويًّا، بل تجعلها فعلًا مستمرًا من البحث والتوليد.

«كم خنتها لغتي كي تستقيم لهم

لكن حرفي أبى تنكيس راياتي»

هذا المقطع يُفكّك العلاقة بين اللغة والسلطة. إن خيانة اللغة هنا ليست ضعفًا، بل مقاومة؛ إذ ترفض الشاعرة أن تكون لغتها مرآة للامتثال الاجتماعي أو الإيديولوجي. إنّها لغةُ تمرّدٍ نقيّ، لا تُنكس راياتها حتى في الهزيمة.

في ضوء بول ريكور وهرمينوطيقاه الرمزية، يمكن القول إن النص يمارس «فعل التأويل الذاتي»، إذ يتأوّل الشاعر ذاته عبر القصيدة، ويتحوّل النص إلى مجالٍ للوعي الذاتي ولإعادة تكوين المعنى الإنساني.

خاتمة:

إن قصيدة «هوية معلقة» ليست مجرد بوح شعري، بل بناءٌ فلسفي للذات في زمن التبعثر. إنها مرآة الروح وهي تحاول أن ترى وجهها وسط غبار الأسئلة، وأن تتصالح مع هشاشتها لا عبر الإنكار، بل عبر الاعتراف والبحث الدائم.

تكتب لبنى خناتي من المسافة الفاصلة بين اللغة والوجود، لتجعل من الحرف كائنًا حسيًّا يتنفس، ومن الإيقاع نَفَسًا للوجع الجميل.

إنها تضعنا أمام نصٍّ لا يصف الهوية بل يؤوّلها، ولا يكتب الذات بل يخلقها من جديد.

***

بقلم: عماد خالد رحمة - برلين

......................

هوية معلقة

أعلق الحرف فوق الوقت أسئلة

وأرتق الصمت كي تغفو حكاياتي

تلهو بيَ الريح لا الأزمان تشرحني

ولا الخرائط تهدي درب رحلاتي

أدل نفسي على نفسي فتخطئها

ويختفي الوصف في لبس الإشارات

وأشعل الصبح بحثا عن ملامحه

فلا أرى غير وجهي في انطفاءاتي

كأن عمريَ مصلوب على غده

والامس يجلد ما أبقته خيباتي

كل الذي كنته قد زال من أثري

فمن أنا الآن؟ ما شكل انتماءاتي؟

تاريخنا اليوم قد أضحى صدى طلل

يرتد محض أسىً تبكيه ناياتي

كم خنتها لغتي كي تستقيم لهم

لكن حرفي أبى تنكيس راياتي

ما جئت أطلب من دنياي غير هدىً

للروح حتى ترى ما خلف مرآتي

فلم أقابل بها وجها أُعَرفه

سوى خراب علا فوضى هوياتي

كان ارتجافا خفيا لست أفهمه لكنه مثل وحي

للنبوءات

***

لبنى خناتي

 

في المثقف اليوم