قراءات نقدية

قراءات نقدية

وهي علاقات "تايبولوجية" نمطية موضوعية، تَشابُهات أو سمات مشتركة بين الظواهرالأدبية المختلفة، (مثل الأعمال الأدبية وأساليب الكتّاب والتيارات الأدبية وآداب مختلف العصور)، وهي مرتبطة ومحددة بظروف الواقع الاجتماعي والفكري، التي تحيط بالكاتب، وتظهر هذه الصلات بغض النظر عن وعي الأدباء لها. يجب أن نميز بين العلاقات التتابعية المنشأية (مثل ترسخ الواقعية من خلال الرومانسية) وبين العلاقات الأدبية المتبادلة بين الكتّاب التي تتم بوعي منهم، مثل علاقة الشاعر الإنجليزي المعروف بايرون بالشاعر الروسي بوشكين.

ومن الضروري تحديد العلاقات النمطية لأنها تغنى الناقد في تعيين قوانين التطور الاجتماعي والتاريخي، التي يمر بها الأدب، ولأن الظروف الاجتماعية والتاريخية المتشابهة تخلق بدورها أعمالاً أدبية متشابهة مثل الاتجاهات والتيارات الأدبية المتشابهة أيضًا. وعند أخذ العلاقات التاريخية – النمطية ودراستها وتحليلها، نرى أن “التأثيرات الأدبية” تمتلك أهمية ثانوية، وبخاصة عند دراسة العملية الإبداعية. هذا من ناحية، ومن جهة أخرى نلاحظ أن العلاقات النمطية تساعد الباحث في أغلب الحالات، على تمييز السمات الذاتية والخاصة، فإن مقارنة أعمال تورغيينيف مثلاً بنتاجات غونتشاروف تعطي نتائجَ كثيرةً جدًا على عكس مقارنة الأول مثلا بأعمال كاتب روسي آخر هو سالطيكوف شدرين، أو أي كاتب آخر من ممثلي الواقعية النقدية.

إن العلاقات (الصلات) النمطية تظهر بطرق متنوعة للغاية ولأسباب كثيرة، إمّا بسبب ارتباطات تاريخية ملموسه، أو لأسباب تتحدد في الانتماءات الزمانية والفكرية التي ينحدر منها الكتّاب، وهي هنا تتسم بوجود أوجه شبه موضوعية وبتقارب لا جدال فيه. كذلك تظهر العلاقات النمطية بسبب التطور اللولبي للأدب، مثل ترسخ الواقعية النقدية والواقعية الاشتراكية والرومانسية في بداية القرن التاسع عشر حتى نهايته، أو تطور العديد من الكتّاب في بداية القرن التاسع عشر وتحولهم من الرومانسية إلى الواقعية النقدية، أو تحول بعض الكتّاب في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين من الرومانسية الجديدة إلى الواقعية الاشتراكية والخ. وتتجسد العلاقات النمطية أيضًا بظهور أعمال أدبية متشابهة، بل ومتطابقه تقريبا في آداب مختلف الشعوب مثل “أُنشودة رولاند، (قصة رولاند) ق 11” الأوروبية المكرسة للقائد العسكري رولاند (ت 778) مادة خصبة لأدب القرون الوسطى وأدب عصر النهضة، و” قصة إيغورييف” الروسيه، أو أعمال ديدرو وليسينغ وبلزاك وتيكيري ودودو وديكنز وغيرهم. وقد حددت الأبحاث النظرية والأدبية التاريخيه سمات الاتجاهات الأدبية (مثل الكلاسيكية والوجدانيه وغيرهما)، على أنها خصائص عامه لأعمال كتّاب معينين في القرن الثامن عشر فحسب، إلا أن هذه التعميمات اتسمت في الحقيقة بطابع على الرغم من أن النقد الأدبي آنذاك لم يستخدم مصطلح نمطية “تايبولوجيا”.

ولقد انشغل الأدب المقارن بدراسة العلاقات (مثل كتاب: تاريخ الأدب الفني 1814 للدكتور جون كولِن دنلوب.

ومقدمة الترجمة الألمانية لكتاب بانشاتتري 1859، ومن بعدهما الناقد الأدبي السوفييتي الراحل ألكسندر فيسيلوفسكي وأوليبريخت وكيلر وغيرهم. هذا وإن الأعمال النقدية الأوربية الغربية المعاصرة مشبعة بالنزعة المقارنة.

ورغم أهمية الملاحظات النقدية التي قدمها ممثلو المنهج المقارن في مجال العلاقات النمطيه، إلا أنها تعاني من نقص كبير أعاق ولا يزال يعيق هؤلاء النقاد من بيان قوانين تطورالأدب وكشفها. ويكمن هذا النقص في الاهتمام بتقارب بعض عناصر العمل الفني كالمضمون السردي والفكري والتغاضى عن الأسس التاريخية الملموسة للظواهر المتقاربة (المتشابهة).

ويمكن ملاحظة حضور تقاليد النقد الأدبي المقارن في هذا المجال في البنيوية المعاصرة أيضا. فقد أولى كل من كونراد وجيرمونسكي أهمية كبيرة لمسائل النمطية (التايبولوجيا) الفنية، التي تأخذ بنظر الاعتبار تمام بناء الظواهر الأدبية والأسباب التاريخية لظهورها وهناك ثلاثة مبادئ رئيسة لدراسة العلاقات النمطية، وهي:

1- ضرورة كشف الأسباب التاريخية للتقارب النمطي (التشابه).

2- لا بدّ من تحديد العلاقات النمطية بين ظواهر أدبيه متكاملة (مثل الأعمال الأدبية، الأساليب والاتجاهات).

3- من الضروري إيجاد تشابهات نمطية لا في الأدب القومي الواحد، بل في عدة آداب قومية لمختلف الشعوب.

إن الدراسة النمطية في مجال الاتجاهات الأدبية تعتبر أكثر منطقية وعقلانية ومستقبليه، فدرست مسائل أدبية مثل طابع تطور الواقعية في الأدب العالمي (مثل واقعية عصر النهضة، الواقعية التنويرية، الواقعية الاشتراكية). أخيرا فإن كونراد استطاع بأبحاثه العديدة بيان العلاقات الأدبية النمطية التايبولوجية.

***

الدكتور زهير ياسين شليبه

...............

* مصطلح: التشابه "التايبولوجي" النمطي، أنظر:  قاموس المصطلحات الأدبية، موسكو، 1974

أو: التشابه النمطي المقارِن. ويُقصد بالتايبولوجيا (أو النمطية) هنا تصنيف الظواهر حسب الخصائص الأساسية.

يُستخدم هذا المصطلح في النقد الأدبي الروسي المقارنِ ويعتمد على مفهوم النمطية الموضوعية (التايبولوجيا الموضوعية) كوحدات تقسيم الواقع المدروس، والنموذج المثالي الملموس للأشياء المتطوّرة تاريخياً.

وهي ايضاً فروع العلوم التي تتناول تحديد الأنواع المتشابهة بشكل موضوعي حسب خصائصها الداخلية أو الخارجية للظواهر أوالأشياء. والمقصود هنا مقارنة الظواهر الأدبية مثل اللغات والتيارات والمدارس والنتاجات الأدبية في مختلف بقاع العالم، وليس المعبّر عنها بلغةٍ واحدةٍ.

 

قراءة في مقالة الكاتب والروائي يحيى علوان المعنونة: ("سلمان رشدي.. المورسيكي الذي خلع "قفطان" اليسار)*

1. مقدمة: التغيرات الفكرية بين الواقعية وخيانة المبادئ

في هذه المقالة، يستعرض الكاتب بمرارة كيف يتحول المثقف من حارس للقيم والمبادئ إلى أداة تخدم السلطة، سواء كانت سلطة المال أو النفوذ السياسي. هذا التحول، الذي يشبه الانقلاب على الذات، يُعتبره خيانة لكل ما دافع عنه المثقف في مسيرته الفكرية.. لذا نجد ان الكاتب يستشهد بأمثلة معاصرة وتاريخية ليبرز هذا التناقض.. التناقض الذي يعكسه بعبارات قوية مثل "يبصقُ في البئر الذي شربَ ويشربُ الآخرون منه".

2. استعادة الروح البرجوازية: خيانة المثقف لذاته

يشير الكاتب إلى أن التحول الذي شهده سلمان رشدي ليس حادثة فريدة وفردية.. بل هو جزء من نمط متكرر في التاريخ الثقافي. ولم يُقدم رشدي الا كمثال حي للمثقف الذي تخلى عن قضاياه الأولى والمبدأية وانحاز إلى السلطة.. متناسياً وقوف المثقفين والأحرار إلى جانبه عندما كان محاصراً بالفتاوى والتهميش والقتل.. ويرى الكاتب أن رشدي لم يتحول هكذا وفجأة.. بل لان روحه البرجوازية المختبئة خلف كم من التراكمات الملتاثة والقلقة.. ظهرت عندما وجد نفسه في حاجة للحماية الشخصية. هذا الانقلاب ليس مجرد تحول في الفكر، بل هو سقوط في الخطيئة، كما يصفه الكاتب.

3. المقارنة بين الأعداء والمقاومين: من طالبان إلى غزة

في نقاش عميق حول المقاومة، يتساءل الكاتب عن المقارنة بين حركات المقاومة الشرعية والمجموعات الإرهابية مثل القاعدة وداعش.. ويرفض بشدة أي محاولة لمساواة المقاومين الفلسطينيين في غزة بتلك الجماعات، ويعتبر أن من يقوم بذلك، مثل رشدي، قد وقع في فخ السطحية والانحياز للسلطة. هذا النوع من الخطاب يعكس، كما يؤكد الكاتب فقدان البوصلة الأخلاقية والانصياع الأعمى للتيارات المتذلة والسائدة.

4. ثمن التحول: الانعزال والانكشاف

يلمس الكاتب موضوع الانعزال الذي يعاني منه المثقف بعد تحوله، حيث يجد نفسه مكروهاً وعارياً بلا محبة او تضامن أو دعم حقيقي، إلا من السلطات الدكتاتورية والإعلام الموالي للصهيونية. ويستمر الكاتب في تأمل هذا المشهد البائس، مستخدماً لغة مليئة بالاستعارات الشعرية، ليصف حالة المثقف الذي تخلّى عن مبادئه في مقابل "المال والسلطة والنجومية". هذا الانحدار، كما يراه الكاتب، يقود إلى فقدان الذات والاحترام.

5. أمثلة تاريخية: خيانة الأمهات والأصول

من هنا يروي الكاتب قصة رالف غوردانو، الذي تحول من مدافع عن الشيوعية إلى ناقد لها بعد هروبه إلى ألمانيا الغربية.. ويتوج القصة بمشهد مؤثر لوالدته التي تتبرأ منه علناً في إحدى المحافل، مما يعكس فكرة الخيانة ليس فقط للأفكار، بل للأصول العائلية والإنسانية. هذا التناقض بين ماضيه النضالي وواقعه الجديد يعكس بدقة الصراع الداخلي الذي يعيشه المثقف عندما يخون ذاته.. كما يفضح في هذا السياق" الزواج الكاثوليكي بين المؤسسات الاعلامية والسلطات الحاكمة".. بما فيها القضائية وممارساتها القمعية لمنتقديها وفاضحي توجهاتها الليبرالية الجدية

6. خيبة الوعود وثمن الفردانية

ينتهي الكاتب بتأمل في مصير "الوعود الكبرى" التي لن تتحقق في زمننا هذا. فحتى الحرية، التي اعتبرها بعض الشعراء والمثقفين قيمة عليا، أصبحت مسألة نسبية في مواجهة التبريرات السياسية والاجتماعية. الكاتب ينقد بشدة مفهوم "الفردانية" الذي رفعته الليبرالية الجديدة إلى مستوى القيمة العليا، مؤكدًا على أن هذا أدى إلى "تسطيح وتسليع كل شيء"، بما في ذلك الفنون والآداب.

7. المقالة مكتوبة بلغة أدبية مكثفة، مليئة بالاستعارات

والتلميحات التاريخية. هذا الأسلوب، رغم جاذبيته، يمكن أن يُصعب على القارئ غير المعتاد على هذا النوع من الكتابة فهم الفكرة الأساسية.. كما واستخدام الرموز التاريخية والثقافية لإبراز الانقلاب الفكري يعزز من قوة الحجة...

8. الخلاصة: سقوط المثقف بين المبادئ والواقع

الكاتب يعبر عن خيبة أمله من المثقفين الذين تخلوا عن مبادئهم وانحازوا للسلطة، ويرى في ذلك تجسيدًا للسقوط الأخلاقي. النقد الذي يقدمه للمشهد الثقافي العالمي هو نقد لاذع، يعكس تشاؤماً عميقاً تجاه إمكانية الحفاظ على المبادئ في وجه إغراءات السلطة والنفوذ.

مقالة جديرة بالقراءة..

***

طارق الحلفي - شاعر وناقد

...........................

* أخر ما كتبه الفقيد في صحيفة المثقف في// 122024-06-

https://www.almothaqaf.org/opinions/976033

مسارات ما بعد الحداثة في شعر موفق محمد

صدر حديثا عن دار "المتن" للطباعة والنشر والتوزيع في بغداد، كتاب "مسارات ما بعد الحداثة في شعر موفق محمد" للأستاذ الدكتور "رحيم الغرباوي" حاول فيه الغرباوي أن يسلط الضوء بقوة على موضوع شديد الاتساع والأهمية في الأوساط الأكاديمية والأدبية معا، كونه يتعلق بالتقنيات الفنية الحديثة والفنون البلاغية التي بدأت توظَّف على وفق مسارات جديدة في نصوصها الإبداعية، أطلق عليها الغرباوي مسارات ما بعد الحداثة.. على الرغم من أن مفهوم "ما بعد الحداثة" جاء كردِّ فعل على طروحات ومناهج الحداثة ونظرياتها الكبرى، بعد التبدل الذي طرأ على نظم الحياة في أوروبا والعالم ككل، لاسيما عقب مرحلة الخروج عن سلطة الكنيسة ومركزيتها، ونتيجة للإخفاقات التي خلفتها هذه المرحلة، مما أسهم في ظهور تيارات تنادي بضرب المركزيات الكبرى وتفتيتها، والثورة عليها، وما رافق ذلك من نهوض الهامش على اختلاف أشكاله وأنواعه.. ساعد في ذلك التطور الكبير الحاصل في عالم التكنولوجيا والإعلام، وتيارات العولمة التي غيرت الكثير من المفاهيم، وأعادت إنتاج منظومة فكرية جديدة قد تختلف عن السابق تماماً، مما أَحدَثَ تحولاً فكرياً في العقلية والمفهوم، والإبداع أيضاً.

ولما كان للنقد الفني اتجاهاته المختلفة، فإن حتما سيكون لتلك الاتجاهات الأدوات القادرة على فك تشفيرات النصوص الأدبية في محاولة للوصول إلى أعماق تلك النصوص، وتشخيص جمالياتها، وهذا العمل قد يستثمر المرئي من البنى النصية من أجل الوصول إلى ما ورائياتها من دلالات ومعانٍ، لذلك حاول الغرباوي، في تناوله لنصوص الشاعر موفق محمد، أن يسلط الضوء على فنون بلاغية هي ليست بجديدة ولا مبتدعة من قبل الشاعر، كالموتيف والتناص والمفارقة، إلا إن الجدَّة قد تحددت في قدرة الناقد الدكتور رحيم الغرباوي على تحديد مسارات ما بعد الحداثة في توظيف الشاعر لتلك الفنون البلاغية، وما تتضمنه من حمولات معرفية وظاهراتية قد منحت نصوصها عمقها واتساعها وتشظيها.. لذلك كان العنوان متوافقا تماما مع المتن، فالجديد في الكتاب الذي جاء به الغرباوي هو طريقة تحليل النصوص والبحث في ما ورائيات اللفظة والعبارة والسياق ككل، من أجل تشخيص جمالية غير واضحة علناً في النصوص، وكشف مسارات جديدة لشريح النص ونقده وإبراز قيمته الفنية بدقة ومهارة، وذلك باللعب بقوانين البلاغة وقواعدها وفنونها ومزاوجتها مع مناهج ما بعد الحداثة، للخروج بتشظي دلالي للفظة مثلا، فنراه يقول في لفظتي المأذنة والقباب الزرق: ((الشاعر موفق يمازج بين المئذنة والقباب الزرق، فكلاهما تومئان إلى المقدس، بينما العباءات السود تحمل مقدساً من وجهة نظر أخرى، إذ أوردها مجازاً مرسلاً علاقته المجاورة، وما يجاور العباءة هي الأم، وما لها من مكانة عند الله سبحانه وتعالى، فالعباءة تتطاير هامسة، وهي تطلب بعض مراد النفس والمقصود هنا الدعاء عساه أن يفتح هذا الباب المسدود، ويبدو أن الانغلاقة في عام ١٩٩٠م التي قيلت فيها القصيدة هي القرارات الصارمة التي وضعتها الأمم المتحدة بعد دخول العراق الكويت؛ ما جعل الحياة تغلق بوجه أبناء الوطن ومن الأسباب الرئيسة لذلك الحصار الاقتصادي الجائر))[ص22]

فقد زاوج في هذا النص التحليلي بين البعد الظاهراتي للفظة، والبعد البلاغي أيضاً، وليس ذلك فحسب، بل إنه جاء بتلك الحمولات الدلالية ليرمي بثقلها على الواقع المعيش للنص والشاعر، وبذلك نكون إزاء نص نقدي يمتزج فيه الفني والإيديولوجي معا، فيخرج عن امتزاجهما تحليلاً نقدياً يحمل سمة الدقة والاتساع الدلالي، والبعد عن النمطية، بشكل أسهم في حيوية النص وتشظي دلالاته.. وهذا التشظي مردَّه أن (اللفظة) في منظور الغرباوي لا تعطي دلالة واحدة، بل عدّة دلالات، ليس اعتباطية ولا تكهنية، بل هو ما يبوح به السياق النصي، فلفظة "الناي" مثلاً لها حمولاتها الدلالية التي تمكَّن السياق الشعري من تحقيقها، والتي تم رصدها من قبل الغرباوي بدِّقة، فكان للناي خمس دلالات تقريبا، ولكل منها سياقها ومسارها الدلالي، حتى أن بعض تلك المسارات متضادة تماماً، فالناي هو "الحزن والألم والحسرة، ونيران الجحيم"، وهو أيضاً "رمز فيوضات العطاء النافع"، كما أنه في نصوص أخرى " مصدر العلم والعطاء "، وهو في معنى آخر ونص آخر " وسيلة من وسائل النصح والإرشاد وصوت الحق والبراءة "، وأخيراً هو " وسيلة انبعاث الحياة".. لذلك فقد تم تسليط الضوء من قبل الغرباوي على تعدد دلالات اللفظة الواحدة، وبما يضفي على السياق الشعري أبعاد دلالية بعضها ظاهر، وأكثرها خفي غير مُعلن، لذلك يقول: (إن موتيف اللفظة يمثل الينبوع " الذي تسترسل منه القصيدة وتستمد وحدتها "؛ لما يضفيه من امتداد معنوي مشكلاً مع تشكيلات النص شبكة معرفية جمالية تستبين منها مضمراته لدى المتلقي الحاذق والقادر على قراءته قراءة استبصارية تحقق تقارباً لرؤية الشاعر التي تحمل رسالته، وهو يسعى بإبلاغها لمتلقيه، كما يحقق الموتيف له إفراغ ما يطاله من ضغوط نفسية تجعله يركز على ألفاظه في أكثر من سياق، وفي قصائد متعددة من تجربته الشعرية). [ص30]

من أجل ذلك يُعد كتاب "مسارات ما بعد الحداثة في شعر موفق محمد" دراسة جادة وفاعلة في تشخيص المسارات الجديدة للتوظيف الفني لبعض التقنيات الشعرية والفنون البلاغية التي جاءت متماهية مع الاتساع والتشظي الذي نعيشه اليوم في ظل التطور السريع في الميادين الحياتية ككل، فكان التشكيل الشعري مواكباً، على إثر ذلك، لطبيعة العصر، وللذهنية الجماهيرية أيضاً..

***

أ. م. د. محمد جري جاسم النداوي

للرّوائي الأردنيّ يحيى القيّسي

مقدّمة: تعتبر رواية "حيوات سحيقة" للرّوائيّ يحيى القيسي رحلة استكشافيّة في أعماق الوعي الجمعيّ العربيّ، ففيها يتداخل الواقع بالخيال، والتّاريخ بالحاضر.

تسعى الرّواية إلى فكّ شفرة الهويّة العربيّة المعاصرة، من خلال استحضار التّراث، واستخدام رموز الغموض والماورائيات.

في هذا التّحليل، أقوم برحلة في أعماق النّصّ لاستكشاف جوانبه المختلفة، من حيث الشّكل والمضمون، والأفكار الّتي يطرحها، وكيفية ارتباطها بالواقع المعاش.

بداية: اعتقَد الفيلسوفان اليونانيّان سقراط وأفلاطون قديما، أنّ هنالك نفسا داخل كلّ شخص فينا تبقى حيّة بعد موته لا تموت معه، وأنّ هناك عودة للحياة، وأحياء من الموتى،‏ وأنّ نفوس الموتى تبقى موجودة، ومنها تنطلق حياة أخرى جديدة.

من قلب هذه الفكرة، نسج الرّوائيّ الأردنيّ يحيى القيسي عالم روايته "حيوات سحيقة" الصّادرة عن دار خطوط وظلال عام (2021م)، وتمتدّ على (164) صفحة، مستحضرة المكان كإطار أساسيّ لها، لتقدّم للقارئ فكرة متميّزة بغموضها وجاذبيتها. يطرح الكاتب فكرته الّتي تميّزت بغرابتها، محفّزا قارئها على التّغلغل فيها، متجاوزا المعاني الظّاهريّة للنّص، باحثا عن تلك الغائرة في أعماقه. ولعلّ كتابة رواية تحمل فكرة ماورائيّة، تحتاج إلى جرأة شديدة، وكفاءة عاليّة، وذلك لإيصالها إلى القارئ وإقناعه بها على النّحو الأفضل.

الإهداء:

استهلّ الكاتب روايته بإهدائها "إلى فرسان الأنوار العلويّة في رحلتهم الأرضيّة". يتبادر للذهن لأوّل وهلة أنّ هذا الإهداء غريب غير مفهوم، لكن.. عند قراءة النّصّ والتّأمّل في معانيه ودلالاته، يستنتج القارئ ما رمى إليه الكاتب، وبالطّبع فإنّ القارئ المتفحّص، يسعى إلى فهم التفّاصيل الدّقيقة والتّداخلات العميقة الّتي تلقي الضّوء على المعاني الخفيّة في النّصّ، يحاول سدّ الفجوات الّتي خلقها الكاتب عمدا، ويتساءل عن دوافع الشّخوص وكيف تتأثّر بسياق الأحداث من حولها، يحاول أيضا فهم الرّموز الموجودة، وكيف تلعب دورا في تعزيز الفهم للرّسالة العامّة للعمل.

بشكل عامّ، يقوم القارئ المتفحّص بجهد لاستكشاف عمق هذا النّص وكشف أبعاده، تلك الّتي تُركَت بشكل مقصود؛ لتفعيل ذهن المتلقّي وتحفيز تفكيره وتشويقه.

العنوان ودلالاته:

بعد البحث عن المعنى اللّغوي لأصل كلمة "حَيَوات" نجد أنّها في صورة جمع تكسير، وجذرها (حيّي) وجذعها (حيوات)، وهي تشير الى الحياة، النّموّ والبقاء، أمّا كلمة "سحيقة" فهي صفة تدلّ على الثّبوت من سحُقَ وسحِقَ.

يقول العرب: الأزمنة السّحيقة، أيّ الغابرة، ومكان سحيق أيّ بعيد، وواد سحيق أيّ واد عميق، من هنا فعنوان الرّواية يدلّ على فكرتها غير النمطيّة وعلاقتها بالمكان، الّذي برز كعنصر مهمّ في صياغة هذا العمل، وذلك لارتباطه بالمكوّنات والعناصر البنائيّة للنّص.

تركّز الرّواية على عنوانها الّذي يحمل المعاني المتشعّبة، ومع هذا التّشعّب والتّداخل، نجده يرتبط ارتباطا وثيقا بالقلق الماثل في ثقافة الإنسان العربيّ، وتراثه الفكريّ وارتباكه أمام الحداثة.

يحمل العنوان أيضا فكرة التّطلّع إلى التّاريخ، ويؤكّد أنّ الهويّة العربيّة هي نتاج لحياة ودورات تاريخيّة محاطة بالكثير من الجدل.

يسعى النّص أيضا إلى التّوضيح وإعادة تفسير ذلك السّياق، ضمن إطار عامّ يقوم على الجدل؛ نتيجة لأسر الماضي وتأثيره على الذّات العربيّة، فكرها ومستقبلها.

بين التراث والحداثة:

يزخر التّاريخ بالعصور الّتي تميّزت بالصّراع بين التّقليد والحداثة، بين الخرافة والعلم، بين العقيدة والعقلانيّة، وعجلة التّاريخ مستمرّة، وهي تعني كامل الحياة دون استثناء، الماضي الحاضر والمستقبل، لذا يدرس المؤرّخون والباحثون الماضي؛ كتجارب للشّعوب يجب النّظر إليها والتمّعّن فيها، وذلك للاستفادة منها ومن خلاصة ما قدّمته الأمم من نشاطات عبر الزّمن في مجالات المعرفة الإنسانيّة المختلفة.

تسعى العديد من هذه الدّراسات إلى اكتشاف السّبب الجذريّ للرّكود المعاصر من خلال الاستقصاءات التّاريخيّة، بينما تسعى دراسات أخرى للكشف عن ديناميكيّة التّراث الفكريّ وقدرته على التّكيّف مع مختلف الأنظمة الاجتماعيّة والأيديولوجيّة.

من بين أهمّ مؤسّسي النّهج النّقديّ المفكّر محمد أركون، الّذي رفض الفصل بين الحضارات، وتساءل عن تاريخ المفاهيم المركزيّة، كالدّين والمجتمع، الحلال والحرام، العقل والضّمير، المعرفة التّاريخيّة والعلميّة والفلسفيّة إلخ. وعن مؤرّخي الفكر والأدب فقد تطرّقوا إلى هذه المفاهيم، لكن.. ما زالت الحواجز قائمة في طريق المعرفة، بالإضافة إلى إشكاليّات التّطبيق بين الأديان والتّاريخ والفلسفة، والعلوم المعرفيّة والسياسيّة والأدب، خصوصا ما يتعلّق بالأنثروبولوجيا الّتي لم تزل غائبة عن الأذهان بفروعها، والّتي تدرّس التّصرفات الإنسانيّة وبناء الثّقافات البشريّة، بأدائها ووظائفها في كلّ زمان ومكان، كذلك وتأثير اللّغة على الحياة الاجتماعيّة وتطوّر الإنسان بيولوجيّا، وثقافات البشر القديمة.

نستنتج ممّا سبق، أنّ القيسي دخل في روايته إلى موضوع شائك، تتشابك فيه الثقّافة بالتّراث والميثولوجيا والفكر في شبكة معقّدة من التّفاصيل والتّداخلات، ممّا يضفي على الرّواية طابعا خاصّا وعمقا تأمّليّا لصورة معقّدة، تعكس أسلوب التّفكير والثّقافة الشّعبيّة والفكريّة العربيّة، وتستكشف التّأثيرات المتبادلة بين التّراث والفكر والتّغيرات المجتمعيّة.

حبكة الرّواية:

"صالح" بطل الرّواية الّذي اقترب من الأربعين، عمل في مجال التّدريس ثمّ دليلا سياحيّا، بعد ذلك باحثا في مركز للدّراسات، قام بمرافقة فريق تلفزيونيّ لتصوير فيلم وثائقيّ عن الرّحالة والمؤرّخ السّويسري "يوهان لودفيك بركهارت"، الّذي وصل إلى شرق الأردن مكتشفا مدينة البتراء في جنوبه (1812م).

يتتبّع صالح مع الفريق الأماكن الأثريّة في الأردن، وخلال إنتاج ذلك الفيلم، انفرد صالح عن الجميع وزلّت قدمه؛ فسقط في حفرة قضى فيها ليلة قاسيّة صعبة، بعد أن سَدّ التّراب ثغرة الحفرة، فشعر بالإحباط واليأس، وأن لا أمل له بالنّجاة.

نظر حوله فاكتشف أنّ الحفرة تنتهي إلى سرداب يؤدّي إلى كهف يقود إلى مكان ما، بعد ذلك وجد إناء من الفخّار يشبه الجرّة؛ فقام بكسره، وجد فيه سائل كثيف، تذوّقه واستشعر حلاوته؛ فانتابته حالة غريبة! وكأنّ شيئا ما قد تغيّر به، بدأ يشاهد ومضات من حيوات أخرى عاشتها النّفوس الأثيريّة وانتهت إلى جسده!

غاب صالح عن الوعي، وأضحى بحالة هلوسة شديدة، راح يرى أشياء غريبة، ويتخيّل حياة مختلفة بوقائعها، وكأنّ أحد أجداده قد عاشها في أزمنة سحيقة!

في اليوم التّالي تمّ إنقاذه وإسعافه من الكسور الرّضوض والكدمات، وعاد إلى مدينة الزّرقاء حيث عائلته الّتي اعتنت به.

انقلبت حياته رأسا على عقب جرّاء ذلك الحادث الغريب، فقد عصفت الأحداث الغامضة به وبأيّامه، انهالت عليه المشاكل وتتالت عليه الأفكار السّلبيّة، بدأ يشعر بالخوف والقلق وفقد الثّقة في نفسه وفي الآخرين، بدأ يشكّ في كلّ شيء حوله، وأصبح ينظر إلى العالم نظرة تشاؤميّة، وجد نفسه في صراع دائم مع نفسه، وأخذ يفقد الأمل في الحياة.

اجتهد في البحث عن تفاسير منطقيّة لما يحدث معه، وعن إجابات للأسئلة الّتي كانت تدور في ذهنه، ثمّ لجأ إلى التّفسير الدّينيّ، وانغمس في دوّامة التّطرّف الدّينيّ، ومن خلال بعض الأقرباء وقع فريسة للتطرّف، بحث عن الخلاص، فبدأ يقرأ ويبحث في الكتب والمراجع، علّه يجد فيها بلسما شافيا لما هو فيه، فلم يساعده ذلك، لكنّ عمله مع فريق التّصوير البريطانيّ، وعلاقته مع "أليس" دفعته للتمعّن في الواقع والعودة إلى المنطق والتّفكير بعقلانيّة، والعثور على ضوء في نهاية النّفق.

أخيرا.. وبعد المعاناة، بدأ يتعلّم كيفيّة التّعامل مع هذه الأزمة، وراح يستشعر الأمل مرّة أخرى وينظر إلى الحياة بمنظور جديد، أصبح يؤمن أنّ كلّ شيء يحدث لسبب، وأنّ كلّ تجربة، حتّى لو كانت صعبة، يمكن أن تكون فرصة للتعلّم والنّمو، مدركا أنّ الحياة مليئة بالتحدّيات، ولكن.. يمكننا التّغلّب عليها إذا كان لدينا الإيمان والعزيمة.

ألهمته "أليس" بالنّظر إلى الأمور بعقلانيّة، فبدأ باستعادة توازنه العقليّ، فوجد النّور وحقّق التّحوّل الإيجابيّ؛ لينجو بنفسه من تلك الأفكار السّامة، وذلك بمساعدة العنصر الأنثوي الفعّال في الرّواية، فعلاقة صالح بأليس لم تكن مجرّد خيوط عاطفيّة زيّنت السّرد، بل كانت المحرّك الأساسيّ في تطوّر شخصيّته، وخروجه من المأزق الّذي كاد أن يؤثّر على صحته العقليّة والنّفسيّة، بدأ تأثير الحبّ الإيجابيّ يظهر عليه بشكل واضح؛ كمحفّز لتغيير نظرته إلى الحياة والمستقبل، وبفضل الدّعم العاطفيّ والتّفهّم والاحتواء الّذي قدّمته أليس، استعاد صالح توازنه العقليّ وشعر بالإلهام لتحسين وضعه النّفسيّ والمعنويّ.

أظهرت الرّواية من خلال تلك العلاقة، كيف أنّ الحبّ والاهتمام يمكّنان الإنسان من التّغلّب على التحدّيات والخروج من المواقف الصّعبة، وأنّ تأثير الحبّ على الإنسان ليس محصورا في العلاقات الرومانسيّة فقط، بل يمتدّ إلى تأثيره الإيجابيّ على النّفس والتّفاؤل والنّظرة إلى الحياة.

هلوسة أم اضطراب نفسيّ:

الهلوسة هي تجارب حسيّة لا أساس لها في الواقع، قد تكون بصريّة أو سمعيّة، وغالبا ما توصف بأنّها "رؤيّة أشياء غير موجودة" أو "سماع أصوات غير حقيقيّة".

هناك العديد من الأسباب المحتملة للهلوسة، بما فيها الاضطرابات العقليّة مثل الفصام والاضطراب ثنائيّ القطب والاكتئاب، وبعض الأدويّة والأمراض الجسديّة مثل الصّرع والأمراض الدّماغيّة والإرهاق الشّديد، أو الحرمان من النّوم، أو التّعرّض لصدمة نفسيّة أو عصبيّة كما حصل مع بطل الرّواية.

في بعض الحالات، قد تكون الهلوسة علامة دالّة على حالة طبيّة خطيرة، لذلك، من المهمّ استشارة الطّبيب المتخصّص، وبالطّبع يعتمد علاج الهلوسة على السّبب الكامن وراءها.

أدخل الكاتب موضوع الهلوسة إلى روايته بأن جعل أحد الشّخوص الرئيسيّة "صالح" يعاني من الهلوسة، فكشف بذلك عن نفسيّته وصراعه الدّاخليّ، الّذي تعمّق بسبب صدمة نفسيّة وعصبيّة، فجاءت الهلوسة كجزء من عالمه الخياليّ؛ مما خلق بعض الغموض.

كما استخدم القيسي الهلوسة؛ كرمز واستعارة لتمثيل شيء آخر كالحلم والخيال أو الجنون، فقد رأى البطل أشياء غير موجودة في الواقع، هذه الأشياء رمزت إلى مخاوفه أو رغباته أو أحلامه كإنسان عربيّ قلق، لديه الكثير من المخاوف، يحاول فهم معنى الحياة والموت، ويعيش واقعه المضطرب في مجتمع وثقافة متناقضة، متحضّرة في خارجها ومنغلقة على ذاتها من الدّاخل، تقليديّة تقاوم التّغيير، وتؤمن بالسّحر والشّعوذة والتّنجيم والماورائيات، والكثير من الخرافات. وهنا يحضرني ما قاله الشّاعر نزار قبّانى: "لبسنا قشرة الحضارة والرّوح جاهليّة"!

هذه الهلوسة عكست الصّدمة الّتي تعرّض لها صالح، وأضافت الكثير من الغموض والتّشويق، وفي النّهاية فإنّ الطريقة الّتي ربط بها الرّوائي موضوع الهلوسة في روايته، اعتمدت على أهدافه الفنّيّة والموضوعيّة الّتي سعى إليها؛ لتجسيد أفكاره ومشاعره، وأسلوبه ورؤيته ورسالته التّنويريّة.

المكان والزّمان:

تعامل القيسي مع المكان بشكل جيّد حين اتّخذ منه إطارا مادّيّا للأحداث المتخيّلة؛ فحقّق امتزاجا مكانيّا عجائبيّا بالحدث، الّذي حملت أحداثه حيّزا من السّكون إلى عالم الدّهشة السّرياليّة، فتجلّى المكان كأرض خصبة، امتزجت فيها الطّبيعة الثّقافيّة والتّاريخيّة بتفاصيلها المتشابكة الّتي عكست مركزيّة مكانيّة، ذات عمق تاريخيّ، فمنطقة البتراء النّبطيّة هي جزء من السّاحة التّاريخيّة والتّراثيّة الأردنيّة.

أمّا الزّمن فتداخل بالعديد من الأحداث؛ ليرسل القارئ إلى فترات عديدة، بدءا من زمن الرّاوي أو السّارد "صالح" المرتبط بالحاضر، ثمّ زمن رحلة "بيركهارت" وتقنيّة الاسترجاع، ثمّ أزمنة أخرى تُستعاد داخل وعي "صالح"، وتتّصل بالتّاريخ والتّراث العربيّ.

بشكل عام، يرمز الزّمن إلى الماضي والذّكريات، وإلى آمال الإنسان العربيّ وطموحاته الّتي تحكمها القيود الفكريّة العديدة، وإلى القديم والحديث والمقارنة بينهما، وقد ساهمت هذه الرّمزيّة في خلق جوّ خاص للرّواية، وإثراء كبير للزّمن السّرديّ فيها.

سرديّة الوعيّ والبحث عن الذّات:

تطرّقت الرّواية إلى العلاقة مع الثّقافات الأخرى والانفتاح على الآخر ونبذ خطاب الكراهيّة، الزّواج المختلط وقصّة الحبّ الّتي جمعت صالح بأليس، وقصّة زواج السّائحة النيوزلندية "مارغريت"، الّتي جاءت إلى البتراء ثم تزوّجت بدويّا من أهل البتراء واستقرّت فيها.

كلّ هذه الشّخوص وغيرها أدّت دورها بعناية وبرعت في شدّ انتباه القارئ، وذلك عبر حبكة متماسكة، حيكت بمهنيّة كتابيّة سرديّة عاليّة، وبأسلوب فنّيّ غنيّ بالغموض، وصور حيّة للشّخوص المتفاعلة مع نصّ تشابك وتعقّد، فظهر تأثير التّراث الفكريّ عليه، وعلى تشكيل شخوصه وطرق تفكيرهم.

بهذا الأسلوب قدّم القيسي تحليلا لتفاعلات الأفكار والقيَم في سياق مركّب لعمق التّحوّلات في المجتمع، وكيفيّة تأثيرها على الفرد والجماعة.

أمّا هيكل الحدث، فقد جسّد السّقوط في الحفرة الفعل الأساسيّ الّذي قاد البطل إلى الوعي والنّمو الروحيّ ونضج التّجربة، وذلك عبر جملة من الدّلالات حول أهميّة الوعي الفكريّ، واستخدام الحوارات الدّاخلية ونماذج الإسقاط؛ لتفسير ما حصل.

تُشَبّه فترة العزلة الّتي قضاها "صالح" في الحفرة بواقعة لا يمكن تفسيرها، غرائبيّة الأثر والتّكوين، إذ تبدو خارج نطاق المنطق، مخالفة للتوقّعات المنطقيّة للعالم الواقعيّ، فهي واقعة سرياليّة تشبه الأحلام والكوابيس، تثير في نفس القارئ مشاعر الغموض والغرابة والعجب والرّيبة.

يتمّ إنقاذ صالح ويعود إلى حياته السّابقة، لكنّه لم يعد هو نفسه، وهنا يظهر الوعيّ الجديد الّذي صاغته الظّروف، تلك الّتي خضع لها، وتبرز رؤيته المنطقيّة للماضي والحاضر، تلك الّتي تشكّلت بعد تجربة نفسيّة مريرة، ساهمت في تشكيل شخصيّته وجعلتها أكثر نضجا.

قاده هذا التّحوّل إلى تجربة قريبة من التّسامي نتيجة الخوف والقلق، إذ اقتربت تجربته من البعد الرّوحيّ وأثّرت عميقا في نفسه.

في البداية اعتقد أنّها تجربة دينيّة؛ فزاد من إيمانه حتّى وصل إلى التطرّف، وحين شعر بأنّها تجربة وجوديّة، أعاد التّفكير في قيَمه وأفكاره، لكنّه في مرحلة لاحقة وجدها تجربة نفسيّة، زادت من وعيه الذاتيّ، فعندما يتعرّض الإنسان لتجربة صعبة، يواجه التّحدّيات والصّعوبات التّي يجب التّغلّب عليها، وذلك ما يتطلّب الصّبر والتّحمّل والعزيمة.

يتعلّم الإنسان من تلك التّجارب، ويخرج منها بفهم أعمق للحياة والنّاس، وكأنّي بالكاتب يقول: التّجارب المريرة ما هي إلّا فرصة للإنسان؛ للنّمو والتّعلّم والتّحوّل إلى شخص آخر، أكثر نضجا وموضوعيّة.

اللّغة.. بين الجمال والخيال والبحث:

يجمع هذا العمل بين الخيال والبحث الفكريّ والتّوثيق التّاريخيّ، ساعيا إلى تقديم عمل سرديّ يحتفي باللّغة وجمالياتها، وقد لجأ الكاتب إلى آليّة خاصّة لإبداع نصّه الأدبيّ، فجعله متكاملا يزخر بالبلاغة والجماليّات اللّغوية الّتي تبهر القارئ، وتخلق عوالم جديدة مبهرة في الجوهر والعمق، فجاد بما في جعبته من الألوان اللّفظيّة، ولعلّ هذا ما شدّني إلى الوصول إلى آخر سطر في الرّواية دون أن أفقد شغفي بلغتها ورغبتي بالقراءة، وذلك لما يسكنها من سحر لغويّ خاصّ، يخلق الفخامة والرّقي للعمل، ويجعل منه أكثر جاذبية وثراء، ويجعل النّص أكثر إلهاما.

من ناحية أخرى فمصطلحاتها وتراكيبها صعبة، وغير سلسة للقارئ العاديّ، فهذا العمل استهدف النّخبة من القرّاء، وتناسى القارئ العادي البسيط، لكنّها وللحقّ، لغة صعبة القراءة والاستيعاب على القارئ العاديّ، ما يقلّل من متعته في القراءة، ويؤدّي إلى صعوبة فهمه لأفكارها، وبالتّالي إلى عزوفه عن قراءتها، وذلك ما يعيق وصولها إلى جمهور أوسع.

إذن، فهذه اللّغة الفصيحة البليغة تغدق علينا بفيض من الجمال، وفي الوقت ذاته تلقي بظلال من التّحدي على بعض القرّاء.

التّصنيف الأدبيّ:

بعد قراءتي لهذه الرّواية لمستها في أكثر من تصنيف، فقد تُصَنّف بالرّواية "القوطيّة" لتميّزها بأجواء الغموض، والأماكن المهجورة فيها، والمعتقدات والتلّميحات الّتي تسودها، ووجود الأماكن الأثريّة، والأطلال والماضي الذي يخزّن أسرارها.

كما يمكن تصنيفها كرواية نفسيّة عميقة، حيث تتناول رحلة البطل نحو اكتشاف الذّات وتجاوز الصّدمات النّفسيّة، مستخدمة رموزا وأحداثا غامضة تعكس أعماق اللّاوعيّ البشريّ.

قد تُصَنف أيضا بالرّواية "الملغّزة"، الّتي تعنى بالمجهول وكلّ ما يحيط به من الغموض والأسرار؛ لتقود إلى طرح الأسئلة والبحث عن الإجابات، وقد تصنّف بالرّواية "الفانتازيّة" الّتي تطرح فكرة وجود كائنات خارقة، متحرّرة من قيود المنطق، معتمدة على الخيال بشكل كامل، حيث تقع أحداثها في عالم متخيّل لا يخضع لقوانين مادّية فيزيائيّة طبيعيّة كعالمنا، إنما تصوّر عالما خاضعا لقوانين ميتافيزيقيّة، متناقضا مع التّجربة الواقعيّة.

إنّ ما يميّز "حيوات سحيقة" هو براعة السّرد، فأحداثها المتداخلة المتتاليّة تنقل القارئ إلى عالم الخيال والإثارة، وتسعى لاكتشاف الغامض وفهم المجهول؛ لتقدّم لنا لوحة فنّيّة متشابكة، تتناول قضايا الإنسان الوجوديّة في مواجهة عالم متغيّر ومعقّد.

ما وراء الفكرة:

للمفكّرين والباحثين والأدباء، أساليبهم المختلفة في تناول مسألة التّراث الفكريّ والحداثة، يعود ذلك الاختلاف إلى العوامل الأيدولوجيّة ودورها في التّعامل مع جدليّة التّراث والحداثة، انطلق بعضهم من منظور التّنوير لنقد التّراث الفكريّ العربيّ، فنادى إلى إعادة قراءة التّراث الفكريّ ليواكب العصر، العديد من الباحثين قاموا بإعادة النّظر في الفلسفة والعلوم الدّينيّة؛ لجعلها تتماشى مع  حداثة العصر والعلم، فمثلا المفكّر علي شريعتي قام بإعادة النّظر في المصادر الكلاسيكيّة الفكريّة، لإظهار توافق الأديان مع الأيديولوجيات الحديثة، ينطبق هذا الأمر على المفكّر الطّيب تيزيني، الّذي اعتمد على الجدليّة التّاريخيّة في مشروعه الفلسفيّ؛ لإعادة قراءة الفكّر العربيّ، وكذلك الفيلسوف حسين مروّة الّذي قدّم كتاب "النّزعات المادّية في الفلسفة العربيّة الإسلاميّة"، وركّز على احتواء الفلسفة والفكر الدينيّ على وجهات نظر وأساليب متقاربة مع الديالكتيك المادّي، والفلسفة العلميّة المستندة إلى المنطق ومفهوم التّناقض، وظاهرة تغيّر الأشياء باستمرار، الّتي تفسّر تطوّر الأشياء وتغيّرها عبر سلسلة من المراحل، كلّ مرحلة تقوم بنفي المرحلة السّابقة، مع الاحتفاظ ببعض عناصرها.

استخدم "كارل ماركس" الدّيالكتيك المادّي لشرح تطوّر الرأسماليّة، حين رأى أنّ الرأسماليّة تستند إلى التّناقض بين الطّبقة العاملة والرأسماليين، وبشكل عام فالدّيالكتيك المادّي يستخدم لدراسة مختلف الظّواهر الطّبيعيّة والمجتمعيّة، فهو أداة تحليليّة قويّة يمكن استخدامها لفهم العالم من حولنا، وهو يوفّر الفهم العميق للتغيّر والتطوّر.

المفكّر محمد عابد الجابري قدّم مساهماته في تحليل المعرفة في الثّقافة العربيّة ونقد العقل العربيّ، عبر دراسة المكوّنات والبنى الثّقافيّة واللّغويّة، ودراسة العقل السّياسيّ ثمّ الأخلاقيّ، ابتكر مصطلح "العقل المستقيل" ذلك العقل الّذي يتجنّب مناقشة القضايا المحوريّة الهامّة، مشيرا إلى العقليّة العربيّة وحاجتها إلى الابتكار.

يرى "أدونيس" أنّ العرب في القرن العشرين، عندما يحاولون دراسة تراثهم الماضي فإنّهم ينجذبون بشكل خاصّ إلى الإنتاج الّذي يرتبط بالتّغيير والتّحوّل.

هذا الإنتاج هو الّذي رفضه أسلاف العرب في الماضي، ولا يزال حتّى اليوم خارج بنية المجتمع العربيّ الأساسيّة، يشير أدونيس إلى أنّ هذا التّناقض هو أساس المشكلة.

في كتابه الأصول الاجتماعيّة للإسلام، طرح أستاذ علم الاجتماع محمد باميّة العديد من الأسئلة، وضّح الحاجة إلى الشّجاعة وكسر الحواجز والتابوهات؛ للوصول إلى الفهم الصّحيح، وإلى المزيد من الإثباتات التّاريخيّة والأدلّة الأركيولوجيّة، وعلم الآثار ودراسة البقايا المادّية للحضارات السّابقة، ودراسة الهياكل والأماكن الّتي بناها الإنسان مثل المدن والمعابد والمقابر، خاصّة وأنّ التّراث الفكريّ العربيّ في مجمله ضدّ الحداثة، أمّا المفكّر هشام شرابي فقد تناول التغيّرات الهيكليّة داخل العالم العربيّ خلال القرن الماضي، الّتي أدّت إلى "النّظام الأبويّ الجديد" بدلا من الحداثة، وفسّر ذلك بأنّ النّظام الأبويّ أنتجه التّفكير المجتمعيّ المفتقر إلى الإحساس بالأصالة، كما تناول السّلوكيات الاجتماعيّة، هيكل العائلة العربيّة، العجز، التّبعيّة، الوعي، المثقّف العربيّ وتحدّيات العصر.

في الواقع نحن ضحايا الموروث الفكريّ الّذي يقف حائلا بيننا وبين الحداثة، يحرمنا من الخوض في مسائل جديدة، إذ يقدّس النّاس القائم ولا يسعون إلى تغييره، ولا يفكّرون بجدواه أو صحّته، وبالتّالي فقدنا فعل الحريّة، وافتقدنا إلى التّفكير النّقدي الّذي يقودنا إلى الإبداع والابتكار.

الماورائيّات والتّراث الأدبيّ العربيّ:

تأثّرت بعض الرّوايات العربيّة بالماورائيّات، والتّراث الأدبيّ العربيّ الّذي قدّم فكرة السّحر والشّعوذة مثلا، هو تراث قديم وثريّ بالقصص والحكايا، ومن أقدم الأمثلة على ذلك هو الشّعر العربيّ القديم الّذي تطوّر من الأناشيد، الّتي توجّهوا بها إلى الآلهة.

في بدايات الشّعر الجاهليّ، ارتبط الإبداع بالإلهام، ثم تحوّل تدريجيّا إلى مهارة يتقنها الشّعراء من خلال الصّقل والتدرّب، وقد استلهم الشّعراء الجاهليّون قسوة الحروب وأساطير الأجداد، وتأثّرت نفوسهم باللّاشعور الجمعيّ، فظهرت في أشعارهم رموز وأيقونات تعكس عمق النّفس الجماعيّة، وقد شكّل الدّين والأسطورة خيالهم الشّعريّ، وبهذا، نرى أنّ الإبداع الشّعريّ في العصر الجاهليّ كان نتاجا لتفاعل معقّد بين الشّاعر ومحيطه، حتّى بدأ الشّعر ينفصل عن المعتقد، ليصبح فنّا أدبيّا مستقلّا.

في رحلة استكشاف جذور الكهانة عند العرب، يرى جرجي زيدان أنّ هذا العلم الغامض قد حمله الكلدان إلى أرض العرب جنبا إلى جنب مع علم النّجوم، تاركين بصمتهم على ثقافة المنطقة، ويستدلّ زيدان على ذلك باللّفظ العربيّ المستخدم للدّلالة على الكاهن، وهو "حازي" أو "حزاء"، وهي كلمة كلدانيّة الأصل تحمل في طيّاتها معنى "الرّائي" أو "النّاظر" أو "البصير"، كما لو أنّ الكاهن يمتلك عينا ثاقبة تخترق حجب الغيب.

تثير الكهانة جدلا واسعا بين النّاس، فبينما يعتقد البعض بصدقها ويؤمن بقدرتها على كشف المجهول، يشكك آخرون في صحّتها ويرونها مجرّد خرافات، وعلى الرّغم من انتشارها عبر العصور، إلّا أنّ العلم الحديث لم يجد أيّ دليل يثبت صحّة ادّعاءات الكهانة، فقد خضعت هذه الممارسات للعديد من الدّراسات والأبحاث، لكنّها لم تسفر عن أيّ نتائج تؤكّد فعاليّتها، فهل تُعدّ الكهانة مجرّد وهم يسلّي العقول، أم أنّها نافذة حقيقيّة على عالم الغيب؟

يبقى هذا السّؤال مفتوحا، تاركا لكلّ فرد حرّيّة الاعتقاد بما يراه مناسبا.

من الأمثلة الأخرى على التّراث الأدبيّ العربيّ الّذي قدّم فكرة السّحر والشّعوذة هي الحكايات الشّعبيّة والتّراثيّة، مثل ألف ليلة وليلة، الّتي تضمّنت مجموعة من القصص الخياليّة.

في العصر الحديث، استمرّت فكرة الغيبيّات والماورائيّات في الظّهور في الأدب العربيّ، وخاصّة في الخيال العلميّ والفانتازيا، فقد استخدمت هذه الأنواع الأدبيّة لخلق عوالم خياليّة مليئة بالمغامرات والإثارة.

يمكن القول أيضا، إنّ فكرة الغيبيّات هي فكرة عالميّة، ظهرت في العديد من الثّقافات المختلفة حول العالم، وقد لعبت هذه الفكرة دورا مهمّا في الأدب العربيّ، وفي تشكيل الثّقافة العربيّة، واستخدمت لخلق عوالم خياليّة مليئة بالمغامرات والإثارة.

في الختام:

لعلّ عملية إنتاج رواية تعتمد على فكرة غيبيّة أو ماورائيّة، هو عمل يتطلّب جرأة كبيرة من الكاتب، ومعرفة وثقافة واسعة؛ وذلك لإقناع القارئ بمضمونها ومحتواها، وهو ما يتطلّب أيضا مهارة في تناول العناصر الخياليّة والرّوحانيّة بطريقة مغايرة، تثير الفضول وتلامس الوجدان.

يتمثل التّحدّي الأكبر في جعل أفكار العمل ملهمة وجذّابة ومشوّقة؛ لتعيش في ذهن القارئ، بعد الانتهاء من القراءة وإغلاق الصّفحات، كما فعلت رواية "حيوات سحيقة" الّتي أثارت تساؤلات حول ماهيّة الوجود والحياة والموت.

***

صباح بشير – أديبة وكاتبة

........................

* هذه المقالة جزء من دراسة نشرتها في كتابي "شذرات نقديّة".

فعل التوازن بين الضرورات الفنية والمتطلبات الجماهيرية 

المسرح الشعبي تجسيد رائع لمقولة الفن للمجتمع، فهو نوع من الفنون الساعية لاستقطاب الجمهور عبر تقديم ما يتسق مع ذائقتهم، ويتوافق مع توجهاتهم، وفي الوقت نفسه يقدم افكارا ترتقي بالوعي وتنمي الذائقة بإضفاء المزيد من العناصر الفنية/الجمالية.

عمل الفنان مقداد مسلم مؤلف ومخرج مسرحية (أحوال وأمثال) على إنشاء امتداد لمسرحيّته الذائعة الصيت (الخيط والعصفور) التي عرضت عام 1984 وشهدت اقبالا جماهيريا واسعا، امتد عرضها سنة تقريبا، وما زال الجمهور يتذكرها بمحبة تقترن بالمواقف الكوميدية والممثلون الذين جسدوا شخصياتها، وبعض العبارات التي أصبحت لازمة يرددها الجمهور إلى يومنا هذا. وجاء حصاد النجاح استنادا إلى مقومات المسرحية الشعبية التي يحرص المخرجون على وجودها لكي يتمتع العرض بحضور جماهيري كثيف، منها: حضور الممثل النجم وتجسيده لشخصية رئيسية، وأن يشتمل العرض على الموسيقى والغناء والحركات الإيقاعيّة إلى جانب القفشات الكوميدية والحوار القريب من روح المتلقي، وأن تكون قاعة العرض وسط المدينة، مع اهمية الترويج الواسع للدعاية والإعلانات في وسائل عدة، وأماكن يرتادها المجتمع. 440 habib

عرضت المسرحية الشعبية (أمثال وأحوال) إنتاج وزارة الثقافة والسياحة والآثار/دائرة السينما والمسرح، على مسرح المنصور لثلاثة ايام اعتبارا من 16/ 10/ 2024، تكون العرض من فصلين بينهما استراحة، زمن الفصل الاول خمس خمسون دقيقة وزمن الفصل الثاني خمسون دقيقة، وبهذا أعاد (مقداد مسلم) الجمهور إلى زمن المسرحية الطويلة التي يقضي افراد العائلة معها أمسية كاملة، وفي هذا توافق مع المسرحيات التي لا يقل عدد صفحاتها عن مائة صفحة مثل هملت ومكبث وبيت الدمية والقرد الكثيف الشعر، والكثير من العروض التي قدمت في المهرجانات وحققت جوائز، ذلك أن المسرحية الطويلة تلبي الاشباع الفكري الجمالي المتوخى من حضور العرض المسرحي.

يدخل الجمهور إلى الصالة ليجد بيتا عراقيا بغداديا ماثلا أمامه، وتستقبل مسامعه اغاني تراثية بهدف الدخول في بيئة العرض وأجوائه، وقبل بدء حكايات العرض قدمت الشخصيات نفسها للجمهور بصورة تعريفية مباشرة، ولم يعمد المؤلف المخرج إلى تقديم هذا التعريف في طيات الحوار وتوالي الأحداث كما هو المعتاد في العروض المسرحية، ثم بدأ الفعل الدرامي بمشهد صورة تعاقب الأجيال من خلال ولادة طفل (حمامة) زوجة (يابس) الذي كثر الحديث عنه وعن بخله ولم يظهر أبداً على خشبة المسرح، وقع فعل الولادة يسار خشبة المسرح، وبالوقت نفسه يموت الجد (عصفور) يمين الخشبة وما بين اليمين واليسار تتجول الشخصيات مفصحة عن مشاعرها إزاء الولادة والموت وتتحدث وتبحث عن وصية الجد المكتوبة.441 habib

ارتكز العرض على محورين، محور البحث عن وصية الجد (عصفور) ومحور سردية الأمثال الشعبية، مع التركيز على ثيمة انشغال العائلة بتطبيقات الهواتف المحمولة والتواصل عن بعد، وفقدان التواصل الوجاهي الحي مع أفراد العائلة، وقد أوصاهم جدهم بأن يكونوا ليوم واحد في الشهر مع بعضهم، يلتقون ويتحدثون فعلا دون هواتفهم ، وإذا بهم ينفذوا الوصية الشفوية ويستمرون بالبحث عن الوصية المكتوبة، ويشغلون أنفسهم برواية الأمثال الشعبية وحكاياتها الشيقة.

اطلق المؤلف تسميات متنوعة على شخصياته فأخذ من الطيور (عصفور، كناري، حمامة) ومن الاسماك (كوسج، حوت، زورية) ومن الصفات الشخصية: (كفوشه: أي ذات الشعر غير الممشط- بردان: يشعر بالبرد، مكروده: مظلومة ومسكينة، غنية: من الثراء) و(فاهم) الذي اتفق الجميع على أنه فاهم فعلا، وافسحوا له المجال لممارسة دوره التنظيمي للعائلة، بقصد الدلالة على طبيعة الشخصية، وقد انسجم أداء الممثلين مع طبيعة الشخصيات، وشكل وحدة إيقاعية متناغمة بفعل تأطير الشخصيات جميعا -عدا شخصية واحدة- بالروح العراقية وإيقاعات الأغاني البغدادية التراثية، مما جعل للعرض ترجيعات في ذات المتلقي، وبالنتيجة نسج المخرج خيوطا كثيرة تربط بين مجريات العرض وجمهوره، مع الالتفات إلى أن تذوق الأغاني التراثية لا يمكن تعميمه على جميع الفئات العمرية الحاضرة في العرض، بسبب من تباين ذائقة الأجيال، مع الأخذ بالاعتبار ضرورة تعريف الأجيال الحديثة بالتراث بأنواعه.

كتلة المنظر ذات الطابقين ثابتة دون تغيير طوال العرض، دون الأخذ بالاعتبار ضرورة التنوع البصري في المسرحية الطويلة نسبيا، فضلا عن أن الوقت الذي استغرقته أحداث المسرحية سنة، وكانت فسحة الاستراحة بين الفصلين فرصة مواتية لتغيير المنظر جزئيا، وقد استثمر المخرج مناطق الخشبة، فكان الطابق العلوي مشغولا لفترة وجيزة لمشاهد الجيران (غنية ومكرودة) دلالة تسلطهم الفوقي على أصحاب الدار، ومنح المخرج الجارة (كفوشة) وزوجها منطقة أسفل يمين الخشبة لإجراء محاورتهم وتآمرهم وطمعهم بالحصول على شيء بعد العثور على الوصية المفقودة، اقتصر تغيير الأزياء الملحوظ على الشخصيات النسائية فقط. وقد تمت مراعاة عزل بعض المشاهد بواسطة الإضاءة عن عموم المنظر، مع اضافة ملحقات للشخصية، وتجلى ذلك في أحداث مشهد القاضي الخائن للأمانة أسفل يسار الخشبة، وأضيفت لشخصية القاضي بطن كبيرة وجبة وطربوش ولحية طويلة ساهمت بتغيير بنية الشخصية ومنحها الدلالة المتوخاة، واحدث المشهد تفاعلا، وتغييرا متصاعدا في إيقاع العرض، وكسر رتابة تكتل التمثيل في وسط المسرح.442 habib

تسيد الخطاب المباشر للجمهور حيزا كبيرا من زمن العرض من خلال فعل سرد الأمثال الشعبية وأدائها التقديمي، وفي هذا اتضحت قدرات الممثلين على تقديم أكثر من شخصية من قبل الممثل الواحد عبر تغييرات طبقات الصوت وأسلوب الإلقاء فضلا عن الاستعانة ببعض الإيماءات والملحقات الموحية، ذلك أن لعبة التمثيل داخل التمثيل احدى جماليات تأليف واخراج هذا العرض الذي بانت فيه السمات الفنية للمسرح الملحمي بوضوح، مثل الاستعانة بالتراث والحكاية داخل حكاية، وفعل القص والرواية ، المشاهد المتعددة، عدم الاندماج في الشخصيات وقطع الايهام بصدقية الأحداث، وتقديم صور مغربة للواقع.

وقد اسند المؤلف/ المخرج مهمة تنسيق حكايات الأمثال وتوزيع أدوارها إلى شخصية (فاهم) مثقف العائلة الذي يرتاد شارع المتنبي إلى (حسين علي هارف) الذي أمسك بدفتر والقى أبياتا شعرية وأشار إلى الممثلين بتقديم حكايات الأمثال بحسب أولويات تنظيمية وكانه قائد أوركسترا العرض، مع الحاجة الى المزيد من وضوح طبيعة علاقة (فاهم) بشخصية (زوريه) في الوقت الذي زرع المؤلف/المخرج حب (زوريه) لـ (فاهم) منذ بداية العرض كمعادل مكافئ لتدفق مكائد المرأتين الباحثتين عن الزواج (مكرودة المرأة العانس، وغنية المرأة الغنية التي توفي عنها ثلاثة أزواج وما زالت تبحث عن الرابع)

الشخصية الوحيدة المستثناة من الإطار المحلي التراثي والروح العراقية هي شخصية (كومار الهندي) التي دخلت في مشهدين، ورغم افتقاد حضورها مبرراته الفنية في سياق العرض التراثي، إلا أنها أعطت للعرض زخما كوميديا، ومنحته حيوية جذابة لشريحة من الجمهور الذي حضر وجل مقصده فاصل ترفيهي، وعليه كان وجود (كومار الهندي) أحد المتطلبات الجماهيرية.

ختم العرض بالعثور على وصية الجد عصفور بعد مأساة تقاتل أفراد العائلة، وماتت (زورية) البنت الرقيقة وهاجر (فاهم) المثقف الذي يعول الجميع على فعالية شخصيته، وجرح (كناري) المغني وتفرق الآخرون عدا الحفيد عصفور وأخته و (بردان) الذي يصفونه بالبلادة والبلاهة ، وهنا تحدث المفاجأة عندما يخلع (بردان) عنه سترته لتسقط منها ورقة وصية الجد (عصفور) ويتذكر بعد مرور أكثر من سنة ان جده أعطاه الوصية ووضعها في جيبه، هذا دون تعريف الجمهور بمضمون الوصية المكتوبة والإبقاء على فحوى الوصية الشفوية (اعملوا على الاجتماع مع بعضكم دون الانشغال بهواتفكم الجوالة).

إن ما فعله صاحب المسيرة الفنية الطويلة الذي أخرج مسرحية (المهندس والامبراطور) التجريبية بالأمس ومسرحية (أحوال وامثال) اليوم، الأكاديمي (مقداد مسلم) وفريق العرض الفني والتقني ليس خطوة على طريق اعادة الجمهور إلى المسرح وحسب، بل ذهبوا إلى اعداد وصناعة جمهور جديد، عسى ان تكلل جهودهم النبيلة بخطوات أخرى تضمن التواصل والديمومة وتفتح الأفق للفرق الأخرى للعمل ضمن توجهات (المسرح للمجتمع).

***

د. حبيب ظاهر حبيب

يُعرف التهكم بأنه "إلباس الجد ثوب الهزل، والهزل ثوب الجد، والوعيد لفظ البشارة، وهو في الاستعمال عبارة عن الإتيان بلفظ البشارة في موضع الإنذار، والوعد في مكان الوعيد، والمدح في معرض الاستهزاء"(1)، وهناك من الدارسين والباحثين من جعل هذا المصطلح مقابل مصطلح المفارقة(2)، وباتخاذ الشاعر من التهكم وسيلة لإبراز المفارقة ينقل الألفاظ من سياقها الخاص إلى سياق آخر مناقض لها، إذ أنَّه يوحي من خلال القول بمعنى آخر مناقض لمعناه الحقيقي(3)، فضلاً عن هذا يُعد التهكم "مجاز معقد وجد معدول به إلى الهزل، يُلبس المعرفة صلة التجاهل، ويصب الذم في قالب المدح"(4).

هذا ويرتكز التهكم على قرينة لفظية تبينه، وهنا تكمن نقطة التعارض والاختلاف بين التهكم والهجاء في معرض المدح، وإذا ما شئنا التفريق بين التهكم والهزل الذي يراد به الجد قلنا: إنَّ الهزل الذي يراد به الجد يوحي ظاهرة بالهزل، وباطنه جد، أمَّا التهكم فيكون  ظاهره جدا وباطنه هزلا (5).

وتقف السخرية ضمن الفنون القديمة التي عرفتها المجتمعات البشرية، ومارسها الإنسان والأدباء بصورة خاصة على مر العصور مثل: كوميديات ارستوفان وسوفوفكيس وغيرها التي وصلتنا من تراث المجتمع الإغريقي والروماني، وفي العصر الحديث حاول الأدباء الغربيون معالجة الاضطرابات السياسية والاجتماعية وإصلاحها عن طريق السخرية كما هو الحال عند (مولير) الذي وظف سخريته لمعالجة موضوعات اجتماعية كالنفاق والبخل، فضلاً عن (برنادشو) الذي حاول عن طريق السخرية معالجة قضايا المجتمع وعاداته البالية، هذا وكان للأدباء العرب والشعراء بصورة خاصة دور في ممارسة هذا الأسلوب؛ للتعبير بصورة هادفة عن قضايا تخص المجتمع.(6)

وتعدُّ السخرية من الأساليب الفنية الصعبة، أساسها التلاعب بحقيقة الأشياء ومقاييسها تضخيماً أو تصغيراً أو تقويماً، ويتكئ هذا التلاعب على معيارية فنية هدفها تقديم (نقد لاذع) ضمن جو من الفكاهة والإمتاع، يجنح إليها الشاعر ليسخر من الظواهر السلبية والمتناقضة التي يرصدها.

والسخرية هي نوعٌ من الفكاهة، لا يعني بها الهزل والعبث، بل إنها ترقى إلى المستوى الأكثر ذكاء ولباقة، إذ تجعل لها دلالة معينة، وهدف خاص تعمل على خدمته وتحتال عليه، وتشحن اللفظة بدلالات تتناقض وطبيعتها فيقع على عاتق المتلقي التأمل والتأويل وصولاً للمعنى المقصود.(7)

وإذا أردنا تقديم مفهوم دقيق للسخرية في الأدب فيكون من الأنسب البدء بالرؤية الغربية للمفهوم (Irony) هو المصطلح الأدبي للسخرية أصله مشتق من كلمة يونانية (eironia) والتي تعني وصفاً لأسلوب كلام إحدى الشخصيات بالملهاة اليونانية القديمة، وتسمى بـ(إيرون(eironia، ومن التعريفات التي أدلى بها الكُتَّاب  الأوربيون لمفهوم السخرية(8) "أنها طريقة من التعبير يستعمل فيها الشخص ألفاظاً تقلب المعنى إلى عكس ما يقصده المتكلم حقيقة وهي صورة من صور الفكاهة"(9).

وهناك من أشار إلى تعريف آخر على أنها "طريقة في التهكم المرير، والتندر أو الهجاء الذي يظهر فيه المعنى بعكس ما يظنه الإنسان، وربما كانت أعظم صور البلاغة عنفاً وإخافة وفتكاً".(10)

ومن تعريفات الكتاب العرب وآرائهم حول مفهوم السخرية ما قدمه (جبور عبد النور) فهو يرى فيها "وهي نوع من الهزء قوامه الامتناع عن إسباغ المعنى الواقعي، أو المعنى كله، على الكلمات، والإيحاء عن طريق الأسلوب، وإلقاء الكلام بعكس ما يقال"(11)، أما شاكر عبد الحميد فقد ترجم السخرية عن كلمة (satire) والتي تعني  نوعا من التأليف الأدبي أو الخطاب الثقافي يُبنى على انتقاد الرذائل والحماقات والنقائض الإنسانية، الفردية منها والجمعية، ويتم ذلك من خلال الرصد والمراقبة، والاتكاء على وسائل التهكم والتقليل من قدرها، وقد توقعنا السخرية في فخ الأسمية، فمن الصعوبات التي تواجه الدارس تناوب السخرية ما بين الضحك الهزلي والفكاهة والدعابة والمفارقة(12).

ويقودنا هذا إلى الإدلاء بحقيقة مهمة وهي أنَّ هناك وجه تباين واختلاف بين (السخرية في المفارقة)، و(السخرية المجردة)، إذ أنها ــ أي في المفارقة ــ تأتي لتجلي الحقائق وتقرعها بعضها ببعض دون أن تحل احدهما مكان الأخرى؛ أي تتربع على المعنى الظاهر والباطن معاً(13)، ولهذا تنبني مفارقة السخرية "على موقف يتناقض مع ما ينتظر فعله تماماً، إذ يأتي فعل مغاير تماماً للوجهة التي يجدر بالإنسان أن يقوم بها"(14).

يرى (مويك) بأنَّ عدَّ السخرية ضمن حدود المفارقة أمر فيه نظر، فليس كل سخرية أو تهكم مفارقة، وليست كل مفارقة تهكما  وسخرية، إذ أنه يرى في السخرية (sarcasm) أكثر أساليب المفارقة قسوة(15)، وتعد المفارقة "أداة أسلوبية فعالة للتهكم والاستهزاء"(16).

إنَّ تضاد مفارقة السخرية لكي يكون كذلك يجب أن يكون مؤلماً وكوميدياً في آن واحد، وهذا ما ذكره (أ. و.تومسن) في كتاب (الهزء الجاف)، إذ تتضارب العواطف في المفارقة تضارباً فكرياً وعاطفياً معاً، وعلى المتلقي أن يكون هادئاً متجرداً؛ ليدرك ويستوعب ذلك، فضلاً عن ذلك فالأذى والتسلية في المفارقة لا يمكن أن تصدر من الأساس ذاته، إذ يكمن العنصر الكوميدي في الخصائص الشكلية للمفارقة أضف إلى ذلك الغفلة المطمئنة فعلية أو مصطنعة، فالمرء يمكن أن يناقض ذاته عن قصد؛ كونه يسعى لحل تناقض على مستوى آخر، وينجم عنه تناقض مقصود مما يؤدي بدوره إلى نشوء توتر نفسي .

أما عنصر الألم الذي أشار إليه (تومسن) وسلَّم بوجوده في المفارقة فهو لا يمكن أن يصدر عن الخاصية الشكلية فيها، بل يكمن في التعاطف الذي نشعر به تجاه الضحية.(17)

وباستقصاء منتج السماوي الشعري نجد أنه غني بنصوص اتكأت على هذا الأسلوب في المفارقة، وكلُّ هذا نابع من روافد متعددة، ومنابع عملت على تفجير طاقة الإبداع لديه ففي الحقبة التي عاشها السماوي كان للسياسة الجائرة دور في ذلك، إذ حاول تمثيل هذه الاضطرابات وتعرية زيف السياسة وعيوبها في صياغة مفارقة ساخرة هادفة عملت على تنبيه المجتمع وإيقاظ وعيه، وهذا بدوره عمل على تحقيق توازن نفسي في دواخل الشاعر الذي كان يؤلمه واقع البلاد، فضلاً عن ذلك فقد كان لذات الشاعر أو شخصيته وما شهده من ظروف مليئة بالأسى والحزن دور في إنضاج طابع الحزن في داخله، ولهذا نرى السماوي يجنح إلى مزج الحزن بالسخرية في العديد من قصائدهِ، وقد يُعزى توظيف السماوي لهذا الأسلوب في المفارقة إلى دفاعه عن ذاته وآرائه إزاء من يهزأ بمبادئه وآرائه، فضلاً عن الدوافع النفسية التي تعد من أهم الأسباب لجنوح الشاعر لهذا الأسلوب، فالقلق والاحباط وإدراك التناقضات والاضطرابات في المجتمع لها دور فعَّال في التأزم النفسي للشاعر.

ولهذا جاءت الكثير من نصوصه الشعرية حاضنة ومشتملة لمثل هذا الأسلوب في المفارقة، إذ يقول في قصيدة "جلالة الملك":

جلالةَ الملك

قبلَ أن تُشيدَ لنا الجسرَ

شُقّ لنا النهر أوَّلاً

منذ أنْ نمتَ ولم تستيقظْ

ونحنُ

مستيقظون ولا ننام

في مملكتك المُخَلَّعةِ

الأبواب

جلالة الملك

من حقِّك أنْ تخرج للنزهةِ

راكباً سفينتك

ولكنْ

ليس من حقِّك

أنْ تجعلَ

دموعَ الشعبِ

نهراً للسفينة!(18)

يخاطب السماوي الحاكم أو السياسي بصيغة خطابية هي مزج بين التذلل والتبجيل والعظمة، لكن هذا التبجيل أو العظمة في خطاب السماوي مبطن يحمل في طياته سخرية مريرة هي أشد إيلاماً من التصريح المباشر، فجاء خطابه بهيئة يحاول من خلالها التماس الرحمة والرجاء، لكن لم تكن هذه التذللات والقداسة إلا سخرية من الحاكم وهذا ما نلمحه في قوله: "جلالة الملك"، فضلاً عن هذا هناك تحول مفاجئ في خطاب الشاعر إذ يلجأ في ثنايا النص إلى التصريح بغضبه وتمرده ورفضه، فيعود ليخاطب الحاكم أو السياسي في بلدهِ (العراق) قائلاً: "منذ أنْ نمتَ ولم تستيقظْ، نحنُ مستيقظون ولا ننام"، "مملكتك مخلَّعة الأبواب"، "ليس من حقِّك أنْ تجعلَ دموعَ الشعبِ نهراً للسفينة"، إذ أننا ندرك ما تعنيه العبارات من فقدان الأمان والسلام في البلاد، واستغلال الشعب وقوته لمصلحة الحاكم ورجالات السياسة، وأنَّ الشعب فاقدٌ للراحة، فيقف الشاعر موقف الرافض المتمرد، مطالباً برفع الظلم والمعاناة عن أبناء شعبه، مقدماً من خلال النص رقعة لفظية تبطن في أعماقها مدلولاً مغايراً مناقضاً، تعكس صورة نقيضة تحفل بالسلبية وتحاط بسخرية مريرة من الحاكم وإنجازاته. وتتجلى مفارقة السخرية في قصيدة "خليك في منفاك"، إذ يقول:

كلّ الذئاب اتحدتْ

واختلفتْ ما بينها الأنعامْ

*

على بقايا الزاد

في مأدُبة اللئامْ

*

دماؤها مهدورة ٌ..

فمرَّةً

تـُذبَحُ باسم جنـّـة ِ السلامْ

*

ومرَّةً باسم فتاوى

"حجّـة الإسلامْ"

*

ومرَّةً تُسْلَخُ

تنفيذاً لما رآه في منامِهِ

سماحةُ المفتي

وما فَسَّرَهُ وكيلُهُ الغلامْ

*

ومرَّةً

لأنها ترفضُ أَنْ تُهادنَ المحتلَّ

أو يكفرُ بالحريةِ التي بها بَشَّرَنا

مستعبد الشعوب ِ

جاحدُ الهدى

موزّعُ الأرزاق من بيدره الحرامْ.(19)

تحمل القصيدة مفارقات حادة، وتعالج واقعاً مريراً لشعب مغلوب على أمره، إذ تبرز المفارقة في أكثر من شطر في بنية النص، فنرى الشاعر يسخر من حالة الخنوع والاستكانة التي تسيطر على العراقيين، والتفرق فيما بينهم قائلاً: "كل الذئاب اتحدت، واختلفت ما بينها الانعام"، فيجد المتلقي نفسه أمام تصوير مفارق، إذ أن السياسين الذين أشار إليهم بلفظة (الذئاب) قد اتحدوا، في حين أن العراقيين الذي أشار إليهم بلفظة (الأنعام) لخضوعهم قد سادتْ التفرقة بينهم، فتتجلى من ثنايا النص نفثة غاضبة يعكسها امتعاضه من واقع بلاده المتردي، ولهذا فهو يسخر من حالة الذّل والهوان التي تُكبل شعب العراق، فهم يُقتلون بذريعة فتاوى يشرعها أدعياء الإسلام باسم الإسلام دين التسامح والسلام والأمان، إذ تبلغ المفارقة أقصاها فيوجه الشاعر إدانته إلى قاتلي الشعب وبأسلوب ساخر ونبرة تهكمية، ثم ينقلنا النص إلى مفارقة أخرى في قوله: "أو يكفر بالحرية التي بها بشرنا مستعبد الشعوب"، فالبشارة هي الخبر السار، لكنها في النص توحي بمعنى يغور في باطن اللفظة ليثير عقل المتلقي للتأمل في المعنى المقصود جاعلاً منه  شريكا مهماً في خلق النص، والكشف والتأويل في آنٍ واحد، حيث يتواطأ معه محاولاً الكشف عن الدلالة وتأويل اللفظة لإيجاد دلالة اخرى مقصودة حاول الشاعر الإفصاح عنها وبأسلوب ساخر، ولنا أن نقول: كيف لأعداء الحرية والسلام أن تحمل (بشارة الحرية) لشعب بات فريسة للمؤامرات فقد عكست البشارة الوعيد والجحيم والظلم والفساد الذي هيمن على البلاد.

وتتجسد المفارقة وبأسلوب ساخر ونبرة تهكمية في قصيدة "يا صاحبي"، إذ يقول:

هي أمةٌ أعداؤها منـــــــــــــها ... متى

من أين يأتينا الأمانُ و "بعضنـــــــــــا"

ومُدَجّجٍ بالحقدِ ينْخـــــــــــــــــرُ قلبهُ

حازَ العيوبَ جميعها فكــــــــــأنه

أعمى البصيرةِ فيهِ من خُيلائِـــــــهِ

إنْ قامَ يخطبُ فهو "عنترةُ" الفتــى

أمّا إذا شَهَرَ الحســـــــــــــامَ عدوُهُ

وهو "الأديب الفيلسوف" وفكرُهُ

*

طارَ الجناحُ وبعضُهُ معطـــــــــوبُ؟

لِعدوّنا والطامعينَ ربيــــــــــــــــــبُ؟

ضَغَنٌ إذا قادَ الجموعَ لبيـــــــــــبُ

مأوىً رأتْ فيهِ الكمالَ عيــــــــوبُ

مسٌ ومن صدأ الظنونِ رسيـــــبُ

و "الحارسُ القوميُّ" و "الرعبــوبُ"

عندَ النزالِ فإنهُ "شيبـــــــــــــوبُ" !

فلسٌ بسوقِ حماقةٍ مضـــــــــروبُ(20)

يعكس النص صورة لواقع الأمة الممزق، وصورة للتدخل في شؤون البلاد، إذ تفجر هذه المفارقة وجدان المتلقي وتُثير انفعاله وكأنها ثورة ضد أساليب الحكام وزعماء العرب، ساخراً من قسوتهم وجبروتهم وجهلهم وزعمهم بأنهم قادة الأمة، فالصورة الساخرة التي تتجلى في ثنايا النص قائمة على مفارقة أو مقارنة أو عرض حقائق واقعية مرتبكة المقاييس، واعني به التناقض والتضاد في المفردة التي تحمل ثنائية الدلالة الموجبة والسالبة، إذ يظهر طرف لهذه الدلالة في حين يكون الطرف الآخر كامناً في اللفظة، وبتأمل النص نجد أنه مبني على حقول دلالية تناقض حقيقتها كقوله: "الكمال عيوب"، "إن قام يخطب فهو عنترة الفتى الحارس القوميُّ والرعبوب"، "إذا شَهَرَ الحســـــــــــــامَ عدوُهُ عندَ النزالِ فإنهُ شيبـــــــــــــوبُ"، "هو الأديب الفيلسوف وفكرُهُ"، فمن المعروف أنَّ الكمال هو في التمامة والحسن في الأخلاق دون نقص أو عيب، لكن السماوي عمد إلى استخدامها في غير ما تأول إليه جاعلاً الكمال في العيوب والنقصان، ثم يطرح السماوي العديد من الصور الساخرة مستثمراً عبارات متضادة ومتناقضة، وإضفاء العديد من صور التقديس والتبجيل لهؤلاء الزعماء الذين يدعون بأنهم قادة عظماء، فتارة هو البطل الشجاع الفارس عنترة، وتارة هو العظيم الحارس القومي، وتارة هو المفكر والأديب، وكأن الشاعر عمد إلى توظيف سلاح التهكم من أجل الكشف عن حقيقة الآخر التي يراها المتلقي مفارقة ومناقضة تماماً لما هي عليه في الواقع، ثم يواصل الشاعر هجومه وبصورة مباشرة ليسخر من حقيقتهم فهم لا يتفوهون إلا بالحماقات والأكاذيب منشغلين بالخطابات، وبهذا احدثت المفارقة وبأسلوبها الساخر والنبرة التهكمية  مفاجأة للمتلقي.

ومن القصائد التي تتكئ على هذا الأسلوب في بناء المفارقة قصيدة "ما العُمر إلا ما تُعاشُ مسرَّة" فيقول:

تابَ الـلـصـوصُ وأرْجَـعـوا لحـقـولِـنـا

مـا كـان قــد ســرقــوا مــن الأنــعــامِ

والــفـاسـدون الــمُـرخِـصـون مَــروءةً

ثـابــوا الـى رُشــــدٍ وحُــســنِ خِــتــامِ

خلعـوا الـذقـونَ الـمسـتـعارةَ واسـتحى

مــن جُــرمِــهِ ذو خـــنــجــرٍ ولِـــثــامِ(21)

تأخذ نبرة التهكم والسخرية في العلو ابتداءً من مطلع النص حتى منتهاه، إذ تفيض الرؤية بالشكوى المقترنة بالخوف ممن اتخذوا من الدين والعمامة والذقون سلم سلّماً  للتحالف مع الشيطان من أجل السلطة والمال الحرام، فثمَّة تفسير على المتلقي أن يتأمله ويلتقطه من خلال القرائن الواردة، وهذا التفسير هو نقيض ما يطفو على بنية النص، وكأن الشاعر أراد أن يقول نقيض ذلك تماماً، جاعلاً من السخرية سلاحاً ضد كل من جعل الدين غطاء للصوصية والسرقة، وسلاحاً ضد من يخون العراق ويدفعه إلى الخراب من أجل اطماعه بالمال والسلطة وخيرات البلاد.

وفي قصيدة "هوامش من كتاب الحزن العراقي" يجنح السماوي إلى تأطير قصيدته بالمفارقة الساخرة ونبرة تهكمية، فيقول:

لا تـقـولـي: إنَّ جـرحَ الـيـومِ يـشـفـى فـي غـدِ

*

كلُّـهـمْ أقـسَـمَ

أنْ يـحـرسَ بـيـتَ الـمـالِ

باسـمِ الأحـدِ

*

سـادِنُ المـحـرابِ ..

والـنـاطـورُ

ربُّ الـدَرَكِ الـسِـرّيِّ

قـاضـي الـعـدلِ والشَّـرْعِ

إمـامُ المـسْـجِـدِ..

*

فـلـمـاذا ازدادتِ الــفـاقـةُ

واسْـتـشـرى وبـاءُ الـفَـسَـدِ؟

*

ولـمـاذا كـلَّـمـا يُـوعِـدُ بـالـخـبـزِ

أمـيـرُ المـؤمـنـيـنَ

ازدادَ جـوعُ الـبـلـدِ؟(22)

يفاجئنا النص بالهوة السحيقة بين ما يقوله الشاعر في أول النص من فكرة معينة، وبين ما تصل إليها الفكرة في نهاية النص من معنى مناقض تماماً ومخالفاً لما ذكره الشاعر في البداية، فالتكامل الصوري في النص الذي يتكئ على مفارقة السخرية يكون أساسه التضاد والتناقض في المعاني والنتائج وهذا بدوره  يُكسي  النص صفة المفاجأة  والدهشة، وهو ما يجعل المتلقي مندهشاً من غرابة الصورة، بدأ السماوي نصه الأنف الذكر بقوله: " كلُّـهـمْ أقـسَـمَ أنْ يـحـرسَ بـيـتَ الـمـالِ باسـمِ الأحـدِ، سـادِنُ المـحـرابِ والـنـاطـورُ، ربُّ الـدَرَكِ الـسِـرّيِّ، قـاضـي الـعـدلِ.." والمتوقع بعد هذا أن يُذكر ما يؤيد ما بدأه الشاعر، ولكن ما قامت به السلطة المسؤولة من أفعال لا تصب في المعنى الذي بدأته القصيدة، بل تعاكسه وبذلك كانت النتيجة تناقض البداية تماماً، فالبداية هي التعهد بصيانة ثروة البلاد والمال العام والكل أقسم بهذا، لكن النهاية وحقيقة الأمر المستقاة من الواقع هو أنَّ الفساد قد دبَّ وسُرق المال وثروات البلاد باسم الدين والوطنية، وهنا تكمن المفارقة الكبيرة بين طرفي الصورة، وهذا بدوره نقل النص إلى مجال السخرية، ففي الحقبة الزمنية التي ادركها السماوي مارست الحكومة التي تدعي الوطنية أشكال الظلم والجبروت ضد شعبها باسم الحرية والديمقراطية والدين، ولهذا انبرى الشعراء والمفكرون إلى مقارعتها بالكلمة المقاتلة، فقد شكَّل السماوي صوراً رائعة في نصوصه الشعرية عن أساليب السلطة الجائرة، وهو يتحدث عن وقائع عاشها العراقيون، وثمَّة تضاد وتناقض آخر في بنية النص في قوله: "كلما يوعد بالخبز أمير المؤمنين"، فالمتوقع من لدن المتلقي أن يصنع الشاعر ما يقابله بأن يزداد الخير وتوزع ثروات البلاد، لكن تعود النتائج لتكسب القصيدة صفة الدهشة والغرابة، إذ أنها ناقضت ما  بدأه الشاعر، وبدل أن يفي (الأمير) بوعده، ازاد الجوع وتفشى الفقر في البلاد.

وثمَّة قصائد أخرى في منتج السماوي اتكأت على هذا الأسلوب الساخر في المفارقة، ففي قصيدة "مقاطع من قصيدة ضائعة" يقول:

الناطِق ُ الرَّسْـمِيُّ باسم ِ القصْـر ِ

يُطـْنِبُ في الحديث ِ عن الرفاهِ..

ونعمةِ العصر الجديدِ ..

وما تحققَ من وئامِ

*

ورسائِلُ الأصحاب ِ

تسـألُ عن جوازات ٍ مُـزَوَّرَة ٍ

وعن سُـفـُن ٍ

مُـهَـيّأة ٍ لِشـَحْـن ِ الهاربينَ

إلى جنائن ِ كـَهْـف ِ مُـغْـتـَرَب ٍ

وفِرْدوس ِ الخِـيام ِ!؟

*

مَنْ ذا أُصَـدِّقُ ؟

ما يقولُ الناطق ُ الرسـميُّ باسمِ القصرِ؟

أو

ما قالـهُ الكوخُ المُـهَـدَّدُ بالضـَّرام؟(23)

تحمل القصيدة مفارقة  وتناقضا كبيرا  وفي الوقت ذاته تعالج واقعاً مريراً يعيشه العراقيون، إذ يبدأ الشاعر القصيدة بنقل خطابات الساسة والحكام وفئة المتنفذين بأمور الدولة، وما قدموه للشعب من حياة تنعم بالرفاهية في ظل الحكومة الجديدة، ولم يلبث الشاعر حتى يناقض ويفارق ما قاله في بداية النص، فيقول: "رسائل الأصحاب تسأل عن جوازات مزورة عن سفنٍ مُهيأة لشحن الهاربين إلى جنائن كهف مغترب وفردوس الخيام" فما ابتدأه السماوي والذي تمثل بخطابات المسؤولين حول منجزاتهم في البلاد، تنتظر من الشاعر أن يقدم ما يتلاقى مع هذا المعنى، ولكن يتضح للمتلقي وبإكمال النص أنه عمد إلى طرح نتائج تناقض البداية، إذ أنَّ ابناء الشعب اتخذوا من الهجرة والهروب من الوطن وسيلة لحياتهم وهو ما يؤكد أنَّ سُبل الحياة معدومة في وطنهم، ولنا أن نقول: إنَّ التفاوت بين الطرفين دفع الشاعر للتساؤل أيهما يصدق؟ ادعاءات الساسة والمسؤولين أم واقع البلاد الذي تتجلى منه صورة واقعية تعكس سياسة الأنظمة القمعية وأساليبها الاستبدادية التي يتبعها  المتنفذون في الدولة والتي تنعكس بدورها على الواقع المرير، فضلاً عن ذلك يتجلى لنا حشد من المفردات المتنافرة المتضادة والتي كان لها دور في تأجيج الدلالة وتكثيف الحدث، (جنائن، كهف مغترب)، و(فردوس الخيام) فالمغترب الهارب من الوطن يرى في ظلمة الغربة ووحشتها وقسوتها جنائن الفردوس، فأي جحيمٍ كان يأويه، وبهذا تمكن السماوي من تقديم صورة واقعية ممتزجة بالسخرية من واقع البلاد.

وفي قصيدة "سوء المنقلب" صورة أخرى من صور المفارقة الساخرة، إذ يقول:

مـا الـعـجَـبْ

أنْ يـكـونَ الـزِّفـتُ مـسـؤولاً عـن الـيـاقـوتِ فـي سـوقِ الـذَّهَـبْ ؟

*

نـحـنُ فـي عـصـرٍ بـهِ الـلـصُّ أمـيـنُ الـمـالِ ..

والـنـاطـقُ بـاسـم الـدِّيـن مَـجـهـولُ الـنَّـسَــبْ  !

*

مـا الـعـجـبْ.(24)

يبدأ السماوي نصه بعنوان "سوء المنقلب" الذي يوحي بانقلاب موازين الحياة إلى الأسوأ، ثم يعود لمزج بين السخرية وعناصر الهجاء، إذ امتلأ النص بكلمات لاذعة غامزة (الزفت مسؤولاً عن الياقوت)، (اللص أمين المال)، و(الناطق باسم الدين مجهول النسب)، فالتقابل بين طرفي العبارات المتنافرة والمتضادة يوحي بتوتر وانفعالية كبرى، وحتى لا يبادر المتلقي بالاستهجان سبقه الشاعر بقوله: "ما العجب" لأنه لا مجال للسؤال أو الاستهجان في عصر انقلبت فيه الموازين.

وفي قصيدة "ربنا قد أظلم الصبح" يستثمر السماوي المفارقة وبأسلوبها الساخر للتعبير عن رؤيته الخاصة، فيقول:

ربَّـنـا إنّـا سَـــمِـعْــنـا

هـاتــفــاً يـهــتــفُ بـالـعـدلِ الإلـهـيِّ

فـصَـدَّقـنـا كـلامَـه ْ

*

فـمَـحَـضـنـاهُ خـطـانـا ...

ومـفـاتـيـحَ بـيـوتِ الـمـالِ ...

بـايَـعْـنـاهُ لـلأمـرِ ولِـيَّـاً..

وخَـصَـصْـنـاهُ بـمـيـراثِ الإمـامـةْ

*

ثـمَّ لـمّـا أكـمَـلَ الـبَـيْـعَـةَ

بـاعَ الـصُّـحُـفَ الأولـى

وأرخـى لـلـيـواقـيـتِ ولـلـدولارِ والـجـاهِ لِـجـامَـهْ

*

ربَّـنـا قـد أظـلـمَ الـصـبـحُ

فـلا نـعـرفُ

هـلْ أنَّ مـلاكَ الـعـدلِ فـي الـقـفـطـان ِ؟

أم "إبـلـيـسُ" أخـفـى فـي الـجـلابـيـبِ غُـلامَـهْ؟

*

كـلُّـهُـمْ يـحـفـظُ آيـاتٍ

وفـي جـبْـهَـتِـهِ مـن أثـر "الـحَـكِّ" عـلامـةْ.(25)

يبدأ السماوي نصه بـ(سمعنا هاتفاً يهتف بالعدل الإلهي) ويُنهي النص بقوله: (كـلُّـهُـمْ يـحـفـظُ آيـاتٍ وفـي جـبْـهَـتِـهِ مـن أثـر "الـحَـكِّ" عـلامـةْ) إذ نلحظ مفارقة وتناقضا بين دفتي النص في بدايته الاطمئنان والسلام والسكينة، ولكن ما يُقابل هذا هو الخيبة والإحباط والذُّعر والوقوع ضحية لأدعياء الدين الذين خدعوا الشعب بطمغات جباههم وباللحية والمسبحة وسياسة يكسوها لباس الدين، لكن في حقيقتها كانت معبأة لتحقيق أطماعهم بالثروات والمال والسلطة، إذ يتجلى من ثنايا النص واقع مرير اختلت فيه الموازين وتداخلت المقاييس وفُقِد العدل والسلام، فتفيض الرؤية بالمعاناة المقترنة بالخوف ممن اتخذوا من الدين سلماً للائتلاف مع الشيطان من أجل السلطة والمال، يحدث الاستفهام الوارد في النص (هل أنَّ ملاك العدل في القفطان أم "إبليس" اخفى في الجلابيب  غلامَهْ ؟) أثر دلالي لما يوحيه من معاني ليؤكد حقيقة قائمة، كونه استفهام انكاري.

ومن صور مفارقة السخرية قوله في قصيدة "فصل من كتاب العشق":

أ سـمـاحـةَ الـشـيـطانِ شـكوى حـنـظـلٍ

يــشــكــو إلـــيــكَ مَـــرارةَ الإيــمــانِ

أ سـمـاحةَ الـشـيـطانِ واخـتـلـطَ الـصـدى

مـــا بـــيـــنَ صــوتِ ربــابــةٍ وأذانِ

الـقـائــمـون الـى الـصـلاةِ جـبـاهُـهُــمْ

كـالــقــائــمـيــن الى كـهـوفِ غــوانِ

أ ســمـاحـةَ الـشــيــطـانِ تـدري أنــنـي

ضِــــدُّ.. .. وأدري أنِــــنـــا نِــــدّانِ

مـا لــ" ابـن آدمَ " يــتَّــقــيـكَ لــسـانُــهُ

أمّــا الــفِــعــالُ فــأنــتـمــا صــنــوانِ(26)

يستهل شاعرنا نصه بكسر أفق التوقع للمتلقي، وذلك بمعارضة ما هو متعارف عليه بقوله: "أ سماحة الشيطان"، إذ تقف هذه العبارة على طرف نقيض للأصل في اللغة؛ كون مفردة (سماحة) لقب يسبق  اسماء رجال أصحاب المقام، بينما عمد الشاعر إلى اطلاق هذا اللقب على الشيطان، ومنبع هذا التناقض يكمن في واقع الشاعر فلم يعد يميز بين الشياطين والملائكة في ظل نظام المحاصصة واحزاب السياسة، فلم يرَ الشاعر من مجتمعه إلا الاستكانة والخنوع، تُملي عليه إرادته من قوى عُليا متسلطة؛ ولهذا حاول الشاعر أن يستفزهم بقلب المقدس إلى مدنس، ورفع الشيطان إلى منزلة القداسة، وكأنه أراد بهذا تحفيز عقولهم وحثها على التفكير والثورة لتغيير الواقع، ولنا أن نقول: بأنَّ عبارة (أ سماحة الشيطان) تحمل في أعماقها تضاداً مبطناً يوحي بالسخرية المريرة كانت أشد إيلاماً من التصريح المباشر، فالتحول المفاجئ والمزج بخطاب الشيطان أراد من خلاله القول: إنَّ الشياطين ساسة الصدفة وأحزابهم التي تدعي الإسلام زوراً هم الذين تسببوا في كلِّ الخراب الذي يعمُ العراق، فضلاً عن ذلك قد نلمح في ثنايا النص  حشداً من المفردات المتضادة المتنافرة والتي عملت على منح الدلالة تأثيراً أعمق وتكثيفا للحدث كقوله: "مرارة الإيمان"، "ربابة، أذان، "القائمون إلى الصلاة، القائمون إلى كهوف غوان"، ثم يعود ليعترف بأن الموازين قد قُلبت، فقد أتى الشاعر بالحقيقة المرَّة بعدما أصبح المتلقي على توافق معه، إذ أضحى يعرف أنه من المفترض أنْ يكون الشيطان ندَّاً لنا، لكن الواقع المفارق يكشف أنَّ ابن آدم هو نظير للشيطان بأفعاله.

تتسم السخرية بأنها نوع من التهكمية التي تبدو ذماً في ثوب المدح مع اتباع أسلوب عدم المباشرة(27)، إذ يخال للمتلقي بأنَّ الشاعر يمدح ممدوحه، لكن حقيقة الأمر أنه يذمه، ويتضح هذا بصورة جلية في قصيدة "يا أولي الأمر ببغداد علام الارتجاف"، إذ يقول:

يـا أولـي الأمْـرِ بـوادي الـنـخـلِ

نـامـوا مُـطـمـئـنـيـن نـشـاوى لا تـخـافـوا

*

الـجـمـاهـيـرُ الـتـي تـفـتـرشُ الـسّـاحـاتِ

لا تـحـمِـلُ غـيـرَ الـعُـشـبِ والـوردِ عـلامَ الارتجافُ ؟

*

لا تـخـافـوا

عـهـدُكـمْ مَـنِّ وسـلـوى وسُـلافُ

*

عـجَـبـاً !كـيـفَ يـخـافُ الـجـائـعَ الأعـزلَ

مَـنْ لـيـسَ مِـنَ الـلـهِ يـخـافُ ؟

*

فـعـلامَ الـحَـرَسُ الـجَـرّارُ ..؟ والأقـبـيـةُ الـسّـريـّةُ

الأحْـزِمــةُ الإسْـمـنـتُ؟ والقناص والغازات

ظِـلُّ الـلـهِ فـوق الأرضِ أنـتـم ..

والـوصِـيّـونَ عـلـى الـواحـاتِ والأنـهـارِ أنـتـم

فـلـمـاذا غـضِـبَـتُ هـذي الـضِّـفـافُ

*

زحـفـتْ فـي حَـربـهـا تـطـلـبُ خـبـزاً

خـيـلُـهـا لحن وأعلام هُـتـافُ

*

فعلامَ الارتجافُ ؟

*

صـادقاً كـان إمـامُ الـقـصْـرِ فـي فـتـواه

كُـفْـر أنْ يُـنـادي بـرغـيـفٍ بَـطِـرٌ أتْـخَـمَـهُ جـوعٌ وقـهْـرٌ ..!

كـلـكـمْ راعٍ ..

وهـذي الأرضُ مـرعـىً ..والـجـمـاهـيـرُ خِـرافُ

*

فاقسموها بـيـنـكـم قـسـمـةَ ضـيـزى

وتـصـافوا

*

لـكـم الـبـسـتـانُ ..والـبـيـدرُ والأعـنـابُ والـنـفـطُ ..

ولـلـشـعـبِ الـكـفـافُ!(28)

تؤطر المفارقة وبأسلوبها الساخر والنبرة التهكمية القصيدة بأكملها بدءاً وختاماً، إذ تحدث أثراً قوياً في ذات المتلقي، فيوزع السماوي مفارقاته على مدارات أساليب الطلب والتعجب والهجوم المباشر، ومن الجلي أنَّ صيغة أفعال الأمر التي اتكأت عليها بنية النص في قوله: "ناموا، لا تخافوا، اقسموها، تصافوا" لتبدو مفارقة في مضمونها وكأنها تؤدي مهمة توجيه سهام الشتيمة والهجوم على الآخر (الخصم) لتعريته والسخرية منه، فنظرة السماوي إلى ولاة الأمر نظرة استصغار وكأنهم الأدنى، وهو الأعلى؛ لذا أصدر أوامره سخرية منهم وتشهيراً لفسادهم؛ أي أنَّ هذا التوظيف لأفعال الأمر لم يكن توظيفاً صدفوياً، فهي أبعد ما تكون أن يطلب السماوي من ولاة الأمر (أصحاب السلطة) النوم أو أن لا يخافوا أو حثهم على أنَّ يتقاسموا خيرات العراق، وأن يتصافوا بينهم،وقد تقودنا قرائن المفارقة لتعلل الطلب، هذا وعمد شاعرنا استعمال اللغة بطريقة توحي بمعنى باطن يقتضي من المتلقي أن يكشفه، إذ استثمر عبارات توحي بالظاهر على المدح، لكن القصد منها هو السخرية وتعرية الآخر، وهذا ما يتضح في قوله: "عهدكمْ منٌّ وسلوى وسُلاف"، و"ظل الله فوق الأرض أنتم"، و"صادقاً كان أمام القصر في فتواه"، قد يظهر من خلال الأبيات أنها تحمل في ظاهرها إحساس الشاعر بالرضى والأمان والخير في ظل حكم ولاة الأمر في العراق، لكن حقيقة الأمر أراد أن يقول نقيض ذلك تماماً، ولكن السماوي لا يكتفي بمجرد الإشارة والتلميح، إذ يعمد أحياناً في ثنايا النص إلى الهجوم المباشر والتصريح بغضبه وتمرده، فيقول متسائلاً مندهشاً: "عـجَـبـاً! كـيـفَ يـخـافُ الـجـائـعَ الأعـزلَ مَـنْ لـيـسَ مِـنَ الـلـهِ يـخـافُ؟"، و"لكم البستان.. والبيدر والأعناب والنفط، وللشعب الكفاف"، ثم يعود الشاعر ليصور حالة الشعب المضطهد تحت سياط جلاديه ساخراً من حالة الاستكانة والتبعية التي تسيطر على الشعب قائلاً: "هذه الأرض مرعى.. والجماهيرُ خِراف".

إلى جانب هذا نجد مفارقة السخرية أخرى في قصيدة "نقوش على جذع نخلة"، إذ يقول:

آخرُ ما تناقَلَتْهُ نشرةُ الأخبارْ

*

أنَّ العَدُوَّ دكَّ بالمدافعِ "الكوفة"

واسْتَدارَ "للأنبار"

*

وحضرةُ "الإمامِ" ما زال على فَتْواهُ

أَنْ نُطْفِئَ نارَ حِقْدِهم

بِكَوْثَرِ الحوار!(29)

صور لنا الشاعر ردة فعل الحاكم في صورة ظاهرها المدح، وذلك جلي في قوله: "حضرة الإمام" لكن باطنها مثير للعجب والدهشة والسخرية من استكانة الحاكم والصبر والحوار دون مقاومة مقابل استباحة الدماء وتدمير البلاد.

وثمَّة نصوص أخرى تحمل في ثناياها ذلك الأسلوب الساخر، وهذا يتمثل في قوله:

ولم يَزلْ سعادةُ العُمْدةِ  في مجلسهِ

يُطْنِبُ في الحديث عن كرامة الشعب

وعن تكامُلِ  السيادةْ

خاضع وهو الذي يعرفُ أنَّ رأسَهُ

بات رهينَ صاحب  الوسادةْ

فوق سرير سلطة مُحتلَّةِ  الإرادةْ.(30)

إِنَّ التفاوت واضح بين بداية المقطع وختامه، إِذ أنَّ شاعرنا يبدأ حديثه بمدح (سعادة العُمدة)، كونه يبدي في خطاباته اهتمامه بكرامة شعبه، وتأكيده على تحقيق السيادة ومراعاة مصلحة البلاد، لكن يفاجئ المتلقي بأنَّ يقول الشاعر نقيض ذلك تماماً، إِذ أنَّ (سعادة العُمدة) مسلوب الإرادة لسلطة المحتل والدخيل، فيمسي المدح هجاء  وهجوما مباشرا  لسعادة العُمدة، وبذلك يتضح من خلال النص إدانة السماوي للسلطات الحاكمة وموقفه الرافض لسياستهم، فالاهتمام الذي يبديه (العُمدة) بكرامة أبناء شعبه وتحقيق السيادة، هو من قبيل التهكم والسخرية لحقيقة شعب مسلوب السيادة والكرامة، وبذلك يُعد "التهكم والسخرية سلاحاً  فعالاً من أسلحة المفارقة اللفظية التي تدلُّ عليها وتبشر بها، ولذلك يبدو الخطاب التهكمي والساخر أرضاً خصبة لنمو المفارقات وتكاثرها"(31)، ومثال ذلك ما ورد في قصيدة "رفقاً بالعصافير"، إذ يقول:

أيُّها الآمرون

بإطلاقِ القنابل المُسيلة

للأرواح

العصافيرُ لم تتظاهر

في

ساحةِ التحرير

نـعـرفُ أنَّ قـلـوبـكـم لا تـتـرفّـقُ بالإنـسـان

فـتـرفّـقـوا بـالـعـصـافـيـر.(32)

تخترق هذه المقطوعة نبرة تهكمية ساخرة، تحتم على المتلقي إعادة تفسير العبارات حين يتحسس وجود مفارقة، وهذا ما يوجب عليه إعادة إنتاج البنية النصية، والبحث عن الدلالة النقيضة، ممَّا يعمل على ولادة مفارقة لفظية يقدم فيها الشاعر دلالة ويريد نقيضها، إذ أنه يطلب من "الآمرون بإطلاق القنابل المُسيلة للأرواح" على سبيل التهكم، أنْ يرفقوا بالعصافير، وكيف للذين لم يرفقوا بالإنسان أنْ يرفقوا بالعصافير؟ وكأَنَّنا نلمح صورة تعكس تناقضات تستفز وعي المتلقي، وتوقظ روح الثورة، والتمرد لمحاربة قوى الظلم والطغيان.

وفي مقطع من قصيدة "نقوش على جذع نخلة" يقول السماوي:

ذكية قنابل التحريرِ

لا تصيبُ إلَّا الهدفَ المرسومَ

من قبل ابتداءِ نزهةِ القتالْ

*

ذكيَّة... ذكيَّة

تُمَيِّزُ الوَحْلَ من الزُلالْ

*

ونغمةَ القيثار من حَشْرجَةِ السُعالْ

*

ذكيَّةٌ... ذكيَّةٌ

لا تُخْطيءُ الشيوخَ والنَّساءَ والأطفالْ

*

ولا بيوتَ الطينِ ... لا أماكنَ الصلاةِ

أو مشاغِلْ العمَّالْ!(33)

من الواضح أنَّ عبارة (ذكيةٌ) والتي كررها السماوي أكثر من مرة على طول بنية النص لا يمكن قراءتها من خلال المعنى السطحي القريب لذهن المتلقي؛ أي أنَّ هناك ثمَّة معنى أعمق وأقرب إلى رؤية الشاعر الخاصة، وهو معنى يناقض تماماً المعنى المذكور، وهنا تتجلى المفارقة اللفظية، إذ أنَّ المحتل الأمريكي يملك قنابل ذكية تحدد الهدف وبدقة، ولكن هذه القنابل لا تميز الشيوخ والنساء والأطفال والمساجد!؛ أي أنَّ قنابل التحرير هذه وتطبيق الديمقراطية وشعاراتهم، ما جاءت لتحرير العراق كما زعموا، بل جاءت لاحتلال الوطن، فضلاً عن هذا يعكس تكرار لفظة (ذكية) في بنية النص الحالة الشعورية التي تُكبل الشاعر إزاء احتلال الوطن وما يعانيه  شعب العراق تحت ظل الاحتلال الأمريكي، إذ أوحت هذه القطعة الشعرية الساخرة بالواقع المأساوي الذي يعيشه الشعب العراقي، والحزن والدمار الذي خلَّفه الاحتلال باسم الحرية المزيفة، فمفردة (ذكية) لا يقصدها الشاعر بقدر ما توحي بالإدانة والاستنكار للأساليب الوحشية التي يتبعها المحتل الأمريكي ضد الإنسانية.

وفي قصيدة "جلالة الدولار" يسعى السماوي إلى بناء مفارقة لفظية تنتج أسلوباً ساخراً وبصيغة لفظية تُحتم على المتلقي أنْ يجد البديل لها؛ للوصول إلى المعنى القريب من رؤية الشاعر:

جـلالة ُ الدولارْ

*

حـاكـمُـنـا الجـديــدُ ...ظـلُّ اللهِ فـوقَ الأرض ِ...

مـبـعـوثُ إلـهِ الحـربِ والتـحـريــر ِوالـبـنـاء الإعمارْ

*

لـه يُـقـامُ الـذِكْـرُ..

تـُنـّحـَرُ الـقرابيـنُ

وتُقـرعُ الـطـبـولُ

تُرْفـعُ الأستــارْ

*

وبـاسـمِـهِ تـكـشـفُ عـن أسـرارهـا الأسـرارْ

وباسمِـهِ تـمـتـلـئ .. الـحـقـولُ بـالـسـنـبـل ِ

أو يـُصـادرُ الـرغـيـفُ

فـهـو صـاحـبُ الـعِـزَّةِ فـي الـمـدائـن ِالـمـذبـوحـةِ الأنـهـارْ

*

جـلالـة ُالـدولارْ

*

مـنـقـذُنـــا...

والـمرشــدُ الـفـقـيـــهُ ...

يُـفـتــي فيُـطـــاعُ

لا كـمـا كـانـت فـتـاوى الـسـيـد الـديـنــارْ

*

لِـحيـتـهُ الـخـضـراءُ صـهـوةُ الـمـضـاربـيـن

فـي مـصــارفِ الـحــــوارْ.(34)

تأطر القصيدة بالمفارقة اللفظية بدءاً وختاماً، إذ أنَّها أوَّل ما تصادف المتلقي وآخر ما يقرؤه، ومن الجلي أنَّ الشاعر لا يقصد ما يقوله بعبارة (جلالة الدولار، ظلُّ الله، إله الحرب والتحرير والبناء والأعمار، منقذنا، المرشدُ الفقيه)، وفي تضاد مبطن يقدم السماوي العديد من الصور التي توحي بالرضى والقبول والتقديس للدولار، ورفعه إلى مصاف إله التحرير والإعمار، إذ أنَّه المنقذ وكذلك المرشد والمفتي الذي يُطاع أمره، وإذ ما تجولنا في ثنايا النص قد نصل إلى تأويلات عدَّة تقترب من رؤية الشاعر، فالدولار قد أغوى اللصوص والساسة الفاسدين على السرقة والعمالة والخنوع للأجنبي، ولذلك فهو يُقدس ويُعظم، فضلاً عن هذا تُبين لنا القصيدة الخنوع العربي والتسلط الأمريكي، وما يرمز له بالدولار من الظلمة والواقع السياسي المرير للعراق، والتهتك الاجتماعي، وهذا بدوره يناقض تماماً القراءة الحرفية للنص، مما يعمل على ولادة مفارقة لفظية ساخرة من الواقع الذي يعيشه الشاعر

ولنا أن نقول: إنَّ أساليب المفارقة الساخرة التي اكتظت بها نصوص السماوي كانت نتيجة المفارقات التي افرزتها أزمات الفرد العراقي الذي وجد نفسه خاضعاً فاقداً الإرادة؛ أي أنَّ توظيفها لم يكن اعتباطياً أو بغرض تزيين الكلام، لكن الواقع المرير قلب الموازين في رؤى الشاعر وجعلته يتراوح بين نقيضين محاولةً منه استشراق النور وسط هذا الظلام، وبتوظيف بنية المفارقة وبأسلوبها الساخر تمكن السماوي من عرض مشكلات سياسية واجتماعية واقتصادية وإنسانية، وعالج موضوعات هادفة وفي الوقت ذاته عمل على تأجيج روح الثورة والرفض في ذات المواطن العراقي.

***

نسرين ابراهيم الشمري

...........................

المصادر والمراجع

(1) لغة التضاد في شعر أمل دنقل، د. عاصم محمد أمين بني عامر، دار الصفاء، ط1، عمان، (2005م): 39.

(2) ينظر: المفارقة في الشعر العربي الحديث: 31.

(3) ينظر: مواكب التهكم، عادل العوا، دار الفاضل، دمشق، (1995م): 12.

(4) لغة التضاد في شعر أمل دنقل:39.

(5) ينظر: المصدر نفسه:39.

(6) ينظر: سيكولوجية الفكاهة والضحك، زكريا إبراهيم، دار مصر للطباعة، (د.ط)، (د.ت): 9.

(7) ينظر: جماليات مفارقة السخرية في رواية "البحث عن العظام" لطاهر جاووت، (بحث)، حسينة بوعاش، مجلة علامات، العدد(5)، جامعة أمحمد بوقرة بومرداس، الجزائر، (2017م): 261 ـ 263.

(8) ينظر: الجانب النفسي للسخرية في الشعر العربي المعاصر "محمد اﻟﻣﺎﻏوط، وﻣﺣﻣود درويش، وأﺣﻣد ﻣطر" انموذج، فاطمة حسين العفيف، العدد(3)  مج(43)، (2016م): 2436.

(9) المصدر نفسه:2436.

(10) الجانب النفسي للسخرية في الشعر العربي المعاصر "محمد اﻟﻣﺎﻏوط، وﻣﺣﻣود درويش، وأﺣﻣد ﻣطر" انموذج، فاطمة حسين العفيف، العدد(3)  مج(43)، (2016م): 2437.

(11) المصدر نفسه: 2437.

(12) ينظر: الجانب النفسي للسخرية في الشعر العربي المعاصر "محمد اﻟﻣﺎﻏوط، وﻣﺣﻣود درويش، وأﺣﻣد ﻣطر" انموذج: 2438.

(13) ينظر: شعرية السخرية عند عز الدين مهيوبي "ملصقات" انموذجا، (رسالة ماجستير)، جواهر كزيز، بإشراف: روفيا بوغنوط، جامعة العربي بن مهدي (أم البواقي) /كلية الآداب واللغات، الجزائر،(2015م): 44.

(14) جمالية مفارقة السخرية في رواية "البحث عن العظام" لطاهر جاووت: 261.

(15) ينظر: موسوعة المصطلح النقدي (المفارقة وصفاتها): 27.

(16) المفارقة القرآنية: 17.

(17) ينظر: موسوعة المصطلح النقدي (المفارقة وصفاتها): 50.

(18) ديوان "حديقة من زهور الكلمات": 169 ــ 170.

(19) البكاء على كتف الوطن: 57 ــ 58.

(20) البكاء على كتف الوطن: 55 ــ 57.

(21) ديوان "ثوب من الماء لجسد من الجمر": 26 ــ27.

(22) لماذا تأخرت دهراً، يحيى السماوي، دار الينابيع، ط1، دمشق ــ سوريا، (2010م): 124.

(23) البكاء على الوطن: 37 كتف

(24) عيناك لي وطن ومنفى، يحيى السماوي، دار الظاهري، ط1، جدة ــ السعودية، (1995م): 23.

(25) الاختيار، يحيى السماوي، دار الرفاعي، ط1، الرياض، (1994م): 7.

(26)  قلبي على وطني، يحيى السماوي، الناشر: عبدالمقصود محمد سعيد خوخة، ط1، جدة، (1992م): 61

(27) ينظر: شعرية المفارقة في خطاب بشرى البستاني السياسي، (بحث)، عزت ملا إبراهيمي، علي باقر طاهري، حسين الياسي، مجلة اللغة العربية وآدابها، العدد(1)، (2015م): 150.

(28) الأفق نافذتي: 39

(29) نقوش على جذع نخلة: 104.

(30) المصدر نفسه: 108.

(31) المفارقة في الشعر العربي الحديث: 108.

(32) ديوان (ملحمة التكتك)، يحيى السماوي، دار الكتب والوثائق، ط1، بغداد، (2020م): 109.

(33)  نقوش على جذع نخلة:122.

للمتخيل في نص الشاعر العراقي الأستاذ الفاضل كامل فرحان

***

النص:

مابين غَسَقَ الدُّجى

 وإبْلاَجُ الصُّبْحِ

 قَلبِي

يُرَتِل تَرًنِيمَة وَجد،؟

بعْدَ سُهاد

طَيْفكٍ زارَني

حَدَثَنِي

عن أمْنِياتِ  الأمس.

عن الفرحِ  ، والهمسِ

عن وعودِ

 بالوفاءِ

 الصدق. كل الصدق

ثارَ بِي أسئلةٌ مُستَفزة

أتراهم عَبَثُو في الطريقِ

يَوُمَ كُنتُ أطوي المسافة

كسجادةُ صلاةُ

هلّ للاحاسيس ثمن؟

لِتُباعُ المشاعُر

في سوقِ النخاسِةِ

أم انَّ الوفاءَ

 شُيعُ الى مثواهِ الاخير

لتَحُلَ ساعة النسيان

***

كامل فرحان

......................

امتداد رؤيوي:

دائماً اللغة تنتمي إلى مجموعة "الأنظمة الرمزية" التي تشكل الثقافة كافة بما يتبع المنجزات الإنسانية

فهناك علاقة جدلية

داخل مجال النص منطق افصاح عن الطاقة الرمزية كي يكتمل أي نص. لقد خلص (بارت) إلى مفهوم الدلائلية/ دال ومدلول/ تميزه على صعيد الماهية السياقية.  فسيميائية الثقافة هي موضوعات تواصلية وأنساقاً دلالية  بين الناص والنص حين يتمظهر بالبحث النسق المتخفي وراء الاشارات اللفظية لكشف انتاج المعنى العام بالتوليد الدائم للدال كما سنرى ذلك في لغة الناص. فالسيميولوجيا

هو العلم الذي يدرس الدال وعلاقته مع المدلول. العلم الذي يدرس فقط المدلول يسمى: علم المعان. وحين لايتطابق الدال مع المدلول هو مايسمى بالانزياح والذي لم يترجم كلياً بالنص.

قراءة على المستوى الأسلوبي:

من المتن نرى تشكل الدجى والصبح، فلهما صلة ببعض حين يتم استخدام تلك العبارة لتوضيح البُعد الكبير بين الأمرين كمعنى.  واستحالة تجميعهما لكن يترافقان زمنياً بالتتالي. وعظمتها في السماء يمتدان إلينا أرضاً.   وتستخدم مابين/ هنا استهلالاً كنوع من التوضيح فـ(ما)، نحيلها كإسم موصول. و(بين) نؤولها قواعداياً إلى ظرفية مكانية. أي بين الدجى والصبح هناك "القلب".

القلب = بيولوجياً مرتكز الجسد بالنسبة للإنسان يمنحه الحياة

يرتل أي يتماهى بالتمهل والتأني جهراً أوغير جهر نحيلها للقرآن.

وَرتِّل القرآن تَرْتيلًا.

ترنيمة، وهي تقارب.

الترتيل، بنغمة متفانية خاشعة. بغرض أداء مايقرب العبادة

وجد، نعتبره هنا الحزن فالوجد له معانيه العدة، لكن ضمن سياقات الجملة الوجد هنا الشوق الشديد وسنح الإشتياق

فهو التوحد الروحي والذاتي للتوحد مع الإله صوفيا. فالشاعر من ابتداء المتن يعطي للحالة الشعرية الصوفية والالتزام بها من خلال ذاك بالمفردة الدينية (غسق / دجى /يرتل/صبح). ومع غياب

اللغة:

كما ننوه دائماً إن العنونة هي الجسر الواصل بين النص والمتلقي وعنوانه. وأيضاً تقديم الفكرة الجامعة للكشف عن مضمون النص وسلطته وبغيابها هنا نرى أن الناص استعاض عنها ببوحه الذاتي بسيولة لفظية قريبة للمتلقى لاتتبع الغموض أو الإبهام فكان هذابديلاً عن العنونة والتي باتت جزءا رئيسيا للنص. إنما الشاعر اعتمد الألفاظ في النص كي تظهر اللغة في الأشكال المختلفة صرفاً وتركيباً برشيمات معرفية تعطي المعنى العام بكفة تتأرجح بين الشك واليقين بانعكاسات الذات التي توسم عصوات إسناد اضلاع الشكوى والحنين في حضن أمل أخرق.

الحالة الشعورية

الناص بحالة تلاصق حسي منذ البداية مع الأنا الأخرى. فبين الغسق والانبلاج مساحة تكفي كي يبدد ذاك الوجد وهو يتغنى بهذا الكلف ليوصل الحالة الروحانية المتهجدة، بتجرد كلي أنوي فهو بهذيان اللحظة بعد ذاك الأرق. لم يتموضع ضمن حدود الكلمات وضمن نطاقها اللغوي بل كانت حالة دراماتيكية لها أثرها الفعلي. فالأرق سبب كل ذلك الوجد المتلظي ووثبة في تحريك الذات الشاعرة بعقلانية يستنبط منها الروحاني فهنا:

ما بين غَسَقَ الدُّجى

 وإبْلاَجُ الصُّبْحِ

 قَلبِي

يُرَتِل تَرًنِيمَة وَجد،؟

بعْدَ سُهاد.

إن السهاد كان حالة فاعلة مؤثرة وترشيد لنقطة دوران النص ضمن التحولات الدلالية الناجمة من المدى العمقي في معالم النص.

الحالة الشعرية والفكرة:

اعتمد الناص الوصف الدرامي فالأرق أخذه إلى هذيان وتخلقات طقوس تجعل ذاك الطيف يراوده ضمن تحول مدرك / الصدق كل الصدق/ هنا الذات تظهر مكنونها الذي هي تبتغيه من خلال مخيلة تستدعي حضور طيفها وترى من خلاله حوار مورق بفلسفة الجوارح والداخل، أي الفينومولوجيا.

عن امنيات الامس

عن الفرح  والهمس

عن وعود بالوفاء

كل ذلك كان حديث طيفها المراود أثناء السهاد بميكانيزمية جامعة لكل مستغرقات الذات للتناص بصوت الشاعر عن طيفه الذي تجلى له. فالنص يتنفس من خلال مايراه هو ذاتياً لأن الطيف هو ذاكرته الملاصقة له وسط سهده بجمل شعرية حاملها متناغم بين الدال والمدلول. وتبقى التحولات المضمنة رهن الإحتمالية:

 أتراهم عبثوا

فهذيان اللحظة المؤرقة تتراتل الصور بالذاكرة والخيال بالفكرة.

فالامنيات هي المأمول

الأمس: هو الوقت الماضي القريب

الفرح: السرور

الهمس: الصوت الخفي

الوعود: العهود أو الإلتزام

الوفاءك  الاخلاص والثبات على الوعد

الصدق: سمة حسنة وقول الحقيقة

فالذات تسوس مرتدة عن دهرية البندول. وماكان فيها من فرح وهمس ووعود. وأكدت على الوعود بالصدق. وتكرار مفردة الصدق. بمعنى أن الأنا تبحث عن أمان عن حقيقة وترنو إلى البقاء على العهد. بمحاكاة مع طيفها كناسك هجير وحدته بل لنعتبره ظله. ليستدعي قسراً الدفق الشعوري الذي يعكس الحالة النفسية الباحثة عن يقين ترغبه فهنا الدالة سحابة متسولة في صوامع الرجاء.

مسارات النص

وما تفرزه الذات هي رؤيا خاصة بصاحبها وتوجهاته. وما أثّر به الطيف فلقد غيّر المسار بأسئلة عدة لرتق فجواته. تلك الأسئلة ليست عابرة بل تستفز الذات الى حيرة مسائلة.

 اللغة وأسلوبية الناص تسير بسياق دلالي حسب طقوسه الحسية والشعورية لحظة كتابة النص فلغته مشحونة بمناخات تعبيرية مستغربة بأسلوبية فنية تصويرية تؤكد حيرته وشكه بذاك العبث

أتراهم عبثوا في الطريق

يوم كنت أطوي المسافة

كي تكون لغة فنية ابداعية تتموضع ظهوراً ضمن واقعية شعرية متحدة مع الكائن الإنساني الوجودي في حلقة تتسع غسق الدجى

وتضيق الصدق كل الصدق

بتوليفة جمل خبرية واسمية لتتخلق رهان أكبر لقدرتها التأثيرية على المتلقي. فماذا بعد ذلك الانشداه؟.

هل للأحاسيس ثمن؟

سؤال يجمع بين  الحسية وبين المادية

هذا التناقض أعطى للصورة جماليتها مع وهلة السؤال الذي استطرد من خلاله الى:

لتباع المشاعر

أيضاً هنا الصورة بارعة بين البيع والمشاعر مخاض لغوي ينفتح على دوائر عدة فالشاعر ينصب نفسه شاهداً على الإحباط ليعيد ترتيب غموضه من أجل روح مفعمة بيقينها تجبّ الذات الشاعرة لتؤثث للبرّاني التقاطاتها النفسية وتحولاتها ليتمادى الوعي لكسر الحواجز ورفع صوت المواربة ولجم الحالة. فهو مضطرب غير متيقن بل مستنكر. هل من المعقول أن تبادل المشاعر وتتنازل ويتاجر بها؟

بأبخس الأثمان؟

سوق النخاسة

أم مات الوفاء

 الوفاء شيع

(هلّ للاحاسيس ثمن؟

لِتُباعُ المشاعُر

في سوقِ النخاسِةِ

أم انَّ الوفاءَ

 شُيعُ الى مثواهِ الاخير)

حينها يكون حصاد الغفلة، كي تمسح الذاكرة ويتوجب النسيان. نعم إن الوفاء شيع مثواه الأخير. فاللغة موجعة تبدد معاني الزمن المر في تبدلات المزاج.  تناقضات عدة في زمن الاهتراء ولامكان للعهود في هذا الخواء.

خاتمة فيها كل العبرة حين تستنطق الخراب.

فما بين الخيانة والوعد فارق خطوة

وقد انكسر شراع اليقين

واستكان فحيح الصور لجنح الأمان

ففلك الخلاص صراط أَشَر

لحسية فيها كل الحيرى والأسئلة المرة

فهل ينتظر بريق الوتر

لأسماء نخرتها سوسة الرجاء

الختم وبعض التفاصيل:

لغة لها تكوينها الدلالي المسترسل بالنص وتوظيف شعري لجوهر عناصر زمكنة.

/الطريق /المسافة /

خلقت تماهي مؤثر لسياق المعاني باقتصاد لغوي وتصوير مقطعي للتعبير عن الفكرة التي تتوالد قوية ملحاحة بترابطية لغوية مكثفة لصالح النص ولتظهر مدى تفاعل الذات مع الحدثية الجوانية المنفلتة ببركانها النازح ليتمخض التوهج الدلالي بجمل النص.

أ. كامل مبدع بهي جُماني الحضور مضفي الحبور على كل من يحيط به حيثما حلّ

يسكب سلاف الجمال بلغة من عقيق

بالتوفيق الدائم

***

مرشدة جاويش

 

الشاعر عبد الستار نور علي، يوم أمس كتب قصيدة مهداة لي أنا (هاتف بشبوش) .. بعنوان (الجسدُ المرمر). وقد جاء النص رداً جمالياً ومعجباً بنصوصي في الحب والآيروتيك ورسائل الحب .. وقد استوقفني النص ولابد لي من محاكاته ضمن القراءة البسيطة أدناه ..

نص (الجسدُ المرمر):

أتمايلُ طَرَباً

وأنا أهتفُ:

عجبي!

تتمايلُ أحرفُكَ السكرى

في وهج الشمعةِ

ليلةَ أنْ فكَّيْتَ الأزرارَ

لصدرٍ كالمرمرْ.

لم أعتدْ أنْ أفتحَ

صفحاتِ الجسدِ المرمرْ

في أوراقي

فأنا تاريخُ الورقِ الصاعدِ

مِنْ لهبِ التنورِ المسجور

في دارٍ تتداعى كالأطلالْ.

أتمايلُ طرَباً، يا هاتف!

حين تنادينا كي نقرأَ طلِّسمَ الأجساد:

جسدٌ يتسجَّى في تابوتِ الأيام.

الدولُ الرافعةُ عقيرتَها،

وسيوفَ قبيلتها

ليلَ نهار

تأكلُ....تأكلُ....

ما تعرقُهُ الأجسادْ

الوحشُ الكامنُ خلفَ عقيرتِها

جسدٌ هشٌّ بملايين ذباب.

جسدٌ آخرُ يصعدُ سُلّمَ أهدابِ الأقمارْ

ينضحُ برحيقِ الوردِ، وبالخمرِ،

وبالجُمّارْ.

أتمايلُ طرّباً

حين تفكُّ الخطَّ الغافي في أحرفِنا

خلفَ بلاغةِ تلكَ الأسوارْ،

وتعيدُ بناءَ الأسفارْ

***

(لايمتلك الجسد أبداً القوة الكافية ليجد تعبيره الخاص به ..) البير كامو..

قبل كلّ شيء أن الحب ليس وليد النقاش اليوم، وإنما وردنا على سبيل المثال من المأدبة الإفلاطونية الشهيرة (مأدبة إفلاطون) وهي وليمة بحضور سقراط وتلميذه إفلاطون. وكان الحديث عن (الأيروس) إله الحب، ومنه جاء الأيروتيك والرغبة في التطلّع للجسد وبقي وهاجاً بناره ولهيبه حتى اليوم الذي وصل للستربتيز (العرض العاري والبوح الفاضح الذي ليس له لجام).

النص أعلاه للشاعر الكبير عبد الستار - كما قلت- جاء رداً على أشعاري المختصة بالآيروتيك والحب. لكن الشاعر عبد الستار أراد من خلال النص أنْ يوضح طبيعة العلاقة الصميمية بين الرجل والمرأة في عالم بات خطيراً وبائساً، ولايمكننا أنْ نعرف الى أين يتجه هذا العالم وهو ينزّ وسط الجراح من الحروب المحلية والعالمية، وتغيير مسار العلاقات الأنسانية بينما يبقى الحب مطرزاً بنغماته وموسيقاه، وهنا نقصد الأيروتيك لا الستربتيز ولوحاته الحية في مراقص العري أو في أفلام البورنو أو في ملصقاته الفوتو وما أكثرها. عبدالستار نورعلي وموسومية نصه الذي إتخذ عنواناً ناعماً يليق بنعومة النساء والحب معاً، فذات يوم قال سعدي يوسف (لمن يزهر الجلّنار ويندفع المرمرُ) أي إندفاع فلقتي الصدر (الرمّان) الى الأمام مما يعطي جمالاً صارما فتاكا لناظريه، أو أن الجسد الإنثوي كله عبارة عن لدانة عظيمة مثيرة كما لدانة رمانة نعصرها فتنصاع الى أي شكل نريده أو أي ملمس يثير بنا لاعجة الحب ولوعة الرغبة في الحب والممارسة وإصرار الولوج والتقبيل والتمسيد عند مجيء تلك الرغبة الأعنف من بين رغباتنا كما يقول (شوبنهاور). في القصيد أعلاه وفي أوله يقول الشاعر عبدالستار (أتمايل طرباً وأنا أهتف عجبي). هنا لم يقل وأنا أصرخ بل قال (أهتفُ) لتأتي تنويهاً إعجابياً بهاتف ونصوصه في الحب ورسائل الحب. فهو هنا حين يقرأ قصائد هاتف بشبوش في الحب والآيروتيك، كمن يسمع أغنية فيطرب فيدخل في دائرة (إذا طربت النفوس غنت). عبد الستار قرأ واستمتع بجمال الحرف والحب حتى غنى، بل وتمايل فهنا يعني أنه دخل أقصى غايات الأنتشاء والإستمتاع القرائي الذي تحوّل الى الغنائي من جراء الوصف الواقعي والفنتازي لقصائد الشاعر هاتف حتى تمايل وترنّح ربما دون خمر وكحول، فهو الشاعر الذي أعرفه لايعاقر الخمر أبداً، بل ربما في أيام مضت من الشباب الثوري والنضالي. فهو قد كان في لجة الصراع قبل أن ندخل نحن . ثم ينتقل عبد الستار فيقول:

تتمايل أحرفكَ السَكرى

في وهج الشمعة

ليلة أن فكّيت الآزرار

لصدرٍ كالمرمر ..

الشمعة حكمة وتأويل كبير، الشمعة حين تحترق تترك جوفاً في بطنها وتظل تحترق، تتألم كثيراً حتى ينتهي نارها. لكنها تبقى تلك الشمعة المنتصبة، ولذلك نتصور ما مدى الألم والجمال في الحب حيث يكون ألم البطن من جراء الإحتراق الصارخ بالحب والحب والإستنارة لحبيب أحببته وظل في القلب وجوف البطن. أما فكّ الأزرار للصدر المرمر فهو قد جاء على طريقة الملك أدويسوس بعد غياب دام خمس وعشرين عاماً عن زوجته، وإذا به يفتح أزرار قميصها فيحترق ناراً وشوقاً وحباً لفلقتي رمان صدرها. ويبقى الحب محض كلمة حتى تجد الشخص الذي يمنحها المعنى. وها هو عبد الستار يضع كل المعاني ضمن حيواتنا التي ستتقدم معاً عبر زمن حزين أو ضاحك . فمرة نراه في الإنثيال على الأيروتيك العفيف البعيد عن الستربتيز فأعطاه العفة والنزاهة، ومرة ينثال على أوجاعنا التي لاتنتهي، لكننا نخلق ورودنا في دروبنا العاثرة على الدوام لآن الورد والأزاهير حياة، فهي حتى لو ماتت سوف تترك بذورها في الآرض لتحيا زهرة أخرى مثلما نحن البشر نموت ويحيا بعدنا أحفادنا وأكبادنا. ولذلك قال عبد الستار في شذرته الصارخة بالحب والألم معا:

اتمايل طرباً ياهاتف

حين تنادينا كي نقرأ طلّسم الأجساد:

جسد يتسجى في تأريخ الأيام

عبد الستار في نصه قد مزج مفاهيم الزمن في الحب الأبدي الذي يخشى الشك ويستمر بالشك ويموت من اليقين . النص الجسدي الجميل تدحرج الى حيواتنا اليومية العامة ومانراه من بؤس وتراجيدية فنراه يقول:

أتمايل طرباً

حين تفكّ الخط الغافي في أحرفنا

خلف بلاغة تلك الأسوار

وتعيد بناء الآسفار

نصّ فيه أكثر من مفصل يستحق الشرح وعلى وجه الأخص تلك التراجيدية التي يصنعها الأوغاد ونحن من يشاهد ويصمت على الدمار القاتل للحب رغم إن هذا الحب يبقى عاصياً على النيل منه مهما كانت قراراتهم .. فهو الحب الذي يريد أن يرى الرغبة التي خلقها الرب سارية المفعول في كل أزمانها ومكانها ..الحب الذي يصر على فتح أزرار قميصها كحق مكتسب منذ الأزل ومنذ إن تعلمت حواء وعرف آدم ماهو الطلّسم الذي يشفي الجسد . نص متجاوز في الحب ومعرفة الجسد وقد إتخذ رابطاً مكرراً (تتمايل طرباً) مما زاده بهاءاً على بهاء في اللحنية والموسيقية المهمة في الشعر النثري . ويبقى الجسد هو العنصر الأساس للجنسانية التي تعبّر في نهاية المطاف عن وجود الأشياء التي تبحث في بعضها عن العنصر الذي ينقصها. ويبقى النص لعبد الستار باحثاً عن الغوايات النبيلة نسبياً إنْ لم تكن مستحيلة. عبد الستار ربط الجسد مع الوجدانيات التي لايمكن لنا تحطيمها فهي عادات وسلوك وواجبات في بعض الأحيان. وأخيرا أقول من أنّ الجسد الذي وظفه عبد الستار في هذه المفاهيم الجنسانية والثورية والحياتية، هو كلمة من الممكن أن نوظفها في رسم العلمانية البعيدة عن العنصرية مثلما قال محمود درويش ودعوته للمدنية من خلال شعره في الجسد الإباحي الجميل:

سنصيرُ شعباً

حين يكتب شاعرٌ

وصفاً إباحياً ، لبطن الراقصة .

***

هاتف بشبوش / شاعر وناقد عراقي

 11/10/2024

أصدر الأديب والباحث د. مؤيد عبد الستار المقيم في السويد قصة (تسفير)  تحت مسمى (قصة)، وقد نشرت أول مرة ضمن مجموعة قصصية تحمل هذا العنوان عن دار فيشون ميديا/السويد/ضمن منشورات المركز الثقافي العراقي في السويد التابع لوزارة الثقافة العراقية عام 2014 بـحوالي 50 صفحة، وأعاد طبعها منفردة في كتاب خاص من منشورات دار الورشة/بغداد 2023 .

الملاحظ على التسمية أنّ الكاتب أطلق عليها اسم قصة، لا رواية قصيرة. لكننا حين نقرأها وبعدد صفحاتها – حوالي 50 صفحة -، إضافة الى حكايتها الطويلة نسبياً، والمؤلّفة من أحداث كثيرة مختزلة، تدور حول حدث محوريٍّ واحد، مرّ بها بطل الرواية (جوامير) وهو الشخصية المحورية، وشخصيات أخرى عديدة، لها دورها في الأحداث والبناء التركيبي المؤثر، وفي مسيرة البطل حياةً، و تصاعداً للأحداث وتطورها متفاعلةً معها، وبهندسة معمارية فنية البناء، سردية الأداء، فإنها والحالة هذه؛ ولخصائصها الفنية: حبكةً (بداية، وسط/عقدة، خاتمة/نهاية)، وأحداثاً وشخصياتٍ، وأسلوباً وعرضاً وسرداً. وبالنظر الى أنَّ سلسلة الحوادث التي تجري في القصة متصلة ومرتبطة برابط السببية فيما بينها، ولا تنفصل عن الشخصيات، متأثرة بها ومؤثرة فيها، وأنّ القاصّ يعرض علينا شخصياته، وهي متفاعلة ومترابطة مع الأحداث، ومع بعضها البعض، ووجودها ضرورة لمسيرة الرواية وموضوعها وتطورها، ومهمة في سير الأحداث، وبطل الرواية، ولا تنفصل عنها بأيِّ وجه من الوجوه، فإنّه يمكننا أنْ نضعها جنساً أدبياً تحت مسمى  (روايةً قصيرةً).

إضافة الى كلِّ ما أسلفنا أعلاه، فإنّ ما يدعم هذا  أيضاً  كثرة الأحداث وتكثيفها، وتركيزها من خلال الضغط، والابتعاد عن الإفاضة والهوامش الفائضة عن حاجة الحكاية وسيرها وسياقها المتنامي؛ وهي ناتجة عن ادراك الروائي بأنه عليه أنْ يعمل على عدم إلقاء القارئ في متاهات الترهُّل السردي الفضفاض، ومقابض السأم. وكلُّ هذا من أجل توفير الوقت والجهد للقارئ المهتم، وربطه بالحكاية، وشدّه بإحكام، وحنكةٍ ومهارة اليها، دون ضجر ولا ملل من التفاصيل الفائضة المحشوّة حشواً عشوائياً، والتي لا تخدمها فنيّاً وتقنيّاً.

الحكاية حدثت بمحافظة واسط/مدينة الكوت، وهي قصة الشخصية المحورية (جوامير)، وما مرَّ به من أحداث عظيمة التأثير على حياته العائلية الشخصية، هو ووالدته، حيث ألقت الشرطة القبض عليه بسبب نشاطه السياسي أثناء الانتفاضة الشعبانية/ آذار 1991. فبعد سجنه لبضعة أشهر صدر قرار تسفيره (تهجيره) الى إيران بحجة عدم امتلاكه شهادة الجنسية العراقية، وأنه فارسيٌّ. هُجّر هو وأمه، ليعاني الكثير في منفاه القسري ظلماً وعدواناً، ولأسباب سياسية محضة، حيث ماتت أمه هناك، وكانت تتمنى أنْ تُدفن في وادي السلام/النجف. ثم يذكر في سياق سرده حملة التهجير التي تعرّض له الكرد الفيليون (وهو منهم) عام 1980 إثر الحرب العراقية الإيرانية، وما تعرضت له العائلات المنكوبة، التي هُجّرت قسراً وظلماً الى إيران بدعوى التبعية الإيرانية، وما لاقوه من ويلات ومعاناة، ومصاعب ومخاطر جمّة، ومشاقٍ في طريق مسيرهم أثناء عبورهم الحدود بين أراضٍ مُلَغمَة، وليكونوا عرضةً للوحوش الكاسرة، وقُطّاع الطريق، ومشقات  وتضاريس الأرض والجبال القاسية.410 Deportation

يَعرِض القاصّ مؤيد عبد الستار بسردٍ مُحكَم، ولغةٍ رصينة مُعبِّرة بدقةِ احترافية فنيّة، واسلوب يحمل في طياته فنَّ الإثارة، وشدِّ القارئ للأحداث والوقائع والصعاب، وطرق المسير الخطرة، وأهوال الطريق،  ومعاناته هو وأمه في المنفى القسري، وما لا قوه هناك منْ شظف العيش وقساوة الغربةً، حتى وصل الحال الى وفاة أمه، التي كانتْ تحلم أنْ تُدفَن في مقبرة السلام في النجف الأشرف. كما ظلّ متعلّقاً مرتبطاً عاطفياً بوطنه، يحنُّ ويتحمّلُ نوازع الشوق الجارفِ لوطنه، وخطيبته ابنة عمه التي تركها خلفه، ومِنْ حبّهالشديد  لها كان يحتفظ برسالة قديمة أرسلتها اليه تبوح بحبها وتوقها الى يوم زواجهما.

وبسبب هذه المعاناة فكّر وخطّط للعودة الى وطنه العراق، باصرار وتصميم وتحدٍ للصعاب، والى مسقط رأسه الكوت، وعن طريق التهريب، وباسم مستعار (جمال) مشتق من اسم جمال عبد الناصر؛ كي لا يجلب الانتباه. دبّر له المهرِّب هويةً مزورة، لتبدأ مغامرة العودة المحفوفة بالمخاطر والخوف، والصعوبات والتعب والجوع، والحذر الشديد؛ خشية الوقوع بين براثن رجال الأمن العراقيين، فلا يرحمونه.

يمزج القاصّ مؤيدعبد الستار في روايته بين الحدث الذاتي والحدث التاريخي والاجتماعي، بين ما تعرّض له البطل (جوامير)، وتعرّض له الوطن والناس تاريخياً واجتماعياً. إذ يمرُّ من خلال سرد الأحداث والشخصيات على تاريخ احتلال الإنجليز للعراق، وما فعلوه في الجنوب من مآسٍ واعتداءات على الناس، دون وازع من ضمير أو أخلاق، وفي ذلك إدانة للاحتلال، وما يجرّه من ويلات، ولعلاقة سببية بين الاحتلال ذاك وبين ما جرى للعراق بعده.  وذلك من خلال الشخصيات الكبيرة في السنِّ التي  يذكرها القاصّ، والتي تذكر تلك الأيام. وكذلك يسرد بعضاً من الأحداث التي تعرّض لها معارضو النظام البعثي السابق من السياسيين وغيرهم، منْ خلال ذكر شخصية أبو سلمان واعتقاله ثم إطلاق سراحه، دون أنْ يعرف السبب، وقد تمّ اطلاق سراحه بناءً على تدخل بعض وجهاء مدينة الكوت. وهو بهذا يعرض تاريخ فترة من العراق ألقى بظلاله السود ورياحه العاتية على طيفٍ من الشعب العراقي (الفيليون) اذ أنّ بطل الرواية من الفيليين، فيقول:

" لاشك ان غاية السلطات كانت كسر شوكة المعارضين لها ، وتهديدهم بالتسفير الى ايران بحجة  اصولهم الفارسية"

" كان الحرس اسوأ ظاهرة عرفتها مدينة الكوت" (الحرس القومي)

كما يسرد لنا من خلال القصة (الرواية) بعض الوقائع اليومية المعيشية للعامة من الناس والبسطاء، وأصحاب الأعمال والمهن، وما كانوا يعملون في حياتهم، مثل التهريب بين ايران والعراق/محافظة واسط المجاورة لحدود ايران، وما كان هؤلاء يتعرضون له من حوادث يومية، وما يتحمّلون من صعاب ومشقات في سبيل توفير لقمة العيش لهم ولعوائلهم. وهذا جانب تاريخي اجتماعي لحياة العامة من الناس يعرضه القاص في الرواية.

وكما ذكرنا أنه بقصته هذه يمزج بين التاريخي والواقعي الاجتماعي الناتج والمتأثر بالوضع السياسي في البلد. ولكثرة الأحداث والشخصيات فإنها تقترب كثيراً حبكة وتقنيةً وحجماً (50 صفحة) من فنِّ الرواية، وعليه يمكن درجها تحت جنس الرواية القصيرة. فلو فصّلها بالسرد أكثر، وبالمرور على حياة هذه الشخصيات العديدة، والأحداث التي مرّوا بها، لكان بإمكانه أن يحوِّلها الى رواية طويلة تاريخية اجتماعية سياسية.

يسرد القاصّ في قصته هذه كلَّ تلك الأحداث والشخصيات بواقعية تقترب من السحرية إثارةً واسلوباً وفنتازيا، مع أنّ الساردَ لم يتدخّل في مسار الحكاية ليضع بصمات خياله الفانتازية فيها، فهو لم يختلق ما يبتعد عن الواقع المعاش يومياً، من المخزون في ذاكرته، فيستعيد ما تمتلكه مما عاشه القاصّ مؤيد عبد الستار، والتي وقعت وتقع للناس  في محيطه وبيئته عموماً ضمن سياقات التاريخ السياسي والاجتماعي الواقعي، والتي عشنا وشاهدنا عياناً الكثيرَ منها، فهي ليست غريبةً على العراق وتاريخه المضطرب المليء بالوقائع والمآسي والنكبات غزواً خارجياً، واضطراباتٍ وتقلبات وانقلابات داخلياً.

يُقسّم القاصّ روايته الى فصول تحت عنواين وهذا عنصر آخر يجعلها من جنس الرواية والقصيرة منها:

تسفير، قافلة الحساوية، القاء قبض، مشهد ايروتيكي  في زقاق ضيق، الهجع، شهادة، لقطة جانبية، بعيد المدى، مولوي، مجلس وداع، البدوي، رحلة  قرمزي  الأخيرة، الى بدرة، حادي العيس.

الرواية قيد القراءة تسجيل فنيٌّ أدبي لصراع الإنسان بين ما يقع فيه من مشاقِّ وأهوال وبين حبّه لوطنه وحبيبته التي تركها في العراق، وحلمه في العودة الى مسقط رأسه وحبيبته؛ لتعلّقه الشديد بهما؛ فهما جزءٌ لا ينفصم منه وهو أيضاً جزء وصورة منهما.  لذا قرّر العودة الى وطنه سرّاً، مصمّماً على مواجهة الصعاب والمخاطرَ والعقبات بشجاعة وتصميم واصرار. فهي تجمع بين الحدث الشخصي والحدث التاريخي.

يُنهي الروائي روايته بنهاية مفتوحة فيها الإثارة شديدة الوقع؛ مما يمنحها أثراً ناحتاً في نفس القارئ، بحيث تبقى في ذاكرته، بعد ما لاقاه جوامير في طريق عودته وهو يتوجّه الى مدينته الكوت بحلمٍ وأملٍ، إذ ترك الكاتب للقرّاء أنْ يعيشوا مع الحكاية، ويُشغلوا أخيلتهم ليضعوا النهاية التي يتوقعها كلٌّ بحسب تأويله. وفي هذه النهاية مهارة وحنكة وحرفية فنيّة من ساردها وكاتبها في هذا القالب المُحكَم العناصر، فنّاً  وكتابةً وأسلوباً ولغةً، ورصانةً أدبية في الأسلوب. إضافةً الى كلِّ ذلك فإنَّ مسحة التراجيديا واضحة عليها، فيما تعرّض له البطل، وغيره من الشخصيات، ومن الأحداث والوقائع التي مرّ بها العراق وشعبه عبر تاريخه الحافل بها. وكذا تظهر في الرواية مسحة من الكوميديا الساخرة، خاصة في فصل (مشهد إيروتيكي  في زقاق ضيق).

ولهذه المعطيات والمحدِّدات كلّها، وما تحتويه قصة (تسفير)، وما تمتاز به من خصائص فنية هي من عناصر واشتراطات ومحددات الرواية، فإنها  رواية قصيرة، رغم أنَّ كاتبها الأديب مؤيد عبد الستار أشار اليها بتسمية (القصة) فحسب.

***

عبد الستار نورعلي

تشرين الأول 2024

 

تفكيك الإطلاقيات ونسبية الحقيقة

في الذكرى الثامنة لرحيل المخرج منصف السويسي

1 ـ الخرافة: الاقتباس والتملك الادبي للاصل:

كيوتو، القرن 11م، تحت رواق معبد راشمون القديم، ثلاثة رجال يحتمون بالبوابة من المطر، كانت الحروب والمجاعات قد أبادت عددا كبيرا من الناس. في البداية يلتقي رجل دين شاب مع حطاب شيخ وقد هالهما ما سمعاه وهما يحضران المحاكمة ــ كانا مربكين إلى الحد الذي جعلهما يجبران أحد المارة على الاستماع إلى قصة هذه المحاكمة محاكمة قاطع طريق متهم باغتصاب سيدة شابة وقتل زوجها الساموراي (1). لقد وقعت الجريمة في أطراف الغابة المحاذية لرواق راشمون، القصة بسيطة.

من قتل الزوج الساموراي؟ قاطع الطريق تاجومارو أم الزوجة أم الحطاب الذي كان مارا من هناك ساعة وقوع الحادثة أم أن الزوج إنتحر؟ في المحكمة تتناقض إفادات الشهود وتختلف الروايات وتتضارب في كل مرة حول حقيقة ما حدث. فبينما كان الساموراي يتنزه صحبة عروسه في إحدى الغابات اليابانية يلحظهما قاطع الطريق "تاجومارو" الذي يقرر افتكاك المرأة من زوجها... بعد المعركة التي تنتهي بموت الساموراي وفوز قاطع الطريق بالمرأة يقبض عليه. نص المسرحية يعود في الأصل إلى الكاتب الياباني أكوتاقوا وقد تعاملالمنصف السويسي مع هذا النص لأول مرة عند إشرافه على إدارة فرقة الكاف ما بين سنة 1967 وسنة 1976 فأنتج مسرحية نسمة راشمون سنة 1968. وهي ثاني عمل له مع فقرة الكاف بعد مسرحية " الهاني بودربالة" المقتبسة عن نص من نصوص موليير وقد انتهج السويسي في هذه المسرحية خطا إبداعيا.

حاول فيه تعديل الأشكال الجمالية التي تأثر بها خلال تربصاته بفرنسا بما يتماشى والأرضية الاجتماعية لمدينة الكاف التي أسست فيها الفرقة(2). لكن السويسي في "راشمون" يغير البوصلة مائة وثمانين درجة فيشتغل على نص من أقاسي آاسيا، لكن كان يرغب في إحداث قطيعة مع المسرح الغربي مسرح شكسبير وموليير وبرشت.

لكن الملفت للنظر ان هذا النص سيظل حاضرا في مسرح السويسي على امتداد ما يزيد على الثلاثة عقود، فقد أعيد تقديم المسرحية في افتتاح مهرجان الحمامات الدولي سنة 1998 ثم بمناسبة الاحتفال بتونس عاصمة للثقافة العربية.

إن نص السويسي، حافظ على أحداث المسرحية الأصلية وعلى تطور خطها الدرامي، ولكنه أعاد كتابتها وصياغة حوارها من جديد بما يعطي للنص أبعادا جديدة فلسفية وفكرية وفنية قد تضاهي النص الأصلي وقد تفوقه وهذا هو جوهر الاقتباس. لقد أكدت التجربة أن هذه العملية التي تحافظ على المرجعية الثقافية للخرافة سرعان ما تتحول إلى إعادة كتابة لنص صيغ في لغة أخرى تتضمن تعديلات عديدة تجعلها تتناسب مع أذواق العصر... النص الجديد يتحول إلى عملية تملك ثقافي لنص حامل لمرجعية ثقافية سابقة(3). في الغلب، يتكتم أصحاب النصوص التي تمت مسرحتها ونقلها إلى الخشبة عن النصوص الأصلية وهو ما لم يفعله السويسي، الذي حافظ في مسرحية "نسمة راشمون" على سينوغرافيا وعلى إشارات ركحية كالأزياء والموسيقى أشرت على الجذور الأصلية للنص المسرحي.

أن يعود المخرج للتعامل مع نص مسرحي، كان قد عالجه لإعادة تقديمه من جديد في فترات زمنية متباعدة نسبيا فذلك يعني أن النص مازال قادرا على أن يعطي معنى جديدا كلما استنطقه القارئ/المخرج. إن السويسي قد وجد نفسه أمام تساؤلات عديدة واختيارات عدة، ظفحت على خط التواصل بين المبدع والمتقبل، ستسمح بإعادة صياغة المسرحية بوسائل وآليات ونظرة جديدة يمليها أساسا تجدد الحياة واستمرارها.

11 ــ البناء الفني للمسرحية:

انبنت المسرحية على بني توليدية، بحيث أن اللوحات المعروضة للمشاهد وعددها ربعة متولدة عن الحوار الثلاثي الأطراف الذي يدور بين الكاهن والحطاب وصانع الشعر المستعار، هؤلاء الثلاثة تجمعوا عند بوابة المدينة بسبب سوء الحوال الجوية وتهاطل المطار، لقد احتلت البوابة ركنا صغيرا من الفضاء الركحي، في حين تم توظيف بقية الفضاء مداولة بين المحكمة حيث يدلي كل من تاجومارو والمرأة وشبح الساموراي بشهادتهم وبين الغاب الإطار المكاني لحدثي الإغتصاب وقتل الساموراي. كانت الأحداث المسرحية تنتقل من البوابة إلى المحكمة ومن المحكمة إلى الغبة. هكذا كان البناء الدرامي للمسرحية توليديا فكل مكان يفضي بالمشاهدإلى مكان ثان والمكان الثاني يفضي به إلى مكان ثالث ليعود به من جديد إلى مكان الانطلاق. انه بناء توليدي دائري، باستثناء المشهد الرابع حيث ننتقل من البوابة إلى الغابة ويصبح الرابط بين المكانين سارد الأحداث الحطاب الشاهد الوحيد على ما وقع.

يوم المحاكمة، يتراجع القاتل تاجومارو في أقواله، وينفي عن نفسه تهمة القتل، ولكن المرأة تؤكد أنها هي التي قتلت زوجها، بينما شاهد العيان/الحطاب يصرح أمام المحكمة أنه حضر مبارزة بين رجلين ولكنه لم يتبين كيف جرت الأحداث.

إزاء هذا المأزق تستدعي المحكمة "روح الساموراي" لتستمتع إلى إفادته. ورغم ذلك تعجز المحكمة عن إصدار حكم مما حدا بالمخرج إلى قحام الجمهور في لعبة البحث عن الحقيقة ليجعل منه هيئة محلفين قادرة على البت في المسألة(4).

أما تقنيات العمل المسرحي الموظفة في مسرحية "نسمة راشمون" فقد تنوعت بحيث تضافرت مع الملفوظ القولي لتنسج الرؤية الفنية المراد إبلاغها. لقد جرى العرف أن تصاحب الموسيقى بعض المشاهد المسرحية وتسمى بالموسيقى التصويرية وتعتمد غالبا على الآلات الموسيقية لا على الأصوات البشرية، وقد كانت الموسيقى في "نسمة راشمون" إما ممهدة للحدث/المشهد المسرحي أو تعقبه ومن وظائفها تأصيل العمل المسرحي في بيته، والتأثير في نفسية المشاهد باستنفار رغب التقبل لديه، لقد جعل السويسي من الموسيقى في عمله مقوما من مقومات تماسك العمل المسرحي، أما الأزياء وهي أزياء تاريخية فقد فرضت على الممثلين ضرورة التقيد بأنواع من السلوك وطرائق في التحدث تتطابق مع العصور التاريخية التي تحيل عليها تلك ضمن معادلة تقوم على الترابط بين مظهر الممثل ودوره، لأن أي إخلال بالمعادلة من شأنه أن يدمر مصداقية العرض ويشوه جماليته الفنية.

لفكرة الضوء صورها الشعرية في المسرحية، وهي تمثل في حد ذاتها وفي تجلياتها المتنوعة أحد المصادر الرئيسية الهامة للصور والاستعارات المسرحية. فالضوء أشبه ما يكون بمنطقة تماس واتصال والتقاء بين الذهن البشري وبين عالم المحسوسات. "في نسمة راشمون" كانت الإضاءة تتراوح بين الانحسار في المحكمة حيث يقع التركيز على سارد الأحداث وبين الاتساع حيث فضاء الأحداث متسع حين تحتضنه الغابة، فالإضاءة موظفة في شد انتباه المشاهد واستفزاز ملكاته الذهنية لمتابعة مسار الأحداث وحركات الممثلين وأقوالهم. إن تقنيات العمل المسرحي المعتمدة في هذا العمل تضعنا أمام حضارتين مختلفتين، لكنهما منفتحتين بحكم التاريخ والجغرافيا وما تقتضيه العولمة اليوم من انفتاح على الآخر المختلف.

لكن تظلّ لغة الحوار قادرة على !خراج النص - نص المسرحية - من خصوصيته ليعانق افاقا حضاريّة جديدة . فاللغة العربيّة الفصحى المطعمّة بألفاظ قريبة من العاميّة والتي أجاد الممثّلون استخدامها، أصبحت القناة الأولى التي تربط المبدع ـ المخرج بالمتقبّل ـ المشاهد وهذه القناة هي التي ستمكّن المنصف السويسي من أن يطرح من خلالها المسائل التي تشغله والتي تتحكّم برؤيته الفنيّة للنصّ المسرحي.

إنّ البوّابة ـ الرواق حيث التقى الكاهن والحطاب وصانع الشعر المستعار هي الفاصل والفاصل بين داخل المدينة وخارجها، فمنها ندخل المدينة حيث المحكمة ومنها نخرج حيث الغابة . وشخصيّة الكاهن تجسّد بدقّة هذا الفصل والوصل في ما تشيعه البوابة من معاني حافة des connotations فهي مزيج من عالم الناسوت حيث الأجساد تتصارع وتتقاتل وعالم الملكوت حيث الأرواح تبحث عن الطّهر والبراءة .فالناسوت تجسّده المدينة بكلّ الشّرور التي تحملها والملكوت تجسّده الغابة التي ترمز إلى براءة الإنسان قبل أن تفسده المدينة والاجتماع البشري .أما المحكمة فلا نعثر فيها إلاّ على شخصيات:تاجومارو، المرأة، أمّها وشبح السّاموراي جميعهم محاطون بحرس موزّعين في جوانب القاعة.تغيب هيئة المحكمة بقضاتها ومساعديها وتجد الشخصيات نفسها في مواجهة مباشرة مع الجمهور المشاهد وتحاول كلّ منها إقناعه بصحّة روايتها للأحداث .هكذا يقحم السويسي الجمهور في الفعل المسرحي ويحوّله من مُتقبِل سلبيّ للعمل إلى فاعل إيجابيّ، فيتقمّص دور القاضي الذي يعمل جاهدا على غربلة الروايات المتضاربة وتمحيصها حتّى يميز الحقّ من الباطل.

111ـ في دلالات المسرحية وأبعادها:

في شهادته ضمن الندوة الثانية من ندوات معرض تپنس الدولي للكتاب في دورته 27 ما بين 24 أفريل و3 ماي 2009 والتي كان محورها "الفن المسرحي بين النص والركح" قال المنصف السويسي متحدثا عن تجربته في كتابة وإخراج "راشمون": هناك عمق أفقي وعمودي وأخرجتها بثلاث رؤى مختلفة، في سنة 1968بالكاف كانت القراءة تميل إلى التطاحن الطبقي، وعندما افتتحت بها مهرجان الحمامات الدولي سنة 1998، كانت خلفية الكتابة المسرحية فلسفية تحاول إبراز نسبية الحقيقة، أما بمناسبة الاحتفال بتونس كعاصمة للثقافة العربية اهتممت بإبراز تفاصيل العلاقات النفسية"(5).

هذه الشهادة تفسر الأسباب التي شرعت للسويسي العودة مجددا إلى نص مسرحي والاشتغال عليه في فترات زمانية متباعدة، وكان في كل مرة محكوما برؤية مخصوصة. إن نواة الخرافة محملة بدلالات غنية، سمحت للمخرج بأن يحولها من الوجود بالقوة إلى الوجود بالفعل ضمن سياقات اجتماعية وفكرية وحضارية لعبت دورا مهما في صياغة رؤى السويسي الفنية.

من القضايا التي ارتأى ضرورة طرحها، تلك التي أحس أنها تقع على خط التواصل بينه وبين المتلقي من ذلك مسألة الصراع الخفي أحيانا والظاهر أحيانا أخرى بين طبقة الفقراء المعدمين وطبقة الأغنياء النبلاء مجسدة كليهما في شخصيتي الحطاب والساموراي.

هذا الصراع طرح مسألة الهامشيين الذين "تنتجهم" بنية اجتماعية ذات ملامح مخصوصة قائمة على الاستغلال والرغبة في الثراء الفاحش والسريع. وسيلتها في ذلك امتصاص جهد الآخرين بغير وجه حق امتصاصا يبلغ حد الاستعباد.

فهؤلاء الذين يقتلون ليعيشوا، وأولئك الذين يرتزقون من جثث الموتى، لفظتهم نواميس المجتمع فصنعوا لأنفسهم قناعات ومبادئ يحيون من أجلها وأحلاما يعملون على تجسيدها بكل الوسائل المتاحةو إن إقتضى الأمر خرق الأعراف الاجتماعية والقيم الأخلاقية.

فالكاهن البوذي صار عاجزا على مواجهة الشر الذي استفحل، وكان على وشك مغادرة المدينة، متخليا على دوره في استثمار رأسماله الرمزي في التصدي للفساد ونشر قيم الخير والعدل والفضيلة.

لقد صوّرت المسرحيّة اِستحالة التعايش بين كائنين من طبقتين مختلفتين وهذا ما كشفه الحوار الذي دار بين الساموراي وزوجته، اِبنة الخادمة .هذه الاِستحالة سببها اِضمحلال القيم التي اِنبنت عليها طبقة النبلاء التي يمثّلها السّاموراي قيم الشجاعة والشهامة والدفاع عن الشرف .فإذا بالساموراي ذي التاريخ العريق جبان، عاجز عن الدّفاع عن زوجته متعلّلا بأعذار واهية.كما صوّره المخرج فريسة سهلة لقاطع الطريق.لو حاولنا اِستقراء الظروف الاجتماعية والتاريخيّة التي حفّت باُشتغال السويسي على نصّ راشمون ً سنة 1968 لأدركنا أنّ حركة الاقتباس آنذاك كانت قائمة على معادلة قوامها الربط بين الرِبرتوار le répertoire العالمي وبين مقتضيات الفعل المسرحي في علاقته بالمحيط الاجتماعي المحلّي. فسنة 1968 شهدت بداية احتضار تجربة التعاضد.و استقبلت تونس السبعينات وهي في حالة إنهاك جرّاء ذاك الاختيار الاقتصادي الخاطئ .فقد تسبّبت خيبة التعاضد في تشقّق جدار الإجماع حول مجموعة من المفاهيم مثل التضحية والجهاد الأكبر والوحدة الوطنيّة والبناء والتي مثّلت شروطا ضروريّة لتحقيق التقدّم وتكريس التسيير الذاتي والاستقلال الفعلي للبلاد. (6) لقد أدرك السويسي أنّ في ً راشمون ً ما يشي بإرهاصات تحوّل في الأوضاع الاجتماعيّة والسياسيّة.إنّ تفكّك طبقة النبلاء ذات العمق التاريخي ودورها في تأبيد نمط معيّن من الحكم بفضل ما تتوفر عليه من قوّة ماديّة يوازيه في قراءة سوسيولوجية مقارنة بالواقع التونسي اِنهيار التصوّرات الكبرى وتحلّلها فقد عصفت بها تحوّلات اجتماعيّة واقتصادية أجبرت السياسي على أن يأخذها بعين الاعتبار في بناء رؤيته المستقبليّة لتونس الغد. لقد ارتقت تجربة التعاضد وما آلت إليه من نتائج كارثية إلى مرتبة الجريمة المرتكبة بحقّ أبرياء وهي تشبه ما ارتكبه تاجومارو في راشمون . يظلّ البحث عن الفاعل أي عن حقيقة ما جرى وعمّن تقع مسؤوليّة ما حدث مصدر خلاف وتعدّد في وُجُهات النظر ويبقى في نظر السويسي أن الجمهور أي الشّعب هو الوحيد القادر على تحديد المسؤول ومحاسبته لذلك يقول المخرج:‹‹ لقد جعلت من الجمهور الحكم الوحيد...››.ربّما يصبح الاقتباس عن نصّ ياباني قناعا التجأ إليه السويسي لمخاتلة الرقيب حتّى يتسنّى له نقد الواقع التونسي في تلك الفترة ففكرة القناع قد تجد مُسوغاتها إذا علمنا أنّ نصّ مسرحية نسمة راشمون لم تقع تونسته على غرار مسرحيات أُخرى لعلي بن عيّاد مثلا وغيره ممّن تعاملوا مع نصوص أجنبيّة . grasset 1972

لقد حافظت راشمون على أصولها اليابانيّة .إنّ الفكرة التي تبدو هامة في نظري والتي طرحتها المسرحية هي تنسيب الحقيقة واِختلافها من شخص إلى آخر وو من ظرف إلى آخر، حسب زاوية النظر التي تقدم من خلالها الحقيقة. هذه الفكرة من شأنها أن تُخلّص المسرحيّة من شُحنتها الإديولوجية التي طُبِعت بها جرّاء الظرف الذي آقتبست فيه، لتطرح مسائل معاصرة كالنسبيّة وحق الاختلاف وتعدّد الآراء وتفكّك الإطلاقيات. وتكمن خطورة الفكر الإطلاقي في كونه يُمثِّل قطب الرحى ضمن المثلّث الانتروبولوجي: المقدس، العنف والحقيقة وهو بفضل ما يختزنه من نزعة إطلاقيّة قادر على التحوّل إلى حقيقة لا تعترف بغيرها وتعتبر نفسها هي الوحيدة الممثّلة للحقّ وينبغي بالتالي اتّباعها فتكتسب شيئا فشيئا صفة القداسة، وتحاط بسياج دوغمائي يمنع طرح الأسئلة حولها، فيتعزّز مجال اللامفكّر فيه وتستحيل مقدّسا محضا لا يتوانى عن ممارسة العنف لإثبات نفسه وفرضها ولإقصاءالآخرين المخالفين(7). وتجدر الإشارة إلى أنّ الأديان ليست هي وحدها المسؤولة عن العنف المرتبط بالفكر الإطلاقي والتعصُّب فقد نعثر داخل الفكر العقلاني اللائكي والسياسي على عنف زخرت به مختلف الإديولوجيات الحديثة كالنازيّة والفاشية والاِشتراكية وحتى الليبرالية في جلّ وجوهها.إنّ عودة المنصف السويسي إلى نصّ سبق أن تعامل معه، كما فعل الفاضل الجزيري مع مسرحية التحقيق وكما فعل عبدالعزيز المحرزي مع الماريشال، من شأنه أن يدفعنا إلى التساؤل عن الأسباب الكامنة وراء ذلك. فهل يعني ذلك اِنسداد آفاق التجريب أم أنّ المسألة لا تعدو كونها أزمة نصوص؟

***

رمضان بن رمضان

...........................

المصادر والمراجع:

1ـ ساموراي: أعضاء في الطبقة الأرستقراطية يسمّون ـ المحاربون ـ زمن اليابان الإقطاعية كانوا تابعين لطبقة الدايميو Daimyo عند الخروج إلى القتال والدايميو اسم يطلق على كبار أشراف اليابان وكانوا يملكون ضياعا شاسعة معفاة من الضرائب، فقد بدؤوا في اِمتلاك هذه الأراضي منذ القرن الثامن ميلاديا وكانوا في القرن 13 يتمتّعون بنفوذ أقوى من حكومة الإمبراطور. لقد مُنح الساموراي حق حمل سيفين وكان لهم الحق في قتل كلّ من يُسيء إليهم من الشعب . أُلغيت طبقة الساموراي بعد إعادة السلطة لميجي ـ والميجي هو الاسم الذي اتخذه الإمبراطور موتسوهيتو حينما اعتلى العرش سنة1867فقد حدث في أوائل حكمه انقلاب أطاح بحكم الجوشن وبدأت اليابان تدخل عصرا جديدا سنة1868 فأُلغي الإقطاع وأُمّمت الأراضي وسارت الييابان بخطى حثيثة نحو التصنيع واقتباس الحضارة الغربية وهذا لم يمنع الساموراي من أن يكونوا من بُناة اليابان الحديثة.

2ـ فوزية المزّي، ثلاثون سنة من المسرح التونسي (مقاربة اجتماعية) ً، مجلة الحياة الثقافية، عدد64 ـ 65,سنة 1992 ص 167.

3ـ حافظ الجديدي، في معالجة النصّ الدرامي التونسي، مجلة الحياة الثقافية، عدد خاص الفن المسرحي مقاربات وقراءات، عدد188ـ تونس، ديسمبر 2007، ص43.

voir hechmi ghachem، figures du théatre tunisien، (tunis، S D

ailleurs j avais fait du public le seul jury p.151souissidit ً le tribunal ne put trancherd

5ـ اُنظر جريدة الصحافة، بتاريخ 1ماي 2009 ص 8.

6ـ فوزيّة المزي، ثلاثون سنة من المسرح التونسي...ص169 وص 170.

7ـ حول هذه النقطة اُنظر René Girard le sacré et la violence Paris

ضوء القصيدة

وأعبر إلى ضفة الحلم،

أسابق ظلي بإيقاع النبض،

لعلّي أستحصل قبضة من نور.

أتصدى بصمت

للحظة العالقة على شفا الانقراض،

وأثر الخطى ينقش ذاكرة الخطوة.

لا أبالي بليلٍ بهيم،

ولا بوحشة الأصوات المنهكة

عند جدار الصورة الباكية

التي تقذف روحها نحوي.

ولأن الانتظار كأصيص،

يمتدّ مداه مع نمو الاتساع،

كالنافذة المشرعة

يتسلل منها الحنين

ومطلعها اللقاء.

سلام السيد

***

مقدمة:

تعتبر قصيدة "ضوء القصيدة" رحلة شاعرية عميقة في أعماق الذات والوجدان. الشاعر يستخدم لغة رمزية قوية وكلمات ذات دلالات متعددة لبناء لوحة فنية تعكس صراعه الداخلي وسعيه الدؤوب نحو المعنى والضوء.

تحليل الدفقات الشعرية:

"ضوء القصيدة وأعبر إلى ضفة الحلم": يشير الشاعر هنا إلى أن القصيدة هي وسيلته للعبور إلى عالم الخيال والأحلام، وهي بمثابة الجسر الذي يربطه بواقع آخر أكثر إشراقاً.

"أسابق ظلي بإيقاع النبض": هذا البيت يعبر عن الصراع الداخلي الذي يعيشه الشاعر، فهو يسعى جاهداً لمواجهة نفسه وتجاوز ظلالها المظلمة. إيقاع النبض يرمز إلى الحياة النابضة بالحركة والنشاط.

"لعلّي أستحصل قبضة من نور": يعكس هذا البيت رغبة الشاعر الملحة في الوصول إلى الحقيقة والمعرفة، فهو يبحث عن نور يضيء طريقه ويخرج به من الظلمات.

"أتصدى بصمت للحظة العالقة على شفا الانقراض": يشير الشاعر هنا إلى لحظة حاسمة في حياته، وهي لحظة تواجه خطر الزوال. الصمت الذي يتصدى به يعكس عمق تأمله وتركيزه.

"وأثر الخطى ينقش ذاكرة الخطوة": يرمز هذا البيت إلى أن كل خطوة نتخذها تترك أثراً في حياتنا، وأن هذه الآثار تتراكم لتشكل ذاكرتنا.

"لا أبالي بليلٍ بهيم ولا بوحشة الأصوات المنهكة": يعبر الشاعر عن تحديه للظلام واليأس، فهو مستعد لمواجهة كل الصعاب من أجل الوصول إلى هدفه.

"عند جدار الصورة الباكية التي تقذف روحها نحوي": الصورة الباكية هنا رمز للماضي أو لحالة نفسية معينة، وهي تطلق روحها نحو الشاعر بحثاً عن التحرر.

"ولأن الانتظار كأصيص يمتدّ مداه مع نمو الاتساع": يشبه الشاعر الانتظار بالأصيص الذي ينمو ويتسع بمرور الوقت، وهذا يعني أن الانتظار قد يكون طويلاً ومؤلماً ولكنه ضروري للنمو والتطور.

"كالنافذة المشرعة يتسلل منها الحنين ومطلعها اللقاء": تعتبر النافذة رمزاً للأمل والتطلع إلى المستقبل، والحنين الذي يتسلل منها هو شوق الشاعر إلى اللقاء بشيء ما أو بشخص ما.

الموضوع والمحتوى:

تتناول القصيدة موضوع البحث عن الأمل والضوء في مواجهة الظلام والانقراض. يصور الشاعر رحلة روحية نحو "ضفة الحلم" حيث يسعى للحصول على "قبضة من نور". هناك صراع بين الصمت واللحظة العالقة على حافة الاندثار، وبين وحشة الأصوات والظلام. يصور الشاعر حالة من الانتظار والتأمل العميق.

اللغة والأسلوب:

تتميز لغة القصيدة بالرمزية والصور الشعرية الغنية. يستخدم الشاعر مفردات ذات دلالات عميقة، مثل "الحلم"، "النبض"، "النور"، "الانقراض"، "الوحشة"، "الصورة الباكية"، "الحنين"، وغيرها. الأسلوب شعري وموسيقى، مع استخدام تقنيات مثل التكرار ("وأعبر"، "وأتصدى"، "ولا أبالي")، والمجاز ("قبضة من نور"، "شفة الانقراض")، والتشبيه ("كالنافذة المشرعة").

الصور الشعرية:

تتضمن القصيدة صورًا شعرية جميلة ومؤثرة. فكرة "التصدي بصمت" للحظة العالقة على شفا الانقراض تخلق صورة قوية. كذلك، وصف "أثر الخطى" الذي ينقش ذاكرة الخطوة يضيف بعدًا بصريًا وعاطفيًا. الصورة الباكية التي تقذف روحها نحو الشاعر تعكس حالة من الحزن والانكسار. كما أن تشبيه الانتظار بأصيص النباتات يضفي حسًا من الأمل والانتظار.

الرمزية:

تحمل القصيدة العديد من الرموز التي تعكس معاني عميقة. "النور" يرمز للأمل والخلاص، بينما "الظلام" يمثل الظروف القاسية والانقراض. "الحلم" هو هدف الشاعر المنشود، و"النبض" يمثل الحياة والحركة. "الخطى" و"الذاكرة" ترمزان إلى أثر الماضي وتأثيره على الحاضر. "النافذة المشرعة" ترمز إلى الانفتاح على الأمل واللقاء.

الإيقاع والصوتيات:

الإيقاع في القصيدة متنوع، حيث يبدأ الشاعر بأسلوب سريع ومتحمس ("أسابق ظلي")، ثم ينتقل إلى إيقاع أكثر هدوءًا وتأملًا ("أتصدى بصمت"). استخدام كلمات مثل "الانقراض"، "الوحشة"، "الباكية" يخلق نبرة حزينة ومؤثرة.

البناء الشعري:

القصيدة مكتوبة بأسلوب حر، مع استخدام القوافي الداخلية في بعض الأبيات ("الانقراض/ الخطوة"، "الباكية/نحوي"). البناء الشعري يتناسب مع موضوع القصيدة، حيث يعكس حالة من التدفق والبحث عن الأمل.

الرسالة:

رسالة القصيدة هي البحث عن الأمل في مواجهة الظروف القاسية. الشاعر يتصدى للانقراض والظلام بصمت وتأمل، ويحاول الوصول إلى ضفة الحلم والنور. هناك إحساس بالتحدي والصمود في وجه الصعاب.

الانطباع العام:

تترك القصيدة انطباعًا عميقًا لدى القارئ، حيث تثير مشاعر التأمل والتفكير. الأسلوب الشعري الراقي والصور الشعرية المؤثرة تجعل القصيدة تجربة قرائية مميزة. الشاعر نجح في إيصال رسالته من خلال اللغة الرمزية والصور الشعرية الجميلة.

الخلاصة:

تعتبر قصيدة "ضوء القصيدة" رحلة داخلية عميقة للشاعر، حيث يواجه صراعاته وأحلامه وآلامه. اللغة الشعرية الرقيقة والرمزية القوية تجعل القارئ يشعر بعمق المعاني التي يحاول الشاعر إيصالها. القصيدة تدعونا إلى التعمق في أنفسنا والبحث عن الضوء والمعنى في ظلمات الحياة.

***

تحياتي عبد الناصر عليوي العبيدي

بقلمه الرشيق البسيط الذى يشد قارئه فى سهولة ويسر، أصدرت دار ميريت للنشر والتوزيع بالقاهرة، أحدث أعمال الكاتب الروائى والقاص المصري خالد اسماعيل (مقتل بخيتة القصاصة) .. وهو يكشف للقارئ حقيقة العالم الذى سيقبل عليه منذ البداية.. غلاف العمل يوحى لك به، والعنوان يخبرك أنك ستقرأ عن الريف.. لكنه ليس الريف الصريح البسيط المعروف للكافة، وإنما الجانب الآخر الغامض منه..

خالد اسماعيل له عدد من الإصدارات الأدبية السابقة أغلبها روائى وأقلها قصصى. لهذا لم تغب الرواية حتى فى هذا العمل الأخير الذى ضمّنه ما دعاه رواية قصيرة. وبحكم نشأته ومولده فى مدينة بأقاصى الصعيد تنتمى لمحافظة سوهاج، فإنك حين تقرأ ما كتبه من قصص تستشعر أنه إنما يستوحى من واقع عايشه ورآه، خاصةً عندما تجده فى كل قصصه يحرص على الاهتمام بسائر التفاصيل الصغيرة للأحداث والأشخاص، هو لا يهتم كثيراً بالعنصر الوصفى ولا التحليلى قدر اهتمامه بسرد الأحداث مجردة حتى من الرأى الذاتى. لا تظهر شخصيته كروائى فى الأحداث ولا تستطيع أن تستشفها من ثنايا السطور إلا بصعوبة؛ ذلك أنه يتخذ مساراً قصصياً ذا نكهة صحفية تعتمد فى قوامها على المعلومة وتكثيفها فى إطار واقعى يلتبس على القارئ فلا يستطيع التفريق بين الخيالى والحقيقي..

اللغة تبدو مكثفة ودقيقة فى اختيار الألفاظ، بل حتى حرصها على تشكيل الحروف لتتواءم مع النطق الصحيح لها رغم أن الحوارات تجري بالعامية، لكنها عامية صعيدية ذات طبيعة خاصة، وهى مفهومة بسيطة لا تستخدم العبارات والألفاظ الصعيدية الصعبة. اختار للعمل الأدبي مسمى (قصص) لا (مجموعة قصصية) وهو اختيار ينم عن فهمه ودقة اختياراته؛ لأن عمله امتاز بنوع من التباين واللاسمترية فالموضوعات والأماكن والأزمنة للقصص متباينة غير موحدة رغم أن جلها يدور فى سوهاج. لكنك تجد بين القصص رواية قصيرة تجمع زمنياً بين أحداث قديمة عمرها نصف قرن وأحداث قريبة منذ أحداث يناير وسقوط نظام مبارك. بينما عدد القصص قليل وهى مختلفة حجماً وزمناً، وقد تتعجب عندما تجد بعضها يستخدم القرش والتعريفة كعملات متداولة فى زمن القصة، ما يجعلك تتساءل عن عمر الكاتب أو إن كان يحكى عن قصص سمعها من أسلافه..

تستطيع بسهولة تقسيم العمل إلى ثلاثة أجزاء افتراضية.. جزء أول قصير من أربع قصص بينها قصة لها عنوان العمل، وجزء أوسط طويل يبدأ بالرواية القصيرة، وخاتمة من قصة واحدة. كل جزء من الثلاثة يتناول موضوعاً جامعاً .. البداية تدخلك سريعاً وبعبارات مندفعة عالم الصعيد بكل ما فيه من شظف العيش ووعورة الحال، كل قصة ذات شخصيات كثيرة لها أسماء محددة كاملة وربما خلفية عن ظروفها بحيث تستطيع أن تستوعب توالى الأحداث وعلاقة الأشخاص بعضها ببعض. وفى كل هذه القصص الراوى لا يبغى من وراء سردها رسالة ولا يوجهك نحو رأى أو قناعة يتبناها بل يتركك وما تراه أو تعتقده حرا من أى توجيه أو نصيحة أو رأى معلب. ورغم أن القصص تتناول شخصيات من أقاصى الصعيد إلا أن راويها ينتقل بين الحضر والريف ويلامس الأحداث من بعيد.

الجزء الأوسط أشد ثراء وسرياناً من الشطر الأول، وهو أكبر حجماً من سابقه. ورغم أنه يبدأ زمنياً منذ أحداث 25 يناير وما تلاها من تنحى مبارك، إلا أنه يرتد زمنياً ليحكى لنا عما يكشفه الزمن من حقيقة تيار ساد بين أوساط المثقفين زمناً طويلاً وهو التيار الشيوعى اليساري. وبرغم أنك تتخذ موقفاً ضد هذا التيار من خلال القصص، لكن هذا الموقف يتسلل إليك بتلقائية لا اقتحام ولا افتعال فيه بل تكتسبه من وقائع القصص وأحداثها وتفاصيلها التى تشعرك بأنها مستمدة من وقائع ربما حدثت كلها أو بعضها.

القصة الختامية ذات نكهة اجتماعية مختلفة عما سبقها من قصص.. تتناول ذكرى حب قديم لم يبق منها إلا ذكري يستعيدها بطل القصة فى أتوبيس خالى يجمعه بتلك الذكريات الشبحية. ولعل هذا هو الرابط الوحيد بين تلك القصص.. أنها تمثل ألبومات قديمة لصور وأحداث وشخصيات اختلطت فى ذهن الراوى كأنها أضغاث أحلام تراود ذهناً عاصر أزمنة وأحداثاً شتى..

عمل أدبي خصب لأديب وصحفى مخضرم له وزنه فى عالمى الصحافة والأدب، الروائى يقدم للقارئ وجبة قصصية شيقة فى عوالم لم يرها مكانا ولم يعاصرها زمانا لكنه يراها بعيون الأديب.

***

د. عبد السلام فاروق

قراءة في قصيدة للشاعرة المغربية تورية لغريب

- توطئة: تطمح هذه القراءة إلى تحليل المتن الشعري في أفق الكشف عن طبيعة الذات عندما يوغلُ الجرح في النكاية بها تباعاً وبلا هوادة. ويتعلق الأمر بقصيدة (دوّاسة الألم) للشاعرة (تورية لغريب).

والغاية من هذه القراءة تتجاوز الممارسة النقدية الموضوعية الوافدة من الدرس الأكاديمي، إلى معانقة حزن الذاتِ في تجربة الفقد، والتضامن معها في مُصابِها، وكأن هذه القراءة عزاءٌ وتعزيةٌ من القارئ إلى المقروء لَها، ولو أنهما لا يرقيان إلى مستوى الحضور الفعلي والمواساة الواقعية.

- مقاربة:

استطاعت الشاعرة (تورية لغريب) في قصيدة (دواسة الألم) أن تقدّم واقعها الخاص والحميميّ والطافِح بالحزن من خلال عوالمَ تخييليةٍ لا تدغدغ اللغةَ بقدرِ ما تنسج مجموعة من العلاقات تتفاعل فيها بنياتٌ شعرية ترصد الحدث الشعري (الفقد المتعدّد)، وتنمّيهِ في مسار تصويريٍّ يغذّيه مخيالٌ مُجنِّحٌ وذكيٌّ وصادق.

1 - مقولة التِّيه:

تأسست كينونة القصيدة وانْبنتْ جمالياً على عنصرالمفارقة بين النظام والفوضى، وهو العنصرالذي يمكن أن نرصده بدءاً في قول الشاعر في مطلع القصيدة:

(أنا المرآة التي كلما جمعت شظاياها

عكست وجوهاً

لمْ تكتمِلْ...)

المرآةُ دالة على النظام في توجّهيْنِ: الأوّل يرتبط بطبيعة المرآة ووظيفتها في الانعكاس ونقل الصورة الموضوعية. والثاني يسكن في تمثّل القارئ للمرآة بحيثُ تصبِح نمطيةً دالّةً على نظامٍ واحدٍ لا يتغير ولو تعدد القراءُ.

والفوضى تمثّلها مفردة الشظايا الماكرة بالنمطية والبداهة. والعلاقة الآن بين المرآة والشظايا تجد مصداقِيتها في فوضى التمثّل الشعري الجديد من لدن الشاعرة لمفهوم الانعكاس، حيث لا يبدو الوجه المقابل للمرآة بقدر ما تتبدى وجوهٌ أخرى... وزيادةً في النكاية بالنّظام، جعلتِ الشاعرة هذه الوجوه ناقصةً في الوجود مصرِّحةً أنّها (لم تكتمل).

يؤطرُ هذا التشظي إحساسٌ غريبٌ بالتيه والضياع. عبّرتْ عنه الشاعرة في غير موقع واحد. تدرّجتْ في صوغِ هذا الإحساس بقوة شعرية تبدو فيها مالكة لناصيةِ فن القريض في مفهومه الواسع. وفي هذا الامتلاكِ انتقلتْ من ترجمة مقولة التيه من الصورة النمطية الفاقدة لجواز السفر( تلقفتني دون جواز للسفر) إلى الصورة المشحونة بالفرادة (حيث لا أحد يشاركني الرقص) إلى الصورة المثقلة بالوحدة (وحجرات قلبي... موحشة) إلى الصورة الطافحة بالغياب (فأستدرك أنّ لي جناحا... بترَه الغياب) إلى صورة الذات المقهورة بفعل الزمن ( عقاربُ الزّمن تَعضّني)...

هكذا يتبدى التيهُ مقولةً مترعة بالتشظي، تفضحُهُ صورٌ شعريةٌ مؤطرةٌ ببلاغة الفوضى التي تحكم صيرورةَ القصيدِ في تجلّيهِ المتمايز والمتقاطع. والمتمايز جاء اعتباراً للذات الشاعرة وهي تحكي عن خصوصية، وفيها حرصت على تحقيق شرط التعبير والإفصاح والبوح أكثر من حرصها على الإمتاع الجمالي والفني... وأما المتقاطع، فقد ورد على اعتبار أنّ موضوعة الرثاء تيمة معروفة في مضانِّ كثيرٍ من المحطّات الشعرية المعاصرة.

2 - ضدّ المرآتية:

يبتعد النص الشعري عند الشاعرة (تورية لغريب) ما أمكنه الابتعاد عن اعتبار الشعر تصويراً تسجيلياً لما في الواقع. والصوغ الشعريُّ عندها يرفض أن يكون القصيدُ انعكاساً حرفياً للوضع الوجودي الذي تعيشه الشاعرة، على الأقل من منظورها الحداثي المرحّب دائما بالاختلاف واجتراح الجمال في تمرّده وفي توتّره الرادم للمسافة.

لا تعكس القصيدة ظروف الشاعرة في حالات الفقد والموت المكتفية بالرغبة في الإخبار والتشخيص لوضعٍ مفردٍ يعاني من جرّاء الغياب، بقدر ما هي وعاءٌ للإبداع والتجديد، تقدم فيه الشاعرة عالمًا شخصيًا خاصًا، يربأ بنفسه أن يعومَ في سياحاتِ الإمتاع والمؤانسة، أو التشكّي والبكاء، أو ما جاور ذلك من أغراض لا تمتّ إلى صدق القول بصلة... إنه عالم تخييلي يحاول أن يغوصَ في تركيبة الذاتِ لمعانقة تجليّاتِها الممكنة وهي ترزأُ تحت تجربة الفقد.

وبالتالي فالقصيدة بعيدةٌ كل البعد عن المرآتية التي تكتفي بالتسجيل الباهت لتحوّلات الذات عبر تجربة الموت. هي إذن متاهةُ فنية موغلة في أدغال الذاتِ، حيثُ الروح والجسد يتشظيان معاً في حصار اللغة والخيال، حصاراً حريرياً يحوّل التجربة من مفهوم المقبرة إلى مفاهيم الحياة، عبر السؤال الوجودي الذي وإن عانق إشكالية القلق إلا أنه حافظ على إشراقةٍ واضحةٍ فتحتْ فيها الشاعرةُ إمكان الاستمرار بدل النكوص، والصيرورة بدل الانتكاس المجاني.

قالت الشاعرة:

(قل لي أيها الحظ المقيم في سوادِه كيف أرمّم الكسور

وقلبي مهاجرٌ في الشقوق...؟)

إن قرار الترميم لا يعكس ضعفاً في القرار بقدر ما يعكس قوةً في القومةِ من وضعية السكون. فالذاتُ وإن أصيبتْ في فقد ثلاث أيقونات مركزية في حياتها إلا أنها لم تُلْقِ بنفسها في شُؤمِ البكائية وفي بكائية الشؤم. بل اختارت مقولة الترميم لما تركه الموت لها من إمكان الحياة. (كيف أرمّم الكسور)... إن منطق الأشياء هنا يقول بالانهزامية أمام فقد ثلاث علامات، وهو منطق المستسلمين والخنوعين الذين يكتفون بالفرجة على ما تبقى في حياتهم من (كسور). في حين أن الذات المتكلمة هنا اختارت فكرة التجاوز لوضعٍ منكسر عبر ترميمه لا عبر البكاء على طلله.

3 - حداثية القصيد:

تنبع حداثة النص الشعري عند الشاعرة (تورية لغريب) من رؤيتها للوجود، قبل أن تنبع من زمنها المؤطّر داخل عمليات التحقيب. فهي تتجاوزالرؤية المقيدة على حدّ تعبير الناقد (شكري عياد). ولو أن القصيدة تعوم في زمنية قريبة تُتاخم مواقيت رحيل وغياب الأب ثم الأم ثم الأخ. إلا أن الشاعرة ترفض أن يكون الرثاءُ هنا عبوراً لحظيا يقف عند حدود البكاء لاستدرار عاطفة القارئ في عملية تفاعل سطحية تنتهي صلاحيتها بانتهاء عملية القراءة.

الرثاء هنا أو بعبارة دقيقة: الكشف عن أثر الرحيل والغياب في الذات، يتجاوز تشكيل اللحظة إلى تشكيل الزمن في تحوّله الصارم والقاسي قسوة بائنة على هذه الذات المكتوية بلظى الفراق. من هنا صدق الصورة الشعرية وصدق الانزياحات الغاضّة بصرها عن زخرفة المقول الشعري إلى تلوين هذا المقول بسيمياء الذات في عبورها الوجودي من حالة الحزن المُمِضّة إلى حالة الاستواء الغابرة في مقولات الاحتمال.

والانزياحُ الكبير في هذه القصيدة ألخصه في سؤال بلساني على لسان حال الذات المتكلمة: لماذا يموت الذين نحبّهم؟

وعوض أن تجيب الشاعرة عن هذا القلق الوجودي اختارت أن تسرد ذاتها في هذه القصيدة التي أعتبرها رحلةً في سديم الواقع الفردي المتخيل، أو في سديم المتخيل الشعري للواقع الخاصّ... والإجابة عن هذا السؤال تجرّنا إلى مزالق القطْعِية والإطلاق، فيما التنسيب هنا أجدر أن يكون بيتَ قصيدٍ وبؤرة صوغٍ انسجاما مع قناعة الذات المتكلمة. لهذا تبقى القصيدةُ الحكائيةُ أنسب مخرجٍ شعريٍّ تأمّليٍّ وفلسفيٍّ لاجتناء بعض الجواب عن سؤال يربأ بذاته أن يقطع ويحسم في أمر كينونةٍ تعوم في التشظّي.

القصيدةُ إذن سردٌ دراميٌّ متخيّل لكائنات حضورية وغيابية في آن واحد. هي رحلة الموت الحقيقي، الذي تفوح رائحته وتخيّم على مقولات الإنسان والمكان والزمان: (أنا المرآة... رحل أبي باكرا جدّا... أمي رحلتْ باكراً أيضا... أخي عاش مضرجًا بدم العزلة... ) ويكاد الموتُ يؤطّر طبيعة الانزياحات والتشكيل الفنيّ للصور الشعرية ويوجّهها في اتّجاهٍ واحد. اتجاه التيه والتشظّي والسؤال.

تنبع حداثية القصيدة أيضاُ من انفتاحها على المجهول المحرّضِ على السؤال والتساؤل، والضارب عرض الحائط كل نمطية تنهل من القاعدة والمرجع. وانظر معي أيها القارئ قول الشاعرة:

(منذ عقود ألمّع الأرض من الأسف

أحفر عميقًا في دمي

لعل بؤرة ضوء تنير

عتمة النفق)

انزياحٌ ماكرٌ يمكرُ بذائقة المتلقي وهو يعومُ في المعنى الوارد في مقولة الزمن (منذ عقود)، وما إن يسترخي المتلقي لفكرة الزمن حتّى تقضّ الشاعرة استرخاءَه بفائض المعنى ( ألمّعُ الأرضَ من الأسف)، فيدوخُ المتلقي في جمالية الغموض الدلالي، ويتحوّل إلى مستقبِلٍ ذكيٍّ لا يقف عند حدود المعنى المطروح في الطريق... ومن المعنى إلى فائض المعنى ينتقل المتلقي إلى فيضِ المعنى عبر عملية الحفر التاريخي في مادّة الدم (أحفر عميقاً في دمي)، فنكون أمام شعريةِ انزياحٍ ذكيّةٍ لا تقنع بالقطف المباشر لأوراق المعنى. إنها تركيباتٌ شعرية حداثيةٌ تقفز على البداهة والمألوف قفزاً تأملياً ويكاد يقارب الفلسفة في عمقها الوجودي لا في نظرها المجرّد والمحايت.

إن شعرية (تورية لغريب) الحداثية لا تكمن في الشكل، ولا في تناسلِ هذا الشكل عبر مختلف الانزياحات، ولا تكمن في طبيعة الموضوع الماتحة مصداقيتها من صدق المعاناة، بل هي في اللغة نفسها، وفي استعمالها خارج معتقل القاموس، وفي توالدها الخلّاق، وفي تجدّدها تباعاً كلّما انتقل القول من محطة دلالية إلى أخرى...

4 - اندفاعٌ خلّاق:

في القصيدة وثوبٌ حيويٌّ خلّاق لم تستطع طبيعة الحزن أن تقلّص من اندفاعه العامر. ويتعلّق الامر بانثيالِ القصيد تباعاً داخل مقولةٍ كبرى هي التغنّي بالفقد، أو البكائية الإيجابية الماتحة مادّتها الرّاثِية من قناعة الذات المتكلمة بمبدأ القوة المتاخم للمفهوم في منظوره النيتشوي، عندما تصبح القوة غريزة ترغب في انتصار الحقيقة. وهو المبدأ الذي حمى القصيدة من السقوط في البكائية السلبية وفي قدر الاستسلام. وهو ما دفع الشاعرة إلى فكرة الاحتجاج الذكيّ عبر الحروف، ضدّاً في حجم هذه الهزائم المصفوفة. قالت:

(في حين...

تحتجّ الحروف على الهزائم المصفوفة بعناية

داخل خِزانة قلبي

هأنا أدرك أخيرًا

أو ربما يقودني التعب

إلى حقيقة)

كيف يقود التعب إلى الحقيقة أو بعض الحقيقة كما عبّرت عنه دلالة التنكير؟ هذا نوعٌ من الوثوب الحيوي أو الاندفاع الحيوي المرتبط بمبدأ الإرادة حين تتحول الذاتُ المتشظية إلى ذات قادرة على لملمة انكسارها في بؤرةٍ وجودية تتسم بالقوة. فالتعب في هذا السياق تجربة حياتية قادتْ إلى وزنِ مُدخلاتِ ومُخرجات تجربة الفقد، فكان الميزان ترجيحاً للاعتبار بدل الانقهار، وتأكيدا للاستمرارية بدل الانقطاع.

التعب هنا تجربة طويلة مع الألم والفقد والموت والصبر والجلد والتحمّل والفراغ النفسي القاهر... التعب مسار طويل من الإكراهات، حوّلته الذات المتكلمة من مقولة سالبة إلى مقولة موجبة تختزن داخل فكرتها نقيضها. التعب هنا رؤية للبحث عن بديل للحزن.

و الجميل في انزياحات الشاعرة تورية لغريب أنها استعملت لفظة (حقيقة) غير مُعرّفة، اعتباراً لرفضها للإطلاقية، وانسجاما مع قناعتها بالتنسيب... من هنا فكل شيءٍ نسبيٌّ. الحياةُ نسبيةٌ والموتُ نسبيٌّ، والحزن نسبيّ. والحقيقة التي تبحث عنها الشاعرة هي حقيتها الخاصّة لا العامّة، هي مبدؤها وختامها في حدود وجودها الإشكاليّ المتحول من لحظات الانسحاق تحت وطأة الفقد إلى وجودها القويّ القادر هلى مواجهة الهزائم المصفوفة.

ختم:

لم أقرأ قصيدة (دوّاسة الألم) بقدر ما عزّيتُ فيها صديقتنا الشاعرة (تورية لغريب) في مناوشة خفيفة لبعض تجليات شِعرِيتها الدفّاقة والمتدفّقة، متوسّلاً أدواتٍ نقديةً غاية في الاحتشام أمام صدق التعبير وقوة التحبير في متن هذه العلامة الإبداعية الموسومة بالإدهاش.

***

بقلم نورالدين حنيف أبوشامة

.........................

دوّاسة الألم

كما لو كنت عائلة مكتملة العدد

يشتهيني القفز على عناوين

تلقفتني دون جواز للسفر

أنا المرآة التي كلما جمعت شظاياها

عكست وجوها

لم تكتمل...

رحل أبي باكرًا جدًّا

قبل أن تنفجر القذائف الطائشة

في وجهي

في ذاكرتي جدران بيتنا

تهاوت تباعًا على قامتي

فانكسرت

لكني لا أخاف إلا على أحلام رضيعة

أن تتعثر

في ساحة الوجع

حيث الأنوار والأدوار زائفة

حيث لا أحد يشاركني الرقص

على إيقاع حظي المتعب...

رحل أبي في أولى مراكب العمر

لم أحسب أنّ السّهام

التي تُصِيبُ القلب

تُدميه...

لكنه مضى بعيدًا دون أن يُعَمّدَني بِماءِ نهرٍ

أزهرَ أمّهات كُثر...

أمي الأولى علمتني

كيف أطهو الصبر في قِدر الزمن

كانت قديسة يحبها الله

عيناها أجمل من النجوم

لكنه الموت...

ليت عيون الموت

لم تمعن النظر

ليتها

لم تكتحل بعينيها

كي يستمر النهار

رحلت باكرًا أيضًا

قبل أن تنفرج أسارير الصباح

وهأنذا أرمق عتبة البيت

تتمسح بنعالها

كل مساء

فتنبطح باكية

ولست أدري...

أعليّ تبكي أم عليها...؟

أمي الثانية

أذاقتني ملح الطعام مغموسًا في الجرح

ومن يومها وأنا أعدد الندوب

لفظتني رغيفًا يابسًا

فشهقتُ مِلْء يأسي

كانت أمومتها مكتملة

لا تحتاج زيادةَ أو نقصانَ حرارةٍ...

الجو معتدل هناك

قارس هنا

كأقصى درجات الفقد...

جروحي ناهزت الخمسين

أنبتت أصابعَ تدين النزوح المتكرر

وحجرات قلبي

موحشة

لكن ليل سمائها غائم

منذ عقود ألمّع الأرض من الأسف

أحفر عميقًا في دمي

لعل بؤرة ضوء تنير

عتمة النفق

أمي الثالثة

ناولتني عكازة الحياة

فأهديتها ما تبقى مني

لم يكن كافيًا

ظلت خِراف الحزن

تلازمني... تقتات من دمي

نتأمل بعضنا في صمت

أستدعي النوم على ثغائها كل ليلة

في حين...

تحتجّ الحروف على الهزائم المصفوفة بعناية

داخل خِزانة قلبي

هأنا أدرك أخيرًا

أو ربما يقودني التعب

إلى حقيقة

أنّ التمرد نار تحرق مقترفيها

وقد أتقن قلبي فن الانطفاء

واغتسل بالرماد...

أخي عاش مضرجًا بدم العزلة

مشاكسًا لدوران الأرض

دهسته الحياة

فحمل ضجيج صمته

وتبدّد كالدخان...

الأيام تنتحر

تراودني فكرة التحليق

فأستدرك أنّ لي جناحا

بترَه الغياب

تعفّنت دمعتي

ولا ثوب لي على مقاس الفرح...

عقارب الزمن

أعدّدها

تعُضّني

كلانا عالق في أحاديث تقبل التأويل

لا تنتهي...

قل لي أيها الحظ المقيم في سوادِه كيف أرمّم الكسور

وقلبي مهاجرٌ في الشقوق...؟

...

تورية لغريب \ المغرب

 

تتميز قصص " طيور وذئاب " القصيرة جدا للقاص المغربي محمد بوشيخة، وهي مجموعة الكاتب الثانية بعد  مجموعة "أجساد فقط" الصادرة سنة 2013 من نوع القصة القصيرة جدا، بميزة التكثيف والاختزال المشروط باقتصاد لغوي، قد يصل إلى حد التقتير، مخترق بجمالية تعبيرية بلاغية تخلع عليه مسحة شعرية متولدة عن نزعة التكثيف، ويتجسد ذلك على مستوى الحجم في العديد من النصوص خصوصا تلك الموسومة ب (متواليات قصصية قصيرة جد جدا)، والتي يختتم بها مدونته السردية، مما يرهص ويؤشر على قصدية الإيجاز والاقتضاب الصادر عن رؤية إبداعية  تتغيا خلق توهج تعبيري ودلالي يؤسس لإواليات ضرب من ضروب كتابة تنحت خصوصيات وميزات أسلوب منزاح عن النمطية المتبعة  والنمذجة الشائعة، وهو ما يطالعنا انطلاقا من النص الأول (أقفال صدئة) حيث نقرأ: " اُرسمْ صورتك في لوحة الامتداد، واغْلِقْ فجوات ذاكرتك بألوان قوس قزح. "  15، حيث تنتأ معالم نَفَس شعري تغدو معه للامتداد لوحة تحتضن صورة منفتحة ومفتوحة على شتى الأبعاد، ومختلف التأويلات. والدعوة لرأب صدع ما يعتري الذاكرة من فجوات بألوان قوس قزح وما ترمز إليه من دلالات غزيرة المعاني والدلالات؛ وفي قصة " ألم ": " تعتقلني هواجس الدم في بحر القرابة... "  17، برسم صورة، لا تخلو من شعرية، تحدد معالم الهوية بانتساب قائم على عنصر الدم والقرابة في صياغة مجازية تجيز فعل الاعتقال لهواجس الدم، وتُغْرِق معنى القرابة في يم لا محدود الضفاف. وقصة " انفصام " المتضمنة لمسوح جمالية وبلاغية: " أنا غصن تَفتَّق  من ذاكرة مثقوبة !" ص 21، وما تزخر به العبارة من تشبيه دال وعميق، للمتكلم بالغصن، والذاكرة بالمثقوبة، وما فتئ الجانب الشعري يحفر مجاري عدة، وقنوات متنوعة داخل متن القصيصات في التوسل بعناصر بلاغية كالطباق في: " تجرجرني نفسي بين حكاية قديمة وميلاد جديد... " ص21،  بين قديمة / جديد، وتقدم / تأخره، والأصدقاء / الأعداء في نص " عبث ": " قِفْ  مكانك... َتقَدَّمْ، تأخَّرْ... فالأصدقاء والأعداء متضامنون... " ص 51، وجناس كما في: " المرآة امرأة... " ص 25، وفي: " تنبش وتنبش وتنبش... " ص  41، وصِيَغ مجازية كما في قصة " ملاذ ": " لشرب كأس الضياع والخسران. " ص43، بخلق صيغة موسومة بالاختلاف في تجرع الضياع والخسران من كأس، والتطهر من ليالي السكر، وعقاقير الإدمان: " بعد أن اغتسل من ليالي السكر وعقاقير الإدمان. " ص 45، وكلها أساليب وصِيَغ تختزل عبارات مجازية ذات حمولات أكثر غنى وإيحاء. وإلى جانب الاستخدام المجازي والبلاغي تضمنت قصيصات الأضمومة  تيمات عديدة ؛ منها ماهو ديني: " البيت خال إلا منهما، وبعض الشياطين المتواطئة، وربما في إحدى الزوايا ملائكة ضعاف (محتجبة). " ص 33، وهو اقتباس مُحَوَّر من قصص القرآن ومعجمه (الشياطين، ملائكة)، وفي اختلاء زليخا امرأة العزيز بالنبي يوسف: " البيت خال إلا منهما... " ص 33، وما طرأ من تغيير على صفة الملائكة في سورة " التحريم " حيث  تم تحوير (عليها ملائكة غلاظ شداد) إلى (ملائكة ضعاف)، واستعمال لفظي الحوقلة والتسبيح: " يحوقل ثم يسبحل... " ص 63، وشاهد ومشهود من سورة " البروج ": " بعيدا عن عيون الشاهد والمشهود ! " ص 73، ولفظ الجنة المذكور في العديد من الآيات القرآنية: " تفتح أبواب الجنة للزيارة... " ص 75، كما ورد ذكر الخالق،ارتباطا بالجانب الديني، في نصوص المجموعة، وفي سياقات مختلفة، مثل: " فعين الله ترعاني... ولا رضى  يعلو فوق رضى الله ! " ص 29، وفي نص " رعاية ": " لأن رعاية الله تحمي الحالمين مثلي. " ص 65. وما هو اجتماعي كما تلخصه قصيصة " جناية "، والتي توحي تفاصيلها إلى ما تعرضت له الخادمة الصغيرة من اغتصاب اقترفه ابن العائلة المُشَغِّلة آل إلى افتضاض بكارتها: " حصل المكروه، ودَّعتْ بكارتها... " ص 33، حدث مأساوي فاقم  من معاناتها، وكرس حيفا سافرا زكاه القضاء بحكم جائر أعادها لبيت الأسرة التي كانت تشتغل لديها لإكمال فصول جريرة تختزل عناصر الظلم والضيم: " القاضي دارس وتدارس، شاور وتشاور. يحكم بعد تريث طويل جدا بعقوبة رد الجانية لتشتغل في بيت الضحية... " ص33، فتنعكس الآية، وتقلب موازينها لتتحول الضحية إلى جانية، والجاني إلى ضحية ! كما لجأ القاص إلى  استعمال مغاير في نسق التعبير مثل ما حصل في فعل " تُفَسْبِكُ "  المشتق من (فيسبوك) كأحد عناصر التواصل الاجتماعي الذي أفرزته التكنولوجيا الحديثة، وأيضا تُغَرِّد من تغريدة وكلها تندرج ضمن قاموس هذه الوسائل التكنولوجية التي تحكم وتتحكم في شبكة علائقية تجمع العديد من الرواد عبر إيقاع تواصل متعدد المسلكيات والآليات: " ثم تُغَرِّد وتُفَسْبِك... " ص53، وفي نص " اللعنة " حيث  ورد: " فينظر إلى نفسه بنفسه. " ص 81، وهو ما يعكس ردم الهوة بين الشخص وذاته لإرساء أسس تواصل حميمي يتجاوز كل الأشكال المعروفة الرهينة بتحديد العلاقة مع الذات. وتم توظيف الكاتب للحروف بشكل متناغم ومتجانس ببعد دلالي يعتمد الإشارة والتلميح في تقسيم اسم " فراس " إلى أربع قصيصات معنونة بالفاء، والراء، والألف ثم السين (ص89)، وكلمة " مرض " بثلاث عناوين: ميم، راء وضاد (ص91)، وهي أشكال محدثة  تسهم في خلق قصيصات تشذ عن نمطية السرد الموجز، وتنعتق من ربقة قوالبه.

لنخلص أخيرا إلى أن الباحث الأدبي والتربوي الأديب والقاص محمد بوشيخة أبدع، منوعا ومجددا، في مجموعتيه القصصيتين (قصص قصيرة جدا): " أجساد فقط "، و" طيور وذئاب " التي رسم فيها خطا سرديا متشبعا بدفق شعري، ومجازية لغوية أرست وأسست لنمط سردي (قص موجز) ذي أبعاد مغايرة، ومعالم مختلفة.

عبد النبي بزاز ـ المغرب

.......................

*  طيور وذئاب (قصص قصيرة جدا) لمحمد بوشيخة، أكادير 2024.SO- ME PRINT ــ مطبعة

 

قراءة في قصيدة دف الشك للشاعر فارس مطر

القصيدة التي بين أيدينا تحمل أبعادًا متعددة تتجاوز سطح النص البسيط إلى عمق التأمل الفلسفي والوجودي، مما يجعلها توليفة من الصور الشعرية التي تتحدث عن الثبات والتحول، الحيرة والاستقرار، والعلاقة بين الإنسان والعالم من حوله. كل صورة شعرية هنا تعبّر عن حالة من حالات الوجود الإنساني، وما يتخللها من محاولات للفهم والمقاومة والثبات في وجه الزمن والتحولات.

1. "الإوزةُ التي تسبح في اتجاهات مختلفة / قد تبدو حائرةً، لكنها في البحيرة"

الإوزة التي تسبح في اتجاهات مختلفة هي أول صورة شعرية في القصيدة، وهي صورة تجمع بين التناقض والاتساق. حركتها قد تبدو مشتتة وحائرة، كأنها لا تعرف وجهتها. ولكن، هذه الحيرة لا تعدو كونها سطحية، فالإوزة ما زالت ضمن البحيرة، في إطار محدد وواضح. هذا يعكس رمزًا للحياة البشرية حيث يمكن للإنسان أن يبدو متخبطًا أو غير متأكد من خطواته، ولكنه في النهاية موجود داخل حدود وجوده الطبيعي، حيث هناك ثبات ضمن تلك الحركة المستمرة. هنا يتجلى الصراع الأزلي بين الحيرة والاستقرار، بين الاتجاهات المتعددة التي تأخذ الإنسان في أرجاء حياته، والبحيرة التي تمثل البيئة التي تحتضن هذه الحركات والاتجاهات.

2. " الشجرةُ التي تبدو أغصانُها مسافرةً مع الريح ثابتةٌ. / وأجلسُ في ظلها"

هنا نجد ان الشجرة وقد انقسمت بين الثبات والحركة، أغصانها تتحرك مع الريح، ولكن جذعها وجذورها ثابتة راسخة في الأرض. الشاعر يجلس في ظل هذه الشجرة التي تمثل رمزًا للثبات والاطمئنان، رغم مظاهر الحركة الخارجية. الشجرة هي استعارة لوجود الإنسان الذي قد يبدو متأثرًا بالظروف الخارجية، لكنه في جوهره ثابت ومستقر. هذا التناقض يبرز حاجة الإنسان إلى الظل، إلى مكان آمن يمكنه أن يستريح فيه من اضطرابات الحياة. وكأن الشاعر هنا يبحث عن هذا الثبات الداخلي الذي يجعله قادرًا على مواجهة الرياح دون أن يهتز.

3. "الأحجارُ سعيدةٌ في الضفةِ المتلألئة"

تبدو الأحجار في حال من السعادة والرضا وهي ترقد على الضفة المتلألئة. الأحجار، التي ترمز إلى الثبات والجمود، تبرز هنا في حال من الانسجام التام مع موقعها. إنها في مكانها الطبيعي، ولا تحتاج إلى الحركة أو التغيير. وكأنها تعبير عن السعادة التي تأتي من القبول بالوجود كما هو، دون رغبة في التحول أو السعي إلى شيء آخر. هذا الانسجام مع الذات والطبيعة هو ما يمنحها السعادة والراحة.

4. "والقهوةُ المعتدَّةُ بالرغوةِ والنكهةِ / أنيقةٌ في فنجانها"

القهوة، هنا، هي صورة أخرى للعناصر المتناسقة مع مكانها. فهي "معتدة" برغوتها ونكهتها، تعبر عن نوع من الثقة بالنفس والاعتزاز بالذات. "أنيقة في فنجانها" تحمل دلالة على التناغم والجمال، حيث كل شيء في مكانه الصحيح. القهوة كرمز للوقت الهادئ، التأمل، ولحظات الاستمتاع البسيطة، تُضفي على المشهد نوعًا من الرومانسية الهادئة والاعتزاز بتلك اللحظات الصغيرة التي تعطي الحياة نكهة خاصة.

5. "رغم مضي العمر، / يثبُتُ المُسِنُّ والمُسِنَّة على المقعدِ الخشبي بانتظار غودو"

يعود الشاعر إلى الإنسان، مع صورة للمسنّين الجالسين على المقعد الخشبي، ينتظران قدوم "غودو"، في إشارة إلى مسرحية "في انتظار غودو" لصمويل بيكيت، التي تمثل الانتظار الوجودي للشيء الذي قد لا يأتي أبدًا. المقعد الخشبي يرمز إلى الثبات، لكن الانتظار هو رمز للعبث، للعجز عن التقدم أو التغيير. ومع مضي العمر، يبقى الانتظار، والمرء يتساءل عن جدواه. هل الانتظار هو جزء من طبيعة الحياة؟ أم أن هناك شيئًا أكبر ينتظرنا دون أن ندركه؟

6. "نسبياً تبدو الأشياءُ ساكنةً مؤمنةً بوجودها / عدا ظهوري المريبِ في المشهد"

الأشياء تبدو ثابتة، واثقة من وجودها. لكنها تواجه "ظهور" الشاعر نفسه في المشهد. ظهوره هو العنصر الذي يعكر هذا الثبات، وكأن وجوده ذاته يطرح الأسئلة حول معنى الثبات والوجود. هو المريب، المتسائل، الذي لا يستطيع أن يقبل الأشياء كما هي. الشاعر هنا يدخل في مواجهة مع الأشياء الثابتة، حيث يصبح وجوده هو العنصر الذي يكسر الهدوء.

7. "لا بأسَ أن تفشلَ اليوم أيضاً يا فارس مطر / ربما غداً.. لم العجلة؟"

ينتقل الشاعر إلى خطاب داخلي، حيث يخاطب نفسه بلطف وحنان. هذا الفشل هو جزء من الحياة، ولا يجب أن يُنظر إليه بسلبية. ربما الفشل اليوم هو خطوة نحو النجاح غدًا، وكأن الحياة ليست سوى مجموعة من المحاولات المستمرة، دون حاجة إلى العجلة. هنا يظهر نوع من الفلسفة الهادئة، المتصالحة مع الزمن والفشل، حيث كل شيء يأخذ مجراه الطبيعي.

8. "مازلتَ في منتصفِ عقدكَ الخامس / عليك أن تكابرَ وترممَ أكتافَك المنهدمة"

الشاعر يبدأ في الحديث عن الذات المنهكة، الأكتاف المنهدمة، لكنه يدعو نفسه إلى المكابرة، إلى الاستمرار رغم التعب. هذه الصورة تعكس المعاناة الداخلية للإنسان الذي يحاول الترميم والإصلاح رغم الألم.

9. "عليك فقط أن تَثبُتَ في مكان / وألّا تُشَعِّرَ هذا النصَّ كخِفَّةِ ريشةٍ"

في النهاية، يعيد الشاعر التركيز على الثبات، لا يجب أن يكون النص خفيفًا مثل الريشة المتنقلة التي لا تعرف الاستقرار

القصيدة تتأمل في التناقض بين الثبات والحركة في الحياة والوجود الإنساني. تبدأ بالإوزة التي تبدو حائرة لكنها داخل البحيرة، والشجرة التي تتحرك أغصانها بينما جذعها ثابت. الأحجار راضية بموقعها، والقهوة أنيقة في فنجانها، مما يرمز للتناغم والقبول. المسنّان ينتظران "غودو" في صورة تعبر عن العبث والانتظار. الشاعر يعترف بفشله لكنه يدعو نفسه للصبر والمثابرة. القصيدة تتأمل في الزمن والفشل والثبات، وتحث على قبول الحياة كما هي دون عجلة، مع المحافظة على الثبات والعمق في مواجهة التحديات..

**

طارق الحلفي - شاعر وناقد

...............................

الرابط

https://www.almothaqaf.com/nesos/977410

جين نيکولاس آرثر رامبو من مواليد 20 أكتوبر عام 1854، وتوفي في 10 نوفمبر من عام 1891، شاعر فرنسي معروف بتأثيره على الأدب والفنون الحداثية ورسمه للمعالم الأساسية للفنون السريالية. وُلد رامبو في بلدية شارفيل في فرنسا، وبدأ الكتابة في سن مبكرة جدًا، وتفوق في مدرسته، إلا أنه تخلى عن التعليم المدرسي الرسمي خلال سنوات مراهقته، وهرب، خلال الحرب الفرنسية البروسية من منزله إلى باريس. خلال فترة مراهقته المتأخرة، وأولى سنوات رشده، أنتج رامبو الجزء الأكبر من إنتاجاته الأدبية، ثم توقف في العشرين من عمره عن الكتابة بشكل كامل، بعد أن جمع آخر أعماله الأدبية التي حملت عنوان إشراقات.

وعندما توفی وبعد مجازفات عدة وتمردات مختلفة شهد المارة في فرنسا بكثير من الدهشة والذهول والشفقة موكبا صغيرا لجنازة متواضعة لم يكن يمشي فيها سوى إمرأتان متشحتان بالسواد، كان ذلك يوم وفاة الشاعر الفرنسي آرثر رامبو في 10 نوفمبر 1891. “ولكنك على الأقل تموت الميتة التي تريد، زنجيا أبيض، متوحشا رائع التمدن…."

قالها صديقه الشاعر بول فيرلين والذي كتب عنه ايضا فيما بعد: “انه شاعر ملعون،  انه أحد الشعراء الملعونين، لكن الغريب في أمره انه هو الذي يلعن نفسه ولا ينتظر هذه الصفة من الآخرين”. أعلن ثورته على الموت لكن الموت اختطفه وهو في سن السابع والثلاثين.

كان آرثر رامبو، المفكر التقدمي والإنساني، قد رفض العالم الاستعماري قبل قرن ونصف وفي سن المراهقة، ولم ترسم التوابل وعاجة الفيلة الهندية، وخضرة خط الاستواء الممطر، وأحجار الذهب المنهوبة من أفريقيا، ابتسامة على شفتيه. وأصبح يهرب ويتمرد ويستكشف، الى ان فر إلى اليمن والحبشة واستقر فيها منشغلا بتجارة البن والاسلحة بعيدا كل البعد عن الادب والشعر، وبعد سنوات قليلة من استكشافات رامبو في القارة السمراء، تمكن  الجيش الفرنسي من التعرف علی هذه المناطق واحتلالها.

لقد كان حس رامبو الإنساني في نص (ديمقراطية) غريبا على مجتمع صناعي حديث منفتح على الاحتلال العالمي آنذاك. نعم، لقد عبر رامبو منذ قرن ونصف عن آرائه بشأن ديمقراطية أصحاب العيون الزرق، ومع ذلك والى الآن هناك من مثقفينا من يتغنی بشعار الديمقراطية الغربية والمتناقضة في صورته الواقعية. واحيانا مخيفة كذلك!.

في نص (ديمقراطية)، يبدأ رامبو بكلام جنود الاحتلال، نعم هو كلام الجنود، وليس رامبو، الذين تعلو أعلامهم ولغتهم على أبواق وطبول القبائل بثقافتهم ولغتهم الخاصة، وسيتم الرد عليهم بالنار والحديد من قبل حاملي راية الديمقراطية اذا أرادوا التحرر من قيود الاحتلال. حتى عندما انتهز رامبو فرصة الذهاب إلى جاوة بإندونيسيا مع البحرية الهولندية عام 1876، هرب على الفور ولم يخدم في الجيش يوما. وكما يشير الشاعر في النص فإن مسيرة الجنود تتغلب على صوت طبول قبائل الأراضي المحتلة، العلم الذي يحمله الجنود وهم في الطريق سيحدث الكارثة بوصولهم، لأنه يعلم ما هي الخطوة القادمة.

هذه هي صورة ثابتة أينما وقعت، سواء حدثت في قارة الهنود الحمر وتم تطهيرهم، أو في جزر كوك الماورية في أقصى شرق الكرة الأرضية في نيوزلندا، وكما هو الحال في هذا النص؛ عندما يغادر الجنود مكانًا ما ويذهبون إلى أي مكان، فالغرض هو احتلال الدول وتقسيمها ونهب ثرواتها، وإذا أخذ شكلًا مباشرًا آنذاك، فقد اتخذ شكلًا حديثًا تحت نفس الاسم وبطريقة غير مباشرة من خلال الضغوطات الاقتصادية وصنع ولاءات مقابل وعودات والتأثير علی مراكز صناع القرار للدول أو حتى احتكار أصوات المعارضين فيها.

هل يمكن أن نسمي قصيدة رامبو هذه بقصيدة سياسية؟ أم أنها قصيدة بعكس القصائد السحرية والمعقدة للمرحلة الأخيرة من كتابته الشعرية في (اشراقات)، أم أنها تحتوي على شيء من الواقع وحتى الواقعية الثورية؟ في مواجهة الفكرة السائدة التي أخضعت العالم باسم الديمقراطية، فإن مقايس هذا الشعار مختلفة من بقعة الى الاخرى، فعلی سبيل المثال إذا مات طفل بسبب الإهمال الطبي تهتز وزارة الصحة في بعض البلدان الراقية وإذا لم يستقيل رئيس الوزراء فعلى وزير الصحة ان يفعل ذلك، لكن نفس التركيبة الفسيولوجية للأطفال الابرياء في جزء آخر من العالم، يقتل آلاف منهم، وليس طفلاً واحداً، يُذبحون بأسلحة محرمة مصنوعة في هذه البلدان الديمقراطية، دون ان يتحرکوا ساكنين وكأنما لا وجود للضمير والحس الانساني تجاه معاناة الاخرين. هذا النفاق والكذب هو الوباء القاتل الذي يقتل الملايين من البشر على وجه الأرض، وقد فهمه رامبو قبل ذلك بكثير وأعمق بكثير - كشاعر واعي وحساس ومبتكر - وعايشه في حياته اليومية عند ولادة الديمقراطية، كما أعلن ثورته في عالم الشعر عندما تبول على أوراق صفراء لشعراء مزيفين وهو في سن المراهقة..

هل لاحظتم صدق المشاعر عند الشاعر وهو ابن بلاد الديمقراطية وينحاز الی من يعاني علی أيد حاملي راية الديمقراطية، هذه هي نقطة الاختلاف بين الشاعر المبدع والشاعر المكبل، الشاعر المبدع يری الدنيا من منظوره وتكوينه الشخصي لا معايير ومصالح الاخرين، تخيل وأنت تسافر مع جيش محتل، تکرههم وتفضحهم لأنهم لاانسانيين، اليس هذە عملية الغوص ضد التيار، وهكذا حال المبدعين..

نص (ديموقراطية) لآرثر رامبو من ترجمة كاظم جهاد

العلم سائر الی المنظر القذر

ورطانتنا تطغی على رنين الطبل

سننعش في المراكز الدعارة الاكثر كلبية

وسنبيد الانتفاضات المنطقية

*

في البلدان البليلة المفلفلة

في خدمة ابشع

الاستغلالات الصناعية أوالعسکرية

الى اللقاء هنا، أو في أي مكان

*

سننال نحن المجندين بالارادة الطيبة

الفلسفة الشرسة، غير عابئين بالعلم

دهاة في (ايجاد) الرفاهية

الموت للعالم المتقدم،

انها المسيرة الحقيقية، أماما في الدرب

***

وفي عام 1946 عندما كان العراق تحت الانتداب البريطاني كتب الشاعر ابن السليمانية فايق بيكاس(1905-1948) في قصيدته (سبعة وعشرون عامًا) والتي تعبر عن ارادة الحرية عند الشعوب المحتلة وصوت الشعوب المضطهدة ونضالهم الدءوب حيث يقول في أبيات من هذه القصيدة الثورية ما يلي:

سبعة وعشرون عامًا قد مضت

وأنا أكدح من أجلك

بخبزي ومائي وملبسي ودون الأجر

وقد خدمتك في ايران وروم

فمن أجلك انكسر عنقي!

ورغم ذلك انني مازلت أسيرا ذليلا

فماذا كان ذنبي ابتليتني بهذا الداء

لماذا ذللتني ودون وجه الحق

*

سبعة وعشرون عامًا وأنت تقهرني

تتحايل علي بالكذب والخداع

تجعلني أرقص كل يوم بنوع مختلف

انك تحطم عنقي في سبيل غايتك

ولما تصل مرادك تتركني وشأني

*

سبعة وعشرون عامًا وحياتي مر

تحت يديك أنا نادم

لا أبدو كإنسان، بل أبدو كحيوان

متى سأتخلص يا منزلي المدمر؟

تطلق على نفسك لقب "حامي" الشعوب

ما كان ذنبي حتى أوصلتني إلى هذا الحد؟!

لماذا أذلتني ظلماً ‌هكذا؟!

***

سوران محمد

..........................

نص رامبو الشعري باللغة الانجليزية:

Democracy

"The flag goes with the foul landscape,

and our jargon muffles the drum."

In the great centers we'll nurture

the most cynical prostitution.

We'll massacre logical revolts.

*

In spicy and drenched lands!--

at the service of the most monstrous

exploitations, industrial or military.

"Farewell here, no matter where.

*

Conscripts of good will,

ours will be a ferocious philosophy;

ignorant as to science, rabid for comfort;

and let the rest of the world croak.

This is the real advance. Marching orders, let's go!"

تكمن الفكرة الرئيسية للقصيدة حول طفل عنيد ومشاكس هو الشاعر نفسه. اول ما يلتقط أنفاس الحياة يجالس ضجره ويدعي الهدوء. هو طفل أنيق ونبيل يتحدى ركام الزمن يتمرد ليبقى خارج حدود السيطرة.

يحطم القيود من حوله ليعتلي غمام السماء. وكأنه يشرح لنا جوهر الحياة..

روح طفولية التقت مع الشاعرية لتزداد شغفا وتجليا.

 مزق عباءة الطفولة بصرخة حرة ليبدا بها عزف النهار.

يلمس القاريء مشاعر حقيقية صادقة وجريئة تشكل حوارا خياليامبهرا بين الام و صغيرها الطفل العنيد. يبعث الحب والحياة بين مسارب التيه، وكان هذا الطفل يعلم انه سيصبح شاعرا كبيرا..

يخيم على القصيدة هدوءا رغم الضجيج الداخلي ، وهي بمثابة مغامرة جريئة عن طفولة الشاعر العفوية والمحببة.

ميزات القصيدة

- قصيدة مميزة في المضمون والبناء..

-  تترك اثرها في ذات القاريء لما بها من تقدير للذات الكونية للشاعر.

- استصراخ للرجولة بكل ماتعنيه من إباء وقوة ونزوع للتحرر من القيود والسير في طريق المجد.

- نلمس انه هناك عشق بين الشعر والشاعر رغم أنه مشوب بالارق الا انه تطغي عليه لمسات من الشجن الجميل.

 - يخيم على القصيدة طابع درامي بنص مدهش يتسلل الى الروح والوجدان

- تساق لنا المعاني

من خلال سخاء الغة وبلاغتهاالنصيه، ابدع الشاعر في اقتناص الكلمات وتوظيفها..

- قدم لنا الشاعر صورا شعرية جميلة متفردة استعارها من مناجاة ذكية بين الام وصغيرها المتمرد.

مثل؛ (تصفع الكرى بالصراخ). (تركع النهار لغفوتك) (تمسك تلابيب الليل.)

- نحن أمام إبداع ثري مشوق وممتع اوصل لنا رسائله بيسر ووضوح حين بنى صرحا شعريا

بجراة متفردة تثير الدهشة..

- القصيدة هي ثروة شعرية تستحق ان نقف عندها للنقد والتحليل.

- تغوص كلمات النص

الى عمق القاريء فكرا وروحا.

- اعتمد الشاعر الإحالة والايحاءات نحو سؤال كتابة الذات كما في قول الفيلسوف كافكا( الكتابه هي مفتاح لجرح ما) وكما قال البير كيمو (الكاتب يكتب نفسه)

- تعتبر القصيدة نص رائع  اعتلى به الشاعر سلم الابداع.

القصيدة

اهجع يا صغير

شعر رياض الدليمي

كنت طفلا مشاكسا في المهد

اركل الأحزمة والأغطية

أتشبث بالوسادة

لاستجمع قواي

أمي تبحلق بي

بدهشة

ما هذا الطفل الذي لا ينام؟

لم اعدْ اعرف منامه وإفاقته

انك تتعبني أيها الوليد الساهر

يا طفلي الذي لم يستكن

كل شي فيك ثائر..

انك تصفع الكرى بالصراخ

وتُركع النهار لغفوتك

الم تكن من صلصال وطين؟

أنا نفحات روحكَ

وشهدي عجينك..

اهجعْ يا صغير

كي أسقيك من ظمأ

أتترك جيدي؟

وتمسكُ تلابيب الليل

أتُراكَ ترضعُ أحلاماً؟

.. تتنهدُ رؤى

ما بالك أيها الصغير؟

تصرخ وكأنك تقاتل جلجامش

تصرخ لتلين عشتاروت

وتخضعها لجبروتك..

تُقدمُ نحو انكيدو وترميه في الفرات

ليستحم من غبار الحروب

.. تنفض عنه شقاق السنين

.. تحرس مملكتك كجندي مقهور

ألا يقترب من جيدي أحد

.. ترسم حدودها بأنفاسك..

أنا أعلنتُ الحدَّ على ضفائري

ألا يلمسها جان

أو قائد مكسور في حرب..

اعتقني من جنونك أيها الولد

كفاك

لا تقترب من النهر المقدس

تعال

أعلمك المشي على النهر

والزحف على الشواطئ

نيران ثوراتك بلا حد..

اخمد أيها اللهب

تعال تفيّء في بساتين العنب

واشرب من حليب التين

غادر المهد..

استرح... ياااا... بشر؟

فك اسر تلابيبي

حل جيدي من مَسكَ

لا تعبث بضفائري... هي ذخائر عفتي

وبياض أيامي..

أَمنْ عشبة تشبع صيامك؟

الجم أحلام المهد

.. امضِ لغابات الأرز

.. أشعلْ النيران فيها

.. اطرد جانك

.. سامر جيوشك

تعلم يا طفلي فن الحرب

من لم يستطع أن يدير رحاها

داسته الجيّاد

ولن يذوق كاس رمادي

وبات بلا مجد.

***

د. نادية عوض/ فلسطين

قراءة فى رواية الكتاب الأبيض لهان كانج

بقلم: كاتي كيتامورا

ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم

***

جذبت روايتا "النباتية" و"أفعال بشرية" للكاتبة الكورية الجنوبية هان كانغ قراء اللغة الإنجليزية إلى عالمها الروائي المثير. وعلى الرغم من أن روايتها الجديدة "الكتاب الأبيض" تتميز بنبرة أكثر هدوءًا، إلا أنها أيضًا جريئة من الناحية الشكلية، مؤثرة عاطفيًا وعميقة سياسيا. أما صغر حجمها النسبي - 157 صفحة فقط، مصممة ليناسب راحة اليد - فيعتبر خادعًا؛ فهو علامة على كاتبة ذات ثقة عالية.

وقد تُرجمت الروايات الثلاث إلى الإنجليزية جميعا من قبل ديبورا سميث، التي نالت أعمالها شهرة واسعة: فقد فازت ترجمتها لرواية "النباتية" بجائزة مان بوكر الدولية لعام 2016، وكان "الكتاب الأبيض" من ضمن القائمة النهائية للجائزة في نفس العام. ومع ذلك، لم تكن الكتب السابقة خالية من الجدل، حيث أشار العديد من النقاد إلى وجود أخطاء في ترجمة "النباتية" والتعديلات التي أجريت على عباراتها الأصلية.

معايير مهمة المترجم ليست ثابتة بأي شكل من الأشكال، ويمكن أن تتراوح بين الترجمات الحرفية - كما يتذكر المرء ترجمة نابوكوف الشهيرة، التي كانت حرفية ومثيرة للجدل في نفس الوقت، لرواية "أوجين أونيجين" - إلى شيء أقرب إلى التفسير. من العادل أن نقول إن ترجمات سميث السابقة لأعمال هان تميل نحو التفسير. في مقابلة، وصفت "الإخلاص" بأنه "مفهوم عفا عليه الزمن، مضلل وغير مفيد عندما يتعلق الأمر بالترجمة." تم نشر العديد من المقالات حول هذا النزاع، وجرى جدل حول أن السجل المعزز لعمل سميث - إضافة العديد من الصفات والزخارف - جعل أعمال هان أكثر تقبلاً للقراء الغربيين. سواء كانت الترجمة الأكثر تقليدية والأكثر إخلاصًا ستمنح هان الجمهور الدولي الذي تتمتع به الآن هي نقطة جدل. لكن الجدل يثير سؤالًا مهمًا: هل تتمثل مهمة الترجمة ببساطة في سد الفجوة بين الثقافات أم أنها يجب أن تمثل تلك الفجوة بطريقة ما؟ هذا السؤال ذو صلة أيضًا بـ "الكتاب الأبيض"، الذي تُروى قصته على لسان كاتبة كورية جنوبية وصلت حديثًا إلى وارسو.

تتجول الراوية في مدينة تحمل آثار الحرب العالمية الثانية بشكل واضح: "الحدود التي تفصل بين القديم والجديد، والخيوط التي تشهد على الدمار، تظهر مكشوفة بشكل بارز. في ذلك اليوم، بينما كنت أمشي في الحديقة، أنها أول ما خطر في بالي." تلك "هي" هي الأخت الكبرى للراوية، التي توفيت "بعد أقل من ساعتين من الحياة." "كانتا ملتصقتين هناك على أرضية المطبخ، والدتي على جانبها مع الطفل الميت بين ذراعيها، تشعر بالبرد يتسلل تدريجياً إلى اللحم، يغوص حتى العظام." يصبح تلاقي المدينة التي أعيد إحياؤها والأخت المفقودة هو الخط الأساسي لرواية تروى في لمحات وقطع، كعمل من الذاكرة والتعويذة.

لا يمكن اتهام سميث في تقديمه لرواية "الكتاب الأبيض" بالإسهاب. فالرواية تتألف من فقرات قصيرة تركز على كلمة أو عبارة تتعلق باللون الأبيض، وتبدأ بقائمة تتضمن "الملح" و"الكفن" و"الورقة البيضاء" . من هذا، تبني الراوية الرواية: "الآن، في هذه اللحظة، أشعر بتلك الإثارة المذهلة التي تسري في عروقي. وأنا أخطو بتهور إلى زمن لم أعشه بعد، وإلى هذا الكتاب الذي لم أكتبه بعد".

ما يلي هو نص مشبع بـ "الإثارة المدهشة". تلاحق الأخت الميتة الراوية: "لأنه توجد لحظات، وأنا مستلقية في الغرفة المظلمة، عندما يكون للبرد في الهواء حضورًا ملموسًا. لا تموتي. من أجل الله لا تموتي. ... ربما أنا أيضًا، قد فتحت عيني في الظلام، كما فعلت، ونظرت إلى الخارج."

تنتقل الرواية بسلاسة بين "أنا" و"هي"، في تحولات بين الشخص الأول والثالث، ولكن أيضًا في الانهيار البطيء للحدود بين الراوية والأخت، بين الحياة والموت. يصل هذا إلى ذروته في تشكيل تاريخ بديل لولادة الأخت: "ومع ذلك، قبل الفجر، عندما جاء أول حليب أخيرًا من ثديي والدتها وضغطت بحلمة ثديها بين الشفاه الصغيرة، وجدت أنه، على الرغم من كل شيء، لا يزال الطفل يتنفس. على الرغم من أنها كانت قد فقدت الوعي بحلول ذلك الوقت، فإن الحلمة في فمها شجعتها على البلع برفق، ثم ازدادت قوة تدريجيًا".

تتكرر فكرة البعث في أعمال هان، وهي فكرة مرتبطة بالذاكرة السياسية والجماعية. في رواية "أفعال إنسانية"، تلاحظ كاتبة مداهمة غير قانونية من الشرطة على مجموعة من الناشطين. وفي هذا السياق، ترى شبح انتفاضة غوانغجو عام 1980، وهي احتجاج مستمر ضد الحكومة العسكرية في كوريا الجنوبية، أسفر عن مقتل المئات من المدنيين: "أتذكر أنني كنت ملتصقة بالتلفاز... ودهشت من الكلمات التي خرجت من فمي: لكن هذه غوانغجو... الانتشار المشع مستمر. لقد وُلِدت غوانغجو من جديد فقط لتُذبح مرة أخرى في دورة لا نهائية. لقد تم تسويتها بالأرض، ثم أقيمت من جديد في ولادة جديدة ملطخة بالدماء".

من بين أمور أخرى، يُعد "الكتاب الأبيض" نداءً عاجلاً لقوة الطقوس المرتبطة بالحزن — لأهميتها من حيث التعويض الشخصي والتاريخي. تكتب هان: "فكرت في حوادث معينة في تاريخ بلدها الخاص، البلد الذي تركته من أجل المجيء إلى هنا، عن الأموات الذين لم يتم الحزن عليهم بشكل كافٍ. بينما كانت تحاول تخيل تلك الأرواح تُشاد بها، في قلب شوارع المدينة، أدركت أن بلدها لم يقم بذلك بشكل صحيح مرة واحدة."

تستكشف هان الاحتلال بأشكال وسياقات متعددة، بدءًا من الاحتلال الياباني إلى التظاهرات السياسية، دائمًا تتبع "الانتشار الإشعاعي" للصدمات. لكنها أيضًا تدافع عن التعاطف، الذي يعترف بقوته وقيوده: "رأيت الأمور بشكل مختلف عندما نظرت بعينيك. مشيت بشكل مختلف عندما مشيت بجسدك.. لكن الأمر لم يظهر كما كنت أنوي. مرة بعد مرة، كنت أُحدق في عينيك، كما لو كنت أبحث عن شكل في مرآة عميقة وسوداء." في هذه الرواية الدقيقة والبحثية، تقترح هان، من خلال سميث، نموذجًا حقيقيًا للتعاطف، يصر على قوة التجربة المشتركة لكنه ليس قائمًا على محو الاختلاف.

(انتهت)

***

.......................

المؤلفة: كيتي كيتامورا / Katie Kitamura: كاتي كيتامورا (من مواليد 1979) روائية وصحفية وناقدة فنية أمريكية ذات أصل ياباني . وهي حاليًا زميلة بحثية فخرية في اتحاد لندن أحدث رواية لكيتي كيتامورا هي "الانفصال".

* الكتاب الأبيض، بقلم: هان كانج. ترجمة ديبورا سميث. 157 صفحة. دار هوغارث للنشر.

منذ ان وجد الانسان علی وجه الخليقة وقد خلق معه أداة الاستشعار والتمعن والتعبير، فاللغة في سلمها  الراقية ومرتبتها العليا تتمثل في الشعر والذي عرف علی مر العصور بمفاهيم متنوعة حسب استيعاب ونظرات الناس اليه؛ من بين تلك التعاريف انه لغة الوجدان أو كلام الروح.

فقد ذكر ابن خلدون في تعريف الشعر: إنّ الشعر هو كلام مبني على الاستعارة والأوصاف، المفصل بأجزاء متّفقة في الوزن والروي، المستقل كل بيت منه بغرضه ومقصده عما قبله، الجاري على أساليب مخصوصة.

ومن بين تلك التعاريف أيضا والتي أتفق الباحثون عليها ما جاء في انسكلوبيديا الويكي بأن الشعر: هو شكل من أشكال الفن الأدبي في اللغة التي تستخدم الجمالية والصفات بالإضافة إلى أو بدلاً من معنى الموضوع الواضح.

وقد قيل عن الشعر الكثير، من بينها:

الشعر وردة الرياح، لا الريح بل المهب، لا الدورة بل المدار. (أدونيس)

الشعر لا يعبر عن عاطفة، إلّا بعد أن تسكت ثورتها ويهدأ انفعالها. (نجيب محفوظ)

الشعر موهبة ومثابرة لصقل تلك المنحة الإلهية.

الشعر صناعة لغوية.. للتعبير عن ذواتنا.

إنّ صوغ الشعر جزء من الأحلام، والشاعر لا بدّ أنّه حالم.

الأوزان والقافية مهمان للشعر، لكنهما يستعملان بحذر، فإذا جاءت القافية- الموسيقى- بشكل عفوي كان بها، وإلا فلا ضرورة برأيي أن نضحي بالمعنى أو الصورة من أجل الوزن.

الا اننا هنا بصدد موضوع مختلف تماما عن معنى الشعر وأنواعه ونظرات الناس اليه، لكن بما ان موضوعنا يعتبر شعرا لذا استهلنا البحث بتلك التعاريف.

لكن السؤال الجوهري هو: لماذا نسمي شعرا عالميا. وما الفرق بينه وبين شعر محلي؟ وهل يجوز لنا ان نسميه هكذا. بما ان الشعر بشقيه شكلا ومضمونا بحاجة الى مهارات والتفنن والبلاغة، فلو امعننا النظر في تعريف ابن خلدون السالف للشعر نقرأ بين طياته العناصر المهمة للشعر والتي تنقسم الى قسمين: الشكل والمضمون.

ان الوزن والقافية والايقاع الخارجي للكلمات تعتبر من عناصر جمالية الشعر، الا ان الصور والاستعارات والتيمة والموسيقى الداخلي يعتبر من الشق الثاني. والذي برأي سيبقى هذا الجزء تمثيلا حقيقيا لأي نص شعري عندما يترجم الى اللغات الأخرى, وسيبقى منه هذا الجزء شعرا والباقي سيضيع اثناء الترجمة الی اللغة الثانية لأن كل لغة لها تركيبتها ومصطلحاتها الخاصة بها، حينها نستطيع الحكم علی النص بأنه شعر عالمي وقد اجتاز كل عوائق الزمكان ويتفاعل معه الانسان أينما كان علی وجه الأرض، لأن الجانب الشكلي سيفقد شعريته أثناء الترجمة وخاصة إذا لم يترجم شعرا في اللغة الثانية وتعتبر هذه الوظيفة صعبة للغاية خاصة إذا لم يكن المترجم شاعرا.

لكن الإيقاع الداخلي للمعنى سيبقى خالدا في أي لغة كانت، والتيمة  أوالصور الشعرية المتجددة لها دور فعال في تحريك غريزة القراءة عند المتلقي، وخاصة في هذا الزمن المتطور تكنلوجيا بحيث علی سبيل المثال لو فتحت صفحة على مواقع التواصل الاجتماعي كالفيسبوك ستقرأ كل محتويات الصفحات بلغتك وبمجرد تفعيل زر الترجمة وأحيانا سيقوم الموقع تلقائيا بترجمته الى لغتك، حتى ولو لم تكن هذه الترجمة دقيقة الا انها ستعطيك الإطار العام والفكرة الرئيسية من النص.

هل سألنا أنفسنا لماذا يعتبر نصوص بعض الشعراء عالميا ويشتهرون بنصوصهم الشعرية شرقا وغربا في حين لا نفهم كلمة واحدة من لغتهم الاصل، علی سبيل المثال اذا يوقفنا ويٶثر علينا نصا ما لأوكتافيو پاث  فهذا سببه انه  شعر جيد، مع العلم انه کتب معظم نصوصه بالاسبانية الا ان شعرية النص جعله عالميا حتی بعد الانتقال الی لغة اخرى غير لغة الام، أو فرنسية لرامبو وبودلير وأراغون أو الانجليزية لـ ت.س.الليوت أو الصينية لـ: لي باي... لكننا في نفس الوقت حينما نقرأ نصوصهم ستحركنا من الاعماق وتهز كياننا وكأنهم كتبوها لنا، هنا يلتقي الشعور الانساني والهموم البشري، لأن الحالات البشرية متكررة ومتشابهة والروح هي الشعلة الوضاءة والمحرك الحقيقي في وجودنا والشعر بدوره هو هذه اللغة المبطنة داخل اللغة العامة والكلام اليومي وسنلتقي الجميع في المضامين وما ادراك وسع المضمون في كل نص شعري، خاصة اذا يتقنه الشاعر ويغوص في أعماق الميتافيزيك اللامتناهي أو يوجه رسالة نصه الی البشرية ولا يخصه بموقع جغرافي أو زمان معين، بعكس نصوص المناسبات والاهداءات والاحداث العابرة أو المواضيع الذاتية البحتة، خاصة اذا  لم يقوم الشاعر بتحويل همومه الشخصية الی هموم مشتركة أي جعل ذاتيته موضوعيا.

فعلی سبيل المثال يكتب الشاعر سعد جاسم في 'الوفاء الجميل وانت تتذكر الشاعر الراحل كمال سبتي' في

-المنفيون-

منفيونَ نحنُ

يؤرّقُنا سؤالُ الغيبِ

والتأويلِ والرؤيا

-هلِ المنفى هوَ الزمانْ؟

-أمْ المنفى هو اللامكانْ؟

-هلِ المنفى خلاصٌ؟

أمْ قصاصٌ؟

أمْ رهانْ؟

على حصانٍ غامضٍ

يمضي الى المجهولِ

لكنْ ... نتبعُهْ؟ .... الخ

نرى في هذا المقطع بأن حالة كمال السبتي المكتوب له القصيدة هي التقاء كل روح مشردة في عياتيه المنافي، ربما يكون أنا وأنت أو الذي لم يولد بعد وسيمر بتلك المحن والتجارب المريرة من هول واضطهاد ومنفى ومرارة وشظف الحياة، ومع ذلك فقد نجح الشاعر الموهوب في ادخال إشارات فلسفية وانطولوجية ليستهل به نصه ويترك القارئ بين حيرة المعنى وهول المشاهد، واذا حذفنا منه اسم المهداة اليه النص سيبقى نصا مفتوحا بامتياز ويجتاز الحدود دون عناء القراء للبحث عن بروفايل المهداة اليه.

وهكذا في جدارية خالد الأمين- قصيدة للشاعر المغربي المرموق عبد الحق الميفراني والذي أهداه الى الشهيد خالد الأمين، الغائب الحاضر الى الحاضر خالد عبد الجبار، يمكننا ان نسميه شعرا مفتوحا بعيدا عن مفردات وهوية شخصية بعينها بحيث سيشارك المتلقي في العمل داخل النص بإعطائها منحنيات اخرى غير الذي يختبئ في داخل كينونة الشاعر ومراميه، وهذه دائما هي ميزة النصوص الغنية حيث يكتب الميفراني في نصه:

يا آخر الهلع

لمستك

ومازالت يدي تدعن

لصحراء المسافات

عبثا

توغل جسدك في أنفاس

منفى

سيجته بهاء فراغاتك الباردة..

عبثا

تطرق دقات الكينونة

دالية

دمع الشهداء

كما يستهل الشاعر هذا النص علی نفس وتيرة القشعريرة الداخلية وكأن كل (شهيد الكلمة) هو الشاعر نفسه أينما وجدوا، ولقد استطاع بنجاح ان يجعل الذات موضوعا ويعطي بنية واسعة ومتينة لهذا المعنى الخالد والذي يتكرر علی مر العصور سواء كان حلاجا أو خالدا أو مارتن لوثر أو لوركا أو بكر علي أو غيرهم...

ممسكا بالضيق

يفرش لمرفأ العالم

كينونة عصية على اليأس

ثمة

عين تشعر بالحقيقة

لدا تنتظر اللغة آخر سقوط

للنهار..... الخ

 وعلى نفس المنوال لو ألقينا النظرة علی بعض النصوص العالمية للشعراء الأجانب نتلمس تلك النفحة والنفس الكوني للمعنى الشعري والمضامين المبتكرة من خلال متن نص يجتاز كل الحدود العرقية ويدخل أبواب والوجدان والعقول دون استئذان، وهذا هو سحر الشعر الذي يغذي الروح وتنجذب اليه دون الكلام والإعلان.

يقول تي سي ألليوت في مقتطف من القصيدة، من مجموعته الشهيرة (زمن التوتّر)

وتُخلق العينُ العمياء

اشكالا فارغة بين الابواب العاجية

وتسترجع المالح للارض الرملية

هذا هو مكان الوحدة

حيث تعبر الاحلام بين الصخور الزرق

هذا هو زمن التوتر

 بين الموت والولادة.

كلمات رنانة موسيقية معبرة عن مضامين متفاوتة بين الانطولوجيا، والسيكولوجيا والذات المحصورة بين التيه والخلود والفناء، حيث يدخل المتلقي ويعطي ويوظف الرموز والمصطلحات حسب فهمه واستنباطاته، ومن ثم التقاء الصور وتجميعها في لوحة مكتملة لمعرفة رسالة النص ودور المتلقي فيها، بين فلسفة وجودية وسهل ممتنع معرفي.. مع كل هذا وذاك يرجع اليه القارئ في أوقات متفاوتة ودون الاشباع منه، بل أكثر من ذلك يمكن ان يعطيه دلالات مختلفة مع كل قراءة، كمتن بحاجة الى حواشي عدة لاكتماله وحسب حالات المتلقي المغايرة, وبغض النظر عن توظيفات الشاعر للرموز والدوال في نصه.

فلنأتي بمثال آخر من فرنسا وهو ليس الا (لويس أراغون) حيث يكتب في - شظايا -عن ذاته لكن في صيغة أقرب الى حالات كثير من قراء العصر، الضمير المستخدم في النص هو الشاعر نفسه لكن الكاتب هو أنا وأنت وكل من يصارع الجهل ويجاهد حثيثا للوصول الى بر الأمان، مع إيجاد إيقاعات كلمات كل من (سكين من القتام، هرة في مخيلة، اناء زهر ذابل، ثقب في قلب) تدوي صداها في الأعماق دون الخروج من هذه المعضلة والنزف المفرط، وليس منا من هو دون ثقب أو ثقوب في قلبه، لكن كل له أجواءه وتضاريسه الخاصة به حسب مستوى ادراك الشخص وهمومه وانفعالاته الحياتية مع خلفيته المعرفية والأدبية بالتأكيد:

أتجول

وسكين من القتام مغروزة في نفسي

أتجول

وهرةٌ في مخيلتي

أتجول

ومعي إناء زهر ذابل

وصور مصغّرة

أتجول

بأطمار بالية

أتجول

وثقب كبير في قلبي

وأخيرا فلنأتي بأسطر شاعرنا المغربي عبد الحق الميفراني في نصه القصير (ديداكتيك جمالي):

مر كثير من الألم الأسود من هنا

قرب شرفة تصنع جل بورتريهات رائحة البحر

مرت كثير من المعاني حتى الجميلات منها

تبخرن في المحيط المطل على صدري الأسود..

‏ جاء في العنوان مصطلح (ديداكتيك) وهي طريقة تدريس تتبع نهج علمي أو نمط تعليمي يشارك فهم الطالب وعقله غالبا ما يتناقض مع أسلوب الديالكتيك والأسلوب السقراطي. كلمة ديداكتيك تعني تعليم أو ما نتج عن التعلم وبكم أخرى علم التدريس. الديداكتيك بمفهومها الضيق هي نظرية التعليم أو التدريس. وبمعنى أوسع هي نظرية وتطبيق عملي للتعليم والتعلم. ويقبله أسلوب ماثيتي أو علم التعلم. قد يتناقض هذه النظرية مع مفهوم 'التعلم المفتوح' والتي تتعلق بالتعلم الذاتي حول موضوعات ذات اهتمام وبطريقة غير منظمة. 

لكن الشاعر هنا أضاف الى هذا المصطلح كلمة (جمالي) أو الاستيطيقا وأصبح مركبا ذو بعد شعري مجازي أعمق، بحيث يرسم الشاعر الموهوب من خلال هذه البورتريتية الجمالية (كي تعلمنا) دلالات الجمالية والعمق الشعري بالبدء من الذات المهمومة ومرورا من خلال الشرفة المطلة علی البحر ثم الالتفاتة الى أغوار المضمون (صدر) والمعان وشيء من علم الكلام وينتهي بالمحيط ومن ثم الرجوع الى الذات المكلومة، أي ان هنالك أوجه التشابه علی هذه الوتيرة:

 (ألم أسود <-----> صدر أسود)

(رائحة البحر <-----> محيط مطل علی صدر)

مع ان دنيا جمال الطبيعة خلابة وهي لا تفهم الا لغة الاشراقة والابتسامة، لكنها هنا تمتزج بمشاعر وتجارب شاعر مكترث بالبلاغة حيث يصنع منها صورة مجازية وفكرية في آن معا بالرجوع الى الذات حيث يبدئ التغيير من هناك ويوظف صفات بشرية علی الطبيعة من خلال رٶاه الشعرية وتخيلاته، هنا يظهر للعيان معاناة الانسان في هذا العالم المليء بالفوضى والقهر والاضطهاد حيث يذوب كل الوجود داخل الأعماق وهذه الانطباعية الوجودية السوداوية تسيطر علی الذات وفي النهاية ستعطي معان جديدة أخرى للجمال وعلم الجمال الشعري.

***

سوران محمد

...................

المصادر

١- مجلة الكلمة العدد ٣٧ لشهر مايو ٢٠١٠

2- T.S. Elliot, The Complete poems and plays, 1909-1962 Faber and faber Publisher.

3- Ruth Padel, 52 Ways of Looking at a Poem.

4- Wikipediaقواميس وتعاريف

 

بقلم: فلابيا بيسثي فيلتري

ترجمة واعداد: يوسف امساهل

***

العزلة ليست دائما مكسبا. ليس نصرا أن تتحسس في العتمة المنزل الفارغ، المهجور، الجسد المنفي في الظلمة، المهمش. العزلة والاخلاء ليسوا على الأقل ممتلكات. هم أهداف تم تحقيقها، بسبب او بدونه، تجبر الشخص على ايجاد طريقة مختلفة لرؤية العالم، طريقة أخرى للارتباط به. يمنحونه أحيانا ورغما عن نفسه صوتا جديدا بأصداء مظلمة. " مارتينيث باشريك، 2011، ص 337".

مقدمة

تفتح عينيها قليلا، تتلمس موضع الضوء وتشعله، تتحسس طاولة سريرها، تأخذ ورقة، تبحث عن القلم داخل الدرج، تبدأ في خربشة كلمات، والأرق قد سيطر عليها وصارت جزء اً منه، ثم تجمعها في جمل لا معنى لها على ما يبدو؛ ظلال تملي ما لا يريد النهار رؤيته، تكتب بهذيان ودون تفكير، يدها لم تعد جزء اً من الجسد، تدون، تشطب، تجمع، تفكك، تتوقف، أصبح للورق جلد أخر، فالظلام يعبر، لا يمكنه ان يطل على النهار وينتظر الليل جاثماً.  تصدر أنينا من شدة إنهاكها، يسقط القلم الأعزل،  تطفئ الضوء، تنكمش على شكل لفافة خيط، ترتجف

عندما نقرأ لانطونيا بالاسيوس يهيأ إلينا أنها غارقة في غيبوبة لا نهاية لها وان الليل قد أسرها، منهكة القوى من شدة الهجر، وفي بحث مستمر عن صفاء الهدوء والسكينة. هذه الحالة النفسية تحديدا هي التي تحاصر انطونيا بالاسيوس وتسيطر على شعرها الذي كتبته بعد حدث يعد الأشد إيلاما بالنسبة لكل أم، ألا وهو فقدان احد ابنائها.

و نتيجة لهذا المصاب الجلل أصيبت كاتبتنا باكتئاب حاد أبعدها عن العالم وطردها من الحياة. وبذلك استقر في جسدها وفي روحها حزن عميق يستحيل التغلب عليه نهائيا

راهنت انطونيا على المنفى الاختياري والتواجد في مكان، هو اخطر منطقة في اللاّ انتماء (اسينثيو، 2004، ص 98) حيث صار وجودها دون مبرر ودون موطن يذكر، لتتأمل العالم من مسافة مليئة بالذكريات والحنين

في شعر انطونيا بالاسيوس تبدو بوضوح شديد تلك الحالة النفسية التي تسمى بالمنفى الداخلي، ويختلف هذا المنفى عن المعنى المتداول كونه إبعاداً قسرياً عن الوطن لأسباب سياسية أو اقتصادية أو دينية أو عرقية أو اجتماعية (بواداس، 2000، ص 26

إن المنفى الداخلي الذي نستشعره في أبيات انطونيا يوقظ كذلك حركة مستمرة وتجوالا من مكان لأخر على شكل سفر، لكنه بحثا عن وطن للروح. فكل من يعيش هذه الحالة النفسية يفر من نفسه لعدم قدرته على البقاء

وكما أن المنفى الخارجي يعتبر حصيلة مواقف سياسية أو اقتصادية أو عرقية تعرقل مسار الحياة الطبيعية، فإن المنفى الداخلي هو نتاج سبب خارجي لا يتحكم فيه ذلك الذي يعاني منه، انه حدث مأساوي يدفعه للانكسار ويترجم الى تجزئة مرتبطة بالوجود والغرابة وبالمنفى الداخلي لموجات عميقة والذي هو بالتأكيد شكل من أشكال المنفى(أسينثيو 2004، ص 113).

انطلاقا من هذا التشرذم تجد انطونيا بالاسيوس، وهي منفصلة عن نفسها، في الشعر، أداة لإخراج ألمها الكوني والشمولي وتفتح ممراً في الظلام وتخلق الجمال بسبب المعاناة والشقوق التي تنخرها.

و انطلاقا من وفاة ابنتها باعتباره حدثا غامضا، فان انطونيا ـ ووجودها إجمالا ـ  لن تعود أبدا إلى المكان الذي كانت تسكنه، بل سوف تتجول بين الكلمات وظلالها وسترتبط أيما ارتباط بالشعر نفسه بالرغم من ارتياب الأصدقاء والعائلة، بيد أنها ستظل دائما منفية من الحياة ومن نفسها. وهو ما تعبر عنه مارينا كاسباريني في مختاراتها المتميزة من شعر أمريكا اللاتينية تحت عنوان: المنافي:

المنفى هو رحلة بدون عودة، فلا يمكن الرجوع من المكان الذي فتحته فينا جغرافية التهجير. تتغير الأرض التي ابتعدنا عنها ونتغير نحن كذلك، لنصير منذ ذلك الحين سكانا للاغتراب. لم نعد كما كنا ذلك الشخص الذي يتجول من جديد في شوارع ذاكرتنا ذات يوم.

نتابع مسيرنا دون ان ندرك الايقاع المتوازن لاولائك الذين يشعرون بالامان في وطنهم: ضمير المنفى يشير بايقاع مختل لخطواتنا المندفعة. ففي اغترابنا نفقد تسلسل الاحداث ومعانيها، ونفقد الشعور بالامان واليقين في حين يكبر الاحساس بالعطف في ظل العجز . (كاسباريني، 2012، ص XV)

سنحاول في السطور الآتية تقديم مقتطفات من السيرة الذاتية لانطونيا بالاسيوس حتى نتمكن لاحقا من ملامسة شعرها باعتباره تعبيرا عن هذه الحالة النفسية الناجمة عن حدث مأساوي آت من بعيد وخارج عن سيطرة الشاعرة وكذلك كوسيلة إبداعية لاجتياز الظلمات والبقاء على قيد الحياة

الكتابة الشعرية المرتبطة بالشخص المنفي الذي يتوفر على طريق واحد: نقل عزلته وعدم ارتياحه وحزنه وتوازنه وقوته.(بينييدا بيريث،2000،ص69). تقوم انطونيا بصياغة هذا التحول وهي حائرة بين الوجود واللاوجود، تفر من الظلمات وتعود إليها لتترك لنا شعرا شاملا ورائعا يهزنا هزا

لمحات من سيرة انطونيا بالاسيوس (1904 ـ 2001)

رأت انطونيا بالاسيوس النور في مدينة كاراكاس سنة 1904، وكان لها كبير الأثر في أدب فينيزويلا من خلال انتاجاتها الأدبية الغزيرة التي شملت الأعمال السردية والمقالات والقصص والشعر وكذلك من خلال ماقدمته في الورشات الأدبية التي كانت تلقيها في منزلها كاليكانتو

وقد شهد عقدها الرابع غزارة من حيث الانتاج وقامت بالعديد من الرحلات داخل وخارج فينيزويلا. وفي عام 1944 قامت بنشر كتابها "باريس وثلاث ذكريات" وبعد بضع سنوات (1949) بدأت مسيرتها الادبية تعرف تأثيرا كبيرا مع صدور روايتها الاولى والوحيدة "أنا إسابيل، فتاة عفيفة" والتي نشرت في بوينوس ايريس

وقد حظيت هذه الرواية بترحيب كبير في الأوساط الأدبية المحلية والأجنبية وتعتبر اليوم مرجعا أساسيا  في أدب فينيزويلا. وبعد سنوات نشرت انطونيا مجموعة من القصص جمعت في "قصص الساعات" (1954) و"رحلة إلى نبات الفرايليخون" (1955

وعندما بلغت 37 سنة ازدادت ابنتها ماريأنطونيا التي تميزت منذ نعومة أظافرها في العزف على البيانو، لذلك كرست انطونيا بالاسيوس نفسها روحا وجسدا لتطوير ابنتها فنيا، فرافقتها في العديد من الرحلات لتشجيع مسارها المهني. وقد عاش كلاهما في نيويورك وفي العديد من المدن الأوروبية إلى أن قررت ماريأنطونيا سنة 1957 التخلي عن البيانو والرجوع الى كاراكاس، مما تسبب لامها في خيبة أمل كبيرة لدرجة ان ذلك احدث بينهما شرخا مؤلما وعميقا.(مارتينيز باتشريك ، 2011، ص159

وبعيد وصولهما الى كاراكاس قررت ماريأنطونيا ان تتزوج وتشارك بشكل سري في مجموعات تخريبية ضد نظام الجنرال بيريز خيمينيث الديكتاتوري ومع ذلك فان استمتاعها بحريتها خارج الصرامة التي يفرضها البيانو سيكون عابرا لانها كانت مصابة بمرض السكري الحاد، الذي تسبب بعد بضعة أشهر في وفاتها "1963.

بالنسبة لكاتبتنا، الموت المفاجئ لابنتها كان قاتلا حيث أنه حطم حياتها. فقد عاشت بالاسيوس منذ تلك اللحظة متأثرة بمشاعر الألم وكما ذكر مارتينيث باشريك فإنها انغمست في اكتئاب حاد استطاعت التخلص منه تدريجيا بفضل وجود عائلتها وأصدقائها الذين يحبونها وكذلك لان الوجود نفسه فرض ذلك بشكل من الأشكال

. بدأت تتلمس الطريق لتستعيد عافيتها وهي تنسج خلال الليل خيوط الكتابة الشعرية مما سيساعدها رويدا رويدا على الاندماج مجددا في العالم. ستحمل معها معاناتها بفضل الشعر، ورغم عزلتها فهي قادرة على قول ما لايمكن تصديقه. إنها الوسيلة الممكنة لانطونيا لتعبر عن نيران معاناتها  ومخاوفها واحتضارها المدمر

ان حياة الام، وحياة المرأة وحياة هذا الكائن الذي هو انطونيا تلك التي تعيش معزولة ومهمشة، صارت كلها انطلاقا من هذا اليوم والى الابد " قطعة أرض دون سماء فوقها " أو بالاحرى ان الحياة انتهت في تلك اللحظة. ومن الان فصاعدا فكل ما تبقى هو حياة زائدة ورمادية ومظلمة ورهيبة. وأنطونيا تقبل ذلك، لانها دخلت في اللعبة الخبيثة. وكأنها تقول: فليكن رعبك لا حد له، فليكن رعبك قاس وبشع..

ولعل صوتها الذي يتلعثم أو يهمس أوينوح أو يصرخ قصائدها المستقبلية يصدح من تلك الهاوية. ولذلك نعتقد ان قراءة الاعمال الناضجة لانطونيا خصوصا: "نصوص الاخلاء" يتضمن خطرا محدقا بين ثناياه . لهذا فلا يمكن ان نخرج سالمين من هذه القراءة. (مارتينيث باشريك، 2011، ص164)

عند بلوغ 55 عاما، وهي في قمة نضجها، تجسد الشعر في انطونيا ليعيدها للحياة (مارتينيث باشريك، 2011،   167)

وبذلك استأنفت مسيرتها الأدبية. وفي سنة 1972 بادرت لإصدار مجموعة قصصية بعنوان "سكان الجزيرة" وفي السنة الموالية، اي سنة 1973، ظهرت قصائدها النثرية الأولى تحت عنوان "نصوص الإخلاء" لتفتح بذلك الطريق نهائيا نحو الكتابة الشعرية في سن لا نتصور فيه إلا الصدق في الكتابة مهما كانت قاسية ومحفوفة بالمخاطر

في سنة 1976 تم تتويج انطونيا بالاسيوس بالجائزة الوطنية للاداب عن مجموعتها القصصية "اليوم الطويل آمن فعلا

لتصبح أول امرأة فينيزويلية تحظى بهذه الجائزة، وفي نفس السنة حصلت قصتها "خطوات المطر" على الجائزة الثانية في المسابقة القصصية التي تنظمها صحيفة ´إالناسيونال´

يجب الإشارة لشئ مثير للاهتمام،هو أن من بين 52 متوجا بالجائزة الوطنية للآداب المعترف بما محليا ودوليا منذ عقود والتي تعد مرجعا أدبيا منذ إنشائها عام 1948 حتى حدود عام 2000 تقريبا، هناك 6 نساء فقط حصلن على الجائزة، كانت أولهن، كما ذكرنا سالفا، انطونيا بالاسيوس..

وفي السنوات الموالية، استأنفت تدريجيا أنشطتها الأدبية بانضمامها للمركز المرموق "رومولو كاييكوس" المعنى بدراسات امريكا اللاتينية "سيلارك" حيث كانت عضوا في لجنة التحكيم التي منحت جائزة "رومولو كاييكوس" للرواية للكاتب الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيث عن مؤلفه مائة عام من العزلة.

وبطلب من صديقها الكبير اوسفالدو تريخو (مارتينيث باشريك، 2011، ص211) تقلدت شاعرتنا إدارة ورشة الأعمال السردية في المركز نفسه. وبمجرد انتهاء هذه التجربة، افتتحت ورشة خاصة بها تعنى بالشعر وبالأعمال السردية، لتبدأ  مرحلة تسمح لها بالاندماج في الحياة بمعية أصدقائها وطلبتها. وبذلك صار منزلها "كاليكانتو" مركزا لحركة أدبية ساهم فيه كتاب شباب متحمسون أصبحوا اليوم من شعراء ومثقفي فينيزويلا

في هذه الورشة تولدت فكرة انشاء مجلة ادبية "اوراق كاليكانتو" حيث نشرت نصوصا لما لايقل عن 60 شابا من المشاركين. وكان ذلك قطعا بفضل حماس شاعرتنا السخي التي لعبت دورا محوريا بتوجيهها لعدة اجيال، كما يؤكد ذلك مارتينيث باشريك "2011"..

وقد بلغ عدد المشاركين في المجلة من بدايتها الى صدور اخر عدد اكثر من 60 شابا مبدعا. وفي مرحلتين مهمتين من تاريخ المجلة التي كانت بمثابة الذراع الاعلامي للورشة، احتضنت اعمال مبدعين من قبيل "هوغو اتشوكار" و"رفاييل ارييث لوكا" و"ايكور بارييتو" و"رفاييل كاستييو ثاباطا" و"ارماندو كول" و"سيرخيو دابار" و"باسكوال استرادا اثنار" و" جاك جيرار" و"اليانا غوميث بيربيسي" و" سوسيا غونثاليث" و" البيرطو غواوورا" و" باتريسيا غوثمان" و"ايلينا اغليسياس" و" الياسار ليون" و"ادواردو لييندو" و"خوليان ماركيث" و" ميغيل ماركيث" و" انطونيو ميندوثا وولسكي" و" اسطيفانيا موسكا" و" ويليان نينيو اراكي" و" يولاندا بانتين" و" لويس انريكي بيريث اوراماس" و"جون بيتريزيلي" و"باربارا بيانو" و" ماريا ايلينا راموس" و"نيلسون ريبيرا" و"انطونييت روش" و"ارماندو روخاس غوارديا" و"لورديس سيفونتيس غريكو" و"بلانكا ستريبوني" و"باسكو سينيطار" و"نابوس ثامبرانو" ، فضلا عن مبدعين اخرين ومتخصصين في الرواية والمقالة والشعر والرسم والنحث والتصوير والسينما وعلم النفس والصحافة والهندسة المعمارية والامراض العقلية ورجال السياسة، ممن صاروا رواد الثقافة في فينيزويلا خلال العقدين المواليين (مارتينيث باشريك، 2011، ص229

خلال عقد الثمانينات، اصدرت الشاعرة مجموعة قصصية بعنوان "ساحة تحتل فضاء محيراً" '1981'، كما اصدرت الدواوين الشعرية التالية: "العتمة المضاعفة" '1983' و"الحجرة والمرآة" '1985' و"رياح عاتية من الذكريات" ' 1989' وفي بداية التسعينات اصدرت " حيوان الحلم المظلم هذا" '1991' و"رجفة الموارى العميقة" '1993'.

وبعد 38 سنة من رحيل ابنتها، توفيت انطونيا في منزلها 'كاليكانتو' يوم 13 مارس من سنة 2001 عن عمر يناهز 97 سنة.

وبحسب الذين عرفوها، كانت انطونيا بالاسيوس أساسا خجولة وتشعر بالاضطراب عندما يتم التحدث عن كتاباتها.

هذه الخصائص الشخصية ترجع، على ما يبدو، الى كونها كانت عصامية، بمعنى:

انها كاتبة بالفطرة، دون اي تكوين أكاديمي ودون معلمين بالمعنى الدراسي للكلمة، على عكس المؤلفين الكثر الذين قرأت لهم والذين يكتبون بشغف وبإحساس مرهف وكذلك على عكس أصدقائها المقربين والكتاب والفنانين الذين ينتمون للطبقة الراقية. "ماركيث « Xرودريغيث، 2002، ص ا

ان عفويتها في الكتابة، والتي لا تحتاج لإبراز المعارف كما يفعل الكثير من المثقفين، تسمح بان تصل مؤلفاتها للقارئ بعمق. هذه التلقائية في التعبير والصدق في قصائدها النثرية تمهد الطريق لأبياتها لتكتسح ثنايا كل من يقرأها تاركة بصمتها التي ترج .

وكما أشار ذات مرة الشاعر الفينزويلي ايغور باريت،  تلميذ انطونيا واحد أهم شعراء فينيزويلا في الوقت الحاضر، في إطار الورشات الشعرية التي يديرها حاليا في مدينة كاركاس "لا الذكاء ولا الفكر يقودان الى قصيدة جيدة، يجب ألا ننتظر لنكون مثقفين، الكتابة هي شغف بذاتها وبالعالم" وهذا بالضبط ما يحدث لنا مع شعر انطونيا الذي يكشف عن تمجيد للكلمة وللعالم وذلك ببناء ـ حول مواضيع محورية كالبيت والطفولة والزمن والأفول والخراب ـ "ماركيث رودريغيث، 2002، ص 13" عالم ندرك فيه أنفسنا ونعود إليه بخوف وإعجاب

المنفى الداخلي لانطونيا بالاسيوس

تظهر نصوص انطونيا بالاسيوس الشعرية ان بإمكان الشعر أن يكون أداة تساعد من يكتبه ليبدأ مسارا عميقا  يمكنه من تغيير نفسه بنفسه. فمن خلال الكلمة الشعرية صارت انطونيا قناة تعبر من خلالهاعن إرادة غريبة على ما يبدو،  لتصيح أو تهمس لها بأصوات وأوهام. إن لاوعيها هو من يدفعها لمواجهة هذه الإرادة والنظر في عينيها لتحاسبها من عمق بحر هارب ومضطرب

في هذه العملية الإبداعية لا يتمكن الجميع من التملص من براثن الظلام، حيث يعلق البعض بين الطحالب اللزجة في معركة دائمة ضد الحيوانات البحرية أما البعض الأخر فيتمكنون من العوم بتحسس ليصلوا للسطح: يتنفسون وينظرون  من أعلى البحر ويستنفذون طاقتهم بينما يحاولون أن يطفوا ويغوصون من جديد ويستسلمون وفي منتصف السقوط يعودون للحياة ليعطوا شكلا وصوتا لعالم العتمة ويعطوا معنى لوجودهم. هذا المسار تحديدا هو الذي تجسد انطونيا عندما تكتب قصائدها الناضجة.

في ديوان "نصوص الإخلاء" الصادر سنة 1973 "10 سنوات بعد وفاة ماريانطونيا" ـ والذي سنسلط عليه الضوء في هذا العمل ـ تظهر انطونيا مرتجفة، تطل من الهاوية، من ليال طويلة ومنيعة محاولة التبات في مكان الغياب، خارج العالم، في المنفى حيث تقطن تجاويفها والتي تحاول انطلاقا منها أن ترفع يدها لتلمس قبس النور الذي يحاذي طيات حياة تشعر أنها مبعدة منها

وفي زمن مشروخ ، وبعقل مضطرب وكلام من يشعر بالإقصاء، تثير انطونيا الغبار الثقيل لتشير مباشرة للمخاوف وللشكوك التعيسة وللتعب المبهم ، راجية من منفاها الداخلي عطاء صادقا ونهائيا. يفهم هذا المنفى على انه هيمان فكري حميمي لمن كانت منفصلة عن العالم وغريبة حتى عن جسدها ونفسها وهو من يفرض عليها الشعر كوسيلة لبناء أرض أخرى يكون الوطن الوحيد فيها هي الكلمة التي تلعثم هروبا من واقع يصعب الحفاظ عليه لأنه يأسر ويقصي ويتخلى..

انه عالم الظلام الذي يغرقها في الصمت، هي ارض لا يمتلكها احد حيث الحاجة الملحة هي صاحبة الطلب، من هذا الفضاء الذي يفتقر للأرضية وللأساس تكتب لنا انطونيا لتكشف عن نفسها وتكشف النقاب عن الهشاشة التي نحن عليها. فهي لا تعرف أين توجد او على الأقل إن كان يجب أن تتواجد. تتفحص جرحها وتتحمله بكل عناية، وانطلاقا من هذا الكسر تتكلم عنه  وتمنحنه لنا

تسعى انطونيا، ربما بشكل فطري، ان تؤسس لنفسها واقعا خاصا بها بخلق جسور هشة بين العدم الذي تسكنه ووجودها من خلال الكلمة التي تناجيها. لقد ارتمت بين احضان الموت وهي على قيد الحياة، تبحث من خلال مؤلفاتها ان تتواصل انطلاقا من الصمت، تدفعها قوة البقاء على قيد الحياة التي تخترق الشقوق الصغيرة لغرفتها. تستعيد انطونيا انفاسها عن طريق الشعر، وتحاول الكتابة اقناعها بان المرء يمكن ان يعيش بالرغم من ألم العالم.

المنفى الداخلي للشاعرة هو تحديدا ما نسعى لملامسته في قراءة بعض القصائد التي تم تجميعها في "نصوص الإخلاء" التي تتألف من ثلاثة أجزاء؛ حيث يحمل الجزء الأول نفس العنوان، بينما يسمى الثاني والثالث على التوالي "اساس مضطرب" و"زمن مشروخ" وكلاهما يخبر القارئ بما يحمل بين يديه: انطونيا المقعرة والمظلمة والمتضرعة  التي تحكي من مكان تألم جسد وروح منفصلين عن بعضهما، إنها الشاعرة التي تترجم الهجر والنفي.

تتوق الشاعرة في "نصوص الإخلاء" للعدم وتتوسل لتتجاوز اضطراب الأرض والصلابة الصخرية، وتسعى للتخلي عن الأشياء والأماكن وتناجي الليل بان يسمح لها باختراق النور الحقيقي، وتتمنى أن توقف الحياة ـ وهو أفق قسري ـ التي تم اختراقها من الزمن الذي لا يتوقف، وهو ما يمنع من تجسيد الماهية الحقيقية

إنها تود أن تخترق اللحظة دون أبعاد ودون مسار محدد، اللحظة الغير متوقعة والهدوء المنهك والهجوم المظلم.إنها ترغب في اختراق الليل، الليل ـ الجزيرة والليل ـ الكون الذي يهم بالنزول. إنها تأمل أن تخترق النور وان تسمو مضيئة وتصعد غير أبهة بفوضى الأرض وبالصلابة المتحجرة، وان تلمس فضاء ات بيضاء وعوالم لا وزن لها مجردة من كل كثافة. إنها ترغب في ترك كل الأشياء. ترغب في ترك الأفق الذي لم تختره وترك كل الأماكن. تود ألا تكون في اي مكان وتخترق الزمن في دورانه السريع وتخترق العلامات والإشارات. لاترغب في أن تكون. ترغب في الا تتواجد وآلا تكون في هذا الكون المعقد والمتشنج الذي لا يطفو. انها ترغب في فتح اقامات دائمة ولمس مواد وأشياء من شأنها أن تنعش وتدخل البهجة والسرور من جديد. إنها تأمل بان تكون جزء ا من الانصهار الدائم للوجود. "بالاسيوس، 2011، ص511"

وبينما تتوق الا تكون في اي مكان يذكر، فهي بالفعل ما زالت على قيد الحياة، تتنفس وتستشعر ثم تتوغل، وهي مجردة من نفسها داخل انفصام عميق بين الوجود وعدم الرغبة في الوجود، في المنفى الداخلي، لتزحف وتنادي نفسها لكنها لا تجيب، ثم تتخلى عن نفسها وهي تتمزق ذاتيا ثم تموت تلقائيا.

جزء منها يهرب، يرتجف، ثم ينحني. وجزء ينفصل ويمتنع ويتنفس. أما جزء أخر، فيستشعر نفسه ويتوقف ليستشعر العزلة والعتمة، يتوقف دون أن يعلم بذلك وينفصل دون أن يعلم بذلك، ينفصل عن جزء أخر ليتشابك مع نفسه، مع الجزء الذي يظن انه مختلف وهو نفسه...

جزء يتخذ الزمن المهجور والمعزول متكئا، جزء وحيد يبحث عن نفسه ويتتبع خطواته، يبحث عن نفسه دون أن يجدها، يقوم بتهدئة نفسه ويتضرع إليها، يندمج في الفراغ، ينادي نفسه دون أن يجيب، جزء ينفصل بإخفاق...ينفصل...ينفصل...آه الجزء الذي يجعلني انحني وارتجف! آه الجزء الذي هو مني ويتنكر لي، يتخلى عني، الجزء الذي يموت!. " بالاسيوس، 2011، ص 513".

اجزاء انطونيا تنفصل، في صمم عن البحث والتضرع، كما أنها تشيع مراسم جنازتها التي هي في نفس الوقت جنازة كل ما تم التخلي عنه. في هذه الأثناء، يصبح العالم، وهو محروم من أنظار من لم يعد موجودا، اخر قطعة صغيرة، اخر مسلوب، يصبح بحرا مهجورا تمر منه الكلاب اللاهثة، دون امل في العثور على اي قبس مشتعل أو أي وهج

مثل ملابس العزاء، مثل أخر قطعة صغيرة، مثل أخر شئ منتزع، صفائح في حداد، أهداب تزيل خيوطها، طيات عميقة وهائلة، مثل غابات مقتلعة، مثل مدن حزينة، مثل غبيات مجردات من لباسهن، مثل بحار مهجورة، مثلما تمر الكلاب اللاهثة، مثلما يعبر الهواء، مثلما يمر اليوم، مثلما تسحب الساعات وتتداخل، مثل ملابس حداد منشورة وفارغة ومغبرة وذابلة. فأين الوهج؟ اين اللمعان؟ اين القبس المشتعل؟، الاتقاد القصي، أين العبور، أين الانتظار الهائم، أين الفجر، أين الاين، أين الهناك، أين؟...هنا ...هنا الليل، هنا الغياب، هنا العدم. "بالاسيوس، 2011، ص515".

و بمؤلفها " اساس مضطرب"، الذي يشكل الجزء الثاني من ديوان "نصوص الاخلاء"، تبدأ في رمق هذا المكان، هذا الاين، هذا الاتقاد القصي جدا الذي بتشبتها به واعتمادها عليه ، نجر ؤ ان نقول انه بإمكاننا ان نرى كيف ان كاتبتنا تشرع من الاعماق وعن طريق ابداعها الشعري في بناء دعامة تتمسك بها، اساس ما يزال هشا وقلقا وحائرا، لكنه في النهاية اساس.

ولذلك، فإننا نشارك في إعادة بناء جسد من أدركته الموت دون ان يموت، وهو يبحث عن يوم جديد ومتجدد. يصبح اذن أمرا ملحا ان تدير ظهرك للجدران المدمرة التي هزها الصمت، وأن تنبعث من مصدر مجهول بإشارة جديدة، تلك التي لم تستخدمها من ذي قبل.

اصنعي نفسك من جديد، ابن نفسك في اليوم الجديد الذي بالكاد رأى النور ، اصنعي نفسك في اليوم الذي يضئ، أنت، سجينة وبدون كلام. أنت وحيدة، في عزلة بين المئات، بين الآلاف، بين لا احد، وحيدة. وحيدة بين أشياء لا وزن لها، بين البخار الذي ينضح الليل المنطفئ. اصنعي نفسك بشكل مغاير، أنت وحيدة، دون كلمة تحملك ودون نظرة ترشدك، وحيدة. وحيدة...

ابن نفسك من جديد كمن يسبح فجأة، قم بحركة جديدة، تلك التي لم تستخدمها من قبل، اجعل البيت يرحل في تعويذاته وفي مطره الذي يهطل غبارا. ابتعد دون خوف، ادر ظهرك لنوافذ غارقة في الهواء ولجدران مهدمة هزها الصمت. دع الأبواب المحاصرة في الخلف وانظر بعيدا...انظر للقوس المفتوح الذي لا يرى. "بالاسيوس 2011، ص525".

، انطلاقا من الأصل المتجدد ولتتمكن من البروز مجددا، يجب استحضار الجرح بشكل مستعجل، وذكر النسيان وكتابة الكلمات التي جلدها الصمت والنظر في عيون التائهة، ومثل الترانيم يجب أن: تدون وتفك الشفرة وتنادي.

أنا أقول، أقول بصوت لا احد. أنا أطالب، أنا أقول، أقول دون دموع، ومازلت أقول في النسيان. لا يسكنني احد، مشتتة في اعتداءات، أقول، أنا أقول كل شئ دون تسميته. جلدتني سياط الكلمات والصمت. أقول وأنا أضع النقاب واكشفه عن النبض الخفي. أقول وأنا مستيقظة وحية، وفي نفس الوقت أتكلم عن أشياء أخرى وشؤون أخرى، تاركة ان يوقفني أزيز الكلام ويدركني في حالة احتضار. أقول، أقول وأنا انحني وابحث عن الفاصل بينما اخدش ارض الآخرين. أقول وأنا تائهة، منفية، غاضبة، من عتبة باب كان لي. أقول. أطالب. أتضرع. أناجي الدخان، أناجي ارتجافه، أناجي ظلامه الكثيف. أقول. انفخ في نار خامدة. "بالاسيوس، 2011، ص 527."

من خلال تعريفها الذاتي، تحاول شاعرتنا آن تلمس الواقع، ترفع ذراعيها نحو السطح، بأيد مفتوحة إلى مالا نهاية، نحو السماء، تنصب جسدها المرتجف لتدعم الفراغ المتماسك، وانطلاقا من رأسها المغروس في عظام مترددة، انطلاقا من أساس مضطرب تدور حول نفسها بحثا عن إشارة تسائلها وتعلمها حياة جديدة.

افتح ذراعي، ارفع راحة يدي نحو الأعلى ، ارفع ذراعي وأهز أطراف جسدي من الأسفل. ابحث عن اللمس، عن الدعم، في أعلى رأسي، رأسي في الفراغ، في الفراغ المتماسك. رأسي في الأعلى، جسدي منتصب، هذا الأساس الحي، منحن، هذا الأساس مضطرب. راحة يدي، ذراعي مرفوعتين، رأسي يدور. اكتشف المرامي التي يشير لها جسدي، دوائر دون اتجاه. جسدي منتصب، جسدي لا يتحرك، ما ألمسه انا، ما ادعم به نفسي، رأسي يدور، أدور في الاتجاه، أدور في الفراغ. راحتي يدي مفتوحتين في انتظار، ذراعي مرفوعتين من العمق، رأسي يدور، وحدة بطني السرية هناك في العمق...جسدي منتصب. هذا الأساس الحياة...هذا الأساس المضطرب..."بالاسيوس، 2011، ص531."

انطلاقا من هذا التوازن غير المستقر، بدأت انطونيا تعبر عن ذاتها، تحكي لنفسها، تلاحظ وتعبر عن الانتقال انطلاقا من الموت: موتها، موت اقربائها، موت اولائك الذين كانوا والذين سيأتون. توقف حيوي يعيدها للحياة، اخر نفس تعاني منه، لا بد من استحضاره لانه ليس بالموت النهائي.

أنا أموت، أموت موتا بطيئا، هادئا، بدون ضجيج. انا أموت دون ان أموت. أنا ملأى بالوفيات. وفيات تعبر محياي كأنها ظلال.وفيات تفر ولا استطيع آبدا إدراكها

انطلاقا من هذا التوازن غير المستقر، بدأت انطونيا تعبر عن ذاتها، تحكي لنفسها، تلاحظ وتعبر عن الانتقال انطلاقا من الموت: موتها، موت اقربائها، موت اولائك الذين كانوا والذين سيأتون. توقف حيوي يعيدها للحياة، اخر نفس تعاني منه، لا بد من استحضاره لانه ليس بالموت النهائي.

أنا أموت، أموت موتا بطيئا، هادئا، بدون ضجيج. أنا أموت دون ان أموت. أنا ملأى بالوفيات. وفيات تعبر محياي كأنها ظلال.وفيات تفر ولا استطيع أبدا إدراكها. كيف سأدرك موتي الوحيد؟ كيف اختارها من بين الوفيات التي تتحرش بي؟ انا أموت من الموت كونيس وحيد والموت يخترق منزلي، يطأ سجاداتي، يلمس زجاجي، يطفئ أجراسي. أموت من موت قاسية، لا ترحم. موت تقوم بسلخي لتجعل جلدي الحي جلدا ميتا. أموت من موت كثيفة، عنيفة، موت يلعب مع أنفاسي لعبة الموت، ياخدها ويتركها، يطلق سراحها ويشد وثاقها، يأخذها إلى مراحلها النهائية، يعيدها إلى بداياتها. موت يجرحني دون ان يريق دما وينخر أحشائي رويدا رويدا. أنا أموت...

وفجأة يبدو أن الموت تضيء، وأنها مجرد ظل لحلم الحياة، وبان هواء الحياة هو نَفَس ميت وصرخة حب فارغة وصاخبة. وبان هذه الثياب التي تخفق، ترتجف فقط وتهدأ وهي محاطة بالموت. وفجأة يبدو أنني لم اعد أموت. وبأنني أدركت الموت دون أن أموت. " بالاسيوس 2011، ص 535".

لكي تخرج على مضض من هذا الاحتضار، قامت انطونيا بعملية جرد لايامها، لمشاعرها واحاسيسها، تلك التي ولّت وتلك التي لم تتحقق، للغائبين، كل شئ تراه امامها على شكل موكب. تظهر كذلك الطفولة والذكريات، تعود للخطوات التي فاتت كي تسترجع النور؛ ذكريات بمثابة حجارة مرمية في الهواء او التي غطاها الماء، وبينما تستحضر ايامها الخوالي، لمحت المستقبل حتى أبصر الحجارة، تلك التي ليس لها اسم بعد، وهي الحتمية.

هنا حجرتي التي لا تتحرك، حصني الذي لا يتحرك. هنا حجرتي الهامدة،  حجرتي في كارثة. هنا كل حجراتي. أقوم بجرد لكل حجراتي. تلك التي تزن بين يدي كأنها زلات، تلك التي لم ترم بعد، تلك التي لا يعرفها الهواء. أقوم ببناء وجوه بحجرتي المسودة، وجوه عمياء، من الأمام وشفاه نخرة. ألمس حجري الذي نفخ فيه النار، ألمس حجري الملتهب، المدخن، الظمآن. ألعب مع ذلك الذي يأتي من البحر، ذلك الذي نحمله في الأعلى،  التاج الصخري، ونجعله يحدث صوتا ويتحرك، وشرارات تقفز من احتكاك ضارب في القدم. ذلك الذي غمرته المياه المتسربة والذي يرقد في آبار سحيقة ومظلمة ويخرج إلى النور مغسولا للتو، ما زال رطبا ويتدحرج عبر السنين، عبر الأيام...

هنا أحجاري النبيلة التي تتنفس باتجاه الداخل، وحجر النسيان هذا الذي يرقد هنا وهو عالق، صلب وقاس. هنا أحجاري كلها، أحجاري الكبيرة الهدامة وأحجاري المتضائلة، الجامدة، العارية، خالية من الطحلب، خالية من الأخاديد. هنا أحجاري كلها. أحجاري كلها مجتمعة تجعلني ألف، تلف من حولي، محاصرة بسياج، سور حائط، حائط عملاق متجمد في حجر. وذلك الحجر العذري، حجري الأخير، مستلق على الأرض، مستطيل وبارد حجر لا يحمل اسما، ينتظر اسمي كل يوم. "بالاسيوس 2011، ص541".

إن عبور الاعتراف بالألم وتقبل العتمات الذاتية يجعل من الضروري النظر للوراء وتصفح الماضي، ومن تم فان انطونيا تتوقف في الجزء الثالث والأخير من ديوانها "زمن مشروخ" لترى شقوق الزمن وتوقِف الحركة مما يساعدها على

التعرف على الشقوق واستعادة الإيقاع الحيوي الذي ما يزال يتنفس.

لهذا يطرح السؤال: اين الانحناء الفسيح الذي بدأ للتو؟ اين الشمس المبعدة؟  وتتحدث للنور كونه وهجا شاحبا يحافظ على سر كل شئ ضائع، ويخشى تألق الظلمات؛ وتتحدث لنفسها لتفرض لحظة لكي تتوقف، تستحضر ولتدع الشباك التي تشل حركتها تقع ولتبعث من الأنقاض وهي تبتعد عن الاحتكاك بمشارف العتمات.

افتح المساحات، دع المادة الخفيفة تنزلق من بين أصابعك. أمسكي القوس من فوق أحلامك. توقفي حيال الزمن المشروخ. تذكري إشعاعاتك البعيدة، أنت، ضعيفة الذاكرة. دع الشباك تقع على البحر الملتهب بالنيران. سينبعث دافع الضرائب من بين الأنقاض. ستأتي لتؤدين ثمن الظمأ، ظمأ سهادك وقلة نومك. لا تنحني، لا تخضعي. فالنهار طويل، والنور طويل، لا تدع ي جنبات العتمات تلمسك. " بالاسيوس 2011، ص 551".

تقر الشاعرة  بمنفاها كخطوة أساسية في الانتقال نحو انتعاشة نفسية، من اجل ذلك تنفصم ذاتيا، ترى نفسها من زاوية أخرى، تدرك وتفهم حدادها، تتأمل قوامها الملفوف وتسعى لإنقاذه.

أنا هنا في الظلام، أدير ظهري للنور، في نسيان للبداية ولليوم الذي لا ينتهي. انا هنا متجاهَلة، قسمات وجهي المفقود بين العتمات. أنا هنا مقلصة، مجرد سطر، نقطة لا قيمة لها. أنا هنا مائلة، ادع الليل ليخترقني. خارجا، في الفضاء، النسور العملاقة تحارب الرياح. أنا انتظر هنا...اجمع ايماء اتي واسحب أنفاسي، اخنق صوتي وأنا كلي صمت، مختبئة بين الظلام. أنا هنا  يقظة، أراقب بخوف مخلوقا متجولا استقر به المقام بداخلي. "بالاسيوس 2011، ص 557".

وبمجرد ما تواجهت الاشباح بعد ان سافروا في رحلة إلى أعماق التهجير السحيقة، أقرت انطونيا ببعدها الذي يتيح لها كذلك ان تفهم بان في مكان ما في الظلام يرتجف الوجود، التنفس، الندى، الصباح؛ انه الجسد الذي يريد الخروج إلى آماكن أخرى، ويبحث عن ارض أكثر لطفا من خلال اختلاق لفتة أخرى، وربما لاستعادة طاقته الحيوية التي تعترف بها الشاعرة وأحيانا تتوق إليها.

بعد ان انهينا مقاربتنا الخاصة بمراجعة بعض قصائد "نصوص الإخلاء"، جدير بالذكر بان القصائد المتوالية التي نشرتها الشاعرة، يستخلص منها ذلك العبور المستمر بين الظلام والنور؛ ذلك التنقل المتناوب من حالة لأخرى، من مكان الى اللامكان "خايميس بورخيس، 2013، ص 1" الذي يميز بالأساس الحالة الوجودية للمنفي. وبناء عليه،  في أخر قصائدها،على سبيل المثال، الصادرة بعنوان "الرجفة العميقة لما هو سري" '1991'، تخبرنا انطونيابما يلي:

أنا أتدرب للقيام بإيماءة، يختل توازني في بداية الإيماءة. يظل جسدي في راحة. توقفت في إحدى الايماء ات. سوف ابحث عن شكل أخر وأفصله عن الوقت وأحرره من الجسد. لقد بدأ يتدفق مثل نهر ممتلئ. ثمة أيادي تنغمر، أيادي تريد أن تلمسه. بدأت إيماءتي تتمدد، لم تعد تنتمي إلي. إيماءة أخرى ترتفع، رحلة أخرى، مسافة أخرى. "بالاسيوس 2011، ص 565".

ان محاولة ابتكار ايماءة جديدة والبحث عن رحلة أخرى وعن مسافة اخرى للتمكن بشكل من الاشكال من السفر باتجاه الارض التي تلعب دور الدعامة، يكون ممكنا فقط اذا اعدنا النظر في اتجاه امكنة تنتمي لازمنة اخرى واذا  تصفحنا مجددا، انطلاقا من وعي جديد، اثار المسار المتلاشي وسفر الانفصال..

اني ابحث عن نفسي في أمكنة تنتمي لأزمنة أخرى. وأنا أسير بين فضاء ات مرّ منها السكون. إني أطأ أثار المسار المتلاشي التي تركتها قدماي في ليالي النسيان. هناك ضوء يتغير، السماء تتوارى ممددة وهي تطفو. بعيدة هي الأرض التي تعتبر دعامتي. ابحث عنها في القسوة، في الحزن المنفرد للأيام الخوالي التي انحدرت دون ان تعرف مصيرها. لم اعد اعرف من أنا. لعلي أبدو وأنا اقتفي أثار ذكريات أصبحت متناثرة. يدي أصبحت يدا أخرى. ذراعي وعنقي صارت في جسم غريب. أنا المجهولة، تلك التي انطفأت فجأة بين عتمتها. "بالاسيوس 2011، ص 571"

ما تزال المنفية مستمرة في ذكرياتها، تلمس جسدها من جديد، يبدو وكانها لم تتعرف عليه، منفصلا في جسد أخر، ومع ذلك تتأكد من وجود شفتين وعيون ترى الاشياء، وتستمر الحياة.

مازالت هناك شفتين، عيون ترى الأشياء. مازالت ذراعين مرفوعتين تحاولان الطيران. مايزال الجنس يخفق، ما يزال رطبا. وسقوط الندى في غابتي الكثيفة السرية التي صارت عارية. "بالاسيوس 2011، ص 577".

تصر انطونيا أن تكلم نفسها وان تدعم نفسها وأن تبقى على قيد الحياة وان تفتح أخاديد السماء المغطاة بظلة، وان ترفع يديها، حلقة وصل بين الحياة والموت؛ وان تكتب ولو اسما واحدا. لكن الرحلة لم تنته بعد، لقد عادت الشاعرة للعتمة التامة، للعدم، بيد ان هذه المرة بعيون مفتوحة؛ تتأمل جسدها ـ في السابق كان منتصباـ الذي يزحف فوق السطح الأملس، وقطعة تلو أخرى ينزلق وينحدر نحو الأسفل .

وأخيرا، وصلوا ليلا وتركوا حمولتهم المظلمة في الأرض. دخان كثيف خط دائرته. إيقاع الساعات ظل ثابتا في جسدي. تذكرت نظرتك في ذاكرتي الحادة، بطئك، تنفسك المتثاقل. شابكت يدي وأصبحت لا شئ "بالاسيوس 2011، ص 599". واذا هم جاؤوا مؤتثين أيامهم والليالي العابرة: هم، الغائبون، الذكريات، الحب، الابنة، الألم المُلح، الموت.

سنتوقف هنا. في الصفحات السالفة أردنا ان نقوم بمقاربة أولية لشعر انطونيا بالاسيوس ونتفحص من خلال قراءة قصائدها حالة المنفى الداخلي التي بقيت فيها أخر ثلاثين سنة من حياتها.

لقد أورثتنا شاعرتنا مؤلفا بمحتوى مؤثر للغاية يحدثنا انطلاقا من لامكان تلك التي تم نفيها من حياتها الخاصة؛ بالإضافة الى انه يقدم لنا شجاعة من يواجه التحول الإجباري؛ لهذا تلتجئ لعالم الكلمة الشعرية، كونه فضاء حميميا ومنعزلا يسمح لها خلال عبورها نحو العدم بان تقاوم لياليها السحيقة.

ان انطونيا بالاسيوس، التي كانت وما تزال المرأة والأم والشاعرة، تاخدنا من يدنا وتحضرنا بعطف وحنان إلى منفانا الخاص والمتشابه وتساعدنا على أن نذكر من جديد أرضا وُعدنا بها والآن تقوم بتهجيرنا بعيدا حتى عن أنفاسنا.

السيرة الذاتية

فلابيا بيسثي فيلتري هي من مدينة كاركاس فينيزويلا "1968". شاعرة ومحامية وأستاذة بكلية العلوم القانونية والسياسية بالجامعة المركزية بفينيزويلا منذ سنة 2002. شاركت في ورشات شعرية خاصة بالشعراء الفينيزويليين: استريد لانديرو لويس اينريكي بيلمونتي ورافاييل كاستيو ثاباطا وأرماندو روخاس كوارديا وييكور باريتو وسانطوس لوبيث. نشرت بعض قصائدها في مختارات شعرية: قاعة الانتظار "كاركاس، 2010" ؛ صوت المدينة، كاركاس 2012"؛ " جلسة من الأصوات الجديدة "ماراكاييبو، 2014"؛ 102 شعراء جيمينك "كاركاس، 2014"؛ مائة امرأة ضد العنف القائم على النوع "كاركاس، 2015" . وفي سنة 2012 تم اختيار ديوانها "مكان العبور" فائزا بالمسابقة الوطنية للأدب التي نظمتها جمعية أساتذة جامعة الانديس. وفي ابريل 2017 أصدرت دار النشر "أوسكار تودتمان ناشرين" ديوانها  "جسد في الضفة.

***

........................

EXILIO INTERIOR

EN LA POESÍA DE

ANTONIA PALACIO

Autora: Flavia Pesci Feltri

Venezuela. Enero, 2018.

Traducción al árabe: Youssef MSAHAL

No siempre es una ganancia la soledad. No es una victoria estar a tientas, en la casa vacía, desalojada; el cuerpo confinado a la sombra, abandonado.  No son al menos, la soledad y el desalojo, pertenencias. Son designios cumplidos, con o sin razón, que obligan al ser a inventarse una manera diversa de ver el mundo, una forma otra de relacionarse con él.  Le otorgan, a veces a despecho de sí mismo, una nueva voz de oscuras resonancias (Martínez Bachrich, 2011, p. 337).

Introducción

Entreabre los ojos, a tientas prende la luz, palpa su mesita de noche, toma  cualquier papel, busca el bolígrafo dentro del cajón, dominada por el insomnio en el que se ha convertido comienza a garabatear palabras, unirlas en frases aparentemente sin sentido; sombras dictan lo que el día no quiere ver; frenética escribe, a ciegas, su mano ya no forma parte del cuerpo, anota, tacha, une, disgrega, se detiene, el papel tiene otra piel, es la oscuridad que atraviesa, la que no puede asomarse al día y aguarda agazapada la noche.  Exhausta suelta un quejido, cae el bolígrafo inerme, apaga la luz, se recoge en ovillo, tiembla.

Cuando leemos a Antonia Palacios nos las imaginamos en un trance indetenible, arrebatada por la noche, exhausta por el desamparo en búsqueda de una callada serenidad.  Es precisamente ese estado anímico que embarga a Antonia Palacios el que se quiere evidenciar con la aproximación a su poesía escrita con posterioridad al evento más doloroso que puede vivir una madre: la muerte de un hijo.  Como consecuencia de este hecho terrible, nuestra escritora entra en una profunda depresión que la aleja del mundo, la expulsa de la vida; se instala en su cuerpo y en su espíritu una tristeza constitutiva imposible de superar definitivamente.

Antonia se exilia y se ubica en un lugar, en el peligroso territorio de la no pertenencia (Ascencio, 2004, p. 98), en el cual comienza una existencia sin asidero, sin tierra alguna desde donde contempla al mundo con una distancia poblada de memorias y nostalgias.

En la poesía de Antonia Palacios se refleja, creemos con mucha claridad, ese estado anímico que se ha querido denominar exilio interior, distinto al otro exilio, aquel que se entiende como alejamiento obligado de la patria por razones políticas, económicas, religiosas, raciales o sociales (Boadas, 2000, p. 26).  Este exilio interior que vemos reflejado en los versos de Antonia:

[P]rovoca también la errancia, el continuo desplazamiento de un lugar a otro bajo la forma del viaje, pero en busca de una patria para el alma. Es el estado en el cual quien lo vive huye de sí mismo por la incapacidad de estar.  Así como el exilio exterior es provocado por situaciones políticas, económicas o raciales que impiden llevar una vida normal, el exilio interior se produce también por una razón externa que está fuera del control de quien lo sufre, un evento trágico que lo impulsa a fracturarse, se traduce en la fragmentación del ser, de la extrañeza, de ese exilio interior que es, ciertamente, una forma de exilio, de ondas profundas (Ascencio, 2004, p. 113).

Desde esa fragmentación, exiliada de sí misma, Antonia Palacios encuentra en la poesía un medio para exhumar su dolor, universal y omnipresente, abriéndose paso desde la oscuridad y creando belleza por causa del sufrimiento y de las grietas que la perforan.

A partir de ese suceso insondable, la muerte de su hija, Antonia -y su ser todo- no regresará más nunca al lugar que habitaba; deambulará entre las palabras y sus sombras, logrará asirse con incerteza de los amigos y la familia, de la propia poesía, pero será siempre una desterrada de la vida y de sí misma en los términos que los expresa Marina Gasparini, en su extraordinaria Antología de poesía latinoamericana titulada Exilios:

El exilio es un viaje sin retorno. No se regresa del lugar que abrió la geografía del extrañamiento en nosotros.  Cambia la tierra de la que nos alejamos, cambiamos también nosotros, habitantes desde entonces del desarraigo.  La persona que fuimos no es la misma que un día cualquiera deambula de nuevo por las calles de nuestros recuerdos.  Caminamos desconociendo el ritmo acompasado de aquellos que se sienten seguros en su patria: la conciencia del exilio marca con compás desigual el discurrir de nuestros pasos. En el desarraigo extraviamos la secuencia de los acontecimientos y su significado; se pierden certezas y seguridades mientras la compasión crece a la sombra del desamparo (Gasparini, 2012, p. XV).

En las próximas líneas se intentará dar una semblanza bibliográfica de Antonia Palacios para poder, posteriormente, acercarnos a su poesía como expresión de ese estado anímico causado por un evento trágico exterior y fuera de control de la poeta y, asimismo, como medio creativo para transitar las sombras y sobrevivir.

Escritura poética la del exiliado que tiene un solo camino: transmutar su soledad, su desazón, su melancolía, su equilibrio, su fortaleza (Piñeda Perez, 2000, p. 69); Antonia va moldeando esa transmutación, vacilante, entre el estar y no estar, huyendo y volviendo de las sombras, y dejándonos un extensa y maravillosa poesía que estremece.

Algunas notas sobre la vida de Antonia Palacios (1904-2001)

Antonia Palacios nació en Caracas en 1904. Ejerció una gran influencia dentro de la literatura venezolana por su extensa obra literaria que comprende narrativa, ensayos, cuentos, poesía; y por la labor que llevó a cabo a través de los talleres literarios que dictaba en su casa Calicanto.

La década de sus 40 años de edad fue muy productiva.  Emprendió numerosos viajes dentro y fuera de Venezuela.  En 1944 publicó París y tres recuerdos; pocos años más tarde (1949), su carrera literaria comenzó a tener un gran impacto con la publicación de su primera y única novela Ana Isabel, una niña decente, editada en Buenos Aires.  Esta novela fue muy bien recibida en los medios literarios nacionales y extranjeros considerándose hoy referencia imprescindible dentro de la literatura venezolana. Años más tarde, Antonia publica una serie de relatos reunidos en Crónicas de las horas (1954); y, Viaje al frailejón (1955).

A la edad de 37 años (1941) nace su hija Mariantonia, quien desde muy temprana edad se había destacado en el piano por lo que Antonia Palacios se dedicó en cuerpo y alma al desarrollo artístico de  su hija, y la acompañó a distintos viajes para promover su carrera. Vivieron en Nueva York y en varias ciudades de Europa hasta que en 1957 Mariantonia resuelve renunciar al piano y regresar a Caracas, lo que produjo en su madre una terrible contrariedad y decepción tanto que entre ambas hubo una honda y dolorosa fractura (Martínez Bachrich, 2011, p. 159).

Poco después de la llegada de las dos mujeres a Caracas, Mariantonia resuelve casarse y comienza a participar clandestinamente en grupos subversivos contra la dictadura del General Pérez Jiménez.  Sin embargo, el goce de su libertad fuera del rigor del piano va a ser breve, pues le diagnosticaron una diabetes terrible que, a los pocos meses, la llevó a la muerte (1963).

Para nuestra escritora, el fallecimiento repentino de su hija fue demoledor, fragmentó su vida; a partir de este momento Palacios vivió marcada por el dolor y, como lo comenta Martínez Barich, se sumergió en una desgarradora depresión de la que va a ir saliendo poco a poco gracias a la presencia amorosa de su familia y amigos; y porque, de alguna manera, la propia existencia así se lo impuso.

Comenzó a transitar el camino hacia la recuperación, hilando durante las noches la escritura poética que le permitirá, muy lentamente, insertarse de nuevo en el mundo.  Va a ir llevando su sufrimiento gracias a la poesía, única capaz de decir lo indecible, constituyendo para Antonia el solo medio de expresión posible para pronunciar sus infiernos, sus miedos, su devastadora agonía.

La vida de la madre, de la mujer, del ser que es esa Antonia insular y desalojada, la vida toda desde ese día y para siempre se habrá vuelto “un pedazo de tierra sin cielo arriba”. O mejor aún: en ese momento la vida se acaba.  Lo que queda, de allí en adelante, es gris, oscura, terrible sobrevida.  Y Antonia lo acepta. Entra en el siniestro juego.  Sea pues la infinitud del horror.  Sea lo atroz, parece decirse.

Y es acaso desde ese abismo que se levantará la voz que balbucea, murmura, solloza o grita los poemas futuros.  Es por eso, tal vez, que leer la obra madura de Antonia: Textos del desalojo, especialmente, implica un evidente peligro.  Es por eso que no se sale ileso de esa lectura (Martínez Bachrich, 2011, p. 164).

A los 55 años de edad, entrando ya indefectiblemente en la madurez, la poesía encarna en Antonia y le devuelve la vida (Martínez Bachrich, 2011, 167);  retoma su carrera literaria y en 1972 se anima a publicar un libro de cuentos titulado Los insulares; un año después, en 1973 salen a la luz sus primeros poemas en prosa bajo el título Textos del desalojo, abriéndose así el camino definitivo hacia la escritura poética en una edad en la cual es sólo concebible escribir de manera honesta no importa cuan desgarrador y arriesgado sea.

En 1976 Antonia Palacios fue honrada con el Premio Nacional de Literatura por su libro de relatos El largo día ya seguro, convirtiéndose en la primera mujer venezolana a la que se le da este premio; ese mismo año, su cuento Los pasos de la lluvia, obtiene el segundo premio del Concurso de Cuentos del diario El Nacional.

Interesa resaltar como dato curioso que de las 52 premiaciones que ha otorgado el Premio Nacional de Literatura en Venezuela, reconocido nacional e internacionalmente durante décadas y que ha sido referencia literaria desde su creación en 1948 hasta aproximadamente el año 2000, solamente seis mujeres escritoras han sido galardonadas con dicho premio, la primera de ellas como se dijo fue Antonia Palacios.

En los años sucesivos, retomó paulatinamente sus actividades literarias.  Formó parte del prestigioso Centro de Estudios Latinoamericanos Rómulo Gallegos (CELARG) cuando integró el jurado que otorgó el Premio de Novela Rómulo Gallegos al escritor colombiano Gabriel García Márquez con su obra 100 años de soledad.

A instancia de su gran amigo Oswaldo Trejo (Martínez Bachrich, 2011, p. 211), nuestra poeta asume la dirección del taller de narrativa en ese mismo Centro. Una vez finalizada esta experiencia, abrirá su propio taller de poesía y narrativa, comenzando una etapa que le permitirá insertarse a la vida de la mano de sus amigos y alumnos. Su casa Calicanto, se convirtió en el centro de un movimiento literario en el que participaron jóvenes y entusiastas escritores, hoy día reconocidos poetas e intelectuales venezolanos.

De este Taller surge la idea de hacer una revista literaria Hojas de Calicanto donde fueron publicados los textos de al menos 60 jóvenes talleristas, bajo el entusiasmo generoso de nuestra escritora quien, sin duda alguna, ejerció un papel esencial como guía de varias generaciones.  Efectivamente, tal y como nos lo comenta Martínez Barrich (2011):

La nómina de la revista Hojas de Calicanto llegó a tener, entre el primer número y el último, más de sesenta nombres de jóvenes artistas.  En sus dos grandes etapas, la revista, que era el órgano difusor del taller contó con las firmas de Hugo Achucar, Rafael Arraiz Lucca, Igor Barreto, Rafael Castillo Zapata, Armando Coll, Sergio Dahbar, Pascual Estrada Aznar, Jack Gerard, Ileana Gómez Berbesí, Socia González, Alberto Guaura,  Patricia Guzmán, Elena Iglesias, Eleazar León, Eduardo Liendo, Julián Márquez, Miguel Márquez, Antonio Mendoza Wolske, Stefania Mosca, Willian Niño Araque, Yolanda Pantin, Luis Enrique Pérez Oramas, Jhon Petrizzelli, Bárbara Piano, María Elena Ramos, Nelson Rivera, Antoniette Roche, Armando Rojas Guardia, Lourdes Sifontes Greco, Blanca Strepponi, Vasco Szinetar y Nabos Zambrano, entre muchos otros narradores, ensayistas, poetas, pintores, escultores, fotógrafos, cineastas, psiquiatras, periodistas, arquitectos, psicólogos y gente de la política que se convirtieron en nombres protagónicos de la cultura venezolana en las décadas siguientes (Martínez Barrich, 2011, p. 229).

En la década de los ochenta, la poeta publica los libros de cuentos Una plaza ocupando un espacio desconcertante (1981); y los poemarios Multiplicada sombra (1983), La piedra y el espejo (1985), Largo viento de memorias (1989); y, a comienzo de los noventa, Ese oscuro animal del sueño (1991) y Hondo temblor de lo secreto (1993). Muere a los 97 años, 38 años después de la muerte de su hija, el 13 de marzo del 2001 en su casa Calicanto.

A decir de quienes la conocieron, Antonia Palacios era una persona esencialmente tímida e insegura en cuando a su escritura se refiere. Estas características personales se debieron, aparentemente, a que fue autodidacta, es decir:

[u]na escritora natural, sin formación académica alguna, sin maestros en el sentido escolástico del término, como no fuesen, por una parte los autores de sus innumerables lecturas, hechas con pasión y con una muy permeable sensibilidad, y por otra los muy bien escogidos amigos, escritores y artistas todos ellos de primerísima línea… (Márquez Rodríguez, 2002, p. XI).

Esta naturalidad a la hora de escribir, despojada de la necesidad de muchos intelectuales de evidenciar sus conocimientos, permite que la obra de Antonina llegue hondo al lector; la espontaneidad de su expresión y la honradez de sus poemas en prosa permiten a sus versos llegar directo al interior de quien la lee, dejando una impronta estremecedora.

Tal y como lo ha comentado alguna vez el poeta venezolano Igor Barreto, discípulo de Antonia y uno de los poetas venezolanos de mayor trascendencia hoy día, en el contexto de los talleres de poesía que dirige actualmente en la ciudad de Caracas “ni la inteligencia ni el intelecto conducen a un buen poema, no hay que esperar a ser un ilustrado, la escritura es una pasión por sí misma y por el mundo”; y es precisamente lo que nos sucede con la poesía de Antonia que revela una gran exaltación por la palabra y el mundo construyendo -alrededor de temas esenciales como la casa, la infancia, el tiempo, la decadencia y la ruina (Márquez Rodríguez, 2002, p. XIII)-, un universo en el que nos reconocemos y al que volvemos con temor y admiración.

El exilio interior de Antonia Palacios

Los textos poéticos de Antonia Palacios son una manifestación de que la poesía puede ser también un instrumento que permite a quien la escribe iniciar un proceso profundo de transformación de la propia psique. A través de la palabra poética Antonia se convierte en un canal mediante el cual una voluntad, aparentemente ajena, le grita o susurra voces y delirios; es su inconsciente que la empuja para que lo enfrente, lo mire a los ojos desde el fondo de un mar huidizo, incierto y lo interpele.

En este proceso creativo, no todos logran escabullirse de los tentáculos de la oscuridad. Algunos se mantienen entre las algas viscosas en una lucha perenne contra animales marinos; otros, en cambio logran nadar a tientas hacia la superficie: respiran, miran por encima del mar, se agotan mientras intentan flotar, vuelven a hundirse, se rinden y, en medio de la caída, regresan a la vida dándole forma y voz al mundo de las sombras y un sentido a la propia existencia.  Es precisamente este proceso el que Antonia encarna cuando escribe sus poemas maduros.

Con Textos del Desalojo poemario publicado en 1973 (una década después del fallecimiento de su Mariantonia) -y al que se hará referencia concretamente en el presente trabajo-, Palacios nos llega temblorosa, asomada desde el abismo, desde las largas e insondables noches, en un intento de sostenerse en el lugar de la ausencia, fuera del mundo, en el destierro donde puebla sus propias cavernas y desde dónde ensaya levantar la mano para tocar los intersticios de luz que rozan los pliegues de una vida de la que se siente expulsada.

Así en un tiempo hendido, con el centro en vilo y la palabra de quien está desalojada, Antonia eleva el pesado polvo para apuntar directo a los miedos, a las laceradas dudas, a la fatiga incomprendida, invocando, desde su exilio interior una última entrega honesta.  Exilio entendido como errancia íntima de quien ha sido desprendida del mundo, extranjera del propio cuerpo, extraña a sí misma y a quien se le impone la poesía como vehículo para construir otro territorio donde la única patria es la de la palabra que balbucea la huida de una realidad que no es posible mantener porque encarcela, excluye, abandona.

Es el mundo de la oscuridad que la sumerge en el silencio, es la tierra de nadie donde la carencia anhelante reclama; desde ese espacio sin piso y sin columna nos escribe Antonia, develándose y develándonos la fragilidad que somos. Ella no sabe dónde está y menos aun si debe estar. Indaga en su herida, la asume meticulosamente y, desde la fractura, nos habla de ella y nos la entrega.

Pretende Antonia, probablemente de manera intuitiva, fundar para sí su propia realidad; crear frágiles puentes entre la nada que habita y su existencia a través de la palabra que la invoca.  Estando viva ha sido arrojada a la muerte, busca con sus textos comunicarse desde el silencio, impulsada por la fuerza de la sobrevivencia que traspasa las pequeñas rendijas de su habitación.  A través de su poesía Antonia recupera el aliento; la escritura la va persuadiendo de que aun se puede vivir no obstante el dolor del mundo.

Es precisamente el exilio interior de la poeta lo que se pretende dar cuenta con la lectura de algunos de los poemas recogidos en Textos del desalojo, compuesto por tres secciones; la primera de ellas lleva el mismo título, mientras que la segunda y la tercera se denominan respectivamente Columna en vilo y Tiempo hendido;  estos anuncian al lector lo que tiene entre sus manos: la  Antonia cóncava, oscura, implorante que se narra desde el lugar del tormento de un cuerpo y de un ser desprendidos de sí mismos; la poeta traductora del abandono y del destierro.

En Textos del desalojo la autora anhela la nada, suplica saltar por encima del tumulto terreno, de la pétrea solidez, abandonar las cosas, los objetos, los lugares e invoca la noche para que le permita penetrar la verdadera luz, detener la vida -horizonte no elegido- que, perforada por el tiempo indetenible, impide la materialización de la auténtica esencia.

Se quisiera penetrar el instante sin dimensiones, sin trayectoria definida, el inesperado instante, la calma exhausta, el tenebroso asalto.  Se quisiera penetrar la noche, noche-isla, noche-universo descendiendo. Se quisiera penetrar la luz, remontar iluminada, ascender por encima del tumulto terreno, de la pétrea solidez, tocar esferas blancas, mundos sin peso desprendidos de toda densidad  Se quisiera dejar las cosas, los objetos.  Se quisiera abandonar el horizonte no elegido, dejar los sitios.  Se quisiera no estar en sitio alguno, penetrar el tiempo en su nueva, vertiginosa rotación, penetrar los signos, las señales.  Se quisiera no estar. Se quisiera no estar y no ser en el ser anudado, espasmódico ser que no emerge.  Se quisiera entreabrir permanencias, tocar sustancias, savias, primarios deleites. Se quisiera ser en la cópula infinita prolongación del ser (Palacios, 2011, p. 511).

Y, mientras anhela ese no estar en sitio alguno, lo cierto es que aun vive, respira, presiente y, entonces, desprovista de sí misma en la profunda dicotomía entre el ser y el querer no ser, se adentra en el exilio interno, se rastrea, se llama pero no responde, despedazándose se abandona, se muere.

Una parte se escapa, tiembla, se curva.  Una parte se desprende, se niega, se respira.  Una parte se  presiente, se detiene a presentirse ensimismada y a oscuras, se detiene sin saberlo, se desprende sin saberlo, separada de otra parte, entrelazada a sí misma, a la parte que se piensa diferente y es la misma….

Una parte se aposenta sobre el tiempo en despoblado, sobre el tiempo de lo solo, una parte solitaria que se busca, se rastrea, que se busca y no se encuentra, que se clama, que se implora, que se adentra en el vacío, que se llama y no responde, una parte en descalabro se desprende…se desprende…se desprende…¡Oh la parte que me curva, que me tiembla¡ ¡Oh la parte de mi misma que me niega, me abandona, que se muere¡ (Palacios, 2011, p.  513).

Las partes de Antonia se van desprendiendo, sordas a la búsqueda y a la imploración, ella asiste a sus propias exequias que son también las de todo aquel que ha sido abandonado; entretanto el mundo, privado de la mirada de quien ya no está, es un último jirón, un último despojo, playa desierta por donde pasan los perros jadeantes, ausente la esperanza de alguna llama viva, de algún fulgor.

Como ropajes de duelo, como el último jirón, el último despojo, orlas enlutadas, flecos que se desflecan, inmensos pliegues hondos, como bosques talados, como ciudades tristes, como mensas desnudas, como playas desiertas, como pasan jadeantes los perros, como pasa el aire, como pasa el día, como quedan prendidas, engarzadas las horas, como ropajes de duelo extendidos, vacíos, polvorientos, marchitos, ¿dónde el fulgor, dónde el brillo, dónde la llama viva, la lejanísima incandescencia, dónde el tránsito, dónde la errabunda espera, dónde la alborada, dónde el dónde, dónde el allá, dónde?...aquí…aquí la noche, aquí la ausencia, aquí la nada (Palacios, 2011, p. 515).

Con Esta columna en vilo, segunda parte del poemario Textos del desalojo, comienza a vislumbrarse ese lugar, ese dónde, esa lejanísima incandescencia a la que aferrarse y sostenerse; nos atrevemos a decir que es posible entrever cómo nuestra autora, desde las profundidades y a través de su creación poética, emprende la construcción de un apoyo al cual asirse, una columna aun frágil, angustiada y titubeante, pero columna al fin.

Participamos por tanto a la reconstrucción del propio cuerpo de quien ha alcanzado la muerte sin morir, en una búsqueda del renovado día naciente.  Se hace entonces impostergable darle la espalda a los muros derruidos que el silencio arrebata, surgir desde un desconocido origen, con un nuevo gesto, ese que nunca has usado.

Invéntate de nuevo.  Constrúyete en el nuevo día naciente.  Invéntate en el día que alumbra, tú, prisionera y sin habla. Tú, solitaria. Sola entre cientos, sola entre miles, entre ninguno, sola.  Sola entre cosas sin peso, entre el vaho que exuda la noche que se extingue.  Invéntate distinta. Tú sola, sin palabra que te lleve, sin mirada que te guíe. Sola. Sola….

Constrúyete de nuevo como lo que nade de pronto, sin origen. Levanta un nuevo gesto, el que nunca has usado. Deja que la casa sucumba en su conjuro, en su lluvia de polvo.  Aléjate sin miedo.  Vuélvele la espalda a ventanas hundidas en el aire, muros derruidos que el silencio arrebata.  Dejas atrás las puertas confinadas y mira hacia lo lejos…Mira el arco abierto, invisible (Palacios, 2011, p. 525).

Para forjarse desde el renovado origen, se hace urgente entonces nombrar la herida, decir el olvido, escribir las palabras azotadas de mutismo, mirar los ojos a la extraviada y, como un cántico: apuntar, descifrar, llamar.

Digo. Digo con voz de nadie. Clamo. Digo. Digo sin lágrimas. Voy diciendo en el olvido. Deshabitada, desdoblada en asaltos. Digo. Digo cada cosa sin nombrarla. Azotada de palabras, de silencios. Digo velando y develando el oculto latido. Digo despierta, viva, hablando de otras cosas, otros asuntos, dejando que el zumbido del habla me detenga, me alcance en agonía.  Digo. Digo encorvada, buscando el límite, arañando tierra ajena.  Digo extraviada, desterrada, sacada de mi quicio, del umbral de una puerta que fue mía. Digo. Clamo. Invoco. Invoco el humo, su temblor, su densa oscuridad. Digo. Soplo sobre fuego apagado (Palacios, 2011, p. 527).

Es desde ese nombrarse que nuestra poeta intenta rozar la realidad; levanta sus brazos hacia la superficie, las manos abiertas al infinito, al cielo; erige su cuerpo tembloroso para sostener el sólido vacío y, desde su cabeza apoyada en unos huesos que vacilan, desde una columna en vilo, da vueltas sobre sí misma, en la búsqueda de una señal que la interrogue y le enseñe una nueva vida.

Abro mis brazos, vuelco hacia arriba las palmas de mis manos.  Alzo mis brazos, los excesos de mi cuerpo los levanto desde el fondo. Busco el tacto, el apoyo, en lo alto mi cabeza, mi cabeza en el vacío, en el sólido vacío.  En lo alto mi cabeza.  Mi cuerpo erecto, esta columna viva, inclinada, esta columna en vilo.  Las palmas de mis manos, mis brazos levantados, mi cabeza girando.  Descubro los designios que mi cuerpo señala, círculos sin rumbo.  Mi cuerpo erecto, mi cuerpo inmóvil, mi propio tacto, mi propio apoyo, mi cabeza girando, giro en el rumbo, giro en el vacío.  Las palmas de mis manos abiertas a la espera, mis brazos levantados desde el fondo, mi cabeza girando, la secreta unidad de mi vientre allá en el fondo…Mi cuerpo erecto.  Esta columna vida…Esta columna en vilo…(Palacios, 2011, p. 531).

A partir de ese equilibrio inestable Antonia se va forjando, se narra, observa y expresa el tránsito desde la muerte: la propia, la de los suyos, la de aquellos que estuvieron y la de los que están aun por venir.  Suspensión vital que la devuelve a la vida, último aliento que ha sido sufrido y que es imprescindible nombrarlo porque aun no es el deceso definitivo.

Estoy muriendo.  Estoy muriendo de una muerte lenta, callada, sin ruido.  Estoy muriendo sin morir. Estoy llena de muertes. Muertes que pasan como sombras por mi rostro. Muertes que huyen y que nunca alcanzo.  ¿Cómo alcanzar mi muerte única? ¿Cómo elegirla entre tantas muertes que me acosan? Estoy muriendo. de la muerte como sola compañía, y la muerte penetra en mi casa, pisa mis alfombras, toca mis cristales, apaga mis campanas.  Estoy muriendo de una muerte dura, implacable.  Una muerte que me va desollando y va dejando en carne muerta mi carne viva. Estoy muriendo de una muerte espesa, violenta, una muerte que juega con mi aliento el juego de la muerte, y lo toma y lo deja, lo desata y lo anuda, lo lleva a sus postrimerías, lo regresa a sus comienzos.  Una muerte que me hiere sin sangre derramada y me va socavando lentamente las entrañas.  Estoy muriendo

Y de pronto parece que la muerte alumbra.  Que es sólo sombra el sueño de la vida, que el aire de la vida es soplo muerto, vacuo estrépito el grito del amor.  Que esta vestidura que palpita sólo tiembla y se aquieta ceñida por la muerte.  Y de pronto parece que ya no estoy muriendo.  Que he alcanzado a la muerte sin morir (Palacios, 2011, p. 535).

Para salir a rastras de esa agonía, Antonia hace un inventario de sus días, de los afectos y amores, aquellos que fueron y los que no pudieron ser; de los ausentes; todo lo mira en procesión frente a sí.  Aparecen también la infancia y las memorias, regresa a los pasos andados para recuperar la luz; recuerdos que son piedras lanzadas al aire o que han sido cubiertas por el agua y, mientras presencia sus días pasados, entrevé el futuro para vislumbrar la última de las piedras, aquella que aun no tiene nombre, la definitiva.

Aquí mi piedra inmóvil, mi inmóvil fortaleza. Aquí mi piedra inerte, mi piedra en descalabro.  Aquí mis piedras todas. Hago el inventario de mis piedras. Las que pesan en mis manos como culpas, las que nunca fueron lanzadas, las desconocidas del aire. Construyo rostros con mi piedra ennegrecida, rostros ciegos, de frente y labios carcomidos. Toco mis piedras sopladas por el fuego, toco mis piedras ardidas, chamuscadas, sedientas.  Juego con aquellas venidas de la mar, las que llevábamos en alto, pétrea corona, y hacíamos sonar y rebullir y chispas saltaban de roce inmemorial. Aquellas cubiertas por las aguas en fuga que yacían en lo hondo de pozos sombríos y salían a la luz, recién lavadas, húmedas todavía rodando por los años, por los días…Aquí mis piedras nobles, las que respiran hacia dentro, y esta piedra del olvido que yace aquí encallada, dura, impía. Aquí mis piedras todas, mis grandes piedras demoledoras y mis piedras menguadas, inánimes, desnudas, sin musgo, sin estrías. Aquí mis piedras todas. Todas mis piedras reunidas dándome vueltas, girando en torno mío, apretadas en cerco, cerco de muro, muro gigante cuajado en piedra. Y ésta mi piedra intacta, mi última piedra, reclinada sobre la tierra, rectangular y fría, piedra sin nombre, aguardando mi nombre cada día (Palacios, 2011, p. 541).

El tránsito del reconocimiento del dolor y la asunción de las propias sombras hace necesario volver la mirada y recorrer el pasado, de ahí que Antonia en la tercera y ultima parte de su poemario (Tiempo hendido), se detenga para mirar las grietas del tiempo y frenar el movimiento lo que le permitirá reconocer las fisuras y restablecer el ritmo vital que aun respira.

Se pregunta entonces ¿Dónde la anchurosa curva apenas iniciada? ¿Dónde el desterrado sol?, y le habla a la luz que es un pálido fulgor que guarda el secreto de todo lo perdido, que teme alumbrar sus tinieblas; y se habla a sí misma exigiéndose hacer una pausa, recordar, dejar caer las redes que la tienen amarrada, surgir desde los escombros alejándose del roce del borde de las sombras.

Abre los espacios. Deja que resbale entre tus dedos la materia sin peso. Tiende el arco por encima de tus sueños. Detente ante el tiempo hendido. Recuerda tus lejanas irradiaciones, tú, la desmemoriada. Deja caer las redes sobre el mar en fuegos. De entre los escombros surgirá el Tributario. Vendrá a pagar la sed de tus desvelos. No te inclines, no. No te doblegues. Es alto el día. Alta la luz. No dejes que te roce el borde de la sombra. (Palacios, 2011, p. 551)

Reconoce la poeta su estado de exilio, paso fundamental en el tránsito hacia una cierta recuperación anímica y para lograrlo se desdobla, se ve desde otra esquina, percibe y comprende su duelo, observa su silueta ovillada y quiere rescatarla.

Estoy aquí en lo oscuro de espaldas a la luz, olvidando el comienzo, la eternidad del día.  Estoy aquí ignorada, el perfil de mi rostro perdido entre las sombra.  Estoy aquí disminuida, apenas una línea, un punto sin relieve.  Estoy aquí inclinada dejando que la noche me pase por encima.  Afuera en el espacio las águilas inmensas batallan con el viento.  Estoy aquí aguardando…Y recojo mis gestos, y repliego mi aliento, amordazo mi voz y toda yo soy silencio oculta entre lo oscuro.  Estoy aquí vigilante, velando temerosa una criatura errante que en mí se ha detenido (Palacios, 2011, p. 557).

Una vez enfrentados los monstruos, habiendo recorrido el viaje hacia las profundidades abisales del extrañamiento, Antonia reconoce su propia lejanía que le permite también entender que en algún lugar de la oscuridad tiembla la existencia, la respiración, el rocío, la mañana; es el cuerpo que quiere salir hacia otros parajes, que busca un territorio más amable inventando otro gesto, quizá para recuperar el propio impulso vital que ella reconoce y, a veces, ansía.

Finalizada nuestra aproximación a la revisión de algunos de los poemas de Textos del desalojo, no podemos dejar de mencionar que en los sucesivos poemarios publicados por la poeta, se desprende ese constante transitar entre la oscuridad y la luz; esa intermitencia de un estado a otro, de un lugar a un no lugar (Jaimes Borges, 2013, p. 1) que caracteriza esencialmente la manera de estar del exiliado.  Así, por ejemplo, en el último de sus poemarios publicados Hondo temblor de lo secreto (1991) Antonia nos dice

Estoy ensayando un gesto.  Se rompe mi equilibrio en el inicio del gesto. Mi cuerpo se queda en reposo.  Me he detenido en un gesto.  Voy buscándole otra forma, desprendiéndolo del tiempo, liberándolo del cuerpo.  Ha comenzado a fluir como un río desbordado.  Hay manos que se sumergen, manos que quieren tocarlo.  Mi gesto se va estirando, deja de pertenecerme.  Otro gesto se levanta, otro vuelo, otra distancia (Palacios, 2011, p. 565).

El intento de inventar un nuevo gesto, buscar otro vuelo, otra distancia para poder de alguna manera viajar hacia la tierra que le sirve de apoyo, es posible sólo si se vuelve la mirada hacia los sitios de otros tiempos, si se recorre nuevamente desde una cierta conciencia las huellas del rumbo desvaído, el viaje del desprendimiento.

Me estoy buscando en sitios de otros tiempos.  Caminando entre espacios donde pasó el silencio.  Estoy pisando huellas del rumbo desvaído que dejaron mis pies en noches de olvido.  Hay una luz cambiante.  Un cielo que se esconde extendido y flotante.  Lejana está la tierra que me sirve de apoyo.  La busco en la inclemencia, en la especial tristura de los días huidos que fueron descendiendo si saber su destino.  Ya no sé quien soy.  Acaso me prodigo rastreando las memorias que dispersas se hallan. Mi mano es otra mano, mis brazos y mi cuello transcurren en cuerpo ajeno.  Soy la desconocida aquélla que de pronto se pagó entre su sombra (Palacios, 2011, p. 571).

La exiliada persiste en sus memorias, vuelve a tocar su cuerpo, pareciera no reconocerlo, separado está en otro cuerpo y, sin embargo, constata que aun quedan labios y ojos que miran las cosas, aun la vida persiste.

Todavía quedan labios, ojos que miran las cosas. Quedan los brazos alzados en un intento de vuelo. Queda el sexo palpitante, húmedo todavía. Y este caer del rocío en la secreta espesura de mi bosque ya desnudo (Palacios, 2011, p. 577).

Antonia insiste en hablarse, en sostenerse y sobrevivir, en abrir los surcos del cielo entoldado, levantar su mano, enlace entre la vida y la muerte; y escribir aunque sea un solo nombre.  Pero aun el viaje no ha terminado, ella regresa a la sombra absoluta, a la nada solo que esta vez con los ojos abiertos; observa su cuerpo -otrora erecto- que se arrastra por encima de la superficie lisa y, por piezas, de nuevo, va resbalando, descendiendo.

Finalmente, llegaron en la noche.  Dejaron en la tierra su oscura carga.  Un humo denso trazó su círculo.  El ritmo de las horas quedó fijo en mi cuerpo.  Recordé tu mirada en vívida memoria, tu lento, despacio respirar. Crucé las manos y comencé a no ser nada (Palacios, 2011, p. 599).  Y, sí, ellos llegaron; poblando sus días y las transitadas noches: ellos, los ausentes, las memorias, los amores, la hija, el dolor que insiste, la muerte.

Nos detenemos aquí.. En las páginas anteriores se ha querido hacer una primerísima aproximación a la poesía de Antonia Palacios y reconocer con la lectura de sus poemas el estado de exilio interior en el que permaneció los últimos treinta años de su vida.

Nuestra poeta nos ha legado una obra con un contenido absolutamente estremecedor que nos habla desde el no lugar de quien ha sido desterrada de su propia vida; también nos presenta la valentía de quien afronta el obligado devenir; acude para ello al universo de la palabra poética, espacio íntimo y solitario que le permitirá resistir, en el tránsito hacia la nada, sus noches abisales.

La mujer, la madre, la poeta que ha sido y es Antonia Palacios nos lleva de la mano y nos asiste con ternura a nuestro análogo y propio exilio ayudándonos a nombrar, nuevamente, una tierra que nos fue prometida y que ahora nos desaloja más allá  de nuestro propio aliento.

Referencias bibliográficas

  • Ascencio, Michaelle (2004). El viaje a la inversa (Reflexiones acerca del exilio en la narrativa  antillana).  Fondo Editorial de Humanidades. Universidad Central de Venezuela. Caracas.
  • Boadas, Aura Marina (2000). “El exilio en la narrativa de Jacques-Stéphen Alexis”. en Memoria, Nostalgia y Exilio. AVECA- Asociación Venezolana de Estudios del Caribe. Caracas.
  • Ficciones y aflicciones. Antonia Palacios (1989). Selección y prólogo Luis Alberto Crespo. Cronología y bibliografía: Antonio López Ortega. Biblioteca Ayacucho. Tomo No. 146. Caracas.
  • Gasparini Lagrange, Marina (2012). Exilios. Poesía Latinoamericana del siglo XX. Sociedad de Amigos de la Cultura Urbana. Caracas.
  • Jaimes Borges, Daniela (2013). ¿Lugar de residencia?, en Ficción breve venezolana. http://ficcionbreve.org/lugar-de-residencia-por-daniela-jaimes-borges/.
  • Márquez Rodríguez, Alexis (2002). “Prólogo a las Obras Completas de Antonia Palacios”, en Obras Completas Antonia Palacios. Volumen I. Calicanto. Universidad Católica Andrés Bello. Editorial Ex Libris. Caracas.
  • Martínez Bachrich, Roberto (2011). Tiempo hendido. Un acercamiento a la vida de Antonia Palacios. Editorial Sociedad Amigos de la Cultura Urbana. Caracas.
  • Palacios Frías, Fernán (2002). Presentación de las Obras Completas Antonia Palacios. Volumen I. Calicanto. Universidad Católica Andrés Bello. Editorial Ex Libris. Caracas.
  • Piñeda Perez, Ileana (2000). “La pequeña Habana: la narrativa cubana y la construcción de la patria en el exilio”, en Memoria, Nostalgia y Exilio. AVECA- Asociación Venezolana de Estudios del Caribe. Caracas, 2000. 

Curriculum Vitae

Flavia Pesci Feltri es de Caracas-Venezuela (1968). Poeta y abogado. Profesora de la Facultad de Ciencias Jurídicas y Políticas de la Universidad Central de Venezuela desde el año 2002. Ha participado en los talleres de poesía de los poetas venezolanos Astrid Lander, Luis Enrique Belmonte, Rafael Castillo Zapata, Armando Rojas Guardia, Igor Barreto y Santos López. Algunos de sus poemas han sido publicados en antologías poéticas: Antesala (Caracas, 2010); La voz de la ciudad (Caracas, 2012); Sesión de nuevas voces (Maracaibo, 2014); 102 poetas Jamming (Caracas, 2014); y, Cien mujeres contra la violencia de género (Caracas, 2015). En el 2012, su poemario Lugar de Tránsito fue seleccionado como ganador del Concurso Nacional de Literatura, organizado por la Asociación de Profesores de la Universidad de los Andes (APULA). En abril de 2017, la editorial Oscar Todtmann Editores publicó su poemario Cuerpo en la Orilla.

(العنوان مستقى من أغنية المطربة اللبنانية نهاوند)

بمناسبة مرور الذكرى السادسة على رحيل الصديق هاشم القريشي والذي صادف قبل بضعة أيام

***

بيني وبينه ألفة ومودة، وإستمرت على هذا النحو حتى رحيله. ومن محاسن الصدف التي لا بأس من التذكير بها، أن كان من أوائل الرجال الذين التقيتهم ومع وضع خطواتي على طريق الإغتراب وإختيار المنفى إضطرارا كملاذ لي. وعن أبو علي أو أبو زيد كما هو متعارف عليه بين أبناء قريته، نسبة الى ولده البكر الذي تمت تصفيته على يد قوى الإرهاب، كان قد سبقنا في مغادرة بلده، لتطوعه كمقاتل مع إحدى فصائل المقاومة الفلسطينية اليسارية، فضلاً عن أسباب أخرى ما عادت بالخافية على أحد.

وبحكم العلاقة التي جمعتنا والتي قاربت الأربعين عاماً أو يزيد، فقد كانت تدور ما بيننا أحاديث طويلة ومعمقة ومتنوعة، كان حصة الأسد فيها ومدارها الجانب السياسي وما حلَّ ببلدنا من كوارث، نتفق في بعضها ونختلف في غيرها، مع بعض الشد والجذب. وإن كنت قد نسيت الكثير منها بفعل تراكم الزمن والأحداث عليها فسوف لن أنسى ما كان قد قدمه لي من نصائح ووصايا، فكانت من بينها والتي لا زال رنينها وصداها يترددان على مسامعي: إياكَ وقطع الصلة. في حينها وجدت نفسي مجبرا على الإستفهام والإستيضاح أكثر عمّا يعنيه أبو علي، فردَّ قائلاً: أعني إياك وقطع صلة الرحم مع الوطن ومع َمَنْ تُحب. فكانت نِعمَ النصيحة ونِعمَ القول.

ولإلقاء الضوء على بعض من سيرته، فأكاد أجزم بأن أبو علي وفي الفترات الأخيرة من حياته وعلى الرغم من سعة علاقاته وتنوعها، أن ليس هناك من أحد يكشفٌ له ما يمر به من مصادفات وصعوبات ومن وقائع يومية، وبمستوى عالٍ من الثقة والصراحة، كما اعتاد أن يكون عليها معي، حتى الفتني وقد تحولتُ الى أشبه ما أكون بخازن أسراره وحافظها. وآخر ما كشفه لي وحدثني عنه على سبيل المثال وقبيل رحيله بفترة قصيرة جداً، وبين الجد والهزل وبعض الدعابات المتبادلة التي اعتدناها، ما كان قد رآه في منامه.

فراح مشرعاً القول:

لا أعرفُ كيف حطَّ بي الرحال على أرض سمرقند، وكيف تجولتُ في درابينها وشوارعها بحثا عن احدى الحانات، ﻷحتسي من الخمر ألَذَّهُ وأطيبه. وأخيرا (لا زال الكلام له) وبعد قطعي من الوقت وبما يزيد على الساعة مشياً، وإذ بي أتوقف عند أحدى الواجهات، المزدانة بصور على درجة عالية من الجمال والجاذبية وما تسعد لها الروح وتهنأ. قلت في سرّي لألج المكان إذاً، ففعلت، وإذا بجمهرة واسعة من عشاق الغناء والطرب الأصيل، مجتمعون على شكل حلقات، يحيطون بطاولات فارهة في أبعادها، زاهية بألوانها، سخية في كرمها، وليبادر أحدهم وبعد أن أحّسَّ بحيرتي، بدعوتي للجلوس معهم ومشاركتهم فرحتهم، فكان ما كان ودارت الأقداح.

هما كأسان أو ثلاثة على أرجح الظن حتى بلغتُ غايتي من الراحة والإسترخاء، ولأشعر اثرها بنشوة ما بعدها نشوة، فحلَّقَت بعيداً. الأمر لم يتوقف عند هذا الحد، فمؤشرات الشجاعة والجرأة أخذت بالتسلل ألي، لتفسح في المجال للدخول في نقاشات حامية الوطيس وعلى مستوى عالٍ من الجدية مع مجموعة من جلاّس الحانة وندماءها ومن خيرة القوم. هذا ما بدا عليهم ومن خلال مظهرهم وأسلوبهم، كذلك في كيفية تعاطيهم وتعاملهم مع الغريب.

وكي أصدقك القول، فلم أعد أتذكر بأي اللغات تحدثت اليهم، لكني وفي كل الأحوال فقد نجحت وعلى ما أزعم في إيصال ما جال في خاطري، حريصاً على التوقف عند أبرز المحطات وأكثرها أهمية، فشرعت بإستعراضها بتأنٍ تام وحذر شديد وبتواريخ محددة لا زلت أحفظها عن ظهر قلب، على الرغم من تراكم السنين عليها ورحيل العديد من رجالها. في ذات الوقت فقد تعمدت إستبعاد الكثير من المواضيع التي قد تسبب الملل والضجر في نفس المتلقي، مستفيداً في ذلك من الدرس الذي تعلمته أثناء خوضي لنقاشات عديمة الجدوى والفائدة مع جهال القوم.

أمّا إن سألتني عن طبيعة الأحاديث التي تمَّت إثارتها وتناولها، فقد تراوحت ما بين الخوض في شخصية احمد صالح العبدي، الذي كان قد عُيِّن حاكما عسكريا عاما بعد نجاح ثورة تموز سنة 1958 في العراق، وما بين التوقف عند أغاني العشق والهوى ومنطق الطير وطبيعة العلاقة الحميمة التي تربطني بذلك العالم، فضلاً عمّا يجمع الحبيب بحبيبته وتبادل رسائل العشق بينهما. كذلك شرعت وبعد أن حلى لي الجو وطاب، وشعرت بأن ذائقتي الشعرية قد فُتِحَتْ أبوابها وعلى مصراعيها ومن دون قيود، بقراءة آخر القصائد الشعبية التي كنت قد فرغت من وضع اللمسات الأخيرة عليها قبيل غفوتي بدقائق، مستعينا ببعض الحركات والإشارات المناسبة، والتي قد تعين المتلقي على فهمها.

الأهم من ذلك وبعد أن طاب المقام وإستأنس الحضور بما قرأته من شعر وما تركه من إنطباعات إيجابية في نفوسهم، فقد إنتقلت وبناءاً على رغبتهم وإلحاحهم الشديدين الى مناخ آخر لا يمت بصلة بما سبقه، حيث قمت بإستعراض وجرد آخر ما توصلت اليه التكنولوجيا الحديثة من إبتكارات وما انتجته دوائر الصناعات العسكرية الحربية الروسية، المتصدية دائما وبقوة لقوى الإستعمار والإمبريالية العالمية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية، مستعرضا كذلك ما كنت قد أقدمت عليه وفي إحدى المناسبات، حين تصديت وبمفردي لإحدى المظاهرات المناوئة ﻵخر زعماء البلاشفة النجباء الا وهو الرفيق فلاديمير بوتين.

بالمناسبة، فما أن أتيتُ على ذكر اسم الرفيق بوتين، وإذا بالحاضرين يقفون جميعاً وبميقات واحد، مصفقين مهللين هاتفين بحياته وبحياة الإتحاد السوفييتي وقادته العظام. ناسين أو ربما كانوا في غفلة أو ليس لديهم خبراً بأن هذا الإتحاد ودولته قد صارا في خبر كان. أو قد يكون وهذا إحتمال آخر وأظنه الأرجح، بأنَّ الأمل لا زال يحدوهم بعودة ذلك العهد وتعود معه منظمة التعاون الإقتصادي (الكوميكون)، الداعمة لإقتصاديات شعوب العالم الثالث، والتي كانت تضم مجموعة الدول الإشتراكية. غير أنّ ما أدهشني وأفرحني أكثر وفي آخر الحلم وقبيل يقظتي، أن وقف الجميع وبلحظة إجلال وكبرياء، وراحوا يغنون سوية، نشيد الأممية:

بجموع قوية هبوا لاح الظفر، غد الاممية يوحد البشر.

انها لأيام زاهيات حقاً، ولا ندري إن كانت ستعود أم أمست حلما كحلم أبو علي  ... .

***

حاتم جعفر - السويد / مالمو

قصة يوسف الابن والنبي تتحول الى ملحمة فلسفية في الديوان الشعري (يوسفيات) للأديب واثق الجلبي

***

الكثير من الكتب تناولت قصة النبي يوسف، شعراً وسرداً ونثراً، ولكن ضمن إطار السيرة الدينية التي جاء ذكرها في القرآن الكريم، من ناحية الموعظة والحكمة والتفسير، ولكن نجد في الديوان الشعري (يوسفيات) شيء مختلف خلاق في ابتكاراته، ان تتحول القصة الى ملحمة فلسفية في أثرها العميق، في المعنى والمغزى والرمز، في أبعادها الفكرية التي تستلهم الحاضر، أي في الدلالة التعبيرية جر الماضي الى الحاضر، في رحلة استكشافية واستقرائية في إعادة صياغة، بالتشكيل الفكري، وتسليط الضوء على الفراغات التي ملأت الحياة والوجود، حيث كثرت الندوب والزعانف والعلل، وأصبح الوجود الراهن يمثل كل أبعاد محنة يوسف الإبن والنبي في الصراعات القائمة، والمتناقضات المتناثرة هنا وهناك، قصة يوسف معضلة (يوسف في الجب) (يوسف خارج الجب) هي نفس معضلة الحياة في الجب، ربما أكثر ضراوة وشراسة، تكون احياناً بطرق سلمية، وتارة بالطرق العنف والغدر والخيانة، وأصبح يوسف النبي وظله زليخة، ويوسف الإبن وامتداداته عنوان الحاضر والوجود. معنى ودلالة ورمزاً، ومحاولة الارتقاء على الجروح، التشبث بالحب الصوفي في آفاقه الواسعة، الارتقاء إلى عشق الحقيقة والنور، لعل طرد الظلام والزيف، انها امتحان عسير في جوانب الصراعات التي أخذت شكل أرجل الاخطبوط في المرادفات والمعارضات الكثيرة، نوجز بعضها: العجز والتضحية. الظلام والنور. الجلاد والضحية. البطش والتحدي. الاستسلام والمقاومة، الإخفاق والحب. القبح والجمال. الفقر والتخمة. الخيانة والطيبة. وغيرها من المرادفات التي ابتلى بها يوسف النبي ويوسف الإبن، تتجدد زعانفها في واقعنا الراهن، والتعمق الفلسفي والفكري في الديوان الشعري، وزع هذه (يوسفيات / عددها 214) على عدة محاور، أهمها:

1 - يوسفيات الإبن والنبي

2 - يوسفيات حسينية

3 - يوسفيات واثقية. نسبة إلى الاستاذ الشاعر واثق الجلبي

4 - المرادفات والمعارضات وابجدية الكلمات

فلابد من تسليط الضوء بايجاز على هذه المحاور الأربعة.

×× اليوسفيات:

أن للشعر صنفان،صنف يناصر الجمال، والاخر يناصر القبح بذلك يضع نفسه في الكفن، لأنه يتجنى على الجمال والحقيقية زوراً وبهتاناً.

قبيحٌ أن ينام الشعرُ في الكفن وأقبحُ منه ما ألقاه في زمني

أيسكتُ شاعرُ الشمسين جللهُ من التضييع ما يزري على اليفنِ

فمنهم من أراح الشعر قاطبة وراح ينام ملء العين في الوسن

ومنهم راقب الأشعار يحسبها خرافة من له عينان كالوثن

ومنهم من يزور النجم ساحته لينظم أجمل الأبيات في المحن

* بين الحقيقة والكذب خيط رفيع من ذهب، ربما يخلط الأشياء بالأسود والأبيض،وقد يقود هذا التجني على حتفه. يعني تجنى على نفسه.

بين الحقيقة والكذبْ خيط رفيع من ذهبْ

لا تعجبوا من كاذبٍ فالصدقُ باتَ هو العجبْ

من كان يرجو أن يلاقي حتفهُ.. فأنا فعلتُ

أو أن يُغّمِس قلبهُ بندى رماد الذاريات.. فأنا غمستُ

من كان يشطرَ وحيهُ.. فانا شطرتُ

هل منكمُ رجلٌ يذوقُ حروفهُ صلبا بغير المقصلة

***

التغني بالجمال شيء جميل ولكن هل يصمد امام أفاعي الغدر والخيانة؟

يا وجه يوسف شبههُ البدرُ هَتكَ اشتياقُ حبيبكَ الصبرُ

قد راع أيامي تآكلها إذ فرّ من أعواميّ العمرُ

منكَ الفؤادُ وفيه أمنيةٌ أن تلتقي بدنانها الخمرُ

أن تجرع الشفتان ما ادّخرتْ فيها وثلجُ شرابها الجمرُ

واسمعْ تباريحي وما كتمتْ تلك العيونُ وماؤها الغمرُ

مِنْ غادرٍ أبقٍ يُباعدنا وحظوظهُ من عودةٍ صفرُ

التيه في الحياة كالقلب المهجور فقد البوصلة، وأصابعه لا تعرف إلا ان تبكي حبراً في ورق، وتنام مرتاحة البال.

كنتوء في قلب مهجور

وأصابع لا تعرف إلا ان تبكي حبراً في ورق

وتنام على زهرة الدفلى

×× اليوسفيات الحسينية:

الإمام الحسين نبراس وعنوان المجد والتضحية والشجاعة والإقدام. أصبح مثالاً ساطعاً لكل شعوب العالم لتحرر من الظلم والفساد، والديوان الشعري ينفرد بهذه المميزات الحسينية ضمن يوسفيات، نقتطف من هذه الشجرة بعض الزهور الحسينية.

× إن الحسين قصيدة عصماءُ فيها من الرفضِ العظيم سماءُ

لاءٌ بألف كتيبةٍ أمويةٍ فاللامُ في حرمِ الحسين إباءُ

صوتٌ يشقُ رماحهم وسيوفهم وكأنه في جمعهم أرزاءُ

من فتيةٍ قاموا بنشرِ جسومهم وعيونهم من بأسهم حمراءُ

إذ يوفضون إلى العلاء دماءهم والمُطعمونَ بروحهم أمراءُ

**

×ما ذنبُ هذا القلب أن يتمزّقا شعراً ومن شوقٍ عليك تدفقا

يا آية بوركتَ خامسَ كوكبٍ رتلتني وحياً وغيرك ما رقا

وكأنني في الطفِ رملُ نقيعةٍ قامتْ لتُنهِض من قطيعٍ مرفقا

ولقيتُ صبحك بالدماء ملونٌ من عاشقٍ لاقى بحبك ما لقى

×× عن أي جرحٍ ناطقٍ أتكلمُ

وهو الذي رمتهُ يتبرمُ

* دعْ عنك إن أحجية الرجوع ملامة فلطالما أغراك ما لا يفهمً

×× يبقى الحسين وتذهب الأسماءُ وكأنه للعالمين دماءً

وكأنما كل العوالم قفرة ودمُ أبن بنت رسولنا أمواءُ

لم يشتكي عطشا ولم يفتك به أحدٌ ولكن ساعة وقضاءُ

×× يوسفيات واثقية نسبة إلى شاعرها الاستاذ واثق الجلبي. يجول ويصول بفكره ورؤيته الهادفة والرزينة، في مختلف مناحي الحياة والوجود في براعة متناهية في تناسق البلاغة في اللغة والرؤية الفلسفية الناضجة. نقتطف بعض أزهارها.

أدمنتَ موتكْ

وقتلتَ بعد بكائه المدفون.. صوتكْ

وحملتَ نجم الشمع

حتى في وسادتك التي حرّقتها

ونسيتها ونسيت بيتك

خُذها كمعتصر الغمام..

واحمل بقاياك الرتيبة

وارسم غبار الكون في أمسٍ.. حقيبة

خُذ من عصيفِ الصبر بعضا من شِفاه

×× لا الرأس يهدأ قل لي كيف أسكتهُ والقلبُ ينبضُ بين النارِ والخشبِ

- أفرِغْ حياتك من الشخصيات الزائدة ومن الوجوه التافهة فحياتك ليست كيسَ قمامة

- ليس في وجهك موقعٌ لكدماتٍ لا تنته يعِشْ بلا شك

4 - المرادفات والمعارضات وابجدية المفردات

في المصنفات يوزعها بشكل جميل وشفاف، كأن الشاعر يقدم لنا أبجدية شعرية متكاملة في أجناسها اللغوية وعمقها التعبيري البليغ في دلالته، واختار هذه المعارضة الجميلة. بين هو وهي:

×× هو:

لكِ ما للرياحينِ أيا سيدة التينِ

فيا ويلي من الدهرِ وقد ضيعتُ عشريني

تعالي وانعشي قلبا من الأحجار والطينِ

وصُبي فوقهُ غيماً كما الإعصار واسقيني

أيا ملساءُ فأرويني برفقِ الحبِ واللينِ

أماتَ الدهرُ أيامي وقد عادتْ لتُحييني

هي:

أيا معنايَ في النونِ وطيبَ الأمرِ في الشينِ

أيا من قلبهُ حولي يذوقُ خمرَ ماردينِ

وتلك النقطة العميا على سري ومكنوني

نقلنا أمسنا حتى تلاقتْ أعينُ الجونِ

أغطي منك آلاما كما أنت تغطيني

سمعتُ القلبَ وافاهُ نزيلُ الشوقِ في الحينِ

الديوان الشعري يستحق القراءة والمتابعة، لأنه يختلف عن المألوف والتقليدي، انه ابتكار خلاق في المنصات الشعرية لغة وبلاغة وفي العمق الفلسفي الدال بشكل عميق وبليغ.

***

 جمعة عبد الله

 

كانت الانظار تتجه صوب الصين، فمعظم التوقعات وضعت اسم الروائية الصينية " تسان شيئه "، على قائمة ابرز المرشحين لنيل جائزة نوبل للاداب لعام 2024، لكن القائمين على الجائزة قرروا منحها الى الكاتبة الكورية الجنوبية " هان كانغ " التي ستدخل عامها الـ " 54 " الشهر القادم . كانت هانغ في ذيل قائمة الترشيحات بالرغم من كونها ابرز كاتبة في كوريا الجنوبية، وحصلت على جائزة البوكر الدولية عام 2016 عن روايتها " النباتية " – ترجمها محمود عبد الغفار -، وكادت ان تفوز ببوكر ثانية عام 2020 عن روايتها " الكتاب الابيض " – ترجمها محمد نجيب "، لم تصدق ان نوبل طرقت بابها قالت لسكرتير الجائزة وهو يبلغها بالفوز عبر الهاتف:" لم أكن مستعدة حقا للفوز بالجائزة "، بدا الأمر مثيرا لها، كانت تعيش يوما عاديا، انتهت من تناول طعام العشاء مع ابنها الاصغر حين اخبروها بالخبر، لتصبح المرأة الثامنة عشر في سجل نوبل للاداب الذي افتتح عام 1901، واول اديب كوري جنوبي ينال نوبل . اشاد قرار منح الجائزة باسلوب كانغ " الشعري المكثف الذي يواجه الصدمات التاريخية ويكشف عن هشاشة الحياة البشرية". وبأنها:" تمتلك وعياً فريداً بالارتباط بين الجسد والروح، والأحياء والأموات، وأصبحت بأسلوبها الشعري والتجريبي مبتكرة في النثر المعاصر، مكرسة نفسها للموسيقى والفن".، وقال أندرس أولسون، رئيس لجنة جائزة نوبل، إن "تعاطف كانغ مع حياة الضعفاء، والنساء في كثير من الأحيان، ملموس، ويعززه نثرها المشحون بالاستعارات"

ولدت هان كانغ في السابع والعشرين من تشرين الثاني عام 1970 في مدينة غوانغجو، جنوب كوريا الجنوبية، في العاشرة من عمرها تتنقل عائلتها إلى حي سويو دونج في سيول، درست الأدب الكوري في جامعة يونسي في العاصمة.في عام 1993، ظهرت هان لأول مرة في مجال الأدب من خلال سلسلة من خمس قصائد نُشرت في مجلة الأدب والمجتمع الكورية. وفي العام التالي، فازت بمسابقة سيول شينمون الأدبية الربيعية بقصة بعنوان "المرساة الحمراء". صدرت مجموعتها القصصية الأولى، حب يوسو، في عام 1995.، كما فازت بجائزة مان هاي الأدبية وتعمل حاليا أستاذة في قسم الكتابة الإبداعية في معهد سيول للفنون. في طفولتها عشقت الكتب من خلال والدها العاشق للادب:" كنت محاطة بالكتب دائما على الأرض وفي كل زاوية وركن حيث غطت الكتب كل شيء ما عدا النافذة والباب فقد أبقى والدي المكتبة متنامية وأذكر أني شعرت دائما بأن الكتب كانت توسعية بمعنى أنها كانت في وفرة مستمرة إلى حد أنني فوجئت عندما زرت منزل صديقي ورأيت كيف أنه أفتقر إلى الكتب "، ترسم صورة مبهجة لبيتهم الصغير الذي كانت الكتب تتدفق فيه " من الأرفف، فتغطي الأرض بأبراج غير منظمة مثل متجر لبيع الكتب المستعملة حيث تم تأجيل التنظيم إلى الأبد. بالنسبة لي، كانت الكتب كائنات نصف حية تتكاثر باستمرار وتوسع حدودها. وعلى الرغم من التنقلات المتكررة، كنت أشعر بالراحة بفضل كل تلك الكتب التي تحميني" .

عاشت حياتها خائفة من الموت والمرض تتذكر ان والدتها اخبرتها انها كانت مريضة عندما حملت بها تتناول الكثير من الأدوية. ولأنها كانت ضعيفة للغاية، فكرت في الإجهاض. لكنها بعد ذلك شعرت بي أتحرك داخلها وقررت أن تلدني تقول ان الحظ منها فرصة العيش على الكرة الارضية.

قرأت في طفولتها المبكرة كتب الأطفال المصورة:" أتذكر أنني كنت مفتونًا بقصة استوديو تصوير طبع صورًا لأحلام الناس. وصورة طفل يشعر بالأسف على الأشجار النائمة واقفة في الليل ويغني: "يا شجرة، يا شجرة، استلقي ونامي".، بعدها ستجد نفسها منغمسة في في قراءة الأدب وخاصة دوستويفسكي . قرأت باسترناك عدة مرات وكانت رواياتها لاتفارق مكتبتها .

على الرغم من أن هان كانغ ترفض وضع تعريف ادبي لنفسها إلا النقاد اطلقوا عليها لقب روائية " العزلة والخسارة" . تطرح في معظم اعمالها السؤال، الذي عبرت عنه بطلة روايتها " الكتاب الابيض ": "إذا كنت قادرا على العيش كما تريد، فماذا ستفعل بحياتك

حظيت أعمال هان كانغ باشادة النقاد والقراء لقدرتها على الاستكشاف العميق للطبيعة البشرية من خلال أسلوب الكتابة المتدفق والقوي . وكأنها تقول إن حياتنا اليومية، والأفكار المحدودة المقبولة اجتماعياً التي تدعم تلك الحياة، فضلاً عن حالة كوننا بشراً في حد ذاتها، تشكل عنفاً لا يطاق، تحتضن شخصيات هان أحاسيسها الحية المؤلمة وتمضي في حياتها بشجاعة، قالت انها ادركت بوقت مبكر أن الحقيقة يمكن أن تكون جزءًا من الخيال، تقول انها تعلمت من قراءة ا بورخيس كيف يمكن للانسان ان يعيش الحياة بكل تفاصيلها، سيكون بورخيس حاضرا في صفحات روايتها " "دروس إغريقية - ترجمة محمد نجيب - ". والتي وصفت بانها صرخة صمت، حيث تحارب اللغة ضد الفناء. بطلة الرواية امرأة فقدت صوتها وأمها وحضانة ابنها. لمكافحة هذه المآسي، تلجأ إلى لغة ميتة - اليونانية القديمة - في محاولة لاستعادة ما سُلب منها. وستجد أستاذا أعمى يشبه بورخيس، يساعدها على الاجابة على الاسئلة التي تحيرها وستكون هذه العلاقة العمود الفقري لرواية تثير العديد من الأسئلة: كيف نعيش بدون صوت؟ ماذا لو علمنا أننا سنفقد بصرنا؟

في اشهر رواياتها " النباتية " تقدم لنا هان كانغ صورة بالغة الروعة والدقة عن الوضع الاجتماعي الذي تعيش فيه المرأة في العصر الحديث، وتطرح اسئلة عن الظلم والتمرد والاختلاف بين البشر، والجنون الذي يصيب الانسان في لحظة ضعف من خلال حكايات ابطالها.

في الصفحة الاولى من الرواية يخبرنا السيد تشيونغ عن زوجته التي قررت فجأة الامتناع عن تناول اللحوم وطبخها، وهو يعطينا انطباع عن نظرته الى زوجته هذه: " لم أكن أرى شيئاً مميزاً في زوجتي قبل أن تصبح نباتية، وأقولُ بصراحةٍ إنني لم أشعر بانجذابٍ نحوها حين رايتها أول مرَّة " فهي في نظره: " قليلة الكلام .كانت القراءة – لسبب غير معلوم – شيئا تغمس نفسها فيه، تقرا الكتب التي تبدو مملة الى درجة انني لا استطيع ان احمل َ نفسي على مطالعة اكثر من اغلفتها " .. لماذا اصبحتُ نباتية تبرر الزوجة " يونغ هاي " فعلها هذا بحلم رأت فيه فمها وثيابها ملطخة بالدماء، ووجهها ينعكس في بركة دم، فيما تمسك بسكين تقطع به اصابع يدها . بعد ذلك الحلم تبدا تتحول إلى كائن يتصرف بغرابة، فلا تطيق اللحوم ولا تطيق الاقتراب من زوجها وملامسته والنوم معه، لأنه يذكرها برائحة اللحوم، الزوج الذي يشكو تصرفات زوجته يبدا باثارة حملة ضدها تدفع والدها إلى معاقبتها بضربها، ووضع اللحم بالغصب في فمها. ترد على العقوبة بقطع شرايين يدها، وعندما تنقل الى المستشفى تقرر خلع ثيابها والوقوف في حديقة المستشفى على يديها ورأسها كالشجرة حيث تحلم بأوراق تنبت من جسمها، قائلة إنها لم تعد حيواناً وإنها تحتاج فقط الى الماء والضوء. .انها تتذكر الآن حياتها حيث كانت ضحية لعنف الأب الذي ظل يضربها حتى بلغت الثامنة عشرة من عمرها .

في القسم الثاني من الرواية سنتعرف على زوج شقيقتها، مخرج افلام فديو، يفاجأ ذات يوم حين يرى ملصقاً لعرض مسرحي فيه ررجال ونساء عراة إلا من رسوم لأزهار ملونة على أجسادهم. خطرت له فكرة تصوير فيلم حين علم من زوجته أن على جسد شقيقتها علامة ولادة زرقاء صغيرة اشبه بالنبتة. كانت " يونغ هاي" بشعة ربما مقارنة بزوجته، لكنها تشعُ طاقة، وبدت له مثل شجرة في البرية. يزورها في المستشفى متظاهراً أن شقيقتها قلقة عليها، توافق في النهاية على فكرته ان أن يصوّرها،

في الاستوديو، يرى العلامة الشاحبة الزرقاء - الخضراء. يرسم جسمها بالأزهار بدءاً بالعلامة، ويصوّر نفسه وهو يرسمها. كان جسدها جسد شابة جميلة يُفترض أن يكون موضع الرغبة، لكنه خلا منها تماماً لرفضها الحياة فيه وتركها لجمالها يذبل مع الايام .

بعد منحها جائزة البوكر اكدت اللجنة المشرفة على الجائزة ان هان كانغ نجحث في " النباتية " بـ " إظهار التلاحم الطريف بين الجمال والرعب عبر قصة مركزة ودقيقة ومروعة، عن امرأة تستحيل إلى نباتية بين يوم وليلة دون أي مسوغات، سوى الكابوس الذي نبش حلمًا من أحلامها في إحدى الليالي"، وقال الناقد البريطاني بويد تونكن الذي راس لجنة تحكيم البوكر أن: " هذه الرواية الموجزة والمقلقة والمكوّنة بشكل جميل تتتبع رفض المرأة العادية لجميع الاتفاقيات والافتراضات التي تربطها قسراً بمنزلها وعائلتها والمجتمع في أسلوب غنائي يكشف عن تأثير هذا الرفض الكبير على كل من البطلة نفسها وعلى من حولها. سوف يظل هذا الكتاب الصغير والرائع والمزعج طويلاً في العقول، وربما في أحلام قرائها. "

تطرح هان كانغ في " النباتية " فكرة المعاملة السيئة للنساء، فالبطلة حين تتحول إلى نباتية تلام بشدة، ويَصِمونها بالجنون، وكأن ليس من حقها أن تختار، بل هذا الخيار الحرّ نحو ما يلائم شخصيتها لا وجود له في عالم المرأة المتزوجة، هذا الانتهاك الذي يتعرض لحريتها الشخصية ربما هو المبعث الأساسي لفشل حياتها الزوجية، ليس هذا فحسب، بل إن الرواية أيضًا تظهر طبيعة المجتمعات التي لاتتقبل اختلاف الآخر، قالت " هان كانغ " بعد فوزها بالبوكر:" "أردت أن أصف امرأة يائسة لم تعد تريد أن تنتمي إلى الجنس البشري. فالبشر يرتكبون العنف، فكيف يمكن لي أن أتقبل أن أكون أنا واحدة من هؤلاء البشر؟ هذا النوع من المعاناة دائما يطاردني ".

روايتها أفعال بشرية- نرجمها الى العربية محمد نجيب - تدور أحداثها حول انتفاضة ايار عام 1980 التي شهدتها المدينة التي ولدت فيها " غوانغجو "، وقد قدرت أعداد ضحايا المواجهات بين الشرطة وتالمتظاهرين بالمئات، حيث تصور الرواية الاحتجاجات المطالبة بالديمقراطية بعد اغتيال الدكتاتور بارك تشونك سنة 1979، حيث أحكم الجيش قبضته على الحكم وقمعَ الحركات التي برزت في الجامعات وأطلق الرصاص على المتظاهرين.قالت انها كتبت " افعال بشرية "

عن الراحلين والباقين والعالقين بين الرحيل والبقاء. انها " رواية يرويها أحياء عن أموات وأموات عن أحياء " .

قالت هان كانغ انها تنبأت بان الادب الكوري سيجد له مكانا على خارطة الادب العالمي، وبعد فوزها بجائزة البوكر صرحت لجريدة الغارديان البريطانية:" إن الفوز بجائزة أدبية دولية لن يكون مشكلة بعد الآن".

***

علي حسين – رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية

 

الكاتب زهير ياسين شليبه في كتابه "جودليّه" يقدم عملاً أدبياً يصعب تصنيفه، فهو يوصفه بـ"السردية الهجينة العابرة للأجناس". الكتاب يأخذنا في رحلة معقدة ومؤلمة يعيشها اللاجئون في بحثهم المستمر عن الأمان والانتماء، وهو ما يجعل القارئ يتأمل في مدى التناقض بين المشاعر الإنسانية العميقة التي يحملونها وبين التحديات التي يواجهونها في أوطانهم الجديدة.

في الجزء الأول من الكتاب، "رسائل من زمن الحصار"، يغمرنا الكاتب بمشاهد من الماضي والحاضر عبر "مخطوط لُقية"، وهي مجموعة من القصص المؤثرة التي تروي حياة سارد مجهول. نعيش معه طفولته وشبابه في بلاده قبل أن يجبره الواقع القاسي على مغادرتها، ثم نتابع تفاصيل حياته بعد وصوله إلى الدنمارك كلاجئ. تلك القصص لا تقتصر على الحنين للماضي، بل تقدم لنا صورة معقدة عن صراع اللاجئ بين وطنه الذي تركه والبلد الجديد الذي يحاول الانتماء إليه. ما يميز هذه الرسائل ليس فقط التناص بين الذكريات الشخصية والواقع الصعب الذي يفرضه الحصار الاقتصادي على وطنه، ولكن أيضًا التحليل العميق لمشاعر اللاجئين المتباينة: الأمل والحزن، الشوق للعودة والتطلع إلى الاندماج. النصوص تشكل نسيجًا معقدًا من هذه المشاعر، مما يجعل القارئ يبحر في تجربة إنسانية صادقة، حيث لا يمكن الفصل بين الفرح والحزن، بين الغضب والامتنان.

في كل فصل من الكتاب، تتجلى هذه المشاعر بوضوح، سواء كانت فرحة لاجئ بإيجاد استقرار مؤقت أو حزنًا عميقًا على فقدان الوطن. عشت مع كل صفحة من الكتاب وكأنني جزء من هذه التجارب. تأثرت بشدة بأحاسيس اللاجئين، فبينما كانوا يحاولون بناء حياة جديدة، كنت أشعر بالحنين والحزن يتسلل إلى أعماقهم، وكأنهم يعيشون في عالمين متوازيين. لم يكن الكتاب مجرد سرد لأحداث حياة اللاجئين، بل كان أشبه بلوحة فنية تتلون بألوان الحياة المختلفة. كل قصة، كل رسالة، كانت بمثابة لوحة جديدة مرسومة بعناية، تعبر عن مصير مختلف. وما جعل الكتاب استثنائيًا هو قدرة الكاتب على الجمع بين الفكاهة والدراما، بين السخرية السوداء التي تعكس مرارة الواقع، واللحظات الإنسانية التي تتسلل عبر السطور. في بعض الأحيان، توقفت عن القراءة لأشعر بعمق الحزن الذي حملته هذه الرسائل، وأحيانًا أخرى لم أستطع إلا أن أضحك بصوت عالٍ عند وصف المواقف الساخرة. عبر الكتاب، نجح زهير شليبه في جعلي أشعر وكأنني واحدة من هؤلاء المهاجرين، أعيش يومياتهم، وأتشارك أحلامهم وخيباتهم. بصفتي مقيمة في النرويج، وجدت أن الكتاب يتحدث عنّا نحن المغتربين في بلاد الشمال، ويعيد رسم صورة واقعية عما يواجهه اللاجئون من تحديات، ليس فقط في محاولاتهم لإعادة بناء حياتهم، ولكن أيضًا في صراعهم للحفاظ على هويتهم.

هذا الكتاب ليس مجرد سرد لقصص اللجوء، بل هو تأمل عميق في التجربة الإنسانية، تجربة التمزق والانتماء، الحنين والاستسلام. يقدم زهير شليبه من خلال "جودليّه" صورة حية عن واقع اللاجئين، ويجعلنا نعيش تلك اللحظات معهم، نتأملها ونتساءل عن مصير هؤلاء الذين يعيشون بين وطن غاب ووطن لا يزال يبحث عنهم.

***

زكية خيرهم

حصلت الكاتبة الكورية الجنوبية هان كانج على جائزة نوبل في الأدب لعام 2024 ، مما مثل لحظة هامة للغاية في مسيرتها الأدبية والمشهد الثقافي في كوريا الجنوبية. وقد اعترفت بها الأكاديمية السويدية "لنثرها الشعري المكثف الذي يواجه الصدمات التاريخية ويكشف عن هشاشة الحياة البشرية".

لا يسلط هذا التكريم والاحتفاء المستحق الضوء على إنجازات هان الفردية فحسب ، بل يعكس أيضًا السياقات السياسية والأدبية الأوسع التي شكلت عملها وتداول الأدب الكوري الجنوبي على الساحة العالمية.

ولدت هان كانج في غوانغجو عام 1970، ونشأت في مدينة اتسمت بالاضطرابات السياسية، مما أثر بشكل عميق على صوتها الأدبي. تتمتع غوانغجو بأهمية تاريخية بسبب انتفاضة غوانغجو عام 1980 ، حيث قُتل مئات المدنيين على يد الجيش أثناء حركة مؤيدة للديمقراطية. هذا الحدث المؤلم هو موضوع متكرر في كتابات المحتفى بها، وخاصة في روايتها المشهورة "تصرفات إنسانية" ، والتي تستكشف تأثير العنف والخسارة على حياة الأفراد.

بدأت هان مسيرتها الأدبية بالشعر، ونشرت مجموعتها الأولى في عام 1993. وعلى مر السنين، انتقلت إلى النثر، واكتسبت شهرة دولية بروايتها "النباتية" (2007)، والتي تتعمق في موضوعات الاستقلال الجسدي والمعايير المجتمعية من خلال قصة امرأة تقرر التوقف عن أكل اللحوم بعد تجربة أحلام مزعجة.

إن ترجمة هذه الرواية إلى الإنجليزية في عام 2015، ثم فوزها بجائزة البوكر الدولية في عام 2016، قد رفعت من مكانتها على مستوى العالم بشكل كبير.

غالبًا ما تتناول أعمال هان كانج الصدمات التاريخية ، وتستكشف كيف تشكل التواريخ الشخصية والجماعية صورة الهوية. وغالبًا ما تتميز رواياتها ببطلات إناث يتنقلن بين الضغوط المجتمعية والصراعات الشخصية، مما يعكس انخراطًا عميقًا في قضايا مثل الصحة العقلية والحزن والأسئلة الوجودية.

على سبيل المثال، في روايتها "تصرفات إنسانية" Human Acts ، تستخدم هان أسلوبًا سرديًا مجزأً لإعطاء صوت لضحايا العنف الحكومي، مما يسمح لهم بسرد تجاربهم حتى بعد الموت. لا يخدم هذا المنهج المبتكر كشكل من أشكال "أدب الشهادة" فحسب، بل يؤكد أيضًا على التفاعل بين الذاكرة والصدمة.

إن الاعتراف بفوز هان كانج كأول امرأة آسيوية بجائزة نوبل للآداب يرمز إلى الديناميكيات المتغيرة داخل عالم الأدب. تاريخيًا، تعرضت جائزة نوبل للانتقاد بسبب تركيزها على أوروبا، حيث لم تحصل سوى 17 امرأة على الجائزة من بين 120 فائزًا منذ إنشائها.

إن التأثيرات السياسية لأعمال هان يتردد صداها بعمق في السياق المعاصر لكوريا الجنوبية. لقد خضعت البلاد لتحولات كبيرة منذ نهاية الحكم الاستبدادي في أواخر القرن العشرين، مما أدى إلى تطور وارتقاء في التعبير الثقافي الذي يستسقي من روافد الماضي. تعكس الأعمال الأدبية للكاتبة هان هذا التطور من خلال تحدي المعايير المجتمعية ومعالجة الظلم التاريخي، وبالتالي المساهمة في الحوارات المستمرة حول الهوية الوطنية والذاكرة.

لقد فتح التألق الدولي الذي حققته هان كانج الأبواب أمام مؤلفين آخرين من كوريا الجنوبية، مما سيعزز الاهتمام بالأدب الكوري في جميع أنحاء العالم. لقد أسر أسلوبها السردي الفريد - وهو مزيج من اللغة الشعرية والعمق الموضوعي العميق - القراء خارج حدود كوريا الجنوبية.

إن التقدير الذي حصلت عليه من جوائز مرموقة مثل جائزة نوبل سيعزز مكانتها كشخصية محورية في الأدب النسائي المعاصر.

علاوة على ذلك، أثار عمل هان مناقشات حول دور الأدب في معالجة القضايا الاجتماعية. ومع استمرار الحركات السياسية في التطور على مستوى العالم، ستعمل كتاباتها كتذكير بقوة الأدب في مواجهة الحقائق المزعجة وإلهام طرائق التغيير.

إن حصول هان كانج على جائزة نوبل في الأدب لعام 2024 ليس مجرد إنجاز شخصي معزول؛ بل إنه يمثل اعترافًا أوسع بالتراث الأدبي الغني لكوريا الجنوبية وانخراطها في السرديات التاريخية المعقدة. إن استكشافها للصدمة والمرونة والهوية يتردد صداه بعمق في السياقات الوطنية المحلية والعالمية، مما يجعلها صوتًا نسائيا رائدا في الأدب المعاصر.

وبينما تستعد لقبول هذه الجائزة المرموقة في ديسمبر 2024، تقف هان كانج عند تقاطع الفن والنشاط الإنساني - وهي شهادة على كيف يمكن للأدب أن يسلط الضوء على التجارب الإنسانية تحت الظلال التاريخية. وتوضح رحلتها من جوانججو إلى الشهرة العالمية كيف يمكن للسرديات الشخصية أن تتجاوز الحدود، وتعزز التعاطف والتفاهم عبر الثقافات.

***

عبده حقي

لاشك بأن الشعر يعتبر العنصر الرئيسي للتعبير عن الاحاسيس الانسانية منذ القدم، وقد مر بمراحل عدة من النظم الشفهي الى الكتابة عن طريق الأوزان والبحور ثم الى يومنا هذا وتأثير جميع الحركات الحداثوية والفكرية العالمية على نبض الشعر وتدوينه دون انكار الوقع الكبير لجميع انواع الشعر على النفوس قديما وحديثا، فهو الجنس الادبي الاصعب اذا اردنا ان نأتي بعمل مميز ونتاج ابداعي، وقديما كان للشعر حضورا في حياة الناس والمجتمعات بل أثر على الاحداث وأدى دورا فعالا في المناسبات والطقوس .

لكننا في مقالنا هذا نتطرق الى مسألة مختلفة تماما وهي طرح طرق ومعايير النظر والتعامل مع الشعر المعاصر، لكن وقبل كل شيء يجب ان نتعامل بشيء من الاحترام  مع كل ما يكتب باسم الشعر، سهلا أم معقدا، جميلا أم ركيكا، لأنه يعتبر جزءا لا يتجزأ من عالم الروح والشخصية والتجارب لموءلفه وكل نص يعبر عن شيء من عالم الشاعر ومعاناته ولحظاته الروحية الخاصة، لذا جدير بالاهتمام والتقدير. وبما ان الوسيلة الاهم في الشعر هي اللغة وان اللغة تتحرك وتتقدم الى الامام من خلال الشعر والادب وهي في دوامة التجديد مستمرة مع حركة الحياة، لذا نلاحظ احيانا تفاوت طرق الانشاء والتعبير والفهم والاسلوب بشكل عام من حقبة الى الاخرى، وهذا ما يجعلنا ان ننظر الى الشعر کوحدة واحدة وكتلة غير متجزئة منذ منذ بدايات العصر الكلاسيكي  ولحد الان، وهكذا يبني الشعراء المعاصرون على ما بنوا القدماء ولا نرى تنافرا بل اكتمالا للمسيرة الشعرية على مدى العصور وبين الاجيال.

في هذا المقام نحن لسنا بصدد توجيه القراء والتمييز بين الشعر الجيد والرديء، لكن وعلى ضوء التجارب يمكننا القول بأن هنالك قاسما مشتركا للاعمال الشعرية الاصيلة والجادة لوجود وتوافر مقومات ونقاط القوة في تلك النصوص أيما كانت لغة الشاعر، فالشعر في ذاته هو لغة مشتركة عالمية بين بني بشر على خلاف ألوان بشرتهم ومشاربهم وميولهم.

اذ ان هناك ركائز عدة يجب اخذها بالحسبان  عند النظر والتقييم للنصوص الشعرية ومن ثم على ضوئها نتعرف على الطبيعة التكوينية للقصائد. فقوة هذه النقاط تلقي بظلالها علی الاستنتاج والاستكشاف، ومن بين تلك الركائز يجب مراعاة الجودة والتمييز في الثيـمة والتي هي بمثابة العمود الفقري للشعر، كما علينا ان نسأل هل هي متكررة أم متجددة؟ هل تسترعي انتباه اللاوعي أثناء التأمل والدراسة؟ أي خيط فيها تربط بهموم القاريء، ثم هل ان الفكرة وليدة طبيعية لتصورات ورٶی وقناعات الشاعر وانتضجت داخل المختبر الشعري وذهن الشاعر أم لاء؟ الى ان نأتي الى مناقشة نوعية اللغة واساليبها البلاغية من المجاز والاستعارات والتضاد، ثم هل ان للشاعر رٶی شعرية خاصة به بحيث يتميز به دون غيره؟ وما نوع الرسالة التي تحتوي النص وبأي لغة صاغت القصيدة هل هي دارجة يومية أم راقية متفننة؟ وما هي التقنية المستعملة والاسلوب الصياغي للشعر؟ هل هي سائدة أم فيها دلائل وشفيرات يرشد القاريء الى عوالمه الخفية بحيث يحتاج قراءات متأنية وتأملات عميقة. وبما ان الخيال هو المحرك الرئيسي لتحديد خطوات الانجاز الشعري، مع مراعاة تجدد الصور  الشعرية  وندرتها نصل الى حافة الاتيان بالجيد والتمتع بقراءة نصنا كأول قاريء وناقد في آن معا.

بل كلما حاول الشاعر أن يكون نفسه وذاته في نصه كلما كان شعرا أحسن وأجدر بالذكر والتدبر، والشاعر الجيد يحاول دوما ان يتجنب التقليد والتكرار، وفي الاخير ان لكل نوع من الشعر طبقة معينة من القراء، بحيث يتقاسم كل طبقة نوعا محددا من المضامين والاشكال الى نصل الی النص الجاد ولا نجد الاغلبية ترغب بقراءته الا النخبة الشعرية وهم دائما يتابعون كل جديد ويبحثون عن تغذية ذائقتهم بالاختيار الانسب الخاص بهم والمتميز.

عموما ينقسم أصناف الشعراء الی ثلاثة أنواع:

1- الصنف الذي يكتب الشعر كممارسة للهواية.

 2- الذين يجدون في كتابة الشعر ضالتهم للتخلص من الهموم والاحتراق الداخلي.

3- الشعراء الجادين الذين يحاولون اجتياز ومغادرة السابقين بل حتی أنفسهم العتيقة!.

الا ان التعامل مع الاسماء بدلا من الاعمال يعتبر الداء العضال عند القراءة ويفسد علينا موضوعيتنا وينقلب المعايير الابتكارية والجمالية عندنا، في حين ان كل نص شعري له مناخه وتضاريسه الخاصة به وهو في علاقة مترابطة وعضوية بروح الشاعر وأنفاسه الآنية وتعدد أدواته الشعرية وغناء تدفق أفكاره وتخيلاته، وهذا ما سماه الباز بـ (عصير الشاعر) أو بئره الذي يستخرج منه افكاره وصوره أو سماءه التخيلي.

في الختام يجب علينا ان لاننسى بأن الثيمة كلما كانت نادرة وعلى صلة بالمتلقي كلما كانت بداية موفقة لكتابة الشعر، وبما ان الصور الشعرية تعتبر المكون الرئيسي لبناء النصوص فان الشاعر الملهم والمتمكن يعرف كيف يرسم ويصوغ  صوره الشعرية، وهو عالق بين الواقع والخيال لكنه وبمهارته سيصنع خيطا أو حبلا يربط من خلاله بداية نصه بوسطه وآخره ويخرج منه سالما دون الهلاك، ونحن بدورنا نشعر كالقراء بالعذوبة والانسجام وثبات البنية للنص من خلال التعابير الشعرية المتدفقة وصوره المتجددة وبناءه الرصين.

***

سوران محمد

الحب موضوع أبدي في الأدب العالمي، وقد ألهم الأدباء في كل العصور. وفي كل عصر كان يعبر عن قيم أخلاقية وجمالية معينة للشعب الذي ينتمي إليه الأديب. وهذا الشعور يمنح الإنسان السعادة والإلهام، أو يجعله يكابد ويعاني، وقد يكون سبباً في القيام بمآثر أو ارتكاب جرائم. ويحتل مكانة كبيرة في حياة كل إنسان، وهو شعور لا معنى للحياة دونه، وفي الوقت نفسه، يعيش في قلوب كل من الأشخاص الحقيقيين وأبطال الأعمال الأدبية. كل مظهر من مظاهر الحب فريد من نوعه في نص كل مؤلف.

لقد ولت منذ فترة طويلة الأوقات التي كان فيها تقبيل يد الفتاة، أو رؤية بعض مفاتنها هو الحلم النهائي لمن يعشقها، وبما أن الأدب هو غالبا انعكاس فني للواقع الذي خلق فيه، فليس من المستغرب أن تحتوي أي قصة حب على بعض المشاهد الصريحة في الأقل، إنها تحفز الخيال وتثير مشاعر قوية لدى القارئ. ومع ذلك، هناك احتمال كبير للوقوع ليس في الايروتيكا الجميلة، ولكن في البورنوغرافيا، أو الإباحية الكريهة، رغم وجود القيود القانونية العديدة في معظم بلدان العالم، التي تحد من نشر المواد الإباحية. ومثل هذه المواد لا تثير اهتمام الجميع، وتقابل بالسلبية والرفض من القارئ السوي.

تتمثل إحدى المشكلات في تطبيق المعايير، التي تحد من نشر المعلومات الإباحية وما شابهها، هي عدم اليقين في مسألة التمييز بين مفهومي الإيروتيكا والبورنوغرافيا، حيث لم يتم تعريفهما بشكل معياري في أي مكان، ولا يزال علماء الجنس يتجادلون حول هذا الأمر حتى اليوم. لفهم هذه المشكلة، من الضروري أولا وقبل كل شيء، التمييز بين ثلاثة مفاهيم ينبغي عدم الخلط بينها. الجنس هو الحياة الجنسية الحقيقية للإنسان بكل مظاهرها، ورغم اختلاف الثقافة الجنسية بين الأمم المختلفة، إلا أنها لا تزال تقوم على الغريزة الجنسية والحاجة إلى الإنجاب واللذة التي ينالها الإنسان، من تلبية هذه الحاجة.

الإيروتيكا وسيلة لعكس الجنس في الثقافة، وتختلف من ثقافة إلى أخرى ومن بلد إلى آخر، كما تختلف باختلاف المراحل التاريخية، وهي متميزة وفريدة في كل ثقافة، فعلى سبيل المثال يختلف مفهوم الإيروتيكا في الثقافة الهندية والصينية القديمة كثيرا عن هذا المفهوم في الثقافة الروسية أو العربية..

البورنوغرافيا قد تتجاوز الثقافة الإيروتيكية لبلد ما، لكنها لا تعد مواد بورنوغرافية في ثقافة أخرى أو بلد آخر، فعلى سبيل المثال هناك قيود قانونية في معظم البلدان الأوروبية، تحد من نشر المواد الإباحية، في حين أنها متاحة في هولندا، التي لا توجد فيها مثل هذه القيود، ولكن بغض النظر عن ذلك، ينبغي أن يؤخذ في الاعتبار أنه في أي مجتمع، وفي أي ثقافة، فإن الابتذال واستخدام الألفاظ النابية أو الفاحشة هما أساس البورنوغرافيا في الأدب، في حين أن الذائقة الجمالية، ونبل الأفكار شرطان لا غنى عنهما لإنشاء عمل إيروتيكي. إن معاداة الفن والفظاظة وابتذال الوسائل والتقنيات في حد ذاتها، يمكن أن تخلق تأثيرا إباحياً (بالطبع، إذا كانت هناك حبكة إباحية) حتى في الحالات التي لم يكن لدى المؤلف مثل هذا الهدف أو النية. وهذا ما يسمى بالإباحية العفوية، التي تصاحب دائما تدني مستوى ثقافة الأديب أو المجتمع ككل. تحدد نسبة الإيروتيكا والبورنوغرافيا في أي مجتمع من خلال مستوى ثقافة مواطنيه في المقام الأول. ولهذا السبب، تحديداً عندما يكون هذا المستوى منخفضاً، لا يمكن لأي رقابة أن تحد من نطاق انتشار المواد البورنوغرافية. وفي حالة وجود مثل هذه الرقابة فإنها تتخفى تحت الأرض. ومن الصعب التمييز بين مفهومين عندما لا يكون هناك حتى تعريف واحد متفق عليه بين علماء الجنس والباحثين لأي منهما. ومع ذلك، دعونا نكتشف أين هو الحد الفاصل بين الإيروتيكا والبورنوغرافيا في الأدب، الذي ينبغي للكاتب أن لا يتجاوزه إذا كان يعتمد على قارئ مهتم بالقيم الجمالية.

الإيروتيكا: فن نقل المشاعر الجنسية. في مثل هذه الأعمال هناك عنصر الإيحاء أو الإيماء بدلا من التصريح المباشر. تركز الإيروتيكا فقط على الجمال الجسدي والروحي، دون إثارة الرغبة في الاتصال الجنسي، وتصور الرغبات والأفعال الجنسية في شكل فني، وتهدف إلى التأثير على عواطف الشخص من أجل إثارة المشاعر والأفكار الجمالية لديه. وغالبا ما تكشف عن أعماق جديدة للوجود الإنساني، لم يتم فهمها أو قبولها بعد من قبل الأخلاق والوعي الجماعي.

أما البورنوغرافيا فإنها تربط كل شيء حصريا بالسرير، وهي مليئة بالوصف الطبيعي المباشر، وتنفي تماما العنصر الروحي للعلاقة بين الرجل والمرأة، وتجرد الإنسان من الإنسانية. علاوة على ذلك، قد تحتوي هذه الكتب على عناصر انحرافات مختلفة، بما في ذلك تلك التي يحظرها القانون.

إذا كانت الإيروتيكا تأخذ القارئ إلى مستوى جمالي جديد، وتجعله يحلم ويتخيل ويفكر، فإن البورنوغرافيا لا تترك مجالا للخيال، لأن التركيز هناك يكون على الاتصال الجنسي نفسه، ويترك كل شيء آخر جانباً. ونتيجة لذلك فإن مثل هذه الكتب تثير الرغبة وتكثفها، لكنها لا تقدم أي غذاء للعقل أو القلب. من الواضح أن الأدب البورنوغرافي (مع استثناءات نادرة) لا يمثل أدنى قيمة فنية، لأن المهمة الرئيسية لأي أدب هي التعبير عن المشاعر والتجارب الإنسانية. الأدب فن يجب أن يظل جميلاً وروحانياً للغاية، بغض النظر عن الانحرافات النفسية والسلوكية. الإيروتيكا قادرة على إشراك القارئ في تكوين أحكام أخلاقية، كما تستطيع استكشاف مجموعة واسعة من المشاعر والاستجابات العاطفية. الخوف والألم والشوق والإيمان والحب والكراهية والرفض والقبول ـ إن هذا النطاق لا نهاية له. أما البورنوغرافيا فإنها بطبيعتها ـ غير قادرة على القيام بأي من هذا بطريقة ذات معنى. الإيروتيكا هي الجسد والجمال، والبورنوغرافيا هي اللحم والسلعة» وبعبارة أخرى، فإن البورنوغرافيا غير حساسة، تلقائية، مثيرة، أي جنس مجرد تماما من الإنسانية. وإذا كان الشخص غير قادر على فهم هذا الاختلاف، فإن هذا يدل في المقام الأول على تدني مستوى ثقافته العامة والجنسية. ليس للإيروتيكا والبورنوغرافيا التأثير نفسه في المجتمع، وخاصة في النساء. ففي البورنوغرافيا يتم قمع النساء ومعاملتهن بعنف مثل الأشياء، بينما في الإيروتيكا لا يوجد مثل هذا القمع والعنف، بل هو مظهر من مظاهر المتعة التي يشعر بها الشريكان، وليس مظهرا من مظاهر العنف. الإيروتيك أو الإيروسية آتية من الإله إيروس، إلهُ الحُبِّ والجنس والخصوبة، وتعبر عن نشاط جنسي كامل قائم على المودة والرغبة المتبادلة بين شريكين متساويين، ونزع صفة الحيوانية عن الاتصال الجنسيّ، وتحويله عملاً فنياً يجتمع فيه الخيال والحساسية والفانتازيا.. أمّا البورنوغرافيا فإنها تأتي من جذر يوناني آخر ـ «بورنو» الذي يعني الدعارة وتعكس نشاطا جنسيا مجردا من المشاعر والخيال، قائما على هيمنة الذكور واستغلال النساء.

ولهذا السبب فإن كلمتي «متبادل» و«بين المتساويين» صريحتان بشكل خاص لأنهما تعنيان عدم وجود فرق بين الرجال والنساء في هذا المجال. لا يستعرض الرجال سلطتهم على النساء، بل على العكس من ذلك، هناك مفهوم المشاركة بين الشريكين.. هذه مشاعر إيجابية يعيشها كل زوجين في الحب. ونتيجة لذلك، تُظهر الإيروتيكا العلاقة الحميمة الطبيعية بين الزوجين. من ناحية أخرى تعكس البورنوغرافيا نشاطا جنسيا حيوانياً قائما على هيمنة الذكور واستغلال النساء. من وجهة نظر الحركات النسوية، الايروتيكا هي تصوير للعلاقات الجنسية المتساوية بين الرجل والمرأة، والبورنوغرافيا هي العلاقات غير المتكافئة التي تنتهك الرغبات الجنسية للمرأة.

إن ممارسة الحب يجب أن تكون جميلة ورومانسية وناعمة ولطيفة وخالية من الفوضى والابتذال والرغبة في التسلط، أو العنف من أي نوع. هذا هو السبب في أن المواد البورنوغرافية تخنق النساء فعلا. في الواقع، احترام المشاعر مهم جدا بالنسبة للنساء، ومعظمهن مدفوعات بمشاعرهن، بينما معظم الرجال مدفوعون بالغريزة. على سبيل المثال، ليس من الشائع والصعب بشكل خاص بالنسبة للنساء ممارسة الحب دون مشاعر بينما هو شائع لدى الرجال. وهذا هو السبب في أن رؤية الفعل الجنسي دون مشاعر، كما في الأفلام الإباحية ليس خانقا للرجال كما للنساء.

***

جودت هوشيار

قراءة في النص الشعري "برقيات" للشاعر اليمني/ محمد ثابت السميعي

هذا النص الشعري الذي بين ايدينا هو قطعة أدبية ذات طابع فلسفي يتعمق في جوانب متعددة من الحياة والوجود الإنساني. يتميز النص بالتركيز على تجارب الأفراد المختلفة وصراعاتهم الداخلية مع الحياة والمجتمع والقدر. يضم النص مشاعر الاستسلام والقوة، العجز والتمرد، مما يجعله تعبيراً عن أصوات مكبوتة تسعى للتعبير عن ذاتها وسط قسوة الواقع.

1. الشكل الأدبي والأسلوب:

يتكون النص من مقاطع شعرية قصيرة ومكثفة.. تتميز باستخدام أسلوب التوازي، حيث يعتمد الشاعر في كل مقطع على تقديم شخصية أو حالة معينة، يتبعها موقف أو اعتراف مختصر يعبر عن مشاعر هذه الشخصية أو موقفها من الحياة.

2. أسلوب الحذف والاختصار:

الشاعر يعتمد على الإيجاز والاختصار في التعبير، مما يجعل كل جملة أو عبارة مكثفة بالمعنى. هذا الأسلوب يترك المجال للقارئ لملء الفراغات وتفسير المعاني العميقة. فعلى سبيل المثال، جملة "لم أعتدي!" التي تأتي بعد وصف الشاعر بأنه "ألقى... وزُجَّ بأبعدِ" توحي بأن الشاعر يشعر بالظلم والعزلة، رغم أنه لم يرتكب ذنبًا يستدعي تلك العقوبة.

3. استخدام الرمز والمجاز:

النص مليء بالرموز والإشارات المبطنة، مثل "الرصيف" الذي يشهد تخرج الطالب وتردده، وهو صورة تعبر عن حال الشاب الذي يقف على حافة الحياة العملية لكنه يتردد في الإقدام بسبب ظروفه أو إحساسه بعدم القدرة على التحكم في مستقبله. كذلك، جملة "رجلاه تحلم بالغد" التي تصف الشخص المقعد تعبر مجازًا عن الأمل المحاصر داخل جسد عاجز، بينما "هاكم يدي" تعكس روح التضحية والمساعدة رغم العجز الجسدي.

قراءة وتحليل

1. المقطع الأول:

"مِنْ شاعرٍ ألقى...وزُجَّ بأبعـــدِ: لمْ أعتدي!"

يتحدث الشاعر عن نفسه بوصفه كائنًا مبدعًا يلقي بكلماته وأفكاره، لكنه يُقصى ويُبعد عن المجتمع. استخدام فعل "زُجَّ" يشير إلى القوة التي استخدمت ضده، وكأن الشاعر قد عوقب على كلماته أو على وجوده الإبداعي. ومع ذلك، يعبر الشاعر عن براءته بصيحة "لم أعتدي!"، مؤكدًا أنه لم يرتكب ما يستحق العقاب. هنا تكمن معاناة الشاعر أمام نظام قمعي أو واقع اجتماعي غير متسامح مع الإبداع والاختلاف.

2.  المقطع الثاني:

"مِنْ طالبٍ شهِدَ الرصيفُ تَخَرُّجي وتَرَدُّدي: ما باليد!"

هذا المقطع يمثل طالبًا يتخرج من الدراسة لكنه يجد نفسه في مواجهة الحياة بلا قدرة أو أدوات لمواجهة التحديات. "الرصيف" هنا يمكن اعتباره رمزًا للحدود البسيطة أو الأفق الضيق الذي يقف أمامه الطالب المتخرج، حيث لا يمتلك القوة الفعلية لتحقيق أحلامه. "ما باليد!" تعبر عن الاعتراف بالعجز والضعف أمام القدر والمصير، وهو تكرار لشعور الضعف والإحباط الذي يواجهه الكثير من الشباب بعد انتهاء فترة التعليم.

3. المقطع الثالث:

"مِنْ مُدَّعٍ بعمامةٍ وبلحيةٍ وبمعْبَدي: لا تقتدي!"

هنا يتناول الشاعر شخصية المدعي، الذي يبدو مظهره الخارجي بما يوحي بالتقوى والإيمان (بعمامة ولحية)، ولكن مضمون رسالته ومخابئ هيئته هو النفاق المنحط أو الادعاء الزائف. هنا ينصح الشاعر الآخرين بعدم الاقتداء بهذه الشخصية الدينية، لأنها لا تعكس الا انفصالًا بين المظهر والمضمون، وبين ما يُقال وما يُفعل.

هذا النقد الضمني قد يكون موجهًا إلى رجال الدين أو الأشخاص الذين يتظاهرون بالتقوى في حين أن أفعالهم لا تتفق مع مبادئهم.

4.  المقطع الرابع:

"مِنْ مُقْعَدٍ - رِجْلاهُ تحْلُمُ بالغَدِ - هاكمْ يديْ!"

هذا المقطع يحمل معانٍ إنسانية عميقة، حيث يقدم الشاعر صورة لشخص مقعد، أي عاجز جسديًا، ولكن ما زالت روحه تحمل أحلامًا وطموحات للمستقبل. رغم عجزه الجسدي، فإنه يعرض يده (هاكم يدي) في إشارة إلى تقديم المساعدة أو التضامن.

تتجلى هنا الروح الإنسانية القوية التي تتحدى القيود الجسدية وتؤمن بالتضحية والمشاركة رغم كل الصعاب.

5. المقطع الخامس:

"مِنْ مُعْدَمٍ ما نام دون تأَوُّهٍ وتَنَهُّدِ: هاكُمْ غَدِي!"

يصف الشاعر حالة الإنسان المعدم الذي يعاني من الفقر والحرمان، بحيث لا ينام دون أن يشعر بالألم والتنهد. رغم ذلك، يعرض هذا المعدم الغد/ المستقبل على الآخرين، في تعبير عن الأمل والاستعداد لتقديم العون بما لديه للآخرين رغم فقره.

النص يعبر عن فكرة التضحية بالذات في سبيل المستقبل المشترك، حتى وإن كان الفرد يعاني من العوز او العجز الشخصي.

6. المقطع الأخير:

"ما شِئْتُ هذا والذي فَطَرَ النجومَ لِنَهْتَدي"

هذا المقطع يجمع بين السمو الروحي والاعتراف بالقوى الكونية الأكبر، حيث يعبر الشاعر عن استسلامه للقضاء والقدر، أو للقوة التي "فطرت النجوم". النجوم هنا ترمز إلى الهداية والأمل الذي يسعى الإنسان إلى اتباعه. هذا الختام يعكس فلسفة قناعة الشاعر بأن هناك قوة أكبر في هذا الكون توجه حياة الإنسان وتمنحه الإلهام والتوجيه.

المعاني العميقة

النص يعالج قضايا إنسانية شاملة مثل العزلة، الفقر، العجز، والبحث عن الذات. يتناول الشاعر كل مقطع كشخصية قائمة بذاتها، لكنه يربط بينها بخيط رفيع من التجارب المشتركة؛ الجميع يعاني، وكل شخص يتفاعل مع واقعه بأسلوبه الخاص. يمكننا ملاحظة أن النص يعبر عن صراعات داخلية عميقة:

الاغتراب والظلم:

1. يتجلى هذا في شخصية الشاعر في المقطع الأول، الذي يشعر بأنه مظلوم ومقصي رغم عدم ارتكابه خطأ.

2. العجز والإحباط: يتمثل في شخصية الطالب والمقعد، وكلاهما يعبران عن الرغبة في التقدم، لكن تعيقهما الظروف.

3. النفاق الاجتماعي:

يتجلى في شخصية المدعي، الذي يرمز إلى التناقض بين المظهر والمضمون في المجتمع.

4. الأمل والتضحية:

رغم المعاناة التي تعبر عنها الشخصيات، إلا أن هناك عنصرًا مشتركًا من الأمل والاستعداد للتضحية، سواء في يد المقعد الممدودة أو في الغد الذي يعرضه المعدم.

الإبداع الأدبي

يتجلى الإبداع في هذا النص من خلال:

1. البنية الشعرية الفريدة:

النص يتبع نمطًا حرًا من الشعر، حيث لا يلتزم بالقافية أو البحر الشعري التقليدي، مما يعطيه طابعًا حداثيًا ويتيح للشاعر التعبير عن أفكاره بحرية.

2. استخدام الرموز:

مثل "الرصيف" و"العمامة" و"النجوم"، التي تحمل معاني متعددة وتترك للقارئ حرية التأويل.

3. الجمع بين الشخصية الفردية والتجربة الإنسانية المشتركة:

الشخصيات في النص تمثل حالات فردية، لكن مشاعرهم وتجاربهم تعبر عن مشاعر إنسانية شاملة.

الخلاصة

هذا النص الشعري هو تعبير مؤثر عن صراعات الإنسان مع نفسه ومع المجتمع، وهو استكشاف عميق لمشاعر العجز والأمل والظلم والتمرد. باستخدام أسلوب مكثف ومجازي، يقدم الشاعر رؤية فلسفية للعالم تتراوح بين القسوة والجمال، وتجمع بين الاستسلام للقدر والإصرار على مواجهة التحديات. النص يلمس موضوعات تتعلق بالإنسانية في كل زمان ومكان، مما يجعله ذا طابع عالمي وإنساني بامتياز

***

طارق الحلفي/ شاعر وناقد

.................................

رابط النص

https://www.almothaqaf.org/nesos/977719

بيئة المؤلف وجدلية الموقف المغاير، الفصل الأول - المبحث (4)

توطئة: لعل من أكثر علامات رواية (حياة الكاتب السرية) تلك التي تتصل على نمطية اللحظات الشعورية الخاصة من لدن طبيعة الوقائع الشخوصية المرتبطة بجغرافيا متفاعلة وهوية المماثلة السردية التي تشكل بذاتها ذلك الأفق الانتظاري المحموم بصيغة (الاستدعاء المطرد) أو ذلك الولوج في نمو الحلقات الوحداتية في طيات النسيج الاسترسالي من حقيقة الحوادث العارضة . يأتينا مثل هذا الحدث العارض بما يتعلق وقدوم الشخصية ماتيلد موني وهي تعبر الغابة الممتدة قاصدة منزل الكاتب ناثان فاولز، بحكم كونها من عثرت على كلبه برونكو الذي راح في مقعد السيارة الخلفي يراقب حركة سير السيارة التي تقودها الشخصية ماتيلد موني وكل أملها إنها سوف تقضي أمسية لطيفة مع ذلك الكاتب الملغز بعد سعادته بعودة كلبه برونكو .

- تجسيد الحوار المنزلق في وحدات مأزومية الشخصية:

١- الفضاء المكاني ومؤطرات الزمن السكوني:

لقد ميز جيرار جينيت بين (زمن القصة -زمن الخطاب) وبحث في ضروب التطابق والاختلاف بينهما من خلال مقولتي (النظام = الديمومة) وسوف نحاول بدورنا من خلال عرض بعض من وحدات السرد، إلى الكشف عن زمن معطيات الاحداث الماضية في ذاكرة الشخصية ناثان فاولز حول مسألة خداعه من قبل الصحافة، عندما يكون دخولهم مع فاولز دخوﻻ ﻻ يعكس أية خلاصة إعلامية، فهو بدوره كان متوجسا من مجيء الصحافية ماتيلد موني مما استدعى أمر قدومها في دواخل فاولز أشبه ما يكون بالخيبة أو الحيطة أو حلول أوان مواجهة خصما ما، لذا كان الزمن المعطى ما بين الأثنين وثالثهم الكلب، شبه محفوفا بكلمات متطايرة أو منزلقة في صورة ذلك المؤلف المأزوم: (كان ناثان متكئا على عكازه، فطار فرحا بعودة رفيقه . تقدمت ماتيلد نحوه . كانت قد تخيلت الكاتب أشبه برجل الكهف أو قل أشبه بعجوز بربري وفض،شعره طويل، يرتدي ملابس بالية، وقد أرخى لحيته حتى بلغ طولها عشرين سنتيمترا. /ص62 الرواية) على ما يبدو ظاهرا أن الشخصية ماتيلد موني لم تصادف فاولز سابقا، ولكنها ضمن مؤشر حواري تكشف للشخصية فاولز بأنهما قد ألتقيا سابقا . بمعنى أن حقيقة التصور لدى ماتيلد كان بناء على مجرد سماع أخبار سيئة حول عزلة فاولز خلف حجب جدران قلعته المهيبة، إذن التشكيل التصوري لدى مخيلة الشخصية هو عبارة عن مستويات شكوكية وظنية في الآن نفسه، وعندما تتاح لها رؤية فاولز وهو يحمل ذلك المظهر الجذاب من الأناقة والرجولة والوسامة الظاهرة: (كان يرتدي قميص بولو من الكتان لونه أزرق سماوي مثل عينيه) لعل النقاط الحدودية بين الشخصيتين تتجسد في حوارية مقتضبة تدعو إلى الإحساس المباشر بأن فاولز كان يتحين الفرصة لذهاب ماتيلد موني، رغم إنها كانت لطيفة وجذابة في موضع فتنتها، الأمر الذي كان يشعر بمداه على وجدانه فاولز نفسه رويداً رويداً، غير أن مأزومية فاولز كانت من الحجب والتفارق الحسي، مما جعله يحصِ اللحظات الساقطة عليه من خلال فجوات ذلك اللقاء: (اشارت ماتيلد موني إلى العكاز والكاحل المجبر: - آمل ألا تكون الإصابة خطيرة جداً ؟ نفى فاولز بحركة من رأسه: - غداً ستصبح مجرد ذكرى سيئة ؟ ترددت قليلا، ثم قالت له: - أنت لم تعد تذكر ربما،لكن سبق أن التقينا ؟ . اشارة كلماتها الريبة في نفسه، فتراجع خطوة إلى الوراء ورد: - لا اعتقد ذلك.؟: - بلى، منذ وقت طويل ؟. / ص62 .ص63 الرواية) من خلال بعض ردود كلمات المحاورة نفهم عدم التفاعل الحواري ما بين الشخصيتين، ما يثبت لدينا بأن في تصورات فاولز الماضية إكراهات ورفضية قاطعة،فهو ذلك الرجل الذي يتوهم نسيانه للماضي، رغم أنه دلاليا محفوفا بآثاره التي سوف يتم التعرف عليها في حينها، وبعد مرحلة قصيرة من تلك المحاورة توجس فاولز في نفسه بأنه من الأكيد عليه وضع حدودا لكل تلك الأسئلة التي قامت الشخصية ماتيلد بأثارتها في نفسه: (تدين لي بحسب الاعلان بمكافأة قدرها ألف يورو، لكنني اعتقد أنني سأكتفي بكوب شاي مثلج، قالت ماتيلد مبتسمة ./ص63 الرواية) يتجلى انفتاح النص عبر وحداته من خلال مواصفات حوارية - خطية الحكي، تحمل البناء النصي تصاعدا هو من الخصوصية والاستثناء ما جعل من ترهين مادة المحاورة وتقدمها كحالة تحليلية في ضرورة الإعادة والترتيب والمنظور السردي . أي بمعنى أن آليات الحوار تنقب في الأزمنة القديمة مما يجعل فاولز بذاتية مشحونة بروح الصدمة والتوتر والتخييل، فهو -أي فاولز - رغم سخطه الداخلي الرافض لهذه الفتاة، إلا أنه من جهة خاصة راحت مخيلته تتنعم بآثار أنوثة ماتيلد على نفسه، وكان هو يدرك هذا الأمر بذاته سرا . تكشف لنا الوحدات الصغرى من السرد عن بنيات المكان ومدى دور هذه المؤثثات في نمو عجلة الزمن ومادة الحكي عبر المستويين الداخلي والخارجي .

- الخطية السردية المخاتلة:

١- مخاتلة البنيات: تحوﻻت التداخل الزمني:

و نحن حين نتحدث من خلال هذا الفرع المبحثي عن (المخاتلة السردية)، فإننا نقدمها، ها هنا بمعنيين: الأولى (مخاتلة البنيات ؟) والثانية ب (تحوﻻت التداخل الزمني) وهناك حالة اجرائية أخرى تقتضي بمعنى (وقائعية الثيمات ؟) ويمكننا أن نفهم من خلال (مخاتلة البنيات) ذلك المكون الالتفاتي الذي يتحقق ضمن إمكانية تقويض المكرس من توقعات النص الخطية المباشرة والمعلومة في زمن التلقي المحدود . أما (تحوﻻت التداخل الزمني) فهو تشعب حبكات النص ضمن موجهات زمنية ذات مقاربات متفرقة . فيما تلعب (وقائعية الثيمات ؟) بتنوع ملامح الابعاد في المساحة الصفاتية والفعلية في تفاصيل بناء الأحداث وهذا الأمر ما وجدنا لمثله في مشهد لقاء الشخصية ماتيلد موني عندما طلبت من فاولز تذكر مناسبة ذلك اللقاء الذي جمعهما في الماضي البعيد: (أنت لم تعد تتذكر ربما،لكن سبق أن التقينا./ص62) لقد حاول فاولز من خلال هذه الوحدة الانكارية التملص من تطور العلاقة مع ماتيلد لو كان قد أكد لها بدوره عن صحة وجود مثل هذا اللقاء بينهما سابقا . بهكذا مركب تزداد عملية المخاتلة في متواليات السرد اقترانا بدليل الزمن لدى احساس الشخصية فاولز . كما وهناك عدة احداث تجعلنا نتصور بأن فاولز يرفض مجال التواصل مع ماتيلد، وذلك من خلال نفيه كونه ما يزال كاتبا أو أنه لديه الرغبة في ممارسة الجنس مجددا بعد ذلك التلميح القصدي الذي بادرت به ماتيلد موني الى فاولز: (بيني وبينك، ألا تشتاق إلى ذلك ؟) وبمثل هذا النوع من توافر عنصر المخاتلة التي كان يتبعها الشخصية ناثان فاولز وبمثلها من حاﻻت التفلت عن كونه ترك مهنة الكتابة . غير أن زمن التحول في مساحة الحوار إعادة إلى فاولز هيام جنوحه الذكوري نوعا ما: (تجنب فاولز عيني محاورته الخضراوين، وأوضح لها بفتور بعد أن أصبح عاجزا عن الحركة . / ص 64) .

- تعليق القراءة:

تعتبر آليات زمن القصة في شكلها التناسبي والديمومي في رواية (حياة الكاتب السرية) بمثابة حركتي (الاسراع = الإبطاء)حيث العلاقة بين ديمومة الحدث وطول النص متماثلة،أي أن زمن إيصال احداث الحكاية الروائية للمتلقي هي مساحة زمنية مقدمة من زمن (النص المتطابق) حيث أن سرعة النص هي درجة تناسبية بين الأحداث وعرضها وتكوينها في إطار زمن الخطاب الذي يكاد أن يصل إلى مرحلة التطابق مع زمن الحكاية . وأخيرا يمكننا أن نقول ان عمليات التشخيص لمساحات القراءة النقدية تنصب حول دﻻﻻت (بيئة المؤلف المفترض)وصولا إلى نوازع تلك المواقف الحاصلة من قبل لغز الشخصية ناثان فاولز عبر ممارسة حياته المتباينة والمتخالفة في الأواصر الذاتية والموضوعية الهاربة في إيقاع عزلوي يشي بعشرات الأسئلة المحتملة حول حياته ومصيره ذات الأوجه التفارقية في السياق النصي المفعم بالأسرار والحلقات المفقودة.

***

حيدر عبد الرضا – كاتب وناقد

بقلم: ديبورا  ليفي

ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم

***

ديبورا ليفي تتحدث عن رواية العاشق لمارجريت دوراس

"لم تعتذر دوراس سراً عن الطريقة الأخلاقية أو النفسية التي تعيش بها في العالم."

هدف اللغة لدى دوراس هو تثبيت الكارثة على الصفحة.

تفكر دوراس بعمق كما يمكن أن نفكر دون أن نموت من الألم. الأمر بالنسبة لها إما كل شيء أو لا شيء. تستثمر كل شيء في اللغة، وكلما زادت ما تضيفه، قلّت الكلمات التي تستخدمها. قد تكون الكلمات لا شيء. لا شيء. لا شيء. لا شيء.

إن ما لا نقوم به مع اللغة هو ما يمنحها قيمتها ويجعلها ضرورية. اللغة الرتيبة والمملة تحقق النجاح. كل كاتب يعرف هذا، ويختار كيف يتعامل مع هذه المعرفة.

من الصعب، أحيانًا حتى يبدو الأمر عبثيًا، معرفة الأشياء، وأصعب من ذلك أن تشعر بها—هذا ما تخبرنا به دوراس دائمًا. أفلامها روائية—تستخدم التعليق الصوتي، والمونولوج الداخلي—وخيالها سينمائي: فهي تدرك أن الصورة ليست مجرد "خلفية" وأنها "يجب أن تحتوي على كل ما يحتاج القارئ لمعرفته." دوراس لا تتوسل بالكلمات،   بل تعمل بجد وهدوء من أجلنا. إن مهارتها تكمن في جعل كل ذلك يبدو بلا جهد.

كان من الصعب في الماضي العثور على أدب أوروبي مترجم في بريطانيا. كنت في التاسعة والعشرين من عمري عندما قرأت لأول مرة رواية "العاشق" الرائعة التي ألفتها مارجريت دوراس عام 1984، والتي ترجمتها من الفرنسية باربرا براي. كانت الرواية بمثابة كشف ومواجهة في نفس الوقت، وكأنني خرجت من نادٍ للرجال في القرن التاسع عشر إلى شيء مثير ومليء بالإغراء، وحزين، وصادق، وعصري، وأنثوي.

لا تطلب دوراس أبدًا المساعدة بالكلمات، لكنها تعمل بجد وهدوء من أجلنا. وتتلخص حيلتها في جعل كل شيء يبدو سهلاً.

إذا كانت نثرها البارد الواضح وتصميمها السردي الخالي من العيوب يمثلان بشكل ما الرواية الجديدة، المرتبطة إلى حد كبير بألان روب غرييه، فإنه كان واضحًا بالنسبة لي أن الاختلاف الرئيسي هو أن دوراس لم تكن تفتقر إلى الثقة بالعواطف. لكتابة العاشق، استندت إلى سنواتها الأولى التي قضتها في سايغون مع والدتها الفقيرة وإخوتها المتعصبين. مُنظمة كنوع من السيرة الذاتية، تتناول قصة فتاة مراهقة تعيش تجربة استعمارية غريبة في الهند الصينية الفرنسية في الثلاثينيات من القرن الماضي، مع عائلتها النبيلة ولكن “العائلة المتسولة.”

تقرر أن تحدث شيئًا، فتبدأ بارتداء قبعة فيدورا للرجال وأحذية من قماش اللاميه الذهبي. من خلال ذلك، ترى نفسها فجأة “ككائن آخر.” إنها خدعة سحرية لتنفصل عن والدتها التي تُشعرها بالخدر، وتنجح في ذلك.

رجل صيني أنيق وثري، يكبرها باثني عشر عامًا، يراقبها على متن حافلة العبارة التي تعبر نهر ميكونج. عندما يجرؤ على عرض سيجارة عليها، تلاحظ أن يده غير مستقرة. “هنا يكمن اختلاف العرق، فهو ليس أبيض، عليه أن يتغلب على ذلك، ولهذا هو يرتعش."

تريد أن تجعله "أقل خوفًا" حتى يتمكن من فعل "ما يفعله عادة مع النساء" وربما، في المقابل، وربما في المقابل، قد يشتري في بعض الأحيان وجبة طعام لإخوتها وأمها؟ في واحدة من أكثر الإغواءات تدميراً وصدقاً وحشية على الإطلاق، يقودها رجل الأعمال الصيني، الذي تكتشف أنه يمتلك كل مساكن الطبقة العاملة في المستعمرة، في سيارته الليموزين "الجنائزية" إلى شقته على حافة المدينة.

تقوم بخلع ملابسه، وتدرك أنها ترغب فيه، فتشعر بالذعر، وتخبره أنه يجب ألا يحبها أبداً. ثم تبكي—بسبب فقر والدتها ولأنها غالباً ما تكرهها.لا تصور رواية  "العاشق" فقط لقاءً جنسياً محظوراً مليئاً بالشغف والحدة؛ بل هي أيضاً مقالة عن الذاكرة، والموت، والرغبة، وكيف أن الاستعمار يفسد الجميع.

لست مقتنعاً بأن كتاباً متألقاً مثل "العاشق"، الذي هو أكثر وجودية من كونه نسوياً، يمكن أن يُنشر اليوم. ليس في بريطانيا، على أي حال. ستثار أسئلة. هل الشخصيات محبوبة (ليس تماماً)، هل هو تجريبي أم رئيسي (لا هذا ولا ذاك)، هل هو رواية أم قصة قصيرة؟ لحسن حظ دوراس، لم يكن هذا مهماً لقرائها. فقد بيع منه مليون نسخة بأثنين وأربعين لغة، وفاز بجائزة غونكور، وتحولت إلى فيلم تجاري.

كانت مارجريت دوراس مفكرة متهورة، نرجسية، إلى حد ما، غير معقولة حقاً. أعتقد أنها كان يجب أن تكون كذلك. عندما تأخذ موضوعها الأنثوي الجريء ولكن "الضعيف" في أحذيتها الذهبية إلى أحضان مليونيرها الصيني، لا تعتذر دوراس بشكل خفي عن الطريقة الأخلاقية أو النفسية التي توجد بها في العالم.

***

.....................

* مقتطف من موضع الملاعق: وأُنسٍ أخرى لديبورا ليفي. نُشر عن طريق فارار، شتراوس وجيرو، وهي علامة تجارية لمجموعة ماكميلان، إنك. هذا النص ظهر لأول مرة في الإندبندنت. حقوق الطبع والنشر © 2024 لديبورا ليفي. جميع الحقوق محفوظة.

المؤلفة: ديبورا ليفي/  Deborah Levy تكتب الروايات، والمسرحيات، والشعر. تم عرض أعمالها من قبل شركة رويال شكسبير، وتم بثها على بي بي سي، وتُرجمت على نطاق واسع. هي مؤلفة روايات نالت إعجاب النقاد، بما في ذلك ثلاثة عناوين مرشحة لجائزة بوكر: الرجل الذي رأى كل شيء، حليب ساخن، والسباحة إلى المنزل، بالإضافة إلى مجموعة القصص المشهورة فودكا سوداء، وجزئين من سيرتها الذاتية التي لا تزال قيد العمل، وهما أشياء لا أريد معرفتها وتكلفة العيش. تعيش في لندن. و ليفي زميلة في الجمعية الملكية للأدب.

https://lithub.com/all-or-nothing-deborah-levy-on-marguerite-durass-the-lover/?utm_source=Sailthru&utm_medium=email&utm_campaign=Lit%20Hub%20Daily:%20October%207%2C%202024&utm_term=lithub_master_list

النص التحتاني والمحايث في السرد القصصي

توطئة: تلعب القابلية الوصفية في متباينات المشهد القصصي في قصة (منتظروا قطار السادسة) للروائي والقاص الأستاذ (فؤاد التكرلي) دورا في عملية التأثيث المشهدي المنقسم إلى مستويين من البناء المظهري - الشكلي في مرسلات الفضاء المكاني المدعوم بعلامات (المقابلة المشهدية ؟) الدالة على خواصية زمنية راحت تمتزج  وحدود دﻻﻻت البنية المضمرة من مساحة (النص التحتاني) والذي يشكل بدوره الظاهرة الأكثر تفاعلا وهوية السارد - الشخصية، على نحو يتلاءم تماما مع حيثيات البؤرة التقابلية بين (منظورين = مشهدين) لتكون تمثيلات النص قادمة بذلك الوازع الفاعل من جهة الشخصية الساردة عن لسان حال موقعها الاستفهامي والجانبي من خيوط إلتباس وادراك حدود المقاربة والاختلاف الزمني والمكاني والعاطفي ما بين كلا الموقفين معا.

- بؤرة التمهيد السردي وتمظهرات أحوال التقابل المشهدي.

لربما تعد تقانة المفارقة من أحدى الكيفيات التقانية التي تستخدمها القصة القصيرة لفتح آفاق اسلوبية مدروسة من طاقة التمايز الانموذجي في حوادث ومفاجأت وإرباكات القارىء والقراءة. كما ومن أهم مميزات أوجه قصة (منتظروا قطار السادسة) كونها تتداخل في متابعة حاﻻت صورة تقابلية ذات دﻻﻻت إطارية في السلوك والتصرف والتمحور عبر انشداد حاﻻت الزمن والمكان والعاطفة الخاطفة ما بين شخصيتان والثالثة هي من تتابع وتقارب وتباعد المستويات ما بينها وبين تلك الشخصيتين المتكونة من الرجل والمرأة وهما في أشد حاﻻت الإيهام ببعضهما البعض، في حين تستذكر الشخصية الثالثة الساردة المفصولة عن مجال العلاقة مع حوارية ومنظور ذلك المشهد والمشاهد التي تحدث من أمامه دون أن تفارقه سمة استحضار مجليات ذلك الحدوث التحتاني من مستوى نظرته وعاطفته الشاحبة: (خيل ألي، كأنهما يودعان أحدهما الأخر. تلبثا، منذ حين، أمام منخفض السكة الحديدية، منتظرين وصول القطار ومنتظرين أن ينتهي لقاؤهما. كنت أقف على مبعدة منهما، غير منتظر أحدا وغير واجد من أودعه. / ص9)ﻻ شك أن عملية تواتر الزمن إلى الزمن بوظيفة الحكي ساردا، تتلاقى مع تفارقية المسافة ما بين الموقفين، فهناك حاﻻت من الإيهام والحب وعدم انتظار فراق الطرفين (الرجل = المرأة) فيما تترك في طرف الجهة الأولى من الشخصية سوى دهشة الاستدعاء لمظاهر البؤس والشرود من جراء عوامل حياتية خاصة به ﻻ تشكل في ذاته سوى غصة كظيمة متعثرة مقابل الانثيال الحادث من تفارقية المستويين من الاحداث: (كانت المرأة في أواخر الثلاثينيات من عمرها وجاوز هو الخمسين. بدا عليهما كأن هذا الفراق هو الأول لهما أو كأنه هو الأخير. تشابكا، كل على طريقته، فأحاطت هي بوسطه وإلتف ذراعه بحنان حول عنقها. /ص9) المستوى المقابل من ذات المستويين، هو ذلك الطرف الذي تنتقل من خلاله جملة نوازع المبثوث الوصفي، لذا فهو بذاته حجما ولونا وترجمانا إلى تشخيص جملة من الأفكار والحركات المؤدية بين ذلك المستوى الآخر من المشهد. لعلنا من خلال كلا المستويين بإمكاننا أن نفصل في كثير من الدقة والعناية، بين (أفق الرؤية - تشخيص حوافز التماثل) لهذا فطالما وجدنا الشخصية الفاعلة أو الساردة تتبنى لذاتها صلات (التراسل = الفقدان = بؤرة الاختلاف) ذلك باعتبار أن الشخصية الأولى أكثر وجودا وحضورا في تبرير حجم الموانع الحلمية وتفارقها في النوع والمستوى والكيفية، فهو بذاته -أي السارد المشارك - يلخص لنا علامات الزمن الخارجي في حدود أداة العلاقة المتمثلة ب (منتظروا قطار السادسة) أي التأشير في الموقف الزمني عبر الأداة اللاﻻ منتهية من إيهامية بالنهاية، إلا ليولد تمثيلاته الخاصة: (غير منتظر أحدا، وغير واجد من اودعه) أي أن حالة الوداع هنا ﻻ تشكل بذاتها مصيرا زمنيا قاطعا، بقدر ما يشكل علامة إشارة ل (النص التحتاني ؟) من مرتكز الباث الفعلي.

1- فتنة الأواصر وحسية الإمكان التصوري:

و لعل فعل المتابعة إلى مشهد الزوجين في محطة القطار ﻻ يخلو من رهان البنية التشاركية بين المستويين. فالشخصية الحاكية تصور لنا جملة تداعيات الرجل والمرأة، في حين ﻻ يترك المجال فارغا إلا في حدود (حسية إمكانية) من استرجاع أحداثه الخاصة والمتمثلة بالانشطار الأسري ووحشة الذات عبر مواضعها الخبرية والتوصيفية: (كانت ملابسهما قديمة رثة مجعدة، وكان شعرها الطويل الأشقر مضطربا، كأنها لم تجد الوقت لتسريحه حين قامت من سريرها الفجر، ولم يكن شعره الرمادي المائل للسواد أقل من شعرها اضطرابا. /ص9) تكتسب تشكلات (الرجل = المرأة) ضمن مرجحات السارد المزامن لحركية المشهد. إذ يتبين من خلال وصفه وسؤاله ذلك المدى المخصوص من نكوص مظهري الرجل والمرأة الخارجي، حتى ليتسنى له إظهار تلك الدواخل الحسية المتعاضدة بين الطرفين، أي انهما كانا يهملان مظهرهما الخارجي، ولكنهما في النتيجة متصالحان من جهة (الجوهر التحتاني) الذي راح يجعل من الشخصية مصابا بعدم التمييز من فيهما الذي يود السفر، وهذا بدوره دليلا على حجم احباطية السارد نفسه، فتبدو المحصلة البؤرية تجميعا لسمات مفارقة للعجز النفسي والنكوص العاطفي والجسدي.

2- الاصداء المتأتية من تحتانية السارد الشخصية:

لقد أدى وصف المظاهر المغايرة الخاصة بالمستويين من المشهد إلى حالة مضاعفة من تشخيص مجال الأحداث عبر واصلات تصدرهاو تبثها تلك الذات الكظيمة التي راحت تمتد في محاور ذاكرتها -تقابلا - إزاء نوعية ذلك المشهد الذي يضم الرجل والمرأة في محطة القطار: (قالت لي مساء أمس إنها لا تحب أن تراني مرة أخرى، ثم قامت من كرسيها بحدة وتركت المقهى رامية في وجهي الصحيفة التي نشرت فيها آخر أشعاري.. لم أسأل منها عن أسباب هجرانها لي./ص9)

- تعليق القراءة:

تعدد المقاطع والوحدات السردية في قصة (فؤاد التكرلي) و رغم تداخل زوايا رؤية موضوعها عن طريق منظور السارد العليم الذي راح يضمن علامات الزمن والمكان انصياعا إلى حقيقة عوالم محطة زمن وصول القطار (اهتزت الأرض بخفة حيث صار القطار على مبعدة من المحطة، رأيتهما يزدادان تلاصقا فيما بينهما) في حين يواجه السارد الشخصية من جهة ما موجهات اختلافية علاقته المأساوية مع زوجته أو صديقته: (لم أجدها في شقتها حين ذهبت - تركت لها قصاصة ورق تحت بابها، كتبت فيها كلماتي الأخيرة التي لن تفهم منها شيء) هكذا واجهتنا مكونات النص القصصي في حكاية التكرلي، عبارة عن علاقة تقابلية في التحريك السردي عبر المستويين من المشهد الممسرح ضمن نظام وآلية (مسرحة القص؟) لبلوغ الصورة المتمحورة في الطابع التحتاني من مسرودية الوجود الضمني الداخلي الموشح بأدق فعالية الموضوعة القصصية المصحوبة بأجلى علامات الحدث والحدوث التحتاني المتحفز في دلالات السرد المشهدي ذات الفضاء الزمكاني الموصوف في مجال تحولات الوحدات الفاصلة والواصلة من الزمن التقاطعي والتقطيعي بالعلامة الجمالية والدهشة الحاصلة من جراء تفعيل تقانة الزمن إلى ما بعد الزمن في البنية الجوانية من القص.

***

حيدر عبد الرضا – كاتب وناقد عراقي

اجارتنا انا غريبان ها هنا

 وكل غريب للغريب نسيب

ولو ان هذا البيت من الشعر القديم لكني ارتأيت ان ابدأ به لأن امرؤ القيس صاحب هذا البيت هو اول من بكى على الاطلال وأول الغرباء في الشعر القديم.

يعرف الاغتراب بأنه انفصال الانسان عن بيئته او مجتمعه وواقعه الذي يعيش فيه وذلك لغياب الانسجام والتآلف بينهما، ويقول النقاد انه على نوعين: الاغتراب الماركسي والاغتراب الوجودي، الشعراء بشكل خاص عاشوا هذه الأنواع سواء في العراق او في بلدان العالم العربي والعالم ايضاً، ففي العراق ظهر الاغتراب في وقت مبكر في شعر عبدالوهاب البياتي: 1926-1999 لكونه عاش بعيداً عن وطنه وقد عانى من حياة المنفى الذي انعكس على قصائده مثل ديوانه (اشعار في المنفى) وللبياتي مقولة بهذا الصدد (يموت الشاعر منفياً، او منتحراً او مجنوناً او عبداً او خادماً في هذي البقع السوداء وفي تلك الاقفاص الذهبية..).

وفي احدى قصائده يقول:

أهكذا تمضي السنون؟

ويمزق القلب العذاب

ونحنُ مِنْ مَنْفَى إلى مَنْفَى ومن بابٍ لبابْ

نَذْوِي كَمَا تَذْوِي الزَّنَابِقُ في التُّرَابْ

فُقَرَاء، يا قَمَرِي، نَمُوت

وقطارُنا أبداً يَفُوت

شاعر عراقي اخر تتفجر في قلبه ينابيع الغربة القاتلة والحنين الى الوطن رغم انه في (الكويت) بلد عربي ليس بعيداً عن العراق، يكتب قصيدته الرائعة (غريب على الخليج) منادياً العراق عبر مضامين وطنية عالية التأثر فيها من الاحاسيس ما هو أروع، يقول الشاعر بدر شاكر السياب مخاطباً زوجته:

لو جئت في البلد الغريب إلى ما كمل اللقاء

الملتقى بك و العراق على يديّ .. هو اللقاء

الشمس أجمل في بلادي من سواها، والظلام

حتى الظلام - هناك أجمل ، فهو يحتضن العراق

بين القرى المتهيّبات خطاي والمدن الغريبة

غنيت تربتك الحبيبة

وحملتها فأنا المسيح يجرّ في المنفى صليبه

وفي قصيدة أخرى من قصائده في الغربة يقول بدر شاكر السياب:

لأنّي غريب

لأنّ العراق الحبيب

بعيد وأني هنا في اشتياق

إليه إليها أنادي: عراق

فيرجع لي من ندائي نحيب

تفجر عنه الصدى

أحسّ بأني عبرت المدى

إلى عالم من ردى لا يجيب

ندائي

وإمّا هززت الغصون

فما يتساقط غير الردى

شعراء عرب اكتووا بنار الغربة وعانوا من مساوئ الاحتلال هم شعراء الأرض الفلسطينية أمثال: محمود درويش، سميح القاسم وتوفيق زياد وغيرهم، لقد عرفوا حياة السجون والمنافي، عاشوا تحت الاستعمار الإسرائيلي القاتل (ادفع دولاراً تقتل عربياً) سميح القاسم هو احد هؤلاء الشعراء، الشاعر الذي تعامل مع التاريخ اكثر من تعامله مع الأرض يقول سميح القاسم (1939-2004) في قصيدة اسمها (أغاني الدروب) بعنوان (غرباء):

وبكينا.. يوم غنّى الآخرون

ولجأنا للسماء

يوم أزرى بالسماء الآخرون

ولأنّا ضعفاء

ولأنّا غرباء

نحن نبكي ونصلي

يوم يلهو ويغنّي الآخرون

وحملنا.. جرحنا الدامي حملنا

و إلى أفق وراء الغيب يدعونا.. رحلنا

شرذماتٍ.. من يتامى

و طوينا في ضياعٍ قاتم..عاماً فعاما

وبقينا غرباء

وبكينا يوم غنى الآخرون

شاعرة من نابلس الفلسطينية، تسمى شاعرة الحب والثورة هي فدوى طوقان (1917-2003) في قصيدة لها بعنوان (لن ابكي على اطلال يافا) تقول:

على اطلال يافا يا أحبائي

وفي فوضى حطام الدور .

بين الردمِ والشوكِ

وقفتُ وقلتُ للعينين :

قفا نبكِ

على أطلال من رحلوا وفاتوها

تنادي من بناها الدار

وتنعى من بناها الدار

وأنّ القلبُ منسحقاً

وقال القلب: ما فعلتْ؟

بكِ الأيام يا دارُ؟

وأين القاطنون هنا

فأين الحلم والآتي وأين همو

وأين همو؟

ولم ينطق حطام الدار

ولم ينطق هناك سوى غيابهمو

وصمت الصَّمتِ، والهجران

وكان هناك جمعُ البوم والأشباح

غريب الوجه واليد واللسان وكان

يحوّم في حواشيها

وغصّ القلب بالأحزان

كانت هذه القصيدة التي كتبتها فدوى عام 1968 هدية لشعراء المقاومة الفلسطينية وقد عبرت فيها عن اسفها على البكاء واقسمت انها لن تبكي بعد لأن البكاء لا يفيد شيئاً.

وهكذا فأني قد اخترت شعراء من العراق هما البياتي والسياب وشعراء من فلسطين هما سميح القاسم وفدوى طوقان لان البلدين يجمعهما شيء واحد وقاسم مشترك واحد، اما هؤلاء الشعراء يجمعهم هاجس واحد هو الشعور بالغربة ومأساة الوطن الذي يعيشون فيه ويعانون من اجله.

***

غريب دوحي

قراءة في نص: "أنتم لا تقرؤون قصائدي ببطء شديد"، للشاعرة التونسية: سنيا فرجاني

***

أنتم لا تقرؤون قصائدي ببطء شديد

بين السطور يسكن المزارعون

يخبّئون فؤوسهم

ومعاول الخريف

وحبوب العام المقبل من كل عام .

أنتم لا تنتبهون لقطع الغمام

تسللّت من حقولهم

لأسرّة الحديد

ينامون عليها في رأسي

ويخرجون مع الفجر

عندما يتطلّع حرف لجدوى القبلة على وجه حرف آخر.

الشعر تبن يستلقي عليه القطيع حين يبيع الراعي خرفانا ويعود بلا عصا.

هو تلك المسافة الضئيلة بين عيونكم

وحروفي

فيها امرأة تغيّر مكان الفانوس

من طاولة الليل إلى حفرة في وجه عبوس.

وفيها بستانيّ يقلّم شجرة على فستان بنيّة

غنّت قرب الغدير ونامت

فصارت باقتها جاهزة

هل ترون الباقة؟؟

اقرؤوا قصائدي ببطء شديد

ستعثرون على كيس القمح ومقصّ البستانيّ

وعلى وسادة محشوّة بالبراهين.

***

من ديوان: ال45 بتوقيت أبي[1]

................

هذه القصيدة تغري المتلقي الذي يبحث عن إشباع متعته الأدبية. وما يزيد في نكهة الإغراء، هو هذا الاستفزاز المباشر الصادر عن الشاعرة اتجاه المتلقي. فالقصيدة يؤطرها إذن خطاب مباشر موجه إلى المتلقي كما سنرى، لكن سرعان ما  يصبح نصا متماسكا لسانيا بجمالية مدهشة ناتجة عن انزياحات مفاجئة وكأنها توابل من خيال جامح، وصور تكاد تتكلم أكثر من اللغة، حتى وكأنها رموز اختلقتها الشاعرة ببراعة قد يجد المتلقي العادي، أو حتى ذلك الكائن آكل المعاني الجاهزة، صعوبة في فك شيفرتها، خاصة وأنها تسعى إلى الارتقاء بالمتلقي ليس إلى الشعر المتداول، وإنما إلى ما يمكن التعبير عنه بما وراء الشعر. لهذا كله، تغرينا القصيدة كي نتعامل معها بالمقاربة التلفظية، ما دمنا أمام منجز لغوي، على صيغة كلام محدد صادرعن متكلمة/متلفظة مـحددة، وبطبيعة الحال، موجه إلى متلق مـحدد، وهو قارئ نصوص الشاعرة، بلفظ محدد (خطاب شعري) في سياق مـحدد، بهدف تحقيق غرض تواصلي محدد. فالمتلفظة، الشاعرة توجه خطابا يحمل في دلالته فعلا لغويا يمكن تلخيصه بالعتاب. فتصبح ناقدة توجه المتلقي كيف قراءة نصوصها.عتاب موجه إلى المتلقي الذي لا يقرأ نصوصها ببطء. نحن إذن كما قلنا أمام فعل للكلام داخل خطاب "شعري"يحفز المتلقي على هذه القراءة المتأنية. وبطبيعة الحال تقدم المتلفظة/الشاعرة، براهينها لإقناعه وحثه على التمعن في نصوصها. وهكذا يمكن تفكيك بنية الملفوظ على النحو التالي :

تحديد الخطاب والنص

البرهان الأول: "أنتم لا تقرؤون.......من كل عام."

البرهان الثاني: "أنتم لا تنتبهون......حرف آخر."

البرهان الثالث: "الشعر تبن..... هل ترون الباقة؟؟"

البرهان الرابع: " اقرؤوا قصائدي ببطء شديد.....بالبراهين"

قراءة كهذه التي ربما قد يقول قائل بأنها قد تنسينا الوقوف عند شاعرية الخطاب، سوف تمكننا بالعكس من ملامسة ما يجعل من النص كما قلت سابقا نصا يمكن تصنيفه بماوراء الشعر. لأن ما يميز مقاربتنا هو انطلاقنا من كينونة اللغة في إطار سياق، نستخلصه مما لاحظته الشاعرة، لهذا يتطلب تواصلا يقحم المتلقي.

تحديد الخطاب والنص:

ليس هدفنا التعمق في كل ما قيل حول هذين المفهومين، بدءا بالحديث عن من لا يرى أي فرق بينهما، ثم التطرق إلى من يرى عكس ذلك. فهناك عدة مراجع من أراد التعمق. لكن حتى لا نبتعد عن مبتغانا، وقد نسقط فيما تسقط فيه بعض الدراسات النقدية حيث تستلذ ترديد النظريات متناسية ما قررت دراسته،  وهو دراسة قصيدة الشاعرة سونيا فرجاني، لا بد من القول بأن القصيدة جاءت كنص منسجم مع الخطاب. فالنص، أو القصيدة تتميز بكونها مؤطرة بعناصر الخطاب، وهو التأطير الذي زاد في بريقها. فنلمس الوظائف التي توصل إليها اللساني رومان جاكوبسون، خاصة الوظيفة الانتباهية التي تتجلى في ترديدها: "انتم لا تقرؤون، أنتم لا تنتبهون،هل ترون الباقة؟"، زيادة طبعا على الوظيفة الشعرية التي تتجلى في النص، والذي يمكن اعتباره أيضا ذا وظيفة إفهامية، حيث نلمس الإرادة والجهد اللذان تتحلى بهما الشاعرة لتوصيل فكرتها شعريا، مبرهنة هكذا أن لغتها، لغة شاعرية عن سليقة وليس فيها أي تكلف. القصيدة إذن عبارة عن جمل متماسكة، تتشكل من صور شعرية تضفي عليها جمالية قد لا نجدها في الخطاب.

أما الخطاب، كما سبق الذكر، فهو مرتبط بالضرورة بالتلفظ وبإقحام المتلقين وعلاقتهم بالسياق التواصلي. لكن بالنسبة إلينا أعتقد أن خطابنا يؤطر نصا بظروف إنتاجه، وهكذا نكون قد خلصنا إلى المفهوم الذي حدداه كل من كريماس وكورتيس[2] حيث يعتقدان أن الخطاب مرادف للنص، مادام أنه جزء منه، وفي الغالب يكون وجوده بهدف الإقناع، فيكون اهتمامه منصبا على البراهين التي يقدمها، بكل أنواعها، إن اقتضى الأمر ذلك. وهو ما تجسده القصيدة كما سنرى.

البرهان الأول: "أنتم لا تقرؤون.......من كل عام."

هنا يتجلى بوضوح عنصر الخطاب: "أنتم لا تقرؤون قصائدي ببطء شديد". فالشاعرة تخاطب مباشرة من يقرؤون لها. لكن وهي تؤكد على "بطء شديد"، تجعلنا نتريث ولا نعمم على كل المتلقين، وإنما تخاطب صنفا معينا من متلقيها. وكأنها في حوار مع هذا الصنف. قد يكون هؤلاء المتلقين "أعابوا عليها غموض قصائدها. لهذا طلبت منهم "قراءة النصوص ببطء شديد". وما تركيزها على "البطء الشديد"، إلا اعتراف ضمني من جهتها على أن نصوصها ليست "فيترينا" تعرض المعاني على "الغادي والرايح"، بل هي نصوص تشتغل على اللغة التي تسعفها في التقاط ما تقدمه نروناتها من خيال عجيب. إنها تحرص جيدا على "كيف القول" وليست من المستعجلين على "القول" فقط. وفي نفس الوقت تحفز المتلقين على القراءة المتأنية والمجتهدة. أي تحاول إقحامهم في عوالمها كما سوف نرى. ثم تشرح لهم بأنهم سوف يجدون ما يأملون:

بين السطور يسكن المزارعون

يخبّئون فؤوسهم

ومعاول الخريف

وحبوب العام المقبل من كل عام .

الرسالة هنا، في صيغتها الشعرية، تحمل معطيات أكثر من الرسالة نفسها. فانطلاق الشاعرة من المزارعين، وتأكيدها على جزيئات تشكل حياتهم كعمال مهتمين بالزراعة: الاهتمام بالفؤوس والمعاول، وبطبيعة الحال بالمنتوج، دليل على التزامها بشعرها، بقضايا شريحة مجتمعية لها دور مهم في المجتمع. لهذا تأويها "بين سطور " نصوصها. وما على المتلقين إلا فك شيفرة النص الشعري الذي يوحي ولا يسمي الأشياء.

1-2- البرهان الثاني: " أنتم لا تنتبهون لقطع الغمام."

أنتم لا تنتبهون لقطع الغمام

تسللّت من حقولهم

لأسرّة الحديد

ينامون عليها في رأسي

ويخرجون مع الفجر

عندما يتطلّع حرف لجدوى القبلة على وجه حرف آخر.

تواصل الشاعرة، بدون كلل، إقحام المتلقين، بمعاتبتهم، كونهم قليلي الانتباه. لتفاجئنا بأنهم لا ينتبهون "لقطع الغمام التي تسللت من حقول المزارعين لأسرة الحديد حيث ينامون". وبطبيعة الحال نتفاجأ، لأننا كمتلقين كنا ننتظر تفسيرا منطقيا لقلة الانتباه، فإذا بها تزيد في شاعريتها التي قد تبدع بنا فنتيه. إلا أن هدفها ليس هو ذا. بل بالعكس تسعى إلى جرنا للغوص في دماغها لأن المزارعين "ينامون على الأسرة في رأسها ويخرجون مع الفجر". فهي إذن دعوة للمتلقين باستقبال لغتها التي لا تدخل في المنطق المتداول، وقد نقول عنه بأنه تآكل تحت مفعول صدإ اللغة المستهلكة. إنها دعوة لاكتشاف مرارة عيش المزارعين تحت منطق اللغة الشاعرية. لأنها اللغة التي تثير أكثر الانتباه، من اللغة المتداولة. هدفها إذن من هذه الصورة الرائعة التي تجعل من قطع الغمام تتسلل من حقولهم إلى أسرتهم،هو تكبير وتضخيم لهذا الإحساس والزيادة في تأثيره ليصبح عربون التزام بمعاناة هؤلاء المزارعين الذين يبيتون على أسرتهم الصدئة، نظرا للرطوبة التي تلحق بهم، ثم يغادرونها مع الفجر متعبين. ما يفيد بأن لا راحة لهم. ولنبقى دائما مع اللغة. فالغمام، قد يوحي أيضا بالغمة والحزن اللذان قد يخيمان على المزارعين نتيجة للتعب وترقب المنتوج السنوي الذي يبقى تحت رحمة الطقس. هذه الطريقة الفنية إذن، والتي تذكرنا بما يسمى في الفن التشكيلي بالواقعية المفرطة، توحي بأحاسيس الشاعرة النبيلة اتجاه المزارعين. القصيدة إذن تنهج هذا التوجه كتابة. وبطبيعة الحال تذكرنا، بصفتها شاعرة بأن كل ما يحدث للمزارع، فهو يحدث داخل رأس الشاعرة، ما يعني أنها مهتمة بهؤلاء المزارعين إلى درجة الإبداع الشعري، مع التلميح ما جدوى الكتابة، والتي تعبر عليها فنيا ب: "عندما يتطلع حرف لجدوى القبلة على وجه حرف آخر". هنا يتجلى وعي الشاعرة بمأساة الحرف الذي مع الأسف لا يمكنه تغيير الوضع. وكل ما بوسعه هو التعبير بصدق عن هذا الإحساس.

1-3- البرهان الثالث:" الشعر تبن.... هل ترون الباقة؟؟"

الشعر تبن يستلقي عليه القطيع حين يبيع الراعي خرفانا ويعود بلا عصا.

هو تلك المسافة الضئيلة بين عيونكم

وحروفي

فيها امرأة تغيّر مكان الفانوس

من طاولة الليل إلى حفرة في وجه عبوس.

وفيها بستانيّ يقلّم شجرة على فستان بنيّة

غنّت قرب الغدير ونامت

فصارت باقتها جاهزة

هل ترون الباقة؟؟

بعد أن برهنت على اهتمامها بشريحة مجتمعية في كتاباتها، كمثال، ربما ردا على بعض المتلقين الذين يرون الغموض في نصوصها، وقد يبدو لهم بأنها تتعامل مع اللغة من أجل اللغة فقط، وبما أنها أحست بعدم جدوى الشعر، تعود لصياغة مفهومها للشعر بطريقة فنية ومدهشة وكأنها تريد من هذا المتلقي أن يلمس جيدا، كما تلمسها، ماهية الشعرالخالص. لهذا نجدها في هذا المقطع الأخير وكأنها تبذل جهدا كبيرا في تعريف الشعر لتقربه من متلقيها، أو بالأحرى من المتلقين الذين "تخاطبهم". فبطريقة فنية كما قلنا، وببداغوجية شاعرة حريصة على إيصال فهمها للشعر، تلقن درسها الإفهامي، إذ يتجلى هذا الحرص الشديد في تنوع مرجعياتها الصورية. فتتناسل الصور على الشكل التالي:

صور من عالم الرعاة.

صور من علاقة المتلقي بنصوص الشاعرة. وهي علاقة عبرت عنها "بمسافة ضئيلة بين عيني المتلقين وحروفها". ومن هذه المسافة تتناسل أيضا صورة المرأة في علاقتها بالفانوس، ثم صورة البستاني في علاقته ببُنيّة، وأخيرا صورة البُنيّة في علاقتها بباقة الورود."

هكذا إذن تشتغل نوروناتها وتظل يقضة لالتقاط الصورفتسبح بخيالها في أول الأمر، في عالم الرعاة. وهو دليل آخر على احتكاكها بهذه الطبقة التي تعاني من أجل العيش. فيصبح عالمها رمز للشعر الذي تراه "تبن يستلقي عليه القطيع". لكنها لا تتوقف عند هذه الصورة. فاهتمامها بالجزيئات، وعيا منها بأنها هي التي تؤثث القصيدة وتسمح لها بالتفرد، تماما كما يتفرد عالم الفيزياء الكمومية باهتمامه بجزيئات الأجسام أو الذبذبات، مقارنة بعالم الفيزياء التقليدية الذي يهتم بالأجسام الضخمة المرئية، فإنها أضافت لحظة عودة الراعي بدون عصا بعد أن باع خرفانا:" حين يبيع الراعي خرفانا ويعود بلا عصا". فلنا أن نقبض على هذه الصورة  لنقبض أيضا على الحالة النفسية للراعي. فالراعي بدون عصا لا يساوي شيئا. فالعصا هي مقود الراعي، فإذا حرم من المقود فمعناه ليس له ما يقود. والعصا، ثقافيا عند بعض القبائل الرحل بالمغرب الكبير ترمز إلى عدد كبير من رؤوس القطعان، أي مائة راس. وبدون خرفان يكون أيضا متذمرا. هو ذا إذن الشعر بالنسبة للشاعرة المتقدة أحساسا عميقا. هكذا تنمو القصيدة من التبن وتذمر الراعي. ثم تعود، لتنبه المتلقي بأن الشعر، زيادة على ما قيل، يجده في تلك المسافة الضئيلة بين عينيه وحروفها، لتخبره بأن هناك "امرأة"، وفي غالب الظن، هي الشاعرة، تحمل فانوسا هدفها إنارة الوجه العبوس وليس غرفة النوم مادامت تغير مكان الفانوس من طاولة الليل إلى حفرة في هذا الوجه العبوس. فالشعر إذن بالنسبة لها تنويري وضروري لزراعة النور في  كل ركن مظلم. ولن يتأتى ذلك إلا بفضل لغة تلتقط الخيال الماورائي. ولم تتوقف بوهجها المخيالي حيث استمرت وكأنها أحست بصعوبة استيعاب ما قدمته من تعاريف، فعادت إلى عالم المزارع، فأصبح الشعر، تلك المسافة الضئيلة، مكانا للبستاني الذي يقلم شجرة على فستان بُنيّة. هكذا بضربة ساحرة أصبحنا أمام "فستان" بنية، بعد ما كنا أمام "بستان"، فيتحول البستاني إلى خياط. فلا نستغرب هذا التحول لأن الإثنين يستعملان المقص الذي يهدف إلى التزيين. فمقص الشِعر، كما مقص الشَعر أو مقص الشجر، وظيفته إضفاء الجمال بالتقليم والتشذيب. وهو ما تحرص عليه في تعاملها مع لغة شاعرية تسعفها، لأنها صادقة في التعامل معها، وفي اختيارها لشخصياتها التي تصبح رموزا. هكذا من نسجل من بين أهدافها، إحياء البراءة الإنسانية المتجلية في البُنيّة والتي ترمز، زيادة على البراءة، إلى الحب والسلام، مادامت نائمة بالقرب من الغديربعد أن غنت، فكانت باقتها جاهزة. لتختم الشاعرة بعد هذا التعمق في التعريف الشعري، بإثارة انتباه المتلقي بصيغة الجمع: "هل ترون الباقة؟؟".

1-4- البرهان الرابع: إقرؤوا قصائدي.......بالبراهين":

إقرؤوا قصائدي ببطء شديد

ستعثرون على كيس القمح ومقصّ البستانيّ

وعلى وسادة محشوّة بالبراهين.

يعتبر هذا المقطع الأخير كتلخيص لما قدمته من براهين، هدفها أن تحفز المتلقي كي يتعامل مع نصوصها بكل تأن، لهذا استعادت عالم المزارع في استعمالها "كيس القمح" لتومئ للمتلقي بأن ما عليه إلا أن يتبع ما اقترحته عليه ليحصل على محصول فني، شبيه بما يحصل عليه كل مزارع. ثم استعادت صورة البستاني بمقصه، لتؤكد على أن عملية التقليم، هدفها خلق جمالية تضمن الراحة النفسية للمتلقي. وحتى إذا كان من محبي البراهين فإن الشاعرة تضمن له ذلك حينما يسند رأسه إلى الوسادة، فإنه سوف يشعر بذلك مادامت وسادته محشوة بها. فهي بهذه الصورة تقترح على المتلقي الاسترخاء والدخول فيما يسميه السرياليون بالكرى، أي تلك اللحظة بين اليقظة والغفوة، حيث يجد اللاوعي حريته ويتسلل للمنطق المتداول فيكون بإمكانه استيعاب الصور الشعرية.

كخاتمة:

بعد أن حللنا حسب طاقتنا الاستيعابية هذا الفعل الكلامي والذي يلخص فيما سميناه بالعتاب الموجه من قبل الشاعرة إلى المتلقين الذين لا يقرؤون بتأن نصوصها، وبعد أن أسندنا رأسنا إلى "وسادة محشوة بالبراهين"، ونحن نتابع من داخل رأسها كل الصور التي تتخيلها، بدءا من المزارعين وانتهاء بالفتاة الصغيرة وباقتها، مرورا بالراعي وبالمرأة والفانوس والبستاني ومقصه، لا يسعنا إلا أن نقول بأن الشاعرة أغدقت أولا علينا بأجمل الصور في حلة لغوية بسيطة وعميقة، وجعلتنا نستمتع بكل أريحية بوسادة براهينها، ثم نعترف بأنها استطاعت استمالتنا بهذا الإبداع الشيق. لأن الاستمالة تحرك فينا أحاسيسنا لنتجاوب مع أحاسيسها، ما دمنا في عالم الأحاسيس، خاصة مع نصوصها التي تبدو وكأنها تسبح في عالم ما وراء الشعر.  فأوصلتنا إلى المعنى المراد إيصاله بكل هذه البراعة، متجاوبة مع متلقيها، لتبرز بالفعل أن هذا التجاوب المطلوب هو الذي يخلق المعنى. فالكلمة وحدها لا تمتلك المعنى، ولا يمتلكها الشاعر وحده، بل في ارتباطها بالسياق وبتفاعل المتلقي أيضا. فالشاعرة إذن واعية بهذه العملية التداولية بين جميع الأطراف، لهذا استفزت المتلقي بمخاطبته مباشرة لكن من غير أن تخرج عن السياق الشاعري. وفي اعتقادنا، فخرجتها هذه انتصار للمتلقي الذي قد يكون استفسر، وانتصار لها لأنها استفزت المتلقي، وانتصار للغة الشاعرية التي تُوِّجت في الأخير بهذا النص الماورائي. وفي الأخير وجب التذكير بأن الشاعرة، حرصا على تفاعلها مع المتلقي، ليست من أولئك الذين ينغلقون على أنفسهم فيما يسمى  ببرج التعالي. وخير دليل هذا النص للشاعرة، الذي يؤكد ما قلناه حول تفاعلها مع متلقيها، والذي أود أن اختم به قراءتي هذه:

[3]القراء الخالدون

من سيكتب عنهم؟

إنهم أكبر من قصائدنا بخمس سنوات.

تعلموا المشي قبلنا

وتعلموا حروف الكناية خارج الفصحى

قبلنا

هم العارفون بالحقيقة في شك الغزالة كونها أنثى

وهم خصلة الشعر في الشِّعر الكثيف على رصيف أحلامنا الأولى.

القراء الخالدون

يولدون قبل القصيدة

ويموتون بعد ذوبان الجليد الأخير.

***

محمد العرجوني

........................

[1] عن دار الأمينة للنشر والتوزيع القيروان 2023

[2]   Greimas.A & Courtes.J 1979 : Sémiotique Dictionnaire raisonné de la théorie de langage. [1.Hachette. Paris.] كريماس وكورتيس

[3] 18-9-2024 على صفحة الفي سبوك

 

"كان الضباب كثيفًا يحجب قرص الشمس صبحية ذلك اليوم، فيشيع في النفس الضيق والانقباض، فقد كان واطئًا، مخيّمًا على أسطح المنازل، مطبقًا على الشوارع، تتعذّر معه الرؤية، ويلفح الوجوه بنداه القارص". هذا ما بدأ به أحمد الحبوبي سرديته الأثيرة  في كتابه "ليلة الهرير".

ليلة الهرير وليلة لشبونة

حين أخبرني الحبوبي (أبا غسان) في النصف الثاني من التسعينيات أنه أنجز نصًّا، ما يزال مترددًا في نشره، وهو ما حصل له وما شهده وشاهده وسمعه في تلك الليلة الكابوسية (20 - 21 كانون الثاني/ يناير 1970)، وكنت قد استمعت إلى بعض تفاصيلها حتى هتفت من أعماقي إنه كتاب يستحقّ النشر، بل أكثر من ذلك، سيكون أقرب إلى بانوراما لتراجدية المشهد العراقي.

سردية "ليلة الهرير" هي صنو  رواية "ليلة لشبونة" للروائي الألماني إريش ماريا ريمارك، وتفصح ليلة لشبونة حقيقة ما كان يجري أيام حكم الزعيم النازي أدولف هتلر، حيث يصف فيها ريمارك، من خلال ليلة واحدة، وبحبكة درامية مثيرة، حالة الخوف والرعب والهلع الدائم التي كان يعيشها الناس، واضطرار العديد من المثقفين لمغادرة البلاد نحو المنفى، الذي هو لا يقلّ رعبًا، خصوصًا ملاحقة رجال الأمن الألمان، الذين كانوا يحصون أنفاس المعارضين والمنفيين.

قصر النهاية

أما ليلة الهرير، فهي ليلة واحدة قضاها في قصر النهاية، وهو القصر الملكي المعروف باسم "قصر الرحاب"، والذي تمّ الانتهاء من بنائه في العام 1937، وأقام فيه الأمير عبد الإله الوصي على العرش، وسُمي بقصر النهاية لأنه شهد نهاية العائلة المالكة في يوم 14 تموز / يوليو 1958، إذْ قُتل فيه الملك فيصل الثاني وخاله الأمير عبد الإله وجدتّه الملكة نفيسة (والدة عبد الإله)، وعدد من أفراد العائلة المالكة. وتحوّل بعد انقلاب 8 شباط / فبراير 1963 إلى معتقل للتعذيب، ثم استُخدم لفترة قصيرة مقرًا لمديرية السياحة العامة، ولكن أُعيد افتتاحه بعد انقلاب 17 - 30 تموز / يوليو 1968، وأغلق في العام 1973، إثر ما عُرف بمؤامرة ناظم گزار (مدير الأمن العام) في 30 حزيران/ يونيو من نفس العام.

وكانت تلك الليلة المشؤومة كفيلة بأن تنطبع في ذاكرة أحمد الحبوبي لدرجة أصبح مسكونًا بها بقدر ما سكنت هي في ذاكرته، لما شهده من إذلال ومحق للكرامة الإنسانية، واستخفاف بحياة البشر دون اعتبار لأي قيم أو قوانين أو شرائع دينية أو أعراف اجتماعية، حيث كان الموت يخيّم فوق رؤوس الجميع، ففي 24 ساعة نُحر فيها 57 ذبيحة، كما يقول الحبوبي، ويضيف: لم أشكّ أن كلّ من جيء به إلى قصر النهاية كان أمر إعدامه معدًّا سلفًا، وإن لم يُعدم بعضهم فإن ظروفًا جدّت واعتبارات حالت دون تنفيذ الإعدام، وأنا واحد ممن خدمته الظروف والاعتبارات. وهكذا وجدتني أحيا من جديد حياة أحلى ما فيها مر، فما زالت وقائع وأحداث وشخوص قصر النهاية عالقةً بذهني حتى الآن.

ليس هذا فحسب، بل أن كوابيس تلك الليلة ظلّت تراوده بين الفينة والأخرى، خصوصًا وأن عقله لم يستوعب، وهو المحامي، أن يتم إعدام  الضحايا دون محاكمة، لاسيّما وأن عملية الإعدام كانت تتم بدم بارد لأشخاص  بعضهم لا يعرف حتى تهمته، بل مجرّد ما أشيع عن مؤامرة، وكان الهدف من عملية الإعدام الجماعية، وبالطريقة الهمجية التي تمّت، هو محاولة لفرض ثقافة الإذعان والخضوع، وكبت أي رأي معارض لكي يكون درسًا لا يُنسى.

كان الحبوبي وهو يعيش لحظات تلك الليلة بتفاصيلها، بانتظار ما يخبّئه له القدر، فبين ساعة وأخرى يتلو الحرّاس أسماء وجبة جديدة من المعتقلين ليسوقونهم إلى ساحة قصر النهاية، وبعد دقائق كان يسمع رشقات إطلاق النار، لتأتي وجبة أخرى تنتظر دورها، ويبقى هو معلقًا، كأنه سؤال بغير جواب، فمتى سيأتي دوره؟ وقد أعدت قراءة هذا المقطع أكثر من مرّة، مستذكرًا قصيدة الشاعر اليوناني قسطنطين كفافي "البرابرة قادمون"، وهكذا عاش تلك الليلة في دوامة الانتظار المرعب، وكأن لسان حاله يقول: لماذا يريدون الإمعان في تعذيبي أكثر طالما أنني سأُعدم؟ وبعد حين يستمع إلى الإذاعة العراقية وهي تذيع  أسماء المتآمرين الذين يذهبون إلى مزبلة التاريخ، كما  يصرخ أحد الحرّاس بعد كلّ وجبة إعدام.

ناداه أحد الضباط الشباب المسؤولين، واعتقد أن دوره قد حان، فاستغفر الله وردّد كلّ نفس ذائقة الموت، وإذا به يطلب منه أن يتبعه، ولكن المفاجأة، كانت هي الأخرى من العيار الثقيل، حين طلب من حارس أدنى منه رتبة أن يوصله بسيارة إلى الشارع قائلًا: "تفضّل أستاذ"، وسار أمامه ثم سلّمه بعض حاجياته وأوراقه بما فيه هويّته. يقول الحبوبي: بعد هنيئة أصبحت طليقًا حرًّا أمشي على رجليّ بفضل  العناية الإلهية التي لطفت بي وانتزعتني من براثن الموت قبل أن يبتلعني. ربما كان ذلك حلمًا، حتى وإن كان في اليقظة، فالأحلام هي الحقيقة الوحيدة حسب المخرج الإيطالي المبدع فيلليني،

هكذا وجد نفسه في الشارع ينتظر سيارة تاكسي، وإذا بسيارة المحامي موسى صبّار أحد أصدقائه المتوجّه إلى النجف تقف بجانبه ويسأله " ماذا تفعل هنا؟"، خصوصًا وقد كان غير حليق وشعره منفوش، فأجابه "أنتظر سيارة أجرة" وكان في وضع غير طبيعي، وظلّت الأسئلة تتوالد في رأسه، ما الذي حصل؟ وكيف حصل؟ ولماذا حصل؟ أي لماذا تمّ اعتقاله وتعريضه إلى مثل هذا الرعب؟

لقد صوّر الحبوبي تلك المشاهد الوحشية بعدسة فنان ماهر، استخدم ريشته بطريقة حاذقة، وغمّس قلمه بحبر الأديب، هكذا كانت الصورة القلمية مصحوبةً برؤية بصرية عكسها بمرارة وألم شديدين، مقبّحًا كلّ ما له علاقة بازدراء قيمة الإنسان وكرامته، ففي مدّة اﻟ 24 ساعة التي عاشها في قصر النهاية ظلّ شبح الموت، "الذئب اللئيم" على حد تعبير الجواهري الكبير، يحوم حوله، بل إنه كان يحصد ما يقابله في طريقه بين الأروقة والغرف الرطبة مستذكرًا وجوه وحركات وأصوات الضحايا والجلادين.

النقد الذاتي

استحضر الحبوبي في تلك الليلة، وهو في لحظة وداع الحياة، كلّ صفاته وطفولته، فكتب باستعادة تلك اللحظة:

"كان حديثي مع نفسي قاسيًا، وهو عبارة عن حساب عن الماضي الذي راح بحسناته وسيئاته، أحصي هذه وتلك، وندمت على كثرة سيئاتي، وتمنّيت لو أنها كانت أقل، وحزنت على مواقف أسأتُ فيها لأصدقاء بدافع الوطنية والنضال... وكانت أسعد اللحظات تلك التي عدت فيها إلى طفولتي البريئة والدنيا من حولي ضاحكة مبهجة".

لم يدوّن الحبوبي نقده الذاتي ومراجعاته تلك وهو في حالة استرخاء وطمأنينة، وإنما جاءته وهو في حالة ترقّب وانتظار وقلق ورعب، فقد ظلّت يده على قلبه ينتظر ساعة الفرج، إذْ أن كلّ لحظة كانت تعني دهرًا بحساب الزمن، فقد كان الجميع مجرّد أرقام وقوائم. وبالنسبة له كان الموت هو الأقرب عنده، حتى أنه كان يشعر بالضيق ويتساءل: لماذا تأخروا؟ كان يريد الخلاص، حتى دخلت عليه مجموعة من الشباب، يتقدّمهم شاب بادره بالسؤال: "أنت فلان التي جاءت بك سيارة النجدة؟"، فأجابه: نعم كما يقول، فالتفت إلي من كام معه قائلًا لهم: حان موعد الموت.

استعار الحبوبي عنوان سرديته من التاريخ، فهي الليلة التي كان فيها البرد قارصًا إلى الحدّ الذي كان فيها الجنود يسمعون  هريرًا كهرير الكلب، أي أنينه بسبب اشتداد البرد، خصوصًا بتداخل الأصوات في القتال، وكانت ليلة الهرير خاتمة لحرب صفين  (38 ﻫ)، حيث تكسّرت الرماح وتثلّمت السيوف وتعبت الخيول، وفي تلك الليلة قُتل الأمام علي، فيقول الحبوبي، قد يكون الكلب أحسن حالًا إذا ما عثر على مكان يقيه من شدّة البرد، ونزلاء تلك الليلة حلّوا خفافًا كملابسهم فلا تثريب عليهم لو سمع لهم هرير، ويضيف أمّا أنا فقد كنت أهرّ من شدّة البرد كما يهرّ الكلب تمامًا.

الحبوبي روائيًا

حين قرأت "ليلة الهرير"، قلت مع نفسي، لعلّ روائيًا يسكن في أعماق أحمد الحبوبي، فهذا القومي العربي الأصيل، الوزير السابق والمحامي المعروف، هو نتاج ثقافة دينية - مدنية، وإن كان متمسّكًا بأرومته العربية، إلّا أنه كان منفتحًا على الثقافات الأخرى، وقارئًا من الطراز الأول، وكاتبًا دقيق العبارة، وعذب الأسلوب، أصدر العديد من الكتب، إلّا أن ليلته اللشبونية، "ليلة الهرير"، كانت الأكثر شهرة وانتشارًا وإثارةً لما تضمّنته من حبكة درامية، عرضها بأسلوب أخّاذ ومؤثّر.

اعتذار عن ماذا؟

مؤخرًا توقّفت عند كتابه الجديد الذي أهداني إياه، والذي هو بعنوان "رسالة اعتذار إلى الشعب العراقي"، فها هو يكتب وقد تجاوز عقده التاسع بعد تجارب مريرة ليقدّم اعتذارًا ليعكس صدقيّته العالية وثقته الكبيرة بنفسه، ليس باعتباره مذنبًا أو مرتكبًا أو ظالمًا، وهو ما لم يفعله هؤلاء المذنبون والمرتكبون والظالمون، بل لأنه وعد الشعب العراقي تحقيق طموحاته وآماله في الحريّة والوحدة العربية والعيش الكريم، لكنه لم يتمكّن من ذلك، لأن الظروف عاكسته ولأن توازن القوى والتداخلات الدولية والإقليمية كانت حائلًا أمام ذلك. والكتاب هو عبارة عن رسالة وزّعها في العام 2018، إضافة إلى لمحة من مذكراته، فهو صاحب تاريخ عريق، بدأ عضوًا في حزب الاستقلال، وكان ممثلًا له في جبهة الاتحاد الوطني في النجف (1957)، وحلقة وصل مع القيادة العليا في بغداد، ثم عضوًا في قيادة الاتحاد الاشتراكي (1964)، وأحد أبرز قيادات الحزب العربي الاشتراكي، ذو الاتجاه الناصري، حيث كان مؤمنًا بقيادة الرئيس جمال عبد الناصر للمشروع النهضوي العربي.

وفي بيته المتواضع في شارع محي الدين أبو العز بالقاهرة، تتصدّر مدخله صورته مع عبد الناصر، فهو من أقدم المنفيين العراقيين، حيث اضطّر إلى مغادرة العراق بعد تعرّضه للاعتقال والملاحقة في العام 1959، وعاش في القاهرة لغاية العام 1963، ومن ثم منفيًا منذ العام 1970 وإلى اليوم، على الرغم من زياراته  بغداد منذ العام 2003 بين الحين والآخر، وسبق أن تعرّض هو ومجموعة القوميين المنفيين في القاهرة، عارف عبد الرزاق وعرفان وجدي ومبدر الويس وآخرين، إلى عملية اغتيال جماعية، كشفتها السلطات المصرية واعتقلت المنفذين، وحتى في أيام المعارضة في السبعينيات والثمانينيات ولغاية الاحتلال، ظلّ موقفه متوازنًا ومعتدلًا، فقد رفض المشاريع الخارجية، كما وقف ضدّ الحصار على بلده، وظلّ يدعو إلى تعاون وطني فعّال للإطاحة بالديكتاتورية.

يقول الحبوبي في رسالته المثيرة: بعد أن دخلت البلاد في دوامة الاحتراب الطائفي والعرقي وفقًا لنظام المحاصصة، (الذي يقوم على الزبائنية السياسية والغنائمية المصلحية)، وانبثق منه فساد إداري ومالي وسرقة وتهريب وتجويع وإفلاس وبطالة وخوف وإرهاب داعشي وميليشيات وعنتريات وبطولات فارغة كما يقول،: أفلا يستحق هذا الشعب المستظام أن نعتذر له؟ نحن الذين نتصدّى لحكمه.. السابقون منّا واللاحقون لنا، فقد جرّعناه الغصص والمنغصات نحن أبناؤه.. نعم يجب أن نعتذر لهذا الشعب العظيم، ونطلب منه الغفران لا النسيان.

عاش الحبوبي في ظروف المنفى حياة بسيطة، وكان بيته مفتوحًا، ولسانه معطّرًا وكفّه نظيف، وقد رفض العديد من المغريات والمناصب التي عُرضت عليه.

كان الحبوبي يقظ الضمير عزيز النفس، كيف لا  وهو سليل العائلة العربية العلمية والأدبية، حيث كان عمه السيد محمد سعيد الحبوبي، الفقيه والشاعر، قائدًا لحركة الجهاد ضدّ الاحتلال البريطاني في الشعيبة، وجُرح فيها، وعند عودته توفي في مدينة الناصرية، وأطلق اسمه على أهم ساحة فيها، تلك التي تنطلق منها أعمال الاحتجاج اليوم للمطالبة بالعدالة الاجتماعية وتوفير فرص عمل ومحاربة الفساد.

***

د. عبد الحسين شعبان – كاتب وباحث أكاديمي

للروائي العراقي أحمد خيري العمري

بيت الخالة، الحضن الدافئ الذي تلبينا رحابه حين لا تحتملنا شجوننا، وتصدّعاتنا.. الخالة التي تضافرت منجباتنا معها الرحم نفسها، فحلّتا وسطا متناغم الأسرار، والهبات، وهنّ في سبيل الانبثاق إلى الوجود.. الأنفاس، الرائحة، الانفعالات، ودقائق ليس لنا إليها سبيلا، لنصل إلى التوالد نسلا يسلسل ما سيليه في ذاكرة لن تنضب ما دام للحياة انفراجها..

من منا من لا يحمل من الذكريات الطفولية أحلاها حين تحضر الخالة، ومن منا من لا يلتجئ إليها حين يستبق الموت أمهاتنا، لنتنشق عبير حضورهن الغائب فيها، فيتجلل بنقاء افتقده بينما الحياة تسوقه، وتتقاذفه بين منتدياتها...

للوهلة الأولى، وقد وقعت على رواية تحمل العنوان " بيت خالتي" سيخطر لك ما سبق أن خطر لي، ولقرّاء يبكرون تصفحهم لها، لكن أمثالنا من المتعبين، والمنفيين، سيصطادون في صفحاتها الأولى أنفاسا تقذفهم قذفا حيث الانعدام، ثم الانعدام، ثم التلاشي...

لست بحاجة سوى إلى مفاتيح في كل أمر لتفتح بها المغارات التي تسعى جاهدا ألا تقترب منها، لأنك تثق تماما أن بانتظارك الجحيم برمته!...

نحن "السوريين" على الأخص نتهامس بتلك التسمية سرا، ونتندر بها جهرا بيننا وبين من نثق بهم بشدة، وأكفنا على قلوبنا، وقبضاتنا تتكمش بنبضنا خوف أن يفلت منا فتعدمنا الحياة، رغما منا، شئنا، أم أبينا سنفقد الحياة ما أن نُلتقط..

قد تتلقفك عين ما، قريب منك، نكرة من النكرات، من ليس في بالك، لتغدو الضحية.. ذاك بعض من مسبب!...

لقد استطاع " أحمد خيري العمري"، الروائي العراقي الذي لن تشك في سوريته تجاه ما تقرأ، في روايته "بيت خالتي" أن يتقمص السوري المسكين في معاناته، وينقل وجعه إلى القارئ بحرفية، وإتقان مؤلمين، ينقل وجوها من القهر وظلالا من أجواء عايش البعيد أحداثها عبر الأقنية الفضائية، فسبر بعض ما يجري لأبناء بلده في الوطن الأم، ورغم أنه سمع الحكايات والأساطير عن سراديبها، فهو المحظوظ أنها لم تمسه مباشرة، أو لم تلامسه تفاصيلها في أسرته أو بين أقربائه، حتى أن القارئ لن يصدق إلا أن " العمري" قد يكون واحدا من أولئك المعتقلين الذين طبقت عليهم الأساليب السادية الوحشية، وكتب الله له النجاة بعدها!348 alomary

ولا بد أن العمري كان حاضرا في تساؤلات لن تستقر حيث خطّ على ظهر غلاف روايته سطورا جاء فيها:

" عندما عرفت تفاصيل ما حدث، لم أستطع أن أواصل حياتي كما لو أني لم أعرف، لم أستطع أن أطوي الصفحة، وأنسى.. حاولت، لكن فشلت.. ألم المعرفة كان مختلفا، يثقل الروح والجسد معا. وشعور العجز كان أكبر من طاقتي على التحمل. لقد عرفت، فماذا بعد؟ هل تستطيع أن تفعل شيئا؟ الشيء الوحيد الذي خفف عني هو أن أكتب ما حدث. هذا كل ما أستطيعه".

" النجاة".... تلك الكلمة الواهية المثقلة بالفجائع، والمواجع، والعجز، والتهشم، والدمار، والانتهاك، فمن سيخرج من تلك المعتقلات لن يكون الإنسان ذاته الذي دخلها قبلها...

ولعلني أستحضر بعض تلك الممارسات التي قذفتني كقارئ في أتون الرعب، حتى لم أستطع بعدها أن أسيطر على الزلزال الذي تهاويت أسفله، ولا بالدموع والشهقات التي نهشت جسدي... ليس الأمر عاطفيا بحتا، لكن تلك المشاعر هي الإنسان، وهي أول تعبير عن تعاطفه مع ما اطلع عليه.

مزاوجة العمري بين ابني الخالة، والبيت الأكبر الذي ضمهما، والمعتقل في السجن ضمن تورية ذكية حقا، يتواجه فيها ابنا الخالة: الأبيض المدلل الذي اندفع لنصرة الثورة، والرمادي تجاهها، الذي لم ينل من الحظوة ما ناله ابن خالته في العائلة، والذي لم يجسر أن يعطي رأيا فيما يجري حوله، وكأني بمقارنته بينهما حتى في لون جلدهما يطرح انعكاسا لما حمله الأول من انفتاح للضياء، قوبل بالكتم، والنأي تجاه الأحداث السورية الفظيعة، والثورة التي بدأت شرارتها منذ سنوات، وأخنعت بشدة وبقسوة وإجرام طال من المدنيين البعيدين عنها ما طال من خاضوا غمار الجرأة، والتنديد أيضا..

أما التوثيق التاريخي، وأبطاله، فقد أضاف إلى الرواية مصداقية الربط بين جهات من الظلم طالت مدنيين في أنحاء العالم، وأما المفاجآت في الأحداث، وفي التزييف وفيما حملته الشخصيات من أسرار ينسدل الستار عنها في نهاية الرواية، فتلك التي لا بد أن تنهار أمامها بما أنك ما تزال تتحلى ببعض الإنسانية!..

"نور" أو "جوري" الشخصية النابضة الفاعلة بقوة في الرواية، والتي تمثل الفتاة التي شاركت انتفاضا خنق، وتناقضات انتمائها في حياتها الأسرية، وما تعرضت له من التعذيب في الاغتصاب عبر فنون طبق فيها الهلوكوست بإتقان، يقابلها أنس الثائر والناشط السياسي الذي انتهى منتحرا في ذكرى الثورة، والطبيب النفسي ابن خالته الذي كان يرى نفسه في بوتقة القرابة دونه مكانة، وفي المواقف أيضا، ليرتفع الجميع، وليتسامقوا رموزا عظيمة تنصهر في محبة وطن ينزف.

أما صوت المطربة أصالة، وكلمات أغنياتها التي تسرح فوق الألم بشغف السكين، وهي ترافق مشهد الانتحار الذي شهدته روح أنس وجسده، فقد جاءت التتويج والإطار الثري لكل الجروح والانتماءات والاختلافات التي يجدر أن تتبخر بين معصميك سورية..

ليست سوى كلمات.. كلمات ترسم لانطباع خارجي يبتعد عن التغور، والغوص المريع في رواية حملت سراديبها ما حملت من الأذى والانهيارات النفسية التي لن يشفع طيب السوريين لها بالنسيان ضمن فوضى التجعيد والتشرذم الذي غرر بهم، وطواهم، حتى وإن انتهبته سنوات وسنوات من محاولات التنظيف، والرتق إلى أن تنتصب العدالة الإنسانية بكيانها المرتجى!

" إلى الذين لا نعرف أسماءهم.."

بذا يكحّل العمري إهداءه، وأراني أستعيره لأختم به إحاطة لو قدّر لها المدد، فستنافس المحتوى دموية.

***

أمان السيد - كاتبة سورية أسترالية

سيدني / 2-10-2024

معظمنا يمتلك إحساسًا بالواقع، لكن ماذا لو خدعتنا حواسنا؟ هل سأظل أعرف ما هو الحقيقي إذا كنت على سبيل المثال، أعاني من ورم دماغي صغير يجعلني أعتقد أن الأشخاص من حولي هم شياطين، أو أن اليوم الجميل المشمس هو كابوس مظلم؟

فيلم (الجوكر)، "لتود فيليبس"، يتناول هذا النوع من الجنون التفارقي، إنه يؤكد على المشكلة الفلسفية المتعلقة بالحد الفاصل بين الإدراك والواقع، وتلاشي التمييز بين الشعور الداخلي والاحساس الخارجي، حيث يمكنني أن أسقط كياني الداخلي على العالم، مما يغير لونه ونغمته. إذا لم أكن أدرك أنني أفعل ذلك، فسأعيش في متاهة من الجحيم، سجن من إسقاطاتي الخاصة. لا يمكن لأحد الوصول إلى شخص يعاني هذا النوع من الجنون، فلا أحد موجود فعليًا بالنسبة له، مرآته المكسورة لا تعكس شيء، يلتهم العالم، وفي الوقت ذاته يتفكك من الداخل.

يقدم "خواكين فينيكس" شخصية "آرثر فليك"، وهو كوميدي فاشل يعاني من اضطراب نفسي يجعله يضحك في لحظات غير مناسبة. تحت ضغط سلسلة من الأحداث المؤلمة، ينزلق "فليك" إلى الجنون ويشرع في موجة من القتل، وفي هذه العملية، يتبنى شخصية (الجوكر) ويصبح رمزًا لثورة ضد الامتياز في مدينة "غوثام"، وبطلًا للثوار الذين يفشلون في إدراك عمق اضطراباته.

يعد تجسيد الجنون أمرًا صعبًا للغاية، لأنه من جهة يجب على الممثل أن يضبط عواطفه بينما يتصرف كما لو كانت غير متوازنة، ومن جهة أخرى، يجب أن تكون مبالغاته قابلة للتصديق، وإلا فإن الفيلم يصبح ميلودراما أو كاريكاتيريا. على سبيل المثال، في واحدة من أكثر المشاهد إيلاما في الفيلم، حين يخنق آرثر والدته بوسادة بينما يعبّر بجملته الحاسمة: "كنت أعتقد أن حياتي كانت مأساة، لكنني الآن أدرك أنها كوميديا". نبرة آرثر محايدة، كما لو أن أفعاله منفصلة تمامًا عن أي عاطفة. المشهد هو وصف بارد للإيماءات دون أي إشارة إلى الشعور، وكأنه الموت بقسماته الباردة شخصيا.

تجعلني براعة أداء فينيكس في تجسيد الجنون، أتذكر شخصيات الأشرار المجانين من العقود الماضية: جاك تورانس (جاك نيكولسون) في The Shining؛ بوبي بيرو (ويلم دافو) في Wild at Heart؛ جون دو (كيفن سبيسي) في Se7en.

فكرة عدم فعالية العلاج النفسي ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالموضوع المركزي للجنون في فيلم (الجوكر). يشكو آرثر لطبيبته النفسية: "أنتِ لا تستمعين أبدًا"، "كل ما لدي هو أفكار سلبية". الحوار يُعتبر زائفًا، وبما أن الوصول إلى وعي الآخرين محجوب، يدخل الفرد في عالم من السوليبسية (وحدة الأنا)، حيث يصبح الألم غير قابل للتواصل. قد يكون الشخص الآخر في حالة انهيار، ومع ذلك لا تستطيع أن تراه من خلال قناعه. لذا، فإن الجوكرهو أيضًا تأمل في "الانعدام الوجودي"، وهو نوع من جنون الوجود، كما وصفه العالم النفسي "رونالد لينغ "، بقوله: "إذا كنت أفتقر إلى التعاطف، قد يبدو لي الآخر وكأنه روبوت، أو برنامج حاسوب، أو شبح. قد أشك حتى في وجود الشخص الآخر. قد أبدأ في التشكيك في وجودي الخاص، إذا لم يرني الآخر، فإنني أفشل في رؤية نفسي، وبالتالي أفشل في الوجود". إن عدم الظهور هو مشكلة اجتماعية-سياسية، حيث يشعر العديد من الأشخاص أنهم لا يمتلكون مكانًا، وأنهم بلا قيمة، وأن حياتهم لا تعني شيئًا، كما كتب آرثر في مذكراته.

هذا يقودنا إلى فكرة "لعنة الفقراء" في الفيلم، فالمجتمع الذي يعتبر فيه المال إلهًا يعادل دائمًا الفشل بالاقصاء. هناك طرق عديدة يُقضى بها على الفقراء في مثل هذا المجتمع، وإحدى هذه الطرق هي إنكار الرعاية الصحية. إن وصول آرثر إلى العلاج والأدوية يتعطل مما يفاقم في سلوكه المجنون. يمكننا حتى أن نستنتج أن مشاهد الفئران، الذي يظهر عدة مرات في الفيلم، هو رمز للجماهير الكبيرة من الفقراء، التي أطلق عليها "كارل ماركس" لقب "اللومبن بروليتاريا"، أي الطبقة ما دون أو تحت البروليتاريا.

عندما تعامل المجتمعات الأكثر تقدمًا، أفرادها الأكثر ضعفًا على أنهم "فئران"، يمكن القول إن التشاؤم يصبح تفسيرًا صالحًا للحياة، وأن التفاؤل هو الشر، كما عبر عن ذلك "آرثر شوبنهاور".

هناك مبدأ هندي يُعرف بـ tat tvam asi  ("أنت ذلك")، الذي ينص على أنه ينبغي علينا أن نحاول التعرف على نفس الجوهر في الآخر، لأننا في جوهرنا الآخر. حيث أن الفشل في التعرف على أنفسنا في الآخر يعني أن "الإنسان ذئب لأخيه الإنسان"، وأن الاستغلال لا ينتهي، وأن حربنا الأهلية مستمرة. إن هذه اللامبالاة تجاه الآخر هي دافع آخر متكرر خلال الفيلم، تقود إلى الدمار الشامل.

كما أن الاحتقار الواضح في مشاهد الفيلم تجاه المساكين ليس مجرد عرض لامبالاة فاشية، بل دليل على الغطرسة النيو ليبرالية. يكشف مشهد (الجوكر) عندما يرى الأغنياء وهم يستمتعون بمشاهدة فيلم "العصر الحديث" لتشارلي شابلن، وهو فيلم يتناول صعوبات الحياة خلال الكساد العظيم، عن الإحساس السادي بالتفوق لدى الطبقة الغنية، الذين يشاهدون دراما المحرومين من علو مكانتهم.

لنصل إلى مشكلة مركزية في الفكاهة، فنحن مدربون على الضحك فقط عندما يكون ذلك مناسبًا. يقول "مارتن هايدغر" في كتابه الوجود والزمان: "نستمتع ونمرح بالطريقة التي يستمتع بها الآخرون". الجوكر لديه نوعه الخاص من الفكاهة، ويضحك في الأوقات غير المناسبة، مما يثير الضغوط. يمكننا التمييز بين الضحك الزائف والضحك الصادق، أما ضحك الجوكر الفائق الزيف يصبح أصيلاً، لأنه تعبيره الخاص، غير المتأثر بالمطالب الاجتماعية. إن رؤيته للحياة ككوميديا أغمق من التراجيديا، تذكرنا بتأمل الكاتب العبثي "يوجين يونسكو" بشأن يأس الكوميديا، عندما نستمتع بمشاهدة العرض المسرحي" الملك يموت" ليونسكو، نضحك على الجانب التراجيدي من الوجود، وفي الحقيقة نحن نضحك على حياتنا وموتنا.

فالناس أشد حزنًا مما يعلنون، وأكثر حزنًا حتى مما يظنون. يقول فليك بشكل ساخر: "لم أكن سعيدًا أبدًا"، مشيرًا إلى أن لقبه في الطفولة كان "هابي".

أخيرًا، واحدة من الأفكار المركزية في الفيلم، تذكرنا بمسلسل "السيد روبوت" تلك الشخصية الانطوائية التي تشعل شعلة التمرد، يقول بطل الفيلم: "الحقيقة؟ هل أي من هذه الأشياء حقيقي؟ انظر حولك! إنه عالم مبني على الخيال. عواطف اصطناعية على شكل حبوب. حرب نفسية على هيئة إعلانات. مواد كيميائية تؤثر على العقل في هيئة أطعمة. ندوات غسل مخ في هيئة إعلام. فقاعات معزولة متحكم بها عن بعد على شكل شبكات تواصل اجتماعي. هل تريد أن تتكلم عن الواقع؟ نحن لم نعِشْ فيما يشبه الواقع منذ بداية القرن. لقد أطفأنا الواقع وأزلنا بطارياته"!

عندما يصبح آرثر الجوكر، يصبح أسوأ نسخة ممكنة من نفسه؛ لكنه يكسب العالم، أو على الأقل يتم قبول جزء منه، ويتحول إلى رمز للثورة. لكن وبإعادة صياغة مقولة "نيتشه"، فمن يقاتل الوحوش سيصبح بلا شك وحشًا.

***

الأستاذ محمد إبراهيم الزموري

 

رواية (العوالم السبع) للأديب (عبد الجبار الحمدي) أنموذجاً

يرى جملة من نقاد الحداثة والكُتّاب أنّ السرد سيما (الرواية) ديوان العرب، وسجل يوثق حاضرها وماضيها بشكل فني؛ فالروية تمتلك طاقة لافتة في رسم أدق التفاصيل، سواء أكان بشكل صريح (واضح) أم غير صريح (ضمني رامز).

من هنا ذهب بعض المختصين إلى أنّ الروائي بما يمتلك من أدوات سردية يمثّل (المؤرخ الحقيقي) للحياة؛ فمنظومة السرد الروائي لها المقدرة واليد الطولة في رسم صور (التحدي، والثورة، والسياسة، والفكر، الآيديولوجيا، والتهميش، والاغتراب..الخ).

ومن الجدير بالذكر، مع تنوع توجهات الحياة وتعدد متبنياتها وتشعب سلوكيات أبنائها؛ ظهر في مجال الأدب ما يواكب هذا التنوع والتعدد، تبعاً لمنظور صاحب النص، وما يحمل من متبنى لنظريات الأدب؛ فمنهم من جسّد نظرية (الفن من أجل الحياة).

الفئة الثانية من الكتّاب كانوا الأقرب إلى ساحة (الوعي المستنير)؛ لأنّهم عدّوا أنفسهم جزءاً من المشكلة المعيشة، وفي الوقت ذاته حملوا راية التصدي والتحدي لمنغصات المجتمع بشتى أنواعها، ولعّل الثيمة السياسية أولها؛ وعليه أفرز لنا المشهد الأدبي السردي عن مظهر لمنجز روائي موسوم بـ(الرواية السياسية)؛ ومن منطلق ما ذهب إليه (جورج لوكاتش) بأنّ بطل النص الروائي كائن (إشكالي وهامشي)، يواجه واقعاً اجتماعياً ينقصه المعنى؛ فتتولد عملية البحث عنه، وقد تفشل هذه المحاولة – أحياناً-؛ فيرى بعض النقاد أنّ بطل الرواية السياسية، بطلاً إشكالياً، وهذا يعني الديناميكية السردية للشخصية وفق مبناها الفني الجمالي تتمحور حول مرتكز (الايديولوجيا)، وعلى ما يبدو في مثل هذا النوع من السرديات يُكشَف لنا مستويين من التمظهر، الأول: رؤيوية (فكرة)الكاتب في توجيه رسائل الاقناع للمتلقي ضمن تسيس الرواية، الثاني: جعل الشخصية شخصية اشكالية عبر مركزيتها في النص؛ بوصفها العمود الفقري لنسيج السرد وعلائقيتها مع عناصر القص بتولي الاضمار والاظهار –أحياناً- وقائمة بمهمة إرسال مبدا الاقناع للقارئ، ومن ثم تصدير فكرة النص تأسيساً على ذلك شهد المسرح الروائي العربي روايات مثّلت (الرواية السياسية) وبشكل صريح، لعّل من أشهرها رواية (بيروت.. بيروت) عام 1984 لصنع الله ابراهيم، ومن الجدير بالذكر هنالك روايات جاءت بالمنحى السياسي ضمن السرد التأريخي مثل (الزيني بركات) عام 1974 لجمال الغيطاني.

ومع ما تمتلك الرواية السياسة من مغامرة متشعبة، لكنّها تبقى المحاولة الأدبية التي تكشف طبيعة كاتبها من حيث التجربة وتفاعله مع الواقع المعيش، وما يتحلى به من هوية وانتماء وتحدي.

من هنا فكاتب هذا النوع من الروايات يشكل الأنموذج الأكمل (للوعي الجمالي المستنير)؛ لأنّه يجعل من نصه ناقداً لواقعه دون وجل، أو أداة تفتح نافذة الضوء المعرفي والادراكي بما يحيط بالمجتمع، كل هذا جسدته رواية (العوالم السبع) للأديب (عبد الجبار الحمدي)، تلك الرواية التي صدرت بطبعتها الأولى عام 2024 عن (إصدارات أحمد المالكي- العراق، بغداد، شارع المتنبي).

ومن وجهة نظري المتواضعة؛ وبوصفي ناقداً أكاديمياً في فن الرواية، أظنّ بأنّ هذه الرواية شقت عُباب الرواية الذيقارية (ذي قار بلدة الروائي)؛ فزاحمت جُلها؛ لما تمتلك من مزايا، لعلّ أولها البناء الفني ورد متكاملاً لا خلل فيه البتة، وثانيها جراءة البناء الموضوعي (فكرة النص)، الذي أدخلها في منطقة عدّها كثير من المختصين منطقة تتسم بالحساسية والعتمة، ألا وهي (حركة الحركات السرية التي تُدير أصابعها الخفية كافة النظم العالمية منظمة البنائين -الماسونية-)، وهذا لا يعني بأنّ النص هذا انحسر تقيماً بمنجز روائي محلياً (ذي قار)، بل أعتقد إدخالها كمنجزٍ عربياً باستحقاق لا مناص منه؛ لأنّها رواية وطنية (عربية) تتجاوز المحلية، وهذا ما يكشفه النسيج النصي بجدارة.

قبل الخوض في الدراسة النقدية لهذه الرواية السياسية بامتياز، لابدّ أن نعترف بأنّ تسيس النص الأدبي هو آيديولوجيا؛ والسبب في ذلك لأنّها بالنتيجة معتقدات مطروحة وأفكار يُحاول صاحب النص تصديرها للآخرين.

ما ذُكر سيتجلى بشكل أوضح عندما نقف على ما طرحه الحمدي في روايته محل الدراسة (العوالم السبع).

فكرة الرواية تسليط الضوء على جانب مظلم ينسج تحت الكواليس لمؤامرة كونية بدأ أصحابها أصحاب المجلس السداسي (الماسوني) بالإفصاح عنها في السنوات الأخيرة، فتناولتها العديد من المؤلفات، وأنا قرأت كثير منها، ولعلّ قسم منها في ذاكرتي (أحجار على رقعة الشطرنج، وإسرائيل بين اليهودية والصهيونية، وحكومة العالم الخفية، والصهيونية وخيوط العنكبوت، والضباب الأحمر فوق أمريكا..الخ)، اللافت في الموضوع فهم الحمدي لمستوى تعقيد هذا المنحى السياسي ودقته (المؤامرة الكونية الماسونية)، وصعوبة الاحاطة بها عند كثير من الناس، وعدم استيعاب خيوطها حتّمت على صاحب الرواية أن يدخل هذه الثيمة (الموضوع) في نص جمالي فني؛ يُسهّل الفهم لما يحصل بشكل يجذب ويجعل المتلقي في انشداد لقراءة ما يُريد ايصاله.

من هنا جاءت فكرة النص متكأ ومنذ استهلال الرواية على البنية المكانية (ملجأ اللقطاء)، ذلك المكان الذي حمل بعداً سويوكلوجيا في المجتمع (النظرة السلبية)؛ بوصف النزلاء من الأشخاص الذين تُجهل ولادتهم، وأنّهم أولاد غير شرعيين، سيما من وجدوا وهم أطفال على قوارع الطريق، جعل الروائي بداية الحدث في ملجأ بين بلدتي (مليلة وسبتة التي يسيطر عليها الاسبان وهي جزء من المغرب).

ومن ثم ومنذ الصفحة الأولى للرواية طرح تلازمية (سيكولوجية الشخصية) وعقدها لاسيما (عقدة الدونية) التي لا تنفك عن الحدث وتشعبه، وهذا ما سنجده عبر التحليل؛ من هنا يقول الراوي الممسرح، وهو الشخصية الرئيسة حنظل العسل: (لا أدري كيف؟ ولِمَ !!أو لماذا جئنا إلى الحياة بملفات رغبة مضاجعة محرمة، اقتاد الشيطان امرأة على فراشه ثم استهلك رغبة مرات ومرات.. ما مررنا نحن به، ثلة من لقطاء أو ما يدعوننا به مجهولي النسب كأننا وباء، تقيء بذور شياطين حتى يزرعها في مجتمع أغلبه أبالسة..).

من الجدير بالذكر قامت فكرة الرواية على أنّ لقطاء الملجأ يتم اعدادهم ليكونوا قياديين في مفاصل مؤامرة كونية لإفساد لشرق الأوسط، خاصة الدول العربية، ومن ثم تركيز المجلس الأعلى (المحفل الماسوني) على هذه المؤسسة؛ ليكون أشخاصها فئة مستهدفة، وهم (حنظل العسل، ومحفوظ، ومظلوم..الخ)، لكن انتخاب الشخصية الأساس التي عولت عليها التنظيمات هي (حنظل العسل)، ذلك الشخص الأسمر، وترى الدراسة هنالك عقدتين ذاتا بُعد (سويوكلوجي) هي من تحكمت بسلوكيات الشخصية الرئيسة (حنظل)، وجعلت منه أداة ناقمة على المجتمع والقانون والدين برمته:

العقدة الأولى: إنّه ابن غير شرعي ولد من مضاجعة محرمة، وأمسى من الفئات التي ينبذها المجتمع، وهذه العقدة لازمت الشخصية إلى نهاية الرواية، جعلت منه شخصية انتقامية، ففي نص عندما ألقى كلمة التخرج بحضور اللقطاء قال: (.. قدر رمى بي على أعتاب ىملجأ لا أدري لِمَ؟!! لكني أعلم جيداً من أكون، فأنا لست ذلك المخلوق الذي جاء من العتمة إلى النور المزيف.. فأنا لست الجاني ولست المذنب ولست الضحية، لكني بالتأكيد سأكون الجلاد.. إنّه زمن المخالب والأنياب بين قوسي الافتراس.. الافتراس يعني أن تكسر الأضلع العصية.. فكاليغولا كان لقيطاً، لكنّه عاش كما يريد إمبراطورا حتى وإن عُدت أيام حكمه على الأصابع، فكل واحد منا عليه أن يكون كالغيولا لكن بمعايير الموقف ومقاييس الحاجة)، ففي النص يصف حنظل عالمه المعيش على أنّه عالم (مزيف) وأنّ الكون لا يستحق الايجابية؛ من هنا تعهد لنفسه أن يكون (جلادا) وهذا ما يُعرف في السرد الروائي من حيث فضاء الزمان (بالاستشراف)، وضمن هذا الطرح يرسم صاحب النص صورة لشخصية (حنظل العسل) متكأ بذلك على البنية الواصفة التي تكشف لنا أدق متبنياته السلبية التي تصل حد الانحطاط، قاصداً بذلك المناسبة مع ما سيكشف عنه السرد بتوليه منصب عالٍ في المؤامرة التي يقودها المجلس الأعلى، يقول السارد: (يخفي حنظل كثيراً عندما يتحدث من أي منبر يتخذه موقع حديث ليقود مسألة ما يصور نفسه مثل رب دنيوي تؤول إليه كل الأمور فيطيح بالقيم التي لا يجعلها ترقب خطواته، يُسقط المعايير التي لا تعمل على المُعَرج من الخطوط.. فهو لا يؤمن بالطرق المستقيمة.. فالحياة كما يصورها لنا من وجهة نظره عاهرة، ومن يتكفل بها قوادها الذي يجعلها حبلى بالكثير من اللقطاء أمثالنا وحتى غير اللقطاء.. فعالمنا سادي، سحاقي، مثلي..).

الصراع النفسي عند شخصية (حنظل) وتربعها على عرش الحقد ومحاولة النيل من الجميع كان محوراً لافتاً في الرواية، فثيمة الانتقام من المجتمع نازع سويوكلوجي يتماهى مع بناء هذه الشخصية كلما تتطور الحدث؛ ولكون هذه الجزئية فاعلة السرد؛ نجد هذا الوصف يرد في الرواية، تارة بحوار الشخصية المباشر، وتارة على لسان الراوي غير المشارك، ففي مشهد يقول السارد غير الممسرح (لم يعهد حنظل نفسه مسالماً ويريد الخير لأحد؛ فقد كرس كل عصاراته الهضمية لتقيء كل من يريد أن يعيش في سلام، سمح للرغبة في الانتقام من مجتمع سمح لنفسه أن يعامله كخرقة مسح لفرج ملوث بدم نتن بعد مضاجعة زنا، بعدها يلف ويطوى بنفس الخرقة ثم يلقى على بباب الملجأ).

هذه العقد لازمت حنظل، وجعلت منه شخصاً يفقد معايير الجنبة الانسانية، وهذا نجده عبر تتبع المسار السردي.

العقدة الثانية: عقدة اللون الأسمر التي لازمت السرد، وقد وردت هذه العقد ضمن ما يُعرف (السرد السويوكلوجي)؛ إذ يرى النقاد بأنّ هذا النوع من السرد – غالباً- ما يكون سرداً غير معقد، ينماز بشكل واضح بالمرونة، وكثيراً ما يكشف عن عواطف الشخصية وارهاصاتها من مخاوف او دونية أو نقص، ولا يُشترط تمظهر العقد ضمن أسلوب حواري واحد (محكي نفسي، مونولوج، حوار غير مباشر، أو الحوار المباشر..الخ)، ففي هذا النص وردت تمثلات (عقدة اللون الأسود عبر (الحوار المباشر)، إذ يقول حنظل العسل، في حوار مع (فتنة) التي يكشف اسمهما فيما بعد بأنّها جزء من المؤامرة، وانّ اسمها الحقيقي (مارغريت)، وأنّ والدها الذي التقى حنظل ليس (فكرت)، بل (صموئيل)، وفي حوار داخل القصر يقول: (على مهلك يا فتنة قد أكون أسمر البشرة، لكنّي لست أسود النفس إلى هذه الدرجة، حتى وإن كنت فلا أسمح لك بمناداتي بذلك، إنّ اسمي وهو حنظل العسل، أمّا الأسود لقبت به لدكنة بشرتي، لعلي اكتسبتها من أحد الذين مارسوا الرذيلة مع العاهرة التي انجبتني أو هو لونها الذي اكتسبته عنها)الرواية: 49.، وفي نص آخر (.. سأواجه صعوبات جمة بسبب لون بشرتي بالإضافة إلى كوني لست ابن شرعي..).

ولم يقف السرد عند هذه الجزئية، بل حاول الغوص في سويوكلوجية الشخصية الرئيسة عبر تقنية الحوار، بما ينسجم مع فكرة مبدأ المؤامرة الكونية، من هنا ورد تشكل شخصية حنظل العسل نفسياً، ضمن تنوع من صاحب الحوار ممن يرتبطون بحنظل ولما تمتلك، وهذا ما نجده في مشاهد الحوارية مع الشخصية الثانوية(مظلوم)، فبعد عرضه للزواج من رؤى ابنت صاحبة المزارع، يقول له:

- لاتكن ساذجاً فأنت لا تستطيع مجاراتي، فأنا شخص شذّ عن القاعدة في تفكيري ورؤياي للأمور صدقني، وهذه المرة الأولى التي أسمح لك بها لتطلع على سري.. فالقانون غير الطبيعي يجرني نحو الالحاد والكفر؛ فأنا لا أؤمن بوجود أي شيء يمكن أن يغير من تأريخي أو يعيدني الى سيرتي الأولى قبل أن أخلق.. فأنا أريد أن أثأر من المجتمع، الناس، الدين، القانون، العدالة العبودية، الربوبية البشرية..).

وهنا تتضح النزعة المضطربة لحنظل، فعقدة الشعور بالنقص تخترق ذاته، كان يتمنى أن يرجع إلى ما قبل ولاته عسى أن يكون ابنا شرعياً؛ فبوصفه ابن حرام مجهول النسب زرعة في ذاته براكين الحقد على الدين، والقانون، والمجتمع..الخ.

هذا النوع من الشخصيات والتي صورها لنا الروائي تسير بخط متواز مع ثيمة مبدأ المؤامرة؛ لأنّها تتكأ على شخصيات ذات عقد يمكنها أن تحقق الأهداف، هذه المؤامرة يكشف عنها السرد بين الحين وآخر، ففي حاور (مظلوم) مع (رؤى) احدى صنائع (الماسونية) المتمثل بالمجلس الأعلى، يقول لها:

-.. بعدما كشف عن أسرار والدك ومدى تأثيره على أصحاب الملجأ وأعضاء مجلسهم السري تحت عنوان ملجأ..فكانت خطة رؤساء المجلس بخصوصنا دقيقة).

وفقي نص آخر ضمن مستوى الحوار بين فتنة (مارغريت)، وحنظل يقول:

-.. جهاز يزع تحت الجلد أو بداخل رأسه ليسيطروا على من يشاءون، إنّهم بشكلهم الجديد، عزيزتي فتنة تحولوا إلى مبرمجين بعقول غيرهم، أداة فاعلة لأن تغير مصائر عالم بكامله..).

تسفر المؤامرة بتوظيف هذه الشخصية للتحكم بالشرق الأوسط؛ لما تملك من صفات نفسية صنعتها ايدي خفية، تسعى لتحقيق الأهداف، فميزات ما تمتلك جعلتها المستهدف الأول من بين نزلاء الملجأ، وعليه تكفلت البنية الحوارية بين هذه الشخصية ومن تحت أمرته بما ينسجم وتطلعات المجلس السداسي وقادة الحركة الماسونية، من ضمنهم (كريس)، ومن الجدير بالذكر كشف مستوى انفتاح أعضاء المجلس على شخصية حنظل لدرجة كشفت حواراتهم عن مضامين سرية يصعب الافصاح عنها، ففي حوار موجه للشخصية الرئيسة(حنظل)، يقول أحد أعضاء المنظمة:

- سيد حنظل أنا احد أعضاء المجلس السداسي الذي يدير عملية الشرق الأوسط بعد حادثة مبنى التجارة العالمي، كنا قبل ذلك نعمل على ترويج وتسويق الدعايات والمعلومات والاخبار المفبركة على دول الشرق الأوسط.. لابد للمشروع الصهيوني أن يدخل حيز التنفيذ، فمنذ قيام دولة اسرائيل على يد هرتزل واصحاب السيادة يدرسون كيفية تقسيم العالم العربي بثروته..).

ومن ثم يتطور السرد في الرواية الملازم لبناء الشخصية، وبشكل يتوافق وعمق رؤيوية (فكرة) صاحب الرواية؛ وعليه بدأ الحدث بالتطور؛ فأخذت المنظمة تكسف أسرارها للشخصية؛ لأنّها استشعرت قمة الولاء من قبل حنظل، من هنا حاول الروائي عبد الجبار الحمدي أن يطرح متبنيات هذه الحركة ذات المؤامرة المتواشجة مع فلسفلة الشخصية السلبية، والتي رسمها صاحب النص على أنّها أمست جزء لا يتجزأ من المجلس السداسي الساعي لتدمير الشرق الاوسط، وهذا الطرح ورد ضمن مفصلين:

الأول: تحويل حنظل العسل المنتقم الملحد والناقم على الدين إلى قديس، ولُقب بـ(القديس الأول)، فيتضح ذلك عدد من المشاهد: (سيدي القديس الاول لي الشرف العظيم بأن يسند لي بمثل هذه المهمة)، وفي نص (سيدي القديس الاول يمكنك ان تمنح للسيد جرجيس هذا الامر..)،

الثاني: منح حنظل صلاحيات من قبل المحفل الماسوني (البناؤون)، وامسى هو من يخطط ويصدر القرارات التي من شأنها أن تدمر البلدان العربية تاريخها، عقدة الدونية كانت الحافز الأول الذي ينجم عنه اصدار أوامر الافساد، ففي نص مع مرافقه (كريس) يقول: (سيد كريس عليك منذ الان ان تنظم حملة واسعة كبيرة لدعم ظاهرة المثلية في العالم، خلال تظاهرات أو ندوات مستخدما الوسائل الاعلامية.. هنالك ميزانية مفتوحة بعدما تتصل بالسيد المثلي جورج فلايرون الداعم لهذه الظاهرة في تسخير شركة نتيفلكس ووالت ديزني.. في الترويج للظاهرة من خلال الافلام الكارتونية للأطفال والافلام..).

تأسيساً على ما ذُكر تتضح المهارة السردية عند الروائي الكبير (عبد الجبار الحمدي) في المقدرة الابداعية بوساطة التوليف ما بين فكرة النص القائم على تناول أهم قضية معاصرة وتداعياتها العالمية (المخطط الصهيوني للمحفل الماسوني)، وما بين الوظيفة المناطة بالشخصية الرئيسة، فأطرها بمبنى سويوكلوجي (نفسي)، لتكتمل الصورة المراد ايصالها للمتلقي؛ ومن هنا يحق لنا القوم أنّ هذه الرواية، مثلت بكل جدارة الوعي الأدبي المستنير، الذي يخرج النص من بودقة الجمال والفنية إلى المعرفية واستقراء الواقع المعيش بما يحيط به مخططات، رواية أنا شخصياً أعدّها من عيون الروايات العربية بجدارة؛ لأنّها نُسجت سردياً باحتراف منقطع النظير، وهذا بلا شك يُحيلنا إلى رؤية مفادها أن الروائي عبد الجبار الحمدي قلم سرديّ يستحق أن نطلق عليه بكل ثقة (روائياً من الطراز العالمي) دون أي مبالغة، فالحكم النقدي يُحتم عليّ القول بذلك بضرس قاطع.

***

بقلم: الناقد الأكاديمي د. محمد كتوب المياحي – العراق /ذي قار

 

رواية "الشيخ والبحر" منجز أدبي وثقافي رصين ومتكامل شكلا ومضموناً بأخذهِ بعداً عالمياً بثرائها الفكري والمعرفي الفلسفي ببنية معمارية هندسية، تقوم الرواية على محاور عدة عن الحياة والموت، والقوة والضعف، والذكاء والغباء، والتكييف والأندثاروالأرادة والخواء، والتأمل والأحباط، فهي تراجيدية تأملية فكاهية، وتبدوللناقد اللبيب في قراءة التناص السردي بأنها تراجيدية سوداء حزينة، والأرقى في ثيمات الرواية أن المؤلف الأسطورة همنغواي أوجد (التحديث) في الأ دب الأمريكي من البطل الكلاسيكي الواحد إلى ثمة حوارات متساوية من حيث العمق والشمولية خاصة مثل الموت والحياة والخيبة والفوز، لذا أكدت صحيفة " داجنزنيتر"  السويدية أن رواية " الشيخ والبحر " كانت وراء حصول همنغواي على جائزة نوبل عام 1954 .

كما أن روايتهُ الشيخ والبحر فازت قبل ذلك في عام 1953 بجائزة (بوليتزر) الأدبية العالمية، إضافة لتأييد معظم نقاد القرنين العشرين والواحد والعشرين والأعتراف بأنهُ واحد من أعظم الكتاب الذين أنجبتهم البشرية، وصاحب سبعة آلاف رسالة في مدى حياتهِ منذ 1907 حتى 1961 موته أنتحاراً، والتي وثقت تلك الرسائل بعد وفاته بكتاب تأليف ساندرا سباينر وروبرت تورجدون بعنوان " رسائل همنغواي " .

وإن همنغواي هو كاتب وصحفي أمريكي، يعتبر من أبرز الكتاب الأمريكيين في القرن العشرين أمتاز بأسلوبه البسيط المباشر الذي أثر بشكل كبير على الأدب العالمي، في مجمل كتاباته جسد معنى البسالة في الكلمة والحياة مؤكدا على (ثيمة) تمجيد قوة الأنسان وقدراته الخارقة، والتي هي القوة المطلقة للأنسان ومثابرته المتواصلة في مواجهة التحديات جعلت الرواية ترقى إلى قمة فنية من حيث العمق والرمزية والبساطة في العرض بشكل تأمل فلسفي في الصراع بين الأنسان والطبيعة،  وهوولادة 1899 – وتوفي منتحرا في 2 يوليو1961 .

حياة همنغواي كانت مليئة بالتجارب الشخصية والتي أثرت في كتاباتهِ بمشاركته في الحربين الكونيين الأولى والثانية كمراسل حربي وصحفي وصياداً بحرياً ومتسابقاً في مصارعة الثيران تلك أغنت الكاتب قوة وأصالة في السرد القصصي بواقعية حقيقية شخصية ملموسة .

أن تأثيرهُ العالمي لم يكن محصوراً في الأدب الأمريكي بل كان لهُ تأثيرعالمي واسع حيث تُرجمتْ أعمالهُ لأكثر من ثلاثين لغة ظهرت تاثيرها في سفر التراث الثقافي والعلمي العالمي .

ملخص الرواية

تعتبر الرواية من أشهر أعماله الأدبية وأكثرها أنتشارا وتأثيرا، كتبها عام 1952، والشيخ والبحررشحتْ همنغواي للحصول على جائزة نوبل، تحكي قصة صياد كوبي عجوز يدعى " سانتياغو " الذي يخوض معركة ملحمية مع سمكة  (مارتن) ضخمة يحاول أصطيادها بعد معاناة قهرية سوداوية وبعد فترة طويلة من الفشل والخيبة وصراع طويل ومرهق يتمكن العجوز من أصطياد السمكة بيد إنهُ يفقدها أثناء عودتهِ إلى الشاطيء عندما تعرض لهجوم من قبل أسماك القرش اللعينة التي قضمت معضمها .

مغزى الرواية

-الكفاح والصمود: الرواية تسلط الضوء على الصراع المستمر بين الأنسان والطبيعة وكيف يمكن للشخص من الأستمرار بالمحاولة رغم الفشل المتكرر، والرواية تجسد أن العظمة ليست بالأنتصار بل في الكفاح المستمر والدؤوب المكلل بالبسالة في مواجهة المصاعب .

- العزلة والوحدة: (سنتياغو) يعيش حياتاً لا يحكمها مفهوم الحق والباطل ولا مفهوم الأخلاق والمباديء والمثل العليا هي بالواقع تحت سيطرة القوة والضعف والذكاء والغباء والتكييف والأندثار وحيدا يواجه البحر (كعدو وصديق) في آنٍ واحد حيث هيجان البحرالمفاجأ المرعب حيث الظلمة والضياع في فوبيا عالم البحار عبر ملايين السنين من كائنات تفترس بعضها البعض .

وللأسف الشديد يا همنغواي عبرأكثر من ستين سنة عن غيابك تطورنا إلى عالم ليس فقط نفترس بعضنا البعض بل تحولنا إلى كائنات تفترس بعضها البعض ماديا ومعنويا ونفسيا وأخلاقياً وحقوقيا أيضا، أما جانب الخير فالبحر مصدر خير للبشرية لأحتوائهِ كنوزا ثمينة للعيش، البحر يعكس الحياة بكل صراعاتها ومفاجئاتها، وتظهر الرواية رغم عزلة ووحدانية (سانتياغو) وخسرانه السمكة الثرية الضخمة (مارتن)  سوف يعاود فجر اليوم التالي الأستمرارية  لحرفة الصيدالبحري المحفوفة بالمفاجئات .

- المثابرة والكرامة: أن همنغواي يبرز فكرة: أن الكرامة والمثابرة لا تتعلق بالنتيجة النهائية بل بالجهد المبذول المكلل بالشجاعة في مواجهة التحديات، وبأيجاز الرواية تمثل صورة (رمزية) للصراع البشري الأزلي مع الطبيعة والحياة والموت والأنتصار والخيبة . 

أسلوب " همنغواي " في السرد النصي للكتابة!؟

الروائي الأمريكي " آرنست همنغواي " حصل على جائزة نوبل عام 1954 بأستحقاق ما أنجزهُ، حيث وصفت اللجنة الرواية بأنها: عمل وأنجاز فني للسرد المتميز لهمنغواي، وأستندت لجنة الجائزة إلى عدة عوامل أستحقاقية لهذه الجائزة

- أسلوبه في الكتابة البساطة دون اللجوء للزخرفة بل نحو أستحضار العالم من منظور خاص وربما همنغواي عاصر زمنين نهاية القرن 19 وبداية القرن العشرين (1899-1961) في معايشته عصرين الكلاسيكي والحديث وخاصة في روايته الملحمية الشيخ والبحر زاوج بين الزمنين بشفافية عالية وبساطة مفعمة بالتفاصيل، وركزت على التصور الدقيق للعواطف والمواقف البشرية وهذا الأسلوب بات يعرف في عالم الأدب العالمي بـ(ا لنمط الهمنغوائي) أثر بشكل كبير على الكتابة الأدبية للقرن العشرين .

- ويمكن أعتباررواية الشيخ والبحر رواية دائرية - كما وصفها نقاد عصره وزمانه – والتي وُصفتْ بالرواية (البيكارية) نسبة للروائي الأسباني بيكارو الذي يعتمد سردهُ للكتابة بالتشرد والضياع والبؤس والخوف ومزيد من القلق والمستقبل المجهول وهو ما عاناهُ البطل في رواية الشيخ والبحر بذلك الصراع الرهيب بين الحفاظ على الصيد الثمين للسمكة الضخمة الكبيرة والثمينة (مارتن)ومقاومة العدو المزدوج (البحروالقرش) وهو سرد أدبي نصي يتغيرفيه الحدث بتغير الزمكنة .

- في أجواء الرواية الأسطورية المعتمدة على التوليف الجميل والرائع بين الواقع ومسحة من الفنتازية السحرية وبحبكة درامية أوصلنا همنغواي بالشعور بأنها ترقى لرواية تراجيدية ذات نهايات حزينة ومقلقة حيث تمكن هذا العجوز المعجزة من التأثير المباشر في تحريك خيوط اللعبة دراماتيكيا في ملامسة أحاسيس ومشاعر الذات البشرية وهو يروي وقائع حقيقية سوداوية وتحويلها بقلمه الساحر لمقاومة وأصرار وتحدي للأعداء البحر وأسماك القرش وعامل الزمن .

-إن فن كتابةُ الرواية فن من فنون الكتابة تضاف لها الموهبة ولم تتوقف على هذه الأسس لدى الروائي همنغواي بحيث أضاف لها التجديد في نقلة نوعية للأدب الأمريكي في خوض الحداثة للأدب الأمريكي ببراعة فائقة بناءً ومادة وتكنلوجية مع مقاربات في التطور السوسيولوجي الجمعي للوصول إلى إعادة بناء الأنسان الحداثوي بصيغة أممية وليست خاصة بجغرافية أمريكا فقط لكون لرافعته السردية للأدب هي (الأنسنة) .

-  مُنح همنغواي الجائزة بأستحقاقاته العلمية والمعرفية المنطقية الموضوعية بمهنية أحترافية واقعية خاضها بنفسه حيث  كان هو بطل الرواية أولا وأخيرا، وكان همنغواي مهوسا بحبه للمغامرة والسفر والمشاركة في عدد من الحروب كصحفي أو مراسل حرب والمشاركة في بعض الصراعات مما أثر بشكل مباشر على أعماله الأدبية .

- حصل همنغواي على كاريزمية واسعة من نقاد الأ دب الأمريكي والأجيال اللاحقة بعدهُ لغزارة ثقافاته الفكرية المعرفية في نتاجاته (وداعا للسلاح) رواية تحكي عن تجربة ضابط أسعاف أمريكي خلال الحرب العالمية الأولى وقصة الحب بينه وبين ممرضة بريطانية تعتبر من أشهر روايات همنغواي عن الحرب والحب، و(لمن تدق الأجراس)؟ تدور أحداثها في زمن الحرب الأهلية الأسبانية  حيث تتناول موضوعات التضحية والحياة والموت، ومنجز كتاب (الشمس تشرق أيضا) تناول حياة مجموعة من المغتربين الأمريكيين والبريطانيين في أوربا بعد الحرب الأولى وتعتبر نموذجا للأدب الذي يعبر عن الجيل الضائع .

- أسلوب همنغواي في السرد النصي الأدبي يجمع بين الحدث التأريخي والواقعية السحرية، ويبدو لنا عالم همنغواي متحف موسوعي يجمع أتجاهات النقد الأدبي بتأريخيتهِ وبنيويته الرصينة بغياب الفنتازيا في الشكل والمضمون تبدو واضحة في روايته " الشيخ والبحر " حيث تناقض الأضداد في القوة والضعف والأغتراب والتفاؤل وأحلام الديستوبيا واليوتوبيا .

- وأكد في روايته المشهورة الشيخ والبحر ثيمة الصراع الطبقي بين العجوز وعدوه الصديق (البحر) والرواية تبشربيوم جديد يستطيع فيه الأنسان أن يروض تحديات المستقبل ملوحا بالسلام العالمي لكوكبنا الجميل وللبشرية جمعاء وللآنسان بالذات لكونه أثمن رأسمال .

***

عبد الجبار نوري أبورفاه

كاتب وناقد أدب عراقي مغترب

في أكتوبر 2024

 

هدية: وضعَ الصديقُ العزيز الشاعرُ الكبيرُ (عدنان الصائغ) بينَ يديَّ (الطيبتين) – كما نعتهما- ؛ لذوقِهِ الرفيعِ- هديّتَهُ القيِّمةَ، وهي إصدارُهُ الشعريُّ الأخيرُ (ومضاتــُ... كِ) الصادر عن دارِ لندنَ للطباعة والنشر، بالاشتراكِ مع دارِ سطور عام 2024.

فلَهُ الشكرَ منْ قبلُ ومنْ بعدُ، وفائقَ التقدير؛ على هذه الهدية الثمينة، الأغلى والأغنى والأدسم.

***

يتألّفُ ديوان (ومضاتُـ... كِ) للشاعر عدنان الصائغ مِنْ ومضاتٍ شعريةٍ، وكتبٍ، ومقامات، وأبوابٍ، وغيرها، مكتوبةٍ في فتراتٍ، وأماكنَ جغرافيةٍ، ومدنٍ وبلدان مختلفةٍ، وسنواتٍ متباعدةٍ، وبعضُها مِنْ دواوينه السابقة. يجمعُ غالبيتَها الشكلُ (ومضات)، والعناوينُ التي تتكوّنُ مِنْ حروفٍ معتدلةٍ ومقلوبةٍ أحياناً تحتها، وهي الحروفُ التي تبدأ بها الكلمةُ الأولى أو لفظةٌ داخلَ النصّ. كما تتنقّلُ بين مضامينَ متنوعةٍ، منها غزلياتٌ تحملُ في أروقتها معانيَ أبعد من الذاتيات:

ل

لا يريدُ أنْ يُفارقَهما النايُ:

شفتيكِ المضمومتين عليه

أَلهذا يظلُّ يَتَأَوَّدُ

بينهما

ويَئِنُّ

*

ك

كما لو أنَّ تغنُّجاتِ نايِها

وعدٌ

متقطِّعٌ

بقبلةٍ

*

إ

إنْ تضعي

شفتيكِ على شفتيَّ

ستسمعي

ترقرقَ الخمرةِ في جداااااولِ قصائدي ورووووحي

يقووووولُ النايُ

وهناك ومضاتٌ ذاتُ أبعادٍ ودلالاتٍ وإشاراتٍ بعيدةٍ عنْ ظواهر ألفاظها، وما تعبِّرُ عنه وتصوِّرُه في تراكيبها، ومباني تلك الألفاظِ اللغوية. لكنْ إنْ عرفنا مكانَ ولادتها (كتابتها) يمكنْ لنا بتأمُّلٍ واستنطاقٍ للنصّ أنْ نصلَ الى المُبتغَى بالتأويل، والدلالةِ المختفية في ثنايا ردائها:

غ

هبطَ الغبارُ على الغبارِ

فلا غبارَ

على الغبارِ

هنا نستطيع أنْ نُخمِّنَ بما وراءَ رَمْي الشَّاعرِ بسهمِ ومضتِهِ مِنْ نَبْلِ ذِكْرِه لـ(الغبار) وتكراره، إنَّه في معرض الكتاب الدولي- القاهرة ؟! فلْنتخيَّلْ هدفَهُ، ولْندخلْ في مكامنِ التأويل، وعالم الشاعر الفسيح! الغبارُ على الكتبِ إشارةٌ، وترميزٌ عنْ أنّها عالقةٌ في رفوفِها، لم تمسْها يدٌ، ولم يفتحْها أحدٌ مُقلِّباً قارئاً، بمعنى آخر عزوفُ الناس عنِ المطالعةِ والقراءة، وأكثرُ منْ ذلك بيانُ ما آلَ إليه الناسُ في هذا الزمنِ منَ الابتعاد عن العِلْمِ والمعرفةِ وتثقيف الذات، إنّه نقدٌ، وتقديمٌ في إطارٍ فنيٍّ شعريّ لجانبٍ سلبيٍّ في عصرنا؛ لإحداثِ الأثر المطلوب.

كما قسّم الصائغ فصولَ الديوان أيضاً على كتب:

كتاب أُريدكِ

كتاب الجمال

كتاب اللغة

....وهكذا....

كتاب المدن والأسفار

وعدَّدَه على شكل مقامات:

(1)   مقام تأبَّط منفى أمام قبر ابن بطوطة

(2)   مقام Ponte Dei sospiri

The Bridge of Sighs

على جسر التنهدات؛....

صورةٌ للسجين؛ يقلّبُ في الموجِ صَفْحَاتِ  مَنْ سبقوهُ إلى

المِقْصَلَةْ

(3)   مقام مدريد....

(4)   مقام حانة مالمو

وهكذا في مقامات عديدة متواليةٍ...

ثم تأتي توالياتُ الكُتُبِ:

كتاب ثقافة التفاهة

كتاب الطُرُق

كتاب البحر...

وهكدا دواليك من الكتب والمقامات. وتحت بعضها فصولٌ، وومضاتٌ بعناوينَ مِنْ حروف، كما ذكرنا.

وبالعودة الى عنوان الديوان ورَسْمِ كتابتهِ (ومضاتُـ... كِ):

إنَّ عنوانَ أيِّ ديوانٍ، أو قصيدةٍ، أو نصٍّ أدبيٍّ- هو عَتَبَةُ الدخول إلى مَتْنِهِ، ويكونُ نصّاً موازياً للنصٍّ الأساس في البناء –كما يقولون-. وهو تهيئة المتلقي إدراكيّاً ووعياً لِما يحتويه المتنُ قبل وُلوجِه الى داخل أروقته. والعنوان، سواءً أكانَ لفظاً أم تركيباً، أم جملةً، أم علاماتٍ- هو إشارةُ إجلاءٍ (ترميز)، وخطوةٌ مرسومة منَ المؤلفِ، ودلالةُ معنىً، لِما يحتويه مضمونُ النصّ، أو  مضامينُ النصوصِ في المتن.

اسمُ الديوانِ (ومضاتُـ... كِ):- فيه تفكيكٌ لكلمة (ومضاتُكِ)، وهو تفكيكٌ مقصودٌ منَ الشّاعر؛ إنَّه بفكّهِ ارتباطَ (كاف) الخِطَابِ (كِ) الموجّه لأنثى عن (ومضاتُ)، والتفريق بينهما بثلاث نقاط، وهو ترميز وعلامة على كلام محذوف من النصّ. بمعنى أنَّ هناك كلماتٍ سابقةً على كاف الخطاب الموجَّهِ لأنثى؛ بدلالة الكسرةِ تحت الكاف (كِ). وبالتأكيد هذه المُخاطَبَةُ منَ الشاعر هي الحبيبةُ/المعشوقةُ – إنْ كانتْ شخصاً أو طيفاً روحياً صوفيَّ التجلّي والوَجْدِ.  ومِنْ خلال هذه العلاماتِ في الكلمةِ وترميزها السيميائي، ومتنِ الديوان، وما يتناوله الشاعرُ من معانٍ وأغراضٍ وأحداثٍ، يُمكِّننا مِنْ اكتشافِ الكلام المحذوف بين (ومضاتُـ) والكاف: إنَّها الأغراضُ الواردة في النصوص داخل الديوان: التاريخية، السياسية، الدينية، الأحداث الكبرى التي مرَّ بها الوطن، وما مرَّ به الشاعرُ وشاهدَهُ في رحلاتهِ الكثيرة حول العالم، وربطها ذاتياً وجَمْعياً، وفكراً، وفلسفةً، وتاريخاً، وأحداثاً عظيمةَ التأثير والنتائج (القنبلة الذرية على هيروشيما والتي سنأتي على ذكرها نموذجاً لاحقاً)، إضافةً وفي البدء جمالياً. أمّا العِشقِياتُ فقد جعلها في الأخير من خلال رمز كاف الخطاب، مع الإشارة العلاماتيةِ بإبرازه للكاف في العنوان، الى جانب بورتريه الغلاف: صورة فتاةٍ تحمل وردةً حمراءَ في يدها (رمز الحبّ). وهو من رسم الفنانة الإسبانية اميليا دياث باندا. وصورة الغلاف لأيِّ ديوان هي علامةٌ أخرى، وترميز مهم في دلالةِ العنوان، وما يحمله المتنُ مِنْ مضامين.

لكنْ يبقى التساؤل: لماذا ركَّز بالذات على الأنثى (كِ)، فما تقدّم من لفظٍ (ومضاتُ)، إشارةٌ الى أنّ الديوان يحتوى ومضاتٍ شعريّةٍ. بالنظر المُستَكشِفِ الاستقرائيِّ لكلمة (ومضات)، نستطيعُ أنْ نستنبطَ فيها التوريةَ بين معنين: الظاهر والمستتر. ومضة معناها لمعانٌ وبريقٌ خاطف، والمعنى الآخر المُستَخدَمُ شعرياً هو لقطة شعرية خاطفة قصيرة جداً؛ لإثارةِ إحساس القارئ وتذوقهِ وخطفِ اهتمامه، وترك تأثير النصّ في نفسهِ ، مثل بريقٍ يخطفُ الأبصار. وهنا استخدم الشاعر (الصائغ) الماهر التوريةَ بمعنييها: الشعري، واللمعان والبريق البصري، ولذا عمد الى إضافةِ كاف الخطاب بعدَ إبعاده عن (ومضاتـ...)، بمكرٍ فنيٍّ شعريّ، ليقول للقارئ ما يحتويه الديوان من ومضات شعريّة، ثمّ أدخلَ بالإضافةِ كاف المُخاطَبَة، فالديوان مهدىً (لها)، وفي عين الوقت فيه ومضاتٌ تتغزَّلُ بها. والدليلُ هو بورتريه الغلاف: فتاة يلمعُ – بياضاً - ويبرق جسدُها جمالاً وفتنةً وسحراً، وبيدِها وردةُ الحبِّ. إنّها لعبةُ الشاعر الفنيّة؛ لإثارةِ فضول المُتلقّي وإغرائه، ليُبحِرَ بزورقِ ذائقتِهِ في متنِ الديوان، وإنْ كانَ اسمُ (عدنان الصائغ) وحدَهُ  كافياً!

وفي مَتنِ الديوان؛ وأصرُّ على تسميتِه بديوان (تاريخ) الحروف والومضات، والأمكنة، والأزمنة، والشخصيات المذكورة في ثنايا النصوص، والموضوعات (الأغراض الشعرية). إنّه تاريخٌ ذاتيٌّ، جمعيٌّ، تسجيليٌّ، فكريٌّ، روحيٌّ، لغويٌّ، صوفيٌّ، شعريُّ المَبنى والمَعنى والصُوَر، شكلاً ومضموناً؛ ألم يقولوا قديماً بأنَّ الشعرَ ديوانُ العرب! فهذا الديوانُ هو ديوانُ (عدنان الصائغ) بقضِّهِ وقضيضِهِ. يحتاجُ الى دراسات أكاديمية ونقدية متخصصة منهجيةٍ، في كلِّ بابٍ مِنْ أبوابهِ، وفيه من السيميائيات الكثير، يمكن للباحثين استكشافها واستخراجها والإشارة إليها، وهو ما نتوقع حصوله طبعاً وبكلِّ تأكيد. وهذا ما يرمي اليه الناشرُ منْ خلال العمل على أنْ يكونَ في متناول أيدي الباحثين والمتخصّصين في أنحاء العالم كافةً، وعلى الخصوص مراكز الأبحاث العلمية والتوثيقية في بريطانيا. ويكونُ محفوظاً في المكتبات الكبرى والجامعات في بريطانيا، كما ذُكرَ في نهاية الديوان.

إنَّ المضامينَ والأغراض التي دارَ حولها الديوانُ متعددةٌ: بين الغزليات عديدة الدلالات، والروحانيات الشرقية، والنَقْديات السياسية والدينية، والمرور بالأحداث الكبيرة التي مرَّت بالوطن والأمة والعالم. ومما يُمكن الإشارةُ اليهِ نموذجاً ومثالاً مِنْ موقفٍ نقديٍّ فيه حكمةُ الناظرِ المُبصِرِ هي الومضاتُ التالياتُ:

كتاب الحياة

ح

خَبرتنا

الحياةُ وخَبرناها

مثلَ لا عبَين بَرِمَين ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

يُعيدانِ اللعبةَ نفسَها

في مقهى بلا زبائن ولا أقداح ولا نرود

*

كتاب السياسة

ج

الجماهيرُ العمياءُ

قوةٌ هادرةٌ

يحرِّكُها نصٌّ

لكنْ قد يُسحقُ هذا النصُّ حينَ تمرُّ به الجماهيرُ

*

كتاب الربّ

خ

خرجَ

الإنسانْ

من عصرِ الحَجَرِ الَصوَّانْ

ليدخلَ – جَبْراً أو قَدَرَاً –

بكهوفِ الأديانْ

ولمّا يخرجْ منها للآنْ!

ألِأنَّ الدينَ سباتٌ غيبيٌّ. لا عقلَ. ولا سُؤلَ ولا برهانْ!

*

كتاب التاريخ

ت

التاريخُ؛

عندما لا تقراُهُ بجِدٍّ،

يُعيدُنا إلى سبورتِهِ، بصفعاتٍ أشدّ

*

كتاب الأرض

ل

لم تكنْ مُرَّةً هذهِ الأرضُ

لكنَّ مَنْ

مرُّوا بها

مرَّروها

*

ك

كيفَ

أصدِّقُ!

ربَّاً أو حزباً أو مخلوقاً؛

يأمرُ – [أو يتغاضى أو يرضى]- بالقتلِ!

ذكرنا سابقاً بأنّ هذا الديوانَ هو تاريخُ الشاعرِ، في ترحاله وتجواله وأسفاره في خارطة الشعر الواسعة، وعلى خارطة العالم، ليُسجّلَ لنا شعرياً ما مرَّ به منْ مضاربِ الشعر الداخلية وَحْياً وتحليقاً، ومنْ ترحاله جغرافياً باحثاً مستكشفاً فكراً وفلسفةً وروحاً وحوادثَ؛ لتكوِّنَ تجارِبَ غنيّةً، ألقتْ مرساها في وادي شعرهِ نصوصاً غنيةً بالمعرفةِ والإحساسِ ومعايشةِ المتلقي معه؛ لما اختزنه واكتنزه من روحانيات وتجليات هذه التجارب والأسفار الكثيرة والكنوز الثرية. وهنا لا بدَّ لنا أن نمرَّ على نموذج منها؛ لنغتني نحن أيضاً، ومنْ "كتاب المدن والأسفار" الذي قسّمه الى مقاماتٍ:

(8) مقام اليابان

في

هيروشيما؛

آهْ ...

سقطتْ قنبلةٌ

فتكَرْكَبتِ الأرضُ

وتهدَّلَ

وجهُ اللهْ

ديوان (ومضاتـُ... كِ) للشاعر الكبير عدنان الصائغ محيطٌ؛ في أعماقِهِ الدرُّ كامنٌ، درٌّ بألوان القوس وقزح. بإمكان الغوّاصين المحترفين الماهرين أنْ يصطادوا ما يشاؤون، ويستكشفون، ويرون؛ لتقديمها على طبقٍ برّاق من كؤوسٍ عابقاتٍ بنبيذ شهيٍّ، وثمارٍ من فاكهةِ الشعرِ الدانيةِ قطوفُها، ليقدموها للظامئين الى سَكْرةِ الشعرِ والغيابِ في عالمِه الجميل الحالم.

***

عبد الستار نورعلي - السويد

الأربعاء 25 أيلول/سبتمبر 2024

 

بقلم: إد سيمون

ترجمة : د. محمد عبد الحليم غنيم

 في الصورة أعلاه: إد سايمون يتأمل ظاهرة قتل النفس (والآخرين) باسم الأدب

***

في صباح عام 1807، استقر مهاجر ألماني شاب يدعى بيرتيل، البالغ من العمر عشرين عامًا، على ضفاف نهر هدسون الرملية في منطقة سيكاوكوس في نيو جيرسي، وقام بعناية بفتح نسخة من كتاب مواطنه يوهان وولفغانج فون غوتة، أحزان الشاب ويرثر (الذي نُشر قبل أكثر من ثلاثين عامًا) إلى الصفحة 70، حيث كان هناك مقطع تحت الخط يقول: "إنهم محمَّلون—تدق الساعة الثانية عشرة—أذهب"، وضع مسدسًا على رأسه، وضغط على الزناد.

وصف الذين اكتشفوا جثة بيرتيل بأنه "كان يرتدي ملابس أنيقة"، ربما مستوحاة من شخصية بطل كتابه المفضل، حيث كان يرتدي الأحذية عصرية، والسروال الأصفر والصدرية التي كانت ترتديها الشخصية الرئيسية في كتابه المفضل. على الأقل هذا ما تم الإبلاغ عنه عن ملابس العديد من ضحايا "تأثير فيرتر"، الذين قاموا بالانتحار على غرار بطل رواية جوته. في ألمانيا وإنجلترا، وفرنسا وأمريكا، وقعت موجة من حالات الانتحار تشبه حالة بيرتيل: رجال لم يتجاوزوا مرحلة المراهقة، ألهمتهم عملية تدمير الذات التي قام بها بطل جوته الرومانسي.

دفعت رواية "أحزان الشاب فيرتر" من جوته الذي كان يبلغ من العمر خمسة وعشرين عامًا عند نشرها قبل 250 عامًا، إلى قمة النجومية الأدبية. ولقد اجتاحت "حمى فيرتر" أوروبا، بدءاً من نابليون بونابرت الذي كان يحمل نسخة من الرواية في حملته على مصر إلى العطر الذي كان يُسوَّق باسمها. تتناول رواية جوته المدونة بالأسماء المبطنة النهاية المؤسفة لبطلها الشاعري، الذي يرفضه النبلاء لأنه يُعتبر عاديًا للغاية، بالإضافة إلى حبه غير المكتمل لامرأة مخطوبة لرجل آخر. كتب غوتة: "الجنس البشري ليس سوى مسألة رتيبة، معظمهم يعملون الجزء الأكبر من وقتهم من أجل مجرد البقاء".

لم يكن الخوف من "آلام الشاب فيرتر" بالضرورة من أنه سيعطيك أفكارًا خاطئة حول الدين أو الدولة... بل كان الخوف من أنه قد يصيبك بالعدوى.

تُعتبر الرواية من المكونات الأساسية للرومانسية، لأن مغامرات الشاب فيرتر تجسد العديد من السمات التي نربطها بالرومانسية - مثل الكآبة، والعاطفة، واللاعقلانية، فضلاً عن الإيمان بأن الحياة يجب أن تُعاش كما لو كانت عملاً فنياً. وقد انتهت الرواية بمثل هذه النتيجة، حيث أسفرت الانتحارات الناتجة عن ذلك عن إشارة غامضة تفيد بأن الأدب، أكثر من كونه مجرد ترفيه سطحي، هو في حد ذاته خطر، وله قوة.

ولكن على الرغم من حظرها في إيطاليا والدنمرك، حيث فرضت مدينة لايبزيج الألمانية قيوداً صارمة على الزي الرسمي الذي يرتديه فيرتر، فإن تحفة جوته لم تكن المثال الأول لاتهام الأدب بالتأثير الضار. فقد انتقد سقراط الكتابة بزعم أنها تؤدي إلى تآكل ميل البشر إلى الذاكرة (رغم أن الحكيم نفسه أعدم بتهمة إفساد شباب أثينا). كما حظر تلميذه أفلاطون الشعراء في جمهوريته المثالية، حيث لن يسمحوا "للإلهامات المعسولة بالدخول، سواء في الشعر الملحمي أو الغنائي". وفي القرن الأول الميلادي، نفى الإمبراطور أوغسطس الشاعر الروماني الشهواني الحسي الإيروتيكي إلى البحر الأسود، عقاباً له على "قصيدة وخطأ"، رغم أن هذه العبارة تُعقّد التهمة.

لكن اللغة المستخدمة في التنديد برواية جوته لم تكن تتعلق بالخيانة أو الهرطقة، بل بالعدوى. ولم يكن الخوف من "آلام الشاب فيرتر" بالضرورة من أنها قد تمنحك أفكاراً خاطئة عن الدين أو الدولة (ولو أن هذا ربما كان ضمنياً)، بل كان الخوف من أنها قد تصيبك بالعدوى، وأن تأثيرها كان وبائياً بقدر ما كان فكرياً. وكان ذلك أول ذعر أخلاقي أدبي حقيقي.

ولم نعد نفتقر إلى مثل هذه العناصر منذ ذلك الحين، حتى مع أن موسيقى الديث ميتال، وموسيقى الراب، وموسيقى مورتال كومبات، حلت محل جوته المزعج كمكان للحديث اليوم. ولا تزال الحياة الطويلة التي خلفها تأثير فيرتر تنشط الطريقة التي نفكر بها في الأدب، حتى مع "القصص المصورة والرسوم المتحركة، والمسرح الشعبي، والسينما، والموسيقى الروك، وأفلام الفيديو المزعجة، وألعاب الكمبيوتر، [و] المواد الإباحية على الإنترنت"، كما ذكر ستانلي كوهين في كتابه "شياطين الشعب والذعر الأخلاقي"، والتي حلت محل فيرتر. ويكتب كوهين أن هناك "تاريخاً طويلاً من الذعر الأخلاقي بشأن التأثيرات الضارة المزعومة للتعرض لوسائل الإعلام الشعبية والأشكال الثقافية"، حتى في حين يؤكد أن "الغموض المستمر الذي يكتنف الأدلة على مثل هذه الروابط يتم تعويضه بشكل مفرط من خلال النداءات الواثقة".

تتضمن هذه الاستدعاءات الواثقة شهادة السيناتور روبرت هندريكسون أمام لجنة فرعية تحمل اسمًا مثيرًا حول الجريمة المراهقة في عام 1953، حيث افترضت أن غلافًا مثيرًا لمجلة Crime Suspense Stories، الذي يظهر رأس امرأة مقطوع، قد يشجع على النزعات القاتلة. في الثمانينيات، اتحدت المحامية النسوية كاثرين ماكنون مع منظمة 'النساء المعنيات بأمريكا' المحافظة لتأكيد أن الإباحية تعزز ثقافة الاغتصاب. كما انتقدت تيبر جور والموارد الموسيقية للآباء في عام 1985 الفنانين برنس، وجودس بريست، وAC/DC، وTwisted Sister بسبب كلماتهم الجنسية المذلة. ومع ذلك، لم تتمكن أي دراسات تجريبية حتى الآن من إثبات وجود رابط قاطع بين ما تمثله وسائل الإعلام وما قد يدفع قراءها إلى القيام به.

ومع ذلك، هناك بعض الأمثلة المروعة المستندة إلى الشهادات الشخصية. خلال أواخر القرن التاسع عشر، كانت الروايات المعروفة باسم "بيني دريدفل"، المطبوعة على ورق أصفر رخيص، تُستخدم في كثير من الأحيان كأدلة في محاكمات القتل. فقد وُجّهت أصابع الاتهام إلى روايات مثل سر قلعة كوسي ومغامرة بوبي كوكني الكبرى—وهي أعمال رخيصة، سيئة الكتابة، ومنتجة بشكل جماعي، غالبًا ما تتاجر بالجرائم الحقيقية—في قضية قتل إميلي كومبز على يد ابنيها قبل سن البلوغ في لندن عام 1895. كما اتُهمت روايات أحزان الشاب فيرتر أيضًا بالتحريض على الانتحار، مثل حالة طفل في الثانية عشرة من عمره في برايتون عام 1892 ومزارع في وارويكشير عام 1894. وقد خلص حكم هيئة المحلفين في تلك القضية الأولى إلى أن وفاة الصبي كانت نتيجة لـ "روايات رخيصة"، وهو تقييم أكثر قسوة مما ناله غوته. ورغم أن الأدب التقليدي قد تراجع أمام السينما والرسوم الهزلية وألعاب الفيديو والموسيقى المسجلة، إلا أن الكتب ما زالت تُظهر، على ما يبدو، قوة مغناطيسية وسحرية في إقناع قرائها بارتكاب ما لا يُمكن تصوره."

تقول إحدى الشخصيات في رواية الجامع للروائي الإنجليزي جون فاولز، التي صدرت في عام 1963: 'الفن قاسٍ. يمكنك أن تفلت من جريمة قتل بالكلمات.' لقد حاول العديد من قراء الجامع، وهي قصة مؤلمة حول طالبة فن تم اختطافها وتعذيبها جنسيًا على يد مطارد، أن يفروا من جريمة القتل في الواقع أيضًا. فقد وُجدت نسخ من الجامع بحوزة القتلة المحترفين روبرت بيرديلا جونيور في عام 1985 (مذنب بارتكاب ست جرائم قتل في أنحاء مدينة كانساس)،وكريستوفر وايلدر في عام 1984 (الذي ارتكب ما لا يقل عن ثمانية جرائم قتل في أستراليا)، وليونارد ليك وتشارلز إنج، اللذان وصفا رواية فاولز بأنها "فلسفتهما"، حيث أطلقا اسم المرأة المختطفة في الكتاب على عمليتهما (حيث اغتصبا وعذبا وشوها وقتلا خمسة وعشرين امرأة ورجلاً في كاليفورنيا).

إن رواية بريت إيستون إليس الشهيرة "سايكو أمريكي" التي صدرت عام 1991، والتي تدور أحداثها حول رجل الأعمال باتريك بيتمان الذي يقتل الناس بسهولة بقدر ما يتلاعب في صفقات الدمج والاستحواذ، يمكن تفسيرها بحق على أنها محاكاة ساخرة لتجاوزات السوق الحرة في الثمانينيات. وبأسلوبها المقزز في تصوير التجارب الحية، وُجدت "سايكو أمريكي" أيضًا على رفوف القاتل الجماعي الأسترالي ويد فرانكوم والقاتل الكندي بول برناردو. يقول بيتمان: "أشعر بألم مستمر وحاد ولا أتمنى عالماً أفضل لأي شخص. في الواقع، أريد أن يلحق الألم بالآخرين"، ويبدو أن بعض القراء في رواية "سايكو أمريكي" قد وجدوا في هذه الكلمات صدىً قويًا يلامس أعماقهم.

لقد دعا بعض المؤلفين في مناسبات عديدة إلى سحب أعمالهم، حيث يشعرون بالصدمة عندما يكتشفون أن إحدى رواياتهم كانت موجودة على منضدة سرير قاتل سادي. فقد استلهمت ستة من حوادث إطلاق النار في المدارس جزئيًا من رواية ستيفن كينج الغضب التي صدرت عام 1977، مما دفع الكاتب للمطالبة بسحبها من الطباعة، وقد استجاب الناشر لذلك. كما وصف أنتوني بورجس روايته برتقالة آلية، وهي دراسة ذكية ومزعجة للسلطوية والعنف، بأنها "مقززة"، بينما ضغط ستانلي كوبريك، مخرج التكيف السينمائي، على سحب الفيلم من دور السينما البريطانية بعد تقارير عن عمليات سطو واغتصاب واقتحامات للمنازل وجرائم قتل مستنسخة.

لا ينبغي أن نعتقد أن العقلانية أو السذاجة لها علاقة بتبريرات الوعي المريض للفظائع، فبعد كل شيء، كانت رواية ج. د. سالينجر المؤثرة حول فقدان البراءة في الحارس في حقل الشوفان هي التي ألهمت مارك ديفيد تشابمان لاغتيال جون لينون أمام مبنى الداكوتا في إحدى أمسيات نيويورك الباردة عام 1980. وكان ذلك بعد اثني عشر عامًا فقط من تفسير تشارلز مانسون لكلمات لينون في الألبوم الأبيض على أنها تعليمات للقتل.

إن رؤية الكتب على أنها غير قادرة على إحداث الخطر هو بمثابة فهم أنها غير قادرة على ممارسة أي سلطة على الإطلاق.

يقول القاتل والمغتصب أليكس في رواية "البرتقالة الآلية": " لا داعي لأن تأخذ الأمر إلى أبعد من ذلك، يا سيدي' وهو يتوسل بينما تُربط جفونه للخلف ويُجبر على مشاهدة مقاطع فيديو مروعة من قبل الأطباء النفسيين. 'لقد أثبت لي أن كل هذا العنف المفرط والقتل خاطئ، خاطئ، وخاطئ بشكل فظيع. لقد تعلمت الدرس، سيدي.' ما الذي ألهم أليكس لارتكاب الاغتصاب والقتل في "البرتقالة الآلية" - بيتهوفن، فاجنر؟ هل أثرت رواية بورجيس على المراهق ريتشارد بالمر لقتل متشرد في بلتشلي بإنجلترا عام 1972، كما زعمت صحيفة الديلي ميل؟ ماذا عن رواية ""سايكو أمريكي" أو "الغضب" أو "الجامع "؟ هذه الأسئلة ليست قانونية فقط، بل تتعلق أيضًا بالأدب والفلسفة، وحتى اللاهوت.

تدعي النزعة الرقابية أن الأدب يمكن أن يكون له تأثير ضار، بينما ترفض الروح الإنسانية والليبرالية هذه الرؤية، متمسكة بالموقف العقلاني الذي يقول إن 'الكتب وحدها' ليست مسؤولة عن أي جريمة. بشكل عام، هذا هو الموقف الذي أميل إلى الاتفاق معه، ولكنني أتذكر بعد ذلك عدد الوفيات التي كان الكتاب المقدس مسؤولاً عنها.

من العدل تمامًا عند فحص الكتب التي قرأها قاتل ألا نربط بالضرورة بينها وبين سلوكه؛ فمن المحتمل أن جميع هؤلاء القتلة الذين يمتلكون نسخًا من (الجامع أو سايكو أمريكي) كانوا سيظلون قتلة حتى لو لم يكن لديهم بطاقات مكتبة. تكتب نيكي دي فيليبس في موسوعة أكسفورد للأبحاث في علم الإجرام والعدالة الجنائية أن "الرابط السببي بين التعرض للوسائط وسلوكيات الجرائم العنيفة لم يتم التحقق منه بعد"، بينما يستنتج مكاي روبرت ستيفنز من جامعة بريجهام يونج أن الدراسات "فشلت في العثور على تأثير كبير لقراءة الأدب العنيف على الإدراكات العدوانية."

ولكن لو كنت في موقف بيرجيس أو فاولز أو كينج، مدركاً أن حياة البشر قد اختصرت بسبب جمل كتبتها، وأن البشر قد أُبيدوا بأساليب قاسية بسبب قصص نسجتها، فكم من العزاء قد تجده في موسوعة أكسفورد للأبحاث في علم الجريمة والعدالة الجنائية؟ الحقيقة هي أننا نتوقع ونرغب وندعي أن الأدب قادر على تغيير الحياة—وهو ما أعتقد أنه صحيح. لماذا يجب أن يكون هذا فقط عندما يتعلق الأمر بتغيير الحياة نحو الأفضل؟

إن السياسة الثقافية تنخرط عادة في ساحة من المواقف المانوية وسوء النية. وعندما يتعلق الأمر بمعضلة ما إذا كان من الممكن ترجمة الكلمات القبيحة إلى أفعال أكثر قبحاً، فإن المحافظين عادة ما يكونون أكثر من سعداء بإخراج قلم الرقيب الأسود، في حين يدافع الليبراليون تاريخياً حتى عن وسائل الإعلام المسيئة باعتبارها "مجرد ألعاب فيديو"، و"مجرد موسيقى"، و"مجرد كتب". وأنا أتمسك بقوة بالإيمان بحرية التعبير، ليس لأن اللغة ليست خطيرة أبداً، بل لأنها حق إنساني لا يمكن المساس به. ولكن القول بأن الكتب لا ينبغي أن تُحظر لأنها "مجرد كتب" يبدو لي وكأنه ينزع الشرعية عن فكرة الأدب ذاتها.

إننا نتمنى أن تكون الكتب بمثابة الفأس التي تكسر البحر المتجمد في داخلنا، والأداة التي تقطع قمم رؤوسنا. نلجأ إلى الأدب من أجل الانتقال الروحي، والتحول الجوهري، والتغيير. إن النظر إلى الكتب باعتبارها عاجزة عن الخطر يعني فهمها باعتبارها عاجزة عن ممارسة أي سلطة على الإطلاق، وهذا استنتاج لا أستطيع أن أقبله. لقد كتب جوته، وهو يائس من فكرة أولئك الذين انتحروا، أن هؤلاء التعساء "اعتقدوا أنهم يجب أن يحولوا الشعر إلى واقع."

لا ينبغي للشاعر أن يتفاجأ، لأن انتحار كارل فيلهلم جيروزالم* الذي قدم النموذج لفيرتر كان مفيدًا للغاية. فعلى الطاولة بجوار سرير الرجل الميت كانت هناك نسخة من مأساة جوتهولد ليسينج "إميليا جالوتي"، مع استحضارها لحياة "معذبة بسبب العواطف غير المحققة". مثل العديد من أتباع فيرتر،غادر جيروزاليم هذا العالم بسبب الوقوع في كتاب..

***

.........................

الكاتب : إد سيمون / Ed Simon عضو هيئة التدريس المتخصص في العلوم الإنسانية العامة بقسم اللغة الإنجليزية في جامعة كارنيجي ميلون، وكاتب دائم في Lit Hub، ورئيس تحرير مجلة Belt. كتابه الأخير Devil's Contract: The History of the Faustian Bargain هو أول سرد شامل وشعبي لهذا الموضوع.

* كارل فيلهلم جيروزالم (Karl Wilhelm Jerusalem) كان شاعراً وفيلسوفاً ألمانيا، وقد وُلِد عام 1747 وتوفي عام 1772. يُعتبر جيروزالم شخصية ملهمة ومؤثرة في الأدب الألماني، خاصةً لأنه كان النموذج الحقيقي لشخصية فيرتر في رواية آلام الشاب فيرتر لجوهان فولفجانج فون جوته.

 

في المثقف اليوم