قراءة في قصيدة " معالمُ السِرِّ الأبهى" للشاعر مصطفى علي
من لجج التجربة الشعرية الفريدة للشاعر مصطفى علي، نستلهم من معينه العرفاني الصوفي الذي يغوص في أغوار النفس الإنسانية، ليكشف عن تجليات الروح في رحلتها الأبدية نحو المطلق.
اسعى هنا الى التمعن في هذه القصيدة الشعرية التي توحد نسيجيها الوجداني والفلسفي، راسمةً ملامح "السر الأبهى" الذي يكمن في جوهر الوجود، ويتجلى في مرآة اللغة الشعرية المكثفة..
لقد اعتمدت في تحليلاتي هذه منهجًا نقديًا يزاوج بين الأدوات الأدبية والفنية والفلسفية، ساعيًا إلى تفكيك البنى الجمالية والدلالية لما ورد فيها، واستكشاف أبعادها النفسية والوجودية. فكل مقطع شعري هنا هو بمثابة نافذة تُفتح على عالم من الرموز والإنزياحات، حيث تتراقص الكلمات على إيقاع الشوق والحنين، وتتجسد المعاني في صور باهرة تتحدى المألوف.
ان الخيط الناظم الذي يجمع هذه المقاطع هو رحلة الإنسان الروحية، بكل ما تحمله من عطش وجودي، وصراع بين الشك واليقين، وتوق إلى الفناء في حضرة الجمال المطلق. من "إيقاد فوانيس القوافي" في دم الشاعر، مرورًا بـ "خصام سمادير الرؤى"، و"السفر السماوي على أجياد عاصفة المنايا"، وصولًا إلى "معانقة أثر الحقيقة المتواري كالظلال"، تتكشف أمامنا دروب هذه الرحلة الشاقة والمضيئة في آن.
اهدف من وراء ذلك إلى تقديم صورة متكاملة ومنسجمة لهذه التجربة الشعرية الثرية، لا بوصفها شذرات متناثرة، بل كأجزاء من مشروع نقدي أوسع، يسعى إلى استجلاء القيم الجمالية والفكرية في الشعر العربي المعاصر ذي النزعة الصوفية والوجودية.
إنها دعوة، في الوقت ذاته، للقارئ كي يشارك في هذا السفر النقدي، متأملاً كيف يمكن للكلمات أن تتحول إلى "بيارق للغيوب"، وكيف يمكن للسراب أن يصير "ينبوعًا يتفجر من ينابيع الخيال".
بالعنوان: يحمل في طياته دعوة للتأمل والبحث عن المعنى العميق للحياة والوجود. انه عنوان فلسفي قبل كل شيء، يدعو إلى عدم الاكتفاء بالسطح، وإلى البحث عن العلامات التي تدل على سر الحياة الأبهى، سر الجمال، سر الوجود.
العنوان يجمع بين الفلسفة الوجودية، والمعرفة التأملية، والبعد الصوفي، ليقدم لنا رؤية شاملة عن الإنسان الباحث عن الحقيقة، والذي لا يكتفي بما هو ظاهر، بل يسعى إلى ما هو مخفي.. إلى السر الأبهى.. والذي يشير إلى نوع من السر الذي يتجاوز المعنى المباشر للكتمان أو الخفاء؛ فكلمة “الأبهى” تعني الأكثر جمالاً وبهاءً، ما يجعل السر هنا ليس مجرد أمر مخفي، بل هو سر مضيء، سر يتجلى فيه الجمال الإلهي أو الوجودي، أو ربما سر الحياة والروح. والذي سنبحث عنه في مفاصل القصيدة.. علنا نصله...
1. القوافي وصقيع اليومي: الثورة على الجمود
أوْقدْ فوانيسَ القوافي في دمي
واهجرْ صقيعَ العابرِ اليوميِّ طقساً
موحشاً كجليدِ أوهامِ الجِدالْ
*
نداء مشحون بالعاطفة والرمز:
"أوقد فوانيسَ القوافي في دمي"
في هذه الصورة الباهرة، تتحول القوافي إلى فوانيس، نورًا داخليًا يشتعل في دم الشاعر.. في إشارة إلى الإبداع المنبثق من أعماق الألم والوعي.. انه إنزياح دلالي مدهش: فلا القوافي توقد عادةً، ولا الدم يُضيء.. خرق للمألوف، يجعل الشعر ذاته فعلًا من أفعال الإشراق الداخلي.
ثم وبإنزياح آخر يقول:
"واهجرْ صقيعَ العابرِ اليوميِّ طقساً"
هنا يرسم رفضًا للابتذال والروتين، فاليومي العابر مجمَّد، كالصقيع، بلا دفء ولا معنى.. إذن، الدعوة إلى الثورة على المعتاد، والبحث عن وهج الحياة الحقيقي عبر الإبداع والشعر. ليبلغ التصوير ذروته:
"موحشاً كجليدِ أوهامِ الجِدالْ"
حيث يربط الجدال العقيم، الذي لا يلد إلا الوهم، بالجليد الموحش، فكل صراعٍ لغويٍ أو جدلي بلا جوهر، إنما يُنتج برودة وخواء وعدم.
يبني الشاعر صورًا مبتكرة، يتجاوز بها حدود التعبير التقليدي، موظفًا المجاز والاستعارة بلغة مشبعة بالإيقاع الداخلي.
النص يحتج على الابتذال والجمود، ويدعو إلى إشعال جذوة الإبداع والمعنى وسط ركام اليومي العابر.
انه القلق الوجودي الذي يحاصر المبدع، الذي يؤكد الحاجة إلى تحطيم السكون الاجتماعي المفرغ من الدفء.. يكشف النص، وعبر رمزيته، عن حالة الركود التي تصيب المجتمعات حين تستبدل الفعل الحقيقي بالجدال العقيم.
مقطع صغير، لكنه صرخة إبداعٍ ضد خريف الروح، وثورة على موات العادة.. انه إشعالٌ لفتائل القصيدة في ليل الصقيع الإنساني، حيث يبقى الشاعر وحده، حاملًا فوانيسه ليضيء عتمة الحياة التي خانتها الكلمات اليومية.
2. خصام الاوهام وجمر السؤال: في وعي الألم..
خاصمْ سَماديرَ الرؤى
واشعلْ بقلبي موقِداً يكوي
فُؤادَكَ أو فؤادي مثلما
يكوي النُهى جمرُ السؤال
*
مواصلة الثورة بمواصلة النضال:
"خاصمْ سَماديرَ الرؤى"
في إنزياح دلالي لافت، إذ يجعل الرؤى كائناتٍ يمكن خصامها، والسَمادير ـ وهي الأوهام والأطياف ـ تتحول هنا إلى خصوم، في استعارة توحي بصراع الذات مع أحلامها المراوغة.
معمّقًا المشهد بالطلب الحارق:
"واشعلْ بقلبي موقِداً ..."
فالإشعال هنا لا يكتفي بإضاءة داخلية، بل يحترق، ليلامس فؤاد الآخر أو فؤاد الشاعر نفسه، مؤكداً وحدة الألم بين الذوات.
وتتجلى الذروة في:
"مثلما يكوي النُهى جمرُ السؤال"
حيث يتحول العقل المفكر (النهى) إلى ضحيةٍ لجمر الأسئلة، في مشهدٍ فلسفيٍّ بالغ الإبداع، يحفر في أعماق الحيرة والبحث الإنساني.
مقطع يشعل المجاز حتى لهيب الحيرة.. يصوغ من الألم معرفةً، ومن خصام الرؤى يقظةً، حتى يصير السؤال نارًا تضيء طريق العارف في عتمة التيه.
المقطع الشعري هنا يأتي كثيفًا ومشحونًا، مبحرًا في أعمق طبقات الوعي الإنساني، حيث ينهض الشاعر بنداء وجودي حارق: "خاصمْ" هذه الأطياف المرتبكة بين حلم ووهم، التي تصبح خصمًا يستحق المقاومة، مما يعكس دعوة لتمرّد العقل الإنساني على الإغواءات العاطفية المضللة. إنها صورة باذخة الدلالة؛ حيث يتحول اللاوعي إلى غابة يجب الخروج منها بوعي مشبوب.. املا في ان يتحول القلب إلى ميدان اشتعال داخلي.. احتراق لا يستهلك صاحبه بل ينيره.. حريق معرفي يحفّز الذات على تجاوز التكلس الروحي.
يصل التصعيد الرمزي ذروته عند: "مثلما يكوي النُهى جمرُ السؤال"، في مشهدٍ يُغري بالتأمل؛ فالعقل، الذي يفترض فيه البرودة والاتزان، يكويه السؤال، ليكشف أن البحث عن الحقيقة ليس برودًا بل معاناة ملتهبة.
هنا، تتداخل نار القلب مع جمر الفكر، ليرسم الشاعر لوحة معرفية عن الألم بوصفه بوابة الوعي، وعن خصام الأوهام كشرط ضروري لولادة النور الداخلي، في قصيدة تتقد بالحيرة وتستنير بالتمرد على العتمة.
3. الخلود في الفناء: ذوبان الذات في المثال..
أيّانَ بلْ كيفَ المولّهُ يَمّحي
حتى فناءِ الذاتِ في عِشْقِ المثالْ؟
انه سؤال وجودي مشحون بالشجن ذلك الذي يطلقه الشاعر بقوله: "أيّانَ بلْ كيفَ المولّهُ يَمّحي".. في إنزياح لغوي ودلالي باهر، يجعل العاشق المتيم معادلًا للخلود، فلا زمانٌ (أيّان) ولا كيفيةٌ تستطيع محو العاشق المولّه. هنا تتجسد استحالة الفناء العاطفي إلا بفناء الذات الكاملة.
ثم يعمق الصورة بإجابه فلسفية مدهشة ومفاجئة:
"حتى فناءِ الذاتِ في عِشْقِ المثالْ" انها لحظة، يتحول العشق فيها إلى مثالية مطلقة لا تكتمل إلا بفناء الأنا الفردية، في تصوير بلاغي يتجاوز العشق الغريزي إلى العشق الروحي الصوفي.
اذن فهو يمدنا بشعلة وجدانية تتوهج بأسئلة الكينونة والحب، حيث يُصبح العاشق نارًا لا تخمد إلا إذا ذابت الذات في المثال الأعلى.. وليجعل من القصيدة مرآة لحريق الإنسان الباحث عن المطلق.
الشاعر يتعامل هنا مع الحب بوصفه فعلاً فلسفيًا مطلقًا، وليس مجرد انفعال عاطفي. في "أيّان بل كيف" حيث يتحول الزمان والمكان إلى أطرٍ عاجزةٍ عن احتواء العاشق، مما يشير إلى تجاوز الحب للأبعاد الوجودية.
أما صورة "فناء الذات" فتمثل أرقى مراحل العشق الصوفي حيث تتلاشى الأنانية الفردية في حضرة المثال.. هكذا يتماهى النص مع تجارب كبار العارفين أمثال الحلاج وابن عربي وسواهما، حيث يكون العشق سبيل الخلاص والذوبان الكوني.
في هذا المقطع تتخذ القصيدة بُعدًا وجوديًا ثريًا، يمزج بين حرارة القلب ونور الفكرة، وينحت الجمال من لهب العشق السرمدي.
4. الغيبوبة والانجذاب: البحث عن المطلق..
ويغيبُ مندهشاً ومجذوباً
لِطيفِ الغامضِ المخفيّ
سكراناً بألغازِ القريحةِ والخيالْ
ينطلق الشاعر هنا من صورة وجدانية آسرة:
"ويغيبُ مندهشاً ومجذوباً"
انه تصوّر الغياب لا كفعلٍ حسي بل كحالة انخطافٍ روحي، حيث تتلاقى الدهشة بالانجذاب. الجمع بين "مندهش" و"مجذوب" يرسم رحلةً إلى غيبوبة الوعي بفعل الجمال المطلق. ثم يتماهى مع الغيب:
"لِطَيفِ الغامضِ المخفيّ"
ليُحيل الغياب إلى تَتبع طيفٍ خفي، مما يعمّق الغموض ويكثف المعنى الصوفيّ للبحث عن المطلق. لتبلغ الذروة:
"سكراناً بألغازِ القريحةِ والخيالْ"
حيث يتحول السكر من حالةٍ حسية إلى انتشاء معرفي، نابع من ألغاز الإبداع، وليرتقي بالوجدان إلى مقام السُكر العقلي.
مؤكدًا سُكْر المعرفة ودهشة الكشف.. حيث يتوه العاشق بين عتمات الخيال، حاملاً قنديل القريحة صوب الغائب الأبدي.
انه تعامل مع الغياب بوصفه فعلاً من أفعال الاستنارة. "الطيف الغامض المخفي" وهو في الان ذاته، رمزًا للعالم الداخلي الغائر الذي لا يُكشف إلا لمن يسكر بسؤال الإبداع. السكر هنا لا يُفسد العقل، بل يوقظه على ألغاز الخلق.
كما يمزج بين المتعة والارتباك، بين اللذة العقلية والانخطاف الروحي، مما يخلق نصًا مزدوج الطبقات: سردي في ظاهره، صوفي في جوهره.. فيُحيل القارئ إلى تجربة السُكر بمعناه الأسمى: التوحُّد مع غموض الوجود.
انه فتحًا أفقًا تأويليًا أوسع، نظرت إلى الغياب والسُكر بوصفهما مجازات عن السعي الإنساني نحو الحقيقة الماورائية.
بهذا التوليف، تتضح ثنائية ما أراد الشاعر: إبداع لغوي أخّاذ وتجربة فلسفية مشبعة بجماليات الحيرة والانخطاف الروحي.
5. بين الحنين والظمأ: رحلة في تخوم الوجود..
قلبي يُحدّثني بأنّهما معاً
ظَمَأٌ وُجوديٌّ بأعماقِ الورى
وَحَنينُهم أبَداً لِفُراتِ ماءِ الروحِ
في قلبِ الرِمالْ
*
بمخاطبة الوجدان:
"قلبي يُحدّثني بأنّهما معاً"،
يحمّل القلب قدرة النُطق والحوار، مما يضفي على العاطفة عمقًا معرفيًا، ويؤسس لجسرٍ بين الذات ومكنونها الخفي. ثم يكمل بصورة شعرية مدهشة:
"ظَمَأٌ وُجوديٌّ بأعماقِ الورى"،
مؤكدًا أن العطش هنا ليس حسّيًا بل وجودي، عطشٌ للمعنى وللمطلق يضرب بجذوره في أعماق الإنسانية كلها، في إشارة فلسفية راقية يعززها بصورة باهرة:
"وَحَنينُهم أبداً لِفُراتِ ماءِ الروحِ"،
إذ يصوّر الروح نهرًا جاريًا (فراتًا) يسعى إليه الورى بظمئهم السرمدي، لينسكب المعنى صافيًا فوق رمال العدم.
يصوغ الشاعر هنا ملحمة عطش الإنسان للروح، حيث يتحول الفؤاد إلى رسولٍ بين صحراء الحياة وينابيع الخلود. حيث يستبطن الشاعر جدلية العطش والحنين كجوهر للوجود الإنساني.
* فـ الظَمأ الوجودي هو استعارة عن الحيرة الأنطولوجية: بحث دائم عن الحقيقة، عن "فرات الروح" الذي قد لا يُبلَغ إلا بالحنين الأبدي.
* بينما الماء، رمز الحياة، لا يسكب في الأجساد بل في الأرواح، مما يشي بحس صوفي عميق حيث تتماهى الذات في نهر المطلق.
بهذا، يتجاوز النص الشعري كونه تصويرًا وجدانيًا ليصبح تأملاً فلسفيًا في حقيقة الوجود الإنساني الظمآن إلى معناه الخالد.
6. جياد الريح، سفر الغيب: وجودية في العبور الشعري..
سَفَرٌ سَماويٌّ على أجْيادِ عاصِفةِ
المَنايا والرؤى
وعلى جِيادِ الريحِ صاهِلةَ الخُطى
للغيبِ والمجهولِ
والسِرِّ المُحالْ
انفجار مجازي أخّاذ:
"سفرٌ سماويٌّ على أجْيادِ عاصفةِ المنايا والرؤى"،
في إنزياح دلالي مزدوج، حيث يُزَوِّج الموت بالحلم، ويجعل العاصفة مطيةً في سفرٍ يتجاوز حدود الأرض. هنا تتماهى الفناءات مع البشارات، ويصبح الإنسان فارسًا بين الرؤى والمنايا. ثم يضاعف الشاعر الإيقاع التصويري:
"وعلى جيادِ الريحِ صاهلةَ الخُطى
للغيب والمجهول والسِرِّ المُحال"،
فجياد الريح، ذات الطبيعة الهوجاء، تصهل بخطى قادمة من الغيب، مواصلة السير نحو المطلق والمستحيل.
إنها معانقة المطلق بجموح الخيال، فالشاعر يمتطي رياح الموت والرؤيا معًا، قاصدًا سديم الغيب، حاملاً توق الإنسان الأزلي إلى الماوراء.. انه تجسيد للرحلة الوجودية الكبرى:
* السفر السماوي لا يُقصد به التنقل المادي، بل التحليق الوجودي بين حقائق الفناء وأحلام الخلود.
* المنايا والرؤى توأمان في طريق الإنسان نحو كشف الحقيقة الكبرى، والجياد الصاهلة رمزٌ للجموح الداخلي نحو المجهول.
* الغيب والمحال في النهاية ليسا نهاية، بل بداية أخرى لا تدرك إلا بنشوة الفناء المتجاوز للأطر المحدودة للعقل البشري.
هكذا يتعانق النص مع الميثولوجيا الصوفية والأساطير الكبرى عن السفر نحو السر الأبدي.
7. أرجوحة الأقدار: بين وعد الخلود وعاصفة الزوال..
أُرْجوحةٌ سَكرى تَدلّتْ من عُرى أقدارِنا
ما بينَ وَعْدٍ دائمٍ في سَرْمَدٍ
وَحَصادِ قَشٍّ زائلٍ
عَصَفتْ بهِ سُحُبُ النهايةِ والزَوالْ
*
اختصار للتوتر الأبدي بين المصير والاختيار
"أُرْجوحةٌ سَكرى تَدلّتْ من عُرى أقدارِنا".
الأرجوحة، رمز الطفولة والفرح، تغدو هنا متهالكة وثملة، مشدودة إلى حبال القدر الواهية، في استعارة تنطوي على قلق وجودي عميق. تلحقها توسعة للمشهد:
"ما بينَ وَعْدٍ دائمٍ في سرمدٍ وحصادِ قَشٍّ زائلٍ"،
في تباين حاد بين الخلود الموعود وهشاشة المكاسب الدنيوية، حينؤ تحترق الأحلام كما تحترق سنابل القش مع أول عاصفة. متوجًا ببناء درامي اخاذ..:
"عصفت به سحب النهاية والزوال"،
فالنهاية ليست هدوءًا بل عاصفة مدمرة، تهدم كل بناء هشّ أنشأه الإنسان فوق رمال الغرور.. انها رقصة المصير الإنساني فوق حبال الفناء، حيث تترنح الآمال بين وعد السرمد وخيبة الزوال.
هذا التعامل مع فكرة القدر بوصفه لعبة عبثية لا تخلو من الإغواء والوهم يمنحنا لحظة تأمل في:
* الأرجوحة السكرى رمز للحياة المتأرجحة بين الإيمان بالمطلق والانخداع بالمحسوس الزائل.
* الوعود السرمدية التي تمثل الأمل الوجودي، بينما حصاد القش رمز للمكاسب الزائلة التي يعصف بها الموت/ النهاية، حسب الرؤية، وهي ليست خاتمة هادئة، بل إعصار يُسقط الأقنعة ويعرّي المصائر.
وبهذا العمق نجد ان النص يُماثل في عمقه نصوص الوجوديين الكبار، حيث الإنسان معلق بين حرية جارحة وقدرٍ لا يرحم.
8. الاحتراق في مجامر التجلّي: في إشراقات الشعر..
أرواحُنا فَرْطَ التَواجُدِ
أطْلقتْ أسمائَهُ
مُتَجَلّياً ومُعانِقاً
أشواقَ من فازوا بِقُرْبٍ أو وِصالْ
*
انفتاح لأفق الروح على اتساعه:
"أرواحُنا فَرْطَ التَواجُدِ أطلقتْ أسمائَهُ"
في صورة باهرة، تتماهى الأرواح مع الوجود حتى تتجاوز ذواتها، لتطلق الأسماء كإشارات كونية نحو الحبيب المتجلي.. هذا الانزياح الدلالي يحوّل الذات إلى طاقة متجددة من الحضور. ثم يكمل:
"مُتَجَلّياً وَمُعانِقاً أشواقَ من فازوا بقُربٍ أو وِصالْ"
في انسيابٍ مدهش، يحوّل الشوق إلى مادة حسية تُعانق المتجلي، في مشهدٍ روحي.. إنساني مكثف، يلامس قمة التوق إلى المطلق. ان هذه المفاصل الإبداعية، تجسّد عطش الوجود إلى الانصهار في نور الحضور.
انه تجاوز لحدود الزمان والمكان عبر مفهوم "فرط التواجد"، وهو إحساس فائق بالحضور يتماهى مع فكرة الحلول العرفاني. الأرواح هنا ليست مجرد كينونات معزولة، بل أمواج من التجلّي تذوب في النور الإلهي.
التجلي والمعانقة يتحولان إلى رمز فلسفي لرغبة الكائن في تذويب الفواصل بين الذات والآخر، بين المحدود والمطلق. في نسيج القصيدة، لا يتحدث الشاعر عن لقاءٍ أرضي، بل عن لحظة اتحاد كونية حيث تصبح الأشواق لغة كونية تترجم شغف الوجود..
هكذا، تتحول التجربة الشعرية إلى لحظة إشراق عرفاني، تتلاشى فيها حدود اللغة، فلا يبقى سوى العناق الروحي بين الأرواح والنور.
الشاعر مصطفى يسكب رؤياه اشراقة في كأس العارفين؛ ليجعل من الكلمات سلالمَ نحو الضياء، ومن الأشواق قناديلَ تُنير درب العشاق التائهين في مجاهل الفقد والحنين.
9. نبوءة الأمل المشتعل: في جمرات القصيدة..
ما كانَ مُطْلَقُها سِوى
أمَلٍ تَفَتّقّ من لظى أشواقِها
وَطَريقةٍ سِحريّةٍ للسائرينَ على الطريقِ
يسوقُهم ضمأُ البرايا للكمالْ
*
ينسج الشاعر رؤيا كونية دقيقة:
"ما كانَ مُطْلَقُها سِوى
أملٍ تفتّق من لظى أشواقِها"
في صورةٍ مدهشةٍ، يتحول الأمل إلى برعمٍ متفجّر من لظى الأشواق، حيث الانزياح الدلالي يحوّل الألم إلى ولادة، والانتظار إلى اشتعال خلاق. ويواصل الإبداع بقوله:
"وطريقةٍ سحريةٍ للسائرينَ على الطريقِ
يسوقُهم ضمأُ البرايا للكمالْ"
في تناغم باهر، تصبح المسيرة الإنسانية نحو الكمال طقسًا صوفيًا يحفّه العطش الأبدي للمعنى.. خلق لهالة رمزية بين الحب، والطريق، توطئة للاكتمال، كأنها مرآة لجوع الإنسان الأزلي إلى المطلق.
الشاعر يتموضع هنا في فلسفة وجودية عميقة، حين يتحدث عن الأمل المتفتق من لظى الشوق، والذي لا ينبع من ترف، بل من وجعٍ متأصل.
ان الطريق السحري يشير إلى الرحلة الوجودية التي يقوم بها الكائن البشري، مدفوعًا بظمأ لا يرويه إلا الاقتراب من الكمال.
الشاعر هنا ينسج تجربة صوفية بامتياز، حيث تتحول الحياة إلى عبور نحو المطلق، والسير إلى غاية لا تتحقق بالكامل، لكنها تمنح المعنى لاستمرارية المسير. إنها قصيدة تحرق الذات بحنينها كي تصنع نورها.
ينبع المقطع من رماد الأشواق، ليُشعل فينا عطش البحث عن الجمال المطلق، محولًا الكلمات إلى مرايا تعكس رحلة الإنسان الأبدية بين جمر الشوق وواحات الأمل.
10. بيارق الغيوب: سفر المعنى في فضاء القصيدة..
لِيَعودَ من فَلَكِ الغيوبِ بيارِقاً
تقفو نِداءَ الحقِّ في سوحِ النِزالْ
يستحضر الشاعر صورة مذهلة حين يقول:
"لِيَعودَ من فَلَكِ الغيوبِ بيارِقاً"
هنا، تتجاوز العودة معناها الحسي لتصبح ارتحالًا ميتافيزيقيًا من الغياب إلى الحضور، في انزياح دلالي يصور الروح وهي تنتزع المعنى من أقاليم المجهول. ثم يربط ذلك بنداء القيم السامية:
"تقفو نداءَ الحقِّ في سوحِ النِزالْ"
حيث تتجسد الحقائق على هيئة بيارق شامخة، تسير خلف نداء الحق في ميادين الصراع، مشعلًا الحلم بالتغيير والنهوض. يبهرنا هذا المقطع بروعته حين يدمج بين الأمل، والالتزام، والفداء في أنشودة خالدة ضد النسيان.
انها جدلية الغياب والحضور؛ حيث تغدو الغيوب مهودًا للمعنى، والحقائق الراسخة لا تخرج إلا من أعماق الغموض.
الفلك هنا رمز للقدر، والبيارق تمثّل الانتصار الأخلاقي في ساحة وجودٍ مشتبك. وفي هذه الرحلة، يستدعي الشاعر فكرة النضال ضد العبث، حيث تكون المعركة في السوح ليست بالسيف فقط، بل بمعاني الروح المتوهجة بالحق.
إنه نشيد المقاتل الذي يرفض السكون في حظيرة النسيان، ويشعل راياته باسم الحق والكرامة.
بهذه الصورة، يصنع الشاعر مجرّة من الوعود، ويبعث من رماد الغيوب بيارقًا للأمل، ليؤكد أن المعنى الحقيقي لا يُولد إلا من صراعٍ مشبعٍ بالحق والنقاء.
11. رحلة الأرواح: إشراق السرى نحو فجور الخلود..
هِيَ رحْلةُ العُشّاقِ في الأسفارِ
ما طالَ السُرى
لِيَضوعَ في الارواحِ فجراً سَرْمَديّاً
ذو الجَلالْ
*
بنصاعةٍ صوفية يقول:
"هِيَ رحْلةُ العُشّاقِ في الأسفارِ"
في صورة مدهشة، تتحول الأسفار من تنقّلٍ مادي إلى عبورٍ روحيّ، حيث العشاق هنا هم السائرون على طريق الحقيقة المطلقة. ثم يتابع انزياحه الخلاق:
"ما طالَ السُرى
لِيَضوعَ في الأرواح فجراً سرمدياً
ذو الجلالْ"
فالسُرى لا ينتهي بالإنهاك، بل يفضي إلى إشراق داخلي خالد، فجراً أبدياً من الجلال والنور. هنا ينسج الشعر من رحلة التعب.. إشراق الخلود، وتحول من الألم.. طقسًا للانبثاق الروحي المتعالي.
نصير هنا أمام رحلة عارفين لا مسافرين. الأسفار ليست حركةً بين المدن، بل عبورٌ بين المقامات الروحية.
فالفجر السرمدي هو صورة فلسفية مكثفة: لا يشير إلى الفجر التقليدي، بل إلى ولادة دائمة للمعرفة والوجد.
اما في بُعده الاجتماعي، فهو يحتفي ببطولة العاشق الباحث عن المعنى، رغم قسوة السرى وطول الطريق.. في رفض لكل ما هو ساكنٌ وخامل.. هكذا يغدو السُرى فعل تحررٍ داخلي، رحلة باتجاه الله او المطلق، باتجاه الذات المستنيرة.
إنه سفرُ الأرواح نحو فجور لا يغيب، إشراق يتحدى الزمن والعدم، حيث الجلال يغمر الخطوات المكلومة بنور السرمدية.
12. اسفار العشق وسهام الروح: تيه العاطفة الإنسانية..
لا تسألِ العُشّاقَ عن أسْفارِهمْ
وأسألْ سِهامَ الروحِ كم طاشتْ
وكم نَفَرَ الغزالْ
*
إنزياح بلاغي مدهش، حين يطلب:
"لا تسألِ العشاق عن أسفارهم"
مُحوِّلًا السفر هنا إلى رمز للرحلة الروحية والعاطفية معًا، لا مجرد انتقال مكاني. الأسفار.. معادل شعري للهجرة الوجدانية المجهولة، حيث تفقد الأسئلة جدواها أمام اتساع التجربة العاطفية. ثم يوجه النص بوصلة الحواس إلى العمق الحقيقي:
"واسألْ سهامَ الروحِ كم طاشتْ"
في تجسيد بليغ للروح كقوسٍ متوتّر، يطلق سهام الشغف، لكنها كثيرًا ما تخطئ أهدافها، في إشارة إلى خيبات العشق وعدم يقينيته. وتأتي الصورة الأخيرة لتعميق المشهد:
"وكم نفرَ الغزالْ"
فيها استعارة حركية مدهشة؛ فالغزال رمز للروح الهاربة من قبضة الحب، مرتبكة بين الانجذاب والفرار. انه فيض من حرارة المشاعر المتوثبة، وصورٍ تكتنز بالمعنى، حيث تصبح الرحلة العاطفية هروبًا مستمرًا، والروح ميدانًا لسهام تتناسل بين الأمل والانكسار.
بالرغم من اعتماد النص على البساطة الظاهرية فانه يمتلك عمقًا داخليًا مثيرًا للتأمل، من خلال ما تصنعه الموسيقى عبر التوازن بين الفعل والجواب (لا تسأل/ واسأل). الإيقاع الداخلي نابض بتوترات الوجد، والمجازات تنفتح على عوالم متعددة دون ادعاء.
الشاعر يطرح هنا فكرة عجز المعرفة الإنسانية عن احتواء التجربة العاطفية.. فالحب هنا لا يُدرك بالسؤال العقلي بل يُعاش بالحدس والألم واشتعال الروح.. فالأسفار الداخلية أعقد من أن تُروى، والروح تضيع سهامها كما تضيع الحقائق أمام الفيض العاطفي.
13. خطى العشق على قارعة التلاشي: تيه القلب في تلابيب الجمال..
وإسألْ خُطى القيّافِ إن طال السُرى
كم ذابَ عشقاً حَدَّ قارعةِ التلاشي
في تلابيبِ الجمالْ
*
طلب استهلالي وبديع وبليغ:
"واسألْ خُطى القيّافِ إن طال السُرى"
حيث يحوّل الخُطى إلى شاهدة حية على رحلة العشق البعيدة الغور، والدليل على ذلك هو ما يمكن ان يجيبه والقيّاف.. ذياك الذي قفي اثار طول السرى.. حتى كاد ان يغدو مرآةً للضياع العاطفي الطويل. ثم ينتقل إلى تصوير مذهل للذوبان الوجداني:
"كم ذابَ عشقاً حَدَّ قارعةِ التلاشي"
إنها صورة شاعرية مدهشة حيث يتقاطع العشق مع الموت التدريجي، وتبلغ العاطفة أقصى ذروتها حتى قارعة التلاشي.. تكمن روعة التعبير في مزجه بين متناقضين: "قارعة" و"التلاشي"، فالقارعة تُوحي بالدهشة والهول والصدمة، وكأنها طرقٌ عنيفٌ على أبواب القلب(اذا اخذناها من قرع يقرع)، أما التلاشي فيشير إلى الذوبان التدريجي والتبخر الهادئ للذات. وفي هذا التناقض تكمن عبقرية الصورة، إذ يتحول سكون التلاشي إلى صخبٍ داخلي، والفناء الصامت إلى قرعٍ هائلٍ يزلزل أركان الوجود.
أما دلالة "قارعة التلاشي" فتتجاوز معنى "طول السرى" أو الدرب الطويل، لتصل إلى مفهوم أكثر عمقًا وتأثيرًا.. إنها القيامة الصغرى التي تحل بالعاشق، والفاجعة المهيبة التي تُفني كيانه. هي لحظة الانكشاف الكامل أمام حقيقة العشق، حيث يقف الإنسان مذهولًا على حافة الزوال، يرتعد من هول ما يبصر، ويتلذذ بألم الفناء في ذات الوقت.
ويُتوَّج المشهد:
"في تلابيبِ الجمالْ"
فالجمال هنا ليس مظهريًا فقط، بل قيدٌ والتباسٌ أبدي، تتشبث به الروح حتى الاحتراق. نص مشحون بجماليات الذوبان، حيث الحب رحلة أبدية ينمحي فيها الكائن في حضرة الجمال، وتذوب الخطى في صمت السرمدي. كما ويتدفق بإيقاع رقيق ومنساب، مع استخدام كلمات ذات وقع تصويري عالٍ مثل: القيّاف، السرى، التلاشي، التلابيب. هذه المفردات تخلق نسيجًا صوتيًا يمزج بين الرقة والحزن. إضافة الى ذلك يقارب النص مأزق الوجود العاطفي: فالعشق ليس بلوغًا للآخر، بل رحلة احتراق ذاتي في دروب الجمال المستحيل. الحب هنا يلتبس مع الفناء، والسؤال لا يطلب جوابًا بل يحاكي ضياع الأثر وسط التيه الأبدي.
14. سراب القلب وجمر الغرام: في انكسارات العشق الشعري..
فَلَكم تَعلّلَ عاشقٌ بِسَرابِ قلبِ
البيدِ يَحْسَبُ موجَهُ
فَرْطَ الغرامِ وَجَمْرِهِ
ماءاً زُلالْ
في هذا المشهد الشعري الباهر، يقول الشاعر:
"فَلَكم تَعلّلَ عاشقٌ بِسَرابِ قلبِ البيدِ"
ينزاح المعنى منذ الوهلة الأولى، إذ يُرى القلب وقد تحول إلى صحراء قاحلة، بينما السَّرابُ .. الوهم المتلألئ الكاذب.. يغدو وعدًا كاذبًا بالنجاة العاطفية، فتتجسد العاطفة في بعدها الخادع. ويتابع:
"يَحْسَبُ موجَهُ فَرْطَ الغرامِ وَجَمْرِهِ ماءاً زُلالْ"
في قلب هذا التصوير، تتماهى الحواس: فالعطش إلى الحب يُرى سرابًا مائيًا، والموج ليس ماءً بل احتدام الغرام والاحتراق. إنها مفارقة مؤلمة ترسم ضياع الإنسان في متاهة رجاءاته الخادعة.
انه رصد لوهم العشق بوجهه الخادع، المفرط بالغرام والمتوسل ان لا يكون السراب الا ماء زلال.. وهو امر محال.. مرجحًا الحاجة الإنسانية إلى التعلّل بالأحلام المستحيلة، املًا بالخلاص والسكينة.
انه تأمل في ميتافيزيقا الرغبة: فالعاشق يطارد صورةً لا وجود لها إلا بوصفها وهمًا داخليًا، كما يطارد الإنسان في حياته الكمال الذي لا يُدرك. الجمر والزلال، الغرام والماء، البيد والسراب.. كلها تناقضات تُلخّص المعركة الوجودية بين الأمل وخيانة الواقع. فالموج ليس رحمة بل احتراق، والماء ليس ارتواءً بل خيبة مستدامة. بهذا يصبح المقطع مرآة فلسفية تعكس سخرية المصير الإنساني.
15. سراب الخيال وبراكين الممكن: في قدرة الوهم على صناعة الحقيقة..
لا تحْسَبنّ سرابَهُ وَهْماً إذا
ما صارَ يُنْبوعاً
تفجّرَ من ينابيعِ الخيالْ
يجيبنا هنا استدراكًا عما عاناه في المقطع السابق
"لا تحسبنّ سرابَهُ وَهْماً إذا / ما صارَ ينبوعاً تفجّرَ من ينابيعِ الخيالْ"
بإنزياح دلالي مدهش، يرفع السراب من رمزية الوهم إلى إمكانية التحوّل الخلّاق. هنا يتجاوز التصوير الشعري التقليدي، فـ"السراب"، بدلاً من كونه خداعًا محضًا، يتحول إلى ينبوع حقيقي، شريطة أن يتم النظر إليه عبر نوافذ الخيال الخلّاق. إنها صورة شعرية باهرة، تستنهض فينا فكرة أن الوهم أحيانًا هو البذرة الأولى لكل حقيقة ممكنة، وبهذا يُعيد النص الاعتبار للخيال، لا كفرار من الواقع بل كقوة خفية لصناعة الوجود الجديد. على المستوى النفسي والاجتماعي، يوقظ النص الأمل في تجاوز حدود المألوف، وعلى المستوى السياسي، يشي برفض الانحناء أمام مظاهر الهزيمة الظاهرة، والتمسك بأحلام لا تموت. ان هذه الأبيات تحتفي بقدرة الروح الإنسانية على تحويل السراب إلى أنهار، حين يؤمن الخيال بسلطانه، فتتخلق العوالم لا من الماء، بل من إصرار الرؤية.. انه توطيد للعلاقة العميقة بين التجريد والخلق. انه التحوّل: أي أن ما يُظنّ وهماً، قد يكون فقط طورًا أوليًا لحقيقةٍ لم تكتمل. في هذا المعنى، يحوّل الشاعر الخيال من عالم المراوغة إلى مختبر للإمكانيات. السراب ليس خداعًا، بل هو "نواة الإمكان" حين يحلّق الوعي فوق إسار الواقع البارد.
16. ظلال السرّ وهتك الحجاب: في جدلية الحقيقة والمطاردة الشعرية..
فإذا الحقيقةُ أظهرتْ أنوارَها
للعارِفينَ بِسرِّها
هَتَكوا الحِجابَ وعانقوا
أثَراً تراءى كالظِلالْ
ويواصل مستبطنًا الواقع:
"فإذا الحقيقةُ أظهرتْ أنوارَها / للعارِفينَ بِسرِّها"
في هذه الصورة الشعرية الباهرة، تظهر الحقيقة ككائن نورانيٍّ يكشف عن جوهره فقط لمن بلغ سرّ المعرفة. الإنزياح هنا يحوّل الحقيقة من فكرة ذهنية إلى كيان مشعّ حيّ، يتطلب استنارةً داخليةً للوصول إليه. ويواصل قائلاً:
"هَتَكوا الحِجابَ وعانقوا / أثَراً تراءى كالظِلالْ"
العارفون لا يكتفون بالرؤية، بل يهتكون الحجاب، في دلالة رمزية على كسر الحواجز بين الظاهر والباطن. لكن المفارقة المدهشة أن ما يعانقونه ليس الحقيقة المطلقة، بل أثرها الظلّي، ما يعمّق فلسفة الغياب الدائم للحقيقة الكاملة. يتجلى النص بانزياحات دلالية تخترق السائد، أما نفسيًا اوفلسفيًا، فهو تصوير مدهش لعطش الإنسان السرمدي لمعرفة تظل تتوارى خلف ستائر الظنون. انه تجسيد للرحلة الأبدية للإنسان نحو نور الحقيقة، رحلة لا تنتهي إلا بمعانقة الظلال، حيث يظل السرّ معلقًا فوق قلوب العارفين كنجمة لا تُطال. يشتغل هذا المقطع على التوازن بين الرؤيا والضياع؛ فالعارفون، رغم هتك الحجب، لا يلامسون إلا أطياف المعنى. هنا يطرح الشاعر رؤية للمعرفة بوصفها فعلًا لا نهائيًا من الكشف والاشتياق، فالسرّ لا يُمتلك، بل يُلاحق في انعكاساته، كما أن الظلّ يظل دومًا بعيدًا عن اليد.
17. خيول الشك وخرائط الضلال: في جدلية التيه الروحي..
يا أيُّها الضلّيلُ حَسْبُكَ مُسْرِجاً
خيلَ الشكوكِ العادياتِ ضوابِحاً
والمورياتِ على يقينِ الروحِ
قدْحاً أو بَريقاً في متاهاتِ الضلال
*
بخطاب تحذيري قوي بقول:
"يا أيُّها الضلّيلُ حَسْبُكَ مُسْرِجاً
خيلَ الشكوكِ العادياتِ ضوابِحاً"
في صورة شعرية مدهشة، ينزاح العقل المشكك عن مجاله، ليغدو فارسًا جامحًا، يُسرّج الخيول التي لا تجري إلا في ميادين الشك. هذه الخيول العاديات الضوابح تلهث خلف سراب التيه، دون أن تصل إلى يقين. ثم يقول:
"والمورياتِ على يقينِ الروحِ / قدحاً أو بَريقاً في متاهاتِ الضلالْ"
يصوّر هنا تصادم الشك باليقين: فالشك يحاول قدح شراراته فوق يقين الروح، لكنه لا يولد إلا وهجًا عابرًا أو ومضة ضياع داخل متاهات الضلال.
الإنزياح هنا يكمن في قلب الأدوار: إذ يصير الشك قنّاصًا، يهاجم أرض الروح، ولكن عبثًا.
يجسّد النص مواجهة شرسة بين الثبات الداخلي وعواصف الفكر المرتاب، أما نفسيًا وسياسيًا، فهو تعبير عن الاضطراب الذي يعيشه الإنسان حين يفقد بوصلة الإيمان بالحقائق الكبرى.
هذا المقطع يُقيم معركة بين العقل المأزوم والروح الواثقة، حيث يخسر الشك، رغم ضجيجه، أمام صمت اليقين الذي لا تُطفئه أعاصير الضلال.
يوظف الشاعر آلية التصعيد الإيقاعي والدرامي من خلال صورة الخيول العاديات، ما يضفي حركية داخلية على النص. يطرح جدلية الشك واليقين: هل الشك علامة حياة أم ضرب من الهلاك؟ يظهر هنا أن الشك الذي لا يهتدي، لا ينجب معرفة، بل ينتج تيهًا دائمًا.
النص، بهذا العمق، يتحول إلى درس تأملي عن طبيعة الحقيقة والهشاشة الوجودية أمام غواية الظن والوهم.
ان التناص القرآني في هذا المقطع بين وواضح ولن اخوض به
18. رحلة النصال المكسورة: سفر التجربة والوعي الشعري..
سفري طويلٌ ليْتَ راحلتي وَعَتْ
أنّ التجاربَ رحلةٌ نحو البواطنِ والجوى
فيها تَكسّرت النِصالُ على النِصالْ
*
يفتتح الشاعر المقطع قائلاً:
"سفري طويلٌ ليْتَ راحلتي وَعَتْ"
في ايحاء شعري توكيدي وعميق، يستعير السفر بوصفه مجازًا للحياة ومسيرتها الداخلية، حيث يحلم بأن تعي الراحلة ثقل الرحلة وقسوتها. الانزياح هنا دلالي بالغ: إذ تتحول الراحلة/ البهيمة إلى كائن عاقل منتظر للفهم. ويتابع الشاعر بإضاءة فلسفية:
"أنّ التجاربَ رحلةٌ نحو البواطنِ والجوى"
ليُصوّر التجربة الإنسانية كغوص مستمر نحو الداخل، نحو الجوى، وهو الغمّ العميق، في ملمح نفسي واجتماعي يرصد نضوج الإنسان عبر الانكسارات. وتبلغ الصورة ذروتها في:
"فيها تَكسّرت النِصالُ على النِصالْ"
مشهد بهيج للألم المتكرر؛ فالنصال لا تتكسر على الصخر، بل على نصال أخرى، مما يخلق مجازًا مدهشًا عن قسوة الحياة، وصراع الإرادات، وانكسار الآمال فوق خيبات أخرى.. وهو تضمين لبيت من قصيدة المتنبي التي مطلعها (نعد المشرفية والعوالي/ وتقتلنا المنون بلا قتال)
فالشاعر يعيد تعريف السفر العرفاني بوصفه انكسارًا متكررًا، ورحلة شاقة صوب معرفة الذات عبر معارك لا تُحسم الا بتكسر النصول على بعضها.
انه يستثمر الكثافة التصويرية والبناء التراكمي للجملة الشعرية، فيغدو النص مشهدًا حيًّا لحركة الوعي في معترك الوجود. كما ويطرح رؤية وجودية للمعاناة:
أن النضج لا يتحقق إلا بالارتحال إلى مواطن الألم، حيث لا انتصار إلا بوعي التكرار المرير للمراس والامتحان، ولا نهوض إلا فوق أنقاض التجربة. بذلك يغدو الألم ذاته دربًا لا مفر منه في تشكيل الكينونة.
19. رهائن المسير الخفي: في معاناة الطريق والجهل البصيري..
هل أدْركتْ كُنْهَ المسيرِ رَواحلي
هيهاتَ لو عرفت إذن
ما كانَ أدركها الهُزالْ؟
يقول الشاعر:
"هل أدركتْ كُنْهَ المسيرِ رَواحلي"
في استهلال مشبع بالأسى العميق، يتساءل الشاعر عن وعي الرواحِل.. وهي استعارة للذات أو القوة الداخلية.. بجوهر الرحلة، أي المسيرة الوجودية المضنية. الإنزياح هنا بالغ الذكاء، إذ تسند الإدراك للراحلة (البهيمة العجماء)، كأنها كيانٌ يعي ويتألم. ثم يواصل:
"هيهاتَ لو عرفت إذن / ما كانَ أدركها الهُزالْ"
بإنسيابية مدهشة، ينتقل إلى تظهير المأساة: لو أدركت الرواحِل حجم التحديات، لما نخرها الهزال!. تتجلى هنا صورة نفسية واجتماعية باهرة: التعب لا يأتي فقط من الطريق، بل من الجهل بحجم الرحلة، ومن الآمال العمياء. عليه نرى ان النص.. ببنيته وأبعاده.. يرسم الضعف الإنساني حين يسير في دروب الوجود دون بوصلة، حتى تتآكله خيبات الطريق دون وعي.
الشاعر يلخص هنا تراجيديا الإنسان السائر في العتمة: أن الجهل بكُنه المسير هو بداية الإنهاك، وأن المعرفة وحدها هي التي تؤجل الهزال، أو ترفعه.
الصور الشعرية تتوهج بدفق شعوري عميق.. فالرواحِل ليست فقط أدوات سفر، بل رموز للروح المسافرة في متاهة الحياة.
ان جدلية الإدراك والمعاناة التي تطرح هنا: أن هي الا البصيرة التي تقي الروح من التهالك العبثي، فيما يؤدي العمى الوجودي إلى الذبول قبل الأوان.
إنها مرثية خفية للذات البشرية السائرة نحو مصيرها، بين وعي مأساوي أو هلاك غير مُدرك.
20. رحلة الضوال: في أشواق الإنسان وسراب المصير..
هِيَ رحلةٌ أبَديّةٌ
أشواقُها كَدموعها لا تنتهي
حتى تلاقي الروحُ ما تَعِدُ الضّوالْ
يقول الشاعر:
"هِيَ رحلةٌ أبَديّةٌ"
من الوهلة الأولى، يصوغ الشاعر جملة قصيرة لكنها مشبعة بالمعنى.. فالحياة ـ أو الوجود ذاته ـ يُصاغ كـ"رحلة" لا تعرف النهاية.. إنه انزياح بلاغي يجعل من الزمن المجهول قافلة دائمة. ويواصل:
"أشواقُها كَدموعها لا تنتهي"
في هذه الصورة الباهرة، يوازي بين الأشواق والدموع: كلاهما تيارٌ جارٍ، لا يعرف السكون. الانزياح هنا أن الشوق والدَّمع يصبحان جوهر هذه الرحلة الأبدية، وقوامها العاطفي المؤلم. ليختم بقوله:
"حتى تلاقي الروحُ ما تَعِدُ الضّوالْ"
صورة مدهشة للروح كمسافرة تلهث خلف الضوالٍ "جمع ضالة"، وعودٍ ضائعة أو أحلامٍ مفقودة، تكمل انكسارات الرحلة.
انها تلك الحياةً الإنسانية المحكومة بالبحث الدائم والافتقاد الدائم، في تشريح نفسي.. وجودي لاهث وعميق.
الشاعر ينسج سيمفونية حزينة لمسيرة الإنسان، حيث الأشواق والدموع تتقاطعان في طريق مفتوح نحو وعدٍ لا يُمسك، بل يظل يحوم في ضباب الأبد.
هذا النص يتميز بكثافة رمزية عالية، يعمل فيها الشاعر على المزاوجة بين حركة الروح المستمرة وبين سراب الأمل.
إضافة الى ما يتجلى فيه، كمرآة صافية لفكرة العبث الوجودي: أن كل بحث روحي في الحياة، هو بحث عن ضوالٍ لا تكتمل أبدًا، مما يجعل من الحياة نفسها وعدًا مؤجلًا.
وهكذا يخلق الشاعر عبر رشاقة الكلمات حزنًا ميتافيزيقيًا ناعمًا يتسلل إلى وجدان القارئ دون استئذان.
نختم لنقول:
ان العنوان يحمل في طياته دعوة للتأمل والبحث عن المعنى العميق للحياة والوجود. انه عنوان فلسفي قبل كل شيء، يدعو إلى عدم الاكتفاء بالسطح، وإلى البحث عن العلامات التي تدل على سر الحياة الأبهى، سر الجمال، سر الوجود.
العنوان يجمع بين الفلسفة الوجودية، والمعرفة التأملية، والبعد الصوفي، ليقدم لنا رؤية شاملة عن الإنسان الباحث عن الحقيقة، والذي لا يكتفي بما هو ظاهر، بل يسعى إلى ما هو مخفي، إلى السر الأبهى.
**
طارق الحلفي – شاعر وناقد / ألمانيا
.........................
رابط القصيدة
https://www.almothaqaf.com/nesos/980992