قراءات نقدية

قراءات نقدية

قراءة في قصة "هدايا من عتمة الركام" للقاصة سعاد الراعي

***

الطفولة حين تنقلب إلى شهادة على الخراب

تفتح القصة نافذتها على عالمٍ متشظٍّ بين الموت والرجاء، حيث تُمسي الطفولة مجرَّدة من براءتها، مثقلة بالحروب التي تصنع رجالًا صغارًا قبل الأوان. "هبة"، بطلتنا ذات الأعوام الستة، ليست مجرد طفلة، بل هي انعكاسٌ لحالة أجيالٍ ولدت وسط النيران، وكأنها ابنة الرماد الذي يتجدد مع كل قصف، مثل طائر الفينيق الذي يستحيل رماده حياةً جديدة، ولكن بفارقٍ مرير: هذه الحياة لا تزال محاصرة بالموت.

وسط عالم تلاشى تحت القصف، وتحت سماء لم تعد تحمي، تسير الطفلة هبة بين أنقاض بيتهم، بحثًا عن هدايا العيد لأمها وأختها. ليس في المشهد ما يوحي بالعيد سوى عناد الأمل في قلبها، قلب صغير لم يتوقف عن الإيمان بوجود ما يستحق الحياة وسط هذا الدمار. هنا تتجلى أكثر الصور إيلامًا للمأساة الإنسانية في غزة: حين تتحول مخلفات الحرب إلى ذكريات، وتصير الحجارة بقايا الأحبة.

 بساطة المعاناة وعظمة الدلالة

تبدأ القصة بتصوير هبة وهي مربوطة بحبلٍ إلى والدتها وأختها، كأن القدر قد كبّلها قبل أن تمتلك حتى حرية الطفولة. إنها ليست مجرد صورة عابرة، بل رمزٌ قويٌّ للارتباط الجبري بالمأساة، إذ لا خيار لها سوى البقاء داخل هذه الدائرة المغلقة من الفقد والخوف. غير أن فعلها الأول في القصة هو محاولة الانعتاق: تفكّ قيودها، ليس بمعنى التمرد، بل كاستجابة لغريزة البقاء، وكأنها تسعى خلف بارقة من النور وسط العتمة.

تتحرك القصة بين لحظتين زمنيتين: الماضي حيث البيت والحياة، والحاضر حيث الدمار والفقد. هذه المفارقة تُكسب الأحداث بعدًا دراميًا مؤلمًا، فالطفلة لا تبحث عن كنوز ولا عن دمية أو قطعة حلوى كما يفعل أقرانها، بل تنبش في الركام عن بقايا حياة.. عن أشياء يمكن أن تُهدى.. عن رموز تعيد تشكيل صورتها عن ذاتها.. عن بقيةٍ من دفء العائلة التي انهارت تحت القصف.. وعن عائلتها التي ضاعت في رماد القصف، وما تجده ليس مجرد أشياء، بل شظايا ذاكرة متشظية، قطعًا من حياةٍ كانت نابضة ذات يوم.

الصورة الرمزية للأشياء:

الحَجَر والإبزيم والدبوس: دلالات الرماد والهوية والذاكرة

الحَجَر: شاهدة الألم وبصمة الغياب

حين تلتقط هبة الحجر الملطخ بدم والدها وأخيها، لا تراه مجرد حجر، بل هو شهادة دامغة على الفقد.. أثر باقي من حياة زالت، وقطعة من ذاكرةٍ ترفض أن تمحى.. للحجر هنا رمز مزدوج:

1.  شاهد قبر غير مُعلن، حيث يرقد الأحباء دون وداع.

2.  ذاكرة ملموسة، تتحدى النسيان والطمس، وكأن الطفلة ترفض أن يموت والدها وأخوها في العدم.

ان هذا الحجر هو صكّ الملكية الوحيد المتبقي لعائلة هبة على هذه الأرض.. انه ليس جمادًا.. بل نبضًا في يد طفلة، وشهادة على أن المكان لم يكن مجرد أنقاض، بل بيتًا وروحًا وحياة.

الإبزيم: آخر خيط يربطها بالأب

حين تعثر هبة على إبزيم حزام والدها، لا تراه مجرد معدن محترق، بل رباطًا أخيرًا بينها وبين الأب الذي لم يعد هنا.. يذكّرنا هذا الرمز بما تعنيه الممتلكات الشخصية لمن فقدناهم؛ كيف يمكن لشيء صغير كإبزيم أن يكون أثقل من جبل حين يُحمل بذاكرة القلب.. أنها تستعيد عبره شيئًا من الأمان الغائب.

الدبوس: أثر الطفولة المسلوبة

أما الدبوس المعدني، الذي كان يربط لفافة أخيها الرضيع، فهو أكثر الرموز قسوة. إنه بقايا براءة لم تكتمل، وطفولة توقفت قبل أن تبدأ. إن التقاطها لهذا الدبوس لا يأتي من باب الصدفة، بل هو محاولة لا واعية لاحتضان الذكرى، لملامسة ظلّ الأخ الغائب.. تحمله كما لو أنها تحضن ما تبقى من أخيها، وكأنها تطوي بين راحتيها أنفاسه التي لم تعش طويلًا.

الطفولة حين تُسلب، والمستقبل حين يُسرق

تمثل شخصية هبة نموذجًا لما تصنعه الحرب بطفولة الإنسان، فهي لم تعد مجرد طفلة، بل أصبحت ذاكرة حية للفقد والمعاناة. فالطفلة هبة ليست استثناءً في واقع غزة، بل هي مثال يتكرر كل يوم.. والحرب هنا لا تقتل الجسد فقط، بل تقتل الطفولة، فهي تجبر الصغار على حمل مسؤوليات أكبر من أعمارهم.. انها تجبرهم على نسيان اللعب، وعلى استبدال الدمى بحجارةٍ. ففي عمر سنوات ست تحمل هبة من النضج ما يفوق سنها، وما في يدها الصغيرة ليس سوى ذكريات مفجعة من تحت الركام..

الحرب هنا ليست فقط دمارًا ماديًا، بل تدميرًا نفسيًا بطيئًا، يخلّف أرواحًا صغيرة محملةً بحزنٍ لا يليق بسنها.. وحياةً فقدت ألوانها قبل أن تبدأ..

ان المأساة الحقيقية ليست فقط فيما حدث، بل فيما سيأتي، في أجيالٍ تنشأ وسط هذا الدمار، فلا يبقى لديها سوى خيارين: الصمود أو الفناء.

بين جدار برلين وأنقاض غزة

يدخل الصحفي إلى المشهد كعينٍ خارجية ترصد الحدث، لكنه سرعان ما يتحول إلى شاهدٍ مغلوبٍ على أمره أمام عظمة ما يرى.. عدسته التي أرادت نقل الخبر وجدت نفسها تنقل إنسانيةً لا يمكن أن تختزلها الكلمات، فتتحول الطفلة إلى صورة تعبيرية تلخص معاناة غزة بأكملها.

حين يقارن الصحفي بين حجارة جدار برلين التي تباع كتذكارات وبين أنقاض غزة التي تباع بقرار سياسي، فإنه يضع المأساة في إطار عالمي من التهجير والاستغلال السياسي.

** جدار برلين كان رمزًا للانقسام ثم للتحرر، أما بيوت غزة المهدمة، فتضع الحرب في سياق أوسع.. انها ليست إلا ضريبة تُدفع.. لقرارات سياسية لا ترى في البشر إلا أرقامًا في صفقات التهجير والاقتلاع.. وما حجارة غزة الا "تصفية حسابات"، تُدمَّر ليُمحى أثر أهلها، ويُشترى مصيرها بقرارات القوى الكبرى.

** المفارقة أن أنقاض برلين صارت تذكارًا للحرية، بينما أنقاض غزة تُباع ضمن صفقات التهجير الجماعي، كما يتجلى في مشروع شراء أرض غزة بقرار ترامب، وكأن الأرض لا تُشترى الا بدم أصحابها.

** الاحتلال والتشريد يصبح جزءًا من منظومة عالمية تتكرر بأشكال مختلفة عبر التاريخ.

البساطة العميقة في نصٍّ مشحونٍ بالعاطفة

تنتمي القصة إلى السرد الواقعي العاطفي، حيث تتشابك التفاصيل الصغيرة مع دلالاتٍ كبرى.. اللغة بسيطة لكنها مغموسة بالشاعرية، فكل جملة تحمل شحنة وجدانية، تبتعد عن المباشرة.. لكنها تغرس المعنى في عمق القارئ دون عناء.

الحوار قليل، لكنه مكثف، حيث تمسك الطفلة بهداياها وتجيب بكل براءة:

"أبحث عن هدايا لأمي وأختي، لأن اليوم عيد."

وكأنها بهذه الجملة تعيد تعريف الهدايا والحياة والعيد نفسه، العيد هنا ليس احتفالًا، بل هو استعادة لما تبقى من العائلة، والهدايا ليست مجرد أشياء، بل هي شواهد على وجود من رحلوا.

بين الذاكرة والنجاة

هبة ليست مجرد شخصية.. بل صوتًا لكل الأطفال الذين نشأوا وينشأون وسط الدمار.. فلا يجدون في الركام إلا ما يربطهم بماضٍ كان ينبغي أن يكون حاضرهم ومستقبلهم.

 القصة تلقي الضوء على مأساة تتكرر بلا انقطاع، حيث الحروب ليست فقط معارك على الأرض، بل صلب مستمر للطفولة، وتحويل للأحلام إلى ركام.

يد هبة الصغيرة، لا تحمل مجرد حجارة، بل تاريخًا مشبعًا بالألم، وذكرى ترفض أن تُنسى، تمامًا كما تأبى غزة أن تُمحى رغم كل ما يحيط بها من ظلام.

هكذا تتحول أبسط الأشياء إلى أعمق الرموز، وتصير الحجارة ذاكرة.. والدبوس ذكرى.. والإبزيم رابطًا أخيرًا بعالم لم يعد موجودًا.

لقد نجحت القاصة الراعي سعاد في ان تسلمنا الى هبة التي أخذتنا في جولتها لسماع حكاية غزة كاملة..

**

طارق الحلفي

..............................

الرابط:

https://www.almothaqaf.com/nesos/980644

أهمية العنوان ودلالاته

يحمل عنوان القصيدة "لا تصلبوا زيداً غباءً مرتين" للشاعر د. مصطفى علي، بُعدًا احتجاجيًا قويًا، يتجاوز الإطار الزمني إلى فضاء الوعي الجمعي للأمة. "زيد ابن علي زين العابدين" هنا ليس مجرد شخصية تاريخية دينية، بل هو رمز للنضال والاستشهاد، مُمثلًا بذلك، كل من يخوض المعارك ضد الظلم. العنوان يعبّر عن رفض الخيانة المتكررة للمبادئ، ويوحي بأن تكرار الخطأ في خذلان القادة والمجاهدين هو بمثابة إثم حضاري قاتل.

تنبض القصيدة بجزالة اللفظ وتكثيف الصور الشعرية العميقة، فالشاعر يعزف على أوتار الرمز والتأويل، ليحوّل النص إلى منظومة متكاملة من الاستعارات والتشابيه التي تعبر عن الأوضاع السياسية والاجتماعية للعالم العربي واليمن بشكل خاص. فالأبيات الشعرية تتسم بإيقاع قوي يستند إلى توظيف بحر كامل رصين يتناسب مع طبيعة النص الاحتجاجي، كما أن التكرار في الصياغات يزيد من التأكيد على المعاني.

تمتاز القصيدة بانسيابية سلسة بين محاورها، حيث يبدأ الشاعر بوصف المشهد البطولي لأنصار زيد، ثم ينتقل إلى خيانة العرب، ومنها إلى واقع اليمن وغزة، ليتوج النص بدعوة لاستعادة الوعي والنهوض. هذا الانتقال غير المتكلف يجعل القارئ يعيش التجربة وكأنها وحدة متكاملة، دون أن يشعر بالانقطاع أو الفجوة بين المعاني.

ان حضور "هدهد سليمان" و"نبأ بلقيس" في القصيدة، يبرز قوة التلميحات التاريخية من اجل اعادة إنتاج أحداث الماضي في سياق معاصر وجديد. فالقصيدة تُسقط رمزية الهدهد الذي كان ناقلًا للنبأ اليقيني على الواقع المعاصر، حيث يتم تبادل الرسائل بين الحق والباطل، بين المخلصين والخونة، وبين من يبني الحضارة ومن يهدمها. كما أن استحضار بلقيس يُشير إلى حالة الحصار والخذلان الذي تتعرض له اليمن، حيث تستعيد القصيدة ما حلّ بسبأ من انقسامات وتخاذل في وجه الأخطار المحدقة.

فَهَداهِدي حَمَلتْ لنا نَبَأَ التي

قَدَحَتْ أَواراً في دمي وَأُواما

*

سَبَأٌ بِها بَلْقيسُ حاصَرَها العِدى

وَقبائلٌ من قومِها تَتَعامى

القصيدة تسلط الضوء على التباينات السياسية بين شمال اليمن وجنوبه، مشيرة إلى معضلة التثاقل في النفير والتخاذل في الدفاع عن المبادئ. هذه الإشارة لا تأتي بمعزل عن القضية الفلسطينية، إذ أن غزة هنا تصبح مرآة تعكس واقع اليمن الممزّق بفعل الصراعات والخيانة الداخلية. ويظهر بوضوح التقابل بين "أنصار الإمام" الذين يقفون مع غزة وبين "الأعاريب" الذين يتحالفون مع الغزاة لإعدام غزاة، في استعادة دقيقة للواقع السياسي العربي المتهالك.

يا ساكناً يَمَنَ الجنوبِ، كتابُنا

وَصَفَ التثاقلَ في النفيرِ حَراما

*

يا نارُ أعداءِ الطُفولَةِ والصِبا

كوني على يَمَنِ الأُباةِ سَلاما

*

أسفاً سُليْمى لا عُروبَةَ إنّما

عربٌ وَصاروا عالةً ورُكاما

*

عَرَبٌ أطاعوا رومَهم فَمَليكُهم

عبداً يصيرُ أمامَهمْ وَغُلاما

تتجلى فلسفة القصيدة العميقة في مقاربة الحياة بوصفها "رسالة وشهادة"، حيث يبرز مفهوم التضحية في سبيل القيم السامية، ويصبح الزهد والتقشف عنصرين متلازمين مع الصمود والكفاح. كما يعكس الشاعر سخطه تجاه الحكّام المتخاذلين الذين "زرعوا الوَنا بشعوبهم فتنامى"، وهو تصوير دقيق لكيفية تسلل الوهن إلى جسد الأمة، نتيجة الخيانة والخنوع. أما على الصعيد الإنساني، فإن القصيدة تصوّر وجع الجياع الذين "يُسكتون نيامًا" في مقابل بذخ المترفين، مما يجعلها صرخة مدوية ضد الظلم الاجتماعي.

وأرى جياعَ الشعبِ راقدةً على

ألَمِ الطِوى كي يُسْكِتوهُ نِياما

*

أيَسُرُّ سُكّانُ الخليجِ إذا رَأوْا

مُدُنَ الجوارِ خرائباً وَحُطاما

تنبض القصيدة بالرموز التي تعكس أبعادًا متعددة، إذ أن "زيد" ليس فردًا بل فكرة، و"صنعاء" ليست مدينة فقط بل وجدانًا للهوية المقاومة. كما أن "حرائر" و"أيامى" تُجسدان مأساة الأمة المغتصبة، في حين أن "الأعاريب" هنا ليسوا سوى أداة للتواطؤ مع المستعمر. هذه الرموز تخلق شبكة من المعاني التي تجعل القصيدة نصًا مفتوحًا على التأويل.

وأرى أعاريبَ الفلاةِ وراءهم

مُتَسوّرينَ مع الغُزاةِ خِياما

*

عرباً تثاقلَ ركْبُها عن نُصرةٍ

فَسَبى الدخيلُ حرائراً وأيامى

*

يمكن القول إن الشاعر يروم من خلال هذه القصيدة استنهاض الوعي العربي والإسلامي، وفضح التخاذل والخيانة، والتحذير من تكرار أخطاء الماضي. إنه نصّ يرفض الاستسلام، ويؤكد على أن التضحية تظلّ جوهر الرسالة النضالية، وأن "زيد"، رمز الفداء، يجب أن يُنصر لا أن يُخذل.

أَوَ نَصْلِبَنْ زيداً ونخذله كما

كُنّا مع الجَدِّ الأصيلِ لِئاما

*

أنَخونُ زيدَ الخيلِ ثانيةً بها

وَنَخطُّ شاهدةَ السعيدِ خِتاما؟

*

لا تصلبوا زيدًا غباءً مرتين" ليست مجرد قصيدة، بل هي شهادة على العصر، تحمل بين أبياتها وجع أمة، وتُجسد في رموزها صراع الحق مع الباطل، والخذلان مع الوفاء. إنها صرخة احتجاج ضد التخاذل العربي، ودعوة للنهوض من سبات الخنوع، لتعيد للأمة مجدها المفقود.

يحقق الشاعر هذا كله بلغة جزلة، صوفية الدلالات، تتلاعب بالألفاظ كما تتلاعب الأمواج بصخور الشاطئ، في قصيدة تقف شامخة كالنخيل في وجه العواصف.

**

سعاد الراعي

في عرف سينما الرعب والإثارة يركز الكاتب على إتلاف واجهة الكائن الحي خصوصا الإنسان، أو يبتدع مخلوقا جديدا غير مألوف بين البشر، حيث يبدأ الشعور بالرعب انطلاقا من مفردات العنوان أو من كلمة مباشرة أو غير مباشرة واحدة مرتبطة بمتن أو موضوع الكتاب، عادة ما ينجذب المشاهد أو القارىء بمجرد ذكر فيلم رعب، حتى صار يكفي ذكر الرعب كدلالة ولا يهم بعد ذلك العنوان الرسمي الذي اختاره الكاتب للفيلم.

النفس البشرية لا تستأنس إلّا بما هو مألوف، وانطلاقا من هذه الظاهر النفسية على الكاتب أن يكون ذكيا ويلعب على خارج المألوف. فالبقرة مثلا حتى وإن رأت الإنسان ممسوخا فلا تلقي له بالا، أكيد ستعتبره مخلوقا مختلفا وكفى، حتى نحن البشر قد لا تشكل في أنفسها عملية إتلاف المخلوقات الأخرى أي رعب يُذكر، فقد نعتبرها نحن أيضا مخلوقات غريبة وربما نشك في وجوها كالمخلوقات الفضائية المزعومة، لكن الرعب هي تلك التعديلات السيئة التي يدخلها المخرج على السمات المألوفة على وجه الإنسان بالأخص، كتجمع بشري يحقق الأمن والطمأنينة والهدوء والاستئناس كلما تكاثر في ملامحه المشتركة المعهودة، هنا تحدث الإثارة بما أجاده مخرج فيلم الأموات الأحياء، مع أنه لم يمسخ الرؤوس بل ظهرت جماجم البشر في شكلها العادي، أمّا غير العادي فيها فهو أنها تتحرك فارغة من لحمها، وأحيانا مهدور متناثر ربما لأن بعضهم حديثي الدفن، وأحيان رؤوس بمحيطها الهندسية المعتاد يتقاطع من وجوهها الدم واللحم الحي، ويقصد المخلوقات البشرية التي أصيبت بالعدوى. الرأس كلمة عامة، نقول رأس الجبل، رؤوس الأصابع، رأس الخيط.. وكما عهدنا أن لكل شيء رأس، وهو ما يعلو الشيء بعكس القدمين في الكائنات الحية أو القاعدة عند الزواحف أو الجبل وكل المواضيع الجامدة.

قبل أن نبحث عن الدلالة العميقة للمسخ في الأدب العربي والأجنبي، وفي النصوص المقدسة: (فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ)1. حتى في المواضيع والصور التي اعتادت أبصارنا على استقامتها واستواء مناظرها وأشكالها، دعنا نقف عند "رؤوس ممسوخة" كعنوان بحده هو ذاته ممسوخا لأنه لم يحقق الدلالة المرجوة منه، فلأن من الشائع أن نقول وجوه ممسوخة حتى نثير السؤال لماذا مُسخت هذه الوجوه وبُدلت عن سليقتها، مثلا لو أن الله غير من شكل هذه الفرقة المعاقبة مع الإبقاء على ملامح الإنسان في وجه القرد فهل كانت ستتحقق الإثارة ثم يظهر أثر العقاب بمعناه الكلي؟ أكيد يبدو السؤال حول تبدّل شكل الرأس مسألة مدهشة ولا هي مثيرة للرعب أيضا، وكموضوع منظور أكيد سيتغير الوضع النفسي لمن شدّوا على كراسيهم انتظارا للمفروض أنه فيلم أو قصة رعب، كما يقول الدكتور ".. كثيراً ما كانت المفردة ملتصقة بما يحتويه الكتاب من موضوعات، بحيث يكون العنوان مرآة لهذا الكتاب، وأعتقد بأن هناك كانت أسس قد تم الاتفاق عليها بين المؤلفين، وهي عدم خروج العنوان على متن الكتاب.."2.

لأن الرأس وإن عبثنا بشكله ومسخناه فلن يذهب بعيدا عن الأشكال الهندسية المألوفة، كأن نحوله من الشكل المستدير إلى مربع أو مستطيل مثلا، وهذا ما يشاهده الأطفال يوميا في أفلام الكارتون حيث لا يثير فيهم ذلك أي فزع بل تراهم يتابعون حلقاته بمتعة لا متناهية، كالشخصية الشهيرة بينهم المعنونة بـ"سبنج بوب" مثلا، مع أن واجهته مربعة ومحيطه مكعب، لكن الذي حافظ على استقرار وضعهم النفسي مع أنهم أسرع إلى الرعب هي ملامح "سبنج بوب" الطبيعية، ولو توفر عنصر العرب فيها لصادرتها منظمة حقوق الطفل، لكنه توافق مع ما يصفها كثير من النقادة والدارسين كتأثير بصري للعنوان من حيث هو دلالة على شكل هندسي أو معنى لغوي بسيط.

لكن الموضوع الأكثر عمقا الذي نطرحه في هذه القراءة هو التناول الحسّي المبدئي لمفردات العنوان كبوابة آخذة بالذهن إلى مضمون مرتبط بمحتوى النص القصصي أو الروائي، فالعنوان تترتب عنه شراهة لقراءة المضمون، فإن لم يفلح الكاتب في توفير هذه الميزة فأكيد سيحتم على القارئ التدخل بإمّا البحث عن مضمون آخر منساب للعنوان، أو التفكير في عنوان آخر مناسب للقصة أو الرواية أو البحث أو الكتاب ككل، وربما يحصره في دائرة من فساد المزاج ليهمل النص أو الكتاب بمجمله، فالقارئ مدعو دائما إلى الاستمتاع وليس للتفكير مع الكاتب لمراجعة ما قرر من عنوان ومضمون.

يبدو أن صاحب العنوان لم يكلف نفسه كثيرا من العناء بحثا عن عتبة أكثر دقة، سوى إسقاط كلمة رؤوس على وجوه التي اعتبرها مكرسة في أفلام وقصص مشابهة، فعتّب بها الكتاب لزوم الاختلاف الذي اعتقد أنه رحمة، ولا يدري أنه قضى فنّيا على العنوان بتجاهله إدارة فنون وأجناس المجاز في اللغة، وفنية التعامل مع المرئي سواء كان صورة متحركة أو صورة جامدة، الفكرة التي تطرحها نظرية الاليغوريا في إبراز بلاغة الصورة أو الفكرة: "صورة مجازية تنسج من مادة سردية وتنطوي على معنى ظاهر وآخر خفي، كونها من المجاز السردي3"، بالمعنى الذي أشار إليه الباحث والمستشار في التسويق الرقمي الدكتور حسام جندل، ورغم أنه غير متخصص في الأدب إلّا أن المقولة أعجبتني لأتخذ منها مرجعية بخصوص جاذبية العنوان للدلالة على موضوع تجاري أو أدبي أو حساب أو موقع رقمي مما يتعلق بالحسابات والمدونات والصفحات الشخصية، لأن المعنى ينطبق كذلك على الكتاب حيث يقول: " إن الكلمات القوية هي مصطلحات تثير استجابة عاطفية ويمكن أن تجعل عناوينك أكثر إقناعًا. تستهدف هذه الكلمات مشاعر القراء، مما يدفعهم إلى النقر على محتواك بدافع الفضول أو الإثارة أو الخوف من فوات الأشياء (FOMO) أو محفزات عاطفية أخرى."

فكلمة رؤوس جعلت المعنى مشتتا وغير دقيق، فكل المخلوقات الحيّة على وجه الأرض، وكل المواضيع الموجودة في الكون وسائر الأشياء لها رؤوس، واختلاف أشكالها ومواضع حواسها من جماليات الكون وفسيفسائه، فهذا المعنى الكامن في أذهاننا هو الذي نسخ ما يمكن أن يتضمنه (رؤوس ممسوخة) من معنى، (إِنَّ فِي ٱخۡتِلَٰفِ ٱلَّيۡلِ وَٱلنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ ٱللَّهُ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ لَأٓيَٰتٖ لِّقَوۡمٖ يَتَّقُونَ) يونس (6).

لاحظ أن ما ورد للإشارة إلى أنه تنوع عادي، فاختلاف جزئيات مكونات الكون حالة تجعلنا نستمتع، فالهندسة تثبت أن اختلاف أشكال المخلوقات مظهر جمالي، كما هو الحال في مظهر الخضر والفواكه، ففاكهة الموز مثلا ليست ممسوخة مقارنة بالتفاح، ورأس الحصان ليس ممسوخا كذلك الحال إذا ما قارناه برأس الأسد، وبناء على ما ورد في الآيات من معنى فإن الليل ليس ممسوخا مقارنة بالنهار الذي نحبه عادة في تعلّقنا المسطح به، فقط لأن أجدادنا أقنعونا بأنه مخيف حتى لا نتجرأ فنخر ونحن صغار فيفقدوننا، وربما من سوء حظ الليل حين اختاره اللصوص للتخفي والمخادعة، فماذا نقول عنه اليوم حين عرفنا أنه يصلح للسهر والمسامرة ولخوض الأعمال الشاقة تفاديا لحر الشمس، وأن اللصوص تخلوا عن ظلام الليل وصاروا ينفذون خططهم في وضح النهار، وكذلك لم يعد النهار وحده يساعدنا على قضاء حوائجنا الكثيرة، حيث كان الإنسان يظن أنه لا يمكن أن يدركها ويراها ويصل إليها في الظلام، إذن لا جديد ولا مدهش ولا مثير في العنوان "رؤوس ممسوخة"، والأصح وجوه ممسوخة لأن هذا المسخ هو الذي يوفر ويُراكم الغرابة والدهشة في مشاعر الآخر بناء على المقارنة التي تحدث سريعا داخل النفس، فإلى ماذا تريد الوصول وأنت تمسخ الرأس الذي عهدناه كرويا أإلى شكل مكعب مثلا، ما هو إذن المجهود المبذول في طرح عنوان يتمتع بوظيفة فنية مكتملة الخصائص والدلالات؟

كثير من البشر خلقوا برؤوس غير سوية، ولأن مساحة وجوههم مألوفة بيننا، ومواضع حواسهم متمركزة في أمكنتها الطبيعية لم نشعر اتجاههم بأي رعب، أو حتى حساسية معينة تجعلنا نراهم ممسوخين على رأي صاحب العنوان، الرسامون الكبار يعتبرون الأشكال الهندسية تأسيسا فنّيا للوصول إلى رسم رأس الإنسان، فيعتبرون رأس الطفل مثلا مستديرا بينما رأس الرجل مستطيل، وبعض الوجوه تأتي مثلثة، وهكذا ينصحون المبتدئين بالانطلاق من هذه الأشكال.

***

الكاتب الجزائري عبد الباقي قربوعه

..................

1- البقرة الآية: 65.

2- مجلة فرقد الإبداعية عدد: 01 أغسطس 2023م

3- الاليغوريا، ادارة دار التنوير العمانية تأريخ النشر: 26 /2/2019.

 

ميخائيل ميخائيلوفيتش هو الابن الأصغر للأديب ميخائيل شوخولوف (1905 ـ 1984) الحائز على جائزة نوبل عن روايته "الدون الهادئ"، عالم وفيلسوف وإستاد جامعة وناشط اجتماعي ترأس صندوق شولوخوف المهتم بميراث الكاتب المشهور ومستشارا متحفه، وهو مؤلف للعديد من الأعمال ونال العديد من الأوسمة، وعاش لآخر أيامه بقدر عمر أبيه وتفاعل مع قضايا العصر والمجتمع الذي عايشه.

توفي شولوخوف الابن في 21 أكتوبر 2013. ونشرت "الصحيفة الأدبية" "ليتيراتورنايا غازيتا" الصادرة بموسكو، آخر حديث صحفي ادلى به قبيل وفاته، وكرسه لأبيه أنسانا وأديبا، والذي عاش في زمن صعب وانتج أعمالا خالدة، جعلت منه شخصية عصر كامل تدور حولها الكثير من الأساطير والاختلافات، وربما الحقائق. إضافة الى أن المادة مهمة من جهة التعرف على عالم الأديب ومختبره الحياتي والإبداعي للمساعدة على فهم أعماله والعثور على تأويل مناسب لها. المادة هذه قائمة على ردود شوخولوف الابن على أسئلة الصحيفة

ـ الناس يريدون أن يسمعوا عن شولوخوف أشياء غير عادية، بيد انه كان أنسانا عاديا لم يتميز عن الآخرين بشيء، باستثناء حينما كان يجلس خلف طاولة الكتابة.

وعى ميخائيل شولوخوف أن أباه أديب، وهو يسمع من الآخرين المحيطين عنه ولم ير أن شوخولوف يكتب مذكرات شخصية للتاريخ، ولمستقبل مؤلفاته. فلقد كانت لديه ذاكرة قوية ليس فقط للأحداث الكبرى، ولكن للأحداث الصغيرة، ومظهر الناس، وتغيرات الطبيعة.

وكان شولوخوف الأب يذهب إلى طاولة العمل دون سابق إنذار ملمح بذلك للمحيطين به بأنه، بحاجة للهدوء وأن يلتزموا السكينة وعدم إزعاجه لمدة زمنية محددة.

ولم يشرع مؤلف الدون الهادئ كتابة أعماله بوضع خطة مسبقة لها. ولم نلاحظ من أية نقطة يبدأ العمل، وبالأحرى أن خطة العمل تترتب في رأسه ومن ثم يجلس أمام الطاولة ويسكب كل شيء على الورقة. ولم يذهب شولوخوف بنفسه إلى الأرشيف الحكومي لاستقاء المعلومات الخاصة بأعماله، وإذا ما احتاج إلى وثائق خاصة، فإنه يطلب من الجهات المعنية أن ترسل له الوثائق المطلوبة...

 وقد أتاحت له علاقاته بالمحرر الأدبي لصحيفة البرادات الناطقة باسم اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفياتي، بالحصول على المواد والكتب المطلوبة لإعماله الأدبية. بينما بقي الأرشيف الذي كان بحاجة ماسة له لروايته " المدافعون عن الوطن" مُغلقا أمامه، وكان من الصعب عليه الكتابة عن الحقائق وعن العمليات العسكرية من دون معرفة كافة التفاصيل، وعانى كثيرا بسبب ذلك.

 شوخولوف الأب لم يحب أوساط أدباء موسكو، وتحدث عنهم كوصوليين ومدبري دسائس وهم كذلك -بالفعل-. وتجري بينهم عملية غريبة حيث يتجمع فريق من الأدباء ويتبنى فكرة ما، ومن أجل تلك الفكرة يتشاحنون ويتعاركون ويرمي أحدهم الآخر بالسجن، ولحد التصفية الجسدية. لقد سئم شولوخوف من وسط أدباء موسكو...

استلهم شولوخوف معارفه بالتاريخ والتقاليد والعلاقات اليومية واللغة التصورية والأمثال وأغاني القوقاز من خلال التعامل مع محيطه الواسع، وعرف الكثير من القوقاز أنفسهم الذين كانوا يتحدثون عن مصاعبهم بروح من الدعابة، وعرف بصورة جيدة الأغاني القوقازية وكانت لديه كثير من موسوعات الأمثال والحكم، ولكنه لم يحب الاقتباس من الآخرين. ونادرا ما كان يقتبس عبارات من أعماله أثناء حديثه.

كان يتابع باهتمام الحركة الأدبية في البلاد، ويقرأ بسرعة كبيرة، ولكن حينما كان يقرأ كل ما يقع بيده فانه يقراه بإمعان ولكن بسرعة، وقرأ معاصريه من الأدباء مثل تفاردوفسكي وسيمينوف وابراموف وبيلوف واستافيف وراسبوتين. لقد قرأ لكل هذا الرعيل بمتعة كبيرة وأعاد قراءتهم وامتدحهم. ومن ثم أطلقوا عليهم " تيار القرويين"، (لأنهم تناولوا مشاكل القرية السوفياتية والفلاحين).

لم يهتم شولوخوف بجمع أرشيفه والحفاظ عليه، وحرقَ الكثير من أوراقه واعتنى فقط بجزء من الأرشيف. 

ويصعب القول بأن كان لديه بعد الحرب العالمية الثانية أرشيف بالمعنى الدقيق للكلمة، فقد كانت لديه في الصناديق حزم بعشر أو اثنتي عشرة صفحة، إنها على الأغلب مخطوطات، ولكن لا يمكن القول إن لديه أرشيفا وأنه جمعة ورتبه.

وتتذكر أرملته بأنه كان يخجل من كل ذلك، حينما شرعت بجمع مخطوطاته كان يقول لها "ماذا تفعلين فسيعرف بعد ذلك أحد الأصدقاء ويقول انظروا إلى شوخولوف أنه يثمن نفسه بنفسه يجمع أرشيفا" وحينمها  اتهموه بمختلف الكبائر (في إشارة إلى تهمة انتحاله رواية الدون الهادئ من احد الكتاب المعادين لثورة اكتوبر) فإنه وافق مع أرملته، وبدا يكتب كل شيء بيده ومن ثم تقوم هي بطبعه والاحتفاظ به، ولم يعترض في هذه الحالة. ومن المؤسف أن يكون كل هذا قد ضاع إبان الحرب العالمية الثانية. إنه أيضا لغز!.

 أن القول بان الكسندر سولجينيتسين (الذي تبنى مزاعم انتحال شولوخوف لرواية الدون الهادئ) نغص حياة شولوخوف عار من الصحة، وانه اعطى رايا حسنا بقصصه " يوم من حياة ايفان دينيسوفتس" و" فناء ماتريونا". وحينما ظهر الكلام الفارغ في باريس (مجموعة من المقالات التي تشكك بان يكون شولوخوف هو مؤلف رواية الدون الهادئ) وكتب سولجينيتسين مقدمة له، عرف شولوخوف بصدور مثل هذا الكتاب، واكتفى بالقول للشخص الذي عرض عليه مضمون المقدمة التي كتبها سولجينيتسن :"ما يبغي هذا الرجل غريب الأطوار؟".

أن مقولة شولوخوف الشهيرة:" أن قدر الأديب مأساوي" تنطبق تماما عليه. والكلام لا يدور عن حياته المعيشية، وإنما حول مصيره الأدبي. والحملة التي تعرض لها ومازالت سارية لحد يومنا هذا. ولسبب ما كانوا مستعدين وبكل سرور " للقضاء عليه" إن وسط أدباء موسكو لم يشعر نحوه بالحب، وكان يكن له نفس المشاعر".

لقد جرى تفسير الكثير من المحن التي تعرض لها شولوخوف بالحسد، ولكن كما قال هو أن " كلمة حسد لا تفسر شيئا. لهذا فان مقوله " قدر الأديب المأساوي" توافق شولوخوف.

***

د. فالح الحمـراني

 

في رحاب الشعر المعاصر، تقف هاتان القصيدتان شامختين كشجرتين باسقتين في صحراء المألوف، تتحديان المتلقي بلغة مكثفة وصور متراكبة تستعصي على التأويل السطحي. إنهما نصان يتوشحان برداء الرمز، وينسجان خيوط المعنى في نسيج متشابك من الدلالات المتعددة.

أولاً: قصيدة "غموض" - جدلية الذات والكون

تفتتح القصيدة الأولى بمشهد سريالي حيث تستعير الريح صفة إنسانية في محاولة "غرف العطش" من النهر، في مفارقة تقلب الموازين الطبيعية، فالريح - التي لا تعطش - تغترف من النهر عطش الشاعر، وكأن الطبيعة باتت وعاءً لعواطف الإنسان وانفعالاته:

"أن أرادتْ الريح أن تغرفَ من النهرِ عطشي"

هذه الاستعارة المركبة تؤسس لرؤيا شعرية تتجاوز حدود المنطق، وتطرح سؤال العلاقة بين الذات الإنسانية والظواهر الكونية. فالشاعر يجعل من الريح كائناً قادراً على فهم معاناته والتعاطف معها، بل والتدخل لتخفيفها.

ثم تتصاعد حدة التشخيص في المقطع التالي:

"أو تذرف ببطءٍ دموعا ليأسي"

حيث تصبح الريح قادرة على البكاء نيابة عن الذات الشاعرة، في حالة من التماهي الكامل بين الإنساني والطبيعي. هذا الامتزاج بين الذات والموضوع يشكل أحد السمات الجوهرية للقصيدة، ويعكس اتجاهاً صوفياً يتجلى في فكرة وحدة الوجود.

ينتقل النص بعد ذلك إلى صورة "أصابع النذور" في علاقتها بالمتكلم، وهي صورة غامضة تحيل إلى فكرة العهود المقدسة التي التزم بها الشاعر:

"أتتْ إليّ.. لأعرف أصابع نذوري"

وتتوالى الصور الشعرية لتجسد فكرة التعالق بين الروح والطين، بين السماوي والأرضي:

"هي الروح ملتصقة بالطينِ / تطفئُ خوفي"

وهنا تتجلى ثنائية أخرى مركزية في القصيدة، هي ثنائية الخوف والأمان، حيث تصبح العودة إلى الأرض (الطين) ملاذاً روحياً يقي من الخوف الوجودي.

تنعطف القصيدة بعد ذلك نحو مفارقة أخرى تقوم على قلب المتوقع:

"إني وجدتُ في الحُمّى ما يشفيني / وفي آثامي وديعة ما يسلّيني"

فالحمى - وهي حالة مرضية - تتحول إلى مصدر للشفاء، والآثام - وهي انحراف عن المسار الأخلاقي - تصبح منبعاً للتسلية والسكينة. هذا الانقلاب الدلالي يعكس روح تمرد تتخطى المألوف وتسعى لتأسيس منظومة قيمية بديلة.

تختتم القصيدة بإعلان صريح عن حالة الغموض العامة التي أشار إليها العنوان:

"غامض كل شيء / الاّ قلعة التنين."

إنها خاتمة صادمة تترك المتلقي أمام لغز جديد، فما هي "قلعة التنين" هذه التي تمثل الوضوح الوحيد وسط ضبابية المشهد العام؟ ربما هي رمز للسلطة، أو للخوف المتجسد، أو لمركز القوة الذي يفرض هيمنته على المشهد الإنساني.

ثانياً: قصيدة "وصول المعنى" - مسرح الصراع الرمزي

تنطلق القصيدة الثانية من لوحة تشكيلية تتكون من عناصر متباينة متناثرة، كأنها مشاهد متقطعة من فيلم سريالي:

"أوزّة وحيدة / ثمة غربان هزيلة / مخالبٌ جائعة تتربّص بالأحلام"

تبدأ المشهدية بصورة الأوزة الوحيدة، رمز الضعف والانفراد، ثم الغربان الهزيلة التي تنتمي في مخيال الثقافة إلى عوالم الشؤم والموت، ثم المخالب الجائعة التي تستهدف لا الجسد بل الأحلام - وهنا تتجلى استعارة بليغة تجسد فكرة تهديد عوالم الحلم والتخييل.

يتصاعد المشهد الدرامي بصورتي النار والنمر:

"نيران تضيءُ أشجارا مثمرة / نمر يسقط في رماد."

إنها صور متناقضة تجمع بين الإضاءة والسقوط، بين النار المستعرة والرماد المتبقي منها، في جدلية الفناء والتجدد.

ينتقل النص بعد ذلك إلى مستوى ميتا شعري، حيث يتأمل في العلاقة بين الدال والمدلول:

"حين يزعم الحرف بأن اسما قد أنكر معناه"

وهنا نكتشف أن عنوان القصيدة "وصول المعنى" يحمل مفارقة، فالمعنى لا يصل بشكل مباشر بل عبر مسارات ملتوية من الإنكار والتحول. الحرف يزعم، والاسم ينكر، في حالة من الانفصال بين اللغة وما تحيل إليه.

تختتم القصيدة بعبارة مكثفة تبدو كخلاصة فلسفية:

"وصولا لظلمة صادقة."

فالظلمة - رغم دلالاتها السلبية المعتادة - توصف بالصدق، في انقلاب دلالي آخر يشبه ما رأيناه في القصيدة الأولى. وكأن الحقيقة لا توجد في النور والوضوح، بل في الظلام والغموض، في مقاربة تذكرنا بالمنهج السلبي في التصوف، حيث يوصف الله بما ليس هو، لا بما هو.

المقاربة الجمالية والأسلوبية:

تتميز القصيدتان بسمات أسلوبية مشتركة أبرزها:

* الاقتصاد اللغوي: حيث تتسم اللغة بالتكثيف الشديد والاختزال، فتقول الكثير بالقليل من المفردات.

* المفارقة: وهي تقنية بارزة في النصين، تقوم على الجمع بين المتناقضات ومنح الأشياء صفات نقيضها (الحمى تشفي، الآثام تسلي، الظلمة صادقة).

* السريالية: حيث تتوالى الصور في تداعٍ حر يتجاوز منطق السببية، فتتجاور عناصر متباعدة في الواقع (الريح تغرف العطش، النمر يسقط في الرماد).

* الشخصنة: منح الأشياء والظواهر الطبيعية صفات إنسانية (الريح تغرف وتذرف، الحرف يزعم، الاسم ينكر).

*  الرمزية: استخدام عناصر رمزية موحية (التنين، الأوزة، الغربان) بدلالات مفتوحة على تأويلات متعددة.

تقف هاتان القصيدتان عند تخوم الشعر الصافي، متحررتين من أعباء السرد والخطابة، ساعيتين لخلق تجربة جمالية تغوص في أعماق الذات والوجود. إنهما تنتميان إلى تيار الشعر الرؤيوي الذي يتجاوز المباشرة والسطحية، ويسعى لتفجير طاقات اللغة الكامنة.

القصيدتان تتحديان المتلقي وتدعوانه للمشاركة في إنتاج المعنى، فالغموض فيهما ليس عيباً بل فضيلة، والإبهام ليس قصورًا بل غنى دلاليًا. إنهما تعكسان وعياً شعريًا متقدمًا يؤمن بأن مهمة الشعر ليست تقديم أجوبة جاهزة، بل طرح أسئلة جديدة تفتح آفاق التأمل والتفكير.

**

طارق الحلفي

.................

الرابط

https://www.almothaqaf.com/nesos/980415

ذات مرّة سائلني أحد الكتّاب العرب في هولندا/اوترخت، هل زرت قبر كمال السبتي؟ هل قرأت لصديقه وسام هاشم؟.
بصراحة يومها لم أكن اعرف من هو المرحوم كمال، ترحمت عليه ثم قرأت له فيما بعد، القليل ممّا نشر عنه، فقد طبع صورته في مرآة الخلود.
أما وسام هاشم، كان أسمه متداولاً في الساحة الأدبية منذ أوخر التسعينيات رغم صغري الأدبي يومذاك.
هو شاعر نثري، كتب النّص الأدبي منذ أواخر السبيعينيات ومطلع الثمانينيات من القرن الماضي؛ فرّ بجلد كتاباته من حروبٍ طاحنةٍ في بلدٍ استمدّ إبداعه منه؛ بينما أنا مارست رسالة الكتابة عام ١٩٩٩-٢٠٠٠.
وسام على شاكلتي لا يقرأ لكلّ من هبّ ودبّ، نصوصه، قصائده لا تتعالى على القارئ؛ لغة السهل الممتنع.على قلّة ذات الوقت والمشاغل، قرأت له سهول في قفص، من أنتِ؛ السبورة، قبلة في الميترو…
في كتابي (نخيل في بستان الذاكرة) كتبتُ عن (مبدعين عرفتهم عن قرب) خلال رسالتي الكهنوتية والأدبية، وفي كتاب آخر عنوانه (مبدعون قرأت لهم) لم ينشر؛ كان الهاشم أحدهم، وسام هاشم الذي تسخّى علينا نحن ملّة الأدباء والقرّاء يستحق هذا الغيض من ذلك الفيض.
قبل بضع سنوات أرسلت لي إحدى الصديقات المشتغلات في الحقل الأدبي بالعراق مقالاً للأكاديمي العراقي علي المرهح بخصوص المبدع وسام هاشم… فحفزني بعد أن نال استحساني، لكي أعلق هذه المّعلّقة المتواضعة في سبورته البيضاء كبياض قلبه واشعاره:
وسام هاشم وسبورته البيضاء
لا أدري ما الذي جعلني أظن، وليس كُل الظن إثمًا، بأنّ هذه المرّة لم يجلس شاعرنا المرموق وسام هاشم تلميذًا، ليقرأ ما يمليه عليه معلموه في المدرسةِ كما كانا أيام الصبا في بلدنا الأم؛ بل صار هو الأستاذ وكتب على تلك السبورة البيضاء ما يمر به وعليه أدبيًا وإنسانيًا، بقلم اسود أو بقلم له لون الحياة؟!
حين أكتبُ أمزق الكثير مِن الأوراق، وعلى الحاسبة احذف، اعدل، أغيّر، أضيف، يا ترى هل حمل وسام بيدٍ قلمًا وبيدٍ أخرى ممحاةً ، أم محى من فكر وجدانه ثمّة كتابات أحتفظ بها لذاته ولم يودّ ان يكتبها لنا على السبورات؟!.
نحن حملة القلم أبناء الكار الأدبي الواحد قد نفهم ما يكتبه بعضنا الآخر على ظهر فكر وقلب، إذ نجيد قرأت ما بين السطور، فليس لدينا معاناة ( المعنى في قلب الشّاعر)؛ ففي سبورة وسام القليل من كثير إبداعه، فإن كانت الكلمة عاكسة لكاتبها وصدى أعماقٍ لصاحبها، فإن نصوص وسام تحكي كثيرًا عن لوعة خلجات روحه ونقاء سريرة كاتبها وسمو رسالته.
إنَّ كتابات ذلك العراقي السومري الذي أجلُّ، أراها معمذة بنهري دجلة والفرات، فكُلّما أطالع لوسام هاشم ولغيره أقول ان قصيدة النثر في العراق لاتزال في مرتبتها الأولى.
حين خذلته الحياة، واضناه الأسى... لم يلعن حظه، ولم يغني محسود ما عندي بخت؛ ولم يضع السبع عيون على أغلفة دواوينه، بل شطب مفردة الخذلان من قاموسه وكتب للإنسان عن المفهوم الحقيقي للحياة، وسام صرخة إبداع في وجه الحياة، أوَليس هو القائل: "يخطئ العراقي فقط بنوع السبورة التي تكتب عليه”.
إن وسام الإنسان الذي نشر في زمن الممنوع (سهول في قفص) غدى الشّعر قفصه الحي ومتنفسه الأوحد حسب قرأتي له، فذلكَ الرافديني الذي هجته الحروب، واكتوى بصقيع غربته، إذ رصاصة إغتالت أحلامه في وطنه الأم، لكنه لم يقف مكتوف اليد، بل راح يبحث في غربته عمّا فقده ليدله عليه، فحوّل آهاته إلى نسمات حياة تعج بالابتكار الخلاّق.
من يقرأ لوسام، سيجده غيمة عصرت نفسها طيبة وحبّا وشعرّا...؛ فكانت غيمته الأدبية ماطرة في سهول روح كل من يقرأه ؛ فلا عجب أن ثمّة نصوصٍ لهُ تجدها ذات طابع وجداني بل لاهوتي، وكأنها معمذة بمياه نهري دجلة والفرات!.
وسام الذي كتب نصًا مشاكسًا عنوانه (غلطة العراقي)، أقول بدوري يخطأ من لا يقرأ لوسام هاشم.
خاتمة مطافي
إلى ذلك الشّاعر الإنساني، غير التقليدي أقول لا يزال الكثير من إبداعك لتكتبه على سبورة الأدب؛ تلك شهادة للتاريخ عن شاعر يتربع على عرش معبد الشّعر بلون أدبي خاص به لا يُقلد ولا يكرر.
ولعلّي هنا أبوح لكم بسرٍ: كلما قرأت له أجدني في حضرة ظاهرة أدبية إنسانية، فيها الإمتاع والإقناع والإبداع، فذاك القمر الذي خسف في بلادنا بحكم ظروف يطيل الحديث عنها إن بدء، بات شمس إبداع في دنيا الاغتراب والمشهد الثقافي. إنّه وسام هاشم، الذي أبى أن يرمي يمين النسيان على بلده ورفض بيعه في سوق الأوطان، فترك ذاته وديعةً في نصوصٍ مُعلقة على سبورة تنتصر للإنسان والحياة، تصرخُ استغاثة في وجه الإله مِنَ العباد والبلاد.
دمت ودام نبض إبداعك كلمةً خالدةً على سبورات الوجود. الّلهم آمين.
***
الأب يوسف جزراوي/ أمريكا

 

قراءة فلسفية ونفسية في سردية الزمن والتمزق الوجودي

فن السرد وعبثية الحياة
الحياةُ، في جوهرها، ضربٌ من العبث. فهي لا تمنحُ إجاباتٍ واضحة عن الغايات أو تفسيراتٍ مرضية لمعاناة الإنسان، بل تتركهُ مُعلَّقًا بين الأمل والعدم، بين الرغبة في الفهم وحتمية الموت ويأتي الأدب كوسيلة لمساءلة هذا العبث، كأداةٍ لفضح هشاشة المعنى وتعرية الصراع الوجودي. عبر السرد، فيصبح القارئ شاهدًا على محاولات الشخصيات مواجهة الفراغ أو الهروب منه، سواء عبر التمرد كما فعل ميرسو في “الغريب” لألبير كامو، أو عبر السقوط في العدمية كما نرى في “المسخ” لفرانز كافكا، حيث يتحوَّل غريغور سامسا إلى كائنٍ منبوذ بلا سبب واضح، رمزًا لانقطاع الإنسان عن ذاته وعالمه.
الأدب، إذن، لا يمنح حلولًا، بل يعكس أزمة الكائن في عالمٍ غير مبالٍ. في “في انتظار غودو” لصامويل بيكيت، يُجسَّد الانتظار كرمزٍ لعبثية الحياة، حيث الشخصيات لا تفعل شيئًا سوى انتظارٍ لا طائل منه، فيما الزمن يمضي بلا اكتراث. وكذلك في “الغثيان” لجان بول سارتر، حيث يتحول إدراك البطل لوجوده إلى عبء، فتغدو الأشياء فاقدة للمعنى، ممتلئة بثقل الوجود نفسه.
من هنا، نجد أن السرد العبثي لا يهدف إلى تقديم حلول، بل إلى جعل القارئ شريكًا في التساؤل: هل يمكننا التعايش مع العبث؟ وهل المواجهة الحقيقية تكمن في الهروب منه، أم في تقبُّل عدم جدواه؟ هذه الأسئلة تتجلّى بقوة في قصة “حين يتلاشى النبض” لعبد الزهرة عمارة، التي ترصد لحظة مواجهة بين الفرد وعبث الحياة، حيث يتقاطع الصمت مع الخوف، والهروب مع الفناء
البنية الفنية والرمزية
البنية الثنائية:
تنقسم القصة إلى مشهدين: ليل المرأة المضطرب وصراعها مع الأفكار، وصباح الغرفة المُثقَل بآثار مازن. يعكس هذا التقسيم ثنائية الوجود الإنساني: الداخل (العقل والقلق) والخارج (الواقع والتداعيات). فكما نجد في أعمال كافكا وسارتر، يكون الصراع الحقيقي في الداخل، حيث تدور أزمات الشخصيات في متاهات الفكر أكثر من الأحداث الخارجية.
هذه البنية الثنائية تُذكّرنا بالسرد العبثي عند كامو في “السقطة”، حيث يعيش البطل صراعًا داخليًا بين الشعور بالذنب واللاجدوى، وكأن الوعي الإنساني محكوم عليه بأن يكون مسرحًا للقلق والتناقض.
ب. اللغة الشعرية:
تستخدم القصة استعارات غنية (السرير “مرفأ”، الوقت الذي “يسحب بأهداب رقيقة”) لخلق جوٍّ وجودي يربط بين الواقع والميتافيزيقا. هذه اللغة تتجاوز الوصف السطحي إلى تكثيف المعنى، كما نجد في “الغثيان”، حيث تتحوّل الأشياء اليومية إلى كيان غريب يثير القلق والوحشة ويُشبه استخدام الاستعارات هنا ما يفعله هاروكي موراكامي في أعماله، حيث تصبح الأشياء العادية ذات طابع سريالي، كأن الواقع نفسه مُفكّك وعاجز عن تقديم يقين حقيقي.
الرموز:
الساعة: تجسيدٌ للزمن الذي لا يرحم، والصراع بين الإنسان وقدرته على التحكم في مصيره.
النافذة: بوابة نحو المجهول، محاولة للهروب من الفوضى الداخلية، لكنها تبقى محدودة بقيود الواقع.
زجاجات الكحول والسجائر: أدوات الهروب من الذات، رمزٌ للعجز عن مواجهة الفراغ الوجودي.
غياب النبض: النهاية الحتمية للهروب، حيث يصبح الموتُ تعبيرًا عن انطفاء الجوهر الإنساني.
وكما في “المسخ”، تمثل الغرفة الضيقة التي يُحتجز فيها غريغور سامسا رمزيةً مشابهة للنافذة في القصة: مكانٌ يفصل بين الداخل والخارج، بين الأمان المزيَّف والواقع القاسي، حيث يصبح الإنسان سجينًا لوجوده العبثي.
الرؤية الفلسفية
أ. الوجودية والعبث: تُصوِّر القصة الإنسانَ في مواجهة العبث كانت المرأة تسعى لهدوء مؤقت عبر الانسحاب إلى الذات، بينما ينهار مازن تحت وطأة الفراغ. يُذكرنا هذا بفكرة كامو عن “الغريب” الذي يواجه عدمية العالم.
الهروب كخيار: يختار مازن الهروب عبر التخدير (الكحول)، بينما تبحث المرأة عن سلام في اللحظات الهادئة لكن كلا الخيارين لا يُجيبان عن سؤال المعنى، مما يعكس أزمة الوجود البشري في غياب “الإله” أو الغاية،يتلاقى هذا الطرح مع شخصية أنطوان روكانتان في “الغثيان”، حيث يتعذّر على البطل إيجاد معنى ثابت لحياته، فيغدو كل شيء مجرد وجود خالص بلا تفسير، تمامًا كما يشعر مازن قبل تلاشيه.
ب. الزمن والموت: من ابعد الزمن الشعور بأنه سجن من أكثر المواقف إيلاما في الحياة وقد برع الكاتب في التعبير عنها فالساعة التي تمسكها المرأة تُشير إلى محاولة التحكم في الزمن، لكنه يفلت كالرمال. هنا يتجلى مفهوم هايدغر عن “الكائن-نحو-الموت”، حيث الوعي بالزمن هو وعي بالفناء.
النبض المتلاشي: يشير توقف قلب مازن إلى انتصار الموت كحقيقة وجودية، لكنه أيضًا رمز لموت الروح قبله، حين يُهدر الإنسانُ حياته في الهروب من ذاته.
في “الطاعون” لكامو، نرى كيف يصبح الزمن عدوًا غير مرئي، حيث يدرك الأفراد أنهم يعيشون في انتظار موتٍ حتمي، مما يجعل كل محاولاتهم للهرب بلا جدوى.
الصمت فضاء وجودي: يسود الصمتُ المشهدين (ليل المرأة، وغرفة مازن)، كتعويض عن عجز اللغة عن التعبير عن العمق الإنساني. يُذكر هذا بصمت سارتر في “الغثيان” الذي يعكس عجز الكلمات عن احتواء الوجود.
الكلمات غير المُنطَقة: همسات المرأة (“ألم تمل بعد؟”) تُظهر الصراع بين الرغبة في الفهم والخوف من المواجهة، كأنما الكلام يصبح عبئًا في عالم يفتقر إلى الإجابات. يوازي هذا الصمت ما نجده في “في انتظار غودو”، حيث يغدو الصمت أكثر تعبيرًا من الكلمات نفسها، كأنه اعترافٌ ضمني بلا جدوى الحوار في عالمٍ بلا يقين.
التمزق بين الذات والعالم:التمزق في القصة لا يقتصر على الجسد أو الفعل، بل هو تمزقٌ داخلي، حيث تنشطر الشخصية بين وعيها بذاتها وعجزها عن تغيير واقعها. تعيش المرأة حالة من التوتر الدائم بين ما تريد أن تكونه وما هي عليه، بين الرغبة في الفهم والخوف من المواجهة. هذا التمزق يُشبه ما يُعبِّر عنه دوستويفسكي في “مذكرات من تحت الأرض”، حيث يشعر البطل بالغربة حتى عن نفسه، وكأن وعيه بذاته هو عذابه الأول.يجسِّد مازن هذا الصراع بطريقة مختلفة؛ إذ يتخذ الهروب وسيلةً لتجاهل التمزق الداخلي، لكنه في النهاية لا يستطيع إنكاره. فكما نرى في “الجدار” لسارتر، عندما يُجبر البطل على مواجهة حتمية الموت، يدرك فجأة عبثية كل محاولاته للهرب. في “حين يتلاشى النبض”، تمثل لحظة موت مازن ذروة هذا التمزق، حيث يصل إلى مرحلة ينفصل فيها تمامًا عن الحياة، ليس فقط جسديًا، بل على مستوى المعنى والروح.
5- الأبعاد النفسية في القصة
تتجلى في القصة طبقات متعددة من التوتر النفسي الذي يعيشه كلٌّ من المرأة ومازن. فبينما يعاني مازن من انعدام المعنى الذي يقوده إلى الفناء، تواجه المرأة شكلًا آخر من القلق: خوفٌ من أن تكون عالقةً في دورةٍ لا تنتهي من العبث. هذا التناقض بين الرغبة في الحياة والخوف منها هو جوهر الأزمة الوجودية التي تحدث عنها كيركغارد، حيث يكون الإنسان مُجبرًا على الاختيار بين “اليأس النشط” (كمازن، الذي يختار الهروب والموت) و"اليأس السلبي” (كما في المرأة، التي تعيش القلق دون قدرة على تغييره) وغالبا ما يكون البعد النفسي عاملا أساسيا في إبراز العقدة والحل او ربما يضفي على القصة عمقا من نوع آخر يظهر في تعامل الشخصيتين مع الزمن فالمرأة تحاول الإمساك باللحظة عبر مراقبة الساعة، كأنها تسعى لفرض نظام على الفوضى، بينما يترك مازن الزمن يسير بلا مبالاة حتى يصل إلى التلاشي. هذا يعكس ما يتحدث عنه فرويد حول “تكرار المعاناة”، حيث يُعيد الإنسان إنتاج أزماته الداخلية دون وعي، تمامًا كما يكرر مازن هروبه حتى ينتهي به الأمر إلى موت لا يبدو مفاجئًا بقدر ما هو نتيجة حتمية لمسار حياته
القصة تُقدِّم سردًا وجوديًا عن أزمة الإنسان الحديث: العجز عن مواجهة الذات، والاختباء وراء الهشاشة الزائفة. موت مازن ليس مجرد نهاية جسدية، بل انهيارًا لمعنى الوجود حين يُفقد الحوار مع الذات. المرأة، رغم بقائها حية، تواجه سؤالًا وجوديًا: هل سيصير مصيرها كمازن، أم ستجد في صمتها قوةً للمواجهة؟ هنا تترك القصة القارئ في حافة السؤال الفلسفي الأبدي: كيف نعيش حين يكون النبض مجرد إيقاعٍ فارغ؟.
***
د. آمال بوحرب — كاتبة

لمناسبة اليوم العالمي للشعر

نحيبٌ صامت

" الى روح الطيبة أمي في عيدها الذي لم تعشه"

***

أمـي الـتـي تـعـبـتْ مـن انـتـظـاري

وأنا يُتنقَّلُ بي مثلَ خروفٍ

بين مسالخ شُعَبِ التحقيقات في دهاليز الأمن

وأقبية التعذيب السرية ..

أو أتـنـقّـلُ كـالـنـسـنـاس

بـيـن مـعـسـكـرات الـلـجـوء والـمـنـافـي

فـغـفـتْ إغـفـاءتـهـا الأخـيـرة

قبل أن أقول لـهـا:

تـصـبـحـيـن عـلـى جـنـة ...

كـيـف لـي أن أقـبّـل يـدهـا الـمـطـرّزة بـالشـذر؟

**

بـيـن فـمـي وبـيـن يـدهـا

لـحـافٌ سـمـيـكٌ مـن الـتـراب ...

وأنـا لا أريـد أن أوقـظـهـا مـن الـنـوم ...

لـذا : ســأقـبّـل يـدَ كـلِّ أمٍّ فـي الـدنـيـا

تـكـريـمـا لأمـي الـتـي أشــقـيـتـهـا كـثـيـراً

مـنذ أول صـفـعـة شرطيّ أمـنٍ

لـسـعتْ وجـهـي

حـتـى آخـر صـرخـةٍ أطـلـقـتـهـا احـتـجـاجـاً

ضـد الـمـجـاهـديـن الـزور

فـي وطـنـي الـمـعـروض لـلـبـيـع فـي

سـوق الـمـحـاصـصـة !

***

يحيى السماوي

.......................

- السياق والموضوع:

القصيدة رثاءٌ شخصيٌ مؤلمٌ لوفاة الأم، لكنها تتحول إلى رثاءٍ جمعي لوطنٍ مُهانٍ العراق عبر استعارة الأم كرمزٍ للأرض والأمومة الروحية. الشاعر يدمج بين الحسرة الفردية على فقدان الأم والمعاناة الوطنية تحت وطأة القمع والفساد السياسي، حيث يُصوِّر نفسه ضحيةً مزدوجة: لفقد الأم، ولانتهاكات النظام الأمني والصراعات الطائفية.

2- الصور الفنية والانزياحات:

أ- التشبيهات الصادمة:

'مثلَ خروفٍ بين مسالخ شُعَبِ التحقيقات': الخروف رمز التضحية البريئة، والمسالخ تُجسِّد وحشية السلطة.

'أتَنقَّلُ كالنسناس بين معسكرات اللجوء': النسناس القرد الصغير يشير إلى التهميش والتنقل القسري بلا كرامة.

ب- المفارقات:

الأم التي تعبت من انتظاره تموت قبل أن يهنئها بعيدها، في مفارقةٍ تُظهر فداحة الغياب القسري والحرمان من وداعٍ لائق.

لحافٌ سميكٌ من التراب بين فمه ويدها: التراب هنا حاجز الموت، لكنه أيضاً رمزٌ للقمع الذي فصلَهُ عن أمه/وطنه.

ج- الانزياح الزمني:

الجمع بين أول صفعة شرطيّ أمن و-آخر صرخة ضد المجاهدين الزور- يُلخّص مسيرة معاناة طويلة، من الاستبداد إلى الفساد الطائفي، وكأن الزمن تدحرج على جسد الأم-الوطن.

3- الرمزيات والدلالات:

أ-الأم:

ليست مجرد أمٍّ بيولوجية، بل هي التجسيد الأنقى للوطن الذي يُعذَّب ويُهجَّر أبناؤه. موتها يُعادل موت البراءة والسلام في العراق.

ب- اليد المطرّزة بالشذر -الجروح:

الشذر علامات التعذيب، لكنها تُحوَّل إلى إكليلٍ من الألم والفخر، كأن جروح الأم-الوطن شهاداتٌ على الصمود.

ج- قبلة يد كل أمٍّ في الدنيا:

فعلٌ تعويضيٌ عن ذنب الشاعر تجاه أمه، وتحويل الفقد إلى تضامنٍ إنسانيٍّ عالمي.

4- اللغة والإيقاع:

أ- لغةٌ مكثفةٌ وجارحة:

استخدام كلمات مثل مسالخ-، -أقبية التعذيب-، -الشذر-، -المجاهدين الزور يُعبِّر عن واقعٍ دمويٍّ بلا مواربة.

ب- الانزياح عن الإيقاع التقليدي:

القصيدة غير موزونة، كأنَّ انكسار الوزن يعكس انكسار الذات والوطن. التقطيع المتقطع للأسطر يُحاكي أنفاساً متعثرةً أو نحيباً مكبوتاً.

5- النقد السياسي والاجتماعي:

أ- سوق المحاصصة:

سخريةٌ لاذعة من النظام الطائفي الذي حوّل العراق إلى بضاعةٍ تُقسم بين الميليشيات والأحزاب.

ب- المجاهدين الزور:

هجومٌ على التناقض بين خطاب المقاومة المزيف وممارسات القمع والفساد.

ج- الشرطي والمحتج:

صراعٌ دائريٌّ بين السلطة والمواطن، حيث يُولد العنفُ مزيداً من العنف.

6- الخاتمة:

القصيدة ليست مجرد بكاءٍ على أمٍّ، بل هي مرثيةٌ لجيلٍ عراقيٍّ ضاع بين سجون الدكتاتورية وفوضى الاحتلال والطائفية. السماوي يكتب بقلمٍ يقطرُ ألماً وغضباً، لكنه يرفضُ الاستسلام، فقبلةُ يد كل أمٍّ تُصبح مقاومةً بالحبّ ضدّ ثقافة الموت.

***

بقلم: بهيج حسن مسعود

الفصل الأول ــ المبحث (5): الخطاطة المفترضة بين التخريج السردي وقرائن الموضوعة

توطئة: حققت المعايير السردية الروائية منذ الشكلانين الروس وحتى يومنا هذا مسارا هاما في صنيع وبلورة خصوصيات الشكل الروائي وبنياته وأسئلته ومحاوره، تشكلا علائقيا تنهض من خلاله جل نوازع وهواجس الحبكات الروائية على مستوى التجاوز الحكائي المؤدي إلى تعدد الحبكات والعلائق والوحدات السردية ووفق آلية نوعية تتشكل من التحولات والمشخصات السردية والمعلنة في المقصود الكتابي. من هنا نعاود فصول دراستنا المبحثية في نمو دلالات أفعال وصفات واستعادات رواية (حياة الكاتب السرية) لننظر من خلال أحداثها كونها نصا روائيا ذا حاضنة عميقة في توالد الأمكنة والأزمنة وروح الأحداث المكتومة في الأصل البعيد. ففي نسيج الأفعال النصية تكمن تلك الذوات المشخصة وتغيب عنا أحوالها منذ امتلاكها شاهدية المكوث على أرض تلك الجزيرة.. لذا فإن الإقامة المديدة في هذه البقعة المكانية لا تبيح للعابر كشف أسرارها بسهولة، خصوصا وأن الفضاء المركزي في هذا الحيز من الزمن والمكان والنوازع الشخوصية ممتلئة بمسارات مشروطة التقابل والتواتر المخصوص في غياهب محكيات أسرار الحبكة المتعرجة بأشواطها البليغة من التكتم المستديم. أقول أن ماهية سياق الانفتاح على هوية الأفعال السردية في الرواية تؤسسها براهن مفقودة: فهل نكون أمام رواية ترتق من قابلية الكتمان خيارا دلاليا في الصعود إلى جوهر محكيها الكلي؟. ولعل القارىء للرواية أخيرا يجدها موضوعة تلامس الحبكة البوليسية وتجاوبا مع دال الموت وناظميته المضاعفة في منظور حدثي مغاير.
ــ الخطاب المنقول في علامات غير مباشرة
و لعل هذا النوع من الخطاب ما نلقاه لدى شخصية السارد المشارك فهو بذاته حافظا على مدلوله الذي اتسعت إليه هذه الشخصية دون عدول حضوره الفعلي، لذا يتبدى بلفظه ملحقا إياه بما يقارب السرد بضمير المتكلم: (رفع المكتبي عينيه عن صحيفته واستقبلني بتمتمة قلقة. منذ البارحة وموجة من الاضطراب المحموم تهز سكان الجزيرة. / ص74 الرواية) تحيلنا وحدات النص إلى جملة من الحوادث التي حدثت مؤخرا في موطن الجزيرة، مثالا على حال تلك الجثة المسمرة إلى أقدام شجرة كينا في الجزيرة، حيث غدا هذا الاكتشاف المروع بجسد هذه المرأة حدثا صادما لجميع سكان الجزيرة، بخاصة وأن هذه الشجرة تلقب عادة بالخالدة، إذ أصبحت مرمزا على مر العقود لتشكل بذاتها رمزا مقوما على وحدة المنظومة العرفية لدى سكان الجزيرة.
1ــ الجزيرة السوداء: الجنرال البحري يفرض الحصار:
هكذا تتشكل بالتدرج قسمات التصور الجديد لدى سكان الجزيرة للجزيرة ذاتها، وضمن ظاهر حدوث الإشكاليات الأمنية فرض الجنرال البحري حصارا على سكان الجزيرة الغرض من وراءه تسهيل مهمة التحقيقات الجارية على قدم وساق بشأن وفاة تلك المرأة ذات الجسد المصلوب على جذع الشجرة. فالعلاقة السردية صارت تنتقل من خصوصية المبأر (فضاء الداخل الشخوصي؟) إلى نقطة بات من خلالها السرد معرفا بصيغتي (الراوي / الناظم الخارجي) فيما أخذت واصلات الخطاب المنقول شكلا برانيا وعمقه حدود التركيز على تعليلات الفاعل الذاتي والذي هو المحور رفاييل الناظم الداخلي في حكيه المبئر تبئيرا يدلل على حدود موقعية الرؤية السردية لمجرى الأحداث، فيما تكشف صيرورة هذا الحكي بين الفينة والأخرى مساحات يتفرد فيها (الناظم / المحور الفاعل) بطرح رؤيته حول الأحداث: (كنت قد رصدت في اليوم السابق حساب تويتر لشخص يدعى لوران لافوري، وهو صحافي آت من الضواحي الباريسية كان في بومون لزيارة والدته. لم يكن الرجل من الصحافيين المرموقين ـ كان سجله المهني خير مثال على اسوأ ما يمكن أن ينتج من الصحافة الزائفة. / ص75 الرواية) يبدأ ها هنا وهناك المتكلم المشارك بتأطير تفاصيل السرد، وذلك عبر تفعيل حركتي (السرد ــ التبئير) فيما تصبح الرؤية السردية ملامحا منظورة وأكثر تحولا في دورها في عملتي (الفاعل الشاهد ـ التفصيل الأخباري) وصولا إلى مرحلة تتكشف فيها معالم وأسرار سكان الجزيرة. وبسبب ما صار هذا الصحافي لافوري يتحلى بروح المثابرة وراح يستغل أوضاع الجزيرة تحت قيود الحصار، فيما راح يغطي حدوث الأخبار من على القنوات الاخبارية كافة: (عندما ظهرت صورة الصحافي على شاشتي،أمطره أوديبير بوابل من الشتائم، فقد لمح لافوري أمس من خلال برنامج اخباري إلى أن سكان الجزيرة يخفون جميعهم أسرارا مخزية وراء جدران فللهم الفارهة الشاهقة. / ص76 الرواية) مما يتيح المجال في التعرف إليه أن عائلة آل غاليناري وهم من المافيا يحكمون الجزيرة بسلطان نفوذ المال والخوف، لذا إذا وصل مثل هكذا كلام إلى آل غاليناري وتأكد كل منهم بأن هذا الحديث صادرا عن هذا الصحافي فسوف يتلقى حتما الضربة القاصمة في القريب العاجل. أقول أن بث الأخبار بطريقة تقترب من الوسيط السلبي من شأنها تحقيق التصعيد العنفواني على مستوى مستجدات أحداث الجزيرة، كما وتخبرنا بعض الوحدات المنقولة عن لسان رفاييل بأن ذلك الصحافي قام بنشر تغريدة هي عبارة عن رابط ينقر فنكشف من خلاله الخبر الآتي: (حين سمرت الفتاة البائسة على جذع شجرة الكينا العملاقة، كان جسدها مجمدا !! بالتالي لم يكن مستحيلا إذا أن تكون قد توفت منذ أسابيع عدة. / ص76 الرواية) ربما سنلاحظ بأن الفاعل الذاتي بدأ يبدي تركيزا ملحوظا حول ردود فعل أوديبير عندما تلقى هذا الخبر وراح يرتطم في جلوسه على الكرسي بطريقة توحي إلى درجة انهياره النفسي والانفعالي. وربما تكون هذه اللقطة التي راح فيها أوديبير منهارا تعد بمثابة الهامش الحاصل من مكامن استباقات الأحداث في تقديم خلفيات الرؤية عبر مواقع أكثر تلميحا وعلامة.
ــ ناثان فاولز وذكرى سعادة عابرة
1ــ بؤرة الصوت الراوي: الإشارات الزمنية المرجحة:
تتشكل دلالات رواية (حياة الكاتب السرية) ضمن مؤشرات فارقة في علامات الأنتاج الروائي الساعية إلى النمو والتصعيد في الخط المألوف للرواية الواقعية التي تعتني بوصف المكان وتحديدا مقادير الزمان وإضاءة محاور الشخوص الأكثر اختلافا وصدورا. تتراءى في مسار الأحداث الخاصة برصد حياة الكاتب ناثان فاولز غموضا ومواربة، إذ لا تلبث أن تنكشف بعض من سماته الشخصية حتى تعاود مكامن الغموض متواشجة في وحدات متواصلة من الظهورات، غير أنه رغم ذلك غدا يشكل بسلوكه الغريب ارتباطا يكاد أن يكون مدخلا لمعرفة حقيقة مشاعره من الشخصية الصحافية ماتيلد: (قرابة الساعة 11 صباحا، بدأ مزاجه يتغير. فبعد عذوبة الاستيقاظ استدرك أنه لن يرى على الأرجح ماتيلد بعد الآن. / ص77 الرواية) من المؤكد جدا أن يقدم السرد بعض مما يشعر به فاولز إزاء وقائع قد حدثت في الماضي، وبخاصة الأمر الذي كان أشد تعلقا بذلك المصح النفسي للمراهقين التابع لمستشفى كوشين، على ما يبدو أن فاولز كان قد قام بزيارة هذه المؤسسة مرة أو مرتين، فهو الآن صار يكلف وكيله الأدبي جاسبر بالبحث عن مقالات ماتيلد الصحفية التي قامت بكتابتها في السنوات الأخيرة في صحيفة لوتان، ثم بالتالي طلب من جاسبر عبر مكالمته الهاتفية معه البحث أيضا عن تلك السيدة مديرة المكتبة السمعية البصرية لدار المراهقين في العام 1998. غالبا ما تكون حالات البحث من لدن فاولز دليلا على مدى وحدته الشخصية مثالا، ولكن ما أوجه الأهمية في بحثه في سجل أرشيف ماتيلد الصحفي؟ هل كان يفتش في أسباب وعوامل قدومها إليه مجددا بعد أن كانت نزيلة في دار المراهقين الصحية تلك وما وجه رؤية الأمر مجددا من قبل حسابات فاولز الشخصية خصوصا بعد مضي كل هذه العقود على وقوع تلك الحوادث؟ ربما فاولز قد اشتبهت عليه السبل ومقادير المشاعر إزاء ماتيلد فهو في الآونة الأخيرة صار ميالا إلى ذكرياتها معه من خلال بعض لقاءاته الماضية والحاضرة معها، إذن هو لا يخشاها كما راودته به بعض حجب ذكرياته، بل هو على قدر من التحفظ إزاءها في الوقت نفسه، يتجنب إطالة الكلام معها مرارا، ويتمنى في حال حضورها المغادرة السريعة كونها فتاة تحفز مشاعره وغرائزه على نحو ما، كذلك فهو يحترس من فراساتها الصحافية في شؤون حياته الأدبية، ولكنه سرعان ما يفتقدها حين لحظة رحيلها عنه وتظل هواجس ذكراها مرتبطة ومبثوثة في مكامن خياله الخاص. تحيلنا حالات الشد والتوتر والالتباس في مواضع من حياة الشخوص المحورية في الرواية، إلى متتاليات من الفصول السردية ذا النكهة الأكثر تساؤلا عن طبيعة اللغة الروائية التي جاءتنا تتحللها العديد من إسقاطات الشخصيات التي تخفي خلفها أحقاب من المعطيات السرانية الشائكة، لذا إن أوراق الاستباقات تعد جملة ملمحات في طيات الوقائع السردية، فيما يمتد السرد بالعديد من الحوادث والأفعال الأكثر بلوغا نحو الوجه المضمر والظاهر من شواهد اسقاطات الحوادث الماضوية والحاضرية في أشد اللحظات الزمنية البعيدة عن حقيقة زمن الإشارات والأقنعة السردية.
ــ أبولين شابوي تاجرة النبيذ
1ــ الوقائع الروائية: هوامش صحافية موثوقة:
من خلال آلية الفصول الصاعدة في صيغة الخطاب الروائي نستشف بأن غيوم ميسو راح يحفز مناطق التشكيل السردي بالأحداث الأكثر وظيفية بمهنة الكاتب الصحافي، ليعرض لنا جملة استطرادات تتعلق بوضع تلك السيدة المتوفاة والتي تم التعرف على هويتها ضمن مسرح أداة المشخصات الجنائية للحادثة: (نجحت الشرطة في تحديد هوية الضحية كانت امرأة في الثامنة والثلاثين من عمرها، تدعى أبولين شابوي تاجرة نبيذ ومقيمة في منطقة شارترون في بوردو ــ المحققين ما زالوا يتحرون عما جاءت تفعله في الجزيرة. / ص82 الرواية) وفقا لإحدى احتمالات المحققين تدل بأن أبولين شابوي كان قد استدرجها أحد الأشخاص في مجيئها إلى بومون، ثم بالتالي قام بأحتجازها قبل أن يشرع في قتلها ويحفظ جثمانها في حجرة باردة أو لنقل في ثلاجة. هكذا أختتم الصحافي مقالته المنشورة في برنامج تويتر وقد كان يطالعها ضمن حدود رابطها الشخصية رفاييل. إذن أن عملية المزامنة للأحداث صارت في سياق الأخبار والتقارير الصحافية، وليسلا في مدارها الأنتاجي السردي والتبئييري، وحتى تأخذ الأحداث الصحافية مكانها الهوامشي في أسفل وصولات الاستثناء في مقصديات البناء الروائي، راح رفاييل يبحث عبر محرك الكوكل عن موقع شركة أبولين شابوي. ومما تبين أن السيدة (تاجرة النبيذ) كما أفصح بذلك الصحافي لافوري، كانت ممارسة بالفعل في مجال إنتاج النبيذ، ولكن حدود مهامها تقتصر على أكثر المبيعات والتسويق للخمور الفاخرة إلى قطاعي الفنادق والمطاعم السياحية: ولكن يبقى السؤال مطروحا هنا ما الذي حل بها إلى الجزيرة؟هل كانت في صدد صفقة تجارية مثالا مع أحد التجار فقام أحد المتربصين بها بحكم كونها سيدة ثرية فقام بمساومتها طلبا للمال أو حياتها مثالا فاختارت المسكينة الموت ترفعا منها عن مستوى فعل المساومة أو عدم درايتها الكافية بجدية اقترابها من حتفها الأخير على يدي قاتل مجهول؟.
2ــ مخطوطة الرواية في تفاصيل تبئيرية خطيرة:
لا شك أن طبيعة الآلية الأساسية المتحكمة في مستوى إنتاج علاقات الخيوط الروائية هي في الأساس عبارة عن ثنائية (الرواية داخل الرواية؟) لذا تتبدى فواعل العملية الروائية الأصل في جملة وساطات متكونة من (الدليل ــ سياق النظر ــ الوقائع المفترضة = الوقائع الجادة) وصولا إلى خصوصيات الشكل الإنتاجي الذي هو المؤشر المداري في آفاق دلالات موضوعة الرواية. حدث وأن قامت الصحافية ماتيلد بزيارة إلى منزل فاولز وقد جمع الأثنان مأدبة متكونة من الشراب وأطباق اللحم البقري الذي كان فاولز يراهن على أعداده بعد تهربه من أسئلة الصحافة بشأن هجره للكتابة في شكل لا رجعة منه. ولو دققنا قليلا في طيات سرد الفصول الصاعدة، للاحظنا بأن فاولز كان يتهكم بهذا الأمر ليس إلا، ولكن فاولز خضع إلى إلى واقع الحال وراح يقطع اللحم ثم يطبخه إلى واقعة إتمام المأدبة التي راح منها ماتيلد وفاولز يتبادلان أطراف الأحاديث في شؤون بدت لفاولز في الوهلة الأولى وكأنها عملية استدراج إلى معادوة كونه كاتبا روائيا فيما كانت ماتيلد تجرجره إلى فكرة خلق رواية متكونة من شخصية الضحية أبولين شابوي والأخر كريم عمراني: (من دون أن تتزحزح من مقعدها، رفعت كأسها الفارغة في اتجاه فاولز. أخذ زجاجة النبيذ. ونهض ليملأ كأس ماتيلد: ـ تبدأ القصة في أوقيانيا في مطلع الألفية الثالثة. وصل زوجان شابان من الضواحي الباريسية، أبولين شابوي وكريم عمراني إلى هاواي على متن طائرة بعد رحلة استغرقت خمس عشرة ساعة لتمضية عطلتهما هناك. / ص91. ص92 الرواية).
ــ شريحة الذاكرة والصور الغاطسة في قاع الحكاية
1ــ الخطاطة المفترضة بين التخريج السردي وقرائن المروى:
كل شيء ينبثق في مداليل الرواية على إنه إقصاء وترجيح واستبعاد بمعنى أن زمن السرد كمواضعة بين (الزمن المنقضي ــ الزمن الراهن ــ الزمن المتحول ــ الزمن التأويلي) أي أن عمليتي ترتيب الأحداث متكونة من (زمن سرد = زمن مروى) والسياق الحكائي في المتن السردي، يمتلك مظاهر سردية تتبع الرؤية العلائقية بين وشيجة ماضوية وحقيقة ذاكراتية، لذا ظلت أغلب فصول الرواية استراتيجية متشكلة بين وحدة (التخريج السردي) ومعادلات محكي (قرائن المروى). إذ بإمكاننا استقراء شكل العلاقات الحاصلة في الماضي على إنها الاشتقاقات والإدماجات المنعكسة بين شخصيات آفلة ولكن لها حضور في مجسد الأدوار العاملية الراهنة في الرواية مثالا على ذلك ما وجدنا في حالات مقترح الشخصية ماتيلد بالكتابة حول فكرتها الروائية التي هي بالأساس مجرد ذكرى قرائنية في زمن فعلي قد حدثت في وقائع ماضوية. لذا نتعرف من هنا على حكاية الزوجان أبولين شابوي وكريم عمراني عندما كانا يتمتعان برحلة صيفية في جزيرة هاواي، فيما كانا يتدربان على الغوص سقطت من أحدهما الكاميرا التي التقطى على شريحتها الذاكراتية جميع جولاتهم في جزيرة هاواي. سعى الغواصان المتمرسان اللذان كانا بجوارهما البحث عن الكاميرا في قاع المحيط، ولكنهما لم يظفرا بأي نتيجة: (فلم يكن من أبولين وكريم سوى الاستسلام للأمر الواقع: لقد فقدا صور عطلتهما. لكنهما نسيا هذه المسألة في الليلة نفسها. / 94 الرواية) والغريب في الأمر بعد مرور عدة سنوات عثرت السيدة فاراغو وهي سيدة أعمال تعمل لمصلحة سلسلة فنادق دولية: (هناك رصدت إليانور هذا الشيء الغامض، ركضت نحوه، وتسلقت صخرتين، ثم أنحنت لتخرجه من مكانه وترفعه إليها. كانت حقيبة مقاومة للماء وداخلها كاميرا من طراز باورشوت ماركة كانون. /ص94 الرواية) ومن المؤسف أن هذه السيدة قد فقدت الحقيبة وداخلها الكاميرا بعد أن كانت متعبة كما نسيت الكثير من مقتنياتها الخاصة وترجلت من سلم الطائرة ملهوفة في العودة إلى منزلها.
ــ تعليق القراءة:
إذا فحصنا بأختصار ما تحمله طيات الوحدات الفصولية من أحداث وأفعال، يتضح لنا قدرة الروائي غيوم ميسو على جعل الروابط السردية في أعلى مستوى من التبئير والحنكة البنائية المتواترة على وتيرة (التبئير النوعي) فالقارىء للرواية موضع مباحث دراستنا، سوف يدرك مدى تعددية الأساليب السردية التي قام بتوظيفها ميسو في السرد والأخبار والوصف وصوت السارد الكلي وبناء الحبكة والشد والإقناع الموضوعي الكبير في البناء الروائي الرصين، خصوصا وإن رؤية المؤلف ميسو لروايته لا تقتصر على صياغة اللغة وزج الأوصاف للأمكنة وتقاسيم ملامح شخوصه، بل إنه يوفر في خطابه السردي ذلك النوع من الحبكة المطردة التي لا تتوقف على مساحة معينة من معطى البناء والإنشاء السردي. عموما أقول أن الحقيبة وداخلها الكاميرا بقيت مجهولة المصير حتى حين تم العثور عليها من قبل الفريق المكلف في تنظيف الطائرة وقد تم تسليمها من الفريق إلى إدارة المطار: (وفقا للإجراءات المعتمدة، أحتفظ قسم المفقودات بالكاميرا مدة 90 يوما، بعد إنقضاء هذه الفترة، بيعت مع آلاف الأشياء الأخرى لشركة من الأباما تعمل منذ عشرات السنين على شراء الأمتعة غير المطالب بها من الشركات الأمريكية ــ في بداية خريف العام 2015 عرضت الكاميرا على رف من رفوف مركز الأمتعة غير المطالب بها. / ص95 الرواية) ومع تصاعد نسبة الإحصائيات لمبيعات الشركة مع ذكر التواريخ الزمنية بطرائق هائلة من القياس والتقدير والمقادير ووسط كل هذا وذاك يبتاع إلى: (أثنان من سكان سكوتسبور، سكوتي ما لون، أربع وأربعون عاما وأبنته البالغة من العمر أحد عشر عاما / حك سكوتي رأسه. كانت هناك صور أخرى في شريحة الذاكرة: لا شك في أن هذه الكاميرا فقدت هناك، لقد وقعت في المحيط / يشير الختم الزمني عليها إلى إنها التقطت قبل أسابيع قليلة من صور هاواي. / ص99 الرواية) هكذا تمت عملية انتقال الكاميرا في مواضع قدرية تحكمها جملة من الأسباب والأحوال النادرة والمسوغة في تقانة حبكها. ومن المصادفات الغريبة يتم العثور على بريد موقع الصحيفة الألكتروني وقد أسهب الأب وأبنته في الشرح المفصل في الرسالة التي بعثها إلى صحافية فرنسية حائزة على شهادة الماجستير في جامعة كولومبيا كان أسم هذه الصحافية هو ماتيلد موني. على هذا الأساس تتحدد مراحل بلوغ الذروة السردية في مشروع منتصف خيوط الرواية المركزة، لذا علينا فهم وتقدير حجم مخاوف الشخصية ناثان فاولز من هذه الصحافية خصوصا وإن هناك علامات وإشارات غير مكتملة توحي على وجود ثمة حساسية مرتبطة في مستوى محاور الشخوص وحاصلات النتائجية الاستحضارية والضمورية في مستويات أسرار الحكاية وخطاب السرد التفردي والمتفرد.
***
حيدر عبد الرضا

"عود من السماق يحصده الإله..." (6)

كنت قد كتبت في المدخل الى هذه القصيدة المثيرة وفي الفقرة الأخيرة.. باننا "سنبحر مع الشاعر جمال مصطفى في قراءة "بانوراميته" ... بالتفصيل..". واليوم نبدأ بالمقاطع من (41ـ 50)..

"حين تكون القصيدة مفتوحة كأفق وملمومة كقطرة ماء"

القسم السادس: " عود من السماق يحصده الإله..." (6)

لعبة النيازك ومحنة الغضب الإلهي

(41)

"أيّامَ كانَ البرجُ تَوأمَهُ القصيدهْ

صَعَدا معاً نَحْوَ السماءِ لِيلْعبا صيْدَ النيازِكْ

غضبَ الإلهُ على القصيدةِ: حرّضَتْ بُرجاً رزيناً

أنْ يَخِفَّ لِيَجْمَحا صُعُداً كَهالِكةٍ وهالِكْ

التابعونَ يُردِّدونْ:

صدقَ الإلهْ"

البرج والقصيدة:

يُصوّر هذا المقطع العلاقة الحميمية بين البرج والقصيدة، حيث يشكّلان معًا ثنائية متكاملة من البناء والخيال.. من المادة والفكر.. من الثبات والتحليق. إلا أن هذه العلاقة المتمردة، التي تدفعهما معًا للصعود واللعب بالنيازك، تثير غضب الإله، فيتحوّل الإبداع إلى فعلٍ خطِر، والقصيدة إلى مُحرِّضةٍ تُخرج البرج عن رزانته وثقله الماديّ.

تحالفٌ ضد الجاذبية:

"أيّامَ كانَ البرجُ تَوأمَهُ القصيدهْ

صَعَدا معاً نَحْوَ السماءِ لِيلْعبا صيْدَ النيازِكْ"

يبدأ النص بتصوير البرج والقصيدة ككيانين توأميْن، كأنهما روح وجسد.. أو مادة وفكرة تتحدان في مغامرةٍ سماوية.. غير أن هذا الصعود ليس مجرد فعلٍ جماليّ، بل هو لعبٌ بالنيازك، أي تمرُّدٌ على النظام الكوني، انه تجاوزٌ لدور البرج كرمزٍ للاستقرار، وتحويله إلى كائنٍ طائر، حالِم، يشبه القصيدة ذاتها.

الخطاب السلطويّ ضد الإبداع:

"غضبَ الإلهُ على القصيدةِ: حرّضَتْ بُرجاً رزيناً

أنْ يَخِفَّ لِيَجْمَحا صُعُداً كَهالِكةٍ وهالِكْ"

الغضب الإلهيّ هنا ليس موجّهًا إلى البرج، بل إلى القصيدة، لأنها كانت الشرارة، الفكرة التي جعلت البناء الصلب يهوى خلفها في جنون الصعود. القصيدة هي التي أفسدت رزانة البرج، جعلته يهيم في السماء، كأنها تقودُه إلى الهلاك.

التبرير الديني للسلطة:

"التابعونَ يُردِّدونْ:

صدقَ الإلهْ"

في النهاية، نجد التابعين يكرّسون السرديّة الرسمية، يُردّدون ما قيل لهم، يُضفون الشرعية على الغضب الإلهيّ، ويحوّلون تحرّر البرج إلى خطيئة. كأن النص يشير إلى السلطة التي ترفض أي انفلاتٍ عن السيطرة، او خروج عن سلطتها، سواء كان ذلك في المعمار أو في الشعر.. ماديًا او روحيًا، لذا تستعين بأتباعها لتبرير القمع وطمس التمرُّد.

البرج والشعر بين الجموح والقمع:

تتماهى القصيدة مع البرج، في علاقة رمزية تحتفي بالمغامرة والطموح، في مشهد مدهش يمزج بين الخيال والطموح الإنساني الجامح. فالبرج والشعر كتوأمين.. يسعيان إلى اقتناص المستحيل، إلى ملامسة الضوء، وإلى تجاوز المحدود نحو المطلق.

لكن القصيدة، هذا الكائن المتمرد، تثير سخط الإله، لأنها تجرأت على تحريض البرج، ذاك الصرح الرزين، على التمرد والانطلاق ككائن جموح، في حركة تصعيدية تجعل منه ومن القصيدة معًا في مصير واحد: "كهالِكةٍ وهالِكْ". هنا، يتجسد الصراع الأزلي بين السلطة والإبداع.. بين الثبات والتحول.. بين القداسة والمروق، حيث لا يكون الإبداع إلا نوعًا من الخطيئة.

هذا المقطع يرسم جدليّة أزلية بين الإبداع والسلطة، بين الرغبة في التحليق والقيود المفروضة على كل ما يريد أن يسمو. ويبقى السؤال المعلّق: هل غضب الإله هو حقيقة، أم هو مجرد أداةٍ لضبط طموح الإنسان؟

جدلية البناء والإنسان

(42)

"في مفْخَرِ القَرْميدِ يُسْمَعُ عامِلانْ

يَتَحاورانْ:

هذا البِناءُ ويا لَهُ بُرْجاً ولكنْ

لو أنَّ قرْميدو كإقصيدو اكتفى

عن بُرْجِهِ القرْميدِ بالبُرْجِ القصيدهْ

أو كانَ شَيَّدَها مَساكِنْ

لِمَنْ مِثْلي ومِثْلِكَ ها هنا بالأمْسِ بابِلَهُ الجديدهْ"

مرة اخرى البرج والقصيدة:

يطرح الشاعر هنا رؤية فلسفية واجتماعية تتأمل في جدوى البناء الماديّ مقابل البناء الشعريّ، وفي دور المعمار بين التفاخر السلطويّ والوظيفة الإنسانية. عبر حوارٍ بين عاملين، ينفتح النص على تساؤل جوهريّ: هل كان الأجدر أن يُستبدل برج القرميد ببرج القصيدة؟ أم أن يُشيَّد ليسكنه البسطاء بدل أن يكون صرحًا مجرَّدًا؟

البرج/ بين التفاخر والجدوى:

"في مفْخَرِ القَرْميدِ يُسْمَعُ عامِلانْ

يَتَحاورانْ"

منذ البداية، يُشير النص إلى أن البرج ليس مجرد بناء، بل هو "مفخرٌ"، أي رمزٌ للتباهي السلطويّ والمجد الفارغ. ومع ذلك، فإن العمّال ـ وهم الفئة التي تبنيه ـ هم أول من يطرحون التساؤل حول معناه الحقيقيّ.

برج القرميد أم برج القصيدة؟"

"هذا البِناءُ ويا لَهُ بُرْجاً ولكنْ

لو أنَّ قرْميدو كإقصيدو اكتفى

عن بُرْجِهِ القرْميدِ بالبُرْجِ القصيدهْ"

يُقدِّم الحوار مقارنة بين البناء الماديّ (قرميدو) والبناء الشعريّ (إقصيدو). البرج هنا، رغم عظمته، يبدو وكأنه فائضٌ عن الحاجة، بينما القصيدة، رغم تجردها من المادة، تُطرَح كبديل أكثر صدقًا ودوامًا. فهل البناء الحقيقيّ يكمن في الحجر أم في الكلمة؟ وهل كان الشعر سيكفي ليبني مجدًا أبقى من القرميد؟

المأوى المفقود/ سؤال العدالة الاجتماعية:

"أو كانَ شَيَّدَها مَساكِنْ

لِمَنْ مِثْلي ومِثْلِكَ ها هنا بالأمْسِ بابِلَهُ الجديدهْ"

هنا، يصل الحوار إلى ذروته الأخلاقية: ماذا لو لم يكن البرج رمزًا للترف والسلطة، بل مأوًى للفقراء؟ هل كانت "بابل الجديدة" ستولد على أسس أكثر عدالة؟

نقد معماريّ برؤية إنسانية:

يُثير هذا المقطع تساؤلًا وجوديًّا حول معنى البناء: هل هو مجرّد استعراض للقوة، أم ينبغي أن يكون فعلًا يخدم الناس؟ وبالأخص العمّال، بوصفهم صانعي البرج، الذين يُدركون أكثر من غيرهم أن العظمة لا تُقاس بارتفاع القرميد، بل بقدرته على احتضان البشر.

جدلية الوجود والعدم

(43)

يا نَغمةَ البرجِ التي صعَدَتْ إلى لا مُنْتهاهْ

هو لا صداكِ ولا صداهْ

هو هكذا في البدْءِ كانَ كَلا يَكونْ

بُرْجاً إلهْ

مِن تَحتِهِ عَرْشُ الظنونِ وفوقَهُ العَدُمُ المَتاهْ"

البرجُ بين النغمة والصمت:

يُقدِّم الشاعر هنا تأملًا فلسفيًا عميقًا حول طبيعة برج بابل، بوصفه كيانًا يتأرجح بين الصوت والصمت.. بين الحضور والغياب.. بين الوجود والعدم.. فالنص لا يتعامل مع البرج كحجرٍ وصروح، بل كفكرةٍ تُحلّق نحو المطلق، لتجد نفسها في الفراغ.

النغمة الصاعدة/ الموسيقى كتجلٍّ للمعنى:

"يا نَغمةَ البرجِ التي صعَدَتْ إلى لا مُنْتهاهْ"

يبدأ النص بصورةٍ موسيقية، حيث تتحوَّل العمارة إلى نغمة، والصعود الهندسي إلى تسامٍ صوتيّ. هذا التشبيه يُحوِّل البرج إلى رمزٍ للطموح الإنسانيّ نحو الأبدية، لكنه طموحٌ يحمل في جوهره التناقض، لأن اللا مُنتهى ليس موطنًا للنغم، بل للفراغ.

البرج والصدى/ البحث عن الهوية الضائعة:

"هو لا صداكِ ولا صداهْ"

ينفي النص عن البرج أن يكون صدىً لنغمة، كما ينفي عنه أن يكون هو ذاته مصدر النغمة. هنا يتجلى البرج بوصفه كيانًا لا يمكن استيعابه: هو موجودٌ ولكنه بلا هوية، صاعدٌ ولكنه بلا أثر.. إنّه برجٌ لا يُعيد صوتًا، لأنه لم يكن صوتًا أصلًا، بل فراغًا يطمح لأن يكون ممتلئًا.

البرج والإله/ التجاوز المستحيل:

"هو هكذا في البدْءِ كانَ كَلا يَكونْ

بُرْجاً إلهْ"

يستحضر الشاعر هنا بعدًا ميتافيزيقيًا عميقًا، حيث يبدو البرج وكأنه يسعى لأن يكون كيانًا إلهيًا، لكنه مُدانٌ منذ البدء بعدم الاكتمال. فهو ليس موجودًا بشكلٍ تام، وليس غائبًا بالكامل، بل هو في حالة بينيّة، ككائنٍ يحاول أن يكون إلهًا لكنه يظلّ مجرد برجٍ مصنوعٍ من ظنون البشر.

المتاهة العلوية/ عبثية الطموح الإنسانيّ:

"مِن تَحتِهِ عَرْشُ الظنونِ وفوقَهُ العَدُمُ المَتاهْ"

يصل النص إلى ذروته الفلسفية، حيث يُوضع البرج بين عرش الظنون والسقف العدم. إنّه كيانٌ تشيّده الأوهام، ويتلاشى في الضياع. هذه الصورة تُحيل إلى عبثية الصعود، حيث لا يُفضي الطموح الإنسانيّ إلا إلى الضياع في متاهة لا نهاية لها.

البرج كغربة أبدية:

يقدّم المقطع نظرة تشاؤمية إلى برج بابل، حيث يتحوَّل من رمزٍ للإنجاز إلى استعارةٍ للفراغ. إنّه ليس بناءً، بل تجربة وجودية تُلامس المستحيل. يُقدِّم النص البرج ككيانٍ يبحث عن صوت، عن معنى، عن اكتمال، لكنه محكومٌ بأن يظلّ ظلًا لما لا يُمكن أن يكونه.. طللا شبحيا في اذهان من أوجدوه ومجدوه أسطروه..

جدلية السلطة والعبودية

(44)

الأمَّهاتُ بِبابِلٍ يَخْشيْنَ مِن غضَبِ الإلهِ

على الذَراري

فَلَسوفَ يَفتكُ بالعبيدِ إذا رآهُمْ يَصعدونَ

إلى الدَراري

إلّاهُ ما مِن سَيّدٍ أبَداً

ولكنْ

أتُراهُ حَقّاً مثْلما قد صَوّرُوهْ؟

أم حاجِباهُ وكاهِناهُ ومَن يُخطِّطُ في الظلامِ

ومَنْ تَكَرَّشَ بالأضاحي والنُذورْ؟"

غضبُ الإلهِ وخوفُ الأمهات:

يُقدّم هذا المقطع رؤيةً عميقة للتوتر القائم بين السلطة الإلهية كما يراها العوام، وبين الحقيقة المستترة خلف الرموز الدينية والسياسية. فالبرج هنا ليس مجرد بناء، بل مساحة للصراع بين الخوف والطموح.. بين العبودية والتحرر.. بين الصورة المشوّهة للإله والحقيقة المغيّبة عنه.

الأمهات والخوف/ سلطة العقيدة على الأجيال:

"الأمَّهاتُ بِبابِلٍ يَخْشيْنَ مِن غضَبِ الإلهِ

على الذَراري"

تظهر الأمّهات بوصفهن حاملات القلق الأزليّ، ينظرن إلى أبنائهن بوجل، يخشين عليهم من صعودٍ قد يكون هلاكًا. الموروث الديني والاجتماعي يجعلهنّ حارسات الخضوع، يُلقّنّ أبناءهن الطاعة خشية أن يغضب الإله، وكأنّ الطموح نحو العُلى خطيئة، وكأنّ السماء حكرٌ على القادرين، وليس للعبيد فيها نصيب.

العبيد والنجوم/ الحلم المحظور:

"فَلَسوفَ يَفتكُ بالعبيدِ إذا رآهُمْ يَصعدونَ

إلى الدَراري"

يطرح المقطع مفارقة بين العبودية والطموح، حيث يُمنع العبيد من الصعود إلى النجوم، وكأنّ التراتبية الاجتماعية مقدّسة. هنا، لا يُصبح القمع فقط واقعًا دنيويًا، بل يمتد إلى الفضاء الميتافيزيقي، حيثُ الإله ذاته يبدو وكأنه يحرس هذه الحدود الطبقية ويباركها.

حقيقة الإله/ بين التصوير والواقع:

"إلّاهُ ما مِن سَيّدٍ أبَداً

ولكنْ

أتُراهُ حَقّاً مثْلما قد صَوّرُوهْ؟"

يثير الشاعر في هذه الأسطر تساؤلًا وجوديًا خطيرًا: هل الإله الذي يُروّج له الكهنة هو ذاته الحقيقة المطلقة؟ أم أنّ الصورة التي نعرفها ليست سوى بناءٍ اجتماعيّ، خاضعٌ لمن يُخططون في الخفاء؟ هذه الفكرة تُحيل إلى إشكالية استخدام الدين كأداة للهيمنة، حيث يُستخدم اسم الإله لتبرير الاستبداد ومنع الضعفاء من المطالبة بحقوقهم.

الكهنة والسلطة/ الإله كأداةٍ للحكم:

"أم حاجِباهُ وكاهِناهُ ومَن يُخطِّطُ في الظلامِ

ومَنْ تَكَرَّشَ بالأضاحي والنُذورْ؟"

يصل النص إلى ذروته في كشف تحالف السلطة الدينية مع الاستغلال السياسي. فالإله الذي يخشاه الناس قد لا يكون سوى ظلّ أولئك الذين يستفيدون من الخوف، من الكهنة الذين يُصمّمون صورة الإله بما يتوافق مع مصالحهم، ومن المتخمين بالنذور والأضاحي.

الإله بين الخوف والتحرر

هذا المقطع ليس مجرد انتقادٍ للسلطة الدينية، بل هو محاولة لإعادة تعريف العلاقة بين الإنسان والإله. فهو يدعو إلى التساؤل عمّا إذا كان الإله إلهًا للحرية أم إلهًا يُستخدم لحراسة الطبقات والامتيازات. في النهاية، يتركنا النص أمام حيرة وجودية: هل ما نعبده حقيقة، أم انعكاسٌ لمن يسيطر علينا؟

هل يشيخ المعمار أم الفكرة؟

(45)

هلْ شابَ بُرْجُكَ يا مُهَنْدِسُ

أهلُ بابِلَ، بعضهُمْ قالَ:

الحجارةُ مِن أعالي البرجِ قدْ سقَطتْ

على أحَدِ البيوتْ

والمُغرضونَ يُروِّجونَ بِأنَّ بُرْجَ العَنْكَبوتْ ...."

البرجُ بين التهالك والتأويل:

يُثير هذا المقطع جدلية التحوّل والتآكل، بين صمود الأبنية واهتراء المعاني.. بين الحقيقة والشائعات.. وبين الواقع والمرويات المتناقلة. إنه سؤالٌ عن الزمن، عن الثبات، وعن الصورة التي يُراد لنا أن نراها في مقابل ما يحدث في الخفاء.

المهندس والبرج/ سؤال الزمن والتغيّر:

"هلْ شابَ بُرْجُكَ يا مُهَنْدِسُ"

يبدأ المقطع باستفهامٍ توبيخيّ موجّه إلى المهندس، وهو ليس مجرد بنّاء، بل رمزٌ للعقل البشري، للقدرة على الخلق، وللرؤية الطامحة إلى الثبات والخلود. ولكن الزمن، الذي لا يعترف بالكمال، يفرض منطقه على كل شيء، حتى على أكثر البُنى صلابةً. فالسؤال ليس عن المادّة فحسب، بل عن فكرة البرج ذاتها: هل تآكلت مبادئه كما تآكلت حجارته؟

الحجارة الساقطة/ بين الحادثة والعلامة:

"أهلُ بابِلَ، بعضهُمْ قالَ:

الحجارةُ مِن أعالي البرجِ قدْ سقَطتْ

على أحَدِ البيوتْ"

السقوط هنا ليس مجرد حدث عرضي، بل هو نذيرٌ بانهيار، سواء كان ماديًا أو رمزيًا. الحجارة التي تتساقط قد تكون دليلًا على تصدّع في البناء، أو انهيارًا في الفكرة التي قام عليها البرج ذاته. وسقوطها على أحد البيوت يشير إلى أن هذا التهالك لا يظل محصورًا في البرج وحده، بل تمتدّ تداعياته إلى المجتمع، إلى بابل نفسها.

الشائعات والمغرضون/ الصراع على الرواية:

"والمُغرضونَ يُروِّجونَ بِأنَّ بُرْجَ العَنْكَبوتْ ...."

هنا يظهر الصراع بين التأويلات. فبينما يرى البعض أن البرج ما زال قائمًا لكنه يتداعى، يروّج "المغرضون" لفكرة أن البرج لم يكن إلا "برج العنكبوت"—أي هشًا، واهنًا منذ البداية، بلا قوة حقيقية.

وهذا يفتح باب التأويل:

* هل البرج كان أسطورة هشّة منذ البداية، بناها الوهم لا الحقيقة؟

* أم أنّه بُني على أسسٍ متينة، لكن الزمن والتآكل الطبيعي جعلاه يبدو ضعيفًا؟

* أم أنّ هناك من يريد تشويه صورة البرج عمدًا، لضرب رمزيته وتحطيم أثره في النفوس؟

البرج بين الحقيقة والتفسير:

هذا المقطع يعكس جدلية التاريخ، حيث لا ينهار شيءٌ دون أن تنقسم الروايات حوله. فهل نحن أمام انهيارٍ حقيقي، أم أننا ضحايا للخطاب المسيطر؟ هل نرى الواقع كما هو، أم كما يريد لنا "المغرضون" أن نراه؟ البرج قد يكون أيقونة، وقد يكون مجرد سراب، لكن السؤال الأهم: مَن يتحكم بالرؤية، ومن يكتب التاريخ؟

بين الوهم والحقيقة

(46)

في البرج سَلّةُ موبِقاتٍ كانَ

قد زعَمَ المُؤرِّخُ أنها ألْفٌ وسَلّهْ

زعَمَ المُؤرِّخُ ثُم لَم يَملأْ لَنا

مِنهنَّ حتّى سَلَّتَيْنِ فما أَضَلّهْ

يا بُرْجُ إنَّ المُنصفينَ أقَلُّ قِلَّهْ"

المؤرخ والبرج:

يضعنا هذا المقطع أمام مفارقة التأريخ والتأويل.. بين ما يُروى وما يُثبت.. بين الزعم واليقين. البرج هنا ليس مجرد بناء، بل فضاءٌ تتحرك فيه السرديات، حيث يختلط الحقّ بالزيف، والمعرفة بالتضليل.

الموبقات والعدد/ لعبة الرموز والمبالغة:

"في البرجِ سَلّةُ موبقاتٍ كانَ

قد زعَمَ المُؤرِّخُ أنها ألْفٌ وسَلّهْ"

في أعماق البرج تكمن "سلّة موبقات" – خطايا وآثام يزعم المؤرخون عددها "ألفٌ وسلّة"، في إشارة بليغة تستحضر حكايات "ألف ليلة وليلة". تلك الملحمة التي تجسدت فيها موبقات الخيانة.. ابتداء بمأساة شهريار حين اكتشف خيانة زوجة أخيه، ثم صُدم بخيانة زوجته أيضًا، هذه الصدمة المزدوجة حوّلت نظرته للنساء إلى حكم قاسٍ شامل، دفعه لإعدام زوجته، معتقداً أن الخطأ متأصل في جميع النساء.

كما وانها إشارة إلى المبالغة في تصوير الخطيئة وكأنها طاغية، شاملة، لا حدود لها. لكن هذه الصياغة الساخرة تكشف في جوهرها عن النقد الحادّ للمبالغة في التشويه التاريخي، حيث تُصبح الأرقام مجرد أدوات للإيهام،

المؤرخ المتناقض/ بين الزعم والإثبات:

"زعَمَ المؤرخُ ثُمّ لم يملأْ لَنا

مِنهنَّ حتى سلّتينِ فما أضلّهْ"

يُسلط المقطع الضوء على التناقض بين الادعاء والإثبات. فالمؤرخ الذي يدّعي وجود ألف موبقة يعجز حتى عن تقديم دليلٍ على اثنتين منها. وهنا إدانة لنهج بعض المؤرخين الذين لا يعتمدون على الحقائق بقدر ما يصوغون السرديات وفق مصالح أو تصورات مسبقة.

ندرة الإنصاف في عالم التأريخ:

"يا بُرْجُ إنَّ المُنصفينَ أقَلُّ قِلَّهْ"

يصل النص إلى ذروته: الندرة المؤلمة للإنصاف.. فالحقيقة دائمًا ضائعة بين التضخيم والإنكار، والمُنصفون ـ الذين يبحثون عن الحقيقة بحياد ـ قلّة نادرة وسط جوقة المبالغات والخرافات.

البرج كرمز للتاريخ المغدور:

هذا المقطع يمثل رؤية فلسفية ونقدية للتاريخ كمساحةٍ للتزييف والتأويلات الملتبسة. البرج هنا ليس مجرد معمار، بل مرآة للحقيقة المشوهة بين أيدي المؤرخين. وبين زيف الروايات وندرة المنصفين، يظل البرج شاهدًا صامتًا على تاريخٍ قيل عنه أكثر مما هو عليه حقًا. وبين زعم المؤرخين وشكّ العارفين، يبقى البرج شاهداً على التاريخ، لكنه أيضًا ضحيته.

البرج بين الفناء والبعث الشعري

(47)

البرْجُ غادَرَ بُرْجَهُ جسَداً بِبابِلْ

جَسَداً تُقُوِّضُهُ المَعاولْ

ألْفاً مِن الأعوامِ، كانْ

يأوي إليهِ: إلى رُفاتِهْ

شُعراءُ ما بَعْدَ الخرابِ المُنْتَمونَ إلى بُناتِهْ"

الزمن والخراب:

في هذا المقطع، تتجلى ثنائية الفناء والخلود، حيث يصبح البرج كائنًا حيًا يترك جسده في بابل، لكنه لا يختفي تمامًا، بل يُعيد إحياء ذاته من خلال الشعراء الذين جاؤوا بعد الخراب. إنّه برجٌ ينهار ماديًا، لكنه يظل قائمًا في الذاكرة والإبداع، وهو ما يعكس رؤية فلسفية حول ديمومة الفكرة رغم زوال الشكل.

البرج بين الجسد والروح:

"البرْجُ غادَرَ بُرْجَهُ جسَداً بِبابِلْ

جَسَداً تُقُوِّضُهُ المَعاولْ"

يفتتح الشاعر المقطع بتصوير البرج كيانًا حيًّا يغادر جسده، وكأنه يتخلى عن ماديته ليبقى في صورة أخرى. إنه ليس مجرد بناءٍ يتداعى، بل كائنٌ تتآكله المعاول لكنه ينجو من الفناء المطلق. فالبرج هنا لا يُقاس بوجوده الفيزيائي، بل بما يمثله من رمزية ومعانٍ متوارثة.

ألف عامٍ من التآكل:

"ألْفاً مِن الأعوامِ، كانْ

يأوي إليهِ: إلى رُفاتِهْ"

يمتد الزمن ليصبح البرج أطلالًا تقاوم النسيان. فالرقم "ألف" يوحي بطول المأساة، وكأن البرج ظل شاهدًا على تقلبات التاريخ، ورغم مرور العصور، لا يزال يمارس دوره كملاذٍ لأرواح الباحثين عن الحقيقة.

شعراء الخراب وبُنَاة الحلم:

"شُعراءُ ما بَعْدَ الخرابِ المُنْتَمونَ إلى بُناتِهْ"

هنا تتحقق المفارقة العميقة: البرج لم يعد قائمًا، لكن الشعراء الذين جاؤوا بعد الخراب هم امتدادٌ للبنّائين الأوائل. فكأنّ هؤلاء الشعراء لا يكتفون برثاء الماضي، بل يسعون إلى إعادة تشييد البرج من جديد بالكلمات والرؤى. في هذا المشهد، يصبح الشعر وسيلةً للبناء الرمزي في مقابل الهدم المادي.

رؤية فلسفية/ الفناء والخلود في صراع أبدي:

هذا المقطع لا يتحدث عن برج بابل كأثرٍ مادي فقط، بل يطرحه كرمزٍ للمعرفة والخلق الإنساني، الذي قد يُدمَّر جسديًا لكنه يظل خالدًا عبر اللغة والإبداع. فالبرج ليس مجرد حجارة، بل فكرةٌ تتجدد كلما حملها الشعراء في قلوبهم وأقلامهم.

البرج كمرآة للتحولات

(48)

في بابِ (لا تَحْزنْ) مِن اللوحِ الكتابْ

.............

وهناكَ عُشٌّ في أعالي البُرْجِ

أو بيتٌ لِمالِكْ

أيّامَها ما كانَ يُنْعَتُ بالحزينْ

نَعْتُ الحزينِ أتاهُ مِن بعْدِ الخرابْ"

**

بين الحزن والخلود:

في هذا المقطع، يستحضر الشاعر سردية البرج من زاوية وجدانية، حيث يتناول فكرة التحول من الاستقرار إلى الحزن، ومن العلو إلى الخراب. البرج هنا ليس مجرد بناء مادي، بل كيانٌ يعكس تغيرات الزمن والهوية، ويشهد على التحولات التي طرأت على من سكنه أو ارتبط به رمزيًا.

تناص ديني واستدعاء فلسفي:

"في بابِ (لا تَحْزنْ) مِن اللوحِ الكتابْ"

يبدأ المقطع بإشارة إلى باب يحمل اسمًا مطمئنًا: "لا تحزن"، مما قد يوحي بتناصٍ مع النصوص الدينية التي تدعو إلى التسليم أمام الأقدار وعدم الاستسلام للألم. ومع ذلك، فإن هذه العبارة تتناقض مع سياق المقطع الذي ينتهي بالحزن بعد الخراب، وكأن الشاعر يشير إلى المفارقة بين الأمل في البدايات والواقع الذي فرضته النهايات.

البرج بين العُش والبيت:

"وهناكَ عُشٌّ في أعالي البُرْجِ

أو بيتٌ لِمالِكْ"

هنا، يتحول البرج من رمزٍ للضخامة والسلطة إلى مكانٍ حميمي يأوي عشًّا أو بيتًا. هذا التحول يحمل دلالة التواضع والانكماش بعد السقوط، فبعد أن كان البرج صرحًا شاهقًا، صار مجرد ملاذٍ صغير لكائنٍ حي. كما أن استخدام اسم "مالك" لا يوحي بتجسيد رمزي لشخصيةٍ تاريخية أو وجودية، بل للطائر/ مالك الحزين ذو الرقبة الطويلة والوحيد في البحيرات والمستنقعات دائمًا، والذي جاء اسمه من طأطأة الرأس او الوحدة..  والمعروف عنه بناء اعشاشه في الأماكن العالية كالمنائر والمداخن..

الحزن والخراب/ متى بدأ الانحدار؟

"أيّامَها ما كانَ يُنْعَتُ بالحزينْ

نَعْتُ الحزينِ أتاهُ مِن بعْدِ الخرابْ"

يؤكد الشاعر على التغير الزمني في وصف البرج، فحين كان قائمًا، لم يكن يوصف بالحزن، لكن بعد انهياره أصبح الحزن ملازمًا له. هذه الجملة تحمل إشارة فلسفية إلى أن الحزن ليس سمة الأشياء في ذاتها، بل نتيجة لما يطرأ عليها من أحداث. وكأن الخراب لا يصيب الجدران فقط، بل يصيب الروح والذاكرة أيضًا، فيحوّل المجد السابق إلى مرثية دائمة.

رؤية تحليلية/ البرج ككائن حيّ متحوّل:

يرسم هذا المقطع صورة البرج ككائنٍ يتغير عبر الزمن، فهو لم يولد حزينًا، لكنه صار كذلك بعد الخراب. وهذه الفكرة تنطبق على الحضارات والمجتمعات وحتى الأفراد، إذ يمرون بمراحل الصعود والازدهار، قبل أن يأتي زمن التراجع والانهدام والحزن. البرج هنا ليس مجرد بناء مادي، بل استعارة للحضارات التي تتألق ثم تتلاشى، وللأفراد الذين يمرون من القوة إلى الهشاشة.

الغرورُ في مواجهة الخلود

(49)

البرجُ يَغتابُ القصيدةَ:

ما القصيدةُ؟

ليس أكثَرَ مِن كلامٍ، مِن جُمَلْ

أنّى تُقارَنُ بي أنا!

وأنا أنا

حتّى حُطامي عندما أنهارُ يَبدو كالجَبلْ؟"

البرجُ والقصيدة:

في هذا المقطع، نواجه صراعًا وجوديًا بين البرج والقصيد..  بين الماديّ الشاهق واللغويّ العابر، حيث يتجسّد البرج ككيان مغرور يتعالى على الشعر، وينظر إليه باعتباره مجرد كلامٍ وجُملٍ لا تُقارن بعظمته. لكن هل هذا الغرور حقيقة أم وهم؟

البرج كصوتٍ للجبروت والتفوّق:

يبدأ المقطع بصيغةٍ لافتة:

"البرجُ يَغتابُ القصيدةَ: ما القصيدةُ؟"

هنا، تتحوّل القصيدة إلى موضوعٍ للنميمة والانتقاص، وكأنّ البرج، رمز القوّة والتشييد، يستخفّ بما هو غير ملموس، متسائلًا:

"ليس أكثرَ مِن كلامٍ، مِن جُمَلْ، أنّى تُقارَنُ بي أنا!"

إنّه التجسيد الأقصى لعقلية السلطة، التي ترى القيمة فيما هو محسوسٌ وماديّ، بينما تزدري الفنّ والشعر باعتبارهما مجرد كلماتٍ عابرة.

عظمة الانهيار/ تناقض الغرور والهشاشة:

لكن المفارقة تكمن في النهاية، حيث يقول البرج:

"وأنا أنا، حتى حُطامي عندما أنهارُ يَبدو كالجَبلْ!"

هنا، يشي البرج دون قصدٍ بهشاشته المتخفّية خلف الغرور، فحتى لحظة سقوطه يُحاول أن يُضفي عليها عظمةً متخيّلة. غير أنّ القصيدة، على عكس البرج، لا تسقط ولا تتحطم، بل تظلّ خالدةً في الذاكرة والزمن، تتنقّلُ بين الأجيال، بينما مصير البرج هو الانهيار الحتميّ.

صراع الزمن والخلود:

في جوهره، هذا المقطع حوارٌ داخليّ بين المادة والروح.. بين الغرور والتواضع.. بين الفناء والخلود. البرج يرى نفسه مركز الكون، لكنّه يغفل عن حقيقةٍ قاسية: أنّ الجُمل التي يحتقرها ستبقى حيّة بعد سقوطه، بينما لن يبقى منه سوى الحُطام.

خيانةُ الخلقِ واغتيالُ الأمل

(50)

في الحُجْرةِ الخَمْسينَ

إزميلٌ مِن الألْماسِ

سارِقُهُ بهِ طَعَنَ الذي لَولاهُ ما كانتْ

لِثيرانِ القصيدةِ أجنِحهْ

الحجرةُ الخَمْسونَ مقبرةٌ

وقرْميدو يقولُ: أنا الذي أغْلَقتُها:

فيها لآمالي الطعينةِ أضرِحَهْ"

الإزميلُ والضريح:

في هذا المقطع، نُلقي نظرةً داخل "الحجرةِ الخمسين"، التي تتحوّل من مكانٍ للحِرفة والإبداع إلى مقبرةٍ للأحلام والطموحات، حيثُ يتمزّق الصانعُ بين أداةِ الخلق وأداةِ القتل، بين البناء والهدم، بين الأمل والخيانة.

الإزميلُ/ أداةُ النحت أم أداةُ الطعن؟:

يبدأ المقطع بصورةٍ مدهشة:

"إزميلٌ مِن الألماسِ،

سارِقُهُ بهِ طَعَنَ الذي لَولاهُ ما كانتْ

لِثيرانِ القصيدةِ أجنِحةٌ"

الإزميل، الذي يُفترض أن يكون رمزًا للإبداع والنحت والتشكيل، يتحوّل إلى سلاحِ طعنٍ وغدر. إنّه أداةُ الخلق التي خُوِّنَت، وأصبحت أداةَ قتلٍ للخالق نفسه. إنّ الذي تعرّض للطعن هو من منح "ثيران القصيدة أجنحةً"، أي من منح الخيالَ انطلاقته، لكنّه يُقتل غدرًا بمنحوتته ذاتها. هنا تتجلّى مفارقةُ الفعل الإنساني، حين يغدو ما نُبدعه هو ذاتُه ما يدمّرنا.

الحجرةُ الخمسون/ من مَعملٍ إلى مَقبرة:

"الحجرةُ الخمسونَ مقبرةٌ"

بهذه الجملة القاطعة، يتحوّل الفضاءُ من مكانٍ للإبداع إلى مكانٍ للموت، حيثُ تُدفنُ الطموحات التي أُجهِضت قبل أن تُحلّق.

قرْميدو والقرار القاتل:

في الخاتمة، نسمعُ صوت "قرْميدو"، الذي يُعلن فِعل الإغلاق والوأد:

"أنا الذي أغلقتها: فيها لآمالي الطعينةِ أضرحةٌ"

هنا يتخذ المقطع بُعدًا أكثر فلسفيةً وذاتيةً: هل الحجرة هي مقبرةٌ للأمل الجماعي، أم أنّها ضريحٌ شخصيّ لصوتٍ يُمثّل الإنسان نفسه، الذي وأد أحلامه بيديه؟ إنّه الصراع الأبديّ بين الطموح والتخاذل، بين الرغبة في التحليق والخوف من السقوط.

بين الأمل والخيانة:

يُعيدنا هذا المقطع إلى جدليّةٍ عميقة، كيف يمكن أن يكون الإبداعُ قاتلًا؟ وكيف يُمكن أن يكون الأملُ ضريحًا؟ الحجرةُ الخمسون ليست مجرد فضاءٍ مغلق، بل هي مرآةٌ للحظةٍ إنسانيةٍ مريرة، حين نكون نحن القتلةَ وأصحابَ الضحايا في آنٍ واحد.

***

طارق الحلفي

......................

* رابط القصيدة //

https://www.almothaqaf.com/nesos/971491

* رابط المدخل //

https://www.almothaqaf.com/readings-5/979452

* رابط القسم الاول //

https://www.almothaqaf.org/readings-5/979564

* رابط القسم الثاني //

https://www.almothaqaf.com/readings-5/979680

* رابط القسم الثالث//

https://www.almothaqaf.com/readings-5/979779

* رابط القسم الرابع//

https://www.almothaqaf.com/readings-5/980014

* رابط القسم الخامس//

https://www.almothaqaf.com/readings-5/980259

 جمعت الشمري خطابين بارزين في معظم نصوصها وكرست التخيل والحقيقة لتظهر روعة التصور في النص الشعري

 اتحفت القارئ بفيض من المشاعر المتضادة في شكلها والمتألفة مع جوهر الحدث لتخلق صورة متقنة صادقة ومعبرة

***

في ديوانها "اُراقصُ ظلّكَ في مرآتي" الذي ضم ثلاثون قصيدة ذهبت حياة الشمري إلى أن تضفي عليه الطابع الوجداني بالمجمل، فمعظم قصائدها فيه كانت تجسد أعمال الحب والشكوى وهذه من أعمال الوجدان، فاللوعة في الحب أو الشكوى هي أحاسيس تنبع من الوجدان، ويُعنى بتفاصيلها الدقيقة الغرض الوجداني، وهو من أغراض الشعر وابوابه الواسعة التي تتماثل مع شعر الغزل ويدخل فيها الشعر الوصفي والبكاء على الأطلال، وهو غرض معروف أيضا عند العرب قديمهم والحديث، وللتذكير بالبكاء على الأطلال نورد بعض من أبرز من قالوا فيه من الشعراء.

يا دارَ ليلى بأُبليَّ فذي حُسَمِ

فجانب القُفَّ ذي القِيعان فالأُكُمِ

إنَّا نقولُ ويقضي اللهُ مقتدراً

مَهما يُدِم ربُّنا من صالحٍ يَدُم*

وفي قصيدته يتغنى (المزيد) بدار ليلى التي جعلها بصيغة المنادى في مستهل أبياته، وهذا أمرؤ القيس أيضا يناجي ذكرى الحبيب ودياره بقصيدة عصماء خلدت منذ حينها قال فيها:

قِفَا نَبْكِ مِنْ ذِكْرَى حَبِيبٍ ومَنْزِلِ

بِسِقْطِ اللِّوَى بَيْنَ الدَّخُول فَحَوْملِ

فَتُوْضِحَ فَالمِقْراةِ لمْ يَعْفُ رَسْمُها

لِمَا نَسَجَتْهَا مِنْ جَنُوبٍ وشَمْألِ

تَرَى بَعَرَ الأرْآمِ فِي عَرَصَاتِهَا

وَقِيْعَانِهَا كَأنَّهُ حَبُّ فُلْفُلِ*

وغيرهم من شعراء الجاهلية والإسلام وصولا إلى الشعر الحديث الذي تناول موضوع المكان والطلل والحنين إليه عند السياب مثلاً حيث قال:

خرائب فانزع الأبواب عنها تغدو أطلالا

خوال قد تصك الريح نافذة فتشرعها إلى الصبح

تطل عليك منها عين بوم دائب النوح

وسلمها المحطم، مثل برج دائرة، مالا

يئن إذا أتته الريح تصعده إلى السطح،

سفين تعرك الأمواج ألواحه

وتملأ رحبة الباحه*

من ذلك ذهبت حياة الشمري في ديوانها (أراقص ظلك في مرآتي) إلى النزوع نحو الوجداني كشكل يغلف الديوان ويطبعه بأبرز أغراض الاحساس والشعور، مجمل النصوص التي احتواها الديوان كان التعبير البارز على شكل النص أو طابعه هو الحب بما يتفرع منه من مشاعر وآلالام وهواجس وتقلبات ما يفوق الخيال ربما، أو ما يفوق المعقول، ففي العنوان الذي جاءت به حياة قاربت ما بين الواقع والخيال عبر توصيف شاغل النص بتكوينه ثم أختفت تلك الدلالة الوصفية للأشياء التي تطرقت لها الشمري في متن نصوصها، جاءت بالحركية التصويرية (أراقص) كدلالة وصفية لما تقوم به في وحدتها، وهو توصيف غاية في الدقة كرسته حياة في العنوان لتوحي للقارئ انها لم تكن في محفل أو تجمع أو حفلة، وإنما عزلة تامة مثلت وحدتها الدالة على العزلة نفسياً وجسدياً وحتى اجتماعياً، فما المبرر للرقص أما المراءة، إلا لاستذكار حالة أو الشوق لها حين ينفرد المرء بنفسه ويسرح مع هواجسه وأفكاره أو الخيالات التي تمر بذهنه، وما يؤكد الوحدة التي تستشعرها حياة والعزلة التي هي عليها جاءت ب (ظلك) فلا أحد معي سوى ظل وهذا خارج نطاق المألوف أو التصور، والمراءة انعكاس لحالة التشطي والبعد في تراتيب العلاقة العاطفية التي يصورها النص أو أرادت حياة الشمري توصيفها.

ليسَ لي غيرُ وسادةٍ

ينفرطُ عليها عقدي

حينَ يرتبكُ الليلُ في جوفي

ووشاحي مخضّبٌ بالأحلامِ

يتكىء عليهِ النهار ُ

وفي إنتظارِ ولادةِ نبضٍ

وحكاياتٍ تغزلُ قياماتِ عشتار

وسادة وعقد ينفرط، من (لاشيء) تستفتح حياة الشمري نصها بالنفي، معلنة عن عدم أمتلاكها شيء سوى (وسادة) ليس لها غيرها، وللتأكيد على ماجاءت به قدمت الدليل البارز والذي منح استهلالها الثبات الوصفي تأكيداً على ما قالت (ينفرط عليها عقدي)، وهو تعبير عن خلجات تعتلي النفس تنبع من هواجس الروح المتعبة بحقيقة الحال الذي عبرت عنه الشمري بأن ليس هناك من شيء تمتلكه سوى ما أفصحت عنه (غير وسادة)، وهذه دلالة على أنفلات اللحظة من بين يديها (كتعبير دلالي) للفقد الذي جاءت به نصاً (ينفرط عليها عقدي)، تورية جميلة وظفتها حياة كحالة تعبيرية عن سكون الليل والفقد الذي تستشعره في الواقع المعاش، ولانريد الخوض في التجربة وتفسيرها، لكن لتوصيف المشهد الذي أرادت منه الشمري أن يكون درامياً كتجسيد للحدث.

حبكة النص تمثلت عندها بدائرة مغلقة عرفتها ب(الليل المرتبك) الذي جاءت به مع تحديد الزمان والمكان (حين يرتبك الليل في جوفي)، التجسيد المكاني للحدث دلالة، والتوقيت النصي الذي يرافقه تعريف، وكلاهما توصيف للزمان والمكان الذي يجسده الشاعر بالمتقن في نصه، فإرتباك الليل توظيف للدلالة الحسية التي يدركها القارئ استشعاراً بالبصر، تأتي على عكس الكلمات الأخرى التي يكون فيها إدراك المتلقي عبر القراءة، أي أن هناك مفردات يستدركها القارئ من خلال قراءة النص، وأخرى حسية لاتدرك إلا بالاحساس.

وذهبت حياة لتوظف التورية بالنص والتي مثلتها ب (ووشاحي مخضب بالأحلام) هي للقارئ أول وهلة (التخضيب إما بالحناء وهذه للتقديس أو الفرح في مجتمعاتنا العربية، أوالتخضيب بالدم وهي للتهديد أو البركة وطرد الشر والحسد، ومنها أرادت الشمري أن تربط تلك الطقوس بنتاج ما كتبت لتظهر الصورة في نصها مطرزة بالمألوف من الحكايا التي تنسب كطقوس اجتماعية ضاربة في القدم ربما من عهود سبقت، لكنها راسخة في عقول الجميع تأتي أكلها كل حين وربما لايتجاوزها الكثيرون حتى باتت في خانة التقديس، استخدمتها حياة الشمري للتورية على ماجاء في نصها من حدث فأضفت عليه هالة لما وصفت به تلك الطقوس ولتجعل منها (التورية) مؤثرة على تقلب الزمان مابين ليلها المرتبك، واتكاء النهار على وشاحها، ولتجعل من خطابها هذا مساراً لأمل جديد رغم النفي الذي أوردته في استهلالها وما حَملت نصها من بواعث للحزن، إلا أن حياة فرشت طريقاً بأبعاد أخرى أوسع من الأولى لتنتظر (ولادة جديدة) تستهلها من عمق التاريخ الذي داخلته ورؤيتها المتشائمة المتفائلة للنص لتحيك من ذلك الآرث نهارات جديدة (قيامات) لربة الجمال والحسن وألهة الحب (عشتار).

خبّر الأمس بأنّ

أنسام الربيع راودتني

وإنّ تنهيدةَ العناق

تنتظرُ ومض النجوم

وصلاة العشقِ لغةٌ لقبلة

الحياة

وفي هذا النص من قصيدتها (خبر) كان التسلسل الذي يطغى على الفكرة عند حياة الشمري لم يكن منهجاً اتخذته لكتابة نصها وفق أسسه، بل جاء بتوافق مع (شيطان الشعر) كما يطلق عليه الشعراء (الإلهام) ومن دونه لاتسلسل للأفكار ولاتوازن في النصوص، فالفكرة بتسلسل الحدث في النص من أجمل مايكون، والتراتيبية التي يكتب بها الشاعر نصه وليظهره بنسق متواصل تكون خلاله القصيدة في أعلى مستوياتها من الرقي والجمال لذلك قالت حياة في قصيدتها (خبر)، (خبّر الأمس بأنّ) وتواصلت بتسلسل الحدث (أنسام الربيع روادتني) وهكذا تستمر حتى نهاية النص بترايبية متسلسلة كحلقات مترابطة تكمل أحداهما معنى الأخرى، والجمالية المنظورة في هذا النهج أن القارئ يتابع الفكرة منذ بداية الحدث حتى نهايتة بشغف ليصل إلى حبكة النص بشوق مستمتعاً بالصور الشعرية التي يرسمها الشاعر ويُسقطها على نصه بتوازن تام مابين الكلمة والكلمة، ومابين الكلمة وموسيقاها، لتتشكل من خلالها أنساقاً معرفية مفهومة دالة على الحدث دون أنقطاع تفاصيلها، وهذه هي الصورة المكتملة التي ترتقي من خلالها النصوص، والتي قدمتها حياة بدقة وأتزان تام في النسق الشعري.

وأمام المرآة روحٌ

ابتسامتي ما عادَ ينزفُ

لها الفؤاد

فالفكرة لابد أن تورد بالتتابع، لا أن تقحم في النص وتنتهي لحظتها تلك ممارسة تقحم النص في هالة من الغموض تبعد عنه القارئ وتقلل من فرصة ظهوره بمستوى يرقى وما موجود على الساحة من نصوص شعرية. تسلسل الفكرة او الحدث في النص يمثل ذكاء الشاعر في انتقاء المفردة والتصوير الدقيق وتكريس الاستبدال بالكلمات وانتقاء القافية (موسيقى النص)، ليظهر بالصورة الجميلة التي رسمت بمخيلته قبل الشروع بالنص، فالنص تصور قبل أن يكون تجسيد على الورق، ومنه يُسقط الشاعر تخيلاته وصوره التي رسمها ذهنياً ليكون نصاً ظاهراً للقارئ وبالمستوى الذي يتطلب أن يكون عليه.

وهذا العمل لايتم إلا بتوافق الفكرة مع الإلهام الشعري، فإن حدث وتوافقا كانت صفة النص الإبداع، أما إن استعصى الإلهام على الشاعر رغم أن الفكرة حاضرة فلا النص يكتمل ولا الإبداع سيميز ما يكتب، فالنص أو القصيدة وليدة الإلهام بتوافق الفكرة.

أصبحَ زفيري لغةً عاجزةً

لاحتواء ظلكَ

وقلمي علامةُ استفهام لكلِّ

سطرٍ يُغرسُ في أوردتي

صوتي مبحوحٌ من دجى

الصبر

لا اُريدكَ مطراً ولا رياحاً

ولا عصفَ موجٍ

اُريدكَ أنتَ في قلبِ حياة

التوصيف والدلالة التي تسعى حياة دائما لتوظيفها في النص لتكون أدوات تقريبية يدرك القارئ من خلالها ما لم يقال أو المعنى الضمني للنص، ولقد التقنت الشاعرة في استخداماتها للدلالة وبشكل غاية في الدقة، لقد استعانت حياة بمفردات لفظية كدلالة كونت منها مساراً لفهم الصورة التعبيرية للحدث، ولم تترك القارئ خلالها ليذهب نحو تصورات تبعده عن مضمون النص، بل العكس هو الصحيح استطاعت حياة أن تقيد القارئ بحدود النص وتشيكل الدالة اللفظية دون سواها (زفيري، عاجزة، ظلك، قلمي، علامة استفهام، صوتي.....)، أرادت البوح بما تشعر به عبر تشكيل لفظي دال وذو مغزى، فحين قالت (أصبح زفيري لغة عاجزة) أرادت التعبيرعن نفسها المتعبة والتي مثلتها (زفيري) والزفير يصدر من نفس متألمة لاقدرة لها على استيعاب الحدث، فيما مثلت ذلك العجز باللغة، كون اللغة وعاءً يحتوي كل المفردات، لذلك جاءت بها حين قالت (لاحتواء ظلك).

التوصيف يخلق نوعاً من الصور التقريبية للحدث يفهم منه المتلقي أن هناك بدائل لما جرى وتضمن النص توصيفه، لكن الحقيقة تبقى سيدة الموقف كما يقال، تلك الحقيقة التي يتحكم الشاعر في ترتيب شكلها التوصيفي عبر ما يتناوله من مفردات ذات دلالة عميقة او معبرة، ليخلق منها شكلاً للحدث يرتقي من خلاله النص مآلات التميز والتفرد ويقال عنه نص إبداعي.

هنا أرادت الشمري توصيف المشهد الكلي للحدث (حبكة النص) فجاءت بأدوات تشكيل الصورة الذهنية (كأس حنين واشتياق) أي أن الكأس قد فاض من الشوق ووصل حد الحنين، فداخلت التمني بعد ذاك الحنين ومثلته بصورة احتياج لحلم قد يسر به الفؤاد حين يخلد للراحة.

تداخل

كأس حنين واشتياق

اُريدكَ وسادةَ أحلامٍ

ينامُ عليها الفؤاد

اُريدكَ همسا يعانق الأثير

فكنْ لي كفّ الرجاء

لأنهض ….

وأقمْ معي مناسكَ الحياة

ليهفو نبضي

ونبضك لمواسم ٌ الإحتواء .

لحظات الكتابة عند الشعراء تعد من الصعوبة بمكان ما يترك تأثيره على حالتهم النفسية، والتعامل مع الحدث أو حبكة النص التي من المؤكد تحتاج لحدث معين يهز الشاعر ويحرك مشاعره ليستحضر بهاجسه الشعري ما يصف به ذلك الحدث من خلال مايتوافق معه من مفردات يستطيع عبرها تشكيل صوره الشعرية التي تناسب الحدث وتترك تاثيرها على المتلقي.

فالفكرة هي التي تبرز الشاعر وتميزه عن غيره، فمن استطاع تجسيد الحدث بزواياه، واكتمال الصور التي يقدمها بحيث تكون جمالية تعبيرية هادفة صادقة في نقلها لمايجري من تقلبات داخل النص، فذلك الذي يصل قلب القارئ ويستحوذ على مشاعره أثناء القراءة، وذلك هو الشاعر حقاً، وقد استطاعت حياة الشمري أن تتحف القارئ بفيض من المشاعر المتضادة في شكلها والمتغايرة في مضامينها والمتألفة مع جوهر الحدث لتخلق لنا صورة معبرة صادقة متقنة استهلتها بما حملتها من مضامين تتفق وآلية الحزن التي تسيطر على مشاعر القارئ، ثم سعت وكانت قادرة في سعيها أن تقلب طاولة الحزن ولتأتي بما يبهج المتلقي بما زرعته من فسحة أمل مثلتها بولادة جديدة مقترنة بالحدب الذي جسدت التعبير عنه ب(عشتار).

اللحظاتُ تبدو جميلةً

و خيالي مُشيّدٌ بالعروقِ

يتنفسُ من رئةِ الوقتِ ِ

توّاقاً لقصيدِكَ ....لأغصانٍ

تتراقصُ لحلمٍ أبيض َ

وفي نصها الذي تستكمل بها قصديتها (لاشيء) واصلت حياة الخوض في تضمين رؤيتها للحدث بمشاعر الأمل التي فرضتها بصفاتها (بيضاء)، أي احالت مسار النص إلى الوصف الذي جاءت به مقترن مع التورية بقصد استكمال المشهد النصي الذي سعت له ليكون ناضجاً متوافقاً وعناصر البناء وموسيقاها التي علا طابعها بما جاءت به من خيال واسع لتركز على أن يكون الأمل هو المراد ولتستبعد من خلاله شبح الحزن الذي أرخى يديه على المشهد الشعري في الاستهلال.

لا شيءَ يُعيدُ الزمنَ

سأكونُ وحدي مع ظلّي

أعزفُ أغاني عتابٍ قديمةٍ

تخلعُ الروحَ مني

وأروي حكاياتٍ تُنبتني صبرا ً

لعلّي أنفذُ من مساماتِ روحي

لتراتيل فجرٍ لا يخشى

بُعدكَ.

وفي (لاشيء) التي جاءت بها الشمري تأكيد على ما ضمنته رؤيتها في الاستهلال بشكل قطعي، قصدت (مستحيل أن يعاد الزمن) فلا قوة لأي شيء على ذلك، وتلك حقيقة راسخة وظفتها حياة في النص لتؤكد من خلالها عمق التجربة الشعرية التي تخوضها عبر الصورة الشعرية التي رمزت لها بالحقيقة دون سواها، ومنها ايضا تجسيد للوحدة التي تخلفت في نفسها لترسم صورة ذلك الحدث (سأكون وحدي مع ظلي)، والظل كما نعلم واقع تخيلي سرعان ما يختفي أي أنه (انعكاس للشيء، بمعنى آخر غير حقيقي، أي أنه شبح، خيال، مشهد ضبابي، أي أن حياة الشمري أرادت أن تقول في رؤياها تلك أنها باتت وحيدة في عالم لا علاقة له بالأحياء، بل باتت في عداد ذلك المشهد الضبابي الذي يجسده الظل على نفسها المكلومة.

الصورة التي ترسمها الشمري بأبعاد الغرض الوجداني توصف بعمق الرؤية التي تدير زواياها بالوصف والتشبيه وبتقلبات الحزن (والحزن) من صلب الوجداني في الشعر، هي أرادت أن تشي بما تشعر به من وحدة لفراق تجسد وبات حقيقة داخلت خيوطها مع المشهد الضبابي الذي عبرت عنه بالظل الذي أختارت وحدتها معه، والظل تجسيد للآخر الذي حاولت أخفاءه حياة، لكن عزلتها وألمها فضح ما أخفت، وذلك واضح وجلي في قصيدتها "خيوط الفجر" ومنها.

خيوط الفجرِ تمسكُ القلمَ

تُؤجج أشواقها على سطورِ

التعثر

تُسافرُ إلى مدنِ خواطري

تنعتُ تكرارَ الخيبة وحيرة

الخطوات

جاءت حياة الشمري بديوانها (أراقص ظلك في مرآتي) بمفردات عديدة دالة على التخيل والتصور التشكيلي عبر ما أختارته من مفردات لفظية دلالالية تشي بصور وخيالات حاولت من خلالها الولوج في ما وراء التصور الذهني لتجسيد نص يعلق في الذاكرة الجمعية لدى المتلقي، وتلك ميزة جمالية نجحت من خلالها حياة بالوصول إلى هدفها من خلال إشارات دالة أكثر عمقاً وجاذبية تمثلت في ألوان عدة خالطت فيها مابين الحزن والذكرى، وربما ما بين ألم الذكرى والعيش على حدودها.

الأنماط التي قدمتها الشمري كانت متقنة من ناحية أختيار المفردات والتنسيق اللغوي والشكلي للنص والتزامن الموسيقي الدقيق مع ما تتركه الكلمة من آثار نفسية في ذهن القارئ، حاولت حياة الشمري أزاحة تأثير الشكوى من النص بما أضفته من ظلال الحقيقة على المجمل الشعري الذي أتت به على شكل هواجس وأحلام جسدت التخييل المطلق الذي ناغمت من خلاله العوالم الخاصة التي قصدتها في نصوصها للرؤى التي تمثل الإندهاش والحيرة في النص.

الحقيقة لقد جسدت حياة قصائد مرهفة الحس، مختلفة المقاصد، تحمل الدلالية الرمزية في تكوينها، كما أنها دالة بعناوينها التي تحفز القارئ بأسلوب إيحائي جميل، أما عن اللغة التي وظفتها الشمري في نصوصها فلنا أن نقول فيها أنها استعارات لفظية كرست الدلالية الحسية ورسمت علامات وعوالم عملت من خلالها على تفعيل المحتوى الإبداعي للنص. سعت الشمري لتكون نصوصها وحدة نصية عضوية متكاملة تجمع كل التصورات الدلالية في حبكة سردية لها مكنوناتها التي تستكمل عبرها التخيلات والإيحاءات التي تكرسها في النص لتنبض بإيقاع دافئ يستشعره القارئ بإحساسه وليس بالقراءة.

هذا التصور ينسحب على مجمل المجموعة الشعرية لحياة الشمري (الديوان) (أراقص ظلك في مرآتي) الذي جسدت فيه عملاً شعرياً لا نملك أن نقول عنه سوى أنه عمل ناضج يخفي في طياته الكثير من الخصوصيات المفضوحة والتي حاولت حياة عرقلة ظهورها بأن غطت عليها بعقبات ودفعت بتصورات أقرب إلى أن تكون جانبية لكنها مؤثرة للتعمية على الغرض الحقيقي بقصد شد القارئ، وهي لعبة جميلة تستهوي المتلقي، وتظهر إبداع الشاعر وقدرته في التحكم برؤى النص الذي يكتبه وقدرته على محاكاة الحقيقة في نصوصه من خلال ما يكرس فيها من تعبيرات مخاتلة (زئبيقة) تحتمل التأويل بمنظور شعري وبمفردات لغوية ترسم صوراً خفية تأملية في طيات النص تفتح من خلالها آفاقاً لعوالم شعرية فسيحة من التصور .

ديوان (أراقص ظلك في مرآتي) جمعت فيه الشاعرة حياة الشمري خطابين بارزين في آن أحدهما مباشر والآخر غير مباشر، حيث كرست فيه التخيل والحقيقة لتظهر من هذا الخليط روعة التصور الذي تكتب فيه حياة نصوصها الجميلة، ولتظهر مدى إبداع الذات الشاعرة لديها، والتناسق الرائع الذي تجسد من خلاله نصوصها بسحر الكلمة ودقة المضمون وسعة التخيل، التي أستطاعت أن تتحكم عبره بتجانس اللحظات الشعرية التي تتفاعل مع محتوى النص بسياق دقيق ولغة سلسة مفهومة.

وحياة الشمري أختصاصية تربوية تختص باللغة العربية وهي من مواليد البصرة جنوب العراق، وتنتمي للعديد من الجهات الأدبية والاجتماعية ومنظمات المجتمع المدني منها: عضو اتحاد الأدباء والكتاب في العراق، عضو نقابة المعلمين، عضو مؤسسة الشبكة للثقافة والأعلام، عضو منظمة حقوق الأنسان، عضو رابطة المجالس الثقافية البغدادية، عضو الاتحاد الدولي للأدباء العرب، ولحياة الشمري ستة دواوين شعرية هي:

- تراتيل حاء البحر

- أرتل دونما جهة

- حلام تبتكر الفجر

- نوارس مثخنة الجراح ...

- أنأ وحشود من اللاأحد

- أ نا وسرب القطا .

ولها مجموعة قصص للأطفال (حكايا مصطفى)، ومجموعة قصص قصيرة مهيئة للطبع وتكتب في صحف ومجلات عدة .

***

سعد الدغمان

قصيدة تنهل من اصالة الشعر الحقيقي، بكل اقتدار وتمكّن. هذه أول قصيدة اقرأها لهذا الشاعر الشاب الموهوب ذي الثمانيةَ عشرَ عاماً، وطالب السادس الإعدادي/ الفرع الأدبي في كربلاء. يمتلك براعة ماهرة في قول وصياغة الشعر مما نقرأه في قصيدته (ما الذي سيحصل؟).
لم يتسنَ لي من قبل أن أقرأ له قصائد أخرى، لكنَّ قصيدته المذكورة تظهر بوضوح ساطع بأن خالقها ومكونها متمكن من عدة الشعر باقتدار مبدع جلي، فهو متمكن من الصياغة الشعرية التي تجبر القارئ أن يتوقف عندها، ويتأمل براعة صياغتها وصورها التعبيرية الناطقة بشكل بليغ وعميق، في المعنى والمغزى، والرمز الدالّ في مدلولات وإشارات بالغة الأهمية. متمكِّن من تكوين الرؤية الفكرية الرشيدة والهادفة. تتجاذب وتتعاطى مع منصات الحياة، وتتوغل بعمق، وتتجلى معانيها في تراكيبها اللغوية وبلاغتها التعبيرية وأسلوبها الرصين. متمكن من اللغة الشعرية الشفافة في انسيابها وتدفقها. لكنها تحمل خلفها حزناً وشجناً، يقطع انفاس القارئ وهو يتابعها. متمكّن من صياغة الصورة الشعرية البليغة، لترجمة حقيقية لمفردات الحياة، في واقع مأزوم ومخيّب للآمال بالاحباط الكلي المعاش. بلا شك إنّ تجربته الشعرية تأتي من رحم الواقع، في المعايشة والتجربة الحميمة للواقع العراقي بكل احباطاته وشجنه ومعاناته. لذا فإنّ القصيدة تطرح الكثير من التساؤلات الجوهرية في المعنى والإيحاء الدالّ، الذي يستحق التفكير والتأمل العميق، بما أصاب الواقع العراقي من معاناة، فالتهب شعر رأسه بالمشيب الأبيض قبل الأوان، بأن اصبح هو نفسه (سيزيف) حامل صخرته على كتفه بالمعاناة والعذاب الأبدي. هذا الشعر الحقيقي الذي ينبغي أن يقال ويصاغ كلسعات كهربائية؛ ليفيق العقل من سباته وغفوته، ويدرك بأنّ الماء قد وصل الى العنق. وان يفيق قبل ان تجرفه المياه، وأنْ يدرك ويفهم حقيقة ما يجري في الخفاء والعلن، ان يدرك ماذا حصل؟ وماذا سيحصل؟ وماذا تغير؟ وماذا سيتغير؟


أسير وحدي، راكبًا جوّالتي،
أقطع الطريق نحو الأرض المفتوحة،
حيث النخلُ يحرسُ الفقراء،
وحيث المجانين يحادثون الله دون وسيط.
هناك، في أطراف المدينة،
في البقعة التي يسمّونها "الشبانات"*
أذهبُ لأتأمل،
أفرش نظري على خضرةٍ لم تمسسها يدُ الإسفلت،
أسحبُ نفسًا من سيجارتي،

هذه صورة طبق الأصل للواقع اليومي للوحة العراق الكبيرة، بكل تبعاتها المؤلمة والموجعة، صورة الفقراء والمظلومين، وهم يكابدون القساوة من أجل رغيف الخبز، صورة الأمهات اللائي حُرمن من نعمة وجود فلذات اكبادهن أحياء، فمنهم شهداء الحروب العبثية، ومنهم شهداء بطش النظام السابق المتسلط بالإرهاب والقمع. ومنهم المخطوف والمغيَّب، تنتظر أمهاتهم على قارعة الطرق، ربما يخطف خيالهم الذين ذهبوا، ولم يعودوا. أنْ يفهم ويدرك القارئ الأطفال العراة وهم يلعبون، وهم محرومون من رعاية الطفولة، كأن الله خلقهم حفاة وعراة في الطرق الى الأبد، أن يدرك ويفهم القارئ: بأن الناس أصبحوا لعبةً كالدمى من أجل أن يكون مثواهم الأخير وادي السلام، والباقون ينتظرون دورهم في قائمة طويلة بلا ترتيب ..... أنْ يدرك ويفهم القارئ بأن الحياة اصبحت أشدَّ ظلمة من القبور. حتى لو فتحت المقابر، وأعطيت للموتى إجازة ليوم واحد فقط، فإنهم بعد سويعات قليلة يرجعون هاربين من جحيم الحياة فوق المقابر، والتي هي أشد قسوة من ظلام القبر . هذا طعم حياة العراقي بعلقمها وحنظلها. لكن مَن يسمع صرخات واستغاثات المظلومين، وانين وبكاء امهات الشهداء؟ السؤال البريء والساذج !!!! من المسؤول عن أن يجعل الحياة بهذا الشكل من الجحيم، وهل هؤلاء - أنصاف البشر المتوحشين - يقبل الله توبتهم عند يوم القيامة والحساب؟ ربما يغفر الله سبحانه وتعالى لإبليس ويدخله نعيم الجنة، لكنَّ هؤلاء من حملت اكتافهم الخطايا والذنوب والرزايا، هم مَنْ جعل الحياة رخيصة، ودم العراقي يسفك بدم بارد وبرخص، لا يقبل الله سبحانه وتعالى ان يسمعهم، ولا يقبل توبتهم، فيكون مصيرهم نار جهنم، وبئس المصير. مثلما جعلوا الحياة نار جهنم، فالظلم بالظلم، والبادي اظلم، واشد قساوة وعقاباً، لنقرأْ ما يقول الشاعر حيدر كرار في قصيدته:


ماذا لو قَبِل اللهُ توبةَ إبليس؟
هل ستنهار خطط العذاب؟
هل ستُطوى جهنّمُ كما تطوى الصحفُ بعد انتهاء الأخبار؟
*
ماذا لو وضعوا قنبلة غازٍ مسيلٍ للدموع في يد مَلَك الموت؟
هل سيرجعها كما فعل "أبو علاوي الحلاق"؟
يردّها عليهم ضاحكًا، قائلًا: "خذوها،..
لا حاجة لي بها، الموت يكفيكم!"

حيدر كرار شاعر يملك موهبة واعدة بالكثير من الإبداعات الشعرية، يركب حصان الشعر، يجول ويصول بمهارة واقتدار.
والى المزيد
***
جمعة عبد الله

 

تقوم هذه التقنية على التقاط ما يحدث خلال المنام من صور ومشاعر وتجارب، ثم إعادة صياغتها شعريًا في قالب الهايكو.تهدف تقنية تحويل الأحلام إلى هايكو إلى الانفتاح على عوالم موازية للواقع، وإلقاء الضوء على هذه العوالم ومعايشتها من خلال صياغة أدبية جمالية، والاستفادة مما تقدمه من تجارب ومشاهد ثرية، سواء على المستوى الشخصي أو التاريخي أو الأدبي. ورغم ندرة تناول الأحلام في الهايكو، فإن نص (الهوكو ) للشاعر ماتسوو باشو تشكل الركيزة النظرية الأولى لهذه التقنية:


أعشاب الصيف
هي كل ما تبقى من
حلم ع محاربين
**

عادة ما تناول شعراء الهايكو موضوع الأحلام من زاوية خارجية، فجاءت نصوصهم أقرب إلى الهايكو الذهني، المكتبي، والمصطنع، الذي لا يعكس تجارب حقيقية مر بها الهايجين أثناء المنام، كما أنه يفتقد التفاعل الحقيقي مع الأحلام التاريخية والأدبية. جاءت هذه النصوص سردية، تفتقر إلى الالتقاط الحسي والتجريبي لمشاهد الأحلام، كما أن هدفها كان غالبًا التعبير عن الطموحات والآمال، وليس تجربة الحلم ذاتها.تتجاوز تقنية تحويل الأحلام إلى هايكو قيودًا تقليدية كانت تمنع استخدام بعض الأدوات الفنية كالأنسنة والمجازات والتشبيهات والفصول، كما تُفعّل بقوة تقنية التناص مع الأحلام التاريخية والأدبية في مختلف مجالات الفن والأدب، مثل القصص، الروايات، الشعر، السينما، المسرح، والفنون التشكيلية:

حميد العادلي
1-أَتْعَبَنِي جِدًّا
أَطْوِي السَّمَاوَاتِ خَلْفَهُ
إِلَى أَيْنَ يَمْضِي الْهُدْهُدُ؟
**
عباس محمد عمارة
1-أَسْمَعُ
أَصْوَاتًا تَسْأَلُهُ:
الذَّهَبَ… أَمِ الحِكْمَةَ؟
2-المدينةُ الفاضلةُ-
تَلُوحُ لِي هَيَاكِلُ رَمَادِيَّةٌ
تَتَسَلَّقُ ٱلْفَرَاغَ
**

نصوص هايكو الأحلام المتعارف عليها كانت تكتفي بوصف أو سرد الحلم كما لو أنه فيلم يُشاهد في سينما تقليدية ثنائية الأبعاد. في المقابل، تذهب تقنية تحويل الأحلام إلى هايكو أبعد من ذلك، إذ تقدم التجربة من داخل الحلم ذاته كما عاشها واختبرها الشاعر أثناء النوم. فهي أقرب إلى مشاهدة الأفلام الحديثة متعددة الأبعاد (3D، 4D، XD)، التي يشعر فيها المشاهد بأنه جزء من الحدث. بكلمات أخرى، كلما شعر المتلقي بأنه يعيش داخل فضاء الحلم من خلال الهايكو، اقترب النص أكثر من تحقيق أهداف تقنية تحويل الأحلام إلى هايكو. كما يمكن توسيع تجربة “الرؤية من الداخل” لتشمل مواضيع أخرى خارج نطاق الأحلام في نصوص الهايكو.
انتهى
***
عباس محمد عمارة

 من دال فعل التأويل إلى معنى مقصودية المؤول

توطئة: لقد بدت النظرة الاستقرائية إلى العالم من خلال استيهامات الشعر اللغوية (تحليلا ــ تأويلا) حيث تبادلت فيه جملة مخصوصيات انعكاسية الذات عبر مستواها المتشكل من العلامات والنزوعات والتحويرات المنبثقة عن دوافع ذلك الدليل الحسي الكامن في بواطن الشاعر استدلالا ووصفا حاسما لأجواء مواقف وحالات أكثر توكيدا لإشكاليات استبصارات الشاعر الذي غدا يشكل عبر افتراضاته الضمنية في النص الشعري أكثر غورا في زج الدال الذاتوي والموضوعي في منطقة التأويل إلى معنى مقصودية المؤول كمواجهة تقديرية من القارىء إلى فهم وسائل وروابط علاقات الفاعلية الشعرية لإحساسنا الجزئي والكلي كوجها تراكزيا في تقويم رؤى القصيدة المغايرة.

ـــ الإدراك الجمالي في حواس تصورات المكان.

إن القارىء إلى قصائد مجموعة (مواسم لحمار الأسفار) للشاعر المتفرد عادل مردان، لربما يواجه نظاما حسيا خاصا في مراسم توظيف دلالات الأشياء بذلك النوع من الاتزان والأنسجام التخييلي المؤثر، فهو من جهة ما يتعامل مع الممكن التذوقي عبر واصلات رابطة من الوعي الهواجسي المشروط في حيز فواعل منعكسة في الإيحاء والتكثيف والأحساس القدراتي المحكوم بآليات محفزات الأفكار الصياغية الأكثر تدعيما لملكة (الأنا الفردية ؟) وبهذا الأمر جاءتنا أغلب قصائد المجموعة ذات اشارات محمومة بروح خصوصية وحساسية الانتقاء في العلاقة المطروحة بين الشاعر وهواجسه المؤولة:

يومي تَّخذلُهُ الأيام

ما أروعَ التّوحّد

السّواحلُ محبوسةٌ في الحديقة

هي ليس بعيدةً عن الأعماق

أُداعبُ السّطوحَ بفكرةِ التّخلّي

تلك فُرُوضُ المَنْشأ

يا لَلطّاعةِ العمياء.

/ ص13 قصيدة ــ هواجس المنزل ــ

تتكشف دوال هذه الأوضاع الشعرية من خلال وحدات القرائن التقاربية والتي تتصل بفواعل الهواجس المحفورة في قلب الشاعر على إنها جملة تصورات بالمحسوس التماثلي، إذ إن مفاتيح النفاذ إلى هوية التماثلات الأنبعاثية في حركية جادة في ذاتها، طالما إنها في حدود حالة تحول مدعاة في المعادلة واللغة والإيحاء، كحال ما تحمله الجمل الشعرية من ملامح محنة الذات التي تعاين تضاريس الأمكنة في حدود مغامرة لغوية مشحونة باللاوعي واللاجدوى (يومي تخذله الأيام ــ ما أروع التوحد ــ السواحل محبوسة في الحديقة) ولا بد من الإشارة هنا إلى أن الذات الفاعلة تكرس رؤيتها للمكان والزمن وكينونة الأحوال ضمن أفق مستحضرات استعادية (السواحل = محبوسة = الحديقة) حيث تخضع لمؤثرات المعنى المؤول في المعنى المجسد باللغة والعلاقة الاستدعائية المنكفئة على هاجسها التوحدي. لذا غدت إمكانية التواصل والأندماج ما بين الشاعر والأمكنة، كعلاقة تستنزف ذاتها المنهكة في كيانية وجودية متكونة من رؤية الذات والعالم الخارجي، بوصفهما وعيا حددته الدائرة الكونية لتبلغ محنة الذات الشاعرة ذروتها حيث يصبح الوجود ك (يا للطاعة العمياء ؟) أو (العالم يترنح ثملا ؟) فهناك في مكونات الكينونة الذواتية ثمة تجميع دقيق لعوالم السمة الغالبة على حساسية الشاعر، لذا نجد أغلب العلاقات الدلالية تؤلفها معطيات نفسانية مختلفة في المحور والتركيز والحاصل التحولاتي، لذا ظلت معظم الحالات الحسية رهينة الوسائل التي تصل إلى ملامح البوح كأهمية في إيجاد التفاصيل التي تجسد وضعية الذات في النص.

ــ التشخيصية العدمية وبلاغة خفايا القصد الإيحائي:

يمتد التفكير بالجوهر الدلالي أبعادا مرمزة وعلامات تنأى عن عروض المفردات الشكلية الفجة. نقول لقد أراد عادل مردان في كتابته للقصيدة الانسلاخ عن الأوضاع القاصرة في التحصيل الدلالي والمدلولي، وفي المجرى الذي غدا من خلاله المتن الشعري وكأنه جملة موشورات تجتذب بؤر التفاصيل اللاممنوحة للعيان والمشاهدة، لذا نبدأ مع قصيدة عادل مردان ضمن التقلبات الأحوالية المتقصية لظواهر محسوسة في مجالات الطاقة التركيبية والتوليدية، كي نحصل على ضرورة المعنى الأدق في تماثلات اللغة الشعرية الأكثر جدلا وإذعانا لمغايرة المحتوى والسياق والدليل الشعري:

قَلِقاً يَسْتَشْرِفُ في المَجهُول

مِنْ عَيْنِ الغَريب

إلى مَعْزُوفةِ الأَلَم

ما أبْعَدَ النَّبْع!

ما أبْعَدَ النّبْع!

يا لَلْخَيْبَة !

يا لَلتّناسقِ الهَشّ !.

/ ص16 قصيدة: (ترنيمةُ الألفِ الثّالث)

تبدو قصائد المجموعة (مواسم لحمار الأسفار) قائمة على حركة المفارقة الفنية أو تلك اللغة التهكمية الكامنة في أوجه مرابع الدوال التصويرية الناجزة. أي إن آلية التشخيص للعدم في إرادة المصير، كان قد شخص علتها الشاعر مردان بما يتناسب وحركة ديناميكية قصدية متنامية، ممتدة تتجاوز المستوى الثبوتي في معايير الصورة والصوت والدلالة، لتبقى كعلامات تعجبية في النسق التراتيبي المتمعن في شعرية فضاءات تناقضات الحياة وتعدد أشكالها الزمنية والتقويمية (قلقا يستشرف المصير ــ من عين الغريب ــ إلى معزوفة الألم) فالصور الدوالية ها هنا تأخذ شكلا تدرجيا يرتبط متلاحما وسياق فقدانية الأصول القويمة في المظاهر الوجودية، لذا تتأتى مفردات التعجب والأستفهام الضمنية تمثيلا لغائية ساعية إلى الكشف عن زيف المكرسات الوقائية التي تشكل بذاتها المعنى الأكثر تفارقية وحدود السمو والمثال بالذات الحقيقية (عمن تبحث يا هائم، في عالم الكمامات، عن بلسم الخلود ؟) وبين هذا وذاك وببراعة شعرية ينقل لنا الفاعل الشعري أسمى الدلالات في مشهد الرعب الكوني تأثيرا يولد استنطاقات وانفعالات مرتكزية ذات صورة مطموسة بالعدم والقنوط الأحوالي (يا للرعب، يفضح وجه الأرض).

ـــ النص الشعري معادلا موضوعيا:

إذ كان النص الشعري يصف حالا ما ضمن ممكنات المادة والتخيل والذات والزمان والمكان، إذ بوصف الشعر محفزا من عناصر فنية ولغوية وبلاغية، وظيفتها سياق المعنى الموضوعي والأداء المتنى الذي هو تشكلات إبلاغية بالصورة والمجاز والمعادل الموضوعي الذي يستشرق خصائص الصفات والأفعال من أصولها الصياغية وصولا إلى مستويات إحالية من الوظائف الفواعلية في التسمية والمشار إليه وصفا واستطرادا:

في السّوقِ القديم

إذ ينعتُهُ المألوفون زريبةَ الذباب

تبدأ الملهاة

لحظةَ يَمزحُ الباعة.

/ ص19 قصيدة: (موسمُ لحمارِ الأسفار)

تهيمن على آليات البنيات الدوالية ثمة مستويات من الموضوعة المعادلة في المؤشر والتأشير الأسلوبي، لذا جاءتنا إمكانية المتن المقطعي البنائي على هيئة مشاهد ولقطات وكأنها الصور المعكوسة في مقادير صيغة المنظور ومستويات تشكلات المعنى. فالشاعر مردان ينفتح في نصه حول ذلك الزمن الأحوالي لدال (الحمار) وهو الدال بأبعاده الإحالية في الأداء وقصدية إيحاءات الموضوعة. فلو دققنا في عتبة التصدير العنواني المركزي لوجدنا ثمة موحيات معادلة في مكونات التعادل التفارقي، ويقدر مثل هذا التوظيف على أنه رمزية مساحة العوامل والإجراء الإيحائي، امتدادا نحو مكونات بلاغة الخطاب ومساحة توقعاته الأحداثية، لذا فإن جملة (في السوق القديم) تشكل بذاتها منظومة مكانية متعددة الصور والتمركزات للأنا والهو، لتتوالى متتالية الدوال مجالا معدلا لإضاءة مسرح الذات الفاعلة وموجهاتها العلاماتية (إذ ينعته المألوفون زربية الذباب؟) وتحضر مألوفية المكان والزمن والذوات لتتلبس روح المكان المعاش عبر موجودات واقعية تؤلف مناخا يحكي قصة الذات المحالة إلى مجموعة وحدات شعرية ذات مراحل مشهدية تعبق بإشارات المعادل الموضوعي وتؤنسن آنوية دال (الحمار) بأكثر من سمة صراعية:

طريقٌ شائكةٌ بين النّخيل

لا أرغبُ في الحقائب

هل أنا

حمارُ الأسفار؟.؟ ص21

وينتقي مردان البؤرة الآنوية للعامل الأحوالي في لحظات أكثر غورا في المعادل الضمائري بوصفه الهوية الأمتثالية التي ارادها مردان أن تتلبس لبوس (الممول التعادلي) كي تتطلع وترتقب الذات المتكلمة أخيرا عبر مدى حدود استيعابها لذلك الانموذج المفارق الذي أراده الشاعر فاعلا معادلا في الكون الشعري لقصيدته اللقطاتية.

ــ تعليق القراءة:

تعد المفارقة عاملا تشكيليا في آليات الخطاب الشعري، لأنها تشحن التخيل باللغة فتجدد حيوات المفاجأة والإدهاش والإبهار.. أقول أن قصائد مجموعة (مواسم لحمار الأسفار) شعرية مثقلة في تشعبات لعبة اللغة الإيحائية القصدية، لذا فإن بواعث دوالها تمتحن زمن المنظومة القرائية الفعلية نحو مدى تخييلي مفارق ومعادل:

بعد عقدٍ سأنتمي للمسنّين

لكنّني أكرهُ كآبتَهم

عندها سأصفّقُ لظلّي كثيراً.

/ص92 قصيدة: (ليست هي الخاتمة)

هكذا تتعمق درجات الفعل الشعري لدى (عادل مردان) شعرية تكسر أفق التوقع لتحل محلها شعرية المفارقة عندما تسهم اللغة في شحن الصورة والمشهد بطاقة تتجاوز فضاء القيد الشعري، بلوغا نحو مستوى أعمق وأجدى من تضاريس فعل التأويل إلى معنى مقصودية المؤول كحالة تنصرف إلى أعماق اللعبة الشعرية المضافة بدلالات أحوالية زمنية لا حدود لها. وعلى هذا النحو تبقى قصائد مجموعة المبدع المتفرد (عادل مردان) موضع بحثنا تجربة شعرية حقيقية تتفاعل مع عوالم الآنوية للأشياء تفاعلا ذا حساسية مراوغة تتأبى على الاقتناص القرائي العابر والإسقاطي، فالقصيدة لدى مجموعة الشاعر وعوالمه الشعرية الأخرى هي الارتقاء بالمقولة الشعرية إلى حيز كينونة جوهر القول والأداة والأدوات والمخيلة القابلة إلى أن تجد فيها المؤولات طاقات دلالية كثيفة وجوهرية في الأنموذج والتلقي وحساسية الرؤية التشكيلية الفاعلة.

***

حيدر عبد الرضا

ظاهرة الانزياح: 
الانزياح لغة: جاء في معجم اللغة العربيّة المعاصرة: "انزاحَ انزياحًا، فهو مُنزاح، والمفعول مُنزاحٌ عنه، وانزاح الشَّيءُ: زاح؛ ذهب وتباعد، وانزاحَ عن مقعده: تنحَّى عنه وتباعد".
وهو أيضاً في اللغة زال وذهب، وأزاح الأمر يعني زاله عن موضعه. و(لمصطلح الانزياح الكثير من المترادفات في النقد الأدبي العربي، ولعل أهمها الانحراف والعدول والتغريب، وقد استبعد الانحراف لأنه ينبع توجهه من فهم ضيق للأسلوب). (1). وهكذا، فالانزياحُ في اللغةِ إذاً يرتبط بالذَّهاب والتباعد والتنحي، وفي كل هذا تغييرٌ لحالة معينة وعدم الالتزام بها، وإن كانت الدلالة اللُّغوية الأولى مرتبطةً بالمكان، فإن الأمر يتوسَّع لغيره، فيقال: زاح عنِّي المرضُ أو الباطلُ: أي زال عنِّي.
أما الانزياح اصطلاحًاً: فهو التباعد وتغيير المسار. ومفهوم الانزياح له علاقة بمعرفة ما ينقل الكلام من السمة الإخباريّة إلى السمة الإنشائيّة، (كما أن الانزياح قد ورد في البلاغة عند العرب على أنه وسيلة لتغيير الصياغة المألوفة للغة، أو العدول في مستوى اللغة الصوتي والدلالي، وقد تعددت الألفاظ الدالة على الانزياح في الدراسات البلاغيّة والأسلوبيّة، كالتجاوز والخطأ والكسر).(2).
هذا وقد اشتَهَر مفهومُ الانزياح وانتشر في الدراسات النقديّة والأسلوبيّة، وكان سببُ الاهتمام بهذا المفهوم يرجع بالأساس إلى البحث عن خصائصَ مميزة للغة الأدبيّة عمومًا، والشعريّة خصوصًا. وهو في الوقت نفسه إضافةٌ جماليّة يمارِسها المُبدِع لنقل تجرِبته الشعوريّة للمتلقي والتأثير فيه، وبالتالي لا يُعَد أيُّ خروج عن المألوف وتجاوُزٍ للسائد وخرقٍ للنظام انزياحًا إلا إذا حقَّق قيمةً جماليّة وتعبيريّة.
ويعرّف (أحمد محمّد ويس" الانزياح بقوله: «استعمال المبدع للغة "مفردات وتراكيب وصور" استعمالاً يخرج بها عمّا هو معتاد ومألوف بحيث يحقّق المبدع ما ينبغي له أن يتّصف به من تفرّد وإبداع وقوّة جذب). (3). أما قاموس "جون ديبوا"، فيشير إلى أن الانزياح (حَدَثٌ أسلوبي ذو قيمة جماليّة، يصدر عن قرار للذَّاتِ المتكلِّمة بفعل كلامي يبدو خارقًا لإحدى قواعد الاستعمال التي تسمى معيارًا، يتحدد بالاستعمال العام للغة مشتركة بين مجموع المتخاطبين بها.". (4).
بعض أنواع الانزياح. أو (مستويات الانزياح).
أولاً: الانزياح الاستدلالي (الدلالي):
وهو الأكثر استخداما، ويتعلق بأصل الوحدة اللغويّة أو بدلالتها مثل الاستعارة والمجاز والكناية والتشبيه، وقد أطلق عليه بعض النقاد (التلاعب باللغة)، أي تجاوز المعنى الحقيقي لمعانٍ عدّة مجازيّة.
ففي قصيدة (ينام في يديه) لـ "أدونيس" يقول: (يمد راحتيه للوطن الميت، للشوارع الخرساء، وحينما يلتصق الموت بناظريّه يلبس جلد الارض والأشياء.)
نجد الانزياحات هنا عند أدونيس، في إطلاقه الصفات على الموصوفات الحيّة مثلًاً أو غير الحقيقيّة، مثل الوطن الميت، والشوارع الخرساء، فصفات كالميت والخرساء تطلق على شخص حقيقي عاقل ولا تطلق على جمادات غير حية، لكنه أراد فيها معنًى دلاليًّا، وهو موت الوطن موتًا سياسيًّاً واجتماعيًّاً واقتصاديًّاً، وأراد كذلك في (الخرساء) أن الشوارع ليس فيها صوت للمارة والعابرين.
وفي قصيدة "نازك الملائكة" (البحث عن السعادة) تقول:
(أين من هذه الحياة ابتساماتِ الأماني ونشوة الأفراح.). فالانزياح هنا يتمثّل في "ابتسامات الأماني"، فخرجت عن الكلام المألوف، وجعلت الأماني تبتسم، وفي الحقيقة أن نازك أرادت تشبيه الأماني بإنسان يبتسم.
ثانياً: الانزياح التركيبي:
هو الذي يتعلق بتراكيب الجمل ككل وما فيها من حذف وتقديم وتأخير المبتدأ والخبر، الصفة والموصوف. والمبدع الحق هو من يمتلك القدرة على تشكيل اللفظة جماليًّا بما يتجاوز إطار المألوفات.
ثالثاً: الانزياح الإيقاعي:
وهو ما يتعلق بالنغم والوزن والقافية، والانزياح الإيقاعي مواز للانزياح الدلالي، (الاستعارة والمجاز والكناية والتشبيه). لذلك فالشاعر على أساس هذين الانزياحين يكون شديد الصلة باللغة، والشعريّة هي أسلوبيّة هذا النوع.
رابعاً: الانزياح الأسلوبي:
وهو تغيير دلالات الأساليب الخبريّة والإنشائيّة عن دلالتها الأصليّة حتى تنتج دلالة جديدة مختلفة.(5).
ويتجلى هذا النوع من لانزياح الأسلوبي في شعر الشاعر خالد بن يزيد الكاتب بقوله:


لست أدري أين الفؤاد مقيماً – بمكان الفؤاد؟ أين الفؤاد
دفعته الأحشاء عما يليهــــا - فأذابته حرقة واتــــــقاد

لقد خالف شعرية النص المألوف في الخطاب الشعري، إذ ليس من المألوف أن يسأل الإنسان عن فؤاده، ولكن الوضع النفسي الممزق هو الذي جعل الشاعر يلجأ إلى هذا الأسلوب...(6).
الانزياح في الدراسات النقديّة الحديثة:
رغم أن الانزياح مصطلحٌ حديث ارتبط بالأسلوبيّة وبالشعريّة الحديثة، (إلا أن للمفهومِ الذي يدل عليه الانزياح جذورًاً بلاغيّةً تعودُ إلى البلاغة اليونانيّة، كما نجد عند أرسطو الذي كان يُفرِّق بين اللغة العاديّة المعروفة والشائعة، وبين اللغة الغريبة غير المألوفة، مؤكدًا أن الثانية – الغريبة - هي اللغة الأدبيّة؛ لأنها تعبيرٌ عن الحركيّة والتجدُّد والحياة، على عكس اللغة العاديّة الدالة على السكون والنمطية المُمِلَّة والمعياريّة.). (7).
أما في البلاغة العربيّة القديمة، فصُوَرُ الانزياح عرَفتِ اهتمامَ البلاغيين العرب القدماء، رغم أنهم لم يعرفوا المصطلح، فإنهم بحثوا في الخروج عن القاعدة والمألوف بتسميات مختلفة تُشكِّل في النهاية علمَ البلاغة، فدرسوا الاستعارة، والتقديم والتأخير، والعدول، إلى غير ذلك من المباحث البلاغيّة.
ويُعَدُّ "عبد القاهر الجُرجاني" من أبرز النقاد الذين تطرَّقوا لمواضيع تُلامِس بقوةٍ مفهومَ الانزياح بمعناه الحديث؛ حيث أَوْلَى عِنايةً خاصة للعدول، وعدَّه مِيزةً كبيرة للشِّعر.(8).
أما الدراسات النقديّة والأدبيّة الحديثة فقد اهتمت بظاهرة "الانزياح" باعتباره قضيّة أساسيّة في تشكيل جماليات النصوص الأدبيّة، وبوصفه أيضاً حدثاً لُغويّاً في تشكيل الكلام وصياغته. والانزياح كما بينا في مفهومه، هو خروج الكلام عن نسقه المثالي المألوف، أو هو خروج عن المعيار لغرض قصد إليه المتكلم، أو جاء عفو الخاطر؛ لكنه يخدم النص بصورة أو بأخرى وبدرجات متفاوتة.
لقد قدَّمتِ البلاغةُ العربيّة خدمةً جليلة للغة العربيّة وللقرآن الكريم، لكنها بعد ازدهارها مع "الجرجاني" وغيره من الذين اشتغلوا على النقد، دخلَتْ في العصور الوسطى عصور الجمود والتَّكرار، مما فرض تجاوزَها في الدراسة النقدية الحديثة، ولكن هذا التجاوزَ لا يعني القطيعةَ الأبستيمولوجيّة مع البلاغة، بل مجرد تطوير، وهكذا أصبح الحديثُ عن الأسلوبيّة كبلاغة جديدة.(9).
ومن الذين اهتمَوا من النقَّاد العرب بمفهوم الانزياح، يأتي "عبدالسلام المسدي، في كتابه (الأسلوب والأسلوبيّة)، و"صلاح فضل"، و"تمام حسان"، و"محمد العمري"، وغيرهم، إلا أن المُلاحَظ هو أن النقاد العرب يصطلحون على المفهومِ اصطلاحات مختلفة، حيث تتداخل مع مصطلح الانزياح عدةُ مصطلحات، أهمها العدول والتغريب:
فالعدول لغةً: هو الميل والانعراج، وبذلك فإن العدولَ في اللغة هو دلالةٌ على حياد الشيء عن وجهته وإمالته عنها.
أما العدول في المعنى الاصطلاحي: فهو مَيلٌ عن النظام أو الأصل اللُّغوي. إنه الانتقالُ بالألفاظ في النصِّ مِن سياقها المألوف إلى سياق جديد غير اعتيادي، مما يثير التساؤلَ، ويَلْفِت النظرَ والانتباه.
أما التغريب: فهو جعل المألوف لدى المتلقي غريبًاً، عن طريق التنويعات الفنيّة. (10).
ملاك القول:
إن الانزياح ظاهرةٌ مُهمَّةٌ في اللغة العربيّة؛ فهو وسيلة لتوسُّعها، وأداة فنيّة وجماليّة عرَفَتْها اللغة منذ القديم؛ حيث نجد أن العرب قديمًا تنبَّهوا للظاهرة، ولو بمصطلحات أخرى كما بينا في موقع سابق، أهمُّها العدول؛ كما نجده عند (ابن جني، وعبد القاهر الجرجاني، والقاضي الجرجاني، وابن رشيق القيرواني)، وغيرهم.
وفي العصر الحديث ظهر مفهومُ الانزياح، سواء عند العرب أو عند الغرب، بمصطلحات كثيرة؛ كالانحراف، والميل عن القاعدة، والتغريب، والجسارة اللُّغوية
لقد تعدَّدت مصطلحات أو مفردات الأسلوبيّة، ومفاهيمها، وآليات اشتغالها، كالصورة والرمز والقناع والمكان والزمان والتشبيه والاستعارة والتقديم والتأخير ..الخ،. ويعتبر الانزياحُ مِن أشهر هذه المفاهيم التي ظهَرت مع الشِّعريّة الحديثة، وذلك لأن اللغة الشعريّة تختلف عن غيرِها اختلافًا كبيرًاً. فاللغة العلميّة مثلًاً تميل للأسلوب التقريريِّ المباشر الذي تكاد تنعدِم فيه نسبةُ التأويل، مما يضع المتلقيَ أمام دلالة واحدةٍ على العموم، رغم اختلاف المتلقِّين ومستوياتهم ومشاربهم الثقافية. أما في الشعر، فإن الأمر نجده معكوسًا، حيث يعتمد الشِّعر على لغةٍ لها حظُّها من التقريريّة في بعض الأحيان، لكنها إيحائيّة في الغالب الأعم، بل يجب أن تكون كذلك، وهي تفتح بذلك للمتلقِّيَ عالَمٍاً مِن التأويلات والدلالات المتعددة التي تفرضها طبيعة اللغة، سواء صوتيًّاً، أو صرفيًّاً، أو تركيبيًّاً، أو دلاليًّاً.
إن الشاعر يهدفُ إلى إبهار المتلقِّي وشدِّه لقصيدته، مستعملًا عددًاً من الوسائل في تحقيق غايته، الصورة الرمز الموسيقى انسيابية الألفاظ وسهولتها ولطافتها وجزالتها.. وغير ذلك . وما الانزياحُ إلا وسيلةٌ من هذه الوسائل، بل هو أشهرها وأهمها، وجامعها وبوتقتها التي تنصهر فيها. فالانزياح من الظواهر المُهمَّة في الدراسات الأسلوبيّة التي تقارب النص الأدبي عمومًا، والنص الشِّعري على وجه الخصوص، باعتبار أن النص الشعريَّ يُميِّز نفسه بالخروج عن المألوف.
***
د. عدنان عويّد
كاتب وباحث من سوريّا.
.........................
الهوامش:
1- (يوسف وغليسي، إشكالية المصطلح في الخطاب النقدي العربي الجديد، صفحة 217. بتصرّف.).
2- (عباس رشيد الددة - الانزياح في الخطاب النقدي والبلاغي عند العرب - صفحة 15. بتصرّف.).
3- (موقع ديوان . اللغة العربية. إنزياح لغوي).
4- (سامية محصول، مجلة دراسات أدبية، العدد الخامس، فبراير 2010.).
5- حول أنواع الانزياحات – (يراجع موقع موضوع. ويراجع أيضا: شعرية الانزياح في شعر محمد اسماعيل جوهرجي – د. عبد الرحمن بن خليفة الملحم- كلية الشريعة والدراسات الإسلامية بالأحساء- جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية.).
6- (ظاهرة الانزياح الأسلوبي - في شعر الشاعر خالد بن يزيد الكاتب – الدكتور صالح علي سالم الشتيوي- محلة جامعة دمشق – المجلد 21 – العدد – (3+4) – 2005.).
7- (محمد ويس، الانزياح من خلال الدراسات الأسلوبية، المؤسسة الجامعية للدراسات، 2005، ص 82.).
8- يراجع موقع ألوكة – ظاهرة الانزياح – ويراجع يضاً حول موقف الجرجاني من الانزياح. (شعرية الانزياح في شعر محمد اسماعيل جوهرجي – د. عبد الرحمن بن خليفة الملحم- كلية الشريعة والدراسات الإسلامية بالأحساء- جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية.). بتصرف
9- (راجع شبكة ألوكة – ظاهرة الانزياح -) بتصرف.
10- (تعريف الانزياح لغة واصطلاحًا - ظاهرة الانزياح - موقع الألوكة الأدبيّة واللغويّة - بوطاهر بوسدر.). بتصرف.

دراسة تحليلية

تتداخل في ثنايا أدب الاستشراق ظلال الماضي وروح الحاضر، في مشهد يبدو وكأنه لوحة زيتية غنية بالألوان المتضاربة؛ لوحة تجسد من خلالها قصص الثقافات الملتقية، وأسرار الاكتشاف، و اتهامات الجوسسة كاداة وسيلة للسيطرة وإعادة التأطير، والتغلغل في نسيج العنصرية الخفية. في هذه الدراسة التحليلية، نسبر أغوار أدب الاستشراق من منظار تقدمي وشاعري، نتأمل بين السطور ما وراء كلمات التأريخ وتخيلات الاستعمار، ونرتشف من معانيه مرارات الماضي وحلاوة احتمال التثاقف الحقيقي.
مقدمة: بين سحر الاكتشاف وألم الاستعباد
منذ أن خطّت أنامل الأدباء والمستشرقين كلماتهم على أوراق التاريخ، ارتسمت صورة الشرق كأرض غامضة تحمل في طياتها أسرار الحضارات وعطر الماضي، لكنها كانت في الوقت ذاته مرآة تعكس رغبات السيطرة والإقصاء. لم يكن أدب الاستشراق مجرد سردٍ لتجارب الاكتشاف أو نقلٍ للثقافات، بل كان أيضاً ذريعة لتجسيد أساليب الجوسسة الفكرية والسياسية التي ابتغت من خلالها تشكيل “الآخر” في صورة قابلة للتصنيف والاحتكار.
في هذه الدراسة، نسعى إلى استجلاء التناقضات التي تكتنف هذه الظاهرة الأدبية، كيف يتحول أدب يحمل في جوهره رغبة الاكتشاف إلى أداة للجوسسة والعنصرية؟ وكيف يمكن للقاء ثقافي – التثاقف – أن يصبح مسرحاً للسيطرة والتهميش؟ نطرح هذه التساؤلات بجرأة تقدميّة، تتخطى الحدود التقليدية لتبث روحاً جديدة تنبض بالأمل في تجديد الرؤية القديمة للإستشراق، والتثاقف.
أولا: جذور الاستشراق: بين التثاقف والاكتشاف
* استشراق الشرق – بين خيال المستكشف والتصوير الاستعماري
ظهر أدب الاستشراق في أوج الاستعمار الأوروبي، حيث صاغ الكتاب قصصاً وروايات عن "الشرق الأسطوري" الذي يحمل عبق التاريخ وروعة الحضارة، إذ كان المستشرق يُنظر إلى الشرق كمادة خام للنصوص؛ يبحث عن قصص الخلود والمغامرة، لكن سرعان ما تداخلت هذه الرؤية مع مواقف متحيزة، إذ صور الغرب الشرق كفضاء غامض في حاجة إلى تنظيم وتفسير. هذا التناقض بين الفضول البحثي والرغبة في السيطرة هو ما أدخل بصمة العنصرية على الخطاب الاستشراقي، حيث تحول الاكتشاف إلى وسيلة لتبرير سياسات الهيمنة وإعادة تعريف الثقافات وفق معايير غربية ضيقة.
** التثاقف كطريق معقد نحو الحوار
على الرغم من التغليف الأدبي البهيّ الذي رافق العديد من أعمال الاستشراق، إلا أن ما تفتقر إليه هذه النصوص هو اللقاء الحقيقي بين الثقافات – التثاقف – الذي يمكنه تجاوز الفروق وإيجاد القواسم المشتركة. فالتثاقف ليس مجرد نقل للمعرفة بل هو عملية تشاركية حقيقية تعيد كتابة التاريخ من منظور متعدد الأبعاد، حيث يصبح الشرق شريكاً في الحوار الحضاري لا مادة للدراسة والاستغلال. هنا تبرز أهمية التفكير التقدمي الذي يسعى إلى إعادة قراءة النصوص الاستشراقية بنظرة نقدية جديدة تُحررها من الصور النمطية التي أسهمت في ترسيخ العنصرية.
ثانيا: أمثلة من أدب الاستشراق: حكايات تتردد أصداؤها
لتوضيح كيفية تجسيد أدب الاستشراق لتلك التناقضات، نستعرض فيما يلي بعض الأمثلة البارزة:
* "سلامبو" لجستاف فلوبير
على الرغم من أن "سلامبو" ليست رواية استشراقية بمعناها الضيق، إلا أنها تُستخدم أحياناً كنموذج يُعبّر عن التصوير الاستعماري للشرق القديم. ففي هذه الرواية، يُستحضر الشرق كأرض من الأساطير والغرائب، تُلبس في ثوبٍ من الرومانسية والغموض يُخفي وراءه رغبة الغرب في إعادة تأطير التاريخ وحضارة غابرة وفق معاييره الخاصة. إن تصوير فلوبير لبيئة الشرق يحمل بين طياته تناقضات بين الإعجاب الفني والتحيز الاستعماري.
** "كيم" لردهارد كيبلينج
تُعد رواية "كيم" مثالاً كلاسيكياً آخر على أدب الاستشراق، حيث يُقدم كيبلينج شخصية هندية تتنقل بين الثقافات بتفاصيل دقيقة، إلا أن السرد ينمّي صورة غربية تُعامل الشخصية الهندية على أنها لغز يحتاج إلى فك شفرته. يُظهر هذا النص كيف أن النظرة الاستشراقية تمزج بين الإعجاب والتهميش؛ إذ يُصوّر الشرق على أنه مكان للغموض والبوهيمية وفي الوقت ذاته في حاجة إلى توجيه وإصلاح من قبل الفكر الغربي.
*** إعادة قراءة "ألف ليلة وليلة"
لقد شكلت حكايات "ألف ليلة وليلة" مادة خام عظيمة للاستشراق، فقد أعاد المستشرقون صياغتها في إطار سرد غربي يمزج بين السحر والخيال، ويختزلها في صورة نمطية تعبر عن "سحر الشرق". وقد أدى ذلك إلى تأطير هذه الحكايات كرمز للغموض والبدائية، بينما يمكن من منظور نقدي تقدمي إعادة النظر فيها كأيقونات ثقافية حية تحمل في طياتها ثراءً حضارياً يستحق الحوار والتثاقف الحقيقي.
ثالثا: الجوسسة والعنصرية: قراءة في آليات السيطرة الثقافية
* الجوسسة كأداة استعمارية
يمتد مفهوم الجوسسة في أدب الاستشراق إلى ما هو أبعد من التجسس الحرفي؛ فهو تجسس فكري وثقافي يتمثل في قراءة النصوص وتحليلها لاستخلاص "أسرار" الثقافة الشرقية. تُستغل هذه العملية في نصوص تُظهر الشرق كملف مفتوح يجب قراءته وفهمه من قبل "الآخر" الغربي، الذي يدعي امتلاكه لمفاتيح التحليل والتفسير. تحت هذا القناع الأدبي، تصبح الجوسسة وسيلة لجمع المعلومات التي تُستخدم لاحقاً لتبرير ممارسات الاستعمار وإعادة رسم حدود النفوذ الثقافي، مما يعمق الانقسام بين الحضارات.
** العنصرية في طيات النصوص الأدبية
لا يمكن فصل العنصرية عن خطاب الاستشراق؛ إذ إن التصوير النمطي للشرق – كمجموعة متجانسة تعاني من "البدائية" و"التخلف" – أدى إلى خلق تصور مشوه للآخر. إذ يعمل أدب الاستشراق على إعادة إنتاج أنماط فكرية عنصرية تُضعف الهوية الشرقية وتضعها في قالب يخضع للقيم والمعايير الغربية. هكذا، يُبرز النص الاستشراقي صورة "المستشرق الحكيم" الذي يدعي امتلاكه لمفاتيح الفهم بينما يبقى الشرق في حالة من التخلف والانتظار لإنارة الفكر الغربي.
رابعا: القراءة النقدية والتحليلية: بين الظلال والنور
* مفاهيم ما بعد الاستعمار في إعادة تأطير الأدب الاستشراقي
أصبح منبر الفكر ما بعد الاستعماري منصة لإعادة قراءة أدب الاستشراق بنظرة نقدية شاملة تتساءل عن مدى نزاهة تلك النصوص في تمثيل الثقافات الشرقية. فقد فتحت أعمال مثل الاستشراق لإدوارد سعيد نافذة على العلاقات السياسية والاقتصادية الخفية التي تُبنى خلف الكواليس، مما دفع النقاد إلى تسليط الضوء على كيفية تحول اللغة والأدب إلى أدوات قمع تُفضي إلى تهميش الهويات. وهنا يكمن التحدي في تفكيك البنى الفكرية التي أرستها الخطابات الاستشراقية وإعادة صياغة التاريخ بما يُعطي صوتاً حقيقياً للمثقفين والفنانين الشرقيين.
** إعادة القراءة الإبداعية: لغة الشعر والرمزية
تتجه بعض التيارات الأدبية الحديثة إلى إعادة قراءة النصوص الاستشراقية بأسلوب يجمع بين العقل والعاطفة، الحقيقة والخيال، في محاولة لتجاوز القيود النمطية التقليدية. باستخدام لغة شعرية رمزية، يُعاد تصوير الشرق كمساحة حية للنقاش والحوار، بعيداً عن إطار السيطرة والجوسسة. بهذا الأسلوب، يُمكن للنص أن يتحرر من قوالب التحيز ويصبح جسراً للتثاقف الحقيقي بين الحضارات.
خامسا: الاتجاهات المعاصرة والنقد التقدمي: إعادة قراءة المستقبل
* التفكير التقدمي كأداة لتحرير السرد الأدبي
يمثل التفكير التقدمي ركيزة أساسية في مواجهة الخطاب الاستشراقي التقليدي، حيث يسعى إلى تجاوز النظرة الأحادية الجانب التي كانت تُسطر فيها حدود الشرق والغرب. يُمكن لهذا المنظور إعادة تأطير العلاقة بين الثقافات على أساس التفاعل والمشاركة، من خلال إعادة النظر في الأطر النظرية التي بُني عليها أدب الاستشراق وتحليل النصوص بأسلوب نقدي يكشف الأوهام المستترة خلف لغة الجوسسة والتمييز.
** الأدب كمنصة لتحرير العقول وإعادة بناء الهوية
في ظل التحديات التي يفرضها أدب الاستشراق، يظهر الأدب كأداة تحريرية تصحح المفاهيم الخاطئة وتعيد بناء الهوية الثقافية بطرق إبداعية مبتكرة. فالتلاقي بين الشرق والغرب ليس مجرد تصادم حضاري، بل هو فرصة لاستلهام جديد وتبادل ثقافي يثري كلا الطرفين. ويتطلب ذلك إعادة قراءة الأدب الاستشراقي من منظور تقدمي يعترف بأن الهوية كيان متغير ومتعدد الأوجه، تتشكل من خلال التجارب المشتركة والحوار الدائم.
خاتمة: استشراق بين الظلال والنور – نحو مستقبل يتجاوز القيود
يمثل أدب الاستشراق مرآة معقدة تعكس تناقضات التاريخ وصراعات القوة والهوية، لكنه في الوقت ذاته يحمل بذور الأمل والتغيير. فمن خلال النقد التقدمي والقراءة الإبداعية، يمكننا استخلاص رؤية جديدة تُعيد للشرق مكانته الحقيقية كشريك في الحوار الحضاري لا ككائن آخر يُستباح ويتنصّب عليه. إن إعادة قراءة أدب الاستشراق تُعد دعوة للتحرر من قيود الأفكار النمطية وإعادة النظر في العلاقة بين الثقافات، بحيث يصبح اللقاء الثقافي جسرًا لتجاوز الظلال والعبور نحو نور شامل ينبثق من عمق التجارب الإنسانية المشتركة.
***
مجيدة محمدي - شاعرة وباحثة تونسية
....................
المراجع
- سعيد، إدوارد – الاستشراق (1978). كتاب أساسي في نقد الخطاب الاستشراقي وتحليل العلاقة بين الغرب والشرق في سياق الاستعمار والسياسة الثقافية.
- بهبا، هومي ك. – موقع الثقافة (1994). عمل مهم في نظرية ما بعد الاستعمار يعيد صياغة العلاقة بين الهوية والثقافة في عصر العولمة.
- أبو لغد، ليلى – هل يستطيع المُستضعف أن يتحدث؟ (1992). مجموعة مقالات نقدية تناقش كيف تُشكّل الأنظمة الفكرية الخطابات الثقافية والسياسية.

 

البنية النفسية للخطاب المسرحي في "حكاية درندش"

تمرّدَ العرض المسرحي "حكاية دَرَندش" على المنظومة الإبستمولوجية السائدة في المشهد المسرحي العراقي المعاصر، إذ قدّم الفنان ماجد درندش تجلياً حياً لرؤى المسرح ما بعد الدرامي حين فكّك النسيج التقليدي للسرد المسرحي وأطاح بالمسلّمات الأرسطية. تجلّت عبقرية العرض في تقويضه المتعمد للتسلسل الكرونولوجي للأحداث، مؤسساً لخطاب مسرحي ينفلت من قبضة البنية المعيارية الصارمة نحو فضاء جماليات التشظي والتفكيك. لقد استطاع درندش أن يتحرر من سطوة الثالوث الأرسطي المقدس (البداية-الوسط-النهاية) مستعيضاً عنه ببنية سردية متشظية تعكس وبعمق شديد حالة التمزق الوجودي للذات العراقية المأزومة، فبدا العرض وكأنه حفرية أنثروبولوجية في طبقات اللاوعي الجمعي العراقي المثقل بأضغاث أحلام مؤجلة، أحلام التحرر والكرامة الإنسانية التي ظلت - على الدوام - تصطدم بجدران القمع والاستلاب في وطن مصادَر الحريات ومعطَّل الأحلام.
عند التابلوه الافتتاحي للعرض، تجلّت سيميائية الظلام بوصفها استعارة كبرى استحوذت على فضاء الخشبة المسرحية، إذ انغمرت أرجاء المسرح في عتمة كثيفة لم يبددها سوى ومضة ضوئية خافتة كشفت عن كتلة بشرية ضبابية المعالم، هلامية الحدود، كان يتوارى في ثناياها بطل "حكاية درندش" الفنان ماجد درندش. تزامن هذا التشكيل البصري مع تسلل أنغام أغنية للفنان حسن بريسم موشاة بالشجن، متسربلة بالحزن، مترعة بالوجع، وكأنها صيغت من جوهر المعاناة العراقية وترسبات الذاكرة المثقلة بأوجاع الحروب ومآسي الفقد والضياع. شكّل هذا التمازج بين العتمة البصرية والصوت المتأوه عتبة سيميائية فائقة الكثافة، إذ لم تكن الأغنية مجرد خلفية صوتية عارضة، بل كانت بمثابة معادل موسيقي للحالة الوجودية التي تستنطقها المسرحية، فكانت بذلك تدشيناً رمزياً للفضاء الدلالي للعرض، ومفتاحاً إشارياً لاستنطاق الطبقات العميقة من المأساة الجمعية التي تنبض بها حكاية درندش.
مدفوعاً بالموضوعية النقدية وجدت أن الافتتاحية البصرية شكلت منعطفاً تأسيسياً متميزاً عن كثير من التجارب المسرحية الأخرى التي شهدتها الساحة الثقافية العراقية فقد تأسست على ثنائيات ضدية توظفت فيها سيميائية الظلام الدامس الذي غمر فضاء الخشبة مع الحضور الصوتي الدافئ للأغنية مشكلةً ثنائية جدلية جمعت بين العدم البصري والوجود السمعي الذي استحضر تاريخ الألم العراقي وأرشيف الوجع الإنساني.
فلسفياً وسيميائياً كان اختيار الظلام كمكون سينوغرافي حاضن للحدث الافتتاحي خياراً إخراجياً شديدَ العمق ودقيق الحساسية تمثلت وظائفه الدرامية في:
تعاطياً: أدى إلى تعطيل الاعتماد على الوظيفة البصرية وتفعيل حاسة السمع وتحفيز خيال المتلقي على الإنصات العميق لمضامين النص.
جدلياً: رمز الظلام إلى غياهب الماضي وطبقاته المجهولة التي كشف عنها العرض تدريجياً عبر رحلة البطل الدونكيشوتية المتماهية مع الرمزية العالمية للشخصية الأدبية المعروفة.
تاريخياً: استدعى الظلام مرجعيات ذاكرية مرتبطة بالمرحلة الحالكة التي عاشها العراق إبان الحروب والحصار الاقتصادي والقمع الاجتماعي مما أكد أن العراق مثّل بؤرة للمعاناة الإنسانية على المستوى العالمي.
إثر هذا التمهيد الموسيقي المشبع بالحزن انطلق النص المنطوق بتساؤلات وجودية قلقة ومضطربة وكذلك مفاجئة وصادمة "شكو شصاير" "شنو اللي صار" فاكتمل بذلك المشهد الافتتاحي بتناغم جمع بين الموسيقى والصورة والكلمة بانسيابية استثنائية حافظت على الاتساق البنيوي للعمل واستمراريته الدرامية.
تميز عرض "حكاية درندش" بما يمكن تسميته "المسرح التجريبي التوثيقي" الذي يجمع بين الوثيقة والتجريب، بين الواقعية التسجيلية والتعبيرية الرمزية حيث استثمره بتفرد يحدث لأول مرة في المسرح العراقي. ولم يسقط العرض في فخ التقريرية المباشرة، بل قدم رؤية جمالية اعتمدت على التكثيف والاختزال، وهذا ما جعله يتجاوز حدود الرصد الواقعي إلى مستوى التأويل الفلسفي لمعنى الهوية والانتماء في عصر الشتات، مؤسساً لما يمكن تسميته "نموذج التطابق الوجودي" في فضاء المسرح العربي المعاصر.
على مستوى التصنيف النوعي، انتمى هذا العمل إلى ما يمكن أن نصطلح عليه "المسرح السيرذاتي" حيث تجاوز فيه الفنان مفهوم التمثيل بمعناه التقليدي ليصبح شاهداً على تجربته الخاصة ومجسداً لها، محققاً بذلك ما أطلق عليه فيليب زاريلي مصطلح "الأصالة الأدائية" إذ أعاد الممثل تشكيل ذاته وتجربته الحياتية ضمن إطار جمالي محدد، مما منح العرض سمة التفرد والخصوصية الإبداعية.
تمحورت البنية الدرامية للعرض حول مفهوم "اغتراب الذات" الذي طرحه إريك فروم في أطروحاته النفسية والاجتماعية، فقد جسّد درندش حالة الانفصال الوجودي عن الواقع والبحث المستمر عن هوية مفقودة. وقد تجلى هذا الاغتراب بوضوح في المشاهد التي روى فيها البطل رحلة هروبه من العراق بهوية مزيفة (هوية سعيد المصري)، وشكلت هذه المفردة استعارة درامية عميقة عن تشظي الهوية في زمن الحروب والهجرات القسرية.1258 show
مستنداً إلى الأسس الجمالية البريختية، قدّم العرض نموذجاً للدراما الملحمية بمفهومها النقدي المتجاوز للمحدودية الفردية، حيث تخطت الحكاية حدود القصة الشخصية لتصبح سرداً ملحمياً لمعاناة شعب بأكمله. وتجلت هذه الملحمية في المشاهد التي تناولت حقبة القصف الكيماوي والخوف الجماعي الذي عاشه العراقيون، وقد تميزت هذه المقاطع الدرامية بقدرتها الاستثنائية على استثارة الذاكرة الجمعية للمتلقين.
في سياق إبداعي وتوثيقي، مثلت مسرحية "حكاية درندش" وثيقة درامية جوهرية لا يمكن تجاوزها لفهم التجربة العراقية المعاصرة، حيث شكلت قصة البطل الفنان المسرحي الذي يروي سيرته الذاتية نموذجاً صارخاً للمصير الجمعي للعراقيين الذين تعرضوا لشتى أشكال القمع والاضطهاد والحرمان. ولم تكن المسرحية مجرد عمل فني جمالي، بل مثلت شهادة حية على تاريخ شعب كامل واجه محناً متتالية.
رمزياً، شكل وجود درندش المغترب تجسيداً لحالة الإنسان العراقي الذي تمزق بين ارتباطه بأرضه وبين اضطراره للهجرة والنزوح، حيث روت المسرحية قصته بداية من عمله كطالب في الكلية يكافح للحصول على قوت يومه، إلى مواجهته للظروف القاسية التي فرضتها سنوات الحرب والحصار والقمع. فنطق على لسان البطل: "كنت متفق مع بعض المحلات يبيعون قرطاسية ويأخذون حصة شهرية من الأجهزة الدقيقة بسعر الحكومة واني آخذها منهم وأبيعها بسعر الجملة".
جلياً ظهرت في المسرحية جدلية الوطن المفقود والوطن المتخيل، فالبطل اضطر إلى الهروب من العراق حاملاً هوية مزورة في محاولة يائسة للنجاة والفرار من الاضطهاد، لكنه ظل مرتبطاً روحياً وعاطفياً بالعراق. ولم يقتصر الأمر على المكان الجغرافي فحسب، بل امتد ليشمل ارتباطه بالفن والمسرح كهوية ثانية ووطن بديل، إذ وجد في تقديم العروض المسرحية في المنفى وسيلة للمقاومة والبقاء وإثبات الذات.
بدقة متناهية تداخلت في المسرحية قصة درندش مع قصص أصدقائه من الفنانين أمثال صادق عباس وفلاح إبراهيم وكريم جمعة، وغيرهم ممن تشتتوا في المنافي والمهاجر. ومنح هذا التضفير الدرامي بين المستوى الفردي والمستوى الجمعي المسرحية بعداً ملحمياً تجاوز حدود السيرة الذاتية ليصبح سجلاً توثيقياً لتاريخ جيل كامل من المبدعين العراقيين.
تاريخياً، مثّل المشهد الذي روى فيه درندش انتفاضة العمارة عام 1991 وكيف عاش "أربعة أيام بالعمارة بدون حكم بوليسي، بدون حكم دكتاتوري، بدون أي تقارير" تجسيداً لحظة التوق الجمعي العراقي للحرية التي اختنقت سريعاً تحت وطأة القمع والعنف، لتتحول لحظة الفرح والانعتاق إلى حالة من الفرار والمطاردة.
بحساسية فنية بالغة تناولت المسرحية آثار الحرب النفسية والوجودية على النسيج الاجتماعي العراقي، خاصة في المشهد الدرامي الذي وصف فيه البطل حالة الخوف المرضي من القصف الكيماوي حين قال: "كاعدين أني والعوائل بالغرفة، كل واحد قطنه وقطعة فحم ومنتظرين الكيماوي يضربنا، بغرفة محصورين، هسه يضرب وأطلع، كل شوية أطلع، أشتم". وكشف هذا التصوير البليغ عن هشاشة الحياة اليومية وعن الرعب المستمر الذي أصبح جزءاً من النسيج الروتيني للعراقيين.
مأساويةً جاءت مشاهد الغربة والمنفى لتشكل أكثر لحظات المسرحية فجيعة وإيلاماً، حيث وصف البطل رحلته المضنية من العراق عبر الأردن واليمن وغيرها من البلدان. فقد جسدت لحظة وصوله إلى الحدود الأردنية برؤيته مشهد موت الشاب المرافق له: "أول ما وضع رجله على الأرض وقع سكتة قلبية، مات"، تلخيصاً درامياً بليغاً لمأساة الهروب من الوطن والموت على أعتاب الغربة.
جوهرياً، جسّدت "حكاية درندش" لحظة فارقة في مسار المسرح العراقي المعاصر، حيث ارتكزت بنيتها الدرامية على تفكيك منظومة الثنائيات التقليدية التي قيّدت الفعل المسرحي العراقي ضمن أطر كلاسيكية محددة. فالعرض لم يكتفِ بتقديم سردية مسرحية تقليدية، بل عمد إلى خلخلة الأسس والمرتكزات المتعارف عليها، مؤسساً لرؤية مسرحية ثورية تماهت مع واقع عراقي متشظٍ.
من قلب هذا التفكيك برز إلغاء الحدود الفاصلة بين الممثل والشخصية، حيث ذاب الممثل في درندش وتماهى معه إلى درجة صعب فيها التمييز بين ما هو ذاتي وما هو تمثيلي. وشهدنا اندماجاً وجودياً عميقاً عكس بدوره انهيار الحدود بين هوية الفنان وهوية الشخصية، في إسقاط فني بليغ على واقع العراقي المأزوم الذي تداخلت في وعيه مستويات متعددة من الذات. ولم يقتصر هذا الاندماج على تقنية أدائية فحسب، بل امتد ليصبح فلسفة جمالية نسجت خيوطها عبر نسيج العرض بأكمله.
متسعاً، امتد هذا التفكيك ليطال ثنائية الواقع والخيال، فتراكبت الأزمنة وتداخلت، وأصبحت الذاكرة حاضرة بقوة الواقع إن لم تكن أشد قوة منه. وتعايش الحاضر والماضي في فضاء مسرحي ملتبس، وتحول الكابوس إلى حقيقة، واتخذت الحقيقة بُعداً كابوسياً. وتجلى هذا التماهي بين ما هو واقعي وما هو متخيل منذ اللحظة الأولى للعرض، حين تحولت الظلمة وصوت بريسم إلى معادل بصري-سمعي لتداخل الأزمنة والحالات الوجدانية. وكسر العرض بذلك الإيهام المسرحي التقليدي ليؤسس لإيهام من نوع آخر - إيهام متعدد المستويات تخطى الإيهام الأرسطي الكلاسيكي.
جدلياً، تحقق تجاوز ثنائية الفردي والجماعي في النص من خلال تحويل الفردي إلى جماعي والجماعي إلى فردي في حركة جدلية مستمرة. وتحولت قصة درندش الشخصية إلى قصة شعب بأكمله، وتحولت المأساة الجماعية إلى معاناة ذاتية حميمة. وتبدل صوت درندش المفرد إلى صوت جماعي، واختزل الجسد المسرحي الواحد معاناة أجساد متعددة. وعكس هذا التداخل بين ما هو شخصي وما هو عام حالة العراقي المعاصر الذي لم تعد تجربته الشخصية منفصلة عن التجربة الجماعية، بل أصبحت امتداداً لها وانعكاساً عنها.
التمثيل
برزت في العرض تقنية المونودراما التي أتاحت للأداء التمثيلي مساحة واسعة للتعبير عن الهواجس الذاتية المتشابكة مع الهم الجمعي. واستطاع الممثل تحقيق ما أسماه يوجين باربا "الشخصنة المسرحية" عبر تجسيد شخصيات متعددة ضمن الأطر الدرامية، متنقلاً بين المستويات السردية المختلفة التي تضمنت سيرة الذات وسيرة الوطن في آن واحد. وأسس هذا التنقل لما وصفه باختين بـ"التعددية الصوتية" حيث تعايشت أصوات متعددة داخل فضاء مسرحي أحادي الممثل رغم تعدد الشخصيات والأزمنة.
محورياً، شكّلت علاقة الممثل بالجمهور عنصراً أساسياً في نجاح العرض، فقد استطاع ماجد درندش توظيف تقنية كسر الجدار الرابع بأسلوب عفوي بعيد عن الافتعال. وتميزت هذه العلاقة بخصوصية نادرة تمثلت في كون أغلب الجمهور من المجايلين للممثل، الذين عاصروه ودرسوا معه وشاركوه المأساة الحقيقية بكل تفاصيلها. وأسهمت هذه الخصوصية في تحويل العرض من مجرد عمل مسرحي إلى طقس جمعي استدعى الذاكرة المشتركة وأعاد إنتاجها في سياق فني جديد. ولم تكن الوثائقية هنا حرفية جامدة، بل اتسمت بدينامية أتاحت للممثل كسر الجدار الرابع (Breaking the Fourth Wall) وإشراك الجمهور في حوارات متعددة، مما خلق حالة من التواصل الحميم بين خشبة المسرح وصالة العرض. وتعززت هذه الخصوصية العلاقاتية بحقيقة أن معظم الجمهور كانوا من معاصري درندش ومجايليه الذين شاركوه المأساة الحقيقية بكل تفاصيلها على مستوى الواقع المعيش، وليس على المستوى الافتراضي.
منهجياً، اعتمد أداء الممثل على المزج بين منهج ستانسلافسكي في "التقمص العاطفي" (Emotional Memory) وتقنيات غروتوفسكي في "المسرح الفقير" (Poor Theatre) الذي ركز على الطاقة الجسدية للممثل. وقدم هذا المزج المنهجي أسلوباً أدائياً متفرداً استطاع من خلاله درندش الاستحواذ على انتباه الجمهور طوال مدة العرض، معتمداً على قدرته في تنويع الإيقاع الدرامي والانتقال بين حالات نفسية متباينة بمرونة فائقة تجاوزت الحدود التقليدية للأداء المسرحي.
على المستوى الحركي، تميز أداء الممثل بتنويعات إيقاعية لافتة، تراوحت بين الخطو البطيء والحركات الأسرع والأوسع، مما أسهم في تكسير نمطية التشكيل الحركي داخل خشبة المسرح الضيقة المعالم جغرافياً. وجسّد هذا التنوع الحركي التي وظفها ماجد درندش بأسلوب تجاوز المعالجة التقليدية للفضاء المسرحي. واعتمد العرض على تكثيف المكان كمساحة مغلقة بحدود مقتصدة، مما حقق ما أسماه بيتر بروك "المساحة الفارغة" (Empty Space) التي تحولت إلى فضاءات متعددة عبر أداء الممثل وحركته التي تجاوزت حدود المكان الفيزيقي.
السينوغرافيا
بارزاً كان استخدام تقنية "المسرح الفقير" التي نظّر لها جروتوفسكي عبر تقليل عناصر الديكور والإكسسوارات، والتركيز على الأداء الجسدي للممثل، متماهياً مع منهج ستانسلافسكي في الإلقاء العاطفي الآسر وذلك في تجسيد رحلة الترحال القسري من العراق إلى الأردن واليمن ومنها إلى الهند ومن ثم كندا. وأتاح هذا الاختزال السينوغرافي فسحة أوسع لخيال المتلقي للمشاركة في إعادة تشكيل الفضاء المسرحي ذهنياً.
تقنياً وسينوغرافياً، وظّف العرض "حكاية درندش" الإضاءة بأسلوب تأثيري أسهم في خلق ما أسماه أدولف آبيا "الفضاء الإيحائي" فكانت الإضاءة الخافتة والمتقطعة في بعض زوايا العرض رمزاً بصرياً لحالة الاضطراب النفسي والخوف المستمر الذي عاشه البطل. وفي الجانب المقابل، مثلت الإضاءة الفيضية رمزاً آخر لواقعية واضحة تسيدت اعترافات أو انثيالات الذاكرة الدرندشية التي اتسمت بالشجاعة، وكأنه أراد أن يقول: "ليس هناك في سيرتي شيء موارب ومخفي وغامض، ها أنا ذا أتحدث بكل شجاعة وحرية ووضوح". هذا وقد تناغمت المؤثرات الصوتية البسيطة لعازف العود مع هذه الإضاءة لتجسيد أصوات القصف والحرب، مما شكّل نسيجاً سمعياً-بصرياً-زمنياً كثيفاً عكس وحشية الواقع وقسوته، وعزز قدرة الممثل على الاستحواذ على الجمهور ومد جسور التفاهم والتماهي معه في فضاء تشاركي فريد.
بعض مثابات العرض
1. تميزت المعالجة اللغوية في العرض بالمزج الفاعل بين الفصحى والعامية العراقية، وهو تناوب لغوي عكس الصراع بين الرسمي والشعبي، بين الثقافي والهوياتي. هذه الثنائية اللغوية جسّدت مفهوم "الهجنة اللغوية" (Linguistic Hybridity) الذي طرحه هومي بابا في دراسات ما بعد الكولونيالية، وأسهمت في تعزيز التواصل مع الجمهور عبر توظيف لغة قريبة من وجدانه ومخيلته الجمعية
2. برز في العرض توظيف التناص المسرحي عبر استدعاء قصة "الدجاجة والثعلب" التي رواها البطل للأطفال أثناء القصف. شكّلت هذه الحكاية الشعبية مسرحاً داخل المسرح وهي تقنية ميتامسرحية أحالت إلى تراث الحكواتي العربي مع إعادة تأويله في سياق مأسوي جديد. أتاحت حرية الانتقال بين السرد والتمثيل فرصة لكسر الرتابة المتوقعة لعروض الدراما من خلال خلق تنويعات درامية أسهمت في استدامة تواصل الجمهور مع الحدث المسرحي.
3. تميزت المعالجة الزمنية في العرض بتقنية التداعي الحر التي سمحت للشخصية بالانتقال عبر المراحل الزمنية المختلفة. هذه التقنية تجاوزت التسلسل الخطي للأحداث إلى ما أسميته بــــ "الديمومة الإنفعالية" حيث تداخلت الأزمنة في وعي البطل ليصبح الماضي والحاضر نسيجاً واحداً من المعاناة المستمرة.
4. جسّدت مشاهد الغربة والمنفى عناصر التراجيديا الأرسطية من خلال مفهوم "التطهير" (Catharsis)، حيث نقلت معاناة البطل من المستوى الفردي إلى الفضاء الجمعي. برزت في هذه المشاهد جمالية "المسرح الفقير" بتقليل عناصر الديكور والإكسسوارات، والتركيز على الأداء الجسدي للممثل في تجسيد رحلة الترحال القسري من العراق إلى الأردن واليمن.
ملامح درامية توثيقية عمادها إرهاصات حوارية درندشية:
1. المعاناة من الاغتراب القسري: وكمسار خارج السياق قد تدان من اجله الشخصية البطلة التي نراها قد هربت من العراق ليس دعة ولا هروباً من الواجب الوطني بل رفضاً للمشاركة في قمع الشعب حيث يقول البطل دفاعاً عن خياراته وقناعاته: " لست بهارب من خدمة الوطن العسكرية أنا هارب من الجريمة كي لا أقف مع جيش الدكتاتور وأقتل الشعب."
2. السجن والعذاب الجسدي: قضى سنوات في سجون الهند بظروف قاسية، حيث وصف المعاناة: "أخذوني إلى السجن المركزي... فيه قاعة طويلة" وروى تجارب الإهانة والتعذيب، وكان يبيع نصف طعامه ليشتري احتياجاته الأساسية.
3. الوحدة والحنين للوطن: من أقسى مشاهد المسرحية وصفه لأيام الزيارات في السجن: "يروحون يقابلون عوائلهم... أخوه، أبوه، زوجته، حبيبته، أبنائه... أنا أقعد بصمت بالقاعة... وحدي" وفي مشهد مؤثر يتخيل محادثة مع أمه: "يمه حبيبتي... أنت مريضة؟"
4. الظلم المزدوج: المفارقة المؤلمة أن من رفض المشاركة في القمع حُرم من حقوقه: "بينما اللي عدمنا وقتلونا... دياخذون حقوق... رجعوهم أعطوهم حقوق تقاعد"، بينما هو الذي رفض المشاركة في الجريمة حُرم من الحقوق نفسها. وهنا إشارة من طرف خفي إلى تجربتي البعث وداعش في انتزاع لقمة العيش من درندش سابقاً ولاحقاً وكأن وسم "مظلوم" المختوم على جبهة وجوده هو حقيقته وحقيقة كل من آمن بحب الوطن والولاء له.
5. ضياع الهوية والانتماء: عبّر عن إحساسه بالضياع: " چنت تايه بالغربة" وبعد سنوات من المحاولة للاندماج في كندا، عاد ليكتشف أنه لم يعد ينتمي لكل جوازات العالم سوى روح العراق وهمس عصافيره وهي تغني صباحا "يا شميسه" لكن الصدمة بعد العودة تمثلت في مسارات عدة: جوهرياً، مثّلت عودة درندش من كندا إلى العراق محملاً بثلاثة نصوص مسرحية لحظة مفصلية في سيرة الفنان الوجودية، فقد نطق على لسانه: "كان بجعبتي / جايب نصين، ثلاثة راح يغيرن المسرح العراقي ويسوون انقلاب ثوري وفكري وتكنيكي". وشكّلت هذه اللحظة الساخرة استعارة درامية عميقة لمعاناة المثقف العراقي المهاجر الذي تظل روحه مشدودة إلى مسقط رأسه، حاملاً أحلامه وطموحاته لتغيير الواقع الثقافي وإحداث نقلة نوعية في المشهد الإبداعي.
مأساوياً، واجهت هذه النصوص المسرحية الثلاثة المبتكرة إهمالاً مؤسساتياً صادماً، إذ جسّد المشهد الذي روى فيه معاناته قائلاً: "كنا متوهمين يا وطني..." حالة الانفصام بين طموح المبدع العائد من المنفى وبين واقع ثقافي غير مستعد لاستيعاب تجارب جديدة خارجة عن المألوف. وتحولت النصوص من مشروع لإحداث ثورة في المسرح العراقي إلى شاهد على مأساة الفجوة بين المغترب وواقعه الأصلي الذي عاد إليه.
تاريخياً، جاءت هذه الواقعة ضمن سياق عودة درندش للعراق عام 2013، حيث قال: "هلو قاسم زيدان حبيبي... تعال عندك دعوة لمهرجان بغداد". وجاءت مشاركته في مهرجان بغداد فرصة للعودة إلى الوطن بعد سنوات من الغربة، حاملاً معه ثمار تجربته الإبداعية في المهجر، لكن الواقع الثقافي لم يكن مهيأً لاستقبال هذه التجارب الجديدة التي تجاوزت السائد والمألوف في المشهد المسرحي العراقي.
رمزياً، شكلت حكاية النصوص الثلاثة تجسيداً لما أسماه إدوارد سعيد "صدمة العودة"، حيث يصطدم المثقف المهاجر عند عودته بواقع مختلف عما تخيله أو حلم به طوال سنوات الغربة. فقد جسّد اعترافه "قلت هاي أنا وين رايح" حالة الضياع والتيه التي شعر بها نتيجة الإهمال الذي لاقته نصوصه التي اعتقد أنها ستغير وجه المسرح العراقي.
استنتاجاً، مثلت هذه الواقعة انعكاساً صادقاً لمأزق المثقف العراقي المهاجر بين حلم العودة إلى الوطن وإسهامه في إثراء المشهد الثقافي، وبين واقع مغاير لا يستوعب تجاربه الجديدة ولا يقدر قيمتها الإبداعية. وتجسدت حالة الوعي الممزق عندما أدرك الفنان عمق الهوة بين ما حمله من أحلام وطموحات، وبين واقع ثقافي يتسم بالجمود والانغلاق على التجارب الجديدة، مما دفعه للتساؤل: "وجدت نفسي ... هاي آني وين چنت رايح؟"، في إشارة إلى الغربة المزدوجة التي عاشها؛ غربة المنفى أولاً، ثم غربة العودة إلى وطن لم يعد قادراً على التعرف عليه أو التواصل معه.
النهاية تلخص (المعاناة الأكبر) المتمثلة بالاضطرار للرحيل مرة أخرى وترك كل شيء: "2024 راح أرحل بالاتجاه المعاكس... وسوف لن أنظر إلى الخلف أبداً... كل شي ما راح آخذ وياي... حتى قميص ما آخذه وياي".
الختام
ورغم عديد الصفعات الوطنية التي أكلت خده الأيمن منذ انتحاله هوية سعيد المصري وقبلها، وجدناه قد عرض لها خده الأيسر أيضاً لترسم عليه أساليب اضطهادها الشوفيني إلا أنه لم يتغير. لم يكن إلا ماجد درندش ابن العمارة البسيط المؤمن بعراق سعيد ومرفه لذلك قدم مسرحية تدعونا للتفكير في مستقبل العراق وفي إمكانية بناء وطن يتسع للجميع، وطن يحترم كرامة الإنسان وحقه في العيش بأمان. مسرحية تدعونا للتفكير في دور الفن والثقافة في مقاومة الظلم والاستبداد، وفي بناء الذاكرة الجمعية التي تحفظ هوية الشعب وتاريخه.
***
بقلم: كاظم أبو جويدة

المرأة مصدر العطاء الإنساني في الحياة

الفعل الإرادي الذاتي یتجلى بعد الإحساس والشعور والمسؤولیة واتخاذ ما یمكن اتخاذه من قرارات ذاتیة ایجابیة، تسمو بالإنسان نحو درجات الوعي الفكري والحسي والفني، بأسلوب واضح لیس علیھ غبار، ھل یمكن أن نقسم الفعل الذاتي الإنساني إن كان إیجابیاَ أو سلبیاً، إرادیا أو لا إرادیاَ بین فئة وأخرى، بین عقل وآخر؟، ولو فرضنا المرأة بكل أنوثتها الناضجة وجمالھا وفكرھا وتواصلھا وعطاءھا لا محدود فعل، والرجل بكل إمكانیاته العضلیة والفكریة والمیدانیة فاعل، فھل یمكن أن ینعكس الحال في زمن أصبح التغییر فیه مستمراً ؟، بحریة في الأفعال ولیس في الأقوال، لمن یقدم أكثر، ولمن یبدع أكثر، ولمن یجسد. كل هموم البشر الذاتية وتناقضاتھا أكثر، مع الوصول إلى أطیاف الخلاص والحل الأمثل القادة الأدباء، الشعراء ھمھم كیفیة وصول الفكرة إلى المتلقي بالصورة الصحیحة، لكن یبقى التمیز والتألق خاصة إن كانت من تتصدر هذه القیادة، هذه الحریة، امرأة شاعرة، تؤثر وتثیر، الشاعرة المتوهجة تألقاَ (جنار نامق) امرأة كالسنبلة تنحني لیس وھناً، بل من غزارة أبداعھا الفكري الحر، الواضح الیسر، الجمیل في معطیاتھ، كالفراشة الزاهية الألوان تنتقل من جنان إلى جنان، تعبر البحار والمدائن الهاربة وسط الضباب، حاملة الرؤیة الراقیة لتبثھا للسماء والقلوب النقیة، والذات الملتهبة حماساً وعطاء، وعطاءھا لا ینضب، فالمرأة مصدر العطاء الإنساني في الحیاة، كرمز، كوجود، كجمال، ككیان لھ فعل أرادي مؤثر في كل المجالات إن وجدت فیھا، في المحاضرات والاجتماعات والقاعات الأدبیة الشعریة، تجسد الشاعرة جنار نامق آلام حلبجة كألم أنساني وتنتقل الى الذات لتلمس فیضان ینابیع الحس الفني، ثم تنتقل إلى الواقع لتصور بوعي تجلیات الحریة والأمل والأجل حیناً والوھن والوسن حیناً آخر، عندما تتأمل قصائد الشاعرة جنار نامق تحس أنك أمام شلال ھادر نقي یصب في صلب الإنسان، وعندما تشرب من ھذا الشلال تحس بعذوبتها تسري في أعماقك، ووهبك عوالم خاصة بالحیاة والنشاط والحیویة والحریة للسكون، للركود، ندنو من عوالم الشاعرة جنار نامق وقد صدرت لھا مجموعة شعریة راقیة (آخر المطاف) وھي تتصدر الفعل الحسي الجمیل بإرادتها الواعیة وھذا الفعل یكون انطلاقة نحو العلا، مصدر نقطة انطلاق الفعل الحسي المتقد المقرر نحو الحریة والجمال والعطاء ناهيك عن الصورة الشعریة التي تتجلى فیھا أبعاداً جمالیة أكبر، والفعل الذاتي الإرادي الذي ینطلق من بركان المشاعر یسمو بك إلى القمم الجمالیة، تخشى أن تنظر إلى الأسفل، فالعودة إلى الوراء كنقطة انطلاق الفعل دون حركة، جمود متراكم، إحساس مؤلم عمیق یجوب هواجس الإنسان، خاصة إن تعود أن یسیر في سبل العطاء الدائمة، فھل یمكن وضع مقیاس أمام الحس الفني لیریك هبوطك..؟!! ھو اضطراب داخلي یصعب التخلص منه خوفاً من إلغاء. الوعي الفكري والفني، والذي یسبب إلغاء حریة، التواصل والإبداع والوصول إلى الأحلام الهاربة لقلبي لقاء


(لقاؤك
نقطة انطلاقي
صوب العلا
فیا ليت أعلم
لم أخش الهبوط).

إن كل فعل إرادي سلیم یضع الخطى نحو تقدم سلیم، فكیف إن كنا أمام فعل الحلم والحس والتأمل والخیال، إنھا صورة متقدة لتفعیل الذهن، لتجسید صورة الذات المعنویة، وإلزام الروح لأدراك الحلم الذي لا ینئ عن الواقع مھما كان مفزعاً، مرعباً، متمرداً..وبیان محراب الذكریات والآلام والندم التي تستعد لاستقبال العبرات المحترقة من وھلة مفاجئة لقاء. الحلم بالواقع، الواقع الذي لا یكون فاعلاً بقدر الحلم الفاعل بحریة التصور والتأمل حینما نلتقي


(نفترق في هدوء
تذوقت منك همساتك وبسماتك
لكنك أخیراً
أفزعتني من حلمي
لم أجد في مقلتي
سوى دموع وذكریات وندم).

بالفعل والإدراك الحسي یبین الإنسان عن مكنوناتھ الغائرة في الأعماق، عن ذاته النائیة وسط دیاجیر المضادات الحیاتیة التي ترسو بالإنسان على شواطئ الضیاع تارة وشواطئ الأمان تارة أخرى لیستمر نحو التألق الروحي، لتقدم الطاقة بعد فاعل الضیاع، والإبداع والتواصل بعد فاعل الأمان، تأثیرات وانفعالات عنیفة بین الفعل والفاعل وتجلیات حريتهما بقدر الذات الفكریة واثباتھا والاستمرار في العطاء بین رحلات الوجود ولا وجود، الحلم ولا حلم، الحب ولا حب، تجدد معالم المخیلة ولا. تعطلھا، ولا تنزع من الإنسان مراقبة ذاته أو الهروب منھا نحو عوالم لا نهائية مغتربة كلما اقتربت من طیفك.


(تھرب مني ذاتي
لأقدم على الضیاع من جدید
دعك بعیداً
لأواصل معھا رحلاتي).

یرى العالم النفساني (أوغست كونت " في الأهواء مرضاً حقیقیاً للنفس، ينتهي بھا إلى تقدیس موضوع معین ومحدد..." قد تكون الأهواء فعلاً عنیفاً، الشاعرة جنار نامق قربت الصورة (أضفت أرادة عاطفیة بضمیر (أنا أو من خلال ضغط. اللاوعي على فعل الإضافة للفكر وتداعیات الفكر والهواجس والمزاج والسلوك حین أضفت لقاموسي اسماً ولهاتفي رقماً أضفت لهمومي ھماً (وذكرى لذكریاتي المؤلمة الفعل الإرادي الذاتي الشاعري لا یستقیم إلا بوجود الفاعل وقد تكون أنت أنا فعلاً وفاعلاً في نفس الوقت، في طیات الحلم والواقع، في الخیال ولا خیال، في الإرادة ولا إرادة في الاستمرار ولا استمرار، الشاعرة جنار نامق جسدت التضاد الفكري في التعامل بصورة فكریة، شعریة واضحة بتجلي أدق تفاصیل الحیاة (لقاؤك، تذوقت، دعك بعیداً، أضفت لقاموسي اسماً ولهاتفي رقماًولاشك إن الحالة الاجتماعیة والثقافة والبیئة تؤثر بشكل فعال في دیمومة الإبداع وحریة التفكیر في الذات الحرة، رغم كل التناقضات المتجلیة فیھا، فالأفكار المكنونة في أعماق الروح تنفجر في حالة إنسانیة، اجتماعیة، ذاتیة، حسیة ما، في أي وقت كان، یقول الكاتب الألماني فیشتر: (إنھ من المھم جداَ ان نلاحظ إن البشر یفكرون أكثر الأحیان باتجاه الأفكار المسبقة التي تسود وضعھم الاجتماعي، وھذا یعني إنھم لا یتصرفون كآلات....)وھل من الممكن أن یتصرف الأدیب كفعل الآلة في زمن تجلیات الحریة والدیمقراطیة إن وجدت كفعل وفاعل في مسیرة الإنسان العملیة والفكریة والاجتماعیة والعاطفیة والذاتیة بصورة عامة ؟
***
عصمت شاهين الدوسكي
...........................
* جنار نامق
السیرة الذاتیة جنار نامق ولادة بابل دبلوم فني بالإعلام خریجة المعھد الفني- اربیل 2008 بكالوریوس إعلام بكلیة الآداب - جامعة صلاح الدین عضو فاعل في نقابة صحفیی كردستان عضو اتحاد كتاب الكردي، عضو الفیدراسیون الدولي للصحفیین العالمیة مدیر عام لفرع مؤسسة القلم الحر المصریة في إقلیم كردستان العراق معیدة في جامعة صلاح الدین بكلیة الآداب قسم الإعلام النتاج الأدبي :
1. ذكریات تقویم مرھق/ 1999 من منشورات حركة المثقفین الجدد الكورد.
2. تنسى الكؤوس أن تجرعني/ 2004 من منشورات حركة المثقفین الجدد الكورد.
3. مواسم التساقط/ 2008 من مطبوعات المدیریة العامة للصحافة والطبع والنشر، وزارة الثقافة والشباب بإقلیم كردستان.
4. قصائد منتخبة /2006 من منشورات مؤسسة ٍس
اعذرني لن أرتشفك /2011 من مطبوعات المدیریة العامة الطباعة والنشر آراس للطباعة والنشر – اربیل
5. أقول لك، للصحافة والطبع والنشر، وزارة الثقافة والشباب بإقلیم كردستان..
6.أشبھك/ مجموعة شعریة
7.آخر المطاف/ مجموعة شعریة باللغة العربیة / 2014 / من مطبوعات دار الثقافة والنشر الكردیة في بغداد.
8.الجینوساید وأنفال الكورد /دراسة تحلیلة لمجلة انفالستان/ 2013 / من مطبوعات المركز الثقافي في كركوك.

 

في تَراتيلِ شِعرِيَتهِ (الذَّاتيَّةِ والمُوضوعيَّةِ)

تَمهيدٌ: العَتبةُ النقديةُ للدراسة تُشهِرُ الإخبار فعلاً بأنّ رعد زامل، هو الشَّاعر المَأسور وَجَعَاً والمَهوُوس ألماً، وتُثبِتُ له ذاتياً وفنيَّاً شفاعة الصبرَ الجميلَ في تراتيل لوحاته الشعرية، بأنّهُ لم يكن عارياً قبل الهُبُوب، هبوبُ رياح العاصفة الهوجاء. وعلى وفق ذلك المنظور النقدي لم يكن الشعر في مفهومه المعرفي أو حَدِّه الإبداعي نقداً لمسرح الحياة الكونية المتغيِّرة ولرموز ممثليها وشخوصها الزمكانية الفاعلة والمتفاعلة فحسب، كما يظنُّ الكثير من الأُدباء والشُّعراء والنُّقاد والمفكِّرينَ ويعتقدونَ بذلك الهاجس، إنُّما الشعرُ في الواقع، هو رسائل إيجابٍ أو سَلبٍ حيَّةٌ مُلغَّمَةٌ بمشاهد القُبح والجمال عن مظاهر وصورالأُس الوجودي للحياة إلى وهج الحياة المُلتهبة برماد النَّار، أي من الحياة إلى الحياة.

عَتباتُ المُدوَّنةِ النَّصيَّةِ العُنوانيَّةِ

 إذا كانت فضيلة العنوان، بأنَّه يمثَّل العتبة الرئيسة الأُولى من عتبات الناقد والمفكِّر الفرنسي البنيوي الشهير(جيرار جينيت)؛ وذلك بدأً من صور موحيات اللَّوحة الأولى للغلاف، ومروراً بعد ذلك بِعَتَبتِي الإهداء والتصدير، وروافد التفريعات العنوانية الصغيرة الداخلية الأخرى، وانتهاءً بلوحة التظهير الخارجية الثانية للكتاب؛فإنَّ العنوان الذي هُوَهالةُ النصِّ الخارجية المقدَّسة وسيِّدها، وثرياه الضوئية المشعَّة اللَّافتة يشكِّلُ أولى الصدمات الفجائية المباغتة التي يتلقَّاها القارئ الواعي أو المتلقِّي النابه عندما تقع عيناه مُتلهفةً للوهلة الأولى على أيِّ كتابٍ، شعرياً أكان جنسهُ أمْ سرديَّاً.

 وذلك كون العنوان هو البوابة، أو نقطة الانطلاق التحوُّلية الرئيسة الأولى التي يغذُّ السيرَّ منها وينطلق اللَّاعب المارثوني(القارئ) الواثب إلى ميدان اللُّعبة الرسالي الحقيقي، قارَّاً في مثابات مدينته الشعرية أو السردية الفاضلة(يوتوبيا النصِّ). ومشتبكاً في الوقت ذاته معه بسلاحه الأبيض الفكري والمعنوي والإبداعي الخلَّاق في مواجهةٍ فعليَّةٍ حقيقيةٍ باسلةٍ ومِقدَامةٍ مع تجلِّيات وأنساق فوضاه الداخلية. وكاشفاً عن جيوش عناصره الديستوبية الفاسدة الظالمة، سواء أكان هذا الواقع حقيقياً درامياً بَصَريَّاً قريباً مرئيَّاً أمْ مخياليَّاً صوريَّاً بعيداً لمدينة النصِّ الشعري الطوباوية القصيَّة.

 إنَّ مدوَّنةً شعريةً تحملً عنواناً ذاتياً مؤثِّراً ماثلاً بالقول المنفي الثابت:(لمْ أَكُنْ عَارياً قَبلَ الهُبُوبِ) لمنتجه التخليقي السومري العراقي(الجَنوبي)، ذلك هو الشاعر المبدع المثابر رعد زامل، الفائز بالمركز الأوَّل لجائزة بغداد للشعر عام(2023م)، والصادرة بطبعتها الأولى في العام نفسه عن دار وتريات للنشر والتوزيع في بغداد/ العراق، وبحدود ورقي كمي بلغ نحو(113) صفحةً من فئة القطع المتوسِّط. وقد احتوت هذه المجموعة النوعيَّة المكثَفة على(31)نصَّاً شعريَّاً لمجموعة قصائد نثرية وتفعيلية حُرَّة ومتنوٌّعةً، حيث يمثِّل عنوانها الفنِّي العميق صدمةً إدهاشيةً فجائيةً مُذهلةً لفكر القارئ المتلقِّي والشاعر المنشئ نفسه. فما معنى أنْ ينفي الشاعر عن ذاته الشعرية صفة أن يكون عارياً قبل الهبوب العاصف، وأنْ يُثبتَ لها غطاءَ التستُّر وعدمَ الكشفِ؟ وما معنى موحيات دالة الهُبُوب ومقصدياتها الجدلية البعيدة التي يعنيها الشاعر؟ وهل هو هبوبُ رياحٍ عابرةٍ غيرِ مُؤثِّرةٍ أم أنَّهُ هبوبُ التحوَّل والتغيير والاكتشاف الذاتي الجديد لنوازع شخصيته الحركية المثيرة القلقة دوماً؟

 وحين نجيل النظر والتّأمُّلَ مليَّاً في تفكيك شفرات لُغة العنوان الانزياحية الفنيَّة الماتعة جماليَّاً، تُظهِرُ أنَّ الشاعر لا يقصدُ إطلاقاً بلفظة(الهُبُوب)، هبوب الرياح الشمالية الجنوبية أو الشرقية الغربية العابرة لحدود أجواء المُناخات النصيَّة التي سلبته سِترَهُ الحيائي وغطاءَه البيني المحافظ، وزحزحت كيانه الأنوي الذاتي. وبأنَّه لم يكن واضحاً أو ظاهراً قبل الهبوب العاصف أو المُغيِّر الصادم لهيأته وكيانه النفسي. وأنَّ الذي يبتغيه الشاعر ويعنيه في قصديات رسائله الشعرية الآسرة رمزية هذا الهبوب البعيدة وعلاماته السيمائية الموحية القريبة لِخُطَى التحوُّل والتغيير والاكتشاف.

 إنَّ هذا الرأي ذاته يُحيلنا إلى أنَّ الشاعر لم يعرف أو يكشف نفسه من ذي قبل على الأقلِّ، أو لم يكن واضحاً له الأمر حتَّى جاءت ساعة هذا التحوُّل أو التغيير المصيري الحاسم الذي جعله يُثبتُ نفياً في تركيب بناء جملته العنوانية الخبرية الشاهقة البليغة بأنَّه كان مُضمِراً مَستوراً، ولم يكن عارياً مُجرداً مكشوفاً للغير قبل هبوب ريح التغيير والتَّصيير التي قَلبتْ مَوازين حياته سَلبَاً رأساً على عقبٍ. فالشاعر يريد التعبير عن فكرة التحوُّل الطارئ الذي حصل له من حال إلى حالٍ آخرَ.

 ويمكن أنْ يُحيلنا عنوان مدوَّنة الشاعر رعد زامل أيضاً إلى مجموعة من الرموز والمعاني الدلالية المتعدِّدة الأخرى، مثل مسألة الاكتشاف الذاتي لأناه الشاعرية الموَّارَة بالحزن والهجس النفسي الطافي على سطح شخصيته، والتحوُّل الشخصي الاجتماعي لبنية رؤاه الفكرية المهتاجة، فضلاً عن اكتشافه الجديد لعالمه الجمعي المحيطي الخارجي الذي هو جزء من بنائه المعماري. وبتلك الكشوفات البينية يكون العنوان قد أدِّى وظائفه المهمَّة الأربع التي حدَّدها جيرار جينيت بـ(الوظيفة التعيينية أو التحديدية، والوظيفة الوصفية، والوظيفة الإيحائية، والوظيفة الإغرائية).

 وعلى الرغم من أنَّ الشاعر في عنونته هذه لم يذكر مفردة(الريح) المقصود بها فعلاً دالة (الرياح)، وإنَّما اكتفى بما يدلُّ عليها من قَبيل مجاوراتها اللَّفظية الانزياحية مثل مفردة(الرياح)؛ فإنَّ هذه الريح الهابَّة تكتشف مكامن الجمال الحقيقي الخفي المُضمر لوقع أنَاتِهِ الذاتيَّة التدفقية، وتؤكِّد طبيعة التَّحوُّل الذي كان سبباً مهمَّاً في تغيُّر حياته الشعرية والاجتماعية معاً، وتكشف أيضاً عن أنساق معاني الحقيقة أو الجمال الخبء الذي كان مخفيَّاً قبول الهبوب فتصدِّره لمتلقِّيه الخارجي.

 وبالنتيجة كتحصيلٍ حاصلٍ أنَّ العنوان هو فنار النصِّ المضيء البارق في فضاء ميناء الشعرية، يعدُّ دعوةً فكريةً وفنيَّةً إبداعيةً جادةً لاستكشاف وأعماق الشاعر وسبر أغواره الذاتية المُبطَّنة، واكتشاف تمظهرات جمالياته الشعرية الظاهرة، وبيان أسرار مرجعياته الثقافية العميقة والخبيئة المضمرة. فالعنوان إذاً هو شاخص الشعرية السحرية اللَّافتة وعلامة من علاماتها الهرمية الثابتة. وهو أول علامة على طريق التلقِّي، ومفتاحاً سيميائياً يختزل بنية النصِّ في كلمة أو بضع كلماتٍ،

ومثل هذا يدلِّل على أنَّ اختيار العنوان لهذه المدوَّنة عملية لا تخلو من القصدية الفكرية والجمالية.

عتبةُ الإهداءِ:

 ونذهب في هذا الاتجاه النصِّي إلى الكشف معرفياً عن عتبة أخرى من عتبات النصِّ الموازي، تلك هي عتبة(الإهداء) الشخصيَّة المحبَّبة الذي درجنا على معرفة سياقاتها الثقافية التداولية الثابتة؛ بأنَّه عادة ما يكون الإهداءً يُكتَبُ بلغةٍ نثريةٍ عاديةٍ مُكَّثفةٍ لشخصيَّةٍ مُعيَّنةٍ أو لرمزيَّةٍ قصديةٍ ما، أكانت هذه الرمزية مكانيةً أم معنويةً لها أثرها المهمُّ والبالغ في نفس الكاتب الشاعر، ونفس الآخرين من محبيه بنسقٍ جديدٍ لم يكن مألوفاً أو متوقَّعاً، حينما عَمَدَ لكتابة وتدوين عتبة الإهداء بلغةٍ شعريَّةٍ جذابةٍ وأهداها إلى روحه الشعورية الارتكاسية النكوصية الحزينة المؤلمة حتَّى صارت أول رأسٍ للفجيعة من رؤوس المكانية المحطَّمة؛ نتيجةَ أفعال المناوئين وآثار الغزاة له على حدِّ قوله:

"لَقدْ تَحوَّلَ إلَى نُدبةٍ فِي رُوحِي كُلُّ شِبْرٍ مَرَّتْ عَلِيهِ أحذيةُ الغُزاةِ".

(لم أكُنْ عَاريَاً قَبلَ الهُبُوبِ، ص 3)

 يا لهُ من إهداءٍ نفسي باعثٍ على معاني الأسى ودلالات التوجُّع وعلامات التصبُّر في تلقي آثار وقع الحادثة الموضوعية التي بُنيت عليها شخصية الشاعر المهجوسة المُحبَطة الصارخة من قاع الألم، والصادحة برحم المعاناة وهمِّ الواقع الحياتي المرير الذي أخرج لنا شاعراً متفرِّداً ونتاجاً شعرياً تخليقياً زاخراً بالثراء مثل مدوَّنته الإعلانية (لَمْ أكنْ عارياً قبلِ الهُبُوبِ). ويبدو لي أنَّ رعدَ زامل أصبح حائط الصدٍّ الشعري القوِّيِّ المُواجهَ لتلك الأفعال والمُثيرات الشرطيَّة الصادمة شعرياً.

عَتبةُ التَّصديرِ الشِّعريِّ:

والأغرب في ذلك الإهداء كلِّه أنَّ الشاعر برغم سعة ألمه وكثرة توجُّعه وتعدُّد خيبات شعوره المُحبَط إثرَ سِهامِ هُويةِ النسقِ الجمعي الآخر وتأثيرات نُبالهِ الموجعة بوقعها النفسي المؤثِّر سار بخطىً سريعةٍ واثقةٍ وَجَلَدٍ وَصَبرٍ جَميلٍ واعدٍ بالأمل الممزوج بشعور الألم إلى عتبة التصدير لتأثيث مجموعته الشعرية هذه بنصٍّ شعريٍّ بالغ فيه كثيراً بحزنه المستديم القارِّ الآسر للنفوس والذي تحوَّل إلى ما يُشْبِهُ سكينَ قاتلٍ تَذبحه على قيد الحياة رُويداً رُويداً دُونَ رحمةٍ فقال مخاطباً:

حُزنِي يَتحوَّلُ إلَى سِكِّينٍ

 ثُمَّ يَذبَحُنِي

(لَمْ أَكُنْ عَاريَاً قَبلَ الهُبُوبِ، ص5)

 ولولا وقع هذا الحزن الدائم الأبدي القارُّ الذي يسكن روح وجسد وعقل وفكر الشاعر رعد زامل المتزاحم بالهموم لِمَا استطاع أنْ ينتج لنا مثل هذه النماذج الشعرية الشعورية النابضة بصور الوجود ووقائع الحياة اليومية المتشابكة أحداثها بصراع (الألم والأمل) المغذِّي لإدامة هذه الشعرية.

 ثمَّ قام الشاعر زامل بانعطافة إجرائيةٍ تصديريةٍ جديدةٍ ثانيةٍ أُخرى أنسنَ فيها محاسن اللُّغة بفضيلةٍ جماليَّةٍ من فضائلها الكثيرة؛ كونها تُعدُّ أُمَّاً رَؤُوماً مع بنات أُسرتها المخلصات من الكلمات، وأبنائها الخُلَّصِ الذكور من الحروف. بينما جعل من إرادة نفسه الأمَّارة بالحبِّ والطاعة التامَّة لهذه اللُّغة؛ كونه مازال يتعثَّر بطراف أذياله بين سطورها المتراصَّة المُحتشدة، ويعيش بين أفياء ظلالها وأحضانها الدافئة التي تمدُّه بنسغ الحياة العالي برغم عثراتها وويلاتها النفسية الدامية التي لا تنتهي:

هَا أَنتِ فِي كُلِّ لَيلٍ

تَسهرينَ مَعَ بَناتِكِ الكَلمَاتِ

وَفِي كُلِّ مَرعَى

تَخرُجِينَ خَلفَ أبنائكِ الحُرُوفِ

بَينمَا اِبنُكِ الضَالُ

هَذَا الشَّاعرُ الَّذي مَا اِلتفتَ إليهِ يَومَاً

مَازَالَ يَتعثَّرُ بَينَ السُّطورِ

أَيتُهَا اللُّغةُ .. الأمُّ!

(لَمْ أكُنْ عَاريَاً بَينَ الهُبوبِ، ص 6)

مَدخلُ المُدوَّنةِ الشِّعريَّةِ:

إنَّ أول نصوص هذه المجموعة ومبتدأ مطلع بواكيرها الشعرية الإشهارية كان نصَّاً لقصيدة ارتأى الشاعر أن يكون عنوانها(إعلانٌ) إشهاريَّاً دالاً على مدلول وقع عتبتها التاريخية الذي تداخلت فيه الوحدنة الذاتية الشخصية بالموضوعية الجمعيَّة الشاعرية المشتركة. وكأنك تقرأ عنعنةً لسندِ روايةِ حديثٍ دينيٍّ تراثيٍّ تاريخيٍّ عن تجلِّياتِ رهان حاضره، وقد أسقط زامل في هذا النصِّ الفنتازي والغرائبي وقائع وأحداث التاريخ الأسطوري السومري وعناصر طبيعة الواقع المكاني الأهواري لمثابات الحياة على مشاهد وقائع حاضره المعيش وتمظهرات أحداث تشابك عقابيله المتصارعة.

 والمثير في تجلِّيات هذا النصِّ أنَّ الشاعر بدأ مُستهله المطلعي بمفتتح إخباري (عنعني) توثيقي عن سيرة أبيه الراوي، ثمَّ عن أجدادهِ السومريين الأوائل ولمحةٍ إشاريةعن بطل ملحمتهم التاريخي الأُوروكي كلكامش الباحث عن عشبة الخلود لرفيق دربه الكائن المُؤنسن (أنكيدو) الذي يُعدُّ البطل الحقيقي لهذه الملحمة. وقد انتهى الشاعر بهذا الإخبار اللَّوحي عن سُقمِ نفسه العَليلةِ المنسيَّة في فضاء بيئتها المكانية الأهوارية، تلك النفس الظامئة لعشبة الرواء الرُّوحي التي لا علاقة لها لا من قريب أو بعيدٍ البِتَّةً بعشبة الخلود الكلكامشي أو الفناء الدنيوي، وبرغم ذلك يعدُّ نفسه أنكيدو عصره:

عَنْ أبِي، عَنْ أجدَادِهِ السُومريينَ

أنَّهُ قَدْ جَاءَ فِي لَوحِهُم الأخِيرِ

هَذَا مَا اِدَّخَرَهُ كِلكَامِشُ

لِلمنسِي فِي الأهوَارِ، وَهوَ سَقيمُ

لِرَعدِ زَاملِ الطَّاعنِ بِالعَطَشِ

قَارُورةٌ مِنَ الدَّمعِ وَعُشبةٌ أُخرَى

 لَا عَلاقةَ لَهَا بِالفَنَاءِ

(لَمْ أكُنْ عَاريَاً قَبلَ الهُبُوبِ، ص 8، 9)

 واللَّافت للنظر في هذه القصيدة وفي قصائد سبع أخرى من بين هذه المدوَّنة الشعرية أنَّ الشاعر في سابقة شعرية وفنيَّةٍ لم نعهدها عند غيره من الشعراء المُجايلينَ والسابقينَ له عَمدَ في أسلوبيته الشعرية إلى تكرار وترديد اسمه الصريح الدال على هُوية صفته الشخصية(رعد بن زامل) سبع مراتٍ تفاوتية لسبع قصائد رتَّل فيها اسمه ورسمه الذاتي الذي نتلمَّس من خلال مجسَّاته التردُّدية وجعاً ومشاعرَ حسيَّةً بالغة الأثر تفيض بها تكرارات الاسم(الزاملي) بين طيَّات نصوصه الشعرية الصارخة بصوته في محاولة صوريَّة تجريبية منه لإثبات ذاته الشاعرية المأزومة بخيبات الوجع.

بَعدَ أنْ نَجونَا بِأُعجوبةٍ مِنَ العَاصفةِ

قُلتُ لَهُ اِقفزْ يَا رَعدُ زَاملُ

 فَلَا مَكانَ لَكَ فِي قَاربِ النَّجاةِ

(لَم أكُنْ عَاريَاً قَبلَ الهُبُوبِ، ص 72، 73 )

 فضلاً عن تفاعلها الذاتي العجيب مع صبرها القوِّي وجَلَدِها الجميل تُجاه شامتيها وحاسديها في التماهي مع سلسلة من وقائع الأحداث الموضوعية لريب الدهر وتوجُّعه، والخروج من قبضة براثنها المخلبية الناشبة بخواتيم نصوص شعرية مذهلة تبعث الانتشاء والسرور والإمتاع في نفس القارئ الذي ما انفكَّ أنْ يتواصل مع تداعيات مبدعه الشاعر المقوَّض المنحسر الذي يقلب موازين الهزيمة والانكسار الروحي والنفسي برغم ذلك إلى مثاباتٍ إبداعيةٍ مُفعمةٍ بالجمال والخلود الفنِّي.

تَأثيثُ فَضاءاتِ المُدَوَّنةِ الشِّعريَّةِ:

 إنَّ المُتتبع لمجموعة (لَمْ أكُنْ عَاريَاً قَبلَ الهُبُوبِ)، لا بدَّ وأنْ يقرأَ فيها أنَّ الشاعر في تأثيث هندسة عمارتها الشعرية المتواثبة قد مالَ كثيراً في تدشين أقانيم أسلوبيته الشعرية في قصائده النثرية التكثيفية الإشراقية المركَّزة إلى ضبط إيقاع بنائه التركيبي اللُّغوي والموسيقي الخارجي والداخلي، وخرج بلغته الشعرية التلقائية الممتنعة مُنزاحاً إلى خيار الجمع بين ثنائية الذات الشعرية الوجدانية المعبِّرة عن صوت تفاعلات أناه الشعرية الفردية الضيِّقة، وعرجَ إلى مِساحةٍ أوسع وأرفع شأناً في هذه الذات، تلك هي آفاق الشعرية الموضوعية المشتركة في توحدنها الجمعي. وأنَّ مسوغ هذا الجمع الثنائي لمفهومي الشعرية يُدلِّلُ بوضوحٍ على أنَّ الدالتينِ (الذاتية والموضوعية)، هما مفهومان مهمَّان جداً في الأدب والشعر والفكر والفلسفة، ولا سيِّما إذا كان الأدب شعراً أو سرداً إبداعياً.

 ومن الخطل أنْ لا نفهم فروض ومستحبَّات هذا الجمع الوحدوي المتداخل روحاً وجسداً وفكراً ودلالةً ومعنىً في تعالقه؛ لأنَّ الذاتية في أقرب توضيح لها، تعني التعبير عن مجموعة الأفكار والقيم والمبادئ والمشاعر الإنسانية الجيَّاشة والخبرات الشخصية المتراكمة للشاعر أو الكاتب السارد، وهي في الوقت ذاته تعكس بصدقٍ وجهات نظر الفرد (الشاعر) وخبراته الشخصية الحياتية.

 وفي الأعم الأغلب أنَّ مفهوم الذاتية يكون متأثراً كثيراً بشحنات المشاعر والخبرات والفيوضات الشخصية المُكتنزة عند صاحبها الكاتب المبدع في التخليق الإنتاجي. في حين أنَّ(الموضوعية)، تعني إحدى أهمِّ وسائل التعبير المهمَّة عن مجموعة الأفكار والمشاعر الإنسانية المحتدمة والخبرات والمهارات الفردية الثقافية المكتسبة من جهة المنظور العام والمستقل عن وجهات نظر الفرد الذاتية الخالصة. أي أنَّها الانفتاح الحُرُّ على آفاق مستقبل العالم الآخر الذي لا بدَّ من مسايرته.

 ولهذا يُفضَّلُ في أساليب الشعرية الإبداعية الحداثوية وما بعدها، أنْ تكون فنيَّة الكتابة التخليقية المُبدعة في الثنائيات(الذاتية والموضوعية)متداخلةً مع بعضها بعضاً. حيثُ يمكن للشاعر أو الكاتب أنْ يُعبِّرُ عن رؤاه الفكريَّه وآيدلوجيته العقائدية وهموم مشاعره الشخصيَّة الذاتية الخاصَّة وفق منظور سياق عام جمعي مستقل بعيداً عن الأنانية الضيقة، ولا بدَّ من الخروج من عباءة الفكرية النفعية المصلحية الضيقة الخاصَّة إلى دوحة واعتاب هُوية العالم الآخر الذي ينشد حُبَّ الرفاهية الجمعية والوئام الإنساني العام لأبناء الجامعة الإنسانية في المعمورة الكونية لهذا الجمع المشترك.

 وعلى وفق هذه النظرة الجمعية الشمولية والتَّوِحدُن الفكري الإيثاري الإجرائي، اِنسَاقَ رعد زامل راغباً لا رَاهباً في مركزية اشتغالاته الشعرية والفكرية، وحقول معجمه الشعري وميادينه الدلالية الثرَّة إلى سياق هذا النهج الأسلوبي المُختلف تعبيراً، والمؤتلف وحدةً في أكثر من قصيدة شعريةٍ زخر بها قاموس خطابه الشعري في هذه المجموعة التألُّقِيَّة لغةً وتصويراً وثقافةً وأدواتاً.

 بَيدَ أنَّ النصوص التي احتفت بها قصائد هذه المدوَّنة وشكَّلت البؤرة المركزية لشعريَّة رعد زامل في طيَّات هذه المجموعة أربع رسائل شعرية متواليةً احتشدت فيها موازين هذا التوافق الجمعي بين هواجس الذاتية الفردية وتطلُّعات الآخر الموضوعية الجمعية، وهي العنوانات الآتية: (رسالةٌ إلى العراقِ، ورسالةٌ إلى أبي، ورسالةٌ إلى سلمى، ورسالةٌ إلى أمِّي)، ونصوص جمَّة أخرى.

1-رسالةٌ إلى العِراقِ:

لا شكَّ أنَّ (رسالةٌ إلى العراقِ)، هي أول هذه الرسائل الإئتلافية التطبيقية الإجرائية المتَّحدة كانت موجهةً لموطن الشاعر ومنبت عيشه الأرضي الفسيح، والتي تمثِّل قمة وقائع الموضوعية الجمعية العراقية الواسعة. حيثُ تحدَّث فيها الشاعر عن قضايا الوطن السياسية والاقتصادية والاجتماعية والحياتية التي تُلامسُ حقيقةَ الإنسان العراقي وحبِّه لوطنه، وشعوره بآثار الفقر والفاقة والغربة في وطنه الذي لا تنقصه ثرواتٌ وطنيةٌ أو ماديَّةٌ أو الجاهُ الحضاريُّ الكبير الذي يقلِّل من شأنه الرفيع. فلنقرأ في هذا السياق الموضوعي ما قاله ابن زامل في مناجاته الأبوية لوطنه وتساؤله الكثير له:

لِمَاذَا يَجرِي نَهرَاكَ بِالدَّمعِ يَا أَبَتِ... ؟

لِمَاذَا أنتَ شَاسعُ الحُزنِ وَغَرِيبْ؟

مَا بَالُ بَساتِينِكَ فِي كُلِّ حَربٍ وَهيَ مُجَزَّرةٌ

تُذبَحُ فِيهَا رُؤُوسُ النَّخيلْ؟

ألِهَذَا دَمعُكَ أَخضَرُ

وَهدَيلُكَ فِي المَلَاجِئ يُشبِهُ النَّحيبْ؟

إِلَامَ يَظلُّ جُرحُكَ فُرَاتَاً

ونَزفُكَ يُخضِّبُ الكَلماتِ والأنَاشيدْ؟

إِلَامَ وَأبنَاؤُكَ فِي المَنَافِي

يستبدُ اللَّيلُ بِأحلامِهُم وَالزَّمهريرْ؟

 تُرَى مِنْ أيِّ جُبٍّ ومَنَفَى نَأتيكَ بِقمِيصِهُم؟

(لمْ أكُنْ عارياً قبلَ الهُبُوبِ، ص 55، 56)

 لقد أسهمت أدوات الاستفهام (الاسمية والحرفية) السبع:(لماذا المُكرَّرة، ومَا، والهمزةُ، وإلَامَ المُكرَّرةُ، وأيّ) في دفقات هذا المقطع الجمعي الشعري الشعوري الطويل الممتدُّ مع تصاعد أنفاس نياط الشاعر المحتدمة في إيصال صوته المُتهدِّج وصرخاته المدوِّية من خلال تعبيراته المجازية والاستفهامية التواترية التي ألقت الضوء على أكثر من وحدة موضوعية تؤرِّق فكر الشاعر وتقتله.

 ومن المؤكَّد أنَّ الشَّاعر في هذا الكم التَّكراري من التساؤلات الوطنية المُنَكِّسة للرؤوس لا يُريدُ قطعاً إجاباتٍ مباشرةً عنها، بل يُريد إيصال معاني تساؤلات رسالاته الصوتية إلى قارئه ومتلقيه ليُشاركه وقع همومه للوقوف على حجم آثار الخراب الذي مرَّ به البلد الآمن الكبير(العراق)في مأزقه الجُبِّي الذي سوَّقه في تناصِّه الدِّيني التَّحوُّلي استدعاءً لقصَّة سيِّدنا يُوسفَ الموضوعية مع والده يعقوب وإخوته في بئر خيانة العهد الواثق بينهم في الآية(96)، لسورة يوسف في قوله:)فَلَمَّا أْنْ جَاءَ البَشِيرُ أَلقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ، فَاِرْتَدَّ بَصِيرَاً قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُم إنَّي أَعْلَمُ مِنَ اللهَ مَا لَا تَعلَمُونَ).

 لم يقف الشاعر زامل عند هذا الحدَّ الذاتي الموضوعي المشترك مع وطنه، بل راح يستذكر رمزاً لإحدى الشخصيَّات الشعرية المحبَّبة إلى قلبه، والتي عاشت آثار الغُربة وذاقت طعم المنافي وحياة الفقر والفاقة والتشرَّد والموت الغريب، تلك هي شخصية صديقه وزميل دراسته الأولية الشاعر العراقي المُشرَّد الذي مات غريباً بحادث دراجة في كندا، ذلك هو المتألق عبد الأمير جَرص الذي أسقط سيرته الذاتية على نصِّ رسالته التساؤلية والموضوعية في خطابه الموجه لأبيه وأُمِّه العراق:

أتَعلمُ يَا أَبَتِ أنَّ عَبدَ الأميرِ جَرَصُ

عَاريَاً فِي كَنَدَا يُواجِهُ مَوتَهَ الغَريبْ؟

لَقَدْ أَودَتْ بِحياتِهِ دَراجةٌ طَائِشَةٌ عَلَى الطَّرِيْق

قُبُورٌ كَثيرةٌ عَلَى الأرضِ تَهتِفُ شَواهِدُهَا

بِاسمِكَ فِي آخرِ اللَّيلِ غُرباءٌ كَثيرونَ مِثْلِي

يَذرفُونَ فِي مِحرابِكَ الشِّعرْ

 والدُّموعُ فِي عُيونِهُم تَتَأرجَحُ بَينَ الضَوءِ والظِّلْ

(لَمْ أكُنْ عَاريَاً قَبلَ الهُبُوبِ، ص 56، 57)

 إن استنطاق الشاعر لإحدى الشخصيات الرمزية والشعرية في وجع تساؤلاته الوجدانية الذاتية المريرة، هو استحضار للموضوعية العراقية ولهُوية الآخرين ممن يعيشون الشتاتَ والتِّيهَ والمنافي الغريبة، وكأنَّهم من خلال وجوههم الغريبة وأرواحهم السليبة أبناء السبيل الذين ينتظرون الرَّحمة.

 ومن لوافت الشعرية الجميلة في خطاب الشاعر ومناجاته لوطنه العراق في كثرة تساؤلاته التي ازدحمت بها انثيالات قصيدته الوطنية بهذه الأدوات التعدُّدية الاستفهامية الدالة على وقع معانيها التساؤليَّة، لم يكن هدف الشاعر من تساؤلاته العاصفة هدفاً توبيخياً أو استنكارياً عارياً عن الحقيقة الموضوعية المُرَّة، بل كان خطاباً أبويَّاً تهذيباً بامتيازٍ ومَشحوناً بالعاطفة الفردية والجمعية، بدليل أنَّ استخدامه وتوظيفه لأُسلوب النداء المُحبَّب في جملته البياضية الدالة على تقنية الحذف(يا أبتِ...).

2- رِسالةٌ إِلَى أبِي:

 أمَّا الرسالة الفردية الثانية التي بعثها الشاعر ذاتياً إلى أقرب إنسان إليه في الوجود الحياتي، فكانت(رسالةٌ إلى أبي)، وعلى الرغم من أنَّ هذه الرسالة تمثِّل قمة التعبير عن الذاتية الإنسانية في سمت الحديث عن العلاقات الشخصية والعائلية الخاصة للشاعر، فإنَّها في الوقت نفسه تمثِّلُ تعبيراً واستنطاقاً عن لشعور الجمعي للآباء مع الأبناء، وتنطبق موضوعيتها الذاتية والوجدانية على الجميع ولكل الآباء والأبناء في مركزية الجامعة الإنسانية الكبيرة التي لاحدودَ لها في المشتركات.

 ولعلَّ المشترك الأسلوبي بين القصيدتين الأولى الموجَّهة رسالتها إلى العراق، والثانية الموجَّهة أي للأبِّ الحنون، استخدامُ الشاعر لأُسلوب الاستفهام التساؤلي وخاصَّةً إذا ما تأمَّلنا مدخل النصِّ الثاني للقصيدة الثانية ونظرنا لمطلعها الاستهلالي لوجدنا استفهاماً خاصَّاً عن الكيفية الحالية لروح هذا الأب الذي يعيش حياة برزخ الموت في قبره واستنطاقه وتذكيره بحنينه إلى معالم النهر أو الشطِّ القريب من بيته. ذلك الشاخص الرمزي المكاني الذي كان مسكوناً بهِ وبفضاء حياته؛ وذلك كون هذا الحاني كان يعمل صيَّاداً ماهراً للأسماك ثروة عطاء هذا النهر الذي أخذ ردحاً طويلاً من عمر وحياة الأب البسيط الفاني الذي كان الشاعر نفسه شاهداً عينياً يُشاركه الشعور ذاته نحو النهر:

وَكيفَ هِيَ رُوحُكَ فِي البَرزخِ أيُّهَا الأبُ؟

وَهلَ مَا زَلْتَ تَحُنُّ إلَى النَّهرِ المُحاذِي لِكوخِنَا؟

لَا شَيءَ يُثيرُ غُبَارَ القَلقِ

لَا شِيءَ سِوَى أنَّ رِيحَاً غَامضَةً قَدْ عَصفَتْ بِالكوخِ

وَأنَّ النَهرَ لَمْ يَعُدْ غَيرَ مَجرَىُ لِلدمُوعِ

أمَّا شَجرةُ الزَّيتونِ الَّتِي وَدَّعتَنِي تحتها

فَلَا غُصنَ فِيهَا يُوحِي بِالسلامِ

لا شَيءَ قَدْ تَغيَّرِ تَحتَ سَماءِ كُوخِنَا القَديمِ

 لا شَيْءَ يَا أبتِ

(لمْ أكنْ عاريَاً قَبلَ الهُبوبِ، ص 59، 60)

 وأنَّ اللَّافتَ للنظر في تداعيات هذا النصِّ أن الشاعر زامل مثلما أثار سيلاً من الأسئلة لوالده في المقطع الأول من القصيدة ذاتها نراه يجيب عن كثرة تساؤلاته الوجدانية المثيرة بلغة من ينفي الحدث ويثبته ويؤكِّده من خلال استخدامه للأداة(لا) النافية لجميع الجنس مع اسمها النكرة(شيءَ)، والتي تكرَّرت لتقوية المعنى وتأكيده مرتين أخريين في جملتيه (لا شيءَ يُثيرُ غبارَ القلق)، و(لا شَيءَ أنَّ رِيحاً غامضةً قدْ عصفتْ بالكوخِ). وقد أضاف لهذا الإثبات في نفي النفي توكيداً آخر بالأداة الناسخة(أنَّ) الحرفية الناصبة، فاثبت للنهر قائلاً:(وأنَّ النهرَ لمْ يَعُد غَيرَ مَجرىً للدِّموعِ).

يا لبلاغة هذا التعبير الفردي الذاتي الجمعي في توصيف حركة النهر التي أصبحت لا قيمةً نفعيةً لها سوى كونها مجرد وسيلة لجريان الماء لا للحصول على الثروات المائية التي يكتنزها بداخله!

 وأنَّ مثل هذا التوصيف الذي حفل به النهر، نهر القرية أو المدينة احتفت به رمزية شجرة الزيتون التي لا غصن فيها يوحي بعلامات السلام من بعد موت الأبِّ. ومن أجل تأكيد المعنى الشعري وتقويته ونزع الشكِّ عن متلقيه كرَّر الشاعر عبارته المحورية (لا شَيْء) النافية للجنس أربع مرات في مقاطع القصيدة الأخرى؛ كي يُثبتَ لها بالأداة (أنَّ) صفة الحضور الشكِّي الروحي الذي كان تتمايز به قبل الموت. كما ويقابل هذا التوكيد التكراري توكيدٌ آخر بعبارة النداء المحبَّب للنفس مرتين(يَا أبتِ) الذي أكَّدَ فيه الشاعر بخاتمته النصيَّة التشاؤمية التي ينفي فيها من يشهد على ذبوله:

 يَا أبَتِ... إذَا مَا مِنْ أحدٍ يَشهدُ عَلَى ذُبُولِي...

(لمْ أكُنْ عَارياً قَبلَ الهُبوبِ، ص61)

 ومما يُزيد من جمال القصيدة الغنائية الذاتية ويرتقي فيها من أسر ظلال الفرديَّة الشخصية إلى كون فضاء الموضوعية الجمعية الشاسعة، تماهي الشاعر وهوسه بعناصر الطبيعة الكونية(الثابتة والمتحركة) والارتماء بأحضان ووقع رموز مثاباتها المكانية وصدق حرارة التفاعل مع مشاهد موجوداتها وحقولها الدلالية التعدُّدية المُبهرة حقَّاً، (أنهاراً، وأشجاراً، وأغصاناً وريحاً، وصحراءً، وسماءً، وتراباً، ومجرىً، وأكواخاً)، وصوراً لونيةً مبهجةً وتمثُّلاتٍ حيَّةً أخرى تعبيراً عن صدق مشاعره وأحاسيسه النفسية والروحية الجيَّاشة تجاه هذه التشكُّلات الطبيعية المغذِّية لديمومة لحياة.

يَا أَبتِ سِوَى أنَّ أُمِّي الصَحراءَ

قَدْ وَزَّعتْ ظِلالِكَ عَلَى الإخوةِ التَّماثيلِ

وَأنَّ نُطفتَكَ الخَضراءَ مُعلَّقةٌ لَمْ تَزلْ عَلَى حَبلِ الهَجِيرِ

فَانظرْ إليهُم كَيفَ يَحثُّونَ التُّرابَ

 بِوَجهِ نُطفتِكَ الحَزينةِ

(لِمْ أكُنْ عَارياً قَبلَ الهُبُوبِ، ص 60)

3- رسالةٌ إلَى سَلمى:

 لا نعدمُ لوجود مثل هذه الذاتية الغنائية المُفرطة وجوداً لذاتيةٍ أخرى محبَّبة للنفس؛ ولكنَّها من نوع آخر يخرج عن سياقه الصمتي الفردي إلى ميادين الجمع الإنساني المشترك، تلك هي رسالته الثالثة الموجهة بياناتُها الاجتماعية النصيَّة المُشعرَنة وسهامها العاطفية والروحيَّة إلى أكناف حضن الحبيبة الأولى في نصِّه العنواني الدال على واقع ذاتيته التفرُّدية الرمزية (رسالةٌ إلى سَلمى). فمن هي سلمى يا تُرى؟ إنها معشوقة الشاعر الحقيقية إبَّانَ سِنِّي دراسته الجامعية الأولية بكليَّة الآداب في بغداد، والتي أبعدته عنها الفوارق الطبقية والمالية القاتلة عن فضيلة الاقتران بها وحرمانه منها.

 وسلمى هي الاسم الرمزي لمعشوقته، وليس الاسم الحقيقي لها، والتي تَعلَّق بها قلب الشاعر فَحَزَبَتْهُ، وجَسَّدَها بهذه الرسالة الوجدانية التي كان فيها عاشقاً لا مَعشوقاً. وسلمى هي علامة رمزية إنسانية لكلِّ وجمعِ المعشوقات الحياتية في الوجود المحيطي، وليست حصراً على خاصية الشاعر الذي راح يستدعيها للوجود الذاتي ويستنطقها بأجمل تحيَّةٍ يوميةٍ، تلك هي تحيَّةُ المساء المعطَّرة في مطلع قصيدته الهادئة دليل على تعلُّقه الرُّوحي ما زال قائماً بها رغم إمارات التنائي والتجافي الزمني العالقة بينهما بدلاً من أوصر اللُّقيا وطيب التداني. وبرغم ذلك فإنَّ موضوع واقعة فعلها الحدثي كان قاسياً بينهما على أسماع تلك الحبيبة التي لم تتنكر له يوماً؛ لكنَّ القدر الزمكاني العاثر وكروبه المقيتة هي التي حال بينها وفرَّقت شملهما شرقاً وغرباً، وزماناً ومكاناً.

 فها هو ابن زامل الشاعر الكَيِّس الودود الشفيف يخرج من قمقم صمته الحزين الماثل فيصفها وصفاً مؤلماً تحت مُسمَّى يقول فيه لها أصبحتِ بعد هذا الحبَّ:(أُمَّاً لقطيع من الأطفال) يا سلمى. فما أقسى ذلك التشبيه القطيعي الذي يُحيل صورة الأمومة الأنوثية الرؤمة إلى سرب قطيعٍ من البهائم الحيوانية! ولم يكتفِ بذلك التوصيف الشعوري رغم تعلُّقه الشديد بها، بل زاد عليه ذمَّاً آخر في تعديم وكسر صورة تلك المرأة الحسناء الحقَّة، ذمَّها بأوصافٍ تنال من ذات كينونتها الشخصية رغم الحُبِّ الشديد الذي يكنُّهُ لها، لكنَّه التعبير الثأري الناجم عن وقع فقدانها وابتعادها الأبدي عنه:

مَساءُ الخَيرِ يَا سَلمَى...

يُقالُ إنَّكِ أصبَحتِ أُمَّا لِقطيعٍ مِنَ الأطفَالِ

وَيُقالُ إنَّ البَنفسجَ فِي عَينيكِ قَدْ تَلَاشَى

وَإنَّكِ مَحنِيَّةٌ عَلَى الدَّوامِ

تَلتقطينَ مَا يَتنَاثرُ مِنْ أغصَانِ أحلَامِكِ

سَمِعتُ أنَّ كَأسَاً هَذَا الصَّباحُ

 قَدْ هَوَتْ مِنْ بَينَ يَديكِ وَانكسَرَتْ

(لَمْ أكُنْ عَاريَاً قَبلَ الهُبُوبِ، ص 62، 63)

 الشاعر في انتقاداته على الرغم من وقع تلك الهجمة الشرسة القاسية التي يشنُّها بحقِّ تلك المرأة التي لا ذنب لها في ما حصل لها من قهرٍ اجتماعي خارج عن رغبتها الإنسانية، فإنَّه يركن في نهاية المطاف إلى أسلوب التوافقية والمهادنة والهدوء والإقرار الذاتي بالواقع الموضوعي الحدثي المكين الذي فرض ضروبه عليهما كمعشوقين حالت بينهما غائلة الزمن، فكان الفراق مصيرهما.

 فما كان منه إلَّا أنْ يُهدِّئها من ذلك الحزن الذي يمكن إصلاحه بطريقة طالباً منها في الوقت نفسه عدم الاعتذار عن موقفها من عدم الوصال معه قارَّاً الشاعر في الوقت ذاته بوجعه ونكوصه وانكساره الذاتي وهزيمته العاطفية بعد مرور أكثر من ثلاثين عاماً على حادثة هذا الحُبِّ الذي مرَّ بمحطَّاتٍ خُذلَانٍ كثيرةٍ، آخرها صوت الشاعر المكسور قلبه جَرَّاءَ هذهِ الرحلة العشقية عبر التراسلِ الزمني الأثير من بواعث شعريته وحنينه لأول عشق وطأته قدماه وشعرَبِهِ قلبه رغم بون المسافة:

لا تَحزَنِي... يَا سَلمَى

كُلُّ شَيءٍ يُمكنُ إصلَاحُهُ فِي نَهايةِ المَطَافِ

ثُمَّ مَا مِنْ شَيءٍ يَبقَى عَلَى حَالهِ سِوَى قَلبِي

قَلبِي الَّذي كَسَرتِيهِ عَلَى يَدَيكِ

حِينَهَا لَمْ أُطالبُكِ بِالاعتذارِ

****

إنَّكَ فِي كُلِّ يَومٍ بِهذهِ الرِّحلةِ سَتركبينَ أَكثرَ مِنْ قِطَارٍ

 وَفِي كُلِّ مَحطَّةٍ سَتسمعينَ صَوتَ اِنكسَارِي

(لَمْ أكُنْ عَاريَاً قَبلَ الهُبُوبِ، ص، 63، 64)

 إذا كانت هزيمة الشاعر وانكساره ووجعه الذاتي على المستوى الشخصي، فإنَّ ألفَ ألفَ رَعد زامل، وألفَ سلمى في الوجود الجمعي تُعاني ما عاناه الشاعر في نصِّ رسالته لسلمى المعشوقة لا العاشقة، وإنَّ ما كان ألماً ذاتياً، يصلح أنْ يكونَ ألماً جمعياً مشتركاً لهموم الإنسانية الثقيلة المتعدَّدة.

4- رِسالةٌ إلَى أُمِّي:

إنَ آخر تراتيل الشعر وخيبات الوجع والانكسار الروحي الأربع التي حفلت بها مدوَّنة رعد زامل الشعرية هذه، تلك هي رسالته الذاتية الموجَّهة إلى أُمِّه الحبيبة، والتي جاءت دالةً على معاني ومضامين دلالتها العنوانية الصريحة المباشرة (رسالةٌ إلى أُمِّي)، والتي تحدَّث فيها الشاعر بصدقٍ وحميميةٍ عن مشاعر العلاقة الشَّخصية العائلية التي تربطه بها وجوداً وكوناً.

 ولا أدري لماذا الشاعر لم يكن موفقاً في ترتيب رسائله الأربع من حيث الأسبقية الزمانية لها، فإذا كان الوطن الكبير(العراقُ) يستحقُّ منَّا ومن الشاعر أنْ يكون محلَّهُ العالي والسامي في صدارة هذه الرسائل وفي مقدِّمة بواكيرها الطلليَّة الرائدة ترتيباً، فإنَّ تأخير رسالته الموجَّهة لأُمِّه، وإيثاره بتقديم رسالتي الأبِّ وسلمي الحبيبة على رسالة الأُمِّ أمرُّ لم يكن في الحسبان والتوقُّعات الخارجة عن جدار أفق المألوف الرتائبي الذي لا يمكن إقراره بمبدأ القبول من حيث المفاضلة والترتيب.

 ولا أدري ما السبب الذي دفع الشاعر زامل في رسالة خاتمة هذه الرسائل الأربع التي تجمع سماتها الفنيَّة بين محتوى الذاتية الضيِّقة والموضوعية الواسعة كما أشرنا لها في مواضع كثيرة من هذه الرسالة؟ فهل أنَّ سلمى الحبيبة من نوافل المستحب لا الواجب تُقدَّمُ رسالتها على رسالة الأُمِّ التي وضعت الجنة -إكراماً- تحت أقدامها العارية وحضنها الأليف الدافئ؟! ألَا تستحق الأُمُّ أنْ تكون في الصدارة بعد رسالة الوطن الكبير؟ والمسوغ قد تكون للشاعر أسبابه النسقية المُضمرة وعفويته وأعذاره الحقَّة المُبهمة في هذا التأخير الذي تلفُّهُ ضبابية موضوعة(الموت) والفقد الرحيم لها. بدليل أنَّ الشاعر كان موجعاً بالأسى، وكان تشاؤمياً وحزيناً لفقدها الكبير، بل كان كما يرى ويعتقد أنَّه يُدَرِّبُ نفسَهُ الذاتية المازوشية المتألمة على ظُلمة القبر ووحشته في آخر اللَّيل البهيم.

 فضلاً عن وقع حديثه الهامس الودِّي لها في نهاراته المُوحشة عن فعل مُنكرٍ ونكيرٍ، وعن أحلام يقظته ورؤياه الحُلُمية المحبَّبة لها، والتي لم تنقطع يوماً عن الاستذكار لها، مُتمنيَّاً وراجياً ومخلصاً من خلالها أنْ يطوي آخر صفحة من صفحات كتاب حياته الشخصيَّة المعذَّبة بموتٍ رحيمٍ يجمعه في محاولةٍ منه في غلق آخر أضواء ذلك النفق الطويل الذي يمدَّه بتكرار الرؤيا وصور الفقد الجمّيل. إنَّه شعور بالانكسار والتلاشي بدلاً ممن ذلك الشعور المملوء بالألم من تلك الذئاب الهائمة التي تنهش روحه المُستباحة؛ نتيجةً لسخريةِ القدر الناشب لروحه، ونوازلِ العذاب المُضني الكبير:

عَنِ المَوِت الَّذي وَصَلتُ إلَى حَافتهِ

وَعَنْ سَالفِ الأيامِ أقولُ يَا أُمِّي:

لَقَدْ كُنتُ أُدَرِّبُ نَفسِي عَلَى ظُلمَةِ القَبرِ

فِي آخرَ اللَّيلِ

وَأُحدِّثُها عَنْ مُنكرٍ وَنكيرٍ بِأطرافِ النَّهارِ

وَلَمْ أكُنْ عَاطلاً عَنِ الأحلَامِ يَومَاً

فَلَقدْ حَلِمتُ بِيدِ اللهِ وَهيَ تَطوِي

أخرَ صَفحةٍ مِنْ حَيَاتِي

 وَمَعَ كُلِّ حُلُمٍ كُنتُ أظنُّ أنَّ المَأزقَ سَينتهِي

(لَمْ أكُنْ عَاريَاً قَبلَ الهُبوبِ، 65، 66)

 ويستمرُّ الشاعر في طقس مناجاته الذاتية، وفضاء تماهيه الشعوري مُستذكراً في الوقت ذاته تلك الأيام الخوالي والمثيرات التي عاشها في ظل كنفها حتَّى وصل في دفقات لوحة تراتيله الشعورية الوجدانية المشحونة بالألم إلى أقصى مراحل أو مشاهد الفناء وصور الحياة الفنية بآخر القصيدة:

هَذَا مِنْ بَعدَ أنْ ذَبَحُوا الشَّمسَ

عَلَى مَرأَى مِنْ نَوافذِ بِيتِكِ

 فِي هَذِهِ الحَياةِ الفَانيَةِ...

(لَمْ أكُنْ عَاريَاً قَبلَ الهُبُوبِ، ص 67)

 وتظهر على الأفق معاناة الشاعر ومكابداته الحياتية من أثر الشامتين والمناوئين له في آخر صورة من صور هذه القصيدة التي تتحدَّث عن جدليَّةِ (الحياة والموت) الفاني لها جملة من المشاهد التعبيريًّة المأساوية التي تختلط فيها روح المشاعر العاطفية الوجدانية والذاتية للشاعر بالمشاعر الموضوعية الجمعية المشتركة لمحيطه من الناس؛ وذلك بكون الأُمّ أيقونة إنسانيةً حيَّةً، وتُمثِّلُ لهم رمزاً ووطناً وأرضاً وسماءً تلتحف بها جميعُ الناس وتغطِّي حياتهم الإنسانية بوافر الودِّ والعطاء.

 ولعلَّ اللَّافت للنظر في مثل هذه المشاعر الإنسانية المهجوسة بحزن الشاعر أنَّ القصيدة ذاتها ابتدأت بمفردة (الموت) الفاني ذاته، وكأنَّ الشاعر رعد زامل يؤكِّد لِمُتلقيه أنَّ خِتامَ القصيدة بحسن جمال المطلع؛ لأنَّ الموت حقٌّ على كلِّ إنسانٍ يؤمن به بالقدر الفاني، وأنَّ الحياة ما هي إلا رحلة ماراثونيةٌ سريعةٌ فانيةٌ ماتعةٌ لا تأخُذ منها سوى الخلودِ الذي يصنعه الإنسان بعمله المذهل في مساراته عمله الذاتية بهذه الحياة. فلا يَنفعُ التَّمتُّع بِاللَّذات ولا الغِيدِ الحِسَانِ، فكُّلنا راحل عنها وفَانٍ.

 بقي أن نستخلص من خواتيم هذه الرسائل الشعرية الموجَّهة لجهاتها المعنية الأربع، (الوطن والأبُّ وسلمى والأمُّ) موحيات هذا اللَّون القصدي من أساليب فنيَّة التعبير الشعري الذي يُعدُّ من أهميات الشعر العربي الحديث؛ بوصفه جامعاً لحمولات خصائل وسمات الذات الشاعريَّة الفردية وصفات الذات الإنسانية الموضوعية (المَا حَوليَّةِ) ومخرجاتها الزمكانية؛ كونه جاء تعبيراً عن آفاق وتجارب الحياة الشخصية وخصوصيات العَلاقات الاجتماعية العائلية، والوطنية الوجودية المتوحدة. ومن دلائل شعرية هذا الخلط التوليفي المتداخل الرؤى ما نجده جدليَّاً حاضراً في فجائية نصٍّ(غيابٌ):

مُنذُ أْن غَابَ عَنْ هَذهِ الأرضِ وَجهُ أبِي

وَأنَا تَحتَ لَهيبِ الشَّمسِ

كُلَّمَا طَرَقتُ بَابَاً خَرَجَ لِي

مَنْ يَحثُو التُّرابَ فِي وَجهِي

وَكُلَّمَا آوَيْتُ إلَى شَجَرَةٍ طَردَتنِي

 مِنْ ظِلِّهَا البَارِدِ المَمدُودِ...

(لم أكنْ عَاريَاً قَبلَ الهُبُوبِ، ص 105)

فَضاءاتُ الخِطَاب الشِّعريَّة:

 لم يكن رعد زامل في كلِّ مدوناته الشعرية الإبداعية شاعراً نصوصيَّاً مألوفاً مثل بعض نظرائه شعراء النصيَّة المشهدية الكُثَار في أيامنا الحالية أو التي خلتْ من قبل، إنما كان شاعراً ثقافياً وصاحب مشروع شعريٍّ ثقافيٍّ مُتجددٍ الأفكار والرُّؤى ببدائله الثقافية التي لا تقف في سعة اشتغلاتها البؤريَّة والمركزية عند دائرة ضيقةٍ من سلسلة الأفكار المعطوبة البالية والمستهلكة الرتيبة المعادة في مِساحة كشوفاته الشعرية وتمظهرات فتوحاته الصورية الإبداعية. لذلك لم يغفل الشاعر شأناً مهمَّاً من شؤون الحياة التداولية المعصرنة، ولا همَّاً من هموم الناس وذاتها الإنسانية الموَّارة إلَّا وقد تناوله في تضاريس قصائده الوجودية الداخلية وتخوم مدونته الشعرية الناطقة.

 فكتب عن أثر النكوص، وعن وحشة الطريق في غابات الحياة، وعن جمر الكلام، وعن لواعج هموم الغربة وعن إسقاطات النفس في الأحلام، وعن جمرة النسيان، وعن خطيئة الإنسان وفلسفة أفكاره، وعن حصار الذات الفردية الضيقة وعزلتها عن المَا حَولِ الخارجي، وعن آثار عاصفتها قبل الهبوب. ولم ينس الحديث عن هُويته الاسمية الصريحة (رعد زامل) في سبعة نصوص توثيقية إقراريةٍ اعترافيةٍ صارخة بتردداته هُويته الشخصية الإنسانية وتجربته الشاعرية، وعن رمزية الذات الشاعرية من خلال ضمير الفاعلية المستترة في أكثر من نصٍّ من نصوص خطابه الشعري.

 فكتب أيضاً أربعة نصوص مكانية خصَّ بها البصرة مدينة الشعر والإبداع، مستعرضاً فيها مدى حبِّه وإخلاصه وولائه الجمَّ لمدينة السيَّاب الحيوية الفاعلة، ومنشداً في الوقت ذاته بأشعاره لفضائها الرحب، ونخلها الكثير الوارف، ومثابات موانئها وجمال شطها ومحاذاة بحرها وأمواجها وحقولها الفسيحة وأشرعة سفنها المكتظة ورمزية سندباها البحري وأثرحكاياتها وتاريخها التراثي والثقافي.

 لم ينس الشاعر أنْ يستدعي في ثنايا تلك النصوص النَّدِيَّة والمُحتشدة بمرايا عينه الشعرية الكاشفة الثانية ويستحضر رمزاً بَصْرِيَّاً شبابياً مهمَّاً من رموزها الشعرية والقصصيَّة المُقيمين في المنافي بمغتربهم البعيد في بلجيكا وفاءً وحبَّاً لعيون البصرة وثقافة أهلها المبدعين، ذلك هو ابن خالته الشاعر المعروف بـ(مُهنَّد يعقوب)، الذي هو أخ الشَّاعر والأكاديمي الدكتور سراج محمَّد يعقوب:

قُولُوا لِمُهَنَدٍ

لِذلكَ اللَّامعُ القّصِيُّ

إنَّ جَدَهُ يَعقوبُ مَا زَالَ يَجوبُ اللَّياليَ وَالأيَامَ

 وَهوَ يَصيحُ: كَذِبٌ هَذا الدَّمُ عَلَى القَمِيصِ

(لْمْ أكُنْ عَاريَاً قَبلَ الهُبُوبِ، ص 98)

 والشاعر في تماهيه التناصِّي التحوُّلي الجديد يُقارب ما بين يعقوب جدِّ الشاعر مهند، والنصِّ القرآني القديم الذي يُخِبُر عن قصَّة يعقوب أبِ سيِّدنا يوسف في قضية القميص الذي جاءوا به إليه بدمٍ كاذبٍ مُفتعلٍ على أنه دم يُوسفَ في حين أنَّه كان دمَ سَخْلَةٍ: (وَجَاءوا عَلَى قَمِيصهِ بِدَمٍ كَذِبٍ).

ثمَّ ختم رعد فِهْرَست هذه المجموعة الشعرية بنصوصٍ وثنائياتٍ مُتضادةٍ عديدةٍ تتحدَّث عن اليأس والأمل والشكّ واليقين، والمرئي وغير المرئي، وعن دجلة والفرات، وعن العروج من الأرض إلى السماء، وعن الورود والأشواك، وعن الغياب والحضور، وعن الميلاد والممات، وعن الوجود والعدم والثبات والندم، وعن الرسائل التي تحملها الطيور في أخبارها عن آثار الحزن والسرور.

ومن النماذج الإجرائية الشعرية المهمَّة لهذه المحطَّات والمرافئ الذاتية والموضوعية نصُّ قصيدته الرمزيَّة (طفلُ الفراتِ) التي هي من نصوص وقصائد شعره التراثي القليلة ذات القافية الشعورية المُتحركة التي يُحيلنا فيها الشاعر زامل إلى سياحة البوح الفكرية والإمتاعية الزاخرة الإضاءات في فنارات ومحطَّات عوالمه الوجودية المنسابة عبرَ أثير فضاء دفقاته الشعورية النابضة بالحياة:

يُحَمِّلُنِي الهَوَى مَا لَا يُطاقُ

فَأكبُو ثُمَّ يَسندُنِي اِشتياقُ

وَيَخنقنِي بِطَفَّكِ ألفُ بُوحٍ

وَكُلُّ البُوحِ مَولايَ اِختنَاقُ

يَتيمَاً بًعدً كًفِّكِ ظَلَّ رَأسِي

كَمَا فِي حُزنهِ ظَلَّ العِرَاقُ

رَأيتُ بِيومِ نَحرِكِ ألفَ شَمسٍ

إلَى الظُلُماتِ فِي قَفَصٍ تُسَاقُ

رَأيتُ يَدَ الحَقيقةِ فِي وِثَاقٍ

 وَيَنزفُ فَوقَ مَعصَمِهَا الوُثَاقُ

(لَمْ أكُنْ عَارياً قَبلَ الهُبُوبِ، ص 81، 82)

شِعريَّةُ التناصِّ الثَّقافيّ:

 لم أرَ مجموعةً شعريةً بهذا الحجم الكمي الصغير، والنوع الكيفي المكثَّف الكبير الذي احتفتْ بما احتفت به مدوَّنة رعد زامل (لَم أكُنْ عَاريَاً قَبلَ الهُبُوبِ)، واكتنزتْ به زاخرةً بالثراء النوعي المكين من التناصَّات الشعرية عن غيرها من المجاميع الشعرية الأخرى من إصدارات الشعراء المبدعين في النقديات الشعرية العراقية الحديثة. فقد احتوت مضامين هذه المدوَّنة وقصائدها ومحتوياتها الموضوعية على(12) تناصَّاً شعرياً، لتناصَّات دينيَّةٍ وتاريخيةٍ وأدبيَّةٍ وثقافيَّةٍ زيِّنتها بتحولاتها النصيَّة التجدُّدية تسعُ قصائد تُشكِّل الثُّلثَ من بين قصائده(31)، وكانت موزَّعةً على فضاء ديوانه توزيعاً إجرائياً عفوياً غير مُتَكلُّفٍ وفق قصائد العنوانات الآتية: (ترنيمةٌ، نكوصٌ، إسقاطاتٌ، جمرة النسيان، العاصفة، رسالة إلى العراق، غربةٌ، نصوص البصرة، نصوص)، وتكرَّر في قصيدتين.

 وأنَّ اللَّافت في هذه التناصَّات أنَّ شعريتها الفنيَّة جاءت منسابةً تجرُّ أذيالها لخلافة الشعر دون تَكليفٍ أو إجبارٍ أو تصنعٍ أو لَيٍّ لِعُنقها، بل على عكس ذلك امتازت بسمة العفوية وصدق التلقائية. والتناصُّ في أقرب تعريف موجز لمفهومه الأدبي الذي حفلت به نظريات الأدب الحديث ونَقَّاده من الذين استقرَّ عندهم أمثال الناقدة البلغارية الأصل جوليا كرستيفيا وباختين وجيرار جينيت وغيرهم، هو إدخال نصَّ أدبيٍّ جديدٍ في نصٍّ آخر أصلي قديمٍ يمتزج فيه ليُشكَّلَ نَصَّاً جديداً مُتكاملاً والتحوُّل عنه من خلال هذه الاقتباسات النافذة الأثر برؤيةٍ فكريةٍ أَلمعِيَّةٍ جديدةٍ تخدم الوحدة الموضوعية لمدوَّنة الخطاب الشعري الَّتي يستنطق فيها الأديب الشاعر مكنونات تراث الحياة الإنساني المعيش.

وقد سعى رعد زامل في أغلب تناصات قصائده الشعرية إلى استقراء التناصِّ الثقافي المعرفي غير المباشر، والذي يمكن أن يسمَّى بتناصِّ الأفكار الموضوعي المُستنبط من نصوص الذاكرة التراثية التاريخية الواعية بالمقروء الثقافي الذي يستشعره القارئ أو المتلقِّي عبر آليات القراءة وجماليات التلقِّي المعرفي في كتب النصوص الدينية والرمزية والشعرية والتاريخية والأُسطورية والأدبيَّة الأصلية المؤثِّرة التي اكتنزتها ثقافته الشعريةالمُكتسبة عن تجلِّيات الدين والأساطير والتراث.ولنقرأ في هذا المجال المعرفي أنموذجاً لنصِّه الشِّعري(العاصفةُ) الذي استلَّ منه عنوان مدونته الرئيس:

لَمْ أكُنْ عَاريَاً قَبلَ الهُبُوبِ

وَلكِنَّ العَواصفَ تَسلِبُ النَّاسَ أشَياءَهُم

اُنظُرِي إِلَى الرِّيحِ

كَيفَ تُقَلِّبُنِي ذَاتَ اليَمينِ وذَاتَ الضَّيَاعِ

مِثلَمَا تَعصِفُ بِطائِرَةٍ مِنْ وَرَقٍ

ثُمَّ اُنظُري كَيفَ أَضيعُ مِثلَ طِفْلٍ

لَا أثرَ لَهُ بَعدَ العَاصفةِ

سِوَى الخَيطِ الَّذي كَانَ عَلَى يَدِهِ

 ثُمَّ اِنقطَعَ

(لَمْ أكُنْ عَاريَاً قَبلَ الهُبُوبِ، ص 52)

 لقد استفاد الشاعر زامل في تأثيث المقطع الأول من قصيدته هذه من سورة هود الآية(85) في المقاربة التناصِّيِّة بين العواصف والميزان في خاصية النهي في سلب أشياء الناس وبخس حقوقهم ظُلماً وتجاوزاً للناس وفقاً لقوله تعالى ((ولا تَبخسُوا النَّاسَ أشيَاءَهُم ولَا تَعثُوا فِي الأرضِ مُفسدِينَ) ولكون تأثير الريح العاصفة الهبوب كان موجعاً لحال حركته الذاتية فقد أضاف إلى هذا التناصِّ النِّصي الديني تناصَّاًآخر استمدَّ في تضمينه الفكري والمعرفي من معنى سورة قصة أهل (الكهف)، الآية(18) وأسقطه على تدفقاته النصية الشعورية مستفيداً في مسار حركة تقليبه الرياحية من قوله: (وَتحسِبُهُم أيقَاظَاً وَهُم رُقُودٌ وَتَقلُّبُهُم ذَاتَ اليَمينِ وَذَاتِ الشِّمَالِ وَكَلبُهُم بَاسِطٌ ذِراعِيهِ بِالوَصِيطِ).

 أمَّا في المقطع الثاني من قصيدته(نُصوصٌ)، فيذهب الشاعر في رسم لوحة تناصِّه الأدبي إلى الإفادة من العنوان الرئيس لرواية اللَّاتيني غابريل غارسيا ماركيز (الحُبُّ في زمن ِالكُوليرَا)؛ لِيُشيِّدَ تأثيثَ قصيدته في المقاربة الشعرية بين ذاته الشاعرية وبين مفتاح ثيمة هذه الرواية السردية من حيثُ ثنائية الشعور بحبِّ (الموت والكآبة) التي يشعر بها في زمن حصل فيه وباء الكوليرا القاتل.

العُصفُورُ قَدْ مَاتَ مُصاباً بالشَّكِ وَالحَيرةِ

وَتَمَاماً كَمَا يُشارُ لِيْ بِالكآبَةِ

 فِكِلَانَا أحبُّ فِي زَمنَ الكُوليرَا

(لَمْ أكُنْ عَاريَاً قَبلَ الهُبُوبِ، ص 100، 101)

 يحيلنا الشاعر ابن زامل في نصوص مجموعته الشعرية (لمْ أكُنْ عَارياً قَبلَ الهُبُوبِ) إلى نظرته الفكرية ورؤاه الفلسفية الشعرية الضاربة بالعمق الإنساني عبرَ متضاداته الصُّورية في مجموعة من الثنائيات الفكرية التي تهمُّ الإنسان مثل، اليأس والأمل والحياة والموت والاحتراق وعدمه مثلما يحيلنا النِّفَّرَي في نظرته الصوفية ومواقفه الفكرية في قوله: (كُلَّمَا اتَّسعتِ الرُّؤيةُ ضَاقتِ العِبارةُ).

 لذلك الأمر الجمعي المُتوحدن وتلك الرؤية الشمولية الخاصَّة لا يمكن أن نسلخ صور ومعاني ودلالات الحزن المستديم منه والقابع تحت جلده الشعري السميك، والذي لا يمكن الخلاص منه أو الفكاك عنه مَهما استبدَّ به الألم وطال أمد العذاب؛ لكن الذي يمكن أن نأخذه من شخصية رعد زامل(أَيوبُ الشعرِ الحديثِ) المازوشية الصَبُورة، هو شعريته الذاتية المِقدَامَة الإيثارية المُبدعة لا سلوكياته الشخصية الحياتية الخاصَّة التي لا تعرف عوامل اليأس طريقاً للفشل، بل تُعبِّدها طريقاً مُتجدَّداً نحو آفاق الأمل وشطآن الحياة المستقبلية الزاهرة بالعطاء الإبداعي الفذ الذي هو مراميه:

كَم ضَاقَ بِي

فِي هَوَاكِ اليَأسُ وَالأَمَلُ

وَصُرتُ بِالمَاءِ

 رُغمَ المَاءِ أشتعلُ

(لَمْ أكُنْ عَاريَاً قَبلَ الهُبُوب، ص 100)

 على الرغم من مِساحة ضيق هذا الحبِّ والشقاء النفسي الذي يشعر به الشاعر ويُعلنه إشهاراً لِمتلقِّيه وهدفاً مَقصدياً واضحاً من خلال هذه الـ(كم) الخبرية، فإنَّ فرضية التساؤل المعرفي التي تُلقي بحجم ظلالها على رؤية الشاعر وشعوره بالألم. كيف يمكن أنْ يَحدُثَ مثل هذا الاشتعال الرُّوحي اللَّاهب والمُضمَّخ بالماء الشبم البارد الذي رسم لوحة صورته التجريبية الشاعر بدمه! فهو رغم الماء يشتعل لا ينطفئ لهيبه الذاتي بالماء. ولا يمكن أن تحدث مثل هذه الألفة الجمعية من الضرب التضادي المزدوج بالمصاحبة في بوتقةٍ شعورية واحدةٍ إلَّا عندَ هُويَّةِ رعد زامل الشاعر المملوء منجمه الشعري بتباريح هوى الحزن السومري الجنوبي الضارب المنبت بتاريخه الأصيل.

 الشاعر الذي صَيَّرَ بِمُعجمهِ الشعري المعاصر وبإيقاع لُغته التعبيريَّة المؤثِّرةِ الحَبكِ حقولَ التنافرِ وأقطابَ التناحرِ الحدثي الفعلي للفواعل الحركي كوناً جديداً. فصارَ الألم عندَهُ أملاً، والرمادُ حياةً، وبدَّدَ وحشةَ اليأسِ والقنوطِ فرحَاً ورحمةً، والحياة تجدُّداً ونهجاً وعملاً دون شعور بأيِّ كَللٍ أو مَلَلٍ. إنَّها شعرية الإبداع المكين التي وهبته هذه الروح الجمالية والفنيَّة التي جعلته أن يكون في تجربته الشعرية الباذخة الشاعرَ والإنسانَ في ظلِّ رهانات هذا العصر وعقابيل أثار هذا الزمان.

***

د. جبَّار ماجد البهادليّ / ناقدٌ وكاتبٌ عراقيّ

رسائل أذار

أمي،،

يا أرجوحة العشق

تحت أقواسِ الأحزان

قلبي قبضة جمرٍ

والشوق ارتهان

يا قدّيسة العطف

للعطفِ اصطفاك الإله

يا رسولة الحنان

وكليمة الدلال

والوجدُ فيضٌ

يثيرُ مواجع الدمع

في الأحداقِ

أمي،،

اللقاء صدٌ

فمتى غده،،؟!

يا تحناناً،،

لا تشوبه الأحقاد

والغياب،،

لحنٌ بلا ناي

يا خمرةً،،

بلا آثام..

يا سلاماً دائمُ الاخضرار

يا عدلاً،،

قامته التسامح

يا قمحَ التضحيات

في حقولِ العطاء

بكا أذارُ

مواجعاً،،

في ذكراكِ

***

حنان يوسف – لبنان

.........................

القراءة النقدية:

تعد القصيدة "رسائل أذار" للشاعرة حنان يوسف من الأعمال الشعرية التي تستحق النظر من خلال المنظور التفكيكي الذي يسعى إلى فك رموز النصوص والكشف عن التناقضات والمعاني غير الواضحة. في هذه القصيدة، تكتب الشاعرة عن تجربة إنسانية عميقة تتعلق بالأم، الحب، والغياب، مما يتيح مجالًا غنيًا للتحليل التفكيكي.

1. اللغة والرمزية:

القصيدة مليئة بالرموز التي تعمل على بناء معانٍ متعددة وتفتح المجال أمام القارئ لاستكشاف تأويلات متعددة. بدايةً من النداء المتكرر لـ "أمي" الذي يعكس العلاقة الإنسانية العميقة، مرورًا بالتوصيفات التي تتبع هذا النداء، مثل "أرجوحة العشق" و"قدّيسة العطف" و"رسولة الحنان"، تتشكل صورة للأم كمصدر للحب، الحماية، والروحانية.

لكن تفكيكيًا، هذه الصورة لا تأتي من فراغ. فالقصيدة تحتوي على تناقضات ضمنية: فبينما تظهر الأم كرمز للحنان، نجد أن الشاعرة أيضًا تشير إلى "الأحزان"، "الغياب"، و"مواجع الدمع". هذا التناقض يعكس الثنائية المتأصلة بين الحب والفقد، الحضور والغياب، ويجعل القارئ يدرك أن العلاقة مع الأم ليست مجرد علاقة من الطمأنينة والراحة، بل هي علاقة مشبعة بالمشاعر المتناقضة التي لا يمكن فهمها إلا عند النظر في الفقد والغياب المستمرين.

2. التفكيك بين الأيقونات الدينية والثقافية:

الشاعرة تستخدم صورة "قدّيسة العطف" و"رسولة الحنان" لتخلق بعدًا دينيًا روحانيًا. هذا التوظيف للمفردات الدينية يشير إلى تقديس الأم في الذاكرة الثقافية، حيث تصبح الأم تجسدًا للتسامح، العطاء، والتضحية. لكن من منظور تفكيكي، يمكننا أن نرى أن هذه الأيقونات ليست ثابتة، بل هي تتضمن في داخلها متناقضات. فحتى لو كانت الأم رمزًا للقداسة والعطاء، فإنها في نفس الوقت تعيش في إطار من الأحزان والغياب، ما يشير إلى أن المثالية التي تضعها الشاعرة قد تكون جزءًا من محاولة لفهم التوتر بين المثالي والواقعي في علاقتها بالأم.

3. توظيف الزمن والمكان:

تذكر الشاعرة في قصيدتها "متى غده؟" و"بكا أذارُ" كإشارة إلى زمنٍ مفقود، وغيابٍ مستمر. الزمن هنا يتسم بالتوقف، والمستقبل غير واضح ("متى غده؟")، وكأن الزمن قد تجمّد في لحظة الحزن والاشتياق. هذا التوقف الزمني يعكس التوتر بين الحضور والغياب، بين الوعد بالمستقبل المأمول والشوق المستمر للحظات الماضي. "بكا أذارُ" يشير إلى صورة من الحزن العميق، وهو مرتبط بشهر أذار (شهر آذار) الذي يمكن أن يكون رمزًا لفترة من الفقد والتأمل في المعاناة والذكريات.

4. التوتر بين العاطفة والواقع:

عند قراءة القصيدة التفكيكية، يمكن ملاحظة أن التوتر بين العاطفة والواقع يتجلى بوضوح في العديد من المفردات المستخدمة. على سبيل المثال، "الشوق ارتهان" و"الغياب لحنٌ بلا ناي" تخلق صورة من الارتباط بالعاطفة السلبية التي تبقى مسجونة في حالة انتظار مستمر. الشاعرة تطرح التوتر بين الشوق المتواصل الذي يشكل عبئًا عاطفيًا غير قادر على الإفراج عنه، وبين الحزن الذي يتجسد في "الغياب" الذي يبدو وكأنه لحنٌ فارغ لا يستطيع أن يكتمل.

5. الرمزية التصويرية والتكرار:

تتكرر العديد من الصور الرمزية في القصيدة، مثل "الحنان"، "العطاء"، و"التسامح"، مما يساهم في بناء شبكة من المعاني المتداخلة. هذه الرمزية تُبرز الأبعاد الإنسانية للأم، ولكن في الوقت نفسه، فإن هذه الرموز تحمل تناقضات ضمنية. فالحنان في القصيدة لا يأتي من دون ألم، والعطاء لا يمكن أن يُفهم إلا من خلال الفقدان المستمر.

6. الاستنتاجات التفكيكية:

عند تفكيك القصيدة، يمكننا أن نرى كيف أن النص يبني معانيه من خلال التناقضات والصور المتعددة التي تتداخل فيها عناصر الحضور والغياب، الحنان والألم، الحياة والموت. الأم في هذه القصيدة لا تجسد فقط الحب والراحة، بل هي أيضًا رمز للألم والغياب الذي لا يمكن تجاوز ملامحه. كما أن الزمن يتجمد في لحظة انتظار لا تنتهي، ما يعكس التوتر بين العاطفة المستمرة والواقع المفقود.

في النهاية، تقدم الشاعرة في "رسائل أذار" نصًا متعدد الأبعاد يتجاوز فكرة العاطفة البسيطة، ليفتح المجال أمام القارئ لاكتشاف معانٍ أعمق عن الحب، الفقد، والذكريات، مما يعكس مفهوم التفكيك الذي يرى أن المعنى ليس ثابتًا بل هو نتاج للتناقضات المستمرة بين الكلمات والصور.

***

بقلم: كريم عبد الله – العراق

لطالما كانت بعض القصص العالمية التي شاهدناها في طفولتنا تحمل تفاصيل ذات رمزية بين طياتها فيها معاني الحب والفقد والبحث عن الحقيقة. ومن بين هذه الرموز، قرط الشخصية الكرتونية ساندي بيل الطفلة التي تفقد والديها عندما تغرق السفينة التي كانت تقلهما، بسبب عاصفة تجتاحها فجأة.
فيبعث القدر لساندي السيد كريستي الذي ينقذها من الموت غرقا بعد انقلاب طوافة النجاة، حيث يعثر على فردة واحدة لقرط كان في أذن والدة ساندي في قبضة الطفلة. ويصبح هذا القرط الذي ورثته عن والدتها، الدليل الوحيد الذي يربطها بأصلها الحقيقي ويعبر عن هويتها الضائعة. ومن خلاله تبدأ ساندي رحلتها في البحث عن جذورها لتكتشف لاحقا أنها ابنة سيدة من طبقة النبلاء.
أما قصتنا الأهم والأعمق فهي قصة قرط ريم "روح الروح"، حفيدة الشيخ الفلسطيني خالد النبهان، التي استشهدت إثر قصف همجي من قبل الجيش الفاشي الصهيوني الذي لا يأخذ إلا ولا ذمة في شيء. حيث يجد الشيخ خالد النبهان في أذن حفيدته بعد استشهادها فردة واحدة من القرط، فيحتفظ بها كذكرى أخيرة تمثل حبا ووجعا لا يندملا.
وهنا فإن قرط ريم قد أضحى الشاهد على جرائم العدو ودمويته بحق الأطفال والأبرياء في غزة. والدليل على الجريمة وصوت يصرخ في وجه العالم ليكشف حقيقة معاناة أطفالها. كما أصبح القرط بمثابة الرسالة الإنسانية التي تحكي براءة ريم ودموع جدها الذي قال وهو يحتضنها شهيدة "هاذي روح الروح".

والقرط في قصة ساندي بيل وقصة ريم النبهان، لم يكن مجرد قطعة للزينة بل إنه حمل مشاعر ووجعا داخليا. فعند ساندي كان القرط رمزا للحب المفقود والحنين للأم التي اختفت ولم ترها. أما قرط ريم فقد أصبح رمزا للفقد في الحياة، حيث احتفظ خالد النبهان به ليبقى ذكرى من حفيدته الشهيدة الحاضرة دائما في قلبه.
وما يجعل قرط ريم هو الأكثر أثرا ان ساندي بيل تحقق حلمها في النهاية بلقاء والدتها بفضل القرط الذي كان دليلها في رحلة بحثها. أما ريم فلم يكن اللقاء على هذه الأرض، بل وعدا بلقاء روحي في الجنة، حيث قال الشيخ خالد النبهان قبل استشهاده في قصف لاحق أثناء الحرب على غزة "سألتقي بروح الروح في الجنة بإذن الله".
وهنا تكمن المفارقة بين القصتين اللتين كان القرط هو رمزا لكليهما. فقصة ريم غدت هي العالمية حينما تقزمت قصة ساندي بيل أمامها، لأن الأخيرة حملت الأمل واللقاء في عالم الخيال. أما الاولى فجسدت الواقع الفلسطيني وألم الفقد الحقيقي، وشتان ما بين الفقد والألم في الخيال وما بين الفقد والألم في الواقع.
***
بديعة النعيمي

 

(مقدِّمة ومقتطفات من أشعار هذا الديوان وسياحات)

قناعتي، من متابعاتي لأشعاره، أنَّ الشاعر الفلسطيني الأستاذ نمر سعدي هو شاعر آخر من شعراء فلسطين ممن يتبوأون الطبقة الأولى بين شعراء فلسطين المعروفين وإني أراه شاعرِ فلسطين الأول في مجاله الشعري الخاص وطبيعة لغته الشعرية وصوره ورموزه ومجازاته وإشاراته رغم أنه كرّس نفسه وشعره لصنف واحد (تقريباً) من أصناف الشِعر ألا وهو الشعر النسائي، رومانس الأنثى (قدّمَ ديوانه بهذه الكلمات: إلى كل مَن أحبني وأحببتُ) كما فعل نزار قباني في دواوينه الشعرية المبكِّرة عدا أنَّ نمر سعدي أكبرَ وأكرمَ وأحبَّ المرأة وعبدها بكل ما أُوتي من نبل العاطفة ودار حولها كصوفي كما تدور زهور عبّاد الشمس إينما دارت هذه .. دار حولها لكنه لم يلامسها ولم يعرّبد كما كان القباني يفعل ويتعنتر ويسف في إذلال المرأة من قبيل (وفصّلتُ من جلدِ النساءِ عباءةً / وبنيتُ أهراماً من الحَلَماتِ) وأسفَّ أكثر في قصيدة (حُبلى) و قصيدة (لا تكذبي) التي غنّنتها فائزة أحمد فأجادت وقد إنتقّت أفضل ما في هذه القصيدة من أبيات. لا، سعدي من نمط رجال آخرين وإنه لعلى خُلُقٍ عظيم.

1ـ إفتتحَ ديوانه هذا بمقدمة من أبيات قصيدةٍ للشاعر العراقي بدر شاكر السيّاب .. فهل لهذا من مغزى أو دلالة؟ يدلُّ هذا على أنَّ الشاعر نمر سعدي كان قد قرأ السياب واستوعبه جيداً وتأثر به أو ببعض شعره فساقه أمام ديوان شعره رايةً ومصباحاً يُنير الطريقة. أبيات السياب [هديرُ البحر يَفْتِلُ من دمائي، من شراييني

حبالَ سفينةٍ بيضاءَ يَنْعُس فوقها القمرُ

ويُرعش ظلَّها السَّحرُ

ومن شُبَّاكيَ المفتوحِ تهمس بي وتأتيني

سماءُ الصيف خلَّف طيفَه في صحوها المطرُ]

بدر شاكر السيَّاب

(شاعر عراقي)

لم أجد ولا أرى أية ضرورة لإقتباس هذه الأبيات من شعر بدر شاكر السياب فلا جامعَ يجمعها وأشعار هذا الديوان (ظلال مُضاعفة بالعناقات) ونمر سعدي ليس السياب لا تأريخاً ولا خِلْقةً ولا تكوينا ولا ظروفاً فما قيمة التعكّز والإتكاء على بعض شعر السياب؟ نمر سعدي الشاعر ليس بحاجة للإتكاء على أحد لا من أجل الشُهرة ولا من أجل الإرتفاع فله من الشُهرة اليوم ما يستحق ثمَّ إنه مُرتفعٌ بنفسه وقامته مديدة. ليت نمراً ذكر اسم القصيدة التي ضمت هذه الأبيات. حاولتُ أمس في ساعات الليل المتأخرة لكنَّ محاولاتي باءت بالفشل.

2ـ وحدة الشعراء:

ما الذي عنى نمر سعدي ب [وحدة الشعراء]؟ لماذا تهمه هذه الوحدة؟ هل هي جزء من مبدأ وحدة الوجود (الكون مادة واحدة لا غير) الفلسفي الذي قال به فلاسفة قدماء وآخرون معاصرون مخالفين به أولائك الذين يدينون بثنائية هذا الوجود (الكون مادة ومثال، روح، كون أعلى غير مادي) وما هو موقف الشاعر نمر سعدي من هذا الخلاف الفلسفي وهل هو مع وحدة الكون ثم وحدة الشعراء أو أنه مع ثنائية الكون وتفرّق الشعراء شيعاً وألوانا؟ هل أراد الأستاذ نمر أنْ يُعيد مقالة ماركس [يا عمّالَ العالم اتحدّوا] لكنْ يطبّقها على الشعراء؟ هل الشعراءُ جميعاً مناضلون؟ طبعاً كلاّ. فيهم الوطني والقومي والمسلم والشيوعي كما فيهم العميل والخائن وفي خضم الحرب العالمية الثانية عُرِفت خيانة الشاعر (عزرا باوند) بتعاونه مع الغازي النازي هتلر ضد وطنه إيطاليا والشعب الإيطالي. ولنا مثال آخر على خيانة بعض الشعراء المعاصرين وهو عبد الرزاق عبد الواحد الذي خان الشعب العراقي بتمجيده حدَّ التقديس حاكماً دموياً متسلطاً منحرفاً أغرق العراق بالدم والسموم والدمار وأشعل حرباً طويلة مع الجارة إيران وغزا البلد العربي الكويت. الخيانة درجات وطبائع لكني عرضت أبشعها وأشدّها قبحاً.

الشعراء ليسوا طبقة واحدة متجانسة موحدّة المصالح كشأن طبقة البروليتاريا (العمّال) .. فيهم المعتوه الموهوب وفيهم المعتدل مستور الحال كما فيهم الميسور النرجسي المتعالي. وعليه لا يستطيع الشاعر نمر سعدي رفع صوته بشعار [يا شعراء العالم اتحدوا] كما قال ماركس في بيانه الشيوعي مع أنجلز علم 1848 [يا عمّال العالم اتحدوا]. ثم يا نمر: في القرآن سورة اسمها الشعراء وفيها {الشعراء يتّبعهم الغاوون ... يقولون ما لا يفعلون} فما يا تُرى نتوقع من هؤلاء الشعراء في هذا العصر الذي ترى أنت وأرى أنا؟

يحضرني [وأعتذر عن هذه الإنزياحات السياحات] ... نموذجان لرجلين أحدهما شاعر أرستقراطي نبذه مجتمعه الطبقي فغادر وطنه من غير رجعة فساح ورأى وكتب الأشعار التي ذاع صيتها وشَهُرتْ أيّما شهرة ثم تزعّم حركة اليونانيين الثوار ضد الهيمنة العثمانية وأمدّهم بالمال والسلاح وسخّر كلَّ ما لديه من إمكانيات ومن أشعار. ثم مات بعلّة غامضة وهو في عزّ وعنفوان الشباب فما الذي دفعه أنْ ينهج هذا النهج الصعب وما كانت علاقته وهو الإنكليزي النبيل بثوّار وأحرار اليونان؟ هل فينا اليوم مَنْ يُماثل هذا الشاعر؟ إنه الشاعر الإنكليزي المعروف جورج غوردن لورد بيرْنْ. قدّم هذا اللورد النموذج الأمثل لندائكَ عزيزي نمر سعدي بالإنحياز إلى معسكر الحرية والإنعتاق من ربقة الظّلَمة والمستبدين أي أنه كان أُمميّاً وكان رمزاً حيّاً لشعار [يا شعراء العالم الأحرار اتحدوا] فلنأخذ منه مثلاً فالشعر يعني الحرية والإنسان غير الحر المنحاز للمستبدين والطُغاة وسفاكّي دماء شعوبهم لا يمكن أنْ يكونَ شاعراً.

المثال الآخر، وما كان شاعراً، لكنه كان مناضلاً أُممياً حقيقياً طبّق شعار [يا أحرارَالعالم أتحدوا] .. ترك منصبه وزيراً للإقتصاد في كوبا وقاد مجموعة من أتباعه وقاتل الإمبريالية الأمريكية في بوليفيا حتى تمكنَّ الأعداءُ منه فأسروه ثم قتلوه. إنه جيفارا. فعلام يتحد الشعراءُ عامّةً وشعراء العرب خاصةً في عالم نَتنٍ موبوء مقلوب القيم والمفاهيم الغلبة فيه للقوة والقوي لا للمبادئ والنقاء والمثاليات. مع ذلك {يا شعراء العالم اتحدوا} تحت راية شاعرنا نمر سعدي.

ليس لديَّ نسخة ورقية لديوان ظلال مُضاعفة بالعناقات فاستنسختُ بضعة صفحات وعانيتُ بعض الشئ من خلو الديوان من ترقيم الصفحات. لا أستطيعُ استنساخ جميع صفحات الديوان وليت السيد نمر وافاني بنسخة ورقية منه لكفاني الكثير من المشقات.

3ـ قلتُ:

لنمر سعدي عالمه الشعري المتميّز والخاص إنساناً ومثقفاً وعاشقاً للمرأة والشعر معاً. كما له قاموسه اللغوي الخاص الذي يمتازُ به ويميّزه عن باقي الشعراء. وله قدرة عجيبة على الإنتقال من لفظة إلى أُخرى ثم الرجوع إلى الأولى بمهارة يعززها بمقدرته الفائقة السرعة على التقديم والتأخير كأنَّ فوتونات الضوء في خدمته لإستخدام هذا الأسلوب وهذه الآلية. لتوضيح ما أُريد قوله أضربُ مثلاً مما استعار الشاعر من أبيات السياب [ومن شبّاكيَ المفتوحِ تهمسُ بي وتأتيني ... سماءُ الصيفِ خلّفَ طيفُهُ في صحوها المطرُ]. هنا تداخل وتشابك وتقديم وتأخيرلا تحتاج إلى توضيح يراها القارئ ويلمس تأثيرها الشعري الناجح وقد أكثر السياب في شعره من هذا الأسلوب فغدا علامة فارقة ينمازُ بها هذا الشاعر العراقي. تأثّر نمر سعدي بهذه الآلية الشعرية الفنية فطبعت أغلب شعره وحقق بها نجاحات منقطعة النظير وهو الدارس الجيد للتراث تأثر به قليلاً لكنه طوّر وأضاف وتفوّق.

4ـ أمثلة من شعر نمر سعدي مأخوذة من هذا الديوان:

من أينَ تبدأُ وحدةُ الشعراءِ؟

من أيِّ الجهاتِ تهبُّ؟

من أيِّ البحارِ تجئُ؟

من أيِّ السماواتِ البعيدةِ فجأةً تأتي؟

وكالبَجَعِ الخُرافيِّ المُهاجرِ تختفي في النصِّ

أو حَبَقِ الشتاءِ

من أين تبدأُ وحدةُ الشعراءِ؟

من أيِّ انتهاءٍ للكلامِ عن الحرائقِ في مجازاتِ الأنوثةِ

والحدائقِ ملءَ أجسادِ النساءِ؟

لا شئَ أعرفهُ.. وُلِدتُ كنجمةٍ تهوي من الرؤيا

ومن سِفرِ المزاميرِ الجديدِ

وعشتُ أرعى العُشبَ في قاع البحيراتِ

التي انقرَضَتْ وفي بَرِّ اشتهائي

لا شئَ أكتبُهُ.. ولكني أحاولُ أنْ أفسِّرَ بالندى ماءَ المرايا

والصدى بالليلِ في وقتِ الظهيرةِ

والقوافي بالينابيعِ الحَرونِ

يُضيئُني شيئان: كُحلُ حبيبتي ولظى دمائي.

أتناول الأبيات الستة الأولى وأتفحّصها مليّاً لأكشف ما فيها من فنون الشاعر نمر سعدي الخاصة التي يتميّز بها عن سواه من الشعراء وعن المشترك بينه وبين غيره من الشعراء.

من حيث الشكل، الهيكل، هندسة البناء: كرّر الشاعر هنا حرف التاء مرّاتٍ عِدّة مرةً في وسط البيت أو في آخره أو حتى كرره مترادفاً في لفظة واحدة. حرف التاء يوحي بالتأتأة التي توحي بالتريث وإطالة البال وتجنب العجلة فلقد وضع أسئلة كثيرة تنتظر أجوبةً مناسبةً لها الأمر الذي يستلزم التأني والتفكير جيداً في اختيار الأجوبة المطلوبة. لقد سأل ست مرّاتٍ أسئلة تخص الشعراء وهو واحدٌ منهم .. سأل من أين مرتين وسألَ من أي أربع مرّات في ثمانية أبيات متتالية فقط. التأني مطلوب قبل الإجابة فللشعراء شأن خاص وهيبة مناسبة تقرب من القدسية .. والشعر سِفرٌ مُقدّس كأي كتاب سماوي مُنزَل لذا قد أُتهِمَ بقوله بعض الأنبياء وأُفرِدت في القرآن سورة كاملة حملت اسم {الشعراء} .. فحذارِ حذارِ يا قرّاء الشعر ويا نقّاده... تأتوا وتلعثموا وتريثوا قبل النطق بحقه وحق الشعراء. ورود هذه التاءات الست في ثمانية أبيات ذو مستويين فنيين جماليين الأول إيقاعي الطبيعة والتأثير ويُذّكر القارئ بما في الشعر العمودي من قوافٍ مترادفة مُكررة لا تتغير في نسيج القصيدة. الإيقاع إذاً موجود لكنه إيقاعٌ متحرك وليس ساكناً فالشعر حركة وتطور لا سكونَ فيه ولا خمود. قوافٍ متحركة تُعطي الإنطباع المقروء والمسموع للقارئ ذاك الذي يبتغيه الشاعر فوراء الإيقاعات ما وراءها من مقاصد وأهداف يضمرها الشاعر ويبين عنها من خلال الكلمات التي تتخلل هذه الإيقاعات. والمستوى الثاني محصور بوظيفة الإيقاع كحامل رسالة أكثر من مزدوجة فيها المكشوف ومنها المخفي وهناك الفوق السطور والتحت السطور والمابين السطور. الإيقاع يُيسّر الإنزلاقات كزيت المكائن ويُلطّف الأجواء الساخنة والمتشنجة كماء تبريد مكائن السيارات وغيرها. ألقي نظرة أخرى على أبيات هذا المقطع متفحصاً المضمون بعد أنْ فرغنا من موضوع الهيكل والشكل أو كدنا. أظن أني بحاجة لأنْ أقول إنَّ هذه الأبيات التي تعجبني كثيراً قد لا تعجب غيري وذلكم أمر طبيعي فالإختلاف رحمة والإختلاف سُنّة في الحياة. ما أسباب إلحاح نمر سعدي بالسؤال بأين وأي عن الشعراء وهم في حركة دائمة وفي كل وادٍ يهيمون {وينهزون مع الغواة بدلائهم ويُسيمون سرح اللهو حيثُ أساموا}؟ في الحقيقة أنَّ النمر لا يسأل عن زملائه الشعراء إنما سؤاله منصبٌّ على وحدة الشعراء (من أين تبدأُ وحدةُ الشعراءِ)؟ يسأل الجهات الأربع عنها ويسأل البحار والسماواتِ البعيدة لكنه يُفاجأ بأنها كأنها أتت لكنها تختفي في النص ! أي نص؟ أو تختفي في (حَبَقِ الشتاءِ). لنفترضَ أنَّ هذا النصُّ هو نص القصيدة ولكن ما علاقة (حبق الشتاء) بهذا الإختفاء والحبق حسب علمي شجرٌ أو ثمرٌ أو نباتٌ لا نعرفه في العراق. قال نقّاد ومنظّرون إنَّ الشعرَ ضدَّ المنطق وإنه تشويش وخلط للمعاني المعروفة للكلمات فهل هذا هو نهج وديدن نمر سعدي في كتابة الشعر؟ لا ريبَ أنْ نعم. يستطيعُ حتى الشانئ أنْ يعترف أنَّ نمر سعدي يؤمن أنَّ النص الشعري الحقيقي هو ما يوحد الشعراء.. الشعر الشعر وليست الألفاظ المصففة بعناية والمدوزنة بإيقاعات تحاكي أصوات الصنوج ودقّات الطبول. وهذه الوحدة التي تجمع الشعراء نادرة نُدرة الحَبَح في موسم الشتاء فإنه على ما يبدو من نباتات فصل الصيف فصل الشمس والحرارة. ثم يقفز الشاعر بقفزة عريضة طويلة وعالية منتقلاً من عالم مسطّح واضح خالٍ من النتوءات والمطبات والحُفر إلى آخرَ يغصُّ بها حدَّ الإختناق. بعد أنْ تساءل النمرُبحرقةٍ وبلهفةٍ عن وحدة الشعراء ثم وجدها مختبئةً غيّرَ الأجواء السابقة واستبدلها بأخرى أكثر تعقيداً وأشد تشعباً وأكثر خرقاً للمنطق المتداول المعروف إذْ غاص في أعماق طقس لُجّيٍ شديد الغموض كثير العتمة لكنْ تحت شمسٍ ساطعةٍ مُنيرة فكيف اجتمع النقيضان؟ غاص نمر في الأعماق أعماق نفسه والدنيا فقال في الأبيات الثامن والتاسع والعاشر والحادي حتى نهاية هذا المقطع أموراً مُذهِلةً تخطفُ الأبصار وتثير الأخيلة تبدو متنافرة غير منسجمة لا رابطَ يربط بينها لكنْ يظلُ الشاعر نمر سعدي يقظاً صاحياً ماسكاً بزمام الأمور يوجه الدفّة إلى حيثُ يُريدُ ومتى ما يريد ورياحه تجري حسبَ رغبته وتصميمه ومُشتهاه:

(من أينَ تبدأُ وحدةُ الشعراءِ؟

من أيِّ انتهاءٍ للكلامِ عن الحرائقِ في مجازاتِ الأُنوثةِ والحدائقِ مِلءَ أجسادِ النساءِ)...

لا نسأل عن المنطق الشكلي القديم ولا نسأل عن التدرج والرابط والمربوط والسبب والنتيجة. كل شئ هنا ضد المنطق وكل شئ هو هدم وبناء في ذات اللحظة لا انقطاع ولا سكون ... الزمان متصل لا يقف منذ الأزل إلى الأبد والشعر دالة زمنية قبل أنْ يكونَ دالة مكانية. يسألُ الشاعر عن مكان وحدة الشعراء (من أين) لكنه بدلَ أنْ يُجيب يتوه هائماً في وديان عميقة سحيقة لا ماءٌ فيها ولا زمزمٌ ولا زرعٌ فيها ولا بشرٌ فتختلط عنده الأنوثة بالحرائق (الأنوثة ... الأنثى .. هيكل الشاعر المقدّس). ما علاقةُ أجسادُ النساء بمسألة اتحاد الشعراء ومن أين تبدأ؟ الشعر الحق في نمر سعدي يُجيب: إبداع نمر الخلاّق .. الشعر الشعر في المقصود في قوله (... من أيِّ انتهاءٍ للكلامِ عن الحرائقِ في مجازاتِ الأُنوثة والحدائقِ ملءَ أجسادِ النساءِ). أيجتمع الشعراءُ بعد أنْ تنتهي جولات القال والقيل وسيول الكلام الفارغ والجدالات العقيمة متفرغين للشأن النسائي الأرقى والذوبان في صميم المرأة خالقة الناس حدَّ الإحتراق تطهيراً وإخلاصاً ووفاءً. نلاحظ السجع الجميل في (حرائق وحدائق) والفرق في حرف واحد هو فرق حرف الراء عن الدال. المرأةُ هي دواء وإكسير التشتت وهي مربط الفرس والعروة الوثقى وإنها هي الأم الوالدة الخالقة وهيَ المخلوق الذي يُحب نمر سعدي ويعشقُ ويعبدُ.

ثم ينتقل نمر سعدي إلى أجواء شعرية إيحائية أخرى لا علاقة لها بالشعراء ووحدة الشعراء فنجده مُنكفئاً على نفسه يكلّمُ هذه النفس وينفي أنه يعرف شيئاً لكنهُ على يقين من أنه:

(وُلِدتُ كنجمةٍ تهوي من الرؤيا

(ومن سِفْرِ المزاميرِ الجديدِ

(وعشتُ أرعى العُشبَ في قاعِ البحيراتِ

(التي انقرضتْ وفي برِّ اشتهائي

(لا شئَ أكتبُهُ .. ولكني أُحاولُ أنْ أُفسِّرَ بالندى ماءَ المرايا

(والصدى بالليلِ في وقتِ الظهيرةِ

(والقوافي بالينابيعِ الحرونِ

(يُضيئُني شيئانِ: كُحلُ حبيبتي ولظى دمائي).

أنصح القارئ الكريم ونفسي ألاّ نحاول ترجمة وتفسير معاني كلمات نمر وألا نضعها في قوالب الحديد المتعارف عليها في محاولات فهم الشعر.. إنما أنصح الجميع أنْ يتمتعوا بسحر وجمال وغرابة صور ومجازات الشاعر نمر سعدي مأخوذين مُعجبين مأسورين بقوة كبول حديد غامضة غير مرئية وما يترك هذا الضرب من الشعر من إنطباعات قوية غريبة فينا تُبهرنا ولا نعرف كيف نفسرِّها بل ولا نريد لها تفسيراً. نعم، يتنقل الشاعر من جو إلى آخر ومن طبع إلى نقيضه ومن لون إلى ألوان شتّى لكنه يظلُّ ذاك العازف على الناي السحري الذي يقود بسحر نغمات نايه قارئيه إلى حيث يُريد حتى ولو إلى بحر كما قرأنا في القصص .. وللموسيقار موتسارت معزوفة (الناي السحري) الشهيرة أوبرا أو سمفونية !.

أعجبتني بشكلٍ خاص تعبيرات نمر سعدي [ولكني أُحاولُ أنْ أُفسِّرُ بالندى ماءَ المرايا] الندى هو كذلك ماء فكيف يفسرُّ الشاعرُ الماءَ بالماءِ؟ كنا أطفال مدارس صغاراً وكنا نسمع أحد المعلمين يقول [وفسّرَ الماءَ بعد الجهدِ بالماءِ] .. ولكن للندى معنى آخر هو الكرم والسخاء والجود وقال المتنبي [ووضعُ الندى في موضعِ السيفِ في العُلى / مُضرٌّ كوضعِ السيفِ في موضعِ الندى]. والتعبير الثاني [يُضيئني شيئانِ: كُحلُ حبيبتي ولظى دمائي].. فلنستمتع ولا نسأل ولا نُتعب أنفسنا بالأسئلة ونكتفي بما يتركُ الشعرُ فينا من إنطباعات وتأثيرات أغلبها غامض الطبيعة وليكنْ شعارُنا (وطبْ نفساً إذا حضرَ الشعرُ والشعراءُ) فسلامٌ على الشعراءِ وسلامٌ على نمر فلسطين السعدي الإنسان المتواضع الخجول والمتواري أَنفةً وسموّاً لا يطلبُ شُهرةً ولا يسألُ مديحاً ولا يسعى إلى مالٍ.

نموذج آخر لما جاء في ديوان (ظِلالٌ مُضاعَفَةٌ بالعناقات) من أشعار يحار المرءُ كيف يفسرّها لكي يفهمها وموقفي واضح وقديم هو أني لا أسعى لفهم الشعر الحديث والأكثر حداثة إنما أكتفي بما يترك فيَّ هذا الشعر من إنطباعات وتصورات ودفع للتفكير والتأويل وتلك رسالة يؤديها هذا النمط من الشعرتستحق الشكر والإمتنان ورفع القبّعات. ليس المطلوب من الشاعر أنْ يُفسّرَ شعره أو أنْ يجعل هذا الشعرَ مُسطّحاً مستقيماً واضح المعاني إنه حرٌّ فيما يقول والقارئ كذلك حرٌّ في التفسير وتيسير آليات فهم هذا الشعر وهذا إنجاز راقٍ غير مسبوق من شأنه توفير الحرية الكاملة وبالتساوي بين الشاعر والقارئ.

(شاعرٌ مُضاعٌ وضلّيلٌ يُحدِّقُ بي

(من نجمٍ في ثُقْبٍ أسودٍ أو زاويةٍ مُعتِمَةٍ في المرآةِ المشروخةِ

(ينامُ على جيتارةٍ غجريّةٍ أو على جِذعٍ أندلسيٍّ

(لا قصائدَ في قلبهِ.. ولا عِطرٌ ليمونيٌّ في قميصِ امرأتهِ الشاردةْ

(أولُّ الحُبِّ كآخرِ الحُبِّ يا صاحبي.. أيها الذئبُ..

(حِدْسٌ غامضٌ وسهمٌ يرتدُّ سريعاً إلى كعبيَّ

(المغمورِ حتى التنهيدةِ بالعُشْبِ

(دعني أستظّلُ بهواجسكَ الصاخبةِ كرغَباتِ الراقصاتِ

(فهيَ تُمطرُ منذُ الصباحِ فوقيَ أينما كنتُ ..

(بغزارةٍ كما تمطرُ الآنَ في الخارجِ

(أُهاجرُ في الزمهريرِ الليليَّ كعصفورٍ وحيدٍ

(ربما هو معنى اللاطمأنينةُ التي كتبَ عنها فرناندو بيسوا

(أنْ تمطرَ فوقكَ حتى لو كنتَ في السريرِ

(لا مفرَّ من الشتاءاتِ المقلوبةِ كفناجينِ البُنِّ

(ومن العَبَثِ أنْ تستظلَّ بالكواكبِ المارقةِ.

تكلّمَ نمر سعدي في المقطع السابق عن الشعراء .. تساءل متى وأين تبدأ وحدة الشعراءُ لكنه عاد في المقطع الثاني هذا ليُقررَ أنَّ [شاعرٌ مُضاعُ وضلّيلٌ يُحدِّقُ به] .. إذاً تمت وحدة الشعراء التي تساءل عنها في المقطع الأول وألحَّ في سؤاله متى وأين تتمُّ ولكن من هو الشاعرُ الذي التقاهُ مُحدّقاً به؟ إنه امرءُ القيس الشاعر والملك الضليل صاحب المعلّقة الشهيرة [كفا نبكِ من ذكرى حبيبٍ ومنزلِ ...] .. الملك الذي أضاع ملكه وحياته في محاولته ضمان دعم ملك الروم له في سعيه لإسترجاع ملكه والثأر لأبيه من قتلته. قتله ملك الروم ، حسب الرواية، برداء مسموم وكان قد تنبّاَ بمقتله وهو في الطريق للروم إذْ قال لصاحبه [بكى صاحبي لمّا رأى الدربَ دونهُ / وأيقنَ أنّا لاحقانِ بقيصرا ... فقلتُ له لا تبكي عينكَ إنما / نحاولُ مُلْكاً أو نموتُ فنُعذرا] وقد مات بالفعل كما توقع هذا الملكُ الضليل الذي اعترضَ سبيل نمر سعدي وحدّق به مستفسراً .. متعجّباً ... مُستنكراً .. مرحّباً .. متسائلاً عن أمرِ ما؟ ألديك يا نمر أبٌ قتيل ومُلك اُستلب منك مثل امرئ القيس وهاملت أمير الدنمارك؟ لماذا ورّطتَ نفسك ومشيت في طرقات الشعر الخَطِرة العصيّة على المطاوعة والقاتلة لأجساد البشر؟ لا .. لم يلتقيا أبداً إنما أطلَّ الضليلُ مُحدِّقاً من الأعالي .. من نجمٍ في ثقبٍ أسود ... القوب السود القادرة على ابتلاع كواكب ونجوم وأجرام جسام. أطلَّ عليه من خلال سنوات ضوئية سحيقة البعد ومن مكان مُرعب مُخيف ليقولَ له (ربّما) طريقك يا شاعر مرعب خطرٌ وأسود الآفاق فعد لبيتك واشرب قهوتك وتدثّر ونام.

(ينامُ على جيتارةٍ غجريةٍ أو على جذعٍ أندلسيٍّ لا قصائدَ في قلبهِ ولا عطرٌ ليمونيٌّ في قميص امرأته الشاردة).. من هو الذي ينامٌ على جيتارةٍ غجرية أو على جذعٍ أندلسيٍّ؟ سواء أراد نمرٌ ذلك أو لم يرد فإني أراه قد قصد قتيل فرنكو في الحرب الأهلية الإسبانية {1936 ــ 1939} الشاعر صديق أغلب الشعراء وحبيب الغجر فيديريكو غارسيا لوركا .. هو الآخر مثل امرئ القيس، شاعر قتيل مع الفارق الكبير هو أنًّ لوركا ما كان ملكاً ولا أميراً بل كان إنساناً دمقراطياً مع عموم الشعب وربما كان ميّالاً للإشتراكيين. ها قد اجتمعَ الشعراء فمن حقنا أنْ نسأل نمر سعدي عن مكان هذا اللقاء ونسأل [هل غادرَ الشعراءُ من مُتَردمِ]؟

لم يحالف الحظُ الشاعر نمر سعدي إذْ وظّف تشيكلة (اللاطمأنينة) في أحد أبيات هذا المقطع .. لا شعريةَ فيها ولا من قوة إيحائية ثم هي ثقيلة على السمع والذائقة .. لكنْي أُخذِتُ بتعبير نمر [لا مفرَّ من الشتاءاتِ المقلوبة كفناجينِ البُنِ] هنا الإيحاءات القوية وهنا الشعر الحقيقي المطلوب من الشعراء. إلى كم توحي لي هذه [المقلوبة كفناجين البُن]؟ هل تحتاجُ يا نمرُ {قارئةَ فنجان} نزار قبّاني وحليم حافظ؟

عزيزي أستاذ نمر سعدي: أعتذرُ منك أني لا أستطيع المتابعات الأكثر جدية فأحوالي الراهنة لا تسمح ثم أني لا أستطيع مواصلة القراءة على شاشة الكومبيوتر فسسامحْ [والمسامح كريم / جورج قرداحي].

***

د. عدنان الظاهر

 آذار 2025

بقلم: باربرا تايلور
ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم
***

تستكشف باحثتنا الرئيسية باربرا تايلور ألغاز وأفراح الرفقة المثيرة بين امرأة وحيدة ودب، في هذه القراءة لرواية " الدب " لماريان إنجل.
في عام 1976، منحت كندا جائزتها الأدبية الأولى لرواية عن علاقة جنسية بين امرأة ودب [i]. بالنسبة لدولة توصف عادة بأنها دولة محافظة، تُظهر كندا ميلًا مدهشًا لمثل هذه الومضات من الغرابة السامية (انظر مؤلف الفيلم ديفيد كروننبرج).
اقتحمت رواية دب/ Bear للكاتبة ماريان إنجل قوائم الكتب الأكثر مبيعًا في كندا والولايات المتحدة الأمريكية. ثم نُشرت طبعة المملكة المتحدة بواسطة Pandora Press في عام 1988 لكنها لم تحظ باهتمام كبير. ربما كان موضوع الكتاب "الكندي المميز" (كما قال أحد المراجعين بدقة) بمثابة منعطف؛ أقوم بانتظام بطباعة نسخ من الكتاب لأصدقائي البريطانيين، ولم يعترف أي أحد منهم بقراءته.
لو/ Lou، بطلة الرواية البشرية لرواية الدب، أمينة مكتبة ومؤرشفة تعمل في معهد تاريخي في مدينة كندية كبيرة. إنها "خلد"، وحيدة ومترهلة في الثلاثينيات من عمرها، تقضي أيامها تختبئ وسط الملفات المتربة في قبو المعهد. مرة واحدة في الأسبوع، تجلس هي ومدير المعهد على مكتبها بلا مبالاة. أُرسلت في أحد فصول الصيف لفهرسة مكتبة ورثّها للمعهد سليل عائلة استعمارية.
يقع منزل العائلة الذي يضم المكتبة في جزيرة نائية في الأدغال الشمالية. ستكون "لو" هناك بمفردها، مع دعم فقط من "هومر"، وهو صاحب متجر على البر الرئيسي ينقل الإمدادات بالقوارب بين الحين والآخر. إن احتمال وجودها في البرية يسكرها - ثم تكتشف الدب.
الدب حيوان أليف لصاحب العقار المتوفى. ستقوم لو بإطعامه أثناء إقامتها حتى يتم اتخاذ قرار بشأن مستقبله. يعيش في نهاية سلسلة خلف المنزل، وفي البداية كانت لو مستاءة من وجوده الكبير ورائحته النفاذة. لكنه وحش لطيف - طالما أنها تتبرز بجانبه كل يوم حتى يستطيع شم رائحتها - لن يؤذيها. أصبحا صديقين، يسبحان معًا ويقضيان الوقت في المكتب حيث تقوم لو بجرد الكتب وفهرستها . كانت تستمتع بالصحبة الجسدية، وفرك فروه ودغدغته، لقد كان يجلب لها السعادة. ثم في إحدى الأمسيات، وهي ممددة أمام المدفأة، بدأت في ممارسة العادة السرية. عندئذ قرر الدب المشاركة وبدأ بلعقها.1243 Barbara Taylorاللسان الذي كان عضليًا ولكنه قادر أيضًا على إطالة نفسه مثل ثعبان البحر وجد كل أماكنها السرية. ومثل أي إنسان لم تكن تعرف أنها ثابرت على سعادتها. عندما انتشت، بكت، ولعق الدب دموعها.
تصبح العلاقة شاعرية، حيث تكون المرأة في غاية النشوة وهي تطالب بشغف ("كُلني يا دب!") والدب يستجيب لها برغبة شديدة (خاصة عندما تدهن نفسها بالعسل). لكن هناك رغبة داخلية في لو لأكثر من ذلك. الدب لا يشتهيها، هو فقط يعتني بها. "انزع قلبي بمخالبك، يا دب" وتهمس مغرية إياه. "مزق رأسي."
تحلم بالشيطان وأرواح عدوانية تريد "التهام ثدييها". في إحدى المرات تحاول أن تمتطي الدب، لتغريه بأن يخترقها، وبعدها تشعر بالذنب والبؤس. "لقد تمادت كثيرًا. كان هناك شيء عدواني بداخلها دائمًا ما يدفعها للتمادي."
ثم في إحدى الأمسيات، بينما كانا متعانقين، بدأ الدب يثار. شعرت لو بإثارة عميقة، فركعت أمامه على أربع- ومد الدب مخلبه ومزق ظهرها. كانت لحظة العنف صادمة بشكل غير عادي. لكن العنف لم يكن داخل الدب - الذي لم يشعر بالغضب أو الحقد، بل كان يفعل فقط ما تفعله الدببة المثارة أحيانًا - بل كان في داخل لو، التي كانت تتوق إلى هذا الانفجار الجسدي للطاقة المدمرة.
تمزقت بشدة؛ وفي اليوم التالي، وهي تنظر إلى نفسها في المرآة، تعرف أنها ستظل تحمل دائمًا ندبة مخلب حبيبها. ولكن مع هذا الجرح، تتطهر من البؤس الاكتئابي الذي طاردها. تشعر بالنقاء والسلام، ومستعدة لأي شيء. تعود إلى المدينة، بينما يذهب الدب ليعيش مع امرأة محلية من السكان الأصليين. تلوّح له لو وداعًا أثناء افتراقهما، لكنه لا ينظر إليها: "لم تتوقع منه أن يفعل ذلك."
لقد قُرئت الدب بعدة طرق: كبيان للتمكين الجنسي للإناث؛ باعتبارها محاكاة ساخرة لأدب البرية الكندية؛ كما الرعوية الإباحية. من المحتمل أن يكون كل هذا، لكن أحد مفاتيح الرواية يأتي في وقت مبكر عندما تقارن لو وضعها بموقف روبنسون كروزو. يقول هومر، صاحب المتجر، للو: "يصبح الناس غريبين هنا عندما يعيشون بمفردهم لفترة طويلة جدًا"، وتعد مخاطر العزلة ومتعها موضوعًا مركزيا فى الرواية .
لدى لو شغف بالعزلة. في المدينة، تركتها هذه الرغبة وحيدة؛ ولكن الآن، هى عالقة في الجزيرة مع عشيقها الدبوي (نسبة إلى الدب)، لقد وجدت السيناريو الانفرادي المثالي. تفكر "ليس الجميع يصلح للصمت"، لكن دبها يفعل ذلك بالتأكيد، مما يوفر لها الصحبة والمتعة بينما يترك هدوءها دون انقطاع. يلعقها الدب ويفحصها لكنه لا يتطفل عليها. يمكنها أن "ترسم عليه أي وجه تحبه"، كما تفكر، لأن تعبيراته الفعلية لا تعني شيئًا بالنسبة لها، كما أن تعبيراتها لا تعني شيئًا بالنسبة له. معه، لديها تلك الوحدة المصاحبة التي قدمتها الحيوانات، وخاصة الكلاب، لفترة طويلة للبشر المنعزلين.
الأنثى المنعزلة هي شخصية مثيرة للجدل. ما الذي تفعله المرأة عندما تكون بمفردها؟ وصفها أحد المراجعين العدائيين القلائل لرواية بير بأنها "تعفن روحي... اتفاق فاوستي مع الشيطان." ربما لم يكن هذا الرجل متوافقًا مع رأي الأغلبية، لكن العلاقة بين الإثارة الجنسية الأنثوية والوحدة والشيطان قديمة.
على مدار التاريخ الغربي، اعتُبرت العزلة خطرًا أخلاقيًا على كلا الجنسين، لكن المخاطر كانت دائمًا أكبر بكثير بالنسبة للنساء مقارنة بالرجال. كان الشيطان - الذي كان يمثل خطرًا منتشرًا في كل مكان بالنسبة للمنعزلين حتى فترة طويلة من القرن الثامن عشر - يبحث بشكل خاص عن النساء الوحيدات اللاتي توفر طبيعتهن الأضعف الفرص. لقد كان الابتعاد عن المراقبة الذكورية يشكل أكبر خطر على المرأة، كتب الشاعر بيترارك في القرن الرابع عشر، مشيرًا إلى إغراء إيف الشيطاني."كلما ابتعدت المرأة عن زوجها، كلما اقتربت أكثر من هلاكها"
لم تظهر حواء في أي مكان في سفر التكوين بمفردها عندما قطفت الثمرة المحرمة، ومع ذلك فإن معظم المعلقين على السقوط يظهرونها وهي تبتعد عن آدم. في الفردوس المفقود، يصور جون ميلتون حواء وهي تقنع آدم بالبقاء في حديقة منفصلة لبعض الوقت، مما يؤدي إلى نتائج كارثية لا مفر منها. أصبحت الصور المثيرة لفساد حواء الأفعواني منتشرة بشكل كبير.
ليس دب لو عاشقًا شريرًا، لكن خيال لو يصوّره عشيقًا مثاليًا، خبيرًا في شهوة الاستمناء. هذا له تاريخ طويل أيضًا. الوحدة تثير خيالات الاستمناء، وفي القرن الثامن عشر، كانت هذه الخيالات مصدرًا للقلق الأخلاقي والصور الإباحية الواسعة الانتشار.
كانت المرأة القارئة المنعزلة هدفًا خاصًا للاستنكار الأخلاقي والإثارة الجنسية. المشهد الذي يصور امرأة وحيدة في غرفتها وإحدى يديها تمسك رواية رومانسية بينما تداعب أعضاء جسدها التناسلية باليد الأخرى كان من المفضلات لفناني الإباحية. غالبًا ما ظهرت الكلاب الصغيرة، وأحيانًا تؤدي اللحس أثناء قراءة المرأة.
رواية "الدب" هي تعليق كوميدي غني على هذا التقليد الإباحي، بالإضافة إلى أنها مساهمة فيه. ولكن لها رابط آخر مع تقليد الوحدة أيضًا. فمغامرة لو الجنسية تمثل أيضًا "تواصلاً عاليًا وصفيرًا مع الروحاني". خلال عملها في المكتبة القديمة، تكتشف أن مالكها كان جامعًا لأساطير الدببة. تتساقط الملاحظات من الكتب تخبرها عن الدب كـ "كلب الله"، و"روح عظيمة" "أقدم وأحكم من الزمن".
كانت رواية الدب في الأصل تحمل عنوان (كلب الله ). كان الزواج بين النساء والدببة أسطورة متكررة (نسخة هايدا من هذه هي التي أعطت إنجل خاتمة روايتها). تملأ التقاليد المقدسة لو بالبهجة الموقرة. تتعمق عاطفتها تجاه الدب وتتحول إلى شغف. لقد "اعتقدت أحيانًا أنه هو الله". إنها تتوق إلى منح نفسها له بالكامل، لتقترن بـ "آكلة العسل المحبوبة" التي، على عكس أي من محبيها من البشر، أشبعتها جسدًا وروحًا.
يُعد التدين المثير للإثارة وتقديس الطبيعة من الظواهر المرتبطة التي ظهرت بين المنعزلين لعدة قرون. لكن دب لو ليس إلهًا. في إحدى الليالي زارها الشيطان وسخر من حبها لـ "حيوانها الأليف العجوز". "كوني فتاة جيدة الآن، واذهبي بعيدًا. لن تسقط النجوم في يديك."
تتجاهل لو التحذير. ولكن عندما يقبل الدب بعد بضعة أيام دعوتها ليمتطيها ويجرح ظهرها، تستيقظ على طبيعته الحيوانية. إذا شم الدب رائحة دمها، فسوف يهاجمها؛ فتطارده بعيدًا. كان اللقاء بينهما في اليوم التالي وديًا، لكن التواصل المقدس قد تلاشى. لم الدب يعد سوى دب عجوز. ومع ذلك، فقد انتقل شيء حيوي منه إليها. لقد شعرت "بنفس الوحوش اللطيفة" عليها. الجنس البري الحلو في وحدتها قد ألقى سحره عليها. حزمت أمتعتها وقادت سيارتها عائدة إلى المدينة في الليل، وهي تشعر بالقوة والنقاء، مع الدب الأكبر يسطع فوقها.
[i] الفقرات الأولى من هذه المدونة مقتبسة من مساهمتي في مقال بعنوان "نصوص جزيرة الصحراء" الذي ظهر في كتاب "المرأة: مراجعة ثقافية" (2010).
***
......................
الكاتبة: باربرا تايلور/ Barbara Taylor هي أستاذة العلوم الإنسانية في جامعة كوين ماري في لندن والباحثة الرئيسية في مشروع "أمراض العزلة".(من مواليد 1950) هي مؤرخة كندية المولد مقيمة في المملكة المتحدة، متخصصة في عصر التنوير ودراسات النوع الاجتماعي وتاريخ الذاتية. وهي أستاذة العلوم الإنسانية في جامعة كوين ماري، جامعة لندن. ولدت ونشأت في غرب كندا. وفي عام 1971، حصلت على شهادتها الأولى في الفكر السياسي من جامعة ساسكاتشوان. انتقلت بعد ذلك إلى لندن حيث حصلت على درجة الماجستير في نفس الموضوع من كلية لندن للاقتصاد، ثم حصلت على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة ساسكس. قامت بتدريس التاريخ في جامعة شرق لندن من عام 1993 حتى عام 2012 ثم انتقلت إلى كوين ماري، جامعة لندن، كأستاذة مشاركة في مدارس اللغة الإنجليزية والدراما والتاريخ.
* تشارلز ماريوس باربو، CC FRSC (5 مارس 1883 - 27 فبراير 1969)، المعروف أيضًا باسم سي. ماريوس باربو، أو ببساطة ماريوس باربو، كان عالمًا إثنوغرافيًا وفولكلوريًا كنديًا[1] ويعتبر اليوم مؤسسًا للثقافة الكندية. الأنثروبولوجيا.[2] وهو أحد باحثي رودس، وقد اشتهر بمناصرته المبكرة للثقافة الشعبية الكيبيكية، وبفهرسته الشامل للتنظيم الاجتماعي، والتقاليد السردية والموسيقية، والفنون التشكيلية للشعوب الناطقة باللغة التسيمشيانية في كولومبيا البريطانية (تسيمشيان، جيتكسان، و Nisga'a)، وغيرهم من شعوب الساحل الشمالي الغربي. لقد طور نظريات غير تقليدية حول سكان الأمريكتين.
رابط المقال :
https://solitudes.qmul.ac.uk/blog/women-sex-and-solitude-in-marian-engels-bear/

بقلم: إيلين شيفجيك
ترجمة: صالح الرزوق
***

تقول كريستي ليفتري عبر تطبيق زوم من غرفة نومها في منزلها، وموقعه شمال لندن: "أحيانًا ينتابني إرهاق شديد لدرجة أنني أشعر وكأنني على وشك الانهيار". فقد انفصلت مؤخرًا عن والد ابنتها إيفي، البالغة من العمر 20 شهرًا، وحاليا تحرص على تربيتها ولو بمفردها. في الغرفة طاولة بجانب السرير، تكومت عليها كتب الأطفال، وهي مادة أساسية في قراءات الأم التي دخلت حديثا عالم الأمومة. عدا أنها تريد أن تحبب إيفي بسحر ومتعة القصص بنفس الوقت الذي تكتب فيه قصصها.
"أن أكون بمفردي معظم الوقت مسألة صعبة جدا، لكنني أعشق هذه الحالة. أن أكون أما وكاتبة معا. وأحيانا أصبح متعاطفة ومهووسة نوعا ما بما أكتب. وإذا لم يغمرني هذا الشعور لا أستطيع عمليا أن أكتب".
ليفتري، ابنة لاجئين قبرصيين، تكتب روايات دافئة تتناول بها قضايا عالمية كالحرب والهجرة وأزمة اللاجئين، وتكتشف من خلالها محنة البشرية. وقد بيعت أكثر من مليوني نسخة حول العالم من كتبها الثلاثة السابقة (بما فيها "نحال حلب" الحائزة على جائزة أسبن وورد الأدبية لعام 2020، والتي تتناول حكاية عائلة من اللاجئين خلال الحرب الأهلية السورية، ورواية "الطيور المغردة" التي تتناول بها قصة مدبرات المنزل المهاجرات والعاملات في قبرص)، وترجمت إلى 35 لغة، وفقا لوكالة ماريان غان أوكونور الأدبية والتي تهتم أيضا بشؤون السينما والتلفزيون.
تتناول رواية ليفتري الجديدة، "كتاب النار"، الصادرة لأول مرة في آب عام 2023 عن دار بونييه، موضوع تغير المناخ، وتتابع قصة عائلة يونانية معاصرة - معلمة الموسيقى إيريني؛ وزوجها الرسام تاسو؛ وابنتهما شارا - الذين يعيشون في قرية ضمن غابة قديمة، فقد انقلبت حياتهم رأسا على عقب عندما نشب حريق دمر الغابة والقرية. يلقي القرويون اللوم على مقاول أشعل الحريق أثناء تنظيف الأرض لبناء فندق، لكنه لم يكن المذنب الوحيد، فقد أدت درجات الحرارة المرتفعة لفترات طويلة من الجفاف وحولت الغابة إلى برميل بارود.
تتعامل الكاتبة مع هذه المواقف وتلوم أحد الأشخاص دون أن تنسى وجود أمر أكبر يحدث؟ تتساءل ليفتري: "كيف يجب أن نواجه الأزمات والصدمة الناجمة عنها؟"
شاهدت لفتيري لأول مرة في اليونان عام 2017 حريق غابات لا يمكن التحكم به، وحينها كانت متطوعة في مركز للاجئين في أثينا لإغاثة النساء والأطفال النازحين خلال الحرب الأهلية السورية. تقول عن ذلك: "استيقظت في أحد الأيام صباحا لأجد السماء مليئة بالدخان. كان هناك حريق في بلدة قريبة. وظل الموضوع يطاردني".
قررت ليفتري تأليف "كتاب النار" عام 2021، بعد أن دمر حريق كبير آخر غابة قديمة في جزيرة إيفيا اليونانية، وأودى بحياة أكثر من مئة شخص، وترك آخرين بلا مأوى وأصابهم بالحروق. سافرت إلى اليونان وأمضت هناك ستة أسابيع، وكانت حاملا وفي شهرها الثالث، لتجمع المعلومات من أجل الرواية.
وشمل ذلك زيارة بلدة ماتي، موقع حريق مميت آخر، وقع في عام 2018، حيث أجرت حوارات مع السكان المحليين الذين ما زالوا يعانون من الصدمة، والذين لم يعترف العديد منهم بمسؤولية تغير المناخ.
تقول ليفتري: "أرهقتني إقامتي هناك كثيرا. وفكرت بالرحيل، وانتابني الذعر مما سمعت. في كل مرة أكتب فيها رواية، أشعر بالذنب، لأنني أعود إلى دياري، وأترك المخيم وأنام في بيتي. ينتابني هذا الشعور دائما ويجعلني أخاف من ظروف الحياة. ومع أنني قوية جدا، لكن عندما أكون وحدي، أشعر بضعف أركان الحياة وهشاشتها. وأتأثر بهذا الشعور. وأجد صعوبة في استعادة توازني، لكنني أتذكر حينها ما يعاني منه الآخرون."
ليفتيري تعيش حياة خاصة منفتحة، ولا تدافع عنها، وتبدي اهتماما أصيلا بسلامة الآخرين، وهذا يرشحها لتكون كاتبة ميدانية مؤثرة مع كثير من التعاطف. تقول ماريان غان أوكونور، وكيلة أعمال ليفتري: "كريستي من أكثر الأشخاص الذين قابلتهم عطفا وعطاء. كما أنها تتمتع بشخصية رقيقة وطباع لطيفة. وتهتم بالعالم وتكتب عنه من قلبها".
ولدت ليفتري عام 1980 في لندن، وكانت طفلة حساسة، تستمتع بالرسم الزيتي وقراءة القصص. استقر والدها في المملكة المتحدة مع أمها، وكان ضابطا في حرب قبرص عام 1974. وتذكر أن منزل طفولتها كان مكانا دافئا، لكن والدها، الذي تقول إنه عانى من اضطراب ما بعد الصدمة ولم يتلق العلاج اللازم، كان عرضة لنوبات من الغضب. وتضيف: " ذلك حتما نتيجة للكتمان فهو لم يتكلم مع أحد عن الصدمة. وأتذكر أنني كنت أسأل نفسي في طفولتي: ما الخطأ الذي ارتكبناه؟ ما زلت أحمل هذا الشعور. أفكر باستمرار أنني اقترفت خطأ. وهكذا تنتقل الصدمة المكبوتة من جيل إلى آخر".
ومع تقدمها في السن، تفرغت ليفتري للكتابة ورأت أنها أداة للتعبير عن الصدمات. وبعد أن عملت لبعض الوقت بصفة محللة نفسية، حصلت عام 2010 على الدكتوراه في الكتابة الإبداعية من جامعة برونيل، وكانت روايتها الأولى "بطيخة وسمكة وإنجيل" عن حرب قبرص، وهي جزء من مشروع أطروحتها.
تقول ليفتري، التي تلجأ شخصياتها غالبا إلى الفن للتغلب على مشاكلهم: "الكتابة تلامس قلبي حقا. أعتقد أننا أحيانا نضطر إلى الخوض في آلامنا لنتغلب عليها".
تقدّر آن سبيير، محررة ليفتري، إمكانيات الكاتبة في إيصال مواضيع مهمة للقارئ بسهولة. وتقول: "كريستي بارعة في تناول الأخبار وتحويلها إلى موضوع شخصي. فهي تساعدك على أن تشعر فعليا بمعاناة شخصياتها. وهذا هو سر القصة الناجحة، ويتوفر ذلك في كل كتبها".
مشروع ليفتري القادم عن كرة القدم النسائية الأوروبية، وستدور الأحداث خلال الحرب العالمية الأولى وفي الوقت الحاضر، وستتابع حياة عدة نساء عبر عدة أجيال. تقول ليفتري عن هذا الموضوع: "في روايتي رواسب من معاناتي مع مع والد ابنتي بعد الولادة. فقد غادرت ذلك المكان وكأنني فقدت استقلاليتي، وكأن كل شيء سقط فوقي. سيتناول هذا الكتاب أحلام النساء، ومدى ما وصلنا إليه، وهل وصلنا إلى ما كنا نخطط له".
مع حلول المساء، تسمع ليفتري صوتا في الطابق السفلي، فتنظر إلى الساعة. المربية على وشك أن تنصرف، ولذلك حان وقت مرافقة ابنتها. قد يذهبان في نزهة مع كلبهما ألفي. (ليفتري، عاشقة للحيوانات، ومهووسة بها تماما). وتأمل أن تعلم روايتها "كتاب النار" الناس كيف يهتمون بالتعامل مع كوكب الأرض وكل كائن حي يعيش عليه. وتقول: "نحن نشعر بالحزن لخسارتنا بيئتنا، وكثيرا ما لا ندرك أن هذا مؤلم ويسبب هذا الحزن". وتضيف: "إذا فقدنا عالمنا، فلن يبقى منا شيء. ربما يحفز هذا الكتاب الناس على التمهل والتأمل. فعندما ندرك ما يحصل حقا، يمكن أن نبدل قراراتنا".
***
....................................
إيلين شيفجيك Elaine Szewczyk كاتبة بولونية من مواليد كراكوف. صدرت روايتها: "أنا والغبي" عن هاشيت في المملكة المتحدة عام 2008. تكتب في الفاينشيل تايمز، وشيكاغو تريبيون، وكيركوس ريفيو وغيرها.
ظهرت نسخة من هذه المقالة في Publisher Weekly بتاريخ 10/02/2023.
الترجمة مع الاستعانة ببرنامج الذكاء الصناعي

 

البحث عن حاملات للقصيدة

حين يحلم الشاعر، وهو الأحق بالحلم، تبتسم الحياة وتورق على جوانبها الأزاهير، يتداعى القبح، تجرفه سيول الأحرف التي تضئ الحلم، وحُلو الأمنيات، يحرسها، يقتنصها شذرات وصورا يبثها أضمومات يهبها الحياة والدفء.
حين يحلم الشاعر، وهو الأحق بالحلم، يكون في "لحظات الصحو القصوى"، يفكر في إمكانيات تلقي الشعر، في "حاملات" بكر للقصيدة، حاملات لم تصلها خيالات المبدعين، وعلى امتداد المدى يهبها أجنحة من زهر لتحلق بعيدا إلى حيث لا يصل القبح والتردي.
حين يحلم الشاعر، وهو الأحق بالحلم، وحلمه حياة للإبداع واستمرار لمعني الوجود والموجودات، يرصص للشعر فضاءات أرحب للاتساع والانتشار والذيوع الإيجابي التواصلي الذي يطور، يُزهر القصيدة، يُطرِّز بالعشق جمال الأحرف التي تُراقص الوجود لتهبه بهاء ورونقا وفسحة لأن يُعاش، ويُسرّجُ صهوة خياله يجوب عوالم الأنوار، يفتح مغاليق الأسرار وسحر الكلمات، ودهشة الأمنيات.
هل مكْتوبُ الشّعر أن يظل حبيس الدواوين والأوراق؟ هل مكتوب الشعر أن يضيء لنفسه ويسمع صدى لحنه في أركان اللقاءات المحتشمة وبين الأصدقاء فقط؟ هل قدَرُ الشّعر أن يقرأ أشعاره لنفسه؟
إذا كان الشعر، كما يقول الكاتب الروسي تارسوفسكي، "هو الوعي بالعالم"، وإذا "كان الشعر هو توسيع قدراتنا للوصول إلى إنسانيتنا"، فعلى الشعر أن يغامر، أن يخرج من الدواوين والأوراق واللقاءات الصغيرة، على الشعر أن يرفعَ صوته عاليا ليُسْمع كلماته، على الشعر، في ظل الأميات والتخلف والتراجعات والانهزامات، أن يظهر قويا صادحا يساهم في تشكيل الحياة، على الشعر أن يخرج لملاقاة الإنسان ويطرح أسئلته عليه وعلى الحياة.
وإذا كان "الشعراء هم الأشخاص الوحيدون الذين يعرفون حقيقتنا، الشعراء فقط"، كما تقول كاتبة البودكاست الأمريكية بالدوين، فلم لا يفكّر الشاعر في مساحات جديدة للنّشر والانتشار والاقتراب من المتلقي؟
لم لا يفكّر الشاعر في واجهات للعرض، تُسهم في تنويره وإعطائه فُرَصاً ليكون في الواجهة والمواجهة؟
لم لا يفكّر الشاعر، " ونحن في شتاتنا العربي الراهن، لا لغة لنا، نفكر بأكثر من لغة، ونعبر بأكثر من لغة، ونمارس أكثر من لغة، ولكن من غير أن نمتلك لغة واحدة امتلاكا حقيقيا "، في إعطاء القصيدة صوتا يوقظ الضّمائر؟
لم لا يفكر الشاعر، حين يُحاصر الشّعرُ ويصطدم بحائط منيع من الأمية، الأميات، البشعة التي توسع دائرة اغترابه، وتنظر إليه كمضيعة للوقت والمداد والكلمات؟
كيف للشعر أن يحيا ويروج سليما في غياب متلقين، الأغلبية منهم تعاني تشويشا في الذوق، وهبوطا في فهم الإبداع، ومرضا مزمنا في درجة الوعي بالجمال؟
كيف للشعر أن يحيا، وأغلبنا حين يعود مريضا لا يحمل إليه ديوان شعر أوردة أو رواية، ولكن ما يؤكل، لأن البطن عندنا "مقدس"، والشعر آخر ما نُفكر فيه، أو لا نُفكر فيه أصلا؟
كيف للشعر أن يسافر عبر أسرار الكون ينسج للعاشقين عوالم الحب والألفة لفهم خبايا الروح والوجدان والوجود والموجودات، والكوابح كثيرة تحد من انطلاقه ومغامراته؟
كيف للشعر أن يلامس أذواق الناس ويرقى بأرواحهم المشدودة إلى اليومي البليد الذي يتكرر ولا تكاد تنفلت منه، ويفضّ مكنون الحرف، ويُسرّح مسجون سحره ودهشته، ويفك أسراره ويسمو بالنفس البشرية، لتتخلص من عُزْلتها القاهرة التي تجوس خلال تجاويفها العصية عن الرقص للضوء والغناء للجمال؟
كيف له ذلك، وفهم بعضنا للثقافة لا يتجاوز حدود ما تعرضه الإذاعة والتلفزة والأسابيع الفنية والثقافية والرياضية التي تتناسل تناسل الفطر في مستنقع بارد؟ كيف للشعر أن يخرج إلينا مقتحما، في بهاء، خلواتنا وأشباه الشعراء يسودون وجهه بدواوين تسيج سر الحروف وتقتل فيها وهج المعاني.؟
الشعر محبّة، قُربٌ من الأسرار العلوية، الشعر هبة الروح وسكونٌ إلى حمى الجمال، إذ "وحده الشّعر يمكنه كسْر الغرف المغلقة للإلهام، إرجاع المناطق المخدّرة إلى الشّعور، وإعادة شحن الرّغبة". (كما تقول الشاعرة الأمريكية أدريا بيتش).
الشعر في حاجة إلى بيت يحمي ظهره، إلى يوم أو أيام وطنية – لا تنافق – تعيد له توهجه وأسراره بعيدا عن المناسباتية المقيتة، الشعر في حاجة إلى شعراء يكتحلوا بالجمال لاحتضان أسرار الحلم.
الشعر في حاجة إلى أن نحارب بشراسة، لا أن نمحو فقط الأمية / الأميات التي تسكن أرجاء جغرافية الوطن،
أن يقف صامداً في وجه العواصف التي تتقلب صورها بين اللحظة واللحظة.
الشعر في حاجة إلى أن يغامر بذكاء، ويقتحم بقوة الصّحافة والإذاعات ووسائل الإتصال ودور الشباب والمؤسسات التعليمية والنوادي والجمعيات الثقافية، والمقاهي وكل فضاءٍ محتضنٍ للتجمعات الشبابية.
الشعر في حاجة إلى شعراء لا ينتظرون إقبال المتلقي، بل يبحثون عنه داخل التجمعات وخلال المهرجانات، ويخرجون من دواوينهم الأنيقة، ويُسمعون صوته جهرا للحياة والأحياء.
الشعر في حاجة إلى من يفضح أشباه الشعراء الذين يُعَمّقون اغترابه.
وهل " بالكتابة وحدها يحيا الشعر؟" بالحلم أيضا يحيى، وبالحب يستمر فينا.
استمرار تألق الشعر مسؤولية الشعراء وحدهم وليست مسؤولية هذه الجهة أو تلك، الشعر إرث الشعراء الذي عليهم أن يحفظوه نقيا طاهرا صافيا من كل ذرة تفسده، ومن كل نفَسٍ تحيله قُبحا مُنفّرا للنفس والروح. إنّه "ضمير العالم" الحيّ، قَدَر اللغة الحالمة، انه الحياة في أسمى معانيها، فان ضاع أو ضعف أو طاف به طائف لا يفيه حقه، فعلى الدنيا والشعراء السلام.
***
ذ. عبد المطلب عبد الهادي
المغرب

يمكن القول أن رواية "دار خولة" للكاتبة الكويتية بثينة العيسى، الصادرة عن منشورات تكوين ودار الرافدين، العام 2024 ، تسلّط الضوء على مجريات الحياة العائلية، في عصر منصّات التواصل الاجتماعي، مع تحديد البيئة المكانية الكبرى للأحداث في بلد، فيه تقاليد ديمقراطية، مثل الكويت، ومن ثمّ البيئة المكانية الصغرى، وهي " دار خولة". فبطلة الرواية خولة سليمان، أرملة في سن الخامسة والخمسين، وهي أستاذةٌ في الفولكلور، وزوجها الراحل قتيبة أستاذٌ في الأدب العربي. ومحبٌّ كبيرٌ للشعر، وهو الذي سمّى مكان الحدث بـ " دار خولة"، تيمّناً بالإرث الشعري الكلاسيكي، الذي يتردّد فيه هذا الاسم، اقتباساً من صدر بيتٍ لعنترة بن شداد" عمّي صباحاً دار خولة واسلمي". زوجها الذي كان يلومها على خطوة تعلّم الأبناء في مدرسة أميركية، وكان يناكفها بشأن" الفتى العربي.. غريب الوجه واللسان"، تخلّى عن مسؤولية تربية أبنائه، وجعلها حصراً بها، في حين أنّ غالبية الرجال يضطلعون بهذه المسؤولية.
عشاء عائلي
تخوض الرواية، في علاقة خولة مع أبنائها الثلاثة: ناصر ويوسف وحمد، حيث تدعوهم لعشاءٍ عائلي، لإعادة أواصر الأمومة والبنوّة مع الثلاثة، إذ أنّ تلك الأواصر متقطّعةٌ بشكلٍ كبير، مع الأبن الأكبر ناصر، فقد قضى الجزء الأكبر من طفولته في بيت جدّته، أمّ أبيه، حيث الدلال الكبير للجدّات، وتمتّعه باستقلاله في الدور الثاني من بيت الجدّة، أمّا يوسف المتزوّج، وأبٌ لتوأم، وحمد أصغرهم، فيفضّلان أن ترسل صينية الطعام إلى غرفتيهما. فكانت تشعر بغصّةٍ كبيرة، وهي تأكل وحيدةً كلّ يوم. كانت الدعوة للعشاء مُبرّرةً بحجّة المناقشة بشأن برنامجٍ تلفزيوني، دُعيت للمشاركة فيه لإضاءة الجانب الإنساني في حياتها وعلاقتها مع أبنائها. فلها شأنٌ مع النجوميّة، عبر ظهورها المستمرّ لأكثر من عقد، ومشاركتها في الندوات والمؤتمرات، إلى أن حدثت الطّامّة الكبرى، بنظر أبنائها خاصّةً ناصر ويوسف، إذ أدلت بآرائها بشأن أوضاع الشباب، وهاجمت انزياحهم إلى الثقافة الغربية، وحدوث ما سمّته" الانمساخ الجمعي" للشباب، أي افتقادهم لهويّتهم العربيّة، عزّزت ذلك بمصطلحاتٍ حداثيّة، كانت موضع تندّر الشباب على منصّات التواصل، وهذا ما سبّب الشّعور بالخجل عند أبنائها، لذا كانت دعوة العشاء بشأن مناقشة مشاركتها الجديدة في برنامجٍ تلفزيوني، فرصةً كبيرةً للهجوم عليها من قبل ابنيها ناصر ويوسف، لأنّ الثالث حمد لم يحضر، مع اتّصالاتها المتكرّرة له بالحضور. حيث حوكمت من قبل ابنها ناصر على تخلّيها عنه، وتركه في بيت جدّته، واتّهامها بأنّها لا تحبّه. هنا إنكار لأمومتها، والذهاب بعيداً في المشاركة في البرامج الحوارية.
دور الأم وشرط المرأة
هنا نلتقط ثيمةً مهمّةً للرواية، ألا وهي البحث عن الذات، البحث الذي ينبثق عنه جدل الهوية والصراع من أجل التمسك بالجذور، وإثارة الأسئلة؛ فهل تقتصر ذات المرأة على الأمومة، أم يحقّ لها أن تكون ناشطةً في كلّ المجالات، ومنها الإعلام، إذ يمنح تكريس الظهور على الملأ عبر الميديا الحديثة نجوميّةً ومراقبةً من العامّة لكلِّ ما يتلفّظ به الناشط الإعلامي، سواءً أكان رجلاً أو امرأة. خولة كانت لها اليد الطّولى في البحث بشأن القضايا الاجتماعية كافّة، عبر الميديا.
إزاء خوضها غمار العقد الستّيني من عمرها، تعلن أنّ " التّصابي والتّأمرك أمران متلازمان"، أي أنّ لديها الاستعداد للظهور التلفزيوني مُجدّداً بدون أيّ رتوش، ومهاجمة ثقافة الـتأمرك لدى الشباب عامة.
الشيخوخة والوحدة
الزمن الروائي، بسرد الراوي العليم، ولم يستغرق سوى ساعات وجبة عشاء، له خلفيّةٌ زمنيّةٌ واقعية، هي على امتداد عمر بطلة الرواية، الذي يصل شوطه، إلى أنّها ستحظى أخيراً بعشاءٍ عائليٍّ تشبّهه مثل" أسرةٍ سعيدةٍ في فيلمٍ هوليوودي عن عيد الشكر". وإزاء ذلك تستبق القارئ شعوره بتناقض هذا التشبيه مع كراهيتها لأميركا، تستبق ذلك بأنَّ كراهيّتها نابعةٌ من موقف، وليس عن تعصّب. في غمرة هذه السعادة المُفترضة، يتداركها الشّعور بأنّ" الشيخوخة والوحدة أمران متلازمان" فقد أصبحت تستجدي حضور ابنائها الثلاثة على مائدةٍ واحدة.
كانت خولة قد اعتذرت مُسبقاً عن البرنامج، لكنّها أرادت لمّ الشّمل، والظّهور بمظهر الأمّ أولاً، وإعادة فرض هيبتها في الدار، وإعادة ناصر إلى حضيرته الطبيعية. وهنا حصل ما لم تتوقعه، إذ بدا ناصر مؤازراً لها في حال سمحت له بالظهور، في البرنامج المفترض، على عكس يوسف، الذي يريد أن يكون المطبخ ميدانها الرئيس. جرت بين خولة وابنيها مناكفاتٍ حول جدوى الظهور التلفزيوني من جديد، إذا كان الظهور السابق جعلها ترند السّخرية على مواقع التواصل، طبعاً هنا السخرية من نقدها لتأمرك الأجيال الجديدة، ومن المنطقي أن تتلفظ بمصطلحات مثل تغريب وامبريالية وحداثة، وأسماء مفكرين مثل فوكو وإدوارد سعيد والجابري، ورفضها مغالاتهم في إلصاق مصطلحاتٍ وأسماء فلاسفة لم تذكرهم حقّاً. إزاء عشاء السخرية هذا، أحسّت خولة كما لو أنّها أصبحت أضحوكة أبنائها، ومن خلفهم مسرح التواصل الاجتماعي. أحسّت بالفشل بأنّها لم تكن أمّاً، ولا امرأةً مثقفة كأستاذة الفولكلور وناشطةً إعلامية. فناصر المتعلّم في مدرسة أميركية، فاشلٌ جدّاً في ثقافته العربية، وهذا منبع خصومة خولة مع أميركا، حيث في البدء، الانبهار الكبير بالأميركان، ما بعد شباط 1991 ، حيث تخيّلت خولة " أبناءً فارقين: يقرؤون الصخب والعنف لفوكنر وأوراق العشب لوايتمان، يعشقون إدغار ألان بو، ويعزفون الجيتار ويحفظون أغنيات بوب ديلان، ويتحدّثون عن الديمقراطية وحقوق الإنسان وقضايا البيئة"، أصيبت بالإحباط إزاء حلمها المثالي، إذ لم يخطر ببالها أنّها لن تستعيد ابنها ناصر من أميركا قط، فكانت النتيجة أنّه فاشلٌ دراسيّاً، يعمل كمنشئ محتوى، وموظّفٍ في شركةٍ استثماريّة.
الدار الخاوية
وكانت نهاية العشاء العائلي في أنّ خولة باتت مُحبطةً من اشتباك ابنيها على خلفيّة حطّ كلٍّ منهما من شأن الآخر. اشتباكٌ بالأيدي أدّى إلى تحطيم محتوياتٍ في الدار، فأيقظ لدى خولة الشعور بأنّ الدار مُفرغةٌ من معناها مادّياً وروحياً. قبلها كانت هزيمتها في المحيط الخارجي" عندما تحول لقاء الساعة إلى مقاطع فيديو لا تزيد على ثوان، وثار الناس على تويتر، أحسّت بأنّها تُسحل في شوارع افتراضية، بأيادٍ افتراضية، تتلقّى صفعاتٍ افتراضية". لقد نسيت كلّ ذلك، وقتها لكنّها لم تنس صمت أبنائها الناشطين على مواقع التواصل، ما عدا حمد، فقد كان في العاشرة من عمره سلواه ألعاب الفيديو. هذا الذي كبر، وصار يقضي أوقات فراغه في لعب" البادل" و" الفيفا الافتراضية". قدم حمد في نهاية العشاء العائلي، وما تمخّض عنه.. المزيد من الفرقة بين خولة وأبنائها. فوجد حطام المحتويات، وخولة النائمة، وقد ابتلعت حبوب" الزاناكس"، وكانت قد تركت له وجبة طعامه في "المسخّن". جلب معه سمكة زينةٍ حمراء، غمرها في الحوض الزجاجي، وبعد لأيٍ من الزمن، تَباغت بأنّها ميّتة.
كم هي دلالةٌ كبيرةٌ في أن يغرق السمك في مائه، إذ يبدو أنّه المعادل الموضوعي، لفشل خولة في محيطها العائلي، كما هو محيطها الخارجي، حيث أحبطت بأن تكون ناشطةً إعلاميةً متصديّةً لتمسّك الأجيال الجديدة بقشور الحداثة الغربية وليس بجوهرها.
هي رواية امرأةٍ سعت إلى أن تكون ناجحةً في دورها كأم، وشرطها كامرأة، كإنسانةٍ لها تأثيرها الإيجابي في الآخر، لجهة نقد سلبيات الحداثة، وما جرّته في خلق شبابٍ كسولٍ ووقحٍ ومتذاكٍ.
هي روايةٌ تمسك بتلابيب القارئ، ليكملها في بضع ساعات، كأنّها وجبةٌ روائيّةٌ ساخنة. روايةٌ عن المرأة العربية عامّةً، والخليجية والكويتية خاصّة في سعيها إلى تكريس هويتها كأمٍّ ناجحة، وامرأةٍ مؤثّرة ثقافيّاً وإعلاميّاً في عالم الميديا الحديثة ومنصّات التواصل الاجتماعي.
***
باقر صاحب - كاتب عراقي

العلاقة الجدلية بين حس العدالة وتطور العقل البشري

رواية عالم صوفي، روايتان في رواية واحدة. الرواية قدمت جردا او فهما كاملا ومبسطا لسفر البشرية في الحقل الفلسفي وتطور الفلسفة عبر حقب عديدة منذ اقدم رؤية فلسفية للكون والحياة والانسان، ومن جميع الجوانب. الفلسفة الاغريقية والفلسفة اليونانية، والقرون الوسطى، وعصر النهضة، وعصر التنوير، الى الوقت الحاضر، الحقبة المعاصرة؛ من ديموقريطس وارسطو وسقراط وافلاطون واخرون، مرورا بالفلاسفة الاوروبيين، ديكارت، وسبينوزا، ولوك، وهيوم، وبيركلي وكانت، وكيركغراد وداروين وفرويد وهيجل وماركس. لا حاجة الى التطرق الى ما اورده الكاتب، او الراوي لملخص فلسفة كل من هؤلاء الفلاسفة؛ لأنها اولا معروفة لدى القاريء النوعي وثانيا، لأني لا اريد ان احرم القاريء من متعة القراءة؛ لآراء هؤلاء الفلاسفة في الكون والحياة والأنسان. لكن في المقابل من الاهمية هنا؛ التركيز على ملخص ما اوردته هذه الرواية لرؤى هؤلاء الفلاسفة، وسفر البشرية في هذا المجال وفي الذي له صلة بها، من الأدب والاقتصاد، وما هو ذوو علاقة عضوية بهما، بالأدب والاقتصاد؛ من مراحل تطورها؛ من دراسة الظواهر الطبيعية، لتكون الاساس الذي يتم فيها البناء الفلسفي عليها او على قرأتها في تكوين الرؤية هذه، الى، في مراحل لاحقة استخدام العقل، واعتباره هو الوحيد الذي بإمكان الانسان من خلال دراسة الظواهر المادية تكوين فكرة عن الكون وعن الانسان وعن كل الحياة وتداعياتها على البشرية كلها وعلى الأنسان، الى المدارس الفلسفية، وفي كل حقول المعرفة في الوقت الحاضر. تبدأ الرواية بوجود بطاقتين برديتين في صندوق البريد الخاص بصوفي أمندسن، كل منها فيها كلمة واحدة او جملة قصيرة واحدة؛ من انت؟ من اين جاء العالم؟ معنونه الى هيلدا مولار كناج وليس الى صوفي. مما يثير استغرابها، وتساؤلاتها، التي اخذت تدور في ذهنها، من هي هيلدا؟ ثم لماذا ارسلت هاتين البطاقتين ألي. لم يطل بها الوقت حتى تعرف لاحقا؛ ان البطاقتين كان قد ارسلها والد هيلدا، البرت المياجور العامل في قوات حفظ السلام في لبنان. في اليوم التالي تتلقى رزمة من اوراق فيها دروس فلسفية، ارسلها لها الفيلسوف، البرتو كنوكس. لتبدأ بعدها مقابلته بصورة مستمرة. العالم الفلسفي، البرتو كنوكس، يبلغ من العمر خمسة وخمسين عاما، وهي الصبية اليافعة او الشابة اليافعة، ذات الخمسة عشر عاما. كان في كل رسالة منه، تحتوي على شرح فلسفي لعلاقة الانسان بالكون وبكل الوجود، لكنه كان شرحا بسيطا اولا وثانيا كان شرحا مختصرا جدا، لايتجاوز صفحة واحدة. تتكرر الرسائل لعدة ايام، ايام قليلة، لكنها في الاخير الذي لم يطل بها انتظاره، تتلقى مع الرسالة؛ دعوى لها بالتواجد عل حافة بحيرة قريبة، تحيط بها غابة كثيفة، في كوخ منعزل تماما. تذهب وتلتقي بالفيلسوف، من ثم اخذت تاليا تلتقي به، باستمرار، يشرح لها مضمون تلك الرسائل، واشراكها في الحوار الفلسفي او مناقشتها معه. تحدث هذه الرسائل، وشروحها والحوارات بينهما حولها او حول ما بها من رؤى، او ما هو موجود فيها من طروحات فلسفلية مبسطة جدا، تحولا كبيرا في حياتها. بدأت تتغير في كل سلوكها، تشعر بالاغتراب عن امها التي تعيش معها في منزل واحد على مقربة من الغابة والبحيرة، لأن الأب يعمل قبطان على ناقلة نفط، لا يظهر في الكتاب او في الرواية. امها هي الأخرى ايضا تشعر او تحس بان ابنتها قد تغيرت واخذت عندها تشعر بالخوف عليها، وبالذات حين تعلق على اي عمل او اي مادة تطرح بينهما للنقاش، اي انها بدأت تطرح طروحات هي اكبر من عمرها كثيرا، ولا تبدي الاهتمام كما هي ديندنها او عادتها قبل ان تلتقي بالفيلسوف، بالهموم اليومية، اي انها تخلصت تماما من الهم اليومي ومن انشغالاتها به، لتصبح حرة او هكذا كانت بعد عدة لقاءات مع استاذ الفلسفة. مواد الدراسة اخذت تفهمها بسرعة، فأبدعت بها وحصلت على اعلى الدرجات في صفها، وايضا اخذت على غير ما كانت عليه؛ تحس احساسا عميقا بالجمال، تتفاعل معه تفاعلا مفعما بالحياة، وكأن روحها جزءا من مكونات هذا الجمال. هنا تطرح الرواية معضلة مهمة جدا، او هي ام المعاضل، ألا وهي؛ ان يكون الأنسان فريسة الهم اليومي، وكل انشغالات الكائن الانساني، التي تنتج عنه، بما يقيد نشاط وحركة العقل الانساني تقيدا في احيان كثيرة؛ يكون تقيدا كاملا حتى انه يصير كما السجن والانسان فيه هو السجين من غير سجان ولا جدران وابواب سجون. هذه الاوضاع تجعل من الانسان آلة يتحرك بميكانيكية على حساب إرادته في الفعل الذي هو يرغب فيه، او يريده. حتى يتراجع الشعور، او الاحساس بالجمال من حوله، حتى لو كان على مقربة بوصة من وجوده، في المكان المحاط بالجمال والروعة او روعة الوجود والحياة. هذه الرؤية الفلسفية ان جاز لي وصفها بهذا الوصف؛ لم تكن هذه الرواية او كاتبها هو اول من طرحها فقد سبقه إليها، قبل عدة عقود الكاتب الانكليزي كولن ويلسن؛ في رويتين له هما الحالم وضياع في سوهو، وفي كتاب السيرة الذاتية له؛ رحلة نحو البداية. الرواية هي ليست رواية واحدة، بل هي رواية في متنها رواية أخرى وهذه الأخرى الثانية؛ هي لب او متن السرد كله. الى جانب هذا المتن او السرد؛ هناك سرد أخر موازي لكلا الروايتين، او السردين؛ استثمر الكاتب فيه الباراسايكولوجي، بتقنية حرفية عالية وبمهارة متفردة بما انعكس ايجابيا على سلاسته، رغم ما فيه من تعقيد. انها حقا رواية معقدة على الرغم من انها رواية كلاسيكية، لاتخلو من تقنيات التجريب، أذ تتداخل فيها عوالم السرد في الزمان والمكان والثيمات والشخوص. الشخوص الرئيسية في الرواية هي؛ هيلدا ابنة ضابط نرويجي يعمل مع قوات حفظ السلام في جنوب لبنان، وصوفي الابنة الوحيدة لامرأة تعيش مع ابنتها، وحيدتان في بيت يضمهما، والاستاذ الفلسفي، اضافة الى شخصيات أخرى ثانوية. نكتشف بعد ما يقارب ربع الرواية، انها رواية كان قد بعث بها والد هيلدا، كي تقرأها قبل مجيئه التي وعدها بانه سوف يجيء في يوم عيد ميلادها الخامس العشر، والذي هو ذات عيد ميلاد صوفي، في مفارقة محسوبة سرديا. نقرأ هنا الرواية كما كتبها والد هيلدا. اثناء قرأتنا لها يتبن لنا او هكذا كان الروي؛ ان كلا من صوفي والفيلسوف يعلمان بان هيلدا، تقرا الآن في الرواية التي كان قد ارسلها لها والدها من لبنان. انها عملية تخاطر، لكن هذا يبدوا وكأنه حقيقة تجري على ارض الواقع. تندمج كل لوحات الروي سواء الرواية التي ارسلها والد هيلدا او الروي التي يروي لنا، او يقدم لنا علاقة صوفي مع الفيلسوف، في سرد مركب ومتداخل في الزمان وفي المكان، في زمنين مختلفين وفي مكانيين مختلفين تماما. الرواية، او الروايتان هنا محملتان، بكل الرموز والاشارات والعلامات التي تشير الى منحى فكري، او مسارات فكرية تتحدد بموجبها ما وصلت إليه البشرية من رقي وتعاون وتألف في حفظ السلام والأمن وحيرة الانسان في كل بقاع واصقاع الارض او اماكن كوكبا الارضي، في تناقض صارخ مع واقع المعمورة، ومآساة الأنسان على ظهرها. ان قوات الامم المتحدة او كل ما هو ذو صلة بذلك او انه نتاج الهيئة الاممية؛ تعكس كما اوضحت الرواية تطور العقل البشري حتى صارت البشرية متضامنة مع بعضها البعض في حفظ حياة البشر وفي حريتهم وفي تحقيق إرادة الانسان في الحرية والحياة والكرامة وفي الحفاظ على السلام والامن والاستقرار في كل انحاء المعمورة. ان هذه اللوحة ما كان للإنسان ان يبلغها؛ لو لم يصل تطوره الى ما اصبح عليه من تطور وتعميق الحس بالعدالة. إنما الرواية ومن الجهة الثانية، ضمنيا تشير الى واقع أخر لا علاقة له بتطور العقل البشري، حسا وموقفا، وإرادة بشرية الى السلام والأمن والحرية والكرامة، وحق الشعوب في التطور، إنما علاقته بالأخر الذي يدير دفة الحروب والصراعات والغزوات في العالم بالضد من إرادة الشعوب. في نهاية الرواية يصل الاب، من لبنان، بإجازة من قوات حفظ السلام الاممية العاملة في لبنان، والد هيلدا الى بيته. يحضر الحفل الذي تم اعداده، والمفارقة هنا في الرواية ان حفلة عيد ميلاد ابنته، لم يتم الاعداد لها وتحضيرها، ليس من ابنته التي هي ايضا كانت قد بلغت الخامسة عشر من عمرها، بل من قبل صوفي وامها والفيلسوف، استاذ صوفي، وهم شخصيات روائية في الرواية التي كان الاب قد ارسلها الى ابنته قبل ايام التي هي كلها، هذه الايام؛ هي الزمن الروائي التي انتهت، قبل ساعات ابنته من اكمال قراءتها. في ذات الوقت هم ليسوا شخصيات روائية، بل شخصيات واقعية، تحيا في الواقع المعيش، لكنهم يعلمون ان هناك رواية يكتبها والد هيلدا عنهم. صوفي وامها واستاذ الفلسفة؛ يتوقون الى الحفلة هذه، اعدادا وتحضيرا بدعوة كل الاصدقاء والمعارف لحضورها. وهم ينتظرون فيها رؤية والد هيلدا في الحفل ورؤية هيلدا ذاتها؛ كي تتعرف صوفي عليها وعلى ابيها، الذي كتب رواية عنها وعن امها وعن الفيلسوف. الحفلة حضرتها صديقة صوفي، جورون( شخصية روائية ثانوية، وفي عين الوقت شخصية حقيقية) وهي من عائلة ارستقراطية والدها من رجال الاعمال وصاحب شركات كبيرة جدا، اضافة الى عوائل أخرى. الحوارات والنقاشات سواء ما كان قد حصل بين الفيلسوف وصوفي، او بين صوفي وابنتها او بين ام صوفي والفيلسوف التي يثير اعجاب والدة صوفي؛ تؤكد بالرمز والاشارات والعلامات ذات الدلالة العميقة؛ ان الاوضاع والاحداث وتصرفات الكائن الانساني على ارض الواقع، لا تعكس حقيقة هذا الكائن ورؤيته لها، بل انها توافقية مع الواقع المفروض عليه. هي هنا رمز او اشارة او علامة على ان البشرية لا تعيش على وفق ما تريد وتطمح، بل انها تعيش وفقا، أو تماشيا مع واقع مفروض عليها. احدى صديقات صوفي، والدها رأسمالي معروف، مع صديق اخر لها، يتبادلان الاعجاب بالنظرات المتبادلة، والتي تقود في اقل من دقائق معدودة الى الاختلاء بين الاثنين وراء اشجار الحديقة الكثيفة. يترك الاثنين من دون اية اثار او احتجاج او تعليق. في خاتمة الختام تختفي كل من صوفي والفيلسوف وراء النهر الى الغابة خلف البحيرة. الام، ام صوفي لا تحتج ابدا، بل ان الامر يعجبها وثير في روحها كل الفرح؛ من ان ابنتها اختارت ما تريد، على الرغم من فارق العمر بين الاثنين، اضافة الى ان الابنة لم تبلغ بعد سن الرشد، عمر التحرر من إرادة الأبوين. هنا تنتهي الرواية او تنتهي الروايتين في نهاية مفتوحة. أذ، لم يقدم لنا السارد اي شيء عن مصير والد هيلدا او مصير ابنته هيلدا. وانا انتهي من قراءة هذه الرواية؛ حضرت امامي كل ما جاري الآن في جميع بقاع الارض، من حروب وغزوات ومن انتهاك لحق الأنسان في الحياة والكرامة والحرية. ففي هذا الوقت، وقت انتهاء قراءتي لها اي لهذه الرواية؛ كان الخراب والدمار يعم كل قطاع غزة على مرأى ومسمع كل العالم الحر، او على مسامع ورؤية كل البشرية من اقصى المعمورة الى اقصاها. اضافة الى ما يجري وقد جرى في جنوب لبنان، وفي كل الاراضي العربية من غزو واحتلال، وطمس لكل حقوق الشعوب العربية واوطانها في عملية ألغاء لجهة الواقع على الارض لكل او لجميع ما طرحته الرواية من تطور للفكر البشري، إما من الناحية النظرية فهو اي هذا الطرح صحيحا من حيث تطور الفكري الانساني، وهو تطورا حقيقيا تماما، لكنه، لا يمتلك الادوات ليكون واقعا على ارض الواقع، بل ان ما يكون واقعا على الارض؛ هو الإرادة الاستعمارية للقوى الامبريالية في الدول العظمى والكبرى، والتي هي في طور الأعداد لتشكيل نظام دولي جديد على هدي مقاساتها.. هنا، ومن وجهة نظري المتواضعة؛ يكون حتما ذات يوم ليس ببعيد، وجود لإرادة الشعوب في الحرية والكرامة؛ تقلب بفعل مفاعيلها كراسي المستبد المحلي او الاقليمي او العربي على رؤوس من جلس عليها طويلا من الزمن، ان لم يكون هو موجود فعلا على ارض الواقع ولو مختفي بفعل قوة وجبروت وهيمنة ودموية؛ قوى الاستبداد محليا وعربيا واقليميا ودوليا. كاتب الرواية، جوستاين غاردر، كاتب نرويجي، فليسوف وصحفي وروائي. كان قد كتب في نهاية الثمانيات من القرن السابق، مقالا هاجم فيه جرائم الكيان الاسرائيلي في لبنان. الرواية تقع في 510صفحة من القطع المتوسط، من اصدارات دار المنى.
شخصية صوفي الفتاة اليافعة، وهي تتابع دورس الفلسفة على يد استاذها؛ يشغلها امر اخر، ان هناك فتاة اخرى في الجانب الثاني من المكان. تروم ان تلتقي بها ذات يوم ما. لكنها تصبح في حيرة من امرها؛ أذ، ان البعض من الرسائل التي بدأت تأتيها، معنونة الى شابة اخرى من نفس عمرها، بعد عدة ايام من تواصلها مع استاذ الفلسفة. الذي كان بمثابة صديق لها، اضافة الى كونه استاذها مع ان الفارق العمري بينهما كبيرا؛ فهي شابة يافعة لم تتجاوز بعد الخامسة عشر من عمرها، عيد ميلادها الخامس عشر سوف يكون بعد ايام، بينما هو في الاربعين من عمره، غير انها متعلقة به اشد ما يكون عليه علاقة من هذا النوع. هذه الرسائل كان يبعثها لها او الى الفتاة الأخرى، والتي هي ابنته، هيلدا، ألا انها كانت توضع في بريدها.
***
مزهر جبر الساعدي

 

يقدم هايكو الأحلام تصورًا جديدًا للزمن، لا باعتباره بُعدًا خطيًا يتتابع فيه الماضي والحاضر والمستقبل وفق منطق السببية، بل كنسيج متداخل من اللحظات التي تتقاطع وتتفاعل كما يحدث داخل الأحلام. في هذا السياق، يصبح الزمن مرنًا، سائلًا، يتدفق في تحولات غير متوقعة، حيث يمكن للحظة أن تتكرر بأشكال مختلفة، أو أن تتداخل الأزمنة معًا في صورة واحدة دون فواصل واضحة.
هذا الإلغاء للحدود الزمنية المعتادة لا يأتي بوصفه مجرد تقنية جمالية، بل هو إعادة تعريف لعلاقة الهايكو بالزمن، حيث يتحرر النص من الالتزام بتسجيل لحظة عابرة تُقاس بفصول السنة أو تُحدد وفق إيقاع الطبيعة. في هايكو الأحلام، لا يكون الزمن عنصرًا خارجيًا، بل ينبثق من الداخل، من حركة الأحلام ذاتها، حيث يتلاشى الفرق بين ما كان وما يمكن أن يكون، ليصبح كل شيء حاضرًا في اللحظة ذاتها.
يعمل هايكو الأحلام على تفكيك اللحظة وتوسيعها، بحيث تصبح أشبه بمرآة تتكرر فيها الانعكاسات بلا مركز واضح. يمكن للمشهد أن يبدأ من المستقبل، ثم يرتد إلى الماضي، قبل أن يندمج بالحاضر، دون أن يكون لهذا الانتقال أي دلالة سببية واضحة. في الأحلام، كما في هايكو الأحلام، لا يوجد زمن موضوعي منفصل عن الذات، بل تتشكل كل لحظة وفق حالة الوعي، فتندمج اللحظات وتتفكك بحرية، مما يفتح أفقًا جديدًا لتجربة الهايكو.
وكما يعيد هايكو الأحلام تشكيل مفهوم الزمن، فإنه يغير أيضًا مفهوم المكان. لا يمكن للأحلام أن تكون مرتبطة بدورة الطبيعة، أو بمكان جغرافي ثابت ومحدد. المكان هنا يصبح فضاءً مفتوحًا، قادرًا على التحول فجأة من شكل إلى آخر، ومن مكان إلى آخر، دون أي حدود فاصلة. قد يبدأ المشهد في غرفة مغلقة، ثم يجد القارئ نفسه فجأة أمام بحر أو في صحراء، دون انتقال منطقي بينهما.
بسبب هذا التحول، لا يعود المكان مجرد خلفية ثابتة أو مشهد جاهز للنص، بل يتحول إلى تجربة ذاتية وداخلية، تتغير بتغير الحالة النفسية والشعورية داخل الحلم. قد يصبح المكان غير مكتمل، ضبابيًا، أو يختفي تمامًا، ليحلّ محله مجرد شعور أو صورة رمزية تعبّر عن حالة الوعي في تلك اللحظة.
هذا التداخل بين المكان والزمن في هايكو الأحلام يخلق بنية شعرية غير تقليدية، حيث يتبادلان الأدوار بشكل دائم. يمكن للانتقال من مشهد إلى آخر أن يحدث بسرعة ودون سبب واضح، تمامًا كما في تجربة الحلم، حيث يكون الانتقال من داخل غرفة إلى مشهد مفتوح، كالغابة أو البحر، أمرًا ممكنًا دون أن يُشعر بالغرابة.
غياب الفواصل الزمنية الواضحة والأماكن المحددة يمنح القارئ القدرة على تشكيل تصوراته الخاصة، فيعيد بناء المشاهد وترتيب الأزمنة وفق تجربته الشخصية مع النص. بهذا المعنى، تكون كل قراءة للنص مختلفة عن الأخرى، لأن المتلقي هو من يمنح النص شكله الزمني والمكاني النهائي.
وبهذا، يعيد هايكو الأحلام تعريف وظيفة المكان والزمن داخل الهايكو، فهو لا يكتفي بتسجيل لحظة عابرة من الواقع، بل يفتح النص على احتمالات متعددة، ويخلق تفاعلًا دائمًا بين النص والقارئ. الزمن والمكان هنا ليسا مجرد عنصرين في بنية القصيدة، بل هما جزء أساسي من التجربة الجمالية والإدراكية التي يعيشها المتلقي مع النص، فتتحول القصيدة من لحظة محددة إلى حالة ممتدة ومتغيرة، بلا بداية واضحة ولا نهاية محددة.
***
عباس محمد عمارة

قراءة في مدلولات قصة "سهام الفتى عادل السليطة" للقاصة سعاد الراعي

متكئة على حافة الحكمة وشقاوة الفتيان تقدم لنا الكاتبة المقتدرة سعاد الراعي لوحة أدبية مفعمة بالحياة، من خلال قصتها الموسومة بـ "سهام الفتى عادل السليطة".. التي تجمع بين براءة الطفولة وتعقيداتها، وحكمة الكبار وعصمة التروي.. انها تكشف لنا جوانبًا إنسانية واجتماعية بأسلوب سردي مشوق.. يحيطنا بطقس من اسرار الأخطاء الصغيرة الطائشة.. واسوار من نصاعة الغفران..
كقمر يتدلى نثار ضوءه.. ترسم الكاتبة شخصية الفتى عادل برؤية دقيقة كحويصلة زرزور، جاعلة منه نموذجًا حيًا للفتى الذكي المبدع الذي يمتزج في داخله الشغف بالمغامرة مع روح التحدي والمسؤولية الناشئة.
ان اللغة الأدبية التي صيغت بها القصة تتميز بالجزالة والانسيابية، حيث تنتقل الكاتبة برشاقة الحدأة بين المشاهد اليومية العادية والبسيطة، إلى الأحداث الأكثر تعقيدًا، والأكثر انعطافًا.. دون أن تفقد الوتر الحساس للتوازن بينهما.. او تنعطف متلبكة عنهما.. بالغة زلال حبكتها المدهشة بغبطة الترف/ النعمة..
ان اصطيادها لمفرداتها.. التي توحي بدقة انزياحات تعبيراتها، تضفي طابعًا شعريًا يأسر القارئ ويقربه من عالم الشخصيات التي تلعب أدوارها بأناة وتبصر في احداث القصة.. ساعية وبروية لبلوغ حالة التوتر في المؤازرة او النفور.. في الغل او الانشراح.. مستخدمة تشبيهات مثل، "قلبه يحلّق مع العصافير"، او "كأنها تزيّن تاج حكمتها الأزلية"..
والأطرف من ذلك كله.. هو عنوان القصة، إذ تجلّت براعة الاختيار في مفردة بسيطة ولكن انزياحاتها أكثر تعقيدا.. الا وهي كلمة "سليطة"، التي أضفت على النص بعدًا تأويليًا عميقًا وفي غاية البراعة.. والذي يشي بوعي واعتدال فني راقٍ..
فكلمة "سليطة"، رغم كل ما تحمله من دلالة على حدة اللسان وفي السياق العام واليومي وكذا في الوجدان الجمعي.. لأنها تفتح علينا أبوابًا من التردد والتحفظ بل والسلبية، فان التأني هنا مطلوب... توطئة لقراءة مدلولها الادبي الذي اختارته القاصة عنوانًا.. والذي يمنحنا فرصة لإثارة تساؤلات أعمق حول المعنى والمغزى من وورده..
الامر الذي دفعني للبحث المتأني عن دلالته، او بالأحرى معناه.. اعتقاد مني ان ما ذهبت اليه الاديبة كان مقصودًا وواعيا وحاذقا.. فوجدت ما يلي: حين نقول رَجُل سليط اللِّسان.. نعني طال لسانُه بالكلام، وصار جارِحًا.. او كما جاء في القاموس:
رَجُل سليط: بذيء، فاحش
رَجُل سليط: فصيح حديد اللِّسان
رَجُل سليط: فصيح
وكل هذه الصفات اجدها قد اجتمعت في سهام الفتى عادل.. جارحة.. ولكنها تعبر عن فصاحتها في عكس شخصية البطل وسعيه الحثيث في إصابة الهدف..
ان الجوانب الإبداعية البارزة في التركيز على رمزية السهم كأداة تمثل قدرة عادل على تحقيق أهدافه وإثبات ذاته.. لكنه مع ذلك، فإن هذا السهم نفسه يصبح رمزًا آخرًا للمغامرة غير المحسوبة وعواقبها، مما يعكس رسالة عميقة حول أهمية المسؤولية.
أما شخصية الجدة موزة فهي من أجمل ما قدمته القصة، إذ تمثل الحكمة والحنان اللذان يحميان الطفولة من غضب الواقع وقساوة رد الفعل المتسرعة. ان قولها: "لا تكررها يا بني.. المرح والشقاوة لهما حدودهما"، انما يدل على إدراك الجدة مسؤوليته عن فعلته المتهورة.. الا ان القول ذاته يحمل في طياته درسًا إنسانيًا عميقًا يتم تقديمه بلطف وحذر.
لقد قدمت لنا الراعي.. تحفة أدبية تجمع بين الفن والرسالة، حيث تتخطى حدود السرد لتلامس وجدان القارئ وتنير عقله.
**
طارق الحلفي
........................
رابط القصة:
https://almothaqaf.com/nesos/980331

الغربة والصمت في مواجهة العزلة والضياع

هل يمكن للإنسان أن يواجه ألمه الداخلي دون أن يفقد نفسه؟ كان هذا السؤال وما زال محورًا أساسيًا في الأدب والفلسفة، حيث يُنظر إلى الألم ليس فقط كمعاناة شخصية، بل كقوة دافعة لإعادة اكتشاف الذات. في الأدب، يستخدم الشعراء والروائيون الرموز والأساطير للتعبير عن الألم بأشكال تتجاوز حدود اللغة العادية، بينما في الفلسفة يُطرح الألم كتجربة وجودية تجبر الإنسان على مواجهة حقيقته العميقة يرى نيتشه أن الألم هو الوسيلة التي يصل بها الإنسان إلى القوة والتحول، إذ يقول: “ما لا يقتلني يجعلني أقوى” أما فرويد، فيرى أن الألم المكبوت يعيد تشكيل نفسه في اللاوعي، مؤثرًا في طريقة تعامل الإنسان مع العالم. لكن ماذا يحدث عندما يصبح الألم أكبر من قدرة الإنسان على فهمه؟ هل يتحول إلى صمت أم إلى صراع داخلي لا نهاية له؟و في هذا السياق، شدت انتباهي قصيدة الكاتبة والشاعرة حياة الرايس، فأردت أن أتأمل أبعادها الوجودية والجمالية من خلال جدلية العلاقة بين الصمت والرمز في البناء الشعري.

تقول الشاعرة:

هجمة الحياة عليّ...

هذا الصّباح

كنتَ هجمة الحياة عليّ.

وقد كنت أظنني عندكَ نسيا منسيا.

فارتبكتُ واختفيتُ

كطفلة فاجأها العيد على حين غفلة

أنا الصائمة عشرة أهلّة

عمر صمتك المبيّت.

أربكني العيد.

ولا شرائط في شعري

ولا ألوان في فستاني...

من أين يأتي العيد؟

وانت مفارق بعيد5

يا لقلب الطفلة!

"مكسور قلبي يا عشتار" صرخت!

فما استجابت عشتار.

كانت مثلي تكابد هجر تموز.

يا ربّ الذكور:

أعد لي تموز وانا أصلي لك ليلا نهارا

قال ربّ الذكور وقد استوى على عرشه:

ش" ذاك هو تموز بعيد بعييييد... حتّى يدي لا تطالُه.

جالس هناك، على سدرة المنتهى، في حلّته الطقوسيّة، يعزف الناي لامرأة غيرك.

فلا تزعجيه فهو تحت رعايتي "

ور فع يدَه يباركه.

! يا لقلب المرأة

من يطفئ حرائق الغيرة؟

وكعذراء المعبد (وما انا بقدّيسة)

أقمت كرها لا طوعا طقوس الصّمت الجنائزي

عشرة أهلّة كاملة.

والبخور يخنقني ويكتم أنفاسي والنار تلتهم طرف ثوبي وتأتي على جسدي...

ما أصعب ان نحّب في صمت

ان نجّن في صمت

ان نموت في صمت...

***

حياة الرايس شاعرة وروائية تونسية تعيش بسويسرا

1- الصمت الجنائزي: العجز عن التعبير والموت الداخلي

يشكل الصمت محورًا أساسيًا في القصيدة، حيث تصفه الشاعرة بأنه “صمت جنائزي” يمتد لعشرة أهلة، فلا يعكس فقط غياب الكلمات، بل غياب الحياة ذاتها وفي الفلسفة، يرتبط الصمت بفكرة العجز عن التعبير عن المشاعر العميقة، وهو ما أشار إليه هايدغر حين قال "إن الصمت قد يكون أحيانًا أكثر بلاغة من الكلام "فيصبح حالة من القمع العاطفي والاغتراب الداخلي

وقد كان الصمت موضوعًا للعديد من التأملات العميقة الفيلسوف لودفيغ فيتجنشتاين، في كتابه "الرسالة الفلسفية"، قال: "ما لا يمكن التحدث عنه، يجب السكوت عنه" مؤكدًا أن هناك حدودًا للغة في التعبير عن الحقائق العميقة وهذا الصمت ليس غيابًا للكلام، بل هو اعتراف بوجود ما يتجاوز اللغة أما بالنسبة للفيلسوف الصوفي الياباني د.ت. سوزوكي رأى أن الصمت هو اللغة الحقيقية للروح، حيث تتوقف الكلمات عن التعبير ويبدأ الفهم العميق في الثقافة الصوفية، إذ هو وسيلة للاتصال بالذات الإلهية، حيث تتلاشى الحواجز بين الإنسان والكون وفي المقابل، الفيلسوف الفرنسي موريس بلانشو تحدث عن الصمت كتجربة وجودية، حيث يصبح الإنسان واجهة للفراغ والغياب في كتابه "الفضاء الأدبي"، يرى بلانشو أن الصمت هو المكان الذي يلتقي فيه الإنسان بحقيقته العميقة، بعيدًا عن ضجيج العالم الخارجي تجارب مؤلمة ولها أبعاد تتعلق بالحركة والسكون لا تستطيع الكلمات تحقيقها...

2- الغيرة والحب المفقود صراع بين الرغبة والخوف:

تبرز الغيرة كمظهر آخر من مظاهر الألم العاطفي، خاصة حين تتحدث الشاعرة عن تموز، الإله السومري الذي يعزف الناي لامرأة أخرى، مما يعكس صراعًا داخليًا بين الرغبة في الحب والخوف من فقدانه أفلاطون رأى أن الحب هو البحث عن النصف الآخر الذي يكملنا، لكن في هذه الحالة، تشعر الشاعرة أنها فقدت هذا النصف، مما يجعل الغيرة تنبع من خوفها من أن تكون غير مرئية أو مستبدلة وهذا الشعور يضعها في مواجهة حتمية مع الفقدان، حيث يصبح الحب ذاته مصدرًا للألم.

ولعل هذا الموقف يذكرنا بالفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت، في كتابه "انفعالات النفس"، تحدث عن الغيرة كشعور مركب يجمع بين الحب والخوف وفقًا لديكارت، الغيرة هي نتاج الخوف من فقدان الحبيب لصالح شخص آخر، فكرة يجعلها مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالحب والرغبة في الاحتفاظ به في حين أن فريدريك نيتشه، فقد رأى في الغيرة قوة دافعة للتغيير والتحول. في كتابه "هكذا تكلم زرادشت"، قال نيتشه: "الغيرة هي الشرارة التي تشعل النار في الروح"، مؤكدًا أن الغيرة يمكن أن تكون مصدرًا للإبداع والتفوق إذا تم تحويلها إلى طاقة إيجابية.

3- الرموز الدينية والأسطورية: دورة الحياة والموت

تتشابك القصيدة مع الرموز الدينية والأسطورية، خاصة من خلال شخصيتي تموز وعشتار، اللذين يجسدان دورة الحياة والموت في الأساطير السومرية. تضفي هذه الرموز على القصيدة بعدًا فلسفيًا يعكس الصراع الدائم بين الأمل واليأس، بين الخصب والجفاف، بين البعث والموت. في الفلسفة، يمكن النظر إلى هذه الرموز باعتبارها محاولات لتفسير طبيعة الفقدان والتجدد، حيث يصبح الحزن نفسه طقسًا يعيد تعريف الهوية الإنسانية. الطقوس الجنائزية التي تصورها الشاعرة ليست مجرد وداع للحبيب، بل محاولة لإيجاد معنى في فقدانه، رغم إدراكها أن هذا المعنى قد يكون مراوغًا أو حتى غير موجود.

4- الموت في الصمت: فقدان المعنى والغاية

في نهاية القصيدة، يأخذ الصمت بعدًا أكثر حدة، حيث يصبح مرادفًا للموت وليس مجرد نهاية جسدية، بل هو تعبير عن فقدان القدرة على الشعور والمعنى ولقد تحدث كيركغور عن “الموت الوجودي”، حيث يفقد الإنسان غايته في الحياة قبل أن يموت فعليًا هذا ما تعكسه الشاعرة حين تغرق في صمتها، كأنها تدخل في مرحلة من الاضمحلال الذاتي، حيث يصبح الزمن بلا معنى والحياة بلا غاية و تجدر الاشارة الموت كان ولا يزال موضوعًا مركزيًا في الشعر عبر العصور، حيث يعبر الشعراء عن رؤاهم الفلسفية والعاطفية تجاه هذه التجربة الإنسانية العميقة ويتحدث عنترة عن الموت بوصفه قدرًا محتومًا، فيقول:

"وما الموت إلا رحلةٌ لا بد منها"

فإن متُّ فالإقدامُ خيرُ عزاءِ."

فالموت يُرى كجزء طبيعي من الحياة، حيث يتقبله الشاعر بفخر وشجاعة أما في الشعر الحديث، فيأخذ الموت أبعادًا وجودية ونفسية أكثر تعقيدًا فالشاعر الفلسطيني محمود درويش، في قصيدته "أنا من هناك"، يقول:

"أنا من هناك، وأنا هنا،"

ولستُ هناك ولا هنا."

"لي وطنٌ اسمه الغياب."

موت تعبير عن الغربة والضياع، حيث يصبح الغياب وطنًا للشاعر ويطرح أسئلة وجودية حول معنى الحياة والفقدان وكما يبدع الشعراء غالباً لاستعمال اللغة كوسيلة لمواجهة هذا اللغز الإنساني الأبدي..

5- الهوية الأنثوية بين قلب الطفلة وقلب المرأة:

تعكس القصيدة صراعًا مع الهوية الأنثوية، حيث تتراوح الشاعرة بين قلب الطفلة وقلب المرأة، وكأنها عالقة بين براءة مشاعرها وقسوة الواقع الذي يفرض عليها قيودًا اجتماعية. أشارت دي بوفوار إلى هذا الصراع حين تحدثت عن المرأة كـ “الآخر” في مجتمع يهيمن عليه الذكور. هنا، تشعر الشاعرة بالغربة، ليس فقط بسبب الحب الضائع، بل أيضًا بسبب الهوية المفروضة عليها، والتي تجعلها تشعر بأنها مقيدة بصور نمطية لا تعبر عن حقيقتها.

6- الأبعاد الوجودية والروحية والنفسية: الغربة والضياع في مواجهة الألم

تعكس القصيدة أبعادًا وجودية وروحية ونفسية عميقة من الناحية الوجودية، تعبر الشاعرة عن شعورها بالغربة والضياع في عالم يبدو غير مبالٍ بوجودها. يرى كامو في “أسطورة سيزيف” أن الإنسان يعيش في عالم عبثي، لكنه يجد المعنى من خلال مقاومة هذا العبث. هنا، تواجه الشاعرة عبثية وجودها من خلال صمتها وألمها.

أما من الناحية الروحية، تستخدم الشاعرة الرموز الدينية والأسطورية للتعبير عن صراعها مع الفقدان والموت

تنعكس على حالتها من الناحية النفسية، فتعكس القصيدة حالة من الكبت العاطفي والاغتراب الداخلي، حيث يصبح الصمت تعبيرًا عن ألم لا يمكن التعبير عنه بالكلمات تقول الشاعرة: “ما أصعب أن نحب في صمت، أن نجن في صمت، أن نموت في صمت”حالة من اليأس العميق الذي يعيشه الإنسان عندما يفقد القدرة على التعبير عن مشاعره.

7- الحيرة الوجودية:

هل يستطيع الإنسان مواجهة ألمه الداخلي دون أن يفقد هويته؟ هذا هو السؤال الأهم الذي تطرحه القصيدة، حيث تعكس تجربة إنسانية تتجاوز الألم الشخصي لتصل إلى أسئلة وجودية حول معنى الحب والصمت والموت أو ربما علينا العودة إلى الفلسفة الوجودية، التي تتحول فيها حتى مشاعر الغيرة إلى تعبير عن صراع الإنسان مع الآخر في كتابه "الوجود والعدم"، يصف سارتر الغيرة بأنها محاولة للسيطرة على حرية الآخر، حيث يصبح الحبيب موضوعًا للتملك بدلًا من من خلال ولقد ابدعت الشاعرة في توظيف الرموز والأساطير، اذ ترسم صورة لصراع أبدي بين الحياة والفقدان، حيث لا يكون الألم مجرد تجربة فردية، بل هو جزء من الوجود الإنساني ذاته وربما السؤال الذي يجب ان يطرح في هذا السياق هل ينجح الشاعر في الهروب من الغربة الداخلية ؟

أم عليه أن يقتنع بفكرة أن الحياة في جوهرها هي رحلة مستمرة بين البحث عن الحب والخوف من الفقدان؟

***

الباحثة والناقدة: د/ آمال بوحرب – تونس

.........................

المصادر

1. جان بول سارتر- الوجود والعدم

2. مارتن هايدغر، - الكينونة والزمان

3. أفلاطون - المأدبة

4. كارل يونغ، - الأنماط البدئية

5. سورين كيركغور- المرض حتى الموت

6. سيمون دي بوفوار- الجنس الآخر

7. البير كامو- أسطورة سيزيف

8. فريديريك نيتشة - هكذا تكلم زرادشت

9. فرويد - تفسير الأحلام

محمود درويش في حواره مع الذّات

كلمة أولى: محمود درويش هو المبدع الذي كتبت عنه الدراسات والمقالات والأطروحات الأكاديمية الكثيرة، وشغل الناس على اختلاف انتماءاتهم وأذواقهم، والدارسين مع كل قصيدة يكتبها، وبعد كل كتاب يصدر له.

لكن محمود درويش كان يُكثر الشكوى من النقّاد والنّقد، ويرى أنه لم يكتب عنه الذي ينتظره. فقد انشغل معظم مَن كتب عن محمود بجمالية النّص، ووقف على كل حرف وكلمة واستعارة، ومجاز وتفعيلة وإيقاع. لكن القليل منهم مَن تجاوز ذلك إلى العمق، إلى ما تُخفيه الكلمة ويوحي به الإيقاع ويُغَلفه المجاز، وتدفع إليه الاستعارة، وترسمه الصورة. معظم مَن كتب عن محمود انشغل بالنص وبقوقعة محمود درويش في صورته النمطيّة التي رُسمَت له كإنسان وكشاعر.

وظلّ الذي ينتظره مفقودا..

يغتالني النقّاد أحيان:

يريدون القصيدة ذاتَها

والاستعارة ذاتها..

فإذا مشيتُ على طريق جانبيّ شارداً

قالوا: لقد خانَ الطريقَ

وإنْ عثرتُ على بلاغة عُشبة

قالوا: تخلّى عن عناد السنديان

وإنْ رأيتُ الوردَ أصفرً في الربيع

تساءلوا: أينَ الدّمُ الوطنيّ في أوراقه؟

**

يغتالني النقّادُ أحياناً

وأنجو من قراءتهم،

وأشكرهم على سوء التّفاهم

ثمّ أبحثُ عن قصيدتيَ الجديدةْ!

(أثر الفراشة ص 109-110)

محمود الانسان

محمود الذي أقصده محمود الانسان العادي. محمود الطفل، الولد، الابن، الأخ، الصديق، الشاب، العاشق، المعشوق، الحزين، السعيد، الباكي، الضاحك، المعذّب، الغريب، التائه. محمود الذي يبحث عن الصديق الذي يريد أن يبوح له بما يخفي من أسرار، والحبيبة التي يضع رأسَه في حضنها ويبكي، والأم التي يريد أن تُمسّد له شعره، وتُهلل له ترانيم الأمومة الجميلة، وتُطعمه من خبز صاجها، وتُلقّمه بيدها، وتصبّ له فنجان القهوة. محمود الذي إذا ما عاد من حفل التهليل والتكبير الذي أقيم له، يجد نفسَه وحيدا بين جدران أربعة فلا مَن يكلمه، ولا مَن يشرب القهوة معه، ولا مَن ينام وهو على ثقة أنّ هناك مَن يرعاه في نومه، وإذا نام فينام مرعوبا خوف أن يحدث له ما حدث لمعين بسيسو "تتجه نحو الباب فلا ينفتح. تنسى أنّك قد سحبتَ المفتاح من القفل ووضعته على الطاولة. فأنتَ تفعل ذلك منذ فترة طويلة، منذ مات صاحبك في غرفة مغلقة: تُبقي القفل جاهزا لاستقبال مفتاح آخر تحتفظ به مُدَبّرة المنزل التي تأتي في منتصف النهار. فقد تموت ولا ينفتح الباب، فتبقى أنتَ والموت وحيدين في الداخل". (1)

هذا المحمود لم يتناوله الدارسون والنقاد ومَن كتبوا عن محمود.

ومحمود هذا موجود في كل إصدار له.

وبرز في الحوارات المتعددة التي أقامها محمود وسجّلها نثرا وشعرا.

وكان استخدامه للضمائر المختلفة الوسيلة الناجحة في التعبير عنها ونقلها بكل حدّتها وقسوتها.

كلّ منّا عدّة أشخاص في واحد

يكتشف كلّ واحد منّا إذا ما خلا إلى نفسه وراجعها الحساب أنه يتشظى إلى عدّة شخصيات تُكوّنه من حيث لا يدري، تُحاوره ويُحاورها. فمنذ أن يُنبّهك جرسُ الساعة تقوم مخاطبا نفسك "لو بإمكاني النوم أكثر، وعليّ الإسراع. أيّ أعمال شاقّة عليّ هذا اليوم. لأتناول فطوري سَريعا. لا بأس بهيئتي العامّة. التعبُ يبدو عليّ بسبب سهر الأمس. ماذا سيقول فلان عن قرارات الأمس. سأواجهه بالحقائق الصعبة. " وهكذا يستمر الواحد كلّ مع ذاته ومحاوراتها الخاصة.

فكل واحد هو عالم قائم بذاته، هو الواحد والكل، والفَرد والجَمع، أحيانا يتحاور مع نفسه بضمير المتكلم، وأحيانا ينشطر إلى إثنين ويتحاور بضمير المخاطب، وأحيانا يتقمّص الكلّ ويتكلم بضمير الجمع، وفي بعض الحالات يُغيّب نفسَه فيحاورها بضمير الغائب. ويكون الواحد في هذه الحالات الأصدقَ مع نفسه لأنه يتَعرّى أمام ذاته فيُصارحها ويُكاشفها.

الأسلوب الحواري

والأسلوب الحواري في الكلام هو شكل من أشكال التفاعل اللفظي، وكما يقول ميخائيل باختين:" من الطبيعي ألاّ يكون الحوار بمعناه الضيّق سوى إحدى صيغ التفاعل اللفظي، لكن يمكن أن نفهم الحوار بمعناه الواسع. أي ليس فقط كتبادل بصوت عال يستدعي تحاور افراد متواجهين، ولكن نعني به تبادلا لفظيّا كيف كان نوعه"(2).

والحوار الدرامي يأتي على شكلين: "حوار داخلي ينقسم فيه الصوت الأساسي للنص على نفسه حين يحاور الشاعر ذاته ساعة أن يحدث انشطار نفسي في لحظات تأزّميّة أو شعور بالإستلاب. وهذا ما نسميه بالمونولوج"(3)

والشكل الثاني للحوار هو "الحوار الثنائي الذي يتضمّن صوتين مختلفين يُساهمان بحوارهما داخل النص في بناء رؤية الشاعر لعالمه وموقفه الجمالي والفكري."(3) يقول محمود درويش:

لقد قالت لي الأيام إذهب في المكان

تجد زمانك عائدا من موج عينيها

فقلت الجسم لا يكفي لنظرتها

وهذا البحر

ما اسم الأرض؟

بحر أخضر، آثار أقدام، دويلات، لصوص، عاشقات،

أنبياء، ما اسم الأرض؟

شكل حبيبة يرميك قرب البحر

ما اسم البحر؟

حدّ الأرض. حارسها، حصار الماء. أزرق أزرق

امتدّت يدان إلى عناق البحر فاحتفل القراصنة

البدائيّون والمتحضّرون بجثّة. فصرختُ: أنت

البحرُ. ما اسم البحر؟

جسم حبيبة يرميك قرب الأرض. (4)

والثاني الحوار الخارجي.. الديالوج: وهو عند محمود درويش يأتي كوظيفة. "بمعنى أن الحوار له دوره البنائي في مجمل العلاقات النصيّة"(5)، وفي "تعميق الموقف الغنائي وتنميته من خلال تفريد الصوت الجماعي إلى آحاده في تفاعلها الكلامي أو حوارها"(6). وفي المصالحة بين اللغة الشعرية والشكل الدرامي حيث "لا يلتقي الصوتان عند دلالة جزئية وإنما يشتبكان في أفق المعنى الشعري الكلي حيث تكسو لحظةَ الحوار ظلال رمزية تُبعد بها عن الوقوع في دائرة المباشرة وتمنحها عمقا انسانيا"(7) وتمزج ما بين التجربة الشخصية والهموم العامة، "وينعكس التوتر بين العام والخاص على المعنى، وذلك يبدو في موضوعات الحب والمرأة، وعلاقة الانسان بالطبيعة وبالطفولة والمدن وبالمنفى"(8). حيث يبدأ محمود درويش من تجربة شخصية ليعطيها إطارا عاما حيث "يتبادل "أنا" الشاعر المتكلم و"أنا" الجامعية أو نحن"(9). فيكون الاندماج بين "الأنا" و "النحن" أي الذات والجماعة في الحوار الدرامي الذي يجريه ما بين الأنا والأنتِ كما في قصيدة "يطير الحمام":

قلت: نسيتُ انتباه يديك

نسيتُ التراتيلَ فوق جروحي

فكم مرّة تستطيعين أن تولدي في مَنامي

وكم مرّة تستطيعين أنْ تقتليني لأصرخَ إنّي أحبّك كي تستريحي

أناديكِ قبل الكلام

أطيرُ بخصركِ قبل وصولي إليكِ

فكم مرّة تستطيعين أن تضعي في مناقير الحمام

عناوين روحي؟ وأن تختفي كالمدى في سفوحي

لأدرك أنّكِ بابل مصر وشام

يطير الحمام

يحطّ الحمام

-إلى أين تأخذني يا حبيبي من والدي

ومن شجري. ومن سريري الصغير. ومن ضجري

من مَراياي من قمري، من خزانة عمري ومن سَهري، من ثيابي

ومن خفَري، إلى أين تأخذني يا حبيبي.. إلى أين؟

تُشعل في أذني البراري، تحملني

موجتين، وتكسر ضلعين تشربني ثم توقدني ثم تتركني

في طريق الهواء إليكَ..

حرام حرام

يطيرُ الحمام

يحطّ الحمام. (10)

السؤال المعذّب والاستفزاز المُثير وقرار الرّحيل

يقف المتتبع لشعر ونثر محمود درويش منذ ترك الوطن عام 1970 على سيرة ذاتية تتوزّع على حلقات متتابعة مترابطة تُكمل الواحدةُ سابقتَها، وكثيرا ما تَتداخل فيها، بطلها هو محمود درويش الذي كغيره من أبناء شعبه عذّبه السؤال الدائم:

- مَن أنت؟ وماذا يعني الوطن لك؟ وأيّهما أكثر إيلاما أن تكون لاجئا في أرض سواك أم تكون لاجئا في أرضك؟!

 واستفزته مقولة الفيلسوف الصهيوني الوجودي مارتن بوبر: "إنّ الانسان يرتبط بما حوله عن طريقين: طريق "أنا وهو" وطريق "أنا وأنت". علاقة "أنا وهو" توجد في المكان والزمان وتخضع لقانون السببية. وفي هذه العلاقة لا تظهر الحرية، بل الضرورة. أمّا علاقة "أنا وأنت" فتوجد خارج الزمان والمكان وهي مستقلة عن قانون السببية. وتظهر هنا الحرية لا الضرورة. على هذا الأساس. يكون الوجود غير الحقيقي للانسحان عندما يوجد في علاقة "أنا وهو". والدين اليهودي هو الدين الحقيقي الوحيد القائم على أساس علاقة "أنا وأنت". ولأن اليهود متمسكون بهذا الدين الحقيقي فإن علاقة اليهود بفلسطين ليست كعلاقة العرب بها. لأن العرب موجودون في فلسطين بعلاقة "أنا وهو" ولذا من السهل قطع هذه العلاقة ومن الممكن نقلهم إلى أمكنة أخرى."(11)

محمود الذي قرّر أن يوجد الانسجام، ويجد الجواب على السؤال، ويُثبت سخافة مقولة مارتن بوبر، قرّر الرحيل وترك الوطن ليُحقّق الانسجام بين هويّته الغامضة على الورق والساطعة في القلب، وليجد الجوابَ على السؤال الذي يلاحقه طوال ساعات يومه:

- مَن أنت؟!

"فأن تكون منسجما مع نفسك ومع تاريخك معناه أن تكون حيث يكون شعبك(12) والوطن لا يعني الخارطة لأنها شبيهة بالرسم التجريدي, وقبر جدّك ليس إجابة لأن غابة صغيرة كفيلة بأن تخفيه. وأن تبقى بجوار الصخرة ليست أيضا إجابة كافية لأنّ اغترابك ليس شيئا ماديّا فقط"(13) وكان قرار الرحيل:

ليوم يحددني موعدا، قلتُ للكرمل: الآن أمضي.

وينتشر البحر بين السماء ومَدخل جرحي

وأذهبُ في أفق ينحني فوقنا، ويصلّي

لنا. أو يكسّرنا. هذه الأرض تُشبهنا

حين نأتي إليها. وتُشبهنا حين نذهب عنها.

تركتُ ورائي ملامحَها. واسمُها كان يمشي أمامي

يُسمّي ملامحها وانفجاري. تركتُ سرير الولادة

تركتُ ضريحا مُعدّا لأيّ كلام.

تركتُ التي أوجعَتها ذراعي. تركتُ التي أوجعتني يداها.

تُفتّش عن عاشق بعد خمس دقائق من هجرتي (14)

ثورة على الظلم وسحر الضوء الآتي من البعيد

 محمود درويش ككثيرين غيره من الشباب العرب في إسرائيل في أواخر الخمسينات والستينات من القرن الماضي (القرن العشرين) رأى في الأشقاء في العالم العربي الأمل والخلاص، وحلم أن يكون بينهم في القاهرة ودمشق وبغداد التي يراها من خلال ما يسمع بأذنيه ما يسحره ويُؤجج حماسه ويلهفه ويشدّه إليها.  وكانت الانتصارات لحركات التحرر في العالم العربي والآسيوي والإفريقي وأميركا اللاتينية تلهب خياله، ومثّل له جمال عبد الناصر البطل المخلص والمنتصر رغم الانكسارات والهزات، وكان لظهور حركة فتح شمسا مشرقة بعد هزيمة حزيران 1967وبعدها حرب الاستنزاف على قنال السويس أن تركت أثرها على الكثيرين من الشباب ودفعتهم لردّة الفعل العنيفة على ظلم وملاحقة السلطات الإسرائيلية لهم أن قرروا تَرك الوطن للعيش في بلد عربي، وبالتحديد مصر وسوريا.

خيبة الأمل

لكن محمود كغيره سرعان ما فُجع بعد رحيله بواقع العالم العربي وموقفه الرّافض للفلسطيني:

وكنتُ على باب أمّي هناك أنادي دمشق

فتسمع نبض دمي في حفيف صنوبركَ المبتعد

وتغسلني دجلةُ الخير حينَ أموت من الوَجد شوقا إلى أرض بابل.

وها أنذا الآن

حين دخلتُ إلى الجامع الأمويّ تساءلَ أهلُ دمشق:

مَن العاشقُ المُغترب؟

وكانت مياه الفرات ونافورة النيل تحذف آثار زنزانتي عن ضلوعي.

وحين وقفتُ على النيل يوما، وشاطىء دجلة يوما

تساءل كلّ الذين رأوا دهشتي

مَن السّائحُ المغترب؟ (15)

راشد حسين والحزن المشترك

ومشهد الفلسطيني المرفوض يتكرّر مع راشد حسين. ففي رسالة لمحمود درويش أرسلها من باريس يوم 25.8.1986 إلى سميح القاسم يقول فيها: "اتصل راشد حسين بي من نيويورك عندما كنت مقيما في القاهرة. دعوته إلى زيارتي فلبّى الدعوة بطيبته المعروفة. أوقفوه أربع ساعات في المطار. وحين أفرجوا عن قامته الفارعة، وعانقته مداعبا خصلة شعره الشاردة، قال لي اسمع! قلت: ماذا؟ قال:

واقف كلّي مذلّة         في مطار القاهرة

ليتني كنت طليقا         في سجون الناصرة

قلت له: مَن منّا لم تستقبله هذه الحسرة؟ ذاهبون إلى بلاد الأحلام ليدفعنا أوّل شرطي إلى بئر الخيبة. طأطأ شغفه وواصل العناق. وقلت له لأواسيه: حدث لي ذلك على الحدود السورية- اللبنانية في أول زيارة لدمشق بدعوة رسمية من وزارة الثقافة، حين وجد حارس الحدود اسمي مُدرجا على اللائحة السوداء. (16)

انشطار الذات والشعور بالوحدة

منذ ذلك اليوم الخاص الذي تركَ فيه الوطن وانتقل للحياة في المنفى حكم على نفسه من حيث لا يدري أن يعيش في شخصيتين متلازمتين، فشل في إذابة واحدتهما في الأخرى. "ولد الماضي فجأة كالفطر. صار لك ماض تراه بعيدا"(17) في هذه العودة التي لا تنفك تولد في الحاضر.

الوحدة الذاتية التي وجد نفسه فيها كل لحظة اختلى فيها مع نفسه تركته في مواجهته مع ذاته، لا يجد غيرها ليُحاورها ويكشف أمامها عن خوالج مشاعره وحقيقة الذي يفكر فيه. وهو يصارح سميح القاسم في إحدى رسائله (25.8.1986) "أصابني هذا الصباح ما أصابني أمس من بلوى ضعف حين أوصلتُ الصبيتين، ابنتي أخي، إلى المطار. جميع الركاب عائدون إلى ما هو لي، عائدون إلى صنوبرتي وسريري. وأنا ممنوع من التفكير بالعوة.. وممنوع من الرغبة في العودة. ماذا أصابني يا عزيزي. لماذا أعود إلى اكتشاف البسيط. ألئنّني كبرت دون أن أدري. ألئنّ الطفولة التي كبرت في غيابي دلّتني على أنّ الكلمات- مهما كبرت واتسعت واشتدت- لا تُنجب طفلا من لحم ودم، وأنه لا بدّ للطفل من أم؟ وأنني في حاجة عضوية ونفسية إلى مَن أصبّ له الحليب والشاي في الصباح؟ وأنني في حاجة إلى مَن أعود إليه في غرفة في فندق

أن تكون معي.. أن يكون أحد أفراد عائلتي معي.. أن يكون أحد من أصدقائي القدامى معي.. هو الدليل الأخير والوحيد على أنني موجود. ماذا دهاني؟ إلى هذا الحدّ تحتاج القربى والصداقة إلى تاريخ وأمهات وسجون قديمة؟ إلى جذور وذكريات؟ (18)

أنقذني يا عزيزي سميح من سطوة هذا الحنين. أنقذني من شماتة هذا المطار الذي يوصلكم إلى بيوت من حجر، ويوصلني إلى بيت من هواء!."(19)

البَوح بالندم واظهار الرغبة بالعودة للوطن

وفي رسالة أخرى أرسلها إلى سميح القاسم من باريس يوم (19.5.1986) يختتمها بهذه الكلمات الحارقة:

"قريبا؟ ست عشرة سنة! ست عشرة سنة كافية لتقبل بنيلوب وُدّ خطّابها وتلعن بحر إيجة. ست عشرة سنة كافية لأن تتحوّل الحشرات الصغيرة على جراح أيوب إلى طائرات نفّاثة. ست عشرة سنة تكفي لأصرخ: بدّي أعود. بدّي أعود. كافية لأتلاشى في الأغنية حتى النصر أو القبر.

ولكن، أين قبري يا صديقي؟ أين قبري يا أخي؟ أينَ قبري؟". (20)

هذا الحنين إلى الوطن والأهل والأصدقاء الذي تفجّر داخل محمود درويش وبرز بتكراره المرات العديدة في كتاب "في حضرة الغياب" للسؤال الذي أثار الكثير من الأسئلة "لماذا نزلت عن الكرمل؟" تجسّد في عنفوانه وصراحته وصدقه في كلمات محمود درويش:

أحبّ البلاد التي ساحبْ

أحبّ النساءَ اللواتي أحبْ

ولكنّ غصنا من السّرو في الكرمل الملتهب

يُعادلُ كلّ خصور النساء

وكلّ العواصم.

أحب البحار التي سأحبّ

أحبّ الحقولَ التي سأحبّ

ولكنّ قطرةَ ماء بمنقار قُبّرة في حجارة حيفا

تُعادل كل البحار

وتغسلني من ذنوبي التي سوف أرتكبُ

أدخلوني إلى الجنّة الضائعة

سأطلق صرخةَ ناظم حكمت:

آه.. يا وطني! (21)

ويطرح نفس الموقف الحاد في كتاب "في حضرة الغياب": فماذا تفعل حين تصل إلى الكرمل غير أن تسأل: لماذا نزلتَ عن الكرمل؟ وفي نفسك الأمّارة بالحيرة جواب مبهم: لكي أتعلّم المشيَ على طرق لا أعرفها. (22) وعلى الطريق الساحليّ تساءلتُ: ماذا لو بقيتُ في حيفا؟ ماذا لو بقيتُ في أيّ مكان؟ ماذا لو كنتُ؟ ماذا لو لم أكن. تتحاشى الوصول إلى الخلاصة. "(23)

كان يجد نفسه في مواجهة حادة ما بين الحاضر الذي يعيشه والماضي الذي كان، فيختلط الواحد بالثاني، وتتبدّل المواقع والرؤى، لكن الأمل بالمستقبل يكون الأقوى، فتكون نبرته القوية الواثقة ببناء عالم فيه من سحر الماضي والتعويض عن الحاضر.

يوميات الحزن العادي وانشطار الذات

كانت "يوميات الحزن العادي" عام 1973 هي الكاشفة لهذا الانشطار الذاتي  داخل محمود درويش. واستمر في رعايته وتشذيبه وتطويره وتجميله حتى كان "في حضرة الغياب" على أكمل صورة أدبيّة نصيّة "لا هي شعر وإن كان فيها من سحره الكثير، ولا هي نثر وإن كان فيها من حكمته وإيقاعيته ما لا يُحصى"(24).

فمحمود درويش قضى حياته يعيش ما بين الماضي البعيد "الذي يرى فيه الفردوس المفقود تارة والجحيم الدائم تارة أخرى وبين الحاضر الذي يُمثّل له الهاوية وانزلاق مستمر في المجهول"(25)

هكذا قضى حياته يتمزّق بين نقيضين:

 الماضي الذي يشدّه إلى الوراء والحاضر الذي يأخذه إلى المجهول.

وإذا ما أمل بالمستقبل الآتي تَمثل له منطقة يصعب عليه ترسّم معالمَها.

يأخذنا محمود درويش في شطحات وجدانية ذهنية تصف الفوضى النفسية التي تعتريه، فتتداخل الهموم الذاتية بالعامة، ومشاكل العالم الكبير بقضايا الانسان العادي البسيط، والموت بالحياة. وهو يعترف بقوله: "وأهذي وأعرف أنني أهذي، ففي الهذيان وعي المريض برؤياه"(26)

وكأننا بمحمود وهو يستعيد الماضي يريد أن يكتبه من جديد، ليس ليطلع عليه الناس، وإنما يكتبه لنفسه، لربما كان بإمكانه أن يعيد بناء هذا الماضي من جديد، وكما يريده هو.

ساعات التوحد مع الذات كثيرة في حياة محمود درويش، وزادت مع التّقَلبات المتتالية التي لاحقت الشعب الفلسطيني حيثما تَواجَد. وكانت أحداث لبنان عام 1982 واضطرار الفلسطينيين على الرحيل فوق السفن اليونانية لتُلقي بهم على شواطىء المتوسط، ومجازر صبرا وشاتيلا ونهر البارد الأكثر تأثيرا على حياة محمود وذاتيته العميقة، وبرزت بكل حدّتها ودراميتها وشفافيتها في قصيدته الملحمية "مديح الظل العالي".

خيبات الأمل المتتالية

وكان التدهور الصحي ومواجهة الموت أكثر من مرّة، وإدراك أن العمر يمضي ولا أمل في تحقيق ما خرج ليُحققه. وكانت النكسة الأقسى في اتفاقيات أوسلو. "هل انتهت الرحلة أم بدأت؟ هل اقترب هو من المكان أم افترق المكان عن صورته في المخيّلة؟"(27) ولم يُصَدّق الذي يراه وهو يتسمّر أمام التلفزيون "تسمرت أمام التلفزيون، واتخذت هيئة المحايد في حضرة الحيرة التي أقامت حاجزا بين العقل والقلب. العقل يقول: إنها مسرحية فاشلة باطلة. والقلب يسأل: كيف أنجو من سحر الإخراج؟"(28) ويسمع ولا يفهم ما تلتقط أذناه "لكن اللغة التي تسمعها تعيد قلبك إلى صوابه: لا، ليست هذه لغتي. فأين بلاغة الضحية التي تسترجع ذاكرة عذابها الطويل، أمام شقاء اللحظة التي ينظر فيها العدوّ في عين العدوّ ويشدّ على يده بإلحاح؟ أين أصوات القتلى السابقين والجدد الذين يُطالبون باعتذار لا من القاتل فحسب، بل من التاريخ؟ أينَ حيرة المعنى في لقاء الضدّ بالضد؟ واين الصرخة الملازمة لعمَلية جراحيّة يُبتَر فيها الماضي عن الحاضر في مغامرة السير إلى غَد ملتبس.. وأين لغتي؟."(28)

وصدق حَدسُه عندما قال في قصيدته "مديح الظل العالي" :"ما أكبر الفكرة، ما أصغر الدولة""(29)(حصار لمدائح البحر. منشورات الأسوار عكا- عربسك. ص182) فقد تصاغرت الدولة التي حلم بها لتنحصر في كنتونات متقطعة الأوصال تحيط بها حراب جند الاحتلال، ولا عبور من كنتون لآخر إلاّ بتصريح من الحاكم الغريب. وأدرك أنّ العمر ضاع هباء وأنّ الأمل تقلص وتذاوب.

سهام الاتّهامات المسمومة

وطاردته الأسئلة المتهمة أينما توجّه بسهامها المسمومة: ماذا ستكتب من دون منفى؟ وماذا ستكتب من دون احتلال؟ ويصرخ بحدّة: "لماذا لا تُوَجّه مثل هذه الأسئلة إلى شعراء شعوب أخرى؟ ألئنّ شرط الإبداع الفلسطيني هو العبودية، أم لأنّ الحرية لا تليق بإيقاعاتنا؟ وما معنى أنْ يكون الفلسطيني شاعرا، وما معنى أن يكون الشاعر فلسطينيّا؟ الأول: أن يكون نتاجا لتاريخ، موجوداً باللغة. والثاني: أن يكون ضحية لتاريخ، منتصرا باللغة. لكن الأول والثاني واحد لا ينقسم ولا يلتئم في آن واحد."(30)

المجيء إلى غزة بمشاعر الخجل

وجاء إلى غزة تحاشيا لكثرة السّهام المسمومة المتّهمة، وتمنى لو كان معين بسيسو ابن غزة في استقباله، ويصف دخوله في حواره مع نفسه "في الظلام دخلنا، أو تسللنا إلى غزة. تركتك تمشي أمامي، وحملتُ عنك خيالك. فلستَ بقادر على صيانته من الوقوع على صلابة الواقع. ورأيتك تخفي وجهك عن إلحاح الكاميرت المنصوبة لالتقاط نشوة العائد، ولتصوير الكلمات المُعدّة لهجاء المَنفى. وتسير في أزقّة غزة خجلا من كل شيء: من ثيابك المكويّة، ومن جماليات الشعر، ومن تجريديّة الموسيقى، ومن جواز سفر يُتيح لك إمكانيّة السفر إلى العالم. يُصيبك وجع في الوعي. غزة المتعالية على مخيماتها وعلى اللاجئين، المتوجّسة من العائدين، فلا تعرف من أية غزة أنت. وتقول: أتيتُ، ولكنني لم أصلْ، وجئتُ، ولكنني لم أعد"(31)

وفي الطريق إلى بيت الأهل في الشمال يعذبه السؤال الصعب: "ماذا تفعل حين تصل إلى الكرمل غير أن تسأل: لماذا نزلتَ عن الكرمل؟ وفي نفسك الأمّارة بالحيرة جواب مبهم: لكي أتعلّم المشيَ على طُرق لا أعرفها."(32) ويتقرفص داخل نفسه في حالة من اللاراحة العَبثيّة "تخاف على الحاضر من سطوة الماضي، وتخاف على الماضي من عبثيّة الحاضر، فلا تعرف أين تقف من هذا المفترق. هل أنتَ ما كنتَ أم أنتَ ما تكون الآن؟ وتخاف نسيان الغد في حمأة السؤال: في أيّ زمن أنا؟" (32).

افتقاد الصديق الصّدوق

لم يكن من السهل على محمود درويش أن يجد له الصديق الذي يبادله الأسرار والهموم الذاتية ومشاعر الفرح والحزن. حتى الزوجة لم تنجح في ذلك، ولهذا تهدّم عشّ الزوجية مرتين، وقد يأتي اليوم الذي ستبوح فيه زوجته الأولى رنا عصام القباني السورية بأسرار سنوات زواجهما. لقد وجد محمود هذا الصديق في سميح القاسم قبل مغادرته البلاد عام 1970. ووجده في معين بسيسو بعد الرحيل. وافتقده حتى آخر أيام حياته بعد موت معين بسيسو عام 1985. لقد آثر التوحّدَ مع ذاته على مرافقة الغير وهدر الساعات معهم، وكان يقضي أياما لا يغادر غرفته.

إيثار الوحدة ومحاورة الذات بلعبة الضمائر

ساعات الوحدة كانت تتركه يحاور نفسَه ويبادلها الكلام. أو يدخل حالة الانفصام ويتشظى إلى العديد من الشخصيات، فيُقيم الحوارات ما بينَه وبينَه ومع الآخر والمتَخَيّل والغائب والحاضر، يريد أن يبوح بما يعتمل ويتفجر في داخله:

في البيت أجلس، لا حزينا لا سعيداً

لا أنا، أو لا أحد.

**

وكأنني وحدي. أنا هو أو أنا الثاني

رآني واطمأنّ على نهاري وابتعد.

**

في البيت أجلس، لا سعيدا لا حزينا

بين بين. ولا أبالي إنْ علمت بأنّني

حقّاً أنا.. أو لا أحد. (33).

  "الضمير الأكثر تفضيلا بالسرد هو ال "هو" أو ال "هي""(34). وأكثر من نص كامل بني على الحوار بهذين الضميرين:

هي: هل عرفتَ الحبّ يوما؟

هو: عندما يأتي الشتاء يمسّني

شغف بشيء غائب، أضفي عليه

الاسم، أيّ اسم، وأنسى..

هي: ما الذي تنساه؟ قل!

هو: رعشة الحمّى، وما أهذي به

تحت الشراشف حين أشهق: دثّريني

دثّريني!

هي: ليس حبّا ما تقول

هو: ليس حبّا ما أقول

هي: هل شعرتَ برغبة في أن تعيش

الموت في حضن امرأة؟ (35)

وتستمر الحوارية بالطريقة ذاتها، فيما تعتمد قصائد اخرى على أسلوب الراوي قالت/قال..

قال لها: ليتني كنتُ أصغر..

قالت له: سوف أكبر ليلا كرائحة

الياسمينة في الصيف

ثم أضافت: وأنت ستصغر حين

تنام، فكل النيام صغار. وأمّا أنا

فسأسهر حتى الصباح ليسودّ ما تحت

عينيّ. خيطان من تَعَب مُتقَن يكفيان

لأبدوَ أكبرَ. أعصرُ ليمونة فوق

بطني لأخفيَ طعمَ الحليب ورائحة القطن.

أفرك نهديّ بالملح والزنجبيل فينفر نهدايَ

أكثر

قال لها: ليس في القلب متّسع

للحديقة يا بنت.. لا وقت في جسدي

لغد.. فاكبري بهدوء وبطء

فقالت له: لا نصيحةَ في الحبّ. فخُذني

لأكبرَ! خُذني لتصغُرَ

قال لها: عندما تكبرين غدا ستقولين:

يا ليتني كنتُ أصغر

قالت له: شهوتي مثل فاكهة لا

تُؤَجّلُ.. لا وقتَ في جسدي لانتظار

غدي. (36)

وقد يليهما ال "أنا" ثم ال "أنت". ومن النادر أن يكون السرد بأحد ضمائر الجمع"(37).

استعمال ضمير "الأنا" فيه الرغبة بالانطواء الذاتي والمصارحة التامة مع الذات والبوح الكامل عمّا يُثقل النفس من آلام وهموم، وما يشدّها ويدفعها من أحلام وآمال ورغبات. وفي الوقت ذاته في استعمال ضمير الأنا يجد إمكانية التبرير وخلق الأعذار لما قام به من أخطاء وطلب الشّفاعة والرحمة والبراءة.

وأنظر نحو نفسي في المرايا

هل أنا هو؟

وهل أقدّم جيّدا دوري من الفصل الأخير

وهل قرأت المسرحيّة قبل هذا العرض

أم فرضَت عليّ

وهل أنا مَن يؤدي الدور

أم أنّ الضحيّة

غيّرت أقوالها

لتعيش ما بعد الحداثة

بعدما انحرف المؤلف عن سياق النص

وانصرف الممثل والشهود. (38)

بينما في استعمال ضمير "الهو" يجد الوسيلة للتهرّب من تحمّل أيّة مسؤولية حيث لا وجود للآخر. والمسؤولية كلها تُلقى على البعيد غير المُحدّد والمجهول الهويّة فيُعفي النفس من حمل تبَعة وزرها ونيل العقاب.

ويوفّر ضمير "النحن" الشعور بالطمأنينة والحماية الجماعيّة، وانك لست وحدك، فأنت وسط جماعة تحمل معك المسؤولية وتُشاطرك العبء في المواجهة وإيجاد الحلول لكل مشكلة.

استعمال أيّ من ضمائر السرد "يستلزم وجود ثنائيّة "الأنا والآخر"، وتكون الثنائيّة في حالة "الأنا" وأيضا الأنت" واضحة حيث كلّ ما يقع خارجها ينتمي إلى خانة الآخر"(39).

ازدياد خفقات القلب وانشطار الواحد في اثنين

مع مرور السنوات ازداد شعور محمود درويش أن حياته تقترب من النهاية لأن القلب الذي أجريت له العملية مرتين، لم يعد قادرا على الخفقان بانتظام، وإلحاح الأطباء وتحذيره من التعب وبذل الجهد، زاد عزوفه عن رفقة الآخرين وإيثاره الوحدة، والتحاور مع نفسه ومكاشفتها بكل ما يشعر به، والإكثار من استحضار شبح الموت ومحاورته بشتى الأساليب والكلام، وكان إذا رَكَن إلى النوم يخاف أن يغدرَ الموتُ به، ويحدث له ما حدث لمعين بسيسو. لهذا كان يترك مفتاح باب بيته بعيدا عن القفل حتى يكون بإمكان خادمة البيت أن تفتحه بمفتاحها عندما تحضر ظهر اليوم التالي لتنظيفه وترتيبه (1).

وتتجلى روعة المزج بين الضميرين أنا وأنت لتنهي حالة الانفصام بينهما في "الجدارية":

لا أحد هنالك

في انتظاري. جئت قبل، وجئت

بعد، فلم أجد أحداً يُصدّقُ ما

أرى. أنا مَن رأى. وأنا البعيدُ

أنا البعيدُ.

مَن أنتَ، يا أنا؟ في الطريق

اثنان نحنُ، وفي القيامة واحد.

خُذني إلى ضوء التلاشي كي أرى

صَيرورتي في صورتي الأخرى. فمَن

سأكون بعدكَ، يا أنا؟ جسدي

ورائي أم أمامك؟ مَن أنا يا

أنتَ؟ كوّني كما كوّنتُك، ادّهنّي

بزيت اللوز، كلّلني بتاج الأرز.

واحملني من الوادي إلى أبديّة

بيضاءَ. علّمني الحياة على طريقتك،

اختبرني ذرّةً في العالم العُلويّ.

ساعدني على ضجر الخلود، وكُن

رحيما حين تجرحني وتبزغ من

شراييني الورود. (40)

(جدارية –رياض الريس للكتب والنشر، بيروت –لندن 2000. ص 44-45)

أمّا في حالة السّرد بضمير "الهو" فتغيب ثنائية الأنا والآخر بشكل شبه كامل (41)

استعمال ضمير "الأنت" "يدخل في التباس بضمير الأنا وبالآخر. فحين يخاطب السارد الضمني الشخصية الأبرز في رواية ما جاعلا ذلك سبيلا إلى الإسراف في المكاشفة والبوح، يصير صعبا فصل أحدهما عن الآخر، فالسارد الأنا، القادر على النفاذ إلى أدقّ الدقائق وأكثرها غموضا واستغلاقا على الكشف في أعماق المخاطب لا يمكن أن يكون منعزلا خارج موضوع المكاشفة والبوح، أي لا يمكن إلاّ أن يكون قائما بسرد نفسه وأعماقه، جاعلا ضمير الأنت مجرّد مطيّة ليتّخذ البوح منحى أسلوبيّا مميّزا في عملية السرد"(42)

لكن تظل لضمير "الأنت" ميّزته وتفرّده حيث أنّه الأكثر حدّة ومُواجهة وصَراحة وقوّة في المكاشفة وعدم افساح المجال للتهرّب. 

هذا التفرّد المتميّز لضمير "الأنت" هو الذي جعل محمود يجد فيه بغيته واختياره. فقد اكتشف بعد فوات الأوان، ورثاء الذات مع ضمير "الأنا"، والهروب مع الغيّاب في ضمير "الهو". أنه لا وسيلة للمصارحة والمكاشفة والمواجهة غير ضمير المخاطب "أنت" فكان اختياره منذ "يوميات الحزن العادي" عام 1973. وكان ضميره الوحيد في كتاب سيرته الذاتية "في حضرة الغياب" عام 2006 وحتى لحظات عمره الأخيرة.

"سطراً سطراً أنثرك أمامي بكفاءة لم أوتها إلاّ في المطالع. وكما أوصيتَني، أقفُ الآن باسمك كي أشكرَ مُشيّعيكَ إلى هذا السفر الأخير، وأدعوهم إلى اختصار الوداع، والانصراف إلى عشاء احتفاليّ يليق بذكراك.

فلتأذن لي بأنْ أراكَ، وقد خرجتَ منّي وخرجتُ منك، سالما كالنثر المُصفّى على حجر يخضرّ أو يصفرّ في غيابك. ولتأذن لي بأن ألمّك، واسمَكَ، كما يلمّ السابلةُ ما نسيَ قاطفو الزيتون من حبّات خبأها الحصى. ولنذهبَنّ معا أنا وأنتَ في مَسارَين:

أنتَ إلى حياة ثانية، وعدَتكَ بها اللغة، في قارىء قد ينجو من سقوط نَيزك على الأرض.

وأنا، إلى موعد أرجأتُه أكثرَ من مرّة، مع موت وَعَدْتُهُ ُ بكأس نبيذ أحمرَ في إحدى القصائد. فليس على الشاعر من حَرَج إنْ كذب. وهو لا يكذبُ إلاّ في الحبّ لأنّ أقاليم القلب مفتوحة للغزو الفاتن."(43).

الخلاصة

محمود درويش المبدع الذي شكّل ظاهرة فريدة في حركة الإبداع العربية في العصر الحديث، تمثّلها الكثيرون وحاولوا تقليدها واتّباعها، وشغل بعد كل إصدار جديد له وحتى قصيدة الناس في التفسير والتحليل والمناقشة. كان يشكو من انشغال النقاد والدارسين بنصّه واهمالهم لما يعتمل في داخله وكوّن شخصيته وبَلور همومَه وحرّك أحاسيسَه. محمود درويش الذي سُحر بالمنفى وسرعان ما شعر بخيبة الأمل وجد نفسه فجأة يعيش عالمين متباينين، وانشطر إلى اثنين وتشظى إلى كثيرين، وعاش حياته وحيدا لا يجد الصديق الذي يركن إليه ويبادله الهموم، والأحلام، والفرحة، والدمعة. 

 ***

د. نبيه القاسم

أمنيات رمضانية...

لو أنني الربيعُ

لما تركتُ صحراءً إلآ وأقمتُ فيها

مهرجانَ خُضرتي..

*

لو أنني الخريفُ لانتحرتُ

كي لا تحني الوردةُ رأسَها

خجَلا ً من الفراشات..

*

لو أنني مطرٌ لواصلتُ بكائي

كي تضحكَ السنابلُ

وتستعيدَ الجداولُ الخرساءُ حنجرةَ الخرير..

*

لو أنني سوطٌ

لجَلدتُ الجلاّد..

*

لو أنني فِراءٌ

لكسَوتُ أقدامَ الحفاة..

*

لو أنني طاعونٌ

لاتخذتُ لصوصَ المنطقة الخضراء

حقلاً لِمِنجلي ..

*

لو أنني كرسيُّ عرشِ قصر الخلافة ِ

لتحوَّلتُ الى خازوق

كي لا يتقاتلَ الدهاقنةُ

من أجل الجلوس عليَّ!

*

لو أنني حرف الراء

لهربتُ من كلمة " الحرب "..

***

يحيى السماوي

..........................

القراءة:

1- الهيكل والأسلوب:

تتكون القصيدة من مقاطع متكررة تبدأ بعبارة -لو أنني-، مما يخلق إيقاعاً تأملياً يعكس رغبة المتكلم في التحول إلى قوى طبيعية أو أشياء لتحقيق العدالة والرحمة. يستخدم السماوي التناقضات والاستعارات الجريئة لربط المفاهيم المتناقضة -مثل البكاء لخلق الفرح، والانتحار لحماية الجمال-، مما يعمق تأثير الرسالة.

2- المواضيع الرئيسية:

أ- العدالة الاجتماعية:

الرغبة في محاربة الظلم جلد الجلاد بالسوط، تحويل الكرسي إلى خازوق.

ب- التضحية الذاتية:

التخلي عن الذات لحماية الآخرين انتحار الخريف لإنقاذ الوردة، المطر الذي يبكي لإسعاد السنابل.

ج- نقد السلطة:

هجوم على الفساد السياسي والديني لصوص المنطقة الخضراء، صراعات الدهاقنة حول العرش.

د- السلم والسلام:

الهروب من الحرب عبر تحطيم اللغة كهروب حرف الراء من كلمة حرب.

3- الرموز والاستعارات:

أ- الفصول والطبيعة:

الربيع رمز للتجديد، الخريف للتضحية، المطر للدموع التي تمنح الحياة.

ب- الأشياء اليومية:

السوط كأداة مقاومة، الفراء كرمز للعطاء.

ج- اللغة:

تفكيك كلمة حرب لإظهار إمكانية تحولها إلى سلام بتعديل حرفي.

4- السياق الثقافي والسياسي:

أ- المنطقة الخضراء:

إشارة إلى المنطقة المحصنة في بغداد، والتي ارتبطت بالسلطة الأجنبية والفساد بعد غزو العراق.

ب- الخلافة والدهاقنة:

نقد للنخب الدينية والسياسية التي تتقاتل على السلطة، متجاهلة مصالح الشعب.

الأبعاد الفلسفية:

أ- قوة التحول:

إيمان الشاعر بإمكانية تغيير الأدوار الظالمة مثل تحول الكرسي إلى أداة عقاب.

ب- التناقض الإنساني:

الجمع بين الألم والأمل دموع المطر التي تخلق الخضرة، انتحار الخريف لحفظ كرامة الوردة.

5- اللمسة الإنسانية:

تتجلى في الاهتمام بالمهمشين والحفاة وفي استخدام عناصر بسيطة حرف الراء لإحداث تغيير جذري. القصيدة تعكس حنيناً إلى عالم مثالي، لكنها أيضاً دعوة إلى العمل والتمرد ضد الواقع الفاسد.

6- الخاتمة:

أمنيات رمضانية ليست مجرد تمنيات، بل هي بيان ثوري يستخدم الشعر كسلاح لمواجهة القمع والفساد. السماوي يخلق عالمًا تُعاد فيه كتابة القواعد، حيث حتى أدوات القهر تصبح أدوات تحرير، والطبيعة نفسها تشارك في المعركة من أجل العدالة.

***

بقلم: بهيج حسن مسعود

سفر سقوط الأقنعة للكاتب الجزائري علي فضيل العربي

تعد الهوية من الموضوعات المحورية في الرواية العربية. حيث تعكس تحولات الفرد والمجتمع في ظل التغيرات السياسية والاجتماعية والثقافية. فمنذ بدايات الرواية العربية كانت الهوية الوطنية قد لعبت دورا أساسيا، خاصة في ظل الاستعمار الأوروبي.
وقد سعت الرواية إلى تصوير معاناة الشعوب العربية في البحث عن استقلالها وترسيخ ذاتها. فمثلا في رواية رجال في الشمس للكاتب الفلسطيني غسان كنفاني، ظهرت أزمة الهوية الفلسطينية في ظل الاحتلال واللجوء. حيث عانى الفلسطيني فقدان الوطن والبحث عن معنى للوجود من خلال البحث عن هويته التي فقدها.
أما في الرواية التي بين أيدينا والموسومة بمرايا القدس للكاتب علي فضيل العربي فإن قضية البحث عن الهوية قد تجسدت من خلال بطل الرواية الطبيب سعيد الخديم الذي يواجه أزمة وجودية بعد أن يفقد رؤية وجهه في المرايا بعد السابع من أكتوبر/٢٠٢٣. حيث يشكل هذا التاريخ نقطة فاصلة في التاريخ العربي المعاصر ليس فقط على مستوى المقاومة الفلسطينية بل أيضا على مستوى كشف مواقف الحكومات العربية المتخاذلة التي لم يكتف بعضها بالصمت عما حدث في غزة بل وساهمت في زيادة المعاناة فيها من خلال دعم العدو سواء عن طريق مد خطوط المساعدات إلى كيانهم الغاصب أو من خلال تواجد قواعد أميركية غربية على أرضها لمد العدو بالأسلحة التي فتكت بأهلنا هناك.
فكأنما أراد علي فضيل لبطله سعيد الخديم أن يمثل شريحة الشعوب العربية المغلوبة على أمرها والمقهورة التي يبكتها ضميرها لأنها كانت في موقع المراقب لوحشية العدو في غزة دون استطاعتها فعل شيء لها بسبب القيود التي فرضتها حكوماتها عليها. وبالتالي شعورها بفقدان هويتها وسط هذا العجز.
فالبطل سعيد الخديم كأنما فقد ذاته القديمة التي اختفت مع التحولات التي طرأت بعد السابع من أكتوبر. وهذا بحد ذاته يحمل رمزا عميقا يشير إلى الضياع النفسي والسياسي، حيث وجد نفسه خارج سياقها الطبيعي، وهنا تتبلور أزمة الهوية لديه والذي يمثلها ضياع وجهه في المرايا.
ويظهر الحل عندما تبدأ رحلة البحث عن الهوية عند سعيد الخديم عندما يخبره شيخه أبي الحسن الزياتي أن وجهه لن بظهر مجددا إلا في مرايا القدس. ففي ص٢٢ على لسان السارد عن سعيد الخديم "قرر السفر إلى القدس لرؤية وجهه، هناك سيرى وجهه الحقيقي". وفي ص٤٢ على لسان أبي الحسن الزياتي لسعيد الخديم في المنام "لن ترى وجهك بعد اليوم ما دمت هنا قائما". وعندما سأله سعيد عن الحل، قال الشيخ "تسافر إلى القدس، هناك سوف تعيد لك مرايا القدس وجهك المفقود يا سعيد، يا بني".
والمرايا في رواية علي فضيل ليست مجرد أداة لرؤية الانعكاس، بل هي رمز للحقيقة، للهوية، وربما للمواجهة مع الذات.
ويتجلى هذا ص٥ على لسان الشيخ الزياتي لسعيد الخديم "وتكون مرآتك هناك في القدس ستكتشف أن وجهك الماضي كان وجها مزيفا...كل الذي تراه في المرايا كان مزيفا، لا يعكس الحقيقة، وعندما عزمت الذهاب إلى القدس وسرحت قلبك، أدركت أن الظلام الذي حجب عنك الدروب المفضية إلى القدس قد بدأ الذوبان والانزياح عن بصرك".
ويمثل سعيد الخديم حالة من الهوية المزدوجة. فهو جزائري، لكنه يشعر بانتمائه العميق لفلسطين، مما يعكس العلاقة التاريخية بين البلدين. وهذه الازدواجية لا تعني الانفصال بل تعكس التكامل بين النضالات العربية. فكما قاومت الجزائر الاحتلال الفرنسي فإن فلسطين تقاوم الاستعمار الإحلالي الصهيوني منذ ٧٦ عاما.
وتبدأ رحلة سعيد الخديم للبحث عن هويته في مرايا القدس حين يسافر إلى القاهرة ويدخل غزة عن طريق معبر رفح كعضو في حملة أطباء بلا حدود، في محاولة للوصول إلى المدينة التي طالما سكنته روحيا.
ويرتبط فقدان الوجه بفقدان الانتماء واليقين، مما يجعل رحلة سعيد ليست مجرد انتقال مادي بل تجربة روحية فكرية تعكس صراعه الداخلي في غزة فيما بعد حين يواجه واقع الحرب والدمار ويتحول من مجرد طبيب إلى شاهد على معاناة الفلسطيني. ثم يصبح جزءا من المقاومة وهو ما يعيد تشكيل هويته من جديد.
ففي ص١٠٨ على لسان السارد عن سعيد "ولما أبدى سعيد الخديم للدليل رغبته في الانضمام إلى فصيل المقاومين المدربين على نصب الكمائن وتدمير الدبابات الصهيونية، قال أحدهم: مهمتك يا خال إسعاف جرحانا وتطبيب مرضانا، وهي مهمة لا تقل عظمة عن خوض المعارك الضارية".
واختيار الجزائر وغزة والقدس كمحاور جغرافية للسرد ليس اعتباطيا، بل يبرر العلاقة التاريخية بين الجزائر وفلسطين. وربما أراد الكاتب بهذا الإشارة إلى أن البحث عن الذات يمر عبر القضايا الكبرى، وهل أكبر من فلسطين قضية؟ وأن القدس تظل رمزا للحقيقة المفقودة، وبالتالي محطة لاستعادة الذات. ما يشير إلى ارتباط عميق بين الهوية الفردية والجماعية. وهذا يعكس مدى تأثير القضايا القومية على الوعي الذاتي.ويتضح هذا ص٤٥ على لسان السارد عن سعيد الخديم "قطع ثلاثة آلاف كيلومتر من أجل استعادة وجهه في مرايا القدس. هذا ما أوصاه به شيخه أبي الحسن الزياتي قدس الله روحه، وقال له: حيث يكون قلبك يكون وجهك. جاء يحث الخطى لنصرة اخوانه الغزيين المظلومين من المستضعفين".
وبالفعل، فبعد أن يضطر سعيد الخديم ودليله الغزاوي وهما في طريقهما نحو شمال غزة، البقاء في النفق ص١٠٣ بسبب شدة القصف الصهيوني، يعيش سعيد الخديم في الأنفاق ويلتقي مع شباب المقاومة الفلسطينية الذين تحدوهم رغبة النصر أو الشهادة.
وتمثل هذه التجربة اي تجربة النفق، نقطة تحول رئيسية لدى سعيد، حيث يكتشف في هذا الفضاء المغلق والمظلم بعدا آخر للهوية، وهو الانتماء إلى الجماعة التي تؤمن بقضيتها وتدافع عنها. فتصبح المقاومة هنا أكثر من مجرد فعل عسكري، حيث هي تجربة تعيد تعريف الذات عندما يجد سعيد الخديم إجابة عن أسئلته الوجودية من خلال الفعل والتضحية.
وعلى الجانب الآخر نجد شخصية ليليث الأسيرة الصهيونية التي تمر هويتها بتحول جذري بعد احتكاكها بالمقاومة.
ففي البداية تمثل ليليث العدو التقليدي، ويتضح هذا ص١٣٢ على لسان السارد عن ليليث "كانت ليليث شابة يهودية لم تتجاوز عقدها الثالث، ولدت في تل أبيب ونشأت في حي من أحيائها الميسورة". وفي ص١٣٣ عن ليليث "في طفولتها علمتها مدارس تل أبيب كيف تمقت الفلسطينيين...كانت ليليث على يقين أن أرض فلسطين أرض يهودية".
لكنها تدريجيا وبعد أن رأت ما رأت من الأشخاص المكلفين بحراستها من المقاومة هي ورفاقها من حسن المعاملة، من تقديم الماء والطعام والأمان والابتسام، وأن ما يقدم لهم من طعام أكثر مما يتناوله حراسهم، بدأت بتبني رؤية مختلفة. فعندما أخبرتها المقاومة بأن اسمها كان ضمن من سيخلى سبيلهم ضمن صفقة تبادل، رفضت العودة إلى "تل أبيب" واختارت البقاء مع المقاومة في الأنفاق. ففي ص١٧٩ بتجلى التغير الذي طرأ على هوية ليليث حين أخبرت رفيقتها سارة بأنها لا تريد العودة إلى "تل أبيب" "لا أريد الرجوع إلى جحيم تل أبيب، عودوا أنتم يا سارة، أما أنا فباقية هنا، قد اهتديت إلى حريتي وجدت طريقي".
ويتطور التحول إلى اعتناقها للإسلام متخذة اسم سلسبيل بدلا من ليليث. وقد كتبت في خاطرتها الثالثة "أنا الآن منهمكة في قراءة كتاب نبيهم، القرآن، لقد وجدت فيه ما لم أجده في كل أسفار التوراة".
ويعكس هذا التحول مرونة الهوية، وأنها تتشكل وفق التجربة والقناعة. وهنا يشير هذا العنصر في رواية مرايا القدس إلى أن الصراع ليس فقط عسكريا بل هو أيضا صراع على الوعي والانتماء. حيث يمكن للفرد أن يعيد تعريف ذاته بناء على ما يعيشه من أحداث.
فليليث/سلسبيل تلتلحق في نهاية الرواية بعد موت والدة خطيبها حنظلة المقاوم الفلسطيني، بخلية المقاومة في مدينة رفح ص٣٣٩ راجية الله أن يجمعها بخطيبها حنظلة.
أما سعيد الخديم فيختفي ودليله الغزاوي عند وصولهما الشجاعية ص٣٣٩ قادمين من منطقة جباليا المدمرة، ولم يتركا خلفهما أثرا يدل على وجهتهما. ويترك الكاتب مصيرهما مفتوحا..
وتنتهي أحداث الرواية برؤيا في المنام لعزيزة زوجة سعيد الخديم في باب الوادي، ص٣٤٠ وهو "يمتطي براقا في زي عسكري، شاهرا سيفا يمنيا بيمناه...ورسن البراق بيسراه. ولما سألته زوجته عزيزة: إلى أين أنت ذاهب يا سعيد؟ أجابها بإشارة من يده: إلى القدس لأرى وجهي في مراياها وأصلي في المسجد الأقصى صلاة الفتح والتحرير".
وبهذا المشهد كأن علي فضيل أراد أن يثبت أن الهوية ترتبط بالمكان. فالقدس ليست مجرد مدينة، بل هي رمز للانتماء الكامل. فسعيد الخديم لن يتمكن من رؤية وجهه إلا عندما يصل إليها. مما يؤكد أن الهوية ليست مجرد فكرة ذاتية بل هي أيضا حالة من التحقق في الواقع. وأن الانتماء إلى قضية كبرى هو ما يمنح الأفراد شعورها بالوجود الحقيقي، ويجعل الهوية أمرا يبنى عبر التجربة والموقف لا عبر الوراثة والانتماء الجغرافي فقط.
بقي أن نقول إن رواية مرايا القدس سعت إلى توظيف الأحداث الحقيقية للعدوان على غزة والتدمير الذي حل بها والشهادة الحية على جرائم الاحتلال مع التركيز على شخصيات تمثل أطراف الصراع المختلفة: المقاومة الفلسطينية، المدنيين، الأطباء والأسرى الصهاينة.
***
بديعة النعيمي

الدم كجمالٍ ثائر

قراءة في المكياج الدموي

***

المكياجُ الدموي

فقط دمُ الشارع يمكنُ أن يُسكبَ على وجهي

مِنْ خلالِ وصفةٍ غير عادلة، حقنة عميقة مِنْ جمالٍ مؤلم

فقط المكياجُ الدموي يستطيعُ أن يظهر الغضب

فقط دمُ الشجرة الأخضرَ يمكنهُ أنْ يصرخَ في عروقي الجريحة

فقط دمي يمكنهُ أنْ ينسجَ علمًا ويرفعهُ فوقَ كل الأشجار المدفونة

هذه البقعةُ الدموية ستصبحُ ابتسامةَ قبلة

على الوجوهِ المكشوفة لشعوبٍ مُصفَعة

هذه البقعةُ الدموية ستملأُ كلَ الجروح برائحةِ الورود

هذه البقعةُ الدموية ستُفسر بما يتجاوز الكتابَ المقدس

صدقوا!

صدقوا!

إلهام حميدي

جميع الحقوق محفوظة

***

إلهام حميدي – ايران

......................

القراءة النقدية:

قصيدة (المكياج الدموي) للشاعرة الإيرانية إلهام حميدي تمثل صرخة احتجاج عميقة وتعبيرًا عن الرفض والتمرد ضد القمع الاجتماعي والسياسي. من خلال هذه القصيدة، تتقاطع الرمزية السيميائية للدم مع معاني المقاومة والتحول، لتكون القصيدة انعكاسًا للألم والانتفاض ضد النظام الاجتماعي والسياسي.

الدم كرمز للمعاناة والمقاومة

الدم في هذه القصيدة يمثل أكثر من مجرد عنصر حيوي. إنه رمز مركزي يجسد الصراع، المعاناة، والمقاومة في مواجهة الظلم. الشاعرة تستخدم الدم لتكوين (مكياج دموي)، وهو نوع من الزينة التي تُظهر الغضب والعنف، عكس المكياج التقليدي الذي يرمز إلى الجمال التقليدي. المكياج الدموي هنا ليس فقط تجميلًا بل تجسيد للغضب والتحدي، مما يفتح المجال للقراءة السيميائية لفهم هذا (الجمال المؤلم) الذي لا يعكس إلا الواقع القاسي الذي تعيشه الشخصية الشاعرة.

العبارة (فقط دمُ الشارع يمكنُ أن يُسكبَ على وجهي) تشير إلى معاناة عامة الناس في الشوارع، سواء كان ذلك بسبب الفقر أو القمع أو الظلم الاجتماعي. الدم هنا يصبح دلالة على الثورة، والشخص الذي يضعه على وجهه يصبح رمزًا للمقاومة أو السعي للعدالة في عالم مليء بالظلم.

الجمال المؤلم: إعادة تعريف الجمال

عبارة (حقنة عميقة مِنْ جمالٍ مؤلم) تعكس التوتر بين الجمال والألم، حيث أن الشاعرة تقدم لنا جمالًا مختلفًا تمامًا عن الجمال التقليدي. هذا الجمال لا يأتي من الطيّب والناعم، بل من الجرح والمعاناة. الجمال المؤلم يعبّر عن واقعٍ متألم يرفض الاعتراف بتلك الصور المثالية للجمال التي يتم تسويقها من قبل المجتمع أو الثقافة السائدة. الجمال الذي تقدمه الشاعرة هنا هو جمالٌ ثائر يحمل معه الغضب والتصميم على التغيير.

الدم الأخضر والشجرة: إشارة إلى الطبيعة والصلات العضوية

(دم الشجرة الأخضر) يشير إلى الحياة والطبيعة التي تتشارك أيضًا في المعاناة. الدم الأخضر هو إشارة إلى عصارة الشجرة أو صمغها، مما يربط بين الإنسان والطبيعة في سياق المعاناة المشتركة. هذه الصورة السيميائية تعكس علاقة الإنسان بالطبيعة في مواجهة القمع والظلم، حيث أن الشجرة، مثل الإنسان، تتألم وتحاول أن تصرخ وتنقل صوتها إلى العالم.

(يمكنهُ أنْ يصرخَ في عروقي الجريحة) تربط بين الإنسان والطبيعة في سياق مشترك من الألم، حيث تتحول عروق الشجرة إلى عروق الجرحى. الشاعرة تشير هنا إلى أن الطبيعة تشارك الإنسان في صراعه، ويصبح الدم رمزًا للاتصال بين الكائنات الحية في مواجهتهم لظروف الحياة الصعبة.

الدم والعلم: رمز للثورة والمقاومة

(فقط دمي يمكنهُ أنْ ينسجَ علمًا ويرفعهُ فوقَ كل الأشجار المدفونة) تُعد واحدة من أهم الصور السيميائية في القصيدة. الدم هنا لا يُستخدم فقط كعنصر مادي، بل يتحول إلى رمز للثورة والحرية. العلم الذي يُرفع فوق الأشجار المدفونة يمثل حلمًا مشتركًا بالحرية والعدالة، حيث يُربط الدم بكل الأجيال التي دفنت أحلامها وآمالها تحت ضغط النظام القمعي.

التحول من الألم إلى الأمل: من الجروح إلى الورود

تنتقل القصيدة إلى تحول الدم من علامة ألم إلى رمز للأمل، عبر قولها (هذه البقعةُ الدموية ستصبحُ ابتسامةَ قبلة). هذه النقلة السيميائية تُظهر إمكانية التحول من الظلام إلى النور، من الألم إلى الأمل، ومن الدم إلى السلام. هذا التحول يرمز إلى قدرة الناس على الصمود والتغلب على المعاناة، بل وتحويلها إلى قوة تخلق الجمال والأمل.

(هذه البقعةُ الدموية ستملأُ كلَ الجروح برائحةِ الورود) هي صورة سيميائية أخرى تشير إلى القدرة على شفاء الجروح وتحويلها إلى شيء جميل. الورود هنا تصبح رمزًا للسلام والنقاء الذي يمكن أن ينبثق من صراع طويل وقاسٍ.

ما وراء الكتاب المقدس: تفسيرات جديدة

(هذه البقعةُ الدموية ستُفسر بما يتجاوز الكتابَ المقدس) تشير إلى تحدي المعايير الدينية أو الروحية التقليدية. الدم هنا يتجاوز المعاني التقليدية التي قد ترتبط بالمقدس أو الطاهر، ليُحمل رسالة جديدة تعبر عن التفسير الفردي للتضحية، المعاناة، والحرية. الدم لا يُفسر فقط في إطار الكتب المقدسة، بل يمكن أن يكون له معاني جديدة في سياقات الحياة اليومية والنضال المستمر.

الخاتمة: دعوة للإيمان

القصيدة تنتهي بتكرار (صدقوا!)، وهو دعوة قوية للآخرين للاعتراف بالقوة التي تكمن في المعاناة والدم. إلهام حميدي لا تطلب فقط الفهم، بل الدعوة للإيمان بقوة هذا التغيير والتحول. الدم هنا لا يمثل النهاية، بل بداية جديدة، حيث يمكن للمعاناة أن تتحول إلى حركة جماعية نحو الحرية والعدالة.

الختام: الدم كرمزٍ للثورة والتحول

من خلال هذه القصيدة، تقدم إلهام حميدي صورة شعرية معقدة تربط بين الدم والجمال والألم والمقاومة. المكياج الدموي، في النهاية، ليس مجرد رمز للعنف أو القتل، بل هو رمز للتحول والتحرر. قصيدتها تثير العديد من الأسئلة حول الجمال الحقيقي، التضحية، وفكرة المقاومة التي يمكن أن تولد من أكبر المحن.

***

بقلم: كريم عبد الله – العراق

إطلاقية المخيلة بين المركز الدلالي وتضاعيف الإيحاء الحسي

توطئة: تنفتح موجهات العتبة العنوانية قي تجربة مجموعة (الكتابة على زجاج مهشم) للشاعر مهدي القريشي تنوعا جليا بين المشهد الصوري والصورة المحفوفة بمراكز دلالية تنضوي فيها حالات الأفعال الدوالية ضمن مهيمنة وفعالية (إطلاقية المخيلة ؟) بلوغا نحو مرسلات الإشارات التدليلية والاستدلالية وبناءاتها المؤلفة والمتوالفة لذلك التحقق الحسي في البناء الذواتي والحلمي والعاطفي الذي غالبا ما تعبر به الفواعل الدوالية عن فحوى مواضعها العواملية إرتباطا لها بذلك الحضور اللامجدي في سياقات الكشف واللامكشوف من الداخل الشعري.
ــ الصياغة المتنية وتعدد واصلات البوح:
إن الوظيفة المركزية التي تشتغل عليها مواضع وحالات الدوال الشعرية، تبدو وكأنها من جهة خاصة، ذلك الولوج إلى تفاصيل متفاوتة من اللغة وكشوفاتها الاسنادية المتلاحمة والمتضافرة في مساحة تتجاوز محاور اللغة ذاتها، لتصب لنفسها تطلعات ممكنة لا تتجاوز مؤثرات الإيحاء الحسي الفاعل:


منذ طفولته كان يقضم الوقت
من أطرافه فيتأخر عن أخوته في الالتحاق بدوام المدرسة.
و حين تتراكم الأسئلة عنه تتمزق أوراق دهشتهم
كونه يضيع في هدوئه
أو قد يكون معلقا في ضفيرة أنثى.

تقتضي عاملية الزمن توترا ذرويا ذات طابع مشبع بمتعلقات الذات التي تستوطن حالها الدلالي في مواضع نجدها أكثر تلويحا بالتمحور حول ذاتها أو أنها كتشكل داخلي ذا طبيعة غير محددة قصدا ودليلا. غير إن هيمنة ضمير المتكلم في سرد سيرة الذات العاملة (منذ طفولته كان يقضم الوقت) أو أنه تخصيصا كان (فيتأخر عن أخوته.. وحين تتراكم الأسئلة تتمزق أوراق دهشتهم) لعل الارتهان هنا من خلال هذه الجمل بالزمن والظرف الذاتي قيدا وشرطا في استيعاب نقطة إطلاقية المخيلة، لذا فهي تقترح مزايا ملتبسة أو عدمية أو أكثر انجذابا نحو منطقة الإيهام بالزمن المتمثل على كونه (التأجيل والاستباق، التوقف والتسريع، التغييب والإظهار) تعليلا متصلا بالماهية الذاتية نفسها وكيفية سبرها في الأشكال العدمية والحلمية وهما (قد يكون معلقا في ضفيرة أنثى) ولا تلبث الذات العاملة في أن تكون في حدود هذه المزايا هدفا شعريا بالرغم من قوة الإحالة عليها مزاحا. ولكنها مرتبطة مع جهة تصورها من الآخر، لتسعى بوعي مقارب نحو استجابة عميقة لموصوفها الذي غدا كعلاقة يوسف بأخوته بوصفها صلات دلالية ترتبط بالجب أو (كونه يضيع في هدوئه) إذ أن هذه الجملة بحد ذاتها تجيب على كل الأسئلة الدوالية المنصوصة، كما وتستجيب إلى سياق خطية تصورات تلخص بالخيبة والانكسار:


لم يرسم جرحا في باب جامع،
ولم يستأذن أجراس كنيسة
لتنبئه عن الوقت المهدور على سلم خطاياه.

إذ لا شك في أن الشاعر القريشي يتعامل مع اللغة الاستعارية، بحكم سلسلة من الإيحاءات والإحالات. التي تضج بها مواضع الدوال. ولكن في الوقت نفسه الشاعر يقدم اللغة الشعرية ضمن فائض استعاري ومجازي لا يبلغ من المراد الموضوعي شيئا مفيدا، فهو يبذل طاقة حسية وأفكارا راح يجسدها داخل وظائف استعارية ومجازية لا تبلغ حدا في الاكتفاء الموضوعي والذاتي، بل أنها محض فضاءات غاطسة إلى حد النخاع بروح المستعار والمجازي. كما وليس هناك من توفر الحالة موضوعية ورؤيوية واضحة في الفكرة والحال والغرض والمقصود، بل أنها التحامات وافتراقات في حدود التماثل المستعار واللجوء إلى صياغات دوالية قد لا تبدو متوفرة على كل الأغراض الوسائطية والواصلات الخطابية.
ــ حرائق اللغة وإنشراح الأخلية:
لا شك أن لمشروع مجموعة (الكتابة على زجاج مهشم) ذلك الثلث المقياسي من جملة الأحلام الشعرية التي تتبخر في استقصائية المقاصد الخاصة من لدن نصوص الشاعر القريشي. واللافت للنظر التأملي أن حالات الوحدات الدلالية عبارة عن صور مضادة وتضاعفية وأحيانا تبدو عبارة عن مكونات في رؤى حلمية تمتد في الأشياء حضورا يتوراى منه الحس الملموس في لغة وإشارات الدوال:


كثيرا ما أشاهده في المرآة يملأ جيبه حصى،
يتلمس فحولتهن متسائلا عن خداعهن في مجمرة القذف
صديقي ينتظر وأنا أتظاهر بالدهشة
وقف مذهولا
كيف صار اليوم غدا
والأمس بعد غد؟.

هناك فوارق حساسة من الوجهة الدلالية بين (كيف صار اليوم غدا ــ والأمس بعد غد ؟) وبخاصة عندما يعتمد المكون أسلوبية مخصوصة في الامتثال التخييلي والإيهام الحسي. أو لنقل أن علاقة الدوال تتوسم لذاتها غائية مجردة في قوانين انعكاسية الذات والزمان والمكان، خلوصا نحو تلك الممارسة المراوية والتي من خلالها تستكمل النواقص انجذابها في صلب حالاتها النوعية بالاجتزاء والاستجلاء التشكيلي (يتلمس فحولتهن متسائلا عن خداعهن) ولعل حركية لغة الإعلام ها هنا ترتبط بتصورات تتحول إلى معتقدات ويقينات تتجاوز الحقيقة والإنتاج الدلالي، لتصب وسائلية البرهان في مستويات تحتفظ بمجالها الظني الآسر (صديقي ينتظر، وأنا أتظاهر بالدهشة) فيما تبقى هذه العلاقة بين الفواعل قابلة للأداء كترسيمة أكثر انبعاثا في إقامة التلازم التلفظي في الإتجاه الأكثر تشاكلا وتفارقا في محمولات المحتوى والأداء في خصائص الملفوظات الصيغية الأكثر قدرة على تمويه الانتقالات المرسلة والمؤداة إلى صياغة التساؤل وفعلية المساءلة. وتواجهنا في موجهات هذا النص ثمة العديد من الأحوال والحالات والتقابلات التي تشكل في مجملها إمكانية مركزة في مجالية الفضاء الدلالي وإشاراته الهواجسية في مكامن الإجراء القصدي المكين.
تعليق القراءة:
يمكننا القول ختاما أن دلالات قصائد مجموعة (الكتابة على زجاج مهشم) تتحرك في مناطقية شعرية ذا مركبات دوالية تستأثر لذاتها هواجسية اللغة المفتوحة على الخارج والداخل التبئيري من حيز زمن الأفعال والشواهد الاستعارية في الزمن الملموس واللامرئي، بمعنى ما أن حضور إيحالات الرؤية للنص جاءت عبر حالات معاينة في شواغل الوظيفة الدلالية للنص الشعري، لذا بدا البناء للجمل الشعرية وكأنها تشكيلات أئتلافية حسية تواصلية تربط اقترانات الأثر بالمؤثر كموضوعة تشكيل خواصية للغة واصفة ومشبعة ببلاغة الرؤى الكامنة وراء آفاق إطلاقية المخيلة الخافقة بين (المركز الدلالي ؟) وتضاعيف ظروف الأحوال الشعرية المكثفة بالإيحاء وتقانات الوظائف التركيزية في النص الشعري. زيادة على كلامنا هذا أقول تتميز تجربة مجموعة (الكتاب على زجاج مهشم) في كونها تلك الفضاءات التي استطاعت امتلاك لغة شعرية تواصلية قائمة على تجاوز اللغة الانشائية التي تواجهنا في التجارب الشعرية المعهودة، لتقدم لنا قصائد القريشي تلك التجربة في اللاجدوى والمفارقات الفنية الأكثر غورا في مواجهة اللاجدوى والمكسوت عنه في مواطن دالات الشعر والشعرية.
***
حيدر عبد الرضا

قراءة نقدية لمسلسل "العشرين"

برز بجلاء واضح في مسلسل "العشرين" صدع جوهري بين سقف الطموح النصي وقاع الإمكانيات التنفيذية. فرغم تقديم نفسه كامتداد ملحمي لمسلسل "العشرة" بافتراض نجاح سابق فضلاً عن حجم الدعاية الترويجية وما طرحته الجيوش الإلكترونية من تهويلات نفخت في رماد العشرين، وسعيه لاستثمار ثيمة الحرب كفضاء درامي خصب، انزلق العمل نحو ما يمكن تسميته بـ "الوهم الملحمي" حالة انفصلت فيها الطموحات عن القدرات الفنية المتاحة. عانى المسلسل من هشاشة بنيوية في نسيجه الدرامي، متجلية في غياب التسلسل المنطقي للأحداث وانعدام التوتر المتصاعد الذي يشكل جوهر أي بناء درامي ناضج.
بدلاً من المعالجة الدرامية المتقنة، استعار صناع العمل أسلوب "الريزخونية" ذلك النمط الخطابي المشتق من طقوس العزاء الشيعية، ليطبقوه على سياق درامي يتطلب معالجة مختلفة جذرياً. هذا الاستيراد الأسلوبي خلق ما يمكن وصفه بـ "الدراما الطقوسية" التي حولت المشاهد من متلقٍ مشارك في بناء المعنى إلى مجرد مستقبل سلبي للشحنات العاطفية المباشرة.
استخدم المسلسل ترسانة من "الأدوات الدامعة" لاستدراج المشاهد إلى حالة تأثر قسرية: الموسيقى الحزينة المتصاعدة كخلفية دائمة، المونولوجات المطولة المليئة بالحنين والألم، والتركيز المفرط على وجوه الأطفال في لحظات الفقد مع تراكم صوري للقبور وهي تجرح روح المتابعة. هذه المنظومة من "الاستمالة العاطفية المبرمجة" أفرغت المسلسل من أي محتوى فكري عميق، محولة إياه إلى ما يمكن تسميته بـ "مشهدية الدموع" التي تستهدف غدة الدمع لا العقل.
المفارقة الدرامية الكبرى تمثلت في أن المسلسل سعى لتقديم صورة واقعية عن الحرب وتداعياتها الإنسانية، لكن استغراقه في "الهيبربوليا العاطفية" (المبالغة المفرطة) أبعده عن الواقعية التي ادعى تقديمها، فتحول إلى نوع من "الواقعية المزيفة" التي اختزلت المعاناة الحقيقية في صورة نمطية مبتذلة للحزن والفجيعة، متجاهلة التعقيدات النفسية والاجتماعية والأخلاقية التي تفرضها تجربة الحرب على الإنسان. لذا غابت المفارقة الدرامية الحقيقية التي تُعد من أقوى الأدوات التي تخلق التوتر وتثري العمل. في مسلسل "العشرين"، كادت تنعدم هذه المفارقات التي تضع الشخصيات في مواقف متناقضة أو تظهر الفجوة بين ما تعتقده الشخصية وما يعرفه المشاهد. بدلاً من ذلك، سار العمل وفق معادلة عاطفية واضحة افتقرت إلى التركيب والتعقيد.
غابت أيضاً المفارقة السياقية التي تضع أحداثاً متناقضة في سياق متصل، وهي تقنية كان يمكنها أن تمنح قصص الحرب والحب التي يتناولها المسلسل عمقاً دلالياً أكبر. فبدلاً من استثمار التناقضات الطبيعية التي تفرضها حالة الحرب، كالتوتر بين الواجب الوطني والمسؤولية العائلية، أو التناقض بين قداسة التضحية وقسوة الفقد، اختار المسلسل معالجة أحادية البعد تفتقر إلى التعقيد الإنساني الحقيقي.
يمكن القول إن المسلسل عانى مما يسميه النقاد "سيطرة الرسالة على الوسيط" حيث طغت الرغبة في إيصال رسائل محددة عن التضحية والألم، موجهة ومؤدلجة في إطار زمني وجودي ضيق، على ضرورات البناء الدرامي المتماسك.. في المحصلة هذه المقاربة أنتجت حالة من الرتابة التي انزلقت بسهولة إلى الملل والكآبة كما أشار العديد من المشاهدين.
كما وجدتُ أن المشكلة الأساسية للعمل تجلت في خلط صناع العمل بين التأثر العاطفي المؤقت والتأثير الدرامي العميق، فالبكاء الذي قد يستدره المسلسل من المشاهدين ليس دليلاً على نجاحه الفني، بل قد يكون مؤشراً على استسهال استثارة العواطف بطرق تقليدية مكشوفة لمتابعين سذج. فالدموع الناتجة عن "هندسة عاطفية" مفتعلة تختلف جوهرياً عن الانفعال الناتج عن تجربة فنية متماسكة تعكس تعقيدات الحياة الحقيقية.1219 Alaa Hussein
كان وما يزال الجانب البصري في أي عمل درامي عنصراً محورياً في نقل الرؤية الفنية ودعم البناء الدرامي. أما في حالة مسلسل "العشرين" فقد وجدنا العكس وتم رصد جملة من الملاحظات النقدية التي تعلقت بالمعالجة البصرية وتوظيف الكاميرا.
عانت اللقطات في المسلسل من تواضع ملحوظ في التنويع والإبداع، حيث طغت اللقطات التقليدية المباشرة (الميديوم شوت والكلوز أب) على حساب تنويع زوايا الرؤية وأحجام اللقطات. هذا التواضع في استخدام اللغة البصرية تناغم مع الضعف العام في بناء العمل درامياً، حيث افتقرت اللقطات إلى القدرة على خلق الدهشة البصرية التي تتطلبها الدراما الملحمية.
كما غلبت على العمل مستويات الكاميرا التقليدية (مستوى النظر) مع ندرة في استخدام زوايا مبتكرة أو حركات كاميرا تعبيرية تتناسب مع حجم الأحداث التي افترض أن المسلسل يتناولها. هذا الثبات في مستويات الكاميرا عزز الشعور بالرتابة البصرية، خاصة في مشاهد الصراع والتوتر العاطفي للممثلة آلاء حسين التي كان يمكن لمعالجة بصرية أكثر ديناميكية أن تنقلها بعمق أكبر.
لوحظ اعتماد مفرط على لقطات الوجه القريبة (الكلوز أب) خاصة في مشاهد "الريزخونيات" العاطفية، وهذا ما تماشى مع ما سبق نقده من اعتماد المسلسل على استدرار العطف بطريقة مباشرة. أتت هذه اللقطات القريبة على حساب استخدام لقطات واسعة (لونك شوت) يمكنها أن تضع الشخصيات في سياقها المكاني والاجتماعي، أو على الأقل لقطات متوسطة تظهر التفاعل بين الشخصيات بطريقة أكثر ديناميكية.
افتقرت اللقطات في المسلسل إلى هوية بصرية مميزة، حيث بدت التكوينات الكمبوزيشين مستوحاة من نماذج تلفزيونية تقليدية دون تقديم رؤية إخراجية متفردة تتناسب مع طبيعة الموضوع. ولوحظ أيضاً الافتقار إلى توظيف الإضاءة كعنصر تعبيري في بناء اللقطة، حيث غلبت الإضاءة المسطحة (فلات لايتينك) التي افتقرت إلى العمق والظلال المعبرة، مما حرم العمل من طبقة بصرية يمكنها أن تثري الدلالات الدرامية للمشاهد.
جسد أداء الممثلة آلاء حسين في مسلسل "العشرين" ظاهرة لافتة في الدراما العراقية المعاصرة عكست أزمة عميقة في فهم طبيعة الأداء التمثيلي وأدواته. وقفت الممثلة أمام الكاميرا بوجه رتيب متجلد افتقر إلى المرونة التعبيرية الضرورية لتجسيد التحولات النفسية المعقدة التي افترض أن تمر بها شخصية تواجه فجائع متتالية، متسلحة بأداة وحيدة هي البكاء الذي استخدمته كسلاح مباشر للسيطرة على عواطف المتلقي.
تحول هذا الاعتماد المفرط على البكاء إلى نوع من "الابتزاز العاطفي" الذي سعى إلى استدرار تعاطف المشاهد بطريقة مباشرة وفجة، متجاوزاً الطبقات الأعمق من العمل الدرامي المتكامل. هذا الفقر في الأدوات التمثيلية كشف عن محدودية في فهم الممثلة لطبيعة التعبير الدرامي الذي يتطلب تنويعاً في الوسائل والأساليب، فالدموع وحدها لم تكن كافية لخلق شخصية درامية مقنعة ومؤثرة.
عانى الوجه الرتيب المتجلد من جمود تعبيري أفقد القدرة على عكس التموجات النفسية المختلفة للشخصية، وكأن الممثلة كانت عاجزة عن التنقل بين المشاعر المتباينة التي تطلبتها المواقف الدرامية المختلفة، فلجأت إلى الدموع كملاذ أخير لإثبات قدرتها على "التمثيل". هذا الإفراط في توظيف الدموع تحول مع تكراره إلى حالة من "التضخم الدرامي" الذي فقد تأثيره تدريجياً مع كل اتكاء جديد عليه، فالمشاهد تشبع بالبكاء الذي أصبح متوقعاً ومتكرراً، وفقد قدرته على إحداث الأثر العاطفي المطلوب.
نهض في مسلسل "العشرين" نموذج صارخ لأزمة الرتابة والتكرار على مستويين أساسيين: المستوى التمثيلي والمستوى الموضوعي، مما خلق حالة من الإرهاق البصري والدرامي أثقلت كاهل المشاهد.
على صعيد الأداء التمثيلي، وكما قلنا آنفاً الممثلة آلاء حسين مثالاً واضحاً لما يمكن تسميته "التمثيل القالبي" الذي اعتمد على تركيبة تعبيرية واحدة طغت على مساحة العمل بأكمله، فظهرت تكرر ذات النظرات المندهشة والعيون المتسعة كأنها علقت في لحظة دهشة أبدية لم تتغير مع تغير المواقف الدرامية، وبقيت سجينة هذا التعبير حتى في اللحظات التي افترض أن تحمل بهجة اللقاء مع الزوج أو الفرح العائلي.
هذه الأحادية التعبيرية كشفت عن محدودية في الأدوات الفنية وافتقار إلى التنويع الضروري لبناء شخصية درامية متكاملة، فمن المفترض أن تعكس ملامح الممثل تحولات الشخصية وتطوراتها النفسية عبر مسار الأحداث، لا أن تقدم قناعاً جامداً لا يتأثر بديناميكية المواقف المختلفة وربما ظلال حامض حلو وغيرها من أبجديات الفن المتداعي أثّرت بجلاء على واقعها التمثيلي.
تضاعف هذا الخلل حين انتقل من مستوى الأداء التمثيلي إلى مستوى البناء الدرامي العام، حيث عانت الثيمة الأساسية للمسلسل من استنساخ ذاتي لافت تمثل في تكرار نفس النموذج الدرامي في كل حلقة: استشهاد زوج البطلة، وما تبع ذلك من مشاهد بكائية وتوديعية اعتمدت على توظيف الأطفال والقبور كأدوات لاستدرار عاطفة المشاهد، في مسار دائري مغلق لم يفضِ إلى تطور أو تحول حقيقي.
تحولت هذه المعادلة المتكررة (الزوج-الاستشهاد-الأطفال-الحزن) إلى صيغة جاهزة فقدت قدرتها على إثارة التفاعل الحقيقي مع المشاهد مع كل تكرار، فما أثار التأثر في المرة الأولى تحول إلى نوع من الابتذال العاطفي في المرات اللاحقة.
كما كشفت ظاهرة الاعتماد المتكرر على ثيمة الحرب مع داعش وتحرير المناطق ودور الحشد الشعبي في معظم الأعمال الدرامية الرمضانية العراقية عن أزمة إبداعية عميقة عكست حالة من "الاستسهال الدرامي" الذي فضل المسارات المطروقة على المغامرة في آفاق جديدة. هذا التكرار الموضوعي المتصل خلق حالة من "التخمة الدرامية" حيث شعر المشاهد بالإرهاق من رؤية الموضوع ذاته يُعالج بالأدوات ذاتها في أعمال متعددة، مما أفقد القضية - رغم أهميتها الوطنية والتاريخية - قدرتها على إثارة الاهتمام والانفعال الدرامي الحقيقي.
تحولت هذه الأعمال المتشابهة إلى حالة من "النسخ المتكررة" التي اختلفت في التفاصيل الخارجية وتشابهت في الجوهر، مما عكس ضعفاً في الخيال الدرامي وقصوراً في القدرة على استشراف آفاق موضوعية متنوعة تعكس تعقيد الواقع العراقي بكل تناقضاته وتحولاته. كشف هذا الانحسار الموضوعي عن نوع من "الكسل الإبداعي" الذي فضل الاتكاء على قضايا جاهزة تضمن تعاطفاً مسبقاً من الجمهور، بدلاً من المغامرة في استكشاف قضايا جديدة قد تثير جدلاً أو تساؤلات مركبة.
كانت المشكلة الأساسية في "العشرين" ليست في تناول قضية داعش والحرب التي مثلت مرحلة مفصلية في تاريخ العراق المعاصر، بل في آلية التناول التي تحولت إلى "قالب درامي جاهز" اعتمد على نفس العناصر: البطولة، التضحية، الشهادة، الفجيعة، الانتصار، في دورة مغلقة لم تقدم رؤى جديدة أو قراءات مختلفة للواقع.
تمثلت أبرز إشكاليات مسلسل "العشرين" في الافتقار الحاد للصراع الدرامي الذي يشكل العمود الفقري لأي عمل فني ناجح. خلا المسلسل من التوتر الدرامي الحقيقي الذي ينشأ من تصادم الإرادات والرغبات المتناقضة، مستعيضاً عنه بنوع من "الصراع المفترض" مع عدو خارجي (داعش) بقي في معظم الأحيان خارج إطار الفعل الدرامي المباشر، مما حول العمل إلى نوع من "الدراما السلبية" التي اعتمدت على ردود الأفعال (البكاء، الحزن، الفجيعة) بدلاً من الأفعال الدرامية الفاعلة.
غياب الصراع الحقيقي تداخل مع إشكالية أخرى هي تسطيح الشخصيات وافتقارها للتناقضات الداخلية. قُدمت الشخصيات في "العشرين" كنماذج أحادية البعد، "ملائكية" في بساطتها وخيريتها المطلقة، مفتقرة إلى التركيب النفسي المعقد الذي يميز الشخصيات الدرامية الناجحة.
غابت عن المسلسل تلك المنطقة الرمادية التي تتحرك فيها الشخصيات الدرامية الحقيقية، حيث الصراع بين الواجب والرغبة، بين الإيثار والأنانية، بين الشجاعة والخوف، ليحل محلها تصنيف أبيض/أسود قسم الشخصيات إلى خيرة مطلقة (نحن) وشريرة مطلقة (هم).
إن تجاوز هذه الإشكاليات يتطلب إعادة النظر في المنظومة الإبداعية بأكملها، بدءاً من توسيع آفاق الكتّاب والمخرجين عبر الانفتاح على المدارس الدرامية العالمية، مروراً بتطوير أساليب التمثيل لتتجاوز "أحادية الأداة" إلى تعددية تعبيرية تعكس تعقيد التجربة الإنسانية. فالممثل الناجح ليس من يتقن البكاء فحسب، بل من يمتلك القدرة على التنقل بين طيف واسع من المشاعر المتناقضة، محولاً الشخصية من كائن ورقي مسطح إلى كينونة درامية نابضة بالحياة.
كما يستدعي التطوير الحقيقي ثورة في المعالجة البصرية، لتجاوز "التسجيلية التلفزيونية" نحو لغة سينمائية معاصرة تستثمر الإضاءة والحركة وتكوين الكادر لخلق عوالم بصرية غنية تتجاوز وظيفة "نقل الكلام" إلى التعبير الرمزي والجمالي الذي يتكامل مع النص ويثريه.
على المستوى الموضوعي، تفتقر الدراما العراقية إلى خريطة موضوعية متنوعة تعكس ثراء المجتمع العراقي، متجاوزة "الموضوع الآمن" المضمون استقبالياً، نحو استكشاف مساحات إنسانية واجتماعية مسكوت عنها، من أزمات الشباب إلى تحولات الهوية، ومن الصراع الطبقي إلى تغيرات المنظومة القيمية التي تشهدها المجتمعات في مراحل تحولها.
إن الدراما العراقية، كما تجلى في "العشرين" تقف اليوم على مفترق طرق حاسم: إما الاستمرار في اجترار الصيغ المستهلكة ذاتها التي لا تستثمر سوى مساحة ضيقة من الوجدان العراقي، أو التجديد الجذري في بنيتها وخطابها ولغتها البصرية وموضوعاتها، لتصبح مرآة حقيقية تعكس تعقيدات الواقع العراقي وتحولاته العميقة. وهو تجديد لا يتحقق بالتمنيات، بل بإرادة إبداعية مؤسسية تؤمن بحق المشاهد العراقي في دراما ناضجة تخاطب عقله قبل دموعه، وتستنهض فيه التساؤل والتفكير، لا الاستسلام والخضوع لوصفة عاطفية مكررة.
***
كتابة: كاظم نعمة اللامي
أبو جويدة

حقل من الاغواء تشعله البروق

كنت قد كتبت في المدخل الى هذه القصيدة المثيرة وفي الفقرة الأخيرة.. باننا "سنبحر مع الشاعر جمال مصطفى في قراءة "بانوراميته" ... بالتفصيل..". واليوم نبدأ بالمقاطع من (31ـ 40).. "حين تكون القصيدة مفتوحة كأفق وملمومة كقطرة ماء"

القسم الخامس: "حقل من الاغواء تشعله البروق..." (5)

***

حجرة النور ونداء الفجر

31

هيَ حُجْرةٌ لِلْمُصْطفى

فيها على الجُدرانِ آياتٌ لِتَسمَعَ ما تَراهُ

.................

مُهْندسُ البرجِ ارتأى الكوفِيَّ خَطّاً

والكتابةَ لِ ابنِ مُقْلَهْ

ثُمَّ استعانَ بِمُقْرِىءٍ مِن مصْرَ يَصدحُ:

(إذا الشمسُ كُوِّرَتْ)

هي حجْرةٌ لِلْمُصطفى

يأتي إلى إفريزِها ديكٌ يُؤذِّنُ كُلَّ فَجْرْ"

حُجْرةٌ لِلْمُصْطفى

يقدم لنا هذا المقطع الشعري فضاءً روحياً يتجلى فيه النور النبوي في صورة حجرة المصطفى، حيث تتحول الجدران إلى ألسنة ناطقة، وتُسمَع الآيات وكأنها رؤى مرئية:

"فيها على الجُدرانِ آياتٌ لِتَسمَعَ ما تَراهُ"

إن هذا التركيب الشعري يحطم الحدود التقليدية بين السمع والبصر، بين الوحي والنظر، وكأن الشاعر يرسم مشهداً تتوحد فيه الحواس لتشهد النبوة في أبهى صورها.

جماليات الخط والتاريخ الروحي

يستحضر النص فن الخط العربي، حيث يختار المهندس الكوفيَّ خطاً، وهذا الاختيار ليس عبثياً، فـ الخط الكوفي كان من أقدم الخطوط التي كتبت بها المصاحف، مما يجعله رمزاً للأصالة والجمال المقدس. ويزيد هذا المعنى حضوراً حين يذكر ابن مقلة، الخطاط العباسي العظيم، الذي يُنسب إليه تأسيس قواعد الخط العربي.

"مُهْندسُ البرجِ ارتأى الكوفِيَّ خَطّاً

والكتابةَ لِ ابنِ مُقْلَهْ"

وكأن بناء البرج لا يكتمل إلا بإدخال البعد الروحي المتمثل في الكتابة القرآنية، لتصبح الحجرة نقطة التقاء بين المعمار والجمال والروحانية.

الصوت الذي يبعث الحياة

يتردد في هذا المقطع صدى التلاوة القرآنية، التي تصدح بصوت مقرئ مصري (وفي ظني انه يقصد عبد الباسط عبد الصمد)، في اختيار يذكرنا بتاريخ تجويد القرآن وإتقان أدائه، مما يعكس امتداد الإسلام جغرافياً عبر العصور. ويختار الشاعر الآية العميقة ذات البعد الكوني والقيامي:

"إذا الشمس كورت"

وهنا تتداخل صورة الوحي مع نهاية العالم، وكأن المكان نفسه محاط بعظمة النبوة وأسرار القيامة.

الديك… رمز اليقظة الروحية

يختم المقطع بمشهد مهيب:

"يأتي إلى إفريزِها ديكٌ يُؤذِّنُ كُلَّ فَجْرْ"

فالديك ليس مجرد طائر، بل رمز للصحو والاستيقاظ الروحي، وهو في التراث الإسلامي يؤذن حين يرى الملائكة. وكأن البرج الذي يحمل حجرة المصطفى قد تحول إلى منارة نورانية توقظ الأرواح من سباتها، وتدعوها إلى الفجر، إلى النور، إلى الحق.

رؤية فلسفية وإبداع أدبي

هنا نلاحظ مزجًا بين القداسة والجمال الفني، حيث تتجسد النبوة في الخط، والصوت، والنور، واليقظة.. إن الإيقاع اللغوي، والتكرار المدروس للجملة "هي حجرةٌ للمصطفى" يمنح النص قوة التأكيد والتجذر، ليصبح هذا المكان رمزاً للإشراق الروحي الذي لا يزول.

إنه نص يعبر عن خلود الرسالة، وسحر الحروف، وسرّ النور، وصوت الحقيقة الذي لا ينقطع.

ثنائية الحرب والحب

(32)

"هِيَ حُجْرَةٌ مِن حُجْرتَيْنِ

بِلا جِدارٍ عازِلٍ يَتَجاورانِ بِها معاً عقْلٌ وقَلْبْ

يَتَشاجَرانِ،

الحُجْرَتانِ لَدودتانِ

إذَنْ هُما في يومِ حرْبْ

...............

يَتَناغَمانِ:

قوْسٌ على خَصْرِ الكَمانِ

إذَنْ هُما في يومِ حُبْ"

بين العقل والقلب

الشاعر يجسد هنا ثنائية وجودية أزلية: الصراع بين العقل والقلب. يستعير الشاعر صورة معمارية لحجرتين متجاورتين بلا جدار عازل، في إحالة رمزية إلى ازدواجية الإنسان الداخلية، حيث لا فاصل بين المنطق والعاطفة، بل تعايش محتدم بين الفكر والشعور:

"هِيَ حُجْرَةٌ مِن حُجْرتَيْنِ

بِلا جِدارٍ عازِلٍ يَتَجاورانِ بِها معاً عقْلٌ وقَلْبْ"

التوتر الأبدي: حرب لا تنتهي

يصور النص العلاقة بين العقل والقلب على أنها عداء محتوم، إذ إن كلاً منهما يسعى لفرض منطقه على الآخر، فهما في "يوم حرب"، حيث الصراع الداخلي للإنسان لا يهدأ، وكل قرار يخضع لمعارك مستمرة بين الحكمة والعاطفة، بين الرؤية العقلانية والاندفاع الشعوري:

"يَتَشاجَرانِ،

الحُجْرَتانِ لَدودتانِ

إذَنْ هُما في يومِ حرْبْ"

الوئام الموسيقي: يوم الحب

لكن رغم الحرب، تأتي اللحظة التي يلتقيان فيها في تناغم شعري بديع، حيث يتحول الصراع إلى انسجام موسيقي أشبه بقوسٍ يعزف على خصر الكمان، مشهد يحمل في طياته جمالاً ورقة، حيث يتحول التنافر إلى لحن، والتناقض إلى تكامل، وكأن الإنسان لا يكتمل إلا عندما تتوحد العاطفة بالحكمة في سيمفونية وجودية عميقة:

"يَتَناغَمانِ:

قوْسٌ على خَصْرِ الكَمانِ

إذَنْ هُما في يومِ حُبْ"

بين التصادم والتكامل

يؤكد الشاعر أن الإنسان لا يكون إلا بهذا الصراع والتآلف، فالعقل والقلب ليسا مجرد قوتين متناقضتين، بل هما جناحا التجربة البشرية، حين يتصارعان نعيش التوتر، وحين يتناغمان نصل إلى حالة الحب والتناغم الكوني. في هذه الصورة البديعة، يقيم الشاعر جدلية داخلية متحركة بين الصدام والوئام.. بين الحرب والموسيقى.. بين الحدة واللحن، مما يجعل هذا المقطع نموذجاً فلسفياً في قالب شعري بديع.

فضاء الحكاية

(33)

"السينَما في البرْجِ: حُجْرةُ شهْرزادْ

يرتادُها سُكّانُ بابِلْ

في بابِها الأبَنوسِ قد كُتِبَتْ عبارةُ:

(لا يَدْخُلَنَّكِ شَهْريارْ)

سينما شهرزاد: والتحرر من سطوة شهريار

الشاعر يقدم هنا رؤية مدهشة لمفهوم السينما كفضاء سردي أسطوري، حيث تتحول الشاشة إلى حجرة شهرزاد، رمز الحكاية والفن والسرد. لكن هذه الحجرة ليست مكاناً عادياً، بل هي محجٌّ لأهل بابل، الذين يأتون إليها كما لو كانوا يعودون إلى ذاكرة السرد الأولى، حيث الكلمة كانت الخلاص، والحكاية كانت النجاة:

"السينَما في البرْجِ: حُجْرةُ شهْرزادْ

يرتادُها سُكّانُ بابِلْ"

الحكاية كبديل عن السلطة

لكن اللافت هو العبارة المكتوبة على باب الأبنوس لهذه الحجرة، حيث يُمنع شهريار، رمز الاستبداد، من الدخول:

"في بابِها الأبَنوسِ قد كُتِبَتْ عبارةُ:

(لا يَدْخُلَنَّكِ شَهْريارْ)

في هذا المشهد الرمزي، تعود شهرزاد إلى امتلاك صوتها وحكاياتها بعيداً عن سلطة شهريار، كما لو أن السينما - كامتداد لفن الحكاية - أصبحت أرضاً لا تسود فيها القوة، بل يسود فيها الخيال والكلمة والفن.

السينما كمنفى جمالي وسردي

إن جعل السينما مكافئاً حداثياً لحجرة شهرزاد يفتح تأويلات عديدة: فهي مكان للهرب من الواقع القاسي، كما كانت حكايات شهرزاد مهرباً من الموت، وهي أيضاً ساحة لإعادة إنتاج العالم بعيداً عن سطوة السلطة. تبدو العبارة المانعة لدخول شهريار تمرّداً ناعماً لكنه جذري، حيث تتحرر الحكاية أخيراً من مقصلة الحكم والرقابة، وتصبح السينما عالم الحرية المطلق، حيث تسرد شهرزاد قصتها دون خوف من فجر جديد قد يحكم عليها بالفناء.

الانفتاح على الأبدية

(34)

"إنَّ المَجَرّةَ حُجْرةٌ

في البرجِ

نهْرٌ مِن لَبَنْ

ولَها مَيازيبٌ تَنُثُّ على الفراتِ

كواكِبا

إنَّ المجرّةَ

حُجرةُ البرجِ التي مِن دون سَقْفْ

في الليلِ أوقَفَتْ الزَمَنْ

أيْ عَوَّمَتْهُ قَوارِبا"

المجرة: حجرة البرج

يقدّم جمال مصطفى صورة كوسمولوجية مذهلة، حيث تتحوّل المجرة إلى حجرة داخل البرج، في انزياح شعري يجعل اللامحدود متجسداً في المعمار، والمطلق محصوراً في فضاء محسوس:

"إنَّ المَجَرّةَ حُجْرةٌ

في البرجِ"

المجرة كفيض كوني بين الأرض والسماء

في استعارة بديعة، يصبح النهر السماوي نهراً من لبن، في إشارة تجمع بين الطهر والنقاء والخصوبة، حيث تسكب الميازيب كواكب على الفرات، فتتلاشى الحدود بين العلوي والسفلي، بين السماء والأرض، في رؤية صوفية تجعل الكون وحدة متدفقة من النور والسيلان المستمر:

"نهْرٌ مِن لَبَنْ

ولَها مَيازيبٌ تَنُثُّ على الفراتِ

كواكِبا"

الزمن المعلق: الليل كمسرح أزلي

لكن المقطع يبلغ ذروته الفلسفية عند الحديث عن الزمن، حيث المجرة لا تكتفي بأن تكون سقفاً مفتوحاً، بل إنها تعطل الزمن، تعلّقه، وتعومه مثل قوارب. هنا، الليل ليس مجرد لحظة زمنية، بل هو مسرح أزلي تتجمد فيه الحركة ويتحول إلى ديمومة طافية على سطح الوجود:

"في الليلِ أوقَفَتْ الزَمَنْ

أيْ عَوَّمَتْهُ قَوارِبا"

إنها رؤية كونية ساحرة، حيث لا يصبح البرج معلماً معمارياً، بل نقطة التقاء بين الزمن والأبدية، بين الأرض والنجوم، وبين النهر والمجرة، وكأن الوجود برمته يتحوّل إلى حالة من التداخل المتناغم بين العلوي والسفلي، المادي والروحي، الزمني والسرمدي.

القصيدةُ برجٌ يحلّق بين الماء والسماء

(35)

"بَجَعٌ على ماءِ القصيدةِ

في الصباحِ

وقُبّةٌ كالقِرْطِ أرْجَحَها الهلالُ

فَلا تَحُطُّ ولا تَطيرُ

إنَّ القصيدةَ بُرْجُها الجوْزاءُ

تَأمُرُهُ مَليكَتُهُ

فيأْتَمِرُ الأميرُ"

العلاقة بين الشعر والكون

يضيء هذا المقطع على العلاقة العميقة بين الشعر والكون، حيث تصبح القصيدة كائناً حيّاً، وبُرجاً معلّقاً بين الماء والسماء، بين الثابت والمتحرّك، بين الحسيّ والمجرد.

البجع: الشعر كتحليق عائم على الماء

يفتتح النص بصور شاعرية آسرة، حيث يبدو البجع جاثماً على ماء القصيدة، في إشارة إلى الرشاقة والانسياب دون غرق، والتحليق دون انفصال عن الواقع. فالبجع لا يغوص كلياً في الماء، ولا يحلق عالياً كالنسر، بل يبقى في تماس دائم بين السطحين، كما يفعل الشعر في توازنه بين الواقع والخيال:

"بَجَعٌ على ماءِ القصيدةِ

في الصباحِ"

الهلال والترنح بين الثبات واللااستقرار

تتجسد الحركة المستقرة في صورة القبة التي تترنح كقرط بفعل الهلال، لكنها لا تطير ولا تحط، في استدعاء للتوتر الشعري الدائم بين السكون والانطلاق، وبين الامتلاك والفقدان. إنها حالة الشاعر وهو يتأرجح بين المعنى والصورة، بين الواقع والمجاز:

"وقُبّةٌ كالقِرْطِ أرْجَحَها الهلالُ

فَلا تَحُطُّ ولا تَطيرُ"

القصيدةُ بُرجٌ له ملكةٌ تأمره

لكن الذروة تأتي في تشبيه القصيدة بـبرج الجوزاء، وهو برج فلكي يشير إلى الثنائية والازدواجية والتقلبات، مما يعكس طبيعة الشعر كفضاء يتحرك بين الأضداد والتناقضات. وفي نهاية المقطع، يبرز بُعد السلطة في الشعر، حيث أن للبرج ملكةً تأمر، فيأتمر الأمير، في إشارة إلى أن الشعر يحكم حتى من هم في السلطة، وأن الإبداع هو الذي يسيّر العالم، لا العكس:

"إنَّ القصيدةَ بُرْجُها الجوْزاءُ

تَأمُرُهُ مَليكَتُهُ

فيأْتَمِرُ الأميرُ"

القصيدة ككائن كونيّ

يقدّم الشاعر رؤية مدهشة للشعر كقوة تحلق ولا تحط.. تترنح دون أن تسقط.. وتفرض إرادتها حتى على الأمراء، وكأن الشعر لا يُكتب فقط، بل يحكم ويتحكم.. يعيش ويتحرك..  يطير ويطفو، دون أن يكون قابلاً للتقييد أو التحديد.

تأمّل الفلاسفة في المعادلة الكونية

(36)

"في الحُجْرةِ الكَونيّةِ الزرقاءِ

أعلى البرجِ مِنضدةُ التَفاضُلِ والتَكامُلْ

مِن حولِها يَتَحَلَّقُ الأفذاذُ (إخْوانُ الصَفاءِ) فلاسفة

يَتَفَكَّرونَ لِيكْشفوا

أبْعادَهُ وضميرَهُ وَوراءَهُ وسَقائِفَهْ"

البرجُ الأزرق

يستحضر هذا المقطع مشهداً تأملياً مهيباً، حيث يتحوّل البرج إلى حجرة كونية زرقاء، فضاء فلسفياً تتلاقى فيه العقول العظيمة، في إشارة إلى المعرفة التي تسعى إلى كشف أسرار الوجود.

اللون الأزرق: الأفق اللامحدود للعقل

افتتاح المقطع بوصف الحجرة بـ "الكونيّة الزرقاء" يمنحها بعداً سماوياً، فاللون الأزرق يرمز إلى الأفق اللامحدود/ المنفتح، إلى العقل المتحرر من القيود، إلى الصفاء والتأمل الفلسفي. إنّه اللون الذي يحفّز الروح على التطلع نحو ما وراء المحسوس، حيث تكمن الحقيقة المخبوءة خلف ظواهر الأشياء:

"في الحُجْرةِ الكَونيّةِ الزرقاءِ

أعلى البرجِ"

منضدة التفاضل والتكامل: العقل الرياضي في البحث عن الحقيقة

يرتكز هذا المجلس الفلسفي على "منضدة التفاضل والتكامل"، وهي ليست مجرد أداة رياضية، بل رمز لمنهج البحث العقلي الذي يسعى إلى تحليل الوجود تفصيلاً (التفاضل) وتجميعه في رؤية كلية شاملة (التكامل). هكذا تصبح هذه المنضدة مركز الكون الفكري، حيث تجتمع الرياضيات والفلسفة في كشف أسرار الوجود:

"أعلى البرجِ مِنضدةُ التَفاضُلِ والتَكامُلْ"

إخوان الصفاء: اجتماع العقلاء في برج الحكمة

يُحيل النص إلى إخوان الصَّفاء وخلّان الوفاء، تلك الجماعة الفلسفية الباطنية التي سعت إلى التوفيق بين الفلسفة والدين.. بين العقل والروح. اجتماعهم حول المنضدة يُحاكي مجالسهم الفكرية حيث ناقشوا أسرار الطبيعة، النفس، الإلهيات، والهندسة الكونية:

"مِن حولِها يَتَحَلَّقُ الأفذاذُ (إخْوانُ الصَفاءِ) فلاسفة"

السعي وراء الحقيقة المطلقة

الغاية النهائية لهذا المجلس الفلسفي ليست مجرد التفكير، بل كشف جوهر الأشياء وضميرها، والغوص فيما وراء الظاهر، ورفع سقف الإدراك إلى مستويات أعمق. فالمعرفة هنا ليست نهائية، بل رحلة مستمرة إلى الأبعاد الخفية للوجود:

"يَتَفَكَّرونَ لِيكْشفوا

أبْعادَهُ وضميرَهُ وَوراءَهُ وسَقائِفَهْ"

البرج كرمز للمعرفة المتسامية

يمثّل الشاعر قمة البرج لا بوصفها مكاناً فيزيائياً، بل باعتبارها قمة في الفكر والتجريد، حيث يتحوّل البرج إلى مركز إشعاع فلسفي، ومرصدٍ عقلي يكشف المستور ويفكك ألغاز الوجود. إنه مشهد للعقل حين يرتقي فوق الماديات، في سعيه نحو السقف المفتوح للكون، حيث لا حدود للمعرفة والتأمل.

الفنّ أرشيفُ الجمال العابر

(37)

"في بابِ (رَسْميدو) مِن اللوحِ الكتابِ

البرجُ بَهْجةُ داخِليهِ

البرجُ مُتْحَفْ:

مِن لَوحةِ (البرجُ الذي حَمَلَتْهُ أكتافُ القصيدةِ)

ثُمَّ لوحةِ (لازَوَرْدُ اللّا نهايةِ) ثُمَّ ثُمَّ إلى الكبيرةِ:

(راقصونَ يُحَلِّقونَ معَ الدفوفِ إلى السقوفِ)

البُرْجُ قِبْلَةُ كُلِّ مُرْهَفْ

كُلِّ آتٍ كي يُؤَرْشِفَ ما تَجَمَّعَ مِن بدائِعَ

لا تُعَدُّ ولا تُؤرَشَفْ"

البرجُ متحفُ الأبدية:

يتجلّى البرج في هذا المقطع بوصفه متحفاً حياً، فضاءً تتجمّع فيه روائع الفنّ والقصيدة والموسيقى، قبلةً لكلّ مرهف الحسّ، وملاذاً للمبدعين والمُتأملين. إنّه ذاكرة جمالية، تحفظ اللحظات العابرة وتصوغها في لوحاتٍ خالدة.

رَسْميدو: الكتابة كمدخلٍ إلى الجمال المطلق

يبدأ المقطع بالإشارة إلى "بابِ (رَسْميدو)"، وهو مفتتحٌ غامض ذو دلالاتٍ رمزية، إذ يمكن تأويله بوصفه مدخلاً إلى عالم اللوحة والكتابة، حيث تندمج الصورة بالكلمة، والريشة بالقلم، ليشكّلا معاً سجلاً فنياً خالدًا:

"في بابِ (رَسْميدو) مِن اللوحِ الكتابِ"

الباب هنا ليس مجرد مدخلٍ مادي، بل هو رمزٌ للفنّ كعالمٍ منفتحٍ على الخيال والمعرفة، وكأنّ الدخول إليه عبورٌ إلى فضاءٍ من الإدراك الجمالي، حيث يتلاشى الفاصل بين الواقع والحلم.

البرج بوصفه متحفًا: الحاضن الأبدي للإبداع

تتحوّل بنية البرج من معمارٍ حجريّ إلى متحفٍ مفتوحٍ على الأزمنة، يضمّ كنوز الجمال والفنّ. ويظهر ذلك جلياً في وصفه بأنه "بهجةُ داخليهِ"، فهو ليس مكاناً صامتاً، بل فضاءً حياً يحتضن التجربة الجمالية بكلّ أبعادها:

"البرجُ بَهْجةُ داخِليهِ

البرجُ مُتْحَفْ"

يُصبح البرج بذلك أرشيفاً للمخيلة البشرية، مستودعاً للدهشة، وذاكرةً للحضارة، فهو يحفظ الفنّ ليس بوصفه ماضياً مجرّداً، بل بوصفه نبضاً مستمراً في كلّ آتٍ جديد.

سرديّة اللوحات: الفنّ بين الشعر والمطلق والموسيقى

يمضي النص في استعراض ثلاث لوحاتٍ أساسيةٍ تُلخّص جوهر البرج الفنيّ:

1.  "البرجُ الذي حَمَلَتْهُ أكتافُ القصيدةِ"

*هنا تتماهى العمارة بالشعر، وكأنّ البرج لم يُشيَّد بالحجر، بل بالكلمة والإيقاع والوزن، في إشارةٍ إلى دور اللغة في بناء التصورات الكبرى.

2.  "لازَوَرْدُ اللّا نهايةِ"

* اللون اللازوردي رمزٌ للامتداد الكونيّ، للصفاء الأزلي، للحلم المفتوح على اللانهاية، وهو يحوّل البرج إلى فضاءٍ من التوق اللامحدود، حيث يسكن الجمال في أبديةٍ لا تَنقضي.

3.  "راقصونَ يُحَلِّقونَ معَ الدفوفِ إلى السقوفِ"

*  تبلغ التجربة الجمالية ذروتها مع الرّقص كفعلٍ من أفعال التجلّي، حيث يصبح الجسد موسيقى متحرّكة، والحركة وسيلةً للتحليق نحو السموّ. هنا، يتحوّل البرج إلى ساحةٍ صوفية، حيث الفنّ هو الصلاة العليا، والإيقاعُ هو المعراجُ نحو المطلق.

الفنّ بين التوثيق والانفلات

رغم أنّ البرج يُوصَف بأنه "قبلةُ كُلِّ مُرْهَفْ"، أي أنّه المكان الذي يحفظ الجمال ويوثّقه، إلا أنّ النصّ يُدرك المفارقة الكبرى:

"كُلِّ آتٍ كي يُؤَرْشِفَ ما تَجَمَّعَ مِن بدائِعَ

لا تُعَدُّ ولا تُؤرَشَفْ"

هنا يكمن التناقض العميق في جوهر الفنّ: فهو يسعى إلى توثيق الجمال، لكن الجمال بطبيعته عصيٌّ على التوثيق، متجدّدٌ، متدفّقٌ، لا يُمكن احتواؤه في سجلٍّ ثابت. يطرح النصّ سؤالاً فلسفياً: هل يمكن للزمن أن يحفظ الفنّ، أم أنّ الفنّ بطبيعته هاربٌ إلى ما بعد الزمن؟

البرج كأرشيفٍ حيّ للإبداع

في هذا المقطع، يتحوّل البرج من صرحٍ معماريّ إلى متحفٍ سماويّ، حيث تتراكم لوحات الخيال البشريّ، وحيث تتجاور القصيدة واللون والإيقاع في وحدةٍ إبداعيةٍ متسامية. لكنّه أيضاً يُذكّرنا بأنّ الفنّ، مهما سعى إلى التوثيق، يظلّ في جوهره تجربةً متجددة، لا تُختَزل في إطارٍ، ولا تُؤرشف في سجلٍّ، بل تحلّق دائماً إلى سقوفٍ جديدة.

التلوينُ بين الإيقاعِ والخلاص

(38)

"في حُجْرَةِ التَمكينِ تَلْوينٌ وطُوبى

فيها مِن الإيقاعِ ما يَبدو ذُنوبا

وهْوَ ليْسْ

في حُجْرةِ التَمْكينِ

تَنْعَمُ كُلُّ لَيْلى يا مَجازُ بِكُلِّ قَيْسْ"

حجرةُ التمكين:

في هذا المقطع، تتجلّى حجرة التمكين بوصفها فضاءً للتحوّل، حيث يتشابك الإيقاعُ باللون، والذنبُ بالخلاص، والمجازُ بالحقيقة، في جدليةٍ تجمع بين اللذة والتطهّر، وبين الانغماس والانعتاق.

التلوين والطوبى: الفنّ كتحوّل روحيّ

يبدأ النصّ بالإشارة إلى فعل "التلوين"، وهو ليس مجرد استخدامٍ للألوان، بل هو رمزٌ للتحوّل والتعدّدية، لعدم الثبات في هيئةٍ واحدة، ولقدرة الإنسان على إعادة تشكيل ذاته ورؤاه. ويُقرَن هذا التلوينُ بـ „الطوبى"، التي تُحيل إلى النعيم والتجلّي الروحيّ، وكأنّ التنوّع في الفنّ والتعبير هو طريقٌ إلى بلوغ النعمة والخلاص:

"في حُجْرَةِ التَمكينِ تَلْوينٌ وطُوبى"

إنّ "التمكين" هنا ليس مجرد سيطرة أو هيمنة، بل هو بلوغٌ لذُرى الإبداع والتحرّر، حيث يصبح الفنّ وسيلةً للعلوّ لا للقيد، وحيث تتماهى اللذة الروحية باللذة الحسية في فضاءٍ لا يعترف بالحدود التقليدية.

الإيقاع والذنب: جدلية الجمال والخطيئة

في السطر التالي، يقدّم النص مفارقةً عميقة:

"فيها مِن الإيقاعِ ما يَبدو ذُنوبا وهْوَ ليْسْ"

هنا، يُصبح الإيقاعُ مُبهماً، متأرجحاً بين الطهر والخطيئة. يُوحي هذا بأنّ الجمال، حين يصل إلى ذروته، يُصبح ملتبساً، ويُثير في النفس تساؤلاتٍ وجودية حول حدوده وقيمته. ربما يكون الفنّ في نظر البعض تجاوزاً محرّماً، لكنه في جوهره ليس ذنباً، بل تجربة تحررية تتجاوز الأحكام التقليدية.

ليلى والمجاز: لقاء العشق والتمكين

يُختم المقطع بصورةٍ تمزج بين الأسطورة والعشق، بين المجاز والحقيقة:

"في حُجْرةِ التَمْكينِ

تَنْعَمُ كُلُّ لَيْلى يا مَجازُ بِكُلِّ قَيْسْ"

ليلى وقيس، رمز الحبّ العذريّ، يُعيدان تشكيل المفهوم التقليدي للعشق. لكنّ الشاعر يضيف مخاطبةً للمجاز: "يا مجاز"، في إشارةٍ إلى أنّ الحبّ هنا ليس مجرّد قصة تقليدية، بل هو صورةٌ رمزيةٌ لتحوّلٍ أعمق، حيث تلتقي الروح بالجسد.. والخيال بالحقيقة، في فضاءٍ متحرّر من القيود.

التمكين كفعلٍ من أفعال الجمال

في هذا المقطع، تتبدّى حجرة التمكين كمكانٍ للتجربة الجمالية والروحية المتكاملة، حيث يمتزج الفنّ بالعشق، ويصبح الإيقاع طريقاً للخلاص، ويكون التلوين انعكاساً لتعدّدية التجربة الإنسانية. هنا، يذوب الحُكم الأخلاقيّ في بهجة الإبداع، ويصبح المجاز هو الحقيقة الوحيدة الممكنة، في عالمٍ لا يعترف بالحدود بين المقدّس والدنيويّ، بين العشق والانعتاق.

الحانةُ بين الكفرِ والخلود

(39)

سَيّدةٌ، فاتِنةٌ، لَمْ تَزَلْ

في البُرْجِ سَهْرانَهْ

تَكْفرُ بالأربابِ حتى ولو

لَمْ تَكُ سَكْرانَهْ

حُجْرَتُها ليستْ بِمَبغى ولا

بِمَعْبَدٍ، بَلْ إنّها حانَهْ"

سيدوري:

في هذا المقطع، تبرز شخصية "السيدة الفاتنة" التي لم تزل "في البرج سهرانةً"، حاضرةٌ كطيفٍ من التمرّد والجمال..  وهي ليست سوى سيدوري، صاحبة الحانة في ملحمة جلجامش، تلك المرأة التي وقفت بين البطل الباحث عن الخلود، وبين الحقيقة الفانية للحياة. إنّها رمز الحكمة واللذة، التي تتخذ من الحانة فضاءً للحوار مع القدر والوجود.

الشاعر يجعل من حضورها كائناً متجاوزاً للحدود، لا تُعرِّفها المعايير السائدة، بل تتشكّل من نقيضاتها، بين الإيمان والكفر.. بين المعبد والحانة.. بين الجسد والروح.

اما سهرها، فهو هنا ليس مجرد امتدادٍ للّيل، بل هو حالة وعيٍ مختلف، حيث يصبح الزمن ثقيلاً، والوجود أكثر كثافة انها ليست مجرد امرأة، بل هي رمزٌ للخروج عن المألوف، للسؤال الذي لا يهدأ، للفتنة التي لا تُفسَّر.

بين الكفر والبحث عن المعنى

يقول الشاعر:

"تَكْفرُ بالأربابِ حتى ولو لم تَكُ سَكْرانَهْ"

هنا، لا يكون الكفر رفضًا مطلقًا، بل هو تشكيكٌ في النظام القائم، انه تمرّدٌ على كل سلطة تُقيّد الروح والفكر.. انه تساؤل وجوديّ عن دور الآلهة والمصير.. سيدوري، في ملحمة جلجامش، كانت تُجسّد الفلسفة العملية، فهي التي دعت البطل إلى تقبّل لذّة الحياة عوضًا عن مطاردة الوهم. وهذا النصّ يُعيد إنتاج رؤيتها، ولكن ضمن برج بابل، حيث يُعاد تعريف الوجود في كلّ حجرةٍ من حجراته.

حجرةٌ بين المقدّس والدنيويّ

يُقدّم الشاعر مفارقةً أخرى:

"حُجْرَتُها ليستْ بِمَبغى ولا

بِمَعْبَدٍ، بَلْ إنّها حانَهْ"

إنّ الحانة، هنا، ليست مكانًا للانحلال، ولا معبدًا للتقوى، بل مساحةٌ بينيّة، حيث يُمكن للإنسان أن يكون حرًّا، متأمّلًا، مشكّكًا ومتحرّرًا من التصنيفات الجاهزة. سيدوري لا تُغري بالفساد، بل تدعو إلى عيش اللحظة، والتمتّع بالحياة دون أوهامٍ كاذبة.

بهذه المفارقة، يهدم الشاعر الثنائية الأخلاقية التقليدية، التي تحصر المرأة بين قداسة المعبد ودنس المبغى. حجرتها/ الحانة، فضاءٌ للذة الواعية، مكانٌ يحتفي بالوجود دون أن يخضع لسلطته. الحانة، بطابعها غير الرسمي، غير المقدّس وغير المدنّس، تصبح رمزاً للحرية، حيث يجتمع الناس لا طاعةً ولا معصية، بل بحثاً عن لحظة وجودٍ خالصة.

سيدوري كصوت الحكمة الضائعة

النصُّ يُعيد بناء سيدوري لا كامرأة عادية، بل هي كيانٌ رمزيّ.. كشخصيّةٍ تتحدّى المفاهيم المطلقة، وما وجودها في البرج الا لجعلها جزءاً من بانوراما المعرفة والتمرّد والجمال.. حيث يُعاد تشكيل كل المفاهيم المألوفة، وان تكون الحانة فضاءً للمتعة والتأمل معًا.. وللرفض والقبول سوية.. حيث تُطرَح الأسئلة ولا تُقدَّم إجابات نهائية. فهي فاتنةٌ وسهرانةٌ ولا تسكرُ، لكنّها تُزعزع اليقين، وتُعيد صياغة العلاقة بين الإنسان والمطلق.

عبيدٌ ومهندسٌ وآلهةٌ مترددة

(40)

البرجُ مُعْجزةُ العبيدِ

فَكيفَ تَرضى الآلِهة؟

تَرضى إذا قالَ المُهَندسُ ثُمَ أكَّدْ

البرْجُ: هذا البرجُ معبدْ

البرجُ: هذا البرجُ مَعْبَدْ"

برج المعجزة:

يُقدّم هذا المقطع البرجَ بوصفه نتاجاً لعظمة الإنسان المُستَضعَف، العبيد الذين شيّدوه، لكنه في الوقت نفسه، يُثير تساؤلاً وجودياً: هل سترضى الآلهة بهذا الصرح؟ هنا، يتحول البرج إلى رمزٍ للصراع الأزلي بين الإرادة البشرية والسلطة الإلهية، بين الفعل المجرّد والتبرير الدينيّ، بين العمل القسريّ والتبرير الأيديولوجيّ.

معجزة العبيد: صرح العرق والدم

"البرجُ مُعْجزةُ العبيدِ

فَكيفَ تَرضى الآلِهة؟"

المفارقة هنا قاسية، فالبرج ليس معجزةَ المهندسين أو الملوك، بل معجزةَ العبيد الذين حملوا الحجارة بأجسادهم، وأسالوا العرق والدم لبنائه. لكنه مع ذلك، يواجه سؤالاً وجودياً: هل يرضى الماوراء بصنيع الأرض؟ كأنّه إنجازٌ فائقٌ للطبيعة، يستدعي عقابًا، أو على الأقل، مساءلةً ميتافيزيقية.

المهندس كمُشرعنٍ للمعجزة

"تَرضى إذا قالَ المُهَندسُ ثُمَ أكَّدْ"

هنا، يظهر المهندس كوسيطٍ بين الآلهة والبشر، ككاهنٍ جديدٍ يُعطي البناء بعده المقدّس. فالقوة البشرية وحدها ليست كافية، لا بدّ من تأويل، من صياغةٍ لاهوتية تجعل العمل مشروعاً. المهندس ليس مجرد صانع، بل هو المفسِّر، المؤوِّل، المروِّضُ لغضب الآلهة.

المعبد: الخاتمة الأيديولوجية للمُنجَز

"البرجُ: هذا البرجُ معبدْ

البرجُ: هذا البرجُ مَعْبَدْ"

التكرار هنا ليس اعتباطياً، بل هو تثبيتٌ للمعنى، تحويلٌ للبرج من مجرد بناءٍ ماديّ إلى فضاءٍ مقدّس. ما بُنيَ بالكدح والقهر، يُعطى طابعاً روحياً، يتحوّل إلى معبد، إلى سلطةٍ جديدة تُكرِّسُها العقيدة. في هذا، يفتح الشاعر باب التأويل: هل هذا خضوعٌ للآلهة، أم تحايلٌ عليها؟ هل هو مَعبدٌ طوعيٌّ أم مَعبدٌ مفروضٌ بسلطة المهندس؟

البرج، بين العبيد والآلهة

يقدّم المقطع صورةً رمزية للسلطة والتبرير، حيث يصبح الجهد البشري العظيم محتاجاً لختمٍ دينيّ، لخداعٍ أو لإقناع، كي لا يكون مجرد تمرّد. بين العبيد والآلهة، بين العرق والمقدّس، يُعاد تشكيل التاريخ، حيث يتم تدوير الألم ليصبح حجراً في معبدٍ يباركه الجميع.

***

طارق الحلفي – شاعر وناقد

......................

* رابط القصيدة //

https://www.almothaqaf.com/nesos/971491

* رابط المدخل //

https://www.almothaqaf.com/readings-5/979452

* رابط القسم الاول //

https://www.almothaqaf.org/readings-5/979564

* رابط القسم الثاني //

https://www.almothaqaf.com/readings-5/979680

* رابط القسم الثالث//

https://www.almothaqaf.com/readings-5/979779

* رابط القسم الرابع//

https://www.almothaqaf.com/readings-5/980014

**

طارق الحلفي

بين وقت وآخر، ثمة كلمات تتحدث بصمت، تنتظر من يطرق بابها. باسمها ونصوصها تهديك حلقات من حياة، ومن زمان كان له وقته وحاضره، وله أيضًا انتظاره. بين النظرية والتجربة تقاس المعرفة، والقلم وحده غائر، على قربه وبعده، يناديك إلى عمقه. والفراغ محجوب لكنه موجود، كأنه سراب في وجدان متوقف بسبب ليبرالية الحياة التي طغت على الإنسان في بحثه وحقه في العيش بكرامة، الكرامة التي ينشدها في خضم صراعات الحياة وتقلباتها.
إنّ هذه السطور ليست إلا انعكاسًا لحالة من التأمل في واقع تتقاذفه المتغيرات، حيث وجدت نفسي أضع جانبًا هرج الحياة وصخبها، متوقفًا عند لحظات أكون فيها في حاجة ماسّة للجوع والعطش، جوع المعرفة وعطش الفهم، أمام نهر دافق يراك ولا يراك، مستسلمًا لقدره أن يمضي قدمًا في البحث عن النهايات، تلك النهايات التي لا تكون دائمًا كما نتصور، بل تأخذنا إلى بدايات أخرى لم نحسب لها حسابًا.
لا أخفيكم سرًا، فالبرد القارس كان دافعًا لي لأن أبحث عن الدفء، لكن ليس بالطرق المعتادة. ارتأيت أن أتلحف بكتبي التي سوّفت في قراءاها، فبقيت متراكمة على أرفف مكتبتي بانتظار لحظة مناسبة أستعيد شغفي بها. أغلقت باب مكتبتي، وبين أكواب الشاي والقهوة الساخنة، أعلنت الحرب على القراءة، وأصبحت ساعات النوم محدودة جدًا. كنت أرافق كتابي من الصباح حتى المساء، وفي ساعات الفجر الأولى، حيث يُولد الفكر النقي بعيدًا عن ضجيج العالم.
في كل مرة أفتح فيها كتابًا، أشعر أنني أخوض مغامرة جديدة، أعيش حيوات أخرى، وأختبر مشاعر لم أعشها من قبل. إنها رحلة لا نهاية لها، ويصبح الماضي جزءًا من الحاضر والمستقبل.
في رحلتي هذه، انتهيت من قراءة رواية "بيت القبطية" للكاتب المصري أحمد العشماوي، وهي رواية تتسم بعمقها الدرامي والاجتماعي. تأخذنا الرواية إلى أقصى ريف مصر، حيث يلتحق نادر فايز كامل بوظيفته وكيلَ نيابة في قرية صغيرة بشمال الصعيد. هناك، تبدأ الأحداث في التداخل، ويصبح القارئ شاهدًا على حبكة متشابكة تسلط الضوء على واقع المسلمين والأقباط في المجتمع المصري، حيث زرعت الفتنة جذورها العميقة، وتحولت إلى شرخ اجتماعي سبب كوارث لا تُحصى.
الرواية تجسّد الصراعات الطائفية التي أودت بحياة الكثيرين، حيث اشتعلت الحرائق بسبب العنف والتكفير المتبادل، وامتلأت الحياة بالمآسي والضياع. تتوالى الأحداث، وكأنها انعكاس للواقع الذي تعيشه بعض المجتمعات المنغلقة. تبرز في الرواية شخصية سيدة قبطية غامضة، تشكل نقطة تقاطع مهمة في سير الأحداث، إذ يغوص المؤلف في أعماق النفوس المعقدة، ناسجًا صورًا مدهشة للأحداث والمشاعر.
ما يميز الرواية ليس فقط حبكتها المشوقة، بل قدرتها على تقديم صورة واقعية للمجتمع المصري بكل تناقضاته. لقد رسم المؤلف تفاصيل الشخصيات بدقة، ليجعلنا نشعر وكأننا نعيش داخل الرواية، نتنفس مع أبطالها، ونتألم مع معاناتهم. لقد استطاع المؤلف أن يعكس ببراعة كيف تتحول الأفكار والمعتقدات إلى سلاح مدمر عندما تُستغل في غير موضعها الصحيح.
لقد وجدت نفسي أطرح العديد من الأسئلة حول واقعنا الحالي:
كيف يمكن لمجتمع أن يعيش متعايشًا ظاهريًا بينما تغلي في داخله مشاعر متناقضة؟
كيف يمكن للحياة أن تستمر وسط هذا الكم من الصراعات؟
وكيف للإنسان أن يحافظ على إنسانيته وسط عالم يمزقه التطرف؟
هذه التساؤلات ليست جديدة، لكنها تعود للظهور في كلّ مرة نواجه فيها واقعًا مشحونًا بالتوترات والانقسامات
وفي الوقت الذي كنت أقلب فيه آخر ورقة من "بيت القبطية"، وجدتني أفكر في الرواية التالية التي ستأخذني في رحلة جديدة، رحلة قد تحمل إجاباتٍ أو تثير مزيدًا من الأسئلة الملحّة، لكنها بالتأكيد لن تتركني كما كنت.
كلّ كتاب نقرؤه يترك أثرًا، بسيطًا أو عميقًا، لكنه يضيف شيئًا ما إلى هويتنا. وهكذا، تستمر رحلتي بين الكتب، رحلة ابتدأت ذات يوم، لكنّها لن تتوقف؛ لأنّ كلّ نهاية تحمل في طيّاتها بداية جديدة، وقصة أخرى، وفكرة أخرى، وعالمًا آخر ينتظر رحالة يكشف معالمه وطقوسه إلى كلّ إنسان على سطح هذا الكوكب.
***
فؤاد الجشي

صفعة موجعة

هل سبق أن تذوّقت صفعة موجعة من كفوف الهوى على وجنات القلب؟ أكنتَ تدرك حينها أن الحبّ هو القاتل بسياط الهجر وسهام الغدر؟ أما هالك سيول عبراتك النّازفة أمام رهبة الكوابيس تؤرّق أجفان الغفوة في ليل دامس بأفكار النّوارس السّود والغربان المشؤومة وهي تقنص اللّحظات السعيدة لقلبك الذي أصابته صعقة الرحيل كتيّار كهربائي، وأنت ما كنت تدري أنّها تشيّع انتظار وتينك على شاطئ المفاجآت المذهلة فتبقيه كحقل نضر مزهر طالته نيران حريق مباغت أتت عليه فاستحال يبابًا على مرمى مشاعرك المكتنزة بالصّدق والوفاء فإذا هي تزأر زئير أسد في غابة موحشة مقفرة تنزف الوجع على ستائر الليل البهيم؟. أكان يخطر ببالك ذاك الخافق الغرّيد الغارق في أتون الإخلاص يتدحرج في مستنقع غدره يحتسي كأس الخيبة المريرة؟ وفي ضفة أخرى متنصّل يخلع عباءة هواك العابر.وتلك الفراشات التي اختمرت برحيق العشق كيف غزاها سلطان الأفول ينقش على أجنحتها الذّهبيّة نقطًا سودًا تنذر بالنهايات الوخيمة لجرعة حبّ قاطعّ وبلسم فاقد الصّلاحيّة؟.
جميلة مزرعاني - لبنان / الجنوب - ريحانة العرب.
...................
القراءة النقدية:
قصيدة /صفعة موجعة/ للشاعرة اللبنانية جميلة مزرعاني هي نص شعري يعكس تجربة عاطفية مؤلمة ومعقدة، مشحونة بالصور البلاغية الغنية التي تتنقل بين الألم والخذلان والحزن العميق. القصيدة تشتمل على تساؤلات ومخاطبات موجعة، ويصوّر النص العاطفة كأداة قوية للدمار، حيث يتحول الحب في النهاية إلى شعور قاتل يُخلف الخيبة والمرارة.
1. الأسلوب اللغوي والبلاغي
الشاعرة تعتمد على لغة بلاغية غنية ومثيرة، محملة بالصور المكثفة التي تدفع القارئ إلى استكشاف أعماق التجربة العاطفية. تتنوع أساليب الشاعرة بين الاستفهام الإنكاري والتشبيه والاستعارة، مما يخلق لغة شعرية تتسم بالثراء والتكثيف.
الاستفهام الإنكاري: الشاعرة تبدأ القصيدة بأسئلة تعبيرية، مثل /هل سبق أن تذوّقت صفعة موجعة من كفوف الهوى على وجنات القلب؟/، وهي أسئلة ليس المقصود منها الحصول على إجابات، بل طرح المشاعر بطريقة تثير القارئ وتدفعه للتأمل في تجربته الخاصة مع الحب.
الاستعارة والتشبيه: الشاعرة تستخدم العديد من الاستعارات والتشبيهات، مثل /الحبّ هو القاتل بسياط الهجر وسهام الغدر/، حيث تقوم بتشبيه الحب بالسلاح القاتل الذي يضرب بالقسوة ويخلف الألم. كما تقول /فاستحال يبابًا على مرمى مشاعرك المكتنزة بالصّدق والوفاء/، لتصور تحول المشاعر النبيلة إلى يأس وجفاف نتيجة الخيانة.
التضاد: التناقضات بين الحب والموت، الوفاء والخيانة، الأمل والخذلان، تظهر بوضوح في القصيدة وتخلق تأثيرًا قويًا على القارئ. يظهر ذلك في الجملة /أنت ما كنت تدري أنّها تشيّع انتظار وتينك على شاطئ المفاجآت المذهلة/، حيث يتناقض الانتظار بسلامته مع المفاجآت المدمرة.
2. الرمزية في القصيدة
القصيدة مليئة بالرموز التي تضفي على النص عمقًا وجدليًا يتطلب التأمل. الرمزية تساهم في التعبير عن الوجع العاطفي بشكل مكثف وغير مباشر.
الهوى والحب كقاتل: الشاعرة تبدأ قصيدتها بمقارنة الحب بالقاتل، وهو استعارة قوية ومؤلمة تعكس فكرة أن الحب، رغم كونه مصدرًا للسعادة، يمكن أن يتحول إلى أداة للدمار. كلمة "سياط الهجر" تضيف طابعًا عنيفًا لهذه الصورة، حيث يصبح الفقد نفسه عقابًا.
الطبيعة كمرآة للوجع: تكثر الصور الرمزية المستوحاة من الطبيعة مثل /النوارس السّود والغربان المشؤومة/، /حقل نضر مزهر طالته نيران حريق مباغت/، و/الفراشات التي اختمرت برحيق العشق/، وهي رموز تشير إلى الجمال الذي تفسده الخيانة والألم. الغربان والنوارس السود هي طيور ترتبط عادة بالموت أو الشؤم، وهي تضيف طابعًا مظلمًا على القصيدة.
النهاية والموت: يتم استخدام الرمزية في صورة /الفراشات/ التي تدور حول الفقد والموت العاطفي، حيث كان يُتوقع للفراشات أن تظل رموزًا للجمال والبراءة، ولكنها تلوثت الآن بـ/نقاط سوداء/ كأنها قد فقدت القدرة على الطيران في سماء الحب.
3. التجربة النفسية والتفاعلات العاطفية
الشاعرة تسلط الضوء على التجربة النفسية العميقة التي يخوضها الفرد عندما يواجه خيانة عاطفية أو فراغًا داخليًا ناتجًا عن فشل الحب. في القصيدة، لا تقتصر العاطفة على مجرد الخيبة أو الألم، بل تتداخل فيها حالة من الصراع النفسي، حيث يجد الشخص نفسه في صراع داخلي مع مشاعره بين الإخلاص والخيانة.
المفاجآت المذهلة: الشاعرة تستخدم هذه العبارة لتصور صدمة الخيانة التي تأتي بشكل مفاجئ وغير متوقع، وهو ما يترك الشخص في حالة من الذهول، في الوقت الذي كان ينتظر فيه شيئًا آخر.
الصراع الداخلي: في عبارة /هل كان يخطر ببالك ذاك الخافق الغرّيد الغارق في أتون الإخلاص/، نلاحظ أن الشاعرة توضح الصراع الداخلي بين الوفاء والإخلاص من جهة، والغدر والخيانة من جهة أخرى، مما يبرز حجم الألم الناتج عن هذا الصراع.
4. الصور العاطفية ومظاهر الحزن
القصيدة تحتوي على العديد من الصور التي تكثف شعور الحزن والفقد. الشاعرة لا تقتصر على وصف الألم بشكل مباشر، بل تلجأ إلى تصويره باستخدام صور مؤلمة، مثل /تدحرج في مستنقع غدره/ أو /كتيّار كهربائي/، لتؤكد على فداحة الخيانة التي تشبه الصدمة الكهربائية التي تجرد الشخص من مشاعره وتدفعه إلى حالة من الارتباك والحيرة.
5. الختام: الحزن كمفهوم مركزي في القصيدة
القصيدة تدور حول مفهوم الحزن العميق الذي يأتي من الخيانة والخذلان في الحب. الشاعرة تخلق مسارًا سرديًا عاطفيًا يعكس التحولات النفسية التي يمر بها الإنسان عند تعرضه لمواقف مؤلمة في حياته العاطفية. الحزن هنا ليس مجرد عاطفة سطحية، بل هو تجربة مركبة تحمل في طياتها صورًا دلالية عميقة تكشف عن تصدعات داخل النفس الإنسانية.
خلاصة
قصيدة /صفعة موجعة/ هي نص شعري غني بالصور الرمزية والبلاغية التي تلامس أعماق المشاعر الإنسانية وتكشف عن تحولات مؤلمة في تجربة الحب. الشاعرة جميلة مزرعاني تنقل للقارئ صورة حية لتجربة عاطفية مليئة بالصراع الداخلي، الألم، والخيانة. هذه القصيدة لا تقتصر على التعبير عن الحزن بل تعكس رؤية نفسية معقدة للإنسان في مواجهة خيبة الأمل العاطفي.
***
بقلم: كريم عبد الله – العراق

الأنسنة تعني إضفاء الصفات والمشاعر الإنسانية على الكائنات غير البشرية، مثل الحيوانات، النباتات، الجمادات، والظواهر الطبيعية، بحيث تتصرف أو تشعر كما لو كانت تمتلك وعيًا بشريًا. يظهر هذا الأسلوب بوضوح في الحكايات الشعبية والأساطير والقصص الخيالية، كما هو الحال في ألف ليلة وليلة.
في المقابل، يعتمد الهايكو على تقديم الصور الشعرية المستمدة من الواقع كما هي، دون تدخل الشاعر في إعادة تشكيلها وفق مشاعره أو رؤيته الذاتية. فالحيوانات لا تتكلم، والأشجار لا تبتهج أو تحزن، والنهر لا يشعر بالكآبة أو السعادة، بل يتم تقديم هذه العناصر بصفاتها الفعلية، دون إسقاط مشاعر بشرية عليها.
على العكس من ذلك، في هايكو الأحلام، يتغير منطق الإدراك، إذ لا يمكن بناء المشاهد وفق القواعد الصارمة التي تخضع لقوانين الفيزياء أو المنطق والعقلانية. فالأحلام تشكّل فضاءً متحركًا ومفتوحًا على التحولات، حيث تتداخل العوالم وتتلاشى الحدود بين الإنسان والأشياء. في هذا السياق، يصبح من الممكن منح الكائنات غير الحية والظواهر الطبيعية صفات بشرية، وهو ما يميز هايكو الأحلام عن الاستخدام غير الدقيق للأنسنة في بعض ما يُكتب من هايكو.
لا تُستخدم الأنسنة في هايكو الأحلام لمجرد كسر قواعد الهايكو والواقع، بل تمنح النص بعدًا جماليًا يعزز وقع المشهد الحلمي، ويخلق تفاعلًا شعوريًا أعمق بين القارئ والعالم الذي ينقله الهايكو. يتميز هايكو الأحلام بأنه لا يعيد تفسير الصور، بل ينقلها كما تظهر في الحلم، دون أن يخضعها لقوانين المنطق المعتادة. الأحلام، بطبيعتها، قد تتطابق مع الواقع، أو تتقاطع معه، أو تبتعد عنه تمامًا، مما يجعل الصورة الشعرية في حالة دائمة من التحول والانسياب.
في هذا السياق، تصبح الأنسنة امتدادًا طبيعيًا لمنطق الحلم، حيث يمكن للكائنات والأشياء أن تتغير، وتكتسب أصواتًا أو مشاعر لم تكن تمتلكها في الواقع. وكما أن العالم الحلمي لا يحتفظ بشكل واحد، فإن العلاقة بين الإنسان والطبيعة فيه مرنة، متغيرة، وغير قابلة للتقييد بنمط ثابت.
في النهاية، فإن استخدام الأنسنة في تقنية تحويل الأحلام إلى هايكو لا يهدف إلى صنع عالم خيالي منفصل عن الواقع، بل إلى خلق تجربة شعرية أكثر عمقًا. حيث يمكن للمشهد أن يتنفس بحرية، ويمكن للصورة أن تتحرك وفق نظامها الخاص، دون أن تكون مضطرة للالتزام بقواعد ثابتة.
***
عباس محمد عمارة

 

في المثقف اليوم