قراءات نقدية

قراءات نقدية

منذ شبابي المبكّر، أواسط ستّينات القرن الماضي، في مدينة باجة التي همّشتها دولة الاستقلال، وجعلتها قفرا بلقعا على كلّ الصعد، ولا سيّما على الصعيد الثقافي، كانت تبلغ إلى مسمعي رغما عن ذلك عبارات الثناء والإعجاب بالشاعر منوّر صمادح الملقّب في تونس بشاعر الحريّة والثورة، لنزوعه الدائم إلى تجاهل المحاذير والقفز على حصون المحظور السياسي التي شيّدتها سلطة بورقيبة "الزعيم الأوحد'' آنذاك، للتقليص من مساحة حريّة التفكير كما التعبير قولا وكتابة. بما جلب انتباهي إلى اسمه ليستقرّ في الذاكرة. وذلك بحكم إنجذاب الشباب إلى فعل التمرّد على السلطة أكثر من انجذابه إلى موالاتها. لا سيّما في تلك الفترة التي شهدت انتشارا سريعا للفكر الشيوعي التروتسكي (Trotski) الثوري بين الشباب. ولم أكن في تلك المرحلة أتذوّق الشعر، ولا أتوفّر على أدوات فهمه لتخطّي عتباته والولوج إلى مضامينه، فضلا عن تحليله وفتح مغاليقه وتقييم جماليته بأدوات نقد وتحليل الخطاب الشعري سيميائيّا، انطلاقا من العنوان ثمّ الفاتحة النصّية والخاتمة، ودراسة الأضداد والتناص، وثنائيّة التشاكل والتباين(1)، لدراسة الصوت والمعنى بما هما رمزية تشاكل الصوت، ورمزية تشاكل الكلمة.

ثمّ لمّا إنتقلت في مطلع السبعينات إلى تونس العاصمة للدراسة، ثمّ العمل والإقامة الدائمة، التقيت منوّر صمادح هائما متسكّعا في شوارعها محذثا نفسه بغمغمات يعسرعليّ فهم كنهها. وكنت أدعوه من حين لآخر- رغم فارق السنّ بيننا- ليشرّفني باحتساء فنجان قهوة بصحبتي، وتبادل أطراف الحديث حول كل شيء وأحيانا حول لا شيء. ولم يكن يرفض ذلك، لأنّه كان يعيش ضربا من ضروب الغربة النفسيّة والاجتماعية التي تفقد صاحبها لذّة الوجود، ما يجعله في قلق وجودي دائم. فضلا عن أنّ حالته الاجتماعية آنذاك كانت تدعو إلى التعاطف معه، لا بل و حتّى الشفقة عليه، بعد أن تجاهلته وزارة الثقافة وأرهبه الأمن وأرهقه نفسياًّ حدّ الاكتئاب الشديد والتعرّض إلى أزمات نفسيّة ونوبات عصبية متكرّرة، لا لذنب اقترفه، بل لأنّ ذنبه المستتر الذي لا تغفره له السلطة، كان توقه إلى معانقة الحريّة - وهي وحدها ثورية (استعارة من مقولة لينين عن الحقيقة من أنّها وحدها ثورية)- ولأنّه كان متعفّفا عن المساهمة في مأسسة الاستعباد والاستبداد عبر المشاركة في عكاظيات جوقة المطبّلين ومدّاحي الرئيس صاحب "الصفات العظيمة والألقاب الفخيمة"،الذي اعتبر نفسه"المجاهد الأكبر" فيما ذهب شاعرنا إلى أنّ المجاهد الأكبر الحقيقي إنّما هو الشهيد:

الباب فتحه الذين استشهدوا

فلمن ترى سلّم المفتاحا؟

ومن منطلق هذه القناعة، لم يقبل صمادح أن يكون شاعر البلاط، مهادنا للسلطة ومؤتمرا بأوامرها. فقد اختار مناكفتها والتصدّي لانحرافاتها بشراسة معارضي النظام -غير "الكرتونيين"- متّسقا في ذلك مع حسّه الوطني المرهف، ودوره كمثقّف حرّ في مواجهة السلطة أملا في تقليم" أظافرها ومخالبها" الطويلة. بما يتّفق مع المصطلح الأصلي للمثقّف -لا مع التعريف المعجمي العربي السطحي- وهو أن يكون منتقدا ومعارضا للسلطة أو لا يكون(2)

لذلك سيظلّ منوّر صمادح باصالة معالجته الشعرية وبخطه الإبداعي ذي الأفق المفارق، الموسوم بالتحديث في قرض الشعر، نقطة مضيئة ومتوهّجة في مدوّنة الشعر التونسي رغم التعتيم عليه في العهد البورقيبي. ولعلّ منوّر صمادح قد استشعر ذلك في قوله:

رغم الظلام أشعّ من نفسي وأشرق كالصباح

ورغم تعدّد المدارس الشعرية واختلاف مقارباتها، التي ميّزت وتميّز الحراك الشعري التونسي قديمه وحديثه فأنّ منوّر صمادح سجّل اسمه في المدوّنة الشعرية بمداد ذهبي بفضل منجزه الشعري الثري بنصوصه المتمرّدة، ذات الفرادة والنزعة النقديّة اللاذعة.

وفي غير ما مبالغة ولا نفخ في صورة شاعرنا، يقول الأديب مصطفى الفارسي- صاحب "القنطرة هي الحياة"- متحدّثا عن منوّر صمادح أنه:"لا يقل أهميّة عن أبي القاسم الشابّي"، ذلك الشاعر التونسي الفذّ الذي، لم تطبّق شهرته الأفق، رغم ذلك، في تونس و على امتداد الوطن العربي، ويحتلّ موقعا متقدّما في كوكبة الشعراء العرب، إلّا بعد موته فحسب(3)

و أنا في تقديري، لا أنفخ في صورة منوّر صمادح إذ أنزّله منزلة آرثر رامبو ( Arthur Rimbaud مؤلّف "موسم في الجحيم" وأحد أباء "الرمزيّة" لوجود ملمح جامع بينهما . أو حين أعتبره في حجم شارل بودلير (charles Baudelaire) صاحب "أزهار الشرّ " وأحد رموز الحداثة في العالم، أو محمود درويش شاعر المقاومة الفلسطينية ضدّ الكيان الصهيوني الذي قفى على أثره -ولعلّه لم يطّلع على أشعاره- أو أوكتافيو باث octavio paz، الشاعر المكسيكي الحاصل على جائزة نوبل والمعارض الشرس للفاشيّة، بمثل ما ستكون معارضة منوّر صمادح للزعيم بورقيبة بعد تولّيه الرئاسة إبّان استقلال تونس.

وإن كان لكلّ شاعر بيت يسكنه كما يقال- من باب المجاز، كناية على البيت الأكثر شهرة- فإنّ بيت الشابّي الذي يسكنه، ويسكن في قلب ووجدان كلّ عربي يتوق إلى التحرّر، ويجري على لسانه بانسياب وسيولة، إنّما هو قطعا:

إذا الشعب يوما أراد الحياة ...فلا بدّ أن يستجيب القدر

أمّا بيت مواطنه الشاعر منوّر صمادح الأكثر تداولا بين النّاس- في تونس على الأقلّ- لمعارضته للنظام البورقيبي التسلّطي، الذي كان يرفع شعار الصدق في القول والإخلاص في العمل فهو:

شيئان في بلدي قد خيّبا أملي ...الصدق في القول والإخلاص في العمل

وشهرة البيت- رغم أنّه قيل مشافهة- لا تعود في تقديري، إلى مدى جماليّة وإبداعيّة النصّ، بقدر ما تعود إلى تمرّده ومناوأته السلطة بطريقة ساخرة تذكرنا بأسلوب الكاتب الأنجليزي الساخر جورج برنار تشو (George Bernard Shaw). واللافت أنّ هذا البيت لم يرد في أشهر قصائد منوّر صمادح، وهي "كلمات"(4)/ المسكونة بالألم. وهي قصيدة مطوّلة كان قد كتبها في 2 ديسمبر 1969، وهو على فراش المرض، فيما كان على عتبات الجنون. حتّى أنّ البعض- ممّن ولج المسالة من غير بابها- لم يصدّق أن يكون ذلك كذلك، متجاهلا أنّ العبقرية والجنون لا يفصلهما إلّا خيط رفيع. ولعلّ الإقامة الطويلة، لشاعر الفلاسفة فريدريك نيتشة(5) (Friedrich Nietzsche) في مصحّة للأمراض العقليّة حتّى وفاته، يؤكّد هذه المقاربة. وبصرف النظر عن ذلك فإنّ قصيدة" كلمات"هي ليست أشهر قصائده وحسب، بل إنّها أشهر قصيدة في الشعر التونسي بعد قصيدة "إرادة الحياة" لأبي القاسم الشابي. وهي قصيدة تقطر ألما ونلمس فيها إحساس الشاعر بمرارة شديدة. وجاء في بعض أبياتها:

تألمـــت كثــيــــرا في جـــراح الكلمات

وسفحت العمـر دمعا من عيون الكلمات

ولقــــد مـــتّ مرارا في سبيــــل الكلمات

قل لمن همهم في النّاس وخـاف الكلمات

أو تخشى النــــاس والحقّ رهين الكلمات

حيــــــوان أنــت لا تفقـــه لــــولا الكلمات

ونبـــات أو جمــــــاد أنـــت لـــولا الكلمات

أنــت إنسان لـــدى الناس رسول الكلمات

فتكلـّـــــم وتألــّـــــم ولتمــــت في الكلمات

واللّافت أنّ "أبو القاسم الشابّي" ومنوّر صمادح، كلاهما واجه متاعب جرّاء بيته الشهير. فقد واجه الشابّي معارضة شديدة من معاصريه المحافظين، وأرباب "السلطة الدينيّة" التي بمثّلها شيوخ "جامع الزيتونة الأعظم" . فيما أنّ البيت يعتبر أنّ القدر، وإن كان يسير وفق مشيئة الله وحده، فهو في ذات الوقت- بعيدا عن الفلسفة الوجوديّة وفلسفة القوّة و الفكر الشيعي والتصوّف- طوع إرادة الإنسان في مجالات مخصوصة، دون أن يحدّ ذلك من قدرة الله التي اختصّها لنفسه. ولعلّ مجال هذا المبحث الفلسفي والعقدي في غير هذه العجالة.

أمّا منوّر صمادح فقد وجد نفسه بسبب بيته الساخر أعلاه، في مواجهة السلطة السياسيّة التي ناصبته العداء في أعلى هرمها، لتأخذ علاقته بالرئيس بورقيبة نقلة نوعية وقطيعة بنيوية - بتعبير اللسانيين- وليسومه سوء العذاب والمهانة والإذلال. ولتنطلق عندئذ رحلة متاعب منوّر صمادح، بما جعله يتيه في بيداء الجنون فيفقد عقله نهائيّا كما سيأتي بيانه.

ولعلّ في ذلك وجه شبه- مع الفارق- لما وقع للمتنبّي مع سيف الدولة عند سماعه قصيدة "وأحرَّ قلباه" التي يقول فيها:

سَيعْلَمُ الجَمعُ ممّنْ ضَمّ مَجلِسُنا بأنّني خَيرُ مَنْ تَسْعَى بهِ قَدَمُ

وهو ما أغضبه حتّى انّه رمي المحبرة في وجه أبي طيّب.بما جعل العلاقة تسوء بين الرجلين فيضطرّ المتنبّي إلى مغادرة حلب بما يشبه إضطرار منوّر صمادح إلى مغادرة تونس نحو الجزائر ليعمل بالإذاعة وبعض الصحف هناك.

ولكن لنعود بالتاريخ إلى الوراء، ولنبدأ من البداية التي لم تكن جميلة، فبداية منوّر صمادح كانت تعيسة وبائسة، ونهايته كانت أليمة وأكثر بؤسا، وإلّا لكان تكرارها لا يملّ كما يقول دوستويفسكي: "إذا كانت البدايات جميلة، دعنا نبدأ مرارًا وتكرارًا، دعنا لا ننتهي أبدًا (...)، ولا نمل فننتهي "ينحدر منوّر صمادح، المولود سنة 1931 بنفطة المعروفة بالكوفة الصغيرة(6) و(التي لا تفصلها عن توزر- مسقط رأس الشابّي- إلّا بعض الكيلومترات)، من عائلة ذات أصول أندلسيّة(7)، عرفت بالعلم و الأدب. فالوالد -الذي توفّي مبكّرا وشاعرنا لم تتجاوز سنّه عشر سنوات- عالم أزهري متصوّف ضليع في الفقه والتوحيد، فيما أنّ أخويه، أحدهما شاعر والآخر كاتب وجامعي. وهو الذي تولّى سنة 1989، تسع سنوات قبل رحيل منوّر صمادح، جمع وتحقيق الآثار الشعرية الكاملة لشاعرنا التي نشرت سنة 1995 (8).

لم يكن حظّ الشاعر العصامي منوّر صمادح من التعلّم في المدارس الرسميّة وفيرا، فقد انقطع عنه مبكرا (9)، تماما مثل الشاعرين العصاميين (الفرنسي) آرثر رامبو(10) Arthur Rimbaud و (اللبناني) إيليا أبي ماضي(11)، ليتّجه مثلهما، وفي سنّ يافعة للعمل في التجارة لا مثل الفيلسوف لايبنيز Leibniz(12)، الذي اشتغل حمّالا في السوق، رغم نحافته و ظهره المحدودب . فمنور صمادح انتقل من بائع متجوّل، إلى عامل في مخبزة بالقيروانّ في سنّ الثالث عشر من عمره، إلى مساعد تارزي بقابس وتوتس العاصمة، بعد اشتغاله كبائع فطائر في البقالطة وفي مكثر أين كانت له فرصة الالتقاء سنة (1949) بالزعيم الحبيب بورقيبة الذي كان يحرّض على مقاومة الإستعمار. فلمّا ألقى أمامه، ارتجالا، بزيّ عمل " بائع الفطائر" (13) قصيدة "نار القول"، وكانت متماهية مع ما يريده الزعيم من بثّ الحماسة في نفوس المناضلين للالتفاف حوله:

أيّها القوم اسمعوني ها أنا فيكم أنادي

تُضرم النيران قلبي في الورى مثل الزناد

وحّدوا الجهد ولبّوا من دعا للاتحاد

إنتبه، لحظتها، إلى فصاحة شعره فأعجب به وقبّله تشجيعا له، ثمّ قرّبه إليه فيما بعد. حتّى أنّه أصبح يطلب منه إلقاء قصيدة حماسية على الحاضرين في اجتماعاته قبل ان يلقي فيهم خطاباته النارية لاذكاء وعيهم بالإستعمار. لاسيّما وانّ أغراض قصائد منور صمادح التي سينظمها لاحقا، ستنزع إلى الإتّجاه الحماسي وأيقاظ وبثّ الحسّ الوطني والتغنّي بمعاني ومفردات حبّ الوطن و الثورة والحرية والعدالة الإنسانية ومناصرة حركات التحرّر السياسي والتغنّي بزعمائها (14).

في ديوانه "نسر ونصر" ناصر منوّر صمادح كلّ حركات التحرير في العالم وفي مقدّمتها جميعا، الثورة الفلسطينية، حيث تغنّى بكلّ من الثورة الليبية في بداياتها، وهي التي سمّاها "ثورة الرمال" وافرد لها قصيدة بالعنوان ذاته. كما تغنّى بالثورة الاريترية، وثورة السود في أمريكا والثورة الفياتنامية. وفضلا عن ذلك فقد ناضل صلب الحركة الوطنية التونسية ضد االمستعمر الفرنسي وشهّر بفضاعاته في أشعاره مشجّعا التونسيين على ضرورة الكفاح . وقد لاحقه البوليس من أجل ذلك حتّى أعتقله وسجنه سنة 1954. وقد سبق ايقاف منوّر صمادح واعتقاله قبل ذلك في مظاهرة سنة 1953، لا بل و إيقاف حتّى الجريدة التي كان يشتغل بها، وهي"الأخبار". بما يعني أنّ مهمة المقاومة بالشعر لدى منوّر صمادح تكون مثلومة دون ممارسة فعل المقاومة الميدانية كرافد مهمّ للشعر الثوري المقاوم. لهذا فيجب تنزيل مدحه للزعيم بورقيبة في فترة ما، في سياق الإيمان المشترك بقضايا التحرّر بما هو الخلفيّة للنضال ولتمجيد المناضلين. على هذه الارضيّة المشتركة و بهذا المعنى، توطّدت علاقتهما أثناء فترة النضال. إلّا أنّها ساءت وآنقلبت رأسا على عقب بعد سنوات قليلة من الإستقلال.

بعد سنتين من فرصة لقائه ببورقيبة كانت لمنوّر صمادح فرصة ثمينة ثانية، وهي لقاؤه سنة 1950 بالأستاذ زين العابدين السنوسي الأديب والصحفي اللّامع صاحب "مطبعة العرب" ومدير مجلة العالم العربي وصحيفة "تونس"، وصاحب الفضل والأيادي البيضاء على الكثير من المبدعين الشبّان، فأعجب به هو الآخر، ولم يكتف بنشر قصائده في صحيفة "تونس" فحسب، بل انتدبه كذلك كمراسل للجريدة في إحدى جهات البلاد لتغطية الشؤون الإجتماعيّة مع توفير السكن له. كما فتح له مكتبته الضخمة الزاخرة بأمّهات الكتب، لييسّر له متعة المطالعة.

ولم يمنعه ذلك، من التردّد على "المعهد الرشيدي" لتعلّم الموسيقى التي كان شغوفا بها، وحضور الحلقات الأدبيّة التي كان ينشّطها كبار أدباء تلك الفترة وخاصة منهم الشاعر مصطفى خريف (15                                                                                                 )، الذي كان له ناصحا وموجها في خطواته الإبداعية الأولى. يضاف إلى ذلك إطّلاع منوّر صمادح على المنجزات الأدبية لمشاهير الأدباء في الوطن العربي و في المهجر. بما مكّنه من فهم واستيعاب الموسيقي كما العروض، وقواعد اللغة وتحرير المقالات. بما أثرى معجمه اللغوي ورصيده الأدبي، وبما جعله يطوّع اللغة العربيّة، إن في كتابة النثر أو في نظم الشعر، الذي استهلّه في هذه الفترة بقصيدة "الفردوس المغتصب". وهي ملحمة وطنيّة مطوّلة أهداها إلى الزعيم بورقيبة. وقد عجز المستعمر عن مصادرتها فيما تكفّل المقاومون بتوزيعها سرّا. و جاء في مطلعها:

لله تونس حسنها متفرّد

أبت الطبيعة أن تجود بثاني

فكأنّها والمرء يجزم عبقر

قد أزلفت للّحظ واللّمسان

انظر اليها وهي ترفل في

برود رصعت بزبرجد وجمان

إلى أن يقول:

في كلّ شبر فتنة جذّابة

يهفو القصيّ لسحرها والداني

وطن به للحرب قَدْح إنّ عثت

أيدي العدا فالكل في هيجان

أبناؤه للحقّ يدفعهم صدى

في سكرة من خمرة الايمان

غاياتهم في العيش إمّا عزّة

أو ميتة والمجد درب قاني

أمّا باكورة إنتاجات صمادح الشعريّة، فهي قصيدة "إبتسم يا شعب" التي نظمها سنة 1948 ونشرتها له جريدة "الحرية"، والتي سيعقبها إنتاجه الشعري الخصب بوتيرة سريعة، بما جعله يصدر قبل أزمته النفسية الاولى سنة (1967)، عديد المجموعات الشعرية، فضلا عن كتابه النثري" شؤون وشجون" وكتاب "حرب على الجوع"(16) الذي جمع فيه مقالات ذات طابع سياسي واجتماعي صيغت بنفس بالنزعة الثورية الحماسية التي نلمسها في شعره. فضلا عن قصائد تترجم عن معاناة وهموم ومشاغل التونسيين، ومنها قصيدة " الثورة"

غيّروا الوضع وفكّوا القيد إنّ كنتم أباة

أيّ عدل؟ يُقتل الشعبُ لكي يرضى الطغاة

بعضكم يُتخم والبعض أمّانيه الفُتات

فئة ترفل في العزّ وآلاف عراة

وهو ما يمكن اعتباره تماه مع مطالب الشغالين وتقارب مع الاتحاد العام التونسي للشغل. لا سيّما وانّ شاعرنا نظم قصائد تشيد بالزعيم النقابي الشهيد فرحات حشاد. كما ساهم في تأبينه بقصيدة في الغرض .وكان ترجمان صوت العمّال والعاطلين حين قال في قصيدة "ثائرون"

ألا إنّنا ههنا صارخون ليسمع أصواتنا النائمون

ودافعنا رغبة لا تعي وحقّ تجاهله الحاكمون

فهاتوا لنا عملا أو فلا تلوموا إذا شنّها العاطلون

علما، وأنّه أصدر أوّل ديوان له وهو "فجر الحياة"، سنة 1954. وهي ذات السنة التي تمّ فيها اعتقاله وسجنه. ثمّ بأمر من أحد الجنرالات منعت الحكومة الإستعمارية الفرنسية نشر الديوان وحجزته بالمطبعة سنة 1955، إلّا أنّ القصائد الحماسيّة التي حواها الديوان تكفّل مناضلو المقاومة الوطنية بتوزيعها سرّا بينهم كما المناشير السريّة. بما جعله يصدر في سنة 1956 ديوانين إثنين هما "الشهداء" و"صراع"

باسم الجماهير التي في عزمها

تدوي الحياة فتخلق الأبطالا

لا باسم أفراد تمايز بعضهم

فغدا يعيش على البلاد وبالا

و رغم غزارة إنتاجه الشعري في هذه الفترة زاخرة العطاء، فانّه أشرف، في ذات الوقت، على الصفحة الثقافية ل"جريدة العمل" (اللسان الرسمي للحزب الدستوري الحرّ بزعامة بورقيبة )، كما عملمشرفا ومراقبا للبرامج الأدبية والثقافية بالإذاعة و مسئولا عن الصفحات الأدبيّة لمجلّتها. فضلا عن مساهمته في تأسيس "رابطة القلم الجديد " التي تولّى كتابتها العامّة لاحقا.

وفي هذه الفترة أيضا سافر إلى روسيا وزار ضريح صاحب الرباعيات الشاعر عمر الخيّام في نيسابور مخلّدا ذلك في عدة قصائد. كما زار العراق سنة 1965، وألقى محاضرة حول "الغزو الفكري" إضافة إلى قصيدة "على ظهر الأسد" مساهمة منه في مؤتمر الأدباء العرب المنعقد ببغداد.

ومباشرة إثر عودة الشاعر إلى أرض الوطن، بدأت السلطة تتوجّس منه، لحساسيّتها المفرطة من الفكر القومي العربي، الذي كانت تعاديه وكانت العراق من أهمّ عناوينه بعد مصر.

ولم يفوّت زملاؤه الإنتهازيون بالإذاعة التونسية هذه الفرصة السانحة، فاستغلّوهاّ في حبك الدسائس ضدّه، بما أدّى إلى إيقافه عن إنتاج يرنامجه الإذاعي وإبعاده إلى قسم الأرشيف ليظلّ بعيداً متواريا،ً ويعيش محنته الأولى ذات الطابع الإداري. وهو وإن تجاوزها بسلام، فإنّها تركت له آثارا نفسيّة ستفاقمها محنته الثانية ذات الطابع السياسي. بما سيعصف به ويجهز عليه بالضربة القاضية كما سيأتي بيانه. لأنّ قذارة وخساسة السياسة ليست لها ضوابط ولا حدود في التنكيل بالمثقّف الصادح بموقفه المختلف عمّا يتبنّاه "الزعيم الأوحد"، كما كان حال منوّر صمادح دائما.

لقد تأكّد الشاعر العروبي الثائر في هذه الفترة العصيبة، من نزوع النظام إلى تنكّره لما بشّر به وإلى الانحراف والاستبداد و الظلم والدكتاتورية والتفرد بالحكم. حيث كان مستاء، لا من نفوذ الحزب الحاكم فقط، بل وكذلك من سياسة بورقيبة التي تنزع إلى التقارب مع الفرنسيين والأمريكيين، على حساب التعاون السياسي و الاقتصادي مع البلدان العربيّة. ليس هذا فقط،، بل إنّ صمادح كان كذلك شديد الاستياء من الفساد الذي أخذ في الاستشراء. وقد شهّر به الشاعر في قصيدة “الملاك العائد” التي نشرها، 4 سنوات فقط بعد الاستقلال:

“..وأكول بطر قد أتخمته السرقات

ويد تجني ولكن منحوها السلطات ”

لهذه الأسباب، إهتزّت الصورة البرّاقة النّاصعة للزعيم لدى الشاعر وتغيّرت بالتالي نظرته إليه، ما جعله لا يستكن ويقبل بالواقع السياسي العفن، ونظم، قصائد ساخرة من الرئيس بورقيبة، وهو في أوج قوّته، ووصفه في جرأة نادرة - وفي مناخ غير ديمقراطي- بالتمساح والجلّاد والسجّان، ونحو ذلك من النعوت المذمومة والإنتقادات اللّاذعة التي وردت في قصيدة "عهدي به جدًا... ":

عهدي به جدّا فكان مزاحا

بدأ الضحيّة وانتهى سفّاحا

من حرّر الأجساد من أصفادها

عقّل العقول وكبّل الأرواحا

كان السجين فصار سجانا لها

يا من رأى سمكا غدا تمساحا

الباب فتحه الذين استشهدوا

فلمن ترى سلّم المفتاحا؟

وبهذا، فتح صمادح على نفسه النّار وأبواب الجحيم، فأصبح مستهدفا من رأس السلطة. حيث ضاق النظام البورقيبي التسلّطي ذرعا به، وبدأ يضّيق عليه الخناق فمنعت دواوينه وصودرت أشعاره، كما كان حاله زمن الإستعمار، ثمّ منع من العمل في الإذاعة. في هذا الخضمّ المتوتر، شنّ النظام سنة1967، حملة شعواء على المعارضين، عقبتها أولى المحاكمات السياسية في تونس. وفي سياق الحملة، وجّهت له تهمة الخيانة وانعدام الوطنية، وهي أخطر التهم السياسية. واستوجب ذلك استدعاؤه المتكرّر للاستنطاق والتحقيق معه في دهاليز وزارة الداخليّة. بما يستتبع ذلك من فنون التعذيب التي تمارس عليه. ولرهافه حسّه لم يتحمّل ذلك و أصيب بالاكتئاب ثمّ بأزمة نفسية حادة، تحولت فيما بعد إلى انهيارات عصبية، حتّى أصبح نزيلا بمستشفى للأمراض العقلية . وإثر خروجه معافى، عاودت الشرطة استنطاقه من جديد . لذلك استشعر الخطر الداهم، واعتبر ذلك مقدمة لشرّ مضمور، فغادر البلاد أواخر سنة 1967 متسلّلا إلى الجزائر أين قوبل بالترحاب ووجد أبواب الإذاعة ودور الصحافة هناك مفتوحة أمامه. بما جعله يردّ لها الفضل بالتغنّى بحبّه للجزائر التي خصّص لها ديوانه ''السلام على الجزائر''. ففي قصيدته ''وحدة المصير'' قال مفتخرا بهذا البلد الشقيق:

قالوا: هجرتَ؟ فقلت تونس قبلتي

قالوا: الجزائر؟

قلت مفخرة الأمم

أهلي هنا، وهناك نبع صبابتي

من قال إنّا أمّتان فقد ظلم

وبعد سنتين من الإقامة في الجزائر، عاد منوّر صمادح أواخر سنة 1969 إلى تونس، حيث أصدر 5 دواوين في فترة لا تتجاوز السنة. وفي الأثناء تأكّد، بما يقطع الشكّ باليقين، أنّ السلطة متمادية في انحرافها وموغلة في مسارها التسلّطي والنزوع إلى الحكم الفردي، فلم يقبل بالوضع وتعمّق إحساسه بالألم، فعاوده الانهيار النفسي الذي ضاعفت حدّته قصّة حبّ لم تكتمل فصولها بما كان يشتهيه الشاعر. ما أدّى إلى أصابته بنوبات عصبيّة حادة أفقدته عقله وجعلته يعاني من الرهاب، بما هو الإحساس الدائم بأنّه طريد جهة ما تريد قتله. وفي حالة شاعرنا فإنّ هذه الجهة كانت تحديدا المخابرات الأمريكيّة. وكان من نتائج ذلك ولوج منوّر صمادح عالم الجنون الذي استعصى علاجه. وهكذا، إنقطع نهائيّا عن الكتابة ونظم الشعر. لا بل حتّى عن الخوض فيه. وهكذا غيّبت تونس بالحضور شاعرا من كبار الشعراء، ظلّت حياته تتأرجح بين البؤس والشقاء والإنتاج الشعري المتمرّد والمعاناة والإذلال والتنكيل. ومن غرائب الدهر ومفارقاته العجيبة، أن يرحل شاعر بمثل هذه القامة الشعرية السامقة، في صمت رهيب - تماما كما كان حال المصلح الاجتماعي التونسي الطّاهر الحدّاد- ويغادر إلى مثواه الأخير، من مسكنه الذي كان -للأسف الشديد- أقرب إلى الأطلال أو "الخربة" منه إلى محلّ سكنى. فحتّى الفيلسوف شوبنهاور (Arthur Schopenhauer) زعيم التشاؤم الذي رغب في الانتحار ودعا صراحة إلى "نبذ الحياة، لأنّها شر وليس فيها الاّ الالم والمرض... وجوهرها الشقاء والتعاسة"، لم يبلغ هذا الحد من الحياة الضنكة رغم الشقاء والتعاسة اللذين لازماه طويلا. فرغم مقاطعته لأمّه حتّى موتها، وعدم زواجه مثل صمادح، فقد عاش في شقّة من غرفتين متواضعتين بصحبة كلبه، ومات وهو يتناول قهوة الصباح. فيما أنّ صمادح الذي كان محبّا للحياة واستهلّ مشواره الشعري بقصيدة " إبتسم يا شعب" بما هي دعوة إلى الإبتهاج والإقبال على الحياة، مات فيما يشبه الخربة بعد سنة من مصارعة شلل نصفي أقعده نهائيّا عن الحركة. لقد عاش منوّر صمادح شقيّا بائسا ومات موت التعساء الغرباء النكرات. كما لو كان هو المقصود من وصية الشاعر واللساني التونسي صالح القرمادي، إلى أهله، إذ قال:

إذا متُّ مرة بينكم

وهل أموت أبدا؟ -

فلا تقرؤوا علي الفاتحهَ وياسين

واتركوهما لمن يرتزق بهما

ولا تمنعوا القطط من البول على ضريحي

فقد اعتادت أن تبول على جدار بيتي

ولا تزوروني كل سنة مرة

فليس لديّ ما أستقبلكم به

هكذا نحن العرب،على امتداد تاريخنا المظلم، نتجاهل العمالقة ونتركهم يصارعون الإهمال والفقر فتطحنهم آلامهم. فيما نحتفي بالأقزام وأنصاف الجهلة وأشباه المثقّفين، ونغدق عليهم الإمتيازات المتعدّدة والعطايا السخيّة، " فقط، لأنّهم يمجّدون السلطة ويجمّلون صورتها البشعة، بما يجعلها تعتقد ذلك، فتتمادى في ظلمها للنّاس. فتبّا لهؤلاء المهلّلين بكلّ حماقة يأتيها أسيادهم، وتبّا لأسيادهم أصحاب السلطة المؤسسة على قاعدة ظلم الناس والمنتصبة، في صفاقة وخساسة، فوق جماجم منتقديهم من قادة الرأي الشرفاء.

***

المهندس فتحي الحبّوبي

........................

المراجع

- حارس الشمس/ عادل الجريدي/ منشورات إتحاد الكتّاب التونسيين 2016

- الأعمال الشعرية الكاملة لمنوّر صمادح، جمع وتحقيق الكاتب والجامعي، عبد الرحيم صمادح. وقد صدرت سنة 1995، في 515 صفحة عن الدار التونسية للنشر و بيت الحكمة.

- الموسوعة التونسية

- معلومات شخصيّة متفرّقة

تأليف وإخراج: د. زينب عبد الأمير

تفكيك العنوان: طرح العنوان "أنا والمهرج" بنية لغوية بسيطة حملت ثراءً دلالياً، فالضمير "أنا" يضع الطفل المتلقي مباشرة في موضع البطولة محققاً تماهياً فورياً، والتعريف بـ"أل" في "المهرج" يخلق غموضاً مقصوداً: هل المهرج المذكور في العنوان هو مدعوس الحليف؟ أم فدعوس العدو؟ الواو تتأرجح بين المعية والمواجهة، وهذا يعكس بدقة الصراع الداخلي للطفل المدمن الذي لا يعرف بوضوح من حليفه الحقيقي، فالعنوان يحاكي البنية النفسية المشوشة حيث الحدود غائمة بين الضار والنافع، ولو سلمنا بتواضع قدرات أدم وضعفه أمام التكنلوجيا وعالم الألعاب الإلكترونية وأن الأنا هنا ليست أنا آدم إنما أنا الطفل المتفرج باختياره البقعة الضوئية الخضراء للقضاء على المهرج فدعوس بدلا منه، وهنا يتأكد أن نقل الفاعلية من آدم للجمهور هو قرار إخراجي جريء يحول العرض لمرآة، فآدم الصامت المتردد ليس شخصية ضعيفة بل "موضوع تأملي" يُتيح للأطفال رؤية أنفسهم فيه من الخارج وممارسة دور المُخلّص، والرسالة الضمنية: "تملك القوة لإنقاذ الآخرين، فكيف لا تستخدمها لإنقاذ نفسك؟" - وهي رسالة عميقة تعتمد التأثير غير المباشر.

بنية العرض المسرحي:

تبدأ المسرحية بمشهد واقعي محكم يقدم آدم المدمن وهو يلعب بشراسة، تظهر على جسده حركات صاخبة متشنجة تعكس انعزالاً شديداً، يصرخ في وجه أمه، يرفض الطعام والنوم، ويعيش في عزلة تامة، وهذا المشهد يحمل قوة درامية تكثفت من واقعيته المحسوسة، والأم تخاطب الجمهور مباشرة معبّرة عن قلقها من تحول ابنها لكائن عدواني منعزل، وهذا الخطاب يجسد واقعاً معاشاً يخلق تعاطفاً فورياً من الجمهور، ويكسر الجدار الرابع منهجياً من خلال الأم التي تدعو الأطفال للمشاركة في البحث عن آدم، مستحضرة مفهوم بوال عن "المتفرج الممثل"، لكن هذا التفاعل يبقى محسوباً موجهاً، فالأطفال يجيبون على أسئلة مُعدة سلفاً ويصوتون لخيارات محددة دون قدرة حقيقية على تغيير مسار الأحداث، فالتفاعل طقوسي يمنح وهم المشاركة ضمن سيناريو مغلق.

مع ذلك، يمكن الدفاع عن هذا النموذج من منظور مسرح الطفل التربوي، فالتفاعل الحي المستمر يخلق فضاءً مشاركاتياً آمناً يحقق هدفين: كسر حاجز الخوف من المشاركة لدى الطفل، وتحقيق تطهير أرسطي متحكم به حيث الطفل يعيش انفعالات الخوف والفرح ضمن إطار آمن لا يُعرّضه لصدمات غير محسوبة، وهذه السيطرة على المسار العاطفي هندسة بيداغوجية تراعي النضج النفسي للطفل وتضمن خروجه بدرس واضح ومشاعر إيجابية.

يتكرر كسر الجدار مع دخول الجنية على عزلة آدم والتي تمثل الانتقال الفانتازي، فتقدم نفسها للجمهور معلنة أنها أتت لمساعدة آدم، وحين يسألها آدم "من أنتِ؟" تجيب "أنا كائن صنعه خيالك!"، وهنا إشكالية: العرض لا يقدم تبريراً سردياً مباشراً لهذه "الصناعة"، فظهورها مفاجئ، لكن هذا التناقض يمكن قراءته كاختيار ذكي يعكس عمقاً سيكولوجياً، فمن منظورٍ "يونغيٍّ"، نكتشف أن الجنية ليست تجسيداً للوعي السطحي لآدم بل لـ"الذات العليا" المكبوتة تحت طبقات الإدمان، فكل طفل حتى المدمن يحمل في أعماقه بذرة الخير المدفونة، وظهور الجنية "من الخيال" يعني من اللاوعي الجمعي الذي يحتفظ بالأنماط الأصلية للخير والجمال، وفنياً هذا يخدم الوظيفة التربوية: بدلاً من أن تأتي الجنية كقوة خارجية تفرض الأخلاق، تأتي كصوت داخلي نائم يحتاج للإيقاظ، وهذا يمنح رسالة تمكينية مفادها: الحل داخلك.

حين تحول الجنية دمية آدم حسب رغبته وطلبه إلى مدعوس المهرج الحقيقي، تظهر أمامنا مفارقة تستحق التحليل: مدعوس كان قد ظهر فعلياً في الاستهلال الغنائي قبل مشهد الأم، حيث قدّم أغنية تعلن بصراحة عن الوظيفة التربوية للعرض، مما يكشف للجمهور منذ البداية طبيعة الصراع الثنائي ويُفقد العرض عنصر المفاجأة الدرامية، ومدعوس يمثل الخير المطلق، يحمل صفات مثالية لا تشوبها عيوب أو تناقضات أو ضعف إنساني، وهذا الثبات الأيديولوجي يُفرغ الشخصية من ديناميتها الدرامية ويحولها لـ"قناع أخلاقي" ثابت، لكن من منظور المسرح التربوي الوظيفي، هذه البساطة استراتيجية بيداغوجية مشروعة، فمدعوس "خيال موظَّف" يقدم للطفل بوصلة أخلاقية محددة تساعده على التمييز.2199 goyada

يظهر فدعوس بعد تشكّل مدعوس، لكن ليس عبر سحر الجنية بل استجابة لرغبة آدم العميقة في المهرج المقاتل، وهذا الظهور يكشف قدرة سيكولوجية استثنائية لدى آدم: إذا كانت الجنية تحتاج لطقوس وعصا سحرية، فإن آدم يستطيع تجسيد فدعوس من الشاشة للواقع بمجرد الرغبة المفرطة، وهذه القدرة نتاج اندماجه المَرَضي مع العالم الافتراضي، والثنائية بين مدعوس وفدعوس تستدعي المانوية الفلسفية التي قسمت الكون لقوتين متصارعتين دون منطقة رمادية، لكن من منظور ما بعد حداثوي، يمكن تبرير هذه البساطة باعتبار أن كليهما كائنات افتراضية في وعي آدم، إنهما "تمثيلات رمزية" لصراع داخلي، والتبسيط المانوي ليس عيباً بل خيار جمالي يعكس طبيعة الصراع الثنائي في العالم الافتراضي نفسه حيث الألعاب تقوم على ثنائيات حادة: فوز/خسارة، بطل/وحش.

اللحظة المحورية تحدث حين يُدخِل مدعوسُ آدمَ للصندوق السحري، وهنا القوة البصرية والإبداع السينوغرافي الحقيقي، لكن هنا أيضاً المفارقة الدراماتورجية الأكبر: الصندوق السحري بعوالمه الفانتازية المبهرة هو في جوهره عالم افتراضي آخر لا يختلف جذرياً في طبيعته البصرية عن عالم الألعاب الإلكترونية، فالمسرحية تحارب الافتراضي بافتراضي أجمل وأخلاقي، لكنه يبقى خيالياً لا ينتمي للواقع الذي سيواجهه آدم فور خروجه، ويرى الجمهور داخل الصندوق دمى ملونة ترقص، كفوفاً وأصباغاً للرسم، منطاداً يطير، أطفالاً يلعبون بالكرة، حركات بهلوانية، وهذه المشاهد تقدم بدائل بصرية جذابة لكنها تبقى مشاهد خيالية داخل صندوق سحري لا تتحول لخطة عملية واقعية.

لكن يمكن الدفاع أيضاً عن هذا الاختيار من منظور تربوي تدريجي: عالم افتراضي خالٍ من العنف يظل أفضل من عالم مشبع بالدم، فثمة تغيير نوعي نحو الأحسن حتى لو لم يصل للمثالية الواقعية، والمسرحية لا تقدم الحل الجذري النهائي بل خطوة وسيطة معقولة: إدانة واضحة للعنف الرقمي عبر بديل بصري جمالي أخلاقي، فإذا كان الطفل سيبقى منجذباً للعوالم الخيالية حتماً - وهذا واقع العصر الرقمي - فإن توجيهه نحو فانتازيا إبداعية جميلة تحتفي بالفن والرياضة واللعب الجماعي يبقى إنجازاً تربوياً مشروعاً، وهنا نجحت سينوغرافيا العرض بامتياز في تصوير هذا العالم المثالي عبر عناصر مبتكرة: الصندوق السحري كفضاء تحولي، الدمى الملونة المتحركة، الإضاءة الديناميكية التي ترسم فضاءات متعددة، الموسيقى المعبرة، والحركة المسرحية التي تحول الخشبة للوحة حية.

دخول آدم لعوالم مسرح الظل والضوء وما يسمى بالمسرح الأسود وأدواته المنطاد والكرات والدمى وانبهاره بها يمثل لحظة عبور من الواقع المسطح للعمق الخيالي، ومن الشاشة الباردة للفضاء الحي، ومن الإدمان السلبي للانبهار الخلاق، لكن ظهور الرجل الضخم بسلاحه الفتاك كبطل اللعبة الإلكترونية يخلق توتراً دراميًا مركباً، فالعمل يستثمر بذكاء في معرفة آدم المسبقة بالرجل الضخم كشخصية مألوفة، مما يخلق جسر تماهٍ فوري، فالطفل في الصالة يرى نفسه في آدم الذي يرى بطله الإلكتروني يتجسد حياً، وهذا التجسد لحظة سحرية تُحقق ما لا تستطيع الشاشة تحقيقه: تحويل الصورة الرقمية لحضور مادي ملموس، لكن تحويل الرجل الضخم من بطل في اللعبة لشرير في المسرح يمثل عملية نقدية جريئة تُزعزع يقينيات الطفل حول البطولة والقوة، فالسلاح الذي كان مصدر إعجاب يتحول لتهديد حقيقي، والقوة الغاشمة تصبح عنفاً مُداناً.

وانبهار آدم بالعوالم الجمالية المتضمنة تفاصيل الصندوق استعارة بصرية عميقة للانتقال من أحادية الشاشة لتعددية الحضور المسرحي، فالظل والضوء يخلقان عمقاً وتدرجاً يفتقده العالم الرقمي المسطح، والمنطاد كرمز للارتفاع يُجسد تحرر الخيال من قيود البرمجة، وهذا الانبهار لحظة تحول معرفي يكتشف فيها آدم أن هناك عوالم أغنى مما حبس نفسه فيها، وهذا جوهر الرسالة التربوية دون وعظية مباشرة، فالعرض المسرحي أنا والمهرج لا يقول "لا تلعب" بل يقول "انظر كم العالم أوسع وأجمل"، والإشكالية الدرامية تكمن في أن العمل يستخدم نفس الشخصية (الرجل الضخم) التي أدمن آدم عليها ليقدم نقداً للإدمان ذاته، وهذه استراتيجية جدلية ذكية تُشبه استخدام السم لصناعة الترياق، فبدلاً من تجاهل عالم الألعاب أو إنكار جاذبيته، يستدعيه العمل للخشبة ليُعيد تأويله وليكشف بُعده العنيف والفراغ الأخلاقي خلف البطولة الزائفة.

دخول الجنية على ذروة الصراع بين فدعوس ومدعوس والرجل الضخم حول الصندوق السحري يطرح إشكالية نقدية، فمن جهة يمكن اعتباره كسراً للإيهام الدرامي يُفرغ الصراع من ديناميكيته الداخلية، لكن من جهة أخرى فإن هذا التدخل يكشف وعياً فنياً عميقاً بأن الصراع الدرامي في مسرح الطفل لا يكتمل بانتصار بطل على الشاشة بل بتحويل المتفرج نفسه لفاعل أخلاقي، فالجنية ليست حلاً سحرياً يُنهي الصراع من الخارج بل آلية درامية تُوسّع حدود الصراع ليشمل الجمهور، وهنا يتحول السؤال مِنْ "مَنْ سينتصر؟" إلى "لِمَنْ ستنتصر أنت؟"، وهذا انتقال نوعي من الفرجة للمسؤولية.

ودعوة الأطفال للتصويت بين البقعة الخضراء (مدعوس) والحمراء (فدعوس) تحمل إشكالية مزدوجة: فهي من ناحية تُقدم خياراً محسوماً سلفاً عبر الترميز اللوني، مما يجعل التصويت أقرب لتمثيلية ديمقراطية، لكنها من ناحية أخرى تُدرّب الطفل على ممارسة الانحياز الأخلاقي في لحظة حاسمة، فاللحظة التي يرفع فيها يده ليست لحظة معرفة نظرية بل لحظة فعل إرادي يتحول فيها من مراقب سلبي لمشارك فاعل، وهذا جوهر التجربة التربوية حتى لو كانت النتيجة محسومة، و"تحضير" الجنية للأطفال لاختيار البقعة الخضراء يمكن فهمه كبناء للثقة الجماعية وتعزيز لفكرة أن القيم الصحيحة تنتصر بالتضامن الجماعي لا بالبطولة الفردية، فالطفل لا يتعلم فقط "اختر الخير" بل يتعلم "نحن معاً أقوى من الشر". والطفل المتلقي الذي يرى مدعوس ينتصر بعد أن صوّت له لا يشعر أنه شاهد انتصاراً بل أنه ساهم فيه، وهذا الفرق الجوهري يحول المشهد من درس أخلاقي جاف لتجربة تمكينية تمنح الطفل إحساساً بالفاعلية، وبذلك فإن المشهد يحقق توتراً خلاقاً بين التوجيه والتمكين، وبين الوضوح الأخلاقي والمشاركة الحية، وهذا التوتر يجعله نموذجاً جديراً بالتأمل النقدي. وهنا يكمن التوازن في احترام ذكاء الطفل ومنحه الأدوات المناسبة لمرحلته العمرية،

ما بعد مشهد الصندوق، تجلى تشظي آدم وتذبذبه بين فدعوس ومدعوس وهذا ما يمكن قراءته من زاويتين: إما كعمق نفسي واقعي يعكس طبيعة الإدمان المعقدة وصعوبة التحرر منه، وإما كارتباك دراماتورجي، ومن الزاوية الإيجابية، هذا التشظي يتجاوز التبسيط الساذج ويعكس حقيقة نفسية عميقة: الإدمان ليس حالة ثابتة يمكن الخروج منها بقرار واحد، بل صراع طويل مليء بالانتكاسات، فعلم نفس الإدمان يؤكد أن التعافي مسار متعرج وليس خطياً، لكن من منظور بريختي، الهدف ليس تقديم حل نهائي مغلق يريح الجمهور، بل إثارة الوعي النقدي وترك السؤال مفتوحاً ليواصل الطفل التفكير، فالتذبذب اختيار تربوي شجاع يعلّم الطفل أن التغيير صعب ويحتاج مثابرة، وإخراجياً هذا البناء المتشظي يحوّل العرض من وعظ مباشر إلى مرآة صادقة تعكس للطفل صراعه الحقيقي، مما يمنح المسرحية مصداقية وجودية تفوق النهايات السعيدة المصطنعة.2200 goyda

النهاية كانت صدمة لآدم "كان ذلك حلماً"، وأثارت تساؤلات جوهرية لكنها حملت إمكانيات دفاعية فلسفية وفنية عميقة، فالإشكال الأول: إلغاء فاعلية آدم، لكن من منظور يونغي، الحلم ليس مجرد وهم بل رسالة من اللاوعي للوعي، فالحلم يعمل كـ"بروفة نفسية" تهيئ آدم للتغيير، والإشكال الثاني: الحل بالقوة من الأم بتخلصها من الشاشة والجويستك وبقية أدوات اللعبة الإلكترونية، لكن من منظور تربوي واقعي، الطفل المدمن لا يملك القدرة الإرادية الكاملة على اتخاذ قرار التوقف لأن الإدمان يعطّل مراكز اتخاذ القرار العقلاني، فالتدخل الخارجي من الأهل ليس قمعاً بل حماية ضرورية.

والإشكال الثالث: عبثية العرض، فإذا كان كل شيء حلماً، ما فائدة ساعة من الصراع؟ لكن من منظور بريختي، قيمة العرض ليست في تغيير آدم بل في تغيير الطفل المتفرج، فالحلم داخل المسرحية موجه للجمهور، والطفل الجالس في الصالة هو من عاش الصراع ورأى عواقب الإدمان وشعر بجمال البدائل، فالمسرح "حلم جماعي" للجمهور، والاستيقاظ منه العودة للواقع محملاً بالوعي الجديد، والإشكال الرابع: التناقض المنطقي، فكيف يدخل مدعوس والجنية في الواقع بعد الاستيقاظ إذا كانوا من الحلم؟ لكن هذا التداخل بين الحلم والواقع ليس ارتباكاً بل اختيار سريالي واعٍ يعكس فلسفة ما بعد حداثية: الحدود بين الخيال والواقع في حياة الطفل المعاصر باتت مائعة، والمسرحية تعكس هذا التداخل عمداً.

في البناء الأرسطي، لحظة الوعي ينبغي أن تكون المحرك للقرار الحاسم، لكن هنا المشكلة حُلت أولاً ثم يأتي وعي آدم كتعليق لاحق، لكن من منظور تربوي نفسي، الطفل المدمن لا يملك القدرة على الوعي الذاتي الكامل أثناء الإدمان، فالوعي يأتي بعد الانقطاع القسري وليس قبله، وهذا واقعي تماماً، والحل الوسطي في النهاية حين تعد الأم آدم بإعادة الألعاب الإلكترونية لاحقاً بشرط الاعتدال، ومن منظور التربية الواقعية، الحل الوسطي أكثر حكمة من الرفض المطلق، فالمسرحية لا تدعو لإلغاء التكنولوجيا بل لتنظيمها، وهذا موقف تربوي ناضج يعترف بأن العالم الرقمي واقع لا مفر منه، فالنهاية تعلّم التوازن لا الهروب.

السينوغرافيا:

الديكور:

وهو من تصميم وتنفيذ محمد النقاش... من منظور سينوغرافي حداثوي يكشف عرض "أنا والمهرج" عن اختيارات بصرية واضحة تميل نحو الوضوح الأيقوني والتبسيط الدلالي، لكن هذا الاختيار حين يُقرأ ضمن سياق مسرح الطفل يتحول من "نقص" فني إلى "حكمة" إخراجية، إذ الوضوح ليس تبسيطاً مُخلاً بل لغة بصرية دقيقة تتحدث بفعالية للطفل دون إرباك رمزي، فالباكغراوند بشاشة الألعاب الإلكترونية والجدار بألوانه الهادئة يُشكل وحدة بصرية متجانسة، والشاشة تُمثل عتبة تقنية تربط عالم الطفل الرقمي بالمسرح التقليدي مُحدثة تهجيناً بصرياً يقول: "نعرف عالمك لكننا ندعوك لتجاوزه"، والمنضدة والدولاب تُرسخ الفضاء في اليومي المعتاد قبل انفتاحه على الفانتازيا، وهذا التدرج ضروري للانتقال السلس. والصندوق السحري كعنصر محوري يُجسد الأرخيتايب، وهو النموذج النفسي الأولي المشترك عبر الثقافات الذي يظهر في الأساطير والحكايات كالخزانة السحرية والبوابة المؤدية لعالم آخر، ويعمل كـ"رحم بصري" يحتوي عوالم مبهرة: دمى ترقص، منطاد يطير، أطفال يلعبون، حركات بهلوانية، رسومات ملونة، وهذا التنوع يخلق تبايناً مع الفضاء الهادئ، والمفارقة (الصغير يحتوي الكبير) جوهر السحر الذي يُعلم أن الخيال أوسع من أي إطار مادي، والدمى والمنطاد عناصر متحركة تُحول الفضاء لديناميكي نابض، فالحركة لغة بصرية تُخاطب الطفل بلغته الحركية، والمنطاد استعارة للتحرر من الجاذبية يخلق بُعداً عمودياً يُوسع الإدراك البصري، والحركات البهلوانية والرسومات تُشكل "السينوغرافيا الأدائية" حيث الجسد عنصر تشكيلي يرسم الفضاء لحظياً.

الأزياء:

وهي من تصميم وتنفيذ زياد العذاري... تتبع الأزياء نهج الوضوح الأيقوني أيضاً، فكل شخصية تحمل زيّاً يُترجم هويتها الأخلاقية بصرياً، وهذا ليس فقراً بل استراتيجية تُدرك أن الطفل يقرأ الشخصية من مظهرها أولاً، فالمهرج بألوانه الزاهية يُجسد الفرح، وفدعوس بألوان قاتمة (الأحمر) وتفاصيل حادة يُشير لخطورته مع الاحتفاظ بلون قطعة القماش الخضراء الفاتحة ليوازن حقيقته كمهرج بريء أصلاً في المأثور الطفولي، والرجل الضخم بطل اللعبة بزيّه المستوحى من الألعاب الإلكترونية يحمل تفاصيل تقنية وعضلات مبالغة تُجسد القوة الغاشمة وتربط بذكاء بين العالم الافتراضي والمسرحي، وآدم يرتدي زيّاً واقعياً قريباً من ملابس الأطفال اليومية يخلق تماهياً مباشراً، والجنية بزيّها البرّاق والأجنحة اللامعة والألوان الفاتحة تُجسد السلطة السحرية الخيّرة وتخلق هالة بصرية تُميزها كوسيط بين العالمين. كذلك زي الأم كان متسقاً مع حركتها الدؤوبة كربة بيت وهي ترتدي الصدرية المميزة دليل تنظيمها فضاء البيت بدقة وحرص تعكسان نشاطها للوصول لحالة متفردة لبيت جميل.

الإضاءة:

وهي من تصميم وتنفيذ علي المطيري لعرض بغداد، وعلي عادل السعيدي لعرض الكويت... تعمل الإضاءة كعنصر سينوغرافي حيوي يُشارك في خلق العوالم وتحديد المناخات الانفعالية، ففي العالم الواقعي لـ (آدم والأم) تكون الإضاءة طبيعية هادئة تُحاكي ضوء البيت العادي مما يُرسخ الواقعية، بينما عند انفتاح الصندوق السحري تتحول لألوان متعددة زاهية متغيرة تخلق جواً سحرياً وتُعزز الانبهار، والإضاءة تستخدم التباين بين الظل والضوء لخلق عمق بصري وإبراز عناصر معينة، فالصندوق قد يُضاء من الداخل ليبدو كمصدر نور ذاتي يشع سحراً، والشخصيات الشريرة قد تُضاء بزوايا حادة أو ألوان باردة قاتمة تُعزز خطورتها، بينما الشخصيات الخيّرة تُضاء بضوء دافئ ناعم، والإضاءة تُستخدم للانتقالات بين المشاهد وفي لحظات التوتر قد تومض أو تتسارع لخلق قلق بصري.

الموسيقى:

وهي من نتاجات المايسترو علي خصاف... الموسيقى في "أنا والمهرج" تتجاوز المرافقة الصوتية للحدث الدرامي لتصبح طبقة انفعالية حاسمة تُوجه مشاعر الطفل المتفرج وتُضخم الأثر الدرامي وتُشارك في صناعة المعنى، وفي مسرح الطفل تكتسب الموسيقى أهمية مضاعفة لأن الطفل يستجيب للإيقاع واللحن والنغمة بشكل غريزي وفوري أسرع بكثير من استجابته للكلمة المنطوقة أو الحوار المنطقي، فالطفل كائن حسي حركي يعيش في جسده قبل عقله، والموسيقى تخاطب هذا الجسد مباشرة.

في لحظات التوتر والخطر حين يظهر فدعوس والرجل الضخم (بطل اللعبة الإلكترونية) تصبح الموسيقى متسارعة حادة ذات إيقاعات قوية متقطعة ونغمات صاخبة تُحاكي صوت الانفجارات وتخلق جواً من القلق، مما يجعل الطفل يشعر بالخطر قبل أن يرى فدعوس يدمر، فالموسيقى تعمل كإنذار مبكر يُنبئ بقدوم الشر. وفي لحظات الانبهار حين ينفتح الصندوق السحري تتحول الموسيقى إلى ألحان حالمة خفيفة شفافة تطفو في الهواء كأنها تأتي من عالم آخر، مما يساعد الطفل على الانتقال النفسي من عالم آدم المشحون بالتوتر إلى عالم مدعوس الفانتازي. وفي لحظات المرح واللعب تكون الموسيقى راقصة مبهجة ذات إيقاعات منتظمة واضحة سهلة الحفظ والترديد تدفع الجسد للحركة.

الأغاني صُممت بحرفية واضحة تعكس عوالم الطفولة الجميلة وتحمل رسائل تربوية مباشرة مغلفة بألحان جذابة سهلة الحفظ، فالأغنية تتحول إلى لحظة درامية مكثفة تُلخص الرسالة وتُرسخها في ذاكرة الطفل. الرقصات تُشكل السينوغرافيا الأدائية الحية حيث الجسد يتحول إلى عنصر تشكيلي متحرك يرسم الفضاء المسرحي ويُجسد القيم عبر الأداء الحي دون خطابة لفظية.

التمثيل:

يتطلب التمثيل في مسرح الطفل معادلة فنية دقيقة: أداءً مُضخّماً دون اصطناع، واضحاً دون تسطيح، صادقاً دون واقعية فوتوغرافية، مُبالغاً دون كاريكاتورية مُفرطة، ويُظهر عرض "أنا والمهرج" وعياً واضحاً بهذه المعادلة الصعبة عبر أداء ممثليه الخمسة الذين يُشكلون معاً نسيجاً تمثيلياً متنوعاً يتراوح بين الواقعية النفسية والأداء الجسدي الصامت والحضور الأثيري الفانتازي.

آدم (سجاد الأوسي): سجاد الأوسي يحمل ثقل الشخصية المحورية التي تدور حولها الحبكة بأكملها، وأداؤه يُجسد رحلة نفسية معقدة من الانغلاق الإدماني إلى الانفتاح الواعي. نجح الأوسي في بناء شخصية مركبة ذات طبقات نفسية واضحة عبر اختيارات جسدية ولفظية دقيقة تُفصح عن استلاب آدم وتشتته الذهني وانعزاله الاجتماعي. الحركات التوحدية الانعزالية التي يؤديها في المشاهد الأولى، حيث يجلس منكمشاً على نفسه، عيناه معلقتان بشاشة وهمية، أصابعه تتحرك بشكل ميكانيكي متكرر وهي تضغط أزرار جهاز التحكم (الجويستك) ، كل هذه التفاصيل الجسدية الدقيقة تُفصح عن قدرات تقمصية عالية وفهم عميق للحالة النفسية للشخصية. في لحظة التحول، حين يدخل آدم الصندوق السحري ويواجه فدعوس ومدعوس، ليظهر بعدها وقد يتغير أداء الأوسي تدريجياً بشكل مدروس، فالجسد ينفتح تدريجياً، الكتفان ينخفضان، الرأس يرتفع، العينان تتسعان، الصوت يكتسب طاقة وحضوراً، وهذا التدرج في التحول يُظهر وعياً دراماتورجياً بأن التغيير النفسي الحقيقي يمر بمراحل انتقالية تدريجية، وهو ما يمنح الشخصية مصداقية نفسية أعمق.

الأم (داليا طلال): داليا طلال قدمت شخصية الأم كنقطة ارتكاز واقعية في عرض مُحلّق نحو الفانتازيا، فهي تحمل عبء الحوار الواقعي الذي يُرسّخ العرض في اليومي المعاش وتُمثل صوت الواقع والمسؤولية والحب الأمومي والقلق الصادق على مستقبل الطفل. أداء طلال يتميز بالصدق الانفعالي والواقعية النفسية دون مبالغة ميلودرامية، فهي تُعبر عن قلقها بنبرة صوت حانية لكن حازمة، بنظرات عميقة مليئة بالحب والخوف والأمل. تشكيل جسدها وتفاصيله الدقيقة أعطت صدقاً حقيقياً لشخصيتها وجعلتها تبدو كأم حقيقية. طلال تُحقق توازناً دقيقاً بين الوضوح المسرحي المطلوب والصدق الواقعي الضروري، وتُنقذ الشخصية من فخ الوعظ المباشر عبر منحها دفئاً إنسانياً وحباً حقيقياً يجعل النصيحة تبدو صادرة عن قلب خائف محب.

الجنية: في عرض العراق (هديل سعد) في عرض الكويت (إسراء رفعت): الجنية تؤدي بأسلوب أثيري خفيف يُحاكي طبيعة الشخصية الفانتازية التي تنتمي لعالم السحر والخيال، وأداؤها يتميز بصوت رقيق شفاف ذي نبرة موسيقية حالمة، وحركات انسيابية ناعمة تُحاكي الطيران والانزلاق في الهواء، ووضوح لفظي عالٍ بصوت مسرحي محترم يصل لكل زوايا الصالة دون أن يفقد رقته السحرية. الصوت المسرحي الذي تمتلكه الممثلتين هديل سعد وإسراء رفعت يُظهر تدريباً صوتياً جيداً على الإلقاء، فهما تُخرجان الحروف من مخارجها الصحيحة، تُوضحان الكلمات دون تكلف، تُنوعان في النبرات والإيقاعات. الحركات الانسيابية التي تؤديانها، حيث تتحرك بخفة على أطراف أصابع قدميها، ترفع يديها بنعومة كأنها أجنحة غير مرئية، كلها تفاصيل تُساهم في خلق الإحساس بأنها كائن خفيف لا تقيده قوانين الجاذبية العادية.

المُهَرِّجان فدعوس (أحمد إبراهيم) ومدعوس في عرض العراق (أحمد جميل) وعرض الكويت (نور الدين إسماعيل): لا ينطقان كلمة واحدة طوال العرض بل يعتمدان كلياً على الأداء الجسدي والإيمائي، وهذا اختيار فني جريء يُعيد الاعتبار للتمثيل الصامت كلغة مسرحية خالصة. المهرج يُترجم كل انفعال بحركات مبالغة واضحة وتعبيرات وجه مُضخّمة وطاقة جسدية عالية.

فدعوس (أحمد إبراهيم) يُجسد العنف والعدوانية بلغة جسدية حادة متشنجة متقطعة، فحركاته سريعة مفاجئة عنيفة، يقفز بشكل مباغت، يُطلق لكمات وهمية، يُصوّب أسلحة خيالية، ووجهه يحمل تعبيرات مخيفة تُجسد كل ما هو سلبي وخطر في عالم الألعاب القتالية. مدعوس يُمثل النقيض التام، فحركاته ناعمة انسيابية مرحة، يقفز بخفة وبهجة، يرقص بحرية، يُحضن الأطفال، ووجهه مشرق مبتسم يُشع طاقة إيجابية. التباين الحاد بين أسلوبي الأداء الجسدي للمهرجين يخلق خطاباً بصرياً واضحاً لا يحتاج لشرح لفظي.

حصر الحوارات اللفظية في الأم وآدم والجنية فقط يخلق توازناً دراماتورجياً ذكياً بين الكلمة والصمت، بين اللغة اللفظية واللغة الجسدية، وهذا التنوع يُناسب الطبيعة المتعددة الحواس للطفل المتفرج. في الختام، التمثيل في "أنا والمهرج" يُقدم نموذجاً متنوعاً يجمع بين الواقعية النفسية والأداء الجسدي المُضخّم والحضور الأثيري الفانتازي، مُظهراً وعياً فنياً بخصوصية مسرح الطفل ومتطلباته الجمالية والتربوية.

النص:

وهو للمؤلفة الدكتورة زينب عبد الأمير حقق معادلة البساطة اللغوية والعمق المضموني من خلال لغة مباشرة تتجنب التعقيدات لكنها لا تسقط في السذاجة، فالحوارات قصيرة مُركزة تحمل فكرة واحدة واضحة، والثيمة حول إدمان الألعاب تُطرح بذكاء دون وعظ، فالنص لا يقول "لا تلعب" بل يُري أن هناك عوالم أجمل خارج الشاشة، والصراع بين الخير والشر يُضيف طبقة من خلال الرجل الضخم الذي هو بطل في اللعبة لكنه شرير في الواقع، وهذه الازدواجية تُعلّم درساً دقيقاً حول نسبية البطولة، والنص يستخدم التكرار كتقنية تربوية تُساعد على الحفظ والمشاركة، واللغة تستخدم الصور البسيطة فبدلاً من التجريد تُجسد الأفكار في مواقف ملموسة.

الإخراج:

وهو أيضا للدكتورة زينب عبد الأمير جمع كل العناصر وحولها لعرض متماسك، كما واجه تحدي الحفاظ على الحيوية دون فوضى، وعلى وضوح الرسالة دون وعظ، وقد نجح في هذا التوازن من خلال رؤية تُدرك أن الإيقاع هو كل شيء، فالإيقاع السريع في الحركة والبطيء في الانبهار، وهذا التنوع يخلق تموجاً انفعالياً يُحافظ على التنبه، وقد أظهرت الدكتورة زينب وعياً بجغرافيا الخشبة واستخدام المستويات المختلفة لخلق عمق وحركة ديناميكية، مما ساعدها على إدارة اللحظات التفاعلية بضبط دقيق للتحضير للحظة التصويت وتوجيه الأطفال بلطف، وهذا فن التوجيه الخفي، والرؤية الإخراجية تُظهر فهماً للسينوغرافيا الشاملة التي تجمع كل العناصر في منظومة متكاملة، وقد وازنت المخرجة بين الترفيه والتعليم دون تضحية بجماليات العرض المتعارفة مسرحياً.

الخاتمة:

عرض "أنا والمهرج" يُمثل نموذجاً ناضجاً لمسرح الطفل العربي يجمع بين الوعي الفني والمسؤولية التربوية دون وعظ مباشر، فيُقدم ثيمة معاصرة حول إدمان الألعاب الإلكترونية بلغة الدعوة للبديل الأجمل عبر دروس متشابكة: خطورة الإدمان، نسبية البطولة، قيمة الخيال والمسرح كبدائل صحية، التضامن الجماعي، والاختيار الأخلاقي، وهذه الدروس متداخلة في نسيج درامي تُستوعب عاطفياً.

القيمة الفنية تكمن في وعيه بلغة مسرح الطفل، فهو يُطور خطاباً يجمع بين الوضوح والغنى دون محاكاة مسرح الكبار أو استخفاف بذكاء الطفل، وينجح في خلق تجربة جمالية متكاملة تُخاطب كل حواسه. العرض يُقدم نموذجاً لمسرح طفل عربي يوازن بين الحداثة والتراث، التقنية والحضور الحي، محققاً فناً راقياً وتربية ناجعة.

اختار العرض الوضوح التربوي على التعقيد الدراماتورجي بوعي، ونجح في طرح المشكلة بجرأة مع تقديم اتجاه عام للحل، تاركاً للأسرة مهمة التطبيق الواقعي. السؤال المفتوح: كيف سيقضي آدم صيفه؟ ليس فشلاً دراماتورجياً بل دعوة حكيمة للجمهور ليكمل ما بدأه المسرح، مما يفتح حواراً نقدياً مثمراً حول قيمة العمل وخياراته الفنية.

***

مقالة نقدية بقلم كاظم أبو جويدة

تأتي هذه القراءة النقدية لتضع قصيدة "قمر المعرّة" للشاعر السوري توفيق أحمد ضمن أفقها الأوسع: أفق الشعر العربي الذي يتقاطع فيه التاريخي بالرمزي، والوطني بالميتافيزيقي، والذاتي بالجمعي. فالقصيدة ليست مجرد تحية لرمز من رموز التراث، بل هي محاولة لإعادة تشكيل العلاقة بين الشاعر المعاصر وضمير الأمة ممثلاً في شخصية أبي العلاء المعري؛ هذا الفيلسوف الذي تحوّل عبر العصور إلى رمز للحكمة والجرأة الأخلاقية ومساءلة الزمن.

يمتاز النصّ بثراء دلالي يسمح بتعدد مستويات القراءة؛ فهو نصّ يتجاوز حدود البلاغة إلى بنية معرفية تتداخل فيها السيميائيات مع الذاكرة الوطنية، والهرمنيوطيقا مع البنية النفسية، واللغة الشعرية مع البعد الفلسفي. ولذلك فإن قراءته تحتاج إلى مقاربة متعددة الأدوات، تفتح طبقات النص وتكشف ما تحته من توتر ومجاز ورمز، وتعيد تأويل العلاقة بين الشاعر ورموز المنفى الداخلي والضوء والمحبسين والكوثر والقمح.

وتسعى هذه الدراسة إلى تحليل القصيدة عبر مناهج متكاملة:

١- هيرمينوطيقية تأويلية تلاحق حركة المعنى داخل النص، وتفكك تمثلات المعري بوصفه “ضميراً حضارياً”.

٢- أسلوبية تستكشف البنية اللغوية والإيقاع والصورة والتوتر الشعوري.

٣- سيميائية غريماسية تكشف محاور الأدوار (الفاعل/ المفعول/ المرسل/ المرسل إليه…) وشبكات العلامات.

٤- نفسية ترصد علاقة الشاعر بالفقد، بالذاكرة، وبصورة الحكيم المخلّص.

٥- وطنية–تاريخية تضع النص في سياق الذاكرة السورية والعربية، وصراع الضوء والظلام في لحظة حضارية حرجة.

كما تعقد الدراسة مقارنة فنية–انفعالية–تخيلية–لغوية بين هذا النص وبين نصوص أخرى تقوم على بنية العشق، للكشف عن اختلاف مستويات الشغف والمعنى والرمز، وتحديد ما يميز "العشق الرمزي الحضاري" عن "العشق الوجودي الفردي".

بهذه الأدوات تتشكّل قراءة تحاول أن ترى في القصيدة أكثر من خطاب شعري؛ محاولة لبعث "قمر المعري" من جديد في زمنٍ تتكاثر فيه الظلال ويغيب فيه اليقين. هذه القراءة إذن ليست بحثاً في نصّ فقط، بل بحث في الروح التي يتنفس عبرها النص.

إنّ القصيدة التي بين أيدينا، سواء في بنيتها اللغوية أو معمارها الرمزي أو إشاراتها الوطنية والوجودية، ليست نصاً يُقرأ من سطحه، بل هي نسيج متعدد الطبقات يحتاج إلى تفكيك وتأويل وغوص طويل في طبقاته المعرفية والجمالية. فـ "قمر المعرة" للشاعر السوري توفيق أحمد ليست مجرد تحية لشاعر كبير أو استعادة لرمز؛ بل هي إعادة كتابة للذاكرة العربية، وإعادة بعث لروح أبي العلاء المعري بوصفه ضميراً أخلاقياً وفلسفياً وإنسانياً يقف في وجه العبث والزيف وانهيار القيم.

ولأن النصّ يشتغل على مستويات دلالية متشابكة—من الرمزية إلى الوطنية، ومن النفسية إلى الفلسفية—فإن قراءته تحتاج إلى مقاربة تعددية تتجاوز منهجاً واحداً، وتستند إلى أدوات متقاطعة تسعى لتشكيل صورة شاملة للمعنى.

من هنا تأتي هذه الدراسة التي ستعتمد على خمسة مداخل أساسية:

أولاً: القراءة الهيرمينوطيقية التأويلية

وهي قراءة تُنصت إلى حركة المعنى داخل القصيدة، وتتعقب كيف ينتقل النص من دائرة الـ"أنا" إلى الـ"هو"، ومن الواقعي إلى التخييلي، ومن التاريخي إلى الإشاري. إذ يُعاد تشكيل شخصية المعري هنا لا بوصفها رمزاً ماضوياً، بل بوصفها حاضراً يتكلم من داخل الزمن العربي المكسور.

سنسائل النص وفق نظريات التأويل، ونتابع كيف يتحول الشعر إلى حدث وجودي تُعاد فيه كتابة الذات والعالم.

ثانياً: الدراسة الأسلوبية:

تحليل البنية اللغوية، ومستويات الانفعال، وبنية الصورة الشعرية، والإيقاع الداخلي الذي يجعل القصيدة تقترب أحياناً من نبرة الابتهال، وأحياناً من نبرة المرافعة الأخلاقية، وأحياناً من نبرة الوجد.

سنقرأ الانزياحات اللغوية، التوازي، التكرار، التشاكل الإيقاعي، وعلاقة الأفعال بالزمن وتحول الضمائر.

ثالثاً: القراءة السيميائية — وفق منهج غريماس

سنستخرج المحاور الدلالية الأساسية:

١- الفاعل / الذات: الشاعر، الإنسان الجائع للمعنى، الباحث عن مثال أعلى.

٢- المفعول به / الغاية: الحقيقة، الحكمة، النقاء الأخلاقي.

٣- المرسل: التاريخ، الذاكرة العربية، تجربة المعري.

٤- المرسل إليه: الإنسان المعاصر، القارئ، الشاعر نفسه.

٥- المساعد / المعارض:

المساعد: المعنى، الشعر، الطهر، النور، الذاكرة.

المعارض: الزيف، الزمان الملوث، الوجوه المتغيرة، الخديعة.

سنفكك العلامات الكبرى:

المعري، الضوء، القمر، السجن، المحبسان، الخيال، القمح، الطين، الكوثر...

لنستخرج شبكتها الدلالية وتفاعلها داخل هندسة القصيدة.

رابعاً: الدراسة النفسية

سنقرأ البنية الشعورية للنص من خلال مفاهيم علماء النفس و"ظلّ الأمة" و"الأنا الجمعية" و"البطل الحكيم".

المعري هنا يتحول إلى أب روحي يواجه الفقد، ويمنح للشاعر معنى في عالم مبعثر.

كما سنحلل “عقدة الفقد التاريخي” وعلاقة الشاعر بالأرض واللغة والهوية.

خامساً: الدراسة الوطنية-التاريخية

سندرس القصيدة في ضوء تاريخ سورية، وذاكرة المعرة، وسياق الثورة، واستخدام الشعراء العرب للرموز الكبرى (المتنبي، المعري، السيّاب…) في لحظات الانكسار أو النهضة.

المعري هنا ليس مجرد شاعر؛ بل “ضمير وطني” يشهد على خراب الحاضر.

والقصيدة تتحول إلى خطاب مقاومة ضد الزمن الفاسد والقيم الملوثة.

سادساً: الدراسة المقارنة

المستوى الانفعالي:

نجد الشاعر توفيق أحمد ابتعد عن العشق الشخصي/ الوجودي واقترب من العشق الرمزي/ الوطني/ الحضاري

المستوى التخييلي:

ابتعد عن المعمار الأسطوري الفردي واقترب من المعمار التاريخي-الرمزي

المستوى اللغوي:

لم تكن لغة الشاعر توفيق احم. لغة حسية عاطفية، بل لغة فلسفية/ رمزية/ حكمية

المستوى العضوي:لم يقارب الشاعر توفيق أحمد من بنية الجسد/ الروح

واقترب أكثر من بنية الحضارة/ التاريخ/ الذاكرة.

أهمية الدراسة:

إن جمع هذه المناهج في قراءة واحدة يمنح النص حياة جديدة، ويكشف عن طبقاته المتعددة:

الدينية، النفسية، الفلسفية، الوطنية، والأسطورية.

ويُعيد للمعري حضوره بوصفه “الضمير الحيّ” للثقافة العربية.

ولأن القصيدة تنتمي إلى شعر الأزمة والسؤال الأخلاقي، فإن هذه الدراسة ليست مجرد تحليل، بل إضاءة فكرية على معنى أن يكون الشعر شاهداً على العصر، وأن تكون الكلمة قادرة على اختراق الطين الملوث لتبحث عن جوهر ضائع.

***

بقلم: عماد خالد رحمة - برلين

الدكتور فايز عزالدين، من سوريا. دكتوراه في العلوم السياسيّة. مواليد 1948 صدر له:

1- السياسة والتربية والأخلاق، ثمانية وعشرون مجلداً طبع منها تسع مجلدات، والبقية قيد الطباعة

2- له خمسة دواوين من الشعر الفصيح والشعبي.. وعدد من الدواوين لم تزل مخطوطات ومنها قيد الطباعة.

3- عمل مدرساً في جامعة دمشق كأستاذ محاضر.

4- مارس العديد من النشاطات الثقافية في معظم المراكز الثقافية للمحافظات السورية.

5- شارك في أكثر من مؤتمر عالمي حول قضايا الشباب.

اخترنا له هذه القصيدة من أعماله وهي بعنوان: (يظل الأمل قائماً).

البنية السرديّة أو الحكائيّة للقصيدة:

عندما يحاصرنا القهر والظلم والاستبداد والجهل وشهوة الدم، يظل الأمل قائماً فينا نحن الذين أصبحت الآلام خيوطاً من العذاب نسجت مكونات حياتنا، ولكننا لم نيأس ولن نيأس بأن نجد هناك فسحةً من الأمل لابد أن تنير لنا هذه الدروب المظلمة وتخلصنا من سيل الدماء وألوان البلاء الذي حل بنا وكانه قدر محتوم علينا.. ولكن كلما بانت بعض خيوط الأمل في حياتنا وانتعش التفاؤل والفرح والأمل بالخلاص، تعود المأساة ثانية وعاصفات من الشقاء لتهز الأمل فينا وتسحق أحلامنا من جديد... كم تمنينا أن نتجاوز واقعنا المرير المضنى، ونحقق حالة من الأمن والأمان والاستقرار، إلا أن غيوم الظلم والقهر تعود ثانية لتسرج خيول الكراهية والعداء... يقول الشاعر فايز عز الدين:

لكن... من قال إن الدرب يوماً لا

محال أن يضاء

من ذا يؤمل بعد هذا السيل من دمنا

وألوان

البلاء... ؟.

كلما أوقدت في دمي التفاؤل والفرح

هاجت على الأمل المسجى عاصفات من

شقاء

كم عنيت بكيف يحتفل الزمان

بصحوة

والغيمة السوداء تسرج عهرها الدامي

فينهمر

العداء...

نعم.. نحن لم نزل نعيش حالات سفك الدماء ووجع النصال، ونكابد الحزن ومرارته الذي خيم على كل مسامات حياتنا وقد تكسرت النصال على النصال فلم يعد هناك نضار ولا وفاء. يقول الشاعر:

إني على وجع النصال مكابد والحزن

خيّم

أسديه مرارة حتى تكسرت النصال على

النصال فلا نضار ولا وفاء...

البعد الاجتماعي في النص:

إنّ الأديب الحقيقي الملتزم بواقعه الاجتماعي، شاعراً كان أو قاصاً أو روائيّاً، لا يفصل الحالة الأدبيّة التي يشتغل عليها عن الحالة الاجتماعيّة التي تحيط به أو ينشط داخلها، لما بينهما من ترابط عضوي، وتشابك يصل إلى حدّ التماهي، إنّ الأديب الواقعي يظل جزءاً لا يتجزّأ عن محيطه ممثلاً في أسرته ومجتمعه وأمته ووطنه، فهو في كينونته ظاهرة اجتماعيّة بامتياز، تنطلق من المجتمع لتصبّ فيه، وهو الطاقة الابداعيّة التي تعكس حال المجتمع في تحوّلاته المستمرّة، وبناءً على كل ذلك هو صورة المجتمع. فليس دوره مقتصراً على تصوير الواقع وقضاياه فحسب، بل عليه أيضاً أن يعمل على تنميته وتطويره من خلال إظهار عوامل تخلفه ورسم الحلول لتجاوز معوقات هذا التخلف.

وهذا ما وجدناه جلياً عند الشاعر "فايز عز الدين، فقصيدته هي موقف انتماء لوطنه وشعبه، فالأمل لديه في الخلاص شكل موقف حياة، لا تنازل فيه للظلم والقهر والجوع والتشرد والطائفيّة.

البنية الفنيّة والجماليّة للقصيدة:

البنية السيمائيّة للعنوان:

تأتي البنية الدلاليّة لعنوان قصيدة "يظل الأمل قائماً" لتقول بأن الأمل سيظل حاضراً عند كل من تتعرض حياته للقهر والظلم والاغتراب والاستبداد والتشيىء، وأن طموحه (فرد كان أو مجتمع أو أمّة) في تحقيق أمنه وسعادته واستقراه، لا بد أن تتحقق يوما، طالما أن هناك من يؤمن بأن نيل المطالب لا يتحقق بالتواكل والتمني والخنوع والرضا بالذل، وإنما بمواجهة من يعمل على غرسها في عقولنا وقلوبنا وكأنها قدر محتوم علينا.. نعم نحن محكومون بالأمل كما يقول "سعد الله ونوس" ولكنه الأمل المسلح بالمعرفة وحب الحياة والنضال من أجل أمننا واستقرار هذه الحياة.

البنية اللغويّة للقصيدة:

لقد جاءت اللغة في القصيدة سهلةً، واضحةً، سمحةً، ناصعةً، وفصيحة، ومسبوكة الألفاظ، منسجمة مع بعضها في بنية القصيدة وخالية من البشاعة. فجودة السبك وبراعة صياغته وتسلسل عبارته وتخير ألفاظه وإصابتها لمعناها، كانت وراء سر فن التعبير في هذا النص الشعري. هكذا تتجلى رهافة وجماليّة لغة الشاعر "فايز عز الدين" في قوله:

(لكن... من قال إن الدرب يوماً لا محال أن يضاء...من ذا يؤمل بعد هذا السيل من دمنا وألوان البلاء... ؟... كلما أوقدت في دمي التفاؤل والفرح هاجت على الأمل المسجى عاصفات من شقاء) أو في قوله: (والغيمة السوداء تسرج عهرها الدامي فينهمر العداء...)

الصورة في القصيدة:

نظراً لافتقاد قصيدة التغعيلة كثيراً إلى فنيات الشعر العمودي، إن كان في أسلوب سردها، أو موسيقاها، أو بلاغتها، أو محسناتها البديعية والبيانية، أو في تراكيب عباراتها .. وغير ذلك إلا أنها تحاول أن تعوض كل ذلك من خلال اعتمادها على الصورة الشعريّة كثيرا، الحسيّة منها والتخيليّة. وبناءً على ذلك جاءت قصيدة (يظل الأمل قائماً) معتمدة كثيراً على الصورة الشعريّة بشكل يمنح بنية القصيدة طاقاتٍ جماليّةً تساهم في نقل التجربة الشعريّة من الوصف السردي المجرد، إلى بناء علاقات مجازيّة مبتكرة عبر اللغة والتخييل.

فمن عنوان القصيدة (يظل الأمل قائما) تأخذ الصورة حضورها في بنية القصيدة لتتوالى بعد ذلك بحالة فيض كقوله: (كلما أوقدت في دمي التفاؤل والفرح...هاجت على الأمل المسجى عاصفات من شقاء) أو في قوله: (والغيمة السوداء تسرج عهرها الدامي.. فينهمر العداء... إني على وجع النصال مكابد .. والحزن خيّم أسديه مرارة.. حتى تكسرت النصال على النصال فلا نضار ولا وفاء)...إن الصور الحسيّة والتخيليّة في هذه القصيدة غطت مساحةً واسعة من بنية القصيدة، فأضفت عليها حالاتٍ جماليّةً تشدُ المتلقي لها بما تحمله من رؤى فكريّة عميقة وجد فيها المتلقي ذاته بهذا الشكل أو ذاك، الأمر الذي أتاح للشاعر أيضاً عبر استخدامه لهذه المجموعة المتنوعة من الصور البلاغيّة، خلق جو شعري خاص. عبر عن تجربة الشاعر الداخليّة وعواطفه وأفكاره.

المستوى الايقاعي في القصيدة:

إنّ الشّعر صيغة موسيقيّة، فليس الشّعر في الحقيقة إلّا كلامًا مموسقاً، تنفعل لموسيقاه النّفوس، وتتأثّر به القلوب. وإلى هذا ترتكز أهمّيّة الموسيقا في الشّعر، فهي تستطيع أن تُقيم بناءً مُتكاملًاً يجمع بين التّأليف القائم في أعماق أحاسيس الشّاعر، وبين غيره من المُتلقّين، في قدرة فنّيّة تجعل إيقاعات النّفس تجذب الآخرين، بواسطة هذا النّغم الشّعريّ. وإذا كان المستوى الايقاعي الخارجي يتجلى في بحور الشعر وأوزانها التي يستخدمها الشعراء. وهو – أي المستوى الخارجي - عنصراً مهماً من عناصر القصيدة، فلا يمكن فصلُه عن سواه من مُكوّناتها.

إن المستوى الداخلي للموسيقى داخل النص الأدبي، يدخل فيه المحسنات البديعيّة والبيانيّة كالجناس والطباق، وسائر المُحسّنات البديعية، مع تركيب الكلام وتتريب الكلمات وتّخيّرها، وكلّ ما من شأنه أن يُعين على تجويد البنية، والرّنين في أبيات القصيدة. وهذا ما يدل على أن الوزن ليس مُجرّد تفعيلات مُنفصلة عن المعنى، تُلقّن وتُحفظ فحسب، ولكنّه لصيق بالمعنى وغير مُنفصل عنه، ويساعد على تأكيد المعنى، وتثبيته في الذّهن، وصونه من الضّياع.

إن معظم هذه الفواعل الموسيقيّة نجدها في قصيدة "ويظل الأمل قائماً" وهي قصيدة قامت على تفعيلة (متفاعل)، حيث استطاع الشاعر "فايز عز الدين" أن يحققها في قصيدته فجاءت القصيدة مشبعة بالمحسنات البيانيّة، إن كان على مستوى التشبيه والكناية والاستعارة، أو على مستوى تركيب الكلام وتتريب الكلمات وتّخيّرها.

العاطفة في القصيدة:

تظهر عاطفة الشاعر جياشة في بنية القصيدة، تجاه وطنه سورية التي عاشت خمسة عشر عاماً من القتل والتشرد والدمار.. وكيف لا يتأثر وهو من حمل هم وطنه في كل مراحل عمله السياسي والإداري، وخاصة اشتغاله على هموم الشباب ومشاكلهم والسعي الدائم لرفع سويتهم العقليّة والجسديّة، وها هو اليوم يرى معظمهم بين قتيل ومشرد ومعطوب في جسده ونفسيته وأحلاقه.

***

د. عدنان عويّد

كاتب وباحث وناقد أدبي من سوريا

...............................

فايز عز الدين

يظل الأمل قائماً

لكن... من قال إن الدرب يوماً لا

محال أن يضاء

من ذا يؤمل بعد هذا السيل من دمنا

وألوان

البلاء... ؟.

كلما أوقدت في دمي التفاؤل والفرح

هاجت على الأمل المسجى عاصفات من

شقاء

كم عنيت بكيف يحتفل الزمان

بصحوة

والغيمة السوداء تسرج عهرها الدامي

فينهمر

العداء...

إني على وجع النصال مكابد والحزن

خيّم

أسديه مرارة حتى تكسرت النصال على

النصال فلا نضار ولا وفاء...

يقدّم كفاح الزهاوي في نصه السردي "اللحاف المنسوج" بنية نثرية مكثّفة تتداخل فيها اللغة الشعرية مع السرد القصصي، لتنتج خطابًا أدبيًا ذي طابعٍ وجودي يسعى إلى تفكيك ثنائية الحياة/الموت عبر منظومة من العلامات والرموز. ورغم انتماء النص إلى جنس القصة القصيرة، فإنه يتجاوز البنية التقليدية للحبكة، ويتجه نحو فضاء تأملي–رمزي يُعلي من وظيفة اللغة بوصفها نظامًا دلاليًا يشتغل على مستوى العمق أكثر من اشتغاله على مستوى الحدث.

يُمهّد الزهاوي نصّه عبر صورة افتتاحية مكثفة تُجسّد حالة الفناء الوجودي قبل حلول الموت الفعلي؛ إذ يظهر رجل عجوز ينتظر دوره في قائمة الموتى بعد أن فاته آخر غروب، وهي صورة تُنزِل الموت من مرتبته القدرية إلى مستوى "الإجراء الجماعي"، بحيث يُختزل الإنسان في رقمٍ داخل لائحة طويلة من الفناء المؤجل. ويتبدّى هذا العجز الوجودي في قوله إن لحظات الانتظار تتبدد كصقيع الثلج في مرجلٍ وصل حد الغليان، حيث يُصبح الزمن نفسه مادة هشّة تتلاشى تحت الضغط النفسي والقهر الواقعي. أما الذاكرة، آخر ما يتشبث به الإنسان في مواجهة العدم، فلا تنجو هي الأخرى؛ إذ إنها تختفي في مهب الريح كلما اشتدت العاصفة، كما لو كانت مجرد وهم عابر. وبذلك يرتسم إطار دلالي عام يمثّل الإنسان المستباح، ذلك الذي فقد مستقبله (بانتظار الموت)، وحاضره (المتبدد تحت الغليان)، وماضيه (المحو من الذاكرة). إنّ هذه الصورة الافتتاحية لا تأتي بوصفها وصفًا خارجيًا للشخصية فحسب، بل بوصفها مدخلًا بنيويًا وسيميائيًا لقراءة مجمل النص، حيث يتحول الفناء إلى بنية كلية تُشكّل الخلفية العميقة لرحلة الوجع، وللانحدار الحتمي نحو "اللحاف المنسوج" الذي يختتم نص الزهاوي.

أولًا: البنية السردية وتفكك الزمن الخطي

لا ينهض النص على تسلسلٍ زمني تقليدي؛ إذ يتقدم وفق آلية "التشظّي السردي"، حيث تتوالى المقاطع بوصفها وحدات دلالية مستقلة نسبيًا، تتضافر لتشكّل البنية الكلية للنص. تعتمد هذه الآلية على الانتقالات المفاجئة بين مستويات الوعي والهذيان والحلم، ما يجعل السرد أقرب إلى كتابة وجودية تحاكم الزمن لا تحكيه.

هذا التفكك الزمنـي لا يُعدّ ضعفًا بنيويًا، بل هو خيار أسلوبي يعكس حالة التشظي النفسي التي تعيشها الشخصية، ويحوّل السرد إلى مختبر رمزي يتحرك فيه القارئ عبر شبكة من العلامات.

ثانيًا: الحقول الدلالية والاشتغال السيميائي

تتأسس الدلالة في النص على ثلاثة محاور رمزية مركزية:

الخريف والنضوب: تتكرر إشارات الذبول والسقوط ("أوراق الخريف"، "الروح المهمشة تذوي") بوصفها علامات تشير إلى انطفاء الوجود وتآكل الزمن الداخلي.

المرآة والوعي المنكسر: وظيفة المرآة في النص ليست انعكاس الملامح، بل مواجهة الذات لتمزقها الوجودي. إلقاء الشخصية للمرآة جانبًا يعبّر سيميائيًا عن رفض الاعتراف بالهوية المتآكلة.

السفينة والبحر بوصفهما فضاء الفناء:

تتحول السفينة إلى رمز للمنظومات الاجتماعية والسياسية المتهالكة، فيما يشكّل البحر "مستودع الفناء الجماعي"، فضاءً لا ينتمي إلى الذاكرة، بل إلى النسيان الكوني.

تعمل هذه الرموز في انسجامٍ ضمن "حقل دلالي للانهيار"، يتكثف تدريجيًا وصولًا إلى الذروة المأساوية.

ثالثًا: تمثلات الهجرة بين الواقعي والميتافيزيقي

على الرغم من ظهور عنصر الهجرة غير الشرعية كإطار واقعي، فإن النص لا يتعامل معها كحدث اجتماعي مباشر، بل يستخدمها بوصفها "استعارة كبرى" للحركة من عالم العجز إلى عالم الفناء. فالرحلة البحرية ليست مجرد انتقال جغرافي، بل انتقال وجودي يعمّق أسئلة الذات حول جدوى البقاء.

يتجلى هذا المنظور في تحول السفينة إلى "مساحة سردية خانقة" تُسلب فيها الشخصية قدرتها على الإدراك المستقر، إذ يهيمن الهذيان ويختفي المعنى تدريجيًا، ما يربط التجربة الفردية بحالة إنسانية أوسع تتعلق بالضياع واللاجدوى.

رابعًا: دلالة العنوان وبلاغة المشهد الختامي

يمثّل العنوان "اللحاف المنسوج" نقطة ارتكاز دلالية أساسية، إذ يشتغل على "انزياح مفهومي" يحوّل الدفء المنزلي الذي يوحي به اللحاف إلى رمز بارد للفناء. في الخاتمة، تصبح رغوة البحر لحافًا أخيرًا يغطّي الجسد الهامد، في مشهد تراجيدي يوحّد بين الطبيعة والموت، ويعيد صياغة العلاقة بين الإنسان والكون عبر خطاب بصري كثيف.

أما الجملة الختامية:

«ولم يعرف أحد، أكانت تغفو أخيرًا… أم تستيقظ للمرة الأولى.»

فهي تُسقط اليقين السردي وتفتح النص على أفق تأويلي متعدد، يسمح بقراءة الموت لا بوصفه نهاية، بل بوصفه "إزاحة معرفية" أو "يقظة وجودية" في فضاء آخر يتجاوز حدود التجربة الإنسانية العادية.

خلاصة

إن نص "اللحاف المنسوج" يمثل نموذجًا للسرد الرمزي المعاصر الذي يوظف آليات السيمياء والبنية اللغوية المكثفة لإنتاج خطاب أدبي يتجاوز المباشرة، ويعيد صياغة أسئلة الهوية والوجود والمصير. وتكمن قيمته الفنية في قدرته على تحويل حدث مأساوي واقعي إلى بنية رمزية مفتوحة، يتداخل فيها الوعي بالهذيان، والحلم بالموت، بما يجعل النص مساهمة لافتة في أدب الهجرة والكتابة الوجودية على حدٍّ سواء.

***

سهيل الزهاوي

.........................

كفاح الزهاوي: اللحاف المنسوج

النوم أصبح حلمًا، والحلم غدا عقدة الحياة الأبدية. والروح المهمشة تذوي مع أول سقوط لأوراق الخريف، والعمر لا يواكب الزمن، كقطارٍ قديم يصرخ في المدى ولا يتزحزح.

رجل عجوز ينتظر دوره في قائمة الموتى بعد أن فاته آخر غروب. لحظات الانتظار تتبدد كصقيع الثلج في مرجلٍ وصلت سخونة الماء فيه حد الغليان. ذكريات تختفي في مهب الريح كلما اشتدت العاصفة، كما لو أن الذاكرة كانت مجرد وهمٍ عابر.

لقد أحجمت عن النوم، لا لقلّة تعب، بل خوفًا من أن تغرق في نهر حلمٍ غامض الملامح، لا تعرف غور سبره، فتسقط في قرارٍ لا منقذ فيه.

كانت تعرف أن قشة الأمل لا تطفو إلا لمن تعلّم السباحة في مجتمعات لا تصنع عزلةً، بل جسورًا؛ وأما هي، فقد نشأت في عالمٍ لا يتعدى أسوار النظر، تمشي بخفة النمل، كي لا توقظ في القلوب شقاء الزمن.

الفرص الهاربة في مهب الريح، تتبخر كأنها أنفاس ماءٍ مغلي، لا ذاكرة لها. وفي معمعة الطريق لا يدرك المرء حقيقة القادم خلف الأفق، قد يصطدم بجدارٍ قاسٍ، ما يدعو رواسب البؤس المزمنة أن تطفو على السطح، فترافقه كظله دون استئذان نحو مدياتٍ لا متناهية.

يتسلل إليك القدر من الكهوف المنسية، كما لو أنه خرج من نسيجٍ قديم، من خرافةٍ لم تُحسم بعد. يلوّح لك في لحظة المصير، كأنه يبحث عن دورٍ في مسرحٍ لم يعد يؤمن بالممثلين الغائبين. يتجول في الأنحاء، يراقب خطواتك، يحاول أن يلبس هيئةً جديدة — كآلةٍ ذكية، أو نظامٍ مبرمج، يواجه عاصفة المجهول ببرودٍ رياضي. لكنك، في قاع الحياة، لا تملك إلا جسدًا يتعفن من فرط الانتظار، كأنك لعنةٌ تجرّ لعنة، وفكرةٌ تجرّ خرافة.

وعندما لا تملك زمام القرار تصبح كالفارس المبتدئ يمتطي صهوة حصان ولا يدرك أهمية اللجام والقدرة على مسك الرسن. الحفر المتروكة على قارعة الطريق، تفتح أفواهها استعدادًا لابتلاع، فالخبرة البشرية المفقودة في سلسلة الحياة، تعيقك قدمًا في القفز على الموانع.

وفي خضم هذا التيه، حيث تتقاطع الخرافة مع العجز، والانتظار مع التآكل، لم يكن أمامها سوى أن تتشبث بما يشبه الخلاص، حتى لو جاء على هيئة وهم.

نقفت من ذهنها فكرة الرحيل بما يشبه المصادفة، وكأنها عثرت على الخيط الوهمي الذي بإمكانها السير عليه دون حسابٍ للسقوط، ومع ذلك فإن القلق والارتعاش لم يفكا الحصار عنها، وتفاقم هذا الاضطراب كلما تناهى إليها صدى صوتٍ مبهم يثير في نفسها الخوف والانكماش، باذلةً أقصى ما في وسعها من جهد في إبعاد فكرة الحلم التي تراودها في اليقظة، لكن اليأس بما يضمره لها من خذلانٍ وانحسار في الحياة، يمنعها من التوقف عن التفكير في رحلة البحث عن معنى الوجود.

كانت تُحدث نفسها وتتساءل، والاضطراب ما زال يحوم حولها كالنحل المؤذي على أهبة الانقضاض:

ــ ما هذه الفكرة العابرة التافهة؟ أشبه بريشةٍ تسبح في الهواء وتختفي في لمحة بصرٍ بنسمة ريحٍ مفاجئة.

واستطردت بالقول، والدهشة ما زالت معلّقة على شفتيها كارتجافةٍ لم تهدأ وهي تنظر إلى السماء:

ــ إن لا باب سواها يُفتح.

وأضافت وكأنها تعرف بيقينٍ غامض:

ــ وعلى الرغم من كل شيء، لا مفرّ، ولا عزاء، سوى أن أعود لطرق باب الوعي متى ما يزف الوقت.

ثم تمتمت، كمن يضحك في داخله على سذاجة الرجاء:

ــ كل ما ينساب من هذا الوعي أوهامٌ وآمالٌ من ورق… مغامرة لا أفهمها، ولا أملك لها خريطة، سوى صدفةٍ عمياء وحظّ كالبطيخ في عالم الخفاء.

كانت تحدق في المرآة بتركيزٍ عالٍ، وتتمعن قسمات وجهها فيها، تتأملها في شفقة، فألقت المرآة جانبًا كي لا تذكرها بنفسها. تراءى لها العالم كمستنقعٍ آسنٍ يلطخك، أو رمالٍ متحركة تبلعك كما لو لم تكن موجودًا أصلًا.

كانت المدينة مكشوفة كسهلٍ منبسط، جعلتها تشعر برهبةٍ غريبة، وتوترٍ شديد، كصرخةٍ مدوية بين جدرانٍ عازلة تهز البدن أضعافًا. ينتابها شعور بأن الوعي يتصدع ويكاد أن يدفعها إلى هاوية الحلم الذي تتفاداه في يقظتها البائسة.

كانت سفينة الصيد ذات محركٍ عتيق تشق عباب البحر في جوٍّ ضبابيٍّ مخيف، تشحن على متنها عشرات من أجساد البشر فوق طاقتها، مضغوطين في مساحةٍ ضيقة، كأنهم دُمىً محشورة في صندوقٍ مكسور. تفتقر إلى أبسط مقومات السلامة والراحة.

لم تكن وحيدة. بل فردًا في هذا الحشد المتهالك، استبد بها ذعرٌ شديد في فضاءٍ يزينه أملٌ مجهول. في تلك اللحظة المصيرية فقدت كل رغبة في شم نسيم الحياة، ولم يبقَ في ذهنها سوى أن يتسلق الموت أكتافها على عجل، كي يزيح عن كاهلها هذا العبء الثقيل. وفي وسط البحر، حيث الأفق يعاند البصر، كلما أبحرت السفينة باتجاهه ابتعد أضعافًا.

انقض عليها دوار البحر كأفواج الزنابير، يلسعها في كل خلية، ويثير في نفسها الغثيان وضيق الصدر. كانت تتراءى لها أشياء لم تألف أن تصادفها في طريقها. أخذ الهذيان يسري كتيارٍ جارف، لا تميز الأشياء، ولا تدرك أبعادها. تارةً تتخيل نفسها في جزيرةٍ بعيدة، معزولة في طيات النسيان، وتارةً أخرى تعيش في فوضى عارمة لا مخرج للنجاة منها. تسمع أصواتًا تثير الرهبة في النفس.

وأخيرًا سقطت في هاوية الحلم الذي طالما تفادت أن يقودها النوم إليها، فالسفينة لم تبلغ الشاطئ، بل سبقتها أجسادٌ راقدة تحت الماء، كأنها أعلنت الوصول بطريقتها الخاصة.

وهناك على الشاطئ، حيث الرمال الدافئة تعكس بلورات الشمس انعكاسًا جميلاً، كانت الرغوة البيضاء تغمر جسدها الهامد، كأن الطبيعة نسجت لها لحافًا أخيرًا من أمواجها، ناصعًا كبياض الرحيل الأخير، لا دفء فيه سوى صمت البحر، ولا عزاء فيه سوى أن الغياب صار أخيرًا ممكنًا.

ولم يعرف أحد، أكانت تغفو أخيرًا… أم تستيقظ للمرة الأولى.

 

للشاعرة التونسية هادية السالمي دجبي

تأتي قصيدة «شتاء على كتفي» للشاعرة التونسية هادية السالمي دجبي بوصفها نصًا تتقاطع فيه الذاكرة الفردية بالوجدان الجماعي، ويتجاور فيه البرد الخارجي مع صقيع الروح. إنّه نصّ تمزج فيه الشاعرة بين الانكسار الهادئ والمقاومة الخفيّة، فتجعل من الشتاء استعارة كبرى للفقد، ومن الغياب مسرحاً تتصارع فيه الدلالة مع الصمت. ومن هنا تفرض القصيدة نفسها بوصفها مادة خصبة لقراءة هيرمينوطيقية تأويلية، وسيميائية، ونفسية، وتاريخية، تستكشف البنى العميقة للخطاب، وتكشف الرموز المتوارية تحت جلد اللغة، وتبحث في علاقة الذات بالأب والوطن والذاكرة.

إنّ هذا النص، بما يحمله من كثافة شعورية وصورٍ تتشظّى كما تتشظى الروح، يحتاج مقاربة متعددة الحقول تعيد بناء نظام العلامات فيه، وتفكك بنيته الأسلوبية، وتضيء على ما يختبئ خلف استعاراته وانكساراته، ليظهر في النهاية سؤال واحد: كيف يمكن للشعر أن يكتب الدفء في زمنٍ يعلو فيه الشتاء إلى حدّ الإطباق؟

هذا النص يدفع باتجاه اتباع منهجية التحليل التالي يجمع بين هيرمينوطيقا تأويلية، منهج أسلوبي/ بلاغي، مقاربة سيميائية (بمنهج غريماس عند الحاجة)، قراءة نفسية، ومقاربة وطنية/ تاريخية تفاهمية. الهدف استخراج البنى العميقة، فك رموز الصورة الشعرية، وقراءة ما «تحت الجلد» من نبض وتوتر ورمز.

1. قراءة هيرمينوطيقية تأويلية (فقه الأفق والمرجع):

القصيدة تبدو نصّاً استحضارياً للغياب والبرد والفراغ؛ لا غيابٌ فقط لشخص (الأب/ الحبيب/ الزمان)، بل غيابٌ يمسّ البنية الوجدانية لذات الراوية. من منظور عدد من النقاد العالميين، القصيدة تعمل كـ«نص-أفق» يتقاطع فيه أفق الشاعرة مع أفق القارئ: الشاعرة تستدعي خبرة الفقد والشتاء لتبني دالًّا يفتح آفاقًا متعددة: الحزن الفردي، الحزن الوطني، وحالة اللامكان الوجدانية.

التأويل المركزي: الشتاء هنا ليس فصلًا مناخيًّا فحسب، بل حالة وجودية ــ زمنية تطغى على كتابة الشاعرة وتشكّل نمط رؤية العالم لديها: تقطيع الكلمات، تكسّر الصور، وتعطّل الفاعلية اللغوية (صمتُ المحبرة، عدم تزيين الليل بأجنحة). القراءة الهيرمينوطيقية تحاول الإجابة: ماذا تعرّف الشاعرة بالشتاء؟ وما النداء/ المَدَفَع الذي يُحرّك لغة النص؟ الإجابة: الشتاء رمز للغياب والفقد والجرح التاريخي/ الشخصي الذي يستحيل معه خطاب التدفئة (الكلام، النغم) — وبالتالي يتحول النص إلى مناشدة/ مناجاة ودعاء.

2. دراسة أسلوبية ولغوية وجمالية:

2.1 البنية اللغوية والإيقاع:

الجمل متقطعة، كثير من الكليشيهات الصوتية تُقطَع وتُعاد بصيغة انفعالية: «وكل الأغاني تلاشت»، «وثقيل…»، «ولستُ أفيق». هذا التقطيع يخدم إحساس الانكسار والشلل.

الإيقاع الداخلي يقوم على تباين طويل/ قصير، وميل إلى التكرار المتدرّج («و … و… و…») لخلق حالةٍ تنفّسٍ يعيق الانسياب الطبيعي.

الإيقاع الموسيقي يتحول من انسيابي إلى مُجّزأ كمرآة لشتاءٍ يفرض وقفه على اللغة نفسها.

2.2 الصور الشعرية والتعبيرية:

١- استعارات مركزية: «الشتاء على كتفي»، «شظّى العصي»، «تجاويف وجهي»، «السّديم»، «غيوم تشظّي قصيدي»، «برتقالا بغير ازرقاق أبي». هذه صور تمتزج فيها الطبيعة والعضوي: الشتاء جسمٌ يثقل الجسم؛ الغيوم تفعل فعل الصدمة على السرد.

٢- الصورة المركبة: الشاعرة تُجسّد المشاعر بأجسام وأحوال (شتاء كوزنٍ، غياب كأقفاص تُرصّف في الصدر)، ما يخلق شعرًا تجسيديًا مؤلمًا.

٣- التباين اللوني: «برتقالا بغير ازرقاق أبي» يستخدم اللون كدالٍ على الهوية والذاكرة (البرتقال: وطنية/ مادية، الأزرق: علاقة بالأب/ السماء/ الذاكرة الطفولية).

2.3 التكرار ودرجات الانفعال:

تكرار أداة العطف والـ«و» يخلق امتدادًا للحالة النفسية: تراكم الحزن.

درجات الانفعال تتراوح بين الهمس والنّدب والدعاء: القصيدة تنتقل دَرَجياً نحو مناجاة إلهية في النهاية («أدعو الذي علّم الطير..»).

3. سيميائية: قراءة علاماتية / تطبيق مقاربَة غريماس (نموذج الأدوار):

باستخدام نموذج غريماس (الفاعِل/ المفعول/ المرسل/ المتلقي/ العدو/ المساعد) نستخرج محاور الأدوار داخل النص:

١- الفاعل: المتكلمة الشاعرة (ذات راوية تئنُّ وتناجي).

٢- المفعول/ الهدف: استعادة الدفء/ النور/ الطمأنينة/ العودة إلى حالٍ يداوي الفقد (أو استرداد صورة الأب/ البيت/ الوطن).

٣- المرسل: يمكن أن نقرأه في طبقتين: (أ) الضمير الداخلي/ الذاكرة التي تؤمر الشاعرة بالتذكرة؛ (ب) الرمز الأبوي/ الوطني (ـ«أبي» كمصدر للنداء).

٤- المتلقي: إما الأب/ الغائب، أو القارئ/ العالم، أو حتى الذات المؤمنة/ الروح التي يجب أن تستلم «الدفء».

٦- المساعد: الذكرى، النغم، الدعاء، الصور الطبيعية حين تحاول تقديم وسيلة للدفء (النجمة، الطير، عشب الحديقة حين يبتسم).

٧ - المعارض/ العدو: الشتاء/ الغياب/ الصمت/ القتامة/ الجرح؛ القوى التي تمنع التحقق (الغياب يردع النور).

من تحليلات غريماس نرى أن بنية الصراع في النص صراع حول الوصول إلى موضوع العافية: قلبُ الشاعرة هادية السالمي دجبي، يريد أن يصل للنور، والشتاء يعرقل؛ هناك ماسّة تراجيدية: الراوية كـ«بطل» يفتقد الوسائل ويستغيث.

4. قراءة سيميائية رمزية: رموز مركزية ومعانيها:

١- الشتاء: رمز للفقد، الكآبة، تجمّد المشاعر، ربما الاستبداد أو زمن الأزمة الوطنية (قوة معطلة تغطي الأرض والذات).

٢- الأب («أبي»): رمز للأمان، للذاكرة، للوطن/ المرجع، وللشجرة الأصلية. نداؤها للأب يحمل بُعدًا شخصيًا ووطنياً في آن.

٣- البرتقال/ الأزرق: البرتقال ـ رمز أرضي/ محاصيل/ حياة يومية؛ الأزرق ـ لون السماء/ الأب/ الذاكرة — «برتقالا بغير ازرقاق أبي» تعبير عن فقدان النكهة/ الوحدة الوجودية.

٤- السّديم/ الغيوم/ الشظّى: علامات على التمزق المعرفي والوجودي: لا صفاء للرؤية، اللغة «تتشظّى».

٥- المحبرة/ الكلمات/ المجاز: حين تفشل المحبرة، تفشل القدرة على إعادة التدفئة بالكلام أو الفن: انكسار فعل الشعر ذاته.

5. قراءة نفسية: الحزن، الحنين، والعلاقة الأرضية كبديل أمومي

من منظور نفسي:

١- الحزن/ المرثية وميلان المِلَل: النص يقارب حالة بين الحزن والمرثية: «فراغ الغياب يجدّف فيه فؤادي»، علامات الحزن المكتوب أكثر منها مجرد حداد؛ الذات تختزل ذاتها في غياب المؤنث/ الأب/ البيت.

٢- الأرض كأم/ الأم البديلة: العلاقة بالأرض (البرتقال، الحديقة) تعمل كوظيفة أمومية: عندما يغيب الأب/ المرجع، تتحول الأرض إلى بديل للحنان/ الهوية. هذا يتوافق مع فكرة أن الميثولوجيا النفسية تُعيد تشكيل الأمومة في رموز وطنية.

٣- عقدة الفقد والهوية: تكرار الاستفهام وعدم القدرة على إخراج النغم يشيران إلى عقدة فقدٍ تُجمد الإمكان التعبيري وتحول الشعر إلى شكوى ودعاء.

٤- الدعاء كآلية تَخلّص: الدعاء في نهاية النص يظهر كآلية نفسية للتماسك وإسناد الذات إلى مصدر رحمة/ طمأنينة أعظم من الذات.

6. الدراسة الوطنية ــ التاريخية: دلالات الممكن والمحظور

القصيدة لا تذكر حدثًا محددًا، لكنها تعمل كتأريخ وجداني لزمن شتويّ يجتث الدفء. قراءة وطنية-تاريخية محتملة (بصيغة تأويلية تحفظ الحياد التاريخي):

العمل الشعري يلتقط أصداء فراغات وطنية: غياب، جراح، تهجير أو تعاقب أزمانٍ قاسية.

رموز كـ«برتقال» و«الحديقة» يمكن قراءتها لوطنٍ يتمسّك بثمره الثقافي والزندقي لكنه فقد لونه (الأزرق الأبوي كمصدر هوياتي).

النص يصلح قراءة في سياق تجربة ما بعد صدمة (حرب، هجرة، انقلاب ذهني/ سياسي)، لكنه يظل بالأساس تجربة إنسانية جامعة لا تقصر على حادثة بعينها.

ملاحظة منهجية: لقراءة تاريخية دقيقة لا بد من ربط النص بسياق حياة الشاعرة هادية السالمي دجبي، ونصوصها الأخرى ومقابلة تاريخية/ أرشيفية؛ ما ورد أعلاه تأويلٌ وظنيُّ وليس تأكيدًا تاريخيًّا.

7. مرجعيات فلسفية يمكن مطابَقة أفكار النص معها

١- مارتن هايدغر: فكرة المزاج كحالة وجودية تكشف عن العالم. الشتاء هنا مزاجي يفضح علاقة الشاعرة بالعالم (الوجود الملقى في سكونٍ بارد).

٢- هانس-جورج غادامر/ بول ريكور: الهيرمينوطيقا/ تأويل النصوص: النص كأفق يؤسس فهم الذات والوجود عبر الذاكرة والتوجيه الأخلاقي/ الروحي.

٣- سيغموند فرويد/ ميلان كونديرا تفسير الحزن: مراثي الحزن والانعكاس النفسي على القدرة الإبداعية (فشل المحبرة).

٤- سيجموند فرويد/ جان بول سارتر (بُعد وجودي): الفقد كعامل لخلق «اللاوجود» وإدراك العدم؛ الشاعرة تكتشف هشاشة الفاعلية.

٥- كارل يونغ: الأبعاد الرمزية للأم/ الأرض كأنماط نفسية؛ الأرض كأنثى/ أم رمز للأنماط الأعمق في النفس.

٦- الغزالي (إشارةً سابقة في محادثتك) يمكن استخدامها لربط القلب كمساحة صراع بين خيرات وشرور نفسية وأخلاقية — وهو ما يظهر في صراع القلب مع الظلام (الشتاء).

الهدف هنا ليس المطابقة الحرفية، بل استخدام أدوات هؤلاء الفلاسفة لتنوير القراءة: المزاج الهايدغرّي، السرد الريكوري، والرموز اليونغية كلها تكشف عن أبعاد إضافية للقصيدة.

8. ما تحت الجلد الشعري: نبض، توتّر، رمز:

١- النبض: ندرة الأمان، اشتياق للدفء، انسداد القدرة التعبيرية.

٢- التوتّر: بين رغبة الاستدعاء (إحضار الأب/ الحنان) وحقيقة العجز (الشتاء يغلب).

٣- الرمز الأعمق: الشتاء كقوة تعتيمية تحوّل الكلام إلى نشيج، والغياب هنا هو امتحان للسيولة الروحية: هل يظل الشعر فاعلاً؟ القصيدة تُجيب: لا، تتحول الكتابة إلى شظايا.

9. تفسيرات لبعض المفردات/ التراكيب المركزية:

١- «شتاء على كتفي»: التجسيد يجعل الشتاء وزنًا جسديًا (قَيِّدًا يتحمّله الجسد) وامتدادًا للحزن الذي تحملُه الذات في حياتها اليومية.

٢- «شظّى العِصِيّ»: «شظّى» فعل تمزيق/ تفتت. العصا هنا قد ترمز إلى السلطة/ الاستقامة التي تُكسر، أو إلى وسيلة للحركة التي تتهشم.

٣- «تجاويف وجهي يُجدّف فيها غبار اللظى»: التجاويف كجوفات النفس التي تُملأ بالوَبَل (الغبار واللظى: لظى=لسعة النار/ الاشتداد)، أي: الوجه كحامل لذكرى أليمة.

٤- «السّديم»: علامة غموض / سحب تغشى الرؤية، تقود إلى فقدان الوضوح الشعري والوجودي.

٥- «برتقالا بغير ازرقاق أبي»: تركيب مشحون: البرتقال (ثمار، وطن، حياة) بلا الأزرق (المعنى الأبوي/ السماء/ الحنان) يفقد نكهته؛ فالفعل اللوني هنا يرمز إلى خلل في التناسق الوجودي.

- خاتمة:

قصيدة «شتاء على كتفي» نصّ قويّ في اشتغاله التصويري والجسدي للغيب، يعمل الشعر فيه كمرآةٍ تنكسِرُ إلى شظايا حين يتعرض للبرد والفراغ. قراءةٌ هيرمينوطيقية تؤكد أن القصيدة نصّ استدعاء ومناجاة، سيميائياً تُحيل الشتاء إلى قوة معطِلة، ونفسياً تُبرز عقدة فقدٍ تحول اللغة إلى جرح. لا يمكن فصل قراءتها عن بعدها الوطني/ الوجداني، لكنها أيضاً نص إنساني عامّ يُعالج تجربة الدنوّ من العدم والخُلوّ من الدفء.

***

بقلم: عماد خالد رحمة - برلين

..........................

شتاء على كتفي

فراغ الغياب يُجدِّف فيه فؤادي ضُحًى

و لا بدرَ في الدرب يرتق ما جرّفته سياط الجوى.

و كلّ الأغاني تلاشت

و ذاك العِطاف هوَى

و ذاك الجدار الّذي كنتُ أسري إليه

قضى

و حطّ الشّتاء على كتفي

و شظّى العِصِيَّ.

**

تجاويف وجهي

يُجدِّف فيها غبار اللّظى

و يَغشى الدّخان سمائي

و فيها يئنّ الشَّظى

و فيها يرين السّديم

و يطغى الأسى

و هذي الغيوم تُشظّي قصيدي

و تُدمي يدي.

**

ثقيلا يجيء شتاء الحروف ولستَ معي

ولا شيء في الكلمات يُعطّر محبرتي.

ولا سقف يحرس دفء شهيقي وحنجرتي.

فأيُّ مجاز يُطرِّز للّيل أجنحة؟

و لستُ أرى برتقالا بغير ازرقاق أبي

و هذا الغياب يُرصّف في الصّدر أقفاصه.

نوافذ فجري تُغَلِّقها زفرات الغروب، أبي

فأيُّ مجاز به أفتح اليوم للنّور بابا يُدفِّئني ؟

أفتّش في الدّار عن وجه أغنية كنتُ ألمسها

فيهمي السّراب على مقلتيَّ كثيفا،

و يرغو الصَدى.

و لا نغمَ اليوم يُو قظ فيَّ الطّفولةَ

أو فيْأَها

و لا عنب اليوم يكتبني

في وميض السماوات أو ريشها.

و أسأل عشب الحديقة عنك،

فلا يبسم.

و يهطل منه سواد

يُغشّي الأديم فينتحب

و يختضّ بين يديّ ترابٌ جَفَته خُطاك

فما التأم.

**

ثقيلٌ، جُؤوم الشّتاء على معصمي، أبتي،

و لستُ أفيق لأقطف نورا يُحدِّثُني.

فيا ليت نجما يجيء إليَّ ويوقظني.

و إنّي لأدعو الّذي علّم الطّيرَ مَغْنَى الهدى

أن يُغيث الفؤاد بنور السّلام

و فيض التّقى

و إنّي لأدعو الرّحيم

يُفيضُ رضاه عليك، فترضى.

***

بقلمي: هادية السالمي دجبي - تونس

 

"قبل أن يستيقظ البحر" هو عنوان الدّيوان الشّعريّ الّذي خطّه الشّاعر العراقيّ حسين السّيّاب. صدر هذا العمل عن دار منازل للنّشر والتّوزيع، ويقع في مئة وخمس وثلاثين صفحة، ويحتوي على مئة وسبع وعشرين قصيدة، تشكّل مساحة شعريّة مكثّفة، وتغوص في أعماق التّجربة الإنسانيّة المعاصرة، حيث تتشابك خيوط العشق الجارف مع المرارة الوجوديّة والحنين الممزوج بالألم، وتمثّل الحبيبة نقطة الثّبات الوحيدة والملجأ المقدّس، فهي تصوَّر بوصفها الحلم الّذي يوقظ الشّاعر، والقصيدة التي لا تملّ قراءتها؛ لتصبح كيانا خلاصيّا يتجاوز حدود الجغرافيا، وتغدو وطنا بديلا ورمزا للخلود في وجه الفناء، كما تتجلّى بين السّطور رموز الأنوثة القديمة والإلهة عشتار.

يعيش الشّاعر حالة من المنفى الرّوحيّ، متأثّرا بوقع الحروب الّتي سحقت جيلا بأكمله، وجعلت الوطن يبدو منسيّا، مع إشارات واضحة للحزن العميق الّذي يخيّم على وطنه.

تعبّر القصائد عن صراع مرير ضدّ الشّكّ واليأس الوجوديّ؛ حيث يصبح الشّعر هو الملاذ الأخير والوحيد، الّذي يلجأ إليه الشّاعر هربا من هول الواقع، محاولا صناعة الأمل، فالدّيوان في مجمله هو رثاء لواقع مأزوم، تُنَسَجُ فيه خيوط الغَزل الرّقيق على نول التّحليل السّياسيّ والاجتماعيّ العميق، استشرافا لبصيص أمل في جوف العتمة.

يُفتَتح هذا العمل في الصّفحة الخامسة؛ بقصيدة وجدانيّة مكثَّفة، تتّخذ موقع المفتاح الدّلاليّ الّذي يدفع بالقارئ مباشرة إلى غمرة تجربة عاطفيّة عارمة.

ترتكز القصيدة الأولى "أنت الحلم"، على ثنائيّة الحضور والخلود في ظلّ الحبّ، حيث ترتقي المحبوبة إلى منزلة الحلم الّذي يوقظ الشّاعر كلّ صباح، فتغدو الباعث اليوميّ للطّاقة والحياة، أشبه ببداية متجدّدة وقصيدة تعاد قراءتها ليلا، ما يؤكّد دوام استحضارها وشموليّة تأثيرها على وجوده، يعبّر عن الخلود العاطفيّ من خلال نفي سطوة قيود الزّمان والمكان، جاعلا من الحبّ وطنا يتجاوز الحدود والقوانين، مقرّا بوحدة المشاعر والألم: "لا جوازات سفر تستطيع أن تسرق أسماءنا من ذاكرة الحبّ".. "تعبك هو تعب قلبي".

يؤكّد على التّماهي والاتّحاد الرّوحيّ بينهما؛ لتتحوّل هذه الوحدة إلى فعل مقاومة إيجابيّ ضدّ شظف الواقع، حيث العزم على صنع الإنجاز من النّزر القليل: "سنبقى نحاول أن نصنع من القليل عمرا / ومن الانتظار وطنا". وهنا، يحوّل الشّاعر عناصر السّلبيّة (القليل والانتظار) إلى عناصر بناء (عمر ووطن).

يعلن تفوّق الحبّ على أدوات التّعبير المتاحة: "أحبكِ أكثر مما يقال / وأكثر مما يكتب". هذا الإقرار يضع الحبّ في منزلة سامية تتجاوز اللّغة والوصف؛ ليصبح شعورا مطلقا لا تستوعبه الكلمات.

بهذا الاستهلال، يكون الشّاعر قد وضع القارئ أمام تجربة حبّ عميقة تتّسم بالثّبات. ويواصل استكشاف العلاقة بين الذّات والمحبوبة، ووطأة الواقع السّياسيّ والاجتماعيّ، متنقّلا بين الوصف الوجدانيّ والاعتراف المرير، فيكتب:

"عَيْني عليكِ ترسُمُني، أمكنةٌ طائشةٌ تكبرُ معي، أراقبُ العالمَ من فتحةِ ضيّقةٍ، تكفي لنصفِ عينٍ ونصفِ قلب؛ لأرى الدّنيا كما أُريد".

يغوص في ذكرى الماضي والجرح الجماعيّ: "أنا من جيلٍ سحقتهُ غوايةُ الحرب، والوطن المنسيّ على حافّةِ رصاصة! بظلِّ الموتِ مشينا، بظلِّ الخوفِ هربنا، بظلِّ الشعرِ المدسوسِ في حقائبِ الجنود، أكلتنا الأيّام".. "بحرفةِ فلّاحٍ جنوبيّ، أحرثُ اللّغةَ؛ لتنمو قصائدي ناضجةً حدَّ اللّعنة بلا رنّةٍ للقوافي في مجرى الرّوح".

"لم أرَ أفكاري تنتظرُ على مصطبةِ الوجع أو تلوحُ لي كنجمةٍ في مقبرة.. "لأتخلّصَ من أشباحي سلكتُ دربَ الشّعر في رحلةِ العدم".. "لم أفهم شيئًا سوى انّكِ في كلِّ مكانٍ وأنا أهربُ إليكِ".

تشكّل هذه المقاطع تحوّلا حادّا في نبرة القصيدة، فمن الوجدانيّ الصّافي إلى السّياسيّ الوجوديّ، إذ تبدأ الأبيات الأولى بوصف لحالة الإدراك الذّاتيّ المشوّه، حيث يرى الشّاعر العالم من "فتحةٍ ضيّقةٍ" لا تتسع إلّا لنصف عين ونصف قلب.

هذه الصّور ترمز إلى حالة العيش في ظلّ القمع أو الألم الّذي يمنع الرّؤية، ويجبر الذّات على تقبّل نسخة جزئيّة من الواقع. وينتقل بوضوح لتعريف هويّته من خلال الصّراع: "أنا من جيلٍ سحقتهُ غوايةُ الحرب". هنا، تصبح الحرب، الموت والخوف، الظّلّ الّذي يُسيِّر الحياة.

إنّ صورة "الوطن المنسيّ على حافّةِ رصاصة" تلخّص مأساة وطن معلّق بين الحياة والفناء. كما يوظّف الشّاعر استعارة "حرفة فلّاحٍ جنوبيّ"، ليؤكّد على أصالة ومجهود الكتابة، فاللّغة تحرث بجهد وعرق، والقصيدة يجب أن تنمو "ناضجةً حدَّ اللّعنة"، مضحيّا بالوزن والقافية التّقليديّة "بلا رنّةٍ للقوافي" في سبيل الوصول إلى صدق أعمق وأكثر مرارة.

ينتهي المقطع باعتراف بأنّ الشّعر كان وسيلته للنّجاة من الأشباح، لكنّه يصل في "رحلةِ العدم" إلى الحقيقة الوحيدة اليقينيّة، المحبوبة الّتي تتجسّد في كلّ مكان؛ ليتحوّل الهروب من الواقع القاسي إلى هروب إلى الذّات الأخرى، الّتي تمثّل المأوى الوحيد وسط فوضى الوجود.

أمّا عن غربة الرّوح واحتراق القصيدة (ص 11)، فيُطِلّ بهما من خلف "نافذة العمر" ليعلن أنّ العناق قد تجاوز حدود الزّمن، في محاولة لهزيمة التّاريخ المثقل بالرّهانات الخاسرة، ففي ظلّ زحف الرّبيع، تتمايل الكلمات، حاملة الورد والنّسرين، يضع يده في النّهر محاولا شرح سكوت قلبه، ليجسّد الرّوحانيّة في تفاصيل جسد المحبوبة.

يبلغ الانصهار الذّروة حين يغريه ضياع المحبوبة في كيانه، وكأنّها "آخر المدن المنحوتة على شهادة ميلاده"، لتغدو المرجع الوحيد لهويّته وسط الفقد، ويقف الصّبح على أطراف أصابعه، يستفزّ أنوثتها القادرة على جلب الشّمس لصغارها، في رمزيّة عميقة تجعل منها مانحة الحياة والأمان في وجه العتمة.

في نهاية هذا المقطع، يواجه الشّاعر سؤال "الرّائي" عن مصدر الدّهشة في عالم انطفأت فيه الحكايات تحت رماد الغربة، ويأتي الجواب ليحدّد غاية الشّعر لديه: "لا غرضَ لي مع الشّعرِ، سوى الاحتراق على جسدِ القصيدة الّتي تنمو بين يديكِ".

احتراق ذاتيّ يحوّل الحبّ إلى "ذنب يتعالى، فيغدو خطيئة مُخلِّصة في ساحة مليئة بالشّياطين؛ ليجد الشّاعر في هذا الإثم المتطرّف سبيلا إلى اليقين في عالم موبوء.

أحزانٌ بلا مراكب (ص 19):

ينتقل إلى حالة من التّعبير المكثّف عن القهر الجماعيّ واليأس الوجوديّ، يفتتح المشهد بصورة الاختناق الكلّيّ: "رئةُ الوقتِ تختنق"، حيث تأكل "غربانُ الوحشة" الأيّام، فلا تجد الرّوح علاجها إلّا في دلاء تسقي حديقة الأحزان.

هذه اللّحظة ليست فرديّة، بل هي مأتم جماعيّ يتمثّل في الوقوف عند "بوّابة بابل" كمواكب عزاء تلاحقها اللّعنات، في إشارة إلى ثِقَل التّاريخ الأسطوريّ.

يصور الشّاعر حالة من الخدر الوجوديّ؛ إذ يُحتسى "كأس الهمّ" حتّى الثّمالة دون الوصول إلى السّكر، في استعارة لمرارة الوعيّ الدّائم، ومع ذبول النّهار وهرب الشّمس، يتجلّى كدر الأمّهات كحقيقة ثابتة في ملامح القهر.

يستمرّ الحزن كإرث معرفيّ "نعرف مداخل الحزن دون دليل"، بينما يظلّ تمّوز، رمز الخصب والبعث، أسيرا معزّزا، حالة العقم والأمل المؤجّل.

في مقابل هذا البؤس، تضيء "ضحكات المترفين" و"مصباح مُتدلّ" ليرسم ليلا كئيبا، حيث يقف هذا اللّيل كجندي مدرّع يصوّب "آخر الطّعنات" نحو النّهار.

أمام هذا الإنهيار، يجد السّيّاب ملاذه الأخير في الشّعر؛ متمسّكا بأصابع الشّعر؛ ليعقد نياط وجدانه، ويراوغ الذّاكرة، آملا في النّجاة.

تكبر على بوّابة سومر (ص25):

تصوّر هذه القصيدة معلَّقة الذّات السّومريّة وهي تواجه قلق الوجود المعاصر، تُفتَتحُ بدفقة من الرّغبة المثخنة بالحزن، حيث يبيع الشّاعر "ليله دونَ وجع"، في دلالة على استهلاك التّجربة المؤلمة الّتي تخطّت حدود الإحساس.

تنتقل النّبرة من اليأس "كيف أنجو من ضياع المعنى"، إلى الرّفض الفلسفيّ الثّوريّ؛ إذ يعلن الشّاعر فكّ الارتباط عن "مواويل الأوَّلين" و"ورثة الرّبّ"، وهذه نقطة ارتكاز حاسمة، حيث يتمّ رفض السّرديات الجاهزة، التّاريخيّة والدّينية، الّتي تقود "جيشَ النملِ"، ويعاد تعريف الهويّة عبر أسطورة النّهر وبساتين البرتقال، رموز الخصوبة والبراءة الضائعة، والبحث عن معنى في فضاء "اللّاوقتِ واللّاوعيِ"، فيتكثَّف المعنى في الثّنائيّة المؤلمة: أبناء الأرض والمنفى القسريّ، مقابل الوطن الممتدُّ بالقهر.

يُختَتم النّصُ برؤيا خلاصيّة تتجاوزُ اللّحظة الرّاهنة، إذ ينتظر الشّاعر "رياح الشّمال" (رمز التّطهير أو العودة للأصل)، منفِّذا طقسا دنيويّا مقدّسا بنثر القمح، مقاوما لأساطير الغضب، الجوع والفناء، وتعاد المعركة إلى الأزل الأبديّ، معلنة أنّ الجنّة ليست موعدا مؤجّلا، بل خيارا يُدخَل عبر باب الحقيقة الأزليّة.

بذلك، يخوض النّص رحلة الوعي المضادِّ، يبدأ بـتفكيك الذّات القلقة، ويصل إلى تأسيس أسطورة جديدة للنّجاة، تتّكئ على الأصل السّومريّ النهريّ، وتراهن على كسر الزّمن للوصول إلى المعنى الأبديّ.

سقَطَت أصابعي (ص 35):

يتابع الشّاعر هدم الذّات عبر ثنائيّة الرّحيل القسريّ والضّياع، فينطلق في قصيدة "سقطت أصابعي" من تسليم داخليّ "هَوِّنْ عليك"؛ ليجعل من المعارك سرّا، مؤكّدا عزلة التّجربة وانغلاق البوح، عائدا إلى منفاه الذّاتيّ دون "ظلّه المحترق"، أيّ يتخلّى عن الذّات الّتي عاشت اللّذة والأمل، فيتحوّل القلب إلى "حفنة رماد"، رمزا للاستنفاد التّام للقدرة على الشّعور.

أمّا رمزيّة سقوط الأصابع، فهذا الحدث هو ذروة الانهيار، وهو فقدان لأداة الخلق والتّدوين، حيث تمثّل الأوراق الرّطبة، الذّاكرة أو الشّعر المجهض الّذي يستمدّ وجوده من الجرح، لا من الإرادة.

على الضّفة الأخرى، تعصف الرّيح بتلابيب الرّوح، وتنقل إليها ملامح العابرين الّذين وصلوا من الهشيم، ما يشير إلى وحدة المصير نحو الفناء أو الخراب.

هذا النّصّ هو إعلان انمحاء، وتجريد للذّات من وظائفها الحيويّة والإبداعيّة، استعدادا للدّخول في صمت ما بعد النّهاية.

أجنحة الضّوء القادمة (ص 107):

"أجنحة الضّوء القادمة"، تأتي هذه القصيدة كنقلة فارقة، تمثّل فعل استرداد روحيّ بعد مراحل الانهيار، وكدعوة للرّفقة المضيئة والبحث عن المعنى في لحظة البزوغ المطلقة.

نجد فيها دعوة للاحتشاد عند عتبة التّجلّي بين اللّيل والفجر، وهي اللّحظة الّتي تتيح للأرواح أن تتخلّى عن لغة الواقع العاجزة؛ لتبوح بالهمس وتلتقي عند صمت الشّعراء.

يرسخ هذا النّصّ حالة الرّفض الإيجابيّ لطقوس الفناء والغياب، "لا أصوات تغنّي للموت". هذا النّفي يهدف إلى تأكيد الحضور المطلق للذّات في اللّحظة الرّاهنة، حيث يتحوّل المشي على "ضفاف اللّحظة" إلى فعل تطهير يمحو الحزن، ويعيد للإنسان وظيفته الأصليَّة كمرآة اللّاهوت.

تكتمل رحلة العبور بترك الظّلّ والتّمركز بين الكيّنونتين. ترك الظّلّ هو التّحرّر من الثّقل المادّيّ والتّاريخيّ، بينما العبور "بين الكائن والكينونة" هو تعليق الذّات في حيّز الاحتمال الخالص، معلنا أنّ الهويّة الحقيقيّة أصبحت مرتبطة بالبزوغ الأوليّ "أوّل الصّبح هويّتي"، حتّى وإن كان هذا التّمركز الرّوحيّ ذاته يمثّل المنفى.

هكذا، وبعد الإحساس بجفاف المعنى والسّقوط، يأتي هذا النّصّ؛ ليثبت أنّ النّجاة هي في الإصرار على الإشراق الجماعيّ والقبض على لحظة البدء الأزليّة.

بلاد حسن عجمي (ص 127):

بعد حالة التّجلّي الجماعيّ والاصطفاء الرّوحيّ الّتي استشعرناها في القصيدة السّابقة، يأتي هذا النّص كنكسة وجوديّة قاسية، ينتقل بنا من ذروة اليقين المضيء إلى قاع النّكران والرّيبة في الذّات والمكان.

هذه العودة المادّيّة إلى "بلاد حسن عجمي" تكشف أنّ الخلاص الرّوحيّ لم يمنع فاجعة الاغتراب المطلق. (حسن عجمي هو أحد الأسماء المرتبطة بالتّاريخ الثّقافيّ والاجتماعيّ لمدينة بغداد، ويعرف مقهى حسن عجمي كأحد أشهر وأقدم المقاهي في بغداد، وقد كان مركزا لتجمّع الأدباء والمثقّفين والشّعراء العراقيين منذ منتصف القرن العشرين).

يُشكّل هذا النّصّ مرثيَّة الذّات والمكان عبر حقل دلاليّ للتّلاشي، تبدأ القصيدة بإعلان فقدان السّلطة على الزّمن "لم تعد الأيّام لي"، وفقدان الألفة المكانيّة؛ فالجدار الأليف الّذي كان ظلّا، والمقهى الّذي كان مُلهِما، تحوّلا إلى رموز للانسحاب واليأس.

"مقهى حسن عجمي"، الّذي كان مركزا لضحكات الشّعراء، بات زاوية لكتمان البكاء، ما يؤكّد انهيار الرّابطة الإبداعيّة والاجتماعيّة بالمدينة.

تتصاعد فكرة النّفي المتبادل، فالشّاعر لا ينتمي إلى المدينة "الخطى ليست لي"، والمدينة تنكره، بل إنّ الوطن برمّته قد تبخّر خلف "ضباب الحنين".

هذا النّكران لا يقتصر على البشر، بل يشمل الطّبيعة الحيّة، فالنّخل قد انحنى كشيخ يعدّ الغائبين، وحتّى ذاكرة الشّاعر الإبداعيّة؛ فالقصائد تهرب من دفاتره "كالعصافير".

ثمّ يطرح السّؤال عن الواقعيّة وتاريخ الذّات: "هل كنت حقّاً هناك؟". هذه الريّبة في الوجود هي أشدّ أنواع الغربة. لكن، يتدخّل صوت الطّبيعة الرّؤيويّ (المطر الخفيف) كهمس منقذ وشرط للمتابعة، والمطر يربّت على الكتف ليؤكّد بقاء جمرة الرّماد، وهي الإشارة الوحيدة للمقاومة الكامنة الّتي ترفض الانطفاء النهائيّ، مبقية على هامش ضئيل لإعادة الاشتعال والكتابة مجدّدا.

إيجاز مكثّف للرّمزيّة والقضايا العربيّة:

يغلب على القصائد طابع التّكثيف الشّعوريّ، حيث تستخدم المفردات والصّور الحسّيّة؛ للإشارة إلى معانٍ تتجاوز المعنى الحرفيّ، لتتمحور الرّمزيّة فيها حول أربعة محاور رئيسيّة: الحبيبة/الوطن/الحلم، الألم/الحرب/الغربة، الطبيعة/الزّمان، ورمزية الأسطورة والدّين. بذلك، تبرز من خلالها أسئلة الوجود، ومواجع السّياسة، وتعقيدات العصر ومتطلّباته الفكريّة، فالنّصّ ينطق بلسان السّاعين إلى عدل مفقود وكرامة مسلوبة، جاعلا من اللّغة مرآة لقلق الإنسان المعاصر، ومانحا الكلمة قوّة الكشف والتّجدّد.

كما اتّسمت لغة القصائد بالاقتراب الشّديد من الهموم الإنسانيّة، في محاولة لكسر حاجز المألوف عبر رمزيّة تتخطّى حدود الذّات.

هذه الرّمزيّة تعكس عمق جراح الوجود العربيّ منذ القرن العشرين، وتتمثّل في التّوتّر الحادّ بين الحلم والواقع، تتجسّد أيضا عبر توظيف ثنائيّات متناقضة لعمق التّجربة، وتحوّل الأمكنة مثل بغداد، إلى أيقونات وجدانيّة تحمل ثقل التّاريخ والفقد.

يستحضر الشّاعر أساطير الرّافدين؛ كسومر وبابل، رمزا للخصب والبدايات الحضاريّة؛ لتكون شواهد مُرّة على واقع الوعي المخدّر، ويُحتَسى في الواقع المُرّ "كأس الهمّ"، مجسّدا عقم الأمل في ظلّ الخدر الوجوديّ.

تكتمل هذه الصّورة بانتقال الشّاعر إلى تصوير ذاته ممزّقة، تراقب العالم من "فتحة ضيّقة". يرمز بتعبير "سقوط الأصابع" إلى فقدان الأداة الإبداعيّة وحالة العجز والشّلل، ومشاعر الاغتراب الّتي أصابت المثقّف العربيّ، النّاتجة عن القهر وتأثيره السّلبيّ على قدرة المثقّف على الفعل والتّعبير، ما أفقده روابط الهويّة والمكان، ودفع به إلى البحث عن ملاذ روحيّ أو منفى اختياريّ، حيث تتشظّى فيه ذاته بين الحقيقة والوهم.

مع كلّ هذا التّلاشي، يبقى صوت المطر الخفيف في الختام رمزا وحيدا لجمرة المقاومة الكامنة الّتي ترفض الانطفاء النّهائيّ.

مرساة الرّوح في بحر السّيّاب:

في ختام هذه الجولة بين صفحات "قبل أن يستيقظ البحر" لحسين السيّاب، يتّضح لنا هذا المُتنَفّس الشّعريّ؛ كـسجلّ تاريخيّ يشهد على تجربة نظمٍ شعريّة، تجرّأت على مقاومة القهر ومقارعة العدم.

لقد نجح الشّاعر في صياغة بوتقة فنّيّة تنصهر فيها الذّات العاشقة، المكتملة بوحدة المحبوبة، مع الذّات المأزومة والمنفيّة سياسيّا ووجدانيّا، مرتكزا في أفكاره على ثنائيّة حادّة، بين الحبّ المتجاوز للزّمن والحدود، الّذي يُصنَع منه وطن وعمر، وبين الواقع المُرّ الذّي يسحق الأجيال بغواية الحرب والمنفى، جاعلا من شعره أداة حفر عميقة، تصف الألم وتسعى لتوليد الخلاص منه، في إطلالة على أعمق جراح الذّات العربيّة وهي تبني وجودها من ركام العدم.

***

صباح بشير

للشاعرة التونسية هادية السالمي دجبي

قصيدة «نَضَيْتُ ثِقالَ الكُدَى» تُشخص تجربة وجودية/ وجدانية تتوسّل عناصر الطبيعة لتعيد ترتيب الذات في مواجهة الغياب والوحشة. تهدف هذه الدراسة إلى فكّ طلاسم النص عبر مناهج هيرمينوطيقية تأويلية، أسلوبية، رمزية، جمالية ووطنية، ثم تطبيق منظور غريماس السيميائي لاستخراج محاور الأدوار، وقراءة مستويات: الانفعالي، التخيّلي، العضوي، اللغوي. النبرة تقوم على قراءة متن–سياق: ما تقول القصيدة وما تُشي به خلف الألفاظ (ما تحت الجلد الشعري).

قراءة تأويلية مبدئية (المنظور الهيرمينوطيقي):

1. الأفق المقروء/ الظاهري: تكرار «كأنّ» كفعل تمثل، يدخل النص في فضاء رؤيويّ-نصُّ الرؤية والخيال، يتكوّن من صور متداخلة: السراب، السحب، الرّمل، النخيل، المرايا.

2. الأفق المُتوقع/ الوديعي: النص يسعى إلى تجميع الذات المشتتة («لِيَجمعني»، «لِيَعْتِقَني»)؛ هناك رغبة في الاعتناق/ الاعتِق، في استعادة لغة الأمان والسكن.

3. الدلالة العميقة: الغياب ليس فقط فقدان شخص بل حالة حضارية/ وجودية. الصور الطبيعية تعمل كأدوات شفاء/ تطهير ولكنها أيضاً تنطوي على تهديد (السراب، دخان الماء). القراءة الهيرمينوطيقية تكشف صراع قراءة النص لذاتها: بناء/ هدم، حضن/ طرد.

تحليل أسلوبي - أدوات الشعر والخطاب:

١- التركيب النحوي: اتكاء على الجمل الاسمية والتوكيد (وإنّي)، مما يمنح النص رهبة وتكثيفًا.

٢- التكرار والأنفرا: «كأنّ» تتكرّر كإيقاع مركزي يخلق حالة من الترنّح بين اليقين والخيال؛ التكرار يعمل كـ refrain مدوٍّ يعيد قراءة الصورة في أوضاع مختلفة.

٣- الاستعارة المركبة: «نَضَيْتُ ثِقالَ الكُدَى» استعارة مركبة: النضْوُ فعل يمتدح الثقل/ الزخارف الحزينة (الكُدَى) كحمل شعري.

٤- التصوير الحسي/ السمعي: «صهيل السّراب»، «همْسُ التّراب شهيق شريد»، توظيف أحاسيس متعددة لجعل الغياب ملموسًا.

٥- للغة الصوتية: وجود تواشجات صوتية (ش، س، ر) تمنح الإيقاع ملامسًا حادًّا وناهيكًا عن تعتمد على الطبقات الصامتة للّغة لتكثيف الشعور بالانهدام.

- البُنى الرمزية والدلالية:

١- السراب: رمز للهروب/ الوهم والمأوى في آن، يُحضِر الأمل لكنه لا يفي.

٢- الكروم/ النخيل/ المرايا: عناصر تزاوج بين الخصوبة والهوية والانكسار؛ المرايا رمز للذات والانعكاس الذي لا يجتمع بسهولة («أرْتق وجه المرايا بجفني لِيَجمعني»).

٣- الدخان/ المداخن: عنصر مفارق؛ دخان الماء سقفٌ - استعارة للغموض والاختفاء، ولأحقاب من التلوث الوجداني.

٤- الباشق/ الذئب: صور مفترسة أو مُرَوِّعة تُشير إلى قوى اجتماعية/ سياسية/ ثقافية تحكم الحكم على الذات: «و قلتُم: نراك غَوِيّا...».

قراءة سيميائية: تطبيق نموذج غريماس:

(نصّغ الأدوار لاستخراج محاور الاشتغال الدرامي داخل النص)

١- الفاعل: الصوت الشاعري/ الذات الساردة («وإنّي...») - يسعى إلى جمع ذاته وإعادة الاعتِق.

٢- المفعول/ الهدف: «جمعي/ اعتِقادي/ النبع الضوئي للكروم» - تحقيق التعافي والالتئام الوجودي.

٣- المرسل: الغياب/ القدَر/ الواقع القاسي (يحث الشاعرة على الفعل).

٤- المتلقي: الذات نفسها والجمهور/ الأرض («أبحث عنكم»؛ «يا أرضُ!») - قد يتطابق المرسل والمتلقي في مستوى تجارب المجتمع.

٥- الناصر: عناصر الطبيعة (الكروم، النخيل، المرايا، الأوتار، الفرس) - تقدم وسائل للتعافي.

٦- المعوق: السراب، الدخان، الحشود، «النداءات» (النقِيق) - قوى تمنع الالتئام.

منطق غريماس: القصيدة تتحرّك كسردية وظائفية؛ البطلة/ الصوت يخوض سلسلة محاولات (زراعة، غرس، اعتِق) تُقابَل بعقبات (سراب، نقِيق) وتستعين بعون/ رموز الطبيعة لتقريب الهدف.

قراءة في الأنساق المعرفية (معرفيّات النص):

١- معرفة رمزية/ أسطورية: النص يستدعي مفاهيم الطقس والطقوس (التعميد، النتج عن الأيدي على الطين، أسرجة الفرس) - ذاكرة طقسية تُستخدم كآليات لخلق المعنى.

٢- معرفة نفسية: بنى الحزن والحنين والاندفاع نحو الذات بوصفها الكائن الجريح.

٣- معرفة مجتمعية/ وطنية: إشارات إلى الأرض، الحشود، الباشق، ونداءات الجماعة تفتح النص على قراءات عن الانتماء الوطني أو التجربة الجماعية للنهب/ الغياب.

تحليل المستويات (مقارنة متعددة المستويات):

1. المستوى الانفعالي (العاطفي):

١- طيف المشاعر: من الألم والحنين إلى الإصرار على العمل (غرس، اقتلاع، اعتِق).

٢- اللغة الانفعالية مكثفة: أدوات توصيح الذات (وإنّي)، خطاب مباشر/ مخاطبة («أيا أرض!») مما يثير تواصلًا حادًّا مع القارئ.

2. المستوى التخييلي (الخيالي/ التصويري):

١- فضاءات رؤيوية (سراب، دخان الماء) تنتج صورًا متحولة متداخلة؛ القصيدة أقرب إلى مشهد سينمائي وجيبي للرؤى.

٢- التخييل ليس هروبًا فقط بل تقنية لإعادة تشكيل الواقع.

3. المستوى العضوي (الجسدي/ الحسي):

الجسد والملامسة حاضران: أيادي تُوقد، جفن يرتق، أقدام/ أحذية تُهجّر. الجسد كوسيط بين الذات والطبيعة/ الآخر.

الإحساس الملموسي يعزز مصداقية الألم والبحث عن الشفاء.

4. المستوى اللغوي (البلاغي):

استعارات مركبة، توظيف متقن للتكرار والوزن الموسيقي الداخلي، ونبرة تأملية-قصصية.

المفردات ترتكز على دالّات حمولة ثقافية (كروم، نخيل، بشْر، باشق)، مما يربط اللغة بالتراث المحلي/ الوطني.

تفسير مفردات محورية (نماذج قصيرة):

١- نَضَى: فعل يشي بالحمل والنسج والعمل اليدوي؛ هنا يحيل على حمولة عاطفية ثقالها الوجداني.

٢- الكُدَى: الحزن العميق أو البؤس؛ تركيب «ثِقالَ الكُدَى» إشارة إلى أن الحزن ثقلٌ ينبغي حمله/ إعادة توجيهه.

٣- صهيل السراب: تركيب مفارق؛ الصهيل صوت الخيل ومصدر القوة، لكنه هنا تابع للسراب، أي قوة وهمية.

٤- دَخَنُ الماء: صورة مفارقة؛ الماء، رمز الحياة، يتحول إلى دخان يغطّي - إشارة إلى تلوّث أو فقدان الشفافية الروحية.

القراءة الوطنية/ السياقية:

القصيدة، مع إشاراتها إلى الأرض والحشود والباشق، تسمح بقراءة تربط الفرد بالجماعة/ الوطن: هناك إحساس بجسدٍ وطني مجروح يتحدث عبر التجربة الحميمية. يُقترح قراءة محلية (تونسية) تستحضر ذاكرات الاستعمار/ التحولات الاجتماعية إنْ رغب الباحث في توسيع ذلك، مع مراعاة عدم فرض دلالات سياسية لا تبرهن عليها نصوص أخرى.

مسار منهجي لدراسة قصيدة «نَضَيْتُ ثِقالَ الكُدَى» للشاعرة التونسية هادية السالمي دجبي:

1. مدخل: المنهجية والأطر النظرية (هيرمينوطيقا، أسلوبية، غريماس).

2. قراءة مقاربة سطريّة لكل مقطع/ بيت.

3. التحليل الأسلوبي والبلاغي (إيقاع، صور، تكرار).

4. السيميائيات التطبيقية: مخطط غريماس وتبعاته.

5. البنيات الرمزية والدينية والنفسية.

6. مستويات المقارنة: انفعالي/ تخيّلي/ عضوي/ لغوي.

7. الإطار الوطني/ الاجتماعي.

8. الخاتمة: ما تحت الجلد الشعري-إعادة تركيب المسائل المفتوحة.

خاتمة:

قصيدة «نَضَيْتُ ثِقالَ الكُدَى» عمل كثيف يناور بين الخيال والوجدان والرمز؛ صوتٌ ساعٍ إلى استرداد أمانه عبر طقوس لغوية وصور طبيعية. تطبيق منهج هيرمينوطيقي/ أسلوبي/ سيميائي يُمكن أن يكشف طبقات متعددة من «ما تحت الجلد»؛ من ألم فردي إلى مرآة لمآلات مجتمعية. الدراسة المقترحة توفر خطة تحليلية قابلة للتنفيذ وتنتج نتائج معرفية قابلة للنشر الأكاديمي إذا ما أُرفِقَت بمقارنة نصّية ونصوص مرجعية.

***

بقلم: عماد خالد رحمة - برلين

 

أتعجّب في كلّ مرة أرى فيها كاتبا كبيرا يتعرّض للهجوم من فئة تدّعي أنّها مثقّفة وأنّها وصيّة على الأخلاق والقيم، وتدّعي امتلاك مفاتيح الشرف والفضيلة وكأنّها حارسة لنوايا المجتمع وقيّمه، وقد أثار حفيظتي مؤخرا هجوم غير مبرّر لأناس يُفترض أنّهم أكثر الوعي في مجال الكتابة والإبداع، فآلمني ما رأيت، وبتّ أتحسر على واقع الأدب والكتابة الإبداعية في وطني، وعلى الطريقة التي يُحاكم بها الخيال كلّما حاول أن يخطو خطوة خارج الأسوار الحديدية التي فرضتها العقول الضيقة. وما زاد ألمي أنّني، ومن واقع حضوري في معرض الكتاب، رأيت بأمّ عيني المحاباة الواضحة التي لا تعطي قيمة للكتابة بقدر ما هي لهث خلف الشهرة وموالاة ذوي النفوذ، حتّى أصبح المشهد الثقافي يفتقر إلى الجدّية، ولم يعد محفّزا ولا محمودا كما كان يُفترض أن يكون. فبدل أن يكون المعرض مساحة للاحتفاء بالكُتّاب الحقيقيين، تحوّل إلى فضاء يتصدره من يجيدون صناعة الضجيج لا صناعة الأدب، وكأنّ الثقافة أصبحت تُكرَّم بالصوت العالي لا بالجودة والإبداع.

من الموجع أن يجد الكاتب العربي نفسه في كل مرّة مطالبا بالدفاع عن نصّه أمام محاكم لا شرعية لها، محاكم تُنصّب نفسها حارسة للشرف والأخلاق والهوية، كلّما تجرأ على كتابة قصة حب أو كشف منطقة مسكوت عنها في المجتمع كمجال خصب لخيال ينتج جمالا سرديا أو فنيا. فما إن عرض فنّان عمله ، أو نشر روائي رواية يتناول فيها حدثا ما ، حتىّ تنهال عليه الاتهامات بالخلاعة والابتذال وتدنيس الشرف والخروج عن المعتاد، وكأنّ الأدب تعبير واقعي صارم لا يجوز له أن يقترب من الخيال أو يعيد تشكيل الوقائع أو ينسج احتمالات جديدة للحياة. والحقيقة أن هذه الهجمات لا تكشف عن حرص أخلاقي بقدر ما تكشف عن خوف متجذّر من الحرّية نفسها، لأنّ الخيال حين يتحرّر يهزّ عروش الوصاية. وفي خضم كلّ ذلك، أستحضر في كل مناسبة يتعرض فيها كمال داوود لسيل الاتهامات والطعنات التي تنحدر أحيانا إلى تشكيك في دينه، وأستعيد كيف رُمي الروائي الكبير واسيني الأعرج من قبل بعضهم بالتهم نفسها، وكأنّ الإبداع خطيئة لا تُغتفر، ثمّ أرى بعد ذلك أنّ الأول وصل إلى الغونكور وأنّ الثاني تبوّأ منزلة نابغة العرب، وكأنّ الزمن وحده يملك القدرة على كشف الحقيقة وفضح الغلاة من حرّاس النوايا. وقد حدث مؤخرا ضجيج كبير حول مقتطف أنزله واسيني الأعرج يتعلّق بقصة "البوغي"، فاتّهمه البعض بأنّه خرج عن إطار الواقع وتمرّد على تقاليد المدينة وحرّف الحقيقة، وهذا أمر يبعث على الغرابة لأنّ كاتبا كبيرا بحجمه، محاطا بنصوص مشهودة وبحث مضن ورحلات طويلة من التقصّي والتوثيق، لا يمكن أن يقع في مثل تلك الهفوات، أو يسعى إلى تحريف الواقع كما ادّعوا، لكنّهم يصرّون دائما على محاكمة الكاتب بدل قراءة النص، وعلى تقمّص دور الوصي بدل احترام حرية الخيال.

ماذا لو تعلّق الأمر ذاته بي؟! فلقد كتبتُ أنا أيضا عن تنهنان، فهل يعني ذلك أنّني مطالبة بالوقوف أمام محكمة أهل الطوارق؟ وهل أصبحوا أوصياء على المرأة التارقية فقط لأنّني تناولت شخصية من تراثهم؟ أم أنّ القضية كلّها تكمن في أنّني لست مشهورة بما يكفي ليصنع أحدهم مجده الخاص من مهاجمتي؟ ثمّ أليس في الأمر مفارقة صارخة حين ندرك أنّ أحدا من أهل القاهرة لم يحاكم كاتبا من وزن إحسان عبد القدوس أو نجيب محفوظ بتهمة الإساءة للمرأة المصرية؟ لم يقف المصريون يتساءلون : هل أهانت رواياتهم سمعة القاهرة أو شوّهت صورة النساء؟ لأن القارئ هناك كان يعرف أنّ الأدب حقل تخييلي، لا وثيقة عائلية ولا سجلّ شرف.

إن الجنوح إلى الطمانينة بأنّ الكاتب قد استقى مادته الروائية من كبار عائلة نجمة وجاب الله، ليس أكثر من محاولة لجرّ النص إلى أرض الواقع بالقوة. فالعائلتان نفساهما أدرى بتاريخيهما، والأمر إذ ذاك ينفي بأن يملك أحد ـــــ بعد هذا الاعتراف ــــ حقّ الوصاية على خيال الكاتب.

الأدب ليس مكتبا لتوثيق الأسماء ولا سجلّا لأنساب الناس، بل هو عمل فني حرّ. ومن لا يستطيع الفصل بين الحكاية الروائية وبين الواقع فمشكلته ليست مع الكاتب بل مع قدرته على القراءة. وإنّ ما يواجهه الأدب العربي اليوم هو ظاهرة "حرّاس النوايا"، أولئك الذين يتربّصون بالنصوص بحثا عن نوايا لم يقصدها الكاتب، وعن إساءات لم تحدث، وعن رموز لم تُكتب أصلا. يحاكمون الوهم، ثم يتّهمون النص بأنّه أساء للمدينة أو للمرأة أو للتاريخ. هؤلاء يمنعون الرواية من أن تكون رواية، ويصرّون على تحويل كلّ كتابة إلى بيان أخلاقي، وكل شخصية إلى فرد من العائلة يجب صون اسمه. لكنّ الأدب، بطبيعته، يعيش على حدود التابو، ويمتدّ حيث تنتهي الجرأة المعتادة، وإلاّ لانتفت الحاجة إليه.

والحقيقة ليس الأدب العربي أوّل من يواجه هذه الرياح، فالتاريخ العالمي للأدب مليء بأمثلة تدلّ على أنّ الإبداع لا يزدهر إلا حين تُكسر القيود. فـفرجينا وولف اتُّهمت بالجنون لمجرد مطالبتها بأن تكون للمرأة غرفة تخصّها وحدها، واليوم تُعتبر من أهم الأصوات النسوية. وفيكتور هوغو حُورب بسبب روايته التي جسّدت مأساة أحدب نوتردام، لكنه غيّر وجه الأدب الفرنسي. وسارتر وكامو وُصفا بالعدمية، ثم أصبحت كتبهما منبعا للفكر الحديث. وغابرييل غارسيا ماركيز حرّمته الكنيسة بسبب "مئة عام من العزلة"، بينما صار العالم يحتفي بماكوندو كواحدة من معجزات الأدب. وهوجم تولستوي بشدة حين كتب "آنّا كارنينا" لأنّها تناولت الخيانة الزوجية، ثمّ أصبحت الرواية مرجعا عالميا في فهم النفس البشرية. لم يصرخ الفرنسيون بأنّ هوغو أساء لفتياتهم، ولم يغضب الروس لأنّ تولستوي شوه نساءهم، ولم يغضب الكولومبيون لأنّ ماركيز اخترع قرية بأكملها. كل هؤلاء كانوا يدركون أن الأدب لا يحاكي الحياة حرفيا بل يفتح نوافذ لرؤيتها من جديد، إلاّ إذا صنّفت تلك المجتمعات بلا أخلاق !

إنّ السؤال الذي يجب أن نطرحه اليوم كقراء عرب : إلى أين نمضي؟ وكيف نكتب رواية في مجتمع يعامل الخيال كتهديد؟ وكيف يقوم الأدب بدوره إن بقي كل كاتب مطالبا بالاعتذار لكلّ قبيلة وكلّ عائلة وكل جهة ترى نفسها في أي شخصية من شخصياته؟ إنّ الأدب العربي لن يتقدم ما دام محاطا بأسلاك شائكة، وما دامت كل محاولة لكسر الصمت تُقابل باتهامات جاهزة عن الشرف والسمعة والحياء. فالشرف الحقيقي لا تهدده رواية، بل يهدده الجهل والخوف من السؤال.

كي نسمو ونتطوّر، علينا أن ندرك أنّ الإبداع ليس عدوّا للأخلاق، بل هو عدوّ للجمود. ومن يريد حماية المجتمع حقا فليحمِه من الجهل لا من الأدب كونه إبداع. لأنّ الأدب، في جوهره، محاولة لفهم الإنسان وتحريره، لا محاولة لتشويه أحد. وما دام الإبداع يُحاكم اليوم بتهم زائفة، فالمستقبل محاصر. ووجب أن نقول : إنّ الأدب ليس مُلكا لأحد، ولا وصاية عليه لأيّ جهة، وإنّ من يحاكم الخيال إنّما يحاكم القدرة الإنسانية على أن تحلم. فهلاّ كففتم عن مصادرة الأحلام؟!

لأؤكّد في الأخير على أنّ مقالي هذا ليس دفاعا عن كاتب بعينه بقدر ما هو دفاع عن حقّ الكاتب العربي في أن يكون كاتبا، وعن حقّ الأدب في أن يبقى أدبا، وأن يظلّ فضاء حرّا يليق بالإنسان الذي يحلم.

***

ليلى تبّاني - الجزائر

سيميائية – نفسية لقصيدة "من سيرة العاشق البغدادي"

مقدمة: تتناول هذه الورقة قصيدة «من سيرة العاشق البغدادي» للشاعر القدير عبد الستّار نورعلي بوصفها نصًّا مدينيًا مركّبًا تتقاطع فيه تجربة الذات العاشقة مع ذاكرة المكان البغدادي، بحيث تتحوّل الحكاية الفردية إلى شهادة شعرية على زمنٍ متصدّع. وتنطلق القراءة من فرضية أنّ القصيدة لا تُختزل في بعدها الغنائي السردي، بل تُبنى كمنظومة دلالية متعدّدة الطبقات تكشف طبيعة العلاقة المتوتّرة بين العاطفة الفردية والنظام الاجتماعي–الرقابي للمدينة، حيث يتحوّل الزقاق الضيّق إلى فضاء صراع بين الحب وأشكال العنف الرمزي.

تعتمد الدراسة منهجًا تفكيكيًا – تحليليًا هجينيًا يستثمر عدّة مستويات مقاربة، هي:

التحليل البنيوي: لاستجلاء هندسة المكان وتنظيم السرد، ورصد آليات الانتقال بين اللوحات المشهدية بوصفها وحدات دلالية مستقلة ومتجاورة ضمن بنية فسيفسائية.

التفكيك السيميائي: لفحص شبكة العلامات والرموز..التي تنتجها القصيدة، ولا سيما ما يتعلّق بعلاقة الجسد بالمدينة، والصور البصرية والسمعية، وآليات الانزياح بين الجمال والجرح.

3. المقاربة النفس–أدبية: لتحليل تمثّلات الرغبة وآليات الدفاع والجفاف الوجودي، ورصد أثر المراقبة الاجتماعية في تشكيل الهوية العاطفية للعاشق.

4. دراسة الانزياح الدلالي والاستعارة: بوصفهما أداتين لبناء شعرية التوتّر والتحوّل، وتحويل المكان اليومي العادي إلى فضاء شبه أسطوري تحكمه ثنائية الحب/القمع.

وتنطلق القراءة من العتبة النصية (العنوان) لفحص دلالات «من سيرة» و«العاشق البغدادي» بوصفها محدّدات لهوية النص واتّجاهه التأويلي، ثم تنتقل إلى تحليل القصيدة عبر تقسيمها إلى لوحات مشهدية متعاقبة تُقرأ كلٌّ منها كوحدة دلالية تبرز تراكب الغربة والحنين، وتكشف اشتغال العنف الرمزي واللغوي في فضاء المدينة. كما تتتبّع الدراسة تفكّك العلاقة بين العاشق والمكان، وانهيار منظومة «العدل» في خاتمة النص تحت وطأة حضور «الغيلان» بوصفهم تجسيدًا للقوى القامعة والفاجرة في الفضاء المديني.

وتسعى هذه الورقة إلى بيان الكيفية التي يعيد بها نورعلي تشكيل صورة المدينة عبر لغة تصويرية تستثمر التقطيع البصري، والتكرار ذي الطابع الطقسي، والاشتباك بين الفصيح واليومي، بما يجعل القصيدة فضاءً قرائيًا ملائمًا لتتبّع تحوّلات الهوية الفردية في سياق اجتماعي مضطرب. وتقتصر حدود البحث على هذه القصيدة بوصفها نموذجًا لقراءة تمثّلات الهوية المدينية في الشعر العراقي المعاصر، دون التوسع في مقارنات خارجية، تمهيدًا للانتقال إلى الإطار النظري وتحليل العتبة النصية ثم اللوحات الدلالية.

العتبة: تفكيك العنوان «من سيرة العاشق البغدادي»

لا ينهض العنوان بوظيفة تعيينية فحسب، بل يعمل كبنية موازية تكثّف التوتر بين الذات والمكان والزمن. إنه بمثابة عتبة تأويلية ترسم أفق انتظار القارئ، وتعلن منذ البدء أننا أمام نص يقوم على الاجتزاء والتشظّي لا على السرد المكتمل.

1-  "مِنْ": شعرية الاجتزاء

تتجاوز «من» وظيفتها النحوية كحرف جر يفيد التبعيض، لتتحول إلى إعلان جمالي عن سرد مجتزأ. فالقارئ لا يُستدرج إلى "سيرة كاملة"، بل إلى مقطع منها أو شذرات متفرّقة.

دلاليًا، تشرعن «من" بنية النص اللقطية وتقطع مع وهم الاكتمال. ورمزيًا، توازي حالة التشظّي التي ستظهر

2-  "سيرة": أسطرة اليومي وتوثيق الهامشي

اختيار لفظ «سيرة» يحمّل النص منذ عتبته الأولى بعدًا سرديًا وتوثيقيًا؛ فالسيرة في الوعي الأدبي العربي تحيل إلى نص يمتدّ في الزمن، ويلاحق تحوّلات الذات في علاقتها بالعالم. غير أن العنوان، بإضافة «من» قبل «سيرة»، يعلن أن ما سيُقدَّم ليس سيرة مكتملة، بل مقطع من مشروع سيري أوسع محتمل.

على المستوى الدلالي، يرفع استعمال «سيرة» تجربة فتى من «فتية الزقاق» من مستوى اليومي العابر إلى مستوى ما يستحق الحفظ والتدوين، فيغدو العاشق الشعبي موضوعًا للكتابة وكأنه شخصية من «السير الكبرى»؛ ما يعني أسطرة الهامشي وإعادة الاعتبار لليومي المغمور بوصفه حاملًا لمعنى إنساني وتاريخي. أما رمزيًا، فإن تحويل قصة حب فردية في زقاق بغدادي ضيق إلى «سيرة» يوحي بأن هذه التجربة ليست محصورة في فرد بعينه، بل تمثّل نموذجًا لوعي جمعي ولذاكرة مدينية مجروحة

هذا الاختيار يدعو القارئ إلى التعامل مع القصيدة بوصفها نصًّا يحمل بعدًا أرشيفيًا؛ فكل مقطع فيها يُقرأ كوثيقة من «أرشيف الوجدان البغدادي»، لا كحكاية عاطفية عابرة. وبهذا تتحوّل السيرة من مجرّد متابعة لحياة فرد إلى وعاء لكتابة ذاكرة مدينة، ولتثبيت صورة العاشق الشعبي في مواجهة محوٍ تاريخي واجتماعي محتمل

3-  العاشق»: من الفرد إلى النموذج الإنساني

يُسند لفظ «العاشق» إلى «سيرة» ليحدّد نوع التجربة المحورية في النص: ليست سيرة اجتماعية أو سياسية بالدرجة الأولى، بل سيرة عشق. تنكير «عاشق» مع تعريفه بـ«أل» الجنسية يجرده من خصوصية الاسم العلم، ليُحيل إلى نموذج إنساني عام يمكن أن يتكرّر في كل زمان ومكان.

دلاليًا، يوجّه هذا اللفظ القراءة نحو بنية العشق ذاته (الانتظار، الاحتراق الداخلي، الكتمان، الافتتان بالجسد والنظرة والصوت) بدل الاكتفاء بتتبّع أحداث حياة شخص بعينه. ورمزيًا، يتحوّل العشق إلى شرط وجودي يعرّف الذات داخل مدينة محاصِرة؛ فالحب هنا ليس ترفًا عاطفيًا، بل طريقة لمقاومة الاغتراب والترميم النفسي في وجه الخراب الخارجي. وهكذا يغدو «العاشق» حاملًا لمأزق إنساني أوسع من حدود الفتى قيس نفسه.

4-  "البغدادي": حتمية المكان وشراكة المدينة                                

تأتي الصفة «البغدادي» لتربط هذا «العاشق» بفضاء مكاني–تاريخي محدّد؛ فالسيرة هنا ليست مجرّدة من الجغرافيا، بل منغرِسة في بغداد بأزقّتها وبيوتها وشارع الكفاح وذاكرتها الحديثة المثقلة. بذلك لا تكون المدينة خلفية محايدة للأحداث، بل طرفًا فاعلًا يشارك في تشكيل المصير العاطفي والنفسي للبطل.

على المستوى الدلالي، تمنح النسبة إلى بغداد النصَّ مرجعية واقعية واضحة، فتشدّ رمزيته إلى سياق اجتماعي وسياسي معلوم. وعلى المستوى الرمزي، تتحوّل بغداد إلى قدرٍ مشترك بين العاشق وسائر أهلها؛ مدينة محاصَرة ومراقَبة، تتجاور فيها ضيق الأزقّة، وتصدّع الجدران، وشبكات القيل والقال، لتصنع مناخًا خانقًا للحب الحرّ. وبذلك تصبح «البغدادي» إشارة إلى أن العشق المرويّ هنا ليس فقط تجربة فردية، بل هو أيضًا مرآة لحالة مدينة تعيش التوتر ذاته بين الرغبة والقمع وبين التوق إلى الحياة وبين آليات الإحاطة والضبط التي تمارسها البنى الاجتماعية والسياسية

خلاصة تركيبية

يتكثّف في عنوان «من سيرة العاشق البغدادي» البرنامج الدلالي للقصيدة بأكملها: 

"من" تُعلن الاجتزاء والتشظّي،

"سيرة" ترفع اليومي والهامشي إلى مستوى ما يستحق التوثيق،

"العاشق" تحوّل البطل إلى نموذج وجودي عام،

"البغدادي" ترهن هذه التجربة بفضاء مديني مشخصن.

وبذلك تغدو العتبة مفتاحًا لقراءة القصيدة بوصفها شهادة شعرية على عشقٍ فرديّ هو في جوهره تعبير مكثّف عن وجدان مدينة مأزومة

المدينة المستباحة وسيرة الاغتراب

تسعى هذه الدراسة إلى تفكيك قصيدة «من سيرة العاشق البغدادي» عبر مقاربة تستثمر أدوات البنيوية والسيميائيات والتحليل النفسي، مع إيلاء عناية خاصة للانزياحات الدلالية وبنية الاستعارة. وتنطلق من التعامل مع كل لوحة مشهدية بوصفها نسقًا دلاليًا مكتملًا تتشابك داخله أربعة مستويات: تشكيل المكان، شبكة العلامات والرموز، الآليات النفسية الفاعلة، ولغة الانزياح الأسلوبي.

يتحوّل الفتى قيس البغدادي، من خلال تكرار اسمه وتكثيف حضوره، من شخصية فردية إلى رمز جمعي يستدعي ذاكرة مدينة مثقلة بالجراح. ومن هنا يتبلور التوتر المحوري بين الذات والفضاء الجمعي الذي يحتضنها ويطوّقها في آن. لا يظهر قيس كعاشق رومانسي فحسب، بل بوصفه تجسيدًا مكثفًا لوعي جماعي مأزوم، تتقاطع فيه تجربة الحب مع شبكات الرقابة والقمع المتغلغلة في التفاصيل اليومية للمدينة المستباحة.

اللوحة الأولى: "بورتريه الفتى المحاصر"

اللوحة الأولى: بورتريه الفتى المحاصر ومخطوطة الصمت

النص: (كانَ فتىً مِنْ فتية الزُّقاقِ.. الضَّيِّقِ.. ضيقَ قلبِهِ الخفَّاقِ.. المحكومِ بالأطواقِ.. أيامَ كانَ الحبُّ مبنيّاً.. الصمت.. ومرسوماً على الأوراقِ.. بالوَلَهِ المحكومِ بالأطواقِ).

 التكوين البصري والمكاني

تبدأ اللوحة بصورة تحتضن الفتى داخل فضاء الزقاق، حيث يتحول المكان من مجرد خلفية إلى إطار خانق يضغط على الجسد والروح معًا. يظهر عنصر "الأوراق" ليحوّل الحب من إحساس مجرد إلى أثر مكتوب، خطوط سرية تُرسم بحذر. ومع حضور "الأطواق"، يكتمل المشهد: جسد محاصر في الزقاق، قلب محاصر في الصدر، وحب محاصر في الورقة.

بنيويا: تعتمد اللوحة على هندسة التطويق؛ فالقافية الموحدة (الزقاق، الخفّاق، الأوراق، الأطواق) تعمل كأقفال صوتية تُغلق كل سطر، مضفية شعورًا بالاختناق. الحركة تنتقل من فضاء الزقاق إلى ضيق القلب، ثم إلى سطح الورقة، لتصل في النهاية إلى الانغلاق التام بالأطواق. إنها هندسة سجن دائري يطوّق المعنى.

سيميائيًا: الأوراق: أيقونة البوح المؤجل والأرشيف السري؛ في زمن الصمت تصبح الورقة فمًا بديلًا، والكتابة فعلًا مقاومًا.

الأطواق: علامة مزدوجة الدلالة؛ فهي من جهة زينة، ومن جهة أخرى قيد وعبودية. ومع صفة "المحكوم"، تغلب دلالة القيد، ليصبح الحب سجينًا محكومًا بالمؤبد داخل هذه الأطواق.

نفسيًا: تكشف الأبيات عن آلية التسامي، فالحب الممنوع من الكلام يجد منفذه في الرسم على الأوراق. الكتابة هنا فعل علاجي يخفف ضغط الأطواق، والجمع بين "الوله" و"المحكوم" يولّد توترًا نفسيًا شديدًا يهدد بانفجار الذات.

دلاليًا: يستخدم الشاعر انزياحًا دقيقًا حين يجعل الحب "مرسومًا" لا "مكتوبًا"، فيوحي بالثبات والأثر الباقي، ويحوّل الكلمات إلى صور للمشاعر. أما استعارة "الأطواق" فتجسد التقاليد والعادات كأغلال معدنية تلتف حول عنق الوله، مانحةً المعاناة النفسية وزنًا فيزيائيًا ثقيلًا.

اللوحة الثانية: البرزخ الحراري وطقس الانتظار

النص: الفتى قيسُ البغداديُّ / كانَ يقفُ على رأسِ الطَرَفِ/ الحارِّ اللاهب لهيبَ قلبِه،/ ينتظرُ مرورَ ستِ الحُسْنِ والجمال/  بعباءتها المُلتفَّة بقدِّها الممشوق/ مثلَ الغزال،

 التكوين الضوئي والمكاني

تنتقل الكاميرا الشعرية من عتمة الزقاق في اللوحة الأولى إلى سطوع الطرف الحار في هذه اللوحة. المشهد يقوم على تعارض صارخ: وقوف ثابت ومتوتر للعاشق في فضاء مكشوف، مقابل حركة محتجبة ومشتهاة للمحبوبة. الحرارة هنا ليست مجرد طقس مناخي، بل لون يكسو اللوحة بالأحمر والأصفر، موحّدًا بين جغرافية المكان وجغرافية الروح.

بنيويا: البنية تعتمد على التدفق الحراري؛ إذ تذوب الحدود بين الخارج (الشارع اللاهب) والداخل (لهيب القلب) عبر الجسر اللغوي (لاهب/لهيب). بهذا التداخل يُلغى الفصل بين الذات والموضوع، ويغدو الانتظار فعلًا فيزيائيًا حارقًا لا مجرد مرور للوقت.

سيميائيا: العباءة: تمنح المحبوبة هالة ستر ووقار، وتؤطر حضورها بثقافة الحشمة والاختفاء الجزئي.

الغزال: رمز للجمال الرشيق النافر، الذي يُرى ولا يُلحق، مما يضاعف دلالة الاستحالة.

نداء "ست الحسن والجمال": يستدعي مخزونًا تراثيًا يرفع صورة المحبوبة إلى مرتبة الأيقونة الجمالية، ويحوّل مرورها إلى إشارة بصرية خاطفة تكسر جدار الصمت الاجتماعي.

نفسيًا: الوقوف عند "رأس الطرف" يكشف حالة ترقّب مشحونة بالرغبة والرهبة معًا؛ انتظار يتحول إلى وضع وجودي يختبر حدود الصبر والخيبة. هنا تظهر آليات نفسية مثل التعلّق الشديد، التوق إلى الاعتراف، والاستغراق في التمنّي، حيث يصبح الانتظار نفسه استراتيجية لمواجهة العزلة والحرمان، وتعويض غياب التواصل اللفظي عبر طقس بصري متكرر.

دلاليًا: العباءة، أداة ستر تقليدية، تتحوّل إلى إطار إبراز يضاعف من حضور المحبوبة الرمزي. والغزال يُعاد شحنه بدلالة النفور والاستحالة، لا مجرد الرشاقة. هذا الانزياح يولّد توترًا بين القرب الجسدي (مرور الحبيبة في مدى البصر) والبعد الرمزي (تعذّر الوصول إليها)، فيحوّل المشهد إلى طقس عشق مكتوم يتكرر كشعيرة لا كحدث عابر.

الخلاصة: تكشف هذه اللوحة أن العاطفة الفردية تتجاوز حدودها لتتشكّل كوضْع وجودي مشروط بالمكان والثقافة. الانتظار يغدو طقسًا اجتماعيًا وثقافيًا يربط بين الرغبة والقداسة والقيود، ويحوّل لحظة مرور عابرة إلى حدث دالّ داخل فسيفساء السيرة الشعرية بأكملها.

اللوحة الثالثة: قارات الشوق والطعنة النجلاء

والتفاتتِها الذكيّةِ العابرة/ قاراتِ الشوقِ/ سهماً/  مارقاً خاطفاً/ ترميهِ سلاماً/ بطرفِ عينِها النجلاءِ/ فتطعنه طعنةً نجلاء

تقدّم اللوحة مشهدًا مكثّفًا يعتمد على التضخيم المكاني؛ فالشوق يتّسع إلى «قارات» داخل زقاقٍ ضيّق، ما يخلق اتساعًا عاطفيًا يعاكس ضيق الواقع. النظرة العابرة تتحوّل من مجرّد تحية اجتماعية إلى سهمٍ مارقٍ يجرح، فيغدو الجمال نفسه أداة ألم.

بنيويًا، تمثّل هذه اللحظة الذروة العاطفية للنص؛ فهي تفجّر التوتر المتراكم منذ اللوحات الأولى، وتبرز فجوةً حادة بين الداخل المفعم بالشوق والخارج المحدود بالمكان.

سيميائيًا، يشتغل الجناس بين «النجلاء» (صفة العين) و«النجلاء» (صفة الطعنة) على توليد بلاغة قاتلة: العلامة نفسها تحمل معنيين متضادين، الجمال والجرح. تصبح العين دالًا مزدوجًا: مصدر رغبة ومصدر أذى.

نفسيًا، تكشف اللوحة عن تحوّل الرغبة إلى آلية تدمير ذاتي؛ فالشوق المتضخّم يجعل الذات هشّة، قابلة للانكسار بأبسط إشارة. النظرة هنا إسقاط للرغبة والعدوان معًا.

دلاليًا: يتحوّل البصر إلى سلاح، والتحية إلى فعلٍ مموّه. تعمل الاستعارة والجناس على فضح الوجه الآخر للجمال؛ أن يكون جرحًا ناعمًا لكنه نافذ.

الخلاصة: اللوحة تؤسس ثنائية الجمال/الألم وتُظهر كيف يتقاطع الخيال العاطفي («قارات الشوق») مع الواقع المديني لينتج مأساةً شخصية ذات طابعٍ أسطوري.

اللوحة الرابعة: الذاكرة المعمارية والتمزق المشترك

النص: "لا تُبقي في قلبهِ ولا تذر دَقةً/ إلّا وجعلتْها شذرَ مذر، / تتسمَّر/ على جدرانِ بيوتِ الزقأقِ/ المتصدِّعةِ"

تسجّل اللوحة انتقال الشظايا الداخلية — دقات القلب الممزّقة — إلى أثرٍ مادّي على جدران الزقاق المتصدّعة. المدينة تتحوّل إلى أرشيف للجرح، والمكان يصبح مرآةً للذات.

بنيويًا: توسّع هذه اللحظة الحكاية من الفردي إلى الجمعي؛ فالألم لم يعد سيرة العاشق وحده، بل أصبح علامةً مطبوعة على الجدران. إنها نقطة الوصل بين الذاكرة الداخلية والذاكرة المكانية.

سيميائيًا: الجدران المتشققة ليست عنصرًا معماريًا محضًا، بل لوح تصوير تُعلّق عليه القصص الخفية. كل دقّة قلب تتحوّل إلى «مسمار» منقوش على المادة.

نفسيًا، يشير التفتت إلى انهيار التماسك الداخلي؛ القلب لم يعد وحدة، بل شظايا تتساقط على الأسطح. هذا التفكك انعكاس لفشل التعبير والاحتواء.

دلاليًا: يُجسَّد التجريد؛ فالعاطفة تتحوّل إلى مادة قابلة للّمس والرؤية. الانزياح هنا يجعل من الألم نصًا مدينيًا دائمًا.

الخلاصة: المدينة ليست خلفية، بل شريك في كتابة السيرة. تتحوّل التجربة الفردية إلى نقشٍ على بنية المكان، ما يمنح القصيدة بعدها المديني العميق.

اللوحة الخامسة: جيولوجيا الجرح وذاكرة المتناقضات

النص: "لتتصدّعَ وتتشقّقَ / أكثرَ مما هي تحملُ بين طيّاتها / منْ قصصِ الحبِّ العذري / واللاعذري"

تنتقل هذه اللوحة من "فيزياء الارتطام" (في اللوحة السابقة) إلى "جيولوجيا الطبقات". هنا، يكفُّ الجدار عن كونه حاجزاً صامتاً، ليصبح كائناً حياً ينوء بحملِ تناقضات التجربة الإنسانية.

بنيويًا: تؤسس اللوحة لعلاقة سببية عميقة؛ فالتشقق ليس نتيجة لعوامل الزمن، بل نتيجة لـ "فائض المعنى". الامتلاء بالقصص هو الذي يفجر المادة. النص يبني هنا جدلية بين "الصلابة" (الجدران) و"السيولة" (القصص)، حيث تنتصر السيولة العاطفية فتكسر صلابة المعمار

سيميائيًا : تُشكل ثنائية «العذري واللاعذري» علامةً دالة على شمولية التجربة؛ فالذاكرة المكانية لا تنتقي الطاهر وتترك المدنس، بل تحتفظ بكل شيء "بين طياتها". التصدع هنا هو علامة سيميائية دالة على "الفضح" أو "البوح القسري"؛ الجدار يتشقق ليتكلم، والشقوق هي أفواه تروي ما كان مخفياً.

نفسيًا: تمثل الأبيات لحظة انهيار الكبت. الجدران (كرمز للأنا أو الوعاء الحاضن) لم تعد قادرة على احتمال ضغط الذاكرة المكبوتة. الجمع بين الحب العذري واللاعذري يشير إلى تعقيد النفس البشرية التي تحمل النقيضين، وهذا التزاحم الداخلي هو ما يؤدي إلى التصدع النفسي والمادي معاً.

دلاليًا: يتحول "الشق" في الجدار من عيبٍ معماري إلى نصٍ مقروء. القصيدة تمنح المكان "باطناً" (طيّاتها)، مما يؤنسن الجماد. الجدار يتألم وينفجر لأنه يحمل "أكثر" مما صُمم لاحتماله، في إشارة إلى أن العاطفة الإنسانية أثقل وأبقى من الحجر.

الخلاصة: هذه اللوحة هي لحظة "التعرية"؛ حيث ينكشف المخزون السري للمدينة. لم يعد المكان مجرد شاهد صامت، بل أصبح مشاركاً متواطئاً ينهار تحت وطأة الأسرار التي ائتُمِن عليها، مما يمهد الطريق لما سيلي من تحولات في النص.

اللوحة السادسة: منظومة الرقابة والقنابل الشفهية

النص: "دونَ أنْ يرفَّ جفنٌ للعادياتِ / خلفَ الأخبار / الصاحياتِ / بعيونهنَّ الوسيعةِ / وآذانِهنَّ اللاقطاتِ / ليلَ نهارَ، / وألسنتُهنَّ مِذياعً عابرٌ للأزقةِ / والبيوتِ / بألفِ ألفِ قنبلةِ شفهيّةٍ.

1. المشهد الاجتماعي والمكاني

ترتفع الكاميرا الشعرية من سطح الجدار المتصدّع إلى بانوراما اجتماعية تلتقط آلة رقابية لا تنام. تتكثّف الصورة عبر امتداد الصوت والعيون والآذان في فضاءات المدينة: الأزقّة والبيوت تتساوى في النفاذ، فلا حجب ولا عتبات تحمي الداخل من الخارج. تتبدّل وظيفة المكان من الحفظ إلى الاختراق، وتغدو المدينة شبكة يقظة تستنزف العاشق زمانيًا ومكانيًا.

بنيويًا: يعتمد المقطع على تراكم وصفي متصاعد يبني «وحشًا» رقابيًا مع كل إضافة:

مستوى الفاعل: «العاديات» ← موضع الحركة: «خلف الأخبار» ← حالة الوعي: «الصاحيات» ← أدوات الرصد: «عيونهن الوسيعة» و«آذانهن اللاقطات» ← زمن الحراسة: «ليل نهار» ← أداة البث: «مذياع عابر». هذا التصعيد يُحكم بنية الحصار عبر مزاوجة الزمان والمكان، ويغلق منافذ الخصوصية بإيقاع حتمي يذكّر بصفارات إنذار مستمرة.

سيميائيًا: العاديات: التناص: يحيل إلى سورة «العاديات» (الخيل المغيرة التي تقدح الشرر). الانزياح: يتحوّل الشرر إلى نميمة، والكرّ إلى مطاردة سمعية–بصرية؛ معركة مقلوبة تُشنّ بالكلمات لا بالسيوف.

خلف الأخبار: موضع سلطة: دالّ على صناعة الحدث وتوجيهه من وراء الستار، لا مجرد نقله.

الصاحيات: يقظة قصوى: نقيض الغفلة والحلم؛ حالة ترصّد دائمة تُشرعن التطفّل كواجب اجتماعي.

العيون والآذان اللاقطات: تقننة الجسد: يتحوّل الجسد إلى أجهزة رصد وبث؛ إنسان–رادار/إنسان–مذياع.

مذياع عابر للأزقة والبيوت: اختراق الحُجب: اللغة كإشارة كهرومغناطيسية تتجاوز الجدران والمؤسسات والحدود النفسية.

ألف ألف قنبلة شفهيّة: كثرة مدمِّرة: تضخيم العدد لتمثيل عنف رمزي مُمنهج؛ كلمة كقنبلة، صيت كصاعق.

نفسيًا: دون أن يرفّ جفن: بلادة انفعالية تؤشّر إلى قسوة المراقِب وتقنين التعرّي النفسي كأمر عادي.

ليل نهار: استنزاف عصبي مستمر يخلق حالة قريبة من الارتياب؛ مراقبة تحرم الذات من مساحة تعافٍ داخلي.

اختراق البيوت: انهيار آخر حصون الأنا؛ الخصوصية تتلاشى، فيُدفع العاشق إلى مكشوف رمزي دائم يضاعف هشاشته ويُحوّل الرغبة إلى قلق.

دلاليًا: تحويل اللغة إلى سلاح: المذياع/القنابل: استعارة توفّر مشهدًا حربياً بلا بارود؛ تفجير للسمعة والروح بدل الجسد.

تقاطع القرب والنبذ: عابر للأزقّة والبيوت: يقرّب الصوت ويُقصي الذات؛ يربط بين حضور الجماعة وإقصاء الفرد عبر بثّ لا يكفّ.

تشييء الجماعة: العاديات/الصاحيات: الجماعة تُصاغ كآلة؛ نزع الإنسانية لتبرير الفعل الرقابي بوصفه «وظيفة» لا «تطفّل».

الخلاصة: هذه اللوحة تعلن موت الخصوصية في المدينة وانتصار الرقابة الشفهية بوصفها سلطة اجتماعية متغلغلة. لا يواجه العاشق صدود المحبوبة فحسب، بل يواجه جيشًا لغويًا مرئيًا–سمعيًا يحوّل الحب إلى ساحة حرب بالكلام، حيث تُصبح الكلمة قنبلة، واليقظة حصارًا، والمدينة شبكة إنذار دائمة.

اللوحة السابعة: قيس البغدادي.. درعُ اللا مبالاة

النص: "الفتى قيسُ البغداديُّ / لم يكنْ يُعيرُ / للقنابلِ الشفهية انتباهاً/ فشفتُهُ متشقِقةً/ منْ فرط حرارةِ الشوق/ وجمرة التوق،/ وهي في جفافٍ مُقيم،"

تمثل هذه اللوحة "نقطة ارتكاز" في القصيدة؛ فهي تفصل بين ضجيج العالم الخارجي (العاديات) وبين الصمت المدوّي في العالم الداخلي للعاشق. يظهر البطل هنا باسمه وصفته، معلناً استراتيجيته في المواجهة: التجاهل.

بنيويًا: تعمل هذه الأبيات كـ "كاسر أمواج". بعد التدفق الصاخب لأوصاف العيون والآذان والقنابل في اللوحة السابقة، يأتي هذا المقطع بجملة خبرية هادئة وقاطعة. الانتقال من "نون النسوة" (لسلطة المجتمع) إلى "ياء المفرد الغائب" (الفتى) يعيد تركيز العدسة على الذات المتوحدة التي ترفض الاشتباك مع التافه.

سيميائيًا :"قيس البغدادي"، استدعاء لأسطورة "قيس بن الملوح" (مجنون ليلى) وإسقاطها على الجغرافيا "البغدادية". هذا المزج يمنح العاشق هوية مزدوجة: هو امتدادٌ للتاريخ العذري، وهو ابنٌ للمدينة المعاصرة وأزقتها. الاسم هنا يصبح "قناعاً" يرتديه الشاعر ليحتمي بالأسطورة.

"لم يكن يعير انتباهاً"، علامة سيميائية على "الانفصال" عدم الانتباه للقنابل ليس صمماً، بل هو "تعالٍ"؛ فالعاشق منشغل بصوتٍ داخلي أعلى وأقوى من ضجيج القنابل.

نفسيًا: تُظهر اللوحة آلية دفاعية تُعرف بـ "الإنكار الانتقائي". العاشق يحمي ذاته الهشة من التمزق برفض الاعتراف بوجود التهديد الخارجي. إنه غارق في "الداخل" لدرجة أن "الخارج" يتلاشى. هذا الهدوء الظاهري يخفي تحته غلياناً سيظهر أثره في اللوحة التالية (على الجسد).

دلاليًا: تجريد "القنابل الشفهية" من فاعليتها. القنبلة صُممت لتفجر وتلفت الانتباه، وعدم الانتباه لها يبطل مفعولها الدلالي. الشاعر هنا ينتصر على سلطة المجتمع بتحويل أسلحته الفتاكة إلى "عدم" عبر سلاح "اللا مبالاة".

الخلاصة: هذه اللوحة هي لحظة "تسامي". "قيس البغدادي" لا يهرب من المعركة، بل يترفع عنها. إنه يخبرنا أن الخطر الحقيقي ليس ما يُقال عنه في الأزقة، بل ما يحدث في "شفتيه" وقلبه.

وبناءً على ذلك، تصبح اللوحة التي أوردتها في تعليقك هي اللوحة الثامنة، وتأتي كنتيجة مباشرة لهذا الانفصال عن الخارج والاحتراق في الداخل:

اللوحة الثامنة: الجسدنة والجفاف الوجودي

النص: "فشفتُهُ متشقِقةً/ منْ فرط حرارةِ الشوق/ وجمرة التوق،/ وهي في جفافٍ مُقيم

هنا يظهر السبب الحقيقي لعدم اكتراثه بالقنابل الخارجية؛ فالنار الداخلية أشد وطأة.

بنيويًا: تمثّل هذه اللوحة انتقالاً من "الخارج الاجتماعي" (الذي تجاهله في اللوحة 7) إلى "الداخل الجسدي" (الذي يفتك به في اللوحة 8). "الفاء" في (فشفته) هي فاء السببية والنتيجة، تربط حالة قيس بصورته الجسدية.

سيميائيًا: تشقق الشفاه علامة أيقونية مزدوجة؛ فهي تشير إلى:

تعطّل الكلام: العجز عن التعبير والرد على القنابل الشفهية.

استحالة القبلة: العجز عن الوصل، وانقطاع الارتواء (العطش العاطفي). يصبح الجسد "وثيقة إدانة مرئية"؛ فالشفاه تفضح ما يحاول اللسان ستره بالتجاهل.

نفسيًا: الجفاف الدائم («مقيم») يكشف عن فشل آليات التوازن النفسي والبيولوجي. العاشق يدخل في حالة استنزاف داخلي طويل الأمد، حيث تحولت الطاقة النفسية (الشوق) إلى عرض جسدي مرضي (تشقق).

دلاليًا: تتحوّل العاطفة المجردة (الشوق) إلى حرارة فيزيائية و«جمرة» محسوسة. يُضفي الانزياح ملموسية على الألم، فيصبح مرئيًا للآخرين. قيس الذي تجاهل "كلام الناس"، لم يستطع تجاهل "كلام جسده".

الخلاصة: اللوحة ترسّخ أن الألم عند "قيس البغدادي" ليس مجرد حالة شعورية عابرة، بل هو وضع وجودي يعيد تشكيل تضاريس جسده كما تشكلت تضاريس جدران المدينة المتصدعة.

اللوحة التاسعة: التوأمة الصوتية والسمع الانتقائي

النص: الفتى قيسُ البغداديُّ/ كانَ يحبُّ فريدَ الأطرش/ وصوتُهُ/ سبحانَ الله/    كأنّهُ توأمُ الأطرش.. ولم يكْ قيسُ البغداديُّ أطرشاً بالزفَّةِ/ - معاذ اللهّ -/ فأذناهُ حسّاستانِ/ تلتقطانِ/ صوتَ الحبيبة/ ووقْعَ خُطاها/ منْ بدايةِ الزقاقِ

هنا ينتقل النص من "العين" التي ترصد الخارج (في اللوحات السابقة) إلى "الأذن" التي تنتقي ما تسمع. قيس ليس مجرد مستمع، بل هو "توأم" للحزن الطربي.

بنيويًا: يقوم هذا المقطع على توظيف ذكي لمفردة «الأطرش» في أكثر من سياق دلالي.

فريد الأطرش يمثل أيقونة فنية للحزن والشجن. "توأم الأطرش" تشير إلى حالة تماهِ ذاتي؛ فصوت قيس امتداد لحزنه، ما يجعله شريكًا في إنتاج الفن لا مجرد متلقي له.

أما "أطرش بالزفّة" فهي استحضار للمثل الشعبي بغرض نفيه؛ إذ يأتي النفي "لم يك أطرشًا بالزفّة" تأكيدًا على وعي البطل، فهو غير غائب عن ضجيج «القنابل الشفهية»، بل يتعمّد إقصاءها بوعي كامل.

سيميائيًا: يتحوّل السمع في هذا المقطع إلى نوع من «الرادار العاطفي». فبينما يمتلك المجتمع «آذانًا لاقطة» للنميمة (كما في اللوحة السادسة)، يمتلك قيس «أذنين حسّاستين» لالتقاط الجمال. قدرته على سماع «وقع الخطا» منذ «بداية الزقاق» توحي بعلاقة روحية تتجاوز حدود المحسوس؛ كأنه يصغي إلى ما لا يُسمع. أما استعارة «توأم الأطرش» فتكشف سيميائيًا أن قيس البغدادي هو وريث الألم الشرقي الرومانسي، وأن صوته المبحوح ليس إلا رجع صدى لذاك التاريخ الطويل من الشجن.

نفسيًا: يأتي نفي صفة «أطرش بالزفّة» بوصفه فعلًا من أفعال تأكيد الذات ؛ فقيس يرفض أن يُختزل في صورة الغافل عمّا يدور حوله. إنما يختار عزل نفسه إراديًا عن ضجيج «القنابل الشفهية» ليُسخّر حواسه كلها للإصغاء إلى «صوت الحبيبة». هذه الاستراتيجية النفسية تجسّد آلية "التركيز الانتقائي"التي تتيح له النجاة من التلوث السمعي المحيط به.

دلاليًا واستعاريًا: تَرِد كلمة "حسّاستان" في مقابل «اللاقطات» عند العاديات، فينشأ انزياح دلالي يميّز بين نوعين من الالتقاط: فالحساسية هنا تعني الرقة والقدرة على الشعور، بينما يدلّ «الالتقاط» هناك على التجسس والترصّد. وبهذا يعيد النص الاعتبار لحاسة السمع، جاعلًا منها بوابة للحب لا أداة للأذى.

الخلاصة: هذه اللوحة تعيد تعريف "الصمم". المجتمع الذي يسمع كل شيء هو "الأطرش" عن الجمال، بينما قيس الذي يتجاهل المجتمع هو "السميع" الوحيد للحب. الموسيقى وصوت الحبيبة هما الدرع الذي يحمي "أذنيه" من قنابل الكلام.

اللوحة التاسعة: جغرافيا الكفاح وسقوط القيم

النص: "منْ بدايةِ الزقاقِ/ حتى رأس الشارع الطويل/ - شارعِ الكفاحِ -/ منْ أجلِ قلبِه المُتيَّم بالحُسنِ/ والعيونِ السُّودِ/ والعدلِ الضائعِ/ بين الأرجلِ/ والغيلان"

تغادر القصيدة فضاء «الزقاق» الضيّق لتواجه قدرها في «الشارع الطويل». عند هذه العتبة يلتقي الفضاء الرومانسي (العيون السود) بالواقع السياسي والاجتماعي الفاجع (العدل المهدور).

بنيويًا: يؤسس النص لتوازي خطير بين المسار المكاني والمسار القيمي:

المكان: يتّسع الفضاء من الزقاق الحميمي إلى «شارع الكفاح». تسمية الشارع ليست إحداثية جغرافية فقط، بل بنية دلالية؛ فحياة العاشق نفسها مسار كفاح طويل لا يعرف الانتهاء.

الدافع: "قلب متيّم بالحسن والعيون السود" يمثّل البعد الجمالي/الرومانسي في التجربة.

النتيجة: الارتطام بـ «العدل الضائع بين الأرجل والغيلان»، وهو البعد التراجيدي الذي تخلّفه هذه الرحلة. أما النهاية المفتوحة بعلامات الحذف (…)، فتومئ إلى أن الضياع حالة مستمرة لا تُغلق

سيميائيًا: "شارع الكفاح" علامة أيقونية تحيل إلى بغداد وإلى معاناة طبقية واجتماعية متجذّرة.

"العيون السود" رمز كلاسيكي للجمال العربي، يجسد حلم قيس وبراءته المنشودة.

"بين الأرجل" إشارة سيميائية فاجعة إلى الامتهان والسحق والدوس على القيم؛ فالعدل هنا لم يختفِ فقط، بل تعرّض للإهانة.

«الغيلان» استعارة أسطورية لقوى غاشمة ومتوحّشة – سلطةً كانت أو خوفًا أو فسادًا أو تقاليد – تنهش الجمال والعدل في آن واحد.

نفسيًا: المقابلة بين "المتيم بالحسن" و"الغيلان" تعكس الصدمة النفسية التي يعيشها الفرد البغدادي. هو يبحث عن الحب والجمال (العيون السود)، لكنه يجد نفسه في مواجهة وحوش الواقع. الشعور بـ "الضياع" هنا ليس تهاوناً، بل هو قهر؛ لأن العدل "تحت الأرجل"، أي أن الفرد مسحوق تماماً ولا يملك القدرة على الانتصاف لنفسه.

دلاليًا: يقع انزياح حاد في دلالة «العدل»؛ فبعد أن كان من المفترض أن يحلّ في موضع القامات العالية والرؤوس أو في فضاءات المحاكم، يُطرَح هنا «بين الأرجل». هذا السقوط المكاني لقيمة معنوية سامية يكثّف مأساة المدينة برمّتها. وفي ظل أرض يُداس فيها العدل وتُطلَق فيها الغيلان، يغدو الحب (العيون السود) عاجزًا عن الازدهار.

تُحكِم القصيدة قوسها الأخير بمشهد صادم؛ فها هو قيس البغدادي، شبيه فريد الأطرش ذو السمع المرهف، يستقر في نهاية المطاف وحيدًا في "شارع الكفاح" في مواجهة الغيلان. لا تعود القصيدة مجرد مرثية لحب مهدور، بل تتحوّل إلى وثيقة اتهام لمدينة/ واقع تُسحَق فيه أسمى القيم، وفي مقدمتها «العدل» الملقى تحت الأقدام، تاركة العاشق وحلمه غنيمة لوحشية لا ترحم.

خاتمة

تتبدّى قصيدة "من سيرة العاشق البغدادي" لعبد الستار نورعلي بوصفها نصًا يتجاوز البنية العاطفية المباشرة إلى فضاء دلالي أكثر تعقيدًا، حيث تتشابك التجربة الفردية مع طبقات الذاكرة الجمعية لمدينة بغداد. فالعشق في هذا النص لا يُقدَّم كحالة وجدانية معزولة، بل بوصفه حقلًا دلاليًا تتقاطع فيه الذات مع المكان، وتتعرّى عبره تصدّعات الحياة اليومية وأثر التحوّلات التاريخية والاجتماعية في تشكيل الحسّ العاطفي والهوية الوجدانية.

وتعمل القصيدة على تحويل العناصر الحضرية – الزقاق، الجدران المتصدّعة، النظرات الخاطفة، الأصوات المتسرّبة، العلامات البصرية والسمعية – إلى بنية رمزية تؤدي وظيفة مزدوجة؛ فهي من جهة تُجسِّد حضور العاشق وقلقه وحنينه وجفافه الوجودي، ومن جهة أخرى تُقدِّم شهادة شعرية على مدينةٍ تعيش توتّراتها بين الماضي والراهن، بين الرغبة في الحياة وآليات القمع والمراقبة والعنف الرمزي.

بهذا المعنى، لا يعود المكان إطارًا خارجيًا محايدًا للحدث العاطفي، بل يغدو فاعلًا نصيًا رئيسًا يوجّه الإيقاع الشعوري، ويشارك في بناء مسار السيرة المجتزأة للعاشق البغدادي. وتُظهر القراءة – عبر تتبّع العتبة النصية واللوحات المشهدية والانزياحات الدلالية – كيف ينجح النص في جعل قصة حب فردية مدخلًا لقراءة أوسع لتحوّلات المدينة العراقية، ولأشكال الاغتراب والمحاصرة التي يعانيها الفرد في فضاء مديني مأزوم.

***

سهيل الزهاوي

من بواقع (ابن فارس) المترتِّبة على جهالاته، التي ناقشناها في المساق السابق، ما أورده في كتابه «الصَّاحبي»، في «باب القول في اللُّغة التي بها نزل القرآن، وأنه ليس في كتاب الله جلَّ ثناؤه شيءٌ بغير لُغة العَرَب». حيث أبدأَ وأعاد فيه بما ينقض قوله السالف بتوقيفيَّة اللُّغة. إذ لو كانت اللُّغة توقيفيَّة، إذن كيف يطرأ على بال أحد التساؤل عمَّا إذا كان في لغة قومٍ كلامٌ بغير لغتهم؟! ما دامت اللُّغة جامدةً منذ الأزل، فلا زيادة فيها لمستزيد، لا شيء يدخل فيها من غيرها ولا شيء يخرج! وهو اضطرابٌ لا يقلُّ مناقضة للتوقيفيَّة من اعتراف ابن فارس بأنَّ لُغته ولُغة معاصريه قد تغيَّرت عن ذي قبل، ولم تعُد محلَّ احتجاج توقيفي! والإشكال، هنا كالإشكال هناك، من تأويل النصِّ القرآني، وتقويله ما لم يقل. فحين ترد الآية «بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ»، أو «إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا»، فإنَّ هؤلاء الأئمة من علمائنا النحارير يفهمون أنَّ في النص دليلًا قطعيًّا على أنه ما دار في حنك عَرَبي لفظٌ قبل الإسلام إلَّا وهو من لُغة العَرَب «التوقيفيَّة». على الرغم من أن توقيفيَّتها إنَّما استمرَّت لديهم نحو مئة سنة فقط، حتى نزل بها «القرآن»، ثم رُفِع التوقيف نهائيًّا، وإلى غير رجعة؛ فأصبحت كلُغات البَشَر: اصطلاحيَّةً خاضعةً للمُواضعة! والحقُّ أنَّ «القرآن» بلسانٍ عَرَبي مبين، لكن النصَّ لم يقل بلسان عدنان ولا قحطان، ولا أنَّه لم يَدخُل فيه معرَّب قط. ولو قال ذلك لكان فيه دليل قطعيٌّ الدلالة على ما أجهد فيه ابن فارس وأضرابه أنفسهم للاحتجاج عليه، من أنَّه ليس في لُغة «القرآن» كلمة من غير لُغة البيئة العَرَبيَّة. ذلك أنَّ العَرَب لم يكونوا يقطنون في كوكبٍ مستقلٍّ غير الأرض؛ فكان طبيعيًّا لذلك أن يقتبسوا مفردات من لغاتٍ أخرى، كما يقتبس غيرهم من لغتهم. وهو ما لم يعُد اليوم مجال جدال، لكنَّه يكشف لك مدَى بدائيَّة تلك العقول لأئمة علمائنا النحارير، حتى إنَّك ربما رأيت أحدهم ينقض ما سطره في سطرٍ من كتابه في السطر الذي يليه؛ من حيث إنَّ الاتِّباعيَّة عمَى بصيرةٍ وبصر، لا شفاء منه غالبًا.

ولقد خاض صاحبنا في هذا الباب مخاضًا لا قيمة له، جارَى في بعضه مَن أوشك أن يكفِّر من قال بأنَّ في لُغة «القرآن» مفردات غير عَرَبيَّة؛ لأنَّه لا يرى متَّسعًا لمثل هذا القول- مع أنَّه يرى في تأويلات النصوص إذ وافقت الرأي المتشدِّد كلَّ الاتساع- بل يرى القول به رفضًا لمنطوق الآيات! مورِدًا هنا قولًا لـ(أبي عُبيدة): «إنَّما نزل القرآن بلسانٍ عَرَبيٍّ مبين، فمن زعمَ أنَّ فيه غير العَرَبيَّة، فقد أعظم القول!»(1)

لكن مَن قال لك، يا (أبا عُبيدة): إنَّ مَن قال: إنَّ في «القرآن» من غير العَرَبيَّة، قد عارض القول بأنه نزل بلسانٍ عربيٍّ مبين؟!

هذا لا يتعارض مع ذاك.

وهل الإبانة مقصورة على اللُّغة العَرَبيَّة؟!

وكذا فإنَّ مفهوم «اللِّسان العَرَبي المبين»، لا يعني بالضرورة أنَّه لم يدخل في ذلك اللِّسان من اللُّغات الأخرى شيء. وإلَّا كان عليك، يا (أبا عُبيدة)، أن تأتينا بشواهد من الشِّعر الجاهلي، أو من النثر الجاهلي، على تلك الكلمات، التي قيل إنَّها بغير العَرَبيَّة، مثل (جهنم)، و(الفردوس)، و(إستبرق). على أنَّ مجيء تلك الكلمات في العصر الجاهلي، لو جاءت، ليس في ذاته بدليلٍ قاطعٍ على أنَّها ليست بكلماتٍ معرَّبة، دخلت على اللِّسان العَرَبي من غيره من الألسنة. لأنَّ العَرَب كانوا بَشَرًا، ولم يكونوا آلهة. وبما أنهم بَشَر، فقد كانوا يشتغلون بالتجارة. ومن يشتغل بالتجارة يأخذ عن غيره، كما يفعل سائر البَشَر. ثمَّ أنَّى للعَرَبيِّ أن يعرف اسمَ ما ليس من بيئته، من منتَجٍ صناعي، أو زراعي، أو من حيوان؟ نعم، إذا كان المُسمَّى من منتجات البيئة أو موجوداتها، فإنَّ اسمه، تبعًا لذلك، سيكون بلُغة أبناء تلك البيئة. أمَّا إذا جاء من خارجها، فسيجيء باسمه الذي سمَّاه به أهلُه. ومن الخبَل الزعم أنَّ أبناء جزيرةٍ معيَّنة يُسمُّون بلُغتهم الأشياء التي لا يعرفونها، وليست من بيئتهم في شيء، أو ليست من ثقافتهم في شيء، أو ليست من عصرهم في شيء! فـ(الإستبرق)، مثلًا، وهو الغليظ من الدِّيباج، ليس من صناعة العَرَب، ولا من منتجات العَرَب، بل هو صناعة فارسيَّة؛ فجاء باسمه الفارسي (إسْتَبْرَه). فإذا عرَّبه العَرَبيُّ واستعمله، أفيقال: إنَّ هذا العَرَبي لم يعُد ينطق بلسانٍ عربيٍّ مبين؟!

لقد ظهر الإسلام وفي (مَكَّة) وحدها أناسٌ من مختلف شعوب العالم تقريبًا. الفارسي، والحبشي، والرومي، وغيرهم. وهذا في ذاته آيةٌ على المشترَك الحضاريِّ الذي كان بين العَرَب وغير العَرَب. فضلًا عن كون أهل مَكَّة أنفسهم أهل تجارة. وقد كانوا يتاجرون في كلِّ شيء، بما في ذلك تجارة البَشَر! فكان طبيعيًّا، والحالات كذلك، أن توجد الكلمات المستوردة، ولا غضاضة في هذا، ولا غرابة، ولا مطعَن في اللِّسان العَرَبيِّ المبين. ذاك علاوة على تلك المفردات التي عُرِفت من قَبل في كتُب أهل الكِتاب، من أصحاب الدِّيانات السالفة. أفكان العَرَب قبل الإسلام يعرفون ذلك كلَّه أيضًا؟ ويتداولونه في لُغتهم اليوميَّة أو غير لُغتهم اليوميَّة؟! إنَّ من يسوِّغ له عقله القول: إنَّ العَرَب قبل الإسلام كانوا يعرفون علوم النحو والصرف والعَروض- كما نجد لدى (ابن فارس)- لا يُستبعَد أن يقول بما هو أدنى من ذلك! أمَّا غيره من أسوياء العقول، فيُدرِك قطعًا أنَّ تلك الكلمات ما دارت في أذهان العَرَب قبل الإسلام قط ولا على ألسنتهم. لهذا كان طبيعيًّا أن تكون كلمات مثل (القسطاس)، و(الفردوس)، و(المشكاة) ممَّا لا قِبَل للعَرَب قبل الإسلام بمعرفته، ولا باستعماله؛ فهو من خارج معجمهم التداولي، إلَّا في ما نَدَرَ؛ إذ لا قسطاس، ولا فردوس، ولا مشكاة، بل شياه، وإبل، ورمال، ونخيل، ونحوها من بنات بيئتهم النوعيَّة الخاصَّة. بل أكثر من ذلك، لقد غيَّر الإسلام مفاهيم بعض الكلمات العَرَبيَّة نفسها عمَّا كانت عليه قبله، مثل (صلاة) و(زكاة)، و(صوم)، و(مؤمن)، و(مسلم)، و(كافر)، و(منافق)، و(فاسق)، وغيرها من المفردات- التي ذكرها ابن فارس(2) نفسه، في «باب الأسباب الإسلاميَّة»- لتُكسِبها الثقافة الإسلاميَّة من المعاني ما لم يكن لها لدَى العَرَب من قبل، إنْ بصورةٍ كُليَّة أو جُزئيَّة.

وإذا كان من المجازفة العلميَّة الذهاب إلى أنَّ جميع الكلمات الموصوفة بأنها معرَّبة لم يعرفها العَرَب، وإنَّما استوردوها، فإن من المجازفة العلميَّة كذلك القول بأن تلك الكلمات قد عرفها العَرَب قطعًا، ولم يستوردوها من لُغات غيرهم. من حيث إنَّ التجربة الإنسانيَّة لها في الأصل تاريخ مشترك بين الشُّعوب المختلفة؛ فكلهم، قبل كلِّ شيءٍ وبعده، لآدم. بَيْدَ أنَّ القرائن الحضاريَّة قد تحمل على ترجيح انتماء هذه المفردة أو تلك إلى لُغةٍ من اللُّغات أكثر من غيرها.

ولقد أثبتت التنقيبات الأثريَّة في الجزيرة العَرَبيَّة على وجود كتابات بلغاتٍ شَتَّى، وبخطوطٍ شتَّى، من عَرَبيَّة وغير عَرَبيَّة. وهذا يدلُّ، لا على علاقات لغوية فحسب، بل أيضًا على وجود طوائف من شعوب أخرى كانت تعيش في الجزيرة العَرَبيَّة، تتحدَّث لغاتها وتكتب بها. على حين ظلَّ المخيال العتيق يتصوَّر أنَّ العَرَب كانوا أُمَّةً أُميَّةً منغلقة، وأنَّ لُغتهم كانت لُغةً شفويَّةً لا أكثر. أمَّا الآثار المكتشفة حديثًا، فترسم لنا خريطةً مدهشةً لتلاقح اللُّغات والثقافات في الجزيرة قبل الإسلام. وحسبك هاهنا بمكتشفات (قرية الفاو) شاهدًا نموذجيًّا على ذلك التنوُّع الثقافي. هذا على الرغم من تركيز التنقيبات الأثريَّة حتى الآن- ولأسبابٍ غير عِلميَّة- على شَمال السُّعوديَّة وشرقها، وإهمال غربها وجنوبها ووسطها، إهمالًا لافتًا وغير مفهوم، باستثناء (قرية الفاو)، التي تُعَد وسطًا بين الجنوب والوسط. وهي على قيمتها لا تعدو نطاقًا ضيِّقًا جِدًّا- (قرية)- ولا تمثِّل سِوَى شاهدٍ على ما تخبِّئه هذه البلاد الشاعة من القُرى والمدن والآثار التي ما زالت مطمورة، إنْ بالطبيعة أو بفعل الإنسان.

المفارقة أنَّ (أبا عُبيدة)، الذي استشهد به (ابن فارس) قبل قليل على إنكار أن يكون في لُغة «القرآن» مفردات غير عَرَبيَّة الأصول، ما لبث أنْ رجع عن قوله ذاك. فقال: «والصواب من ذلك عندي، والله أعلم، مذهبٌ فيه تصديق القولين جميعًا، وذلك أنَّ هذه الحروف أصولها أعجميَّة، كما قال الفقهاء، إلَّا أنها سقطت إلى العَرَب، فأعربتها بألسنتها، وحوَّلتها عن ألفاظ العَجَم إلى ألفاظها، فصارت عَرَبيَّة. ثمَّ نزل «القرآن»، وقد اختلطت هذه الحروف بكلام العَرَب. فمَن قال إنها عَرَبيَّة فهو صادق، ومن قال عجميَّة فهو صادق.»(3)

وهذا عين العقل.

وهكذا بدا الرجُل كمن كان في سَكرةٍ فأفاق! ثمَّ أردفَ، وقد أدرك ورطته المنطقيَّة: «وإنَّما فسَّرنا هذا، لئلَّا يُقدِم أحدٌ على الفقهاء فينسبهم إلى الجهل، ويتوهَّم عليهم أنهم أقدموا على كتاب الله جَلَّ ثناؤه بغير ما أراده الله جلَّ وعزَّ، وهم كانوا أعلم بالتأويل، وأشدَّ تعظيمًا للقرآن.»(4)

إذن، كيف قال (أبو عبيدة): إنَّ من قال إنَّ في «القرآن» ما ليس من لُغة العَرَب، فقد أعظم وأكبر؟!

سنرى إجابة هذا في المقال المقبل، حيث يتحوَّل بنا (ابن فارس)، من الحديث عن «القرآن» إلى الحديث عن العنصر العَرَبي: وكأنَّ العَرَب لا يُعجزهم الإتيان بشيءٍ مطلقًا، وإنْ كان ممَّا يجهلون!

***

أ. د. عبد الله بن أحمد الفَيفي

.....................

(1) يُنظَر: ابن فارس، (د.ت)، الصاحبي، تحقيق: السيد أحمد صقر، (القاهرة: عيسى البابي الحلبي وشركاه)، 43. ويُقارن: أبو عبيدة، (1988)، مجاز القرآن، باعتناء: محمَّد فؤاد سزكين، (القاهرة: مكتبة الخانجي)، 1: 17.

(2) يُنظَر: الصاحبي، 78- 86.

(3) (4) م.ن، 45- 46.

محمد المهدي المجذوب وصناعة المشهد الذي يسبق اللغة

ليس المجذوب شاعرًا يصف الأشياء كما هي، بل عابرٌ بين الرؤى يخلق ما يجب أن يكون.. ولذلك لم يكن غريبًا أن يراه بشرى الفاضل “رسّام الشعر”، فالمجذوب لا يكتب القصيدة كخطاب، بل يرسمها كمشهدٍ يُرى قبل أن يُقرأ، ويُعيد ترتيب العالم بحيث تصبح “القصيدة” أقرب إلى لقطة سينمائية تتشكّل برؤيةٍ تُضاء من الباطن، وكأنها تخرج من سرٍّ يتنفّس داخلك.. ذلك لأن اللغة عنده ليست وسيلةً للتسمية، بل مادةٌ حيّة تُطرق كما يُطرق الحديد؛ تُعاد صياغتها حتى تتوهّج. وكأن المجذوب، في لحظاته الشعرية، يُجرّب أن يرى بالباطن أكثر مما يرى بالبصر، فيكتب بما يسمّيه بعض المتصوّفة “نور الإدراك”.. ذلك الشعاع الذي يسبق الرؤية ويشكّلها.

والشكلانية في شعره ليست منهجًا يُطبّقه، بل أثرٌ يظهر حين تتحوّل مفرداته إلى كائناتٍ تستقل عن الواقع.. فالصورة عنده ليست وصفًا، بل "تجريب جمالي" يُعيد الكلمات إلى أصلها الحسي، حتى تكاد تشمل وجودًا كاملًا. وما قاله بريخت ينطبق عليه: “الفن ليس مرآةً نواجه بها العالم، بل مطرقة نشكّله بها”.. وهذا ما يفعله المجذوب تمامًا؛ لا ينقل المشهد، بل يعيد تشكيله كي يرى العالم شكله الحقيقي، قبل أن تفسده العادة.

في مقطع مثل:

“وحفرة بدخان الطلح فاغمة

تُندي الروادف تلوينًا وتعطيرًا”

تبدو اللغة وكأنها تتخلّى عن رصانتها لتتحوّل إلى بخارٍ بصري يتصاعد من طقسٍ سوداني قديم: طقس “الدُخان”. هناك، في ذلك المقام المنخفض، تجلس الروح على فتحتها الخاصة، ويتسلّل الصعود من الأرض إلى الجسد كأن الحرارة تُعيد صهره ببطء. يتسرّب "دخان الطلح" عبر الجلد فيصبغه بالخُمرة ويُعطّره بعمقٍ حسيّ يعرفه السودانيون جيّدًا.. هنا لا تُقدَّم المرأة كجسدٍ يُرى، بل كطاقة حسّية تتفاعل مع المكان.. كأن الدخان ليس رائحةً بل ذاكرةٌ تُستعاد بالنار.

والمجذوب في هذه اللقطة لا يقف في موضع الراوي، بل في موضع المصوّر الذي يترك الكاميرا تتقدّم وحدها نحو تفاصيل الجسد، نحو يدٍ “مدّت بنانًا به الحناء يانعة”. وكأن المشهد يُكتب خارج المقاييس الأخلاقية والبلاغية في آن. فليس الأمر استعراضًا للجسد، بل كشفًا لطريقةٍ قديمة في استعادة الحيوية.. طريقةٍ تجمع بين الطقس والحرارة والعطر، وبين ما هو جمالي وما هو غرائزي في تركيب الإنسان. إنّه يكتب الجسد بوصفه جزءًا من اقتصاد الحسّ في الثقافة السودانية: الطلح، الشملة، الدخان، الحناء.. كلها ليست زينة، بل أدواتٌ تُعيد الإنسان إلى جلده، وتقدّم الأنثى ككائنٍ يتشكّل بالرائحة قبل أن يتشكّل بالكلمات.

ذلك أن الجسد عنده ليس إثارة، بل “مشهديّة” تتجاوز حدود المسمّى لتصبح فضاءً داخليًا.. كأن الجسد هنا هو اللوحة، واللون هو الفكرة، والظلال هي معنى لا يمكن قولُه بل يمكن رؤيتُه.

وما ينجزه المجذوب هنا ليس توصيفًا لجسدٍ يُرى، بل تثبيتًا لفضاءٍ تتناسل فيه الحواس:

العين تُدرك تصاعد الدخان،

والأنف يستعيد رائحة الطلح،

واللمس يرى قبل أن يلمس حين تمرّ الشملة فوق الساقين والدخان يتسرّب من بين مساماتها،

والأذن تُصغي إلى الجسد وهو يبوح بحركته داخل دخانٍ “يرقّ كالدمع في الخد تلماحًا وتغويرًا”..

هكذا تتحوّل الحاسة إلى صورة، والصورة إلى نبض، والنبض إلى معنى..

وهذه المشهدية التي تظهر في “الدخان” لا تقف عند حدود الطقس المنزلي؛ إنها تمتدّ إلى الطقس الشعبي الواسع في “ليلة المولد”، حيث تتكرر البنية الشكلانية نفسها لكن على مستوى جماعي. ففي مقطع من القصيدة:

“وهنا حلقة شيخ يرجحن..

يضرب النوبة ضربًا فتئن وترن

ثم ترفضّ هديرًا أو تجن

وحواليها طبول صارخات في الغبار..

حولها الحلقة ماجت في مدار”

يتحوّل الإيقاع إلى دائرة بصرية، لا إلى وزنٍ شعري. الحركة هنا ليست وصفًا، بل تكوينٌ تشكيلي: حلقة تتماوج.. طبول تتصاعد.. غبار يتكثّف.. وكأن المجذوب يُخرج مشهدًا بكاميرا من زاوية مرتفعة ترى الجموع كتكوينٍ واحد، كما رأى جسد المرأة كتكوينٍ واحد داخل الدخان. إنها "الشكلانية الشعبية"، حيث يتحوّل الجسد من فردٍ إلى جماعة، وتصبح الحركة وحدة بناء تُنتج معناها من داخلها.

وفي بيت آخر من القصيدة نفسها، يتحوّل الداخل إلى رؤية حين تُغلق عين الشيخ على كونٍ كامل:

“عيون الشيخ أُغمضن على كونٍ به حلمٌ كبير”

إنها الحركة نفسها: البصر يتراجع، والبصيرة تتقدّم.. كما يلمع الدخان كالدمع على الخد، يلمع الكون في الداخل حين تُغلق العين. كلاهما مشهد يسبق اللغة، وكلاهما رؤية تتكوّن من الداخل إلى الخارج، لا العكس.

وتظهر هذه الاقتصاديات الحسيّة - ولكن بشكلٍ راقص - في لقطة “الطار”:

“وفتى في حلبة الطار تثنّى وتأنّى

وبيمناه عصاه تتحنّى

لعبًا حرّكه المدّاح غنّى

رجع الشوق وحنّا..”

هنا يصبح الجسد خطًا تشكيليًا، والإيقاع حركةً مرسومة، والغناء محرّكًا بصريًا. هذا مشهد “مرسوم”، لا “مكتوب”. عصا الفتى ليست أداة؛ إنها خطٌّ ينحني ويتردّد، حركة تتشكّل في الهواء مثل فرشاةٍ على قماشة، تمامًا كما تتشكّل ألوان الدخان على الجسد في قصيدة دخان الطلح.

وهذا ما يجعل الصورة عنده تُرى بالبصيرة لا بالبصر؛ فهي لا تأتي من مراقبة خارجية، بل من وعي بالحركة يتجاوز الجسد إلى ما حوله: من "حفرة الدُخان" التي تحتضن النار، إلى الهواء الذي يتكثّف، إلى اللون الذي يتبدّل، وإلى العلاقة المعقدة بين الجسد والعادة والطقس.

وهنا يستدعي المجذوب خبرته في أقاليم السودان التي جابها أثناء عمله: من الجنوب حيث رائحة الصندل.. إلى الشرق حيث البنّ والتُمباك..إلى الشمال حيث الطلح والدخان.. وكل ذلك يدخل قماشة الصورة دون أن يُذكر اسمه صراحة.

ولم يكن المجذوب ليغفل الجانب الطبقي للسودانوية الروحية، لذلك يضرب صورةً أخرى في المولد تُكثّف الفرح والحزن في آن:

“لهفتا كم عصف البؤس بأطفالٍ صغار

وردّوا المولد بالشوق وعادوا بالغبار”

هنا تظهر السودانوية في جوهرها: الفرح فوق السطح، والبؤس في العمق.. الحركة دائرة، لكن المصائر ليست كذلك. وهذه التفاصيل الصغيرة، كما قال لوكاتش، هي التي تكشف البنية الكاملة للعالم.

ولذلك تبدو القصيدة كأنها تُبنى من طبقات، كما يفعل في “نار المجاذيب” حيث يمتزج التصوّف بالجسد.. وفي “الشرافة والهجرة” حيث يمتزج المكان بالذاكرة.. وفي قصائده عن البسطاء حيث يمتزج التعب بالأمل. وبهذه الطريقة يتّضح أن المشهد يسبق اللغة، وأن الصورة ليست زينة بل جوهرٌ معرفي.

ومن الاحتفال الجماعي ينتقل المجذوب إلىالعراء الاجتماعي، حيث يصبح الجسد سؤالًا طبقيًا قبل أن يكون صورة داخل أحد نصوصه.. ويتجلّى ذلك بوضوح في قصائده عن البسطاء والمهمّشين، حيث يذهب المجذوب إلى أقصى تجريدٍ واقعيّ حين يكتب الجسد بوصفه سؤالًا أخلاقيًا معلّقًا على حافة الفراغ. ويظهر ذلك بوضوح في واحدٍ من أكثر مشاهده قسوةً وجمالًا معًا، في قصيدته “شحّاذ في الخرطوم”، حين يقول:

“عيناهُ نافورتا دمٍ

رشاشُها على ثيابي..

حاذر من المجذوم..

وصحّة الخرطوم”

هذا المشهد لا يُكتب بالرحمة، بل يُكتب بالفضيحة.. فالعينان هنا عينا فقيرٍ تتحوّلان إلى نبضيْن يتدفّق منهما نزيف المدينة؛ صورةٌ تتجاوز الفقر نحو ما هو أعمق: تفسّخ المدن، وخراب الصحة العامة، وتحوّل الإنسان إلى جرحٍ مفتوح في الشارع.

إنها لقطةٌ سينمائية تُرى من زاويةٍ منخفضة، كأن الكاميرا تحتكّ تمامًا بجسد الخراب.. نزيفٌ يتقافز، وقميصٌ يتلوّن بلا استئذان، والجملة التحذيرية “حاذر من المجذوم” تُطلق كسوطٍ فوق ظهر المدينة.

وهنا تبلغ السودانوية في شعر المجذوب ذروة انكشافها:

المدينة لا تحمي أبناءها، بل تُنتج مرضهم، وتخافهم، وتُبعدهم، ثم تُسمّي ذلك “صحة الخرطوم”.. مفارقةٌ تكشف طبقةً من العنف الرمزي لا تقلّ فتكًا عن الفقر نفسه.

وبهذه اللقطة يتجلّى الحدس الطبقي الذي تحدّثنا عنه:

فالمجذوب لا يصف المهمّش، بل يمسح الكاميرا بدمه؛ يجعل الصورة نفسها مُهدَّدة بالتلوّث.

ولذلك يصبح الجسد هنا علامةً سياسية تتجاوز الشعر، وتضع القارئ في مواجهة الخرطوم وهي تُدير وجهها عن أبنائها.

وهذا الجرح الذي يفتحه المجذوب في وجه الخرطوم لا ينفصل عن طريقته في رؤية الجسد كلحظةٍ حسّيّة تُضيء الداخل.. فالمجذوب، في نصوصه، لا يكتفي بالوصف، بل يُعيد تشكيل الوجود عبر الحسّ. “فالدخان” لا يغطّي الجسد، بل يكشفه بطريقة أخرى: يجعل ملمسه جمالًا.. ورائحته سردًا.. ولونه علامةً داخلية لا شكلاً خارجيًا. ولذلك إذا رجعنا إلى "دخان الطلح"

نجده يقول:

يرقّ تحت دخان الطلح ساورهُ

كالدمع في الخد تلماحًا وتغويرًا

فهو لا يشبّه الدخان بالدمع من حيث الشكل، بل من حيث الأثر.. ذلك اللمع الحزين الذي يشبه الاعتراف: اعتراف الجسد بحاجاته، وأنّه يريد أن يخرج من صمته باللون والحرارة والرائحة.

هذه المشاهد مفاتيح للدخول إلى البنية الداخلية للعالم. ولهذا يبدو المجذوب شاعرًا يكتب بحدسٍ طبقيّ لا واعٍ.. حدسٍ يرى الهامش ويضعه في قلب المشهد. فالجسد في شعره ليس جسدًا منفصلًا عن العالم، بل جزءًا من سردية أكبر تُذكّر بما قاله لوكاتش: الفن العظيم هو الذي يجعل التفاصيل الصغيرة تضيء البنية الكاملة للعالم.. وفي قصائد المجذوب تفاصيل صغيرة لكنها تكشف بنية كاملة من الرغبة والذاكرة والطبقات الاجتماعية والأمكنة الريفية التي تهتز فيها الحسّيات أكثر مما تهتزّ السياسة.

وهكذا يصبح شعر المجذوب لقطةً سينمائية تُغلق عينها على الضوء كي تراه، وتفتح يدها على العطر كي تفهمه، وتتقدّم في الهامش لتقول ما لم يُقل.. تلك هي الكتابة التي تُشبه الحدس، الكتابة التي تخترع شكلها، وتُعيد للأشياء حقّها في أن تُرى بطريقة لا يملكها إلا الشعر.. الشعر الذي يرى بالبصيرة، وهذا ما يجعل المجذوب ليس مجرّد شاعر، بل صانعًا لشكلٍ آخر من الوجود.. وجودٍ يسبق اللغة ويتفوّق عليها.

***

إبراهيم برسي

 

الصيغة الفنية والتعبيرية الدالة، ترسم أبعاد متشعبة من اللوحة العراقية من عهد البعث الحزب والثورة، في أدق التفاصيل اليومية، من تلك المرحلة المظلمة والسيئة، في نهج الارهاب والقمع ومطاردة المواطنين الذين لم ينتموا الى حزب البعث، بل هم في الضفة المعارضة السياسية، سواء كانت اسلامية وغير اسلامية، فكلهم تحت مجهر المراقبة والترصد والاقتناص من جلاوزة الحزب في تقاريرهم الكيدية، لزجهم في الاعتقال والسجن، وربما يتطور الأمر إلى اكثر فداحة الى الموت بإحدى الطريقتين الوحشيتين، الرمي في احواض التيزاب، أو الى ماكنة الثرم، هذا ما دأب عليه البعث في الحكم في نهج البطش والتنكيل بالارهاب السياسي للمعارضين، وكذلك للناس الابرياء، في مبدأ ان لم تكن معي فأنت ضدي لا تستحق الحياة، نظام غير إنساني، بل الصفة الوحشية قليلة بحقه، مكونات الحدث السردي، تدور حول مجموعة من الشباب إلاسلاميين من حزب الدعوة، اتباع الشهيد محمد باقر الصدر، كانت الحياة آنذاك قاسية في المعاناة لا تثمر الجمال والحب، بل تزرع الموت والحرب، من أجل تصريف أزماته الداخلية، اطلاق العنان الى جلاوزة الحزب في المراقبة المشددة والصارمة، مما خلق شرخاً كبيراً بين نظام الحكم وعموم الشعب، لذلك انتهج سياسة شوفينية صرفة مع شريحة عراقية اصيلة، عراقية الاصل والنسب عن اب وجد، وهم الكورد الفيلية،، في نهب ممتلكاتهم ووقمع انسايتهم وتسفيرهم الى الحدود الايرانية، بحجة واهية بأنهم من التبعية الايرانية، هكذا وبكل بساطة جردهم من حق المواطنة، وسلب حقوقهم الانسانية في رميهم عند الحدود بطريقة بشعة، هذا ما حصل فعلاً ايام البعث، وليس من نسيج الخيال، قصص مأساوية واقعية تفتت الحجر والحديد لعمق المآسي والاهوال التي حصلت، اضافة الى هذه الطامة الكبرى في تشتيت ابناء الوطن، قام بشن حرب ضروس عبثية ضد ايران، هذه الوقائع الحقيقية من النظام الوحشي حدثت فعلاً، صيغت الحبكة الفنية في اسلوب واقعي رصيينن، لتثبيت هذه الدلائل لتي تجرم الحزب والثورة بجرائم كبرى ضد الانسانية، وباللغة السردية المتمكنة في تقنياتها في التناول والطرح والاقناع، وهي تتابع سيرة الشخصية المحورية الساردة (حسين) شاب يدرس صباحاً في الجامعة، ويشتغل مساءاً قاطع تذاكر في المستشفى، وما وقعت علية من اهوال في حياته كادت ان تؤدي به الى المجهول، أو في زنازين السجون من جلاوزة البعث الحزبين في تقاريرهم الكيدية، تلك الغيوم الملبدة بسواد البعث المظلمة، كان الموطن يرزح تحت رحمتها بالخوف والرعب اليومي المتواصل، اي وضع النظام في اسلوبه الهمجي الانسان، في دائرة ضيقة مسدودة الابواب، وعلى المواطن ان يختار الموت في ارساله الى محرقة الحرب، أو الموت في الداخل بين العسف والظلم، فلا مكان للحياة والاحلام والامنيات والحب، صياغة الاحداث في السرد، اعتمدت على تصعيد الاحداث في ديناميكية متصاعدة الى قمة المعاناة، احداث متلاحقة لا تترك القارى ان يتنفس الصعداء، في نيرانها المتصاعدة، والشيء المبدع والمتمكن، لم يغوص الكاتب الروائي في التنظيرات الفكرية والفلسفية، وانما يترك القارئ ان يكتشفها في ابعادها، ويستنتج الحقيقية الواقعية منها، والمتن الروائي استغل تناص الاسطورة الدينية في الحزن العراقي المقيم منذ ولادة الانسان العراقي، في جريمة قابيل ودماء هابيل، حين ولد الحزن والفواجع والاهوال منذ ذلك الحين، كأنها اصبحت حليب العراقي في الرضاعة، حيث استهل الاهداء بما يلي: الى حلمي الوردي / ذلك الحلم الذي اجهز عليه معتوه / شهر في وجهي سيف الفراق / الى ليالي الفقد الاليمة / اليها... اهدي كلماتي.

- لماذا سياسة التهجير الانتقامية ضد الكورد الفيلية؟؟

حقيقة بوادر هذا العداء يرجع إلى اسباب تاريخية من مراحل الصراع السياسي وتداعياته، فبعد انقلاب البعث عام 1963،، وقفت المناطق بغداد سكنة الكورد الفيلية، وخاصة شارع الكفاح، في مقاومة الانقلابيين في المجابهة المسلحة، فظلت هذه المناطق عصية وخارج سيطرة الانقلابين لمدة اسبوعين، بروح التحدي والمقاومة من الغرائز الطبيعية لهذه الشريحة العراقية الاصيلة نسباً وانتماءاً الى تربة الوطن العراق، تاريخهم مكلل بكسر رؤوس الطغاة على مختلف العصور، فزرع البعث في نهجه وعقليته روح العداء والانتقام منهم، وعند مجيئه ثانية الى الحكم، نفذ وعده الانتقامي من هذه الشريحة العراقية الاصيلة الكورد الفيليين، في تهجرهم وتسفيرهم الى الحدود الايرانية بحجة التبعية الايرانية، بعدما سلب اموالهم وممتلكاتهم ونزعهم من أرض الوطن قسوة واجحافاً، في معاملة وحشية، تفتقد الى ابسط الحقوق الانسانية، لتغتال حياتهم و احلامهم وامانيهم تحت خيمة الوطن. أن يتجرعوا كأس الحنظل بالأهوال والمصائب.

- سيرة الحدث السردي:

استيقظ (حسين) السارد الحدث السردي، او ما يطلق عليه ضمير المتكلم، أو الصوت الواحد (مونو فونيه) مرعوباً في الصباح الباكر من حلم مرعوباً أفزعه، وحينما ذهب الى شيخ الجامع، قال له: بأن الأحلام في الفجر تعتبر رؤيا ترسم الخطوط العامة لحياتك المستقبلية، وفي هذه الرؤيا كانت هناك تذاكر سفر ملونة، فهو اختار تذكرة السفر الحمراء، بلا عودة أو رجعة. كان يدرس في الجامعة وفي المساء يعمل في المستشفى قاطع تذاكر، لكي يساعد أهله في الحياة المعيشية، يتعرض على الدوام لمضايقات جلاوزة البعث، في الإيقاع به في تقارير كيدية، وكان تحت مجهر المراقبة الامنية، لانه لم ينتمي الى حزب البعث، ومتهماً بتوجهه الإسلامي، ويلتقي مع اصدقاء متهمين الى حزب الدعوة والى المرجع الاسلامي محمد باقر الصدر، احب (زينب) شقيقة صديقه (عباس) وتطورت علاقة الحب الصادقة بين الجانبين الى عقد الزوج، كأن السعادة فتحت ابوابها بهذا الزواج الميمون، لكن لم يعرف العواقب التالية، وفي احدى الايام رغبت زوجته (زينب) لزيارة اهلها واوصلها وذهب الى عمله، وحين رجع في المساء، كان له القدر بالمرصاد، فعرف أن زوجته هجرت مع عائلتها إلى الحدود بحجة التبعية الايرانية، لم يتحمل الصدمة شلت كيانه وادخلته في دهاليز الحزن والوجع (للحظات اخذت أدور في البيت كالثور الهائج، وانا افكر في كل ماجرى وما يجري،على الفور أوقدت الشموع في جميع أركان البيت اعلاناً للحداد)، وبعد اسبوع اصابته فادحة اخرى بوفاة أمه، وبعد التخرج من الجامعة جند الى محرقة الحرب الى جبهات القتال، كأن الصدمات تأتي تباعاً بدون توقف (لا غرابة تضاهي غربة رجل ابتعد عن القافلة المسافر معها، في وسط الصحراء، وظل به السبل كي يعود الى قافلته)، كانت اهوال خنادق القتال مرعبة ومخيفة، لم تتوقف الصواريخ التي تنهال على الخنادق، وتحولها الى ملاجئ محطمة، تنبعث منها بروائح غريبة بالاجساد البشرية المشوية بنار الصواريخ المتساقطة عليها، اين المفر والخلاص؟ ترك الخنادق يتعرض للنار من القطعات الخلفية بالإعدام مع تهمة الخيانة والجبن، يعني الموت أمامكم وخلفكم، وما انتم إلا وقود وحطب لادامة طاحونة الحرب، وفي هجوم صاعق وقع في الأسر، اعتبر هذا الاسر يمكن أن يقربه الى زوجته في الوصول إليها، مهما كانت المخاطر والمجازفات، فكان يتحين الفرص للهروب من معسكر الأسر، وعدة مرات تظاهر بالمرض ويرسل الى المستشفى، ويرجعونه ثانية الى معسكر الأسر، وفكر بطريقة أكثر خطورة، هو حقن جلده بالنفط الابيض، وبالفعل جازف ونقلته سيارة الإسعاف الى المستشفى، وهناك ابتسم له الحظ، صادف زيارة رجل دين لبناني يتفقد المرضى في المستشفى، واطلع على حالته المأساوية، فاصر رجل الدين أن يطلق سراحه من الأسر والمستشفى، فكان له ذلك، وبدأت رحلة البحث عن زوجته (زينب) في طهران سأل الكثير من العراقيين المتواجدين، وقالوا له: ان شقيقها (عباس) يأتي كل خميس للصلاة في الحسينية، داعبه الفرح بأنه أصبح قاب قوسين أو ادنى من حبيبته (أغداً ألقاك يا لهف فؤادي من غدي... أغدا ألقاك يا لشوقي بانتظار الموعد) وبالفعل وجد الدليل الذي يعرف بيت عائلة زوجته (زينب) وعند باب البيت، داهمته شتى افكار بين الفرح والحزن، وكأن زمن الوصول الى المشتهى طال، وجاءت لحظات اللقاء الموعود (لحظات كاد قلبي ان يسقط أمامي، أخذت أطرق الباب وماهي إلا لحظات حتى انفتحت. وبانفتاحها شعرت كأن آلام السنين قد انمحت من سموات حياتي) استقبله صديقه (عباس) بالدموع والاحضان، وهو متشوق على جمرة النار لرؤية زوجته (زينب) شلت كيانه حين علم بأنها توفيت حزناً عليه، لم تتحمل فواجع الفراق عليه، فماتت بالحسرة والقهر، وجال بصره في غرفة زوجته، وجد طفلاً نائماً يشبهه في طفولته تماماً، فقال له عباس (انه ابنك سجاد) كأنه ثمرة الحب والعشق بولادة (سجاد) بأن الحياة لا تموت بل تحيا من الالم والوجع.

***

جمعة عبد الله

 

ازدواجية الفني والوجع الإنساني

أو حين يحاصرنا الرحيل

«تريث قليلا أيها الموت.. إنني أكتب»

***

مفتتح..

عند منعطفات السرد، ونحن نجوب دروب رواية «الحق في الرحيل» للكاتبة والشاعرة فاتحة مرشيد ، يترصدنا الألم والرحيل ويدفع بنا إلى الانخراط في مسار الحكي الذي يقف في المنطقة البينية بين الحق والاختيار المؤلم، والذي يأخذ بأيدينا، رغماً عنّا، وجنبا إلى جنب الألم والضياع والتيه، الألم الذي ينفتح على الجرح الإنساني ليقف به حائرا ضعيفا تائها لا يدري أمام «الحق» ما هو فاعل، وأي الطرق يسلك مع غلبة الحب، ناظرا حائراً، أي الأسئلة التي تشقّ القلب ستفتح له بابا نحو الجواب، الجواب الذي ينفلت ويزيد درجة الألم.

على حافة الكتابة..

وحدها الكتابة، جرح مفتوحٌ على الوجع، وصرخة تترنّح بين الكبت والإفصاح، تأخذ منا، لتسير بنا إلى اكتشاف مجاهل الذات ومواطن القبح والجمال فينا، وقسوة الألم وتيه الاختيار وسلطة الحب،

وحدها الكتابة، على حافة الألم، تأخذ منا، لتسير بنا إلى المجهول الثاوي فينا ترغمه على الظهور حين نحاول بكل الجهد أن نخبّئَه فيطفو على الكلمات حبا أو كرها، وجعا أو فرحا، ليولد المعنى مُلعزاً مرة منبلِجاً مرات، يجر وراءه أسرار الكلام وفتنة الكلمات.

وحدها الكتابة، تأخذ منا، لتسير بنا في منعطفات الذات والواقع والفضاءات وئيدة تتجاذبها ازدواجية الفني والألم، اللذة والوجع، الحياة والموت، الضحك والبكاء.

"أدركت الآن، في قرارة نفسي، بأن الحب هو السلاح الوحيد ضد الموت، لأنه الوحيد الذي يستمر بعده" .

وحدها الكتابة، تأخذ منا ثمن لذة القراءة حين نشارك أبطالها الألم والرحيل، والموت، فهي لم تُكتب بالكلمات ولكنها انكتبت بالألم والسفر والرحيل لتضع القارئ أمام المصير الذي يتكبَّده الشخوص للوعي به وللمشاركة في اتخاذ أقسى القرارات الإنسانية، «لم تعد الكتابة اختيارا، أصبحت هواء يملأ الفضاء.." .

ازدواجية الفني والألم..

«الحق في الرحيل»، نص ينفتح على الألم ويسير مساوقا للوجع الإنساني والهجرة والرحيل والموت، والحق اختيار، مطلب في طياته إلحاح وإصرار، والرحيل يأتي في أحايين كثيرة بعد لحظات اليأس والضعف كنهاية.

عبر مراحل الرواية يظل «الحق» مُعلقا متأرجحا بين الإقدام والتراجع، والتذكر والنسيان، ليفتح للرواية مجالا للأحداث أن تتوالى وتتواشج رغم أنف أبطالها الذين وجدوا في حكاياتهم عزاء لتذليل ألم الهجرة والرحيل ويظهر الحق في الرحيل في الفصل الأخير من الرواية قويا مؤلما صادما فاتحا ذراع الألم «لإسلان» أن تذوب فيه و«لفؤاد الزموري» أن ينشطر بين الصدمة والحب والنداء المؤلم هادما ما بنته الأحلام وشيده الحب.

الرحيل، منذ صيحة الخروج/الولادة إلى الموت والإنسان يعيش رحيلا دائما، لا ينقطع، رحيل كأنه السفر بين الحياة والموت، تتقلّبه المواجع والأفراح وتتجاذبه المسافات قرُبت أو بعُدت لتجعل منه كائنا يستوطنه الألم والرحيل؛ والرحيل، مفرد بصيغة الجمع، حالات تتعدد صوره: رحيل بالذاكرة إلى ما انسحب على ذاكرة النسيان، رحيل بالبكاء والألم حين نشيع عزيزا، رحيل يومي جريا وراء لقمة العيش، ورحيل آخر المطاف حين نسند الرأس على حجر بارد أصم داخل حفرة مخيفة وباردة.

قد نرحل في أضعف لحظاتنا وأصدقها ولا نترك أثرا، وقد يكون الرحيل صمتا وهروبا، وقد يكون انهزاما أو بحثا عن حياة في ظل مسار لا يعرف الاستقرار. هل نحمل حقائبنا حين نرحل؟ هل نحمل ذواتنا وأفكارنا وعشقنا؟ أم حين نرحل نحمل آلامنا وقسوة الحياة؟

الرحيل ينسحب بين سطور النص كأفعى تجيد فخ التَّختُّل، مرة هادئا ومرة قويا ومرات مؤلما ينشر الوجع وبشاعة الحياة، كما ينشر الألم والتوسل والبكاء والضحك، حين يكون الرحيل لحظة حكيٍ لأصدقاء جمعتهم الغربة في مكان ما. في زمن ما.

الموت في «الحق في الرحيل» ليس لغزا، إنه وعيٌ بالألم حين يُسفر عن وجهه منذ أولى عتباته إلى الفصل الرابع والأخير من الرواية، والذي يجعل من الموت/الرحيل حقا تطالب به «إسلان» وبإلحاح.

الرواية جعلت من تيمة الرحيل مبتدأ ومنتهى، داخل دائرة تتسع وتضيق، تقترب وتبتعد لتُحكم خناقها على شخوصها الذين حكمت عليهم بالسفر والهجرة والاجتثاث والموت، لتعمق إحساسهم بالألم حين يقفون على حافته منكسرين أو منتصرين، يحاصرهم الألم عند منعطفات الحكي كما يحاصرنا، كقارئين، نتأرجح بين فضاءات النص، لندن، أزمور، أكادير، اليابان، التي رغم تباعدها يؤلف بينها الألم والرحيل.

الهجرة بداية الرحيل/الرواية، 30 سنة هجرة، والهجرة هجرات متعددة، والرحيل غالبا ما يأتي في صيغة الجمع، يلتصق بالقارئ وكأنه ظله ويسافر به على امتداد النص، فالنفي والكتابة بأسماء الآخرين، وموت الصغير «موسى» و «يامنة»، وسفر «إسلان» عبر العالم، وموت الشاف «هيروكي»، كلها مؤشرات تؤكد تيمة الهجرة والرحيل سواء عبر الحلم أو السفر أو الموت أو الكتابة، أليست الكتابة حلم وسفر وموت؟

السفر كما الكتابة، عبور مسكون بالغياب، ومتاهة تأخذ منك الجهد والعرق لتسير بك وأنت تكتشف ذاتك والآخر وتتكشّفُ لك أعماق ودهاليز الذوات التي تؤسس خطوات الرواية والتي كُتب عليها السير مرغمة نحو الألم والفرح تفصح عنه الكلمات المخضَّبة بالبوح والحكي الممزوج بالألم والحب والحيرة.

لعل في بعض الرحيل فرج وراحة كالرحيل إلى أعماق الذاكرة، إلى المجهول لاستحضار ماض ينفلت من بين دروب التيه والسنين (ربيعة رمز للسفر البعيد والمنفلت) تاركا أثرا عميقا لا يمحوه السفر أو إعادة الحياة عبر الحكي خلال جلسات البوح والسمر. غير أن السفر الأخير جاء قويا، صادما في الفصل الأخير من الرواية، جاء ملازما للحق كمفارقة موجعة تُوقف الزمن ليبحر «فؤاد» داخل دوامة لا ترحم، لا تترك له الخيار.

هل الحق/الاختيار صادم إلى هذا الحد؟

الحق في الرحيل، حق يُصادر أو يُلبّى؟ وكلاهما، المصادرة والتلبية، مُرٌّ يحتاج لكثير من التوقف والتفكير والنقاش والخصام، والألم. موقف صعب هذا الذي وُضع فيه «فؤاد»، يأكل دواخله ويدفعه إلى الاختيار الصعب عبر لغة رصينة هادئة محفزة تدفع القارئ إلى الانخراط في الألم الذي يستشعره حين وقف أكثر من مرة أمام «إسلان» ينظر إلى ملامح وجهها الهادئة، متسائلا، منهزما، متوسلا، هل لها الحق في الرحيل؟

هذا الفصل من الرواية يُجبر القارئ على الوقوف لطرح السؤال والنظر في لفظة «الحق»، معناها ومغزاها، عمقها وظاهرها، ومتى يؤخذ بالقوة ومتى يُعطى لنا دون طلب؟ والحق يُؤخذ ولا يُعطى، ليظل الرحيل حقّاً معلقا فاتحا للسؤال الكبير المقلق والمحرج والمؤلم الذي طرحته الكاتبة بذكاء، عبر منافذ تطل على الألم والجرح وكثير من التردد.

فهل لنا الحق في الرحيل؟

نقطة ضوء..

في خضم الرحيل والألم، وعبر امتداد النص الذي يسافر بنا ليُقربنا من وجع دفين أو حب هارب أو سؤال يتمنع جوابه عن الجلاء، ينكسر الوجع وتمَّحي الغربة والألم، ولو إلى حين، حين يبزغ كالأمل، بين اللحظة واللحظة، وجه طفل يبعث الدفء والحياة في مسار الرواية، فالطفولة نقيض الألم والرحيل، رغم أنها بداية الرحيل، إلا أنها إشارة إلى أن الرحيل لا تكتمل دائرته إلا لتنفرج عن وجه صبوح ضاحك لطفل يملأ الوجود دفئا يُنسينا الرحيل وقسوة الغربة، وصعوبة الاختيار.

***

عبد الهادي عبد المطلب

الدار البيضاء/المغرب

 

يعتبر عبد الرحيم التدلاوي من الكتاب المغاربة الذين لم يوفهم النقد الأدبي حقهم من الاعتبارية الواجبة لقلم فذ غزير الإنتاج، حقق تراكما إبداعيا خاصة في الجنس الأدبي المسمى القصة القصيرة جدا والذي أصبح العديد من المتهافتين على كتابة القصة القصيرة جدا، يستسهلون أمر كتابتها، ويخوضون في بحر لا يعرفون حدود قراره، والنتيجة أن ما ينشرونه لا يرقى إلى المستوى المطلوب، ولا يعدو أن يكون عبارة عن خواطر هي أقرب للإنشاءات، وقد ساعد على شيوع هذه الظاهرة غير الصحية، سهولة النشر عبر وسائل التواصل الاجتماعي، والمواقع الالكترونية.

عبد الرحيم التدلاوي استطاع أن يُشَكّل الاستثناء إلى جانب مجموعة قليلة من كتاب هذا الجنس الأدبي، على امتداد عقدين من الزمن، ويغني المكتبة المغربية بالعديد من العناوين التي نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر: كأنه حدث، نمارق، سفك الحروف، رنين الانكسار، المشهد الأخير، شفاه الورد، الحافة، هذا دون أن ننسى مساهماته النقدية القيمة لكتابات العديد من المبدعين المغاربة والعرب على السواء، أكانت شعرا أم نثرا.

وقد اخترت مجموعته " سفك الحروف " كنموذج قيم، يستحق المقاربة والقراءة بتؤدة وبُعد نظر.

تقع مجموعة سفك الحروف في حوالي 53صفحة، وتتضمن 91نصا قصصيا، أغلب النصوص تصنّف في خانة القصر، تتميز بالحركية والدينامية واللغة الشعرية الشاسعة المعنى.

 قبل الولوج إلى متن المجموعة القصصية، لا بد من المرور عبر عتبة أو عتبات هذه المجموعة، والغلاف هو أول ما يجذب انتباهنا في هذه العتبات، لون الغلاف بنفسجي باهت (أرجواني) وهو لون يدل على الحنين إلى الماضي، ويوحي بالهدوء والسكينة، تتوسط هذا الغلاف لوحة فنية تمثل آنيتين بلون نحاسي تُدلق الحروف من إحداهما إلى الأخرى في مشهد سريالي، وإن كانت أغلب الحروف قد احتضنتها الآنية المستقبلة فإن هناك حروفا أخرى قد سقطت على الرمال مما يوحي بأن المشهد يرتبط بالصحراء وله علاقة بالجزيرة العربية التي ولدت بين أحضانها الحروف العربية وتطورت بصيغتها الحالية، إذا انتقلنا من الغلاف إلى العنوان: "سفك الحروف" سَفْكُ مصدر لفعل سفك بمعنى أراق وصبّ

وأسال، فنحن نقول: سفكُ الدماء، ونقول أيضا سفك المياه، وكل السوائل . ولكن الأكيد أن مصدر سفْك ارتبط في أغلب الأحيان بالدّماء يقول تعالى:

 "مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ"، لكنها أيضا تعني أيضًا نشر الكلام وإسالته، ويقال "سَفَكَ الكلامَ" بمعنى نشره، وهذا ما رمى إليه الكاتب حين جمع بين مصدر سَفْكُ ولفظ الحروف، فالغاية إذن جلية أن سي عبد الرحيم يهدف لنشر الحروف بصيغته الخاصة، وإعراب العنوان يحتمل وجهين، فيمكن إعراب سفكُ خبرا مرفوعا لمبتدأ محذوف وهو مضاف، الحروف مضاف إليه منصوب، كما يمكن إعرابه مبتدأ مرفوعا وهو مضاف، الحروف مضاف إليه.

إذا تجاوزنا العتبة إلى متن المجموعة، فسنكتشف نصوصا في شكل مكثف ومختزل بقدر كبير تُحَمِّلُ البِنية الاستعارية والتركيبية بتداعيات توحي منذ الوهلة الأولى بالغموض والابهام للقارئ العادي، مما يطرح إشكالية تحتاج لمزيد من الجهد لتفكيك شيفراتها، وفهم المعنى الذي يرومه الكاتب ويسعى إلى تحقيقه من خلال اعتماد فنية الانزياح واللجوء لتقنية التكثيف والإيجاز مع مراعاة استعمال خاصية التلميح، والاقتضاب، والتجريب، بشكل يتوافق مع دواخل القاص الذي يقول القليل، رغم أن بداخله الكثير، جاء في قصة رحى الصفحة36:

 أحدثه عن الطعام فينتفي جوعه. أرسم له مائدة عامرة فيشعر بالشبع. أعرض أمامه حسناء فاتنة تقضم التفاح بشهية فينام سريعا ليحلم بالتفاحتين.

في هذا النص نلمس التداخل بين الصورة السردية والصورة التشكيلية بحيث تكمل إحداهما الأخرى فكلمة" أرسم" ذات الحمولة الفنية تحمل أيضا طابع الايحاء الذي يلجأ إليه الراوي لدفع شخصية "النص" إلى الشعور بالشبع، أما جملة "أعرض أمامه حسناء..." فكانت كافية لتحريك الطاقة النفسية(الليبدو) لنفس الشخصية، ودفعها إلى اللجوء للحلم طمعا في الإشباع الجنسي. نلاحظ هنا بأن الكاتب قام بإفساح المجال للمتلقي لاستكناه المعنى والمشاركة في بناء النص.

القاص عبد الرحيم التدلاوي لجأ أيضا لاستعمال تقنيتي: الايجاز بالحذف والقصر، والحذف أسلوب يتم فيه حذف كلمة أو جملة أو أكثر، ولكن يظل المعنى واضحًا لوجود قرينة (دليل) تشير إلى المحذوف أما القصر.

- فهو أسلوب لا يعتمد على الحذف، بل على تضمين معانٍ كثيرة في ألفاظ قليلة، جاء في قصة تمثال الصفحة40:

تجمد كليا كجندي يحرس قصرا إلى أن مرّت...

لحظتها اشتعل كشمعة ثم ذاب.

في هذا النص استعمل الكاتب نقط الحذف الثلاث، في إشارة منه إلى الفضاء المحذوف، ولدفع القارئ إلى اللجوء للتخييل لملء الفراغ، فالشخص الذي تجمد كليا كجندي يحرس قصرا إلى أن مرت، لم يحدد الكاتب من هي أو ما هي التي مرّت؟ أهي حبيبة حلوة المبسم، أم سيارة فخمة؟ باب التأويل إذن مفتوح والمتلقي بإمكانه ملء الفراغ بالشكل الذي يراه مناسبا، لجوء الكاتب للحذف في هذا النص، غايته كانت هي التكثيف والاختزال، والابتعاد عن الحشو والاستطراد.

إذا أخدنا الجزء الثاني من هذا النص، سنلاحظ أن القاص استعمل تقنية القصر فهو يقول: لحظتها اشتعل كشمعة ثم ذاب، ففعل الاشتعال والذوبان هو محاولة من الكاتب لتوريط القارئ في التأويل وتوسيع المعنى فالاشتعال يكون مثلا غضبا أو قلقا، أما الذوبان فيكون حزنا وألما، تبقى الملاحظة أن هذا الجزء من النص هوجملة قريبة جداً من الاستعارة التصريحية القائمة على تمثيل حالة الشخص بحالة الشمعة التي تشتعل وتذوب، حيث صرح ببعض لوازم المشبه به (الشمعة) وحذف المشبه (الذات المتحدثة )كما أنه يمكن اعتبارها استعارة تمثيلية، أي تشبيه حالة بحالة.

من أهم الخصائص التي تنبني عليها القصة القصيرة جدا المفارقة وهي تعني لجوء القاص إلى إبراز تناقض ما (تعارض ما، تقاطب ما) بين المنظومات الموضوعية، أو البنى الفنية التي تشكل النص، سعيا إلى تعميق الإحساس بالظاهرة التي يتبنها القاص

وثمة مجالان أساسيان، تجول المفارقة فيهما هما مجالا الشكل الفني والموضوع، إذ يمكن للقاص أن يسعى في داخل أحدهما أو في كليهما، من أجل الكشف عن الحوامل الممكنة للثنائيات الضدية التي يرتضيها شكلا للتعبير عن مكنوناته

ومن يتأمل نصوص عبد الرحيم سيكتشف أن الكاتب يشتغل في العديد من نصوصه على موضوع المفارقات والتناقضات، التي تضج بها حياة الناس، ويعيشونها في مسارهم الحياتي، عبر وضعيات مختلفة ومتباينة، وهذا ما تعكسه الصور السردية لتلك النصوص، التي تتميز بالثنائيات المتقابلة، لخلق مفارقة مؤثرة تصنع الإدهاش لدى المتلقي، وهذا يعتبره عدد من النقاد عنصرا داعما لجمالية القصة القصيرة جدا، وسنحاول في هذه القراءة إبراز قوة جمالية نصوص عبد الرحيم التدلاوي من خلال اعتمادنا نماذج مختارة منها تتضمن المفارقة والإدهاش.

في نص نداء ص 41، وفحواه:

أخفت المفتاح في صدرها، ودعته بغنج إلى البحث عنه..

كانت دعوة لحفلة عشاء..

ولم يكن جارا جائعا.

 قراءة هذه القصة تبين بجلاء، أن الكاتب توفّق في استعمال تقنية المفارقة إلى أبعد حدّ، لأن الصورة التي رسمها للمتلقي تنبني على المتناقضات، وهي في أخر الأمر حمالة أوجه. فالجارة أخفت المفتاح في صدرها، ودعوة الجار للبحث عنه هو نوع من المراودة المبطنة عن النفس، ودعوة حفلة العشاء هي أيضا دعوة مجازية لممارسة الحب، لكن المفارقة أن الجار لم يكن جائعا، وهذا يعني أنه إما عنينا أو لم يجد في الجارة الصفات التي تُرضي غرائزه ورغباته.

ومن النصوص العميقة التي نلمس فيها بوضوح حضور المفارقة الموسومة بتناقض جلي، وتضاد بَيّن، خلال حالتين مختلفتين: "حياة/موت". نص:إصرار ص43

 بذراعيه القويتين يضرب الموج ويضربه..

يخترق الموج ويخترقه..

وبإصرار من يريد الفوز يتجاوز التيار؛ وحين يبلغ خط الوصول يقف متعجبا من خلو المكان إلا من شجرة عظيمة تتدلى من فرعها القوي ميدالية؛ يطوق بها عنقه ويتدلى يصير عنقود عنب يقتسم الناس حباته فيتوهمون البطولة.

في هذا النص لجأ الكاتب إلى استعمال انزياحات دلالية وتركيبية، لتحقيق الانتقال من المعنى المألوف إلى معنى مغاير قد يكون مجازيا أو استبداليا، وذلك في محاولة منه اختراق قواعد اللغة المعتادة لتحقيق متعة جمالية وتوهج قوي يرضي ذائقة القارئ، متوسلا بالاستعارة والتشبيه والمجاز، وذلك للخروج من قوالب المباشرة، ودفع المتلقي إلى استخدام آلية التأويل وفهم النص بقناعاته الخاصة.

من الانزياحات البارزة في نص إصرار نسوق على سبيل المثال لا الحصر:

"بذراعيه القويتين يضرب الموج ويضربه" فعل الضرب استعمله الكاتب للدلالة على قوة التيار ومصارعة شخصية النص للموج.

"يخترق الموج ويخترقه" فعل اخترق لغة يعني النفاذ إلى الشيء وبطل النص يخترق الموج ولكن الموج في نفس الوقت يخترقه، تكرار الفعل يعني الاستمرار ودوام الحدث والصراع.

 "يطوق بها عنقه ويتدلى يصير عنقود عنب يقتسم الناس حباته فيتوهمون البطولة"

قفلة النص كانت قوية وتتضمن مفارقة ساخرة فالميدالية التي ستطوق عنق البطل أنشوطة حبل، ستنهي حياته، وتجعله حديثا وهميا متداولا بين الناس.

من العناصر التي تتكئ عليها القصة القصيرة جدا في بنائها السردي، يبرز عنصرا الزمن والمكان، إلا أنه لا يتم التركيز على الاهتمام بالتفاصيل كالرواية والقصة، ولكن الاهتمام يكون بحدث معين في زمن محدد ومكان أو مجموعة الأمكنة المحدودة، ذلك لأن القصة القصيرة جدا تتميز بقصر الحجم، وتعتمد على التكثيف والاختزال، و الايجاز المقصود، مما يحتم على القاص الالتزام باحترام مساحة السرد المتاحة له.

إن زمنية القصة تحتم علينا التوقف عند مكانيتها، فهما لا ينفصلان أبد،

فبالقدر الذي نجد في القصة مؤشرات زمنية غير ملموسة، نُوَاجَهُ بالاقترابات المادية الملموسة للمكان، وهذا يخلق للقصة توازنها الوجودي.

فإلى أي حد وظف عبد الرحيم التدلاوي هذين المكونين في مجموعته القصصية سفك الحروف.

في نص عاشق من زمن العطالة ص 19 الذي يقول:

أراه يرتشف الانتظار في مقهى الوقت،

رشفة

رشفة

إلى آخر الحب.

أراها تنسحب من فنجان خيبته.

حاول الكاتب في هذا النص أن يربط بين البعد الزمني والمكاني، بشكل يعكس من خلاله حجم الخيبة التي تصاحب بطل القصة، هناك ربط سببي بين الانتظار باعتباره حالة زمانية ومقهى "الوقت" باعتباره حالة مكانية، وفي هذا تداخل بين المكونين نلمسه في الرشفة التي تلي الرشفة حتى آخر الحب والنتيجة هي " انسحابها" من فنجان خيبته وفي ذلك إشارة قوية إلى أن انتظاره انتهى إلى الفشل والخيبة.

وكخلاصة تتميز نصوص مجموعة سفك الحروف بتنوع وثراء جمالي، يشوبه نوع من الغموض الفني المقصود، الهادف إلى فتح باب التأويل أمام القارئ للمشاركة في عملية تشكيل النص وبناء معماره، كما أن لغته شعرية، تتكئ على التكثيف والايجاز، وتبتعد عن الوصف والمباشرة، ولم تخلو بعض نصوصه من الترميز والتناص، سعيا لتوسيع المعنى وتجويع اللفظ بأسلوب بلاغي قوي اعتمد المفارقة بشقيها التصريحي والتلميحي، بشكل منح المجموعة جمالية وقوة تأثير على القارئ.

وقد تحكم الكاتب في مكوني الزمن والمكان، وخلق توازنا بينهما في رسم المسار السردي، وتطور الأحداث، بما يخدم جمالية وفنية القصة القصيرة جدا.

***

محمد محضار

 5دجنبر 2025م

 

للشاعرة التونسية آمال جبارة

تأتي قصيدتا «مرآة» و «خارج الوقت» للشاعرة التونسية آمال جبارة بوصفهما نصّين ينهضان على توتّرٍ داخلي بالغ الكثافة، يجمع بين الذاكرة بوصفها حمولةً وجودية، والزمن بوصفه سؤالاً مفتوحاً على المصير الإنساني. هذان النصّان لا يقدّمان تجربة فردية فحسب، بل يتيحان مجالاً واسعاً لقراءة هيرمينوطيقية وتأويلية تتجاوز البنية اللغوية إلى طبقاتٍ أعمق: الأنثروبولوجي، النفسي، الوطني، والميتافيزيقي.

فالمرآة في النص الأول ليست سطحاً عاكساً، بل بوابة عبورٍ إلى خزائن الذاكرة الجمعية، حيث يتحوّل «الوجه» إلى تاريخٍ يمشي داخل الذات. بينما الزمن في النص الثاني يتفكّك ويتعرّى من سلطته، فتعيش الشاعرة «خارج الوقت»، مكتفية بملء الفراغ بروحها، ومؤسِّسة خطاباً شعرياً يقلب علاقة الإنسان بالساعة، وبالوجود نفسه.

تبحث هذه الدراسة في الطبقات العميقة للنصين: مستويات اللغة، البنية الإيقاعية، الرموز الوجودية والوطنية، الأنساق المعرفية، البنى النفسية والدينية، إضافةً إلى التحليل السيميائي بمنهج غريماس لاستنباط منطق العلاقات بين الفاعلين داخل النص. كما تقارب الدراسة التجربتين من زاوية تاريخية-وطنية ونفسية-جمالية، مع إجراء مقارنة بين تجربة الذاكرة في «مرآة» وتجربة الزمن الخالي من السلطان في «خارج الوقت»، للكشف عن الهوية الشعرية المتخفية بين السطور، وعن نبض الذات وهي تواجه مراياها وغيابها في آن واحد.

1. مقدّمة منهجية سريعة:

نقْرأ النصَّين بوصفهما مجالات دلالية تَنشأ فيها «الهوية» عبر الذاكرة والغياب والزمن. المنهج الهرمينوطيقي يفكّ الشفرة النصية عبر دائرة الفهم–التأويل: المعنى ليس محجوزاً للنص وحده أو للقارئ وحده، بل ثمرُ مدَوَّرتهما. سنحوّل النصَّين إلى «أعمالٍ قادرة على الاستدعاء» لنسبر ما تحت الجلد الشعري: نبضات فقد، خطاب ديني/ وجودي، ومشروعية وطنية/ أسرية.

2. القراءة الهرمينوطيقية-التأويلية:

بؤرة السؤال: لمَ لا تعكس المرآةُ الوجهَ، بل الذاكرة؟ هنا المرآة تتحوّل إلى «آلتِ استدعاء»؛ ليست مرآةَ مظهرٍ بل مرآةُ تاريخٍ.

١ - دورِ السرد/ الاستدعاء: كل صورة (الجد، الجدة، الأب، الأم) تعمل كـ«حالةِ ذاكرة» تُكسب الذات امتدادًا خارج الحاضر. المعنى يتكوّن بتداخل الزمان الشخصي (طفولة الأب، آخر نفس للجدة) والزمكانية الجماعية (قيمة الذاكرة كحاجز ضدّ الغياب).

٢- الدلالة الوجودية: النص يشكّك في الحدّ الفاصل بين الحضور والغياب؛ الذات هنا ليست كيانا مستقلا بل «مرآة ذاكرة»—نتيجة تأويل ريكويري عن الهوية بوصفها سرداً.

3. الدراسة الأسلوبية (لغة، إيقاع، صور):

١- اللغة: جُمَل قصيرة نسبياً، صور مركّزة (خيط من خيوط الفجر، تخلع أساورها). اقتصار العبارة يعطي مكثّفًا دلاليًّا ويقارب قواميس الشعر الحديث.

٢- الإيقاع: انقطاعي/ تأملي؛ فقراءات الإيقاع تظهر تباينًا بين لحظات سكون (النظر إلى المرآة) ولحظات حركة (يمشي وحيدًا). هذا التباين يولّد توترًا داخليًا—وهو ما يمنح النصّ نبرةً موسيقية قائمة على فجوات المعنى لا على الوزن التقليدي.

٣- الصور الشعرية: تستند إلى استعارات حسّية بسيطة لكنها عميقة: «خيط الفجر» (رقة بدايات الزمن)، «أساور تُخلع» (فعل التحرّر/ الخسارة)، «شجرة رمان» (ثمر/ استمرارية/ أنوثة). الصور تعمل كمفاصل دلالية تربط العائلة بالأرض والذاكرة.

٤- التكرار والامتناع: التكرار الدلالي لـ«لم أرني/ عندما نظرت إلى المرآة لم أرني» يُثبّت موضوع الفقد والاغتراب الذاتي. الامتناع عن تسمية مباشرة للزمن/ المكان يوسّع أفق التعميم.

4. دراسة سيميائية (منهج غريماس: المحاور والأدوار)

نطبّق نموذج الغريماس: نحدّد الفاعل/ المرسل/ المتلقي/ الهدف/ المساعد/ المعارض داخل النص.

١- المرآة (الظاهر): المرسل؟ أم المرآة كمرسل/ مُحَفِّز لاستدعاء الذاكرة.

٢- الذات/ الناظر (المتلقي/ المطلوب): المتلقي الذي يطلب معرفة النفس ويواجه عدم التطابق.

٣- الذاكرة العائلية (الموضوع/ الهدف): ما يُسعى إليه—فهم الذات عبر الذاكرة.

٤- الصور (الجدّ، الجدة، الأب، الأم) (الفاعلون/ المساعدون): يقومون بدور الوسيط، كل صورة تقدم جزءًا من «الكينونة» الموضوعية.

٥- الغياب/ النسيان (المعارِض): العدوّ الذي يسعى النص لأن يسدّه—المرآة تعكس ذاكرة تصدّ الغياب.

٦- بصيغ مبسطة: (المبادر/ الساعي): الذات/ الناظر (المرغوب): صورة ذات مكتملة/ معرفة الذات.

٧- (المرسل): المرآة/ الحدث المشغّل (المتلقي النهائي): القارئ والنفس.

٨-: ذاكرة الأجداد، شجرة الرمان (رمز الاستمرارية)، الأساور (رمز الانتماء/ الاعتزاز).

٩- الغياب، النسيان، المنزل المفقود.

هذا التوزيع يوضح أن النص ليس مجرد انعكاسٍ داخلي بل عملية سعي مستمرة نحو استرداد الذات من خلال شبكة علاقات زمانية-عائلية.

5. دروس سيميائية إضافية: العلامات والرموز

١- المرآة: ليست مجرد سطح؛ هي جهاز تشظّي الهوية/ أداة الهرمينوطيقا الذاتية. في اللغويات السيميائية تمثل مؤشرًا على «حضور-غياب»، آلة تفكيك للزمن.

٢- خيط الفجر: بداية، أمل رقيق؛ لُغة الزمن البدئي.

٣- أساور الجدة: علامات انتماء، طقوسية، والحركة في خلعها تشي بتحرر أو تهادن للموت. أيضاً رمز للجسد المؤنث والذاكرة المادية.

٤- معصم نابض: تهديد بالاستبدال—الغياب الذي يتحول إلى حياة (منعكسًا على استمرارية الأجيال).

٥- اقتلعنا النسيان من قلبه: فعل عنيف لتعطيل الانقطاع؛ استعادة الذاكرة بالعنف الإنساني.

٦- شجرة الرمان: تقليدًا رمز للخصب، الوطن، والأنثى؛ زرعها الأم فعل استثمار في المستقبل/ ظلّ للصبر—صورة وطنية-أنثوية.

٧- ذاكرة تصد الغياب: خاتمة مفصلية: الذاكرة كحاجز واقٍ ضدّ الفناء.

6. القراءة النفسية-التحليلية:

١- عوالم الحزن والافتقاد: النص محكوم بعقدة فقد تُظهرها صور الأجداد والأب الملاحق لطفولته. عملية النظر إلى المرآة تفصح عن عدم التعرف على الذات؛ هذا يشبه مفهوم جاك لاكان الذي يركز على أن اللاشعور يتشكل كبنية لغوية، وأن اللغة هي أساس اللاشعور. هذا المفهوم يعبر عن «مرحلة المرآة» . ١- المرآة تكشف الهوية المشتتة، ولكن هنا الناظر يرى ذوات الآخرين بدل صورته، كأن مرحلة الكينونة تُبنى عبر الآخرين.

٢- الفقد كقوةِ تعريف: الأب الذي «اقتلعنا النسيان من قلبه» يحمل علامة جرح يبدأ في الأخذ/ الاسترداد—حالة نفسية بين الانفعال والاستسلام.

٣- الأم كبديل للأرض: زرع شجرة الرمان كرمز لتحوّل الأرض إلى أمّ/ مكان تعزية—يمتد أنشطار الشخصية نحو الأرض كغرابة علاجية (Winnicott: المكان الانتقالي).

٤- اللاوعي الجمعي: الصور العائلية تعمل كـ«تمثلات» جماعية تحافظ على السرد الأسري، وفق رؤى يونغ عن اللاوعي الجمعي.

7. الدراسة الوطنية-التاريخية (قراءة تونسية/ شمال-مغاربية):

١- الرمزية الوطنية: رغم عدم ذكر حدث سياسي محدد، النص يتحرك في مجال الذاكرة الجماعية: البيت المفقود، شجرة الرمان، الأجداد والآباء—عناصر تشكّل سرداً وطنياً ضمنيّاً عن فقدان الأماكن/ الأمان، وهو ما يتوافق مع تجارب المجتمع العربي/ المغاربي في مآسي الذاكرة (حروب، نزوح، تغيير مدني).

٢- شجرة الرمان: رمز شائع في الذاكرة المغاربية (الخصب، الهوية، الاستمرارية)، وقد تُقرأ كدلالة على الوطن الذي تُغرس فيه الأجيال.

٣- الغياب كختم للتاريخ: «منزل لم يعد موجوداً» يعكس تلاشي الأماكن/ الذاكرة المكانية بفعل التاريخ (هجرة، تدمير، تحديث قسري). هنا يمكن استحضار أفكار فرينان وبانوفيسكي عن الذاكرة التاريخية والرموز الوطنية.

٤- قراءة ثورية/ شهداء: إذا ربطنا النص بسياق ثوري (تونس/ الجزائر)، يصبح النسيان والغياب استدعاءً للشهداء والذاكرة الجماعية؛ المرآة تستدعي الأجداد كإحياء للذاكرة الوطنية.

8. التطابق مع آراء فلاسفة/ نظريات نقدية:

١- هايدغر (الوجود والزمن): نصّ «مرآة» يقرأ الوجود كديمومة عبر الزمن؛ الذات تُعرّف عبر تاريخها—وهي فكرة هايدغرية عن الانفتاح نحو الماضي والوجود-في-الزمن.

٢- جادامر/ ريكور (الهرمينوطيقا): دائرة الفهم والتأويل ظاهرة في النصّ: المعنى يتكوّن بتفاعل الذات مع المرآة/ التقاليد.

٣- لاكان (مرآة المرحلة): غياب الوجه مقابل ظهور الآخرين في المرآة يوافق فكرة الانكسار المرآتي والهوية المبنية عبر الآخر.

٤- أوغستين/ بودريار (الذاكرة والرمزية): البعد التشكيلي للذاكرة والرموز—المرآة كتمثيل للذاكرة التي تقلّب الحضور والغياب.

٥- فرانز فانون (الوعي الوطني/ الهوية): قراءة النص وطنياً تستفيد من فكر فانون حول الصدمة التاريخية وبناء الوعي الجماعي بعد العنف الاستعماري.

9. تفسير بعض المفردات الجوهرية:

١- المرآة: أداة استدعاء، صراع الهوية، واجهة زمنية (حاضر/ ماضٍ).

٢- خيط الفجر: بداية زمنية هشة؛ أمل رقيق.

٣- أساور: تملّك/ انتماء/ تقليد أنثوي؛ خلعها فعل فصل روحي من الجسد.

٤- معصم نابض: تهديد بالعودة للحياة/ محاكاة للذاكرة الحيّة—أو رغبة في تحويل الغياب إلى حضور جسدي.

٥- اقتلعنا النسيان: فعل عنيف ينزع الحالة السلبية (نسيان) بالقوة، أي استعادة الإرادة التاريخية.

٦- شجرة رمان: إناء خصوبة/ تاريخ/ استمرارية؛ زرعها فعل مقاوم للحضور.

10. مقارنة بين «مرآة» و«خارج الوقت» (أربعة مستويات)

أ. المستوى الانفعالي:

مرآة: حزن عائلي نسبيًا—حنين قابل للعودة من خلال الذاكرة.

خارج الوقت: انفعال أكثر شطحًا/ روحانيًا؛ الامتلاء بالفراغ يخلق طاقة عطوفة على الآخرين (توزيع الاسم على البؤساء).

ب. المستوى التخييلي-الصور:

مرآة: صور نسبية، عائلية، حسية ومكانية (منزل، معصم، شجرة).

خارج الوقت: صور زمنية مجردة (الفراغ، الدقائق، الساعة) وصور سلوكية (توزيع الاسم، توقيت الساعة كرمز للحرية).

ج. المستوى العضوي (الجسم/ الروح):

مرآة: الجسد حاضر بشكل متقطع (معصم، أساور)، الجسد يعكس تاريخ العائلة.

خارج الوقت: الجسد يتراجع لصالح حضور روحي/ زمني؛ «أعيش خارج الوقت» إعلان عن انفصال الجسم عن زمن السوق/ العمل.

د. المستوى اللغوي:

مرآة: لغة تصويرية مكثفة، تكرار نغمي («لم أرني»).

خارج الوقت: لغة تأملية تجري في فضاء المفاهيم، فيها تكرار فعّال («لا أنظر إلى الساعة أبداً»).

خلاصة المقارنة: كلا النصّين يسعيان إلى تحرير الذات من محاولات الزمن/ النسيان لاحتواء الهوية. «مرآة» تفعل ذلك عبر الذاكرة العائلية الملموسة، بينما «خارج الوقت» تختار الفراغ كموقع تحرّر وإعادة توزيع الاسم/ الذات.

11. ما تحت الجلد: نبض، توتر، رمز

النبض: نزعة مقاومة للغياب—الذاكرة كنبض مضادّ للفناء.

التوتر: بين الحاضر المفقود والذاكرة المستدعاة؛ بين الفرد والأسرة/ الوطن.

الرمز المركزي: المرآة كقلب النص: ليست انعكاساً بصرياً بل استدعاء ذاتيّ يُعيد ترتيب علاقة الفرد بماضيه وبأرضه.

12. مسارات بحثية وتوسعات:

1. تتبع التمثلات المكانية (البيت، الشجرة، المنزل المفقود) في ديوان الشاعرة آمال جبارة لتوضيح البنية الوجودية للمكان.

2. مقارنة بين نصوص مغاربية تفترض غياب الزمن والذاكرة كموضوع مركزي (تونس، الجزائر، المغرب).

3. تحليل سيميائي معمّق وفق جداول غريماس التفصيلية لإظهار تحوّلات الفاعل/ المفعول عبر النصوص المتعددة.

4. مراجعة نفسية باستخدام لاكان ويونغ على مستوى تفكيك صورة المرآة والرموز الأنثوية.

5. مقابلة مع الشاعرة آمال جبارة

من خلال قراءة ديوانها ونصوص أخرى تمكنت من استجلاء نية النصّ وعلاقة السيرة الذاتية بالرمز.

13. خاتمة:

«مرآة» و«خارج الوقت» نصّان يشتغلان على أزمة الهوية في زمن التفكّك: الأول عبر العائلة والذاكرة المادية، والثاني عبر الفراغ الزمني كمساحة تحرّر. المنهج الهيرمينوطيقي يكشف أن المعنى يتكوّن في اللقاء بين القارئ والنص، وأن الرموز (المرآة، الشجرة، الساعة) تعمل كجسور بين الفرد والجماعة، بين الحزن والمقاومة. قراءة سيميائية بغريماس تثبت أن النصوص ليست محادثات ذاتية فحسب، بل آليات استعادية تعمل على استرداد الذات من التاريخ والغياب.

***

بقلم: عماد خالد رحمة - برلين

..........................

الشاعرة التونسية آمال جبارة

خارج الوقت

لا أنظر إلى الساعة أبدا

أعيش خارج الوقت

وأعرف أن الفراغ ممتلئ بي

لا شأن لي بدقة الدقائق

ولا بسعي الساعات الدؤوب

ولا يعنيني أمسي الذي هو حاضرك.

ولا غدي الذي هو أمسك

يعنيني الفراغ الذي يجر أناملي

نحو عزف...

اعرف أنه يملأ مكانا ما في هذا العالم

لا أنظر إلى الساعة أبدا .

أعيش خارج الوقت

أوزع اسمي على البؤساء

يتقاسمونه على حافة المطلق

وأمضي خفيفة في تمام التاسعة ليلا وتسع دقائق

بتوقيت ساعة رجلي المشاءة دائما في الفراغ

نص قصيدة مرآة:

نظرت إلى المرآة و لم أرني

رأيت جدي يتوكأ على خيط من خيوط الفجر الأولى

يوم قلبي

ويبتسم إلى الله

رأيت جدتي في آخر نفس لها تخلع أساورها من يدها .

تحاول أن تخبئها

خوفا من أن يحيلها الغياب إلى معصم نابض

لم أر وجهي

رأيت أبي وقد اقتلعنا النسيان من قلبه كما تقتلع الورود

يمشي وحيدا في يوم قائظ

باتجاه منزل لم يعد موجودا

كان يلاحق طفولته البعيدة جدا ولا يصل

رأيت أمي تغرس شجرة رمان

وتمكث بجانبها منتظرة أن تكبر وتمنحها ظلاً يليق بصبرها

عندما نظرت إلى المرآة لم أرني

رأيت ذاكرة تصد الغياب

 

منال شاكر شاعرة سوريّة قال عنها الناقد "يحيى يوسف هلال" بأنها تنتمي إلى جيل الكلمة الحرة، وتكتب بأسلوب نثري شاعري، يمزج بين الحنين والرمز.. تبرز في كتاباتها قضايا الوطن والفقد والحب والحنين للأهل والأرض.. تنشر نصوصها في منصات الكترونيّة عربيّة، وتحضى بتفاعل واسع من القراء لما تحمله من صدق وجداني. اخترنا من بين قصائدها هذه القصيدة (نظل على العهد)، كي نسلط الضوء النقدي عليها خدمة لجهود الشباب الأدبيّة التي لم تحوز بعد على فرصة الحضور الأدبي.

تحاول الشاعرة "منال الشاكر" في هذا النص الشعري تسليط الضوء على دور المال في تغيير أحول الناس، وإظهار تقلبات من امتلكه الأخلاقيّة والقيميّة عموما اتجاه الفقراء من أبناء المجتمع. فهي تقول عنهم:

عندما يكون أصحاب المال في وضع مشبع بالسرور، فهم لا يعترفون بأحد غيرهم، وكل ما عداهم هم أناس لا أصل لهم ولا نسب. أما في حالة ضرائهم فلن ننال منهم سوى العتب والظلم وكل ما ينال من كرامتنا من تلك القلوب السوداء التي لا تعرف قيمة للإنسانية..

المال كما تقول الشاعرة يغير أحوال الناس في شكلهم ومضمونهم، والأهم في موقفهم من الفقراء، حيث يجحدون حقوقهم، أو يرفضون العون والمساعدة لمن يحتاجها حتى للأقربين منهم، فعندما يطلب منهم المساعدة ينسحبون وكأن أمر أقربائهم لا يعنيهم شيئاً. نقول الشاعرة " منال الشاكر" عنهم:

في سرائهم لا أهل ولا نسب..

وفي ضرائهم نلنا سواد القلب والعتب.

تبدو الوجوه إذا المال استقر بها..

وحين يجحد حق المرء تنسحب.

كم من قريب إذا ناديته جفلاً..

كأنه ما عرفنا لا ولا احتسب.

إن الناس في أيام الخير تراهم أخوة متحابون طالما أن لا يحتاج أي منهم للآخر. ولكنهم في الأزمات وشقاء العمر ينكرون بعضهم بعضا.. وهنا تظهر على الساحة الاجتماعيّة تلك النفوس الكريمة التي ترفض الذل للآخرين. فهم كما تقول الشاعرة يبقون على عهدهم ولن يطلبوا مكافأة أو مساعدة من أحد، فعزت نفوسهم تأبى عليهم أن يباعوا ويشتروا بالمال. وهم صابرون على بلواهم ويدركون أن المحن التي يمرون بها هي عابرة، ومع تجاوزها ستعلي عزة النفس مقامهم.

فالناس في فرح الأيام أخوة ود..

لكنهم في شقاء العمر قد شطبوا.

نبقى على العهد لا نرجوا مكافأة...

فالعز في النفس لا يُشرى ولا يُهب.

فالصبر على الناس إن الصبر مرتبة..

تعلي المقام وإن جاروا وإن كذبوا.

فالحياة عند الشاعرة تجربة علينا أن نتعلم من مآسيها وكيف نقاوم كل الشرور من أجل كرامتنا. فهي تقول: نحن نجرب الناس في كل حال من أحوال الحياة بسرائها وضرائها، وفي تجربتنا سنعرف تلك القلوب المشبعة بالإنسانيّة، أو التي أفقدت سلطة المال تلك الإنسانيّة. وبالتالي نعرف عدونا من صديقنا، نعرف من هم الذين كانوا يتوددون لنا أيام خيرنا وحافظوا على هذا الوداد، ومن هم الذي أنكره وقلبوا لنا ظهر المجن في محنتا.. نعم تقول الشاعرة "منال" مؤكدة بأن كرام النفوس سيظلون في رقي أخلاقهم وقيمهم ومكانتهم الاجتماعيّة، فهم على قناعة بأنه لن يكون هناك من يذلهم لا خلق كان أو نسب. تقول:

نجربهم في كل حال.. فإذا بعض القلوب لنا..

وبعض القلوب قد شطبوا.

فلا خير في ود يذوب إذا اشتكينا..

ولا في يد تمد ثم تنسحب.

لكننا نرقى نحفظ عهدنا..

فما خاننا خلق، ولا ذلنا نسب.

البنية الفكريّة للقصيدة:

إنّ الأديب الحقيقي الملتزم بواقعه الاجتماعي، شاعراً كان أو قاصاً أو روائيّاً، لا يفصل الحالة الأدبيّة التي يشتغل عليها عن الحالة الاجتماعيّة التي تحيط به أو ينشط داخلها، لما بينهما من ترابط عضوي، وتشابك يصل إلى حدّ التماهي، إنّ الأديب الواقعي يظل جزءاً لا يتجزّأ عن محيطه ممثلاً في أسرته ومجتمعه وأمته ووطنه، فهو في كينونته ظاهرة اجتماعيّة بامتياز، وهو الطاقة الابداعيّة التي تعكس حال المجتمع في تحوّلاته المستمرّة، وبناءً على كل ذلك هو صورة المجتمع. فليس دوره مقتصراً على تصوير الواقع وقضاياه فحسب، بل عليه أيضاً أن يعمل على تنميته وتطويره من خلال إظهار عوامل تخلفه ورسم الحلول لتجاوز معوقات هذا التخلف.

لقد سعت الشاعرة "منال شاكر" في جهدها هنا أن تكشف عورات المجتمع بما يحمل من بنى طبقية متفاوتة، وما تساهم به عمليّة التفاوت هذه، من خلق قيم وسلوكيات وعادات وتقاليد ورؤى للواقع في مجمل حالات تحولاته وتبدلاته، والأهم ما هي انعكاسات هذه التحولات على البنية النفسيّة والأخلاقيّة في بعدها الطبقي على الفرد والمجتمع، وقد أشارت القصيدة فعلاً على انعكاسات هذه التحولات كما تبين معنا من خلال عرضنا للبنية الحكائيّة أو السريّة للقصيدة.

البنية الجماليّة والفنيّة للقصيدة:

الصورة في النص الشعري

تظل اللغة في نحوها وبلاغتها ومحسناتها البديعيّة، كالترادف، والطباق، والمقابلة، والتقديم والتأخير، والتورية، وكثرة الانزياحات اللغويّة، والصور البيانيّة كالتشبيه والاستعارة والكنايّة، وتراكيب جملها، أداةً للتصوير الأدبي في الشعر. والشعر من الفنون الجميلة، له غاية جماليّة وفكريّة هي التأثير في المتلقي. والشاعر يصل لهذه الغاية عند جعل اللغة التي يستخدمها أكثر تأثيراً على المتلقي من خلال استخدامه للمفردات اللغويّة بطريقة خاصة، تختلف عن الاستخدام العادي أو المعياري لها في حالة التداول اليومي المباشر بين الأفراد والجماعات. إن الشعر فن ينتهي إلى غايته الجماليّة والتوصيليّة عن طريق اللغة التي يشكل منها الشاعر عالمه الشعري. فالشعر كما يقول أحد النقاد هو (تفكير بالصور). أي إن الصورة هي أساس بناء الشعر.

لقد استطاعت الشاعرة "منال الشاكر"، أن تصور واقعة الاجتماعي عبر صور ذات حمولة فكريّة وعاطفيّة أو وجدانيّة عالية.. لقد استطاع أن تجسد المعنى المتخيل في نصها كمصور فوتوغرافي، امتازت صورها بالوضوح أمام المتلقي الذي راح يتمتع بجماليّة هذه الصورة التي اعتمدت فيها الشاعرة التجسيد أو التشخيص والتجريد والمشابهة. تقول:

(في سرائهم لا أهل ولا نسب..).. (وفي ضرائهم نلنا سواد القلب والعتب.).. (تبدو الوجوه إذا المال استقر بها..). (فلا خير في ود يذوب إذا اشتكينا..).

هكذا نرى أن الصورة الشعرية بكل دلالاتها في هذا النص، لم تأتي بها الشاعرة " منال شاكر" للتزيين والزخرفة اللفظيّة، وإنما جاءت تعبيراً أصيلاً أملته ظروف التفاوت الطبقي والمأسي التي يتركها هذا التفاوت من آثار على حالة الفرد النفسيّة والشعوريّة معاً، لذلك كانت الصور حاملاً أميناً لمشاعر الشاعرة وتُرجماناً لنفسها، وترجمةً لصدق أحاسيسها وعواطفها.

اللغة في القصيدة:

لقد جاءت اللغة في القصيدة سهلةً، واضحةً، سمحةً، ناصعةً، وفصيحة، ومسبوكة الألفاظ، منسجمة مع بعضها في بنية القصيدة وخالية من البشاعة. فجودة السبك وبراعة صياغته وتسلسل عبارته وتخير ألفاظه وإصابتها لمعناها، كانت وراء سر فن التعبير في هذا النص الشعري.

الموسيقى في قصيدة "نبقى على العهد":

رغم وجود فرق بسيط بين وزن القصيدة المتعلق بعروضها وقافيتها، وهو ما يسمى بالموسيقى الخارجية، وبين الايقاع في القصيدة الذي يسمى بالموسيقى الداخليّة، التي تتجلى في ذلك التناغم الداخلي الحاصل من النبر أو الصوت الداخلي للنص الناجم عن الحالة النفسيّة والشعوريّة وحتى الحالة الفيزيولوجيّة للشاعر التي تتطابق وتتناغم الحروف والكلمات وتنسجم مع الوحدة الموسيقيّة العامة، ومع تأكيدنا على هذا الفرق بين موسيقى الخارج والداخل.

لقد قامت قصيدة الشاعرة منال شاكر على البحر (البسيط،) وقد تجلى فيها تناغم الحروف، وبراعة اختيار الكلمات وتراكيبها وصورها، والترابط ما بين المعنى والمبنى، ليأتي الصوت أخيرا يحمل أهميّة كبيرة في التأثير على المتلقي، وهذا ما تجلى في قصيدة " (لنبقى على العهد). حيث تجلت موسيقى النص في تفعيلات البحر البسيط مع تناغم القافية في حرفي (الألف والباء) مع براعة اختيار الكلمات وتراكيبها وصورها، والترابط ما بين المعنى والمبنى. تقول:

في سرائهم لا أهل ولا نسب.. وفي ضرائهم نلنا سواد القلب والعتب...تبدو الوجوه إذا المال استقر بها.. وحين يجحد حق المرء تنسحب...كم من قريب إذا ناديته جفلاً..إلخ).

لقد استطاعت القصيدة في المحصلة، أن تعبر عن دواخلَ ومكنوناتٍ الشاعرة التي غالبا ما طمحت للتعبير عن واقع تعيشه، أو عن أحاسيس ومشاعر فياضة قلقة بحاجة للبوح بها، ولكون القصيدة التقليديّة تلزم الشاعر بالوزن والقافية، على حساب الفكرة، إلا الشاعرة استطاعت أن تحوز على الفكرة في قصيدتها وتربط بين المعنى والمبنى في بنيتها السريّة، وتجعل المتلقي يعيش حالة من التفاعل الايجابي معها كون القصيدة لا مست معاناة الكثير ممن يعاني من التفاوت الطبقي.

هناه بعض الكسور في الوزن، ولكن ما يصفح للشاعرة هو قدرتها الرائعة على تصوير قضية اجتماعية شغلت عقل معظم المفكرين والفلاسفة والحكماء عبر التاريخ.

***

د. عدنان عويّد

كاتب وباحث وناقد أدبي من سوريا

...........................

منال شاكر

نبقى على العهد

في سرائهم لا أهل ولا نسب..

وفي ضرائهم نلنا سواد القلب والعتب.

تبدو الوجوه إذا المال استقر بها..

وحين يجحد حق المرء تنسحب.

كم من قريب إذا ناديته جفلاً..

كأنه ما عرفنا لا ولا احتسب.

فالناس في فرح الأيام أخوة ود..

لكنهم في شقاء العمر قد شطبوا.

نبقى على العهد لا نرجو مكافأة...

فالعز في النفس لا يُشرى ولا يُهب.

فاصبر على الناس إن الصبر مرتبة..

تعلي المقام وإن جاروا وإن كذبوا.

نجربهم في كل حال.. فإذا بعض القلوب لنا..

وبعض القلوب قد شطبوا.

فلا خير في ود يذوب إذا اشتكينا..

ولا يد تُمد ثم تنسحب.

لكننا نرقى لنحفظ عهدنا..

فما خاننا خلق، ولا ذلنا نسب.

 

قراءات نقدية

مقدمة: هل صحيح أن تحليل أي عمل شعري يُفرغ سحره؟ أم أنه شيء نسبي يتغير بتغير طبيعة القصائد نفسها ومفاهيمنا وانطباعاتنا المتنوعة؟ على سبيل المثال، القصائد الغنية ومتماسكة البنى ومتنوعة الأبعاد لا تنغلق أبدًا على تفسير واحد، ولن تنتهي وجودها عند التعمق في ابعادها الدلالية والفنية والجمالية لمرة واحدة، وفي الحصيلة ووفقًا لمستوى فهم كل قارئ وشغفه ومستوى استمتاعه، يقرأ ويتأمل ويتلذذ من النصوص الابداعية.

هنا نتحدث عن ترجمة نص (الشارع) للشاعر المكسيكي الشهير أوكتافيوباث الذي ترجم إلى معظم لغات العالم الحية ودون فقدان قيمته الشعرية، وذلك بالطبع لتميزه. لأن الشعر الأصيل لا تزول قيمته بالترجمات العدة، لأنه غني بالافكار والصور والجمال الداخلي حتى ولو كانت لغته غير عجيبة في الالفاظ وليست غريبة في المعنی أو معقدة ووحشية في الاسلوب. وبذلك الصياغة اللغوية تبقى على المترجم في اللغة الثانية التي يقوم بترجمته اليها، لأن المصطلحات مثل الثياب والترجمة هنا تشبه تبديل الثياب، فالعبر بالجوهر ولو ان الصياغة اللغوية تكون لها الباع في تزين مداخل النصوص.

فعلى سبيل المثال عندما ترجم شعر الشاعر الكبير الجواهري لحبيبته (أنيت) في باريس والتي كتبت لها قصائد في ديوانه، قالت هذا ليس شعرا! مع انه الشاعر العربي الكبير، لكن تذهب المعطيات اللغوية ولا يبقى بعد الترجمة الا الفكرة والايقاع الداخلي للمفردات والمعان، الخالية من الغنى اللغوي، فهي تساءلت مترددا: ليس فيها ما يدل على أن صاحب هذه النصوص هو الشاعر العربي الأكبر.

وقد أشار الجرجاني في مٶلفاته الی هذه النقطة، حيث أن الالفاظ ليست في ذاتها مقصدا وشيئا تذكر، بل انها خادمة للمعان، وتظهر دورها في التركيب حيث يأتي دور وأهمية النظم. وبالأخص في زماننا المتسارع وقد تغيرت فيه وتيرة الامور وأصبح العالم قرية صغيرة وان معطيات العصر أثرت على الاذواق، مع ان البعض يرى ان زمن الوزن والقافية قد ولى، بغض النظر عن انهما يقيدان التخييل وحرية صياغة المضمون. لكن مع كل هذا سيبقى موروثا خالدا وسيستلهم الشعراء دوما من نبعها الصافي الاصيل.

سيرة الشاعر:

وُلد أوكتافيو باث عام ١٩١٤ في المكسيك لأب محامٍ وسياسي وأم من جنوب اسبانيا حيث تشجعه على تحقيق طموحاته الادبية، رغم انها كانت أمية.

كتب ديوانه الشعري الأول عام ١٩٣٣ في التاسعة عشرة من عمره، بعنوان "القمر الوحشي". ساند الجمهوريين ضد الفاشيين خلال الحرب الأهلية الإسبانية. سافر إلى الولايات المتحدة عام ١٩٤٣. وعاش في باريس من عام ١٩٤٥ إلى عام ١٩٥١، حيث التقى بسارتر وكامو وبريتون وغيرهم من الكُتّاب المشهورين. عمل دبلوماسيًا في أوائل الخمسينيات، مُثريًا تجاربه في آسيا والشرق، بما في ذلك اليابان والهند، حيث تعرّف على البوذية في عام ١٩٦٨، فالى جانب كونه شاعرا فقد كتب أيضا العديد من الدراسات النقدية والتأريخية والمقالات السياسية، تقاعد من العمل الدبلوماسي كرد فعل ضد قمع التظاهرات الطلابية بعنف. قضى الشاعر معظم حياته في المكسيك مع زوجته الرسام مير خوسيه. حاز على العديد من الجوائز الدولية في الشعر، بما في تلك جائزة نوبل للآداب عام ١٩٩٠. قبل أن توافيه المنية في ١٩نيسان ١٩٩٨.

باث يمشي على شارع العبث:

قصيدة باث هي نصٌّ مفتوح، ويرتبط ارتباطًا مباشرًا بفلسفة حياة البشرية. وجدتُ العديد من التحليلات المختلفة في بحثي لهذا النص وأنا أدون خيوط الفكرة وأراقب حركة الذات المكلومة في الأسطر مع تطلعات ورؤى وأسلوب الشاعرية.

خلال الخوض في هذا النص المفتوح يمكن أن نحصل على تفاسير عدة، في البدء نرى شارعًا هادئًا. صحيح إنه استعمل كرمز، ثم نستنبط بأن الذات المخاطبة قد قضت على الحياة بطريقة دراماتيكية، لا تعرف فيها بالضبط ما تريد تحقيقه. في لحظات ينحدر فيها النص في عتمات التيه ثم يحقق نفس التكرار الممل حيث يجد المخاطب نفسه في الماضي. ينظر إلى نفسه كما لو أن لا أحدا يراه، هل هذا هو الشعور بالدونية كما هي سائد في العالم الثالث والانسان ليس له الأولوية؟ لكنه يكافح مرارا وتكرارا أن يُرى أكثر من ذاته، أن يُساعده الظروف بأن يكون شخصًا أفضل مما كان عليه، ويسترد مكانته التي يليق به. هذه هي الرسالة الانسانية الخالدة للشعر.

اذا لاحظنا حركة الذات التائهة في السطرين الثالث والرابع، سنستنتج بأن باث لا يعرف ما يريده في هذه الحياة، ولذلك يُواصل مسيرته دون ملل وكلل.

في حين نرى في السطر الخامس: شخص خلفه يصطدم بالصخور ويغادر؛ هل هذا الشخص هو نفسه في الماضي؟ حيث يرمز الى استمرارية التسلق بمنحدرات واجتياز مطبات مسار الحياة.

عمومًا يستخدم باث في هذا النص استعارات ضمنية لرسم معظلته بعدم العثور على الذات أو افتقارها إلى الوجود المطلوب والمنظور كما يجب أن يكون.

(أمشي في الظلمة)

بما ان الظلمة هي كناية متعددة الاستعمال، يمكن أن يكون هنا في حال الشاعر أدأة لخلق الظروف السائدة التي وجد فيها الشاعر نفسه، وهويلمح في السطر الاعلى إلى عتمة حياة الوحدة والعزلة، حيث لا يرى شيئا في مكانه الصحيح، وهو يقضي معظم أوقاته متفرغا للتأمل والوحدة آملا وباحثا لمن يمتلأ فراغاته.

(إذا أتمهّل، يتمهّل)

في السطرين السادس والسابع: التكرار يعني لا هدفًا مُحددًا في الحسبان.

الإنسان مسؤول عن خياراته في الحياة، وعليه أن يترك أثرًا فيها. إن استمرارية الذهاب وعدم معرفة إلى أين يتجه، يُثير سؤالًا فلسفيًا للقارئ، مع ان معظم الناس يتعاطون مع الحياة حسب تداعيات ومتطلباتهم اليومية، لكن الشاعر هنا يخرج عن المألوف ويبحث عن أغلى ما يتفكر بە الشخص البسيط، فهو لا يرضى ولا يكتفي بأشباع غرائزه البشرية بل يتطلع الى اكبر من هذا بحثا عن تحقيق وجوده الايجابي والمعنوي وبحثه عن الآخر المشابه له خارجا من منافذ الذات المكلومة الى حياة ذات آفاق أوسع . كما ان اهتزازات الأقدام في الصعود والهبوط هنا هي مؤشر الى ما يواجهه الإنسان في درب الحياة، فلا وقوف عن المضي قدمًا، لكن هذا لا يُعطيه السيرورة وتقديرًا أو أطارا زمنيا مستقبليا لمعالجة قضية عدم وضوح الرؤية والملاذ.

يستمر كاريزما النص على هذا المنوال، ولا يرى سبيلًا للتغيير ومحاولة اتخاذ خطوات مختلفة. لذلك، عندما ينظر إلى نفسه، يجد نفسه في الماضي، وكأن هذا التخلف والعبأ السياسي قدر مكتوب للأجيال ويستحيل عليه تغييره.

ينظر أحد هواة الشعر من زاوية أخرى الى هذا النص ويكتب:

كتب باث هذا النص عام ١٩٦٣. حيث كانت حياته مُظلمة تمامًا ومحاطة باليأس، فلا يرى هنا نورًا، لأنه في الظلام ولا يرى حتى خطواته، والبعض يٶول هذا بنوع من التشاؤم، لكنە في الحقيقة لا يعتبر الا نظرة ثاقبة وواقعيية لما آل ويٶول اليه الأمور والمعطيات.

أخيرًا، أود أن أدعو وأشجع محبي الشعر الجاد إلى محاولة قراءة هذا النص من منظور فهمهم المتنوع الثري، لا كما أراه أنا أو غيري، فالقارئ المعاصر هو المنتج المكمل بعد اكتمال الشاعر من انتاج النص، وستبقى جميع القراءات السابقة مجرد آراء، وغنى النص هنا يستوجب قراءات جديدة ومتنوعة. وهذه هي سمة من سمات النص الثري، قد يٶدي الى ولادة استنباطات متعاكسة تماما حسب زاوية رٶية المتلقي وسليقته وتجاربه.

نستطيع القول بإن هذا النص ليس سهلا ولا هجينا، بل يتجاوز حدود الزمان والمكان، ويضمن بذلك مكوثه الخالد عند قراء الشعر الحقيقيين، بمعنى أن الشاعر لم يحصر حدود شعره في زمن أو بلد أو شخص معين. يمكن للشارع أن يوجد في أي مكان وزمان ويمكن أن يحتوي على مدلولات متنوعة، ويمكن للناس أن يسيروا عليه بطرق مختلفة ويدونوا عليه أيامهم وذكرياتهم وتجاربهم. لكن هنا الشارع فارغ من المارة، ويجد الشاعر نفسه فيه وحيدا– وهو يعيد الكرة ويمر عليه مرارًا وتكرارًا دون جدوی.

ومن النقاط المهمة التي لم أرها مذكورة سلفا، هي عدم الاحاطة بمغادرة منطقة الشارع، إما لأسباب خارجية كالمنع أو الغياب، أو لأسباب داخلية كالعجز أو عدم الرضا والاستسلام للقدر، فلا يخرج الشارع عن أطرنة المكان، وليس ذلك راجع الى ضيق أفق الرؤى ، بل هذا ما يقصده الشاعر عمدا في ارسال رسالته الشعرية، وهي ثيمة تهم الكل ولكننا نتفرع عندما يأتي الدور على فك مدلولات الشارع من منظورنا المتفاوتة.

هنا بأسلوب فريد ومختلف، يقسم الشاعر نفسه إلى تاريخين، أو شخصين؛ ماضٍ مظلم، وحاضر متكرر، فلا يخوض في الحديث عن المستقبل. نعم هذه هي الحقيقة والواقعية، فمن الصعب لشاعر ذو خبرة جمة أن ينخدع بأمل غير موجود في الواقع. إن دمه مكسيكي، لذا في عام ١٩٧١ ورغم كل المشاكل التي كان يعلم أنه سيواجهها هناك، قرر بالعودة إلى المكسيك بعد اغتراب طويل، حيث قام فيها بمراجعة وجوده الانساني والشعري.

وهذا التحليل يقودنا إلى شكل المعنى العام للنص، الذي يمكن تأويله بطرق مختلفة وأشكال ورسوم بيانية كما يلي:2180 soranكما يتسنى للناقد البنوي أن يرسم الشكل العام للمعنى في هذه القصيدة على شكل المعادلة التالية:

(الامل) محاولة--> (عدم الحصول على شيء)---> العودة إلى البدء (اليأس)

تجدر الإشارة هنا إلى نقطة مهمة حول ظلمة الشارع؛ أن الظلام الذي خيّم على الشارع ليس ماديًا، بل روحيًا، لأن الشاعر يرى فيه، كما يقول (حيث أتعقَّبُ رجلاً يتعثَّر وينهض)

في مقابلة مع ألفريد ماك آدم في نيويورك عام ١٩٩١، أشار الشاعر إلى فترة نفيه خارج المكسيك من عام ١٩٥٩ إلى عام ١٩٧١، التي قادته إلى كتابة هذه القصيدة. يقول الشاعر في المقابلة: "خلال رحلتي الثانية إلى الهند، بين عامي ١٩٦٢ و١٩٦٨، قرأتُ الكثير من النصوص الدينية والفلسفية. لقد أثرت فيّ الحركة الطلابية عام ١٩٦٨، وشعرتُ بطريقة ما، أن آمال وأهداف شبابي قد وُلدت من جديد. في الثاني من أكتوبر ١٩٦٨، قررت الدولة استخدام القمع الوحشي ضد المتظاهرين الطلاب. شعرتُ أنه لا ينبغي لي بعد الآن خدمة مثل هذه الحكومة، فانسحبتُ من العمل الدبلوماسي.

يظهر هذا الخطاب آفاق الشاعر الفكرية الواسعة وتوجهه التقدمي، مع أنّه شارك إلى جانب بابلو نيرودا في الثورة الإسبانية ضد الفاشيين.

***

سوران محمد

........................

الشارع

شارع طويل وهادئ.

أمشي في الظلمة وأتعثّر وأقَع

ثم أنهض، فأدوس بأقدام عمياء

أحجاراً صمَّاءَ وأوراقاً يابسة

يدوسها أيضاً شخصٌ ما خلفي:

إذا أتمهّل، يتمهّل؛

إذا أركض، يركض. أستدير: لا أحد.

كلُّ شيء مُعتم وبلا مخرج.

أخذت أدور وأدور طوال هذه الزوايا

المفضية دوماً إلى الشارع

حيث لا أحد ينتظرني أو يتبعني،

حيث أتعقَّبُ رجلاً يتعثَّر وينهض

وما إن يراني، حتى يقول: لا أحد.

***

المراجع:

مجلة باريس النقدية Paris Review. 1

Poemhunter, Octavio paz.2

المنار الثقافية الدولية، الشارع للشاعر أوكتافيو باث،عبدالقادر الجنابي .3

Wikipedia.4

تُقدّم قصيدة «امرأةٌ من نور الجزائر» نموذجًا غنيًّا للتعبير الشعري الذي يزاوج بين الخطاب الوطني والحنين الأنثوي، ويحول تجربة المرأة إلى رمزٍ مركزيّ في بناء الذاكرة الوطنية. تنطوي القصيدة على طبقات دلالية متعددة تتلاقى فيها اللغة والبلاغة مع البنية التاريخية والثقافية والعاطفية لتنتج خطابًا يجمع بين التكريم والاحتفاء والنشيد. تليها هنا قراءة نقدية منظمة وفق المحاور التسعة المطلوبة، مع الاستئناس بأمثلة نصية.

أولاً - الأسس اللغوية والبلاغية:

1. سلامة اللغة وبنية الأسلوب

اللغة في النص سليمة نحوياً ومتماسكة تركيبياً، لكنها شعريّة في حرية تركيبها وانزياحاتها التصويرية. يعتمد الخطاب أسلوب الجملة الإخبارية والمقطعية التماسّية، مع تكرار الجمل الانشائية في مواضع التوكيد. البنية تفضّل الاختزال المكثّف على التفصيل السردي، ما يمنح النص قوة دلالية وإيقاعًا خطابيًا مناسبًا للنشيد.

2. فصاحة اللفظ ووجاهة التعبير:

اختيار الألفاظ يميل إلى المبالغة المكرّسة (زهرة، صبرٌ مسكوبٌ في ذهب، صدرُ قارة للشهداء)، فيخدم وظيفة التمجيد. ثمة توازن عامّ بين اللفظ والمعنى: الألفاظ القوية تتوافق مع المشهد التاريخي والوجداني الموضوعي للنص. تُستخدم ألفاظ التراث (حفيدة الأمير، جميلة بوحيرد) كحججٍ منطقية وجمالية لإضفاء شرعية تاريخية.

3. الإيقاع والمعمار الصوتي:

النص مكتوب بنثرٍ شعريٍ خطابي لكنه يحافظ على موسيقى داخلية عبر:

١- التكرار الاستعادي: «يا امرأةَ الجزائر…»، «يا…»، «أنتِ…»؛

٢- التوازي البنيوي: «ابنةُ المناضل، أختُ الشهيد، أمُّ الأسير، زوجةُ الجريح»؛

٣- الترانيم الحروفية: تردد الحروف الشمسية والهمسية يعطي وقعًا مناسبًا للخطاب الاحتفالي.

القافية ليست تقليدية، لكن الإيقاع العام يصلح للإلقاء المسرحي والخَطابي.

ثانيًا - الأسس الجمالية والفنية:

1. البنية الفنية للنص:

البنية تقرأ كنصّ سيريّ/وصفيّ يتمحور حول شخصية محورية (المرأة) وتستعمل إطرًا تاريخية ورمزية. النص يجمع بين الحديث عن الدور الفردي والوظيفة الجماعية؛ يمتاز بتركيب مركزي: تقديم - تصعيد - تتويج/ختام. الزمن شعريّ متحوّل: زمن تاريخي (الذاكرة والثورة) يتداخل مع زمن حاضرٍ نابض.

2. الرؤية الفنية:

الرؤية فخرية-حنينية: ترى المرأة مؤسِّسًا معاشيًا وروحيًا للوطن. هناك انسجام واضح بين الشكل (النثر الشعري المكثف) والمضمون (التمجيد والذاكرة)؛ فالأسلوب الإيجازي يناسب البُعد الأسطوري الذي تمنحه الشاعرة للأنثى.

3. الطابع الإبداعي والانزياح الجمالي:

القصيدة تنتج دهشة عبر مزج الصور المتناقضة: «زهرة في قلب الصخر»، «صدر قارة للشهداء»، وبتوظيف السرد الجزئي (الأسيرة، الشهيد، الجريح). الانزياح هنا ليس مجرّد تجنّي لفظي بل عملية تشكّل رؤيوية تُعيد تركيب الواقع الشعوري.

ثالثًا - الأسس الفكرية والفلسفية:

1. الموقف الفكري للنص.

النص يحمل موقفًا تأويليًا للمرأة كشكل من أشكال الكينونة الوطنية: السؤال عن الحرية، التضحية، والمسؤولية الأخلاقية يتقاطع مع مشروع التذكّر والتحرير. ثمة إيمانٍ بالقوة الفاعلة للأنثى كقيمة أخلاقية وبناء حضاري.

2. الأفق المعرفي:

النص ينسج علائق مع المرجعيات التاريخية (الأمير عبد القادر، جميلة بوحيرد، بن مهيدي، فاطمة نسومر) ومع الذاكرة الثورية، وفي الوقت نفسه يستفيد من صور معرفية حداثية (المواطنة، ثقافة الفعل، عقلية المقاومة) ما يجعله معبرًا عن لقاء التراث بالحداثة.

3. البنية العميقة للمعنى (الهيرمينوطيقا)؛

القصيدة تُفضي إلى بنية معجمية رمزية تُعيد تعريف المرأة كـ«لغة الوطن»؛ قراءة هيرمينوطيقية تكشف طبقات: السطح (التمجيد)، الأوسط (الدور الاجتماعي الأسري والوطني)، والعمق (الأنثى كمبدأٍ خلّاق ومردّ إلى أصل تاريخي ومعنوي).

رابعاً - الأسس التاريخية والثقافية:

1. سياق النص:

القصيدة تستند إلى ذاكرة الاستعمار والمقاومة الجزائرية، وتُكتب في سياق احتفاليّ أو تأمّليّ بمآثر التحرر، ما يمنحها وظيفة تأريخية-تذكيرية.

2. تطوّر النوع الأدبي:

تقع القصيدة ضمن تيار النثر الشعري الوطني المعاصر الذي يمزج بين السرد والخطاب الشعري؛ تمثّل استمرارية لتقاليد النشيد الوطني والقصيدة الملحمية المصغّرة، مع إيقاع حداثيّ.

3. ارتباط النص بالتراث:

الاستدعاءات التاريخية والأسطورية (الأمير، جميلة…) تربط النص بالتراث المقاوم، بينما الصور الطقسية والدينية (الدعاء، الفجر) تكرّس تواصلاً بين الوعي الشعبي والتراث الرمزي.

خامساً - الأسس النفسية:

1. البنية الشعورية:

تسيطر على النص مشاعر الفخر، الحنين، الحزن الخفي، والفخر التكريمي؛ ثمة توازن بين العاطفة الفردية والوجدان الجمعي.

2. تحليل الشخصية:

المرأة هنا ليست شخصية منفردة بل تجريد لأدوار متعددة: ابنة، أخت، أم، زوجة - وهذا يمنحها تعقيدًا نفسياً ومآزقيًا: الحزن على الفقد، القوة عند المواجهة، الصبر كمناعة.

3. النبرة النفسية:

النبرة تجمع الحزم بالحنان: حنين محافظ، قوة لا تهدأ، وصوت احتجاجٍ متيقّن.

سادساً - الأسس الاجتماعية والسوسيولوجية:

1. علاقة النص بالواقع الاجتماعي:

القصيدة تعكس مشروعًا اجتماعيًا يقدّر دور المرأة في إعادة بناء المجتمع، وتستدعي قضايا الهوية والكرامة والطبقات (الكادح، المجهد).

2. الخطاب الاجتماعي داخل النص:

النص يندد ضمنًا بالاحتقار أو التقصير تجاه المرأة ويطالب باعتراف اجتماعي وتاريخي بمساهمتها.

3. الكاتب كفاعل اجتماعي:

الشاعرة تؤدي دورَ المثقف/المؤرّخ العاطفي: تذكّر، تؤرّخ، تحيّي، وتؤسّس خطابًا هجريًا للنهوض.

سابعاً - الأسس السيميائية:

1. العلامات والرموز؛

الزهرة، الصخر، النخلة، الفجر، الخبز، السلال - كلها علامات ذات دلالة مزدوجة: شخصية ووطنية. المرأة رمز للحياة والذاكرة والجيش الأخلاقي.

2. شبكات الدلالات:

تتبدّى ثنائية متكررة: حياة/موت، صبر/انتصار، خصوصي/عام، حضور/غياب. هذه الشبكات تُسهم في قراءة متعددة المستويات.

3. النظام الرمزي العام:

النظام يقدّم المرأة كخزان رمزيّ للتاريخ والكرامة ومركزًا لبناء المستقبل.

ثامناً - الأسس المنهجية:

1. الصرامة المنهجية:

هذه القراءة اعتمدت مقاربة متعددة المسالك: لسانية-أسلوبية، سيميائية، تاريخية-رمزية ونفسية، مع مراعاة التماسك والتحفّظ على التأويلات غير المدعومة نصيًا.

2. التوثيق العلمي:

الاستشهاد بالنص مقتبس ومؤطَّر؛ وإشارات الشخصيات التاريخية توضح التأطير المرجعي. في دراسة مطولة يمكن إضافة مراجع تاريخية وأدبية عن الذاكرة الجزائرية ودور المرأة.

3. الموضوعية النقدية؛

التحليل يلتزم النص ومناعه الداخلي دون الانجراف إلى التمجيد غير المدعوم أو التجريح.

تاسعاً - الأسس الإنسانية والجمالية العليا:

1. قيم الحرية والجمال:

القصيدة تحتفي بالحرية وتؤسّس لجمالية جديدة ترى في التضحية والمقاومة مصدرًا للجمال الأخلاقي والوجداني.

2. الانفتاح على التأويلات؛

النص مفتوح لقراءات تاريخية، نسوية، سيميائية وحتى سياسية، ما يجعله غنياً بالامكانية التأويلية.

3. البعد الإنساني الشامل:

تمرّ القصيدة من الخاص (دور المرأة في الأسرة) إلى العام (بناء الوطن)، فتلامس وجدانًا واسعًا وتستشعر قيمة الانسان وكرامته في سياق تحرري.

خاتمة

تجسّد قصيدة «امرأةٌ من نور الجزائر» عملًا شعريًا ذا وظيفة تأريخية ومجتمعية وجمالية في آن. تحوّل المرأة فيها إلى سُلّة رموزٍ تذكرنا بأنّ البناء الوطني لم يكن إلا فعلًا مشتركًا لصانعات الحياة وصانعات النصر. لغويًا وبلاغيًا، تؤدي القصيدة مهمتها ببلاغة مكثّفة وإيقاع خطابي مناسب؛ فلسفيًا وإنسانيًا، تضع المرأة في مركز السؤال عن الحرية والكرامة؛ ثقافيًا وتاريخيًا، تؤسس وصياغةً لخطاب الذاكرة. تبقى إمكانات الدراسة أوسع: يمكن توظيف مناهج نسوية مقارنة، أو سوسيولوجية تاريخية، أو تحليل خطابي لإخراج مزيد من طبقات المعنى ودلالاتها الاجتماعية والسياسية.

***

بقلم: عماد خالد رحمة - برلين

...........................

امرأةٌ من نور الجزائر

ناديا نواصر

على جذور الوعي، في مفارق الصحو الأولى، نهضتِ أنتِ-يا امرأةً من لهب الثورة-شامخةً كآيةٍ واثقة، سامقةَ الهمة، تفيضين حضورًا يضاهي كبرياء الأرض حين تستعيد روحها. مددتِ للروح معابر يقينها، وللوطن دربَه نحو انتصاره الذي صُنع من عظام الرجال ومن صبر النساء.

*

يا امرأةَ الجزائر…

يا زهرةً نبتت في قلب الصخر، لا يثنيها بردٌ ولا تكسرها ريح؛ يا جمالًا يستيقظ من طهارة الروح، لا من بهر الزينة. أنتِ التي مشتِ على دروب القهر بقدمين من صبرٍ مسكوبٍ في ذهب، وحملتِ الحياة كما تحمل الجبالُ أسرارها. لم تنحني جبهتكِ إلا في سجدةٍ تعيد ترتيب الكون في صدرك، وتسكب على الدنيا ضوءًا يشبهك.

*

فيكِ تجتمع رقةُ الندى واحتدامُ الحطب حين يشتعل؛ فيك حياءٌ يخجل منه الفجر، وقوةٌ تقول للّيل: لن تهزمني. في يمناك خبز الأسرة، وفي يسراك قلب الوطن، وفي صدركِ أصوات أبناءٍ تربّوا على شرفٍ لا يُشترى، بل يولد من دعائك ودموعكِ الصامتة.

*

يا امرأةً حميتِ الدار من برد، وحميتِ الوطن من ضياع؛ وقفتِ كالنخلة، لا يكسركِ ثقلُ السنين ولا تُطفئكِ أبواب الظلم المغلقة. فيكِ من الجمال ما يُورق الصحراء، ومن الرفق ما يلين الحجر، ومن العفة ما يجعل الملائكة تبارك خطاكِ، ومن الصبر ما يبني وطنًا على كتفيكِ وحدك.

منذ أول دعاءٍ بين يدي الفجر كنتِ: حارسة البيت، صانعة الرجال، أمّ الأجيال، ونبض الجزائر الذي لا يخبو.

*

يا حفيدة الأمير عبد القادر…

يا من تحملين في نبضك دمَّ جميلة بوحيرد، وفي صبرك سكونَ العربي بن مهيدي، وفي غضبكِ صليلَ فاطمة نسومر. يا ابنة مناضلٍ، وأخت شهيدٍ، وأم أسيرٍ لم ينكسر، وزوجة جريحٍ ينهض على نورك، ويا أختًا حملت رحيل الأحبة كمن يحمل وطنًا كاملًا في صدره.

*

يا امرأةً زُيّنت بثقافتها ورجاحة عقلها، فكانت مدرسةً تُخرّج الوعي قبل الأبناء.

يا سيّدةً حين انتصرت الجزائر، رأى الناس في عينيك زهو بلدٍ نهض من رماده، ورأى الوطن فيك وجهه حين يستردّ حريته.

*

من رحم الأنثى الحرة مددتِ للعيش الكريم معابر الحياة، وكتبتِ بدم الروح ملحمة الجزائر على صخر التاريخ. نحَتِّ الثورة، صارعتِ الريح، واعتليتِ منابر الشرفاء، ورافقتِ الشهداء إلى وهج النصر.

*

كنتِ ماءَ المقهورين حين يظمأون، وسماءَ الثورة حين تجوع الأرض.

كنتِ رغيف السنابل، ونبض السنين العجاف، وكتف الكادحين المتعبين.

رفعتِ الوطن بذراعين من شمس، وفي علياء نضالك تعلّمت الجزائر أبجديتها الأولى… أبجدية الفتح.

*

من تربةٍ طاهرة بزغ دهشك، وامتلأت سلال الزمن عنبًا ونرجسًا ويقطينًا.

أكنتِ الوهج الحاسم؟ أم الولادة الكبرى للتاريخ؟

يوم تلاقح الوعي وعاد المخاض، أشرقت الفتوحات.

*

ومن حنجرتكِ خرج موكبُ الذين يحملون نشيد الثورة، ليقوم شجر الحرية… مزهوًّا، لا يُقهر.

***

تأتي قصيدة «أوراقُ الليل» للشاعر أحمد يوسف داود بوصفها نصّاً ينهض على لغة مفعمة بالتوتر الوجودي، ويستثمر طاقة البلاغة الحديثة في تفكيك عتمة الإنسان ومعنى وجوده داخل عالم مهدّد بالسواد واللاجدوى. فهي قصيدة تتجاوز حدود القول الشعري إلى فعل تأويلي يشتبك فيه الصوت الداخلي مع مصائر الذات والجماعة، وتتداخل فيه الحكاية بالأسطورة، واللغة بالجرح، والليل بالقدر.

وتستهدف هذه الدراسة الكشف عن البنية المعقّدة للنص عبر محاور لغوية وجمالية وفلسفية ونفسية وسيميائية، تُضيء طبقات المعنى، وتلاحق شبكة الرموز، وتفحص الإيقاع والمعمار الفني، وتقرأ علاقة الذات بالعالم ضمن أفق اجتماعي وثقافي أوسع.

والغاية من ذلك ليست شرح القصيدة فحسب، بل الوقوف على آلياتها في إنتاج الدهشة والأسئلة، وفي تحويل التجربة الإنسانية إلى خطاب شعريّ تتقاطع فيه العتمة مع بحثٍ دائم عن نورٍ مؤجّل.

أولاً: الأسس اللغوية والبلاغية:

1. سلامة اللغة وبنية الأسلوب

يبني الشاعر نصّه وفق لغة مشبعة بالتكثيف الدلالي، تنزاح عن مباشرة الخطاب نحو فضاء مجازي كثيف. الجمل الشعرية تتوزّع على شكل مقاطع تنبض بتوتر داخلي، يُعتمد فيها على تراكيب تُجاور بين البساطة الظاهرة والعمق الرمزي.

من ذلك قوله:

«نحن يا صاحبي نتأرجح في الموت كي لا نموت بلا غاية.»

التركيب هنا ينطوي على مفارقة وجودية تُحدث زلزلة دلالية، حيث يصبح الموت حركةً تحمي من موت آخر، بما يعبّر عن صراع الكينونة.

الانزياح اللغوي حاضر بقوة، مثل:

«هذي السماء البسيطة عالقةٌ في يد الليل»

وهو انزياح يجمع بين التجسيد والإيحاء الكوني.

صياغة الشاعر سليمة نحويّاً، لكنها تتجاوز القواعد نحو فضاء شعريّ يسمح للغة بأن تحتشد بالرمز دون أن تفقد إيقاعها أو ترابطها.

2. فصاحة اللفظ ووجاهة التعبير

يختار الشاعر ألفاظاً مشحوذة الوقع: السواد، المقصلة، الجذوة، هباء، زبد، أطلال…

وهذه الألفاظ تُعطي النص طابعاً مأسوياً ووجودياً. العلاقة بين اللفظ والمعنى محكمة، فاللغة تتلاءم مع موضوع القصيدة: الحيرة، الموت، الفقد، القلق، وضياع المعنى.

الصور التعبيرية لا تتصيّد الغرابة، بل تخدم الموضوع؛ يظهر ذلك في قوله:

«من يجرجر أرواحنا في دم الأسئلة؟»

حيث يتجسّد السؤال كجرحٍ سائل، في علاقة متقاربة بين المعنى والتعبير.

3. الإيقاع والمعمار الصوتي:

على الرغم من أنّ النص مكتوب بأسلوب حرّ، إلا أنّ الموسيقى الداخلية واضحة:

١- التكرار: يا صاحبي، ليس الكلام المباح كثيراً، لنا ما لنا.

الجرس الصوتي الناتج عن اختيار حروف الصفير والهمس (س، ش، خ)، وهي تتلاءم مع أفق الليل والسواد.

٢- القافية الجزئية تظهر أحياناً: المائدة/الخامدة، الأسئلة/المقصلة، الجلجلة/المقبلة، بما يخلق تموّجاً إيقاعياً دون التزام صارم ببحر أو وزن.

ثانياً: الأسس الجمالية والفنية

1. البنية الفنية للنص:

القصيدة تنبني على معمارٍ سرديّ خفيف، يظهر في الحوار بين الشاعر و«الصاحب». السرد يتداخل مع التأمل، ومع البنية الشعرية المشحونة بالصور.

الزمن هو زمن الليل، لكنّه يمتد ليصبح زمناً وجودياً، يُشير إلى ضياع المعنى وتصدّع اليقين.

الشخصية الرئيسة هي الذات الشاعرة، لكن «الصاحب» يؤدي وظيفة المرآة والآخر الحميم الذي يتيح انكشافاً داخلياً.

2. الرؤية الفنية:

تقوم رؤية الشاعر على أن العالم محكوم بظلامٍ كثيف يجعل الكلام نفسه فعلاً محفوفاً بالخطر.

رؤية تشاؤمية—وجودية، لكنها ليست استسلامية، لأنها تُصرّ على سؤال الحقيقة:

«كيف إذاً يتفتح ورد الحقيقة فينا؟»

الشكل الشعري ينسجم مع هذا المضمون، فالأسلوب المقطّع، المتوتر، يرافق رؤية عالم مأزوم.

3. الطابع الإبداعي والانزياح الجمالي:

التجديد يظهر في القدرة على تحويل التجربة الفردية إلى خطاب كوني، عبر انزياحات تخترق العادة، مثل:

«الأرض تفاحة من هباء»

وهي صورة تجمع بين الامتلاء والفراغ في آن واحد.

ثالثاً: الأسس الفكرية والفلسفية

1. الموقف الفكري للنص:

القصيدة تنتمي إلى فضاء الوجودية المتشائمة: سؤال الموت، الغاية، المصير.

النصّ يرفض الكلمات السهلة:

«الكلام الأليف هزيمة روح»

وهذه عبارة تلخص رؤية نقدية للعالم وللخطاب السائد.

2. الأفق المعرفي:

يميل الشاعر إلى أسطرة اللغة عبر استدعاء «شهرزاد» و«السندباد» و«الجلجلة»، ما يعكس تمازجاً بين التراث العربي والروحي المسيحي والرموز الأسطورية.

3. البنية العميقة للمعنى (هيرمينوطيقا):

النصّ يخفي خلف سطحه خطاباً عن العجز الوجودي للإنسان المعاصر أمام قدرٍ غامض.

الليل رمز شامل: للغموض، الموت، القلق، انهيار القيم.

والصاحب رمز للإنسان المفكر الذي يبحث عن معنى وسط الانهيار.

رابعاً: الأسس التاريخية والثقافية

1. سياق النص:

تُحيل القصيدة إلى زمن عربي مأزوم، حيث السواد يخيّم على الأوطان، والأقدار تتحوّل إلى «زبد» و«خراب».

السياق التاريخي يُفهم باعتباره لحظة سقوط كبرى.

2. تطوّر النوع الأدبي:

القصيدة تقع داخل المسار المعاصر للشعر الحرّ، وتتميّز بمزج السرد بالشعر والاستعارة الكثيفة، بما يوازي تجربة القصيدة الحديثة الما بعد حداثية.

3. ارتباط النص بالتراث:

استدعاء الرموز: شهرزاد، السندباد، الجلجلة، المقصلة… يربط القصيدة بموروثات عربية وعالمية.

خامساً: الأسس النفسية

1. تحليل البنية الشعورية:

المشاعر السائدة: القلق، الفقد، اليأس، الحيرة، الخوف الوجودي.

الشاعر يكتب من منطقة مفاصل داخلية مهزوزة.

2. تحليل الشخصية (سردياً)

الذات الشاعرة شخصية متأرجحة، ممزقة بين القيود والبحث عن الضوء.

«الصاحب» هو الامتداد النفسي للذات، وليس شخصاً حقيقياً.

3. النبرة النفسية:

نبرة قاتمة، تنضح بالألم:

«لنا أفق من حداد.. وفاكهة من رماد.»

سادساً: الأسس الاجتماعية والسوسيولوجية

1. علاقة النص بالواقع الاجتماعي:

النص يعبّر عن مأزق عربي جماعي:

الخراب، الخوف، فقدان الأمل، غياب الحرية.

هو نصّ يصرخ من داخل مجتمع مأزوم.

2. الخطاب الاجتماعي:

القصيدة تطرح نقداً لثقافة القمع والصمت والخضوع.

3. الكاتب كفاعل اجتماعي.

الشاعر يكتب بوصفه شاهداً على انهيار عالمٍ كامل، وصوته يحمل حسّ الاحتجاج.

سابعاً: الأسس السيميائية.

1. تحليل العلامات والرموز.

١- الليل: الغموض، القدر، الموت.

٢- السواد: الحقيقة المأساوية للوجود.

٣- المقصلة: السلطة والقمع.

٤- الجلجلة: التضحية والفداء.

٥- الأسئلة: الدم، الجرح، البحث.

2. شبكات الدلالات:

الحياة/الموت — النور/الظلام — الأمل/العدم.

كلها تتصارع داخل النص.

3. النظام الرمزي:

الأشياء تتحوّل إلى علامات كبرى:

الأرض → تفاحة من هباء

الليل → سلطة عليا

الكلام → مخاطرة وجودية

ثامناً: الأسس المنهجية

1. الصرامة المنهجية:

التحليل يلتزم المفاهيم: أسلوبية، سيميائية، نفسية، تأويلية.

2. التوثيق العلمي:

الاقتباسات مأخوذة بدقة من النص ومفسّرة في سياقها.

3. الموضوعية النقدية

التحليل يتعامل مع النصّ لا مع سيرة الشاعر.

تاسعاً: الأسس الإنسانية والجمالية العليا.

1. قيم الحرية والجمال:

النص يصرخ من أجل حرية الروح ضدّ سواد القدر.

جمالية النص تنبع من صدقه وتجريده.

2. الانفتاح على التأويلات:

القصيدة قابلة لقراءات لغوية، رمزية، فلسفية، نفسية.

3. البعد الإنساني الشامل:

النص يعالج تجربة إنسانية كونية:

خوف الإنسان من مجهول الوجود، ومن عبثية القدر.

خاتمة:

تغدو «أوراق الليل» نصّاً يتجاوز حدود الشعر إلى فضاء فلسفي واسع، يُعيد تشكيل أسئلة الإنسان الأولى:

ما المصير؟ ما الحرية؟ كيف نصل إلى الحقيقة وسط الظلام؟

وتتبدّى قيمة القصيدة في قدرتها على تحويل التجربة الفردية إلى خطاب إنساني شامل، يكتب السواد من الداخل، ويعيد ترتيب الألم ليصبح مادةً جمالية عميقة، وصرخةً وجودية لا تنطفئ.

***

بقلم: عماد خالد رحمة - برلين

.........................

(أوراقُ اللَّيلْ)

قُلْ مراثيَّكَ الآنَ..

ليس الكلامُ المُباحُ كثيراً..

وليس لنا أنْ تُضيءَ الحِكاياتُ

في لَيلِ أقدارِنا..

أوتُخَبئَ آلامَ أسرارِنا..

حسبَما زَوّقتْ شَهرَزادْ!.

*

نحنُ ياصاحبي نتأرْجحُ في المَوتِ

كي لا نَموتَ بلا غايةٍ..

والكلامُ الأليفُ هَزيمةُ روحٍ..

فكُن واثِقاً إنْ نَطقْتَ

فليسَ لنا أن نُجازِفَ كالسِّندِبادِ!ِ..

كأنّا وُلِدنا لنُقتَلَ..

كيف إذاً يتفَتّحُ وَردُ الحَقيقةِ فينا

إذا لم يَكن حَولَنا غيرُ هذا السَّوادْ؟!.

*

لاتَهُزَّ غُصونَ الكَلامِ كثيراً..

أتعرِفُ أيُّ الثِّمارِ

سيسقُطُ مُرّاً على المائدَةْ؟!.

*

نحنُ تلكَ البقايا التي في يَدِ الخَوفِ

أقدارُنا زَبدٌ وخرابٌ..

فكيفَ لنا أنْ نُعابثَ أشلاءَنا

ونقولَ: (سنولِجُ فيها حياةً)؟!..

أتُوقَدُ نارٌ منَ الجَذوَةِ الخامدَةْ؟!.

*

من  يُجَرجِرُ أرواحَنا الآن ياصاحِبي

في دَمِ الأسئلةْ؟!.

*

مَن يُعِدُّ لها كلّما بَرَقتْ

شَفرَةَ المَقصَلةْ؟!.

*

إنّها صَرخَةٌ في مَتاهَةِ وَقتٍ غريبٍ

فهَيّئْ فُؤادَكَ للدَّمعِ..

هذي مَدينةُ قلبٍ بأطلالِها بينَ مَوتٍ

ومَوتٍ..

وكانتْ بِكِلمةِ عِشقٍ تذوبُ!.

*

فعلى أيِّ أُغنِيَةٍ تُسنِدُ الآنَ حُزنَكَ؟!..

هذي السّماءُ البَسيطةُ عالِقَةٌ في يدِ الليلِ..

والأرضُ تُفّاحةٌ من هَباءٍ..

على أيِّ ريحٍ ستنشُرُ ذاك الشِّراعَ القديمَ

وتَزعُمُ بحراً..

وميناءَ حُرّيّةٍ..

ونوارسَ بيضاً تُزقزقُ لاهِيةً؟!..

ثمّ تَزعُمُ أنّ الذي غادَرَ الرُّوحَ

في غَفْلَةٍ قد يؤوبُ؟!.

*

آهِ ياصاحِبي، تاجُ شَوكٍ لنا

ما اشتَهَيناهُ يوماً..

ودَربٌ إلى الجُلجُلةْ!.

*

ولَنا وَجعُ الشَّوقِ ياصاحِبي

للّذي لايكونُ..

لَنا أُفقٌ من حِدادٍ..

وفاكِهةٌ من رَمادٍ..

لَنا ما لَنا من سَوادٍ

لنَكتُبَ أحزانَ أيّامنا المُقبِلةْ!.

***

 

المقدمة: تتناول هذه الدراسة مقارنة فنية نقدية بين مجلتين تحملان الاسم ذاته "أبولو"، إحداهما روسية ذات طابع أدبي نقدي، والأخرى مصرية ذات طابع شعري رومانسي. تنبع أهمية هذه المقارنة من كون كلتا المجلتين تمثلان لحظة تحول في المشهد الأدبي في بلديهما، وتعكسان رؤى مختلفة حول وظيفة الأدب ودور النقد في تشكيل الوعي الجمالي والثقافي. كما تهدف الدراسة إلى إبراز التفاعل بين الفكر الجمالي والنقدي في كل تجربة، وتوضيح أثر كل منهما في تطور الأدب الحديث في بيئته الخاصة، مع توثيق وتحليل النصوص والمقالات المنشورة في كل مجلة ضمن سياقها التاريخي والثقافي.

إشكالية البحث:

هل تعد مجلة أبولو المصرية هي أولى مجلة أدبية تحمل هذا الاسم أدبيا في العالم كما هو مشهور في العالم العربي؟

اشتهر عند كثير من الأدباء في العالم العربي أن جماعة ابولو المصرية هي التي استعارت اسم أبولو من اليونانية ووضعوه اسما على الجماعة الأدبية الجديدة، ولما أصدرها المجلة سموها باسم أبولو أيضا.

هذا المشهور في المصادر العربية في تاريخ الأدب الحديث.

وبناء عليه،فكأن ابولو المصرية هي أول من استعار الاسم لمجلة فنية أدبية، غير أن الباحث وجد أو نيكولاي غوميلوف سبق الجماعة بسنوات في تسمية مجلته باسم ابولو، كما سيأتي لاحقا.

أهمية إجراء دراسة فنية نقدية مقارنة بين مجلة أبولو الروسية الأدبية النقدية ومجلة أبولو المصرية الشعرية

تكتسب الدراسة الفنية النقدية المقارنة بين مجلة أبولو الروسية الأدبية النقدية ومجلة أبولو المصرية الشعرية أهمية علمية وثقافية كبيرة، لما تحمله من أبعاد فكرية وجمالية تتجاوز حدود الزمان والمكان، وتفتح آفاقًا جديدة لفهم التفاعل الأدبي بين الشرق والغرب. ويمكن تلخيص أهمية هذه الدراسة في النقاط الآتية:

إبراز التفاعل الحضاري والأدبي بين الثقافتين الروسية والعربية

المقارنة بين المجلتين تكشف عن مدى تأثر كل منهما بالتحولات الفكرية والأدبية في بيئتها، وتوضح كيف عبّرت كل حركة عن رؤيتها للحداثة، والإنسان، والفن، في سياقين ثقافيين مختلفين.

تحديد ملامح التجديد في الخطاب الأدبي والنقدي

مجلة أبولو المصرية (1932–1934) مثّلت ثورة شعرية رومانسية في الأدب العربي، بينما كانت أبولو الروسية (القرن العشرون المبكر) منبرًا للنقد الأدبي والفني الطليعي. المقارنة بينهما تساعد على فهم كيف تجلّت مفاهيم التجديد، الذات، والخيال في كل تجربة.

تحليل البنية الفنية والاتجاهات الجمالية

الدراسة المقارنة تتيح تحليل الأساليب الفنية، والمناهج النقدية، واللغة الجمالية التي اعتمدتها كل مجلة، مما يثري البحث في تطور النقد الأدبي والشعري في الثقافتين.

إثراء الدراسات المقارنة في الأدب العالمي

هذا النوع من الدراسات يسهم في توسيع مجال الأدب المقارن، ويعزز الحوار بين المدارس الأدبية المختلفة، ويكشف عن نقاط الالتقاء والاختلاف في الرؤية الفنية والإنسانية.

تسليط الضوء على دور المجلات الأدبية في تشكيل الوعي الثقافي

كلتا المجلتين كانتا منابر فكرية مؤثرة في زمنهما، أسهمتا في توجيه الذوق الأدبي وصياغة الاتجاهات النقدية، مما يجعل دراستهما معًا مدخلًا لفهم دور المجلات في صناعة النهضة الأدبية.

إعادة قراءة التراث الأدبي في ضوء المقارنة

المقارنة تفتح المجال لإعادة تقييم الإرث الأدبي والنقدي لكل من المدرستين، وتساعد على استكشاف أوجه الإبداع والتجريب التي قد تكون غابت عن الدراسات الأحادية.

بهذا، تمثل الدراسة المقارنة بين مجلتي أبولو الروسية والمصرية جسرًا معرفيًا بين ثقافتين، وتُعدّ خطوة مهمة نحو بناء رؤية نقدية عالمية تتجاوز الحدود اللغوية والجغرافية، وتؤكد وحدة الإبداع الإنساني في تنوعه.

أهداف الدراسة

الكشف عن الخلفيات الفكرية والجمالية التي أسست لكل من المجلتين.

تحليل البنية الفنية والنقدية في كل مجلة.

دراسة أثر كل مجلة في تطور الحركة الأدبية في بيئتها.

المقارنة بين المنهج النقدي في أبولو الروسية والمنهج الشعري في أبولو المصرية.

إبراز أوجه التشابه والاختلاف في الرؤية الجمالية والرسالة الثقافية لكل منهما.

تقديم توصيات ومقترحات لتطوير الدراسات المقارنة بين التجارب الأدبية العربية والعالمية.

منهج الدراسة

تعتمد الدراسة على المنهج المقارن التحليلي، من خلال:

تحليل النصوص المنشورة في المجلتين.

دراسة المقالات النقدية والبيانات التأسيسية.

تتبع السياق التاريخي والثقافي لكل مجلة.

المقارنة بين الاتجاهات الفنية والنقدية والجمالية.

توثيق الإحالات إلى المصادر الأصلية والمراجع النقدية ذات الصلة، مثل دراسات الأدب الروسي الحديث (بختين، 1981؛ لوتمن، 1990) ودراسات الشعر العربي الحديث (شوقي ضيف، 1983؛ إحسان عباس، 1992).

المحور الأول: الإطار التاريخي والثقافي

1. أبولو الروسية

نشأت مجلة أبولو الروسية في سياق التحولات الفكرية والأدبية في روسيا ما بعد الثورة البلشفية (1917)، حيث شهدت البلاد حراكًا ثقافيًا واسعًا سعى إلى إعادة تعريف دور الأدب في المجتمع. اتسمت المجلة بطابع نقدي فلسفي، ركز على تحليل النصوص الأدبية من منظور اجتماعي وجمالي، وضمت نخبة من النقاد والمفكرين مثل ألكسندر بلوك، وأندريه بيلي، وفلاديمير لوسيف، الذين سعوا إلى تأسيس رؤية جديدة للأدب الروسي الحديث تقوم على التفاعل بين الفكر والفن.

(انظر: Terras, Victor. A History of Russian Literature, 1991)

2. أبولو المصرية

تأسست مجلة أبولو المصرية عام 1932 على يد الشاعر أحمد زكي أبو شادي، في ظل حركة التجديد الشعري في مصر. مثلت منبرًا للرومانسية العربية الحديثة، ودعت إلى التحرر من قيود التقليد الشعري. احتضنت شعراء من مختلف الأقطار العربية مثل إبراهيم ناجي، وعلي محمود طه، وأبي القاسم الشابي، وأسهمت في بلورة الحس الجمالي الحديث في الشعر العربي، فكانت صوتًا للتجديد والحرية الفنية في مواجهة الجمود الكلاسيكي.

(انظر: أبو شادي، البيان الأبولي الأول، 1932؛ شوقي ضيف، الفن ومذاهبه في الشعر العربي، 1983)

المحور الثاني: البنية الفنية والنقدية

1. في أبولو الروسية

اعتمدت المجلة على المقال النقدي التحليلي، والمراجعات الأدبية، والدراسات النظرية. ركزت على العلاقة بين الأدب والمجتمع، والأدب والفكر الفلسفي، واتسمت لغتها بالصرامة الأكاديمية والعمق المفاهيمي. كانت ساحة لتجريب المناهج النقدية الحديثة، مثل البنيوية المبكرة والتحليل النفسي للأدب، كما تأثرت بأفكار الشكلانيين الروس مثل رومان ياكوبسون وفيكتور شكلوفسكي.

(انظر: Shklovsky, Theory of Prose, 1925)

2. في أبولو المصرية

غلب على المجلة الطابع الإبداعي الشعري، مع مقالات نقدية ذات نزعة وجدانية. اهتمت بالخيال والعاطفة والرمز والموسيقى الشعرية. شكلت مدرسة فنية قائمة على الجمال والتعبير الذاتي، واحتفت بالذات الشاعرة بوصفها محور التجربة الجمالية. كما قدمت نقدًا أدبيًا ذا طابع وجداني، يهدف إلى تذوق الجمال أكثر من تحليله علميًا.

(انظر: إحسان عباس، اتجاهات الشعر العربي المعاصر، 1992)

المحور الثالث: الرؤية الجمالية والفكرية

1. أبولو الروسية

نظرت إلى الأدب بوصفه أداة لفهم الإنسان والمجتمع، وتبنت رؤية نقدية عقلانية تمزج بين الجمال والفكر. سعت إلى تأسيس نقد أدبي علمي يوازن بين الشكل والمضمون، ويعتمد على التحليل المنهجي للنصوص. كانت ترى أن الأدب مرآة للواقع، لكنه في الوقت ذاته وسيلة لتجاوزه نحو وعي أعمق بالوجود الإنساني.

(انظر: Bakhtin, The Dialogic Imagination, 1981)

2. أبولو المصرية

نظرت إلى الشعر كوسيلة للتعبير عن الذات والوجدان، وتبنت رؤية جمالية مثالية تمجد العاطفة والخيال. ركزت على التجربة الفردية والبحث عن الجمال المطلق، معتبرة أن الشعر رسالة روحية تسعى إلى السمو بالإنسان نحو المثال الأعلى. وقد انعكست هذه الرؤية في قصائد إبراهيم ناجي وأبي القاسم الشابي، حيث تماهى الشعر مع الحلم والحرية والبحث عن المطلق الجمالي.

المحور الرابع: الدراسة المقارنة بين المجلتين:

دراسة مقارنة بين النصوص الأدبية المنشورة في مجلتي أبولو الروسية والمصرية

تُعد مجلة أبولو المصرية (1932–1934) من أبرز المنابر الأدبية التي أسهمت في تجديد الشعر العربي الحديث، إذ أسسها الشاعر أحمد زكي أبو شادي لتكون صوتًا لحركة التجديد الرومانسي في الأدب العربي. أما مجلة أبولو الروسية (Аполлон)، فقد صدرت في سانت بطرسبورغ بين عامي 1909 و1917، وكانت من أهم المجلات الأدبية التي مثّلت التيار الرمزي في الأدب الروسي، واحتضنت كبار الشعراء والنقاد مثل ألكسندر بلوك وميخائيل كوزمين وأندريه بيلي.

يحمل اسم "أبولو" في كلتا المجلتين دلالة رمزية على النور والفن والإلهام، مما يعكس تطلع الأدباء في كل من روسيا ومصر إلى تجاوز المألوف نحو آفاق جمالية وروحية جديدة.

أولًا: الخلفية الفكرية والجمالية

نشأت أبولو الروسية في سياق ثقافي متأثر بالرمزية الأوروبية، حيث كان الأدب الروسي يبحث عن الروح والمعنى الماورائي في مواجهة المادية والاضطراب السياسي الذي سبق الثورة البلشفية. وقد عبّر ألكسندر بلوك عن هذا التوجه في قصيدته «الغراب» حين قال:

أما أبولو المصرية فقد ظهرت في مرحلة النهضة الأدبية العربية، متأثرة بالرومانسية الغربية، لكنها سعت إلى مواءمة الحس الجمالي الغربي مع الروح الشرقية والعربية. وقد عبّر أحمد زكي أبو شادي عن هذا التوجه في قصيدته «الطائر الحائر».

ثانيًا: الموضوعات الأدبية

في أبولو الروسية، تركزت النصوص على الروح، الغموض، الجمال المثالي، والبحث عن المطلق، وغلب عليها الطابع الفلسفي والتأمل الوجودي. كتب ميخائيل كوزمين في إحدى قصائده المنشورة في المجلة:

أما أبولو المصرية فقد تناولت الوجدان، الحنين، الطبيعة، الحب، والاغتراب الروحي، مع نزعة إنسانية واضحة تميل إلى التعبير عن الذات والعاطفة. يقول إبراهيم ناجي في قصيدته «العودة»:

ثالثًا: اللغة والأسلوب

اللغة في أبولو الروسية تميل إلى الرمزية الكثيفة، والإيحاء، والتجريد، مع استخدام الصور الغامضة والرموز الميتافيزيقية. يظهر ذلك في شعر أندريه بيلي الذي كتب:

أما اللغة في أبولو المصرية فهي أكثر شفافية وعاطفية، تمزج بين الموسيقى اللفظية والخيال الرومانسي، وتجنح إلى البساطة التعبيرية رغم عمق المعنى. كما يقول علي محمود طه في قصيدته «المساء»

رابعًا: البنية الشعرية والفنية

اعتمد الشعر الروسي في أبولو على الإيقاع الداخلي والرمز، مبتعدًا عن الشكل التقليدي، ومقتربًا من الشعر الحر في بعض التجارب المبكرة. وقد دعا كوزمين إلى "تحرير القصيدة من قيود الوزن لتصبح موسيقى الروح" (أبولو الروسية، العدد 9، 1914).

أما الشعر العربي في أبولو المصرية فظل محافظًا على الوزن والقافية، لكنه جدد في الصورة والمعنى، ومهّد لظهور الشعر الحر لاحقًا. وقد كتب أبو شادي في افتتاحية المجلة:

خامسًا: الدور الثقافي والتأثير

أسهمت أبولو الروسية في ترسيخ الرمزية الروسية، وكانت جسرًا بين الأدب الروسي والاتجاهات الأوروبية الحديثة، إذ نشرت ترجمات لأعمال بودلير ومالارميه، مما عمّق التفاعل بين الرمزية الفرنسية والروح الروسية.

أما أبولو المصرية فقد مثّلت نقطة تحول في الشعر العربي الحديث، ومهدت لظهور مدرسة الديوان ومدرسة المهجر، وأسهمت في بلورة الحس الفردي في الشعر العربي، كما أثّرت في شعراء لاحقين مثل نازك الملائكة وبدر شاكر السياب.

تُظهر المقارنة بين المجلتين أن كليهما حمل اسم "أبولو" رمزًا للجمال والفن والنور، وأنهما مثّلتا في بيئتيهما حركتين تجديديتين تسعيان إلى تجاوز التقليد نحو التعبير عن الذات والروح. غير أن أبولو الروسية كانت أكثر فلسفية وتجريدًا، بينما أبولو المصرية كانت أكثر وجدانية وإنسانية، مما يعكس اختلاف السياقين الثقافي والحضاري بين روسيا ومصر في مطلع القرن العشرين.

لقد التقت المجلتان في سعيهما إلى جعل الشعر وسيلة للسمو الروحي، وإن اختلفت لغتهما ورؤاهما، فكانتا معًا شاهدتين على أن الفن، في جوهره، بحثٌ دائم عن النور الذي لا يُطفأ.

 المقارنة التحليلية بين المنهجين

1. المنهج النقدي في أبولو الروسية

يقوم على التحليل العلمي للنصوص الأدبية.

يعتمد على أدوات فلسفية وسوسيولوجية.

يربط الأدب بالبنية الاجتماعية والفكرية.

يسعى إلى تأسيس نظرية نقدية متكاملة للأدب الروسي الحديث.

2. المنهج الشعري في أبولو المصرية

يقوم على التجربة الذاتية والوجدان الفردي.

يركز على الصورة الشعرية والموسيقى الداخلية.

يربط الشعر بالخيال والروح والجمال.

يسعى إلى تحرير الشعر من القوالب التقليدية.

3. نقاط الالتقاء والاختلاف

الالتقاء: كلا المجلتين تمثلان ثورة على السائد الأدبي في بيئتهما، وتسعيان إلى تجديد الخطاب الجمالي.

الاختلاف: أبولو الروسية نقدية عقلانية تحليلية، بينما أبولو المصرية وجدانية مثالية. الأولى تنطلق من الفكر نحو الجمال، والثانية من الجمال نحو الفكر.

النتائج العلمية والتوصيات

النتائج العلمية

أثبتت الدراسة أن مجلة أبولو الروسية أسهمت في تأسيس النقد الأدبي العلمي في روسيا الحديثة، وربطت الأدب بالتحليل الفلسفي والاجتماعي.

كشفت الدراسة أن مجلة أبولو المصرية كانت منطلقًا للحركة الرومانسية العربية، وأسهمت في تجديد اللغة الشعرية وتحرير الخيال العربي.

أظهرت المقارنة أن التفاعل بين الفكر والجمال يختلف باختلاف السياق الثقافي؛ ففي روسيا ارتبط النقد بالتحليل العقلي، بينما في مصر ارتبط الشعر بالوجدان والعاطفة.

بينت الدراسة أن كلا التجربتين تمثلان نموذجين متكاملين لفهم الأدب بوصفه ظاهرة إنسانية تتجاوز الحدود الجغرافية والثقافية.

أكدت النتائج أن الدراسات المقارنة بين الأدب العربي والعالمي تفتح آفاقًا جديدة لفهم التفاعل الحضاري والجمالي بين الثقافات.

التوصيات

تشجيع الدراسات المقارنة بين المجلات الأدبية العربية والعالمية.

توثيق التراث النقدي العربي وربطه بالتحولات الفكرية العالمية.

إدماج مناهج النقد المقارن في الدراسات الجامعية للأدب.

إعادة نشر وتحقيق أعداد مجلة أبولو المصرية والروسية لتيسير البحث الأكاديمي فيها.

تطوير منهج نقدي عربي حديث يستفيد من التجارب العالمية دون أن يفقد خصوصيته الثقافية.

***

د. خليل حمد الأزهري 

..........................

المراجع

أبو شادي، أحمد زكي. البيان الأبولي الأول. القاهرة، 1932.

إحسان عباس. اتجاهات الشعر العربي المعاصر. بيروت، 1992.

بختين، ميخائيل. الخيال الحواري. موسكو، 1981.

شوقي ضيف. الفن ومذاهبه في الشعر العربي. القاهرة، 1983.

Shklovsky, Viktor. Theory of Prose. Moscow, 1925.

Terras, Victor. A History of Russian Literature. Yale University Press, 1991.

Lotman, Yuri. The Structure of the Artistic Text. Moscow, 1990.

 

يحيل عنوان المجموعة الشعرية (عند منتصف الهذيان)(1) للشاعر علي اللبيب، إلى بنية ظرفية مكانية، تنفتح على نقطة التقسيم بين طرفين متساويين وهو المنتصف، والهذيان هو اضطراب يصيب الوعي؛ لأسباب كامنة في النفس، ويسبب الخروج عن المنطق والمألوف.. والعنوان ببنيته الظرفية هذه بوصفه فضاءً، وبنيةً قائمةً تعتلي هذه القصائد لتشتبك معها وتقتنص اللحظة الشعرية المناسبة غير المرئية بل المحسوسة.. (إن حبك يُوَلِّدُ في داخلي الكآبة / فلا تضجري / ولا تهربي / فأخيراً قد عرفتُ / أن حبك قد علمني الكتابة) فحضور الآخر طاغٍ في النص المؤكد بحرف التوكيد(إنَّ) ضمن تقنية التوازي الشعري المكرر (إن حبك يُوَلِّدُ في داخلي الكآبة / إن حبك قد علمني الكتابة) وقد ورد الجناس غير التام (الكآبة / الكتابة) كطفلين توأمين لهذا الحب.. ويقف الشاعر عن المنتصف لهذيانات حبه كي يحقق التوازن بين المألوف وغير المألوف إذ إن نقطة المنتصف دائماً توحي بالوسطية والاتزان في عالم شفاف كعالم الحب، وما يعتريه من هواجس قلق وشغف وخوف (أنا خائفة يا صديقي / ليس من الضياع / بل ما بعد ضياعي / الصمت يحرق أحلامي / الصبر يحرق أيامي / كما يحترق الدمع) فالضمير الذاتي للمتكلم (أنا) يؤكد خصوصية هذه الخوف، بل من الاستلاب الذي يكمن ما بعد الضياع، يشتغل الشاعر على الصورة الفنية بتوظيف استعاري جميل؛ إذا جعل من الصمت والصبر مادتي للإحراق حرق الأحلام والأيام..

وبهذا خلق نوعاً من التأثيرية الذهنية اليائسة.. فالإنسان المحروق الأحلام والأيام هو إنسان محطم وضائع.. يرسم لنا الشاعر حبيبته من خلال التشبيه والثنائيات الضدية (الطباق) كي يعطينا شدة الوله والوجد الصوفي (حبيبتي كالبحرِ في أفعالها / فمرةً معي ومرةً ضدي / ومرةً تضحكُ ومرةً تبكي / لكنني أحبها) فالشاعر بين مد وجزر معها وفي حالة حيرة من عدم استقرار حالتها معه.. فهو في حالة تأرجح معها وعلى الرغم من ذلك (لكنني أحبها) وتجدر الإشارة هنا أن توظيف حرف الاستدراك (لكن)

يؤكد استقراره على حبها على الرغم من حالة عدم استقرارها معه؛ وإن الأداة لكن كما هو معروف تفيد الاستدراك وإثبات حكم مخالف لما قبلها..

استعمل الشاعر كما أسلفنا في نصوصه الشعرية صوراً حسيةً ومعنويةً ورمزية وتناصية ومن الصور الرمزية التي تتجه صوب التصوف وخصوصية التجربة الشعرية عنده وتعطي شدة الإيحاء لعالمه الشفاف وإشراقه الروحي قوله (أتأملُ عينيك / فتطول رحلتي) فالجملة فيها طاقة تعبيرية كبيرة، فالـتأمل فعل يلازم طول الرحلة، لكن لا يهم طول الرحلة وعدم نهايتها، أمام العينين الجميلتين !!.. فهو هائم في متاهة هذيانه حتى لو كانت الرحلة طويلة.. أما التناص فقد جاء يعزف على أوتار الروح وبوحها (ووجهٌ مثلُ روما / كل الوجوه تؤدي إليهِ / سلامٌ من الله عليهِ) فالتناص واضح مع المثل المشهور كل الطرق تؤدي إلى روما.. فالوجه في الشعر هو هوية الإنسان التي تعكس مشاعره وجماله ومرآة للشخصية والروح فهو وسيلة للتواصل البصري والقلبي غير اللفظي.. فالشاعر في حالة بهجة وفرح لهذا الوجه الجميل، فهو يثني عليه ويدعو له بالسلامة.. الشاعر علي اللبيب لا يرهق قارئه بطول النص، فهو يجيد استعمال نبرة الكلمة وموسيقى الجملة

***

د. مثنى كاظم صادق

.........................

(1) عند منتصف الهذيان، نصوص شعرية، علي اللبيب، مؤسسة ثائر العصامي ط1 ـــــــــ 2016م. 

 

تحتفي قصة «سعلةُ أبٍ غائب» للكاتب والقاص الفلسطيني زياد خداش بلغةٍ رقيقةٍ ولحظةٍ بسيطةٍ ظاهرياً لتفتح أمام القارئ أفقاً واسعاً من الدلالات: الاغتراب، الذاكرة، الحضور/الغياب، ووزن الحنين في الوعى اليومي. تبدو السعلة كَعَلَمٍ صِغيرٍ يحمل طيفاً من الحضور المفقود، وكرمزٍ يجسّد علاقة الأجيال بالموت والغياب وبالآباء بوصفهم غياباً يحفر حركات الجسد واليوميات. تسعى هذه الدراسة إلى تفكيك بناء النص وظلاله الجمالية والفكرية والنفسية والاجتماعية وفق محاور نقدية منهجية، وربطه بإمكاناته الدلالية والمعرفية.

أولاً: الأسس اللغوية والبلاغية:

1. سلامة اللغة وبنية الأسلوب

اللغة في النص مشحونة ببساطةٍ قابلةٍ للاشتغال: جمل قصيرة، تواتر سردي متوازن، واستخدام طفيفٍ للانزياحات البلاغية التي لا تجهد القارئ بل تقوده نحو عمق الشعور. تركيب الجمل يميل إلى التكرار الدالّ (مثل «لا لا، مش هاي عمو») الذي يستدعي الموسيقى الكلامية ويجعل من العبارة طقساً صوتيّاً ذا معانٍ. يعمد الراوي إلى السرد الحافّ بالملاحظة اليومية بدلاً من استرسالٍ فلسفي؛ هذا الأسلوب يعزّز واقعية المشهد ويجعل انفعال المتلقي أقرب.

2. فصاحة اللفظ وملاءمته للموضوع:

الاختيار اللفظي بسيط ووافٍ: «سعلة»، «الطفلة الضرير»، «المدرسة»، «العمو» — كلمات شائعة تشتغل بتكثيف دلالي. هذا التناسب بين اللفظ والموضوع يمنح السرد قدرة على حمل تأويلات معتمدة على التداول العامي (الخطاب الشعبي/اليومي) مما يرسّخ مصداقيته الاجتماعية ويمنحه طابعاً إنسانياً دافئاً.

3. الإيقاع والمعمار الصوتي:

الإيقاع الداخلي للنص ينبني على تكرار جمل قصيرة وعبارات توقيفية (التقطعات، الاسترجاع المتكرر للمقطع «بدّي زي الأولى»)، ما يمنح السرد نغمة إيقاعية تشبه الهتاف أو النشيد الباطن. الصوتٌ السردي يقفز بين التذكّر والحدث الحاضر، فيخلق موسيقى داخلية تعتمد على صدى الكلام المتبادل بين الراوي والطفلة ومونولوجه الداخلي.

ثانيًا: الأسس الجمالية والفنية.

1. البنية الفنية للنص:

الهيكل السردي بسيط لكنه محكم: مشاهد متقطعة (اللقاء الأول، اللقاؤ اللاحق، سجال السعال في الصف)، وسرد يمتدّ عبر زمنين: زمن الحاضر والزمن التذكاري. الشخصيّة السردية ليست موضع تحليلٍ طويل؛ بل تُعرض انفعالاته وانشغالاته البسيطة المتولّدة عن حدثٍ صغير يتحوّل إلى مشتركٍ ذهني. التوتر الدرامي يتولد من تضادّ رغبة الطفلة في سعال «الراحل» ورغبة الراوي المقيمة في محاكاة ذلك، فتصير السعلة محور فعل وابتلاء.

2. الرؤية الفنية:

يبني خداش نصّه من منظار متسامع مع التفاصيل الصغيرة، مطموسٍ عن البلاغة الرنانة، معتمداً على «اللمح» لا «الشرح». هذه الرؤية تجعل من الحدث اليومي منفذاً لأفكار أوسع عن الوجود والذاكرة والغياب. الحوار السردي والعبارات المتكررة تعمل كآلية لتكثيف المعنى بدلًا من التوجيه المباشر.

3. الطابع الإبداعي والانزياح الجمالي:

الانزياح الجمالي في قصة زياد خداش يكمن في منح «السعلة»، وهي فعل جسدي تلقائي، صفةُ علامةٍ تاريخية ومعرفية. هذا النقل الاستعاري يعيد تشكيل الرمز: من عطية جسدية إلى مفتاح ذاكرة، ومن سلوك عابر إلى مرجعٍ للهوية. قدرة النص على صناعة الدهشة تنبع من إبقاءه على بساطة السرد مع ضخّ أوهام دلالة واسعة تحت سطح الكلمات.

ثالثًا: الأسس الفكرية والفلسفية:

1. الموقف الفكري للنص:

قصة «سعلة أبٍ غائب» تطرح سؤالًا وجودياً هشّاً: كيف يعالج الإنسان غياب من أحبه؟ وكيف تستحضر الذاكرة غياباً متلبّساً بأفعالٍ صغيرة؟ النص لا يقدم إجابات، بل يقيم حالةً معرفية حيث يصبح الحاضر معرضاً لتمثّلات الماضي التي تخترق الفعل اليومي.

2. الأفق المعرفي والمرجعيات:

يمكن القراءة ضمن سياق أدب الذاكرة والغياب في السرد الفلسطيني والعربي عموماً، حيث تصبح الأشياء الصغيرة مماثلاتٍ لندوبٍ تاريخية. النص يشترك مع تقاليد الذاكرة الأدبية في إضاءة تفاصيل يومية لتجسيد غياب أكبر؛ لكنه يلفّها بلغة حميمية لا تصعد إلى الخطاب السياسي المباشر.

3. هيرمينوطيقا النص:

السعلة هنا علامة متعددة الطبقات: تذكّر، شوق، عبء، وأحيانًا محاكاة فاشلة. بطبقاتها المتراكبة، تكشف عن شبكة من المعاني التي تتقاطع مع أزمات الهوية والذاكرة الفردية والجماعية، وتدعو إلى قراءات تأويلية تراعي التداخل بين الجسد والرمز.

رابعًا: الأسس التاريخية والثقافية:

النص يستند إلى بيئة يومية محددة: مدرسة، شارع، صوت طفل. إن انتماء الكاتب إلى فضاءٍ فلسطيني يضفي احتمالًا لقراءة السرد كقراءة عن غياب الأب (أو الرموز الأبوية) في سياق تاريخي واسع: الهجرة، الاحتلال، الحرب أو التشرّد. لكن النص يحرص على الاحتفاظ بعموميته الإنسانية، فلا يربط السعال مباشرة بموقف تاريخي محدد بل يجعله علامة على الحضور/الغياب العام.

خامسًا: الأسس النفسية:

1. البنية الشعورية:

النص يمسك بملامح الشعور الخفي: قليلٌ من الحزن، الكثير من الحيرة والحنين. إحساس الراوي بالقصور (محاولة السعال التي لا تشبه «الأصل») يعكس شعورًا بالعجز أمام تجارب الآخرين وبقيمة «التقليد» كوسيلة لاستعادة حضور مفقود.

2. تحليل الشخصية السردية:

الراوي يبدو شخصية متأملة، متأثرة، وربما مذنبة أو مشتتة. تفاعله مع الطفلة يكشف عن رغبة في ملء فراغٍ أو إثبات حضور. الطفلة بوصفها «الضريرة» تتحول إلى مرآةٍ «بريئة» لغياب الأب، ولغة طلبها «بدّي زي الأولى» توحي برغبة في استعادة ذاكرة عاطفية لا تحتمل الردّ الوظيفي.

3. النبرة النفسية:

تسودها الحسرة والحنين، مع مسحة من المضحك/المحرج في محاولات الراوي السخيفة لاجتذاب «صدى السعال»، ما يخفف وطأة النص ويمنحه إنسانية متألمة.

سادسًا: الأسس الاجتماعية والسوسيولوجية

النص يرصد تداخل الأدوار الاجتماعية (الشارع، المدرسة، المارة) مع المظاهر الفردية. حضور الطفلة في الفضاء العام كجسد يطالب «الاعتراف» بحقائق عائلية (صدى الأب الغائب) يفضح مدى تداخل الفردي والاجتماعي: الألم الخاص يصبح مطلبًا عامًا، والذكريات تصبح امتدادًا لعلاقات اجتماعية مبتورة أو مشتتة.

سابعًا: الأسس السيميائية

الرموز الأساسية: «السعلة» (علامة-مفتاح)، «الطفلة الضرير» (براءة، رؤية داخلية للغياب)، «المدرسة» (مكان التعلم/التواصل مع المجتمع)، وعبارة «بدّي زي الأولى» كلفظ طقسي يحيل إلى صورة مفقودة. تحليل هذه العلامات يبيّن أن النص يبني نظاماً رمزياً يربط الجسد بالذاكرة، الصوت بالهوية، والنداء بالاستدعاء.

ثامناً: الأسس المنهجية

يمكن تطبيق مناهج متعدّدة على القصة: منهج هيرمينوطيقي للكشف عن طبقات الدلالة، منهج سيميائي لتحليل العلامات، ومنهج نفساني لفهم دوافع الراوي. الدراسة هنا اعتمدت مقاربة تكاملية تضع النص في تقاطعات لغوية ونفسية وثقافية؛ ومن المنهجية المقترحة التزام الصرامة النصية وعدم القفز إلى استنتاجات تاريخية غير مفسّرة.

تاسعاً: الأسس الإنسانية والجمالية العليا

قيمة النص تكمن في قدرته على تحويل فعل يومي بسيط إلى منظومة دلالية إنسانية عامة: عنف الطفل في طلبه لسعال الأب الغائب ليس مجرد لفتة طفولية، بل نداء لإعادة ترتيب وجود، ونجاح النص في فتح مساحة واسعة من التعاطف يجعله عملًا إنسانياً بامتياز: يحضّ القارئ على التفكير في طرق الذاكرة الحيّة وكيف تتجسد في الأصوات والأجساد.

خاتمة:

تُعدّ «سعلةُ أبٍ غائب» نموذجًا مكثّفًا لقصة قصيرة تنجو من بساطتها الظاهرة بفضل قدرة الكاتب زياد خداش على نسج دلالات عميقة من حدث عابر. حيث يمكنني اقتراح التالي:

1. قراءة مقارنة مع نصوص تتناول الغياب الأبوي في السرد الفلسطيني والعربي لاستخراج مشترك سماتيّ ودلاليّ.

2. توظيف تحليل سيميائي معزّز بمقابلات ميدانية إن أمكن، لفهم كيف يتشكل معنى «الصوت» في الذاكرة الشعبية الفلسطينية.

3. دراسة أثر البساطة اللغوية في تكثيف المعنى: كيف يسمح التقشف اللفظي بامتداد الدلالة.

4. بحث في الوظيفة الأخلاقية للنصوص القصيرة التي تحول لحظات يومية إلى فسحات تأملية في الوجود.

تنجح قصة زياد خداش إذًا في أن تجعل من «سعلة» ما يشبه تاريخًا مختزلًا: ذاكرةٌ صغيرة، لكنها كافية لتخلق زلزالًا داخليًا يحرك مسارات الألفة والغربة داخل النفس. وهذه هي حرفة القاصّ الحقيقي: أن يرى في الأجزاء الصغيرة خريطةً للعالم، وأن يجعل القارئ يقف عند نقطة واحدة طويلاً لعلّه يرى ما لم يره قبلها.

***

بقلم: عماد خالد رحمة - برلين

..........................

زياد خداش: سعلةُ أبٍ غائب

"البنت الصغيرة جدّاً، البنت الضريرة، تهمُّ بدخول مدرستها، بطيئة، مبتسمة. أمشي أنا باتّجاه مدرستي، وحين حاذيتها، صدرت عنّي سعلة سريعة وعنيفة، سمعتها تقول بصوت صغير: “ياه، كم تشبه هذه السعلة سعلة المرحوم أبي، أرجوك، اسعل مرّةً أخرى يا عمو”.

ابتسمت، حاولت أن أعيدها، لكنني لم أنجح؛ فالسعال ليس فعلاً إراديّاً كما نعرف، افتعلتُ سعلة سريعة، لكنها رفضتها قائلةً: “لا لا لا، مش هاي يا عمو، بدّي زي الأولى، أرجوك زي الأولى”.

مشت باتّجاهي وهي تنظر إليَّ محاولةً توقّع اتّجاه وجهي، اعتذرت منها بارتباك، ومشيت. صرت كلّما تهيّأت لسعال حقيقي في أيّ مكان، أتذكّر ملاكي الضرير وأتحسّر؛ لأنني لستُ أمامَها.

في صباح آخر، رأيتها تخطو باتّجاه بوّابة مدرستها ببطءٍ جريحٍ وناعم، بطء مليء بالنداءات، بطء يمسك بيد ابتسامةٍ غريبة، فحواها اعتذارات للشارع؛ لأنها مشت عليه، وللمارة؛ لأنها شوّشت طريقهم، ولسائقي السيارات؛ لأنها أبطأت حركتهم، وللهواء؛ لأنها قضمت منه جرعتين أو ثلاثاً، وللوجود؛ لأنها شقّت فيه حيّزاً لأنفاسها وحضورها الجسدي.

مرّةً داهمتني في الصف نوبة سعال شديدة، ركضتُ بسرعة باتّجاه مدرستها، وهناك أمام مدرّسيها وزملائها نزفتُ كلّ مقدرتي الطبيعية وغير الطبيعية على السعال. وكانت الدنيا كلّها تصرخ في أذني: لا لا، مش هاي، مش هاي عمو، لا لا، مش هاي عمو، مش هاي، بدّي زي الأولى. بدّي زي الأولى."

 

أستهل مقالتي هذه بكلمات اهداء الدكتور جمال العتابي التي كتبها في النسخة التي أرسلها لي من العراق مع أخيه وصديقي صفاء العتابي: " عزيزي سناء، أخيرا ستدخل منازلنا لأنك واحد منا. محبتي. التوقيع جمال في 3/11/2025 ". وأود أن أضيف أن المرحوم والدي عبد القادر مصطفى الموصلي حينما عمل في الفترة الزمنية 1936-1956 في ديوان عشائر لواء المنتفك التابع الى متصرفية لواء المنتفك، كان قد زار بحكم عمله معظم هذه المناطق الواردة الذكر في رواية منازل العطراني والتقى بأهاليها وشيوخها مثل الشيخ بدرآل رميض. أتذكر ذلك من أحاديث المرحوم والدي في جلسات سمر العائلة في بيتنا في محلة السراي بمدينة الناصرية في خمسينيات وستينيات القرن الماضي.

تعتبر رواية منازل العطراني من كتب السير الذاتية التي تستحق الوقوف عندها والكتابة عنها لأنها تعكس سيرة ذاتية لعائلة مناضلة نذرت نفسها للنضال الوطني وقدمت شهيدا منها لمستقبل العراق. ونظرا لأهمية هذه الرواية التي انعكست في عدد الأشخاص اللذين قرأوها وكتبت عنها الصحافة العراقية قام الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق بإعادة طباعتها مرة ثانية وهذا واضح من العبارة الموجودة على الغلاف (الطبعة الثانية). والشيء الطريف في هذه الرواية أن الكاتب لم يذكر تواريخ تسلسل الأحداث التي يمر بها بطل الرواية وعائلته وبقية شخوصها اللذين هم أقارب وأصدقاء محمد الخلف أبو خالد. القارىء اللبيب يفهم ذلك بسهولة وخصوصا اذا كان القارىء عراقياً.

أن ارتباط الانسان بالمكان مسألة تاريخية موجودة منذ قديم الزمان وما قيام الحضارات العالمية وأولها سومر التي قامت في لكش وأور و أوريدو إلا دليل تاريخي على ذلك. ولهذا نرى أن محمد الخلف سوف يلجأ الى مسقط رأسه، منطقته القديمة للاختباء فيها، ألا وهي العطرانية التي ولد وترعرع فيها وقام بتدريس تلاميذ المدرسة الوحيدة في المنطقة.

- " أين المسار؟ بعد أن بت ليلتك في بيت أحد أصحابك المعلمين في الكوت، أصبحت طليقا الآن، قالها محمد الخلف بحيرة وذهول، مازلت في ملابس السجن!!" (ص5). بمثل هذه الكلمات يبدأ الدكتور جمال العتابي أبو فرات روايته منازل العطراني لسجين هرب من السجن والتجأ الى بيت أحد أصدقائه القدامى الذين عمل معهم في سلك التدريس في احدى المدارس في جنوب العراق.

يفهم من التسلسل التاريخي لأحداث الرواية بأن محمد الخلف هو الشخص الرئيس ومحور الأحداث التي تدور حولها الرواية، هو معلم سابق نشط سياسيا ولديه عائلة كبيرة تتكون من زوجة (ربة بيت) وعشرة أبناء (ص17).

أرسل محمد الخلف رسالة الى أهله في بغداد بيد نوار من مكان اختبائه في العطرانية. "مضى نوار الى العاصمة مسرعا، من دون أن ينتظر أحدا يودعه من العائلة، سوى محمد الخلف يلاحقه بنظراته حتى توارى"(ص 32).

ما أن وصل نوار مرأب ساحة الأمين في مركز بغداد (وهو مرآب مشهور منذ خمسينيات القرن العشرين كونه موقفا لسيارات نقل الركاب الكبيرة بين الناصرية وبغداد) حتى صار يسأل المارة عن المظلة التي وصفها له محمد الخلف. كان محمد الخلف قد رسم له مسالك الطريق من ساحة الأمين الى الكاظمية ثم الى مدينة الحرية في الشارع المقصود، في أول مظلة وقوف لباص المصلحة في زقاق كذا المقابل لها، البيت العاشر على اليسار"(ص 36).

وبعد جهد جهيد تمكن نوار أبو عباس من العثور على بيت محمد الخلف أبو خالد الذي يتكون من ثلاثة غرف، تشغل عائلة الخلف غرفتين، أما الغرفة الثالثة فكانت مستأجرة لحسنة وزوجها السائق الكهل مزبان الذي يقضي معظم ساعات اليوم في العمل المرهق(ص37).

قام نوار بتهدئة زهرة زوجة محمد الخلف من روعها وخوفها إذ قال لها :" لا تخافي، هو بخير! كررها لمرات، اهدئي قليلا، على مهلك محمد طيب وموجود، أقسم لك بالسيد أبو الماش" (ص 39).

بعد أستمع الجميع لرسالة رب الاسرة وشرح نوار كيفية هروب أبو خالد من سجن الكوت طلب شايا ًساخنا ليرتاح من عناء السفر والبحث عن بيت محمد الخلف.

شرحت زهرة أم خالد كيف استطاعت الاسرة تدبير أمورها المعيشية بعد اعتقال رب الأسرة. انقطع خالد عن الدراسة وبقي في البيت خوفاً من الاعتقال، محسنة انصرفت للخياطة ليل نهار بأجور توفر بعض احتياجات العائلة اليومية كما قام عامر منذ الصباح الباكر يبيع الصمون في الأزقة على دراجته الهوائية. أما عادل وهو الأصغر في العائلة فقام ببيع السمسمية (ص40).

بعد الحديث بإسهاب عن وضع العائلة المادي وتقليص المصروفات الشهرية والاقتصاد بنفقات المعيشة وذلك بالاكتفاء بما هو متيسر من المواد الغذائية في المنزل والتقشف في احتياجات المعيشة. قال نوار: " أختي زهرة، رتبي حالك للسفر غدا ً أو بعد غد الى العطرانية بسرية تامة وحذر، محسنة بنت شاطرة قادرة على تدبير شؤون البيت بغيابك، لا أريد أن اتأخر عن محمد أكثر من هذا، صار معلوم!" (ص41).

في اليوم التالي توجهت ام خالد وخالد والبنت الرضيعة ليلى الى مرآب السيارات المتوجهة الى الجنوب (كراج النهضة) على الرغم من هطول المطر. الوضع السياسي في البلد صعب والاعدامات مستمرة و " هستيريا الحاكم العسكري لا تتوقف، الاعدامات لا تحتاج مصادقة رئاسة الجمهورية، نهج تعسفي شرعته وتوارثته حكومات الانقلابات، العهد الجمهوري يدشن سجله بمجزرة، وتتواصل تصفيات الخصوم والمعارضين ورفاق الأمس، الحناجر بحت من ترديد شعارات الثأر (ثار... ثار.. حديد ونار)، أساليب لم تكتف بالموت، يتبعها سد نوافذ الحياة بالفصل أو العزل عن الوظيفة " (44). يفهم من النص بأنه وصف واقعي تاريخي لأحداث دموية مرت بالعراق في العام 1963 بعد انقلاب شباط الأسود.

في رواية منازل العطراني وصف جميل ورائع لأجواء الجنوب العراقي وخاصة المناطق المحيطة بنهر الغراف منذ بدايته بعد سدة الكوت حتى مدينة الدواية والعطرانية التي هي جوهر هذه الرواية الشيًقة. يتمتع أبو فرات بملكة أدبية على مستوى عال من الدقة حيث يوجد وصف دقيق لمناخ ومزاج سكان منطقة العطرانية التي تحتل وتشمل جزء كبير من الر واية.

كان لقاءا حميميا بين محمد الخلف وعائلته بعد فراق طويل، انهمرت دموع زهرة زوجة محمد الخلف، ضمها محمد الى صدرة وطبع قبلة على جبينها ومسح بأصابعه حبات دموعها وساد جو من الهدوء حين اجتمعت العائلتين (عائلة محمد الخلف وعائلة نوار) وتحسس أبو خالد نشوة اليقظة العذبة التي افتقدها منذ زمن طويل(ص46).

يعتبر راديو الترانسستور الذي حصل عليه من أحد أقاربه مصدر الوحيد والمهم الذي يعرف بواسطته أخبار العالم والعراق خاصة طالما هو حبيس الكوخ الذي يسكن فيه. فهو" ينام ما تبقى من ساعات الليل، فأخبار الراديو لا تجلب له السعادة بل تعمق كآبته "(ص87).

لم يهمل جمال العتابي أن يعكس في روايته العلاقات الإنسانية بين الزوج وزوجته في خضم ظروف الاختباء من عيون رجال ووكلاء الأمن في مكان اختبائه في العطرانية على ضفاف نهر الغراف. وهذا ما نقتبسه من الهمس الليلي في ظلام دامس بين محمد الخلف وزهرة:

" بلغ صوت تنفسها أذنه في ذلك الظلام.

- نعم زهرة..

ألقت نفسها بجانبه لتسأله:

- لم أطفأت الضوء؟

- لأفكر!

- تلقفت شفاهه بقبلة طويلة والظلام يحيط وجهها من كل جانب، وعيونه مغمضة،

ضمته بين ذراعيها واستقرت ملتصقة به، ومازالت تحيط رقبته بقبلاتها تدفن وجهها فيه، وهو يحملق في فضاء الكوخ انحسر ثوبها الى الأعلى بإغراء وقبلته بعنف، لكن محمد أزاحها برفق ونهض، مد يده ليشعل شمعة فغمر المكان ضوء خفيف شاحب، نظر من خلاله لوجهها، كانت لمحة من شجن تفيض منه، وخصلة من الشعر المجعًد تسقط على جبهتها.

- هل أزعجتك؟

- كلا!

- لكن الحزن يطفو فوق عينيك؟!

اقترب منها فضمها بحنان إلى صدره قبًل رأسها، مال زال الحزن يملأ وجهها البريء.

- تأخرت كثيرا، لأذهب الآن.

- من الأفضل أن تبقي معي هذه الليلة، أرجوك!

- لن يتسع فراشك لنا!

- سأمد لك بساطا آخر بجانبي.

توسًدت يده وهي تتأمل وجهه، ثم أطفأ ضوء الشمعة "(ص 87-88).

بعد اعتقال طويل لمدة سنتين تقريباً، أفرجت السلطة عن خالد في شهر تشريني بارد بعض الشىء. الحي الذي تسكن فيه اسرة محمد الخلف شبه فارغ، يضم بيوتا أشبه بأكواخ تقع في الطرف الغربي من الحي. تعجب أخوة خالد الصغار حينما دخل البيت وهو يحمل فراشا على كتفه وصرة ثيابه تحت ابطه لأنهم نسوا شكله وتغيرت ملامح وجهه (ص95).

كان لقاءا حميميا بين الاخوة وحينها سأل خالد محسنة عن أمه، جاوبه عامر بأن أمهم تعمل في معمل النسيج وستعود بعد ساعة من الان. أوصتهم الام بأن يقفلوا الباب ولا يخرجون من البيت.

عادت الأم بعد الظهر الى البيت وبعد العناق واللقاء الذي صاحبه بكاء الام زهرة وخالد ولم تصدق الام عودة خالد إليهم سالما. قال خالد لأمه وهم حول مائدة الطعام بأنها منذ الآن غير مسموح لها بالعمل في مصنع النسيج ويكفي ما تحملت هذه الام المكافحة والصبورة على مقابلة الشدائد وتحمل العذاب(ص97).

تمكن محمد الخلف من الوصول الى بغداد بعد أن قام ابنه خالد وجابر ابن اخته بتصويره وعمل هوية مزورة بصورة الملابس القروية التي تمكن بواسطتها من عبور نقاط التفتيش المنتشرة على الطرق البرية وخصوصا بين بغداد والكوت(ص108). ويتذكر أبو خالد لحظات توديع نوار وبقية الاهل والأصدقاء اللذين قاموا بإوائه لعدة شهور في العطرانية.

" امض في طريقك امض، ها انت في المدينة تركت وراءك الريف، الحفرة، العطرانية، عواء الكلاب الهرمة، هاجمتك الشيخوخة مبكرا، استوطنت الأمراض في جسدك، كان دجلة يصطخب ويفور كأنه بحر متلاطم الأمواج، عن أيما هدف تبحث الان، الغزاة دخلوا بيوتنا وأفكارنا، لقد لازمني التعب، كيف أواجه أهلي بهذه الحال؟. خفق قلبي بعنف، اجتاحتني الرهبة ثم الفرح حين توقفت السيارة، في مدخل الزقاق، مشيناه خطوة خطوة، صار علي أن أسأل عن ً الهدوء في انتظار دخول الدار بيتنا، تراجع عني حميد متصنعا الهدوء في انتظار دخول الدار معا " (ص115).

بهذه الكلمات والجمل تبدأ مرحلة جديدة من حياة محمد الخلف في بغداد مع عائلته التي التم شملها مرة أخرى بعد مرور سنين طويلة من الفرقة والغربة في مدن العراق المختلفة والاختباء في ريف الجنوب العراقي وفي متون وعلى ضفاف نهر الغراف الخالد.

كان لقاء الأب بعائلته حميميا وبعد أن سلم على خالد وهدية وأمل وعامر وعادل، توجه الى زوجته زهرة وجرى بينهما الحديث التالي:

"هل كنت وفية على العهد يا محمد؟ كن صريحا تزاحمت الكلمات في فمه، كل كلمة تحاول أن تصرخ أعلى من الاخرى، قال لها: - وفية فقط..؟! أنت أكثر من ذلك، أشجع نساء العالم أنت صبورة ومكافحة بشكل لا مثيل له فقد أثقلتك الجراح، تعلمت على يديك الدرس دعيني أقبل جبينك، أطيل هجوعي أمام يدك بمحرابك القدسي المهيب أصليِ لك صلاة ابتهال، ألتمس السماء أن تهبك ِ الصحة والقوة، تركتك وحدك كنت واقفة بثبات يشحب في عينيك القمر، قلت لها بحنان ممزوج بالمرارة: ليتني أرد َين لك ما في عنقي من دين لك"(ص128).

تمكن خالد من اكمال الإعدادية وبمعدل جيد يؤهله للقبول في كلية التربية وليصبح طالبا جامعيا. عمت فرحة كبيرة في بيت محمد الخلف مع زغاريد قوية ملأت البيت من أم خالد.

مرت السنين بسرعة وتغيرت الأحداث في خضم البحث عن عمل يناسب محمد الخلف، ولكن كيف وهو الملاحق أمنيا وسياسيا. عمل بضعة أيام في صبغ الدور والبيوت السكنية ولكن بعد تعرضه لحادث سير وهو يسوق دراجته الهوائية أقعدته البيت لعدة أيام. اشترى خالد له من سوق السراي ببغداد لوازم وعدة الرسم من فرشات وألوان وأوراق ليرسم كما كان سابقا أيام عمله في التدريس وحتى كان يحنط الحيوانات والفراشات وقتذاك.

قام محمد الخلف بعرض لوحاته في مركز الفنون في الكرادة لبيع الاعمال الفنية عسى ان تلقى لوحاته القبول في سوق بيع الأعمال الفنية التشكيلية (ص147) ويحصل على دخل متواضع يساهم في تغطية مصاريف الحياة اليومية للعائلة الكثيرة العدد من الأولاد والبنات.

" كان خالد يمسح العرق عن جبينه، حين دخل المنزل مسرعا وقف أمام أبيه : - منذ الصباح كنت في غاية الفرح والسعادة حين أخبرني صديقي ً سليم، أن عليك الاستعداد بعد غد للالتحاق بعملك الجديد، أمينا َ للمخزن في شركة رست عليها مقاولة بناء منشآت معمل الزجاج في الرمادي " (ص163).

" تذكر أن عليك مراجعة المركز الصحي للحصول على شهادة التطعيم ضد الكوليرا. كان البلد في حالة مواجهة مع أزمات سياسية واقتصادية، ً في ً عاليا وصحية كذلك، إذ شهدت أجهزته الصحية استنفارا التصدي لوباء الكوليرا الذي اجتاح البالد، ينصرف الناس صباح كل يوم إلى الوقوف طوابير طويلة أمام المراكز الصحية انتظارا للتطعيم، غير آبهين بالصراع على السلطة بين العسكر والمدنيين في ظل حكومة ضعيفة " (ص164).

سأل محمد الخلف ولده خالد:

" - أية وصايا لي من سليم؟

- معلومات تتعلق بمهامك في المشروع، مرتبك الشهري وأخرى عن موقع العمل القريب من ناظم الورار المتفرع من نهر الفرات، المشروع يضم عددا من المغضوب عليهم مهندسين، فنيين من المفصولين والمعتقلين سابقا من جماعتك، مدير الشركة رجل نبيل اختار فريق العمل من صنفه لينتشلهم من البطالة، أنا متأكد أنك سترتاح معهم كما هي فسحة تنقلك الى أجواء أخرى بعيدا عن العاصمة وزحامها، وعيون الرقابة مع أن الحذر مطلوب هناك " (ص166). عقد أبو خالد علاقات صداقة جيدة مع بعض الموظفين في العمل ومنهم أبو طه العسكري المفصول من وظيفته (ص168).

كان وقع خبر استشهاد خيون أخ أبو خالد له تأثير كبير على نفسيته حتى أن أم خالد انتقدت خالد على اخبار والده بالحدث الجلل ولكن خالد قال لأمه، أن الخبر نشر في وسائل الاعلام المختلفة في داخل العراق وخارجه كما تحركت قطعات الجيش والشرطة الى مكان الحادث.

أتذكر ذلك جيدا وكانت الأخبار تصلنا الى بغداد في ربيع العام 1967من أصدقائنا في مدينة الناصرية التي كانت طريقا لقوات الجيش القادمة من بغداد. كما نسجت الكثير من القصص عن بطولة الثوار في منطقة أهوار الغموكة في قضاء الجبايش التابع الى لواء الناصرية آنذاك. وقد أصدر المناضل عقيل حبش الذي ساهم مع الشهيد خالد أحمد زكي في التنظيم وفي المعارك كتابه الموسوم : نشيد الموت – شهادة حية من لهيب المعركة الصادر في العام 2018 من قبل دار ورًاقون في البصرة.

" أين يكمن الخطأ ؟ يجاوب طه على السؤال:- بصراحة أقول يا محمد، أن تجربتنا سلسلة من الأخطاء المترادفة، بتقديري أن الصيغة الأبلغ للسؤال هي: من المسؤول؟ كلنا يعرف أسرار نجاح المرء في قدرته على تحمل المسؤولية، من السهل تجاوزها لكن لن نستطيع أن نتفادى النتائج المترتبة على الفشل، تأكد أن الاعتراف بالخطأ سيوفر آلاف العلاجات، وقيمة المراجعة إذا ما صدرت عن ضمير صادق، انها تنصف أولا جيلا من رجال الثقافة الانسانية المنفتحة " (ص172).

بعد التخرج من الجامعة نسب خالد للعمل في الفلوجه وصديقه سليم في ديالى. ذهب خالد الى البيت ليزف لهم خبر التعيين. قال خالد لأمه:" خذيني أليك، أعطني كفيك أقبلهما. جاوبته أمه:

- الله يزيل همًك ولدي، ويفرحك دائماً " (ص183.

" بعد ان تغير الوضع السياسي في العراق منذ شهر تموز العام 1968 أصبح بمقدور محمد الخلف إكمال معاملات العفو بعد نشر القرار في الجريدة الرسمية، ومراجعة وزارة المعارف لغرض الاسراع في عودته للوظيفة معلما في احدى المدارس "(ص187).

اقترح محمد الخلف أن ينتقلوا الى دار سكنية أوسع وأحدث ولاقت الفكرة استحسان جميع أفراد العائلة. قال لهم أرجو أن تتكفلوا مهمة البحث عن بيت يقع في منطقة جيدة، ريثما يعود من العطرانية بعد أن يحضروا مراسيم الفاتحة على روح أخيه خيون (ص188).

بعد انتظار دام بضعة أشهر " ألقى محمد الخلف نظرة سريعة على الجريدة التي نشرت قرارات أسماء العائدين إلى الوظيفة بعد إسقاط محكومياتهم، وهو يرتشف شاي الصباح، غمر الأسرة فرح رفرف فوق الوجوه، شرع الزوار يتدفقون طيلة النهارعلى البيت لتهنئة أم خالد من دون ضجيج "(ص205).

التحق أبو خالد بعمله الجديد في احدى المدارس الابتدائية حيق يقوم بتعليم الأطفال القراءة والكتابة. وفي وقت الفراغ يذهب للتمشي في المتنزه مساءا. شعر بأنه اكتسب حياة جديدة لا مكان فيها للخوف وحتى الموت. يرفع رأسه ببطء ليرى سليم أمامه ينتظر منه السماح بالجلوس جنبه. شكره في البداية على تشغيله أيام المحنة، جابه سليم بأن الجماعة هم اللذين تفضلوا عليه بالعمل في مشروع بناء مصنع الزجاج في الرمادي. والذي قام الاتحاد السوفيتي ببنائه وتشغيله وهو أحد مشاريع الاتفاقية الاقتصادية بين العراق والاتحاد السوفيتي التي وقًعت في العام 1959. (حينما كنت طالبا في السنة الرابعة والأخيرة من قسم الاقتصاد بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية قمنا بزيارة لهذا المصنع في ربيع العام 1972).

عرض عليه سليم بالعودة الى الجماعة! وحدد له موعد لإعطاء رأيه بعد ثلاثة أيام. يصاب محمد الخلف بذهول كبير ولم يتمالك نفسه وتذكر أيام السجن والتعذيب. وبعد لقاءه بسليم في المقهى بعد ثلاثة أيام اعتذر عن العودة الى التنظيم لأنه في حالة صحية ونفسية لا تؤهله بالعمل مرة أخرى في العمل الحزبي. افترق الاثنين على أمل أن يستمرا في علاقة جيدة بعضهما لبعض وحيث قال محمد الخلف لسليم : أعدك أني سأكون حريصا َ جدا على صداقتي بك وفيا لها. ابتسم في وجهي، غمرني بوجوده، وربت على كتفي.. أخذت يديه بين يدي وانسحبت بهدوء وقد جلًل المكان صمت مؤثر." (ص209).

لم يوفق عادل في السفر الى خارج العراق، إذ قامت شرطة الحدود باحتجازه لمدة من الزمن ومن ثم أطلق سراحه بعد ان دار بينه وبين الضابط الحديث التالي:

"- أنت ممنوع من السفر، لست وحدك إنما كل أفراد عائلتك

- هل بإمكاني معرفة السبب ؟ -

- لا تسأل أسئلة سخيفة! تسكت وكفى!

- هل أنا معتقل؟ أرجو أن توضح لي حضرة الضابط؟ أنا لم ّ أرتكب جناية أو جنحة، هل قراءة الكتب جريمة أستحق عليها المنع من السفر ؟ -

- ستعود بأول قطار نازل إلى الموصل، عفونا عنك لأنك لا تنتمي لتنظيم معاد لـ“الثورة“! والا كان الطمر في انتظارك " (ص214).

" التحق عامر وضياء بالعمل في القسم الفني شريكان لشقيقهما خالد في الميدان نفسه، يراقب ويتابع جاحهما في المهام الموكولة لهما، إلا أن الدهشة كانت تتملكه حين يتساءل عن أسرار الابداع التي تفجرت لدى عامر على وجه الخصوص بوقت مبكر: نحن الاخوة جميعا اكتسبنا تجربة العمل خبرة وتميزا، من دون دراسة نظرية في معهد أو كلية تؤهلنا لمنافسة ذوي الاختصاص، زملاؤنا في العمل يصفوننا أننا خريجو ( مدرسة محمد الخلف) الامر مختلف لدى عامر بيننا، يبدو أن في عروقه يسري دم ينبض بالفتوة والشباب تقوده الاحلام لعالم جديد، تستقبله الصحافة فتفتح له أفقها الفسيح، يحتضن العالم في ورق ماكيت جريدة أو مجلة "(ص216).

في احدى الامسيات وبعد أن انتهوا من العمل في جريدة الحزب انطلقا كالعادة لقضاء سهرة في احد الأماكن، قال ضياء لعامر - ما أقدمت عليه السلطة لم يعد يحتاج إلى دليل، مهاجمة بناية الجريدة وضعت الجميع أمام خيار صعب، أما الاستسلام أو الهرب.

مرت الأيام والسنين وبعد نشبت الحرب العراقية-الإيرانية 1980-1988 التي لا ناقة لنا فيها ولا جمل وسميت بالحرب العبثية من قبل الشعب العراقي، التحق عادل ولبيد بجبهات القتل بعد شمول مواليدهما بالخدمة العسكرية.

قال محمد الخلف، حربهم ليست لنا ناقة في رحاها ولا جمل، أية حرب والبلد غارق بالأسى والجنون؟ لماذا تتجه هذه البلاد نحو الكارثة؟ لماذا يعاقب أهلها بهذه الدرجة من القسوة؟ لماذا يغتني الغرباء من حروبها الخاسرة؟ كأن قدرنا أن ننشد طوال حياتنا: ”يا أهلاً بالمعارك! “ (ص221). كما كان يغني المطرب المصري المرحوم عبد الحليم حافظ.

بلغ عدد ضحايا الحرب من الجانب العراقي نصف مليون والجرحى حوالي المليون من المدنيين والعسكريين. أنا أسميتها بحرب البسوس. ( وقعت هذه الحرب بين قبليتي من قبائل العرب حيث وقعت بين قبيلة تغلب بن وائل وبعض حلفائها ضد بني شيبان من قبيلة بكر بن وائل. كما يرجع تسميتها بهذا الاسم نسبة إلى امرأة كانت تدعى بالبسوس بنت منقذ التميمي حيث اشتهرت بالبؤس والشؤم، حتى صار الكل يقول شؤم البؤس),

" في إحدى الاجازات عاد عادل جريحا إصابته بليغة بسبب شظية كسرت ساعده الأيسر، إثر هروبه من الدبابة المحترقة التي يقودها هو، خلت الغرفة من الاولاد عدا أمه وأخته ليلى، استعاد محمد الخلف شيئا ً من هدوئه لسماع قصة ابنه الجريح الذي يضمر في داخله سعادة غامضة، بسبب تمتعه بإجازة طويلة من المستشفى " (ص229).

" كانت أمه قريبة منه تستمع إليه، لم تصدق عيناها أولا لكنها نهضت فجأة وعانقته بحرارة، جلست جنبه على الأرض، فجأة ّ تعكر مزاج عادل حين بدأت تتذكر ولديها: ضياء وعامر، ثم سألته :

- هل لديك أخبار من أخيك لبيد ؟ -

- نعم، لبيد أفضل مني بكثير، لا يواجه الخطر بشكل مباشر، وحدته العسكرية بعيدة عن جبهات القتال الساخنة "(230).

- هل نحتاج إلى ساعة أخرى ننتظر؟ أرجو أن تسأل هذا الكائن الجالس خلف مكتبه.

وجه محمد الخلف السؤال لابنه خالد بعد نفاد صبره في الانتظار.

- لا ضرورة للسؤال أبتي ! كان يهمس في أذنه، هذه أساليبهم الدنيئة التي اعتادوا عليها في تحطيم أعصاب مراجعيهم، سنمكث وقتا أطول، وربما يؤجلون الموعد إلى مساء الغد، علينا أن نتقبل الحال ونصبر (ص237).

هذا هو حال مراجعات دوائر الأمن والمخابرات ليس في العراق فقط وانما في معظم دول العالم وخصوصا في دول العالم الثالث، وهو الاستهانة وعدم احترام المراجعين.

اسمع محمد: ابنك عامر واحد من مجموعة مخربة في البلاد تهدد الأمن، هو أحد عناصر التنظيم السري المتآمر على النظام، كنا لهم بالمرصاد، أحيلوا إلى محكمة ( الثورة) وقررت الحكم عليهم بالإعدام شنقا، ونفذ الحكم، مفهوم!! إياك أن تسألني متى وأين الجثة؟ المتآمرون لا قبور لهم!! راجع الدائرة بعد عدة أيام لاستلام شهادة الوفاة، أحذرك! بلا عزاء، بلا صراخ وكفى (ص238).

بعد معرفة الخبر اليقين عن مصير عامر المأساوي وكيف سيخبرون العائلة بذلك وخصوصا الام وزوحته؟؟!! جرى مداولة الأمر بين محمد الخلف وابنه خالد.

- كيف نتصرف يا ولدي؟ اسعفني حالا بجواب يهدىء من حيرتي ولوعتي.

- ندع التبليغ سرا بيننا نحن الاثنين، نحفظه في صدورنا، كي لا يتسرب إلى الأهل وزوجته، باعتقادي أن شيوع الخبر سيخلق لنا متاعب كثيرة، هل توافقني على هذا الرأي ؟

- لا رأي عندي، ا فعل ما تراه مناسبا (239).

توجها الى بيت أسد صديق خالد وذلك لتخفيف أثر الخبر الصادم وإعادة ترتيب أفكارهم، ولكن محمد الخلف ذهب الى البيت. بادرته زوجته بالسؤال عن أخبار عامر، جاوبها علينا الانتظار. قال لها اسمحي أن أستريح (ص240).

الكائنات يكذبون، الا يتقنون شيئا ّ محمد الخلف يخاطب (مي) زوجة عامر التي دخلت دوامة السؤال والمراجعات : - أنا غير مقتنعة بمراجعاتكم، لدي شك بإإلجابات حول مصير ً في الوصول إلى الحقيقة، لقد زوجي ! لذا اخترت ما أراه مناسبا ّ تعبت يا عم، مرت أعوام وأعوام من دون جدوى! (ص242).

لم تقتنع مي زوجة عامر بجواب أبو زوجها وقررت مراجعة دائرة الأمن بنفسها.

تلقت مي ورقة تبليغ من مسؤول الأمن الذي قال لها بأنهم بلغوا والده بقرار الحكم والذي هو الإعدام. وتم تنفيذه. وقام بتسليمها نسخة من قرار الحكم (ص243).

هل من خبر جديد يا خالد؟ أراك تتمتم مع نفسك.

- لا جديد! إنما تنقل الاخبار أن الحكومة قررت إخلاء السجون تماما،ً والعفو عن كل المحكومين والسجناء، والمحكومين با لإعدام، والهاربين، والسجناء العرب، وإطلاق سراحهم (ص252), وأفاد مسؤولو السجون أن كل من يشملهم العفو سيغادر السجن خلال 48 ساعة.

- طيب، سأنتظر 48 ساعة !! بدءا من يوم صدور العفو. (ص252).

تركت أم خالد الباب الخارجي مفتوحا، ومنعت صلاح أن يوقف سيارته في الممر الموازي لحديقة البيت حتى يمكنها أن ترى الداخل والخارج من البيت. مضى يوم واحد وهي مثل تنتظر قدوم عامر. فكرت أن يكون عامر قد ذاكرته وأصابه النسيان.  قام أبو خالد بطمأنتها

ولا يوجد داع للقلق. هرب الاب الى الصالة وهو ينتحب. كانت وصيتها أن تحتضن عامر برخامة واحدة لشاهد قبرها.

"انقضت الـ 48 ساعة، لم يأت عامر، أوصدت الباب حين أدركت ضياع الأمل، أغلقت جفونها قبل الصلاة وهي ممتلئة بالدموع، َلم يطلع عليها الفجر"* (ص253).

بغداد: منشورات الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق، 2023.

الطبعة الأولى2023.

رقم الإيداع (1406) في دار الكتب والوثائق ببغداد لسنة 2023.

ISBN:978-9922-677-93-4

***

دكتور سناء عبد القادر مصطفى الموصلي

 

ناقشنا في المساق السابق بعض المزاعم التي أدلَى بها صاحب كتاب «الصاحبي في فقه اللُّغة»، (أبو الحسين أحمد بن فارس بن زكريا القزويني الرازي، ـ395هـ= 1004م)(1)، الذاهبة إلى أنَّ اللُّغة الإنسانيَّة توقيفيَّة، محتجًّا بإجماع العلماء على ذلك. فسألتُ مولانا (ذا القُروح):

ـ عن أي لغةٍ يتحدَّث؟

ـ هو يتحدَّث عن لُغة العَرَب وحدها، وكأنْ ليست في الكون لُغة سِواها. وكأنَّها هي اللُّغة التوقيفيَّة الوحيدة. والتوقيفيُّ منها: ما عاصر نزول «القرآن» فقط، لا ما قبله ولا ما بعده من لُغة العَرَب أنفسهم!

ـ كأنَّما (ابن فارس) هذا لا يُعمِل عقله، كما ينبغي أن يُعمِله أقلُّ الناس عقلًا وفكرًا وثقافة. ومع هذا يُعَدُّ إمامًا في اللُّغة! وهذا برهان ثقافةٍ تُصَنِّم أحبارها ورهبانها، ولو كانوا لا يعقِلون شيئًا ولا يهتدون!

 ـ والخطُّ توقيفيُّ لديه كذلك!(2) وهو يخصُّ هنا كذلك الخطَّ العَرَبي، دون سِواه.

ـ والنحو العَرَبي؟

ـ لم يقل إنَّه توقيفي، لحُسن الحظ، لكنَّه بزعمه كان معروفًا لدَى العَرَب في الجاهليَّة، فلا فضل لـ(أبي الأسود الدؤلي)، ولا لغيره ممَّن تلاه من النُّحاة، سِوَى في التذكير بعِلم النحو العَرَبي الجاهلي!(3)

ـ وعِلم العَروض؟

ـ لم يقل إنَّه توقيفي، لحُسن الحظ أيضًا، لكنَّه كذلك زعمَ أنْ لا فضل لـ(الخليل بن أحمد) في وضعه؛ فقد كان يعرفه العَرَب قبل الإسلام، لكنَّهم لم يدوِّنوه!(4) بالرغم من أنَّ الخطَّ العربيَّ توقيفيٌّ معروفٌ منذ آدم، أي قبل أن يوجَد العَرَب أصلًا!

ـ ظلماتٌ فارسيَّةٌ بعضها فوق بعض!

ـ ومن ثَمَّ لا زيادة لمستزيد من عِلم، ولا جديد تحت الشمس، ولا إبداع للإنسان، بل هو يعلم كلَّ شيء منذ آدم. إلى غير هذه من التوقيفيَّات، التي هي في حقيقتها محض توقُّف في ذهنٍ منطفئٍ لـ(ابن فارس) نفسه. بل هو- إنْ أردتَ الحقَّ الذي لا جمجمة فيه ولا غمغمة- اعتقادٌ مانويٌّ(5)، سُوِّق في تراثنا على أنَّه وجهة نظرٍ تأويليَّةٍ لتفسير الآية: «وعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا». وكان يمكن القول إنَّ «الأسماء» هنا لا تعني  «الأسماء» في مقابل «الأفعال»، حسب التصنيف الاصطلاحي النحوي، الذي إنَّما وُجِد في مرحلةٍ لاحقة، ولكن بمعنى «العلامات» الإشاريَّة إلى الأشياء، أو ما يُسمَّى في عصرنا (السيمائيَّة).  من حيث إنَّ كلمة «اسم» في العَرَبيَّة أصل معناها: «وَسْم»، أي: علامة. وقد تطرَّق إلى هذا ابن فارس(6) نفسه، ولكن دون رأيٍ مستقلٍّ أصيل، بل هو مقلِّد مردِّد. فقال في «باب القول على الاسم من أيِّ شيء أُخذ؟»: «قال قوم: الأسماء سِماتٌ دالَّة عَلَى المُسَميَّات، ليُعرَف بِهَا خطاب المخاطب.» وهذا ما نراه نحن وقلناه. ثمَّ أردفَ: «وهذا الكلام محتمِل وجهين: أحدهما أن يكون الاسم سِمَة كالعلامة والسِّيماء. والآخَر أن يقال: إنه مشتق من (السِّمَة).» هكذا قال. و(العلامة)، و(السَّيماء)، و(السِّمَة) شيءٌ واحد، فالوجه في الأمر وجهٌ واحدٌ لا وجهان؟! ولذا كنَّا قد اقترحنا في بعض بحوثنا مصطلح «السِّيْمَوِيَّة أو عِلم السِّيْمات»، بديلًا عَرَبيًّا لمصطلح «سيميولوجيا Semiology»، أو «عِلم العلامات»، ونحوهما من المصطلحات المستعملة في الترجمات العَرَبيَّة؛ لأنَّ «السِّيْمَوِيَّة» مطابقٌ عَرَبيٌّ أصيلٌ لمصطلح «سيميولوجيا»- ذي الأصل الإغريقيِّ Semion- مبنًى ومعنًى.  فـ«السِّيْمَوِيَّة» مأخوذةٌ من «سِيْمَة»، كما اتُّخِذت: «بِنْيَوِيَّة» من «بِنْيَة»، و«السِّيْمات»: جمع «سِيْمَة» أو «سِيْمَا» أو «سُوْمَة»، بمعنى علامةٍ أو «سِمَة». وقد استُخدِمت الكلمة في «القُرآن» بدِلالاتها المختلفة على أنواع العلامات، لكنَّه يُشار بها إلى تلك العلامات ذات الدلالة الفارقة. وهنا تكمن ميزةٌ أخرى لمصطلح (سيما) عن غيره، كـ(علامة)، و(إشارة)، اللَّذين يُعجِبان العَرَب والمعرِّبين اليوم. مثل قوله تعالى: «زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ، مِنَ النِّسَاءِ، والبَنِينَ، والقَنَاطِيرِ المُقَنطَرَةِ، مِنَ الذَّهَبِ، والفِضَّةِ، والخَيْلِ المُسَوَّمَةِ». وقوله: «لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِن طِينٍ، مُسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ». وقال: «وعَلَى الأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ». كما قال: «سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ». (ويُنظَر في دلالة هذه المادَّة اللغويَّة، مثلًا: ابن منظور، لسان العَرَب، (سوم)).  حتى إنَّ عوامَّ (مِصْر) ما زالوا يقولون، مثلًا: «بين فُلان وفُلان سِيْم مُعَيَّن»، أي إشارة أو شِفرة. والمصطلح بصيغته هذه يستقلُّ أيضًا عن إلباس المصطلحات العَرَبيَّة المستعملة الأخرى، في بعض الدراسات التطبيقيَّة، مثل: «السِّيميائيَّة Semiotic».  من حيث إنَّ «السِّيميا/ السِّمياء» تُشير في تراثنا إلى ضروبٍ من الطلسمات والأعمال السِّحريَّة، تحدَّث عنها (أحمد بن علي البوني، -622هـ)، في الفصل السَّابع والثَّلاثين من كتابه «شمس المعارف الكُبرَى».  وقال (القرافي، أحمد بن إدريس الصنهاجي، -684هـ= 1285م)(7): «السِّحر: اسم جِنسٍ لثلاثة أنواع: النوع الأوَّل: السِّيمياء، وهو عبارة عمَّا يركَّب من خواصَّ أرضيَّة...».  وهو ما لا علاقة لموضوعنا به!

ـ ما هذا الاستطراد؟ لنعُد إلى (ابن فارس)!

ـ (ابن فارس) سبب هذه الإشكالات. لأنه جاءك عارضًا رمحه، وهو يقول: «فإن أراد القائل أنها سِمات عَلَى الوجه الأوَّل فصحيح، وإن كَانَ أراد الوجه الثاني، فحدَّثني أبو محمد سَلْم بن الحسن البغدادي قال: سمعتُ أبا إسحاق إبراهيم بن السَّري الزَّجَّاج يقول: معنى قولنا »اسم» مشتقٌّ من »السُّمُوِّ«، والسُّمُوُّ الرِّفعة. فالأصل فِيهِ »سِمْوٌ« عَلَى وزن حِمْل، وجمعه »أسماء«، مثل قولك: قِنو وأقناء. وإنَّما جُعِل الاسم تنويهًا ودلالة على المعنى؛ لأنَّ المعنى تَحْتَ الاسم. ومن قال: إنَّ اسمًا مأخوذ من »وَسَمْتُ« فهو غلط؛ لأنَّه لَوْ كَانَ كذا، لكان تصغيره »وُسَيْمٌ«، كما أنَّ تصغير عِدَّة وصِلَة: وُعَيْدَة ووُصَيْلَة.»(8)

ـ ما يهمُّنا من هذا أنَّ أصل معنى (الاسم): «وَسْم»، أي: علامة. وقد ذكر (ابن فارس) أعلاه: أنَّه إنْ أراد القائل أنَّ الأسماء (سِمات)- عَلَى الوجه الأول، وهو أن يكون الاسم سِمَة كالعلامة والسِّيماء- فصحيح.

ـ نعم. أمَّا خلاف البصريِّين والكوفيِّين في الاشتقاق وغيره، فما أفسد اللُّغة والنحو أكثر منه. ذلك أنَّ الكوفيِّين قد ذهبوا إلى أنَّ الاسم مشتقٌّ من الوَسْم، وهو العلامة، وهو ما نراه ونفهمه ونذهب إليه، وأمَّا البصريُّون، فأبعدوا الشُّقَّة، محلِّقين في السماء، زاعمين أنَّه مشتقٌّ من السُّمُوِّ والعُلُوِّ! وجاؤوا بمَذْقٍ من الحُجج، هل رأيت الذئب قط؟!(9)

ـ لم أره، لكنِّي أتخيَّله! وهذا مبحثٌ آخر يطول. وما كان يعنينا هنا هو معنى (الاسم)، وأنه (وَسْم)، شاء من شاء وأبى من أبى! وأمَّا اشتقاق اللفظ، فليتشقَّق البصريُّون والكوفيُّون في خلافاتهم التي لا تنتهي كيف شاءا!

ـ والاسم الوَسْم ذو دلالة خاصَّة، وسِجلٍّ تاريخي، وإنْ أتَى على الناس حين من الدَّهر لم يعُد فيه للاسم معنى معلوم.

ـ ماذا تقصد؟

ـ خذ، على سبيل المثال، من أسماء النِّساء اسمًا كاسم (العَنُود). هذا الاسم الجميل، الذي لا نعرف تاريخ استعماله، ولا عهد لنا به في أسماء النِّساء في التراث العَرَبي. وهذا عجيب، مع ارتباطه الصميم بمعانٍ متعدِّدة وبديعة من اللِّسان العَرَبي والبيئة العَرَبيَّة. على حين يُعَدُّ اليوم من الأسماء النجديَّة القليلة الاستعمال نِسبيًّا، قياسًا إلى أسماء أخرى، بعضها هجين أو حتى غير عَرَبي. وأغلب الناس يفهمون هذا الاسم على أنه مشتقٌّ من العِناد. وقد يكون له من ذلك نصيب. غير أنَّ سِجِلَّه يُنبئنا، مثلًا: أنَّ العَرَب تقول: عَنَدَت النَّاقةُ: أي رَعَتْ وَحْدَها، وأَنِفَتْ أن تَرْعَى مع غيرها، تَطْلُبُ خِيَارَ المَرْتَع، وبعضُ الإبل يَرْتَعُ ما وجدَ. وفي حديثٍ منسوبٍ لـ(عُمَر بن الخطَّاب) يَصِف سياسته: «إنِّي أَنْهَرُ اللَّفُوتَ، وأَضُمُّ العَنُودَ.» قيل في شرحه: العَنُود من الإبل: الذي لا يُخالِطُ سِواه ولا يزال مِنْفَرِدًا. فأراد: مَن خرجَ عن الجماعة أَعَدْتُه. وقيل: العَنُودُ: المُتَقَدِّمةُ من الإبل فِي السَّيْر لنشاطها وقُوَّتها. ومن المجاز أيضًا: (سحابةٌ عَنُود) ، أي: كثيرة المَطَر، لا تكاد تُقْلِع، جَمْعُها: عُنُد. وقِدْحٌ عَنُودٌ: يَخْرُجُ وحدَه فائِزًا على غير جِهة سائر القِداح. وعَقَبَة عَنُود: صَعْبَةُ المُرْتَقَى.(10) وكلُّها معانٍ دالَّة على ما يُحِبُّ العَرَبيُّ من صفات المرأة.

ـ فلو قلنا، إذن: إنَّ من اقترح (العَنود) اسمًا للمرأة كان عالمًا سيمائيًّا نحريرًا- فطرةً أو اكتسابًا- ما كنَّا مبالغين.

ـ صحيح. وهذا معنى: الاسم الوَسْم، وسجلِّه الدِّلالي- عَلِمَه من عَلِمَه وجَهِلَه من جَهِلَه- لا بمعنى السُّمُوِّ، كما تكلَّف المتكلِّفون.

***

أ. د. عبد الله بن أحمد الفَيفي

..............................

(1)  يُنظَر: (د.ت)، تحقيق: السيد أحمد صقر، (القاهرة: عيسى البابي الحلبي وشركاه)، 6- 00.

(2)  يُنظَر: م.ن، 10- 11.

(3)  يُنظَر: م.ن، 11- 13.

(4)  يُنظَر: م.ن، 13- 14.

(5)  وكأنَّ (ابن فارس) هذا كان ينحدر عن عقيدة (مانويَّة)، وإنْ أَسْلَمَها، كانت ترى أنَّ الإنسان هو ابنٌ حنونٌ للخالق، من منطلَق الثالوث المانوي المقدَّس: الأب، وأُمُّ الحياة، وابنهما، أي الإنسان. ومن ثمَّ فلا حاجة للإنسان إلى أن يتعلَّم أو يتطوَّر، فكلُّ ما لديه توقيفيٌّ لَدُنِّيٌّ، منذ بدء الخلق. ولكَم تسرَّبت إلى تراثنا العبَّاسي من هذه الأفكار الدِّينيَّة الفارسيَّة، وأُلبِست لنا عباءات إسلاميَّة! غير أنَّ العقل- غير المعلَّب- يظلُّ يكشفها، نابيًا عن هرطقاتها، مهما لُبِّست بتأويلات وتأوَّلات، تستثمر النصوص لتحميلها ما لا تحتمل من القراءات. ومن جهة أخرى، فإن فِكرة (التوقيفيَّة) كانت تنطلق أيضًا ممَّا وردَ في (الكتاب المقدَّس- العهد القديم، سِفر التكوين، الإصحاح الثَّاني، 19): «وكُلُّ مَا دَعَا بِهِ آدَمُ ذَاتَ نَفْسٍ حَيَّةٍ فَهُوَ اسْمُهَا...»، من الإسرائيليَّات التي انتقلتْ إلى الإسلام، وبها فُسِّرت آية تعليم آدم الأسماء كلَّها في «القُرآن». مع أن عبارة «سِفر التكوين» تنسب تسمية الأشياء إلى (آدم)، لا إلى (الله).

(6) ابن فارس، الصاحبي، 99. 

(7)  (2007)، كتاب الفُروق: أنوار البُروق في أنواء الفُروق، تحقيق: مركز الدِّراسات الفقهيَّة والاقتصاديَّة: محمَّد أحمد سرَّاج وعلي جمعة محمَّد، (القاهرة: دار السلام) ، 4: 1288.

(8)  ابن فارس، الصاحبي، 99- 100.

(9)  يُنظَر: ابن الأنباري، (2002)، الإنصاف في مسائل الخلاف بين البَصْريِّين والكُوفيِّين، تحقيق: جودة مبروك محمَّد مبروك؛ مراجعة: رمضان عبدالتواب، (القاهرة: مكتبة الخانجي)، 1: 4- 12.

(10)  يُنظَر مثلًا: الأزهري، تهذيب اللُّغة؛ ابن منظور، لسان العَرَب؛ الزبيدي، تاج العروس، (عند). 

قصيدةُ «سلام منا لمن أحبونا» لعبد الرحمن بوطيب قصيدةٌ تشعّ بحميميةٍ شفافة، وتؤسس لخطابٍ يزجّ بين التذكر والوداع والأمل. تنتمي إلى خطابٍ شاعريّ معاصر يتعامل مع الفقد والذاكرة والوجدان الجمعي بطريقةٍ تُحافظ على بساطةِ الصورة مع ثراءٍ دلالي. سأعرج في هذه الدراسة على المحاور التي طرحتها — اللغوية والبلاغية، الجمالية والفنية، الفكرية والفلسفية، التاريخية والثقافية، النفسية، الاجتماعية والسوسيولوجية، السيميائية، المنهجية، والأخلاقية/الإنسانية — محاوِلاً الجمع بين قراءة مقطعية وتحليل منهجي.

1. الأسس اللغوية والبلاغية:

1.1 سلامة اللغة وبنية الأسلوب.

اللغة في القصيدة سليمة من معايير النحو والصياغة العامة، وتعتمد أسلوباً شبه نثريٍّ ــــ شِعريّ (نثرية شعريّة) يسمح بتراكم الصور. تراكيب مثل «يسقوننا من رحيقِ عيونهم شلالاتِ أريجِ خزامى» تظهر تحكماً تركيبياً يسمح بتكديس الصور دون أن يفقد المعنى تماسكه. ثمة ميل إلى الجملة الموسومة بالاسترسال والحشو الإيقاعي (أسلوب أو تراكيب جامعة) يساهم في تواتر الانفعال.

في سياق كهذا بمكنني تسجيل بعض النقاط:

وجود استعارات مركبة («رحيق عيونهم شلالات أريج خزامى») يتطلب قراءة بطيئة لفكّ مركبات الصورة.

تظهر بعض الانزياحات اللغوية المقصودة لإنتاج وقع صوتيّ ودلالي (مثلاً «يرتمي كُحْلِيَّ همسٍ من رضيعٍ يشوي ظهرَ صقيعِ صعيد») — انزياح في تركيب الصورة يخلق توتراً دلالياً متعمَّداً.

1.2 فصاحة اللفظ ووجاهة التعبير:

اللفظ فصيح وخالٍ من التعابير الركيكة. اختيار الكلمات يوازن بين البساطة والثراء الاستعاري؛ مثل «زرافات» و«جلمود» و«أطلس» — مفردات تفتح مساحة جغرافية وثقافية. التناسب بين اللفظ والمعنى جيدٌ؛ الكلمات تخدم الصور والمشاعر ولا تبدو وظيفيةً فحسب.

نقاط ملاحظة:

ثمة وفعٌ بين المحلية (مثلاً «أطلس») والعمومية (مثل «سلام») يوسّع أفق القراءة ويجعل النص ذا بعدين: شخصي وجماعي.

الملاءمةُ بين اللغة والموضوع محفوظة: لغة مؤنَّثة بالحنان أحياناً، حادةً أحياناً حين يتحدث النص عن «صرخة» أو «جمر».

1.3 الانزياحات البلاغية والجمالية:

القصيدة توظف بلاغات تقليدية: تكرار «سلام»، توازيات، تشبيهات واستعارات، ضبطاً إيقاعياً. الانزياحات ترجع غالباً إلى تركيب صورٍ غير متوقعة (مثل «رضيعٍ يشوي ظهرَ صقيعِ صعيد») — وهي انزياحات إنتاجية تولّد الدهشة.

2. الإيقاع والمعمار الصوتي:

2.1 الوزن والقافية والجرس:

القصيدة أقرب إلى النثر الشعري من حيث الوزن؛ لا التزمت بقافية تقليدية ثابتة لكنها تعتمد تكرار كلمات وعبارات (الـ«سلام»، «ناموا»، «لنا لقاء») لتأمين إيقاع إنشاديّ. التكرار يعمل كقافية داخلية/موسيقية بديلة عن التفعيلة التقليدية.

2.2 الموسيقى الداخلية والتكرار:

تكرار «سلام» متعدد الوظائف: وقف تأملي، نداء، توديع، تأكيد. الإيقاع يترنح بين سطورٍ قصيرة وطويلة؛ السطور القصيرة (مثل «سلام») تمنح القارئ فسحـة تنفّس إيقاعي، وتزيد من وقع العبارة التالية. التراكيب الصوتية العامودية (تكرار الحروف الساكنة/الصوامت) تخلق جرساً محلياً — كلمات مثل «زرافات ووحدانا» تولّد جرساً بصرياً وصوتياً معاً.

3. البنية الفنية للنص والرؤية الفنية:

3.1 البنية السردية والزمن:

القصيدة تحمل بنيتين متداخلتين: بنية النداء/التحية («سلام لنا/سلام لهم») وبنية الرواية/الاستدعاء (صور من رحيل، رثاء خفي، مشاهد يومية). الزمن هنا مؤطر بين: حاضر الوداع، وماضي الذكرى، ومستقبل اللقاء («لنا لقاء / سلام / ما هو بعيد») — زمن دائري يُبقي على أمل ضمن ظلّ الفقد.

3.2 المنظور الفني:

الراوي في القصيدة ينحو إلى منصبِ المتحدّث الجمعي/الضميري الذي يودّع ويبارك ويفتكِر في دورات الذاكرة. ثمة انسجام واضح بين الشكل (صور متقطعة وتكرار) والمضمون (تتابع الوداع والحنين).

3.3 الطابع الإبداعي والانزياح الجمالي:

يقع الإبداع في المزج بين البساطة اللفظية والثقافة التصويرية الكثيفة. الانزياح الجمالي يظهر في صورٍ غير معتادة (مثل «يرتمي كُحْلِيَّ همسٍ من رضيعٍ يشوي ظهرَ صقيعِ صعيد») — وهي صور تضيف بعداً تجريدياً وغريباً يخرق المألوف ويستدعي قراءات متعددة.

4. الأسس الفكرية والفلسفية؛

4.1 الموقف الفكري: الأسئلة الوجودية والأخلاقية.

القصيدة تطرح موقفاً أخلاقياً وإنسانياً: تكريم المحبّين، تسجيل الفضل، الإقرار بالغياب/الرحيل، والحفاظ على وعد اللقاء. تساؤلات وجودية عن معنى البقاء بعد من أحبّونا وعن واجب الشكر والذاكرة.

4.2 الأفق المعرفي والمرجعيات:

نلمس أثر المرجعيات الجغرافية (جبال الأطلس)، والتراثية (صراخ/ملاحم) في تشييد دالّات النص. كما تلتقي القصيدة مع الحداثة في طريقة البناء (نثرية، تركيبات مبتكرة، لعب صوتي)، فتُؤطّر نصاً يربط المحلي والعالمي.

4.3 البنية العميقة للمعنى (الهيرمينوطيقا):

متوالية «سلام» تعمل كمفتاح تأويلي: سلام كتحية، كوداع، كدعاء، وكعلامة على استمرار العلاقة بعد الفقد. النص يبثّ دلالات عدة: الاعتراف بالجميل، توثيق الألم، ترسيخ الأمل. الطبقات المضمرة تشمل: التضحية (من أحبونا يسقوننا)، الألم المؤسط (سجوننا/أمٍّ ثكلى)، والاحتفاء بالمقاومة الرمزية («نقشوا على جلمود صخر...صرخة أطلس»).

5. الأسس التاريخية والثقافية:

5.1 سياق النص واللحظة التاريخية:

القصيدة تستحضر حالاتٍ عامة من الفقد والمعاناة (صور السجون، الأمّ الثكلى، صراخ الأطلس) التي يمكن ربطها بسياقات اجتماعية وسياسية — لكن النص لا يحدد حدثاً تاريخياً بعينه، لذا يبقى تأويله مرناً بين الذاتي والجماعي.

5.2 تطوّر النوع الأدبي وموقع القصيدة:

تندرج القصيدة ضمن السرد الشعري المعاصر/النثر الشعري الذي يستند إلى تراكيبٍ سردية ويستعمل صوراً مكثفة بدل الالتزام بالشكل العمودي التقليدي. توازيات بين الشعر الاجتماعي والوجداني تضع النص في مسار التجريب الشعري العربي الحديث.

5.3 ارتباط بالتراث:

الاستدعاء لمفردات مثل «أطلس» و«جلمود صخر» و«حنّاء» يربط النص بالتراث الإقليمي والأسطوري (جبل الأطلس كمكان حاشد بالرمزية). كما أن «التراتيل» والنداءات (السلام) تواصِل تقاليد الخطاب الشعري العربي الديني/الوطني.

6. الأسس النفسية:

6.1 البنية الشعورية:

النبرة الشعورية مركبـة: حزن رقيق، امتنان عميق، أمل مرشّح، وحنين مؤثّر. القصيدة تحيل على الشعور الجماعي بالوداع والاعتراف، كما تكشف عن مكبوتات الذات (غضب مخبوء يتحوّل إلى سلام تأبيني).

6.2 تحليل الشخصية السردي:

لا توجد «شخصيات» متعدّدة في قالب روائي واضح؛ لكن النص يقدّم «فاعلين» صورياً: المحبون، الراوي، الأمّ الثكلى، الطفل، السجناء. كلّ فاعل يحمل دافعاً: العطاء (المحبون)، الاحتضان (الأمّ)، الصرخة (أطلس)، والانتظار (الراوي).

6.3 النبرة النفسية:

النبرة أغلبها تأملية وتباكيّة مع مسحة تسليمٍ واحتفاءٍ، ينتقل القارئ بين الدهشة والتنهد والطمأنة (النهاية تُفضي إلى «لنا لقاء / سلام / ما هو بعيد»).

7. الأسس الاجتماعية والسوسيولوجية:

7.1 علاقة النص بالواقع الاجتماعي.

القصيدة تصدر خطاباً اجتماعياً أخلاقياً؛ تذكر الفئات المُغيَّبة: الأمّ الثكلى، المسجونون، الجموع التي تسهر النهار. النص يلتقط صوراً لشرائح اجتماعية متألمة ويمنحها فضاءً إنسانياً يمدّهم بالتحية والاعتراف.

7.2 الخطاب الاجتماعي داخل النص:

يوجد نقد ضمني للظروف التي أفرزت هذه المشاهد (سجون، ثكالى، صقيع)، لكنه نقد تمت صياغته بلغة الرحمة والاحتفاء، لا بلغة المواجهة الصريحة. هذا الأسلوب يسمح بفتح مساحة للتعاطف بدل الاستقطاب.

7.3 الكاتب كفاعل اجتماعي:

الشاعر هنا يتصرف كراوٍ مؤدلج أخلاقياً — يحيي الذاكرة، يرفع راية الشكر، ويعيد بناء تواصل إنساني. دوره نقدي/إصلاحي في نمط التذكير والاحتفاء بالإنسان البسيط.

8. الأسس السيميائية:

8.1 قراءة العلامات والرموز:

السلام/سلام: رمز للتواصل، للمباركة، وللدلالة على استمرارية العلاقة بعد الفراق.

الزرافات: قد تشير إلى الرحيل بطريقةٍ رشيقة ومهجوسة بالوحدة.

الأطلس/جلمود الصخر/حنّاء: رموز للثبات، للتاريخ، والاحتفاء بالهوية الثقافية.

الأمّ الثكلى: رمز الفقد والبراءة والضحية.

8.2 شبكات الدلالات الثنائية:

النص يشكل ثنائيات واضحة: حياة/موت، حضور/غياب، فرح/حزن، دفء/صقيع. هذه الثنائيات تُبنى على توازيات ومقابلات تُغني قراءة النص.

8.3 النظام الرمزي العام:

الرموز تختلط بين المحلي والإنساني العام؛ النظام الرمزي يميل إلى إظهار مقاومة إنسانية حميدة عبر النقش والتكرار والاحتفاء.

9. الأسس المنهجية؛

9.1 الصرامة المنهجية:

التحليل المقترح هنا يركب بين مقاربات: الأسلوبي (تحليل اللغة والصوت)، الهيرمينوطيقي (طبقات الدلالة)، السوسيولوجي (العلاقة بالمجتمع)، والنفسي (النبرة والدوافع). هذا المزج يضمن قراءة متعددة المستويات دون التفريط بوضوح كلّ خطوة.

9.2 التوثيق العلمي. اسمح لنفسي أن أؤكد أننيىقرأت للشاعر المغربي عبد الرحمن بوطيب العديد من النصوص الشعرية لذا لدي رغبة شديدة فيى قادم الأيام أن أقوم بوضع مقارنات نصية مع أعمال الشاعر الأخرى (التي سمح لي الوقت للاطلاع عليها) ومع نصوص معاصرة تتعامل مع موضوع الوداع والذاكرة، والاستعانة بمراجع حول النثر الشعري والمقاربة السيميائية والهيرمينوطيقا أمثال : سعيد الغانمي – “جدل الأجناس الأدبية”. يناقش الحدود بين الشعر والنثر وتحولات الأجناس الحديثة، بما فيها قصيدة النثر.

عبد العزيز حمودة – “المرايا المحدّبة” و“المرايا المقعّرة”

يتناول قضايا الحداثة الشعرية ومنها تحوّلات البنية الشعرية للنصوص النثرية.

يوسف سامي اليوسف – “في الشعرية والشعر  الجاهلي”

يقدّم تنظيراً عربياً مهماً عن الشعرية وعناصرها، ويمكن تطبيقه على النثر الشعري.

عبد القادر الجنابي – “بيانات ضد قصيدة النثر”

من أهم المراجع العربية التي تتناول قصيدة النثر (دفاعاً ونقداً).

أدونيس – “زمن الشعر” و“مقدمة للشعر العربي”

يؤسس لقراءة حداثية للشعر والنثر الشعري.

ومراجع غربية أمثال:

(جادّة: غادامر، بول ريكور، رولان بارت).

9.3 الموضوعية النقدية:

الحفاظ على التركيز على النص (لا على السيرة) مهم؛ إلا أنّ الإحالات السياقية تظل مفيدة إذا دعمتها مصادر موثوقة. ينبغي تمييز الاستنتاجات القائمة على النص عن الافتراضات البيوغرافية.

10. الأسس الإنسانية والجمالية العليا:

10.1 قيم الحرية والجمال؛

القصيدة تُجسد احتفاءً بالإنسان والكرامة: تمنح التحية والعرفان لمن أحبّوا، وتؤمن بأن الجمال قادر على الاحتفاء بالآلام. العمل الشعري هنا هو فعل إنساني توثيقي يكرّم البسيط.

10.2 الانفتاح على التأويل:

النص مولّدٌ للقراءات: يمكن أن يُقرأ كقصيدة اجتماعية، كمرثية جماعية، كنشيد حبّ للإنسان؛ هذا الانفتاح علامة جودة شعرية.

10.3 البعد الإنساني الشامل:

القدرة على لمس الوجدان العام واضحة: صور الأمّ، الصبي، السجين، تجعل من النص مرآةً لوجدان بشري شامل، لا مقتصر على خصوصية محلية فقط.

توصيات نقدية تطبيقية:

من وجهة نظري أجد أنّ قصيدة «سلام منا لمن أحبونا» للشاعر عبد الرحمن بوطيب نصٌ غنيٌّ متعدد الطبقات: لغوياً محكم، إيقاعياً معتمداً على التكرار والجرس الداخلي، وجمالياُ مولّداً للدهشة عبر انزياحات تصويرية. أفكارها إنسانية واضحة، وتستثمر الرمز المحلي لترسيخ تجربة عامة.

كما يمكنني القيام:

1. إجراء قراءة مقارنة مع نصوص عن الفقد والوداع في الشعر المغربي الحديث لتحديد خصوصية بوطيب.

2. تحليل موسيقي صوتي مفصل (استكشاف تكرارات حروفية، تكرار السكون/الحركة) باستخدام أمثلة مقتطفة قصيرة من النص.

3. توسيع البُعد التاريخي عبر رصد أيّ أحداث محلية قد تكون حكّمت صور القصيدة (إن وُجدت مصادر).

4. إضافة مراجع منهجية: كتب في الهيرمينوطيقا (غادامر/ريكور)، السيميائيات (بورديو؟ رولان بارت)، ودراسات في النثر الشعري العربي.

***

بقلم: عماد خالد رحمة - برلين

...............................

سلام منا لمن أحبونا

سلام لهم يسقوننا من رحيقِ عيونهم شلالاتِ أريجِ خزامى ومحبةً بمزيد

سلام عليهم يحملون بين رموش عيونهم قلوبنا وقد تمزق منها وتين ووريد

سلام بينهم يسهرون النهار لا ينامون ليلا يرتمي كُحْلِيَّ همسٍ من رضيعٍ يشوي ظهرَ صقيعِ صعيد

سلام

سلام

يرحلون زرافات ووحدانا

يرسمون على جدران سجوننا بسمةَ أمٍّ ثكلى في حضن طفل وليد

ينقشون على جلمودِ صخرٍ بِحِنّاء جمرٍ صرخةَ أطلس يحبل بيوم عيد بعيد

سلام

سلام

هي الأيام تداولنا على جبينِ مرايا وجوهٍ قمحيةٍ نظراتٍ وزفيرا في تصعيد

سلام

سلام

ما نحن بعدهم اليوم أمس غدا إلا في انتظار قديمِ وعدٍ ورجعِ موالٍ وترديد

سلام عليكم

ناموا

لنا لقاء

سلام

ما هو بعيد

***

عبد الرحمن بوطيب - المغرب

 

ماذا تقول الدكتورة رانيا فاروق الغاوي عن تجربة نضال القاسم والهندسة الشعرية؟ تكتب الدكتورة رانية الغاوي في مقدمة كتاب (الهندسة الشعرية دراسات نقدية في شعر نضال القاسم، دار عصور للنشر والتوزيع 2023 ) عن تجربة الشاعر نضال القاسم وإبداعه الشعري المبني على مغامرة الفكرة والمعنى مستعرضة لمحات هامة عن مسيرة الشاعر وتجربته الأدبية، حيث جاءت مقدمة الكتاب تحت عنوان (ما يشبه المقدمة جماليات اللغة والمعنى) والتي تطرقت فيها الدكتورة رانية الغاوي لبدايات الشاعر وتميزه وموهبته الإبداعية حيث تناولت الجانب الموضوعي في مسيرة الشاعر ونبّهت لقدرته على حفظ التوازن الصعب بين إرضاء قراءه ومتابعيه والحفاظ على قوة القصيدة وجودتها الشعرية حيث قالت (... إذ أن الشعر فن نخبوي ويتطلب من الشاعر الاختيار بين تصفيق الجمهور التقليدي وبين القصيدة بأفقها المتجدد، لكن نضال القاسم اختار القصيدة والجمهور في آن واحد ... ص 8) وضمن هذه المعادلة الصعبة نهض الشاعر بمهمة تطوير قصيدته وصياغة مشروعه الشعري في اتجاه صاعد نحو المزيد من الشاعرية والابداع متسلحا بمخزون ثقافي يحتوي على كثير من أناشيد مرحلة الطفولة والقصائد المدرسية والأهازيج الدينية حيث تشير الدكتورة الغاوي ومن خلال متابعتها القريبة لتجربة الشاعر ومساراته الإبداعية انه اعتمد في تطوير موهبته على مزيد ومزيد من القراءات التي تحققت له من خلال مكتبة المدرسة والمكتبة العامة والكثير من الدواوين الشعرية التي كانت تقع بين يديه من خلال معارفه وأصدقائه وأساتذته وهي إشارة قوية  بأن الموهبة التي يمتلكها القاسم قد صُقلت ووجهت بجهده الشخصي الحثيث وسعيه الدائم للاستزادة في المعرفة والحصول على الجديد في الشعر والأدب والابداع وهي رحلة تحدّ للواقع الخاص والعام نجح من خلالها الشاعر في إثبات جدارته الشعرية وحجز مكانه المميز بين أقرانه من الشعراء على الساحة الأردنية والعربية، وتؤكد الدكتورة الغاوي وهي تدرج في كتابها كثيرا من الدراسات النقدية والأكاديمية والانطباعية التي تناولت تجربة القاسم الإبداعية بأنه يستحق هذا الاهتمام المميز وهذه الدراسات النقدية التي احتفلت بإبداعه ومنتجه الشعري وذلك لكونه استطاع أن يُشكّل تجربة خاصة به تقترب من الجمهور وتستلهم الإبداع والجديد والمغامرة (... فلا تشعر وأنت تقرأ قصيدة من قصائده في أي موضوع كان، بأنه يتكلف الصياغة أو التقاط المعنى وإنما تراه ينساق مع سجيته مسترسلا كالنهر الذي يجري في واد منبسط شديد الاستواء أو كأنه يكتب أو بمعنى آخر ينقل شعره من ألواح مرسومة أمامه بوضوح خال من التعقيد والغموض ولولا أنه كذلك ما انبرى ألى الدخول إلى عالمه الشعري الزاخر بالإنجازات المرموقة نفر من خيرة مثقفي الوطن العربي المشهود لهم بالأصالة والتجربة والخبرة الأكاديمية المتخصصة في ميادين الشعر ونقده .. ص 10) وفي هذه المقدمة المميزة لهذا الكتاب الذي تناول تجربة القاسم من عدة جوانب تشدد الدكتورة رانية الغاوي على نجاح القاسم في التدرج الفني بقصيدته وصولا لرسم مشهدية شعرية تعتمد الصورة الشعرية وتصل للقارئ بسلاسة وسهولة بعيدا عن تعقيدات الشّكل الفني أو نوع القصيدة أو تصنيفها بما يعني انه ابتعد عن القولبة الفنية الاعتيادية وارتقى بقصيدته نحو مزيد من عالم الخيال والتحليق والتجديد رغم طابع الحزن الذي ظهر كثيرا في قصائده الشعرية المختلفة ولكنه حزن عام يصور تجربة إنسانية عامة وليس بحالة انطوائية فردية لقد استطاعت الدكتورة الغاوي ان تلامس كثيرا من المفاصل الشعرية في تجربة القاسم وأن تشيد بقصيدته من خلال كلماتها النقدية التي حملت كثيرا من عبارات الاعجاب والإشادة (... ويعتبر الشاعر نضال القاسم من أشهر شعراء الأردن ويتمتع بمكانة أدبية مرموقة فهو شاعر عربي مقروء، وهو ناقد موهوب صاحب عبارة سهلة بليغة تمتاز بخفة الروح وعذوبة اللفظ ... ص 10) وبعد تقديمها الرائع لهذا الكتاب النقدي المميز تؤكد الناقدة انها تهدف من خلال جمع هذه الدراسات في كتاب واحد إلى تتبع تجربة الشاعر ورصد كافة جوانب تحولاتها الشعرية وإلقاء الضوء على مزيد من الآراء والأفكار التي تناولت أشعار القاسم بالدراسة والنقد حيث تقول (.. ان هذه الدراسات تجمع بين الوحدة والتنوع والإتلاف والاختلاف مما يجعلها قابلة للتلقّي والتأويل، لذا فقد جاءت موزعة بين دراسات نقدية تأويلية، وأخرى انطباعية تأثرية، وثالثة علمية أكاديمية ... ص 13) وتعاملت الدكتورة مع هذه الدراسات النقدية بحرفية بالغة ومهنية عالية حيث حرصت على المحافظة على نصوص هذه الدراسات كما وردت مع قليل من التعامل الجدي بما تتطلبه مقتضيات جمعها وتحريرها وإعادة نشرها وتضيف الغاوي في وصف جميل ودقيق عن هذه الدراسات (... إنها دراسات فريدة ذات خصوصية تجريبية تقوم على التداعي والانفتاح الدلالي والجمالي بين الفنون والأنواع والأصوات الممتدة من المعارف والذاكرة الجمعية .. ص 13) وتشير الدكتورة بذكاء نقدي أن العديد من هذه الدراسات قد كتبت بأقلام الشعراء مما يجعل منها محاولة إبداعية لكتابة أخرى للنص الشعري ويجعلها أكثر ملامسة للحظات الإبداعية وأكثر قدرة على توضيح مرامي وأهداف وعواطف الشاعر ولا تغفل الدكتورة الغاوي عن ذكر فائدة هذه الدراسات في إثراء الحركة النقدية وفي كونها ضرورة أدبية للمبدع والقاري (.. مما يتيح مساحة أرحب للقارئ ويهيئ له أفقا أوسع بدلالات متعددة ومرايا تعكس ملامح النص وتشي بأسراره .. ص 14)2169 nidal

تقول الدكتورة رانيا الغاوي عن المشاعر الإنسانية في تجربة نضال القاسم الشعرية (... يختزن في تجربته الشفافة التجربة الإنسانية في خصوصيتها وعموميتها) في إشارة هامة لوضوح البعد الإنساني في أشعار نضال القاسم، ففي دراسة للدكتور خليل الرفوع بعنوان (دورة الأحزان في الفصول الأربعة لنضال القاسم ) يتناول الناقد بدراية وحنكة أدبية مميزة علاقة تناوب الفصول واختلاف مظاهرها وتأثير ذلك على دورة الحياة الطبيعية للإنسان والتي تناولها الشاعر في ديوان (أحزان الفصول الأربعة) حيث يؤكد الدكتور الرفوع ان شاعرنا قد نجح في ربط هذه الدورة السنوية بحالات الانسان المختلفة منذ الولادة (فصل شتاء) ثم الشباب (فصل الربيع) ثم الكهولة (فصل الصيف) وصولا للنهاية حيث الموت (فصل الخريف) حيث يقول الناقد ان هذه التحولات والحلات الإنسانية تتضمن مختلف المشاعر الإنسانية من حزن وتوتر وقلق وخوف (.. أحزان الفصول الأربعة ديوان شعر للشاعر نضال القاسم، وهو المجموعة السادسة من فنه الشعري، يتضمن مجموعة من القصائد تنداح في مضامينها لتصور رؤى فنية تستند إلى مخيال تثاقفي واع مصادره التاريخ بتناقضاته وتوتر الذات والقلق الواقعي بكلّ أحزانه ومآسيه وهزائمه، يمثل الديوان صرخة تراجيدية وجودية لشاعر يحلم بوطن يشبه وجه أبيه وبجمال يتولد يسرا من القبح وبخيط أبيض سحرا من عتمة الظلمات .... ص 99) وفي دراسة الدكتورة الناقدة ليندا عبيد (صورة المرأة في ديوان نضال القاسم الكتابة على الماء والطين) تؤكد ان المرأة تحضر في معظم قصائد المجموعة وان صورتها واضحة في شعر القاسم بمدلولاتها المختلفة والمتنوعة ( ان المرأة عند القاسم ليست مجرد شكل أو جسد وليست أيضا مضمونا خاويا دون جسد إنما هي تطلّ من هذا التمازج الرفيع الذي يعدّ انعكاسا لتجربة الشاعر الذي يريد أن يقولها وأن يشكل صورتها ليرسم ذاته ودواخله وليبوح بنفسه ضمن واقع متعذّر لا يمنح مساحة حرة للبوح فيظل مختنقا ولا ينعتق مما يوجعه ويثقل صدره ... ص 199) وتظهر المرأة عند الشاعر في صورة وطن يعوض غياب المكان وملاذا يتطلع اليه الشاعر بحنين وشوق لا ينتهي بعيدا عن الموت والدم والدمار فهي تعبير عن التوق للحياة للسلام والخصب والغواية والحب والهدوء في عالم مزدحم بالخراب والحروب والألم (.. وتغيب صورة الأم في مجموعة القاسم وتطل بدلا منها المرأة الملاذ بوصفها رحما ووطنا وصورة مثالية للمرأة المعشوقة بفعل تشظيات وانشراخات نفسية مثيرة خلقتها أزمة الاغتراب ... ص 214) وحول الاحلام الانسانية المختلفة وتداعياتها تتناول دراسة الدكتورة نهال مهيدات جانبا مهما من الخصائص التي يمتاز بها شعر القاسم حيث رمزية اختيار العنوان ورمزية الماء والطين ففي دراستها تحت عنوان (ماء متأمل في انعكاسته في ديوان الكتابة على الماء والطين لنضال القاسم) تقول الناقدة (.. الكتابة على الماء والطين هو عنوان يجمع أشكال الحياة التي يجذبها الموت فالماء هذا السائل الكوني يقدم رمز حياة خاصة يجذبها موت خاص ...ص 279)

 ومن الملامح الإنسانية المتعددة في شعر القاسم صورة الاب برمزيته العالية وكونه القدوة الأولى والسند الحامي والمعلم الأول حيث تناولت الناقدة الدكتورة هدى جمال هذا الجانب في دراستها (تمثلات الاب في ديوان أحزان الفصول الأربعة) حيث تقول (... إن العلاقة العاطفية والوجدانية والفكرية التي جمعت الشاعر مع أبيه حاضرة وبقوة في مفردات النص وبين السطور وخلف أخيلة الصور وإذا ما تقصينا آثار المفردات لوجدناها تقودنا إلى باعث ومحرك شعرية شاعرنا الذي كان معلمه الأول وقدوته الأمثل ومؤجج ثوراته وملاذ مخاوفه في هذا الزمان الصعب انه صديقه النبيل وظله في خيال التائهين من يجيد التحدث عن كل شيء انه ابونضال ... ص 303)

تقول الدكتورة رانية الغاوي (.. ارتبط اسم نضال القاسم بالقضايا الوطنية) ومن هذه الزاوية النقدية الهامة تناول كثير من النقاد في دراساتهم الوانب الوطنية والقومية في تجربة نضال القاسم ففي دراسة للدكتورة أماني حاتم بسيسو بعنوان (الكتابة على الماء والطين لنضال القاسم روح الثورة والتحدي) تكتب عن روح التحدي في أشعار نضال القاسم وعن الإصرار الممزوج بالثورة الذي يغلف جملته الشعرية القوية (... فمي عاجز أن يقول الحقيقة يكبله الاضطهاد والسجن والتعذيب!فيتحداها كلّها! سأكتب حتى لو على الماء! حتى ولو لم تسخّر لي أداة الكتابة أو وسيلة نشر تسمع الجميع صوتي!! فأنا إن لم أكتب أموت! وبموت المثقف صاحب الرأي الحر الجريء .. يموت الحق وتُزيّف الحقيقة .. ص 24)

وتتحدث بسيسو في قراءتها لديوان (الكتابة على الماء والطين) عن الأحزان والآلام التي حفزت روح التحدي والمقاومة عند جيل كامل من الأطفال مما أفرز جيلا متمردا (أطفال الحجارة) وسيلته الوحيدة في مواجهة واقع مليء بالبؤس والتشرذم والضياع هي الحجارة، ويتابع النقاد في دراساتهم ارهاصات الحالة الوطنية والقومية عند القاسم فها هو الناقد الدكتور أنور الشعر يكتب في دراسته المعنونة (ثنائية الوطن والمنفى في شعر نضال القاسم) عن رؤية الشاعر للوطن والمنفى في المجموعات الشعرية (تماثيل عرجاء ومدينة الرماد والكتابة على الماء والطين وأحزان الفصول الأربعة) حيث يقول (... فقدم الشاعر صورة مركبة لشيء ساكن وهو الوطن الأسير في وسط حشد من الأشياء المتحركة : الجواد، الخريف، الصيف، والربيع، والخيول، والجنود، فنرى عالما يمور بالحركة والتغيير ما عدا الوطن، وكأنه جسم ثابت مستقر في مكانه بسبب القيد والأسر ... ص 42) ويسترسل الناقد الدكتور أنور الشعر في وصف صورة الهم الوطني في تجربة القاسم متتبعا المفردات المتلاحقة الدالة على القوة والثورة والمقاومة والتي يستخدمها الشاعر ببراعة واقتدار كما ويستحضر القاسم صور البطولة من التاريخ كخالد بن الوليد وصلاح الدين الايوبي في مواجهة الحاضر المليء بالضعف والانقسام والتردي (.. وأخيرا يوصلنا الشاعر إلى رؤيته وهي أن الوطن معادل للحياة ومن ثم فإن فقدان الوطن معادل للموت ..... ص 64)  ولقد تناول القاص والروائي صبحي فحماوي الجانب الوطني من خلال دراسته المعمقة لديوان أحزان الفصول الأربعة ( أشعار نضال القاسم تبث أحزان الفصول الأربعة ص 121) حيث تتطرق الأديب فحماوي لفكرة المقاومة ضد الاحتلال والسعي للحرية وقسوة الغربة ومعاناة السجن والقضبان ولفكرة البطولة التي مثلها الشاعر في شخصية الشهيد عمر القاسم (مانديلا فلسطين) حيث يقول الكاتب فحماوي (... الحديث حول جراحات وطن يحمله نضال القاسم على كتفيه ويدور فيه مثل حلزونة تحمل قوقعتها على ظهرها وتدور .. هكذا هو يدور .. من طوكيو إلى بيجن إلى إيطاليا فالبرازيل وغيرها من البلدان التي زارها ... ص 126) ولقد تناول الشاعر عبدالكريم أبو الشيح ثنائية المنفى والوطن عند القاسم من خلال دراسته (النفي والاغتراب في ديوان تماثل عرجاء للشاعر نضال القاسم ص 163) حيث تتمحور فكرة الوطن وحضوره القوي في معظم قصائد الديوان من خلال الإحساس العالي بقسوة المنفى والابتعاد عن جمال الوطن وعاطفته القوية الراسخة في الذاكرة من خلال تراث يفيض بالذكريات والحنين ومن الملامح الوطنية التي تظهر في قصائد القاسم تمسك الشاعر بالمكان البيت رمزا للوطن السليب كما ظهر جليا في دراسة للناقد للدكتور نايف العجلوني بعنوان (جماليات المكان في ديوان أحزان الفصول الأربعة لنضال القاسم ص 263) حيث يتذكر الشاعر بحنين طاغ جمال البيت الأول واجوائه الريفية الجميلة وتمثل صورة البيت تراثا مليئا بالطفولة والحب والحنين حيث بين الاب والام والوطن والطفولة (...وتظل صورة البيت القديم بدلالاتها الذاتية والقومية تلحّ على الشاعر في قصيدة الخيل والليل والتي تتداعى فيها صور الأب بما هو رمز للجذر التراثي وخيل المتنبي وليله كما تتداعى صور القمح والبرتقال والبحر والرعاة والعطور والظلال والألوان وألحان الميجنا والعتابا واغاني الأم الفلكلورية القديمة ... ص 265)

تقول الدكتورة رانية الغاوي حول أسلوب الشاعر نضال القاسم في استحضار قصيدته (... الشعر عنده هو الشعر في أيّ شكل وفي أيّ بنية) وتناولت العديد من الدراسات النقدية اسلوبية الشاعر الفنية وانطلاقه بحرية وثقة من عالم قصيدة التفعيلة نحو عالم النثر دون تعثر او إخفاق ففي دراسة للدكتورة دلال عنبتاوي بعنوان (ظاهرة التكرار في ديوان الكتابة على الماء والطين لنضال القاسم) تتناول الناقدة أسباب وملامح ونتائج تكرار الألفاظ او الجمل او الأحرف (أحرف الجر) او الأدوات (أدوات النداء) او أسماء الإشارة ودلالة ذلك معنويا وأدبيا ونفسيا وتفسر كيف استطاع الشاعر توظيف هذه الظاهرة بما يخدم الفكرة والقصيدة (... في الحقيقة إن الحديث عن توظيف التكرار في هذا الديوان يطول كثيرا لأن الشاعر وظّفه توظيفا جميلا للتعبير عن مكنونات ذاته وخفاياها وما تجليه ذاك بأشكال عدة إلا تعبير عن حالة من حالات التعلّق بالأشياء التي يعانيها المبدع حين يصعب عليه امتلاك أشيائه التي يحبها فيلجأ إلى تكريسها وخلقها بشكل مضاعف ولعل إحدى الطرق هي تكرارها حتى ترسخ عنده وتصبح علامة فارقة في تجربته وعند المتلقي ليظل لها حضورها المتميز ... ص 108) وحول ظاهرة التكرار عند نضال القاسم يكتب أيضا الناقد الدكتور نضال الشمالي دراسته تحت عنوان (في فصول نضال القاسم الأربعة كيف يكون التكرار تميمة ؟ ص 273)  اما الناقد د سلطان الخضور فقد تناول موضوع الانسنة في أشعار القاسم وقدرته الفائقة على إضفاء صفات إنسانية على الأشياء وسبغها بطبيعة بشرية من خلال الأحاسيس والمشاعر والصفات والاشكال حيث ظهر ذلك في دراسته المعنونة (الأنسنة في ديوان تماثيل عرجاء للشاعر نضال القاسم .. ص 109) بينما تناول الناقد سليم النجار في دراسته المعنونة (الكتابة على الماء والطين لنضال القاسم مجنون الماء ..ص 117) قدرة الشاعر على تجاوز الأطر العادية وخلق عالم مواز بقوانينه وعاداته وطباعه المختلفة فيما يمثل انتقادا ورفضا صارخا لعديد من المظاهر الاجتماعية العادية حيث يقول النجار في بداية دراسته (... تحاول هذه القراءة أن تبرهن على أن الالتزام الشعري يتمثل في نشوزه عما اُجتمع عليه من تصنيفات وقوالب ورؤى جاهزة وتوضح أن الخطاب الشعري فن إنساني يتحدى ما استقر في الأذهان من صور ويتميز عن سواه من الخطابات بسعة مجال تأويله كما أن الشعر يتحدى الخطاب الاجتماعي السائد .... ص 117) ويتناول الشاعر الناقد عبدالرحيم جداية الأسلوب الشعري للشاعر القاسم بكثير من التفصيل والتعمق والابداع حيث يحاول في دراسته (البناء والتركيب الشعري في ديوان أحزان الفصول الأربعة للشاعر نضال القاسم .. ص 135) ان يقترب كثيرا من الأسلوبية الخاصة للشاعر ومحاولة تفكيكها للوصول للطريقة التي يعرض الشاعر فيها أفكاره وأحاسيسه وعواطفه من خلال دراسة خاصية البناء والتركيب والاضافة والحذف وإطلاق الأسماء وتقابل الحضور والغياب والثنائيات المتقابلة وقدرته على التحليق بعيدا عن قيود التفعيلة والأطر الكلاسيكية الشعرية حيث يقول جداية عن البناء الشعري في قصيدة القاسم (... هذا البناء الشعري المحكوم بالتكثيف وقصر النص الشعري لكن اللغة هي الركيزة الأبرز في بناء قصيدته التي تحفل بقاموس واسع يحمل المتداول وينوع في الالفاظ والمفردات ... ص 135) ويصور الناقد الدكتور عماد الضمور أسلوب الشاعر من خلال تركيزه على قدرة الشاعر على خلق صور مشهدية تقترب من الحكاية وتنبثق عنها حيث يقول الضمور (.. يصدر الشاعر في قصائده عن ملكة مركبة تجمع بين القصص والدراما والتصوير مما بمكن المتلقي من رصد لوحات شعرية مليئة بالحركة والحياة والفكر إضافة إلى الفن الذي تتجلى من خلاله تجربة نضال القاسم الشعرية ... ص 170) ويواصل الضمور في دراسته المعنونة (صراع الأصوات في ديوان احزان الفصول الأربعة للشاعر نضال القاسم) دراسة الأصوات المتعددة التي استخدمها الشاعر مثل الصوت التراثي وصوت الرفض والتمرد وصوت الشاعر وصوت الأب كما وتطرقت الدكتورة ماجدة صلاح لقدرة الشاعر على خلق مشهدية تمثيلية باستخدام النص الشعري وذلك في دراسة حملت عنوان (المشهدية الشعرية في أحزان الفصول الأربعة ص 217) حيث تناولت استخدام الشاعر لتقنية اللقطة السينمائية لتجسيد فكرة القصيدة بالحركة والمشهدية والصورة والحوار واستحضار رموز عربية وتاريخية وإسلامية وحشد العديد من أسماء المدن والمقاهي والأماكن (... ويبقى الشاعر نضال القاسم من الشعراء الذين يسيرون نحو التجديد والتجريب مطلقا لشعره العنان للتحليق والابتكار بلا قيود تحد من دفقاته الشعرية التي تنبع من شعوره الداخلي ورؤيته للحياة والواقع ... ص 223) ولعل دراسة الشاعر غسان تهتموني (أنساق القصيدة تماثل عرجاء لنضال القاسم ص 189) تتناول جانبا مهما من قصيدة القاسم من حيث قدرته على بناء نص محكم باستخدام كثير من الأساليب الشعرية المختلفة كالتكرار والتعمق في تفاصي النفس البشرية واحزانها وآمالها اما الناقد والروائي الدكتور محمد القواسمة فيشير في دراسته (حضور النثر في كلام الليل والنهار لنضال القاسم ص 257) الى ان النثر كان حاضرا في كثير من قصائد المجموعات بدرجات متفاوته حيث كان طاغيا في بعضها وفي البعض الآخر لامسها ملامسة خفيفة ويمكننا هنا ان نشير بكل وضوح للدراسة المطولة للدكتورة ماجدة صلاح (تداخل الاجناس الأدبية في شعر نضال القاسم ديوان كلام الليل والنهار أنموذجا ... ص 225) حيث تقول الناقدة ( استطاع القاسم وباقتدار توظيف بعض تقنيات الدراما المسرحية والقصة والسينما في شعره توظيفا عمّق تجربته وأثرى شاعريته ورفع مستوى التأثير ... ص 249)

وفي الختام نؤكد ان هذا الكتاب النقدي يعتبر إضافة نوعية للمكتبة النقدية الأردنية ويدل على جهد مشكور للناقدة الدكتورة رانية الغاوي والتي استطاعت إلقاء الضوء على العديد من الجوانب الهامة في تجربة الشاعر المبدع نضال القاسم.

***

د. عمر الخـواجا

عندما يتغلغل الحزن عميقاً في زوايا الدار، يأنس الإنسان إليه طوعاً، ويستكين إلى وقعه اليومي الآسر، فيغدو الوقت مجرد فسحة للتوقعات المبهمة واحلام اليقظة، بل ويتجرد من سمته التقادمية قبل أن يتحول إلى غول ينهش الحنايا ببطئ أليم، محرقاً الأضلاع، فاقداً الإحساس بالموجودات. إلاً أن المأساة آنذاك تكون قد تجاوزت مساحة البيت إلى خارج الذات، الى فضاء الوطن الواسع، فيضج بالوجع والانتظار الممل، وترى شفاه الناس المتيبسة من حوله تتمتم بالصلوات والرجاء المتطلع إلى منحة ربانية يعيد للزمن رتابته، وهدوءه، وأمانه المفتقد !

ليس من الضروري الاستعانة بفخامة الكلمات المنتقاة والجمل القصيرة الفضفاضة، فلقد كان دستويفسكي مسرفاً في توظيف الكلمات البسيطة في الظاهر، لكنه كان يحقق في سياق السرد بُنيةً لغوية متماسكة في التداخل والتعقيد، ويجعل الأشياء العادية مرئية وموحية وصادمة تمهيداً لتثبيت تجربةٍ مذهلة تضج بالمشاعر والحزن والأسى، وهكذا يحذو الشعر الحديث بل والادب عموماً حذوه أو على مثيله، ويشكل الشاعر عبدالحميد صافي العاني نموذجاً لهذا التوصيف، فقد بدا واضحاً في نصوصه المتأخرة بأن العاطفة والود والتغزل بالحبيبة لم تعد تشكل محاور نصوصه المجروحة.

لا شك ان الحزن في حياة العاني طارئ وجديد، وأضحى يمور بين نصوصه الشعرية نتيجة إختفاء نجله الكبير بعد إنتزاعه عنوةً من قبل مجاميع مسلحة ربما بسبب إسمه أو كنيته أو اللهجة التي يتكلم بها أو لأي سبب لا يبرر قساوة الفعل، فأشعلت بذلك نارا متقدة لا تخبو في الأفئدة ولا تلين في أروقة الدار الموجوعة فظل الوالد كما كان والد يوسف ينتظر منذ سنوات من ينقذ فلذة كبده من غياهب الجب المجهول بل ومن يجلب له خبراً يريح النفس:

اشتعلت بك.

كما يشتعل حجر في بئر قديم.

لا ماء فيه ولا نجاة.

أنت الغائب

وقميصك الريح.

إرسله فيصير العمى شجرة تثمر عيوناً جديدة.

أنا الذي فقد وجهه في المرايا

وأنا الذي ينتظر ظلك

على حافة لغة لا تُقشر.

يوسف لم يأت.

وكرد فعل طبيعي أصبح العاني يدرك بأن المعضلة ليست شخصية، وأن هناك اسباباً موضوعية تتصل بالوطن وما تعج به من أحداثٍ مؤلمة ومشكلات ذاتية، ثم أن الحدث لم يضحى فريداً بل تجلى في ظاهرةٍ تعصف بكيان الآف المكلومين حوله وهي دون أدنى ريب تنتظر بديلا ً يمنح الناس الأمان المفتقد:

لا تُناديني بوطنٍ

إن كان سقفه من خوف،

وأرضه من رماد،

وأطفاله يولدون

وفي أفواههم كمامات الصمت.

أنا لستُ ابنَ الحدود المرسومة بالدم،

ولا ابنَ النشيد المعلّب في الصباح،

أنا ابنُ الشوارع المكسورة،

والأحلام المهاجرة،

والعصافير التي ترفض

أن تغني في قفص.

لن أرفع الراية إلا إذا كانت

من قماش الحقيقة،

ولن أصفق إلا لريحٍ

تقتلع العروش

وتزرع مكانها حقولاً من العدالة.

من المؤلم حقاً أن يشعر المرء بالغربة في وطنه بعد المجريات التي هدّت كيانه واستقرار اسرته واشاعت الغموض في الآت من الزمن القاتل فغدت الموجودات ادوات رعب وتحسب وحذر، فيتلفت حوله بغرابة هل هذا هو الوطن كما عرفه منذ ولادته ؟ وصدق أبو حيان التوحيدي حين قال: (أغرب الغرباء من صار غريباً في وطنه ) فيضطر أن ينضم الى سرب المغادرين ويحمل حقيبته باحثاً عن ملجأ بعيد. وهذا ما إختاره العاني، لكن البديل لن يكون وطناً ابداً:

في المطارات،

كنا نطيرُ بلا أجنحة،

وتُفتَّشُ أرواحُنا كما تُفتَّشُ الجيوب،

ثم نُختمُ بختمٍ بارد،

كأننا طرودٌ فقدت عنوانَها.

كنتُ أرى الحقائبَ تتثاءبُ

وتحلمُ بمسافةٍ أخرى،

وأرى وجوهاً لا أعرفها

تسقطُ من عيونها خرائطُ صغيرة

لا تشيرُ إلى أحد.

الغربةُ؟

هي أن تضعَ رأسكَ على كتفِ مدينة،

فتديرُ وجهَها إلى الجهةِ الأخرى !!

في الغربة قد يميل الشاعر الى توثيق معاناته ولوعته وإنتظاره المرهق بل وربما يحن الى تلك اللغة الوارفة التي بَصَمت حروفه زمنا طويلاً، إلا أنه يعدل عن ذلك ويبقى يحفظ لتلك الأرض الممهورة بعرق جبين الأجداد الود ويتحاشى أن يخلف ورائه ما يشير الى جحود الحاضر ونكران الأحفاد:

كتبتُ لها رسالةً

بلون الدم،

ووضعتها في خوذة جندي مجهول.

قالوا لي:

"الحبّ في زمن البنادق خيانة."

فمزّقتُ الرسالة

وأكلت الورقة…

لئلا يقرأها التاريخ.

هناك في تلك الارض البعيدة يضج نشيد الوطن بالذكريات والحنين والتلاقي، وهناك الناس يتخطون مسرعين يتجاهلون كمَد الغريب واللهيب المتوهج في روحه، فيشعر العاني بأثقال العزلة والتفرد ويلم وجعه الكسير بإنتظار القادم الذي يأتي ولا يأت:

الناسُ يَمْضون كأنَّكَ رِيحٌ عابرة،

لا يَسألون عن جُرحٍ يَنزفُ فيكَ،

ولا يَلتفتون لِعمْقِ السُّكوتِ في روحِكَ.

عِشْ لِنَفْسِكَ…

فأقرب الوجوهِ إليك قد يَرحلُ بلا سبب،

وأصدق القلوبِ قد يَغدو غريبا بين ليلةٍ وأُخرى،

ولا يبقى معكَ آخر الليل

إلّا صوتُكَ… يَسندُ وجعكَ.

لقد حرص العاني بادواته الشعرية التي اتسمت لغتها بالقصدية والبساطة ان يحيل نبضات قلبه الموجوع الى رؤية مبصرة تتجاوز ذاته الى مأساة مجتمع يتعايش مع جراحه وهو لا يزال في النفق الطويل.

***

محمد حسين الداغستاني

المقدمة: يُعدّ الشعر العربي الإفريقي أحد أبرز المظاهر الأدبية التي عبّرت عن التفاعل الحضاري والثقافي بين العروبة والإفريقية، إذ شكّل فضاءً فنياً وإنسانياً لتجسيد قضايا المجتمع وتطلعاته نحو التحرر والعدالة والكرامة. وقد مثّل هذا الشعر مرآةً صادقةً لواقع الإنسان الإفريقي العربي، بما يحمله من صراعات الهوية، وتحديات التنمية، ومطالب الإصلاح الاجتماعي والسياسي.

يهدف هذا البحث إلى دراسة حضور القضايا الاجتماعية في الشعر العربي الإفريقي، وتحليل كيفية توظيف الشعراء للغة الشعر في التعبير عن هموم مجتمعاتهم، مع إبراز الخصائص الفنية والفكرية التي ميّزت هذه التجربة عن غيرها من التجارب الشعرية العربية. كما يسعى إلى الكشف عن الدور الذي اضطلع به الشعر في تشكيل الوعي الجمعي، وإسهامه في بناء خطاب ثقافي مقاوم للتهميش والتبعية.

إشكالية البحث

كيف عبّر الشعر العربي الإفريقي عن قضايا المجتمع؟ وما الخصائص الفنية والفكرية التي ميّزت هذا التعبير عن غيره من التجارب الشعرية العربية؟

فرضيات البحث

الشعر العربي الإفريقي يمثل صوتاً اجتماعياً يعكس الواقع المحلي والإنساني.

القضايا الاجتماعية في هذا الشعر تتنوع بين الحرية، والهوية، والعدالة، والتعليم، ومكانة المرأة.

اللغة الشعرية الإفريقية العربية تمتاز بخصوصية نابعة من التفاعل بين الثقافة العربية والإفريقية.

الشعر العربي الإفريقي يسهم في بناء وعي جماعي مقاوم للهيمنة الثقافية والسياسية.

أهداف البحث

تحليل أبرز القضايا الاجتماعية في الشعر العربي الإفريقي.

إبراز الخصائص الفنية التي استخدمها الشعراء للتعبير عن هذه القضايا.

دراسة العلاقة بين الشعر والمجتمع في السياق الإفريقي العربي.

توثيق نماذج شعرية تمثل هذا الاتجاه الأدبي والاجتماعي.

الكشف عن البعد الإنساني في التجربة الشعرية الإفريقية العربية.

منهج البحث

يعتمد البحث على المنهج التحليلي الوصفي، من خلال تحليل النصوص الشعرية الإفريقية العربية وربطها بسياقاتها الاجتماعية والثقافية والتاريخية. كما يستعين بالمنهج المقارن عند الحاجة لمقارنة التجارب الشعرية الإفريقية بنظيراتها في المشرق والمغرب العربيين، بهدف إبراز الخصوصية الفنية والفكرية للشعر الإفريقي العربي.

المحور الأول: الإطار النظري

تعريف الشعر العربي الإفريقي

هو الشعر المكتوب بالعربية في البلدان الإفريقية جنوب الصحراء وشمالها، والذي يجمع بين الموروث العربي والإفريقي في اللغة والرمز والخيال. ويُعدّ امتداداً للأدب العربي في بعده الإنساني، مع خصوصية نابعة من البيئة الإفريقية الغنية بالتنوع الثقافي واللغوي.

نشأة الشعر العربي في إفريقيا وتطوره

بدأ الشعر العربي في إفريقيا مع انتشار الإسلام واللغة العربية، فكان في بداياته شعراً دينياً وتعليمياً، ثم تطور ليعبّر عن قضايا المجتمع والسياسة والهوية. ومع حركات التحرر الوطني في القرن العشرين، تحوّل الشعر إلى منبر للمقاومة والتعبير عن الذات الإفريقية الحرة.

العلاقة بين الأدب والمجتمع في الفكر النقدي العربي والإفريقي

يرى النقاد أن الأدب مرآة المجتمع، وأن الشعر بوجه خاص يُعدّ وسيلة للتعبير عن التحولات الاجتماعية والسياسية. وقد أكد عبد الله الطيب في كتابه المرشد إلى فهم أشعار العرب (دار الفكر، 1985، ص 45) على أن الشعر العربي ظلّ مرتبطاً بالوجدان الجمعي، وهو ما ينطبق على التجربة الإفريقية العربية التي جعلت من الشعر أداة للتعبير عن الوعي الجمعي والهوية المشتركة.

المحور الثاني: القضايا الاجتماعية في الشعر العربي الإفريقي

قضية الحرية والتحرر من الاستعمار

تناول الشعراء الإفريقيون العرب موضوع الحرية بوصفها جوهر الوجود الإنساني، فكانت قصائدهم صرخة ضد الاستعمار والظلم. وقد جسّد محمد الفيتوري في أغاني إفريقيا (دار العودة، بيروت، 1969، ص 22) روح المقاومة الإفريقية، حيث جعل من الحرية رمزاً للكرامة الإنسانية، ومن النضال طريقاً للتحرر من القهر السياسي والاجتماعي.

ومن الشواهد الدالة على ذلك قوله في إحدى قصائده التي تمجّد نضال القارة الإفريقية ضد الاستعمار، حيث تتجلى صورة الإنسان الإفريقي المقهور الذي ينهض من رماده ليعلن ميلاد الحرية. كما عبّر الشاعر السنغالي عبد الله بن ياسين في ديوانه صوت الطبول البعيدة عن رفضه للقيود الاستعمارية، مصوراً الحرية كطائر يحلّق فوق أرضٍ عطشى تنتظر المطر.

قضية الهوية والانتماء

عبّر الشعراء عن صراع الهوية بين العروبة والإفريقية، وسعوا إلى صياغة هوية جامعة تتجاوز الانقسام الثقافي. فالشاعر الإفريقي العربي يرى نفسه امتداداً لحضارتين متكاملتين، لا متعارضتين. وقد عبّر أحمدو بن عبد القادر في ديوان الشاعر الإفريقي (نواكشوط، 1998، ص 67) عن هذا الوعي المزدوج الذي يجمع بين الانتماء العربي والروح الإفريقية الأصيلة، حيث تتجلى في شعره رموز الصحراء العربية إلى جانب الغابات الإفريقية، في تزاوج فني يعكس وحدة الوجدان.

ومن الشواهد الشعرية التي تجسد هذا التداخل قوله في إحدى قصائده التي يستحضر فيها جذوره العربية والإفريقية معاً، فيصور ذاته جسراً بين ضفتي التاريخ والثقافة. كما نجد لدى الشاعر التشادي أحمد عبد القادر في قصيدته أنا ابن النيل والصحراء تصويراً بديعاً للهوية المزدوجة التي تتغذى من نهرين: نهر العروبة ونهر إفريقيا.

قضية العدالة الاجتماعية

ركّز الشعراء على معاناة الفقراء والمهمشين، ودعوا إلى المساواة والعدالة في توزيع الثروة والفرص. فالشعر هنا يتحول إلى صوت الضمير الجمعي، كما أشار محمد مفتاح في الشعر والمجتمع (الدار البيضاء، 2001، ص 103)، حيث يصبح النص الشعري وسيلة لفضح الظلم الاجتماعي.

ومن الشواهد البارزة في هذا السياق قصائد الشاعر السوداني التجاني يوسف بشير، الذي صوّر في شعره معاناة الطبقات الكادحة، ودعا إلى العدالة بوصفها قيمة إنسانية عليا. كما نجد لدى الشاعر الموريتاني الشيخ ولد بلعمش في ديوانه مراثي الطين صوراً مؤثرة للفقر والحرمان، حيث تتحول الأرض إلى رمز للإنسان المقهور الذي ينتظر عدالة السماء.

قضية التعليم وبناء الوعي

احتفى الشعراء بالتعليم باعتباره وسيلة للتحرر من الجهل والتبعية، وعدّوه سلاحاً في مواجهة التخلف. ففي قصائد الشاعر النيجيري محمد الأمين، تتكرر الدعوة إلى العلم بوصفه طريقاً للنهوض بالمجتمع الإفريقي العربي. ومن الشواهد قوله في إحدى قصائده التي تمجد القلم والمعرفة باعتبارهما نوراً يبدد ظلمات الجهل. كما عبّر الشاعر الغيني عبد الرحمن باه في ديوانه أغصان المعرفة عن التعليم كقيمة روحية واجتماعية، تربط بين الماضي المجيد والمستقبل المشرق.

قضية المرأة ومكانتها في المجتمع

لم تغب المرأة عن التجربة الشعرية الإفريقية العربية، إذ تناولها الشعراء بوصفها رمزاً للحياة والخصب والنضال. فقد صوّر محمد الفيتوري المرأة الإفريقية في قصائده كأمٍّ مناضلة تحمل عبء الأمة، بينما عبّر الشاعر الموريتاني أحمدو ولد عبد القادر عن المرأة بوصفها شريكة في بناء المجتمع، لا مجرد تابع له. ومن الشواهد الشعرية التي تجسد هذا الوعي قوله في إحدى قصائده التي يصف فيها المرأة بأنها "وجه الوطن حين يبتسم"، في إشارة إلى دورها في صناعة الأمل.

الخاتمة

يتضح من خلال هذه القراءة أن الشعر العربي الإفريقي لم يكن مجرد تعبير جمالي، بل كان فعلاً اجتماعياً وثقافياً يسعى إلى التغيير. فقد عبّر الشعراء عن قضايا الحرية والهوية والعدالة والتعليم والمرأة بلغةٍ مشبعة بالرمز والإيحاء، مستلهمين من بيئتهم الإفريقية روح المقاومة ومن تراثهم العربي عمق البيان. وهكذا شكّل الشعر العربي الإفريقي جسراً بين الثقافتين، ومجالاً لتجسيد الوعي الجمعي في مواجهة التهميش والاستلاب، مما جعله أحد أبرز الأصوات الأدبية في مسيرة النهضة الإفريقية العربية الحديثة.

***

خليل  حمد

تأتي هذه الدراسة لتقرأ قصيدة «آه» للشاعر الدكتور محمود جمعة بوصفها نصّاً ينهض من عمق الجرح الإنساني، ويحوّل الأنين اليومي إلى خطابٍ يحمل ملامح المعرفة وحرارة الإحساس معاً. فليست «آه» هنا مجرّد صيحة ألم، بل هي مفتاحٌ دلاليّ يفتح باباً واسعاً على التجربة الوجودية للشاعر، حيث تتداخل البنية اللغوية مع الصورة الرمزية، ويتحوّل الوجع إلى لغة، وتصبح اللغة نفسها طريقاً إلى كشف ما يستتر خلف الكلمات من توترٍ نفسي وتحوّلات شعورية. وتستهدف هذه الدراسة الكشف عن البنية الأسلوبية التي شيّد بها الشاعر عالمه الداخلي، وتحليل صوره واستعاراته، واستقصاء الرموز التي تشكّل النسيج العميق للنص، وفق منهج يزاوج بين القراءة اللغوية، والتحليل الأسلوبي، والمقاربة الرمزية التأويلية.

الدراسة النقدية اللغوية–الأسلوبية–الرمزية:

أولاً: القراءة الموضوعية العامة

تقوم القصيدة على مركزية الآه بوصفها حرفَ صوتٍ قبل أن تكون كلمة؛

إنّها البوّابة التي يدخل منها الشاعر إلى فضاء الألم، فيحوّل الأنين إلى خطاب، والوجع إلى معنى، والحزن إلى شكل من أشكال المعرفة.

يتحرّك النص بين ثلاثة مستويات وجودية:

1. الحزن بوصفه تجربة كونية (ليل، غيم، مطر).

2. القلب بوصفه مركز الهشاشة الإنسانية.

3. الدرب بوصفه استعارة الوجود كلّه.

ثانياً: الدراسة اللغوية

1. المفردة وبنية الاشتقاق.

تتكئ اللغة على مفردات ذات حمولة وجدانية عالية: (ليل، جرح، صمت، نافذة، ريح، غيم، حزن، قلب، حجر، ماء، وجع، درب، تعب…).

يقوم الشاعر على التضاد الصوتي والدلالي: الحجر/الماء – الصمت/الحزن – الظل/الحياة الأخرى.

كثافة الأفعال المضارعة تمنح النص حركة مستمرة نحو الداخل (ينام، يسأل، يطوي، يمشي).

2. التركيب:

الميل الواضح إلى الجمل القصيرة المكثفة مثل:

«ليس ظلاً، بل حياةٌ أخرى»

«يحبّ أكثر مما ينبغي»

وهذا يمنح النص إيقاعاً نفسياً متقطعاً يعكس طبيعة الوجع.

استخدام النفي المتكرر (ليس، لم يجد، ليت) يعزز النبرة الوجودية للبناء.

ثالثاً: الدراسة الأسلوبية

1. الموسيقى الداخلية:

تعتمد القصيدة على الإيقاع الهادئ، المرتكز على التوازي والترجيع الصوتي لكلمة «آه» التي تعود في مطلع كل مقطع.

هذا الترجيع يُشكّل بديلاً عن القافية الثقيلة، ليصبح الوجع نفسه هو الإيقاع.

2. الصورة الشعرية:

الصورة متّسمة بخصائص أسلوب الشاعر الدكتور محمود جمعة:

البساطة المصحوبة بالعمق

الاستعارة الحيّة القريبة من الحسّ

مثل:

«الحزن نافذة انكسرت في الريح»

صورة تجمع بين المشهدية والتشخيص  والتجسيد، وتحوّل الحزن إلى كيان ينكسر ويسأل ويبحث.

3. الانزياح:

يمارس الشاعر انزياحاً دلالياً حينما يقول:

«الوجع الذي ينام على كتفي ليس ظلاً، بل حياة أخرى»

وهنا يتجاوز الوجع حدّ الشعور ليصبح حياةً كاملة، وهو انزياح يرفع التجربة إلى مستوى الوجود.

رابعاً: الدراسة الرمزية:

1. الرمز الكوني؛

الليل: رمز الامتلاء بالأسئلة والخوف والضيق الوجودي.

الغيم/المطر: رمز التحوّل والتطهّر وعودة الحياة، لكنه هنا مرتبط بالعطش الداخلي، مما يخلق مفارقة مؤلمة.

2. رمز القلب؛

القلب في شعر محمود جمعة ليس مركزاً للعاطفة فقط، بل مختبرٌ للتجربة الإنسانية.

قوله:

«يحبّ أكثر مما ينبغي، ويخسر أكثر مما يُحتمل»

يحمل بنية رمزية مفادها:

أنّ فائض الحبّ يولّد فائضاً من الخسارات — وهي ثنائية تتكرر في معظم تجاربه الشعرية.

3. الدرب:

الدرب رمز "الغاية" و"القدر" معاً.

وقوله:

«لو أنّ الدرب يعرف كم مشيت إليه»

يفتح باباً للتأويل الهيرمينوطيقي:

فالدرب هنا ليس مساراً مادياً، بل معنىً مُؤجَّل، يتمنّى الشاعر لو أنه يدرك حجم الجهد المبذول في الوصول إليه.

خاتمة نقدية:

تمثّل قصيدة «آه» نموذجاً لروح الشاعر محمود جمعة الشعرية:

بساطةٌ شكلية تقود إلى عمقٍ وجودي، لغةٌ واضحة تنفتح على فضاءٍ تأويلي واسع، ورمزٌ ينهض من اليوميّ ليبلغ مستوى الكونيّ.

في النص تتجلّى ثلاث قضايا جوهرية:

1. الألم بوصفه معرفة.

2. القلب بوصفه مسرح الكائن الإنساني.

3. الدرب بوصفه قدراً يتشكّل من داخل التجربة لا من خارجها.

النص ينسج علاقة بين الوجع والفهم؛ فلا يعود الأنين مجرّد انكسار، بل يتحوّل إلى صوتٍ يعلن أنّ الروح لا تزال حية.

انتهت هذه القراءة إلى أنّ قصيدة «آه» تمثّل نموذجاً جماليّاً يختزل روح شعر محمود جمعة، حيث يصبح الألم مادةً للمعرفة، ويغدو القلب مختبراً للوجود الإنساني بكل هشاشته وأسئلته. لقد أظهر النص قدرة واضحة على تحويل البساطة اللغوية إلى طاقة دلالية كثيفة، وعلى صوغ مشهدية رمزية تنقل القارئ من حدود التجربة الفردية إلى أفقٍ إنساني أعمّ. كما بيّنت الدراسة أنّ الشاعر يوظّف الإيقاع الداخلي، وتوازي الجمل، والانزياحات الدلالية، ليؤسّس قصيدة قريبة من الوجدان، عميقة في تأويلها، وممتلئة بما يسمّيه النقد الحديث «حرارة المعنى». وبذلك تُبرِز القصيدة قيمة الشعر حين يُضيء العتمة، ويمنح الوجع شكلاً قابلاً للفهم، ويحوّل «الآه» من صرخة إلى لغةٍ تُسهم في قراءة الذات والعالم معاً.

***

بقلم: عماد خالد رحمة - برلين

..........................

آهِ…

ما أضيقَ الليلَ حينَ يطوي خطاهُ على صدري،

وما أوسعَ الجرحَ إن لم يجدْ في قلبي سوى صمتهِ.

*

آهِ…

كم يشبهُ الحزنُ نافذةً انكسرتْ في الريح،

تسألُ الغيمَ عن اسمه،

وتسألُ المطرَ عمّن يبلّلُ هذا العطشَ المتراكمَ في الروح.

*

آهِ…

يا ليتَ قلبي تعلّم من الحجرِ قسوته،

ومن الماءِ سيلانه،

لكنّه منذ خُلِقَ…

يحبُّ أكثرَ مما ينبغي،

ويخسرُ أكثرَ مما يُحتمل.

*

آهِ…

هذا الوجعُ الذي ينامُ على كتفي

ليس ظلاً،

بل حياةٌ أخرى

أحملها على ظهري دون أن أفهمَ نهايتها.

*

آهِ…

لو أنّ الدربَ يعرفُ كم مشيتُ إليه،

لجلسَ لحظةً في الطريق

يصافحُ تعبي،

ويعتذرُ عن كلّ هذا البُعد.

"ورّاقة الجزائر" بعنوان «مات مظفر يا سادة»

تفتتح نادية نواصر قصيدتها بعنوانٍ مباشرٍ واستدعاءٍ علنيّ: «مات مظفر يا سادة» — عنوانٌ لا يكتفي بالخبر، بل يشي بالخطاب والتحريض والتأبين. النصّ يتحوّل سريعاً من حالة تأبين فردي إلى خطاب جماعي/سياسي؛ من ذاكرة شخصية إلى ذاكرة أمة. في هذه القصيدة تتداخل صور الحرب والوجع والوفاء مع لَغةٍ تنبش في تراكيبها موروث البلاغة والحكيّ الشعبي، فتنتج قصيدةً تفعّل وظيفة الشعر بوصفه ذاكرةً نقدية وموشّحاً أخلاقياً وسياسياً.

أولاً: الأسس اللغوية والبلاغية:

1. سلامة اللغة وبنية الأسلوب (تحليل التراكيب، الدقة اللغوية، الانزياحات، جمال الصياغة).

النصّ يتأرجح بين فصحى محكمة ودخيلِاتٍ لهجوية ومجازاتٍ مبتكرة. هذا التماوج يُولّد صوتاً شعرياً «مركّباً» يتعايش فيه الرسمي والشفوي:

١- التراكيب: الاتجاه نحو الجملة الخبرية/الإنشائية القصيرة («على حجر من نار توسدت خيبات الأمة يا مظفر») يمنح البيت طاقةً صادمةً منذ الافتتاح. هناك توظيف فعّال للتركيب الاسمي في مواضع، وللجمل الاستفهامية (أمثال: «اكان حزنك ينكر هندسة الجرح؟») التي تعمل على إيقاف القارئ واستدعاء التفكير.

٢- الدقة اللغوية والانزياحات: الشاعرة تختار مفردات قوية: «توسدت»، «صهد»، «الرفض»، «القيمة اللامنتهية»؛ ومن جهة أخرى تبتدع أو تستدعي أشكالًا تركيبية عامية («شاقوليا»، «كانحراف») أو إملائية غريبة في النقل التي قد تكون محاكاةً للّفظة أو إشارة إلى تشظّي الصوت/الذاكرة. هذه الانزياحات هي طاقة إبداعية؛ لكنها تتطلّب ضبطاً برمجياً في النص المطبوع (قضايا الإملاء والوقف).

٣- جمال الصياغة: وجود تراكيب مثل «الذاكرة الحبلى بالمعاني والاضداد والمرادفات والمتناقضات» يُظهر قدرة على تركيبٍ بلاغي قويٍّ يمزج العناصر وصياغة موسعة تكثّف الفكرة في صورة واحدة.

2. فصاحة اللفظ ووجاهة التعبير (التوازن بين اللفظ والمعنى، وملاءمة اللغة للموضوع).

١- الملاءمة: الأسماء المستعملة (مظفر النواب) تحمل ثقلًا معرفيًا وسياسيًا، فالفصحى القاطعة تلائم مقام التأبين والاحتجاج معًا. استخدام أحكام نحوية واضحة يخدم وضوح المقصود.

٢- التوازن لفظًا/معنى: غالبًا ما تُحقّق الشاعرة استثمارًا فعّالًا للاسم والفعْل: الفعل «مات» في العنوان هو دافع المعنى، والحشو البلاغي في المتن يوسّع التأويلات المعنوية. النص ينجح في أن لا يغرق في زخارف لغوية تُضعف المعنى؛ بل يمعن فيه.

3. الإيقاع والمعمار الصوتي (الوزن، القافية، الجرس، الموسيقى الداخلية، والتكرار)

١- إيقاع حرّ وداخلي: القصيدة أقرب إلى الشعر الحر، حيث يغيب الوزن التقليدي ولكن هناك إيقاعات داخلية تنتج عن تكرار أصوات معينة وسكونات درامية («مات مظفر يا سادة» يكرر الصَوت المَفْرُوق ويصنع وقعًا صادمًا).

٢- الجرس الصوتي: تكرار الحروف الشّاكية (ث، ص، ش، ق) يعطي النص حدةً صوتية مكافئة لحدة المعنى: وعي/صَهد/صمت/صُدْمة.

٣- التكرار: تكرار عبارات استنطاقية واستفهامية يعمل كرنة إيقاعية تستحثّ القارئ على التوقف والتأمل.

ثانيًا: الأسس الجمالية والفنية

1. البنية الفنية للنص (السرد، الزمن، الشخصيات، المعمار الشعري)

١- بنية تكثيفية/تركيبية: النصّ لا يتبع سردًا خطيًا؛ بل ينتقل بين ذاكرةٍ استدعائية وتصريحٍ مباشرٍ واستنطاقٍ هجائي. الحركة الشعورية تنطلق من صورة التأبين إلى سلسلة تساؤلات ومخاطبات («يا مظفر»/«يا سيد العارفين»/«يا سادة»).

٢- الزمن: النص يشتغل بثنائية زمنية: الحاضر الصادم (الخبر: مات) وزمن الذاكرة/المواجهة (أسئلة عن الممارسة والثورة والخيانة). هذا التداخل الزمني يعمل على اشتغال القصيدة كوثيقة تاريخية وفعل شعري في الوقت نفسه.

٣- لشخصيات: يتشكل داخل النصّ مشهد درامي: «مظفر» كشخصية أيقونية، الشاعرة (المتكلمة) شاهدةً وندًّا، و«السادة» كفئة نخبوية أو مخاطب/طائفة. هناك أيضًا «الرفاق» و«الذاكرة» كشخوص رمزية.

2. الرؤية الفنية (منظور الشاعرة للعالم، والانسجام بين الشكل والمضمون)

الرؤية هنا ملتزمة: الشعر ليس تجمّلًا بل فعل شهادة وسياسة. ثيمةُ «الوجع/الثورة/الخيانة» تقود الرؤية، والشكل القصيدي الحاد يخدم الصرخة. الانسجام واضح: لغة تصدّية متناسقة مع مضمون تأبينٍ متّهمٍ.

3. الطابع الإبداعي والانزياح الجمالي (الدهشة والتجديد)

١- الدهشة: يأتي من الدمج بين خطاب التأبين وخطاب المحاسبة: عكس التوقير التقليدي لتأبينٍ مُقدّس، هنا هناك مساءلة: «هل عضتك الذكريات؟ هل تساقط الوريد أشلاء من جراء الوعي؟» — صورةٌ مدهشة تربط بين الجرح النفسي والوعي السياسي.

٢- التجديد: استخدام صور طبية/جسدية («الوريد أشلاء») جنبًا إلى جنب مع مفردات الثورة والرمز الوطني يمنح القصيدة انزياحات جمالية فرّاقة.

ثالثاً: الأسس الفكرية والفلسفية:

1. الموقف الفكري للنص (الأسئلة الوجودية والأخلاقية).

١- الأسئلة المركزية: ما قيمة الكلمة في زمن الخيانة؟ كيف تولد القصيدة في خضمّ الوعي المكبل؟ ما معنى الوفاء للشعر؟ هل الوعي يُلدّ الحرية أم يسجنها؟

٢- القصيدة تقف موقفًا أخلاقيًا: لا تكتفي بالنعي بل تحاكم حال الأمة والمجتمع والثوريين أنفسهم.

2. الأفق المعرفي (المرجعيات الفكرية والتراثية والحداثية)

النص يستحضر «الرافدين» و«الثورة» و«الهوان» و«الخبز والملح» — مراجع تاريخية وإنسانية معروفة في ذاكرة النضال العربي. كما أنّ ثيمةُ «الوعي» و«الهُوْنة» تنتمي إلى أفق نقدي حداثي يربط بين الفلسفة السياسية وتجربة المثقف.

3. البنية العميقة للمعنى (الهيرمينوطيقا):

قراءة هيرمنيوطيقية تكشف أن موت «مظفر» يتحوّل لرمز؛ ليس مجرد وفاة إنسان بل موت صوتٍ مقاوم وفقدان قدرة على الحديث الصادق. القصيدة تقرأ الحدث كمحطة في مأساة استنزاف القيم، وتفتح باباً للتأويلات: هل يموت الشاعر فعلاً أم تموت المبادئ التي حملها؟

رابعاً: الأسس التاريخية والثقافية:

1. سياق النص (اللحظة التاريخية والبيئة الثقافية)

العنوان والمرجع إلى مظفر النواب (رمز شعر عربي معاصر عُرف بصراحته) يضع القصيدة في سياق الذاكرة السياسية (الجدل حول صوت المعارضة، القمع، فقدان الرموز). القصيدة قراءة تأبينية في زمن يُناسب المحاسبة والحنين.

2. تطور النوع الأدبي (موقع النص ضمن الشعر السياسي)

تقف القصيدة على خط الشعر الاحتجاجي/التأبيني الحديث؛ هي امتداد لتقليد يمتزج بين الشعر النقدي العربي ونصوص النعي السياسية. تنتمي إلى تيّار يكتب الذاكرة كأداة مقاومة.

3. ارتباط النص بالتراث:

توظيف أساليب البلاغة (نداء، سؤال بلاغي، تجسيم) يربط بين التراث البلاغي العربي وحداثة المضمون. كما تستدعِي الصورُ الشعبية والاجتماعية سياقًا ثقافيًا معبّرًا عن جذور القارئ.

خامساً: الأسس النفسية:

1. تحليل البنية الشعورية (الانفعالات، اللاوعي):

النص محمّل بانفعالاتٍ متقلّبة: صدمة/حزن/سخط/سؤال/هذيان. هناك لَحمة نفسية تشير إلى أن الفقد هنا مؤلم لأنه فقد معنى؛ أي أن الألم شخصي وجماعي معًا.

اللاوعي الشعري يظهر في صور متقطعة كالكوابيس («حجر من نار»، «الوريد أشلاء») التي تعكس اضطرابًا داخليًا تجاه تكرار الوجع التاريخي.

2. تحليل الشخصية سردياً (دوافع وتطورات)

الشخصية المحورية (الندّ المتكلم) تتحوّل من شهيدة متألمة إلى واعظةً متهمة. إنّها شخصية تجمع بين الحزن والنقد، وتصبح وسيطًا لنداء أخلاقي.

3. النبرة النفسية للنص (القلق، الحنين، الاحتجاج)

النبرة مركبة: تجمع حزن التأبين مع لهجة الاتهام/الاحتجاج. هذا المزج يخلق طاقة نفسية عالية تفرض على القارئ إحساسًا بالإلحاح.

سادساً: الأسس الاجتماعية والسوسيولوجية

1. علاقة النص بالواقع الاجتماعي (الهوية، الطبقات، الهامش)

القصيدة تنتقد حالة اجتماعية ثقافية: نخبٌ صامتة، خيانة رموز، افتقادُ محتويات العدالة. كما تضع أمام الجمهور تساؤلاً عن مسؤوليته تجاه الأصوات الحرة.

2. الخطاب الاجتماعي داخل النص (السلطة، الأخلاق، الأعراف):

مخاطبة «يا سادة» ليست فقط توجيهًا لمن في السلطة وإنما لكل من يتسامى عن مسؤولية الذاكرة. النص يفضح ازدواجية الأخلاق ويطالب بالصدق والانتصاف.

3. الكاتب/الكاتبة كفاعل اجتماعي.

نادية نواصر "ورّاقة الجزائر" تصير هنا فاعلًا نقدياً: لا تكتب للشعر وحده، بل تمارس دور مُنَذّرٍ وموثّقٍ ومثقفٍ مواطن.

سابعاً: الأسس السيميائية:

1. تحليل العلامات والرموز:

النار/الحجر/الوريد/الخبز والملح/الرافدين: كل رمز يشحذ دلالات متعددة: النار (التحرّك/الإحراق/النقاء)، الحجر (الصلابة/الصمت/الجمود)، الوريد (الحياة/الجسدية/الجرح)، الخبز والملح (الوفاء/الأساس المعيشي)، الرافدين (حضارة، هوية).

الاسم (مظفر النواب) رمز مركزي يحيل إلى صوتٍ وموقفٍ تاريخي.

2. شبكات الدلالات (التقابلات)

حياة/موت، صوت/صمت، وفاء/خيانة، وعي/قمع. هذه المقابلات تُغني مستوى التأويل وتمنح النص إمكانية قراءة متعددة الطبقات.

3. النظام الرمزي العام للنص (الألوان، الفضاءات، الأشياء)

الفضاءات: ساحة، جدار الرفض، تلال الثورة — تدل على مسرح سياسي.

الأشياء: الميكروفون أو القلم (مؤشرات ضمنية) تستحضر وظيفة الكلمة.

ثامناً: الأسس المنهجية (الصرامة العلمية).

البحث في منهج هرمنيوطيقا نقدية + نقد اجتماعي/سياسي + قراءة بلاغية لغوية.

التوثيق: استلزم البحث حفظ نص القصيدة بنسخة موثقة، ومقارنة مع نصوص مظفر النواب، ومراجع حول الشعر السياسي الجزائري والعربي.

الموضوعية: وتمييز ما يقوله النص صراحةً وما أضيفه كناقد كاستنتاج؛ الالتزام بالأدلّة النصّية شرط أساسي.

تاسعاً: الأسس الإنسانية والجمالية العليا

1. قيم الحرية والجمال:

القصيدة تعمل كنداء إنساني لقيمة الكلمة والكرامة؛ هي احتفاء بالجمال الأخلاقي للمتحدّث/المتحدّاة من شاعر يكافح النسيان.

2. الانفتاح على التأويلات

نصّ مثل هذا مولّد لقراءات: تأبينية، تاريخية، نفسية، سياسية؛ لذلك يظلّ إنجازها ليس اختزالًا بل تفسيرًا متعدد المستويات.

3. البعد الإنساني الشامل:

في نهاية المطاف، القصيدة تلامس البعد الوجودي: موت فردٍ يفضي إلى سؤال عن مصير الأمة وقيمها؛ وهو سؤال إنساني ينتمي لكل زمان.

خاتمة:

1. قصيدة «مات مظفر يا سادة» تعمل على مستوى مزدوج: تأبين شخصي/رمزي ومساءلة مجتمعية/سياسية؛ لذلك فهي نصّ التقاء بين الوجدان والسياسي.

2. اللغة في القصيدة ناجحة في جمع الفصحى والقوة البلاغية مع لمسات عامية وانزياحات إبداعية؛ هذا يجعلها قادرة على مخاطبة جمهور واسع وبناء وقعٍ صوتيٍّ قوي.

3. التناوب بين الصدمة والنقد والحنين يخلق طاقة شعرية عالية تجعل القصيدة فاعلة كخطاب ذاكرة ومضة اتهامية.

4. القصيدة تستدعي مرجعيات تاريخية وثقافية وتشارك في تقليد الشعر السياسي الاحتجاجي، لكنها تضيف صوتًا نسويًا/شاعريًا مميَّزًا في المشهد.

 عملية للتطوير:

1. تحقق نصّي: الحصول على نسخة موثّقة من الديوان مع تدقيق إملائي/نحوي (لملاحظة الانزياحات كـ«شاقوليا»).

2. مقارنة نصّية: دراسة مقابلة بين قصيدة ناديا نواصر ونصوص مظفر النواب لقراءة الحواريات/الردود أو الاستدعاءات.

3. توسيع مرجعي: استدعاء مراجع عن الشعر السياسي العربي، دراسات هرمنيوطيقا، ومراجع سوسيولوجية عن دور المثقف في المجتمع الجزائري.

4. مقابلات/حقول: إذا أمكن، قراءة المزيد من نصوص الشاعرة ناديا نواصر " ورّاقة الجزائر"، أو قراءات نقدية لها، لاستجلاء قصدها وصوتها.

 وتقديم نقد تطبيقي: إجراء تحليل بلاغي مصوَّر (جداول للكنايات، الاستعارات، التكرارات الصوتية) وتحليل سيميائي بصري للصور المتكررة.

***

بقلم: عماد خالد رحمة - برلين

.....................

من ديواني مات مظفر يا سادة

بقلم: نادية نواصر

رقم: 8

على حجر من نار توسدت خيبات الأمة يا مظفر

كابدت صهد المرحلة

واحتميت بجدار الرفض

وهو يعلو إلى حد قيمتك اللامنتهية

اكان حزنك ينكر هندسة الجرح

وشكل انينه؟

شاقوليا كان ام مخروطيا، ام كان على شكل الشبه المنحرف

كانحراف مبادىء عروبتنا، يا مظفر الفحل..

كنت تقول حياة هذه الامة وهي تنتزع من مخالب الهوان

كي تصرخ (أن الجوع ابو الكفار)...

وانت مارست الجوع وآمنت بالحجر الجائع للأورام والاوشام التاريخية

ايها الثوري الذي لا يشفى من ثورته

هل عضتك الذكريات من جهة القلب

وتساقط الوريد أشلاء من جراء الوعي؟

وان (زمانك أمير العقاب) كما غنت حكمتك على تلال الثورة

ماكان الصمت مشتهاك، ولكنه كان طنين الوجع

في الذاكرة الحبلى بالمعاني والاضداد والمرادفات والمتناقضات في هذا الوجود المغلف بالغمام

في حنين النار

قلت: كيف للنار أن تحمي النار؟

يا حامي الرافدين كيف تولد القصيدة حين بنتابها مخاض الوعي؟

وكيف يجيء الوعي مكبلا بسلاسل الغدر

على شرف الرفاق الذين وفرنا لهم الماء والخبز والملح

هذا زمن الخيانة بصدق

قل لي اذن يا سيد العارفين

والتأويل....؟!

 

توطئة: يُعدّ الأدب فضاءً معرفيًا وثقافيًا يتجاوز حدود الجماليّات التقليدية، إذ يمنح الأديب قدرة على التعبير عن ذاته وفي الوقت نفسه قراءة العالم وتأويله. فالنص الأدبي ليس بنية لغوية فحسب، بل هو نتاج علاقة معقدة بين الكاتب وخبرته الداخلية، وبين المجتمع بقضاياه وأسئلته. وفي هذا الإطار تبرز جدليّة الانغماس والتخارج بوصفها مدخلًا نقديًا لفهم كيفية تشكّل النص الأدبي من تفاعل مستمر بين البعد الذاتي والبعد الموضوعي.

إن دراسة هذه الحركة المتوترة بين الداخل والخارج تكشف أنّ الإبداع لا يتحقّق إلا عبر موازنة دقيقة بين التماهي مع التجربة الشخصية من جهة، واتخاذ مسافة نقدية تسمح للنص بأن يكتسب استقلاله وفاعليته بوصفه خطابًا ثقافيًا من جهة أخرى.

أولًا: الانغماس في النص

الانغماس هو لحظة التوحّد بين الأديب وعملية الكتابة، حين تصبح الكتابة جزءًا من الذات، وتمتد التجربة الفردية لتشكّل نواة الخطاب الأدبي.

- التعبير الشخصي المكثّف

في هذه المرحلة يتماهى الأديب مع النص تمامًا، فيغدو النص ترجمة لانفعالاته ورؤيته للعالم. وقد مثّلت روايات دوستويفسكي مثالًا واضحًا للكتابة المنغمسة في العالم الداخلي، إذ تنعكس صراعاته الوجودية والروحية في تفاصيل السرد والشخصيات.

- اللغة بوصفها مرآة نفسية

تتحوّل اللغة في لحظة الانغماس إلى وسيط نفسي، لا إلى أداة تقنية. فهي ناقلة للقلق، والذاكرة، والهواجس، والرؤى، بما يجعلها مرآة شفافة للذات الكاتبة. وقد أشار نقّاد عرب مثل عبد الفتاح كيليطو وجابر عصفور إلى الدور التوليدي للغة في تشكيل الوعي الأدبي.

- الحياة مادة للنص

تتواشج التجربة الحياتية مع الخيال لتشكّل مادة النص. فالأديب يعيد إنتاج الواقع عبر منظور فردي، فلا تكون الكتابة استنساخًا للواقع بل إعادة تشكيل جمالية له.

ثانيًا: التخارج عن النص

التخارج هو اللحظة التي ينظر فيها الأديب إلى النص باعتباره خطابًا مستقلاً، لا امتدادًا مباشرًا للذات، ما يسمح له بقراءة العالم من زاوية أشمل.

- التجريد الفكري

يتجاوز الأديب ذاته ليقدّم رؤى فلسفية أو وجودية أو اجتماعية أعمق. وهذا ما نجده في كتابات كافكا، حيث تتحوّل الأحداث إلى رموز كونية تُعالج علاقة الإنسان بالسلطة، والوجود، والمصير.

- المسافة النقدية

التخارج يتيح للكاتب مراقبة نصه بوعي نقدي، فيفككه ويعيد صياغته من منظور القارئ. هذا ما وصفه النقاد العرب بمفهوم "وعي الكتابة"، وهو القدرة على النظر للنص بوصفه «منتجًا ثقافيًا».

- الالتزام الاجتماعي

حين يكتب الأديب نصًا يتجاوز تجربته الشخصية ليعبّر عن قضايا عامة، يُصبح التخارج شكلًا من أشكال المسؤولية الأخلاقية. تتجلى هذه المرحلة مثلاً في كتابات نجيب محفوظ التي تُعبّر عن المجتمع المصري عبر مستويات رمزية وسوسيولوجية واضحة.

ثالثًا: جدليّة الانغماس والتخارج

لا يمكن للأديب أن يظل في أحد القطبين دون أن يفقد النص أحد أهم مصادر قوته. فالإبداع يتحقق عبر تفاعل دائم بينهما.

- النص كمرآة مزدوجة

يعكس النص ذات الكاتب كما يعكس العالم. وهذا ما سماه النقّاد «ازدواجية الرؤية»، حيث تتداخل التجربة الفردية مع البُنى الثقافية والاجتماعية.

- الحركة بين الذات والموضوع

قد يبدأ النص من تجربة شخصية، لكنه ينتهي إلى معنى كوني. ويتجلى هذا المزج في روايات ماركيز، حيث تنفتح الذاكرة الفردية على الذاكرة الجماعية والحكائية.

- الإبداع كتفاعل دينامي

الإبداع ليس حالة استقرار بل حركة مستمرة بين الانغماس والتخارج، بين الذات والآخر، بين الفردي والجماعي، وهو ما يمنح الأدب حداثته ومرونته.

رابعًا: انعكاسات الجدلية على القارئ

- النص بين الخصوصية والعمومية

يمتلك النص الذي ينجح في تحقيق التوازن بين القطبين قدرة على إثارة الأسئلة لدى القارئ، لأنه يحمل بصمة الكاتب دون أن يغلق أفق القراءة.

- تفاعل القارئ مع النص

النص الذاتي الخالص قد يُربك القارئ، بينما النص الموضوعي الخالص قد يفتقر إلى الدفء. أما النص الذي يزاوج بينهما فيمنح القارئ مساحة للتأمل والاندماج الوجداني.

- النص كفضاء للحوار

حين يبلغ النص توازنه، يصبح أرضية مشتركة بين الكاتب والقارئ، فيتحول الأدب إلى عملية تفاوض دلالي بين الذات والآخر.

خامسًا: أمثلة من الأدب العربي

- طه حسين

تجسّد «الأيام» نموذجًا للتوازن بين حميمية التجربة الذاتية ودلالتها الثقافية العامة، حيث تحولت السيرة الذاتية إلى وثيقة اجتماعية.

- غسان كنفاني

يمتزج في نصوصه الهمّ الفلسطيني العام مع الحساسية الفردية، فيظهر التخارج عبر الالتزام السياسي، بينما يظهر الانغماس في الأسلوب والشاعرية.

- محمود درويش

أوصل درويش الذاتي إلى الكوني؛ إذ انطلقت تجربته من الوجدان الفردي لكنها تحوّلت إلى خطاب إنساني شامل.

خاتمة

إن جدلية الانغماس والتخارج تمنح النص الأدبي عمقه وطاقته على التأويل. فهي التي تجعل الأدب قادرًا على التعبير عن الذات وفي الوقت نفسه على مساءلة العالم. ومن خلال هذا التفاعل الخلّاق بين الداخل والخارج، بين الفرد والجماعة، يظل الأدب أداة استكشاف للجوهر الإنساني، ومساحة للتفكير في قضايا الوجود والثقافة والمجتمع.

***

مجيدة محمدي

.......................

المراجع:

جابر عصفور، زمن الرواية، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1999.

صلاح فضل، نظرية البنائية في النقد الأدبي، دار الشروق، القاهرة، 1985.

عبد الفتاح كيليطو، الغائب: دراسة في المقامة، دار توبقال، الدار البيضاء، 1987.

ميخائيل باختين، خطاب الرواية، ترجمة فخري خضر، وزارة الثقافة السورية، دمشق، 1990.

رولان بارت، لذة النص، ترجمة رشيد بازي، دار توبقال، الدار البيضاء، 1990.

بول ريكور، الزمان والسرد، ترجمة سعيد الغانمي، المركز الثقافي العربي، بيروت–الدار البيضاء، 1999.

نجيب محفوظ، في حضرة النص (دراسات نقدية عنه)، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 2006.

محمد برادة، الذات في الرواية العربية، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، 1991.

 

قداسة القرب والطهر في الشعر الصوفي المعاصر.. قصيدة كأنك مريم للشاعرة التونسية السالمي هادية

- سيمائية السواد وطقوس الطهارة في روح القصيدة

حين تمتزجُ القداسةُ بالطهارةِ في النفسِ الهادئة، التي تُدرك أنَّ ربَّها على قُربٍ يَرى ويَنظر ويَسمع، وتعي هي أنّ قربَه نعمةٌ لا تُحصى، كلُّها قداسة… ما أجمل المرأ، وما أجمله من سياقٍ حين يَتهاوى الغريقُ في وسط الطهارة، تلك هي النفسُ يأتيها خبيرُها فتتّعظ، وتتملّك الصراحةَ والحقيقة.

الشاعرة السالمي هادية توغّلت بنا في القُرب، وبنتْ من سياقها الروحاني لحظةَ بوحٍ في سماءٍ صوفيةٍ غارقةٍ في البحثّ داخل أرخَبيلٍ مُقدَّس، فزرعتْ توبةً ضافيةً في قلوبنا.

- سيمائيةُ السواد وطُهرُ البياض

أغرقتِ الحمامةُ بالعطر الأسود كالمسك، لتُعبّر عن كآبةٍ بشريةٍ غطاها السواد. وفي مُوغِل القدم كانت الكآبةُ كاللّيلِ المُدلهم، لها صولاتٌ في الفزع والضياع، وتلك لحظاتٌ يعيشها الكائنُ القنوطُ حين تُربكه الطوارئُ طيلةَ حينٍ من الدهر، رغم وجود البصيص كنوافذ مُشرعة، وروائح القديد المنتصبة على المناضد، ولمّا يكون الذبابُ محلَّ العقد، تُزهر الكآبةُ في ظهورها غير نادمةٍ على ما يفعله العباد. الليل يستطيل، والتوبة مفتوحةٌ في خلجاته، والناس يعبثون، والحمامةُ تريد أن تخرج من النوافذ المشرعة، العطريةُ هنا جميلةٌ في استعاراتها ومحسّناتها البديعية التي اختارتْها الشاعرةُ بحكمةٍ تُشبه هندسةً مُروَّضةً من الواقع، ولا سيّما حين يلوذ البابُ قَسْريًا على هوى ورقِ التوت.

السياقُ لفتةٌ رائعةٌ لا يعيها إلا متمرّسٌ وشاعر، وانجذابٌ إلى رومانسية الشكل، وأكله نباتي… فما أروع التوت حين يُنافس لونَ الرمّان. وما الرمان؟! ما فرّقتْ بينهما إلا هوًى لونيّ من مدوّنةٍ لونيّة لا تريد أن تنزوِي في مكانٍ ضيّق عند الشاعر، مما يفسحُ المجال لتوليد تناصٍّ وشكلانية لمدوّنة اللون المعطّر، تأمّلْ قولَها، واربطْ ثنايا ما قلتُ، تأتيك اللمحةُ إلى جمال البوح وعجائبية اللون:

معطَّرةٌ بالسّواد

أكُفُّ الحمامِ وأجنُحُها.

وموغلةٌ في القتامةِ

أيدي الضباعِ وأعيُنُها.

وهذي النوافذُ

أترعَها ورقُ الليلِ والوجلُ.

وهذي المناضدُ

نضّتْ قرابينها،

وبين المجامرِ

ألقتْ عناوينَها.

تداعى الذبابُ إليها

يلوكُ غبارَ الفتاتِ على جمرِها.

عليها هوى ورقِ التوتِ لمّا ذوى.**

  • بياضُ الطهر في قصص الأنبياء**

أمسكتِ الشاعرةُ الموهوبةُ بمَعدنٍ دينيٍّ تاريخيٍّ قصصي، وأسقطتْ وقعَ الوقوعِ على شخوصٍ طاهرةٍ كمريم وزكريّا، لتبني سياقَ القُرب باستعمال أداة التشبيه "الكاف" التي فتحتْ قصصَ الطهر، وفَسّرتْ ألمَ مريم الذي لم تَمنعْها طهارتُها من الإحساس به، هو ألمٌ فِطريّ في الكائن، من عدلِ الله تعالى. رمتْ داخل الحِصن البريء عدلًا إلهيًا يصفُ الألمَ الذي تُعانيه المرأةُ من مخاض الولادة، أو ألم الحرقة على الذرية… هي آلامٌ أوصلتها الشاعرةُ بأسلوب المحاكاة إلى عين يقين القارئ، يقينٌ غيرُ منفصلٍ عن الطهر الفضيل، واستحضرتِ الشاعرةُ "كعبَ أخيل": أمٌّ غمستْه في بركةٍ مقدّسة، لكنها أمسكتْ بكعب رجليه، فصار الضعفُ موضعَ الألم، وصار ألمُ الضعف من أعظم الآلام، كلُّ أنثى لها مَسامُّ ضعفٍ إذا انطلقتْ منها لتُبعدها اكتستْ بالعظمة. هنا نقيس المخيالَ الشعريّ عند الشاعرة الهادي… انظرْ قولَها مرّة أخرى، واكتشفْ بنفسك ضعفَ الأنثى وانطلاقتها من جديد. ولم تمنع الوقاوق والعناكب من الانتباه لكشف مواطن الضعف.

معطّرةٌ بالسوادِ

أكفُّ الحمامِ وأجنحُها.

وموغلةٌ في الخواءِ

مآقي السماءِ وأضلعُها.

وكعبُ "أخيل"

بها تتلهّى الوقاوقُ والعنكبُ.

وأنتِ هنا

يتجرّعُ وجهُكِ

زرقةَ بدرٍ ينامُ على القرفِ.

خرجتْ من الضعف، ولو لم تهُزّ بجذع النخلة لما تساقط الرُّطب، ولما تقوّتْ… ففازتْ بالقرب، وكلّمتْ العناكبَ صغيرَها الذي أرسل السلامَ وبشّر أمَّه بميلادٍ جديد، وبرِّ والدته.

فكانت الهيمنةُ الثقافيةُ الدينيةُ موعدًا لتغليب طهارةِ الموضوع المتداول. ما تبقّى هو توليدٌ لمأساةِ الإحساس بالضعف، وفرحةٌ بالتشبّث باليقين… بالقرب تتبدّد الأشياء، وتنمحي من الأرض كانقراض برج هامان، ومعه الأسباب.

**كأنّكِ مريمُ

تكتبُ شوقَ النخيلِ بطهرِ اليدِ،

وتغرسُ في الطينِ

مُضغةَ حرفٍ

ينِزُّ ضياءً على الخزفِ…

وتسألُ عن زكريّا نخلتَها،

وتسألُ عنه جداولَ

يمتشقُ العنكبوتُ منابعَها.

كأنّكِ أختٌ لهارونَ

تنأى بغصّتها.

ترتّبُ أنفاسُها جُمَلَ النصِّ

في المُقَلِ.

وينضو بأجراسِها

صدأُ النَّضدِ.

ومن خَطوِها

يتدفّقُ ماءُ الأساطير

في النُّجُدِ…**

- المقومات الدينية والاسطورية في قصيدة كأنك مريم

كانت الشاعرةُ ذكيّةً في استعمال المقوّم القرآني والمقوّم الأسطوري، ومزجتهما دون مغالاة، لتُبرهن أن الشاعرة هادية السالمي قدّمت منعطفًا وصفيًا قوامُه امرأةٌ شدّتها أسطورةُ أخيل، ووضّحتْ فيها ضعفَ المرأة ولو بلغتْ مقامَ قدّيسةٍ كمريم عنوانًا لقصيدتها، اعتبارًا لما تقوم به المرأة من مقاومةٍ أسطورية للخروج من الكآبة، جسّدت الشاعرةُ عدّة أدوات منها:

– قداسةُ الصورة:

قطعتْ صورةَ المرأة كقدّيسة أو أمّ أخيل، وهي نظرةٌ تقابلية بين صيغتين استمرّتا في متتالياتٍ سينمائيةٍ جعلت القارئ يشعر أنه يشاهد فيلمًا عن صراع الأسطورة والقداسة، وقد وضعتْ في ذلك متتاليات: الجمر، الخواء، الخزف…

– الترابط النصي:

اعتمدت الشاعرةُ في بوحها المعطّر على التكرار المتجانس "معطّرة بالسواد"، واستشهدت قرآنيًا، مما جعل قراءة النص مستحبّة حتى لمن لا يميلون إلى قصيدة النثر، أقحمت رمزيّاتٍ كثيرة في بنية خطابها: مريم البتول، الألم، زكريا، الطهر، الذباب، الخواء، الماء، بدر، ماء الأساطير…

وكان توفيقها بارزًا في الأسلوب التركيبي الجميل الذي لم يُغَيّب الوضعَ العام الذي تحياه الأنثى، بقولها:"الطُّهرُ لا يُكافَأ بل يُستنزَف".

أ. د. حمام محمد من الجزائر

..........................

كأنّكِ مريم

معطّرَةٌ بالسّواد

أكُفُّ الحمام وأجنُحُها.

و مُوغِلةٌ في القتامةِ

أيْدي الضِّباعِ وأعيُنُها.

و هذي النّوافذُ

أتْرعَها وَرَقُ اللّيلِ والْوَجَلُ.

و هذي المناضدُ

نَضَّتْ قَرَابِينَها،

و بين الْمَجامِرِ

ألْقَتْ عناوينها.

تَداعَى الذّبابُ إليها

يَلُوكُ غُبارَ الْفُتاتِ على جمْرِها.

عليها هَوَى وَرَقُ التُّوتِ لمّا ذَوَى.

**

مُعَطَّرَةٌ بالسَّوادِ

أكُفُّ الْحَمامِ وأَجْنُحُها.

و مُوغِلةٌ في الْخَواءِ

مَآقي السّماءِ وأَضْلُعُها.

و كَعْبُ " أَخِيلَ "

بها تَتَلَهّى الْوَقَاوِقُ والْعَنْكَبُ.

*

و أنتِ هنا

يتَجَرَّعُ وجهُكِ

زرقَةَ بَدْرٍ ينامُ على الْقَرَفِ.

كأنّكِ مريمُ

تكتُبُ شوْقَ النَّخِيلِ بِطُهْرِ الْيَدِ ،

و تغرِسُ في الطّينِ

مُضْغَةَ حَرْفٍ

يَنِزُّ ضياءً على الْخَزَفِ…

و تسألُ عن زكرِيَّاءَ نخلَتَها،

و تسألُ عنه جداولَ

يَمْتَشِقُ الْعنكبُوتُ منابِعَها.

*

كأنّكِ أختٌ لِهارونَ

تَنْأَى بِغُصَّتِها.

تُرَتِّبُ أنْفاسُها جُمَلَ النَّصِّ

في الْمُقَلِ.

و يَنْضُو بأَجْراسِها

صَدَأُ النَّضَدِ.

و مِنْ خَطْوِها

يتدَفَّقُ ماءُ الأساطير

في النُّجُدِ…

***

بقلمي: هادية السالمي دجبي - تونس

 

يقدّم نصّ «القلب أنثى» للشاعر والناثر خلدون عماد رحمة بنية لغوية مركّبة تتجلّى فيها الشعرية السردية بوصفها طقساً جماليّاً يندمج فيه العاطفي بالميتافيزيقي، والحسّي بالرمزي، والباطن بالظاهر. إنّه نصّ لا يُقرأ من سطحه، لأن بنيته الخطابية مشبعة بالاستعارات الكونية، وبقع النور والعتمة، والتوتر الوجداني الذي يجعل العلامة اللغوية تتجاوز وظيفتها المرجعية نحو وظيفة أنطولوجية تكشف عن تهافت الجسد وتجلّي الروح في لحظات الحب، والانخطاف، والانكسار.

ومن منظور الهرمينوطيقا التأويلية، يمكن القول إنّ النص ينهض على شبكة من الرموز والدلالات المفتوحة التي تستدعي قارئاً متورّطاً في إنتاج المعنى؛ فالحب هنا ليس تجربة انفعالية بل هو أفق وجودي، يشبه ما تحدّث عنه بعض التقاد عن «قفزة الروح في محنة الشغف»، وما أشار إليه البعض الآخر من النقاد حين أكدوا  أنّ الرمز يفجّر التأويل ولا يكتفي بالإحالة.

أمّا من منظور الأسلوبية، فالنص يشتغل على لغة فائقة الحساسية، تتوزّع فيها الحقول الدلالية بين الطيران والماء والانخطاف والسقوط. وهذا التوتّر الحركي يشكّل إيقاعاً داخلياً يحرّك الصور الشعرية ويكثّف جرسها، فيتحوّل القارئ من مجرّد متلقٍّ إلى مشارك في الانفعال. أما الجملة الشعرية فيه فتتراوح بين امتدادٍ انسيابيّ يحاكي تدفّق الماء، وبين انقطاع مباغت يماثل سقوط الحبيبة/الآلهة، وهو قطعٌ يذكّر بالأسلوب الحدّي عند عند النقاد الغربيين حيث تتحوّل اللغة إلى موقع صدمة.

وفي التحليل الرمزي والديني والنفسي، يظهر النص بوصفه سرداً روحياً لعلاقة متعالية: الحبيبة ليست امرأة، بل «إلهة الجمال»، والراوي ليس عاشقاً بل «متصوّف» يعيش تجربة الحلول والانخطاف. العلاقة بينهما تأخذ هيئة «العشق الصوفي» الذي وصفه ابن عربي والحلاج: الفناء في الآخر، وانصهار الوعي بالجنون، والبحث عن الخلاص عبر الجسد والدمع والماء. لذلك لا يكون سقوط الحبيبة حادثة جسدية فحسب، بل رمزاً لسقوط المعنى نفسه، وامّحاء الصورة المقدّسة، وانكسار وهم الخلود العاطفي.

وتتيح السيميائيات الغريماسية قراءة النص باعتباره بنية فاعلية تتوزّع على محاور أدوار متشابكة:

١- الفاعل: العاشق السارد.

٢- المفعول: الحبيبة/الآلهة بوصفها موضوع رغبة ومعنى.

٣- المرسِل: الحاجة الوجودية للعشق والانخطاف، أي الدافع الروحي الداخلي.

٤- المرسَل إليه: الذات الباحثة عن الخلاص أو التجلّي.

٥- المساعد: الماء، الجسد، الضوء، الطيران، اللغة.

٦- المعطِّل: السقوط، الفقد، الغياب، النزيف.

هكذا يتكشّف النص عن صراع وجودي عميق بين الرغبة في إدامة المعنى، وبين انهيار الصورة المقدّسة، لينتهي العاشق إلى اكتشاف أن «القلب أنثى»، أي أن جوهر التجربة الوجودية قائم على الهشاشة، الخصب، القابلية للانكسار، والقدرة على الولادة المستمرة. وهو معنى يقترب من رؤية نيتشه عن «الهشاشة الخلّاقة»، ومن نظرية بيرغسون في الإحساس بوصفه اندفاعاً حيوياً لا يكتمل إلا بالتجلّي والتفتّح.

وعلى المستوى الجمالي والوطني والأنثروبولوجي، يقدّم النص صورة عن الإنسان العربي في توتّره بين قداسة العاطفة وعبء الواقع؛ بين الرغبة في التحليق وبين السقوط في الطين. فالنهر رمزٌ للانبعاث والحداثة، وفي الوقت ذاته رمزٌ للجرح المفتوح الذي يصطبغ بـ«الدم الكرزي»، أي بدم القلب ذاته، لتغدو الجغرافيا مرآة الوجدان.

هذه الدراسة ستسعى إلى:

1. تفكيك البنى الرمزية والدلالية.

2. تحليل اللغة والأسلوب والصورة.

3. تفسير المفردات ذات العمق النفسي والديني.

4. تطبيق منهج غريماس لاستخراج المحاور الفاعلة.

5. قراءة النص في ضوء آراء الفلاسفة والمتصوّفة.

6. الكشف عن الأنساق المعرفية التي يبنيها النص: النسق العشقي، النسق الصوفي، النسق الوجودي، والنسق الجمالي.

خاتمة:

يتبدّى نصّ خلدون عماد رحمة «القلب أنثى» في ضوء تحليلنا المتعدّد المناهج بوصفه تجربةً شعرية وجودية تتجاوز حدود القول العاطفي إلى أفق معرفي وجمالي بالغ التعقيد، حيث تنصهر الأزمنة الداخلية للذات مع جغرافيا العشق، ويتحوّل الجسد إلى موضع تأويل، واللغة إلى كيان يتنفّس ويتوتّر وينكسر. لقد كشف التحليل الهيرمينوطيقي أنّ النص لا يُقرأ إلا كطبقات متراكبة؛ فكل جملة تخفي معنى، وكل صورة تفتح باباً للقراءة، وكل رمز يشكّل مرآة لأعماقٍ لم تُقل.

أما التحليل الأسلوبي والرمزي فأبرز أن الشاعر يكتب بلغةٍ محمّلة بالنبض والتوتّر، لغة تتأرجح بين صفاء الماء وعنف السقوط، بين نشوة الالتحام ورعب الفقد، محقّقاً ما يشبه «موسيقى داخلية» تتنقّل بين الرقة والتوحّش. وبيّن المنهج السيميائي—وخاصة مخطط غريماس—أن النص يقوم على بنية فاعلية تتصارع فيها الرغبة والغياب، الحضور والانطفاء، ليغدو العاشق فاعلاً يبحث عن معنى يهرب منه كلما اقترب، وتغدو الحبيبة موضوعاً تخلقه اللغة ويتلاشى في واقع الفقد.

وعلى المستوى النفسي والديني، تكشف هذه التجربة عن مسارٍ صوفيّ يتقدّم بالعاشق نحو تخوم الفناء، حيث تتبدّل الحبيبة من كيان محسوس إلى رمز كوني، ومن امرأة إلى «آلهة الجمال»؛ وبذلك ينفتح النص على الإرث العرفاني العربي، وعلى رؤى الحلاج وابن عربي في العشق بوصفه طريقاً للخلاص. كما يقدّم النص في عمقه رؤية فلسفية تتقاطع مع نيتشه وكيركغارد وباشلار: فالحب هنا ليس حالة وجدانية فحسب، بل تجربة وجودية تُبنى بالجرح، وتكتمل بالسقوط، وتُتوَّج بإدراك هشاشة القلب وخصوبته في آن.

لقد أظهر النص أن القلب أنثى ليس خاتمةً بل افتتاحية؛ فهو إعلان عن أن جوهر الإنسان — في الحب كما في الوجود — قائم على القابلية للعطاء والجرح معاً، على الاتساع والارتباك، على الرغبة في الخلود في حضن اللحظة، وعلى الوعي بأن كل جمالٍ مهدّد بالسقوط. بهذا تتجلّى القصيدة بوصفها بحثاً عن معنى لا يستقر، وسرداً لجمال يولد من صدمة، وحقيقة تتجسّد حين يتدفّق الدم الكرزيّ على ضفاف النهر، فيغدو النهر مرآةً لقلبٍ ينزف، وقلبٌ ينزف مرآةً للكون كله.

وهكذا، يمكن القول إن «القلب أنثى» نصٌّ يبرق في حدوده الجمالية والرمزية بما يكفي ليمنح القارئ أكثر من قراءة، وأكثر من تأويل، وأكثر من جرح جميل يظلّ يلمع في الذاكرة كلّما انفتحت القصيدة على سؤالها الوجودي الأكبر:

أين يبدأ القلب؟ وأين يسقط؟ وأين—في النهاية—يعثر على ذاته؟

***

بقلم: عماد خالد رحمة - برلين

...................

بخفّة طائرَينِ أزرقَينِ كنّا نلوّنُ وحشةَ

الشاعر والناثر خلدون عماد رحمة

بخفّة طائرَينِ أزرقَينِ كنّا نلوّنُ وحشةَ الطرقات. قلتُ لكِ وخمرُ الحبور يطفح على قلبي: اقتربي منّي أكثرَ لأجعل روحي قميصاً لعريِ هذا الكون، ابتسمتِ بنعومةٍ باهرةٍ وهمستِ فيّ: ما أعمقَ أسرارنا وما أخلدَ عناقنا الطويل عند حافة النهر.

أتأخذني حبيبي إلى النهر لأعمّدَ قلبي بدمع عينيك، أم لأكتشفَ سرّ أنوثتي بين تدفّق الماﺀ وعطش الشهوة في منفى يديك ؟..

أضع يدي بهدوﺀٍ على قوسِ خصرها، أبتكرُ كلاماً غامضَ التكوين والتجلّي: يا حبيبتي أنتِ آلهتي التي أعبُدُ، حُبّكِ ديني وديدني وبرزخ نشوري وفنائي، أنتِ التباسُ الجمال بالرؤيا وانصهارُ الوعي بالجنون واغترابُ الروح بالجسدْ.

كنتُ أتصوّفُ بهالة روحها وأشطحُ، كنتُ أتعشّقُ بسماﺀات عينيها الكونيّتين حدّ التبخّر والفناﺀ.

فجأةً وبلا أيّ مقدمةٍ.. سَقَطَتْ على الأرض، سَقَطَتْ آلهة الجمال حبيبتي بكامل أنوثتها، سقطت كما تسقطُ غزالة عطشى في فخاخ السراب، لا أصدّق ما أرى: وجهها المرمريّ الشفّاف ارتطمَ بحافّة الرصيف، شيﺀ ما انكسرَ والدّمُ الكرزيّ يتدفّق من أنفها الصغير كتدفّق النهر، فستانها السماويّ تعفّر بالغبار وتمزّق من صرخة ذهولي، يا إلهي، كل ارتباك الكون دبّ في كياني كأني مفخخ بأطنانٍ من البارود.

حملتها بجنونٍ وركضتُ، ركضتُ بلا وعيٍ مثل ظبيٍ فتيّ يسابق الشعاع في براري البعيد،ركضتُ بها إلى ما لستُ أعرفُ وكأنّ الجهاتَ تموّهت بالجهاتِ، بعد مسافةِ خوفٍ وتعبٍ وهذيانٍ وجدْتُنِي عند حافة النهر وحيداً، لم تكُ بين يديّ،

لم أجد حبيبتيَ المغمى عليها بين يديّ

لم أجد سوى قلبي بين يديّ

قلبي الذي ينزفُ دماً كرزياً ويصبغ النهر بالأحمر.

حينها آمنتُ أنّ القلبَ أنثى.

القلبُ أنثى...

 

كان جوزيف برودسكي أحد أكثر الأصوات الأدبية تفرداً في القرن العشرين، شاعرًا ومفكرًا روسيًا حمل في كلماته ثقل المنفى وبهاء اللغة في آن واحد. وُلد في لينينغراد عام 1940، وعاش طفولة مثقلة بظلال الحرب والحصار، قبل أن يُطارد من قبل السلطات السوفييتية بتهمة (الكسل الاجتماعي) بسبب رفضه الانخراط في أدب الدولة الموجه، وهو ما قاده إلى النفي والمنفى، ليجد نفسه شاعرًا يبحث عن وطن داخل اللغة ذاتها. حين حصل برودسكي على جائزة نوبل في الأدب عام 1987، لم يكن ذلك اعترافًا بموهبته فحسب، بل كان احتفاءً بقدرة الكلمة على تجاوز الحدود الأيديولوجية والجغرافية، وتحولها إلى وطن بديل للإنسان المنفي.

اللغة عند برودسكي ليست أداة للتعبير، بل كيان روحي قائم بذاته، وهي مركز التجربة الجمالية والفكرية التي تحرك نصوصه. في شعره كما في مقالاته ونصوصه النثرية، تتجلى قدرة مذهلة على الجمع بين الدقة العقلية والتوهج العاطفي، بين التأمل الفلسفي واللمسة الإنسانية الحميمية. يستخدم الاستعارة بوصفها وسيلة لاستنطاق المعنى المستتر خلف اليومي، فتتحول الأشياء البسيطة إلى رموز تحمل دلالات الوجود والزمن والموت. إن البلاغة في أعماله ليست زينة لغوية، بل وسيلة تفكير، طريقة لإعادة تشكيل العالم وفق منطق الجمال.

أما من الناحية النفسية، فإن نصوص برودسكي تنبض بشعور عميق بالوحدة الوجودية، لكنها ليست وحدة اليأس، بل وحدة الإدراك، حيث يواجه الفرد ذاته والعالم بوعي قاسٍ وصافٍ. في شخصياته ورؤاه نلمح أثر المنفى الداخلي، ذلك الشعور الذي يتجاوز الجغرافيا ليصبح حالة روحية يعيشها كل إنسان حين يكتشف هشاشته أمام الزمن وسلطته. إنه كاتب يعيش بين لغتين، بين ثقافتين، بين وطن فقده ووطن يصنعه بالكلمات، وهذه الثنائية كانت وقود تجربته الأدبية ومصدر توترها الدرامي.

الدراما في أعمال برودسكي لا تأتي من الأحداث، بل من الصراع الداخلي بين الذاكرة والنسيان، بين الحنين والحرية، بين ما يُقال وما يُحجب. إن حضور الزمن في نصوصه يحمل طابعًا مأساويًا، إذ يتعامل معه بوصفه قوة لا يمكن الفكاك منها، لكنها في الوقت ذاته مصدر الوعي والكتابة. هذا الوعي الزمني هو ما جعل شعره مزيجًا من الفلسفة والرثاء والتأمل الجمالي، فكل قصيدة لديه تبدو كحوار بين الحاضر والماضي، بين الكلمة والعدم.

في كتاباته الأخرى، خصوصًا في مقالاته باللغة الإنجليزية بعد هجرته إلى الولايات المتحدة، اتخذ أسلوبًا يجمع بين الرصانة الفكرية والروح الشعرية. لغته هناك أكثر اتزانًا لكنها لا تخلو من ذلك الوميض الروسي الحزين الذي ميز بداياته. كان يرى في الأدب ملاذًا من الهمجية، وفي الجمال مقاومةً للزمن، وفي اللغة خلاصًا من النسيان. لقد استطاع برودسكي أن يجعل من تجربته الخاصة مرآة للتجربة الإنسانية جمعاء، وأن يكتب عن المنفى وكأنه يكتب عن مصير الإنسان الحديث، الباحث عن معنى في عالم متغير بلا يقين.

وهكذا، فإن جوزيف برودسكي لم يكن مجرد شاعر نال نوبل، بل كان عقلًا إنسانيًا حاول أن يفهم العالم عبر اللغة، وأن يواجه القسوة بالجمال، وأن يحوّل المنفى إلى فضاءٍ للإبداع والتأمل. لقد ترك وراءه إرثًا أدبيًا يذكّرنا بأن الكلمة حين تُكتب بصدق تصبح بيتًا، وأن الكتابة، في النهاية، هي الشكل الأسمى للحرية.

كان جوزيف برودسكي في جوهر تجربته الأدبية فنانًا جدليًا، لا بمعنى أنه أثار الصراع مع السلطة فحسب، بل لأنه جعل من الأدب نفسه ساحةً للتساؤل المستمر حول الحقيقة والجمال والمعنى. في كتاباته، تتشابك الأبعاد الفنية مع الأبعاد الفلسفية، فيغدو الشكل عنده امتدادًا للفكر، والبنية اللغوية انعكاسًا لرؤيته الوجودية. كان يميل إلى بناء نصوصه على الإيقاع الداخلي أكثر من الحدث الخارجي، فالفن عنده ليس حكايةً تُروى، بل حالة تأمل تُعاش. لذلك تتصف أعماله بنَفَسٍ موسيقيٍّ عميق، يمتد من اختياره للكلمة إلى توازن الجملة، ومن حركة الصورة إلى توتر الصمت بين الأسطر، كأن اللغة عنده آلة موسيقية تُستدرج منها نغمة الحياة والغياب في آنٍ واحد.

أما الأبعاد الجدلية في كتاباته فتكمن في صراعه الدائم مع مفاهيم الانتماء والهوية والحرية. لقد كان برودسكي يعيش تناقضًا جوهريًا بين كونه ابن الثقافة الروسية العظيمة، وناقدًا شرسًا للقيود التي فرضها النظام السوفييتي على روح الإنسان والمبدع. هذا التناقض انعكس في كتاباته التي لم تكتف بمساءلة السلطة السياسية، بل تجاوزت ذلك إلى مساءلة السلطة الفكرية ذاتها، إذ كان يرى أن الإنسان الحقيقي لا يمكن أن ينتمي إلا إلى اللغة والفكر، وأن الوطن الحقيقي هو الوعي لا الجغرافيا. ولهذا كان من الطبيعي أن تتحول أعماله إلى فضاء للحوار الجدلي بين الفرد والعالم، بين الصوت الداخلي وصخب الواقع.

أما أبطاله الأدبيون فهم في الغالب شخصيات هامشية، تقف على تخوم الحياة، لكنها تمتلك ثراءً داخليًا يجعلها أكثر وعيًا من الآخرين. هم أفراد لا يسعون إلى البطولة بالمعنى التقليدي، بل إلى النجاة بالمعنى الوجودي. فيهم نلمح ظلال المنفيين والشعراء والمفكرين الذين يعيشون داخل الصمت أكثر مما يعيشون في الضوء. شخصياته ليست مصنوعة من ملامح اجتماعية محددة، بل من حالات نفسية وفكرية متوترة، تتأرجح بين الحنين والتمرّد، بين الرغبة في الانتماء والخوف من الذوبان في الجماعة. وهنا يكمن البعد الإنساني العميق في أدبه: إن بطله هو الإنسان المجرد من كل حماية، الباحث عن معنى في عالمٍ يغدو فيه الوعي عبئًا والحقيقة جرحًا مفتوحًا.

وعند مقارنته بالرواد الكبار في الأدب الروسي مثل ديستوفسكي وتولستوي ومكسيم غوركي، يمكن القول إن برودسكي ورث عنهم العمق الروحي والاهتمام بالإنسان، لكنه اختلف عنهم في أدواته الفنية وموقفه من الواقع. فبينما غاص ديستوفسكي في أعماق النفس البشرية عبر الصراع الأخلاقي والديني، ووجّه تولستوي نظره إلى الإنسان في صراعه مع المجتمع والطبيعة، وركّز غوركي على الإنسان المكافح في وجه الظلم الاجتماعي، فإن برودسكي جعل الصراع الداخلي أكثر تجريدًا، وأكثر تعلقًا بالوعي واللغة والزمان. إن أبطاله لا يواجهون الآخرين، بل يواجهون فكرة الزمن ذاتها، ويقاومون الزوال عبر الكلمة. في حين كانت روايات ديستوفسكي وتولستوي تشبه مرايا كبرى للمجتمع الروسي، فإن عالم برودسكي يبدو كمرآة داخلية تعكس روح الفرد المنعزل وهو يسعى إلى فهم نفسه والعالم بالكلمة وحدها.

لقد كان برودسكي بمثابة حلقة حديثة في السلسلة الطويلة للأدب الروسي، لكنه مثّل انعطافة نحو الذات، نحو الشعر كأفق فلسفي واللغة كقدرٍ وجودي. جمع بين حسّ الفنان وقلق الفيلسوف، وكتب نصوصًا لا تنتمي إلى زمن محدد بقدر ما تنتمي إلى فكرة الإنسان الأبدي الباحث عن معنى وجوده. وبهذا المعنى يمكن القول إن برودسكي أعاد تعريف البطولة الأدبية في الأدب الروسي، حين جعلها لا تقوم على الفعل الخارجي، بل على الوعي الداخلي، ولا تتجسد في مواجهة العالم، بل في مقاومة العدم بالكلمة.

إنّ الحديث عن جوزيف برودسكي، لا يمكن النظر إليه مجرد شاعر أو كاتب نال جائزة نوبل، بل كظاهرة فكرية وجمالية متكاملة جسّدت تحولات الأدب الروسي في القرن العشرين، وفتحت أمامه أفقًا جديدًا يتجاوز حدود الشكل والمضمون نحو الوعي الوجودي والحرية الفردية. لقد كان برودسكي نموذجًا للكاتب الذي يعيش على تخوم الثقافات، بين شرقٍ يورث الحنين وأخلاق المعاناة، وغربٍ يفتح أمامه أفق الحرية الفكرية والتجريب الفني. هذا التوتر بين الانتماء والاغتراب شكّل صلب رؤيته للكتابة، وجعل من تجربته مرآةً للإنسان المعاصر، الذي يعيش ممزقًا بين ذاكرةٍ لا يستطيع نسيانها وحاضرٍ لا يستطيع الانتماء إليه بالكامل.

ما يميز برودسكي حقًا هو قدرته على تحويل التجربة الفردية إلى لغة كونية. في نصوصه تتجسد الذاكرة كقوة خالقة، والزمن ككائن متحرك يتداخل مع الوعي في نسيج شعري متقن. كانت نظرته إلى الأدب تقوم على أن الكلمة ليست وسيلة للبوح فقط، بل فعل مقاومة ضد الفناء. وهو في ذلك يستعيد تقاليد الأدب الروسي العميقة في اهتمامها بالإنسان، لكنه يفعل ذلك بطريقة مغايرة تمامًا؛ إذ يجعل من اللغة ذاتها بطلاً مأساويًا وجماليًا في آنٍ واحد. فبينما كان ديستوفسكي يبحث عن خلاص الروح في صراعها مع الخطيئة، وتولستوي عن الانسجام الأخلاقي بين الإنسان والطبيعة، وغوركي عن الكرامة الإنسانية وسط القهر الاجتماعي، فإن برودسكي يبحث عن الخلاص في الجمال، عن الحقيقة في نغمة اللغة، وعن الإيمان في وعي الشاعر بأن اللغة قادرة على أن تهزم العدم.

في هذه الرؤية الجمالية تكمن فلسفته الكبرى: أن الفن هو المجال الوحيد الذي يتيح للإنسان أن يتجاوز محدوديته، وأن يعيش في الزمن دون أن يُبتلع به. ولذلك كانت قصائده ونصوصه النثرية أقرب إلى حوارات فلسفية مع الذات، يتجاور فيها الجمال مع الألم، والحنين مع الوعي القاسي بالزوال. كان يؤمن أن الشعر، حين يُكتب بصدق، لا يعبّر عن الذات فقط، بل عن الوجود نفسه، وأن الشاعر، بقدر ما يتألم، بقدر ما يقترب من جوهر الحقيقة.

لقد استطاع برودسكي أن يمنح الأدب الروسي بعدًا جديدًا، إذ لم يعد الكاتب عنده نبيًا اجتماعيًا أو مصلحًا أخلاقيًا كما في التقاليد الكلاسيكية، بل مفكرًا في اللغة، ومؤمنًا بقدرتها على إعادة خلق العالم. لقد أعاد تعريف وظيفة الكاتب، وجعل من الشعر خطابًا فكريًا لا يقل عمقًا عن الفلسفة، ومن النثر مساحة تأمل تتجاوز الوصف إلى الإدراك. إنه شاعر المنفى الذي حوّل الغياب إلى مادة للفكر، والمأساة إلى شكل من أشكال الجمال.

وربما في هذا تكمن القيمة الحقيقية لإرثه الأدبي: أنه أثبت أن الكتابة ليست ملاذًا للهروب من الواقع، بل وسيلة لمواجهته بأدوات أعمق من السياسة والفكر، أدوات اللغة والخيال والذاكرة. لقد كتب برودسكي عن الإنسان لا بوصفه ضحية التاريخ، بل بوصفه كائنًا قادرًا على تجاوز التاريخ عبر الجمال. لذلك تبقى تجربته شهادة على أن الكلمة، حين تُكتب بصفاء وصدق، تستطيع أن تمنح المنفى معنى، وأن تجعل من العزلة شكلاً من أشكال الحرية، وأن تُبقي للإنسان مكانًا في العالم، مهما ضاقت به الأرض والسماء.

***

د. عصام البرّام

لجمال الهنداوي.. الملحوظ الوقائعي يؤول إلى الهواجس الفاعلة

توطئة: تتجاذب النصوص القصصية وتتسامى في مجموعة (حب.. وحمص.. وثالثهما نيتشه) للقاص الصديق جمال الهنداوي، فتتعالق وتعدد ملحوظات الوقائع ضمن تنصيصات محولة من الماهية النصية إلى حواريات وفضاءات هواجسية تتمازج في جملة الخطاب الواقعي وتتكاثف في أهم مكونات دلالات الوظائف والأبعاد الجمالية التفاعلية. وينهض مثال هذا التفاعل النصي بين أقاصيص المجموعة ضمن حدود خارجية تتداخل من خلالها آليات القص المحكي توصيفا أسلوبيا في التنوع ولذة الإمتزاج والتداخل في عينات تتوسل مستويات متجلية من وحدات الزمن والمكان واللغة الواصفة لآفاق فضاءات محدثة وقصية تفرضها تحصيلات نمو الدلالات التواصلية في مجالات صفاتية وذاتية من شجن الوقائع في النص والنصوص.

ــ حدود تداخل النصوص وسياقية وحدة المعنى المتبلور

تنفتح قصص مجموعة (حب.. وحمص.. وثالثهما نيتشه) على خطابات من النوع الذي يجيز وحدة المحتوى في تقلب المظاهر الصوغية نحو محكي وجهة النظر وذاتية السارد وحضور المؤلف ضمن خلفية التفاعل والتنوع بين مكونات الحكاية وحضور الخطاب في أشد لحظات بروز الملامح الإنتاجية في مشخصات النصوص.

1ــ رائحة العطر وقرائن الظروف الفردية:

تعتمد قصة (العطر) على خطاب رصد التفصيلات الشكلية إذ تنفتح الصور والمظاهر المقطعية على حكاية مشفوعة بمقتربات دلالية في الأجزاء والواصلات والتصريحات والإيحاء والتلميح: (ككل صباح، وضع علبته الكارتونية التي تحوي قناني صغيرة جدا من العطر على الطاولة، وأخذ يرصها بشكل يتيح للزبائن قراءة الملصقات التي تشير إلى أسماء العلامات الشهيرة ــ أراد جاره أن يشاكسه أكثر استدار لردوده اللاذعة ــ: تمنيت فقط أن أعرف ما الذي يفعله أبو فراس ليحتل كل هذه المكانة في قلبك ص16) إن القارئ لقصة (العطر) لربما يعاين تراجع مستوى الفكرة رغم جمالية المنظور البنائي للحكاية. فالقاص هنداوي وضع صيغة الخطاب ضمن دوال تجربة عابرة لا تستحق منه ضمها لتكون تجربة قصة قصيرة متكاملة، ناهيك عن حجم ومقدار الطابع المحلي الواقعي في النص ما راح يجعل النص وكأنه مسرح للأعراس. أي إن الحبكة القصصية لدى موضوعة القصة بدت وكأنها تختلق ذلك المصير الذي يواجه أبا خضير بالكثير من حالات الرؤية اللامؤثرة. فالقصة القصيرة لا تتطلب كل هذه الأهمية في انتقاء المصائر بقدر ما تتطلب الشروع بتأثيث النص بأكمل المحفزات الحقيقية في نجاح المشروع القصصي.

2ــ التمثيل والتخييل والمحاكاة في الحب والحمص:

في الواقع إن فعل القراءة لقصة (حب.. وحمص.. وثالثهما نيتشه) وعلى ما أظن إنها أجمل قصص المجموعة على ما يبدو عليه أمرها في الفكرة والموضوعة وكيفية توظيف العناصر السردية بمجمل ألوان الإثارة والحنكة والشجن في مكونات الوقائع النصية: (وحدها عربة الحمص المسلوق، تقف صامتة على الرصيف عند زاوية باب كلية الآداب، في ظل الشمس الخجول والهواء المشبع بأصوات العصافير ورائحة الندى. / ص27) القاص هنداوي كان دقيقا في رسم الحدود الفاصلة بين الإحساس بالأشياء ومنطقة الأفعال والوقائع السردية، لذا وجدنا بطل القصة يشق لذاته ذلك النوع من التقادم بتضاعيف مظاهر حسية فاعلة جعلت من معيار الحب نقطة الانطلاق نحو الملامح الشخصانية المركزة والتي غدا عندها الماضي كصورة توشك على الذوبان والزوال. إن قصة (حب.. وحمص.. وثالثهما نيتشه) ما هي إلا جملة تفصيلات في مستوى الوعي النفسي ومشاعر الإحباط وكل القدرة القدرة على مواصلة الحياة بأعلى علامات الصورة البطولية الآسرة إما قصة (بجاه أبي الجوادين) وقصة (دليفري) وقصة (خيوط القلب) فهن من القصص التي أخذت لذاتها من اليومي الواقعي مجالا سايكولوجيا يكشف عن أزمة الشخوص والشخصية كما وتتكرر في كل قصة من هذه القصص الصورة التحفيزية من مجموعة مشاعر وأحاسيس تصب في ذات المدلول الواحد من الحوادث والتفصيلات القاهرة. أما الحال في قصة (على باب ردهة الطوارئ) فلربما يواجهنا ذلك النوع الانسيابي الذي تكالبت عليه الظروف القاهرة من كل جانب وجهة مما دفعته الأقدار ليكون لصا عند بوابة ردهة الطوارئ: (رحمك الله يا أبو كمال كأنك قد زرعتني في هذا المكان ورحلت، همسها لنفسه وهو يتذكر هذا الحديث عندما كان بنظر بعين الصقر إلى مدخل الحالات الطارئة في مستشفى ـ الشفاء ـ بعد سنوات من هذا الحديث. / ص91) على هذا النحو واجهتنا قصص مجموعة (جمال الهنداوي) وكأنها جملة معالم ومكونات حياة حقيقية تؤطرها حركة الزمان الذي ستجري فيه الأحداث، وتتبين مسافة منظورها المتماهي بين البطل والسارد، هذا التماهي الذي أنتج مجموعة من التصورات والرؤية السردية المخصوصة.

ـ تلقائية السرد وبؤرة الفاعلية المكانية

تشكل تمفصلات (البؤرة المكانية) عاملا موصولا في أفضية إنتاج حساسية القص، بيد أن القابلية التلقائية في إجرائية الموصوف السردي، أخذت تتلاءم مع تجليات البؤرة المكانية ما غدا يشكل دورا بالغ الأهمية في فضاءات قصة (دليفري) وقصة (خيوط القلب) وقصة (على باب ردهة الطوارئ) خلوصا نحو ممكنات كيفية خاصة في دوافع الحياة التلقائية في تجربة سرد الأبنية القصصية لدى تجربة القاص: (بطبعه، لم يكن عجولا، ولا يسرف في استباق طريدته. ص92 / نظرت أم مهدي إلى أصابعها المتورمة، وإلى الماكنة التي مازالت صامتة في الزاوية. / ص87) لاشك أن التوليد السردي في مساق الوحدات بدا شروعا في حيز الطبيعة التلقائية التي لا يتكلفها القاص افتعالا، بل هي ممارسة من شأنها تشخيص نوايا الأحوال المشهدية بكافة كوامنها اللحظوية المعاشة الأكثر إيغالا في الأشكال النفسية الداخلة والظاهرة. وبطريقة ما تجرجرنا أجواء موضوعة قصة  (حب.. وحمص.. وثالثهما نيتشه) إلى ذات الوضعية من المشاهدة التي أختص بها المكان انطلاقا من حالات تفاعلية بين (بؤرة المكان = تلقائية السرد) بما يجعلنا نستحضر تلك الوحدات من عينات النص: (لم يكن يعرف الكثير عن شارع المتنبي، سوى ما سمعه من أحد الزبائن يوما عن إن الشارع هو ــ جنة القراء ــ الذين لا يملكون ثمن الكتب.. حين وصل إلى البيت، وضع الكتاب تحت وسادته، كمن يخبأ شيئا ثمينا. واكتشف أن هناك خيطا ما يربطه بالكلمات. ص34. ص35).

ــ تعليق القراءة:

على هذا النحو واجهتنا قصص مجموعة (حب.. وحمص.. وثالثهما نيتشه) كأنها حالات ترابطية من ذات الموضوعة والخطاب.. النصوص تتدفق ضمن مناطق دلالية تسمو بالسرد التلقائي والبؤرة المكانية التي تلتصق بذلك الواقع المأزوم من اللحظة والزمن والمكان والمصير.. ببساطة إنها نصوص (الملحوظة الوقائعية) التي راحت تؤول نحو هواجس شخوصية فاعلة ومنفعلة. وفي الختام نقول إن تجربة الصديق الأستاذ جمال الهنداوي في نصوصه موضع بحثنا رغم بعض المؤشرات المحلية المفرطة في موضوعتها، ناهيك عن اللغة السردية التي تتطلب من القاص عدة تجاوزات لما يشغلها من التركيبات العابرة، فهي رغم وجود هذا وذاك تحتفظ لذاتها دلالات ذات سمات إنسانية قاهرة، بالإضافة إلى وجود ذلك المسار الجميل في المؤثرات السردية المواكبة للغة المكان والزمان وروح القص.

***

حيدر عبد الرضا

للشاعرة نادية نواصر "ورّاقة الجزائر"

استطاعت الشاعرة الجزائرية ناديا نواصر ان تكتب القصيدة كطقس وطنيّ يتجاوز حدود الشعر. فهي تحضر قصيدة "صلاة في محراب الثورة" بوصفها نصاً طقوسياً قبل أن تكون نصاً شعرياً؛ طقساً تتداخل فيه اللغة بالروح، والذاكرة بالوجدان، والدين بالوطن. فالشاعرة لا تكتب شعراً وطنياً تقليدياً، بل تؤسس محراباً لغوياً تقف فيه مستقبلةً الماضي، مستنطقةً الحاضر، ومرسلةً نبوءةً للمستقبل.

هذه القصيدة ليست خطاباً وطنياً مباشراً، وإنما هي هذيانٌ جميلٌ تتكثف فيه الدلالات والرموز، وتلتقي فيه مستويات التعبير: الانفعالي، التخييلي، العضوي، النَفسي، الأسلوبي، السيميائي، والديني. لذلك فهي قابلة لقراءات متعددة، وفيها إمكانات هيرمينوطيقية كبيرة تسمح بتأويل لا ينتهي.

لقد جعلت الشاعرة نواصر " ورّاقة الجزائر" من الوطن معشوقاً، وأباً، وابناً، وطيفاً، وجرحاً، وقبلةً؛ أي جعلته كياناً وجودياً كاملاً، ما يعيدنا إلى رؤية العالم بوصفه "شبكة انتماء"، وإلى رؤية الحرية بوصفها "السكن في الذات من خلال الآخر". فالجزائر هنا ليست أرضاً فحسب، بل كيانٌ يحرس الشاعرة أكثر مما تحرسه.

أولاً: القراءة الهيرمينوطيقية – الوطن كمعنى يتجاوز لفظه:

القراءة التأويلية تكشف أن الشاعرة لا تقدّم الوطن كموضوع خارجي، بل كـ نصّ داخلي مقيم في الوجدان. من هنا ينبثق معنى الصلاة؛ فالصلاة في اللغة العربية أصلها "الصِّلة"، أي الارتباط. والارتباط هنا ليس عاطفياً فقط، بل وجودياً–قدرياً.

حين تقول:

“إليك يا وطني ابتهالاتي وصيحاتي”

فإنها تعيدنا إلى مفهوم "الابتهال" بوصفه خطاباً موجهاً إلى المطلق، ما يعني أن الوطن يصبح معادلاً للقدسي. وهذا يفتح الباب أمام تأويل ديني–وجودي: الوطن هنا محراب والمعركة صلاة، والشهداء أولياء، والذاكرة كتاب لا يسقط.

القصيدة تتحرك على محور مزدوج:

1. محور الذوات: الشاعرة ← الوطن

2. محور المقدّس: الثورة ← الشهادة ← التاريخ.

وفوق ذلك، لا تتعامل الشاعرة مع الوطن باعتباره كياناً جامداً، بل باعتباره كائناً جريحاً يحتاج إلى حماية، تقول:

“كي أخفيك يا غالي من الأحقاد والزلات والمنكر”

هنا يتحول الوطن إلى طفولة مهددة، والكاتبة تصبح أمّاً له. وفي مواضع أخرى، الوطن أبٌ يحمي، وعاشقٌ يحنّ، وابنٌ يُفتدى. هذه التحولات الرمزية تدلّ على أن الوطن في القصيدة تجربة شعورية معقّدة أكثر من كونه انتماءً سياسياً.

ثانياً: التحليل الأسلوبي – اللغة كأداة مقاومة:

تشتغل الشاعرة على لغة متوترة، حارّة، مشدودة، تُنتج شحنة انفعالية عالية.

لذلك يحضر الأسلوب على مستويين:

1. مستوى الإيقاع الداخلي:

يُبنى النص على:

- تكرار الضمائر: (أنا، إليك، يا وطني).

- تكرار الأفعال: (أعلنت، صليت، دعوت، سخّرت).

- توظيف بنى النداء: (يا وطني، يا غالي، يا بعضي، يا نصفي).

هذا التكرار ليس زخرفة، بل استراتيجية نفسية لإعادة تثبيت الانتماء كلحظة مستمرة، مما يمنح النص طابعاً أقرب للإنشاد الطقسي منه للخطاب الشعري.

2. مستوى الصورة الشعرية

الصورة هنا ليست وصفية بل مجازية–أسطورية:

١- الوطن = شجرة عنب وفلين وصندل.

٢- الشاعرة = سيف أبابيل.

٣- التاريخ = جميلات يعانقن الروح

٤- الوطن = وشم على جدران الأوردة.

هذه الصور تُدخل النص في فضاء أسطوري، حيث تتداخل الطبيعة بالدين بالتاريخ. إن “سيف الأبابيل” وحده يكشف عن تصعيد رمزي يستحضر القوة الإلهية في مواجهة الأعداء، مما يجعل الشاعرة “فاعلًا قدرياً” في بنية النص.

ثالثاً: التحليل السيميائي – الوطن كعلامة كبرى

في المنهج السيميائي، لا نقرأ الكلمات بل العلامات. وهنا نَعثر على منظومة رمزية كثيفة. وأبرز الدوال المركزية:

1. الوطن: يظهر في النص كعلامة مركّبة تجمع بين:

١- الأمومة

٢- الأنوثة

٣- الشهادة

٤-الحماية

٥- الابتلاء

٦- المجد

٧- الجرح

2. الشهادة: دالٌّ طقسيّ يرتبط بالفداء والقداسة والذاكرة الجماعية.

3. الريح / النزاعات / الخيانات:

دوالّ سلبية ترمز للقوى المدمّرة.

4. الصلاة / الركعات / الابتهال:

علامات دينية تصبغ الحرب بطابع القداسة.

5. الإيتام / الثكالى / الأجداد:

شبكة اجتماعية–تاريخية تحوّل الوطن إلى جسد حيّ يتكوّن من معاناة الجماعة.

بهذه المنظومة تُصبح القصيدة نصاً هويةً لا نصاً شعرياً.

رابعاً: تطبيق منهج غريماس – مربع الأدوار ومحاور الفعل

يُظهر النص بنية سيميائية واضحة، ويمكن تطبيق نموذج غريماس كما يلي:

١- الفاعل:

الشاعرة، بصفتها “أنا وطنية” تبحث عن تثبيت الوطن وحمايته.

٢- الموضوع:

حفظ الوطن من “الزلات، الخيانات، النزاعات، الوهن”.

٣- المرسل:

الذاكرة الوطنية – الثورة – الشهداء – التاريخ.

٤- المرسل إليه:

الجيل الجديد، المجتمع، الذات الشاعرة أيضاً.

٥- المساعد:

الإيمان، الثورة، الدموع العسيرة، الأجداد، ابن باديس، ابن مهيدي، الأمير عبد القادر.

٦- المعطِّل:

الأعداء، الخونة، النزاعات، الريح، الخيانات، المبدّدون للشعب.

بهذا يتحول النص إلى دراما وطنية كاملة البنية، فيها صراع وتوتر وتطهير (كاثارسيس)، ما يجعل القصيدة أقرب إلى عمل مسرحي داخلي يعيش داخل الشاعرة لا خارجه.

خامساً: التحليل النفسي – الوطن كجسد بديل عن الأم

في ضوء التحليل النفسي، يمكن القول إن الشاعرة تبني علاقة مع الوطن تقوم على:

1. الاندماج:

تقول:

“ويا بعضي ويا نصفي ويا كلي ويا أني”

وهذا يعكس حالة انصهار نفسي، حيث "الأنا" تذوب في "الوطن" حتى تختفي الثنائية.

2. التعويض:

الوطن يظهر كبديل عن الأم، خصوصاً مع حضور الرموز الأنثوية:

“سنابلكِ، الشهيدات، جميلات التاريخ”.

3. الفقد والجرح:

ثمة ألمٌ دفين يظهر في:

“ذبحوا من النسغ ربيع ورداتي”

ما يشير إلى صدمة جماعية تحملها الأجيال.

4. الشعور بالتهديد:

الإلحاح في حماية الوطن يدل على خوف داخلي من خسارته، وهو خوف تاريخي مبرر في الوعي الجزائري.

سادساً: التحليل الديني – الثورة بوصفها صلاة

المستوى الديني يتفاعل بقوة:

“صلاة”، “محراب”، “ركعات”، “دعوت الله”، “سيف الأبابيل”.

الثورة تتحول إلى عبادة، والشهادة إلى طهارة، والوطن إلى قبلة.

هذا يجعل القصيدة نصاً "إيمانياً وطنياً" لا ينفصل فيه الدين عن الأرض. وفي هذا كصدى

لفكرة بول ريكور عن "الرمز الذي يعطي للفكر أن يفكر"، فالرموز الدينية هنا تنقل المعنى الوطني إلى مستوى روحي.

سابعاً: التحليل الفلسفي – الوطن كوجود

يمكن قراءة القصيدة فلسفياً على عدة مستويات:

1. الوجود–في–العالم (هايدغر):

الوطن هو المجال الذي تتكشف فيه الذات، لذلك تقول الشاعرة:

“أنا المسكون بالوطن”.

2. الجسد الجماعي (ميرلو-بونتي):

الوطن يصبح امتداداً لجسد الشاعرة:

“يا وشما على جدران أوردة”.

3. الحرية والالتزام:

الثورة هنا ليست خياراً، بل التزاماً وجودياً، تقول:

“أنا إن غبت فقد سخرت أحفادي”.

4. الذاكرة والسلطة:

الشاعرة تقاوم عبر الذاكرة سلطة النسيان، وتحول القصيدة إلى آلية مقاومة معرفية.

ثامناً: القراءة الوطنية–التاريخية:

لا يمكن عزل القصيدة عن سياقها الجزائري:

ذكر الشهداء والزعماء.

استحضار الأمير عبد القادر كرمز تأسيسي.

استدعاء الثورة التحريرية، والبطولات النسائية.

حضور مفردات الذاكرة الوطنية: "الشهيدات، الثكالى، الأيتام".

القصيدة تنتمي إلى ما يسمى "شعر الذاكرة"، وتعيد إنتاج الوطن كمساحة مشتركة بين الماضي والحاضر، بين الثورة الكبرى وثورات اليوم.

خاتمة: القصيدة بوصفها مقصداً جمالياً وهوياتياً

تقدّم نادية نواصر " وراقة الجزائر" في "صلاة في محراب الثورة" عملاً شعرياً متعدّد الطبقات، يشتغل على اللغة بوصفها وطنًا آخر، وعلى الرموز بوصفها أوشاماً في الوعي الجماعي، وعلى التاريخ بوصفه روحاً تقيم في القصيدة.

لقد صنعت نصاً:

ذا بُعد هيرمينوطيقي تأويلي

- غنيّ بالصور

-:مشحون بالعاطفة الوطنية

- متخم بالرموز

- قائم على عمق نفسي

- مشغول ببنية سيميائية محكمة

- ومؤسس على رؤية فلسفية للانتماء.

ولذلك، فهذه القصيدة ليست مجرّد مدح للوطن، بل استعادة لروح الثورة الجزائرية في قالب جمالي، يجعل من الشعر صلاة، ومن الذاكرة مضاءً، ومن اللغة سلاحاً لا يصدأ.

إنها قصيدة تُصلّي، وتثور، وتغضب، وتحبّ، وتبكي…

ولكنها قبل كل شيء:

قصيدة لا تزال تقاتل من أجل أن يظل الوطن خطّاً أحمرَ لا يُمسّ.

***

بقلم: عماد خالد رحمة - برلين

......................

صلاة في محراب الثورة

شعر نادية نواصر

الإهداء: إليك يا دزاير الغالية

بلادي خط احمر

الى وطني ابتهالاتي

وصيحاتي

وأغنية من الصندل

واشجار من الفلين والعنب

وحب يثمر يكبر

وقلب من صقيع الفرو

كي اخفيك ياغالي

من الاحقاد والزلات والمنكر

ومن برد الشتاءات

ومن عصف الخيانات

ومن كل الذي قد يأتي

مطعونا

على كف النزاعات

اليك يا حبيب الروح نبضاتي

وشهقاتي

انا ان مت في العشق

فلا تقصص على الاعداء آهاتي

الى الشهداء

والزعماء

والايتام

والثكلى

انا اهديت ورداتي

وسخرت إلى النكبات أناتي

اذا ما الريح هزتك

انا اعلنت ثوراتي

وحرضت

عسير الدمع

ان يسقي جميع جميع ممراتي

الى الشهداء ياغالي

تحايانا

وفي محراب ثورتنا

انا صليت ركعاتي

دعوت الله ياحبا

عزى روحي

وعانقني

بتاريج الجميلات

انا المسكون بالوطن

ويا احلى ابتلاءاتي

انا المفتون بالامجاد والاجداد

وعبد القادر يشهد

وقد نادى غداة الصحو

ايا وطني

من الحب انا اترعت كاساتي

انا ان غبت يا ارض البطولات

فقد سخرت احفاذي

مساء الخير يا وطني

صباح الخير ياوطني

سلام حينما تزدهر

سنابلك

على ارض الشهيدات

سلام حين ما نقسم

باقوال المريدين

وأقوال المريدات

ايا تاريخنا الزاخر

بأعراس البطولات

سلام حين ما غضبي

يصب كل لاءاتي

على من بددوا شعبي

ومن ذبحوا

من النسغ

ربيع كل ورداتي

وهم من فرقوا عمدا

حبيباتي

وهم سرقوا مع الغبش

صباحاتي

الى عينيك يا وطني

ارتحالاتي

وأن ساقوك للوهن

ففي كفي  وفي عزمي

انا سيف الابابيل

وصيحات الجميلا ت

سلام حين تسكنني

وتملؤني وتشغلني

وتحملني الى احلى المقولات

ايا وشما

على جدران اوردتي

ويا بعضي ويا نصفي ويا كلي

ويا اني...

وإني من حرائرك

ومن اغلى السليلات

تطرَّق المساق الماضي إلى أنَّ من نَظْم الشِّعر هوسًا مَرَضيًّا لدَى بعض الشُّعراء بنظم القوافي، يُفسِد بناء القصيد، ويَضيع معه المعنى. وضربنا مثلًا على (هوسيَّة النَّظم، وتضييع المعانى) بقصيدة (أحمد شوقي)، تحت عنوان «في الانقلاب العثماني وسقوط السُّلطان عبد الحميد».(1) وأُشيرَ إلى بعض قوافيه المجتلَبة لتكثير النَّظْم، مثل (الغدير)، و(النذور) وغيرهما، وكأنَّه قد ألزم نفسه بأن يستغلَّ كلَّ الكلمات الرائيَّة في اللِّسان العربي! قلت لـ(ذي القُروح):

ـ ولا تنس كلمة (الحبور).

ـ حتى لقد جعل الأميرات التركيَّات يلبسن الحِبَر اليمانيَّة! وهو ما اضطرَّه إلى جمعها على (حُبور). فقال:

صَــبَغَ السَّــوادُ حَــبيرَهُنَّ

وكــانَ مِـن يَقَـقِ الحُـبُـورِ

ـ لِـمَ لا؟ فالشِّعر لديه تصيُّد الكلمات التي تصلح أن تكون قوافي.

ـ بل لا حاجة للتصيُّد، فقد أُعِدَّت له بها معجمات جاهزة بالقوافي. ولقد أشكل البيت على شارحه (أحمد محمَّد الحوفي)، ولم يستسغه؛ فالحُبور: السُّرور. قال: ولكن «يظهر أنَّ شوقي أراد جمع كلمة حَبِرة، وهي ثوب من قطن أوكتَّان مخطَّط، كان يُصنَع باليَمَن... لكن جمع هذه الكلمة حِبَر... وحَبرات»، وليس (حُبور). ثمَّ ستجد الشاعر يقول عن (عبد الحميد):

ونَـــراهُ عِنـــدَ مُصــابِهِ

أَولـَـى بِبــاكٍ أَو عَــذيرِ

ونَصـــونُـهُ ونُجِلُّـــــهُ

بَيــنَ الشَّـماتَـةِ والنَّكيـرِ

كَم سَبَّحوا لَكَ في الرَّوا

حِ وأَلَّهوكَ لَدَى البُكـورِ

ورَأَيتَهُم لَـكَ سُــجَّـدًا

كَسُجودِ موسى في الحُضورِ

خَفَضوا الـرُّؤوسَ ووَتَّـروا

بِالــذُلِّ أَقــواسَ الظُّهـورِ

ـ البيتان الأوَّلان لا يضيفان إلى معناه شيئًا، غير قافيتَي راءٍ مجتلبتَين.

ـ أمَّا الأبيات الثلاثة التي بعدهما، ففي غاية الغرابة!  أهو يصف (عبد الحميد) أم يصف (الحميد) نفسه، سبحانه وتعالى؟!

ـ ذاك خِمار القوافي، الذي كان يأخذ (أحمد شوقي) إلى أن يقول كلامًا لا معنى له؛ لكي يأتي هنا بقوافٍ رائيَّة مردوفة بالياء أو الواو، فلا يترك كلمة في العَرَبيَّة بتلك البِنية إلَّا استعملها كيفما اتَّفَق، وتلك غاية الشِّعريَّة عنده!

ـ ثمَّ يضيف:

وغَضـــِبتَ كالمَنصـــورِ أو

هـارونَ فـي خـالي العُصورِ

ضَـــنُّوا بِضـــائِعِ حَقِّهِــمْ

وضَنَـنتَ بِالـدُّنـيا الـغَـرورِ

هَلَّا احتَفَظــتَ بِــهِ احتِفـا

ظَ مُـرَحِّــبٍ فَــرِحٍ قَريــرِ

هُـوَ حِليَـةُ المَلِـكِ الرَشيـ

ـدِ وعِصْمَـةُ المَلِكِ الغَريـرِ

وبِــهِ يُـبـارِكُ فـي المَمـا

لِكِ والمُلـوكِ عَلى الدُّهـورِ

ـ ما معنى هذا الكلام؟

ـ وماذا يمكن للقارئ أن يفهم منه؟ وما مرجع الضمير في قوله: «احتفظتَ به»؟ أيعني احتفظتَ بـ«ضائع حقِّهم»؟! وكيف يكون ذلك «حلية الملك الرشيد»، و«به يبارك في الممالك والملوك على الدُّهور»؟

ـ هذيان عارٍ عن المعنى؟

ـ أو قل: إنَّ معناه في بطن الشاعر! لا لعمق مراميه، ولا لبُعد مجازاته، ولا لغموض موضوعه، ولكن لأنَّ الرجل مهووس بالألفاظ دون المعاني، مجنون بالقوافي والبديع، ولا يعنيه بعدئذٍ بناء القصيدة ومعناها. ولذا تخطَّى الشارحُ هذه الأبيات دون أن يشرحها، أو يتوقَّف عندها. لأن ليس فيها من شيءٍ ليُشرح، ولا شيء ليتوقَّف عنده.(2)

-2-

ـ هذا، إذن، مثال نموذجي على مقدار ما تجنيه القوافي والهوس بها، حتى على أمير الشُّعراء، كما لُقِّب من محبِّيه وأمثاله في الوعي الشِّعري، كأنَّ الشِّعر لا يعدو طبلًا وزمرًا وجعجعة فارغة، بحيث يستحيل النصُّ إلى مهارات لفظيَّة، لا علاقة لها لا بطبيعة الشِّعر ولا بوظيفته. وإذا كان هذا شأن أمير الشُّعراء، فكيف بغَفير الشُّعراء؟! لكن دعنا، يا (ذا القُروح)، من نظميَّة (شوقي باشا)، وعُد بنا إلى نظميَّة اللُّغة لدَى (عبد القاهر الجرجاني).

ـ لقد كانت غاية (الجرجانيِّ) في «دلائل الإعجاز» البحث في ما يجعل لنَظْم الكلام بلاغيَّته وإعجازه، ممَّا يعود لديه إلى الصُّورة والتركيب، لا إلى اللَّفظ المفرد.  وإلَّا ففي كلامه ما يدلُّ على رأيه في اعتباطيَّة العلاقة بين الدالِّ والمدلول، وأنَّها ليست باعتباطيَّةٍ مطلَقة.  ذلك حينما يقول، عن «قضيَّة اللَّفظ عند المعتزلة وبيان فسادها»: «ومن المعلوم أنْ لا معنى لهذه العبارات وسائر ما يَجْري مَجراها [أي الوصف بالفصاحة والبلاغة]، ممَّا يُفْرَد فيه اللَّفظُ بالنَّعت والصِّفة، ويُنْسَب فيه الفضلُ والمَزِيَّة إليه دون المعنى، غَيْرُ وصفِ الكلام بحُسْنِ الدِّلالة وتمامِها فيما له كانت دِلالة، ثمَّ تَبَرُّجها في صورةٍ هي أبهى وأزينُ وآنَقُ وأعجبُ وأحقُّ بأنْ تستولي على هَوَى النَّفْس… ولا جهةَ لاستعمال هذه الخصال غيرُ أنْ تَأتِـي المعنى من الجهة التي هي أصحُّ لتأديته، وتَختار له اللَّفظ الذي هو أخصُّ به وأكشفُ عنه وأتمُّ له، وأحرَى بأن يُكسِبه نُبْلًا، ويُظهِر فيه مَزِيَّة.»(3) على أنَّ مفهوم (الاعتباطيَّة) قد ظلَّ في العصر الحديث محلَّ قلقٍ لدَى (السِّيْمَوِيِّين)؛ ولذا سعَى (بياجيه)(4) إلى تسويغ الاعتباطيَّة بإشارته إلى تقسيم (دي سوسير) إيَّاها إلى ما سمَّاه «اعتباطيَّة نِسْبيَّة  Relatively Arbitrary» و«اعتباطيَّة جذريَّة Radically Arbitrary».  مثلما حاول (بارث)(5) الاستدراك على دي سوسير بتعلُّقه بفِكرة التواطئيَّة الذهنيَّة لدَى أبناء اللُّغة، التي لا مجال لاعتباطيَّةٍ فيها، وإنَّما الاعتباطيَّة تقع في علاقة الإشارة بمرجعيَّتها العَينيَّة.

ـ وهنا هل يمكن أن نتخطَّى تلك النظريَّات الخنفشاريَّة، أو قل: غير العِلميَّة بطبيعة حالها، ولا القائمة على دليلٍ عقليٍّ أو نقلي.

ـ كأني بك تشير إلى مزاعم كتلك التي أدلى بها صاحب كتاب «الصاحبي في فقه اللُّغة»، (أبو الحسين أحمد بن فارس بن زكريا القزويني الرازي، ـ395هـ= 1004م)(6)، الذاهبة إلى غير رجعة- وفي ثِقَةٍ عجيبة، لم يرزقها من أرباب الخرافات والأساطير من أحد- إلى أنَّ اللُّغة الإنسانيَّة توقيفيَّة؟(7) وهو يخصُّ هنا اللُّغة العَرَبيَّة. حيث قال: «والدليل على صحَّة ما نذهب إليه إجماع العلماء على الاحتجاج بلُغة القوم فيما يختلفون فيه أو يتَّفقون عليه. ثمَّ احتجاجهم بأشعارهم. ولو كانت اللُّغة مواضعة واصطلاحًا لم يكن أولئك في الاحتجاج بهم بأولى منَّا في الاحتجاج بنا، لو احتججنا على لُغة اليوم، ولا فَرْق.»

ـ ويا له من دليلٍ دامغ، وحُجَّة بالغة!

ـ إنَّه يحتجُّ، أوَّلًا، بإجماع العلماء! وما زال هذا ديدن قطعان الاتباعيِّين، في كلِّ زمانٍ ومكان، وفي كلِّ ملَّةٍ وتخصَّص، ممَّن يقدِّسون البَشَر، ويحتقرون عقولهم، إنْ وُجِدت. وأولئك هم الذين جاء وصفهم في «القرآن»: «ذَلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ؛ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَبْلُ، قَاتَلَهُمُ الله، أَنَّى يُؤْفَكُونَ؟! اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ الله.» والذين كفروا من العَرَب هم المحتجُّون بمثل هذا الموروث: «قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا! أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ؟!»

ـ أمَّا احتجاجه على توقيفيَّة اللُّغة باحتجاج العلماء بلُغة العَرَب وأشعارهم، فأشدُّ غرابة.

ـ وهو حُجَّةٌ عليه لا له، لو كان يفكِّر تفكيرًا مستقيمًا. لأنَّه بهذا قد بَقَرَ زعمه السابق، مُقِرًّا أنَّ اللُّغة لا تبقى على حال. والذين احتجُّوا بلُغة العَرَب قبل الإسلام وبأشعارهم لم يفعلوا ذلك لأنَّ لُغة العَرَب مقدَّسة أو توقيفيَّة، وإنَّما لأنَّ «القرآن» نزل في ذلك العصر الذي يحتجُّون بلُغة أهله وبأشعارهم. فلمَّا رأوا فساد اللُّغة قد اعتور أهالي العصر، امتنعوا عن الاحتجاج بلُغته الفاسدة بتقديرهم. وهذا أكبر دليل على أنَّ اللُّغة ليست بتوقيفيَّة، بل هي كائن ٌحيٌّ يتطوَّر ويتغيَّر، سلبًا أو إيجابًا، وإلَّا لثبتت على حالٍ واحدة.

***

أ. د. عبد الله بن أحمد الفَيفي

................................

(1)  (1988)، الشَّوقيَّات: الأعمال الشِّعريَّة الكاملة، (بيروت: دار العودة)، 1: 119. 

(2)  يُنظَر: (1979)، ديوان شوقي، بتوثيق وتبويب وشرح وتعقيب: أحمد محمَّد الحوفي، (القاهرة: نهضة مصر)، 341-347.

(3)  الجرجاني، عبدالقاهر،(1984)، دلائل الإعجاز، قرأه وعلَّق عليه: أبو فهر محمود محمَّد شاكر، (القاهرة: مكتبة الخانجي)، 43.

(4) Piaget, Jean, (1971), Structuralism, Translated and edited by CHANINAH MASCHLER, (First published in Great Britain), p.78.

(5) See: (March 1977), Elements of Semiology, Translated from French Language by Annette Lavers and Colin Smith, (New York: Hill Wang), p.50- 51.

(6)  يُنظَر: (د.ت)، تحقيق: السيد أحمد صقر، (القاهرة: عيسى البابي الحلبي وشركاه)، 6- 00.

(7)   وإذا كانت هذه الفِكرة قد جاءت وليدةَ عصرٍ سادَ فيه فِكرٌ يَنسِب كلَّ شيءٍ تقريبًا إلى الغَيب، فإنَّ فِكرة (الاعتباطيَّة) قد جاءت وليدةَ عصرٍ سادَ فيه فِكرٌ يَنسِب الأشياء في الطبيعة غالبًا إلى الصُّدفة المحضة، والعبثيَّة، واعتباطيَّة العلاقات. وفي كلا الاتِّجاهَين غُلُوٌّ، تُكذِّبه القرائن العِلميَّة. أضف إلى هذا أنَّ الاعتباطيَّة- المنسوبة إلى (دي سوسير، -1913) «اعتباطًا»؛ من حيث إنَّه لم يؤلِّف بنفسه الكتاب المنسوب إليه أصلًا، بل كان محاضرات، جمعها تلميذان من تلاميذه ونشراها بعد وفاته بثلاث سنوات، 1916- إنَّما تنبني على تحليل اللُّغات الأوربيَّة، الغالبة عليها الطبيعة اللَّصقيَّة والاصطلاحيَّة التركيبيَّة. ثمَّ جاءنا اللغويُّون العَرَب الاتِّباعيُّون، فآمنوا بتلك الآراء، وأمَّنوا عليها كالعادة، غير مميِّزين بين لغتهم العَرَبيَّة- ذات التاريخ الشَّفويِّ الموغل في القِدَم، وذات الطبيعة النوعيَّة- وبين تلك اللُّغات التي انبثقت عنها النظريَّة الاعتباطيَّة في الغرب أساسًا. حتى إنَّك لتجد معظم شواهد الاحتجاج لدَى العَرَب تكاد لا تعدو ترديد شواهد الدراسات الغربيَّة نفسها، من الإنجليزيَّة أو الفرنسيَّة!

لا يمكن قراءة نصّ الشاعرة المغربية هناء ميكو بعنوان: «فلاسفة معذَّبون» قراءة متعجلة. بل يمكن قراءة هذا النص بعينٍ تأملية تطبيقية تجمع بين المنهج الهيرمينوطيقي التأويلي، التحليل الأسلوبي والرمزي، والسيميائيات (نموذج غريماس)، مع فتح أبواب التعاطي إلى البنى النفسية والدينية والفلسفية. الهدف من ذلك استخراج بنية الدلالة العميقة للنص، وكشف عمليات التحويل الدلالي، وتحديد المحاور السردية والوظائف الفاعلية، ومقارنة النص على أربعة مستويات: المستوى الانفعالي، التخييلي، العضوي، واللغوي - ثم ربط ملامح النص بآراء فلاسفة ومناهج نقدية مناسبة.

1 - قراءة هيرمينوطيقية (دلالات الظاهر والباطن):

النصّ يعمل كأفق سؤال أخلاقي/وجودي: يبدأ بمشهدٍ طبيعيٍ يتوق إلى التأمّل، ثم يتحوّل إلى مزيدٍ من الأسئلة النَّاشدة: «ما ذنبها؟» تكرّار السؤال يولّد حلقة تأويلية مركزية - ليست فقط عن «الطفولة» كحالة، بل عن العلاقة الأخلاقية للمجتمع بذاته. الهيرمينوطيقيا، أفق فهم الشاعرة هناء ميكو يلتقي بأفق القارئ عبر «الأسئلة» كجسر: النص يدعوك لإعادة قراءتك للعالم الاجتماعي، ويحوّل النصّ من وصف إلى موعظة نقدية ومحفّز أخلاقي.

2 - التحليل الأسلوبي:

1. الأسلوب الصوتي والآليّات البلاغية: تكرار الأسئلة والنداءات («أَيُّها الإنسان؟») يعطي النص طابعاً خطابيّاً استدعائياً/دعائياً. التكرار هو استراتيجية للتثبيت العاطفي والبلاغي.

2. الاستعارات والصور: صور قوية وبسيطة - «صفار بيضها»، «الليمون في حلاوته»، «السوسة في أحشائها» - تعمل كمحاور تصويرية تجسّد الطفولة بوصفها شيء هشّ قابل للانتهاك. تشبيه الطفولة بالليمون «معصورة» يقدم حضوراً حسيًا/طعمياً يقرّب القارئ من ألم الضحية.

3. الخطاب المباشر والوعظي: الاستخدام المتكرر لأدوات الخطاب المباشر (نداءات، أسئلة بلاغية) يضع الشاعرة هناء ميكو في مقام المُعلّم/المُنادي - وظيفة دعائية اجتماعية وأخلاقية واضحة.

4. التركيب النحوي: جمل قصيرة متقطعة في فقراتٍ تارة وطويلة راوية في فقراتٍ أخرى ــ إيقاع يتذبذب بين الحزن والاندهاش والغضب.

3 - التحليل الرمزي:

١- الطفولة: رمز للبراءة والطبيعة الإنسانية الفطرية، لكنّها هنا أيضاً «مخيّبة» أو «مُمَسَّخَة» بفعل المجتمع.

٢- الصفار/البيضة: رمز الميلاد، الإمكانات، الفعل القابل للحماية؛ وضعها عائماً في صفارها يوحي بالهشاشة قبل التكاثر.

٣- الليمون/المعصورة: رمز للاستغلال الاقتصادي والاجتماعي - الطفل كمورد يُستنزف.

٤- السوسة: رمز للعطب الداخلي/الفساد الاجتماعي الذي يتآكل من الداخل.

٥- الملائكة: رمز للمثالية والبراءة، واستدعاء عاطفي يدعو للرحمة.

4 - سيميائيات غريماس (نموذج الأكتانتيال أي المعنى الفاعل:

أطبق هنا النموذج بصيغة مبسطة:

١- الفاعل: «الطفولة» / الأطفال (الموضوع الفاعل في محور الانشغال النصي).

٢- الهدف: الكرامة، الحماية، الطفولة الطبيعية (ما يُراد استعادته).

٣- المرسل: النصّ/الشاعرة (بوصفها مرسِلًا للنداء الأخلاقي) أو «الضمير الاجتماعي» المفترض.

٤- المتلقي: المجتمع/الإنسان المتهم أو القارئ العام (المعنِيُّ بإصغاء النداء).

٥- المعين: المدرسة، الأسرة، الحنان، الوعي، المؤسسات الإنسانية.

٦- المعاكس: تجّار الرذيلة، سماسرة الجريمة، الحرب، القسوة الاجتماعية، الجهل.

٧- منظومة الأدوار تولّد حبكة مبسطة: المرسل (الشاعرة) يدعو المتلقي/المجتمع للقيام بدور المعين لاستعادة الهدف (كرامة الطفولة) ومواجهة المعارضين (الاستغلال).

5 - الأنساق المعرفية (إطارات القراءة):

النص يشتغل بأربع أنساق معرفية متداخلة:

1. الأخلاقي/الاعتقادي: تساؤلات الوجدان والضمير.

2. الاجتماعي/السياسي: استدعاء مفردات «تجار الرذيلة» و«الميز العنصري» و«فلسطين» - نص ذو بعد نقدي اجتماعي ووطني.

3. النفسي/الإنساني: صورُ الاغتصاب الوجداني والحرمان والعجز عن الحماية.

4. الخيالي/الشعري: استعارات وصور تُحافظ على بعد الشعرية وتجعل اللغة جسرًا بين العقل والعاطفة.

6 - مطابقة مع إراء فلاسفة ومراجع نقدية:

١- إمانويل ليفيناس: فكرة النداء الأخلاقي المستمر للوجه/الآخر تجد صدى في الأسئلة المتكررة «ما ذنبها؟» - نصّ يطالب بالمسؤولية الأخلاقية تجاه الضعيف.

٢- جان جاك روسو: نظرية الخير الطبيعي للإنسان والفساد الاجتماعي قد تُقرأ هنا: الطفولة كخير فطري «محرومة من الطبيعة الأم».

٣- سيغموند فرويد/نظرية الصدمة: استغلال الطفولة يؤدي إلى صدمات نفسية تُقوّض البناء النفسي؛ النص يلمّح إلى هذا العطب.

٤- دونالد وينيكوت ( Winnicott ): فكرة الـ«holding» والحاجة لمساحة احتضان نفسية - غياب الاحتواء يؤدي إلى تشظٍ للذات.

٥- ماري فرانسيس بيترسون/أو بوكاتشيو؟ (اختيارات نقدية معاصرة): يمكن توظيف نظرية العدالة الاجتماعية/سياسات الطفولة في تأطير نقدي.

٦- غادامير/هيرمينوطيقا: أهمية الأفق التفاهمي بين النص والقارئ؛ الشاعرة تترك «فراغًا» لتأويل القارئ، ما يجعل الفهم حلقة تفاعلية.

7 - مقارنة المستويات الأربعة للنص:

1. المستوى الانفعالي (العاطفي):

الطرح يحفّز حزناً وغضباً وذعراً أخلاقياً؛ الأسئلة البلاغية تثير الاستهجان والشفقة. النص يهدف إلى تفعيل الضمير الجماعي.

2. المستوى التخييلي (الصور/الخيال):

صور مركزة وبسيطة تخلق قواعد تخييلية قوية: البيضة، الليمون، الملائكة. الخيال هنا وظيفته ضبط الشعور وإعطاء اسمٍ مرئي للانتهاك.

3. المستوى العضوي (الجسدي/الحسي)

أفعال مؤلمة (تُقتل، تُعذب، تُعصَر) وصور حسية (طعم الليمون، صفار البيض) تُفعّل الشعور الجسدي بالألم والاستنزاف.

4. المستوى اللغوي:

لغة واضحة أقرب إلى الخطاب العمومي/الوعظي مع لحظات شعرية؛ إيقاعات متقطعة، تكرار، صياغات استفهامية، نداءات ثانية (أيها الإنسان) - كلها أدوات لغوية لترك أثر أخلاقي مباشر.

الأخطاء اللغوية والنحوية أو الملاحظات:

1. الجملة:

"طبيعةٌ تنتظر من يتأملها ويندهش لها وبها."

ملاحظة: كلمة "لها وبها" زائدة بعض الشيء، يمكن الاقتصار على "ويندهش لها" أو "ويندهش بها".

2. الجملة:

"أسئلةٌ فطرية محرومةٌ من الطبيعة الأم"

الصواب النحوي: "محرومة من" صحيحة، لكن يمكن إضافة حرف التعريف للتماسك الأسلوبي: "محرومةٌ من حماية الطبيعة الأم" لجعل الجملة أكثر وضوحاً.

3. الجملة:

"ما ذنب يُراعِ ليلِها المضيء حتى ينطفئ، وبذرةِ نبتتِها المتفتقة حتى تذبل في أوج عنفوانها؟"

ملاحظة: تركيب "بذرةِ نبتتِها المتفتقة" غير سلس قليلاً. الأفضل: "وبذرتها المتفتحة حتى تذبل في أوج عنفوانها؟"

كذلك "يُراعِ" يمكن أن تكون "ليلها يُراعى" لتصبح أكثر سلاسة.

4. الجملة:

"قصيدةُ أملٍ عشّشت السوسةُ في أحشائها، خاطرةٌ عذبة لم تعد الابتسامة على محيّاها."

ملاحظة: تركيب الجملة غير متساوٍ من حيث المعنى؛ يمكن تعديلها:

"قصيدة أملٍ عششت فيها السوسة، وخاطرة عذبة لم تعد الابتسامة على محياها."

5. الجملة:

"نراهم عند إشارات المرور، يمسحون أوساخ العقول المتحجّرة من سائقي السيارات وهم في عمر الورد."

ملاحظة: تركيب "أوساخ العقول المتحجّرة من سائقي السيارات" طويل ومعقد، يمكن تبسيطه:

"يمسحون أوساخ سائقي السيارات المتحجّرة وهم في عمر الورد."

6. الجملة:

"ما من مبررٍ معقولٍ للأفراد أو المجتمعات التي تجعل الإنسان يؤذي الأطفال، إلا المرض النفسي أو العقلي أو الإجرام، كما هو الحال في فلسطين، وكل البلدان التي تنهش لحمها الحروب والميز العنصري."

ملاحظة: تركيب الجملة طويل ومعقد، يمكن تقسيمه لتسهيل القراءة:

"لا يوجد مبرر معقول يجعل الإنسان يؤذي الأطفال إلا المرض النفسي أو العقلي أو الإجرام. هذا ما نراه في فلسطين، وفي كل البلدان التي تنهشها الحروب والتمييز العنصري."

7. الجملة الأخيرة:

"للإجابة على كل هذه التساؤلات، فلنربط الاتصال بالطفل في ذواتنا."

سليمة نحويًا، لكنها يمكن تحسين أسلوبها لتكون أكثر قوة:

"وللإجابة على هذه التساؤلات، لنجعل الطفل في داخلنا رفيقًا ومرشدًا."

ملاحظات أسلوبية:

النص غني بالصور المجازية، لكنه أحياناً يطغى عليه تعدد الصفات الطويلة، مما يجعل بعض الجمل ثقيلة على القارئ. يمكن تفكيك بعض الجمل الطويلة إلى جملتين لتخفيف الوزن الأسلوبي.

هناك تكرار لفظة "أيها الإنسان" عدة مرات، يمكن الاستعاضة عن بعضها بمرادفات مثل "أيها العاقل" أو "أيها الساهر" لتجنب التكرار الممل.

استخدام علامات الترقيم جيد، لكن في بعض المواضع يمكن إضافة فواصل خفيفة داخل الجمل الطويلة لتسهيل القراءة.

النص ممتاز من ناحية إيصال الفكرة العاطفية والإنسانية، ويظهر التوتر الشعوري بوضوح.

8 - استنتاجات مختصرة:

«فلاسفة معذَّبون» للشاعرة المغربية هناء ميكو نصّ يحوّل الطفولة إلى محور أخلاقي وشعري في آنٍ واحد؛ يوظف لغة مباشرة وصوراً سحرية بسيطة لخلق استدعاء وجداني.

السيمياء "الغريماسية" تُظهر بنية واضحة: طفولة كفاعل-مبتغى، مجتمع كمتلقٍ/مُذنِب، وعناصر مساعدة ومعارضة محدّدة.

الربط بالفلسفة الأخلاقية (ليفيناس، روسو) والنظريات النفسية (فرويد، وينيكوت) يعمّق قراءة النص ويمنحه بعدًا تطبيقياً ممكناً في دراسات الطفولة والعدالة الاجتماعية.

***

بقلم: عماد خالد رحمة - برلين

..................

فلاسفة معذَّبون

بقلم: هناء ميكو

طبيعةٌ تنتظر من يتأملها ويندهش لها وبها.

أسئلةٌ فطرية محرومةٌ من الطبيعة الأم، براءةٌ أُجهضت وهي لا تزال عائمةً في صفار بيضها، تتألم، تتسوّل، تتوسّل، وتُقتل للأسف.

*

ما ذنبها؟

ما ذنب يُراعِ ليلِها المضيء حتى ينطفئ، وبذرةِ نبتتِها المتفتقة حتى تذبل في أوج عنفوانها؟

ما ذنبها؟

*

إنها الطفولة المهملة، يا سادة، دون حماية.

قصةُ حلمٍ قصيرة، مهضومةُ الكيان، في أزقة الشوارع.

متشرّدة،

أشبهُ بالليمون في حلاوته، غير أنها معصورةٌ دون وجه حق.

قصيدةُ أملٍ عشّشت السوسةُ في أحشائها، خاطرةٌ عذبة لم تعد الابتسامة على محيّاها.

*

طفولةٌ مستغلّة من طرف تجّار الرذيلة وسماسرة الجريمة،

مُسَلَّطةٌ لاستعطاف ذوي القلوب البريئة والجيوب الآمنة.

*

فهل من وعي، أيها الإنسان؟

هل من إدراك؟

هل من رأفة؟

هل من رحمة، أيها الإنسان؟

*

إنهم ملائكة، فلذات أكبادنا، وتلاميذنا، وأجمل مخلوقات المجتمع وألطفها.

يدخلون الفرح والسعادة إلى القلوب بابتسامةٍ تذيب الحجر وتفتح الورود.

*

لِمَ نسمح بتشرّدهم وحرمانهم من أبسط حقوق الكرامة كأطفال؟

نراهم عرضةً للاستغلال، يعملون في البيوت كخادمات،

يتعرّضن للتحرش المستمر وهم في مقتبل العمر،

ويُتّخذون مطيّة لجلب عطف الناس بغية التسوّل وربح المزيد من المال بجشع.

*

نراهم عند إشارات المرور، يمسحون أوساخ العقول المتحجّرة من سائقي السيارات وهم في عمر الورد.

نحن والحياة عليهم.

مكانهم الطبيعي المدرسة، وفضاءات اللعب، والرياضة، والإبداع بالفن. أليس كذلك، أيتها الأم؟ أيها الأب؟ أيها الأخ الكبير؟ أيتها الأخت الكبرى؟

*

أين تبخّرت قلوبكم الجاحدة التي دفعتكم إلى هذه الأفعال الشنيعة؟

لا أُعمّم، بالطبع.

*

أين هو الاحتواء؟

ما من مبررٍ معقولٍ للأفراد أو المجتمعات التي تجعل الإنسان يؤذي الأطفال،

إلا المرض النفسي أو العقلي أو الإجرام، كما هو الحال في فلسطين، وكل البلدان التي تنهش لحمها الحروب والميز العنصري.

*

يحتاج الطفل إلى الكثير من الرعاية، والحنان، والحب، وأيضًا إلى ثقةٍ عميقة بقدراته،

لينطلق بجناحي اليراع المشعّ، كونه رجل المستقبل.

*

ترى، أين أحلام أطفال العالم؟

هل أخرسنا أصواتهم إلى الأبد؟

أم حوّلناها إلى معزوفاتٍ نشازٍ نسمعها بذبذبات المنافق وأشباح الإنسان، وحنو المعتدي الغاشم؟

*

ما مصير أصحاب الأسئلة الساذجة المشروعة في ظل زمن "الإنسان الوحش"؟

أين غاب الاندهاش العميق في ظل الاختلاف؟

*

للإجابة على كل هذه التساؤلات،

فلنربط الاتصال بالطفل في ذواتنا.

 

بعنوان: «جرحٌ فاخر»

تتّسم قصيدة «جرحٌ فاخر» بحميميّة اشتغلت عليها لغة الشاعرة الجزائرية الدكتورة آمنة حزمون طبيبة المخ والأعصاب، بين نبرة اعترافية وشحنة تأمّلية تجعل النصّ مساحةً للتناوب بين الألم والبهجة، بين الاندفاع الحسي والوعي التأمّلي. من منظور هيرمينوطيقي–تأويلي، تقرأ القصيدة بوصفها حلقةً من محاولات القراءة والكتابة التي تخاطب القارئ داخليّاً وتستدعِي تاريخَ الأنا والهوية. سأوظف هنا مناهج هيرمينوطيقية، أسلوبية، سيميائية (بما في ذلك نموذج غريماس الفعّال)، نفسية ودينية، علاوة على قراءة جمالية ووطنية، لنكشف ما تحمله القصيدة من طبقاتٍ تحت الجلد الشعري: نبضٌ، توتر، رمز.

1. القراءة الهيرمينوطيقية التأويلية:

١- القصيدة كحالة تفسيرية: المتكلم/المتكلّم عنها يتخذ موقفَ الاعتراف والنداء، أو خطاب الذات المتألّم/المتيم. القراءة الهيرمينوطيقية تنطلق من فكرة أن النصّ ليس مجرد رسالة بل أفق تأويل مفتوح: المتكلّم يبدأ بـ «لا تموت الجراحُ إن جراحي/باقياتٌ» — جرح متواصل لا يزول لأنه متجذر في وجوده. الشعور بالاستمرارية (بقاء الجراح) يقترن بليل طويل، وهو زمنٌ رمزي للاختبار والحنين.

٢- الأسئلة التفسيرية التي يطرحها النص: ما هو مصدر الجرح؟ هل هو الحب أم العزلة أم فقدان الربيع (الطبيعي/الوجداني)؟ تردّ القصيدة بإجاباتٍ نصفية: هناك «تفاصيلك» تكشف الهوى، و«انتمائي لأفق روحك لغز»، و«غارق قلبي الحزين ببحرٍ موجه الحب» — أفقُ الحب هنا يمثل غايةً وغموضًا في آنٍ معا.

٣- الهرمية التأويلية: من «الجراح» إلى «الهوى» إلى «الانتماء» ثم إلى «النداء/الاستنجاد» (انتشلني يا جميلا) — حركةٌ من الألم إلى الرجاء، ومن الصمت إلى الطلب. كما أن قصيدة ذات طبيعة حوارية مع الذات والآخر، وتحتضن عناصر البلاغة والنداء الديني (ليلة القدر) وتوظيف صورٍ وطنيّة/طبيعية (الربيع، الحقول).

2. تحليل سيميائي (بونييت" غطاء" - جميل- /غريماس كموجه):

2.1 العلامات والأقطاب السيميائية:

تشتغل القصيدة بشبكة من دالات دلالية متضادة ومتضمنة:

١- الحضور/الغياب: «غابت عن الربيع الحقولُ» مقابل «عيونك فجرا يوقظ الشمس».

٢- الجرح/الفخامة: العنوان «جرح فاخر» اتحاد مفارقي (سلبية الجرح مع صفة الفخر/الفخامة).

٣-النور/الظلمة: «الليالي تزول» مقابل «أبصروا النجمَ يرتديه الأفول».

هذه الثنائيات تخلق حقلًا دلالياً مركّباً؛ العلامات ليست معزولة بل تعمل داخل شبكة نصّية تُنتج معاني مختلفة بحسب تموضعها.

2.2 تطبيق نموذج غريماس أي النموذج الفعلي:

نحو استخراج محاور الأدوار داخل القصيدة — نعيد قراءة نصّ غريماس عبر تحديد: المرسل، المادة/الهدف، الفاعل/المطلوب منه، المتلقّي، المساعدون، والخصوم/المعادون.

١-  (المخاطَب الفاعل المطلوب): «القلب/الذات المتكلِّمَة» — هوية الــ«أنا» الشاعرية التي تسعى إلى الخلاص/الانعتاق (التحرّر من الجرح أو بلوغ المحبوب).

٢- الموضوع،  (الهدف): الانتصال بالخلاص/الانعتاق عبر الحب — يمكن صياغته: «النجاة العاطفية/الالتصاق المتبادل».

٣- (المرسل الذي يمثّل الطلب/الدافع): النصّ يقدم أكثر من مرسل؛ أقوى قراءاتنا تشير إلى «قوة الحب/الهوى» كمرسل داخلي: الحب يُرسل رغبة الخلاص («مدّ لي كفهُ فقلتُ: انتشلني»). كذلك الطبيعة/السما «هكذا قالت السما والفصولُ» قد تعمل كمرسلٍ يبرر الانتماء.

٤-  (المتلقي): «المحبوب/الجميلا» أو حتى القُراء المتلقون الذين يشاركون المضمر العاطفي؛ ولكن على مستوى العمل السرديّ المتلقي الأساسي هو الذات التي تُستبدَل حالتها بالالتصاق/النجاة.

٥-  (المساعدون): رموز الطبيعة (الشمس، الفصول، البحر) كقوى تُعين الرغبة؛ أيضًا «التجلي دليلُ» كعامل مساعد يعطي دافعًا للرجاء.

٦- (المعاندون/المعترضون): «العيون/الناس/الحُرّاس الاجتماعيون» الذين «حرضوا ثوبي الشفيفَ وقالوا/أسبليهِ فقد تجنُّ العقول» — هذا صوت معادي يحيط بالمحب ويعمل مانعًا اجتماعياً. كذلك «الأفول» و«الغياب» كقوى معرّضة للموانع.

- خريطة غريماسية (مكتوبة):

١-  الهوى/الطبيعة (مرجع قيمي ودافع).

٢-  «أنا» المتكلّم (الساعي).

٣-  الانتصال/النجاة بالحب (المرغوب فيه)

٤- المتكلّم نفسه (تحويل ذاتي) أو الحبيب (كمن يحقق الهدف)

٥-  التجليات الطبيعية (الشمس، البحر، الفصول)، الرمل الديني (ليلة القدر كعلامة مساعدة معنوية)

٦-  المجتمع/العيون/الفضول/الأفول

هذا التطبيق يكشف أن النصّ يسير كحكاية رغبة: رغبة الخلاص عبر الآخر، مضادةٌ بصخب المجتمع والأقدار.

3. المستوى الأسلوبي والصوتي والنحوي:

3.1 الصوت والوزن والإيقاع:

القصيدة تستثمر تكرار الأصوات لنحت حالةٍ موسيقية داخلية: تكرار السين والشين (صبرٍ/صِدقٍ)، تكرار الحركات القصيرة والطويلة يخلق انزياحاً إيقاعياً يقارب غمرة النبض. وجود الأبيات القصيرة والطويلة يشي بتوتر موزون: إذ تخترق جملٌ مطوَّلة لحظات انتقال عاطفي ثم تقطّعها شظايا أقصر لتأكيد نبضة أو استهلال.

3.2 اللساني-الصرفي:

١- الأفعال الماضية والمضارع: تزاوج بين الزمنين ليُمحى الخط الزمني ويجعل التجربة حالًا مستمرة (لا تموت، فاضحاتُ، غارقٌ). هذا المزج يحمّل النص توترًا بين ما هو ممتدّ (جراح باقية) وما هو فوري (انتشلني).

٢- المفردات المركّبة والصور المبتكرة: «جرح فاخر» — اتحاد صفةٍ مع دلالةٍ سلبية ينتجُ جملةً معجميةً جديدةً تثير التناقض والفضول.

3.3 البنية التركيبية والبلاغية

القصيدة توظف التكرار الندائي («يا شقيقي ويا رفيق احتراقي»)، والصور الاستعارة («قمراً من ذهول»، «غيمةً تلوح بروحي») والكناية الدينية («ليلة القدر والزمان») لتكوين بلاغةٍ تأملية. كما أن التنقل بين خطاب الاعتراف والخطاب التأملي يخلق ديناميكية نصّية: من النداء إلى السرد إلى الملاحظة المجتمعية.

4. البنى النفسية والدينية:

4.1 البنية النفسية.

الذات في حالة انقسام: رغبة ملحّة في الالتصاق وبراءة الاعتراف مقابل خوف اجتماعي وإحباط. النفس هنا مجروحة لكنها متعالية — «فاخر» — مما يشير إلى فخر بالجراح كدليل عاطفي/وجودي. هناك أيضًا ملامح الشغف الرومانسي المتجاوز: «غارق قلبي الحزين ببحرٍ موجه الحب» — البحر رمز للشمولية واللانهائية: حبّ لا يقاس، حب يغمر السكون.

يظهر التماهي والاعتماد والتبعية على الآخر "أنتِ" كقوّة مسيطرة، مع شعورٍ بالترقّب والخوف من الخيانة: «فهل يخون الجميل؟» — شكّ زاويته الوجدانية، لكنه مع ذلك يطلب النجاة من الآخر.

4.2 البُعد الديني والروحاني:

توظيف «ليلة القدر» و«السما» و«التجلي» يعطي النص بعداً قدسيّاً: الحب ليس مجرد شعور بشري بل تجربة وجودية تشبه الخبرة الروحية. «ليلة القدر والزمان.. فضولُ!» — ربطٌ بين الزمن المقدّس والفضول البشري عن المعنى، وفي ذلك إشارة إلى أن الحب عملٌ تعبديّ ربما، أو اختبار. التجلي كـ«دليل» يمنح السرد شرعيةً روحيةً للنداء: الاعتماد على قوة عليا أو لحظة استنارة.

5. المقارنة على مستويات متعددة:

5.1 المستوى الانفعالي.

القصيدة عالية الشحنة الانفعالية: الحزن، الشوق، الرجاء، الغضب الخافت. النبرة تتراوح بين الاحتراق والالتجاء: «ذبت مثلي... فما ترى أو تقول؟» — انفعالٌ داخلي يُخوّن القدرة على الكلام ويعطي الأولوية للشعور. الانفعال مُعَبَّر عنه بصورٍ قوية (بحر، نار، جرح) وينعكس في بنية الجملة والنداءات.

5.2 المستوى التخييلي (الخيالي/الصور).

الخيال في القصيدة غنيّ ومتحرّك: القمر، البحر، الشمس، الغيم، النجوم، ليلة القدر — كلّها عناصر تخلق فضاء بصريًا واسعًا. التخيل هنا ليس تجريديًا فحسب، بل يعمل بوصفه آلية لإضفاء قيمة معنوية على الحب. هناك تخيل تأملي (التجلي، السماء) وتخيل حسي (أصابع تعزف عري اللحظة).

5.3 المستوى العضوي (الجسدي/الحسي):

الجسد حاضر بقوة: «كل خلية في جسدك وروحك» و«أصابع تعزف» و«التصاق/احتراقي» — لغة حسية تؤطّر العلاقة الجنسية/العاطفية. العضوية تُستخدم لتأكيد الواقعية العاطفية: الحب ليس فقط فكرة، بل تجربة جسدية/عضوية تحتلّ الوعي.

5.4 المستوى اللغوي:

اللغة في القصيدة محكمة ومتعددة الطبقات: تجمع بين لفظٍ بليغٍ، استعارةٍ مجازية، ونداءٍ مباشر. استعمال كلماتٍ مفردة ذات حمولة دلالية كثيفة («شفيف»، «فضولُ»، «أفْق روحك لغزٌ») يُضفي على النص عمقًا لغويًا. كذلك اللّعب التصويري بين الكلمات يقود إلى جمالياتٍ صوتية ودلالية.

6. تفسير بعض المفردات والعبارات المحورية:

«جرحٌ فاخر»: عنوان مركزي يحمل مفارقة؛ الجرح عاطفة مؤلمة، لكنه هنا مكلّل بالفخامة — إشارة إلى فخر الذات بجراحها كدليل على عشقٍ نبيل أو تجربة وجودية مميزة.

«شفيفَ» (ثوب شفيف): الشفاف الرقيق ــ دلالة على هشاشة المعاناة أو رقة المشاعر التي يمكن للناس أن يجرّدوها ويهينوها.

«ليلة القدر والزمان.. فضولُ!»: قدْح العبارة يضع الزمن المقدّس في موقف الفضول الإنساني؛ الزمن المقدّس هنا مقترن بالسرّ والفضول، ما يجعل الحب تجربةً ذات قداسة لكنها أيضاً موضع سؤال.

«التجلي دليلُ»: التجلي هنا ليس فقط بمعناه الديني بل كعلامة إجلالية لحدوث لحظة انكشاف أو وعي تجعل الطلب (انتشلني) مشروعًا ومبررًا.

«أبصروا النجمَ يرتديه الأفولُ»: صورةٌ معكوسة تبين أن الآخرين يرون العكس: عندما يغيب النور عن الذات، يلبسه الأفول؛ أي أن رؤية الآخر مشوّهة أو محدودة.

7. الأنساق المعرفية (المرجعية الثقافية والوطنية):

القصيدة تعمل ضمن شبكة معرفية تجمع بين الرمز الديني (ليلة القدر)، والصور الطبيعية المحلية (الربيع، الحقول)، والعواطف الشخصية. وجود إشاراتٍ إلى الفصول والطبيعة يضع النصّ ضمن سياقٍ إيكولوجي–ثقافي يعرفه القارئ العربي، بينما اللوحة الدينية تمنح النصَّ بعدًا تراثيًا/وجوديًا. هذا المزيج يجعل النصّ ذا «وطنية ضمنية» — ليست وطنية سياسياً بل ثقافياً: استحضار الطبيعة والطقوس المشتركة.

8. اقتراحات منهجية لتوسيع الدراسة:

1. مقارنة نصّية: قارن «جرحٌ فاخر» بنصوص أخرى للشاعرة ذاتها أو بنصوص جزائرية معاصرة تتناول نفس الثيمات (الجرح، الهوى، المقدس).

2. تطبيق غريماس تفصيليًا: بناء مخططات فعلانية تفصيلية لكل مقطع لتتبع تبدّل الأدوار.

3. تحليل صوتي معمّق: جردٍ لأنماط القوافـي/الجناس/التكرار الصوتي وربطه بالأثر الانفعالي.

4. دراسة نفسية-رمزية: توظيف نظريات التعلّق والاشتياق والبحث في نظرية التعلق لقراءة بنية الاعتمادية في النص.

5. مقاربة ترجميّة: اختبار كيفية انتقال هذه الطبقات الدلالية إلى لغة أخرى—أين يفقد النصّ من رائحته الأصلية وأين يحتفظ بها.

الخاتمة:

قصيدة «جرحٌ فاخر» عمل شعري غنيُّ الطبقات: تجمع بين الاعتراف والنداء، بين الرمز والدين، بين العضويّ والخياليّ. من خلال مقاربة هيرمينوطيقية وأسلوبيّة وسيميائية (بتفعيل نموذج غريماس) نقرأ نصًّا يُظهر أن الجرح هنا ليس عيبًا يُخفى، بل علامة شرفٍ وجودي تُعلن عن عمق الرغبة والهوى والقداسة الممكنة في تجربة الحبّ. إنّ القصيدة تدعونا إلى إعادة التفكير في علاقة الذات بالآخر، وفي كيف تُصاغ الجراح لتصير فخامةً تليق بوجودٍ ينشد الانتصال والنجاة.

***

بقلم: عماد خالد رحمة - برلين

...........................

جرحٌ فاخر

لا تموتُ الجراحُ إن جراحي

باقياتٌ وإنّ ليلي طويلُ

*

وانعكاسي على جبين المرايا

ظلُّ شمسٍ

وأنكرته السهولُ

*

وتفاصيلك التي لستُ أبدي

فاضحاتُ الهوى

وصبري قليلُ!

والعصافير سيدي لا تغنّي

منذ غابت عن الربيع الحقولُ!

لست أهوى سوى عيونك فجرا

يوقظ الشمسَ

والليالي تزول!

*

وانتمائي لأفْق روحك لغزٌ

هكذا قالت السما والفصولُ !

غارقٌ قلبي الحزين ببحرٍ

موجه الحبُّ...

والتجلي دليلُ

مدّ لي كفهُ

فقلتُ: انتشلني

يا جميلا فهل يخون الجميل؟

*

حرضوا ثوبيَ الشفيفَ وقالوا

أسبليهِ فقد تجنُّ العقولُ

*

لم يروا غيمةً تلوح بروحي

أبصروا النجمَ يرتديه الأفولُ

خبؤوني من العيون كأنّي

ليلة القدر والزمان.. فضولُ!

*

يا شقيقي ويا رفيق احتراقي

ذبت مثلي...

فما ترى أو تقول؟

والمصابيح لا تعزي كفيفا

شارد الروح مقلتاه هطولُ..

٢٠٢٤

د.آمنة حزمون

 

في المثقف اليوم