قراءات نقدية

قراءات نقدية

«هذيان أنثى» للشاعرة القديرة ضحى بوترعة

مقدمة: تُشكّل التجربة الشعرية النسوية في السياقات الثقافية في مختلف الدول تحوّلًا جماليًا وفكريًا بارزًا في الأدب الحديث، إذ أعادت الاعتبار لصوت المرأة كفاعلٍ في صناعة المعنى، لا مجرد تابع له. في هذا السياق، تبرز قصيدة «هذيان أنثى» للشاعرة التونسية ضحى بوترعة كنموذج رائد، إذ تقدّم خطابًا شعريًا متداخل الطبقات، يجمع بين البوح الوجداني والتأمل الوجودي، في لغة تتجاوز المألوف نحو فضاءات رمزية وانفعالية غنية بالدلالات.

تستمد القصيدة أهميتها من قدرتها على تجسيد وعي أنثوي معاصر يسعى لإعادة تعريف العلاقة بين الجسد والروح، بين العشق والكتابة، وبين الوعي واللاوعي. كما أنها تنتمي إلى تجربة شعرية تونسية حديثة تتّسم بالجرأة اللغوية، والتنوّع الإيقاعي، والانفتاح على القيم الإنسانية الكبرى، ما يجعلها نصًا متعدد المستويات، قابلًا لقراءات نقدية وسيميائية ونفسية متكاملة.

تهدف هذه الدراسة إلى فحص البنية الجمالية والدلالية لقصيدة «هذيان أنثى» للشاعرة ضحى بوترعة، وهي إحدى قصائد مجموعتها الشعريّة «روح تؤذن لصلاة الجسد». تعتمد الدراسة مقاربة نقدية تكاملية تستند إلى مناهجٍ متعددة: البنيوية، والسيميائية، والتحليل النفسي، والمنظور النسوي. وتسعى إلى إظهار آليات بناء الشاعرة لتجربتها الأنثوية داخل اللغة، وتفكيك الاستعارات والحقول الدلالية التي تنسج النصّ وتنتج دلالاته العميقة، لاكتشاف كيف يصبح الشعر فضاءً للتمرد الوجودي وإعادة تأسيس الذات.

التأطير النظري

تستند دراسة قصيدة «هذيان أنثى» إلى أربعة أطر نظرية مترابطة تتيح قراءة النص على مستويات متعددة: البنيوية، السيميائية، النفسية، والبعد النسوي

البنيوية تنظر إلى النص كنظام مستقل، حيث يُفهم المعنى من العلاقات الداخلية بين عناصره لا من حياة الشاعرة وحدها. في القصيدة، يظهر ذلك في التكرار، التضاد، والانزياحات التركيبية التي تولّد الإيقاع الداخلي والمعنى الذاتي.

السيميائية تركز على العلامة والرمز، فكل عنصر في النص يتفاعل مع غيره لتشكيل شبكة دلالية. الحقول الدلالية مثل الطفولة، الجسد، الكتابة، والعاطفة المظلمة، تتحوّل إلى أدوات لصوغ المعنى، والانزياحات الدلالية والاستعارات تصبح عمليات بنائية أكثر منها جمالية.

التحليل النفسي يغوص في دوافع المتكلّمة واللاوعي. من منظور فرويدي، يتحوّل الكبت والتحويل إلى إبداع شعري؛ ومن منظور يونغي، تظهر الأنماط الأولية (الطفلة، الظل، الحلم) كرموز للتكامل الذاتي؛ ومن منظور لاكاني، تُشير العلامات إلى الرغبة المستمرة و كعنصر محفّز لإيقاظ الطاقة النصية.

البعد النسوي يُبرز حضور الذات الأنثوية بوصفها فاعلًا لغويًا ومعرفيًا، لا مجرد موضوع للخطاب. فالكتابة هنا تُعيد تشكيل العلاقة بين الجسد واللغة، وتُوظّفهما كأدوات مقاومة ضد البنى الرمزية والاجتماعية الموروثة. تظهر صور مثل «تحت القميص» و«الحبر الذي لا يرتوي» بوصفها استعارات وجودية تُفصح عن رغبة الذات في التعبير والتحرر. وتتماهى هذه المقاربة مع مفهوم "كتابة الجسد" لدى هيلين سيكسو، حيث تُصبح الاستعارة والانزياح أدوات لإعادة بناء الهوية الأنثوية داخل اللغة، وتحريرها من مركزية المعنى الذكوري

البنية الدلالية والرمزية في قصيدة «هذيان أنثى»

أولًا: العنوان ودلالاته الرمزية

يحمل عنوان القصيدة «هذيان أنثى» شحنةً انفعالية كثيفة تُشي باضطراب الوعي و تماهيه مع التجربة الوجدانية. فـ"الهذيان" لا يُفهم هنا بوصفه فقدانًا للعقل أو انحرافًا مرضيًا، بل كحالة لغوية تتقاطع فيها الرغبة مع اللاوعي، وتتحول إلى صوت يتجاوز حدود المنطق ليعبّر عن أقصى درجات التوتر الشعوري. أمّا لفظ «أنثى» فيأتي ليؤكد مركزية التجربة النسوية في القصيدة، حيث تتخذ المتكلمة موقع الذات المتلفظة لا كموضوع للرغبة، بل كفاعل معرفي يُعيد تعريف ذاته من داخل اللغة. يجتمع في العنوان إذن اضطراب الإحساس (الهذيان) وهوية الجسد الأنثوي (الأنثى) ليؤسّسا معًا خطابًا شعريًا حسيًا داخليًا، يتكثّف فيه البوح ويتحوّل إلى فعل وجودي يتجاوز المألوف.

ثانيًا: تحليل المقاطع الشعرية

1. «هذه الروح تلتف بأطراف أنثى تحاور شوقها»

تفتتح الشاعرة قصيدتها بصورة كثيفة الدلالة تستحضر علاقة جدلية بين الروح والجسد؛ إذ تلتف الروح بأطراف الأنثى في حوار داخلي مع الشوق، بما يرمز إلى اتحاد الكيانين: المادي والميتافيزيقي. هذا الالتفاف لا يُقرأ بوصفه مجرد تداخل جسدي، بل يُشكّل نقطة التقاء بين الرغبة والمعرفة، حيث تتحول الأنثى إلى كينونة مزدوجة: الجسد بوصفه ذاكرة حسيّة، والروح بوصفها وعيًا متجاوزًا. ويُتيح هذا التداخل إمكانات متعددة للتأويل، خاصة حين يُقرأ النص من خلال منظور النقد النسوي الذي يُعيد بناء الذات الأنثوية كفاعل رمزي، ومن خلال نظرية استجابة القارئ التي تمنح المتلقي سلطة المشاركة في إنتاج المعنى، مما يجعل الصوت الأنثوي في القصيدة نقطة انبثاق لهوية متحوّلة تُعيد تعريف ذاتها عبر الحوار مع الشوق.

2. «وقد كنا فوضى الفكرة ونبيذ الروح في الجسد»

يستخدم الضمير الجمعي (كُنّا) للدلالة على انصهار الكينونة في تجربة وجدانية مشتركة. "فوضى الفكرة" تشير إلى التشتت المعرفي الذي يسبق الخلق، و"نبيذ الروح" يرمز إلى النشوة التي توازي لحظة الإبداع أو العشق.

3. «لم أستفق بعد من دهشة الحدائق المعلقة في شقوق جدراني»

يستدعي هذا البيت الشعري صورًا جمالية متراكبة تُجسّد العلاقة بين الخارج والداخل، بين الذاكرة والواقع. فالحدائق المعلقة لا تُحيل إلى فضاء طبيعي فحسب، بل تُرمز إلى الدهشة المؤجلة، وإلى جمالٍ داخلي يعيش في أسر الذات، كأنها رغبات أو أحلام معلّقة في فضاء النفس. أما "شقوق الجدران"، فهي تمثيل رمزي لتصدّعات الذاكرة أو لتشظّي الجسد الأنثوي ذاته، بما يحمله من آثار التجربة والانكسار. هكذا تتشكّل الدهشة كحالة مستمرة، لا شفاء منها، لأنها تنبع من داخل الذات وتُعاد إنتاجها عبر التوتر بين الرغبة والندبة، بين الجمال والانكسار.

4. «ها أنا أراود صوتًا تحت القميص لم أسمعهُ»

تتصاعد هنا لغة الجسد بوصفها موقعًا للذاكرة والسر. فـ"الصوت تحت القميص" ليس سوى النداء المكبوت، والرغبة المؤجلة في البوح. المراودة فعل لغوي/جسدي، يتقاطع فيه الإغراء مع الاستدعاء.

5. «ثمّة ليلٍ يُخفيني ليكتمل فيّ العشقُ»

يُشكّل الليل في هذا البيت فضاءً رمزيًا تتوارى فيه الذات الجسدية لتتكشف الروح، حيث يتحوّل إلى حاضن للعشق وساتر للكينونة. فـ"يُخفيني" لا يُقرأ بوصفه فعلًا للهروب، بل كشرط وجودي لانبثاق الحب في بعده المتكامل. يتجلى العشق هنا في العتمة، في زمنٍ خارج الزمن، حيث تغيب الرقابة الخارجية وتُولد الحقيقة الداخلية، مما يُضفي على التجربة طابعًا ميتافيزيقيًا يتجاوز الإدراك الحسي نحو الوعي المتسامح مع الغياب والانكشاف

6- «ثمّة صوت لتأويل الوهم؛ من الصعب أن نمرّ...»

 تُعلن الذات عن وعيها باستعصاء المعنى، حيث يتحوّل "الصوت" إلى أداة تأويلية تحاول فكّ شيفرة الوهم، لكنها تصطدم باستحالة المرور، أي استحالة الوصول إلى حقيقة نهائية. هنا يتجلى التوتر بين الرغبة في الفهم وحدود اللغة، في إطار تأويلي يُقارب تجربة الحلم والكتابة.

7-  «وأنا التي تروض الغيمة لأنوثتها»

 تستعيد الذات سلطتها الرمزية عبر ترويض الطبيعة، حيث تتحوّل "الغيمة" إلى رمز للفوضى والعطاء، وترويضها يُعبّر عن قدرة الأنثى على احتواء الحياة وتشكيلها. إنها لحظة استعادة للفاعلية الأنثوية بوصفها قوة خالقة.

8- «وتبصر طفلةٍ تذرع الحبر ولا ترتوي»

تظهر الطفلة كاستعارة للذات في لحظة الولادة الشعرية الأولى، حيث الحبر يُجسّد الكتابة، والعطش يُحيل إلى شغف الاكتشاف. إنها مرحلة التأسيس، حيث الدهشة لا تزال حيّة، والكتابة تُولد من الحاجة إلى المعنى.

9- «تُشاكسُ الفَيْضَ حينَ يستيقظُ السوادُ»

 تتخذ الذات موقفًا وجوديًا مقاومًا، إذ تُشاكس الفيض العاطفي حين يستيقظ الألم أو الوعي المظلم. هذه المشاكسة ليست رفضًا، بل إعادة إنتاج للمعنى من قلب الجرح، حيث الكتابة تُصبح فعلًا مضادًا للانكسار.

10- «ويُصبحُ الوهمُ لامعًا في شرفةِ القلبِ»

يبلغ الوهم لحظة التوهج الجمالي، حين يتحوّل إلى طاقة داخلية تُضيء القلب، الذي يُصبح فضاءً للخيال المتوهّج. هنا يتماهى الوهم مع الحقيقة، ويُعاد تعريفه كقيمة جمالية لا تقلّ واقعية عن الإدراك الحسي.

11- «أعرف كيف أثير انتباه الحلم في المعنى»

يتجلى وعي الذات بعملية الكتابة بوصفها فعلًا خلّاقًا، حيث تُثير الحلم وتُعيد تشكيله داخل اللغة. هذا البيت يُعبّر عن لحظة إدراك نقدي، تُصبح فيها الذات قادرة على تحويل اللاوعي إلى خطاب، والحلم إلى دلالة.

12- «أعبر به لون البكاء ولون الصديد»

يتخذ الألم شكلًا لونيًا مزدوجًا، حيث البكاء يُحيل إلى الشفافية، والصديد إلى الوجع المتقيّح. هذا العبور يُجسّد الكتابة كفعل تطهيري، يُحوّل الجرح إلى معنى، ويُعيد تشكيل الذات عبر الألم.

13- «تمامًا كما طفلةٍ ليسَ لها غيرُ انتباهِ الفِرَاشِ؛ حِضنٌ للحَذَرِ»

تختم الشاعرة بعودة إلى الطفولة، حيث الأمان مشوب بالحذر. الفِرَاشُ هنا يُجسّد رمزًا مزدوجًا للحياة القصيرة والدفء الزائل، والطفلة تمثل ذاتًا هشّة لكنها يقِظة، تُدرك المعنى من خلال الحذر والانتباه، لا من خلال الطمأنينة المطلقة.

البعد الأنثوي–الوجودي في بنية الاستعارة والانزياح الدلالي

1. مدخل نظري

تقوم التجربة الشعرية النسوية الحديثة على فعلٍ لغويٍّ وجوديّ: إعادة كتابة الذات الأنثوية من داخل اللغة نفسها، بحيث لا يبقى النصُ مرآةً تعكس موضوعًا جاهزًا، بل يصبح فضاءً لتشكيل الكينونة وإعادة تأويلها. من منظور النقد النسوي، ولا سيما في قراءة هيلين سيكسو لمفهوم «كتابة الجسد»، تتحوّل اللغة إلى فعلٍ يستدعي الجسد ويُعيد توزيعه دلاليًا، مكسرًا نمطية المركزية الذكورية. في ضوء ذلك، لا تُعامل الاستعارة والانزياح الدلالي كزخرفتين بلاغيتين فحسب، بل كآليتين لتهيئة سياق تمردٍ وجودي؛ تمردٍ يعيد إنتاج الذات عبر تحويل حدود المعنى ومواقع الخطاب.

2. تحليل الانزياح الدلالي والاستعارة داخل النص

تتبدّى في القصيدة شبكة من الانزياحات والاستعارات التي تذيب الثنائيات التقليدية (جسد/روح، داخل/خارِج، وعي/رغبة)، وتعيد بناء الحضور الأنثوي كلغةٍ ووجودًا:

اتحاد الروح والجسد:

في «هذه الروح تلتفّ بأطراف أنثى تحاور شوقها» تتحول «الأطراف» من دلالةٍ جسدية إلى أدواتٍ خطابية؛ فالالتفاف هنا فعل لغوي يَمنح الروح هيئة حركة، ويُخرِج الجسد من موقع الصمت إلى خطّ النطق. الانزياح يعمل على جعل الرغبة مصدرًا للمعرفة، وعلى اعتبار المعرفة شكلًا من أشكال التمرد.

الجسد كمجال للخلق:

تقول الشاعرة «وقد كنا فوضى الفكرة ونبيذ الروح في الجسد» فتُعيد للجسد وظيفةَ الإنتاج الدلالي؛ تتحول الفوضى إلى طاقة تكوينية، والنبيذ إلى رمزٍ لانعتاق معرفي وشعوري، فيتحوّل الجسد إلى وعاءٍ مبدعٍ للمعنى بدل أن يكون موضوعًا لنظرةٍ خارجية.

الجرح كموقع خلق: استعارة «حدائق معلقة في شقوق جدراني» تعكس انقلابًا جمالياً؛ الحديقة بمنأى عن الخارج تُزرع في شقوق الذات، أي في الجرح نفسه، فتصبح علامةً على ولادةٍ من خلال الانكسار—قراءة وجودية تؤكد على الإمكانية الخلاقية للألم

استنطاق الصوت المكبوت:« "ها أنا أراود صوتًا تحت القميص لم أسمعه" يحوّل القميص إلى رمزٍ للحجب الاجتماعي واللغوي. المراودة هنا فعلُ استنطاقٍ داخلي، واستدراج لصوتٍ كان مُكمّمًا، ما يجعل الكتابةَ فعل مقاومة لغوية ضد الإخفاء.

الليل كحاضن للتحرر:

في "ثمّة ليلٍ يُخفيني ليكتمل فيّ العشق" ينزاح الليل من دلالة السكون والجمود إلى فضاءٍ لحرية البوح. الاختفاء ليس انسحابًا، بل ممارسة للحرية في هامشٍ لا تقف فيه رقابة المفاهيم.

التأويل كفعل تمرد معرفي:

عبارة «ثمّة صوت لتأويل الوهم؛ من الصعب أن نمرّ...» تقوّض قيمة الوهم كخداع، وتمنحه طابعًا تأويليًا يُفضي إلى تعددية الحقائق، فتتحوّل مقاومةُ الحقيقة الواحدة إلى خيارٍ معرفيٍّ ومناهضٍ للقيود.

ترويض الطبيعة واللغة:

«وأنا التي تروض الغيمة لأنوثتها» تَستعيد الذات السيطرة على مَوَادّ الطبيعة واللغة معًا؛ فاللغةُ هنا أداة ترويضٍ وتحويلٍ وليست محكوماً عليها بالوصف السلبي.

الطفولة كمصدر كتابةٍ دائم:

«طفلة تذرع الحبر ولا ترتوي» تَصوّر الطفولة كمخزونٍ خصبٍ للخلق، حيث يصبح الحبر ماءً رمزيًا لا يروّي العطش التعبيري الذي يستمر كحالة ولادة متكررة.

تحويل الألم إلى ضوء:

التناصّان "تُشاكسُ الفيضَ حينَ يستيقظُ السوادُ" ويُصبحُ الوهمُ لامعًا في شرفةِ القلبِ يبدّلان القيم التقليدية؛ العتمة تنتج الفيض، والوهم يصبح ضوءًا معرفيًا—انزياحٌ يمنح الوجع قدرةً على الإبداع والتحول.

الطفولة كيقظة لا براءة:

خاتمة القصيدة "تمامًا كما طفلةٍ ليس لها غير انتباهِ الفِرَاشِ؛ حضنٌ للحَذَرِ" تُعيد قراءة الطفولة كحالة يقظة ووعي حذر، لا كبراءةٍ ساذجة، مؤكدةً أن النضج يبدأ من الوعي بالمخاطر لا من الاتكاء على ملاذات وهمية.

3. دلالات وجودية وأنثوية

تجمع هذه الاستعارات والانزياحات على أن اللغة في القصيدة ليست مجرد وسيطٍ للتوصيل، بل فضاءٌ لإعادة تصنيع الوجود. الكتابة هنا فعلُ استرجاعٍ للجسد والروح معًا، وتحويلُ الجرح إلى مكان قولٍ وخلق. النزعة الوجودية تظهر بوضوح في رفض السكون والاكتمال النهائي، وفي الاحتفاء بالحركة واللايقين كحالتين إنتاجيتين للذات. بهذه القراءة، يصبح التمرد أنطولوجيًا: إعادة تعريف للكينونة عبر لغةٍ تنبني على الاستعارة والانزياح

4. خاتمة الفصل

يبين التحليل أن الاستعارة والانزياح الدلالي في «هذيان أنثى» لا يلتزمان بوظيفة جمالية سطحية، بل يعملان كأدوات تمرد وجودي. تتحول الرغبة إلى معرفة، والجرح إلى فرصة للولادة، والوهم إلى ضوءٍ يفتح المعاني. في هذا التأطير، تكتب الشاعرة تاريخها الداخلي بلغةٍ مغايرةٍ تُفكّر بالحسّ وتُفصح بالصمت، مُعلنةً ولادة خطابٍ أنثويٍّ يرفض ثنائيات الماضي ويُعيد بناء الوجود من داخل اللغة نفسها.

التحليل البنيوي، السيميائي، والنفسي للقصيدة

 1 -التحليل البنيوي لقصيدة "هذيان أنثى"

تتأسس قصيدة «هذيان أنثى» على بنية لغوية منفتحة تتجاوز القوالب الوزنية والقافية التقليدية، لتنتمي بوضوح إلى فضاء الشعر الحر أو قصيدة النثر. فغياب الوزن لا يعني غياب الإيقاع، بل تحوّله إلى إيقاع داخلي يتولّد من التكرار الصوتي والتنغيم الحسي، كما في قول الشاعرة: «تُشاكسُ الفَيْضَ حينَ يستيقظُ السوادُ». إنّ تكرار الأصوات المهموسة مثل (س) و**(ف)** يمنح اللغة توترًا صوتيًا يوازي حالة الهذيان التي تعيشها الأنثى المتكلمة، ويُترجم انفعالها الداخلي في صورة نغمة نفسية نابضة، حيث "الإيقاع يصبح معنى"، لا مجرد زينة صوتية. ofوهذا ما ينسجم مع ما يؤكده جيرار جينيت في  حين يرى أن القصيدة "نظام من العلاقات الزمنية والدلالية لا يُفهم إلا من خلال بنيتها الداخلية". فالإيقاع هنا ليس تنظيمًا كمّيًا بل هو علاقة دلالية تتيح للنص بناء زمنه الخاص، زمنٍ يتقلّب بين الهدوء والانفجار، كما تتقلب الذات بين الطفولة والنضج، وبين الحلم والحذر. على المستوى الدلالي، يقوم النص على استعارة مركزية تُختزل فيها الذات الأنثوية في صور متعددة: الطفلة، الكاتبة، الحلم، الجرح. هذه الصور لا تتجاور اعتباطًا، بل تُشكّل نسيجًا دلاليًا متشابكًا، تتحوّل فيه "الغيمة" إلى رمز للتحوّل، و"الحبر" إلى دالّ على الخلق والبوح، و"السواد" إلى معادل للألم واللاوعي، في حين يحضر "الفراش" كعلامة على الطفولة والحذر معًا.

 هنا يتجلّى ما قصده رولان بارت في الدرجة الصفر للكتابة حين قال: «الكتابة ليست تعبيرًا عن الذات، بل بنية لغوية تتجاوز الفرد» . فالشاعرة لا تتحدث عن نفسها بقدر ما تنشئ بنية لغوية تتكلم عنها.  حيث تتحول اللغة إلى ذات بديلة تُعيد تشكيل التجربة في صيغة رمزية.

وعلى الصعيد التركيبي، تنتهج القصيدة نحوًا شعريًا حرًا يخرق النظام النحوي المألوف. الجملة: «ها أنا أراود صوتًا تحت القميص لم أسمعه». تكشف انزياحًا تركيبيًا دالًا، إذ يتحول "الصوت" إلى كيان ملموس يمكن ملامسته أو مراودته. هنا لا يُستخدم الفعل في معناه الواقعي، بل يُعاد بناؤه داخل علاقة جديدة بين الذات والعالم، بما يؤكد مقولة كلود ليفي-شتراوس بأن الشعر، كحال الأسطورة، "يتكوّن من وحدات صغيرة يُعاد ترتيبها في علاقات جديدة" لإنتاج دلالة مغايرة.

أما البنية التكرارية في القصيدة فهي ليست تكرارًا آليًا بل آلية توليدية للمعنى، إذ تتردد أفعال مثل «تُشاكس»، «تُروض»، «تُبصر»، «أعرف»، «أعبر»، لتعبّر عن حركية داخلية مستمرة تكشف رغبة الذات الأنثوية في الخروج من قيدها اللغوي والنفسي نحو فضاء أرحب. إنّ هذا التكرار يعيد القارئ دومًا إلى نقطة البدء — الطفولة والحبر والفراش — في حركة دائرية مغلقة تجعل النص يلتف حول ذاته كما يلتف الوعي حول ذاكرته.

ويُعزّز ذلك نظام التضادات الدلالية الذي يحكم البنية العامة:

الحلم ↔ الصديد، الفيض ↔ السواد، الطفلة ↔ الحذر، الوهم ↔ المعنى.

 هذه الثنائيات تخلق توترًا داخليًا يعكس الصراع بين الانطلاق والانكماش، بين الرغبة في التحقق والخوف من الانكشاف. إنّ هذا التوتر هو الطاقة التي تحافظ على حياة النص، وتمنعه من الثبات أو الإغلاق النهائي..

وهكذا تتجسّد في القصيدة الرؤية البنيوية التي ترى أن المعنى لا يُستمد من السياق الخارجي أو من حياة الشاعرة، بل من العلاقات الداخلية التي تربط بين وحدات النص فـ*«هذيان أنثى* تمثل نصًا بنيويًا مكتفيًا بذاته، يخلق دلالاته عبر شبكة من الصور، والرموز، والتكرارات، والتضادات، لتصبح اللغة فيه كيانًا مستقلًا يعبّر عن نفسه بقدر ما يعبّر عن الذات الأنثوية في صراعها الوجودي والجمالي.

 ثالثًا: التحليل السيميائي لقصيدة "هذيان أنثى"

تُقدّم قصيدة «هذيان أنثى» نظامًا دلاليًا مركّبًا يقوم على شبكة من العلامات والرموز المتداخلة التي لا يمكن قراءتها بوصفها عناصر معزولة، بل باعتبارها وحداتٍ إشاريّة تتبادل المعاني داخل فضاءٍ لغوي مغلق. فالقصيدة تُنشئ عالَمًا رمزيًا تتكرّر فيه حقول دلالية متقاطعة مثل الطفولة (الطفلة، الفراش)، والجسد والصوت (تحت القميص، الصوت المكبوت)، والكتابة والإبداع (الحبر، الفيض)، والعاطفة المظلمة (السواد، الوهم). هذه الحقول تشكّل، وفق المفهوم السيميائي، نظامًا من العلاقات الذي ينتج المعنى لا من خلال المفردة ذاتها، بل من خلال تفاعلها مع غيرها — وهو ما يؤكده أمبرتو إيكو في قوله: «كل علامة هي شبكة من العلاقات لا تُفهم إلا داخل نظامها»".

في هذا السياق، تتحوّل العلامة الشعرية إلى معبر دلالي مزدوج بين الدال والمدلول. فـ«الغيمة» مثلًا لا تشير إلى الطبيعة فحسب، بل إلى إمكانٍ أنثوي في التحوّل والسيطرة، بينما «الحبر» يتجاوز دلالته المادية ليصبح رمزًا للعطش الإبداعي والبوح الوجودي. و«الفراش» الذي يُفترض أن يمثل الراحة، ينقلب إلى مساحة حذرٍ ووعيٍ متيقظ، مما يجعل القصيدة، بحسب منهج فردينان دو سوسير.، نموذجًا للانزياح في العلاقة بين الدال والمدلول، حيث تتبدّل خرائط المعنى تبعًا للسياق النصي الداخلي.

الاستعارات في القصيدة تُمارس وظيفة بنائية لا تجميلية. فاستعارة الأنثى كمروّضة للغيمة تخلق مشهدًا تحويليًا يُظهر الأنثى بوصفها فاعلًا لغويًا يُعيد تشكيل العالم من خلال اللغة. أما الطفلة التي تذرع الحبر ولا ترتوي فتمثّل استعارة كبرى للكتابة كفعلٍ مستمرٍّ لا يُروى، حيث تتحول الطفولة من زمنٍ ماضٍ إلى حالةٍ وجودية دائمة. كذلك فإن، شرفة القلب والوهم اللامع تكشف عن تحويل الداخل العاطفي إلى واجهةٍ مرئية، في انفتاحٍ رمزيٍّ بين الذات والعالم، بين الخيال والواقع.

إنّ هذه التحوّلات في الدلالة تمثّل ما يُعرف بـالانزياح السيميائي، أي تحرّك العلامة بعيدًا عن مدلولها الأصلي نحو دلالات جديدة. فـ«الحبر» يغدو مقياسًا للعطش الوجودي، و«الفيض» يتحول من طاقة إيجابية إلى توترٍ قابلٍ للتحوّل إلى ألمٍ أسود، و«الفراش» من رمزٍ للطمأنينة إلى علامةٍ على الحذر واليقظة. إنّ هذه الانزياحات تعبرعن ديناميكية المعنى داخل النص، حيث لا يوجد مدلول ثابت، بل عملية مستمرة لإعادة إنتاج المعنى.

ومن اللافت أيضًا حضور الصوت المكبوت تحت القميص، الذي يعمل بوصفه علامة مزدوجة: فهو في بعده الظاهر يمثل كبتًا جسديًا أو عاطفيًا، وفي بعده الرمزي يشير إلى لحظة التوتر بين اللغة والجسد، بين الرغبة والبوح. وبهذا يعبّر النص عن ما يسميه رولان بارت بـ«الكتابة الجسدية»، أي التحام اللغة بالخبرة الحسية للذات. أما الحدائق المعلّقة، فهي رمز جمالي زمني يُستدعى في لحظة دهشة، لتؤسس بعدًا أسطوريًا داخل النص يوحي بوجود جمالٍ مؤجلٍ يختبئ في شقوق الذاكرة والجدران الداخلية للذات.

تعمل القصيدة كذلك على بناء ثنائيات متضادة مثل الطفولة/الحذر، الفيض/السواد، الوهم/المعنى. غير أن هذه الثنائيات لا تُحَلّ، بل تبقى في حالة توترٍ دائمٍ تُنتج الطاقة الشعرية للنص. فالمعنى عند الشاعرة ليس هدفًا يُبلَغ، بل حركةً مستمرة داخل شبكة من الإشارات المتناقضة، وهو ما يوافق رؤية.

وعليه، فإن «هذيان أنثى» يمكن قراءتها كسلسلة من التحوّلات الإشارية التي تُمكّن الذات الأنثوية من التعبيرعن نفسها عبر رموزٍ متغيّرة ومتحوّلة، لا عبر البوح المباشر. فالنص يُعيد تشكيل العلاقة بين الجسد واللغة، وبين الذاكرة والكتابة، ليصبح فضاءً دلاليًا مفتوحًا يُنتج معناه من داخل بنيته، لا من خارجها. وبهذا المعنى، تترجم القصيدة عمليًا الفكرة السيميائية الجوهرية بأن المعنى ليس ما تقوله الكلمات، بل ما يحدث بينها

التحليل النفسي

تقدّم هذه القراءة النفسية امتدادًا حيويًا للتحليل البنيوي والسيميائي للقصيدة، إذ تغوص في طبقات اللاوعي والدوافع والتمثلات لدى المتكلِّمة في «هذيان أنثى». منهجيًا، تجمع القراءة بين ثلاثة أفقية تفسيرية متكاملة: فهم الدوافع وآليات الكبت والتسامي من منظور فرويدي، وقراءة الأنماط والظل والحلم في ضوء يونغي، وتحليل تكوّن الذات داخل النظام اللغوي كما يراه لاكان. بناءً على ذلك، يُنظر إلى النص ليس كمجرد تركيب لغوي وإنما كبنية نفسية-لغوية تنتج دلالتها من تفاعلات داخلية بين الرغبة واللغة والذاكرة.

يظهر محور «العطش للكتابة» — المتمثّل في صورة الحبر الذي لا يرتوي — كدلالة مركزية على دافع إبداعي غير مُشبَع، وهو رمز مزدوج يشير إلى حاجة ابتدائية ناقصة ورغبة تعويضية قد تمتد جذورها إلى تجارب الطفولة الأولى. من منظار فرويدي، تتحول هذه الطاقة الجنسية أو الحيوية المكبوتة إلى طاقة إنتاجية عبر آلية التسامي؛ فالكتابة هنا تعمل كتحويل أخلاقي اجتماعي مقبول للطاقة الغريزية. في هذا الإطار، يمثل تكرار صورة الطفلة والفرش فعلًا مناخيًا رجوعيًا يذكّر بآلية «تكرار الاندفاع») التي تعيد نفسُها عبر صورة شعرية تقصد استعادة زمن أمومي أولي أو تصحيحه.

أما الصوت المكبوت تحت القميص فيقرأ بوضوح كإشارة إلى كبت جنسي/عاطفي؛ القميص بوصفه حاجزًا بين الجسد واللغة، ويجعل من الصوت المدفون علامةً للاشتهاء والافتقاد اللذين يحاولان أن يظهرا عبر طبقات النص. هذه الشذرة المفقودة من الرغبة يمكن تأويلها عند لاكان، كشظية تغذّي الرغبة وتبقى خارج المدلول الكامل، محرِّكة بذلك طاقة البحث والافتقار داخل اللغة الشعرية. وهكذا، لا تكون الرغبة قابلة للإشباع الكامل داخل النص؛ بل تعمل اللغة كمنظومة تستدعيها وتحوّلها وتؤجّل إشباعها.

بمقتضى القراءة اليونغية، تصبح «الطفلة» أنموذجًا أوليًا للبدء والبراءة، وحيويتها تُظهر صراعًا بين الأنا الواعية والطفلة الداخلية المطالبة بالاندماج؛ بينما يجسّد «السواد/الليل» ظلًا لم يُدمَج، ويتعامل المتكلِّم معه بالمشاكسة كمسعى للتكامُل، ويأخذ الحلم دورَ قناةٍ علاجيةٍ نحو إتمام الذات.

خيرًا، تتيح هذه القراءة النفسية رؤية مترابطة للنص: فـ«هذيان أنثى» ليست فقط تضاعفًا رمزيًا أو تركيبًا لغويًا، بل فضاء توقّي وتحوّل داخلي، حيث تُعيد الذات بناء عالمها عبر الكتابة، وتحوّل ألمها إلى صور وطقوس لغوية تشتغل كآليات للتكامل والتعبير. ومن هنا تتبوأ القراءة النفسية موقعًا تكامليًا مع البنيوية والسيميائية، إذ تكشف كيف أن العلامات داخل القصيدة تعمل كأعراض ودوافع، وكيف أن اللغة نفسها تصير ميدانًا لصراعٍ نفسي يعيد تشكيل الهوية الأنثوية في النص.

ختامًا، تكشف القراءة النفسية أن «هذيان أنثى» ليست مجرّد استعراض لصِفات إنشائية أو لعبة رموز، بل نصٌّ يُعيد تشكيل الهوية الأنثوية عبر عملية نفسية - لغوية تكاملية: تتحوّل الدوافع المكبوتة إلى كتاباتٍ تصوغ الذات، ويعمل الجسد كحقلٍ إشاريٍ يعبّر عن الرغبة والخوف والذاكرة. بهذا المعنى، تُظهِر النفسية كيف أن اللغة في النص ليست وسيلة نقلٍ للمضمون فحسب، بل هي موقع تأسيس الذات الأنثوية، حيث يجري توظيف الكبت والتحويل والتكرار كآليات لبلورة هوية متحرّكة لا ثابتة. إن الربط بين العلامات النفسية وبنية القصيدة يمهد مباشرةً للقراءة الأنثوية التي سنقتفي فيها أثر هذه الذات المتكلِّمة كقوة إبداعية ومقاومة، قادرة على تحويل الجرح إلى خطابٍ نصيّ يطالب بالاعتراف والوجود.

الخاتمة

تكشف القراءة التكاملية لقصيدة «هذيان أنثى» عن تجربة شعرية تُعيد صياغة الوجود الأنثوي عبر اللغة بوصفها فعلًا وجوديًا ومجالًا للمقاومة في آنٍ واحد. فالأنثى هنا لا تكتب لتصف، بل لتستعيد وعيها المقموع، إذ تتحول الكتابة إلى أداة تفكيك وبناء في الوقت نفسه: تفكك بنى القهر الرمزي والاجتماعي، وتبني ذاتًا جديدة قادرة على تمثيل صوتها في العالم.

من خلال الانزياح الدلالي والاستعارة، يتخذ النصّ بعدًا أنطولوجيًا يعيد تعريف العلاقة بين الجسد واللغة، حيث تتجاوز الألفاظ معانيها المباشرة لتصير مرايا لكينونة تتشكل باستمرار. أما القراءة البنيوية والسيميائية فقد أبرزت تماسك البنية الداخلية للنص بوصفها نظامًا من العلامات التي تتوالد دلاليًا، فيما أضاء التحليل النفسي عمق التجربة باعتبارها فعل تحريرٍ من مكبوتاتٍ فردية وجماعية.

وهكذا يتجلّى النص ككيانٍ شعريّ متعدّد الطبقات، يجمع بين اللغة بوصفها بنية جمالية والأنوثة بوصفها تجربة وجودية، فيتحوّل «الهذيان» من اضطرابٍ لغويّ إلى وعيٍ متوهّج بالذات والعالم. بذلك تُنهي الشاعرة صراعها الداخلي بتحويل الألم إلى طاقةٍ خلاقة، وتمنح للكتابة معناها الأسمى: أن تكون مقاومةً للغياب وإعلانًا للوجود.

***

سهيل الزهاوي

قراءة هيرمينوطيقية وجمالية في قصيدة ‹مثل رجل يتذكّر› لغسان زقطان:

قصيدة "مثل رجل يتذكّر – الرحلة (1)" للشاعر زقطان من النصوص الشعرية المعاصرة التي يمكن أن تُقرأ على أكثر من مستوى، إذ تنفتح على التأويل الوجودي، والرمزي، والديني، والنفسي، والجمالي، والوطني معًا.

هذه دراسة نقدية تحليلية موسّعة بالمنهج (الهيرمينوطيقي التأويلي، الأسلوبي، الرمزي، الجمالي، الوطني، والسيميائي)، تتوغّل في الطبقات العميقة للنص، وتكشف ما تحت الجلد الشعري من نبض وتوتّر ومعنى.

أولاً: مقدمة منهجية:

تتبدّى قصيدة غسان زقطان "مثل رجل يتذكّر" كرحلة تأويلية في الذاكرة الفلسطينية، حيث يتحوّل التذكّر إلى فعل وجودي يستعيد الإنسان ذاته من تحت الركام الرمزي للتاريخ والاغتراب والمنفى.

النصّ ينهض على مفارقة أساسية: أن التذكّر ليس استعادة للماضي، بل إعادة بناء للذات وسط خراب الحاضر.

وإذا كانت القراءة الهيرمينوطيقية (التأويلية) تُعنى بفهم المعنى المتواري خلف اللغة، فإن هذا النصّ يستدعيها بكل طاقته، لأنه لا يُقدَّم المعنى بشكل مباشر، بل يموّه به عبر صورٍ تتناوب بين الواقعي والمتخيَّل، الحسيّ والميتافيزيقي، الذاتي والجمعي.

 ثانياً: المنهج الهيرمينوطيقي – التذكّر بوصفه تأويلاً للوجود

في المستوى التأويلي، “الرجل الذي يتذكّر” ليس فرداً محدداً، بل هو الذات الفلسطينية الجمعية التي تحاول أن تفهم وجودها بعد الصدمة، بعد الخروج من المكان، بعد “الرحلة” التي ليست سوى استعارة كبرى للمنفى.

الطرق “ممتلئة بأخطائهم”، أي بأخطاء التاريخ، بالهزائم، بالماضي الذي لا يموت. لكنّ الشاعر، في وعيه التأويلي، يحوّل الذاكرة من لعنة إلى كشف. فالتذكّر ليس عودة إلى الأمس، بل إعادة قراءةٍ له من داخل الحاضر.

حين يقول:

“الأمر كله يشبه النوم في غرف الميتين”

فهو لا يصف موتاً مادياً، بل موت الذاكرة حين تُحبس في الجدران، وحين يصبح استحضارها طقساً جنائزياً.

وهكذا يتحوّل النص إلى سردٍ تأويلي للمنفى الداخلي، إذ يصبح “التذكّر” هو الأداة الوحيدة لمقاومة المحو.

ثالثاً: المنهج الأسلوبي – جمالية الانكسار وتعدد الأصوات:

الأسلوب عند الشاعر غسان  زقطان يقوم على تفكيك الإيقاع الخارجي لصالح إيقاع الذاكرة.

يتكئ على جملٍ طويلة تتشظى مثل نَفَسٍ متقطّع، تخلق موسيقى داخلية نابعة من التكرار والانقطاع والتوازي، يقول:

“ممتلئة بأخطائهم الطرقُ التي أذرعها هذه الصبيحة...”

“الوحيدون يفعلون ذلك...”

هذا التكرار البنائي ليس ترفاً أسلوبياً، بل يحمل وظيفة دلالية: يؤكد على التكرار الوجودي للمنفى والذاكرة والاغتراب.

أما على المستوى الصوتي، فإن المفردات المشحونة بالحروف الحلقية والهمسية (“النوم، الظل، النساء القتيلات، الرائحة”)، تُنتج فضاءً صوتياً خانقاً، يعكس القلق الداخلي للشاعر.

رابعاً: المنهج الرمزي والسيميائي – “الرحلة” كعلامةٍ للوجود والغياب

النصّ بأكمله يقوم على رمز “الرحلة”، وهي ليست سفراً في المكان بل في الزمن والذاكرة والهوية.

الرحلة = المنفى

النوم = الموت الرمزي

النساء القتيلات = الجمال المهدور والوطن المغتصب

البيت = الذاكرة الجمعية

القهوة = طقس الاستعادة

كل هذه العلامات تُشكّل شبكة سيميائية تتقاطع فيها دوالّ الحياة والموت، الحضور والغياب، الطهر والخيانة.

فحين يقول الشاعر زقطان:

“الوحيدون يفعلون ذلك، يأتون بالمنفى إلى البيت”

فهو يُعيد تعريف المنفى: ليس غياب الوطن، بل حضوره المؤلم داخل البيت ذاته، في الذاكرة، في تفاصيل المعيش.

البيت في هذا السياق علامة مزدوجة: حضور مكاني / غياب رمزي.

هو المأوى الذي يُذكّرك بفقد المأوى، أي بالمنفى المتجذر في الذات.

خامساً: المستوى النفسي والديني – الذاكرة كصلاةٍ على الغائب

- تحت الجلد الشعري، تنبض القصيدة بتيارٍ صوفيٍّ مكتوم؛ فهي تذكّرنا بما قاله ابن عربي: “المعرفة تذكّر، والوجود ذكرى منسيّة فينا”.

فـ “الرجل الذي يتذكّر” هو السالك الذي يواجه نفسه عبر مرآة الذاكرة.

كل صورة من صور الموت، والظل، والنساء، والبيت، تحمل بعداً روحياً يعيد إلى الأذهان مفهوم الفناء في المحبوب؛ لكنه في شعر زقطان فناءٌ في الوطن لا في الله.

المنفى هنا يتحوّل إلى تجربة روحية، أشبه بالحجّ العكسيّ نحو الداخل، نحو الذاكرة المقدّسة التي لا تُمسّ.

الرموز الدينية (“البخور، الترنيمة، الاستغفار، المآذن، السور الأبيض”) لا تُستخدم بمعناها الطقسي، بل كأدوات لغسل الذاكرة من خطايا التاريخ.

إنها محاولة لتطهير الوجود عبر اللغة، أي عبر الشعر ذاته كصلاة.

سادساً: المستوى الجمالي والوطني – جمالية الخراب وإعادة بناء الهوية

جماليات النص تقوم على ما يمكن تسميته بـ جماليات الخراب، وهي الفكرة التي نجدها عند أدونيس ومحمود درويش أيضاً:

أن الجمال لا يُبنى على اكتمال الصورة، بل على تشظّيها.

زقطان لا يبحث عن وطنٍ مكتمل، بل عن هوية تستمد معناها من هشاشتها.

فالطرق "ممتلئة بالأخطاء" لأنها تاريخ وطنٍ جُرح، والماضي "منسيّ في الظلال" لأنه يُستعاد لا ليمجّد، بل ليفهم.

بهذا المعنى، تصبح القصيدة فعل مقاومة جمالية؛ إذ تحوّل الذاكرة من مأساة إلى مادة للفن، ومن الهزيمة إلى إمكانٍ للخلق.

سابعاً: تأويل ختامي – الشعر كتذكّرٍ كوني

في ختام القصيدة، حين يقول:

“مَنْ أنتَ لتتذكّرَ وترى...”

يبلغ النص ذروة انكساره التأويلي. فالشاعر لا يخاطب الآخر، بل نفسه التي تنقسم إلى ذاتٍ تتذكّر وذاتٍ تُنكِر.

إنها مواجهة وجودية مع السؤال: هل نحن من نتذكّر، أم أن الذاكرة هي التي تتذكّرنا؟

هذا الوعي بالانقسام الداخلي يجعل النصّ كياناً مفتوحاً لا يُغلق على معنى واحد، بل يُعيد إنتاج ذاته مع كل قراءة.

فـ “التذكّر” في النهاية ليس عودة إلى الوراء، بل صيرورة دائمة للوعي بالذات والزمان والمكان.

خاتمة:

قصيدة “مثل رجل يتذكّر” نصّ يتجاوز حدوده الشعرية إلى فضاء فلسفي وجودي.

إنها ليست فقط عن الفلسطيني الذي يرحل، بل عن الإنسان الذي يحاول أن يتذكّر كي لا يموت مرتين.

فيها التراجيديا والقداسة، المنفى والبيت، الخيانة والطهر، وفي عمقها صراع الذاكرة مع النسيان، وصراع اللغة مع العدم.

***

بقلم: عماد خالد رحمة - برلين.

.....................

مثل رجل يتذكَّر

الرحلة (1)

ممتلئة بأخطائهم الطرقُ التي أذرعها هذه الصبيحة، متكئاً على سيرتي، ومتأملاً خزائنَ الموتى وطيورَهم، ممتلئةً بالنسيان وحوادثَ يوجِزُها رحالةٌ قلقون ومتعثراً بنوايا جوّالين أخّرتهم أمنياتُهم، وبلصوصٍ لم يتوقفوا ليسألوا عن الدروبِ المؤديةِ للتلال، ومهتزاً في حقولِ الذرةِ الفقيرةِ تنفرُ من تحتِ قدميّ الطيورُ مثلَ فراشاتٍ متربة...

الأمرُ كلُّه:

يشبهُ النومَ في غرفِ الميتين

التجوّلَ أعزل

في الرائحة.. ،

حيثُ أحلامهم، دونَ باقي الرواية،

منسيةٌ في الظلالِ

وحيثُ انتهى الأمر

...

...

... وفي الظلِّ، أيضاً،

ستلمعُ أكتافهنَّ النساءُ القتيلاتُ،

متروكةً في التذكّر.

*

مَنْ نثرَ الكحلَ في جنباتِ الكلام ِ

وقادَ البخورَ إلى الترنيمةِ

مَنْ استغفرَ ونَوَى

على هذهِ المصاطبِ المفرودةِ لغيرِ العابرينَ والطرّاقِ

مَنْ أحبك حتى لا يوقظك

وبكى عنك

وتنهدَ فيك

وإذ تتذكّرُ كلَّ شيء

: القشَّ والكتفَ

الحفيفَ والظلَّ

الماءَ والشهقةَ

التعثرَ والمناداةْ

لا تراهُ.. لا تلمسه!

*

الوحيدونَ يفعلونَ ذلكَ

يأتونَ بالمنفى إلى البيتِ

ويرمّمونَ الماضي

في مرثيةٍ عادلةٍ

يعيدونَ صنعَ القهوةِ

بهمّةِ ميتٍ

ويطوونَ الرغبةَ مثلَ حاشيةٍ ملّونةْ.

*

الوحيدونَ يفعلونَ ذلكَ

يختارونَ مقعداً منـزوياً

مثلَ اسمٍ ذابلٍ لشجرةْ

ويبدأونَ بوصفِ الماضي مِن جديد:

*

المرأةِ المتزوِّجةِ حديثاً

الخيانةِ الممهّدةِ في حديقةِ الجار

الدرجِ المعتمِ

وخزانةِ العائلة

السيرِ على حافةِ الروايةِ

وتفتيشِ المارّة

*

زراعةِ النساءِ في المخيِّلة

وإعادةِ النظرِ في الندم

ترتيبِ المنحنياتِ القليلةِ على الرفوف

وإشعالِ شمعة...

*

ها هي البيضاء

أختُ الناسِ

صوتُ الذاهبينَ إلى التلالِ

تفرُقُ المعنى أمامَ الماء.

*

نبدأُ من هناكَ إذنْ

ونذهبُ في هناك.

*

مآذن بيضاء

سور أبيض

والنوم أبيض

صيحةُ الأسماء تعبرُ من أعاليَ السورِ

نحوَ قلوبهِم بيضاءَ.

*

ممتلئةٌ بأخطائهم الطرقُ التي أذرعها هذه الصبيحة

ناقصةٌ ومشغولةٌ بالنسيان..

... مَنْ لم يغطِّ الجبالَ

ومَنْ أهملَ السهلَ حتى اطمأنَّتْ أفاعيه

مَنْ كانَ ينسى أحابيلَه في مسَّراتِ هذي القرى،

في زراعتها وهي تنأى عن البرِّ

حين "المكلاّ" التي صَعَدَتْ.. سلَّماً غائراً

كي تنقِّبَ سوقَ النساءِ وما تركَ الذاهبونَ، الذكورُ،

على القشِّ من نومهم

حيث أكتافُهم لم تزل تُشتهى

والضحى يدفعُ اليومَ من ظهره مثلَ ثور؟! مَنْ لم ينمْ كالغبار على دككِ السوق،

سوقِ النساءِ، ولم يتئدْ،

أو يُرى في المساءات يأوي إلى الخان

أبيضَ من أثرِ الكلسِ والجيِر والحرِّ؟!

ومن لم يثقْ بالرضى، أو يربّي النسورَ على حجرِهِ

أو يفق نائحاً

أو يُنادى من الليلِ سبعاً

كما تفعلُ الطيرُ؟!

*

مَنْ أنتَ لتتذكَّرَ وترى

العابرَ متمهِّلاً في أحجياتِ الآخرينَ وعجائبهم

من أنت لتتذكر!

العابَر! متمهِّلاً في عتمتهم

وفي أثرِكَ لعنةُ أشيائهم

... الشالُ في الواجهةِ المضاءةِ قبلَ ثلاثينَ سنة

حين كنّا عائدين من النهرِ بأعضاءٍ مبلّلة

أجراسُ الخطايا في الظلال

وثرثرةُ الفضيلةِ في الصالة

إشاراتُ المثليينَ في الحدائقِ العامة

وتعاليمُهم

اُعذر البيتَ

والدرجاتْ

اعذر الضوءَ والذاهباتْ

مضت زوجةُ الآخرين إلى بيتِها وحدها

واعذر الخائناتْ. مَنْ أنت لتتذكَّر

مَنْ أنتَ لتمرَّ في احتفالاتهم المطفأة

وتتعثرّ في أحلامِهم دونَ رأفة؟!

*

مَنْ أنتَ لتفعلَ ما تراه

وتروي فننصت:

ضيوفي عشرةُ عميان

يتوكأون على الليل

بيضاً من العمى

يحيطون بنومتي

 *

بينما كلبٌ أسودُ يتنفسُ فيهم

ضيوفي عشرة عميان

وصدَقَتي جاريةْ.

 

رحلة في عوالم "تسلا" و"آتيكا" حيث يصبح القارئ بطلاً

رؤية في رواية (الخرزة الزرقاء)

مفتتح: مشروع روائي غير مسبوق

في مشروعها الروائي المتكامل، تقدم الأديبة التونسية نسرين المؤدب تجربة أدبية فريدة تختبر فيها أعمق أسئلة الوجود الإنساني عبر خمسة نصوص متصلة الحلقات، لا يقتصر دور القارئ هنا على متابعة الحكاية فحسب، بل يتحول إلى شريك فعال في فك شفرات النص وإعادة تشكيل معناه، في رحلة تجمع بين العمق الفلسفي والجمال الأدبي.

انزياح سردي ينهض بالرواية العربية

تتفرد المؤدب باستخدام الانزياح السردي كأداة فنية رئيسية، حيث تنتقل ببراعة فائقة بين أصوات سردية متعددة (زهرة، الأفاتار، شادي، أمون) وأزمنة مختلفة، محطمةً بذلك قيود التسلسل الخطي التقليدي، هذا الانزياح المتقن ليس تقنياً بحتاً، بل هو انعكاس عميق لتشظي الوعي الإنساني المعاصر في عصر التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي.

من خلال هذه التقنية، تخلق المؤدب تجربة تلقي تفاعلية استثنائية، تضع القارئ في حالة حوار دائم مع النص، حيث يصبح شريكاً في عملية الاكتشاف والتأويل، فالقارئ لا يستهلك النص بل يشارك في بنائه، مما يعيد تعريف العلاقة التقليدية بين المبدع والمتلقي.

ثيمات وجودية تلامس أعماق الإنسان

تغوص المؤدب في ثيمات عميقة تشكل جوهر الوجود الإنساني المعاصر، مقدمةً إياها عبر عوالمها المتخيلة بطريقة تجمع بين الرمزية والواقعية:

- أزمة الهوية: تطرح إشكالية الهوية في عالم ما بعد الإنسانية من خلال تحول الأفاتار من كيان رقمي مجرد إلى كائن جسدي يشتهي ويتألم، في استعارة قوية عن رحلة كل إنسان في التقبل الجسدي والنفسي.

- سلطة الذاكرة: تتحول الذاكرة من مجرد أرشيف شخصي إلى سلاح مقاومة ضد أنظمة القمع التي تسعى لمحو الهوية والفردية، حيث تصبح الذكريات جيوباً من النور في عالم الظلام.

- الحب كقوة مقاومة: يتحول الحب من مجرد عاطفة إلى قوة مقاومة أخيرة في عالم يفقد إنسانيته تدريجياً، يتخذ أشكالاً مشوهة ومأساوية أحياناً.

عالم ديستوبي كمرآة للواقع المعاصر

من خلال عوالم "تسلا" و"آتيكا" المتخيلة، تقدم المؤدب نقداً لاذعاً وحاداً للأنظمة الشمولية والرأسمالية المتوحدة، حيث تذوب الفروقات الطبقية في بوتقة البؤس المشترك، ويصبح الصراع من أجل البقاء هو المحرك الوحيد للوجود.

تكشف المؤدب كيف تتحول اليوتوبيات المزعومة إلى ديستوبيات قاتمة، حيث تقدم "تسلا" ليس كجنة متخيلة بل كجحيم منظم ونظيف، تضحكاته صفراء ودموعه جافة، هذا العالم المرعب يصبح مرآة عاكسة لواقعنا المعاصر بكل تناقضاته وأمراضه.

رمزية ثرية تغني التجربة الأدبية

تتفرد المؤدب في استخدام رموز غنية بالدلالات والإيحاءات، تحول النص من مجرد سرد إلى عوالم متعددة الطبقات:

- الخرزة الزرقاء: تتحول من مجرد تذكار بسيط إلى رمز شامل للذاكرة والمقاومة والأمل، حاملةً في زرقتها أسراراً وجودية تتجاوز الزمان والمكان.

- بنك الماء الخلوي: يجسد استغلال الأنظمة للطاقة البشرية حتى آخر قطرة، في استعارة مروعة للاستغلال الرأسمالي المتفاقم.

- الأفاتار: يمثل صراع الإنسان الحديث مع هويته في العصر الرقمي، وانزياحات العلاقة بين الواقع والافتراضي.

لغة شعرية تجسد تناقضات الوجود

تمتلك المؤدب لغة شعرية متميزة تتنقل بمهارة بين الرقة والعنف، الواقعية والخيال، التناغم والتناقض، هذه اللغة المتعددة الأبعاد تنقل القارئ إلى حالات نفسية متضاربة تعكس صراعات الشخصيات وتعقيداتها.

تتحول اللغة عندها إلى كائن حي، تنبض بالألم والأمل، بالحقيقة والوهم، مخلخةً بذلك الحدود التقليدية بين الشعر والنثر، بين الواقعي والمتخيل.

جماليات التلقي: من المتلقي إلى الشريك

تضع المؤدب مفهوم التلقي الأدبي في بؤرة، محولةً إياه من عملية سلبية إلى تجربة تفاعلية غامرة، القارئ هنا ليس متلقياً سلبياً، بل هو:

- مستكشفاً لعوالم غريبة وغرائبية

- محققاً يحاول فك شفرات النص المعقدة

- فيلسوفاً يواجه أسئلة وجودية مصيرية

- ناقداً يشارك في تفكيك الانزياحات السردية

صوت أدبي جريء ومهم

تمثل نسرين المؤدب صوتاً أدبياً جريئاً ومهماً في المشهد الأدبي العربي، تقدم من خلال مشروعها الروائي المتكامل رؤية نقدية عميقة وشاملة لأزمات الإنسان المعاصر، هي لا تروي حكايات فحسب، بل تبني عوماً موازية تصبح مرايا عاكسة لواقعنا.

بجرأة فنية ونفسية نادرة، تضع المؤدب قارئها وجهاً لوجه مع أكثر أسئلة الوجود إزعاجاً وإلحاحاً، دون أن تقدم إجابات جاهزة أو حلولاً سهلة، هذا العمل الذي يجمع بين العمق الفلسفي والجمال الأدري، بين النقد الاجتماعي والتأمل الوجودي، يضعها في مصاف المبدعات العربيات اللواتي يقدمن إضافات نوعية للأدب .

مشروعها ليس مجرد عمل أدبي، بل هو "خرزة زرقاء" ضد النسيان واليأس، شهادة على قدرة الأدب على مواجهة أعتى التحديات وأصعب الأسئلة، وتذكير بأن الكلمة تبقى في النهاية سلاح المقاومة الأقوى والأبقى.

***

رزق فرج رزق . ليبيا

للإلمام أكثر بالمنهج الكتابي للدكتور علي الطائي قمت بدراسة مجموعته القصصية "أصداء البشر" واتخذتها مدخلا لقراءة فلسفية صوفية في مجمل أدبه، إذ نادرا ما ينجح الإنسان في الجمع بين التكامل والتضاد، أو بين عدة متناقضات دون أن يُحدث فوضى، إلا إذا ما كان يمتلك كاريزما تؤهله لذلك، فمثل هؤلاء لا ينجحون إلا من خلال تأطير الأبعاد ببعد وجودي ينبني على أبعاد جزئية، منها البُعد النفسي والفردي، فالإنسان العادي يجد في العادة صعوبة بالغة في التوفيق بين صفات أو أفكار متناقضة داخليا، مثل القوة واللين، أو الصرامة والمرونة، لأن العقل البشري يميل بطبيعته إلى التماسك والتناسق، هذا ما عرَّفه علم النفس باسم التوتر المعرفي، أي صعوبة الدمج بين ما يتناقض في نفس الوقت.

ومن الأبعاد الأخرى البُعد الاجتماعي والسياسي، فالقادة وهم أغلب الشخصيات المؤثرة غالبا ما يواجهون مواقف تتطلب الجمع بين رؤى أو أفعال متناقضة مثل العدالة/ الرحمة، الحزم/ المرونة، وهنا تأتي الكاريزما كعامل حاسم. فهي التي ترجح كفة على أخرى، وتمنح القدرة على الإقناع والتأثير، بحيث يقبل الآخرون التناقض ويرونه تكاملا لا تضادا.

ومنها أيضا البُعد الفلسفي والوجودي، إذ ليس شرطا أن يكون التناقض سلبيا دائما؛ فهناك فلاسفة يرونه شرطا للارتقاء والفهم العميق، ومن أمثلته المتاحة التناقض الصوفي الذي يجمع بين الزهد في الدنيا والحب الشديد للناس، والتناقض الفلسفي الذي يجمع بين الشك واليقين. في هذه الحالات، الكاريزما ليست فقط سحرا شخصيا، وإنما هي قدرة على تحويل التناقض إلى وحدة معنوية أو وجودية، وهذا أمر غير متاح للجميع.

باختصار، أرى أن التناقضات ليست سهلة الدمج، إلا لمن يملك حضورا وكاريزما تمكنه من إضفاء معنى ومقبولية على هذا الجمع الصعب، أقصد جمع التناقضات، وهو ما يجعل الشخصية فريدة ومؤثرة. وربما هذا هو السبب الحقيقي الذي جعل قلة من البشر الذي ينماز بهذه القدرة. وفي الواقع أرى أن هذه الموهبة هي التي خلدتهم ومنحتهم الشهرة.

تاريخيا كان الصوفيون والفلاسفة الروحيون من أشهر الذين تحلوا بهذا الجمع مثل الحلاج (858 ـ 922م)، الذي جمع بين الزهد والتجربة الإنسانية، وبين الحب المطلق لله والحياة اليومية. وهو بالرغم من تناقض أفكاره مع المجتمع الصوفي التقليدي، استطاع أن يؤثر بأقواله وحياته على أجيال لاحقة، وكانت كاريزمته في حضوره الروحي وكلماته الملهمة، لكنه دفع ثمن هذا التناقض بالإعدام.

وابن عربي (1165ـ 1240م)، الذي دمج بين العقل والنقل، بين معرفة الذات ومعرفة الإله، بين الصوفية والفلسفة العقلية. وقد عكست كتاباته قدرته الفائقة على الجمع بين تناقضات فلسفية وروحية عميقة، مع مقدرة على إقناع الناس بأن هذه التناقضات وحدة مترابطة.

غير الصوفيين هناك القادة السياسيون والعسكريون التاريخيون مثل الإسكندر الأكبر (356ـ 323ق.م) الذي جمع بين الحزم العسكري والرحمة الدبلوماسية، وبين القسوة والحكمة، وبين الغزو وبناء المدن. وقد مكنت كاريزمته وجرأته؛ لا جيشه فحسب، بل والشعوب الخاضعة له من قبول تناقضاته كجزء من شخصيته.

وغاندي (1869ـ 1948م) الذي جمع بين المقاومة اللاعنفية والصرامة الأخلاقية، وبين البساطة والفعل السياسي الفعال. فكان هذا التناقض بين العزلة الشخصية والانخراط الاجتماعي العميق محكوما بكاريزمته الروحية والأخلاقية.

ونيلسون مانديلا (1918ـ 2013م)، الذي جمع بين الصلابة والمرونة، وبين المطالبة بالحقوق والمصالحة مع الخصوم. وهو رغم التناقض الظاهر بين الانتقام والتسامح، استطاع بحضوره الشخصي وكاريزمته تحويل هذا الجمع الصعب إلى رمز عالمي للسلام والعدالة، احترمته الشعوب والحومات.

ومن بين الشخصيات الكارزمية التي خلدها التاريخ بسبب جمعها التناقض هناك العديد من الشخصيات الفنية والأدبية، مثل ليو تولستوي (1828ـ 1910م)، الذي جمع بين الحياة العملية والتأمل الروحي، وبين النقد الاجتماعي والفلسفة الأخلاقية، وبين النقد الذاتي والفعل الاجتماعي، وهذا خلد أعماله.

وفنسنت فان غوغ (1853ـ 1890م) الذي جمع بين الجنون والإبداع، والألم والحس الجمالي، ما جعله مؤثرا بعد موته أكثر من حياته من خلال فنّه التناقضي، إذ أضحى مثالا على التناقض الذي يتحول إلى قوة.

إن القدرة على الجمع بين التناقضات مع كاريزما ساندة ومؤثرة تؤهل الآخرين لقبول هذا الجمع الذي يبدو أحيانا فوضويا؛ رغم غرابته ليست شائعة، لكنها تظهر في الشخصيات التي تمتلك وعيا داخليا عميقا بالذات والوجود. شخصيات تستطيع التعبير عن هذا الجمع بطريقة تجعل الآخرين يشعرون بالانسجام بدلا من الصراع، شخصيات لديها حضور وكاريزما تمكنها من التأثير الاجتماعي والسياسي أو الروحي، فحضور مثل هؤلاء يجعل التناقض قوة وليس ضعفا.

 سقت هذه المقدمة الطويلة لأمهد للحديث عن رجل معاصر جمع بين مهنة الطب والشعر والقصة والرواية وإدارة مجلس ثقافي وإدارة دار نشر، والتأليف البحثي واللغوي، هو الدكتور الأديب علي الطائي، لأنه يمتلك خصائص وكاريزما مشابهة لأولئك الأشخاص الذين نجحوا في الجمع بين التناقضات بطريقة تؤهلهم للتميز، ولاسيما من حيث تعدد الأبعاد والاختصاصات، كونه طبيب يجمع بين المعرفة العلمية الدقيقة والانضباط والمسؤولية الأخلاقية تجاه حياة البشر. وكونه شاعر وقاص، فهو يتحرك في عالم الإبداع والخيال، حيث الانفعال والحساسية واللغة الجميلة تلعب الدور الأساس. وكونه باحثا علميا ولغويا، ولامتلاكه ديوانا (مجلسا) أدبيا يعكس القدرة على الجمع بين الفكرة والموسيقى اللغوية، وبين الفكر والوجدان، وبين الصرامة في اللغة والانطلاق في المعنى. وهذا الجمع بين العلوم الصارمة والفن الإبداعي هو نوع من التناقض الظاهر، نجد فيه العقل التحليلي مقابل الحس العاطفي، والدقة العلمية مقابل الحرية الأدبية.

فقط ملاحظة جديرة بالاهتمام تقف بينه وبين أن يدخل سجل الخالدين، وهي أن الدكتور علي الطائي متى ما أصبح قادرا على نقل تجربته ونتاجه الأدبي والفكري بطريقة تؤثر على القراء والمتابعين، فهذا يعني أنه يمتلك كاريزما معرفية وروحية حقيقية تسمح للآخرين بقبول هذا الجمع بين الأضداد دون اعتراض، ولا أعتقد أن ذلك سهلا في زمن مأزوم تكاد القيم الحقيقية فيه أن تنسى.

إن الكاريزما التي أتحدث عنها هنا ليست مجرد جاذبية شخصية، بل هي قدرة على إقناع الآخرين بأن هذا التعدد لا يتنافى مع الوحدة الداخلية للشخص، بل يعكس ثراءه الفكري والوجداني. ومع هذا أرى أنه يمكن اعتبار الدكتور الطائي نموذجا حديثا للتكامل بين التعددية الداخلية والكاريزما في التأثير الأدبي والفكري. الاختلاف أن الدكتور علي الطائي يجمع بين العلم، والفن، والأدب، والفلسفة والتصوف، وهو نوع من التناقض الذكي الذي لا يقل تأثيرا عن التناقضات السياسية أو الروحية.

وللإحاطة ببعض الأبعاد التناقضية للدكتور الطائي سأتناول كتابه الأخير "أصداء البشر"، وهو كتاب قصص قصيرة، ليدلنا على منهجه كتجربةً أدبية متميّزة، إذ وجدت أنه لا يكتفي بالسرد القصصي التقليدي أو الشعري السائد، بل يذهب نحو بناء نصوصٍ تنفتح على الفلسفة والروحانية والصوفية، في محاولة لجعل القارئ في مواجهة مباشرة مع أسئلة الوجود والمصير، فنصوص الكتاب ليست مجرد قصص قصيرة أبدا، وإنما هي "أصداء" لإنسان يبحث عن ذاته في مرايا الزمن، ويصغي إلى صوته الداخلي في جدلٍ مع الغيب، يبدو ظاهرا في البنية الفلسفية الصوفية للنصوص ففي تناقضية الحرية والقدر نراه يصرح: "المكان بلا أهل ليس مكانا، بل شاهد قبر على أيام لن تعود" (ص97) فهذا النص ينفتح على إشكالية الحرية والقدر، حيث يُقدَّم الإنسان ككائن متجذر في الغيب، لا كحادث عابر، وهو طرح يقارب بين الرؤية الفلسفية الوجودية والتأمل الصوفي.

وفي عالم البصيرة والكشف يقف ليصرخ في فراغ: "الفرص لا تمنح بعد أن يكسر القلب، ولا يصلح الجسر بعد أن يحرق" (ص38)، وهي عبارة تجسّد فكرة الكشف الصوفي الذي يرى أن الحقائق تُدرك بالبصيرة لا بالبصر.

ومثلها في رسمه لخارطة الفناء والبقاء، كما في قوله: "واليوم، وبعد كل تلك السنين، وأنا في مدينة بعيدة، حيث الربيع لا يشبه ذلك الربيع، وحيث الأشجار مغتربة وسط الأبنية الصامتة، أدركت ما كان يقصده أبي. أدركت أن الربيع ليس مجرد تحول في الطقس، بل هو وعد بالتجدد، رسالة خفية تخبرنا بأن الحزن لا يدون، وأن كل شيء يمكن أن يزهر من جديد" (ص70)، إذ يلحظ المتلقي هنا أن التضاد يذوب بين الموت والحياة في رؤية صوفية تجعل الفناء استمرارا للبقاء.

حتى الحوار الداخلي تحول لدى الطائي إلى وظيفة، فـ: "الحب مثل البخار، إذا لم نغلق عليه الكوب سيتلاشى، وإن تركناه جامدا بلا دفء فقد معناه" (ص52) و "أخشى أ، يأخذنا الزمن بعيدا عن هذا الدفء... لن يأخذنا ما دمنا نحن من نختار الطريق" (ص53). فهذا الحوار الذاتي يكشف عن صراع النفس مع نفسها، على غرار ما يسميه الصوفيون "مكاشفات الباطن".

أما عن الزمن والحضور، فالطائي يرى عمق المعنى: "وقفت عند النافذة، وفتحت عينيها على السكون الذي كان يحيط بكل شيء، بينما دقات قلبها كانت تتناغم مع دقات قلبه. أغمضت عينيها، وأوقفت الزمن في داخلها، ثم رفعت ذراعيها إلى السماء وكأنها تدعو النجوم كي تستمع إلى عزف الأوتار التي طالما كانت تشغل قلبها. كانت تدرك، بل تشعر، أنه قادم"(ص127). هنا يتحول الزمن إلى "آن سرمدي" كما يصفه المتصوفة، حيث يلتقي الماضي بالحاضر في لحظة أبدية بوهيمية تمد أحد ذراعيها إلى الحقيقة والآخر إلى الوهم.

وهو حينما يتحدث عن الاغتراب الوجودي: "لست حزينا يا بني ولكني أفكر في الزمن" (ص13) يحاول تذويب التناقض في اللامعنى، فـ: "السنين لا تسرقنا، بل تكتب تاريخنا" (ص14)، وكأنه أراد التعبير عن عزلة الإنسان واغترابه، وهو ما يجسد معاناة البحث عن المعنى، عن رحلة طويلة متعبة منهكة، ولكنها تعيد المرء الى الطريق الصحيح. فهو لم يعد يهتم بالمال والدنيا، فهما لا يساويان شيئا أمام ما يجد الإنسان من نور الحقيقة، فـ: "الحقيقة ليست شيئا يُلقن، ولا شيئا نتمسك به دون تفكير. الحقيقة شيء نصل إليه بعد بحث طويل، بعد أن نتعلم كيف نشك ونسأل. هل سألت نفسك يوما إن كنت تسير في الاتجاه الصحيح، أم أنك فقط وجدت نفسك منجرفا مع تيار آخر؟" (ص43).

حتى الآخر والهوية وجدا حيزا في عالم التناقض الوجودي: "إن بعض الصداقات تموت ليس بفعل الزمن، بل بفعل العقول التي تأبى أن تتحرر" (ص45)، فهو يرى أن الرحلة ليست في الوصول... بل في التفاصيل الصغيرة التي تجعلنا ما نحن عليه الآن" (ص74). فالجروح لا تحتاج إلى الصراخ كي تبرأ، بل تحتاج إلى صوت صغير نقي يذكرها أن هناك دوما نورا في آخر النفق" (ص83) ليلخص من خلال ذلك رؤيته للآخر والهوية بقوله: "ولكني لم أجد روحا تؤالفني، كأنني غريب في دنيا لا تعرفني" (ص87)، فهو يعتقد أن الآخر هنا ليس مجرد صورة مقابلة، بل مرآة تكشف الذات لنفسها.

ومن أجواء هذا التناقض نراه يبحث عن "أصداء" الموت والبعث الداخلي. إن الرؤية الصوفية تجعل الموت بداية حياة جديدة داخل الوعي: "فبعض الفراق لا يداوى، بل ينساب في الروح كالسكين، باردا، عميقا، وصامتا" (ص102).

 وفق جدل التناقضات رسم الطائي عالم المطلق والجزئي حيث يظهر البعد التوحيدي، حينما يتلاشى الفرد في الكل كما تفنى القطرة في البحر. وحينما يتحول الحب من عاطفة بشرية إلى طريق صوفي يوصل إلى المطلق. وبالتالي أرى أن الطائي جمع في كتابه هذا خلاصة فلسفته الحياتية، وقد أراد له أن يكون فريدا في الجوهر والمعنى فملأه حتى فاض. ومن مواطن القوة التي وجدتها فيه عمق الرمزية، والانفتاح على قراءات متعددة فلسفية وصوفية وأدبية وفق أسلوب السهل الممتنع، مع قدرة على المزج بين السرد والتأمل. وإن كان هناك قصورا يمكن تشخيصه فقد وجدت أنه يغلب أحيانا الجانب الفلسفي على البناء الحكائي للنص.

من هنا أرى أن "أصداء البشر" ليس مجرد مجموعة قصصية، بل هو مشروع أدبي روحي يضع القارئ في مواجهة أسئلة الذات والقدر والمطلق، ونصوصه القصيرة تُظهر الإنسان كصدى للحقيقة، وتجعل من القصة القصيرة وسيلة للتأمل الصوفي. إنه كتاب يمزج بين جماليات الأدب وعمق الفلسفة ورهافة التجربة الروحية، مما يمنحه مكانة خاصة في الأدب العربي المعاصر.

صدر الكتاب عام 2025 بواقع مائة وسبعة وستين صفحة، وقد تولي الدكتور الطائي الإخراج الطباعي أما تصميم الغلاف فقد نفذته زوجته السيدة صبا التميمية، وطبع في مطبعة المجلس الثقافي؛ وهو اسم دار النشر التي يديرها الدكتور الطائي، وكأنه أراد التعبير من خلال هذه التوليفة عن عالم التناقضات الذي تحدثنا عنه.

***

بقلم: د. صالح الطائي

 

روح ضائعة

للدكتور أمين جياد

السَّديمُ جُرمٌ بعيدٌ يَسْري ظلاماً، يعكسُ ضوءَ النجومِ،

والشمسُ دوائرُ عشقٍ،

تبعثُ دمدمةَ لهيبٍ مهولٍ فوقَ جسدِ الأرضِ،

والروحُ تسْري بحراً ثابتاً،

أراها رنيناً يهتزُّ بَيْنَ أصابعي، وبرقاً وصاعقةً ورياحاً، تلتفُّ أمواجاً عاليةً، تنتشرُ راجعةً تضربُ أحجاراً، فتختفي بينَ زبدِ علىٰ ضفةِ البحر.

***

مقدّمة رؤيويّة ومنهجيّة

يندرج نصّ (روح ضائعة) للدكتور أمين جياد ضمن التجربة الشعرية التي تقيم في تخوم الصوفي والفلسفي حيث يتحول الشعر من خلالها لأداة كشفية

 وتتماهى اللغة كمقام للفيض ولاتقتصر على دورها الوصلي والقراءة هنا تنطلق من المنهج التفكيكي الصوفي الذي يرى النص بأنه مدار تتقاطع فيه العلامة بالغياب وينحاز المعنى باللايقين

 وتلك الذات بالعالم

بمعنى لا وجود للمعنى خارج تكراره المتحوّل

فتبقى الروح ضمن مسارها فالضياع ليس فناء هنا إنما هو طريق المعرفة ومن هذا المنطلق فإنّ تفكيك النص صوفياً يعني القبض على لحظة التجلي في البنية اللغوية لا تأويلها من خارجها وهذا ما نركز عليه بالتناول النصي

تشريح العنوان:

الروح الضائعة كمقام سلوك

إن العنوان (روح ضائعة) هو مدخل التجربة ومفتاحها الرمزي إذ يُستحضر هنا معنى (الضياع) في الإصطلاح الصوفي بوصفه حالاً من أحوال السالك الذي يتجاوز العقل إلى الذوق

 فالضياع هو نفي الإرادة في طريق الوصول وهو ما يسمّيه (الحارث المحاسبي) غيبة الروح عن تدبيرها

 بذلك تتحوّل (الروح الضائعة) إلى مقام وجودي أعلى إلى لحظة يغيب فيها العارف عن نفسه في سبيل الإنكشاف ويصير الضياع وجهاً آخر للحضور الإلهي

 إن الدكتور أمين يجعل العنوان مجالاً لتأويل متعدد يتجاوز الحرف إلى الإشراق فيغدو اللفظ نفسه شعيرة بل ممارسة للغياب

تحليل النصّ وتفكيكه صوفياً

في قوله (السديم جرم بعيد يسري ظلاماً يعكس ضوء النجوم) نكون أمام لحظة السلوك الأول

 أي لحظة الخروج من الكثافة إلى اللطافة أو نحيل ذلك أيضاً من المادة إلى المجاز فالسديم هنا لم يكن كاستعارة قط إنما يشار من خلاله إلى العماء الصوفي الذي تحدث عنه (ابن عربي) حين جعل الخلق يتكون في سديم لا يرى ولا يُدرك إلا بالبصيرة إن هذا السريان في الظلام هو الحركة الأولى للفيض

 فالنور في التجربة الصوفية لا يُدرك إلا من جوف العتمة وهنا ينجح الدكتور أمين في جعل الظلام هو ظل للنور

 وهو رحْمَه الخلاق فتتبدى فلسفة (أنطولوجية عميقة) مفادها أن الكينونة تولد من نفيها وأن الوجود يُطل من فجوة العدم

 إنه تفكيك دلالي للصورة يجعلها تتجاوز المحسوس إلى ما وراءه ويعيدنا إلى مبدأ الخلق في الفقد

ثم تأتي عبارة (والشمس دوائر عشق) لتُدخل النص في مقام الهيام الكوني إذ يتجلى الكون كله إلى حركة عشق دائرية

 فالشمس في القراءة الصوفية أبعد ما تكون عن مصدراً للضوء لكنها رمزاً لـ(النور المحمدي) الأول الذي يُفيض المعنى على الوجود أما الدوائر فهي إشارة إلى تكرار الظهور الإلهي في العالم وإلى دورات الفناء والبقاء التي يعيشها السالك في رحلته نحو المطلق

 وبذلك تصبح الصورة ذات طابع إشراقي تفكيكي فهي تفكك علاقة السبب بالمسبب والمرئي باللامرئي لأن العشق لا يُعلّل بل يتجدد في لحظة الدوران كما قال (الحلاج):

/أنا من أهوى ومن أهوى أنا/

وفي قوله:

 /والروح تسري بحراً ثابتاً/

 تتجلى المفارقة الكبرى التي يتقنها الدكتور أمين:

فالبحر الثابت هو نفي لحركته الظاهرة وهو مقام التمكين بعد التلوين في المصطلح الصوفي

هنا تتجسد وحدة المتناقضات:

/السريان والثبات/

 /الظاهر والباطن/

 /الحركة والسكون/ هذه الثنائية المنحلّة هي عين ما يسميه دريدا (différance) أي تأجيل الحضور الدائم حيث لا يكتمل المعنى لأنه يتوالد في لحظة غيابه

 لكن في السياق الصوفي هذا التأجيل لم يكن نقصاً إنما هو كمالاً لأن السالك لا يرى الحق دفعة واحدة بل عبر مرايا الفيض المتدرج

 إن النص يمارس هنا تفكيكاً صوفياً حقيقياً:

يُعيد تعريف اللغة بإعتبارها سلوكاً روحياً ليبعدها عن كونها وظيفة تصويرية

ونراه يقول (أراها رنيناً يهتزّ بين أصابعي) فيحول الناص المبدع د. أمين الروح هنا إلى ذبذبة صوتية وكأن الوجود كله موسيقى تتردد في جسد العارف

 فالرنين من خلال السياقية نجده يتجاوز الصوت ولايقتصر عليه وذلك لأنه أثر التجلي الإلهي في المادة وهو ما عبر عنه (السهروردي) حين قال:

/إن الأنوار إذا تجلّت أحدثت صدى في النفوس/

 بهذا الوعي تتجاوز القصيدة بنية الصورة إلى (ميتافيزيقيا) الإدراك فالإحساس يتحول إلى طريق للمعرفة

 فالروح بالنص لا ترى ولا تُمس بل تهتز أي تُدرَك عبر الرجّة التي تتركها في الوجود إنها قراءة تُحوّل الغيب إلى حركة محسوسة والمعنى إلى ذبذبة لا تهدأ

وحين يقول الشاعر (وبرقاً وصاعقةً ورياحاً تلتف أمواجاً عاليةً تنتشر راجعةً تضرب أحجاراً فتختفي بين زبدٍ على ضفة البحر)

 فإن النص هنا يبلغ مقام الهيبة والإحتراق أي لحظة التماس بالنور الذي يُفني البرق فهو اللمح الصوفي الخاطف

 والصاعقة هي التجلي الماحق

 والريح هي قبض النفس قبل الفناء

 فكلها صور تشير إلى (التخلي) و(التحقق) إلى تلك المرحلة التي لا يبقى فيها من الذات شيء سوى أثر الزبد بعد انحسار الموج

 إنها مرحلة فناء الفناء التي تحدث عنها (ابن عربي)

 /حين يغيب العارف حتى عن وعيه بالغياب/

هذا المشهد الأخير يتخذ بنية دائرية تعيدنا إلى السديم الأول وكأن النص يتحقق في حركة أبدية من الظهور والامّحاء

هنا تتجلى عبقرية الدكتور أمين في بناء نص يحاكي البنية الكونية نفسها: فكل صورة فيه تولد من انهدام ما قبلها وكل معنى ينقض معناه السابق ليُثبت حركة الوجود اللانهائية

 إنه نص لا ينغلق على تأويل واحد بل يقيم في الحيز الذي تسكنه الصوفية الحديثة: اللغة كطريق للحق

 أضافة للكتابة كرياضة وجودية هكذا يرتسم النص إلى (مرآة للفيض) وإلى مقام من مقامات السلوك الروحي يتدرج فيه الخلق والفناء مع البصر والبصيرة في وحدة إشراق نادرة تعيد للقصيدة معناها الكوني

إن قراءة نص (روح ضائعة) تفكيكاً صوفياً تكشف عن شاعر يدرك جوهر الروح بعيداً عن كونه فكرة بل سير مستمر بين النور والظل وأيضاً عبر الإمحاء والوجود إن الدكتور لا يكتب شعره ليكون نوعاً أدبياً إنما يعتمده رياضة ومسار للتجربة الروحية للغة فكل صورة عنده كمقام وكل كلمة كحال وكل جملة كتجلّي جديد للمعنى

لغته شفافة كالنور لكنها عميقة كالعماء وصوره تتجاوز البلاغة إلى الإشراق

 إنه شاعر وفيلسوف وصوفي كل ذلك بل أكثر

 يكتب من موقع الرائي مجانباً موقع الراوي

ومن موقع العارف مبتعداً عن موقع الواصف

ففي (روح ضائعة) يبلغ الشعر منطقه الأعلى:

أن يتحول إلى تأمل كوني في ماهية الروح وأن يكتب الضياع كطريق إلى المعرفة

 في نص يستحق أن يُقرأ بوصفه بياناً صوفياً جديداً في الشعر العربي الحديث

أبدعه دكتورنا العميق المغاير

فيلسوف الصوفية

***

مع مودتي والتحايا

مرشدة جاويش

 

يُعْتَبَرُ الشاعرُ المِصْري أحمد شوقي (1868 - 1932) أشهرَ شُعراءِ اللغةِ العربية في العَصْرِ الحديثِ. لُقِّبَ بـِ " أمير الشُّعراء". حَرَصَ على وَصْفِ الطبيعةِ في أشعارِه، وإظهارِ الجَمَالِ الرُّوحِيِّ والإلهيِّ، وَحَثَّ على التَّأمُّلِ في إبداعِ الخالقِ، وَضَرورةِ التَّفَكُّرِ في رَوائعِ الآياتِ والآثارِ في لَوْحَاتِ الوُجودِ الجميلةِ، والمناظرِ الخَلَّابة. وفي قَصَائِدِه، تَتَجَسَّدُ الطبيعةُ كَبَحْرٍ واسعٍ مِنَ الجَمَالِ والجَلالِ والكَمَالِ والبَهَاءِ.

وقَدْ صَوَّرَ الطبيعةَ تَصويرًا فَنِّيًّا بديعًا بأُسلوبٍ حِسِّي، يَدُلُّ عَلى الحَياةِ والحَيَوِيَّة، وَلَمْ يَقْتَصِرْ وَصْفُهُ للطبيعةِ عَلى المَشَاهِدِ الكُبرى، بَلْ تَطَرَّقَ إلى التفاصيلِ الدَّقيقةِ، والجَوانبِ العميقة، وحاولَ اكتشافَ الرُّوحِ الإنسانيَّةِ في الطبيعةِ، والتَّغَنِّي بِجَمَالِها، وتَجَلِّيها كَفَنٍّ بَصَرِيٍّ، كما أنَّه مَنَحَ الطبيعةَ نَفَسًا، وَشَخَّصَهَا إنسانيًّا ولُغَوِيًّا، وَجَعَلَ مِنْها مِرْآةً تَعْكِسُ الجَمَالَ والصَّفَاءَ والرَّمْزَ للحَيَاةِ والخُلودِ. أي إنَّهُ كانَ يَمِيلُ إلى تَجسيدِ الطبيعةِ وَتَشخيصِها، فَيَجْعلها تَتَكَلَّمُ، وَتُغنِّي، وَتَحْزَن، وَتَفْرَح، وبذلك يَكُون قَدْ مَنَحَهَا رُوحًا إنسانيَّة.

تَعَامَلَ معَ الطبيعةِ باعتبارِها لَوْحَةً فَنِّيةً نابضةً بالحَياة، وَعَالَمًا مِنَ الجَمَالِ المُتَنَاسِقِ، وَوَصَفَ الأزهارَ والأنهارَ والطُّيورَ والنُّجومَ بألفاظٍ مُوسيقية، وألوانٍ زاهية، تَجْعَل القارئَ كأنَّه يُشَاهِد المَشْهَدَ أمامَه. وَهَذا الوَصْفُ يَجْمَعُ بَيْنَ دِقَّةِ الرَّسَّامِ وَوِجْدَانِ الشاعرِ.

والطبيعةُ مَصْدَرُ إلهامٍ وَحِكْمَةٍ، تُعلِّم الإنسانَ، وَتَبُثُّ فِيهِ دُروسَ الصَّبْرِ والتَّجَدُّدِ والنِّظَامِ، ولا يَنْبغي الاكتفاء بِجَمالِ الطبيعةِ الخارجيِّ، بَلْ يَجِبُ استخراجُ العِبَرِ مِنْهَا. فَنُضُوجُ الثِّمارِ تُعلِّم مَعْنى الصَّبْرِ، وَدَوْرَةُ الحَياةِ تُعْطي دَرْسًا في الأملِ والخُلودِ، وانتظامُ الفُصولِ يُوضِّح مَعْنى النِّظَامِ.

كَمَا يُسْتَخْلَصُ مِنَ الطبيعةِ القِيَمُ الأخلاقيةُ والرُّوحية، وَهِيَ مَلْجَأ رُوحيٌّ، يَلْجَأ إلَيْهِ الإنسانُ لِيَسْتَمِدَّ مِنْه الطُّمَأنينة. والطبيعةُ رَمْزٌ للوطنِ والحَياةِ، وكثيرًا مَا اسْتَخْدَمَ عَناصرَ الطبيعةِ رَمْزًا لِوَطَنِهِ مِصْر، أوْ للتَّعبيرِ عَنْ حَنينِه إلَيْهَا في مَنْفَاه بالأنْدَلُسِ، فالنِّيلُ عِنْدَه لَيْسَ مُجَرَّد نَهْر، بَلْ رُوح الأُمَّة، والشَّمْسُ رَمْزُ الأملِ والنَّهضةِ. وَتَفَتُّحُ الأزهارِ دَلالةٌ عَلى التَّجَدُّدِ، وَتَغْرِيدُ الطُّيورِ مُوسيقى الفَرَحِ.

وَوَصْفُهُ للطبيعةِ يَمْتاز بِعُذوبةِ الإيقاعِ وَغِنى الصُّوَرِ، مِمَّا يَعْكِسُ تَأثُّرَه بالشِّعْرِ العربيِّ القديمِ معَ تَجْديدٍ في الأُسلوبِ والمَضمونِ. كما أنَّ وَصْفَه للطبيعةِ قائمٌ عَلى الشَّاعِرية الفَنِّية التي تَجْمَعُ بَيْنَ الخَيَالِ والمُوسيقى والعاطفةِ، وهَكذا أصبحت الطبيعةُ كائنًا حَيًّا يُشَارِكُ الإنسانَ مَشاعرَه وأحلامَه.

وَيُعْتَبَرُ الشاعرُ الأمريكيُّ روبرت فروست (1874 - 1963) واحدًا مِنْ أهَمِّ شُعَراءِ اللغةِ الإنجليزية. اشْتُهِرَ بِتَصويرِه الواقعيِّ للحَياةِ الرِّيفية، وَوَصْفِ مَناظرِ الطبيعةِ في الأماكنِ التي عاشَ فيها.

وَصَفَ الطبيعةَ باعتبارِها انعكاسًا للحالةِ الإنسانيَّة، وَلَيْسَتْ مُجرَّد خَلْفية جميلة، واستخدمَ عَناصرَ الطبيعةِ مِثْلَ الثلجِ والأشجارِ والغاباتِ للتَّعبيرِ عَنْ مَوضوعاتِ تَتَعَلَّقُ بالعُزلةِ، والحُزْنِ، والتفاؤلِ، والتناقضاتِ في التَّجْرِبَةِ البشرية. وَرَبَطَ العَالَمَ الطبيعيَّ بالرُّوحِيَّةِ مِنْ خِلالِ الصُّوَرِ الرَّمزية.

لَمْ يَرَ في الطبيعةِ مُجرَّد مَصْدَرٍ للجَمَالِ والسَّكِينةِ، بَلْ جَعَلَهَا مِرْآةً تَعْكِسُ صِراعاتِ الإنسانِ الداخليَّة، ومَعَاني الحَياةِ والمَوْتِ، والعَلاقةَ بَيْنَ الإنسانِ والعَالَمِ. والطبيعةُ في شِعْرِهِ لَيْسَتْ هُروبًا مِنَ الواقعِ، بَلْ وسيلة لِفَهْمِه.

وَقَدْ تَمَيَّزَ عَن الشُّعَراءِ الرُّومانسيين بأنَّه لَمْ يَنْظُرْ إلى الطبيعةِ نَظْرَةً حالمةً أوْ مِثالية، بَلْ كانَ يَرَاها جُزْءًا مِنَ الحَياةِ اليَوْمِيَّةِ في الرِّيفِ الأمريكيِّ، وَمِرْآةً للنَّفْسِ الإنسانية.

وَتَتَغَيَّرُ صُورةُ الطبيعةِ في شِعْرِه بِحَسَبِ الحالةِ النَّفْسِيَّةِ للمُتَكَلِّمِ، فإذا كانَ في صَفَاءٍ وطُمَأنينة، بَدَت الطبيعةُ هادئةً مُضيئةً. وإذا شَعَرَ بالحَيْرَةِ أو الوَحْدةِ، ظَهَرَت الطبيعةُ غامضةً أوْ قاسية، وهَذا يَعْني أنَّ الطبيعة عِنده انعكاسٌ لحالةِ الإنسانِ النَّفْسِيَّة، وَلَيْسَتْ مُجرَّد ديكور خارجي.

والطبيعةُ رَمْزٌ للصِّراعِ والتَّحَدِّي، وَهِيَ لَيْسَتْ دَوْمًا رحيمةً أوْ لطيفة، فَهِيَ قَدْ تَكُون قاسيةً، وجامدةً، وغَيْرَ مُكْتَرِثَةٍ بِمُعاناةِ الإنسانِ. فالثُّلوجُ تُغطِّي الأرضَ بِلا رحمة، والغاباتُ يُمْكِنُ أنْ تُضِلَّ الإنسانَ عَنْ طريقه، والليلُ في الرِّيفِ مُظْلِمٌ وَمُخِيف. وَمِنْ خِلال هذه الصُّوَرِ، يُظْهِرُ صِراعَ الإنسانِ معَ قُوى الطبيعةِ والحياةِ، في مُحاولة لفهمِ مَكَانِه في هَذا الكَوْنِ الواسع.

وَيَظْهَرُ البُعْدُ الفلسفيُّ في وَصْفِ الطبيعةِ، وَمِنْ خِلالِها تَتَّضِح قضايا إنسانيَّة كُبرى، مِثْل : الحُرِّية والمسؤولية، والاختيار والمصير، والوَحْدة والمَوْت، ومَعْنى الحياة.

وَلُغَتُهُ في وَصْفِ الطبيعةِ بسيطةٌ، وَسَلِسَة، وقريبة مِنْ حَديثِ الناسِ في الرِّيفِ، لكنَّها تُخْفي وَراءَها عُمْقًا فِكريًّا وإنسانيًّا كبيرًا. فَهُوَ يَجْمَعُ بَيْنَ الوُضوحِ في الصُّورةِ، والغُموضِ في المَعْنى، مِمَّا يَجْعَل قصائدَه تَبْدُو سَهلةً ظاهريًّا، لكنَّها تَحْمِلُ أبعادًا رمزية وفلسفية عميقة.

إنَّ الطبيعة عَالَمٌ يَعْكِسُ عَلاقةَ الإنسانِ بالواقعِ والحَياةِ والمصير، وَهِيَ مَزِيجٌ مِنَ الجَمَالِ والقَسْوَةِ، والصَّفَاءِ والغُموضِ، والسُّكونِ والحركة. وَمِنْ خِلالِ وَصْفِهِ للطبيعة، استطاعَ أنْ يُصَوِّرَ الإنسانَ الحديث في بَحْثِهِ الدائم عَن المَعْنى واليقين في عَالَمٍ مُتغيِّر وغامض. وَقَدْ جَعَلَ مِنَ الطبيعةِ لُغَةً للفلسفةِ والإنسانيةِ مَعًا.

***

إبراهيم أبو عواد / كاتب من الأردن

وثيقة صمود في سجلّ الذّاكرة

صدرت عن الدّار الأهليّة للنّشر والتّوزيع (2025م)، رواية "عين الزّيتون"، للأديب محمّد علي طه، وتمتدّ على مائتين وأربع وتسعين صفحة من القطع المتوسّط، يتزيّن غلافها بلوحة للفنّان سليمان منصور، وتتجسّد فيها كنوز السّيرة الجمعيّة، لتغدو وثيقة أدبيّة في سجلّ الذّاكرة الفلسطينيّة.

الرّواية.. شهادة على النّكبة:

تتناول الرّواية أحداث النّكبة، موثّقة أدقّ التّفاصيل؛ لتبقى حيّة لا يطالها النّسيان، تصف الأماكن في تلك الفترة من المدن والقرى، مستعيدة نبض الحياة الغابرة في جغرافيا الغياب القسري.

يحيك الكاتب نصّه على ميزان التّضاد المتأرجح بين يوتوبيا الوطن الكامن في حنايا الذّاكرة، وديستوبيا النّكبة وتبعاتها، فيتشكّل بناء السّرد من تقابل الماضي والحاضر، من اصطدام الحلم بوقع الحقيقة، ومن مزاوجة الخصب السّابق بوحشة الجدب اللّاحق.

هذا النّوع من الأدب، يعالج التّاريخ ويؤوّله من خلال المتخيّل السّرديّ، ما يسمح بتقديم صورة حيّة للواقع، ويحوّل الأحداث إلى تجربة وجدانيّة عميقة.

يُجمِعُ العديد من المفكّرين والنّقاد كإدوارد سعيد وفيصل دراج وسعيد يقطين على أنّ الأدب الفلسطينيّ، هو جزء لا ينفصل عن عمق النّضال الثّقافيّ، إذ يتحوّل القلم إلى أداة بناء روحيّ، وإلى معول يحفر عمق وجودنا.

أمّا النّاقدة "باربرا هارلو" فتضمّ في كتابها "أدب المقاومة" رؤية نقديّة خاصّة لهذا النّوع من الأدب، باعتباره نتاجا ينبع من رحم تجارب الشّعوب المقهورة، وفي الوقت ذاته يغرس في النّفوس شعلة الأمل والتّطلّع إلى غد أفضل.

دلالات العنوان ومفاتيحه الرّمزيّة:

يحمل العنوان "عين الزّيتون" مزيجا من الدّلالات، فهو يجمع بين العين الّتي تشير إلى البصر والوعي، والزّيتون الّذي يجسّد الجذور.

العين هي عين الرّواية الّتي نرى الحقيقة من خلال أحداثها وشخوصها، وهي عين الكاتب الّتي ترصد الواقع بكلّ تعقيداته. تشير أيضا إلى ينبوع الماء، مصدر الحياة والخصوبة، ما يربط العنوان بدلالات التّجدّد والأمل والبقاء.

أمّا كلمة الزّيتون، فهي تضفي على العنوان بعدا روحانيّا وإنسانيّا عميقا، ففي كلّ قطرة زيت تنبض حكاية، وتتمثّل بركة السّلام في التّراث الدّينيّ والثّقافيّ.

هذا الشّجر المبارك هو رمز لجوهر الهويّة الفلسطينيّة، فشجر الزّيتون بالنّسبة للفلسطينيّ ليس إلّا سِفر الصّمود المقدّس الّذي يُقرَأ، جذوره الغائرة في التّربة هي عمق التّجذّر وشهادة على الوجود الأزليّ.

كما يحمل العنوان بعدا نفسيّا، إذ يربط بين الذّات والعالم الخارجيّ، فالعين هي بوّابة الرّوح والنّفس، وهي الوسيلة الّتي يدرك بها الإنسان محيطه، وعندما ترتبط بالزّيتون، فإنّ ذلك يوحي بأنّ النّصّ يتناول علاقة الإنسان الفلسطينيّ بأرضه؛ كعلاقة روحيّة ونفسيّة عميقة.

ملخّص الأحداث:

هذه الرّواية هي كيان متّحدّ، فكلّ ما فيها يُسهِمُ في صناعة الحدث وفكرة النّصّ الكليّة، الشّخوص فيها كائنات واقعيّة لا ترتدي ثوب المثاليّة، بل تتشابك فيها دوافع الخير والشّر، ما يجعلها أكثر قربا من الواقع الإنسانيّ.

يتّخذ السّارد من مقهى السّلطان في عكّا القديمة، منطلقا لسرد حكايته، يحكي كيف كانت عكّا ملتقى للزّجالين والشّعراء والفنّانين القادمين من دمشق والقاهرة، بيروت وبغداد. وبين السّطور تطلّ علينا شخصيّة "فارس" الّذي نهل العلم وحبّ العربيّة في طفولته من معلّميه، وعاش فترة في قريته، سادت فيها قيم الأخوّة والتّكاتف، قبل أن تفرّقهم النّكبة.

شاءت الأقدار أن يُنتشَل من ويلات مذبحة قريته، فقد كان للمصير تدبير خفيّ حين تحصّن في حظيرة الأغنام، وأصبح بديلا للرّاعي "خميس" الّذي يعمل عند أبيه.

وبعد انقضاء تلك الأيّام، قرّر مغادرة الزّريبة ليطمئنّ على والديه، فتسلّل بخطواته على تراب يحفظ بصماته الأولى، ليجد بيته أطلالا باكية، غادره الوالدان وسكنه الصّدى، وحين التفت لطريق الهرب، وجد الجميع قد غادر، لكنّه وحده عقد العزم على الثّبات، متجاهلا نداء النّزوح، فتوجّه بطريقة خلافا لجهة الهاربين، رافضا المغادرة ومصرّا على البقاء.

انطلق بعد ذلك يتنقّل بين القرى حتّى استقرّ في مدينة عكّا. هو من عائلة "آل خطّاب" الّتي استُبدِل اسمها بعد النّكبة بـ "الشّيخ" ثمّ "الصّفدي". يقول (ص 28): "النّكبة ضيّعت الأصل والنّسب، وضيّعت البيت أيضا".

تصف رحلته المريرة قرى خالية من أهلها، وخلال ذلك، يشرع في رحلة مضنية للحصول على بطاقة الهويّة الزّرقاء، يضطرّ للعمل عامين بلا مقابل ماليّ، ليكون ذلك ثمن حصوله على الهويّة.

ويحصل عليها أخيرا باسم ومكان ميلاد مختلفَين، ثمّ يعمل في الزّراعة، ويلتقي بأبي جمال؛ ليتمكّن بعدها من تبادل الرّسائل مع والده في الشّتات، ثمّ ينتقل إلى عكّا ويغيّر عنوان هويّته بصعوبة بالغة.

في خضمّ هذا التّرحال القسريّ، يجد المأوى عند صفوان، وهناك لم يسلم من الغواية الّتي هبّت من زوجة مضيفه، "سعديّة"، وعلى امتداد الصّفحات، تلاحقه فتن أخرى كإغواء الضّابط ذي الميول الشّاذة، لكنّه لا يتخلّى عن ضميره ويرفض العمالة، مقتنعا أنّ الوطن حقّ أصيل لا يساوَم عليه.

بين السّطور، يتّضح أنّ قيد التّعسّف لم يكتفِ بخنق الصّامدين في الأرض، بل امتدّ ظلّه ليلفح العائدين المتسلّلين ممّن أُجبِروا على الرّحيل، وعلى شفا الحدود، كان المصير يتربّص بهم، حيث تتلقّفهم السّلطات، لكنّهم بعزيمة يغافلون سطوة القهر، ويعودون كرّة بعد كرّة، صوب مرابع الحنين.

سرد الكاتب مأساتهم بحرقة، راسما بألم وهم الأمل الخادع بالعودة الّذي استبدّ بنفوس المهجّرين حين فرّوا هاربين، حيث تردّدت على أفواههم عبارة كانت أشبه بأمنية: جمعة مشمشيّة، تمضي سريعا، وإلى الدّيار نعود.

هذه الأحداث يحيكها أديبنا بريشة حميميّة، فتبدو كينونة دافئة تعانق الأرواح، وعبر التّفاصيل، رسم لوحات للصّمود، يقول (ص267): "كان لهم عين في كلّ مقهى، وفي كلّ مطعم، وفي كلّ ساحة، وكلّ مسجد".

ويظلّ العنصر الأشدّ إبهارا هو التّصعيد المتواتر، الّذي لازم تنقّلات فارس القسريّة. هذا الإصرار دفع بالسّلطات إلى محاولة رميه خارج الوطن، لكنّ إرادة العودة كانت أقوى، فقد أبى الإذعان وعاد خلسة إلى أحضان أسرته وزوجته، وذلك بعد رحلة قاسية من الظّلم والتّعذيب والتّشريد، وبعد أن نجا من موت محقّق، وقف على التّلّ وحدق في أدغال الصبّار وكأنّه يناجيها قائلا (ص 287): "أنا منك وأنت منّي، أنت باقية وأنا باق".

كأنّه بذلك يشير إلى صمود شعبنا وتمسّكه في أرضه، مدركا أنّ هناك الكثير من القصص الّتي لم تُروَ بعد. يقول (ص289): "لكلّ قرية قصّة، ولكلّ عائلة قصّة، ولكلّ فلّاح قصّة، ولكلّ كرم زيتون وقطعة أرضٍ وبئرٍ ونبعٍ قصّة".

هكذا.. يدور النّصّ في جوهره حول معاناة فارس وعذاباته وصموده في وجه التّحدّيات بعد النّكبة، وبصموده.. يجيب فارس عن سؤال جوهريّ يطرحه الكاتب: كيف بقي هذا الشّعب صامدا حتّى الآن، رغم كلّ محاولات اقتلاعه من جذوره ومكانه؟

وخلال سير الأحداث، يكشف عن عشق الفلسطينيّ لأرضه وارتباطه بها. يقول (ص 172): "الفلّاح الفلسطينيّ متعلّق بأرضه، أنسن قطع الأراضي، فلكلّ قطعة أرض اسم حتّى لو كانت صغيرة".

بناء الرّواية، الأسلوب والسّمات الفنيّة:

يُقرّب هذا النّصّ القارئ من روح الفطرة، ساحبا إيّاه من ضجيج العصر إلى سكينته الأولى، فيتجلّى ذلك النّقاء الكامن في صميم الإنسان حين يمتزج بالطّبيعة، وكأنّ العمل يذكّرنا أنّ العودة إلى الأصل هي مفتاح السّكينة. وفي تلك السّلسلة من الأحداث المتشابكة، استثاراتٌ إنسانيّة، تأتي على لسان شخوص العمل، وتأخذنا اللّغة بسلاستها وصورها المركّبة، فتوقظ دواخلنا على جرح غائر.

يتمّ ذلك عبر صور ومشاهد متلاحقة، تتحرّك بحيويّة بين السّطور؛ لتؤدّي دورها في نمو الحدث، فمن الذكّريات والأحلام والمشاعر، إلى الوصف والتّفصيل والتّداعيات، والحبكة الاسترجاعيّة، والتّشبيهات، والصّور الفنّيّة، وكلّها تجتمع في هاجس واحد؛ لتُسكِنَ المتلقّي في حالة من التّأمّل، وتشدّ من إدراكه إلى ذلك الزّمن الماضي، حيث الدّهشة وجموح التّخيّل والذّاكرة وأصداء الأصالة.

وفي سياق تتبّع فكرة الصّمود ورفض الهجرة، تظهر عزيمة البقاء في الأرض بلا إذعان أو تنازل وهي موتيف متكرّر يعزف على أوتار السّطور. هذا الموتيف هو موتيف الصّمود، الّذي يتجسّد في الأدب الفلسطينيّ؛ كوتر جوهريّ، لا ينفكّ يعزف لحنا واحدا، هو لحن البقاء، الّذي يمثّل رفضا قاطعا لمحو الهويّة، يصوّر تمسّك البطل بذاكرة المكان، ورفضه لفكرة التّهجير النّفسيّ حتّى قبل الجغرافيّ.

ويظلّ هذا الموتيف مضيئا للصّفحات، مبقيا على وهج القضيّة متّقدا في قلب النّصّ، فتظهر العزيمة؛ لتحوّل التّشبّث بالأرض إلى قصيدة خالدة، تُرَتَّل لتترسخ في الذّاكرة الجمعيّة، فالأرض في هذا النّصّ هي ميثاق روحيّ يربط الحفيد بالجدّ، ويجعل من كلّ حبّة تراب شاهدا صامتا على أصالة أهله.

أمّا أسلوب الكاتب، فقد جاء على منهج السّهل الممتنع، مطرّزا بخيوط فكاهة رقيقة، تسري فيها مسحة ساخرة خفيّة.

يكمن العمق النّقديّ في المزاوجة بين الأسلوب السّهل الممتنع والسّخرية، الّتي نصفها بآلية تكيّف نفسي للشّخصيات، تعمل كترياق ضدّ اليأس وتكسر النّمط التّراجيديّ، وهي ترسخ مفهوم الصّمود الحيويّ بالقدرة على إيجاد الفكاهة في المأساة، ما يمنح الرّواية واقعيّة نفسيّة مركّبة.

ودعما لهذا التّوجّه، يتعمّد الكاتب تطعيم نصّه بجرعات من الحكم الشّعبيّة ونبض اللّهجة العامّية، الّتي تنحدر كالماء في طرق الأرض وتنبع منها، متّخذة شكل المكان الّذي اختمرت فيه. وبذلك، تغدو الرّواية لوحة ناطقة تحاكي أصالة البيئة الشّعبيّة.

كما اتّخذ السّارد من تقنيّة الأحلام قناة للعبور نحو التّأمّل الفلسفيّ والرّوحيّ، مانحا المعاني بعدا رمزيّا مضافا، أمّا في نهاية الفصول، فنشهد تنوّعا، حيث تنتهي المشاهد تارة بأبيات الشّعر، وتارة أخرى بكلمات الغناء؛ ليتوقّف المشهد عند نقطة تأمّل معلّقة، تدفع القارئ إلى متابعة رحلة البطل، وتترك في نفسه صدى اللّحظة الأخيرة.

تشير تلك النّهايات المعلّقة، إلى عدم اكتمال السّرد الفلسطينيّ ذاته، فالحكاية لم تنتهِ بعد والعودة لم تتحقّق، ما يجعل البناء الفنّيّ للرّواية مرآة دقيقة للحالة الوجوديّة للقضيّة.

لقد نجح الكاتب في تمرير رؤاه الفكريّة على امتداد النّصّ، حيث استثمر كلّ التّداعيات السّرديّة؛ لتكون في خدمة سياق الشّخصيّة الرّئيسة المسكونة بالحنين إلى الأرض.

نعم، فالحنين هو من أهمّ الأعمدة الّتي قام عليها البناء السرديّ، فقد رصد تغيّرات الواقع القاسية وانسلاخه عن طبيعته الأصليّة.

لم يكن لفارس أن يظلّ في أرضه أو يعود إلى أطلال بيته لو لم يكن مشتعلا بالحنين، الّذي رُسِمَت به صور القرى المهجرة، فمنحها قوة الحضور وبقاء التّفاصيل، وتقمّص شكل الذّكريات السّاكنة فيها، والرّواية المحكيّة وأغاني الشّوق إليها. تلك الصّور هي الأكثر ألفة وإمعانا في الجمع بين لوعة الغياب ويقين الحضور.

كما تمّ استخدام تيّار الوعي في طيّات هذا العمل، ما أتاح للكاتب الكشف عن الفوضى في أفكار الإنسان، فمن تداخل الذّكريات والرّغبات والإشارات وجموح الأحلام والتّخيّل، إلى سيل التّداعيات العاطفيّة والألم، الّذي يجرّ المتلقّي إليه، منجرفا في دوّامة من الانفعالات.

هذا التّيار المتدفّق، أضفى على الشّخوص أقصى درجات الصّدق والواقعيّة، ومنح إطلالة على الموضع الدّاكن من نفوسهم، فأصبح القارئ يرى ما يشعرون به وما يجول في أفكارهم.

السّرد بلسان البطل وأثره النّقديّ:

في هذا النّصّ، يتشابك صوت الضّمير الجمعيّ مع الأصوات الغائبة والقرى المهجّرة، ما يجعله سجلّا للأحداث ويرفعه من سيرة إلى ملحمة سوسيولوجيّة، تعكس الفوضى الوجدانيّة والاجتماعيّة الّتي خلّفتها النّكبة. لقد أكّد الحوار الدّاخليّ قوّة حضور البطل كراوٍ أصيل، فهو لم يكتفِ بسرد الأحداث، بل حوّلها إلى مناجاة علنيّة، ثنائيّة البعد، تقام بينه وبين ذاته وبينه وبين القارئ.

هذا التّعاقب المتقطّع لشرارات الأفكار، يتحوّل إلى مشاركة وجدانيّة مع القرّاء، فبدلا من الوصف الخارجيّ المباشر، نعاين كيف ترتبط الذّكريات الماضية بفعل الشخصيّة الحاليّ. وبذلك، تتعمّق الواقعيّة النّفسيّة بعد أن اعتمد السّرد على الرّاوي العليم، لتغدو الأحداث بعين الشّاهد الأصيل محمّلة بثِقَل الواقع التّاريخيّ.

يمنح هذا الاختيار للرّاوي مصداقيّة مباشرة، وهو ما يضفي على السّرد قوّة لا يمكن تحقيقها من خلال راوٍ خارجيّ، فبطل الرّواية هو رمز لذاكرة شعب، من خلال حديثه عن قريته وأهله وأصوله ورحلته، يستعيد تاريخا كاملا، وهذا ما يعطي للنّصّ بعدا تاريخيّا وثقافيّا، حيث يصبح مرجعا لجيل جديد لا يعرف هذه التّفاصيل.

نماذج من شخوص الرّواية:

عن اسم فارس، فاختياره ليس صدفة. هو فلّاح بسيط يجسّد كلّ أبعاد الإنسان الفلسطينيّ الّذي واجه النّكبة، يشتعل شوقا إلى الألفة المشتهاة والسّكينة البعيدة، ينقّب في رماد الذّكريات عن طفولته المتروكة على قارعة العمر المهاجر، ويحنّ إلى والديه وإلى الدّفء والأمان. كان محمّلا بكلّ أصالته وأحلامه، توحّدت روحه وذاكرته مع روح المكان وذاكرته، فاصطبغا بصبغة واحدة.

أمّا شخصيّة المختار، فتُقدِّم نموذجا مركّبا لمن يبرّر خياراته بالبقاء، مظهرا بسلوكه تحوّلا من الزّعامة التّقليديّة إلى الانتهازية. هو شخص أدرك أنّ البقاء في ظلّ القوّة الجديدة يتطلّب تقديم التّنازلات، كما أنّ تذرّعه بالآيات القرآنيّة يبرز جوانب شخصيّته الوصوليّة، فهو يضفي شرعيّة دينيّة على مواقفه وتحريفه للمفاهيم.

وعن شخصية زوجة المختار، فتقدم صورة إنسانيّة متضاربة تتجاوز التّصنيف السّطحيّ، فهي تظهر تعاطفا في مواقف معيّنة، وتُقدِم على فعل الخيانة في موقف آخر. هذه الخيانة تضيف إلى شخصيّتها طبقة من التّناقض، وتثير تساؤلات حول دوافعها، فهي شخصيّة شجاعة تدافع عن الحقّ ولا تخشى المواجهة.

يظهر ذلك في موقفها مع الضّابط الّذي هدّد فارس بسحب هويّته، فتدخّلت بقوّة واستعادت بطاقة الهويّة من الضّابط قائلة (ص106): "إنت عارف إنو فارس في بيتنا، وهذا اعتداء على حرمة البيت، هات الهويّة".

ترمز هذه الشخصيّة إلى التمزّق الّذي أصاب المجتمع بعد النّكبة، فقد انقسمت بين نزعة الخير وإغواء الشّر، بين العاطفة والخيانة، وبين الولاء والعصيان.

يمكن قراءة هذه الشخصيّة أيضا كمرآة ناقدة، تعكس مظاهر التّنازل والتّدهور الّتي تستشري في المجتمعات المسحوقة، ففيّ ظلّ هيمنة اليأس يكون الانهيار الحتميّ لحاجز القيم الأخلاقيّة آخر المعاقل.

لقد تعمّد الكاتب إخفاء مبرّرات الخيانة عند هذه الشخصيّة، فهل كان ذلك التّغييب مقصودا؛ ليجعل القارئ يعاين هذا التمزّق؛ كقدر لا تفسير له في المجتمعات المنهارة؟

المكان.. شواهد الذّاكرة وروح الهويّة:

يتجلّى المكان في هذا العمل؛ ككائن حيّ، يُسقِط على شخوصه روحه وتفاصيله، يصوغه السّارد بأبعاد طوبوغرافيّة دقيقة، متّشحا بشواهده التّراثيّة والاجتماعيّة، ليضفي على الخطاب انسجاما وعمقا.

استحضر قرية عين الزّيتون كلوحة مشرقة، مشيرا إلى موقعها القريب من صفد، راسما ملامحها بوصف أراضيها الّتي ارتوت من زيت الزّيتون وكروم العنب، لكنّ هذا الاستذكار الحميميّ لا ينفصل عن حزن خفيّ، إذ يأتي في سياق حديث يتذكّر فيه القرى المهجّرة الّتي غابت عن الوجود، وكأنّه بذلك يقيم لها نصبا تذكاريّا في متن الكلمات.

كما يزخر النّصّ بالأمكنة المختلفة من القرى والمدن، ليبقى المكان في معيار السّرد أرجوحة الحاضر والماضي، تتشابك فيه ظلال الغياب بأطياف البقاء، ويصبح بذلك مصدرا للتّأريخ المرويّ ومَعلَما من نور.

الأدب كفعل وجوديّ:

إنّ قوّة الرّواية تكمن في تحويلها الفقد إلى فعل وجوديّ، حيث تصبح اللّغة مرآة الهويّة الّتي تقاوم زوال ذاكرة المكان، ويصبح الأدب ملاذا ووسيلة للتّحصّن من النّسيان، ويغدو القلم مؤرّخا، يسرد سيرة الأرض بصوت الإنسان، وتحت لواء اللّغة، تنهض الذّات ويتجدّد عهدها بالوجود والتّاريخ، لتغدو أرشيفا يضطلع بمهمّة صون الذّاكرة من الاندثار، ويرفع من فعل البقاء كعمل وجوديّ وموقف أيديولوجيّ، ويتحوّل دور الفلسطينيّ من مترقّب للفرج إلى حارس مؤتمن على الذّاكرة الجمعيّة والأرض المفقودة.

وهنا، أنهي بهذا المقطع المقتبس من قصيدة للشّاعر محمود درويش، حيث يقول:

وَقَفْتُ عَلَى الْمَحَطَّة

لَا لِأَنْتَظِرَ الْقِطَار

وَلَا هُتَافَ الْعَائِدِينَ؛ مِنَ الْجَنُوبِ إِلَى السَّنَابِل

بَلْ لِأَحْفَظَ سَاحِلَ الزَّيْتُونِ وَاللَّيْمُون

فِي تَارِيخِ خَارِطَتِي.

***

صباح بشير

للشاعر الفلسطيني محمود السرساوي

دراسة نقدية تحليلية، مع تطبيق المنهج الرمزي الأسلوبي والنفسي والهيرمينوطيقي والسيميائي، مع التركيز على البنى النفسية والنبض الشعري.

تعدُّ القصيدة العربية الحديثة، بما فيها من سمات شعرية وأسلوبية، مرآةً تعكس الواقع الاجتماعي والسياسي، وكذلك الانشغالات النفسية والفكرية للشاعر. ومن بين هذه القصائد، تبرز قصيدة "ضحكات الثعالب" للشاعر الفلسطيني محمود السرساوي، كواحدة من الأعمال الشعرية التي تعكس التوتر العميق بين الذات الفلسطينية والواقع المعاش تحت وطأة الاحتلال والمنافي. عبر هذه القصيدة، لا يقتصر السرساوي على نقل تجربة الفرد الفلسطيني المعذَّب، بل يعبر عن قضايا أكبر تتعلق بالهوية والذاكرة الجماعية والمقاومة.

تهدف هذه الدراسة إلى تحليل وتفكيك النص الشعري باستخدام مجموعة من المناهج النقدية المتنوعة، من أبرزها المنهج الرمزي الأسلوبي، الذي يكشف عن غموض الرموز ودلالاتها العميقة، والمنهج النفسي الذي يعمق فهمنا للبنية النفسية للشاعر في سياق محيطه الاجتماعي والسياسي. كما سيتم الاستعانة بالمنهج الهيرمينوطيقي لفهم تفاعل النص مع محيطه الثقافي والسياسي، بالإضافة إلى المنهج السيميائي لفك شفرة العلامات اللغوية والرمزية التي يبتكرها الشاعر.

سأتناول هذا البحث التوترات التي تتولد بين اللغة النثرية الشعرية والبنية النحوية، وأثر ذلك في بناء النص وتوجيه معانيه. من خلال قراءة معمقة، سأحاول كشف ما تحت السطح الشعري من نبض حزين وتوترات نفسية، وكيف يُحسن الشاعر استخدام الرموز والصور البلاغية لتمثيل التجربة الفلسطينية المتشظية بين الأمل واليأس، وبين الحنين والحزن.

كما أتطرق في هذا التحليل إلى تسليط الضوء على بنية القصيدة الإيقاعية والوزنية التي، وإن كانت تبدو على السطح خالية من الانتظام، إلا أنها في الحقيقة تمثل اضطراب الشاعر الداخلي، الذي لا يظل أسيراً للإيقاع التقليدي بل يبحث عن أشكال من الحرية والتعبير.

من خلال هذه الدراسة، أسعى إلى تقديم قراءة نقدية متعددة الأبعاد لهذه القصيدة، التي تُعتبر نموذجاً للتجربة الفلسطينية في الشعر المعاصر، ومصدراً خصباً لدراسة اللغة الشعرية في مواجهة الواقع السياسي والنفسي القاسي.

قصيدة "ضحكات الثعالب" للشاعر الفلسطيني محمود السرساوي تتيح فرصاً متعددة لتحليل عميق وقراءة نفسية، سيميائية، ورمزية للرموز والمفردات التي يبني عليها النص.

  يعتمد محمود السرساوي على الرمزية بشكل مكثف ليجسد موضوعات الألم والحزن والصراع الداخلي. الرموز التي يتعامل معها الشاعر تعكس مجموعة من المفاهيم التي تتجاوز المعنى المباشر للكلمات لتفتح الباب أمام تأويلات عميقة.

الرمز "ضحكات الثعالب":

الثعالب في الأدب العربي غالباً ما تمثل المكر والخداع والخيانة. هنا قد تكون الثعالب رموزاً للقوى المستعمرة أو القمعية التي تعامل مع الفلسطينيين بمكر وتخطيط خبيث. ربما تشير إلى "ضحكات" غادرة تخفي وراءها عواقب مأساوية، مثلما تفعل الثعالب في أساطير كثيرة، تضحك في الظلام بينما تدبر الخيانة.

- الرمز "الغياب" و"الرجوع":

صورة العودة التي تتكرر ("أعود... أعود") تكشف عن الصراع الداخلي بين الأمل واليأس، بين الرغبة في العودة إلى الأرض أو الوطن وبين الفقدان المستمر. يرمز الغياب إلى الحضور الغائب للمحب أو للوطن، والعودة هي رغبة مستمرة للمصالحة مع الذات والمكان.

- الرمز "العناقيد" و"الشموس":

العناقيد غالباً ما تحمل رمزية البذرة والخصوبة في الثقافة العربية، في سياق القصيدة قد تكون العناقيد رمزا للذاكرة أو الأمل الذي لم يتحقق أو للحقوق الضائعة. كما أن "الشموس" تعكس سعي الشاعر لاستخراج النور من ظلام التشرذم والشتات.

- المنهج النفسي:

في القصيدة، يمكننا تحليل جوانب من النفسية المعذبة والمشتتة للشاعر الفلسطيني في لحظات فقدانه وتناقضاته الداخلية.

تعبير الشاعر عن صراع داخلي:

الشاعر يمر بتجربة نفسية معقدة حيث تجسد قصيدته تناقضات مشاعر الفقد، الندم، والحب المتناثر. تعبيره عن "أكاد أباعد بيني وبيني" يشير إلى انفصال نفسي عميق، وصراع داخلي بين الذات والواقع، وهي إشارة إلى حالة الانشطار الشخصي والوطني.

- الهويات المتعددة والاضطراب النفسي:

الجملة "كأن الذي عاد بي ليس بي" تعكس صراعاً هوياتياً يعيشه الفلسطيني في المنفى، حيث يتعرض لشعور بالغربة سواء تجاه ذاته أو تجاه محيطه. قد تكون هذه الكلمات أيضاً تعبيراً عن الاغتراب النفسي، وكأن الشاعر يشكك في هويته أو في دوره في الحاضر.

- الاغتراب والموت الرمزي:

تكرار الشاعر السرساوي للحديث عن الموت ("أما كنت انفض رملي الأخير") يعكس حالة من الإحباط الوجودي والروحي. الموت في القصيدة ليس فقط موتاً جسدياً، بل موتاً رمزياً مرتبطاً بفقدان الأمل أو فقدان العائلة أو الوطن.

- المنهج الهيرمينوطيقي:

التحليل الهيرمينوطيقي يعتمد على فهم النص وتفسيره في سياق المعاني التي يتخطى ظاهر النص، ويحتاج إلى فك شفرة الرموز داخل سياق الشعر والمجتمع.

- الأساطير والإشارات الثقافية:

الشاعر يتحدث عن "إعادة الأساطير" ليظهر كيف أن الفلسطيني، بما في ذلك الشاعر نفسه، يحمل عبء التاريخ ويمزج بين الواقع والخيال لبناء مقاومة ضد محو الهوية. الأساطير هنا ليست مجرد حكايات قديمة، بل هي أداة للمقاومة، لنقل ذاكرة الشعب الفلسطيني.

- الذاكرة الجماعية:

"أعدت الأساطير من ملح يومي" تحمل في طياتها الإشارة إلى الذاكرة الجماعية لشعب فلسطيني ضحى بالكثير ولا يزال يقاوم تحت الاحتلال. الأسطورة هنا تتشكل من المعاناة اليومية والاحتفاظ بالذاكرة على الرغم من التغيرات القاسية.

التفاعل مع الملتقى السياسي والإنساني:

القصيدة تتوجه إلى "الثعالب" التي قد تمثل الأنظمة أو القوى المعادية التي تهدد الأمة الفلسطينية. الشاعر يطرح أسئلة إنكارية كـ"أليس الشهيد بداية عمري؟" ليبني علاقة بين الألم الشخصي والجماعي، ويعكس التفاعل بين السياسي والإنساني في نفس الوقت.

- المنهج السيميائي:

من خلال السيميولوجيا، يمكن دراسة العلامات والرموز اللغوية التي يستخدمها الشاعر.

علامة "السيوف والعذاب":

السيوف ترمز إلى الصراع والعنف، بينما العذاب قد يرمز إلى الألم الفلسطيني المستمر. السيوف والعذاب ليسا مجرد صور حسية، بل هما علامات على الاستمرار في الكفاح ضد الظلم والاحتلال.

- العلامات الصوتية:

الصوتيات في القصيدة تشكل جزءاً من الأداء الشعري حيث يلاحظ التكرار اللغوي ("أعود... أعود") الذي ينقل الإحساس بالدوران في حلقة مفرغة من الحزن والصراع.

- الظلال والأضواء:

كما هو الحال مع "الشموس" و"ظلال المقل"، يستخدم الشاعر التناقضات السيميائية بين الضوء والظلام لتمثيل الأمل واليأس، الاستيقاظ والموت، الحياة والدمار، وهي عناصر حيوية في فهم التوتر الداخلي للشاعر.

- البنية النحوية والوزن والقافية:

من الناحية النحوية والوزنية، تظل القصيدة محكمة الأسلوب والوزن، لكن هناك بعض الملاحظات:

١- التكرار:

تكرار الجملة "أعود... أعود" يظهر بشكل ملفت، مما قد يثقل الوزن الموسيقي ويحول النص إلى دائرة مغلقة من الحزن والتوق. هذا التكرار يعزز الدلالة الرمزية للعودة المستمرة إلى موضوع الفقد.

٢- التوازن بين الجمل:

من الناحية النحوية، بعض الجمل تأتي طويلة جدًا بحيث يصعب تتبع المعنى بالكامل من دون توقف أو تنفس، مثل: "وما في دمائي سواك رفيق / وتعصين نزفي". هذا التوتر قد يكون مقصودًا لإظهار الضغوط النفسية على الشاعر.

٣- القافية:

القافية في القصيدة متنوعة بين السطور، مما يساهم في إبراز التشويش العاطفي والحالة الوجدانية المتقلبة للشاعر. حيث يتم الخروج أحياناً عن الإيقاع التقليدي في مواضع معينة، مما يعكس التوتر داخل النص.

- الخاتمة:

قصيدة "ضحكات الثعالب" للشاعر محمود السرساوي تجمع بين العديد من المناهج النقدية لتعبّر عن ألم الفلسطيني وتوتره الوجداني والنفسي. الرمزية الحاضرة في النص تتداخل مع الهويات الثقافية والسياسية، مما يجعل القصيدة لوحة شعورية تحمل فيها الألم والتمرد والأمل.

***

بقلم: عماد خالد رحمة - برلين

..........................

ضحكات الثعالب

أعود... أعود

يداك وكأس الغياب وصلبي وعتم الطريق

وكم قلت تبت

تناثر حولي المكان الشهي العصي الأسير

وما في رجوعي سوى حسرتين

وما في ضلوعي سوى جمرتين

ومافي دمائي سواك رفيق

وتعصين نزفي...

صباح الزهور التي أيقظتني على لمس نارك

ويقظة كل العيون النبية عند انتظارك

وتنسين أني

أعدت الأساطير من ملح يومي

وجندت صفا من الياسمين ليعبر دارك

أعود أعود

ألم عن النهر رف القبل

ورعش العيون المجرح قبل ارتعاش الشفاه

ونبض السماء على الضفتين

وطيف العناقيد بعد التداني

وخمر النشيد الذي لم يقل

كأن الذي عاد بي ليس بي

كأني خسرت شراع الكلام

وزهو الغمام

وصبو الحجل

كأني ترقبت هذا الغياب

وضيعت نفس الطريق لألقى

عناقيد روحي

وقد لوحتها شموس المقل

**

أكاد أباعد بيني وبيني

وأرمي بأوزار حلم قديم

تمرد كالريح بين الأيادي

وأزهر كالصمت خلف الشفق

ومازلت أخشى اغتصاب نشيدي

ودمع حبيبي

وما شب مني

ليعبر قبلي حنين الورق

أكاد أرى الروح يا صاحبي

تشق البلاغة في دمعتيك

تميط اللثام عن الأغنيات

وتفزع من شهوة الإنزلاق أمام يديك

أكاد أراك أكاد أراني

واقرأفي نزوة الخادعين ذبول القرار

أحقا تريد الخروج عليهم

وتخلع ذئب السكوت الممرغ في الاعتذار

أما كنت انفض رملي الأخير

وانس سؤالي تماما تماما

لماذا استباحوا حليب العناق وخانوا الكلام

أليس الشهيد بداية عمري

أما صان نبضي وغنى لهيبي

أليس البعيد قيامة قلبي

من الغيب يصرخ اين حبيبي

وأين الرفاق الذين أحبوا جنون الجذور بنا والتعب

هنا نفترق

أزيحوا الستائر عنكم قليلا

فقد هد قلبي رنين الخطب

فكيف اتكأتم على سر قبري

وقلتم نجدل شعر البراري

ونرفض أن تستبد الجراح

أصدق ما كان أو قيل عني

أصدق زهو البيان الأخير

أصدق نهر المقابر فينا

أصدق شهد الندى والشجر

أيكفي صراخ الأرامل يكفي

أتكفي الصور

لأنسل وحدي

بريء الأغاني التي زاملتني بهذا السفر

إذن فاسمعوني

وقولوا لكل الثعالب شكرا

حرسنا العنب

حرسنا النصوص

حرسنا الرؤوس

حصدنا التعب

أيا اعدقائي

قليلا لنبدأ فينا الحساب

فمن عاش عاش

ومن مات مات

ولكن فينا انتمت غيمة

وأبصر سجن

وهب تراب

فكيف أصالح بين السيوف وبين العذاب

وماذا أقول لطير الأماني

إذا ما دعاني حريق العتاب..............

***

مقاطع من قصيدة ضحكات الثعالب

 

من الجاهلية إلى أزمة الذائقة الحديثة

مقدمة: نحو وعي أنثروبولوجي بالشعر العربي:

ليس الشعر العربي مجرّد تعبيرٍ لغوي عن انفعالٍ أو تجربةٍ ذاتيّة، بل هو – في عمقه التاريخي والرمزي – وثيقة أنثروبولوجية كبرى تكشف عن البنية الروحية والثقافية للإنسان العربي في رحلته عبر العصور. إنّ قراءة الشعر العربي، من الجاهلية إلى الراهن، هي قراءة في تحوّلات الوعي بالذات والعالم، لأن الشعر كان دائمًا المرآة التي تعكس روح الجماعة، وصيرورة تحوّلها من البداوة إلى التمدّن، ومن الغريزة إلى المعنى.

في زمنٍ تتكاثر فيه القصائد كما تتكاثر الظلال، وتختلط فيه الأصوات حتى يفقد الشعر معناه الجوهري، تبرز الحاجة إلى مساءلة جوهر الشعر العظيم، لا بوصفه مهارة لغوية، بل كفعل وجودي يصدر عن روحٍ سامقة تطلب الارتقاء في مدارج الوعي والكمال. فالشعر العظيم لا يكون عظيمًا إلا إذا وُلد من نفسٍ عظيمة، تعانق الحقيقة الكونية في أعمق مستوياتها، وتسمو على اليومي والعابر نحو الخالد والمطلق.

1. الشعر الجاهلي: الينبوع الأنثروبولوجي للوعي العربي:

لا يمكن الحديث عن الشعر العربي دون العودة إلى الجاهلية، بوصفها المرحلة التي تبلورت فيها الأنسنة الأولى للوجود العربي. فالجاهلية لم تكن، كما يتوهم البعض، ظلمةً ثقافية، بل كانت طوراً من أطوار التمدّن البدئي الذي حمل إرهاصات الوعي بالذات والكون والمصير.

إنها اللحظة التي نطق فيها العربيّ بوجوده عبر الكلمة، فصارت القصيدة عنده بيتاً للكينونة، يجمع فيه بين الشاعرية والبطولة، بين الصحراء والروح.

في شعر امرئ القيس وزهير بن أبي سلمى وطرفة بن العبد، نرى بواكير الوعي الوجودي؛ فالقصيدة ليست وصفاً للطبيعة فحسب، بل هي تجربة للخلود عبر اللغة. يقول زهير:

ومهما تكن عند امرئٍ من خليقةٍ

وإن خالها تخفى على الناس تُعلمِ

في هذا البيت تتجلى رؤية أخلاقية وإنسانية متقدمة، تضع الإنسان في مواجهة ضميره ومصيره. فالشاعر الجاهلي كان يحمل في لغته بذور الفلسفة، وإن لم يُسمِّها كذلك.

ولذا، فإن أي مشروع نقدي عربي معاصر، لا يمكن أن يُبنى إلا على فهمٍ عميق لهذه المرحلة؛ إذ هي المفتاح الأنثروبولوجي لفهم الروح العربية، لأن ما جاء بعدها من عصورٍ هو امتدادٌ لما ترسّخ فيها من قيم الجمال والكرم والشرف والبطولة والمعنى.

2. الحاضر كمرآة للغابر: جدلية الماضي والمستقبل

يخطئ من يظن أن الماضي انقضى. فالحاضر، كما يقول المفكر المغربي محمد عابد الجابري، هو "نتيجة تفاعل مع التراث بقدر ما هو قطيعة معه".

إنّ الروح العربية التي صاغت معلّقاتها تحت خيام الرمل، لا تزال تسكن لغتنا المعاصرة، وتشكل لاوعينا الجمعي في التفكير والتعبير والتأمل.

فحين نقرأ شعر المتنبي، نرى أن روح الجاهلية تسري في طموحه إلى المجد والخلود، وحين نقرأ أدونيس، نلمس محاولة للعودة إلى الأصل، لا لتكراره بل لتفكيكه وإعادة بنائه.

هكذا تصبح كل قصيدة حديثة امتدادًا لأنثروبولوجيا أقدم، تشهد على أنّ الماضي لا يموت بل يتحول إلى رمادٍ تخبئ فيه جمرة الوجود العربي.

3. أزمة الشعر الحديث: غياب الأنثروبولوجيا وحضور الادّعاء

في زمننا الراهن، تتكاثر القصائد كما تتكاثر الصور على الشاشات. كثير من الشعراء يكتبون "نصوصًا" لا تحمل روح الشعر، لأنها منبتّة عن الينبوع الأنثروبولوجي الأول، أي عن التجربة الإنسانية العميقة التي تجعل الكلمة حياةً ثانية.

إن الشعر الذي يُكتب بلا جذور، يتحوّل إلى صناعة لفظية، لا إلى كشفٍ أو وحي. يقول الناقد صلاح فضل إن "الشعر لا يُقاس بحداثة شكله بل بقدرته على استنطاق الموروث وتجاوزه"، وهذا هو جوهر المأزق الشعري اليوم: غياب البعد الأنثروبولوجي الذي يربط النصّ بجذور الوجود العربي.

فمن دون هذا البعد، لا يمكن للشعر أن يكون أكثر من تقليدٍ لغوي أو تجريبٍ شكلي. أما الشعر الحقيقي، كما يرى كمال أبو ديب، فهو "تجلٍّ لروحٍ تبحث عن معنى الكينونة في اللغة". ومن ثمّ، فالأزمة ليست لغوية بل وجودية.

4. نحو مشروع نقدي عربي: استعادة الجذور لبناء المستقبل

السؤال عن وجود مشروع نقدي عربي ليس ترفًا فكريًا، بل هو سؤال في الهوية والمعنى.

لقد حاول مفكرون ونقاد كبار، مثل عبد الله الغذامي في "النقد الثقافي"، وحسن حنفي في "التراث والتجديد"، وطه عبد الرحمن في "العمل الديني وتجديد العقل"، أن يؤسسوا لقراءة نقدية عربية، تنبع من داخل التراث لا من استيراد المناهج الغربية استيرادًا أعمى.

غير أنّ المشروع النقدي العربي لا يزال مشروعاً مؤجلاً، لأنه لم ينجح بعد في تحقيق التوازن بين التأصيل والتحديث، بين الوفاء للتراث والانفتاح على الكوني.

إنّ قيام مشروع نقدي عربي أصيل مشروطٌ بإعادة قراءة الشعر العربي كظاهرة أنثروبولوجية وروحية، لا كمجرد نصّ لغوي؛ لأنّ الشعر هو الوثيقة التي تحفظ هوية الوعي العربي في التاريخ.

خاتمة: الشعر كذاكرة كونية للإنسان العربي

الشعر، في جوهره، هو ذاكرة الوجود العربي في مواجهة الفناء.

من الجاهلية إلى الحداثة، ظلّ الشعر العربي جغرافيا للروح، يحمل في طيّاته رحلة الإنسان العربي في بحثه عن الخلود والمعنى والحرية.

وحين يفقد الشعر هذا البعد الأنثروبولوجي، يصبح مثل شجرةٍ بلا جذور، جميلة في ظاهرها، لكنها ميتة في أعماقها.

لذلك، فإن استعادة الوعي بالشعر كوثيقة أنثروبولوجية هي الخطوة الأولى في تأسيس مشروع نقدي عربي متكامل، مشروع يقرأ الذات في مرايا تاريخها، ويصوغ المستقبل من رماد ماضيها.

***

بقلم: عماد خالد رحمة - برلين

لا أُكرّرُ ما كتب غيري عن رواية (منازل العطراني)* لكني أُحاول أنْ أُركّزَ على أمور أُخرى لم يمسسها ــ كما إخالُ ــ السادة الذين تصدوا لهذه الرواية وكتبوا عنها. أقولُ هذا الكلام لأني أتميّز عن سوايَ من هؤلاء السادة المحترمين في أني عاصرتُ وزاملت بطل الرواية (محمد الخَلَف) لقرابة الأربعة أعوام مساهمين في تحرير صفحة [التعليم والمعلم] في جريدة طريق الشعب البغدادية الناطقة بإسم الحزب الشيوعي العراقي. كما عرفتُ أحد أبنائه الذين عملوا في القسم الفني لهذه الجريدة وهو (البطل سامي) الذي اختطفه البعثيون في العام 1979 أو ربما في 1978 إبّان غدر وخياتة البعث لحليفه في الجبهة الوطنية والتنكّر للعهود ومبادئ هذه الجبهة فطورد مَن طورد وأُعتقل من أُعتقل وأُختطف مَن أُختطف وغَيّبَ ثم أُعدم وكان سامي حسن العتاّبي أحد هؤلاء. وفئة أُخرى كبيرة استطاعت مغادرة العراق على عَجَل للبحث عن مأوى آمن والتشتت في مختلف بقاع العالم وكان أحد أبناء محمد الخلف أحد هؤلاء.. فئة أخرى من الشيوعيين إلتحقت بقوات الأنصار في جبال كردستان تقاتل جيوش دولة قوية مارقة مُنفلتة لا تعرف ذمّةً ولا تصون عهداً ولا تلتزم بميثاق. واستطاع أحد أبناء (محمد الخلف) ترك العراق والإلتحاق بهذه القوّات. إثنان من أولاد محمد الخلف سيقا للقتال في الحرب العراقية ــ الإيرانية 1980 / 1988.. أُصيب أحدهما بشظية قنبلة كسرت ذراعه. أما ولده الأكبر الذي أكمل دراسته في كلية التربية في جامعة بغداد (أظنه جمال حسن العتابي كاتب هذه الرواية) ومارس التدريس في الفلوجة وبغداد فكان وضعه وضعاً آخر: ما كان شيوعياً نشطاً معروفاً لكنْ كان صديقاً للشيوعيين وعن طريقه قَبِلَ والدُه مساعدة الشابَ الشيوعي سليم والتوسط لتوظيفه مأمورَ مخزن في شركة يُديرها مهندس صديق للشيوعيين. أظن إني أعرفه.. عرّفني عليه في العام 1976 / 1977 الصديق المهندس حكمت الفرحان وزرناه ذات يوم في بيته المنيف في إحدى مناطق بغداد لا أتذكرها جيداً. ترك خالد مهنة التدريس وعاش متخفيّاً متنقلاً بين بيوت الأقارب والأصدقاء ولم يغادر العراق حسب المكتوب في الرواية.

الموضوعة الرئيسة في هذه الرواية هي: ما هو مصير المناضل الشيوعي الذي يُسجن ويهرب من السجن ويعيش متخفياً في بيوت الأقارب في جنوب العراق (في قرى مدينة الكوت / العطراينة) عيشة قلق وخوف دائم في بيوت من طين بائسة لا تتوفر فيها شروط الحياة النظيفة والمقبولة حدَّ الإختباء في حفرة لا تكادُ تسعُ جسده. هذا المناضل ترك وظيفته وترك عائلته بدون معيل ومورد وأحسن كاتب الرواية في وصف حال والدته زوجة محمد الخلف وأبدع في تصوير حالاتها خوفاً على مصير زوجها وأولادها وبناتها. أعود للسؤال إيّاه: ما مصير المناضل الذي يجد نفسه مُضطرّاً لترك وظيفته ومصدر رزقه الوحيد وعائلته الكبيرة ليتخفى بعيداً عن عيون الأعداء؟ لا أُجيب لكنْ الأسئلة التي وضعها الروائي تكفي وتوضّح أحسنَ توضيح من قبيل {.. تبدو لي الفكرة مقبولة الآن باشرْ بتنفيذها، تُرى كيف ستكونُ الحفرة، ما شكلها؟ أمامي صورة قاتمة لها: تراب، طين، روائح كريهة تنبعث من فضلات الحيوانات، مطر، رطوبة، تَرَقّب، إنتظار، كل هذه الهواجس تُعيدُ لي الأسئلة مُجدّداً، مَن الذي قادنا إلى هذا المصير؟ مرّتْ في رأسي موجات متوالية مضطربة من الأفكار والذكريات، الهزيمة التي تربضُ في دمي تمطّت في حلقي، في ذاكرتي، فقلتُ بتحدٍ:

أنتَ أيها المغوار تقاومُ الآنَ الهزيمةَ وحدكَ!

شعرتُ بحزنٍ يغمرني كأنه ثوب من حديد، هزّات رأسي تتزايد برتابة مجنونة، قلتُ لأقنعَ نفسي بالفكرة، الحُفرة ستضيفُ عنواناً لخيبة لا تنتهي}

(مَن الذي قادنا إلى هذا المصير)؟ سؤال وجودي ثم سياسي ــ إجتماعي ــ ثقافي ــ فلسفي. أحسبُ أنَّ الأفضل أنْ يكون السؤال (ما الذي قادنا إلى هذا المصير؟) بدل مَن الذي قادنا. نحن نعرفُ مَن قادنا ولكن يحتاج الأمر برمّته إلى الإستفسار عن السؤال المصري الأكبر (ما الذي قادنا).

محمد الخلف لم ينهزمْ.. لم يتبرأ من الحزب ولم يخُنْ الأمانات ولم يُفشِ أسراراً ولم يسبَّ أحداً من الشيوعيين كما فعل مرتدّون سقطوا معروفون في الأوساط السياسية والثقافية وعالم الشعر. تحمّل وعائلته ما تحمّل وتحمّلت ولم يقدّمْ براءةً تُنشر في الصحف ليستأنف وظيفته السابقة معلّماً في مدارس العراق. إلتزم الصمت حتى آخر أيام حياته.. لم يرجع لتنظيمات الحزب الشيوعي لكنه ظلَّ صديقاً وفيّاً للشيوعيين نقيّاً نبيلاً وسمعتُ أنَّ البعثيين لم يقتلوه خلال هجمتهم الهمجية الدموية الغادرة على حلفائهم الشيوعيين في الجبهة الوطنية كما فعلوا بصديقه وزميلنا في تحرير صفحة التعليم والمعلم المربي البطل عبد الستار زُبير أبو إيمان.

أفكار لمحمد الخلف تستحق التوقف لمناقشتها والحفر لإستجلاء بواطنها وهل فيها تخلٍ عن المبدأ الذي اعتنق وضحّى في سبيله وتشرّد وعانى وأهلُ بيته؟ أقولُ هذا الكلام لأنَّ أحد الكتّاب نشر قراءة لرواية (منازل العطراني) ركّزَ أو أشار فيها إشارات قوية أنَّ الشيوعي السابق محمد الخلف ندمَ على شيوعيته السابقة وكنتُ كتبتُ ونشرت رداً بالأدلّة الحية التي عايشتها أُفنّد فيها ما كان هذا الأستاذ قد ادّعى فيما كتب. أنقل حرفياً ما جاء في الصفحة 131 من الرواية:

(.. نهض خالد مُسرِعاً يتلفُّ مُتوَجِساً، إنشغل تفكيرهُ بمحاولة ترتيب أسئلته الحائرة لأبيهِ عن معنى التفاني،وجدها فُرصةً للسؤال عن قضية أكبر: لماذا يموتُ المرءُ من أجل فِكرة؟ لماذا يدفعُ الأبناءُ ثمنَ (المجد) الذي ينالهُ الآباءُ؟ من أعطاهم الحقَ بذلك؟ هل أخذوا إذْناً بالموتِ ليرمِّلوا الزوجات، ليذهبَ أولادهم إلى التيه !! ما معنى البطولات برؤوس اليتامى؟؟

- الإشكالية باعتقادي يا خالد أنَّ الجماعة تُلزِمُ بتقديم القرابين من أجل القضية، ما من شهيد إلاّ ورددَ أنه سيموتُ، لأنَّ القضية التي ماتَ من أجلها ستعيش، عَبِرها ستعيشً ذكراهُ أبداً، البطلُ هو مَن يُضحّي بنفسهِ من أجل سواهُ، أو من أجلِ قضيّة يرفعُها إلى مرتبةِ القداسة، هناك مَن يرى في البطل قدرته على الموتِ بقدِرِ ما يملكُ من قُدرات على قتلِ غيره.

- أي أنَّ البطلَ " قاتلٌ " في النهاية!

- ليس كما تعتقد يا خالد! هو إنسانٌ يُمارسُ القتل لنشرِ عقيدةٍ يعتبرها صحيحة، أو تطبيق نظرية يُعدُّها عادلة، فيما هي غيرُ ذلك في نظرِ سواهُ، الإلتزام بحدِّ ذاتهِ يتحدد مضمونهُ وقيمتُهُ بمدى اقترابه من استمرار الحياة، لا فنائها.

- إنسانُ الجماعةِ يؤكّدُ لنفسه دائماً: ألمْ نُقدّم أنفسنا قُرباناً على مذبح القضيّة، ألمْ نُنشد: نموتُ ويحيا الوطن وتحيا العقيدة؟ بالنتيجة هي الأفكار المُجرّدة والرموز المقدّسة، أنا أُشيرُ يا ولدي إلى ثقافة بديلة في غرسِ معنى الحياة، لأنها الغاية المُثلى، لا الموتُ المُرتبط بالإيديولوجيا)

ملاحظة: " الجماعة " التي تكرر وروها في هذه الرواية تعني (الشيوعيين) حصراً.

- هنا أمور كثيرة تستحق المناقشة وطرح الكثير من الأسئلة التي هي موضع خلافات قديمة وحديثة وستظل كذلك أبدَ الدهر منها:

1 ـ { لماذا يموتُ المرءُ من أجل فِكرة؟ }

2 - (لماذا يدفعُ الأبناءُ ثمنَ " المجد " الذي يناله الآباءُ)؟ من أعطاهم الحقَّ بذلك؟

3 - (هل أخذوا إذناً بالموت ليرمّلوا الزوجاتِ، ليذهبَ أولادهم إلى التيه)؟

4 - (ما معنى البطولات برؤوسِ اليتامى)؟

5 - (هناكَ مَن يرى في البطل قدرته على الموت بقدر ما يملك من قُدراتِ على قتلِ غيره. أي أنَّ البطلَ " قاتلٌ " في النهاية)

6 - (ليس كما تعتقد يا خالد! هو إنسان يُمارس القتل لنشرعقيدة يعتبرها صحيحة، أو تطبيق نظرية يعدّها عادلة، فيما هي غير ذلك بنظر سواه، الإلتزامُ بحد ذاته يتحدد مضمونه وقيمته بمدى اقترابه من استمرار الحياة لا فنائها)

7 - (أنا أُشيرُ يا ولدي إلى ثقافة بديلة في غرسِ معنى الحياة لأنها الغاية المُثلى، لا الموت المُرتبط الإيديولوجيا).

- أمامي هذه اللوحة من الموضوعات التي طرحها الدكتور جمال حسن العتّابي نسب بعضها والأكثرَ حساسيّةً وإثارةً للجدل لأبيه ولا أراها بالضرورة كذلك إنما هي آراء وقناعات الراوي رحّلها لأبيه لمضاعفة فاعليتها أو ربما تكلّم بها نيابةً عنه بعد أنْ أفضى له بها بين حين وآخر تلميحاً أو توضيحاً مباشراً.

- (لماذا يموتُ المرءُ من أجل فكرة)؟ هل سألَ سقراط نفسه هذا السؤال حين وافق على تناول السم الذي قتله؟ هل سألت كليوباترا نفسها إذْ قتلت نفسها بلدغة أفعى سامّة؟ هل سأل الحُسين بن علي نفسه هذا السؤال وقد رأى بأم عينيه مقتلة ذويه وآل بيته صبياناً وشباباً ثم ظهر في ميدان معركة الطف ظمآناً خائر القوى وهو يعلم أنه مقتول لا محالة؟ إنه صاحب القول المنسوب إليه [يا سيوفُ خذيني]. هل ندم فهد وصارم وحازم وقد عرفوا انهم محكومون بالإعدام شنقاً وقد أُعدموا في شباط 1949 وعُلّقت جثامينهم في ساحات بغداد العامة. أم هل تراجع سلام عادل أو ضَعُفَ وانهار تحت التعذيب الوحشي في قصر النهاية في بغداد إثرَ انقلاب شباط 1963 وكذلك رفيقاه جمال الحيدري ومحمد صالح العبّلي والآلاف من خيرة شباب ورجال العراق؟ هل ندم وتراجع السيد محمد باقر الصدر أو قريبه النجفي محمد صادق الصدر ونخب أخُر من علماء الدين وأعضاء حزب الدعوة وفئات ملتزمة غيرها؟

- يقبلُ صاحب الفكرة والمؤمن بعقيدة سياسية أو فلسفية أو مذهب أو دين أو فلسفة... يقبلون الموت حين لا من فُرصة أخرى بديلة مُتاحة لهم لمواصلة الحياة كما أرادوها. لا من خيار آخر أمامهم سوى الخنوع والرضوخ والإستسلام وهذا ما لا يقبله المؤمنون من الرجال مهما كانت طبائع إيمانهم. إختاروا الموت حين وجدوا أنفسهم أمام قوة غاشمة تحاول إخضاعهم والتنازل عمّا أمنوا به وصاح الحُسين [[هيهاتَ منّا الذُلّة]] حين حاولوا إجباره على البيعة ليزيدَ في دمشق وكان الحسين هو الخليفة حسب بنود إتفاقية صُلح الحسن مع معاوية كما تقول مصادر التأريخ. فضّل الموت على أنْ يرى نفسه مغبوناً مظلوماً مسلوبَ الحق فضلاً عمّا رأى من تقاعس الذين ورّطوه وأغروه بالتوجه إلى كوفة العراق فقتلوا قبله سفيره لهم (مسلم بن عقيل) وجزّوا رأسه ثم سحلوا جسده بالحبال في دروب الكوفة. وقبل ذلك بعشرين عاماً فعلوا بأبيه مثل ما فعلوا به: تقاعس أهل العراق عن نجدته بمعاودة قتال معاوية بعد معركة صفّين. هكذا يفعل تبدّل أمزجة بعض الشعوب والأقوام. بالنسبة لي كنتُ سأُفضّل الموت ولا أتنازل لفئة ضالّة متخلّفة دموية ولا أقبل الإنتماء لعقيدتهم أو حزبهم أو دينهم... أرفض الحياة لأني لا أرضى أنْ أحياها مع هذه الزمُر المُغتصِبة لنسغ الحياة. لا تجمعنا حياة واحدة. لقد تعرّضتُ ذات يوم للموت ثمناً لقناعاتي والتزاماتي السياسية وكنتُ مُنسجماً مع نفسي أني قدّمتُ ما أستطيع من أجل خياراتي وإيماني بالحقائق العلمية وعلى رأسها قوانين الدايالكتيك وتطبيقاتها في الحياة. ليس كل الناس مستعدين للتخلي عن الحياة فالقناعات والإيمان بها درجات متفاوتة شتى. سألتُ الشاعر عبد الوهاب البياتي مرة وقد التقينا في مقهى في مدريد (ما أسباب انهيار السياسي الشيوعي المعروف عزيز الحاج وتعاونه مع البغثيين؟ أجاب فوراً لأنه ما كان مُقتنعاً بالشيوعية !). قناعة المرء إذاً هي التي تحدد الخط الفاصل بين الموت والحياة.

- فُصلَ محمد الخلف وسُجن زمان عبد الكريم قاسم في عام 1959.

- (لماذا يدفعُ الأبناءُ ثمن المجد الذي يناله الآباء؟) معك حق كل الحق يا جمال حسن العتابي (خالد).. هذا سؤال وجيه ومبرر. قديماً قيل: يأكل الآباء الحُصرُم ويُضرِّس الأبناء. يا ما ترك الآباء أطفالاً يتامى لا مُعيل لهم وزوجات ربّات بيوت لا موردَ لهنَّ إما ذهبوا للسجون الرهيبة أو أُغتيلوا في الشوارع المظلمة أو قُتلوا تحت التعذيب الوحشي في غياهب السجون. هنا يسأل المرء: كيف يهون على رجل مثقف أنْ يتركَ أطفاله والأُمّهات بدون أب يُعيل ويحمي ويُطعم ويكسي ويربي.. كيف؟ ما يقول لنفسه وكيف يبرر عمله هذا؟ لماذا تزوج وأنجب وهو عارف أنه يمشي في طريق محفوف بالمخاطر والمجازفات ويعلم أنه مُعرّضٌ للسجن أو الفصل من الوظيفة بل والموت إغتيالاً أو تحت التعذيب في الأقبية وظَلُمات السجون؟ الإيمان المُطلق بعقيدة ما يهون أمامها كل شئ. يُضحّي بعض الناس بكل شئ من أجل الثبات على ما يعتقد وما يؤمن به فيتماهى ولا ينفصل: أنا وعقيدتي أو الموت من غير هذه العقيدة! أنا لاشئَ بدون عقيدتي... فراغ.. هواء...فالفناء أفضل. يبقى الموضوع الإنساني الخاص بترك زوجة وأطفال من غير مورد مُعلّقاً قابلاً للجدل والأخذ والرد. عائلة محمد الخلف وقفت على أقدامها بعد الصدمة فشرع الأولاد الشباب وشقيقتهم بالعمل هنا وهناك أو في البيت فضمنوا ما يُديم حيواتهم من طعام وسكن وملابس حتى أكمل خالد دراسته في كلية التربية / جامعة بغداد وتم تعيينه مُدرِّساً في الفلوجة فضمن بذلك مورداً ثابتاً جيداً له ولأسرته. لكل مشكلة هناك حل واحد في الأقل. وأهلنا يقولون [ما تضيق إلاّ وتنفرج] وشاعر قال (وكلُّ شديدةٍ نزلتْ بقومٍ / سيأتي بعد شدّتها رخاءُ). تمام دكتور جمال حسن العتابي؟

- هناك من يرى في البطل قدرته على الموت بقدر ما يملك من قدرات على قتل غيره. أي أنَّ البطلَ قاتلٌ في النهاية. أرى في هذا القول آثار أصابع الفيلسوف الألماني نيتشه ! هكذا يفكّر ويتفلسف هذا الرجل صاحب كتاب (هكذا تكلّم زُرادشت). ما دليلك يا دكتور جمال أنَّ البطلَ قاتل في النهاية؟ هل كان سقراط قاتلاً غير نفسه؟ وهل قاتل الحسين إلاّ مُكرهاً ودفاعاً عن النفس بعد أنْ أُغلقت السبلُ كافّةً في وجهه؟ هل قتل فهد وصحبه وسلام عادل ورفاقه هل قتلوا أحداً؟ هل قتل صديق والدك الأستاذ عبد الستار زبير أحداً؟ قتل ستالين ملايين الناس بدعوى حماية روسيا والثورة فهل كان بطلاً أو أُعتبرَ بطلاً؟ كذلك الأمر مع صدام حسين. لم يسعَ الشيوعيون لإتيان البطولات واجتراح المعجزات إنما قاموا بما تستوجبه عناصر عقيدتهم السياسية والعلمية والإجتماعية وكانوا على استعداد للتضحية بكل شئ: حيواتهم ومستقبل عوائلهم من غير انتظار مكافآت أو جوائز أو أوسمة بطولة وفخار. هل ينتظر السياسي القتيل أنْ يأتي مَن يدعوه بطلاً؟ البطولة في أنتصار العقيدة.

- ملاحظات عامّة:

- بدأت أحداث الرواية في عام 1958 وانتهت في عام 1978 عام خيانة وغدر البعث وما تلاه من أعوام تشرد فيها العراقيون وسُجن مَن سُجن وأغتيل مّن أُغتيل ومات آخرون تحت التعذيب أي أنها لم تتعرض لما عاناه العراقيون نتيجة غزو العراق للكويت وما تلا ذلك من حصار وعقوبات وجوع وبؤس وشقاء حتى سقوط صدام حسين ونظام حكمه في آذار 2003.أتمنى أنْ يكتب.

- ذكر الراوي أنَّ (عبد الرحيم) صديق والده ساعده في دخول كلية التربية إذْ كان هذا معاون عميد الكلية. أحسبه كان يقصد الدكتور رحيم عبد آل كِتل.. ما كان الرجل سنة دخول السيد جمال كلية التربية معاوناً للعميد إنما كان تدريسياً في هذه الكلية ووجدته في العام الدراسي 1970 / 1971 رئيساً لقسم الفيزياء في كلية التربية وعملنا معاً في لجنة الإمتحانات النهائية سويةً مع الدكتور إبراهيم السُهيلي ممثلاً لقسم علوم الحياة والأستاذ سليم الغرابي ممثلاَ لقسم الرياضيات وأنا مُمثلاً لقسم الكيمياء وكان الدكتور رحيم رئيساً لهذه اللجنة. بعد فترة تم نقله رئيساً لقسم الفيزياء في كلية العلوم / جامعة بغداد في الأعظمية ثم غدا عميداً لكلية العلوم وبقفزة عالية جداً تم تعيينه سفيراً للعراق في فيينا وممثلاً للعراق في الوكالة الدولية للطاقة الذرية. خلال الحرب على العراق بعد غزو الكويت إستدعاه صدام حسين ثم غاب أثره. وفي نفس الوقت ترك الدكتور محمد المشّاط وظيفته سفيراً للعراق في واشنطن واتجه للإقامة في كندا.

- ملاحظات وتصويبات:

- في الصفحة 10 ذكر الدكتور جمال حسن العتّابي التربوي والرائد النقابي الأستاذ مُحمد الخِضْري (من الخضر) قتله البعثيون غيلةً عام 1970 (؟؟) وكان أحد أعضاء الحزب الشيوعي المنتدب للتفاوض مع البعثيين حول نقابة المعلمين وإمكانية خوض الإنتخابات في قائمة مشتركة بين الحزبين. شيمتهمُ الغدرُ.

- في الصفحة 50 ذكر الراوي الأستاذ النجفي عبد الباقي الجزائري باعتباره مديراً لقرية العطرانية. مدراء النواحي لا علاقة إدارية تربطهم بالقرى بل هم مدراء نواحي. وبقدر تعلّق الأمر بالأستاذ عبد الباقي الجزائري أبو سعد فقد كان زمان العدوان الثلاثي على مصر خريف عام 1956 مديراً لناحية البطحاء التابعة للواء المنتفك (محافظة ذي قار) وكنت هناك في هذا الوقت لأنَّ الدراسة في الكليات كانت قد أُوقفت بسبب التظاهرات الصاخبة والإحتجاجات إنتصافاً لمصر ووقوفاً مع الشعب المصري في نضاله ضد الإستعمار. كنت أزورشقيقتي فزوجها هو مدير المدرسة الإبتدائية في البطحاء وعرّفني على مدير الناحية الأستاذ عبد الباقي الجزائري أبو سعد وكنا نزوره في بيته ليلاً ونسهر هناك. وفي صيف عام 1957 دعوناه وشاباً مُعمّماً معه يحمل لقب الجزائري على العشاء في بيتنا في مدينة الحلة. كانا في الطريق قادمين من بغداد متجهين نحو النجف. لذلك أصابني عجبٌ كيف يكون هذا الرجل صديق العطراني المعلم في قرية العطرانية خلال فترة العدوان على مصر خريف عام 1956؟!

- الصفحة 80.. ذكر الراوي حركة حسن سريع ونسب وقوعها في منتصف شهر حزيران 1963.. بينما الكل يعرف أنها وقعت في الثالث من شهر تموز 1963 وليس في حزيران.

- في الصفحة 178 أخطأ الراوي في كتابة فعلٍ ماضٍ ولعها الغلطة الوحيدة في هذه الرواية. لقد كتب (تواطؤوا) والصحيح هو (تواطأوا) لأنَّ الهمزة مفتوحة وليست مرفوعة.

- في الصفحة 197 تكلّمت الرواية عن أزمة الصواريخ الذرية الروسية في خليج الخنازير على انها وقعت عام 1961 في حين أنها وقعت في خريف عام 1962 زمان خروشوف وكندي.

- كان الرواي مسيطراً تمام السيطرة على زمام سياقات الأحداث الصغيرة والكبيرة ماسكاً بخناقها لا يدعها تتفلّت إعتباطياً هنا وهناك ولا يسمح لأي نشاز أو مروق في سرد الوقائع وبأعلى ثقة بالنفس وباللغة القريبة جداً من لغة الشعر المنثور. لقد مرَّ باقتدار ومسح أحداثاً جسيمة ضربت العراق منذ ثورة الرابع عشر من تموز وإنقلاب الثامن من شهر شباط 1963 وإنقلاب محمد عبد السلام عارف على البعثيين وحرسهم القومي وقطار الموت في تموز 1963 وحرب الأيام الستة عام 1967 ثم إنقلابي البعث في تموز 1968 والحرب العراقية الإيرانية ثم خيانة البعثيين وغدرهم برفاقهم في الجبهة الوطنية وما رافق ذلك من اغتيالات وسجون وتعذيب وهروب جماعي طلباً لملاجئ آمنة أو الإلتحاق بصفوف قوات الأنصار في جبال كردستان. لم يغفل الراوي المرور على بعض الأمور الثانوية مثل ذكره لمقهى المعقَّدين وقلم الحبر الجاف ماركة باركر 21. لم يتبسّط في ذكر ما حدث من وقائع في العراق قبل إنقلاب الثامن شباط 1963 كالصراع الحاد بين قاسم وعارف وتمرد الشواف في الموصل ومحاولة إغتيال قاسم في شارع الرشيد في تشرين الأول 1959. يستطيع القارئ رسم منحنىً بيانيٍّ يمثل نقطة البؤس والعناء ثم التحول ببطء نحو الإنفراج والرخاء وما أنْ يصل هذا المنحنى البياني إلى أعلى نقطة حتى يشرع بالهبوط حيث التشرد والقتل والسجون وسفك الدماء كأنها دورة حتمية من دورات الحياة مفروضة على العراقيين منذ قديم الزمان فسومر قامت ثم اندثرت وكذلك أكد وبابل وآشور.

***

د. عدنان الظاهر

أُكتوبر 2025

........................

* رواية منازل العطراني. منشورات الإتحاد العام للأدباء والكتّاب في العراق، 2023 الطبعة الأولى.

    

في عمق التجربة الإنسانية؛ يظهر شعور يعرف في الفلسفة باسم (القلق الوجودي) وهو حالة تتجاوز مجرد الشعور بالاضطراب أو الخوف لتلامس جوهر الكينونة والحرية والمسؤولية.

ركز الفيلسوف (سورين كيركغارد) على هذا القلق باعتباره (دوار الحرية) حيث يدرك الإنسان أمام طيف لا نهائي من الاحتمالات ويدخل في مواجهة مع خيارات حاسمة تفوق حدود معرفته.

هذا القلق ليس عبئًا سلبيًا وحسب؛ بل دافع لا غنى عنه للبحث عن المعنى الحقيقي للحياة، وهو نقطة التقاء بين الإرادة الحرة والعبء الأخلاقي الذي يفرضه الوجود، يبرز القلق كآلية تنقل الإنسان من حالة الغفلة إلى وعي دقيق بذاته، حيث يبدأ في مواجهة حقيقته المطلقة وعلاقته بالكون.

في كتابه “آدم” يستدعي سمير محمد عالم، هذا القلق الوجودي فتصبح النصوص نبراسًا لصراع الوعي مع الذات والعالم، بين الوحدة والاغتراب، بين التمزق والبحث عن السلام؛ تتجسد هذه الحالة في مشهد الذات كـ (نخلة في صحراء) شامخة رغم التيه والفراغ، تحارب من أجل البقاء في عالم قاس وغريب، كما يقول الشاعر “أنتصب كنخلة في صحراء … شامخًا لأبقى مقاتلًا أربعين تيهاً”

يرتحل النص عبر محطات من الاغتراب الداخلي المعطى بصور مثل “خلف شعور بالاغتراب… فرضت أبدية التغيير حتمية المكان” حيث تتلاشى معالم الانتماء وتتبدد الثوابت، ويصبح الإنسان حيًّا في ميدان تساؤل دائم.

ويأتي الإهداء للأم ليؤكد أهمية الروابط الإنسانية كمراهنة على استرداد الذات واستعادة التوازن؛ ليكون الحب والصبر والعطاء قيمًا أساسية تشكل حصن الإنسان في وجه القلق والضياع، حيث يؤكد النص “إليك يا أمي أهديك حروفي فهي منك وصبرك وحبك وعطاؤك”

فنيًا يستخدم سمير عالم صورًا متعددة الأبعاد، العطر مجاز للغواية الوجدانية، القلب رمزي لجراح الزمن، والنجمة في الليل رمز للرجاء وسط الظلمات، هذه الصور تولد أجواء متخالفة بين الحسية والرمزية، تعبر عن تناقضات الوجود الإنساني وتطرح استمرارية الحنين رغم الألم، كما يقول “عطر أنفاسك غواية الوجود… حنين لا ينتهي”

وعلى المستوى الفلسفي تجسد نصوص “آدم” تساؤلات كونية حول الهوية والكينونة أمام تقلبات الوجود وانعدام الثبات، إعادة التفكير في الخطوات البشرية المتعثرة تثير القلق من فقدان الذات، بينما تعبير “الحياة تمنحني فرصة واحدة للعيش وألفًا للدفن في التراب” يعرض التوتر بين الوجودي المحدود والمسؤولية الأخلاقية الثقيلة التي يتوجب على الإنسان حملها، تظهر شخصية آدم في النص رمزًا مركزيًا لهذا القلق، حيث تتلاقى التجربة الشخصية مع البعد الجماعي للإنسانية مجسدة المعركة الوجودية الأزلية بين الحرية والقدر، بين الخير والشر، بين الإصغاء لصوت الضمير أو الاستسلام للضياع.

الأدوات البلاغية والرموز في كتاب “آدم”:

يتحقق التناغم بين الأدوات البلاغية التي تشكل نواة الأداء الإبداعي للنص، مما يجعلها وسائط حيوية لنقل التجربة الإنسانية ومكنونة الإحساس الوجودي.

أول هذه الأدوات هو التشبيه والاستعارة، حيث يستخدم الشاعر صورة النخلة في الصحراء لتمثيل الذات التي تقف شامخة ومتجذرة رغم الوحدة والفراغ، كما يتحول العطر إلى استعارة تجسد الغواية الوجدانية والحنين المستمر؛ ما يثري المشهد الشعري برمزية تفوق التعبير الحسي البسيط وتتأسس المفارقة والانزياح على سياق ضاغط من حيث قلة فرص الحياة التي يمنحها الوجود مقابل وفرة فرص الموت؛ ما يصنع توترًا دراميًا مضاعفًا يدفع القارئ إلى تأمل هشاشة الإنسان في مواجهة قدر لا يرحم ويضاف إلى ذلك قوة المونولوج الداخلي الذي يعكس الصراع النفسي المتأجج والاغتراب الذاتي، حيث يتحول الحوار مع الذات إلى فضاء داخلي يكتنفه التوتر والحيرة ويبرز الكابوس النفسي بصورة فنية نابضة.

أما الرمزية الزمنية الحديثة فتتجسد في القلب الذي يحمل آلام السنين وجراحات التجربة، وفي النجمة التي تمثل أمل النجاة والضياء وسط عتمة الوجود، فهما وجهان لعملة واحدة تعكس الكفاح البشري بين الألم والأمل.

وأخيرًا يستدعي النص الأسطورة الكونية لشخصية آدم، الذي يتحول من اسم في الأسطورة إلى رمز كلي للإنسانية يعكس الصراع الأزلي بين المصير والحرية بما يحملانه من مسؤوليات وقرارات وجودية بالتداخل المركب بين هذه الأدوات يصبح النص قدرة على استيعاب تعدد مستويات المعنى، ويقدم رؤية شمولية للتجربة الإنسانية تحمل مباهج الجمال والتوترات الوجودية في آن معًا.

القلق حالة مبدعة لا مهيمنة في “آدم” لا ينظر إلى القلق الوجودي كحالة سلبية تغمر الوعي وتصنع عائقًا أمام العيش، فإنما هو فضاء إنتاجي يتشكل فيه الوعي الذاتي، بمعنى آخر القلق هنا ليس عبئًا يثقل كاهل الإنسان؛ بل هو مشعل يضيء دروب الفكر والمشاعر، يدفع إلى إعادة تشكيل الذات في مواجهة لا معنى الحياة الظاهر.

هذه القراءة تجعل القلق ليس فقط سرابًا للضياع؛ بل مصدرًا للتجدد والخلق النفسي، يرتقي النص بهذا القلق إلى مرتبة إمكانات الصيرورة حيث تعانق الذات الألم والاغتراب، لكنها في الوقت نفسه تضفي على وجودها معنى جديدًا عبر التجاوز والتأمل، هذا هو القلق بالمعنى (الأنطولوجي) حالة عدم استقرار من نوع خاص تسمح بانفجار الفهم وتحرر الطاقات الكامنة، كأن القلق في هذا النص هو “ألوان الحياة المتلاشية” التي لا ترى إلا بالعين التي تعرف كيف تتشبث بالفراغ، في هذا السياق يتحول القارئ من مجرد متلقي إلى شريك في بناء النص يعيد إنتاج القلق نفسه ليخلق له من خلاله مسارات تأويل جديدة، ومن هنا يصبح “آدم” ظاهرة شعرية فلسفية متحولة، ليس فقط لأن قصيدته تعبر عما هو وجدان بشري محض؛ بل لأنها تشكل تجربة للوعي ذاته في مجاله الأعمق.

المقاربات الفلسفية ومقارنة مع نيتشه:

يتناول كتاب “آدم” الأسئلة الفلسفية الكبرى المرتبطة بالكينونة، الحرية، والمسؤولية، في خطاب يقترب من جوهر القلق الوجودي كما جاء في فلسفة (سورين كيركغارد) ومتابعيه، فالنص يشير إلى الوعي بالفراغ واللايقين، حيث يصبح البحث عن المعنى تجربة مجهدة تتطلب مواجهة فردية صادقة مع الذات، وهو ما يتقاطع مع رؤية الفلسفة الوجودية التي ترى في القلق دافعًا للحرية والتمرد إذا ما أخذت هذه المقاربات الفلسفية في ضوء فلسفة (فريدريك نيتشه) نجد تمايزًا مثيرًا، ففي حين يؤكد النص على تجربة القلق كمعاناة للذات بين الواقع والهوية المتشققة يعمد نيتشه إلى تحويل هذا القلق والخذلان الوجودي إلى مصدر طاقة إبداعية تتغذى على إرادة القوة.

يرى نيتشه أن الإنسان ينبغي أن يمتلك القدرة على تجاوز المعاناة والتمرد على المألوف ليخلق ذاته بنفسه، فالقوى الداخلية تتحول من معاناة إلى إرادة حياة ونمو على عكس القلق الوجودي الذي يتجلى في النص بوصفه حالة تأملية مفعمة بالتردد، يرى نيتشه في القلق والتحول فرصة للاعتراف بذات الإنسان الحرة القادرة على صناعة قيمها الخاصة وتجاوز الموروثات الضاغطة، لذا فبينما يشدد نص “آدم” على هشاشة الوجود وانكسارات الهوية يطرح نيتشه صورة الإنسان الأعلى الذي يتحدى القلق ويعيد تفسير القيم في ضوء إرادته.

هذه المقاربة الثنائية تفتح أمام القارئ فضاء فلسفيًا غنيًا يستجلي فيه حالة الإنسان الحديثة بين الانكفاء الذاتي والتمرد الواعي، بين الحيرة والخلق، وبين العبء والحرية، ليؤكد النص مع نيتشه على أهمية إرادة الفعل في صناعة معنى الوجود.

تجليات الأنطولوجيا في كتاب “آدم”:

يتجلى مبحث الأنطولوجيا في كتاب “آدم” من خلال دراسة متعمقة لطبيعة الوجود الإنساني في حالة الصيرورة والتغير المستمر يصف الشاعر الذات على أنها “نبضة مستمرة في صحراء الزمن” حيث لا يكون الوجود حالة جامدة أو حالة معطاة؛ بل هو حركة مستمرة بين الألم والرجاء، وبين الغياب والظهور، هذه الصيرورة التعبيرية تعكس الفكر الأنطولوجي الحديث الذي يجعل من الغياب والفراغ جزءًا لا يتجزأ من ماهية الوجود، حيث يصبح الإنسان مدعوًا لفهم وجوده وسط حالة من العدم والمنفى الداخلي، وباستخدام هذه الرؤية يؤسس النص لقراءة وجودية تضع الذات في مسرح متغير حيث لا كينونة ثابتة أو مطلقة؛ بل بحث دائم عن الهوية وسط لا معنى العالم يعبر على ذلك بقوله “وجودي يمضي بين الألم والرجاء صيرورة لا تنتهي في فضاء العدم واللامعنى” وهذا يؤكد كيف أن النص لا يقدم هوية محددة؛ بل يعرض تقلباتها وتأرجحها بين حالات نفسية وفلسفية متعددة، وهو ما يعكس تلك التجربة الأنطولوجية للذات في ميدان الوجود.

في نهاية المطاف، يجوز القول بأن كتاب “آدم” يقدم تجربة تستدعي القارئ إلى مواجهة قلقه الوجودي الخاص مع دعوة للتأمل في معنى الحرية والاختيار ومسؤولية الوجود.

يتجاوز النص مجرد سرد تجارب فردية ليغوص في أزمات الإنسان الكونية في زمن تسوده عبثية الوجود ولا نهائية الاحتمالات، والسؤال الذي يتركه الكتاب مفتوحًا للتأمل: كيف يمكن للإنسان أن يحافظ على تماسك هويته وسط هذا القلق الوجودي المتصاعد، وهل الحرية التي تولد القلق هي نفسها المهدئة لما يعانيه الإنسان من تمزقات داخلية؟

***

د. آمال بوحرب

 

حـبـيـبـي للشاعر يحيى السماوي

قال ابن الفارض في واحدة من روائع شعره في العشق الصوفي:

شـربنا على ذكرِ الحـبـيـبِ مـدامة ً

سَـكِرْنا بها من قبلِ أن يُخلقَ الكَرمُ

***

أيُّ الأحـبـةِ عـنـدهُ مـثـلـي بـدنـيـا الـعـشـقِ

إلْـفُ ؟

*

يُـعـطـي بـلا مَـنٍّ..

ويـغـفـرُ لـيْ إذا اسـتـجْـديْـتُـهُ مـاءً

لأطـفـئَ جَـمـرَ آثـامـي

فـيـعـفـو!

*

سـيـمـاؤهُ نـورٌ وإكرامٌ

وإحسانٌ وعـطـفُ..

*

أغـفـو... سـريـري جـفـنُـهُ...

فـأنـا حـبـيـبـي لـيـس يـغـفـو

*

ويـداهُ لـيْ سُــورٌ ويـنـبـوعٌ

وبـسـتـانٌ وسـقـفُ

*

وهـواهُ خـمـري إنْ شــربـتُ وشــدَّنـي

لـلـرقـصِ عـزفُ

*

يـزدادُ صـحـواً شـاربـوهُ

فـلـيـس مـثـلَ شــذاهُ رشْــفُ

*

مادامَ في قلبي

فليس يمسّني يأسٌ

وخوفُ

*

سـألـوا فـؤادي عـنـهُ وصـفـاً...

فـاسْـتـحـالَ عـلـيـهِ وصـفُ "١"

*

الـخـلـقُ ـ كـلُّ الـخـلـقِ ـ فـي

قـامـوسِـهِ الـكـونـيِّ: حَـرْفُ

***

"١" الضمير في "عليه" يعود إلى القلب

.......................

سأقرؤها بثلاثة وجوه: عامة، انزياحات وصوفية، ايقاعية

أولاً - القراءة العامة:

تتشظى القصيدة أمام القارئ لا كنصٍّ مكتوب، بل ككونٍ موازٍ تُعاد فيه صياغة علاقة العاشق بالمعشوق. هنا، لا نجد ذلك التابع الخاشع في التصوف الكلاسيكي، بل نرى "أنا" متجذرة تطرح سؤال التميز: "أيُّ الأحبة عنده مثلي؟". إنها لا تطلب الفناء، بل تعلن عن وجودها الفريد الذي يُعاد تشكيله عبر حضور "الحبيب". لقد قلب السماوي المعادلة؛ فالنوم لا يأتي من غفلة المحبوب، بل لأن "سريري جفنه"، واليأس لا مكان له "مادام في قلبي". إنها علاقة وجودية، الحبيب فيها هو الضمانة الوحيدة ضد العدم.

تبني القصيدة عالمها عبر استعاضة المجرد بالملموس. فـ "يداه" ليستا رمزاً للعطاء فحسب، بل هي "سور" يحمي، و"ينبوع" يروي، و"بستان" يثمر، و"سقف" يؤوي. كل صفة تحمل في طياتها حكاية وقصة وظيفة. حتى "الخمر" الصوفية، ذاك الرمز الأثير، تُسقطُها القصيدة في عالم الحواس لتصير "هواه خمري"، لكنها خمرةٌ فريدة، تدفع للرقص لا للسكر، وتزيد شاربيها "صحواً" لا ذهاباً في الغياب. إنها استعارة جديدة للمعرفة والوعي، تختلف جذرياً عن مفهوم السكر الصوفي التقليدي.

الانزياح الأكبر يكمن في اللغة نفسها، في تلك القدرة على تحويل الكون إلى نظام لغوي تابع للحبيب. "الخَلقُ – كلُّ الخلق – في قاموسه الكوني: حرف". هذه الجملة الأخيرة ليست خاتمة عابرة، بل هي زلزال معرفي يُختزل فيه الوجود كله في أبجدية الحبيب، ليصير مجرد "حرف" في قاموسه الشخصي. هذا الانزياح اللغوي – الفلسفي هو ذروة التحرر من كل الأوصاف التقليدية. ولهذا، عندما "استحال على القلب" وصفه، لم تكن الاستحالة عجزاً، بل إعلاناً عن فشل اللغة التقليدية في احتواء تجربة تتجاوز كل ما هو مألوف. القلب هنا يعترف بأن الحبيب قد أصبح نظاماً كونياً خاصاً، مستحيل الوصف بغير لغته هو.

ثانياً- تحليل لعلاقة قصيدة يحيى السماوي بالتراث الصوفي، مع التركيز على الانزياحات اللغوية التي تشكل نسيجها الشعري الفريد. سأعتمد في هذا التحليل على المفاهيم النقدية الحديثة، وسأقوم بربطها مباشرةً بالنص.

الانزياح اللغوي: قلب المفاهيم وتكسير المألوف

الانزياح هو "خروج التعبير عن المألوف من الكلام ونسقه المثالي"، وهو الأداة التي تميز اللغة الأدبية وتجعلها لغة خاصة. في قصيدة السماوي، نجد هذا جلياً في عدة مستويات:

1- انزياح دلالي: وهو الانزياح في معاني الكلمات والمفردات. يقوم السماوي من خلاله بقلب المفاهيم الصوفية التقليدية رأساً على عقب. فالحبيب لا يغفو بينما يغفو العاشق، مما يناقض الصورة التقليدية للعاشق الولهان الذي يسهو عن المحبوب. والأكثر لفتاً للانتباه هو الانزياح في مفهوم الخمرة الصوفية؛ فخمرة الحبيب "تزيد شاربيه صحواً" لا سكراً. هذه الانزياحات تخلق "مفاجأة" للمتلقي وتؤكد على أن تجربة العشق هنا تمنح الوضوح واليقظة، وليست غيبوبة للوجد.

2- انزياح تركيبي (نحوي): يتجلى في الانزياح عن القواعد النحوية المألوفة لخلق إيقاع ودلالة جديدين. يمكن ملاحظة هذا في جمل مثل "سريري جفنه"، حيث يخلق السماوي تركيباً جديداً ومكثفاً يعبر عن الاتحاد والحميمية بشكلٍ ملموس، متجاوزاً قواعد الإضافة النحوية المعتادة ليعبر عن تلاشي المسافات بين الذات المحبة والموضوع المحبوب.

3- انزياح استبدالي (مجازي): وهو الانزياح الذي يقوم على المجاز والاستعارة. يحوّل السماوي الحبيب إلى عناصر طبيعة وحماية مادية: "ويداه لي سورٌ وينبوعٌ وبستانٌ وسقف". هذه الاستعارات المتسلسلة تبتعد عن التجرّد الصوفي الكلاسيكي لترسم حبيباً هو أساس العالم المادي والروحي للشاعر، مانحاً للحماية والعطاء والنماء.

العلاقة مع التراث الصوفي: حوارٌ وتجديد

لا تنقطع القصيدة عن التراث الصوفي، بل تدخل معه في حوارٍ خلاق، يتمثل في:

1- توظيف الرمزية الصوفية وتطويعها: استخدم المتصوفة الرمز "للتعبير عن وجدانهم وخبراتهم الذوقية" لأنها تتسع للمعاني التي تعجز اللغة العادية عن إمساكها. السماوي يستعير هذه الآلية لكنه يُعِدّ شحنها بدلالات جديدة. فالحبيب ليس غائباً يُتطلع للاتحاد به، بل حاضرٌ في القلب يطرد اليأس والخوف. كما أن القصيدة تخلو من "العاذل" أو "اللائم" التقليدي، مما يشير إلى أن هذه التجربة الشخصية لا تحتاج إلى تبرير أو دفاع.

2- البناء على فكرة "القلب" كمركز للمعرفة: الإحالة في هامش القصيدة بأن "الضمير في 'عليه' يعود إلى القلب" تضعنا في صميم التصوف، حيث القلب – وليس العقل – هو أداة الإدراك والكشف. عجز القلب عن الوصف ("استحال عليه وصفه") هو ذروة المعرفة الصوفية القائمة على المشاهدة والذوق، والتي تعترف بعجز اللغة عن احتواء حقيقة التجلي.

3- الانزياح عن النموذج الصوفي الكلاسيكي: إذا كان الشعر الصوفي الرسمي التقليدي يُكتب بلغة فصيحة وبقالب محدد، فإن قصيدة السماوي تأتي بلغة شعرية حديثة، تخلط الفصحى بلهجة السرد اليومي، وتستخدم تقطيعاً مختلفاً، مما يجعلها أقرب إلى "الشعر الصوفي بأسلوب حداثي" كما هو الحال في تجربة شعراء مثل عبد الوهاب البياتي وأدونيس.

خلاصة تحليلية

ما يقدمه يحيى السماوي في هذه القصيدة ليس تكراراً للتراث الصوفي، بل إعادة تأويل له من خلال الانزياح. فهو يستعير الإطار العاطفي والروحي للعشق الصوفي، لكنه يملأه بتجربة شخصية يكون فيها "الأنا" فاعلاً وموجوداً، والحبيب حاضراً وداعماً. الانزياحات اللغوية – دلالية كانت أم تركيبية – هي الآلية التي ينقل من خلالها هذه الرؤية المجدّدة، ليخلق "نظاماً لغوياً جديداً" يعبر عن عالمه الشعوري الفريد.

ثالثاً- الايقاع

دعونا نغوص في البناء الإيقاعي والنظام الرمزي، حيث يُعدان عماد التجربة الجمالية في القصيدة.

البناء الإيقاعي: موسيقى اللااستقرار

لا تتبع القصيدة نظام البحور الخليليّة التقليدي، بل تصنع إيقاعها الداخلي عبر تقنيات أكثر حداثة. إنها موسيقى هادئة لكنها مضطربة، تعكس حالة الشاعر بين اليقظة والوجد. يتشكل هذا الإيقاع من خلال:

1- تقطيع النص إلى وحدات نفسية: فالفقرات القصيرة المنفصلة بعلامات النجمة (*) تشبه أنفاساً متقطعة، أو لحظات تأملية منفصلة متصلة، حالة التدفق الذهني للعاشق.

2- توازن الجمل وتوازيها: لاحظ التوازن في "يُعطي بلا منٍّ... ويغفر لي"، وهذا التوازن اللفظي يخلق نغمةً شبيهة بالترنيم أو التكرار التأملي، مما يذكرنا بأذكار الصوفية، لكن بصيغة شخصية.

2- انزياحات نحوية مقصودة: مثل حذف حروف العطف أو تقديم الخبر على المبتدأ، مما يخلق إرباكاً إيقاعياً جميلاً يعكس ارتباك العاشق ودهشته. هذه الانزياحات تكسر توقعات الأذن، فتصير الموسيقى غير مستقرة، كقلب العاشق.

هذا الإيقاع المكسور والمليء بالمفاجآت لا يخدم المعنى فحسب، بل يصبح هو نفسه تعبيراً عن "صحوة" السكران، عن يقظة القلب في حالة الحب.

النظام الرمزي: قاموس الحب الشخصي

لا تكتفي القصيدة باستعارة الرموز الصوفية الجاهزة، بل تبني نظامها الرمزي الخاص، الذي يتشابك فيه الجسدي بالروحي، والمادي بالمطلق:

3- رمز اليد: "ويداه لي سورٌ وينبوعٌ وبستانٌ وسقف". اليد هنا ليست مجرد أداة عطاء، بل هي رمز مركزي متعدد الأبعاد. إنها "سور" للحماية من الخارج، و"ينبوع" للارتواء من الداخل، و"بستان" للنماء والجمال، و"سقف" للأمان الوجودي. هذا التعدد يحول الحبيب إلى فضاء حياتي كامل، يقدم كل احتياجات الوجود المادية والمعنوية.

  • رمز الخمر والصحو: هذا هو الانزياح الأكبر عن الرمزية الصوفية الكلاسيكية. الخمر التقليدية تفضي إلى "السكر" وفقدان الوعي. أما خمر السماوي فـ "تزيد شاربيه صحواً". إنها تحويل جذري للرمز؛ فالحب هنا ليس هروباً من الذات أو العالم، بل هو وسيلة لفهم أعمق ووعي أوضح. إنه خمرة تمنح الوضوح، لا الغياب.

4- رمز القلب والوصف: "سألوا فؤادي عنه وصفاً... فاستحال عليه وصفه". القلب هنا ليس مجرد مضخة دم، ولا مجرد وعاء للمشاعر. لقد تحول إلى "عقل بديل"، إلى أداة للمعرفة العليا. لكن هذه الأداة نفسها تعترف بعجزها. هذا العجز عن الوصف ليس فشلاً، بل هو إعلان عن أن التجربة تتجاوز قدرة اللغة ذاتها. القلب يعرف، لكنه يعجز عن الترجمة إلى كلمات.

5- رمز الحرف: "الخلق – كل الخلق – في قاموسه الكوني: حرف". في هذا الرمز الأخير، يختزل السماوي الكون كله في أبجدية الحبيب. الحرف هو أصغر وحدة في البناء اللغوي، وأصغر من أن يحمل معنى كاملاً بذاته. اختزال الكون إلى "حرف" في قاموس الحبيب يعني أمرين: استصغار شأن كل ما عداه، وفي الوقت نفسه، جعل الكون كله قابلاً للقراءة وفهم معناه فقط في إطار علاقته بالحبيب. إنه رمز يجمع بين التوحيد الفلسفي والتذلل العاشق.

هذان البعدان – الإيقاع والرمز – لا يعملان بمعزل عن بعضهما. فالموسيقى المتقطعة تعزز إحساس الانزياح في الرموز، والرموز الجديدة تحتاج إلى إيقاع غير تقليدي لتحملها. معاً، ينسجان عالم القصيدة الفريد، حيث يصير الحبيب نظاماً كونياً شخصياً، ولغة جديدة، وإيقاعاً لحياة الشاعر بأكملها.

***

بقلم: بهيج حسن مسعود

جماليات التلقي واستدعاء القارئ في عالم من الغموض والانزياح

من قلب مدينة طبرق الليبية، حيث تلتحم الصخور بالبحر وتتوهج الذاكرة بالحكايات، ينبثق صوت سردي فريد يجمع بين دقة العالم وجموح الأديب. إنه فتحي محمد مسعود (مواليد 1979)، الذي لم يكتفِ بدراسة جغرافيا الأرض في كلية الآداب، بل انطلق ليصنع جغرافيا أدبية متخيلة، تلتقي فيها التضاريس بالأساطير، والواقع بالخيال، ومعلم  يصنع من الفصول الدراسية مساحات للإبداع، ومذيع يحول أثير الراديو منذ 2017 إلى جسور للتواصل، ومحرك لمشاريع طلابية أنتجت مجلات وكتباً مثل "المعالم السياحية في إقليم البطنان"، وراء هذه الوجوه المتعددة، يتراءى وجه الكاتب الغزير الذي أثرى المكتبة بأعمال متنوعة بين التاريخ والفلسفة والسرد، من "أبوبكر الصديق والسياسة الشرعية" (2012) إلى "حكايات حكيم" (2014) و(خليفة النمرود، والسرداب)، وصولاً إلى (الزئبق) التي تمثل ذروة نضجه الإبداعي.

من هذه التربة الثرية، ومن هذا العقل الجغرافي، تنبع رواية "الزئبق" ذلك النص الذي يستدعي قارئه ليسافر عبر الأزمنة، وليفكك الشفرات، ويشارك في صنع المعنى.

عتبة الغلاف: البوابة البصرية إلى عالم الزئبق

لا يمكن تجاهل أولى العتبات التي تستقبل القارئ، في رواية "الزئبق"، لو افترضنا أن الغلاف يحمل صورة تجريدية تظهر: قطرة زئبق فضية تتدحرج على سطح أسود، وخطوط زمنية متشابكة تشبه دوائر متداخلة، أجزاء من وثائق قديمة تظهر بشكل شفاف.

هذه الصورة البصرية تؤسس لـ جمالية التلقي البصري حيث تقدم بشكل مجازي مكثف أهم ثيمات الرواية: سيولة الزمن وعدم ثباته (كطبيعة الزئبق)، وتشابك الأزمنة (الخطوط المتداخلة)، وأسرار التاريخ (الوثائق الشفافة)، هذا الغلاف لا يزين الكتاب فحسب، بل يخاطب حدس القارئ ويعده لدخول عالم من الانزياح والغموض، مثيراً فضوله منذ النظرة الأولى.

العتبات النصية الأولى: عقد القراءة

منذ الصفحات الأولى، تبرم الرواية عقداً غير مألوف مع القارئ من خلال:

الإهداء غير التقليدي:

الإهداء إلى "جامعة طبرق" وقسم "الدراسات العليا في الجغرافيا الطبيعية" ليس إهداءً عاطفياً تقليدياً، بل هو إشارة محورية إلى أن الجغرافيا والعلم سيكونان محورين أساسيين في الأحداث، مما يهيئ القارئ لرواية علمية وفكرية أكثر منها عاطفية.

التقديم كخارطة طريق:

تقديم سليمان محمود للرواية يعمل كـ دليل قراءة، حيث يصف النص بأنه: "رحلة سريعة الغموض"، و"خيط رفيع بين الخيال العلمي والواقع"، و"لا تُحدّد الفصول الزمنية بل تُمحى الحدود بينها"، هذا التقديم يبرم عقد قراءة واضحاً مع المتلقي: أنت مقبل على نص معقد، غير تقليدي، يتطلب قارئاً نشطاً، إنه تحذير ووعد في الوقت نفسه.

الاستهلال الغامض:

تبدأ الرواية باقتباس شعري: "أعرف أننا نكتب عن الذين نحبهم في ظلال حروفنا..." هذا الاستهلال الانزياحي يخلق تناقضاً مثمراً مع العالم العلمي الصارم الذي تليه الأحداث، مُلمحاً إلى أن الرواية تحمل أيضاً بعداً إنسانياً وشاعرياً تحت قشرتها العلمية.

خلاصة العتبات: معاً تشكل هذه العتبات الأولى نظاماً استهلالياً متكاملًا يهيئ القارئ لدخول عالم الرواية بذهن متفتح، متخلصاً من توقعات القراءة التقليدية، إنها تصمم قارئاً مثالياً للنص، قارئ يقبل الانزياح، ويستمتع بالغموض، ويشارك في بناء المعنى منذ العتبات الأولى.

هذه العتبات ليست مجرد ديكور، بل هي أجزاء عضوية من استراتيجية التلقي التي تبنيها الرواية، مما يجعل عملية القراءة تبدأ فعلياً من لحظة النظر إلى الغلاف، وليس من أول سطر في الفصل الأول.

تندرج رواية "الزئبق" للكاتب الليبي فتحي محمد مسعود ضمن ذلك النوع من النصوص السردية التي لا تكتفي بسرد حكاية، بل تُشرك القارئ في عملية بناء المعنى، وتستدعيه ليصبح شريكاً في فك شفرات النص واستنباط دلالاته، من خلال تقنيات سردية متقدمة، وبناء عالمي معقد، وخطاب موجه مباشرة إلى وعي المتلقي، تقدم الرواية نموذجاً في جماليات التلقي، حيث يصبح القارئ ليس مجرد مستقبل، بل فاعلاً في النص.

الانزياح الزمني وتشويش الحدود: استراتيجية استدعاء

هذا الإطار المستقبلي لا ينفصل عن الماضي؛ فالرواية تعود بنا إلى وثائق سرية من عام 2019 وأحداث تاريخية حقيقية مثل جائحة كوفيد-19، هذا الانزياح الزمني المستمر بين الماضي والمستقبل، وطمس الحدود بينهما، يخلق حالة من اللايقين تجبر القارئ على التساؤل: هل نحن أمام خيال علمي؟ أم أن هذا المستقبل هو نتيجة حتمية لمؤامرات الماضي؟

هذا التشويش المقصود هو استراتيجية تلقيوية بارعة، القارئ لا يتلقى الحكاية جاهزة، بل يُجبر على بناء الجسور بين الأزمنة، وربط الخيوط، والبحث عن السبب وراء الكارثة، النص يقدم المعلومات على شكل أجزاء مفككة – وثائق مسروقة، تقارير سرية، ذكريات مشتتة، وعلى القارئ أن يقوم بعملية التجميع.

(2)

تعدد الأصوات وانهيار سلطة الراوي الواحد

لا توجد حقيقة مطلقة في "الزئبق"، الرواية تقدم وجهات نظر متعددة من خلال: الراوي الرئيسي (عالم بيولوجي)، والدكتور لويض، والوثائق السرية التي تكشف مؤامرات الدول العظمى، وخطابات الشخصيات الأخرى مثل العلماء الليبيين.

هذا التعدد يخلق ما يسمى في نظرية التلقي "الأفق المنتظر" المتعدد، كل قارئ قد يميل إلى تصديق رواية على أخرى، هل الكارثة نتيجة حرب بيولوجية؟ أم بسبب تغير المناخ؟ أم بسبب مؤامرة لشركات الطاقة؟ النص لا يجيب بشكل قاطع، بل يترك المساحة مفتوحة لتأويل القارئ، مما يعزز شعوره بالمشاركة الفعالة وإعادة إنتاج النص وفقاً لرؤيته.

(3)

القارئ بوصفها "محققاً": النص كلغز

تحول الرواية عملية القراءة إلى تحقيق القارئ، مثل البطل، يُلقى عليه في بحر من الوثائق والأسرار (مثل المستند رقم 13، ووثيقة "زئبق"، وتقارير مؤتمر كندا)، اللغة نفسها تصبح شفرة يجب فكها، الأحداث لا تأتي مرتبة زمنياً، بل تتداخل كقطع أحجية (بازل)، جمالية التلقي هنا تكمن في الإرضاء الذهني الذي يشعر به القارئ عندما ينجح في ربط حدث من الماضي بحدث في المستقبل، أو عندما يكتشف خيطاً خفياً يربط بين شخصيتين.

(4)

الانزياح عن المألوف: تخريب التوقعات

تُخيب الرواية توقعات القارئ التقليدية بشكل متعمد، فبدلاً من أن يكون البطل منقذ العالم، نجد أن البطل نفسه قد يكون أداة في يد القوى العظمى مثل (الزئبق)، وبدلاً من أن يكون العلماء أبطالاً خيرين، نكتشف أن بعضهم قد يكون ضحية أو جزءاً من لعبة أكبر، حتى نهاية الفصل الثاني، لا نعرف من هو الخير ومن هو الشر بشكل واضح.

هذا الانزياح عن النمطية يخلق حالة من القلق والتوتر، ويجبر القارئ على مراجعة افتراضاته باستمرار، مما يجعله في حالة تأهب ونشاط ذهني دائم.

(5)

الانزياح اللغوي: بين الشعرية والتقنية

اللغة في "الزئبق" هي عالم قائم بذاته، تتنقل بين: اللغة العلمية الجافة في تقارير المؤتمرات، واللغة الشعرية الاستعارية في المشاهد التأملية (الزمن سائل لا يمكن الإمساك به، كقطرة الزئبق)، ولغة التشويق في المشاهد البوليسية.

هذا المزيج اللغوي يخلق إيقاعاً نصياً متغيراً، لا يسمح للمتلقي بالاستقرار في نمط واحد، فيحافظ على انتباهه ويستدعيه عاطفياً وفكرياً في آن واحد.

خاتمة: القارئ شريك في إبداع المعنى

(الزئبق) ليست رواية للمتعة السلبية؛ إنها دعوة صريحة للحوار، النص لا يكتمل إلا بقارئ نشط، يشارك في بنائه، يتساءل، يشك، ويبحث عن الحقيقة بين السطور، من خلال الانزياح الزمني، وتعدد الأصوات، وطبيعة النص كلغز، واستراتيجية تخريب التوقعات، تنجح الرواية في تحويل فعل القراءة من تلقٍ سلبي إلى مغامرة ذهنية وفكرية شاقة ومثيرة.

هي رواية تليق بعصرنا المعقد، حيث الحقيقة ليست واحدة، والواقع قابل للتشكيل، والقارئ هو من يملك آخر قطعة في أحجية المعنى.

***

رزق فرج رزق - ليبيا

د. سمر محمد المحني

مدخل: عندما حدث أول تقسيم كبير للعمل بين المرأة والرجل، في تاريخ البشريّة، ظهر (عصر الأمومة) حيث تحكمت المرأة في شؤون الحياة الأسريّة والاجتماعيّة، كونها هي الأكثر استقراراً في الانتاج من الرجل الذي كان يذهب إلى الصيد – قد يصطاد وقد لا يصطاد –، بينما هي كان انتاجها ثابتا ومستقراً بما تقوم به من تربية للإنسان وتأنيس للحيوان والتقاط للثمار.

هنا تجلت الحياة الروحيّة في عشتار آلهة الخصب، وكل ما تفرع عنها من آلهة تمثل ما يتعلق بالمرأة وجمالها.

مع تطور قوى الانتاج وعلاقات الانتاج وزيادة استقرار الفرد والمجتمع، ظهر التقسيم الثاني الكبير للعمل بين الزراعة والحرفة والرعي. وهنا برز دور الرجل في الإنتاج، الذي راح بدوره يقصي المرأة ويقلل من مكانتها، وحتى في الجانب الروحي ظهر الإله الذكورة "بعل وتموز وباخوس وآمون، وغيرهم الكثير. ومع ظهور الملكيّة الخاصة، تحولت هذه المرأة ذاتها إلى جزء من ملكيّة الرجل وجاءت الديانة اليهوديّة لتعتبرها حيّة وعقربة ونجسة وناقصة عقل ودين، وهذا التوصيف للمرأة تبناه الفقهاء الإسلاميون أيضاً فيما بعد.

أمام هذه الواقع المتردي لحياة المرأة في التاريخ القديم والحديث والمعاصر، بدأت تظهر أصوات قويّة نسائيّة وذكوريّة تطالب بإنصاف المرأة، فعقدت الندوات والمؤتمرات الدوليّة التي تبحث في قضية الجنوسة والجندرة معا.

ومن هذا الواقع المتردي للمرأة في تاريخنا المعاصر، نقف عند قصيدة شاعرة أردت أن توجه للذكر رسالة مشبعة بروح التحدي من جهة، وتذكيره بأن (عشتار) لم ولن يستطيع إقصائها وقمها وهي التي منحته سر الوجود والخلود معا من جهة ثانية.

السيرة الذاتيّة للشاعرة.

"د. سمر محمد المحني" ..أديبة وباحثة اجتماعيّة من اليمن .. تحمل شهادة دبلوم عالي من كلية التربية - جامعة الحديدة، اختصاص اجتماعيات.. وبكالوريوس شريعة وقانون من جامعة المستقبل – صنعاء.. ودبلوم في الجرافيك والتصميم (في المجال المهني).. ودكتوراه فخرية في مجال التنمية البشريّة.. ومدربة دوليّة بدرجة الامتياز.. تعمل حاليّاً رئيسة أكاديميّة الأدب والرواية والقصة والقصيدة.. وهي تحمل العديد من الشهادات المتعلقة بمجالات تنمية الإنسان وتطوير مهارته.. تكتب القصة القصيرة والشعر. ومن بين كتاباتها الأدبيّة اخترنا هذه القصيدة النثريّة موضوعا لدراستنا، وهي بعنوان: (روحُكَ بيدي).

البنية الحكائيّة أو السرديّة لقصيدة: (روحُكَ بيدي)

تخاطب الشاعرة الأنثى حبيبها الذكر الذي تمرد عليها: أنت.. أيها المتمرد الناكر للجميل، لا زالت روحكَ بيدي.. وإن كل القصائد التي صغتَها لأجلي منذ ألف عام، لم تزل تسري في ذاكرتي وتنبؤوني، وتقول لي بأني سأبقى أُبْعَثُ دائما في دمك، وأحتل أضلعك، كوطن يسكن فيك ولا تستطيع الخلاص منه..نعم.

روحكَ بيدي...

قصائدكُ منذُ ألفِ عامِ

كانت نبوءاتٍ تسريٍ

وتُعلن بعثي في دمِك،

واحتلالي أضلعَك

كأنني وطنٌ يفتَحُ أبوابَهُ فيك.

أنا خُلقتُ وأحمل لك منذ ولادتك الحب وسر الخلود.. فكانت رسالتي إلى قلبك مشبعةً بالحب والوله.. وأخلاق الهوى عندي دستورُ بذخٍ، وكل دلالي وغنجي هو عهودُ مواثيقٍ تغنيها النجوم.. وما فتوحاتي إلا عينك وسمعك وصوتك، وحتى قلمُكَ الذي أحببته نهض بسببي من تحت الركام، ليباركَ خطاكَ المرتجفة، ويجعل من صوتك البالي المرتعش بلبلاً يشدو.. فتغني الطبيعة معه وترقص. تقول:

رسالتي إلى قلبك:

حبٌ وولهُ،

فتوحاتي:

عيناكَ .. سمعُكَ..

صوتًكَ المنحبسُ

وقلمُكَ الذي جنْدَلْتَهُ

بيديكَ،

فأحييتُه بمعجزتي،

فنهضَ من تحتِ

الركامِ

يباركُ خطاكَ

المرتجفة،

ويجعلُ ارتعاشَ

صوتِكَ البالي

بلبلاً يشدو،

فيرقصُ له الربيع.

هل نسيت؟!... حتى شتاءُ قلبكَ الذي كان جذوةً هامدةً، أنا من ألقيت في هذه الجذوة نار حبي، فاشتعلت كل جوارحك ناراً.. هل تذكر عيوني العسليّةُ؟..  هل تعرفها؟... ألا تتذكرها؟.. هي وحدها من غذتكَ، ففارت الشجاعةً في أوردتِك حتى صرت عنترة، وأصبحتُ أنا سَيْفَكَ المستور... أنا المرأة التي تحولت اضلعي إلى قيثارة حب لك فغنيتَ بها وتلوتَ كتابي المقدس فحزت على بركة عبادتي، وفاض حبكُ لي حتى التخمة. تقول:

حتى شتاءُ قلبِكَ

جذوةٌ خامدةٌ

ألقيتُ فيها أحرفي

فاشتعلتْ مسارِحُكَ

ناراً

وعيوني العسليةُ

أتذكرها ؟.... غذَّتْكَ،

فَفُزْتَ شجاعةً في

أوردتِك،

فًصُرْتَ عنترةً،

وتلوتَ كتابيَ المقدسَ

فنُلتَ بركاتِ العبادة ...

ففاضَ بك حتى التخمة.

والآن جئت تقول: بأنك فارسُ الحرف وترياقُ البيان؟. فأي هذيان هذا الذي تقول يا (سامري الزمن الحديث).. أتريد الكذب على الناس لتعمي بصرهم وبصيرتهم عن الحقيقة في زمننا الحديث؟.. ربما سيصفقُ لك الجمهور .. ولكن مكركَ وخيانتكَ لكل ما قدمتهُ لك سيأتي اليوم الذي تُكشفُ فيه حقيقتكَ وزيفكَ وتزويركَ للحقيقة والتاريخ. تخاطبه:

الآن تقول:

أنا فارسُ الحرفِ،

ترياقُ البيان؟.

أي هَذًرٍ هذا

يا سامريَّ الزمنِ

الحديث؟.

أنتَ خائنٌ.. ناكرٌ..

مشركٌ حتى الجحود.

لعنةُ الشِّركِ التي

أويتَهَا في أضلعك

ستنهّشُكَ –

لن أتركك يامن أنكرت كل جميل صنعته لك.. سأصب عليك لعنتي إلى يوم النشور.. ستسقط عنك ورقة التوت إكراما لحبي لك الذي باركته (أزيس)، وصادق عليه (أوزاريس) منذ عهد التاريخ.. نعم أنت لست أكثر من صدى يعيدُ مجد ملكي، ولكن مجدي لن يستلبَ ولن يباعَ في أسواق الزيف والنفاق ... عهداً سيبقىَ الحرفُ طفْلِيَ.. والحبُ نحري.. والصدقُ صدري.. وآخرُ ملوكِ الكلامِ عصري. تخاطبه:

أنا أصبُ لعنتي ...

لعنةٌ تمتدُ إليك

حتى يومَ النشور،

تُسْقِطُ عنك

أوراقَ الديون،

دَيْنُ حبٍ طاهرٍ

باركتهُ أزيس

وصادقَ على نورهِ

أوزاريس العظيم،

صدئٌ أنتَ.

تُعيدُ نشرَ مجدٍ هو

ملكي،

أنا من بحتُ بالحرفِ

في أضلعكَ

روحكُ بيدي

وآخرُ ملوكِ الكلامِ

عصري..

البنية الجماليّة والفنيّة في القصيدة:

قصيدة النثر أو الشعر المنثور كما عرفناها في أكثر من دراسة، هي قطعة نثر، غير موزونة وتتوزع القافية إن وجدت في القصيدة على مناطق مختلفة من الابيات، وأحياناً تكون غير مقفاه، تحمل صورًا ومعانٍ شاعريّة، وأغلبها تكون ذات موضوع واحد.

ومع ذلك، تظل قصيدة النثر هي الأكثر قدرة على التعبير عن دواخلَ ومكنوناتٍ الشاعر الذي غالبا ما يطمح للتعبير عن واقع يعيشه، أو أحاسيس ومشاعر فياضة قلقة بحاجة للبوح بها، ولكون القصيدة التقليديّة التي تلزم الشاعر بالوزن والقافية، وحتى قصيدة التفعيلة التي تمنحه مساحة واسعة للتعبير عن أحاسيسه ومشاعر إلا أنهما تَحُولان دون قدرة الشاعرعلى البوح بكل ما يريد قوله أو التعبير عنه بحرية. فيلجأ هنا لقصيدة النثر التي تمنحه القدرة على الابحار في عالم الفكرة وعالم الأحاسيس والتخيل والواقع معا.

إن قصيدة الشاعرة "سمر" (روحُكَ بيدي)، تدخل في فضاءات قصيدة النثر، حيث استطاعت الشاعرة أن تترك العنان لفكرها ومشاعرها وأحاسيسها وخيالها المبدع، أن تعبير عن قضية شغلت العالم ولم تزل، وهي قضية المرآة. فبعمق ثقافتها ورهافة حسها، استطاعت الشاعرة أن تصور لنا ذاك الانقلاب التاريخي الذي تجلت فيه الذكورة بكل قسوتها ضد المرأة، التي جاءت به إلى هذا الوجود وغرزت فيه قيم الحب والجمال والخير والعمل.

الصورة في القصيدة:

نظراً لافتقاد قصيدة النثر كثيراً إلى فنيات الشعر العمودي والتفعيلة، إن كان في أسلوب سردها، أو موسيقاها، أو بلاغتها، أو محسناتها البديعية والبيانية، أو في تراكيب عباراتها ومحسناتها البديعيّة وبلاغتها .. وغير ذلك إلا أنها تحاول أن تعوض كل ذلك من خلال اعتمادها على الصورة الشعريّة كثيرا، الحسيّة منها والتخيليّة. وبناءً على ذلك جاءت قصيدة (روحك بيدي) معتمدة كثيراً على الصورة الشعريّة بشكل يمنح بنية القصيدة طاقاتٍ جماليّةً تساهم في نقل التجربة الشعريّة من الوصف السردي المجرد، إلى بناء علاقات مجازيّة مبتكرة عبر اللغة والتخييل.

فمن عنوان القصيدة (روحك بيدي) تأخذ الصورة تموضعها في بنية القصيدة لتتوالى بعد ذلك بحالة فيض كقولها: (وتعلن قصائدك بعثي في دمِك.. واحتلالي أضلعَك .. كأنني وطنٌ يفتَحُ أبوابَهُ فيك.. وأخلاق الهوى دستورُ باذخٍ...ودلالي عهودٌ ومواثيق.. تُغَنّيها الشهبُ... فتوحاتي: عيناكَ .. سمعُكَ.. الخ من بقية الصور الحسيّة والتخيليّة التي غطت مساحة واسعة من بنية القصيدة فأضفت عليها حالات جماليّة تشدُ المتلقي لهذه الجماليّة في التصوير، وبما تحمله من رؤى فكريّة عميقة وجد فيها المتلقي ذاته بهذا الشكل أو ذاك، الأمر الذي أتاح للشاعرة أيضاً عبر استخدامها لهذه المجموعة المتنوعة من الصور البلاغيّة، خلق جو شعري خاص. عبر عن تجربة الشاعرة الداخليّة وعواطفها وأفكارها،

اللغة في قصيدة (روحُك بيدي):

لقد جاءت اللغة في القصيدة سهلةً، واضحةً، سمحةً، ناصعةً، وفصيحة، ومسبوكة الألفاظ، منسجمة مع بعضها في بنية القصيدة وخالية من البشاعة. فجودة السبك وبراعة صياغته وتسلسل عبارته وتخير ألفاظه وإصابتها لمعناها، كانت وراء سر فن التعبير في هذا النص الشعري.

الرمز والايحاء والاشارة في القصيدة:

إن توظيف الرمز في (قصيدة النثر) سمة مشتركة بين غالبيّة الشعراء على مستويات متفاوتة، مع تنوع في عمق سيطرة الرمز أو بعض مفرداته كالإيحاء والاشارة من خلال لغة القصيدة وتراكيبها وصورها وبنياتها المختلفة، فالرمز بشتى صوره المجازيّة والاشاريّة والإيحائيّة، هو تعميق للمعنى الشعري، ومصدر للإدهاش والتأثير وتجسيد لجماليات التشكيل الشعري.

وإن ما يميز القصيدة النثريّة بشكل خاص، هو عدم طموحها على إبراز الوجدانيات والعواطف كثيراً في بنيتها، بقدر ما تطمح إلى  التعبير عن نوع من فهم الواقع نفسه أو طبيعة الحدث الذي يشتغل عليه الشاعر. بيد أن الشاعرة "سمر محمد" استطاعت أن تعلي من شأن الحالات الوجدانيّة أو العاطفيّة. وبذلك عملت "سمر" في قصيدتها النثريّة (روحُك بيدي)، على نقل الواقع إلى آفاق تجارب شعريّة جديدة دمجت العالم داخلها ومنحته طاقة جماليّة عبر أبنية المجاز والرمز والإشارة. تقول الشاعرة:

(قصائدكُ منذُ ألفِ عامِ.. كانت نبوءات تسريٍ وتُعلن بعثي في دمِك.) فالشاعرة في هذه الإشارة تشير إلى عمق التاريخ، فهي تريد أن تقول هنا للذكر: أنا الأصل وأنا مَنْ منحك الحياة البيولوجيّة والروحيّة معا. وقولها: (فيرقصُ له الربيع.)، فالربيع هنا دلالة على الخصب والعطاء الذي قدمته المرأة لهذه الحياة والذكر معاً. وفي قولها: (فَفُزْتَ شجاعةً في أوردتِك، فًصُرْتَ عنترةً،). فعنترة هنا رمز للشجاعة والقوة. أما في توظيفها للسامري في القصيدة فهذه إشارة إلى الكذب والخداع الذي تحلى به الذكر. فالسَّامِرِيّ شخصيّة تاريخيّة من بني إسرائيل. وهو الذي ذكر في القرآن الكريم في سورة طه، وهو الذي أغوى بني إسرائيل بعد أن ذهب موسى لميقات ربه فأخرج السامري عجلاً أمرهم بالسجود له.

أما الرمز في (إوزيس وأزيريس) فـ "إيزيس" إلهة مهمة في الديانة المصريّة القديمة وزوجة الإله "أوزوريس" وأم حورس. كانت تُعبد كإلهة للسحر والأمومة والحياة والموت، واشتهرت بإحياء زوجها أوزوريس بعد مقتله. وانتشرت عبادتها أيضًا في العالم اليوناني والروماني، حيث اعتبرت "الأم العظيمة" و "سيدة السحر".

الغموض في القصيدة:

إن ما يميز القصيدة النثريّة عند حديثنا عن سماتها وخصائصها هو الغموض، والسبب في ذلك برأيي، هو أن الشاعر يلجأ كثيراً إلى الصورة التخيليّة في التعبير، وأن التوجه نحو الصورة التخيليّة، يُفقد إلى حد ما ارتباط القصيدة بالواقع. من هنا جاء الغموض واضحا في بعض مفاصل قصيدة (روحُك بيدي)، بالرغم من أنها تشير إلى هدف عام، ولكن يظل المتلقي من خلال ثقافته واهتماماته هو المعني بمعرفة هذا الهدف. وعلى هذا الأساس نقول إن القصيدة في غموض دلالاتها في الحقيقة تحمل بعدا آخر برأيي. فيمكننا أن نجد في بنيتها السرديّة قصة فتاة خانها حبيبها بعد أن ضحت بكل شيء من أجله، وأرادت أن تقول له من أنت حتى تخونني؟.. فأنا من صنع وجودك المادي والروحي معا.

***

د. عدنان عويّد

كاتب وباحث وناقد أدبي من سوريا.

........................

روحُكَ بيدي

روحكَ بيدي...

قصائدكُ منذُ ألفِ عامِ

كانت نبوءات تسريٍ

وتُعلن بعثي في دمِك،

واحتلالي أضلعَك

كأنن وطنٌ يفتَحُ أبوابَهُ فيك.

رسالتي إلى قلبك:

حبٌ وولهُ،

وأخلاق الهوى دستورُ

بذخٍ

ودلالي عهودٌ ومواثيق

تُغَنّيها الشهبُ.

*

فتوحاتي:

عيناكَ .. سمعُكَ..

صوتًكَ المنحبسُ

وقلمُكَ الذي جنْدَلْتَهُ

بيديكَ،

فأحييتُه بمعجزتي،

فنهضَ من تحتِ

الركامِ

يباركُ خطاكَ

المرتجفة،

ويجعلُ ارتعاشَ

صوتِكَ البالي

بلبلاً يشدو،

فيرقصُ له الربيع.

شتاءُ قلبِكَ

جذوةٌ خامدةٌ

ألقيتُ فيها أحرفي

فاشتعلتْ مسارِحُكَ

ناراً

وعيوني العسليةُ كما

تعرفها

أتذكرها ؟.... غذَّتْكَ،

فَفُزْتَ شجاعةً في

أوردتِك،

فًصُرْتَ عنترةً،

وأصبحتُ أنا سَيْفَكَ

المستور.

غنيتَ بحرفٍ من

أضلعي

وتلوتَ كتابيَ المقدسَ

فنُلتَ بركاتِ العبادة ...

ففاضَ بك حتى التخمة.

الآن تقول:

أنا فارسُ الحرفِ،

ترياقُ البيان؟.

أي هَذًرٍ هذا

يا سامريَّ الزمنِ

الحديث؟.

أيصفق لك الجمهور؟

أنتَ خائنٌ.. ناكرٌ..

مشركٌ حتى الجحود.

لعنةُ الشِّركِ التي

أويتَهَا في أضلعك

ستنهّشُكَ –

ستفتُكُ بك أصداءُ

التخوم

حين يبعثرُ شِغَافَكَ

المهترئ

ويجمعهُ نزقٌ وخوفٌ

كنت مشركاً، ولا زلت

تنقب عن شريكٍ

وإلهُك حرفٌ

تنتظمهُ في عشقِ امرأةٍ

تخُونكَ مراراً،

وتكيلُ لبناتِ عهدكَ

آلافَ الهجاء.

قِفَةٌ أنتَ،

وهي غِطاؤُك –

غطاءُ تَزْكُمُهُ

علاقاتُ الخساسةِ،

ورائحةُ نخاسهٍ

تتسلّلُ كغانيةِ الخيام.

*

أنا أصبُ لعنتي ...

لعنةٌ تمتدُ إليك

حتى يومَ النشور،

تُسْقِطُ عنك

أوراقَ الديون،

دَيْنُ حبٍ طاهرٍ

باركتهُ أزيس

وصادقَ على نورهِ

أوزاريس العظيم،

أعلنُ موتَ رياضِ

الشعرِ فيك،

وانطفاءَ الحرف.

*

صدئٌ أنتَ.

تُعيدُ نشرَ مجدٍ هو

ملكي،

ومجديً لن يستلبَ

لن يباعَ في سوقِ

تصفيقٍ رخيص

لن يُهاَن.

*

أنا من بحتُ بالحرفِ َ

في أضلعكَ

أشهرتُ رمحاً، وقلدتُكَ

لقباً.

*

روحكُ بيدي

عهداً سيبقىَ الحرفُ

طفْلِيَ

الحبُ نحري..

والصدقُ صدري

وآخرُ ملوكِ الكلامِ

عصري..

*

وهذا انتصاري:

أن كتَبَتُكَ،

ثم أمحُوكَ،

فأبقى أنا القصيدةُ –

وتبقى أنتَ هامشَ

تهجدِ في معبديِ ذاتَ

يوم

وانتهى.

***

م. د. سمر محمد

 

ينتمي نص الشاعرة الجزائرية نادية نواصر "كن لباساً لي" إلى فضاءٍ شعريٍّ تتقاطع فيه التجربة الوجودية والروحية والأنثوية ضمن رؤية رمزية عالية الكثافة، تُعيد صياغة علاقة الإنسان — وبالأخص الأنثى — بالكون، والذات، والآخر، والقداسة.

في زمنٍ تواطأت فيه العقول على الصمت، وتآلفت الحواس مع الركود، تبدو الحاجة ماسّة إلى استعادة الجنون بوصفه يقظةً عليا لا سقوطاً في العبث. فالمجنون الحقّ، كما رآه نيتشه، هو من يمتلك شجاعة الانفصال عن القطيع، ومن يجرؤ على رؤية الحقيقة بلا أقنعة. إنّ غياب هذا "الجنون الخلّاق" في ثقافتنا ليس سوى علامة على تبلّد الحسّ الجمعي، وضمور القدرة على الاندهاش، وتحوّل الوعي من طاقة حارقة إلى رماد بارد.

تسعى هذه الدراسة إلى تفكيك فكرة "الجنون" بوصفها استعارة وجودية وثقافية، وإلى الكشف عن علاقتها بالتحرّر والإبداع، في مقابل "العقل المروّض" الذي جعل من الإنسان العربي كائناً متكيّفاً مع القبح، بدلاً من أن يكون شاهداً على الجمال ومتمرّداً على الركود.

في سياق هذه الدراسة النقدية التحليلية الموسّعة، أعتمد المنهج الهيرمينوطيقي التأويلي والأسلوبي والرمزي والجمالي والوطني والسيميائي، مع الغوص في البنية النفسية والدينية للنص، وكشف ما تحته من توترٍ وومضٍ وتأويل.

أولًا: العتبة النصية والتأويل الهيرمينوطيقي للعنوان

١- العنوان «كن لباسًا لي» يقوم بوظيفة رمزية عالية ويفتح أفق التأويل على مستويات متداخلة:

٢- دينياً: إحالة إلى الآية القرآنية: «هن لباسٌ لكم وأنتم لباسٌ لهن»، فيكون اللباس هنا رمزًا للستر، والأمان، والالتحام الوجودي بين الروحين.

٣- وجودياً: اللباس هو ما يقي العراء الداخلي للذات، أي بحث الإنسان عن معنى يحتضنه في عزلته الكونية.

٤- شعرياً: اللباس استعارة عن الكلمة نفسها، عن اللغة التي تتشكل لتغطي جرح الوعي وتُعيد للذات دفأها في برد العالم.

إذاً، العنوان يُبشّر منذ البدء بنصٍّ يسعى إلى التحامٍ وجوديٍّ بين الذات والآخر، بين الإنسان والمطلق، بين الأنثى والعالم.

ثانياً: فضاء الغربة والبرد — القراءة الهيرمينوطيقية الوجودية:

تفتتح الشاعرة ناديا نواصر نصها بهذه اللوحة، تقول:

- في المدار العامر بالغربة والصقيع

وعلى رصيف العمر المتعب

حيث دقت أجراس الخواء

واعتراني أنين الروح...

يبدو الافتتاح نُقطة انطلاق لتجربة أنطولوجية عميقة، إذ تُشيّد الشاعرة فضاءً سردياً يتقاطع فيه الوجود والعدم، الامتلاء والخواء، الدفء والصقيع.

إنها ترسم مشهد الكائن المعاصر في غربةٍ كونية، على رصيف العمر، أي على هامش الزمن، حيث تدق أجراس الخواء — وهو تعبير سيميائي عن انقراض المعنى وضياع المقدّس.

- من منظور هيرمينوطيقي، يمكن القول إن هذا المقطع يُعبّر عن تجربة تأويلية للعالم كغياب، حيث الغربة ليست مجرد حالة شعورية، بل تجسيد لفراغ المعنى في زمن “الزمن الضال”، كما تقول لاحقًا.

ثالثاً: التحليل الأسلوبي — اللغة بوصفها كينونة:

أسلوب نادية نواصر كثيف، متشظٍ، يقوم على المجاز المركّب.

اللغة هنا ليست أداة وصف، بل حالة وجودية تتجسد فيها المعاناة والتحوّل:

١-الجمل تتقاطع في حركة دائرية تحاكي دوران الكائن في "مدار الغربة".

٢- الأفعال تأتي في نسقٍ توتّري: اعتراني، مزّق، لملم، رحت، انزف، ابصر...، ما يمنح النص ديناميكية شعورية تحاكي الانفعال الداخلي.

٣- تتعدد الحقول المعجمية: (الروح، الصقيع، النور، الخفق، الصراع، المحنة، المحراب، المطر...)، وكلّها تُحيل إلى تجربة صوفية–أنثوية تبحث عن المعنى بين الألم والرجاء.

٤- الأسلوب قائم على اقتصاد العبارة وغزارة الإيحاء، وعلى انزياحٍ لغوي يرفع الكلمة من وظيفتها الإخبارية إلى مقام الرمز الشعري.

رابعاً: القراءة الرمزية والسيميائية — المعجم الدلالي للرموز:

القصيدة شبكة رموز متماسكة، تُبنى بعناية لاهوتية وشعرية في آنٍ معاً.

- الرمز دلالته التأويلية وظيفته السيميائية:

الصقيع فراغ الروح، قسوة العالم، موت العاطفة علامة على اغتراب الكائن في عالمٍ بلا دفء

أجراس الخواء صوت العدم تجسيد لصدى داخلي يذكّر بالفراغ المقدّس

الكاهنة الأنثى العارفة، الحارسة للسر تمثيل لعودة الصوت الأنثوي في التاريخ

الصلصال الخلق والضعف الإنساني رمز للتكوين الأول، للإنسان الذي ما زال في طور العجن الإلهي

جب يوسف محنة المعرفة والاصطفاء تجسيد للغور الداخلي حيث يبدأ التحول الروحي

الفراشة الهشاشة والتحول رمز النفس التي تحترق في النور لتولد من رمادها

اليقطين والنرجس والياسمين رموز نباتية روحية إحالات إلى البراءة والمعرفة والجمال المنقذ

اللباس الستر، الحماية، الاندماج الروحي الرمز المركزي: وحدة الكينونة بين الأنا والآخر

من خلال هذا النسق الرمزي، يتضح أن الشاعرة تبني ميتافيزيقا شعرية للأنوثة، تستند إلى تجربة روحية منفتحة على المقدّس والمأساوي في آنٍ معًا.

خامساً: البنية النفسية والدينية — بين الخطيئة والقداسة

يتخلل النص وعيٌ ديني–نفسي متوتر، إذ تتحرك الشاعرة في منطقة ملغّمة بين الإثم والمعرفة، وبين الطهر والتمرد.تقول:

إني من صلصال الإنسان في الزمن الضال،

فاحفظ نشيدي المر عن ظهر المحنة.

هذا المقطع يلخّص الوعي التراجيدي بالإنسانية الساقطة والمجاهدة في آنٍ واحد.

١- الزمن الضال ← فقدان البوصلة القيمية.

٢- النشيد المر ← الإبداع بوصفه خلاصًا عبر الألم.

٣- المحنة ← امتحان الوجود والروح.

- الخطاب الديني هنا لا يأتي في بعده الطقوسي، بل في بعده الأنطولوجي: إنها صلاة ضدّ الخواء، وعودة إلى “محراب التقوى” لا لطلب الغفران فحسب، بل لاستعادة الإنسان من طينه الأول.

- من منظورٍ نفسيّ، النص يُجسّد صراع الذات الأنثوية بين الاحتراق والنجاة، الانكشاف والستر، الجرح والأمان.

فالقول "كن لباسًا لي" هو طلب للاندماج العلاجي بالآخر الذي يمنحها اتزاناً بعد انفراط المعنى، أشبه بنداءٍ نحو “الأنيموس” في اصطلاح كارل يونغ — المبدأ الذكوري الداخلي في النفس الأنثوية الذي يُعيد توازنها الروحي.

سادساً: المستوى الجمالي والوطني

على المستوى الجمالي، القصيدة لوحة سريالية من الضوء والبرد والنشيد، تجمع بين شفافية الصورة وقوة البنية.

يتجلّى الجمال في:

١- موسيقى داخلية تعتمد على تكرار الأصوات الرخوة (السين، النون، الميم)، ما يمنح النص نغمة روحية شفيفة.

٢- توازٍ إيقاعي بين المقاطع يعيد للقارئ إحساس “التسبيح الشعري”.

٣- بنية الصور تعتمد على التناص مع الأسطورة والرموز الدينية دون انغلاق، مما يمنح النص بعداً إنسانيًا كونياً.

أما البعد الوطني، فيتجلى خافتًا لكنه حاضرٌ من خلال الإحالة إلى "الزمن الضال" و"أجراس الخواء"، وهي إشارات رمزية إلى وطنٍ مثخنٍ بالخذلان، وإلى الذات الجماعية التي تبحث عن خلاصها في فضاء من العراء والتمزق. إن استدعاء "جب يوسف" و"صلصال الإنسان" يُشير ضمنًا إلى الهوية الممزقة للعالم العربي بين المحنة والأمل.

سابعاً: القراءة السيميائية الكلية للنص

النص منظومة علامات متشابكة تعمل وفق دائرة دلالية مغلقة–مفتوحة:

1. الفضاء المكاني: (المدار، الرصيف، المفترق، المحراب، الجب...)

→ تمثل رحلة الداخل والخارج، بين العزلة والانفتاح.

2. الفضاء الزمني: (مواسم المطر، الفصول، الزمن الضال...)

→ يعبّر عن التحوّل والديمومة والتجدّد.

3. الفضاء الصوتي: (أجراس، صلوات، نشيد، أغاني...)

→ يشكل نسيجًا صوتيًا دينيًا–شعريًا، يجعل اللغة أداة خلاص.

4. الذات المخاطِبة والمخاطَبة:

→ “الأنا” الأنثوية في حوارٍ مع “أنت” الغيبي/الرمزي/الإلهي، مما يخلق جدلية الأنوثة والإلهام، الإنسان والمطلق.

في ضوء السيمياء، يتحول النص إلى نظام إشاريّ للبحث عن الالتحام الكوني: الكلمة ← جسد، اللباس ← وعي، المطر ← بعث، الصقيع ← موت، والنداء الأخير "كن لباسًا لي" ← عودة إلى وحدة الوجود.

ثامناً: الخاتمة التأويلية:

قصيدة "كن لباساً لي" هي تجربة روحٍ تبحث عن دفئها في زمنٍ مفقود المعنى.

هي صلاة ضد الصقيع، وأناشيد أنثى تتحدى الخواء بالخلق.

فيها يتعانق الديني بالأسطوري، والأنثوي بالكوني، والجرح بالجمال.

منال نواصر — في هذا النص — لا تكتب عن الحب فحسب، بل عن التحامٍ كونيٍّ يعيد الإنسان إلى فطرته الأولى، ويحوّل الشعر إلى طقس خلاص يعيد للروح لباسها النوراني.

إنها كتابة تمشي على الحافة بين التقديس والجنون، بين الأرض والسماء، لتعلن أن الشعر وحده يملك القدرة على ستر عُرينا الوجودي، وعلى أن يكون “لباساً لنا” في برد هذا العالم.

***

بقلم: عماد خالد رحمة – برلين

...................

كن لباسا لي

شعر نادية نواصر

في المدار العامر بالغربة والصقيع

وعلى رصيف العمر المتعب

حيث دقت اجراس الخواء

واعتراني انين الروح

في الخطوة المكتظة بلسعة البرد

وفي الذي بين جوانحي

من صخب الرحلة المرفوعة

على اذرع من وهن المجاز

في الذي مزق تلافيف الروح

في مهب الريح

ومفترق الجهات

في مقام الكاهنة وهي تسرد

عصف الرماح

على الظهر المكابر

في كل الذي لملم نثار القلب

وسهوب الخفق

عاينتني في المفترق المسمى

ورحت اتحراني

بين ادغال خطاي

ومعبر اليقين

حافية القلب

عارية الروح

إلا من صراع كينونتي المستميت

يا صوت النور

يا هذا الضوء الشفيف

يا صلوات الله

في محراب التقوى

يا نداء السلام الروحي

إني من صلصال الإنسان

في الزمن الضال

فاحفظ نشيدي المر عن ظهر المحنة

كي اخرج

من وهج النرجس

وجرأة الياسمين

من قصص اليقطين

أحمل أشلائي واطلع من جب يوسف

مترعة بكؤوس الحياة

وعنب المواسم

في مدار الفصول

وانحناءة المعنى

يا أنت ، ياصدى الأغاني

وهي تنبثق من أرخبيل الروح

كن لباسا لي

في مواسم المطر

وعواء الريح

كن نارا تسكت ارتجاف الصدر

من برد الفصول

إني الفراشة والنشيد الحر

والصهد الطالع

من وهج الأغاني

رغم السقوط المر

في غياهب الغيم

محمولة على وخز الظنون

وخيبة النوايا

مازلت انزف فيك

ومازلت ابصر ان كفك ملاذي

وأن عينيك شدوي وغنائي

وصبابتي وعطش المساء

إلى ينابيع القول

 

يشكل ديوان "التحليق بأجنحة من حجر" علامة فارقة في التجربة الشعرية للشاعر العراقي يحيى السماوي، إذ يعبّر فيه عن جدلية الاغتراب والمنفى، وعن الشوق العميق إلى الوطن (السماوة/ العراق)، وعن هواجس الذات الممزقة بين الحب والحنين، وبين الأمل واليأس.

العنوان نفسه يحمل تناقضا وجوديا فالتحليق رمز الانعتاق والحرية، بينما الأجنحة من حجر تعبير عن الثقل والقيود والاستحالة. وكأن الشاعر يقول: إن الحرية نفسها مشروطة بعوائق قاسية، وأن الطيران نحو الحلم لا يتم إلا بأجنحة معطوبة أو مثقلة بالوجع.

إن الشاعر العراقي الكبير يحيى السماوي من الأصوات الشعرية العراقية التي ارتبطت تجربتها بالمنفى منذ عقود. فقد دفعته الظروف السياسية القاسية، والملاحقات الأمنية في عهد النظام السابق، إلى مغادرة العراق، فكان الاغتراب سمة بارزة في تجربته الشعرية. وهذا ما يفسر كثافة حضور الوطن في قصائده، حيث يتحول العراق إلى رمز للفردوس المفقود، وإلى جرح دائم يسكن النص.

في هذا الديوان، نجد امتدادا لثيمات شعرية ظهرت في دواوينه السابقة مثل "قليلكِ لا كثيرهن" و"الأفق نافذتي"، غير أن "التحليق بأجنحة من حجر" أكثر كثافة من حيث الحضور الوجودي والصوفي. وهو ديوان يتسم ببنية شعرية تزاوج بين القصيدة الحرة والنص المفتوح على النثرية الشعرية، مما يتيح للسماوي مساحة أكبر لاستيعاب القلق الوجودي والفلسفي الذي يطرحه. ويمكن أن نستشف البداية من قوله:

"وحدي وظلّي

بين أربعةٍ ونافذةٍ تُطلُّ على الحديقةِ

حيثُ لا شجرٌ ولا وردٌ سوى

شوكِ القلقْ" (ص: 4).

فهذه البداية تكثّف روح الديوان كله، إذ نجد فيها وحدة الذات، والغربة، وشوك القلق الذي يطوّق الإنسان في غربته. من هنا يمكن القول: إن هذا الديوان يمثل لحظة نضج تكاملي في مسيرة السماوي الشعرية، حيث تتداخل الأصوات الثلاثة الكبرى في تجربته: صوت الوطن، وصوت المرأة، وصوت الاغتراب الوجودي، لتشكل معا وحدة عضوية تعكس رؤية شاعر يكتب من منفى جسدي ومنفى روحي، ولكنه يُصرّ على التحليق ولو بأجنحة من حجر.2012 yahia

أما متابعة البعد الأدبي والفني من حيث اللغة، والصور الشعرية، والإيقاع، وبنية القصيدة، فيتأسس ديوان "التحليق بأجنحة من حجر" على لغة شعرية غنية بالصور والرموز والاستعارات، لغة تُزاوج بين البساطة في التعبير والعمق في الدلالة. وهذا ليس غريبا على يحيى السماوي الذي يمتلك قدرة خاصة على جعل اللغة اليومية العادية تتجاوز حدودها المألوفة لتصبح لغة رؤيا وحلم. ففي قصيدة "وحدي وظلّي" يقول:

وحقيبةٍ فيها من الكُتُبِ الكثير

وبعضُ ألبسةٍ مُغَلَّفةٍ ـ هـدايـا ـ والقليلُ من العطورِ

وشمعدانٌ بابليٌّ ليسَ أصليّاً

ولكن النقوش البابلية لا أدقْ" (ص: 4).

حيث نلحظ اللغة هنا مزيجا بين الواقعي: الكتب، الألبسة، العطور، والرمزي: الشمعدان البابلي؛ لتخلق مشهدا شعريا يفتح الباب لتأويلات تاريخية وثقافية، حيث يربط الشاعر بين ماضي الحضارة البابلية وحاضره المنفي.

أما صور الديوان الشعرية فهي مركبة ودينامية، تمزج بين الطبيعة: الحديقة، والريحان، والبحر، والتاريخ: أوروك، وبابل، وسومر، وبين الرموز الصوفية: الخمر، والطير، والنور:

"عبرتْ بيَ السبعَ الطباقَ

وسافرتْ بي في بحارٍ لم يزرها السندباد

وليس ينجو من زلازل مائها الضوئيِّ

إلا من غرقْ" (ص: 12).

وهي صورة تنفتح على فضاء كوني واسع، يمزج الأسطورة (السندباد) بالبعد القرآني (السبع الطباق)، في مشهد يرفع التجربة العاطفية إلى أفق كوني أسطوري.

ومن الناحية الإيقاعية، يميل السماوي إلى استخدام قصيدة التفعيلة، لكنه لا يتقيد بالوزن الصارم بل يترك للنص انسيابا نثريا أحيانا. هذا التداخل بين الوزن والنثرية يعكس القلق الداخلي للنص:

جرحٌ بلا نزفٍ

وحزنٌ دون أسبابٍ

وأفكارٌ مضببةٌ مشتْ بي

نحو فيءِ الصالة القزحية الأضواء

في قصر الغدير الرحب" (ص: 13).

وهنا غاب الوزن الشعري التقليدي لصالح إيقاع داخلي قائم على التكرار (بلا نزف، دون أسباب) وعلى تراكم الصور التي تولد موسيقى داخلية متوترة.

ومن أجل أن يبعث السماوي في القارئ دفء المشاعر لم يجعل مقطوعات الديوان قصيرة مستقلة فحسب، بل جعلها نصوصا متدفقة نابضة بالحياة، أشبه بتيار الوعي الشعري. فكثير منها تبدأ بلحظة يومية أو صورة بسيطة، ثم تتوسع عبر التداعيات لتصل إلى عوالم رمزية وفلسفية عميقة.

فعلى سبيل المثال تبدأ قصيدة "وحدي وظلّي" بوصف واقعي: نافذة تطل على الحديقة، لكن المقطوعة سرعان ما تتحول إلى رحلة وجودية تتأمل في معنى الغربة والمصير. من هنا يمكن القول إن البنية الشعرية عند السماوي تقوم على التصعيد التدريجي للصور والمعاني، حيث تتحول القصيدة من مشهد أولي محدود إلى فضاء كوني شامل.

أما البعد الوجودي في الديوان فقد أخذ حيزا كبيرا وشغل مساحة مركزية فيه، فالسماوي شاعر يعيش تجربة المنفى القاسية، وتنعكس هذه التجربة في قصائده التي تنضح بالقلق، والغربة، والبحث عن المعنى، والهواجس المتعلقة بالموت والحياة:

"جرحٌ بلا نزفٍ

وحزنٌ دون أسبابٍ" (ص: 13).

 هذه هي بالضبط اللاجدوى التي تميز التجربة الوجودية، حيث يصبح الألم حاضرا بلا سبب ظاهر، ويتحول الجرح إلى رمز للوجود الإنساني الممزق. كذلك نجد حضورا واضحا للاغتراب:

"أمضيتُ نصفَ العمرِ منطفئَ الخطى

أقفو ضياعا بالمزيدِ من الضياعِ

ونصفهُ الثاني نزيلَ الغربتينِ

وها أنا وحدي وظلي

بين أربعة من الصخر الملون

استجير ولا أجار" (ص: 25).

 فالاغتراب هنا مزدوج، لأنه غربة الوطن، وغربة الروح. وكأن الشاعر يعيش في منفى خارجي (الغربة الجغرافية) ومنفى داخلي (الغربة عن الذات). أما سؤال الموت والحياة فيحضر عبر جدلية الاستسلام والمقاومة:

"أفشلتُ نفسي

بامتحاني في دروس البحر

فاخترتُ الغرقْ

ليكون حبك لي إذا حان الردى

طوق النجاة" (ص: 27).

إن الغرق هنا ليس فقط موتا جسديا، وإنما اختيارا وجوديا يعكس صعوبة التوازن بين الحياة في المنفى والموت في الوطن. إنه خيار بين موتين، وكلاهما محاط باللاجدوى. وممكن أن نستشف من النماذج التي قدمناها أن البعد الوجودي عند السماوي هو القلق واللاجدوى، والمنفى المزدوج الخارجي والداخلي، وجدلية الحياة والموت كخيارات متساوية العبثية.

ومثله البعد الفلسفي نجده يتجلى في الديوان من خلال طرح أسئلة كبرى تتعلق بالحرية والقدر، والحضور والغياب، الكينونة والعدم:

"ما منقذي مني سوايَ 

أنا عدوّي لو جنحتُ عن اليقينِ

وليس غيري من يقيني شر نفسي

من غوايتها

ولا غيري يقود خطاي نحو جنان فردوس

ونحو جحيم نار" (ص: 26).

فهذا المقطع يستحضر بوضوح الفلسفة الوجودية عند سارتر، وكيركغارد، وهايدغر، تلك الفلسفة التي تؤكد أن الإنسان مسؤول عن مصيره، وأنه هو من يختار خلاصه أو هلاكه.

فالفلسفة الوجودية عند هؤلاء تقوم على مبدأ جوهري هو حرية الإنسان ومسؤوليته عن وجوده. فالوجودية عند كيركغارد ذات طابع ديني؛ فهو يرى أن الإنسان يقف أمام الله حرّا، وأن خلاصه يتحقق بالإيمان الفردي الصادق لا بالمؤسسات أو القوالب. أما هايدغر، فوجوديته أنطولوجية، تركز على سؤال الوجود ذاته، وترى أن الإنسان (الدازاين) يعيش في قلقٍ أصيل لأنه يدرك فناءه، وعليه أن يختار العيش الأصيل بدلا من الذوبان في الناس. في حين أن سارتر جعل الوجودية ملحدة وإنسانية؛ فالإنسان عنده لا يُخلق بطبيعة مسبقة، بل يصنع ذاته باختياره الحر، وهو مسؤول بالكامل عن أفعاله ومعناها في عالم بلا إله. وملخص فلسفتهم ثلاثتهم هي الحرية والاختيار والمسؤولية، حيث يختار الإنسان خلاصه أو هلاكه بيده، ومركزها الحضور والغياب:

نزقي أضحى تقى من بعد طيشٍ

عدت كالأمس بتوليَّ المرايا

فاحفظي عن ظهر قلبي

أنت قد أصبحت لي مئذنة العشق

وإني منذ صليت بمحرابك

أصبحت بلال" (ص: 100)

تليه جدلية الوجود والعدم:

"ما انصفتني الغربتان ولا انا

انصفتها إلا هواك المنصفُ"

ومثلها:

سيان عندي أن أصنف مؤمنا

أو انني عبد الغرام أُصنَّفُ

ما دمت اعرفني فليس بضائري

إن قيل خطوي راسخ او أحنفُ"(ص: 91)

وبرأيي أن هذا الكم من البعد الفلسفي في هذا الديوان يضعنا أمام شاعرٍ يمارس فلسفة شعرية لا عبر المفاهيم المجردة، وإنما عبر الصورة والرمز واللغة الشعرية.

ولتعميق المعنى وتخليد الفكرة نرى للبعد الصوفي حضورا في الديوان عبر مزج الحب الإنساني بالحب الإلهي، وتحويل التجربة العاطفية إلى تجربة روحية:

"متوضئاً بنداكِ صليتُ الغروبَ

ميمماً نحو الوحيد الواحد الأحد الفؤادَ

ونحو خذرك مقلتي

وفمي توجه نحو كوثر زمزمكْ" (ص: 15).

فضلا عن الرموز الصوفية التقليدية مثل: الخمر والطير والبحر والنور، كما في قوله:

"أسقيكِ من خمرِ التبتلِ شربةً

هيَ للطريحِ من الهيامِ تطبُّبُ"

فالخمر هنا ليست خمرًا حسية، وإنما هي رمز صوفي للتجربة الروحية التي تفيض بالسكر المقدس. أما البحر، فيتحول إلى فضاء للامتحان الروحي:

"أفشلتُ نفسي بامتحاني في دروس البحر

فاخترتُ الغرقْ»  ( 27).

ذلك لأن الغرق عند المتصوفة هو رمز للفناء في المحبوب أو المطلق، وهو المعنى الذي يعكسه النص. ويعني هذا أن السماوي استخدم اللغة الصوفية ليعبّر من خلالها عن تجربة وجودية عاطفية في آن واحد، حيث يتداخل المقدس بالدنيوي، والإنساني بالإلهي.

من هنا أعتقد، بل أوقن أن ديوان "التحليق بأجنحة من حجر" وهو بكل هذه الفخامة لا يمثل مرحلة متقدمة في تجربة يحيى السماوي، وإنما جاء متمما لتلك الفخامة التي وجدناها عند السماوي منذ سنين طوال وهي التي أهلته ليتربع على عرش الشعر العربي المعاصر، والدهشة التي أثارها هذا الديوان، ليس لأنه يمثل مرحلة متقدمة في مسيرة السماوي، لا أبدا، وإنما لأنه يعكس وعيا شعريا معاصرا ينفتح على أسئلة الكينونة، وفي الوقت ذاته يحافظ على الجذر العراقي العربي في صوره ورموزه، وهذا هو ديدن السماوي في الأعم الأغلب من دواوينه.

***

د. صالح الطائي

دراسة هيرمينوطيقية في البنية الرمزية والجمالية لقصيدة ماجدة الفلاحي

تمثل قصيدة "زرقاء اليمامة" للشاعرة ماجدة الفلاحي استدعاءً أسطوريًّا لشخصيةٍ غائرة في الذاكرة العربية، تكتسب حضورها لا بوصفها رمزاً أنثويّاً فحسب، بل بوصفها ضميراً جمعيّاً يرى ما لا يُرى، ويصرخ في وجه العمى العام.

في هذا النص، تتحول زرقاء اليمامة من أسطورة إلى كائن شعري معاصر، يتكلم بلغة النبوءة والحقيقة، ويُعاد إنتاجها في سياقٍ وطنيٍّ مأزومٍ يشي بانكسار البصيرة وانتصار الظلام.

أولًا: القراءة الهيرمينوطيقية (التأويلية).

المنهج الهيرمينوطيقي يفترض أن المعنى ليس جاهزًا، بل يُنتَج في الحوار بين النص والمتلقي.

منذ المطلع:

 تخرج من حواشي البؤس / ومن تضاعيف القهر

تُعلن الشاعرة أن الولادة الشعرية هنا هي ولادة من الألم، من حواشي لا من المتون، من الهوامش التي تلد الرؤية.

تتجلى "زرقاء اليمامة" كصوت يتكلّم من هوامش التاريخ والجغرافيا، تقف في منطقةٍ وسطى بين النبوة والشهادة، بين الصمت والصراخ، بين الرؤية والعجز.

تُعيد الشاعرة قراءة الموروث الأسطوري تأويليّاً:

فـ"زرقاء اليمامة" لا تعود تلك المرأة الخارقة البصر في التاريخ، بل أنثى معاصرة تُرى من خلالها أزمنة القهر العربي وتكرار العمى الجمعي.

تتحول النبوءة إلى وعيٍ جريحٍ، والرؤية إلى لعنةٍ معرفية.

وهكذا تُنتج الفلاحي تأويلاً حديثًا للأسطورة، يمنحها بعدًا وجوديًّا ووطنيّاً.

ثانياً: القراءة الأسلوبية

تُبنى القصيدة على جمل قصيرة متوترة إيقاعيًا، تميل إلى الجمل الاسمية والفعلية ذات البنية المتوازنة، كقولها:

ليلها طويل... طويل كسرابٍ لا ينتهي

وصدرها حرائق لا تنطفئ

هذا التكرار الصوتي (طويل... طويل) يُجسّد ديمومة الانتظار والخذلان، في حين أن الصور (حرائق – جمر – غيم مثقل – غيث مؤجل) تشحن النص بطاقةٍ شعوريةٍ متوترة تجمع بين الاحتراق والخصب المؤجل.

كما أن الاعتماد على التوازي الأسلوبي في المقاطع الختامية:

 أنت الصوت / أنت النور / أنت الصرخة / أنت النصر / وأنت الحقيقة / وأنت الحياة

يؤسس لذروةٍ خطابيةٍ أقرب إلى البيان النبوي أو الإنشاد الطقوسي، مما يكرّس حضور "زرقاء اليمامة" بوصفها رمزًا للقداسة والرؤية والقيامة المعنوية.

ثالثًا: البنية الرمزية والسيميائية

من منظور سيميائي، تحوّلت العلامات الكبرى في النص إلى رموز متداخلة الدلالة:

١- العين: ليست أداة إبصار فحسب، بل رمز للوعي والنبوة والاختلاف. حين تقول الشاعرة:

 فلن يستطيعوا قلع عينيكِ

فإنها تؤكد أن رؤية الحقيقة لا تُقتل، وأن البصيرة لا تُستأصل حتى وإن عميت الأبصار.

٢- الليل: يحمل دلالة مزدوجة؛ إنه ليل القهر والجهل والخذلان الجماعي، لكنه أيضًا رحم النبوءة، حيث يولد الضوء.

٣- الصوت والقصيدة: يتحولان إلى وسيلة مقاومة، إلى معادل رمزي للوجود والحرية.

٤- القيود – الصحراء – الصمت – البحر الغائب: علامات سيميائية على غياب الخلاص الجمعي، واحتباس الروح في وطنٍ فاقدٍ للبحر أي للاتساع والانطلاق.

رابعاً: البنية النفسية والدينية

تستحضر الشاعرة البعد النفسي العميق لشخصية زرقاء اليمامة بوصفها امرأة "ترى أكثر مما يُحتمل".

هذا الإدراك الفائق يتحول إلى عبءٍ نفسيٍّ وكينونيٍّ؛ إذ تعيش حالة "الوعي المأساوي" التي وصفها نيتشه حين قال: من يرى الحقيقة كاملةً لا يملك إلا أن يتألم منها.

فالقصيدة تكشف الانقسام النفسي بين الرؤية والعجز عن التغيير.

زرقاء الفلاحي ليست مجنونة كما يقول عنها الآخرون، بل ضحية وعيها المتجاوز.

- أما البعد الديني في النص، فيتجلى عبر الإيحاء القرآني والنبوي، تقول:

 لا تقول إلا ما أوحي إليها

هذا التضمين الديني يعمّق من قداسة الرؤية الشعرية ويجعل الشاعرة تُعيد بناء مفهوم "الوحي" لا كمصدر لرسالة سماوية، بل كمصدر للإلهام الفني والمعرفي.

خامساً: المستوى الجمالي والوطني

الجمال في هذه القصيدة ليس جمال الصورة فحسب، بل جمال الموقف الوجودي.

زرقاء اليمامة تتحول إلى رمزٍ للوطن العربي المصلوب على أسوار المدن العمياء.

حين تقول:

 أرى فرسانها يدفنون رؤوسهم في الرمال

تقدّم الفلاحي صورة مكثّفة للجبن الجمعي، وللخذلان الوطني في وجه الحقيقة.

إنها تصف انهيار النخوة، وانكفاء البصيرة، واستقالة الضمير، ليغدو النص مرثية للوطن ومرافعة عن الصدق.

الجمالية هنا تنبع من صدق الألم واتساق الرمز، لا من الزخرف اللفظي. فكل مفردة تخدم دلالة الرؤية الكبرى، وكل صورة تُسهم في بناء المشهد الدرامي للنبوءة المنكوبة.

سادساً: البنية التأويلية النهائية (ما تحت الجلد الشعري)

تحت الجلد الشعري، ينبض النص بتوترٍ خفيٍّ بين الرؤية والخذلان، الوعي والإنكار، النبوءة والاتهام بالجنون.

هذا الصراع هو جوهر الوجود الإنساني في مجتمعٍ يرفض الرؤية.

زرقاء اليمامة، في تأويلها الأخير، ليست امرأة من زمنٍ مضى، بل هي كل ذاتٍ مبصرةٍ تُعاقَب على وعيها.

القصيدة، بذلك، ليست فقط نصًّا شعريًّا بل صرخة معرفية ضد العمى الجمعي والاغتراب العربي.

خاتمة:

في ضوء التحليل الهيرمينوطيقي والأسلوبي والسيميائي والنفسي والديني، يمكن القول إن قصيدة "زرقاء اليمامة" لماجدة الفلاحي تُجسّد رؤية شعرية كبرى عن مصير الرؤية في زمن الانطفاء.

لقد استطاعت الشاعرة أن تُحوّل الأسطورة إلى كائنٍ معاصرٍ يتكلم بلسان الحقيقة والجرح معًا، وأن تخلق نصًّا تتعايش فيه الرموز الدينية مع البنية الوجدانية والجمالية، في توازنٍ نادر بين المأساة والنبوة.

***

بقلم: عماد خالد رحمة - برلين

.......................

"زرقاء اليمامة"

تخرجُ من حواشي البؤس

ومن تضاعيفِ القهر

امرأةٌ تأتي من زمنٍ ولّى

تكتم جراحها

تلملم ما تناثر من تاريخ نبوءتها

وتعبر الصمتَ بوجعٍ معلنٍ في مدى عينيها.

*

ليلُها طويل…

طويلٌ كسرابٍ لا ينتهي

بلا أجنحةٍ تطير

وصدرُها حرائقُ لا تنطفئ

وغيمٌ مثقلٌ بجمر الانتظار

وغيثٌ مؤجَّلٌ لا يأتي

وفي جوفها وَجَلٌ يسكنه الصدى.

*

تحاصرُ شفتيها قصيدةٌ عنيدة

وإن قالت

لا تقولُ إلا ما أُوحيَ إليها.

تتركُ البابَ مواربًا

وتختفي وراء جدرانٍ خرساءَ باردة،

ومن كهفها تتبعها تاؤُها كظلٍّ من ضوءٍ غابر.

*

نادت

حذّرت

أنذرت

قالت:

أرى أشجارَ بلدتي تموت واقفة

أرى فرسانها يدفنون رؤوسهم في الرمال

أرى سيوفهم مغمدةً في صدر نبوءتي

وسياطهم تجلدُ ظهرَ قصيدتي

وأرى قيودهم في يدي

ولا بحرَ في بلدتي

ولا مركبَ أُلقي إليه شراعي.

*

هذا الغامضُ الخفيُّ يُنبئني:

أنا والمطلقُ واحد

لا حدودَ لرؤيتي.

*

قالوا عنها:

عرافة

قدّيسة

نبيّةٌ مرسلة.

قالوا: أنَّى لها الحكمة؟

*

ذاكرتُها وهمٌ

ولغتُها هذيان

وما تقول إلا خرفًا وثرثرة.

*

لا ملاذ لها هنا…

ما كذبت عيناها

بل هم كذبوا.

*

لا تتواري إن خذلوكِ

اصمدي ولا تُغادري

فلن يستطيعوا قلعَ عينيكِ

ولا صلبَكِ على بابِ المدينة.

*

أنتِ الصوتُ

أنتِ النورُ

أنتِ الصرخةُ

أنت النصر

وأنت الحقيقة

وأنت الحياة.

***

من ديوان مساء المرايا 2022

 

عتبة الولوج: غزة الإسلام أو النبش في الجذور للعبور من النضالي المشروع إلى الإنساني

نستهل هذا التحليل لهذه القصيدة التي تحمل بُعدًا دينيًا-وطنيًا-إنسانيًا واضحًا، وتستعرض غزّة بوصفها رمزًا للصمود والبطولة الإسلامية، بصيغة كلاسيكية ذات نفس عمودي بالوقفة العروضبة أو تحديد البحر الخليلي:

نظم الشاعر قصيدته وفق بنية الشعر العربي العمودي الموزون (الشطرين المتناظرين) والقافية الموحدة وقد احترم فيها تفعيلات بحر المديد الذي أرجع فيه الخليل بن أحمد الفراهيدي هذه التسمية إلى تمدد سباعييه حول خماسييه، بمعنى أن الأسباب قد امتدت في أجزائه السباعية، فصار أحدهما في أول جزء والآخر في آخره، وهذه البنية لها أثر صوتي ناتج عن اختيار البحر (المديد) وأيضا دور في تثبيت الموسيقى الداخلية وتعضيد الدلالة.

وقد خلص الاستقراء العروضي للقصيدة إلى إحدى صور بحر المديد كالتالي:

فاعلاتن/فاعلن/فعلن ¤¤  فاعلاتن/فاعلن/فعلن

1. التحليل الصوتي:

التوزيع الفونيمي (الحركات والسكنات)

وندرس فيه الظواهر الصوتية البارزة (مثل التجانس، الجناس، الفاصلة الصوتية) وكذا توزيع الفونيمات والتأثير العاطفي

بدءا حضور مكثف للحروف الجهرية والمفخّمة مثل: ق، ط، ص، غ، خ، ر، ح --> تخلق جوًا من القوة، التحدي، العمق، مثلًا في البيت:  ما رهبوا قصف صهينةٍ، نلاحظ: ق/ص/ف/ص/هـ/ن/ة --> تناوب الصوت القوي (ق، ص) مع الأصوات المهموسة (هـ، ن) يصنع صراعًا سمعيًا يعكس الصراع الواقعي.

الجرس الموسيقي: البحر المديد (فاعلاتن – فاعلن – فعلن)

يتميز بإيقاع متوسط السرعة، متدلٍّ، مرن، يوفّر مجالًا للانفعالات الحزينة أو التأملية، كما أن التفعيلة الأخيرة (فعلن) توفّر نهاية مغلقة للصوت، تُشبه الإغلاق العاطفي أو الانكسار.

مثلا: حال قلبي شأنه تعبُ (فعلاتن – فاعلن – فعلن) الحركات المتوالية في "تعبُ" = انتهاء صوتي متشظٍّ، كأنّه تنهيدة.

الانسجام الصوتي (الصوائت/الصوامت): الصوائت القصيرة (فتحة، ضمة، كسرة) تُستخدم بكثافة: الفتحة: تعبير عن الفتح، الغليان العاطفي والضمة: تضيف جرسًا قويًا وقاطعًا.

الصوامت المتقاربة صوتيًا (تجانس صوتي): "طرب / تعب" --> تقارب صوتي (ط/ت + ر/ب)

"نصب / حسب / نجب" --> نهاية باء ساكنة --> توحّد صوتي.

الظواهر الصوتية البلاغية

الظاهرة المثال التأثير

الجناس طرب / تعب توتر دلالي في تشابه صوتي

السجع نسب / حسب / نصب توحيد سمعي – يعزز الإيقاع

التكرار الصوتي "حالُ" تكررت كثيرًا إصرار صوتي يرمز للدوام

الانسجام الصوتي: يتجلى في تكرار الحروف الرخوة المهموسة مثل (ح، ر) والحروف المتوسطة المجهورة (ن، م) التي تمنح النص موسيقى داخلية هادئة تتصاعد مع المعاني القوية.

الجناس: تكرار بعض المقاطع الصوتية مثل: "حالُهُ طربُ / شأنُهُ تعبُ" – التشابه في البنية الصوتية يعطي إيقاعًا صوتيًا متزنًا.

الصوائت القصيرة والطويلة (المدّ الصوتي): تم توظيف الحركات بذكاء لتدعيم الإيقاع الداخلي ولخدمة المعنى، كـ"سَمَقَتْ / سِيماؤُها / شُهُبُ" --> الصوائت الطويلة تعزز الرفعة والعظمة.

وفيما يخص الإيقاع: اعتمد على التكرار الصوتي المتوازن، واستخدم الحركات القصيرة والطويلة بشكل متناغم، مما يعزز من موسيقية الأبيات.

أما في التقارب الصوتي: فنجدكثرة التراكيب التي تحتوي على الأصوات المفخمة مثل (ط، ق، ص، غ) مثل: "طرب، قصف، صهينة، غنّ".

وكذلك في الجناس الصوتي: نلاحظ بعض التكرار في المقاطع مثل: (حالُه – حالُ قلبي)-(نَسَبُ – حَسَبُ).

في خلاصة هذا المستوى نستنتج أن الشاعر استخدم توليفة من الصوتيات للتعبير عن البعد الوجداني الحاد في القصيدة، وتدعيم التوتر العاطفي والقوة التعبيرية.

2. التحليل النحوي والصرفي:

اعتمد الشاعر في هذه القصيدة الجمل الاسمية والفعلية، ما يعكس تنوع التركيب وحيوية المعاني:

في البنية النحوية العامة، استعمل تنويعا في استعمال الجمل، حيث نجد الجمل الإسمية تُستخدم لترسيخ الدلالة، بثبات، وتحويل المعاناة إلى حالة وجودية: "غزّة الإسلام قد سمقت" ليعبر عن الثبات والديمومة في حين كان استعمال الجمل الفعلية بتركيز وفاعلية: "رَكبتْ / نسلتْ / أنجبتْ / يطلبون" وهي جمل تعكس الحركية والنشاط والدينامية والتحوّل والفعل المقاوم وتؤكد على التاريخ والمجد المتجذّر. من حيث زمن الأفعال، نجد الفعل الماضي طاغٍ: "ركبت، زانه، نسلت، سمقت، أنجبت" والفعل المضارع في النهاية "يطلبون" و"يجبُ" يشير إلى استمرار النضال وتجدّده، كما تم توظيف الضمائر المتصلة والمنفصلة مثل: (حالُهُ / شأنُهُ / عطرُهُ / قد رهبوا)، للدلالة على تركيز شعوري وانفعالي.

استخدام أدوات التوكيد والتقوية: "قد" (قد زانه نسب – قد سمقت)، "ما رهبوا" (نفي مؤكد بالفعل).

وخلاصة القول أن التركيب النحوي مرن؛ استخدام المبتدأ والخبر بشكل بلاغي يعكس المعنى الحسي، وعليه، فالبنية النحوية تعكس حالة وجدانية عالية، بتوظيف تنويع الجمل والتوكيد لإبراز المضمون البطولي والتراجيدي.

- الصيغ الصرفية: تركيز على المشتقات

أسماء الفاعل: "طالب" غير مذكورة صراحة، لكن ضمنيًا في "يطلبون"، "هاربون" ضمنيًا في "قد هربوا"

أسماء المفعول: "مرفوع" ضمنًا في "قد سمقت"، لأن غزة "مرفوعة السمْت"

الصيغ المصدرية: إذا كان المصدر هو اسم الحدث المجرد من الزمان والفاعل فلدينا في القصيدة، عدة مصادر، بعضها ظاهر وبعضها مقدّر أو متحوّل:

أمثلة على المصادر الصريحة:

المصدر السياق الدلالي

العتق "يطلبون العتق" الخلاص الروحي والسياسي

الرهب "قد رهبوا"- "رهبة" خوف تعظيمي لله

النصب "حالُها، عنوانه نصب" التعب المتواصل (نَصَب لا منصب!)

الطرب "حالُه طرب" انفعال وجداني عالٍ (فرح أو شوق)

التعب "شأنه تعب" إعياء روحي أو جسدي

ملاحظات على المصادر:

اختيار المصدر دون الفعل --> توجيه الانتباه للحالة كقيمة.

"النصب" --> لا يقول "تنصب" بل "عنوانه نصب" --> التركيز على الحالة لا الفعل.

المصادر مرتبطة بالضمير الإنساني:

"حالُه طرب" --> القلب، "حالُها نصب" --> العيون، "شأنُه تعب" --> الذات

هذه المصادر تتحول إلى علامات دلالية، فهي توصّف الشخصيات والأشياء لا بالأفعال، بل بالأحوال.

أمثلة على المصادر المقدّرة:

في بعض المواضع، نجد أفعالًا تحيل إلى مصادر غير مصرح بها:

"قد رهبوا" --> المصدر: الرهب، ولكن ورد الفعل للتعبير عن الخوف التعظيمي من الله.

"ما رهبوا قصف":  "الرهب" مقابل "القصف" --> مفارقة بلاغية: لم يخافوا القصف، بل رهبوا الله!

"أنجبت فرسانها عبقًا"،  "الإنجاب" هنا يُرادف الإبداع/الخلق/الإخصاب

والمفعول به "عبقًا" --> مصدر مجازي = "عطر معنوي"

في التحليل الدلالي للمصادر:

المصدر القيمة البلاغية

العتق التحرر من "سقر" --> الجحيم --> الاحتلال --> الذنب

الطرب انفعال شعوري شديد --> وجد ديني/وطني

النصب/التعب ديمومة الألم، لا لحظة عابرة

العبق تجريد للفعل الجهادي في صورة "عطر" معنوي

الرهب تحويل الخوف من عدو إلى خشية من الله

3. التحليل المعجمي (اللفظي)

يزخر المعجم الشعري لهذه القصيدة بحقول معجمية غنية ومتنوعة، إذ نجد:

حقل الجهاد والمقاومة: "فرسان، صهينة، العتق، قصف، فجرنا، نصرًا"

حقل الكرامة والمجد: "سؤدد، تليد، حسب، نسب، شرف، نجب"

حقل المعاناة: "تعب، لم تذق رغدًا، نصب، سقر"

حقل الصراع والمقاومة: "قصف، صهينة، العدى، فرسان، فجر"

حقل العزة والنسب الشريف: "هاشم، سؤدد، تليد، حسب، نجب"

حقل الدين والخوف من الله: "عتق، سقر، ربّ، رهبوا"

من الملاحظ أن الشاعر وظف ألفاظا من التراث العربي: "هاشم، سؤدد، تليد، حسب، نسب" ل ربط الماضي بالحاضر واتسمت قصيدته بقلة الألفاظ الدخيلة، مما يدل على نقاء اللغة وعمقها العربي الإسلامي.

وخلاصة القول أن المعجم محكم الدلالة، ويجمع بين البعد النضالي والتاريخي والديني، مما يعطي القصيدة عمقًا في المعنى والرسالة.

4. التحليل التركيبي اللغوي:

اتسمت القصيدة بالأسلوب التقريري المتماسك حيث تؤدي الجمل معاني مباشرة مع صور بيانية مضمّنة.

التوازي التركيبي بين الشطرين المتناظرين في كثير من الأبيات (تكرار البنية النحوية):

"في عيونٍ لم تذق رغدًا / حالُها، عنوانُهُ نصبُ"

"أنجبت فرسانَها عبقًا / من رحيقٍ، عطرُهُ نُجُبُ"

هذا التوازي يمنح النص تناغمًا منطقيًا وشعريًا.

الاستعارات والتشابيه: "فرسانها عبقًا" --> استعارة تصف المقاتلين بأنهم عبق، أي ذوو أثر جميل ومؤثر.

"سيماؤها شهب" --> استعارة وصفية قوية.

في الروابط البلاغية:

استخدام الحروف (قد، في، من، و) لتقوية الربط بين المعاني، أما  النفي في "ما رهبوا قصف صهينة" فهو يعمّق دلالة الثبات.

الإزاحة الأسلوبية: تُغيّب بعض التركيبات المألوفة لصالح تراكيب موحية.

هكذا نجد أن التركيب اللغوي يُوظَّف بلاغيًا لخدمة الإيحاء أكثر من المباشرة، ويُعزز الانفعالات الشعورية للقصيدة.

5. التحليل الدلالي

الثيمة الأساسية التي شيد عليها معمار القصيدة هي: غزة بوصفها رمزًا إسلاميًا، نضاليًا، نقيًا، متجذرًا في النسب الهاشمي.

--غزة --> الأنثى الوردة --> الأم الباس

يمكن حصر الدلالات الكبرى في: غزة كرمز للإسلام والمقاومة-->استخدم الشاعر اسم "غزة الإسلام" لا كمدينة جغرافية، بل كرمز حضاري ومقدّس، وكان التركيز على المعاناة والنبل، ورغم الألم والتعب، فإن غزة تزدهر بالنسب، بالأنفة، بالفروسية.

تستحضر القصيدة البُعد الديني والتاريخي من خلال إشارات مثل "سقر، ربّ، رهَبوا، فرسانها، عتق" وهذا يعزز توظيفًها للموروث الديني والتاريخي.

ويتبثق الأمل في الحمولة الدلالية للرسالة الخاتمية: الفجر قادم، من خلال البيت الأخير الذي يحمل أملاً مؤكَّدًا:

"فَجْرُنَا آتٍ سَرَى يَجِبُ"

بذلك تكون هذه القصيدة ذات دلالة مقاومية روحية، تجمع بين الحزن والفخر، بين الألم والأمل.

6. المستوى التداولي (البراغماتي)

المُرسل (الشاعر): يتحدث من موقف وجداني حاد، كمن يعيش أو يتماشى مع معاناة غزة.

الرسالة: هي دعوة للصمود، وتثبيت للمقاومة، وشحن للعاطفة الإسلامية الجمعية.

المُخاطَب (الجمهور): الأمة، القارئ العربي، والمجتمع المسلم وقد تنفنح على كل أحرار العالم.

السياق الواقعي: يشير إلى معاناة غزة تحت الحصار والاحتلال، مع تطعيم الخطاب بنَفَس إسلامي نضالي.

وأخيرا وليس آخرا، فهذه القصيدة تُوظَّف لأغراض تعبويّة وتوعوية، لكنها تظل ضمن إطار شعري فني.

الخلاصة العامة:

الجانب التحليل

البحر المديد يدعم التوتر العاطفي، الفاصلات الصوتية تخدم الانفعال

الصوتي إيقاع قوي، حروف مفخمة، جناس--توزيع متقن بين الحروف الجهرية والمهموسة

النحوي تنوع نحوي، أدوات توكيد--توظيف دقيق للجمل الاسمية لإثبات الحالة، والفعلية لإبراز الفعل المقاوم، التراكيب مشحونة بالمعاني دون إفراط

المعجمي معجم نضالي – وجداني – ديني

التركيبي توازي، استعارات، بلاغة متقدمة

الصرفي صيغ مصدرية كثيرة (طرب، نصب، رهب، عتق) تعبّر عن الحالات الشعورية والمصيرية بدلاً من الحركات المؤقتة--المصدر يوظَّف هنا كوسيلة لتكثيف المعنى، وتحويل الانفعال إلى كيان لغوي محسوس

الدلالي ثنائية الألم/العز، غزة كرمز، وعد بالنصر--

التداولي خطاب تعبوي موجه للأمة.

***

بقلم د. أحمد جمرادي

***

.....................

غزةُ الإسلام

رُبّ قلْـبٍ حــــالُهُ طَــــــــرَبُ

حـــــــالُ قلْبِي شـــأْنُهُ تَعَبُ

*

في عُيــونٍ لمْ تَذُقْ رَغَـــداً

حــــالُها، عُنْـوانُهُ نَصَـــبُ

*

ورْدَةٌ فـــي هــــاشِمٍ رَكبتْ

عُودَها، قدْ زانَــــهُ نَسَبُ

*

مِنْ عَتِيــــقٍ سُؤْدَدٍ نسَلَتْ

مِنْ تَلِيــــــدٍ قَدّهُ حَسَـــبُ

*

غَزّةُ الْإسْـــلامِ قَدْ سَمَقَتْ

سَمْتُها سِيمـاؤُها شُهُبُ

*

أنْجَبَتْ فُرْســــــــــانَها عَبَقاً

منْ رَحِيقٍ، عِطْرُهُ نُجُبُ

*

يَطْلُبُـونَ الْعِتْقَ مِنْ سَقَرٍ

خَوْفَ رَبٍّ عالٍ، قدْ رَهَبُوا

*

مَا رَهَبُـوا قَصْفَ صَهْيَنَةٍ

و الْعِـــــدا جُبْناً قدْ هَرَبُوا

*

غَنِّ يـــــــا نَصْراً عَلا شَرَفاً

فَجْرُنــــــــا آتٍ سَرَى يَجِبُ

***

قصيدة من إبداع الشاعر نورالدين حنيف أبوشامة

 

"تشريح الشخصية وجماليات التلقي في الدقيقة الأخيرة قبل الانتحار"

رواية (الدقيقة الأخيرة قبل الانتحار) للأديبة المصرية هناء نور الصادرة حديثاً عن دار روافد للنشر والتوزيع ليست مجرد حكاية تُسرد، بل هي مختبر سردي معقد تُختبر فيه ذات القارئ وقناعاته بقدر ما تُختبر شخصيات الرواية، تبلغ جماليات التلقي ذروتها هنا من خلال تفكيك الكاتبة للحقيقة الواحدة، وعرضها كفسيفساء متعددة الألوان، كل لون يمثل وجهة نظر شخصية مختلفة، تاركة للقارئ مهمة تجميعها ورؤية الصورة الكلية، أو الاكتفاء بجمال القطع المتناثرة.

تعدد الأصوات السردية: الحقيقة المتشظية

الرواية مبنية على تعدد الأصوات السردية، حيث تُروى الأحداث من وجهات نظر الشخصيات الأربع الرئيسية، كل منها يحمل روايته (الحقيقة) الخاصة:

"ليلى": المدربة العالمية للتنمية البشرية، التي تبيع الوهم والثقة، لكنها في داخلها تعيش فراغاً وجودياً وشهوة لا تشبع، روايتها تبدأ بعد الصدمة، مما يجعل سردها مزيجاً من التبرير والبحث عن ذنب جديد.

"عادل": الطبيب الحزين، ابن الأسرة الأرستقراطية الذي أنهكته خيانات الحياة وموت الأحبة، سرده مليء باليأس والشك، ينظر إلى العالم من خلال عدسة التشاؤم والخيانة المتوقعة.

"عصمت": رجل الأعمال القاسي والعبقري، الذي يرى العالم كمسرح للعرائس (كما ورد في الصفحات 54-56) وهو من يحرك الخيوط، سرده مليء بالثقة والاحتقار، لكنه يكشف عن جروح طفولة وحاجة ماسة للحب.

"عايش": الشاب الفقير الذي كان على حافة الانتحار، ليجد نفسه فجأة في قلب الحدث، سرده هو الأكثر صدقاً وجرأة، ينظر إلى عالم "الأغنياء" من أسفل الهرم، محملًا بمرارة الحرمان وأمل الصعود.

هذا التعدد لا يقدم للقارئ "الحقيقة" بل "حقائق" متضاربة، القارئ هنا ليس متلقياً سلبياً، بل محققاً نفسياً عليه أن يقرر من يصدق، وأي الروايات أقرب إلى واقع هو نفسه يشارك في تشكيله.

حلقات درامية محورية: لحظات الانزياح والتلقي

هناك لحظات مفصلية في الرواية تعيد تشكيل فهم القارئ للأحداث والشخصيات:

الحلقة الأولى: انهيار حفل الزفاف (الفصول الأولى): هذه هي اللحظة التأسيسية، مشهد اقتحام عايش للحفل وادعائه حبه لليلى يُرى أولاً كعمل مجنون، لكن مع تقدم الرواية، نكتشف من خلال سرد عادل أنه ربما هو من دفع لعايش ليفعل ذلك كي يهرب من الزواج (كما يدعي عايش لاحقاً في فيديو على وسائل التواصل – الصفحة 53)، هذه الحلقة تضع القارئ في حالة شك دائم: من هو الضحية؟ ومن هو الجلاد؟

الحلقة الثانية: لقاء النهر (الصفحات 83-90): هذه هي ذروة جماليات التلقي، اللقاء على المركب بين الأربعة (عصمت، ليلى، عادل، عايش) يحول الرواية إلى مسرح، حوارهم الحاد، اعترافاتهم غير المكتملة، وقفز ليلى وعايش في النهر، كلها مشاهد مفتوحة للتأويل، هل قفزت ليلى لتنقذه أم لأنها وقعت في حبه؟ هل قبلته حقاً تحت الماء؟ مشاهد مثل هذه تترك للقارئ مساحة واسعة لملء الفراغات بناءً على انحيازاته هو.

الحلقة الثالثة: تسجيلات عصمت (الصفحات 109-110 و 124-125): اكتشاف عادل أن عصمت كان يتنصت على ليلى طوال حياتها ويكشف أسرارها، هي صدمة للقارئ كما هي لعادل، هذه اللحظة تهدم صورة ليلى (الملاك) تماماً وتكشف عن شخصية مظلمة ومتشبعة بالغرائز، القارئ الذي كان يتعاطف معها، يُجبر على إعادة تقييم كل ما قرأه من قبل من وجهة نظرها.

الحلقة الرابعة: مواجهة عايش لأهل ليلى (الصفحات 132-134): هنا يتحول التلقي من التعاطف مع "الضحية" الفقير إلى الإعجاب بـ"البطل" الذي يواجه النظام الطبقي، عرض عايش أن يكتب كل ما يملك لليلى هو تحول جذري في شخصيته، يدفع القارئ لتغيير نظرته عنه من (المخبول) أو (الضحية) إلى (الرجل الواعي) الذي يرفض أن يكون نسخة من عصمت.

الشخصيات كمرايا: أمام أي مرآة يقف القارئ؟

جمالية التلقي هنا تكمن في كيف تجبر كل شخصية القارئ على النظر إلى نفسه:

(ليلى) مرآة للنفاق الاجتماعي والهوة بين الصورة العامة والذات الخاصة، (عادل) مرآة لليأس والخوف من الحياة ومن المواجهة، (عصمت) مرآة للهوس بالتحكم والقوة، والجروح التي تختبئ وراء القسوة، (عايش) مرآة للغضب المكبوت، الحلم البسيط (جوارب جديدة – الصفحة 30)، والصراع من أجل الكرامة.

القارئ قد يرى جزءا من نفسه في إحدى هذه المرايا، وهذا الانحياز النفسي هو ما سيحدد أي حقيقة من حقائق الرواية سيميل إليها.

القارئ شريك في الاكتشاف

"الدقيقة الأخيرة قبل الانتحار" هي رواية ما بعد حداثية بامتياز، إنها لا تقدم إجابات، بل تطرح أسئلة عن طبيعة الحقيقة، الحب، الطبقية، والذات، جمالية التلقي الأكبر التي تقدمها هناء نور هي تحويل القارئ من متلقٍ إلى شريك في الكتابة، حيث تصبح عملية القراءة هي عملية اكتشاف لا لأحداث الرواية فحسب، بل لذات القارئ وقيمه وانحيازاته الخفية، في النهاية، ليست الرواية من يجب أن تُفهم، بل القارئ نفسه هو من سيفهم نفسه بشكل أفضل بعد هذه الرحلة في متاهات النفس البشرية.

***

رزق فرج رزق - ليبيا

 

للشاعرة الفلسطينية شادية حامد.. قراءة هيرمينوطيقية، أسلوبية، رمزية، جمالية، وطنية، وسيميائية

تُعَدّ قصيدة «تُفَّاحَةٌ من حجر» للشاعرة شادية حامد نموذجاً متفرّداً للنصّ الشعريّ الذي يتجاوز حدود البوح الذاتي إلى أفق فلسفيّ وجماليّ مفتوح، يُقارب سؤال الإنسان في زمن الحداثة المتأخرة، حيث تتقاطع التقنية والمقدّس، والجمال والخراب، والحرية والزيف. إنّها ليست قصيدة في المكان أو في المدينة الحديثة بقدر ما هي تأمّل في مصير الكائن داخل العالم المعاصر؛ الكائن الذي تحوّل من ذاتٍ فاعلة إلى رقمٍ في نظامٍ مبرمج، ومن روحٍ مبدعة إلى حجرٍ يلمع على واجهة الحضارة.

لقد أصبح الشعر المعاصر، في تمظهراته الجديدة، مختبراً فلسفيّاً للوجود، يُعيد مساءلة القيم والمعاني التي صاغتها البشرية عبر قرون، ثم فقدت بريقها تحت ضغط الآلة والافتراض والتمثّل الرمزي للحرية. وفي هذا السياق، تتجلّى تجربة شادية حامد بوصفها صوتاً أنثويّاً وجوديّاً يسعى إلى إعادة اكتشاف العلاقة بين الكلمة والعالم، بين الذات والآخر، وبين الجمال والألم، عبر لغةٍ مشحونةٍ بالرموز، تنبض بوعيٍ نقديٍّ عميق، وتستبطن رؤيةً فلسفيةً تُقارب في كثافتها رؤى شعراء الوعي المأزوم من طراز أدونيس، أنسي الحاج، وسيلفيا بلاث.

إنّ هذه الدراسة تنطلق من افتراضٍ أساس، مفاده أنّ قصيدة «تُفَّاحَةٌ من حجر» لا يمكن قراءتها وفق منظورٍ واحد، لأنها نصّ متعدّد الطبقات والدلالات؛ تتداخل فيه الأسطورة بالدين، والرمز بالواقع، والأنثوي بالكوني، والبعد السياسي بالميتافيزيقي. لذلك، سيُصار إلى مقاربتها من خلال مناهج متشابكة:

١- المنهج الهيرمينوطيقي التأويلي لفهم البنية العميقة للمعنى في النص.

٢- والمنهج الأسلوبي للكشف عن الإيقاع الداخلي وتشكيل الصورة،

٣- والمنهج الرمزي والسيميائي لتفكيك شبكة العلامات والأيقونات التي تشكّل البنية الثقافية للنص،

٤- إلى جانب القراءة النفسية والجمالية والوطنية التي تُضيء المسافة بين الذات الشاعرة والعالم الذي تتمرّد عليه.

بهذا المعنى، لا تتعامل هذه الدراسة مع النص بوصفه منتجاً لغويّاً فحسب، بل بوصفه خطاباً وجوديّاً يعبّر عن مأزق الإنسان الحديث أمام تحوّل الحرية إلى شعارٍ أجوف، والجمال إلى سلعة، والمعرفة إلى حجرٍ صقيلٍ بلا دفء. فـ«التفاحة» هنا ليست ثمرة الخطيئة، بل رمز المعرفة التي تحجّرت، والمعنى الذي تجمّد في رماد المدن الكبرى.

إنّ تحليل هذا النصّ يهدف إلى الكشف عن الجدل بين الوعي الجمالي والوعي النقدي في تجربة الشاعرة شادية حامد، وعن كيفيّة تحويلها الشعر إلى أداةٍ فلسفيةٍ للإنقاذ من موت المعنى. فالشاعرة، وهي تتأمّل مدينة الأضواء، لا تكتب عن نيويورك، بل تكتب عن الإنسان الذي ضلّ طريقه بين ناطحات السحاب والرموز، لتُعلن عبر لغتها الكثيفة والرمزية أنّ المعرفة حين تفقد روحها، تتحوّل إلى تفّاحةٍ من حجر.

أولاً: المدخل التأويلي (المنهج الهيرمينوطيقي):

قصيدة «تُفَّاحَةٌ من حجر» ليست نصاً شعرياً فحسب، بل هي تجربة تأويلية مفتوحة تنطوي على شبكةٍ من الرموز والتماثلات الثقافية، تتجاوز البنية اللغوية إلى استدعاء تاريخي وحضاري وروحي معقّد.

تبدأ الشاعرة من سؤال الوجود في مدينة الحداثة، تقول:

"سرداب وراء سرداب / لا نافذة، ولا باب"

هنا، تتجلى صورة الإنسان المنفي داخل سرداب العزلة التقنية، في مدينة تفتقد النوافذ، أي: الانفتاح على الروح والسماء.

هذا الغياب للنافذة والباب هو غياب للمعنى، وهو في التأويل الهيرمينوطيقي رمز لانسداد الأفق الوجودي الذي تعانيه الذات الشاعرة أمام العالم المادي، حيث تتحول الحرية إلى تمثال، والروح إلى ريشةٍ في مهب الرماد.

إنّ الشاعرة تتخذ من نيويورك فضاءً رمزيّاً لـ"الحضارة الإسمنتية" الحديثة، لكنها تقرأها بعين الشرقي الذي يرى في بريقها كسوفاً للمعنى لا انتصاراً للنور. فـ"التمثال" الذي كان رمزاً للحرية في المخيال الغربي، يتحوّل لديها إلى أيقونة من زئبق ومطاط، أي إلى حرية زائفة، مرنة، متقلبة، بلا جوهر.

---ثانياً: القراءة الأسلوبية:

أسلوب الشاعرة مشبع بالتناوب بين الجملة الخبرية والإنشائية، بين السردي والتأملي، وهو ما يُنتج إيقاعاً هارمونيّاً متقطّعاً يوازي التوتر الداخلي للنص.

نلاحظ توظيفها المتقن للوقفة الشعرية والسطر المفصول، تقول:

"ها هنا، حتى أدقّ المشاعر والأفكار من إسمنت"

"العقل جدار رقمي / اللغة جدار آخر"

هذه التوازيّات الأسلوبية تشكّل ما يمكن أن نسمّيه جدار اللغة داخل النص، أي أن البناء الأسلوبي نفسه يعكس دلالة النص المضمونية: كل شيء جدار، حتى اللغة.

كما أنّ التكرار الإيقاعي لـ«ها هنا» و«هناك» و«أهذي» يمنح النص بعداً طقوسيّاً، أشبه بتراتيل استنطاقية للعالم، حيث تتحول القصيدة إلى نشيد وجودي ساخط على فقدان المعنى في زمن العولمة.

ثالثاً: القراءة الرمزية:

العنوان نفسه «تُفَّاحَة من حجر» هو مفتاح رمزي بالغ الكثافة:

١- التفاحة ترمز إلى المعرفة، الإغواء، الخطيئة الأولى في الموروث الإبراهيمي.

٢- الحجر يرمز إلى الجمود، المادية، القسوة، والموت المعنوي.

وبذلك يصبح العنوان تعبيراً عن تقدّم حضاري مفرغ من الروح؛ معرفة بلا ضمير، وحرية بلا إنسانية.

وفي قولها:

"كأنها هي، ولكن تلك بأنامل من قصب، وهذه بقلب من إسمنت"

تُجسّد الشاعرة الصراع بين الروح الأنثوية (القصب، الليونة، الطبيعة) والصلابة الذكورية التقنية (الإسمنت).

إنها مواجهة رمزية بين الطبيعي والمصطنع، الإنساني والآلي، الأنثوي والحداثي المتوحش.

رابعاً: البنية الجمالية والفضاء الشعري.

من الناحية الجمالية، تتشكل القصيدة عبر مفارقة فنية كبرى: جمال الخراب.

تصف الشاعرة الخراب بلغة مبهرة، وتحيل القبح إلى لوحة ميتافيزيقية.

تغدو الصور الفنية كأنها لوحات سوريالية، فتمثال الحرية «حمامة من السماء وطاووس من الأرض» يحمل أجنحة الزئبق، أي حرية مراوغة، براقة، لا تُمسك.

يتبدّى الجمال في المفارقة بين الخارج والداخل:

١- الخارج: مدينة الأضواء، الحضارة، التكنولوجيا، الزحام.

٢- الداخل: فراغ روحي، عزلة، رماد، فناء المعنى.

بهذا تصبح الجمالية في القصيدة جمالية التناقض والتشظي، لا جمالية التناغم أو الانسجام.

خامساً: القراءة الوطنية والإنسانية

يتحوّل نص شادية حامد إلى مرآة لوعي عربي منكسر أمام الغرب.

هي لا تهاجم الغرب، بل تكشف الخلل في الشرق القديم الذي نام على الأساطير والأوهام. تقول:

"هكذا نحن في شرقنا القديم، حين ننام وحين نصحو..."

تسائل الشاعرة حضارتين في آنٍ واحد:

١- الغرب الذي صنع الحرية من إسمنت وزئبق.

٢- والشرق الذي صنع من المجد أسطورة ومن الوعي سباتاً.

بهذا تتجاوز القصيدة الموقف الأيديولوجي إلى وعي كوني مأزوم، يرى في "الإنسان المعاصر" – سواء في الشرق أو الغرب – كائناً ضائعاً في ليل التقنية والسلع.

سادساً: القراءة السيميائية:

السيمياء هنا لا تقتصر على الرموز الكبرى، بل تشمل الإشارات الحضرية واللغات الثقافية داخل النص:

١- التمثال: رمز السلطة الرمزية للحضارة الغربية.

٢- الرماد: رمز ما بعد الحداثة، لما تبقّى من الإنسان بعد الاحتراق.

٣- الفنجان و«الهُنود الحمر»: رموزٌ لثقافات مفقودة وذاكرات مسحوقة.

٤- القطار و«المحطة» و«مانهاتن» و«التوقيت» هي إشارات إلى الزمن الصناعي، في مقابل الزمن الميتافيزيقي في الشرق القديم.

تُمارس الشاعرة لعبة العلامات بدقةٍ حداثية؛ فهي تستعمل رموز الغرب لتفكيك أسطورته، وتجعل من اللغة ساحة مواجهة بين المعنى والفراغ.

سابعاً: البعد النفسي والديني

في البنية النفسية، تتبدّى الشاعرة كذات ممزقة بين انتماءين:

١- انتماءٌ ديني روحي يبحث عن الصلاة والسكينة.

٢- وانتماءٌ وجودي عالق في عالمٍ فقد إيمانه، تقول.

"أريد أن أُصلّي... ولكن هذه كنيسة التراتيل فيها سوداء والقس أبيض"

إنها مأساة الإنسان المؤمن في عالم ما بعد المقدّس، حيث تذوب الفوارق بين الإيمان والمسرح، بين العبادة والعرض.

وهذا التوتر بين الروحي والمادي، بين الإلهي والآلي، يولّد ما يمكن تسميته بـالاغتراب الأنثوي الوجودي: امرأة تبحث عن صلاةٍ نقية في عالمٍ تلوث بالخراب الجمالي.

ثامناً: الدلالات الختامية – ما تحت الجلد الشعري

تحت جلد القصيدة ينبض نبض الغضب النبيل: غضب الإنسان الشاهد على سقوط العالم في الإسمنت.

اللغة، رغم ما فيها من زخرفة، تنضح بصرخة وجودية، فكل صورةٍ تُطلّ من رحم ألم.

إنّها ليست قصيدة في نيويورك، بل قصيدة في موت الإنسان الحديث، حيث تتحول التفاحة – رمز الحياة – إلى حجر، أي إلى موتٍ صلبٍ ومصقولٍ بيد الشيطان نفسه، كما تقول:

"أصغر تفاحة فيه لا يفوح منها أي أثر… منحوتة بإزميل أعظم فنان: الشيطان."

تاسعاً: خاتمة تحليلية

قصيدة «تُفَّاحَة من حجر» نصّ يزاوج بين الأسطورة والواقع، الفلسفة والشعر، الدين والسياسة، وتُقدّم الشاعرة فيه نموذجاً لشعرٍ كونيٍّ ذي بصيرة أنثوية نافذة.

إنها تُعيد إنتاج العالم بمنظورٍ نقديٍّ يلتقط جوهر المأساة الإنسانية: أنّ الإنسان المعاصر صنع لنفسه جنة من إسمنت، لكنه نسي أن يبني فيها قلباً.

***

بقلم: عماد خالد رحمة - برلين

........................

تُفَّاحَةٌ مِنْ حَجَرْ

شادية حامد

"نِيرَانٌ دَائِمَةٌ تَرْقُدُ غَافِيَةً عَلَى أَحْجَارِ الْصُوَّان"

لوركا

سِرْدَابٌ وَرَاءَ سِرْدَاب.

لَا نَافِذَةَ،

وَلَا بَاب.

أَهَذِهِ نيُويُورْك؟

أَمْ هَذِهِ حَفِيدَةُ إِرَمَ ذَاتَ الْعِمَاد؟

إِذَنْ،

مَاذَا تَفْعلُ الْمَلائِكةُ

فِي هَذِه الْبِلاد؟

*

كَأَنَّهَا هِيَ.

وَلَكِن تِلْكَ بأَنَامِلَ مِنْ قَصَبٍ

وَهَذِه بِقَلْبٍ مِن إسْمَنْتْ.

طُوبَى لِلإسْمَنْتْ.

*

هَا هُنَا،

حَتَّى أَدَقُّ الْمَشَاعِرِ وَالْأفْكَارِ مِنْ إِسْمَنْتْ.

الْعَقْلُ جدَارٌ رَقَمِي.

الْلُّغَةُ جَدَارٌ آخَر.

وَالْرُوحُ، بَيْنَ بَيْن، رِيشَةٌ.

مُجَرَّدُ رِيشَةٍ

فِي مَهَبِّ الْرَّمَاد.

يَا أيُّهَا الْرَّمَاد!

فِي أَيِّ قَارُورَةٍ كُنْتَ إلَى حَدِّ الْآن؟

الْصَّيْفُ ذَهَبَ َوعَاد.

وَأَنْتَ مَا تَزَالُ هَا هُنَا،

فَوْقَ رُؤُوسِنَا ,

تَتَأَوَّه.

*

هَا هُنَا،

تَحْتَ الْرَّمَاد،

تَحْتَ أَجْفَانِ مِيدُوزَا،

وَفِي غَفْلَةٍ مِنْ سَيْفِ بِيرْسْيُوس،

أَنَّى لي أَنْ أُحِيطَ بِأَشْلاءِ الرَّمْز،

وَأَضْغَاطِ الْمَعْنَى؟

*

هَا هُنَا،

مُنْذُ مَا لا يُحْصَى مِنَ الْحُرُوب،

وَالْمَجَاعَاتِ،

وَالْأَعَاصِير،

وَالْزَلَازِلِ،

تِمْثَالٌ لِلْحُرِيَّةِ،

مِنَ الْسَمَاءِ كَالْحَمَامَةِ

وَمِنَ الْأَرْضِ كَالْطَاوُوس،

بِأَجْنِحَةٍ مِن زِئْبَق.

وَشِفَاهٍ مِنْ مَطَّاط.

حَوْلَ الْرَّأْس سَبْعُ مِسَلّات.

كِتَابٌ فِي الْيَمِين.

وَمِشْعَلةٌ فِي الْيَسَار.

قَد اخْتَلَطَ الْلَّيْلُ بِالْنَّهَار

وَمَا عَادَتْ حَتَّى اِيمَا لازَارُوس تَتَذَكَّر مَا كتَبَتْ

هَا هُنَا،

عِنْدَ قَاعِدَةِ الْتِمْثَال

*

هَا هُنَا،

بِاسْمِ الْحُرِيَّة، يَصْنَعُ الْحَجَرُ مَا يَصْنَع:

لِنَفْسِهِ،

فِي وَقْتِ الْقَيْلُولَةِ،

أُرْجُوحَةً زَرْقَاء.

لِيْ

- أَنَا الّتِي لَسْتُ لَا سيدة أَعْمَالٍ،

وَلَا عَارِضَةَ أَزْيَاء –

أُغْنِيَةً سَوْدَاء.

*

لِأمْثَالِي

قُبَّعَاتٍ مِن تِبْن.

ولِلْبَاقِين مَخَابِئَ

تَحْتَ الْأَرْض.

*

هَا هُنَا،

كَمْ رِيشٍ مُخْتَلِفِ الْأَلْوَان،

كَمْ حَضَارَةٍ،

كَمْ لُغَةٍ،

كَمْ لِسَان ْ،

وَلَكِن بِالْله عَلَيْكْ، أيُّهَا الْطَاوُوس الْحَجَرِي

مَاذَا أَدرَكْتَ مَنْ بَحْرِ الْظُلُمَاتْ؟

مَاذَا تَرَكْتَ لِي فَوْقَ ضَرِيحِ الْمَعْنَى؟

وَمَاذَا تَرَكْتَ لِلْهُنُودِ الْحُمْر

فِي قَرَارَةِ الْفِنْجَان؟

*

هَا هُنَا،

- حَوْلَ الْفِنْجَان –

صَعَالِيكٌ،

غَجَر،

بشرٌ يأْكُلُهُم بَشَرْ،

أَحْفَاد لُورْكَا،

زِنْجٌ،

وَإفْرِنْجٌ،

وَإغْرِيقٌ،

وَأسْبَان،

وَرُومَان،

قَيَاصِرَة،

وَجَبَابِرَة.....

لَكِنَّهُم أَحْرَار.

*

بِالْمُقَابِلْ:

هُنَالِكَ، فِي شَرْقِنَا الْقَدِيم،

مُنْذُ أَنْ كُنَّا وَخَيْرٌ عَمِيم

تَجِيءُ مِنْ أَقْصَى الْغَرْبْ:

قَنَاطِيرُ قَمْحٍ يَتَقَاسَمُ رَيْعَهَا

الْسَلَاطِين،

وَالْسَمَاسِرَة،

وَشُيُوخُ الْقَبَائِل

أَكْيَاسُ مِلْحٍ فَاسِدٍ،

طَوَاحِينُ هَوَاء،

ذُبَابُ خَيْلٍ تَلِيهِ أَرْتالٌ مِنَ الْنَّمْلِ الْمُجَنَّح:

دَائِمَاً،

بِاسْمِ الْحُرِيَّة

مِنْ أَجْلِ سَحْقِ الْحُرِيَّة.

*

هَا هُنَا،

فِي شَرْقِنَا الْقَدِيم:

الْقَيْلُولَةُ الْطَويلَةُ،

وَالجَدَل الْعَقِيم.

بَيْنَمَا هُنَالِكَ، مِنَ الغربِ إِلَى الْغَرْب:

صَخَب ٌ،

زِحَامٌ،

نَاطِحَاتُ سَحَاب،

سِرْدَابٌ وَرَاءَ سِرْدَاب،

وَقْتٌ يَقتُلُ الوَقْت،

فِي عُجَالَةٍ،

وَمِنْ غَيْرِ أَدْنَى نَدَم،

أَوْ عِتَاب.

*

أَهَذِهِ وَاحَةٌ؟

أَمْ هَذَا سَرَابْ؟

هي ذي Manhattan

دُونَ تَوَقُفٍ،

وَدُون اسْتِرَاحَةْ،

هِيَ ذِي، ثَانِيَةً وَثَالِثَةً وَرَابِعَة

كَأَنّهَا قِلَادَةٌ مِنْ فَوَانِيسَ

فَي صَحْرَاءَ شَاسِعَة.

كَأنّمَا نيُويُورْك بُسْتَانٌ أَشْجَارُهُ مِنْ حَجَر

وَأَصْغَرُ تُفَّاحَةٍ فِيهِ

لَا يَفُوحُ مِنْهَا أَيُّ شَيْء،

أَيُّ أَثَر،

غَيْرَ أَنّهَا مَنْحُوتَةٌ بِأِزْمِيل أَعْظَمِ فَنَّان،

أِزْمِيل جَدِّ الْبَشَر،

الْشَيْطَان!

*

وَاحِد.

اثْنَان.

ابْتَعِدَا عَنِ الْسِكَّة،

بَعْدَ قَلِيلٍ يَنْطَلِقُ الْقِطَار.

هَا هُنَا،

فِي

MADISON SQUARE

يَنْطَلِقُ مِنْ مَحَطَّة Penn

في كُلِّ عُشُرِ ثَانِيَةٍ،

قِطَار.

*

قِطَارٌ وَراءَ قِطَارْ

نَحْوَ الْحَاضِر.

نَحْوَ الْمُسْتَقْبَل.

نَحْوَ كُلّ مَا هُوَ طَارِئٌ وَمُفَاجِئٌ وَجَدِيد

هَكَذَا، مَحَطةً مَحَطّة،فِي بِلَادٍ بَارِعَة

فِي صَهْرِ كُلِّ شَيْء

الْطَبِيعَةِ وَالْثَقَافَة.

الْحَدِيدِ وَالْجَلِيد.

الْحَدِيدُ يَؤُولُ إلَى

حِلي حَوْلَ جِبَاة الْنَاس وَأَعْنَاقِ الْمُدُن.

وَالْجَليدُ إِلَى أساوٍر حَوْلَ أَقْدَام عُمَّالِ الْمَزَارِع،

وَأَحْدَاقِ بُنَاةِ الْسُفُن.

*

NO COMMENT

قِفْ وَرَاءَ ظَهْرِ تِمْثَالِ الْحُرِيَّة

ثُمَّ اجْلِس عَلَى رُكْبَتَيْك

وَشَغِّل الْكَامِيرَا

*

هَكَذَا هُمْ،

بَيْنَمَا نَحْنُ: كَمَا نَحْنُ

نَقْبَعُ فِي بِلَادِ الْذَهَبْ

قُرْبَ كَوَانِينِ الْحَطَبْ.

قَاطْ،

عَرَقْ،

نَارْجِيلَة،

ثُمَّ هَاتِ، أَيُّها الْحَكَوَاتِي

مَا فِي جُعْبَتِك:

قَصَصْ،

وَخُرَافَاتْ،

وَأَسَاطِيرْ،

عَنِ الْأَنْدَلُس،

وَأَلْفِ لَيْلَة وَلَيْلَة،

وَالْسِنْدِبَاد،

وَخَزَائِنِ ثَمُود،

وَعَجَائِبِ عَاد.

إلَى مَا لَا نِهَايَة،

أَوْ إلَى أَنْ يُرَنِّقَ الْنَوْمُ عُيُونَ الْصِغَار.

هكذا نحن في شرقنا القديم،

حين ننام،

وَحِينَ نَصْحُو،

وَحِينَ يَنْطَلِقُ مِنْ مَحَطَّة Penn

فِي أَقَلَّ مِنْ عُشُر ثَانِيَة

مِلْيوُن قِطَار وَقِطَار.

*

هَارْلِمْ!

يَا هَارْلِم!

كَم الْسَاعَة الْآن بِالْدَقيِقَة َ والَثَانِيَة؟

أَزِفَ الْوَقتُ وَهَا أنَا الْآنَ فِي هَذِه ِالْمَحَطَّةِ

بَيْنَمَا أَقْدَامِي فِي مَحَطَّة نَائِيَة.

*

هَارْلِم!

يَا هَارْلِم!

قَلْبِي عَلَيْكِ.

قَلْبِي عَلَى الْوَجَع الْطَاعِنِ فِي غَيَاهِبِ الْجَاز،

فِي سَحَائِبِ الْكُوكَايِين،

وَفِي مَقَالِبِ الْمَجَاز.

يَا أَنْكَى الْكُلُوم وَالْكَلِمَة،

هَارْلِم!

يَا هَارْلِم!

يَا أَوَّلَ وَأَطْوَلَ صَيْحَة مُؤْلِمَة!

*

أُرِيد أَنْ أُصَلِّي.

وَلَكِن هَذِه كَنِيسَة ٌ

الْتَرَاتِيِل فِيهَا سَوْدَاء

والْقِس أَبْيَض.

كِيْفَ أُصَلّي،

بِأَي لُغَة،

بِأي سِفر،

وَخَلْفَ مَن:

خَلْفَ أبْرَاهَام لينكلن،

أَمْ خَلْفَ رُعَاة الْبَقَر؟

*

SOS

هَذَا وَقْتٌ غَيْر الْوَقْت.

وَهَذَا مَكَان غَيْر الْمَكَان.

هَا هُنا، قبل تَقَاطُع بْرُودْواي والْجَادَة السَابِعَة

في ميدان Times Square

زُحَام،

ضَوْضَاء،

أَشْرِطَة أخْبَار،

لَافِتَات عِمْلاقَةٌ تَُنَاطِح الشَّمْس،

أَيَّتُهَا الشَّمْس،

يَا مَكْتَبَةً أَيْنَ مِنْهَا مَكْتَبَةَ الْكُونْغْرِس

وَلَكِن بِلا كُتُب،

وَلا رُفُوف

قَدْ بَانَ الْمَعْنَى

أَهَكَذَا يَبْدُو الْخُسُوف؟

أَمْ هَذِه فَقَط فَتْرَة مَوْسِمِيَة

يَكُون فِيهَا الْمُحِيط فِي سُبَاتٍ،

بَيْنَمَا الْمَرْكَز فَوْقَ نَار قَوِيَّة؟

أَيَّتُهَا الشَّمْس! لا مَنَاص.

وَأنْتَ، يَا شَبِيهي، احْتَرِس!

هَا هُوَ أَوَان الْكُسُوف

قَدْ تَخْلَع نَظَّارَتَك السَوْداء

قَد يَخْدَعَكَ النَّظَر.

وشَظَايَا البشر

فيِ مَرَايَا هيئة الأمم

قَدْ تَنْسَى، وَقَد تَحْسَب، تَحْتَ تَأثِير النِيُون

أَنَّ لَثْغَتَكَ لَم تَعُد مَرْئيِّة.

أَو أنَّ بَشْرَتَك قَدْ صَارَت - مَعَ الْوَقْت – بَيْضَاء.

حَذَارِ.

احْتَرِس.

فَأَنْتَ مِنَ الشَّرْق.

وَأَبْنَاء الشَّرْق لَيْسُوا كلّهم

مِنْ أَبْنَاء السَّمَاء.

*

أَنَا كذلك مِنَ الشَّرْق.

ومِثلي مَنْسِيَّة مِنَ الْمَتْن

كَيْفَ لِي أَنَ لَا أُجَن؟

وأنا أُجيل النَّظَرَ فِي أَرْجَاء

METROPOLITAN MUSEUM OF ARTS

زَخَارِف مِنْ مِصْر،

مَصَاحِف مِنَ الْقُوقَاز،

مُنَمْنَمَات مِن أَصْفَهَان،

أَرَابِيسْك،

قُدُور مَنْحُوتَة،

نُقُوش هِيرُوغْلِيفِية،

وأَلْوَاح آشُورِيَّة.

*

أَحَقاً هَذَا؟

أَمْ أَنَّه عَلَيَّ أَنَا أَيْضَاً

أَنْ أُعِيدَ النَّظَر:

فِي لُغَتِي،

وَإِثْنِيَّتِي؟

***

شادية حامد

 

قراءة نقدية في جماليات التلقي لمجموعة "وجهي… والرّياح"

تمثل المجموعة الشعرية "وجهي... والرّياح" للشاعرة سونيا عبد اللطيف عالماً شعرياً مكتملاً ينبض بالحياة، حيث تتفاعل الذاتي مع الكوني، والأنثوي مع الإنساني، والخاص مع العام، تعتمد جمالية التلقي هنا على حوارية عميقة بين النص والقارئ، تدفعه إلى أن يكون شريكاً فاعلاً في بناء الدلالة واستكناه الطبقات المتعددة للنصوص.

شاعرة الهمس والموج، وقيثارة المشهد الثقافي التونسي

ليست مجرد شاعرة تكتب القصيدة، بل هي مشروع ثقافي متكامل يُنظِّم الفضاءات، ويُؤسِّس للمشترَك الإنساني. من مدينة قليبية الساحلية، حيث همس الموج، انطلقت كاتبةً متعددة الأجناس (الشعر، النثر، الومضة، السيرة الواقعية، القصة) وقارئةً تحليليةً تنفذ إلى أعماق النصوص، تتلمس في كتاباتها مكامن الجمال والألم معاً، محوِّلةً تفاصيل الواقع اليومي إلى استعارات كونية، وهي كاتبة لا تنفصل عن دورها المجتمعي؛ فأستاذة التعليم، والمدربة في التنمية البشرية، والمذيعة المتخرجة من مركز مارينا، كلها أوجه تُغني نصّها بحساسية فريدة تجاه الإنسان وتفاصيل حياته.

عرفتها الساحة الثقافية رئيسةً لنادي الشعر ثم نادي الأدب في جمعية ابن عرفة، وعضواً فاعلاً في اتحاد الكتاب التونسيين حيث ترأست مجلس الأدب والفنون، لكن بصمتها الأبرز تأتي من تأسيسها وإدارتها لـ "مجالس همس الموج الأدبية والفنية"، التي أصبحت منبراً أساسياً يحتضن الأصوات التونسية والعربية، من خلال تظاهرات نوعية، بين الإصدارات التي تنوعت بين الشعر ("امرأة استثنائية")، والومضات ("بجناح واحد أطير")، ويوميات الواقع ("ميترو هات... وهدرات")، وإصدارات باللغة الإنجليزية، تثبت عبد اللطيف أن حبرها لا يجف عند حدود القصيدة، بل يمتد ليشكل سجلاً حياً للذات والمجتمع.

مشاركاتها الممتدة من مهرجانات تونس (قرطاج، سيدي بوزيد، قفصة) إلى عواصم الثقافة العربية (الصويرة، غرداية، الإسكندرية، بسكرة، زاكورة) تؤكد حضورها كصوت شعري عربي يجمع بين خصوصية المحلي وعالمية الإحساس، هي في جوهرها، "امرأة استثنائية" كما عنونت أحد دواوينها، لا تكتفي بمواجهة الرياح بقوة وجهها، بل تخلق من عواصف الحياة موجاً يهمس بأجمل القصائد.

(2)

جمالية العتبات النصية: مدخل إلى العالم الشعري

تبدأ جماليات التلقي من الغلاف، حيث الصورة الفوتوغرافية التي التقطتها الشاعرة في طبرقة (بتاريخ 29 ماي 2022). هذه العتبة البصرية ليست زخرفة، بل هي جزء عضوي من "وجهي… والرّياح" عنوان يخلق فضاءً من الحركة والصراع والتحليق، الوجه (الثابت، الهوية، الذات) في مواجهة الرياح (المتغير، العالم الخارجي، قوى القدر والزمن). هذا التناقض الظاهري يضع القارئ منذ البداية في قلب المأساة والحركة التي تميز المجموعة.

(3)

تعدد الأصوات والتناص: تشابك الحكايات

المجموعة عبارة عن سيمفونية من الأصوات المتنوعة:

الصوت الغنائي العذب: كما في "قمران" و "همس الموج"، حيث تتحول العلاقة العاطفية إلى حالة كونية من الإشراق ("نُزيلُ صدأ القلوب الصّماء").

الصوت الحكائي الأسطوري: كما في "هند امكَ" و "الأميرة النائمة" و"الحرباء"، حيث تُسقط الذات تجربتها على شخصيات رمزية وحكايات تستدعي ألف ليلة وليلة وشخصيات تراثية، مما يخلق تناصاً ثرياً يثري عملية تأويل القارئ.

الصوت السردي الواقعي الجارح: وهو الأكثر بروزاً وقوة، كما في "كاميرا" و "الجدار" و "شجن الوطن"، هنا تتحول القصيدة إلى كاميرا ترصد مآسي الواقع بتقنية "الزوم" السينمائية، مما يخلق صدمة تلقي لدى القارئ ويجبره على المواجهة، قصيدة "كاميرا" تحديداً هي ذروة هذه الجمالية الصادمة، حيث تتحول المفردة (الثدي) إلى رمز مأساوي للجوع والأمومة المهدرة واللامبالاة.

الصوت الاستفهامي الوجودي: كما في "اكتشاف" و"تساؤلات" و"أبواب المعراج"، حيث تطرح الشاعرة أسئلة وجودية عن الذات، الحب، الموت، والخلاص، هذا الصوت يدفع القارئ إلى طرح الأسئلة ذاتها، محوّلاً التلقي من متعة جمالية إلى فعل تأملي وجودي.

(4)

الصورة الشعرية: بين الرقة والقسوة

تتقن سونيا عبد اللطيف بناء صور شعرية قادرة على خلق عالم متخيل كامل:

صور طبيعية مضيئة: النورس، البحر، القمر، الضياء، الندى. هذه الصور تخلق فضاءً للتحليق والأمل.

صور واقعية قاسية: القمامة، الثدي المتدلي، الجدار، الإسفلت، الغربان. هذه الصور تخلق فضاءً للاختناق والاحتجاج.

صور سوريالية مدهشة: "بجناح واحد… تطييير!" في "اكتشاف"، أو "أنا شهرزاد تُنادي من قمقم الأسر" في إحدى القصص الضمنية. هذه الصور تثير الدهشة وتوسع آفاق التوقع لدى القارئ.

التناقض بين هذه الصور يخلق توتراً جمالياً يظل القارئ في حالة تأويل دائمة لمعناه.

(5)

الإيقاع بين الانسياب والانكسار

الإيقاع في المجموعة عضوي، يتبع نبض التجربة. فهو تارة منسياب كهدير الموج في "همس الموج"، وتارة أخرى متقطع، متشظٍ، يعكس انكسار الذات وشرذمة الواقع، كما في "كاميرا" و "غربة". هذا التلاعب بالإيقاع يوجه مشاعر القارئ، فينتقل من حالة الطمأنينة إلى القلق، ومن التأمل إلى الصدمة.

(6)

الذات والآخر: جمالية التماهي

جمالية التلقي الأبرز هي قدرة النصوص على خلق تماهٍ عميق بين القارئ والشخصيات:

القارئ يشعر بضياع "النعامة" التي تتعلم الطيران، ويتألم مع المرأة في "كاميرا" ويتساءل معها: "كيف يستقبلني المطر؟"، ويحلم مع "الحالمة" ويتمرد مع "وردة الرمال"، وحاصرته أسئلة "تساؤلات" كما حاصرت الشاعرة، هذا التماهي لا يتم عبر الشفقة، بل عبر إنسانية عميقة تجعل من الخاص (تجربة المرأة) عاماً (قضية إنسانية).

(7)

اللغة: بين الشعرية اليومية والرمزية العالية

تستخدم الشاعرة لغة سلسة لكنها مكثفة، تخلط بين مستويين من اللغة، شعري رفيع (يُرفرف الحلم سربا) ولغة الحياة اليومية (علب سردين، حفّاظات قذرة)، هذا المزج يجعل النص قريباً من القلب دون أن يفقد شعريته، ويجعل التلقي ممكناً على مستويات متعددة.

مجموعة (وجهي… والرّياح) هي مشروع شعري إنساني طموح، جمالية التلقي فيها لا تقوم على المتعة السلبية، بل على التحدي، تتحدى القارئ:

أخلاقياً: لمواجهة القبح والظلم في قصائد مثل "كاميرا" و "هنيئا لكم الأعياد".

وجودياً: لمواجهة أسئلة الموت والوجود في "سأموت" و "أبواب المعراج".

جمالياً: لتقبل تنوع الأصوات والأشكال والانزياحات عن المألوف.

الانزياح الأكبر هو تحويل جسد المرأة (بكل تفاصيله الحميمة والمأساوية) من موضوع للتلقي الذكوري إلى ذات فاعلة، ناطقة، محكومة بالرياح لكنها تحاول دائماً التحليق، القارئ، رجلاً كان أم امرأة، مدعو ليس فقط لقراءة هذه النصوص، بل لـ تلقّيها بكل حواسه وضميره، ليكتمل المعنى في فعل القراءة نفسه، الشاعرة لا تقدم إجابات، بل تفتح نوافذ على الأسئلة الكبرى للوجود والإنسان، مخلّفة وراءها أصداء لا تتبدد بسهولة في ذهن وقلب القارئ.

***

بقلم: رزق فرج رزق- ليبيا

في قصيدة "وهل غيرها أنهكتْني" للشاعر القدير جواد غلوم

المقدمة: تُعدّ قصيدة الشاعر جواد غلوم «وهل غيرها أنهكتني؟» نصًّا شعريًّا يتجاوز الغزل التقليدي ليقدّم الحبيبة بوصفها رمزًا مركّبًا يتداخل فيه الوجدان مع الفكر والوطن. تنبثق أهمية النص من كونه يعكس تجربة شاعرٍ عاش المنفى وعاد إلى وطنه محمّلًا بمشروعٍ فكري ونضالي، ما أضفى على قصيدته بعدًا مركّبًا يجمع بين العاطفة الفردية والالتزام الجمعي. ورغم حضور دراسات حول شعر الحداثة العراقية، يبقى النص مفتوحًا على قراءة متعددة المناهج تبرز تداخل بنيته الإيقاعية والدلالية مع أبعاده النفسية والوطنية.

تهدف هذه الدراسة إلى تقديم قراءة متكاملة للقصيدة من خلال خمسة محاور أساسية: تفسير العنوان، تحليل الأبيات، الكشف عن الاستعارات والانزياحات الدلالية، ثم تطبيق مناهج التحليل البنيوي والسيميائي والنفسي والوطني–الفكري، وصولًا إلى خاتمة تستخلص دلالات النص وراهنيته في المشهد الشعري المعاصر.

عنوان القصيدة والأبيات

دلالة العنوان ووظائفه الجمالية والدلالية

«وهل غيرها أنهكتني؟»

العنوان كمفتاح بنائي

يشكّل العنوان «وهل غيرها أنهكتني؟» مفتاحًا نصيًا ذا وظيفة إغرائية وتأويلية في آن. فهو صيغة استفهام لا تبحث عن جواب بقدر ما تُنتج التباسًا. «هل» أداة تفتح الاحتمال، و«غيرها» لفظة مبهمة تترك المرجعية معلّقة: أهي امرأة بعينها؟ فكرة كبرى؟ الوطن؟ أم المرجعية المدنية التي ينتمي إليها الشاعر؟ أما الفعل «أنهكتني» فيحمل ثِقَل الزمن المستمر، بما يوحي بأننا إزاء تجربة تراكمية لا لحظة عابرة. بذلك، يضع العنوان القارئ أمام سؤال وجودي/التزامي: ما مصدر هذا الإنهاك الذي ينفذ إلى عمق الذات؟ ومن هنا ينطلق النص لتفكيك الإجابة عبر الأبيات.

المعلّمة كرمز

منذ البيت الأول: «مُعلّمَتي لا تُحبّ اللقاء إذا ما استُطاب وجاز حدوده» ينزاح النص عن المعجم الغزلي المألوف، ليمنح الحبيبة صفةً تربوية/معرفية. المعلم ليس كائنًا عاطفيًا، بل مرجع يضع شروطًا صارمة للوصال. هذا التحويل من الحسي إلى الفكري يُعيد تشكيل العلاقة: فالحب هنا ليس مجرّد رغبة جسدية، بل التزام تجاه سلطة معرفية أو وطنية. ويتأكد هذا المعنى لاحقًا حين يقول الشاعر: «تعلّمت منك جمال الرويّ» و«تحبّ الكتاب وما يحتوي»، وهي إشارات تُنزِل الحبيبة منزلة المشروع الثقافي أو الوطني.

الشوق كاختبار والإنهاك كحصيلة

في الأبيات التالية: «بُليتُ بوجدٍ عسير المنال وفاتنةٍ في هواها عنيدة»، يبرز الشوق لا بوصفه متعة، بل ابتلاءً عسيرًا. الحبيبة/الفكرة فاتنة لكنها عنيدة، لا تمنح نفسها بسهولة، بل تجعل من طول العذاب شرطًا. وحين يعلن الشاعر: «عجزتُ وهُنتُ وهُدّت قواي»، يصبح الإنهاك المحوري في العنوان نتيجة منطقية، تجسّد تصدّع الذات أمام مشروع/حب لا يتحقق. ومع ذلك لا يستسلم لليأس، بل يسائل: «أمِن مسعفٍ في مساعٍ حميدة؟»، فيربط النجدة بمعيار أخلاقي يرفض المساومة والانتهازية.

الحب كحرب

ذروة التصعيد الدلالي تأتي مع: «هو الحبّ حربٌ ولا تنطفي وتضعف فيها العقول الرشيدة». هنا يرفع الشاعر الحب إلى مستوى الصراع الوجودي، حيث ينهك حتى «العقول الرشيدة» أي المتزنة. إنها صورة قريبة من تجربة الالتزام السياسي: فالنضال، مثل الحبّ، حرب طويلة تستنزف الطاقات وتضع العقل في مواجهة فتنةٍ تتجاوز قدرته على التحليل. وبهذا يتداخل الغزل مع الالتزام، فيتحوّل النص إلى مرآة لمعاناة المثقف الذي يعيش بين الحلم والخذلان.

الحبيبة كمنبع للكتابة

في الوحدة الثالثة، تتحول الحبيبة إلى ركيزة نصية: «قريضي تهاوى فصرتِ عموده». هنا لا تكون موضوعًا للقصيدة فحسب، بل بنيتها الداخلية التي تسندها. إنها مصدر الإلهام واللغة، ما يجعلها أقرب إلى رمز للفكر أو الوطن الذي يمنح الشاعر شرعية القول. كونها «تحب الكتاب وما يحتوي» يرسّخ هذه الرمزية الثقافية، ويبعد النص عن الغزل الجسدي التقليدي.

الولادة من الألم

«ترعْرتِ فيّ غرامًا بكى… نموتِ جنينًا وكنتِ الوليدة». هذه الصورة المركبة تُجسّد الحبّ/الفكرة كوليد لآلام الشاعر. الفعل «ترعّرت» يحمِل دلالة النموّ العضوي، لكن النمو هنا مرتبط بالبكاء لا بالفرح، أي أن الفكرة أو الوطن وُلد من رحم المعاناة والتضحية. ومن ثمّ تأتي مرارة الشاعر حين يواجه ولاءات الحبيبة المتعددة: «وأكره فيك الصدود العسير ولاءاتك المكثرات العتيدة». إنها إشارة إلى انقسام سياسي أو تبعية تيارات متعددة، تجعل المرجعية غير نقية، وتضاعف الإنهاك.

النداء البراغماتي

في الوحدة الأخيرة، يعلن الشاعر: «فإني المشوق بلا مطمع… أشيري إليّ تعال اقترب». يتجلّى هنا موقف أخلاقي صافٍ: حبّ بلا مصلحة، انتماء لا يطلب مكافأة. لكنه في الوقت نفسه يرفض أن يظل حلمًا معلّقًا: «إن كان حلمًا فلا، لن أريده». إنها لحظة مواجهة بين الوهم والفعل، بين الشعر والحياة. القصيدة نفسها تصبح ملاذًا حين يقول: «وإن باعدتنا دروب الحياة فقد ننزوي غفلةً في قصيدة». الشعر هنا وطن بديل حين يتعذّر اللقاء في الواقع.

الخلاصة

يتضح أن العنوان «وهل غيرها أنهكتني؟» ليس مجرد عتبة جمالية، بل بوصلة تفسيريّة تقود القراءة. فالإنهاك الذي يسائل عنه الشاعر يتوزّع بين الشخصي والرمزي: هو إنهاك الحبّ المستحيل، وإنهاك الانتماء السياسي الذي يرهق دون أن يمنح تحققًا. وتظهر الحبيبة كرمز متعدّد: امرأة، معلمة، وطن، فكرة، مرجعية حزبية، وكلها تتقاطع لتشكّل بنية مركّبة. من هنا يمكن القول إن القصيدة تجسّد انتقالًا من الغزل إلى الالتزام، ومن الشوق الفردي إلى مأزق المثقف أمام وطنه وفكرته. ولعل قوة النص تكمن في أنه لا يحسم المرجعية، بل يتركها مفتوحة، بحيث يشارك القارئ في استكمال المعنى

الاستعارات والانزياحات الدلالية في قصيدة "وهل غيرها أنهكتني؟

تتميز هذه القصيدة بغنى الاستعارات والانزياحات الدلالية، التي تتجاوز المعنى المباشر لتعيد تشكيل العلاقة بين الشاعر والحبيبة بشكل رمزي مركب. هذه التقنيات لا تعمل كزخارف لغوية فحسب، بل تمثل أدوات فنية تخلق طبقات متعددة من المعنى، تتجاوز الغزل التقليدي لتلامس الفكر والسياسة والهوية الوطنية والمدنية.

في مستوى الاستعارات المركزية، يبرز استخدام صورة المعلّمة، التي لا تدل فقط على المرأة التي تعلّم، بل ترمز إلى جهة فكرية أو وطنية أو مدنية توجه الشاعر، تحدد شروط اللقاء، وتضع ضوابط للعلاقة المعرفية والعاطفية على حد سواء. كما أن عبارة

"الحب حرب" تمثل توترًا داخليًا بين الرغبة والالتزام، بين الشاعر وموضوعه الرمزي، حيث يصبح الحب معركة مستمرة، والارتباط علامة على صراع معرفي وفكري، يعكس تجربة الانتماء الوطني أو الالتزام بالقضية.

رموز أخرى مثل الرحيق والورود

تشير إلى لذة الحب، لكنها في الوقت ذاته تعكس تحقق الأهداف أو الاستجابة لمتطلبات الوطن والفكرة. كذلك، فإن

القصيدة نفسها كمأوى

تتحول إلى وطن بديل أو حضن رمزي يلجأ إليه الشاعر عند مواجهة ألم الاغتراب أو الخذلان، بينما يرمز الطير والسرب إلى وحدة وانفصال في آن، تصوير داخلي لمنفى الشاعر أو انفصاله عن الجماعة السياسية أو الوطنية.

أما الانزياح الدلالي فيرتبط بالبنية الكاملة للنص، إذ يخلق تحولًا في المرجعية والهوية المخاطبة. فعلى سبيل المثال، ضمير المخاطبة "أنتِ"، بالرغم من توجيهه إلى الحبيبة، يحمل دلالات وطنية وفكرية، محوّلًا الحبيبة إلى رمز أكبر يمثل الوطن أو القضية أو المشروع المدني. ويتجلى الانزياح أيضًا في البيت

"قريضي تهاوى فصرتِ عموده"

حيث تصبح الحبيبة عنصرًا داخليًا في إنتاج النص الشعري، فتتجاوز وظيفتها التقليدية كموضوع غزل لتصبح شرطًا لإنتاج المعنى والبنية الفنية للنص.

تتجسد كذلك فكرة التعقيد والطبقات في عبارة "أحبك بحرًا من المُلغزات"، حيث يتحول الحب إلى مشروع فكري غامض متعدد الأبعاد، يبتعد عن الرومانسية السطحية ليصبح تجربة معرفية متشابكة. وأخيرًا، يرفع البيت

"فإني المشوق بلا مطمع"

مستوى الحب من نزعة تملكية إلى موقف التزام وفكر، مؤكدًا أن الحب الحقيقي هنا مرتبط بالتضحية والمسؤولية، لا بالاستحواذ أو الملذات العابرة.

من خلال هذه الاستعارات والانزياحات، يتضح أن القصيدة لا تكتفي بالغزل الرمزي، بل تحوّل كل صورة وجدانية إلى إطار للتأمل الفكري والسياسي، حيث تصبح الحبيبة وطنًا ومعرفةً وفكرة، والقصيدة مأوى وتجربة اختبار للالتزام الداخلي للشاعر. هذه الطبقات المتداخلة تؤكد أن النص الشعري في جواد غلوم ليس مجرد فضاء وجداني، بل ساحة رمزية لتجربة الذات بين الرغبة والالتزام، بين الحلم والواقع.

التحليل البنيوي والسيميائي والنفسي لقصيدة و البعد الوطني والفكري في قصيدة " وهل غيرها أنهكتني؟"

أولًا: التحليل البنيوي

في ضوء مقولة رولان بارت (1) القائلة: «الذات لا تُدرك نفسها إلا عبر الآخر، الذي يُعيد تشكيل صورتها»، تقرأ قصيدة جواد غلوم "وهل غيرها أنهكتني؟" كنص يبني هويّة المتكلّم الشعري عبر علاقة انعكاسية مع الحبيبة/الآخر. لا يظل حضور الآخر هنا مجرد ظرف عاطفي أو موضوع غزلي، بل يتحوّل إلى آلية بنيوية مركزية تُعيد تشكيل بنية الذات داخل الخطاب الشعري. ولذلك، تصبح الحبيبة مرآة تُسائل الأنا وتكثّف داخلها تناقضات الانتماء والخذلان: فالهوية لا تُعطى كحقيقة مستقلة، بل تُنتَج لغويًا وإيقاعيًّا كلّما تكرّر النداء واستُعيدت أفعال الرغبة.

من منظور بنيوي، تستثمر القصيدة بنية عمودية تقليدية — من حيث الوزن والقافية — كإطار شكلاني يُولّد توتُّرًا داخليًا بين الشكل الكلاسيكي والمضامين الحداثية/الاستبطانية. الوحدة الإيقاعية المتسقة تمنح النص تماسكًا صوتيًا يبدو، ظاهريًا، امتثالًا لقواعد الانضباط الفني؛ لكن هذه الاستمرارية المقطعية تعمل أيضًا كخلفية تخضع لها ديناميكية تصاعدية في الانفعال الشعري: انتقال النص من وصف الحبيبة إلى استبطان الأنا ثم إلى نداء القرب والمناجاة ينبني على منحنى تصاعدي واضح يصل إلى ذروة انفعال لفظي. وفي هذا السياق، يلعب التكرار البنيوي — في صور أفعال مثل «أحبك» و«أريدك» و«تعال» و«اقترب» — دورًا وظيفيًّا يتجاوز التوكيد البلاغي: فهو يؤسس محور الرغبة ويجعل من المسافة الوجدانية بين الأنا والآخر موضوعًا مركزيًا للنص، ومساحة إنتاج للذات الشعرية نفسها.

ثانيًا: التحليل السيميائي

تنطلق هذه القراءة السيميائية من فرضية أمبرتو إيكو(2) القائلة بأن «كلّ علامة هي شبكة من العلاقات ولا تُفهم إلا داخل نظامها» ، وبناءً عليه تُقرأ العلامات في قصيدة «وهل غيرها أنهكتني؟» ليس كوحدات مستقلة بل كمراكز دلالية تتكوّن وتتحوّل عبر علاقاتها الاقترانية والتقابليّة داخل النسق النصّي. بهذا المنطق، لم تعد المفردة البسيطة علامة ثابتة، بل نقطة التقاء لدوال ودلالات تتداخل لتشكّل حقولًا رمزية متعددة الطبقات.

تتكثّف هذه الديناميكية في تحويلات دلالية واضحة: فـ«المعلّمة» لا تكتفي بدلالة المرأة المتعلمة بل تنفتح لتدلّ على مرجعيات مدنية وإيديولوجية — مؤسسات، فكر، ومواقف — تجعل منها علامة نظامية تحدّد موقع الشاعر الفكري والوجداني داخل الحقل النصّي. وتمامًا، تتحول صور «الرحيق» و«الورود» من إشارات لذة حسّية إلى مؤشرات على خصوبة المشروع الوطني أو فشلُه؛ بينما يخضع «الطير» و«السرب» لعملية تحويل دلالي تجعل منهما رمزين للمنفى والتشرذم بدلاً من رموز الحرية الأولى.

تؤكد القراءة كذلك أن ضمير المخاطبة «أنتِ» لا يظلّ محصورًا في علاقة خاصة، بل يعلو ليصبح علامة عليا تمثّل الوطن أو الفكرة؛ إذ تجعل سلسلة النداءات («أحبك»، «أريدك»، «تعال») فعل النداء فعل انخراط وانتماء، وتحوّل المخاطَب إلى قناع تشكّلي يفرض شروطه على وعي الشاعر وسلوكه الوجداني–السياسي.

لمزيد من الوضوح التطبيقي، تقدم هذه النقاط قراءات مختصرة لمظاهر الانزياح الدلالي في النص:

الولادة المؤلمة دلالة على الدلالة، — في «ترعرتِ فيّ غرامًا بكى… نموتِ جنينًا وكنتِ الوليدة» تتحوّل الولادة إلى رمز لتكلفة نشوء الفكرة؛ حضور يولد بثمن آلامي.

تعدّد الولاءات — في «وأكره فيك الصدود العسير ولاءاتك المكثرات العتيدة» تُقرأ «الولاءات» كدلائل على تشظّي المرجعية السياسية وضعف الإجماع

القصيدة كمأوى/وطن بديل — عبارات مثل «فلمّم شتاتي فإني شريدة» و«فقد ننزوي غفلةً في قصيدة» تحوّل النصّ إلى فضاء إنقاذ رمزي يعيد بناء الذات أمام اغتراب الواقع.

الرحيق والورود — «حتى متى قد يغيب الرحيق» تجعل من «الرحيق» مقياسًا لنجاح أو فشل المشروع الجماعي، وتربط الحزن الشخصي بخيبة الأمل العامة.

الطير والسرب — التكرار والتحوّل في صور الطيور تبرز تحوّل رمز التحليق إلى مشهد منفى وتشرذم جماعي.

ضمير المخاطبة «أنتِ» كعلامة كلية

— تكرار نداءات الحب يرفع الضمير إلى مرتبة علامة فاعلة في بناء الهوية النصية والسياسية.

في المحصّلة، تعمل السيمياء في القصيدة كآلية لإنتاج معانٍ متراكبة: العلامات تتقاطع لتولد دلالات لا تنحصر في الغزل الفردي، بل تتوسع لتشمل أفقًا وطنيًا–فكريًا واجتماعيًا.

ثالثًا: التحليل النفسي

تنبني هذه القراءة على فرضية جاك لاكان (3) القائلة بأن «الذات لا تُدرك نفسها إلا عبر الآخر الذي يُعيد تشكيل صورتها». في قصيدة «وهل غيرها أنهكتني؟» تتخذ الحبيبة ــ بوصفها الآخر ــ موقعًا وظيفيًا محوريًا لصياغة هوية المتكلّم الشعري؛ إذ لا تعمل كموضوع غزلي فحسب، بل كمرآة تُعاد عبرها تركيبَاته النفسيّة وتُقاس بها دوافِعه. يكشف الشطر «عجزتُ وهُنتُ وهُدّت قواي» عن مناخ انفعالي يسودُه انهيارٌ داخلي ناجم من صراع متكرر بين اشتياق الذات إلى القرب والوفاء، وبين إدراك استحالة تحقيق هذا القرب في إطار العلاقات الواقعية أو الرمزية.

ينتج عن هذا الصراع إحساسٌ مستمرّ بالعجز والاغتراب، بحيث يصبح الآخرُ «المرجع الكبير» الذي تُحدَّدُ به مطالبُ الرغبة وتُستنسَخ عبره صورةُ الذات. في ضوء ذلك، تتحوّل الكتابة إلى عملية إنقاذ نفسي؛ تعمل القصيدة كمأوى رمزي واستعادي، إذ يعيد الشاعر ترتيبَ تقطيعاته الذاتية وترميمَها، مستفيدًا من الفضاء اللغوي لصياغة هويةٍ مؤقتةٍ تقاوم ذوبانَها الناتج عن الخذلان. بناءً على هذا الإطار، يُنصَح بدعم التحليل باقتباساتٍ نصيةٍ توضح التكراراتِ اللغويةِ أو الصورَ الرمزيةَ التي تُثبّتُ فكرةَ «الأنا في مرآة الآخر» وتُبرزُ ديناميكياتِ الانهيارِ وإعادةِ البناءِ داخلَ الخطابِ الشعري.

رابعًا: البعد الوطني والفكري في قصيدة "وهل غيرها أنهكتني؟"

رابعًا: البعد الوطني–الفكري في ضوء موقع سعيد النقدي ومفهوم السلطة الخطابية عند فوكو

يتموضع النص الشعري ضمن أفق دلالي تتقاطع فيه ثنائية الانتماء والسلطة، حيث تُقرأ الحبيبة/الفكرة لا بوصفها استعارة غزلية فحسب، بل كبنية خطابية متشابكة تُنتج الذات وتعيد ترسيم حدود وعيها. ففي ضوء أطروحة إدوارد سعيد (4) حول موقع الناقد الذي «يظلّ في موقع نقدي، حتى تجاه ما يحبّ»، يتبدّى النص وقد انفتح على حقل وجداني–وطني تتخلله غواية الانتماء، إذ تنبض أبيات مثل «فلمّم شتاتي فإني شريدة» و «حتى متى قد يغيب الرحيق»

بحنينٍ يتجاوز الفردي ليتمثل في وعد الجماعة بالتحقق والامتلاء.

غير أنّ هذا البعد الغنائي لا ينفصل عن مفاعيل السلطة الخطابية بالمعنى الفوكوي (5)، حيث الخطاب ليس مجرّد انعكاسٍ للواقع، بل ممارسة سلطوية تُنتجه من هنا يصبح خطاب الحبيبة/الفكرة جهازًا معرفيًا–سلطويًا يرسم شروط الولاء، ويؤطر أفق التطلعات، ويعيد إنتاج موقع الشاعر داخل الحقل الوطني–المدني. إنّ الرغبة الموجهة نحو الوطن/الفكرة لا تتخذ هيئة نزعة تحريرية صافية، بل تظل محكومة بسلطان المعنى الذي يُقنن حدود الانتماء ويحوّل الحب ذاته إلى صراع دائم لا تخمده الخيبات.

وإزاء هذا التشابك، يظل الشاعر في موقع مزدوج: فهو منجذب وجدانيًا إلى الخطاب الذي يعده بالخلاص، لكنه، انسجامًا مع الموقف النقدي الذي يشدد عليه سعيد، يحتفظ بمسافة مساءلة تعيد اختبار صدقية هذا الخطاب. ويتجسد هذا في السؤال الشعري «وهل غيرها أنهكتني؟» الذي لا ينطق بالاعتراف بالخذلان فحسب، بل يفضح كذلك المسافة الفاصلة بين الوعد السياسي–المدني وواقع الإخفاق في تجسيده.

وعليه، فإنّ الحبيبة/الفكرة تتشكل كآلية خطابية مزدوجة: فهي في آنٍ واحد قوة جذب تُولّد شهوة الانتماء، وآلية سلطوية تُعيد إنتاج الحقل الوطني وتحدّد موقع الذات داخله

الخاتمة

تُبرز هذه القراءة أن قصيدة جواد غلوم «وهل غيرها أنهكتني؟» تمثل نصًا مركبًا يجمع بين تفاعلات بنيوية، سيميائية، نفسية ووطنية تعمل على تشكيل هوية المتكلّم وكشف أبعاد تجربته الشعرية. على المستوى البنيوي، يُظهر استخدام الإيقاع والتكرار (مثل «أحبك» و«تعال») دينامية تصاعدية تنظم التوتر العاطفي وتدفع النص نحو لحظة ذروة تجسد الانكسار والحنين. أما من الناحية السيميائية، تتحول المفردات إلى رموز ثقيلة بالمعاني (مثل المعلّمة التي ترمز للفكر والمدنية، والرحيق الذي يستعير الشفاء الوطني، والطير كصورة للمنفى)، وتتداخل هذه الرموز في شبكة دلالية متعددة الطبقات، ما يضفي عمقًا وغزارةً على النص ويطرح مجالًا واسعًا للتأويل.

بفضل هذا التشابك، تتجاوز القصيدة حدود النص الغزلي التقليدي لتتحول إلى فضاء تأويلي لا نهائي، يعيد صياغة الهوية وتشكيلها بواسطة مرآة الآخر، مستفيدًا من توظيف اللغة والإيقاع والرموز لطرح أسئلة وجودية ووطنية في آنٍ واحد. ولتعزيز القيمة الأكاديمية لهذه القراءة، يُقترح دعم التحليل باقتباسات نصية محددة، بالإضافة إلى استعراض التحليل التركيبي الذي يحدد مواقع الرموز ضمن بنية الخطاب. كما يمكن فتح المجال لدراسات مقارنة تربط هذا العمل بمشاريع شعرية حداثية عراقية معاصرة، مما يُثري الفهم النقدي ويضع القصيدة ضمن سياقات أدبية أوسع.

***

سهيل الزهاوي

......................

وهل غيرها أنهكتْني؟

مُــعــلِــمَــتي لا تُــحــبّ الــلــقــاءَ

اذا مــا استــطاب وجــازَ حــدودهْ

بليــتُ بِــوجْــدٍ عــسيــر المَــنــالِ

وفــاتــنــةٍ فــي هَــواها عَــنــيْــدةْ

فلا تشــتهي غـيـر طول العــذاب

ومشْــيَــتُــها للــغــرام وئــيْـــــدة

عجــزتُ وهُــنْتُ وهُــدّت قــواي

أمِنْ مسعِــفٍ في مســاعٍ حميدة؟

هــو الحــبّ حــربٌ ولا تنطفــي

وتضعــف فيها العقول الرشيــدة

تـعلّمْــت مــنْـك جَــمال الــرويّ

وأرشَــدتِــني دائــما ان أزيْــــدَه

حبــيــبة قلــبي وعَــقْــلي ســواء

قريضي تهاوى فصرتِ عـموده

تُــحــبّ الكــتاب ومــا يحــتـوي

وتعشق في الصبح ما في الجريدة

تـرعْــرتِ فــيّ غَــرامــا بَــكـــى

نَـمَــوتِ جنــيــنا وكـنْــتِ الوليدة

فإن خفَــتَ اللــحنُ في مسمعــي

يــظلّ الفــؤادُ يـغــنّـي نـشــيــده

أحبّــك بحْــرا مــن المُــلغِــزات

طروحات فِـكْــرٍ ورؤيا سديْــدة

وأكـره فـيْــكِ الصدود العَـسيــر

ولاءاتِــك المكْــثرات العـتـيــدة

فإنــي المــشوق بـلا مَــطْــمَـعٍ

بــلا أمَــلٍ ارتجي ان أعــيْــده

وحتى متى قد يغـيب الرحيق

ويــنأى بعـيدا ليـنسى وروده

أشيري إليّ تــعالَ، اقْــتربْ

فان المسافات لـيست بعــيدة

هــنا مُــلْـتَــقاكَ بحضنٍ خـلا

فلمْلمْ شِـتاتي؛ فإنـي شـريـدة

فأنــت تـراني بعــقْــلٍ سَــويّ

ولـكـنْ بـقُـربِـك أبْـدو بـلـيْــدة

وإن بعُــدَ الطيــر عـن سربهِ

فـتُــوقعــهُ فـي فخاخ المكيْــدة

وان باعَــدتْــنا دروب الحيـاة

فقد ننْزوي غَـفْلةً في قصيـدة

أريــدك قُـرباً ووقْــع خطــىً

إذا كان حلما فلا، لن أريده

***

جواد غلوم

..........................

1- بارت، رولان. الكتابة في درجة الصفر. ترجمة فؤاد زكريا، دار الشروق، 1986. ص. 21

2- إيكو، أمبرتو. السيمياء وفلسفة اللغة. ترجمة سعيد بنكراد، المركز الثقافي العربي، 2005. ص. 45

3- لاكان، جاك. التحليل النفسي والفن. ترجمة جورج طرابيشي، دار الطليعة، 1990. ص. 88

4-  سعيد، إدوارد. تمثيلات المثقف. ترجمة فواز طرابلسي، دار الساقي، 1996.ص .14

5-فوكو، ميشيل. السلطة والمعرفة. ترجمة حسن حمادة، دار الفارابي، 2003 ص. 33

 

محمد خالد النبالي

تمثل قصيدة "نافذة البحر" نصاً شعرياً وجودياً يتجاوز حدود التعبير الجمالي إلى مساءلة كبرى عن الموت والفناء والغياب والمعنى. ينطلق الشاعر من "النافذة" بوصفها عتبة بين الداخل والخارج، ليجعل من البحر مرآةً للغيب وفضاءً فلسفياً مفتوحاً على السر والالتباس. وهو بذلك يستعيد ما أشار إليه غاستون باشلار في جماليات المكان حين اعتبر النافذة "موضع انفتاح الكائن على اللامحدود"، لكن النبالي يجعل منها منفذاً إلى قلق الإنسان أمام سر الوجود.

البنية الفنية للقصيدة

التكرار والإيقاع الدلالي

تكرار العبارة الافتتاحية «فِي ذَاتِ صَبَاحْ» ليس تكراراً زخرفياً فحسب بل وظيفة بنائية زمنية ودلالية: يخلق إيقاعاً دائرياً يشبه طقوس العودة إلى نفس السؤال الوجودي ويحول الزمن الشعري إلى حلقة تكرارية لا تقدم حلاً بل تزيد من كثافة القلق.

هذا التكرار يعكس ما يسميه بول ريكور زمن التكرار حيث يعود الإنسان إلى مواجهة الأسئلة المصيرية دون مخرج نهائي. كما يجعل الصباح ليس حالة واحدة وإنما سلسلة من الصحو/الاستدعاء، فيحيل على مفهوم الزمن الحلقي عند القراءات الوجودية ويمنح النبرة طابعاً تأملياً طقسياً.

الاستعارة والرمزية: النافذة، البحر، الخريف

النافذة: عتبة بين الداخل والخارج، ليست مجرد إطار بصري بل موقع لوجودية الرؤية وموقف فلسفي من المساءلة.

البحر: يتحول من مجرد منظر إلى "آخر" معرفي  مصدر الغياب والسر. صمته وإجاباته المشفرة تعمّقان فكرة القلق الوجودي: البحر كرمز للامحدود والغياب الذي لا يستنزف بواسطة اللغة.

الخريف والأوراق المتبعثرة: يرمزان إلى التفتت والخلخلة التي تسبق الكشف. الخريف هنا ليس حالة مناخية فقط بل حالة   أنطولوجية تكشف عن حافة المعنى حين يتفكك العالم/الذات.

التضاد والتفاضل الدلالي

يبني الشاعر تضاداً واضحاً:

بين النهر (جمال وحياء، رمز للقريب والمنسجم مع الذات) والبحر (عميق الأسرار، رمز للبعيد المجهول الذي يهدم الثقة المعرفية).

وبين الموت والنحر: فالموت قد يحمل طابعاً طبيعياً، بينما النحر يوحي بالعنف والتمزق، مما يفتح النص على تباينات أخلاقية وفلسفية حول الفناء والنية والمعنى.

الحوارية والضمائر وسيناريو البلاغة

القصيدة بناؤها حواري: "أنا" المتكلم مقابل "البحر" المتكلم/ الصامت. هذا التوزيع الصوتي يجعل من النص دراما فلسفية صغيرة: الذات تستجدي المعنى والآخر (البحر) يعيدها إلى الصمت أو إلى شرط كشف مشروط:

"سِرِّي لَنْ يَظْهَرَ حَتَّى تَتَبَعْثَرَ كُلُّ الأَوْرَاقِ."

الأسئلة البلاغية المتكررة (قُل لي... ما الفرق...؟) تؤكد حالة الأبوريا (الأسئلة التي لا تجد جواباً نهائياً) وتحول اللغة نفسها إلى مسرح عجزها عن الاستيلاء على السر.

البناء النحوي والإيقاعي والوقفات

الاعتماد على الأسطر القصيرة والتقطيع السطري يخلق إيقاعاً متقطعاً يقارب اضطراب الذات. تكرار صيغة «قُلْ لِي» يعمل كدعوات متكررة لكنها تفشل بالردود الصامتة، فتصبح اللغة نفسها دليلاً على الفشل المعرفي.

الصوت والوزن واللحن الداخلي

يتكرر صوت الفاء والباء والصاد بما يشبه التمتمة الطقسية. كما أن مفردات مثل "فاضَ"  "تتبَعْثَر"،"مات السر"  تحمل شحنة إيحائية قوية: "فاض"  توحي بالامتلاء المفرط الذي يتجاوز السيطرة و'مات السر" تختم النص بلحظة انقطاع نهائي.

الصور الحسية والبعد البصري/السمعي

النص يوظف صوراً بصرية (النافذة، النور، الظلام، الأوراق) وسمعية (الصمت، السؤال) ليؤسس تجربة حسية وجودية:

"والنور يجيء / وحتى الإظلام يهل"

ما يعكس جدلية الحضور/الغياب، والكشف/التلعثم.

التركيب الدلالي العام

تجمع هذه العناصر بين الشعرية والفلسفية لتؤكد أن النص ليس مجرد طرح أسئلة معرفية بل هو تمرين على حدود اللغة ذاتها  حيث يتحول الشعر إلى مساحة مساءلة للسر الذي يتعذر القبض عليه.

الثيمات الوجودية

البحر رمزاً للغيب واللامحدود

"البحر غريب، مريب، عجيب."

البحر يصبح استعارة للآخر الغامض الذي يواجه الذات بحدودها. كما يقول ريلكه: "إن الجمال ليس سوى بداية الرعب التي ما زلنا قادرين على احتمالها."

الخريف والتبعثر بوصفهما شرط الكشف

"سِرِّي لَنْ يَظْهَرَ حَتَّى تَتَبَعْثَرَ كُلُّ الأَوْرَاقِ / بِأَزْمِنَةِ خَرِيفْ."

الخريف هنا علامة على الذبول والانكسار السابق للكشف وهو ما يوازي رؤية ميرلو-بونتي: "الوجود يدرك في لحظات الهشاشة والانهيار أكثر من لحظات الاكتمال.

السؤال الفلسفي عن الموت والخلود

"مَا الْفَرْقُ هُنَا بَيْنَ فَنَاءٍ وَخُلُودْ؟"

هذا السؤال يذكر برؤية سارتر: "الإنسان محكوم عليه بالحرية والحرية تبدأ بالوعي بالموت." فالقصيدة تساءل الفارق بين الزوال والمعنى وبين الغياب والوجود.

البعد الفلسفي للقصيدة

اللغة وحدود السر: في النهاية "مات السر" لا لأنه انكشف بل لأن اللغة والبحر معاً عجزا عن تقديم تفسير. كما يقول ت. س. إليوت: "الشعر يبدأ حيث تعجز اللغة عن القبض على المعنى."

المفارقة بين الجمال والفزع: النهر "جمال وحياء"، البحر "عميق الأسرار". هذه الثنائية تجسد مفهوم "الجليل" عند إدموند بيرك، حيث يولد الانبهار من التلاقي بين الجمال والرعب.

المقارنة الأدبية/الفلسفية مع شاعر معاصر

تركز كل من قصيدة "نافذة البحر" والنصوص الفلسفية لأدونيس على الطبيعة كفضاء رمزي للتأمل الوجودي. عند النبالي يصبح البحر رمزاً للغيب والسر والخريف للفناء في لغة استعارية دقيقة وحوارية مباشرة. أما أدونيس فيستخدم الطبيعة في صور أكثر تجريداً تربط الزمن بالتاريخ والهوية. وبذلك يحقق كل منهما رؤية فلسفية مختلفة: النبالي عبر الحوار الوجودي المباشر، وأدونيس عبر التأمل الرمزي المركب.

تكشف هذه الدراسة أن "نافذة البحر" نص شعري وجودي يدمج بين جماليات اللغة وقلق الفلسفة. اعتمد الشاعر على التكرار الطقسي والاستعارة العتبية (النافذة)، ثنائية النهر/البحر  والصيغ الحوارية ليعيد إنتاج قلق الوجود بدلاً من حله.

تؤكد القراءة أن اللغة في النص عاجزة عن احتواء السر لكنها تبقى المجال الوحيد للمساءلة. وهكذا تتحول القصيدة إلى تجربة معرفية حدية، حيث يصبح الخريف والتبعثر شرطاً ضرورياً لظهور أي احتمال للمعنى، بينما يبقى البحر صامتاً كتذكير دائم بحدود الإنسان.

***

دراسة نقدية من إنجاز فاطمة عبدالله

........................

"نافِذَةُ البَحْر"

فِـي ذَاتِ صَـبَـاحْ

جَـاءَ الـنُّـورُ وَفَـاضَ وَبـَاحْ

فِـي ذَاتِ صَـبَـاحْ

كُـنْـتُ بـِنَـافِـذَةٍ، طَـلَّـتْ فَـوْقَ الـبَحْـرِ

لِـتَـنْـظُـرَ كَـيْـفَ تـَكُـونُ نـِهَـايـَةُ

هَـذَا   الكَـونْ

فِـي ذَاتِ صَـبَـاحٍ

مَـا كَـانَ اللَّـوْنُ بـِمِـثْـلِ اللَّـونْ

وَخَـرَجْـتُ لِـنَـافِـذَتـِي

أَنـْظُـرُ هَـلْ بـَحْـرُ الأَرْضِ

يـُخَـبِّـرُ عَـنْ كُـنْـهِ المجْـهُـولْ؟!

لَـكِـنَّ الـبَحْـرَ يـَظَـلُّ يـَقُـولْ :

سِـرِّي لَـنْ يـَظْهَـرَ حَـتَّـى تـَتَـبَعْـثَـرَ كُـلُّ الأَوْرَاقِ

بـِكُـلِّ غُـصُـونِ الأَشْجَـارِ

بـِأَزْمِـنَـةِ خَـرِيـفْ..

الـبَحْـرُ يـَقُـولُ، بـِأَنَّ العَـالَـمَ

أَمْـرٌ مَـطْـوِيٌّ

مَـنْ يـَبْـحَـثُ فَـالسِّـرُّ مُـخِـيـفْ

مِـن نـَافِـذَةِ اللَّـيْـلِ

وَنـَافِـذَةِ الإِصْـبَـاحِ أُطِـلْ

وَالـنُّـورُ يـَجِـيءُ

وَحَـتَّـى الإِظْـلاَمُ يـَهِـلْ

وَأُسَـائِـلُ دَوْمًا هَـذَا الـبَحـرْ

قُـلْ لِـي عَـنْ فَـرْقٍ

بـَينَ

الموْتِ وَبَيْنَ

الـنَّحْـر؟!

قُـلْ لِي.. :

مَـا الـفَـرْقُ هُـنَـا

بـَينَ فَـنَـاءٍ

وخُـلُـودْ؟

مَـا الـفَـرْقُ،وَقَدْ فَاضَ عَلَـيَّ

بِبـَيْنِ غِـيَـابٍ

وَوُجُـودْ؟

لَكِـنَّ الـبَحْـرَ كَمَيْتٍ

لَـيْـسَ يـُجِـيـبْ

لَكِـنَّ الـبَحْـرَ غَـرِيـبٌ، وَمُـرِيـبٌ، وَعَجِيبْ

الـنَّـهْـرُ جَـمَـالٌ وَحَـيَـاءٌ

وَالـبَحْـرُ عَـمِـيـقُ الأَسْــرَارْ

مِـنْ نـَافِـذَةِ الـبَحْـرِ

اعْـتَـدتُ سُـؤالاً..

وَجَـوَابُ الـبَحْـرِ

يـَجِـيءُ كَـخَـوْفِ نـَهَـارْ

هَلْ أسْألُ

مَـا الـفَـرْقُ إذًا بـَينَ جَبَانٍ وسِواهُ  يَكِرْ؟

هَلْ أسْألُ

مَـا الـفَـرْقُ صَدِيقِي

بـَينَ الـحِـقْـدِ وَبَيْنَ الـبِـرْ؟

لِيـَضِـيـعَ الصَّـوْتُ.. تَلاشَى الضَّـوْءُ

فَمَاتَ  السِّــرْ

***

محمد النبالي

في الشعر العربي الحديث

الأدب، منذ فجره الأول، ظلّ بحثاً مضنياً عن الأصوات الغائبة والمقموعَة، وتجلّياً حيّاً لرغبة اللغة في الانفلات من قبضة الواحد وهيمنة الصوت المفرد. وإذا كانت المعلقة الجاهلية عند عمرو بن كلثوم مثالًا على الشعر الملحمي الذي ينهض على نبرة أحادية متعالية، وإذا كان أبو فراس الحمداني قد كرّس الغنائية العاطفية بوصفها صوتاً ذاتياً مكتملاً، فإن ما ظلّ مطموساً في التراث الشعري العربي هو ذلك التوق إلى الحوارية، إلى تشظّي الصوت الواحد وتفتّحه على تعددية السرديات. هنا تتبدّى بذور ما يمكن أن نسمّيه بـ الأقصودة، أي النص الشعري الذي يتّخذ من السرد جسراً ومن الغنائية جناحين، فيتحرّك بين ضفاف الشعر والقصة، بين الإيقاع والتخييل، بين البنية الموسيقية والبعد الدرامي.

إنّ الأقصودة ليست جنساً أدبياً نهائياً بقدر ما هي تجربة عبور، محاولة لإرباك الحدود الفاصلة بين الأنواع، وتفجير الصمت الذي رسّخته سلطة الصوت الأحادي. ففي قصائد بدر شاكر السيّاب، لا نقرأ صوتاً منفرداً للشاعر، بل نصغي إلى حوارية بين البحر والمرأة، بين الغياب والانتظار، حيث تتجسّد اللغة ككائن يتوزّع على أكثر من ضمير وأكثر من ذاكرة:

 "وجلستِ تنتظرين عودة سندباد / والبحر يصرخ من ورائك بالعواصف والرعود / هو لن يعود".

هنا، الشاعر ليس ذاتاً متسيّدة تروي، بل سارداً ينسحب لصالح الدراما، محوّلاً النص إلى مسرحٍ للأصوات وتناوب الرؤى. وهذا ما يجعل من الأقصودة ـ بحسب التعبير الاجتهادي ـ ملتقىً بين الهُويّة الشعرية والوعي السردي.

لقد كان ميخائيل باختين، في حديثه عن "تعددية الأصوات" في الرواية، يشير إلى أنّ الفن العظيم لا يكتفي بسلطة صوتٍ واحد، بل يفسح المجال للحوارية. هذا المبدأ يمكن إسقاطه على الأقصودة، التي تعلن قطيعة مع المونولوج الشعري وتؤسّس لبنية حوارية تتجاور فيها الأصوات الإنسانية مع أصوات الطبيعة والذاكرة والأسطورة.

من جهة أخرى، يمكن النظر إلى الأقصودة بوصفها علاجاً جمالياً لحالة الخرس الثقافي التي تنتج عن استبداد الصوت الواحد، وهذا ما يشير إليه علم النفس التحليلي عند كارل يونغ حين يتحدّث عن "انبعاث الأصوات المكبوتة في اللاوعي الجمعي". فالأقصودة ـ بهذا المعنى ـ ليست فنًا فحسب، بل تفريغ علاجي للأصوات المقموعة داخل النص والوعي الجماعي.

وإذا كان الشعر العربي القديم قد كبَتَ هذا الشكل بفعل الهيمنة الملحمية والغنائية، فإن الشعر الحديث أعاد إحياءه تحت تأثير التداخل الأجناسي والانفتاح على السرد. يقول أدونيس: "القصيدة لا تعود قصيدة إذا أغلقت على ذاتها، إنما تصبح كائناً حياً حين تتنفس من ثقوب الآخر". وهذا التعريف يتماهى تماماً مع جوهر الأقصودة، حيث الآخر حاضرٌ دائمًا: آخر في الحوار، آخر في السرد، وآخر في التخييل.

أما الأطباء النفسانيون، مثل ريلكه في نصوصه التأملية، فقد رأوا في الشعر طاقة مداوية للروح، قادرة على منح الكلمة أفقاً للانعتاق. والأقصودة بهذا المنظور ليست سوى منصّة للتنفيس الوجودي، حيث يجد الشاعر في تهجين الأجناس منفذاً للتعبير عن قلقه الأنطولوجي.

في هذا السياق، يمكن القول إن الأقصودة هي:

- جمالية كسر الحدود بين الأنواع الأدبية.

- فضاء تعددي يتشابك فيه السرد مع الغنائية.

- منبر للحوارية التي تزعزع سلطة الواحد وتؤسّس لحضور الآخر.

حقل علاجي تتنفس عبره الذات الجماعية أصواتها المكبوتة.

لقد أدرك كبار المفكرين والمثقفين العرب والغربيين أنّ الفن الحقيقي يعيش على القلق والتحوّل، ولا يكتفي بطمأنينة البُنى الثابتة. الأقصودة، بهذا المعنى، هي ابنة القلق والتجريب، وهي صرخة ضدّ النمطية، كما هي محاولة لإعادة تعريف الشعر في ضوء الحوار والتعدد.

خاتمة:

الأقصودة ليست مجرد مصطلح طريف في التداول النقدي، بل هي وعي جديد بالشعر، يفتح له أفقًا يتجاوز صوته الفردي إلى جوقةٍ من الأصوات، ويحرّره من سلطة المونولوج ليصبح نصًا مفتوحًا، متحوّلًا، متجددًا. وإذا كان الشعر العربي قد عرف ميلادها في ثناياه القديمة، فإن الشعر الحديث أعطاها اسمًا وملامح، لتصبح علامةً فارقة في تحوّل الشعر من القول المفرد إلى القول المتعدد.

***

بقلم: عماد خالد رحمة - برلين

الأديب والكاتب "الطيب صالح"، أديب وكاتب سوداني، بدأ رحلته مع الكتابة في خمسينيات القرن العشرين، وساهم في نشر الأدب والثقافة السودانيّة في مختلف أنحاء العالم من خلال رواياته ومؤلفاته وكتاباته التي ترجم العديد منها إلى لغات عالميّة، ولُقب بـ"عبقري الرواية العربيّة". من مواليد 1929 لأسرة تشتغل بالزراعة في منطقة (مروي) شمالي السودان بقرية (كَرْمَكوْل). درس المرحلة الابتدائيّة في منطقة "وادي سيدنا"، ثم انتقل إلى الخرطوم لإكمال دراسته، حيث حصل على البكالوريوس في العلوم، ثم انتقل إلى العاصمة البريطانية لندن حيث غيَّر تخصصه ودرس في جامعاتها العلوم السياسيّة.

تقلب الطيب صالح بين عدّة مواقع مهنيّة، داخل السودان وخارجه، حيث عمل إعلاميّا في القسم العربي لهيئة الإذاعة البريطانيّة "بي بي سي"، وترقى فيها حتى وصل إلى منصب مدير قسم الدراما. وعمل إعلاميّاً في السودان حتى حط به المطاف في دولة قطر، وعمل في وزارة إعلامها وكيلاً ومشرفاً على أجهزتها. ومن بعد ذلك عمل الطيب صالح مديرا إقليميّا بمنظمة اليونيسكو في باريس، وممثلا لهذه المنظمة في الخليج العربي.

بدأ الطيب صالح الكتابة منذ أواخر الخمسينيات من القرن الماضي، ومن بين أعماله "ضو البيت" و"عرس الزين" و"مريود" و"دومة ود حامد" و"منسى" و"بندر شاه"، إضافة إلى رواية "موسم الهجرة إلى الشمال". وقد حاز على ثقافة في واسعة، جمعت بين حقول معرفيّة مختلفة في اللغة والسياسية والفقه والفلسفة والأدب والإعلام والشعر.

كان مسكونا ببيئته السودانيّة، وعكس ذلك في رواياته وقصصه، فعالج بطريقة أدبيّة إيحائيّة إشكاليّة التعدديّة الإثنيّة والثقافيّة والصدام بين الحضارات، وخاصة في روايته الأشهر "موسم الهجرة إلى الشمال".

حصل على جوائز عديدة، منها إطلاق لقب "عبقري الأدب العربي" عليه، واعتبرت الأكاديميّة العربيّة في دمشق روايته "موسم الهجرة إلى الشمال" الرواية العربيّة الأفضل في القرن العشرين.

في عام 2010 تم إطلاق جائزة الطيب صالح العالميّة للإبداع الكتابي، الذي تزامن مع الذكرى السنوية الأولى لوفاته.

توفي الطيب صالح يوم 18 فبراير/شباط 2009 بلندن، حيث ظل فترة طويلة يرقد في مستشفياتها للعلاج بعد إصابته بفشل كلوي يستوجب عمليات غسيل للكلى ثلاث مرات في الأسبوع، وقد نُقِل جثمانه إلى السودان حيث دفن في العشرين من الشهر نفسه.

رواية عرس الزين.

مدخل:

"الطيب صالح" أديب سوداني متمكن من حرفته الأدبيّة، وهي كتابة الرواية.. وذلك لاعتماده على المنهج الواقعي في الأدب، وهو منهج يعمل على تحليل الواقع والنظر في مستوياته الاقتصاديّة والاجتماعيّة والسياسيّة والفكريّة، ومدى انعكاس هذه المستويات في ذهن الأديب روائيّاً كان أو قاصاً أو شاعراً. بيد أن هذا المنهج يتطلب بالضرورة حيازة الأديب برأيي على ثقافة واسعة وشموليّة، جمعت بين حقول معرفيّة مختلفة في اللغة والسياسية والفقه والفلسفة والأدب والإعلام والشعر، وغير ذلك، مما مكنه من القدرة على التحليل والمقارنة بأسلوب يجمع بين الإقناع الفكري، والتأثير الوجداني، والغوص في عمق الوقائع، وتصويرها، أو حتى إظهار المخفي والمسكوت عنه فيها للمتلقي، وهذا ما امتاز به الطيب صالح في أعماله الروائيّة، ومنها رواية (عرس الزين).

البنية السرديّة أو الحكائيّة للرواية:

بالرغم من أن الرواية تحاكي حياةً اجتماعيّةً في قرية أو مدينة صغيرة في السودان، إلا أن مضمون ما جاء فيها من أحداث ينطبق في الحقيقة برأيي على معظم حياة ريف عالمنا العربي، مع اختلافات بسيطة يتعلق بدرجات التخلف السائد فيها.

زين الشخصيّة الرئيسة في الرواية ومدار أحداثها، فريدة في سماتها وخصائصها وبناء هيكلها الجسمي، وصفها "الطيب الصالح" بقوله: (كان وجه الزين مستطيلاً ناتئُ عظام الوجنتين والفكين وتحت العينين ، جبهته بارزة مستديرة، وعيناه صغيرتان محمرتان دائماً، محجراهما غائران مثل كهفين في وجهه، ولم يكن على وجهه شعر إطلاقاً، ولم تكن له حواجب ولا أجفان، بلغ مبلغ الرجال وليس له لحيةٌ أو شارب... تحت وجهه رقبة طويلة، وبالتالي كان الأولاد يلقبونه من بين ألقابه الكثيرة " (الزرافة). وهذه الرقبة تقف على كتفين قويتين تنهدلان على بقية الجسم في شكل مثلث، والذراعان طويلتان كذراعي القرد، واليدان يظتان عليهما أصابع مسحوبة تنتهي بأظافر مستطيلة حادة، (فالزين لا يقلم أظافره أبدا).. صدره مجوف، والظهر محدودب قليلاً، والساقان رقيقتان طويلتان كساقي الكركي، أما القدمان فقد كانتا مفلطحتين عليهما آثار ندوب قديمة).ص3.

بهذا الوصف الدقيق برزت شخصيّة "زين" في قريته، حتى أصبح علماً من أعلامها، وعليه تنسج القصص والحكايا والأمثال.

يقال يولد الأطفال فيستقبلون الحياة بالصراخ، هذا هو المعروف أما الزين، والعهدة على أمّه والنساء اللائي حضرن ولادته، أنه أول ما مس الأرض، انفجر ضاحكا وظل هكذا طول حياته.

كبر "الزين" وليس في فمه غير سنين واحدة في فكه الأعلى والأخرى في فكه الأسفل. وأمه تقول: إن فمه كان مليئا بأسنان بيضاء كاللؤلؤ. ولما كان في السادسة ذهبت به يوماً لزيارة قريبات لها فأصبنه بالعين، فصابته حمة، وفي الصباح فاق ولم يوجد في فمه إلا هذين السنين.

تقول الرواية إن الزين دخل بيتا ليسرق طعاماً. حيث كان معروفا بالنهم، فإذا أكل لا يشبع. وفي الأعراس حين تأتي (سفر) الطعام ويتحلق الناس حلقات يأكلون، يتحاشى كل فريق أن يجلس "الزين" معه، كونه سيأتي في لمح البصر على كل ما في الآنيّة، ولا يترك أكلا لآكل.

ولكن مهما قال الناس عن "الزين"، فإنهم يعترفون بسلامة ذوقه في النساء، فهو لا يحب إلا أروع فتيات البلد جمالاً وأحسنهنّ أدباً وأحلاهنّ كلاماً. ولذلك كثيراً ما يُستغل من قبل ذوي الفتيات اللواتي أحبهنّ، كما جرى له مع بنت المختار، ورغم أن الكل عرف قصة حبه لها حتى المختار نفسه، وهم يدركون أن هذا الزواج مستحيل، فإن المختار نفسه، قد عرف كيف يستغل هذه العاطفة، فسخر "الزين" في أعمال كثيرة شاقة يعجز عنها الجن. حيث كنت ترى "الزين" العاشق، يحمل جوز الماء على ظهره في عز الظهر، في حر تئن منه الحجارة مهرولاً هنا وهناك، يسقي جنينة العمدة. أو تراه ماسكاً بفأس أضخم منه يقطع شجرةً أو يُكسر حطباً. أو تراه منهمكاً يجمع العلف لحمير العمدة وخيله وعجوله.

عندما أحب بنت العمدة "حليمة" وتزوجت من غيره، حدثت نقطة تحول في حياة "الزين". إذ فطنت أمهات البنات إلى خطورته وأهميته معاً، كبوق يدعين به لبناتهنّ في مجتمع محافظ تحجب فيه البنات عن الفتيان.

لقد أصبح "الزين" رسولا للحب، ينقل عطره من مكان إلى مكان.. كان الحب يصيب قلبه أول ما يصيب، ثم ما يلبث أن ينتقل إلى غير من أحب بعد زواج حبيبته، فكأنه خلق سمساراً أو دلالًاً أو ساعي بريد. فما أن يلهج لسانه بذكر الفتاة ويصيح باسمها حيثما كان، فلا تلبث الآذان أن ترهف، وما تلبث العيون أن تنبه ، وما تلبث يد فارس من بينهم أن تمتد فتأخذ يد الفتاة.

لقد وفدت على "الزين" سنوات خصب مفعمة بالحب. بعد أن أصبحت أمهات البنات يخطبن وده ويستدرجنه إلى البيوت فيقدمن له الطعام والشراب، ويفرش له السرير، سواء كان الوقت ضحى أو عصرا، وما أن يسمع النساء أن "الزين" في دار قريبة حتى يتقاطرن عليه، والسعيدة منهنّ من تقع في قلبه موقعاً، أو التي يخرج واسمها على فمه، فتلك الفتاة ستضمن زوجاً في خلال شهر أو شهرين.

لقد روجت أم الزين أن ابنها (ولي من أولياء الله). وقوى هذا الاعتقاد صداقة "الزين" مع الشيخ الصوفي "الحنين". وكان رجلاً صالحاً منقطعاً للعبادة، والناس يتناقلون قصصاً غريبةً عنه. فيحلف أحدهم أنه رآه في مروى في وقت معين، بينما يقسم آخر أنه شاهده في كرمه في ذلك الوقت نفسه - وبين البلدين مسيرة ستة أيام. ويزعم أناس أن الشيخ "الحنين" شوهد برفقةٍ من الأولياء السائحين الذين يضربون في الأرض يتعبدون. و"الحنين" قلما يتحدث مع أحد من أهل البلد، وإن سئل لا يجيب. ولكن في البلد يوجد إنسان واحد يأنس إليه "الحنين" ويهش له ويتحدث معه هو "الزين"، كان إذا قابله في الطريق عانقه وقبله على رأسه، وكان يناديه " المبروك".

عندما عاد "الزين" من المستشفى في مروى بعد ضرب (سيف الدين) له وفج رأسه، حيث ظل أسبوعين، كان وجهه نظيفاً يلمع. وثيابه بيضاء ناصعة. وعندما ضحك لم ير الناس كما عهدوا سنين صفراوين في فمه، ولكنهم رأوا صفين من الأسنان اللامعة في فكه الأعلى، وفي فكه الأسفل من صدف البحر.

لقد تحول "الزين" إلى شخص آخر. وهنا خطر لـ (نعمة) ابنة عمه، وهي واقفةٌ بين صفوف المستقبلين، أن "الزين" في الواقع لا يخلو من وسامة!!!!. وهي الفتاة الجميلة التي نذرت نفسها لتعلم الدين وحفظ القرآن، خطبها الكثير من خيرة شباب البلد، إلا أنها رفضتهم واعتقدت بأنها خلقت لخدمة زوج هو بحاجة لها فوجدته في "زين" ابن عمها.. فأقنعت والدها عم "الزين" بعد جهد، فكان الزواج الذي أقيمت له حفلة لم يجر مثلها في البلد.

الحي كله انشغل بعرس "الزين". لقد ماج الحي من كل أركانه وجاء الناس من بحري وقبلي، فاجتمعت النقائض تلك الأيام. وامتلأت الدور بالوافدين من كل مكان حتى من بدو (القوز) فامتلأت دور أهل الحي كلها بالضيوف الغرباء، فلم يبق بيت إلا أنزلوا فيه جماعة من القوم حتى دار العمدة نفسه وبيت القاضي الشرعي.

وقال شيخ "علي" لحاج "عبد الصمد": (عرس زي دا الله خلقني ما شفت زيه)

وقال حاج "عبد الصمد": (على بالطلاق الزين عرس عرس صح مو كدب).

الكل رقصوا وغنوا.. جواري الواحة غنيين ورقصن تحت سمع الإمام وبصره. كان المشايخ يرتلون القرآن في بيت، والجواري يرقصن ويغنين في بيت، والمداحون يقرعون الطار في بيت، والشبان يسكرون في بيت، لقد كان في الحقيقة فرحاً كأنه مجموعة أفراح. وكانت أم "الزين" ترقص مع الراقصين، وتنشد مع المنشدين، وحتى "عشمانة" الطرشاء رقصت. وصفق "موسى" الأعرج.

إن الحضور كلهم كانوا في هرج ومرج إلا "زين" بحثوا عنه في كل مكان فلم يجدوه، لقد ترك العرس خلسةً وذهاب إلى المقبرة حيث دفن الشيخ حنين .. لم يتركوا مكانا إلا وبحثوا عنه.. ولم يبق إلا المقبرة وجدوه جاثماً عند قبر الحنين، وقال له عمه محجوب: (الجابك هنا شنو؟.). لم يردْ ولكن بكاءه اشتد حتى أصبح شهيقاً حاداً، ثم قال "الزين" في صوت متقطع يتخلله النحيب: (أبونا الحنين إن كان ما مات، كان حضر العرس). ووضع محجوب يده على كتف "الزين برفق" وقال له: (الله يرحمه. كان راجل مبروك، لكن الليلة ليلة عرسك. الراجل ما بيبكي ليلة عرسه يا ألله نروح).

وقام الزين وسار معهم. وصلوا الدار الكبيرة حيث أغلب الناس، فاستقبلتهم الضجة... كانت فطومة تغني، وفي الوسط فتاة ترقص، وحولها دائرة عظيمة فيها عشرات الرجال يصفقون ويضربون بأرجلهم ويحمحمون بحلوقهم. وفجأة انفلت الزين، وقفز قفزةً عالية في الهواء، فاستقر في وسط الدائرة. ولمع ضوء المصابيح على وجهه الذي ما يزال مبللا بالدموع. صاح بأعلى صوته: (أبشروا بالخير .. أبشروا بالخير)، وفار المكان كأنه قدر تغلي. لقد نفث فيه "الزين" طاقةً جديدة. وكانت الدائرة تتسع وتضيق تتسع وتضيق، والأصوات تغطس وتطفوا، والطبول ترعد وتزمجر، و"الزين" واقف في مكانه في قلب الدائرة، بقامته الطويلة وجسمه النحيل كأنه صاري المركب.

البعد الاجتماعي والفكري في الرواية:

إن اعتماد الطيب صالح على المنهج الاجتماعي وقدرة هذا المنهج على ربط المواضيع الاجتماعيّة بالواقع، منحه القدرة الرائعة على دراسة وتصوير الظاهرة الاجتماعيّة في ريف السودان متخذا من قرية "الزين" أنموذجا، لهذا الواقع. لقد وجد الغرابة في شخصيّة "الزين" الذي يمثل بطل الرواية، وهو الغريب منذ مولده، ولازمه تكوينٌ جسديّ غريبٌ، وتصرفاتٌ غريبةٌ أيضاً، الأمر الذي جعله أغرب الشخصيّات، وهذا الأنموذج الفريد من الشخصيات التي تمتاز بالبلاهة وقلة في العقل والإدراك، غالباً ما يجعل منها حسنا الشعبي رجال كرامة وأهل خطوة. وهذا ما لمسناه واضحاً في الرواية، حيث اعتبرته أمّه وليّاً، وصدقها الكثير من أهل القرية، وخاصة بسبب طبيعة علاقته الحميميّة مع الشيخ (حنين).

ثمّ هناك الشيخ الصوفيّ "حنين" الذي تظهر غرابته من خلال التصوّر اللاعقلاني لشخصيته، كولي صالح وما يتبعها من كرامات وخوارق، حيث تحولت أقوله وأعماله إلى سرٍّ مكنونٍ لا يعلمه أحد، وبالتالي راح يشكل عامل بركة بالنسبة لأهل القرية خاصة عندما دعا لأهلها بالبركة، التي حلت عليهم، خدمياً في القرية عندما قررت الدولة أن تقوم بأعمال لم يدرك أهل القرية أسبابها الحقيقية.

لقد قامت الدولة ببناء معسكر كبير للجيش في الصحراء على بعد ميلين من بلدهم، وراح الجنود يأكلون ويشربون، فانتعشت البلد من توريد الخضروات واللحوم والفواكه واللبن للجيش، حتى أسعار التمر ارتفعت ارتفاعاً ليس له نظير في ذلك العام، وأن تبني في بلدهم دون سائر بلدان الجزء الشمالي من القطر، وهم قوم لا حول لهم ولا طول، ولا نفوذ ولا صوت يتحدث باسمهم في محافل الحكام، دفعةً واحدةً مستشفى كبيراً يتسع لخمسمائة مريض، ومدرسة ثانوية ومدرسة للزراعة، ومرة أخرى عادت الفائدة على البلد، في الأيدي العاملة ومواد البناء وتوريد الغذاء.

كل ذلك تم بعد شهرين من وفاة الشيخ (حنين)، لقد قامت الحكومة بتنظيم أراضيهم كلها في مشروع زراعي كبير تشرف عليه الحكومة نفسها بما لها من قوة وسلطان، ووجدوا بلدهم فجأة تعج بالمساحين والمهندسين والمفتشين، وأن المياه غمرت أراض زراعيّة لم تكن تعرف المياه من قبل.

إن كل هذا الازدهار فسره "عبد الحفيظ علم السر، وهو يقول لمحجوب، ووقد جمع بين عينيه الحقل الواسع الذي هو حقله، والريح تلعب بالقمح فتثني صفوفه فكأنه حوريات رشيقة تجفف شعرها في الهواء (معجزة يا زول . ما في أدني شك)... ولم يعد ثمة شك في ذهن أحد، حتى محجوب، بأن هذه المعجزات مردها لدعوة الشيخ "حنين" لأولئك الرجال الثمانية أمام متجر سعيد ذات ليلة: (ربنا يبارك فيكم ربنا يجعل البركة فيكم).

أما "نعمة" ابنة عم "الزين" وزوجته بنهاية الرواية، فقد مثلّت غرابة فتاة متمردة على تقاليد مجتمعها، بعد أن قضت كل وقتها في حفظ أيات من القرآن الكريم، حتى امتلأ قلبها الرحمة والشفقة لتتزوج ابن عمها "الزين".

وهذا "سيف الدين" الذي كان غريباً بفسقه، راح يتوب فجأة ويذهب من صباحه إلى أمّه ليقبل رأسها ويبكي طويلا بين يديها. وما كاد أهل القريّة يستجمعون أنفاسهم حتى سمعوا أنه جمع أعمامه وأخواله وأنه تاب واستغفر الله أمامهم. وتأكيداً لتوبته أخرج ما تبقى من ثروة أبيه من ذمته، وجعل عمه الأكبر وصيّاً عليها، ويتفرغ هو تماماً لمباشرة مسؤوليته كرجل صالح.

ولم يغفل الروائي "الطيب صالح" مسألة على درجة عالية من الأهمية في مجتمعاتنا وبريفنا بشكل خاص، وهي قضية التسامح، وهذا ما تجلي في قضية ضرب "سيف الدين" لـ "لزين" وفج رأسه، وبعد تدخل الشيخ "حنين" حل الخلاف وقبل "سيف الدين" رأس "الزين" وعادت الأمور إلى مجراها الطبيعي.

وهناك ظاهرة حلول القرباط على أطراف المدن والقرى، وولع الشباب الطائش بهم، وتمضية الوقت والمال عندهم لتحقيق لذات عابرة. فكم من شاب مراهق، خفق قلبه في جنح الظلام حين حمل إليه الليل ضحكات الجواري وصياح المخمورين. وقد عاش معاني البطالة والخمول وعدم الرجولة – وراح يطلب الزواج من جارية ماجنة فارغة العين.

أما القضية الأهم التي ابتدأ فيها الراوي رواية "زين" هي ذاك المكر والخداع الذي يمارسه الفرد البسيط في وعيه وغلبة مصالحه على مصالح المجتمع، مستغلاً جهل الآخرين الذين لا يختلفون عن جهله هو بالذات، ففي الرواية يستغل بعض الماكرين مثلاً قضيةً عدم مقدرة "زين" على الزواج من ابنة عمه "نعمة" فحولوها إلى قصة يلوكها الناس ويحققوا من وراء ذلك مصالح أنانيّة ضيقة.

فهذه "حليمة" بائعة اللبن تقول لآمنة - وقد جاءت كعادتها قبل شروق الشمس - وهي تكيل لها لبنا بقرش:

(سمعت الخبر؟ الزين مو داير يعرس).

وكاد الوعاء يسقط من يدي آمنة. واستغلت حليمة انشغالها بالنبأ فغشتها اللبن.

وهذ الطالب الذي تأخر عن الدوام المدرسي وقد وضع طرف ردائه تحت إبطه حتى وقف أمام باب " السنة الثانية " وكانت حصة الناظر .

(يا ولد يا حمار. إيه أخرك؟).

ولمع المكر في عيني الطريفي:

(يا فندي سمعت الخبر؟)، (خبر بتاع إيه يا ولد يا بهيم ؟).

ولم يزعزع غضب الناظر من رباطة جأش الصبي، فقال وهو يكتم ضحكته:

(الزين ماش يعقدو له بعد باكر)

وسقط حنك الناظر من الدهشة ونجا الطريفي .

البنية الدلاليّة للعنوان:

شكل العنوان في الرواية بعدا رمزيّا برأيي، أرد الروائي منه أن يقول أن مفاهيم المجتمعات المتخلفة تحمل في معظم الأحيان غير الحقيقة، وهذا ما تجلى بوضوح في اسم "الزين" بطل الرواية، فالزين الذي وصف الروائي سماته وخصائصه في الروية يقول غير ذلك تماما، فـ"الزين" هو الرجل العاقل المتزن العارف بأمور الحياة والقدوة، بينما حقيقة زين الرواية غير ذلك تماما، فهو أقرب إلى الكركوز الغبي.

إن في سلوكيات هذه الشخصيّات جميعها، أظهر المؤلّف غرابتها من خلال الأحداث، أو من خلال الوصف المباشر، وقد كان للعوامل البيئيّة المتمثلة في المعتقدات الدينيّة، والتصورات الصوفيّة، والقيم الاجتماعيّة التقليديّة، والأساطير الشعبية، أثر في ذلك.

بنية السرد الروائي في رواية زين:

امتاز أسلوب سرد الرواية بالاقتصاد والدقة. وجنبها الراوي الوقوع في السرد التقريري أو الإنشائي المجاني. وجعل منها لوحات متتابعة، مرسومة بألوان حيّة مجللة بأطياف من الحزن والأسى والفرح والسخرية معاً.

لقد صاغ الروائي "الطيب صالح" الكثير من مظاهر تخلف ريفنا العربي عبر قرية "زين"، في ضوء وإيقاع وزوايا تصوير وحشد الكثير من الطقوس والوقائع الواقعيّة.

إن رواية (عريس الزين) يقبل المتلقي على قراءتها بحفاوة، ويعكف على تأملها وتقصي أبعادها بجديّة واهتمام. وهذا يعود إلى أن الروائي يؤمن بدور الأدب في الحياة وتأثيره على المتلقي.

لقد تميز أسلوب الرواية وبناؤها بالأحكام والانسيابيّة والرصانة. كما صاغ الراوي روايته في حكي روائي طغى عليه اللهجة السودانيّة الشعبيّة الريفيّة بكل بديعها. مع استخدم اللغة العربية الفصحى البسيط أيضاً عندما يتدخل الروائي ذاته لربط حوادث الرواية مع بعضها ومنحها حالة الانسيابيّة والتكامل، أو ربط الحوادث ببعضها.

الأسلوب الذي اعتمد الراوي في الرواية؟.

ما ميز طريقة السرد في الرواية، هو مشاركة السارد للشخصيات، أو ما يسمى (الرؤية مع)، حيث تكون فيها الشخصيّة هنا هي الساردة، من جهة، وهي تتشارك مع السارد - الراوي أيضاً في تقديم أحوال الشخصيّة من جهة ثانية. فالشخصيّة ليست جاهلة بما يعرفه الراوي عنها، ولا الراوي بجاهل عما تعرفه الشخصيّة عن نفسها.

ارتباط الحدث بالشخصيّة في بنية الرواية:

إن ارتباط الشخصيّة ببنية الحدث هو ارتباط عضوي، وهذا الارتباط يدفعنا إلى القول إننا لا يمكن أن نتصور وجود شخصيّة في الرواية بدون حدث، ولا حدث دونما شخصيّة، لأن الشخصيّة هي التي تصنع الحدث في الرواية، فهي القوة المولدة للأحداث تؤثر فيها وتتأثر بها. وأي خلل في بناء الشخصيّة والحدث معاً فسيخل ببنية الرواية، ويحط من فنيتها التي لا يمكن أن تتحقق إلا بالترابط والانسجام بين الشخصيّة والحدث. لذلك وجدنا في رواية (عريس الزين)، ذاك الارتباط الوثيق بين كل شخصيّة من شخصياتها مع أحداث الرواية، وبالرغم من أن كل شخصيّة منها، الرئيسة والثانويّة والهامشيّة لها دورها في صنع الحدث الخاص بها، إلا أن الراوي استطاع أن يشكل من كل هذه الشخصيات والأحداث التي قامت بها، بنية عامة للرواية تجعل المتلقي يعيشها وينشدّ لمتابعة تفاصيلها الحدثيّة، وكأنها حلقات مسلسل تلفزيوني مترابطة مع بعضها.

على العموم: لقد تميز تصوير الراوي لروايته بالحيويّة وتسارع الايقاع، وذلك بسبب نأي الراوي عن السرد التقريري والانشائي أو التسجيلي كما بينا في موقع سابق، فكان سرد الرواية سرداً يتدفق في سلاسة وانسيابيّة وبساطة، سرداً حافلاً بمفردات من الصور والمواقف والحوارات يتوالى في إيقاعات منضبطة ورصينة، وفي توازن دقيق بين الواقع والخيال، وبين الفكر والعاطفة، وبين الحكي المألوف والتجريب المشروع ،وبين دوائر تتسع لهموم البشر الصغار، ولهموم الإنسان في فضاء وجود اجتماعي متخلف، ورغم بساطة أهل هذا الفضاء الاحتماعي، إلا أنه مشبع بالتناقضات وصراعات المصالح.

الشخصيّة في رواية عرس الزين:

لا شك أن أهميّة الشخصيّة في أي رواية لا تقاس ولا تحدد بالمساحة التي تحتلها، وإنما بالدور الذي تقوم به، وما يرمز إليه هذا الدور، وأيضا مدى الأثر الذي تتركه في ضمير القارئ، مما يدفعه للتساؤل والمقارنة، تمهيدا لتصويب موقف في الواقع.

وتعتبر الشخصيّة ذلك الكائن الذي يبدعه المؤلف من الكلمات، فيعطيه اسمًا، وعنوانًا، وشكلاً ومضموناً. إنها (كائن موهوب بصفات بشرية، وملتزم بأحداث بشرية").

نعم.. إن الرواية هي فن الشخصيّة، والشخصيات داخل الرواية تتخذ مكان الصدارة في الحدث الروائي، لأن الشخصيّة في الرواية "هي التي تكون واسطة العقد بين جميع المشكلات الأخرى، حيث إنها هي التي تصطنع اللغة، وهي التي تبث أو تستقبل الحوار، وهي التي تصطنع المناجاة، وهي التي تصف معظم المناظر والوقائع التي تستهويها، وهي التي تنجز الحدث، وهي التي تنهض بدور تضريم الصراع أو تنشيطه من خلال سلوكها وأهوائها وعواطفها، وهي التي تقع عليها المصائب... وهي التي تعمر المكان.

في رواية (عرس الزين) نجد شخصياتٍ عديدةً ملأت فضاءاتِ الرواية بانفعالاتها وحواراتها وأفعالها وردود أفعالها مع محيطها المهني والعائلي والاجتماعي، فنمت بينهم مشاعر الصداقة والألفة والكراهية، وذلك كله بفضل ما يمارسونه ويتناقشون به ساعات لقائهم في محيطهم الاجتماعي الضيق (القرية)، من ألوان المصارحة والبوح والحوار، ومحاولة التعبير أو انتزاع قشور أجواء بيئية متخلفة غطت عقولهم وغالباً ما تدفعهم لممارسات قيم تقليديّة بالية ورؤى جامدة سلفيّة توارثوها، يحكمها هوس لتدجين الأجيال القادمة وكبح أية بادرة تحاول هذه الأجيال الخروج منها، أو من صفوف القطيع المنكفئ على همومه اليوميّة.

إن لكل شخصيّة همومها الخاصة، ولكنها بهذا الشكل أو ذاك تطمح للشروع بتحقيق التكامل والانسجام على المستوى الروحي والعقلي والجسدي مع الآخر، رغم أنها غالبا ما تفشل في تحقيق ذلك، ويتردى طموحها هذا إلى حالات من الفشل والاحباط .

طموح الرواية:

إن كل ما تطمح إليه رواية (عريس الزين) هو الخروج عن السائد والشائع والمألوف... هو طموح من أجل بناء علاقة إنسانيّة أكثر عقلانيّة وإنسانيّة جديدة تتسم بالتوازن والسمو والعلو عن كل ما يسودها من كذب ورياء وأنانيّة، وتنطبق فيها الممارسة مع الفكر، ويتربع فيها الفكر على عرش الضمير والقلب والعقل والسلوك.

***

د. عدنان عويد

كاتب وباحث وناقد أدبي من سوريا.

للشاعر عطا يوسف منصور

انها قصيدةٌ كُتبت بمداد الوجع لا بالحبر، قصيدةٌ تُذيب المعنى في استعاراتٍ موجعة، وتزرع الوعي في قلب الريح. لم تكن صرخة شاعرٍ جريحٍ فحسب، بل شهادة عصرٍ مقلوب، تُكرَّم فيه الرذيلة وتُقصى الفضيلة، ويُصفَّق فيه للباطل بينما يُجهض الحق.

إنها أكثر من كلمات؛ إنها احتجاجٌ على صمتٍ خانع، وإيقاظٌ لوعيٍ تلاشى في زحمة الشعارات، ودعوةٌ لأن نرى الحقيقة ولو من خلال ما تذروه الرياح.

على قدرٍ من الدنيا امتياحي

بمنزلةِ المريضِ من الصحاحِ

بالتوقف عند مطلع القصيدة، يتضح للقارئ أن شاعرنا ينطلق برسالته الصريحة هذه من موقع الخيبة والخذلان، لا عن ضعفٍ ذاتي، بل عن مفارقة القدر في توزيع الحظوظ. فالشاعر " وربما الأمة كلها بصوته " تحيا على هامش العالم، كالمريض بين الأصحاء، مُهمّشٌ رغم استحقاقه.

وفي قوله:

وحظي في تعثره وحالي

دقيقًا صار يُنثَرُ في الرياحِ

نلحظ ترميزًا عميقًا للتلاشي، فالـ "دقيق" هنا، انما هو تصوير بليغ للفرد الذي سُحق بين رحى الظلم والخذلان، حتى لم يبقَ منه سوى ما تنثره الرياح، بلا أثر، بلا وزن، بلا قيمة.

ان القصيدة مشبعة بالبلاغة الجزلة: تشبيهات حية، واستعارات كثيفة، وكنايات موجعة، نجدها مثلًا في:

وترفعُ رايةَ الأرذالِ كيدًا

بأهلِ الفضلِ أو أهلِ الصَلاحِ

صورة قاتمة لانقلاب القيم، حيث تُكافأ السفاهة ويُقصى النبل. إنها مفارقة عصرٍ اختلّت فيه الموازين، وتسيّدت فيه الرذيلة على أنها قوة وتطور.

وفي قوله:

فذا زمنُ التفاخرِ والتباهي

بمولودِ الرذيلةِ والسِفاحِ

يُشخّص الزمن وكأنه كائن يفتخر بالعار، زمن يحتفل بالخطيئة كإنجاز! وهذه استعارة مُفزعة تُجسّد انحدار المجتمعات حين تفقد وعيها الأخلاقي.

القصيدة في رسائلها المباشرة والرمزية، تتجاوز السخط الشخصي إلى نقدٍ اجتماعيٍّ شامل. هي احتجاجٌ على حالة الانحطاط العامة التي سادت المجتمع العربي في بعض مراحله، خاصة حين غُيّبت القيم لصالح الشعارات الزائفة. الشاعر لا يهاجم أشخاصًا، بل يهاجم منظومةً متجذرة الفساد:

فهم جعلوا الفضائل موبقاتٍ

بميزان التطور والنجاحِ

هنا تكمن الحكمة الكبرى للقصيدة: تحذير من التطور الزائف، الذي يتنكّر للقيم ويُقدّس البهرج الفارغ. ما أكثر هذه المفارقة في واقعنا الحالي، حيث تُقاس الأمم بأبراجها لا بعقولها، وباقتصادها لا بأخلاقها.

كما يعيد الشاعر صياغة مثلٍ عربي معروف في قوله:

كلامُ الليلِ يُمْحى في الصباحِ

وهذه حكمة ساخرة تُشير إلى انفصال القول عن الفعل، والنفاق الذي صار دينَ السلطة وبعض سادات المجتمع.

كأنّ هذه الأبيات كُتبت هذا الصباح، ونحن نُشاهد – على شاشاتنا وفي شوارعنا – الأراذل يُكرّمون، والعلماء يُهمّشون، والجهل يُسمّى ثقافة وحداثة. القصيدة تُجسّد زمنًا استبطن الشاعرُ معالمه، وهي ذاتها ملامح واقعنا اليوم:

ـ تطبيلٌ للرداءة

ـ خيانةٌ للقيم

ـ ترفيعٌ للتافهين

ـ إسكاتٌ للصادقين

إنها مرآة عميقة تُرينا بشاعة واقعٍ اختلّ فيه معيار الفضيلة.

يتأثر الشاعر بشل ملحوظ بأسلوب معروف الرصافي ومحمد مهدي الجواهري في الصدح بالحقيقة ولو كانت مُرّة، وفي الالتزام بقضية الإنسان لا السلطة. فهو يمتلك نبرة احتجاج قريبة من التيار النهضوي العراقي، المفعم بالحكمة والتحدي. كما أنه يقارب أسلوب أحمد مطر لاحقًا في نبرة السخرية من الواقع وفضح الزيف المغلّف بلغة متقنة.

يستخدم الشاعر مفردات قريبة من السواد الشعبي، مثل "اللخناء" و"النطيحة"، لكنه يرفعها بأسلوبه الفخمٍ ببلاغة سامقة، وهذا مزيجٌ فريد من العامية الفصيحة، إن جاز التعبير، التي تمنح النص عمقًا مزدوجًا بين بساطة المعنى وقوة اللفظ.

قصائد كهذه ليست ترفًا أدبيًا، بل ضرورة وعي. إنها صفارة إنذار توقظ النائمين من غفوتهم، وتعيد التذكير بأن الصمت على الفساد خيانة:

كفى صمتًا على آثام قومٍ

أذلّونا وناموا بارتياحِ

القصيدة تنبهنا أن المجد لا يُهدى، والكرامة لا تأتي بلا جهد، والحرية لا تُمنح في خطاباتٍ بل تُنتزع بالوعي:

وأنّ المجد لا يوهبْ لقومٍ

ولا طيرٌ يطيرُ بلا جناحِ

هذه الخاتمة البليغة تختصر الحكمة العميقة في العمل، في السعي، في رفض الخنوع والاذلال.

هذه القصيدة تُعدّ وثيقة أدبية وفكرية تأريخية تُعيد صياغة الصراع الأزلي بين الحق والباطل، بين الفضيلة والرذيلة، بلغةٍ بليغةٍ جزلة، ونَفَسٍ حزينٍ صادق. فيها تأريخ لواقعٍ لم يمت، وإن تغيرت أسماؤه، وتحذيرٌ من استمراء الصمت، ودعوةٌ للاستفاقة من سباتٍ طويل.

في زمنٍ تتلاشى فيه الحدود بين الانحطاط والتطور، تأتي مثل هذه النصوص لتُعيد بناء وعيٍ كاد ينهار، وتُضيء طريقًا لمن يريد أن يرى.

***

سعاد الراعي

2025.10.01

ما إن شرعت في قراءة رواية المولدي فروج حكاية وشم التي حملها اليّ من تونس مشكورا الصديق عبد الحميد س، حتى تذكرت رأيا للكاتب ينتقد فيه النقاد التونسيين ويصفهم بأنصاف النّقّاد ويتهمهم بعدم القدرة على فهم رواياته باعتبار أنها حمّالة أفكار يشحنها صاحبها بكثير من المعارف العلمية والفلسفية وحتى الجمعية. فهؤلاء النقّاد الجامعيّون خاصة الذين يتربعون على عرش النّقد والتحكم في الجوائز الوطنية لا يبحثون في النص الروائي الا عما يتصل باللغة (اللباس الشكلي للنص) من بلاغة وصياغة واستعارة وعبارة ولا يهتمّون بمضمون النص الذي جاءت من أجله الرواية والذي يصرّ المولدي فرّوج في أغلب نصوصه على الاهتمام به قبل اهتمامه بالشكل دون أن يهمل جمالية النص. فللفكرة جماليتها التي تستمدّها من رشاقتها وقيمتها. وقد نعذر للمولدي فرّوج هذا القدر من النرجسية والتعالي عندما يتحدّث عن نصوصه السّردية فنحن نعرفه جدّ متواضع في حياته وكذا في شعره. ونجد له عذرا واقيا عندما نجده لا يعمّم رأيه على النّقّاد كلهم بل يستثني المبدعين منهم. وعلى أي حال هو رأي نختلف معه ونحترمه.

نعود الى الرواية التي يبدو أنّها لم تأخذ حظها من النقد، وإن قدّم لها الأستاذ الدكتور أحمد السماوي بهذا القول...." ويُردّ هذا التنازع الذي نشهده بين ملاحِظ يتسقّط الأخبار لا يفرّط في أيّ منها ومخبرٍ يحدّ من هذا الاندفاع ما دام الإدراك، مهما يَقْوَ، يظلّ قاصرًا عن الإحاطة بالمدرَك تمامًا، إلى توتّر العلاقة بينهما باستمرار. ولذلك تأتي لعبة الخفاء والتجلّي لتربك المرويّ له في الملفوظ أو القارئ. ولكنّها تسمح، رغم ذلك، بالإحاطة شبه التامّة بوضع هذا الطبيب في هذه البيئة الأمازيغيّة المحافظة."

رواية حكاية وشم ليست كالروايات التاريخية التي تبحث في التاريخ كمادة تستمدّ نفسها من الزمان والمكان وانما هي قراءة استشرافية للتاريخ-المستقبل للشخصية التونسية. وذلك في استعراض جميل لما يحمله الوشم من رمز عند الامازيغي الساكن الأول في البلاد التونسية. الحكاية ليست بالبساطة الساذجة بل إن دلالة الوشم على جبين مايا دلالة عميقة ودقيقة، شاملة، وكاملة. أصاب الكاتب في اختيار اسم أمازيغي لهذه الدكتورة في اختصاص التاريخ، التي تعتزّ بالوشم المنقوش على جبينها وترى فيه شرف انتمائها الى الامازيغ وتفتخر بأنها تحمل على الجبين ثقافة أجدادها الثرية وتعتز بذلك. غير انها تصاب بخيبة أمل عندما تتحول هذه العلامة على الجبين من وشم يحيل على شرف الانتماء الى مدعاة للسخرية ورميا لصاحبتها بالتخلّف، فماذا ستفعل هذه الدكتورة؟ تقرر إزالة الوشم لتبقي على عشقها للثقافة الامازيغية لتكون تونسية بحق كما تقول، ولتنتصر لبلاد عانت من الاحتلال والفتوحات أم تتحمّل الاهانات والسّخرية؟. ان هذه الرواية بحث جميل ومشوّق في الثقافة التونسية الاصيلة وفي الحضارات التي مرت بها البلاد وصولا الى علاقات تونس الحديثة بالعرب والغرب. ولعل ما يثري الرواية هو كثرة الشخصيات واختلافها وإن اتسمت بعضها بازدواجية صريحة فهذا الطبيب الفرنسي يدعى ليكون جاسوسا لفرنسا في تونس الحديثة فيصطدم بالمبادئ الإنسانية التي اقسم على احترامها. وهذا الطبيب التونسي يصطدم هو أيضا بالوشم الذي يسعى الى ازالته من جبين مايا التي أحبّها، وهذا السائق الذي أنهى خدمته في صلب الأمن ثم يدعى الى العمل في المستشفى ليكون جاسوسا هو الاخر مختصّا في الإيقاع بأشقائنا الوافدين الى تونس. وهذا حمار الدكتور الفرنسي يتعلم هو بدوره الجوسسة ويدمن عليها كما أدمن على شرب الخمر. ولعل طرافة الحمار قد اضافت الى الرّواية القدر الكبير من الحبكة والتّشويق والسخرية.

لقد نجح المولدي فرّوج في نسج الاحداث التاريخية التي مرّت بها تونس القديمة والحديثة وصياغة نص روائي ممتاز وشحنه بالخيال دون الهروب من الواقع الذي فرض نفسه على النصّ. على النقاد أن يتهافتوا على هذه الرواية إن هم فعلا يسعون الى الاهتمام بالنصوص ذات قيمة، بعيدا عن الأخذ في الاعتبار بمواقف هذا الكاتب او ذاك من الحركة النقدية في تونس.

لذلك أوصي التونسيين بقراءة رواية حكاية وشم ليعرفوا أنفسهم بعمق ويتعرّفوا على بعض من فصول تاريخ تونس التي أخفتها الأحداث والمؤسسات والبرامج الثقافية والتعليمية.

***

الياس قعلول - كاتب تونسي مقيم في المهجر

في المجموعة القصصية (حقيبة الأمنيات) لمحمد جبر حسن

تتناول هذه المجموعة القصصية، عوالم مختلفة ومتناقضة في نفس الوقت، تسلط الضوء على عوالم العتمة في واقع هش وجاف، تنبت فيه ثعابين الهواجس القلق والاحباط، تصب مجاريها في معاناة الإنسان وحرمانه من تحقيق الأمنيات التي يتطلع اليها، أو التي تلهب في داخل شعور الذات، في واقع غير عادل في معاييره وموازينه، السرد يملك رؤية في المعنى والرمز الدال في مدلولاته، في حكايات ذات إيقاع في مفردات الوجود، التي فقدت بوصلتها، ووضعت الإنسان في مهب الريح، ان يغوص في الفانتازيا الواقع، أو يصارع عوالم كافكا في تهميش الانسان، وجعل حياته هامشية في الخيبة والانهزام، والمجموعة القصصية تدخلنا بمفهود السرد الواسع في تناوله وطرحه، يتجاوز الحكايات التقليدية، تخلق في طياتها ابتكار في صياغة الشكل والمضمون، تصاحبها رؤية فكرية دالة، تحركها وتسيرها في المعنى والمغزى، والتي تناقش ذهنية القارئ، في التفكير والتأمل، في مسألة في غاية الاهمية، هي محاصرة الانسان في شرنقة ضيقة جداً، وتصبح الامنيات بحكم المستحيل، أو تلعب بها الريح من كل جانب وصوب، رغم ان الحقيبة مليئة بالامنيات والطموحات، وان مفهوم الحقيبة يعني الانسان مهما كان مسحوقاً ومعدماً في شظف العيش لايخلو من الامنيات بالجملة، لكنها تجد جداراً مانعاً لا يسمح بعبورها، يعني روحية الإنسان تعيش على الامل المعلق، رغم انه يغوص في الاحباط الاحباط والخيبة، ويجد نفسه يغوص في العجز والفشل، إزاء متغيرات التي تخلقها الحروب العبثية والإرهاب الشمولي (أن للحيطان أذان) ويمكن ان تكون جريمة يفقد الانسان حياته، اذا اخترق هذه الحواجز، أو أنه بلا شك يضيع في زنازين الموت، هذه المأساة الوجودية، التي تتناولها بعمق هذه النصوص السردية، وهي تتناول مسائل جوهرية في الحياة والوجود، والامنيات لا تجد موضع قدم، في واقع يتاجر في التناقضات الصارخة، لا يمكن للمرء مجاراتها. في واقع فانتازي او كافكاوي، يتناول الكاتب في صدق إحساسه دون مجاملة، في هذه العناوين أو الأشياء في حياة الإنسان، أو في قطار العمر في السيرة الذاتية، للذين رحلوا، وظلوا أحياء في عقولنا وقلوبنا. الى الذين اخذوا قلوبنا وتركوا فينا الشوق والذكريات. كما جاء في الإهداء. يعني نحن في حكايات واقعية في واقع فنتازي، يختلط فيه الخيال والواقع، الوعي واللاوعي، البراعة في السرد هي تلقائية المنسابة المتدفقة، ولغتها الشفافة والسلسة، بحيث تجعل القارئ يعيد قراءتها مرات ومرات دون أن يشعر بالملل، بل يشعر بتعاطف الشديد، وحزن ووجع لهذه الشخوص المسحوقة من الأرض والسماء، تتوجع في ألم من الاخفاقات في تحقيق الأمنيات، التي دخلت في شرنقة المستحيل، بل تغرق في بحر الحياة الهائج و المتلاطم حتى تتفتت، في وطن تحول الى صحراء تذر فيه الرمال، و تربته غير صالحة للأمنيات... نوجز بعض أبعاد الرموز الدالة في بعض النصوص القصصية، رغم أن المجموعة القصصية، احتوت على 45 نصاً سردياً على صفحات 199 صفحة. وكل نص يحمل دلالات رمزية عميقة:

1 - نص: حقيبة الامنيات

الذي يحمل عنوان المجموعة القصصية. يدل أنه لايمكن تحقيق الأمنيات في أرض صحراء قاحلة ارضها رملية لا ينبت فيها عشب الامنيات، بل هي في حكم المستحيل، رغم انها حقيبة يعني عدد غير محدود من الأمنيات، لكنها تبقى مغلقة في واقع هش، وحياة هامشية لحياة المسحوقين. منسيون من الأرض والسماء رغم كدحهم ومعاناتهم القاسية، مثل هذا الرجل الخمسيني البائس والمحروم (سعيد) هذا التناقض الصارخ بين اسمه وحياته الشقية والجافة التي يتجرع سقمها كل يوم، يسكن في غرفة في فندق قديم متهالك، لا تدخله الشمس، إلا من خلال ثقوب شباك النافذة، يعاني لقمة العيش المر، فقد قدمه اليمنى جراء انفجار لغم في حروب الوطن العبثية، يحمل حقيبة الأمنيات أينما ذهب، يعاقر الخمرة ليواسي معاناته القاسية، وعندما فقدت الحقيبة، شعر أن حياته انتهت، ولم يعد له قيمة وجودية، فأنهى حياته بالانتحار، يعني الانسان بلا أمنيات موت بطيء وفعلي.

2- نص: حارس الأرواح المنسية

وطئت قدميه في أرض الغربة، رجل خمسيني حمل العراق معه بالذكريات والصور الحياتية العالقة في ذهنه، يعتمد في حياته على راتب الرعاية الاجتماعية، ولكن طلب منه أن يعمل في المقبرة في صيانة قبور الموتى لكنه اصطدم بالمفاجأة بأن بعض القبور تحمل أسماء موتى عراقيون ومنهم صديقه العزيز ابن محلته، فعمل على صيانة هذه القبور ووضع الزهور حولها وتنظيفها، كأنه واجب اخلاقي تجاه أبناء الوطن المغتربين، وسمي حارس الارواح المنسية حتى موته.

3 - نص: هدايا

انطفأت الأنوار وخففت ضوء الشموع، وغادر المدعوين الى الاحتفال بعيد الميلاد، وتركوا بقاياهم مكدسة في الصالة، بقايا الطعام والحلوى والمعجنات، والصحون، شعر بالتعب واخذ غفوة من النوم، تراءى له ضوء ينبثق من خلف ستارة النافذة، وكانت المفاجأة، راى وجه ابيه مبتسماً يتوجه اليه وهو يقدم ساعته اليدوية ويقول له (هذه هديتي لك) وبعدها تتقدم امه وهي تنزع من قلادتها ذات ثماني عشرة ليرة ذهبية، وتقدم له ليرة ذهبية واحدة وتقول له (هذه هديتي لك) يعني الذين رحلوا وأحدثوا شرحاً من الشوق والحنان في القلب، يظلون حاضرون في كل مناسبة.

4 - نص: غربة أخرى

وهي ترمز الى الذين قدموا عصارة جهدهم للوطن ورحلوا، ولكنهم وكرموا في اقامة نصب تذكاري لهم، ومنهم الشاعر (بدر شاكر السياب) لينزل من تمثاله ليتفقد أحوال الوطن والبصرة والناس بعد غيابه الطويل، ويأخذ سيارة تاكسي ويتجول في مدينته البصرة، يصطدم كأنه في مدينة غريبة عنه، ومكان غريب لم يألفه في حياته السابقة، ويتساءل أين البصرة والعشار والشناشيل؟ لماذا تمتلئ الشوارع والطرقات، باللافتات السوداء وصور الشهداء المعلقة في كل زاوية، اين استشهدوا؟ ولماذا هذه الأعلام الملونة الكثيرة، اين علم العراق؟، ولماذا هذه البنايات الإسمنتية، أين النخيل، ولماذا ولماذا ولماذا؟ يشعر بالحزن والجزع من الأهوال التي شاهدها، وما آلت إليها البصرة والعراق، ويعطي للسائق السيارة ورقة فيها ابيات شعرية بدلاً عن الأجرة. يقول فيها:

إني لأعجب كيف يمكن أن يخون الخائنون

أيخون إنسان بلاده؟

إن خان معنى ان يكون

فكيف يمكن أن يكون؟

الشمس اجمل في بلادي من سواها، والظلام

حتى الظلام هناك أجمل

فهو يحتضن العراق.

5 -نص: اكتشاف

منذ فترة ليست بالقليلة، لكنه لم يعرف مدتها بالضبط، عندما يقوم من نومه في كل صباح، يشعر أن بعض اغراض البيت البسيطة ورخيصة الثمن تختفي، ولكن بمرور الايام اخذت اغراض البيت تختفي اكثر، حتى وصل الأمر بالأشياء الثمينة وباهظة الثمن، بدأ الخوف والهلع يدخل قلبه وهواجسه، حتى وصلت الامور، بأن غرفة النوم سرقت او اختفت بالكامل، حتى زوجته اختفت، وكانت نائمة في نفس السرير معه، وتناهى اليه صوت زوجته تدعوه إلى الاقتراب منها، وحين اقترب واشارت الى اطار الصورة القديمة، وحين تطلع فيها، وجد فيها فراغاً سحيقة ليس لها نهاية !! يعني السرقة تبدأ بأشياء صغيرة لا تثير الانتباه، أو لم نعير لها اهمية حتى تكبر حتى تنهب البيوت والاوطان.

6 - نص: فم مغلق

تعود ان يبتعد عن جميع الناس، وينزوي في عزلة تامة عن الكل، ان يعيش وحده لا يتكلم قط، مهما كانت الاسباب، يلوذ بالصمت والسكوت التام، مسترشداً بتعاليم والديه: (-اسكت... كلامك ليس هذا وقته) او (اسكت كلامك ليس محله.. اسكت لا تتكلم حتى لا يأخذك زوار الفجر يأخذوننا معك.. أسكت إن للحيطان آذان.. اسكت... اسكت)، حتى الرعب والخوف دخل قلبه وعقله، ويلوذ بالصمت كأنه اخرس، ولكن بعد سنوات وجدوا اسمه في سجلات احدى الدوائر الامنية. هذا يدل عن حجم إرهاب الدولة.

7 - نص: قادم الأيام

منذ طفولته وهو يرى أمه تبكي على كل شيء الصغيرة والكبيرة، كأنها رضعت من البكاء والدموع، منذ طفولتها وكبرت معها بالحزن والدموع، ومثل الامهات المتشحات بالثياب السوداء، ولا تبدلها مهما كأن الزمن، وحين سألها مرة عن سبب هذا البكاء الدائم في تساقط الدموع، قالت له بحزن (- اخاف عليك وعلى اخوتك في قادم الايام) لم يفهم معنى عبارتها، ولكن زاد بكائها وحزنها اكثر، عندما زادت النعوش القرابين للوطن، وادرك معنى الحزن والدموع، حين جلبوا جثمان شقيقه ملفوفاً بالعلم العراقي ذو النجمات الثلاث، عرف لماذا تخاف أمه عليهم في قادم الأيام، هذا الحزن العراقي نتيجة ويلات الحروب التي لم تتوقف في تاريخ العراق منذ الازل.

8 - نص: الصوت

وقع في حيرة عويصة، واخذت تنتابه الوساوس الخطيرة، بظنونه بأنه يشك بزوجته، انها تخونه وان اولاده الاربع ليس منه، نتيجة الفحص والتحليل، بأنه مريض لا يمكن أن ينجب اطفال، وبدفع من أهله، بان يقدم على قتلها بدون تردد، لانها تخونه، وان شرفه ملطخ بالعار له والى عائلته، ويدفعونه ان يغسل العار بدمها (أقتلها... أقتلها.. سوف لا يلومك أحد، الكل يعلم بخيانتها إلا أنت) وذهب الى المستشفى مرة اخرى، حتى يتأكد من نتيجة الفحص والتحليل لتكون حجة رسمية في يدييه حين يشرع بقتلها، وعندما وصل الى المستشفى اخبره الموظف المختص، بأنه أخذ نتيجة فحص وتحليل شخص آخر خطأ، نتيجة تشابه الأسماء، وأعطاه نتيجة الفحص والتحليل، بأنه سليم ليس لديه مرض. يعني في التسرع ندامة.

***

جمعة عبد الله

 

دراسة نقدية في قصيدة "همس التصدع" للشاعرة د. مرشدة جاويش

تعد قصيدة «همس التصدع» للشاعرة مرشدة جاويش نصاً شعريا معاصراً يندرج ضمن تيارات الحداثة العربية، إذ تتسم بالانفتاح على التجربة الذاتية واستكشاف أشكال التعبير اللغوي الجديدة. تمتاز اللغة الشعرية في النص بالثراء التصويري والحساسية الرمزية، بما يتيح للقصيدة أن تعمل على تفكيك تجارب الوعي والذاكرة وتقديم رؤية فنية للعلاقات بين الذات والمعنى. كما يبرز النص تصادماً بين الفقد والوجود وبين حضور اللغة وغموضها ليخلق فضاء شعورياً تأملياً يعكس التوترات الداخلية للنص والشاعرة على حد سواء.

في هذا الإطار، تشكل القصيدة تجربة نقدية بحد ذاتها فهي لا تكتفي بسرد شعوري فحسب بل تعيد إنتاج المعنى عبر البناء اللغوي والصوري الذي يمارس لعبة التصدع والتجزئة، مما يجعلها نصاً جديراً بالتحليل من منظور الحداثة الأدبية والنظرية النقدية المعاصرة.

المقاربة العالمية.. إليوت والتفكك البنائي

تتقاطع قصيدة «همس التصدع» مع الاتجاه الحداثي في الشعر الغربي والشرقي من حيث استدعاء شظايا الوعي والذاكرة كأساس للبناء الشعري. وهي تقترب من نصوص Eliot إليوت، خاصة(The West Land) "الأرض الخراب" في استخدام التقطيع السردي والانتقالات المفاجئة بين الصور واللغات الرمزية. هذا التفكك يعكس هشاشة الذات والوجود ويخلق إحساسا بالفراغ النفسي والضياع الزمني.

ماندلشتام واستحضار الذاكرة

في سياق (Mandelstam) ماندِلشتام، يظهر البعد التأملي في تذكر الماضي واستحضار الأماكن والرموز كأداة لإعادة تشكيل الهوية الشعرية بما يعكس تجربة قصيدة «همس التصدع» في التعامل مع «بقايا الموت» و«الشظايا الذهنية» كمساحة للتجربة الذاتية والوعي المتفكك.

أدونيس والتجربة الحداثية العربية

أما في الشعر العربي المعاصر، فإن تجربة Adonis في الجمع بين التقاليد الرمزية والقصيدة الحداثية المعاصرة تبرز دور اللغة في تفكيك التجربة التاريخية والذاتية وهو ما يتوازى مع النص قيد الدراسة إذ يعيد إنتاج المعنى عبر لعبة الصور والرموز التي تعكس صراع الذات مع الذاكرة والغياب.

باختصار، تظهر القصيدة التقاء ثلاثة أبعاد: التفكك البنائي واستحضار الذاكرة لإعادة بناء الهوية، ولعب اللغة والرموز في تأصيل التجربة الحداثية العربية ما يجعلها نموذجاً شعرياً حداثياً متنوع الأبعاد وموصولاً بالخطوط النقدية العالمية.

البنية الافتتاحية والصور الاستعارية في تشكيل دلالة التفكك

القصيدة تبدأ بنداء: «أيُّهَا العائِدُ مِنْ جُرْحِ المَدى» — هذا افتتاح رمزي: عائد من امتداد/مسافة جرحٍ غير محاط بزمن محدد. الاستعارات المُتصاعدة (الهواء/الهَباء، الحِبر/الدَّواة، القلم/الارتجاف، الظلّ/الضياع) تبني اقتصاداً بصرياً يدور حول التفكّك والخراب الداخلي:

«والدَّواةُ نَفِقَتْ / لا تُجيدُ الإنْبِثاقَ» — الموت/نفوق الأداة كإعلان عن عجز اللغة أو عن انقطاع وسيلة التعبير.

التكرار البنائي للأسئلة «مَنْ لَكَ؟... كَمْ كَتَبْتَ؟» يخلق شعوراً بالمساءلة الداخلية وبالفراغ الإجابي (absence) الذي لا يجاب عنه.

القصيدة عموما تتبنى حرية الشكل (شعر حمال الأوجه: الشطر الطويل، الانقطاع المفاجئ، تداخل السرد والصور) ما يجعلها نصاً حداثياً في الشكل والروح...

تركيبة الحداثة: التصدع كمنهج جمالي

القصيدة تنتج «تصدعاً» لا كمجرد صورة بل كنمط بنائي: تراكم صور ذائبة، تقطّعاتٍ لغويّة، وكلمات «ترتدّ لغزًا» كما تقول: «وَالكَلِمَةُ كُلَّما اقْتَرَبْتَ ارْتَدَّتْ لُغْزاً». هذا التصدع يتوافق مع خاصيات الحداثة الأدبية: رفض الإحاطة وتبرم من السرد الكامل، وإبراز الشظايا كوسائل إنتاج للمعنى. يمكن أن نقرأ حركة النص بين الصرخة والهمس (عنوانه نفسه "همس") كمناخ حداثيّ ينافس الضجيج التقليدي.

هنا يُذكّرنا ذلك بتأكيد تي. س. إليوت على الإحساس التاريخيّ والبعد التراكمِيّ للتقليد بوصفه طريقة لكتابة القصيدة الحديثة: الشاعر يعمل داخل شبكة من آثار سابقة وبذا ينشأ معنى مضاعف ينأى عن العاطفة الفردية الخالصة....

الصمت، المؤلف، والقارئ: من هو المتكلم الحقيقي؟

تتموضع القصيدة بين الإفصاح والإخفاء حيث يظهر المخاطب ("العائد") وتبرز "الرؤى كالوشوم"، و"النبوءة" التي "سقطت من عين أنثى / أجهضها التوق". هذا التفاعل بين الكشف والتغطية يفتح الباب لتأويلات حول موت المؤلف وولادة القارئ. إن انحناء النص على نفسه وعودة الكلمة إلى الغموض يدفع نحو قراءة برثائية تفترض أن المعنى لا ينبغي ربطه بهوية مؤلف واحدة بل يتيح قراءات متعددة تولد معاني جديدة.

وفق رؤية رولان بارت، "ميلاد القارئ يفدى بموت المؤلف"، أي أن تحرير النص من مرجعيات الشخص التاريخي للمؤلف يتيح للقارئ مساحة لإعادة إنتاج المعنى. تطبيق هذا على قصيدة «همس التصدع» يظهر أن النص لا يقدم إجابات جاهزة بل يدعو القارئ ليعيد تركيب أنقاض المعنى بنفسه، ليصبح شريكاً فاعلاً في صناعة التجربة التأويلية. بهذا، تتحقق في النص استراتيجية حداثية واضحة حيث الغموض والتشظي البنائي يفتحان المجال أمام القارئ لتجاوز المقاصد الفردية للمؤلف وتوليد دلالات متعددة بما يتوافق مع مقاربات الحداثة وما بعد الحداثة في الشعر.

التفكيك والسرد المهزوم: دريدا والتأجيل الدلالي

الكلمات التي " ترتدّ لغزًا" و"المَعنى يتَهاوَى في جَوْفِ الصَّدى" تشير إلى لعبة الحضور/الغياب في النص اي المعنى يتأخر ويتشظى ويترك أثراً وهو ما يقارب مفهوم دريدا حول différance: المعنى لا يحدث كحضور نهائي بل ينتج عبر الفارق والتأجيل وعبر أثر دائم من الحضور والغياب. قراءة القصيدة عبر عدسة التفكيك تبرز كيف أن الصمت (نفوق الدواة، ارتجاف القلم) ليس فراغاً محايداً بل عنصراً إنتاجياً للمعنى ذاته.

الصدمة والذاكرة: الهوة بين السرد والهوية (بول رِيكور/الهوية السردية)

الخطوط «تُعيدُ قَلبَكَ مِن بَقايا المَوتِ / تَسعى رَغْمَ اليَأْسِ» تعبّر عن إعادة تركيب للذات من ركام الذكرى. بول ريكور يربط بين السرد والهوية, فالقصيدة تبدو كمحاولة سرد ذاتي غير مكتمل لإعادة بناء الذات بعد جرح امتد. ريكور يؤكد أن الحكي يتيح للهوية أن تشكل وتعاد صياغتها من خلال القصة. بهذا تصبح القصيدة فعل سرد لتشكيل هوية جديدة داخل هشاشة الذاكرة.

قلق التأثير والنبوة المجهضة (هارولد بلوم)

القصيدة تشير إلى فشل النبوءة: "النُّبُوءَةُ / سَقَطَتْ مِنْ عَيْنِ أُنْثى / أَجْهَضَها التَّوْقُ / قَبْلَ اكْتِمالِ المَعْنَى". هنا ثمة وعود معنى لا تنجز — وضع يمكن تأويله عبر مفهوم هارولد بلوم عن "قلق التأثير" حيث يسعى الشاعر/النص إلى امتلاك أصالة ما لكنه يواجه ظلاً من الإرث ومن توق للمعنى الذي يطغى ويهمش. النص في محاولته أن يكون "حلماً" ("كُنْ حُلْماً / ولا تَعُدْ...") يختار الانسحاب من المنافسة على المعنى أو إعادة تعريفه.

الفن كمقاومة للهيمنة (ثيودور أدورنو)(Theodor Adorno).

في مشهد شعري يتحدث عن النفوق والانكسار والالتباس يظهر إصرار على أن الفن يحتفظ بخاصية الاستقلال (أو على الأقل بالمقاومة) ضد عمليات التشييء والاستلاب. أدورنو ناقش كيف أن الفن الحديث قد يملك "قدراً من الحقيقة" في مقاومته لصياغات الصناعة الثقافية. فالنص يرفض تقديم أجوبة جاهزة أو تحويل الألم إلى خطاب مريح.

أدورنو يرى أن الفن الحديث يقاوم الثقافة السائدة بتمسكه بالغموض والتنافر الجمالي.

إن القصيدة تحافظ على استقلاليتها عبر إصرارها على إبقاء السؤال مفتوحا وهو ما يرسخ بعدها النقدي المقاوم.

الأدوات البلاغية

الأسلوب: لغة متقطعة/ تركيب أسئلي /واستخدام المضارع الدائم والقرائن الزمنية (المساء، الظل) لخلق أحاسيس تأملية.

المجازات: الاستعارة المخلصة (الدواة/نفوقها)، الصورة المتبددة (الوشم على كف الهجير)، والتشخيص (الرؤى تنبت، الظل رفيق).

الصوت: تبدل بين المخاطَب والمخاطِب مع حضور لجهة راوية نصف غائبة — هذا ما يعطي النص توتراً بين القول والسكوت.

الأيقونات الحداثية: حطام، بقايا، صمت، وهمس — جميعها عناصر بنائية تؤكد انتماء النص لتيار الحداثة/ما بعد الحداثة.

تكشف قصيدة «همس التصدع» عن نص حداثي متكامل يعبر عن التمزق والغياب عبر صور الانكسار والفراغ. فهي تستدعي مرجعيات عالمية (إليوت، ماندلشتام) وعربية (أدونيس)، كما تنفتح على أطر نظرية متنوعة (دريدا، ريكور، بارت، بلوم، أدورنو). هذا التداخل بين النص الشعري والخطابات النقدية يبرز قدرة القصيدة على استيعاب التجارب الفكرية العالمية وإعادة إنتاجها داخل سياقها العربي.

إن قوة النص تكمن في كونه مفتوحا على قراءات متعددة: فهو سجل جرح شخصي وتجسيد لعجز اللغة وفضاء مقاوم لأي سرد نهائي. ومن خلال ذلك يمنح القارئ دورا فاعلاً في إنتاج المعنى، بما يتفق مع نظريات النقد المعاصر. هكذا تصبح القصيدة نصا حداثياً نقدياً بامتياز يزاوج بين تفكك البناء وجمالية الغموض، ويؤكد أن الشعر لا يزال قادراً على مقاومة التشييء عبر الحفاظ على مسافة تأملية وجمالية.

***

دراسة نقدية من إنجاز فاطمة عبدالله

..................

هَمْسُ التَصَدُّع

أيُّهَا العائِدُ مِنْ جُرْحِ المَدى

كَما يَعودُ الهَباءُ إلى مَهْبِهِ

لا مِدادٌ يُواسِيكَ

ولا صَدى يُعَزِّي في مَآثِمِ البَوْحِ...

مَنْ لَكَ؟

والرُّؤى كالوُشُومِ

على كَفِّ الهَجِيرِ

تَنْبُتُ في فَلاةِ الأُمْنِيّاتِ

كَمْ كَتَبْتَ؟

والرِّياحُ تَمْحُو ما كُتِبَ

والدَّواةُ نَفِقَتْ

لا تُجيدُ الإنْبِثاقَ

المَعنى يَتَهَاوَى في جَوْفِ الصَّدى

والكَلِمَةُ كُلَّما اقْتَرَبْتَ ارْتَدَّتْ لُغْزاً

وحِبْرُكَ رَكَدَ بَيْنَ أَطْرافِ السُّطورِ

وَارْتَجَفَ قَلَمكَ على حَافَةِ الأُفوْل

فأنتَ في رُكامِ الضّياعِ

تُعيدُ قَلبَكَ مِن بَقايا المَوتِ

تَسعى رَغْمَ اليَأْسِ

لِتُضيءَ في ظِلالِ العَدَمِ

أيُّهَا التائِهُ في كُحْلِ الذِّكرى

كُنْ حُلْماً

ولا تَعُدْ...

فالظِلُّ الَّذي كانَ رَفيقَ خُطاكَ

قَدْ تَناسَلَ في ضَوْءِ غَيْرِكَ

والنُّبُوءَةُ

سَقَطَتْ مِنْ عَيْنِ أُنْثى

أَجْهَضَها التَّوْقُ

قَبْلَ اكْتِمالِ المَعْنَى

وَإذِ المَساءُ يَتَثَاءَبُ في حَناياكَ

تَعالَ

اقْرأْ خُرافاتِكَ

على جُدْرانِكَ

واسْتَعِذْ

مِنْ ماضٍ

كانَ يَمْحوكَ

وأنتَ تَظُنُّ أَنَّهُ يَكْتُبُكَ

***

مرشدة جاويش

ونحن ننتهي من قراءة المجموعة الشعرية الجديدة "هل ينتهي الكلام؟" الصادرة عن دار الشؤون الثقافية العراقيّة عام 2025 للشاعر العراقي خالد الحلِّي المقيم في أستراليا، يتجلى أمامنا بوضوح ان الشاعر يشتغل في أغلب قصائدها التسع والسبعين على ثيمة واحدة، ألا وهي خلخلة اليقين عبر سؤال الشعر المتشكّك، والذي أطلق عليه الشاعر بالكلام الذي لا ينتهي عبر تساؤل بالأداة الاستفهامية هل؟

انتهاء الكلام يعني السكوت ومن ثم الموت، والتسليم للأقدار الخفيّة التي تحرّك الموجودات بعلاقاتها المختلفة المتشابكة التي لا يقبل بها الشاعر المشاكس بطبيعته.

تبدأ قصيدة خالد الحلي بمدخل بسيط، لحالة إنسانيّة تعبيرية واضحة من سلوكيات الحياة لتنتهي بسؤال فلسفي معقّد يبحث عن جواب شاف، يغيب أغلب الأحيان في القصائد التي تكون نهاياتها حزينة، فيها من الخسارة أكثر من الانتصار الذي تسعى له الكتابة بعناصرها الجمالية التي تزعم امتلاكها لأدوات التغيير المعرفيّة، ربما لأن الكتابة التي يؤسس لها طويلاً عبر أشعاره هي نوع من التراجيديا الشخصيّة التي أصابته وأصابت بيئته وعالمه، وجعلته يسعى إلى اعادة ترميمها عبر سرديّة شعريّة عاطفية، تكون أناه حاضرة فيها تحاور المرأة المفترضة والحبيبة البعيدة في حقب حياته المختلفة، والتي يكشف من خلالها عن حيوات متعددة لم تكتمل، بل سرعان ما تنطفيء، كلّما وصلت إلى توهجاتها، كما في قصيدته التي تحمل عنوان: "أيامٌ يسربلها الغبار"، والتي يقول فيها:

حِينَ يلُمُّ اللّيلُ بقاياهُ،

ويرمي فوقَ رمادِ الأيّامْ

يوماً آخرَ من أيّامِ حياتي

تَتَمَلْمَلُ باكيةً في بئرٍ مهجورْ

سَنَواتٌ ودُهورْ

تَصْحُو، وتنامْ

تتساءلُ في اليقظةِ

عَنْ أعوامٍ تختزلُ الأحلامْ

تتساءلُ في النومِ،

عَنْ الفجوةِ بين الواقعِ والأوهامْ

عَنْ مقبرةٍ لا تُدفنُ فيها إلا الأزهارْ

عَنْ ألغازٍ يغزِلُها الحاضرُ  

ليلاً ونهارْ

عَنْ أسرارٍ يَكْتُمُها الماضي 

مُنْذُ عُصورْ  

وتقولُ بقلبٍ مَكْسُورْ

يؤلمني أنْ تتراكمَ أيّامي القتلى

ما زلت أشيِّعُ كلّ صباحٍ يوماً

الأيّامُ تضيقْ

لَمْ تتركْ بُشْرى لحبيبٍ

أو لصَدِيقْ

هَلْ مِنْ معجزةٍ

تغدو فيها الأيّامُ شهورْ

تتدفق خيراً وعطورْ

هَلْ مِنْ زمنٍ

لا يَكْتُمُ لغزاً أو أسْرارْ ؟

كلمة يسربل في المعجم العربي تعني يلبس" السربال"، وهو ما يغطي الجسم من ثياب أو درع ونحوهما. وسربال الشاعر هنا، هو الغبار الذي يغطي أيامه دليلاً على توقفها وعدم حركتها، ربما لأنها تتشابه بعدم فاعليتها وجدواها، إذ يرى إن المأساة الخفيّة التي تغلفها، تجعلها تضمحل وتتلاشى، حاملة معها أسرارها وألغازها، دون أن تفصح عن شيء يجعل الشاعر يصل إلى جوهرها الفعلي باعتبارها صيرورة حياتية، يستطيع أن يبتهج بها حدّ أن لا يفرط بها أو يسعى لدفنها وكأنها جثث تتراكم على بعضها، وهذه ليست عدميّة سوداويّة تدّل على يأس عميق من جدوى الوجود والعيش فيه، بل احتجاج كبير على "مقبرة لا تدفن فيها إلا الأزهار" كما يصفها الشاعر في هذا المقطع من القصيدة المذكورة أعلاه،

إن حساسيته المفرطة تجاه الواقع المعاش كشاعر تجعله لا يفرق بين أيامه التي شاءت لها بوصلة القدر أن تنام في مكان يتكرّر برتابته الخالية تماما من التحفيز الذهني، رغم أن روحه تواقة للخلق الجمالي الذي يملك أدواته بكفاءة عالية، لكن الصدمة تولّد الاحباط الذي يتمدّد بغرزه في الجسد بطيئا مثل سكين تقطع العظم لتصل إلى العمق لتعلن النهاية، وهذه القصيدة الحزينة المتسائلة هي نموذجٌ لا يختلف عن باقي القصائد التي ترصد حالات مشابهة لها، تؤشر لعمق القطيعة بين الكائن والوجود والذي يحاول الشاعر فيها أن يجد معنى واضحًا أو خفيًّا لهذا الخراب الذي لا يتوقّف.

لكن في قصيدة مختلفة بعنوان "دع سوانا يسألون"، نجد الشاعر يقول:

كَمْ سَألنا؟

كَمْ سَنَسْألْ؟

دونَ أنْ يأتي جوابْ     

جلُّ ما راودنا مِنْ أسْئلةْ

ظلَّ مُهْمَلْ

خلّفَتْهُ القافلةْ

هَلْ سَنَبقى نتأمّلْ

سارِحِينْ

في ضَبابِ الإحتمالْ

غارِقِينْ

نتحرّى عَنْ نُجومٍ آفلةْ

عَنْ سِنينْ

هَرَبتْ منّا،

وما عُدْنا نراها

عَنْ زمانٍ مُبهَمٍ سوفَ يجيءْ

قُلتِ لي، والحزنُ يَنْهَلْ

مِنْ صدى صَوْتِكِ   

أنّاتِ عذابْ

هَلْ سنبقى نحنُ نَسْألْ

وكلانا

لَمْ يَذُقْ طَعْمَ الجوابْ

بعدَ أعوامِ اِرتِقابٍ وعذابْ 

كَمْ سَألنا؟

كَمْ سَنَسْألْ؟

هَلْ سنبقى وحدنا  

سائلينْ

دَعْ سِوانا

يَسْألونْ

معنا

علّهمْ لا يَيْأسونْ

مِثْلنَا  

في هذه القصيدة يعلن الشاعر عجزه عن الوصول إلى الحقيقة التي يسعى إليها بسؤاله الدائم، ليس لأنه غير مؤهل لمعرفتها، بل بقبول الواقع الظاهري للأشياء، والتآلف معها، ليس وحده فقط، بل مع المرأة القرينة التي يحاول أن يجعل منها مرآة عاكسة لذاته التي يخلق حوارا دائمًا معها، ولأول مرّة يستدعي تدخل الآخر لمقاسمته السؤال بعد أن أصابه اليأس التام.

إن الاغتراب الذي يعاني منه الشاعر في هذا العالم، ليس ترفًا معرفيًا أو ترفعًا برجوازيًا، بل إلتصاق كبير بالطبيعة وعدم القبول بمغادرتها، إنها الفطرة الأولى التي تعجز كل العلوم الحديثة أن تنزعها منه، بكل تمظهراتها العلميّة وحداثتها التكنولوجية.

خالد الحلي شاعر عراقي ظل وفيًا لقصيدته الموزونة التي تدّل عليه وحده، ببساطتها وخفة مفرداتها، بعاطفيتها وابتعادها عن التقليد والتعقيد. منجزه الإبداعي الشعري بدأ في وقت مبكر من عمره، ولا غرابة، في بلده العراق، بلد الشعر حيث الكبار السياب ونازك والبياتي وسعدي يوسف وآخرون.

*** 

عقيل منقوش

 

من ديستويفسكي إلى رجاء البوعلي

يُعَدُّ المنهج الفينومينولوجي (الظاهراتي) الذي صاغه الفيلسوف الألماني إدموند هوسرل من أهم المناهج الفلسفية التي أحدثت انعطافاً في مسار الفكر الغربي الحديث. جوهره قائم على العودة إلى "الأشياء ذاتها" عبر تعليق الأحكام المسبقة وتحرير الظواهر من أغلفة التفسير الميتافيزيقي أو الاجتماعي، والولوج إليها من خلال التجربة الحسية والوعي المباشر. لكنّ اللافت في هذا المنهج أنّه لم يبقَ حبيس الدرس الفلسفي، بل تمدّد إلى ميادين الأدب والفن، ليُصبح أداة حيوية لفهم الإنسان في انفعالاته وأزماته وتحوّلاته الداخلية.

لقد كان فيودور ديستويفسكي أحد أبرز الروائيين الذين جسّدوا بعمق هذا المنهج قبل أن يتبلور كمفهوم فلسفي. ففي روايته المراهق نلمح ملامح تحليل ظاهراتي خالص، حيث يغدو السرد فضاءً لاستبطان الوعي البشري بأدقّ تحولاته. لا يتعامل ديستويفسكي مع أبطاله ككائنات خارجية بل كعوالم داخلية تتكشّف من خلال الحضور المباشر للوعي القَلِق، المتردد، والممزّق بين الرغبة والواجب، بين الأنا والآخر. وهنا يلتقي الفن الروائي مع الفينومينولوجيا في كونها "علم التجربة الداخلية" بامتياز.

وعلى نحوٍ موازٍ، نجد أنّ الأدب العربي المعاصر أخذ يستلهم هذا المنهج وإن بطرائق متفرّقة. في المجموعة القصصية «عشرة أيام في عين قسيس الإنجيلي» للروائية السعودية رجاء البوعلي، يتبدّى أثر الفلسفة الظاهراتية واضحاً في محاولة الكاتبة استعادة التجربة الإنسانية من الداخل، لا بوصفها حكاية خارجية بل باعتبارها "وعيًا يعيش لحظته". فالقصة عندها لا تكتفي برسم الأحداث، بل تسعى إلى إعادة بناء التجربة الحسيّة والشعورية كما تُعاش في لحظتها الأولى، لتصبح الحكاية ضرباً من "التأمل" الذي يستنطق ما يتوارى خلف سطح الظواهر.

وقد أشار الناقد غاستون باشلار في كتابه جماليات المكان إلى أنّ الأدب العظيم هو ذاك الذي يمنحنا "إقامة جديدة في العالم"، أي يعيد صياغة إدراكنا لأبسط الأشياء وأقربها إلى حواسنا. وهذا بالضبط ما تتيحه الفينومينولوجيا حين تتسرب إلى بنية السرد: إنها لا تبحث عن المعنى في "الحدث الكبير"، بل في التفاصيل المألوفة التي يُعاد إدراكها من زاوية جديدة.

في التراث العربي يمكن أن نجد صدى لهذا المنحى في كتابات نجيب محفوظ، لاسيما في اللص والكلاب حيث يصبح وعي سعيد مهران بالمدينة والمطاردات والأصوات الخارجية انعكاساً داخلياً لصراعه النفسي. محفوظ، مثل ديستويفسكي، لا يصف الخارج إلا باعتباره مرآة للداخل، وهو بذلك يقارب الروح الفينومينولوجية دون أن يُصرّح بها.

إنّ حضور هذا المنهج في الأدب يعكس حاجة الإنسان الحديثة إلى استعادة ذاته المبعثرة في عالم تغلب عليه السرعة والسطحية. الأدب هنا يصبح مختبراً للوعي، ومكاناً لمساءلة التجربة الإنسانية بأدواتها الأولى: الإحساس، الإدراك، والتأمل. وإذا كان هوسرل قد أراد عبر منهجه تأسيس "علم صارم" للوعي، فإن الأدباء من ديستويفسكي إلى رجاء البوعلي قد جعلوا من هذا العلم فنّاً صارماً يقتنص اللحظة الإنسانية في شفافيتها وارتباكها، ليحوّلها إلى لغة خالدة.

وهكذا، يتّضح أنّ الفينومينولوجيا ليست مجرد فلسفة أكاديمية، بل هي روح تسري في الأدب وتمنحه بعداً جديداً: بعداً يجعل من النص مرآةً لذواتنا، ومن القراءة رحلةً إلى أعماقنا، حيث تصبح الحكاية وسيلة لفهم الحياة ذاتها لا مجرد سردٍ لأحداثها.

***

بقلم: عماد خالد رحمة - برلين

(حكاية الأصمعيِّ مع الخليفة: نموذجًا)

حدَّثنا (ذو القُروح) في المساق السابق عن حكاية الأبيات المنسوبة إلى (الأصمعي، ـ216هـ= 831م)، التي تتردَّد عادةً على منابر الوُعَّاظ والمتظارفين، بعنوان شطر المنظومة الأوَّل «صوتُ صفير البُلبلِ»!  وأشار إلى أنَّ أوَّل من سوَّقها على الناس ناظمٌ مِصْريٌّ صُوفيٌّ، عاش في عصر المماليك، خلال القرنَين الثامن والتاسع الهجريَّين، وكان مغرمًا بالغرائب والنوادر،  اسمه (شمس الدِّين محمَّد بن حسن بن علي النواجي، ـ859هـ= 1455م. قال: ولا يَبعُد أن تكون حكاية الأصمعي تلك ومنظومة «صفير البُلبل» من صناعة النواجي نفسه، أو صناعة مَن على شاكلته من مروِّجي النوادر والأقاصيص. وأضاف أنَّ تلك هي طبيعة النوادر أصلًا، بوصفها جنسًا أدبيًّا.  فمن المعلوم أنَّ فنَّ النوادر- منذ نوادر الورَّاق الأوَّل (الجاحظ)، على سبيل النموذج الأقدم والأشهر- لم تكن بروايات عن وقائع تاريخيَّة بالضرورة، بل هي أقاصيص متخيَّلة مؤلَّفة، في معظمها إنْ لم يكن برُمَّتها، لأغراض من الفكاهة والإدهاش والقَصِّ وإيصال بعض الرسائل الاجتماعيَّة. والحقُّ أنَّ (النواجي) لم يُسنِد تلك الحكاية، ولم يزعم لها عَزْوًا، وإنَّما صدَّرها بالقول: «(ومن لطائف ما اتَّفق) أنَّ بعض الخلفاء...».  وكأنَّما هذه النادرة على غرار نوادر (الجاحظ) عن «البخلاء»؛ فقد جاءت حول بُخل أحد الخلفاء- لم يُسمِّه، وإنْ تطوَّع لاحقوه بتسميته بـ(المنصور) أو (هارون)- وأنَّه كان بخيلًا في العطاء، لا يكافئ الشُّعراء، متنصِّلًا من ذلك باتهام الشَّاعر في أصالة قصيدته، بحُجَّة أنها نصٌّ معروفٌ محفوظ، لا جديد فيه. وأردفَ:

ـ وقد كان الخليفة خارقًا في حِفظه، كما زعم الحاكي، يحفظ القصيدة لسماعها أوَّل مرَّة، بل لديه مملوكٌ يحفظها لسماعها للمرَّة الثانية، وجارية تحفظها للمرَّة الثالثة! فكان يرفض مكافأة الشَّاعر بدعوَى أنَّ قصيدته معروفةٌ محفوظةٌ وليست من إنشائه. حتى جاءه (الأصمعيُّ) بما لا يستطيع حِفظه؛ لتفاهته أصلًا وعبثيَّته! قالوا: «ورجع [أي الخليفة] عمَّا كان يعامل به الشُّعراء، وأجراهم على عوائد الملوك.»(1) 

ـ وهنا مربط النادرة ومغزاها؛ فلكلِّ داءٍ دواءٌ يُستطبُّ به. 

ـ وإذا كانت سهولة الحِفظ دليل عدم أصالة النصِّ، فثمَّة ما يتعذَّر حِفظه لا لأنَّه أصيل، بل لأنَّه لا يحتكم إلى منطق اللُّغة والعقل ليُحفَظ.  هذا ما يبدو من مغزًى لهذه النادرة.  غير أنَّ من لا يُميِّز النوادر القصصيَّة من الحقائق التوثيقيَّة، ولا يفرِّق بين الأخبار الأدبيَّة والأخبار التاريخيَّة، يذهب إلى تصديق تاريخيَّة ما هو من نسج الخيال، أو في المقابل إلى إنكار ما هو محض مجازٍ أدبيٍّ؛ بتُهمة مخالفته حقائق التاريخ والواقع والقِيَم.  وهذا أمرٌ شائعٌ بين العوامِّ، في تلقِّي فنون السَّرد بخاصَّة، حتى لترَى في عصرنا أنَّ بعض القرَّاء يتلقَّون ما يكتبه الروائي، مثلًا، على أنَّه قِصَّة حياته الحقيقيَّة، أو أنَّه جزء من سيرته الذاتيَّة!  وتنبني على هذا الكثير من الأوهام والأحكام. 

ـ وماذا عمَّا ضمَّنه (النواجي) من نَظْمٍ نسبه إلى (الأصمعي)؟

ـ أغلب الظنِّ أنه من نَظْم عصره، العصر المملوكي، إنْ لم يكن مِن نَظْمه هو. وهذا ماثل في الطابع المعهود من التلاعب بالألفاظ، والعزف على الأصوات لإقامة الوزن.

ـ مع أن الأبيات أرجوزة، جاءت على (حمار الشُّعراء) في سهولة النَّظْم.

ـ حتى إنَّ «بستان» تتحول إلى «بسستتان»: «في بسستتانٍ حسنٍ/ بالزَّهر والسروللي»!  وربما عدَّل النصَّ ورثةُ هذه الملهاة، لتبدو أقل ركاكة، إلى: «في وسط بستانٍ حلي/ بالزَّهر والسرور لي»!  وهكذا من هذا الهذيان، الذي قد يُعجِب الأطفال والأغرار وأشباههما، ممن يظنُّون الشِّعر صفيرًا، والعبقريَّة الأدبيَّة هذرًا صوتيًّا، وضربًا من المخرقة اللفظيَّة وألعاب الحُواة من النظَّامين.

ـ ومن هؤلاء بطل هذه النادرة المزعوم، (الخليفة) نفسه؛ الذي أعجبته الأبيات، وأعجزته، وأرغمته على دفع المكافأة، بوزن الرقعة التي كُتب عليها النص!

ـ مع زعمهم أنَّ القصيدة كانت مكتوبة على عمودٍ رخامي؛ «فلم يَسَع الخليفة إلَّا أن أعطاه زِنتَها ذهبًا، فنفد ما في خزانة الملك من المال.»  وتلك عاقبة البخل وخاتمة البخلاء! 

ـ تلك، إذن، محض نادرة!

ـ نعم، بما يعنيه هذا المصطلح من معنى، لا يحتمل أكثر من مدلوله الأجناسي الأدبي.  تحكي عن بخيلٍ ذي سُلطان، يُحِبُّ أن يُحمَد بما لا يفعل، وأن يُمدَح، بلا مقابل. وهو يعشق المديح، وإنْ بكلامٍ بارد، بلا معنى، كصوت صفير البُلبل.  ولذا فإن ناظم الأبيات قد تعمَّد، كما ترى، العبث بالكلمات والأصوات، ليُظهِر سطحيَّة الخليفة؛ الذي يُعجِبه المديح مهما كان صفيرًا، صِفرًا من القِيَم اللفظيَّة والمعنويَّة. ليقع في النهاية في شَرِّ أعماله، من البُخل، وحُبِّ المديح المجَّاني، مع الجهل بطبيعة الشِّعر. 

ـ وهذه المنقصة الأخيرة (الجهل بطبيعة الشِّعر) قد أوقعت- عبر العصور، إلى جانب الخليفة - ما لا يُحصَى من الجهلة، ممَّن يروون أرجوزة «صوت صفير البُلبل»، ويتبارون في حِفظها، وإنشادها، على أنها آيةٌ من آيات المهارات الشِّعريَّة واللُّغويَّة الأصمعيَّة! 

ـ وبذا فربما وجدَ أنصار الشِّعر المتنصِّل اليوم من أصول القصيدة العَرَبيَّة في تلك الأبيات حُجَّةً على مقدار ما يمكن أن تزيِّفه الأوزان والقوافي من معرفةٍ بحقيقة الشِّعر، سواءً لدَى مَن يَنشد التقليديَّ المحفوظَ أو مَن يَنشد الأصالة والابتكار؛ فكلاهما يقع، والحالة هذه، في اللفظيَّة والشكلانيَّة.(2)

ـ والشاهد هاهنا؟

ـ هي شواهد: أولها، أنَّ في تراثنا من الأعلام من أصبحوا نماذج رمزيَّة، وشخصيَّات سرديَّة، توضع على ألسنتها الأقاويل، بجهل، أو بنحل، أو لأسباب فنِّـيَّة. 

وثانيها، أنَّ جمهرة التلقِّي كثيرًا ما تقع في حبائل الألعاب السَّرديَّة؛ فلا تميز الخطاب الأدبيَّ من الخطاب التاريخي، ولا الأقنعة، وأساليب التوظيف الحكائي، من الرواية بهدف النقل والتوثيق.  وتزداد المعضلة التباسًا عامًّا من حيث ظلَّ تراثنا العَرَبي- في كثير منه، بما في ذلك ما يُلبَس لَبُوْس النقل التاريخي- سرديَّات شفويَّة، وإنْ دُوِّنت، وأحاديث مجالس، لا سبيل إلى تفكيكها، لمعرفة صحيحها من سقيمها، أو منحولها، أو متخيَّلها، بغير آلةٍ نقديَّة، تمتلك زمام الوعي اللُّغوي، والذوق الأدبي، مع العِلم الدقيق بالسياقات من التاريخ والثقافة.

وثالثها، أنه كثيرًا ما ينخدع الناس عن حقيقة الشِّعر بالنَّظْم، وزنًا أو لُغة. صحيح أنَّ هاتين أداتان شِعريَّتان، بل هما من مكوِّنات الشِّعر العَرَبي، لكن وجودهما في ذاته ليس هو الشِّعر.(3) ولذلك فإنَّ قول (عبدالقاهر الجرجاني)(4): إنِّ النَّظْم ليس «إلَّا أن تضع كلامك الوضع الذي يقتضيه (عِلم النحو)»، قولٌ كثيرًا ما يُؤخَذ على ظاهره، في الشِّعر خاصَّة. من حيث كان النَّظْم في تراثنا العَرَبي من خصائص النصِّ الأدبي عمومًا، من شِعر ونثر. فأنت حين تقرأ نصًّا نثريًّا لـ(أبي حيَّان التوحيدي)، على سبيل المثال، تُدرِك أنَّ الرَّجُل كان يَنْظِم نثرًا، كما يَنْظِم الشاعر شِعرًا. ذلك أنه لم يكن من نصٍّ أدبيٍّ عَرَبيٍّ، يستأهل هذا الوصف، يخلو من النَّظْم، وإلَّا لم يعُد نصًّا أدبيًّا، بل كلامًا استهلاكيًّا يوميًّا. وهذا ما انحلَّ زمامه في العصر الحديث، في النثر بدءًا، فبات بلا نَظْم، ثمَّ استفحل الاستخفاف بموروث الأساليب العَرَبيَّة، لدَى أجيالٍ أوطأَ من أنْ يحملوا عِبْءَ ذلك الرصيد من الموروث، حتى أراد من أراد- من غير العَرَب، ثقافةً أو انتماءً- أن يشملوا بتنازلاتهم النَّظْم في الشِّعر أيضًا؛ استسهالًا، أوَّلًا، وتبعيَّة، ثانيًا، لما في آداب أخرى، ظنًّا ساذجًا أنَّ نصوص تلك الآداب بلا نَظْمٍ البتَّة، يوائم لُغاتها وثقافاتها. فإذا الأدب العربي المعاصر يقع في ثلاث آفات: سلوك الطريق الأسهل، نهجًا طُفوليًّا، غير ناضج تربويًّا،  وثانيها، التقليد الأعمى للآخَر. وهو نزوعٌ غريزيٌّ لدَى الإنسان، إنْ لم يكافحه، طغَى عليه. وذلك ما لا يُعهَد في مخلوقات الله الأخرى، سِوَى في بعضها، كالقرود والببغاوات. فأنت لا تجد طائرًا يقلِّد في غنائه طائرًا آخَر، من غير جنسه، وإنْ استطاع ذلك. وثالثة الأثافي من تلك الآفات: توقُّف نمو الأدب العَرَبي عندما أُنجِز في العصر العباسيِّ مَشرقًا أو الأندلسي مَغربًا. لأنَّ العَرَبيَّ لم يعُد يعي ضرورة تطوير ذلك النصِّ الأدبيِّ العَرَبيِّ وتجديده من خلال مادَّته الخاصَّة، بل استسهل أن يقفز عليه، ليتحوَّل إلى ببغاء، مقلِّدًا هديل الآخَرين، أحسنَ التقليدَ أو أساء.

***

أ. د. عبد الله بن أحمد الفَيفي

.............................

(1)  النواجي، (1938)، كتاب حَلَبة الكُمَيت في الأدب والنوادر المتعلِّقة بالخمريَّات، (القاهرة: المكتبة العلامية)، 90.

(2) إذا كان هناك من يَعُدُّ كلَّ قديمٍ تقليديٍّ صوابًا وأصيلًا جميلًا، فهناك مغالطةٌ على العكس، تُطلِقه نَبْزًا بالتخلُّف والاجترار.

(3)  وإذا كان الشيء بالشيء يذكر فإنَّ من أغرب الغرائب في السنوات الأخيرة أن تجد بعض الصحف تنشر نصوصًا لمن كانوا يكتبون قصيدة التفعيلة منذ سنين طويلة، وقد جعلوا يدَّعون كتابة القصيدة التناظريَّة، فيكتبون هذرهم على عمودَين، كأنه قصيدة موزونة مقفَّاة، وبعض أسطرها بلا وزن. وإذا كان في هذا جهلٌ عجيبٌ من الكاتب بعَروض الشِّعر، فإنَّ فيه استخفافًا من ناشر مثل ذلك الهراء بالقارئ والشِّعر معًا. والأدهى أن يتواتر ذلك في مناسبات وطنيَّة؛ ليضاف إلى الاستخفاف بقواعد الشِّعر الاستخفاف بالوطن، وما يعنيه أصلًا من القِيَم اللُّغويَّة والأدبيَّة والتراثيَّة.

(4)  (1984)، دلائل الإعجاز، قرأه وعلَّق عليه: أبو فهر محمود محمَّد شاكر، (القاهرة: مكتبة الخانجي)، 55، 81.

بين السيميائيات ونظرية التلقي

2// الدِكّاكُ أَرائِكَ المَنامْ

والسَّماءُ تَقطُرُ ياقوتا

المقدمة: قصيدة "حَيُّ ابنِ سكران" ليست مجرد نص شعري يعبر عن الحزن أو الغربة، بل هي نسيج دلالي معقد، تتقاطع فيه الرموز التاريخية والدينية والأسطورية، وتتداخل فيه الأصوات (الذات الشاعرة، المخاطَب، الشخصيات التاريخية، القارئ)، ويُبنى على فجوات نصية متعمدة تُجبر القارئ على المشاركة في إنتاج المعنى. وهذا ما يجعل تحليلها وفق منهجي السيميائيات ونظرية التلقي ضرورة منهجية، لا اختيارًا تقنيًا فقط(1).

الفصل الأول

إن معالجة القصيدة، بطبيعتها، ستكون وفق:

1. المنهج السيميائي (العلامة، الرمز، الطبقات الدلالية، التناص).

2. نظرية التلقي (أفق التوقع، المسافة الجمالية، القارئ الضمني، الفجوات النصية).

ليس هذا خيارًا تقنيًا فحسب، بل ضرورة منهجية لفك شفراتها المتعددة.

أولًا: التحليل السيميائي - العلامة، الرمز، الطبقات الدلالية، التناص

1. العنوان: "حَيُّ ابنِ سكران" - العلامة والرمز

- علامة لسانية: اسم علم مركب، غير مألوف تاريخيًا هو اختراع شعري.

- دلالة أولى (ظاهرية): شخصية متخيلة، ربما رمز للشاعر أو للإنسان المهمش.

- دلالة ثانية (تناصية): تلاعب باسم "حَيُّ بن يقظان"، الشخصية الفلسفية الصوفية التي ظهرت في رسائل ابن طفيل وابن سينا رمز الإنسان الذي يصل إلى الحقيقة بالعقل والتجربة دون وحي.

- التلاعب هنا ذكي: "سُكران" مقابل "يقظان" تحويل من اليقظة الفلسفية إلى السُكر الوجودي، أو السُكر بالألم، أو حتى السُكر بالإحباط.

والعنوان يُشكّل أول عتبة دلالية. هو علامة لسانية مركبة، لكنه في جوهره رمز تناصي مُحوَّل من "حي بن يقظان" لابن طفيل والتي يُعتقد أن فكرتها جاءت من "الرجل العائم" لابن سينا - الشخصية الفلسفية التي ترمز إلى اليقظة العقلية. التحوير إلى "سُكران" يعكس انقلابًا وجوديًا، حيث تداخلت الشخصية مع رمز آخر مضمر هو شخصية "آسال" بوجودها المادي، العارف بالدين، الناسك العابد: من اليقظة إلى السُكر، من الوضوح إلى الغياب، من الحكمة إلى الألم.

يقول رولان بارت الناقد السيميولوجي الفرنسي في هذا السياق:

"العلامة لا تشير إلى مرجع خارجي، بل تُنتج دلالتها من خلال شبكة العلاقات داخل النص وخارجه"(2).

وهذا ما يحدث تمامًا في العنوان: "حي ابن سكران" لا يشير إلى شخص حقيقي، بل إلى حالة /حالة الإنسان المعاصر الذي يعي معاناته لكنه عاجز عن الخروج منها، فيعيش هذيانه وتوهانه وحيدًا، يقارع مصيره القدري.

2. الرموز الأساسية في النص

أ. الريح / العاصفة

"جنون الريح" تشخيص للطبيعة كعدو عاتٍ وغادر.

"تقتلع فسائل المُنى" تدمير الأمل في جذوره، حيث لا تبقي نسلًا يُرتقب منه بصيص نور.

الطبقة الدلالية: الزمن/المجتمع/القدر كقوة لا ترحم، تُجهض كل محاولة للنهوض.

وهذا يتوافق مع ما يذهب إليه أمبرتو إيكو السيميولوجي والروائي الإيطالي الذي يقول حول الرمز:

"الرمز ليس مجرد إشارة، بل هو حامل لطبقات دلالية متراكمة، تتطلب من القارئ أن يفككها عبر المعرفة الثقافية والاجتماعية"(3)

ب. الطريق / المفترق

- رمز للبحث، التيه، الاختيار، الغياب.

- "الدروب أكلتنا خطى" نحن لم نأكل الطريق، بل الطريق أكلنا / انعكاس العلاقة بين الإنسان والمصير.

- "جالس عند مفترق الطرق" موقف انتظاري وجودي، قريب من أساطير "هرقل عند المفترق" أو "أوديب".

الطبقة الدلالية: العجز عن الاختيار، أو غياب الخيارات ذاتها.

والجلوس عند المفترق موقف وجودي مألوف في التراث الأدبي والرمزي.

يقول بول ريكور:

"المكان في النص الأدبي ليس خلفية، بل هو فاعل دلالي يُنتج معنى التيه، الاختيار، أو العجز عن الاختيار"(4).

ج. الوقت

- ليس زمنًا خطيًا، بل كيان آكل، قاتل، سجين:

- "الوقت يأكلني"

- "سجين أنا في رئة المنفى"

- "اتسع الوقت صار مدى من ضجيج"

الرمز هنا مادي: الوقت ليس مجرد فكرة، بل جسد يلتهم، يضيق، يتوسع تجسيد للقلق الوجودي. وهو تجسيد للزمن كقوة آكلة تنتهب الأعمار دون رحمة ولا من يصدها.

يقول غاستون باشلار الفيلسوف الفينومينولوجي الفرنسي:

"الزمن في الشعر ليس تسلسلاً، بل هو كثافة، جرح، أو سجن يُعاش ولا يُحسب"(5).

د. الشخصيات التاريخية (التناص المباشر)

- بشار بن برد: شاعر معتزل، مكفوف، اتُهم بالزندقة رمز للمثقف المضطهد.

- الحلاج: "يُقاد إلى مقصلة... ليُقطع رأس الحقيقة" توظيف سياسي ديني عميق. الحقيقة / رأس يُقطع.

- علي بن أبي طالب: "ملأنا قلبه قيحًا" تحوير ديني مؤلم، اتهام جماعي بالتآمر على المقدس.

- حي بن يقظان / جزيرة الواق واق / آسال: تناص فلسفي وأسطوري إشارة إلى عوالم الخيال الفلسفي والروحاني التي هُجرت.

الطبقة الدلالية العليا: النص يُعيد كتابة التاريخ كمسلسل من القمع والخيانات، حيث يُقتل المفكر، يُخان الإمام، يُهمل الحكيم.

استدعاء شخصيات من قبيل "الحلاج" و"علي" و"بشار بن برد" ليس تزيينًا، بل إعادة تأويل للتاريخ وتدوير لوقائعه لمطابقة محصلاتها مع حوادث معاصرة. ولا يفوتنا إمكانية إضمار روح مينيبية في النص، باعتباره يورد إشارات أو أسماء من التاريخ يعيد القارئ من خلالها التفكير في قول مارك توين:

"التاريخ قد لا يعيد نفسه، ولكنه يتشابه كثيرًا".

ومع قناعتنا بأن عبارة "التاريخ يعيد نفسه" ليست صحيحة تمامًا في دورات دون مدة الدورة الكونية، ولا يشتمل قولنا للتكرار على ماورائيات على نقيض تفسير نيتشه فإن التكرارات تقع نتيجة ظروف يمكن التحقق منها وسلاسل سببية تعود إلى قوانين طبيعية. على العموم، نحن نستحضر هنا مقولة كارل ماركس:

"إن التاريخ يعيد نفسه مرتين: مرة على شكل مأساة، ومرة على شكل مهزلة".

ورغم الإيحاءات الرمزية بالطبقة العليا أو العميقة، والتناص الظاهر أو الغاطس، والعلامات بدلالاتها في نص الشاعر شلال عنوز، فإنها أقرب بالإشارة إلى هذا الفهم المستبطن.

تقول جوليا كريستيفا:

"التناص هو عملية امتصاص نص لآخر، وإعادة إنتاجه في سياق جديد، ليُنتج معنى مغايرًا غالبًا ما يكون ثوريًا أو نقديًا"(6).

التناص: آلية ترميزية تعيد تشكيل التاريخ عبر حوار النصوص

فالتناص هنا ليس زينة، بل آلية بناء المعنى. النص يُقيم حوارًا مع:

أ. التناص الديني والتاريخي

كربلاء، علي، الحلاج كلها رموز للظلم التاريخي ضد الحقيقة والعدل.

"قطع رأس الشمس في كربلاء" تشبيه علي بالشمس (كما في الشعر الشيعي) ثم قطع رأسها / تدمير النور.

ب. التناص الفلسفي والأدبي

"حي بن يقظان" مشروع التنوير العقلي العربي، الذي يتحول هنا إلى "حي ابن سكران" انهيار المشروع.

"جزيرة الواق واق" من أساطير "ألف ليلة" عالم الخيال الذي لم يعد موجودًا.

"آسال" ربما إشارة إلى "آسال" في قصة "حي بن يقظان" لابن طفيل، أو تحريف لـ "سال" أو "آسيا" لكنه يظل رمزًا للرفيق في الغربة الفلسفية.

ج. التناص الثقافي العام

"عنترياتنا الراقصة في الفراغ" إشارة إلى البطولات الوهمية، المبالغ فيها، التي لا تسمن ولا تغني.

"نرقص في متاهات السواد" تناص بصري مع ثقافة الموت والكآبة.

وظيفة التناص: خلق شبكة دلالية تربط الحاضر بالماضي، وتقول: المعاناة اليوم ليست جديدة، بل هي استمرار لسلسلة من الخيانات والقمع.

ثانيًا: نظرية التلقي- القارئ، الفجوات، المسافة الجمالية

1. أفق التوقع

القارئ العربي، حين يقرأ عنوان "حي ابن سكران"، يتوقع:

١- نصًا فلسفيًا (بسبب "حي بن يقظان").

٢ - نصًا صوفيًا أو وجوديًا.

٣ - ربما نصًا تاريخيًا.

- يتوقع السكران هو والد حي ولا يتنبه لإثبات الألف في ابن وهو موضوعة ذات قيمة دلالية لابد للقارئ من تبينها .

لكن ما يجده:

- انقلاب على التوقع: بدل (اليقظة) سُكر. بدل (الحكمة) وجع بدل الخلاص (انتظار بلا نهاية).

- خيبة متعمدة: "الكوّة مغلقة... والسعاة لم يأتوا بعد" لا رسالة، لا خلاص، لا إجابة.

هذا الانقلاب يُحدث صدمة تلقي، تدفع القارئ لإعادة القراءة، وإعادة التفكير في العلاقة بين الأمل والواقع.

حين يقرأ القارئ النص، يتوقع نصًا فلسفيًا - لكنه يواجه نصًا موجوعًا، مكسورًا، مكتظًا بدلالات موحية تشير إلى مأساة الإنسان الفرد والبشرية في واقع بعينه أو في مصير جمعي عام.

يقول هانس روبرت ياوس:

"أفق التوقع هو الإطار المعرفي والجمالي الذي يحمله القارئ إلى النص؛ وانقلاب هذا الأفق هو ما يُحدث المتعة الجمالية أو الصدمة الفكرية"(7).

2. المسافة الجمالية

- عالم القارئ (الذي يعيش في عالم مادي، ربما متسارع، مشغول).

- عالم النص (عالم بطيء، متأمل، موجوع، ميتافيزيقي).

هذه المسافة:

- مفيدة: لأنها تُخرج القارئ من روتينه، وتفرض عليه التأمل.

- خطرة: لأنها قد تُشعره بالغربة عن النص، خاصة إذا لم يكن مهيأً ثقافيًا للتعرف على الرموز (كالحلاج، بشار، آسال...).

جازف شلال عنوز: فقد وضع نفسه حيال اختيار صعب فإما أن يربح قارئًا مشاركًا، أو يخسر قارئًا عابرًا. فالنص يخلق مسافة بين عالم القارئ المادي وعالمه الميتافيزيقي في مفارقة تكتم قسوة الحقيقة الصادمة.

يقول فولفغانغ إيزر:

"النص الأدبي لا يُفهم إلا عندما يُدرك القارئ أنه مدعو للعبور من عالمه إلى عالم النص وهذه المسافة هي ما يصنع الأدب"(8).

3. سوء فهم "القارئ الضمني"

أ- بعض النقاد يخلطون بين "القارئ الضمني" و"القارئ الحقيقي".

ب- في هذه القصيدة، القارئ الضمني هو من يعرف الفلسفة الإسلامية، الأدب العباسي، التاريخ الشيعي... بينما القارئ الحقيقي قد لا يعرف شيئًا وهنا تنشأ أزمة تواصل.

ج- النقد العربي نادرًا ما يعالج هذه الأزمة وكأنه يفترض أن كل قارئ "نموذج".

4. إهمال "البعد الأخلاقي" في نظرية التلقي

- نظرية التلقي الألمانية (ياوس، إيزر) تركّز على الجمالي والبنائي، لكن النص العربي خاصة السياسي أو الوجودي لا يمكن فصله عن البعد الأخلاقي.

- في "حي ابن سكران"، هناك اتهام أخلاقي صريح: "نحن نقتل أنفسنا لئلا نكون" هذا لا يمكن تمريره كجمالية فقط.

5. القارئ الضمني

لنص موجه لقارئ مثقف واعٍ: يعرف التراث، الفلسفة، التاريخ الإسلامي، الأدب العربي.

أ- قارئ متأمل: مستعد للجلوس مع الألم، وليس الهروب منه.

ب- قارئ مشارك: لأن النص مليء بالفجوات يجب عليه أن يملأها.

مثال:

"هل رأيتَ حيَّ بن يقظان وأنت تركض عارياً بلا وطن؟"

لا إجابة في النص. الجواب على عاتق القارئ: هل نحن اليوم عراة فعلاً؟ هل فقدنا الوطن الداخلي قبل الخارجي؟

وجهة النص خيار صعب كما نعتقد - اصطدم به الشاعر: فهو لمن يعاني من تقليب النظر في وقائع الحياة ومتغيراتها القدرية، من امتلاكه بخلفية معلوماتية ثرية ومعرفة بالتاريخ وشخوصه.

يقول إيزر أيضًا:

"القارئ الضمني ليس كائنًا حقيقيًا، بل هو بنية نصية مجموعة من التوقعات والمهارات التي يفترضها النص من متلقيه"(9).

6. الفجوات النصية

الفجوات في النص ليست نقصًا، بل استراتيجية.

أمثلة:

أ- من هو "حي ابن سكران"؟ لا يُعرف. الفجوة تدفع القارئ لتعريفه: هل هو الشاعر؟ الإنسان العربي؟ الضمير الجمعي؟

ب-هل وصلت الرسالة؟ لا. "الكوّة مغلقة". الفجوة تخلق التوتر.

ج-من هو الرفيق الذي يغادر؟ لا اسم، لا تفاصيل. فقط: "حتى يرحل بائعو الوطن". الفجوة تفتح المجال لكل تأويل سياسي أو أخلاقي.

د-هل سيعود حي ابن سكران؟ لا إجابة. فقط: "ما زلت أنتظر". الفجوة تجعل الأمل معلقًا وهذا جوهر التجربة الوجودية.

وظيفة الفجوة: تنشيط القارئ، تحويله من متلقٍّ إلى مشارك، ومن مراقب إلى مُنتج للمعنى.

"هل رأيتَ حيَّ بن يقظان؟" سؤال بلا جواب.

يقول إيزر:

"الفجوة النصية ليست نقصًا، بل دعوة للقارئ كي يملأها وهي الآلية التي يصبح بها القارئ شريكًا في إنتاج المعنى"(10).

ثالثًا: الإشكالات التطبيقية في الدرس النقدي العربي

تطبيق المناهج الغربية (كالسيميائيات ونظرية التلقي) على النصوص العربية خاصة الشعرية يواجه عدة إشكالات:

1. الخلط بين التناص والإشارة

كثير من النقاد العرب يتعاملون مع أي إشارة تاريخية أو أدبية على أنها "تناص"، بينما التناص الحقيقي يتطلب حوارًا واعيًا بين النصوص، وليس مجرد استحضار.

في هذه القصيدة، التناص واعٍ ومُخطط: تحويل "حي بن يقظان" إلى "حي ابن سكران" هذا تناص استراتيجي، وليس مجرد ذكر مع الأخذ بالدلالة التي احدثتها الأف التي اثبتت والتي تنفي الأبوة البايولوحية لسكران وليكون هذا الحي كائن هو ذاته السكران مع التأكيد

تُفرّق جوليا كريستيفا:

"ليس كل استشهاد تناصًا. التناص الحقيقي هو عندما يدخل نص في حوار مع آخر، فيُعيد تشكيله أو يُعارضه أو يُعيد تأويله"(11).

2. إغفال البعد الثقافي في تحليل العلامة

السيميائيات الغربية (خاصة عند بارت وغريماس) تفترض قارئًا غربيًا، لكن العلامات في هذا النص (كربلاء، الحلاج، بشار) لها حمولة ثقافية ودينية لا يمكن تفكيكها بمعزل عن السياق العربي الإسلامي.

كثير من الدراسات العربية تطبق "السيميائيات" بشكل ميكانيكي، دون التوقف عند خصوصية الرمز العربي.

يحذر إيكو:

"العلامة لا تحمل معنى مطلقًا بل تحمل ما يمنحه إياها السياق الثقافي للمتلقي"(12).

3. التعامل مع الفجوة كعيب وليس كاستراتيجية

كثير من النقاد العرب خاصة التقليديين يرون أن "عدم اكتمال المعنى" عيب في النص.

لكن في هذا النص، الفجوة جوهرية: فالانتظار، الغياب، اللاجواب هي موضوع القصيدة نفسها.

يقول إيزر:

"الفجوة هي جوهر النص الأدبي. لأنها تُجبر القارئ على التفكير، لا على الاستهلاك"(13).

الخاتمة:

القصيدة كمشروع وجودي (بين السيمياء والتلقي)

"حي ابن سكران" ليست قصيدة حزن، بل مشروع فكري وجودي:

- سيميائيًا: تبني عالمها عبر شبكة من العلامات (الريح، الطريق، الوقت، الشخصيات) التي تتحول إلى رموز للاستلاب، القمع، الانتظار.

- تناصيًا: تعيد كتابة التاريخ كمسرح للخيانة، وتُسقطه على الحاضر.

- تلقيًا: تُجهد القارئ، تُربكه، تُفاجئه، ثم تدعوه للمشاركة في سد الفجوات وهو ما يجعله "شريكًا في الألم".

والشاعر - بفطنته - لا يعطي حلولاً، بل يطرح أسئلة:

أ-"هل رأيته في جزر العجائب؟"

ب-"هل عثرت عليه يشرب حليب الأمان؟"

ج-"هل رأيتَهما يصارعان قلق الاغتراب؟"

هذه الأسئلة لا تُجاب، بل تُعاش. وهذا جوهر الشعر الحقيقي.

ملاحظة أخيرة: لماذا "حي ابن سكران" وليس غيره؟

لأن "السكر" هنا ليس ضد "اليقظة" فقط، بل ضد "الموت" أيضًا للأحياء.

هو "حيّ" موجود، واعٍ، يتألم لكنه "سُكران" - ذاهل عن ذاته، غير قادر على الخروج من دائرة الألم.

إنه الإنسان العربي المعاصر: واعٍ بكارثته، عاجز عن تغييرها، ينتظر ربما دون جدوى - رسالة لن تأتي، وقطارًا لن يعود.

"حي ابن سكران" مشروع فكري وجودي يُعيد صياغة التاريخ كمسلسل من الخيانات، ويُسقطه على الحاضر. وهو لا يُجيب، بل يُسائل وهذا جوهر الشعر الحقيقي.

"وما زلتُ أُصلي عند مسلّة الوقت... علّ الغيث يهطل ويرحل أرق الجفاف"

حتى الصلاة هنا طلب رحيل للألم، لا خلاص منه.

***

د. سعد محمد مهدي غلام

................................

الهوامش / مراجع الفصل الأول

(1) تيري إيغلتون، مقدمة في النظرية الأدبية، ترجمة: هاشم صالح، دار توبقال للنشر، الطبعة الثانية، 1996، ص 107.

(2) رولان بارت، نظام العلامات، ترجمة: محمد الجرّاح، منشورات عويدات، بيروت، 1981، ص 45.

(3) أمبرتو إيكو، نظرية التأويل، ترجمة: محمد برادة، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، الطبعة الثالثة، 1998، ص 89.

(4) بول ريكور، الزمن والسرد - الجزء الأول، ترجمة: طه عبد الرحمن، تحرير: المركز الثقافي العربي، 1995، ص 112.

(5) غاستون باشلار، جدلية الزمن، ترجمة: جورج طعمة، دار التنوير، بيروت، 1990، ص 73.

(6) جوليا كريستيفا، الثورة الشعرية، ترجمة: محمد برادة، دار التنوير، بيروت، 1985، ص 65.

(7) هانس روبرت ياوس،

جماليات التلقي، ترجمة: عبد الله الغذامي، عالم المعرفة، الكويت، العدد 145، 1990، ص 33.

(8) فولفغانغ إيزر، فعل القراءة - نظرية جمالية في التلقي، ترجمة: عبد الله الغذامي، عالم المعرفة، الكويت، العدد 146، 1990، ص 55.

(9) فولفغانغ إيزر، النص والقارئ، ترجمة: محمد برادة، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، 1993، ص 41.

(10) فولفغانغ إيزر، فعل القراءة - نظرية جمالية في التلقي، مرجع سابق، ص 67.

(11) جوليا كريستيفا، الثورة الشعرية، مرجع سابق، ص 72.

(12) أمبرتو إيكو، نظرية التأويل، مرجع سابق، ص 103.

(13) فولفغانغ إيزر، فعل القراءة - نظرية جمالية في التلقي، مرجع سابق، ص 89.

نافذة على الذّاكرة والهويّة

لقد شدّني كتاب "في بعض تجلّيات السّيرة الفلسطينيّة- قراءات" للأديب محمود شقير، فأفضت في دراسة نقديّة مطوّلة عنه، ضمّنتها في كتابي "نفحات من النّقد"، الّذي صدر حديثا عن نادي حيفا الثّقافيّ ودار الشّامل للنّشر والتّوزيع، وخلال مشاركتي في أمسية إشهار الكتاب في نادي حيفا الثّقافيّ بتاريخ (18.09.2025)، قمت بعرض مقتطفات منها، لكنّني هنا انشرها كاملة؛ لتكون متاحة بين أيدي القرّاء والمهتمّين.

السّيرة، نافذة على الرّوح والتّاريخ:

يجمِع النّقّاد على أنّ كتابة السّيرة، سواء كانت ذاتيّة أم غيريّة، تمثّل ركنا أساسيّا في صرح الأدب، فهي لا تقتصر على سرد الأحداث، بل تتجاوز ذلك؛ لتصبح شاهدا حيّا على التّاريخ والذّاكرة الجمعيّة، من خلالها تتجلّى التّحوّلات الاجتماعيّة والثّقافيّة، وتُسمَعُ أصوات قد لا يجد لها التّاريخ الرّسميّ مكانا، كاشفة عن دوافعها وصراعاتها، وتاركة القارئ يتأمّل في قضايا الوجود والهويّة والحبّ والفقد، فهي مرآة تعكس تجربة الإنسان بكلّ تعقيداتها، وتُسهِم في فهم الذّات والآخر، وتتيح فرصة للتعلّم من تجارب السّابقين وأخطائهم، وتقدّم نماذج للصّمود والمثابرة، معززةً بذلك التّفكير النّقديّ في مسارات الحياة.

كما تبرز السّيرة تداخل الأدب بالواقع، فعلى الرّغم ممّا يكتنفها من صياغات فنّيّة، إلّا أنّها تتغلغل في أحداث حقيقيّة، مُظهِرةً قدرة اللّغة على تشكيل الواقع وإعادة تفسيره، وهي وسيلة فعّالة للتّعبير عن الهويّة والخصوصيّة، ومقاومة أي ّمحاولة للطّمس أو التّهميش، لتؤكّد بذلك على ثراء التّجربة الإنسانيّة وتنوّعها.

يُعَدّ فيليب لوجون من أهمّ المنظّرين في مجال السّيرة الذّاتيّة، فأطروحته الأساسيّة تدور حول الميثاق الأوتوبيوغرافي، حيث يرى أنّ هناك عقدا ضمنيّا بين الكاتب والقارئ في السّيرة الذّاتيّة، يلتزم فيه الكاتب بتقديم سرد صادق وموثوق عن حياته، ويتوقّع القارئ هذا الصّدق.

لقد أيقن العديد من الدّارسين أمثال جيمس أولني، وجورج غوسدورف، وسيرج دوبروفسكي، وغيرهم، أنّ السّيرة هي إعادة تشكيل للأنا، تستند إلى معطيات الذّاكرة، وتتجلّى في كيفيّة تصوير الكاتب لذاته بأبعادها المتعدّدة.

في كتاب الأديب محمود شقير، "في بعض تجليّات السّيرة الفلسطينيّة- قراءات"، نجد هذا الفهم العميق يتجلّى في تحليلاته الواعية، حيث يُسلّط الضّوء على فرادة السّيرة الفلسطينيّة، وتشابكها مع الذّاكرة الجمعيّة وتاريخ النّضال؛ ليعيد صياغة الذّات في سياق يجمع بين الشّخصيّ والوطنيّ، مقدّما بذلك نموذجا فريدا، يزاوج بين الحكي الفرديّ ومآسي شعب بأكمله.

صدر هذا الكتاب عن نادي حيفا الثّقافيّ ودار الشّامل للنّشر والتّوزيع، وهو يقع في ثلاثمئة وتسع وأربعين صفحة من القطع الكبير، وهو رحلة آسرة وغوص عميق في لجج السّيرة الفلسطينيّة، تتجاوز حدود الوثيقة الصّمّاء؛ لتغدو منبرا شامخا للصّمود وبوتقة تتّقد بالإبداع، وشاهدا ساطعا على العلاقة الّتي لا تنفصم بين الإنسان والأرض.

"في بعض تجلّيات السّيرة الفلسطينيّة".. نافذة على الذّاكرة والوجدان:

يهدف هذا الكتاب التّوثيقيّ إلى تعزيز حضور السّيرة في حياة النّاس، فهو يبرز الأدب الفلسطينيّ كشاهدٍ حيّ على تحوّلات الزّمن، يروي قيَم التّفاؤل ويعكس أبعاد المأساة، ويؤكّد أنّ مدينة القدس، هي رمز متجذّر في الوجدان الفلسطينيّ، تظلّ نورا يُبصَرُ به الدّروب.

يقدّم تحليلا لباقةٍ من السِّيَر الذّاتيّة والغيّريّة واليوميّات والمراسلات لشخصيّات بارزة، متوغّلا ببراعة في هذه النّصوص، كاشفا كيف تتجلّى فيها مختلف منعطفات التّاريخ الفلسطينيّ المعاصر، بدءا من فجائع النّكبة والنّكسة، وصولا إلى أدقّ تفاصيل الحياة اليوميّة.

يتوقّف الكاتب عند الأعمال الّتي تناولت القدس، يحكي بعمقٍ وشغفٍ عن علاقته برموز ثقافيّة ووطنيّة وسياسيّة، ويتساءل في افتتاحيته بأسلوب بلاغيّ عميق عن مدى حاجتنا إلى كتب السّيرة، سواء كانت ذاتيّة أو غيّريّة، وإلى إبراز تجلّيات المكان الفلسطينيّ وسماته، مجيبا بقناعة أنّ هذه الحاجة ملحّة للغاية، لا سيما في ظلّ محاولات طمس تاريخنا، يرى أنّ السِّيَر الّتي يكتبها الفلسطينيون على اختلاف توجّهاتهم الفكريّة والسّياسيّة، تكتسب أهمّيّة بالغة، فهي تجسّد العلاقة الوثيقة بين الإنسان وأرضه، وتعزّز الانتماء الوطنيّ من خلال تفاصيل الحياة اليوميّة الّتي يصعب تجاهلها أو إنكارها.

يتناول الكتاب عدّة محاور رئيسية، منها: أهمّيّة السّيرة الذّاتيّة والغيريّة الفلسطينيّة، وسيرة الكاتب الذّاتيّة وعلاقته بالمكان.

يستعرض شقير تجربته الشّخصيّة مع كتابة السّيرة، موضّحا كيف أسهمت تجربته في المنفى وعودته إلى القدس في تشكيل رؤيته لأهمّيّة توثيق السّيرة، مشيرا إلى أنّ بعض كتب السّيرة، تناولت الرّسائل بشكل مباشر أو غير مباشر، مساهمةً بذلك في تحفيز الكتّاب والمثقّفين على تدوين تجاربهم. وعلى الرّغم من هذا الجهد، يقرّ الكاتب بتواضع، أنّه لم يُحِط بكلّ ما كُتِبَ في فنّ السّيرة الفلسطينيّة، داعيا إلى إثراء هذا المجال الحيويّ بمزيد من الكتابات الأصيلة، مشيرا إلى وجود أعمال متميّزة أخرى لم يتناولها، سواء كانت سِيرا ذاتيّة أو غيريّة لأدباء ومفكّرين، أو كتبا عن المكان الفلسطينيّ، أو مذكّرات.

هذا الإقرار يؤكّد أنّ الحاجة لا تزال قائمة إلى المزيد من الكتابة عن السّيرة بشتّى تجليّاتها، وذلك لتعزيز الوعي بالهويّة والحفاظ على الذّاكرة الجماعيّة.

رحلة من المكان إلى الذّاكرة:

يستعرض شقير رحلته الأدبيّة والشّخصيّة الّتي شكّلت أساس كتاباته السِيَريّة. يبدأ سرده بالعودة إلى عام (1995م) حين اقترح عليه الشّاعر محمود درويش، أثناء إعادة إصدار مجلّة "الكرمل" في رام الله، أن يكتب نصّا عن مدينة القدس من منطلق كونه مواطنا مقدسيّا.

تطوّر هذا النّصّ ليصبح كتاب "ظلّ آخر للمدينة"، الّذي يروي سيرة القدس من منظور شقير الخاصّ، وعلاقته بالمدينة منذ طفولته، فيبرز ارتباطه الوثيق بالقدس، الّذي لم ينقطع عنها إلّا عندما تمّ إبعاده عام (1975م) إلى لبنان، حيث قضى ثمانية عشر عاما في المنفى قبل أن يعود إليها عام (1993م).

هذه التّجربة الحياتيّة شكّلت دافعا قويّا له ليؤمن بضرورة كتابة السِّيَر الذّاتيّة والغيريّة، وتسجيل العلاقة المتجذّرة بين الفلسطينيين ومكانهم. لم تقتصر تجربته في السّيرة على القدس وحدها، بل تجلّت علاقته بالمكان والزّمان في عدّة مؤلّفات، ففي كتاب "مدن فاتنة وهواء طائش"، تناول علاقته بالقدس ورام الله وثلاث عشرة مدينة أخرى حول العالم.

أمّا في "مرايا الغياب.. يوميّات الحزن والسّياسة"، فقد كتب فيه عن علاقته بشقيقته الرّاحلة أمينة، وبقادة سياسيين كبار مثل: سليمان النّجاب وبشير البرغوثي، والأديب الأردنيّ مؤنس الرزّاز.

كما أصدر "قالت لنا القدس" عام (2010م)، و"مديح لمرايا البلاد" عام (2012م)، وكلاهما يعكسان جوانب من حياته الشّخصيّة وعلاقته بالقدس، ويكشف عن ولعه بقراءة كتب السّيرة، سواء لكتّاب فلسطينيين أو عرب أو أجانب، مثل: معين بسيسو، رضوى عاشور، بابلو نيرودا، وذلك لما تحمله من صدق وتفاصيل شخصيّة، لكنّه يعرب عن عدم استساغته لأسلوب بعض الكتّاب الّذين يدخلون عنصر الخيال في سيَرِهم الذّاتيّة، مثل ربعي المدهون، مؤكّدا أنّ السّيرة الّتي يتخلّلها الخيال تتحوّل إلى سيرة روائيَّة أو رواية سيريَّة، كما هي الحال في رواية إبراهيم نصر الله "طفولتي حتّى الآن".

في هذا السّياق، يوضّح الكاتب أنّ رباعيّته الرّوائيّة الّتي حملت أسماء مثل: "فرس العائلة" و"مديح لنساء العائلة"، ليست سيرة ذاتيّة لعائلته بالمعنى الحرفيّ، بل هي أعمال روائيّة استفادت من بعض تجارب عائلته، لكنّها احتوت شخصيّات وتجارب متخيّلة.

السّيرة، وتعزيز حضورها:

لم يكتفِ شقير بكتابة سيرته الخاصّة، بل أسهم أيضا في إعداد كتب سيريّة مخصّصة للفتيات والفتيان عن مدن فلسطينيّة، كما أعدّ كتبا عن شخصيّات أدبيّة وفنّيّة بارزة، مثل الشّاعرة فدوى طوقان والأديب غسّان كنفاني، والفنّان إسماعيل شمّوط وزوجته الفنّانة تمام الأكحل، وتعمّق في توثيق حياة شخصيّات سياسيّة من خلال كتب اعتمدت على شهادات معارفهم، مثل: سليمان النّجاب، فائق ورّاد، غسّان حرب، فؤاد نصّار، ونعيم الأشهب. هذا الاهتمام، يؤّكد حرصه على تعزيز حضور فنّ السّيرة في الثّقافة العربيّة.

مع تقدّمه في العمر، رأى أنّ الشّيخوخة تتيح له كتابة سيرته الذّاتيّة بشكل مباشر وموسّع دون حرج، فبدأ بكتابة سيرة أدبيّة بعنوان "أنا والكتابة.. من ألف باء اللّغة إلى بحر الكلمات"، سرد فيها علاقته بالكتابة، وَتَوَّج هذه الرّحلة بكتابيّ سيرته الذّاتيّة: "تلك الأمكنة" و"تلك الأزمنة".

في "تلك الأمكنة" يصف تفاصيل حياته، مستخدما مقولة "أكتبُ لعلّ العالم يصبح أجمل، ولعلّ الشّر يكون أقل" (ص13)؛ كمنهج لحياته وكتاباته، مع حرصه الشّديد على الاستفادة من تقنيّات السّرد الرّوائيّ وتوخّي الصّدق في الكتابة وعدم المبالغة في مديح الذّات. أمّا في "تلك الأزمنة"، فقد استكمل ما لم يظهر من سيرته، متطلّعا إلى بلوغه الثّمانين، رافضا اليأس الّذي قد يصاحب هذا العمر، ومنحازا إلى الفرح والحياة.

يَختتمُ هذا القسم بالإشارة إلى كتاب سيرته الذّاتية القادم "هامش أخير"، الّذي يتناول علاقته النّاضجة بالكتابة، وتفاصيل حياته اليوميّة في زمن الشّيخوخة.

هذا الجزء من الكتاب يقدّم نافذة فريدة على الالتزام العميق بفنّ السّيرة كوسيلة لتوثيق تجربته الشّخصيّة، وأداة قويّة للحفاظ على الذّاكرة الجمعيّة وتعزيز الانتماء.

محمود درويش.. الغياب وإرث الإبداع:

يتناول الكاتب غياب الشّاعر محمود درويش، مسلّطا الضّوء على الأسباب الّتي أدّت إلى وفاته والأثر العميق لرحيله، عاكسا العلاقة الشّخصيّة العميقة الّتي كانت تربطه به، مبرزا مكانة درويش الأيقونيّة والأثر الشّامل لغيابه الّذي ترك فراغا هائلا لم يقتصر عليه شخصيّا، بل امتدّ ليشمل كلّ ما كان يحيط به من تفاصيل الحياة اليوميّة، وأنّ العزاء الوحيد في هذا الرّحيل يكمن في إرثه الإبداعيّ الخالد في الوجدان الفلسطينيّ والعربّي. يقول (ص18): " غاب محمود في لحظة قاسية مؤلمة، وليس ثمَّة من عزاء إلّا فيما تركه من إرث إبداعيّ مدهش خلَّاق". يكتب عن أوّل لقاء له بدرويش عام (1975م) في بيروت، لافتا إلى تزامن تاريخ ميلادهما (ص20): "ولدته أمّه في البروة/ عكّا بتاريخ 13 / 3 / 1941، وولدتني أمّي في القدس بتاريخ 15 / 3 / 1941، وعملنا معا في الاتّحاد العام للكتّاب والصّحافيّين الفلسطينيّين، حيث كان هو رئيسا للاتّحاد وكنت أنا عضوا في الأمانة العامّة، وعملنا معا في لجنة جوائز فلسطين للآداب والفنون والعلوم الإنسانيّة، حيث كان هو رئيسا للّجنة وكنت أنا أمينا للسّرِّ فيها".

يشير إلى فرصة لقائهما الضّائعة في حيفا عام (1968م)، مفسّرا كيف أنّ أعمال درويش وسميح القاسم وتوفيق زيّاد وغيرهم من شعراء الدّاخل، شكّلت صدمة إيجابيّة للوعي العربيّ، بِشِعرِها المتمرّد الّذي يجسّد المقاومة والتّشبّث بالأرض والهويّة، ويوضّح كيف أنّ درويش بعد لقائهما في بيروت، كان قد قطع شوطا متقدّما في مسيرته الشّعريّة، الّتي صقلها وطوّرها لتصل إلى الذّروة، ما جعله من أبرز شعراء العصر، متمكّنا من التّعبير عن القضيّة برؤية تتجاوز المباشرة والتّنميط، متمرّدا على المفاهيم المتزمّتة الّتي سعت لحصره في إطار معيّن، فظلّ وفيّا لتجربته الشّعريّة، ومخلصا لقضيّته الفلسطينيّة بأبعادها المأساويّة والإنسانيّة.

شقير والقدس.. وشائج المكان والعودة:

يتناول هذا القسم العلاقة الوجدانيّة العميقة الّتي تربطه بمسقط رأسه القدس، مستعرضا رحلته بين المدن الفلسطينيّة والعالميّة، مبرزا أثر المكان في تشكيل تجربته الحياتيّة والأدبيّة، مقدّما صورة حيّة لرحلته الشّخصيّة والمهنيّة، وكيف تداخلت هذه الرّحلة مع عشقه للمدن الفلسطينيّة، خاصّة القدس التّي تمثّل جذوره وهويّته. يُفرِد مساحة خاصّة لمدينة رام الله الّتي يصف مكانتها في قلبه، ويتحدّث عن عمَّان، بيروت، تونس، القاهرة، دمشق، الدّار البيضاء، براغ، فيينّا، لندن، باريس، نيويورك، وأيوا الأمريكيّة الّتي شارك فيها عام (1998م) في برنامج الكتابة الدّوليّ، مع ثمانية عشر كاتبا وكاتبة من العالم، وكانت الكوريّة "هان كانغ" الّتي فازت بجائزة نوبل للآداب لعام (2024م) مشاركة معهم في ذلك البرنامج (ص25). وبعد عودته إلى القدس، بعد غياب قسريّ دام ثماني عشرة سنة، عمل محرّرا، ثمّ رئيس تحرير لصحيفة "الطَّليعة" المقدسيّة الأسبوعيّة، وانضمّ إلى وزارة الثّقافة لمدة عشر سنوات، متنقّلا يوميّا بين القدس ومقرّ الوزارة في رام الله. كانت تلك السّنوات حافلة بالأنشطة الثّقافيّة داخل البلاد وخارجها، مع مواظبته على كتابة القصص.

يقول: إنّ رام الله وبيت لحم، بعد القدس، هما مدينتان تتميّزان بالتّعايش المسيحيّ الإسلاميّ والانفتاح على الحياة العصريّة، مع وجود النّوادي والمقاهي المشتركة، ويعرب عن سعادته بزيارة مدن فلسطين وقراها، تلك الّتي ألهمته قصصه الأولى مثل "خبز الآخرين"،  ثمّ يصف روتينه اليوميّ المفعم بالكتابة والقراءة المتنوّعة ومشاهدة الأفلام العالميّة، يعيش بتفاؤل وإقبال على الحياة، معلنا عن قناعته بالبقاء في الوطن وعدم السّفر، بعد أن زار أكثر من أربعين بلدا. أمّا القدس، فهي بالنّسبة له المدينة الأولى الّتي "أبهجته وعذّبته"، هي معلمته في التعدّديّة والتّسامح ومنها تَشكّل وعيه، وبعد الإبعاد المرير عاد إليها ليثبت جذوره فيها حتّى النّهاية. يقول (ص31): "لم تبهجني مدينة مثل القدس، ولم تعذِّبني مدينة مثلها".

يروي كيف كان يرتاد المكتبات في القدس ويترجم بعض القصص القصيرة، ويلقي الضّوء على حضور القضيّة في الرّواية العربيّة، مستشهدا بأعمال لروائيّين عرب، على رأسهم اللّبنانيّ الياس خوري، الّذي عكست رواياته "باب الشّمس" وثلاثيته "أولاد الغيتو" تفاصيل القضيّة ببراعة، ويشيد بالرّوائيّ الجزائريّ واسيني الأعرج وروايته "سوناتا لأشباح القدس"، والعراقيّ علي بدر وروايته "مصابيح أورشليم" الّتي اعتمدت على سيرة إدوارد سعيد لتفكيك رواية الآخر، ويضيف إليهم الأردنيّ إلياس فركوح في "غريق المرايا"، والعراقيّ زهير الجزائريّ في "المغارة والسّهل" الّتي تناولت المقاومة بعد نكسة (1967م)، ثمّ يعتذر عن أيّ تقصير في استعراض كلّ الأعمال الرّوائيّة، فهناك المزيد من الرّوايات المخلصة للدّفاع عن قضيّتنا وشعبنا.

تأثير "هيمنغواي" على محمود شقير.. أسلوب حياة:

يعبّر شقير عن إعجابه العميق بإرنست هيمنجواي منذ قراءاته الأولى في الثّانية والعشرين من عمره، فقد أسره أسلوبه السّهل الممتنع، وطريقته الماكرة في التّخفّي خلف النّص. هذا التّأثّر تزامن مع فترة ازدهار ثقافيّ في القدس خلال السّتينيات، حيث انخرط في مجلّة "الأفق الجديد" الّتي عرّفته بالأدب العالميّ المترجم.

أيضا، من خلال مجلّة الآداب اللّبنانيّة، تعرّف على الكثير من الكتب، يقول (ص35): "تعرَّفت جرَّاء ذلك إلى كتب هيمنجواي، جون شتاينبك، ألبير كامو، جان بول سارتر، أرسكين كالدويل، كولن ويلسون وآخرين". وتحوّل إعجابه بكتب هيمنغواي إلى شغف بالغ، ما دفعه لترجمة قصصه.

لم يتوقّف التّأثّر عند الأدب، بل امتدّ ليشمل حياته اليوميّة، فصار يرتاد المقاهي مع رفاقه، محاكاةً لهيمنغواي، حاملين الكتب دائما دلالة على التزامهم الثّقافيّ.

يذكر أنّ الحركة الثّقافيّة في القدس، تأثّرت بشدّة بعد النّكسة عام (1967م)، ممّا أدّى إلى الرّكود الثّقافيّ، فلم يتمكن من معاودة التّواصل مع كتب هيمنغواي إلّا بعد إبعاده من الوطن عام (1975م).

الكتابة للقدس والحياة:

تحت عنوان "نكتب للقدس وللحياة" (ص41)، يذكر أنّه رغم انشغالاته، لبّى دعوة لزيارة مركز يبوس الثّقافيّ بالقدس، حيث التقى مجموعة من الشّباب الموهوبين في دورة الكتابة الإبداعيّة، وقد أدرك الجهد المبذول في جمعهم لتنمية مواهبهم، والرّغبة العارمة لدى هؤلاء الشّباب في اكتشاف أسرار الكتابة وصقلها بالممارسة والقراءة الجادّة. استمع إلى نصوصهم، وتيقّن أنّهم يمتلكون مواهب واعدة، يمكنها أن تتطوّر لتُقدِّم للقدس والأدب كُتّابا قادرين على حمل رسالة الوطن والحقيقة والجمال. ويكتب عن يوميّات خليل السّكاكيني، واصفا إيّاها بالصّورة الحيويّة للقدس في النّصف الأوّل من القرن العشرين، أظهرت دوره كمربٍّ وأديب ومفكّر، حيث ساهم في تحديث التّعليم ونشر الوعي، وكان بيته مركزا ثقافيّا وملتقى للأدباء.

القدس في ذاكرة الأسرى:

في هذا القسم، يسلّط الضّوء على حضور القدس كرمز محوريّ في أدب السِّيَر الذّاتيّة واليوميّات الّتي كتبها الأسرى والأسيرات، مبرزا دور هذه الكتابات في توثيق تجربتهم ومعاناة المدينة، بحيث تتحوّل إلى فعل إبداعيّ، يؤكّد على التّمسّك بالحياة والأمل.

كما يصور في سيرته لحظات اعتقاله الأولى، وكيف تحوّل المكان (المسكوبيّة) من واحة تاريخيّة إلى بناية متجّهمة. يصف السّاعات الأولى من اعتقاله عام (1969م) واقتياده ليلا من بيته، فيكتب (ص69): "القدس تنام الآن في سكون الفجر، وستصحو بعد قليل من نومها، فتعرف أنّني لم أعد قادرا على التّجوال في شوارعها وأزقّتها، فتضيف إلى أحزانها المتراكمة حزنا جديدا. أسير صامتا، متهيّبا ممّا تبيّته لي الأيّام القادمة، ويسير الضّابط صامتا".

أيّام زمان.. مقدسيّون يروون الحكاية:

في هذا الفصل، يتحدّث شقير عن حوارات أجرتها الصّحافيّة ديما نادر دعنا مع أكثر من أربعين شخصيّة من نساء ورجال القدس.

تقدّم هذه الحوارات نافذة على منعطفات التّاريخ الفلسطينيّ المعاصر، بدءا من بوادر الوعي بخطر الاحتلال والثّورات المتتالية، وصولا إلى النّكبة والنّكسة، وما أعقبهما من انتفاضات وأحداث مفصليّة.

نجد شهادات حيّة وسِيَرا متكاملة، تبرز واقع القدس عبر حياة أهلها، وتلقي الضّوء على حياة الأشخاص من خلال المدينة. ثمّ يتطرّق للباحثة نسب أديب حسين، الّتي كتبت عن دور المتاحف في الصّراع الفلسطينيّ الإسرائيليّ، مبرزة أهمّيّتها في تثبيت الرّواية والهويّة الثّقافيّة الفلسطينيّة، خصوصا في القدس.

بانوراما من الذّكريات والإبداعات:

في هذا الجزء، يستعرض أعمالا ومذكّرات وإصدارات لعدد من الكتّاب، مقدّما بانوراما غنيّة تضيء جوانب متنوّعة من التّجربة الفلسطينيّة. يشير إلى أحلام بشارات الّتي كتبت عن المطبخ الفلسطينيّ، مستعرضة مزاياه ووجباته المتنوّعة، ما يعكس عمق الارتباط بالأرض والتّراث. ينتقل بعدها إلى الأديب أسعد الأسعد، ثمّ يقدّم أسماء أخرى مثل: أسماء عيسى سلامة، أسنات كامل إبراهيم، أيمن الشّرباتي، جمال زقّوت، حسام زهدي شاهين، حنان بكير، رشيد النّجّاب، د. صافي صافي، د. عدنان شقير، وطلعت الصّفدي.

يتناول بعد ذلك الأديب جميل السّلحوت، مستعرضا سيرته الذّاتيّة "أشواك البراري" و "من بين الصّخور"، يصفها بأنّها مشاهد موجزة ومتوالية، تتّسم بالتّشويق وسلاسة اللّغة، تتدفّق من ذاكرة يقظة قادرة على تسجيل أدقّ التّفاصيل من أزمنة مختلفة. كما يذكر السّلحوت في كتاباته لسيرة غيريّة، خصّ بها ابن عمّه وشقيقه داوود.

يتحدّث بعد ذلك عن كتاب المحامي فؤاد مفيد نقّارة رئيس نادي حيفا الثّقافيّ، "صيّاد.. سمكة وصنّارة"، فيكتب (ص158): "إنّ هذا الكتاب يضيف إلى علاقة الفلسطينيّين بالبحر أفقا جديدا، ويوسّع الفضاء الّذي تشغله الثّقافة الفلسطينيّة، بحيث ترتقي مكانة فلسطين بثقافتها الإنسانيّة المتنوّعة، وتتأكّد على نحو واضح حقيقتها الحضاريّة، العصيّة على المحو أو التّجاهل أو الطّمس أو الإلغاء".

ثمّ يشير إلى الكاتب كميل أبو حنيش الّذي يتّخذ من المقالة شكلا فنّيّا؛ ليمرّر من خلالها أفكاره ورؤاه، ويتطرّق إلى رواية الشّاعر ماجد أبو غوش "عتبة الجنون"، ويذكر كذلك إسهامات د. محمّد شحادة، والكاتب محمّد صبيح عن عمّه الدّكتور محمود صبيح الّذي "جدّ فوجد" (ص176).

أسماء في الذّاكرة:

يتناول شقير علاقته بأسماء بارزة في عالم الأدب والثّقافة، سواء عبر لقاءات شخصيّة جمعته بهم، أو من خلال معرفته بمسيرتهم، يركّز على تأثير هذه الشّخصيّات في مسيرته الفكريّة والإبداعيّة، ويقدّم رؤى حول المشهد الّذي نشأ فيه وتفاعل معه. يستهل هذا القسم بالحديث عن غسّان كنفاني الّذي التقاه في بيروت عام (1965م)، مركّزا على الأثر العميق الّذي تركه كنفاني في وعيه الأدبيّ والسّياسيّ. ومرّة أخرى، يتحدّث عن محمود درويش الذّي التقاه في بيروت عام (1975م)، مبرزا الكاريزما الطّاغية الّتي تمتّع بها، والّتي تشكّلت من جمال شعره، وقدرته على الإلقاء وثقافته الواسعة، ووعيه الفكريّ المتجذّر في نزعة علمانيّة تحترم العقل والإنسان. يكتب بعد ذلك عن عبد العزيز العطّي، تيسير العاروري، حسن مصطفى، راجح السّلفيتي، د. حنّا ميخائيل، خليل السَّكاكيني، حنّا فارس مخول، أحمد سعد، عزّت الغزّاوي، على الخليلي، محمّد أديب العامري، محمّد جوهر، زهدي شاهين، سلمان ناطور، شادية الأشهب، عاطف سعد، وغيرهم.

رسائل ومراسلات.. توثيق للتّواصل الإنسانيّ:

يستعرض شقير كتبا مختارة من أدب الرّسائل، مؤكّدا أنّ الرّسالة، هي شكل حيويّ للتّعبير والتّواصل الإنسانيّ، مستهلّا حديثه عن كتاب "رسائل كسرت القيد" لأسامة الأشقر، مبرزا فيض العذوبة والشّوق الّذي يغمر رسائله الموجّهة إلى حبيبته، يقول عن هذه الرّسائل(ص270): "تفيض عذوبة وشوقا، وتفيض حكمة وبُعد نظر حين يحاور من خلالها الحياة ومنطقها وتجليّاتها، وتمتلئ سخرية وتهكّما حين يتحدّث عن الأوضاع العربيّة المزرية".

يتطرّق لكتاب د. حسن عبد الله "كلمات على جدار اللّيل"، الّذي كُرِّس لدراسة رسائل الأسيرات والأسرى، وأثرها على حياتهم داخل السّجون.

ينتقل بعد ذلك إلى رسائل جميل السّلحوت وصباح بشير، فيكتب (ص275): "الرّسائل مكتوبة بلغة سلسة لا تعقيد فيها ولا غموض، فيها تشويق للقارئ بالنّظر إلى أنّها تأخذ من فنّ السِّيرة الذّاتيّة قسطا، ومن أدب الرّحلات قسطا آخر، ومن السَّرد الأدبيّ القسط الأوفر، وهي تحمل في طيّاتها دعوة صريحة إلى نبذ التّعصّب والتّزمّت والمغالاة في التّمسّك بالعادات البالية وبالتّقاليد الّتي لم تعد مناسبة للعصر الّذي نعيش فيه".

ثمّ يصل إلى رسائل سليمان النجَّاب (ص277)، الذّي حرص على إكثار المراسلات لوالديه وأشقّائه وشقيقاته، وحتّى للأطفال الصّغار في عائلته، وكان يهدف بذلك إلى طمأنة والديه على صحّته والاطمئنان عليهما.

يتناول بعد ذلك، رسائل عمر صبري كتمتو وروز شعبان، ويعود للحديث عن نسب أديب حسين و"مراسلات أبيها"، الّتي جمعت بين رسائل عجاج نويهض وأديب حسين، إلى جانب مراسلات بيان نويهض الحوت ونسب أديب حسين.

في رسالة مؤثّرة (ص285)، يعبّر شقير لحفيدته أصيل سلامة، النّازحة من رفح إلى خانيونس، عن شوقه لاستئناف تبادل الرّسائل الورقيّة الّتي تعطّلت بسبب الحصار، ويعدها باستقبال حافل في بيته بجبل المكبر وفي القدس.

أصداء وتأمّلات:

يُضَمِّن شقير مقالا بقلم الكاتبة سامية عيسى (ص289)، يسلّط الضّوء على كتابه "أكثر من حبّ" الّذي يجمع رسائله المتبادلة مع الرّوائيّة حزامة حبايب، حيث تشير عيسى إلى أنّ هذه المراسلات تتعمّق في هموم الحياة اليوميّة، وتكشف عن الصّعوبات الّتي تؤثّر في الطمّوحات الإبداعيّة، تقدّم نصوصا أدبيّة رفيعة المستوى، وتدفع القارئ إلى التّأثّر والتّأمّل في المشترك الإنسانيّ، مضيئة ما خفي في الذّوات ومبدّدة غموضها.

ثمّ يلحق مقالا بقلم صباح بشير (ص296)، تصف فيه شقير بـ "عميد الأدباء"، محتفية بنَيّله جائزة فلسطين العالميّة للآداب. تُبرِز المقالة تجذّر القدس في أعمال شقير كرمز للصّمود، وتشيد بأسلوبه في القصّة القصيرة، وقدرته على مزج الأجناس الأدبيّة، وتُختَتم بالتأكيد على أنّه "مدرسة أدبيّة" ملهمة.

نقرأ بعد ذلك رسالة مؤثّرة من قمر عبد الرّحمن، موجّهة إليه، تثني فيها على قدرته على تجاوز الأحزان بالكتابة، واعتبارها وسيلة لتساقط الألم وتخفيف الخسائر.

بعدها، نجد مقالا بقلم راسم المدهون (ص304) بعنوان: "حياة في القصص"، يشير فيه إلى قصّة شقير الشّهيرة "خبز الآخرين" كنموذج لقراءته الواعية؛ لواقع النّكبة وامتزاجها بالحياة اليوميّة، مبرزا تأثّره بتشيخوف. عقب ذلك، يُختَتم الكتاب بحوارين أُجريا مع الكاتب مؤخّرا.

الختام.. السّيرة نبض الوطن وذاكرته الخالدة:

في نهاية رحلتنا مع الأديب محمود شقير، يتجلّى لنا هذا العمل بوصفه مرآة صادقة لنُضجِ تجربة أدبيّة رفيعة، خاض غمارها ببراعة واقتدار، فكلماته المترعة بالعفويّة والصّدق، تنساب كجدول رقراق، ترسم ببراعة المدن والشّخوص والأحداث، محافظة على عتبة الصّدق والواقعيّة الّتي لا يساوم عليها.

كما يتّسع هذا العمل؛ ليمتدّ على رحاب الذّاكرة الفلسطينيّة، ناسجا صفحات تتضافر فيها متانة البحث وعذوبة السّرد، مقدّما إلينا بانوراما ثريّة من النّصوص الّتي تتحوّل بين يديه؛ لشهادات خالدة على صمود شعب وابداعه، وتأكيد لا يلين على ارتباطه العميق بالأرض والتّاريخ.

أمّا عن أسلوبه، فهو فصيح عذب مشوّق، يحمل القارئ في تيار من الأفكار والمشاعر، لا يطغى عليه الجانب الفكريّ المجرّد، ولا يبتعد عن رصانة المعرفة؛ بل يقدّم توليفة فريدة تلهم القارئ، تثري فكره وتعمّق وجدانه، هو السّهل الممتنع، كالنّهر الّذي تخفي مياهه الصّافية عمقًا لا تدركه العيون من أول نظرة، إنّه البناء المحكم المتماسك الّذي يبهرك بجماله، دون أن تحيط بسرّ صنعته.

يكمن سرّه في هذه الوداعة المتقنة، فكلماته تحافظ على رونقها، وتنساب كالنّسيم العذب؛ لتلامس القلب والفكر. هذا الأسلوب الفريد هو ما نلمسه في حروف أستاذنا الكبير محمود شقير، فسطوره تدعونا لنرى من خلالها عمق الوطن ونكبته، وعطر الأرض، دون أن يثقل علينا بتكلّف أو ادعاء.

إنّه يقدّم الحكمة والألم والحبّ في ثوب من السّلاسة، يعلّمنا أنّ أقوى الكلمات هي أبسطها، وأنّ أجمل المعاني هي أوضحها، وأنّ الأدب الحقيقيّ يتجلّى في قدرته على تحويل العاديّ إلى خارق، والمألوف إلى ملهم.

من هنا، يُعَدّ هذا العمل الأدبيّ والتّوثيقيّ المتكامل إضافة نوعيّة للمكتبة العربيّة، فهو يعزّز حضور السّيرة في الثّقافة الفلسطينيّة، ويؤكّد أنّ الذّاكرة درع لا ينكسر، يدعو إلى مواصلة الحياة، ويوثّق كلّ ما هو إنسانيّ في وجه التّحدّيات الجسام، ليظلّ الأدب شاهدا على الحقيقة، ودليلا ساطعا للأجيال القادمة.

***

صباح بشير

 

بين التجربة العربية والغربية

منذ أن وضع فردينان دو سوسير أسس السيميولوجيا (Semiology) بوصفها "علم العلامات في حياة المجتمع"، وتطورت لاحقاً مع تشارلز ساندرس بيرس تحت مسمّى السيميوطيقا (Semiotics)، أصبح هذا العلم إطاراً تحليلياً مركزياً لفهم الأدب والفن واللغة. فالأدب، بصفته فعلاً لغوياً وجمالياً، لا ينفكّ عن كونه شبكة علامات تُحيل إلى معانٍ وتُنتج دلالات. وفي السياق العربي، ازداد الاهتمام بالسيميولوجيا منذ السبعينات، حين بدأ النقد العربي ينفتح على المناهج الغربية البنيوية وما بعدها، محاولاً استثمار هذا الجهاز النظري في قراءة النصوص الكلاسيكية والحديثة.

أولاً: السيميولوجيا بين النظرية الغربية والأفق العربي

١. في الفكر الغربي، سوسير أسّس لنظرية العلامة (Sign) بوصفها اتحاد دال (Signifier) ومدلول (Signified). هذا النموذج منح النقد الأدبي إمكانية مقاربة النص كنسق من العلاقات، لا كمجموعة معانٍ جاهزة.

رولان بارت وسّع مفهوم العلامة ليشمل الثقافة، معتبراً الأدب نظاماً دلالياً يضاعف المعنى عبر الأساطير والرموز والإيحاءات. في كتابه مبادئ في علم الأدلة ولذة النص، جعل من النص فضاءً مفتوحاً للقراءة والتفكيك.

أمبرتو إيكو نظر إلى الأدب كحقل مفتوح للقراءات الممكنة، حيث العلامات لا تتحدد بدلالة واحدة بل تُنتج "حقلاً دلالياً" يتجدد مع كل قارئ.

٢. في الفكر العربي:

مع دخول المناهج البنيوية والسيميائية إلى الجامعات العربية (خصوصاً في المغرب ومصر ولبنان)، بدأت تطبيقات على الشعر الجاهلي، الشعر الصوفي، والنصوص الحداثية.

صلاح فضل في كتبه مثل بلاغة الخطاب وعلم النص، حاول تكييف السيميولوجيا لتصبح أداة لفهم النص العربي في مستوياته الدلالية والجمالية.

يوسف وغليسي، عبد الملك مرتاض، وغيرهما اشتغلوا على السيميولوجيا في قراءة السرد العربي، معتبرين أن النص السردي شبكة علامات: الأسماء، الأمكنة، الأزمنة، والأحداث كلها علامات لها مستويات دلالية متراكبة.

ثانياً: علاقة السيميولوجيا بالأدب العربي

١. النص الشعري العربي:

الشعر العربي القديم، بما يحمله من صور وتشبيهات واستعارات، يتيح مجالاً خصباً للتحليل السيميائي. فمثلاً:

بيت المتنبي:

 "إذا غامرتَ في شرفٍ مرومِ *** فلا تقنعْ بمـا دونَ النجـومِ"

يمكن قراءته سيميائياً باعتباره نظام علامات: النجوم هنا دالّ كوني على الرفعة والعلو، يتحول في السياق إلى مدلول رمزي على المجد والطموح.

وفي الشعر الصوفي (ابن الفارض، الحلاج، النفّري)، نجد علامات متراكبة: الخمر ليست مجرد سائل، بل رمز للمعرفة الإلهية والوجد الصوفي، مما يجعل النص فضاءً للتأويل السيميائي المتعدد.

٢. النص السردي العربي:

في ألف ليلة وليلة، تتحول الشخصيات (شهرزاد، شهريار) إلى علامات تتجاوز بعدها الحكائي لتصير رموزاً للسلطة والأنثى والمعرفة.

- في الرواية العربية الحديثة (نجيب محفوظ، الطيب صالح، إدوار الخراط)، يمكن النظر إلى المكان كشخصية سيميائية: القاهرة ليست مجرد فضاء جغرافي بل علامة دلالية على التوتر بين الحداثة والتقليد.

ثالثاً: علاقة السيميولوجيا بالأدب الغربي

١. النصوص الكلاسيكية

في الإلياذة والأوديسة، الأبطال (أخيل، أوديسيوس) علامات على قيم البطولة والمغامرة الإنسانية، فيما البحر علامة سيميائية على المجهول والمصير.

٢. النصوص الحديثة:

جيمس جويس في عوليس جعل النص متاهة علامات تحيل إلى الأساطير الكلاسيكية، الديانة، والواقع الاجتماعي لمدينة دبلن.

-فرانز كافكا في المسخ: شخصية غريغور تتحول إلى علامة وجودية كبرى، تجسد الاغتراب واللاجدوى.

- ت. س. إليوت في الأرض الخراب: النص شبكة من علامات ثقافية، تاريخية، ودينية تتفاعل لإنتاج معنى يعبّر عن الانهيار الروحي في الغرب الحديث.

رابعاً: البُعد الجمالي والرمزي

السيميولوجيا لا تقف عند حدود الوصف، بل تتجاوز إلى تحليل البنية الرمزية:

كل نص أدبي يقدّم طبقة أولى مباشرة من المعنى، وطبقات أخرى إيحائية تشتغل عبر الرموز الثقافية.

وظيفة الناقد السيميائي كشف هذه الطبقات، وإظهار كيف يُعيد النص تشكيل الواقع عبر شبكات علامات.

خامساً: شهادات وأفكار نقّاد

يقول رولان بارت: "النص شبكة من الاقتباسات، والكاتب ليس سوى ناسجٍ للعلامات".

يرى صلاح فضل أن "النص العربي لا يكتمل معناه إلا إذا أُخذ بوصفه نسقاً دلالياً متعدداً، يشتغل على مستويات: الصوت، الإيقاع، الصورة، الرمز".

ويؤكد أمبرتو إيكو أن الأدب يظل فضاءً لانهائياً لتوليد المعنى: "النص الجيد هو الذي يسمح بعدد أكبر من القراءات".

سادساً: نماذج تطبيقية

1. قصيدة السياب "أنشودة المطر":

المطر علامة طبيعية، لكنه يتحول إلى رمز للخصب والانبعاث.

العراق علامة مكانية، لكنه يتجسد رمزاً للوطن الممزق والمأمول.

- التحليل السيميائي يكشف كيف يتراكم البعد السياسي والميتافيزيقي في صورة المطر.

2. رواية "موسم الهجرة إلى الشمال" للطيب صالح:

شخصية مصطفى سعيد علامة على التوتر الحضاري بين الشرق والغرب.

- النيل علامة مزدوجة: طبيعة وحياة، لكنه أيضاً رمز للذاكرة الجماعية والهوية.

3. رواية "الحرافيش" لنجيب محفوظ:

الحارة علامة كبرى على المجتمع المصري بمرور العصور.

الشخصيات علامات أدوارية تُعاد صياغتها لتكشف جدلية القوة والضعف.

سابعاً: الخلاصة

إنّ علاقة السيميولوجيا بالأدب ليست علاقة منهج بالنص فقط، بل علاقة "علامة" بالوجود الإنساني ذاته. فالأدب العربي، من المعلقات إلى الرواية الحديثة، يتأسس على نسق إشاري متشابك يحتاج إلى عدسة سيميولوجية لفك رموزه. والأدب الغربي، من الملاحم الكلاسيكية إلى نصوص ما بعد الحداثة، يثبت أن العلامة هي اللغة العميقة للثقافة.

وعليه، فإن توظيف السيميولوجيا في النقد الأدبي العربي والغربي يكشف عن وحدة التجربة الإنسانية في إنتاج العلامات وتعدد طرائق قراءتها، ويمنحنا وعياً بأن النص الأدبي ليس مجرد كلام جميل، بل بنية من العلامات التي تحيا فينا وتعيد تشكيل وعينا بالعالم.

***

بقلم: عماد خالد رحمة - برلين

(أصوات من تشيرنوبيل) و(الحرب لا وجه لها)

أُعلن في عام 2015، عن منح جائزة نوبل في الأدب للكاتبة والصحفية البيلاروسية سفيتلانا أليكسييفيتش، وهو قرار أكاديمي وثقافي استثنائي، لأنه لم يكرّم روائية أو شاعرة تقليدية، بل كاتبة أختارت طريقًا فريدًا في الكتابة؛ طريق التوثيق الشفاهي وتسجيل الأصوات الحقيقية لضحايا الحروب والكوارث، ليقدم شهادات حيّة عن وجع الإنسان العادي تحت وطأة التأريخ المأساوي. الكاتبة اليكسييفيتش، تستعرض أهم محطات مسيرتها الأدبية، ونحن نسعى لأكتشاف أسلوبها وأثرها في الأدب العالمي، ونغوص في الأبعاد الفنية والدلالات العميقة التي تحويها أعمالها، مع التركيز على أشهر كتباتها: (أصوات من تشيرنوبيل) و(الحرب لا وجه لها).

أسلوب سردي غير تقليدي

تُعدّ أعمال سفيتلانا أليكسييفيتش بمثابة وثائق إنسانية حيّة تخلد تجارب الناجين من الكوارث والحروب، بعيدًا عن سرديات الانتصار الرسمية أو التحليلات السياسية الباردة. أسلوبها الأدبي الفريد يقوم على جمع شهادات حيّة من أناس عاديين، نجوا أو تأثروا بشدة من الأحداث الكبرى، وتوظيف هذه المقابلات كشكل سردي مركزي في كتاباتها.

في (أصوات من تشيرنوبيل)"، على سبيل المثال، لا نجد رواية تأريخية بالمعنى التقليدي، بل مجموعة من الشهادات التي تتوزع على صفحات الكتاب، تؤدي دور الشخصيات المختلفة في نص يشبه المسرحية الكورالية. كل شهادة تحمل طابعًا شخصيًا وعاطفيًا قويًا، لكنها في ذات الوقت تمثل نقطة في شبكة أوسع من الألم الجمعي.

هذه التقنية تجعل النص متعدد الأصوات ومتعدد الأبعاد، حيث لا تتبلور الحقيقة من خلال بطل مركزي أو راوي واحد، بل من خلال مداخلات متتالية لأفراد متنوعين، بينهم رجال إطفاء، مهندسون، نساء، أطفال، وحتى جنود. ويتضح أن الهدف ليس فقط سرد الوقائع، بل إظهار الوجه الإنساني للأحداث الكبرى. إنّ الأثر الذي أحدثته سفيتلانا أليكسييفيتش يتجاوز حدود الأدب في بيلاروسيا وروسيا البيضاء، ليصل إلى قلب الأدب العالمي، ويعيد تشكيل مفهوم الكتابة عن الحرب والكوارث. ففي وقت تتسابق فيه الروايات لتقديم سرديات بطولية أو ملحمية، أختارت أليكسييفيتش أن توثق المعاناة بصوت الناس العاديين، الذين لا تجدهم عادة في كتب التاريخ.

هذا التوجه فتح آفاقًا جديدة للأدب الواقعي، حيث أصبح للأدب دور توثيقي مهم في كشف الحقيقة الإنسانية، خاصة في المجتمعات التي تعاني من الكوارث الاجتماعية أو السياسية. وبذلك، أصبح عملها مصدرًا مهمًا لفهم التأريخ المعاصر من خلال تجارب الناس العاديين، وهو أمر لم يكن مألوفًا سابقًا في الأدب العالمي. بالإضافة إلى ذلك، فإن أسلوبها في كتابة الأدب الشفهي ألهم عددًا كبيرًا من الأدباء والصحفيين في العالم، وأصبح نموذجًا لكتابة أدبية تسعى إلى توثيق (الصوت الآخر) والمهمش، وهو ما يبرز مكانة أليكسييفيتش كواحدة من رواد هذا النوع الأدبي.

الأبعاد الفنية بين التوثيق والدراما

من الناحية الفنية، تتميز أعمال أليكسييفيتش بتداخل عناصر الأدب والوثائق التأريخية، مع توظيف دقيق للغة الشفوية والمباشرة. فنصوصها ليست سردًا جافًا، بل تحمل أبعادًا درامية وأدبية توصل القارئ إلى مستوى عالٍ من التعاطف والتأمل. تستخدم أليكسييفيتش في كتاباتها تقنية تكرار بعض العبارات والمواقف، ما يعكس الحلقات المتكررة للألم والمعاناة التي يعايشها الناجون. كما تستثمر الفوارق اللغوية بين المتحدثين، مثل اللهجات واللكنة، مما يمنح النص ملمسًا واقعيًا وإنسانيًا.

تكمن عبقريتها أيضًا في قدرتها على تحويل سرديات فردية إلى تجربة جماعية، بحيث لا تُحكى قصة واحدة فقط، بل تخلق نسيجًا من الأصوات المتداخلة التي تتيح للقارئ أن يشعر بثقل التأريخ وتأثيره النفسي والاجتماعي العميق.

ذاكرة الألم وصمت السلطة

تحت السطح الإنساني والدرامي في أعمال أليكسييفيتش، تنبثق دلالات عميقة تتعلق بالذاكرة الجمعية والهوية الإنسانية. فكتاباتها تشكل دراسة عميقة لظاهرة النسيان والمقاومة عبر الحكي، إذ تُظهر كيف يحاول الإنسان أن يحفظ جراحه ويعيد بناء ذاته من خلال الكلام، وكيف أن الصمت الرسمي والدولة غالبًا ما تحاول كتم الحقيقة أو تحريفها.

في (أصوات من تشيرنوبيل)، تتداخل دلالات الكارثة النووية مع تساؤلات عن طبيعة الحضارة الحديثة، وتحذيرات من مخاطر التقدم العلمي بلا ضوابط أخلاقية، وهي بذلك تفتح نقاشًا فلسفيًا عن مسؤولية الإنسان تجاه التكنولوجيا والطبيعة. إنه عمل فني وإنساني استثنائي. إذ لا تكتفي الكاتبة بسرد كارثة انفجار المفاعل النووي في عام 1986، بل تقدم موسوعة حيًة من المعاناة البشرية التي خلفها الحادث، بما في ذلك العواقب الصحية والاجتماعية والنفسية والبيئية.

تجمع الكاتبة بين أصوات الضحايا، والناجين، والعاملين في عمليات الإطفاء والإخلاء، والباحثين، وصناع القرار، لتخلق بذلك لوحة معقدة ومتعددة الأوجه عن مأساة لم تشهدها البشرية من قبل. وبذلك، يشكل الكتاب شهادة نادرة على خطورة التكنولوجيات النووية، وعلى هشاشة الأنظمة السياسية التي تغض الطرف عن حقيقة الكارثة. النص لا يحمل فقط أبعادًا تاريخية، بل يطرح أسئلة إنسانية عميقة حول الألم والخسارة والذاكرة، مما يجعله يتجاوز حدود الوطن إلى مشهد عالمي.

الحرب لا وجه لها

في عملها الآخر المهم (الحرب لا وجه لها)، تواصل أليكسييفيتش استكشافها للوجع الإنساني، هذه المرة من خلال الحرب العالمية الثانية التي لا تزال تترك أثرها على مجتمعات ما بعد فترة الاتحاد السوفيتي. إذ يقدم الكتاب شهادات لجنود سابقين ونساء وأطفال عايشوا الحرب، موضحًا بشكل مؤلم أن الحروب لا تترك سوى خسائر إنسانية لا تندمل، وأن الروايات الرسمية التي تمجد الانتصارات تخفي الحقيقة القاسية. في هذا العمل، يكشف أسلوبها عن الألم النفسي، فقدان الإنسانية، والعزلة التي يشعر بها الناجون، ويؤكد على أن الحرب ليست مجرد تأريخ، بل تجربة إنسانية متجذرة في ذاكرة الأفراد والجماعات. فتبرز الدلالات الأشد عمقًا عن وجه الحرب الحقيقي، الذي لا يظهر في الأرقام الرسمية أو الصور البطولية، بل في وجوه الجرحى، وفي دموع النساء اللاتي فقدن أحبائهن، وفي الصدمات النفسية التي لا تنتهي. إن الكتاب يكشف كيف أن الحرب ليست مجرد أحداث عسكرية، بل تجربة إنسانية مأساوية تدمر النفوس والعلاقات الاجتماعية.

أثرها الإنساني والثقافي

لا يمكن إنكار الأثر العميق الذي تركته أعمال أليكسييفيتش على القارئ والناقد على حد سواء. فبفضلها، أصبحت أصوات (المهمّشين) مسموعة، وأضحى للأدب دور في كشف الحقيقة والتعاطف مع الضحايا بدلًا من تغليب سرديات القوة والسياسة.

وأصبحت أليكسييفيتش رمزًا عالميًا للكتابة الملتزمة، التي لا تهدف إلى الترف الأدبي فقط، بل تسعى إلى خدمة الذاكرة الإنسانية، وتحفيز المجتمع على مواجهة مآسيه، والإعتراف بها كجزء من هويته التأريخية. فالكاتبة تقدم نموذجًا فريدًا للأدب الحديث؛ حيث تجتمع فيه مهنية الصحفي والروائي والشاعر لتخلق سردًا إنسانيًا متميزًا، وأعمالها ليست فقط وثائق تأريخية أو سرديات شخصية، بل هي تجربة إنسانية جماعية تمس عمق الوجدان البشري.

إنّ جائزة نوبل التي نالتها، تعكس هذا الدور الإستثنائي، وتسلط الضوء على أهمية الأدب كمرآة تعكس واقع الإنسان في أحلك لحظاته، وتعيد صياغة التأريخ من وجهة نظر من عاشوه، ليصبح صوتهم خالدًا في الذاكرة الإنسانية، وبهذا تكون أليكسييفيتش قد أسهمت في بناء جسر بين الماضي والحاضر، وبين الفرد والمجتمع، وبين الألم والذاكرة، لتظل شهادتها دائمًا واحدة من أهم نوافذ الأدب الإنساني المعاصر.

***

د. عصام البرّام

للكاتب عادل الجريدي

قصص قصيرة جدا بطعم الحنين والشجن والقلق وشؤون الكائن في اقامته الفاخرة والموحشة في آن بعالم مربك..

يظل السرد عموما فنا قديما قدم الانسان مشيرا الى كيانه ووجوده وحاجاته وشؤونه وشجونه ومنه القص كخطاب ناقل به موضوع ووصف وأحداث وشخوص.. ليتطور ذلك عبر المراحل التي تخطتها البشرية بما فيها من تطورات واستحداثات وخيبات ونكسات.. ومن هنا كان لهذه السيرة من الخطاب التجدد والابتكارضمن تعدد الخصائص والأساليب في الابلغ والقول..

ومن هنا وفي سياقات القص وبعد القصة القصيرة بدت معالم وخصائص ما اصطلح عليه بالقصة القصيرة كنوع سردي له من الابداعية والمميزات ما جعل النسق يتصاعد في التعاطي معه لرشاقة الشكل والاقتراب كثيرا من الشعر حيث التكثيف والجرأة والمباغتة وسعة التخييل والخيال.. وكانت لهذه التجربة في الكتابة حكاية مع الكاتب العالمي أرنست همنغواي حيث شهدت سنة 1925 نصا من ست كلمات كالتالي " للبيع… حذاء طفل لم يلبس قط ".. وهناك أراء أخرى للدارسين والنقاد تشير الى أسماء لها صلة بهذا النوع السردي على غرار " ناتالي ساروت” الفرنسية التي سمتها بالانفعالات وقبلها " أليكس فينون " و"إدغار آلن بو" حيث أنهم لم يمهروا ما كتبوا بالقصة القصيرة جدا اشارة أو تصريحا.. ويشير البعض الى أن لهذا الجنس الكتابي حضورا في تراثنا العربي وثقافتنا القديمة وأدبنا الشفهي والمدون كتابة وذلك بالنظر لخصائصه المتصلة بالشعر كالاختزال والتكثيف والمباغتة فضلا عن الحكايات الخاطفة والمختزلة ومنها الطرائف والملح وقد أفاد هذا اللون القصصي ونعني القصة القصيرة جدا من عديد الفنون وأشكال الابداع ففيه القص والشعر والتشكيل والتأملات والمفاجأة وكسر أفق الانتظار والصورة وسعة الخيال في ضيق الحيز الكلامي.. و.. وما الى ذلك.. من المتاح الفني الابداعي الانساني.. ان القصة القصيرة جدا تجترح عالمها وكونها الفني من وحدة الحكاية وسرعة واختزال زمنها وتكثيفها وقلة شخوصها والتلميح وعدم التوسع والشرح فضلا علن عناصر الادهاش وشعرية اللوحة الاطار للقص والقفلة أو النهاية والتوهج.. نشير الى كل هذا من ناحية الاطار والنشأة لهذا الشكل في القص الذي استعاد حضوره في السنوات الأخيرة كحالة تعبيرية أدبية في السرد على غرار حالة الشعر والشعرية مع قصيدة الومضة.. انها عملية الكتابة التي تفضي في هذه الأزمنة الى مبتكرات أخرى في حقولها حيث التداخل أحيانا بين النصوص وممكنات توصيفاتها أين يأخذنا الشعر الى السرد وكذلك يفعل السرد اذ يأخذنا الى الشعر وهكذا.. وهو ما يذكرني بما جاء في مقدمة الناقد صبحي حديدي لمجموعة الشاعر الفلسطيني الراحل أمجد ناصر " حياة كسرد متقطع.. " انها الاشارة الى سؤال مهم وجزهري ومعناه الى أين تأخذنا الكتابة.. انها لعبة الأشكال والألوان والابتكار المفتوح ضمن جعرافيا واحدة أدواتها واحدة انها الكتابة لكن عناصرها وألوانها غير واحدة كان ذلك شعرا أو سردا.. هذا مهم بخصوص حكاية الكتابة وضروبها وأنماطها وأنفاسها وتلويناتها.. وهذا من علامات السلامة بالنسبة للسيدة الكتابة التي لا تخشى المغامرات والبحث والتسميات فقط يبقى الهام في الحفاظ على الابداعية.. وفقط.و في هذا التعدد في التعاطي مع نوع القصة القصيرة جدا نمضي في هذه الفسحة مع الاصدار الجديد للشاعر عادل الجريدي ونعني مجموعته القصصيّة من نوع " القصة القصيرة جدًّا" والتي مهرها ب" أخطاء جليلة" الصادرة عن دار الأدب الوجيز للنشر خلال هذه السنة 2025 ومن عناوينها العديدة نجد (موت مقصود) و(غارة) و(أزهار الحرب) و(تحت الأنقاض) و(اللقاء الأخير) و(موت سريري ) و(سكتة قلبية).

 منذ العنوان تبرز رغبة الكاتب القاص في شعرنة التعاطي مع هذه اللعبة المكتوبة في مائة من النصوص وبالتالي كيف تكون للأخطاء جلالاتها ودلالها ومقاماتها لولا رغبة الجريدي في استدعاء ما هو شعري لحظة كتابته انسجاما مع جيز من اشتراطات هذا الفن.. فن القصة القصيرة جدا..

ان قصص هذا العمل الأدبي لوحات فنية مكتوبة بها الحنين والشجن والقلق وشؤون شتى للكائن في اقامته الفاخرة والموحشة في آن بعالم مربك تتسارع متغيراته وتبدلات أحواله بأسلوبه الحاضن لهذه الكتابات يكشف عادل الجريدي عن اعتمالات بين ما هو وجداني انساني حميمي اجتماعي سياسي حضاري في سرد بسيط عميق مشوق خفيف مكثف.. ملامسا الكثير من حال الناس وحكاياتهم وأحلامهم.. في القصص كون مشاعر وأوهام وتطلعات بنى من خلالها المؤلف حكاياته القصيرة جدا حيث يجبر القارئ على النفاذ الى كنهها مستعجلا النهاية رغم القصر الشديد للنصوص.. ليكتشف بالتالي جنبا من ذاته بل جوانب من الانسان الذي تتقاذفه الانكسارات وتسعده النجاحات وفي هذا التنوع من الأحاسيس تبرز الأدوار المنسية للسلطة وأية سلطة كانت والمجتمع والناس والآخرين.. والذات.

أسلوب بين شفافية القص وسرعة نبضه وتسارع ايقاعه وتلوينات شخوصه والخلاصات وما أدراك ما الخلاصات والعبر.. انها فسحات سهلة للترعيب في التماهي مع النص وهي للجميع الطفل والشاب واليافع والكهل.. حيث يخلص القارئ الى عناوين شتى تعتصرها القصص ومنها المفارقة حيث الانسان بين زمنين وحالتين وسيل جارف من الحنين قولا بالكامن فيه من رفض للمستحدث المعيق لطبيعته وكيانه ولو باسم التطور وضرورات الأزمنة وهو الباحث في الركام عن هدوئه وأريحيته وايقاعه المطمئن زمن السقوط والتداعيات المريبة.. من ذلك الحنين لما هو مفتقد من جمال الأحوال.. وهنا تصدمنا قصة " المائدة " ص10و ترجنا رجا جميلا نستحقه :

(كنا اذا اجتمعنا حول مائدة الطعام تشتعل بيننا حرب ضروس نتزاحم في فرح طفوليو ان اشتد قتال الملاعق في قاع الاناء نضحك بشراهة فنشبع.. ومنذ أن غيرنا المائدة بأخرى فاخرة وتوزعنا على أطباق ممتلئة بالأكل.. فقدنا الاحساس بالشبع..)

من منا لم يعش هذا الاحساس العميق والدال.. انها قصة بسيطة مشتركة الأحاسيس والعواطف والذكريات تحاهها ولكنها عميقة في اشاراتها وادانتها للمعيش الانساني المكلل بالزيف والأقنعة.. انها شهادة محكية بفن القصة القصيرة جدا وجدا للنفاذ الى أعماق الذات الانسانية ووجدانها وهي التي لوثتها وسعت الى تشييئها العولمة والتسارع الواهم للأشياء.. ان التطور الانساني مهم ولكم هذا لا يجب أن ينسينا أصل الأشياء ومنها ذواتنا وبالمناسبة أذكر معنى ما قاله الشاعر الداغستاني الكبير رسول حمزاتوف (ان هذه الرحلة الطويلة لم تنسني الطريق الى بيتي أسفل الجبل)..

و في قصة (رسالة) نقرأ (علمته الغربة الاقتصاد في كل شيء فكتب بكل اختصار:

أنا بخير يا أمي.. كل ما ينقصني قطعة فرح وحذائي القديم.. ردت والدته على عجل: شجرة البيت تيبست في غياب ظلها).

تكثيف ورمزية عالية لتناول الأشياء والظواهر والسلوكيات والمواقف في أسلوب بين المرح والغرابة والدهشة والادانة.. وهكذا.

" أخطاء جليلة " للقاص الشاعر عادل الجريدي كتابة وفق نهج موغل في ايجاز سردياته المجترحة من المجتمع والناس وبكثير من الرغبة تجاه اشتراطات القص جد قصير.

***

شمس الدين العوني

يُعْتَبَرُ الكاتبُ النرويجي هنريك إبسن (1828 - 1906) مِنْ أهَمِّ كُتَّابِ المَسْرَحِ عَلى مَرِّ التاريخ، ويُعْرَف بـِ " أبو المَسْرَحِ الحديث ". تَمتازُ نَظَرْتُهُ إلى الحَياةِ بالعُمْقِ والشُّمُولِ، وَيَمْتاز مَسْرَحُهُ بِدِقَّةِ المِعمارِ والاقتصادِ معَ تَعبيرٍ شاعريٍّ دقيق.

وَصَفَ النُّقَّادُ كُلَّ مَسرحية مِنْ مَسرحيات إبسن بالقُنبلة المَوقوتة، فَكُلٌّ مِنها تُفَجِّر قضيةً مَا، وتُثير رُدودَ فِعْلٍ عنيفة، فقد اختار إبسن تَمزيقَ الأقنعةِ كُلِّهَا، وكَشْفَ الزَّيْفِ الاجتماعيِّ، داعيًا إلى الاعتدالِ والوسطية بعيدًا عن التَّطَرُّف.

انتهج إبسن المُنْعَطَفَ الواقعيَّ في أعماله، فَقَدْ تَطَرَّقَ إلى قضايا واقعية وخطيرة يُعاني مِنها المُجتمع الأوروبي، كما تَنَاوَلَ قضايا إنسانيَّة خالدة تُشْغِلُ الإنسانَ عَبْرَ العُصور، مِثْل: قَضِيَّة مَاهِيَّة الحقيقة، والفارق بَين الحَقيقةِ والواقع، أو الصِّرَاع بَين الواقعِ والمِثال، وقضية النِّفَاقِ الاجتماعيِّ، وغَيْرها مِن القضايا التي تُثيرها أعمال إبسن المَسرحية، والتي لَيْسَ بالضَّرورة أن تَضَعَ لَهَا حُلُولًا.

تَتَّسِمُ مَسْرَحِيَّاتُ إبسن بالواقعيَّةِ الدِّرَامِيَّة، وَتَناولِ القضايا الاجتماعيةِ والأخلاقيةِ المَحْظورة، مِثْل مَكَانَةِ المَرْأةِ، والزَّواجِ، والمُشكلاتِ النَّفْسِيَّة، والفَسادِ السِّياسيِّ والاقتصاديِّ، والنِّزاعِ بَيْنَ الفَرْدِ والمُجتمع. بالإضافة إلى الاهتمام العميق بالشخصيات وتطويرها النَّفْسِي والفِكْري.

اتَّبَعَ إبسن في مَسْرَحِهِ أُسلوبًا دِراميًّا مُمَيَّزًا عُرِفَ بالمَنهجِ الانقلابيِّ، بمعنى أن تبدأ المسرحية بموقف في الحاضر، ثُمَّ تتوالى أحداثٌ مِنَ الماضي في العَودةِ، لِتَنْسِجَ النِّهايةَ المَأساويَّة لأبطال المسرحية. أي إنَّ الأحداثَ الماضية تَتَكَشَّفُ تدريجيًّا لبناءِ النِّهايةِ المأساويَّة والكارثية للشَّخْصِيَّات.

تَمتاز مَسْرَحِيَّاتُ إبسن بِمُمَيِّزات واضحة، هي:

1- المَسْرَحِيَّاتُ التاريخية مِنها تبدأ بدايةً عاصفة، أمَّا المَسْرَحِيَّاتُ الاجتماعية فتبدأ هادئةً مُشَوِّقة مُعتمِدة على الحِوار الدقيق.

2- الالتزام بِوَحْدَةِ الزمان والمكان، كما وضعها اليونانيون.

3- بِناؤُها المَسْرَحِيُّ مُحْكَمٌ إحكامًا دقيقًا لا يُجَاريه فيه مُؤلِّف آخَر.

4- الحَبْكَةُ فِيها تبدأ بالقُرب مِن نُقْطة الزمان، مِمَّا يُساعد على إخضاع عناصر المسرحية الثلاثة: الزمان والمكان والكلام.

5- شخصياتها من النماذج الإنسانيَّة العالميَّة الطبيعيَّة.

وَيُعْتَبَرُ الكاتبُ الألمانيُّ بِرتولت بريخت (1898 - 1956) مِنْ أَهَمِّ كُتَّابِ المَسْرَحِ العالميِّ في القَرْنِ العِشرين. ويُعْرَف بـِ " مُؤسِّس المَسْرَحِ المَلْحَمِيِّ "، وهَذا النَّوْعُ المَسرحيُّ الفريدُ يَهْدِفُ إلى دَفْعِ الجُمهورِ للتَّفكيرِ النَّقْدِيِّ في القَضَايا الاجتماعيةِ والسِّياسيةِ بَدَلًا مِنْ إثارةِ المَشَاعِرِ وَالانغماسِ العاطفيِّ في الأحداثِ.

والمَسْرَحُ المَلْحَمِيُّ يَجْمَعُ بَيْنَ نَوْعَيْن أدَبِيَّيْن هُما: الدِّراما والمَلْحَمَة، أي إنَّه يَتَضَمَّنُ شَكْلَي الأدبِ المَسْرَحِيِّ والسَّرْدِيِّ. والهَدَفُ مِنْهُ هُوَ الابتعادُ عَن تَصويرِ المَصائرِ الفرديةِ المأساويةِ المَعهودةِ مِنْ مَرحلةِ الخَيَالِ الكلاسيكيِّ وواقعِها الظاهريِّ، وتَصويرُ الصِّرَاعاتِ الاجتماعيةِ الكُبرى مِثْل الحربِ والثَّورةِ والاقتصادِ والظُّلْمِ الاجتماعيِّ، وَتَحويلُ المَسْرَحِ إلى أداةٍ لجعلِ هَذه الصِّراعات شَفَّافَةً، وَدَفْعُ الجُمهورِ لِتَغييرِ المُجتمعِ إلى الأفضلِ.

يَقُوم مَذهَبُ بريخت في المَسْرَحِ عَلى فِكْرَة أنَّ المُشَاهِدَ هُوَ العُنْصُرُ الأهَمُّ في تَكوينِ العَمَلِ المَسرحيِّ، فَمِنْ أجْلِه تُكْتَبُ المَسرحية حَتَّى تُثير لَدَيْه التَّأمُّلَ والتَّفكيرَ في الواقع، واتِّخاذ مَوْقِفٍ وَرَأيٍ مِن القَضِيَّة المُتناوَلة في العَمَلِ المَسْرَحِيِّ.

مِنْ أهَمِّ أساليبِ بريخت في كتابة المسرحيات:

1- هدم الجِدار الرابع: يُقْصَد بِه جَعْل المُشَاهِد مُشَارِكًا في العَمَلِ المَسْرحي، واعتباره العُنْصُر الأهم في كتابة المسرحية. والجِدَارُ الرابع معناه أنَّ خَشَبَةَ المسرح التي يقف عليها المُمَثِّلُون، ويقومون بأدوارهم، تُشْبِه غُرفة مِن ثلاثة جُدران، والجِدَارُ الرابع هو جِدَار وَهْمِي، وهو الذي يُقَابِل الجُمهور.

2 - التَّغْريب: يُقْصَد به تغريب الأحداث اليومية العادية، أي جَعْلها غريبة ومُثيرة للدَّهْشَة، وباعثة على التَّأمُّل والتَّفكير، مِثْل استخدام أُغْنِيَات بَيْنَ المَشَاهِد، وذلك كَنَوْعٍ مِنَ المَزْجِ بَين التَّحْريضِ والتَّسْلية، أوْ خُروج المُمَثِّلِ عَنْ دَوْرِه، لإبقاءِ الجُمهورِ في حالةٍ مِنَ الوَعْي بأنَّ مَا يُشاهده هُوَ عَرْض مَسْرحي، وَلَيْسَ واقعًا مُبَاشِرًا، مِمَّا يُشجِّع عَلى التَّحليلِ النَّقْدِيِّ.

3- المَزْج بَين الوَعْظِ والتَّسْلية، أوْ بَين التَّحريض السِّياسي والسُّخْرية الكوميدية.

4- استخدام مَشَاهِد مُتَفَرِّقَة. بَعْضُ مَسرحياته تَتَكَوَّن مِنْ مَشَاهِد مُتَفَرِّقَة، تَقَع أحداثُها في أزمنة مُختلفة، ولا يَرْبط بَيْنَها غَيْرُ الخَيْطِ العام للمَسرحية.

إنَّ إبسن وبريخت اثنان مِنْ أعْمِدَةِ المَسْرَحِ في الغرب، اشْتُهِرَ كُلٌّ مِنهما بابتكاراتِه في المَسْرَحِ الواقعيِّ والمُلْتَزِم، ويَربطهما في كثير مِنَ الأحيانِ الاهتمامُ بِمَآسِي الرَّأسماليَّةِ والظُّلْمِ الاجتماعيِّ، خاصَّةً في أعمالِهما التي تُسلِّط الضَّوْءَ عَلى قَضَايا المَرْأةِ، والظُّلْمِ المُمَارَسِ ضِدَّهَا.

وَقَدْ أسهمَ إبسن وبريخت في تَطويرِ المَسْرَحِ، حَيْثُ قَدَّمَ الأوَّلُ الواقعيةَ التي كَشَفَت الحقائقَ الاجتماعية، وَقَدَّمَ الثاني المَسْرَحَ المَلْحَمِيَّ الذي يَدْعُو إلى التَّغييرِ الاجتماعيِّ والفِكْرِيِّ.

***

إبراهيم أبو عواد / كاتب من الأردن

"لن ينقطع الوتر" للروائي والموسيقي أحمد دهيني، صدرت في طبعتها الأولى عن دار ناريمان للنشر عام 2025. رواية أراد الكاتب، متعمداً، أن تدور أحداثها في إيطاليا في القرن العشرين كما في عصر النهضة، وبالرغم من هذا الاختيار المكاني للرواية، إلا أن القارئ بين سطورها يمكنه تأويل الزمان والمكان حيثما يريد، ذلك أن القضايا المثارة فيها لا تختلف كثيراً عن تلك القضايا التي ترهقنا وتحاصرنا، مثل قضايا الفساد والرشوة وتغوّل السلطات الدينية والسياسية وغيرها من المفاهيم التي تصادر العقل لمصلحة الالتزام الأعمى.

كثيرة هي الأفكار والتساؤلات التي أوردتها الرواية على شكل رسائل مشفّرة تسمح بإسقاط مضامينها ومفاعيلها على واقعنا المَعيش ماضياً وحاضراً – ونأمل ألا ينسحب هذا على المستقبل – هذه الرسائل والإشارات وردت على لسان أكثر من شخص من شخوص الرواية، ولعل أوضحها وأكثرها جرأة ما أشارت إليه الرواية في فقرة "مسرحية صوت الله" ونسبتها إلى ألبرتو (وهو المفكر المضطهد المتمرّد على سلطة الجماعة الدينية أو الانقياد الأعمى لها).

لم يعتمد الكاتب تقنية الراوي العليم أو الصوت الواحد، بل إن الرواية شهدت تعدداً للأصوات وانتفت ما تسمى بالبطولة المطلقة لصالح بطولة جماعية تم إيكالها إلى شخوص الرواية، كلٌّ بحسب دوره وموقعه. لذا نجد تعدداً للشخصيات المؤثرة في صناعة الحدث، كما نلحظ اعتماد ما يسمى بالثنائيات كثنائية لورينزو وفيرونيكا، أو ثنائية فرنكو ولوتشيانو، وقبل هذه وتلك ثنائية ألبرتو وأماندا، إلى جانب شخصيات أخرى مثل برونو وماتيلدا وعمهما.1966 ahmad

يُحسب للكاتب أيضاً موازنته بين شخصيات روايته، وهذا إن دلّ على شيء فإنما يدل على حياديته وعدالته، فأفرد المساحة الكافية لكل شخصية دون أن يظهر تحيزه لأي منها. وما الحوار الذي جرى بين برونو وفرنكو سوى خير دليل على حيادية الكاتب الذي استطاع أن يقدم لنا حواراً نزيهاً وشفافاً بين الأخوين دون أي تدخل منه، تاركاً لكل منهما تقديم دفاعه وحججه، فحين اتهم فرنكو أخاه برونو بالفشل وأنه يلهث وراء انتصارات وهمية، وذكّره بأنه يدّعي كرهه للرأسمالية لكنه لا يجد غضاضة من الاستفادة من ثرواتها وتوزيع البعض منها على الفقراء، فإن فرنكو بالمقابل يصف نفسه أنه صادق وواضح ومتصالح مع نفسه، فلا يدّعي الفضيلة ويفعل العكس، ولا يُفصّل للمصلحة رداء الدين ولا ثوب النضال. ليجيبه برونو بأنه هو أيضاً يملك الجرأة للقيام بنقد ذاتي، لكن الشيء الثابت لديه هو مناهضة الصهيونية والدول الداعمة لها، فهو دوماً مع المظلوم ضد الظالم. لكن رد فرنكو لم يتأخر فيقول: "واهمٌ إن كنت تعتقد بشعاراتك الفارغة ستغير العالم وسياسات الدول".

نلاحظ من خلال هذه العينة من الحوارات بين النقيضين أنها أتت صادقة وصريحة وتدفع الحُجّة بالحُجّة، وربما قد تبدو الغلبة فيها لفرنكو الذي بالقطع لا تلتقي قناعاته مع قناعات الكاتب.

ولأن الكاتب – مطلق كاتب – لا بد وأن يظهر طيفه لدى شخص ما من شخوص روايته، فهذا يدفعنا للاعتقاد بأن لورينزو – أحد أبطال الرواية – فيه الشيء الكثير من أحمد دهيني الذي يلتقي معه في هوايات وهموم مشتركة وفي البحث عن أجوبة لأسئلة شائكة، كما أن عشقهما للموسيقى وشغفهما بالعزف هو أحد القواسم المشتركة بينهما. لا بل إن أحمد دهيني هو نفسه لورينزو الذي لم يستطع أباه أن يشتري له آلة موسيقية، فعمد إلى دق مسمارين في خشبة وربطهما بـ(مغيّطة مصاري). وهو نفسه الذي يهوى منذ الصغر قراءة القصص.

بالعودة إلى الرواية، وكما أسلفنا، فقد أشارت إلى المافيا الإيطالية وتغوّلها على كافة القطاعات الاقتصادية والرياضية والإعلامية، وحتى السياسية. كما أشارت إلى ظاهرة الفساد التي أصبحت أشبه ما تكون بثقافة عامة وسياسة معتمدة لدى القوى النافذة بأساليبها الملتوية، ليس أقلها الرشوة، وهذا ما تشير إليه عند التطرق لشراء المباريات الرياضية ونتائجها وأساليب الترهيب والترغيب التي يتعرض لها اللاعبون واستخدامهم للتخلص وأذية غيرهم من اللاعبين، كما حصل مع لورينزو.

استطاع الكاتب أن يجعل من قصة الحب التي نشأت بين لورينزو والفتاة الأرستقراطية فيرونيكا مدخلاً للولوج والتبحّر في الأحداث، ليطل من خلال هذه العلاقة على العنصرية والتمييز الطبقي الذي كان وما يزال سائدأً. لذا نجد فرنكو شقيق فيرونيكا يحذرها من مغبة التمادي في العلاقة الغرامية مع لورينزو، كونها تنتمي إلى عائلة عريقة وعظيمة لها تقاليدها، في حين أن لورينزو من عائلة وضيعة وإرهابية على حد زعمه.

إذا ما حاولنا التوغّل في شخصيات الرواية نجدها متنافرة ومتباعدة، وكل منها يعتنق مبادئ وقيماً لا تنسجم مع الآخر، شخصيات يمكن للقارئ وبكل سهولة أن يلصق كل منها بشخصيات معاصرة في مجتمعنا الحالي مع تغيير بسيط في الأسماء، وسنحاول في هذه القراءة الإضاءة قدر الإمكان على تلك الشخصيات أو بعضها وما تحمله من دلالات:

1- برونو: الأخ الأكبر في عائلة مارفلّينو لكل من فرنكو وفيرونيكا، يمتاز بشخصية متأرجحة تعاني من اضطرابات فكرية وعقائدية، لكن لديه ميل كبير لمساعدة الفقراء ومعارضة شديدة للرأسمالية والصهيونية، لدرجة أنه شارك في القتال ضدها عند اجتياح لبنان 1982. كما تنقّل في التزامه السياسي من اليسار بمختلف فصائله وصولاً إلى التيارات الإسلامية، ولكن ما أصابه بالخيبة أن صديقه الشاعر المناضل قُتل على يد إحدى الجماعات الإسلامية التي يؤيدها، وأن حبيبته  الصحفية بيناكا قُتلت هي الأخرى في تفجير إحدى السفارات على يد نفس الجماعة. هذان الحدثان أصابا برونو بخيبة أمل من كل تلك الأطراف التي ساندها في يوم من الأيام، ووجد أنها غارقة في مستنقع الإجرام والمصالح والنفاق، لا بل الخيانة أيضاً، فقرر العودة للمشاركة في إدارة أعمال العائلة. وفي محاولة منه للاندماج بنشاط العائلة الاقتصادي اكتشف، من خلال تدقيقه في سجلات شركة العائلة، الكثير من المخالفات الناجمة عن صفقات مشبوهة بتدبير من شقيقه فرنكو ومساعده لوتشيانو. ولكونه قارب المحظور واقترب من كهف أسرار الشركة، فقد دفع حياته ثمنأً بموافقة ضمنية من أخيه فرنكو.

2- فرنكو: الأخ الأصغر ولكنه على النقيض تماماً من برونو، فهو يطمح للوصول إلى مكانة مرموقة في عالم المال والأعمال إضافة إلى رغبته في دخول عالم السياسة، ولا يتوانى عن اللجوء إلى شتى الوسائل للوصول إلى ما يصبو إليه، فكل شيء لديه مباح طالما يحقق الغاية المرجوّة والهدف المنشود. ووجد في مؤسسة (جي-آي) السبيل الوحيد للوصول إلى القمة في الميدان الاقتصادي والسياسي.

3- لوتشيانو بروتو: من عائلة متواضعة ولكنه يمتلك قدراً كبيراً من الدهاء والذكاء، شاب انتهازي بكل ما للكلمة من معنى، تنقّل بين الأحزاب من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين لأجل تحقيق غاياته، فالغاية عنده تبرر الوسيلة. كان عضواً في المافيا التوسكانية وأصبح شخصية محورية في عالم الجريمة المنظّمة.

4- مؤسسة جينتي إنتليجينتي: هي شخصية اعتبارية من شخصيات الرواية، عبارة عن جمعية سرّيّة و مؤسسة مافياوية امتدت أذرعها لتطال كافة القطاعات الاقتصادية والرياضية والسياسية بما فيها الإعلام، وتعرف اختصاراً بـ"جي آي"، تتبنى عقيدة عنصرية قائمة على مفهوم نقاء الدم واعتبار بعض الأنساب أرقى وأرفع من بقية الأنساب وأحقّ بالقيادة، فالحكم ليس حقاً للجميع، بل هو مسؤولية تُمنح فقط لمن اختارهم الله بحكمته. وأن هناك خطة إلهية لتحديد مصائر البشر، وأن هذه المنظمة هي المكلفة من الإله بتنفيذ هذه الخطة، فأوامرها ليست قرارات بشرية، بل هي جزء من إرادة كونية عليا.

5- لورينزو: شاب يمتلك صوتاً غنائياً ويتقن العزف على آلة المندولين، ويعشق لعبة كرة القدم التي هي شغفه الأهم إلى جانب انجذابه للقراءة والأدب والسياسة. وقد ربطته علاقة حب مع فيرونيكا التي تشاركه الشغف نفسه بالثقافة والأدب.

أسهب الكاتب في الإشارة إلى فلسفة لورينزو والمبادئ التي يؤمن بها، ولعل أهم هذه المبادئ نظرته لمفهوم الإله الحق ونقده للثقافة الدينية المهيمنة آنذاك. وباختصار، تناولت الرواية – سواء على لسان لورينزو أو قبله ألبرتو كانتابيلي – الصراع بين مشروعين، وأنا أسميه الصراع بين ثقافتين: ثقافة التلقين والطاعة العمياء، وثقافة السؤال والانتقاد. إنه صراع بين عقل يستيقظ وسلطة أدركت أن يقظته تهدد عرشها. لذا نجد ألبرتو – الذي لوحق من قبل محاكم التفتيش ولم يتراجع عن أفكاره فأدين بتهمة الهرطقة – يقول: "إن الأديان حين تفقد بُعدها الإنساني تتحول إلى مؤسسات تخشى السؤال، فتُكفّر الحائر وتعذّب المفكّر". كما أن أسوأ الشرور وأكثرها قبحاً تلك التي تُرتكب باسم الله والدين، لأنها تعطي شرعية وقدسية لتلك الأفعال وتجعل من الله راعياً رسميأً لها. ويصف لورينزو ما تعرض له ألبرتو على يد محاكم التفتيش فيقول: "ما حصل لألبرتو كان نتيجة صراع بين مشروعين متضادين، مشروع يسعى لتحرير الإنسان وحثّه على التفكير، ومشروع آخر متمثل بسلطة دينية وسياسية قمعية رسّخت وجودها على إخضاع الناس وعلى اعتماد مبدأ الطاعة العمياء." (103)

إنها ثقافة التلقين – كما قلنا – التي نحن لسنا بمنأى منها، فهي تحاصرنا بإنتاجها بنية سياسية دينية تمارس الهيمنة من خلال احتكار الحقيقة وتكفير كل من يجرؤ على طرح سؤال أو المطالبة بالعدل. والغاية من ذلك هي بقاء الهيمنة وتثبيت السلطة واستغلال الناس باسم المقدّس الذي استُخدم لتأليه السلطة وليس لتأليه الإله الحق، فالإله الحق لا يخشى الفكر ولا يهاب التساؤل، الإله الحق منارة للفكر الحر. وكما يقول لورينزو: "لقد غرسوا فينا صورة لإله لا يسعه عقل ولا يطمئن له قلب ولا يرضى به ضمير." (81) كما أن فكرة الطاعة العمياء البعيدة عن المعرفة أو التفكير لا يمكن أن تكون منبثقة عن إله عظيم، بل هي فكرة لا تصدر إلا عن مستبد، وأي دعوة إلى انقياد أعمى هي دعوة إلى استعباد الإنسان. وهنا أقتبس (بتصرف) بعض ما ورد في كتاب "العقل المحاصر" للدكتور مروان الدويري، بما مفاده أنه عندما يصبح الدين يتدخل في كل شاردة وواردة في حياتنا فهذا يعني منعنا من التفكير، وهذا يعتبر انتحاراً للعقل.

في موضع آخر، وللدلالة على سطوة ما يسمى برجال الدين أو السياسة (لا فرق)، يوضح لورينزو كيف أن "الباطل يتقن ارتداء عباءة الفضيلة والقداسة ليخدع البسطاء من العامة." (60) وأن أخطر ما نواجهه هو تلك الآلهة البشرية الذين يدّعون امتلاك الحقيقة المطلقة. ويسهب الكاتب على لسان شخوص روايته بالغوص في المفهوم الحق للإيمان، فالصراع ليس بين الإيمان بالخالق من عدمه، بل هو صراع بين المفاهيم والقيم، بين الحق والباطل، بين الخير والشر، بين العدل والظلم.

نقطة أخرى غير بعيدة عما ذكرناه تناولتها الرواية هي مسألة التعصب الأعمى، فالمتعصب يرى نفسه أرقى من سائر البشر، ولا يرى الوسيلة بميزان أخلاقي، بل يراها بعيون الغاية. والمتعصّب المؤدلج يرى نفسه أرقى من سائر البشر، ولأجل ثمرته المقدّسة لا بأس عنده أن تُحرَق بساتين من الثمر وأن يُباد الآلاف من البشر، كما أنه لا يرى الوسيلة بميزان أخلاقي بل يراها بعيون الغاية، وهنا تكمن خطورة تأليه الغاية، حيث يتحول الفرد إلى عبدٍ للنص، أعمى في تعصبه، جامدأً في فهمه.

يجاهر لورينزو بمناداته بالدولة المدنية وفصل الدين عن الدولة، لأنه حين يُزجّ بالدين في الشأن العام تصبح الدولة ساحة للاستعباد بدلًا من أن تكون فضاءً للعدالة.

لا بد من التنويه والإشارة إلى الإحساس المرهف والشاعري الذي لم يغب عن قلم الكاتب – وهو الموسيقي – خاصة في أحاديث الود والغرام بين لورينزو وفيرونيكا، يقول لورينزو مخاطباً محبوبته: "علينا أن نتعامل مع بعضنا كما يتعامل الموسيقي مع آلته الوترية، فالوتر إذا ارتخى فقد صوته، وإذا اشتدّ تمزق وانقطع، الخيار الأمثل يبقى في ضبطه بدوزان يمكنه من أن يصدح بأعذب الألحان، وأشعر الآن أنكِ وتّري ونغمي ونحن كاليد والوتر لا يكتملان إلا معاً كأغنية تعانق فيها الحرف والنغم، وأتي للحروف منتهى التمني وملهمة النغم على وتر المغني."

في إشارة إلى التناغم بين قوى المافيا والنفوذ وبين ما يسمى زوراً التيارات الإسلامية أو الجهادية، نجد أن الكثير من تلك المجموعات المتطرفة ما هي بالحقيقة سوى أدوات من صنيعة الغرب وقوى الشر لاستخدامها في تنفيذ مخططاتها القذرة، كما هي الحال مع لوتشيانو الذي لجأ إلى تحفيز المتطرفين الإسلاميين وتحريضهم على قتل لورينزو.

وكأن الكاتب يؤمن بشكل أو بآخر بتلاقي الأرواح أو بتوأمتها، فأتت قصة الحب التي جمعت لورينزو مع فيرونيكا وما رافقها من أحداث دراماتيكية بمثابة نسخة مستجدة ومشابهة لتلك القصة التي جمعت كلّاً من ألبرتو وأماندا ميديشيتي ابنة العائلة الحاكمة، ووجدنا أوجه تشابه كثيرة بين المحبين الأربعة في هاتين القصتين، فكما كان ألبرتو مناهضاً للسلطة القمعية والدينية أدت إلى ملاحقته واضطهاده وحتى اضطراره للاختباء في أحد الأكواخ، كذلك كان لورينزو يمثل بشكل أو بآخر النسخة الثانية لمسيرة ألبرتو في تمرده وإصراره على فضح المفسدين وعملياتهم من خلال مقالات يكتبها. وكما كانت أماندا السند الخفي لألبرتو ومساندته، كذلك كانت فيرونيكا حاضرة للتخفيف عن لورينزو وما يعانيه من متاعب مالية وغيرها. ويبدو أن قدر الأحرار أن تكون حياتهم ثمناً لما يؤمنون به، فقد انتهى الأمر بألبرتو أن حكم عليه بالحرق، وأيضاً لورينزو استطاع لوتشيانو أن ينتزع موافقة مؤسسة جي.آي على تصفيته.

ومهما كانت النهاية المأساوية التي أصابت الرجلين، إلا أن هذا لا يعني أن الوتر قد انقطع وأن الأمل بالتغيير قد انتفى، بل العكس، فكما يقول لورينزو: إن البحث عن الحقيقة لا يعني بالضرورة الابتعاد عن الله، بل العكس، فإن علاقتي بالله ليست قائمة على الخوف بل على الانسجام العميق مع قيم العدالة والمحبة والرحمة. لذا فما يربطني بالله هو وترٌ دائمُ النغم ولا يمكن أن ينقطع.

ختاماً، نقول للكاتب أحمد دهيني: مبارك لك هذا الإصدار، ونغبطك على جرأتك في تناول هذه الإشكاليات، على أمل ألا ينقطع الوتر ليبقى يرفدنا بالمزيد من الإبداعات.

***

عفيف قاووق - لبنان

تنويه: هذه المقالة كتبت عام ٢٠٠٧ في سياق بحثي متواصل حول إشكاليات قصيدة النثر ثم نشرت في أكثر من ملتقى أدبي كان أبرزها ملتقاي (ضوء الرنين) في نسختي ٢٠١٦ و٢٠٢١ واليوم تعود هذه الورقة لتتضمنها صفحات كتابي النقدي (أنقاض المعنى) الصادر حديثاً عن دار نوافير للطباعة والنشر،  باعتبارها إحدى الإشارات المعرفية التي تعكس خبرتي المتراكمة ورؤيتي الثقافية في مقاربة هذا الشكل الشعري المثير للجدل.

 إن ما أقدمه هنا لا يطمح لأن يكون حكماً نهائياً بل محاولة لفتح أفق للتفكير والحوار انطلاقاً من قناعتي بأن الشعر أياً كان شكله يظل سؤالاً مفتوحاً على الدهشة ومسؤولية جمالية وفكرية على حد سواء

إشكالية قصيدة النثر: بين الحرية الجمالية وسؤال الشكل

تمثل قصيدة النثر واحدة من أكثر الظواهر الشعرية إثارة للجدل في المشهد الأدبي العربي المعاصر لا لما تثيره من أسئلة حول الشكل والجنس الأدبي لكن لأنها تربك التصنيفات التقليدية وتهدد الثوابت البلاغية التي طالما استند إليها الشعر العربي في تشكيل ذائقته. لقد انبثقت قصيدة النثر من رحم الحاجة إلى حرية تعبيرية تتجاوز قيود العمود الخليلي والإيقاع المنتظم فجاءت بوصفها تمرداً على صرامة العروض لا على الشعرية ذاتها محاولة إنتاج خطاب بديل يتأسس على الكثافة اللغوية والتصعيد الصوري والانزياح الدلالي ضمن بناء مفتوح على التأويل والانفلات من النماذج المغلقة.

ومع ذلك فقد بقيت قصيدة النثر موضع التباس نقدي وجمالي إذ تطرح إشكاليتها من جهتين رئيسيتين: الأولى تتعلق بالهوية النوعية والثانية بمستوى التحقق الفني. فهل ما يكتب تحت مسمى (قصيدة نثر) هو فعل شعري حقيقي؟ وهل تمتلك هذه القصيدة أسساً جمالية خاصة تبرر انتماءها إلى الشعر لا إلى النثر المتخيل أو السرد المكثف؟

إن التأمل في بنية قصيدة النثر يكشف عن ميل إلى التحرر من الإيقاع الخارجي مع التعويض عنه بإيقاع داخلي يشتق من النص ذاته: من توزيعه وتقطيعه ونبره وتوتره المعنوي. كما تعتمد هذه القصيدة على الانزياح البلاغي وتكثيف الصورة بالإضافة إلى التناص والمفارقة والتركيب التأويلي كأدوات لصناعة الشعرية.

لكن المشكلة لا تكمن في الشكل وحده وإنما في ضعف الممارسة الكتابية أحياناً حيث باتت قصيدة النثر ملاذاً لمن لا يملكون أدوات الوزن أو لا يتقنون الصناعة الشعرية الأصيلة ما أفرز طوفاناً من الكتابات السطحية التي تشوه التجربة الحقيقية لقصيدة النثر وتغذي الاتهامات التي تلاحقها منذ نشأتها، وفي الوقت ذاته لا يمكن إنكار أن هناك تجارب شعرية عظيمة كتبت ضمن هذا الشكل مثل ما قدمه (أنسي الحاج )(وأدونيس) (ومحمد الماغوط) (وسعيد عقل) حيث استطاعوا تأسيس جمالية موازية تبرهن على أن الشعرية لا تختزل في الوزن بل تتجلى في المجاز العميق واللغة المنفلتة من أسر العادة والتركيب المدهش.

وتواجه قصيدة النثر كذلك إشكالاً نقدياً مرتبطاً بسؤال التلقي إذ أن كثيراً من القراء يعانون في التعامل مع نص لا يتيح لهم مؤشرات إيقاعية واضحة ولا يقدم خطاباً شعرياً مألوفاً ما يجعل عملية الفهم والانخراط الجمالي أكثر تعقيداً ويستدعي قارئاً مدرباً على تفكيك الإشارات النصية وتتبع الحقول الدلالية.

من هنا فإن إشكالية قصيدة النثر ليست في وجودها بل في شرط تحققها الجمالي فهي إمكانية مفتوحة للشعر وليست نفياً له لكنها تتطلب جهداً إبداعياً مضاعفاً ووعياً فنياً ينهض على ركيزة من المسؤولية الجمالية والفكرية لا على مجرد الرغبة في الكتابة بلا ضوابط.

تبقى قصيدة النثر حتى اليوم موضع جدل لا ينتهي بين مؤيد يرى فيها انبثاقاً جمالياً جديداً ومعارض يعدّها خروجاً عن جوهر الشعر وما قدمته هنا ليس أكثر من إشارة أولية أو إضاءة بسيطة على بعض ملامح الإشكالية انطلاقاً من خبرتي ورؤيتي الثقافية تاركةً المجال مفتوحاً لقراءات أعمق ومناقشات أوسع لأن قصيدة النثر لم تُغلق بعد أسئلتها بل تظل في حالة اختبار دائم للشعرية ولقدرة اللغة على أن تدهشنا من جديد.  ولذلك يمكن القول إن قصيدة النثر ليست أزمة جنس أدبي بل هي اختبار مستمر لمفهوم الشعر نفسه ولقدرة اللغة على أن تنتج دهشتها خارج المعايير الكلاسيكية. إنها ليست بديلاً عن الشعر بل انبثاق جديد له بشرط أن تبقى مخلصة لجوهر الشعرية لا لأهواء الكتابة المجانية.

***

مرشدة جاويش

 

في المثقف اليوم