قراءات نقدية

قراءات نقدية

ورواية (نهر الرمان) لشوقي كريم..

يعد الموت في الفلسفة والأدب، لحظة كشف للمعنى، لا مجرد نهاية بيولوجية.. فهو الحدّ الذي تتعرّى عنده الأسئلة الوجودية الكبرى: من نحن؟ ولماذا نعيش؟ وما جدوى الوجود إنْ كان مصيره الفناء؟..

في الفلسفة، رأى (هايدجر) الموت، إمكان الوجود الأصيل.. لأن الإنسان لا يكتشف ذاته إلّا حين يعي حتمية موته..

أمّا (أفلاطون) فعدَّهُ تحرّراً للروح من سجن الجسد.. و(نيتشه) جعَلَهُ شرطاً لتجدّد الحياة.. إذ لا تولد القيم إلّا من رماد الفناء.. وهكذا صار الموت مرآة الوجود، ومقياس التجربة الإنسانية..

وفي الأدب، تحوَّلَ الموت مِن حدث مأساوي إلى تجربة تأويلية.. كما في (جدارية) محمود درويش، و (نهر الرمان) لشوقي كريم حسن.. حيث يُستعاد الموت، لا كفناء، بل كحوار مع الغياب ومعنى البقاء.. فهو في النص الأدبي رمز للتحول والعبور، وفي الشعر والرواية يصبح لغة أخرى للحياة، تنطلق بصمتها، وتؤكد أنّ الإنسان لا يموت إلّا ليكتمل وجوده في الذاكرة والمعنى..

وتنتمي رواية شوقي كريم حسن (نهر الرمان)  إلى تيار سردي يرى أن الحقيقة لا تُقدَّم جاهزة، بل تُنتَج عبر التأويل.. ولذلك لا يظهر الموت في (نهر الرمان) بوصفهِ واقعة، بل بوصفهِ فضاءً للمعنى يتحرك فيه السارد والقارئ معاً..

ووفقاً للهرمينوطيقا الحديثة المتمثلة في فلسفة (غادامير، وريكور) فهم يرون أنَّ الحدث لا معنى له بذاته.. بل يصبح ذا معنى حين نؤوِّله.. وهو جوهر معالجة شوقي كريم حسن، الذي يرى أنَّ الموت ليس ما يحصل للجسد، بل ما يحصل للدلالة، والموت كتأويل لا كصدمة..

وفي الرواية، تنشأ لحظة الموت باعتبارها نقطة الانكشاف التي تنسحب منها كل الأقنعة.. فلا يموت أحد فجأةً؛ بل ينكشف موته في الروح واللغة والذاكرة، كما لو أن الموت نافذة، أو مرآة، أو نصّ ثانٍ يُكتب في الظلال.. وبهذا يتحول الموت إلى تفسير عميق للوجود الإنساني، تفسير للعلاقة بالآخر.. وتفسير للخيبات.. ولخراب المدن.. ولفساد القوانين.. وللهشاشة الإنسانية.. فالموت إذن، ليس حدّاً، بل تأويلاً للعالم..

والنهر في الرواية ليس عنواناً فقط، بل كيان صحيح يشتغل كأداة تأويلية.. وشاهدٌ لا يموت.. بينما يموت البشر، يبقى النهر حياً، مما يجعله قادراً على قراءة ما لا يستطيع البشر فهمه..

والنهر مؤوِّل التاريخ، وكل موت يسقط قرب النهر يتحول إلى (نص) يقرأه النهر ويحتفظ بدلالته.. هو أرشيف غير مرئي، يعيد ترتيب ما تنهار له الذاكرة الجمعية..

والنهر قانون فوق القوانين.. لأنَّ قوانين الإنسان قد تُلغى وتُبدَّل وتُسوَّف.. أما قانون النهر فهو ثابت.. ما يسقط فيه يعود إلى جوهره.. وهذا ما يمنح النهر معنى القانون الطبيعي الأخلاقي، الذي يتفوق على القانون البشري المأزوم والملوث..

والموت من منظور الوجودية التأويلية، وخاصةً عند (هايدغر، وريكور)، هو أوضح لحظة للذات.. والإنسان في الرواية يظهر ككائن لا يفهم نفسه إلّا في لحظة المواجهة مع نهايته.. فالموت هنا ليس عدواً، بل يفسّر للذات ويوضّح للإنسان ما عاشه، وما ضيّعه، وما تمنى أن يكونه.. ويعيد ترتيب الذاكرة.. فتتحول الحياة إلى دفتر أخير يعاد كتابته وهيكلته: المحبة، الخيانات، الوطن، القوانين المكسورة، والأحلام..

فالموت يعيد ترتيبها وفق ما يسمى بدائرة الفهم التي تجعل النهاية تفسيراً للبداية.. والموت يعرّي زيف القوانين، فحين يقترب السارد من الموت يكتشف أن القوانين التي عاش تحتها ليست عادلة.. وإنّ الزمن السياسي كان وما زال غامضاً.. وإنَّ العدالة لم تتحقق.. والموت يصبح معيار الحقيقة لا يترك مجالاً للمجاملة ولا للنفاق..

وإنَّ المقارنة التأويلية مع جدارية محمود درويش ليس تشابهاً تقنياً، بل وجودياً.. فالاثنان يواجهان الموت بوصفهِ كتاب معنى.. كديوان أو نص روائي.. ففي ديوان (جدارية) لمحمود درويش، يفتح الموت باباً للنص: (هذا هو اسمك).. فالنص يعيد الإنسان من الموت إلى المعنى..

وفي رواية (نهر الرمان) لشوقي كريم حسن، يعيد النهر كل موت إلى جذره الدلالي.. كأن كل موت يحتاج إلى تأويل..

والموت عند درويش محاورة.. وعند شوقي، قارئاً صامتاً، بينما النهر هو الذي يتكلم بدلاً عنه.. وكِلا النصين يعتبر الموت فرصة أخيرة لفهم الحياة لا لإنهائها.. لكن الفرق الجوهري هو أنَّ درويش يواجه الموت فردياً من خلال الجسد واللغة.. بينما شوقي يواجهه جماعياً من خلال معاناة الإنسان وخراب المدن..

وذاكرة العراقي الذي عاش الموت يومياً لعقود طويلة، وبكل أنواعه.. فالموت في رواية (نهر الرمان) مساحة للفهم، لا للحضور والعدم.. وهو تفسير يقدّم الحقيقة التي تهرب منها الحياة.. والنهر عقلٌ رمزي يرى ما لا يراه البشر.. وإنَّ القوانين زائلة، لكن قانون الموت ثابت.. ولذلك فهو أعدل من كل قوانين البشر..

وفي الرواية، الموت ليس هزيمة، بل يتشكل من الألم.. وهو فرصة أخيرة لقول الحقيقة..

ورواية (نهر الرمان) تؤسس لرؤية تأويلية تجعل الموت أفقاً معرفياً، لا نهاية مادية.. وتقرأ الموت بوصفهِ كشفاً وتفسيراً، لا استعادة للذاكرة.. ومحكمة أخيرة للمعنى.. وبهذا تصبح الرواية جدارية عراقية، تقف إلى جانب جدارية درويش، ولكن بصوت محمّل بتجربة الأرض العراقية، وذاكرة إنسانها ومعاناته في الاضطهاد والحروب والإرهاب والدم.. وتكشف التشوّهات التي خلفتها الحروب والخوف من السلطة المتجبرة، وهروب وضياع الإنسان في الشتات والمهاجر..

والقاص والروائي (شوقي كريم حسن) في كل رواياته وقصصهِ القصيرة، دائماً ما يعرّي الواقع، ويمثّل أدبه سرداً إنسانياً غاضباً، يعكس وجدان الإنسان العراقي في أكثر من نصف قرن من الاضطرابات..

إلّا أنه في رواية (نهر الرمان) جعلَ من الموت منظومة من المعاني والتأويلات، ليواجه الإنسان من خلاله حدوده القصوى.. لأنه ليس نهاية الإنسان، بل ليكتب من خلاله آلامه وعذاباته ويقينياته..

فتعد هذه الرواية بحق، نَفَس جديد يصبح فيه النهر مساراً للوعي، لا مجرى، فيغدو مرآة للذات وهي تواجه وتتأمل معنى نهايتها.. وشوقي كريم حسن نجح حين لم يكسر النسق السردي، بل أعاد تشكيله، بحيث ظلت الشخصيات واقعية، لكن رؤيتها للعالم تنفتح على أسئلة وجودية.. بعد أن جعلت الموت تجربة معرفية، لا حادثاً وفقداناً..

فالرواية عمّقتْ الأسئلة الفلسفية، ونجحت حين جعلت للموت معنى لا نهاية.

***

حسين علاوي

 

التمثيل التخيلي لمستويات دلالية مركبة

الفصل الأول ـ المبحث (6)

***

توطئة: يتمظهر النص الروائي في أجزاء وفصول رواية (حياة الكاتب السرية) من جلة مكونات وعناصر خاصة من النمذجة التي يقترحها التفاعل الدينامي بشكل متراتب وذي تأثير متبادل وروح الخلايا المركبة من جزيئات البنيات التكوينية والعلامات والأخبار والتقارير التي تخضع في نمو مسار معطيات السرد إلى سنن توالدية وتحولات ومواريات سردية وخطابية متعددة في مستوى الإحالات والعلاقات الأكثر غورا في منظومة عضوية حالات وبنيات السرد الروائي.

ــ آليات الحكي وتفاصيل حكاية قديمة

تكشف لنا النتائج الدراسية التي توصلنا إليها في بعض مباحث دراستنا السابقة للرواية موضع بحثنا فتوصلنا في هذا المبحث إلى محورية (آليات الحكي) الذي كشفنا فيه عن مختلف المحكيات التي تكونت في مسار المتن السردي من الانساق والتخييلات في الأنماط التالية (النسق الواقعي ــ الاشارات الزمنية ــ نموالشخصية وتطور طباعها ــ اتساع الوصف ــ الحوافز الظهورية والضمنية) بوصفها أفاقا لاشتغال تقنية (تداخلات وتعالقات المغامرة السردية) بلوغا نحو محكي المتن وما تتمظهر من خلاله من مواضع ومواقع حياة الشخصية الروائية ناثان فاولز ونزوعاته وعلاقاته اللامشخصة إزاء حكايات وعقد جرت في تفاصيل زمان غير محدد شكلا ومدلولا.

1ـ الداخل الشخوصي ومسافة الأشياء الحادثة:

من خلال استعراضنا لحياة الشخصية فاولز عبر تمظهرات حيواته المغلقة على تواريخ زمن لا يمكننا ترجمته إلا من خلال وسائط شخوصية وعقدوية تتمثل بأشد أوجه الانماذج الضدية المنشطة من خلال تفكيكية وتماسكية هجرانه لحياة الكاتب دون ورود مقدمات من شأنها تبرير ذلك الانفصال بين الكاتب وزمنه التخييلي بصورة مفاجئة. نتبين من خلال محكيات الرواية أن فاولز كان مبتئسا من: (ولى زمن الألفة ومعاقرة المشروب معا في أجواء من الفرح ومودة السكان الاعتيادية. حتى دفء الطقس المؤنس هجر المكان. بات الشك والارتياب يهيمنان على الجو في كل مكان. وقد ازدادت حدت التوتر اليوم حين عنونت صحيفة أسبوعية محلية موضوع غلافها ــ أسرار جزيرة بومون السوداء ــ. / ص 115الرواية) على هذا النحو كان جميع أهالي بومون يصابون بالجنون إلى جانب الخوف من وجود قاتل بارد الدم بينهم على الجزيرة. بهذا المعنى تتصاعد وتيرة الخوف من الداخل والخارج الشخوصي وعلى مسافة مخبوءة من تطورات الأحداث الروائية والأوصاف للأشياء المؤثرة: (دفعني صوت التنبيه الصادر من هاتفي إلى الخروج من تحت كومة الأغطية، فركت النوم من عيني قبل أن أكتشف ما ظهر على الشاشة. كان لوران لافوري قد نشر توا مقالتين متتاليتين.. دخلت إلى مدونته. كان منشوره الأول يستعرض صورة لوجهه المتورم. فقد روى أنه كان ضحية اعتداء تعرض له في الليلة السابقة ــ وقد زعم أن مجموعة من الزبائن هاجمته، متهمة إياه بتأجيج الهوس الذي بدأ يستولي على الجزيرة بتغريداته. / ص116 الرواية) إن ما يميز هذا الشكل الإنتاجي هو ارتباط المنتج بظواهر متبدية ومحاقبة، أي ما يعدها كمؤشرات في صلب استراتيجية الإنتاج، بلوغا نحو جملة علاقات وأواصر تصب في حيز السنن المتبدية كأدلة جزئية داخل المتبدي والمحاقب، بمعنى ما أن وحدات السرد التي كان يتابع السارد المشارك قراءتها من على الشاشة هي سيرورة الإدراك إلى ذلك الواقع المصاغ في التفكير والسؤال المداري، كما هو الحال مع مدارات أخرى من الوقائع: (لم يكن لافوري مخطئا في استنتاجه الأخير، لا بل كان متبصرا. كان الصحافي يرصد مشاعر الكراهية ويجسدها. يعيش في الوقت نفسه لحظة مجد ومعاناة حقيقية. كان يظن بحق أنه يؤدي واجبه المهني ليس إلا. / ص117 الرواية).

2ــ أبولين شابوي وكريم عمراني سيرة ذاتية مضللة:

تطفح على مستوى مدارية المتن الروائي حكاية أبولين شابوي وزوجها كريم عمراني ومن خلال ما قرأنا من سيرة أبولين شابوي نلاحظ أن هناك معطيات سردية تتعلق بكيفية ووسيلة اقترانها  بكريم عمراني كزوجا: (أما المقالة الثانية التي نشرها الصحافي فكانت عن التحقيق الذي تجريه الشرطة، وبنوع خاص التحقيق في شخصية الضحية وقصتها: في العام 1980 ولدت أبولين شابوي، وكانت شهرتها مرينياك قبل الزواج. أرتادت مدرسة سانت كلوتيلد ثم ثانوية فينيلون سانت ماري. كانت فتاة خجولا ولامعة ــ خلال سهرة للطلاب تعرفت إلى كريم عمراني، وهو تاجر مخدرات صغير يجري الصفقات عند جادة لاشيابيل ووقعت في غرامه. / ص117الرواية) تخبرنا الرواية من خلال الوحدات الخاصة بكريم عمراني بأنه ترك تحصيله الدراسي في مجال الحقوق، وهو متحدث حصيف، غالبا يبدو شارد الذهن، يميل إلى اليسار المتطرف، من عادته الشروع في الأحلام، فكان يحلم بأن يصبح فيدل كاسترو. أصبحت أبولين أكثر تغيبا عن حصصها وانتقلت لتسكن معه في كوخ وضيع في شارع شاتودان، شيئا فشيئا أصبح كريم عمراني يتعاطى المخدرات وكان يحتاج دائما إلى المزيد من المال لدفع ثمن جرعاته. غرقت أبولين في حياة منحرفة رغم الجهود الكثيفة التي بذلتها أسرتها لإخراجها من هذه الأجواء. بدأت ممارسة الدعارة ولكن سرعان ما لم يعد المال الذي تجنيه منها كافيا، فأصبحت متواطئة مع كريم وغاصت مع في حياة الشرذمة والانحراف. غدا السارد المشارك غاطسا في تفاصيل سيرة أبولين شابوي وكريم عمراني وإلى درجة ينأى بجريمة قتلها خارج حدود جزيرة بومون وسكانها.

ــ كشوفات الموقع الشخوصية وصراع خفايا الرسائل

تمنحنا الوحدات السردية في الفصول الروائية من رواية (حياة الكاتب السرية) ذلك التحول في علاقة ناثان فاولز بالسارد المشارك، خصوصا وهو الأخير الذي تصدى له فاولز عندما حاول التسلل إلى منزله وقد قام فاولز حينها بأطلاق رصاصة نحوه في الموقع الحجري الذي يفصل ما بين شاطىء البحر ومنزله، ولكنه اليوم أي ــ فاولز ــ راح يستقبله بحفاوة كبيرة لم يعهد لمثلها من قبل السارد المشارك: (دعاني فاولز إلى الجلوس وجلس قبالتي: ــ سأدخل في صلب الموضوع، خاطبني وعيناه تحدقان في عيني إن استدعيك إلى هنا، فذلك لأني بحاجة إليك؟. / ص121 الرواية) نتبين من خلال تلك الجلسة الحوارية التي استغرقت تقريبا من الصفحات (ص121. ص122. ص123. ص124) جملة محكومة بغاية الرجاء من فاولز نفسه (أنا بحاجة إلى مساعدتك) وبعد زمن من الحوار نكتشف حجم الخطورة في طلب فاولز من السارد المشارك الذي كان يساوم فاولز بالمقابل من إسداء هذه الخدمة له. كان رفاييل ــ السارد المشارك ــ قد وضع حقيبة في المرة الأولى من لقائهم الأول تحتوي على مسودة روايته الأولى: (ما أريده هو أن تقرأ مخطوطتي؟ بهدوء فتح فاولز الحقيبة لإخراج الرواية التي رميتها له خلال لقائنا الأول: لقد قرأت نصك أيها الصغير! أجابني والبسمة مرسومة على شفتيه. أعطاني مخطوطة ــ خجل القمم ــ والسرور باد على وجهه لأنه تمكن من الإيقاع بي. / حسنا هل ستقبل بمساعدتي، نعم أو قطعا لا؟ بكل جدية، حدق فاولز في عيني من دون أن يرمش له جفن: ــ ماذا تريدني أن أفعل؟ ــ أولا، أريد منك أن تستعلم عن امرأة من هي؟ ــ صحافية سويسرية موجودة على الجزيرة أسمها ماتيلد موني. / ص126 الرواية) على أساس من هذا، ينمو فعل بحث رفاييل في المنزل الذي كانت تسكن فيه ماتيلد موني، ذلك بعد خروج صاحبة المنزل العجوز بصحبة امرأة مسنة إلى الكنيسة. وبعد صراع رفاييل في البحث في مقتنيات غرفة ماتيلد تمهدها مطاردة ذلك الكلب له داخل المنزل، وبعد البحث المضني: (كان من الواضح أن ماتيلد تجري تحقيقا حول فاولز. لم يكن هناك جهاز كمبيوتر على مكتبها، ولكن كانت هناك العشرات من المقالات المطبوعة المظللة بقلم ستابيلو، كنت أعرف هذه الأوراق، إنها تلك التي كانت تظهر دائما حين أجري بحثا في شبكة الأنترنيت: المقابلات القديمة نفسها من حقبة التسعينيات التي أجريت قبل أن يعتزل فاولز الكتابة، ثم مقالتان مرجعيتان الأولى نشرتها صحيفة ــ نيويورك تايمز) في العام 2010 بعنوان ــ الرجل الخفي ــ والثانية نشرتها ــ فانيتي فير الأمريكية قبل ثلاث سنوات بعنوان ــ فاولز أو خطأ والعكس صحيح ــ / ص136 الرواية) كما سنلاحظ أن هذه الشخصية رفاييل بأعتبارها فاعلا ذاتيا تزاوج ــ على طول خط السرد ــ بين السرد والتبئير، فهي التي تتكلم وهي كذلك التي ترى، وسيتم من خلالها نقل أغلب الخطاب الروائي لهذه الرواية.

ــ تعليق القراءة:

تتجلى فضاءات رواية (حياة الكاتب السرية) من خلال أحداثها وأفعالها ومحاورها الزمنية والمكانية والشخوصية وحبكتها البوليسية التي تحتل المراحل الغامضة من زمن الرواية. فالحكاية الروائية تتبع سياق تسلسل الأحداث، تمتاز بموضوعة روائية كبيرة في البناء والأسلوب والنمو الدلالي. الرواية كأصوات سردية تطل من على المشاهد ضمن أداة الناظم الخارجي ويتحول بدورها إلى ناظم داخلي عندما يسجل آثار التحولات والأفعال في الرواية. سوف يواجه القارئ عند قراءة الرواية مدى تجليات الرؤية السردية وتصورات الفعل الروائي وهو يتأرجح في حدود التماهي بين شخوص الرواية وخطابها التشويقي في السرد والتبئير والتنصيص المركب.

***

حيدر عبد الرضا

قراءة في رموز واسقاطات النص

من بين الوجوه الأدبية التي لفتت انتباهي في الآونة الأخيرة، يبرز اسم رضوان علوي بوصفه أحد الاكتشافات الإبداعية المدهشة التي تعرفت إليها خلال ملتقى الشعر عن غزة الجريحة. لقد كان حضوره هناك أشبه بشعلة داخل عتمة، إذ قدّم عرضاً ذا طبيعة مسرحية تقترب من روح المونودراما، عرضاً ترك في نفسي أثراً لا يزول، بما حمله من حرارة الأداء وصدق الانفعال وقدرته على تحويل الجرح الفلسطيني إلى طاقة درامية نابضة. ولعل هذه القدرة ليست وليدة اللحظة، فالرجل ينشط منذ سنوات في المسرح والمونودراما والسيناريو، ويُتقن تحويل الكلمة إلى فعل مسرحي، واللحظة إلى مرآة تتقاطع فيها الذات مع صدى العالم. ولم يكتفِ علوي بالخشبة، بل اتجه إلى الكتابة، فكان من آخر أعماله كتاب مشوق بعنوان «مذكرات رجل خمسيني» الذي يبدو أقرب إلى السيرة الذاتية، وقد أثار فضولي بالتوازي مع الكتاب الذي نحن بصدد قراءته الآن: «لن أذهب إلى كانوسا» الصادر عن دار هيبوريبجيوس سنة 2025. عنوان هذا الكتاب وحده كان كافياً ليشدّني قبل القراءة، لما ينطوي عليه من موقف، ولما يستدعيه من رمزية تاريخية، ولما يحمله من إيحاءات سيادية تتعلق بعلاقة الدولة بذاتها وبالآخر. وقد دخلت عالم النص وأنا أحمل قناعة مسبقة بأنني أمام عمل مشبع بروح الأنفة والاعتزاز، تلك الروح التي عبر عنها رئيس الجمهورية في إحدى تصريحاته حين أكد أن كرامة الشعب والجزائر، أرض الشهداء، خط أحمر لا يُمسّ.

ومع التوغل في النص، تتبدى منذ الصفحات الأولى بنيته العميقة، بنية تقوم على خطاب درامي متوتر، يتخذ شكل المونودراما التي يواجه فيها البطل ذاته، وصوراً غامضة، وأصواتاً تتخلل ذاكرته. في الصفحات 7 إلى 15 يفرض النص نفسه باعترافٍ ممتدّ تتصارع فيه صورتان: صورة الذات المتشبثة بالذاكرة الوطنية، وصورة الصوت المتقنع بحجة الانفتاح والتسامح وهو في جوهره امتداد ناعم للاستعمار. يقول السارد في الصفحة 10: «أنت وطن، والوطن لا يُباع ولا يُخدع»، وهي جملة تكثّف الصراع الوجودي الذي يشكل هيكل الكتاب: صراع الذاكرة ضد النسيان، الهوية ضد التلاشي، الكرامة ضد الخضوع. بهذه الثنائية، يعلن النص منذ بدايته أنه ليس مجرد خطاب سياسي، بل سرد وجودي يتجاوز الحدث نحو ما يسميه فلاسفة التأويل بالبنية العميقة للمعنى.

من خلال هذا البناء الدرامي، تنفتح القراءة السيميائية لتكشف شبكة العلامات التي ينسجها الكاتب بعناية. فالجزائر هنا ليست جغرافيا، بل أمّ حقيقية ورمزية في آن واحد. في الصفحة 8 أتت العبارة: «كانت أمي ترضعني معنى الكرامة مع اللبن»، لتجعل من الأم دالاً مزدوجاً يشير إلى الأم البيولوجية كما يشير إلى الوطن بوصفه حضناً للمعنى. أما فرنسا، فهي ليست دولة بل ظلّ يلاحق الذاكرة، وصوت يطالب بالنسيان. في الصفحة 20 يتجلى هذا التوتر حين يقول الصوت: «دعنا نفتح صفحة جديدة»، فيجيبه السارد: «دفتر التاريخ امتلأ بالدم، لم تبق فيه صفحة بيضاء». هنا لا تكون الصفحة البيضاء مجرد ورق، بل رمزاً لطلب محو الألم، في حين يتحول الدم إلى رمز للذاكرة الحيّة التي لا تقبل المساومة.

ويمتد الخط السيميائي ليشمل صورة الرئيس الذي لا يظهر كشخص بل كرمز. ففي الصفحات 30 إلى 35 يبدو الحاكم بوصفه امتداداً لروح الجزائر لا كفرد، فيرد وصفه بأنه «الابن الشرعي للأم الجزائرية» (ص 31)، مما يجعله داخل النص تمثيلاً لوحدة الشعب والسلطة في المعنى الوطني. ويحضر بومدين كطيف لا يغيب، كقيمة أكثر منه حدثاً، حين يرد في الصفحة 33: «ظلّ الجزائر الذي لا يغيب». وفي هذه الإحالات، ينسج الكاتب سلطة رمزية تتجاوز السياسي نحو الأسطوري.

غير أن الرمز الذي يشكل قلب النص هو «كانوسا». الامتناع عن الذهاب إليها ليس رفضاً لحادثة تاريخية، بل رفضٌ لجوهر الذلّ. في الصفحات 12 إلى 14 يتحول هذا الرمز إلى دعامة وجودية: فالذهاب إلى كانوسا ليس فعلاً سياسياً فقط، بل سقوط في الوجود الزائف عند هيدغر، في حين يصبح رفض الذهاب إليها إعلاناً لوجود أصيل، وجود لا يتخلى عن ذاته أمام ضغط الخارج.

وإذا كان القسم الأول من النص مشبعاً بالبعد السياسي والرمزي، فإن القسم الممتد بين الصفحات 40 و60 يأخذ طابعاً شعرياً يتأمل هشاشة الإنسان وقوة الكلمة. هنا يتصدر الشاعر المشهد بوصفه علامة سيميائية قائمة بذاتها، فهو ليس راوياً فقط، بل حامل ذاكرة. في الصفحة 43 يقول: «الكلمة أضعف من الرصاصة، لكنها تصنع موتاً أبقى»، وهي عبارة تشخص جوهر الكتاب: مقاومة بالكلمة، وأسطرة للشهادة، وتقديس للذاكرة. وتبلغ الرمزية أوجها حين تظهر فلسطين في الصفحة 58 بأنها «وطن في السماء»، وطن يتجاوز الخرائط، وطن يصنعه الجرح والحلم معاً.

وعند مقاربة النص مقارنةً بأعمال أخرى، يتضح انتماؤه إلى ثلاثة عوالم أدبية كبرى: عالم أدب المقاومة كما لدى درويش، عالم المسرح السياسي كما عند سعد الله ونوس، وعالم الالتزام الوجودي كما عند سارتر. لكنه يقترب أيضاً من رؤية فانون في «معذبو الأرض» حين يتحدث عن الاستعمار الذي لا يموت إلا إذا مات في الذاكرة، وهو ما نجده في الصفحات 18–25 حيث يحذّر السارد من محاولات «تبييض» التاريخ. ومع ذلك يختلف نص علوي في كونه يمنح الكلمة دوراً يعادل الفعل، والشعر مرتبة توازي المقاومة، وفلسطين مكانة سماوية ليست للتفاوض بل للإقامة الروحية.

وبعد هذا كله، يبدو أن «لن أذهب إلى كانوسا» ليس نصا خطابيا بل بناءً رمزياً معقداً، تحكمه شبكة من العلامات المتشابكة: الأم التي ترمز إلى الوطن، والوطن الذي يصبح ابناً، والرئيس الذي يتحول إلى مرآة، والشاعر الذي يتخذ شكل شهيد آخر، وفلسطين التي تطفو فوق الأرض، وكانوسا التي تغدو نفيًا وجوديًا. إنه كتاب يكتب الجزائر بوصفها ذاكرة لا تُنسى، ويكتب فلسطين بوصفها فكرة لا تنطفئ، ويكتب الإنسان بوصفه كائناً يرفض أن يتخلى عن جراحه لأنها شواهد وجوده.

***

ليلى تبّاني - الجزائر

يعدُّ فيلم "فاطمة" (Fatima 2020) للمخرج ماركو بونتيكورفو، أحدث معالجة سينمائيّة لواحدة من أشهر الأحداث الدينية في القرن العشرين (نهاية الألفيّة الثانية)، يقدم الفيلم توثيقًا دراميًّا للأحداث التي جرت في بلدة "فاطمة" في البرتغال عام 1917، حيث ادّعى ثلاثة أطفال من الرعاة هم: (لوسيا دوس سانتوس وابنا عمها: فرانسيسكو وجاسينتا مارتو) أنّهم شاهدوا أكثر من مرّة سيدة "مشرقة أكثر من الشمس" قادمة من الجنّة، وأخبرتهم بأخبار غيبيّة عن الحروب المستقبليّة وعن موت فرانسيسكو وجاسينتا وأمور أخرى، والتي تحققت بالفعل لاحقًا.

ترصد الدراما الصراع الذي واجهه هؤلاء الأطفال، بين إصرارهم على صدق مشاهدتهم وبين ضغوط السلطات العلمانيّة المعادية للدين في الجمهوريّة البرتغاليّة الأولى، وكذلك شكوك الكنيسة الكاثوليكية نفسها مع إنكار أهاليهم في بداية الأمر، ويبلغ الحدث ذروته فيما عُرف بمعجزة الشمس في 13 أكتوبر عام 1917، التي شهدها جمع غفير يُقدّر بمئة ألف أو يزيدون.

يستند هذا الفيلم وكذلك الرواية الرسمية للكنيسة إلى النص الأصلي الموثق لهذه الظهورات وهو "مذكرات الأخت لوسيا" (Memoirs of Sister Lucia) التي كتبتها بعد سنوات، تقدّم هذه الرواية تفسيرًا لاهوتيًّا كاثوليكيًّا للحدث، إذ عرّفت السيدة القادمة من الجنّة نفسها على أنّها "سيدة المسبحة" (Lady of the Rosary)، وطلبت من الأطفال الصلاة والتكفير عن الخطايا، وأوكلت هذا الأمر إلى لوسيا بوصفها رسولة المسيح إلى هذا العالم، وقد فسرتها الكنيسة الكاثوليكية رسميًّا منذ عام 1930 بأنّها السيّدة مريم العذراء.

غير أنّ هذا التفسير الكاثوليكي الرسمي يتجاهل مفارقات جوهريّة، تفتح بابًا واسعًا للتأويل، وأولى هذه المفارقات هو مكان الحدث، حيث يحمل اسمًا عربيًّا إسلاميًّا يعود إلى فترة الحكم الإسلامي في الأندلس، وتنسب الروايات التاريخيّة الشائعة الاسم إلى أميرة مسلمة (موريسكية) من القرن الثاني عشر تُدعى "فاطمة"، مما يضعنا أمام مفارقة أوليّة: حدث يُفسر مسيحيًّا، يقع في مسرح يحمل اسمًا إسلاميًّا، وهذه المفارقة مصحوبة بالانزياحات الرمزيّة والبصريّة التي يقدمها الفيلم نفسه – والتي سنناقشها لاحقا – تدعونا إلى تجاوز التفسير الرسمي نحو تحليل أعمق للرموز والخطاب.

لا تتوقف المفارقات عند الاسم وحسب، بل تتجلى بوضوح أكبر في النص البصري للفيلم الذي ينحرف عن النص الأصلي بطرق تحمل دلالات عميقة.

1-  من الأشواك إلى المسامير:

يذكر النص الأصلي، أنّ السيّدة أظهرت للأطفال قلبًا محاطًا بالأشواك، وهذه إحالة واضحة إلى تاج الأشواك الذي وُضع على رأس السيّد المسيح، والذي يجسّد آلامه، ولكن الفيلم، في معالجته الدراميّة، يظهر المشهد على أنّ السيّدة كشفت عن منطقة صدرها لتري الأطفال تلك المسامير النابتة في صدرها وجريان دمها، وهذا الترخيص الفني من المخرج ليس بريئًا من الناحية التأويليّة، إذ كان المخرج يهدف – على الأغلب – لربط آلام مريم بمسامير صلب المسيح، ولكنّه بقصد أو بغير قصد فتح بابًا لتناص مع سياق آخر تماما، ويحمل دلالات أخرى، فالمسمار رمز غائب عن لاهوت مريم العذراء، ولكنّه رمز محوري وحاضر بقوّة في الذاكرة الإسلاميّة الشيعيّة كأداة مرتبطة بآلام السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) في حادثة (مسمار الباب)، لقد استبدل الفيلم رمزًا مسيحيًّا خالصًا (الأشواك) برمز مشترك (المسمار)، وهو يمتلك إحالة أقوى في السياق الإسلامي الشيعي لحادثة الدار الفاطمي.

2-  مركزيّة المسبحة:

تعرّف السيدة القادمة من الجنّة نفسها على أنّها "سيّدة المسبحة"، وفي حين يُفسّر هذا مباشرة بـ"المسبحة الورديّة" (Rosary) الكاثوليكيّة، فإنّ هذا التوازي الوظيفي مع تسبيح فاطمة الزهراء في التراث الإسلامي الشيعي لا يمكن إغفاله نقديًّا (تأويليًّا)، فكلاهما عبادة ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالشخصيّة المقدّسة (مريم، فاطمة عليهما السلام)، وكلاهما يُستخدم كأداة للذكر.

3-  المعجزة "حادثة الشمس":

إنّ الدليل الأكبر الذي قُدّم للحشود (معجزة الشمس) له نظير نمطي مدهش في التراث الإسلامي، فظاهرة "سقوط الشمس" في الظهور الأخير للسيّدة تجد صداها في كرامة "ردّ الشمس" للإمام عليّ عليه السلام (زوج السيدة فاطمة عليها السلام)، إنّ تكرار نمط المعجزة الكونيّة الشمسيّة كدليل إثبات في كلا السياقين يربط سياق السيّدة في البرتغال بسياق "علي وفاطمة" عليهما السلام.

4-  تحليل الخطاب:

إذا كان الإطار الرمزي الخارجي (الاسم، المسمار، المسبحة، المعجزة) يهيئ المسرح لقراءة مغايرة، فإنّ الخطاب الداخلي للسيّدة في الفيلم يكاد يُصرّح بهذه القراءة عبر ثغرات عميقة:

أ- أزمة الهويّة: اللافت أنّ السيّدة لم تقل صراحة أنا مريم العذراء أو أمّ المسيح أو ما شابه، بل عرفت نفسها على أنّها "سيّدة المسبحة" مما يحيل إلى قراءة مختلفة تمامًا للحدث عن القراءة الكاثوليكيّة، والأكثر دهشة وغرابة من ذلك – كما يظهر في الفيلم - هو حديث السيّدة المتكرر عن مريم العذراء وكأنّها شخص آخر، وهذا (انفصام لغوي)، ويعدّ دليلا تأويليًّا قويًّا على أنّ الذات المتكلّمة ليست هي الذات المشار إليها (مريم العذراء عليها السلام).

ب- أزمة اللاهوت: يكشف خطاب السيّدة عن تناقضات مع العقيدة التي يُفترض أنها تمثلها، فهي تطالب الجمهور (الذي يُفترض أنّهم من المؤمنين) بالإيمان، كما حدث مع الطفل المقعد، إذ طلبت أمه من لوسيا أن تطلب له الشفاء من السيّدة، فطالبتهم السيدة بالإيمان ليُشفى الطفل، مما أثار استغراب الأم قائلة "ابني مؤمن!"، وهذا يشير إلى أنّ السيدة لم تطالبهم بتعميق إيمانهم، بل هي طالبت بالإيمان، مما يعني (ربّما) أنّها تطالبهم بإيمان مغاير عن إيمانهم.

كما أنّها طالبتهم بالتوقف عن إهانة الله، وقالت: "الله أبعد من أن يهان فعلا"، وهذا المفهوم غريب جدًّا، فالله لا يُهان بذنوب العباد، وهذه لغة أراها غريبة عن اللغة المسيحيّة، ولكنّها لغة قرآنيّة بامتياز، يقول سبحانه: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَّكُمْ ۚ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ ۚ سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۗ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا) (المائدة، 73)، والأغرب من ذلك إخبارها للوسيا بأنّها ستهديهم إلى ابنها، ولا أعلم كيف تهديم لابنها وهم يعبدونه في الأصل، فهل تريد الإشارة إلى أنّ كيفية اتباعهم باطلة؟، أم أنّها تقصد شخصًا آخر غير المسيح؟، هذا في حال كونها مريم، أم في كونها فاطمة الزهراء عليها السلام فالمسألة واضحة، وهذا التحليل يعضّد التأويلات المغايرة للرموز المذكورة في الحادثة الأصلية والفيلم السينمائي الذي جسّدها.

إنّ قراءة فيلم (Fatima 2020) بمعزل عن سياقه الرسمي الكاثوليكي، وباستخدام النقد التأويلي، تكشف عن نسق دلالي متكامل ومدهش، فعندما تجتمع الرموز التي حللناها مع الخطاب الداخلي فإنّنا نصل إلى ضرورة رمزيّة.

يخلص هذا المقال إلى أنّ فيلم "فاطمة" والنص الأصلي للحدث نفسه، بغض النظر عن قصديّة المؤلّف، هو نص مفتوح، يُنتج معنى يتجاوز تفسيره الرسمي، إنّه نص يروي قصّة ظهور حقيقي لمريم العذراء (بحسب التفسير الكاثوليكي) ولكنّه يضمر بقوّة قصّة فاطمة الزهراء (عليها السلام)، فإمّا أن يكون الظهور ظهورًا فاطميًّا أوّل بتأويل مسيحي، أو أنّه ظهور مريمي حقيقي، يضمر المعنى الحقيقي لهذا الظهور، وهو: فاطمة الزهراء، رمز الحبّ والسلام من جهة، والثورة على الظلم من جهة أخرى.

***

حيدر مجيد اليعقوبي – جامعة الكوفة – كليّة الآداب

للشاعرة اللبنانية دلال برّو الساحلي

تعتبر قصيدة «بحبوبِ المطرْ والرذاذُ فمي» نصّ غنائيّ يحاكِي تجارب الفقد والحضور المتردِّد، مع موسيقى داخلية تشدُّها مرجعياتٍ ثقافية وغنائية (بيتهوفن، «رسالة إلى إليزا»)، ومناخاتٍ موسمية (آذار، نيسان)، ورموز دينية ووطنية (مئذنة، «الله أكبر»، طقوس). منهاج القراءة هنا ينزع إلى فتح النصّ طبقةً بعد طبقة: الكشف عن دلالاته الظاهرة والباطنة، تتبُّع شبكة الصور والأساليب، وربط دلالاته بالبنى النفسية والدينية والوطنية التي تنزوي أو تندلع تحت الجلد الشعري.

1. التركيبة العامّة والصوت السرديّ:

١- الاسم الصوتيّ للقصيدة: صوت مُحاور مخاطَبٌ (أنتَ) — مخاطبٌ ثالثٌ غالبًا حنونٌ أو جارحٌ — والصوت الراوي/المخاطِبة يحمل مرارةً وحنينًا متقاطعين. تكرار صيغة الفعل «تركتَ يدي» يعمل كقيمة محورية تُعيدنا إلى فعل الانفصال المادي والرمزي: اليدُ هنا ليست فقط عضوًا بل رمزُ الفعل، رمزُ الحضور، رمزُ الإمساك بالعالم. تكرر العبارة يضخُّ لهيبًا من الخسارة ويحوّل الضياع إلى طقسٍ شعريّ.

٢- النّبرة: تُمزج فيها القداسة بالحنين واللوعة بالتهكّم الطفيف. الخطاب يسير بين السرد الشعري (صور الطبيعة، الشهور) والمخاطبة الموسيقية (بيتهوفن)، فيتشكّل نصًّا متعدد الأصوات: صوت عاشق، صوت متذكّر، صوت ناقد ذاتيّ.

2. البنية الموضوعية: الموسيقى، المطر، الشهور، واليد المغيَّبة:

١ - الموسيقى كإطار إشكالي:

افتتاح القصيدة بالإشارة إلى بيتهوفن و«رسالة إلى إليزا» يضع الموسيقى كقلبٍ للذاكرة والوجع. الموسيقى هنا ليست زخرفة: هي حافظة الذاكرة والمكث النفسي؛ هي «الزمان» الذي يعزف الحنين. «قد تركتَ يدي تعزف زوايا ومسامات» صورة تكثّف فكرة أن اليد المادية تترك أثرًا موسيقيًا/مكانيًا: الزوايا والمسامات مكانية وحسّية في آن، كأن الفقد يترك الخريطة التي تعبرها الريح.

٢ - المطر والرذاذ ـ أمواج الشوق:

العنوان ذاته «بحبوبِ المطرْ والرذاذُ فمي» يقوم بتفكيك الحواس: المطر كحبيبات (تفصيل، دقّة) والرذاذُ في الفم — صورة تُحوّل المطر إلى فعل كلامٍ أو ذوق: الشاعرة تتذوقُ الغياب. هنا تداخل حسيّ (سماعي/لمسي/ذوقي) يفضي إلى تجربة شِعريّة متعدّدة البُعد.

٣ - الشهور: آذار ونيسان ورمزية الربيع

تردُّ الشهور (آذار، نيسان) أكثر من كونها فواصل زمنية؛ هي رموز استدعائية: آذار (مارس) يرتبط بالذروة الشتويّة/بداية الربيع وأحيانًا في الذاكرة العربية بحدثية سياسية (مثلاً: حركة آذار/مارس في بلدان العرب أو دلالات وطنية محلية)، ونيسان (أبريل) يحمل وعد التفتح. قول الشاعرة «أنّ.. ربما أنّ / "نيسانَ" آتْ..؟» يدل على رهبة الأمل، على مفارقة: هل يأتي الربيع؟ أم أنّ الزمن قد تآكل حتى أمل الربيع صار احتمالًا متردّدًا؟ التردّد في الجملة النحوية (الشرط ـ الاستفهام ـ العلامة الإيقاعية) يعكس تقلب النفس بين انتظارٍ ويأس.

3. البُنى الأسلوبيّة والصوتيّة:

١- التكرار (أنفورّا): «تركتَ يدي» — تكرار يبني إيقاعًا وصدىً دراميًا، يُرسّخ فعل الفقد كطقس متكرر.

الاستطراد/القطع: الترقيم المتقطع، والشرطات، والمواضع النثرية تُشبه موسيقى البيانو: مفاتيح دقيقة ومفاتيح مفصولة.

٢- الصور المجازية المركبة: «ترسمُ الريح أخيلةً وهودج» ـ «هودج» مجاز للنقل/السفر يقترن بخيالٍ يعود إلى العوالم الشرقية، فيحدث تقاطع بين الغرب (بيتهوفن) والشرق (هودج، شهرزاد).

٣- التناصّ: إشارات مباشرة إلى بيتهوفن و«إليزا» وشهرزاد تعطي النص أفقًا بينيًّا غنيًا: تجمع بين التراث الغربي الكلاسيكي والتراث الشرقّي الشعبي/السردي.

٤- التناص الموسيقي: شيفرات إيقاعية وكسر في الجملة تُشبه عازفًا يفقد إيقاعه، أو عازفًا يترك مقطوعة نصفَة على البيانو.

4. البُعد الرمزي والسيميائي:

١- اليد رمز مركزي: اليد تمثل الفعل والالتقاط والقدرة على الإمساك بالعالم. «تركتَ يدي» يرمز إلى فقدان القدرة على المواصلة، أو تلقي الأثر، أو فقدان التواصل الحسيّ. اليد «مدبوغة ببقايا نغمات» توحّي بأن أثر الموسيقى قد دبغ الجلد، أي ترك علامة دائمة.

٢- الموسيقى والكتابة.

الموسيقى تُعرض كرسالة حب (رسالة إلى إليزا)؛ كذلك الكتابةُ الشعريّة تشبه الرسالة، وتتحول القصيدة إلى سِجلّ من محاولات التأويل والإعادة: كيف نقرأ الرسائل التي تتركها الأجساد والأمكنة؟ الموسيقى تُعيد تشكيل الوجود بمنطقٍ خارج المنطق اللفظي.

٣- الشهور كرموز أيديولوجية.

آذار ونيسان يمكن قراءتهما موسمياً — فجر الربيع — وسياسيًا كدلالات زمنية لذكرى أو انقلاب أو حراك. الشاعرة لا تقول، لكنها تستثمر دلالات الشهور لتلوين المزاج: آذار كطقس حزن يتخذ شكل «أريكة الثلج»، ونيسان كوعد متردِّد.

٤- الرموز الدينية: «مئذنة الحرمان» و«الله أكبر»

٥- المقاربة الدينية هنا مركّبة: «مئذنة الحرمان» تتداخل مع تكبير «الله أكبر» في لحظة «مباحة»، والتضاد بين مقدّس وممنوع أو مباح هنا يشي بثنائيات: الخلاص/الحرمان، الصلاة/الغنائية، الطقس الديني/الطرب الإنساني. «مئذنة الحرمان» هي استعارة قوية: المئذنة هنا لا تُنادِي لصلاة الفرح بل تُنادي على غياب أو حظر؛ هي مئذنةٌ تصدُر منها صرخات الحرمان بدل الأذان. هذا الاستخدام يحيل إلى توترٍ بين الدين كمصدر رجاءٍ وميدان للغياب أو القمع.

5. البُعد النفسيّ: الحنين، الفقد، الندم:

الهيمنة في النصّ نفسية: الشاعرة تؤسس نصًّا منفرجًا حول «اليد المغيّبة» كرمز للخسارة الذاتية، والذاكرة الموسيقية كقُربٍ مؤجل، والحنين كقوة تنتظم في طبقات. «مُذ كان الحنينُ كبيراً» تشير إلى تاريخية الشعور: الحنين ليس حدثًا عابرًا بل حالة متجذّرة. التكرار الإيقاعي والنغمات المعترَضة تعملان كآليات للاستعادة العاطفية: إعادة العزف على ذاكرةٍ مشروخة تحاول أن تُعيد تشكيل الإيقاع.

6. البُعد الديني والوطني: قراءة تآزرية:

القصيدة تشتغل على نصفقة بين الديني والوطني: «مئذنة الحرمان» و«الله أكبر» غايتها ليست الوعظ بل إبراز التوتر: كيف يصبح المقدس وسمًا للحرمان؟ في السياق اللبناني، مثل هذه الصور قد تستحضر لحظات تاريخية من التوتر الطائفي والسياسي، لكن الشاعرة لا تتحول إلى رويترٍ سياسي: هي تستثمر العلامات لخلق روحٍ حالمة/مؤلمة تعكس جمعًا إنسانيًا يتألم من الانقسامات. لذا يمكن قراءة القصيدة كقضيب شبه وطني/اجتماعي يختزن ألم الذاكرة المشتركة، دون أن تكون قصيدةً دعائية.

7. المقاطع المفتاحية — قراءة تأويلية قريبة:

أ. الافتتاحية:

«بحبوبِ المطرْ والرذاذُ فمي / على رائعة بيتهوفن و"رسالة إلى إليزا"»

التزاوج بين المطر والموسيقى يقترح استعارة حسّية مركبة: المطرُ هناك ليس مجرد حالة جوية بل خبرة صوتية وذوقية. «الرذاذ فمي» يوحّي بالكلام الذي يتشكل من حزن الرطوبة، وبمقدرة الشاعرة على تذوق الغياب بلعًا.

ب. «تركتَ يدي تعزفُ زوايا ومسامات»

الجملة تشتغل كمقولةٍ مركزية: اليدُ التي تُترك تعزف رقةً على بنية المكان (زوايا) وعلى بنية الجسد (مسامات): الفقد يُعزف على الفراغ نفسه.

ج. «بَقافل اللوز والزهرُ عيني»

صورة ربيعية تعود لتخفي حزنًا: قوافل اللوز تظلّ رمزية للربيع والخصوبة؛ لكن هنا الزهرُ في العين: لا يرى الزهر، بل تُقحم العين الزهر، أي أنَّ النظر مُلبّس بالأمل المؤجل.

د. «تركتَ يدي مُخلّفةْ على أريكة الثلج / على مراسمِ آذارْ»

أريكة الثلج: مفارقة بصرية تدمج الراحة (أريكة) والبرد (ثلج): استقرار مؤلم. مراسم آذار: طقس موسمي/ذكرى. اليد تُترك في طقس ميت/بارد؛ الفقد يتحول إلى طقس.

هـ. «قدْ.. تَشبهني مِئذنة الحرمانْ / حين "الله أكبر" مُباحْ»

هنا قمة العبارة الرمزية: الشاعرة تُشبّه ذاتها بمئذنةٍ لا تؤذن إلا للحرمان، ونغمة «الله أكبر» تصبح مباحة — أي أنها محرّفة أو مُستباحة كناية عن استباحة المقدّسات أو استباحة الحزن باسم الدين. هناك نقد مبطن أو تأمل في استغلال المقدس أو في انقسام القيم.

8. تفصيل دلالي لبعض المفردات والمركبات المهمة:

١- حُبُوب المطر: دلالة على تفتيت الكل إلى ذرّات صغيرة؛ تقصّي التفاصيل في الحزن.

٢- الرذاذُ فمي: المزج بين حاسة التذوّق والإحساس بالمطر؛ الكلام الذي يبلع الحزن كالرذاذ.

٣- رسالة إلى إليزا: تناص مباشر لمقطوعة شهيرة تعبّر عن حنين رومانسي أو فقدٍ صغيرٍ جميل/مرير.

٤- زوايا ومسامات: تصوير مكاني/جسدي؛ ترك أثر الفقد في المكان والجسد معًا.

٥- هودج: رمز شرقي للنقل والستر؛ يقرأ كحِمل الذكريات أو الرحلة.

٦ - قوافل اللوز: تقليد ربيعي؛ اللوز رمز لتفتحٍ أولي، تلمّح إلى ربيع مُعَقَد.

٧ - أريكة الثلج: صورة تضادّية تخلق شعورًا بالراحة الميتة والجمود العاطفي.

٨ - مراسم آذار: إضفاء طابع طقسي أو تذكاري على شهور الربيع، يحتمل البُعد السياسي.

٩ - شهرزاد الليالي: مرجعية سردية؛ شهرزاد ترمز إلى الحكاية التي تنقذ من الموت بالقصة، إذن هناك بحث عن الخلاص عبر الحكاية/الليل.

١٠ - مئذنة الحرمان: مركب رمزّي قوي: المئذنة مألوفة كنداءٍ، لكنها هنا تصدح بالحرمان، أي انقلاب الوظيفة الروحية.

١١ - صومعة الموسيقى: تركيب استعارى يجمع بين «الصومعة» كمكان انفصال عن العالم و«الموسيقى» كقُدسٍ داخلي؛ موضع الانطفاء الذاتي للغناء.

9. القراءات التأويلية الممكنة (مستويات):

1. قراءة شخصية/عاطفية: قصيدة حبّ/فقدٍ؛ علاقة انتهت وتركت أثرًا موسيقيًا في الجسد والزمان.

2. قراءة نفسية: نص عن سويداء الذاكرة؛ اليد رمز الفاعلية التي فقدت، والموسيقى تمثل ترجمة نفسية لصدى الفقد.

3. قراءة دينية/روحانية: توتر بين المقدس والممنوع؛ «مئذنة الحرمان» و«الله أكبر» كدلالات لصراع بين الدين والحرمان الإنساني.

4. قراءة وطنية/اجتماعية: الشهور والطقوس الدينية والصور الجماعية قد تشير إلى ذكريات وطنية أو لحظات تحوّل اجتماعي (مناسبات سياسية أو أعيادٍ تحمل ذاكرة مؤلمة).

5. قراءة سيميائية: النص شبكة من علاماتٍ قابلة لإعادة القراءة؛ موسيقى/مطر/شهور/يد = نظام علامات لا يثبت دلالة واحدة بل يتنوع باختلاف القارئ.

10. الخاتمة والتوصيات البحثية:

قصيدة دلال برّو الساحلي تنجح في أن تكون مشهدًا متعدد الأبعاد: هي رسالة حب مُنهَكة، هي معزوفة فقد، هي تأمل ديني/وطني في فضاءٍ واحد. البراعة في النص تكمن في توحيد التناصّات (الغربي والشرقي)، والحواس، والزمن، والطقوس، في لغةٍ تكاد تُغني. الشعر هنا ليس تعبيرًا عن حدث واحد، بل هو مشهدُ ذاكرةٍ مركّب يتحوّل مع كلّ قراءة إلى فضاءٍ جديد من المعنى.

***

بقلم: عماد خالد رحمة - برلين

........................

بحبوبِ المطرْ والرذاذُ فمي

على رائعة بيتهوفن

و " رسالة إلى إليزا "

مِنكَ إليّ ,

قد تركتَ يدي

تعزفُ زوايا ومساماتْ

ترسمُ الريح أَخيلةَ وهودجْ

و تقترفُ إثماً

أنّ.. ربما أنّ

" نيسانَ " آتْ..؟

**

بقوافل اللوز والزهرُ عيني

تركتَ يدي مَدبوغة ببقايا

نغماتٍ تعترفُ لِخيولك

و بالذي كانَ وكانْ..

فهلْ تبكي يوماً على جَيدِ

خِسارتها،الفرسان ؟..

**

تركتَ يدي

مُخلّفةْ على أريكة الثلج

تركتَ يدي

على مراسمِ آذارْ

و ما أدراك

ما لُغز الغاباتْ

و الأشجار على تكايا

شهرزاد الليالي

و ما لمز الآهاتْ

- مُذ كان الحنينُ كبيراً –

على سبيل الحرير والشطآنْ..

**

قدْ.. تَشبهني مِئذنة الحرمانْ

حين " الله أكبر " مُباحْ

نسيتُ أنّي،

في صومعة الموسيقى

أطفأتُ أُغنيتي

و نَفَس المصباحْ ؟

***

دلال برّو الساحلي / 14 / آذار

 

للشاعرة التونسية بهيجة البعطوط

تنهض قصيدة «حبر الغياب» للشاعرة التونسية بهيجة البعطوط على بنيةٍ رمزيةٍ مشحونةٍ بكثافةٍ روحيةٍ ولغويةٍ تُحيل القارئ إلى فضاءاتٍ من التأمل والوجد والانخطاف الوجداني. إنها نصٌّ يكتب ذاته في تخوم الصمت والانتظار والحنين، حيث يتجلّى الغياب لا بوصفه فقداً بل حضوراً مغايراً، يفيض بدلالاتٍ روحيةٍ وعاطفيةٍ مركّبة، تمتزج فيها أنوثةُ النداء بقداسة الوحي، والحنين الإنساني بتجربةٍ أقرب إلى الطقس الصوفي.

يُعيد هذا النص ترتيب العلاقة بين المقدّس والعاطفي، وبين الكلمة والسكوت، وبين الحضور والغياب، مستعيراً من المعجم القرآني إشاراتٍ أنطولوجيةً عميقة، من مثل: "زكريا"، "مريم"، "الوحي"، و"المحراب"، ليمنح التجربة الفردية بعداً كونيّاً وروحياً. إنها قصيدة تتكئ على التناصّ المقدّس لتعيد صياغة الذات الأنثوية في حالتها القصوى: العشق المتعالي الذي يتحوّل فيه الغياب إلى رحمٍ للانتظار والكتابة.

تسعى هذه الدراسة إلى قراءة القصيدة وفق المنهج الهيرمينوطيقي التأويلي، للكشف عن تعدّد مستويات المعنى، والوقوف على ما تحت الجلد الشعري من نبضٍ ورمزٍ وتوترٍ صوفيّ. كما سأطبّق أدوات المنهج الأسلوبي والرمزي والسيميائي، مع توظيف منهج غريماس البنيوي الدلالي في تحليل محاور الأدوار (الفاعل/المفعول/المرسل/المتلقي...)، للكشف عن دينامية الخطاب الشعري وطاقته التخيلية.

وسأعمل على مقاربة النص أيضاً من خلال مستوياته الانفعالية، التخييليّة، العضويّة، واللغويّة، في محاولةٍ لفهم الكيفية التي يتحوّل فيها الحنين إلى طقسٍ لغويّ، والكتابة إلى صلاةٍ تُدوَّن بالحبر الغائب والحضور الموحى.

إنها قراءة تتقصّد الغوص في أعماق القصيدة لا لشرحها، بل لتأويلها بوصفها نصاً كاشفاً لتجربة وجودية وأنثوية ودينية متداخلة، حيث يتحوّل "الغياب" من حدثٍ شعوريّ إلى نظامٍ دلاليٍّ كامل يعيد تعريف العلاقة بين الإنسان والكتابة والقداسة.

1. مقدِّمة:

قصيدة «حِبْرُ الغِياب» نصٌّ وجدانيّ يتحرّك بين البوح العاطفيّ والتأمّل الروحيّ؛ عنوانها نفسه يُفرِضُ معادلةً دلاليّةً: الحِبر كفعل كتابةٍ ووعاءِ أثرٍ، والغياب كموضوعٍ/متحفِّزٍ للكتابة. هذه المفارقة تَضعُ النصَّ في خانة الشعر الصوفيّ–الوجداني الذي يستثمرُ الرمز الدينيّ والخطاب البشريّ العاطفيّ. مَن قرأ دراسات نقديّة سابقة أشار إلى هذا التقاطع الرمزيّ والدينيّ في نصوص الشاعرة بهيجة البعطوط.

2. قراءة هيرمينوطيقيّة - تأويليّة (المعنى العميق):

١- تكوين المعنى: القصيدة تبدأُ بمشهدٍ سماعيّ/روحيّ (إيحاءٌ لزكريا بألا يكلم الناس إلّا همساً)، ثم تنتقلُ إلى تجربةِ انقياد وجدانيّ يقودُ المتكلِّمة إلى «كهف الصمت». هذا التحوّلُ يقرِئُ المكانة الوجوديّة للحبِّ/الغياب: ليس فقط غيابَ الحبيب، بل حالةُ انسحابٍ تأمّليّ تستدعي الصلاةَ والذكرى.

٢- البنية التأويلية الدينيّة: الاستدعاءان النصّيان (زكريا، ومريم بنت عمران بالإيحاء) يحوِّلان البوحَ العاديّ إلى خطابٍ مُقدَّس، يجعل من عاشقةٍ إنسانيةٍ قريبةٍ من سيرةٍ نبوية/مريمية؛ وهنا تتداخلُ حميميّة الحبِّ مع طقوس الذّكر والتقديس. هذا التأويل يفتحُ النصّ على بعدٍ صوفيّ: الغيابُ يصبح امتحاناً وصياغةً للترتيل الداخليّ.

3. القراءة الأسلوبيّة والرمزيّة (اللغة والصورة):

المفردات المحورية وشرحها:

١- الوجد: حالةُ اشتعالٍ وجدانيّ تقودُ المتكلّمة إلى «لهفةٍ» و«انقياد»؛ هي المحركُ العاطفيّ المركزيّ.

٢- كهف الصمت: رمزٌ مزدوجٌ (حِمايةٌ/سجن)؛ الحماية لأنّه مكانٌ للترتيل؛ السجن لأنّه عزلةٌ عن العالم.

٣- تراتيل الهمس: تركيبٌ بديع يملأ الصمتَ بصوتٍ داخليّ، يربطُ بين الطقوسيّة (تراتيل) واللّطافة (همس).

٤- محْراب الذكرى: استعارةٌ تعبديّة تُقدّس الذاكرةَ كشكلٍ من العبادة.

٥- حِبْرُ الغِياب (العنوان): الحبر هنا ليس مادّة الكتابة فقط، بل أثرُ الغياب الذي يُسجل على صفحة الوعي.

٦- الأسلوب: اللغة فصيحةٌ عالية، مشحونةٌ بمفرداتٍ تعبديّةٍ وإيقاعيّةٍ؛ التكرار الفعلي (أحمِلُك، أتوجّع، أتألم) يُنَمِّي إيقاع الانفعال الداخليّ ويخلقُ موسيقىً داخل النصّ. هذا ما لاحظه نقّادٌ في قراءات سابقة.

4. تطبيقُ نموذج غريماس السيميائي:

أُطبّق هنا مُركَّبَ المحاور الأساسيّة بغريماس لاستخراج الأدوار داخل النص:

١- الفاعل/الموضوع:

٢- الموضوع: «الوصال/الحضور» أو استرداد الحبيب (أو الشفاء مِن الغياب).

٣- الفاعل/المطلِب: المتكلِّمة/الراوية التي تُريدُ استعادة الحضور والدفء الروحيّ.

٤- المرسِل/المُرسَل إليه:

٥- المرسل: الصوت الشعريّ ذاته — أحيانًا النصّ يتضمّن توجيهًا إلى زكريا (إيحاءٌ كتابي/ثقافي) أو إلى الذات/القارئ.

٦- المتلقي: الحبيبُ الغائب، وأيضًا ذاتُ الشاعرة الداخلية، وربما القارئ/المؤمن.

٧- المساعد/ المعارض:

المساعدون: الذكرى، التراتيل، الرمزُ الدينيّ الذي يمنح الحضورَ تبريراً ووسيلةً للتماسك.

المعارضون: الغيابُ نفسه، الصمتُ الاجتماعيّ (الورى)، وربما الزمنُ/المحن.

٨- الوظيفة: العنوان والحوار الداخليّ يعملان كقناةٍ تُحوّل الافتقاد إلى كتابةٍ (الحبر).

هذا التتبُّع يُظهر أن النصّ ليس مجرد سيرةِ شوق، بل مسرَّدٌ سيميائيّ متكامل تُحرِّكه قوى وتأثيرات معنويّة ودينيّة.

5. البُنى النفسيّة والدينيّة:

١- البنية النفسيّة: المتكلّمة تمرُّ بما يمكن وصفه بـ«فصامٍ وجدانيّ مؤقّت» بين التعلّق والانسحاب: اشتعالُ الوجد يقابله انسحابٌ إلى كهف الصمت. الهمسُ والتراتيل تعملان كآلياتِ تكيُّفٍ نفسية تُقَنين الشوقَ في شكلٍ تعبديّ.

٢- البنية الدينيّة: الاستعارات والمراجع (زكريا، مريم، المحراب، التسبيح) تُحوِّلُ الوجدَ العاطفيّ إلى فعلٍ عباديّ؛ الحُبُّ يصبحُ نوعًا من الذكر والاستغراق الروحيّ، ما يجعله قريبًا من تجربة العاشق الصوفيّ الذي يعبدُ محبوبَه عبر الذكر والانتظار.

6. المقارنة على المستويات المطلوبة:

١- المستوى الانفعالي: نصٌّ شديد الانفعال مُشبَعٌ بالشوق والوله. الانفعال هنا ليس صرخةً بل ترتيلٌ داخليّ، ما يضبط العاطفة ويحوّلها إلى بصيرةٍ وحضورٍ باطنِيّ.

٢- المستوى التخييلي (الخيالي): الخيالُ يعملُ عبر صورٍ دينيّةٍ/أيقونيّة (المحراب، الكهف، التراتيل) ويمنح النصَّ بعدًا أسطورياً، ففيه تتحولُ العلاقَةُ إلى طقس.

٣- المستوى العضوي (التجريبي-الجسدي): الجسد هنا مُشارٌ إليه بعباراتٍ مثل: «امتَلأ قلبي»، «فأخذ الوجد بيدي»، «تُمطر المقلتان على وجنتَيّ» — أي أن العاطفة تُظهرُ أثرها العضويّ والبدنيّ (الدموع، الخفقان)، فتتداخلُ النفسُ والجسد في أداء الشعور.

٤- المستوى اللغوي: مستوى فصيح راقٍ، استعمال معطوفاتٍ تعبديةٍ، تكرارٍ بنائيّ، وتوظيف صورةٍ بلاغيّةٍ كثيفة تجعل من كل كلمةٍ حاملَ وزنٍ دلاليّ. المصادر النقديّة أشارت إلى هذا الاتساق الأسلوبي.

7. ما تحت الجلد الشعريّ — نبض، توتر ورمز:

١- النبض: إيقاع التكرار والحركة من النشوة إلى الانكسار (من «أخذ الوجد بيدي» إلى «صِرْتُ نَسْيًا مَنْسِيًا») يعطي النصّ نبضًا درامياً يحبس القارئ/المتلقي.

٢- التوتر: التوترُ قائمٌ بين التعلّق (الاشتياق) والرغبة في التقديس (التحوّل إلى صورةٍ مريمية). هذا التوتر هو المحرِّك الدراميّ للنصّ.

٣- الرمز: الرموز الدينيّة/المريمية تعمل كخيوطٍ تربط الشعر بحقلٍ ثقافيّ/روحيّ أوسع، فتجعل النصّ يتخطى الحكاية الشخصيّة إلى مستوىٍ جماعيٍّ/مقدَّس.

8. أمثلة تفسيرية لبعض المفردات المفتاحية (توضيحات نصّية):

«ألا يُكلم الناس ثلاث ليالٍ إلا همسًا» — قد يكون استعارةً لامتصاصِ طاقة الكلام العام وإدخالها في تواضعٍ داخليّ؛ ثلاث ليالٍ رمزٌ للامتحان/الكتابة/اقتراب الوحي.

«كهف الصمت» — ليس مجرد مكان عزلة، بل فضاء للاختبار النفسيّ والروحيّ؛ الكهف مكانُ تأمّلٍ في التراث الدينيّ (أمثال الغار) وفي مشاهد الصوفية.

«حِبر الغياب» — الكتابة بوصفها أثر الغياب؛ غيابُ الحبيب يترك حبرًا يكتب به الشاعر/الشاعرة قصة حيادٍ منسيّ.

9. ملاحظات وطنية/سياقية (المقام الثقافي):

الشاعرة بهيجة البعطوط تنتمي إلى فضاءٍ تونسّيّ أدبيّ نشط، ونصوصها تُنشر في منابرٍ أدبيّةٍ عربية، وتستثمرُ الحسّ القوميّ/الوجدانيّ بما يُقربُ الشعر من طقوس الجماعة والذاكرة الثقافية. لذلك يمكن قراءة النص أيضًا كنتاجٍ أدبيّ يُفعِّل ذاكرةً دينية/أدبية في المشهد العربي.

10. خاتمة توصيفية نقدية:

«حِبْرُ الغِياب» نصٌّ متكامل البناء يدمجُ العاطفة بالقداسة، واللغة بالفعل الطقسيّ. استخدام الشاعرة للرمز الدينيّ لم يطفُ خِلالَ المشهد الشعريّ فحسب، بل شكّلَ وسيلةً لتقنينِ الوحشة وتحويلها إلى كتابةٍ مُقدَّسة. تطبيقُ نموذج غريماس يبيّن أن القوىَ في النص ليست فقط داخلية (وجد)، بل هي علاقاتُ فعلٍ وسلطةٍ (غياب/حضور، مرسل/متلقي، مساعد/معارض) تُحرِّك دالّاته. من ناحيةٍ أسلوبيّةٍ، اللغة رفيعة، والإيقاع داخليّ، والتراكيب مأثورة بصبغةٍ تعبديّةٍ تجعل القارئ يشعر بأنّه أمام نصٍّ يجمعُ بين الخطاب الدينيّ والخطاب العاطفيّ.

***

بقلم: عماد خالد رحمة - برلين

..........................

حِبْرُ الغِياب

كَمَا أُوحِيَ لِزَكَرِيَّا

أَلَّا يُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ إِلَّا هَمْسًا،

أَخَذَ الْوَجْدُ بِيَدِي وَلَهًا،

وَقَادَنِي إِلَى كَهْفِ الصَّمْتِ،

فَغَدَا صَوْتِي تَرْتِيلَ هَمْسٍ،

وَامْتَلَأَ قَلْبِي بِكَ صَبَابَةً،

حَتَّى صَارَ الْفُؤَادُ عَصِيًّا.

*

يَسْجُدُ خَافِقِي خُشُوعًا،

وَيَهْجَعُ بِمِحْرَابِ الذِّكْرَى هُجُوعًا،

فَتُمْطِرُ الْمُقْلَتَانِ عَلَى وَجْنَتَيَّ.

*

فَانْتَبَذْتُ مِنَ الْوَرَى مَكَانًا قَصِيًّا،

كَمَرْيَمَ بِنْتِ عِمْرَانَ،

أَحْمِلُكَ فِي الْحَشَا شَوْقًا وَلَهْفَةً،

وَبَيْنَ أَسْرَارِ الذِّكْرَى أَتَوَجَّعُ،

وَبِمَخَاضِ السِّنِينَ أَتَأَلَّمُ.

*

كَالرَّجَاءِ بِحِبْرِ الْغِيَابِ

أُنَادِيكَ؛

أَهُزُّ جِذْعَ الْحَنِينِ،

أَنْتَظِرُ وَصْلَكَ رُطْبًا جَنِيًّا،

فَلَا يَعُودُ إِلَّا صَدَى صَوْتِي،

وَصِرْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا.

***

 

لم يكن المبدع يومًا في انسجام مع السلطة، ولن يكون بينهما وفاق طالما أن جوهر الإبداع يقوم على الانكشاف الحر للحقيقة عبر تشظّي الروح الكلية، وعلى الخيال الذي لا يتحقق إلا في فضاء الحرية، فكما يقول أدونيس: لا إبداع بلا حرية. في المقابل، تقوم السلطة بطبيعتها على القانون والنظام والحدود، مستندة إلى أشكال متعددة مثل سلطة الأب والحاكم والإله، وهكذا تتصادم البنيتان، فكل منهما ينفي الآخر ويعارضه.

ومع ذلك، قد يحدث توافق أو تقاطع بين الطرفين في بعض الأحيان، خصوصًا في المجتمعات الطبقية أو الشمولية، وهذا الشدّ والجذب الدائم هو ما يضخ في الإبداع حيويته وفرادته، وحتى حين يبدو أن هناك انسجامًا عابرًا بين المبدع والسلطة، فإنه غالبًا ما يخفي صراعًا داخليًا مستمرًا، هو في حقيقته صراع أبدي بين الحرية والنظام، بين الممكن والمفروض، بين ما نطمح إليه وما هو قائم بالفعل، وهو ما سنحاول كشفه من خلال النص المسرحي "شكون أنت"، لمحمد الأشعري، الصادر عن منشورات المركز الدولي لدراسات الفرجة في طبعته الأولى سنة 2024.

إن الكتابة الإبداعية في تناولها لتاريخ السلطة، لاسيما المعاصر منها، تعد مخاطرة كبيرة، لأن استجماع الأحداث التاريخية في قصة درامية تروى من وجهة نظر إبداعية، يسائل الحدث التاريخي في صدقيته وتخيّله، غير أن الرهان ليس رصد هذه العلاقة الجدلية بين الإبداعية والتاريخ، بل تتبع حضور السلطة في الخطاب الإبداعي المسرحي عند محمد الأشعري من خلال شخصية البصري الذي ترك في الذاكرة الجمعية للمغاربة آثارا يصعب تجاوزها، لاسيما أن هذا الحضور القوي لخطاب السلطة غالبا ما يؤدي إلى خطاب مباشر يقل فيه فعل الإبداعية المسرحية.

المسرحية باعتبارها حادثة لاحقة

لطالما كان الصراع لبنة أساسية في البناء الدرامي المسرحي، لكن صراع مسرحية "شكون أنت" بدأ قبل المسرحية بكثير، قبل أن يتحول إلى صراع درامي في ثنايا النص المسرحي، وهو ما عبر عنه محمد بهجاجي في تقديمه للمسرحية قائلا: "يعود الأشعري إلى المسرح، هذه المرة، بنص بالدارجة المغربية، وبعنوان مكثف الدلالات والمرجعيات "شكون أنت"؟ والذي هو في الأصل، عنوان رسالة الصحافي خالد الجامعي التي كان قد نشرها بجريدة "لوبنيون" يوم 22 نونبر 1993، بعد أن خاطبه إدريس البصري وزير الدولة في الداخلية والإعلام آنذاك "شكون أنت"، وذلك إثر كتابته لمقال تحليلي ينتقد فيه نظام الحسن الثاني"[1].

يتبين أن النص الدرامي في جوهره إعداد مسرحي لحادثة/قصة بين خالد الجامعي وإدريس البصري، حيث الصراع عمودي بين رمسيس وقدره المحتوم، لكن دون إثارة عاطفتي الرحمة والخوف كما في التراجيديا، لأن الأفعال الدرامية للشخصية المحورية تصدر عن شر مطلق، وهذا ما يجعل المسرحية مختلفة البناء والطرح والهدف.

وإذا كانت الحادثة الحقيقية التي جاءت في التقديم هي البؤرة الدلالية الخارج–نصية لتشكل الشرارة الأولى لفكرة المسرحية، فإنها ولاشك المحرك الأساس للفعل الدرامي المسرحي، بل وتقدم هذه الإرشادات التي لا تنتمي لبناء الفعل المسرحي دلالات هامة لتوجيه فعل القراءة، القراءة التي تستحضر السياق السياسي/التاريخي، هذا السياق الذي جعل النص يخضع لهيمنة نوع معين من القراءة، حيث تتشكل الحكاية في سياق انتقالي خطير من عُمر دولة، نهاية مرحلة وبداية أخرى.

يتقلب رمسيس، رجل السلطة القوي، من حال إلى حال، الهذيان والتعقل، الانسحاب والصمود، الحياة والموت، الانصياع والمؤامرة، وهي الثنائيات الضدية التي استطاع المؤلف محمد الأشعري تبئيرها في وضعيات مختلفة للكشف عن الوجه المرعب للسلطة/رمسيس، وذلك في قالب درامي سيكولوجي يعكس عبقرية إبداعية في بناء عوالم نفسية متقدة.

إن قراءة هذا النص الدرامي بعيدا عن السياق السياسي/التاريخي يجعل المتلقي يتيه بين البياضات الكثيرة التي تحتاج إلى ملء لتشكيل المعنى الكلي للنص، باعتباره كشفا عن الحقيقة في ذاتها ولذاتها، أي حضورا جزئيا للخير والفضيلة والحق، المقولات الكلية التي تعتبر الغاية القصوى لكل فن، وذلك بمماحكة إبداعية عبقرية تسائل الجانب الغرائزي في الإنسان وميله للسلطة والبطش.

النص الدرامي "شكون أنت" نص يفيض بحمولته الدلالية الإبداعية على الخارج/الواقع، وليس الواقع هو الذي يفيض بأحداثه على النص، لأن رمسيس ليس شخصية بعينها، وإن كانت تبدو كذلك، وإنما هي في حقيقة الأمر رمز لفساد السلطة عبر التاريخ، ونهاية رمسيس الغامضة والمأساوية، هي نهايات كثيرة في الواقع، التاريخ يعيد نفسه لكن يتشكل برؤية إبداعية مسرحية خاصة في سياق الإبداعية المغربية. لأن قراءة النص خارج هذا السياق، سيجعله أكثر فيضا بالدلالات المتوارية بين الإبداع والسلطة، بينما الهدف الأسمى للمسرحية هو الكشف عن الحقيقة الفنية.

اللامفكر فيه أو دفاعا عن رمسيس

إن النص الدرامي باعتباره عملا فنيا لا يمكن قراءته إلا في سياق الإبداعية التي تجعل منه خطابا مفارقا للواقع، أو واقعا من منظور إبداعي يختلف عن الكتابة التاريخية وكتابة السيرة، فعودة ديونيسوس أو حضور اللاوعي في العمل التخييلي، وإن كان معدا عن قصة حقيقية، هو حضور للرغبات الدفينة وتجلّ للاوعي الجمعي مادمنا نتحدث عن حضور لشخصية عامة/تاريخية في عمل إبداعي.

يقول مارتن هايدغر "إن العمل الفني يفتتح وجود الموجود على طريقته، ويتم هذا الانفتاح في العمل الفني، بمعنى الكشف، بمعنى حقيقة الموجود، حقيقة الموجود تضع نفسها في العمل الفني. الفن هو وضع الحقيقة –نفسها- في العمل الفني"[2] العمل الفني الذي يعتبره هايدغر كشفا عن الحقيقة، وهي وإن كانت تاريخية فهي لا زمنية وفوق زمنية، كما أنها قد تكون سيكولوجية بارتباطها بالمؤلف والمتلقي، أو بالنص الدرامي نفسه (لاوعي النص).

فهذا الوجود الذي يتيحه العمل الفني هو انفتاح لوجود سابق يرتبطان بما جاء في المسرحية ارتباطا شكليا يخضع لقواعد الكتابة المسرحية ولتسلسل بناء الأحداث المسرحية، وكذا للرؤية الإبداعية للمؤلف محمد الأشعري التي لا تستطيع التنصل من الإيديولوجية اليسارية التي تصبو لكشف حقيقة الموجود من وجهة نظر إبداعية/فنية معينة، انتقالا من النضال إلى الإبداع، الإبداع الذي يستبطن إيديولوجيته الكامنة، أو الإبداع الذي يتضمن كل أساليب الإدانة والرفض للسلطة وتجلياتها في شخصية رمسيس، فقناع الرغبة التي لا يجد المؤلف حرجا في كشفها بشكل مباشر في سياق لاوعي النص وجهت فعل القراءة، لأن "شكون أنت" نص مسرحي يحمل في طياته قضية تاريخية وسياسية بمماحكة إبداعية، يقول المؤلف قبل افتتاح المسرحية: "كل تشابه بين شخصيات هذه المسرحية وشخصيات حقيقية، هو تشابه مقصود، والمؤلف إذ يؤكد ذلك، يعتذر للشخصيات الحقيقية إذا لم يكن التشابه دقيقا بما فيه الكفاية"[3]. هل هو إشباع لرغبة دفينة في الانتقام أم أن المؤلف ترفع عن ذكر الحقيقة التاريخية في الحقيقة الفنية؟ ماذا لو كان رمسيس ضحية للسلطة؟ وهل يمكن الفصل بين رمسيس والسلطة؟

الإبداع لغة الرغبة، بل هو الموضوع المفضل لها، ذلك باعتبار رمسيس/البصري موضوعا لرغبة كامنة في اللاشعور الجمعي للمغاربة، وكذا اللاشعور الفردي للمؤلف، والذي تحول بفعل ميكانيزمات اللاوعي  إلى الشعور من خلال شخصية رمسيس بكل ملامحه الدرامية، والذي يسجد بدوره الشر المطلق للسلطة، أو تمثلا للشر المطلق بالمعنى العام.

وإن أفضل تجلّ لهذه الدوافع الفردية والجماعية تكمن في التداعي الحر من خلال برولوغ طويل على لسان رمسيس الذي استطاع فيه المؤلف كشف القناع عن شخصية مهلوسة تعاني انفصاما مزمنا يعكس صراعا نفسيا عميقا، فقد جاء على لسان رمسيس: "ولكن شي وقت كان رمسيس هو أنا، بغيت نقول كنت أنا هو رمسيس، ولكن شي وقت آخر مبقاش رمسيس بقيت أنا بوحدي، وعاود شي وقت آخر مبقيتش أنا، لي بقا هو رمسيس، وجا الوقت اللي خاص فيه واحد فينا يخوي"[4].

الصراع النفسي بين ما كان وما أصبح عليه رمسيس، أو ما يريد أن يكونه، ألم الذكريات المشعة في الذاكرة، التي تجعل من الشخصية المحورية تتنكر لنفسها، ليس باعتبارها ذاتا موجودة، لكن ذاتا موجودة بماضيها المظلم الذي يستوجب الهروب، يقول رمسيس: "وقفت مرة أخرى قدام المرايا، شفت مزيان، لقيت الشخص اللي في المرايا ماشي أنا"[5]، إنه هروب مستمر من الماضي بحمولته المقززة، وتنكر مستمر للذات الموجودة في ماضيها، والتي تجد نفسها موجودة في حاضرها الذي تتحرق فيه للتخلص من الشخص في المرآة/الماضي، فرمسيس يسعى للتخلص من رمسيس في قالب من التداعي الحر الذي يكشف عن البناء النفسي المضطرب للشخصية.

إن تأنيب الضمير، والسعي للتخلص من رمسيس الطاغية، هو في حقيقة الأمر، جانب يحث القارئ على التعاطف، التعاطف مع شخصية تبدي الندم لما اقترفت من تعذيب وقتل، وتسعى بكل الطرق للهرب من الذكريات التاريخية، فهل تعاطف الأشعري مع رمسيس أم أن الأمر يخضع لبنية الشخصية المسرحية؟ أليس الندم على اقتراف جرم يستدعي التعاطف؟ هنا تصبح صورة البصري في مرآة الأشعري ضبابية الملامح، غير واضحة المعالم، وإن كان الهدف الضمني إظهار صورة رجل السلطة الطاغية.

وعندما يشتد الوضع، ويبلغ الألم مداه، ألم الذكريات، يلجأ المؤلف للسخرية باعتبارها أسلوبا يخفف من صدامية الأحداث وتواترها المتصاعد، وينوع تقديمها ويخفف من حدتها، وهي نادرة، لكنها تكشف عن التقلبات النفسية لرمسيس، الذي يقول: "زدت تأكدت بأن الشخص لي فالمرايا ماشي أنا، حليت فمي، خرجت لساني، شيرت بيدي..."[6] ولكن هذه السخرية التي تأتي في زخم حضور الذكرى سرعان ما تكف عن الظهور، فرغم أنه وسيلة لكسر إيقاع اللوم والعتاب وخروج من حالة التيه إلا أن رمسيس يعود إلى تداعياته النفسية والظلم والمؤامرات في قالب دراماتيكي مثير ينم عن عبقرية في نسج التاريخي والتخييلي في النص الدرامي.

لقد كان المشهد الأول صراعا نفسيا بين حضور الماضي ونفيه، لكن المشهد الثاني يكشف عن رمسيس جديد، جعلته مايا أكثر تعقلا للتفكير في المرحلة الجديدة، من مسرح الصراعات النفسية إلى مسرح الصراعات الواقعية التخييلية التي تؤثثها مرحلة العهد الجديد، بين البقاء أو الموت، الصدام أو الاستسلام، يقول "رمسيس 2: وعلاش غادي نسدو، خصنا نوجدو راسنا، الوقت تبدلات، خصنا نتبدلو معاها، خصنا نخرجو شويا ونشوفو الدنيا، ونتلاقاو مع الناس الجداد"[7]، لم يكن رمسيس جبانا، بل حاول العودة مرارا إلى مسرح الأحداث، لكن كل شيء كان ينذر بفوات الأوان، فهل فات الأوان فعلا؟ وماذا لو عاد إلى مسرح السلطة؟

وفي خضم تقلبات السلطة، يحاول رمسيس الثاني أن يجد لنفسه موضعا في المرحلة الجديدة، لتتقلب أحواله بين تنكر الأصدقاء والمؤامرة على السلطة التي كان ذات يوم عقلها ويدها، إنه مواطن عاديّ الآن، لقد فقد المخلوق السلطوي العجيب كل أنيابه التي مزق بها أعداءه ذات يوم قريب، هكذا أصبحت الصورة في المرآة تتضح شيئا فشيئا، وكأن البرولوغ ليس إلا آلية لجعل القارئ يتقرب لشخصية رمسيس.

حاول رمسيس الثاني التأقلم مع الوضع الجديد، لكنه يدرك حجم الخسارة بفقد قائده الذي كان إلى جانبه يشكلان السلطة المطلقة بكل معانيها، تقول مايا:"معلوم ماشي ساهل، المدينة كانت ناعسة كاتحلم، والجبل اللي كيعطيها الظل والما والنعمة ناعس حتى هو، تيحلم ولا ما تيحلمش، وواحد النهار من تفيق المدينة كتلقى الجبل طاح، مابقاو منو غير جوج رخامات بويض، تكتب في وحدة منهم سنة الميلاد وفي الأخرى سنة الوفاة"[8].

إن هذه التقلبات المفاجئة جعلت رمسيس الثاني ضد السلطة الجديدة، بل حاول التآمر عليها بعد أن كان صورتها المطلقة، جاء في المسرحية "رمسيس 2: ما عندو ما يفكر، لمعلم مربوط في الجبل القديم، ملي طاح طاح معاه، ما قدرش يفكر فبني جديد، باغي غير يحضي الأنقاض ويجري على الميخالة، ويلصق الطريفات مع بعضياتها، خصنا نقلبوا على شي حد آخر"[9]. لكن رمسيس الثاني يفشل في كل شيء، ويصبح مشغولا بالحفاظ على رأسه، لقد انتهى بعد مسار طويل في دهاليز السلطة إلى مواطن عاد جدا، لكن تاريخه الحافل بالانتهاكات والتعذيب ظل يلاحقه باستمرار.

رمسيس باعتباره تجسيدا للشر المطلق

وبمماحكة رمزية عميقة يُظهر المؤلف القدَر الذي حاول رمسيس إقناعه بالبدء من جديد، وأن يجعله شخصية عادية تتخبط في اليومي، لكن يكون كل شيء قد انتهى وفات أوانه، يقول "المؤلف: واش كاين شي تفلية بحال هاد الشي اللي كتقول، بغيت منبقاش أنا؟ إوا؟ هادا عمر وأنت، أنت، ودبا ملي بدات كتسمع شي جنازة فالكولوارات، لواه بغيت ما نبقاش انا؟"[10].

انتهى كل شيء، وفر الجميع ممن كان ذات يوم يطلب لقاؤه فلا يستجيب، إن الجاه في حالة رمسيس مرتبط بالسلطة، وإذا ما اختفت هذه الأخيرة اختفى معها جزء من الهوية المزيفة للمرء، لأنها ليست هوية حقيقية بقدر ما هي هوية مصطنعة مرتبطة بكائن هلامي اسمه السلطة، يقول "رمسيس1: أراي لي السميات (يضرب على جبهته) فين مشات السميات؟ أراي لي السميات. مايا: (غاضبة) مبقات سميات، سلات، ما فهمتيش؟ سلات، مبقات لا سميات لا سيدي زكري، كلشي سلا"[11].

وكأن كل شيء يحتكم لعجلة التاريخ، حيث البداية والسقوط للرجل الثاني في هرم السلطة، لقد كانت السلطة بهذا المعنى آلة فتاكة ضد-إنسانية، على الأقل في سياق النص الدرامي، حيث جردت رمسيس من إنسانيته وآدميته لتظهر الجانب البربري من خلال البطش والقتل، جاء في النص: "كان يا مكان، حتى كان للي كان، كانت مسكينة كتطحن، طحنت الحب، وطحنت التبن، طحنت لي جاي وطحنت لي غادي، طحنت العود والحجر، ورياح البر والحوت اللي فقاع البحر.. ملي ملقات ما تطحن، دخلت تحت اضراسها طحنت عظامها"[12].

يدرك رمسيس أن حياته مقترنة بالسلطة القديمة، وأنه مات بموت الرجل الأول في هرم السلطة، وأنه ما عاد له وجود قط، يقول "رمسيس 2: أنا مكينش، أنا دازت كنازتي في التلفزيون، أنا الشخص دالمرايا... أنا شكون"[13]، مات رمسيس موتا رمزيا بموت قائده، لتسمع طلقات نارية بعد خروجه من المكتب، ليترك المؤلف/الأشعري بياضات حول النهاية، بين الانتحار والاغتيال أو طلقة عشوائية في الهواء، نهاية مفتوحة على قراءات كثيرة، لكنها حتما مأساوية لنهاية طاغية.

تثير شخصية رمسيس الكثير من الأسئلة الوجودية المرتبطة بالإنسان/السلطة، رمسيس الأول مدعاة التعاطف بسبب صراعه النفسي، الذي يؤدي إلى رمسيس الإنسان أو الذي يسعى لاستعادة إنسانيته، ورمسيس الثاني السادي والمتآمر والقاتل، ازدواجية تؤدي إلى فهم أعمق للشخصية، الشخصية الإنسان والشخصية السلطة وكلتاهما تؤديان إلى الشخصية التاريخية التي اتضحت معالمها في مرآة الأشعري تدريجيا.

إن مسرحية "شكون أنت" لمحمد الأشعري، مسرحية تاريخية، تستمد أحداثها من قصة تاريخية في قالب درامي رمزي، ترسم ملامح السلطة الانتقالية في المغرب، وما رافقها من تقلبات عميقة على مستوى بنية الحكم، مجسدا هذا الاضطراب في شخصية رمسيس1 ورمسيس 2 ومايا والمؤلف بأسلوب ماتع يبتعد عن المباشرة التي تقتل الإبداع، هذا الإبداع الذي يتضمن عودة ديونيسوس/اللاوعي الذي حاول من خلاله المؤلف كبح جماحه أو تغليفه على الأقل ليتناسب مع تنامي الأحداث الدرامية، لكنه أيضا لاوعي جمعي لكل المغاربة، حيث الندوب لم تلتئم بعد، لاسيما بالنسبة للقراء الذين عاشوا في فترة إدريس البصري، فكانت صورة رمسيس في قالب إبداعي مسرحي مثير، استطاع من خلالها الأشعري أن يقوم بمسرحة قصة تاريخية دون مغالاة تخييلية أو مغالاة تاريخية، وهي العنصر الذي يشكل فرادة المؤلف في نسج الأحداث الدرامية.

ومهما يكن الأمر الذي كان دافعا لكتابة هذه المسرحية، إلا أنها مسرحية جريئة من رجل سلطة سابق، ومناضل يساري نذر حياته للدفاع عن مبادئ اليسار في سياق تاريخي وسياسي متوتر، والمثقف الحقيقي هو الذي يظهر الحقيقة في وجه السلطة كما يقول نعوم تشومسكي... فهل كان الأشعري موفقا في رسم معالم رمسيس/إدريس البصري كما تبدت في مرآته المسرحية؟

وإذا كانت صورة رمسيس/البصري قد ظهرت جليا في مرآة الأشعري، فإن الشخصية المحورية قد أظهرت بدورها ملامح المؤلف باعتبار انعكاس صورته في المرآة أيضا، حيث تظهر صورة ضمنية للمبدع المناضل الذي كان جزءا من سردية مرحلة عرفت بسنوات الجمر والرصاص، حيث الظلام والخوف والعنف من شبح السلطة المجسدة للشر المطلق، وإذا كان القارئ قد استطاع رسم ملامح تقريبية لشخصية رمسيس في مرآة الأشعري فإن الأشعري قد بدت بعض ملامحه في مرآة الإبداعية المسرحية التي خلقت فرادة نص شكون أنت.

***

عبيد لبروزيين

......................

[1] - محمد الأشعري، شكون أنت، نص مسرحي، المركز الدولي لدراسات الفرجة، ط1، 2024، ص: 07

[2] - مارتن هايدغر، أصل العمل الفني، تر أبو العيد دودو، منشورات الجمل 2023 ص 93 94

[3] - محمد الأشعري، شكون أنت، نص مسرحي، م س، ص 11

[4] - محمد الأشعري، شكون أنت، نص مسرحي، م س، ص: 18

[5] - نفسه، ص ص: 19 20

[6] - نفسه، ص 20

[7] - محمد الأشعري، شكون أنت، نص مسرحي، م س، ص: 34

[8] - نفسه، ص: 39

[9] - محمد الأشعري، شكون أنت، نص مسرحي، م س، ص: 40

[10] - نفسه، ص: 57

[11] - نفسه، ص: 86

[12] - نفسه، ص ص: 89 90

[13] - محمد الأشعري، شكون أنت، نص مسرحي، م س، ص: 109

 

للشاعر العراقي المغترب عبد الستارنورعلي

يبدو الشاعر العراقي المغترب عبد الستار نورعلي؛ وقد بلغ الثالثة والثمانين من عمره، وكأنه أراد أن يعبر في قصيدته "انتظار القطار الأخير " عن معنى رمزي يمثل شعور الإنسان الذي يتقدم في السن باقتراب نهاية العمر، فمن يبلغ الثالثة والثمانين يشعر وكأنه يقترب من محطة الرحيل، متفكرا فيما بعد الرحيل، وكيف ستكون آخر مغامرة وآخر رحلة يقوم بها مرغما دون أي خيار آخر، وهي رحلة لا تشبه أي من تلك الرحلات التي اختارها طوعا من قبل.

حالة قد لا يشعر بها من هو في مقتبل العمر، إذ لا يشعر بثقل هذه اللحظة ورهبتها إلا من ينتظرها، والانتظار صعبٌ، فالذي يعيش ثمانية عقود يفكر في هذه اللحظة مليا متأملا في رحلته إلى المجهول، وهي رحلةٌ لم يعد أحد منها من قبل ليحدثنا عن عالمها الأثيري المبهم.

هذا العماء وعدم معرفة الإنسان أين سيتجه مصيره يخلق عادة تقاطعات وأبعادا فكرية، منها:

البعُد الصوفي متمثلا في الزهد في الدنيا وانتظار اللقاء.

والبُعد الفلسفي متمثلا في زمنٌ متقدم وتأمل في الذات والوجود.

والبُعد الوجودي متمثلا في المعنى والوجود والفناء والخوف من الصحو أو اليقظة التي تكشف المعنى.

القصيدة إذن يمكن أن تُقرأ كمرسى لرؤية إنسان متأمل "هاد ئ ورصين"، يبحث عن معنى، وأصعب ما في الحياة هو البحث عن المعنى. !

بدأ الشاعر قصيدته بقول:

إني أنا الْهاد ئُ والرَّصين

والْباحثُ عنْ زاويةٍ ساكنةٍ،

لا تقتضي وسادةً مليئةً

وأقف هنا عند قوله: "والْباحثُ عنْ زاويةٍ ساكنةٍ "، فهو حضور واضح لحالة المكان الصوفي (الزاوية) التي تُسَّمى أيضا "الربط" أو "الخَوانق"، وهي أماكن يتخذها الصوفية للعبادة والعزلة الروحية، وقد نشأت في العالم الإسلامي منذ القرن الثالث الهجري تقريبا، وكانت مراكز للتربية الصوفية والسلوك الروحي. فهي المكان الذي يجتمع فيه الصوفية للذكر والعبادة والتأمل، ويقيم فيه الشيخ والمريدون "الأتباع"، وهي تؤدي وظيفة المدرسة الروحية؛ فهي تُخرِّج المريدين وتُعلِّمهم الأدب الصوفي والسلوك. وتُعدُّ بمثابة محرابٍ للصفاء وملاذٍ من صخب الدنيا، يجتمع فيه من أراد الله لا السلطان.

والشاعر بذلك أراد توضيح حالة الزهد التي يعيشها، فـ "زاوية ساكنة" ترمز لمكان تأمليٍّ، يعتبر مخر جا من مطاردة الدنيا وضغوطها. فالزهد في التصوف ليس فقط رفض المتاع، بقدر كونه الرغبة في القرب من الذات والحقيقة. وفي هذا السياق وضع الشاعر نفسه خارج لعبة السلطة:

بالسَّيفِ والْخناجرِ،

والشَّوكِ والْحناجرِ،

أرصفةِ الشَّوارع

فهي كلّها رموزٌ للصراع والافتراس، أراد الابتعاد عنها ليلجأ إلى زاويةً ساكنة.

وهذا الموقف يتقاطع مع روح التصوف الإسلامي الذي ترى فيه حركة الذات نحو المحراب الداخلي أو سلطان الباطن، وليس سلطان الخارج.

وإذا عدنا إلى العنوان: "في انتظار القطار الأخير" سنجد أن المحطة الأخيرة في عمر الشاعر تمثل لحظة التحول أو العبور تشبهًا بالتصوف. ففي التصوف، هناك فكرة "الموت قبل الموت" أو "المراقبة" التي تستعد لها الذات، وهي ليست موتا ماديا فقط، وإنما هي موت للأنانيات والعالم والهوى. والشاعر بهذا المعنى لا ينتظر القطار كمجرد نهاية بيولوجية، وإنما كوسيلة حركة للعبور إلى زاوية ساكنة، ربما اللقاء أو الفناء أو الوحدة، أو الوعي بجوهر الوجود. وهذا ما يدفعنا لاستدعاء مفهوم "الفناء" عند المتصوفة، أو "تذوب الذات في الحق"، أو "فناء المحب في المحبوب".

أما المنطلق "الهادئ والرصين" فهو يشير إلى حالة أكثر من مجرد التقدم في العمر، بمعنى أنه يشير إلى حالة تراكم روحاني وتجربة تأملية، هي التي جعلت الشاعر يقف في طرف الانتظار، مع يقين أو ربما شكّ، أو في الأقل تأمل في ما بعد، وهو الآخر بعدٌ صوفي.

فضلاً عن ذلك تحتوي القصيدة على رموز لافتة:

ورأسِ ذاكَ الْمُبصِرِ الْعتيدِ،

داخلَ ذاكَ النَّفقِ الْبعيدِ،

صاحبُتُ شارعَ الْكفاح والرَّشيدِ،

فرموز مثل: "شارع الكفاح "، "النفق البعيد"، "رأس ذلك المبصر العتيد"، كأن الشاعر أراد من خلالها أن يرمز إلى أشياء أخرى، فمن خلال هذا، شارع الكفاح الذي يقع في وسط بغداد القديمة، وكان مسرحا للتظاهرات، إلى الحياة الدنيا، أراد ان يرمز إلى الكفاح والصراع. وربما رمز في " النفق البعيد" إلى مرحلة العبور أو الظلمة التي تسبق النور، أو الوعي الذي ينتقل من الظاهر إلى الباطن. أما "الرأس المبصر العتيدِ "فيمكن أن يرمز إلى الحكمة والرؤية الصوفية، أو ربما المعلّم الداخلي. وهذه الرموز تتوافق مع خطاب الصوفية الذي ينتقل من الحياة الفعلية إلى الحياة الباطنية، ومن الماضي إلى الحاضر، ومن الحيازة إلى الفناء. والشاعر في هذا الإطار لا يتحدث عن عمره المتقدم، وإنما يتحدث عن موقف وجودي من الزمن والوعي، وهو موقفُ صفاء وتأهب.

كما انضوت القصيدة على بعد تأملي فلسفي وجودي، فهو حين يردِّد:

سكرْتُ دهراً، وصحوْتُ أدهرا

ونمْتُ عصراً، ويقظْتُ أعصرا

تجد هنا حضور الزمن بشكل قو ي "دهر"" أدهر" "عصر " "أعصرا". فالزمن ليس مجرد حين خارجي، بقدر كونه تجربة وجودية. كذلك السُكر والصحو، والنوم واليقظة. هي الأخرى رموز متضادة تلمح إلى حالة مستمرة من الوعي والنسيان، من التجربة والنسيان، من الحياة والموت الرمزي. وهذا بعد فلسفي، ففي الفلسفة الوجودية نجد أن الزمن والوجود والثبات والمصير موضوعات مركزية. مثلا: إن واجه الإنسان العدم أو تحسس محدوديته الزمنية، فإنه يدرك وجوده بطريقة مختلفة

وفي هذا المنحى يصبح انتظار القطار الأخير انتظارا زمنيا ووجوديا، وليس فقط

إشارة إلى انتهاء العمر، فهو يشير إلى انتهاء مرحلة من مراحل وعي الذات،

والانطلاق نحو مرحلة أخرى، ربما لا نعرفها، ولكننا ندركها بالتسليم أو التأمل.

وفي الاتجاه الوجودي نفسه تجد في قول الشاعر:

لا عيبَ، لا خوفَ منَ السُّكر،

يكونُ فيه الرَّجلُ السَّكران أوهى..

منْ نسيج الْعنكبوتْ،

الْخوفُ منْ صَحوٍ يكونُ..

الرَّجلُ الصَّاحي كبركان يثورْ.

إشارة إلى أن فكرة الصحوة والسُّكر تأتي كمفارقة، لإنَّ السكْر يجعل الرجل "أضعف من نسيج العنكبوت"، ولكن الصحوة تجعل الرجل "كبركان يثور". بمعنى أن الوعي أو اليقظة أكبر خطراً أو إثارة من النسيان. ومن الناحية الفلسفية يمكن أن نقرأ هذا كمقاومة للغفلة المريحة، وكدعوة للصحوة الأخلاقية أو الوجودية التي تتطلب مواجهة، صحوة تدفع إلى الثورة أو المطالبة بالتغيير. ففي الاتجاه الوجودي، تواجه الذات عدمها أو محدوديتها، وتصدمها الحرية والمسؤولية، فتسعى إلى موقف جديد.

من هذا المنطلق، نرى الشاعر لا ينتظر القطار الأخير بصمت ولا استسلام، وإنما ينتظره في حالة استحضار روحي وعقلي فمن كان سِكيراً، يعيش غفلة؛ أما مَنْ يصحو، فهو على شفير ثوران، أي حركة، وربما اعتراض، وربما استرجاع. وهنا تتداخل العلاقة بين الزهد والتأمل والفعل، فتلك الحالة ليست مجرد انتظار ساكن بقدر كونها انتباهاً يَوَقظُ الروح لتتهيأ الى المسير إلى المحطة الأخيرة، وتنظر إليها على أنها ليست نهاية محض، فهي قد تكون بدايةً لنوع آخر من الوعي أو التحرر.

في النص أيضاً هناك إشارات صارخة إلى:

وما وقفْتُ في بلا ط سلطانٍ، ولا الْأبوابْ،

أنتظر الرضى أو الْأكياسَ أو

ما يمنحُ الْحُجّابْ،

أو نظرةً منْ أعين الذ ئابْ

وهذا في واقعه رفض للمكانة الاجتماعية التقليدية، للسلطان، للانتظار البيروقراطي أو الانتظار الذي يرضي السلطان. فالشاعر هنا أعلنها صريحة أنه لم يسلك طريق الرياسة أو التمكين، ولم يجعل رضى الآخرين من النخب والسلطان والحجاب، مقياساً لذاته. هذه إصرار على الذات، على الحرية الداخلية يتقاطع بالتأكيد مع الفكر الوجودي الذي يقول بأن الإنسان يصنع ذاته بفعل اختياره.

من هنا أرى انتظار القطار الأخير ليس استسلاما للسلطة أو للبنى التي يضغط فيها الزمن، وإنما هو فعل رفض لها. أقول هذا رغم أن الشاعر نفسه أخبرني أنه أراد من خلالها الإشارة إلى تقدمه في العمر، مثلما فهمت من قوله في رسالة بعثها لي: "وقد أشرت رمزاً لتقدم عمري (83 عاماً) واقتراب قطار العمر من محطته الأخيرة".

وأجد في المحور الانزياحي صورة للنهاية والتحول، فالقطار الأخير في النص رمزيٌ جداً، فهو لا يرمز فقط لنهاية زمنية، وإنما يتحدث عن نهاية تجربة، وانتقال إلى مابعدها، وهذا الانتقال بحد ذاته ربما يكون لقاءً، وربما فراغاً، وربما وحدة. في التقليد الصوفي، هناك مفهوم "المرحل" أو "الدار الآخرة"، ولكن هناك أيضاً مفهوم "البقاء مع الحق" أو "اللقاء بالمحبوب". وإذا بحثنا عن هذا البُعد في سياق حياة الشاعر، فإن تقدمه في السن يقترب من تلك المحطة، لحظة معرفة أن الزمن المحدود سيحمله إلى محطة لا يعود منها، أو ربما يعود منها متغيراً.

فمن المنظور الوجودي، ينتاب الإنسان عند الاقتراب من النهاية شعورٌ بالقلق أو الهلع الوجودي، لأنه يدرك أن وجوده ليس أبديا، وأنه سيفارق ما عرفه من علاقات ومواقع وأحباب وواقع إلى حيث العدم، أو الخلود. وفي هذه القصيدة يبدو هذا القلق مغلفا بسكينة "أنا الهادئ والرصين" إلا أن وجوده يعني أن الشاعر يعترف صراحة، وبلا تردد، بأنه راكب هذا القطار حتما، وأن عليه أن يستعدّ لهذه اللحظة، والاستعداد هنا ليس بالتهويل، وإنما بموقف الزهد والصفاء الداخلي.

أما حيث العدم أو الخلود فالقصيدة لا تحدد ما بعد القطار، لكنها تستشعر المسافة وتصفها بالـ "نفقٌ بعيدٌ "، وهذه هي المسافة الحقيقية بين الواقع والحلم، بين الحاضر والمتوقع، بين الدال والمدلول، هي المساحة الحقيقية التي يعيشها الشاعر. ومن منظور فلسفي/صوفي هذه المساحة هي المكان الذي ت زهر فيه الحكمة، ليس من خلال النجاح في الوصول فقط، وإنما في الانتظار والتأمل أيضا.

وهذا يدلنا على حقيقة تغيب أحيانا عن بالنا، أو ربما نغيبها قسرا هربا منها، وهي كيف يستعد الإنسان ا لذي يتقدم به العمر لعصر جديد يتجاوز الزمان والمكان التقليديين ولاسيما حينما يشعر أن القطار الأخير ليس فقط القطار البيولوجي الذي يتحكم به التقدم في السن فحسب، وإنما هو القطار العابر إلى بعدٍ ما بعد مادي. وإن كانت القصيدة لم تشر صراحة لذلك، فإن هذا التأويل يفتح أمامنا أفقا بحثيا غنيا. إذ توجد في الصوفية والوجودية على حدٍ سواء مكونات وعي الذات بمحدوديتها، ومواجهة العدم أو النهاية، والحرية الداخلية، والصحوة أو التنبه إلى الحياة والموت. وبرأيي أن هذه المكونات تتجلى في هذه القصيدة بما يعني أن الشاعر واع لعمره، وواع للانتظار، وواع أيضا بأنه لم يسلك المسارات التقليدية.

وإنما من خلال التقاطع في رفض المظاهر الخارجية: السلطان، الرضا، الأكياس،

لصالح الذات الداخلية والوعي الداخلي.

وهذا يعني أننا نقف أمام حالة إنسانية تتجرد من الزينة وتتوجه إلى الجوهر، وهو ما يُقرأ صوفياً ووجودياً بأن الإنسان يعترف بأنه "موجود ويحتضر" ومن ثم ينتج موقفه من هذا الوجود.

لكن ثمة فروق مهمة تستحق التنبه لها، وهي أن الصوفية غالبا ًتنحو نحو فكرة "الفناء في الحق"، وزوال الذات الشخصية في البعد الروحي، والوصول إلى الوحدة. أما الوجودية فتركز على الفرد، وجوده، الاختيار، المساءلة، غالبا دون تأكيد صريح على "الحق المطلق " أو الوحدة المطلقة ولاسيما في التيارات الإلحادية. ومن النقد الوجودي أن بعضهم يرى في الوجودية تشكيكا في الثوابت والقيم، وانكفاء على الذات، وربما نوعا من العدمية. وفي قصيدة عبد الستار هذه يتوازى هذان الاتجاهان، حيث هناك تأمل صوفي في الإشارة إليه من خلال: الزهد، انتظار القطار، السكون. وهناك وعي وجودي من خلال صور: العمر، الصحوة، رفض السلطة، الحرية الداخلية. السؤال الذي يمكن أن نتطرق إليه هنا: هل الشاعر يطمح إلى الفناء أم إلى الحرية؟ وهل يرى القطار الأخير كتحرر من الذات أ م كبقاء أمام مسؤولية الذات؟

وفي قراءة إنزياحية أي انتقالية زمن نهاية وبداية، ربما يكون القطار الأخير ليس

نهاية محضة، وإنما هو نقطة تحول مصيرية، وحينها يتحقق الجمع بين الصوفي من حيث الفناء/الوحدة، والوجودي من حيث المسؤولية/الاختيار. وهذا يعني أن الشاعر نجح في ربط المعنى بالمعنى.

وقد يكون هذا الربط وليد امتلاء القصيدة بالتضادا ت مثل: الهاد ئ/الثائر،

السكون/الصحوة، الشارع/النفق، السُّكر /اليقظة، الانتظار/التحرُّك. فهذا الخلق اللغوي وإن كان يؤسس لمشهد وجودي تأملي يتضح من خلاله أن الذات في حالة عطف بين عالميْن، عالم الماضي والحاضر، وعالم الدنيا وما بعدها، وعالم الغفلة واليقظة، إلا أنه يسهم في خلق الربط المطلوب لتحقيق الانتقال.

فالسُّكر هنا ليس مجرد ثمالة بالمعنى الحسي المعروف، وإنما هو ثمالة للزمن أو

للوعي. والنسيج العنكبوتي جاء كرمز هشٍّ يضاهي هشاشة الإنسان في غياب

الصحوة. الصحوة نفسها تتحول إلى ثوران، وحركة لم تكن مطروحة في السُّكْر. ومن ثم يبدو الشاعر كمن يستعد للانفجار، أو للتحول، أو للعبور الذي أراه أقرب الاحتمالات إلى واقع الشاعر نفسه.

ولذلك دلالات منها الصوت الشعري والضمير، فالضمير "أنا " نجده حاضرا بقوة: "إني أنا الهادئ … الباحث …" وهذا بحد ذاته يضع الشاعر في موقع متأمل ومعلّق بالحياة، ليس متلقياً سلطة الآخر أو الزمن، وإنما حرّ يعلم ويحدّد موقفه وفق إرادته لا وفق مطالب السلطان. هناك أيضا صيغة الخطاب: الشاعر يخاطب القارئ أو الذات، لكن أيضا يخاطب الحياة أو الزمن أو الموت ضمن ضمير متفاعل، وهذا القبض بين الذات والآخر، بين الشاعر والزمن، بين الانتظار والرحيل، أسس لتوتر شعري وجودي.

كما أن لغة النفي والرفض واضحة في القصيدة: "ولم أمسح الأكتاف… وما وقفت في بلاط سلطان …" هذا النفي يشير إلى اختيار لم يكن مَنحى زمنه أو مساره. وهذا يعزز فكرة أن الشاعر يحتشد في محطة النهاية بوعي خاص، ليس كمسافر منسحب أو مهزوم وإنما كباحث عن الحقيقة والمعنى.

بعد هذه الجولة من حقنا أن نسأل بلا توقف: ماذا تمثل المحطة الأخيرة في حياة كل منا؟ هل هي نهاية نهائية، أم انتقال إلى بعد آخر سواء كان روحانيا، أو رقميا أو رمزيا؟ وكيف يفهم الشاعر هذا الانتقال؟ وما علاقة الصحوة بالسُّكْر؟ ففي النص، السكْر ضعيف، والسكْر ليس مرفوضا بالضرورة، لكن مكمن الخطر في الصحوة، هي الخطورة، وهي الانفجار. فهل الصحة في الحياة هي الصحوة، أم في التوازن بين الغفلة والوعي؟

وكيف يتعاطى الشاعر مع الزمن؟ هل الزمن يسرق أم يمنح؟ وكيف يعكس تقدُّم العمر موقفا تأمليا؟ً

وقال الشاعر إنه لم يقف في بلاط سلطان، ولم ينتظر الرضا أو الحُجّاب، ولم يطلب نظرة من الذئاب، فهل يشير هذا إلى استقلال؟ وفي الانتظار الأخير هل يصير الإنسان مسؤولا عن عبوره أو عن اختياره؟ وهل القطار الأخير يمكن أن يكون رمزاً لتحول في أشكال الوعي نحو ما بعد مادي؟ وهل الزاوية الساكنة قد تصبح "واجهة دماغ إلى دماغ" في المستقبل؟ وهي أسئلة ليس من اليسير الإجابة عنها، لكن كل الذي أستطيع قوله إن قصيد ة عبد الستار نورعلي التي تحدَّث فيها عن عمره ليست مجرد بيان شعري لعمر متقدم، وإنما هي موقف وجودي مؤثّر، يجمع بين الصوفية في الزُهد والانتظار والزاوية الساكنة، والفلسفة الوجودية في الزمن والحرية والصحوة والقلق من النهاية. إنها تمثل "انتظار القطار الأخير" كمحطة رمزية نحو التحول، نحو ما بعد العمر، وربما نحو اللقاء أو الوحدة أو التجاوز.__

***

الدكتور صالح الطائي

الدكتور مصطفى عبد القادر – قاص وروائي ومسرحي مواليد 1957- من سوريا – ديرالزور- يحمل دكتوراه بالقانون الدولي – صدر له ثلاثة مجموعات قصتين ورواية – وعنده أكثر من مخطوط –

مجموعاته القصصيّة:

1- حانات بغداد.

2- امرأة لا تشبه النساء.

3- ورواية: خمارة وادي الموت.

عضو اتحاد الكتاب العرب – يكتب في الصحف والمجلات والدوريات – شارك في العديد من النشاطات الأدبية.

اخترنا له في دراستنا هذه قصة (امرأة لا تشبه النساء) وهي من المجموعة القصصيّة التي تحمل الاسم نفسه.

البنية السرديّة أو الحكائيّة لقصة – امرأة لا تشبه النساء:

"ممدوح" شاب موظف صغير، علاقاته الاجتماعية جيدة مع الآخرين، عيبه الخاص به هو تعاطيه الخمر الذي أدمن عليه. و"هدى" فتاة لأسرة ميسورة، تقدم ممدوح لخطبتها، رفضت الأم والأخ قبوله زوجا لهدى كونه يتعاطى الخمر، والدها رجل متنور لم يفرض أو يمنع الزواج بل قدم النصيحة لهدى:(إن ممدوح موظف بسيط، أخلاقه طيبة، ليس لدي اعتراض عليه، سوى أنه يتعاطى المشروبات الروحية. فكري جيداً قبل أن تحسمي أمرك. إن وافقت ستتحملين مسؤوليّة اختيارك. أمك رفضته، وكذلك أخوك، أما أنا فأترك لك مطلق الحريّة في الرفض أو القبول. أرجو أن يكون قرارك عاقلاً وحكيماُ.).

ها هي "هدى" تتحمل وحدها مسؤولية اختيارها. مرت السنون سريعا وأصبح لممدوح وهدى أولاداً، ولكن ممدوح لم يترك الخمر، بل ازداد إدمانا، وتمادى كثيراً في إهمال زوجته وأولاده، حتى نالهم البؤس والأسى في مطعمهم ومشربهم وأسلوب حياته. ما ميز "هدى" هو صبرها على معاناتها وإهمال زوجها، والداع لله له أن يخلصه مما هو فيه، بل ما زاد الطين بلّة، هو بدء توجهه نحو ملاحقة العاهرات، حتى كانت الليلة التي اتفق بها مع إحدى مومسات المدينة أن تأتيه ليلا إلى منزله، فجاءت في الموعد المقرر، استقبلها وذهب لزوجته لعمل فنجاني قهوة بذريعة أن صديقا له قد زاره في هذا الوقت.. عملت ما طلبه منها وجاءت به دون أن تدخل الغرفة.. أخذ من يدها صينية القهوة واغلق الباب خلفه. ولكن هاجس هدى جعلها تحس أن هناك أمراً غير طبيعي يجري داخل الغرفة.. تعرى ممدوح لمتابعة مستلزمات اللقاء.. وإذا بهدى تجده عارياً تماما مع عاهرته.. لم تقل له سوى إذا لزمك شيء فأن جاهزة.. شعر بعمق الصدمة فتوقفت كل احاسيسه وشهوته.. ارتدى ثيابه وودع العاهرة.. شعر بوخزات أبر تنغرز في مسامات جلده فتؤلمه. فكر بعيداً.. حسم أمره ومشى بخطوات خجولة وجلة.. فتح باب غرفة أولاده فوجد "هدى" ممددة بينهم، تنتحب بصوت مكتوم بائس. جلس قرب رأسها.. مدّ يداً بأصابع مرتعشة خائفة مترددة، مسح بلطف دمعة حرى عن خدها، فبدت سحنتها الخمريّة نقيّة ناعم، نظرت إليه بعنين عسليتين معاتبتين، فأحس بأنه في حضور ملكة فينيقيّة وسط حقول من الخضرة والزهور. أخذ كفها الصغيرة بكفه وضغط عليها، فازدادت دموعها بالانهمار، قرب فمه من أذنها.. همس بصوت ترشح من حروفه لكنة الندم والانكسار.. أعتذر لكل ما حصل.

البنية الفكريّة للقصة:

تدخل القصة في نسق الأدب الاجتماعي المتعلق بحياة المرأة، التي تطمح أن تكون زوجة وأم وصاحبة منزل خاص بها. وبالتالي، فإن ما تتشح به القصة فكريّاً، هو القول بأن ضعف الفتاة وعدم قدرتها على اختيار شريك حياتها بيدها، رغم أن الموافقة من قبلها على من يتقدم للزواج منها تظل محدودة، وغالباً ما تكون الموافقة محصورة بولي أمرها في مجتمعاتنا المتخلفة، فهذا ما ينعكس على حياة الفتاة سلباً أو إيجابا انطلاقاً من القول إن الزواج (نصيب). هذا إضافة إلى مسألة أساسيّة أراد القاص "مصطفى عبد القادر" طرحها هنا وهي قضية الحب الذي يجري بين الفتيات والشباب في مجتمعاتنا المتخلفة، فالحب هنا ليس أكثر من قضية إعجاب، على اعتبار أن علاقات الحب محرّمة، ويظل الجنس هو العامل الرئيس المحرك لها في مجتمع لم يتحقق فيه الانفتاح الجنسي، الأمر الذي تظل فيه مسألة الخيانة الزوجية قائمة عند الطرفين بنسبة غير قلية بعد الزواج، كون معرفة الطرفين لبعضهما قبل الزواج تظل ناقصة، وتبدأ بالانكشاف على التوالي شيئاً فشيئاً بعد الزواج، حتى تصل الأمور في نهاية المطاف إلى طلب الطلاق من قبل الرجل أو المرأة. وقليلة هي الحالات التي تصمد فيها المرأة على نصيبها إذا كان الرجل سيئاً كحالة "ممدوح" مع "هدى" رغم أن والدتها قالت لها بضرورة طلب الطلاق منه قبل أن يكثر أولادها، إلا أن "هدى" صبرت على قهرها وظلمها وإهمالها بصمت حفاظاً على حياتها الزوجيّة وانتظار اليوم الذي ستتغير فيه حياة زوجها (السكير)، وهذا ما تم أخيرا، وجعلت القاص يمنحها صفة امرأة غير عاديّة. أو امرأة لا تشبه النساء.

البنية الفنية والجماليّة للقصة:

إن البنية السيمائيّة أو الدلاليّة لعنوان القصة (امرأة لا تشبه النساء)، تؤكد لنا جوهر البنية الفكريّة للقصة، وهي أن المرأة تظل عاجزة عن تحقيق اختيار الزوج المناسب لها بسبب طبيعة المجتمع الذكوري، الذي يعطي الحق للرجل فقط في اختيار شريكة حياته، من جهة، ثم غياب المعرفة الحقيقية بين الطرفين بسبب قلة الاختلاط بين الجنسين، وعلى هذا الأساس غالبا ما تفشل حالات الزواج، والزوجة العاقلة هي التي تستطيع الصبر والمقاومة من أجل استمرار الحياة الزوجية والحفاظ عليها.

اللغة في القصة:

لقد اعتنى القاص "مصطفى عبد القادر" عناية بالغة باللغة التي صيغت بطريقة أقرب إلى الشاعريّة. حيث تجد فيها الكثير من المحسنات البديعيّة، وكثرة الانزياحات اللغويّة، والصور البيانيّة كالتشبيه والاستعارة والكنايّة، كما ظهر لنا كل ذاك التعدد في نوعيّة الجمل التي كانت تنوس بين الخبر والانشاء، هذا إضافة إلى ورود الجمل ذات المعنى الحقيقي والمعنى المجازي، الأمر الذي يجعل المتلقي يشعر بأن مسألة التعامل مع البلاغة عند "مصطفى عبد القادر" تأتي بشكل مدروس كحرفة يمتهنها بشكل متعمد،

لقد جاءت اللغة في عمومها عند القاص سليمة وفصيحة، استخدمت بقدرات تعبيريّة باهرة، وهذا يدل في الحقيقة على الثراء والغنى اللغوي من حيث قدرة التعبير وقوة التصوير في آن واحد عند القاص، كما يدل ذلك على أن القاص حاز على لغة فنيّة خاصة به. وهذه القدرة لا تأتي إلا من خلال وعي القاص أيضاً بقضايا المجتمع بأفراحها وأحزانها، إضافة لعمق تجربته.

الصورة في قصة (امرأة لا تشبه النساء):

يأتي الاهتمام النقدي بدراسة بناء الصورة في الأدب بشكل عام، وفي القص الأدبي بشكل خاص، من منطلق أن الصورة أساس الخلق الفني، كونها تحمل المواقف الاجتماعيّة والفنيّة والجماليّة والتخيليّة وخلجات الروح الداخليّة للقاص في النص الأدبي. كما وتسهم في فهم تجربة الأديب الإبداعيّة ذاته من خلال قدرة الصورة على بناء الأشكال المجازيّة التي تنقل رؤية الأديب للمتلقي. وتعمل على تحويل الواقع الحسي إلى عوالم إبداعيّة خلاقة.

لنتابع بعض هذه الصور الإبداعيّة التي جادت بها قريحة وخبرة وعمق تجربة القاص "مصطفى عبد القادر". وهو هنا يتكئ على صور جمعت بين الحسيّة والتخيليّة، لتترك المتلقي في حالة اندهاش من قدرته على الغوص في أعماق شخوصه. حيث يقول:

(سار بخطى ملتوية في شوارع المدينة الغافية في حضن الليل.. والوقت يوغل في التأخر منفلتاً من بين أصابع الحياة المترعة بالكأبة حوله.). و(أحست بقلبها المفطور يرف بين أضلاعها). و(مقطعاً أوصال السكون بنغماته المزعجة وإيقاعاته المنفرة). أو في قوله: (مع تنفس الصباح وانسحاب خيوط الليل المتلاشية). الخ

لقد استطاع القاص أن يجعل من صوره التخيليّة داخل قصته أكثر حسيّة وجماليّة، وبذلك تميز القاص بحشد التفاصيل الأساسيّة للحدث، ونقل هذه التفاصيل عبر وعي حاذق للقاص الذي استمد هذه الصور عبر الحواس أولاً، وعبر التخيل والمجاز ثانياً، مما ساهم في رسم صور بصريّة حققت قدرته التأثيريّة على المتلقي.

ملاك القول:

إن الكاتب أو الأديب الحقيقي هو الذي يلتزم بالواقع المحيط به، وينحاز لجذوره الاجتماعيّة والطبقيّة وتناقضاتها والعمل على تصويرها وطرح الحلول لها إن أمكن.

أو بتعبير آخر: إن الأديب الحق هو الذي يلتزم بواقعه بالقدر الذي يلتزم فيه بقيمه ومبادئه التي يبشر بها في كتاباته. (فالعناية بالطابع المحلي هي الطريق إلى العالميّة.) فلا سبيل لعالميّة الفن إلا إذا اهتم الأديب وعبر أولاً عن البيئة المحليّة التي عاش فيها. إن هموم الإنسان ومعاناته اليوم قد تختلف في الشكل، إلا أنها تتلاقى من حيث الجوهر. والتجارب الأدبية بشكل عام تهدف إلى تحرير الإنسان من غربته وقهره واستلابه وجوعه ومقاومة من يعمل على امتصاص قوته وجهده وسلبه حريته وعقله.

من هذا المنطلق جاءت واقعيّة قصة (امرأة لا تشبه النساء)، حيث سعى القاص جاهداً إلى تصوير حياة أسرة انحرف فيها الأب عن مسار دوره في بناء أسرة وتربية أولاد وبناء مجتمع سليم. فجاءت أحداث القصة واقعيّة ومألوفة في الحس الشعبي والأدبي عموماً. ومن هنا ركزت هذه القصة على تصوير الشخصيات والمشاكل والتحديات التي تواجه الزوجة وزوجها وأولادهما بروح واقعية لا مست جوانب كثيرة من الحقيقة.

***

د. عدنان عويّد

كاتب وباحث وناقد أدبي من سوريا.

............................

امرأة لا تشبه النساء

بقلم: مصطفى عبد القادر

سار بخطى ملتوية في شوارع المدينة الغافية في حضن الليل، والوقت يوغل في التأخر منفلتاً من بين أصابع الحياة المترعة بالكأبة حوله.

كلما مرت سيارة بقربه، قذفته برشقة من مياه الأمطار الممزوجة بالأوحال، فتصطبغ ثيابه باللون البني، ويعلو صوته بالسباب والشتائم لاعناً من أعطى هؤلاء شهادات القيادة.

كان قد خرج لتوه من الخمارة التي اعتاد الجلوس فيها يومياً لاحتساء الخمر.

مشى على الرصيف بخطوات بطيئة متعرجة يتأرجح في كل الاتجاهات... انعطف يميناً صوب منطقته المقفرة الموحشة التي تكثر فيها الحفر والأوساخ ويخيم عليها الظلام.

وضع يده على الجدار متلمساً طريقه، متحاشياً السقوط.. صرخ بأعلى صوته:

يلعن أبوك يا بلدية.. لماذا لا تستبدلين أعمدة الكهرباء المحترقة منذ سنة.؟!... ثيابه المبللة أثقلت جسمه.. أحس بالتعب.. وسع فرجة ساقيه اختصاراً للوقت. لم يعد يحس بأطرافه المتخشبة من شدّة البرد.

ها هو يلج منزله ويصفق درفة الباب وراءه بقوة.. نهضت زوجته من فراشها على صوت الارتطام.. تلقته في باحة الدار، وقادته إلى الغرفة بقلب مثقل بالحزن والشفقة.. نزعت عنه ثيابه الرطبة.. ألبسته منامته بعد أن نشفت شعر رأسه.. مددته فوق فراشه، وغطت جسمه بلحاف سميك.. لملمت ثيابه المتسخة بالأوحال، وضعتها في الماء الفاتر والصابون، غسلتها جيداً ونشرتها على حبل الغسيل بعد أن توقف المطر.. انتظرت آذان الفجر.. توضأت.. صلت.. وغرورقت عيناها بالدموع وهي رافعة ذراعيها إلى الأعلى داعية ربها أن يعيد زوجها إلى رشده ويخلصه من إدمانه المقيت.. التفتت إلى يسارها فوقعت عيناها على أطفالها الثلاثة وهم نيام.. كانت وجوههم تنطق بالطهر والبراءة.. أحست بقلبها المفطور يرف بين أضلاعها..عادت بها الذاكرة لسبع سنوات خلت، عندما تقدم ممدوح لخطبتها.. كان شاباً وسيماً يتدفق حيوية ونضارة، حينذاك، ترك لها أبوها حرية الاختيار بعد نصحها قائلاً:

- إن ممدوح موظف بسيط، أخلاقه طيبة، ليس لدي اعتراض عليه، سوى أنه يتعاطى المشروبات الروحية. فكري جيداً قبل أن تحسمي أمرك. إن وافقت ستتحملين مسؤولية اختيارك. أمك رفضته، وكذلك أخوك، أما أنا فأترك لك مطلق الحريّة في الرفض أو القبول. أرجو أن يكون قرارك عاقلاً وحكيماُ. ها هي هدى تتحمل وحدها مسؤولية اختيارها.

كم من مرة كاشفته بضرورة ترك الخمر، واختلفت معه لأجل ذلك. كان دائماً يعدها بأنه سيستغني عنه عما قريب، لأن أولاده أحوج إلى المال الذي ينفقه على هذا السم، وإلى الآن لم يستطع أن يفي بوعده.

مع تنفس الصباح وانسحاب خيوط الليل المتلاشية، نظرت هدى إلى ساعة الحائط، فوجدت عقاربها تشير إلى الخامسة. قامت تجرجر جسدها المتعب.. غطت أطفالها جيداً خشية البرد.. أطفأت النور واندست بينهم، ليطغى شخير زوجها على الغرفة مقطعاً أوصال السكون بنغماته المزعجة وإيقاعاته المنفرة.. تقلبت في فراشها برأس المثقل بالهموم.. أوقدت فيه قناديل المرارة والخيبة.. تدلت أمامها خارطة حياتها البائسة.. زوجها.. اولادها الذين ساءت صحتهم.. لقمة عيشهم المتردية يوما بعد يوم.. لباسهم الذي لم يكونوا ليرتضوا به.. الديون المتراكمة. هنا تذكرت نصيحة أمها لها بعد سنتين من الزواج:

- أطلبي الطلاق يا هدى، واتركي له ابنه قبل أن يكثر أولادك ويقصموا ظهرك. هذا رجل لا يعرف المسؤوليّة، ستندمين على كل يوم قضيته في كنفه.. وتهرمين قبل أوانك.

- سألت هدى نفسها.. هل كانت أمي محقة في كلامها لو أني طلبت الطلاق وقتذاك؟. هل كان ممدوح سيبقى دون زواج؟. حتماً سيتزوج، ويكون ابني تحت رحمة لا يعرف الحنان إلى قلبها طريقاً.. لا.. لا أستطيع أن أتخيل ذلك، إنه قدري وقد ارتضيت به. وعلي بالصبر عسى يهديه الله ويثوب إلى رشده.

قبل أن ينهض ممدوح من فراشه أحس بجفاف حلقه وفمه. تلمس رأسه المحشو بمطارق من حديد. ارتطمت عيناه بسقف الغرفة فذكره لونه الباهت بحياته التي آلت لهذا الرميم. لم يفكر أبداً انها ستكون على هذه الصورة. إنه يحس بغربة عن هدى. لم يشعر أبداً انها تشبه فتاة أحلامه في شيء. عمره معها يمضي بطيئاً.. بارداً.. إيقاعه ممل. لا جديد فيه يدفع للتفاؤل، حتى أن واجباته الزوجية تحولت إلى آلة صماء معطلة فقدت أساب تشغيلها، رغم أنه يحفز مخيلته على اصطناع عوالم حب لاهبة. فيستدعي كل ما هو مثير ومحرض، لكن الخذلان يمنعه من إتمام حصاده. إنه لا يشك بفحولته المتأججة. يعرف تماماً إمكانياته الغريزية التي تلح عليه دائماً وتأرقه. تمنى لو أن أحواله المادية تسعفه لتزوج أربع نساء، وهو واثق من عدله معهن جميعاً.

- بالأمس وأثناء صعوده إلى الحافلة ارتطم فخذه بعجيزة فتاة غضة، تملك قواماً يتفجر أنوثة، فتحركت فحولته، حينها أسر في نفسه:

- إلى متى أبقى قابعاً في غياهب العطش والجفاف والحرمان؟. إلى متى سيبقى زهري ذابلاً؟. إلى متى أظل أعيش وسط صحراء قاحلة يلفني الوهم والسراب؟. الليلة سأتحرر من قيودي وأخلع عني رداء التعفف المصطنع. سأمزق ستائر الخجل، وأفتح نوافذي لنداوة الربيع.. أليس عاراً أن أبحث عن حياتي الضائعة، إنما العار كل العار أن أدير ظهري لها.

- بعد انتصاف الليل، ولج غرفة الاستقبال القريبة من الباب الرئيس لمنزله، أغلق وراءه بابها دون أن يحدث أي صوت يوقظ النيام...تقدم نحوها وهو ثمل كخيط لفحته نسمه هواء خفيفة. جلس بقربها على الأريكة ورائحة الخمر تفوح من فمه، مدّ يده إلى فخذها، والقى برأسه فوق صدرها العارم ممرغاً وجهه بوسادتين من الحرير.. أنامله راحت تمسح اللحم البض بكل ليونة ونعومة.. فمه أطبق على شفتيها الورديتين بقوة، بينا يده اليمنى طوقت كتفيها، وأطلق لليسرى تداعب هضابها وتضاريسها كأخطبوط حظي بفريسة بعد جوع طال أمده، خاطبته بصوت خافت:

- هل أحكمت إغلاق باب الغرفة؟.

- أجابها بلسان أثقله الخمر.

- لا داعي لذلك.

- تقصد لا يوجد أحد في البيت؟.

- لا تخافي.. ما من أحد يجرأ على دخول غرفة الاستقبال عندما يكون لدي ضيوف.

- حتى زوجتك؟.

- اطمئني. سأخبرها أن صديقي حسام هنا.

- خرج ممدوح وطلب من زوجته أن تعد فنجانيين من القهوة وعاد على عجل.. ماهي إلا دقائق حتى قرع باب الغرفة قرعاً خفيفاً... نهض مدوح وفتحه فتحة موربة.. تناول صينية القهوة وأعاد إغلاقه.

أطلق ضحكة تنم عن اعتداده بنفسه، وقال بلهة المنتصر:

- ألم أقل لك لا أحد يتجرأ على دخول الغرفة حين يكون لدي ضيوف. هذه الصينية تناولتها من يد زوجتي.

- أشعل سيجارة وضعها في فمها وأخرى له، مج منها مجّة عميقة، ونفث دخانه بزفرة مكبوتة لها وقع يشبه حفيف الأفعى.. شربا قهوتهما وهما يتبادلان أحاديث الغرام، بينما راحت عيناه تلتهم الجسد العاري أمامه بكل تفاصيله المشجعة على الالتحام. لقد اتفقت معه على قضاء نصف ساعة في بيته بعد أن تمسكت بالمبلغ الذي يرضيها.. كانت على عجلة من أمرها نظراً لوجود موعد آخر.. خاطبته بلهجة رقيقة حركت فيه كل مشاعر الفحولة.

- لقد مضى نصف الوقت يا عزيزي وأنا ورائي سهر طويل.

انتبه ممدوح من غفلته فهب واقفاً كالعصا، وبدأ يخلع ثيابه دون تردد، وعندما هم باعتلائها فتح باب الغرفة دون استئذان، أطل من خلاله وجه هدى الموسوم بالخيبة والاستنكار. تناول ممحوح قميصه بحركة لا شعورية ليستر به عورته.. بلع ريقه من شدّة الخوف المباغت.. حملق في وجه زوجته بعينين ذابلتين، مذعورتين.. حدجته هدى بنظرة شاخصة أطلقت الكثير من سهام القهر واللوم والاتهام.. الألسن انعقدت.. التنهدات توقفت.. حرارة الشهوة المتقدة انطفأت.. العيون جحظت.. والوجوه اصفرت.

- قالت هدى لزوجها بصوت مخنوق وهي تحاول التمسك برباطة جأشها خشية أن تنهار وتسقط من هول الطعنة: أنا ذاهبة لأنام، إذا احتجت شيئاً أخبرني.

- أغلقت الباب ومضت إلى غرفتها بخطى متعثرة، وقلب مكتوم بنار الخيانة المشهودة. تلقت طعنة جارحة طعنت كبرياء الأنثى فيها، ومرغت كرامتها بالتراب، لكنها كضمت غيضها، وضغطت على أعصابها خشية انفلاتها.

- جلس ممدوح على الأريكة وحيداً.. ذاهلاً.. ساهماً من هول الصعقة، رمى برأسه على كتفه حائراً متلجلجاً، تشظت أفكاره نتفاً مبعثرة هنا وهناك، قذفها خلفاً حتى وصلت بداية حياته مع هدى. توقف كثيراً عند محطات تقصيره معها، وكذلك مع أولاده الثلاثة الذين لم يكن يهتم بهم، أو يضحي لأجلهم. لقد صفعته هدى بنظرتها الجارحة صفعة لن ينساها في حياته. كان يتوقع أي شيء إلا أن تقتحم عليه خلوته دون استئذان.. انتابه يأس شديد.. شعر بصداع يكاد يفلق رأسه نصفين.. ضغط بأصابعه على صدغيه.. وود أن يضرب رأسه بجدار عسى أن يريحه من غليانه.. أشعل سيجارة.. وثانية.. وثالثة.. تمطى ضميره الغالي بداخله.. أفاق تواً من نومه.. تطاول وانتفخ حتى أن الغرفة لم تتسع له. شعر بوخزات أبر تنغرز في مسامات جلده فتؤلمه. فكر بعيداً بعيداً.. حسم أمره ومشى بخطوات خجولة وجلة.. فتح باب غرفة أولاده فوجد هدى ممددة بينهم، تنتحب بصوت مكتوم بائس. جلس قرب رأسها.. مدّ يداً بأصابع مرتعشة خائفة مترددة، مسح بلطف دمعة حرى عن خدها، فبدت سحنتها الخمريّة نقيّة ناعم، نظرت إليه بعنين عسليتين معاتبتين، فأحس بأنه في حضور ملكة فينيقيّة وسط حقول من الخضرة والزهور. أخذ كفها الصغيرة بكفه وضغط عليها، فازدادت دموعها بالانهمار، قرب فمه من أذنها.. همس بصوت ترشح من حروفه لكنة الندم والانكسار.

 

تحددت ملامح الحركة الشعرية في السبعينات وسماتها الأساسية من خلال ثلاثة عناصر، سرى مفعولها في المتن الشعري لأزيد من عقد من الزمان، ويمكن القول أن الصدى لازال مستمرا حتى الآن:

يتثمل العنصر الأول في عمق التجديد الذي أحدثه جيل السبعينات بشكل يختلف جذريا عن النتاج الشعري لدى الأجيال السابقة.

وأما العنصر الثاني فيتعلق بصياغة مفاهيم نظرية ومقولات في النقد الأدبي، سرت بدهشة من خلال المتابعات النقدية والمطارحات التي كان رواده يتداولونها حول مسائل وقضايا فكرية ونقدية. ورغم ما قيل عن تعالي هذه المقولات، وطموحها الزائد في مقابل الإمكانية الإبداعية المطروحة، إلا أنها أسهمت بشكل مثير في بث روح بالغة الحماس في الحياة الثقافية آنذاك.

ويتجلى العنصر الثالث في تنوع الأشكال الإجرائية المستقلة التي أتاحت لهذا الجيل أن يذيع نتاجاته، ويحقق أقصى درجة من الإعلان عن عنصري الإبداع والنقد، ومنها الندوات، والمقاهي الثقافية، والصحف والمجلات التي ساعدت على طرح الأمر بشكل واسع(1).

إلى هذا الجيل المفعم بالتجريب والتجديد ينتسب الشاعر المغربي عبد الله راجع، أحد رواد القصيدة المغربية المعاصرة، وصوتها المفعم بالعمق والأصالة، والتوق لاجتراح رؤى وآفاق شعرية متجددة.

تفتقت قريحة شاعرنا ضمن سياق اجتماعي وسياسي مفعم بالصدام والرعب والإحباط، وتبخر أحلام بناها جيل الشباب بعد الفكاك من ربقة الاستعمار. أما على المستوى الفني فقد تشكلت حساسية شعرية اهتمت بالتجريب في بنية القصيدة المغربية، وخلق متخيل شعري يواكب التحول العميق الذي أحدثته نظيرتها المشرقية، وذلك بالانتقال من الشكل العمودي إلى التفعيلة، وتطويع اللغة والإيقاع، وتوظيف الموروث بشتى تجلياته المضيئة للتحرر من قوانين السائد والمألوف.

تشكلت الحروف الأولى لصوته المتميز من مزيج ضم شعراء النهضة، إلى جانب قمم الشعر الفرنسي كبودلير ورامبو ومالارميه وغيرهم. إلا أنه، وهو المؤمن بحتمية الوفاء لجذور القصيدة العربية، لم يُخف انكبابه المستمر على شعر أبي الطيب المتنبي، والتوغل في المتاهات الفنية التي أبدعها أبو تمام، والذي يصفه بالشاعر المهووس بالتغيير وإحداث خراب داخل هذا العالم.

ولأن الكتابة مسؤولية، ومعترك لا يليق إلا بمناضل متمرس بعتاده، فلابد من زمن يسبقها لينحت الشاعر أداته الفنية. صرّح في مقابلة مع الناقد جهاد فاضل قائلا:

" كان لابد أن أخلق مسارا شعريا يميزني لكي أتأكد من أنني فعلا أصبحت شاعرا. وقد اقتضى مني ذلك مرحلة من الزمن لا أعتقدها قصيرة هي في حدود العشر سنوات. ولكن عندما اقتنعت بأنني أستطيع أن أكتب كما ينبغي، أقدمت على تجربتي الأولى."(2)

في المسار الذي اختطه راجع لنفسه تحتفي الكتابة بالسرد والمجاز والإيقاع، واستدعاء نماذج تاريخية تجعل من المتن الشعري فضاء لمعالجة واقع القهر والانتكاس (عبد الكريم الخطابي، الحلاج، عبد الرحمن الأشعث...)، وتعكس قلق الشاعر المعاصر إزاء الإشكالات السياسية والاجتماعية، وواجب إدانتها لتحرير ذاته من قوانين السائد والموروث. ينسج شيئا من وجعه بخيوط ملحمة النضال التي قادها عبد الكريم الخطابي في جبال الريف المغربية متوعدا:

"لجبال الريف عيونٌ ترصد أمواج البحر المتوسطْ

كيف إذن حين افتضّت سفن الغزو شواطئ سبتهْ

وامتلأت برذاذ الدهشة والحزن عيون الأطفالْ

لم تصهل في منعرجات الريف خيول «الخطَّابي»

أو تتحرّك راياتك يا أنَوالْ؟

كي تكشفَ أوراق الغَبَشِ المتمدِّد شرْخًا يتقيّح في

ذاكرةِ الريف لعل غضون البحر الغاضبْ

تُفرزُ ثانيةً وجه الخطّابيْ إذ يقرأ فاتحة (الحركةِ)

والموت أمام الباب المسدودْ

فتموجُ الشطآن برائحة الزعتر والبارودْ؟"

(مكاشفات من دفتر الغربة)

الكتابة تحريض. ولأنها قدره فإن شاعرنا يعلن القصيدة عالما جديدا، يلوذ به من انهزموا على مستوى الحياة اليومية. وباللغة التي ظلت حتى زمن قريب أداة اتصال وتوصيل، سيسهم راجع في تغيير الواقع، أو نسفه إن لزم الأمر لإعادة تركيبه في صورة جميلة:

آت تسبقني لغة جُبت لأتقنها

أطراف المعمور

لغة تخرج من تيه الصمت

البارد، وتخرج من أعماق

الديجور

كي تملأ باسمك يا سيف الدولة

رمل الصحراء وأشجار الشام.

(أوراق متساقطة من ديوان أبي الطيب المتنبي)

الكتابة تمنع إزاء الفوضى، لذا تحفّظ شاعرنا على دعاوى التجاوز والاختراق التي تطال أدوات الشاعر الأساسية. إن هناك أصولا ينبغي أن تٌقدّس وفي مقدمتها اللغة. يجب التمييز بين اختراق التعبير المألوف وبين تحطيم الأصول؛ وهذه الدعوة إلى المشي بحذر وسط ركام الحداثة تتسق مع نحت قصيدة معاصرة، تهتم بتطوير الأصل بدل الاكتفاء بالخروج على مواضعات اللغة والموسيقى. كن قادرا على اختراق العالم واخترقه، يقول راجع، ولكن اخترقه بأداة طيعة، اخترقه بأداة سليمة!

الكتابة انكفاء، وهو مالم يمكن لشاعرنا الإفلات منه في فترة حالكة، خيم على وجدان شعرائها أثر نكسة 67، وكآبة العجز والحيرة ونهش الذات. بدا وكأن الجميع يواجهون قدرا سياسيا مفعما بالقهر والعنف، ويتوجب على الكلمة الحرة أن تتصدى له، وتنفعل إزاء الأحداث بروح مفعمة بالأمل والحلم:

"ولست جديرا بكل بلاد

يكون المرور إليها جواز سفر

جدير بكل بلاد جوازاتها أن

تحب القمر

وأن يملأ الكادحون بها المُدنا

لذلك أرحل عنكم وعني

فما وجدت نبضتي مستقرا

ولا جبهتي وطنا."

(جبهة تتغضن قبل الأوان)

والكتابة انهماك، لذا لم يكن شاعرنا ذاتا تحاور العالم فحسب، وإنما سعيا محموما لتأسيس قصيدة مغربية معاصرة، تضيء جغرافيا شبه منسية في قوائم الشعراء. لقد حاصر الكتابة وحاصرته ليستكمل بمسؤولية والتزام، ما بدأه جيل الستينات قبله، أمثال محمد السرغيني، وأحمد المجاطي، وعبد الكريم الطبال، ومحمد الخمار، ويفسح للخصوصية المغربية موطئ قلم في ديوان العرب:

"ها وردة أولى:

هي الأرض التي تحبو على

كتفي، تترك في القصيدة

لحمها

وأنا امتداد الحلم في الجسد

المحاصر بالكتابة

لاشيء ينقذني من الأرض

التي تمشي

سوى الأرض التي تأتي

وليس رحيل أحبابي سوى

مر سحابة."

(تروبادور)

***

حميد بن خيبش

.......................

1- شعبان يوسف: شعراء السبعينات. المجلس الأعلى للثقافة 2001.

2- جهاد فاضل: أسئلة الشعر. الدار العربية للكتاب

للشاعر التونسي محمد علي الحدّاد

تتأسّس القصيدة الحديثة على التوتّر الدائم بين اللغة والعالم، بين الذات ومرآتها، وبين التجربة الشعرية والمطلق الإنساني الذي تسعى إلى الإمساك به. ومن هذا المنطلق تبرز قصيدة «صحراء من لهاث الماء» للشاعر التونسي محمد علي الحدّاد بوصفها نصّاً كثيفاً يتجاوز حدود القول الشعري المألوف إلى فضاءٍ تأويليٍّ رحبٍ، تتشابك فيه الأصوات، وتتعالق الرموز، وتتوالد المعاني في دوائر من العطش والبحث والانبعاث. فهي قصيدة لا تكتفي بأن تقول العالم، بل تعيد تأويله في ضوء رؤيا وجوديّة مشبعة بالأسى والتمرّد، وبنزعة صوفية وجمالية تعيد تعريف العلاقة بين الشاعر والكون واللغة.

يأتي هذا البحث قراءةً نقديّة تحليلية موسّعة تستند إلى المنهج الهيرمينوطيقي التأويلي في سعيها إلى الكشف عن طبقات المعنى العميقة، وإلى المنهج الأسلوبي لتحليل البنى اللغوية والتصويرية المولِّدة للدلالة، وإلى المنهج الرمزي والسيميائي، خصوصًا وفق مقاربة أ. ج. غريماس في استخراج محاور الفعل (الفاعل/المفعول/المرسل/المرسل إليه/الساعد/المعيق) داخل البنية النصيّة. كما أحاول استنطاق النص على المستويات الجمالي والوطني والوجودي والنفسي والديني، للكشف عمّا يختبئ تحت الجلد الشعري من نبضٍ وتوتّرٍ ورمزٍ، وما يفيض به من إشاراتٍ معرفية وجمالية تُحوّل القصيدة إلى كيانٍ متعدّد الطبقات والدلالات.

ففي هذه القصيدة، يتّخذ الماء — رمز الحياة والخلاص — هيئةً لهاثٍ لا ينتهي، فيتحوّل إلى استعارة كبرى للعطش الإنساني إلى المعنى، وللصراع الأزلي بين الظمأ والارتواء، الحضور والغياب، الخطيئة والتطهّر. ومن خلال هذا الصراع، يرسم الشاعر محمد علي الحدّاد ملامح ذاتٍ قلقة، متشظّية، تكتب وجودها في مواجهة الخواء والخراب، محوّلة الشعر إلى وسيلة للمقاومة والنجاة، وإلى مرآةٍ للوجدان الجمعي الذي يتأرجح بين الحلم والانكسار.

تهدف هذه الدراسة إلى تفكيك البنى الدلالية والرمزية والجمالية في هذا النص المركّب، وقراءة ما تنطوي عليه من أنساقٍ فكرية ومعرفية تتقاطع فيها الأسطورة بالدين، والذات بالوطن، والمطلق باليومي، لتغدو القصيدة خريطة تأويلية للوجود الإنساني في أكثر حالاته عطشاً وتمزّقاً.

سأعود هنا إلى تقسيم الدراسة إلى عدة محاور:

أولًا: التمهيد النظري والمنهجي

1. المنهج الهيرمينوطيقي التأويلي:

يتعامل مع النص بوصفه شبكة من المعاني المفتوحة، لا تُفهم إلا في ضوء تجربة القارئ والتاريخ والموروث الرمزي.

2. المنهج الأسلوبي:

يركّز على تشكّل المعنى عبر اللغة، من خلال التكرار، والانزياح، والتراكيب التصويرية.

3. المنهج الرمزي والسيميائي (غريماس):

هنا سأعتمد المربع السيميائي و"محاور الأدوار" (الفاعل/المفعول/المرسل/المرسل إليه/الساعد/المعيق) لفكّ خريطة الفعل داخل النص.

4. المستوى الجمالي والوطني:

تحليل كيف يتحوّل الشعر إلى خطاب وجودي ووطني مضمر، وكيف تتجلى التونسية كهوية رمزية أكثر من كونها جغرافيا.

5. المستوى النفسي والديني:

استكشاف التوتر الداخلي بين المقدّس والمدنّس، بين الخطيئة والخلاص، بين الإنسان والله والشاعر واللغة.

ثانياً: القراءة التأويلية العامة للنص

العنوان: "صحراء من لهاث الماء"

يؤسس العنوان مفارقة أنطولوجية: الصحراء (الجفاف المطلق) / لهاث الماء (العطش الدائم للماء، أو اللهاث خلف الحياة).

هذه الثنائية تمثّل البنية التوليدية للنص بأكمله: جدلية الظمأ والارتواء، الغياب والحضور، الموت والحياة.

العنوان هنا ليس توصيفاً مكانياً بل رمزاً كونياً للوجود المأزوم — وجود الإنسان الذي يحيا عطشاً لمعنى لا يُنال.

ثالثاً: المستويات الدلالية والرمزية

1. المستوى الرمزي

النص مشبع بصور تنتمي إلى حقلين رمزيين:

رموز الماء والنار: (الماء، اللهاث، الحريق، الانصهار، المطر، الطوفان، الخرائب).

هذه الرموز تُعيد إنتاج صراع التطهير والهلاك.

رموز الأنثى والخصوبة: (حلمة الضوء، بكارة الماء، مشيمة، عروس الغرباء، امرأة الليل، زنوبيا).

الأنثى هنا ليست جسداً، بل وسيطاً للخلاص أو الفناء.

الماء في النص يتحوّل من عنصر حياة إلى مرآة للعطش، والنار من تطهير إلى لعنة الخلق، ما يجعل النص يتحرك في فضاء "ما بعد الخلق"، في حالة تفكّك كوني.

2. المستوى الأسلوبي، الشاعر محمد علي الحدّاد يبني نصه على الانزياح اللغوي المتتابع:

كثافة الأفعال في صيغة المضارع (يوزّع، يبعثر، ينوء، يتمترس.. .)

→ تُوحي باستمرار الحدوث لا بانقطاعه، كأن الزمن متكرر في حلقة من الوجود المنهك.

هيمنة الجمل الفعلية مقابل الجمل الاسمية → دليل على قلق الوجود.

الاستعارة المركّبة: (قهوة تصطلي بالليلَك / الليل ينوء بكربته القمرية / العريشة تتمترس / أصيص الذاكرة).

هذه الانزياحات اللغوية تكشف عن وعي شعري حداثي يعيد تشكيل اللغة لا وصفها.

3. المستوى النفسي:

النص اعتراف طويل بالمنفى الداخلي، فيه تنكشف ذات ممزقة بين الحنين والخذلان:

"فأنا منسيّ.. لا يسع البرزخ صراخي"

"ولا حاجة لي لتأويل حروفه على حبل الغسيل"

"أمارس وطناً حميميّاً مختلفاً.. في خيمة لا وطن فيها"

الشاعر يُنشد "وطناً ميتافيزيقياً" لا أرضياً، وطناً في اللغة نفسها.

والموت عنده ليس نهاية، بل حالة دائمة من الانتظار والتطهّر.

الصحراء النفسية هي داخل الذات، لا خارجها.

4. المستوى الديني:

النص يوظف تناصّاً مكثفاً مع الكتب المقدسة:

سفر التكوين / السامري / العجل / البرزخ / الأعاصير / الأعمدة / البوم / القلاع / العراء.

هذه المفردات ليست تزييناً بل تأويل شعري للأسطورة الدينية.

حين يقول:

"هنا.. لا قُدس.. ولا قُدّاس.. فسفر التكوين أعاد كتابته الأرجاس"

فهو يُسقط المقدّس في دائرة التجديف الرمزي، حيث يتمرد الشاعر محمد علي الحدّاد على التكوين الإلهي ليعيد خلق العالم بشعره.

إنه "نبيّ الشعر" المخلوع من جنّته.

رابعاً: التحليل السيميائي وفق نموذج غريماس

١- الدور السيميائي

٢- العنصر في النص

٣- الوظيفة والدلالة

٤- المرسل

٥- الذات الباحثة عن الخلاص/المعنى

٦- دافع البحث عن "الماء/الحقيقة"

٧- المرسل إليه.

الشاعر نفسه والإنسان الجمعي

الغاية هي النجاة من العطش الوجودي

٨- الفاعل.

٩- "الأنا الشعرية"

تقوم بفعل المقاومة والبحث.

١٠- المفعول به.

"الماء" بوصفه رمز الحياة والمعرفة

يمثل الهدف المستحيل

١١- الساعد

الرموز الأنثوية / الذاكرة / المطر / الحلم

أدوات جزئية تمنح الشاعر لحظات كشف

١٢- المعيق.

الصحراء / الخراب / النسيان / النظام الاجتماعي / الأعراب

قوى تحبط سعي الذات نحو الخلاص

بهذا يتجلى النص كرحلة بطولية من الجفاف إلى الارتواء الرمزي، لا تتحقق أبداً — فالماء يظل "لهاثاً"، لا وصولًا.

- خامساً: المستوى الوطني والأنساق المعرفية

القصيدة تُضمّر خطاباً سياسياً وجودياً:

"الأعراب يسفّوننا النشيد المازوشي"

"المسيرة الخطيرة أدخلتني مخفرًا مباح الشجب والتنديد"

الشاعر محمد علي الحدّاد هنا يعرّي الخطاب القومي العربي المهزوم، ويحوّله إلى صورة صحراء تلتهم المعنى والحرية.

الوطن يتحوّل من كيان جغرافي إلى مأزق معرفي وأخلاقي.

في المستوى المعرفي، القصيدة تشتغل ضد أنساق السلطة، وضد "لغة الطاعة"، مكرّسة لغة الهذيان الخلّاق كبديل للقول المألوف.

سادساً: المقارنة بين المستويات الأربعة

المستوى

١- الطبيعة الشعورية

٢- الوظيفة الجمالية

الانفعالي

توتر، حنين، قلق، فزع، تمرد

يخلق توتراً متصاعداً في الإيقاع والصور

التخييلي

بنية أسطورية تحاكي الخلق والتدمير

يجعل النص مفتوحاً على التأويل

العضوي

٣- وحدة الإيقاع الداخلي والمجازات المتصلة

يربط بين الصحراء والماء والأنثى

اللغوي

٤- اشتغال على التنافر الدلالي والرمزي.

يؤسس جماليات الغموض والاختراق

سابعاً: الخاتمة التأويلية

قصيدة "صحراء من لهاث الماء" نصّ ما بعد وجودي، يتجاوز الواقعي والسياسي ليؤسس ميتافيزيقيا العطش.

الشاعر يقف في تخوم البرزخ بين الإنسان واللغة، بين الفناء والتطهر.

تتجلى فيه الذات التونسية المبدعة كصوت للكون العربي المنفي في ذاته.

إنه نص لا يُقرأ بل يُؤوَّل، ولا يُؤوَّل بل يُعاش.

"وأنا صحراء من لهاث الماء"

جملة تلخّص المصير الإنساني كلّه:

الوجود لهاث دائم نحو ماءٍ لا يُدرك.

***

بقلم: عماد خالد رحمة - برلين

............................................

صحراء من لهاث الماء

بقلم: محمد علي الحدّاد

أكتفي بشامتي.. وبغمض مُسترق..

وببكارة الماء.. وبحِلمة الضوء..

وبمشيمة عالقة.. أو مختنقة..

وبوحوحة الغرباء.. والهباءة.. فالفيافي..

وأوّزّع عليكم رمادي

لعّلّكم تعرفوني.. في الزّحام..

وفي خريف المداخن..

*

وضراوة لجنّيّات حوراوات يَسْرِقْنَ كيس

أحزاني المثقوب..

ويُلقينه في البحر..

ويُحَرِّفْنَ ٱنحدار دموعي الغائمة لمجرى

الجداول..

فلا صوت لي يا حنيني فَأُُلّحِّن لها..

تقاطر الوحشة في المزاريب..

وٱنسكاب أمطار الخرائب في الخوابي..

*

وتَبَعْثُرِي في بروج الرحيل مثل ـ سِنِّمَّارْ ـ ..

وفي جنّاز بعض العقبان الصديقة

فأنا منسيّ.. لا يَسَعُ البرزخ صراخي..

والأعاصير تُعجبني لمّا تهبني خدودا..

و شفاها تتّأّخر..

عن موعد التفّاح القاني..

تلاعبني.. بمخايل الخرّوب..

وبالخطاف يحوم على رأسي

بالرّغم وأنّني لست هو ذلك

الخزّاف المنبوذ.. إنّمّا أنا توأمه الباكي..

*

وقد أنهكني ذلك الليل المتوّحش ينوء بكربته القمريّة..

النابتة بظهره شجرا وضيئًا.

في ٱقتتاله مع القنافذ الوديعة.. لطالما.. ٱستجارت منه بحموضة الكروم..

يتمترس وراء عريشة.. في طوفان لا سفينة فيه..

ولا من جبل يُعتصم به.. ولا من زِناد لبندقيّة..

تُشعل فتائل الدّيجور..

ثمّ لا مناص من غربتي.. وهذه عروس الغرباء..

سيرتشف دمع حتفي البُومُ

في صفصافه..

.. وإن تَنَّكَرَا لي شجر الجّبٌوز والطريق..

.. .. .سأشتهي من الورد الحريق..

تَغَافَلْ أَيَا طَيْرُ عَنِّي.. تَغَافَلْ..

فما جدوى أن تَتَبَاكَى عَلَيّ..

سيتخّطّفني أنيني..

فلا تفتح منقارك للرّيح..

.. مِثْلَ الأقفال يفتحها الصّديد..

و دَعْكَ منّي.. ومن شجرة ٱمالي.. التي أكلها السّوس..

.. .. .. .. .. . أَبْدَلَتْ رعشتها بِدَّقِ حَجَرٍ على حَجَرْ..

*

ها هو ذاك المستفحل في كتابة ـ أَجنْدَاـ

.. هَاكَذّيّة.. لثورته التجريبّيّة.. يثرثر للحالمين..

و لِذي نهنهات مكمودة.. كضّبي يخرج لسانه للرّيح..

وللمغبونين.. يَعِدُهُمْ بِثَلْمِ لسان الثعالب.

ويُعَّشِّمُّهُّمْ بقرص وجنة الدّجى..

ويُمَّنِّيهم بلثمتين من ورد قُدُودِ الحِسَان..

ولا حاجة لي لتأويل حروفه على حبل الغسيل

في البُكور..

فالنّهار أصبح يتلّقّف لزوجة التنّبأ يلّفّها بالنّارنج وبشيء من دياثته.. و بهتافاته المُتَبَالِهَة..

فأنا متصّدّع أدّخن قهوة تصطلي باللّيلك

وجدير بي أن أهوي إلى نفسي.. وأموء..

وجدار بعيد يمسكني بقوّة..

يدعوني للتشّقّق والهطول..

ممتزجًا بذاتِ الأكمام بخضرتها لا تخطر ببالها..

بِقيثارِ حَافَّةِ السماء

تحت ظُلَلِ الصنوبر و الهندباء..

مغتسلا بالمكوث.. لديها..

منتفظًا بقماط الليل المتنّصل..

يعدو الليل في شوارع من رقعة شطرنج

ثمّ يجالس الأصدقاء متنّكرين بأبّهّتي القارسة..

ويناورونني..

.. .بِمَتَانَةِ الجرح يعرفني الإنتظار كريمًا

وأكثر تبّسّمًّا..

ولكّنّها لن تغفر مرارة صبري المتّشّبّث بأغاني الغجر..

وسَتُسْبِلُ دون تَرَّيُثٍ ستائر الغمام..

.. .. .. .. هل ٱستبيحت هامتي بالفزوع..

وبها ٱطمأنّت ولها غَارَتْ..

ك رذاذ..

لم يُصَّلِّ يوما بالسىراديب المعتمة..

.. .. .. .. .. .. .. .. يطفح جاري المُشّعّث بعلقم ٱمرأة الليل..

وجارته تنشر تغريدة..

على حبل شهوتها..

وتُلْقِمُهُ حجرا بالنهار وتفضحه..

جزاء تنّكره للحياة..

.. .. .. .. .. .. .. .. أيّها السّاقي لا تشنق ذاكرتي اليوم بأصيصك..

بل ٱتركني للغد فخيوط الحرير تشّمّع..

لساني في الرّيح..

فبإثم المهرّج وبٱسمه التنّكري يَسكر الموّلعون فوق حبل النميمة البيضاء تسوّد بالتّدّرج..

وبتسلية لاعبة النّرد.. هل.. تمكر بالياسمين تغريه..

و.. تهديه اللون الأسود..

.. هكذا.. في مقبرة مطّلّة من حديقة زنجيّة

ينغمس السرول..

في ضحكة ظلاله بحركة البيادق..

و.. زنوبيا عشقي تحرق ٱخضرار الحدائق..

من أجل خصوبة لا تقلق..

و فحولة لا ترتاح..

.. .. .. وأنا صحراء من لهاث الماء..

وحده النّرد يغسل الحواس صمتًا أنثويًّا بمشعل نار..

ٱخر ممالك الخيلاء تسقط أسيرة خيال لاعبة النّرد..

تُنجدها الخيول الضاعنة المعارك..

يندلع الجمهور مُتَدَاكِكًا في رقصته بلا صخب جارح

يحيي مٱثر الهنود الحمر..

واليتامى يتحّلّقّون حول كبير المَنْكِبَيْن له خزائن الشّحًة المقرفة والتي هي فقط..

تتقاطر منها أقمصة قوس قزح..

يا لضَحاياها الكُثر.. ويالضُحاها..

يظّنّان بأنّ ٱرتحالي سيغدو ٱرتياح الحقائب

والسحائب و المراكب..

لكّنها الرعود تعيد ترتيب الصدى كيفما بثّته الغرانيق

في لواعج ليل يهيض من دون أوكار..

و صَايَحَتْنِي بوميضها.. المواسم..

شلاّلاً من.. الزُلال.. موجًا.. . وأشتاتًا..

سأتحّمّل وحدي أوزار الرخام..

وعُزلتي.. بجناح مقفوص..

.. .. . إِنْ تَنْسَيْنَ غروبي..

فَسَيَكْفِيكِ قاربٌ بلا مجذاف.. دوح حنان..

لتَسْتَلْقِينَ بين أضلاعه فتنة حافية..

كٱمرأة تهاجر فيه.. لوطن الماء.. لٱنصهار حارق

من نِرْفَانَا..

لعّلّها تُصافي بوهجه خيباتي.. لأتحّرّر بين سباخ الأرخبيل..

*

وأنتَ يا خريف تَذّبُلِّي.. بأوراقكَ المُتلّبّخة في عرائي..

وتُلبسني إيّاها منقوعة بطحالب الصّخور..

وتأتيني يَدُكَ وهي على كَتِفِ غراب..

تزاوراني.. من وراء الظّل..

.. و تنسيان القناع.. في حريق القلاع..

و هذا السّخيم..

من دون أن يُسْعِفَنِي ويَسْكُبَنِي بماء أو دلاء..

يُوَّبِّخُ فراخ الطّير.. إِذْ تَرْكُنُ واجفة..

دون أن يَسْكُنَنِي السّيل..

وتتقمّصّني البذور..

و هذان التوأمان يهوّمان.. ويُذّبِّلاَنِ لي عينيهما..

*

لا عري لي فلقد فقدته ٱمتشاقي الطفولي..

مذ ضاعت سراويل الغبطة في النّشيد الهامشيّ..

إذ ينعقه.. ميثاق رماد جديد لتّتّاريّين جدد..

.. يستنكفون بذاري..

ويطبخون سرّا فلفله طازجّا ببهاري..

.. .. .. .. .. .في خيمة لا وطن فيها.. .. .

أمارس وطنا حميميًّا مختلفًا..

والبلاد زَعْمٌ لا يمكن وصفه.. تحت رشق العواء..

والأعراب يسّفّوننا النشيد المازوشي

في متاهة النفق..

والمسيرة الخطيرة أدخلتني مخفرًا مباح

الشّجب والتّنديد..

وألهتني بالتحديق بأفواه زاعقة فاغرة التحليق..

وعّلّقتني بمشجب الأسئلة الحُّرّة..

ودُهِسْتُ بأقدام جحافل المحزونين..

*

هنا.. لا قُدْسَ.. ولا قُدَّاسْ.. فسِفر التكوين

أعاد كتابته الأرجاس..

و للكنعانيّ المجهول الٱن.. أن يُفنّده..

بِتَأَوُّلِهِ.. برفقة صفعات تتلّهّبّه

من عسس الأحباس..

و للسّامريّ أن يتحّرّق بِخُوَاره.. وهو يَغُّشُّنَا

بِعِجْلِهِ النُّحاسيّ..

وقال لي مخصيّ ٱبن مخزيّ.. هل يتبّخر

دَسَمٌ مسموم في دمك..

وهل يلفظه.. أم يتنّثره طهرك في الأبهر..

و أنا.. لا ٱية لي إلاّ المقت.. وكَفَى بالشِعر وكيلا..

وقال لي البحر.. تَحَرَّرْ مِنْكَ وَمِنِّي..

فما عادت لي ضفاف.. تَحْمِيكَ.. و تُؤْوِيك..

وقال شِعْرُكَ يا غريقي يتحّمّم

في جهّنّم عليه اللّعنة..

وإليك التِّيه..

ما غرّدت البلابل في الجِنان..

*

نلتقي في جهّنّم إذن يا حبيبي..

لنستصرخ علّو الموجة..

فالحِمام بك يترّسّل.. بقدمك اليمنى..

والحَمام ينقم منك.. هو الجائع من مخمصته.. ٱتٍ.. وٱت..

ليأكل من رأسك..

إن لم تكتب شِعر القمح والسنابل..

إن تَهَّيَّبْتَ السلاسل..

ونَكَسْتَ قَدْحَ زِندك..

وبوجع الحناجر.. والمحابر..

لم تُقاتل..

قُضِيَ الأمر الذي فيه تمرح الشّاعرية..

ولكّنّك لن تزعق الٱن.. وستتمّهّل..

وسَتَحْجُل فقط في حديقة بيتك

بالقدم اليسرى..

*

يا.. ذاتِ الأكمام.. في سمائكِ سوسن الصّبر..

وخيبةُ الزّعفران.. هي خيمتي لا أوتاد لها..

إنّها تَقْلِبُنِي على نفسي.. مغلول الدمع..

أتَلَّقَّفُ عريي كساءً مرّقّعًا بالتفاسير..

.. .. .. . إنّمّا خجولاً بحبّ الكائنات الجريحة..

***

🇹🇳 حمّام الأنف café rossignol

بتاريخ 15/ جويلية /2025

 

للشاعرة: رجاء نور الدين

في فضاءِ الشعر المعاصر، حيث تتداخلُ الأصواتُ وتتشابكَ الرؤى وتتقاطعُ الأزمنةُ الداخلية والخارجية، تبرزُ قصيدة «أمشي بلا معناك» للشاعرة السورية رجاء نور الدين بوصفها نصّاً يتشكّل من طبقاتٍ عميقةٍ من الغياب والوعي والحنين، ويتأسّس على لغةٍ مشدودة إلى ذاتٍ تبحث عن معنى في ظلالٍ بلا ملامح. إنّها قصيدةٌ تنتمي إلى ذلك النمط من الشعر الذي لا يكتفي بالتعبير، بل يسعى إلى إعادة تشكيل التجربة الإنسانية عبر شبكةٍ من العلامات والرموز والتجليات الروحية، حيث يتحوّل الحب إلى طقسٍ تأويلي، والغياب إلى منهج قراءة، والذات إلى أفقٍ مفتوحٍ على احتمالات التأويل.

تأتي هذه الدراسة في محاولةٍ لتفكيك البنى النصّية والجمالية والرمزية التي تنتظم هذا النصّ، وذلك عبر مقاربة هيرمينوطيقية ـ تأويلية تتقاطع مع المنهج الأسلوبي والسيميائي، وتغوص في الأعماق النفسية والدينية التي تحكم حركة الصورة والخيال. فالنصّ هنا ليس مجرّد خطابٍ عاطفيّ، بل فضاءٌ يتنفّس لغته الخاصة، ويبني معماراَ دلاليّاً تُشارك القارئ في تشييده، ويستدعي في الوقت نفسه إحالاتٍ صوفية، ونداءاتٍ وطنية، وتعابير وجودية تجعل القصيدة أشبه برحلةٍ نحو الداخل، لا نحو الآخر وحده.

إنّ دراسة هذا النصّ ليست بحثاً عن إجابات، بل قراءةٌ لأسباب الأسئلة نفسها، ومحاولةٌ للقبض على تلك اللحظة الشعرية التي يلتقي فيها المعنى بمعناه الغائب، والذات بظلّها، والحلم بغصنه المعلّق في ليلٍ طويلٍ لا يَعدُ بفجرٍ إلا ليؤخِّرَه.

1. مدخلُ الدراسة وإطارها المنهجيّ:

تقع هذه القراءة في تقاطع مناهج: الهيرمينوطيقيا التأويلية التي تُفسِّح المجال لتعدُّد الآفاق التأويلية للنصّ، والمنهج الأسلوبي الذي يُحلّل اللغة والإيقاع والدوال البلاغية، والمنهج السيميائي الذي يحرّك النصّ كشبكة من العلامات والدلالات. كما نُضيف بعداً نفسياً وتحليلاً دينياً لِما تستثيره الصور من مشاهد داخلية، ونقرأ الأفق الجمالي والوطني كنطاقين يمسّان صيرورة المعنى وصدى النصّ في الفضاء الاجتماعي والثقافي.

2. قراءة إجمالية ـ الفكرة المحورية

القصيدة منظومة اشتياق متأمّلة عن الغياب والحضور، عن الجسد والذكرى، وعن السعي في مسارات فراغ لا تُملأُ إلاّ بشِقّ من نورٍ ساطع أو بظلّ يعود ليعيد تشكيل الذات. صوت الشاعرة رجاء نور الدين هنا سائر في عزلةٍ مضمّخة بالحزن الصوفي، يسوق الغياب كفاعلٍ مهيمن، ويحوّل الحلم إلى غصنٍ معلقٍ تنتظره المصادفة. ثيمة الرحيل والانتظار تتماهى مع مشهد دنيويّ/مقدّس: الفجر يُولَدُ من ظلمةٍ، والغياب يحفظ، واللقاء يبقى رهين صدفةٍ مؤجّلة.

3. الهيرمينوطيقا التأويلية: أفق النصّ والقارئ

١- بنية النفي والتأكيد: العنوان «أمشي بلا معناك» يدشّن نفياً يليه حضورٌ قلبيّ («والقلب يمشي وراك»)؛ هذا التناوب يُنتج شرخاً إشكالياً بين جسدٍ يمشي وذاتٍ لا تزال معلّقة بالحضور الداخلي.

٢- أفق التأويل المتعدّد: النصّ يستدعي قراءات شخصية (عاطفية)، صوفية (الغياب كطريق للتطهّر)، ووطنية/اجتماعية (الحنين كوطن داخلي). القارئ يُشارك في تهجّؤ الغياب عبر نصّ يُشركه في أداء لفظيّ ووجداني.

٣- التأويل كعملية فعلية: القصيدة لا توافق على معنى واحد؛ بل تُنشر احتمالاته: الغياب حافظ، الفجر ابن الليل، الحلم على غصن، كلها دعوات لتأويلاتٍ زمنية ومكانية.

4. التحليل الأسلوبي: اللغة، الإيقاع، الصورة

١- اللغة: بسيطة في مفرداتها، مركّبة في تركيبها؛ جملاً اتصالية متتابعة تُشكّل موسيقى داخلية. تُستخدم أفعال الحضور والغور (أمشي، يمشي، تهجِّي، اتعثرت) لتوليد حركة زمنية متواصلة.

٢- الصور البلاغية: استعارات مركبة («الغيب حفظني عن ظهر غيم»، «الابن الشرعي لليل المظلم») واستعارات محمَّلة بدلالات أخلاقية/وجودية. الصور هنا لا تزيّن فقط، بل تبني علائقاً دلالية: الغيب حافظ، الفجر مخلوق من الظلام، الغصن حامل حلم.

٣- الإيقاع والتكرار: تكرار فعل المشي/التحرّك يخلق إيقاعاً سيرياً، وتعاقب الجمل والتراكيب يشي بانسيابية الهمس لا بعنف الخطاب.

٤- التجريد والتشخيص: تحويل الغياب إلى فاعل («الغيب حفظني») وتشخيص الفجر كابن لليل يُمنح نصّاً أسطورياً.

5. العلامات والدوال الرمزية (سيميائية):

١- المشي/المكانة: «أمشي» دال على حركة الوجود وشروطه، لكنه هنا مشوّه بحضور داخلي لصوتٍ وذكرى؛ المشي بلا معناك يعني حركة بلا مشاة معنوي.

٢- القلب: هو دال مركزي للاتجاه الداخلي؛ يمشي وراء المعشوق كظلّ، منطوٍ على حيوية الوجد.

٣- الغيب/الغيم: الغيب هنا حافظ وساتر، و«ظهر غيم» يحيل إلى غطاء يقي من البوح، وفيه إيماءة دينية: الغيب كمصدر حفظ وإخفاء.

٤- الفجر/الليل: ثنائية كلاسيكية لِلانبعاث/الظلمة، لكن الفجر يُعطى هنا صفة «ابن شرعيّ للّيل المظلم»، مما يجعل النور نتيجة علاقة جنسية رمزية بين الظلمات، أي أن الولادة الذاتية للنور من الظلام مشوبة برحم تاريخي وجرح.

٥- الغصن/الندى/الطين/الإيقونة: الغصن موضع تعليق الحلم، الندى رمز رقة الشعر، الطين رمز تشكيل الوجود والوجه، والإيقونة رمز للتقديس الشخصي والذاكرة المحفوظة.

6. البنى النفسية: الاشتياق، الفقد، الهوية

١- الذات المتشقّقة: الشاعرة تقدم ذاتًا ممزقة بين حركة جسدية وصمتٍ داخلي؛ هذه الانقسامية تعكس بنية نفسية قوامها فقدان التكامُل واحتياج لتعويض.

٢- الحنين كهوية: الفعل الشعري هنا محاولات إبداع هوية عبر إعادة تشكيل الحبيب/الوجود داخل مشهد داخلي (تخزين العطر، عناق الشوق، نسيان الذاكرة عند أول محطة).

٣- الندم والذنب: إشارات مثل «المسلوب من كل ثمار الخطيئة» تقود إلى بنية نفسية مذنبة/مُغتصبة، حيث الضياع الجنسي/الأخلاقي يتحوّل إلى فقدان الثمار والوفرة.

7. البعد الديني والطقوسي:

١- مجازات دينية: الغيب والحفظ والليل والفجر، كما وصف «الابن الشرعي للّيل المظلم»، تستحضر لغة توريات/قرآنية في معرضها الرمزي؛ الفجر رمز للقيامة والولادة، والغيب سلطان الحفظ الإلهي.

٢- الطابع الصوفي: «بقلبٍ صوفي حزين» صراحةً تُعلن انزياح النصّ إلى ذوق صوفي حيث الحبّ تجربة تطهيرية؛ الشوق هنا ليس شهوة فقط بل رحلة تزكية.

٣- الإيقونيات والقداسة: تحويل الوجه إلى «أيقونة» يعني تقديس المحبوب وتحويل ذاك الوجه إلى رمز عبادة شخصية داخلية.

8. البعد الوطني والاجتماعي (قراءة استعاريّة)

رغم أن النص شخصي، إلا أن ثيمات الغياب والبحث والفقد يمكن قراءتها تعبيرًا عن فقدان أوسع — وطنٍ أو ذاكرة جماعية. تعليق الحلم على غصن وانتظار مصادفة اللقاء قد يرمز إلى أملٍ وطني يتأرجح بين احتمالات العودة والفرص الضائعة. كذلك «المسؤول من كل ثمار الخطيئة» قد يُقَرأ كشعور مجتمعي بالمسروقات أو الضياع الأخلاقي في سياق تاريخي.

9. القراءة التفصيلية سطرًا سطرًا (مقتطفات محورية):

«أمشي بلا معناك / والقلب يمشي وراك» — افتتاحية تشدّ التنافر بين الفعل والمشاعر؛ الحركة البدنية بلا مرافق روحي

«الغيب حفظني عن ظهر غيم / فكان لي أن أتهجى الغياب» — الغيب يحمي ويغطي؛ الشاعرة تتعلم تهجّي الغياب كحرفٍ لغوي.

«ليدركني الفجر ذاك / الابن الشرعي لليل المظلم» — الفجر يُؤنسَب بعلاقة قرابية للّيل، هنا ولادة النور من رحم الظلمة.

«فلا منديل يجفف دمعه / ولا يد تربت على غصنه» — عزلة كاملة؛ لا عزاء. الغصن الذي يبكي لا يجد مواساة.

«المسلوب من كل ثمار / الخطيئة» — شعور بالاغتصاب الأخلاقي أو الحرمان من الثمار نتيجة فعلٍ ما۔

«ولأني اعرف اسمي / تعثرت بالضوء» — معرفة الاسم ليست قوة كاملة؛ المعرفة تحمل مسؤولية تُعرّض للارتطام بالضوء/الحقيقة.

«من رياح طرقت باب / القلب ولم تستأذن العبور» — العبور العاطفي/القسري؛ الاندفاع العاطفي كشرفٍ للهجوم على المساحة الشخصية.

«رسمت ظلك مدداً / ضمخته بكل عطورك / التي سكنتني» — تشخيص الفقد وتحويله إلى حضورّ محنّط في العطر والظل.

«كمولوي يستجدي الهواء / بين كفيه ولا يمسكه» — صورة متألمة للعدم؛ اليد التي تريد الإمساك بالهواء لا تملك شيء.

«كمرأة باتت تنسج الندى / لترشه على وجه الصباح» — امرأةٌ كائنة من رقة الندى، تقوم بصنع صباحٍ جديد من هباتها.

10. المستوى الجمالي واللغوي: الخلاصة الفنية

القصيدة تعمل بجمالية المعنى المركب: لغة لا تهرول نحو البلاغة المزخرفة، بل تُنقّب عن صرامة الصورة ودفء الإيقاع. استخدام الاستعارة المكدسة (الغيب، الفجر، الغصن، الأيقونة) يمنح النص عمقًا أيقونيًا يجعل كل صورة بوابة لتأويل آخر. الجمالية هنا هي جمالية الحزن المتفرد، التي تجمع ما بين اللغة الكلاسيكية والروح المعاصرة.

11. المقاربة البنيوية والنقدية: نقاط القوة والمواضع الممكن تنميتها

نقاط القوة: صور مكثفة ومترابطة داخليًا.

صوت شاعري ذي طاقة تأملية صوفية وحسيّة في الوقت نفسه.

استثمار ثنائيات (ضوء/ظلام، غياب/حضور) بذكاء دلالي.

ما يمكن تعزيزه:

توسيع مشهد السرد ليوضح بعضاً من السياق (هل الغياب مرتبط بشخص بعينه أم بفكرة/مكان؟) دون فقدان الغموض المنتج.

تقطيع إيقاعي قدّم بعض الانقطاع المفاجئ بين الصور؛ ضبط إيقاعي طفيف قد يثري الوحدة الموسيقية للنص.

12. إمكانات تأويلية ومقارنة نصّية:

١- قراءة صوفية: الحب كطريق تزكية، والغياب كحجاب ثم تمهيد.

٢- قراءة نفسية: الغياب يتصرف كصدمة بطارية تُعيد ترتيب الذاكرة.

٣- قراءة وطنية: الحنين إلى وطن مفقود تُضمره صور التعليق والانتظار.

٤- مقارنة: يمكن وضع النص جنبًا إلى جنب مع شعرية نازك الملائكة أو ماريانا بونيفاسيو في استثمارها لثنائيات الضوء/الظلام وعدّة صور الأيقونة، لبيان خصوصية الأسلوب وعمقه.

13. خاتمة: ما تقدّمه القصيدة لفضاء الشعر المعاصر «أمشي بلا معناك» نصّ يختصر تجربة إنسانية مشتركة: أن يمشي الجسد وتبقى الذاكرةُ جاثية، أن يولد الفجر من ليلٍ شرّ، وأن يبقى الحلم معلقًا على غصن المصادفة. رجاء نور الدين تُقدّم صوتاً شاعرياً حافظاً لمعاجم الرموز الكلاسيكية، لكنّه معاصر في حسّه الوجودي والاجتماعي. القصيدة تمثل نموذجاً لقصيدة ذاتيّة متأنّية، قادرة على فتح آفاق تأويلية واسعة بين الصوفية والسياسة والنفسية.

***

بقلم: عماد خالد رحمة - برلين

...........................

أمشي بلا معناك والقلب يمشي وراك

الغيب حفظني عن ظهر غيم

فكان لي أن اتهجى الغياب

ليدركني الفجر ذاك

الابن الشرعي لليل المظلم

فلا انسى ان أغلق الفجر خلفي

لتبقى حبيس دهر

يبكي غيمه وحيداً

فلا منديل يجفف دمعه

ولا يد تربت على غصنه

المسلوب من كل ثمار

الخطيئة

ولاني اعرف اسمي

تعثرت بالضوء

وتهجيت السكون صدفة

من رياح طرقت باب

القلب ولم تستأذن العبور

دخلت ترسم تفاصيل شوق

يرتل عطر الغياب

ترشقه على عبورك الفضفاض

علَّ الريح تمشط شعرَ اللقاء

وترميه من شرفة معلقة

مابين صدري وراحتيك

ولكنهم أبوا

إلا أن يتركوا المساحة

للصدفة

وبقلبي الصوفي الحزين

رسمت ظلك مدداً

ضمخته بكل عطورك

التي سكنتني

وعانقت الشوق فيك

كمولوي يستجدي الهواء

 بين كفيه ولا يمسكه

*

كامرأة باتت تنسج الندى

لترشه على وجه الصباح

وتعجن الطين بريق وجهك

وتخبئه في ايقونة

نسيت ذاكرتها عند أول

محطة عبور

ولأنها سيدة الغياب

علّقت حلمها على غصن

علّه يصادفُ

 شوقكَ

يوماً

***

رجاء نور الدين

 

الحنينُ ليس مجرّدَ انفعالٍ عابرٍ أو رعشةٍ وجدانية تُلامس القلب في لحظةٍ شرود، بل هو حالةٌ وجودية مركّبة، يتقاطع فيها الزمنُ مع الذاكرة، وتتداخل فيها صورةُ الذات مع أطياف ما غاب وما لم يكتمل. إنّه عودةٌ لا تحدث فعلاً، بل تُستعادُ في الداخل؛ استدعاءٌ لنهاراتٍ بعيدةٍ وأمكنةٍ غابرة، تستحيل في الوجدان أكثر صفاءً مما كانت عليه في الواقع. ولأنَّ الحنين يقيمُ في الهامش بين الحقيقة والوهم، فهو يملك القدرة على إعادة تشكيل الماضي وفق رغبةٍ تتجاوز الوقائع إلى الحلم. ومن هنا كان الحنين جوهرَ السؤال الإنساني عن المعنى: لماذا تكتسب الأشياء قيمتها حين تفلت من اليد؟ ولماذا يتحوّل الغياب إلى حضور أشدّ وقعاً من الوجود نفسه؟ إنه محاولةُ الإنسان للاحتفاظ بما يتساقط منه، وتثبيتُ ما لا يمكن تثبيته—الزمن.

1. مدخل ومنهجية العمل:

هذه الدراسة تقرأ القصيدة عبر علاقاتٍ متداخلة من التأويل:

1. المنهج الهيرمينوطيقي لالتقاط معاني النص كأفق تأويل متعدِّد يعتمد تخييل القارئ وسياق الشاعرة إيمان السويلمي .

2. المنهج الأسلوبي لتحليل اللغة، الإيقاع، الإسقاطات البلاغية والدوال الصوتية.

3. التحليل الرمزي والسيميائي لكشف نظام العلامات داخل النص (القلب، النار، النافذة، الحقيبة...) ودلالاتها الثقافية.

4. المستوى الجمالي والوطني للنظر في كيف يتحول الرمز العاطفي إلى رمز وجودي/وطني (وطنٌ داخل الحقيبة).

5. البنى النفسية والدينية لكشف أنساق الفقد، الافتقاد، المقدس والندبة التي تصوغ تجربة الحب في القصيدة.

الهدف: استنباط قراءات متعددة متكاملة تُبرز النص كمساحة زمنية ونفسية وثقافية، لا كمجرد خبر شعري.

2. قراءة إجمالية للقصيدة — الفكرة المركزية:

القصيدة تبني تصوّرا للحب لا كامتلاك مادي أو لقاء خارجي، بل كـ«خلق مكان داخلي» لا يُغْلَب؛ الحب جرحٌ وجمرٌ ووطنٌ داخلي محفوظ. الحب هنا فعلُ خلقٍ وترك أثر/نقش في الذات: ليسَ أن يُؤخذ القلب، بل أن يُبقى «مكان» لا يسكنه سواه. الحضور يكون كذلك في الغياب — حضور متعدِّد الطبقات: في الصوت، في الطقس، في الأشياء اليومية (نافذة ـ تجاعيد ـ ارتباك اليد).

3. التحليل الهيرمينوطيقي التأويلي:

١- الأفق النصّي: القصيدة تقدم نصًا إرشاديًا عن الحب: جملةُ تعريفاتٍ متتابعة (ليس الحب أن... بل الحب أن...) تشكل حركة تأويلية تصعد من النفي إلى التصريح. هذه البنية تكسب القصيدة طابعا تربوياً/مقنعاً كما لو أن القصيدة تحاول تأسيس مفهومٍ جديد عن الحب.

٢- الأفق القارئ/القارئ المُؤول: القارئ يتعامل مع نص مكتنز بصورٍ ممكنة التفعيل: «جمر صوتك»، «مكان صغير» و«حقيبة السفر». كل علامة تفتح مساحة تأويل — مجاورة النصوص الدينية، تجارب الغربة، تجارب الافتقاد.

٣- التأويل متعدد الطبقات: النص لا يقدم معنى واحداً، بل مجموعة من دلالات متداخلة: وجودي، نفسي، اجتماعي، وطني.

4. التحليل الأسلوبي (اللغة والبلاغة والإيقاع):

١- الأسلوب النحوي: تكرار البناء النفي ـ التصريحي: «ليسَ... بل...»؛ يعطي عتبة منهجية تعريفية ويعمل كإطار شعري متماسك.

٢- الصور الاستعارية: امتزاج الأجناس: «جمر صوتك» (استعارة حية تجمع بين الحسي والصوتي)، «وطنٌ نحمله داخل حقيبة السفر» (استعارة استعرافية تحمل منطقًا وجوديًا وسياسيًا).

٣- الدلالات الصوتية: توازن بين حروفٍ رخوة وحادة يحقق وقعًا موسيقيًا داخليًا مناسبًا للّون الوجداني (مثلاً تكرار السين والنون يشي برقة وحنين).

٤- التكرار والأنفاس اللغوية: تكرار الفعل «أترك»، «أحملك»، «انتظر» يولِّد إيقاعًا سرديًا يركّز التجربة من الذاكرة نحو الانتظار.

٥- المقامات السجلّية: استعمال خطاب مباشر (نداء: «يا من كنتَ دهشتي») مقترنًا بمستوى وصفي تأملي يمنح القصيدة حيوية بين الحميميّة والعامة.

5. السيميائيات: نظام العلامات والدلالات

تحلل العلامات الرئيسة ودلالاتها المحتملة:

١- القلب/القلب يؤخذ: القلب علامة على الذات/المكان العاطفي؛ النفي هنا يدل على رفض لقراءة الحب كامتلاك.

٢- الجمر/النار: رمزٌ مزدوج: حرارة الحب، لكنه أيضًا جرح يستلهم موتًا/تكفينًا؛ النوم على الرماد واستيقاظ الفجر يشير إلى دورة ألم/تجدد.

٣- النافذة/التجاعيد/اليد: علامات الحضور في الأشياء اليومية — تُحوِّل الحبيب إلى طقس يومي ومقدس.

٤- حقيبة السفر/الوطن: استبدال الوطن بمحمول شخصي يؤشر إلى تجربة غربة ونزعة حماية؛ الحقيبة هنا علامة على هشاشة الوطن وإتاحته للسرقة، فالحب يتحول إلى وطنٍ هش لكنه مقدّس.

٥- الجرح والندبة: الحب «جرحٌ جميل»، وهو علامة تضع الذات في مسار الرحمة والألم كشرط للاكتمال.

6. البُعد النفسي: آليات الافتقاد والتعلق والهوية.

١- الاشتياق/الاحتلال الداخلي: النص يصور الحب كخلق «مكان» داخلي؛ هذا القراء يقارب مفاهيم الارتباط (attachment) حيث يصبح الآخر جزءًا من بنية الذات.

٢- الجرح كمصدر للهوية: النزف اليومي دون شفاء يدل على مرور الحب في نمط من الحزن المصاحب للتحول — هو جرح يكرّس علاقة ثابته بالهوية: الهوية المُحبّة.

٣- آلية الدفاع: «أترك لي هذا المكان الصغير» هو طلب للحفاظ على حد شعوريّ، مثل حدود النفور أو مساحة الاستقلال في العلاقة، حماية لذاتٍ مهددة بالاستلاب.

٤- الزمن النفسي: الحضور في الغياب — رؤية الحبيب في ضوء النافذة والتجاعيد — تكشف عن زمن داخلي لا يتطابق مع الزمن الخارجي؛ زمن تأبيدي يحفظ العلاقة في طقوس الذاكرة.

7. البُعد الديني والطقوسي:

المقامات الطقوسية: استعمال لغة مشحونة (جمر، صلاة ضمنيّة عبر الإيقاعات الليلية) تجعل من الحب طقساً يومياً مقدسًا: النوم على رماد الصوت، الفجر المذعور، كل ذلك يذكر بعناصر التكفير والقيامة الرمزية.

الاستعارات الدينية/الكتابية: استخدام مفردات مثل «وطن»، «جمر»، «نُزِف» قد تستدعي خلفياتٍ دينية/مقدّسة (ضحايا، تبرّع بالنفس، حِفاظ على شيء مُقَدَّس). النص لا يصرّح بمذهبٍ ما، لكنه يُفعل شعورًا دينيًا/روحيًا في الحب الذي يكتسب خاصية المُقدّس.

القداسة الشخصية: الحبيب يتحول إلى قدّاس داخلي؛ الحقيبة الوطن المقدّس تُحفظ كما يُحفظ المقدّس في النصوص الدينية.

8. البُعد الوطني/السياسي (قراءة استعاريّة):

١- الوطن والحقيبة: عبارة «وطنٌ نحمله داخل حقيبةِ السفر» تُقلب المعنى من علاقة وطن/مكان إلى وطن/حمل شخصي. هذا قد يرتبط بتجربة الشتات والنفي: الوطن يصبح ذاكرة شخصية محفوظة خشية السرقة أو الضياع.

٢- الخوف من السلب: «نخاف أن نضعه أرضًا كي لا يسرقهُ أحد» تُعبر عن شعورٍ جماعي تاريخي بالهشاشة أمام قوى خارجية — الحب كوعي وطني مُصغّر.

٣- التقاطع بين الخاص والعام: القصيدة تكشف أن الوجد الشخصي يمكن أن يكون متنًا لتجارب وطنية، وأن الحميميّة قد تصبح عملة مقاومة للحضور السلطوي أو النزوح الثقافي.

9. المستوى الجمالي: لُغة القصيدة وصورتها الفنية

١- التكثيف والصورة المركبة: التركيز على صور مركزة (جمر صوتك، وطن داخل حقيبة) يمنح القصيدة طاقة جمالية تُقنع القارئ بتصورٍ واحد قوي.

٢- التوازن بين العذوبة والمرارة: الأسلوب الحميمي المُقاس بالواقعية اليومية (النافذة، اليد) مع استعارات مؤلمة (النزف، الجمر) يولّد جماليةٍ مزدوجة: لحم وجرح.

٣- الأنا الشاعرة: صوتُ متكلمٍ أقوى ما في النص — يؤسس علاقة مباشرة وصريحة مع القارئ، تجعل من التجربة فردية لكنها قابلة للتعميم.

10. قراءة تفصيلية سطر بـ سطر (مقتطفات محورية):

«ليسَ الحُبُّ أن تأخذَ قلبي...»: افتتاحية تفكيك الفكرة النمطية للحب كامتلاك، وتوجيه القارئ نحو تعريفٍ بديل.

«أن تخلقَ في داخلي مكانًا لا يستطيعُ أحدٌ أن يسكنَهُ بعدكَ»: تكوين الحب كعمل خلقي؛ المكان هنا ليس مكانًا فيزيائيًا بل معمار نفساني.

«جمر صوتك... يستيقظُ منه الفجر مذعورًا»: تصوير صوت المحبوب كشرارة تبقى حيّة، والفجر كزمن يزلزلها — صورة للحضور الذي يزعزع الزمن.

«هو وطنٌ نحملهُ داخلَ حقيبةِ السفر»: تجسيد للحب كوطن، والحقيبة كرمز لحمل الذاكرة/الهوية خلال التنقل والتهجير.

«خذ كل شيءٍ مني... لكن اترك لي هذا المكان»: ذروة النص: استسلام ثنائي مع طلب حدود؛ الحب إذن توازن بين العطاء والحفاظ على مساحة ذاتيّة.

11. إمكانات قرائية واختلافات التفسير:

قراءة رومانسية بحتة: الحب كخلق داخلي واحتفاء بالجروح.

١- قراءة هجرة/نسيبية: الحقيبة والوطن يوحيان بتجربة اللاجئ أو المنفي — الحب يتحول إلى مخزون ذاكرة.

٢- قراءة دينية/صوفية: الجمر والرماد والدورة الليلية/الفجرية تُفهم كعملية تطهير وذكر.

٣- قراءة نقدية اجتماعية: الخوف من سرقة الوطن يشير إلى قلق ثقافي/سياسي، والحب عمل مقاومة نفسية.

كل قراءة مقبولة ضمن أفق هيرمينوطيقي شرط أن تُؤسَّس على دلائل نصية.

13. خاتمة:

قصيدة «ما الحب !؟...» لإيمان السويلمي نص غني متعدد المستويات: لغة حميمة متزنة بصور قوية، وتأويلات ممكنة تمتد من النفسي إلى الديني والوطني. تجعل القصيدة من الحب «خلقًا» داخليًا مقدسًا ـ جرحًا ووطناً في آنٍ واحد. هذا التداخل هو ما يمنح النص عمقه وإمكانية قراءات متجددة.

***

بقلم: عماد خالد رحمة - برلين

..........................

ما الحب !؟...

ليسَ الحُبُّ أن تأخذَ قلبي...

فكلُّ القلوبِ تُؤخذُ حينَ تُغوى،

بل الحُبُّ أن تخلقَ في داخلي

مكانًا لا يستطيعُ أحدٌ أن يسكنَهُ بعدكَ.

*

أن تتركَ في صدري

جمرَ صوتِكَ،

ينامُ على رمادهِ الليلُ،

ويستيقظُ منهُ الفجرُ مذعورًا...

*

ليسَ الحُبُّ أن نلتقي،

بل أنْ نظلَّ نلتقي

حتى ونحنُ غائبون،

أنْ أراكَ في ضوءِ النافذة،

وفي تجاعيدِ الوقت،

وفي ارتباكِ يدي حينَ أكتبُ اسمَكَ صدفةً.

*

الحُبُّ يا من كنتَ دهشتي

ليسَ وعدًا ولا ميثاقًا،

هو جرحٌ جميلٌ

ننزفُ منهُ كلَّ يومٍ دونَ أنْ نُشفى،

هو وطنٌ نحملهُ داخلَ حقيبةِ السفر،

ونخافُ أن نضعَهُ أرضًا

كي لا يسرقهُ أحد.

*

خذْ كلَّ شيءٍ منّي...

خُذْ أيامي، وضحكتي، ونومي،

لكنْ اتركْ لي هذا المكانَ الصغيرَ

الذي خلقتَهُ فيَّ،

فلا أنتَ تستطيعُ استرجاعَه،

ولا الزمانُ يستطيعُ محوَه.

 

تبدو سيرة الزهرة رميج الذاكرة المنسية (فضاءات، 2016) وكأنها لا تمثل نهاية لمسار إبداعي بل بداية لتأمل جديد في معنى الكتابة ذاتها. فالسيرة، التي جرت العادة أن تُكتب في ختام الرحلة بوصفها تتويجًا لمسار أدبي طويل، جاءت هنا لتُثير السؤال لا لتُجيب عنه: هل تمثل السيرة لحظة اكتمال، أم لحظة استعادة لماضٍ لا يكتمل أبدًا؟

الكتابة في جوهرها فعل استحضار للمنسيّ، والذاكرة هي منجمها الأول. كل سرد، مهما بدا متخيلًا، ينطلق من رواسب التجربة ومن ترسبات العيش التي يسعى المبدع إلى تثبيتها بالكلمات. هكذا تتبدى الذاكرة المنسية كرحلة داخل اللاوعي، محاولة للقبض على ما أفلت من التذكر، ولملمة الشذرات التي ظلت معلقة بين الذاكرة والنسيان.

وإذا كانت بعض مشاهد هذه السيرة تمتد جذورها في روايات الزهرة رميج السابقة مثل عزوزة وأخاديد الأسوار، فإن هذا الامتداد يؤكد أن السيرة تنبني على تراكم سردي يمهّد لها ويغذيها. فهي لحظة وعي بما سبقها من كتابة، ووعي الكاتبة بذاتها الكاتبة.

فرادة الذاكرة المنسية تتجلى في الطريقة التي وُلدت بها. فالكاتبة لم تُقرر كتابة سيرتها بدافع ذاتي، بل استجابت لطلب من قارئ مهتم، هو الأستاذ الجامعي رشيد بيي، الذي رأى في مسارها ما يستحق التوثيق البصري عبر فيلم وثائقي. غير أن هذا الفيلم لم يُنجز، وبقيت السيرة الأثر الوحيد لتلك الرغبة. تقول رميج في التوطئة: «ولأني مدينة بكتابة هذه السيرة لرشيد بيي»، اعتراف يضع السيرة منذ البداية في موقع «الاستدعاء»، لا «الاختيار». إنها سيرة تحت الطلب، كتبَتها لتستجيب لأسئلة الآخر، لكنها في العمق استجابة لأسئلة الذات.

من هنا جاءت بنية الكتاب على شكل مشاهد أو شذرات غير متسلسلة زمنياً. فالزمن في هذه السيرة ليس خطيًا بل استرجاعي، يتشكل من ومضات الذاكرة لا من ترتيب الأحداث. وهذا ما يمنح النص حيوية سردية، تجعله أقرب إلى حكايات تتقاطع فيها الذات بالآخر، والذاكرة بالكتابة.

وتُذكّرنا هذه الطريقة في كتابة السيرة بتجارب عربية أخرى أعادت النظر في معنى كتابة الذات. فجبرا إبراهيم جبرا في البئر الأولى وشارع الأميرات جمع شتات ذاته الموزعة في رواياته السابقة، ليحوّلها إلى سردٍ اعترافيّ ناضج. أما إحسان عباس، فكتب غربة الراعي بعد إلحاح من أخيه، رغم قناعته بأن حياته لا تستحق التأريخ، فإذا بها من أصدق السير في الأدب العربي الحديث. بينما محمد زفزاف رفض كتابة سيرته أصلاً، مفضلاً أن تُقرأ حياته في نصوصه الروائية، مؤكداً أن كل رواية كتبها كانت مرآةً له.

تتقاطع تجربة الزهرة رميج مع هؤلاء جميعًا في نقطة جوهرية: أن السيرة ليست قرارًا إراديًا بقدر ما هي استجابة لنداء داخلي أو خارجي يُعيد ترتيب العلاقة بين الحياة والكتابة. فالأدب، في النهاية، ينمو من تلاقح التجارب وتشابك المصائر الإنسانية، كما تنمو شجرة تتغذى من جذور الآخرين لتُثمر فرادتها الخاصة.

الذاكرة المنسية نصّ مفتوح على التأمل، واحتفاء بالكتابة كوسيلة لإنقاذ الذات من محوها. كتبته الزهرة رميج استجابةً لطلب، لكنها وجدت فيه لحظة مصالحة مع ماضيها، وإعلانًا بأن الكتابة لا تنتهي حتى حين تظن أنها تختم نفسها.

***

حسن لمين - كاتب مغربي

للشاعر: أحمد يوسف داود

تقف قصيدة "أُريدُ رَحيلاً لِهذا السَّواد" للشاعر السوري أحمد يوسف داود عند الحدّ الفاصل بين الفاجعة والرجاء، بين انكشاف الروح وخذلان التاريخ، بين عراء الحرف وفضيحة الواقع. إنّها ليست مجرّد قصيدة رثاء للوطن أو للزمن، بل محاولة لالتقاط ما تبقّى من الإنسان في لحظة السقوط، ولتضميد جراح المعنى حين تعجز اللغة عن حمل ثقل الألم. هنا لا ينطق الشاعر بوصفه فرداً، بل بوصفه ذاتاً جَمْعيّة، تتماهى مع رُوح بلادٍ تنهكها الحروب، تتفسّخ في سواد الخيبة، وتظلّ — رغم كل شيء — تبحث عن ضوءٍ غير مُسمّى.

تضع القصيدة القارئ أمام مسرحٍ هيرمينوطيقيّ معقّد، تتداخل فيه الأصوات، وتتقاطع الطبقات الشعورية، ويتحوّل الخطاب من الذاتي إلى الجمعي، ومن الوجداني إلى الرمزي، ومن الرثاء إلى صيغة احتجاج صامت. هي نصّ يطلب تأويلاً، لأنّ كلّ مفردة فيه تعمل كـ"علامة" تتجاوز حدود الكلمات إلى بنى أعمق من اللغة — إلى الجسد، والذاكرة، والذعر، والأسى الوطني الذي يتراكم منذ عقود.

وعلى مستوى البنية، تنتمي القصيدة إلى شعر الأزمة، حيث تتحوّل الوظائف السيميائية للأدوار (الفاعل، المفعول، المرسل، المتلقي…) وفق نموذج غريماس إلى منظومة متشابكة، يتبدّل فيها الفاعل بين الروح والوطن، ويتحوّل الوطن من كيان إلى جرح، ومن جرح إلى "سواد" يبتلع الذات. هذا السواد ليس لوناً، بل نظاماً وجودياً، شبكةً من الرموز التي تُختبر بالتأويل لا عبر القراءة السطحية.

تستدعي القصيدة مقاربات متعدّدة:

١- هرمينوطيقياً: نخوض في لُبس المعاني، وفي طبيعة الصوت الشعري الذي يتردّد بين الانكسار والرجاء.

٢- أسلوبياً: نتتبّع جرس الكلمات، نبرة الخفوت، الموسيقى الداخلية، انسياب الجمل نحو الحزن الكبير.

٣- رمزياً: نقرأ الظلمة والهشيم والرماد بوصفها استعارات لوعيٍ مأزوم ومجتمعٍ محطم.

٤- وجمالياً: نرصد انزلاق اللغة من فضاء التجميل إلى فضاء الشهادة.

٤- نفسيًا ودينيًا: نكشف التحوّلات في خطاب الروح: بين الخذلان، والابتهال، والسؤال الميتافيزيقي لحكمة العدالة والغيب.

٥- سيميائياً: نعيد اكتشاف ماهية "السواد" كفاعلٍ مهيمن قادر على ابتلاع الذات وتوجيه مصائرها.

بهذا المعنى، نحن أمام قصيدةٍ تُطلّ من شرفة الخراب، لا لتبكيه، بل لتسأل: هل ثمّة مخرجٌ من هذا السواد؟

إنّها قصيدةٌ تُستعاد لأنّها لا تُغلق باب التأويل، بل تُضاعف احتمالاته.

1. مقدّمة ومقاربة منهجيّة:

تستدعي هذه القصيدة قراءاتٍ مُتعدِّدة الأفق: هي نصٌّ وجدانيٌّ ووطنيٌّ في آنٍ، يشتغلُ على توترٍ بين الانفعال الفرديّ وجراح الجماعة. ستعتمد هذه الدراسة مقاربةً هيرمينوطيقيّة–تأويليّة للكشف عن نوايا النصّ وظلاله، مع توظيف المنهج الأسلوبي لقراءة الوسائل البلاغيّة والإيقاعيّة، والمنهج الرمزي للكشف عن دلالات الصور، ثم استحضار أداة غريماس السيميائيّة لاستخراج محاور الأدوار الفاعلة في حقل الدلالة. سنغوص أيضاً في البُنى النفسيّة والدينيّة الكامنة «تحت الجلد الشعري» ونقارن النصّ على مستوياتٍ عدّة: انفعاليًّا، تخييليًّا، عضويًّا ولغويًّا وجماليًّا. الهدف: إظهار كيف يصبح الحزن هنا تجربة وجوديّة-وطنيّة مُركّبة تُعيد تشكيل الذات وتؤسِّس خطابًا شعريًّا مقاومًا بالتحنّنِ على حدود اللغة.

2. قراءة هيرمينوطيقيّة - تأويلية: سياق النصّ وأفقه الدلاليّ

القصيدةُ تبدأ بلحظة «هَزيعٍ من الوحشة»؛ أي لحظةٍ فجرية/لحمية لوعيٍ مفجوع. الوقع الوجوديّ واضح: الروح تصرخ بلا صوت، وتخلع معطفها لتضمّد جراح البلاد. هذا الفعل الرمزي (خلع المعطف) يضع الذات في موقف عارٍ متحمّل، مستعدٍّ للمسح والعلاج، لكن في الوقت نفسه مكشوف أمام العنف التاريخيّ. القراءة الهيرمينوطيقيّة تقرأ النصّ كحكاية استدعاء:

الفرد يستدعي تعاطفَ الآخر—أو بالأدقْ يعلن عن استحالة التعاطف الكافي ("الدمع ماعاد يكفي")—وبذلك تُصبح القصيدة شهادةً ونَداءً ومضادًّا للصمت السياسيّ والاجتماعيّ.

نقرأ النصّ كذلك كأرشيف حزن: كلّ وحدة لفظيّة تضيف طبقةً من الألم، من الفردي إلى الجماعي، من الليل إلى القمر، من المطر إلى الرماد. الهيرمينوطيقا هنا تُظهر أن كلّ صورة ليست انعكاسًا فقط، بل عملُ تأويلٍ داخليّ يطلب القارئ أن يُكمل المقطوعة بإحساسه الشخصيّ والتاريخيّ.

3. الأسلوب والبناء البلاغيّ والإيقاعيّ

1. الأسلوب التكثيفيّ: الشاعر يعمل بتكثيفٍ عاطفيّ وبصريّ؛ الجمل قصيرة أحيانًا، تبدو كأنها تنهض من ألمٍ متهرِّئٍ.

2. التكرار والتحوير: تتكرّر صور البكاء، الليل، القمر، والرماد، لكن مع تحويرٍ طفيف يثبّت حركة النصّ: من البكاء كفعلٍ فرديّ إلى البكاء كغريزة اجتماعيّة.

3. الأسلوب التصويريّ/الانفعاليّ: الصور التشخيصيّة (الروح تصرخ، الليل يرسل أقمارَه) تمنح النصّ حيويّةً أسطوريّة، تجعل الموت/الدمع/الفرحُ رموزًا عامّة.

4. الإيقاع الصوتيّ: تناغم الحروف الساكنة والمتحركة، وتوظيف الوقفات (علامات التعجب والاستفهام) يخلق إيقاعًا مُتقطّعًا ينسجم مع حالة الفزع واليقظة.

4. السيمياء (منهج غريماس): أدوارٌ ومحاور داخل الحكاية الشعريّة

نحاول هنا تطبيق مخطط غريماس لتحويل البنية الدلاليّة إلى شبكة أدوار:

١- المرسل: القصيدة/الذات الشاعرة التي تطلب الرحيل وتُعلِن الفاجعة؛ قد يُقرأ المرسل أيضاً كـ«الضمير الوطني» الذي يتوجّه إلى القارئ أو التاريخ.

٢- المرسل إليه/المرسَل إليه: القارئ، الجماعة، أو الضمير الجمعيّ (البلد، المواطن). أيضاً يمكن أن يُنظر إلى «البلاد» كمرسل إليه يحتاج إلى الإنقاذ.

٣- الموضوع/المطلوب: «رحيل هذا السواد»—رحيل الظلمة/الحزن/الاحتلال/اللاعدالة؛ هو الهدف الذي تطمح الذات إلى تحقيقه أو رؤيته.

٤- الفاعل/البطل: الروح الشاعرة، أو الذات المتكلّمة التي تقوم بفعل النداء والعلاج.

٥- المساعدون: صور الليل/القمر/البكاء—كعناصر تُسهم في التعبير وكوسائل إثبات الوجود؛ أو الدموع التي هي "لم تعد تكفي" فيصبح المساعد عاجزًا، لكن مفرداته تساعد على بناء الحزن.

٦- المعارضون/المعوقات: السواد/الخذلان/الخيانة/الظلم—قوى تمنع الرحيل، أو تجعل الرحيل تعبيرًا عن اليأس. كذلك «الصمت» كمُعارض (عدم الاستجابة).

٧- المرسل الحقيقي/النهائي: التاريخ، القدر، أو الذاكرة الجماعية التي تدفع بالذات إلى الصراخ.

بهذا التوزيع، النصّ يكشف وظيفةً حكيّة: هو ملحمةُ نداءٍ لا تنتهي، حيث الذات (الفاعل) تُسعى لإيجاد مخرج (الرحيل عن السواد)، لكن المعوقات تتحوّل إلى قوىً داخليّة تُجمد الفعل وتعيده إلى دائرة التكاثر.

5. البُنى النفسيّة والدينيّة تحت الجلد الشعريّ

البنية النفسيّة:

فعل الخلع (خلع المعطف): فعلُ تعرٍّ أمنيّ ونفسيّ؛ يمثل رغبة في مواجهة الجرح مباشرة دون وسائط. يشير إلى نوع من التضحية الطقسيّة: عرض الجسد/الروح للعلاج على الرأي العام. نفسيةُ الضحية هنا مزيج من الصدمة واليقظة: تصرخ الروح بلا صوت لأنّ اللغة قد هُمشت.

١- الإنهاك والجمود: "الدمع ماعاد يكفي" = نفاد الوسائل التقليدية للشفاء؛ هذا هو مؤشر انكسار جماعيّ/نفسيّ.

٢- الاستسلام الإجرائي: الجزء الأخير "فدعوت البكاء... ولكنه راح يخدعنِي" يشي برؤية نفسيّة عن الخداع: الحزن الذي يتحوّل إلى روتين خدّاع يمتصّ الفعلَ ويترك الروحَ سوداء.

البنية الدينيّة والطقوسيّة:

القصيدة توظّف رموزًا تضرب في العمق الدينيّ: الليل/القمر/المطر/الرماد—كلّها صور ذات نبرة طقوسيّة. المطر هنا ليس رحمة فحسب، بل "مطر من ذهول"؛ رمزيته تتحرّر من دلالتها القرآنيّة/التقليديّة لتصبح حالة وعي. الرماد له دلالة الترميم والتطهير من جهة، ودلالة الهلاك من جهة أخرى.

فعل الدعاء والدخول في حالة "قلقٍ آمل" يُشير إلى توتر دينيّ: ثقة مُعلقة بين استدعاء الفرح وانتظار معجزة أو رحمة إلهيّة لا تأتي. هذا التوتر يطرح الأسئلة الكبرى عن وجود الله/القدرة الإلهية في زمن المصاب.

6. المستوى الرمزي والدلاليّ (تفكيك الصور المفتاحيّة)

الروح تصرخ من غير صوت: الصرخة الصامتة كرمز للمعاناة التي لا تُسمع—سواء بفعل القمع أو بفعل النشاز الكلاميّ.

١- خلع المعطف: إشارة إلى التخلّي عن الحِمى، أو التقدم لشفاء الجراح؛ قد يرمز كذلك إلى فقدان الحماية والكرامة.

٢- الدمع الذي ما عاد يكفي: يرمز إلى استنفاد وسائل الحزن التقليدية، والانتقال إلى حالة من الفراغ العاطفي/الاستسلام.

٣- الليل وأقمارُه: الليل يتصرف كمن يواسي، لكن الأقمار هنا قد تكون أقنعة تواسي أو تدّعي الرفقة؛ "قمرٌ يستحي" يكشف عن مفارقة: حتى عناصر الكون تشعر بالخجل أمام حجم الفوضى.

٤- مطر من ذهول وغيمة من رماد: المزج بين المطر (رمز للحياة) والرماد (رمز للهلاك) يولّد دلالة مركّبة: الحياة تصفرّ، والهلاك يصبح هو ماء الوجود.

٥- السرير الضيّق للبكاءِ: صورة جسمانيّة تُحوّل البكاء إلى فعلٍ عضويّ عيان—والتجمّد من الحَسرة يشير إلى موتٍ داخليّ للأحاسيس.

٦- الخيانة والعمر: مخاطبة "يا صديق الخيانات يا عمر" تُحوّل الزمن إلى مُتآمر؛ العمر ذاته يحمل خياناتٍ لا تُغتفر.

7. شرح بعض المفردات الدلاليّة والعمل اللغوي عليها

١- هَزيعُ الوحشة: "هَزيع" لحظة فجرية أو شُعاع، هنا تربط الوحشة بلحظة تحوّل؛ الوحشة ليست حالة دائمة بل لحظة مُعلنة.

٢- مِعطفُها: ليس مجرد لباس، بل عنوانٌ للحمى والاحتماء، والخلع هنا رمز للشجاعة أو العري.

٣- مَخذولة: صيغة مبالغة للخذلان، تحمل معنى التترك وعدم الإمكان؛ الروح "مخذولة" أي مُترَكة على الحزن وحده.

٤- مباذلُ ما يدّعي: كلمة مركبة؛ "مباذل" جمع مبْذَل؟ تُقرب إلى مَناحي العرض والتباهي—القمر "يستحي" من تظاهر الكون بما ليس فيه.

٥- مطر من ذهول: تركيبٌ جديدٌ ومبتكر، يقوّي البُعد الإبداعيّ في النصّ؛ المطر ليس هنا سببًا للحياة بل نتيجة ذهولٍ جماعيّ.

٦- هَباءٌ يمرّ بلا صخب: الرمز إلى عبثية الدنيا؛ الهباء موت بلا أثر.

8. المقارنة التحليلية على مستويات متعددة

أ. المستوى الانفعالي:

النصّ يعتمد على تصعيدٍ انفعالي: من الصرخة الصامتة إلى استدعاء البكاء إلى استسلامٍ ثقيل. الانفعال هنا متدرّج لكنه متراكم—لا ينفجر في ثورة واحدة، بل يتراكم كما يتراكم الرماد على لهب لم يعد قابلاً للاحتراق.

ب. المستوى التخييلي (الخيالي):

الخيال في القصيدة غنيّ ومباشر: صور الليل/القمر/المطر والرماد تولّد هذا العالم اللامرئيّ الذي يمثل الوطن والذاكرة. التخييُل هنا وسيلةٌ لصياغة الحقيقة القاسية بطريقة تجعلها قابلة للتحمل والشهادة.

ج. المستوى العضوي (الجسدي):

القصيدة توظيفٌ للجسد: المعطف، السرير، دمعُ العين، تجمّدُ الحسرة—كلّها مؤشرات على أن الحزن ليس مجرد حالة ذهنية بل احتلال للجسد. هذا التحويل يجعل من الحزن مرضًا عضويًا، ومن الشعر دواءً أو شهادةً.

د. المستوى اللغوي والأعراف الجمالية

لغويًا، النص يختزل ويكثّف ويبتكر تراكيب تشدّ الانتباه ("مطر من ذهول")، ويتحرّك بين مستوى البيان والمجاز والصورة الأسطورية. من حيث الأعراف الجمالية، القصيدة تنتمي إلى مدرسة حداثيّة متأثرة بالرؤية الرمزيّة/الوجوديّة: قصيدة الشهادة، قصيدة الوطن الممزق، وقصيدة السرد الذاتي–الاجتماعي.

9. لحظة الإدهاش وجوهر النصّ:

لحظةُ الإدهاش في النصّ تتجسّد حين يتقاطعُ المفهومُان المتقابلان: المطرُ (رمز الحياة) و/مع الرماد (رمز الهلاك). هذه المفارقة تُحدث صدمةً معرفيّة تُجبر القارئ على إعادة قراءة العالم: الحياة تصبح مادةً للدهشة والهلاك يصبح ماء الوجود. الإدهاش أيضًا في عبارة "الدمع ماعاد يكفي الفواجع"؛ إدهاشٌ أخلاقيّ: لم يعد العالم قادراً على استيعاب المآسي، وحتى أدوات التعزية تنهار.

جوهر النصّ: هو صرخة توثّق فقدان فعل الراحة/العزاء في زمن الأزمات، وهو رغبة في الرحيل، لكن الرحيل هنا ليس خروجاً جغرافياً محضاً بل هجرة روحيّة عن سطوة السواد. الرحيل رمز لتحوّل، للبحث عن مشهدٍ إنسانيٍ أقلّ تلوّثاً.

10. انساقٌ معرفيّة ونهايةٌ تفسيرية:

النصّ يعمل عبر أنساق معرفيّة متداخلة:

١- أنساقُ الذاكرة والتاريخ: الجراح كذاكرةٍ جماعية.

٢- أنساقُ المعنى الديني/الطقسي: المطر/القمر/الرماد تُستدعى بصفتها إشاراتٍ طقسيّة.

٣- أنساقُ الجسد: الحزن كمرض عضويّ.

٤- أنساقُ البلاغة: التجريد، التكثيف، والابتكار اللغويّ.

٥- التفسير الخاتمي: القصيدة هي شهادةٌ شعريّة تطالب بالرحيل كخيار إنسانيّ أخلاقيّ عند حدود الاستحالة. إنها ليست نزعة انفعاليّة هاربة بل محاولةٌ لإعادة تركيب الذات مقابل الخراب. الشاعر هنا لا يُسقط الخسارة فحسب، بل يحاول جعلها مادة فاعلة للوعي والشعر: تحويل الألم إلى خطاب يطالب بالرحيل—ربما ليس هروبًا، بل ولادةً ممكنة.

11. توصيات بحثيّة ونقديّة لاحقة:

1. تحقيق نصّي: مقارنة مخطوطات/طبعات القصيدة إن وجدت، لتتبّع التبديل اللفظيّ.

2. دراسة علاقية مع نصوصٍ وطنية ومعاصرة حول نفس الثيمات (الحزن، الرحيل، السواد) لمقارنة الأوجه الأسلوبيّة.

3. قراءة نفسية أعمق: تطبيق مناهج التحليل النفسيّة (فرويد/يُونْغ) على الصور (الرماد، المعطف، السرير) لاستنباط آليات التكافل/الانفصال.

4. بحث سيميائي تطبيقيّ أوسع باستخدام غريماس: تحليل شبكيّ يتجاوز الأدوار إلى علاقات الحقول السرديّة.

خاتمة:

قصيدة «أُريدُ رَحيلاً لِهذا السَّوادْ!» هي نصٌّ مركّب—وجوديّ ووطنيّ، جسديٌّ ورمزيّ—يُقدّم تجربةً شعريّةً بليغةً عن استنفاد وسائل العزاء وعن الرغبة في الرحيل كخلاص. بالعمل عبر أدوات الهيرمينوطيقا والأسلوب والتحليل السيميائي لغريماس نكتشف لوحةً شعريّةً تتكوّن من جراحٍ جماعيّةٍ تُحوّل الشاعر إلى شاهدٍ، وإلى مبكيٍ ومُدَوِّنٍ لتاريخٍ لا يريد أن يُنسى. النصّ يدعونا، في النهاية، إلى أن نُسمع صرخته من غير صوت، وأن نُعيد التفكير في الرحيل كعمل مقاومةٍ وجوديّة.

***

بقلم: عماد خالد رحمة - برلين

............................

أُريدُ رَحيلاً لِهذا السَّوادْ!.

بقلم: أحمد يوسف داود

في هَزيعٍ من الوَحشةِ

الرُّوحُ تَصرُخُ من غَيرِ صَوتٍ

وتُلقي بِمِعطفِها جانِباً

كي تُضمِّدَ ـ عارِيَةً ـ ما تَرى

من جِراحِ البلادْ!.

*

أَعوَلَتْ بُرهَةً من فَجيعَتِها

إنّما الدَمعُ ماعادَ يَكفي الفَواجِعَ..

أنّتْ فَضاقَ الأنينُ بِها

فأقامَتْ على الحُزنِ مَخذولةً

في ثِيابِ الحِدادْ!.

*

يُرسِلُ اللّيلُ أقمارَهُ كي تُسامِرَها

فتُفيقُ مَواجِعُها:

كلُّ مافي فَمِ الأرضِ صَوتُ نَشيجٍ

فمَنْ سوف يَمسحُ أجْفانَها

كي تَذوقَ الرُّقادْ؟!.

*

يَستَحي قَمرٌ من مَباذِلِ ما يَدّعي

فيغيبُ على خَجلٍ والبَقيَّةُ تُغمِضُ..

والروحُ مَشغولةٌ بِأساها

يَفيضُ على لَيلِها مَطرٌ من ذُهولٍ

تَغّصُّ بهِ غَيمَةٌ من رَمادْ!.

*

لَمحةٌ من هَباءٍ تَمُرُّ بلا صَخبٍ..

كيف ضاق سَريرُ البُكاءِعلى دَمعِهِ

فتجَمَّدَ من حَسرةٍ؟!..

ياصَديقَ الخِياناتِ ياعُمرُ

هل ظلَّ للرّوحِ من فرحٍ قد يُعادْ؟!.

*

لاتُجِبْني فإني على قَلقٍ آمِلٍ..

(ماتَفتّحَ وَردُكَ يَوماً لأُبصِرَ أَلوانَهُ)

هكذا قالتِ الرُّوحُ لي فدَعَوتُ البَكاءَ..

ولكنّهُ راحَ يخدَعُني فأَلِفْتُ الخَديعَةَ

حتى تَصيَّدَ روحي السَّوادْ!.

 

تبدو رواية قصر التاجر للكاتبة منى الثابت وكأنها ليست عن المسيب فحسب بل عن الإنسان في علاقته بالمكان حين يصبح المكان ذاكرة وهوية وكياناً فاعلاً فالكاتبة لا تقدم المدينة بوصفها فضاءً جغرافياً ثابتاً بل ككائن يخلق أبناءه، ويمتص تاريخهم ويعيد إنتاجهم في سرديته الخاصة.

 "قد يصعب تحديد ميلاد وعينا بالوجود في هذا العالم بدقة، هل يولد لحظة إبصارنا النور؟ أم لحظة نطقنا الكلمة الأولى؟ أم إنه لاهذا ولاذاك؟ يقيناً، إنه حين تبدأ الذاكرة تسجيل أول المشاهد، أول خطوة على طريق الحياة الدبق المعبد بصمغ الذكريات والمشاعر"

"فأبعد ذكرى تُشكل البداية، وماقبلها اللاشيء..."

منذ المشهد الافتتاحي للرواية، حيث يُعاد بعث البطلين من نجمين في السماء إلى جسدين على الأرض، تضعنا الرواية أمام رؤية كونية أنثروبولوجية للمكان، المكان ليس مجرد خلفية للأحداث، بل أصل الوجود ذاته.

أنثروبولوجيا القصر.. الطبقة والسلطة والذاكرة

القصر في الرواية ليس بناءً معمارياً، بل بنية اجتماعية، إنه يمثل البيت الكبير كما يسميه علماء الأنثروبولوجيا أي النظام الرمزي الذي يُعيد إنتاج الهرمية والسلطة والتمييز بين السيد والتابع، الرجل والمرأة، النخبة والعامة.

" لم تخلع الخاتون السواد مذ توفى زوجها، ولزمت الإمساك بعصاه لا لحاجة بها، إنما كجزء من هندامها ..كما داومت على التختم بخاتمها الذهبي المزين بحجر فيروز دائري الشكل، مكملاً لشكل يدها المعروقة التي وشمتها بنقاط خضراء اللون .."

الخاتون الكبيرة، بما تحمله من سلطة مهيمنة، والباشا، رمز النظام الأبوي ـ الإقطاعي، يشكلان وجهين لسلطة المكان، في حين تأتي شخصية شمسة بوصفها محاولة لكسر هذه البنية عبر وعيها المختلف وجسدها الرافض للتوريث الرمزي للعبودية الأنثوية.

شمسة والبحث عن ضوء المكان

تمثل شمسة في الرواية الوجه الإنساني للمكان، تسكنها المسيب كما تسكن النخلة الفراتية عذوبة الماء ومرارة الملح، شمسة ليست بطلة في سياق رومانسي فقط، بل هي امتداد لأنثى الأرض العراقية، التي تُعيد تشكيل الذاكرة الجمعية في مواجهة التسلط العثماني والثورة المتأخرة.

" شمسة ذات الستة عشر ربيعاً، كان لها من أسمها نصيب شكلاً ومضموناً . أفصحت ملامحها بصدق عما وراءها فلم تكُ بكماء الملامح  وجهها البيضوي وضّاء القسمات بسحنته الحنطية وشى بحيويتها …."

من منظور أنثروبولوجيا الأدب، يمكن القول إن شمسة تجسد ما تسميه مارغريت ميد "الذات الثقافية" أي المرأة التي تعي موقعها في نسق اجتماعي - رمزي وتعيد إنتاجه من داخل التجربة لا من خارجها.

" أبطنت شمسة سيلاً من الاستفهامات نحو مسلمات كثيرة يُحظر عليها الخوض فيها، وهذا ماجعلها تجاهد تمردها المستتر بتصرفات مثالية بعض الشيء تكفيراً عمّا اعتقدت أنه سوء في سريرتها.."

الفرات بوصفه أرشيفًا ثقافياً

نهر الفرات في الرواية ليس مجرى مائياً بل حامل للزمن الاجتماعي؛ هو شاهد على التحولات من زمن العبودية إلى زمن الثورة، من التقاليد إلى الأسئلة الوجودية،فكل مشهد على ضفافه يعيد ترتيب العلاقة بين الإنسان والمقدس، بين الذاكرة والأسطورة، وكأن الكاتبة يستخدم الفرات كـ"أرشيف أنثروبولوجي" يحفظ روح الجماعة، وأحلامها، وخيباتها.

الرواية كبحث أنثروبولوجي

ينتمي قصر التاجر إلى ما يمكن تسميته بـ الأدب الأنثروبولوجي؛ أي الأدب الذي يتعامل مع الإنسان بوصفه نص ثقافي مفتوح، ويُعيد قراءة العادات، المعتقدات، اللغة، والسلطة من داخل السرد.

" تزين مضيف النساء بباقات الورد الدمشقي بمختلف ألوانه، وتخلل أغصان الياس . وضعت الباقات في مزهريات كريستال على طاولات الخشب الجانبية بين الأرائك، حيث وضع على كل طاولة مزهرية وشمعدان فضي وكمكُم أو كلبدان (عبارة عن إبريق نحاسي صغير له شكل الكرة من الوسط بقاعدة مخروطية وعنق طويل ورفيع ينتهي بما يشبه الزهرة المثقبة، يستعمل لرش ماء الورد وأحياناً تثبت في ثقوبه أعواد البخور الرفيعة) أما الطاولة الكبيرة في الوسط فقد وضعت عليها مزهريتان …"

خاتمة: من سرد المكان إلى وعي المكان

في نهاية الرواية يتضح أن المسيب ليست مجرد إطار زمني أو مسرح للأحداث، بل ذاكرة جمعية تتجسد عبر اللغة فكل حجر وبستان وضفة نهر في النص هو كائن يروي حكايته الخاصة.

بهذا المعنى يحول الكاتب المكان من فضاء مادي إلى فضاء رمزي ـ أنثروبولوجي، ومن الجغرافيا إلى الوجود.

" وقفت شمسة مع نجيب في الشرفة المطلة على الفرات يتأملان غروب الشمس، فقالت شمسة بيقين وبراءة:

- صدقت أمي عندما أخبرتني أن الشمس حين تغيب تغفو في النهر

- أبتسم نجيب لكلامها ثم وجه إليها سؤالاً ماكراً:

وكيف يكون الماء بارداً ليلاً وقد نزلت الشمس فيه ياشمسة؟

اتسعت عيناها وردت بثقة كبيرة :

لأن الشمس نائمة …."

رواية قصر التاجر هي نص عن المكان في جوهره، عن كيف يصنع الإنسان المكان، وكيف يُعيد المكان صناعة الإنسان إنها شهادة أدبية على أن المكان في الأدب العراقي ليس ديكوراً بل ذاكرة حية تقاوم النسيان.

***

د. فاطمة الثابت

لست أدري من الذي اقترح شعار «الرِّياض تَقرأ» شِعارًا لمعرض الرِّياض الدَّولي للكِتاب. غير أنَّه يظهر أنه لا يُدرِك دلالات مثل هذه العبارة، التي تبدو هزليَّة ساخرة، يمكن أن تُقال عن صَبيٍّ أضحى يقرأ، إجابة عن سائل: أهو يقرأ؟ أو عن أُمِّيٍّ تعلَّم القراءة على كِبَر، فصار يقرأ! ومن هنا فإنَّ هذا الشِّعار ينطوي على إهانةٍ للرِّياض وأهلها، وكأنَّنا نقول للعالم: «الحمد لله أيها الناس، (الرِّياض تَقرأ أخيرًا، أو تفكُّ الخط)!» يا للفخر، بشَّرك الله بالخير، هذا خبر مدهش حقًّا!

هٰكذا قفز بنا (ذو القُروح)، بلا مقدِّمات إلى هذا الموضوع. فتساءلتُ:

ـ «الرِّياض تَقرأ؟» معقول؟!

ـ بالطبع (الرِّياض) تَقرأ منذ أن أصبحت عاصمة للمملكة، وكانت قبل ذلك، كما تقرأ عواصم عَرَبيَّة أخرى منذ القِدَم؛ بمعنى القراءة الثَّقافي والحضاري. بل إنَّ القراءة والكتابة ثمرةٌ عَرَبيَّةٌ أصلًا، منذ ابتكر الكنعانيُّون أو الفينيقيُّون العَرَب رموزها في القرن العاشر قبل الميلاد تقريبًا، وما كان العالَم يعرف قبلئذٍ أبجديَّةً قط، وإنمَّا عرف الكتابة المسماريَّة المقطعيَّة في(العراق)، أو التصويريَّة الهيروغليفيَّة في (مِصْر). والكتابات الأوغاريتيَّة الكنعانيَّة- المكتشفة حديثًا بقرية (رأس شُمرة)، شمالي مدينة (اللَّاذقيَّة) في (سوريَّة)- هي بعض شواهد على تاريخٍ من تعليم العَرَب العالمَ القراءة والكتابة، وإنْ بات تاريخهم المعاصر تعتوره عُقَد النقص، حتى إنَّه ليُباهي بأنه: يَقرأ، كبقيَّة خلق الله!

ـ لعلَّ تلك العبارة «الرِّياض تَقرأ» ما هي إلَّا اجترار لعبارة، لا تقلُّ سقمًا، أُطلِقت خلال القرن الماضي: «القاهرة تَكتب، وبيروت تَطبع، وبغداد تَقرأ».

ـ وهي كذلك عبارة فكاهيَّة؛ وكأنَّ (القاهرة) لا تَقرأ، بل تَكتب فقط، أو كأنَّ (بغداد) لا تَكتب، بل تَقرأ، أمَّا (بيروت)، فلا تَقرأ ولا تَكتب، وإنَّما تطبع! وأمَّا بقية العَرَب، فلا يقرؤون ولا يكتبون ولا يطبعون، طبعًا! كلام بلا محصول، يُعْجِبُ العُربان لما فيه من ضروب البديع والتلاعب بالألفاظ، الذي يَطربون له عادةً! والواضح من هذا كله أنَّ العَرَب المتأخِّرين مغرمون عمومًا برنين الألفاظ، والترديد طربًا بما يسمعون، بلا تفكير في معناه.

ـ كيف؟

ـ ثمَّة ظاهرة ثقافيَّة عَرَبيَّة لافتة من خلال هذا السياق. وهي أنه ما أن تُطلَق عبارة، مهما كانت ركيكة، أو غير موفَّقة في مبناها ومعناها، حتى يتبارَى العَرَب، ولا سيما عبر الإعلام، في علكها دهرًا من الدُّهور، حتى ينجم غيرها. ما يذكِّرنا بالعبارة العَرَبيَّة القائلة: «فسارت مثَلًا!» مع الفارق؛ من حيث إنَّ المثَل إشارة إلى موقفٍ قصصيٍّ بعبارة مختزلة دالَّة. بخلاف ما نحن بصدده، وإنَّما الشاهد في الظاهرة الثقافيَّة العَرَبيَّة من حبِّ التكرار والترديد، بلا تفكير في المعنى. وربما جاءت هذه الظاهرة امتدادًا أيضًا للأنماط الشفويَّة الجماعيَّة التي لفتت (مليمان باري وألبرت لورد)، أو (جيمز مونرو)، في التراث الشِّعري الشَّفوي العَرَبي؛ إذ ما أن يقول شاعرٌ صيغةً شِعريَّةً معجِبة، حتى تجترُّها أفواه العشرات من الشعراء، لعقود من السنين أو لقرون.(1) وتلكم ثقافة القطيع: تثاءبت القبيلة كلُّها، لمَّا تثاءب شيخها!

-2-

ـ من حكاية «الرياض تَقرأ»، وسالفة الترديد بلا تفكير، دعنا نستأنف القراءة في قضيَّة النَّظم والنصِّية، التي قاربنا بعض جوانبها في المساق السابق. فآفة الترديد ليست بشفويَّة فحسب، بل هي مستشرية في عالم الكتابة والكتَّاب أيضًا.

ـ قد رأينا كيف انتهى الأمر بـ(أبي حيَّان التوحيدي)(2) إلى أن يثلب في كتابه «مثالب الوزيرين» نفسه هو وفهمه، بل إلى أن يثلب أدبه، حينما استدعته مناكفة بعض معاصريه، ممَّن يجمعون بين الشِّعر والكتابة، إلى الخروج من الكتابة الأدبية إلى التنظير النقدي. فإذا هو يخلط الحقَّ بالباطل، والنثر بالشِّعر، مستحسنًا قول القائل:

وإنَّ أَشعَـرَ بيتٍ أنت قائلُـهُ

بيتٌ يُقال، إذا أَنشدتَـهُ، صَدَقـا

وكان خليقًا- لو كان يعي ضُروب الكلام كما ادَّعى، وافتراق طبائعها ووظائفها- أن يكتب: «وما أبردَ ما قال القائل:...»! كما كان حقُّ البيت الذي رفع رايته أن يكون:

وإنَّ أَسخفَ بيتٍ أنت قائلُـهُ

بيتٌ يُقال، إذا أَنشدتَـهُ، صَدَقـا!

وهنا جلَّينا البون الشاسع بين (أبي حيَّان التوحيدي، -414هـ) و(عبدالقاهر الجرجاني، -471/ 474هـ) في الوعي النصوصي. ونضيف إنَّ لأبي حيان بعدئذٍ أن يردِّد علينا، معتذرًا أو هاجيًا، مع (شِمْر بن عمرو الحنفي)(3):

لَـوْ كُنْتُ في رَيْمانَ لَسْتُ بِبارِحٍ

أَبَــدًا وسُدَّ خَصاصُهُ بِـالطِّينِ

لِـي فـي ذَراهُ مَآكِـلٌ ومَشـارِبٌ

جــاءَتْ إلَـيَّ مَنِيَّتِـي تَبْغِينـي

ولَقَدْ مَرَرْتُ عَلَى اللَّئِيمِ يَسُبُّنِي

فَمَضَيْتُ ثُمَّتَ قُلْتُ لا يَعْنِيني(4)

غَضْـبانَ مُمْـتَلِئًا عَلَـيَّ إِهـابُـهُ

إِنِّــي ورَبِّكَ سُخْطُهُ يُرْضِِينـي

يا رُبَّ نِكْسٍ إِنْ أَتَتْـهُ مَنِيَّتي

فَرِحٍ وخِرْقٍ إِنْ هَلَكْتُ حَزِينِ

-3-

ـ ماذا عن (النَّظم)؟ [سألتُ].

ـ أمَّا نَظْم الشِّعر، فمنه هوسٌ مَرَضيٌّ لدَى بعض الشُّعراء بنظم القوافي، يُفسِد بناء القصيد، ويضيع معه المعنى. و(هوسيَّة النَّظم، وتضييع المعانى) يتجلَّيان، مثلًا، في قصيدة (أحمد شوقي)، تحت عنوان «في الانقلاب العُثماني وسقوط السُّلطان عبد الحميد».(5)

ـ معروف أنَّ (شوقيًّا) كان يكتب شِعره كـ(جريدة يوميَّة)، لا يفوِّت حادثةً في العالَم أجمع إلَّا عرَّج عليها بقصيدة طويلة.

ـ وما كذلك الشِّعر، لا عند العرب ولا عند غيرهم، منذ أن عُرِف الشِّعر. ولذلك، كان يسرد مطوَّلاته، التي يُعِدُّ لها قوائم القوافي، كما يُعِدُّ صاحب مطعمٍ قوائم الطعام. حتى يبدو أنه لا يترك كلمة في معجم (الفيروزآبادي)، «القاموس المحيط»، أو غيره، إلَّا استقصَى النَّظْمَ عليها.

ـ ولقد كان باعث تأليف تلك المعجمات أصلًا خدمة الشُّعراء النظَّامين، من أمثال (شوقي)، ومن سلف على شاكلته من الناظمين.

ـ ولذلك لا غرابة أن تجد في قصائده كثيرًا من الحشو، والركيك إلى جوار الرَّصين، والأبيات التي لا تضيف إلى المعنى شيئًا يُذكَر. ففي تلك القصيدة، التي يستهلُّها ببيته:

سَل يَلـدِزًا ذاتَ القُصـورِ

هَـلْ جاءَهـا نَبَـأُ البُـدورِ

ستسبح مضطرًّا في بيته:

والرَّوض فـي حَجـْمِ الـدُّنا

والبَحـر فـي حَجـْمِ الغَديرِ

وهو من تلك الأبيات المحشوَّة حشوًا، لا لشيء سِوَى للإتيان بكلمة (الغدير). ثمَّ هو هنا يتحدَّث عن أميرات القصور العثمانيَّة. ليقول عنهنَّ بعد أبيات:

أَمسَــينَ فــي رِقِّ العَــبيـ

ـلِ وبِتْـنَ فـي أَسْـرِ العَشيرِ

مــا يَنتَهِيـنَ مِـنَ الصَّـلا

ةِ ضَــراعَـةً ومِــنَ النُّـذورِ

يَطلُبـــنَ نُصـــرَةَ رَبِّهِــنَّ

ورَبُّهُـــــنَّ بِـلا نَصــــيرِ

صَــبَغَ السَّــوادُ حَـبِـيرَهُنَّ

وكــانَ مِن يَـقَـقِ الحُـبـورِ

فلا تدري ماذا أراد أن يقول عنهن؟

ـ بل كيف أمست هؤلاء الأميرات في «رِقِّ العَبيل»؟

ـ كأنَّه لم يجد كلمة أخرى غير «العَبيل». ولو قال: «في رِقِّ العَبيد»، لكان قال شيئًا ذا معنى.

ـ ثمَّ ما علاقة «الصلاة» و«النذور» بالموضوع؟

ـ العلاقة أنَّ في بطن الشاعر كلمة (النذور) على حرف الراء، ولا بدَّ أن يضع عليها بيتًا. وإلَّا أنَّى له بنظم ثمانين بيتًا في الموضوع، إنْ لم يستغلَّ للتقفية كلَّ الكلمات ذات الرِّدف المنتهية بالراء؟! بل أنَّى له أن يُعَدَّ «أمير الشُّعراء» دون تلك المطوَّلات النَّظْميَّة؟!

***

أ. د. عبد الله بن أحمد الفَيفي

..............................

(1)  إشارة إلى نظريَّة (مليمان باري)، التي لخَّصها تلميذه (ألبرت لورد)، حول النَّظم في الملاحم اليوغسلافيَّة. (يُنظر مثلًا: Lord, Albert, The Singer of Tales؛ مونرو، جيمز، النَّظْم الشَّفوي في الشِّعر الجاهلي).

(2)  (1992)، أخلاق الوزيرَين: «مثالب الوزيرَين الصَّاحب بن عبَّاد وابن العميد»، تحقيق محمَّد بن تاويت الطنجي، (بيروت: دار صادر)، 8- 9.

(3)  الأصمعي، (1993)، الأصمعيَّات، أحمد محمَّد شاكر وعبدالسلام محمَّد هارون، (القاهرة: دار المعارف)، 141- 142.

(4)  في رواية «أَمُرُّ على اللَّئيم». وهي أبلغ؛ لدلالة على أنَّ ذلك ديدنه، وليست بحالةٍ بعينها. وثُمَّت: بمعنى ثُمَّ. قال (الفراهيدي، العَين، (ثم)): «ثُمَّ: حَرْف من حروف النَّسَق، لا تُشرِّكُ ما قبلَها بما بعدَها، إِلَّا أنَّها تُبَيِّنُ الآخِرَ من الأوَّل، ومنهم مَن يُلزِمُها هاءَ التأنيث فيقول: ثُمَّتَ كانَ كذا وكذا.» وثُمَّ، وثُمَّتَ، وثُمَّتْ، كلُّها: حروف نَسَق. وقليلًا ما تجد إعلاميًّا معاصرًا يفرِّق بين (ثُمَّ) و(ثَمَّ)؛ فتسمعه يردِّد: «ومِن ثُمَّ»! وهو تعبير لا علاقة له باللُّغة العَرَبيَّة. والصواب: «ومِن ثَمَّ»، أي «ومن هناك». على الرغم من أنَّ «ثَمَّ» كلمةٌ ما زالت مستعملة في بعض لهجات الجزيرة العَرَبيَّة، بمعنى: هناك. ومن تخليطات المعجم المشار إليه، «معجم العَين»، قوله: «ثَمَّ معناه: هناكَ، للتبعيد، وهنالِكَ للتقريبِ!» فقلبَ ما كان حقُّه القول: «هناكَ للتقريب، وهنالِكَ للتبعيد.» وهو ممَّا يشكِّك في نسبة هذا المعجم إلى (الخليل). إلَّا أن يكون في النصِّ تصحيف، وهو الراجح، وأصله كلامه: «ثَمَّ معناه: هنالكَ، للتبعيد، وهناك للتقريب.» ولا تعليق لمحقِّقي هذا المعجم، ولا يحزنون، كالعادة!

(5)  ديوانه الأعمال الشِّعريَّة الكاملة، (بيروت: دار العودة، 1988)، 1: 119.

لا يبدأ البحر من الموج، بل من الداخل… من تلك اللحظة التي يقرر فيها الإنسان أن يغادر اليابسة ليس هربًا منها، بل بحثًا عن ذاته التي غمرها الغبار…

في “وقائع من أوجاع رجل غامر صوب البحر” لا يكتب واسيني الأعرج رواية عن الهروب، بل عن امتحان الوجود حين يتقاطع فيه الجسد بالماء، والذاكرة بالوجع، والحلم بالعدم.

كل موجة في النص ليست سوى سؤالٍ مؤجل عن معنى النجاة…

لا أحد يغامر صوب الموج إلا حين تضيق اليابسة بالمعنى… والبحر، كما يراه واسيني، ليس مكانًا، وإنما سؤالٌ مفتوحٌ على احتمالات الخلاص والهلاك معًا.

في هذه الرواية، الرجل الذي غامر صوب البحر ليس بطلًا في المعنى التقليدي، بل كائنٌ مثقلٌ بما يسميه ميلان كونديرا “ثقل الوجود”.

ذلك الثقل الذي لا يُحتمل لأنه نابع من الذاكرة، من التاريخ الشخصي والجمعي، من كل ما نحمله معنا دون أن نعرف كيف نضعه جانبًا…

يقول كونديرا: “إن أخفّ لحظة في حياتنا قد تكون أثقلها لأننا ندرك فيها كل ما لا يمكننا العودة إليه.”

هنا تتقاطع خفة كونديرا مع ثقل واسيني، ويتحوّل البحر إلى مسرحٍ للجدل بينهما؛ خفة الهروب وثقل العودة، خفة الموج وثقل الحلم، خفة الغياب وثقل البقاء.

واسيني الأعرج يكتب هذه الرواية كمن يصوّرها بعدسة داخلية. كل مشهد يبدو وكأنه لقطة من فيلمٍ يعرف المخرج أنه لن يُعرض أبدًا إلا داخل الذاكرة.

نرى المناضل الهارب وهو يعبر الأزمنة كأنها دهاليز، يسمع صدى أصواتٍ من الطفولة والسجن والمنفى، فتتداخل الأزمنة في وعيه كما تتشابك خطوط الضوء في لوحةٍ سريالية.

إنّه سينمائي في بنية السرد وتشكيلي في لغته، لا يصف المشهد بل يلوّنه، لا يسرد الأحداث وإنما يعزفها ويوزّع إيقاعاتها.

حين يكتب عن تظاهرةٍ عمالية، تبدو الجموع كريشةٍ كثيفة تتحرك داخل لوحةٍ حيّة: وجوه تلمع بالعرق، قبضات ترتجف، أقدام تتقاطع، وهتافات تتكسّر على صخور القمع.

وعندما يصف انهيار المصنع القديم، تتحوّل اللغة إلى مشهدٍ بطيء: صوت الحديد وهو يئنّ، الماء المتدفّق في الأنفاق، خوذةٌ صفراء تطفو، وعينٌ تتسع ثم تختفي في العتمة.

هذه المشاهد لا تُقرأ بل تُرى… وكل لقطةٍ تُصوّر الجمال في لحظة الموت، والحرية في لحظة الانهيار.

الرواية في جوهرها حوار بين الذاكرة والجسد.

البطل يحمل ذاكرته كما يحمل البحر ملوحته، لا يستطيع أن يتخلّص منها حتى وهو يفرّ منها.

يظن أن البحر سيغسله من ماضيه، لكنه يكتشف أن الماء لا يُطهّر من الذاكرة بل يعمّقها… في كل موجةٍ يسمع صوتًا قديمًا، وفي كل اتساعٍ يرى وجهًا رحل.

إنها ذاكرة تنبض تحت الجلد، تشبه ما وصفه كونديرا حين قال: “الإنسان لا يملك إلا ذاكرته، وكل محاولةٍ لنسيانها ليست سوى نوعٍ من الموت المؤجّل.”

لكن واسيني لا يكتب المأساة بل يكتب الجمال الذي يتسرّب من بين شقوقها…

الجمال الذي يشبه ضوءًا خافتًا ينعكس على سطح ماءٍ ملوث، ومع ذلك يضيء.

هذا الحسّ الجمالي لا يبتعد عن الموقف الإنساني، بل يعضده؛ فالجمال هنا ليس ترفًا بل مقاومة.

إنّ تصوير الألم بهذا العمق هو فعلٌ اشتراكي في جوهره، لأنه يُعيد للإنسان صوته وسط ضجيج السلطة.

نلمح صدى كامو وهو يقول في أسطورة سيزيف: “علينا أن نتخيل سيزيف سعيدًا”، كأنّ واسيني يريدنا أن نتخيل هذا الرجل الهارب سعيدًا أيضًا، لا لأنه نجا، بل لأنه قاوم.

الحرية في الرواية ليست نقيض الأسر فحسب، بل امتحان المسؤولية كما عند سارتر: “الإنسان محكوم عليه بالحرية.”

بطل واسيني يعرف أنه حرّ، لكنه يدرك أيضًا أن هذه الحرية ثقلٌ آخر لا يُحتمل، لأنها تُلزمه بأن يواجه نفسه.

فالهروب إلى البحر لا يُنقذ من شيء، بل يكشف كل شيء…

في عمق الموج لا يسمع المرء سوى صوته، ولا يرى سوى ظله، وهنا تبلغ الرواية ذروتها التأملية:

إنّ الإنسان لا يهرب من الخارج بل من ذاته، وحين يصل إلى أقصى المدى يكتشف أن البحر ليس نهايةً بل مرآة.

وفي تلك المرآة تتجلّى البنية التشكيلية للنص؛ فكل موجةٍ جملة، وكل دوّامةٍ فكرة.

اللغة عند واسيني تشبه الريشة المبلّلة، تترك أثرًا لكنها لا تحدد شكلًا نهائيًا.

وهذا ما يجعل النص مفتوحًا على التأويل كلوحةٍ تجريدية، وعلى التأمل كفيلمٍ لا يكتمل.

نقرأه كما نُشاهد لوحةً لبول كلي أو مشهدًا لبرغمان، لا نسأل ماذا يحدث بل كيف يحدث… ولماذا يؤلمنا.

إنّ الرواية تمزج الواقعي بالأسطوري، السياسي بالوجداني، الحلم بالكوابيس، لتخلق عالمًا يُشبه ما بعد الوعي.

البطل هناك وليس هناك، يعيش وينسحب، يرى البحر في داخله كما يراه أمامه.

في لحظاته الأخيرة على الشاطئ، نسمعه يهمس: “البحر أمامي… والذاكرة خلفي… والريح في صدري تُعلّمني أن لا مفرّ من ذاتي.”

هذا الهمس يُعيدنا إلى السؤال الأول: هل يمكن للهروب نحو البحر أن يكون خلاصًا؟ ربما لا.

لكن في هذا الفشل بالوصول يكمن كلّ المعنى.

في النهاية، “وقائع من أوجاع رجل غامر صوب البحر” ليست رواية عن البحر بقدر ما هي رواية عن الإنسان الذي لم يتعلّم بعد كيف يعيش خفيفًا دون أن يفقد عمقه.

واسيني الأعرج كتب نصًا ينتمي إلى الجغرافيا الإنسانية لا إلى الوطن فحسب، نصًا يقف إلى جانب أعمال ميلان كونديرا وألبير كامو وجان بول سارتر في بحثه عن التوازن بين الحلم والعبث، بين الخفة والثقل، بين النجاة والانكسار.

ولعلّ أبلغ ما يمكن قوله عن هذه الرواية هو ما قاله كونديرا:

“كل حياة إنسان هي بحثٌ عن نغمةٍ لم تكتمل.”

واسيني وجد نغمة وجعه في البحر… وترك لنا نحن القرّاء ومهمة الإصغاء إليها، علّنا نتعلّم كيف نحمل أوجاعنا دون أن نغرق.

***

إبراهيم برسي

الحدث السردي هو بمثابة توثيق مرحلة سياسية مظلمة، هي الحرب الطائفية التي اشتعلت نيرانها الحارقة، في فترة خيم الرعب والخوف على قلوب الناس. في شق لحمة المجتمع ومكوناته وحتى تمزيق اواصل العائلة الواحدة، في بدعة الانتقام وغسل الدم بين الطائفتين، وهي من الظواهر السلبية والسيئة جداً من مخلفات الاحتلال، في دخول الطائفتين (الشيعية والسنية) في حرب اهلية وكسر العظم بين الجانبين، في سفك دماء ابنائها بذرائع مجنونة عفا عليها الزمن وبال، بذريعة حفظ نقاوة الدم لدى الطرفين، وحتى هدر الدم بلا رحمة، إذا لم يرضخوا الى طلبات الطائفين، بقرار طلاق الزوج والزوجة، إذا هما من طائفتين مختلفتين، والرفض يعني بكل بساطة يقدم قربانا على مذبح الطائفية، في دولة في عقلية حكامها المشرفين، هي العقلية العشائرية والطائفية حتى العظم، هذا ما حدث فعلاً في الواقع المعيشي، بعد الاحتلال الأمريكي عام 2003. الحدث السردي يسرد حدث محدود في فترة زمنية قصيرة، لكن له امتدادات زمنية طويلة وخلفيات عميقة الدلالة والمعنى، تتجاوز اعواماً، هي بالضبط في ساعة خروج الطائفية من كهفها المظلم، إنها حادثة واقعية من الآلاف من القصص الواقعية المشابهة، فكان الموت يطارد الجميع على عل الهوية والاسم، هي حرب الانتقام الدموي بين الطائفتين (الشيعية والسنية)، حتى وصلت هذه الحرب الى مستويات خطيرة، حرب وانتقام بلا رحمة، حتى داخل العائلة الوحدة، الزوج شيعي والزوجة سنية، وإذ لم يرضخون لطلب الطلاق، يقتل أحدهما بدم بارد، مثلما حث لهذا الزوج المغدور (الشيعي) رفض طلب طلاق زوجته أم طفلتين، فجاءت طعنة الموت الغادرة، من طرف طائفة زوجته (السنية) واشقاء زوجها يطالبون بالانتقام وغسل العار، باهدار دم زوجته، حتى تتساوى معادلة، الانتقام مقابل الانتقام، إن هذا الواقع خارج تصور العقل والمنطق، بل انه يمثل السريالية الغريبة والمرعبة. لقد برعت الأديبة (سعاد الراعي) في احترافية راقية، في الصياغة الفنية والمنطلقات الفكرية الدالة، في أسلوبها الواقعي الرصين، وفي دراماتيكية الأحداث المتلاحقة، التي تشد القارئ شداً، ولم تترك مجالاً له أن يأخذ انفاسه، بالحبكة الفنية المتصاعدة نحو الذروة، مرهفة في تتبع تفاصيل الحدث السردي المركز بالتكثيف، الذي أخذ صيغة الوصف التصويري، بأن يجعل القارئ، يشاهد ويقرأ تفاصيل الرعب  بالمشاهد والمنتاج السينمائي، وكأننا أمام فيلم الرعب، مثل ما عودتنا الافلام الامريكية (افلام الرعب اكشن) لذا فإننا أمام فيلم رعب (الرعب اكشن الطائفي)، أمام حادثة من آلاف الحوادث، بذريعة نقاوة الدم الطائفي وصيانته من الإخلال به، أن يتجول الموت بحرية ويلاحق أبناء الطائفتين. كأنهما في مطاردة الموت الطائفي.

- احداث المتن السردي:

الزوج (الشيعي) رفض ان يرضخ لمطالب الطائفة الاخرى (السنية) بالطلاق من زوجته وام لطفلتين، فقتل بدم بارد، وضع الزوجة ام لطفلتين في موقف خطير يهدد حياتها من قبل أشقاء زوجها المقتول بالانتقام منها بالانتقام المتبادل، جاء دورها لتساق لقربان مذبح الطائفية، رغم توسلاتها ودموعها الباكية (- انا لست عدوتكم، أنا أم تحمل على كتفيها جرح هذا الواقع مثلكم) ص17. ولكن قصاص الانتقام اخذ قراره ولا رجعة عنه، بحجة أن زوجها قتل من طائفتها، وهي المرشحة لغسل الدم، كأنها أصبحت في عقليتهم مجرمة وقاتلة، ودمها أصبح حلالاً، هو الهدف والمنال، دمها يشبع عطش الطائفية للانتقام، ويهددها احد اشقاء زوجها (- سأجعلك جارية تحت قدمي حتى تُقبري). هكذا حفرت الطائفية انهار من الدماء في البطش والانتقام في المجتمع العراقي، وجدت الزوجة ان جرحها الداخلي ينزف، لم يعد لها خيار، اما ان تختار الموت، أو تختار الهروب إلى المجهول، أنها معضلة حياتية: كيف الخلاص من هذا المأزق ؟!. (- أية حفرة مظلمة وقعت فيها؟ واي مستقبل ينتظر أبنتيَّ) ص22. وقررت في داخلها، لن تستسلم للموت وللمذبح الطائفية، وقررت بشجاعة الزوجة (عفراء) ان تبحث عن كوة الخلاص حتى لو عبر على جثتها، وقررت ان تتصل بجارتها القديمة الطيبة (ام احمد) سبق وان هربت ابنائها الى خارج العراق، وفعلا اتصلت خلسة في الليل، لعل لديها خيط من النجاة، لترد عليها (أم أحمد) بقولها (كل عقدة ولها حل يا أبنتي، فلا تيأسي، أنا هنا كأمك، بانتظار أن تبوحي لي بما تختلج روحك) ص26. لتقول لها بصوت مهموم مليء بالقهر (خلصيني يا خالة.... اني اموت كل يوم ألف مرة). وتدبر لها سائق ثقة وامين، يساعدها في الهروب بسيارته الى خارج العراق، واتفقت على الموعد خلسة في الليل، وجاء السائق بالموعد المحدد، ليقول لها (- أنا من طرف ام احمد.... اسرعي قبل ان يفيق احد) ص30، أخذت طفلتيها وغادروا البيت مسرعين والخوف يأكل قلوبهم، لكن يراودها الأمل بالخلاص من الجحيم الطائفي الجاثم على صدرها (لن اعود إلى القبر، ولو كان الطريق الى الحرية مفروشاً بالخوف)، ولن تبيع نفسها وطفلتيها للخوف والمصير المجهول، ولن تسمح للطائفية ان تملك روحها وتكسرها بالخيبة والانهزام، وتنفست الصعداء حين تجاوزت السيارة بغداد، ويطمئنها السائق بقوله (- الآن أنتم في امان) وطلبت من السائق أن يحول اتجاه السيارة من صوب السليمانية الى صوب الحدود الاردنية، واتفقت على السعر الاجرة، واستجاب لطلبها، لان اهلها في عمان الاردن، وبدأ الأمل يكبر بتجاوز الخطر والمجهول (كان الموت يعرف عنواني في الأمس، أما المجهول فليس له عنوان. هذا حسن) ص55. وحين وصلت الحدود، نزعت خاتم الزواج، وكذلك خاتم الذهب المرصع بالعقيق ولفتهم في ورقة، وطلبت من السائق أن يسلم رسالتها الى (ام احمد) وكتبت في رسالتها (سلمي خاتم الزواج الى حيدر الجلاد، اخو زوجي، ليعرف أنني طلقتهم جميعاً دون رجعة / اما خاتم العقيق، فهو هدية صغيرة من ابنتكِ عفراء لتذكرنني بها) ص71. هكذا انتهت مأساة (عفراء) أم طفلتين، خرجت من فم الموت والمجهول الى بر الامان، كانت رحلة شاقة وصعبة، لكن تحملتها كامرأة قوية، وقفت بصلابة وشجاعة أمام الموت والمجهول، وخلعت خاتم الطائفية الثقيل، وحين نزعت أساورها الذهبية كاجرة لاتعاب السائق، رفض أن يقبلها (- لا داعي يا اختي...... / لا داعي ان تخلعي اساوركِ) هكذا المرأة انتصرت على الصعاب وسجلت أهدافاً (لقد طلقتكم جميعا.... لا قبيلة / لا طائفة / لا قانون، يمكن ان يعيدني الى الوراء) ص73. لتكتب لها مستقبل جديد بنفسها، حرة، ولو جرحت الف مرة.

ملاحظة: اشكركم من اعماق قلبي الى الاهداء الذي يخصني

***

جمعة عبد الله

 

مقدمة الدراسة: تنهض قصيدة «صمتُ المرايا» للشاعرة التونسية بهيجة البعطوط بوصفها نصّاً يتجاوز حدود البوح العاطفي إلى فضاءٍ تأمليٍّ تتقاطع فيه المجازات الوجدانية مع الأسئلة الوجودية. فهي ليست مجرّد اعترافٍ شعريٍّ عن فَقْدٍ أو لوعة، بل هي تجلٍّ تأويليٌّ لمعنى الذات حين تنكسر في مواجهة غياب الآخر، وحين يتحوّل الحبّ من وعدٍ بالخلاص إلى جرحٍ يفتح على المطلق. في هذا النص، يصبح الصمت لغةً، والمرآة كياناً وجوديّاً يعكس ما وراء الصورة — إنها محاولةٌ للقبض على ما يتفلّت من الإدراك، وتدوين ما لا يُقال.

من هنا تأتي أهمية مقاربة هذا النص من خلال المنهج الهيرمينوطيقي التأويلي الذي يُعنى بقراءة ما تخفيه العلامة أكثر مما تصرّح به، إلى جانب المنهج الأسلوبي الذي يضيء البنية اللغوية والإيقاع الداخلي، والمنهج الرمزي والسيميائي الذي يُعنى بتفكيك شبكة العلامات والدوالّ ضمن النص وفق مقاربة غريماس لمربّع الأدوار السيميائية (الفاعل/ المفعول/ المرسل/ المتلقي...). كما تنفتح الدراسة على البعد النفسي والديني والجمالي، بوصف الشعر هنا مرآةً لانكسارات الذات الباحثة عن يقينٍ في عالمٍ ملبّدٍ بالضياع، ووسيلةً لالتقاط لحظة الإدهاش بين الصمت والكشف، بين الغياب والحضور.

تسعى هذه القراءة النقدية إلى الغوص في ما تحت الجلد الشعري من توتّرٍ ونبضٍ ورمز، واستنطاق الأنساق المعرفية والانفعالية التي تحكم النص على مستوياتٍ عدّة: التخييلي، العضوي، اللغوي، الجمالي، والوطني. فقصيدة "صمت المرايا" لا تُقرأ على سطحها الغنائيّ فقط، بل تُفكّك كنصٍّ وجوديٍّ يُعيد مساءلة العلاقة بين الذات والمرآة، بين الصمت والقول، بين العشق والوعي.

نقودُ قراءتنا بثلاث دعامات منهجية متكاملة:

1. الهيرمينوطيقا التأويلية: قراءة المقاصد والآفاق الدلالية للنص، تتبع الأفق التأويلي بين ما يجيزه الخطاب الشعري وما يطلبه القارئ من فهم.

2. الأسلوبية والرمزية: فحص الوسائل الأسلوبية (الصورة، الموسيقى، الإيقاع، التراكيب) وكشف رموز النص الدلالية المتكرّرة.

3. السيميائيات (غريماس): تفكيك العلاقات الفاعلية داخل النص عبر "مخطط الأدوار" (الفاعل/ المفعول/ المرسل/ المتلقي/ المرشد/ المعارِض) لبيان البناء السردي الإنساني داخل الصوت الشعري.

نضيف طبقات: تحليل نفسي (الذات، الجرح، آليات الترميم) وقراءة دينية/ تصوفية (مجازات الغياب، الوجد، النبض). النص سيُقرأ على مستويين: ما يقوله لفظاً (الظاهر) وما يقال تحت الجلد الشعري (الباطن).

1. البنية السطحية: عناصر النص وملامحه الأسلوبية

القصيدة مقسَّمة إلى مقاطعٍ قصيرة واضحة، نبرة المتكلِّم–الأنا الأناشيدية تخاطب غائباً (أنتَ)، وتوظف موسيقى داخلية عبر تكرار الحركات، الصور الحسية، وتناوب بين جُمَلٍ إخبارية وإِناجيّة. من أبرز السمات الأسلوبية:

١- الصيغة الخطابية: مخاطبة مباشرة "تُنَاجِيكَ" — تضع القارئ في موقع شهود الحزن والود.

٢-الصور المركبة: "طَيْفُك"، "خَرَائِطُ العَالَمِ"، "زُجَاجًا مَكْسُورًا" — مزج بين الخرائط والمرايا والزجاج والخريف، مشهد بصري حادّ.

٣-الاستعارة المجازية الموسيقية: "سمنفونية عشق"، "لحنُ الجَوَى" — الموسيقى رمز للتماهي والاستمرارية.

٤- التضادّات/ المفارقات: حبٌّ لكنه "ألم"، غياب لكن "تَغْفُو بين نبضي" — ثنائية الحضور/ الغياب تُحرك النص.

٥-اللغة متوسطة المستوى بين الفصاحة والعامية الخفيفة: كلمات قوية ذات وقع فصيح ("مَثْقَلَةُ الوَجْدِ"، "أُرَمِّمُ شَظَايَا") مع صور قريبة من الوجدان اليومي.

هذه السمات تعطي القصيدة نبرة تأمّلية حيوية، توازن بين الحضور الغنائي والصرامة التأملية.

2. الحقول الدلالية ومفردات المفصل (تفسير مفردات محورية):

نُعرّف الحقول المفرداتية الرئيسة: الغياب/ الوجود (طيف، غياب، ألا أرانِي)، الموسيقى/ اللفظ (أوتار، لحن، قوافل القصيدة، حروف الرَّوي)، الخراب/ الترميم (زجاج مكسور، شظايا، أرمم)، الجسد/ النفس (نبض، قلب، روح)، الخريفي/ الزمني (خريف، أيام)، الحسية/ الشمّ (رذاذ العطر المنثور).

تفسير بعض المفردات:

١- طيفك: لا يعني وجوداً مادياً بل انعكاس حضوره في الذاكرة — علامة لوجود خيالي أو أثر.

٢- خرائط العالم حين أشتاق: الخريطة هنا مجاز للتمثيل المعرفي؛ الحضور يتحول إلى شبكة معانٍ تنظم العالم الداخلي للشاعرة.

٣- قوافل القصيدة: القصيدة كعملية حمل واحتفاء بالحبيب: اللغة تتحرك كقافلة، تنتقل من لحن إلى لحن.

٤- زجاج مكسر: رمزية تقليدية للذات المجروحة، حالة الانكسار والشفافية المفقودة؛ كذلك تشير إلى رؤية مشوّهة للواقِع.

٥- رذاذ عطرك المنثور بين السطور: الحضور الحسي/ الشمّي الذي يواصل وجوده عبر النص المكتوب؛ علامة على ديمومة الذاكرة.

3. القراءة الهيرمينوطيقية / مستويات التأويل

نحو تأويلات ممكنة للنص بوضع فرضيات متعددة مدعومة بالأدلة اللفظية:

أ. التأويل العاطفي/ الوجداني:

القصيدة سرد لوجدان يعاني انفصالاً لكنه يُعيد صياغة الغياب باعتباره نمط معرفة: الفقد لم يحلّ؛ بل أعطى فهماً جديداً (ـ"لم يُطفئني الفقد بل أنار بصيرتي" — هذه العبارة ضمنية في قطعة أخرى لكن هنا نفس المنطق موجود: الترميم عبر الألم). الوجدان يتحرك بين شوق واستسلام وترميم.

ب. التأويل النفسي:

الزجاج المكسور، الشظايا، عدم القدرة على الرؤية أمام المرايا، تدلّ على اضطراب في الهوية أو انقسام الذات. الفعل الشعري هنا يقوم بدور العلاج: "أُرَمِّمُ شَظَايَا الأَيَّامِ" → الشعر كفعل سُدْوِي/ شفائي يعيد ترتيب شظايا الذاكرة.

ج. التأويل الديني/ الصوفي:

مخاطبة الروح والمآل نحو "مَلاذي" و"الرجاء" و"تغفو بين نبضي" يستحضر لغة دعائية/ مناجاة أقرب إلى خطاب العاشق في التصوف: الحبيب كمبدأ غيبي/ إلهي أو رمز للمعرفة العليا؛ الغياب لا يبطله بل يجعل الحبيب حاضراً في القلب كحضور خفي (حضور القلب/ الباطن). كذلك "الروح تناجيك" تقترب من صيغة الابتهال.

د. التأويل المعرفي/ الأنساق المعرفية:

النص يقيم أنساقاً معرفية: الذاكرة كخريطة، القصيدة كقافلة، الجسد كمرآة زجاجية، والعطر كعلامة حسية محفوظة بين السطور. هذه الأنساق تُظهِر كيف ينظّم الشاعر العالم داخلياً: عبر خرائط، مخطوطات، مرايا، وأنغام. قراءة هيرمينوطيقية تتتبّع الانتقال من صورة إلى أخرى كعملية تفسيرية داخل النص نفسه.

4. سيميائيات غريماس — مخطط الأدوار

نطبق هنا مخطط غريماس البسيط: (المرسل ـ الموضوع/ الموضوع ـ المستقبل/ المتلقي ـ الفاعل ـ المعاون ـ المعارض). نحاول استخلاص "الأدوار" داخل النص الشعري:

١- الفاعل: «أنا الشاعرة»/ الضمير المتكلم (أنا المتكلمة) — الذي يسعى/ يشتاق.

٢- المرسل: الذاكرة/ الحنين/ القصد الذاتي للشعر — الدافع الذي يرسله إلى الفاعل. أحياناً يمكن اعتبار "الماضي" أو "الذكرى" مرسلاً لأنه يوجّه الفاعل نحو البحث عن المعنى.

٣- المرسَل إليه/ المتلقي: الحبيب «أنتَ»/ أو الذات الممثلة بالحضور — الذي سيستقبل فعل الحنين أو القصيدة.

٤- الموضوع: الاتحاد/ إدراك الحضور/ الرؤية الذاتية؛ أو استرجاع الحب بكيانٍ ثابت. أحياناً الموضوع هو «الهوية المكتملة» أو «الراحة/ الملاذ».

٥- المعاون: القصيدة، الذاكرة، الألق، الحواس (العطر، اللحن) — أدوات الفاعل في السعي.

٦- المعارض: الغياب، الضياع، الشظايا، الزوابع النفسية — عناصر تعيّق الوصول.

نرسم منها محورين رئيسين: محور سعي (أنا —> موضوع: لقاء/ إدراك) ومحور عائق (غياب/ شظايا) يَحُولان دون الوصول بينما القصيدة/ الذاكرة تعملان كمساعدة. هذا المخطط يبيّن بنية الصراع الشعري: حركة مستمرة بين السعي والعتبة.

5. التحليل الأسلوبي المفصل (تفكيك الآليات):

أ. التواصيف البلاغية؛

١- التشخيص: النجوم "تبتسم خجلاً" تشخيص للطبيعة تردّ على حالة الشاعرة.

٢- التشبيه: "كأنك سمفونية عشق" — تنصيص على تداخل الموسيقى مع العاطفة.

٣- الاستعارة: "قوافل القصيدة" — تحويل القصيدة لفعالية اجتماعية/ حركية.

٤- التكرار: تكرار الحقول (الحنين، الخسارة) يقوّي الإيقاع العاطفي.

ب. النحو والصياغة:

التناوب بين الجمل الخبرية والإناجية يعطي النص ديناميكية: الأخبار تُثبت الحالة، والإنابة (يا، أنت) تُشعل اللهفة.

الاستعانة بأزمنة حالية ومستمرة ("تُعانقُ طيفك"، "تتساقط دموعي") تُبقي الحدث حاضراً ومتحركاً داخلياً.

ج. الإيقاع الداخلي والموسيقى:

رغم عدم اتّباع القصيدة لوزن تقليدي صارم، إلا أن هناك إيقاعات داخلية تعتمد على تكرار الأصوات (موسيقى حروفية) وتراكيب لعبارات موسيقية: "لحنِ الحبِّ... لحنُ الجَوَى". هذه «موسيقى معنوية» تعزز الانفعال.

6. البنى النفسية: الانكسار، الترميم، الذات المجروحة

الذات الشاعرة في النص تبدو مُنزوية ومقسّمة:

١- الانكسار: "أشبه زجاجًا مكسورًا" — دلالة على فقدان السلام الداخلي، انقسام في الإدراك.

٢- الترميم: "أُرَمِّمُ شَظَايَا الأَيَّامِ" — الشعر كفعل إصلاح، إرادة بصرية لترتيب العالم.

٣- الاستبقاء الحسي: العطر المنثور، النبض، الأوتار → علامات تجعل الذات مرتبطة بالجسم والحواس، لا تختزل في مجرد فكرة.

نستطيع أن نقرأ النص كـ"عملٌ من الذاكرة المتألمة" يقوم على تجميع الذات، وفيه الشعر عملية علاجية.

7. البعد الديني/ الصوفي:

الخطاب الحواري مع الحبيب يشابه مناجاة العاشق للمعشوق في التصوف:

"روحِي تُنَاجِيكَ" — اللغة الدينية للدعاء.

"مَلاذِي وَكُلَّ الرَّجَاءِ" — وصف الحبيب كمأوى ومرجع إيماني نفسي.

"تَغْفُو بين نَبضي" — فكرة الحضور المستور: أن الحبيب ليس غائباً كلياً بل حاضر في شكل غيبوي حاضر في الباطن.

هذا لا يعني بالضرورة أن الحبيب إلهي، لكن النص يشبّه حالة الحبّ بالابتهال، ويستعمل مفردات تعبّدية للتأكيد على قُدسية التجربة العاطفية.

8. المقارنة بين مستويات: انفعالي، تخييلي، عضوي، لغوي/ جمالي.

أ. المستوى الانفعالي:

النص مشحون بالشوق والوجع والحنين. المشاعر مركّزة ومكثفة، تترجم في صور مباشرة (دموع، نبض) وفي صور استعادية (خرائط، شظايا). انفعال الشاعرة يتجه نحو الاحتفاظ بالمحبوب داخلياً لا لتحطيمه أو نسبته للخارج.

ب. المستوى التخييلي (الخيالي):

الخيال شعري وغزير — يجمع بين الصور الممكنة (العطر، الزجاج) والرمزيات الكبرى (القافلة، الخريطة). الخيال يبني عالماً داخلياً ذا ترابط ايقوني: الذاكرة كخريطة والقصيدة كقافلة. هذا المستوى يُنتج حسّاً بطوليّاً صغيراً للصراع الداخلي.

ج. المستوى العضوي:

الصور الجسدية (نبض، قلب، روح) تجعل المشاعر متجسّدة — لا مجرد فكرة بل حالة عضوية تتألم وتستعيد. استخدام فعل الشرب/ الارتشاف "أرتشف صمتي ولوعتي" يحوّل الصمت إلى مادة تُشرب، أي ملموسة.

د. المستوى اللغوي والجمالي (الأعراف):

اللغة تميل إلى الفصاحة والرصانة، تضع النص في سُلّم جمالي عربي معاصر يمزج تقاليد الغزل العربي مع الحرية الشكلية للقصيدة الحديثة. الاعراف: مخاطبة مباشرة، ازدواج بين البساطة التصويرية وعمق الاستعارة، احترام للحدة الشعرية دون تطريب زائد.

9. لحظة الإدهاش (المفاجأة الجمالية):

في هذا النص، لحظة الإدهاش مركّزة في المقطع الذي يربط بين الخرائط والحنين، تقول:

"فأنتَ خَرَائِطُ العَالَمِ حِينَ أَشْتَاقُ،

وحِينَ يُدْرِكُنِي الضَّيَاعُ."

هنا يتحوّل الحبيب إلى «خريطة» — لا يكون مجرد فرد بل نظام يُنظِّم الوجود. الإدهاش في تحويل الدال من شخصٍ إلى هيكل معرفي منطقي (خريطة) يخلخل القارئ ويكشف عن قدرة النص على خلق معنى مركب: الحبيب ليس فقط موضوع عشق بل مركز معرفي يعيد ترتيب العالم. كذلك إدهاش قوي في "أحتضنك بمفردات الهوى" — مفردات تصبح أجساداً تُعانق.

10. قراءة سيميائية أكثر تفصيلاً (علامات، رموز، أكواد):

١- المرآة: في عنوان النص "صمت المرايا" وداخل النص "أقف أمام المرايا فلا أرانِي" — المرايا هنا علامة الهوية والاختلاف: المرايا تصمت أو تكذب أو تُخفي؛ وعنوان القصيدة يضع الصمت كآلية انعكاس مقلوبة: لا انعكاس بل مفارقة. المرايا بوصفها رمزاً للذات المفقودة، أو للهوية التي لا تجيب.

٢- الخريطة: رمز للمعرفة، النظام، الاتجاه. الشعور بالحنين يصبح نشاطًا معرفيًا.

٣- الزجاج المكسور: رمز للانقسام، الشفافية المشتتة، رؤية محطمة للواقع.

٤- العطر: علامة ذاكرة حسية تدل على استمرار الحضور رغم الغياب.

الأكواد هنا: الحسي (شمّ، صوت، بصر) يقابلها الكود النفسي (حنين، ألم). النص يستخدم الأكواد الحسية لإيصال الأكواد النفسية.

11. الأنساق المعرفية داخل النص:

النص يبني شبكة من المعارف، أي مفاهيم مبنيّة داخلياً:

1. الذاكرة الخريطة (الذاكرة كنسق معرفي تنظيمي).

2. اللغة القافلة (اللغة كجماعة وكمسيرة).

3. الحضور الطيف (الحضور كتمظهر غير مادي).

4. الذات، المرآة، الزجاج (هوية متكسّرة/ لامرئية).

قراءة هذه الأنساق تكشف أن الشاعرة لا تكتب فقط عن فقدان؛ بل عن طريقةٍ للمعرفة: كيف تُنظَّم الذكريات، كيف تكتب الذات نفسها على هيئة خريطة أو قافلة.

12. المقارنة مع أنماط شعرية (سياق وطني/ أدبي):

شعريّاً، النص ينتمِي إلى تقاليد الغزل المعاصر العربي الذي يمزج بين الحسية والرمزية والتأمل، لكن بصبغة انشائية معاصرة.

على المستوى الوطني (التونسي/ المنطقة المغاربية) — دون الدخول في سِيَر شخصية للكاتبة — يمكن القول أن النص ينسجم مع تيارات حديثة تهتم بالذات والذاكرة والوجود بعد الحريات الاجتماعية والتحولات السياسية: الشعراء المغاربيون غالباً ما يوظّفون رموز الغياب / الذاكرة لتجربة فردية تتماهى مع التاريخ. (ملاحظة منهجية: هذا ربط عام ثقافي لا يفترض نية سياسية صريحة في النص).

13. اقتراحات لقراءات بديلة ونقاط بحث لاحقة:

١- قراءة نسوية: كيف تُصوِّر المرأة الذاتية (أنا الشاعرة) داخل فضاء الذكر/ الغياب؟ هل هناك طابع تحرري في "أحتضنك بمفردات الهوى"؟

٢- قراءة بينية: ربط النص بنصوص غزلية/ تصوفية عربية كلاسيكية (ابن الفارض، جلال الدين الرومي) أو الحداثيين (نزار قباني، أدونيس) لبيان التوارث.

٣- تحليل سيميائي معمّق: بنية العلامات داخل كل مقطع، وكيف تتفاعل نظم العلامات عبر القصيدة.

٤- تحليل صوتي/ موسيقي: إخراج وزن داخلي، دراسة التكرارات الصوتية وتأثيرها على الإيقاع الدلالي.

14. خاتمة موجزة: خلاصات وتلخيص التحليل

1. الذات المتكلّمة في القصيدة هي فاعل مُجروح لكنه فعال: يحوّل الألم إلى فعل شعري (الترميم/ الكتابة).

2. الغياب ليس فراغاً بل مجالاً مُكتنزاً بعلامات: طيف، خريطة، عطر — الحبيب حاضر كشبكة من الإشارات.

3. الشعر هنا يتخذ دور المعاون العلاجي، واللغة قافلة تنقل التجربة وتبني الهوية.

4. المفردات المركزية (مرآة، زجاج، خريطة، لحن، عطر) تعمل كـ"نظام علامات" متكامل يحمل الدلالات النفسية والروحية.

5. لحظة الإدهاش تتجلّى حين يتحوّل الحبيب إلى "خريطة العالم" — أي حين يتعدّى النص حدود الغزل إلى بناء معرفي يغيّر تصور القارئ عن العلاقة بين الحبيب والعالم.

15. مادة ملحقة: مخطط غريماس مختصر (نصّياً).

١- الفاعل: «الـأنا الشاعرة» — تسعى للوصول/ للاتحاد.

٢- المرسل: الذاكرة/ الحنين/ الماضي — تحفّز السعي.

٣- المرسل إليه/ المتلقي: «أنتَ» (الحبيب) أو الذات المندمجة.

٤- الموضوع: إدراك الحضور/ الهوية/ الترميم.

٥-المعاون: القصيدة، الذاكرة، العطر، اللحن.

٦- المعارض: الغياب، الضياع، الشظايا.

***

بقلم: عماد خالد رحمة - برلين

..........................

صَمْتُ المَرَايَا

كُلُّ شَيْءٍ هُنَا صَامِتٌ،

إلَّا رُوحِي تُنَاجِيكَ...

تَتَسَلَّلُ الكَلِمَاتُ،

تُعَانِقُ طَيْفَكَ،

فَتَبْتَسِمُ النُّجُومُ خَجَلًا.

*

أَرْتَشِفُ صَمْتِي وَلَوْعَتِي،

أَبْحَثُ عَنْكَ فِي لَحْنِ الحُبِّ...

فَأَنْتَ خَرَائِطُ العَالَمِ حِينَ أَشْتَاقُ،

وحِينَ يُدْرِكُنِي الضَّيَاعُ.

*

سَأَكْتُبُكَ قَوَافِلَ القَصِيدَةِ،

مَلاَمِحُكَ حُرُوفُ الرَّوِيِّ،

وَصَوْتُكَ لَحْنُ الجَوَى.

*

يَا مَلاذِي وَكُلَّ الرَّجَاءِ،

أَلْتَقِيكَ بَيْنَ حُرُوفِي،

أَتَنَفَّسُ رَذَاذَ عِطْرِكَ

المَنْثُورَ بَيْنَ السُّطُورِ،

فَأَحْتَضِنُكَ بِمُفْرَدَاتِ الهَوَى.

*

لَمْ يَكُنْ حُبًّا، بَلْ أَلَمًا،

كَانَ سَرَابًا وَأَضْغَاثَ أَحْلَامٍ،

غَدَوْتُ مَثْقَلَةَ الوَجْدِ،

أُرَمِّمُ شَظَايَا الأَيَّامِ،

أَقِفُ أَمَامَ المَرَايَا،

فَلَا أَرَانِي.

*

أُشْبِهُ زُجَاجًا مَكْسُورًا،

يَرَى اليَقِينَ غَرِيبًا،

وَالأَقْدَارَ مُشَتَّتَةً.

*

وفي حَضْرَةِ الغِيَابِ،

مَا زِلْتَ تَغْفُو بَيْنَ نَبْضِي،

بَيْنَ ارْتِجَافِ قَلْبِي المُتَيَّمِ.

***

بهيجة البعطوط – تونس

 

تضم مجموعة " ِورْد الروح " الشعرية للشاعرة جيهان بن رابحي أهم مكونات وعناصر الشعر من إيقاع متنوع، وعناصر بلاغية ومجازية، وموضوعات مختلفة تؤثث متنها الشعري، وتضفي عليه جمالية في التعبير، وعمق في المعاني والدلالات مما يرهص بأواليات بداية شعرية تمتلك عناصر وأدوات إبداعية قمينة بتأسيس أفق شعري موسوم بالرقي والتطور.

ولعل ما يميز نصوص المجموعة نسجها على منوال إيقاعي يطبع جل أساليبها وتعابيرها وهو مل نلحظه من أول نص " مزامير الزهد " في روي الراء المشبعة: " ضاقت به الِفكَرُ/ أستتر / يعتكر / َصَدرُ/ ُيخْتصرُ/ تعتصر.../ أتزر إلى آخر نص في المجموعة " أسطورة الرغد " حيث يتحول الروي إلى دال مشبعة: " الرَّغَدِ / َيدِ.../ ِشدَدِ ". وآخر داخلي كما في: " أكمامها تفيأت / وطلعها تفلقت " ص 32، من قصيدة " حفنة رسائل " حيث تتجانس وتتجاوب التاء والفاء لخلق جرس داخلي يثري نمط الإيقاع وينوعه، وفي حرف الراء و القاف والتاء: " إن الزفرة خارقة / حارقة " ص 81، وما تشكله من لون موسيقي بإيقاع متجاوب. وآخر بلاغي جمالي كالجناس المتمثل في قول الشاعرة: " عذرا عذرا / يا مُقْلا" ص 81، وهو جناس تام تكرر أيضا في: " والآن الآن... " ص 87، وفي قولها: " تربو سنابل ملأى َحبّا، حُبّا... " ص 86، في حركة الفتحة في حَبّا الأولى وحُبّا الثانية التي توزعت بين النصب والضم، وما يسبغه ذلك على المعنى من سمات الاختلاف والتنوع. والتشبيه كمكون بلاغي: " كالقشة حيرى شاردة " ص 19، مقترن بالأداة ( الكاف )، ومجرد عنها في قولها: " هي النجوم ذئاب ناعمة " ص 41، بفتحه لآفاق متعددة المعاني والأبعاد جماليا ودلاليا. إلا إن ما يميز شعر المجموعة بشكل لافت هو طابعها المجازي، وما يرسمه من صور، وما يصوره من لوحات دالة ومعبرة تطالعنا منذ النص الأول " مزامير الزهد " التي ورد فيها: " أنا دم الصمت في الأسحار غازلة / أسرار بوحي، وحزني ملؤه عبر " ص 15، فصورة منادمة الصمت، وغزل الأسرار بخيوط الوحي تفتح وتنفتح على أفق يستدعي الغوص في امتداداته، والضرب في مجاهله عدة معرفية وجمالية شاملة، وقولها: " تلهث في عري " ص57، حيث تختزل شدة الجهد والتعب في إهاب العري والانكشاف، وما يحملانه من أبعاد ومعاني، وما يزخران به من رموز وإشارات تحتاج إلى مقدرات جمة، وأدوات قراءة واستقراء ِعدّة لتفكيك ترابطاتها، وتحديد طبيعة علاقاتها الإبداعية، وقولها أيضا: " من كبة دهشتنا / ينسل سؤال... " ص 80، مع طرح نوع ما يجمع بين الدهشة والسؤال من تجاذب وتنابذ يحيط بكليهما و يجلل كنههما وامتداداتهما ؛ وكيف تقود الدهشة المفعمة بهالات الإبهار إلى اجتراح سؤال منسل ومتسلل من زحمة الارتباك والقلق والحيرة. وكيف يقدم المنديل كهدية فوق بساط حنين: " منديل مهدى / فوق بساط حنين " ص82، فيغدو للحنين بساط تقدم فوق جنباته الهدية، وينزاح به عن فراش تطأه الأقدام إلى مسرح لمنح الهدايا، ويتم رسم صورة للفراغ الذي تصير له سقوف تملأ فراغاتها: " وملأت سقوف فراغك... " ص 85، وما تزخر به السقوف من دلالات رمزية كتوفير الحماية ودرء ما يمكن أن ينجم من انكشاف وانفضاح. إلى غيرها من صور تروم اختراق نمطية الوصف المعهودة بإرساء إواليات تعبير وتصوير ترهص باجتراح أشكال مختلفة ومنزاحة والتي لا تسمح حدود هذه القراءة بمتابعة جلها.

ويقودنا الجانب المجازي وما ينتجه من صور إلى الوقوف عند بعض التعابير التي تكرس وتجسد نمط الاختلاف داخل متن المجموعة كما في قول الشاعرة: " أتجرع نفسي ألفظها " ص 19، وما يعكسه ذلك مما تمور به النفس من أهواء ومشاعر مؤلمة وممضة تحتم تجرعها ولَفْظها بَصْقها لعدم استساغتها واستمرائها في استعمال تعبيري يعكس ذلك لكن بأسلوب تصويري ينأى عن الشائع والمألوف. وملْأْ الكأس من نهر الفراغ: " أتحسس الكأس أملأها / من نهر فراغ " ص 20، فكيف للكأس أن ُتملأ من نهر فراغ ؟! وخرق واختراق الصمت الذي يخنق البوح: " أخرق صمتا / يخنق بوحي " ص56، وللصمت أن يخنق البوح ؟! والقدرة على صنع حُبّ يُغْزَل من صوف: " وصنعتك حبا / أغزله من صوف..." ص 89، وكلها تعابير صيغت بأساليب تختلف عن الشائع والمُتّبَع. وتضمنت النصوص كذلك استيحاءات متنوعة المرجعيات ؛ من الموروث الشعري القديم كما ورد في: " دعك، ودعك من اللوم " ص 52، على نهج ما ورد في قول الشعر العباسي أبي نواس: " دع عنك لومي فإن اللوم إغراء / وداوني بالتي كانت هي الداء " في موقفه عمن يلومه ويعاتبه على شرب الخمر مؤكدا بأن ذلك يضاعف من رغبته في الإقبال على معاقرتها والعَبِّ من كؤوسها لأنها تعالجه من وصب كل هم وكدر، وقولها أيضا: " لو صدقت/ من عرقوب " ص88، في إشارة إلى عرقوب كشخص يضرب به المثل، في التراث العربي، في إخلاف المواعيد، والإخلال بالوعود كما ورد في قصيدة " البردة " الشهيرة لكعب بن زهير: " كانت مواعيد عرقوب لها مثلا / وما مواعيدها إلا الأباطيل ". ومن النص القرآني في مثل قولها: " ما مت ما قتلت / شبهت لي منيتي " ص 32، حيث ورد في سورة "النساء" عن عيسى عليه السلام من قوله تعالى: " وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم"، وعن قصة حواء التي أكلت من الشجرة المحرمة كما ورد في سورة " طه ": " فأكلا منها فبدت لهما سوءاتهما... " والتي كانت سببا في خروج آدم وحواء من الجنة، وهو ما حورته الشاعرة بإيحاء وترميز: " وأنا في حلقك حواء / أنهش تفاحة حتفي " ص 56، وذكر مدى صبر أيوب، وتحمله لآلام المرض ومضاعفاته: " في حرقة من صبر أيوب " ص85، كما ورد ذكر العديد من الموضوعات،توزعت بين ما هو ذاتي كالحيرة الداخلية، حيث تعبر عن ذلك: " لا حيلة لي ولا مأوى ألوذ به / ضاقت بي الأرض، زاد اليأس يعتكر " ص 13، فلا تجد غير الله ملاذا آمنا يمنحها الرأفة والرحمة والطمأنينة: " حتى اهتديت إلى نجواك سابحة / أنت الملاذ، وفيك الخير يختصر " ص13، وينقيها من الذنوب،ويشفيها من المعاصي: " يا رب داو فإن الداء أثقلني / في الذنب أرسف والرمضاء تعتصر " ص 14، فهو مصدر الغوث والرحمة: " أنت المغيث إذا حلت بنا غِيَر / أنت الرحيم بنا بالعفو تقتدر " ص16، وما هو موضوعي قومي كالقضية الفلسطينية، وما تعيشه من مآسي يقترفها العدو الصهيوني الغاشم، حيث تقول: " فالأَقصى... مُقصى / والحائط فيه حزين... بدلتم بمقابر كل حدائقها / فأرى الشعب مهين " ص 79، الذي يمعن في التنكيل بالمواطنين الفلسطينيين بلا رأفة ولا هوادة متنكرا لكل المواثيق الحقوقية والإنسانية: " وفلسطين / تجر جنائزها " ص80، ووطني في تصوير ما يعج به المجتمع من اختلالات من قبيل أساليب القمع التي تغتال الأحلام، وتجهز على الطموحات: " بالبطش تعلو أيادي القمع في فزع / تَبَّتْ أيادي تُميت الحلم في بلدي " ص94، وتعليق كل المرامي المشروعة، والأهداف المرجوة على حبال التسويف والمماطلة مع استخدام كل أنواع الترهيب، وأساليب القمع والتضييق: " راهنت في المجد بالأحرار من وطني / ملوا من القهر والتسويف في كبد " ص 95. مما يحول دون تحقيق الأماني المنشودة، والأماني المأمولة.

لنخلص أخيرا إلى أن مجموعة " ِورْد الروح " الشعرية تتكون من عناصر وأدوات إيقاعية وبلاغية تمنحها ميزات تستجيب لشروط الإبداع الأساسية انسجاما مع روحه الخالية من أية شوائب تمس أصل جوهره، وعمق كنهه، وهو ما يستشعره ويلمسه القارئ للمجموعة الموسومة نصوصها بجمالية التعبير، وتنوع الموضوعات، وانسيابية الإيقاع، وبعد المعاني والدلالات مما يحمل ويثبت أكثر من دليل على امتلاك الشاعرة لمقدرات بارزة على الخلق والابتكار جديرة بالرقي بشعرها إلى مراتب أفضل، وتبويئها مقامات أسمى وأرفع.

***

عبد النبي بزاز

................

وِرْد الروح (شعر) جيهان بن رابحي، مطبعة بلال، فاس 2025.

الحسن بن هانئ المَعروف بأبي نُوَاس (145 - 198 ه / 762- 813 م)، شاعر عربي مِنْ أشهرِ شُعَراءِ العصرِ العَبَّاسِي، وَمِنْ كِبار شُعَراءِ الثَّورةِ التجديدية. أحدثَ انقلابًا في مَضمونِ الشِّعْرِ العربيِّ وأُسلوبِه، فَقَدْ تجاوزَ الأغراضَ التقليدية كالمَدْحِ والفَخْرِ، واتَّجَهَ إلى مَواضيع جديدة تُعبِّر عَن التَّرَفِ والتَّحَرُّرِ. وكانَ وَصْفُ الخَمْرِ أبرزَ هذه المواضيع التي ارتبطَ اسْمُه بِها، وَقَدْ قَدَّمَ رُؤيةً فِكريةً مُتكاملة جعلتْ مِنَ الخمر رمزًا للحياةِ والحُرِّيةِ والتَّمَرُّد.

تَجَلَّى أُسلوبُه الفَنِّي في طريقته في رَسْمِ صُورةِ الخَمْر، إذ اتَّسَمَتْ بالدِّقَّةِ والتفصيلِ والحيوية، فَقَد استعارَ مِنْ مُعْجَمِ الضَّوْءِ واللونِ والحركةِ مَا يُضْفي على الصُّورةِ طَابَعًا بَصَريًّا يَكَاد يُحوِّل المَشْهَدَ إلى لَوْحَةٍ فَنِّية، كما لجأ إلى الأساليبِ البَلاغيَّة مِنْ تَشْبيهٍ واستعارةٍ وكِناية، لِيَمنحَ الخَمْرَ صِفَاتٍ إنسانيَّة تَجْعلها شَخصيةً حَيَّةً تَتفاعل معَ الشاعر. ولا يَكْتفي بوصفِ مَظْهَرِها أوْ طَعْمِها، بَلْ يَربِط بَيْنَ لَوْنِها ورائحتها وتأثيرِها النَّفْسِيِّ، فَيَصْنَع لَوْحَةً حِسِّية مُتكاملة تَتجاوز الماديِّ إلى الجَمَاليِّ.

تُمثِّل الخَمْرُ في شِعْرِهِ رمزًا للحَياةِ والمُتعةِ، والتَّمَرُّدِ على القِيَمِ التقليدية، والتَّحَرُّرِ مِنَ القُيودِ الاجتماعيةِ والدِّينية، فَهِيَ لَيْسَتْ مُجرَّد شَراب، بَلْ وسيلة للتَّحَرُّرِ مِنْ سُلطةِ الدِّينِ والمُجتمعِ، والهُروبِ مِنَ الواقعِ القاسي، والتقاليدِ الصارمةِ التي كَبَّلَت الإنسانَ، وتَجسيد لفلسفةِ اللذةِ والاحتفاءِ بالجسدِ واللحظةِ الآنِيَّة.

بِهَذا المَعنى، تَتَحَوَّلُ الخَمْرُ إلى رمزٍ للبحثِ عَن الذاتِ، والتصالحِ معَ الرَّغَبَاتِ الإنسانية المَكبوتة. وَتَجْرِبَتُهُ مَعَ الخَمْرِ حِسِّية في ظاهرِها، لكنَّها تَنْطوي على نَزْعة فِكرية تُمجِّد الحُرِّيةَ الفردية، وتَحْتفي بالإنسانِ في طَبيعته الأوَّلِيَّةِ البِدَائية الغريزية الشَّهْوانية. وَالخَمْرُ لَدَيْهِ رَمْزٌ دُنيوي، مُرتبط بالمُتعةِ والمَجالسِ واللهوِ والعبثِ، وإنْ كانتْ تُخْفي وَراءها احتجاجًا على النِّفَاقِ الاجتماعيِّ والقُيودِ الأخلاقية.

وَتَعْكِسُ قصائدُه صِرَاعًا داخليًّا بَيْنَ اللذةِ والذَّنْبِ، وَبَيْنَ النَّزْعةِ الحِسِّيةِ والنَّزْعةِ الأخلاقية، وَهُوَ مَا يُضْفي على تَجرِبته عُمْقًا إنسانيًّا يَتجاوز حُدودَ اللهوِ والمُجُونِ الظاهريِّ.

لَمْ تَكُن الخَمْرُ عِندَه مُجرَّد شَرابٍ يَسْقي الأجسامَ، بَلْ كانتْ رمزًا فلسفيًّا يَعكِس مَوْقِفَه مِنَ الحَياةِ والوُجودِ والحُرِّية. وَهُوَ يَرى في الخَمْرِ خَلاصًا مِنَ الزَّيْفِ والنِّفَاقِ، وعَوْدَةً إلى الصِّدْقِ الطبيعيِّ في الإنسانِ. وَمِنْ خِلال هذا الرَّمْزِ، أعلنَ تَمَرُّدَه على الزُّهْدِ المُصْطَنَعِ، وَدَعَا إلى فَلسفةٍ جديدة تَحْتفي بالحياةِ ولَذَّاتِها، وَتُؤْمِن بأنَّ المُتعةَ الصادقةَ وَجْهٌ آخَر للحقيقة.

والشاعرُ الفرنسيُّ شارل بودلير (1821 م - 1867 م) مِنْ أبرزِ شُعراءِ القرنِ التاسع عَشَر في فرنسا، وَيُعْتَبَرُ رائد الحَداثة الشِّعْرية الأُوروبية. وَقَدْ شَكَّلَت الخَمْرُ في تَجرِبته الشِّعْريةِ رمزًا مَركزيًّا يُجسِّد الصِّراعَ بَيْنَ الجسدِ والرُّوحِ، بَيْنَ الواقعِ والمِثال، فَهِيَ عِنده لَيْسَتْ مُجرَّد شَراب، بَلْ حالة وُجودية يَسْعى مِنْ خِلالِها إلى تَجاوزِ بُؤْسِ الواقعِ، والارتقاءِ إلى عَالَمٍ مِنَ الجَمالِ والنَّشْوةِ الفَنِّية.

تَتَّخِذُ الخَمْرُ عِندَه بُعْدًا رمزيًّا عميقًا، فَهِيَ تُمثِّل وَسيلةً للتَّحَرُّرِ مِنْ قُيودِ الواقعِ الماديِّ، والانفلاتِ مِنْ ثِقَلِ الزَّمَنِ والمَلَلِ، فَهِيَ لَيْسَتْ مُجرَّد أداة للسُّكْرِ أو المُتعةِ الحِسِّية، بَلْ هِيَ رمزٌ للتَّحليقِ في فَضاءِ الإبداعِ، والانعتاقِ مِنَ الواقعِ المُبْتَذَلِ نَحْوَ عَالَمٍ أكثر صَفَاءً وَنَقَاءً. كَما تَرتبط الخَمْرُ في شِعْرِه بِفِكرةِ التَّمَرُّدِ على النِّظامِ الاجتماعيِّ والأخلاقيِّ، إذْ يَرى فيها وسيلةً للانفصالِ عَن المُجتمعِ البُرْجُوازيِّ الذي يَرفُض قِيَمَه المادية والسَّطْحية.

في فلسفته الشِّعْريةِ، تُمثِّل الخَمْرُ طريقًا نَحْوَ المُطْلَقِ الفَنِّي والرُّوحي، فَهُوَ يَرى أنَّ الإنسان يعيش في عَالَمٍ ناقصٍ وَمَلِيء بالبُؤْسِ والشَّقَاءِ والتَّعَاسةِ، وأنَّ الخَمْرَ تَمْنحه لَحْظَةً مُؤقَّتة مِنَ الكَمالِ والانسجامِ معَ الكَوْن. إنَّها رِحْلة آنِيَّة نَحْوَ السُّمُوِّ، يَستطيع الشاعرُ مِنْ خِلالِها أنْ يَقْترب مِنَ الجَمالِ المِثاليِّ الذي لا يَبْلُغُه في الواقع. وهَكذا، تَتحوَّل الخَمْرُ إلى رمزٍ للفَنِّ ذاتِه، لأنَّهما يَمْنحان الإنسانَ لَحْظةً مِنَ الخَلاصِ مِنْ عُبوديَّةِ الواقعِ.

يَرتبط وَصْفُ الخَمْرِ عِندَه بحالته النَّفْسِيَّةِ المُضْطَرِبَة، فَهُوَ يَعيشُ صِراعًا دائمًا بَيْنَ رَغْبته في الصُّعودِ الرُّوحيِّ وَسُقوطِهِ في عَبَثِ الواقع، وتُمثِّل الخَمْرُ بالنِّسْبَةِ إلَيْه حَلًّا مُؤقَّتًا للقلقِ الوُجوديِّ الذي يُعانيه، إذْ تَمْنحه شُعورًا زائفًا بالطُّمَأنينة، لكنَّها في الوَقْتِ نَفْسِه تُذكِّره بِزَيْفِ تِلْك الطُّمَأنينةِ وَزَوالِها السريع.

وَمِنْ هَذا المَنظورِ، تَظهَر الخَمْرُ كَمِرْآةٍ لِتَمَزُّقِ ذاتِ الشاعرِ بَيْنَ الحُلْمِ والهاوية، بَيْنَ النَّشْوَةِ واليأسِ، في صُورةٍ فَنِّية تُعبِّر عَن التناقضِ الإنسانيِّ العميق. وَهُوَ يَرى في الخَمْرِ تَجْسيدًا لحالةِ الشاعرِ ذَاتِه، فَكَمَا يَسْكَر الإنسانُ بالخَمْرِ لِيَهْرُبَ مِنْ واقعِه، يَسْكَر الشاعرُ بالشِّعْرِ لِيَتَحَرَّرَ مِنَ العَالَمِ العاديِّ، وَيَصْنَعَ عَالَمَه الخاص.

تُشكِّل الخَمْرُ في الشِّعْرِ العربيِّ والغَربيِّ رمزًا مُركَّبًا تَتداخل فيه اللذةُ والتَّمَرُّدُ والبحثُ عَن الخَلاص. وإذا كانَ أبو نُوَاس جَعَلَ مِنَ الخَمْرِ أداةً للتَّمَرُّدِ على القِيَمِ الدِّينية والاجتماعيةِ في العَصْرِ العَبَّاسِيِّ، فإنَّ بودلير جَعَلَ مِنها وسيلةً للهُروبِ مِنْ عَبثيةِ الواقعِ والاغترابِ الوُجوديِّ.

رَغْمَ المَسافةِ الزمنيةِ والثقافية، يَشترك أبو نُوَاس وبودلير في جَعْلِ الخَمْرِ أداةً للحُرِّيةِ والتَّحَرُّرِ، الأوَّل مِنْ سُلْطَةِ الدِّينِ والمُجتمعِ، والثاني مِنْ ثِقَلِ الوُجودِ والزمنِ. لكنَّ الاختلافَ الجَوهريَّ أنَّ خَمْرَ أبي نُوَاس احتفالٌ بالحَياة، بَيْنَما خَمْر بودلير هُروب مِنَ الحَياة.

***

إبراهيم أبو عواد / كاتب من الأردن

يُعد الشعر المعاصر مساحة للتعبير عن تجربة الذات الإنسانية في مواجهة الزمن، الغياب، الألم، والحنين.

تقدم الشاعرة هيلانة عطالله في قصيدتها "ضوءٌ لا يشبه الفجر" نموذجاً للشعر العربي الحديث الذي يمزج بين التجربة الذاتية العاطفية، الرمز النفسي، والبعد الروحي، ليكشف عن عالم داخلي غني بالنبض الشعوري والرمزي.

تهدف هذه الدراسة إلى تحليل النص بطريقة موسعة، باستخدام:

1. المنهج الهيرمينوطيقي التأويلي لفهم المعاني الضمنية للنص.

2. المنهج الأسلوبي والرمزي لدراسة الصور والاستعارات والتكرارات.

3. المنهج السيميائي وفق غريماس لاستخراج أدوار الفاعل، المفعول، المرسل، المتلقي.

4. تحليل البنى النفسية والدينية والجمالية.

5. مقارنة النص على المستويات الانفعالية، التخيلية، العضوية، واللغوية.

الفصل الأول: التحليل الهيرمينوطيقي التأويلي

1. الليل والضوء:

تبدأ القصيدة بـ: "في عمق الليل، يلوح ضوءٌ خفيف"

١- الليل: يمثل الانعزال النفسي والمرحلة التأملية التي يعيشها الفرد.

٢- الضوء: رمز الأمل، الذاكرة، أثر التجربة الإنسانية السابقة.

٣- التباين بين الليل والضوء يعكس التوتر الشعوري بين الغياب والوجود، الظلام والنور.

2. أثر الماضي' تقول الشاعرة هيلانة عطاالله:

"ربما هو أثر يدٍ مرّت على القلب يومًا ثم مضت"

يشير هذا النص إلى الذاكرة المتجسدة في الجسد والنفس.

يمثل الماضي كعنصر فعال في تشكيل الوعي الحالي، رغم مرور الزمن.

3. العودة كتصالح نفسي،تقول :

"العودة ليست طريقاً نُسافر فيه... وإنما أن نهدأ في حضن عزلتنا"

العودة هنا ليست مكاناً، بل حالة نفسية ومعرفية للسلام الداخلي وإعادة بناء الذات.

يظهر تصالح الشاعرة هيلانة عطا الله وجعها دون استسلام للألم.

الفصل الثاني: التحليل الأسلوبي والرمزي:

1. الرموز البارزة:

الرمز الدلالة.

١- الضوء الأمل، الذاكرة، أثر التجربة الإنسانية

٢- الليل الغموض، الانعزال، التأمل

العودة السلام النفسي، تصالح الذات

الهواء التجدد، استعادة الحيوية بعد غياب

2. الأسلوبية:

١- تراكيب قصيرة: تخلق إيقاعًا داخليًا متدرجًا.

٢- التكرار في كلمة "العودة": يبرز محور النص النفسي والمعرفي.

٣- الصور مكثفة: تمزج بين الرمز والواقع بطريقة تشعر القارئ بالسكينة والحنين.

الفصل الثالث: التحليل السيميائي وفق غريماس

1. أدوار الشخصيات داخل النص

الدور النص الوظيفة الدلالية:

١- الفاعل الذات/النفس منسج التجربة الداخلية

٢- المفعول القلب/الروح استقبال أثر الماضي والعاطفة

٣- المرسل الشاعرة/الوعي الراوي نقل التجربة والتأمل للقارئ

المتلقي القارئ/الوعي المشترك المشاركة في التجربة الشعورية

الأداة اللغة، الصور، الضوء، الليل نقل المعنى النفسي والرمزي

٤- الهدف إعادة التوازن النفسي، إدراك الذات الغاية الإنسانية والروحية للنص.

2. تحليل الوظائف السيميائية:

١- الإرسال والاستقبال: النص يرسل مشاعر وتأملات الذات للقارئ، وتستقبل النفس القارئ تجربة التأمل والتصالح.

٢- المفعولية: الصور الرمزية تخلق انعكاساً وجدانياً لدى القارئ.

الفصل الرابع: البنى النفسية والدينية

١- البنى النفسية: النص يكشف عن صراع داخلي هادئ، ويبرز تجربة الألم والحنين والتصالح النفسي.

٢- البنى الدينية والروحية، تقول:

"الأرواح لا تموت من الانتظار" → تأمل في البقاء واستمرارية الروح.

العودة: رمزية صوفية للتأمل والسلام الداخلي.

النص يعكس وعياً نفسياً وروحياً متوازناً بين الفقد والاستمرارية.

الفصل الخامس: المستوى الجمالي والوطني.

جمالية النص تكمن في:

1. الصور المكثفة واللغة المدروسة بعناية.

2. الإيقاع النفسي الداخلي الذي يخلق انسيابًا شعوريًا متدرجًا.

البعد الوطني/الإنساني: النص يعكس تجربة الإنسان العربي في مواجهة الغياب، الألم، انتظار الذات.

الفصل السادس: مقارنة المستويات التحليلية

المستوى التحليل:

١- الانفعالي إثارة الحنين والسكينة، التصالح مع النفس

٢- التخييلي بناء فضاء شعوري متخيّل بين الليل والضوء

٣- العضوي استجابات جسدية للقارئ (تنفس، إحساس بالهدوء)

اللغوي تراكيب مختصرة، تكرار مفتاحي، أسلوب مكثف ومتوازن

الفصل السابع: تفسير المفردات المفتاحية

المفردة التفسير:

١-الضوء أثر التجربة الإنسانية، الأمل، الذاكرة

٢-الليل الانعزال النفسي، الغموض، التأمل

٣-العودة السلام الداخلي، تصالح الذات، إدراك الذات

٤-الهواء التجدد، استعادة الحيوية بعد الغياب

الفصل الثامن: قراءة في الأنساق المعرفية

النص يربط بين الخبرة الفردية والوعي الجمعي.

تحويل الألم والغياب إلى تجربة معرفية وجمالية.

الصور الرمزية (الضوء، الليل، العودة) تعمل كمؤشرات لتفعيل الوعي الذاتي والوجدان الجمعي.

الفصل التاسع: الخاتمة

قصيدة "ضوءٌ لا يشبه الفجر" للشاعرة السورية هيلانة عطا الله تمثل نموذجاً للشعر العربي المعاصر الذي يدمج بين:

1. التأمل النفسي العميق.

2. الرمزية الجمالية والروحية.

3. البنية السيميائية المتكاملة وفق غريماس.

4. اللغة المكثفة والمدروسة بعناية.

القصيدة تفتح آفاقًا معرفية وانفعالية، وتعيد بناء الذات من خلال التأمل والذاكرة والوعي بالوجع والعودة إلى السلام الداخلي، لتكون شهادة على قدرة الشعر على الجمع بين الجمال والمعنى، الذات والعالم، الألم والأمل.

***

بقلم: عماد خالد رحمة - برلين

........................

هيلانة عطا الله

ضوءٌ لا يشبه الفجر

في عمقِ الليل،

يلوحُ ضوءٌ خفيف.

لا يشبهُ الفجر،

ولا مصابيحَ الطرقات.

ضوءٌ بلا إعلان،

يمرُّ من ناحيةٍ

نسينا أنّ للنفس بابًا إليها.

ربما هو أثرُ يدٍ

مرّت على القلبِ يومًا

ثم مضت،

وظلَّ القلبُ

يحتفظُ بحرارتِها .

نتأملُهُ بسكينةٍ كنا قد نسيناها

فنتنفّسُ

كما لو أن الهواءَ كان مهاجراً،

وها هو يعود.

الأرواحُ لا تموتُ من الانتظار.

هي فقط

تنكمش قليلاً

لتتّسع حين يحين وقتها.

والعودة

ليست طريقًا نُسافرُ فيه،

ولا بابًا نطرقه،

ولا يدًا نمسكُها خوفًا من الفقد.

العودة

أن نهدأ

في حضنِ عزلتِنا ونقول:

ها أنا قد عرفتُ الوجعَ

لكنه لم يكسرْني،

لم أرحل .

كلُّ ما في الأمر

أنني

كنتُ أتذكّر الطريق.

 

لا زلت أأكد بأن النقد الأدبي يجب أن لا يقتصر على الأدباء المشهورين فحسب، بل يجب أن يتجه إلى تلك الأقلام الشابة التي تبحث لها عن موقف أو محط قدم في الساحة الأدبيّة، وهنا يأتي دور الناقد الأدبي العضوي في تسليط الضوء على مثل هؤلاء، فهم في المحصلة سر استمراريّة الأدب ونسغ الحياة فيه. والشاعرة "سهام السعيد" هي من هؤلاء الأدباء الشباب الذين يبحثون عن بقعة ضوء لإبداعاتهم.

الشاعرة "سهام" التي تشبعت بحس وطني عال، وعشق لوطنها، تجذر في أعماق قلبها ونسيج عواطفها، وراح يشكل حيزاً واسعاّ من وعيها وثقافتها، تعاتب وطنها سوريا الذي كانت تجد فيه قبل الأزمة المأساة التي حلت به في العقدين الآخرين الأمن والاستقرار ودفء الروح وآمل المستقبل... قائلة له بعد أن حل به الدمار وعمّ الفساد وانتشر الفقر والجوع والتشرد والهجرة:

لا... أنت لم تعد وطني الذي ترعرعت فيه ووجدت ذاتي وانتمائي وأمني واستقراري، لأنك لم تستطع الحفاظ على عهدك بأن تكون وطن الأمن والأمان، والاستقرار ولم تعد تستطيع أن تأمن لنا لقمة العيش، وبالتالي أنت لم تعد قدري الذي عليّ أن أنفذ طواعية ما تأمرني به.. لأنك تركت قلبي سائباَ يعصره ألم ما حل به، ولم تعد قادراً أن تسيجه بأسوار الحب والدفء والحنان.

لا.. أنت لست وطناً

لأنك

لم تحسن العزف

على أوتاري

لأنك لست قدراً

تلزمني به أقداري...

لست وطناّ لأنك

لم تقيّد نبض قلبي

بالأسوار.

نعم أنت اليوم وطن الخراب والدمار والفساد. أما وطني الذي عرفته وترعرعت فيه، فهو شلال من العشق يرفض علي بالضرورة أن أحبه وأضحي من أجله، ها أنت اليوم تبكيني، وتمزق كل أحلامي وآمالي.. ومع كل ذلك لا أستطيع التخلي عنك رغم كل ما حل بي من محن.. تعال وكن كطائر الفينيق... وعلمني من جديد كيف أعشق أرضك، وكيف أقاوم بالبارود والنار من نالوا من هيبتك وكرامتك، علمني كيف أكون جنديّاً ثائرا يجيد الدفاع عنك وعني معاً. تقول:

أنا وطني شلال عشق

يُلزمني الحب بالإجبار

أنا وطني أبكاني عليه

ومزق خيمة أمطاري

علمني كيف أعشق أرضه

دربني كيف أسحق من وقف ضده

بالبارود وبالنار...

جبار وطني جندني

وزرعني في صف

الثوار...

نعم ..علمني يا وطني كيف أحب، وكيف أغار عليك من طعنات الغدر وأواجه كل أساطيل قوى الشر التي راحت تحاصرك في البر والبحر. تخاطبه:

أنا وطني

علمني كيف أحب

وكيف أغار عليه

من طعنات الغدار...

أسطولاً أصبح يأسرني

يملك شطي وبحاري.

البنية الجماليّة والفنيّة في القصيدة:

الصورة في القصيدة:

يعود الاهتمام بالصورة بوصفها أداة الشاعر التي تحكم شخصيته الفنيّة في أداء التعبير من جهة، ومن جهة أخرى تعد مقياساً فنيّاً وشخصيّاً للمبدع الذي أنتجها. فهي المادة التي تتركب من اللغة بدلالاتها اللغويّة والموسيقيّة والتخيليّة، التي تجمع بين عناصر التشبيه و الاستعارة والكناية والتمثيل و حسن التعليل.

لقد شكلت الصورة عنصرًا بارزًا ومهمًّا في هذا النص الشعري، إذ لجأت الأديبة "سهام سعيد" إلى تغليف أفكار النص وتثبيتها في نفس وذهنية القارئ بالصور إلى جانب ارتباط اللفظ المعنى، وهذا ما أيقظ العواطف، في لغتها التصويريّة. لقد كانت الشاعرة أكثر قدرة على التعبير في بوحها من التقرير. وبالتالي كلما كان الأدب تعبيريًّا كانت الصور هي التي تتشكل في ذهن القارئ. أما حين يكون الأدب تقريريًّا فإن الأفكار تطغى على الصور.

لقد جاءت الصورة عندها جزئيّة ومباشرة ومشبعة بمفردات البلاغة من تشبيه واستعارة وكناية ومجاز: (لم تحسن العزف على أوتاري)، (لم تقيّد نبض قلبي بالأسوار)، (أنا وطني شلال عشق)، (ومزق خيمة امطاري).

ولكون الشاعرة استطاعت أن تجعل من تراسل صورها حكاية أو اقصوصة عتاب ورغبة في النهوض والتحدي، فقد أَلَفَتْ هذه الصور الجزئيّة مع بعضها نسيجاً حيّاً من الدلالات المتكاملة والمترابطة ليس مع بعضها فحسب، بل ومع مكونات وخلجات الشاعرة النفسيّة والفكريّة أيضاً لتصبح في الغالب صوراً جديدةً من نسج جديد، يتراءى فيها عالم الشاعرة الداخلي وارتباطه بعالمها الخارجي، الذي تدفقت عواطفها وأحاسيسها نحوه دون حساب من أجل الارتقاء به وتجاوز محنته.

هذا وقد تماها الخيال في قصيدة الشاعرة بالصورة والمجاز. فالخيال المعتمد على أساليب البيان من استعارة ومجاز وتشبيه، يفسِّر مدى ارتباط هذا الخيال بعواطف المتلقي والتأثير فيها من جهة، وبأسباب تجلي هذا الجمال وقدرته على إبراز المعاني في القصيدة وتوضيحها من جهة ثانية.. وبالتالي مدى قرب هذا الجمال ذاته وسرعة إدراكه من قبل المتلقي من جهة ثالثة.

النغم والايقاع في القصيدة:

لقد تمرد الشاعر المعاصر وخاصة شاعر قصيدة (النثر) على الوزن والقافية، ولجأ إلى التنويع في الصوت والنغم، وأصبح الاهتمام بالإيقاع الداخلي يزداد، لكونه أشمل من الوزن والقافيّة ويتعدى في الدلالة. وقد تطور الإيقاع فانتقل من نظام الصوت المتشابه، ومن نظام الوزن الصارم في الشعر إلى إيقاع جديد متحرر متسامح مع نفسه، ومن ثمة صار الصوت يؤدي دوراً بالغ الأهميّة في التأثير على المتلقي بما يحمل من خصوصيات في التنغيم والنبر والجهر والهمس عند الالقاء من جهة، ثم اعتماد الشاعر الحديث على الصورة بوصفها مطلباً يُفضي إلى موسيقى جديدة تُنغمها مشاعره وانفعالاته المرتبطة بالموقف من جهة ثانيّة، وهذا ما أعطى قيمة أكبر للإيقاع النفسي، وللنسق الكلامي، لا لصورة الوزن العروضي للبيت الشعري.

إن كل هذه المعطيات التي تمثله قصيدة النثر الحديثة نجدها في قصيدة " غربة الأوطان" للشاعرة "سهام السعيد. لقد استطاعت عبر كل الصور الحسيّة والتخيليّة التي وظفتها في النص الشعري، أن تمنح المتلقي من خلال ترابطها، وعمق دلالاتها وسهولة لغتها، وترابط الدال والمدلول فيها أن يحقق رتماً موسيقياً داخلياً لنصها كاد أن يعوض ما فقده النص من وزن وقافية. تقول الشاعرة: (أنا وطني شلال عشق .. يُلزمني الحب بالإجبار...أنا وطني أبكاني عليه ومزق خيمة امطاري.. علمني كيف أعشق أرضه...دربني كيف أسحق ضده بالبارود وبالنار...). فبهذه الانسيابيّة في تلاحق الصور بكل جماليتها ومصداقيتها، يشعر المتلقي بشفافيّة الرتم الموسيقي في هذه الصور وما تحمله من مواقف تهز وتحرك خوالج الروح والجسد معا. لقد استطاعت الشاعرة عبر كل الصور الحسيّة والتخيليّة وقافية (السجع) التي وظفتها في النص الشعري، أن تمنح المتلقي من خلال ترابطها، وعمق دلالاتها وجماليّة لغتها، وترابط الدال والمدلول فيها، أن تحقق رتماً موسيقياً داخلياً لنصها كاد أن يعوض ما فقده النص من وزن، أو موسيقى خارجيّة.

العاطفة في القصيدة:

العاطفة هي الانفعال النفسي المصاحب للنص، وفي القصيدة نلمس بشكل واضح الانفعال الهادئً الايجابي المشبع بالإنسانيّة والأمل. كما نلمس في القصيدة جانباً واضحا يحمل هماً وطنيّاً وإنسانيّاً عاماً.. أما دوافع عاطفة الشاعرة فهي ضياع وطنها في حرب أهليّة طاحنة لم يسلم منها لا الحجر ولا البشر، والأهم انهيار قسم كبير من القيم الإنسانيّة العميقة والثابتة فيه، نعم هي عاطفة جياشة، تحمل هماً فرديّا في مضمونها إلا أنه هم إنساني عام في دلالاته.

لغة القصيدة:

لقد توشحت لغة القصيدة بالسماحة والسهولة والترابط والسبك والعذوبة والنعومة والرقة والشفافيّة. والأهم أنها كانت لفةً فصيحةً بسيطةً في الظاهر، وهذا ما يجعل المتلقي يشعر بأنها لغته هو التي يعبر فيها عن آماله وطموحاته ومعاناته، بيد أنها ليست لغة تقريريّة. إن حسن اللفظ في القصيدة حقق إلى جانب كل سماتها التي أشرنا إليها، رنتها الموسيقية اللذيذة في الأذن أيضاً، فكانت اللفظة الواحدة منسجمة مع بقية أجزاء الكلام، وهنا يكمن سر غرابة السبك وبراعة الصياغة وفن التعبير.

***

د. عنان عويّد

كاتب وباحث وناقد أدبي من سوريا

........................

(غربة الأوطان)

بقلم: الشاعرة سهام السعيد

***

لا.. أنت لست وطناً

لأنك

لم تحسن العزف

على أوتاري

لأنك لست قدراً

تلزمني به أقداري...

لست وطناّ لأنك

لم تقيّد نبض قلبي

بالأسوار.

أنا وطني شلال عشق

يُلزمني الحب بالإجبار

أنا وطني أبكاني عليه

ومزق خيمة أمطاري

علمني كيف أعشق أرضه

دربني كيف أسحق من وقف ضده

بالبارود وبالنار...

جبار وطني جندني

وزرعني في صف

الثوار...

أنا وطني

علمني كيف أحب

وكيف أغار عليه

من طعنات الغدار...

أسطولاً أصبح يأسرني

يملك شطي وبحاري.

 

يمثل النص السردي بعنوان " أحز رقبة الوقت" نموذجًا بارزًا للكتابة الشعرية-السردية المعاصرة، حيث يلتقي الشعر بالقصّ، والخيال بالانفعال، في فضاء مفتوح من الرمزية والوجودية والتأمل النفسي. ينحو النص نحو الاستكشاف الدقيق لذوات متعددة متشابكة، سواء في المقام النفسي أو الروحي، مستفيدًا من تقنيات اللعب بالزمن والفضاء والرموز. تكمن أهمية التحليل في كشف ما وراء النص من دفقات انفعالية، وأنساق معرفية، وأدوار فاعلية تهيمن على أحداثه.

1. التحليل الهيرمينوطيقي التأويلي:

أ. التفسير العام:

النص يطرح صورة الذات في مواجهة الزمن والفراغ والوجود. الرمز المركزي هو "البالون والخيط"، كدلالة على رغبة الإنسان في الإمساك بالزمن أو بتجربة الانفعال، لكنه يظل متفلتًا، ما يكرس حالة من السعي اللا متناهية والحيرة الوجودية.

ب. التوتر النفسي:

"أزعلُ وأركضُ وراء الخيط": انفعال متكرر، يدل على الصراع بين الرغبة والقدرة، الرمز هنا يشي بالتحكم والتلاعب بالواقع.

- القطّ الصامت: رمز للوعي العميق أو الذات المستترة، يمثل المرشد أو الشاهد على الفوضى الداخلية للمتكلمة.

ج. الرموز البارزة:

١-:الإبرة: رمز دقيق للحدث الصغير المؤثر، أو لمعاناة النفس الدقيقة.

٢- الظلّهيرة/النهار/الليل: تمثل التغيرات المزاجية والانفعالية، مع دلالة على مرور الزمن.

٣- العصفور الأزرق والريشة: رموز الحرية، الانتقال الروحي، وأحيانًا المكيدة أو الخديعة في إطار المخيلة.

2. التحليل الأسلوبي:

أ. السرد والصياغة:

النص يتميز بأسلوب متقطع، متسارع أحيانًا وبطيء أحيانًا أخرى، مما يعكس الحالة الانفعالية للذات. التكرار مثل "أضحك.. وأضحك" يوحي بمحاولة استقرار نفسي، والتكرار أداة إيقاعية تعكس حالة الانسداد أو التأمل العميق.

ب. اللغة والتعبير:

١- اللغة غنية بالصور المبتكرة: "رأسي المرفوع إلى فوق محطة رصد"، "القطّ كلّه كتلة مخفية الملامح".

٢- استخدام الاستعارات: "النهار كله.. والليل كله.. فرصة كأداء تتمطّى في الظّهيرة" يشير إلى تحولات داخلية ومعرفية، واستعمال كلمة "أداء" يعطي بعدًا فلسفيًا يرتبط بالفعل والمعنى.

3. التحليل الرمزي:

١- الخيط/البالون: الرغبة في الإمساك بالحياة، سعي النفس وراء لحظة متقلبة.

٢-:القطّ: الوعي أو النفس اللاواعية، مراقب للصراعات الداخلية.

٣- الإبرة: الخطر أو الألم الخفي.

٤- النهار/الليل/الظّهيرة: تمثيل مراحل الوعي، والتغيير المزاجي، والانفصال عن الواقع.

٥- العصفور الأزرق: رمز التطلع والحرية، لكنه أيضًا عنصر المخاطرة.

4. تحليل السيميائية (تطبيق نموذج غريماس).

المحور الشخصية / الدور الدلالة:

١- الفاعل المتكلمة / الذات الرغبة في السيطرة على الواقع الداخلي والخارجي

٢- المفعول الخيط/البالون، القطّ، الإبرة الأهداف أو الأشياء التي تؤثر في الذات

٣- المرسل النص / الوعي الشعري إيصال التوتر النفسي، الحالة الانفعالية

٤- المتلقي القارئ / الذات الواعية استقبال الرموز، التفكّر في الانفعال

المساعد الفضاء الداخلي (الصالون، الغرفة) تشكيل الحيز الرمزي للصراع الداخلي

٥- المعوق الفوضى، الغياب، الفراغ عناصر تعطل التوازن النفسي

5. قراءة الأنساق المعرفية:

النص يدمج بين: الوعي النفسي: التعبير عن العواطف الداخلية المتقلبة.

١- الوعي الرمزي: استخدام رموز واضحة للتعبير عن مفاهيم الوجود، الزمن، الحرية.

٢- الوعي المعرفي: استحضار العمليات العقلية، مثل التفكير في الأشياء اليومية (المطبخ، القهوة، الكهرباء).

6. مقارنة المستويات:

المستوى الملاحظات

الانفعالي الغضب، الحزن، اللعب، الفزع، السعادة العابرة

التخييلي الرموز (القط، العصفور، الخيط)، الصور الخيالية المتغيرة باستمرار

العضوي حركات الجسد، التنفس، التمدد، المشي، الضحك

اللغوي تكرار الجمل، الجمل القصيرة، الاستفهام الداخلي، اللعب بالعلامات الإيقاعية

7. الخلاصة:

النص يمثل تجربة شعورية ومعرفية مركّبة، تجمع بين الواقع الداخلي والخارجي، بين الفعل والرمز، بين الانفعال والحلم. ويتيح القارئ الغوص في مستويات متعددة من الخبرة الإنسانية، إذ يفتح الباب للتأمل في الزمن، الهوية، الحواس، والانفعال. استخدام أيمن معروف للرموز اليومية المرتبطة بالعالم الداخلي يشكل نصًا متعدد الطبقات، يمكن قراءته من مناهج متعددة: النفسية، الفلسفية، والجمالية.

***

بقلم: عماد خالد رحمة - برلين

......................

أحزُّ رَقَبَةَ الوقتِ..

بقلم: أيمن معروف

أرمي بالوني في هذا الفراغ.. وأركض.

*

يفلتُ الخيطُ من يدي.

أزعلُ، وأركضُ وراءَ الخيطِ. يضحكُ الخيطُ ويركضُ، وأنا أركضُ وراءَهُ وأبكي. يعلو الخيطُ ويهبطُ.. يهبطُ ويعلو.. وأنا ألهثُ وأنطّ.

رأسي المرفوعُ إلى فوقٍ محطةُ رصدٍ.. ويداي شبكةُ صيد.

*

يتهادى الخيطُ ويهبطُ..

يهبطُ بالوني.. يهبط.. يهبط.. فأثبُ عليه.. أثبُ عليه وأخطفه بين أحضاني مثل نورسٍ ضالّ.

*

على الكنبةِ في الصالونِ، القطُّ طوالَ الليلِ يموء.

ألتفتُ. أُطفئُ الضوءَ الجانبيَّ وأدعُ العتمةَ كلّها للقطِّ، وأنا أدخلُ أحراشي الملبّدة، أفسّرُ سيكولوجيَّتي الخاصَّة، وعيني على القطِّ.

*

القطُّ صامتٌ كالكنبةِ. الكنبةُ سوداء كالليلِ.

أفركُ عيني.. أُشعلُ ضوءًا.. أتمطّى، أتحسَّسُ حنجرتي.. وألعن التدخين. أُجْهِزُ على الخفِّ تحت الطاولة.. أنتعلُه بعصبيةٍ وأتجهُ صوبَ المغسلة. أفتحُ الحنفيةَ وأغلقُها. أتجهُ صوبَ الغاز في المطبخ، أضعُ دلّةَ القهوة على الغاز. لا أريدُ القهوة.. أفكّرُ بالشاي. الشايُ نفدَ البارحةَ.. والقهوة كذلك.. الغازُ انتهى. أذهبُ إلى الصالون.. أفتحُ المذياع. الكهرباءُ مقطوعةٌ أيضًا.

جَهْجَهَةُ الفجرِ تتسرَّبُ من شقوقِ الباب. على الكنبةِ في الصالون، القطُّ صامتٌ.. طوالَ الليلِ يموء. أجلسُ على كنبةٍ مجاورةٍ وأتطلّعُ في القطِّ. رأسُهُ ممدودٌ على شكلِ كرةٍ بيضويةٍ موضوعةٍ إلى جانب الذيل. الذيلُ ملفوفٌ كعشٍّ. القطُّ كلُّهُ كتلةٌ مخفيةُ الملامح. آخُذُ شهيقًا.. تحرجُني حنجرتي، فأسعلُ. يفزعُ القطُّ.. يفتحُ عينَيْه بنعاسٍ، يموءُ ويتفَرَّسُ في وجهي، يتمطّى. يقفزُ عن الكنبةِ ويتجهُ نحو السرير، وأنا أبقى صامتةً على الكنبة، في الصالون.

*

ذلك الصباحُ كلّه ذهب في التلألؤ والفكرة..

وأنا محاطةٌ بالكوابيس وخيوط الذّهب. أنقرُ على خشبِ الكنبةِ.. وأدندنُ بتفاهةٍ.. وأحيانًا أموءُ كقطّ. أعثرُ دون قصدٍ على إبرةٍ في كومةِ الصمت قرب الباب. أمدُّ يدي وألتقطُها. أضحكُ من لَقِيّةِ الصباحِ.. إبرةٌ في فراغ. أُمرّنُ نفسي على هذا الهُراء المُقَطَّن.. ثم أتعلمُ هذا القليل من الهواءِ الذي يتصادفُ مع تكّة الباب كما أتعلمُ حياكةَ جوربي في الظلام، لإيماني أنّ الضوء لا يقول لنا أشياءً مهمةً عن اللمعان، كما هو التاريخ لا يقول لنا أشياءً مهمة عن التراب.

*

تسقطُ الإبرةُ من يدي على البلاط.. فأسمعُ رنينَها الغامق الذي مازال يلسع جسمي كوخز الإبر. ينفرطُ المكانُ القليل ويتعدّد.. فأتهدّم في انفراط المكان.. وأصفن.

*

الجداريّةُ المائلة على الحائطِ مائلةٌ بشكلٍ صحيح.

أخمنُ البرتقالةَ التي في يد المرأة كناريًّا يُعشِّشُ في فضاء الكف، بينما تتوزع باقي اللوحة مساحات من ألوان مركّبةٍ تتخلّلها دروبٌ ملبّدةٌ بالحصى.

*

كلّ ذلك الصباح ذهب في التلألؤ والفكرة، وأنا مقرفصةٌ وسط الغرفة مكتظّة وكظيمة، بينما الظّهيرة تلوحُ، وهي تسيلُ أسيانةً مثل نمر.

*

ما الذي جاء بي إلى هنا كي أشعلَ سيجارةً في فم الوجود وألعبَ النّرد مع هذه الكائنات؟

*

البيتُ عشُّ ضباع، والبابُ مؤامرة.

أرمي العلبَ الفارغة في نهار الناس ولا أغلق باب المصادفة على الليل. لي الظّهيرة كلها تتعقّبني أسيانةً. ذبابةٌ زرقاء تطنُّ في هذا الفراغ مثل بارجةٍ حربيةٍ في البحر الميت. أعلقُ خرزةً زرقاء على باب الوقت، ثم أقلب الحصى تحت بيارق الظّهيرة، التي تسيل.

*

أدْعَكُ جسدي مثل قطة.. وأضحك.

أقبضُ على مزلاج الباب.. وأضحك. لا بدَّ من الضحك في الليل أو النهار.. لا بدَّ من الضحك.

*

الضحك.. فنجانُ قهوةٍ في الصباح الملبّد كأحجية.

أضحك.. وإذا كان ثمّة حمّى أصفع النافذة وأركن، لطلّة النسيم.

*

ما شأني بالمؤامرة والباب.. أنسى.

ما شأني بالبيت وعش الضباع.. أتخلّى. لا أدخل.. ولا أخرج.. وإذا كان ثمّة دخول، أسمّي البيت – الظّهيرة – عش دبابير.. وأضحك. وإذا كان ثمّة خروج، أسمّي الباب – المؤامرة – فرصة.. وأخرج.

أبدأ يومي هكذا، من الإفاقة حتى النوم. أجعل صباحي طريًّا وناعماً وأملس، ثم أنزلق فيه كحلزونة.. وأضحك.

لا بدَّ من الضحك..

الضحك.. فنجان قهوة.

*

غريبٌ، هو الضحك.

إيه.. إيه.. غريبٌ هذا الفراغ الذي هو رأس أفعى.

*

غريب، أعطيه ولا يأخذ. أنام قاتمة.. وأفيق قاتمةً في الفراغ.

ترنّ بوالين غريبة في الهواء. تصفرُ ريح.. ولا صوت. أسوّي مزاجي بضحكة، ولا أتعمّد قراءة العزلة. معرضةٌ نجوم الظّهيرة لشيء.. ومتروك بابي هكذا، في المشاع.

*

غريب.. تشرق شمس ولا لزوم لي. تغرب شمس ولا لزوم لي.

النهار كله.. والليل كله.. فرصةٌ كأداء تتمطّى في الظّهيرة. سأضع قبعةً على رأسي وأغيم..، قلت. لن أنتظر السماء حتى تهطل.. ولا الغيمة حتى تنزل إلى النهر. لا سماء.. ولا غيمة.. ولا نهر.. أو هطول.

*

الجحيم، التي في يدي، والجحيم الذي في الكلام سأهبُه المغفرة حتى يستقيم.

أرمي حجراً وأرسم دوائر كابية، ثم أركن للعصفور الأزرق وهو يتخبّط بين مسام الهواء ويخبط النافذة على الحافة. أضع ريشةً كالهنود الحمر وأكمن في دغْل اللحظة وفي السكون العميق، لا أخرّبش. أتنقل بخفّة طائر من كمين إلى كمين، وأنتظر. كم هو عمق الليل.. وكم هو قاعي. بين ركام الغبار المترسّب على الباب والمكدّس في غرفتي.. لا أقدر على التخمّن. أجلس على عشب الخرافة ويداي فوق رأسي كوسادة وأحدّق في مغاور الفضاء. يعبر شلح أزرق.. أظنّه الطائر في انتظار المكيدة. هكذا في الظّهيرة. الظّهيرة، الأسيانة، مثل نمر.

 

لا تأتي الحرب في نص (ساق تحدّق) للدكتور جمال العتابي كخلفية لأحداث متلاحقة، وإنما كقدر يتسرب إلى الجسد والوعي، كقوة جارفة تهز الكائن البشري في أعماقه قبل أن تحطم ملامح العالم الخارجي، فمنذ اللحظة الأولى، يُلقى بالقارئ مباشرة وسط أجواء تمتلئ بالدخان وصرخات الجرحى، حيث يتقاطع الرفض/ الوعي مع السلطة/ مشعلي الحروب، حين تتآكل الحدود بين الواجب العسكري الألزامي والصرخة الإنسانية التي لا تجد طريقها إلى النجاة.

ليست الشخصية الرئيسية (الطبيب طالب) بطلاً بالمعنى التقليدي للكلمة، بل هي وعي يقف على الحافة، بين قسمه الطبي الذي يربطه بالحياة، وبين مشاهد الموت التي تملأ الأفق بلا نهاية، فكل عملية بتر يجريها تتحول إلى سؤال، وكأن كل عضو يقطع يأخذ معه جزءاً من الروح والذاكرة (هذه ليست مجرّد ساق. إنها طريق، ذاكرة، خطوة أولى نحو بيت، أو نحو قبر) حيث لا نكون، وفي اللحظة التي تحدق فيها الساق المبتورة في وجه الطبيب، أمام تفصيل غرائبي عابر، بل أمام حقيقة ترى أن الجسد، وتلك الساق، ليس مادة صماء، بل تاريخ كامل من الخطوات والبيوت والأحلام، وأن ما يُفقد على الطاولة البيضاء لا يقل فداحة عما يسقط في ساحات القتال.

يبنى النص بلغة مشبعة بالصور الحسية، لغة تجعل القارئ يشم رائحة اللحم المحترق ويسمع صوت العظم وهو يُقص، ويرى العيون المفتوحة للأطراف المبتورة وهي تلاحق الطبيب في يقظته وكوابيسه، ليست هذه الحسية تزييناً، بل هي وسيلة للنفاذ إلى التجربة من داخلها، كما لو أن النص يريد أن يضع القارئ في صميم ما يعيشه أبطاله، حيث لا فاصل بين الدم والحبر، بين غرفة العمليات وليل الجندي الذي يصرخ في داخله دون أن يسمعه أحد.

تأخذ القصة شكل شظايا متفرقة، عمليات جراحية، مذكرات يكتبها الطبيب، أوراق مطوية في جيوب الجنود، كوابيس ليلية، أصوات تختلط بالظلام، وصية تُخط على جدار غرفة الأطباء، ولكن هذا التشظي لا يُعد خللاً، وإنما جزء من معنى النص نفسه، لأن الحرب لا تنتج حكايات متماسكة، بل تشظي الزمن إلى لحظات منفصلة، وهكذا تأتي القصة كأنها وعي، كذات مذهولة تلتقط ما يمكن التقاطه من معنى وسط الخراب.

ليست الساق في هذه القصة مجرد تفصيل جسدي، بل رمز للذاكرة (رجلي كانت أول مَن يدخل البيت. كنت أطأ بها تراب أهلي . تعرف الطريق… أكثر مما أعرفه)، فحين تُبتر، لا يُقطع عضو فقط، بل يُقطع تاريخ يرتبط بحياة الإنسان وصلته بها، وكأنه يطال شبكة كاملة من المعاني التي تكون وجود الإنسان، لهذا يهتز الطبيب كل مرة، لأنه لا يرى في العملية فعلاً جراحياً محايداً، بل قطيعة وجودية بين الكائن وجسده، بين حياته وما تبقى منها بعد فقدان جزء أساسي من كيانه.

لكن النص لا يتوقف عند صدمة البتر وحدها، بل يتعقب ارتداداتها في وعي الطبيب، في مذكراته وكوابيسه وسيجارته المشتعلة في الممرات المعتمة، في الأصوات التي تخرج من الأطراف المبتورة، والورقة التي تقول "روحي لم تُبتر"، ووصية الطبيب التي تدعو إلى سؤال الجريح عما بقي فيه لا عما فُقد منه، هذه كلها تجعل القصة تتحول من حكاية حرب إلى تأمل في معنى الإنسان حين يُنتزع من جسده.

يبدو الطبيب ممزقاً بين وعيه المهني وارتباكه الداخلي، ففي كل مرة يخلع قفازيه ليكتب في دفتره أو ليطفئ سيجارته، يبدو كمن يحاول عبثاً أن يضع حداً لما يتسرب إليه من صور الدماء والأطراف المبتورة والعيون المفتوحة على الطاولات المعدنية الباردة، فعبارة (قلبي يُبتر مع كل عضو يُقطع) ليست جملة عابرة، بل صرخة وعي يكشف فيها أن الإنسان لا يمكن أن ينجو من الخراب، حتى لو وقف في صف الحياة.

عندما يقول الجندي ساخراً (خذوا الباقي... يمكن يصيروا شهداء قبلي) ليست سخرية مرة فقط، وإنما محاولة لمقاومة العبث، ولمواجهة ما لا يمكن احتماله، بلغة تحتفظ بآخر ما تبقى من إنسانية مهددة بالانطفاء، لكن الطبيب هنا لا يضحك، لأنه يعرف أن ما يُفقد ليس مجرد أعضاء، بل أجزاء من الذات، وأن النجاة التي يقدمها في مواجهة الحرب تأتي ناقصة، محملة بثمن لا يمكن استرداده.

تخلق البنية التي اعتمدها العتابي، بانتقالها بين المونولوجات الداخلية والمشاهد الحسية والوثائق الصغيرة، نصاً يبدو وكأنه يخرج من قلب التجربة، لا من خارجها، فلا مسافة آمنة هنا بين الراوي والحدث، بل انغمار كامل، يجعل القارئ يعيش حالات التمزق والقلق والكوابيس، ولهذا تظل القصة تدور في ذهن القارئ، لأنها لا تقدم خلاصاً ولا عزاءً، بل تكشف هشاشة العالم والإنسان في مواجهة حرب غاشمة تأكل كل شيء ولا تشبع.

لكن القصة تتركنا أمام أسئلة لا جواب لها، فماذا يبقى من الإنسان حين يُفقد جسده؟ هل يمكن للروح أن تظل متماسكة رغم التمزق المادي؟ هل تكفي الذاكرة أو الحلم أو اللغة لتعويض ما يسقط في الحرب؟ إذ تظل الأطراف المبتورة في الصناديق المعدنية، والطبيب يواصل تدوين ملاحظاته، والحرب تستمر، والجنود الذين نجوا يحملون في أجسادهم علامات الفقد التي لا تزول، ومع ذلك، ووسط هذا الخراب، تظل هناك أصوات تصرخ (روحي لم تُبتر)، وكأن الإنسان، رغم كل شيء، يبحث عن بقايا معنى لا تقوى الحرب على تمزيقه.

***

أمجد نجم الزيدي

 

تكون الذات عادة أسيرة العالم الذي يعوم حول الباث، وهي منفتحة بدرجات كبيرة ومساحة واسعة، فالباث المالك لهذه الذات لايشعر بأنّه ملكه، بل هي مسخّرة للتعبير والسفر خارج حدودها؛ فالشعرية وتقنيتها ليست محصورة بشكلها الأناي، وإنما هي انعكاس فعال بين الذات المالكة والجماعة التي حولها أو الطقوس المؤلمة والأوجاع المنتشرة في العالم. فجمالية الذات تظهر بين تكوينات التموضع النصّي للنصّ الشعري؛ وتسخير الذات خارج الأنا المخصخصة للذاتية الشخصية، فهنا تصبح الذات ذات تمليك خاص ولكنها لاتميل إلى الشاعر بقدر ميلها إلى الآخر من جهة وإلى عكس الوقائع والارتباطات الموضوعية مع الآخرين من جهة أخرى. لذلك فمهمة الذات التوظيف الآني بقدر كبير وليس الماضوي، وإن بحثت في الماضي فهي تبحث الآن بكلّ تأكيد. فعندما يكون النصّ الشعري خارج التفكّر، وهو في مناطق الـ فلاش باكية، تظهر الحالات الماضوية بشكلها الآني، لأنّ الذات تبحث عن الآن، وهي آنية قبل كل شيء، ولكن بترتيب زمني، ترتيب ذا علاقة مع الأفعال وتفاعلها، وعندما يزور الشاعر بعض الشرود الذهني، يعكس لنا حالته الشعرية بتواصلٍ خلاق، فيقودنا من الماضي إلى الحاضر.

لاتبحث الذات عن المعاني العادية بل تسافر إلى أبعاد أخرى؛ أبعاد ليست قريبة ومطروحة بالشكل اليومي المعتاد، بل المعاني غير المعروفة، والكلمات الغريبة غير المستهلكة؛ وقد عمل السرياليون بهذا الاتجاه، وها هو رامبو مثلا: " ليس الشعر إذن، في نظر رامبو، ولا في نظر تلامذته السرياليين، طريقة معرفة بالمعنى العادي للمعرفة. بل هو الطريق التي بقيت لنا كي نتعرف إلى الأساطير الإنسانية بوجوهها التي لاتحصى. وما دامت الأساطير شيئا غير معروف فإنّ الكلمات التي تحملها لايمكن أن تعرف كذلك (1)".

عند انتقال الذات العادية إلى ذات شاعرة من الطبيعي أن تنتقل معها الحسية الجمالية، أو توجد منافذ فعّالة تؤدي إلى العنصر الجمالي، فالذات الشاعرة تحمل من منظومة الدهشة بما لايقارن مع غيرها، ومنظومة الدهشة هي الجمالية بذاتها، إذن يصبح لدينا بالإضافة إلى البعد الذاتي الجمالي، البعد الجمالي الذاتي؛ من خلال تموضع الذات الجديدة والتي دائما يتمّ البحث عنها، وهنا تبدأ العلاقات مابين المتخيل " الذاتي " والذات الشاعرة (أو العاملة) الجديدة.

إنّ السعي إلى الإيمان الذاتي والبحث عن المعاني من خلالها ليس إلا بداية للحسية الجديدة التي تعلّقَ الباث بها وراح مع التنقيب عن مفهومية الآخر والتقرّب من الموضوعاتية المطروحة على مستوى الوعي اللغوي في النصّ الشعري، ومستوى الوعي الذاتي في التأسيس الجديد. فهناك المستوى الداخلي للذات والمستوى الخارجي؛ ففي المستوى الداخلي هناك الاستقلالية في اتخاذ قرار الـ " أنا " حيث تميل هذه الاستقلالية إلى معرفة الآخر من خلالها والولوج إلى تمثله من خلال الكلمة والعبارة في النصّ الشعري، وهذا مايحدث كثيرا حيث ترتد الـ " أنا " من المستوى الداخلي إلى المستوى الداخلي عند التفكير بالآخر واتخاذه كمصدر مهم في تمثيل أوجاعه أو محيطه أينما كان، فهو متآخ مع دواخل الشاعر، وهناك الكثير من المشاهد الشعرية الواضحة تبين هذا التحليق في النصّ الشعري. وأما المستوى الثاني فهو المستوى الخارجي، فهنا يتمّ نقل الحدث الخارجي بواسطة التصوير العيني " البصرية " والتي تشتغل من خلال الأنا المنفصلة عن الآخرين، وترسم مساحة جميلة بين المساحة الداخلية والمساحة الخارجية.

المشهد الشعري، لاشعوري تصويري، وعبارة عن ديناميكية خلاقة، حيث نذهب إلى اللامألوف بواسطة الجنون الخلاق، الذي يدفعنا أكثر وأكثر نحو الحرية وحرية اللاشعور. فأسبقية التركيب الرمزي هو كل حالة تركيبية رمزية على أساس تفكيري، وعلى حسية متجددة، مما تدعونا إلى حالة من تأصيل خيالي، وهناك دعوة تموضعية ضمن المنظور الرمزي؛ وهذه الدعوة تدفعنا أكثر ونحن في غرفة الخيال نحو التأسيس والخلق الشعري. ومن هنا ندخل الى طبيعة المرء السيكولوجية، والمحتاجة الى نقاط من الانطلاق نحو الذات العاملة من جهة (حيث تشكل لدينا طبيعة شعرية ضمن حسيّة جديدة) والمنظور الخارجي من جهة أخرى، والذي تديره العين ضمن التفكر الجديد. وهذا الدوران جعلنا ذو تبنّي لمواقف جديدة، فالرؤية تلتقط الجديد ولا حاجة لها بالأشياء المُلتقطة، فربما هي مترسبة في الذهنية، ويتم تحريكها من خلال رؤية خيالية داخلية جديدة، فتدفعنا إلى خيال جديد. " الصورة عند الرمزيين إفراز خيالي متوتر يجمع بين الانكشاف والتحجب، وبين الكيف الحسي للصور والدلالة الكلية المجردة، بين النسق المثالي الذي يحدده الخيال، والأساس المادي للتجربة وهو الذي تبدأ منه الصور(2)". وهذا مايقودنا إلى الغور البعيد نحو اللاشعور، والاعتناء بالمنطقتين الداخلية: البعد الحدسي، والخارجية مع البعد الخيالي؛ فالمنطقة الداخلية الذاتية تعتني بالاثر العميق، والمنطقة الخارجية تقودنا إلى رؤى خارجية لالتقاط الممكن منها ضمن المنظومة الخيالية.

نذهب وعلاقة الحالة الذاتية مع الحالتين النفسية والفكرية، وهي مكونات لصيرورة غير منتهية في الشعر الحديث، وقد ذهب السرياليون بقوة أكبر نحو الأشياء، فالعالم يعوم من حولنا يعوم ونحن ننظر إليه نظرات غارقة، ومن خلال هذه النظرات الغارقة ننزل إلى قاع البحر (ماهية الأشياء وما حولها) فكلّ شيء من حولنا، قد تكون هذه الاشياء تحمل معاني تافهة، وهي ليست تمثيلية قصوى، ولكنّها مهمة، فلا ينظر إليها كلّ مدقق، فالمسافر الذي يبحث عن غربة، قد يراه بعضنا موضوعا تافها، ولكنّه مهما، فقد ازداد العالم من حولنا معاناة جديدة لرجل من طراز جديد؛ أقول من طراز جديد لأنّه بحث في ذاته، واستجابت تلك الذات إلى رغبة المعاناة ورحلته الجديدة. " الشعر هو موقف ووجهة نظر نرنو من خلالها إلى الأشياء، الشعر هو في الأشياء وفي موقفنا من الأشياء. إنّه حالة نفسية وفكرية، أسلوب ما، في التعاطي مع العالم والحكم عليه وفهمه وتمثله. إلا أنّ هذه الحالة تكون مطمورة تحت ركام الحسّ ونفايات المنطق ولابدّ من تدريب الإنسان كي يستعيد تلك الحالة من جديد (3) ".

لاتقلّ ميزة المشهد الشعري عن قيمته الجمالية في التعبير اللاشعوري، فعند إحالة الذات من الداخل إلى الآخر، يكون قد تبرع بموقف كما يتبرع بزمرة دمه للآخر دون معرفة مسبقة؛ فجلّ ماتملكه المخيلة تاجها الجمالي، ليكون السلطان الأول لها وهي ترسم المعاني بشكل لغوي امتدادي لكي تطرب باب المتلقي، علما ما نزفته لايمثلها تماما، تذهب إلى بعد اقترابي في الزمنية النازفة.

في هذا الزمن الإشاري لاتحتاج الذات إلى معينات، فهي وحدة إشارية، أشارت إلى الآخر بواسطة المنظور النظري، مما استدعى استبدال الكلمات بكلمات أكثر إثارة لكي يضمن الباث براءة المشار إليه بواسطة الذات الكاشفة.

الخروج من الحسية الداخلية وإلى الحسية الخارجية، يعني أنّ هناك توظيفات جديدة مع كلّ مائدة خيالية يتم التعلق خلفها، وما تحوي تلك المائدة من ملذّات تبعث على الأريحية، وكذلك المشهد الشعري فإنّه يبعث على أريحية فكرية خارج التفكر، بل يقودنا إلى مزاج حيوي ويدفعنا إلى الشيئية خارج الأشياء. فالشاعر تزداد ألوان متعته من خلال الشيئية، لذلك لايقترب من الأشياء؛ فاللذة الجمالية، هي القيمة الذاتية والتي تدفع الشاعر إلى التمعن أكثر فأكثر والإبحار في الأشياء؛ فاللذة الانفرداية تنظر إلى الجسد بشكله الانفرادي، بينما اللذة الجماعية فهي من اللذات المشتبكة وعديدة التفردات ولايمكننا السيطرة عليها، فتتعدد من خلالها الذوات، وكلّ ذات تتعلق بلذة؛ ونبقى مع لذة التفرّد فهي الأقرب إلى الذات الشاعرة والتي تبحث عن القيمة الجمالية بين مشاهد النصوص، وتعلقها في الذائقة الشعرية.

يمثل اللاشعور قيمة، قيمة ديناميكية عند الوعي الكتابي؛ وقد ذهب فرويد مع هذه القيمة (في العلاج الإكلينيكي)؛ فالمحتويات المكبوتة تخرج وتصبح حالة من الوعي، وهنا تمثل قيمة من اللاشعور، فتظهر لدينا حالة من المقاومة الكتابية؛ وخصوصا أننا في الشعرية؛ وهذا يعني أن تشكل قيمة من الشعرية الفائضة أيضا عند التفكر اللاشعوري في حالة المقاومة الواعية من جهة وحالة النتاجات النفسية التي تمنحنا حبّ المقاومة والديمومة الكتابية بأحضان القصائدية من جهة أخرى. فاللاشعور عند الكتابة يتمظهر عند الشعور، وهو حالة من حالات النسيان في تصويب الزمكانية، فالنتاج الثقافي والأحلام كلها ملتويات إفرازية تخرج عند اللاشعور الكتابي.

إن التقديرات الجمالية من الأعمال الخلاقة؛ فالفنان عندما يجمع أعماله وأدواته وابتكاراته ويوظفها كعمل جمالي، فهذا العمل نعتبره ذا فكرة خلاقة، فقد رأى " هيغل " بأن الأعمال الجمالية يجب أن تكون أعمالا محسوسة، كالتمثال والأشياء في الطبيعة الحرة وغير ذلك، ولكن يرى غيره مايخالف ذلك، فالعمل الجميل عندما يغزو التوظيفات الشعرية عن طريق المسلك القصائدي وحالة الجنون الخلاقة التي تؤدي وتنفذ إلى النصوص الجمالية فهو لايعتمد المحسوسات المباشرة؛ بالعكس فإن الشاعر قد يبحث عن حسية جديدة، حسية تميل إلى الجمالية قبل كلّ شيء واتقانها بشكلها الجديد لكي تنبت المؤثرات الجمالية وتبرق كحالة لامثيل لها.

الأعمال التي تثير الحواس من جديد هي تلك الأعمال التي تتكئ على الحالة الجمالية بأفعال تفاعلية تحرّك النصّ الشعري وتجعل منه ايقونة فعالة؛ فإنّ كلّ عضو من أعضاء الإدراك الحسّي من الممكن أن يكون مادة للعمل الجمالي.

تتحمّل اللقطة البصرية البعد الجمالي الذي نقلته بوسيلة البصر، بينما تتحمل اللقطة الحسية البعد الجمالي الذي رُسم بوسيلة الحس؛ وفي اللقطتين يتباعد المنظور الجمالي، فكلما ابتعد المنظور قلـت الأخطاء المنظورة، وكذلك من الناحية الحسية كلما تعمقت الحسية في المنظور الشعري قلت الأخطاء المنظورة وانشغلت المشاهد بحركات الأفعال والجمل ومجاوراتها التي تقودنا إلى البعد الجمالي في النصّ الشعري؛ وهكذا يمتزج الجمال بواسطة الأشياء والألفاظ لإنتاج حالة من حالات ومسالك فريدة النوع في النصّ الشعري الحديث.

***

كتابة: علاء حمد

...........................

1- ص 64، عصر السريالية، والاس فاولي، ترجمة: خالدة سعيد، دار التكوين، سورية

2- ص 267، الخيال مفهوماته ووظائفه، د. عاطف جوده نصر

3-ص 234، الرمزية والسريالية في الشعر الغربي والعربي، إيليا الحاوي، دار الثقافة، بيروت

رواية المفكرة الشخصية وهستيريا الذاكرة الشخوصية

توطئة: عكست الخطابات الروائية المتمركزة على محور مركزية الأنا، ذلك الاختزال المفضفض في مسألة الابتعاد عن الحظوة الموضوعية، ما جعل مثل نموذج هذه الروايات ذا نزعة ذاتية ــ شخصية، ضيقة في آفاقها وتفاصيل مسرودها الذي يتركز غالبا في الحديث عن شواغل الذات وفضاءاتها المتوقفة على محاورات وتوصيفات وأفعال لا تتسع إلا لتشمل قوقعة الذات الراوية وهمومها وهواجسها الدانية.

ــ شواغل السرد في وقائع هامشية الحكي

يبدو للقارئ النخبوي (الناقد) أن محطات رواية (ساعة بغداد) هي ذلك النوع من الروايات الموغلة في هواجسها الآنوية والحسية الفجة التي لا تطال سوى الكلام عن أحوال ومواقف قامت كاتبتها باختزالها في شروط خاصة من الصناعة الشواهدية. إذ إنها لا تكترث سوى بما يجول في خواطرها من علاقات وصداقات وتفاعلات أواصرية مع وقائع ميدانية من زمن الأفعال السردية، بل هي لا تتعدى في وسائلها وفرضياتها الإنتاجية صورة فتاة تكتب عن يومياتها بطريقة بعيدة عن المخيلة المؤسسة على شروط إثراء النص وسمو الدلالات بما يتأتى من أفعال تقانية خاصة. أنا شخصيا حاولت غض النظر عن الكتابة حول هذه الرواية بعد الإفراغ من قراءتها ولكن ما أثارني حقا حجم الترويج والفبركة الإعلامية في حق هذه الرواية وصاحبتها معا، لذا قررت الكتابة عنها لغرض الكشف وتسليط الضوء على حجم المغالطات الشنيعة في مكونات هذه الرواية بوصفها فاعلا عن أفعال لها الأساس المنظوري في عملية البناء الروائي. بعد زمن قراءتنا لرواية شهد الرواي ــ ساعة بغداد ــ لم نكتشف بأن هناك من تجليات دينامية متبدية في عناصر الموضوعة الروائية، ناهيك عن سطحية آليات الحكاية وهدر خطابها في إنتاج علاقات أشبه ما تكون بالمذكرات أو اليوميات العادية والخالية من أية قيمة إنتاجية لتجربة رواية ما. ولو حاولنا نبين مستوى موضوعة الرواية لما وجدنا فيها سوى دلائل رابطة وشواهد مفعلة بين علاقة الشخصية المشاركة مع الجيران ومع صديقاتها المتشعبات بقصص العشق والمواعدة وسرقة القبلات في الشوارع الضيقة وبعض الحدائق: (عاشت نادية تفاصيل قصتنا، ولكنها كانت غير متحمسة، كانت تكرر أمامي بين مدة وأخرى جملة لا أحبها ولا أعرف كيف أرد عليها: ــ أنت تحبين فاروق أكثر من حبي لأحمد. / ص83 الرواية) على هذا النحو نتعرف على مواطن تشكل بذاتها ثلاثة أرباع السرد في الرواية، ومثلها ما كان مرتبطا بهجرة العوائل العراقية إلى خارج البلاد من جراء تزايد حجم الفاقة والعوز بين مستويات العوائل في الحي.

1ــ هوامش السرد وممكنات تفعيل الحضور النصي:

تفرض مظاهر الرواية منذ عتباتها الاستهلالية ذلك القصد التكويني الذي يشكل بذاته النظرة الأولى من قواسم الزمن السردي، حيث المادة السردية انسجاما واتساقا مع مستوى أحلام البطلة المشاركة عنصرا ساردا، إذ تسعى الراوية إلى تأسيس أشبه بمرحلة الأحداث الأولى من زمن انبناء النص كحال هذه الفقرات: (قبل أن أغمض عيني، رأيتها تبتسم وهي نائمة، تحرك شفتيها ببطء كأنها تتحدث مع نفسها. اقتربت منها وأنا مندهشة ووضعت وجهي مباشرة أمام وجهها، شاهدت أطيافا ملونة تتحرك حول جبينها، خيالات لم أر مثلها من قبل. / ص12 الرواية) الشخصية الساردة في الرواية تحفل بخلق عوالم حلمية خاصة في رؤية الأشياء عبر حدود وقائعها ومستوى تمثيلاتها في ذاتها التي تمتاز بإيراد الأسئلة والبحث في آفاقها الزمانية والمكانية، بلوغا نحو خيالات تتعلق بنمو بصيرة الشخصية أحيانا.

2ــ الزمن النذير في سرداب خيالات الضوء والظلام:

غالبا ما تراودنا تجليات الرؤية السردية في رواية (ساعة بغداد) من خلال عين التصورات المتواطنة في تفاصيل المشاهد البانورامية وامتداداتها المؤطرة بصوت وخطاب الراوي، لذا فإن أغلب الأفعال التي جاءت تحت سقف الملجأ كمأوى مفسحا المجال لتعالي موجات الظلام وتراقص أصيص ظلال الأجساد على رقع الجدران والمسافات القصيرة الفارغة بين عائلة وأخرى، لذا وجدنا الشخصية الساردة لها من حجم الرؤى ما تبلغ بها (رؤية جوانية ذاتية) أو ما يمكننا تسميته ب (الفاعل الداخلي). أي إن الساردة الشخصية ترى الأشياء أحيانا ضمن الفضاء الداخلي وتطرح مؤولات أخيلتها ضمن صورة متداخلة في مساحة مشهدية مؤطرة: (قبل أن أعود إلى مكاني ما، أشعل أحدهم سجارته بعود ثقاب، شاهدت ظلي يتحرك على الجدار ثم راح يكبر ويتمدد على سقف الملجأ ويتلاشى، بقيت واقفة في مكاني أفكر في ظلي... إلى أين ذهب في هذا الوقت؟! أين تختفي ظلالنا من هذه الحياة؟ هل أنا في الحقيقة ظل نفسي؟. / ص14 الرواية) سنلاحظ بأن هذه الشخصية هي من تولت في أغلب الأحيان تقنيتي (السرد ــ التبئير) لاسيما في حالة التماهي الكلية مع فواعل تقنية خاصة ك(رؤية برانية خارجية ــ رؤية برانية داخلية ــ رؤية جوانية داخلية) فالسارد الشخصية يرى السرد صورة تقف من خلالها تفاصيل الأشياء والأحوال، ويتبين من خلال وحدات أخرى في عملية السرد، بأن الساردة الشخصية: (في خيالي أعدت الناس الذين شاهدتهم في الملجأ إلى بيوتهم في شارعنا، رتبت تلك البيوت في خطوط مستقيمة ورسمت منها سفينة كبيرة تشبه المحلة التي ولدنا فيها، ثم رسمت دخانا أبيض يصعد ببطء نحو الغيوم. / ص17 الرواية). إن الكيفية التشكيلية للساردة الشخصية تمنحها حالات حلمية واقعة ما بين (محسوسية الرؤية ــ ذاتية الموضوعة) بلوغا نحو مفصليات أكثر تعلقا بحيوية مؤثرات الزمن والسفر من خلال حلم سفينة النجاة.

3ــ التخييل المفرط وأزدواجية الواقع:

لقد اعتمدت شهد الراوي في روايتها (ساعة بغداد) سطحين للسرد، أو مستويين: مستوى أول يجري في تقديم مادة الفتاة التي تدخل الأحلام، ورغم هشاشة هذا المستوى، غير إنه يجري في مواضع أكثر تناسبا وريشة الرسام، ومستوى ثان يكشف فيه عملية ما يخفيه المستوى الأول ببناء عوالم أكثر محكومية ببناء السرد والمسرود. تكشف وجوه الرواية عن شخصيات عديدة منها إجمالا الجيران الذين همو نصفهم بمغادرة الحي والآخرين الذين ينتظرون دورهم في عجلة الهجرة، كما ولا يخفى ظهور ذلك الرجل الكاشف للوقائع عن ظهر غيب فيما حولته الساردة الشخصية إلى فتاة ساحرة تماشيا مع نزوعاتها الحلمية والعاطفية.

ــ تعليق القراءة:

إن الطبيعة المزدوجة في رواية (ساعة بغداد) تمتلك بالتركيز موضوعة مزدوجة تحاكي صور الدمار والحرب حالات ومغامرات الحب والعشق في الأحداث وكأنها حلت كترنيمة في المزاوجة والطرح التناقضي: ولماذا كل هذه المغالاة في حب الصديقات ما يصل درجة العشق أحيانا؟ عموما أن الرواية محملة بخصائص الحالة الذاتية المفرطة ما جعل أحداثها تبدو وكأنها رواية المفكرة الشخصية التي توقع شخصيتها وشخوصها في هستيريا الصراع العاطفي والذاكراتي.

***

حيدر عبد الرضا

 

قراءة رمزية ونفسية في شعر العشق الكوني للشاعر وسيم الروسان

يظلّ الشعر، منذ فجر الوعي الإنساني، أداةً لاكتناه ما لا يمكن قوله، ومرآةً تنعكس عليها الأسئلة الكبرى التي تربك الوجدان والعقل معاً. ومن بين هذه الأسئلة، يبرز سؤال الحب والموت بوصفه جوهر التجربة الإنسانية وذروة تناقضها: فهل الحب انبثاق للحياة أم طريق إلى الفناء؟ وهل الموت نقيض الحب أم استمراره في صورة أخرى؟

في القصيدة موضوع الدراسة، نواجه نصاً يحتشد بالتوهج الوجداني والرمزية الكونية، حيث يمتزج الجسد بالروح، والعاطفة بالتأمل، والذات بالعالم. الشاعر هنا لا يكتب غزلاً تقليدياً، بل يؤسس ميتافيزيقا للعشق، تجعل من الحب معادلاً للوجود، ومن الفقد معادلًا للحقيقة.

وسأحاول في هذه القراءة أن أستعين بمناهج التحليل الرمزي والمنهج الأسلوبي والتحليل النفسي (اليونغي) والتأويل الهيرمينوطيقي لفهم البنية العميقة للنص من حيث الدلالة، والصورة، والمجاز، والإيقاع، والرمز، والبنية النفسية المتخفية خلف اللغة.

أولاً: جدلية الحب والموت – الوجود في انفتاحه وتناقضه

يفتتح الشاعر نصه بسؤالٍ وجوديٍّ لافت:

«أفي الموت حب كما في الحب موت؟!»

سؤال يختزل الفلسفة كلها في جدليتها الأبدية بين الكينونة والعدم. فالحب، كما يرى هيغل، ليس سوى “تلاشي الذات في الآخر”، أي موت رمزي يهب للحياة معناها الأسمى. أما الشاعر وسيم روسان فيجعل من الحب والموت توأمين متعانقين، إذ يكتشف أن كلاهما يقود إلى التجاوز، إلى عبور الذات نحو مطلقها.

إنه يتساءل، فيقول:

 «في كل درب وجدت الموت، ففي أي موت سأجد الحب؟!»

وهنا يتحول الموت إلى رمزٍ للتحول لا للفناء، كما في فلسفة نيتشه الذي يرى أن كل موت هو شرطٌ لحياة أعمق. الحب عند الشاعر الروسان ليس لذّة ولا عاطفة، بل قدر كونيّ، موتٌ من نوعٍ آخر يفضي إلى الولادة.

ثانياً: الحبيبة بوصفها رمزًا كونيًّا – الأنثى كمرآة الوجود

في المقاطع التالية، تتجلى الأنثى بوصفها صورةً كونية لا مجرد كائن بشري. فهي ضوء، وبحر، وسماء، ومطر، وياسمين، وموسيقى. يقول الشاعر وسيم الروسان:

 «لياسمين شفتيك رائحة الجنة، لتمور نهديك مذاق الأبدية»

هذه اللغة الغنية بالمجاز الحسيّ تجعل من الأنثى تجلّيًا للخصب الكوني، وهو ما يشبه تصوّر يونغ لـ “الأنيمـا” — أي الصورة الأنثوية الكامنة في لاوعي الرجل، التي تمثل بوابة الخلاص الروحي.

وهنا لا نرى حبًّا بشريًا فحسب، بل طقسًا مقدسًا للاتحاد بين الأضداد: بين البحر والعطش، بين النور والعتمة، بين الجسد والروح. الأنثى في النص ليست موضوعًا للرغبة بل وسيطٌ بين العالمين، بين المرئي والمتعالي، تمامًا كما في التجربة الصوفية عند ابن عربي الذي رأى في الأنثى مظهراً للحقيقة الإلهية.

ثالثاً: الرمز والإيقاع – الشعر كحركة تأملية للروح

من الناحية الأسلوبية، يتحرك النص بإيقاعٍ متدرجٍ بين الهمس والانفجار، بين الإقرار والدهشة. الجمل الشعرية قصيرة لكنها تنفتح على دلالات واسعة، تحاكي ما يسميه باشلار “إيقاع الحلم المائي”.

الصور الشعرية تنبثق من عناصر الطبيعة: البحر، المطر، النهر، الغزالة، المرآة، النور. وهذه العناصر تُعاد صياغتها كرموزٍ للذات الإنسانية وهي تبحث عن مركزها.

فعندما يقول الشاعر الروسان:

«هل القصيدة مرآة النهر الوحيدة؟!»

يضعنا أمام تساؤل ميتاشعري عميق، فالشعر ذاته يتحول إلى مرآة للمرآة، أي تأمل الوعي في ذاته، فيحاكي البنية التأويلية (الهيرمينوطيقية) التي لا تنتهي: المعنى يولّد معنى، والقصيدة تعكس ما لا يمكن القبض عليه.

رابعاً: البعد النفسي – من العشق إلى الوعي

من المنظور النفسي، يتبدى النص كتعبيرٍ عن رحلة الانصهار بالآخر. فالحب هنا وسيلة للمعرفة، والمرأة تصبح رمزاً للذات العليا التي يبحث عنها الشاعر في أعماقه.

تعبيراته مثل:

 «كنتِ أنت فكنتُ أنا»

تكشف ما يسميه كارل غوستاف يونغ بـ “الاندماج بالأنيما”، أي اتحاد الأنا بالظل الأنثوي في محاولة لبلوغ التكامل النفسي.

لكن هذا الاتحاد لا يخلو من الألم، لأن الشاعر يدرك أن الحب – كالموت – لا يمنح الخلاص إلا عبر الاحتراق الداخلي. لذا فإن النص كله يبدو مثل عملية تطهير نفسي، كما في التصور الفرويدي للحب كـ "استبدالٍ للغريزة العدوانية بطاقة الجمال".

خامساً: بين الحضور والغياب – الشعر كمسكن للروح.

ينتهي النص بلحظة انكشافٍ شديدة الحساسية، يقول:

«فأي بحر سيخبر عينيك أن تخففا عني وطأة الزمن؟!»

إنه سؤال الوعي بالزمن، بالهشاشة، وباستحالة الإمساك باللحظة. هنا يتحول الحب إلى ذاكرةٍ جمالية للوجود، وإلى مقاومة صامتة للفناء.

فالقصيدة ليست غزلاً، بل تأملٌ في معنى أن تكون عاشقًا — أي أن تحمل عبء الوعي والحنين معًا. في هذا المعنى، تلتقي القصيدة بروح ريلكه الذي كتب: «الحب هو العمل الأخير لمن يريد أن يصير إنسانًا».

خاتمة:

في هذا النص البديع، ينجح الشاعر في تحويل التجربة العاطفية إلى رحلة أنطولوجية نحو الذات والعالم. الحب والموت، الحضور والغياب، الجسد والروح — كلها أضدادٌ تذوب في لغةٍ منسوجة على خيوط الضوء والماء.

إنها قصيدة تكتب الإنسان من جديد: كائناً يُحبّ لأنه يموت، ويموت لأنه يعي معنى الحب.

لغة النص، بصورها الغنية وتوترها الإيقاعي ومجازها الكوني، تجعل منه مرآةً لجوهر الشعر نفسه: بحثًا لا ينتهي عن الحقيقة في وجه الجمال، وعن الخلاص في وجه الفناء.

***

بقلم: عماد خالد رحمة - برلين

......................

أفي الموت حب كما في الحب موت؟!

في كل درب وجدت الموت

ففي أي موت سأجد الحب؟!

في أي ريح سأجد المطر؟!

للنهر مسار ثابت، فكيف حاد النهر في

عن صواب البحر؟!

2-

ماذا أقول عن وجهك ذي الصباحات الملائكية؟!

ماذا أقول عن ابتسامتك التي تسافر في روحي مثل طائر؟!

لياسمين شفتيك رائحة الجنة.

لتمور نهديك مذاق الأبدية.

وحيث تكونين يكون البحر بقلبه المجنح وعينيه الزرقاوين!

3-

ما سر هذا الضوء الذي تحفره شفتاك

في خاصرة الأقحوان؟!

ما عدد الشجيرات التي تغرسها عيناك

في بساتين روحي؟!

هل أبالغ إذا قلت

إن البحر نقطة في بحر أنوثتك؟!

شعرك مرآة سماء حالمة.

وجهك يعكس الطمأنينة

مثل مساء أليف.

اسمك يتدفق عذوبة في شرايين الموسيقى.

نظراتك تنهمر فرحا" مثل عيد من مطر.

و ابتسامتك أميرة تحتفي بها الأشجار

يغني لها الحجر.

و كنت أنت فكنت أنا،

و كانت سماء فكان بحر!

4-

قلبي يستحق جمالك

فهل جمالك يستحق جنوني؟!

و هل تعرفين بأن جنوني يبتكر المطر؟!

قبليني إذا" لأنطق العالم بكلمة واحدة: أحبك.

عندما تحبينني يصير قلبك مفتاحا" لقلبي.

و عندما احبك يصير قلبي مفتاحا" لهذا الكون!

5-

عندما نظرت إلى عينيك أول مرة

رأيت طفلتين جميلتين كأنما ينبض فيهما المسيح!

و عندما قبلني نعاس الحديقة نظرت إلى عينيك

مرة" أخرى فرأيت البحر كله محمولا" في سمكتين بنيتين

و عرفت بأني لا أعيش النظرة ذاتها مرتين!

و قلت في نفسي:

فيك من ليلى ما يجعلني أخاف على الذئب منك!!

فأي بحر سيخبر عينيك أن تخففا عني وطأة الزمن؟!

و ماذا سأفعل غدا" حين يصير وجهك الجذر الوحيد لقلبي؟!

6-

هل القصيدة مرآة النهر الوحيدة؟!

كيف لمرآة أن تعرف كيف تفكر المرآة؟!

و لماذا تعطي الغزالة تفاحها للذئب،

و تعصر ليمونها في فم النهر؟!

***

وسيم الروسان

 

للشاعرة لبنى خناتي

بين الحرف والهاوية، تقف لبنى خناتي على تخوم الذات واللغة، لتعلن في قصيدتها «هوية معلقة» ميلاداً جديداً للوعي المأزوم، ذلك الوعي الذي يتلمّس ملامحه في مرايا الكتابة ليكتشف أن الصورة قد انطفأت في العمق. فهذه القصيدة ليست مجرد تأمل في ضياع الهوية، بل هي سفرٌ تأويلي في اغتراب الذات الأنثوية والإنسانية معًا، في مواجهة واقعٍ مضطربٍ تتنازع فيه اللغة والوجود والذاكرة.

إنها قصيدة تُخاطب اللاوعي قبل الوعي، وتتحرك بين طبقات الرمز والتصوير والوجع، كأنها مرثيةٌ للكينونة، أو نشيدٌ صامتٌ لروحٍ تبحث عن خلاصها. ومن هنا تأتي قراءتنا لهذه التجربة عبر مناهج متعددة تتقاطع في رؤيتها للقصيدة: المنهج الرمزي الذي ينفذ إلى عمق العلامة الشعرية، والمنهج الأسلوبي الذي يرصد البنية اللغوية والإيقاعية، والمنهج النفسي الذي يكشف التوترات الداخلية، وأخيراً المنهج الهيرمينوطيقي (التأويلي) الذي يسعى إلى فهم النص بوصفه دائرة دلالية مفتوحة على تعدد القراءات.

أولًا: البنية الدلالية والرمزية:

تقوم قصيدة «هوية معلقة» على جدلية الذات والبحث عن المعنى، إذ تقول الشاعرة لبنى خناتي:

 «أُعلّق الحرف فوق الوقت أسئلة

وأرتق الصمت كي تغفو حكاياتي»

يبدو الحرف هنا رمزاً للوجود، والوقت رمزاً للفناء، أما الأسئلة فهي جسر الوعي الذي لا يجد أرضاً يقف عليها. فالشاعرة لا تكتب من أجل الإجابة، بل لتؤكد أن الأسئلة نفسها فعل مقاومة ضد العدم.

- الرمزية المركزية تتجسد في الهوية المعلقة — تلك الهوية التي لا تستقر على انتماء محدد، ولا تجد في اللغة سوى مرآة مشروخة. في قولها:

 «أدلّ نفسي على نفسي فتخطئها

ويختفي الوصف في لبس الإشارات»

يتجلى الضياع الوجودي بأبهى صوره: الذات تبحث عن ذاتها ولا تعثر عليها إلا في الضياع. وكأننا أمام إعادة إنتاجٍ لثيمة «الاغتراب الهايدغري» حيث يصبح الكائن منفيًا في العالم، غريبًا حتى عن كينونته.

ثانيًا: التحليل النفسي – الهوية كجرحٍ وجودي:

من المنظور النفسي، يمكن قراءة القصيدة بوصفها رحلة داخل اللاوعي الممزق بين الرغبة في الانتماء والخوف من الذوبان. إن قولها:

 «كأن عمري مصلوب على غده

والأمس يجلد ما أبقته خيباتي»

يُحيل إلى صورة الصلب الرمزية التي تعبّر عن ألمٍ داخليٍّ ممتد، وعن شعورٍ بالذنب أو العجز أمام الزمن. إنها الذات التي تعاقب نفسها، لأن الماضي لم يكن على قدر التوق، ولأن المستقبل ما زال مؤجّلًا.

وفقًا لمدرسة كارل يونغ، فإن هذا الصراع يعكس مواجهة «الأنا» لظلّها — ذلك الجزء المكبوت من الذات الذي يرفض الخضوع للوعي. فالشاعرة هنا لا تواجه العالم الخارجي فقط، بل تواجه ذاتها بوصفها سؤالًا غير محسوم، وكأنها تقول: «أنا مرآةٌ تبحث عمّن يعكسها».

ثالثًا: المنهج الأسلوبي – بين الإيقاع والتوتر:

من الناحية الأسلوبية، تهيمن على القصيدة نغمة موسيقية متوترة، لا تستقر على نسقٍ واحد، بل تتراوح بين الانسياب والحدّة.

نلحظ هذا في التوازي الإيقاعي بين الجمل:

 «أُعلّق الحرف فوق الوقت أسئلة»

«وأرتق الصمت كي تغفو حكاياتي»

هنا يتكرر الفعل بصيغة المضارع («أعلّق»، «أرتق») ليعكس استمرارية الفعل الداخلي — فعل الكتابة بوصفها محاولة دائمة لترميم الذات.

تستثمر الشاعرة كذلك أسلوب التضاد في ثنائيات مثل:

الريح / الأزمان، الليل / الصبح، الغد / الأمس — وهي ثنائيات تكشف عن توترٍ دائمٍ بين القوى الداخلية والخارجية التي تشدّ الذات إلى جهتين متناقضتين.

أما الصور الشعرية، فهي لا تُرسم لتصف، بل لتكشف. فقولها:

 «فلم أقابل بها وجهًا أُعَرفه

سوى خرابٍ علا فوضى هوياتي»

يقدّم صورة مركّبة تجمع بين الخراب والفوضى بوصفهما حالتين نفسيتين ودلاليتين في آن، مما يجعل الصورة الشعرية انعكاسًا لبنية الانكسار الداخلي.

رابعًا: القراءة الهيرمينوطيقية – تعدد المعنى وتأويل الوجود:

من منظور التأويل، تنفتح القصيدة على قراءات لا نهائية، لأنّها لا تُقدّم حقيقة، بل تخلقها. فالشاعرة لا تُعرّف الهوية تعريفًا ماهويًّا، بل تجعلها فعلًا مستمرًا من البحث والتوليد.

«كم خنتها لغتي كي تستقيم لهم

لكن حرفي أبى تنكيس راياتي»

هذا المقطع يُفكّك العلاقة بين اللغة والسلطة. إن خيانة اللغة هنا ليست ضعفًا، بل مقاومة؛ إذ ترفض الشاعرة أن تكون لغتها مرآة للامتثال الاجتماعي أو الإيديولوجي. إنّها لغةُ تمرّدٍ نقيّ، لا تُنكس راياتها حتى في الهزيمة.

في ضوء بول ريكور وهرمينوطيقاه الرمزية، يمكن القول إن النص يمارس «فعل التأويل الذاتي»، إذ يتأوّل الشاعر ذاته عبر القصيدة، ويتحوّل النص إلى مجالٍ للوعي الذاتي ولإعادة تكوين المعنى الإنساني.

خاتمة:

إن قصيدة «هوية معلقة» ليست مجرد بوح شعري، بل بناءٌ فلسفي للذات في زمن التبعثر. إنها مرآة الروح وهي تحاول أن ترى وجهها وسط غبار الأسئلة، وأن تتصالح مع هشاشتها لا عبر الإنكار، بل عبر الاعتراف والبحث الدائم.

تكتب لبنى خناتي من المسافة الفاصلة بين اللغة والوجود، لتجعل من الحرف كائنًا حسيًّا يتنفس، ومن الإيقاع نَفَسًا للوجع الجميل.

إنها تضعنا أمام نصٍّ لا يصف الهوية بل يؤوّلها، ولا يكتب الذات بل يخلقها من جديد.

***

بقلم: عماد خالد رحمة - برلين

......................

هوية معلقة

أعلق الحرف فوق الوقت أسئلة

وأرتق الصمت كي تغفو حكاياتي

تلهو بيَ الريح لا الأزمان تشرحني

ولا الخرائط تهدي درب رحلاتي

أدل نفسي على نفسي فتخطئها

ويختفي الوصف في لبس الإشارات

وأشعل الصبح بحثا عن ملامحه

فلا أرى غير وجهي في انطفاءاتي

كأن عمريَ مصلوب على غده

والامس يجلد ما أبقته خيباتي

كل الذي كنته قد زال من أثري

فمن أنا الآن؟ ما شكل انتماءاتي؟

تاريخنا اليوم قد أضحى صدى طلل

يرتد محض أسىً تبكيه ناياتي

كم خنتها لغتي كي تستقيم لهم

لكن حرفي أبى تنكيس راياتي

ما جئت أطلب من دنياي غير هدىً

للروح حتى ترى ما خلف مرآتي

فلم أقابل بها وجها أُعَرفه

سوى خراب علا فوضى هوياتي

كان ارتجافا خفيا لست أفهمه لكنه مثل وحي

للنبوءات

***

لبنى خناتي

 

دراسة تحليلية وفق منظور اجتماعي - نفسي

تمهيد: إذا نظرنا إلى الأدب وعلم الاجتماع لوجدنا علاقة جدلية بينهما، لأن المجتمع لا يخلو من الادب وفنونه، لذالك علم الاجتماع هو العلم الذي يدرس فيه المجتمع وتطوره وتركيبه، والعلاقة الاجتماعية وما ينشأ عنها من نظم وقواعد وسلوك وثقافة، دراسة (علمية) وصفية تحليلية، تهدف إلى معرفة الوظائف الاجتماعية في تقوم بها، هذه الظواهر والنظم الاجتماعية والقوانين التي تحكمها الظواهر الاجتماعية هي نموذج من الأفكار والموضوعات العامة والأساليب والقواعد المتعارف عليها في المجتمع، ويذكر بعض النقاد الاجتماعيين (كجورج لوكاتش ولوسيان غولدمان وكارل ماركس) بأن النقد الاجتماعي له ملامح كثيرةمنها:

أولاً: النقد الاجتماعي هو (نقد تفسيري) وهو يتجه إلى مضمون العمل الأدبي وسياقه الخارجي، لأنه ناصره، ويحاول الناقد من خلاله أبراز الدلالات الاجتماعية أو التأريخية أو النفسية.

ثانياً: بعض النقاد يسميه النقد الاجتماعي او المنهج (السوسيولوجي) والذي يرتبط بجوانب (سايكولوجية وإيديدلوجية) والتي انعكست على الواقع الاجتماعي والفن والأدب وخاصة في مجال الرواية فأصبح للكاتب مساحة في التعبير والتصوير لواقعه المعاش وتطلعاته بكل حرية[1].

وتعتبر الرواية العربية من النصوص الأكثر ازدحاماً بالعديد من المعالم الفكرية والحضارية، وأكثرها استحضاراً لمظاهر الوجود الانساني عبر العصور، ترصده في كل حالاته، وتعبر عن أماله وهمومه ومشاكله، لهذا جاءت معبرة عن مختلف الصراعات التي تنشأ بين الانسان مع ذاته ومع الآخرين، أما الرواية (العراقية) فقد ارتبطت بعد عام ۲۰۰۳ بالواقع الاجتماعي وأصبحت لها أهمية واسعة لكونها لسان حال المجتمع بجميع شرائحه فقد يتميز هذا النمط عن بقية الأنماط بالواقع الاجتماعي بشكل أعمق وأوسع، إذ يصور مشكلات هذا الواقع الذي يحتويها وما تعانيه من أزمات خاصة ذاتية يرجع في جزء منه إلى طبيعة الظروف الاجتماعية والأوضاع السياسية القائمة، ويمكن أن يكون هذا النوع مصدراً من مصادر التاريخ للشخصية الزمنية التي تقع أحداث الرواية فيها مع الأخذ في الحسبان ما تقتضيه طبيعة الفن الأدبي من أصول يحقق بها ذاته وينأى بها عن مجرد التسجيل، ولم تكن الشخصية الروائية بعيدة عن الأحداث والتحولات التي شهدها المجتمع العراقي والتي أثرت تأثيراً كبيراً على سمات الشخصية سواء أكان تأثيراً سلبياً أم إيجابياً، إذ ارتبطت سمات الشخصية الروائية بالتغيرات التاريخية والبنائية التي تحدث في المجتمع ومن ثم فإن هذه السمات ذات طبيعة متغيرة مثل البنية التي تشكلها، وفي الوقت نفسه تتسم بالاستمرار النسبي، فالأحداث الجديدة تندمج مع الأحداث القديمة فتصبح غير قادرة على محوها، وإنما تتفاعل معها لتبرز نمطاً جديداً من الشخصية، لذا فإن الشخصية الروائية هي نتاج المجتمع العراقي، وقد تأثرت بالتحولات التي طرأت عليها في سياق العمل الروائي ودلالات هذه التحولات وأثرها على حياة الفرد، وما تبع تلك الحياة من قهر واستبداد وظلم واعتداء على أبسط حقوق الإنسان وحرياته الفكرية، لذلك جاءت الشخصيات الروائية منسجمة مع بعضها تعبر عن قضايا عميقة ومؤثرة في حياة إجتماعية منسجمة مع تعبيرها الذاتي وانفعالاتها النفسية[2].

ولا تزال الرواية ذلك الجنس الأدبي الأكثر ارتباطا بالواقع ومحاكاة له، عبر بنيتها ترسم لنا عوالم متخيلة ذات أبعاد حقيقية، تلتقي فيها الشخصيات في إطار زماني ومكاني هي موضوع الرواية، تتصارع حيناً وتتحاور حيناً آخر تحت حدث واحد تتحرك وتنمو شيئا فشيئا، فينشأ الصراع من فعل الشخصيات في الرواية، وهو ظاهرة فنية، يحرك العمل الروائي، ويحضر بقوة في كل الأعمال الروائية، وهو أيضا، من أساسيات البناء السردي، وقوام الخطاب الروائي، فيعد الصراع من المظاهر الديناميكية وهو يعبر عن الأفكار والقيم والحريات المتوارثة عبر الأجيال، ويظهرها ويساعد في انتشارها، كما يبرز تلك الأيديولوجيات المتناقضة وشرور النفس وآثامها ويساعد في كشف الجانب الباطني الخفي في العقل البشري بما يحويه من رواسب معرفية واجتماعية، إما الصراع في الرواية، فهو يطرح العديد من الإشكالات التي ترجع في الأصل إلى كونها جنساً أدبياً عربياً متأصلاً في التراث أم أنه جنس غربي وافد على الثقافة العربية، هذا من جهة، ومن جهة أخرى يتمثل الصراع في بنية النص الروائي بين عناصرها السردية، ويمكن لنا أن نعرفه بأنه: الاحتكاك بين الشخصية ونفسها، أو بين عواطفها الذاتية، أو عقيدتها، أو بينها وبين شخصيات أخرى، وكلما كان الصراع قوياً، كان العمل الروائي أنجح وأعمق فالصراع في الرواية إذن من بين شروط نجاح الشخصية وترجع أهميته فيها إلى أهميته داخل الحياة، لأنه من مميزاتها، والصراع بين الأفراد متجذر فيهم منذ وجود البشرية، ولكي يشتد الصراع ويحتدم يجب أن تكون بين هذه الشخصيات شخصية محورية من ذلك الطراز القوي العنيد الذي لا يقنع بأنصاف الحلول، فإما بلوغ كل ما يريد أو يتحطم، ومنه يتصاعد الصراع ويتطور ليشكل لنا الحدث الروائي، وتسعى الرواية من خلال الصراع إلى إبراز الواقع ورصد أحداثه وسبر أغوار النفس البشرية الأكثر عتمة وتنقل الرواية من خلال الشخصيات الروائية والأحداث وتيرة الصراع وحدته بكثير من التطابق يجعل منه نقلاً حرفياً عن واقع غليظ، ولكن كصراع تتجلى فيه الرؤية الإبداعية السردية، ويبرز الصراع على أكثر مستوى، وبالتالي تختلف مداخل التعبير والإيحاء به، حيث تشترك اللغة والحوار والمكان وغيرها من مكونات النص الروائي، وقد كشفت الرواية الحديثة عن نوع ضمني من الصراع، هو الصراع الطبقي الذي يمثل منظور الحياة الاجتماعية، فهو صراع بين قوى اجتماعية قاهرة وأخرى مقهورة، وتحدث المواجهة نتيجة لفقدان التوازن في النظام الاجتماعي، حيث تكون هناك طبقة مالكة للسلطة والثروة وأخرى فاقدة لهما، كما كشفت أيضاً عن أشكال أخرى للصراع ظهرت مع تأزم الحالة والواقع الاجتماعي الحقيقي للإنسان مثل صراع الإنسان مع القديم والجديد، وصراعه مع الخير والشر، وكل المتغيرات والمستجدات في حياته[3].

فعلم الاجتماع قدأهتم بالشخصية كونها أحد أسس النظام الاجتماعي فتحولت إلى نمط اجتماعي يعبر عن واقع طبقي ويعكس وعياً أيديلوجياً، إذ تعني الشخصية، التكامل النفسي والاجتماعي للسلوك عند الكائن الإنساني الذي تعبرعنه العادات والاتجاهات والآراء، وهذا يبين أن الشخصية تعبرعن تصرفات وأفكار الإنسان في المجتمع، وذلك عبر العادات والتقاليد التي تساعدفي فهم هذه التصرفات والأفكار[4].

في مفهوم الصراع وأنماطه

الصراع في السرد مرتبط بالعملية السردية، أي بالرواية والقصة، إذ يشكل العنصر الرئيس فيها تتوالى من خلاله الأحداث تدريجيا إلى نهايتها ويشتمل على عدة خطوات أهمها: نمو الأحداث وحركتها: فيبدأ الكاتب قصته بالحديث أو العرض ثم يطوره حتى تصبح القصة حياة متدفقة بالحركة ويحيلها إلى التمثيل، والقصة الناجحة تسير وفق حركة طبيعية بعيدا عن السرعة والبطئ، 2_الصراع والعقدة فيها: تتكون بعد أن يحسن الكاتب سرد الأحداث وفق حبكة قصصية تعتمد الصراع، متنامية إلى الموقف المتأزم والمشوق الذي ينتظره المتلقي بشغف إلى ماسيحدث بعده، وهو ما يمكن القول عنه احتدام الصراع، ففي المجال الأدبي الصراع يحمل معنا فنيا نقديا لا يراد بها معناها اللغوي الصرف، بمعنى النزاع والمحاربة والمصارعة بين شخصين، فقد يكون الصراع خارجياً بين شخصيات القصة والأفكار والمبادئ التي يعتنقها الأشخاص، أو صراعاً داخلياً ينمو في الشخصية ذاتها من خلال حيرتها وترددها بين المواقف المتباينة[5].

ويحضر الصراع بشكل جلي داخل الروايات كونها تصف الواقع وتتغلغل فيه وتصور تقلبات وأزمات في نفسيات شخصياتها، فالروائي يكتب عن كل ما يدور حوله من حقائق تحصل داخل المجتمع منها الصراع الذي نجده في كل مكان، فهي ترصده دائما داخل المتن الحكائي، فيشعر القارئ دوما بحضوره عند قراءته لأية رواية تغوص في حركة المجتمع وما يموج فيه من صراعات [6].

وفي الأصل الصراع هو أساس الدراما، والمسرحية والرواية يبنى كلاهما أيضا على الصراع، وهو تضارب يأخذ بالتضخم بين قوتين الإنسان والقدر، القديم والجديد، الفرد والمجتمع الإنسان والطبيعة أو قوى مختلفة في نفس الإنسان[7].

وبعبارة أخرى فإن الصراع يظهر في الرواية كشكل من أشكال التفاعل الشخصي الديناميكي بين طرفين أو أكثر، تربطهما علاقة اعتماد متبادل، وهو ينتج عن بروز قدر من الاختلاف وعدم التوافق في الرؤى والمصالح والأهداف والتوجهات كما قد نجده بين قوتين رئيسيتين متضادتين، ينتج عن تقابلهما أو التحامهما، ما يدفع الحدث إلى الأمام من موقف الآخر، وقد اصطلح على تعريف هاتين القوتين باصطلاحات مختلفة كالفعل ورد الفعل أوالهجوم والهجوم المضاد، ومن شروطه أن يكون له قيمة، ويكون نادر الوقوع، ويمكن قبوله التنافس، وأن يكون له تأثير في النفس [8].

ويكون الصراع في الرواية مزدوجاً فيقسم إلى:

الصراع الداخلي: وهو الذي يدور في أعماق الشخصية في الداخل نفسي أو ذهني كالشخص مع نفسه تتجاذبه قوتان، كقوة الحق وقوة الباطل، أو قوة الإرادة وقوة الإعراض، وغالبا ما يكون قصير المدة ومصيرياً.

الصراع الخارجي: وهو الذي يقع بين شخصيات الرواية في البيئة أو المحيط، ويكون طويل المدة أحياناً ومركزياً ومصيرياً، ويلجأ الروائي إلى الصراع الخارجي أكثر من الداخلي كي يزيد انفعال القارئ ويشوقه [9].

في مفهوم النمط وتعدده

يقصد بالنمط: هو مجمل ما يجعلنا نصنف فئة من الأشخاص على ضوء ما يشتركون فيه من خصائص أو سمات مشتركة (مكافحون، عدائيون، طيبون، ....) [10].

اما اهم انماط الصراع في الرواية:

1-الصراع الإجتماعي: فقد إرتبط مفهوم الصراع عند علماء الاجتماع بالنظم والعادات والتقاليد التي تختلف من مجتمع لآخر، ويرتبط الصراع فيها بالصراع الطبقي في الحياة الاجتماعية، فهو اجتماع بين قوى اجتماعية قاهرة وأخرى مقهورة، وهذا ناتج عن فقدان التوازن في النظام الاجتماعي، ذلك أن ظاهرة الصراع الطبقي في المجتمعات المستضعفة تشكل ظاهرة بارزة، حيث تتخذ كل طبقة اجتماعية وكل فئة من الفئات نظاما ومنهجا أيديولوجيا يؤطر فكرها ويحدد مسارها، وقد تعاملت الطبقة البرجوازية مع باقي الطبقات على أنها طبقة عليا وباقي الطبقات دونها، وبالتالي اعتبرت من بين الطبقات الراقية، الأمر الذي زاد من شدة الصراع بينها وبين باقي الطبقات[11].

وعادة ما يركز هذا النوع من الصراعات في الرواية على صراع الشخصيات مع بعضها البعض في إطار اجتماعي، الأمر الذي يكشف ارتباط الأديب بواقعه، وما يتيح له التعبير عن كل ما يجري فيه، فهو يشاطر الآخرين آلامهم وآمالهم، ولا بد أن يتأثر بكل ما يجري حوله على مسرح الحياة من أحداث[12].

ويعد هذا الصراع من بين أبرز الصراعات التي ظهرت في الرواية العربية نظرا لطبيعة المجتمع العربي الذي يسوده نظام القبائل، ويحكمه عرف العادات والتقاليد، وبهذا سعت الرواية إلى كشف الظلم الذي تعانيه شريحة كبيرة من المجتمع العربي، لتبشر بشرارة ستنطلق يوما لتحرق هشيم الإقطاع والاستغلال، ومن بين القضايا التي كشف عنها الصراع الاجتماعي في الرواية قضية الصراع من أجل الأراضي، والصراع من أجل الأعراف، وكشف التفاوتات الاجتماعية وانتشار الظلم والعبودية ومحاربة الفقراء وظلم المهمشين المسحوقين في المجتمع[13].

ويذكر(محمد عبد الكريم الحوراني) في كتابه (النظرية المعاصرة في علم الإجتماع): بإن الصراع الاجتماعي من المواضيع المهمة التي كانت محط اهتمام العديد من الدارسين والباحثين، ونُوقشت بين المفكرين في شتى المذاهب الفكرية قديما وحديثا، بسبب تعدد التفسيرات والتحليلات حول طبيعة وأسباب حدوثه ومظاهره ونتائجه، فظاهرة الصراع القائم في المجتمعات قديمة قدم المجتمع ذاته، فإذا تتبعنا ظهوره تاريخياً تجده في شتى المراحل التاريخية ماعدا المرحلة البدائية التي مر بها المجتمع في تطوره، فقد كان الصراع موجوداً بين السيد والعبد في المجتمع العبودي، وبين الإقطاع والفلاح في المجتمع الإقطاعي، وبين البورجوازي والبروليتاري في المجتمع الرأسمالي الأرستقراطي، وقد جاءت الرواية لتركز على هذا النوع من الصراع بغية كشف الظلم والتفاوت بين فئات داخل المجتمع وتتبعه بداخلها[14].

إما انواع هذه الطبقات في المجتمع فتقسم بحسب تصنيف (كارل ماركس) إلى:

البروليتاريا (العمال) تسمى هذه الطبقة الطبقة العاملة والفقيرة لأنها تبيع قوتها العاملة للبرجوازية مقابل أجر زهيد بمعنى هي الطبقة الفقيرة والمسحوقة في المجتمع، والمُستغلة من اصحاب الطبقات الأخرى الأعلى منها.

البرجوازية أو الرأسمالية: وهي الطبقة المالكة للأدوات، ورؤوس الأموال ولها دور مهم في مجرى الحياة وفي صنع تأثير النشاط الاجتماعي ولديها سيطرة أو سلطة كاملة على الطبقات الدنيا، وهنا يكمن التناقض الذي ينشأ بين أفراد المجتمع.

ج- الطبقة الإرستقراطية: وهي الطبقة المتنفذة وأفرادها من أصحاب  السلطة العليا وهذه الطبقة هي الأعلى في المجتمع[15].

2- الصراع السياسي أو الأيديولوجي: غالبا ما ينجم هذا الصراع من السلطة، وعالم الصراع يكون على منفعة معينة أو على سلطة فلا يمكن أن نجد سلطة قائمة دون صراع، وهو أيضا تعارض المصالح والمبادئ والأفكار والسياسات والبرامج التي تميز العديد من التفاعلات داخل أو بين الأنظمة السياسية، كما يعرفه البعض بأنه نزاع القيم والمطالب على السلطة[16].

ويسمى أيضاً بالفكر (الأيديولوجي)الذي يرتبط بنوع من الصراع الأيديولوجي كرؤية كونية، لأنها تحوي على مجموعة من المقولات والأحكام حول الكون، تستعمل في الاجتماعات الثقافية لإدراك دور من أدوار التاريخ وتقود إلى الفكر، يحكم على كل ظاهرة إنسانية بالرجوع إلى التاريخ[17].

3-الصراع الديني: يؤدي العامل الديني إلى جانب العوامل الأخرى دوراً كبيراً في إثارة الصراع في كل الحضارات التي شهدها العالم، ويمكن القول عنه أنه ذلك الصراع الذي يستجيب لواحدة من هذه المعايير، صراع بين مجموعات تتبع ديانات مختلفة، أو صراع بين مجموعات من الطوائف في نفس الدين أو القضايا التي تشمل قضايا دينية مهمة، ويظهر هذا الصراع ويتطور في الروايات العربية أو الغربية من خلال عدم تقبل ما جاء في الثقافة الغربية من أفكار، عادات سلوكات لباس هندام..)، والتي عادة ما تكون متنافية مع الدين الإسلامي أو العكس عدم تقبل الغرب للثقافة الإسلامية، ومثالها أن تتقمص أحد الشخصيات الدور في الأنغماس في عادات وسلوكات غير مدمجة في أعرافها وأعراف مجتمعها الأصلية مثل (شرب الخمر، أمرأة غير محتشمة اللباس) أو دخول إحدى الشخصيات الغير مسلمة للإسلام في الروايات الغربية أو العربية ويتضح لنا هذا الصراع أنه عبارة عن استعداد لدى بعض الشخصيات الروائية العربية للاستسلام والركوع أمام ما ترفضه المجتمعات الغربية من قيم وتقاليد مهما كانت غريبة عن التقاليد الإسلامية، الأمر الذي يخلق تلك الثورة على هذه القيم السائدة، والتقاليد المجتمعية، ومن ثم اتباع طريق تختاره من أجل تحقيق ذاتها للتخلص من التقاليد والأعراف التي تكبلها، وليس بالضرورة أن يحدث الصراع الديني من خلال تصارع الديانات، بل قد تتجلى من خلال كسر شخصية ما من الشخصيات لكل معالم الدين الإسلامي، وعدم تبنيها نتيجة عدم تشبعها بالإيمان أو تحليها بأحترام الذات، وإفتقارها للمحفزات الدينية، كل هذه الأمور تخلق بلاشك، صراعاً للشخصية مع باقي الشخصيات التي عادة ما تمثل دور ولي الأمرأو المراقب الاجتماعي، وهذه هي أهم أشكال الصراع وأبرزها حضوراً في الرواية [18].

4-الصراع النفسي: فعند علماء النفس اعتبر الصراع نزاع بين قوتين معنويتين تحاول كل منهما أن تحل محل الأخرى، كالصراع بين رغبتين أو نزعتين أو مبدأين أو وسيلتين أو هدفين، أو الصراع بين القوانين أو الصراع بين الحب والواجب، أو الصراع بين الشعور واللاشعور في ظاهرة الكبت، اي بين اللاوعي (الغرائز والرغبات) وبين الوعي(الضمير الحي)[19].

ويذكر (يوسف حسن حجازي) الصراع النفسي في كتابه (عناصر الرواية الأدبية): "بأنه العنصر الذي يدفع الدراما للتفاعل الحاد، فهو المادة التي تبنى منها الحبكة، والصراع الأقوى في البناء الدرامي هو الصراع النفسي الذي يجري بين الشخص ونفسه من حيث الرغبات والاستعداد للمجابهة والاهتياج من حدث ما، وقد يكون صراعا ضد القدر والمصير، كما يتشكل الصراع النفسي من عدم استطاعة الشخصية على اختيار نهج أو سبيل معين يسلكه مما يؤدي إلى حالة من القلق وعدم الرضا والارتياح، ويعبر الصراع النفسي في الرواية عن الصراع الداخلي للشخصيات، سواء صراع الإنسان ضد نفسه أي مع قوة داخلية كالآلام النفسية، وتظهر بتناول الراوي الشخصيات بالتحليل ومحاولة التغلغل في أغوار النفس البشرية ورصد سلوك الشخصية".[20]

بمعنى أن الصراع النفسي كصراع يحدث داخل نفسية الشخصية الروائية، أو ما يعني تصارع الشخصية مع ذاتها ويتعلق هذا الصراع بالحالة الذاتية، أو روح الشخص في تحدي المشكلة وما يكشف الصراع النفسي داخل الخطاب الروائي هو الحوار الداخلي اي (صراع الشخصيات) بينها، وه يعتبر عنصراً فنياً له الدور الفعال في الكشف عن عواطف الشخصية، وفي الكشف عن جوهرها، وما يجيش في أعماقها وعن عقدها وأمراضها وغرائزها المكبوتة، فيظهر الصراع النفسي في الرواية عبر عدة أوجه لعل أهمها صراع (البطل) مع نفسه في تلك الحوارات التي كان يخوضها في عقله الباطني، وفي الألم والخوف والحزن وتصاعد القلق لدى الشخصية المحورية وكذلك حواره مع الشخصيات الثانوية[21].

ولهذا كانت الكثير من الروايات تحكي عن التجاوزات الإنسانية وشرور النفس وأثامها، تحكي عن حزن الشخصيات آلامهم واغترابهم، واعتمادا على هذا التصور ودمج الأدباء أعمالاً تصور صراعات مريرة، واجه الإنسان فيها قوى الطبيعة وقوى الشر التي كانت تحول بينه وبين تحقيق أهدافه ومصالحه في الحياة، ومنه أصبح الإنسان ومشاكله محور التجربة الروائية، فاستفاد الكتاب من تلك الدراسات النفسية ومختلف تحليلاتها، ومن ثم إسقاطها على الشخصيات داخل الأعمال السردية، ومن مظاهر الأنهيار النفسي الذي وصفته الرواية هو صراع السلوك الداخلي النفسي المتمثل بمشاعر الحب والعاطفه والكره والغيرة والحسد وأمراض سايكوباثية كعقدة أوديب، او النرجسية، والشك المرضي، في الشخصية أو الهلوسة والكوابيس والاحلام، والقلق والتوتر، وجنون الأرتياب (البارنويا)، وإنفصام وتعدد الشخصيات (الشيزوفرينيا) والشك، والمكر والخداع، وصراع الموت والحياة، والخير والشر، وصراع الهو (الرغبات)مع الأنا الأعلى (الضمير) والأنا الأعلى (المجتمع)[22].

وقد اهتم علماء النفس في دراسة الشخصية وتحديد انفعالاتها النفسية ومنهم (يانغ) والعالم الألماني(سيغموند فرويد) الذي يرى: أن الشخصية هي نتاج قوى لاشعورية، أي أن سلوك الفرد وحياته يمكن أن تتغير دون وعي منه، في هذه النظرية أعطى فرويد مفهوماً جديداً عن الواقع النفسي وهو تقسيم البواعث النفسي إلى ثلاث نظم أو عناصر من خلال تفاعلها تتشكل شخصية الفرد وهذه العناصر تعطى نموذجاً للشخصية، وهي:

(الهو): هو الجزء الأكثر بدائية، وهو متبع الطاقة النفسية الغرائز والدوافع الجنسية والعدوانية، وهي عبارة عن نزوات وشهوات فطرية وظيفته الأساسية جلب المتعة والراحة للفرد وهو يستوجب الإشباع في حينه، وظيفياً يعمل وفق مبدأ اللذة.

(الأنا): يمثل العالم الواقعي الشعوري ويستخدم للإشارة إلى وسائل الإشباع، ويمثل مجال الوظائف الذهنية كالتفكير والإدراك يُعد المراقب الذي يعمل للتكيف في حدود الواقع، يعمل على تأجيل إشباع النزوات العزيزية الصادرة عن الهو.

ج- (الأنا الأعلى): هو كل ما ينهي عنه صوت التفكير العميق او (الضمير)، والأنا الأعلى يسمى بالأنا المثالي، هو سبب تأنيب الضمير والشعور بالذنب عند التصرف خارج المعايير الاجتماعية المقبولة، الأنا الأعلى يبحث دائما عن الكمال، يعيق حاجات ودوافع الهو[23].

في مفهوم الشخصية الروائية

ويعرفها (جيرالد برنس) في (المصطلح السردي) حيث جمع تعريفه تعريفات الكثير من النقاد والأدباء، فهي عنده كائن موهوب بصفات بشرية وملتزم بأحداث بشرية والشخصيات يمكن أن تكون مهمة أو أقل أهمية وفقاً لأهمية النص، فعالة حيث تخضع للتغيير، مستقرة، حينما لا يكون هناك تناقض في صفاتها وأفعالها أو مضطربة وسطحية بسيطة لها بعد واحد فحسب، وسمات قليلة، ويمكن التنبؤ بسلوكها أو عميقة، معقدة لها أبعاد عديدة قادرة على القيام بسلوك مفاجئ[24] .

كما عرفت الشخصية أيضا بأنها: صورة تخييلية استمدت وجودها من مكان وزمان معينين، وانصهرت في بنية الكاتب الفكرية الممزوجة بموهبته المتشكلة فوق الفضاء الورقي الأبيض، لتسهم في تكوين بنية النص الروائي، وتنجز وظيفتها المسندة إليها تأليفاً وتعكس، بعلاقاتها مع البنى الحكائية الأخرى ظروفاً اجتماعية واقتصادية وسياسية، مسهمة بذلك في تكوين المدلول الحكائي واحتوائه، ومؤثرة تأثيراً فعالاً في المتلقي، دافعة إياه إلى إنتاج دلالة[25].

ويعرفها (أحمد رحيم كريم الخفاجي) في (المصطلح السردي) بأنها: " أحد الأفراد الخياليين أو الواقعيين الذين تدور حولهم أحداث القصة أو المسرحية".[26]

اما(حميد الحميداني) فيعرف الشخصية في كتابة (بنية النص السردي): هي مجموع ما يقال عنها بواسطة جمل متفرقة في النص أوبواسطة تصريحاتها، وأقوالها، وسلوكها".[27]

و(يمنى العيد) تعرف الشخصية في كتابتها (تقنيات السرد الروائي في ضوء المنهج البنيوي): "أن الشخصيات باختلافها هي التي تولد الأحداث وهذه الأحداث تنتج من خلال العلاقات التي بين الشخصيات فالفعل هو ما يمارسه أشخاص بإقامة علاقات في ما بينهم ينسجونها وتنمو بهم، فتتشابك وتنعقد وفق منطق خاص به، و ترى الشخصية برغم اختلافها هي التي تصنع الأحداث وتنتج من خلال الأحداث العلاقات التي تجمع بين الشخصيات".[28]

ويعرفها ايضاً (عبد الملك مرتاض) في كتابه (نظرية الرواية): "وهي أحد مكونات العمل الروائي الأساسية، وتقوم الشخصية بتصوير المجتمع الإنساني الذي يشكل فيه، وهي التي تنجز الحدث وهي التي تنهض بدور الصراع أو تنشيطه من خلال سلوكها وأهوائها وعواطفها".[29]

الشخصية في المنظور الإجتماعي

يختلف مفهوم الشخصية بحسب اختلاف المجال ففي المنظور الاجتماعي تتحول الشخصية إلى نمط اجتماعي يعبر عن واقع طبقي، ويعكس وعياً ايدلوجياً[30].

ولا تقف أهمية الشخصية عند حد معين، بل وقد تمتد وتتوسع حتى تفوق في ذلك على العناصر الأخرى كالزمان والمكان والحدث، وهذا ما تظهره جلياً العلاقة مع تلك العناصر وللشخصية مهام كبيرة في العمل الروائي أهمها:

إنها تُعبر عن فكر الكاتب وأيديولوجيته، من خلالها يستطيع الروائي التعبير عن أرائه، وبواسطتها يستطيع أن يصل إلى الحقائق التي يعتقد بها ويريد أن يوصلها إلى المتلقي.

يعبر الكاتب أو المبدع عن هموم المجتمع التي تؤلمه بواسطة تصويره طبقاته المختلفة وشخصياته التي اتصفت بالهموم والمشاكل .

ج- إن الرواني قد يلجأ في بعض الأحيان من أجل أن يعبر عن ذاته، وإظهار سيرته للناس إلى خلق شخصية روائية تكون موازية لشخصيته، أو مشابهة لها ولأيديولوجيتها التي تحملها، إن الشخصية هي التي تبعث الحركة في العمل الروائي، وهي التي تسير الحدث وتحركه عبر تفاعلها معه، فلا وجود لتصاعد الحدث في الرواية لولا الشخصيات التي تعمل على ذلك. فالحدث لا يوجد من لا شيء، ولا يتصاعد من لا شيء، بل يتصاعد عبر هذه الشخصيات، ثم أنه لا يتطور من تلقاء نفسه بل يتطور عبر تفاعل هذه الشخصيات معه واندماجها فيه وفي بعض الأحيان يلتبس الأ لدى كثير من قراء الروايات عندما يظنون أن الشخصية الروائية هي نفسها الشخصية الإنسانية الطبيعية وإن إظهار شخصية طبيعية في عمل فني كما هي في الحياة محال دون هذا القول نؤيده ونجده يتحقق في جميع الروايات التي نقرأها وندرسها، إذ نلاحظ كثير من الشخصيات الروائية تمتاز عن الشخصية الواقعية بأنها من صنع المؤلف، وأن المؤلف لم يخلقها إلا لكي تؤدي غرضاً معيناً فضلاً عن دورها في بث الحوار واستقباله واصطناع المحاكاة ووصف المناظر وتضريم الصراع وتنشيطه على وفق سلوكها وأهوائها، وكثير من الشخصيات الروائية تمتاز عن الشخصية الواقعية بأنها من صنع المؤلف، وأن المؤلف لم يخلقها إلا لكي تؤدي غرضاً معيناً فضلاً عن دورها في بث الحوار واستقباله واصطناع المحاكاة ووصف المناظر وتضريم الصراع وتنشيطه على وفق سلوكها وأهوائها [31].

وعلى اختلاف أنواع الشخصيات فهي في المنظور الإجتماعي وظيفتها واضحة فيحتاج النص الروائي إلى أنماط من الشخصيات، تؤثر الحوادث في بعضها البعض، فيتغير وينمو، ولا يؤثر في بعضها الآخر فيبقى على هيئته الأولى، وهذا يدفع النقاد إلى أن يطلقوا بعض الصفات التي تحدد مرتبة كل شخصية بها، وأكثر الصفات تداولاً هي الرئيسة والثانوية، والايجابية والسلبية، والسطحية والمدورة، والنامية، فالشخصية الروائية تعرف من خلال علاقتها بالشخصيات الأخرى، إذ تعني الشخصية التكامل النفسي والاجتماعي للسلوك عند الكائن الإنساني الذي تعبر عنه العادات والاتجاهات والآراء، وهذا يبين أن الشخصية تعبر عن تصرفات وأفكار الإنسان في المجتمع، وذلك عبر العادات والتقاليد التي تساعد في فهم هذه التصرفات والأفكار، إذ تعد الشخصية الواحدة عبارة عن مجتمع بعامة تحمل نمط معين تساعد على إنتاج شخصيات عدة مختلفة، فقد يصور البعد الاجتماعي للشخصيات من خلال الصراع بين الشخوص والذي نقل حدته بين شخوص الفئة الواحدة، كما يظهر البعد الاجتماعي للشخصية عبر مكانتها الاجتماعية، أي أن البعد الاجتماعي للشخصية متعدد الجوانب، إذ يركز على الشخصية من خلال محيطها الخارجي، وأوضاعها، وأيديلوجيتها وكذلك مكانتها الاجتماعية وعلاقتها بالشخوص الأخرى[32].

أنواع الشخصيات في الرواية

وهناك نوعان متميزان منها: (الشخصيات الثابتة والشخصيات النامية)

فالنوع الأول (الشخصية الثابتة): فهي تبنى فيه الشخصية عادة حول فكرة واحدة أو صفة لاتتغير طوال القصة وتكون أحادية الجانب فتبنى على سجية وفكرة واحدة فلا تؤثر فيها الحوادث ولا تأخذ منها شيئاً ولا تؤثر فيها البيئة ولاغيرها من الشخصيات وتكون تصرفاتها تبعاً لذلك معروفة لدى القارئ فهي لا تفاجته بجديد على نحو مقنع . والشخصيات الثابتة لها فائدة كبيرة في نظر الكاتب والقارئ فمما يسهل عمل الكاتب أنه يستطيع بنائها وتقيمها بلمسة واحدة وهي تخدم فكرته طوال القصة ولا نحتاج إلى تقديم أو تفسير ولا تحتاج إلى تحليل وبيان والقارئ فأنه يجد في مثل هذه الشخصيات بعض اصدقائه ومعارفه الذين يقابلهم كل يوم كما من السهل عليه أن يتذكرها ويفهم طبيعة عملها في القصة ومن أمثلة هذه الشخصيات التي لا تتغير ولا تختلف طبائعها و ادوارها ويبقون على حالتهم منذ بداية القصة كأنهم حجارة شطرنج كالشخصيات التي يخلقها (تشارلز ديكينز و شخصيات رواية عودة الروح (التوفيق الحكيم)[33].

أما النوع الثاني (الشخصية النامية): فهي على نقيض الثابته تبنى على سجايا وابعاد مختلفة وتتطور بتطور الحوادث في الرواية واحتكاكها بغيرها لهذا هي تفاجأ القارئ بين فينة وأخرى مع مجرى الأحداث وعلى نحو مقتنع بتفكير وسلوك جديد فهي للكشف لنا تدريجياً خلال القصة ويكون تطويرها عادة نتيجة لتفاعلها المستمر مع الحوادث في القصة ويكون هذا التفاعلي ظاهراً أو خفياً وقد ينتهي بالغلبة أو الاخفاق وياهم ما يميزها هي المفاجئة المصنعة بالتغير فأن لم تفاجتنا بصفة أو عمل أو ردة فعل جديدة فهي ثابته والشخصيات النامية تكون في أعمال روائية كثيرة، (كرواية مدام بوفاري) وشخصيات في روايات (ديستوفسكي) و (جورج اليوت) وشخصيات في رواية ترثرة فوق الديل) لنجيب محفوظ[34] .

وهناك أشكال أخرى للشخصيات الروائية منها:

الشخصية الرئيسية: هي شخصية (فنية) يختارها القاص لتمثيل ما أراد تصوير أو ما أراد التعبير عنه من أفكار وأحاسيس، إذ يوجد في كل عمل روانی شخصیات تقوم يعمل رئيسي إلى جانب شخصيات تقوم بأدوار ثانوية التي تعني أقل أهمية من قبل الكاتب فالشخصية الرئيسية هي التي تقود الفعل وتدفعه إلى الأمام، والشخصية الرئيسية هي الشخصية التي تتمحور عليها الاحداث في السرد و هي الفكرة الرئيسية التي تسبح حولها الحوادث و هي الهام بموقف بطولي فردي.

الشخصية الثانوية: هي الشخصية التي تكون العامل المساعد الربط الاحداث و إكمالها الرواية وهي التي تضيء الجوانب الخفية للشخصية الرئيسية وتكون إما عوامل كشف عن الشخصية المركزية وتعديل سلوكها، وإما تبع لها تدور في فلكها و لنطق باسمها فوق أنها تلقي الضوء عليها تكشف أبعادها، والشخصيات الثانوية مشاركة في الحدث وليست مجرد ظلال معنى هذا أن الشخصية الثانوية لها مكانتها أو دورها في الرواية والكاتب المتمكن هو الذي لا يستغرق كل فئة في شخصيته الرئيسية، بل يهتم بشخصيته الثانوية.

الشخصية المسطحة: هي كل تلك الشخصية المبسطة التي تمضي على كل حال لا تكاد تتبدل ولا تتغير في عواطفها ومواقفها وأطوار حياتها، ويعني بالشخصية المسطحة ذات البعد الواحد أو الوجه الواحد، التي نستطيع التعرف عليها منذ البداية هي ليست نادرة أو متفردة، وتجد تصرفاتها مستقيمة في اتجاه محدد حتى نهاية العمل.

الشخصية المدورة: هي الشخصية التي لها اكثر من بعد أو أكثر من وجه، وهي نادرة متفردة، معقدة، ودائماً ماتكون في الروايات الإجتماعية الواقعية لكي تمثل الصراع النفسي أو الإجتماعي، فهي الشخصيات التي يشكل كل منها عالماً كلياً أو معقداً، في الغير الذي تضطرب فيه الحكاية المتراكبة وتشع بالمظاهر كثيراً ما تتسم بالتناقض و هي تلك المركبة المعقدة لا تستقر على حال، لا يستطيع المتلقى أن يعرف مسبقا ما ستؤول إليه، لأنها متغيرة الأحوال، فهي على شأن هذه الشخصية المعقدة تقول عنها شخصية غريبة الأطوار لا تستطيع تخفين أو توقع ما ستؤول إليه[35].

التعريف بالمؤلف

عبد الرضا صالح محمد هو كاتب وروائي وقاص وفنان تشكيلي عراقي، ولد في جنوب العراق في محافظة ميسان عام 1950، وهو عضو في نقابة الفنانين العراقيين، وجمعية التشكيلين العراقيين واتحاد أدباء وكتاب العراق، حصل على عدد من الجوائز الأدبية في القصة القصيرة وله مؤلفات عدة منها: إمرأة الظل، أضغاث مدينة، خرير الوهم، ثلاثية اللوحة الفارغة، بعد رحيل الصمت، سبايا دولة الخرافة، الكواز ورحلة التيه.[36]

ملخص رواية (إمرأة الظل):

تقع الرواية في 249 صفحة مقسمة إلى جلسات، تدور أحداث الرواية حول امرأة غيورة وماكرة لعوب (أطياف وهي نفسها فاتن) التي تحب منذ الطفولة بطل الرواية (عدنان) الذي يحب صديقتها (وفاء) التي يفضلها عليها ويختارها زوجة وينجب طفلة منها (صبا) فيعيش في استقرار وسعادة زوجية دامت 15سنة، ثم تبقى هذه المرأة تلاحقه حتى بعد زواجه، ثم تختفي لفترة طويلة يعلم بعدها أنها تزوجت خارج العراق، وتبدأ الأحداث في ألأعظميه ببغداد عندما كان (عدنان) الذي يبلغ الخمسين من العمر يتجول في السوق ليشتري هدايا لأبنته وزوجته قبل عودته لمدينته، وهو موظف بسيط قادم بمهمة ابتعاث من دائرته في العمارة إلى بغداد، وعندها يلتقي بالصدفة بشابة جميلة تغويه ويعجب بها فتسلب عقله لدرجة الوقوع معها في المحرمات وارتكابه الخيانة مع هذه المرأة صاحبة الماضي الغابر والحاضر الضبابي (أطياف) ولكنه يكتشف فيما بعد أنها (فاتن) عادت من جديد لتدمر أسرته وحياته، وبذلك ينشأ صراع حاد بينهما يؤدي إلى مرضه النفسي الذي يشرف على علاجه دكتور نفسي يتعرف علية في عودته من بغداد في السيارة التي تقلهما إلى مدينة العمارة وهو الدكتور(عماد) الذي يشرف على علاجه بعد عودته إلى العمارة، ولا سيما بعد دخول عدنان في دوامة من الشك بالمرأة التي مارس معها نزوته الشهوانية العابرة التي أصبح يشبهها بامرأة يعرفها سابقاً تشبهها، وشكه ايضاً بزوجته الوفية التي يظن أنها مثله خائنة من جهة، ومن جهة اخرى يعاني تأنيب الضمير على فعلته التي يشعر بسببها بأنه تم فضحه بسبب تعامل زملاء عمله معه وتعامل زوجته له، ما أوصله إلى مرحلة الانهيار العصبي.

وأخذ ينبش في ذكريات الماضي ويستذكر مرحلة الطفولة والشباب ونشأته الأولى في قضاء المجر مع (وفاء وأطياف وأخيها يوسف) فتعود هذه الشخصيات كأشباح تطارد خياله المجهد، فيقرر إن لا راحة له إلا بعد ان يتأكد من المرأة التي لها ظل فيعود إلى بغداد مرة أخرى ليبحث عنها ليتأكد من هويتها ويحاول أن يبعدها عن حياته ويقطع صلتها بزوجته خشية أن تفضحه أمامها، وبعد ملاحقة ماضيها من اخيها (يوسف) أستطاع واخيراً تحديد موعد آخر يجمعهما، وسرعان ما يشعر أن هذا الموعد قد اخذ غير منحى لأنها لم تتقبل فكرة ألابتعاد عنه حتى بعد انتقامها منه.

فيحدث نقاش محتدم بينهما يؤدي إلى التدافع فتسقط أطياف ويتوهم أنه قتلها، ويهرب مسرعاً للعودة إلى مدينة عماريا، وبعدها تبدأ رحلته في التعذيب النفسي والتوهم والشك والخوف والقلق والتيه في دوامات الترقب لمواجهة مصير السجن، فتنتهي الرواية بعد احتدام المشاهد والحبكات وتنوع أشكال الرواة التي تسرد من وجهة نظرها حكاياتها أو حكايات غيرها فتدفع الأحداث إلى الاشتباك الذي ينتهي بتأزم يقود إلى الحل في النهاية نفاجأ بأن(عدنان) راقد في مستشفى حوله زوجته وابنته تذرفان الدموع وَسَط فرحة عارمة بعودته للحياة بعد ان كان مَيِّت سريرياً وهو يفتح عينيه أثر غيبوبة دامت أسابيع، ونكتشف أنه كان ضحية انفجار في سوق ألأعظميه حتى قبل أن يشتري الهدايا لأبنته، وهذه الهواجس والذكريات والصراعات التي طالته والترقب الذي عاشه والخيانة التي ارتكبها، ماهي إلا بواطن عقله الداخلي اللاوعي فقد كانت من وحي خياله الغير يقظ، وجميع أحداث الرواية لم تحدث لكن ربما تكون الأشخاص حقيقية لأنهم أطياف الماضي الذي يمثل في رغبته الدفينه (بفاتن) التي لم يصارح نفسه باشتهائها مسبقاً، أو ربما يكون هذا السيناريو والاسترجاع وسيله ليعمل عقله على نسج هذه السيناريوهات لكي لا يدخل في سبات الموت فيبقى حيٌّ يُرزَق.

التطبيق

أن رواية (امرأة الظل)تضمنت الكثير من الشخصيات (رئيسة وثانوية) و (المعقدة والبسيطة) فجعلت العمل الروائي ينهض بالأحداث وصولاً إلى الذروة والصراع فالشخصيات هي أحد تقنيات العمل السردي والروائي جعل لها ملامح وتوجهات عقائدية وفكرية أيديولوجية بالأضافة إلى عقد نفسية في شخصياته الرئيسية فجعلها تنكشف ووتوضح جوانبها للقارئ، ولأنه راوي عليم فهو يسرد عن شخصياته وعن ماضيها ومستقبلها وهو يعرف مايظهر منها وما بطن وهو عليم ببواعثها الداخلية النفسية وسلوكياتها وقسماتها وبواطنها فقد رسم ملامح كائناته الورقية بكل دقة وجعل القارئ يكتشف بالتأويل أنماط من هذا الصراع الأجتماعي والنفسي والديني والسياسي لهذه الشخصيات سواء كان صراعها داخلي بين ذاتها أو خارجي مع غيرها والمجتمع، ومن اهم انماط الصراع تبعاً لنوع الشخصيات وتطور الأحداث في الرواية هي:

1-الصراع الاجتماعي: في الرواية يوجد نمط الصراع الأجتماعي من أحتدام واشتباك الاحداث التي تشترك من فعل الشخصيات في الرواية ومنها شخصيات ثانوية نامية معقدة، كشخصية (يوسف) وحكايته مع حبيبته(ديما) فيظهر الصراع الطبقي بينهم والذي أحال من فكرة استمرار زواجهم (يوسف) المهندس والحاصل على شهادة الدكتوراء في الهندسة المدني، لكنه يبقى شخصاً وافداً من الجنوب وتحديداً من قضاء (المجر) في محافظة (ميسان) وهو من أبناء الفلاحين اصحاب الطبقة البسيطة الفقيرة، أو ماتسمى (البلورتاريا) أما (ديما) البنت المدللة، ابنة الطبقة المخملية تسكن منطقة (المنصور) في محافظة (بغداد) واهلها من اصحاب التجارة ورؤوس المال اي من الطبقة (البرجوازية) فهذا الأختلاف الطبقي والأقتصادي ولد صراع بين الشخصيات (خارجي) مع المجتمع وأعرافه صراع الفقير والغني وأختلاف المستويات المعيشية، حال دون اكتمال قصة حبهما وزواجهما، فكان سبب هذا الصراع هو(المجتمع) وقيوده الأقتصادية، ومثال على ذلك: "ذات جمعة كنت مشغولاً بتنظيف البيت، جاءتني مكالمة من امرأة لا أعرفها، ولما سألتها من تكون قالت:

- أنا (ديما) ابنة بهجت المقاول الذي تعمل معه" ص108.

ومثال ذلك أيضاً في وصف يوسف لمكانة ديما المجتمعية وحياتها المترفه في قوله: "كانت ديما تنتظرني على باب القصر وعندما دخلت، جلست في صالة طولها كذا وعرضها كذا كأني جالس في قصور النبي سليمان (ع)، صروح ممردة بالقوارير، ولجة كأنها ماء البحر ونقوش تعجز العين عن متابعتها، ورقوش ومنمنمات غاية في الدقة، ومنحوتات تحكي لك مقامات الترف وأخيلة الستائر والأرائك وغيرها" ص109.

وفي نهاية الصراع تبخرت الأحلام وافترقا الحبيبين لفوارقهما الطبقية، ومثال ذلك: " نعم ما دمنا نحب بعضنا، ولم يكن حاجز بيننا سوى أبيها بهجت والأيام كفيلة بتذليله والقبول بالأمر الواقع، وتعود الأيام صافية نسكن بقصره وتحت رعايته. لكن الذي حصل بعد ذلك غير هذا"ص118.

ويمكن ملاحظة نوع آخر للصراع المجتمعي في شخصية نامية أيضاً ومعقدّة وهي (لين) فتاة ليل الهاربة من أهلها، والتي اجبرتها ضغوط المجتمع وسلطته المضطهده لها، فصراعها الشخصي كان سببه إفرازات المجتمع واصحاب السلطة ومنهم (الضباط) وأستغلالهم لها ومعاملتها كسلعة للمتاجرة بشرفها وجسدها والنظر كوعاء لهم لتفريغ شهواتهم الحيوانية وكأنها ليست من البشر ولديها روح وفكر، ومثال ذلك: "اضریت عن تناول الطعام الذي يدس فيه المخدر حتى صحيت وهددته بأهلي وعشيرتي، وأن ما يفعله جريمة لا تغتفر، وأن ورائي رجالاً بل راح يضحك مستهزئاً بي، اخبرته سيقتصون منه أو أنا أقتص منه إذا لم يتركني لحالي، لكنه لم يصغ لكلامي، تشاجرت معه ودفعته، وبدأت بالصراخ بكل قوتي، ولما رأى الغضب والهيستريا مني صفعني بكل قوته على وجهي حتى أدمى فمي"ص141.

فهذا الصراع مع الشخصيات الأخرى كان سببه المقاومة ورفض الأستغلال، وخاصة هي من أسرة محافظة وكانت زوجة مخلصة ولديها تحصيل علمي، لكن ظروف الحياة والفقر وتخلي اهلها ومحاربة المجتمع لها والاعتداء عليها واغتصابها، جعلها تنحرف بالإجبار وتتغير سلوكياتها، ومثال ذلك بقولها: "لقد باعني النذل كما تُباع الخراف في حضائرها، أو كما تباع النساء في سوق النخاسة، وكأني ملك له"ص143.

وكذلك أيضاً: " لم تفعل بي كل هذا؟ ألا تعلم أني بنت أناس ولي زوج وطفلان؟ وأنا قادمة من أهلي لرؤية أطفالي ؟ أليس لك ضمير؟ ألا تخاف الله؟ ولو كانت لك أخت، هل تحب أن يفعل بها كما تفعل بي؟ أما شبعت؟ أرجوك أطلقني أرى أطفالي"ص141.

وادى ذلك الصراع الاجتماعي أن تصبح من الطبقة اصحاب الفقيرة المهمشة المسحوقة تسكن منطقة (البتاوين في بغداد) ومثال ذلك: "سقطت دموعها، وراحت تبكي وتتمتم، أين كنت ؟ وماذا صرت ؟ تائهة لا سكن لي ولا أهل ولا معين، يا حرقتي على أطفالي منذ عامين لم أرهم، وزوجي حبيبي الذي ضحى من أجلي لا خبر له، مضى دار العز، وسكنت دار الذل والهوان، وبقيت في ضلال لا أعرف أين ومتى ينتهي بي المطاف"ص142.

والمؤلف يصور لنا في روايته هذا الصراع الناتج من ظلم المجتمع لهذه الطبقات المهمشمة واستغلال فقرهم وحاجتهم، والتأثير في توجهاتهم الأخلاقية فالروائي يمثل صراع (لين) الخارجي مع مجتمعها ومع أهل زوجها الذين طردوها بعد استشهاد زوجها (مصطفى) في الموصل واخذهم لأطفالها وحرمانها منهم، فظلم أفراد المجتمع لها جعلها في صراع مع محيطها الخارجي ومع شخصيات أخرى في الرواية، وصراع مع ذاتها (الداخلية) وهذا الصراع يذكره الروائي كنوع من التبرير لبعض الشخصيات التي نراها في واقعنا الاجتماعي وكيفية تبرير سلوكها ورضوخها للظروف القاهرة وإستسلامها وحتى التحكم في انحرافها عن مسيرها المستقيم وفيه نوع ايضاً من التبرير لأفعالها الناتجة من قسوة المجتمع لها.

2-الصراع السياسي أو الايديولوجي: ويمكن رصد نمط هذا الصراع في الرواية بأفعال شخصياتها النامية والمعقدة وهي غالباً ماتكون شخصيات رئيسية كشخصية الطبيب النفسي والأمراض العقلية (عماد) صديق عدنان أو ربما هو صوت المولف الذي يختبأ خلف هذه الشخصية بتقنية (القناع) أو (المؤلف الضمني) ليتخذ هذه الشخصية كستار يبث من خلالها افكاره الأيديولوجية الخاصة، فبتقنية (الأسترجاع)وعلى لسان شخصية (عماد) يروي لنا الماضي وصراعه مع السلطة المتمثلة بالنظام الدكتاتوري ومثال ذلك: "لم أكن أعرف أن السياسة متدنية إلى هذا الحد من الحقارة والجريمة في هذا الوقت، وكل ما أعرفه وعشته أن للإنسان حرية في رأيه ومعتقداته أياً كانت فقط عدم القيام بأنشطة تتعارض مع توجهات الدولة ومحاربتها، ومن هنا بدأت المعاناة والحرب العلنية تجاهي، وأول الغيث ما تفاجأت به هو القطر، فقد تم تنحيتي من عمادة كلية الطب في جامعة بغداد إلى أستاذ في نفس الجامعة، ثم بدأ التعرض والتحرش القذر بعائلتي"ص47.

فالطبيب عماد يكشف لنا صراعه (الخارجي) مع محطيه ومجتمعه واضطهاد السلطة والنظام البائد له وهروبه من (بغداد)إلى الجنوب أي إلى (العمارة) بعد خوفه على اسرته وأولاده والبحث لهم عن مكان آمن للعيش بعد أرهابهم وترويعهم من قبل أفراد الأمن، جاء هذا الصراع نتيجة لأفكار عماد الأيديولوجية الحرة الجريئة تجاه جبروت وطغيان السلطة وهروبه من حبل المشنقة بسبب تحديه السلطة كمواطن عراقي ثائر وتصديه للنظام الجائر، وصراعه هذا افقده الأمن والحرية والعيش بخوف وقلق التعذيب والسجن، وهو يصف حال التغرب المجتمعي اثر الفكر الذي يحمله الانسان الحر والذي يستمر بطبع الانسان وديمومته حتى في زمن مابعد سقوط الدكتاتور، ومثال ذلك: "أما ما يشوب البلاد الآن من كثرة الأحزاب والتكتلات والجماعات فهم في أغلهم أناس غير متعلمين ولا متحضرين جاءوا من خلف الحدود مجندين من الدول التي لجأوا إليها لتنفيذ مصالحها ومطامعها، وما تمليه عليم تلك الدول من أوامر، ضاربين عرض الحائط بما يعرف بالانتماء الشريف للوطن ومقدساته"ص53.

وقد يشترك الصراع السياسي والفكري الديني والمجتمعي في أحداث الشخصية الروائية الواحدة في وصفها صراعاً خارجياً له، وهذا الصراع يكشفه لنا الشخصية الرئيسية، شخصية بطل الراوية(عدنان)، ومثال ذلك: "ففي زمن الطاغية ذقنا الأمرين من كبت الحريات ومجاعة عامة أدت بالعراقيين إلى الهجرة من البلاد تخلصاً من جور الحاكم الذي زج العراق في دوامة من الحروب راح ضحيتها الملايين من شباب ورجال الوطن، ثم سقط هذا الصنم، واستقبلنا من جاء بعده استقبالاً كبيراً. منا أننا سنعيش بسعادة ورخاء، فى ظل سياسيين يرفعون شعار الحزب، والرايات الدينية، حتى توضح أنهم اكثر بشاعة من غيرهم فنهبوا خيرات البلد"ص70.

والمؤلف هنا ينقل افكاره الأيديولوجية التي ينقلها للقارئ أو المروي له بأتخاذه شخصية (عدنان) كقناع وهو يتحدث عن الوضع السياسي وما يخلقه من صراع مجتمعي وسياسي وديني عاشه المواطن العراقي في قبل سقوط الدكتاتور وبعده، وهذا الصراع السياسي يصوره الروائي في اقوال وافعال شخصياته التي تدفع الحدث للتطور وصول الصراع إلى ذروته، ومثال ذلك: "لم تكن هذه الاستراتيجية وليدة العصر الحديث، فمنذ العصور القديمة والهجمات تتفاقم على بلادنا العربية للاستحواذ على خيراته وثرواته الغنية، فقدموا الجيوش والجحافل وقتلوا البشر بحجة الإعمار والإصلاحأما الآن فعادوا بعد تحرر البلدان العربية من جورهم ولصوصيتهم، ولكن بطريقة أخرى من خلال العقوبات الاقتصادية والتدخل غير المشروع في شؤون الدول الداخلية"ص71.

3-الصراع الديني: وفي رواية (امرأة الظل) يظهر نمط هذا الصراع الذي تجسده معاناة الشخصيات الثانوية كشخصية (وسام) أخ وفاء وشخصية (نوار) وهو صراع في المعتقد الطائفي ومكونات المجتمع العراقي، (فوسام) الطالب الحالم بنيل شهادة الطب والقادم من الجنوب من محافظة (العمارة) ليدرس في محافظة (الموصل)، وهو من المكون (الشيعي) وإما (نوار) الطالبة، ابنة احد كبار شيوخ الموصل، وهي من المكون (السني) وهذا الصراع الذي ينشأ من اختلاف الطائفتين أبان الحرب الطائفية يؤثر على هذه الشخصيتان وعلى علاقة حبهما، ومثال ذلك: "بعد إنهاء الكورس الأول بتفوق غالب سامي فيها مشاعره ولم يظهرها لها، وغالبت هي الأخرى مشاعرها وكتمتها بحزم رغم صراع العقل بالعطافة، لكنها وبدون إرادتها وجدت نفسها تهفو إليه بشدة، للقاء مرتقب قريب، وفي المرحلة الرابعة برزت بوادر للصراع الطائفي، وسريعاً ما تأجج أوارها، وراح طلاب الأغلبية يحاصرون الأقلية من طلاب المحافظات الجنوبية، وتهديدهم بالرحيل من المدينة أو القتل"ص222.

فيصور لنا المؤلف عبر شخصياته الروائية حجم الدمار الناتج من هذا الصراع الذي ينشأ على مبدأ العقيدة أو الطائفة، ويصف حالة الأضطهاد الشخصي والأغتيال على الهوية كنوع من صراع العداء بين المكونين والذي تنعكس آثاره على المجتمع، ومثال ذلك: "نظر سامي بعيني نوار ثم انحنى ليلتقط القصاصة الراسية على حذائه، وعرضها أمام ناظريه، تبادرت له أول كلمة، بخط كبير تتوسط الورقة " تحذير " وبما أن نوار المعنية بها ناولها لها، ارتجفت يدا نوار وهي تتوغل بتفاصيل التحذير!.....إلى ابنة مدينتنا نوار ومن معها من طلاب الجنوب، نحذرك أولاً من مرافقة هؤلاء الضالين، وعليهم الخروج من المدينة وترك الدوام في الجامعة، وخلاف ذلك سيعرضون انفسهم إلى القتل، في غضون ثلاثة أيام، وقد اعذر من أنذر، ثم ذكر أسماء الطلاب أسفل الورقة يتصدرها اسم سامي ثم ختمت الورقة بجملة(الطلاب الجهاديون)"ص225.

فالصراع الديني ينشأ مع أختلاف المعتقد للأشخاص وبالتالي تصادمهم، وبشكل ما سيؤثر هذا الصراع على المستوى العاطفي، والمؤلف يشوقنا من خلال تمثيل الشخصيات، وتصاعد الأحداث والصراع الديني، لمعرفة من له الغلبة ؟ ومن له الهزيمة في الحب؟ وهل تستطيع العاطفة والحب بين شخصين أن تغلب هذا الصراع المحتدم؟ حتى وان الشخصيتين تمثل أقطاباً لطائفتين مختلفتين، ومثال ذلك: "تغيرت الأوضاع، بسبب الظروف الرديئة، وعمليات الأغتيال على الهوية، فمن يحتمل أن تكون نوار ذات القد الأهيف والجمال المذهل قعيدة عربة، ومن يصدق أن يكون سامي الطالب الواعد والحالم بشهادة الدكتوراه قعيد الدكان وفي رقبته مسؤولية إعالة أمه وأخته وأخيه الذي يتم دراسته خارج البلاد"ص235.

والصراع الديني قد يتظافر مع الصراع السياسي في أحداث الشخصية الروائية كشخصية الدكتور(عماد) والذي يتحدث عن اضطهاد شريحة مهمة في المجتمع من اصحاب العلم والمهن الطبية، بسبب العقيدة أو الهوية، ومثال ذلك: "استمر الحال يسير بهدوء على أتم وجه، حتى عام ٢٠٠٦م وفي خضم دوامة الاضطرابات التي اجتاحت البلاد وخاصة في العاصمة بغداد، وعلى أثر الجريمة المنظمة التي قادتها أياد خفية في إثارة الفوارق الطائفية، والقتل على الهوية، واستهداف النخب من العقول المميزة التي تخدم الوطن بإخلاص وعلمية وقدرة عالية، وخاصة أساتذة الجامعات والأطباء المعروفين بقدراتهم المهنية، هاجرت تحت التهديد والخوف من القتل إلى ألمانيا تاركاً بيتي وأولادي، وعملت هناك كطبيب ممارس في جامعة برلين، ولست سنوات عملت بجد وإخلاص ولكني كنت أشعر بالغربة والحنين إلى وطني وبيني وعائلتي"ص46.

4- الصراع النفسي: ويمكن رصد هذا النمط من الصراع بشكل كبير جداً في مضمون رواية (امرأة الظل) والصراع النفسي هو وتقريباً (ثيمة) المؤلف هنا لأنه يقسم روايته هذه إلى (جلسات) وليس فصول، كما ضمن روايته بالرمز النفسي والعلامات السيميائية النفسية للدلالة على وجود الصراع النفسي الداخلي في الشخصيات بين ذاتها وصراعها مع الشخصيات الأخرى، واهم هذه العلامات النفسية تبدأ من عنوان الرواية فأمرأة الظل دالة على ازدواجية الشخصية النرجسية التي جسدتها (فاتن) وهي نفسها (أطياف) وكأنها شخصية لها ظل وماضٍ اسود يرافقها كهالة تدل على آثامها وظلامها، والاسم (إطياف) لهذه الشخصية هو كشبح من الماضي يطارد ذكريات (عدنان) ومن العلامات الأخرى التي لها دلالات نفسية هي ارتدائها قميص باللون (الأصفر) وهذه إشارة إلى خبث هذه الشخصية ومكرها وغيرتها أو كبت غرائزها ورغبتها الشهوانية تجاه (عدنان) لان اللون الأصفر يرتبط بالحرارة، وايضاً من علامات عدم الأتزان العاطفي لديها شرب الخمر والتعطر بشكل مبالغ فيه دلالة على الأغراء لجنس الرجال، فهي امرأة لعوب استطاعت اصطياد عدنان والعبث بمشاعره وعواطفه وتمكنت من الأنتقام منه، ومثال ذلك: "كانت تدرك أنه يتأمل قدومها، وفي قرارة نفسها تؤكد أنه صيد سمين وسهل الوقوع في شراكها، وصلت قريباً منه، وتجاوزت بخطوات، ومن ثم التفتت نحوه للحظة"ص9.

وكذلك في قول الراوي وهو يصف نواياها الأنتقامية: "هذا اللقاء كانت تتمناه أطياف منذ زمن طويل، فقد انتظرته وطالما خططت له وأجهدت نفسها من أجله ولكنها لم تنله، حتى جاءت تلك المصادفة الغريبة والتي لم تحسب لها، ودون عناء، ليكون عدنان بين يديها وطوع أمرها لتنفيذ ما اختزنته ذاكرتها في سالف الأيام"ص22.

فعند تحليل شخصية (أطياف) يظهر الصراع (الداخلي والخارجي) فيها، فهي شخصية رئيسية نامية معقدة تتطور بفعل الإحداث لتخلق الصراع، ويمكن توضيح نمط هذا الصراع في هذه الشخصية بإتباع تصنيف (سيغموند فرويد):

(الهو): يتمثل (باللاوعي) في شخصية أطياف هي الغرائز والرغبات العاطفية المكبوتة، وسلوكياتها الغير متزنة وانحرافها بممارسة الرذائل والخيانات الزوجية لكلا ازواجها (جلال) و(عواد)، وكذلك سعيها للإنتقام من (وفاء) زوجة (عدنان) لغيرتها منها وكرهها لصديقتة طفولتها وسبب ذلك هو تفضيل عدنان وفاء عليها وأختيارها زوجة له بدلاً منها، فتظهر رغبات اللاوعي بالعودة لهذه الشخصية (النرجسية) المغرورة التي تجد صعوبة في تقبل رفض عدنان لها ففي أول فرصة سنحت لها تمكنت من أغواء عدنان وإيقاعه في شباكها العنكبوتية فقد أغرته وجعلته يخون زوجته (وفاء) المخلصة، وهذه الرغبات المكبوتة تظهر الشخصية بصورة سوداوية من الداخل تعيش صراع الحب من طرف واحد والرفض من الشخص الذي تحبه فتقرر الأنتقام منه وتلقي بضلها على حياته الهانئة فتدمره، ومثال ذلك: "لقد فعلت فعلتها هذه العنكبوت، ونصبت شباكها المحكمة لتسلل إلى قلبينا وتفترس تلك العلاقة المحكمة من طيبة وحب وحنان، ما إن تزوجت فاتن ورحلت بعيداً عن وجهها، استقرت وهدأ بالها، كل هذه الفترة التي مضت اختفى وجودها عنهما، والآن تعود بأبشع وجه لتخطف زوجها بكل سهولة، وهو يعرف أهدافها السيئة، ونواياها الخبيثة"ص203.

(الأنا الأعلى): وهو مستوى الوعي في شخصية (أطياف) والذي يتمثل في الهواجس النفسية من الأصرار على الأنتقام من (عدنان) لعدم تقبلها شعور الرفض والإقصاء والنفور من قبل عدنان، فالوعي النفسي عندها يتجسد في رفض انوثتها واحساسها بأنها شخص غير كافي فمنذ الطفولة تشعر بالنقص منذ أيام الطفولة والصداقة بينها وبين يوسف اخيها ووفاء وعدنان، فهي صدمات طفولة امتدت لفترة النضج النفسي، مما ولد لديها الصراع الذاتي والثأر لأنوثتها المرفوضة، ومثال ذلك: "فقالت: لا تتحاذق ! لا بد أن تكون إحدانا أجمل من الأخرى.

سكت ولم يجبها، ثم أقسمت عليه أن يقول الحق، وكانت مغرورة بجمالها، تعد نفسها إحدى ملكات جمال العالم، صحيح أنها جميلة، ولكنها فضة مبتذلة تخون صديقتها(وفاء) التي تحبها، فأقبل عليها عدنان بوجهه قائلاً: أنظرى يا فاتن إنك صديقتي وزميلة الطفولة ولا ينقصك شيء، إنما الزواج قسمة ونصيب، فليس الجمال وحده يجعل المرء يُقدم على اختيار أميرة أحلامه، بل هناك عوامل أخرى تؤثر في اختياره، تتعلق بتربيته ونفسيته، وانا اخترت شريكة حياتي وفاء وانتهى"ص27.

(الأنا): وقد تجسد في نظرة المجتمع لأطياف الذي نتج عنه (صراع خارجي) يتمثل بالأشمئزاز من أفعالها، ونبذ اخيها (يوسف) لها، وخاصة لأنها شخصية صعبة الترويض وغير مستقرة وغير سوية، وزوجة خائنة لم تحافظ على زوجها (جلال) الذي طلقها، وثم زوجها (عواد) الذي خانته أيضاً وتقبل ذلك في بادئ الأمر، ثم بعد ذلك طلقها من شدة انحرافها واستخفافها وعدم تقديرها للحياة الزوجية، وهذا الصراع مع محيطها الخارجي ولّدَ صراعاً لديها، ومثال ذلك: " لما علم زوجها (جلال) ذلك منها، نصحها بعدم الخروج والسهر مع اسر يختلفون بعاداتهم وتقاليدهم عنهما، لكنها لم تستجب لنصحه، ولما كرر عليها ذلك ازدادت عناداً وتحدياً له، فما كان منه إلا أن رحلها إلينا"ص170.

وكذلك في قول يوسف الذي يصف انحدارها الخلقي: "وراحت تخرج بدون علمي، وتقضي نهارها خارج البيت، وأحيانا تعود في الليل استأت منها ومن تفاهاتها، وفي ذات ليلة وصلت الشقة في ساعة متأخرة من الليل، وكنت أنتظرها، شممت رائحة الخمر من أول دخولها، لم أشأ الحديث معها؛ لأني أعرف سرعة غضبها، خوفاً أن تعود في ذلك الليل للخروج من شقتي، فأجلت الحديث معها إلى الصباح"ص171.

فالمؤلف رسم ملامح هذه الشخصية بكل دقة وهو عليم ببواطنها النفسية وتقلباتها المزاجية التي تبين لنا بإنها مريضة بعقد نرجسية(سايكوباثية) منتقمة تهوى السيطرة، تعيش صراع مع نفسها ومحيطها وصراع خاص بها مع شخصية أخرى وهي (عدنان)، فيدور بينهما حوار يحتدم الصراع به وصولاً لإرتكاب عدنان جريمة قتلها، ومثال ذلك: "ثم وقفت كأفعى تفح كما لو أن خطراً داهمها، وهي تتهيأ للهجوم، جئت بي هنا لتوضح لي كراهيتك، وتدوس كرامتي، وأنا أتصور أنك تغيرت وجئت لتصلح اخطاءك؟!

-لا بأس، أنا كل ما أبغيه هو التفاهم معك.

- التفاهم على أي شيء؟

عليكِ أن تبتعدي عني وعن عائلتي وتدعينا نعيش بسلام، ضحكت ضحكة هستيرية، وبدأت تعربد وتصرخ وتقطع شعرها، وتكيل له أقذع الشتائم والسباب، جئت لتهينني أيها الحقير، القذر، تظهر الفضيلة أمام وفاء، وأنت أكبر دنيء؟! فحاول تهدئتها وإسكاتها بكلمات لطيفة ورجاها أن تسكت، فإن صوتها وصل إلى مسامع سكان العمارة، فتمادت وراحت تبحث عن آلة تضربه بها، وحمداً لله لم تجد، فعادت كالكلب العقور ومسكته من قميصه بيد وفي الأخرى تضرب وجهه وصدره، وهي تصرخ، أخرج أيها الحقير الدوني، فإن كل ما جرى لي بسببك، وكل ما صرت إليه من ورائك، أنت وزوجتك وفاء، تأمرت علي وسرقتك مني.

وراحت تهزه بعنف حتى تقطعت بعض ازرار قميصه، ثم تركته وبصقت في وجهه، فأثارت غضبه مسكها من كتفيها بقوة وهزها وهو يقول:

أما اكتفيت ؟! ايتها المريضة؟ لم أحبك يوماً، وكنت أكرهك منذ الطفولة، وما كان بيننا من أيام لم أعرف أنها أنت، إليك عني، دفعها ليتجاوزها ويخرج، لكنها تشبثت به، حاول التخلص منها وإبعادها عنه، فدفعها، فترنحت ثم هدأت وذابت كالعجينة الطرية وسقطت في قاع الصالة"ص183.

فهذا الحوار يصور حدة الصراع النفسي بين شخصية (أطياف) و(عدنان).

***

نور ضياء فالح حسين

........................

المصادر والمراجع

1-الأدب والصراع الحضاري، عود شلتاع، دار المعرفة، دمشق، سوريا، 1995.

2-البنية والدلالة في روايات إبراهيم نصر الله، أحمد مرشد، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ط1، 2005.

3-التفسير العلمي نحو نظرية عربية جديدة، نبيل راغب، ط1، لبنان، بيروت.

4-الدليل إلى تحليل النص السردي (تقنيات ومفاهيم)، محمد بو عزة، دار العربية العلوم، ط1، 2010.

5-الرواية والتحولات، عامر مخلوف، منشورات إتحاد كتاب العرب، دمشق، سوريا، 2000.

6-الصراع الأجتماعي في رواية (عمالقة الشمال) لنجيب كيلاني، من منظور كارل ماركس ودراسة الأدب الأجتماعي، إنتان أوكتفيينا، جامعة مولانا مالك ابراهيم الأسلامية، 2022.

7-الصراع في رواية (وبدأ الظلام) لعمرو المنوفي، شمار إبتسام، مذكرة ماستر، جامعة بسكرة، كلية الآداب واللغات، 2020.

8-المدخل في الأيديولوجيا والحضارة، خليفة عبد الرحمن وأفضل الله محمد إسماعيل، مكتبة سبتان للطباعة والنشر والتوزيع، الإسكندرية، 2006.

9-المصطلح السردي، جيرالد برنس، تر: عابد خزنة دار، المشروع القومي للترجمة، القاهرة، ط1، 2003.

10-المصطلح السردي في النقد الأدبي العربي الحديث، أحمد كريم رحيم الخفاجي، دار صفاء للنشر والتوزيع، عمان، 2012.

11-المعجم الفلسفي، جميل صليبيا، دار الكتاب اللساني، لبنان، ط1، 1971.

12-النظرية المعاصرة في علم الأجتماع، محمد عبد الكريم الحوراني، دار مجدولاي، عمان، الأردن، ط1.

13-النقد الروائي والأيديولوجيا (من سيمولوجيا الواقع إلى سيمولوجيا النص الروائي)، حميد الحميداني، المركز الثقافي العربي، بيروت، لبنان، ط1، 1990.

14-امرأة الظل، رواية، عبد الرضا صالح محمد، مؤسسة حماد الراوية للطباعة والنشر، بغداد، العراق، ط1، 2023.

15-إنسانية الأنسان، رالف بارتون، تر: سلمى خضراء الجيوسي، دار المعارف، بيروت، لبنان، 1961.

16-أنواع الصراع في روايات نجيب كيلاني، احمد ميساوي، 1994.

17-بنية النص السردي في منظور النقد الأدبي، حميد الحميداني، المركز الثقافي العربي للطباعة والنشر، بيروت، لبنان، ط1، 1990.

18-تحولات الشخصية في الرواية العراقية بعد عام 2003، سارة راضي بشارة، مجلة الدراسات المستدامة، العدد الرابع، 2021.

19-تقنيات السرد الروائي في ضوء المنهج البنيوي، يمنى العيد، دار الفارابي، بيروت، لبنان، ط1، 1990.

20-دراسة الصراع الأجتماعي في رواية الأرواح المتمردة، رسالة ماجستير، كلية الآداب، أندونوسيا، 2018.

21-دراسة بنية الشخصية في رواية ماجدولين لمصطفى لطفي المنفلوطي، رحالي سهام وكراري إيمان، مذكرة ليسانس، 2021.

22-عناصر الرواية الأدبية، يوسف حسن حجازي، ط1، 2010.

23-عناصر القصة القصيرة، كمال غنيم، الجامعة الأسلامية، غزة، 2015.

24-في النقد الأدبي الحديث منطلقات وتطبيقات، فائق مصطفى وعبد الرضا علي، مديرية الكتب للطباعة والنشر، جامعة الموصل، بغداد، العراق، ط1، 1998.

25-نظريات الشخصية، راضية طامش، مطبوعة بيداغوجية، جامعة ابي بكر بلقايد، تلمسان، 2022.

26-نظرية الرواية، عبد الملك مرتاض، مجلة عالم المعرفة، 1998.

27-نقد الفكر الأجتماعي المعاصر، محسن خليل عمر، الدار البيضاء، المغرب، ط1، 1978.

ينظر، التفسير العلمي نحو نظرية عربية جديدة، نبيل راغب، ص214.

تحولات الشخصية في الرواية العراقية بعد عام 2003، سارة راضي بشارة، ص472.

ينظر، الصراع في رواية وبدأ الظلام لعمرو منوفي، شمار إبتسام، ص21، 22.

ينظر، تحولات الشخصية في الرواية العراقية بعد عام 2003، سارة راضي بشارة، ص471.

ينظر، عناصر القصة القصيرة، كمال غنيم، ص1، 2.

ينظر، الرواية والتحولات، عامر مخلوف، ص25.

عناصر الرواية الأدبية، يوسف حسن حجازي، ص18.

ينظر، دراسة الصراع إلاجتماعي في رواية الأرواح المتمردة، ص67.

ينظر، عناصر الرواية الأدبية، يوسف حسن حجازي، ص19.

نظريات الشخصية، راضية طامش، ص20.

ينظر، النقد الروائي والإيديولوجيا، حميد الحميداني، ص23.

ينظر، انواع الصراع في روايات نجيب كيلاني، احمد ميساوي، ص62.

ينظر، نقد الفكر الإجتماعي المعاصر، محسن خليل عمر، ص18.

النظرية المعاصرة في علم الإجتماع، محمد عبد الكريم الحوراني، ص86.

ينظر، الصراع الإجتماعي في رواية(عمالقة الشمال)لنجيب كيلاني من منظور كارل ماركس، إنتان أوكتفييانا، ص27.

الأدب والصراع الحضاري، عود شلتاع، ص97.

ينظر، المدخل في الأيديولوجيا والحضارة، خليفة عبد الرحمن وأفضل الله محمد إسماعيل، ص26.

ينظر، الصراع في رواية(وبدأ الظلام) لعمرو المنوفي، ص20.

المعجم الفلسفي، جميل صليبيا، ص725.

ينظر، عناصر الرواية الأدبية، يوسف حسن حجازي، ص23.

ينظر، الأدب والصراع الحضاري، عواد شلتاع، ص90_97.

إنسانية الأنسان، رالف بارتون، تر-سلمى خضراء الجيوسي، ص120.

ينظر، نظريات الشخصية، راضية طامش، ص31، 32، 33.

ينظر، المصطلح السردي، جيرالد برنس، ص42.

البنية والدلالة في روايات إبراهيم نصر الله، أحمد مرشد، ص23.

المصطلح السردي، أحمد رحيم كريم الخفاجي، ص375.ف

بنية النص السردي في منظور النقد الأدبي، حميد الحميداني، ص51.

28- تقنيات السرد الروائي في ضوء المنهج البنيوي، يمنى العيد، ص42.

29- نظرية الرواية، عبد الملك مرتاض، ص91.

30- - ينظر، الدليل إلى تحليل النص السردي تقنيات ومفاهيم، محمد بوعزة، ص39.

31- ينظر، تحولات الشخصية في الرواية العراقية بعد عام 2003م، سارة راضي بشارة، ص 466، 467.

32- ينظر، نفس المصدر السابق، ص470، 471.

33- ينظر، دراسة بنية الشخصية في رواية ماجدولين)، رحالي سهام، كراري ايمان، ص16، 17.

34- ينظر، المصدر نفسه، ص18، 19.

35- ينظر، في النقد الأدبي الحديث منطلقات وتطبيقات، فائق مصطفى و عبد الرضا علي، ص 138، 139.

36- امرأة الظل، رواية، عبد الرضا صالح محمد، ص245

من السرديات البنيوية إلى آفاق النقد الرقمي

في زمنٍ تتكاثر فيه القراءات السطحية للأدب، وتضيع فيه الحدود بين الانطباع والنقد، يبرز اسم سعيد يقطين كأحد أبرز الأصوات التي سعت إلى تأسيس مشروع نقدي عربي متماسك، يزاوج بين صرامة التحليل البنيوي وانفتاح الرؤية على التحولات الرقمية والثقافية. فمنذ ثمانينيات القرن الماضي، ظلّ يقطين وفيًّا لرهانه الأكبر: بناء علمٍ للسرد العربي قادرٍ على قراءة النصوص من الداخل لا من خارجها، وإعادة وصل النقد العربي بواقعه المعرفي والثقافي.

هذا المقال يحاول تتبّع ملامح المشروع النقدي ليقطين، من جذوره البنيوية إلى آفاقه الرقمية، بوصفه تجربة فكرية تسائل النص والواقع معًا، وتضع القارئ أمام سؤالٍ جوهري: هل يمكن للنقد العربي أن يؤسس لنفسه نظرية من داخل لغته وثقافته؟

اختار سعيد يقطين السرد مجالاً مركزياً لاشتغاله النقدي، إذ رأى فيه المدخل الأوسع لفهم الخطابات الإنسانية كافة. فالسرد، في تصوره، يعتبر منظومة فكرية وثقافية تعبّر عن كيفية رؤية الإنسان للعالم وتمثيله له. ومن هذا المنطلق، سعى إلى نقل النقد العربي من الاهتمام بالمضمون إلى تحليل الخطاب السردي نفسه، أي كيفية تشكّل النص ومعماريته وديناميته الداخلية. وقد مثّلت كتبه تحليل الخطاب الروائي وانفتاح النص الروائي علامات فارقة في تأسيس هذا المسار.

إن انفتاح يقطين على البنيوية باعتبارها منهجا غربيا، يشكل توظيفا واعٍيا لها في سياق ثقافي عربي. فقد استند إلى مقاربات جيرار جينيت ورولان بارت وتودوروف، لكنه أعاد قراءتها في ضوء النص العربي. لقد كانت البنيوية بالنسبة إليه مرحلة تأسيس ضرورية لفهم البنية السردية، غير أنّه لم يتوقف عندها، بل تجاوزها نحو منهج تكاملي يجمع بين التحليل النصي والقراءة الثقافية. ففي كتاب انفتاح النص الروائي، دعا إلى فهم الرواية العربية ضمن شبكتها الاجتماعية والتاريخية، دون التخلي عن أدوات التحليل البنيوي. بذلك أسّس لما يمكن تسميته بـ“السوسيوسرديات”، أي النقد الذي يوازن بين البنية والدلالة والسياق.

حدد يقطين ثلاثة مكونات كبرى لتحليل الخطاب السردي: الزمن، الصيغة، والرؤية السردية. فالزمن، في نظره، هو بناء دلالي يكشف عن رؤية النص للواقع. أما الصيغة، فهي الأسلوب الذي تُقدَّم به المادة الحكائية، في حين تعبّر الرؤية عن موقع الراوي من الأحداث ومدى معرفته بها. من خلال هذه المكونات، سعى يقطين إلى تأسيس مقاربة نقدية قادرة على تفكيك البنية الداخلية للنصوص، مع الحفاظ على مرونة تسمح بتطبيقها على أجناس متعددة. غير أن بعض النقاد رأوا أن تركيزه على هذه العناصر الثلاثة قد حدّ من شمولية التحليل، إذ همّش عناصر أخرى كالشخصية والفضاء والحبكة. ومع ذلك، يبقى هذا الاختيار المنهجي أحد أبرز ما ميّز تجربته النقدية من حيث الدقة والصرامة.

مع بدايات الألفية الثالثة، اتجه سعيد يقطين إلى تجديد مشروعه النقدي بالانفتاح على التحولات الرقمية. ففي كتابيه من النص إلى النص المترابط وجماليات الإبداع التفاعلي، طرح مفهوم “النص المترابط” باعتباره شكلاً جديداً من أشكال الكتابة والقراءة في العصر الرقمي. هذا التحول لم يكن قطيعة مع الماضي، بل امتداداً طبيعيّاً لمنهجه البنيوي، لأن النص المترابط يظل بنية، لكنه بنية مفتوحة تتشكل في فضاء إلكتروني متعدد الطبقات. وهكذا، انتقل يقطين من نقد الورق إلى نقد الشاشة، محاولاً إعادة تعريف فعل القراءة ذاته في ظل الوسائط الجديدة. ويُعدّ هذا المنعطف الرقمي من أكثر ما يميز فكره النقدي المعاصر، إذ جعله من أوائل النقاد العرب الذين استشرفوا مآلات السرد في زمن التكنولوجيا.

لم يكن التراث عند يقطين موضوعاً للتقديس أو الإحياء الشكلي، بل موضوعا للنقد والمساءلة. ففي كتاب الرواية والتراث السردي، دعا إلى إعادة قراءة التراث العربي السردي باعتباره نصاً منتجاً للمعنى، فهو يرى أن المقاربة التراثية يجب أن تنفتح على الأسئلة الحديثة دون أن تفقد خصوصيتها، لأن التراث، في نظره،  يعتبرطاقة رمزية يمكن تفعيلها في الراهن. وبهذا المعنى، يتجاوز يقطين الموقفين التقليديين: التمجيد أو الرفض، نحو رؤية نقدية تُدخل التراث في حوارٍ مع الحاضر.

على الرغم من غنى مشروع يقطين، إلا أنه يواجه بعض الإشكالات المنهجية والمعرفية، منها تغليب الجانب النظري أحياناً على التحليل التطبيقي، محدودية العناصر الثلاثة في الإحاطة بكل مكونات السرد، صعوبة ضبط حدود النقد التفاعلي في ظل الانفتاح اللامتناهي للفضاء الرقمي. ومع ذلك، تبقى هذه التحديات جزءاً من طبيعة أي مشروع فكري طموح. فقد منح سعيد يقطين النقد العربي خريطة معرفية جديدة، وساهم في ترسيخ الوعي بضرورة المنهج والدقة والمساءلة العلمية في دراسة النصوص.

يمثل المشروع النقدي لسعيد يقطين إحدى التجارب العربية الأكثر تماسكاً وعمقاً في مقاربة النصوص السردية. فهو مشروع بدأ من البنيوية، لكنه لم يتجمد فيها، بل تحوّل إلى رؤية دينامية تستجيب للتحولات الثقافية والتقنية. لقد قدّم يقطين نموذجاً للناقد الذي لا يكتفي بالقراءة، بل يصوغ نظرية من داخل ثقافته، ويجعل من النقد فعلاً معرفياً لا تابعاً. ومن هنا، يمكن القول إن مسار سعيد يقطين لا ينتمي فقط إلى تاريخ النقد العربي، بل إلى مستقبله أيضاً، لأنه يفتح الباب أمام أجيال جديدة من النقاد لتأسيس نقدٍ عربيٍّ معاصرٍ يستوعب الماضي، ويقرأ الحاضر، ويستشرف الآتي.

***

حسن لمين - كاتب من المغرب

ليس في الحكاية ما يُثير الفضيحة بقدر ما يُثير السؤال: كيف يمكن للحب أن يولد عند حافة الموت؟ وكيف يتحوّل الجسد، في شيخوخته القصوى، إلى آخر محاولة لإنقاذ الروح من العدم؟

في (ذكرياتي مع عاهراتي الحزينات) لا يكتب غابرييل غارسيا ماركيز عن الشهوة، بل عن الإنسان حين يكتشف أن رغبته الأخيرة ليست في المتعة.. بل في الحنان.

في عامٍ تجاوز فيه بطله التسعين من عمره، يقرّر أن يحتفل بعيد ميلاده كما اعتاد — مع جسدٍ جديدٍ، مأجورٍ، خالٍ من العاطفة. لكنه هذه المرّة يطلب من المعرصة "القوادة" القديمة فتاةً بكرًا، نائمة، لا تعرف شيئًا عن هذا العالم. طفلة تعمل في مصنعٍ للخياطة، تُسلَّم له كما تُسلَّم دميةً لعجوزٍ مريضٍ بالوحدة. هناك، في الغرفة الباهتة التي تشبه مسرحًا صغيرًا من غبار الذاكرة، يدخل الرجل زمنًا آخر: يجلس بجوارها، يتأمل تنفسها، يحدّثها وهي غافية، وبدل أن يلمس جسدها.. يلمس طفولته الضائعة.

تتحوّل الليلة إلى مرآةٍ للوعي؛ يكتشف العجوز أن كل النساء اللواتي عرفهن لم يكنّ سوى مرايا مكسورة لانكساره هو، وأنه لم يعش يومًا حبًا خالصًا بل سلسلةً من "الشرمطة" مدفوعة الثمن.

هنا يطلّ ظلّ فرويد من بعيد، يذكّره بأن “الرغبة ليست في الجسد، بل في ما ينقصنا”. فالعجوز لا يبحث عن اللذة بقدر ما يبحث عن المعنى، عن تلك اللحظة التي تلتئم فيها الفجوة بين الرغبة والأمومة، بين الطفلة التي كانت تسكن ذاكرته والأم التي لم تفهم ضعفه.

إن ماركيز، من خلال هذا الاشتباك بين الشيخوخة والبراءة، يُعيد قراءة نظرية فرويد عن “الحنين إلى الأصل”؛ الجسد هنا ليس موضوعًا للغواية، بل عودةٌ متأخرة إلى رحم العالم، إلى الدفء الأول الذي لم يُمنح له..

تتحوّل الرواية إلى مشهدٍ سينمائي بطيء: كاميرا تتجوّل في بيتٍ قديم تغمره رائحة الكتب والعزلة، رجلٌ هرم يمسح غبار الماضي عن الأشياء كما عن نفسه، وضوءٌ أصفر ينعكس على وجه فتاةٍ نائمة لا نعرف إن كانت موجودة أم متخيلة..

في هذا المشهد الطويل، ينهار الخط الفاصل بين الحلم والواقع، بين الجريمة والطهارة. ماركيز يوجّه عدسته إلى داخل النفس لا إلى الخارج، إلى الفجوات الصغيرة في الذاكرة حيث تختبئ الرغبات القديمة كأفلامٍ لم تُعرض بعد..

حين يبدأ العجوز في الكتابة عن حبيبته النائمة في عموده الصحفي، يتحوّل من كاتبٍ روتينيٍّ ساخرٍ إلى عاشقٍ فيلسوف. الكلمات التي كانت يومًا باردة، صارت حارّة مثل دمٍ يعود إلى شرايينه بعد غيابٍ طويل. لم يعد يكتب لقرّائه، بل ليؤكّد لنفسه أنه لا يزال حيًّا.. يتذكّر أمه، وخادمته القديمة، ونساءه الكثيرات اللواتي تجاوز عددهن الخمسمائة، فيغمره الندم لا على الخطيئة.. بل على البرود. ومع كل سطرٍ يكتبه، تتبدّى أمامه مأساة الذاكرة البشرية: أننا لا نعرف قيمة الحياة إلا بعد أن تهرم فينا، ولا نكتشف معنى الحب إلا حين يعجز الجسد عن ممارسته..

في أحد المشاهد الأكثر رمزية، يجلس بجانب الفتاة النائمة يقرأ لها بصوتٍ خافتٍ من (المدام بوفاري) و(الأمير الصغير). يتحدث ولا يسمع ردًّا، ومع ذلك يشعر بأنها أقرب من كل النساء اللواتي تحدّثن إليه.

هنا تبلغ الرواية ذروتها الوجودية: التواصل لا يحتاج إلى كلمات، والعشق يمكن أن يُولد في صمتٍ مطلق

 الحب، في فلسفة ماركيز، ليس تملّكًا بل مراقبة. كما لو أن الكاميرا تكتفي بتسجيل النَفَس، بالانتظار، بتلك المسافة بين الجسدين حيث تتكوّن الروح..

في هذا العالم الرمزي، تصبح الفتاة النائمة استعارةً للبراءة التي لم تفسدها الحياة بعد، وللمعنى الذي يتوارى حين نلهث خلف اللذة. أما العجوز، فهو تجسيدٌ لفكرة الزمن المريض: وعيٌ متأخر بأن كل ما أنفقه في المتعة كان محاولة يائسة للهروب من مواجهة الفراغ الداخلي. وكأن الرواية تقول لنا إن الشيخوخة ليست في الجسد، بل في الفقد التدريجي للدهشة.. وإن هذا العجوز حين أحبّ، استعادت روحه ما فقدته حين ظنّ أنه عاش.

يُعيدنا ماركيز في هذه الحكاية القصيرة، التي كتبها عام ألفين وأربعة، إلى جوهر الواقعية السحرية وقد أصبحت أكثر صفاءً وتأملًا: لا قرى غريبة، ولا أزمنة متداخلة، بل وعي فردٍ واحدٍ يتنقّل بين الحلم واليقظة كمن يعيد مونتاج حياته في مشهدٍ واحد.

 كل تفصيلٍ في الرواية يعمل كما في السينما — زاوية الكاميرا، الإضاءة، حتى الأصوات — ليمنح القارئ إحساسًا بأنه يشاهد فيلمًا داخليًا أكثر مما يقرأ نصًا.

قبل النهاية، يبدو الحب والذاكرة في الرواية شكلين مختلفين للمقاومة ضد الفناء. فكل تذكّرٍ هو محاولةٌ لإبقاء ما مات حيًّا، وكل حبٍّ هو إصرارٌ على أن نعيش رغم الموت الذي يتقدّم فينا.

في النهاية، حين يعلم العجوز أن الفتاة تبادله الحب، يُطل عليه النور. يشعر بأنه شابٌّ من جديد، لا لأن الجسد عاد إليه، بل لأن قلبه خرج من عزلة تسعين عامًا..

يقول كأنه يختم وصيته: “عشتُ بما يكفي كي أكتشف، أخيرًا، أن الحب الحقيقي لا يُشترى”. تلك الجملة وحدها تختصر الفلسفة الكامنة في الرواية: أن الوعي، حين يصطدم بحدود الجسد، لا يموت.. بل يبدأ.

هكذا تتحوّل (ذكرياتي مع عاهراتي الحزينات) إلى تأملٍ في هشاشة الإنسان، في بحثه الأبدي عما يفلت منه دائمًا: الحب، المعنى، الزمن.

 رواية عن المصالحة المتأخرة بين الرغبة والروح، وعن اللحظة التي يُصبح فيها النوم فعلًا مقدّسًا، والبراءة خلاصًا، والشيخوخة طفولةً ثانية.

إنها ليست حكاية رجلٍ وفتاةٍ، بل حكاية الكائن البشري في محاولته الأخيرة لتبرير وجوده. وما يبدو فضيحةً في ظاهر النص، ليس سوى محاولة لإعادة تعريف الطهارة في زمنٍ فاسد، ولإثبات أن “الحب.. هو المعجزة الوحيدة التي يمكن أن تنقذ الإنسان من نفسه”.

***

إبراهيم برسي

 

قراءة هيرمينوطيقية رمزية في نص "راهبة الريح" للشاعر أيمن معروف

يشكّل التيه أحد أكثر الرموز رسوخًا في المخيال الإنساني، منذ أسطورة خروج بني إسرائيل في الصحراء، حتى فلسفة الوجود والاغتراب الحديثة. فهو فضاء اللامكان، ومجاز العدم، وحدود الذات حين تتقاطع مع المجهول. في النص الذي نحن بصدده، يتخذ الكاتب من التيه صورةً أنطولوجية، تكشف عن مأزق الإنسان المعاصر الذي يعيش في عالمٍ محكوم بالضياع الرمزي، وبتهاوي القيم والمعايير أمام طغيان العولمة وفقدان المعنى.

النص ليس مجرد إنشاء شعري أو تأمّل وجداني قدمه الشاعر أيمن معروف، بل هو تمثيل فكريّ لحالة الكائن حين يقف عارياً أمام أسئلة المصير، في حوارٍ داخليٍّ بين الذات والوعي، بين الإنسان وصوته الكونيّ الذي يحثّه على المضيّ والتراجع في آنٍ واحد.

في هذه القراءة، سأعتمد المنهج الهيرمينوطيقي التأويلي لفهم المعنى العميق للرموز والدلالات، والمنهج الرمزي والأسلوبي لتحليل اللغة وبنيتها، إلى جانب المقاربة الأنطولوجية الفلسفية لفهم الوجود الإنساني في ضوء نصٍّ يعبّر عن تيهٍ جمعيّ بقدر ما هو فرديّ. مستل من روح ما قدمه عبد الجبار النفري  من أعلام التصوف الإسلامي في كتابه الهام المواقف والمخاطبات .وهو أحد أكثر المتصوفة غموضاً وعمقاً في التعبير عن التجربة الوجودية الصوفية، حتى لُقّب بـ"صوفي المواقف والغياب". في كتابه «المواقف والمخاطبات» تتجلّى لغة تتجاوز حدود البيان إلى تخوم الكشف والإشراق، إذ يجعل النفّري من اللغة نفسها تجربة روحية، لا وسيلة للتوصيل فحسب. فهو لا يصف الطريق إلى الله، بل يُفصح عن لحظة التجلّي نفسها حين يغدو العارف وجهاً للمعرفة، والموقف حدّاً بين الفناء والبقاء.

تقوم طريقته الأسلوبية على الإيجاز الموحِي والغموض البنّاء؛ فهو يكتب كما لو كان ينقل ومضات من عالم الغيب إلى سطور التراب. يقول في أحد مواقفه:

 "أوقفني في الموقف وقال لي: إذا اتسعت الرؤية ضاقت العبارة.".

هذه العبارة تُعدّ مفتاحاً لتجربته كلّها؛ فالرؤية الصوفية عند النفّري تفيض حتى تعجز اللغة عن احتوائها، ولهذا جاء أسلوبه قائماً على التقطيع والسكوت والإشارة، أكثر من البيان والتقرير. أما «المخاطبات»، فهي نصوص فيضية تجري على لسان "الحق" الذي يخاطب العارف، كقوله:

 "يا عبد، كلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة، وكلما ضاقت العبارة قرب اللقاء."

أولاً: التيه كاستعارة للوجود والاغتراب

التيه في النص ليس طريقاً يُضلّ فيه المسافر، بل هو الحالة الوجودية التي يفقد فيها الإنسان علاقته بمركزه الداخلي. يقول النص:

 "التّيه جحيمٌ لا نأمةَ فيه... التّيهُ فضاءٌ أسود لا دمعة فيه."

هنا تتحوّل صورة التيه إلى كناية عن الانفصال بين الذات والعالم، وعن صمت الوجود أمام سؤال الإنسان. يتجاوب هذا المعنى مع فلسفة مارتن هايدغر الذي رأى أن "الوجود يُلقى في العالم ككائنٍ منفيٍّ بلا مرجع"، وأن مهمة الفكر هي استعادة "السكينة في قلب الضياع".

إنّ المتكلّم في النص يعي هذا المنفى، لكنه يحاول تحويله إلى وعيٍ خلاّق، إذ يُؤمَر بـ«التقدّم» و«التمهّل»، في مفارقةٍ تكشف عن ثنائية الإرادة والعجز، بين الحثّ على الحركة والخشية من المجهول، تمامًا كما عبّر سورين كيركغارد عن القفزة الإيمانية التي لا يمكن تجاوزها إلا بالجنون الوجودي.

ثانياً: اللغة بين الإرشاد والهاوية

يتبنى النص أسلوباً خطابياً ميتافيزيقياً، حيث تأتي اللغة محمّلة بالأوامر والنواهي: "تقدّم، تمهّل، اعلم..." وهي بنية تحاكي لغة الوحي، أو النصوص المقدسة، لكنها في عمقها حوار داخلي بين الإنسان وضميره الوجودي.

يُعيد هذا الخطاب إلى الأذهان ما أشار إليه بول ريكور في كتابه الرمز يعطي الفكر، حين أكّد أن اللغة الرمزية لا تشرح العالم بل تخلقه من جديد، وأن التأويل هو عبور من ظاهر النص إلى باطنه، من القول إلى الكينونة.

الشاعر أيمن معروف يمارس عبر لغته سلطة معرفية، لكنه في الوقت نفسه يكشف هشاشتها، فكل أمرٍ أو نهيٍ يُقابله شكٌّ أو ارتياب، كما لو أن النص يُفكّك ذاته في حركة دائرية مستمرة، شبيهة بما تحدّث عنه جاك دريدا في تفكيكيته، حيث لا وجود لحقيقة نهائية خارج النص، بل هناك تتابع دائم للمعنى المؤجّل.

ثالثاً: من العولمة إلى ميتافيزيقا الإنسان

حين يرد في النص:

"وترى، أطلسَ هذا العالَمِ يدخلُ من عولمةِ الشّعرِ إلى عولمةِ الفكرِ..."

يتحوّل الخطاب من البعد الفردي إلى البعد الكونيّ، ليشير إلى تشييء الإنسان وضياع هويته في العولمة الحديثة. هنا نسمع صدى أفكار هربرت ماركوز في نقده للعقل الأداتي، وزيغمونت باومان في توصيفه للمجتمع السائل، حيث الذوات تفقد صلابتها وتتحول إلى كياناتٍ هشّة تائهة في الاستهلاك والمعنى المفرغ.

يتقاطع النص إذاً مع رؤية ميشال فوكو حول "الذات المراقَبة والمقيّدة"، ويُعلن في الوقت نفسه تمرّداً أنطولوجياً على هذا التشييء حين يقول:

 "تمسّك بهويّتك الآن، التيه مؤامرة كبرى."

وهو تصريح وجوديّ حادّ بأن استعادة الذات فعل مقاومة، وأن الخلاص لا يأتي من الخارج بل من عمق الوعي نفسه.

رابعاً: التيه كتجربة كشفٍ روحي

في مستواه الأعمق، يبدو النص سلوكاً عرفانياً، يعيد الإنسان إلى منطقة الخطر حيث يتجلّى الوعي الكونيّ. فالمتكلم يُقاد إلى التيه، لا ليهلك، بل ليُبصر، كما قال محـي الدين بن عربي:

 "من لم يدخل البحر لا يعرف العمق، ومن لم يضلّ الطريق لا يعرف الرجوع."

وبذلك يصبح التيه شرطاً للمعرفة، والظلام مقدمة للنور، والضياع طريقًا إلى الوعي بذاتٍ أكثر صفاءً.

النص الذي بين أيدينا ليس مجرد قصيدة نثرية أو تأمل وجداني، بل هو بيان فلسفي-جمالي في مأزق الإنسان أمام ذاته والعالم. إنه نصّ يزاوج بين التجربة الوجودية العميقة واللغة الصوفية المتوهجة والنقد الثقافي المعاصر، ليقدّم صورة شاملة عن التيه كقدرٍ إنسانيّ وفضاءٍ للمعرفة والتحوّل.

لقد نجح الشاعر أيمن معروف في بناء رؤية مركبة تجعل من الشعر مساحةً للفكر، ومن الفكر مساحةً للرؤيا. إنه نص يذكّرنا بأن التيه ليس لعنة، بل ضرورة روحية لاستعادة الإنسان إنسانيته في عالمٍ فقد معناه.

لذا فقد جاء هذا النص كنصٌّ فلسفيّ عميق، يتشح بعباءة الرؤيا والقلق الوجودي، ويستبطن وعياً نقدياً كثيفاً بمأزق الإنسان المعاصر في زمن «التيه» الذي صار مجازاً كونيّاً للاغتراب والضياع وفقدان البوصلة.

الشاعر أيمن معروف استخدم تقنية الخطاب المونولوجي المتداخل مع صوتٍ إرشاديٍّ متعالٍ، كأنه نداء من الداخل أو «نبيّ» الوعي الذي يخاطب الإنسان في صحراء العالم المعاصر. فيتجلّى التيه لا كحدثٍ عارض، بل كشرطٍ أنطولوجيٍّ للوجود الإنساني، حيث تتفكّك الجهات وتتشظّى الذات بين أسطورة اليومي، وتاريخ المعنى، وخواء الروح.

قوّة النص تكمن في لغته المكثّفة، المتوتّرة، ذات النَفَس القرآنيّ والتوراتيّ في آنٍ واحد، حيث تُبنى الجمل بالأمر والنهي («تقدّم»، «تمهّل»، «اعلم»)، بما يشي بوجود «معلّمٍ كونيّ» يقود الذات عبر مراحل الانكشاف، كما في مسارات التصوّف أو فلسفة الوجود عند كيركغارد وهايدغر. فـ«التيه» هنا ليس جغرافياً، بل سفرٌ في الذات، واختبارٌ لحضور الإنسان أمام عبث العالم.

كما أن تضمين النص إشارات إلى ميتا التاريخ وفوكوياما وعولمة الفكر يُخرجه من فضاء التجريد الصوفي إلى قراءة نقديّة معاصرة للعالم، حيث يتحوّل التيه إلى رمز للعصر النيوليبرالي والعولمي، الذي التهم الإنسان وأحال ذاته إلى سلعة، وهويّته إلى طيف.

إنّ النص بهذا المعنى يجمع بين اللغة الشعرية العالية والفكر الفلسفي التأويلي، ويتّكئ على مجازاتٍ تُعيد للأدب العربي بعده الرمزي العميق، وتذكّر بأسلوب أدونيس في أغاني مهيار الدمشقي أو أنسي الحاج في الرسولة بشعرها الطويل حتى الينابيع.

- خاتمة:

نصّ يفيض بالرؤيا والجدل، ويؤسس لمساحة تأمل بين الأدب والفكر، بين الإشارة والحدس، بين المعنى وضدّه. لغته مشحونة بطاقاتٍ روحيةٍ وفكريةٍ تجعل من القراءة تجربة تأملية أكثر منها تحليلية. لو عُرض هذا النص في مجلة أدبية فلسفية، لأوصيت بنشره دون تردّد مع تثبيت عنوان فرعيّ هو:

 التيه بوصفه استعارة للوجود وفضاءً لفقدان المعنى.

***

بقلم: عماد خالد رحمة - برلين

.....................

أوقفَني في التّيهِ، وقالَ: تقدّمْ، فتقدّمتْ

  ورأيتُ طريقاً،

  تتفرّعُ منها طرقٌ شتّى فاختلطتْ قدّامي

  أسطورةُ يومي بجهاتي العشرين.

*

  وقالَ: تمهّلْ. لا تذهبْ أبعدَ،

  حتّى تكتملَ العدَّةُ في ترتيبِ الفوضى وإعادةِ

  تأهيلِ الذّاتِ لمقتضياتِ الوقفةِ

  في التّيه.

*

  وقالَ: التّيهُ جحيمٌ لا نأمةَ فيه.

  وقال: التّيهُ دخان. فاعلمْ أنُكَ دون سلاحٍ وبأنُ

  وسيلتَكَ المثلى كي تعبرَ هذي الفلواتِ

  الممهورةَ بجنونِ اللُيلِ تَوَقُّدُ عينينِ

  انطفأ بريقُهما في العتمةِ.

*

  واعلمْ،

  أنَّ هواءَكَ منهوبٌ وثلاثةَ أرباعِكَ

  متروكٌ للخوفِ وأنُ سماءك مطفأةٌ وسراجكَ

  منتهَكٌ في منتصفِ القول.

*

  وقال: التُيهُ فضاءٌ أسود لا دمعة فيه.

  فلتتذكَر في هذا البهتانِ كتابَ الحكمةِ ولتتوقَّع

  أن يختلطَ المشهدُ حين تمرُ قريباً

  من موتِكَ

*

  وترى، أطلسَ هذا العالَمِ

  يدخلُ من عولمةِ الشّعرِ إلى عولمةِ الفكرِ

  وعولمةِ الفلسفةِ السوداءِ ويشهقُ

  في عولمةِ التّبه.

*

  وقال: فلا تذهبْ في التُيهِ بعيداً.

  التّيهُ مهادٌ والتّيهُ بلادٌ تدخلها فترى غموضَكَ

  قربك مشغولاً في تأويلِ براءتِكَ الأولى

  وترى وضوحَكَ محضَ غبارٍ

  مبثوثٍ في التّيه.

*

  وقال: التُيهُ أراجيح. التُيهُ تباريح.

  فاحذر من مِيتا التّاريخِ وفوكوياما واسطِرلابِ

  الوهمِ و ميتا التّيه.

*

  وقال: وقد لا تعرف كيف ستبدأ يومَكَ

  أو تُنهي الأمر. وقال: طبيعيٌّ أن تنتصر الآن

  لذاتك.. ألُا تترك بابَكَ مفتوحاً لجنونِ التّيه.

*

  وقال: تقدّمْ. وتمسَّكْ بخِراجِ يديكَ..

  تمسَّكْ بهوائِكَ وترابِك.

*

  قال: تقدّمْ.

  وتمسَّكْ بهويَّتِكَ الآنَ.. التّيهُ مؤامرةٌ كبرى

***

روَى (ابن عبد البَر)(1)، من طرائف «الورِعين» الحمقَى، أنَّ أحدهم سمع الآية: «يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ»، فقال: «اللَّهمَّ اجعلنا ممَّن يتجرَّعُه ويُسيغُه!»> وهذه الطُّرفة تنطوي على ما هو أبعد ممَّا ساقها (ابن عبد البَر) من أجله.

ذلك أنها إذا كانت ردَّة فعل هذا المتلقِّي قد حدثت بسبب اختلالٍ في ذهنه، كما سيقت الطُّرفة تعبيرًا عنه، فقد يحدث مثل ذلك بسبب اختلال النصِّ نفسه، من حيث انقطاع السياق أو غيره، وبالجملة اختلال النَّظم. فاجتزاء النصِّ من سياقه قد يجعل المتلقِّي يفهم هاهنا أنَّ الإشكال الذي تحدَّثت عنه الآية إنَّما هو كامن في أنَّ المذكور (يتجرَّع ولا يكاد يُسيغ)! دون أن يعي مَن المقصود بذلك؟ وماذا يتجرَّع؟ وما «السالفة»، كما يقال بالعامِّيَّة؟ من خلال النَّصِّ، من قَبل ومن بَعد، في الآيات من (سُورة إبراهيم): «وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأَرْضَ مِن بَعْدِهِمْ، ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ. وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ. مِن وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِن مَاءٍ صَدِيدٍ. يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ، وَيَأْتِيهِ المَوْتُ مِن كُلِّ مَكَانٍ، وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ، وَمِن وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ.»

وكثيرًا ما يحدث مثل هذا في تلقِّي نصٍّ خارج بِنيته الكُلِّيَّة؛ فإذا المتلقِّي يضرب في فهمه أخماسًا بأسداس، بقطع النظر عن حالته الذهنيَّة. وهذا نموذج لما يمكن أن يُحدِثه غيابُ النَّظم من اختلالٍ في العلاقة بين النصِّ والقارئ، حتى ليبدو القارئ أحمق لدَى من أَلَـمَّ ببِنية النصِّ الكُليَّة. تلك البِنية التي كان (الجرجاني) يُطلِق عليها مصطلح (النَّظم).

على أنَّ من الاجتزاء كذلك الاجتزاء في فهم مفهوم النَّظم نفسه. فلو كان مفهوم النَّظم لا يعدو نَظم الأوزان والقوافي الشِّعريَّة، كما يفهمه بعضٌ، لاستطاع (عبد القاهر الجرجاني) أن يكون من أشعر الشُّعراء، وقبله (الخليل بن أحمد)، أو (الأصمعي). وإنَّما يَصِحُّ قول الجرجاني (2): إنِّ النَّظْم ليس «إلَّا أن تضع كلامك الوضع الذي يقتضيه (عِلم النحو)» إذا عنَى بـ(عِلم النحو)، الذي عزا إليه قيام (النَّظم)، ما سمَّاه (دريدا): (عِلم النحويَّة Grammatology). فذلك هو ما يُحدِث (الأَثَر) الجَماليَّ الانفعاليَّ الذي يثيره النَّصُّ في نفس المتلقِّي ومخيِّلته؛ حين يقتفي الناظم، كما قال الجرجاني(3): «رَسْمًا من العقل اقتضَى أن يتحرَّى في نَظْمه ما تحرَّاه.»  لأنَّ ذلك «الرَّسْم من العقل» هو منبع الإبداع؛ ورَسْم عقل الشاعر غير رَسْم عقل المفكِّر، أو رَسْم عقل الفيلسوف، أو رَسْم عقل النَّحوي، أو غيرهم من العقلاء والرُّسوم.(4)  وذلك الرَّسْم هو ما يُسمَّى في الفَنِّ، ومنه الشِّعر: الموهبة، التي تميِّز شاعرًا عن شاعر، وتميِّز الشاعر عن غير الشاعر؛ كما يمتاز المطرِب الموهوب عن المؤدِّي الموهوب، فضلًا عن امتيازه عن سائر الناس، مع أنَّ الجميع يشتركون في أنَّ لهم أصواتًا؛ من حيث إنَّ (رَسْم عقل المطرِب الموهوب)، كـ(رَسْم عقل الشاعر المطبوع)، هو ما يميِّزه عن غيره. 

وبالحديث عن مفهوم النَّظم و(عِلم النَّحويَّة)، و(الأَثَر) الجَماليَّ الانفعاليَّ- المتوخَّى ممَّا يثيره النَّصُّ في نفس المتلقِّي ومخيِّلته- يمكن أن نتوقَّف، مثلًا، عند الهوسُ بالانزياحات المكدَّسة، في بعض التجارب النصيَّة المعاصرة، التي تَعُد نفسها حداثيَّة، واهمةً أنَّ ذلك هو التجديد والتحديث في الشِّعر.  وهذه الظاهرة اليوم- التي يمكن أن أسمِّيها (التضخُّم المَرَضي في بِنية المجاز في القصيدة المعاصرة)- هي كهوس البديع في العصر العباسي وما تلاه؛ أيَّام كان البديعيُّون يتوهَّمون كذلك أنَّ الإغراق في البديع هو التجديد والتحديث في الشِّعر. من حيث إنَّه ما لم يوظَّف ذلك كلُّه لتشكيل معنى بنائيٍّ كُليٍّ للقصيدة، فإنَّه يستحيل إلى محض استعراض مهارات لُغويَّة وتركيبيَّة، لا يفضيان إلى تشييد شِعريَّة حقيقيَّة، ولا يُبقيان للشِّعر ولا للشاعر قيمةً تُذكَر. وإنَّما الانزياح وسيلةٌ شِعريَّة، وأداة فنيَّة، وكذا البديع، والموسيقى الشِّعريَّة. وحين تستحيل الوسيلة إلى غاية والأداة إلى هدف، فقل على الشِّعر: السلام ورحمة الله!

وبذا، فإنَّه إذا كان مفهوم النَّظم الشِّعري لا يتعلَّق بالأوزان والقوافي وحدها، فكذلك لا يتعلَّق بكثرة الانزياحات، أو البديع. بل حقيقته أنْ ينصهر كلُّ ذلك في بوتقة تشكيل النصِّ، المعبِّر بمجمله عن المعنَى، أو- بمصطلح (الجرجاني) وكلماته- المعبِّر عن «الرَّسْم من العقل، الذي اقتضَى أنْ يتحرَّى الشاعر في نَظْمه ما تحرَّاه».

على أنَّه ما زال من أرباب النَّثر والانتثار مَن ينتقصون من النَّظْم والانتظام، منذ عصر بني العبَّاس، ولا جديد تحت الشمس. ألم يقل (أبو حيَّان التوحيدي)(5): «والشِّعر كلام، وإنْ كان من قبيل النَّظم، كما أنَّ الخُطبة كلام، وإنْ كان من قبيل النَّثر، والانتثار والانتظام صورتان للكلام في السَّمع، كما أنَّ الحقَّ والباطل صورتان للمعنَى، ...وليس الصَّواب مقصورًا على النَّثر دون النَّظم، ولا الحقُّ مقبولًا بالنَّظم دون النَّثر؛ وما رأينا أحدًا أغضَى على باطل النَّظم واعترض على حقِّ النَّثر؛ لأنَّ النَّثر لا ينتقص من الحقِّ شيئًا. وما أحسنَ ما قال القائل:

وإنَّما الشِّعـرُ لُـبُّ الـمَرْءِ يَعرِضُهُ

عَلَى المجالسِ إنْ كَيْسًا وإنْ حَمَـقَا

وإنَّ أَشْعَـرَ بَـيـتٍ أنـتَ قـائـلُـهُ

بيتٌ يُقال، إذا أَنشدتَـهُ: صَدَقا.»

فانظر هنا كيف جعل النَّظم- وهو يعني به الشِّعر- قرين الباطل: «باطل النَّظم»، وجعل النَّثر قرين الحق: «حق النَّثر»! و«قد» يوجَد الصواب في النَّظم، كما قال: «وليس الصَّواب مقصورًا على النَّثر دون النَّظم»، وإنْ كان الصَّواب في النثر أصيلًا غالبًا، وليس محلَّ شكٍّ أو خلاف! غير أنَّ النَّظم- كما يستدرك- قد يجتلب للحقِّ القبول، بما فيه من سِحرٍ وتطريب. هذا هو خطاب (التوحيدي) الناثر البائس. ولذا لا غرابة أن يختم كلامه باستحسان ما كان خليقًا- لو كان يعي ضُروبَ الكلام كما ادَّعَى، وافتراقَ طبائعها ووظائفها- أن يكتب: «وما أبردَ ما قال القائل:...»! كما كان حقُّ البيت الذي رفع رايته أن يكون:

وإنَّ أَسخفَ بَـيتٍ أنتَ قـائلُـهُ

بيتٌ يُقال، إذا أَنشدتَـهُ: صَدَقا!

 لماذا نقول هذا لـ(أبي حيَّان)؟

لأنه قد عرضَ لُبَّه علينا، بوصفه ناقدًا، فكشف عن تهافته؛ فليتقبَّل ما جاءه من بيان سقوطه في فهم تمايز النُّصوص وتقييم ما بينها من فوارق.

وهنا يتجلَّى البَون الشاسع بين (أبي حيَّان التوحيدي، -414هـ) و(عبدالقاهر الجرجاني، -471/ 474هـ) في الوعي النُّصوصي، وفهم معنى النَّظم، وعدم اقتصاره على منظوم الأوزان والقوافي.

ثمَّ إنَّه لا يُنتظَر من النَّصِّ الأدبي، شِعرًا أو نثرًا، الإعرابُ عن الصَّواب وعن الحقِّ إعرابًا مباشرًا، كما يُنتظَر من الكلام الإخباري والتقريري. ولا تنهض الفروق بين الانتثار والانتظام، أو بين النَّثر والشِّعر، على أساس تلك المعايير الذهنيَّة، التي أسَّس عليها (التوحيدي) خطابه المتوحِّد. وإنَّما آليَّة النصِّ الأدبيِّ عمومًا، شِعرًا أو نثرًا، تخيُّلٌ، يكسِبه قبولًا أو نُفورًا. وما البيتان اللَّذان استشهد بهما، إلَّا نتاج ذلك العَشَى في تمييزه ألوان الكلام، يظنُّه الظمآنُ ماءَ بصيرةٍ ثاقبةٍ دقيقة. من حيث إنَّ البيت الشِّعري الذي يصدِّقه السامعُ ويُؤَمِّن عليه القارئُ هو موجودٌ لديهما سَلَفًا، وإنْ لم يعبِّرا عنه. وهو ما عناه (المتنبِّي) بالذَّمِّ، في قوله:

أَنا السَّابِقُ الهادِي إِلى ما أَقولُهُ

إِذِ القَولُ قَبْلَ القائِلينَ مَقُـوْلُ

فالقول الذي يكون «قبل القائلين مَقُوْلًا» هو نفسُه البيت الذي «يُقال، إذا أَنشدتَهُ: صَدَقَا». وإنَّما الشِّعر أن يأتي سَبْقًا، وهِدايةً، وتجديدًا لبناء العالَم، وترتيبًا لطرائق التفكير والتخيُّل. ومن ثَمَّ فإنَّ الشِّعر نقض ما كان يصدِّقه القارئ والسامع من المقولات والأفكار. وإلَّا صحَّ أن يقال: إذا كان الشِّعر من فِضَّة، فالسكوت من ذهب! ولهذا قال العَرَب: إنَّ أعذب الشِّعر أكذبه، لا بمعنى الكذب الأخلاقي، بل بمعنى الكذب الفنِّي، أي الخيال والتخييل، اللَّذين إنْ لم يستبدَّا بالنصِّ، فلا شِعر فيه، ولا حتى أدبيَّة. غير أنَّه ينبغي على القارئ كذلك أن لا يعشَى، بدَوره، عمَّا أنتج هذا القول التوحيدي الكسيح لدَى (أبي حيان). لا لتعلُّقه بسطحيَّة وعيه النقدي فحسب، ولكن أيضًا لموقفه النفسي من الوزيرَين، (الصاحب بن عبَّاد)، و(ابن العَميد)، اللَّذين تصدَّى لثلبهما بكتابه «مثالب الوزيرَين»، حيث جاءت مقولته تلك. وكلاهما كان ناثرًا شاعرًا، على حين انحصرت مواهب صاحبنا في «الهوامل والشوامل»، وأضرابها من فنون الترسُّل. بل لقد حاول أن يُحرِق في نهاية حياته ما استطاع من تراثه النثري هذا!

وهكذا انتهى الأمر بـ(أبي حيان التوحيدي) إلى أن يثلب في كتابه «مثالب الوزيرَين» نفسه هو وفهمه، بل إلى أن يثلب أدبه، حينما استدعته المناكفات إلى الخروج من الكتابة الأدبيَّة إلى التنظير النقدي.

  ***

أ. د. عبد الله بن أحمد الفَيفي

............................

(1)  يُنظَر: (د.ت)، بهجة المَجالس وأنس المُجالس وشحذ الذاهن والهاجس، تحقيق: محمَّد مرسي الخولي، (بيروت: دار الكتب العِلميَّة)، 2: 551.

(2)  يُنظَر: (1984)، دلائل الإعجاز، قرأه وعلَّق عليه: أبو فهر محمود محمَّد شاكر، (القاهرة: مكتبة الخانجي)، 55، 81.

(3)  يُنظَر: م.ن، 49.

(4)  بل إن المفكِّرين بدَورهم مفكِّران: مفكِّر ذو عقل شمولي مَرِن حُر، ومفكِّر أُحادي النظرة، منغلق، اتِّباعي، مستعبَدٌ لتيَّارٍ أو توجُّه، (الفرنسي ميشال أونفري- «نفي اللَّاهوت» نموذجًا، في ترجمته العَرَبيَّة الركيكة الحافلة بالعِيِّ اللُّغوي). وهذا الضَّرْب هو الغالب على مفكِّري العالَم عبر العصور، ولا سيما في الثقافات المنغلقة أو المؤدلجة. ومن ثَمَّ فإنَّ رَسْم العقل هنا أيضًا يختلف.

(5)  (1992)، أخلاق الوزيرَين «مثالب الوزيرَين: الصاحب بن عبَّاد وابن العميد»، تحقيق: محمَّد بن تاويت الطَّنجي، (بيروت: دار صادر)، 8- 9.

يُعْتَبَرُ الكاتبُ المِصْري نجيب محفوظ (1911 _ 2006 / نوبل 1988) أعظمَ روائي في الأدبِ العربي على الإطلاقِ. تُعَدُّ أعمالهُ سِجِلًّا حَيًّا للتَّحَوُّلات الاجتماعية في مِصْر.

كَتَبَ في فَترةِ التَّحَوُّلاتِ السِّياسية والاجتماعية العَميقة في المُجتمعِ المِصْرِيِّ، مِنَ الاحتلالِ البريطاني إلى ثَورة 1919 ثُمَّ ثَورة يوليو 1952، ومَا تَبِعَها مِنْ تَغْييرات في البُنْيَةِ الطَّبَقِيَّة. وانطلقَ مِنْ واقعٍ اجتماعي مُضطرِب، فَجَعَلَ مِنَ الأدبِ وسيلةً لكشفِ أزَمَاتِ العَدالةِ الاجتماعية، وعاشَ مَراحلَ الصِّراعِ بَيْنَ الطَّبَقَاتِ الاجتماعية، حَيْثُ كانت الطَّبَقَةُ الكادحة (العُمَّال، الفُقَراء، صِغَار المُوظَّفين، سُكَّان الحَارَاتِ الشَّعْبية) في مُواجَهةِ الفَقْرِ والسُّلطةِ والبيروقراطية. وَقَدْ كانتْ مِصْر تَمُرُّ بِمَرحلةِ انتقالٍ مِنَ الإقطاع إلى نَوْعٍ مِنَ الاشتراكية، فانعكسَ ذلك في أدبِه كَصِرَاعٍ بَيْنَ القَديمِ والجديد، وصارَ مَادَّةً خِصْبَةً في كِتَاباته التي رَصَدَتْ حَركةَ المُجتمعِ بَيْنَ القَهْرِ والأملِ.

قَدَّمَ تَصويرًا دقيقًا لِعَالَمِ الكادحين في الحَارَاتِ الشَّعْبية، حَيْثُ يَتجسَّد الفَقْرُ لَيْسَ كحالةٍ ماديَّةٍ فَقَط، بَلْ أيضًا كَمُعَاناةٍ وُجوديةٍ وإنسانية. وكانَ يَرى أنَّ الفَقْرَ لَيْسَ عَيْبًا فرديًّا، بَلْ نتيجة لعوامل اجتماعية وتاريخية مُعقَّدة، إلا أنَّه يُعالجه بِمَنظورٍ إنسانيٍّ أكثر مِنْ كَوْنِه سِياسيًّا. فالكادحُ عِندَه هُوَ إنسان يَسْعَى إلى حِفْظِ كَرامته رَغْمَ انكسارِه، وَيَظَلُّ قادرًا على الحُلْمِ والمُقاوَمة.

شَخصياتُه غالبًا مِنَ الحَارَةِ الشَّعْبية: الحَلَّاق، البائع، البَوَّاب، الفتاة الفقيرة. يُصورِّهم بَيْنَ مِطْرقةِ الفَقْرِ وَسِنْدَانِ السُّلطة، لكنَّهم يَحْتفظون بِكَرامتهم وإنسانيتهم. والكِفَاحُ عِندَه لَيْسَ اقتصاديًّا فَحَسْب، بَلْ هُوَ أيضًا وُجودي وأخلاقي، وَبَحْثٌ عَنْ مَعْنى الحَياةِ والعَدْلِ والكَرامة.

تَتجلَّى الطَّبَقَةُ الكادحةُ بِوُضوحٍ في أعمالِه الواقعية، فَهُوَ يَرسُم لَوْحةً مُتكاملة للحَياةِ الشَّعْبية في أحياءِ القاهرةِ القديمة، حَيْثُ تتقاطع طُموحاتُ الفُقَراءِ معَ قَسْوَةِ الواقعِ، وَيَتجسَّد حُلْمُ الإنسانِ بالتَّحَرُّرِ مِنَ الفَقْرِ، وأحيانًا يَسْقَط في بَراثِنِ الاستغلالِ، فَيَتَحَوَّل الحُلْمُ إلى مَأساةٍ.

وَقَدْ قَدَّمَ في أعمالِه مَأساةَ الأُسْرَةِ المِصْرِيَّة الفقيرة التي تُكافِح مِنْ أجْلِ البَقاءِ بعد وَفاةِ عائلها، فَيَتَحَوَّل الفَقْرُ إلى قَدَرٍ يَخْتبر القِيَمَ والأخلاقَ والمَبادئ. وفي بعضِ أعمالِه، تَتَحَوَّلُ الحَارَةُ إلى نَمُوذج مُصغَّر للمُجتمعِ الإنسانيِّ، حَيْثُ يَتوارث الناسُ الصِّراعَ بَيْنَ العَدْلِ والطُّغيان، وَيَظَلُّ " الفُتُوَّة " رمزًا للسُّلطةِ التي يَسعى الكادحون لِتَقْويمها أوْ مُواجهتها. وَهُوَ يَرى في الطَّبَقَةِ الكادحةِ الضَّميرَ الأخلاقيَّ للأُمَّة، لكنَّها في الوَقْتِ نَفْسِه ضَحِيَّةٌ لِبُنْيةٍ اجتماعية ظالمة. خَلاصُها يَتحقَّق بالوَعْي والنَّزْعةِ الأخلاقية النابعة مِنَ الداخل.

والرِّوائيُّ الأمريكيُّ جون شتاينبك (1902 _ 1968 / نوبل 1962) مِنْ أبرزِ الأُدباءِ الذينَ عَالَجُوا مَوضوعَ الطَّبَقَةِ الكادحة. كَتَبَ في ظِلِّ فَترةِ الكَسَادِ العظيم (1929_ 1939) حِينَ انهارَ الاقتصادُ الأمريكي، وَخَسِرَ مَلايين الناسِ أراضيهم وأعمالَهم، وَتَحَوَّلوا إلى مُشرَّدين يَبْحثون عن العملِ في الحُقولِ والمَصانع.

تعاملَ معَ الطَّبَقَةِ الكادحة بِرُؤيةٍ إنسانيَّة احتجاجيَّة، فَهُوَ لا يَكْتفي بِوَصْفِ مُعاناتهم، بَلْ يُدِينُ النظامَ الاقتصاديَّ الذي أنتجها، ويُبْرِز القِيَمَ الإنسانية مِثْلَ التَّضَامُنِ، والحُبِّ، والإخلاصِ، باعتبارِها السِّلاح الوحيد في مُواجهةِ القَسوةِ الاجتماعية. كما يَتميَّز أُسلوبُه بالواقعية المَمْزوجة بالرَّمْز، إذْ يَتحوَّل العملُ وَالأرضُ وَالأُسْرَةُ إلى رُموز كُبْرى للكَرامةِ الإنسانيَّة.

شَخصياتُه مِنَ العُمَّالِ الزِّراعيين والمُهاجِرين الفُقَراء، يُصارِعون الجُوعَ والاستغلال. والكِفَاحُ عِندَه ماديٌّ ومَعْنويٌّ في آنٍ معًا : الجُوع، والقَهْر الاجتماعي، وَضَياع الحُلْمِ الأمريكيِّ. لكنَّه يُغلِّف مُعَاناتهم بإحساسٍ عميق بالتضامُنِ الإنسانيِّ، والكَرامةِ، والأملِ بالعَدالةِ الاجتماعية.

جَعَلَ مِنَ الكادحين الأمريكيين رَمْزًا للمُعَاناةِ الكَوْنِيَّة، فالفَقْرُ عِندَه لَيْسَ حالةً اقتصادية فَحَسْب، بَلْ أيضًا مأساة وُجودية تَنْبُع مِن انعدامِ العَدالة. وَهُوَ يُؤْمِنُ بِقُدْرتهم على التضامنِ والتَّمَرُّدِ، والوِلادةِ الجديدةِ مِنْ رَحِمِ المُعاناة.

وَنَقَلَ في أعمالِه مَأساتهم بِلُغَةٍ تَمْتزج فيها الشاعريةُ بالغضب. والأرضُ عِندَه لَيْسَتْ مُجرَّد خَلْفِيَّة للأحداث، بَلْ هِيَ مُعَادِلٌ رُوحيٌّ للإنسانِ، حِينَ تُغْتَصَبُ الأرضُ، وَيُغْتَصَبُ الوُجودُ الإنساني.

وَجَعَلَ مِنَ الحَقْلِ الأمريكيِّ مِنْبَرًا للعَدالةِ والتَّمَرُّدِ. وَهُوَ لا يَكْتُب عَن الفَقْرِ كَقَدَرٍ، بَلْ كَجَريمة. الأرضُ التي يُطرَد مِنها الفلاحون تَتحوَّل إلى كائنٍ جريح، والإنسانُ الذي يُسحَق تحت عَجَلاتِ الرأسمالية يَتحوَّل إلى رَمْزٍ للمُقاوَمةِ الصامتة. وَقَدْ صَوَّرَ الحُلْمَ الأمريكيَّ وَهُوَ يَتفتَّت بين أصابع العاملين في المَزارع، حِينَ يُصْبح الحُلْمُ نَفْسُه سِلْعَةً لا يَقْدِرُون على شِرائها.

كَتَبَ بلسانِ الجماعة لا الفَرْدِ، بِصَوْتِ الغضبِ الجَمْعِيِّ الذي يُشبِه صَفِيرَ الرِّيحِ في الحُقولِ الخالية. لُغَتُهُ مُشْبَعَةٌ برائحةِ التُّرابِ، وَعَرَقِ الأجسادِ، وَدُموعِ الأُمَّهات. والكادحون لا يَسْكُنون عَالَمَ الهزيمةِ، بَلْ عَالَم النُّهوضِ مِنَ الرُّكام، حَيْث الحُلْم آخِر مَا يُنْتَزَع مِنَ الإنسان.

لَقَدْ رَكَّزَ محفوظ على الداخلِ المِصْرِيِّ، حَيْث الصِّراع بَيْنَ القِيَمِ والتقاليدِ والحَداثة، فَجَعَلَ الكادحين رُموزًا للبَقَاءِ والكَرامة، أمَّا شتاينبك، فَقَدْ رَكَّزَ على الإنسانِ العالميِّ في مُواجهةِ النِّظامِ الرأسماليِّ القاسي، فَجَعَلَ الكادحين رُموزًا للأملِ والمُقاوَمة.

***

إبراهيم أبو عواد / كاتب من الأردن

دراسة في مجموعة "اللمبة الحمراء" للكاتبة منال أمين

تُمثّل المجموعة القصصية "اللمبة الحمراء" للكاتبة منال أمين استكشافًا عميقًا للعوالم الداخلية للمرأة في سياق مجتمعي معقد، حيث تتشابك العلاقات الإنسانية وتتصارع الذات مع قيود الواقع وتوقعات الآخرين. إنها نصوص قصصية تنطلق من الخاص لتلامس العام، وتغوص في تفاصيل الحياة اليومية لتكشف عن أزمات وجودية ونفسية كبرى.

في حياة كل امرأة، تومض أحيانًا "لمبة حمراء"؛ قد تكون لحظة صمت قاتل في علاقة زوجية باردة، أو كلمة جارحة تسلبها ثقتها بنفسها، أو قرار مجتمعي يفرض عليها هوية لا تشبهها. هذا الضوء ليس مجرد تحذير، بل هو إشارة حاسمة تقف عندها الذات الأنثوية لتواجه مصيرها: إما أن تستسلم للقهر وتذوي في الظل، أو أن تتجاوز الخط الأحمر بحثًا عن شكل من أشكال التحرر، مهما كان الثمن باهظًا.

وبين دفتي هذه المجموعة القصصية، تقدم منال أمين عالمًا يعج بتلك اللحظات الفاصلة. سنلتقي بنساء يقفن أمام مرايا أرواحهن المتصدعة، يتساءلن عن ماهيتهن ودورهن في الحياة. منهن الزوجة التي تحاول يائسة أن تحطم جدار الصمت الذي بناه زوجها، فتُشعل حريقًا من الشك قد يلتهمها هي أولًا. ومنهن الأم التي تواجه تخلي زوجها وقسوة المجتمع لتمنح ابنتها "المختلفة" حقها في الحياة والحلم.

إن قصص "اللمبة الحمراء" هي تجليات سردية لصراع الذات النسوية الأبدي. هي صرخة المهمشات، وأنشودة الصامدات، ومرثية الضائعات. تستكشف الكاتبة بجرأة كيف يمكن للقهر الاجتماعي والعاطفي أن يسحق الروح، لكنها في الوقت ذاته، تحتفي ببراعم المقاومة التي تنبت في أقسى الظروف. فالتحرر هنا ليس دائمًا انتصارًا مدويًا، بل قد يكون في قرار صغير، أو دمعة رفض، أو حلم عنيد يتمسكن به في وجه المستحيل.

فالمجموعة تدعو القارئ للدخول إلى هذه العوالم، لا لتتعاطف مع الشخصيات فحسب، بل لتستمع إلى نبض أرواحهن وهي تخوض معاركها اليومية بين قيود الواقع ورغبة جامحة في التحليق نحو فضاء أرحب من الحرية والوجود.

تعتمد هذه القراءة النقدية على منهج تكاملي يستلهم آلياته من مدارس النقد الحديث، فهو يوظف:

- النقد السيميائي (Semiotic Criticism): لتحليل العتبات النصية (الغلاف، العنوان، الإهداء) بوصفها علامات بصرية ولغوية مُنتجة للمعنى وتوجه القارئ.

- النقد النسوي (Feminist Critic): لرصد صورة المرأة، وتحليل ديناميكيات السلطة في العلاقات بين الجنسين، والكشف عن أشكال القهر والبحث عن التحرر في القصص.

- النقد النفسي (نقد التحليل النفسي): للغوص في دوافع الشخصيات اللاواعية، وتفسير سلوكياتها بناءً على صدمات الماضي وعقده النفسية.

- النقد الاجتماعي الواقعي (Sociological Critic): لفهم كيف تعكس القصص قضايا مجتمعية ملحة مثل التمييز، الخيانة، والتفكك الأسري.

من خلال هذا المنهج المتكامل، سنسعى إلى تفكيك طبقات المعنى في المجموعة، بدءًا من عتباتها الخارجية وصولًا إلى قلب نصوصها السردية، لنقدم رؤية شاملة لمشروع الكاتبة الإبداعي.

تحليل عتبات النص: مفاتيح الدخول إلى عالم المجموعة

تعتبر العتبات النصية (Paratext) بمثابة البوابة الأولى التي يعبر منها القارئ إلى عالم النص، وهي تحمل دلالات مكثفة ترسم أفق التوقعات وتوجه عملية التلقي.

1. الغلاف: سيميائية اللون والصورة

يأتي الغلاف كعلامة بصرية قوية وموحية. نرى ممرًا ضيقًا مظلمًا تضيئه "لمبات حمراء"، وفي نهايته يقف ظل لشخص يولينا ظهره. هذا المشهد يولد إحساسًا بالغموض والترقب، ويمكن تفكيك دلالاته كالتالي:

- اللون الأحمر: يرمز إلى الخطر، التحذير، العاطفة الملتهبة، أو حتى الخطيئة. "اللمبة الحمراء" هي إشارة توقف، علامة على وجود خطأ أو تجاوز لحدود لا ينبغي تجاوزها، وهو ما يتردد صداه في العديد من قصص المجموعة التي تتمحور حول الخيانة والشك.

- الممر الضيق: يوحي بالنفس المحاصرة، الأزمة، أو الشعور بأن الخيارات محدودة، وهو ما تعانيه الكثير من بطلات القصص المحاصرات في علاقات مؤذية أو ظروف اجتماعية قاسية.

- الظل المبتعد: يمثل الغياب، الرحيل، أو الخذلان. هو الزوج الذي يخرج ويترك زوجته في قصة "اللمبة الحمراء"، أو الأب الذي يتخلى عن ابنته في قصة "من حقي أن أعيش".

أما الغلاف الخلفي، فيعرض صورة شخصية للكاتبة، مع اقتباس من القصة الرئيسية يكشف عن بطلة تعاني من صراع نفسي ("انتفضت في رعب حين رأت شبح أبيها المتوفى في المرآة")، مما يهيئ القارئ مباشرةً للأجواء النفسية المشحونة داخل المجموعة.

2-العنوان: "اللمبة الحمراء"

العنوان ليس مجرد اسم للقصة الأولى، بل هو رمز مهيمن على المجموعة بأكملها. "اللمبة الحمراء" هي تلك الإشارة التحذيرية التي تضيء وتنطفئ في علاقات الشخصيات وحياتهم. إنها تمثل:

- الشك الذي يدمر العلاقة الزوجية ("اللمبة الحمراء").

- علامة الخطر التي لم تنتبه لها "هند" قبل أن تسقط في فخ الخيانة ("ثمن الخيانة").

- التحذير من ضياع الأبناء بسبب الإهمال الأسري ("ثمن الخيانة").

3. الإهداء: الميثاق النسوي والاجتماعي

يُعد الإهداء مفتاحًا أيديولوجيًا للمجموعة، حيث تقسمه الكاتبة بوعي إلى قسمين، موجهة رسالة واضحة لكل من المرأة والرجل:

- إلى المرأة: دعوة لتمكين الذات وتحقيقها ("كوني نفسك دائمًا")، مع التأكيد على دورها المحوري كشريكة في الأسرة ("كوني عونا لزوجك... وملاذا دافئا لأولادك").

- إلى الرجل: نقد مباشر وصريح للسلوك الذكوري السلبي القائم على التقليل من شأن المرأة وخيانتها. الإهداء يطالب الرجل بالارتقاء إلى مستوى الشراكة الحقيقية ("كن رجلا يليق بعظمة المرأة التي منحها الله مكانة الشريك، لا التابع").

هذا الإهداء يضع المجموعة القصصية في إطار النقد الاجتماعي والنسوي بشكل لا لبس فيه، ويجعل من القصص التالية تجسيدًا سرديًا لهذه الرؤية.

تحليل قصص المجموعة وتصنيفها

تتنوع قصص المجموعة الثماني لتقدم بانوراما واسعة من التجارب الإنسانية، تتمحور غالبيتها حول المرأة كضحية ومقاومة في آن واحد.2096 najla

إحصاء تصنيفي للقصص

- قصص ذات طابع اجتماعي: 5 قصص (اللمبة الحمراء، ثمن الخيانة، من أنا؟، الصيد الثمين، من حقي أن أعيش).

- قصص ذات طابع نفسي: 4 قصص (اللمبة الحمراء، ثمن الخيانة، ليلة رأس السنة، من أنا؟!).

- قصص ذات طابع واقعي: 3 قصص (موعدي مع الحياة، الصيد الثمين، من حقي أن أعيش).

- قصص ذات طابع رمزي: قصتان (ليلة رأس السنة، الصيد الثمين).

وبتحليل قصة "اللمبة الحمراء":  نجد الكاتبة تعرض لصرخة في وجه الفراغ العاطفي

تُعد قصة "اللمبة الحمراء" للكاتبة منال أمين دراسة نفسية واجتماعية عميقة لأزمة المرأة في ظل علاقة زوجية باردة، حيث يصبح الفراغ العاطفي هو المحرك الأساسي لأحداث مأساوية. القصة لا تروي حكاية خيانة، بل حكاية صناعة الشك كوسيلة يائسة لاستجداء الاهتمام.

1. ملخص الأحداث: فخ من صنع الضحية

تدور القصة حول زوجة شابة تعيش في ترف مادي، لكنها تعاني من إهمال زوجها وبروده العاطفي القاتل. بعد شجار يتركها فيه ويخرج، تشعر بقهر الروح ورغبة في التحرر. في اليوم التالي، وأثناء جلوسها في مقهى، يحدث لقاء عابر وغير مقصود مع رجل غريب يلفت انتباهها بنظرة إعجاب.

هذه النظرة العابرة تعيد إليها شعورها بأنها ما زالت أنثى مرغوبة. انطلاقًا من هذا الشعور، تقرر أن تثير غيرة زوجها؛ فتختلق قصة عن مطاردة الرجل لها، ثم تسجل بصوت متغير رسالة غرامية على جهاز الرد الآلي في المنزل. في البداية، يسخر زوجها من قصتها، لكنه عندما يرى "اللمبة الحمراء" تومض في جهاز الرد ويسمع الرسالة، ينزعج بشدة ويبقى في المنزل. تنجح خطتها في استعادة وجوده المادي، لكنها تكتشف أنها زرعت بذور الشك في قلبه وأدخلت نفسها في نفق مظلم لا تعرف كيفية الخروج منه.

2. تحليل الشخصيات: أزمة الذات في مرآة الآخر

- الزوجة (البطلة): هي شخصية مأزومة تعيش صراعًا داخليًا حادًا. دافعها الأساسي ليس الانتقام بل استعادة الحب والاهتمام. هي لا تريد الثراء الذي يقدمه زوجها، بل تريده هو كرجل "يعزف سيمفونيتها". شعورها بأنها تحولت إلى قطعة أثاث أو "إحدى التحف التي تملأ البيت" يدفعها إلى حافة الانهيار. خطتها ليست نابعة من الخبث، بل من يأس عميق ورغبة في تحطيم جدار الصمت الذي بناه زوجها. لكنها بجهلها بعواقب أفعالها، تبني سجنًا جديدًا حول نفسها، أكثر إحكامًا من سجن الإهمال.

- الزوج: يمثل نموذج الرجل الغائب عاطفيًا. هو حاضر ماديًا، لكنه لا يرى زوجته ولا يسمعها. رد فعله الأول على محاولتها لفتح حوار هو السخرية والتقليل من شأنها، حتى إنه يتهمها بأنها "بدأت سن اليأس مبكرًا"، مما يعكس استخفافًا عميقًا بمشاعرها. غيرته لا تتحرك إلا بدليل مادي ملموس (الرسالة المسجلة)، وهو ما يوضح أنه يتعامل مع علاقته بمنطق التملك لا المشاركة.

3. الموضوعات الرئيسية (المواضيع)

- الفراغ العاطفي والوحدة الزوجية: هو المحور الذي تدور حوله القصة. فالزوجة محاطة بكل شيء إلا بما تريده حقًا: الحميمية والتواصل. إنها محبوسة في "زنزانة مؤصدة بمفاتيح من ذهب".

- انهيار التواصل: الصمت والإهمال هما القاتل الحقيقي للعلاقة. لا يوجد حوار بين الزوجين؛ هي تتألم في صمت وهو يعيش في عالمه المنفصل.

- خطورة الخداع كحل للمشاكل: تُظهر القصة ببراعة كيف أن الكذب، حتى لو كان بهدف نبيل (استعادة الزوج)، يتحول إلى سم يدمر ما تبقى من ثقة. البطلة أرادت حبيبًا، لكنها خلقت "سجانًا".

4. رمزية "اللمبة الحمراء"

العنوان نفسه يحمل رمزية قوية ومحورية. "اللمبة الحمراء" في جهاز الرد الآلي ليست مجرد ضوء، بل هي:

- علامة خطر وتحذير: إنها الإشارة التي تنذر بالخطر القادم، وبأن الزوجة قد تجاوزت حدًا لا يمكن الرجوع عنه.

- رمز الأمل الزائف: بالنسبة للزوجة، كان وميض الضوء هو علامة نجاح خطتها وأملها في استعادة زوجها.

- تجسيد الشك والخيانة: بالنسبة للزوج، أصبح هذا الضوء هو الدليل المادي على الخيانة، والرمز المرئي للشك الذي بدأ ينمو في قلبه و"يعلو كل يوم".

"اللمبة الحمراء" هي قصة قصيرة مكثفة وذات نهاية مفتوحة على الألم، تقدم نقدًا لاذعًا للعلاقات التي تفرغ من محتواها الإنساني وتتحول إلى مجرد شكل اجتماعي. إنها تحذير من أن محاولة إصلاح شرخ عميق في الروح بخدعة سطحية لا يؤدي إلا إلى توسيع الشرخ وتحويل البيت إلى سجن حقيقي.

وبتحليل نموذج آخر قصة: "من أنا؟!": وتمثل صرخة الهوية في وجه القهر الأبوي

تُعد قصة "من أنا؟!" واحدة من أكثر القصص جرأة وتأثيرًا في المجموعة، حيث تتناول بعمق قضية أزمة الهوية التي تُفرض قسرًا على فتاة بسبب العقلية الذكورية المتجذرة في بعض المجتمعات. القصة ليست مجرد حكاية، بل هي دراسة سوسيولوجية ونفسية للآثار المدمرة التي يخلفها القهر الأسري والرغبة في إرضاء الآخر على حساب الذات.

1. ملخص الأحداث: رحلة التدمير الذاتي بحثًا عن القبول

في إحدى قرى الصعيد، تعيش "سلمى" تحت وطأة والدها "الحاج محمود"، الذي كان يحلم بإنجاب ولد يحمل اسمه ويرث ماله1. ولأنه لا يستطيع الزواج بأخرى بسبب شروط الميراث العائلي، يقرر أن يعامل ابنته الوحيدة سلمى وكأنها ولد؛ فيجبرها على ارتداء ملابس الأولاد والقيام بأعمال شاقة

تكبر سلمى وهي تكره أنوثتها، وتشعر بالذنب تجاه والدتها التي تتحمل إهانات زوجها المستمرة. في محاولة يائسة وخطيرة لتحقيق حلم والدها وكسب رضاه، تبدأ سلمى بتناول هرمونات ذكورية سرًا على أمل أن يغير ذلك من هيئتها. لكن هذا القرار يدمر صحتها تمامًا، حيث تصاب بمرض السرطان نتيجة لاضطراب الهرمونات في جسدها.

عندما يكتشف الأب الحقيقة، يصاب بالرعب ويشعر بالذنب من فكرة فقدان ابنته، ويدرك حجم ظلمه. يبدأ في رحلة علاجها وينفق كل ما يملك لإنقاذها. خلال هذه المحنة، تتغير نظرته تمامًا ويتعلم أن يحبها ويحترمها لذاتها. تتعافى سلمى وتتحول إلى رمز للصبر والقوة، وتحكي قصتها لتعليم الفتيات أهمية تقبل الذات.

2. تحليل الشخصيات الرئيسية

- سلمى: هي الضحية والمحور الذي تدور حوله الأحداث. شخصيتها تجسد أزمة الهوية بكل أبعادها. هي لا تعيش حياتها، بل تعيش "الحياة التي أرادها والدها". دافعها ليس التمرد، بل على العكس تمامًا، هو الانصياع المطلق للرغبة الأبوية. فعلها بتناول الهرمونات هو ذروة التدمير الذاتي النابع من البحث عن الحب والقبول. رحلتها من الكره لنفسها إلى تقبل ذاتها والدعوة إليه تمثل مسار القصة من المأساة إلى الخلاص.

- الحاج محمود (الأب): يمثل السلطة الأبوية التقليدية في صورتها الأكثر قسوة. هو شخصية يحركها الهوس بالإرث والاسم، وهي قيم اجتماعية يعتبرها أهم من مشاعر ابنته وصحتها. هو ليس شريرًا بالفطرة، بل هو نتاج ثقافة تقدر الذكر على الأنثى. تحوله في نهاية القصة ليس نابعًا من وعي فكري، بل من دافع إنساني بدائي: الخوف من الفقد. صدمة مرض ابنته هي التي تجبره على إعادة تقييم أولوياته وإدراك النعمة التي كاد أن يفقدها.

3. الموضوعات الأساسية (المواضيع)

- أزمة الهوية: عنوان القصة "من أنا؟!" هو السؤال الوجودي الذي تعيشه سلمى. لقد سُلبت هويتها الأنثوية واستبدلت بهوية ذكورية مفروضة. القصة بأكملها هي إجابة مؤلمة عن هذا السؤال.

- نقد الثقافة الأبوية: القصة هي نقد مباشر وصريح لتفضيل الذكور في بعض المجتمعات، وكيف يمكن لهذه العقلية أن تدمر حياة الأفراد والأسر. الحاج محمود ليس مجرد شخص، بل هو رمز لثقافة بأكملها.

- الجسد كساحة للصراع: يصبح جسد سلمى هو ساحة المعركة التي يتصارع عليها رغبة الأب في الذكورة مع طبيعتها الأنثوية. تناولها للهرمونات هو محاولة عنيفة لتغيير هذه الساحة لتتوافق مع رغبة السلطة.

- الخلاص عبر المحنة: المحنة (مرض سلمى) هي التي تحمل الخلاص لجميع الأطراف. سلمى تجد ذاتها الحقيقية، والأب يجد إنسانيته المفقودة، والأسرة تجد معنى التكاتف من جديد.

"من أنا؟!" هي قصة قاسية وصادمة، لكنها تحمل في طياتها رسالة عميقة عن أهمية الحب غير المشروط وتقبل الآخر كما هو. تكشف القصة ببراعة كيف أن محاولة قولبة إنسان في قالب لا يناسبه لا تنتج إلا الألم والدمار. إنها دعوة صريحة لمراجعة الموروثات الاجتماعية التي تنتقص من قيمة الإنسان بناءً على جنسه، وتأكيد على أن الهوية الحقيقية لا تُفرض من الخارج، بل تنبع من أعماق الذات.

وبتحليل آخر قصة بالمجموعة "من حقي أن أعيش": انتصار الإرادة على وصمة المجتمع وتعد أطول قصص المجموعة

تُعتبر قصة "من حقي أن أعيش" من أقوى قصص المجموعة وأكثرها تأثيرًا، فهي لا تقدم مجرد حكاية، بل هي بيان إنساني عن الحق في الحياة والحلم، ورسالة قوية ضد التمييز والجهل المجتمعي. القصة هي رحلة ملهمة من الظلام إلى النور، ومن الرفض إلى التمكين.

ملخص الأحداث: من وصمة عار إلى أيقونة نجاح

تبدأ القصة بمأساة طفلة تُدعى "نور"، التي تُشخص إصابتها بمتلازمة داون بعد ولادتها بأربعين يومًا. يرفض والدها تقبل حقيقة "إعاقتها"، ويعتبرها "وصمة عار"، ويطلب من زوجته "ليلى" التخلص منها. أمام رفض الأم القاطع، يهجر الأب الأسرة، آخذًا معه ابنتهما الكبرى "نورهان" ويتركهما بلا سند أو مال.

تكافح الأم "ليلى" بمفردها، وتواجه قسوة المجتمع والتنمر الذي تتعرض له ابنتها. تكتشف موهبة نور في الرسم وتصميم الأزياء، فتدعمها بكل ما أوتيت من قوة. تكبر نور وتعمل في أتيليه كبير، وتفوز بجائزة دولية لتصميم الأزياء، محققة حلمها.

تتقاطع الأقدار حين تدخل شابة متعالية إلى الأتيليه لطلب فستان خطبة، وتتكشف لاحقًا أنها "نورهان"، أخت نور التي فرّق بينهما الزمن. يمرض الأب ويدخل المستشفى، وهناك تحدث المواجهة الكبرى بين ليلى وزوجها السابق، وتنكشف الحقيقة المرة أمام الابنتين. تنتهي القصة باحتضان الأم لابنتيها، معلنة بداية جديدة بعيدًا عن ألم الماضي.

2. تحليل الشخصيات الرئيسية

- نور: هي قلب القصة ورمزها. تبدأ كضحية لجهل والدها وقسوة المجتمع، لكنها لا تستسلم لدور الضحية. شخصيتها تتطور من طفلة باكية مكسورة القلب إلى شابة واثقة ومبدعة تفرض احترامها بموهبتها. نجاحها ليس مجرد انتصار شخصي، بل هو انتصار لكل "المختلفين" الذين يطالبون بحقهم في الوجود وتحقيق الذات.

- ليلى (الأم): هي البطلة الحقيقية والمحارب الصامت في القصة. تمثل الأمومة في أسمى صورها: التضحية، الصمود، والإيمان المطلق. رفضها التخلي عن ابنتها هو الفعل التأسيسي الذي تقوم عليه القصة بأكملها. هي السند والحامية والمعلمة، وبدون كفاحها وتضحياتها، ما كانت قصة نور لتكتمل.

- الأب: يمثل الجانب المظلم من المجتمع: العقلية الذكورية، الجهل، والرفض القائم على المظاهر. موقفه يجسد الخوف من "العار" الاجتماعي أكثر من حبه لابنته. عودته في نهاية القصة كشخص مريض ومنكسر هي عدالة شعرية، حيث يضطر لمواجهة نتيجة أفعاله، ويصبح هو نفسه في موضع ضعف بعد أن كان مصدر القوة والقسوة.

3.- القضايا  الاجتماعية  التي  ناقشتها  القصة: الحق في الحياة والحلم: هذا هو الشعار الذي ترفعه القصة. كلمات نور التي تتردد في قلبها على المسرح ("أنا من حقي أن أعيش... من حقي أن أحلم") هي جوهر الرسالة. القصة تؤكد أن القيمة الإنسانية لا تُقاس بعدد الكروموسومات أو بالمعايير الجسدية للمجتمع.

- وصمة العار والتنمر: تسلط القصة الضوء بمرارة على كيفية تعامل المجتمع مع ذوي الهمم. نظرات الازدراء والتنمر التي تعرضت لها نور هي انعكاس لجهل مجتمعي واسع.

- قوة الأمومة: قصة ليلى هي احتفاء بتضحيات الأمهات اللواتي يواجهن العالم بأسره من أجل حماية أطفالهن. هي التي حولت الألم إلى أمل، والضعف إلى مصدر قوة.

- الإرادة تفعل المستحيل: هذه هي العبرة النهائية للقصة. نور، الفتاة التي أراد والدها موتها، أصبحت مصممة عالمية. قصتها هي الدليل الحي على أن الإعاقة الحقيقية هي إعاقة الفكر والقلب، لا الجسد.

"من حقي أن أعيش" هي قصة مؤثرة ومُلهمة، تُعلي من قيم الإنسانية والرحمة والإرادة. إنها تدعو القارئ إلى النظر إلى ما وراء المظاهر، واكتشاف الجمال والقوة الكامنين في كل إنسان، بغض النظر عن الاختلافات. من خلال رحلة نور وليلى، تقدم منال أمين درسًا بليغًا في أن أعظم الانتصارات هي تلك التي تُبنى على أنقاض الرفض والألم.

ومجمل القول  إنًّ: مجموعة "اللمبة الحمراء" للكاتبة منال أمين ليست مجرد سرد لمجموعة من الحكايات، بل هي تشريح دقيق ومؤلم لواقع الذات النسوية في رحلتها الشاقة بين أغلال القهر وسعيها الدؤوب نحو التحرر. لقد تجلت هذه الذات في صور متعددة عبر قصص المجموعة؛ فرأيناها ضحية تتألم في صمت تحت وطأة الإهمال العاطفي كما في "اللمبة الحمراء"، ومُحطمة تبحث عن هويتها المسلوبة في "من أنا؟!"  ومناضلة صامدة تكسر قيود الوصمة المجتمعية في "من حقي أن أعيش".

تنجح الكاتبة ببراعة في أن تجعل من "اللمبة الحمراء" رمزًا مهيمنًا، لا يقتصر على قصة واحدة، بل يمتد ليصبح تلك الإشارة التحذيرية التي تومض في حياة كل بطلاتها، معلنة عن لحظة أزمة حاسمة تدفعهن إلى المواجهة. فكل قصة هي بمثابة "لمبة حمراء" تضيء جانبًا معتمًا من التجربة الأنثوية، سواء كان القهر نابعًا من سلطة أبوية، أو زوج متسلط، أو مجتمع قاسٍ في أحكامه.

وعليه، فإن هذه المجموعة القصصية تمثل شهادة أدبية وإنسانية على أن التحرر ليس دائمًا ثورة صاخبة، بل هو أحيانًا قرار بالبقاء، أو إرادة للصمود، أو حلم عنيد بالوجود. إنها دعوة صادقة لاستعادة الذات التي حاول الآخرون طمسها، وتأكيد على أن لكل امرأة، مهما كانت ظروفها، الحق في أن تروي قصتها، وأن تعيش حياتها بشروطها الخاصة، لا بشروط يمليها عليها الآخرون.

***

د. نجلاء نصير

وأنا أتابع صفحة للمترشحين لسلك الدكتوراه، لفت انتباهي طلب إحدى الباحثات يتعلق برغبتها في الحصول على نموذج لتقرير يخولها تقديم مشروعها العلمي. سؤال كبير وإشكال عميق يرتبط بهذا الأمر وهو بكل بساطة كيف لنا أن نترشح لسلك الدكتوراه ولا نحسن كتابة تقرير ؟ هل يمكن لنا أن نتبنى أفكار بعضنا البعض؟ هل الفكرة ملازمة لشخصها أم هي قابلة للانتقال رغم تغيير الأسلوب؟ كان هذا محور جوابي فانهالت علي الانتقادات والقليل من أيقونات الإعجاب.

أربأت نفسي عن جدال عقيم، رغم أني غير مقتنع بذلك، لكن ونحن نمارس الإقناع يجب أن يكون ذهن المتلقي والسامع مؤهلا فيما يسميه "محمد مشبال" بالحجاج الاقتناعي وبما أننا أمام صفحة افتراضية يضعف دور النسق والسياق الذي يحكم الخطاب كما يتوارى المقام وتتلاشى الوظائف اللغوية والنصية، هنا يمكننا أن نتحدث عن بلاغة رقمية كما دعى إليها "محمد بازي" في صياغته الفريدة لأنموذج تناغم الخطاب.

تأسيسا على ما سبق هل نجازف بالإعلان عن موت الباحث؟ ليس بالمفهوم الفلسفي للموت كما تحدث عن ذلك "نيتشه"، أو بالمفهوم النقدي البنيوي كما وظفه "رولان بارت" في قراءته للنص وإنما بمفهوم الناقد البريطاني "رونان ماكدونالد"؛ في كتابه "موت الناقد"؛ إنه موت رمزي حيث تراجع دور الناقد الأكاديمي وصعود قارئ غير متخصص يقوم بعملية التقييم للأعمال الإبداعية لقد تلاشى دور الناقد ضمن منظومة الإبداع الذي ما فتئ يسعى ويتلهف إلى مصادقة النخبة المثقفة، كما توارى دور الباحث وتولى إلى الظل واستكان وقال لاطاقة لي بالبحث، وأصبح يتلمس أيسر الطرق وأسهلها في مساره البحثي فغدا متقاعسا متهاونا متكاسلا. هنا يترادف الموت مع توقف الحركة ونبض الحياة كما تعني النهاية والعدم، لكن ألا يمكن لنا استحضار مفهوما آخر للموت كما تبلور في الشعر العربي المعاصر من خلال أسطورة العنقاء، حيث مثل الموت البعث من جديد، وهنا نعلن تكوين جنين الباحث ونموه طبيعيا إلى أن يستوي قائما ونقصد هنا بالموت الحياة من جديد، نموت في تحمل نفقات الكتب والمطبوعات، موت في الصبر على القراءة، موت في شد الرحال إلى المكتبات الوطنية والدولية، موت في تتبع الندوات والمؤتمرات والملتقيات، موت في امتصاص غضب الأستاذ المشرف، موت في تخليه عنك وعدم مواكبته لك، موت في إهانة أستاذ لك، موت في سهر الليالي، موت في تأجيل حقوق ذويك، موت في مقاومة الألم والمرض.. إنه موت لحياة جديدة وولادة باحث مجد، كطائر العنقاء حينما انتفض من رماده وعاد إلى الحياة من جديد. ورغم ذلك نسعى ونساق إلى الموت مرة أخرى لأن البحث العلمي حلقة لا متناهية لها مبتدأ ولا نهاية لها. حاولت أن استحضر هذه المقاربة لجعل الموت مرادفا لشعور بلذة المعرفة، قبل تذوق لذة الحياة. أو لذة النص وهو رسالتك أو بحثك.

إن الباحث اليوم يحتضر في صخب و ياليته يحتضر في هدوء، فالعيب أن نطلب الحياة وننشدها دون أن يتسلل الموت إلى أجسادنا. الباحثون اليوم يريدون كل شيء جاهز، دراسة جاهزة، مطبوعات متوفرة، جامعة قريبة، جدول الحصص لا يتعارض مع توقيت العمل، كتب حديثة النشر بصيغة رقمية، غيابه عن المحاضرات وعن حلقات العلم والمثال الذي انطلقنا منه لكتابة هذه المقالة هو الأساس، ألا تعلم هذه الباحثة الكريمة أن تقرير الدكتوراه يأتي بعد تصور عميق الإشكال، وبعد سنوات من اختمار الفكرة واكتمالها وبعد قراءة موسعة سماها المرحوم "فريد الأنصاري،" بالرصيد المعرفي.

إن الباحث اليوم هو خريج مؤسسة تعليمية ومؤسسة جامعية، هذا الباحث الذي يتحرى الحياة دون الموت، فما هو زاده المعرفي والعلمي ليمارس سلطته البيداغوجية والعلمية في تقديمه لمنتوجه، تنهار السلطة، وتنهار القيم، ومسؤولية المؤسسات الجامعية والتعليمية واضحة، ومسؤولية الباحث ثابتة، على الجميع أن يقتفي أثر الموت ليحيا من جديد. لقد تحدث "صلاح بوسريف" عن هذا الأمر من خلال ثلاثية العلاقة بين الجامعة والأستاذ والطالب حيث قال: " «الطالبُ، مُتعلِّم، يمتلك الرغبة والاستعداد للمعرفة والاكتشاف، وهو طالِب، بهذا المعنى، الذي هو نوع من النَّهَم المشروع الذي يسمح باستغراق المعارف والعلوم لحياة هذا الطالب..... والجامعة في هذه الحالة تكون وسيلة من وسائل عقلنة وتنظيم البحث، وعقلنة وتنظيم المعارف، ووضع الطلبة في سياق هذه العلوم، لا باعتبارها تخصُّصات صِرْفَة، بينها سياجات لا تسمح بالذهاب إلى غيرها من المعارف والعلوم».

لقد مات الباحث وترك مكانه لمتطفل على البحث العلمي متقاعس كسول يستعين بالذكاء الاصطناعي، ويعول عليه في تحرير بحوثه دون أدنى مجهود منه، إن هذا الطالب المتقاعس الكسول سيسهم في تدني مؤشرات البحث العلمي، ويكرس ثقافة التواكل، وستنتج بحوثا رثة سيئة المنهج وركيكة اللغة، وخالية من مضمون فكري.

***

د. عبد المجيب رحمون

دراسة تحليلية رمزية نفسية وتأويلية في قصيدة «شجرة نسيان» للشاعر أيمن معروف

بين النسيان والركض كاستعارتين للوجود، يقدّم الشاعر أيمن معروف في قصيدته «شجرة نسيان» وهي تجربة شعرية تتجاوز البنية الوصفية إلى ما يمكن أن نسمّيه تفكيكاً وجودياً للذات عبر رموز النسيان والركض، حيث يتخذ النسيان هيئة الخلاص والتلاشي في آنٍ واحد، بينما يتحوّل الركض إلى حركة بلا اتجاه، دائرية ومفتوحة على فراغ الوجود.

منذ المطلع، يعلن الشاعر انكساره بلغة صادمة:

«كنتُ شاعراً. أكلني الذئبُ في الطريقِ / ولم تلتفتِ السيارةُ والمارّةُ...»

في هذه الجملة تتكثّف ثنائية الحياة والمحو، فالشاعر هنا ليس فقط منبوذاً، بل ضحية اغتراب مزدوج: اغتراب عن العالم الخارجي (المارة والسيارة)، واغتراب عن ذاته الشاعرة التي ابتلعها «الذئب»؛ وهو رمز الغريزة والخراب والوحشة.

أولاً: الرمز بوصفه بؤرة الوجود الشعري

يحمل النص بنية رمزية مركبة، حيث يتحول النسيان إلى جوهر أنطولوجي (وجودي) يُعاد فيه تشكيل الذات بعد فنائها:

«صار النسيان مادتي الخام، يمحوني ثم يعيد تشكيلي...»

هنا يرتقي الشاعر بالنسيان من مجرد فعل نفسي إلى فلسفة للحياة. فكما يقول هايدغر، إن الإنسان لا يوجد إلا في قدرته على النسيان، لأن «الوجود ذاته هو إمكان يتبدّى في الانفتاح على العدم».

النسيان إذن ليس هروباً، بل ولادة ثانية عبر الفناء. وهذا يتقاطع مع رؤية نيتشه حين قال إن الإنسان لا يمكنه أن يبدع إلا إذا امتلك «قدرة نسيان فعالة»، تتيح له التحرر من ثقل الماضي.

ثانياً: البنية النفسية – الركض كأعراض القلق الوجودي

القصيدة بأكملها تُبنى على تكرار فعل واحد:

«أركض... أركض... أركض دون اتجاه»

يتحوّل الركض إلى علامة نفسية للقلق الوجودي، أشبه بما وصفه كيركغارد بـ«دوّار الحرية»، أي ذلك الشعور بالانفصال عن المعنى في عالم بلا مركز.

الركض هنا ليس فعلاً حركياً، بل تجسيداً لانعدام السكون الداخلي. فالشاعر لا يركض ليصل، بل يركض لأنه لا يستطيع التوقف.

وهذا ما يجعل النص أقرب إلى الاعتراف النفسي المتعب، حيث تختلط الحركة بالمحو:

 «أركض في داخلي. أركض في كل اتجاه. دونما أسف أو ندم»

إنه ركض داخلي، في دهاليز النفس لا في الطرقات، وكأن الشاعر يسير في متاهة صمّاء لا تفضي إلا إلى ذاته المنهكة.

ثالثاً: المستوى التأويلي (الهيرمينوطيقي): النسيان كإعادة قراءة للذات

تقوم القراءة الهيرمينوطيقية على تفكيك النص من خلال دائرته التأويلية؛ أي العلاقة بين الجزء والكل، بين التجربة الفردية والرؤية الكونية.

فكل مقطع من القصيدة هو حلقة في دائرة التلاشي والولادة، يبدأ بالمحو وينتهي بالتشكل.

 «يمحوني ثم يعيد تشكيلي... لأتمّ عدّة الطريق»

هذه الجملة تلخّص البنية التأويلية للنص: الطريق بوصفه مجازاً للوجود، والعدّة هي التجربة الشعرية والإنسانية التي لا تكتمل إلا بالضياع.

فالنسيان هنا ليس خصماً للذاكرة، بل معنى مكمّل لها؛ إذ لا يمكن للذات أن تتعرّف على نفسها إلا عبر ما تنساه.

في هذا السياق، يذكّرنا النص بمفهوم الذاكرة والنسيان عند بول ريكور الذي يرى أن النسيان «ليس غياباً للذاكرة بل أحد وجوهها، حين يُعاد تشكيل الماضي في صورة جديدة».

ومن هذا المنظور، فإن الشاعر «يتصالح مع نسيانه» ليولد من رحم العدم كذات أخرى، أكثر وعياً، لكنها أيضاً أكثر وهناً.

رابعاً: الصور الشعرية والإيقاع:

تُبنى القصيدة على صور متتالية تُحوّل المجرد إلى محسوس:

 «أُقشّر كمأة الغياب وأبكي»

«أجعل من حبّات الدمع أعشاش طيور»

في هاتين الصورتين يزاوج الشاعر بين الألم والتحوّل، بين الدمع بوصفه سقوطاً والطيور بوصفها صعوداً. إنها جدلية الانكسار والبعث، حيث يتحوّل الحزن إلى إمكانٍ للحياة.

الإيقاع الداخلي للنص متولّد من تكرار الفعل «أركض»، الذي يمنح القصيدة موسيقى نفسية أشبه بصفير اللاوعي. التكرار هنا ليس زخرفة بل إيقاع للهاجس، كما يقول الشاعر الفرنسي بول فاليري: «الإيقاع هو زمن المعنى».

إذ تتوالى الأفعال والحركات لتخلق موسيقى داخلية تترجم التوتر الوجودي للشاعر بين الرغبة في الثبات واستحالة التوقف.

خامساً: البعد الفلسفي والرمزي لشجرة النسيان

في الختام، تُختزل التجربة في صورةٍ ميتافيزيقية:

 «أنا، شجرةُ نسيانٍ طويلة»

هنا يتحقق الاندماج الكامل بين الذات والرمز.

الشاعر لم يعد يصف النسيان، بل أصبح هو ذاته النسيان.

الشجرة ترمز إلى الجذور والامتداد في آنٍ واحد، والنسيان إلى المحو، فالتعبير يجمع بين الثبات والزوال، بين الحياة والموت، في ما يشبه التحوّل الهيراقليطي الدائم حيث «كل شيء يتغير ولا شيء يبقى».

إنه كائن من نسيان، ممتد في الزمان، بلا ذاكرة، بلا مرفأ، بلا هوية إلا الركض نفسه.

خاتمة: الشعر كنجاة من الوعي الثقيل:

تبدو «شجرة نسيان» نصًّا عن عبث الوجود في عالمٍ فقد مركزه، وعن انكسار الإنسان الحديث أمام تيه المعنى وتضخم الذاكرة.

فالشاعر، مثل سيسيف، يركض نحو لا شيء، لكن في هذا الركض ذاته تكمن بطولته المأساوية.

يؤكّد النص أن الشعر لا يخلّد الذاكرة، بل يمنحنا نسياناً مضيئاً نواجه به ظلمة الوعي، وأن الخلاص لا يكون بالاستقرار، بل في الحركة الدائمة نحو المجهول.

كما لو أن الشاعر يقول مع ألبير كامو في أسطورة سيزيف:

 «علينا أن نتصور سيزيف سعيداً، وهو يجرّ صخرته إلى أعلى الجبل».

ففي النسيان ـ كما في الركض ـ تتجلى مأساة الإنسان وجلاله في آنٍ واحد.

***

بقلم: عماد خالد رحمة - برلين

..................

شجرة نسيان

بقلم: أيمن معروف          

كنتُ شاعراً.

أكلَني الذّئبُ في الطّريقِ

ولم تلتفت السَّيَّارَةُ والمارَّةُ والعائدونَ

منَ الصّيدِ، لوجودي.

*

هكذا،

اكتشفتُ اسمي في النّسيان

وسرعانَ ما ضيَّعتُهُ

في النّسيان.

*

صار النّسيانُ

مادَّتي الخام يمحوني ثُمَّ يُعيدُ

تشكيلي ويوصلُني منْ جديد لأتمَّ

عدّةَ الطريق.

*

الاتّجاهاتُ

ندوبٌ في مرآتِيَ المُحدَّبة

ودمي، بحذافيرِهِ في كلمةٍ سوداء

على الجريدةِ، أبيض.

*

ابْيَضَّ دمي.

والأيّامُ الضّخمةُ جعلتْني أجرُّ رأساً هائلاً

ومجنوناً طوالَ تلك السّنين،

وأركض.

*

أركضُ في داخلي.

أركضُ في كلِّ اتّجاه. دونما أسفٍ

أو ندمٍ، أركض.

*

منْ سلالةِ العدّائين.

ومع هذا لم تذكرني الإذاعاتُ أو تأتي

على اسمي الصُّحف.

*

أرمي جسدي

مثلَ شيءٍ في الطّريقِ،

وأركض.

*

أُلمِّعُ كوارثَ النّهار

وأحملُها مثل أخطاءٍ قديمة

ولا أستعمل التّذكّر.

*

أُقشِّرُ

كَمْأَةَ الغيابِ، وأبكي. أبكي،

وأنا أركض.

*

أجعلُ منْ حبّاتِ الدّمعِ

أعشاشَ طيورٍ أكمنُ لها في قلبِ الوردةِ،

وأركض.

*

أركض. أركض.

أركضُ دونَ اتّجاهٍ. أركضُ

دونَ أثر.

*

نسيتُ،

حياتي، هناكَ، أركض.

*

أركضُ،

في البلادِ الّتي ليسَ فيها

سوى الرّكض.

*

ملءَ يدي

ثلاث علبٍ للتّيه وثلاثُ حماماتٍ

تلمعُ في عينيَّ وعلى جبيني

قوسُ قزح.

*

أنا،

شجرةُ نسيان طويلة.

 

لا تُعدّ هذه القصيدة مجرّد استعراض لغوي أو تقنية شعرية صرفاً، بل هي تجربة شعرية مركّبة، تبحر في عوالم الرؤيا، وتغرف من ينابيع الصوفية، وتنطلق من نبع الدين، ثمّ تشدّ نحو الفكر، ثم نحو المجتمع، ثم نحو الذات.

نصٌّ بهذه الكثافة الميتافيزيقية، وهذا التوقد الشعري الذي يتخذ من الهلال الخصيب رمزًا كونيًّا وتاريخيًّا في آن، لا يُقرأ كما تُقرأ القصائد، بل يُؤوَّل كما تُؤوَّل الرؤى. إنه نصٌّ يتداخل فيه التاريخ بالأسطورة، والسياسة بالعرفان، والنبوءة بالحسرة، حتى يغدو الشعر فيه لسانًا للوجدان الجمعي الذي يعاني تمزّق الجغرافيا وانكسار الوعي، لا صوت شاعرٍ فردٍ فحسب.

منذ الاستهلال:

"وَلَمّا رأى في الجنّتينِ حرائقَا ... ورُؤيا بها النيرانُ شَبّتْ حقائقَا"

يُعلن الشاعر انفتاح رؤياه على مشهد الخراب، على الجنتين اللتين لم تعودا جنتين بل رمزين للخصب المحترق، بلاد الرافدين وبلاد الشام، وقد أضحت النار فيهما "حقيقة" بعد أن كانت مجرّد نذرٍ في الرؤى. هنا، يستحضر الشاعر صورة النبيّ الرائي، لا الشاعر فحسب؛ ذلك العارف الذي يمضي في طريق النور حاملاً مصابيح الغائبين، كما قال:

"مضى في طريقِ العارفينَ مُنوّراً ... مصابيحَ مَنْ لا يُبْصِرونَ طرائقا"

إنه شاعر/ نبيّ، على طريقة المتصوفة الكبار (ابن عربي، الحلاج، والسهروردي)، يقرأ النار لا كعقابٍ بل ككاشفٍ، والخراب لا كفناءٍ بل كاختبارٍ كونيّ لمعنى الخلق. فالشاعر هنا لا يصف ما يرى، بل يؤوّل النار كحقيقة وجودية، يكتشف من خلالها جوهر الهزيمة ومعنى التطهير.

يتنقّل النص في منعرجات متعدّدة من الحسّي إلى المجازي، ومن الواقعي إلى الصوفي، في نَفَسٍ شعريّ طويل لا يكلّ، حتى ليبدو وكأنه سفرٌ عرفانيّ عبر خرائط الجرح العربي. فهو مرةً يستحضر رموز الأرض (النخيل، الفرات، الجنائن، الحداء، اليمامات...) ومرةً يصعد إلى المقامات الروحية حيث الوجدان يهطل كوثراً والخيال يفيض بواتقاً.

وحين يقول:

"خصيبيّةُ الأمدادِ صوفيّةُ الرُؤى ... تطيرُ إلى معنى الوجودِ بيارقا"

فهو يعلن التحام المكان بالروح. إن الهلال الخصيب، في رؤياه، ليس جغرافيا فحسب، بل حالة وجدٍ روحيّ، موطن النبوءة الأولى، حيث يتجلّى الإلهي في الطين، وتتمازج الزراعة بالحكمة، والنهر بالسماء. إنّه مهدُ الكلمة الأولى، وجرحها الأخير.

على الصعيد الرمزي، تتجلّى القصيدة كرحلة من الضلال الجمعي إلى الوعي الكوني. فالشاعر، وإن بدا مصلحًا أو حكيماً في ظاهر القول، يقرّ بتجربته المزدوجة بين الحكمة والزندقة:

"فلسْتُ حكيماً بل أسيرَ نبوءةٍ ... ولم أكُ يوماً بالمواعظ حاذقا"

"وحَسْبُكَ شطحٌ حازَ طعْمَ تَزنْدُقٍ ... وَرُبَّ مُريدٍ قد تزندقَ صادقا"

إنها إشارة عميقة إلى الجدلية الصوفية بين الكفر والإيمان، بين الحرف والحقيقة؛ حيث لا ينال العارف المعرفة إلا عبر "الشطح"، أي الخروج عن حدود المألوف، كما فعل البسطامي والحلاج.

فالشاعر هنا لا يبرّئ نفسه من الشطح، بل يحتفي بها كمرحلةٍ في طريق الكشف.

بهذا المعنى، تتحوّل القصيدة إلى تجربة كشفٍ وجوديّ، يُستمد فيها الوعي من نار الخسارات، لا من بارد اليقين.

وحين تنحدر القصيدة إلى مآسي الراهن العربي، تنتقل من الرمز إلى الاعتراف السياسي الفاجع:

"أيا جارتا ويْلَ العروبةِ بعدما ... مَحا الصنمانِ الأكبران علائقا"

الصنمان الأكبران هنا رمزان مزدوجان: للسلطة والاستبداد، وللعقيدة الزائفة التي استعبدت الوعي.  إنّها صرخة ضدّ تآكل المعنى في زمنٍ تآكلت فيه الأوطان، حين صارت العروبة وهماً، والناس بيادق على رقعة الشطرنج، كما يقول بمرارة:

"أكُنّا كما الغرقى بوهمِ عروبةٍ ... على رُقعةِ الشِطْرنْجِ نعدو بَيادقا"

هنا يلتقي الشاعر مع محمود درويش في "مديح الظل العالي"، ومع أدونيس في نزعة تفكيك الأوثان، ومع السيّاب في رثاء الرافدين؛ لكنه يختلف عنهم في أنه لا يكتفي بالنقد، بل يحوّل الوجع إلى طريق عرفانيّ، إذ يواصل إشعال القوافي "كي تقوم حدائقاً".

الشعر عنده ليس ترفاً بل مقاومة روحية:

"بأنّي على نارِ الجنائنِ لم أَزلْ ... أزُخُّ القوافي كي تقومَ حدائقا"

هذا الشعر، في عمقه، تأملٌ في معنى البقاء الإنساني وسط العدم. إنّه يصرّ على أن الشعر يمكن أن يكون صلاة، وأن الكلمة ما تزال قادرة على إنقاذ ما تبقّى من الروح. حين يقول:

"أعوذُ بشعري والمعوذةُ فرقدٌ ... يَراهُ فؤادي في القصيدةِ شاهقا"

فهو يُعلن الشعر ملاذًا لا عقيدة، والنصّ معراجًا نحو العدالة المفقودة:

"ويرنو إلى كنه العدالة جوهراً ... فلم يرَ ما بين الأنام فوارقا"

هنا تتجلّى الروح الإنسانيّة الكونية التي تتجاوز العروبة بمعناها الضيق، لتستبصر جوهر العدالة الإلهية التي تسوي بين الخلق.

أما البعد الصوفي الرمزي في الختام فيبلغ ذروته في قوله:

"بِقلبٍ على جمرِ الحقيقةِ عاكفٍ ... وقدْ فاضَ تنّورُ الخيالِ بَواتِقا"

إنه قلب العارف الذي يلتهمه جمر الحقيقة، لا لينطفئ بل ليُضيء. فالنار هنا ليست فناءً بل تطهيراً، والخيال ليس هروباً بل تنورًا تُصهر فيه الحقائق حتى تتجلى صفوتها.

إنها صورة للوعي المتوهج الذي يعيد خلق العالم بالكلمة، في زمنٍ تعفّن فيه الخطاب.

في المحصلة، تمثّل "الهلال الخصيب" قصيدةً تجمع بين المأساة والرجاء، بين الخراب والنبوءة، بين الكلمة والمعنى. هي ليست بكاءً على الماضي، بل استنهاضٌ للوعي الجمعي، وتذكيرٌ بأن الشعر يمكن أن يظلّ الضمير الأخير للأرض المحروقة.

إنها قصيدة تكتب جغرافيا جديدة للروح، في عالمٍ فقد بوصلته، وتعيد إلى الشعر مهمته الأولى: أن يكون مرآة الوجود حين تنكسر المرايا، وأن يوقظ فينا ما نسيه التاريخ، أن الهلال الخصيب، مهما احترق، سيبقى خصيبًا، لأنه ينبت من رماده المعنى.

***

سعاد الراعي - درسدن/ المانيا

25.10.30

...................

رابط القصيد

https://www.almothaqaf.com/nesos/984171

في المثقف اليوم