قراءات نقدية

قراءات نقدية

الأسلوب والصورة الشعرية:

القصيدة تتسم بأسلوب سردي تأملي، حيث تشترك الشاعرة في رحلة بحث عن الذات وسط الظلام والفراغ. الصور الشعرية التي تستخدمها الشاعرة، مثل:

ظلّي يرافقني في ظلمة الطريق

و/ ثلج ديسمبر يكسو الأرض والأشجار

تقدم أجواء حالمة تنبض بالتأمل الذاتي. تزاوج الصورة بين الواقع والخيال في مفردات مثل

الطريق مقفرة وقلبي عامر بالعشق

تبرز الازدواجية بين الظلمة الداخلية والنور الخارجي، مما يُضفي عمقًا شعريًا على النص.

الرمزية:

هناك استخدام واضح للرمزية في القصيدة، حيث يُرمز للظلام بالجهل والخوف، بينما النور يمثل الأمل والتحرر. الرمزية تتجسد في النّجوم تتهافتُ نحوي لترشدني

وهو تعبير عن التوجيه أو الإلهام في لحظات الشك، بالإضافة إلى/

الجرذان تصاب بالهلع

التي تمثل الخوف أو المواقف المزعجة التي يتجنبها الشاعر.

التكرار والدلالات العاطفية:

التكرار في

أمشي، أمشي، أمشي

يعكس شعورًا بالتحرر والرغبة في الهروب من القيود الداخلية والخارجية. هذا التكرار يبني الإحساس بالحركة المستمرة والرغبة في الفرار من الحالة النفسية المتراكمة. كما أن تكرار عبارة

أنا سعيدة

يظهر التناقض بين الغربة الظاهرة والسعادة الداخلية، ما يعزز التوتر العاطفي بين الوجود الشخصي والشعور بالوحدة.

اللغة والمفردات:

مفردات القصيدة غنية بالصور الذاتية مثل

أهمس للقطط

و/الصّراصير

وهي مفردات يومية تدور في فلك الخيال، مما يُضفي على النص طابعًا سحريًا غير تقليدي. اللغة تتنقل بين الملموس واللاملموس، بين مشاهد الطبيعة والوجدان الداخلي، ما يجعلها مليئة بالتناقضات التي تؤثر في القارئ بشكل عاطفي.

البنية والإيقاع:

القصيدة تتبع بنية حرة بدون تقيّد بالقافية أو الوزن التقليدي، مما يتيح حرية في التعبير عن المشاعر والأفكار. هذه البنية المفتوحة تتناغم مع الموضوعات المتنقلة بين الواقع والخيال. الإيقاع يتنوع بين الهدوء والحركة السريعة، مما يعكس التناقضات الداخلية في الذات بين الشعور بالفراغ والرغبة في الانطلاق.

الخلاصة:

قصيدة /بهجة الروح/ لسونيا عبد اللطيف تمزج بين الخيال والواقع، بين السكون والحركة، لتعبّر عن حالة من التفكك الداخلي والتجدد الشخصي. الصور الرمزية والتكرار يعززان من عمق النص، بينما اللغة والموضوعات تخلق جسرًا بين المشاعر الفردية وتفاصيل الحياة اليومية، ما يُضفي على القصيدة طابعًا شعريًا مليئًا بالصور المتناقضة التي تحفز القارئ على التأمل والتساؤل.

***

بقلم: كريم عبدالله - العراق

.........................

بهجة الروح

سأخرج لأتسكّع قليلا هذه الليلة، مللتُ البقاء في السّرير، والمكوث بين جدران الوقت، النّومَ ودّع أحداقي، لذا سأمشي وأحمل معي ظلّي، ليرافقني في ظلمة الطّريق، ويحميني من عيون اللّيل الحالكة، هو لا يُرى في السّواد، لكنْه يَرى.

في هذه الليلة الدّامسة، وفي هذه الآونة، وجدتُ ضالّتي في التّسكّع، الذي لم يتوقّف لحظة عن مُناداتي، سأخرج إذنْ، سأوشوش للصّراصير لكيْ تخفّضَ من أصواتها قليلا حتى لا تزعجَ صغار العصافير النّائمة تحت أجنحة الحلمِ، وأهمسُ للقطط المتسلْلة في الأزقّة بين الشّرايين أن تخفض من حدّة بريق أعينها حتى لا يفزعَ البرقُ فيتخلّى عن لمعانه، وس. أمشي، أمشي، أمشي التّسكّع فعلا يُغريني، وبرغم شعوري بالغربة، أنا سعيدة، فالجرذان تصاب بالهلع حين تشاهد اللّيل يُغازلني، وتصاب بالغيرة حين ترى النّجوم تتهافتُ نحوي لترشدني،..

الطّريق مقفرة وقلبي عامر بالعشق ومأمون. فكيف أخشى الظّلام وثلج ديسمبر يكسو الأرض والأشجار، فيغدو الفضاء من أمامي أبيض، أبيض تحيطه هالة من النور، أو كأسراب حمام تحمل أغصان الزّيتون.

المشهد مثير. ترفعني الأنواء إلى سدرة الأنس حيث يستقبلني ديسمبر بدفئه الوثير.

من أين يأتيني هذا الشعور؟

من بهجة الرّوح أم من سطوة الغرور؟

***

سونيا عبد اللطيف

تونس 14/ 12/ 2024

 

تجتاحني دهشةٌ مهيبة وأنا أُبحرُ في عوالم هذه القصيدة؛ فقد أبدع الشاعر يحيى السماوي في صياغة كل بيت كأنَّهُ قصيدة قائمة بذاتها، نابضة بالمعنى، ومترعة بالبلاغة التي تتراقص بين أصابع الإعجاز الشعري. في تناغم مدهش، استطاع الشاعر أن يدمج الخاص والعام، الذات والجموع، ليخلق لوحة شعورية متشابكة تعكس عمقًا إنسانيًا تتجاور فيه العوالم وتتداخل.

صرخة وجدانية ومعاناة إنسانية

تأتي القصيدة كنداءٍ ملتهبٍ يصرخ فيه السماوي من أعماق وجدانه، متكئًا على إرث شعري غارق في الفلسفة والعاطفة. تتردد أصداء المأساة في أروقة النص، حيث تتقاطع ثنائية النور والظلام، الإيمان والضياع، الحب والخيانة، في مشهد صراعي متجذرٍ في حيرة الإنسان أمام مفارقات الوجود.

البنية الفكرية وصراع الأضداد

تُشيّد القصيدة بنيانها على أسئلة الوجود، حيث يبدأ الشاعر بمونولوج داخلي يعكس صراع النفس:

"أمسي ويومي في الهوى خصمانِ

أأنا المُضامُ؟ أمِ المُضيمُ الجاني؟"

في هذين البيتين، يضع السماوي القارئ أمام مفارقة فلسفية تنبض بانشطار الذات، متأرجحة بين متناقضات لا تهدأ. ويتجلى هذا الصراع بوضوح في قوله:

"يتقاتلُ الضِّدانِ تحتَ أضالعي

نورُ الإلهِ وظُلمةُ الشيطانِ"

هنا، يُحيلنا الشاعر إلى صراع أبدي بين الخير والشر، مستمدًا من الإرث الصوفي معانيه، إلا أنه يُطعّمه برؤية عصرية تعكس واقع الأمة وأزماتها، كما في قوله:

"القائمون إلى الصلاةِ جباهُهم

كالقائمينَ إلى كهوفِ غواني"

اللغة والصورة الشعرية

لغة القصيدة متينة، تُبهر القارئ برصانتها ورسوخها بالاتكاء على ما في التراث القرآني والشعري. أما الصور، فهي مُبدعة تستند إلى المجاز العميق والاستعارة البديعة، مثل قوله:

"ما العُجْبُ إنْ غُصْني يُحاربُ جَذْرَهُ

وتَخافُ من أهدابِها أجفاني؟"

يمزج الشاعر في هذه الصورة بين تجريد الفكرة وواقعيتها، ما يمنحها أبعادًا متداخلة تُحرّك خيال القارئ وتثير فيه الخيال والتأمل!

ومن جانب آخر، يستدعي الشاعر رموزًا تاريخية، كما في قوله:

"كم ملجمٍ فينا وأبرهةٍ وكم

هندٍ وكم من عصبة السفياني"

ان الإشارة الى هذه الشخصيات الخيانية والغادرة، ما هو الا اسقاط للماضي على الحاضر بأسلوبٍ يتسم بالإيحاء والانزياح، كاشفًا التداخل بين الأزمان والتجارب الإنسانية.

جدلية القداسة والتناقض

من المشاهد البليغة التي يرسمها السماوي تلك التي تُبرّز ازدواجية الواقع:

1.

"مولايَ واخْتَلَطَ الصدى في يَومِنَا

ما بينَ صوتِ رَبَابَةٍ وأذانِ"

هنا، تتداخل الأصوات بين الروحانية والهوى، بين النداء المقدس والحياة العابثة، لتُجسد حالةً من السقوط الاجتماعي والسياسي والفكري.. انه الضياع القيمي.

2.

"القائمون إلى الصلاةِ جباهُهم

كالقائمينَ إلى كهوفِ غواني"

تُجسّدُ هذه الصورةُ الشعريةُ المدهشةُ نفاقًا اجتماعيًا صارخًا، حيثُ تَحملُ الجباهُ أثرَ السجود، لكنَّ القلوبَ خاويةٌ من الإيمان. هنا يُبرزُ الشاعرُ ازدواجيةَ المظهر والجوهر، مستنكرًا طقوسًا بلا روحٍ، وديانةً بلا يقين، مُشيرًا إلى أزمةٍ أخلاقيةٍ عميقةٍ تُفكّكُ القيمَ الحقيقيةَ للدين والالتزام بها.

صرح التأريخ واطلال الواقع

1.

"الخيبريون استباحونا على

مرأى الكتائبِ من بني عدنانِ"

في هذا المقطع، تتداخلُ الأبعادُ التاريخيةُ والسياسيةُ، إذ يُحيلُ لفظُ "الخيبريون" إلى يهودِ خيبر، مُستدعيًا خيانةَ الماضي لتفسيرِ خياناتِ الحاضر. والمفارقةُ الحادّةُ تكمنُ في موقفِ "بني عدنان"، حيثُ يُشيرُ إلى العربِ الذين يفترضُ أن يكونوا حُماةً، لكنهم باتوا شهود زور عاجزين عن الفعل المستوجب اتيانه في ظروف تكالبت علينا فيه الذئاب؟

2.

"قومي هُمُ قتلوا أميمَ أخي" وهم

أغووا بني صهيونَ بالعدوانِ"

في هذا الاقتباسِ من التراثِ الجاهليّ، يُوظّفُ الشاعرُ الحارث بن وعلة الذهلي، ليُعيدَ إنتاجَ مأساةِ الأخوّة المذبوحة. يفضحُ تناقضَ القومِ الذين خانوا أبناءهم وأوطانهم، وأصبحوا عرّابي العدوانِ الصهيونيّ، في انقلابٍ كارثيٍّ يُبدّدُ المروءةَ والنخوةَ لصالحِ الخيانةِ والتبعية.

3.

"الموصِدونَ بوجهِ غزّةَ بابَهم

والفاتحونَ البابَ للذئبانِ"

يستحضرُ هذا المقطعُ مأساةَ الحصارِ على غزّةَ، مُحمّلًا العربَ مسؤوليةَ التخاذلِ والتواطؤ. فالبابُ الذي أُوصدَ في وجهِ المظلومين، فُتحَ على مصراعيهِ للغُزاةِ والمعتدين، في صورةٍ تُكثّفُ الخيانةَ السياسيةَ والأخلاقية، وتجعلُ من الأعداءِ شركاءَ لبعضِ الأنظمةِ العربيةِ نفسها.

4.

"الشامتونَ بقتلِ أشرفِ ذائدٍ

عن غزّةَ تُسبى وعن لبنانِ"

تتصاعدُ حدةُ المرارةِ في هذا المقطع، حيثُ يُدينُ الشاعرُ أولئك الذين شمتوا باستشهادِ المقاومين، وكأنّهم ينتمونَ إلى صفِّ العدوّ. هذا الاستنكارُ اللاذعُ يُبرزُ انقلابَ الموازينِ، حيثُ صارَ الدفاعُ عن الأوطانِ جريمةً في عُرفِ الجاحدين، وباتَ الشهيدُ هدفًا للتشويهِ بدلًا من التمجيد.

انتصارَ الانتماءِ

1.

"حاولتُ أكفرُ بالعراقِ وأهلهِ

فاعتابني شرفي وشُلَّ لساني"

يمثلُ هذا البيتُ صرخةَ وجعٍ من شاعرٍ عشقَ وطنهُ حتى العظمِ، لكنَّهُ استبدَّ به الألمُ حتى فكرَ في التنكّرِ له. غيرَ أنَّ الشرفَ، كقيمةٍ متجذّرةٍ، صفعهُ قبلَ أن ينطقَ بالكفرِ، في صورةٍ مُبهرةٍ تُجسدُ انتصارَ الانتماءِ رغمَ كلّ الجراح.

2.

"وأردتُ تجربةَ الخيانةِ مرةً

فتحجّرتْ مُقلي وهُزَّ كياني"

هنا يصلُ الصراعُ الذاتيُّ إلى ذروتهِ، حيثُ يتحدى الشاعرُ نفسهُ في اختبارٍ أخلاقيٍّ وجوديّ، لكنَّ استجابةَ الجسدِ كانت أعنفَ من الفكرةِ ذاتها. فالعينُ التي كادتْ أن تشهدَ الزيفَ تحجّرت، والروحُ ارتجفت، وكأنَّ الانتماءَ الصادقَ يُحبطُ الخيانةَ حتى قبل وقوعها.

3.

"لي طبعُ باديةِ السماوةِ رملُها

لم يَشكُ جمرَ القيظِ للغدرانِ"

يعودُ الشاعرُ هنا إلى أصولهِ، مُجسّدًا نفسهُ كامتدادٍ لصحراءِ السماوةِ الصامدةِ تحتَ شمسِ القيظِ دون أن تستجدي الغدرانَ. هذه الصورةُ الموحيةُ تعكسُ الاعتدادَ بالقيمِ، والإصرارَ على عدمِ الاستسلامِ رغمَ قسوةِ الظروفِ، في مشهدٍ يُكرّسُ البطولةَ والكبرياء.

الإيقاعُ والموسيقى الشعرية

القصيدةُ مكتوبةٌ على البحر الكامل، وهو بحرٌ ذو إيقاعٍ قويٍّ ومتماسك، ما ينسجمُ مع نبرة الشاعر الحادّة وانفعاله العاطفي العميق. كما يُلاحَظُ استخدامُ التكرار، مثل تكرار "مولايَ"، وهو ما يُعزز البُعد الصوفي في القصيدة، ويضفي عليها طابعًا ابتهاليًا يُذكِّر بالمدائح النبوية.

***

سعاد الراعي

الأسلوب السردي والتعبيري:

القصيدة تتسم بأسلوب سردي تأملي مع استخدام تعبيرات قوية وحِمْل رمزي، حيث تنقل شعورًا عميقًا باليأس والخيبة. الافتتاحية بـ /ديسمبر ليل مضيء/ تعكس تباينًا بين الضوء والظلام، مما يهيئ القارئ لتصعيد في الأحداث والتوتر العاطفي. الشاعر يربط الزمان والمكان بالذاكرة البشرية المحبطة، مما يعزز التيمة المتعلقة بالفقدان والانكسار.

الرمزية واستخدام الصور:

الرمزية حاضرة بشكل واضح في القصيدة، حيث يمثل /ديسمبر/ فصلًا رمزيًا من السكون والتأمل، بينما /الخفاش/ و/جلاد الموتى/ يشيران إلى قوى الظلام التي تقاوم الأمل والتقدم. صورة /الفرات يجهش بالبكاء/ تعكس مشاعر الحزن والدمار المرتبطة بالمأساة، و/بابل تفتح عينيها بعد سبات القرون/ هي صورة قوية لاستيقاظ تاريخي متأخر على واقع مؤلم.

التناقضات والتوتر:

تطرح القصيدة توترات بين الحياة والموت، النور والظلام، الأمل واليأس، وهو ما يعكس حالة الأزمة التي يمر بها العالم العربي. كما أن التناقض بين /الدم المستباح/ و/السماء تمطر الرماد/ يسلط الضوء على الفوضى والموت الذي يحيط بمصير الشعوب في ظل الأنظمة القمعية.

اللغة والمفردات:

المفردات في القصيدة تحمل وزنًا دلاليًا عميقًا. كلمات مثل /جلاد الموتى/، /الفناء/، /الرماد/، /النسيان/ تحمل أبعادًا قاتمة وتساهم في بناء الإحساس العام بالفقد والانهيار. اللغة تأتي مشبعة بالحزن والتصوير المأساوي، مما يعزز من الوجع الذي يعبر عنه الشاعر.

البُعد السياسي والتاريخي:

القصيدة تغلف رؤية سياسية وتاريخية لواقع مؤلم، حيث يختلط الماضي بالحاضر ويظهر التفاعل بين الأساطير والهزائم التاريخية. /الحلم القومي في قارورة النسيان/ يعكس ضياع الطموحات الوطنية في ظل النكبات والظلام السياسي، ويعبر عن إحساس بالخيانة التاريخية على صعيد الأمة.

الخلاصة:

قصيدة /ديسمبر المضيء/ لفراس الوائلي هي قصيدة تأملية مشبعة بالرمزية تعبر عن الحزن والخذلان في سياق سياسي وتاريخي. اللغة القوية والمفردات الموحية، بالإضافة إلى الصور الرمزية التي تجسد مأساة الشعوب والهزائم القومية، تعكس رؤية شاعرية نقدية تلامس واقعًا أليمًا، محملًا بالندم والفقدان.

***

بقلم: كريم عبد الله - العراق

.......................

ديسمبر المضيء

ديسمبر ليل مضيء الأسرار لذاكرة بشرية نائمة في سجن رقمي يعصر فيها الضوء الأوجاع فجر دم مستباح، السماء تمطر الرماد، الفرات يجهش بالبكاء فيما الخفاش يلتهم الأرض يقضم القبور جلاد الموتى يدفن الحلم القومي في قارورة النسيان يلقيها في أعماق البحر تاركا صراخ الشعوب تحت ظلال العناكب على رفوف التاريخ

المتربة حتى فتحت بابل عينيها بعد سبات القرون تنادي الآلهة لماذا غَرَست في أرضها بذور الفناء وصار الزمن رمادا تحمله الأساطير تغنيه الأجيال في مواسم النكبات حين يغرق الضوء في لجج الظلام مودعا حلم العروبة المكبل بالطغيان.

***

فراس الوائلي - العراق

 

معارضة نسيم عاطف الأسديّ في قصيدته "اجمع جموعك وانتفض يا عنترة"

لقصيدة مصطفى الجزّار "كفكف دموعك وانسحب يا عنترة"

***

يُعدّ الشّعر وسيلةً أساسيّة للتّعبير عن الذّات والأيديولوجيّات، ويعكس مشاعر الشّاعر تجاه الأحداث والمواقف المختلفة. وشعر المعارضات يُعرّف بأنّه نظم شعرٍ موافق لشعرٍ آخر في موضوع معيّن، حيث يلتزم الشّاعر المُعارِض نظمَ الشّاعرِ الآخر (المُعارَض) في قافيته، وبحره، وموضوعه التزامًا تامًّا، يحرص فيه الشّاعر المُعارِض على مضاهاة الشّاعر المعَارَض في شعره، إن لم يتفوّق عليه، وقد يلجأ الشّاعر إلى هذا النّوع من الشّعر عندما يرى في شِعرِ غيره من الشّعراء ما يمتاز به من فصاحة، وروعة صياغة، أو صور معبّرة، وغيرها من أمور تثير في نفسه العجب.

وكنت قد قرأت معارضة الشّاعر الدّكتور نسيم عاطف الأسديّ لقصيدة الشّاعر مصطفى الجزّار "كفكف دموعك وانسحب يا عنترة" والّتي أحدثت ضجّة كبيرة في برنامج "أمير الشّعراء"، ورأيت أن أتناول قصيدتي الشّاعرين المذكورين لأنّهما شاعران معاصران ترتقي قصيدة كلٍّ منهما إلى مصافي الشّعر القويّ المتين، جيّد السّبك، قويّ الصّورة، جميل الجرس، إلّا أنّ كُلًّا منهما يُظهرُ توجّهًا شعريًّا مختلفًا حول قضيّة واحدة، من خلال المعارضة الّتي أبدعها الأسديّ على إبداع الجزّار.

تكاد أبيات قصيدة مصطفى الجزّار كلّها أن تؤكّد مشاعر الخنوع والتّراجع والاستسلام، فمطلع القصيدة "كفكف دموعك وانسحب يا عنترة"، يُوجّه الشّاعر فيه نداءً إلى البطل العربيّ عنترة بن شدّاد، طالبًا منه الانسحاب والاستسلام في وجه الظّروف المعاصرة، وهذا التّوجّه يعكس حالة من الهزيمة والخذلان، ويعبّر عن عدم القدرة على مجابهة التّحديّات الجديدة الّتي فرضتها الحروب الحديثة.

يقول الجزّار:

كفْكِف دموعَكَ وانسحِبْ يا عنترة

فعيونُ عبلةَ أصبحَتْ مُستعمَرة

تصوير عيون عبلة -حبيبة عنترة- بأنّها "أصبحَت مُستعمَرة"، يشير إلى التّغيير الكبير الّذي لحق بالعالم القديم، وإلى عجز البطل عن الحفاظ على ما كان له. تعكس هذه الصّورة فكرة أنّ الثّوابت قد تلاشت وأنّ البطل الّذي اعتاد الفوز قد خسر أعزّ ما يملكه، وأصبح غير قادر على المواجهة.

وهذه الصّورة تستمرّ مع توالي الأبيات دون أن نلمح في القصيدة أيّة ومضة من الأمل أو التّفاؤل، فالشّاعر يؤكّد مع توالي الأبيات، ومن خلال فرض حقائق جديدة تُنهي ما كان سابقًا، بأنّ الثوّرة على الموجود وقلب الموازين لمصلحة عنترة أمسى مستحيلًا، يقول في البيت التالي:

لا ترجُ بسمةَ ثغرِها يومًا، فقدْ

سقطَت من العِقدِ الثّمينِ الجوهرة

"سقوط الجوهرة"، وهي تمثيل للقيم والمثل العليا الّتي كانت تُمثّلها عبلة، أثمن وأعزّ ما يملكه عنترة العربيّ. يسعى الشّاعر هنا إلى تصوير حالة من الفقد الكامل، حيث إنّ الأمل في استعادة الماضي قد ضاع. هذه الصّورة تُجسّد الإحساس بالاستسلام التّامّ للوضع الرّاهن، وهو ما يعكس فكر الشّاعر الّذي يعبّر عن الهزيمة والتّخلّي. يقول مؤكّدًا عجز العربيّ في حاضره:

واخفِضْ جَنَاحَ الخِزْيِ وارجُ المعذرة

قبِّلْ سيوفَ الغاصبينَ.. ليصفَحوا

*

فقدَ الهُويّةَ والقُوى والسّيطرة

والسّيفُ في وجهِ البنادقِ عاجز ٌ

ويشير إلى واقع الحال راسمًا صورة الهجوم الغربيّ على العالم العربيّ، وتآمر العرب بعضهم على بعض، والمؤامرة والخيانة الّتي لحقت بالعربيّ الأصيل الباحث عن استعادة الأمجاد والعزّة، يقول:

حُمُرٌ  لَعمرُكَ.. كلُّها مستنفِرَة

عَبْسٌ تخلّت عنكَ.. هذا دأبُهم

ونرى الجزّار يصف واقع الحالّ العربيّ المتضعضع المتشقّق اليوم، كما في قوله:

مفتاحَ خيمَتِهم، ومَدُّوا القنطرة

يا ويحَ عبسٍ.. أسلَمُوا أعداءَهم

*

ونفاقِهم، وأقام فيهم منبرَه

فأتى العدوُّ مُسلَّحًا، بشقاقِهم

*

فالعيشُ مُرٌّ.. والهزائمُ مُنكَرَة

ذاقوا وَبَالَ ركوعِهم وخُنوعِهم

*

مَن يقترفْ في حقّها شرًّا.. يَرَه

هذِي يدُ الأوطانِ تجزي أهلَها

*

لم يبقَ شيءٌ بَعدَها كي نخسرَه

ضاعت عُبَيلةُ.. والنّياقُ.. ودارُها

على النّقيض من قصيدة الجزّار، تتّسم قصيدة د. نسيم عاطف الأسديّ بالتّأكيد على الثّبات والإصرار في مواجهة التّحدّيات. ففي هذه القصيدة، نجد أنّ الشّاعر يصرّ على التّمسّك بالكرامة والمقاومة، رغم الظّروف القاسية. الأبيات الّتي تعكس فكرة الأسديّ وموقفه في رفض الواقع المتمثّل بسيطرة العدوّ الأجنبيّ، والنّضال لاسترداد الوطن، والثّورة من أجل ذلك تحتلّ مساحة من القصيدة، ونلحظ ذلك في مطلع القصيدة، بل في الكلمة الأولى منها حيث يأمر الشّاعر عنترة بجمع قومه والانتفاض والدّفاع والمنع، يقول:

اِجمعْ جُموعَكَ وانتَفِضْ يا عَنتَرَةْ

فالسّيفُ مَجدُكَ وَالقصيدةُ جَوهَرةْ

*

اِدفعْ بِسيفٍ في يَمينِكَ غاشما

وَامنعْ بِتُرسٍ في يَسارِكَ مَجزَرَةْ

ونجد أنّ الأسديّ شارك الجزّار فيما يخصّ وصف حال العرب اليوم وأسباب ذلك، ولم ينس الأسديّ أن يذكر دور القادة فيما أصاب العرب، يقول:

شيطانُ غاصِبِنا يَسُنُّ سِنانَهُ

وَعَراؤُنا جَهلًا يُحَدِّدُ خِنجَرَهْ

*

ما يَصنعُ الأعرابُ في أسيادِهِم

أمسَوا بِهذا العصرِ رَمزَ المسخَرَةْ

*

ما يَصنعُ الأعرابُ في أسيادِهِم

مَرهونَةٌ أفكارُهُم مُستعمَرَةْ

*

وَالحاكمُ المسؤولُ حَثَّ سِياطَهُ

تَبقى عَلى ظَهر الشّعوبِ مُسَيطِرَةْ

*

وَالحاكمُ المَسؤولُ ذي قُبُلاتُهُ

فَوقَ النِّعالِ الأجنَبِيَّةِ مُمطِرَةْ

ولكنّ هذه الأبيات تقع في وسط القصيدة، أمّا المطلع والنّهاية ففيهما تحريض ونداء للثّورة والرّفض، وهذا الغلاف الذّي يغلّف به الشّاعر واقع الحال المرير، والّذي يدعو من خلاله لاسترداد الماضي المجيد يدلّ على قوّة توجّهه، وصلابة موقفه، فكأنّه لا يُبدي عجزه للعدوّ، بل يخفيه ليظهر دائمًا قويًّا باسلًا.

يقول الأسديّ في نهاية قصيدته:

أسْرِجْ حِصانَكَ يا ابنَ عَبسٍ وارتَحِلْ

رُوحًا لِشَعبٍ مَيّتٍ في المَقبَرَةْ

*

لمّا رأيتَ العِلْجَ أقبلَ جمعُهُم

وسِلاحُهُم في أرضِنِا ما أكثَرَهْ

*

كُنتَ المَنونِ بأيِّ أرضٍ نِلتهُم

والرّعبَ يَفتِكُ في العَدوِّ فَيَقهَرَهْ

*

أسْرِجْ حِصانَكَ يا ابنَ عَبسٍ وانتَقِلْ

طوفانَ نورٍ في لَيالٍ مُقمِرَةْ

*

أسْرجْ رِياحَ العَزمِ وَارفعْ رايَةً

"للصَّحوِ يا أرضَ العُروبَةِ مُجبَرَةْ"

*

أسْرِجْ فَتيلَ العَقلِ يُشعِلْ دَربَنا

وَلْيَنتَهي عَصرُ اللّيالي المُقفِرَةْ

*

أسْرِجْ ظُهورَ المَجدِ تَحتَلُّ المَدى

فَسُيوفُنا مَسلولَةٌ مُستَنفَرَةْ

وهكذا ومن خلال تحليل الفروق بين التوجهين في القصيدتين، نلاحظ أن قصيدة مصطفى الجزّار تعكس قبول الهزيمة كواقع مفروض، وتعكس الاستسلام والخنوع في للعدوّ، بينما قصيدة نسيم عاطف الأسديّ تُبرز الثّبات والإصرار على المقاومة رغم التّحدّيات، ورفض الاستسلام والحثّ على النّضال. الأسلوب في القصيدتين أيضًا يعكس هذا التوجه: ففي قصيدة الجزّار، نجد أسلوبًا تأمّليًا حزينًا، بينما في قصيدة الأسديّ، نجد أسلوبًا تحفيزيًّا يُشدّد على قوّة الإرادة. في النّهاية، يقدّم الشّاعران معًا رؤيتين مختلفتين للصّراع والوجود، وكلٌّ منهما يعبّر عن مواقفه إزاء التّحدّيات السّياسيّة والثّقافيّة الّتي تمرّ بها الأمّة العربيّة.

...........................

قصيدة "كفكف دموعك وانسحب يا عنترة"

للشّاعر مصطفى الجزّار

فعيونُ عبلةَ أصبحَتْ مُستعمَرَة

كَفْكِف دموعَكَ وانسحِبْ يا عنترة

*

سقطَت من العِقدِ الثّمينِ الجوهرة

لا ترجُ بسمةَ ثغرِها يومًا، فقدْ

*

واخفِضْ جَنَاحَ الخِزْيِ وارجُ المعذرة

قبِّلْ سيوفَ الغاصبينَ.. ليصفَحوا

*

فالشِّعرُ في عصرِ القنابلِ.. ثرثرة

ولْتبتلع أبياتَ فخرِكَ صامتًا

*

فقدَ الهُويّةَ والقُوى والسّيطرة

والسّيفُ في وجهِ البنادقِ عاجزٌ

*

واجعلْ لها مِن قاعِ صدرِكَ مقبرة

فاجمعْ مَفاخِرَكَ القديمةَ كلَّها

*

وابعثْ لها في القدسِ قبلَ الغرغرة

وابعثْ لعبلةَ في العراقِ تأسُّفًا!

*

تحتَ الظّلالِ، وفي اللّيالي المقمرة

اكتبْ لها ما كنتَ تكتبُه لها

*

هل أصبحَتْ جنّاتُ بابلَ مُقفِرَة؟

يا دارَ عبلةَ بالعراقِ تكلّمي

*

وكلابُ أمريكا تُدنِّس كوثرَه؟

هل نَهْرُ عبلةَ تُستباحُ مِياهُهُ

*

عبدًا ذليلًا أسودًا ما أحقرَه

يا فارسَ البيداءِ.. صِرتَ فريسةً

*

نسبوا لكَ الإرهابَ.. صِرتَ مُعسكَرَه

مُتطرِّفًا.. مُتخلِّفًا.. ومُخالِفًا!

*

حُمُرٌ  لَعمرُكَ.. كلُّها مستنفِرَة

عَبْسٌ تخلّت عنكَ.. هذا دأبُهم

*

أن تهزِمَ الجيشَ العظيمَ وتأسِرَه

في الجاهليّةِ...كنتَ وحدكَ قادرًا

*

فالزّحفُ موجٌ.. والقنابلُ ممطرة

لن تستطيعَ الآنَ وحدكَ قهرَهُ

*

بينَ الدّويِّ.. وبينَ صرخةِ مُجبرَة

وحصانُكَ العَرَبيُّ ضاعَ صهيلُهُ

*

كيفَ الصّمودُ؟ وأينَ أينَ المقدرة!

هلاّ سألتِ الخيلَ يا ابنةَ مالكٍ

*

متأهِّباتٍ.. والقذائفَ مُشهَرَة

هذا الحصانُ يرى المَدافعَ حولَهُ

ولَصاحَ في وجهِ القطيعِ وحذَّرَه

لو كانَ يدري ما المحاورةُ اشتكى

*

مفتاحَ خيمَتِهم، ومَدُّوا القنطرة

يا ويحَ عبسٍ.. أسلَمُوا أعداءَهم

*

ونفاقِهم، وأقام فيهم منبرَه

فأتى العدوُّ مُسلَّحًا، بشقاقِهم

*

فالعيشُ مُرٌّ.. والهزائمُ مُنكَرَة

ذاقوا وَبَالَ ركوعِهم وخُنوعِهم

*

مَن يقترفْ في حقّها شرًّا.. يَرَه

هذِي يدُ الأوطانِ تجزي أهلَها

*

لم يبقَ شيءٌ بَعدَها كي نخسرَه

ضاعت عُبَيلةُ.. والنّياقُ.. ودارُها

*

في قبرِهِ.. وادْعوا لهُ.. بالمغفرة

فدَعوا ضميرَ العُربِ يرقدُ ساكنًا

*

لم تُبقِ دمعًا أو دمًا في المحبرة

عَجَزَ الكلامُ عن الكلامِ.. وريشتي

*

تترقَّبُ الجِسْرَ البعيدَ.. لِتَعبُرَه

وعيونُ عبلةَ لا تزالُ دموعُها

....................

قصيدة "اِجمَعْ جُموعَكَ وَانتَفِضْ يا عَنتَرَةْ"

للشّاعر نسيم عاطف الأسديّ

اِجمعْ جُموعَكَ وانتَفِضْ يا عَنتَرَةْ

فالسّيفُ مَجدُكَ وَالقصيدةُ جَوهَرةْ

*

اِدفعْ بِسيفٍ في يَمينِكَ غاشما

وَامنعْ بِتُرسٍ في يَسارِكَ مَجزَرَةْ

*

هانتْ عَلى الأعرابِ أعراضُ الثّرى

فَاستَعجَلَ الطُّغيانُ يُرسِلُ عَسكَرَةْ

*

وَاستَفْرَسَتْ فينا المَنايا والرَّدى

أطماعُهُ بَينَ الوَرى مُتفَجِّرَةْ

*

شيطانُ غاصِبِنا يَسُنُّ سِنانَهُ

وَعَراؤُنا جَهلًا يُحَدِّدُ خِنجَرَهْ

*

ما يَصنعُ الأعرابُ في أسيادِهِم

أمسَوا بِهذا العصرِ رَمزَ المسخَرَةْ

*

ما يَصنعُ الأعرابُ في أوطانِهِم

وَهُمُ العَبيدُ وَقَدْرُهُم ما أحقَرَهْ؟

*

ما يَصنعُ الأعرابُ في أسيادِهِم

مَرهونَةٌ أفكارُهُم مُستعمَرَةْ؟

*

فَالحاكمُ المَسؤولُ تُسبى أرضُهُ

وَيَدُقُّ أقداحَ الشّرابِ المُسكِرَةْ؟

*

وَتُراقُ أعراضُ النِّسا مِن يَعْرُبٍ

وَخُيولُهُ في أرضِها مُتمَسمِرَةْ

*

وَالحاكمُ المسؤولُ حَثَّ سِياطَهُ

تَبقى عَلى ظَهر الشّعوبِ مُسَيطِرَةْ

*

وَالحاكمُ المَسؤولُ ذي قُبُلاتُهُ

فَوقَ النِّعالِ الأجنَبِيَّةِ مُمطِرَةْ

*

كم أثقلَتْنا في المدامع غَصَّةٌ

مِن غيرِ ذَنبٍ حينَ نَرجو المعذِرَةْ

*

يا أُمّةً غَدُها يَموتُ مُدرَّجًّا

بِدموعِها تَبكي الأَسى مُتحَسِّرَةْ

*

يا أُمّةً تَبكي لِتاريخٍ مَضى

وَاليومَ تسألُ: أينَ تلكَ المَقدِرَةْ؟

*

قولوا لِعَبلةَ إنّ فارسَها هُنا

سَيَجيءُ بَطشًا كان ربي قَدَّرةْ

*

هلّا سألتِ الخَيلَ يا ابنةَ مالِكٍ

كيفَ الرّماحُ تُذِلُّ كُلَّ مُجنزرَةْ؟

*

وعنِ القتالِ سَلي نُسورًا أُشبِعَتْ

وَسَلي العِدى عَن سَيفِنا ما أقدَرَهْ

*

أسْرِجْ حِصانَكَ يا ابنَ عَبسٍ وارتَحِلْ

رُوحًا لِشَعبٍ مَيّتٍ في المَقبَرَةْ

*

لمّا رأيتَ العِلْجَ أقبلَ جمعُهُم

وسِلاحُهُم في أرضِنِا ما أكثَرَهْ

*

كُنتَ المَنونِ بأيِّ أرضٍ نِلتهُم

والرّعبَ يَفتِكُ في العَدوِّ فَيَقهَرَهْ

*

أسْرِجْ حِصانَكَ يا ابنَ عَبسٍ وانتَقِلْ

طوفانَ نورٍ في لَيالٍ مُقمِرَةْ

*

أسْرجْ رِياحَ العَزمِ وَارفعْ رايَةً

"للصَّحوِ يا أرضَ العُروبَةِ مُجبَرَةْ"

*

أسْرِجْ فَتيلَ العَقلِ يُشعِلْ دَربَنا

وَلْيَنتَهي عَصرُ اللّيالي المُقفِرَةْ

*

أسْرِجْ ظُهورَ المَجدِ تَحتَلُّ المَدى

فَسُيوفُنا مَسلولَةٌ مُستَنفَرَةْ

***

د. فارس شفيق العبّاس

لشاعر السَّـــلام/ عدنان الريكاني - كردستان العراق.

الأسلوب الشعري والتعبيري:

القصيدة تتسم بأسلوب شعري سردي تأملي، يمزج بين الواقع والرمزية ليعكس الصراع الداخلي للشاعر. يبدأ النص بتعبير عن التشظي والتمزق من خلال تصوير (قَمْحُ شَّيْبَتي) كرمز للزمن والماضي الذي يتناثر بين (تشقق الأرض). هذه البداية تعكس شعورًا بالضياع والشتات في عالم يعج بالتحديات.

الرمزية واستخدام الصور:

الرمزية حاضرة بقوة في القصيدة، حيث يتكرر حضور الطبيعة كرمز للوجدان الداخلي. صور (سنابل العشق الأخضر) و(طائر البجع قبل الرحيل) ترمز إلى الأحلام المفقودة والحنين للماضي الجميل، بينما تشير (الناي) و(الفزاعات) إلى حالة من العجز والخذلان. الصورة الرمزية للـ(رسائل الغفران) التي تذرف دمًا، تعكس معاناة الشاعر الداخلية في مواجهته للندم والألم.

التناقضات الداخلية:

القصيدة تتخللها تناقضات متوازية بين الحب والوجع، الخلاص والموت، الرغبة والمعاناة. (الميلاد بلون الأحمر) يشير إلى علاقة معقدة بين الحب والتضحية، بينما (لعنة الخطيئة) و(موت الرغبات) تسلط الضوء على الصراع النفسي، الذي يعيشه الشاعر بين الحب والرغبة في الخلاص من آلام الماضي.

 اللغة والمفردات:

اللغة قوية وعميقة، تحتوي على مفردات غير تقليدية تعكس حالة من الصراع الداخلي بين الأمل والخيبة، مثل (فزاعات) و(رسائل الغفران). تزدحم المفردات بالحزن والتوتر النفسي، مما يساهم في تكوين صورة مفعمة بالعاطفة، تعكس تفاعل الشاعر مع محيطه الوجداني.

التكرار والعمق النفسي:

تكرار تعبيرات مثل (سأخْتَبِئُ) و(تَذْرِفُ) يظهر الحالة من الفراغ الروحي، ويضيف المزيد من التوتر والتدفق العاطفي داخل القصيدة. هذا التكرار يسلط الضوء على تأمل الشاعر في ألم الوجود وإحساسه بالخذلان.

الخلاصة:

قصيدة (قَمْحُ شَّيْبَــــتِي) لشاعر السَّـــــــلام/ عدنان الريكاني هي تعبير عن الحنين والحزن، مشبعة بالرمزية العميقة التي تعكس الارتباك الداخلي والتحديات النفسية. الأسلوب الشعري الذي يمزج بين الواقع والمجاز، واستخدام الصور الرمزية الموحية، يخلق تأثيرًا عاطفيًا قويًا في القارئ، في حين يعبر عن التوتر الداخلي الناتج عن الحب، الفقدان، والبحث عن الخلاص.

***

بقلم: كريم عبدالله - العراق

....................

قَمْحُ شَّيْبَــــتِي..

لا تَدَعْ قَمْحُ شَّيْبَتِي مَنْثُوْرَاً بَيْنَ تَشّقُقَاتِ الأرّضِ، كُلمَا دَارَ عَليْهِ الزَّمَانُ تَذَكرّ سَنَابِلَ عِشْقِهِ الأخَضْرَّ حِيْنَ يُرَّاقِصُ الحُقُوْلَ، وَيُغَنِي فِي بُحَيْرَةِ أحَلامِهِ طائِرُ البَجَع قَبْلَ الرَّحِيْل، سَأخْتَبِئُ تَحْتَ فُسْتَانُكِ الأزْرَّقْ وَلا أخْبِرُ أحَداً عَنْ سِرُّكِ المَدْفُوْن فِي مَقْبَرَّةِ صَدْرِي، وأنْحَنِي مَعَ دَوَائِرَهَا المَلسَاء عِنْدَمَا تَتَكَوْرُ حَوْلَ مَفَاتِنَكِ المُثِيْرَة لِلجَدَل، أصَافِحُ كُلَ نَسْمَةٍ عِطْرٍ تَتَهَيْجُ ضُمُوْرَهَا وَهِيَ تُضَاجِعَ نُورُ وَجْنَتَيْكِ لِيَغْرِسَ الأمَل..

امْلَئِي ثُقُوْبَ النَّاي بِنَشْوَةِ نَصّرِ الفَزَّاعَاتِ التِي أكَلَتِ الطُيَورُ مِنْ رَّأسِهَا، ورَّسَائِلُ الغُفْرَّانِ فِي جِيُوْبِهَا تَذْرِفُ دَمَاً بِخُطُوْطِ كَفْي، يا رَّسُولَ الوَجَعِ أسْمَاكُ السَّمَاءِ مَعْصَوبَةٌ الأعْيُنِ تُجَادِلُ عُتَمَةَ الضَمِيْر..

وَفَوْقَ رَّوَابِي تُرَّابُكِ الزَّيْتِي رَّسَمْتِ أحْجَارَاً لِطَحْنِ وِلادَتِي، ونَسَيْتِ أنَّ مِيْلادِي بِلَوْنَ الأحْمَرّ شَغَفُ حُبٍ بِلا ضِفَافْ، أيَتُهَا التِيْجَانَةُ السَرّمَدِيْة ارّفَعِي عَنِي لّعْنَة الخَطِيئةِ وَأمْتَصي مِنْ مَسْخِ وَجْهِي شَرّاهَةُ اللقَاء، مُعّذِبَةٌ تِلْكَ الرَّغَبَاتُ الَّتِي تَنَاحَرَّتْ فِيْ مَبْسَمِي والانْتِظَارُ بِقَتْلِي لا يَرّحَمُنِي..!    

***

شاعر السَّـــــــلام/ عدنان الريكاني / 2024

 

قراءة نقدية أسلوبية تحليلية لقصيدة "المدينة جرح تخيطه اللغة"

 للشاعرة: ايمان يادور، ترجمة: علي عزيز

***

تتسم قصيدة /المدينة جرح تخيطه اللغة/ للشاعرة إيمان يادور بالكثافة الرمزية والوجدانية، كما تنقل بمهارة عالية مشاعر الحزن، الضياع، والقلق في إطار مشهد مديني معبر، يتم تصويره ببلاغة مؤثرة على مستوى الأسلوب والمضمون. القصيدة تمزج بين الحنين إلى الماضي والألم الناتج عن الحاضر، واللغة فيها هي الرابط بين الجرح والشفاء، بين الخراب والأمل، بين العتمة والنور.

1. المشهد المكاني والزماني:

تبدأ القصيدة من خلال إشارة إلى الزمان والمكان، حيث يُظهر الشاعر كيف أن /السماء لا تتسع لقلقنا/ (البيت الأول)، وهو تعبير دقيق عن تراكم القلق والخوف الذي يعصف بالإنسان. هذا التقديم الزماني والمكاني يعكس حالة من الضيق الشديد، حيث تتضاءل السماء (المكان الأوسع والأعلى) لتكون غير قادرة على احتواء قلق الإنسان. هذا العنصر الزمني يصبح تجسيدًا لحالة داخلية، تُظهر التوتر النفسي في بيئة غير مستقرة.

ثم يأتي استحضار الطبيعة كوسيلة لفحص الحاضر، حيث يُقال إن

/الطبيعة متحف/

لكن من خلال نظرة الحاضر تصبح الطبيعة مجرد ذكرى باهتة، /استحال أصفر/

و/لن تزهر الورود/

ما يعكس الانقطاع عن الحياة والخصوبة، ويُظهر قسوة الواقع الذي يُحيط بالشاعر.

2. اللغة والتصوير الشعري:

القصيدة تعتمد على الصور البلاغية والتراكيب المعقدة، مثل

مئة عام ستمر دون أن تمنحنا تشكيلة خضراء

وهو تعبير يربط الزمن الطويل بفقدان الأمل في التغيير. الشاعرة توظف الصور الشعرية بشكل مميز لتعكس حالة من الإحباط الثقافي والاجتماعي، حيث أن الشوارع مبللة

/بدموع المتسولين/

وكأن المدينة أصبحت مغطاة بدماء الفقراء والمحرومين.

عند الحديث عن

/شجرة الحور/

التي لا تحمل ذكريات، تصبح الشجرة رمزًا لفقدان الذاكرة والتاريخ، حيث تموت الرموز التي كانت تحمل في الماضي القيم الثقافية والاجتماعية. صورة /شجرة الحور/ تضاف إلى صور أخرى تكشف عن تعثر الروح الجماعية: لا أحد يلتقي في

/موعد/

ولا أحد يتوجه إلى الله في

/سجادة الصلاة/.

هذا الفراغ الروحي يعكس حالة الاغتراب والتفكك في المجتمع.

3. الرمزية الدينية والسياسية:

يتداخل في القصيدة البُعد الديني، حيث يظهر الإيمان بوجود قوة عليا تعكس حيرة الشاعر في علاقة الإنسان مع الله:

/الهي.. لماذا لا ترسل قلادة قوس قزح/.

هنا يُستخدم قوس قزح كرمز للأمل والتغيير، وهو عنصر من عناصر الطبيعة التي قد تعيد الإضاءة إلى المدينة المظلمة. ومع ذلك، في إطار الانتقاد السياسي والاجتماعي، تساءلت الشاعرة /ماذا يمكن أن يكون أكثر رعباً / وضع الإنسان عينه حتى على السماء؟/

وهو تساؤل يحمل في طياته الإشارة إلى العبث السياسي والتسلط على المقدسات، حيث يصبح الإنسان، أو الإنسان السياسي، عاجزًا حتى عن رؤية السماء بتواضع واحترام.

4. اللغة كأداة للتعبير عن الألم والبحث عن الخلاص:

يُلاحظ أن القصيدة تتحدث عن المدينة كـ/جرح/ تُخيطه اللغة، وهذه الجملة تعبير عن القوة الكامنة في الشعر واللغة كأدوات علاجية. اللغة تُصبح بمثابة الطبقة التجميلية التي تحاول إخفاء الجرح العميق، لكن رغم ذلك يظل الجرح واضحًا، وهو في النهاية لا يجد شفاءً حقيقيًا. كما يبرز التناقض بين سعي الإنسان نحو الخلاص بواسطة اللغة وبين هشاشة هذه اللغة في مواجهة الواقع المدمر.

5. الصراع بين الفرد والمجتمع:

القصيدة أيضًا تُظهر العزلة الفردية في مواجهة مع مجتمع مفكك، حيث يُشار إلى الأنانيات والمفاهيم السطحية التي تسيطر على الأفراد. الشاعرة تعبر عن هذه العزلة عبر الفردية:

/أمنحني لساناً / لا أحد يستطيع أن يترجم اسمك إلى لغة الحرب/. هنا يظهر التشاؤم الشديد من المحاولات العديدة التي فشلت في إيجاد لغة سلام بديلة عن لغة الحرب.

6. التناقض بين الأمل واليأس:

القصيدة تقدم رؤية متناقضة حيث تمزج بين اليأس والأمل. في حين تصف المدينة بأنها

/كئيبة/

و/مظلمة/

إلا أن الشاعرة تطلب من الإله قلادة قوس قزح لإضاءة هذه المدينة، ما يعكس التفاؤل الخفي بوجود إمكانية التغيير رغم الظلام. هذا التوتر بين الأمل واليأس يتجسد في التساؤل الذي يُطرَح على شكل دعاء، مما يعكس حالة القلق الروحي.

7. الجانب الاجتماعي والثقافي:

القصيدة تُسلط الضوء على الواقع الاجتماعي حيث تنحدر الشوارع إلى

/دموع المتسولين/

وهذه صورة تعبيرية مؤلمة تبين الفجوة بين الطبقات الاجتماعية والاختلال الاجتماعي الذي يعاني منه المجتمع. كما يظهر التدهور الثقافي حين يُظهر الشاعر صرخة /الشعراء/ في ظل ظروف ثقافية متدهورة تُهدد الذاكرة الجماعية.

الخاتمة:

تُعد هذه القصيدة من القصائد التي تتسم بالعمق الفلسفي والوجداني، حيث تعكس أزمة الهوية والوجود في مدينة عانت من القلق الاجتماعي والروحي. إن الشاعرة من خلال صورها البلاغية والتراكيب اللغوية الدقيقة تنجح في نقل الوجع والحزن الناتج عن واقع متأزم، لكن الأمل يظل حاضرًا في خلفية النص، متجسدًا في البحث عن النور والذاكرة واللغة كسبيل للإنقاذ.

***

بقلم: كريم عبد الله – العراق

.....................

المدينة جرح تخيطه اللغة

انه زمان حتى السماء لا تتسع لقلقنا

التحليق دون مكان يحتويك ضياع

الطبيعة متحف لو تأملته بعين الحاضر لاستحال أصفر وبتلك النظرة لنْ تزهر الورود

ومائة عام ستمر دون ان تمنحنا تشكيلة خضراء

أترى قامة شجرة الحور ليس عليها حرف من الذكريات

لا ترى احد لموعد تتمايل روحه في الأعالي

ولا ترى احد يفترش سجادة الصلاة باتجاه قلبه

الجميع يصلّون لعيونهم.

ماذا يمكن أن يكون أكثر رعباً

وضع الإنسان عينه حتى على السماء؟

مَنْ يدري لعل غيمة في صرختها الأخيرة تعيد الحياة الى البداية

أتظن أن الكهوف سوف تؤوينا مرة أخرى؟

أي مرض هذه الحياة ؟!

الارض عوضاً عن قلبي

تخفق مثل كتلة مستديرة داخل جسدي

لعلي انا فقط أسمعها تصرخ ولا أحد يهتم

أسير في الشوارع وليس مِن ابتسامة تعمرّ طريقي

الشوارع هنا مبللة بدموع المتسولين

أذهب وأجمع الأغاني التي تتدفق من أفواه السكارى.

عندما يكونون ثملين،

يندبون حياتهم المفقودة.

مدينتنا بيضت رؤوس هؤلاء الذين أرادوا ان لا يسودَّ قلبها

الهي.. لماذا لا ترسل قلادة قوس قزح

لعنق هذه الشوارع السوداء لمدينتا الكئيبة؟!

يا إلهي أعطني كوكباً

ودعْ الشعراء يعمّرونه

أمنحني لساناً

لا أحد يستطيع أن يترجم اسمك إلى لغة الحرب

أعطني مصباحاً من نورك،

كي لا تضيع المدينة في الظلام.

إلهي أعطني ذاكرة كي لا تنسى المدينة ذكرياتها.

كي لا تخاف المدينة بعد الان منك،

ولكي لا يغرنّها الشيطان، ولا يقتل شعراءها.

***

ايمان يادور – كردستان العراق

للقاص الروائي محمد عبد الله الهادي

لعل الروائي محمد عبد الله الهادي أحد أبرز المبدعين الذين لم يلقوا الاهتمام النقدي الذي يليق بقيمة إبداعهم، ربما لأنه لم يمتلك منصبا ثقافيا أو يرأس صحيفة أو غيرها من المناصب التي تجذب إليه جوقة أدعياء النقد، أقول هذا انصافا للحق واحتجاجا على فساد الحياة الثقافية فى معظم بيئاتنا الثقافية. ومحمد عبد الله الهادي فوق هذا كاتب قصة قصيرة وروائي غزير الإنتاج ومع ذلك لم ينشر على امتداد عمره الإبداعي الذي تجاوز ربع قرن سوى تسعة كتب، أربعة مجموعات من القصص القصير، وأربع روايات، وكتاب نقدي وله من المخطوطات والأعمال الجاهزة للنشر ما يفوق هذا العدد.

وقد أصدر مؤخرا رواية مهمة بعنوان " ليالي الرقص فى الجزيرة " جـ 1 (العبد) وأنا أشير إلى هذا العمل قبل أن أتناول مجموعة "امرأة من ألف وجه"، لأن المؤلف يؤكد فى هذا العمل تماسك وتفرد عالمه الروائي، حيث يمكن ملاحظة التماسك بين معظم شخصيات قصصه القصيرة وشخصيات رواياته، إنه عالم خيالي خاص بالروائي محمد عبد الله الهادي، يتخذ من البيئة المصرية فى إقليم الشرقية منطلقا، وهى نفس البيئة التى انطلق منها الروائي يوسف إدريس عبقري القصة العربية بلا منازع، لذلك لن نعجب إذا ما وجدنا تشابها بين الكاتبين، وخاصة فى الأسلوب، كما سنشير فيما بعد.

أعود إلى المجموعة التى بين يدي "امرأة وألف وجه" فأبدي فى البدء ملاحظة شكلية تتعلق بحجم المجموعة، فأقول إن هذه المجموعة كان يمكن أن تقسم إلى مجموعتين، نظرا إلى التباين الشديد فى بناء القصص، ولا أقول المضمون. تنتظم المجموعة فى ثلاثة أقسام، يضم القسم الأول منها ست قصص هي على الترتيب: البلغة مرة أخرى ـ جولدن فينجرز ـ عروسة للأديب الأدباتي ـ خارج الخدمة ـ ابنان من رحم الليل ـ جمل حمدان) ويغلب على هذا القسم طول القصص وتعدد الشخوص فيها. والقسم الثاني مكون من جزأين الأول منهما يضم خمس قصص تحت عنوان "كفان" والجزء الثاني يضم عشرة قصص بعنوان " قصص قصيرة لحد ما "(إلى حد ما) وهذا الجزء فى مجموعه يشكل مجموعة قصص مكتملة يغلب عليها بناء القصة القصيرة جدا، حيث التركيز والتكثيف والمفارقة بوصفها سمات بارزة لهذه القصص، وكان الأجدر بالمؤلف نشر هذا القسم فى مجموعة أو كتاب مستقل أما القسم الثالث فيضم قصتين هما: صباح جديد على طائر أبيض صغير وصندوق الدنيا) وهاتان القصتان تعدان- من وجهة نظري - ذروة إبداع المؤلف فى هذا الكتاب.

على أية حال يمكننا أن نلحظ خطين متواصلين عبر هذه الأقسام الثلاثة، الأول على مستوى التيمة، وهو الاتكاء على موضوع المرأة، بداية من عنوان الكتاب "امرأة وألف وجه" والإهداء الذي يوجهه المؤلف إلى نساء حياته أو على حد قوله: إلى نساء حياتي، فيذكر اسم الزوجة واسم الأم واسم الابنة، فالمرأة تيمة قارة ومتربعة على العرش فى كل قصص المجموعة تقريبا، فهي الأم الحنون فى قصص: جولدن فنجرز، وعروسة للأديب، وكفا نبوية، وهى الزوجة فى البلغة مرة أخرى وجمل حمدان وغيرهما , وهي الأم الرمز المتعدد المعاني للوطن فى قصتي: صباح جديد وصندوق الدنيا، وهكذا أي نص تقرأ تجد فيه تلك المرأة فى وجه من وجوهها المتعددة.

أما الخط الثاني الذى يربط قصص المجموعة، فهذا الوعي الفني الحاد الذي يسمو بالواقعي إلى درجة الرمز من خلال قصد واضح نحو التجريب، حيث يحاول المؤلف استخدام تقنيات سردية تبدأ بالتقليدي وتنتهي بالتجريبي، فيغلب على قصص القسم الأول البناء التقليدي، فى حين تنحو القصص فى القسمين الأخيرين منحى الأبنية غير التقليدية من استخدام شكل القصص القصير جدا إلى توظيف الفنتازيا والتراث الشعبي فى القسم الأخير. لكن تبقى هناك استراتيجية ثابتة فى معظم القصص وهى استراتيجية المقابلة ,سواء على مستوى الزمن أو المكان أو الشخوص، وهى استراتيجية ذات دور مهم فى بناء النص كما سنرى فى التحليل.

ولعله من المفيد أن نقف بالتحليل الفردي عند أبرز قصص المجموعة، ولنبدأ بالقسم الأول:

1 ـ البلغة مرة أخرى (أبو الوجوه):

لا أعرف لماذا التردد فى العنوان لدى المؤلف؟ فعلى الرغم من التوطئة التى صدر بها المؤلف قصته "أبو الوجوه" فأعتقد أنه كان يكفي أن يحدد العنوان مباشرة "أبو الوجوه" وتبدأ القصة هكذا، ولكن أنه يبدو أن المؤلف أراد أن تكون العلاقة أو الامتداد بين هذه القصة وقصة أخرى أبطالها تقريبا نفس الأبطال بعنوان "البلغة" نشرت عام 2002 م ضمن مجموعة "حلقة ذكر".

والقصة تبدأ من بعد غضب وصيفى من مصيلحى صديقه رافضا رفضا قاطعا انتعال بلغته الجديدة التي أخذها علي سبيل السلف، مفضلا العودة إلى المنزل وعدم الذهاب إلى عرس القنادلة، وهناك فى المنزل يلتقي بسعدية التى تحاول فى البدء الاختفاء بعيدا عنه، ثم تتطور الأحداث فى اتجاه آخر يجعل من البلغة هنا مجرد خلفية أو رمز يختبئ خلف الفكرة المركزية للنص الجديد (أبو الوجوه).

وأبو الوجوه هو المرض الذي أصاب "إدريس عبد العظيم" عمدة القرية الظالم والشهير باسم "أبو جريدة" نسبة إلى الدرويش أبو جريدة الذي بشر أمه زوجة عبد العظيم بولادته، فسمي بذلك على اسمه واشتهر بهذا الاسم، ولأن الدرويش ذكر العمدة بظلمه وأمره بالتقوى ضربه الأخير على وجهه ؛ ثم أصابه المرض بعد ذلك، وفى المنام يأتي الدرويش إلى العمدة يأمره أن يبحث عن بلغة قديمة لفلاح فقير يضرب وجهه بها، ويجد بسطويسى شيخ الخفر بغيته عند وصيفى، بالضبط عند بلغة وصيفى القديمة، تلك البلغة التى كانت محور الأحداث في القصة السابقة، وقد تطورت وظيفتها هنا، لتصير رمزا أسطوريا، فهي هنا علاج لمرض العمدة الظالم، إنها آلة تطهير لذنوب العمدة، حيث اقترح أبو جريدة الشيخ الصوفى فى المنام للعمدة أن يضرب وجهه ببلغة قديمة لكى يبرأ من مرضه.

2 ـ جولدن فنجرز:

البداية: نظرت بريبة التائه اللوحة الزرقاء المعلقة بأول الشارع، مرت عيناي ببطء على الحروف البيضاء المتشابكة عليها... يهز الرجل رأسه من أعلى لأسفل هزة عظمة:

هو يا سعادة البيه "(ص29)

وهذه فى الواقع أطول بداية لقصة قصيرة، ومع ذلك يمكن تلخيصها فى جملة واحدة وهي دهشة الراوي / البطل.

بداية الأحداث / القصة ـــ رؤية لوحة مكتوب عليها "جولدن فنجرز " (ص30)

الماضي

صالون العروبة

راجي عفو الخلاق... الأسطى أنيس الحلاق

أما الحاضر

جولدن فنجرز

الراوي يدخل محل الحلاقة، فيتذكر، وهكذا نجد أن الأحداث قائمة على التقابل بين الماضي والحاضر، والماضي أكثر حضورا، ويزداد إيقاع القصة مع نهاية الأحداث، ويبقى الموقف الرئيسي هو موقف الأم (الماضي) عندما انتصرت للابن الصغير الراوي الآن(الحاضر)، فالراوي لا ينسى يوم أن جلس للحلاقة، ثم دخل وليد ابن الضابط المحل، فتركه الأسطى أنيس واتجه باهتمام وحفاوة إلى وليد ناسيا الراوي، فما كان من الأم التى كانت تراقب المشهد وتشعر بنظرة القهر فى عيني ابنها، إلا أن نهضت وعاتبت الأسطى أنيس وسحبت ابنها وخرجت من المحل. إن القصة هنا تمجد فعل الأم، على حين تمجد القصة السابقة فعل الزوجة، فهنا أم أيمن، وهناك سعدية زوجة وصيفى والجازية زوجة العمدة.

3 ـ عروس للأديب الأدباتي:

لعل هذه القصة تعد على المستوى الفني أقل من سابقتيها، ولكنها تبقى محتفية بالأم، والأم هنا تأتي مقابلا للزوجة أو بديلا لها، فالأديب يتزوج بعد موت الأم، إن هذه القصة على تلك المقابلة الخفية بين الأم والزوجة، الأم تقرأ الأعماق، فى حين الزوجة تقرأ السطح ففى نهاية القصة يكتشف الأديب راوي القصة أن الزوجة لم تقرأ كتابيه اللذين أهداهما لها، ولكن كانت تقرأ فقط الإهداء كل ليلة، فيما عدا هذه المقابلة بين موقف الأم وموقف الزوجة، يبدو ما جاء فى نسيج النص فيما بعد أشبه بالآراء الشخصية حول الأدباء والأديبات والزواج

للأم جملتان فى بداية النص يؤكدان صدق العلاقة ومتانتها

الأولى: نفسى ومنى عيني أشوف أولادك يا ابني قبل أن أموت " ص45.

الثانية: ربنا يعلى مراتبه وينجح مقاصده، ويرزقه ببنت حلال تسعده " ص45.

4 ـ خارج الخدمة:

يضع المؤلف عبارة لماركيز من قصته الأخيرة "ذاكرة غانياتي الحزينات" بديلا للبداية السردية، وخلاصة العبارة، أن استفزاز الفتيات الصغيرات للشيوخ بعبارات يعتقدون فيها أن الشيوخ خارج الخدمة أمر مثير أو مفتن من مفاتن الشيخوخة. ولم لا لا نضع مقتبس ماريز هنا كاملا: " خطر لي إن إحدي مفاتن الشيخوخة هي الاستفزازات التي تسمح لأنفسهن بها الصديقات الشابات اللواتي يعتقدن أننا خارج الخدمة ".

والقصة كلها تدور حول علاقة الأستاذ يحيي عبد الواحد مدير الإدارة وسط ثماني نساء وتاسعتهن (فتحية)، وكيف لعب المؤلف بلفظ "خارج الخدمة" بمعناها الرمزي والحقيقي معا، ففي الوقت الذي يكون فيه يحيي على وشك الخروج خارج الخدمة(التقاعد)، يدخل الخدمة، والخدمة بمعناها الرمزي وهو أن يكون شخصا مرغوبا فيه من قبل النساء.

لقد نجح المؤلف رغم تعدد الشخصيات بأن تدور كلها حول شخص واحد هو يحيي وحول نقطة محددة هي علاقة الرجل بالمرأة، وكيف استطاع بالفعل أن يوظف عبارة ماركيز التى صدر بها القصة، وقد وجد يحيي فتنة الشيخوخة فى فتحية العرجاء.

5 ـ ابنان من رحم الليل:

هذه القصة تمتح من الواقع الحقيقي لجزيرة مطاوع حيث تختلط التقاليد الريفية بالتقاليد البدوية على أرض الجزيرة، ولذلك تتماس أحداث هذه القصة مع أحد فصول رواية المؤلف الأخيرة "ليالي الرقص فى الجزيرة" التى كتبت قبل هذه القصة، فبقرة محيسن فى الرواية هي جاموسة أبو إسماعيل فى القصة، والعبد فى الراوية هو عصفور فى القصة، الجديد هنا هو الراوي، والراوي غفير الدرك الذي الذى ساعد فى إعادة الجاموسة إلى صاحبها (أبو أسماعيل)، وصديق عصفور منذ أن كانا صغيرين فى المدرسة، الأول صار لصا، والثاني صار غفيرا، فصار الاثنان معا ابنين لليل، فمن هنا كان عنوان القصة "ابنان من رحم الليل".

والقصة هنا تقوم على المقابلة بين شخصين من جنس الذكور والغريب لا ذكر للمرأة هنا بل إن الإشارة تكون بالسلب: " كانت داره التى لم تعمرها امرأة قريبة من سور البستان " ص81. طبعا هناك امرأة أخرى يكاد يكون دورها سلبيا وقليل الأثر ألا وهى زوجة أبو أسماعيل، حيث يقتصر دورها على الصراخ بينما الزعيق والكلام للرجل:

" كان الصراخ المستنجد مازاليجرح صمت الليل الكاذب، صراخ امرأة تستغيث، ورجل يزعق بصوت أجش: - يا خلق هوه.. أغيثوني.. جاموستي يا عالم ؟ " (ص75). ويؤكد هذه السلبية بقوة أن البطولة الحقيقية فى هذه القصة لعصفور ابن الليل، فهو من أنقذ الجاموسة من أيدى رفاقه الخونة من اللصوص، وبالطبع استكمل دور البطولة غفير الدرك راوي القصة:

يا أهل قريتي الكرام: حارسكم الشجاع يعترف أمامكم بالحقيقة..

يا أهل قريتي الكرام: هذا الرجل "عصفور"، ابن الليل، المثخن بالجراح على فراشه في هذه الدار، هو الذي أعاد الجاموسة لصاحبها " ابو إسماعيل يا أهل قرايتي الكرام.. يا أهل قريتي الكرام..

لم يسمعنى أحدٌ من أهلي أو ناسي الكرام بالقرية..

لم يسمعني سوى أبينا الليل..(ص82)

6 ـ جمل حمدان:

لعل المكان فى هذه القصة وسابقتها هو البطل الرئيسي، فثمة أسماء أماكن تردد فى العملين، وفى عالم محمد عبد الله الهادي كله (انظر عصا أبنوس، وليالي الرقص فى الجزيرة) مثل: كوبري الميزانية ـ ترعة بهجت ـ مصرف صان ـ جنينة الخواجات وغيرها.

والقصة بعد ذلك تؤكد هذا الدفء الإنساني فى الجزيرة بين البشر وخاصة بين الزوج وزوجته، فالمرأة هنا زوجة "شلبية" ولنلاحظ دقة الوصف والخبرة الكامنة لدي المؤلف بأحوال البشر فى الريف فى العبارة التالية: "... فتندس بجواره ترمي هموها عليه ويرمي همومه عليها، يسألها عن أشياء وتسأله عن أشياء، يتكلمان عن الجزيرة الواسعة وناسها الكبار، عن شغل الموسم وأحواله المستقبلية، عن آخر أجر دخل جيبه وشح أصحاب الأرض، عن أشياء شتوية ملحة يرغبان فى شرائها للطفلين من السوق.

تخمد الجمرات، يتسلل برد من عقب الباب. يتضامان أكثر. ياخذها بين ذراعيه تحت البطانية القديمة متلمسا منهادفء عز عليه فى ليل الشتاء الطويل.. " ص 89.

الاهتمام بالتفاصيل من أبرز سمات هذه القصة ومعظم قصص المجموعة، والاهتمام بالتفاصيل يجعلك تلهث وراء الراوي، فكان يمكن للقصة أن تنتهي بذهاب شلبية إلى المنزل مع حمدان الجمل، ولكن المؤلف لهدف آخر يؤجل النهاية ليوم آخر عندما يأتي الجمل إلى دكان مشرف ويوجه إهانة بالغة للشيخ تهامي، وذلك الرجل المستغل، حيث يقول له أن حيوانه (ما بين فخذي) هو الذي أرجع شلبية إلى دارها.

القسم الثاني: يضم هذا القسم خمس عشرة قصة قصيرة جدا من حيث الحجم على الأقل بالنسبة لقصص القسمين الأول والثالث، وقد وضع المؤلف الخمس الأولى منها تحت عنوان "كفان" كفا أم ـ كفا قناص ـ كفا نبوية ـ كفا آل طعمة ـ كفا الحلبي. ووضع للعشرة الأخيرة عنوانا شاملا هو "قصص قصيرة لحد ما " وهذه القصص هي: الأخرس ـ شجيرات حب صغيرة ـ سيمفونية الغروب ـ الجائزة ـ فى عز الليل ـ آخر الخط ـ هواء يرد الروح ـ القلعة ـ آجال ـ عود.

وسأتوقف من هذا القسم عند قصتين الأولى "الأخرس" والثانية "شجيرات حب صغيرة".

1ـ الأخرس:

هذه قصة مأساوية تستحق أن تترجم إلى معظم لغات العالم، تبدأ القصة بجملة تقريرية تبدو بريئة فى ظاهرها، إلا أنها تخفى مضمونا مختلفا " لأنه الأخرس الوحيد بالقرية، فإنه كان دائما ما يحاط من أهلها بنوع من الحب والشفقة " ص 117.

الحقيقة أن هذا النوع من الحب والشفقة عندما يتعرض للاختبار الحقيقي تكتشف أنه حب مزيف وشفقة مفتعلة، فالقرية ترفض تزويج الأخرس من إحدى بناتها، وعندما يتزوج وينجب ابنه يموت تحت عجلات الجرار، يجلسون حوله فى البداية، ولكنهم ينفضون عنه رويدا رويدا تاركينه وابنه وزوجته تحت سطوة الليل البارد، وفى الصباح تكتشف القرية كلها هروب الأخرس وزوجته بجثة الابن. " فقط كانت هناك كومة قش مبللة، وبقعة دماء مختلطة بالوحل، ومصباح من الصفيح، ورماد نار بللته قطرات المطر.. وبحثت القرية عن اخرسها فى كل مكان ولم تجده " ص 122.

2 ـ شجيرات حب صغيرة:

هذه قصة طريفة يوظف فيها المؤلف طقسا شعبيا كان شائعا فى الريف وهو رسم المحبين شجرة الحب على منتصف جبهته، وكان الفلاحون يفعلون ذلك بطرف الطاقية الصوف، وشجرة الحب أو الحب عامة فى الريف كان دليل الرجولة والنبل، وكان الآخرون يشفقون على المحب دائما، والقصة تكاد تخلو من الصراع الدرامي ومن ثم تشحب فيها الحكاية، فثمة أم وابنها يذهبان إلى السوق فى القرية، البنت جميلة جدا واسمها كوثر، تشيع الدفء والحب فى السوق، يلاحقها الشباب ويتمنى كل واحد منهم أن يفوز بحبها.

وينهي المؤلف القصة، بأن أهل السوق لم يلتفتوا لغياب كوثر وزوجها، لأنهم كانوا منشغلين بكوثر أخرى، وكانه يريد أن يقول أن الجمال ضروري لحياة البشر فى هذا الريف رغم الفقر والجهل، إن القصة فى النهاية دعوة لتقدير الحب وتقديس الجمال.

القسم الثالث: يضم هذا القسم قصتين(صباح جديد على طائر ابيض صغير ـ صندوق الدنيا)، فيهما يعتمد محمد عبد الله الهادي الفنتازيا استراتيجية فى السرد، والفنتازيا هنا عمادها خيال قوي، يبعث الروح فى الأشياء والحيوان فيصيران شخوصا سردية محملة برؤية جمالية هي فى الأخير رؤية المؤلف، فالطائر الأبيض الصغير فى القصة الأولى يجعلنا نلهث خلفه وهو يقودنا من مكان إلى آخر داخل المدينة، حتى يستقر فى نهاية الحداث عند كوخ العجوز وسط كتاكيتها الصغيرة، يلتقط الحب ويشرب الماء بعد رحلة عذاب ومطاردة من الجنود / الغرباء، فوق الأشجار وعند سوق المدينة وغيرها من الأماكن العامة، تراه العجوز فتناديه: تعالى يا إبراهيم.

وإبراهيم هو ابنها الذي قتله الجنود الغرباء، وهم قساة لا يرحمون، فنجدهم يهاجمون العجوز بحثا عن المقاومين الهاربين الذين يقاومون الجنود، وعندئذ يصيبون الطائر الصغير فينكسر جناحه، وفى اليوم الثاني يعود ليكتشف أن الغرباء حطموا كوخ العجوز وقتلوا الكتاكيت الصغار. إن هذه القصة حكاية رمزية عميقة مركبة لقهر العدو المحتل لكل أرض محتلة بشعبها وأرضها وخيرها، فما الطائر الصغير وما الكتاكيت وما العجوز وما إبراهيم الشهيد إلا مفردات هذا الوطن المحتل المقاوم الذي قد يكون فلسطين أو العراق أو اي بقعة فى الأرض يدنسها الدخلاء الغزاة المحتلون. إن قوة التخيل تجعلنا نحن المتلقين نصدق مع العجوز أن الطائر الأبيض الصغير الجائع هو إبراهيم ابنها الذي قتله العدو.

فى القصة الأخيرة "صندوق الدنيا" يوظف المؤلف الموروث الشعبي توظيفا أكاديميا أي توظيفا واعيا مقصودا على خلاف البلغة مرة أخرى وشجيرات حب صغيرة " حيث لا يتوارى الموروث الشعبي فى خلفية الأحداث، ولكنه هنا يبرز فى المقدمة ويعتبر المحفز السردي الأول فى العمل.

فى هذه القصة يعيد المؤلف إنتاج حكاية ست الحسن والشاطر حسن من خلال لعبة سردية مشهدية اقرب غلى العرض المسرحي، أداته موتيفة تراثية مشهورة هي " صندوق الدنيا" حيث يحمل فى الأسواق ويعرض من خلال الصور المدهشة التى كانت تأخذ بألباب النظارة فى الريف والقرى.

وحاملة الصندوق هنا امرأة عجوز تتفاعل مع النظارة أو المتلقين وتقترح عليهم الحكاية التى ستعرضها، فيجمع النظارة ومعظمهن من البنات الصغيرات على رواية حكاية ست الحسن والشاطر حسن. وهنا لا يروي لنا السارد حكاية، ولكن يروي مأساة وبالتحديد دراما، فهناك صوتان يتناوبان السرد أو قل العرض، صوت الراوي وهو صوت العجوز، فالعجوز تمثل الشخصية الرئيسية على المسرح حيث تحكي حكاية فتاة جميلة يحبها ابن الملك، ولكن الحب لا يدوم، فالملك الظالم يقتل الأب ويسجن الأسرة بما فيهم ست الحسن، وعندما يتولى الابن / الحبيب الملك يسير على نهج أبيه ويتنكر لحبه القديم فيواصل تعذيب وإهانة ست الحسن، وها هو يطاردها فى الأسواق حيث تحمل صندوقها أو قل همها على كتفها.

أما الراوي فبمثابة الجوقة فى المأساة الإغريقية، يردد بعض الجمل الأساسية التى تبرز الفكرية ويهيء المسرح للمثل الأول العجوز يسرد ما لم تستطع سرده، إن أجمل ما فى هذه القصة هى النهاية التى تؤكد مغزى القصة فعندما يهجم جنود الملك على العجوز يساعدها الغول فتتحول إلى طائر أخضر يطير فى سماء السوق، ثم ينبه النظارة على المشهد وكأنهم فاقوا من حلم، يلقون بالفواكه الفاسدة والتراب والطوب على جنود الملك، إن القصة ببساطة تجعل من ست الحسن والجمال رمزا واسع الدلالة للمثقف الذي تطارده قوى الظلام والجهل فى كل مكان وزمان.

***

د. محمد عبد الحليم غنيم

 

قراءة نقدية في نصّ: ذاكرة العطش – للشاعرة عبير محمد – مصر

قصيدة /ذاكرة العطش/ للشاعرة عبير محمد تنغمس في لغة مشحونة بالرمزية والإحالات النفسية والوجدانية العميقة. هي قصيدة تكشف عن الصراع الداخلي للذات بين الألم الروحي والتوق المستمر إلى الخلاص، وبين الجمود الناتج عن الفقد والانقطاع. تنسج الشاعرة شبكة من الرموز التي تربط بين الطبيعة والوجود البشري، وبالأخص الحجر الذي يتكرر كرمز مركزي يُحتفى به ويُستثار في مواجهة الذاكرة المرهقة. ولعل التفاعل بين العطش والذاكرة، كما بين الحجر والأنين، يخلق حوارًا شعريًا بين الثبات والتحول، وبين ما هو جسدي وما هو روحاني.

الذاكرة والعطش: توترات روحية وإشارات إلى الوجود

من خلال /ذاكرة العطش/، تبدأ الشاعرة عبير محمد في استكشاف عمق الوجود الإنساني، حيث يُنظَر إلى العطش لا كحاجة جسدية فحسب، بل كرمزية رمادية تنبض بالحاجة الروحية والمشاعرية التي لا تروى. العطش في النص هو عطش الذاكرة، الذي يسعى إلى إشباع نفسه من خلال التذكر، وقد يكون في ذلك ألم أو رغبة محمومة للعودة إلى نقطة بداية لم تتحقق. إنه عطشٌ للروح، عطشٌ يتقاطع مع الزمن والمكان ولا يتوقف عن /الأنين/ المتمثل في الصور المتناثرة. الشاعرة تخلق مشهدًا من «الظلال» و«السراب»، وكلها تعبيرات عن عدم اليقين والفراغ الوجودي الذي يشعر به الإنسان في رحلته مع العطش الروحي.

أما الذاكرة، فهي ذلك الشبح الذي يطارد الذات، كأنها لا تملكها بل هي التي تملكها. هناك إشارة دائمة إلى الذاكرة المحترقة و«الخطوات المبعثرة»، في مشهدٍ يوحي بحركة مستمرة لا يمكن التنبؤ بها أو السيطرة عليها. الذاكرة في هذا السياق ليست مجرد محتوى للذكريات، بل هي كائن حي يعيد إحياء الألم ويدفع صاحبه إلى البحث عن إجابات لا نهاية لها.

الحجر: رمز الجمود والاحتجاج والتحدي

يتحول الحجر في النص إلى كائن رمزي يتسم بالثبات، بل يتعالى إلى مستوى الكائن المشتبك مع العاطفة الإنسانية. فالحجر في الثقافات المختلفة هو رمز للألم، للصلابة، ولما لا يتحرك، وعليه فإن الشاعرة لا تكتفي بتسليط الضوء على هذا الثبات، بل تدعوه لتحدي الجمود. الخطاب الشعري الموجه إليه ليس نداءً عاديًا، بل هو حوار مع الجمود ذاته، وتحدٍّ لمحاولة هذا الحجر أن يظل ساكنًا.

/أنا من أنطقتك أيها الحجر/ هي الجملة التي تبدأ فيها الشاعرة تحدي الحجر ليتنفس الحياة في الكلمات والذكريات، ويتكلم من خلاله الوجع والحلم. في هذا السياق، الحجر ليس فقط مادة مادية، بل هو حجر يحمل في طياته معاني التاريخ والجروح المشتركة، حتى أنه يتصالح مع مفاهيم الحب والجمال، كما في قوله: /أنا من جعلت منك ماء الحب يتفجر/. هنا يبرز الصراع بين الثبات والتحول؛ فالحجر لا يظل جمادًا، بل يصبح جسدًا حيًا يعبر عن الألم والجمال في آن واحد.

العلاقة بين الذات والطبيعة: تفاعلٌ فلسفيٌ ووجداني

الطبيعة في القصيدة تتحول إلى حضور قوي، يتفاعل مع الذات ويؤثر فيها، ولكن ليس بشكل مباشر. الشاعرة تذكر في نصها /أبنة الزيتونة الشامخة/، في إشارة إلى ارتباطها بالأرض والوطن، ولكنها أيضًا تستخدم الزيتونة كرمز للصمود والقداسة. الزيتونة، مثلها مثل الياسمين، ليست مجرد عناصر نباتية، بل هي رموز للهوية الوطنية والإنسانية المتجذرة في الأرض، التي على الرغم من ألمها ومواتها، تستمر في العطاء.

وما يثير الانتباه هو أن الشاعرة لا تكتفي بهذه الرمزية الوطنية، بل تمزجها مع الطابع الوجداني والعاطفي، حيث يتحول الياسمين إلى رمز للبراءة، والنقاء، والطهر. في قلب هذا التفاعل بين الذات والطبيعة، هناك استحضار لحالة معقدة من الفقد والتوق إلى شيء غير ممكن: /تضرع من أجلي... تضرع في يوم ميلاد/. تضرع الشاعرة هنا هو بمثابة استغاثة، طلب النجاة من الأقنعة الزائفة التي تلوثها الدماء، وهو استعارة للضياع في زيف الواقع، وعليه يُطلب من الشاعر أن يحافظ على الطهارة، على الأصالة، في مواجهة هذه الفوضى.

التوق إلى النقاء والضوء: التحول إلى الذات الأكثر إشراقًا

القصيدة لا تنتهي باليأس أو الهزيمة. على العكس، هناك إشراقة مفاجئة في النهاية. يُحتفل بـ /سديم/ الذات، حيث الدموع تتحول إلى نور، وهي صورة شاعرية توحي بتحول الألم إلى نورٍ داخلي. تقول الشاعرة: /ها هو سديمها يتفتق دموعًا من نور/. هذا التحول يحمل دلالة فلسفية عميقة، فهو ليس فقط تحوّلاً عاطفيًا بل هو مقاربة للنقاء الروحي الذي يمكن أن ينبثق من أقسى لحظات الألم.

الأمر اللافت هو أن الشاعرة تمنح الحجر القدرة على التوهج والتحول، رغم ثباته. /توّهج كما تشاء... فلا سماء لك سوى قلبي/، هو مشهد نهائي يُعيد تقديم الحجر ككائن متجدد يستطيع أن يحمل معناه الجديد في قلب الشاعرة، في تلك الفضاءات التي لا تقيدها الأرض أو الزمن. الحجر هنا يشير إلى التحول الداخلي الذي لا يتوقف عن الظهور في أشكال جديدة، بل يمتد إلى السماء من خلال القلب.

الخاتمة: بين العطش والنور

قصيدة /ذاكرة العطش/ لا تكتفي بالسعي نحو الخلاص أو الوصول إلى هدف معين، بل هي رحلة وجودية وشعرية غنية بالرمزية التي تنقلنا بين الألم والحلم، بين الجسد والروح، بين الأرض والسماء. الحجر، كرمز للجمود، يتحول إلى كائن حي، والشاعرة نفسها تتحول من نقطة الألم إلى نقطة الضوء والنور الداخلي. إن النص يشير إلى أن الوجود لا يمكن أن يظل في حالة ثابتة، وأن كل الألم يمكن أن يتحول إلى أمل وتحقق في النهاية.

وفي هذا السياق، /ذاكرة العطش/ هي قصيدة عن السعي المستمر نحو الضوء، حتى لو كان هذا السعي محفوفًا بالعطش، وموصولًا بالذاكرة التي تلاحق الإنسان في أزمنته المختلفة.

***

بقلم: كريم عبد الله – العراق

.......................

أيها المتسكع

مع الريح على أرصفة الشتاء

وظلال الردى تلسعك

بخطوات السراب وذاكرة العطش

تتعرى غصون القلب المحترقة

وهي تتعقب آثار أقدام مبعثرة

وتمتمة شفاه ظامئة

بشقاء المسافات

وخيال حلم لم ينفك من أساه

يجره الأنين بالف والف آه

أنا من أنطقتك أيها الحجر

وبشفاهي أستفززت أنين أحلامك اللاهثة....

الجمر واللهب يستيقظان بتلك اللذة الخبيئة

كشمعة ترفض الإنطفاء الاخير

أنا أبنة الزيتونة الشامخة

ومن تلك الارض الطاهرة

التى تنبت الياسمين

فكن حافظا لي

من تلك الوجوه العابثة بالسكون

ونكر عرشي بالياسمين

*

تضرع من أجلي

تضرع في يوم ميلاد

لكيلا تقترب مني الأقنعة الزائفة

الملطخة بدماء الأبرياء

أنا انثاك.....

فلا تتكبر أيها الحجر المصقول بأمواج

شواطئ الوجد

أنا من جعلت منك ماء الحب يتفجر...

عطرا وشعرا

لتنشد قوافيك

في حقول العشق

لترفرف كالفراشات

لتغرد كالعصافير

وتحلق كما الأغاني في الأثير

بعيدا عن ضجيج الفوضى

وتتبع ما أوحي إليها

وتهتدي بهالتي الحبلى بالضوء

فها هو سديمها

يتفتق دموعا من نور

في سماء بعيدة عن شياطين

الإثم والغرور

أيها الحجر النيزكي

توهجْ كما تشاء

فلا سماء لك سوى قلبي

لتحط في معارجه

على مدرج الأضلاع

كطفل أبصر النور.

***

عبير محمد

 

الأسلوب والصورة الشعرية: القصيدة تتميز بأسلوب سردي تأملي مليء بالصور الشعرية المركبة والمعقدة، حيث تتحول اللغة إلى وسيلة للتعبير عن التوتر الداخلي والافتقار العاطفي. تعبيرات مثل (كدمات الجوع) و(أغصان معطوبة) تعكس حالة من الألم والفقدان، وتوحي بالصراع بين الذات والعالم المحيط بها. هناك أيضًا تداخل بين الصور الطبيعية مثل (غيمة كثيفة قرنفلية) وأحاسيس داخلية عميقة، مما يخلق تناغمًا بين الطبيعة والمشاعر الشخصية.

الرمزية والتشبيه:

الرمزية في القصيدة حاضرة بقوة، مثل (أغصان معطوبة) و(شبح البعد المزركش بالألتياع)، حيث يتم تصوير الألم والبعد عن الأمل من خلال صور محورية مستوحاة من الطبيعة. استخدام (كصخرة بريرية) و(جسدي المحنط) يعكس حالة الجمود والتصلب الداخلي الذي يعاني منه الشاعر، وهو ما يُغذي شعور الانكسار النفسي. كما أن صور الموت والتجاعيد والغربة تضع القارئ في مواجهة مع الحزن الدائم والاشتياق المستمر.

التكرار والدلالات العاطفية:

التكرار في العبارات مثل (أترى أناقة القصيدة؟) و(وحشتي) يعزز من حالة الصراع الداخلي والشعور بالضياع. هذا التكرار يوحي بالتمزق العاطفي والبحث المستمر عن الهوية أو الوضوح في خضم الانفصال عن الذات أو العالم. كما أن تكرار الكلمات المرتبطة بالفراغ مثل (الطيف البعيد) و(الغياب) يعكس الهجر الداخلي والمعاناة الوجودية.

اللغة والمفردات:

اللغة في القصيدة تفيض بالتشابيه المعقدة مثل (سيرها أسراب عصافيري) و(حكاياتي المبللة)، مما يخلق تدفقًا شعريًا مكثفًا ويعكس الأبعاد العاطفية المرهقة والمزدوجة. المفردات مثل (وحشتي) و(الضجر) و(الغرام) تميز النص بتوتره العاطفي، بينما تشير مفردات مثل (الجوى) و(المزركش) إلى التداخل بين الجمال والحزن، وتساهم في بناء مناخ شعري مليء بالحيرة والانتظار.

البنية والإيقاع:

القصيدة لا تتبع بنية تقليدية، بل تشكل سيلًا من الأفكار والمشاعر المتدفقة بشكل متسارع وغير مرتب. هذا الإيقاع المتسارع يعكس تشتت الأفكار والشعور المستمر بالضياع والحيرة. الفقرات غير المتوازنة والجمل الطويلة تمنح النص إيقاعًا متقطعًا، حيث تبرز الانفعالات والمشاعر بطريقة غير متسقة، تعبيرًا عن حالة نفسية مشوشة.

الخلاصة:

قصيدة (خطوات منمشة بكدمات الجوع) لسلوى علي تُعبّر عن تجربة شعرية مكثفة، حيث تلتقي الصور الطبيعية بالداخل العاطفي بطريقة تكشف عن الألم المستمر والبحث عن الذات. اللغة الغنية بالصور المركبة والتكرار المدروس يُكسب القصيدة طابعًا تجريبيًا، ويُعزز من الإحساس بالتيه والضياع. النص يمزج بين الأمل والخيبة، وبين الجمال والعذاب، ليُعبر عن معاناة الذات في عالم غير مستقر.

***

بقلم: كريم عبد الله - العراق

....................

خطوات منمشة بكدمات الجوع

يا وحشتي المحدقة، لامتداد عقيق أسارير الأحلام يكتنز خيال كأبتي عطره المتجرجر بين همهمات الشهوات الخجولة ومواقد الخطوات المنمشة بكدمات الجوع.

اريج براعم الدفء تطيب تلك الأغصان المعطوبة في تقاويم جسدي المحنط كصخرة بربرية منذ سنين في أعماق ابتسامة التجاعيد الغامضة بين صخب وقع خطا بدواخل غيمة كثيفة قرنفلية التيجان وعطرها الغائم فوق شبح البعد المزركش بالإلتياع.

أترى أناقة القصيدة..؟ مهدورة الرجفة، يهجعها الليل المبلل بشوق رجيم، كقطوف تدلت بين بابه المغلق وشواطئ القانية المهدورة دمائها بين عقارب الضجر  الموشومة بسمرة النخيل، بقامته، بسياط لهفته الثملى، وصوره المتناثرة انتصبت في مدائن بكائي الملحي ودهاليز محيطاتي المصلوبة بين الفواصل والنقاط، وصدى عباراته الممسوقة كصعلوك ليل يثقب أحلامي النحيلة بدفعة واحدة، لأفتح خزائن ذاكرتي بحبور وشهقات الغرام.

أراها تستشهد فوق لحافي المزركش باكتواء الجوى، تنزلق منها رياح عاتية، تدغدغ سيرها اسراب عصافيري وحكاياتي المبللة واغانيها الراعفة بحدود الحب، كلما هيأت خربشاتي الجائعة فوق حيزي لوحة تداعب الشمس في صومعة الأمنيات، حين تلاطم أمواج الروح المرهقة، وعطشي المتطاير توخز دفاتري بحجم رعشته.

واااااا ويلتاه لازلت لا أجد سبيلا، أشرع بها وحشتي التي تئن وجعا من رائحة طيف بعيد لأرخبيلات الحلم المحتقنة بخيالات الزبد الطافي حين تجرجرني الفكرة.

***

سلوى علي/السليمانية – العراق

 

المجموعة الشعرية: مناجاة مع الكون والكائنات

تقديم: تذكّرتُ وأنا اتصفّح المجموعة الشّعريّة: " مناجاة مع الكون والكائنات " لشاعرتنا الأستاذة نجاة الورغي دراسة لجابر عصفور تناول فيها مسألة حضور الطّبيعة في الشّعر العربي على امتدادِ فتراته التاريخيّة وطرقِ تفاعل الشّعراء مع عناصرها أرضيّةً كانت أو سماويّةً.. فذكر أنّ العَيْنَ التي نظر بها امرئ القيس الى الكون والكائنات حين ناجى الليل ووصف السّيل والخيل هي ذات العين التي حاور بها ابن خفاجة الجبل وصّور بها كلّ من الشّابّى ومي زيادة ونازك الملائكة الوجود بِبُعدَيْه المحسوس والمُجرّد وهي على حدّ قوله: (عَيْنٌ طِفلةٌ أدركت على سجيّتها حقيقةَ الصّلةِ الرّمزيّة بين الإنسان والكَوْنِ واستطاعت بذلك ان ترى في الطّبيعة وعناصرِها مرايا للإنسان وأوجهِ وجوده فأسكنتْه عالمَها الشّاعريَّ الأليفَ فاتِحة إيّاه على مستويات عديدة من الحوار الفنّيّ) وهو الذي أطلقت عليه شاعرتنا لفظة المناجاة.. ولعلّ جابر عصفور يحاول بذلك البحث في ممكنات الكون الشّعري الذي شكّلته القصيدة العربيّة في العُموم في تعاملها مع الكون الوجودي وكائناته خاصّة وهو يعتبر أنّ الشّعر في معناه المُجمَل: (هو صدى الكون والكائنات الكامنُ في تردّدات اللغة حين تخترق الزّمان والمكان في اتّجاه الفكر والوجدان يدفعها بحث كَونيّ في مَجاهل الذّات وما يحيط بها فتتسامى وهي مُحمّلةً بالرّؤى والخيالاتِ المدهشةِ على مظاهر الحَيف والدّناءة في الواقع الاجتماعي وتسعى إلى استشراف كلّ ما هو راقٍ ورائقٍ في الوجود والمَوجودات بلغة منفتحةٍ على فِتنةِ الجمالِ المُدهِش..) فبِهذا التّعريف وضع جابر عصفور نِسبةً معتَبَرَة من قصائد الشّعر العربي قديمِه وحَديثِه في سياق استنطاق الكون والكائنات بحثا عن الدّور الخارق والاستثنائي للشّعر في الكشف عن منزلة الإنسان في الوجود بين الكائن والممكن وحتّى المفروض ممّا يحملنا إلى القول بالرّسالة النّورانيّة والثّوريّة لهذا الصّنف من القصائد خاصّة وأنّها تصدّرت تجارب عدد من الشّاعرات في زمننا وفي تونس والبلاد العربية منهن الشاعرة نجاة في هته المناجاة التي تنتصر للسّموّ الإنساني وللسّموّ النّسائيّ خصوصًا..

فمن تكون نجاة وكيف ناجت في شِعرها الكائنات ؟؟

تعريف:

نجاة الورغي.. تونسية اصيلة تبرسق من ولاية باجة متحصّلة على الأستاذية في اللغة والآداب الفرنسية وعلى الإجازة في اللغة والآداب الرّوسيّة.. تكتب الشعر والقصّة بالعربية والفرنسية كما ترجمت العديد من الروائع الأدبية لتونسيين وأجانب نقلا وتعريبا.. فازت بجائزة نادي الطاهر الحدّاد للشّعر باللغة الفرنسيّة (1992) وجائزة زبيدة البشير (الكريديف. 1996) وتحصّلت على وسام الاستحقاق الثقافي (1996) وجائزة منتدى المتوسّط للقصّة القصيرة باللغة الفرنسية (2013).. من إصداراتها: بالعربية: انا لست شاعرة.. وبالفرنسيّة: nuages وamour proche. Amour lointain.. أحدث إصداراتها المجموعة الشعريّة: " مناجاة مع الكون والكائنات " (2023)

وصف خارجي:

" مناجاة مع الكون والكائنات " كتاب سماوّي الغلاف بصورة لغسق لا يزال ملتحفا بالزّرقة الليلكيّة والنجوم تنازعه الضّياء تُوَلّي إليه وجهَها طِفلةٌ تعتلي غَيمَِة الأحلام وكأنّها تنتظر بِشغف ولادة اليومٍ الجديد.. قد تكون حلم الشّاعرة المسكونة بطفولتها او تلك " العين الطّفلة " التي تحدث عنها جابر عصفور وهي تبحث عن (حقيقة الصّلة الرّمزيّة بين الإنسان والكون) أثناء مخاض يومه.. يُشرِق العنوان بلون الشمس الوَضيء على زرقته المُريحَة مُحدّدا الصياغة اللّغويّة لمحتواه: مناجاةً ووِجهَةً هذه المناجاة (الكون ومافيه بل ومَن فيه).. هذه الكلمة ذات المعاني المتعدّدة معجما ومجازا هي صيغة مصدر من ناجاه يناجيه مناجاةً ونجوى بمعنى سارّهُ وباح له بما يجيش في خوالجه.. وناجى الله بمعنى دعاه وإليه تضرّع وبثّ شكواه.. والمُناجَى أو النّجيّ هو الذي نأتمِن صدقَه وإخلاصَه فنُسِرّ له بما في أنفسنا.. والشاعرة هنا اتّخذت الكون والكائنات (يعني عناصر الكون) بمعناها الطبيعي والرّؤيوي نَجِيَّهَا.. ومادّة هذه المناجاة ذات الدّلالات المجازيّة هي قصائدها الواحدة والثلاثون التي نجد أولاها على الوجه الثاني للغلاف موجّهة إلى المتلقّي بشكل مباشر بواسطة ضمير المخاطب مطلقا في صياغة وكتابة توشيحيّة مُوقّعة على وزن الرّمل تضمّنت تبريرا في إهاب رومنسيّ للتلك الصّلة الخاصّة والشّفيفة بين الشاعرة المناجِية والكون المناجَى..

ضمّ الكتاب أيضا تصديرا بعنوان: معارَضة مقفّاة للدكتورة فاطمة لخضر هي عبارة عن تقييم لا يخلو من نزعة شاعريّة لقصائد شاعرتنا وإحالة على وظيفة الشّعر في الحَياة: (ص 6 : في بَوح شفيف لِقارئ مشتاق

تجلّت مناجاة الشاعرة

بِرويّ سِمَته الانعتاق

مشاعر فيّاضة عميقة شاسعةُ الآفاق...

... شِعرها إيقاظ للغافِل الوَسنان

وحَفر في منابع الوجدان

غايته إدانة العنف والغدر والظلم والبهتان

وإعلاءُ رايةٍ خفّاقة بأسمى قِيَمِ الإنسان)

هذا التّصدير يُعاضده الإهداء المحتفي بالسّماء تأمّلا وبحثا في أسرار الكون سموّا بذاته عساها تبلغ مراتب الفعل الجميل والجليل..

ذاك مغزى مناجاة شاعرتنا للكون تلك المناجاة المجازية التي هي في الحقيقة رسالة شعرية موجّهة إلى الإنسان وقد ساءها سقوطه من مرتبة الاستخلاف إلى قاع (الغدر والجحود والتجنّي) كما ردّدت قصائدُها..

وصف داخلي:

هذه القصائد وزّعتها الشاعرة إلى باقات أربع حسب الحالة الشعرية ووجهة المناجاة كالآتي:

_ البوح... قالت الشّاعرة

_ لمسات كَونيّة ونجوم

_ كوكبنا..

_ رجع الصّدى... قالت الكائنات..

وهي بهذا التّقسيم قد نبست بملامح كونها الشّعري الذي نفذت منه الى محاورة الكون والكائنات لا سيما القول / الكلمة النابعة من الوجدان.. والفضاء السّماوي بسموّه ونَورانيته.. والأرض بحنوّها على أبناء رحمها حتى الجاحدين منهم.. وصدى الوجود الفاعل في الشعر والشعراء.. فنحن إزاء كون شعري تسبح الكلمة في أوساعة بين الأرض والسّماء وجهتها الحقيقيّة هي الإنسان لذلك حكمت كتابة هذه القصائد المناجاة ثلاثيّةُ:

_ السّؤال (خاصّة في قصيدتين لافتتين ص 32 أ هي حائرة ؟: أ هي حائرة لا تنام / رفيقُها الظّلام...

و أ هي صامتة ؟: أ هي صامتة تلك النجوم / أم هي ساهمة إيانا تلوم؟ / عن الهيام بالسّراب / عن الغَوص في الضّباب / عن الارتياب..) ونجد الشاعرة في موضع آخر تضع الكتابة ذاتها في موضع التساؤل في مغزاها ووظيفتها إذ أوردت في قصيدة: تساؤلات ص 27: (أ انتم سطور كتبتها الصّدف؟

حروفها اختفت قبل أن تجفّ ؟

أ بقايا ميثاق خُطَّ بِحبر الفراق؟

غابت عنه البُنود عبر العهود...)

_ التّمرّد: في سياق الانسجام مع الفضاء الكوني والتعارض مع الفضاء الاجتماعي ممّا افرز قصائد تتغنّي بالسماء والنجوم مساحة لسعادة الحلم والخيال.. وتتذمّر في المقابل من مظاهر السّلوك السّلبي للكائنات الاجتماعية.. تقول مثلا في: (ص 42... أرحّب لِحين بِبَدرٍ أو هلال / معه أجول بأجنحة الجذل / سعيا للوصول إلى كواكب تمرّ سريعا أو على مهل...

... بعيدا عن الصّلف / في فيافي العبث / في فجاج الإعياء والغيوم) ثمّ نجد شاعرتنا في القصيدة الأخيرة التي أفردتها بباقة رجع الصدي ص 85 تعبّر مستعيرة أصوات البحار والقارّات والكواكب والمجرّات لتعلن تبرّمها ممّا يقترفه الناس من جرائم وخطايا في حقّ كوكبهم وفي حقّ إنسانيتهم وبعضهم بعضا: (كوكبكم يتصارع / الأجناس تتطاحن / تمقت التّوازن / تنحر الأمان / لا شيء يسرّ / حين نمرّ / مخلوقات تنتشر / منها مَن يتّجر / بمُهجتِه والسّلام...)

_ الإقرار: جسّدته في جمل تقريريّة مثبتة affirmatives بالمقوّمات المثلى التي مثّلت أساس المناجاة لما ينبغي أن يكونه الإنسان والشاعر تحديدا حتى يرتقي بيكون إلى مصافّ " مرايا الكون" على حدّ عبارة جابر عصفور فأشادت بالأرض التّوّاقة إلى أعالي السّمَاء وبالإنسان الأمثل الذي يجسد معنى الاستخلاف الحقِّ محافظا على سلامة نوعه وسلامة كوكبِه وذلك في ص 68: (يُحالف المدى / يتصدّى للجحود / يحتقر البغضاء / على الدّوام يُجيد / فنون الاحتماء / بالجرأة بالتّجديد / بِدروع الإباء) وها هي شاعرتنا تُشيد في مواضع عديدة بالشّعر والشّعراء ودورهم المتقدّم في تحقيق هذه المعاني إذ كتبت عن المرأة الشاعرة ص 58: (نحن نور وملكات / نحن لغات ونغمات / نهب الأكوان أنغامنا والبيان.../... نرسم السّحر في الفضاء / للوحود للأنام / نحن نُلَوّح بالأمان..)

تلك ملامح الكون الشعري لنجاة الورغي وهي تناجي الكون الوجودي في قصائد رومنسيّة الرّوافد حتّى أنّها أهدت قصيدة (غربلة على كوكب الأرض ص 74) إلى روح ميخائيل نعيمة  وجوديّة الأبعاد بمحمول صوفيّ تجلّى خاصّة في كثافة المعجم السّماوي برمزيته القِيَميّة التّجريديّة وتلك التّوظيفات ذات العمق التّعبيري لأسلوب التّشبيه البليغ على طريقة ابي القاسم الشّابّى وهو يقارب مثلا في قصيدة: " للأبد الصّغير" بين قلبه وبين عناصر الكون الفسيح.. وخاصّة ذاك الإيقاع التّراتيلي القائم على ترجيع التّراكيب النّحويّة (مِنهم مَن صفا.. منهم مَن ارتمى.. منهم من جَنَى) وتَجانُس الصّيغ الصّرفيّة (تَسارعٌ.. تَسابُق / صمود.. خلود) في أجراس صَوتيّة مُتَعاوََدةٍ أضفت غنائيّةً مؤثّرة على مناجاة الأكوان التي هي في الحقيقة نشيد الإنسان..

صفوة القول:

هكذا مثّلت المناجاة كتابة لصيقة بذات الشّاعرة في انفعالاتها وتأمّلاتها وهي تعبّر عن (شوق الحياة وأسرار الملكوت) ذاك المعنى الذي ترجمته قصيدة الشّابّى (إرادة الحياة) فكانت بذلك صدى لتجربة حياتيّة مُوازِنةٍ بين القلق والتّمرّد في بحثها على حدّ قلم جابر عصفور " عن جوهر الإنسان الحرّ و الأمثل في مرايا الكون والكائنات" دواتُها جماليّة التّوظيفات السّلسة للّغة وتلك الخيالات الرّومنسية الشّفيفة القائمة على جملة القيم المثلى المُستمدّة من الانسجام الأبديّ للكائنات داخل أوساع الكون وبين مجرّاتِه.. تلك المعاني السّامية التي تتسرّب سريعا إلى الذهن والوجدان.. أ ليس حسن الوقع لدى المتقبّل هو المعيار الأوّل لنجاح الشّاعر في تَجويد القصيد؟؟

***

بقلم الأديبة التّونسيّة: كوثر بلعابي

العديد من الفرق المسرحية في كثير من الدول لا تقدم عروضها إلا بالاستعانة بلغة الحوار الشعبية (اللهجة المحلية) وتنأى بنفسها عن اللغة العربية الفصحى، لأنها تجد بالفصحى لغة ثقيلة على المتلقي الذي تريد أن تتقرب إليه وتتعاطى مع قضاياه الاجتماعية والوطنية، بل يذهب الأمر -احياناً - إلى جعل الحوار باللهجة الشعبية اساسياً في معالجة النصوص العالمية، بقصد إسقاط الموضوع على الفضاء المجتمعي الوطني وتيسير عملية التلقي والتفاعل. ولدينا تاريخ مسرحي حافل بالمسرحيات الشعبية التي شهدها جمهور واسع، مثل مسرحيات (النخلة والجيران) و(البستوكة) و(بغداد الازل بين الجد والهزل) و(الخيط والعصفور) وغيرها.

تنتهج معظم العروض الشعبية أسلوب المسرح الشامل الذي أسس له (فاجنر) حين رأى " أن المسرح يجب ان يجمع كل الفنون في صعيد واحد " (1)  وقد عمل المخرج الفرنسي  (جان لوي بارو) على بلورة أسلوب المسرح الشامل من خلال التركيز على "المشاركة communion، أو ما يسميه في استعارته الاثيرة (فعل الحب) والذي يصبح فيه العرض المسرحي (تآلفا) بين الممثلين والجمهور"(2)  وعلى الأسلوب ذاته عمل مخرج وفريق عرض مسرحية (بغداد 41) التي قدمت يوم السبت 1/ 1/ 2025 على المسرح الوطني، ليشكل باكورة العروض المسرحية العراقية للعام الجديد.892 Theatrical show

يثير عنوان عرض تساؤل: ما المقصود بـ (41)؟ ليجد الاجابة بعد مرور أكثر عشرين دقيقة من أحداث العرض وهي ان الانكليز احتلوا بغداد عام 1941 للمرة الثانية وتمت مواجهتهم من قبل الشعب في حينها، فهي فترة اضطرابات انعكست على مفاصل الحياة كافة، ومنها الحياة داخل البيت العراقي.

يبدأ العرض بدخول الجد (محمد حسين عبد الرحيم) والحفيد إلى بيت بغدادي قديم، إذ تملك الحنين الجد بعد سنين الغربة عن البلاد، عاد إلى مرتع طفولته لاستعادة الذكريات، ليرجع بالزمن إلى عام 1941، عندما كان جده (المختار) (حسين علي هارف) صاحب نفوذ ويحتكم إليه الناس،  وقد شهد احتفال ختان المولود الجديد أو ما يسمى باللهجة العراقية بـــ (الطهور) ولعب أطفال المحلة البنات والأولاد والمحاورة الغنائية، وحضر عدة مشاجرات بسبب الشابة الجميلة (سنية) وعلاقتها مع (نور) الذي يدرس الطب، وتجاوزات (ناظم) الشاب الأرعن الذي يتسبب بالعديد من المشاكل، وغالبا ما كانت تحل الأمور من قبل المختار وزوجته. وأهم ما كان يعكر أجواء البيت العراقي هو دخول الاحتلال الانكليزي، إلى جانب ما تضفيه المظاهرات المحتجة على الاحتلال من حماسة وقوة. وأن المشكلات في البيت الواحد التي حدثت وتحدث أمر طبيعي إذا ما تم احتوائها والتفاهم بشأنها، لأن الذين يعيشون في فضاء واحد ينتمون إليه، ولا مهرب لهم منه لانهم سيعودون إليه مهما طال بهم الزمن، كما هو حال (الجد) الذي عاد يملأه الحنين بعد سنين من الغربة.893 Theatrical show

حرص المؤلف (عقيل العبيدي) والمخرج (دريد عبد الوهاب) على بناء شخصيات الساكنين في البيت لتكون مزيج من اطياف الشعب العراقي وتنوعاتها من المحافظات من بغداد والموصل وغيرها ومن قومياته واديانه المؤتلفة تحت سقف واحد (المختار وزوجته وحفيده - عائلة (كرجي) الموصلية ولدين وأم وأب - طالب الطب (نور) من ديانة اخرى  - بروين ودايا من القومية الكردية - ام ناظم الأرملة وولديها المطيرجية ناظم وعزام - الفتاة سنيه وامها) اتضحت ملامح الشخصيات من خلال لهجات الحوار وتصميم الازياء والسلوك الاجتماعي وبعض العادات. والهدف من ذلك إظهار مكونات المجتمع كافة بصورة واضحة لا يقبل اللبس، ولا يختلف على دلالته اثنان.

أسس المؤلف علاقة حب من طرف واحد بين (ناظم المطيرچي) و (سنية)، زرعها المؤلف في المشاهد الأولى، لتبرز نتائجها في نهاية المسرحية، وكرر المؤلف كلمات (نور) عن صعوبة ارتباطه بعلاقة زواج مع (سنية) وأنه لا يستطيع ذلك رغم حبهما المتبادل، حتى بات المتلقي يتساءل لماذا لا يرتبط بها وهي الشغوفة به؟ هذا الزرع يدل بوضوح على قدرة المؤلف وضع العديد من علامات الاستفهام أمام المتلقي بقصد حصد المزيد من عوامل الاثارة والتشويق. 894 Theatrical show

حبك المؤلف أحداث المسرحية المتشابكة، وتضامن وعمل المخرج في ضوئها على البناء الدرامي للعرض: أطراف الصراع ومحوره علاقة حب الفتاة (سنية) مع الشاب (نور) في ظل عداء (ناظم) الشقي، أغاني المطرب ناظم الغزالي، (سنية) قلقة على نور بسبب اصوات الاطلاقات لأن الإنكليز دخلوا بغداد،(نازك) ترسل حفيدتها (بروين) الى (نور) مع (كليچة) العيد لغرض استمالته، تفاجئها ام سنية الغليظة، لقاء نور وبروين تفاجئهم سنية يبرر لقاءهم لسنية فيكون لقاء غرامي متخيل ينتهي بأغنية (تهانينا يا ايام … عزفي يا أنغام) ورقصة الأطفال ومشهد زواج  ليكسر الفرحة بأخبارها بأنه ليس مسلما،  وسط أفراح العيد، في وسط باحة البيت يلعب (ناظم) القمار -(لگو) باللهجة العراقية- مع مجموعة من المقامرين، يأتي إعلان ( صار الفرهود ) يطرد المختار (ناظم) وأخوه ولاعبي القمار. فتاح الفأل (نجم اللباگ) يبحث عن سكن لكي يفيد المختار، لأنه يعرف يقرأ الطالع، لقاء فتاح الفال (نجم اللباگ) مع (ست نازك) التي تريد تعديل حظ بنتها العاثر، يدخل إلى غرفتها لإنجاز عمل سحري، (نور) يخبر المختار بقرار مغادرته البيت وسط ذهول الجميع لأنه اكتشف كل ما مكتوب في الكتب كذب : خمس سنوات ولم يبح بسره. يطلب المختار من (نجم اللباگ) قراءة طالعه، يخبره بوجود: غيوم سوداء وغربان في كل مكان .. وكيف دخلت للبيت، المختار: يا ربي سترك.

تظهر بداية الأزمة في مشهد: سنية ترتدي السواد وتتذكر لقاءها مع نور، انها متعبة تخبر أمها ان حظها سيء مع الدكتور (نور) تروي معاناتها كونها بنت (ام الكبة) المحرومة التي لا تشبه باقي البنات وبلهجة خطابية مباشرة للجمهور، ام سنيه تفخر بكونها ام عاملة تعبت في تربية ابنتها (اللي مثلنا.. حرام عليه يحلم؟) يصفق الجمهور لهم.895 Theatrical show

ذروة الازمة تتجلى عندما يذاع بيان -من خلال جهاز الراديو- يناشد الشعب للدفاع عن الوطن ضد المحتل الانكليزي، ويبقى الجد وحده يفكر بدخول الغربان للبيت، تدخل عصابة (ناظم) لسرقة مخزن المختار بمشاركة مجموعة ويردون سرقة (گرجي ) يتفق عزام وناظم ويعملون على تنفيذ خطة السرقة ويهربون بعد صياح (كرجي)، يفزع الجميع ومعهم المختار وجميع النساء والأطفال .. (انه حرامي البيت) هكذا يقول المختار، ينسحب ناظم ويبقى السجال بين المختار وأم ناظم التي تعلن ان هذا البيت بيتها وأنها ستزوّج سنية من ناظم وستذهب لإحضار بدلة العرس، يتصدى له المختار، يشهر (ناظم) مسدسا لينال من المختار، يصيب ناظم والدته بطلق ناري بالخطأ أثناء الشجار ويندم على ذلك، الجد يصيح (كل شيء ولا الدم … دمكم غالي عليّ) يتم إنقاذ ام ناظم في المستشفى على يد الدكتور (نور) لتدخل فرقة موسيقية ومربعات بغدادية وتعم الأفراح. 

تباينت اصوات الممثلين من حيث جودة وصول الصوت إلى المتلقي، بسبب الاستعانة بوسائل مختلفة (النك مايك) و (الميكروفونات المعلقة) و (التسجيل الصوتي) و(الصوت العادي) مما جعل إيقاع الصوت متذبذبا ووحدة العرض السمعية غير متماسكة إلى حد ما.

جرت أحداث العرض جميعها في باحة البيت العراقي (البيئة البغدادية) المكونة من خمسة أبواب وأربعة شبابيك في الطابق الأرضي، وبابين وأربعة شبابيك في الطابق العلوي بألوان التراث البغدادي مع وجود الفوانيس والبساط بحياكة يدوية، تمركز الفعل الدرامي وحركة الشخصيات في وسط خشبة المسرح على ارضية مسطحة بلا مستويات، أمام أبواب وشبابيك الغرف المحيطة به، ولم تتحرك كتلة المنظر طوال العرض، مما أصاب الفضاء بجمود الصورة البصرية، في الوقت الذي عمل الاخراج على إثارة التطلع لما يجري في الطابق الثاني من البيت، حيث برج الحمام وشغف (سنية) بلقاء حبيبها (نور) هناك، مع ملاحظة : أن الكثير من اللقاءات الغرامية في تلك الأزمان كانت تتبلور تتم على سطح الدار، هذا حسب ما باحت به حكايات الآباء والأجداد، وما جادت به العديد من لقطات ومشاهد الأفلام والمسلسلات العراقية.896 Theatrical show

تفاعل الجمهور بالتصفيق مع كلمات مثل (ما نتفرق بإذن الله) واستأنس وتعالت الضحكات مع الكثير من المواقف الكوميدية، ولكن لم تكتمل صورة تأثيرها بعض التفاعلات، بسبب عدم إشباع الموقف من قبل الممثلون الاخرين، لان تفاعل المتلقي من تفاعل الممثل الآخر وينبني على رد فعله، وذلك حدث كثيرا مع حوارات الممثل (محمد حسين عبد الرحيم) وتعليقاته على الأحداث، إذ لم يصغ لها بعض او كل الممثلين أو لم يمنحوا الفعل مساحة الوصول والتفاعل إلى المتلقي وباشروا بأدائهم دون الالتفات إلى لحظة إشباع الفعل. وهذا حدث مع عدد من حوار وفعل شخصية المختار (حسين علي هارف) وكذا الحال مع شخصية (أم سنية) التي قدمت أداء كوميدي مقتدر دون مغالاة بصوت قوي وإلقاء متنوع وخفة حركة وسيطرة على الشخصية وحضور مميز. وربما ذكرت المتلقي بالفنانة الراحلة (أمل طه) وظهر الممثل (سعد عزيز) مع أغاني (فاضل رشيد) وفرقة المربعات البغدادية، التي تراوحت وظيفتها الجمالية بين التعليق على الأحداث وبين أداء فواصل ترفيهية، كما في مشهد محاولة (ناظم) تقبيل (سنية) بائعة (الكبة) والنيل منها، يقطع المشهد صاحب المربعات البغدادية عن (الكبة) بأداء حيوي للحد الذي لم يتبين منه هل ما يسمعه المتلقي تسجيل صوتي أم غناء حي، لقد أضفى على العرض أجواء من البهجة والاحتفال الشعبي المحبب. وتجدر الاشارة إلى جميع فريق العرض من الممثلين الذين قدموا وحدة أدائية فنية متماسكة، بدءا من استرخاء الفنان (محمد حسين عبد الرحيم) الذي تواجد على خشبة طوال العرض - ساعتان- يشارك ويعلق على الأحداث، إلى  (د. حسين علي هارف) صاحب الحضور المميز بشخصية مختار البيت وهي شخصية على درجة من البناء المركب، وانتهاء بمجموعة الأطفال المشاركين التي أضفت حيوية للعرض ومسحة جمالية، كسرت جمود احتكار العروض على الممثلين الراشدين، وكانت توقيتات دخولهم مبهجة مع الأغاني والرقصات / الحركات الإيقاعيّة التي رغم بساطتها منحت العرض أجواء من المتعة والبهجة، فضلا عن أن مشاركة مجموعة الأطفال كشف عن مواهب في التمثيل، ترسم صورة مستقبلية مشرق لهم.

يختم الجد العرض بنصيحة (خليكم يدا بيد وبغداد حلوة والوطن أغلى من الولد … محروسة يا بغداد) ومقولة (إذا ضاع وطنا نضيع كلنا) تهتز مشاعر الجمهور ويصفق طويلا، فقد اتضحت فكرة العرض: الاعتزاز بالماضي والإفادة من مجريات أحداث التاريخ في صناعة حاضر مشرق وجميل يتعايش فيه الجميع بسلام ومحبة.

حفل العرض بتنوع التمثيل والموسيقى والغناء الفردي والجماعي والرقص والمواقف الكوميدية والرومانسية مع التوترات والصراعات العائلية إلى جانب بعض الاحداث التاريخية. وعليه يصح ان يصطلح على الأسلوب الذي انتهجه الإخراج بالمسرح الشامل.

عرض مسرحية (بغداد ٤١) علامة مشرقة في تاريخ المسرح الشعبي العراقي، تواصل العروض بهكذا وتيرة يصنع جمهورا كبيرا، ليكون حضور العروض المسرحية جزء من تقاليد العائلة العراقية.

***

ا. د. حبيب ظاهر حبيب

........................

(1) احمد زكي: المسرح الشامل، بيروت، المركز العربي للثقافة والعلوم، السلسلة الثقافية، د.ت، ص 7.

(2) كريستوفر اينز: المسرح الطليعي من (1892-1992)، ترجمة : سامح فكري، القاهرة، وزارة الثقافة، مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي، 1994،ص181.

الأسلوب والصورة الشعرية: القصيدة تتسم بالأسلوب السردي التأملي الذي يعكس صراعًا داخليًا مع الغياب والفراغ. الصور الشعرية، مثل (أذوب في ألمي كأغنية فلاح) و(حقيبتي تفيض بالغائبين)، تُجسد معاناة الشاعر بين الألم والذكريات المفقودة. الرمزية المستخدمة في (الشبح الأسطوري) و(الطيور تحملها عربات لا نهاية لها) تُحمل الدلالة على التفكك والضياع، حيث يتحول الغياب إلى جزء حيوي في التكوين الذاتي للشاعر.

التكرار والدلالات العاطفية:

التكرار في العبارة (ليس لدي) و(عندما يصبح الغياب) يعكس حالة من العجز والفراغ المستمر، إذ يبدو أن الشاعر يواجه الحياة فارغ اليدين من كل شيء سوى الألم والذكريات. هذا التكرار يُعمق إحساس القارئ بالعزلة، كما يعبر عن الافتقار إلى المعنى والوجود في عالم مليء بالغموض.

الرمزية والمفردات:

الرمزية في القصيدة حاضرة بقوة، مثل (الغياب إشراقًا) و(أوراق من المطر تصنع من قلقها عكازًا متعبًا)، مما يعكس التناقض بين الحياة والموت، والحضور والغياب. الشاعر يستخدم مفردات متناقضة لخلق جو من الانعدام والتشتت، كما أن استخدام (مسامير صدئة) و(عكازًا متعبًا) يعكس وضعًا بائسًا مليئًا بالتدهور والخذلان.

اللغة والمفردات:

اللغة في القصيدة حافلة بالصور المعبرة والمجازات التي تُضفي طابعًا حالمًا على النص، مثل (يتلفت بين الكلمات والحرية تتدفق من أذني كالنمل)، مما يعكس ضياع الذات في بحر من الأفكار والذكريات. المفردات توحي بالصراع الداخلي بين الرغبة في الخلاص من الغياب والواقع المؤلم الذي يعيشه الشاعر.

البنية والإيقاع:

القصيدة تتميز ببنية غير خطية، حيث تنتقل بين الأزمنة والأماكن والأحاسيس بشكل متداخل، مما يعكس التشتت الفكري والعاطفي الذي يعيشه الشاعر. الإيقاع في النص يشبه التدفق المستمر للأفكار والصور، حيث يتنقل الشاعر بين الأمل واليأس، وبين الحركة والثبات، ما يعكس التوتر النفسي والصراع الداخلي.

الخلاصة:

قصيدة (غياب) لأنور غني الموسوي تعبر عن حالة من الانقطاع والفراغ الداخلي، حيث يُظهر الشاعر صراعًا مع الغياب الذي أصبح جزءًا من هويته. الأسلوب السردي المتداخل والصور الشعرية القوية تعمل على تجسيد مشاعر التشتت، العزلة، والألم، مما يجعل النص يحمل ثقلًا عاطفيًا ويغرق القارئ في عمق تجربة الشاعر النفسية.

***

بقلم: كريم عبد الله - العراق

..........................

 غياب

أنا لست ظلاً لامتلك كل ذلك التاريخ العظيم. أطرافي تدفأ بها الحطابون والأحزان أغلقت دكاكين بسمتي، فجعلتني شبحاً أسطورياً ترك رغبة الحياة. ها انا أرى أعشاش الطيور تحملها عربات لا نهاية لها، تغادرني بلا ألم. نعم، للطيور قلب مليء بكل قصة حبيبة.

 هكذا، أذوب في ألمي كأغنية فلاح تنبت بين القمح. حقيبتي تفيض بالغائبين، ليس لدي سوى ركبتين تلامسان وجه الأرض. ليس لدي سوى الأشواك التي تلتهم مفاصلي، تنحني حول حلمي كبائع لبن بارد في صباحات الشتاء. عندما يصبح الغياب إشراقًة، وعندما تتنكر الكلمات لثيابها، فاعلم أنك تنظر إلى ليلة زفاف تفيض بالجفاف مليئة بمسامير صدئة، لا تعرف شيئاً عن الحضارة، عيناها أوراق من المطر تصنع من قلقها عكازاً متعباً تغرق قدماه في الوحل. في أحضان هذا الغياب، بالكاد أستطيع التمييز بين وجه الأرض وأجزاء من كتفي أتفاخر بأنها راقية. نعم، يجب أن يكون لدي جميع كلمات البحر عندما أتحدث عن الغياب داخلي.  فمي يتلفت بين الكلمات والحرية تتدفق من أذني كالنمل. انني أتلاشى في بهجة غريبة كعاشق يجر الضوء خلفه فلا يسير. تصور؛ لم يعد بوسعي أن أستحم في الفرات، أو أجد في دمي مركبا أبحر به نحو الشمس.

***

انور غني الموسوي - العراق

 

الأسلوب والصورة الشعرية: القصيدة تعتمد أسلوبًا سرديًا تعبيريًا، مشحونًا بالصور الشعرية الموحية بالحيرة والرهبة. الصورة التي تعكس (خاصرة الرّهبة) تُستخدم لتمثيل مكانة الخوف في الذات، حيث يظهر الشاعر في حالة من الصراع مع الأحلام والواقع. استخدام صورة (الغراب) في إشارة إلى (إدغار) يعزز من الرعب والقلق، ويخلق جوًا يشبع القارئ بتوتر دائم بين اليقظة والكوابيس.

الرمزية والتشبيه:

الرمزية حاضرة بقوة في النص، مثل (غراب إدغار) الذي يمثل الموت أو الخوف الداكن. كما أن (القارب المهترئ) و(شظايا اللاإنسانية) تعبران عن حالة ضعف وعدم الأمان، مما يعكس حالة انهيار الذات أمام قوى خارجة عن إرادتها. الرمزية تعمل على تكثيف المعنى وتحمل مشاعر من العجز والهزيمة.

التكرار والدلالات العاطفية:

تكرار الأسئلة الاستفهامية مثل (لم؟ كيف؟ متى؟ أين؟) يعزز من حالة الشك والضياع التي تعيشها الشاعرة. التكرار هنا يوحي بتأزم داخلي مستمر، حيث تحاصر الأسئلة الذهن ولا تجد إجابة شافية، مما يُعمق الشعور بالفراغ والعجز.

اللغة والمفردات:

اللغة في القصيدة تنطوي على شحنة عاطفية قوية ومفردات معبرة مثل (تسربل) و(التأتآت) و(جثث نازفة). هذه الكلمات تؤكد على معاناة الشاعر الداخلية والصدمة العاطفية التي يمر بها. كما أن استخدام مفردات مثل (شظايا اللاإنسانيّة) و(شريعة الغاب) تعكس الوضع الاجتماعي أو السياسي المليء بالعنف والاضطراب.

البنية والإيقاع:

البنية تتميز بالازدواجية بين الواقع والخيال، حيث يقتحم الكابوس عالم اليقظة. الجمل الطويلة والمتناثرة تُبنى بشكل يخلق حالة من التيه والضياع، مما يعكس التشتت الذهني والمشاعر المتباينة في النص. الإيقاع يعكس الاضطراب الداخلي من خلال التفكك في العبارة والتسلسل المتسارع للأحداث.

الخلاصة:

قصيدة (خاصرةُ الرّهبةِ) لسامية خليفة تُعبّر عن تجربة نفسية مليئة بالتوتر والضياع، حيث تتداخل الأسئلة مع الكوابيس لتُظهِر معاناة شخصية تتأرجح بين الواقع والخيال. اللغة المشحونة بالصور الرمزية تُعمق الانطباع بالاضطراب والقلق، ويعكس التكرار البارز حالة من العجز الداخلي والبحث عن إجابات لا تجد لها مخرجًا.

***

بقلم: كريم عبد الله - العراق

.......................

خاصرةُ الرّهبةِ

لا أدري هل أنا وحدي فقط منْ تتسربلُ بي الأحلامُ لتكملَ أحداثَها في اليقظةِ كما يشاءُ لها؟

كلّما أهربُ من ليالي الصّقيعِ، المرتعدةُ فرائصُها، تلاحقني ليلةٌ نابحٌ كابوسُها، جاثمٌ الرعبُ على عتبتِها كما جثمَ غرابُ إدغار فوقَ بابِ حجرتِه، أرتعشُ فتحوطُني الرّؤيا بأسئلتِها المستفزّةِ المتدفّقةِ من خاصرةِ  الرّهبة أمواجًا لأراني على سفرٍ بقاربٍ مهترئةٍ أخشابُه، أجذّفُ به عبثًا. التأتآتُ تفرقعُ في حنجرتي، تخرج منها الأسئلةُ جريحةً مدماةً، لمَ؟ كيف؟ متى؟ أين، وغيرها، كلّها ماتتْ بعدما شعرتْ بالخزيِ، قد ضاعتْ قيمتُها فلم تلدْ إثرَها أيُّ إجابةٍ تشفي الغليلَ، ومَنْ هم خلفي تركتهم جثثا نازفةً، أو محترقةً ، هؤلاء لم تصبْهم شظايا تأتآتي، بل أصابتهم شظايا اللّاإنسانيّة المغمسة بشريعة الغاب، ذلك هو كابوسي الذي يعرضُ في مسرحياتٍ كلما وصل المتفرجون إلى مشهديّة الجثثِ منهم من يقهقهُ، من يستهزئ ، منهم من يصرخ أو يبكي، ومنهم من يصمت.

***

سامية خليفة/ لبنان

 

تدخل رواية "فرصة ثانية" للكاتبة صباح بشير في مضمار الرّواية الواقعيّة الاجتماعيّة. ومَن قرأ روايتها الأولى "رحلة إلى ذات امرأة"، يلاحظ بسهولة إصرار الكاتبة على التّشبّث بالاتّجاه الواقعيّ في الكتابة كاختيار تعبيريّ يتلاءم وتصوّراتها الإبداعيّة والفكريّة ويخدم هذه التّصوّرات.

في هذه الرّواية، تقدّم لنا الكاتبة نصًّا روائيًّا مميّزًا يحكي عن العلاقات الاجتماعيّة والإنسانيّة عبر شخصيّات واقعيّة، بل هي شخصيّات حقيقيّة موجودة خارج الكتاب، لفتت انتباه الكاتبة وسكنت ذاكرتها، فأرادت الكتابة عنها، ومشاركة ما تكتب مع القارئ.

توزّع الكاتبة شخصيّاتها على مشاهد متعدّدة في الرّواية بأسلوب سرديّ هادئ وسلس، يتميّز بالدّقّة في رسم تفاصيل الأحداث والمشاهد المرويّة لتنقل ملامح العالم الواقعيّ لهذه الشّخصيّات، وانعكاسات هذه الأحداث على مسارات حياتهم العمليّة والفكريّة والاجتماعيّة والعاطفيّة. فنراهم كما تقول الكاتبة: "يصارعون لإعادة بناء حياتهم بعد تجارب وخيبات الماضي، باحثين عن فرصة ثانية للتّغيير، وإعادة اكتشاف الذّات في رحلة وجوديّة تتقاطع فيها مسارات الحبّ والألم والأمل". (مقابلة مع الكاتبة)882 sabah basheer

تدور أحداث الرّواية حول ثلاثة أصدقاء: مصطفى، عبد الله وإبراهيم، يعيشون في مدينة حيفا. وتبدأ الرّواية بمشهد تفاؤليّ يتمثّل بولادة طفل جديد. ولكن، سرعان ما يتّجه المشهد نحو التّأزّم في موت الأمّ "فاتن". هذا الموت الذي كان وقعه صعبًا على الجميع: زوجها، والديها وأختها "هدى". ويظهر "مصطفى" الزّوج المحبّ والمخلص، وقد وقع عليه خبر موت زوجته كالصّاعقة: "انهار مصطفى تحت وطأة الخبر، فالصّدمة رجّت كلّ كيانه، وتحوّل جسده إلى كتلة من الجليد، أطبق عينيه، ليستردّ أنفاسه، وبدا كمن فقد القدرة على التّفكير أو الحركة أو الكلام" (ص 17). ففاتن لم تكن "مجرّد زوجة بالنّسبة له، بل كانت جزءًا من روحه" (ص 190)، إذ "كان يرى في عينيها النور، يستمدّ من ابتسامتها شمس يومه، ويجد في حضنها دفء الأمان". والكاتبة، حقيقة، تبدع في وصف حزن مصطفى ومدى معاناته لفقدان زوجته، وتنجح في جعل القارئ يتعاطف معه ويشاركه حزنه ويتألّم لألمه. ونراها تسهب في وصف تخوّفاته وتخبّطاته وصعوبة تكيّفه مع حياته الجديدة، وتشبّثه بذكرياته مع زوجته يناجيها ويسترجع أيّامهما السّعيدة. فقد كان "في كلّ زاوية يرى صورتها، وفي كلّ صوت يسمع صدى صوتها، وفي كلّ رائحة يشمّ عطرها، يزور قبرها كلّ يوم ]...[ ويخبرها كم يفتقدها ويشتاق إليها" (ص 28). ولم يخفّف مكان العمل واكتظاظه بالأشخاص، شعوره هذا بالألم والوحدة. وهنا تدخل شخصيّة "سناء" سكرتيرته التي تحاول استغلال هذا الظّرف والتقرّب منه، إلّا أنّه يرفض أن تخرج علاقتهما عن إطار العمل ويقاوم انجذابه لها حتى يضعف. ونجد الكاتبة تهتمّ أن توضّح أنّ ما دفعه إلى هذه العلاقة ليس الحبّ وإنّما الرّغبة، وهذه الرّغبة هي في الواقع رغبته بفاتن وافتقاده لها: " فما يجمعه معها ليس إلّا رغبة تشتعل وتخبو، كوهج النار يتراقص في الظلام، أمّا الحبّ فهو شيء آخر" (ص 79)، وأنّ هذه العلاقة لم تكن "إلّا ملاذًا من وحدته وبلسمًا يخفّف من آلامه. ففي عيني سناء، لم يجد سوى انعكاس لخيبة أمله، وصورة مشوّهة لفاتن وذكريات محطّمة" (ص 80).

اختار مصطفى اسم "يحيى" لمولوده ليحمل معنى الحياة والأمل، وكأنّه بذلك "يحيي ذكرى حبيبته ويخلّد حبّهما الأبديّ" (ص 26). ويرمز الطّفل المولود إلى الأمل في هذا الظّرف الصّعب. وكما يظهر في المشهد الأخير من الرّواية، يحيى هو الرّابط بين شخصيّات الرّواية والجامع بينها على مشاعر المحبّة والألفة والتّسامح. وقد أخذت "هدى"، أخت فاتن، عهدًا على نفسها أن تعتني به وتربّيه. وهدى، بصفة عامّة، هي الرّاوي العليم بكلّ شيء في الرّواية. فتاة لم تتجاوز التّاسعة عشرة من عمرها، تصفها الكاتبة بأنّها شابّه طيّبة، حنونة ولديها الكثير من الأحلام والطّموحات. هذا الوصف الذي يتعارض مع زواجها من مصطفى لاحقًا، وفي الوقت ذاته، يُبرز حجم التّضحية من قبلها من أجل مصلحة الطّفل المولود. ثمّ تسرد الكاتبة عبر صفحات كثيرة تخبّطات كلا الطّرفين إزاء هذا الزّواج، ومن ثمّ اقتناعهما، وكيف عاشا كصديقين/أخوين في بداية حياتهما الزّوجيّة، وصبر هدى على مصطفى، ومن ثمّ نقطة التّحوّل في العلاقة بينهما حين رآها مصطفى في الجامعة جالسة مع زميلها في الدّراسة، لتتّخذ الحياة الزّوجيّة بعد ذلك مسارها الطّبيعيّ. ويلاحظ القارئ أنّ الكاتبة، وعلى امتداد الرّواية، تهتمّ بإظهار هدى بصورة إيجابيّة وهي تلقي بظلال شخصيّتها الحنونة على الشّخصيّات المحيطة بها والمواقف والأحداث.

"عبد الله"، شقيق مصطفى، يسكن مع زوجته "لبنى" في الطّابق السّفليّ من البناية نفسها التي يسكن فيها مصطفى ووالدته. ينكشف القارئ على الأزمة الزّوجيّة التي يعاني منها عبد الله في المشهد الذي يعود فيه من عمله الى البيت ولا يجد طعامًا، بل نظرات لا مبالية من زوجته. وتظهر لبنى في الرّواية زوجة أنانيّة، مهملة لبيتها ولزوجها، تعامل زوجها بقسوة وجفاء، لا تخبره بوقت خروجها من البيت ولا بموعد عودتها. وفي المقابل، يظهر عبد الله الزّوج الصّبور، القادر على التحكّم بمشاعره وكتم غضبه، وهو متسامح و "طويل روح" إلى درجة تستفزّ القارئ. نراه يعتذر دائمًا بعد كلّ مشادّة كلاميّة بينهما لأنّه "يدرك أنّ النّقاش معها أشبه بمعركة خاسرة، فطبعها الجدل حتى تخرج منتصرة... يختار الصّمت كسلاح أخير يخمد به نيران الجدل، ويحافظ على ما تبقّى من دفء العلاقة" (ص 93). ولعلّ المشهد الذي ترسمه الكاتبة وتُظهر فيه الاهتمامات المختلفة تمامًا لكلّ منهما ص 152، يجعل القارئ يقف على عمق الشّرخ في هذه العلاقة حيث لا تواصل بينهما ولا حوار بتاتًا. أمّا جملة لبنى: "لتفهم، أنا لا أحبّ الثوم، ولن أقوم بطهي أيّ أكلة لا تروق لي"، فتكشف للقارئ عن العقدة النّفسيّة التي تعاني منها الشّخصيّة، وفي الوقت ذاته، عن قدرة الكاتبة على إحداث هذا التّداخل بين الاجتماعيّ والنّفسيّ بمهارة ووعي. فهذه الإجابة تختزن بين طيّاتها مشاعر متراكمة من القهر والكبت والغضب. وبالتّالي، تحمل دلالات أعمق وأقسى ممّا تظهر عليه من بساطة وعاديّة. فلبنى عمليًّا تقول: لن أقوم بفعل ما لا أريد وما لا أرغب! ولن يُجبرني أحد على ذلك! وهذا ما يتأكّد للقارئ بعد معرفته أنّ زواجها من عبد الله كان ملاذًا لها من القيود الصّارمة التي يفرضها والداها، وأنّ تصرّفاتها وسلوكها هذا تجاه زوجها قد دفعها إليه الخوف من فقدان ما تملك من حريّة في حياتها الزّوجيّة والعودة إلى حياتها الكئيبة السّابقة.

الدكتور "إبراهيم"، الشّخصيّة الرّئيسيّة الثّالثة، طبيب أسنان يسكن في مدينة حيفا. تخبرنا الكاتبة بأنّه تزوّج مرّتين وفشل وأثّر ذلك على نفسيّته، خلافًا لما يتظاهر به أمام أصدقائه ومرضاه من روح الفكاهة والمرح. فهو في قرارة نفسه، يحارب شعورًا داخليًّا بالفراغ والوحدة ويشعر بالخوف من تكرار تجربة الزّواج، وبات مقتنعًا أنّ السّعادة لا تأتي من الزّواج فقط، بل من الإيمان بالنّفس والعمل المخلص ومساعدة الآخرين. وأصبح يرى أنّ العلاقات بين الرّجال والنّساء قائمة على المصالح والاحتياجات، وأنّ الحبّ الحقيقيّ خرافة لا وجود له في الواقع. فالزّواج بحسب رأيه "قفص ذهبيّ، يحبس فيه الرّجل حرّيّته، ويقيّد مشاعره وأحلامه" (ص 59). والحبّ في نظره هو "وهم سراب، ينبعث من ينابيع الأمل المتدفّقة، لكنّه سرعان ما ينضب، مبقيًا وراءه واقعًا مرًّا من الخيبة والألم" (ص 59). ولأنّ الكاتبة ترفض اتّخاذ مثل هذه المواقف لمجرّد فشل في علاقة أو أكثر، ولأنّها تؤمن بفتح أبواب القلب وإتاحة الفرص الثّانية، نراها توظّف شخصيّة "نهاية" التي تعاني، كما تصفها، من وحدة امرأة مستقلّة. تسكن في البناية نفسها التي يسكنها إبراهيم، وتتطوّر صداقة بين الاثنين خلال التقائهما في مصعد البناية. ويبدو أنّ نهاية أبدت تودّدًا له خلال هذه اللّقاءات، الأمر الذي يُفسّر شعوره بالرّاحة التامّة في أن يطرق باب بيتها لاحقًا، فتتحوّل الصّداقة بينهما إلى حبّ، وتطلب نهاية منه الزّواج ويرفض، فتتركه ليعود وحيدًا ضائعًا وتائهًا، حتى يقرّر أخيرًا "أن يفتح أبواب القلب والعقل معًا، وأن يواجه الحياة بكلّ ما فيها من تحدّيات وفرص، وينطلق نحو حبيبته نهاية" (ص 151).

تتمكّن الكاتبة عبر هذا الطّرح، من أن تجذب انتباه القارئ إلى واقع العمل الرّوائيّ في سياقه الخاصّ، بينما تكشف في الوقت ذاته عن أغوار الشّخصيّة الرّوائيّة وأزماتها الحياتيّة أو نجاحاتها في تخطّي المآزق والخيبات التي تتعرّض لها. كذلك، فإنّ المشاهد اليوميّة التي تصوّرها الكاتبة في حياة شخصيّات روايتها، تثبت أنّها تمتلك قدرة مميّزة تمكّنها من أن تطلّ على المشهد الحياتيّ اليوميّ كي ترصده إبداعيًّا بكلّ ما يحتويه من نوازع وتجارب متنوّعة. كذلك، برأينا، أنّ أكثر ما يشدّ القارئ إلى الرّواية هو هذه الصّراحة المطلقة التي نلمسها في تصوير الشّخصيّات ومواقفهم في الماضي والحاضر، والجرأة في عرض سلوكهم وأفكارهم، والتّعبير بصدق عن قلق الشّخصيّة وعدم استقرارها النّفسيّ والاجتماعيّ. بالإضافة إلى المصداقيّة في العمل والتي تنبع من العلاقة القويّة بين صباح بشير ونصّها. فكثيرًا ما تتحدّث الشّخصيّات بلغة الكاتبة وتنقل أفكارها وآراءها التي هي غالبًا الرّسائل والقيم والنّصائح التي تبثّها الرّواية مثل: لا يمكن للإنسان أن يقرّر أنّه لن يحبّ مرّة أخرى. لا تحكم على نفسك بالوحدة، أبق الأبواب مفتوحة "ففي كلّ قلب مغلق، هناك مساحة واسعة للحبّ، تنتظر فقط مَن يفتح لها الباب لاستقبال الفرص" (ص 258)، "من واجبنا الاستماع إلى وجهات نظر كلا الطّرفين ]...[ الحوار البنّاء هو السّبيل الوحيد لفهم الحقيقة وإيجاد حلّ للمشكلة" (ص 249)، وجوب عدم التسرّع في اتّخاذ قرار الطّلاق وضرورة إعادة النّظر فيه: "الحياة الزوجيّة مليئة بالتحدّيات، لكن.. بالحبّ والصّبر يمكن التغلّب على أي عقبة" (ص 251)، " الحبّ الحقيقيّ مواقف ثابتة تبرهن على الاهتمام بسعادة الشريك واحتياجاته. الزواج ليس مجرّد عقد قانونيّ، بل هو شراكة مقدّسة تُبنى على أسس راسخة من التضحية والإخلاص والتفاهم والاحترام والثقة" (ص 208). "تذكّري يا هدى أنّ الكلمة الناعمة تلامس القلوب قبل الآذان، وأنّ رقّة الأسلوب تذيب أشدّ القلوب قسوة. فكوني كالفراشة الرقيقة التي ترفرف بأجنحتها الجميلة، تاركة وراءها أثرًا من سحر وبهاء" (ص 199). كذلك، كلّ هذا التّركيز على مسألة الأمومة نابع من داخل صباح، من شخصها. تقول: "في الحقيقة، كلّ أم هي عالم خاصّ بحدّ ذاته، لها رائحة فريدة تعبّر عن شخصيّتها وحنانها وحبّها، تعيش في ذاكرة أطفالها للأبد. تلك الرّائحة ليست مجرّد شعور حسيّ فحسب، بل هي لغة تخاطب الرّوح والقلب، تعبّر عن مشاعر لا تُقال بالكلمات، لغة الحبّ والحنان والتّضحية التي تلامس أرقّ المشاعر الإنسانيّة" (ص 50). صباح بشير في الحقيقة أمّ حنون وكلامها صادق ونابع من شعورها العميق بالأمومة نحو بناتها.

لا بدّ أن يلاحظ القارئ أيضًا، أنّ المرأة تلعب في الرّواية دورًا حيويًّا وهامًّا، وذلك من خلال موقعها الفعليّ في واقع الرّواية المعيش، سواء أكانت أمًّا أو أختًا أو زوجة. فبصفة عامّة، تمّ النّظر الى المرأة في الرّواية على أنّها جزء مُتمِّم للحياة ومبعث للاستقرار والاستمرار. كما تمثّل في دور هدى ونهاية ولبنى، ووالدة مصطفى ودورها الهامّ في إقناعه بالزّواج من هدى ودفع أحداث الرّواية إلى الأمام في سياقها الإيجابيّ.

نقاط في الرّواية لا بدّ من الإشارة إليها:

- القيمة الأخلاقيّة والنّزعة الإنسانيّة في العمل: في مواضع كثيرة من الرّواية نجد الطّرح يتطلّع الى سموّ الإنسان واكتسابه القيم الأخلاقيّة، وإلى أهميّة توطيد روابط المحبّة والتّقارب الإنسانيّ. رأينا أنّ حياة أبطال الرّواية تشتمل على لحظات محبّة صافية، وتعاطف إنسانيّ بليغ وغامر. فلم يعِن مصطفى على تحمّل ألم فقد زوجته سوى التّضامن والدّعم الذي وجده داخل العائلة: من أمّه ومن الأصدقاء. كذلك، أهميّة التّسامح ومنح أنفسنا والآخرين فرصة ثانية. بالإضافة إلى قيمة التّضحية البارزة في الرّواية من خلال شخصيّتي هدى ومصطفى وهدى بالذّات، كذلك من خلال شخصيّة عبد الله. فحياة الإنسان تتطلّب التّضحيات كي تستمرّ، والحياة المشتركة تستحقّ التّضحية ومنحها فرصة ثانية.

- قيمة الصّداقة ودور الصّديق الهامّ خاصّة في الظّروف الصّعبة، وكيف تربط الأصدقاء وتجمعهم اهتمامات وأحلام وأفكار وطموحات مشتركة.

- علاقات النَّسَب المبنيّة على الاحترام والتّفاهم ومعرفة الواجب والالتزام ممثّلة بأهل هدى وأهل مصطفى.

- تقدّم الرّواية صورة مشرقة عن السّلائف، عكس الشّائع والمعروف ممثّلة بعلاقة هدى ولبنى: "حكاية هدى ولبنى، حكاية سلائف أزهرت صداقة نابعة من القلب، وأثبتت أنّ العلاقة بين السلائف ليست بالضرورة صراعًا محتّمًا". (ص 198).

- الدّعوة إلى التّفاؤل والتّسلّح بالأمل. فما يلفت انتباه القارئ هو عدم سماح الكاتبة بسيطرة الحزن أو اليأس على أيّ موقف، بل يجدها تبثّ شعاعًا من الأمل وتفتح نافذة للتّفاؤل عبر رسمها شخصيّات متمسّكة بالأمل وغير مستسلمة للحزن، كما في قول هدى مثلًا: "أتمسّك بالأمل، وأعرف أنّ الحياة لا تزال أمامنا، وأنّ علينا إكمال مسيرنا من أجل هذا الطفل" (ص 51). وفي وصف تخطّي مصطفى لحزنه: "انسلّ من عزلته رويدًا رويدًا، مدّ يده إلى الحياة مرّة أخرى باحثًا عن شعاع الأمل، رسم ابتسامة على شفتيه مخاطبًا السماء بكلمات صامتة، تعبّر عن إيمانه بالأمل المختبئ بين ثنايا الصبر" (ص 63).

كذلك، نجد الكاتبة تفتتح كلّ صباح بتفاؤل حتى لو كانت شخصيّات المشهد تشعر بالحزن والكآبة: "يطلّ الصباح بنوره الذهبيّ مخترقًا العتمة" (ص 40)، "تطلّ شمس الصباح على المعرض، حاملة معها نسائم جديدة من التحدّيات" (ص 45)، "تشرق الشمس دافئة على منزل والدي هدى" (ص 60)، "تسطع الشمس وتعانق شرفة بيت عبد الله ولبنى" (ص 91). وكأنّ الكاتبة تبحث عن نور الأمل وسط الظّلام وتصرّ على ضرورة إبراز الجانب المشرق للحياة.

تطرح الرّواية كذلك أسئلة جادّة عن مسائل وظواهر اجتماعيّة على نحو يستفزّ القارئ ويدفعه إلى أن يفكّر في تلك الأسئلة، فيرى هذه المسائل بنظرة جديدة أعمق وبفهم أفضل. مثل: "هل يستحق الزواج الحفاظ عليه، إن لم يجلب لنا السعادة التي نستحقّها؟" (ص 203)، "ألا يُفترض أن يكون الزواج ملجأ للحبّ والحنان، وملاذًا من قسوة الحياة وضغوطاتها؟" (ص 157). كذلك، مسألة فارق العمر الكبير بين الزّوجين: مع/ضدّ؟ مسألة الزّواج بالإقناع وإلحاح الأهل والحديث كلّ الوقت عن وجوب التّضحية من أجل يحيى. وماذا مع تضحية هدى؟ مصطفى يكبرها بخمسة عشر عامًا، كان متزوّجًا، وهو سيعيش مع شابّة صغيرة جميلة وحنونة على ابنه. وهل يتوجّب على المرأة أن تكون هي المضحّيّة الأكبر في هذه المسألة؟

- أسئلة قد يطرحها القارئ العربيّ الشّرقيّ المحافظ حول "نهاية" حتى لو كانت ابنة مدينة حيفا: ما قصّتها؟ لماذا تسكن بمفردها؟

- الصّداقة بين الجنسين: المرأة والرّجل؟ إبراهيم ونهاية! هل نؤمن بها؟

- ضيق القارئ بطول صبر عبد الله وبتكرار الكاتبة لوصف معاناته، في الوقت الذي يتوقّع فيه أن يرى منه موقفًا حازمًا تجاه زوجته. هذا الموقف جاء ولكن متأخّرًا.

نقاط هامّة أخرى طرحتها الرّواية:

- خطورة الفيسبوك ووسائل التّواصل الاجتماعيّ بصفة عامّة. قد تشوّه سمعة أناس وتدمّر حياتهم. وهنا تدخل أهمّيّة الثّقة بين الأشخاص، على اختلاف طابع العلاقة التي تربطهم سواء زواج أو صداقة أو عمل. فقد رأينا أنّ ثقة مصطفى بأخلاق هدى حالت دون نجاح سناء في تحقيق مآربها.

- ظاهرة تبلّي النّساء على الرّجال واتّهامهم بالتّحرّش: إبراهيم وإحدى زبوناته (ص54-55). ممكن أن تدمّر حياة الرّجل وتُفقده مهنته.

- أنانيّة الرّجل التي ظهرت في شخص مصطفى حين شكّك بعلاقة الزّمالة بين هدى وموسى، في الوقت الذي كان فيه مهملًا لها وهي صابرة على إهماله وهجره. (ص 229). بالمقابل، تظهر شخصيّة المرأة القويّة، الواثقة بنفسها والحاسمة في قراراتها في ردّ هدى على شكّه بأخلاقها وسلوكها: "لتعلم أنّني لست ضعيفة أو خاضعة، ولن أسمح لأيّ أحد مهما كان أن يسيء معاملتي، وإن لم تحترمني وتقدّر مشاعري، فلن يكون لك مكان في حياتي" (ص 230).

وبعد،

تَعتبر الكاتبة صباح بشير الرّواية عالمها الخاصّ حيث تطلق العنان لخيالها، وتخلق الشخوص وتبني عوالم جديدة، وتعيش مع أبطالها مغامراتهم. تقول: "إنّها الفضاء الذي أمارس فيه حريّتي في التّعبير بلا قيود، ألامس فيه أعمق مشاعر الإنسان". وهي تدرك جيّدًا أنّ الطريق طويلة لامتلاك معرفة عميقة بأصول الفنّ الرّوائيّ وأسرار الإبداع الأدبيّ. وعليه، فإنّ خلاصة العطر عند صباح بشير، في روايتها هذه، لم نرها بعد. علمًا أنّ تطوّرًا كبيرًا شهدناه في هذه الرّواية مقارنة بروايتها الأولى. وهذا ما يثبت أنّ الكاتبة تشتغل على رؤيتها الإبداعيّة وتطوير أدواتها بما يتناسب وتطوّر الحركة الإبداعيّة الرّوائيّة. فبغضّ النّظر عن بعض الهنّات التي قد يجدها القارئ هنا وهناك، فإنّ رواية "فرصة ثانية" قويّة بمبناها الفنيّ المتماسك وبلغتها الشّاعريّة الجميلة، وبجعلنا نرقب حركة شخصيّاتها ونتعرّف إلى أعماق النّفس الإنسانيّة ونزعات الفرد وصراع الرّغبات والأفكار، ممّا يجعل من هذه الرّواية عملًا إبداعيًّا هامًّا لا يقتصر تأثيره في القارئ ومخاطبته إيّاه على المسائل المطروحة بين صفحاته فحسب، وإنّما ينطلق به إلى قضايا اجتماعيّة وإنسانيّة أخرى، ويحثّنا على تأمّل الواقع المعيش والإفادة من تجارب الماضي، وطرح الأسئلة الموجعة ومواجهة أنفسنا بها وضرورة التّقدّم إلى الأمام وفتح نوافذ الأمل وإتاحة الفرص الثّانية. هذه الرّواية، بطرحها الاجتماعيّ والإنسانيّ، تدعو الى المحبّة والتّسامح والتّصالح مع النّفس والتآلف مع الآخر. وهي، بدون شكّ، تترك القارئ في حالة لم يكن عليها قبل فعل القراءة. تتركه وقد تملّكه شعور بالتّفاؤل والسّعادة والأمل والرّغبة في الحياة. وهذه المشاعر الجميلة، وهذا الأثر الإيجابيّ القويّ والعميق الذي تتركه فينا الرّواية، يُحسب للكاتبة ويجعلنا مدينين لها بكلّ هذا الجمال.

***

د. رباب سرحان

القصة القصيرة، هي قصة تنتمي إلى الأدب القصصي، وتتميز باختصارها وإيحاءاتها العميقة واكتفائها بعدد قليل من الشخصيات ومكان واحد وزمان محدود. وتهدف القصة القصيرة إلى إيصال فكرة معينة، أو إثارة إحساس معين لدى القارئ في وقت قصير.

"وسيلة أمين سامي" قاصة شابة من اليمن السعيد، اهتمت بالكتابة منذ عام (2012)، امتلكت أدوات القص لغةَ وأسلوباً وفكرةً، فكتبت في مجالات عدّة قصصها القصيرة، الأمر الذي جعلها تفرض حضورها الأدبي في بلدها اليمن أولاً، وعند العديد من كتاب القصة والمهتمين بالأدب في عالمنا العربي، هاجسها الكبير انصب على قضايا اليمن وفلسطين والإنسان. فراح العديد من المهتمين بالتذوق الأدبي أو نقده يساهم في نشر قصصها على الكثير من صحف ومجلات الشأن الأدبي. حيث نشرت لها جريدة الدستور العراقيّة، وجريدة منبر التحرير المصريّة، وجريدة الأسبوع الأدبي لتحاد الكتاب العرب في سوريّة، والعديد من الجرائد والمجلات العربيّة. كما نشر لها العديد من المواقع الالكترونيّة العربيّة مثل الحوار نيوز في لبنان، وساحة التحرير في العراق، ونشرة المحرر في المغرب العربي، وصحيفة المثقف في المهجر، والسياسي في الأردن، وهناك موقع تللسقف في العراق. وغيرها. بل أن هناك من راح يترجم لها بعض قصصها إلى اللغة الانكليزيّة. وللقاصة مجموعة قصصيّة واحدة مطبوعة حتى الآن. ولديها محاولات شعريّة جميلة

في تواصل جرى بيننا اقترحت عليها أن أجري لها دراسة نقديّة على بعض قصصها، ولا أقول أعمالها فكانت استجابتها سريعة، علما أنني قد قمت بإرسال أحد قصصها الابداعيّة (دافنشي)إلى مجلة "الأسبوع الأدبي" لاتحاد الكتاب العرب في سورية، فكانت الاستجابة سريعة في النشر من قبل المعنيين بشأن مجلة "الأسبوع الأدبي".

أرسلت لي القاصة المبدعة "وسيلة" قصتين من نتاجها لتكون محط دراستي لها وهي:

1- ثلاث ساعات.

2- الغريب.

العتبات السيميائيّة في عنواني قصتيها ورموزها:

في عنوان قصتها الأولى (ثلاث ساعات)، يحمل دلات تحولات نفسيّة وأخلاقيّة وقيم نبيلة، تتركها فتاة جميلة كاسمها (كوثر) في مواقف لص شبه متشرد هو محمود بطل قصتها، جعلته، يفيض بمشاعر دافئة راحت معها روحه تعرج بمحاريب وضاءة من سَحَر إلى سماء الطهر والنقاء.

وفي قصتها (الغريب): دلالة عميقة في مضمونها أيضاً، وهي تشير إلى الفلسطيني الذي حمل قدر مأساته بكل ما تحمله من قهر وجوع وتشرد ليجد نفسه دائماً يعيش الغربة في عالم فقد الأحاسيس الإنسانيّة بهذه المأساة.

البنية السرديّة في قصتي (ثلاث ساعات والغريب):

في بنية قصتها الأولى (ثلاث ساعات): نجد القاصة " وسيلة تسلط الضوء على رجل حرمته الحياة لذتها بسبب الحرب، فتحول إلى شبه لص يبحث عن لقمة عيش ومكان هادئ تحت ركام ما خلفته الحرب بكل جنونها.

(الثانية عشر منتصف الليل، كان يسير بخطى وئيدة، مشتملاً قتامةَ روحه، يشق عباب نقمته المسفوحة فوق ملامحه المكفهرة، يركل كل ما يصادفه أمامه باستياء مرير.

وقف قبالة منزل أدرك أنه تعرض لقصف صاروخي، الظلام يلف المكان، أغلب أهالي الحي النائي نزحوا من مساكنهم بعد القصف.

فكر بدخول أحد المنازل.. لكن قبل ذلك دفعه فضوله لاستكشاف ذلك المنزل المهدم جزئياً، تسلل اليه وهو يتلفت يمنة ويسرة بحذر شديد.. ترامى لمسمعه صوت أنين خافت أفزعه، قادم من تحت ركام كثيف في إحدى الزوايا.. حركه شعوره الإنساني الذي حاولت الحرب دفنه، وأيقظ ضميره من غفلته.. تراجع عن فكرة المغادرة، انتابته رغبة جامحة في تقديم المساعدة، وإن كان قد حرم من كل شيء. كانت فتاة (ملاك) أنقدذها من بين الركام وأسعفها إلى المشفى القريبة بعد معاناة فرضها عليمها المناخ الماطر بكل قسوته، وأثناء رحلة العذاب هذه تحركت كل هواجسه الإنسانيّة لتعيد إليه إنسانيته التي وجدها مرة ثانية من خلال انقاذه لهذه الفتاة (كوثر). بهذا الموقف الإنساني تختم "وسيلة قصتها) الرائعة: (أملت عليه رقم جوال أحد أقاربها، أُدخلها المشفى.. انتظر حتى اطمأن لقدوم شخص يسأل عنها.

نظرا لبعضهما نظرة أخيرة طويلة، فاضت مشاعر دافئة صعب البوح بها. الفجر يبتسم في وجه الأفق.. روح محمود تعرج بمحاريب وضاءة من سَحَر إلى سماء الطهر والنقاء.. لوحت له كوثر مودعة، غادر وهو يردد في نفسه: من يدري لعلي ألقاك يوما وأنا الملاك الذي ظننتِه. ثلاثُ ساعاتٍ انصرمت كـأنما قَدَّت لعمره من ضَيِّ الإشراق دهرا.

البنية السرديّة في قصتها الثانية الغريب:

قصة لا تخلوا من الفانتازيا، إلا أنها ليست بعيدة عن عالم معاناة الشعب الفلسطيني الذي يعاني كل أشكال القهر والظلم والجوع والألم والتشرد، فتاة تخرج مع زميلات لها يبحثن عن لقمة عيش في عالم المجهول، عالم فقد كل الأحاسيس الإنسانية. (المكان خال إلا منها ، يغشاه سكون خائف من سكونه... لم يكن لها بد من مواصلة السير.. الطريق وعرة شاقة.. أحجارها  الحادة المتناثرة تخترق حذاءها المتهالك تدمي قدميها. لم يثنها ذلك عن عزمها للوصول لمبتغاها، فهي تمسك وعاءها تمني النفس بالعودة ظافرة بشيء من طعام تسكت به صراخ معدتها وأمها العاجزة التي تنتظرها في مخيم مضرج بأوجاع الشتات.. يلوح في خلدها رغيف شهي لكنه ذاو في مسافات المحال.). لاحت لها أضواء قصر منيف لم تر مثله، تحيط به حديقة غناء، تتدلى من أشجارها بسخاء صنوف من الثمرات والفاكهة.. انتابها الذهول، لم صدق ما تراه:(هل أنا في حلم ؟ كيف لم يصل أحد لهذا القصر وكيف لم يطاله القصف والمدينة قد دمرت، وكيف نجوع وكل هذا الخير ليس ببعيد عنا؟؟.)

نعم هكذا تدور فانتازيا أحلام اليقظة حول قصر مليء بالخيرات هو (فلسطين) الواقع الذي استلبته قوى الغدر من أهله، ورغم ذلك لم يزل هناك من يتمسك به ويعمل على عودته لأهله رغم كل الدماء التي سالت ولم تزل تسيل من أجل استرداده. (هالها ما رأت، كادت تصرخ.. فالرجل نصفه الأيمن من جسده مثخن بجراح تقطر دما، اقشعرت أوصالها، تساءلت: ـ كيف لا يتألم، كيف له الوقوف بهذا الثبات ؟.. لم لا يداوي جراحه ويوقف نزفها؟..أسئلة كثيرة اقتحمت رأسها.. استجمعت قواها وحاولت الدخول.. لكنه منعها.. دعني أدخل... لا.. كان صوته غريبا كأنه آت من البعيد من آخر نقطة في الأفق.. جائعة وأهلي جائعون، أيام مضت ونحن بلا طعام دعني أدخل، من حقنا أن نأخذ شيئا من هذا الخير، نحن في مجاعة، لا يحق لك منعي.

سمح لها أخيراً أن تدخل القصر المليء بالخيرات... أذهلها الغريب الجريح.. ظلت كلماته عالقة في وجدانها.. ترامى لسمعها أصوات رفاقها.. استدارت تناديهم:

ـ أنا هنا.. وقد وجدت طعاما كثيرا سيغني المدينة بأسرها ركضت نحوهم... لكن يا للهول وجدت نفسها مرة أخرى تائهة، رأت جماعة من الناس يتحلقون حول جثة شهيد يزفونه نحو المقبرة... اقتربت منهم، تأملت الشهيد.. هالها ما رأت.. وقع الوعاء من يدها وأخذت تصرخ:

ـ إنه هو.. إنه هو بكوفيته.. بجراحه النازفة. أقسم أنه كان يحدثني قبل قليل.

نعم هو المناضل الفلسطيني الذي لم ولن يمت، وأرواح المناضلين التي تتناسل من رحم الأرض والمعاناة ستبقى تتناسل.

الزمان والمكان في القصتين:

بالرغم من أن القاصة وسيلة يمنيّة المنبت والهوى، إلا أن المكان عندها مفتوح هنا على مجالاته العربيّة، وخاصة فلسطين التي شكلت عندها مكاناً مفتوحاً على كل جغرافيته ودلالاته الإنسانيّة، وهذا ما جعل الزمان لديها أيضاً مفتوحا على دلالاته الإنسانيّة المطلقة والذي تجلى في تركيزها على مسألة الحروب وما تخلفه من دمار للإنسان في كل زمان ومكان،، فالقيم الإنسانيّة النبيلة شكلت عند القاصة وسيلة محطات عديدة ومفتوحة على المطلق.

البعد الفني في قصتي الغريب وثلاث ساعات عند القاصة وسيلة:

هناك الشكل البسيط في تشكيل القصة، يعتمد على عرض الحكاية من خلال السرد والوصف في أسلوب شاعري رقيق وألفاظ غنيّة وصور بلاغية جميلة جاءت مواكبة لأحداث القصة الأمر الذي منحها جمالية خالية من الصنعة والترف السردي أو مجانيته.. وهذا الشكل سهل وممتع لا يقدر عليه إلا الكاتب القدير والمتمرس في الكتابة، والممتلك لقدرات فنية اكتشفها من خلال تجربته الفنية. هذا وقد اعتمدت الوضوح المستمد من عمق الرؤية وعلاقاتها المتينة مع المتلقي، بحيث لا يوجد حاجز بين الكاتبة والمتلقي.

وفي الشكل الفني أيضاً: هناك وصف رائع للشخصيات، يحمل تحليلاً نفسيّاً واجتماعيّاً مستخدماً ألفاظاً سهلة عذبة رقيقة ترتفع بالأسلوب إلى مستوى الشعر. وبالتالي اعتمدت القاصة على الوصف الخالي إلى حد بعيد عن الاسهاب والاستطراد، فكان بناء القصة متماسكاً، والشخصيات مرسومة بدقة سيطر فيها الكاتب على احداث القصة سيطرة تامة. الأمر الذي جعل العمل القصصي مذهلاً،

هذا وقد امتازت القاصة بحسها الفني الرقيق، وذوقها المثقف، ورهافة اللفظ، وبراعة تصوير المواقف التي تكشف عن أبعاد الشخصيات التي رسمتها بدقة، فبرزت أبعادها الاجتماعيّة والنفسيّة والخلقيّة، وكشفت عما تعانيه من صراع مع نفسها، أو مع الآخرين، ولأن هذه الشخصيات سويّة وواعية وعندها ضمير يقظ استطاعت الخروج من أزماتها منتصرة مع نفسها في لحظات الضعف، وهذا أقوى الانتصارات على النفس وعلى الآخرين، لقد جسدت وسيلة في عمليها سلوكاً طبيعيّاً لا افتعال فيه، وبالتالي استطاعت أن تدير الصراع بين الخير والشر حتى يكون الانتصار عبرة للآخرين.. ليؤكد أن الخير الأساس في الإنسان وبه تستمر الحياة والعلاقات بين الناس.

أما بالنسبة لطريقة السرد التي اتبعتها القاصة، فقد اعتمدت على ما يسمى الرؤية من الخلف:

ففي هذه الحالة يكون السارد أكثر معرفة بالشخصيات (أي السارد – الشخصيّة)، هو يعرف ماذا يجري خلف الجدران وفي أعماق البطل وفي ذهنه أو ما يشعر به نفسه، فليس لشخصياته أسرار، إنه سارد عالم بكل شيء وفي كل شيء.

بتعبير آخر: في هذا الأنموذج يكون السارد العالم بكل شيء والحاضر في كل مكان. فالسارد كلي العلم الذي نحن بصدد تحديد إشكالياته. والسارد العليم هنا مثل المؤلف المسرحي الذي يضع بعض «الإرشادات المسرحية» لتأطير العرض المسرحي، وهو أيضاً الذي يعرف كل أحداث القصة وشخصياتها، ما خفي منها، وما ظهر، وهو يتنقل بحرية بين الأزمنة والأمكنة، ويدخل عقول شخصياته ليكشف عن أسرارها وخباياها.

الدلالات الإنسانية في شخصيات قصص وسيلة:

الشخصيات ليست كلها خيرة من حيث المبدأ، ففيها ما هو سيئ كما هو الحال في قصة "ثلاث ساعات" شخصية محمود. بيد أن القاصة بينت ما هي الظروف التي ساهمت في تكوين هذه الشخصيات وخاصة محمود. وهو الإنسان الذي إفقدته الحرب بعض قيمه النبيلة وكاد أن ينحدر إلى الهاوية ويتحول إلى لص لأنه لا يملك القدرة على التحكم في سلوكه أو تفكيره نتيجة عدم الخبرة أو افتقاره الثقافة.

دور الكاتبة في تصوير شخصياتها:

يبدو لنا أن القاصة ذات خبرة عميقة في تصوير أحداث قصصها ورسم شخصياتها. فالكاتب المبدع ذو الخبرة والثقافة العالية يمتلك القدرة على التصوير الدقيق كفنان قدير يمتلك أدواته الفنية والثقافيّة والخبرة الطويلة مع الحياة تمكنه من فهم النفس الإنسانيّة ومعرفة أسرارها وكوامن قوتها وضعفها. وهذا ما تجلى واضحاً في شخصيات القصتين موضوع الدراسة، فهي شخصيات مشبعة بالحس الإنساني والقيمي العال.

أهداف العمل القصصي عند وسيلة:

رؤية أخيرة في الرواية، وطموح الراوي:

أرادت القاصة أن تقدم رؤيتها الخاصة للحياة عبر وسيط فني وجمالي تألفه ويناسب أوتارها النفسيّة والأخلاقيّة والقيميّة والفكريّة والوجدانيّة. وجدت في هذه الرؤية ملامح من تراثها وبيئتها وابداعاتها المحليّة والعربيّة، التي تجسد فيها الخوف من الموت والمجهول، وأحلامها بالعدل والبطولة والحريّة والمساواة.

***

د. عدنان عويّد - كاتب وباحث وناقد من سوريا

 

الأسلوب والصورة الشعرية:

القصيدة تفيض بالصور الشعرية المكثفة والمعبرة، مثل (قطمير القلب) و(يحوط رقبة الحرف) و(موجة غاضبة)، التي تُستخدم لإيصال مشاعر التوتر الداخلي والتمزق العاطفي. هناك توظيف متقن للاستعارات التي تخلق عالمًا شعريًا معقدًا، حيث يتنقل النص بين مشاعر الشوق، الحنين، والتورط في متاهات الألم والحب.

الرمزية والتشبيه:

الرمزية في القصيدة تتمثل في مفردات مثل (صحراء البوح) و(مخادع أفعوانة النص)، مما يخلق شعورًا بالغموض والتداخل بين الواقع والخيال. التورط بين الحب والجسد، والمشاعر المتلاطمة يشكلان محور النص الذي يتغذى على فكرة الانفصال بين الروح والجسد.

التكرار والدلالات العاطفية:

تكرار الفعل (يتجدد) و(يحاول) يعكس المحاولة المستمرة للتواصل والهروب من الواقع، مما يضفي إحساسًا بالعجز واللاجدوى. التكرار هنا يُعزز الصراع الداخلي للشاعرة بين الرغبة والمقاومة، ويُظهر التوتر المستمر في النص.

اللغة والمفردات:

اللغة في القصيدة غنية بالرمزية والمجاز، فمفردات مثل (المعشوقة النزقة) و(أنفاس حبيبها النائم) تحمل دلالات عاطفية مكثفة تُظهر التناقض بين الرغبة والجفاء. كما أن المصطلحات مثل (ألم الحنين) و(الوجع) تعزز الشعور بالحرمان والخذلان، وتُعبّر عن حالة نفسية مليئة بالفراغ العاطفي.

البنية والإيقاع:

البنية في القصيدة تتسم بالتعقيد والترابط بين المعاني المتداخلة، مما يساهم في خلق إيقاع شعري غير مستقر يعكس المد والجزر العاطفي. الفقرات الطويلة والجمل المتلاحقة تجعل من النص مشهدًا شعريًا نابضًا بالألم والحيوية.

الخلاصة:

هذه القصيدة تقدم تجربة شعرية عاطفية مكثفة، حيث تتنقل بين الرغبة، التوق، والحزن، في سرد شعري متشابك مليء بالرمزية والتشبيه. الأسلوب الاستعارتي والتكرار يعكسان حالة صراع داخلي بين الحب والفقد، مما يجعل النص ينبض بالمعاناة والتوق الدائم للحرية العاطفية.

***

بقلم: كريم عبد الله - العراق

..............................

موجةٌ غاضبةٌ

يتجدد نبض الحياة قطمير القلب تخترقه المساحة الهائمة ينوء بثقل الشوق لكنه لا يقوى عليه يلوي عنان التيه يلجم قافية المعنى يحوط رقبة الحرف بجدائل عاشقة مجهولة تشير عيناها لسماء المعاني ينفلت العشق يفوح أثير الروح يعلن التوحد يهيم الشغف جانحاً نحو صحراء البوح مترنماً بواحة تلك المعبودة المتمددة شساعة الأزل يسكنها ألم الحنين الغافي الذي أنهك قلبها ذاك تليد الحب نذير اللهفة نزيه السريرة  تصيح واهنة ترقص على حواف شفرة الوصل الآسن لتنهض من جفوة الزمن تتحول معشوقة نزقة تربض فوق ديمومة الرغبة تجذب أنفاس حبيبها النائم  ذاك المخاتل وقد نام في أحشاء امرأة متطرفة الشهوة غاص حتى نخاع الزيف اشتهى نبرة الأماني ومخدع أفعوانة النص غاب حائرًا يدعو الروح للخروج من جب السطور يحاول الفكاك لكن العناء كبله والبقاء شتت روحه تناثر رذاذ موجة غاضبة تزفر المستحيل تؤم الماء نحو غوث السماء تتعالى حينها أصوات العبث أن انقذوا ما تبقى .

***

عائشة أحمد بازامة – بنغازي / ليبيا

 

الأسلوب والصورة الشعرية: القصيدة تعتمد على أسلوب سردي تأملي يحمل طابعًا فلسفيًا، إذ يستخدم الشاعر الصور الشعرية العميقة مثل (ذاكرة توشحت بالصمت) و(شعاع الشمس الموبوء بالرحيل) لتعبير عن حالة من الرفض والتمرد على الزوال. الصورة هنا تستخدم التناقض بين الصمت والصوت، مما يعكس حالة من الوعي والانتقاد.

الرمزية والمفردات:

الرمزية في النص تتجلى في إشارة (الأحجار) التي قد تمثل الثبات أو العجز أمام العواطف والزمن. كما أن (الصمت) و(الشعاع الموبوء) يعكسان مشاعر الانغلاق والنقد السلبي للواقع الاجتماعي أو التاريخي، حيث الصمت يصبح سلاحًا يواجه (الطغاة).

التكرار والمبالغة:

تكرار فعل (تحفظ) في القصيدة يسلط الضوء على استمرارية الذكريات والمواقف الثابتة في ذاكرة الشاعر. كما أن (تسخر) و(تقهقه) تضيفان طابعًا ساخرًا يحاول تحدي الواقع المفروض، وهو ما يعزز من طبيعة القصيدة التي تحمل مسحة من الانتقاد.

اللغة والمفردات:

اللغة في القصيدة تحمل ثقلًا شعوريًا باستخدام مفردات مثل (الغضاضة) و(العواطف) و(الطغاة)، التي تثير مشاعر من التمرد والاحتجاج على الزمن والمجتمع. هذه المفردات تُبنى بطريقة تجعلها تعكس رفضًا حاسمًا لما هو عاطفي أو عابر.

الزمن والمكان:

الزمن في القصيدة يتأرجح بين الماضي (الذاكرة) والحاضر (الصمت)، في حين أن المكان يُختزل في مفهوم داخلي متمثل في (ذاكرة) الشاعر التي تحكم على الماضي والحاضر معًا.

الخلاصة:

قصيدة (الأحجار) لابن الحاضر تستكشف تعبيرًا شعريًا فلسفيًا حول الذاكرة والرفض، حيث تمثل الأحجار رمزًا للثبات في مواجهة العواطف الزائلة والواقع القاسي. الأسلوب الرمزي والتعبير عن الصمت كأداة مقاومة يعكسان رؤية نقدية للمجتمع والزمن.

***

بقلم: كريم عبدالله - العراق

.......................

الأحجار..

ذاكرة توشحت بالصمت منذ الغضاضة، رفضت الإنجرار وراء العواطف ولذة المواقف الحميمة، كنبؤة صامتة تسخر من شعاع الشمس الموبوء بالرحيل، تقهقه سرا من حتمية الزوال، تحفظ كل الأغاني عن ظهر قلب وترفع عقيرة الصمت في وجه الطغاة.

***

ابن الحاضر

 

من أين يأتي هذا الأدب؟

يأتي الأدب ما بعد الاستعماري او (ما بعد الكولونيالي) من المستعمرات البريطانية السابقة في منطقة البحر الكاريبي وأفريقيا والهند. ويكتب العديد من كتاب ما بعد الاستعمار باللغة الإنجليزية ويركزون على موضوعات مشتركة مثل النضال من أجل الاستقلال والهجرة والهوية الوطنية والولاء والطفولة.

ما هي نظرية ما بعد الكولونيالية؟

نظرية ما بعد الاستعمار هي نظرية أدبية أو نهج نقدي يتعامل مع الأدب المنتج في البلدان التي كانت في السابق، أو هي الآن، مستعمرات لبلدان أخرى. وقد تتعامل أيضًا مع الأدب المكتوب في أو من قبل مواطني البلدان المستعمرة التي تتخذ المستعمرات أو شعوبها موضوعًا لها. وتستند النظرية إلى مفاهيم الاختلاف (او الاخر) والمقاومة. ما بعد الكولونيالية، هي الفترة التاريخية او حالة الأقطار في اعقاب الاستعمار الغربي، ويمكن استخدام مصطلح ما بعد الكولونيالية أيضا لوصف المشروع المتزامن لاستعادة وإعادة التفكير في تاريخ ووكالة الأشخاص الخاضعين لأشكال مختلفة من الامبريالية. تشير ما بعد الكولونيالية الى مستقبل محتمل للتغلب على الاستعمار، ومع ذلك يمكن ان تأتي اشكال جديدة من الهيمنة او التبعية في ضوء هذ التغييرات، بما في ذلك اشكال جديدة من الإمبراطورية العالمية. لا ينبغي الخلط بين ما بعد الكولونيالية والادعاء العام بان العالم الذي نعيش فيه خال من الاستعمار والهيمنة.

 وهناك تعريف لروبرت يونغ حول ما بعد الكولونيالية وهو كالتالي: "في أبسط صوره، فإن ما بعد الكولونيالية هي ببساطة نتاج للخبرة الإنسانية، ولكن الخبرة الإنسانية من النوع الذي لم يتم تسجيله أو تمثيله عادة على أي مستوى مؤسسي. وبشكل أكثر تحديدًا، فهو نتيجة لأصول ثقافية ووطنية مختلفة، والطرق التي يحدد بها لون بشرتك أو مكانك وظروف ميلادك نوع الحياة، المتميزة والممتعة، أو المضطهدة والمستغلة، التي ستحظى بها في هذا العالم. وتتركز اهتمامات ما بعد الاستعمار على مناطق جغرافية كثيفة ظلت غير مرئية إلى حد كبير، ولكنها تثير أو تنطوي على أسئلة حول التاريخ والعرق والهويات الثقافية المعقدة وأسئلة التمثيل واللاجئين والهجرة والفقر والثروة - ولكن أيضًا، وهو أمر مهم، الطاقة والحيوية والديناميكيات الثقافية الإبداعية التي تنشأ بطرق إيجابية للغاية من مثل هذه الظروف الصعبة. تقدم ما بعد الكولونيالية لغة لأولئك الذين ليس لديهم مكان، والذين يبدو أنهم لا ينتمون، ولأولئك الذين لا يُسمح لمعارفهم وتاريخهم ان يكون جزاء من تاريخ العالم. إن هذا الانشغال بالمضطهدين، وبالطبقات الدنيا، وبالأقليات في أي مجتمع، وبهموم أولئك الذين يعيشون أو يأتون من أماكن أخرى، هو الذي يشكل أساس لسياسة ما بعد الكولونيالية ويظل النواة التي تولد قوتها المستمرة."

أصبحت نظرية ما بعد الاستعمار جزءًا من الأدوات النقدية في سبعينيات القرن العشرين، ويرى العديد من الممارسين أن كتاب إدوارد سعيد "الاستشراق" هو العمل التأسيسي.

في إطار الدراسات ما بعد الاستعمارية، هناك العديد من التركيز والمنهجيات: بعض الباحثين ماركسيون، في حين أن آخرين ثقافيون وما بعد بنيويون. ولكن بغض النظر عن منهجهم الفلسفي، فإن الأسئلة تركز دائمًا في الغالب على محنة المستعمرين سابقًا، ونضالاتهم، وانتصاراتهم، وتاريخهم، وقصصهم، وكلها مسترجعة ومفصلة لنبذ السرديات الإمبريالية والاستعمارية التبسيطية حول سكان الاطراف.

هناك أيضًا أولئك الذين يدرسون تأثير الاقتصاد النيوليبرالي على المجتمعات ما بعد الاستعمارية أو المجتمعات الأصلية داخل الدول القومية ما بعد الاستعمارية. وبالتالي، يعتمد هؤلاء الباحثون على المعرفة الشاملة بماركس والماركسية والاقتصاد الكلي والنموذج الاقتصادي النيوليبرالي لفهم طبيعة الاستغلال الذي لا يزال يعمل داخل النظام الاقتصادي العالمي.

بعض القضايا في نظرية ما بعد الكولونيالية:

تتناول نظرية ما بعد الاستعمار قراءة وكتابة الأدب المكتوب في البلدان المستعمرة سابقًا أو حاليًا، أو الأدب المكتوب في البلدان المستعمرة والذي يتناول الاستعمار أو الشعوب المستعمرة. وتركز بشكل خاص على الطريقة التي يشوه بها الأدب من قبل الثقافة المستعمرة تجربة وحقائق الشعوب المستعمرة، ويطبع دونية الشعوب المستعمرة على الأدب من قبل الشعوب المستعمرة والذي يحاول التعبير عن هويتها واستعادة ماضيها في مواجهة الاختلاف الحتمي لهذا الماضي. ويمكن أن يتعامل أيضًا مع الطريقة التي يستولي بها الأدب في البلدان المستعمرة على لغة وصور ومشاهد وتقاليد وما إلى ذلك من البلدان المستعمرة. هنا معالجة لبعض تعقيدات الوضع ما بعد الاستعماري، من حيث وضع الكتابة والقراءة للشعب المستعمر، والشعب المستعمر.

الأدب الذي تناولته الشعوب المستعمرة:

إن نظرية ما بعد الاستعمار مبنية إلى حد كبير حول مفهوم الآخر. ومع ذلك، هناك مشاكل أو تعقيدات تتعلق بمفهوم الآخر، على سبيل المثال: يتضمن الاخر الازدواجية، والهوية والاختلاف، بحيث يتم إنشاء كل آخر، وكل مختلف عن، وكل مستبعد من قبل، بشكل جدلي، ويتضمن قيم ومعنى الثقافة الاستعمارية حتى مع رفضها لسلطتها على التعريف؛  إن المفهوم الغربي للمشرق يستند، كما يزعم عبد الجان محمد، إلى المجاز المانوي (الذي يرى العالم مقسمًا إلى أضداد مستبعدة متبادلة): إذا كان الغرب منظمًا وعقلانيًا وذكوريًا وخيرًا، فإن الشرق فوضوي وغير عقلاني وأنثوي وشرير. إن عكس هذا الاستقطاب ببساطة يعني التواطؤ في قوته الشاملة والمدمرة للهوية (يتم اختزال كل شيء إلى مجموعة من الثنائيات، الأسود أو الأبيض، إلخ)؛ إن الشعوب المستعمرة متنوعة للغاية في طبيعتها وفي تقاليدها، وباعتبارها كائنات في ثقافات فهي مبنية ومتغيرة في الوقت نفسه، وعلى هذا فإن هذه الشعوب وإن كانت قد تكون "مختلفة" عن المستعمرين فإنها تختلف أيضاً عن بعضها البعض وعن ماضيها، ولا ينبغي لنا أن نحصرها في مجموع أو جوهر ـ من خلال مفاهيم مثل الوعي الأسود، والروح الهندية، والثقافة الأصلية، وما إلى ذلك. وكثيراً ما يكون هذا التقسيم والجوهر شكلاً من أشكال الحنين إلى الماضي الذي يستمد إلهامه من فكر المستعمرين، وهو ما يعمل على منح المستعمر إحساساً بوحدة ثقافته في حين يربك ثقافات الآخرين؛ وكما لاحظ جون فرو، فإن هذا يشكل خلقاً لواحد أسطوري من بين العديد من الثقافات... وسوف تكون الشعوب المستعمرة أيضاً مختلفة عن ماضيها، الذي يمكن استعادته ولكن لا يمكن إعادة تشكيله أبداً، وبالتالي فلابد من إعادة النظر فيه وتحقيقه بطرق جزئية ومجزأة.

إن نظرية ما بعد الاستعمار مبنية أيضاً حول مفهوم المقاومة، أو المقاومة باعتبارها تقويضا أو معارضة أو محاكاة ـ ولكن مع وجود مشكلة مؤرقة تتمثل في أن المقاومة تطبع دوماً ما يقاومه المرء في نسيج ما يقاومه: إنها سيف ذو حدين (فرانز فانون معذبو الأرض). فضلاً عن ذلك فإن مفهوم المقاومة يحمل معه أو قد يحمل معه أفكاراً عن الحرية الإنسانية، والتحرر، والهوية، والفردية، وما إلى ذلك، وهي أفكار قد لا تكون موجودة بها بنفس الطريقة، في نظرة الثقافة المستعمرة إلى البشرية.

وعلى المستوى السياسي/الثقافي البسيط، هناك مشاكل تترتب على حقيقة مفادها أن إنتاج أدب يساعد في إعادة تشكيل هوية المستعمر قد يتطلب على الأقل العمل في وسائل الإنتاج التي استخدمها المستعمرون ـ الكتابة والنشر والدعاية وإنتاج الكتب على سبيل المثال. وقد يتطلب هذا الأمر نظاماً اقتصادياً وثقافياً مركزياً، وهو في نهاية المطاف إما أن يكون مستورداً من الغرب أو شكلاً هجيناً يجمع بين المفاهيم المحلية والمفاهيم الغربية.

ويقول هومي بهابها (Homa Bhabha ) وهو احد ابز منظري ما بعد الكولونيالية في مقالة نشرت في كتاب "إعادة رسم الحدود" الذي أعده غرينبلات وجون حول القضية المعقدة المتمثلة في التمثيل والمعنى، فيقول إن الثقافة بوصفها استراتيجية للبقاء عابرة للحدود الوطنية. وهي عابرة للحدود الوطنية لأن الخطابات المعاصرة في مرحلة ما بعد الكولونيالية متجذرة في تواريخ محددة للنزوح الثقافي، سواء كان ذلك في المرحلة المتوسطة من تجارة الرقيق والعمل بالسخرة، أو الرحلة خارج المهمة الحضارية، أو التكيف المحفوف بالمخاطر مع هجرة العالم الثالث إلى الغرب بعد الحرب العالمية الثانية، أو حركة اللاجئين الاقتصاديين والسياسيين داخل وخارج العالم الثالث. والثقافة عابرة للحدود الوطنية لأن مثل هذه التواريخ المكانية للنزوح ـ التي تصاحبها الآن الطموحات الإقليمية لتقنيات الإعلام العالمية ـ تجعل من مسألة كيفية دلالة الثقافة، أو ما تدل عليه الثقافة، قضية معقدة إلى حد ما. إن التمييز بين الشبه والتشابه بين الرموز عبر التجارب الثقافية المتنوعة ـ الأدب والفن والموسيقى والطقوس والحياة والموت ـ والخصوصية الاجتماعية لكل من هذه الإنتاجات ذات المعنى، وهي تتداول كعلامات داخل مواقع سياقية محددة وأنظمة اجتماعية للقيمة، يصبح أمراً بالغ الأهمية. إن البعد العابر للحدود الوطنية للتحول الثقافي ـ الهجرة، الشتات (الثقافات المنتشرة = المصريون ينتقلون إلى جيرسي ـ إنهم ليسوا أميركيين ولكنهم لا يستطيعون العودة إلى مصر. إنهم ليسوا أميركيين مصريين. وهذا يرتبط بالتهجين الذي يشكل عادة إجابة إيجابية على الاختلافات)، النزوح، الانتقال ـ يجعل عملية الترجمة الثقافية شكلاً معقداً من أشكال الدلالة. إن الخطاب الطبيعي الموحد للأمة أو الشعوب أو التقاليد الشعبية الأصيلة، تلك الأساطير المضمنة لخصوصية الثقافات، لا يمكن الرجوع إليها بسهولة. والميزة العظيمة، وإن كانت مزعجة، لهذا الموقف هي أنه يجعلك على وعي متزايد ببناء الثقافة واختراع التقاليد.

في هذا الصدد، هناك فرق بارز بين الأدب الاستعماري (الأدب الذي كتبه المستعمرون في البلد المستعمر، على نموذج البلد "الوطني" وغالبًا للبلد الأصلي كجمهور) والأدب ما بعد الاستعماري، وهو أن الأدب الاستعماري هو محاولة لتكرار ومواصلة ومساواة التقليد الأصلي والكتابة وفقًا للمعايير البريطانية؛ أما الأدب ما بعد الاستعماري فهو غالبًا (ولكن ليس بالضرورة) أدبًا واعيًا للاختلاف والمقاومة، وهو مكتوب انطلاقًا من تجربة محلية محددة.

***

علي حمدان – كاتب ومترجم عُماني

منذ مطلع الرواية يستعيد بطلها جلال الحميد التفاصيل المؤلمة لجحود الأبناء ونكرانهم لتضحيات آبائهم، وهم يرمونهم في دور العجزة، وهي التي كان هناك ما يشبهها في التراث الياباني، حيث تُسمّى " الأوباسوت" أي وديان الموت الموجودة في اليابان القديمة، حيث يترك الأبناء آباءهم يموتون وحيدين في الجبال والوديان البعيدة عن القرى والبلدات... فالأوامر العليا تقضي بضرورة عدم إطعام الأفواه الزائدة، فيقضي كبار السن بعض الوقت في" محمية الموت" معزولين، فيما تحوم العقبان والغربان حولهم بانتظار نفوقهم... وهو ما يشبه "دور العجزة " في عالمنا المعاصر. الروائي العراقي جمال حسين علي من خلال وضعه هذا العنوان الفرعي" رحلة الأوباسوت الأخيرة" على غلاف الرواية، إنما يؤكد أنّ جحود الأبناء لآبائهم وتضحياتهم هو مفتاحٌ رئيسٌ في قراءة الرواية.

من يجحده الأبناء، هما جلال الحميد، الشخصية المحورية، وزوجته " دنيا". الحميد "رجلٌ ذو ماضٍ عريقٍ وحافلٍ بالعطاء والإنجازات، لم يسبقه إليه إلاّ أشخاصٌ يُعدّون على أصابع اليد الواحدة"، شخصيةٌ بهذه المواصفات، آل مصيرها المرير إلى العيش بمفردها وسط مقبرةٍ بشريةٍ، في مكانٍ يطلقون عليه" دار العجزة".

قسّم حسين علي الرواية إلى ما أسماه "عنابر"، والعنبر "حجرةٌ واسعةٌ في معسكرٍ أو مستشفى أو نزل، تحتوي الحجرة على أسرّة للنزلاء فيها من جنودٍ أو مرضى أو مسنين". إذاً المكان الرئيس هنا، النزل الخاص بالعجزة. وهذا يعني أنّ كلَّ ما يدور في الرواية هو عبارةٌ عن تداعيات وإسقاطات الشخصية المحورية جلال الحميد، وهو ملقىً في هذا النزل لمدة خمس سنوات، وهو الشخصية المعمارية الفذّة، هو و زوجته الأستاذة الجامعية والمترجمة والروائية، هنا يحاسب الحميد الجميع وليس فقط أبناءه.

مونولوج الراوي المتكلم

يتناوب الروي، عبر العنابر وعددها (7) بمقاطعها الفرعية، الراوي العليم، والراوي المتكلم جلال الحميد، ورويّ الأخير عبارةٌ عن مونولوجٍ مستمر، يلتهم معظم صفحات الرواية، لجهة أنّ الحميد يهجس شعوراً عظيماً بالوحدة، فيحاور ذاته في كلِّ شؤون الحياة، مثلما حياته الخاصة. في مونولوجه المليئ بالأسى، يتحدّث عن الخيبة الكبيرة من أبنائهم، حيث تركوا أمهم تستنشق الغاز والمرارة والحرمان والهلع والخوف في أيامها الأخيرة، وهو رموه مع الجيف والجثث المجهولة الهوية خلف السدّة، وهو الذي بنى لعاصمتهم أجمل المباني وأروع الحدائق وأهمّ الجسور.

كما أنّ الراوي العليم، يسهم في سرده الشفاف، برسم الصورة الشاملة عن هذا الرجل، الذي يهجس أنّ فكرة الأسرة الموحّدة دمّرت بيته، كان يريد العيش دائماً مُحاطاً بإطارٍ عائلي، يجمع أولاده وهم رهان المستقبل مع حاضر الزوجة الميتة وماضي الأم الراحلة منذ زمنٍ طويل. يريد العيش بهذا التضافر الزماني مع وحدة المكان بجميع عناصر أسرته في منزل العائلة القديم. لم يفلح في ذلك، وفقاً للتحولات الاجتماعية المعاصرة، فقد هرب الأبناء إلى المستقبل، فأقرّ باستحالة ديمومة الأشياء.. والقذائف المريرة لوجه الحياة البشع بدأت تقترب أكثر فأكثر بحسب تعبير الحميد، حيث يقفز، في مقارنةٍ مؤلمة، إلى حاله في النزل، فيصف يوميّاته فيه، نهاراً وليلاً، يشعر بالأسى على عدم استطاعته إعادة حياته كما كانت جميلةً وثريّة.

تمثيل المرأة العراقية في الرواية

من الممكن أن تكون دنيا خطاً روائياً، إذ أولاها الروائي اهتماماً واضحاً، فهي تمثّل المرأة العراقية، خير تمثيل. دنيا، ذات الإرادة الصلبة حاملة المبادئ غير القابلة للثني والتغيير. كان الحميد يلوم دنيا على عنادها، وخشيته على مصير الأسرة بكاملها بفعل مبدئيتها الصارمة، ويستعيد بهذا الشأن ما كتبته دنيا، بأنها لن تجد عذراً لأفعال الخونة والمستهلكين، وفي الوقت ذاته، تريد أن تكون دائرتها المُقرّبة مليئةً بالمخلصين والصادقين. قوة مبدئيّتها تكمن حين تصرّح بأنّها لن تتنازل عن المبادئ حتى لو اقتضى ذلك التضحية بالحميد نفسه. وهو الذي يتحدث بحرقةٍ كبيرةٍ عن غيابها، ويرسم صورة أخاذةً عن يومياته معها.

استبعد الحميد فرضية انتحارها، لكنّها حُوربت بشراسةٍ كبيرة، لا يستطيع أي بشر مهما كانت قوّته أن يصمد إزاءها، فقد طُردت من الجامعة وحُرمت من الراتب التقاعدي وسُحبت كتبها من المكتبات العامة وغيرها من المضايقات الشديدة. كان يشدّه أملٌ كبيرٌ بأنّه سيلقاها ذات يوم، وحين سقط النظام وفُتحت السجون والمعتقلات، هام في شوارع العاصمة وقرب المعتقلات لعلّه يعثر عليها. لكنّها تنبّأت بمصيرها، فبعد اتّهامها بالجنون، سيرتّبون انتحارها المُفتعل، وإن لم ينجحوا فسيكون الخطف والقتل وإخفاء جثّتها نهائيّاً.

رسائل الوهم الكبير

من ضمن الوسائل التي استخدمها الحميد لكي يعالج عقوق أبنائه، كتابة رسائل مُتخيّلةٍ على أنّها منهم، ويرسلها إلى عنوانه هو، العنوان الذي أعطاه إياه طبيب النزل، ويكتب على الظرف اسم أحدٍ من أولاده. غير رسائل الوهم والجنون، عمد الحميد إلى صنع هاتفٍ خشبي، ووضعهُ في مدخل النزل، فكان يرفع السماعة ويتحدث مع دنيا ويبثّها شكواه مما صار عليه مصيره الحزين. غير ذلك كان الحميد يلازم النافذة، بانتظار من لا يأتي، فقد أوصلته معاناته من ترك الجميع له، بدءاً من العائلة إلى الشعور بالاغتراب عن كلّ الناس.

حياةٌ عريضةٌ حافلةٌ بالعطاء

بين عنابر النزل، وقد قسّم كلّ عنبر، في الرواية، إلى مجموعة مقاطع معنونة، استطاع حسين علي، أن يبعد السأم عن القارئ بهذا الاختزال إلى مقاطع قصيرة، تشدّ القارئ إلى معرفة كلّ شيءٍ عن الحياة العريضة للحميد ودنيا، بدءاً من سرد الراوي المتكلم لكلّ شيءٍ عن ذكرياتهما في موسكو، الدراسة وقصة الحب الجميلة بينهما، وزواجهما هناك، ومن ثمّ عودتهم إلى العراق، في سبعينيات القرن الماضي، حيث كانت" الجبهة ليست هادئة، بالسماح بعودة اليساريين وفق قانون"عودة الكفاءات"، حيث وضع الحميد عقليّته المعمارية تحت تصرّف العاصمة التي أحبّها، وكذلك عُيّنت دنيا في قسمها القديم في كلية الآداب لتدرّس اللغة والآداب الروسية، حيث التزما السكن في منزل العائلة القديم، حيث يلتمّ الشمل العائلي كلّ يوم جمعة. هنا سردٌ للمضايقات التي تعرّض إليها هذان العملاقان، نتيجةً لعدم انضمامهما إلى صفوف الحزب الحاكم آنذاك. وكيف أنّ الحميد الكبير السن أُجبر على التطوع العسكري في أثناء حرب الخليج الأولى، وكان تصرّفه مع تلك المضايقات حكيماً، من باب الحفاظ على مرتّبه، بعد أن سُحبت جميع المشاريع منه، لكي يؤمّن مصاريف البيت، ومتطلّبات أولاده الذين بلغوا المراحل الجامعية. هذه العائلة الفذّة كانت تدفع ثمن سكوتها وليس كلامها، كانت القاعدة الجهنّمية للنظام آنذاك: من ليس معنا فهو ضدّنا.

المصير المجهول

كان طبيب النزل يؤكّد للحميد بأنّه ليس في بيته، بل في نزلٍ سيُغلقُ قريباً بعد أن رفعت الحكومة الدعم عنه. على لسان الطبيب، يرد تحليلٌ حقيقي، عن حالة الحميد الإنسان المؤمن بالماضي، وذكرياته هشَّمت توازنه. فهو رجلٌ أحبّ امرأته ورفض تصديق رحيلها، مثلما رفض تصديق عقوق أبنائه، الخلل في أنّه كان يراهم بالصورة التي يتمنّاها هو، وليس بصورتهم الحقيقية. هنا خللٌ بين الأحلام والواقع، هو الذي أوصله إلى هذه الحال. كانت حوارية الحميد مع الطبيب في غاية الحزن، لأنّ الطبيب يسرد عبر إجاباته عن أسئلة الحميد، وقائع مصيره الحزين، فبيت العائلة باعه الأولاد وتقاسموا حصّته وهاجروا، ومن خلال انثيالات الطبيب، نفهم أنّ هذه النهايات المؤلمة حدثت في أيام وباء كورونا أواخر عام 2019 وما بعدها، وهنا يدخل في خطاب عتبٍ مع أبنائه، ضمن مونولوجه المستمر، وهو يلمّ حاجياته في النزل، لكي يغادره إلى حيث لا يعرف.

روايةٌ أخرى

تذكّر الحميد أنّ أولاده كلّهم في الخارج، وأنّه في أثناء انتفاضة تشرين 2019، كان يعرض كتبه في ساحة التحرير معتبراً ذلك " نوعاً من التظاهر والرفض للأوضاع ومساندةٍ للناس الذين خرجوا مطالبين بحياة كريمةٍ ووطنٍ محترم". وفي أثناء إلقاء الغازيات كاد يختنق، فحمله شباب، ظناً منه بأنّهم طلاّبه يسعفونه، والحقيقة أنّهم اختطفوه ووضعوه في صندوق سيارة، متعرّضاً إلى الإهانة والضربٍ، ومن ثمَّ رموه خلف السدة.

بعد العيش خمس سنوات في النزل، قرّر الحميد، بأن يموت واقفاً في قبرٍ صمّمه وبناه في نفسه، ومعه مخطوطته، التي يمكن أن تكون هذه الرواية، والتي لغاية نهايتها، ليس هناك يقين؛ ما هو مصير الحميد، إذ يسرد الراوي، في الصفحات الأخيرة من الرواية بأنّه " لا تزال القصة الغامضة لجلال الحميد غامضة".

وأخيراً، هذه روايةٌ تمثّل خير تمثيل حبكة تضحيات الآباء، عقوق الأبناء، في السرد العراقي، فنتألم ونحن نقرأ كيف الأبناء يلقون آباءهم في مهالك شديدة القسوة. هنا سردٌ مؤثرٌ إلى حدّ إيلامنا وإرعابنا عن مآلات المجتمع، فحين يكون أبناؤه على هذا النحو، فهو سيسير نحو التفكّك المجتمعي.

***

باقر صاحب

....................

* مقاصب الحياة / رحلة الأوباسوت الأخيرة، تأليف: جمال حسين علي، دار المدى- بغداد 2024 .

 

لمنيرة الحاج يوسف / تونس

الأسلوب والصورة الشعرية:

القصيدة تتسم بالأسلوب السردي التعبيري الذي يعكس حالة من الصراع الداخلي والتحدي. الشاعرة تستخدم صورًا شعرية متشابكة، مثل (أطرافك المرتجفة) و(قلبي ربيع مؤجل)، مما يوحي بمشاعر من الألم والأمل المؤجل. الصور تنقل القارئ إلى حالة نفسية مليئة بالاضطراب، والمرونة بين الحرية والظلم.

التكرار والتركيز على الفعل (سأسرقك):

التكرار القوي لجملة (سأسرقك) يظهر الاستعجال والتصميم على التحرر. الفعل هنا يحمل دلالات من القوة والمقاومة، وكأن الشاعرة تتخذ من السرقة وسيلة لتحرير الحلم والجمال المقهور. التكرار يعمق الإحساس بأن الفعل قسري لكنه لا مفر منه.

الرمزية والمعاني العميقة:

الرمزية في القصيدة واضحة، حيث يُرسم (الربيع المؤجل) و(الضفائر) و(الصفاد) كرموز للأمل الذي أُطفئ، والقيد الذي كان يحبس الذات، والظلم الذي أدمى الجمال. الشاعرة تستخدم الرمزية لتوصيل معاني الحرية، الألم، والصراع ضد القمع والتشويه. كما أن مفهوم (الهوية المائعة) و(دق المسمار في الجدار) يعبر عن ضياع الهوية الثقافية والشخصية في ظل الظروف الصعبة.

اللغة والمفردات:

اللغة في القصيدة قوية وعاطفية، وتحتوي على مفردات مؤثرة مثل (الظلم) و(التشويه) و(الفجيعة)، مما يعكس حالة من الهزيمة النفسية. كما يتم استخدام العبارات بلغة شاعرية مثل (حروفي)، (لوحتي)، و(أغنيك لحنا يفزعهم)، لتشكيل صورة حية للمقاومة الداخلية وتأكيد الهوية.

البنية والإيقاع:

القصيدة تكتسب إيقاعًا دراميًا من خلال البناء المتلاحق والتزاوج بين الفعل المباشر والتأمل الداخلي. استخدام الجمل الطويلة، والتكرار، والجمل المنتهية بنقاط متفجرة يجعل الإيقاع مشحونًا بالتحفز. هذا الإيقاع يعكس تطور الصراع من الداخل إلى الخارج، كما يعكس محاولات التحرر والخلاص.

الخلاصة:

قصيدة (قلبي والجدران والمسمار ...) لمنيرة الحاج يوسف تمزج بين الصراع الداخلي والتعبير عن الظلم والتشويه، مع تسليط الضوء على الحرية المنتظرة. الأسلوب السردي يستخدم الرمزية القوية والتكرار لتقوية المشاعر الثائرة، ويعكس معركة الذات ضد القوى القامعة، ما يجعل النص تجربة شعرية تنبض بالأمل والتحدي.

***

بقلم: كريم عبد الله – العراق

....................

قلبي والجدران والمسمار ...

سأسرقك، ليس أمامي غير ذلك، فكرت طويلا وقررت أن افك قيد ظفائرك، جدائلك التي رسموا بها حدود عذابي كانت حبالا ربطت أحلامي في معاقل الخوف والخيانات، أطرافك المرتجفة، يبسها القحط وأحرقها برد الصقيع، وقلبي ربيع مؤجل يشتهي أن يُنبت فيك بيلسانا من الفرح، بعد أن أحرقوا كل امالك وانتهكوا حرمة جمالك...أيتها المنسية في دروب الضياع  على حواف الفجيعة، تتقدمين نحو هزائم رسموا فخاخها فتضاعفت فراخها، كخلية خبيثة، ساسرقك، هكذا قررت لا أملك بندقية، لكنني سأرسل عليهم حمم حروفي، حتى تتحرري من اصفاد الظلم والتشويه....قررت أن اعتقك من ربق عبوديتهم...قررت أن أغنيك لحنا يفزعهم وانظمك بيت شعر احتمي به اذا اشتد كربي وغربتي... قد ارسمك لوحة أعلقها على جدار ذاكرتي ستكونين بلا حدود، واسعة وجميلة، ناصعة ونبيلة....حرة، عالية،  على جبين الحقيقة

سأسرق دفاتر الملكية لألقي بها في يم النسيان، فكرة الهوية مائعة، كلنا أوراق مختلطة...هبت عليها ريح ديسمبر فبعثرتها في طرقات الوداع، الملمك جزءا جزءا حتى تكتمل لوحتي ستسخر الجدران من مسمار يحملك بلا تأفف وتنسى انك دققت في خاصرتها..

***

منيرة الحاج يوسف - تونس

 

للروائي بولص آدم

يأخذنا المتن الروائي في أحداثه العاصفة والمؤثرة، الى رحلة طويلة واسعة الآفاق، في التناول والطرح في رواية تجمع شمل، التاريخ والسياسة والاجتماع والاتجاه الديني وتأثيراته، في واقعية الأحداث والصور والمشاهد الحية والفعلية، في لب الصراع الدائر في أوجه المتعددة والمتنوعة، في رواية تنتهج التوثيق التاريخي، وسيرة حياة قرية (ديري / إحدى قرى قضاء العمادية في كردستان العراق) مع السيرة الحياتية و الذاتية لبطل الرواية (يوناذم هرمز)، بما مرت هذه القرية (ديري) التي تقطنها ألاغلبية من الطائفة الاشورية، من حقب ومراحل التاريخية و سلطوية، منذ الاحتلال العثماني والانكليزي والملكي وحقب الجمهوريات المتعاقبة، حتى الاحتلال الداعشي المجرم، بعد احتلال الموصل، وسياسته الانتقامية في القتل والذبح للطوائف المسيحية ومنها الطائفة الاشورية، وهذه القرية الاشورية (ديري) شأنها شأن القرى العراقية الاخرى، سواء كانت في الجنوب او في الشمال، دفعت الثمن الباهظ لهذه الحقب التاريخية والسياسية، من تضحيات وأعمال تخريب ودمار بما فيها القصف بالطيران الحربي، فكيف يكون الحال بقرية اشورية، فقد يكون التدمير والتخريب والابادة وحالة الاضطهاد والظلم والحرمان، سيكون اضعافاً مضاعفة، هذه الحقب المتعاقبة لحالة هذه القرية الاشورية، يرويها او يسردها بطل الرواية (يوناذم هرمز) قصة كفاح طويل في الصمود والتضحية، حتى لا تصاب بالنسيان وتدفن تحت الغبار، قائلاً موجه كلامه الى الروائي بولص آدم، عبر 18 شريط من التسجيلات الكاسيت استغرقت ثلاثين ساعة وتصمنت 416 صفحة من السرد الروائي بنهج واقعي توثيقي تاريخي، كأنه يسرد تاريخ العراق، وليس تاريخ قريته التي ولد فيها وترعرع فيها، وسجل فيها سيرة حياته، في مقاطع حقيقية عاش في ضخمها وعانى منها، وشكلت له هاجس حياتي، لا يمكن نسيانه . لأنه جزء من انتمائه الاصيل وجزء من التاريخ الديني للطائفة الاشورية، قائلاً (لا تستغرب عزيزي بولص آدم، لديَ الكثير للبوح به، يبقى الحديث عن قريتي موضوعي المفضل، اتحدى اي انسان يعرف ديري والمنطقة أكثر مني، فأنا موسوعي) والكثير من الأحداث والمشاهد عالقة في ذهنه، لا يمكن لغبار النسيان ان يغطيها، ولكن يبقى أهم حدث مأساوي فجعه، وجعله ينزف دماً في قلبه ومشاعره . حدث امه وهي تحتضن طفلتها الجريحة، اختلط دم القتيلة مع دم الأم، عندما تعرضت القتل لهجمات استباحت القتل والتنكيل (لن تنسى أمي مدى الحياة، منظر سقوط الأم على المهد، لكأنها ترغب باحتضان ابنتها للمرة الاخيرة، لن تنسى العويل المكبوت خوفاً ان يكون مسموعاً، لن تنسى المهد الذي انقلب، ودم الام امتزج بدم الطفلة الجريحة، والقماط الأبيض قد احمر ووجه الطفلة في التراب) . حياة القرية لم تهدأ في حياتها الطبيعية من غزوات القتل والتدمير، لم تهدأ من الخوف والرعب من القادم والمجهول، رغم قسوة هذه الحياة، لكن صلة التآلف والتضامن والدعم يتجذر ويتعمق أكثر فاكثر بين سكان قرية (ديري)، أحدهم يشد أزر الآخر ويوسيه، كأن المصاب له والى عائلته، حتى لا يصابون بالاحباط والانكسار وترك القرية والهجرة منها، لان معاناتها لا تطاق (أحبتي ..... لا تعودوا إلى القرية وفي نفوسكم انكسار وخحل، ارفعوا روسكم عالياً، وسيكون لي حديث في الدير اليكم ثانية في قداس الأحد القادم، اغفروا لكل من اساء اليكم ... في العمادية من الكرد هم اصدقاء، وهؤلاء عزونا ووقفوا الى جانبنا)، اضافة الى قسوة الإنسان، فأن للطبيعة قسوتها ايضاً، وخاصة في فصل الشتاء وسقوط الثلج، قد يؤدي تراكم الثلوج فوق السقوف، قد تنهار السقوف على على رؤوس النائمين وتقتلهم، لذلك يتجند الاهالي، وكل واحد يحمي عائلته، في ازاحة هذه الثلوج تحت ظروف قاسية في صقيع الثلج وفي العراء والبرد القارص . ولكن يبقى ظلم واضطهاد من السلطات المستبدة قائم في صراع دموي في ارتكاب المجازر اشد هولاً من قسوة الطبيعة القتل وسفك الدماء، لا يفرق بين ملحد ومؤمن، الكل في المصيبة (المؤمنون والملحدون يعيشون تحت خيمة الوطن، هل تعتقدون بأن قريتنا خالية من الملحدين؟) لقد شارك سكان القرية في انتفاضات الأكراد وثوراتهم المتعاقبة، بما فيها ثورة ملا مصطفى البارزاني، ولم ينفصلوا عن الواقع الصراع السياسي العراقي في مختلف العهود السلطوية، وقدموا التضحيات ودفعوا الثمن الباهظ، وأشدها بطشاً وقتلاً، جرائم تنظيم داعش الارهابي بعد احتلال الموصل، توجهت هذه الذئاب الوحشية في ابادة هذه القرية الاشورية، في الحرق والتهجير والقتل والسبي،فقد دون بطل الرواية ( يوناذم هرمز)، الأعمال الوحشية في إبادة القرية، ولكن يذكر عن نفسه (كان آخر المغادرين بعد احتلال داعش للموصل، وحتى المغادر كان مهدداً بالقتل عدة مرات، لكنه أصر على الصمود) رغم الاهوال والفواجع تعود القرية الى حياتها الطبيعية وتشهد أعمال عمرانية في تطور الحياة الريفية للقرية .

×× يوناذم هرمز: من عائلة فقيرة الحال ترعرع وكبر فيها، وحينما استعد للهجرة، جمع المال من عائلته وأقربائه. حتى يستطيع الهجرة، وكانت محطته الاولى لبنان / بيروت، اشتغل في أعمال شاقة وصعبة، وجاءت الفرصة الثمينة الى الهجرة الى امريكا، اشتغل في عدة مهن، حتى أصبح، من الطبقة الثرية والحالة الميسورة، من الاموال والعقارات والشركات، اي اصبح رجل البزنس، لكنه لم يتجاهل أو ينسى قريته وترابها وطينها، فكانت تجري في شرايين دمه، فقد وظف هذه الاموال الطائلة للأعمال الخيرية لقريته في الدعم المالي السخي، وعاد من امريكا الى قريته، أي إلى الوطن الأصل، مشاركاً في إعادة ترميمها، بروح التفاني والحب، ليريح ضميره ورب العالمين، لأنه سيبارح الدنيا والحياة، وتظل أعماله الخيرية على كل انسان محب من أهل القرية، وهذا واجب الوفاء الى قريته، التي وقفت في وجه المحن والمصائب والاهوال ..... والآن تعيد نفسها من جديد .

***

جمعة عبد الله

الموجهة للأطفال وحيرة الفئة العمرية

عرضت على مسرح المنصور مسرحية (دفتر توفير) تأليف رحيم العراقي، إخراج حسين علي هارف، يبوح عنوان العرض (دفتر توفير) بفكرته الأساسية، إذ يحتاج المتلقي الطفل للوضوح مع الأخذ بالاعتبار قدرة العرض على التشويق والإثارة دون قول كل شيء دفعة واحدة، لقد تصدى العرض لظاهرة الإسراف والتبذير المنتشرة في بعض أوساط المجتمع (بالألعاب والمصروفات والمشتريات) وذلك من خلال تقديم فكرة التوفير.

عمد التأليف والإخراج إلى إظهار شخصية الجني (شبيك لبيك) من البرميل الساكن في يمين أسفل خشبة المسرح في المشهد الأول لغرض تلبية الطلبات الكثيرة للولد المشاكس (منذر) إلا أنه يرضى بالقليل بعد أن يُعِده الجني بإحضار كيك ولوازم عيد ميلاده، يبدأ المشهد الثاني بحفلة عيد ميلاد (منذر) ويثار تساؤل من قبل الأب والأم: من الذي جاء بلوازم الاحتفال في الوقت الذي يفتقرون فيه للمال؟ لخيب توقع (منذر) الذي وعده الجني بتوفير متطلبات الحفل، ولتكون المفاجأة عندما تخبرهم ابنتهم (زينة) بأنها وفرت مبلغا من مصروفاتها اليومية في حصالة ونظمت حفل ميلاد اخوها، ليخرج الاب بنتيجة مفادها: ابنتنا زينة مدبرة وليست مبذرة. ومن هذه النقطة تبدأ عملية نسج حبكة العرض وانطلاق احداثه الدرامية، اذ يقرر (منذر) منافسة اخته (زينة) في تنظيم حفل ميلادها بعد يومين بأفضل مما فعلت هي، وذلك بإحضار ساحر إلى جانب الهدايا الثمينة.857 sow

وجه العرض عدة نصائح ومقولات مباشرة إلى الجمهور، تناوب على إلقائها أفراد العائلة (الاب والأم وزينة ومنذر) وذلك بقرائتها من دفتر كتبت فيه زينة ملاحظات مدرسية، محور النصائح والمقولات عن توفير النقود وتقنين المصروفات، وانحصرت منطقة ادائها على وسط وسط الخشبة ومقدمتها، وان معظم الأحداث والحوارات قدمت في المنطقة نفسها بصورة لافتة للانتباه، يقود موضوع التوفير الأب إلى سرد حكاية عدم امتلاكه المال الكافي ويعزو الأمر إلى أن المطر لم ينزل بكمية كافية هذا العام ليسقي مزروعات البستان وبالنتيجة لم تثمر شيئاً، وبناء على هذا تحرض الأم عن بيع الأرض أو تجريفها وبيعها قطع ارض سكنية مع التنويه ان الخسارة ستكون فقدان جمال الطبيعة ونقاء البيئة، لأنها ستخلو من النباتات، موضوع الأرض والمزروعات ثانوي ولكنه مهم لتعرف المتلقي بأهمية الأرض والزراعة مع الابتعاد عن مداخلة التجريف وتحويل الارض الزراعية إلى سكنية. بعدها يعود العرض إلى الشخصيّة المحورية الجني (شبيك لبيك) حين يعاتبه (منذر) بعدم الإيفاء بإحضار كيك ميلاده، يرد الجني بأن (زينة) سبقته بفعل ذلك، يطلب منذر تحضير لوازم ميلاد اخته بأبهى صورة وان يكون الجني ضيف الحفلة وان يقوم بألعاب سحرية، ينتهي لقاء منذر والجني بوعود كثيرة ويعود الجني إلى مقره في البرميل، يسمع صوت قوي يخبر الجني بزوال السحر عنه وأنه سيعود انساناً ويتجرد من قواه الخارقة ويستعرض أسباب تحويله إلى جني لمدة ألف عام، وهي حكاية ثانوية اخرى، ويبدو أن ثنائي التأليف/والإخراج استند إلى شغف الأطفال بعمر ٦-٨ سنوات بعالم الحكايات الخيالية التي تحفل بشخصيات خارقة لا وجود لها في الحياة الواقعية، ولكن هذا الشغف يبدأ بالتلاشي في المراحل العمرية اللاحقة.858 sow

يفي الجني بوعده وينظم حفل ميلاد زينة وينسحب، تدخل العائلة، مفاجأة سعيدة، يغني الجميع، يشترط (منذر) ان يقطع الكيك قبل حضور والد صديقه الساحر الذي يحضر بالتوقيت المناسب ليقدم الألعاب السحرية المدهشة إلى جانب تضمينها مفارقات كوميدية، ويمنح عملات معدنية قديمة هديةً لزينة التي تعجب بها ويقدم معلومة مهمة للمتلقي (العراقيون أول من أوجد وتداول النقود في العالم …) وتُسرد الكثير من المعلومات المباشرة عن العملات وأهمية التوفير من قبل الأم والأب بإسهاب طويل، يقرر الأب والأم إكمال الحفل بقطع كيك الميلاد، يحاول (الجني) تأجيل الأمر لئلا ينكشف امره، ولكن الأب يقرر إطفاء الشموع وانطلاق الموسيقى لتكتشف (زينة) ان الكيك لست حقيقيا وأنه مصنوعة من مادة (الفلين) يصدم الجميع، ويخيب أملهم بولدهم منذر الذي يعاتب (الجني/شبيك لبيك) بحرقة تجعله يعترف أنه ليس جني ولا ساحر، ويحكي لهم حكاية تحوله إلى جني ثم عودته الى إنسان بعد ألف عام، وأنه لم يعد يمتلك أية قوى خارقة، وهي معلومات تكرر للمتلقي مرة ثانية، تقدم زينة الشكر للجني ولأخيها (منذر) لنواياهم الطيبة، يقدم الأب هدية (دفتر توفير) لزينة، يخرج الجني/ الإنسان دفترا كبيرا يحتوي مقولات الفلاسفة عن التوفير. التي ربما كانت بعض الأسماء والمقولات ثقيلة على اسماع المتلقين الصغار.859 sow

تبدأ حكاية ثانوية ثالثة ساندة لفكرة التوفير عندما يكتشف الأب عشرات المكالمات الفائتة في جهاز الهاتف النقال، يطلب فيها بعض التجار شراء العملات الأثرية منه بمبالغ طائلة، لقد وفر الاب هذه العملات فزادت قيمتها، لم ينوه المؤلف لهواية الأب بجمع العملات الأثرية سابقا، ولكن امرها يتعلق بصورة غير مباشرة بفكرة (التوفير) ينتهي العرض بموافقة الأب على عمل (شبيك لبيك) معه في البستان بصفة حارس او فلاح على أن يستخرج لنفسه دفتر توفير لأنه مشروع ناجح. وبهذا تختتم الفكرة المركزية للعرض بالتأكيد على اهمية التوفير وهي فكرة تنسجم مع الأطفال بعمر التاسعة وما بعدها، ذلك لان التوفير يتعلق بتبلور مفهوم (الملكية) الذي لم ينضج بعد لدى أطفال ما دون التاسعة. لكن هذا لا يعني مطلقا عدم السعي لإفهام الأطفال معنى وأهمية التوفير بجميع الأعمار، لأن لا وجود لفصل حاد وقاطع بين مدركات فئات الطفولة العمرية وان التداخل بين مختلف المراحل العمرية نفسيا وعقليا يجمع عليه الكثير من النفسانيين.

مؤشرات:

- كتبت حوارات كثيرة بصيغة السجع مما جعل أسلوب الإلقاء مميز بالتنغيم المحبب، كما في حوار الجني مع نفسه: (يبدو أنه غادر المكان، وتركني حيران، ماذا افعل الان …. فيخيب امل زينة، وتكون حفلتها حزينة، ويفضح منذر امري، ويكشف سري، لا … يجب نجاحي، فتكتمل فرحتي بإطلاق سراحي) هذا إلى جانب الأغاني والموسيقى التي أطرت العرض بروح احتفالية تماهى مع أجواءها المتلقي الصغير.

- تصدى الممثلون احيانا الى إثارة الجمهور لإظهار مهارات أدائية جاذبة امتعت المتلقي - لاسيما العاب الممثل هاشم سلمان - وبالوقت ذاته أبعدت العرض عن التركيز على فكرته الاساسية.

- الإكثار من التوجه المباشر للجمهور بالنصيحة وطرح الأسئلة والطلب منهم ترديد بعض العبارات معهم ذي حدين، الحد الأول: دفع المتلقي الصغير إلى المشاركة في العرض ورفع نسبة التفاعل . الحد الثاني: صعوبة استعادة الهدوء ورجوع المتلقي إلى أجواء العرض وأحداثه الدرامية.

ثمة ثلاث مؤشرات دالة على ضرورة الاستمرار بتقديم العروض المسرحية:

- تبشر ظاهرة الجهات الداعمة لإنتاج العروض المسرحية بالمزيد من الابداع وتدعو الفنانين لمواصلة مسيرة عطائهم. إذ قدم عرض مسرحية (دفتر توفير) الاتحاد العراقي لفناني الدمى بالتعاون مع المصرف الأهلي.

- توقيت العرض في العاشرة صباحا يتناسب مع مواعيد دوام التلاميذ في رياض الأطفال والمدارس، مما أدى إلى حضور أعداد احتشدت بها القاعة، وهذا يدل وجود جمهور كبير ومتفاعل.

- وجود مسرح وقاعة مجهزة بكل ما يلزم للعرض المسرحي (مسرح المنصور) في موقع حيوي من العاصمة بغداد (ساحة الاحتفالات) هذا فضلا عن وجود مجموعة كبيرة من الفنانين الحريصين على العمل في مسرح الطفل بكل جوانبه وعناصره (التأليف والإخراج والتقنيات والتمثيل)860 sow

قُدِم العرض ليوم واحد (الاثنين 18/ تشرين الثاني/ 2024) وانطفأ، وفي هذا تقليص كبير لمساحة عرض يستحق الاستمرار طويلا ليسجل حضوره الفني ولتوفير متعة المشاهدة للمزيد من الأطفال/الجمهور. يمكن تسمية العروض التي تقدم ليوم او يومين بعروض الشمعة في حين العروض التي تستمر ويستمر الطلب عليها يمكن تسميتها بالعروض المتوهجة، وان ما يجعل العرض شمعة سريعة الانطفاء ثلاث أسباب رئيسية:

- التزام بعض الممثلين والفنيين بأعمال أخرى.

- أسباب إدارية مثل حجز قاعة المسرح لعروض أخرى.

- ما يمكن أن تفعله الجهات الرقابية، ومن يمكنهم إعاقة استمرار العرض. مع الإشارة إلى أن العروض الموجهة للأطفال نادرا ما تنطفئ بفعل السبب الرقابي.

ملاحظة:

ثمة ضرورة لدعوة المعنيين بالطفولة والطفل من مختصين بعلم نفس وعلم اجتماع الطفل والنقاد والمشتغلين بحقل الطفولة وعدد من الإعلاميين لحضور عرض قبل انطلاق العرض لجمهور الأطفال لسماع آرائهم وملاحظاتهم والتحاور معهم والافادة منهم، ومما يلاحظ في العروض الموجهة للأطفال ضعف حضور المعنيين بمسرح الطفل وأدب الطفل والإعلام والصحافة.

عاش الأطفال يوما استثنائيا مع عرض (دفتر توفير) كسرت فيه رتابة اليوم العادي في المدرسة والبيت، وسيبقى في ذاكرتهم، وتنمو ذائقتهم، لان مسرحية الأطفال (دفتر توفير) أسهمت بصورة رائعة في إعداد متلقي المستقبل.

***

ا. د. حبيب ظاهر حبيب

 

الأسلوب والصورة الشعرية:

تتميز القصيدة بأسلوب سردي تعبيري مكثف، حيث يُستخدم التشبيه والاستعارة بشكل بارز لإبراز مشاعر القهر والخذلان. القصيدة تمتلئ بالصور القوية مثل (كذئب كاسر) و(كجلمود صخر) و(كحجر صوّان)، التي تخلق انطباعًا قويًا عن العنف والتدمير الناتج عن الزيارة المفاجئة للقوى الخارجية التي لا تترك سوى الدمار.

التكرار والمبالغة:

يتم استخدام التكرار في القصيدة بشكل فعّال، مثل تكرار كلمة (أنتِ) للتأكيد على العدوانية والميل إلى الإيذاء، مما يضفي طابعًا دراميًا على النص. كما تظهر المبالغة في العبارات مثل (زلزال ساحق ماحق) و(سهام ما تركت للفجر انبعاث)، مما يعكس العنف النفسي والجسدي الذي تحمله الأحداث.

الزمن والمكان:

الزمن في النص غير محدد بدقة لكنه يشير إلى فترة مضطربة، حيث تمت الإشارة إلى الحاضر بتعبيرات مثل (أنتِ تعبرين) و(عبورنا) التي تخلق إيقاعًا مستمرًا من المعاناة. أما المكان فيقتصر على بيئة محلية قد تكون مرتبطة بمحنة معينة، حيث نجد في الإشارة إلى (جنوب لبنان) محاكاة للواقع الاجتماعي والسياسي.

اللغة والمفردات:

اللغة في القصيدة محملة بالرمزية والعاطفة الجياشة، بحيث تُستخدم مفردات قوية مثل (الحياة) و(الآمال) و(الخذلان) مع ربطها بمفردات معبرة عن العنف والدمار مثل (السمّ القاتل) و(الزلزال) و(سلاح الغدر). هذه المفردات تبرز حالة من الصراع القاسي بين الأمل والخذلان.

الأسلوب البلاغي:

يظهر في القصيدة استخدام البلاغة التصويرية والفكرية من خلال الجمل مثل (جراحات لا تلتئم) و(نقضي عليكِ أمام محكمة الزمان)، مما يجعل النص يلتقط المعركة الفكرية والنفسية بين الذات المجروحة والحدث المؤلم. كما أن هناك صراعًا معنويًا يتجسد في فكرة (محكمة الزمان) وهو ما يضفي بعدًا فلسفيًا على النص.

الخلاصة:

قصيدة (بئس) لجميلة مزرعاني تجمع بين الأسلوب السردي والتعبيري لتصوير واقع مرير مليء بالخذلان والدمار الناتج عن القوى الخارجية. الأسلوب البلاغي العنيف مع الصور الشعرية القوية يعكس شعور الشاعر بالهزيمة والظلم، ويدعو إلى التفكر في وقع تلك الأحداث على النفوس المرهقة.

***

بقلم: كريم عبد الله - العراق.

........................

بئس السّنين  2024

أيّتها الزّائرة الهجينة الثّقيلة، الساقطة اللّعينة، يا مطرًا خذل المواسم كم كنّا ننتظره بدمعة فرح حاملًا البشائر وبواكير الوعد بغدٍ مشرق باسم فإذا بك تعبرين كذئب كاسر كجلمود صخر فوق الصدور المنشرحة للحياة تنتزعين منها بذور الآمال أو كحجر صوّان أتى على غصن بان فجعله كالرّميم لم تكن أيّامك ولا لياليك بليلة مع كلّ عبور نتجرّع كأس حنظلك المرّ نجترّ طبق موائدك سمًّا قاتلًا. عبرتنا كزلزال ساحق ماحق لأحلامنا وأمانينا تسطّرين مع كلّ شعاع وصمة عار وجراحات لا تلتئم تقزّزين نفوسًا ضاقت ذرعًا ترتقب قطرة رحمة وحفنة بلسم جاهدة تتقيّأ مبيداتك الفتّاكة وأنت تواصلين سخطك بقنّاصة الغدر كشيطان يتدثّر يمئزر الشّرور. من يطفئ نارك المستعرة في رحلة العبور؟ عبثًا يحاول. أذكر كم استقبلناك بالبسمات برشّ الزّهور والعطور نتوسّم خيرك القادم من جبّ المياسم ما نالنا منك سوى سهام ما تركت للفجر انبعاث كنت نقمة سدّدت الضّربة الأخيرة القاضية بمخالب حادّة وأنياب مستفزّة تفرغين زئيرك لكمات قاتلة على نواة الوجع قبل أن تغادري مرغمة إلى غير رجعة ونحن على الضفة نقسم نقاضيك أمام محكمة الزّمان رحمة بقلوب تراقصت على سجاجيد الأمل وبصيص سقط في مستنقع الخذلان.

***

جميلة مزرعاني

لبنان  / الجنوب - ريحانة العرب

 

أدب الاغتراب أدب قديم. عُرف فى بداياته بأدب المنفَى، حيث كان نوعاً من أدب التأسِّى والحنين للوطن، كقصائد (محمود سامى البارودى) التى كتبها فى سريلانكا، وأندلسيات (أحمد شوقى) التى كتبها فى منفاه ببرشلونة، وأزجال (بيرم التونسي) الحزينة فى باريس وليون بفرنسا.

وخلال فترات القلاقل السياسية التى واكبت الاحتلال الإسرائيلى لفلسطين، حدثت موجات من النزوح والهجرة، وآثر الأدباء المنكوبون والمعوزون والمضطهدون أن يهاجروا إلى أمريكا. أرض الأحلام. وهناك أنشأ بعض الشعراء كياناً أدبياً أسموه (الرابطة القلمية) ليستوعب أدباء أمريكا الشمالية. فى حين أنشأ شعراء آخرين كياناً شبيهاً فى أمريكا الجنوبية تحت اسم: (العصبة الأندلسية).

تلك بدايات أدب المهجر الذى أحدث هزةً فى الأوساط الأدبية فى مصر والمشرق، ليس فقط بسبب ثراء محتواه وغزارة إنتاجه، لكن أيضاً بفضل حسن تنظيمه وتبنيه للاتجاهات الحداثية فى الشعر كالاتجاه الرومانسي الذى ساد أوروبا خلال فترات سابقة. هكذا ظهرت "مدرسة المهجر" كاتجاه شعرى وتيار أدبى منفصل وله خصائصه وسماته التى تميزه، وهكذا عرفت الذائقة الأدبية أشعار (إيليا أبو ماضى) و(ميخائيل نعيمة) و(جبران خليل جبران).

استمر الاضطهاد السياسي، واستمر نزوح الأدباء الشوام.. فكان منهم (أدونيس) و(نزار قبانى) و(محمود درويش).. ثلاثة من عمالقة الشعر فى القرن العشرين. أثارهم الاضطهاد، وأثْرتهم الحرية وأثرت أعمالهم بفيوض المعانى.

لم يقتصر نزوح الأدباء على الشعراء، فقد كانت هناك طائفة أخرى من الروائيين والناقدين وكتاب القصة والمسرح المغتربين.. (محمود السعدنى) مثلاً عاش حياته مطارداً مكروهاً من كل الأنظمة العربية فى تلك الفترة بسبب قلمه اللاذع. كما اختار الروائى السودانى (الطيب صالح) حياة الغربة والارتحال التى بدأها بروايته الشهيرة "موسم الهجرة إلى الشمال" والتى يبدو أنها بشّرت بارتحاله هو إلى بريطانيا.

والسؤال الذى قد يراودك هنا: هل هناك وجود لأدب المهجر اليوم ؟ والإجابة نعم، بل هو أقوى وأغزر مما كان فى الماضى. إذن: لماذا لا نعلم عنه هنا فى الشرق شيئاً؟!.. هذا هو السؤال.

غربة الكاتب العربي...

تحدث الدكتور حليم بركات أستاذ علم النفس الاجتماعى بجامعة ميتشجن عن عدد من المفكرين والأدباء العرب الذين عرفهم وعاصرهم، وعن غربتهم الداخلية والخارجية. وبدأ حديثه فى هذا الكتاب بالشاعر أدونيس، الذى ما كاد يغترب فى بلد مجاور هو لبنان، بعد تجربة السجن المريرة، حتى كتب ديوان (أوراق فى الريح) الذى عبّر فيه عن مأساة المغترب. وعندما تناول اغتراب الفكر الفلسطينى تحدث عن تجربة المفكر هشام شرابي،مؤسس مركز الدراسات العربية المعاصرة فى جامعة جورج تاون، والصداقة التى جمعتهما معاً، وكيف أنهما التقيا يوماً بأدونيس فى صيف عام 1982 يتساءل ثلاثتهم كيف يسير الناس فى البلدان العربية بارتياح وهدوء هكذا رغم الاجتياح الإسرائيلي للبنان ؟! وقرروا حينئذٍ إنشاء كيان هو "منظمة حقوق الإنسان العربية" وقاموا بدعوة عدد من كبار المفكرين والشعراء العرب كان من بينهم: ( أحمد عبد المعطى حجازى، وأحمد بهاء الدين، وسعد الدين ابراهيم، ونوال السعداوى، وكمال أبو ديب وآخرين ). وكان حليم بركات قد قام قبل ذلك بإصدار مجلتى: (آفاق) و(مواقف) مع الشاعر أدونيس. ثم قام بإنشاء (المؤسسة الثقافية العربية) و(آلف جاليري) فى واشنطن. مما يشير إلى أهمية إقامة مثل تلك الكيانات الجامعة لأنشطة المثقفين والأدباء من المغتربين.

وكما أن هناك غربة إجبارية لبعض الأدباء كالشاعر (محمود درويش) الذى تنقل بين عدد من البلدان العربية والأوروبية حتى استقر فى باريس.. اختار أدباء آخرون غربةً اختيارية مفضلين الكتابة فى المهجر على الكتابة الروتينية الكئيبة فى أرض الوطن، مثلما حدث مع الشاعر (أحمد عبد المعطى حجازى) الذى عاش فى باريس عدة سنوات، كتب فيها عدداً من أجمل قصائده.. ففى ديوانه: (مرثية للعمر الجميل) يقول فى قصيدة: "مسافرٌ أبداً"

أسافر الليلةَ فجأة..

ولا أرجو السلامة!

أعبر تحت الناطحات.. تحت ظلِّ المركبات

بما تبقّى من فؤادى من ثبات

وفى خيالى من وسامة

أمسح هذه المناظر المقامة

حتى يلوحُ مأمنى فى القاع

رطْباً متكسّرَ الشعاع

ويصهل الجوادُ عالكاً لجامه!

أعبرُ أرضَ المدنِ الشمّاءِ بادىَ الجهامة

أطفو على ليلاتها الزرقاء أشدو فى الطريق

أمنحُ قلبي كل يومٍ لفتاةٍ.. أو صديق

لكننى أأبَى الإقامة!

مضى حليم بركات فى كتابه يستعرض الغربة التى يستشعرها فى كتابات طائفة أخرى من الأدباء العرب أمثال: (عبد الرحمن منيف) و (جبرا ابراهيم جبرا) و ( الطيب صالح) و(إدوارد سعيد) و (سعد الله ونوس) و(مروان قصّاب)..تحدث عن الاشتياق للحرية فى ظل الاضطهاد والتسلط. وعن بحث الأديب عن دوره المجتمعى الفاعل وهويته الثقافية مع هامش الحرية التى يتمتع بها فى الغرب.

ورغم أن الكتاب أسهب فى الحديث عن طائفة محددة من الشعراء والأدباء والمفكرين، وعن مآلات الغربة فى أدبهم، لم يتطرق كثيراً للنشاط الأدبى المهجرى بصورته الأكثر اتساعاً. إذ لم يعد أدب المهجر قاصراً على الأمريكتين. لقد اتسعت دائرة الهجرة، واتسعت معها رقعة النشاط الأدبى، وإن كان لا يزال مجهولاً لدينا فى المشرق العربي !!.

ألمانيا على سبيل المثال شهدت نشاطاً أدبياً كبيراً منذ الثمانينيات، تَمثَّل فى المجموعة الأدبية التى أسسها الروائى السورى (رفيق شامى) تحت اسم"الريح الجنوبية"، واتحاد الفنانين الأجانب -أى المغتربين.  وقد أصدر مع زملائه 13 مجلداً تحتوى على مختارات من أدب الكُتّاب المغتربين خلال تلك الفترة. ولم يقتصر نشاط تلك الطائفة من الأدباء على الأدب المقروء، بل أصدروا عدة أشرطة كاسيت فى مختلف فروع الأدب كالسيرة الذاتية والشعر وأدب الأطفال. هناك شعراء وأدباء آخرون مقيمون فى ألمانيا منهم مثلاً الشاعر العراقى خالد المعالى، والذى لا يري أن شعره ينتمى لأدب المنفى وأنه يكتب بشكل مستقل حر، ولا يري أهمية كبري فى تشكيل حركة تضم أدباء المهجر، وهو رأى الكثيرين من أدباء المهجر من أنصار الفن للفن، فهم يكتبون لأنفسهم وذواتهم ما يمكن أن يُدعى أدب التطهر.

فى كندا هناك طائفة من الأدباء مثل الشاعر الكويتي (محمد جابر النبهان)، والشاعرة السورية (جاكلين سلام).. فالمرأة لا تغيب أبداً عن المشهد الثقافى سواءً فى الداخل أو فى الخارج.

استراليا أيضاً شهدت نشاطاً أدبياً واسعاً منذ فترة طويلة قد تصل إلى نصف قرن ! فالبعض يؤكد أن عدد الصحف والمجلات العربية التى صدرت فى استراليا منذ 1957 يصل إلى مائة جريدة ومجلة! بالإضافة لعشرات الكتب والدواوين والمؤلفات الأدبية بمختلف أنواعها واتجاهاتها. إلى جانب تأسيس رابطة تدعى: (رابطة إحياء التراث العربي) عام 1981. وقد أصدرت الدكتورة (هدى صحناوى) كتاباً اعتبرت فيه الشاعر والروائى المغترب (قصي الشيخ عسكر) رائداً من رواد الأدب المهجرى المعاصر فى بريطانيا. مدللةً على رؤيتها تلك بمناقشتها لنصوصه الشعرية وتجربته الأدبية الدسمة.

إذن نحن أمام نشاط أدبي متشعب ودائم فى كل مكان يقيم فيه العرب. فلماذا لا نلحظه هنا؟!

***

د. عبد السلام فاروق

 

الأسلوب والصورة الشعرية:

تتميز القصيدة باستخدام الصور الشعرية الموحية والرمزية، مثل (تلوي خصلة شعر) و(غزل الليل) و(وجهُها أضحى أصيلاً)، مما يعكس حالة من الترقب والانتظار المفعم بالمشاعر والأحاسيس. تتداخل العناصر الطبيعية مع العاطفية، حيث يشير (الغروب يئن) و(الليل يرخي انتظاره) إلى حالة نفسية مترقبة وحزينة في آن واحد.

التكرار واستخدام التوازي:

يتكرر عنصر الانتظار في النص عبر استعارات مثل (الانتظار لنجمة الصباح مع القمر) و(الليل يرخي انتظارهُ)، مما يعزز من طابع النص الساكن والمتأمل. التوازي بين الليل والمساء، وبين الأمل والفقد، يخلق إيقاعاً شعرياً منتظماً يعكس جو الانتظار الذي لا ينتهي.

الزمن والمكان:

الزمن في القصيدة يتأرجح بين الحاضر والمستقبل، حيث يبرز الحاضر من خلال (غروب يئن) و(المساء حزين)، بينما يتوجه المستقبل عبر (أحلاماً لفجر يوم من الأيام الآتية). هذا التناوب بين الحاضر والمستقبل يعكس حالة الاستشراف والتطلع للأفضل في المستقبل.

اللغة والمفردات:

اللغة المستخدمة في القصيدة غنية بالرمزية والتشابيه، حيث يرمز الشاعر إلى الزمن والمكان بطريقة تعبيرية قادرة على إيصال شعور الانتظار والتوق في قلب القارئ. الكلمات مثل (بحيرة السبابة والابهام) تشير إلى دقة اللحظة، بينما تكمن دلالة (أصيلاً) في تعزيز الإحساس بالثبات والقدرة على التكيّف مع مرور الزمن.

الإيقاع والوزن:

النص يعكس إيقاعاً هادئاً، حيث يبرز التأمل والتوقع ببطء، وهو ما يتناسب مع موضوع الانتظار. يتم التنقل بين السطور دون استعجال، مما يساهم في إيصال الشعور العام بالانتظار العميق والمترقب.

الخلاصة:

قصيدة (انتظار) لنصيف علي وهيب تجمع بين الرمزية والصور الشعرية العميقة لتصور تجربة الانتظار التي تحمل مشاعر الحزن والأمل والتطلع. اللغة المتأنية والتكرار المتقن يعززان من إيقاع النص ويجعلانه يعبر عن مشاعر شخصية وعامة في آن واحد.

***

بقلم: كريم عبد الله - العراق

......................

انتظار

تلوي خصلة شعر من ذوائبها، بحيرة السبابة والابهام، غزل الليل إرتقاب، للشمس المشرقة على الكون، وجهُها أضحى أصيلاً، الغروبُ يئن انتظاراً لنجمة الصباح مع القمر، المساءُ حزين والليل يرخي انتظارهُ احلاماً لفجر يوم، من الأيام الآتية.

***

نصيف علي وهيب - العراق

 

رواية من فلسطين

يقول المؤرخ البريطاني هوبل:

(أذا أردت تلغي شعبا، تبدأ اولا بشل ذاكرته، ثم تلغي كتبه وثقافاته وتاريخه. ثم يكتب له طرفا آخر كتابا، ويعطيه ثقافة أخرى، ويخترع له تاريخا آخر، عندها ينسي هذا الشعب من كان وماذا كان والعالم ينساه أيضا).

و الشعوب التي لا تحافظ على تاريخها يكون مصيرها الزوال.

في غلاف الرواية كتب محمود شقير ومن لا يعرفون من هو الكاتب الفلسطيني، مقدسي كان من أبرز مناضلي الحزب الشيوعي الأردني فرع الضفة الغربية، وبعد ابعاده من قبل سلطات الاحتلال من وطنه عام 1975، التحق في الحزب الشيوعي الأردني، وبعد أن أعلن عن تشكيلة الحزب الشيوعي الفلسطيني عام 1982 التحق مع رفاقه الفلسطنين في حزبهم، وكان قد عمل في براغ في مجلة السلم والاشتراكية ممثلا للحزب الشيوعي الفلسطيني وعندما انتهت المرحلة في انهيار

 الاتحاد السوفيتي والمنظومة الاشتراكية عاد إلى عمان ومن ثم إلى القدس مدينته، ولابد من الإشارة انه كاتب سياسي وأديب فلسطيني ممن يشار لهم بالبنان، وله عدد من الروايات والقصص القصيرة وتميز بكتابة القصة القصيرة جدا وحصل مؤخرا على جائزة القدس العالمية للاداب، كتب عن رواية رشيد النجاب ما يلي:

الرواية التاريخية هي تجسيد في صفحات تكتب للأجيال، ويكتب رشيد النجاب رواية سيرية بلغة موحية وسرد حافل بالتفاصيل ويذكر الأمكنة العديدة التي مربها الجد ليضع القارئ أمام التفاصيل بتشويق لا يغيب، وبإيقاع متمهل لكنه متناسب ومتناغم مع كثرة التفاصيل.

ومن خلال معرفتي بعائلة النجاب حيث عرفة العائلة من خلال الدراسة في معهد كوبان الطبي المسمى بالجيش الأحمر في مدينة كراسنودار، حيث كانت الزميلة الدكتورة سلوى عبد الرحمن النجاب في نفس القسم للطب البشري معي وتعرفت والدتي (ام سامي) على عائلة والدها ابو رشيد عبد الرحمن والذي كان في بغداد يعمل في احد منظمات الأمم المتحدة في السبعينات من القرن الماضي، وتعمقت المعرفة عائليا من خلال زيارة الوالدة لهم المتكررة، وانا في دمشق وفي بيت ابو سلام (داود عريقات) تعرفت على ابو فراس (سليمان النجاب) القائد الشيوعي الفلسطيني المعروف والاخ الشقيق لعبد الرحمن النجاب.

وعندما عرفت في أن رشيد عبد الرحمن كتب هذه الرواية، أصبحت لدي رغبة للإطلاع عليها ومن ثم الكتابة عنها: والرواية تتحدث عن قرية من قرى فلسطين عاشت فيها عائلة عبد الرحمن ابو رشيد وهو الجد الجد لكاتب الرواية، الرواية تتحدث عن مرحلة تاريخية في فلسطين الا وهي زمن الاحتلال العثماني المتخلف لفلسطين الحضارة والثقافة، كيف يتعاملوا مع أبناء فلسطين في تجنيدهم في العسكرية، ويسرد الراوي أن رشيد الإبن الوحيد لعائلة عبد الرحمن وله أختان، وان ام رشيد كانت قد حملت في احد عشر حملا من الأولاد لم يعيش لها سوا ثلاثة فقط، رشيد هو الإبن الوحيد لعائلة و كيف يجند؟ ويتركهم بدون معين، وكانت ام رشيد كعادتها اليومية حتى في غياب رشيد تقوم بأعملها في الاعتناء بالدجاج والأغنام والحمار. وكانت ما تفكر به ام رشيد هي زواج رشيد ابنها الوحيد لترى أولاده، وهي كأي ام في تفكيرها. ولكن الجنادرية اخذت منها رشيد ليخدم في صفوف الجيش العثماني المتحالف مع الألمان في الحرب العالمية الأولى. سافر رشيد إلى اليمن، ويتحدث رشيد عن المجندين وحياتهم اليومية وفراقهم لعوائلهم، جلب انتباهي في الرواية مثل قاله رشيد هو [مثل خبز الشعير مأكول مذموم] ولا أعرف لماذا مذموم ولكن نحن في العراق نسوق المثل بقول آخر وهو [السمج (اي السمك) مأكول مذموم] ولأن السمك فيه عظام صغيرة. وفي الرواية يتحدث عن كرم الضيافة بين العوائل الفلسطنية كما هو المثل بضيافة ابو سليم إلى ابو رشيد، وفي الرواية نجد أن الفلسطنين متعايشون بين الطوائف والديانات المسيحية واليهودية والشيعة من المسلمين، ابو رشيد يتحدث مع ام رشيد حول ضرورة الهجرة الى مدينة يافا لأن الموسم قليل في القرية، مما حدى بأم رشيد تثير التسأل، حول مالعمل هناك؟.

ويثير المؤلف قضية وطنية تداخلت مع روح رشيد: عندما كلفه المسؤول التركي عن وجود شخص له صورة لديهم، قائلا انه شخص مشاغب ولكن رشيد ورفاقه الست الذين أخبرهم، أقترح عليهم أن لا يفتشوا عنه لكن عليهم أن يعرفوا المنطقة جيدا، حتى في حالة السؤال سيكونوا على علم بها، وقال لهم رشيد قد يكون هذا الشخص غير مرغوب به من قبل الاتراك وهو ضدهم؟ وهنا تظهر حس المشاعر الوطنية الفياضة، لدى رشيد، أن هذا حر وابن جلدته فلسطيني. وعندما عاد رشيد بعد جولة الخدمة العسكرية في دمشق وحلب وتوفي والده ابو رشيد (عبد الرحمن) ودفن في العباسية، وتزوج رشيد وانجب ابنه الأول عبد الرحمن وكذلك سليمان. ولاعتزاز رشيد الإبن سمى ولده الأول عبد الرحمن.

واريد ان أن نقل نصا مما كتبه رشيد النجاب في روايته: بعنوان العودة إلى القرية الام (العودة إلى جيبيا) يكتب ؛ [كان القرار واضحا بالنسبة لمصلحة بعد وفاة عبد الرحمن المفاجئة في العباسية، لم يبق الا العودة إلى جيبيا، حيث الدار والأهل والأقارب والأمل الخافق بعودة رشيد، ذلك الإحساس الخاص الذي سكنها منذ أن تابعت الركب يبتعد برشيدها إلى أن لمحته على مشارف أم صفاة، وهو الأمر الذي حاولت تكرسه لثنين عبد الرحمن عن فكرة الهجرة ولم تنجح، ربما لم تكن أكثر وضوحا في موقفها من ذلك اليوم، وضوح لم يترك لرفاق السفر من خيار سوى الإقرار بضرورة مرافقتها وبناتها في طريق العودة إلى جيبيا، الطريق التي بدت على الرغم من طولها، ووعورتها وصعوباتها أسهل من طريق الذهاب على الرغم من افتقارها إلى صحة عبد الرحمن، وعادت مع فاطمة وحمدة إلى السقيفة. بدأت مصلحة تؤسس لحياة جديدة تولت فيها دفة القيادة إلى أن يعود رشيد الأمل الذي أمدها بطاقة مكنتها من بث الحياة في السقيفة، هنا ستكون بانتظار رشيد، ولن يحتار هو في البحث عنها وعن اختيه، عند عودته]. انتهى الاقتباس.

عند قراءتي لهذه الرواية الجميلة وجدت انها تاريخ عائلة وقرية واستعمار عثماني، وجزء من تاريخ شعب فلسطين في معاناته من المستعمر العثماني، اجاد حفيد هذه العائلة رشيد النجاب في سباكة مهنية لقاص أجاد عمله في اختياره لمفردات، ترسم صورة للحدث من موقعه، الصديق رشيد النجاب له مستقبل زاهر ومشرق في استمراره كروائي وخاصة اليوم يتعاظم نشاط مقاومة شعبنا الفلسطيني، من أجل استرجاع فلسطين من الصهاينة، والأحداث مشجعة الان لما تقوم به الصهيونية المدعومة من الامبريالية الامريكية في عملية الابادة الجماعية للشعب الفلسطيني في غزة والضفة من قتل للأطفال والنساء والشيوخ والمرضى وقتل الطواقم الطبية وتدمير المستشقيات.

اتمنى ان يطلع القراء على الرواية المشوقة.

***

محمد جواد فارس - طبيب وكاتب

..........................

ملاحظة للتعريف

- الخروبة؛ شجرة حرجية تنبت تلقائيا، وهي وارفة الظلال، وتنتج قرونا تستخدم في صنع العصائر والحلويات.

- جبييا؛ هي قرية صغيرة تبعد 5 كيلومترات غرب بيرزيت.

والمَرْءُ في أُسلوبه مَخْبُوْءُ!

مَن يقارن مقدِّمة (الشريف الرَّضِي، -406هـ= 1015م)- وهو الكاتب الشاعر، والمترسِّل البارز في زمنه- لكتاب «نَهْج البلاغة» بما ينسبه بعدئذٍ إلى (عَليِّ بن أبي طالب، كرَّم الله وجهه)، يلحظ أنَّ المقدِّمة ومتن «النَّهْج» بأسلوبٍ واحد: جُمَلًا قصارًا، في سجعتَين سجعتَين، أو ثلاث، على طريقة كتَّاب ذلك العصر.

هكذا استأنف بنا (ذو القُروح) مساقه الجديد. قلتُ:

ـ وماذا بَعد؟

ـ مَن يقرأ «النَّهْج» أيضًا يجده في بعضه أشبه بمقامات (بديع الزمان الهمداني، -398هـ= 1007م)، المعاصر لـ(الشَّريف الرَّضِي)، من حيث النَّظْم؛ فيتأكَّد له أنه ليس بأسلوب ابن أبي طالب، ولا بأسلوب العصر الذي عاش فيه، بل هو أسلوب مترسِّلي القرن الرابع الهجري.

ـ ولقد اختلف الدارسون المؤرِّخون في مُنبثَق فنِّ (المقامات الأدبيَّة)، من ناسبٍ ريادتها إلى (بديع الزمان)، وذاهب إلى أنَّ البديع إنَّما حذا حذو اللُّغويِّ (ابن دريد، -321هـ= 933م) في أحاديثه.

ـ صحيح. ولو صحَّت نِسبة «النَّهْج» إلى (أبي الحَسن)، لكان الأَولى، إذن، أن تقول إنه، في نسيجه الأسلوبي، رائد فنِّ المقامات! وما على القارئ إلَّا أن يطالع في «النَّهْج»، مثلًا، ما جاء في قِصَّة خلق آدم، وخلق الكون، وغيرهما، ليجد أنَّ الأسلوب هو الأسلوب، في فنِّ المقامات وهذا الضرب من «النَّهْج».

ـ هلَّا مثَّلتَ؟

ـ انظر، مثلًا، كيف يصف فريضة الحَج: «وفَرَضَ عليكم حَجَّ بيتِه الحَرام، الذي جعلَه قِبْلَةً للأنام، يَرِدُونه وُرودَ الأنعام، ويَأْلَهون إليه وُلُوْهَ الحَمام.  جعلَه، سبحانه، علامةً لتواضُعهم لعَظَمته، وإذعانهم لِعِزَّته. واختارَ مِن خَلقِه سُمَّاعًا أجابوا إليه دعوته، وصَدَّقوا كلمته، ووقفوا مواقفَ أنبيائه، وتشبَّهوا بملائكته، المُطيفين بعَرشه؛ يُحرِزون الأرباحَ في مَتْجَر عِبادته، ويَتبادرون عند موعد مغفرته. جعلَه، سبحانه وتعالى، للإسلام عَلَمًا، والعائذين حَرَمًا، فَرَضَ حَجَّه، وأوجبَ حَقَّه.»(1)

ـ وكأنَّ السجعة الأخيرة، «حَجَّه» و«حَقَّه»، إنَّما قيلت باللهجة المِصْريَّة؛ بقلب الجيم قافًا!

ـ على كلِّ حال، لقد ضاع أكثر النثر العَرَبي؛ لأنَّه لم يكن مكتوبًا قبل الإسلام، كما ضاع أكثر النثر الإسلامي، الذي لم يُكتب. وهو ما اقتضى تصحيح الحديث النبوي، بقدر المستطاع، بعد عقود من الرواية الشفويَّة، لحفظ ما صحَّ منه. بل إنَّ الشِّعر- الذي حِفظه في الصدور أسهل من حِفظ النثر بمراحل- قد اعتراه ما اعتراه من كَذِبٍ ووضْعٍ وانتحال. فماذا عن «النَّهْج»؟ أكان مكتوبًا منذ قاله (عَليٌّ)؟ فأين المخطوطات؟ أم كان مرويًّا؟ فمن رُواته؟ وأين الأسانيد؟

ـ غير أنَّ النقد الداخلي للنصوص يدلُّ على أنه في معظمه- في الأقل- موضوع، نُحِل عَليًّا نحلًا.

ـ نعم. غير أنَّ الأمر يتخطَّى الأسلوب إلى الأفكار العبَّاسيَّة المعروفة أيضًا، التي لم تكن مطروحة، ولا محلَّ جدلٍ في صَدْر الإسلام، ولا حتى في العصر الأُموي.

ـ مثل ماذا؟

ـ قضيَّة الأسماء والصفات، على سبيل المثال. اقرأ هذا النص: «أَوَّلُ الدِّينِ مَعْرِفَتُه، وكَمالُ مَعْرِفَتِه التَّصْدِيقُ بِه، وكَمالُ التَّصْدِيقِ بِه تَوْحِيدُه، وكَمالُ تَوْحِيدِه الإِخْلَاصُ لَه، وكَمالُ الإِخْلاصِ لَه نَفْيُ الصِّفاتِ عَنْه، لِشَهادَةِ كُلِّ صِفَةٍ أَنَّها غَيْرُ المَوْصُوف، وشَهادَةِ كُلِّ مَوْصُوفٍ أَنَّه غَيْرُ الصِّفَة، فَمَنْ وصَفَ اللهَ سُبْحانَه، فَقَدْ قَرَنَه، ومَنْ قَرَنَه، فَقَدْ ثَنَّاه، ومَنْ ثَنَّاه، فَقَدْ جَزَّأَه، ومَنْ جَزَّأَه، فَقَدْ جَهِلَه، ومَن أشارَ إليه، فقد حَدَّه، ومَن حَدَّه، فقد عَدَّه، ومَن قال: «فِيمَ؟»، فقد ضَمَّنَه، ومَن قال: «عَلامَ؟»، فقد أَخْلَى مِنه. كائِنٌ لا عَنْ حَدَث، مَوْجُودٌ لا عَنْ عَدَم، مَعَ كُلِّ شَيْءٍ، لاَ بِمُقَارَنَة، وغَيْرُ كُلِّ شيءٍ، لا بِمُزَايَلَة، فَاعِلٌ، لا بِمَعْنَى الحَرَكاتِ والآلَة، بَصِيرٌ، إذْ لا مَنْظُورَ إلَيْهِ مِنْ خَلْقِهِ، مُتَوحِّدٌ، إذْ لا سَكَنَ يَسْتَأْنِسُ بهِ ولا يَسْتوْحِشُ لِفَقْدِه...».(2) فهذه كانت قضيَّة القضايا في العصر العبَّاسي، (قضيَّة الأسماء الصفات)، وهذا عَين كلام المعتزلة ومذهبهم.  حيثُ إنَّهم أثبَتوا الأسماء، ونفَوا الصِّفات، مخالفين أهل السُّنة؛ ولذا وُصِفوا بالمعطِّلة، أو بالنُّفاة؛ لأنهم يزعمون، كما في هذه الخُطبة النَّهْجيَّة: أنَّ «كُلَّ صِفَةٍ له غَيْرُ المَوْصُوف، وكُلِّ مَوْصُوفٍ غَيْرُ الصِّفَة»؛ لأنه لو اتَّصف بالصفات، للَزِمت مماثلتُه خَلقَه، ولَزِم تعدُّده، كما يزعمون. وهو تفلسفٌ ما كان محلَّ تجاذبٍ في صَدْر الإسلام قط. وتلك هي القضايا الجدليَّة، التي انقسم جرَّاءها المسلمون في العصر العباسي، ولم تكن لها أثارة من ذِكرٍ من قبل. ولو كانت من مستقِرِّ الرأي في صَدْر الإسلام، لما كانت لتثير جَدَلًا، ولا خِلافًا، وتكفيرًا، وقتلًا بين المسلمين لافتراق الآراء الفلسفيَّة فيها!

ـ وها قد جعل (الشريف الرَّضِيُّ) عَليًّا أحد أقطاب الجدال حول الله وأسمائه وصفاته، وقِدَم العالم أو حدوثه، في العصر العبَّاسي، آخِذًا بيده إلى مسالك الاعتزال في تلك المسائل! فلله درُّه من عابرٍ للعصور والعقول والثقافات!

ـ هذا فضلًا عن إتيانه بتفاصيل عجيبة في «سيناريو» ابتداء خَلْق السماء والأرض وخَلْق آدم، ممَّا لم يأت لا في كتاب ولا على لسان رسول! قائلًا: «ثُمَّ أَنْشَأَ، سُبْحانَهُ، فَتْقَ الأَجواء، وشَقَّ الأرجاء، وسَكائِكَ الَهواء، فأَجازَ فيها ماءً مُتَلاطِمًا تَيَّارُه، مُتَراكِمًا زَخَّارُه، حَمَلَهُ على مَتْنِ الرِّيحِ العاصِفَة، والزَّعْزَعِ القاصِفَة، فَأَمَرَها بِرَدِّه، وسَلَّطَها عَلَى شَدِّه، وقَرنَها إلى حَدِّه، الهَواءُ مِنْ تَحْتِها فَتِيق، والماءُ مِنْ فَوْقِها دَفِيق. ثُمَّ أَنْشَأَ، سُبْحانَهُ، رِيحًا اعْتَقَمَ مَهَبَّها، وأَدامَ مُرَبَّها، وأَعْصَفَ مَجْراها، وأَبْعَدَ مَنْشاهَا، فَأَمَرَها بِتَصْفِيقِ الماءِ الزَّخَّار، وإِثارَةِ مَوْجِ البِحار، فَمَخَضَتْهُ مَخْضَ السِّقاء، وعَصَفَتْ بهِ عَصْفَها بِالفَضاء، تَرُدُّ أَوَّلَهُ عَلَى آخِرِه، وسَاجِيَهُ عَلَى مَائِرِه، حَتَّى عَبَّ عُبابُه، ورَمَى بِالزَّبَدِ رُكامُه، فَرَفَعَهُ فِي هَواء مُنْفَتِق، وجَوٍّ مُنْفَهِق، فَسَوَّى مِنْهُ سَبْعَ سَماوات، جَعَلَ سُفْلاهُنَّ مَوْجًا مَكْفُوفًا، وعُلْياهُنَّ سَقْفًا مَحْفُوظًا، وسَمْكًا مَرْفُوعًا، بِغَيْر عَمَدٍ يَدْعَمُها، ولا دِسارٍ يَنْظِمُها. ثُمَّ زَيَّنَها بِزينَة الكَواكِب، وضِياءِ الثَّواقِب، وأَجْرَى فِيها سِراجًا مُسْتَطِيرًا، وقَمَرًا مُنِيرًا: في فَلَكٍ دائِر، وسَقْفٍ سَائِر، ورَقِيمٍ مَائِر...». 

ـ فالسماء الدنيا موجٌ من الماء، لكنَّه مكفوف، ولولا ذلك لانسكب على رؤوس الأرض فأغرقها! فأنَّى له ذلك؟ أكان نبيًّا آخَر؟! 

ـ إنَّما تلك الثقافة الشعبيَّة القديمة في تصوُّر بدء الخلق، التي نجدها عند غيره، كما في مقدمة تاريخ (الطَّبَري) حول مبتدأ الخلق، مع أنَّ الطَّبَري كان يستند في ما يورد على بعض «القرآن» و«الأحاديث»، ولو تأوُّلًا.

ـ مع بعض الاسرائيليَّات!

ـ طبعًا. فالطَّبري قد خاض بدَوره في ثقافة عصره، بالقول حول ابتداء الخلق، ما كان أوَّله؟ ومنه القول إنَّ السماوات والأرض وكلَّ ما فيهنَّ تحيط بها البحار، ويحيط بذلك كله الهيكل، ويحيط بالهيكل، فيما قيل، الكرسي. وصولًا إلى ما يورده تحت عنوان «ذِكر الأخبار الواردة بأن إبليس كان له مُلك السماء الدنيا والأرض وما بينهما»!(3) وكذلك يفعل صاحب «النَّهْج»؛ إذ يورد أدقَّ التفاصيل في كيفية خلق الله لآدم.(4) فمِن أين له ذلك العِلم بالغيب، أكان يشاهد عمليَّة الخلق؟ أم جاءه وحيٌ، لم يأت ابن عمِّه محمَّدًا، عليه الصلاة والسلام؟! بل ستجده يضيف عن السماوات قوله: «ثُمَّ فَتَقَ ما بَيْنَ السَّماواتِ العُلَى، فَمَلأهُنَّ أَطْوارًا مِنْ مَلائِكَتِهِ: مِنْهُمْ سُجُودٌ لايَرْكَعُون، ورُكُوعٌ لا يَنْتَصِبُون، وصافُّونَ لا يَتَزايَلُون، ومُسَبِّحُونَ لا يَسْأَمُون، لا يَغْشاهُمْ نَوْمُ العُيُون، ولا سَهْوُ العُقُول، ولا فَتْرَةُ الأبدَان، ولا غَفْلَةُ النِّسْيان. ومِنْهُمْ أُمَناءُ على وحْيِه، وأَلسِنَةٌ إلى رُسُلِه، ومُخْتَلِفُونَ بِقَضائِهِ وأَمْره. ومِنْهُمُ الحَفَظَةُ لِعِبادِه، والسَّدَنَةُ لأبوابِ جِنانِه. ومِنْهُمُ الثَّابِتَةُ في الأرَضِينَ السُّفْلَى أَقْدَامُهُم، والمارِقَةُ مِنَ السَّماءِ العُلْيا أَعْناقُهُم، والخارجَةُ مِنَ الأقطارِ أَرْكانُهُم، والمُناسِبَةُ لِقَوائِمِ العَرْشِ أَكْتافُهُم، ناكِسَةٌ دُونَهُ أَبْصارُهُم، مُتَلَفِّعُونَ تَحْتَهُ بِأَجْنِحَتِهِم، مَضْرُوبَةٌ بَيْنَهُم وبَيْنَ مَن دُونَهُم حُجُبُ العِزَّة.»(5) 

ـ أنَّى له كل هذا؟! 

ـ لا تسألني، يا هذا، بل اسأل (محمَّد بن الحُسين)!

ـ حاولتُ، لكن لم أجده لأسأله! فسألت أخاه (عَليَّ بن الحُسين، -436هـ= 1044م)، فأجاب:

لا تَسلْنِـي عَـمَّا أَراهُ فـإنِّـي   :::   كُلَّ يومٍ أَرَى بِعَينيْ عَجيبا

ـ لقد سألتَ به خبيرًا! وبالمناسبة، كثير من الباحثين يرون أنَّ (المرتضَى) هو واضع «النَّهْج»، وليس أخاه (الرَّضِي)، والمرتضَى من أهل الكلام القائلين بالاعتزال. ولذا لا غرابة أن تلمس بصمات الاعتزال واضحةً على «النَّهْج».

ـ والمَرْءُ في أسلوبه مخبوءُ!

***

أ. د. عبد الله بن أحمد الفَيفي

  ........................

(1) (1990)، نَهْج البلاغة، شرح: محمَّد عبده، (بيروت: مؤسَّسة المعارف)، 97- 98.

(2) م.ن، 85- 89.

(3)  يُنظَر: الطَّبَري، (1967)، تاريخ الرُّسل والملوك، تحقيق: محمَّد أبي الفضل إبراهيم، (القاهرة: دار المعارف)، 1: 32- 82.

(4) يُنظَر: النَّهْج، 91- 92.

(5) م.ن، 89- 90.

التشريح النفسي لقصيدة أنشودة المطر لرائد الشعر الحر بدر شاكر السياب، ربما يستكشف أعماق اليراع الذي كتبها، والنفس التي تفاعلت مع مفرداتها وإيقاعاتها ونبضاتها العاطفية والإنفعالية والفكرية، وكيف بقيت ذات طعم خالد. وهذه المحاولة تهدف إلى وعي الصورة الشعرية وتحليل مكوناتها التعبيرية النفسية والعقلية.

تبدأ القصيدة بكلمة "عيناك"، والعين تبوح بالمعاني واللغات التي تعجز عن إحتوائها أبجديات الكلام، ذلك أن الروح  بطاقاتها وقدراتها الخلقية والإبداعية تنحبس في الأعماق ويتعذر التعبيرعنها بالكلمات، فتتحول العيون إلى ينابيع بوح صادق وأليم ومضرج بالحزن والمرارة والحرمان.

لكن الشاعر يقلب تلك الصورة المأسوية فيقرن بين غابات النخيل البصراوية المتهامسة عند السَحر والمعبرة عن طاقات الحياة والعطاء، وفي هذا توحد وتمثل مطلق يكون العاشق فيه لا يرى حبيبته كما هي، وإنما مثلما يتمثلها في خياله ورؤاه الشعرية المعتقة في قوارير الحب الفتان.

وبهذا تكون العينان في حالتي تمثل جمالي متساوق مع نبضات الأشواق والأحلام واللهفة. وهذا توحد جزئي يريد به الكلية لأن وجود الحبيبة وصورتها الخيالية قد تكثفت في العينين، ولذلك فأن التعبير يمتلئ بالصدق والحس الشاعري الإنساني الفياض، لأن ما يريده من شدة إنحباسه يفيض من العيون، فتكون النظرة أغنى من كتاب.

ويبدو أن الشاعر يجيد قراءة العيون ويترجم أبجدية النظرات بأسلوب إنتصر فيه على قيود الشعر العمودي، وحرر النفس والروح من أصفاد العروض، فكانت العيون منطلق الإرتقاء بثورة الحرية الفكرية والفنية، لأن العيون ترمز للحرية والجمال والصفاء والإنتماء.

عيناكِ غابتا نخيلٍ ساعةَ السحر

في وقت السحر تكون العيون الناعسة المستريحة متحررة من أعبائها، فتبدو في غاية النقاء والروعة الخلابة التي تداعب أنياط القلوب، فكان الوصف دقيقا وموسوعيا فيما تلاه من تطورات في الصورة الشعرية، والتركيبات الأسلوبية المؤثرة في النفس والروح.

أو شرفتانِ راحَ ينأى عنهُما القمر

في هذا رسم لحالة النعاس وبهاء بريق الحياة المنبثق من العيون، التي تكثفت فيها طاقة الوجود والنماء والتجدد والبقاء، وكأن وهج الروعة بدأ يخبوا بإنسيابية نأي القمر عن الأشهاد وقت السحر الصافي الساكن العذيب.

عيناكِ حين تبسمانِ تُورقُ الكروم

وهنا يتحول رفيف الأجفان إلى إبتسامات، لكن المقل الثرية بالمشاعر والأحاسيس، كأنها سكرى بالأشواق والأمل، ولهذا أورقت الكروم لتسقيها بسلاف روحٍ إنتشر.

وترقصُ الأضواءُ.. كالأقمارِ في نهر

دفق الحياة الوثاب في فضاء العينين إستنزل الأكوان وإمتد في رحاب المطلق البعيد، فصارت الأضواء تنعكس فيه وتتلألأ الأقمار وتتجدد الصور.

يرجُّهُ المجدافُ وَهْناً ساعةَ السحر

وكأنه يقرأ لغة الأجفان ويقرنها ببيئته، ويقارن ما بين إيقاعاتها الناعسة وحركة المجداف، الذي يحركه إنسان هده تعب الليل، وهو يسعى بالظفر بصيد يعينه على مشقة الأيام.

كأنّما تنبُضُ في غوريهما النجوم

.....  وفي هذا المقطع لم يقنع بما يرى بل أخذ يغوص عميقا جدا في قاع

العيون بمنظاره الشعري وآلة خياله التواق، فيرى نجوما أخرى، لأن العيون صارت طبقات أكوان ومختصر وجود أعظم.

وتغرقان في ضبابٍ من أسىً شفيف...

ويخيل للقارئ أن الرحلة الخلابة في عيون المعشوقة تحولت إلى صورة بانورامية، لأن الحبيبة تتوطن خيالا متدفقا ومعبرا عن طاقات لا محدودة تخشى منها الحروف والكلمات.

وهكذا تهب ومضات الأسى وتتبارق حولهما، فيراهما الشاعر ضبابا لأن صفاء النظر قد شابه التعب، وأفقده بعد المنال توهج حرارته ونماء إرادته الإنسانية.

كالبحرِ سرَّحَ اليدينِ فوقَهُ المساء...

هذا النهر الدافق قد سكن في بحر ذي أمواج صاخبة لا تهدأ لكن المساء أوهمنا بسكينته، وما هو إلا قوة فوارة معتلجة بالطاقات.

وانطبقت الأجفان وما كان الشاعر يرى إلا سواد المقل قبل أن تغيب الحبيبة في رحلة الهجوع وأنها البحر.

دفءُ الشتاءِ فيه وارتعاشةُ الخريف...

وكأنه يقرن ما بين البحر والعيون حيث الدفئ اللذيذ في أعماقه، المسكونة بالأحياء وأمواجه التي قرنها بالخريف، وهذا يرمز إلى غياب الجمال وإنعدام العطاء والتواصل الفعال مع الأشياء، فهدأت الحبيبة واستوحش الحبيب.

والموتُ والميلادُ والظلامُ والضياء...

في لحظة التبصر والإدراك العميق لمعاني القوانين الكونية العظمى، المنبثق من مشهد العيون في رحلتها الحرمانية القاسية، تشخص المتناقضات وتنطبق الكليات على الجزئيات، ويكون صوت الحياة واحد، غياب وحضور، وحضور وغياب، ودوران في قفص الوجود كالبلبل المذبوح بصوته الفتان، وما غناؤه إلا بكاء أليم وإنفجارات روح في حنجرة الأسير.

فتستفيقُ ملء روحي، رعشةُ البكاء...

بهذا الوعي الأليم يفقد الإنسان لغاته ويبدأ البكاء صولته، لكي ينقي الأعماق من صديد هول الحرمان وفقدان الرجاء، فينأى بما يريد إلى غير وجهته، أي يتسامى إلى ما لا يريد ليحافظ على ما يريده ويبتغيه من الآمال والرغبات المخنوقة في دياجير فؤاده الكسير.

ونشوة وحشية تعانق السماء...إنها نشوة متدفقة ذات سمات حرمانية، ومعوقات أرضية، فلا يمكنها أن تتحقق فوق التراب، ولا بد لها أن تطوف السماء، وترج أركانها، لأنها من شدة الإختناق فقدت صوابها وتوحشت وأمعنت بصيرورتها الفنائية العلوية، فتماهت بطاقة السماء.

كنشوةِ الطفلِ إذا خاف من القمر...

ويدخل الطفل في المشهد ليرمز إلى تحطم القيود، والتمني بالتعبير عن الرغبات المكبوتة بحرية الطفل الذي لا يعرف الممنوع، وأنه يسعى إلى ما يريده بحرارة عواطفه وطاقة مشاعره البقائية.

نشوة العاشق المتيم المحروم، تشق لها دروبا في خلجان النفس، وتصل إلى ما تريده من اللذة والتوحد مع المعشوق.

كأنَّ أقواسَ السحابِ تشربُ الغيوم

المقطع يشير إلى تعبير رمزي عن الرغبة الجياشة المتحرقة التواقة للإندماج المطلق في بدن المحبوب، والتغلغل بكيانه والسريان بعروقه، ويتحقق بعد ذلك الإعتصار العنيف، فينزفان حقيقتهما الذاتية ويسريان في كيان الوجد السرمد، وكأن السحاب ذكرا والغيوم أنثى أو العكس.

وقطرةً فقطرةً تذوبُ في المطر

هذا التداخل الإنساني الروحي العميق يتجسد بأن الحبيبين فتحولا إلى صيرورة واحدة متسربة في الصيرورات الأخرى، واللذة القصوى تتجسد في ذلك.

وكركرَ الأطفالُ في عرائش الكروم...

وبعد التفاعل الخيالي مع المحبوبة المأسورة بالممنوعات والتقاليد الجائرة، يكون التحدي بطاقات الخيال فيتحقق التفاعل في الفضاء، وتلد مسيرة العشق أثمار التلاحم النفسي والبدني، فيكون الشاعر في حضرة الخيال المجسد لما لا يكون إلا فيه.

ودغدغت صمتَ العصافيرِ على الشجر..

.وبغتة يستفيق من رحلته العميقة في العيون، ويصغي إلى إنشودة المطر التي أخذت تنبه الأحياء والبشر....

أنشودة المطر

مطر

مطر

مطر...

العلاقة بين الإنسان العراقي والمطر ليست حميمة، وإنما هي قاسية وتشير إلى ما سيحصل من سيول وفيضانات وتداعيات مأساوية إلى بضعة عقود مضت، برغم أن المفهوم العام هو الخير، لكن الأعماق الخفية ترى غير ذلك، فللمطر تداعيات نفسية وسلوكية ذات نتائج متعددة في دنيانا، ففي القصيدة حزن حرماني موجع وقاسي يستدعي الذكريات المتلائمة معه، والمؤازرة لسيرورته العاطفية وكثافته الإنفعالية القاتمة.

ومن أقسى حالات الحزن أن تتلقى المدارك إشارات الخير والنماء على أنها غير ذلك، فيكون المطر مفتاحا لبوابة الأحزان التي تندلق معانيها وشواهدها في عبارات القصيدة.

تثاءبَ المساءُ والغيومُ ما تزال

تسحّ ما تسحّ من دموعها الثقال...

هنا يتجلى الكسل والتراخي وفقدان العزيمة والإستسلام، فتغيب روح التحدي والمواجهة والإصرار على صناعة الحياة، فصار المساء يتثاءب متكاسلا ومحاصرا بيأسه وحزنه، وكأن الغيوم تشاركه همومه فتبكي بدلا عنه، أو تبكي معه، لأن دموعها قد تخزنت وتكثفت وإزدادت ثقلا وغزارة لدرجة ما عادت تمتلك القدرة على لجم جماح تدفقها وإنهمارها الغزير على سفوح الآلام.

كأنّ طفلاً باتَ يهذي قبلَ أنْ ينام...

وفي ذروة اليأس والقنوط، يتحقق الهذيان، أو تخيل الأشياء الغير موجودة، يكون الإنسان في أجواء تساقط المطر وكأنه السجين المقيد، الأسير في ذاته ومكانه ولا يمتلك القوة على الحركة والتعبير عن الحياة الجميلة، فيستكين لأراجيف التصورات والرؤى السوداوية، التي تستدعي ما يناهض الحياة.

بأنّ أمّه - التي أفاقَ منذ عام...

المقطع حاد في التعبير عن الفقدان وشدته وقوته العاطفية وتأثيره في السلوك والتفاعل مع المحيط، وكأنه يريد القول بأن الإنسان في بلاده، قد فقد الرعاية والأمومة، فاصبح تائها بلا دليل ولا تربية، ويتخبط ويتأمل على أن شيئا ما سيتحقق ذات يوم ويتمكن من التفاعل الصحيح مع الحياة.

فلم يجدْها، ثم حين لجَّ في السؤال...البحث عن المفقود لا يؤدي إلى نتيجة وإنما يدفع إلى سلوكيات مخادعة وتضليلية تجانب الحقيقة وتنكرها، لأننا لا نريد أن نواجه أنفسنا بل نخدعها، ونبرر لها ما تقوم به، ونسقطه على غيرها إن كان غير مقبول.

وهذا سياق ثابت في تربيتنا منذ الطفولة وينعكس على تفاعلاتنا في المجتمع عموما.

قالوا له: "بعد غدٍ تعود" ...

وهكذا يتم تجسيد سلوك الكذب والتضليل كأسلوب مريح ومساهم في مساعدة الإنسان على مواجهة الحرمان، فلا يتأكد العمل بالبحث والجد والإجتهاد، وإنما بالتجافي والتجاهل وخداع الذات وتخديرها حتى تستكين وتذعن لحالها وظروفها، لكي تبقى وتتواصل مستعذبة البؤس والحرمان.

لا بدّ أنْ تعود...

يتأكد الكذب ويتكرر بحيث يكون اليقين محض إفتراء، فكيف يكون الصدق بعد ذلك هو السلوك المفيد، ما دام الطفل قد كُذِب عليه في أدق حالاته الإنفعالية وأصعبها.

فكيف تعود الأم ؟

في هذه الحالة عليه أن يتخيلها ويتوهمها ويتصور كيف تتفاعل معه وتستجيب لحاجاته، وبهذا يتم خلق إنسان مقطوع عن محيطه، ومنشطر عنه وبذلك لا يمكنه أن يغيره أو يضيف إليه لأنه في حالة إنقطاع تام عنه.

وإنْ تهامسَ الرِّفاقُ أنّها هناك...

مرة أخرى يتكرر مشهد مأساوي تربوي يؤدي إلى بذر الشك وعدم الثقة في الإنسان، فالكذب الموجع، والتفاعل الذي يدعو إلى الحيرة وعدم الثقة ينمي قدرات الشك عند الإنسان، ولذلك فالإنسان يكون ميالا للشك وسوء الظن كثيرا بغيره وحتى بأقرب الناس إليه.

في جانبِ التلِ تنامُ نومةَ اللحود،...

نعم إنها هناك لكننا نكذب عليك لنتخلص منك ومن تداعيات معرفتك بحقيقة أمرها، فلن نقول لك الصدق وما عليك إلا أن تكتشفه بنفسك بعد رحلة شقاء وكدر، وفي ذلك تنمية لمشاعر الغضب والعدوان والكراهية والإنتقام، لأن الطفل سيبقى يتساءل بحسرة عن الكذب والتضليل الذي صاغ حياته بطريقة أخرى، وأخذها في مسالك متعثرة وغير مجدية، وحالما إصطدم بالواقع القاسي، تنطلق مشاعره وإنفعالاته المحبوسة المضغوطة، فتفعل ما تفعله في محيطه الظالم المضاد لمسيرته الآدمية.

تسفُّ من ترابها وتشربُ المطر ...

تعبير ثقيل وأليم، فالمطر لا يصلح للأحياء وإنما هو يتسرب إلى مواضع الأموات ويزيدهم موتا، وبهذا تتحقق الصورة الحقيقية عن العلاقة بالمطر، ولا بد من الغوص في أعماق الصورة وتعبيراتها السلوكية والإنفعالية.

فالمطر يظهر كفعل تراجيدي غريب، لا يمكن تفسيره بسهولة، فالإنسان يستاء من المطر ولا يريده، لأن البيوت كانت من الطين، وتصريف المياه متخلف وغير موجود، وكم يفيض النهران بسبب المطر ولا يستطيع الإنسان من مواجهة شراسة الفيضان، وكأنه العدوان الذي يهاجم الناس كل ربيع، حتى نهاية الستينيات من القرن العشرين.

ولم يستريح الناس من فيضانات النهرين إلا في العقود القليلة الماضية، فالمطر عدوان، ولا ينفع إلا الأموات، وقد يخلصهم من فم التراب ويجرفهم إلى حيث الذوبان في تيارات المياه المتواصل مع دورة الماء في الطبيعة المتغيرة.

وهذا موقف سلبي ومناقض لطبيعة الأشياء، فالمطر هو الخير، والإنسان ما تعلم مهارات التواصل معه وإستثمار مياهه في التنمية الإقتصادية، حتى غاب المطر وندر، فصار الجفاف ضاربا والمطر عزيزا ومجهولا في أكثر الأحيان.

كأنّ صياداً حزيناً يجمعُ الشباك...

ويلعنُ المياهَ والقدر

وينثرُ الغناء حيث يأفلُ القمر

مطر، مطر، المطر

الفرق بين صياد همنغواي وصياد شاعرنا كالفرق ما بين القطبين، وكأننا ما قرأنا ملحمة جلجامش التي ترجمها صياد همنغواي.

الصياد حزين ويائس وتم تفريغه من طاقات التحدي والإصرار، وشحذه بالإنفعالات السلبية القاسية، والتفاعلات الإسقاطية الإستسلامية للقوى والقدرات الأخرى، أيا كان عنوانها ورمزها، ولكي يزيح مشاعره الأليمة البائسة، لا بد له من الغناء الذي يرسم فيه لوحة نفسه ويسكب أنواء عجزه.

وبهذه الصور القاتمة الدامعة المتحسرة الكسيرة تتسم الأغاني  والشعر الذي يؤكد في ألفاظه وإيقاعاته الرقص على أوردة نزيف الأجيال المذبوحة بالحرمان والظلم والإمتهان.

وهكذا يبدو المطر وسيلة إجهاضية سلبية، تدين فقداننا لمهارات إستثماره وتوظيفه لصناعة الحياة الأفضل.

أتعلمين أيَّ حزنٍ يبعثُ المطر؟

وكيف تنشجُ المزاريبُ إذا انهمر؟

وكيف يشعرُ الوحيدُ فيه بالضياع؟

بلا انتهاء_ كالدمِ المُراق، كالجياع

كالحبّ كالأطفالِ، كالموتى –

هو المطر ....

وتعلو صرخة النفور من المطر والتخاطب معه على أنه عدو للوجود، وليس مبتدأ إنطلاق روافد الحياة ومشيد حلتها الوارفة الخضراء، فتعلن المزاريب بكاءها ويتصاعد عويلها، وتهديداتها ووعيدها لأن المطر سيجرف الأشياء وبسببه تتهاوى البنايات، لأننا ما تعلمنا كيف نجعل الطين يقاوم المطر، وشيدنا بيوتنا من الطين الذي يعشق المطر ويتفاعل معه لصناعة الحياة المعطاء، وبفعلنا حرمنا الطين من دوره ورسالته وإعتدينا على حرمته ومصيره، فالطين من أدوات الخلق المتجدد ولا يمكن حشره في جدار، ولهذا فأن المطر الشديد عنوان وعيد وخطر.

وفي المقطع تجتمع متناقضات فاعلة في السلوك، الجوع والحرمان والوحشة والقتل والمطر!!

فكيف تتفق مع المطر؟

إن في ذلك دليل على أن الإنسان قد تنازل عن دوره الخلاق،  ومسؤوليته في المساهمة بالحياة الأفضل، وإستثمار المطر في صناعة الطعام وتنمية الإقتصاد.

فالناس تلهو ببعضها وتستعذب سفك الدماء والتناحر والتصارع على الأشياء بسبب آفة العجز والإستسلام. ولهذا فأن كل موجد دامع حزين ويائس ولا يعرف إلا أن يرى بعيون ذات آليات إدراك محنطة.

ومقلتاك بي تطيفان مع المطر

وعبرَ أمواجِ الخليجِ تمسحُ البروق

سواحلَ العراقِ بالنجومِ والمحار،

كأنها تهمُّ بالشروق

فيسحبُ الليلُ عليها من دمٍ دثار

أصيحُ بالخيلج: "يا خليج

يا واهبَ اللؤلؤ والمحارِ والردى"

فيرجع الصدى

كأنّهُ النشيج:

"يا خليج: يا واهب المحار والردى"

في المقطع تحليق وهروب من مواجهة الواقع والصعود إلى أكوان الفنتازيا والخيال الساعي إلى إرضاء الحاجات بتصورها وتمنيها، فما دام الإنسان عاجزا عن مواجهة مصيره وقيادة أمره، فمن الأفضل أن ينداح في مواقد العيون ويناجيها ويحسبها بساط الريح، فقد تجمعت فيها أسرار المطر وعواديه وما يتصل به من الأحزان والمشاعر والعواطف القاسية، فالعيون يحمّلها الرجل كل ما يريده ويراه، فينعكس ما فيه من الهموم فيها، فهي مرآة نفسه وصدى صراخات أنينه وحرمانه.

وعندما يستجير بالخليج، لا يحصل إلا على الصدى، وهو تعبير وتعزيز لمشاعر اليأس وعدم القدرة على الفعل والإبداع الحياتي العملي المتجدد المتسابق مع عجلات العصر الدوارة.

نعم إنه الصدى، فالواقع الذي حولنا هو الصدى الأصيل لما فينا، فما دام العجز سيدنا، فأن كل ما حولنا يبعثه ويشير إليه ويعبّر عنه بوضوح وبسالة.

أكادُ أسمعُ العراقَ يذخرُ الرعود

ويخزنُ البروقَ في السهولِ والجبال

حتى إذا ما فضّ عنها ختمَها الرجال

لم تترك الرياحُ من ثمود

في الوادِ من أثر

أكادُ أسمعُ النخيلَ يشربُ المطر

وأسمعُ القرى تئنّ، والمهاجرين

يصارعون بالمجاذيفِ وبالقلوع

عواصفَ الخليجِ والرعود، منشدين

مطر.. مطر .. مطر

في هذا المقطع تتلخص القصيدة بفكرتها الأصلية وما فيها من آليات التفاعل والحراك، فطاقات الحرمان المكبوتة بقوة مكابس الظلم والقهر والإستبداد والجهل والتبعية وسحق الإنسان وتجريده من آلة عقله، كلها تعودت الإنفجار بين حين وآخر، وحالما تنفجر تقضي على ما حولها وعلى نفسها، لأن الطاقات المنفلتة تكون عمياء مضطربة ومشوشة وتجهل العقلانية والحكمة وتنكر الهدوء، فما أن تنطلق حتى تصنع مأساة جديدة تساهم في ترسيخ متوالية المآسي.

ويكون المطر متوالية هندسية من التداعيات والملمات القاسية التي تفتك بالشعب على مر العصور.

فمن الذي يمتلك قدرات الخروج من هذه الدائرة المفرغة المأساوية الحزينة الدامعة المنهمرة الروح كالمطر؟!

***

د. صادق السامرائي

ما الذي يجمع هذين الشاعرين والمسيح؟

لماذا يتشبّهان به ويتماهيان معه أحياناً؟

خليل حاوي شاعرٌ لبنانيٌّ مسيحيٌّ لكنَّ السيّابَ عراقيٌّ مُسلم!

هل مرّ أحدهما أو كلاهما بما مرَّ المسيحُ به من تجارب وخاضا ما خاض من سجالات ومجادلات مع خصومه ولا سيّما اليهود؟ هل سُجنا أو صُلبا ودُفنا ثم قاما من القبر؟

لم يمر الشاعر المسيحي الماروني حاوي بأية تجربة عرّضته للسجن أو التعذيب أو الصلب ثم القتل. بلى، أقصيَّ السيّاب عن وظيفته مرتين لأسباب سياسية، الأولى زمان الحكم الملكي في العراق والثانية في العهد الجمهوري بُعيدَ ثورة 14 تموز 1958. يتعذّب المطرود من وظيفته ويُعاني خاصةً إذا كان متزوجاً وله أطفال كحالة بدر شاكر السيّاب لكنَّ السياب لم يُسجن ولم يتعرض للتعذيب الجسدي ولم يُصلب أو يُقتل فما علاقته بعيسى إبن مريم؟ على كل حال.. الإستعارة مجازية وللشاعر كل الحق في أنْ يستعير ما يشاء من التأريخ القديم والحديث ويوّظف ما يشاء من رموز لإغناء تجاربه الشعرية وتعميق تأثيراتها ومدِّ قوّة تأثير شعره بمؤثرّات إضافية لها من قوة الإيحاء ما للصوت والظل واللون من تأثيرات. التكبير حيناً والتصغير أحيانا هي كذلك من بين جملة هذه المؤثّرات الضرورية لكل فعل درامي أو تراجيدي في الشعر كما في المسرح.

ركّزَ كلا الشاعرين ـ كما هو الأمرُ مع باقي الشعراء الذين استعاروا أو وظفوا المسيح في نصوصهم ـ على ثلاث مسائل أو على ثلاث صفحات من صفحات سِفر عيسى هما:

1 ـ إكليل الشوك الذي وضعه اليهودُ على رأسه وعذابه مع الصليب الذي حملَ ثمَّ صلبه على الصليب ودق المسامير في جسده

2 ـ قتله ودفنه ثم قيامته من قبره حتى أنَّ قرآنَ المسلمين قال [وقولِهمْ إنّا قتلنا المسيحَ عيسى ابنَ مريمَ رسولَ اللهِ وما قتلوهُ وما صلَبوهُ ولكنْ شُبّهَ لهمْ وإنَّ الذين اختلفوا فيهِ لفي شكٍّ منه ما لهم به من علمٍ إلاّ اتباعَ الظنِّ وما قتلوهُ يقيناً بل رفعهُ اللهُ إليهِ وكان اللهُ عزيزاً حكيما / الآيتان 157 و158 من سورة النساء].

3 ـ ما قال عن نفسه المسيح وخاصة في إنجيل يوحنا / الإصحاح السادس:

ـ [.. فقال لهم يسوعُ أنا هو خبزُ الحياة. مّنْ يُقبلْ إليَّ فلا يجوعُ ومن يؤمنْ بي فلا يعطش أبداً]

ـ [الحقَّ الحقَّ أقولُ لكم مّنْ يؤمنُ بي فله حياةٌ أبدية]

ـ [أنا هو الخبزُ الحيُّ الذي نزلَ من السماءِ. إنْ أكلَ أحدٌ من هذا الخبزَ يحيا إلى الأبد]

ـ [فخاصمَ اليهودُ بعضُهم بعضاً قائلين كيف يفسّرُ هذا أنْ يعطينا جسدَه لنأكل. فقال لهم يسوعُ الحقَّ الحقَّ أقولُ لكم إنَّ لم تأكلوا جَسَدَ ابنَ الإنسانِ وتشربوا دمه فليس لكم حياة فيكم. مَنْ يأكلُ جسدي ويشربُ دمي فله حياةٌ أبديّةٌ وأنا أُقيّمُه في اليوم الأخير. لأنَّ جسدي مأكلٌ حقٌّ ودمي مَشرَبٌ حقٌّ. مّنْ يأكلْ جسدي ويشربْ دمي يَثبُتْ فيَّ وأنا فيهِ. كما أرسلني الأبُ الحيُّ وأنا حيٌّ بالأب فمن يأكلني فهو يحيا بي. هذا هو الخبزُ الذي نزلَ من السماءِ].

بجسد المسيح وبدمه يحيا المؤمنون به إلى الأبد، أي إنهم لا يموتون. المسيح هنا يُضحي بجسده ودمه. هكذا يرى أو يُخيّلُ للبعض أنْ يرى وأنْ يجد نفسه ضحية لفكره الثائر أو التنويري وقُربان إلتزاماته العقائدية والسياسية. الثائر يُضحي بنفسه أو بحريته والكل يعرف الكم الهائل من القتلى والمساجين والمشرّدين من الثائرين والمعارضين السياسيين أو الدينيين على مدى التأريخ المكتوب أو المعروف. هنا يجد بعض الشعراء أنفسهم وهذا خيارهم وعلينا أنْ نحترم خيارات غيرنا.

من هو مسيح السيّاب؟

قصيدة " المسيح بعد الصلب " (1)

نشرتُ نقداً تحليليلاً لهذه القصيدة وقلت فيها إنها تمثّل قمة إبداع السياب الشعري. مَنْ يقرأ هذه القصيدة بتمعنٍ وأناة يخلص إلى أنَّ السياب يخلع المسيح على نفسه ويتلبّسه حتى يرى نفسه المسيحَ ذاته. في المقطع الأول من هذه القصيدة يستحضر السياب مشهد دفن المسيح بعد مقتله فيقول:

[بعدما أنزلوني، سمعتُ الرياحْ

في نواحٍ طويلٍ تسفُّ النخيلْ،

والخطى وهي تنأى، إذنْ فالجراحْ

والصليبُ الذي سمّروني عليهِ طوال الأصيلْ

لم تَمُتْني، وأنصَتُّ: كان العويلْ

يعبرُ السهلَ بيني وبين المدينةْ].

هنا مناحة حقيقية يصوّرها الشاعر بكل ما يختزن في صدره من ألم ومعاناة فأشرك الرياح والنخيل حتى أنَّ عويل الطبيعة ونواحها عبرا السهل الذي يفصله عن المدينة. رياحْ.. نواحْ.. جراحْ.. ثم: النخيلْ.. الأصيلْ.. العويلْ / علامَ هذه الرتابة في التسجيع والتقفية والتسكين.. علامَ تدلُّ؟ ثم إنه وقد أُنزلَ في قبره يعودُ القهقرى لزمن ربطه على الصليب حيّاً قبل مقتله [والصليبُ الذي سمّروني عليهِ طوالَ الأصيلْ.. لم تَمُتني.. ] إذاً ما الذي أماته؟ لا الجراح أماتته ولا الصليب! هناك أمور أخرى قتلته إذاً ولسوف نرى ما هي وهل هي مكائد الشعراء وخيانة الأصدقاء ووشايات الوشاة ثم العلل الجسدية؟

في المقطع التالي لهذه القصيدة نرى المسيح في السيّاب ونرى هذا في ذاك. نقرأ ما قال السياب في هذا الجزء ثم نقارنه بما أستعرتُ للتوِّ مما قال المسيح في إنجيل يوحنّا عن نفسه:

[.. قلبيَ الماءُ قلبي هو السُنبُلُ

موتهُ البعثُ: يحيا بمنْ يأكلُ

*

متُّ بالنارِ: أحرقتُ ظلماءَ طيني، فظلَّ الإلهْ

كنتُ بدءاً وفي البدءِ كان الفقيرْ

متُّ كي يؤكلَ الخبزُ باسمي، لكي يزرعوني مع الموسمِ

كم حياةٍ سأحيا: ففي كلِ حُفرةْ

صرتُ مستقبلاً صرتُ بذرةْ

صرتُ جيلاً من الناسِ: في كلِّ قلبٍ دمي

قطرةٌ منهُ أو بعضُ قطرةْ].

أعيدُ بعض ما قال السيدُ المسيح عن نفسه لتيسير المقارنة على القرّاء الكِرام:

[مَنْ يأكلُ جسدي ويشربُ دمي فله حياةٌ أبديّةٌ وأنا أُقيّمُه في اليوم الأخير. لأنَّ جسدي مأكلٌ حقٌّ ودمي مَشرَبٌ حقٌّ. مّنْ يأكلْ جسدي ويشربْ دمي يَثبُتْ فيَّ وأنا فيهِ. كما أرسلني الأبُ الحيُّ وأنا حيٌّ بالأب فمن يأكلني فهو يحيا بي. هذا هو الخبزُ الذي نزلَ من السماءِ].

لقد مهّدَ بدر شاكر السياب لما قال عن نفسه في هذا المقطع تمهيداً ناجحاً إذْ رجع إلى قرية " جيكور " قريته ومسقط رأسه حيث تُزهر أشجار الفاكهة من توت وبرتقال وتعمُها الخُضرةُ وكلَّ ما يحيط بها حتى الشمس تخضرُّ بل ويخضرّ حتى دُجى جيكور! في هذا الطقس الربيعي الخرافي ينتعشُ قلب الشاعر [يلمسُ الدفءُ قلبي].. يقوم عائداً ثانيةً للحياة ولِمِ لا، أفلمْ يقمْ من قبره قبلهُ المسيحُ؟ قال السياب في هذا المقطع [كنتُ بدءاً وفي البدءِ كان الفقيرْ]. الإنجيل يقول [في البدء كان الكلمة والكلمة كان عند الله وكان الكلمة الله. هذا كان في البدء عند الله / الإصحاح الأول، إنجيل يوحنّا]. هذا هو شاعرنا العراقي الجيكوري ومسيحُ نفسهِ كما يرى نفسه في هذه القصيدة. هل يؤمن السياب بمبدأ تناسخ الأرواح فيجد المسيحَ فيه ويرى نفسه في المسيح؟ لم يقلْ الرجلُ ذلك وما كان معروفاً عنه أنه من معتنقي مذهب التناسخ لكنه الشعر ولكنهم الشعراء يقولون ما لا يفعلون وفي كل وادٍ يهيمون!

يتكلم السياب في المقطع الثالث عن قصة خيانة يهوذا له والمقابلة الدرامية التي حصلت بينهما بعد قيامة المسيح. الجديد في أفكار هذا المقطع وصوره البليغة أنَّ السياب جعل من الخائن يهوذا لوح المسيح السالب أو طبعة منه [الإله الشيطان.. ضديد الرب]. قال الشاعر:

[هكذا عُدتُ فاصفرَّ لمّا رآني يهوذا

فقد كنتُ سِرّهْ

كأنَّ ظلاّ قد اسودَّ مني، وتمثالَ فكرةْ]..

أروعُ وأبدعُ ما في هذه القصيدة هو ختامها. سبعة أسطر لخّص فيها السياب محنته الحقيقية في وطنه العراق وما كابد فيه وما عانى. إنه هو المسيح المصلوب قبل موته. وفي موته مخاض المدينة.. مخاض عراق جديد حلم السياب بمبعثه دون طائل.. لم تجده الأجيال التي أتت بعده ولم يجده جيلُ اليوم حتّى!!. قال السياب في هذه الخاتمة:

[بعدَ أنْ سمرّوني وألقيتُ عينيَّ نحو المدينةْ

كِدتُ لا أعرفُ السهلَ والسورَ والمقبرةْ

كان شيءٌ، مدى ما ترى العينُ،

كالغابة المُزهِرةْ

كان، في كلِّ مَرمى، صليبٌ وأمٌّ حزينةْ

قُدّسَ الربُّ!

هذا مخاضُ المدينةْ].

مسيح خليل حاوي (2)

أبدأ مع مسيح خليل حاوي وبما كتب في مقدمة قصيدة " المجوس في أوربا " وهي جزء من ديوانه الأول " نهر الرماد":

[وإذا مجوسٌ من المشرق يتقدّمهم نجمٌ.. ولما رأوا الطفلَ خرّوا له ساجدين].

أخذ حاوي هذا النص من الأناجيل ومنها إنجيل متّى ففي هذا الإنجيل نقرأ ما يلي:

[ولما وُلدَ يسوعُ في بيت لحم اليهودية في أيام هيرُدُوسَ المَلِك إذا مجوسٌ من المشرق قد جاءوا إلى أُورُشَليمَ قائلينَ أين هو المولودُ مَلكُ اليهود. فإننا رأينا نجمةً في المشرق وأتينا لنسجدَ له / الإصحاح الثاني]. هناك فروق في التفاصيل بين هذه النصين لكنَّ جوهر المسألة يبقى واحداً. ربما استعار الشاعر نصه من إنجيل آخر غير إنجيل مَتّى. المهم.. إنَّ حاوي يؤمن بما قالت الأناجيل حول مولد عيسى المسيح إبن مريم إذاً فإنه رجلٌ مسيحي الإيمان. هذا مجرد مُدخل لما سيأتي من قول. كتب خليل حاوي في مقدمة قصيدة " لعازر عام 1962 " من ديوانه الثالث بيادر الجوع ما يلي:

[وذهبت مريم، أخت العازر، إلى حيث كان الناصري وقالت له لو كنتَ هنا لما مات أخي، فقال لها إنَّ أخاكِ سوف يقومُ / إنجيل يوحنا]. هذا كلام كذلك موجود في أناجيل أُخَرَ كما سنرى. معجزة المسيح في إحياء الموتى مذكورة حتى في قرآننا وكما يلي [.. وأُبرئُ الأكمهَ والأبرصَ وأُحيي الموتى بإذنِ الله.. / الآية 49 من سورة آل عمران].

لم يتشبّه هذا الشاعر ـ على حدّ علمي وعلى قدر فهمي لما كتب في دوواينه الشعرية ـ بالمسيح أبداً ولم يحاول التماهي معه كما فعل السيّاب في بعض شعره.

ذكره مجرد ذكر هنا في قصيدة لعازر عام 1962 كما سنرى.

قد يبدو لي أنَّ خليل حاوي يتشبّه بالعازر في هذه القصيدة وهو الرجل الميت الذي أحياه المسيح. هناك إشارات قوية تؤكّد ما ذهبتُ إليه ولكن.. هل عاد حاوي للحياة من بعد موت كما كان حال لعازر ولماذا العام 1962؟ كتب الشاعرُ في بداية هذه القصيدة كلاماً غير قصير مزج فيه السياسة والنضال وسقوط المناضلين بقصة لعازر وأدخل نفسه في هذا المزيج بقوة والأمثلة غير قليلة منها (كنتَ صدى انهيارٍ في مُستهل النضال فغدوتَ ضجيج انهيارات حين تطاولت مراحله.. وماذا؟ لئن كنتَ وجه المناضل الذي انهار في الأمس فأنتَ الوجه الغالب على واقع جيل.. وهكذا وفيما يشبه الحدس، إتحدَّ الحاضرُ بكل زمان، والواقع بالأسطورة فاكتسبتَ اسماً وكان الإسمُ جوهر كيانك: لعازر، الحياة والموت في الحياة، تموتُ القيم في المناضل وتحتقنُ الحيوية فيكونُ الطاغية.. وهذه امرأتكَ تلتقيكَ عائداً من الحُفرة فيتولاها الرعبُ.. كانت تنزعُ إلى كمال وجودي يُشبع النفسَ والجسدَ فخذلتها أنت زوجها الحاقد الميّت وأسعفك الناصريُّ بكماله الملائكي المترفع عن التجربة الحسيّة. لقد امتنَعتْ (أو إمتنعتَ؟ لا وجود للحركات في النص) عن الصلاة لإله لم يعرفْ الجوع ولا الأفاعي المتولدة من شهوة متدافعة مُحتقنة:

ما تُجدي الصلاة

لإلهٍ فمَرَيٍّ ولطيفٍ قَمَري

يتخفى في الغيومِ الزُرقِ في الضوءِ الطري

حيثُ لا يُرعدُ جوعٌ مارجٌ بالزَفَرات].

يتكلم خليل حاوي عن امرأة العازر فهل كان يقصد نفسه وخطيبته التي تركها في لبنان وسافر للدراسة في بريطانيا؟ في ديوانه إشارات غير قليلة حول فتاة تنتظره خصّها بنعت البدوية السمراء! لم يتزوج هذا الشاعر إذاً كان قد خسر تلك الفتاة الخطيبة.. ربما يئست منه وقد طال غيابه فاقترنت بسواه. هنا نحن وجهاً لوجه مع حاوي ـ العازر، الميّت الذي أحياه المسيح " الإله القمري " فمن أحيا خليل حاوي؟ لم تكنْ غيبته في بريطانيا موتاً حقيقياً لكنه موتٌ مجازي.. غياب.. غيبة لا غير. ركزّ خليل في هذه القصيدة كثيراً على زوج العازر فأين المسيح الذي دعوته بمسيح خليل حاوي؟

طويلةٌ هي هذه القصيدة تتكون من 17 مقطعاً تنتشر على الصفحات 307 ـ 362 وقد نظمها في العامين 1961 و1964 كما أشار في آخر هذه القصيدة. لو تتبعنا ما قال حاوي في هذه الأجزاء السبعة عشر لوجدنا فيها شيئاً مما قال في مقدمته لهذه القصيدة. وما دمتُ قد عنونّتُ هذا الجزء من مقالي ب (مسيح حاوي) فلا بأسَ من الإشارة بشكل خاص إلى الجزء العاشر من هذه القصيدة الذي يحمل عنوان " الناصري يتراءى لزوجة لعازر ". لم تلعب زوج لعازر أي دور في بعث زوجها الميت للحياة ثانية إنما أخته مريم هي التي طلبت من المسيح أنْ يُحيي أخاها قائلة له [لو كنتَ هنا لما مات أخي]. فلماذا الأخت وليست الزوجة؟ إستشرتُ الشاعرة السيّدة جوزيه حلو في أمر مريم وزوج لعازر ثم الخضر فأرسلت لي مشكورةً فيديو يستعرض بشيء من التفصيلات وجود ثلاث مريمات هنَّ: مريم المجدلية ومريم الخاطئة ثم مريم الزانية (في الحقيقة إنهنَّ أربع نساء ولسن ثلاث لم تحمل منهنَّ إسم مريم إلاّ واحدة هي أخت لعازر). تيسيراً للأمور رأيتُ أنْ أضعهنَّ حسب ورود ذكرهنَّ في الأناجيل بالتسلسل ليسهل على القرّاء الكرام متابعة الموضوع الشائك قليلاً:

1 ـ عن المرأة الزانية قال المسيح وسط جمعٍ من شانئيها [مَن كان منكم بلا خطيئة فليرمِها أولاً بحجر / الإصحاح الثامن من إنجيل يوحنا]. لم يذكر هذا الإنجيل اسم هذه المرأة الزانية فكيف يُنسب لها اسم مريم؟ نقرأ في إنجيل يوحنا الصفحة 161 ما يلي [وقدّمَ إليه الكَتَبةُ والفريسيون امرأةً أُمسكت في زنا. ولما أقاموها في الوسط قالوا له يا مُعلِّمُ هذه المرأةُ أُمسكت وهي تزني في ذات الفعل]. لم تسكب هذه المرأةُ على رأس المسيح عطراً ولم تمسح قدميه بدموعها وشعر رأسها لذا فإنها لا تُشكّلُ معضلة أو إشكالات بخصوص من هي مريم المجدلية وهل هي المرأة الخاطئة أم لا.

2 ـ أما المرأة الخاطئة فقد ورد ذكرها في إنجيل لوقا، الإصحاح السابع وكما يلي [.. وإذا امرأةٌ في المدينة كانت خاطئةً إذْ عَلِمتْ أنه مُتكئٌ في بيت الفريسي جاءتْ بقارورة طيبٍ ووقفت عند قدميه من ورائه باكيةً وابتدأتْ تبلُّ قدميهِ بالدموعِ وكانت تمسحهما بشعر رأسها وتُقبّلُ قدميهِ وتدهنهما بالطيب / الصفحة 105]. كذلك لا نجد اسماً لهذه المرأة الخاطئة فمن كانت؟

3 ـ أزيد فأذكر ما قرأتُ في إنجيل متّى [وفيما كان يسوعُ في بيت عَنْيا في بيت سِمعان الأبرص تقدّمتْ إليه امرأةٌ معها قارورةُ طيبٍ كثيرِ الثمن فسكبته على رأسه وهو مُتكئٌ / الإصحاح السادس والعشرون، الصفحة 48].

4 ـ وفي إنجيل مرقس رواية أخرى عن امرأة أخرى بلا اسمٍ لم يقل عنها زانية ولا خاطئة فمن كانت؟ [.. وفيما هو في بيت عَنيّا في بيت سمعان الأبرص وهو مُتكئٌ جاءت امرأةٌ معها قارورةُ طيب ناردين خالص كثير الثمن فكسرتْ القارورة وسكبته على رأسه / الإصحاح الرابع عشر، الصفحة 82 من إنجيل مرقس]. هذه الرواية، رواية مرقس، شبيهة في مضمونها برواية إنجيل متّى في الفقرة 3 السالفة الذِكْر سوى فرقين هما تسمية العطر بطيب ناردين ثم كسر القارورة.. هنا كسر وهناك سكبٌ حَسْبُ. أستنتج أنَّ هذه المرأة هي تلك.

منْ هي المرأة الخاطئة إذاً؟ نجد هذه المرأة في إنجيل لوقا فقط من دون بقية الأناجيل! إنها تشترك مع المرأتين الأخريين بسكب العطر ومسح قدمي المسيح بالدموع وبشعر الرأس!

5 ـ أما أُخت لعازر وقد ورد ذكرها في إنجيل يوحنا وكما يلي [وكان إنسانٌ مريضاً وهو لعازر من بيت عَنيا من قرية مريم ومرثا أُختها. وكانت مريم التي كان لعازر أخوها هي التي دهنتْ الربَّ بطيبٍ ومسحتْ رجليهِ بشعرها.. / الإصحاح الحادي عشر، الصفحة 168 من إنجيل يوحنا]. مريم أخت لعازر دهنتْ الربَّ بطيب ومسحتْ رجليه بشعرها. لم يقلْ هذا الإنجيلُ عن هذه المريم إنها زانية أو خاطئة.

أمامنا ثلاث مناسبات إذاً دهنت فيها ثلاث نساءٍ عيسى المسيح بطيب ثمين ومسحن قدميه بشعورهنَّ لم نعرف منهنَّ إلاّ مريمَ أخت لعازر فمن كنَّ الباقيات يا تُرى؟ هل هنَّ جميعاً مريم هذه بعينها أخت لعازر مريم المجدلية؟ وهل هذه هي المرأة الخاطئة التي ذُكرها إنجيل لوقا؟

من قصيدة خليل حاوي فهمنا أنَّ مريم أخت لعازر هي مريم المجدلية. لكنْ لا الأناجيل قالت ولا خليل حاوي قال من هي زوج لعازر وما اسمها؟

تكرر في الأناجيل ورود اسم مريم المجدلية مقرونا بحضورها بعض المناسبات مع مريم والدة المسيح لذا يعتبرها البعض امرأة مقدّسة لا علاقة لها بالنساء الباقيات. أية مريم سألت المسيح بالإشارة أنْ يُقيم أخاها من عالم الموتى؟ قطع خليل حاوي الشكَّ باليقين إذْ أفرد جزءاً خاصاً للمجدلية تحت الرقم 11. فمريم أخت لعازر إذاً ـ حسب خليل حاوي ـ هي مريم المجدلية. كما أنه ذكر مريم بالجمع في الجزء الثاني عشر الذي يحملُ عنوان " تنّين صريع " [يرتعي جلجلةَ الصلبِ ويرمي في جروحِ الناصري وجروح المريمات / الصفحة 345 من الديوان]. حتى هنا وضعنا حاوي أمام إشكالية أخرى إذْ نسب خطاب مرثا للمسيح لأختها مريم فقد قال في مقدمة قصيدة لعازر عام 1962 ما يلي [وذهبتْ مريمُ، أخت لعازر، إلى حيثُ كان الناصري وقالت له لو كنتَ هنا لما مات أخي فقال لها إنَّ أخاكِ سوف يقومُ]. في حين نقرأ في إنجيل يوحنا ما يلي [فلما سمعت مرثا أنَّ يسوعَ آتٍ لاقتهُ. وأما مريمُ فاستمرّتْ جالسةً في البيت. فقالت مرثا ليسوع يا سيّد لو كنتَ ههنا لم يمتْ أخي / الصفحة 169 الإصحاح الحادي عشر]. لكنْ وفي نفس هذه الصفحة نقرأ لاحقاً ما يلي [.. فمريمُ لما أتتْ حيثُ كان يسوعُ ورأتهُ خرّتْ عندَ رجليهِ قائلةً له يا سيّدُ لو كنتَ ههنا لم يمُتْ أخي]. أين الحقيقة أم صرنا لا نُعيرُ حقائقَ الأمور الأهمية التي تستحق! هل على الشعراء الإلتزام التام بنصوص ما يستشهدون به؟ جوابي نعم.. إذا كانت هذه الإستشهادات دينية أو تأريخية. وما عدا ذلك فإنهم أحرار.. في كل وادٍ يهيمون. فيما عدا هذين الإستثنائين لهم حرية التصرف بالنصوص مجازاً أو إشارة أو لفتةً أو صورة وحركة ما داموا يقولون شعراً يتوخون فيه إبداعاً.

الحضورُ الأقوى في قصيدة لعازر عام 1962 هو لزوج العازر.. ثم يأتي حضور خليل حاوي نفسه مساوياً لحضور زوج لعازر ولكنْ من خلف مرآة.. إنه يقف خلف مرآة الأحداث لا أمامها ليعكس على وجهها ما يُريد ويُخفي ما لا يُريدُ. ثم يأتي وجود الناصري عيسى المسيح مُنقذاً للعازر إذْ بعثهُ من الموت حيّاً أولاً ثم إنه يشارك كلاًّ من لعازر وخليل حاوي نفسه محنة الظمأ الجنسي والعجز التام عن ممارسته وأنا أتحملُ مسؤولية هذا الكلام! كانت زوج لعازر أكثرهم توقاً للجنس ومثلَّ الجنسُ العمودَ الفقري لكل ما ورد من أجزاء في هذه القصيدة بدءاً وانتهاءً. هل أنصاعُ لإغراء الجنس في قصيدة حاوي وأنساق مع منزلقاته ودرابينه فأتتبعه مليّاً وبأناة وصبر أكبر من صبر أيوب؟ أم أتجه لمسائل أخرى أكثر أهمية ولا أغفل ذكر ما وجدتُ من عيوب في هذه القصيدة؟

في الجزء الأول من قصيدة لعازر عام 1962 " حُفرة بلا قاع " يتشبث هذا الرجل الميّت بالبقاء في قبره ميّتاً [عمّقْ الحفرةَ يا حفّارُ عمّقها لقاعٍ لا قرارْ.. لُفَّ جسمي لُفّهُ حنّطهُ واطمرهُ بكلسٍ مالحٍ، صخرٍ من الكبريتِ، فحمٍ حجري]. في الجزء الثاني " رحمة ملعونة " نراه يٌشكك في قدرة المسيح على بعثه حيّاً فيقول [صلواتُ الحبِّ والفِصحِ المغنّي في دموعِ الناصري.. أتُرى تبعثُ ميْتاً حجّرتهُ شهوةُ الموتِ تُرى هل تستيطعْ.. أنْ تُزيحَ الصخرَ عنّي والظلامَ اليابسَ المركومَ في القبرِ المنيعْ.. رحمةٌ ملعونةٌ أوجعُ من حُمّى الربيعْ.. صلواتُ الحبِّ يتلوها صديقي الناصري.. كيف يُحييني ليجلو عَتمةً غُصّتْ با أختي الحزينةْ دون أنْ يمسحَ عن جَفنيَّ حُمّى الرعبِ والرؤيا اللعينةْ]. سيعيد الشاعر ذكر هذه الرؤيا فأية رؤيا عناها يا تُرى؟ وعلى نهجه الذي خبرتُ أقولُ: يقفز خليل حاوي في طفرة غريبة تُفاجئنا بغرابتها حيث لا من صلة تربطها بما تقدّم ولا من علاقة لها بما سيأتي من كلام. أعني قوله في هذا المقطع وبشكل مفاجئ [الجماهير التي يعلكها دولابُ نارْ]! إنه كذلك سيكرر هذا الكلام مِراراً ويضيف له كلاماً آخرَ يبدو وكأنه مُقحَمٌ إقحاماً لا مبررَ له إلاّ ما في رأس الشاعر من خواطر وتداعيات وأخيلة لا نراها فهي غامضة بالنسبة للقارئ. ففي الجزء الثالث التالي يقولُ حاوي [الجماهير التي يعلكها دولابُ نارْ / مَنْ أنا حتّى أردَّ النارَ عنها والدوارْ.. عمّقْ الحفرةَ يا حفّارُ عمّقها لقاعٍ لا قرارْ].

الجزء الرابع ـ زوجةُ لعازر بعد أسابيع من بعثه ـ خصصه حاوي وبالكامل لموضوع الجنس حرماناً واشتهاءً مازجاً الكل بالكل! واضحة كانت زوج لعازر في هذا الجزء وصريحة وأقوالها مرآة ما في نفسها من شوق عارم للجنس مع رجل كان قد فارقها بموته لكنه عاد إليها أو أُعيد إليها بإحدى قدرات المسيح (الخارقة!). حقق لها بعض ما كانت تُريد ولكنْ إلى حين.. فسيفارقها ويتركها تقاسي مرارة الحرمان الجنسي. مقتطفات مما ورد في هذا الجزء الرابع [كان ظلاً أسوداً ـ كذا كتبها حاوي ـ يغفو على مرآةِ صدري.. زورقاً ميْتاً على زوبعةٍ من وهجِ نهديَّ وشعري.. كان من حينٍ لحينٍ يعبرُ الصحراءَ فولادٌ مُحمّى، خِنجرٌ يلهثُ مجنوناً وأعمى.. نَمِرٌ يلسعهُ الجوعُ فيُرغي ويهيجْ.. يلتقيني عَلَفاً في دربهِ أنثى غريبةْ.. يتشهّى وَجعي، يُشبعُ من رعبي نيوبهْ.. كنتُ أسترحمُ عينيهِ وفي عينيَّ عارُ امرأةٍ أنّتْ، تعرّتْ لغريبْ.. ولماذا عادَ من حفرتهِ ميْتاً كئيبْ.. غيرُ عِرقٍ ينزفُ الكبيرتَ مُسوّد اللهيبْ]. لعازر رجلٌ غريب بالنسبة لزوجه فقد فرّقهما الموت فكيف تتعرى لغريب وتمارس الجنس معه؟ أرى خطيبة خليل حاوي تتكلم عن نفسها هنا! يفاجئنا الشاعر بمضمون الجزء الخامس وعنوانه " زُخرف " إذْ هو نقيض مضمون الجزء الرابع. هنا نحن مع فرح وبهجة وعيد لمناسبة عودة لعازر لزوجه من الموت. لا تسعها فرحتها فتُهرَعُ لجارتها وتفتح لها قلبها وتُسرف في التعبير عن بهجتها بقدوم لعازر. أعتقد كان من المفروض أنْ يقدّمَ الشاعرُ هذا الجزء على الجزء الرابع لا أنْ يضعه بعده. نقرأ ونفرح مع هذه المرأة [جارتي يا جارتي لا تسأليني كيف عادْ.. عادَ لي من غربة الموتِ الحبيبْ.. حَجَرُ الدارِ يُغنّي وتغني عَتَباتُ الدارِ والخمرُ تغني في الجِرارْ.. وستارُ الحزنِ يخضرُّ ويخضرُّ الجدارْ.. عند باب الدارِ ينمو الغارُ، تلتمُّ الطيوبْ.. حتى يختتم الشاعرُ هذا الجزء بتكرير ما سبق وأنْ قال [وحبيبي كيف عادْ.. عادَ لي من غُربةِ الموتِ الحبيبْ.. كنتُ أسترحمُ عينيهِ وفي عينيَّ عارُ امرأةٍ أنّتْ، تعرّتْ لغريبْ.. ولماذا عاد من حفرتهِ ميّتاً كئيبْ.. غيرُ عِرقٍ ينزفُ الكبريتَ مسوّد اللهيبْ].

الجزء السادس: الخضر المغلوب. لا أعرف من هو الخضرُ في التراث والدين المسيحي لكني أعرف أنَّ أهالي جانب الكرخ من بغداد وفي يوم معين أو مناسبة معيّنة يُسرّحون في ماء دجلة شموعاً طافيةً على ألواح خشبية يسمونها شموع خضر الياس. كما دأب بعض العراقيين على القول: إذا ذٌكرَ اسمُ الخضر يخطف فوراً ولكنْ لا من أحدٍ يراه! ما علاقة خضر خليل حاوي بشخوص قصيدته هذه وخاصة زوج لعازر بطلة هذه القصيدة الملحمية بامتياز؟ ربط الشاعر هنا بين هذا الخضر وزوج لعازر الممزقة بين حضور وغياب زوجه وبين الجنس والحرمان منه. ثم لماذا مغلوبٌ هذا الخضر وهل هو نسخة أخرى لخليل حاوي نفسه؟ تقول زوج لعازر وليتني أعرف اسمها:

[ولماذا لم يَعُدْ يشتفُّ ما في صدريَ الريّانِ من حبٍّ تصفّى واختمرْ.. غيمةٍ تُزهرُ في ضوء القمرْ.. وسريرٍ مارجٍ بالموجِ من خمرٍ وطيبْ.. جنّةِ الفُلكِ على حمّى الدوارْ.. طالما عادَ إلى صدري مِرارْ.. عادَ مغلوباً جريحاً لن يطيبْ.. ومدى كفّيهِ أشلاءٌ من الحقِّ مدى جبهتهِ أشلاءُ غارْ: حلوةٌ جُرّتْ إلى التنّينِ جُرّتْ، دُمِغتْ للموتِ وانهارتْ تعانيهِ انتظارْ.. مِخلبٌ ذوّبَ سيفي غاصَ في صُلبِ الحَجَرْ.. مخلبٌ في كَبِدي مِعولُ نارْ.. وعلى الشاطئِ طفلٌ ناصريٌّ يغرسُ البلسمَ في دنيا القرارْ]. في هذا الجزء إغتصاب لفتاة وأسوأ من هذا الإقحام القصدي لمفردات قلقة في المواضع التي وظّفها الشاعرُ فيها. أحسبُ أنَّ القارئ المتمهّل والمتمعّن يدرك قصدي ويشاركني هاجسي فالشعرُ ليس اعتسافاً وإقحاماً للمفردات إما سدّاً لفراغ أو ضعفاً أمام شروط الوزن والإيقاع والقافية. الأمثلة كثيرة أدعو القرّاء الكرام إلى التنبّه لها ومشاركتي جزعي من هذه الظاهرة في الشعر عامةً وفي شعر حاوي على وجه الخصوص. أعترفُ أنَّ لدى خليل حاوي قدرة على تمرير هذه الهفوات وقدرة أخرى على جعل قارئه يعتقد أنَّ الأمور ماضية على ما يُرام ولا من افتعال ولا تعسف ولا إقحام. أعزو ذلك إلى تمهل حاوي في نشر أشعاره ووقوفه معها لزمن غير قصير يُعيد النظر ويمحّص ويبدّلُ ويفكّر ثم يُسلّم أمره لقوة أغراء النشر.

ماذا نجد في الجزء السابع بعنوان " عُرس المغيب "؟ ما زال حاوي يلف ويدور حول موضوع الجنس فالعرس زواج والزواج ممارسة جنس منذ ساعاته الأولى.

[ما جنونُ الدُخنةِ الحمراءِ في فجوةِ جُرحٍ لن يطيبْ.. لجريحٍ يتلاشى في سريرِ الموجِ من خمرٍ وطيبْ.. تلتقيهِ الشمسُ في عُرسِ المغيبْ.. مُبحرٌ سكرانُ ملتفُّ بزهو الأرجوانْ.. عبثاً ترغي وترغي خلفه أشداقُ جانْ.. ] ثم يعود فيكرر ما سبق وأنْ قال في أجزاء أخرى من قبيل [صدرُكِ الريّانُ من جمرٍ ومن خمرٍ وطيبْ.. طالما طيّبَ مغلوباً جريحاً لن يطيبْ] ثم يتابع فيكرر [كنتُ أسترحمُ عينيهِ وفي عينيَّ عارُ امرأةٍ أنّتْ تعرّتْ لغريبْ.. ولماذا عادَ من حفرتهِ ميّتاً كئيبْ.. غيرُ عرقٍ ينزفُ الكبريتَ مُسوّدَ اللهيبْ]. للفظة الكبريت تأثير قوي على الشاعر حتى أنّا نجدها مراراً في متن ديوانه هذا. للتكرير دلالات كثيرة ومقاصد شتّى بعضها مستساغ ومُبرر أو حتّى له ضرورات تقتضيها حاجة الشاعر النفسية التي لا تخلو من بعض السادية.. أعني أنَّ الشاعر يفرض على غيره بالقوة، قوة التكرير، نزعاته الخاصة وما في نفسه وخواطره وتجاربه من حاجات تعنيه وقد تؤرّقه وتُضنيه فيتخلص منها بترحيلها للأخرين وما الأخرون إلاّ قرّاء شعره.

في الجزء الثامن " زوجة لعازر بعد سنوات " توترات وإحباطات إخالها تعود أساساً للشاعر نفسه. ثم في هذا المقطع ألفاظٌ وتراكيب لغوية خشنة لا تنتمي للشعر بصلة من قبيل: (أُداري حيّةً تُزهرُ في جرحي وترغي) فالجمع بين الحية والإزدهار أو الإزهار مسألة لا يسيغها الذوق الشعري. ثمة مثال آخر (إمسحي الميّتَ الذي ما بَرِحتْ.. تخضرُّ فيه لحيةٌ، فَخِذٌ وأمعاءٌ تطولْ، جاعت الأرضُ إلى شلاّلِ أدغالٍ من الفرسانِ فرسان المغول). لا أعرف ما مبرر اللجوء إلى توظيف مثل هذه الكلمات والصيغ اللغوية الغريبة على لغة وروح الشعر؟ ثم ما مناسبة الكلام عن شلال أدغالٍ من فرسان المغول؟ على كل حال.. خليل حاوي قادر على تمرير ما يحلو له من ألفاظ وجُمل تستجيب لحاجاته النفسية وتتوائم مع ما يعاني من ذكريات أقل ما يقال عنها إنها ذكريات فيها مرارة على أكثر من صعيد. إنه ليس من شعراء الباطن لكنه من بين شعراء ذكريات النفس المجروحة المُبتلية ببعض العلل والأصداء الأليمة الغائرة في أعماق روح هذا الشاعر. فكره وشعره متعددا المستويات حتى ليخيّل لي إنه يقول شيئاً ويعني أشياءَ أُخرَ لا يستطيعُ القارئ متابعتها حتى لو جرى وبذل المجهود المطلوب. إنه ظاهرة أكادُ أقولُ أنْ لا مثيل لها في الشعر العربي المعاصر. شعره ثقيل الوزن بعيد المرامي يمكن تأويله بشتى الوجوه لكنْ يظل عصيّاً على الإمساك وإنْ بدا واضحاً رغم تعرّج مساراته وتشعب أهدافه وما يتخذ من مسارب عويصة مربوطة بإحكام وحَنَكة واقتدار رجل مفكّر ثم شاعر لا يمثل إلاّ نفسه. أضربُ مثلاً من توظيفه للمغول في مناسبة لا علاقة لها بهؤلاء البرابرة الموغلين بالقسوة ونحن نعرف حجم التخريب والدمار اللذين أوقعوهما في العالم العربي والإسلامي بدءاً بتدمير الإسماعليين وحصنهم في قلعة الموت في إيران قبل وصولهم إلى عاصمة الخلافة بغداد وما فعلوا فيها وبالخليقة المستعصم بالله. هل كان قصده أنَّ النساء سبايا للرجال الغزاة كما كنَّ سبايا لجند المغول حين غزو الشرق؟ زوج لعازر ليست سبيّة وليس فيمن حولها مغول أو رجال قساة برابرة! أم أنه أشارَ إلى عمق العطش الجنسي لدى هذه المرأة المترملة بحيث لا يرويها منه إلا كتائب وجيوش جرّارة من رجال متوحشين عطشى مثلها للجنس؟ أم أنه أراد القولَ إنَّ نساء الشرق سبيّات وضحايا غزو خارجي أو داخلي وأنهنَّ في كافة الأحوال مستباحات ومعرّضات للإغتصاب القسري من قبل زوج أو رجل غريب؟

الناصري يتراءى لزوجة لعازر

يحمل الجزء العاشر من هذه القصيدة عنوان " الناصري يتراءى لزوجة لعازر ".

لماذا يتراءى المسيح لزوج لعازر وبأية هيئة وكيفية ثمَّ كيف كان هذا اللقاء الرؤيوي؟ الناصري مثل زوجها كلاهما عاجز جنسياً فما جدوى استدعائه.. أليضيف إلى جوعها للجنس بُعداً آخرَ من شأنه تعميق جروحها ويشدد من توقها لممارسة الجنس مع رجل؟ أين معجزات هذا الناصري إذاً؟ جمع خليل حاوي في هذا الجزء ـ فضلاً عن جوعه هو وحرمانه وعجزه ـ جوع لعازر وزوجه ثم عجز المسيح المعروف. أربعة جياع يعانون من عجز أو من ظمأ جنسي مزمن فما عسى أنْ يفعل الناصري العاجز لإمرأة تعاني وتعاني من جوع للجنس وظمأ قاتل؟ تتكلم زوج لعازر:

[سوف أحكي

وأعرّي جوعَ صحرائي وعاري

سوف أحكي

قبل أنْ يطردهُ ديكُ الصباحْ

وتملَّ القيدَ والمعلفَ أفراسُ الرياحْ

جئتني الليلةَ ممسوحاً رمادياً

وطيفاً يتراءى عَبرَ وهجِ الحسِّ حيناً ويتيهْ

كنتَ طيفاً قبلَ أنْ يمتصّكَ القبرُ السفيهْ

عبثاً لن أدفعَ الإصبعَ في فجوةِ جُرحٍ تدّعيهْ

.. إنْ تكنْ جَوعانَ حدّقْ

ما غريبٌ أنْ يجوعَ الطيفُ،

أنْ تكسرَ كفّاهُ الرغيفْ

أسهرُ الليلَ أُعدُّ الزادَ للموتى الطيوف]..

لفت نظري هنا توظيف خليل حاوي لأحد مشاهد مسرحية وفيلم هاملت (3)، أعني ظهور شبح والد هاملت القتيل لبعض حرّاس القصر الملكي ولولده الأمير هاملت فوق سطوح قلعة ألسينور في الدنمارك ثم اختفاء هذا الشبح مع صياح ديك الصباح. المسيح هنا هو الطيف ـ الشبح بدل والد هاملت. كلاهما قتيل، ذاك الملك بالزئبق مصبوباً في أذنه وهذا [ملك اليهود] قتيل التعذيب ثم الصلب. مليكان مقتولان. طريفة هي توريات وكنايات واستعارات وإشارات خليل حاوي في مقاربته لموضوع ممارسة الجنس الذي تبغي زوج لعازر حيث تقول [عبثاً لن أدفعَ الإصبعَ في فجوةِ جرحٍ تدّعيهْ.. إنْ تكنْ جوعانَ حدّقْ.. ما غريبٌ أنْ يجوعَ الطيفُ، أنْ تكسرَ كفّاهُ الرغيفْ].

مَنْ منا لا يعرف معنى ومغزى " كسر الرغيف "؟

11 ـ المجدلية:

هناك روايات وتكهنات تفيد بأن مريم المجدلية كانت تعشق المسيح وكان هو بدوره يستلطفها ويدعُها تطيّب قدميه بالعطور الثمينة وتمسحهما بشعر رأسها وربما بدموعها.. وكان ينتهر الذين كانوا يطردونها ويمنعونها من إتيان ما كانت تفعل مع المسيح وما كانت تقدم له. هنا إذاً نحن مع مشاهد ومقامات جنس صريح لكن البطلة ليست زوج لعازر إنما مريم المجدلية التي أحيا المسيح أخاها لعازر. كانت هناك مجرد رؤيا تراءت للأرملة المحرومة، والرؤيا حلم والأحلام طريق التنفيس عمّا نكبت من رغبات جنسية وغير جنسية ومنها الإستحلام ليلاً في ساعات النوم العميق! كانت الأرملة تحلم.. يتراءى لها.. تتمنى.. ولما غاب زوجها لعازر عنها ـ أو أنه عجز عن ممارسة الجنس معها ـ التجأت للناصري المُنقذ تتمناه وتغازله وتغريه ولكن.. لا حياةَ لمن تنادي! أنقذ زوجها من الموت لكنه عاجز عن إنقاذها مما هي فيه من محنة. المشهد المثير الجديد لا تلعب فيه الزوج المحرومة أي دور إنما المسرح مكرّس لسيّدة أخرى لا أحد يدري أكانت متزوجة أم لم تكنْ. هل كانت هي المرأة الزانية أو المرأة الخاطئة؟ وَلعُها بالناصري مبرر أنه أحيا أخاها من موته بعد أنْ توجهت وأختها مرثا بالرجاء له في أنْ يعيد للحياة أخاهما. مرةً أخرى يعالج الشاعر هذه الموضوعة معالجة جنسية " فرويدوية " درامية والشاعر قادر على ذلك. نقرأ ما قالت مريم المجدلية في هذا الجزء:

[يومَ أنّتْ مريمٌ، يومَ تداعتْ

زحفتْ تلهثُ في حُمّى البوارْ

وأزاحتْ عن رياحِ الجوعِ في أدغالها صمتَ الجدارْ

وسواقي شعرها انحلّتْ على رجليكَ جمراً وبهارْ

لم يُعكّرْ صحوَ عينيكَ التماعُ السوطِ والحيّةِ في صُلبِ الذَكَرْ

مرَّ في الصحو ملاكٌ وانطوى يدمعُ في ظلِّ القمرْ

حيثُ لا يرعدُ جوعٌ مارجٌ بالزفراتْ

كنتَ طيفاً قمرياً وإلهاً قمري

كنتَ ثوباً غائماً يعبقُ بالضوءِ الطري

يتمشى في جروحِ المريماتْ]

مريم المجدلية تئنُّ هنا زاحفةً لاهثةً محمومةً تسعى نحو الناصري وتجثم تحت قدمية طالبةً عوناً جنسياً منه يدفع عنها نيران جوعها الجنسي ولكن.. لا توسلاتها أجدتْ ولا تمسيد قدميه بطويل شعرها شفعَ لها ونفع إذْ بقي الرجل الماثل أمامها صافي العينين ثابت الجنان لم تتحرك فيه أدنى رغبة فيها. تفهّمت المجدلية موقف الناصري هذا وعزّتْ نفسها به فهذا الرجل ملاكٌ وطيفٌ قمريٌّ لا يجوع ولا يزفرُ ويظلُّ ضوءاً أو حلماً بالنسبة لكافة النساء من شاكلة مريم هذه. يظل حسرة وأمنية في نفوسهنَّ.

12 ـ تنّين صريع:

في هذا الجزء جنس صريح صارخ وضع الشاعرُ فيه كل ما يملك من طاقات ومواهب وقدرات جسدية وشعرية بل وكل ما كان يتمنى ويريد أنْ يلعب أدوار رجل مع أُنثى.. إنها صرخة خليل حاوي نفسه أعارها تارة لنساء جوعى وتارة أخرى للناصري لكنه كان هناك بينهم واضحاً وبقوة وإنْ لم يذكر اسمه أو حتى أنْ يُشيرَ له مجرد إشارة. نقرأ بعض ما جاء في هذا الجزء:

[تنطوي صحراءُ ساقيَّ على غصّاتِ شمسٍ تتلوّى

في ظلامٍ حَجري

تمخرُ الغصاتُ في ساقيَّ أليافَ الخلايا والجذورْ

الدُخْانُ الموحلُ المحرورُ يجري من غصوني وثماري

في أهازيجِ البراري ويدوّي في بخورِ الصلواتْ

يرتعي جلجلةَ الصلبِ

ويرمي في جروحِ الناصري

وجروحِ المريماتْ

حسرةَ الأنثى تشهّتْ في السريرْ

مهّدتْ صهوةَ نهديها

تهاوتْ زورقاً يلهثُ في شطِّ الهجيرْ

خلفَ بعلٍ لا يُجيرْ

من بهارِ الهندِ والفلفلِ قطّرتُ رحيقهْ

في مروجِ الجمرِ مرّغتُ عروقهْ

كان عَبْرَ السأَمِ المحمومِ يمتدُّ الصقيعْ

ميّتاً خلّفتُهُ في الدارِ تنّيناً صريعْ

يعصرُ اللذةَ من جسمٍ طريٍّ

ويروّي شهوةَ الموتِ وغلّهْ

ليس يشتفُّ سوى العُهرِ

متى انحرّتْ له الجنّاتُ في أعضاءِ طفلةْ]..

كرر خليل في هذا الجزء ما كان قد ختم به الجزء السابق الرقم 11، أعني " جروح المريمات ". يعرف خليل إذاً أنَّ هناك أكثر من مريم واحدة وقد سبق وأنْ عدّدتُ أربع مريمات ووصّفتهن كما وردن في الأناجيل فأية مريمات في رأس الشاعر، جميعهنَّ أو البعض منهنَّ؟ يبدو لي أنهنَّ سواء بالنسبة للشاعر لا من فرق بين هذه المريم وتلك فجميعهنَّ في محنة وأزمة جنسية مزمنة وحادّة هي كالجروح تماماً سوى أنَّ هذه جروح لا تندملُ ولا تشفى مثل باقي الجروح.

13 ـ لذّة الجلاد:

يخرج خليل حاوي في هذا الجزء عن السياق العام المهيمن لقصيدة لعازر عام 1962 ليعالج موضوعاً آخر فيه تأريخ قديم كما فيه سياسة معاصرة. أرى أنه مازج بين قصة التآمر على الناصري وتحريض كل من " هيرودس " و" بيلاطس " على قتله كما ورد في الأناجيل.. وما يجري اليوم وفي زمان الشاعر من مؤامرات وخيانات للأوطان ومن عملاء للمستعمرين ومتعاونين معهم. يمكن تلخيص هذا كله ببضعة أسطرٍ مما ورد في هذا الجزء فيها كفاية وغناء عن الشروح الطويلة:

[.. سوف لن يحكي: رفاقُ العمرِ

غربانُ الضميرْ

وجواسيسُ السفيرْ].

يُخيّلُ لي أنَّ الشاعر قد تعب أو ملَّ ما طرق من موضوعات في هذه الأجزاء من قصيدته الطويلة فشرع يُعيد ويكرر بعض ما سبقَ وأنْ قالَ وبعض هذا البعض مُبرر ولكن ليس جميع ما أعاد وكرر. يظلَّ الحرمان الجنسي المحور الرئيسي الأساس والعمود الفقري لهذه القصيدة فما أعمق جرحك يا خليل؟ أراه أكثر عمقاً من جروح المريمات جميعاً!

في الجزء 14 الذي يحمل عنوان " الجيب السحري " قال حاوي:

[غيبيني وامسحي ظلّي

وآثارَ نعالي

يا ليالي الثلج، فيضي يا ليالي

إمسحي ظلّي أنا الأنثى

تشهّتْ في السريرْ

خلفَ بعلِ لا يُجيرْ

مارداً عاينتهُ يطلعُ

من جيبِ السفير]..

ما مناسبة إقحام السفير في علاقة متأزمة بين زوجين هما لعازر وزوجه التي نجهلُ اسمها؟ هذه تتشّهى في السرير فهل يسعفها سفيرُ بلدٍ أجنبيّ؟ هل استباحت بسفيرها أمريكا في خمسينيات وستينيات القرن الماضي جميع نساء لبنان؟ هل غدا لبنان منزل دعارة للأمريكان؟ أمريكا إذاً هي الحل وهي العلاج والعقار لكل ما فينا من علل في مقدّمتها الحرمان الجنسي الذي يعاني ناس الشرق الأوسط منه.

15 ـ الإلهُ القَمَريُّ:

عودة للأله القمري.. يحمل الجزء 15 عنوان الإله القمري وهو الناصري. كرر حاوي في هذا الجزء قوله في الجزء 14 [غيّبيني وامسحي ظلي وآثار نعالي..

يا ليالي الثلجِ فيضي يا ليالي.. إمسحي ظلي أنا الأنثى بكتْ صلّت وصلّت.. ]. إمسحي ظلّي وآثارَ نعالي.. لقد سبق المتنبي الشاعرَ خليل حاوي في موضوع مسح أو نفض النِعال في مواقف الفرقة أو التوديع وخاصة توديع الموتى إذْ قال المتنبي في رثائه لوالدة سيف الدولة الحمداني:

ولا مَنْ في جَنازتها تِجارٌ

يكونُ ودَاعُها نفضُ النِعالِ

تقول زوجُ لعازر:

[ما تُرى تُغني دموعي والصلاةْ

لإلهٍ قَمَريٍّ ولطيفٍ قمري

يتخفّى في الغيومِ الزُرقِ في الضوءِ الطري

حيثُ لا يُرعدُ جوعٌ مارجٌ بالزَفَراتْ].

لماذا كرر في هذا الجزء ما سبقَ وأنْ قال في الجزء الذي سبقه؟ أرى أنْ لا من ضرورة مُلحّة أو حاجة قصوى لهذا التكرير فالتكرير هنا مملٌّ وثقيل ولا يمثلُّ فتحاً شعرياً جديداً يُغني مجمل القصيدة أو يطوّرها أو يُضفي إليها أبعاداً مُغرية تعمّق دراما أحداثها. الناصري مجرد (إله قمري يتخفى في الغيوم الزُرق في الضوء الطري حيث لا يُرعدُ جوعٌ مارجٌ بالزفرات). هذا ما قرأناه في الجزء الحادي عشر تحت عنوان " المجدلية ". أكدَّ الشاعرُ مرتين على حقيقة عجز الناصري عن ممارسة الجنس تعففاً أو لعلّة جسدية فيه. فهو يتهرب متخفيّاً بين غيوم السماء العالية حيث لا من جنسٍ ولا اشتهاء جنسي ولا جوع. كانت بعض قبائل العرب زمن الجاهلية تعبد القمرَ إلهاً فهل هذا ما عناه خليل حاوي؟ هناك عبادة لشيء لا وجودَ له أما هنا فنبيٌّ موجود اسمه عيسى بن مريم فالإلهان القمريان مختلفان ولو أنَّ مؤرّخين يشككون في حقيقة وجود ظاهرة عيسى بن مريم. ماذا تفيدُ امرأة جوعى للجنس من قمر في أعالي السماء حتى لو كان إلهاً؟

إرتفاعه في الأعالي كناية عن تعففه وتساميه فوق ممارسة الجنس وهي شغلة البشر لا الأنبياء أمثال الناصري المسيح. موسى ومحمد تزوجا ونحن نعرف زوج محمد كما نعرف ذرّيته، أما عيسى فلا تزوج ولا أنجب.

الجنس والحرمان الجنسي يظلاّن الهاجس الأقوى لخليل حاوي!

لم أجدْ شيئاً ذا بال في الجزء 16 لذا سأتجاوزه عابراً للجزء الأخير 17

17 ـ جوع المجامر:

جوعٌ وجمرٌ ومجامر! هذه هي البداية فكيف ستكون الخاتمة؟ هذا هو أطول جزء في قصيدة لعازر عام 1962. خلط حاوي في هذا الجزء سيّدتين هما زوج لعازر وفتاته السمراء التي تركها وغادر لبنان للدراسة في بريطانيا. فقدت تلك زوجها لعازر بموته وهذه فقدت الحاوي بسفره إلى بلد غريب بعيد. كلتاهما تعانيان من الحرمان ومن تبعاته القاتلة. لا ذكرَ في هذا الجزء للناصري ولا إشارة للشاعر نفسه. إنه جزء خاص مكّرس لإمرأتين فقط فهل من وجه للمقارنة فيما بينهنَّ؟ لا من وجه للشبه سوى الظمأ الجنسي والتوق العارم لممارسته. ثم في القصيدة تكرير لما سبق وأنْ قال وضعه بين أقواس نصّه [كنتُ أسترحمُ عينيهِ وفي عينيَّ عارُ امرأةٍ أنّتْ تعرّتْ لغريبْ عاد من حفرتهِ ميّتاً كئيبْ] وقد قرأنا هذا الكلام في الجزء الخامس بعنوان " الزخرف ".هذا التكرير جيد ومُبرر في أنه يغلق الدائرة ويُعيدنا لما سبق وأنْ قال كأنه ربط الآخرَ بالأول أو ربط التوالي بالأوالي وهو ربط مُريح تطمئنُّ النفسُ له.

مؤاخذات بسيطة: بالإضافة للعيوب اللغوية المعروفة والشائعة في شعر أجيال الشعر الحر أو شعر التفعيلة.. أكثر خليل حاوي من توظيف الفعلين " مصَّ يمتصُّ " وهو فعل غليظ القوام ثقيل على أذن السامع لا من طاقة شعرية إيحائية فيه.. و" الخضرا " بدلَ الخضراء ثم " السمرا " بدل السمراء وهي عيوب لا أسيغها وإنْ كانت شائعة وصغيرة. ثم إنه، كشأن باقي الشعراء المجياليه، فرّط بالقواعد اللغوية نزولاً عند ضرورة القوافي أو الوزن. فتوقف في موقف يتطلب ألِفاً حيث قال (كنتَ طيفاً قَمَريّاً وإلهاً قَمَري / الصفحة 343 من الكتاب) في حين تتطلب اللغةُ أنْ يقولَ " وإلهاً قَمَريّا أو قمريا). أو في قوله (ميّتاً خلّفتهُ في الدارِ تنّيناً صريعْ / الجزء الثاني عشر: تنين صريع).. والصحيح هو: تنّيناً صريعاً.هذان مجرد مَثَلين للفت النظر.

***

عدنان الظاهر

آب 2012

........................

1 ـ ديوان بدر شاكر السياب / دار العودةـ بيروت 1971. قصيدة المسيح بعد الصلب.. الصفحة457 وما يليها.

2 ـ ديوان خليل حاوي / دار العودةـ بيروت (هناك خطأ في سنوات طبع الطبعة الأولى والثانية.. ) أظن أنَّ عام نشر الطبعة الثانية هو 1979..

ديوان بيادر الجوع، قصيدة لعازر عام 1962 الصفحة 307 وما يليها.

3 ـ نص الترجمة العربية لمسرحية هاملت مُختصر ومبُتسر.. ولكن بقدر تعلق الأمر بالشبح واختفائه مع صياح الديكة جاءت الترجمة كما يلي:

هاملت: ولكنْ ألمْ تتحدثا إليه؟

هوارسيو: لقد تحدّثتُ إليهِ لكنه لم يُجبْ يا مولاي. ثم رفعَ رأسه في إحدى المرات وشرع يتحرك وكأنه يهم بالكلام فما حانت اللحظة التي بدا منه العزمُ حتى صاحت الديَكةُ صياحاً حاداً فاهتزَّ الشبحُ لها ثم توارى على إثره عن الأنظار [ترجمة غازي جمال / دار القلم، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى 1978].

النص الأصل باللغة الإنكليزية في القسم الأول من مسرحية " تراجيديا هاملت أمير الدنمارك " وبداية هذا القسم كما يلي:

Act I

Scene I. A gurad platform of the castle.

Enter Barnardo and Fransico, two sentinles.

أذكر أبياتاً من النص الإنكليزي ذات العلاقة، والكلام حول ظهور واختفاء شبح والد هاملت حين يصيح ديك الصباح:

Marcellus. It faded on the crowing of the cock.

Some say that ever gainst that season comes

herein our Savior,s birth is celebrated,

This bird of dawning singeth all night long,

And then,they say, no spirit dare stir abroad,

تمرُّ هذه الايام الذكرى الـستون لرحيل الشاعر العراقي الفذ {بدر شاكر السياب}، حيث ان السياب العملاق شعراً والنحيل قامة، كان قد اختطفه الموت وهو في قمة شبابه الزمني وابداعه الشعري، وذلك بعد معاناة طويلة مع المرض والفاقة والفقر. السياب الذي كان له ضوء السبق في تحديث الشعر العربي والبسالة في ايقاد وحمل شعلة الحداثة في الشعرية العربية مع مجموعة من الشعراء العراقيين والعرب من أمثال: نازك الملائكة وعبد الوهاب البياتي وبلند الحيدري ومحمود البريكان وغيرهم من الشعراء الحقيقيين.

ان السياب كان ومنذ حداثة عمره، قد تأثر بالشعراء القدامى  وذلك من خلال قراءاته العميقة لمعظم الشعر العربي في كل عصوره وازمنته وانماطه واشكاله المتعددة وكان قد تعمق بالقراءات الاسطورية والميثيولوجية والتوراتية والانجيلية والقرانية التي كان لها اثرها الكبير وتاثيرها العميق في بناء ثقافته الشاملة ووعيه الشعري المتوهج، ثم أولع بالثقافة الغربية وتأثر أشد الأثر باعمال وليام شكسبير الشعرية  والمسرحية.  وحرص على قراءة اعمال اهم الشعراء الغربيين مثل: ت. أس. إليوت وكيتس ووردزورث وكولردج وغيرهم. وقد استفاد منهم واستثمر نتاجاتهم الابداعية المدهشة في تعزيز خبرته الشعرية والجمالية واثراء رؤيته الفكرية ولغته وصوره الشعرية. وويمكننا ان نشير الى مدى تاثره واستفادته من الشاعرة الانكليزية "إيدِث سِيتوِيل" التي كانت قد فتنته بقصايدها المتفردة وبنصوصها الثرية بالاستعارات والمجازات والإيقاع الشعري العالي.  وذلك من خلال تآلف الألفاظ وموسيقى الكلمات..

وقد انعكس كل هذا في شعره الحديث شعر "التفعيلة" بتنويع طول الأبيات وقصرها أحياناً، مع محافظته على تفاعيل القصيدة الخليلية العربية. ولكنه لم يلتزم بشكل بيت الشعر العربي المعروف والموروث منذ قرون سالفة. وقد أبدع في ذلك،وتعلم التكرار، من قصائد "سِيتوِيل" كما يظهر هذا في معظم قصائده خاصة في "أنشودة المطر"  تكرار: مطر... مطر... مطر.. وكأنَّ كلمة مطر عنده هي رمزٌ للخصب وللمرأة وللوطن في آن معاً.

كان منتفضاً ضد الأنظمة الاستبدادية، وكان ينشد للثوار وهم يحتجُّون ضد الطغيان والظلم والجوع. كانت قصائده تلحَّن وتغنَّى في السجون والمعتقلات، لتزرع الأمل والعزم والصلابة في نفوس المحتجين، من خلال قصائده الخالدة: " المومس العمياء وحفَّار القبور وأنشودة المطر".

وقد تميزت قصائد السياب بالخروج عن القصيدة التقليدية وبكثافة الأَلم الذي يسكنها، بسبب ظروفه الصعبة التي عاشها وبسبب الداء العضال الذي أودى بحياته في سن مبكرة.

 أهم مميزات شعر السياب

يُمكنني القول ان أهم مميزات شعر السياب هي:

أولاً: استخدام المجاز بكثرة:

 فهو يعرِّف الصورة الفنية بأنها صياغة جديدة تمليها موهبة المبدع وتجربته ؛  وفق تعادلية فنية بين طرفين هما: المجاز والحقيقة.

ثانياً: توظيف الأسطورة:

 ويعتبر السياب من أهم الشعراء الذين جعلوا الأسطورة رموزاً في اشعارهم.  وقد إجتهد السياب في استثمار هذه الرموز من حضاراتٍ مختلفة كالبابلية والسومرية والأشورية واليونانية والرومانية والفرعونية، حيث انه قد استطاع بثَّ ثيمات وشفرات تلك الرموز في طبقات قصائده فزادتها عمقاً وجمالاً وبهاء.

ان شعر السياب ثريٌّ بالإيحاءات والدلالات، وقصائده مشحونة بالعاطفة المتوهجة والثورة والألم والشجن الموجع وقد ساعدته ثقافته الواسعة كي يُجسّد معاناته الجسدية والنفسية أعمق تجسيد في شعره الفسيح الفضاءات والابعاد والغزير الثيمات والرؤى. 

ولقد تعدَّدت موضوعاته الشعرية، وفاحت منها رائحة الموت والمنايا، والاحزان والفجائع وإرهاصات وهواجس الغربة الروحية والزمكانية، ومن أهم تلك الموضوعات:

 ثالثاً: الحب والفقد:

وقد كان فقده لأمه فقداً لأقوى حبٍّ في الوجود،  وهو القائل:

" أماهُ ليتك لم تغيبي خلف سورٍ من الحجارة "

رابعاً: الغزل: 

وجد السياب في حبه للمرأة تعويضاً عن حبِّ الأم المفقود وهو في الرابعة من عمره، كما ان دمامته جعلت معظم النساء اللواتي أحببنه يتركنه، لكن َّ الخيبات العاطفية التي لاحقته في حياته، قد كانت ينبوع إلهام فجر شاعريته ورصَّع قصائده بالألق الشعري والابداع الحقيقي.

 خامساً: الشعر الوطني:

حيث ان السياب قد كان ثائراً في وجه الظلم والاستبداد فأحس بالغربة وهو يعيش في وطنه العراق، ولا يمكننا نسيان او تناسي مواقفه ذات البعد القومي والانساني، حيث انه قد قام بنظم العديد من القصائد للقضية الفلسطينية، وحيَّا نضال التونسيين والجزائريين والمصريين ضد الاستعمار والطغيان والدكتاتورية.

سادساً: انشغاله الاستثنائي بفكرة الموت

بوصفها واحدة من القضايا الجوهرية والموضوعات الكبيرة الاهمية التي منحها السياب عناية خاصة، حيث انه قد تناول الموت كحقيقة ومفهوم وجودي متعدد الاسباب، ولكنه في المحصلة النهائية يبقى واحداً. وهذا ما طغى في الكثير من قصائده على كل ما عداه في عموم شعره، فهو مثلاً يقول:

 أهكذا السنون تذهب

أهكذا الحياة تنضب؟

أُحسُّ أنني أذوبُ... أتعبْ

أَموتُ كالشجرْ

يا أَيّها الاله

أُريدُ أَنْ اموت  

وخلاصة القول: أَرى ان السياب والحداثة كانا تؤامين وصنوين ومتداخلين حدَّ التوحد والتماهي بما لا يقبل الانفصال والاختلاف على هذه الحقيقة على الإطلاق. ولا يُخفى علينا ان السياب كان قد تفوق على ذاته وأَصبح: شاعراً نسيج نفسه، والرائد الحقيقي لحركة الحداثة الشعرية العربية، وحداثته لم تأتِ بمحض مصادفة أو مجرد نزوة من نزوات حب الاختلاف والاستعراض والادعاءات الفارغة، لا بل انها كانت نتيجة مخاض عسير ومعاناة حياتية في غاية القسوة وذروة الالم.

***

سعد جاسم

يمكن قراءة هذا الفيلم وتحليله على مستويين أو أكثر لما يتوفر عليه من بنى جمالية وفنية وتقنية. ومع ذلك فإننا سنتوقف عند مستويين فقط، الأول واقعي، والثاني رمزي. ففي القراءة الواقعية يكشف لنا المخرج حسن علي محمود بأن ميران (عبدال نوري) هو رجل إقطاعي كردي يهيمن على مناطق زراعية واسعة، كما يسيطر على سوق الحبوب في المنطقة، بحيث أن مخازن الحبوب لديه لا تكفي للغلة التي تنتجها مزارعه كل عام، لذلك لجأ إلى استغلال المخازن والغرف الفارغة لدى سكان القرية القريبة من مزارعه كي يحزّن فيها كل ما لديه من حبوب مقابل مبالغ مادية تافهة لا تُذكر سوف يرفضها بعضهم في خطوة أولى للتمرّد عليه والثورة ضده.

حينما يبذر الفلاحون (الأقنان) أراضيه الزراعية الواسعة التي ستهاجمها أسراب من الغربان التي تقتات على هذه البذور شأنها شأن بقية الطيور الموجودة في تلك المضارب القروية المحيطة بمدينة أربيل. فالغراب ضمن المستوى الأول لا يحمل أية دلالة أو رمز للشؤم، لأن المخرج نفسه لم يرد لهذه الدلالة أن تترسخ في ذهن المتلقي. ويبدو أنه من خلال الأبحاث التي أجراها تبيّن له أن الغراب في الصين واليابان وما جاورهما من بلدان أخر يعتبرون الغراب طائراً للحكمة والحب، ولا علاقة له بالشؤم كما هو موجود في ثقافتنا العراقية أو الشرق أوسطية في الأقل، لذلك فإن هذه الغربان الكثيرة التي ستهاجم هذه الأراضي الزراعية بهدف إطعام نفسها لا غير!814 Poster

يطلب ميران من (حمه) وكيله في العمل أو (سركاله) على الأصح أن يبحث معه عن وسيلة لطرد هذه الغربان المهاجمه عن مزارعه فكانت الطريقة الأولى هي نصب كمية كبيرة من الفزّاعات بحيث صارت المزارع حيًا كبيرًا تقطنه الفزّاعات، لكنها لم تُخف أي غراب، بل أن الغربان كانت تتمادى كثيرًا وتقف على رؤوس الفزّاعات وتنقر عيونها. وحينما لم تنفع هذه الطريقة لجأ ميران إلى الضابط المسؤول عن القوات العسكرية الموالية للنظام الدكتاتوري السابق والمتواجدة في مدينة أربيل وطلب منه أن يرسل عدداً من الجنود المدججين بالأسلحة لكي يطلقوا النار على هذه الغربان المهاجمة التي باتت تؤرق الإقطاعي وتقض مضجعه. وبالفعل يأتي الجنود ويطلقون النار على أسراب الغربان العنيدة التي ترفض أن تغادر هذا المكان اللعين. وحينما يعجز الجنود بأسلحتهم النارية الكثيفة عن إيقاف زخم الغربان المهاجمة يستعين ميران بأطفال القرية المجاورة حيث يجمع له رجاله عدداً من الأطفال الذين يضعون حصى في علب معدنية تحدث أصواتاً قوية، لكن هذه الأصوات تذهب سدى ولا تُبعد الغربان عن مزارع هذا الرجل المتجبّر. يتابع الأطفال حمامة كانت موجودة لديهم، وحينما تخترق حاجز الأسلاك الشائكة يطأ أحد الأطفال على لغم فيفارق الحياة، عندها يتأزم الوضع ويثور بعض أفراد القرية التي ثارت من قبل حينما طلب منهم الإقطاعي أن يخلوا له بعض المخازن، وربما كان الرجل الأكثر تمرداً وعناداً هو أحد الشيوخ الكبار هو الشخص الذي وصفه ميران بأنه (نصف رجل) لأنه كان أعرجاً ولا يقوى على السير الحثّيث. لم يفلح حمه في كل محاولاته المستميتة أن يبعد الغربان عن مزارع سيده، كما أنه لا يتورع عن سرقة طعام الأطفال ويستولي على أجور الفلاحين الذين يعملون في مزارع الإقطاعي، وكعقاب سماوي له يدوس حمه على أحد الألغام فتقطع ساقه اليمنى.

تدهم ميران الكوابيس اليلية التي تأخذ شكل الفزّاعات المخيفة التي تحرمه من النوم وتؤرق نهاراته المليئة بالخوف. فالظلم لا يدوم حتى وإن استمر لسنوات عديدة، ولابد للمظلوم أن ينتصر في نهاية المطاف. تتأزم الأوضاع النفسية لميران حينما يبدأ بمشاهدة الفزّاعات في كل مكان من القرية وهي تتحدث في شؤونها الخاصة والعامة وكأنها كائنات بشرية ناطقة فيقرر الإقطاعي مغادرة القرية إلى الأبد مهزوماً مدحورا تلاحقه الفزاعات في حلّه وترحاله.

أما القراءة الرمزية وهي الأقوى والأدق فالإقطاعي هو رمز للسلطة الحاكمة المستبدة التي تتلاعب بمقدرات الناس وتبتزهم وتقود أبناءهم إلى الموت المجاني. بينما يعلب حمه دور السركال أو الوكيل والقائم على أعمال سيده، أما أفراد حمايته فهم الحلقة الضيقة التي تحيط بهذا بهذا المستبد المتجبر الذي أهلك الحرث والنسل وسبّب العديد من الفواجع لعامة الناس. فالمدينة ليست أربيل حسب، وإنما يمكن أن تكون العراق كله ضمن هذه القراءة الرمزية.

تلعب الغربان دوراً مهماً في الفيلم ضمن قراءتنا الرمزية له. فهذا الطائر هو رمز للشؤم تارة، كما يمكن أن يكون أداة عقابية يستعملها الله (جلّ في علاه) في أويقات غضبه، وهي تذكّرنا بالطير الأبابيل التي لا ترمي هنا جنود ميران بحجر من سجّيل وإنما هي تأكل حبوبه التي يبذرها الفلاحون الأقنان في مزارعة الشاسعة. فالطير هنا يأخذ معنى رمزياً مفاده الشؤم أولاً والعقوبة التي ينزلها الله بالمستبدين الظلَمة ثانياً.

لم يكتفِ المخرج بتقنية واحدة، ففضلاً عن الأسلوب الواقعي الذي جسّد فيه النصف الأول من الفيلم، والتقنية الرمزية استعملها على مدار الفيلم أيضاً، إلا أنه لجأ إلى الأسلوب السوريالي (الفنتازي) أو العجائبي حينما بثَّ الحياة في الفزّاعات وجعلها تتحرك وتتكلم وتتصرف مثل بقية الكائنات البشرية وهذا الأمر هو الذي ساهم في تنوع التقنيات والأساليب التي تخللت الفيلم وجعلته يمرُّ مروراً سريعاً وكأننا أمام تحفة بصرية آسرة الجمال.

لا يخفى على المتلقي الذكي أن مخرج الفيلم لم يعوّل كثيراً على الخطاب الأدبي الذي تتوفر عليه القصة السينمائية، وإنما كان همّه وهاجسه الأول هو تقديم فيلم يتوفر على لغة بصرية شديدة الإيحاء، وهذا ما حصل في نهاية المطاف، فليس هناك ثرثرة كلامية، وإنما هناك صور بصرية مدروسة بعناية فائقة.

أكاد أجزم أن فيلم (حيّ الفزّاعات) للمخرج الكردي العراقي حسن علي محمود هو نافذة أمل كبيرة لتحريك عجلة السينما العراقية المتلكئة على الرغم من أن هذا الفيلم يُحيل كثيراً إلى السينما الإيرانية من جهة والسينما التركية من جهة أخرى، وما هذا بمستغرب فكردستان هي المثلث الطبيعي الذي يتوسط العراق وإيران وتركيا، ولابد لمؤثرات هذه الدول أن تصل إلى الفيلم الكردي الذي انطلقت قاطرته على سكّة الإبداع السينمائي، وربما لا نستغرب إن تقدمت هي على السينما العراقية خصوصاً بعد أن أنجز العديد من المخرجين الكرد أفلاماً مهمة باتت تحصد الجوائز في المهرجانات العالمية، والأهم من ذلك أنها باتت تستقطب جمهوراً واسعاً يحترم هذا النوع الرصين من السينما الجادة التي تُعنى بقضايا السواد الأعظم من الناس.

جدير ذكره أنّ حسن علي محمود من مواليد مدينة أربيل، العراق سنة 1968. عمل مخرجًا مساعدًا في أربعة أفلام، وأنتج فيلم "عبور الغبار" للمخرج شوكت أمين كوركي عام 2007. وهو أيضاً المدير الفني لقسم السينما في أربيل. بلغ رصيده خمسة أفلام سينمائية وهي على التوالي: "حيّ الفزاعات" و "شيرين" و "واحد ناقص سبعة"، و "أمريكانو" و "خلف السحاب: تحية للبيشمركة" إضافة إلى المسلسل التاريخي "أديابين".

***

عدنان حسين أحمد

 

الاستهلال: لم يكن اختياري للأديبة التونسية كوثر بلعابي صدفة، ولا هو يدخل في -باب بنات الخاطر-، بل جاء هذا الاهتمام للقاءات جمعتنا في بوفيشة سوسة وكنت مدعوا في إطار عمل ثنائي بين صالونين -جرائري - تونسي، لتقديم مداخلة حول أدب الثورة، وكنت بصحبة صديقين عزيزين الاستاذ: كمال بونعاس والدكتورة عواطف سليماني، وكان المنبر جزائريا بامتياز، وشكل الحضور النوعي للأخوة التونسيين كوكتالا رائعا، وكانت كوثر بلعابي واحدة من الشعراء الذين أثثوا المشهد بقراءة مميزة بصحبة الشاعر الأنيق معمر الماجري

وشاءت الصدفة أن أكون مدعوا إلى ملتقى خيمة علي بن غداهم - باي الشعب، بجدليان، وتعرفت على شعراء تونسيين آخرين، شاعر تونس بامتياز الصديق عبد الكريم الخالقي والشاعر المميز عزيز الوسلاتي وصونيا مادوري، وجميلة الماجري، والدكتور الشاعر وليد السبيعي، وقد عبرت مرارا إلى الإخوة الأقربين بأني بصدد جمع الأعمال الجزائرية /التونسية المميزة، لتكون عربون صداقة بيننا، وأصدقكم القول بأنني منشغل على قصيدة مشتركة بين عزيز الوسلاتي ومحمود درويش منذ ستة أشهر،

تواصلت اللقاءات بيننا على وسائل التواصل الاجتماعي، وكنت أتتبع نشاطها المكثف، سواء في ناديها فصول أدبية بدار الثقافة، ابن خلدون المغاربية، أو في جمعية ابن عرفة الثقافية، وفي سائر الدور التي تنشط فيها، كان آخرها في هذا الشهر مداخلتها في مدينة الثقافة بتونس في ندوة ببيت الرّواية كما أن لها منشورات في منتدى الفكر التربوي، وفي مجلة الحياة الثقافية التي ترأسها في فترة من الفترات المفكر اللساني عبد السلام لمسدي، وزير الثقافة في مرحلة من مراحل تونس العظيمة،

خارج النص

رأيت في الأديبة المبدعة كوثر بلعابي المرأة التونسية الملتزمة والأستاذة الخلوقة والأديبة التي تجمع بين الدّرس والنقد والكتابة، في شيء من اليسر، ورأيت لها إجماعا في الوسط الأدبي، وحضورا بهيّا في الأنشطة المختلفة في تونس، وسجّلت لها مقدرة على تعاطي الشعر في مناسبتين، وقدمت لي ديوان من جرحها تزهر

احتفيت، بهذا الديوان خصيصا، لأنه تجربة ثالثة سبقتها تجربتان اثنتان: من جرحها تزهر و كوثر الصباح، كي ألتمس الخطوات التي كانت حاضرة، والتي حاولت أن تصنع التّجاوز في عرف الكتابة الإبداعية، ولاحظت بأن الديوان يحتوي على خمس واربعين قصيدة استهلتها بدمعة باسمة و ختمتها بحد القلم، وجرى ما بينهما حوار يطول بلغة الشعر وبلاغة الكلمة، حتى أضحى ما في القصيدة نشيدا يراود بحره،

اختارت الأديبة المبدعة كوثر بلعابي القصيدة السابع عشرة 17 لتكون عنوانا للديوان، وهو الأمر الذي تمنعه التعليات النصية أبدا، على اعتبار أن عناوين القصائد الموجودة داخل الديوان، تعد منصات داخلية مستقلة، وترفض بصوت عال أن يلغيها الأديب بالتحلية المنتسبة وترفض المحو المنظم. صحيح أن هذا الموضوع كان رائجا إلى وقت قريب حتى عند أكبر الكتاب، غير أن الدرس الحديث، حدد خطوطا حمراء للتحرر والاستقلال ومنح النصوص مسافة أمان ثابتة، وكان بوسع الأديبة أن تختار عنوانا جامعا مانعا للنصوص كي تظل النصوص الداخلية حية، يجمعها التنافس، بعيدا عن نظرية الالغاء، لأن النصوص كالأرواح تحدها الضوابط والموانع، وترفض أن يطالها الحذف والنقض والمس والتهميش،

والحقيقة الثانية أن العنوان سفر، على نار باردة شكل في عالم التترولوجيا عتبة مفصلية، بوسعها أن تكون سفيرة مفوّضة فوق العادة، وكثيرا ما تكون الدرس الأول للقرّاء في عالم اللسانيات والسيميائيات في عرف النقد، ورد العنوان على شكل جملة اسمية محذوفة المبتدأ والحذف مهارة يخفيها البيان، كي يكون الخبر عاليا في مقام التأثيث، ويشكل حضوره تيمة قوية تستند اليها الفضلة في النحو تارة وفي البلاغة طورا آخر، وقد تكون للترشيح أو الزينة، وتقود القاريء إلى الكهوف والمفاوز التي تخفيها الأديبة على شكل (الكنز والتأويل) على قول عبد الله الغذامي،

اختارت المبدعة كوثر بلعابي اللون الأصفر على صيغتين: الفاقع والثاني داكن، ومع أنهما ليسا أصليين، غير أن الفرع يكون أبلغ حين نعمده، وهو واحدة من وسائل التلميح للإفاضة الأدبية: إلى دواخل النص في تمفصلاته التي اختارت لها الأديبة عناوين فرعية على شكل منصات، (دمعة باسمة، عزف على أوتار الليل، استجواب، نشيج الفرح، العشق المشروع، نجوم ورصاص، الأرض النازفة، حد القلم).

اخترت هذه النماذج من العناوين للتدليل على القوة الصّاخبة لهذه العتبات التي عبّرت في مجملها على كون قد ينفجر في أية لحظة، ولجأت الأديبة إلى تسييج المناطق المتاخمة للقصائد بتواريخ لم تكن بريئة إطلاقا ووقعت بأسماء الأماكن على اختلافها: (جربة، تونس، شارع بورقيبة، أيام زلزال المغرب وفيضان ليبيا، يوم استشهاد الفدئي الفلسطيني رعد حازم، اندلاع الطوفان المقدس، بين الزّارات وتونس، القصرين)،

هل يا كوثر الصباح،

قدر القتيل أن يدفن في النص كي لا يكون مملوكا، ولا مولى، ويكتري مجازا للدفن والجنازة؟ وهل قدر البلاد أن تستغيث خوفا على يوليسيزا كي لا يدوسه المبصرون، وحتى يصبح التلوين في فرسخ القصيدة واضحا. وهل قدر الأبيات في تونس أن تهرب مع بضاعة الأمير، وكوثر الصباح ترفض أن تغتال مفردة في قواميس العدالة،

آه أيها الزمن الملوث، دع الرّوي في البلاغة ترسمه الشّفاه، لا حاجة لنا في مدخل القصيدة كي نستعين بالمسدس والرصاص والاغتيال، قدر البنات في تونس - يا حادي الصمت -أن يكون للوطن القبلي صوت الرّشم، قدر الصمت أن يخبيء دموعه في سترة البيان، وقدر الإحاطة أن نسمي الأشياء بأسمائها والكتاب بالترتيب والبلاغة بأهلها، والأموال بأصحابها، والشعراء صفّا /صفّا، ويكون للمنبر حق الشفاعة بين اللغة والنحو والتاريخ ويكون للصّياغة سلطان الحكامة قبل التعمية،

يقول المفكر التونسي: عبد السلام المسدي: يكون التوليد المعنوي أو العدول مكان الانزياح (1) حتى نرتق ظل السطر وننفخ في رحم المفردة ما يدفعها للتوليد والتلقيح والإبانة، هي لحظة للتكوير والعلامة لا تستبيح معالم الدليل، كي لا يفتشها البوليس،

اهتزت الأصوات داخل الديوان وتمرد الأنا في السياق، لأن الشعر إذا خاصمه الرّوي رتل الأبيات خارج القصرين، لأنها مدينة الرّوح والحياة، مدينة مرّ عليها جرجير ولم يكن لسبيطلة وحيدرة ما يصنع الموازنةً بين الخطابة والرتابة والقسم،

يا كوثر الصباح،

قدر القصائد أن تتقن فنّ الامتلاك، وترافع كلما هبت الرياح في اتجاه الجنوب، أعذريني يا تونس إن قاضيت القصائد كي أفسر انتمائي، ثم أعذريني أيتها القصائد التي افتكت من فضول نازك وغضب أولاد احمد وبلاغة الشابي، وعناد مظفر، وسلطة المزغني وتمرد الخالقي وشعرية الماجري، واعلمي بأن القصائد التي وردت موسومة بسفر، على نار باردة، تحمل جواز سفر أبدي إلى عالم الحكمة،

في الأخير لم أجد ما أبرر به يتم الكتابة وحرقة التّجلي سوى أيقونة تولد في أدغال الموسم، وهناك فقط تقام مراسيم الوداع وتكون آخر النصوص شاهدة على المحو والتدوير لآخر الأسطر، لأن الفرق بين الشهادتين أن تمانع كلما كلت الرّوح واستوى ما في الحكاية على الماهية، ولا أحد بعد ذلك يحتاج لراهب يقرأ الكف،

الأديبة: كوثر بلعابي.

دار النشر: دار خريف للنشر.

تصميم الغلاف: فراس عباسي (نجل الأديبة)

الطبعة الأولى:2024.

 ***

بقلم: الاستاذ ابراهيم بادي (ابن الجزائر العربيّة)

انتهى بتاريخ 02 ديسمبر 2024

.....................

(1) البروفيسور: عبد السلام المسدي، الأسلوب والأسلوبية، الدار العربية للكتاب، ص:162.

 

الرواية: هي سلسلة من الأحداث تُسرد بسرد نثري طويل يصف شخصيات خياليّة أو واقعيّة وأحداثاً على شكل قصة متسلسلة، وتعتبر الرواية من أكبر الأجناس القصصيّة من حيث الحجم وتعدد الشخصيات وتنوع الأحداث، وقد ظهرت في أوروبا بوصفها جنساً أدبيّاً مؤثراً في القرن الثامن عشر. وهي تعتمد السرد والحوار بما فيه من وصف وحالات صراع بين الشخصيات، وما ينطوي عليه ذلك من تأزم وجدل وتغذية الأحداث، يترك عند المتلقي حالات معرفيّة على المستوى الاجتماعي والسياسي والثقافي والأخلاقي والنفسي وغير ذلك، ولها أيضاً شكلها أو أسلوبها الفني في العرض الذي يحقق المتعة والدهشة وحب الكشف عند المتلقي ذاته).(1).

أو بتعبير آخر: (هي تجربة أدبيّة، يعبر عنها بأسلوب النثر سرداً وحواراً من خلال تصوير حياة مجموعة أفراد أو شخصيات تتحرك في إطار بيئة أو نسق اجتماعي محدد الزمان والمكان.).(2).

وعلى الرغم من حداثة الرواية في الثقافة العربيّة، وكونها جنساً أدبيّاً حديث العهد طري العود، محدود المراس، غير خاضع لوتيرة منتظمة في تطوره ولا لمسات شكلانيّة في تجلياته ، فإنها استطاعت أن تكسب ود القارئ العربي تدريجيّاً منذ أن فجرت عينها رواية (زينب) سنة 1914 لـ"حسين هيكل" (1888 ـ 1956)، وهو تاريخ حديث لا يتجاوز القرن من الزمن، حتى ولو ذهبنا إلى ما ذهب إليه النقاد المعاصرون كـ"يمنى العيد" واعتبرنا معها المرأة هي من فتح باب الرواية العربيّة برواية (قلب الرجل) التي صدرت سنة 1904 للكاتبة "لبيبة هاشم" كأقدم نص روائي عربي وقبلها رواية (حُسن العواقب) لـ"زينب فواز" الصادرة سنة 1899 .. فإن شلال هذا الفن الروائي سرعان ما تدفق بنتاج حاول بعضهم تصنيفه بمعايير مختلفة منها:

1– روايات ذات طابع سياسي: (مرحلة ما قبل الاستعمار، ومرحلة الاستعمار، ومرحلة ما بعد الاستقلال.). عالجت قضايا الاحتلال والنضال الوطني وتعدد الأحزاب والصراع على السلطة بعد الاستقلال.

2– وذات طابع اجتماعي: وراحت تعالج هنا قضايا التناقضات الطبقية وتصوير الريف وجهله وتخلفه، وكذلك المدينة ومشاكلها الحياتيّة الأسرية والفردية.. وغير ذلك. سادت في هذه الطابع الاجتماعي الروح الرومانسيّة المشبعة بالعاطفيّة والذاتيّة والحلم، ثم جاءت المرحلة الواقعيّة. لقد ارتبطت الرواية بمعطيات اجتماعيّة معينة أثرت في تبنين الرواية العربيّة.

3– وذات طابع فني له علاقة بالآخر: (مرحلة الاقتباس والتعريب مع جيل "مصطفى لطفي" و"المنفلوطي" "وطه حسين" ومع الذين درس أغلبهم في أوربا، قبل أن تبدأ الرواية العربيّة في التأسيس لنفسها مع جيل "يحي حقي" وتصل إلى مرحلة التبلور والتأصيل مع "نجيب محفوظ"، و"إحسان عبد القدوس"، و"عبد الله نديم"، وتنتهي إلى مرحلة التحديث مع "عبد الرحمان منيف" و"حيدر حيدر وحنا مينه" وغيرهم الكثير.

4– وأخيراً روايات ذات طابع جغرافي قطري: حيث ظهرت الرواية حسب الأقطار العربيّة، كالرواية المصرية/ السورية/ اللبنانية/ المغربية. (3). وراحت هذه الروايات في معظمها تركز على الهم القطري ومشاكله الاجتماعيّة والأخلاقيّة وحتى السياسيّة دون أن تتجاهل الهم القومي أيضاً.

مرحلة الرواية العربيّة المعاصرة:

ومع نهاية الألفيّة الثانية وبداية الألفيّة الثالثة من غزو العراق ونشوب حرب الخليج الثانية وسقوط المنظومة الاشتراكيّة، وظهور النظام العالمي الجديد بصيغته المتوحشة، اقتصاديّاً وسياسيّاً وأخلاقيّاً، ومع التجليات الفكريّة لما سمي معطيات ما بعد الحداثة وتأثيرها على مسألة الحريّة الفرديّة، والفتح في المجال واسعاً أمام هذه الحريّة، فكل ذلك جعل الرواية العربيّة تدخل مرحلة جديدة ومختلفة في مضمونها وشكلها، سميت بالرواية العربيّة المعاصرة.

إن الرواية العربيّة المعاصرة اتجهت في العقود الأخيرة إلى تناول (إشكاليات الفرد) ضمن مجتمع محدد زمانيّا ومكانيّا، مبتعدة بوضوح عن الشعارات أو السرديات الكبرى، والبلاغة الإنشائيّة والافتعال. وبهذا المعنى استطاعت أن ترفع ما يجري في الواقع اليومي من حوارات وهموم وآلام إلى برزخ اللغة غير المتعالية، مما انعكس ايجاباً على توسّع الآفاق المعرفيّة والاجتماعيّة والسياسيّة في النص المكتوب روائيّا. وبهذا تجذّرت البيئة المحليّة، والوعي الفردي، وانعكاسات الأحداث الكبيرة في حركة الأفراد ضمن المساحة الزمانيّة والمكانيّة الممنوحة لهم. (4). أو بتعبير آخر إن الروايات المعاصرة الخارجة من رحم أو قاع المجتمعات العربيّة التي راح يتجلى تخلفها المزمن بشكل واضح للأديب... هذا القاع المجتمعي المسكوت عن الكثير من مضامينه السلبيّة سابقا في المتن الروائي، هو واقع فاقع ساخن وصادم، وبسبب ضغط ما هو ملموس وواقعي في الحياة اليوميّة المباشرة، مع تنامي العقليّة العلميّة المنافية للأساطير والغيبيات والمسلّمات العتيقة، ومع ما وصلت إليه البشرية من تطور في العلوم والبحوث الاجتماعيّة والفلسفيّة والجماليّة وحقوق الإنسان، ومع عمليات التأثر بالفكر الآخر وخاصة الغربي منه في معالجته لقضايا العصر، فكل هذه المعطيات راحت تسجّل تاريخاً حقيقيّاً للأحداث، تاريخاً تفصيليّاً أهملته أو تغافلت عنه المدونات الرسميّة للتاريخ الحديث، فتبنته الرواية. وهذا في المقابل ما دفع الأديب بشكل عام والروائي بشكل خاص، إلى تجاهل التاريخ الرسمي السلطوي المهيمن، والسرديات الكبرى أيضاً والتوجه نحو تدوين تاريخ الفرد البسيط والحالم، الساعي إلى شروط حياتيّة عادلة وجميلة.

على العموم إن الرواية المعاصرة لم تشكل قطيعة كليّة مع تاريخ الرواية السابقة لها، ولا اتخذت مواقف سالبة من التراث العربي أو الإنساني. إن ما سعت إليه الرواية المعاصرة في الألفيّة الثالثة، هو التركيز في سردها بشكل عام على شخصيات بسيطة وعاديّة من مختلف الشرائح، لقد تحول الروائي المعاصر في الحقيقة إلى ما يشبه الأنثروبولوجي والباحث في التراث الإنساني ينهل من الأساطير والرموز وينفتح على مختلف الأشكال التعبيريّة محطماً الحدود بين الأجناس الأدبيّة، فتميزت الرواية المعاصرة بعمق الرؤية وإثارة الأسئلة الملحة، أكثر من البحث عن الأجوبة، فوجد القارئ نفسه أمام روايات شعريّة، وروايات دسمة حبلى بالأفكار والإحالات التاريخيّة والفكريّة، والفلسفيّة والفنيّة .. وكتابها منفتحون على السينما، التشكيل ، الفلسفة ، الأديان، الأسطورة، الحكاية الشعبية، لقد قدموا للقارئ روايات أقرب إلى كتب فكريّة اعتمد فيها بعض الكتاب على مراجع ومرجعيات متعددة، وكلفتهم عناء بحث طويل.

إن الرواية المعاصرة إضافة لتسليطها الضوء على قضايا المجتمع التي أشرنا إليها أعلاه، فقد راح بعض الروائيين يمحورون متون رواياتهم حول بعض الحالات الخاصة في المجتمع أيضاً مثل:

أولاً - الأقليات الدينيّة: كاليهوديّة كما في رواية (في قلبي أنثى عبرية) لـ"خولة حمدي" من تونس. أو المسحيّة كما في رواية (طشاري) للعراقيّة "أنعام كشاجي" وعدد من الروايات المصريّة التي عالجت مشاكل الأقباط..

ثانياً - الجنس والشذوذ الجنسي: لقد أعلت الرواية العربيّة المعاصرة من قيمة العشق المذموم، وتصوير الحياة بدونه جافة كريهة لا روح فيها، ومن لا يعرف العشق لا يعرف الحياة، بل لا يعتبر إنسانا في نظرهم وقد ملأوا رواياتهم بقصص الحب المحرم بين فتى وفتاة لا تربطهم علاقة، وحتى بين امرأة متزوجة مع رجل غريب والعكس، ورسخوا في عقول بعض الشباب استحالة الزواج من دون سابق علاقة، وشرعوا للزوجة إذا لم تكّن الحب لزوجها يعتبر خيانة. إذ وجدنا عدداً كبيراً من الروايات المعاصرة تلامس بدرجات مختلفة موضوع الشذوذ في المجتمع العربي في مشارق العالم العربي ومغاربه من الكتاب الكبار كما فعل "علاء الأسواني" في (عمارة يعقوبيان)، أو من الشباب كرواية (العفاريت) لـ "أبراهيم الحجري" من المغرب. ولم تتخلف النساء عن خوض معالجة موضوع الشذوذ برواياتهن في مختلف الأقطار العربية، كما هو الحال في رواية (طريق الغرام) لـ "ربيعة ريحان"، أو في الجزائر كما في (اكتشاف الشهوة) لـ "فضيلة الفاروق"، وكذلك وجدنا في اليمن رواية (زوج حذاء لعائشة) للروائيّة "نبيلة الزبير" وكثيرة هي الروايات التي جعلت من الشذوذ محور سردها…(5).

إن من يواكب جديد الرواية العربيّة المعاصرة سيلاحظ في الحقيقة مدى التركيز على الأبطال الذين يعانون القلق، الخوف، الازدواجيّة في الشخصيّة، ومختلف الأمراض النفسيّة. بل إغراق الروية العربيّة المعاصرة في التركيز على (الذات)، بتقديم نماذج تمثل المفرد المنغلق الباحث عن الهدوء وراحته، كرواية (وراء الفردوس) لـ "منصورة عزالدين" (أنموذجا).

ومن جانب آخر، لقد همشت الرواية المعاصرة إلى حد كبير القضايا القوميّة وحتى القضيّة الفلسطينية التي ظلت تشكل محوراً هاماً في الرواية العربية بعد النكبة والنكسة، كما كان في أعمال "غسان كنفاني وإميل حبيبي" وغيرهما، حيث تراجع تأثيرها في الكثير من الأعمال الروائية. بل أكثر من ذلك هـُمِّشت كما ذكرنا في موقع سابق من عرضنا هذا، القضايا الوطنيّة القطريّة ووالإنسانيّة الكبرى لحساب القضايا الذاتيّة، فكان لكل شخصيّة روائيّة قضيتها الذاتيّة تبحث لها عن مخرج في واقع متشرذم فاسد يعمه الدمار والعنف، حتى لكأنَّ روايتنا أضحت حسب تعبير جورج لوكاتش (تاريخ بحث منحط عن قيم أصيلة في عالم منحط)، لذلك تميزت أفعال معظم أبطال الرواية العربيّة المعاصرة بطابع (التشيطن)، فتنوع الأبطال بين المحتال، المتملق، المجنون، المجرم، الوصولي، والأناني، والمتطرف في كل شيء، (في شرب الخمر، في الجنس، في تعاطي الدعارة، وفي الدين…)، وغير ذلك من الشخصيات التي لا تعير اهتماماً للقيم في المجتمعات العربيّة، حيث راحت تتجه كما قلنا في موقع سابق نحو الفردانيّة والامتثال لقوانين اللبيراليّة المتوحشة، وقيم ما بعد الحداثة وخاصة مناداتها بموت القيم والإله والأخلاق كما صرح " نتشه". ومع ذلك وبناءً على ما يجري على أرض واقعنا العربي من فساد وتردي على كل المستويات، أصبح من المستحيل معه أن نفصل بين ما ينسجه خيال روائيينا وما يدور تحت أقدامنا على الأرض العربيّة. وهذا ما جعل من الرواية أطاراً لكل المتناقضات قادرا على تمثيل مختلف الحساسيات والمرجعيات الثقافيّة وإعادة تشكيلها في قالب فني جديد، وكأننا بالرواية المعاصرة نجد تغير وظيفة الرواية الأصليّة حسب ما يقول "حسن مودن": (إن الوظيفة المركزيّة للرواية لم تعد وظيفتها هي نشر رؤية للإنسان والعالم والتاريخ موضوعة مسبقاً، بل إن وظيفتها أصبحت تكشف بطرقها الخاصة ما لا يمكن أن تقوله إلا الرواية حسب عبارة هرمان روخ)، ففي الرواية فقط يمكن بناء مجتمع للمؤلف فيه الحق في السخرية من غطرسة الساسة الحاكمين، وعناد رجال الدين المتزمتين، وسذاجة البسطاء المغلوبين على أمرهم أمام غياب المساواة)..(6).

نعم.. لقد حملت الرواية على عاتقها اقتحام عبابَ بحر متلاطمة أمواجه وعصي على الفهم، إذ وجد الروائي العربي المعاصر نفسه في لج مرايا متقابلة وصراع وقف أمامه مشدوهاً لا يعرف فيه الصديق من العدو، ولا يعرف من يصارع من؟ وكل ما يراه من الدماء وأشلاء الموتى في كل زاوية دون أن يدرك من يقتل من؟ ولأية أهداف يتقاتل العرب داخل بلادهم أو مع بعضهم كدول؟ ولماذا غدت بلاد العرب على كف عفريت وبؤرة صراع. ولكن أمام هذا الواقع العربي المزري يظل سؤال مشروع يطرح نفسه علينا هو: هل تؤثر الرواية العربيّة في تغيير هذا الواقع نحو الأفضل.؟. أعتقد أن الاجابة على هذا سؤال من الصعوبة بمكان، ونحن أمام ضعف نسب قراء الرواية والقراءة في أوطاننا العربيّة، وبسبب قوة التجهيل التي تمارسها الأنظمة العربيّة الحاكمة على شعوبها، ثم بسبب زيادة واتساع مساحة المجتمع الاستهلاكي وثورة المعلومات والتواصل الاجتماعي، وما تقدمه من ثقافة استهلاكية تشتغل على الغرائز أكثر من اشتغالها على العقل. !!.

أهم سمات وخصائص الرواية الحديثة من حيث المضمون:

1- قدرتها على التواصل مع عوالم كثيرة كالتراث والتاريخ والواقع بكل تركيباته وتعقيداته وقضاياه، وكذلك توظيف السيرة الذاتيّة أو عنصراً من عناصرها في المتخيل الروائي كعامل مشابهة بين الشخصيّة الروائيّة والشخص في الحياة. مما جعلها من حيث التركيبة أكثر تعقيدا. أي وصلت الرواية الى مرحلة النص المفتوح تأليفاً، وإلى قراءات وتأويلات متعددة عند المتلقي.

2- توظّف تقنية تعدّد الرواة في أكثر من مدلول خاص يرتبط بواقع مرجعي. فإضافة إلى جانب اعتمادها على تقنية الراوي الشاهد في توليد صورة الشخصيّة المجتمعية الراهنة، فالبطل القومي الذي كان في رواية الثلاثينات والاربعينات ولربما الخمسينات صورة لشخصيّة نموذجية تختزل الاشخاص وتمثل الإنسان في كليته، نرى الرواية العربيّة المعاصرة تركز كثيراً -كما تبين معنا في عرضنا السابق لبعض الروايات العربيّة المعاصرة - على الشخصيات القلقة والممزقة، وغالباً العاجزة المكتفية بالشهادة على الصراع الغامض والمعقد الدائر في محيط الكاتب. وكذلك الميل الشديد إلي تصوير الواقع المحلّي الضيق كالقري والأحياء الشعبية من المدن، واختيار نماذج إنسانيّة مسحوقة أو تعيش علي هامش المجتمع.

3- رغم ارتباط الرواية العربيّة المعاصرة بواقع التاريخ الحديث، وضياع مفهوم الحقيقة، أو غياب الرؤية النقديّة، أو دخولها الى عالم التغريب والغموض، فإنّ هذا الارتباط نفسه أدى في بعضها الآخر الى إعادة تبني مفهوم الواقعيّة من جديد في صياغة الرواية، وذلك عن طريق الاقتصاد في العبارة بدل الإسهاب في الوصف والحرص على تقديم الشخصيّة السويّة مثلما نرى في رواية "عودة الطائر الى البحر" لـ "حليم بركات" ورواية "التيه" لـ "عبد الرحمان منيف".

4.استلهام بعض تقاليد القص والحكي العربي القديم، وتقديمها في صور جديدة من أجل منح فنون القص العربيّة طابعاً قوميّاً وخصوصيّةً وتميزاً، بعد أن سيطر الشكل الأوروبي الوافد علي نتاج الأجيال الروائيّة السابقة.

5- تفوق الوعي الأيديولوجي علي الوعي الجمالي، لأن معظم الجيل المعاصر من كتاب الرواية العربيّة تربي وتعلم في عصر الاستعمار، وشهد بداية الثورات والانقلابات، ثم استيقظ علي انهيار الحلم القومي بعد هزيمة حزيران وغياب الديموقراطيّة والهزائم المتلاحقة عسكريّاً وقوميّاً وفكريّاً، وانتشار أنظمة القهر والدكتاتوريّة والدولة الشموليّة والاستبداد، والتناقضات الطبقيّة الحادة، وانتشار الأصوليّة التكفيريّة، والقهر والجوع والتشرد والهجرة.. الخ.. لقد بدأنا نلمس سيطرة النزعة الوجوديّة وحتى العبثية والنزعة الذاتيّة على الرواية العربيّة المعاصرة وعند جيل الشباب من الروائيين. ومن الملاحظ في جغرافيّة الرواية العربية المعاصرة تراجع دور المركز المسيطر (مصر) في كتابة الرواية، لقد تغيرت خارطة الرواية؛ فبعد أن كانت مصر وحدها، بمشاكلها وأسمائها تحتلّ الذاكرة الثقافيّة، أصبحت بقية الدول العربيّة (الجزائر وسوريا والسودان والعراق ودول الخليج)، وظهر الكثير من الروائيين والروائيات في بقية الدول العربيّة يساهمون في تجذير الرواية وتسليط الضوء على قضايا ومشاكل بلادهم..(7).

الرواية من حيث الشكل:

الشكل الروائي في جوهره، صورة لغويّة سرديّة مكتوبة للفعل أو النشاط البشري، وهي اللغة التي تعبر وتحمل في طياتها مضموناً يعبر عن مضمون الرواية من جهة، مثلما يعبر عن الشكل أيضاً. فالرواية عموماً لم تعرف ثباتا على نهج معين لفترة طويلة، إنها فن التحولات الدائمة التي ما فتئت تجرب آفاقا جديدة متسعة لاحتضان رؤى جديدة يفرزها الواقع المعيش. فالرواية (لا حدود نظريّة لها، وتتسم بمرونة شكليّة أيضاً لا نهاية لها ولا حد… وإنها نوع لا يخضع إلى قواعد ومواصفات وقوانين ثابتة، وأن التحول والمرونة الفائقة هي أهم صفاتها، خصوصاً من حيث هي شكل مفتوح يظل دائما في حالة صنع، فهي مغامرة كتابة أكثر منها كتابة مغامرات كما وصفها – بحق - الناقد الفرنسي جان ريكاريو).(8).

من خلال معرفتنا لشكل الرواية العربيّة تاريخيّاً، نلاحظ أن الروائي العربي المعاصر قد ثار على الشكل الروائي ذاته وتمرد عليها وعلى بنية السرد الكلاسيكيّة. بل وحتى على اللغة العربية التي كانت تتميز بالسجع والبلاغة التقليديّة والحشمة والوقار في معظم روايات نهاية القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين حتى جاء جيل جديد ليسمي الأشياء بمسمياتها.

(ومثال على أفق التجريب والحداثة في الشكل الروائي المعاصر، نجده في رواية المفكر المغربي "عبد الله العروي" «أوراق» التي تعج بدلالات المغامرة الفكريّة والإغراء التخييلي بنزوح الشكل الروائي إلى تجربة جديدة في الانزياح الذهني، والجنوح إلى المتخيل الغني بالخطابات المتداخلة التي تجعلك في قراءة للفكر الإنساني بشموليته، ونضج تيمي قلما نجده في رواية السلف المؤسس. وهذه الذهنية التخيليّة عند بعض النقاد هي أقصى قمم المغامرة الشكليّة التي تنتصر لنوع من القص يميط اللثام عن قوة اللغة ودلالة الكلمات التي لا تصبح مجرد كلمات وقوالب لسانية لغويّة، بقدر ما تصير وعاءً لفك رموز الوجود الإنساني، وتجريب شخوص الواقع في متخيل مشخصن، مع خلخلة لمفهوم الزمن وما هو متعارف عليه في بنية الكتابة الروائيّة.). (9).

يبدو أن الكثير من عشاق الرواية يجدون ولعاً آسراً في الحديث عن نهاية الأشياء وموتها كما تطرح اليوم مع ما بعد الحداثة: كموت الفلسفة، موت الرواية، موت المؤلّف، موت الإنسان العاقل، إلخ.. ويتخذ الحديث في العادة نبرة مأساويّة منذرة بالتشاؤم، ذات صبغة كهنوتيّة لعلّها تذكّرنا بقرب حلول كارثة بشريّة ماحقة، تنفلت فيها كل الضوابط الحاكمة للحياة الإنسانيّة من عقالها، ويغدو فيها الناس مشتتين مسوقين بدفع عوامل كونية غامضة، أو نفسيّة قاتلة، وربما يمكن مشابهة هذا الوضع البشري مع ما حصل في باكورة الألفيّة الثالثة، وما رافقها من التبشير بنهاية العالم. ولكن الرواية واقعياً لم تحتضر ولم تمت، بل ازدهرت وتنوعت أنماطها، ولا أحسبها ستموت أبداً.

(إن الرواية حيّة باقية لن تموت، وليس هذا ضرباً من التفكير الرغائبي، بقدر ما هو تأكيد لحاجات بشريّة لها جوانبها البراغماتيّة، تتطلّع إلى نتائج مثاليّة ضروريّة لبقاء الجنس البشري، واستدامته وسط ظروف صراعيّة معقّدة تعاكس ارتقاء حياة الكائن البشري في الجوانب العقليّة والنفسيّة والروحيّة). (10).

ومن حيث الشكل أيضاً لقد اتجهت عدّة روايات إلى تكسير قواعد الكتابة الروائيّة الكلاسيكيّة، بالتخلي عن السرد الخطي التصاعدي المتسلسل، واللجوء إلى تكسير المسرود واعتماد نظام الفوضى في تقديم أحداث عمله، لدرجة قد يشعر قارئ بعض الأعمال غياب ذلك الخيط الرابط بين تفاصيلها نتيجة الإسراف في التكرار، والتركيز على تفاصيل قد تبدو لمن اعتاد قراءة الأعمال الكلاسيكيّة غير ذات جدوى عندما يغرق الأبطال في سرد معاناتهم الشخصيّة في ظل الواقع العربي المأزوم الذي يستحيل على مخيال الروائي تقديم حلول له. لذلك حاول بعض الروائيين الهروب من (الآن) إلى الماضي فحكت عدّة روايات أحداثها في الماضي، والهروب من الـ (هنا) إلى خارج الحدود العربيّة، فـ"فوزية شويش السالم" هربت بطلة رواية (سلالم النهار) إلى مكان معزول على قمة جبال ولاية مسندم الواقعة على رأس مضيق هرمز، وطاف كل من "علي المقري، وفضيلة فاروق، وبثينة العيسى، وسعد السعنوسي ومحمد الشعري " … بأبطالهم في عوالم كثيرة بعيدا عن الواقع العربي. (11). وهذا الهروب للأبطال نجده في رواية (طعم التوت البري) للقاصة فلك حصرية.

أهداف الرواية العربيّة المعاصرة:

لا شك أن أي عمل أدبي يحمل أهدافاً في مضمونه يريد إيصاله للمتلقي بهدف التأثير فيه سلباً أو إيجاباً، والرواية من الأعمال الأدبيّة الأكثر تأثيراً كونها الأكثر شعبيّة وانتشاراً. وهي تبني عوالم خياليّة ينتقل إليها القارئ بوجدانه وأحاسيسه ومخيلته، كونها تصور له حياة متكاملة لا يستطيع أن يلملم أطرافها في حياته القصيرة التي يعيشها، بل كثيراً ما يكون هناك تشابه بين القارئ وبين بعض شخصيات الرواية في ظروف حياته وتطلعاته فيتتبع القارئ مسيرة هذه الشخصيّة بشغف، ويرافقه شعور بالسعادة عند تحقيقها لطموحها، أو يعي الدرس عند فشلها في اتباع نفس طريقه وطموحه.

من خلال عرضنا لأهم الظروف التي تحيط بواقعنا العربي، والعوامل الداخليّة والخارجيّة التي أثرت في خلق هذه الظروف، وخاصة تلك الأمراض المستشريّة على كافة المستويات الاجتماعيّة والأخلاقيّة والفكريّة والسياسيّة، فقد جاءت أهداف الرواية لتسليط الضوء عليها وكشفها وما مدى تأثيرها على البنية الاجتماعيّة، وهذا الكشف يكفيها في الحقيقة كونه يشكل عامل توجيه للمتلقي العربي وتعريفه على واقعه وأسباب أمراضه السائدة فيه.

إن الرواية العربيّة المعاصرة في سياقها العام، استطاعت أن تمنح القارئ فوائد متنوعة لا يستطيعها أي فن أدبي آخر تقديمها لعذوبتها وسيولتها وقدرتها على الولوج في كل باب والمشي على الأشواك والقفز فوق الحواجز. مثلما منحت قارئها ثراءً لغويّاً خاصة إذا كان الكاتب يتمتع بقدرة على انتقاء الألفاظ ووضعها في مكانها المناسب. كما أنها استطاعت تلخيص تجربة شخصيته. فالروايات معظمها سير شخصيّة تُقولب في قوالب متنوعة ويضفي عليها الروائي من رؤاه وأفكاره وتجاربه، وتختلف صعوداً وهبوطاً بحسب حياة وتجربة وثقافة الروائي.

كما أن الرواية قد تنقل تجربة تاريخية، فالمؤرخ يقدم أحداثاً وأرقاماً جامدة، ولا ينقل للقارئ التفاعل الاجتماعي والنفسي لتلك الأحداث الواقعة في زمان أو مكان لم يعشه القارئ، فينقل إليه الحدث بتفاعلاته النفسيّة والاجتماعيّة، بل ويدخله في الحدث ويجعله يعيش تفصيلاته اليوميّة والتغيرات التدريجيّة التي تتشوف نفسه إليها عند قراءة الحدث. ومما تتميز به الرواية عن التاريخ أنها تؤرخ للحدث اليومي، وللشخصيات المهمشة في التاريخ، حيث لا يمكن أن يكون لها حضور على مستوى الحوادث الكبرى وفعلها في الحدث، وغير ملحوظ للمؤرخ فيغفلها عند تسجيله للحدث، بعكس الروائي الذي يستحضرها ويجد نفسه مضطراً لها عند بنائه الروائي.

كما أن الرواية قد تنقل لقارئها الحياة الداخليّة لفئة أو طبقة لا يستطيع الاتصال بها أو معايشتها، وهناك مقولة لأحد الزعماء الأوروبيين يقول: (لقد فهمت أوروبا من روايات بلزاك أكثر مما فهمتها من كتب التاريخ الفرنسي)، فهي الفن الوحيد الخالي من القيود الفنيّة المنفتح على كافة مجالات الحياة، وعلى حد تعبير إبراهيم نصر الله: إن الرواية هي (ذلك الفن المشرع على الحياة بكافة تجلياتها الإنسانيّة ماضياً وحاضراً ومستقبلاً، والقادر على الخروج بجرأة إلى كل ما ينتجه البشر من أنواع إبداعيّة ليتمثلها كما لا يتمثلها أي فن أدبي). (12).

إن الرواية لها أثرها البعيد سلباً أو إيجاباً كما أشرنا أعلاه، وكثيراً ما يتسرب أثرها غير المباشر إلى مكنونات عقل القارئ ونفسه ووجدانه فيتبنى ما فيها من رؤى وأفكار ويتمثل ما بها من مشاعر.

***

د. عدنان عويّد

.....................

الهوامش"

1- الويكيبيديا. بتصرف.

2- الرواية العربية وتطورها – محمد هادي مرادي* - آزاد مونسي** قادر قادري*** رحيم خاكپور- دراسات في الأدب المعاصر، السنة الرابعة، شتاء 1391 ، العدد السادس عشر.).

3- (الرواية العربية شحنات سالبة أو موجبة!! – محمد الروائي العربي- جمهورية مصر العربية - موقع: https://www.ktlyst.org/). بتصرف.

4- (موقع:الجزيرة نت -هل ساهمت الرواية العربية المعاصرة في كتابة تاريخ جديد؟ - أشرف الحساني.). بتصرف.

5- (الرواية العربية شحنات سالبة أو موجبة!! - محمدالروائي العربي - جمهورية مصر العربية - موقع: https://www.ktlyst.org/ ). بتصرف.

6- المرجع نفسه.

7- المرجع نفسه. بتصرف.

8- (د. جابر عصفور: ابتداء زمن الرواية: ملاحظات منهجية، الرواية العربية ممكنات السرد، سلسلة عالم المعرفة، عدد 357، إصدارات المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، نوفمبر2008، ص 155).

9- (- مغامرات الشكل القصصي من التقليدية إلـى التجريب ـ الرواية نموذجاً - د. محمد الكرافس. بتصرف.

https://alketaba.com/

10- (القدس العربي - الرواية في عالمنا المعاصر – لطفية الدليمي.).

11- (الرواية العربية شحنات سالبة أو موجبة!! - محمدالروائي العربي - جمهورية مصر العربية - موقع:).بتصرف.

https://www.ktlyst.org/

12- (الرواية العربية (الواقع والطموح) - موقع ميداد: - محمد الفقيه). بتصرف.

https://midad.com/

 

"الآن بدأت حياتي" للروائي السوري سومر شحادة نموذجاً

يقول إياس أحد شخصيات الرواية في نهاية المقطع التعريفي الخاص به " الآن تبدأ حياتي"، بعد أن أراح نفسه من تركة علاقته مع طليقته صفاء، المرأة الغائبة ومعها ابنهما في المهجر، حيث بدا فرحاً بلجوء لين، الحاضرة، إليه، ولن تسافر، لين التي تتحدث في المقطع التعريفي الخاصّ بها عن مقتل المحامي يوسف، كما تذكر أنه حسب ما نشر في الفيسبوك، كان مقتله على خلفية تورّطه في عددٍ من القضايا ضد أشخاصٍ فاسدين، كما قرأت تعليقات، يقول معظم أصحابها بأنه كان هارباً من انكشاف أحد ملفّات الفساد، كما قرأت عن ترجيح احتمال الانتحار، تلك الطريقة الشائعة في تصفية من يعترض طريق المافيا.

لين التي سيتّهمها المحققّون بالجريمة، كانت مقهورةً من العالم الذي شكّل علاقاتها المعقدة مع يوسف المقتول أو المنتحر، ومن ريما زوجة يوسف ومن صفاء طليقة إياس. والأخير كان هو من تريد أن تبدأ به حياتها أيضاً. ربّما كانت فرحةً لموت يوسف، إذ كانت على علاقةٍ عاطفيةٍ به، فرحها يكمن في أنّها أحسّت بالخلاص من الخديعة، خديعة حبّها ليوسف، الذي سيسافر إلى أميركا، برفقة زوجته ريما.

إياس، لين، ريما، ناديا، نهاد؛ هذه الأسماء، تشكّل المحور الرئيس لأحداث الرواية، ولذا يقدّمها الروائي سومر شحادة في مقاطع تعريفيةٍ خاصّةٍ بكلّ واحدٍ أو واحدةٍ منهم، تقدّم هذه الشخصيات رؤاها لعالم العلاقات التي تشتبك بها مع الآخرين، مع الحفر السردي لدواخل هذه الشخصيات، كلُّ ذلك في الفصل الأول من الرواية ذات الثمانية فصول.

نسائم علاقةٍ عاطفيةٍ جديدة

في مقطع التعريف الخاص به، يشرح إياس خلفية علاقته بلين، صديقة طليقته صفاء، حيث لجوئها إليه صباح اليوم التالي لموت يوسف، كان بمثابة هبوب نسائم علاقةٍ عاطفيّةٍ جديدةٍ في حياته، وكان قد حصل بينهما ودٌّ شفيفٌ في حفلة وداع يوسف وزوجته ريما للسفر إلى أميركا، على خلفية تداعيات الحرب في سوريا.

أمد الأحداث في الرواية لم يتجاوز أربعاً وعشرين ساعة، تبدأ من تجمّع الشخصيات أعلاه في منزل يوسف لأجل حفلة الوداع، فضلاً عن مدعوّين آخرين من المحامين ضمن شبكة معارف يوسف، وكذلك نذير خال زوجة يوسف، الرجل الغامض في الرواية، حيث بعد انفضاض السهرة، حدث ما يُشكُّ بأنّه انتحار. نذير الذي له علاقة قرابةٍ مع القضاء، كان مؤثراً في سير مجريات التحقيق، مطالباً المحققين بحسم موت يوسف على أنهُ قتلٌ وليس انتحاراً، كما أنَّ المحقق الرئيس ومعه مساعدان، كانا عجولين في البتّ بالقضية، وإعلان نتيجة التحقيق أمام الرأي العام، وذلك مطلب الجهات العليا.

من هذا العالم العلاقاتي المتشابك بنفوس شخصيّاته المضطربة، نفذت هذه الجريمة، التي اتُّهمت فيها لين، لأنّهُ في عالم اللاعدالة، ينبغي أن يكون هناك متَّهمٌ بريء، توجيه الاتّهام إلى لين كان مع سبق الإصرار، لأنّه حين استجوب المحقّقون ريما، أدلت بشهادة، بأنّها هي التي قتلت يوسف، بما معناه لا تتّهموا بريئةً في قتله. شهادة أربكت مسار التحقيق، وحين تشاوروا مع نذير، رفض التحريف الجديد لمسار التحقيق، حيث جهّز شهوداً آخرين، من بينهم صاحب السوبر ماركت، وحارس البناء الذي فيه شقة يوسف، اللذان أشارا بعودة لين إلى مسرح الجريمة ثانيةً، قبل وقتٍ قليلٍ من حدوثها.

العشيقة المغدورة

ومادامت الجريمة هي بؤرة الحدث، فإنّ المتهمة لين، تصبح قبلة أنظار الجميع، كما أنّ الحديث عن كلِّ شيءٍ يتعلّق بها، التهم الكثير من صفحات الرواية. لين التي تعيش وحيدةً في غرفةٍ مؤجّرة، تعيش منفصلةً عن أبويها، مثلما تخاف الارتباط الدائمي، هي المُشبعة بحكايات الانفصال بين الأزواج، لكنّها رمت نفسها في حكاياتٍ لا أمل منها، وتقصد المصير المسدود في علاقتها مع يوسف، التي انتهت بموته. قررت الانتقام من واقعها المتأزم، لا عبر قتل يوسف، كما تشير لائحة الاتّهام الرسمية، بل باللجوء إلى إياس، في صباح اليوم التالي لموت يوسف، لأنّها تعلم أن الطريقة الوحيدة لدخول حياته، هي أن تفرض نفسها عليه.

كانت لين قد هجست أنّه ربما سيوجَّه الاتّهام إليها، فهي بعد أن غادرت حفلة الوداع مبكراً، بعد أن تجاهلها يوسف أيضاً، عادت مرةً أخرى إلى مسرح الحدث، عودتها كانت الخطأ القاتل. لقد رآها زملاء يوسف في هذه العودة الثانية، وذكروا ذلك أمام المحققين، مما أرسل إلى المحققين تأكيداً على اتّهامها بقتله. كانت تتمازح مع ما أصبح خطأها الكبير: "لا أنسى مظهري في الشارع أمام زملائه، بدا أنّي مقدمةٌ على جريمة قتل. أمرّ مضحك. لا أستطيع أن أمنع نفسي من الضحك لهذا الخاطر؛ وهو أن يترك تعذّر وداع الأحبّة على الوجوه إيحاءً يشبه تعابير مرتكبي الجرائم" الرواية- ص 39 .

السيناريو المُدبّر

لم يتضّح السيناريو القاضي باتّهام لين بالقتل، إلاّ عندما استدعى المحققون نهاد والد يوسف، الذين سمّوه الشاهد الملك، وهو الممثل الأخير في مسرحية الاتّهام؛ لين كقاتلة، وإياس كمتستّرٍ عليها، ما أدلاه المحقّق الرئيسي على مسمع الشاهد الملك، ما هو إلا تقنيّةٌ سرديةٌ استخدمها الروائي، ليوضّح للقارئ تفاصيل القضية بحسب رؤية العدالة المُزيّفة، فسرد للشاهد الملك الحكاية الغامضة كي يوافق شكليّاً ولو بالإيماءة، بأنه هذا ما جرى فعلاً؛ ابنه يوسف قتلته عشيقته بمساعدة صديقه، حيث كان يوسف على علاقةٍ مع زوجة صديقه إياس، وانفصلت زوجته صفاء عنه جرّاء خيانةٍ صعبة. يوسف أهدى صديقه إياس منزلاً رخيصاً قياساً بفقد العائلة: الزوجة والابن. إهانةٌ لم يستطع إياس تقبّلها. كما أنّ يوسف وعد عشيقته بالزواج منها، ومن ثمّ قرّر أن يسافر مع زوجته، ويبدأ حياةً جديدة، وهذا استخفافٌ بمشاعر العشيقة لين، التي وجدت من يساندها كي تنتقم. المحقق الرئيسي، يقول لوالد يوسف" فعلنا ما بوسعنا لترتيب هذا السيناريو . وإبعاد أيّ تشويشٍ عن جوهر التحقيق. هل توافقنا عليه". الشاهد الملك أو الأخرس، أومأ بنعم .

أحسب أن الروائي قدحت عنده في البدء، هذه الفكرة البوليسية، وأقام عليها معمار الرواية، ومن ثم هيكلها في منحيين: العلاقات الحميمة والمريبة والمتداخلة بين شخصيات الرواية الأساسيين، ومن ثمّ الشقّ البوليسي، شقّ التحقيق مع الشخصيات ذاتها، حيث يقتحم عالم الرواية المحقق الرئيس ومساعداه ليفتحوا ملف العلاقات ثانيةً بصيغ اتّهامية متعدّدة، لتنحسر إلى صيغةٍ واحدة، وهي الضرورة الحتمية في اتّهام لين، لأنه لا بُدّ من مُتّهم، لكي لا تبقى نهايات التحقيق مفتوحة، وبالتالي لا بدّ من إحقاق العدالة الرسمية في غضون أربع وعشرين ساعة، حيث المشهد الأخير، تمثّل في مداهمة الأمن الجنائي لشقة إياس، وكان هو ولين عاريين، وقد اقتيدت لين بعنفٍ إلى سيارة الأمن، كان إياس قد أدرك أن بإمكانه التحرّر من سطوة طليقته صفاء، فكلّ شيءٍ في المنزل يذكّره بها، وتذكر الرواية في صفحتها الأخيرة بأنه أخذ يغالب شعوراً مريراً وقاهراً بالقول لنفسه: الآن بدأت حياتي..

هذه الرواية بحبكتها البوليسية المحزنة، حيث لم تتّخذ العدالة الحقيقية مجراها الصافي، تحمل في طيّات سرديّاتها الشفافة؛ ثنائية وهم الحب والانتظار، من جهة لين مع يوسف، كما ثنائية الصداقة والخديعة، من جهة لين وريما، بوصف الأولى عشيقة زوجها يوسف، وقبلاً لجهة صفاء مع ريما، بوصف الأولى أيضاً من عشيقات يوسف. إنّها روايةٌ تصوّر عالماً مضطرباً في زمن انعدام الحريات، إنّها تمثّل خير تمثيل الاحتجاج على العدالة المزيّفة.

***

باقر صاحب – أديب وناقد

.....................

* الرواية، من تأليف الروائي السوري سومر شحادة، وصدرت عن دار الكرمة – القاهرة عام 2024.

مواسم الغروب: رحلة بين الوجود والزوال

***

1- البنية واللغة:

يعد نصّ /بعيداً عن جمهورية أفلاطون/ نصًّا شعريًّا معاصرًا مليئًا بالصور الفنية المكثفة والرموز التي تتنقل بين مستويات عدة من التأمل الفلسفي والوجودي، إلى جانب التشبيهات الحسية التي تربط الذات بالعالم الطبيعي. من خلال استخدام الشاعرة للزمن والفصول الطبيعية، يطغى على النص الطابع الانفعالي والتشويش الوجودي، إذ أن الشخص الذي يتحدث في القصيدة لا يملك تصوّرًا ثابتًا لوجوده في سياق الزمان والمكان.

2- الطبيعة وعلاقتها بالذات:

إحدى السمات البارزة في النص هي تداخل المواسم والفصول مع مشاعر الشاعرة، ما يخلق نوعًا من الوحدة بين الذات الطبيعية والوجود البشري. يمكن للقارئ أن يلحظ حضور الفصول الأربعة كرموز دائمة للتغير والانتقال، الأمر الذي يعكس حالة عدم الاستقرار والاضطراب التي تعيشها الشاعرة.

الشتاء الذي يبدو /بيضاءً بيضاءً/ يرمز إلى النقاء والبرودة، لكنه في الوقت ذاته يحمل غربة الداخل والشعور بالعزلة.

الصيف الذي /يذروَ رمادَ إنتظاري/ يجسد الحنين والعذاب الناتج عن الانتظار الذي لا يفضي إلى شيء، مما يترك خلفه رمادًا غير منتج.

الخريف الذي /يمرّ من جنبيَ مرتديًا عباءةً صفراءَ/ يضفي على النص شعورًا بالشيخوخة والفقدان، حيث الخريف يرمز إلى النضوج الزائل والتحولات الحتمية.

أما الربيع، فيُحتَسَبُ كرمزٍ للأمل المتجدد، لكنه في النص لا يأتي حاملًا للبشرى المتوقعة، بل يتساقط تحت ضغط /الهسيس/ من الأطواق الخضراء للشعر.

هذه الفصول، وإن كانت تمثل دورة حياة طبيعية، إلا أنها تصبح مشهدًا للاضطراب الوجودي، وهو ما يعكس شعور الشاعرة العميق بتشتت الذات والعجز عن التكيف مع العالم المحيط.

3- الرمزية والخيال:

النص مليء بالرموز التي تحمل معانٍ فلسفية وتجريدية تعكس الصراع الداخلي. الشاعرة تستعير من العالم الطبيعي صورًا حية وساخرة لتصف تجربتها الشخصية:

الذبابة التي /تَتَيَبّسُ/ في الشاعرة تصبح صورة للحظة الموت أو التوقف، في مقابل العصفورة التي تبرز كرمز للحركة والتغيير.

النحلة التي /تخطفُ قبلةً/ من الشاعرة تظهر كرمز للرغبة والألم، حيث أن النحلة، بوصفها كائنًا طائرًا، تُجسد التوق الدائم والمستمر للحب والحرية، لكن كل قبلة تُخطف وتُسقط تُعتبر خسارة على مستوى الذات.

النملة التي /تطمسُ تاريخ الأرضِ بحبة قمحٍ ثقيلةٍ/ تمثل الموت الزاحف أو الفناء الذي لا مفر منه، في حين أن العنكبوت والدودة يرمزان إلى الموت البطيء والمجهول الذي يحاصر وجود الشاعرة.

هذا العالم المليء بالكائنات الصغيرة التي تتفاعل مع الشاعرة يشير إلى نوع من التلاعب بالأقدار، حيث يتم اختطاف لحظات الوجود والحب والتاريخ في عالم لا يبدو أنه يحتفظ بأي شيء مستمر أو ثابت.

4- الوجود والعدم:

يتحول النص إلى بحث عن معنى الوجود من خلال اللغة المكسورة والملتهبة التي تسود الأبيات. الشاعرة تتساءل عن طبيعة وجودها في هذا العالم، وتطرح تساؤلات وجودية عن جدوى الحياة والآلام التي تتراكم بمرور الزمن:

السؤال الوجودي الذي يظهر في قولها: /لِمَ غدوتُ موسماً مدمراً غيرَ مُتصالحٍ/ يعكس شعورًا بالفقدان والعزلة.

التوتر بين الفصول (الربيع والصيف والخريف والشتاء) يشير إلى محاولات عديدة لإيجاد الاستقرار، لكن الواقع يكشف عن تقلبات وصراعات لا يمكن التنبؤ بها.

القصيدة تصبح مساحة للشعور بالعجز أمام دورة الحياة التي لا تتوقف، وهذا يظهر بوضوح في التشبيهات التي تلجأ إليها الشاعرة في وصف تجربتها الوجودية.

5- التمرد على التوقعات والروتين:

تظهر الشاعرة كمتمردة على الرتابة الدنيوية والوجودية، حيث تشير إلى سعيها للخروج من النظام المنطقي والمرتب الذي تحاول الفلسفات الكبرى (مثل أفلاطون) فرضه على الوجود. ففي إشارة إلى /جمهورية أفلاطون/، يبرهن النص على رفض النظام المثالي الذي يقترحه أفلاطون، ليحل محله العالم غير المثالي، حيث الألم والفوضى والغياب سيّد الموقف.

6- الانتصار على الفوضى:

رغم كل هذا التوتر والفوضى التي تسود النص، فإن الشاعرة تصل إلى لحظة من الوعي الذاتي المتجدد، يتمثل في الختام حيث تقوم /خيالي بمَحوِ مواسمي/. هذا يشير إلى محاولة تصالح الشاعرة مع نفسها، وتحريرها من أسر المواسم والأوقات التي سلبتها قدرتها على التفاعل مع العالم.

7- خاتمة:

نص /بعيدًا عن جمهورية أفلاطون/ هو نصّ فلسفيّ بامتياز، يستحضر تداخلًا بين الواقع والفنتازيا، بين الحياة والموت، بين الوجود والعدم. الشاعرة چنور نامق تقدم من خلال هذه القصيدة رؤية كونية معقدة، تتفاعل فيها الذات مع عناصر الطبيعة والعالم المحيط بها، وتبحث عن مواضع التوازن في عالم دائم التغير والتقلب. النص يتسم بالانفتاح على أكثر من قراءة، وهو يعكس حالة من البحث المستمر عن معنى في عالم مليء بالتحولات والصراعات.

***

بقلم: كريم عبد الله – العراق

..........................

بعيداً عن جمهورية أفلاطون

شعر: چنور نامق

ترجمة: مكرم رشيد الطالباني

***

أنا  موسمٌ آخرَ الآنَ

وموعد غروبي غير معلومٌ

تَتَيَبّسُ فيَّ ذبابةٌ

وتستَكينُ بغربةٍ على غصنِ ضفيرتي الموشحة بالهموم

عصفورةٌ

يزورني الشتاءُ

ويبدو بيضاءً بيضاءً

فيما الصيفُ يذروَ رمادَ إنتظاري

والخريفُ يمرّ من جنبيَ

مرتدياً عباءةً صفراءَ

ويحسدُني الربيع

ليقطفَ بالهسيسِ أطواقَ شَعريَ الخضراءِ

ليتساقطَ بدوره

**

الآنَ أنا جزءٌ آخرَ من جسدِ النساء الغاضبات

متقرفصةٌ أمام الجناتِ

يحدقنَ فيَّ بحسَدٍ

هن لن يكفنَ عن الماراثون وأنا من زياراتي المفاجئة

الآنَ أنا نهرٌ آخرَ

لن تسمحَ الهموم الصغيرةَ لـ(فيرمينيا) أن تتعرّفَ علي الأسماكُ

تُلَوِنُني الأمطارُ

تغترِفُني طحالبُ الحياةِ

الآنَ أنا نهرٌ آخرَ

تخطفُ نحلةٌ منيّ قبلَةً

لتسقطَ على بضعِ خطواتِ منيّ

لتطمسَ نملةٌ تاريخ الأرضِ

بحبة قمحٍ ثقيلةٍ

فيما  يهدمُ دارَ خياليَ غُرابٌ

ومن ثم تخطِفُ نحلةٌ أخرى قبلةً منيّ

لتسقطَ على بضعِ خطواتٍ منيّ

والآن تجدني ملأى بنحلاتٍ تواقاتٍ للقُبَلِ

بنملاتٍ ذي أحمالٍ ثِقالٍ

بعصافيرَ أضطربتْ نومها

**

وزعةٌ تلتهمُ البعوضَ

على مرأى من الشمسِ

فيما فراشةٌ تتلذّذُ بكلتا قدميها من قبلاتِ شفاهيَ

شبحٌ ينشرُ كفنٌ خُيّطَ حديثاً أمام مرآى ناظريّ

ملاكان يتشاجران حول الوجود

الصيفُ يرشني بالنارِ

والشتاءُ يُجَمّدُني

والخريفُ يُغَطّيني بعباءةٍ ناصعةِ البياضِ

فيما ها هو الربيعُ يسيرُ أمامَ جنازاتِ النحلاتِ

الوقتُ متأخرٌ وصخبُ موسمي هذا لا ينتهي

عنكبوتٌ

يبحثُ كيديكَ في ثنايا شعري عن القملِ

فيما تحرثُ دودةٌ أرضَ شُجَيراتي

يُبَلِغُني نورٌ بنبأ رحيلِ البرقِ

فيما الأشجارُ ترقصُ فيّ لدرجةٍ أهتزُّ

يا إلهي

لِمَ غدوتُ موسماً مدمراً غيرَ مُتصالحٍ

المزهریاتُ تملأُ نفسها من عِطريَ كلّ مساء

المسافرونَ يُعيدونَ آمالي إلى أحضانِ الحياةِ

بملء سلالهم

تَتَيبسُّ صرصورٌ بأمر النور على بضعِ خطواتٍ من إحدى شجيراتِ رغبتي

حان وقتُ غروبيَ الآن

يخطفُ عصفورٌ، نملةٌ ناظري

ونحلةٌ تخطفُ شفاهي

على إثر وقعَ أقدامهِ

يقوم خيالي بمَحوِ مواسمي

 

أبا الحسنين: شكوى فاطميّ

هذه القصيدة تُجسِّد أسمى تجليات الشعر العربي الأصيل (الذي نفتقده)، إذ تفيض بمشاعر الإعجاب والتبجيل نحو شخصية الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام. حيث يعبر الشاعر السماوي عن مكانة الامام بأسلوب شعري بليغ يزخر بالصور المشرقة والمجازات البديعة، مما يجعل النص لوحة متألقة بألوان الإجلال والعظمة. القصيدة لا تقتصر على المدح، بل تتوغل في بُعدٍ إنساني عميق يعكس شكوى النفس وحلمها بالعدل. إنها أنشودة تحتفي بمناقب الإمام الخالدة وتجسدها بإبداع متدفق بالعاطفة والروح، ما يخلّد سيرته في أفق الأدب الخالد.

القصيدة ترتقي في مديح الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام إلى مستوى رفيع من التعابير الشعرية، حيث يمزج الشاعر بين التصوير الفني العميق والرمزية المدهشة، مُبرزًا أبعادًا متعددة من شخصية الإمام: الشجاعة، الطهارة، والعدل.

ففي البيت:

"فلستُ بمادحٍ شمسًا بقولي

تفيضُ سنىً فطبعُ الشمسِ رفدُ"

يرتقي الشاعر بالمديح إلى مقام الكمال، فيُشبه الإمام بالشمس التي تمنح نورها بلا مقابل، في استعارة تجمع بين الديمومة والكرم، وهو تشبيه يرمز إلى القوة والعظمة والإشراق، مؤكدًا أن الصفات السامية للإمام تُدرك بالحسّ لا بالكلمات. إذ يشبّه الإمام بالشمس التي تُشرق نورًا لا ينضب.

أما قوله:

"ومن ـ إلآكَ ـ بينَ الخلقِ شقَّتْ

جدارًا كعبةٌ ليقومَ مهدُ"

فهو تصوير يفيض بالرهبة والجلال، إذ يُبرز ولادة الإمام داخل الكعبة كحدثٍ فريد يجمع بين البعد الإلهي والرمزية التاريخية، في إشارة إلى طهارة الأصل وعلو الشأن.

وفي البيت:

"وُلِدتَ مُطهّرًا في خيرِ بيتٍ

وخيرُ الخلقِ منهُ عليكَ بردُ"

يتجلى الربط بين الإمام علي والرسول الأعظم محمد ﷺ في أسمى صور التلاحم الروحي، مما يُبرز الشاعر نقاء الإمام من خلال ارتباطه بالبيت النبوي، حيث يحتفي بطهارته وصفاء سيرته، مما يعكس صورة تكاملية تجمع بين السمو الشخصي والارتباط النبوي.

القصيدة تُثريها موسيقى بحر الكامل، بما يحمله من إيقاع متدفق يُبرز المضمون الفخم. القافية المُنتهية بـ "الدال" تُضفي ثباتًا على النص، فيما تتألق البلاغة عبر المحسنات البديعية كالجناس في:

"وأنتَ برودهُ إنْ شبَّ جمرٌ

وأنتَ لهيبهُ إنْ ضجَّ بردُ"

الذي يعكس التكامل في شخصية الإمام، بوصفه مصدر الأمان والحزم معًا.

وتمتد المعاني إلى نقد الواقع، حيث يصف الشاعر فساد الأمة في:

"أبالسةٌ ـ وإنْ صلّوا وصاموا ـ

وحفَّ بركبهمْ حرسٌ وجندُ"

ويبرز حاجتها إلى قيادة رشيدة تُجسّد قيم الإمام، كما في:

"فما نفعُ الكتائبِ دون حزمٍ

يسيرُ بها غداةَ يَحينُ جدُّ"

ليؤكد أهمية القيادة التي تتسم بالعدل والحزم في استعادة المجد.

القصيدة تقف شامخة في مديح الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام، حيث استحضر الشاعر أسمى القيم والمآثر التي تجسّد مكانته السامية. تجسد الأبيات مشاهد فنية عميقة، تمزج بين الرمز والواقع، وتبني للإمام صورة مثالية تستند إلى المجد والعدل والشجاعة

كما وتتسم بجزالة لغوية وتراكيب متينة، حيث تتدفق القوافي بسلاسة، معززة إيقاعًا موسيقيًا محكمًا. الصور البلاغية تنبض بالحياة، مثل قوله:

"فأنتَ الشمسُ لكن لا غروبٌ"،

و"عيدُكَ وحدَهُ للظلمِ وعدٌ"،

ما يمنح النص قوة تعبيرية متفردة. تكرار استخدام المفارقات (الشمس بلا غروب، والحدّ بلا حدود) يعكس طبيعة الإمام الفريدة التي تتجاوز المألوف.

كما لم ينس الشاعر ان يتناول قضية العدالة من منظور إنساني عميق، مؤكدًا على استقامة الإمام ورفضه للظلم.

القصيدة تُبرز الجانب الإنساني للإمام، فهو الشجاع والرحيم، الذي يُغيث المظلوم ويرد كيد الظالم. فيقول: "وإنْ عطشَ النميرُ فأنتَ وردُ"،

وهو تصوير يضهر شخصيته كمصدر للخير والحياة.

القصيدة تُجسّد تحفة شعرية متألقة تجمع بين الجزالة الفنية والرمزية العميقة، فتُبرز شموخ الإمام علي عليه السلام في صورة مشرقة تُحيطها العظمة والجلال. يُظهر الشاعر براعته في المزج بين الوصف الحسي والمجاز، مستحضرًا فيضًا من المعاني التي تؤكد مكانة الإمام كرمز للعدل والطهر والشجاعة. الموسيقى الشعرية المنسجمة تُضيف وقارًا للنص، فيما تفتح الأبيات أفق التأمل لاستلهام قيمه النبيلة، لتكون نبراسًا لإصلاح المجتمعات والتمسك بمبادئ الحق.

***

سعاد الراعي

.................

للاطلاع على قصيدة الشاعر يحيى السماوي

https://almothaqaf.org/nesos/979049

عن نص بعنوان (الحافلة) لـ (خالد جمعة) كتابة 1994 وسينوغرافيا وإخراج ومعالجة نصية لـ (د. حيدر منعثر). بطولة لمياء بدن وزهرة بدن ولؤي أحمد وطلال هادي وأياد الطائي وآخرون والذي تم عرضه على خشبة مسرح الرشيد يوم الثلاثاء الموافق ١٧/ ١٢ / ٢٠٢٤ ضمن فعاليات مهرجان بغداد الدولي للمسرح 5/ دورة الفنان الراحل الدكتور شفيق المهدي.

حين يتحوّل سؤال بسيط كـ "وين رايحين" إلى صرخة وجودية تهز أركان المسرح العراقي، تدرك أنك أمام عمل استثنائي يتجاوز حدود التقليد ليؤسس لرؤية مسرحية معاصرة. على خشبة المسرح، تتجسد حافلة معطلة، ليست مجرد ديكور ثابت تراه وتحسه من الخارج بل حقيقة تعيشها من الداخل وتتماهى معها لأنك احد ركابها بامتياز، وهي استعارة درامية لوطن محاصر بأسئلة المصير وقلق الهوية. يقودها سائق متوهم مغتر بحنكة زائفة، بينما يجلس على مقاعدها مانيكانات جامدة تنتظر لحظة التحول، في مشهد يختزل مأساة مجتمع يترنح بين سلطات متعددة وأيديولوجيات متصارعة.

يقدم المخرج حيدر منعثر في "وين رايحين" معالجة إخراجية فريدة تمزج بين نظرية ستانسلافسكي في تحريك الكتل وأسلوب بريخت في التغريب المسرحي. فالمانيكانات الثابتة التي تولي ظهرها للجمهور ليست مجرد عناصر سينوغرافية، بل هي تجسيد لحالة الصمت والخضوع التي تسبق الثورة، في انتظار لحظة التحول الدرامي التي ستهز وعي المتلقي.

لنرتقي سلم مستويات العرض البصرية ونطأ العتبة الأولى فيه التي هي العنوان "وين رايحين؟" حيث تجلى العنوان كسؤال وجودي عميق يتجاوز حدود الاستفهام البسيط عن الوجهة، ليطرح إشكالية فلسفية وجودية واجتماعية متعددة الأبعاد.

فعلى المستوى الفلسفي، يستدعي العنوان أسئلة الكينونة الأساسية: من نحن؟ وإلى أين نمضي؟ وما معنى وجودنا في عالم يفقد بوصلته كلما مضت خطواتنا فيه بعيدا؟ إنه سؤال يستبطن القلق الوجودي الذي تحدث عنه هايدغر، حيث يجد الإنسان نفسه "مقذوفاً" في عالم يفتقد فيه اليقين ويبحث عن معنى لوجوده.

اجتماعياً، يكشف العنوان عن أزمة مجتمع يعيش حالة من التشظي والضياع. فالسؤال "وين رايحين؟" يعكس حالة جماعية من فقدان البوصلة في خضم التحولات السياسية والاجتماعية العاصفة. إنه صدى لصوت جيل كامل يجد نفسه عالقاً بين موروث ثقيل وحداثة مربكة، بين سلطات متعددة تفرض وصايتها، وبين هويات متصارعة تسعى كل منها للهيمنة.799 show

أما على المستوى الوجودي، فيتحول "وين رايحين" إلى صرخة احتجاج ضد العبثية والعدمية. إنه سؤال يحمل في طياته بذور التمرد على واقع مفروض. يتجاوز الاستفهام هنا مجرد السؤال عن الوجهة ليصبح تعبيراً عن قلق الهوية في عصر تتآكل فيه المعاني وتتشظى فيه الذوات.

الحكاية: مجموعة من الركاب تحتضنهم حافلة معطلة وسط مكان يجهلونه بتعمية قصدية ليشمل وطنا بأكمله تواجههم عقاب الوصول لوجهاتهم بألوان مختلفة لكنها واقعية عشناها كذاكرة جمعية لا تفارق وجداننا وخوفنا الدائم من عودتها. في سياق المسرحية، يكتسب العنوان بُعداً درامياً خاصاً، حيث تتحول الحافلة المعطلة إلى استعارة مكثفة لحالة الضياع الجمعي والزمن المتحجر. ولو توغلنا عميقا في مفهوم "الزمن المتحجر" لوجدناه يفجر كتعبير عن الجمود الحضاري باعتباره حالة وجودية معقدة تعكس المسار التاريخي للمجتمع العراقي، حيث تتحول الحافلة إلى رمز للوطن المعطل والمحاصر. حيث مرت تلك الحافلة بمراحل للتدهور: جعلتها تنتصب في مسار طريق العراقيين ممثلة لـ "ميتافورا" الرحلة المعطلة رمز للتيه الوطني محاكاة لحالة الجمود السياسي التناقض بين حركة السيارة وثبات الواقع . شكلت سيارة التاتا في السياق المسرحي استعارة مركبة تتجاوز بعدها المادي المباشر لتؤسس فضاءً دلالياً عميقاً يختزل أزمة حضارية شاملة. يتجلى هذا التكثيف الدلالي في تضافر المستويات المختلفة للاستعارة، حيث يمتزج المادي بالرمزي، والواقعي بالمتخيل، ليشكل نسيجاً دلالياً متكاملاً.

تكتسب الميتافورا عمقها من خلال تعدد مستويات القراءة، فعلى المستوى المادي تمثل السيارة المتهالكة البنية التحتية المتداعية للمجتمع، وقِدم طرازها يعكس التخلف التكنولوجي، بينما يتجلى على المستوى الرمزي توقف مسيرة التنمية والتقدم في صورة الرحلة المعطلة. أما على المستوى الوجودي، فيتحول التعطل إلى حالة وجودية تعكس أزمة الهوية والعجز عن التغيير.

يتعمق البعد الدلالي للاستعارة في سياق الواقع العربي المعاصر، حيث تمثل السيارة المعطلة توقف المشروع النهضوي العربي، والركاب العالقون يجسدون شرائح المجتمع المختلفة في مواجهة قصور الحلول الاجتماعية. يتجلى البعد السياسي في رمزية النظم المتهالكة وغياب الإرادة السياسية للتغيير، بينما يعكس البعد النفسي حالة الإحباط الجماعي والشعور بالعجز والضياع.

يتعزز عمق الاستعارة من خلال اختيار "التاتا" تحديداً كنموذج للتخلف التكنولوجي، وقِدم طرازها كانعكاس للتمسك بالقديم وعدم مواكبة العصر. أما التعطل المتكرر يتحول إلى رمز للأزمات المستمرة، والعجز عن إصلاحها أو العثور على حل ولو على سبيل المزحة يشير إلى تجسيد لقصور الحلول المطروحة، بينما يمثل الانتظار العبثي حالة اليأس الجماعي الغودوي.

تقدم هذه الميتافورا المسرحية صورة مكثفة لأزمة حضارية شاملة، تختزل في مشهد واحد إشكاليات التقدم والتخلف، الحداثة والتقليد، التغيير والجمود. إنها تتجاوز كونها مجرد عنصر سينوغرافي لتصبح وثيقة درامية تؤرخ لحالة التوقف الحضاري وتكشف عن عمق الأزمة التي تعيشها المجتمعات العربية في مختلف مستوياتها السياسية والاجتماعية والثقافية، مؤسسة بذلك لحالة مسرحية تتجاوز التعبير المباشر إلى فضاء رمزي عميق يستفز الوعي ويحرض على التفكير في أسباب هذا التوقف وسبل تجاوزه.

يصبح السؤال "وين رايحين" بمثابة المرآة التي تعكس صورة مجتمع مأزوم، يبحث عن مخرج من متاهة التيه، ويسعى لاستعادة قدرته على تحديد مساره. وعبر تحول المانيكانات من حالة الجمود إلى الحركة، يتحول السؤال من مجرد استفهام يائس إلى إعلان عن إرادة التغيير والتحرر.

وهكذا يتجلى العنوان كنقطة التقاء بين الفلسفي والاجتماعي والوجودي، حيث يختزل في كلمتين بسيطتين عمق المأساة الإنسانية المعاصرة، ويفتح الباب أمام تأملات عميقة في معنى الوجود والهوية والحرية. إنه ليس مجرد سؤال عابر، بل هو صرخة جيل كامل يبحث عن ذاته في خضم عالم يفقد معناه، ويسعى لاستعادة حقه في رسم مصيره والإجابة عن سؤال: إلى أين نحن ذاهبون حقاً؟

يتجلى في العنوان نفسه جوهر الأزمة الوجودية التي يعيشها الإنسان المعاصر عموماً، والعراقي خصوصاً. المسرحية تختزل تاريخ العراق المعاصر. من حروب صدام إلى داعش، مروراً بالاحتلال وتمزق النسيج الاجتماعي الى قادة الديمقراطية المزعومة. كل مشهد يحاكم زمناً أطاح بالإنسانية. "وين رايحين" تتجاوز كونها عرضاً مسرحياً لتصبح وثيقة فنية تؤرخ لحالة التشظي والضياع، مستخدمة أدوات المسرح الحديث لتقديم رؤية نقدية عميقة للواقع. المسرحية تمثل صرخة وجودية في وجه منظومات القمع، محاولة استعادة الإنسانية المسلوبة عبر الفن والإبداع، عبر مسرح يشهق بألف لغة، ويروي مرثية وطن يحتضر على خشبة التاريخ. يتجاوز العرض المفهوم التقليدي للدراما. الحبكة تتفكك لصالح لحظات بصرية كثيفة، حيث يصبح المشهد البصري هو البطل الحقيقي للعرض. عبر أسلوب مسرحي حديث يزاوج بين التغريب البريختي والاحتجاج المجتمعي، نرى أنّ الحافلة المعطلة التي تقل ركّاباً مهمشين منكوبين تائهين هي استعارة لوطن معلّق على حافة الهاوية، يتقاذفه ضجيج أيديولوجيات متناحرة وسلطات تُحكم قبضتها باسم الدين أو السياسة أو العرف وهذا التأرجح القلق نتيجة تجاذب هذه القوى فيمن يحكم قبضته على هذه الحافلة المعطلة وامتهان ركابها. يتوهّم السائق قدرته على القيادة بينما هو مفتقر للبوصلة الحقيقية في الاستدلال، لتتعاقب بعدها على الركاب نتيجة هذا الركود المتمثل بعطل السيارة شخصيات سلطوية تمارس قمعها بذرائع متنوعة، وسط غيابٍ تامّ لحريّة المرأة والفكر والثقافة وتمييع الانتماء لنقع في مستنقع حقيقي مفاده "حيثما كان العراقي وبأي مسمى له كانت التهمة حاضرة لتغييبه" ربما يكون هذا المسمى هو الدين، ربما نوع المهنة، الثقافة العامة، الشكل، كلها اتهامات نتيجتها قطعة حديد ساخنة في الجبهة (طا ، طا) وإعلان خاتمة لبنيان الله الذي اسمه الإنسان. وكل ذلك إشارة لحقبة مريرة عاشها العراقيون وهم يخوضون غمار الوجع وسط مركبة وطنهم المحتجز عن الشمس.

إنّ الأسئلة المضمَنة في "وين رايحين" ليست مجرّد تمتمات على خشبة مسرح، بل هي احتجاج حيّ على واقع مأزوم، واستنطاق لرغبة جامحة في بناء رؤية أكثر رحابة للإنسانية ولا تمثل نقمة واعتراض على عهد بائد دون غير فالامتداد الزمني ما زال يحمل معه كل حرائق العالم المدمرة. يصير الزمن عبئاً يقمع الحاضر، فيرتفع العرض إلى مستوى الأطروحة الفلسفية: هل نحن رهائن لقوى تهمّشنا وتقتات على خوفنا؟ وهل من خلاص سوى باكتشاف الذات ونفض غبار الاستلاب؟

هكذا تسطع المسرحية كشرارة تهزّ وعينا وتهشّم المقولات الجاهزة. فبين ظلال الحافلة وأضواء التقنيات الحديثة، يبرز جوهر الصراع: حريّة تخبو تحت أثقال الماضي، وإنسان يقاوم لاعناً قيود السلطة والتابوهات، متأهّباً لعبور بوابة الرجاء. وفي هذه الرحلة الصاخبة، يظل العنوان "وين رايحين" صرخةً مفتوحة على احتمالات التغيير، واحتمالات التيه في آن واحد، كتنبيه أخير يحدّث كلّ من يجرؤ على الإنصات لنداء الحرية، ويمهِّد الطريق أمام وعيٍ جديد قد ينهض من رماد الصمت. السؤال "وين رايحين" يتردد صداه في كل مشهد، ليس فقط كسؤال عن الوجهة المادية، بل كاستفهام وجودي عميق عن مصير الإنسان ومعنى رحلته في الحياة نجهل من أين أتينا؟ وبجهل أعمق والى أين هي وجهتنا؟.

الحوار في المسرحية وعلى لسان شخصياتها يستفيد من تقنيات مسرح العبث في تفكيك اللغة، لكنه يوظف اللهجة المحلية بطريقة تجعل العبث أكثر قرباً من الواقع المعاش. هذا المزج بين العبثي والواقعي يخلق أسلوباً مسرحياً متفرداً. لذلك تتجلى براعة البناء الدرامي في توظيف الشخصيات كرموز سوسيولوجية: حيث المرأة الكبيرة (لمياء بدن) بسؤالها النابع من رحم عنوان العرض وين رايحين؟ "بعد شكد ونوصل؟" ممثلا صرخة للخلاص من حصار الزمكان الخانق الممل لتجيبها الفتاة الأيزيدية (زهرة بدن) مترددة "والله يمه ما أدري"، ليمعن الشاب "لؤي أحمد" بتأجيله المستمر في تيه وجودنا في غيابت جب الحياة بقوله "بعد وكت يمه"، وحينما توجه كل هذه الأسئلة وغيرها للسائق نجده أي نجد القائد والدليل على الخلاص والذي يجسد السلطة العاجزة تائه هو الآخر. إذن أي خراب ضياع تعيشه هذه المجموعة التي تمثل شعبا عمره 7000 سنة في حافلة بل قل في خربة معتمة تخرج يدك فيها لم تكد تراها. هذا التوظيف يؤسس لما يمكن تسميته بـ"المسرح السياسي التشخيصي" الذي يتجاوز التناول المباشر للقضايا السياسية نحو فضاء رمزي أكثر عمقاً وتأثيراً والذي استقيناه من إشارة للسائق في معرض وصفه الدعائي لعمر سيارته في مشهد ساخر جمعه مع أحد قطاع الطرق الطائفيين هذه السيارة التي تمثل الوطن كما قلنا نزولا عند ميكانزمات الميتافورا.

يشكل مشهد طلب السائق من لمياء بدن الرقص بدلاً من الحكي تحولاً درامياً عميقاً في بنية العرض المسرحي. فحين يقول السائق النعسان الذي يريد الاحتيال على نعاسه من خلال "ما أريد أسمع... أريد أشوف"، يتحول المشهد من سرد شفهي لمعاناة المرأة إلى تجسيد حركي مُفعم بالدلالات.

يتجلى في هذا التحول مستويان من القهر: الأول يتمثل في سلطة السائق الذي يمارس هيمنته على الراكبة، والثاني في تحويل المأساة من نص مسموع إلى عرض مرئي، وكأن معاناة المرأة تتحول إلى مادة للفرجة. لكن لمياء بدن تحول هذا القهر المزدوج إلى فعل مقاومة عبر الرقص، مستخدمة جسدها كأداة تعبيرية تتجاوز حدود الكلمات.

تأتي حركات الرقص متناغمة مع الموسيقى الحزينة، حيث يتحول الحجاب من قيد اجتماعي إلى عنصر درامي يشارك في تشكيل لوحة راقصة تعبر عن الألم والقهر. فالجسد المتحرك في فضاء الحافلة المعطلة يروي قصة صامتة عن العنف والظلم، ويتحول كل دوران أو انحناء إلى جملة احتجاجية صامتة.

يكتسب المشهد عمقاً إضافياً حين نفهم أن تفضيل السائق للرقص على الحكي يعكس رغبة السلطة في تحويل المعاناة إلى مشهد استعراضي يُفرغها من محتواها السياسي. لكن لمياء بدن تقلب المعادلة، فتحول الرقص إلى خطاب جسدي مقاوم، يقول ما لا تستطيع الكلمات قوله. يمثل هذا المشهد ذروة في توظيف الجسد كأداة للتعبير السياسي، حيث يتحول صمت المرأة المحجبة إلى صرخة حركية، وينقلب طلب السائق المتسلط إلى فرصة لفضح العنف المجتمعي. وحين تنتهي الرقصة، لا يكون المشهد مجرد استجابة لطلب السائق النعسان، بل يصبح شهادة حية على قدرة الفن على تحويل القهر إلى جمال، والصمت إلى احتجاج.

هكذا يقدم المخرج حيدر منعثر معالجة بصرية وحركية عميقة تتجاوز السرد التقليدي، مؤكداً أن الجسد المتحرك في الفضاء المسرحي يمكن أن يكون أبلغ من آلاف الكلمات في التعبير عن المأساة الإنسانية. ويبقى مشهد الرقص علامة فارقة في العرض، يؤكد أن الصمت المفروض يمكن أن يتحول إلى لغة احتجاجية بليغة حين يقترن بالحركة الواعية والتعبير الجسدي المدروس.

تتجلى السبورة في مسرحية "وين رايحين" كفضاء رمزي يتجاوز كونه مجرد أداة للكتابة، ليتحول إلى مختبر فكري يوثق تاريخاً من الوجع. وعند محاولة زهرة بدن كتابة حرف الدال، الذي يفتتح كلمتي "دار" و"دور"، تنفتح بوابة الذاكرة على مأساة شخصية تختزل مأساة جماعية.

تتصاعد المأساة حتى تتفجر في صرخة "بيتنااااا"، التي تتجاوز حدود الصوت الفردي لتصبح علامة سيميائية مركبة. يمتد المد الصوتي في الصرخة ليوثق عمق الجرح وفداحة الخسارة، محولاً البيت من مجرد مكان مادي إلى فضاء وجودي يحمل معاني الهوية والانتماء.

تتحول "بيتنا" إلى قصيدة مسرحية مكثفة، تختزل في لحظتها العابرة تاريخاً من الألم والفقد. إنها جسر يربط بين زمنين: ماضٍ مفقود وحاضر مشوه، لتصبح وثيقة إنسانية تؤرخ للحظة انكسار جماعي، محولة الصوت الفردي إلى ملحمة تحكي قصة شعب بأكمله.

وهكذا يتحول مشهد السبورة من مجرد لحظة درامية إلى فضاء للمقاومة، حيث تتداخل الذكريات الشخصية مع الهم الجماعي، مطلقة سؤالاً وجودياً عن إمكانية استعادة الحرية المسلوبة في ظل واقع قمعي.

 كذلك من المثابات الإخراجية المهمة التي اعتنى بها كثيرا المخرج الفذ "د.حيدر منعثر" هو مشهد التصويت على اختيار ما يذاع من راديو السيارة الغناء أو القرآن والذي شكل ذروة درامية تؤسس لنقد لاذع للديمقراطية الشكلية التي صرح وبخطاب مباشر الشاب لؤي احمد بأنها مؤامرة اخترعها السياسيون للضحك على الذقون . هنا يتجلى "التناقض الدرامي المقصود" بين أهمية القرار المطروح للتصويت (غناء أم قرآن) وحجم المأزق الوجودي الذي تعيشه الشخصيات (الضياع والتيه). هذا التناقض يؤسس لما يمكن تسميته بـ"المفارقة السياسية المسرحية" لعامة شعب مستلب حيث الاهتمام بالقشور وإهمال اللب والحقيقة الكبرى بإيجاد حل جذري للمشكلة. وهذا من خصائص "المسرح السياسي المركب" الذي يمزج بين النقد الاجتماعي والتجريب التقني والعمق الفلسفي.

أبدع المخرج حيدر منعثر في صناعة مشهد مسرحي يؤسس لخطاب درامي يتجاوز البنية السطحية للحدث المسرحي إلى البنى العميقة المؤسسة للصراع القيمي في المجتمع العراقي المعاصر. يتمحور المشهد حول ثنائيات ضدية تؤسس لجدلية درامية عمقة: النور/الظلام، الإنسانية/التوحش، التسامح/التعصب، مجسدة في الصراع بين شخصية الداعشي "اياد الطائي" (الأنا المتطرفة) وشخصيتي الأم والزوج برفقة الفتاة الايزيدية(الأنا الإنسانية). يتجلى من خلال هذا المشهد المستوى الأيديولوجي في تفكيك الخطاب المتطرف وإعادة بناء خطاب إنساني مضاد، يتأسس على قيم التسامح والتعايش. يتحول ادعاء الأمومة والزوجية من قبل لمياء بدن ولؤي أحمد إلى استراتيجية درامية تؤسس لخطاب المقاومة السلمية، متجاوزة حدود المواجهة المباشرة إلى تأسيس فضاء إنساني بديل.

تجاوز الدكتور "حيدر منعثر" الأطر التقليدية للنظريات المسرحية، مقدماً نموذجاً هجيناً يستجيب لتعقيدات الوعي المعاصر وتعدد مستويات الإدراك لدى المتلقي المعاصر. حيث تجلت هنا براعة السينوغرافيا المسرحية في توظيف المايكروفونات الثلاث المعلقة في سقف الخشبة والمحصورة في كادر الداتا شو وهي تستعرض مشاهدا مؤلمة من أرشيف حياتنا الضاجّة بالعويل كعنصر سيميولوجي مزدوج الوظيفة. فمن الناحية التقنية، تمثل المايكرفونات أداة صوتية تنحصر وظيفتها في وصول مديات الصوت لكافة الجمهور بوضوح تام ، بينما تتحول في المستوى الدلالي الأيقوني إلى تجسيد مادي لجثث الشخصيات الثلاث (زهرة بدن، لؤي أحمد، لمياء بدن) وهم يمثلون ثلاثة أجيال متفاوتة الحصار الزمني والمكاني (الجد والابن والحفيد) قد حكم عليهم بالاغتراب بالنفي بالمرض بالتجاهل بالإعدام.

من خلال هذه الجزئية الميزانسينية وظف المخرج تقنية التغريب البريختي، حيث جعل من العنصر التقني (المايكروفونات) أداة درامية تحمل دلالات سياسية واجتماعية عميقة. حتى تجاوز الميزانسين وظيفته الجمالية التقليدية ليؤسس فضاءً مسرحياً يحمل خطاباً احتجاجياً ضد الظلم الاجتماعي من خلال تداخل الصور التجريدية بالواقعية.

تتحقق جدلية التلقي الجمالي عبر صدمة المشاهد أولاً بالشكل البصري "غير الجمالي" للمايكروفونات المتدلية، ثم تحويل هذه الصدمة إلى وعي نقدي بالدلالة السياسية للمشهد. وفق نظرية المسرح السياسي، يتحول المتلقي من مجرد مشاهد سلبي إلى عنصر فاعل في العملية المسرحية، مدعو للتفكير النقدي والفعل الاجتماعي خارج إطار العرض.

هكذا تتكامل العناصر السينوغرافية والسيميولوجية في بناء خطاب مسرحي يتجاوز الوظيفة الجمالية إلى التحريض على الفعل الاجتماعي، محققاً غايات المسرح السياسي في إثارة الوعي النقدي وتحفيز التغيير الاجتماعي.

أسس المخرج حيدر منعثر لتقنية "التراكم السيميائي" في بناء مشهديته المسرحية، مستثمراً ثنائية السؤال/اللاإجابة كمحرك درامي رئيسي. تتجلى هذه التقنية عبر "السينوغرافيا الدلالية المتحولة" التي تتشكل من خلال معالجة إخراجية متقنة للإضاءة والبقع الضوئية. تتحول الإضاءة في العرض من عنصر تقني بسيط إلى مكون درامي مركب، حيث تؤسس "الإضاءة الفيضية" لما يمكن تسميته بـ"خداع البصيرة المسرحية". هذا التوظيف يتجاوز البعد الجمالي ليخلق "تشكيلاً بصرياً دالاً" يعمق المعنى الدرامي للعرض.

وذلك من خلال هذا التبسيط الدلالي حيث تتصاعد حدة التوتر الدرامي مع انتشار البقع الضوئية وتلاشيها، مجسدةً حالة القلق المتنامي للشخصيات وهي تواجه أزمة الخزان المثقوب والطريق الطويل. تبلغ المفارقة ذروتها حين يأتي الجواب ساخراً من قبل السائق مقابل اقتراحات الركاب المختلفة والقابلة للتحقيق في مواصلة الرحلة "بس آني نعسان" مصحوباً بإضاءة فيضية، كعنصر درامي يؤسس لما يمكن تسميته بـ"خداع ساخر للبصيرة المسرحية". لتتحول الإضاءة من أداة كشف إلى عنصر تضليلي يعمق حالة التيه والضياع.

يتجلى التقاطع العميق بين نظرية ستانسلافسكي حول الكتل وتوظيف المانيكانات في مسرحية "وين رايحين" عبر مستويات متعددة من المعالجة الدرامية. فبينما يؤكد ستانسلافسكي على ضرورة التحفيز الداخلي والتبرير المنطقي لتحريك الكتل الثابتة، نجد أن المخرج د.حيدر منعثر قد وظف هذا المبدأ بشكل معاصر وعميق، حيث جاء تحول المانيكانات من حالة الثبات التي ظن المتلقي بدوامها حتى ختام العرض إلى الحركة مدفوعاً بضرورة درامية واجتماعية ملحة مثلت خطاب العرض.

يتجسد "الفعل المنطقي" الذي نادى به ستانسلافسكي في العرض من خلال التحول التدريجي للمانيكانات، حيث لم يكن تحولها مفاجئاً أو اعتباطياً، بل جاء كنتيجة طبيعية لتراكم الضغط الاجتماعي والسياسي. فالمانيكانات المولية ظهرها للجدار الرابع لم تتحرك منذ بدء العرض إلا حين بلغ الوعي بالمأساة ذروته، محققة ما يسميه ستانسلافسكي "الخط المتصل للحركة". حيث تجلى التوظيف الفينومينولوجي لهذه المانيكانات المزروعة على مقاعد المسافرين في مسرحية "وين رايحين" من خلال المفهوم الفلسفي السياسي"الميتاثياتر السياسي" كتجسيد عميق للتحول من "الوجود بذاته" إلى "الوجود لذاته" بمفهوم سارتر الوجودي، فــ "الوجود بذاته" كما هو معروف يمثل حالة الأشياء الجامدة التي لا تملك وعياً أو إرادة للتغيير، وهو ما جسدته المانيكانات الثابتة في المسرحية في إطلالتها الأولى، بينما يمثل "الوجود لذاته" حالة الإنسان الواعي القادر على الاختيار وتحمل المسؤولية، وهو ما جسده ظهور كادر الممثلين جميعا كشخصيات متحولة في نهاية العرض.. فثبات المانيكانات في الكراسي مع توجيه ظهورها للجدار الرابع كان يشكل استعارة بصرية صارخة لحالتنا كمتفرجين سلبيين على جحيم جروحنا، غير قادرين على المشاركة في تغيير واقعنا. يتعمق هذا المعنى مع تحول هذه المانيكانات الجامدة إلى شخصيات واقعية بريختية ترفض العبودية وتعلن بوضوح "احنا نحدد مصيرنا ولازم نوصل" في سعي حثيث لمعرفة "وين رايحين" حيث زامن ظهور الكادر التمثيلي برمته وهم يصرخون بحرقة مواطن حقيقي مجروح يتحدث بلغة الـ "آه" والـ "ونّة" (لازم نوصل). اختفاء جميع مانيكيانات مقاعد المسافرين في مشهد التحول وهو ما أراد إيصاله الدكتور حيدر منعثر في ثمرة التحول بأننا سننهض ونعلم صرختنا بوجه الذل والعبودية والاستسلام وكل صورها.

هذا التحول الدرامي كشف عن قدرتنا الآن على نجدة من كنا نستمع لقصص معاناتهم كالسكران المكسور المهمش، والمرأة الإيزيدية المعتدى عليها التي تحوّل بيتها المربع إلى مستطيل بعد بيع نصفه، والأم التي زفت أبناءها واحداً تلو الآخر لمحارق الحروب المتتالية - من موت الملك إلى موت الزعيم، ومن صعد لحم نزل فحم الى حرب الشمال إلى حرب الكويت والخاتمة في المفخخات وتشرين. كل هذه المآسي تتكشف مع تحول المانيكانات من مجرد دمى جامدة إلى ذوات واعية تطالب بحقها في تقرير المصير.

وهكذا يتحول الجمود الأولي للمانيكانات إلى حركة درامية فاعلة، والصمت المطبق لها إلى صرخة احتجاج جماعية، والعزلة الفردية للكراسي المتفرقة إلى وحدة بآصرة متينة تسعى للخلاص، في تجسيد عميق لقدرة المسرح على تحويل الألم إلى أمل، والعجز إلى فعل، والصمت إلى صوت. كما يمثل مشهد الختام برفع الكراسي بالمقلوب في مسرحية "وين رايحين" لحظة فارقة في الوعي الجمعي للمجتمع العراقي، حيث يتحول الممثلون من حالة الصمت والاستسلام إلى حالة الرفض والتمرد. التمرد على القوى المتحجرة من خلال الطيران في فضاءات نقية والرفض لكل عمليات التجزئة والتهميش والقتل وتحجيم معنى الوطن وأثره الكمالي في ذات المواطن

الدلالات الرمزية للمشهد الأخير:

1. قلب الكراسي يعني: رفض الواقع المفروض قسرا والذي لا تستحقه هذه الجموع الغفيرة التي تبحث عن نفسها في المكان ووجهتها في الزمان وكسر منظومة الخضوع التي أصبحت مؤسساتية تحتكم الى تخطيط ممنهج مبرمج للعالمية يد طولى فيه وفي تحقيق نتائجه. وكذلك دلالة أخرى بإعلان التمرد على السلطات الظالمة وأبجديات سلوكياتها الغبية.

2. الصراخ الجماعي (لازم نوصل) للكادر يحمل معاني: استعادة الإرادة الجماعية ورفض منطق الضحية والتأكيد على حق تقرير المصير. أما الإصرار على الوصول فهو يمثل: الأمل والرغبة الصادقة في التغيير مع تفعيل لحقيقة رفض حتمية الهزيمة والإيمان بإمكانية التحول كنوع من الإجابة على التساؤل العقائدي والوجودي والإنساني (وين رايحين؟) هذا التحول بنزع جلد قد بلى وضخ دماء جديدة وبناء روح تكتمل بزرع مفاهيم التعايش السلمي وتحمل المسؤولية في رسم خطوط عبور آمنة. المغزى النهائي يتجلى في رسالة واضحة: نحن قادرون على قيادة أنفسنا، وسنتجاوز كل محاولات التركيع والإذلال، مهما كانت التحديات. فالمشهد ليس مجرد حركة مسرحية، بل بيان سياسي واجتماعي عميق يعلن ميلاد وعي جديد يرفض الاستسلام ويؤمن بقدرة الإنسان على التغيير. قلب الكراسي هو حقيقة كبرى بأن الإنسان ليس مجرد كائن يُدجن، بل هو مشروع حرية مستمر. التحرر الحقيقي يكمن في استعادة القدرة على التفكير النقدي، ورفض منطق التبعية. وكل كرسي مقلوب هو صرخة في وجه منظومات القهر. المسرح هنا ليس مساحة للتمثيل، بل مختبر تفاعلي للذاكرة المنسية. الكراسي المقلوبة في النهاية ليست استعارة، بل حفل تشييع للواقع المقلوب. كل كرسي يحمل جغرافيا روحية مهشمة تعكس شظايا الذات العراقية في لحظة استثنائية من التجلي المسرحي.

لمياء بدن ليست ممثلة، بل شاهدة عصر. رقصتها المكسورة تروي قصص نساء سلبت إراداتهن. كل حركة جسدها تختزل مقاومة، وكل إيماءة تتحدى منظومات القهر. الجسد هنا يتحول إلى نصب تذكاري للمنفى. كل حركة تختزن طبولاً صامتة، وكل إيماءة تحمل أرشيف المدن المهجورة. لمياء بدن لا ترقص، بل تُعيد اختراع الحركة كلغة مقاومة. في "وين رايحين" تتجلى الشخصيات كأيقونات لذاكرة وطن:

لمياء بدن ليست مجرد جسد راقص، بل هي أرشيف متحرك لصرخات النساء المقهورات. جسدها يتحول إلى نصب تذكاري يختزل في كل حركة مكسورة تاريخاً من المقاومة الصامتة، وكل إيماءة تحمل في طياتها أنين المدن المهجورة. زهرة بدن تتجاوز دور الضحية الإيزيدية لتصبح رمزاً للوطن النقي الممتد طويلا وعميقا كثوب ابيض من زاخو للفاو، لكنه يئن من ظمأ الإهمال وقسوة النسيان. لؤي أحمد ليس مجرد صاحب لعب ودمى وتماثيل فهو يتجسد ككيان شفاف نُحِتَ من وجع الحروب، جسده صفحة تاريخية كُتبت بمداد الدم، وتماثيله شواهد على زمن الفجيعة. طلال هادي، ليس مجرد سائق مأزوم بين دفة القيادة وبوصلة التيه، فهو يتجسد كاستعارة صارخة للسلطة الضائعة في متاهاتها. قائدٌ يقود بلا وجهة، يختزل في حيرته تاريخاً من الخراب المنظم، وفي عجزه عن تحديد المسار تتجلى مأساة قيادة أضاعت البوصلة في زحمة المصالح.

أما إياد الطائي، فيتخطى دور الداعشي المتطرف ليجسد كل لحظات الظلام التي عشناها، كل أيامنا السوداء التي أنفقناها في يومنا الأبيض الوحيد الذي كنا ننتظره خمسا وثلاثين سنة عجاف من الانكسار. هكذا يتحول المسرح إلى فضاء للذاكرة الجمعية، حيث تتحول الأجساد إلى نصوص حية تروي حكاية وطن.

الديكور يتحول من مجرد خلفية إلى شاهد عيان. السبورة ليست سطحاً للكتابة، بل سجل تاريخي يسطر مراثي الهزيمة. سيارة التاتا المعطوبة تحمل أرواح مدن كاملة، متوقفة عند محطات الموت والخراب. حيث تتحول الكراسي وهي جامدة إلى خرائط جغرافية للألم، وكل فراغ يحكي حكايات لم تُروَ. الكراسي هنا ليست أدوات جلوس، بل شواهد قبور. كل كرسي يحمل روح مدينة، وكل حركة تختزن مأساة جيل. حيدر منعثر يمسرح الألم بتلك البراعة التي يذبح بها الجلاد الضحية، متقناً فن التشريح المسرحي. شكرا من الأعماق لجميع من شارك برسم خارطة وجعنا على خشبة المسرح وحرض فينا ماردا يقلب الصفحات من سوداء الى بيضاء ناصعة. محبتي الكبيرة.

***

كاظم أبو جويدة

 

استفهامات الروح: رحلة بين الخذلان والصمت

المقدمة: تعد قصيدة /جبُلت عفوية/ للشاعرة العراقية حميدة جاسم علي رحلة نفسية وعاطفية تعكس التوترات الداخلية، والتساؤلات الوجودية، والصراع مع الذات. تكشف القصيدة عن حالة من العفوية المتمردة التي تصطدم بالواقع المرير والتخطيط المستقبلي المبتور. من خلال البنية اللغوية المكثفة والمشحونة بالعواطف، تعكس الشاعرة في هذه القصيدة صراعًا داخليًا بين أمل قديم وألم مستمر، وبين محاولة للمضي قدمًا في عالم من التساؤلات التي لا إجابة لها.

البنية والمضمون:

القصيدة تتسم بالتكرار الذي يعزز فكرة الاستفهام والشكوى المستمرة. يتجسد التكرار في عبارة /جبُلت عفوية/ التي تظهر مرتين، وكأنها إشارة إلى حالة ثابتة، أو /جبلة/ لا يمكن التغيير فيها. العفوية هنا ليست مجرد تصرفات غير مخطط لها، بل هي ملامح للشخصية التي تم تشكيلها بشكل طبيعي دون تدبير مسبق، لتصبح جزءًا من الذات التي لا يمكن تخليصها منها.

الاستفهام والعلاقة مع الآخر:

القصيدة مشبعة بالاستفهامات التي تشير إلى حالة من العزلة والضياع العاطفي. الشاعرة تتساءل عن حالتها وحالة الآخر، وتضع علامة استفهام على علاقاتها مع الناس، بما في ذلك علاقة مع /أنت/ الذي يشير إلى شخص آخر غامض. هذا الآخر لا يجيب على الاستفهام الذي تطرحه الشاعرة، مما يبرز حالة من الفقدان والخذلان الذي تعيشه الذات. الفكرة الرئيسية التي تعبر عنها الشاعرة هي أن كل الذين كانوا في حياتها، وكل الذين منحهم /الأوراق ليكتبوا سيرتهم/، كانوا في الحقيقة /صنيعتي/. وهذا يوضح كيف يشعر الشخص بالخيبة عندما يكتشف أن كل من أعطاهم جزءًا من نفسه قد خذلوه أو لم يكونوا قادرين على الوفاء بتوقعاته.

الخذلان والعلاقة مع الذات:

الشاعرة تعبر عن ألمها الداخلي الذي يتسبب به الخذلان من الآخر، مشيرة إلى أن الآخر -الذي كانت تحلم بالتوجه نحوه- هو نفسه من /أودعها خلف ظهري/، أي أنه أصبح ماضيًا لا أهمية له. كما تصف الآخر بـ/النكرات/ التي لا تعني شيئًا بالنسبة لها، فبذلك تصبح العلاقات العاطفية والاجتماعية في نظرها مجرد /نكرات/ فاقدة للعمق والصدق. في هذه الجملة تكشف الشاعرة عن احتقارها لهذا الشخص الذي كانت تهتم لأمره، في حين أن هذا الشخص لا يكترث بها.

التأمل والرفض:

يبدو أن الشاعرة كانت تخطط في البداية لأن تكون /خطوة إليك/، وهذا يشير إلى محاولة الاقتراب من الآخر أو السعي إلى علاقة معينة، ولكن الحيرة والخذلان يطغيان على هذه المحاولة. إذ تصبح التساؤلات أكثر من إجابات، وتحلّ /علامة استفهام/ محل الفعل. هذه الرمزية تشير إلى تمزق في التواصل الإنساني، وتصورٌ لعلاقة لم تتحقق أو فشلت في الوصول إلى تلبية احتياجات الشاعرة العاطفية والنفسية.

اللغة والأسلوب:

القصيدة مكتوبة بلغة شعرية مكثفة، تنضح بالتوتر الداخلي. استخدمت الشاعرة بعض الصور البلاغية البسيطة التي تجسد حالة الشكوى والتساؤلات المستمرة، مثل /ارتماءاتي التي حنطتها لعمر كامل/، وهي تعبير قوي عن تلاشي الحلم والقرار الذي اتخذته منذ فترة طويلة، والذي لم يتحقق. /صراطي الذي يستقيم وأنا أعد المسافات/ يحمل في طياته إحساسًا بالضياع، إذ يضع الشاعرة في مواجهة مع واقع يعيق سيرها نحو هدفها المنشود.

الرمزية:

تتعدد الرموز في القصيدة، بدءًا من /الأوراق/ التي تشير إلى المحاولات السابقة لتوثيق أو فهم الذات والعلاقات، إلى /الاستفهامات/ التي تصبح بمثابة حجر عثرة في محاولة الوصول إلى معنى حقيقي في هذه العلاقات. كما أن /النكرات/ تمثل الأشخاص الذين يدخلون حياة الشاعرة ويغادرون دون ترك أثر حقيقي، مما يعزز فكرة الخذلان الداخلي.

الخاتمة:

هذه القصيدة انعكاس صادق لمشاعر الشاعرة وحالة داخلية غنية بالاستفهام والرفض. من خلال التركيز على العفوية والخذلان، تنتقل القصيدة من حالة أمل متأمل إلى حالة من الانفصال العاطفي والفكري. يختتم النص بدعوة إلى التفكر في الذات وفي الآخرين من خلال تلك الاستفهامات التي تكشف عن هشاشة العلاقات الإنسانية، وكيف أن الإجابات غائبة دائمًا في العالم الذي تحياه الشاعرة.

***

بقلم: كريم عبد الله – العراق

.......................

جبُلت عفوية / بقلم: حميدة جاسم علي

ارتماءاتي التي حنطتها لعمر كامل

او صراطي الذي يستقيم وانا اعد

المسافات

جبُلت عفوية

رغم اني كنت اخطط لأكون خطوة إليك

هكذا اكو علامة استفهام

لن تجيب عليها

فكل الذين اعطيتهم الأوراق ليكتبوا

سيرتهم

كانوا صنيعتي

وما زلت افكر ان اضعك في استفهاماتي

حتى تجيب

على كل المرات التي تخذل فيها نفسك قبلي

انت من أودعها خلف ظهري

وصرت ككل النكرات

تصيح

ولا التفت .

حميد العادلي شاعر عراقي، ولد في بغداد عام 1972. درس الإعلام والصيدلة. ونشر مجموعتين ورقية في الهايكو هما: ارتعاش الثلج عام 2019 ورقصة الفالس وأزهار النرجس عام2021

 ومجموعة من الإصدارات الإلكترونية والمشاركة في الأنطولوجيات العربية. السؤال الذي يطرح نفسه الآن هو لماذا نكتب الهايكو؟ لماذا نكتب الهايكو في ظل وجود القصيدة العمودية وقصيدة التفعيلة والنثر والومضة وغيرها من الأجناس الشعرية.  العالم يتغير، أحداث 11 من سبتمبر واحتلال العراق2003 وظهور مواقع التواصل الاجتماعي والإنترنت وتحول العالم الى الرقمنة والتواصل الحضاري بين الشعوب وعدم تطور الأشكال الشعرية القديمة وغيرها من المسببات والمستجدات ساهمت في الانفتاح العربي على الهايكو وفي هذا المجال تقول الدكتورة بشرى البستاني: "إن الذين ينتقدون الشباب العربي على اهتمامهم اليوم بفن الهايكو عربيا، وليس يابانيا، ينظرون للقضية على أنها مجرد لعب، على أهمية اللعب الفني الذي يمتلك قوانين اللعبة ويحافظ عليها من الانفراط، لكن المتدبر للأمر يجدها أبعد من ذلك وأهم، إنها ليست عملية ممهدة ولا يسيرة، بل هي طريق محاط بالمكابدة والمعاناة من أجل خلاص الروح والعقل والجسد، لأنها ليست مسألة تغيير بنية أو تجديد شكل كما يتصور بعضهم، بل هي تغيير رؤيا أولا، وبدون هذا التغيير لن يكون لتغيير البنية كثيرُ أهمية". (د. بشرى البستاني - الهايكو العراقي والعربي بين البنية والرؤى 1- موقع الحوار المتمدن 2015).

من الأسباب الشائعة لرفض الهايكو في بداية نشأته هو عدم توفر النصوص الجيدة والمعلومات الخاطئة ومحاولة مقارنته بالقصائد العمودية وعدم وجود نقاد متخصصين في قصيدة الهايكو. ومن طرائف ما اذكر أن أحد النقاد كان يلاحق ندوات ومهرجانات الهايكو التي تعقد في أماكن مختلفة من بغداد بالحجج الجدلية والعقل الدوغماتي الرافض للهايكو. نعود إلى الهايكو وكيف نعرفه وهل له تعريف جامع وشامل. التعريف الاشتقاقي للهايكو (طفل الرماد، الكلمة المضحكة)

لا أهمية له إلا من الناحية التاريخية فقط. يختلف تعريف الهايكو اصطلاحا ولا يوجد تعريف ثابت أو محدد. كل التعريفات تشير إلى بعض الخصائص الضرورية وهذه التعريفات قابلة للإضافة والحذف من بعض الخصائص بسبب تطور الهايكو واختلاف البيئات ووجهات نظر الشعراء في التأكيد على جوانب معينة. ومن هذه التعريفات تعريف جمعية الهايكو الأمريكية عام 2004 : "الهايكو قصيدة قصيرة تستخدم لغة تصويرية لنقل جوهر تجربة الطبيعة أو الموسم المرتبط بشكل حدسي بالحالة الإنسانية". تعريف آخر للشاعر والناقد الأمريكي مايكل ديلان ويلش:الهايكو قصيدة من ثلاثة اسطر تستخدم الصور الحسية لنقل الظواهر والتجارب الخاصة بالطبيعة والطبيعة البشرية أو الإشارة اليهما باستخدام تقنية أو بنية التجاور التي تتشكل من جزئين (صورتين) بلغة بسيطة وموضوعية "المصدر:GRACEGUTS.

بعض التعريفات تشير إلى أهمية القطع (kiru’ or ‘kire’ ) الذي يربط أو يفصل بين صورتين؛صورة ثابتة وصورة متحركة كما تشير اليه الشاعرة الهندية كالاراميش في نص باشو الشهير عن الضفدع. يمكن مقارنة مصطلح الهايكو بمصطلح الفلسفة philosophy من حيث النشأ والثبات ومفارقة الأصل اليوناني والتعريفات المختلفة حسب أراء واتجاهات الفلاسفة. تاثير الهايكو الحديث على تجربة العادلي نجده واضحا في نصوصه وهذا يعود إلى اطلاعه المبكر على الهايكو الغربي من خلال الترجمات العربية في الصحف والمجلات والمواقع الإلكترونية كما ساهمت في بلورة وتشكيل ملامح الهايكو عنده مبكرا ومفارقة بعض التنظيرات العربية للنقاد والمترجمين التي لا تعترف بامكانية كتابة الهايكو باللغة العربية. حيث أشار في حواري معه عام 2021 إلى تعرفه على الهايكو من خلال اطلاعه على ترجمات مجلة الأقلام للشعر الإسكندنافي عام 2009 وترجمات جاك كيرواك وتوماس ترانستومر. يشار إلى أن لينا شدود قد ترجمت "كتاب جاك كيرواك " عام 2014. اما الأعمال الشعرية لتوماس ترانسترومر ترجمها عن السودية قاسم حمادي /الطبعة الأولى 2005. أثر كيرواك في نصوص العادلي واضحة جدا في تناوله ذات الموضوعات كالقطط والعصافير والقهوة وأسلوب تناوله للمشاهدات اليومية بطريقة واقعية. من ناحية أخرى اعتقد أن ترجمة مقالة عزرا باوند في محطة المترو -نشرت باللغة الإنجليزية عام 1913 -إلى اللغة العربية قد عززت الثقة بالنفس عند شعراء الهايكو العرب ومنهم العادلي لتجريب كتابة الهايكو. أشير هنا إلى ترجمة عبد القادر الجنابي في موقع ايلاف الإلكترونية عام 2014 ثم أعاد بكاي كطباش نشر مقالة عبد القادر الجنابي المترجمة في نادي الهايكو-سوريا في 23 نيسان 2014. استطاع عزرا باوند لفت الانتباه إلى أهمية الصور المستخدمة في الشعر وبالتالي أهمية الهايكو الياباني وتأثيره العميق بغض النظر عن الجدل النقدي الغربي الذي دار حول اهمية عزرا باوند واهمية قصيدته "في المترو " هايكو أم لا إلا أنه يشكل المرحلة الأولى-مرحلة المراهقة والبداية في تاريخ الهايكو باللغة الإنجليزية حسب مايراه الناقد الأمريكي الكندي بروس روس.

في محطة مترو

اطياف هذه الوجوه في الزحام

بتلات على غصن ندي، اسود

ويشير بروس روس في ذات المقالة نشرت 2012 إلى أهمية الشاعرة إيمي لويل في الهايكو اكثر من عزرا باوند كونها التقطت الخصائص المتأصلة في الهايكو خارج الموضات الحالية للفن والشعر الصيني والياباني بينما بقي باوند اسير المدرسة الانطباعية في معالجته للصور الشعرية. بغداد كلمة سحرية توحي بالكثير من المعاني والخيالات والدلالات إلى الماضي إلى عظمة مدينة بغداد كأحد مراكز العالم تاريخيا.

ارتبط الهايكو عند العادلي بالمكان المتمثل بصورة واضحة في مدينة بغداد، موطن الشاعر حيث تشكل الاماكن والمشاهدات اليومية هاجسه الأكبر في الكتابة عن بيئة بغداد الاجتماعية. لعبت بغداد دورا مهما في تشكيل أو توجيه احاسيس وافكار العادلي لملاحظة ما يجري على أرض الواقع. هذا الارتباط العاطفي بالوطن انتج الكثير من نصوص الهايكو والسينريو التي امتازت بنقد الواقع والشجن العراقي. طبيعة الواقع العراقي فرضت على الشاعر أن يوثق اللحظات المريرة والمؤلمة بالرغم من أنها عابرة إلا انها تتكرر يوميا :

نصب الحرية

المتسول الاعمى

ينشد موطني موطني!

**

وحدها

لافتة بغداد المتهرئة

تكسر الريح

**

مع كوب قهوتي

اذرع شارع الرشيد

ابحث عن بغداد

**

ضباب

جدارية فائق حسن

مغمورة بالهديل

**

يا للوجع

بألف دينار اهب الحرية

لأربعة عصافير

**

زقاق بغدادي…

رائحة الوشوشات البريئة

تسكن الشناشيل!

***

في هذه النصوص أعلاه نلاحظ حركة العادلي بين أزقة بغداد القديمة (جانب الرصافة من بغداد) الممتدة بين ساحة التحرير، نصب جواد سليم وجدارية فائق حسن في حديقة الأمة مرورا بشارع الرشيد، حيث بائع القهوة القريب من بناية وزارة المالية القديمة وصولا إلى جسر الشهداء والمقاهي وشارع المتنبي ومن الجهة الثانية سوق الغزل ومنطقة الشورجة، هي رحلة أو جولة جمالية. الجمال يتجسد في الشناشيل ونصب الحرية والازقة والمقاهي ومشاهدة العصافير والطيور في سوق الغزل ورائحة القهوة في شارع الرشيد. العادلي يكتب نصوصه من مشاهدته العيانية. هذه النصوص ترتبط بالواقع وبالأرض وبرغبته بالتغيير نحو الأفضل. اما نصوصه عن الطبيعة في بغداد هي من جملة ملاحظاته للطبيعة الحضرية المدنية:

فوق الجسر

مع النقر اللذيذ

النوارس تلتقط الخبز!

**

مويجات النهر

أرجوحة بغدادية

استراحة النوارس

**

غيمة…

أطاردها بعين

وأخرى للطريق!

***

احيانا يربط الطبيعة بمعاناة الإنسان الحياتية وهذا النص من النصوص الكلاسيكية التي تذكرنا بنصوص شعراء الهايكو اليابانيين:

مساء خريفي

الجدة المريضة بإصبعها

تكور شكل القمر!

جمالية الامكنة البغدادية نجدها في الأشياء البسيطة:لون الحافلة، شكل الجسر، رؤية نهر دجلة، المقاهي، الشناشيل، النوارس كل هذه الامكنة وغيرها تصنع مناخا رائعا وتحقق الاستقرار النفسي عند العادلي ولربما بعد تناول قدح من عصير "ابن زبالة " في شارع الرشيد والقريب من ساحة الميدان:

ساحة الميدان

بقايا بغداد

عصير زبيب أحمر

**

حميد العادلي استطاع الخروج من عنق زجاجة الهايكو الياباني ومطبات الهايكو العربي، إذ امتازت نصوص العادلي بالايجاز (القصر)والواقعية التصويرية في تناوله للبيئة البغدادية في حركتها اليومية عبر بصيرة نافذة تلتقط كل ماهو هامشي ويومي عبر محورين المحور الأفقي الذي يمثل الحاضر الزائل الذي يلتقطه عبر مشاهدته والمحور العمودي الذي يرتبط ببغداد وما تمثله الأمكنة فيها من أبعاد ثقافية وتاريخية واجتماعية وجمالية وشعبية. لا نعرف إلى أين سيقودنا حميد العادلي في قصائده القادمة وما هي الإضافات والتطورات التي ستطرأ على تجربته الشعرية لكنها بالتأكيد تجربة تضيف الكثير إلى تجربة الهايكو العراقي بعدما اتضح مسار الرؤية عنده بشكل اكثر وضوحا واتساقا.

***

الشاعر والناقد عباس محمد عمارة

............................

المراجع:

1- كتاب الهايكو جاك كيرواك، ترجمة لينا شدود -الرباط-منشورات ضفاف …الطبعة الأولى-2014

2- الأعمال الشعرية الكاملة للشاعر السويدي توماس ترانسترومر-ترجمة قاسم حمادي، سوريا-بدايات للطباعة والنشر والتوزيع-الطبعة الأولى 2005

3- د. بشرى البستاني - الهايكو العراقي والعربي بين البنية والرؤى موقع الحوار المتمدن /2015

4- عزرا باوند في مترو-ترجمة عبد القادر الجنابي-موقع إيلاف الإلكتروني /2014

5-حميد العادلي، ارتعاش الثلج (هايكو) سوريا-دار دلمون الجديدة 2019

6-حميد العادلي، رقصة الفالس وأزهار النرجس(هايكو)بغداد-دار الرفاه 2021

7-Academy of American poets

8-Haiku Mainstream:The path of Traditional Haiku America by Bruce Ross-modern HAIKU- volume 43. 2/Summer 2012.

9-GRACEGUTS  / Website.

 

بين الحلم والموت:

قسوة الواقع وظلال الذكريات

***

ظلال الأمل / بقلم: شهلاء فيض الله

كان المارة يمشون بخطوات سريعة على الشوارع والأرصفة من شدة الحر في ذلك الظهيرة دون أن يرى أحدا نظرات تلك الفتاة البائسة الصغيرة ذات الشعر ألأسود المبعثر والفستان الاحمر الممزق وهي جالسة على الرصيف بمحاذات الجدار المنخفض للحديقة المطلة على الشارع المزدحم. تقوم من مكانها وبيدها علبة صغيرة، تريد أن تعبر الشارع لكن نعلاها الشبه الممزقتان لا تساعدها على المشي، بعد ثلاث خطوات لم تكمل الرابعة يتمزق فردا وتصبح عديم الفائدة ولا تستطيع الاستمرار في المشي، تضع قدماها على الأسفلت، يكاد أن يحترقا من شدة الحر، سرعان ما تضعهما على النعال، ما بين عبور الشارع والرجوع الى مكانها تفز من صوت منبه أحدى السيارات! فتعود مسرعة الى الرصيف تاركة ورائها نعلاها في منتصف الشارع، ثم تراقب السيارات وتنتظر ان تنتهز فرصة لتعود وترجعهما..

حرارة الشمس الساحقة أتعبتني كثيرا وكنت على عجلة من أمري للعودة الى البيت، وأنا أسير بخطوات سريعة متجهة الى محطة الحافلات بمحاذات الجدار المنخفض للحديقة وعيناي على الفتاة والمشهد بأكمله، اتجهت صوبها، حين اقتربت منها نظرت لها مبتسمة وأبعدتها قليلا من طريق المارة، فكانت تنظر لي بتعجب! وأرى في عيناها سؤالا: هل هناك من يهتم بي؟ كانت في الثامنة أو التاسعة من عمرها، تمسك بيديها علبة علكة يبدو أنها لم تبع منها قطعة واحدة حتى ذلك الوقت من الظهيرة والسوق بدأ يخلو من الناس، وجهها المسمر من كثرة تعرضها للشمس الحارقة وشعرها المجعد المبعثر وملابسها الممزقة لم تستطيع إخفاء جمال ملامحها! جمال لا يستطيع رسام بارع أن يرسمها، لمعان عينيها السوداوين المليئتين بالأمل والبراءة جعلتني غير قادرة على تركها ومواصلة سيري.

كم سريع يمر الأزمان؟ لا يتغير البؤس بل ينتقل من زمن الى أخر، أعاد هذا المشهد قصة بائعة الكبريت ل(هانس كريستيان أندرسون) الى ذاكرتي، تلك الفتاة الصغيرة الشقراء التي خرجت من البيت في يوم بارد يتساقط الثلج بغزارة لبيع الكبريت وبعد أن فقدت حذائها في الثلج أصبحت تمشي حافية القدمين تطرق الأبواب لبيع الكبريت ولم يفتح لها أحدا فالكل كان مشغولا بعيد رأس السنة الميلادي، عندما حل الظلام كانت ترتجف من البرد والجوع وقد أهلكتها التعب فجلست في زاوية بين منزلين وبدأت بإشعال عود الثقاب واحدة تلو أخرى ولم تتدفأ. قلت في سري: أوليس روح هذه الفتاة الصغيرة بائعة العلكة هي نفس روح الفتاة بائعة الكبريت وأرادت أن تعيش مرة أخرى؟ لو كان كذلك، فها هي الحياة تعذبها مرة أخرى! عدتُ اليها من وسط بردٍ قارسٍ الى حر الشمس الحارقة فلم أجدها التقيت الى يميني ثم يساري رأيتها جالسة مع فتاة في عمرها أتعس منها حالاً، بيدها كتاب القراءة للصف الاول الابتدائي نصف ممزق تقلب صفحاتها بشغف وكأنها عثرت على كنز ثمين ولا تصدق أنها ملكته! حينها سألتها بائعة العلكة: من أين حصلت على هذا الكتاب؟ أجابتها الفتاة دون أن ترفع رأسها: وجدته في حاوية المدرسة القريبة من هنا. فجأة وضعت الفتاة بائعة العلكة يدها الصغيرة المسمرة على صفحة ما وفيها صورة فتاة جميلة بعمرها ترتدي فستان أحمر قصير ذات ياقة وحاشية صفراء وحذاءٍ أحمر، مزينة شعرها بقراط أصفر ذهبي وهي تلعب مع أخيها لعبة الطائرة الورقية، حدقت للصورة قليلا ثم نهضت بسرعة أرادت أن تقول أنها تشبهني حين نظرت الى فستانها الاحمرِ الممزق وقدماها الخشنتين حافيتين، لم تقول شيئا حملت علبة العلكة بهدوء من على الارض وفجأة ألتفت الى الجهة المقابل للشارع وكأن أحدا يناديها! نظرت لي وقالت بصوت خافت: كل يوم وأنا أقف هنا يناديني أخي من الجانب الاخر، عندما أعبر الشارع لم أجده! ابتسمت وقلت لها: أنه يريد أن يلعب معكٍ، أذا أعطيني يدكٍ لنعبر الشارع ونبحث عنه ثم أشتري لكٍ زوج نعا..... قاطعتني بصوت حزين: لا قبل عدة أشهر دهسه سيارة ومات!

كاد قلبي يتمزق حزنا عندما سمعتها! شهقت حسرتاً على حالها حينها تذكرت مرة أخرى بائعة الكبريت وهي تشعل آخر عود كبريت لترى جدتها مرة أخرى وسط الضوء تناديها لتضعها في حضنها الدافئ، فها هي أيضا تبحث عن أخيها كي تجد حظنا لها وسط الزحام التي لا تعني لها شيئا. فجأة ركضت صوب الشارع وعبرتها.. حينها أكملت سيري الى موقف الحافلات، بعد خطوتين فقط فجأة سمعتُ صوت بوق مع توقف سيارة تملئ الشارعً وكأنها صاعقة ضربة المكان! وأنا ألتف بسرعة أرى الناس واقفين في مكانهم كالتماثيل ينظرون الى الجانب الآخر للشارع..

***

القراءة:

في قصتها /ظلال الأمل/ تلتقط القاصة شهلا فيض الله تفاصيل حياة طفلة بائسة تبحث عن بصيص أمل وسط قسوة الواقع. تنبض القصة بحس إنساني عميق يعكس معاناة الطفولة في مجتمع يعاني من اللامبالاة والظلم الاجتماعي، حيث تكشف عن التناقضات بين البراءة والألم، وبين الحلم والموت. يبحر النص في عالم الطفولة الضائع، وينبش في زوايا الحياة الصعبة، ويكشف عن العزلة الداخلية التي يعيشها الإنسان في عالم مليء بالصراعات. في هذه القراءة النقدية، سنحاول استكشاف أبعاد النص، وتحليل الشخصيات، والرموز، والموضوعات التي يعالجها هذا العمل الأدبي، وصولاً إلى فهم أعمق لمغزى القصة وأساليب السرد. 

الزمان والمكان: تتسم القصة باستخدام زمان ومكان لهما دلالة قوية في تشكيل الوعي القرائي. يبدأ السرد في ظهيرة حارة، وهي دلالة على الشدة والضغط النفسي، حيث تعكس الحرارة القاسية معاناة الفتاة، وتصبح الخلفية المناخية أحد الرموز الدالة على بؤس الوضع الاجتماعي الذي تعيشه. الزمان في القصة لا يُحدد فقط على أنه وقت الظهيرة، بل يتم ربطه بالشعور الدائم بالحرمان والفقدان، ما يضيف بعدًا وجوديًا للأحداث. 

أما المكان، فيأخذ طابعًا مزدحمًا في شوارع المدينة الحارة، لكنه في ذات الوقت لا يوفر أي أمل أو تواصل إنساني. المدينة تمثل بؤرة العزلة المجتمعية، حيث يمر الناس بسرعة من دون أن يلتفتوا إلى تلك الطفلة الجالسة على الرصيف. الكاتبة تركز على تفاصيل المكان بشكل يعكس التباين بين عالم الإنسان المزدحم، وأخرى يملؤها الصمت والخوف والانتظار. رغم أن الشارع يُوصف بأنه مزدحم، إلا أن الفتاة تبدو وحيدة تمامًا، في حالٍ من العزلة الموحشة التي تتسع في عيونها.

 الشخصيات: تدور القصة حول شخصية الطفلة بائعة العلكة التي تعتبر العنصر المحوري في النص، والتي تُجسد البراءة المفقودة وسط قسوة الحياة. تخلق شهلا فيض الله هذه الشخصية بعمق نفسي لا يُمكن تجاهله، حيث تنبثق ملامح الطفلة من خلال أوصاف دقيقة تظهر تباينًا بين جمالها الداخلي، الذي لا تستطيع ظروف الحياة أن تطمس معالمه، وبين المظهر الخارجي الذي يعكس الفقر والتهميش. الفتاة التي تحمل علبة العلكة بين يديها، رغم وضعها البائس، تُظهر إرادة الحياة والتمسك بالبقاء. 

الراوي في القصة، والذي يبدو وكأنه شاهد على العالم، يسهم في خلق تأثير عاطفي هائل عبر التأملات الدقيقة التي ينقلها. يتبنى الراوي موقفًا إنسانيًا من الطفلة، ولكن في ذات الوقت، يعكس فشله في تقديم أي نوع من الحلول لمشكلاتها العميقة. هذه النظرة المركبة تساهم في خلق التوتر العاطفي الذي يميز السرد، وتكشف عن مأزق الإنسان المعاصر الذي يسعى لمساعدة الآخرين دون القدرة على تغيير واقعهم بشكل جذري.

الرمزية والتيمات:

رمزية /الحرارة/ و/الأسفلت/: يمكن النظر إلى حرارة الشمس والأسفلت المحترق كرمزين للظروف القاسية التي تعيشها الطفلة. فالحرارة الحارقة تشير إلى ضغوط الحياة والواقع المادي القاسي الذي يعيشه الفرد في مجتمع فقير. الأسفلت، الذي يكاد يحرق قدمي الفتاة، يمكن أن يُفهم كرمز للطريق المسدود والمليء بالأشواك الذي تسلكه الطفلة، ولا يمكنها الخروج منه بسهولة. هذا التوصيف يرفع من قيمة القصة في تصوير معاناة البشر في بيئات قاسية. 

الكتاب الممزق: تمثل الكتاب الممزق الذي تحمله الطفلة مع أحد الأطفال الآخرين رمزية عميقة للعلم والمعرفة التي تصطدم بالفقر والموت. إن الكتاب، الذي كان في يومٍ ما رمزًا للثقافة والنور، أصبح الآن مجرد مكتشفات جزئية وسط النفايات، ما يعكس الطريقة التي يُنظر بها إلى التعليم في مجتمعات فقيرة. الكتاب يُصوَّر كقيمة محطمة يتوق الأطفال للتمسك بها، لكنه لا يمكن أن يعوض عن فقدان الحب أو الأمان. 

بائعة الكبريت: يظهر تشبيه بين الطفلة في القصة وبائعة الكبريت الشهيرة في قصة هانس كريستيان أندرسون، حيث تموت الطفلة في كلا القصتين ببطء. في هذه اللحظة، تُعيد القاصة طرح نفس التساؤلات التي طرحتها قصة بائعة الكبريت: ماذا يحدث عندما تترك البراءة تُهدم تحت وقع الفقر والحرمان؟ هل تُقتلع الأحلام كالأشجار في الزمان؟ هذا التشابه مع قصة بائعة الكبريت يخلق صدى مؤثرًا في النص، ويعمق من إحساس القارئ بالمرارة. 

الموت والفقدان: موضوع الموت يعبر عن الانقطاع المفاجئ بين الحياة والأمل. موت أخي الطفلة، الذي دهسته سيارة، ليس مجرد حادث عابر، بل هو بمثابة /نهاية العالم/ بالنسبة للطفلة، وهي تظل تبحث عنه عبر الشارع، في سعي مستمر لملاقاته. هذا الفقد يعكس قسوة الواقع الذي لا يرحم الطفولة ولا يسمح لها بعيش لحظات البهجة. تكرار الموت في السرد يسلط الضوء على مصير الطفل في عالم يُديره الكبار، دون أن يكون هناك مكان للأحلام أو الأمل. 

أسلوب السرد: الأسلوب السردي في القصة يتميز بتركيز كبير على التفاصيل الصغيرة التي تؤثر في القارئ بشكل عميق. تفرد شهلا فيض الله الكثير من المساحة للوصف التفصيلي لحالة الطفلة، بدءًا من شكل ملابسها الممزقة وصولاً إلى انطباعات عيونها المليئة بالأمل، ما يعكس محاولات الراوي لفهم الحالة النفسية للطفلة. هذا الأسلوب التفصيلي يخلق نوعًا من التعاطف مع الشخصية، ويجعل القارئ يعيش التجربة نفسها، فيصبح أكثر انغماسًا في معاناة الطفلة.

 كذلك، أسلوب التذكر والاسترجاع الذي يستخدمه الراوي - حيث يعيد إلى ذهنه صورة /بائعة الكبريت/ - يعزز من عمق القصة ويوظف الأبعاد الرمزية بذكاء. فالراوي لا يقدم الأحداث بشكل خطي، بل يسترجع الذكريات التي تشبه ما يعيشه الآن، مما يضيف للقصة بُعدًا وجوديًا يتنقل بين الماضي والحاضر.

الختام: قصة /ظلال الأمل/ ليست مجرد قصة عن فتاة فقيرة تُحاول البقاء على قيد الحياة في عالم قاسٍ، بل هي تأمل في الإنسانية والبراءة التي تتعرض للتحطيم على يد الزمان والمجتمع. الكاتبة باستخدام أسلوب سردي عميق ومؤثر، تناولت قضايا مثل الفقر والموت والفقدان من خلال تقديم صورة معقدة عن الطفولة. القصة، بذلك، تفتح المجال للتأمل في العلاقات الاجتماعية والإنسانية في عالم مليء بالظلم والحرمان. ومن خلال الرمزية الحافلة بالمعاني العميقة، تساهم القصة في كشف الوجه القاسي للمجتمع في سعيه للإجابة عن الأسئلة الكبرى المتعلقة بالحياة والموت، والفقدان والأمل.

***

بقلم: كريم عبدالله – العراق

في المثقف اليوم