قراءات نقدية

قراءات نقدية

ورقة التوت

يحيى السماوي

أنا ليس لي أخوة

والطريقُ يخلو من بئرٍ وذئاب

كنتُ عارياً إلاّ من ورقةِ التوت

فمَن الذي قتلني

وأتى إليكَ بقميصي الملطّخ بدمي يا أبي؟

***

النص الشعري نوع من المعادل الحياتي للانسان الذي تأخذه اللحظة صوب التلاشي.. انه عملية تكثيف وخلق من خلال ارتطامه بالواقع.. لتحقيق التوافق بين الوجود الانساني والحلم الذي يولد وسطه..

وباستحضار النص الشعري (سؤال غير عفوي).. لمنتجه الشاعر يحيى السماوي.. الذي نسجه على بناء فني يحتضن حكاية الزمن (قصة يوسف واخوته) التي لا تنتهي مع قدرة على منح الصورة الشعرية بعدها الحقيقي.. اضافة الى اعتماده تقنية التناص الذي ظهر في الشعر المعاصر بحكم الترجمة وتأثيرها على المنتج والنتاج الادبي.. لانه يكشف عن ثقافة شمولية كما في نص الشاعر السماوي الذي يتخذ من سورة يوسف ثيمة متمثلة في (اخوة يوسف والبئر والذئب) التي شكلت جسد النص وفضائه.. فضلا عن اضفائه قيمة فنية ودلالية وإبداعية على عوالم النص ألتي تقوم بتوضيح فكرة محركة للذاكرة واثراء معنى وخلق صورة شعرية تمتاز باستطالتها ووقوعها في اسر السردية الشعرية.. المحققة للتكنيك الشعري الذي يعتمد التكثيف والايجاز والاختزال الجملي والضربة الاسلوبية المفاجئة في نهاية النص.. فضلا عن اعتماده تقنيات فنية واسلوبية كالاستفهام الذي من خلاله يجسد المنتج معاناته وتجاربه الشعورية من خلال التساؤلات الاستفهامية التي تعد وسيلة من وسائل اتساع المعنى وإثرائه وتنويع الأفكار والصور والمواقف وكل هذا يكشف عن عمق تجربة المنتج، وبراعته في التعبير عما أحس وأدرك خلال مسيرته الشعرية...

أنا ليس لي أخوة

والطريقُ يخلو من بئرٍ وذئاب

كنتُ عارياً إلاّ من ورقةِ التوت

فمَن الذي قتلني

وأتى إليكَ بقميصي الملطّخ بدمي يا أبي؟

فالشاعر يمزج العاطفة والطبيعة بالواقع.. كي يحقق ربطه بين الوجد والوجود والكلمة.. ومن ثم توحده والطبيعة ونقلها من حالة استاتيكية سلبية مستقرة الى موقف انساني باسلوب فني حي بدينامية التفاعل والتجاوب مع الوجود الانساني..

وبذا قدم المنتج (الشاعر) نصا تداخلت مكوناته واللحظة المخترقة للثابت والمتجاوزه لعوالمه.. كون الابداع تجاوز وتخطي.. مع اتكائه على المضامين اليومية باحداثها ولغتها واسلوبها القائم على التناص الذي يكتنز دلالتين مترابطتين: الدّلالة الأولى جماليّة تمنح النص توهّجًا وعمقًا وخصبًا وانفتاحًا على الكثير من الاحتمالات والرّؤى... والدّلالة الثانية هي المنفة الفكرية التي تدفع المستهلك (المتلقي) لقراءة النّص والغوص في مكوناته المشهدية الملائمة لكل زمان ومكان وبعث الحــياة فيها عــبر العــلائق القائمة على التّـــلاقي أو التّــعارض أوالتكثيف او التوسع... كي ينقل تجربة صادقة مؤثرة بحسها الانساني الواقعي...

***

علوان السلمان – ناقد عراقي

الشاعر المهندس "ناظم عبد الجبار العلوش" من مواليد "دير الزور" عام 1962، عضو اتحاد الكتّاب العرب – جمعية الشعر. حاصل على شهادة الهندسة الإلكترونية من جامعة "حلب". وله أربع مجموعات شعرية، هي: "رحلة العمر"، "أغنيات للحب"، "احتراقات"، "حبة هيل"، وهو إعلامي شغل منصب مدير المركز الإذاعي والتلفزيوني في "دير الزور" لعدّة سنوات. بدأ الكتابة الشعريّة في نهايات عام 1970، وأخذ ينشر في الصحف والمجلات السوريّة والعربيّة عام 1982، وشارك في مهرجانات شعريّة، وحاز على عدّة جوائز. هو شقيق الشاعر الراحل "جمال علوش" الذي تأثر به كثيراً.

يكتب الشاعر "ناظم علوش" الشعر العمودي وشعر التفعيلة والشعر الشعبي الفراتي، وله نبضات نثريّة، ويكتب المقال الصحفي، وله تجارب في القصة القصيرة.

يقول عنه الشاعر "أبو بكر عزت" :  كثيرا ما تناول الشاعر " ناظم علوش" في أشعاره الهمّ الوطني والاجتماعي، إضافة إلى الغزل وقضايا أخرى كثيرة. كتب للأنثى والفرات كثيراً، وارتبط عشقهما بقصائده، ثم تنامى هذا الحب ليصل إلى مرحلة حب الوطن، الحب الذي عاشه في أوجاعه وخيباته ونكساته، فأصبح أبجديّةً له أستمد منها تلك الشحنة، التي أفرغها في قصائده لتسيل نزفاً على صفحات الكتابة التي لم تهدأ منذ عرف وطنه العربي من المحيط إلى الخليج.. لقد كتب في مختلف أصناف الشعر، إلا أنه أميل إلى شعر التفعيلة والشعر العمودي، مع عدم التنكر للنثر والشعر الشعبي.

البنية الدلاليّة للقصيدة:

جاءت سيمائيّة عنوان القصيدة "هذيان" ليس رمزاً لمن أسكره خمر العنب، بل جاء الهذيان في قصيدته رمزاً لمن اتعبهم قهر الواقع وظلمه واستبداده، ففقدوا ملكة الإدراك حتى تلاشت قدراتهم على قول الحقيقة لِمَا أصاب الوطن، الذي تحول نتيجة الخوف من ظلم المستبد الحاكم إلى رمز أيضاً جسده الشاعر في امرأة وجد في عينيها المتعبتين مساحة كبيرة من السكر أو غياب الوعي تأخذه لبلاده التي يحلم أهلها بالخبز والمعبر، بعد أن أحاط بهم الحصار من كل الجهات حصار الظلم والجوع والاستبداد، وحصار أعداء العقل والحرية واحترام المختلف. يقول:

أثمل

حين أصادف في عينيك

مساحة سُكْرٍ

تأخذني

لبلاد تحلم بالخبز وبالمعبرْ

يخاطب الشاعر وطنه المتعب.. هذا الوطن الذي جسده كما قلنا رمزاً في امرأة أصبحت شفاهها مثقلةً وعاجزةً عن الكلام من قهر الواقع ومعاناة أهله ومستبديه، ورغم كل هذا القهر يظل الوطن عند أهله حباً وعشقا كما يقول الشاعر. إن هذا المواطن الذي أثمله أو أسكره واقعه المرير في وطنه، لم ينس هذا الوطن الذي سكن في دفاتر ذاكرته وأصبح جزءاً من كينونته. يقول:

أثمل

حين تصير شفاهك

مُثقلةً بلهيب السكّرْ

وأعلّم أجوائي

كيف يطير السكران

على نسمة عشقٍ

في وطنٍ يسكن في دفترْ

نعم.. إن شاعرنا رغم ما يعانيه من حسرة وألم على معاناة وطنه الصغير سوريا، والكبير عالمه العربي الذي شكلت فلسطين هاجسا عنده وعند كل شرفاء هذه الأمّة، إلا أنه لم يزل يحلم بأمل الخلاص وحصول أهل فلسطين على حقوقهم وحريتهم، فالورد الذي شكّل يوماً أملاً عند الشاعر، يكاد يتحوّل عنده إلى خرافة بعد أن غاب عطره، وغابت معه أحاسيس من يقود البلاد بأوطانهم وشعوبهم، ولكن رغم ما ينال أهل فلسطين من قتل وتدمير وتشريد وتجويع، يظل هناك أمل يَحْمِلُ الشاعر لربيع آخر خارج المحسوس.. ربيع صوفي عانق روحه الهائمة في فضاءات حب الوطن رغم جراحاته حيث يقول:

أثمل

والورد خرافةُ أشعاري

يحملني لربيع صوفيّ النظرةِ

أعشقه

رغم خريف العمر

وقحط بنادقنا

رغم تساقط أزهار اللوز

على أرض (فلسطين)

يعود الشاعر المتعب في واقعه وهواجسه وأحلامه ليخاطب وطنه بصيغة المرأة.. وقد أثقله ما يعانيه وتعانيه بلاده من قهر حتى تحولت مسيرة حياته في هذا الوطن إلى مسيرة جنون، فراح يرسمه رغم هذه المسيرة المشبعة بالجنون، لوحات عشق تظهر فيها مفردات حياته، ويرى دروباً من الأمل ستطرقه خطا عشاق هذا الوطن، وهو أمر ليس مستحيلاً عند الشاعر، حيث يقول:

أثمل يا امرأة

من عمر جنوني

وأصبّ الخمر

كم يرسم لوحة عشقٍ

تتلون أشيائي

في حضرة هيبتها

وأرى كيف يجيء الدرب

على وقع خطانا

ليس غريباً هذا الدرب

مع وجود مساحة من الأمل والتفاؤل بمستقبل أفضل، إلا أن ما يراه في وضع أطفال وطنه الذين فرض عليهم من يحكم هذا الوطن عيش القهر والجوع والاستبداد، فيحزنه حالهم بعد أن زرع مستبدو الوطن في نفوسهم وعقولهم الحزن وغيبوا الفرح. لقد سرقوا أفراحهم ورموها فوق طرقات وطنهم التي لم تعد طرقات.. فوق طرقات وطن لم يعد حكامه يهمهم إن عاش عشاقه أو ماتوا. يقول:

ويحملني القدح الخامس

لبلادٍ

علمت الأطفال الدمع

قبيل البسمات

لبلادٍ

سرقت فرحتنا

ورمتها فوق الطرقاتْ

لبلادِ

لا فرق لديها

إن عاش العاشقُ..

أو ماتْ.

البعد الاجتماعي في النص:

إنّ الأديب الحقيقي الملتزم بواقعه الاجتماعي، شاعراً كان أو قاصاً أو روائيّاً، لا يفصل الحالة الأدبيّة التي يشتغل عليها عن الحالة الاجتماعيّة التي تحيط به أو ينشط داخلها، لما بينهما من ترابط عضوي، وتشابك يصل إلى حدّ التماهي، إنّ الأديب الواقعي يظل جزءاً لا يتجزّأ عن محيطه ممثلاً في أسرته ومجتمعه وأمته ووطنه، فهو في كينونته ظاهرة اجتماعيّة بامتياز، تنطلق من المجتمع لتصبّ فيه، وهو أيضاً جزء من تراث هذه الأمّة في مرحلة اجتماعيّة معيّنة عبر التاريخ، أي هو جزء من ماضيها ومؤسس بالضرورة لمستقبلها أيضاً..هو الطاقة الابداعيّة التي تعكس حال المجتمع في تحوّلاته المستمرّة، وبناءً على كل ذلك هو صورة المجتمع. فليس دوره مقتصراً على تصوير الواقع وقضاياه فحسب، بل عليه أيضاً أن يعمل على تنميته وتطويره من خلال إظهار عوامل تخلفه ورسم الحلول لتجاوز معوقات هذا التخلف.

الصورة في النص الشعري:

تظل اللغة في نحوها وبلاغتها ومحسناتها البديعيّة، كالترادف، والطباق، والمقابلة، والتقديم والتأخير، والتورية، وكثرة الانزياحات اللغويّة، والصور البيانيّة كالتشبيه والاستعارة والكنايّة، وتراكيب جملها، أداةً للتصوير الأدبي في الشعر. والشعر من الفنون الجميلة، له غاية جماليّة وفكريّة هي التأثير في المتلقي. والشاعر يصل لهذه الغاية عند جعل اللغة التي يستخدمها أكثر تأثيراً من خلال استخدامه للمفردات اللغويّة بطريقة خاصة، تختلف عن الاستخدام العادي أو المعياري لها في حالة التداول اليومي المباشر بين الأفراد والجماعات. إن الشعر فن ينتهي إلى غايته الجماليّة والتوصيلية عن طريق اللغة التي يشكل منها الشاعر عالمه الشعري. فالشعر كما يقول أحد النقاد هو (تفكير بالصور). أي إن الصورة هي أساس بناء الشعر.

إن الشاعر بوساطة التصوير الشعري، يقوم بعمليّة التخطي والتجاوز للمعني الإدراكي المباشر للأشياء، أي هو يقوم بإلغاء العلاقة الأصليّة الحقيقيّة الموجودة بين الدال والمدلول، محاولاً خلق علاقة جديدة بصور ذهنيّة، رغم أنها متخيلة ولكنها علاقة تظل مرتبطة في الواقع، فلا شيء يفرخ مجرداً حتى الوهم.

لقد استطاع الشاعر "ناظم علوش"، أن يصور واقعه الاجتماعي عبر صور ذات حمولة فكريّة وعاطفيّة أو وجدانيّة عالية، استطاع أن يجسد المعنى المتخيل في نصه كمصور فوتوغرافي، امتازت صوره بالوضوح أمام المتلقي الذي راح يتمتع بجماليّة هذه الصورة التي اعتمد فيها الشاعر التجسيد أو التشخيص والتجريد والمشابهة. يقول:

(أثمل.. حين أصادف في عينيك مساحة سُكْرٍ..).. (أثمل.. والورد خرافةُ أشعاري.. يحملني لربيع صوفيّ النظرةِ).. (أثمل.. يا امرأة من عمر جنوني.. وأصبّ الخمر كمن يرسم لوحة عشقٍ في وطنٍ يسكن في دفترْ).. (وأرى كيف يجيء الدرب على وقع خطانا).. (لبلاد سرقت فرحتنا.. ورمتها فوق الطرقاتْ).

هكذا نرى أن الصورة الشعرية بكل دلالاتها في هذا النص، لم يأت بها الشاعر " ناظم علوش" للتزيين والزخرفة اللفظيّة، وإنما جاءت تعبيراً أصيلاً أملته ظروف وطنه المأساة التي تركت آثارها على حالته النفسيّة والشعوريّة معاً، لذلك كانت الصور حاملاً أميناً لمشاعر الشاعر وتُرجماناً لنفسه الشاعرة، وترجمةً لصدق أحاسيسه وعواطفه.

اللغة في القصيدة:

لقد جاءت اللغة في القصيدة سهلةً، واضحةً، سمحةً، ناصعةً، وفصيحة، ومسبوكة الألفاظ، منسجمة مع بعضها في بنية القصيدة وخالية من البشاعة. فجودة السبك وبراعة صياغته وتسلسل عبارته وتخير ألفاظه وإصابتها لمعناها، كانت وراء سر فن التعبير في هذا النص الشعري. هكذا تتجلى رهافة وجمالية لغة الشاعر "ناظم" في قوله:

(أثمل.. حين أصادف في عينيك مساحة سُكْرٍ.. تأخذني لبلاد تحلم بالخبز وبالمعبرْ.) أو في قوله: ( والورد خرافةُ أشعاري.. يحملني لربيع صوفيّ النظرةِ.. أعشقه رغم خريف العمر.). وفي قوله:

(لبلادِ لا فرق لديها إن عاش العاشقُ.. أو ماتْ.).

التكرار في القصيدة:

التكرار في الشعر:

إن ورود التكرار في النص عند الشاعر يشير إلى محتوى معين يريد إظهاره والتأكيد عليه. فهو الحاح على فكرة هامة من النص الشعري يعني بها الشاعر أكثر من عنايته بسواها، وهو بذلك ذو دلالة نفسيّة قيمة، كما يعد التكرار أحد العوامل التي ترتبط بالقدرة على الفهم؛ فالفهم يكون أسرع في حالة استخدام التكرار وخاصة في القصيدة الحديثة، والتكرار هو أحد مفردات الإيقاع بجميع صوره، قد نجده بالقافية، أو في تكرا الحرف أو اللفظ أو العبارة أو الصورة، وله دور جمالي في النص مثل كل الأساليب البلاغية الأخرى، بشرط أن يأتي التكرار في مكانه داخل النص.

لقد تكرر في النص الشعري "هذيان" تكرار لفظة (أَثْمَلُ). هذه اللفظة التي تحمل دلالات غياب الوعي، وهي هنا لا تعبر عن حالة سكر سببه الخمر كما أشرنا سابقا، وإنما حالة فرضتها كثرة المصائب وشدّتها على الشاعر لِمَا رآه من أهوالٍ حلت بشعبه ووطنه. وكذا الحال في تكرار لفظة (الْسُكْرُ). (حين أصادف في عينيك مساحة سُكْرٍ تأخذني لبلاد تحلم بالخبز وبالمعبرْ). أو في قوله: (حين تصير شفاهك مُثقلةً بلهيب السكّرْ.. وأعلّم أجوائي.. كيف يطير السكران على نسمة عشقٍ.. في وطنٍ يسكن في دفترْ).

فمفردتا (السكر والثمل) جاءتا عند الشاعر هنا تعبيراً للتأكيد عن تعب وطنه وشعبه الذين فقدا قدرتهما على تأمين الخبز أو الهروب من مجازر المستبد. أو للتعبير عن الصمت الذي حل بشفاه الوطن وأهله بسبب كثرة مآسيهم، ومع كل ذلك يظل الوطن عند أهله حتى لو شُرّدوا، حاضرا في ضمائرهم وعشقهم، كمذكرات سجلت في دفتر كي لا تغيب عن الروح والعقل معاً.

إن استخدام مفردتي "الْثَمِلُ" و "الْسُكْرُ" جاءت في القصيدة أيضاً كشكل من أشكال القناع، إن للقناع معنىً خفيّاً وايحاءً، يحاول الشاعر عكس ما يدور في خلده عن طريق تقنيع ما يريد البوح به. وفي الشعر العربي الحديث بشكل عام، يعتبر القناع الوليد الشرعي لظروف القمع السياسي والاجتماعي والثقافي والفكري، فالشاعر غير قادر تحت مظلة القوى المستبدة القول بأن هذه القوى المستبدة هي من أتعبت الإنسان وأفقدته وعييه وأحاسيسه من شدّة القهر والظلم والجوع، فعبر عن حالة فقدان الوعي هذا، بقناع "الْثَمِلُ" و "الْسُكْرُ".  فنتيجة لعجز الشاعر عن إطلاق أفكاره بحريّة تامة وبصورة مباشرة بسبب خوف الشاعر من سطوة الحاكم المستبد، دفعته الى توظيف القناع. وهذه التقنية نجدها أيضاً عند تكلمه عن خذلان الحكام العرب لنصرة فلسطين بقول: (رغم خريف العمر.. وقحط بنادقنا..رغم تساقط أزهار اللوز على أرض "فلسطين".. أثمل يا امرأة).

الموسيقى في القصيدة:

رغم وجود فرق بسيط بين وزن القصيدة المتعلق بعروضها وقافيتها، وهو ما يسمى بالموسيقى الخارجية، وبين الايقاع في القصيدة الذي يسمى بالموسيقى الداخليّة، التي تتجلى في ذلك التناغم الداخلي الحاصل من النبر أو الصوت الداخلي للنص الناجم عن الحالة النفسية والشعورية وحتى الحالة الفيزيولوجيّة للشاعر التي تتطابق وتتناغم الحروف والكلمات وتنسجم مع الوحدة الموسيقيّة العامة، ومع تأكيدنا على هذا الفرق بين موسيقى الخارج والداخل، إلا أن الشاعر الحديث المتمكن من حرفته يستطيع أن يلغي تلك الفروقات الطفيفة ليجعل من موسيقى قصيدته رتماً واحداً متجانساً في مكوناته.

إن الشعر الحديث والمعاصر، القائم على التفعيلة، وتناغم الحروف، وبراعة اختيار الكلمات وتراكيبها وصورها، والترابط ما بين المعنى والمبنى، يأتي الصوت أخيرا يحمل أهميّة كبيرة في التأثير على المتلقي، وهذا ما تجلى في قصيدة الشاعر ناظم علوش" (الهذيان). حيث تجلت موسيقى النص في تفعيلته (فعل) من البحر المتدارك مع تناغم الحروف، وبراعة اختيار الكلمات وتراكيبها وصورها، والترابط ما بين المعنى والمبنى. يقول:

(حين أصادف في عينيك.. مساحة سُكْرٍ.. تأخذني.. لبلاد تحلم بالخبز وبالمعبرْ).

أو في بوح رتمه الحزين:

(لبلادٍ.. علمت الأطفال الدمع.. قبيل البسمات.. لبلاد.. سرقت فرحتنا.. ورمتها فوق الطرقاتْ.. لبلادِ.. لا فرق لديها إن عاش العاشقُ..أو ماتْ.).

***

د. عدنان عويّد

كاتب وباحث وناقد من سوريا.

.................

هذيان / ناظم علوش

أثمل

حين أصادف في عينيك

مساحة سُكْرٍ

تأخذني

لبلاد تحلم بالخبز وبالمعبرْ

أثمل

حين تصير شفاهك

مُثقلةً بلهيب السكّرْ

وأعلّم أجوائي

كيف يطير السكران

على نسمة عشقٍ

في وطنٍ يسكن في دفترْ

أثمل

والورد خرافةُ أشعاري

يحملني لربيع صوفيّ النظرةِ

أعشقه

رغم خريف العمر

وقحط بنادقنا

رغم تساقط أزهار اللوز

على أرض (فلسطين)

أثمل يا امرأة

من عمر جنوني

وأصبّ الخمر

كم يرسم لوحة عشقٍ

تتلون أشيائي

في حضرة هيبتها

وأرى كيف يجيء الدرب

على وقع خطانا

ليس غريباً هذا الدرب

ويحملني القدح الخامس

لبلادٍ

علمت الأطفال الدمع

قبيل البسمات

لبلادٍ

سرقت فرحتنا

ورمتها فوق الطرقاتْ

لبلادِ

لا فرق لديها

إن عاش العاشقُ..

أو ماتْ.

قراءة نقدية في قصيدة (يا شعر مالي عن هواك بديل)، للشاعرة الفلسطينية مقبولة عبد الحليم.

في مسار الشعر الإنساني، تقف القصيدة التي تبدأ بـ"يا شعر مالي عن هواك بديل" كنموذج للانغماس العميق في وعي الذات، وحوارها مع الجرح المتألم والمبنى العاطفي المرهف. هذا النص لا يحمل فقط كلمات، بل هو رحلة روحانية في دفق من الوجدان الملتبس بين الأمل والخوف، بين التعبير عن العشق والتساؤل عن قيمته في عالم مضطرب. تذوب الحروف هنا في سائل من العاطفة، حيث لا تكون القصيدة مجرد تسلسل لغوي أو سردي، بل هي صورة مرآوية للذات في لحظة صراعها مع الصمت والفقد.

مع توظيفها للغة بليغة تتمازج فيها الصور البلاغية والتكثيف الرمزي، تعيد الشاعرة تشكيل العلاقة بين الذات والعالم، وبين الحب والفقد. فالقصيدة لا تروي قصة عشق، بل تتناغم مع قلق الوجود، محملة في طياتها تساؤلات فلسفية عن الكينونة، والزمن، واللامكان. في هذا السياق، يشكل "الحرف" ليس مجرد وسيلة نقل، بل هو الأساس الذي تتنفس من خلاله الروح، وتغذيه، حتى يصبح هو نفسه شاهداً على رحلة الوجود المتعثر بين الحزن والرجاء.

تدعونا هذه القصيدة إلى العودة إلى اللحظة الأولى التي يتحقق فيها الوجود من خلال الإحساس بالانتماء إلى الحرف والكلمة. هي دعوة لتأمل تلك العلاقة العضوية بين الإنسان ولغته، تلك التي قد تتوه في خضم الحياة اليومية، لكن يبقى الشعر هو المنفذ الأكثر صفاءً لفهم الوجود بكل تعقيداته.

كما يمثل النص الذي بين أيدينا تجسيداً حيّاً للحوار الداخلي بين الشاعرة مقبولة وحرفها الشعري، حيث يتبلور العشق الأبدي للكلمة باعتبارها ملاذاً وجدانياً ومتنفسًا روحيًا. يظهر الشاعر هنا وهو يمارس طقس المصالحة مع ذاته الشعرية، متنقلًا بين أتون المواجع وأمل الانبعاث، بلغة مشحونة بالعاطفة وملتزمة بميزان الإيقاع وجمال التصوير.

فمن ناحية البنية الموضوعية نجد أنّ هذه القصيدة تقوم على ثنائية أساسية: الفقد والحنين، التقهقر والانبعاث. الشاعرة تسائل نفسها عن تبدل الإحساس، متسائلةً عن ذبول النبض الشعري الذي كان يوماً ما فياضاً. هذا التأمل في أزمة الكتابة وذبول الإلهام، جعل النص مشدوداً بين قطبي اليأس والأمل. أما اللغة والصور البلاغية فقد اتسمت في النص برهافة حسية وعذوبة صوتية. اعتمدت الشاعرة مقبولة صوراً حية مثل: "جودي شعوراً حلّقي وتألقّي"، "كوني الندى والزهر"، حيث نجد أن المجاز اللغوي قد حضر بقوة، من خلال تشخيص الحرف، واستعارة الطبيعة (الندى، الزهر، الشهد) لإيصال الانفعال الداخلي.

تنتمي هذه الصور إلى إرث بلاغي كلاسيكي، لكنها جاءت منسوجة بخيط وجداني صادق، مما أنقذها من الوقوع في التكلف. حافظت القصيدة على إيقاع بحري موزون (قريب من البحر الكامل)، مع التزام نسبي بالقافية الموحدة، مما عزز الانسجام الموسيقي. غير أن القصيدة لم تكتفِ بالإيقاع الظاهري، بل غذّته بموسيقى داخلية نابعة من تكرار الحروف الموحية (مثل السين واللام)، والتي تعكس انسياب العاطفة الحزينة وتوترها الدفين.

في هذا السياق لا يمككنا إغفال ما كشفته القصيدة عن رؤية فلسفية للوجود الشعري، إذ يصبح الشعر هنا كينونة قائمة بذاتها، لا مجرد وسيلة للتعبير. هو الوطن الذي يحتضن الروح، والمرفأ الأخير في زمن الصمت الثقيل، كما صورته الشاعرة مقبولة عبد الحليم:

"لكنه الصمت المقيت وأهله / صوت الصدى في الخافقين ثقيل"

ومن هنا يحضر الوجود الشعري كجوهر، لا كظاهرة عابرة.

من الواضح أنّ الأسلوب يغلب عليه الطابع الإنشائي (نداء، أمر، استفهام)، وهو ما ينسجم مع الجو العاطفي المتوتر للنص. فهناك شوق مُلِّح، رغبة في استعادة لحظة الصفاء الشعري، مع إدراك مأساوي لصعوبة ذلك. وهذا الانفعال الأصيل يحمي النص من السقوط في سطحية التعبير.

بمنهج أقرب إلى النزعة الرومانتيكية، ينجح الشاعر في إعادة تأسيس العلاقة الوجودية بين الذات والحرف. هناك وفاءٌ نادر للحرف باعتباره صورة أخرى للنفس، ورفضٌ صامت للانصياع للصمت أو القنوط.

على المستوى الجمالي، تمكن النص من المحافظة على توازن دقيق بين العفوية والإحكام، بين الانسياب العاطفي والإيقاع البنائي. ولعل هذه القصيدة تذكرنا بما قاله الفيلسوف الألماني مارتن هايدغر عن "اللغة" بوصفها "منزل الوجود"، فالشاعرة هنا تحتمي في بيتها اللغوي من برد العالم وقسوته. كما تُحاكي القصيدة روح الرومانسيين أمثال ووردزورث، الذين رأوا في الشعر استجابة طبيعية لعواطف متأججة عبر لغة موزونة.

الخاتمة:

تمثل قصيدة (يا شعر مالي عن هواك بديل) للشاعر مقبولة عبد الحليم مثالاً على ما يمكن تسميته "الوجد الشعري المأزوم"، حيث تتحرك الشاعرة في مساحة فاصلة بين حلم الكتابة وكابوس الفناء الروحي. ومن خلال إيقاع متماسك، وصور متدفقة، ينجح في استبقاء حرارة الانفعال رغم ظلال الصمت المخيم.

ومع ذلك، تظل الحاجة قائمة إلى توسيع مساحة الابتكار البلاغي، وتكثيف المشاهد الشعرية، بما يعزز من فرادة التجربة ويجنب القصيدة الوقوع في التقريرية العاطفية.

***

بقلم: عماد خالد رحمة ـ برلين.

......................

يا شعر مالي عن هواك بديل

يا شعر مالي عن هواك بديلُ

والحرف يسري  في دمي ويقول

*

هل قد تصحّر فيكِ إحساس طغى

قد كان مثل الشهد حين يسيل

*

جودي شعورًا حلّقي وتألقي

رغم المواجع يَعْدُك التعليل

*

مهما ابتعدت وكنت أنت قصيّة

فأنا رفيفك للوصال عجول

*

قد كان نبضك بالقصيدة مولعًا

ماذا جرى كي يعتريه ذبول !!

*

أنا قد رأيت الدمع منك مواسيًا

وطنًا وآهًا في نِداك تطول

*

لكنه الصمت المقيت وأهله

صوت الصدى في الخافقين ثقيل

*

ظلي على عشق التراب وأفرطي

واملي الدنا أملًا وليس يزول

*

كوني الندى والزهر حيث تولهت

فيه الجنائن والشذا مسدول

*

أوجاع فكرك طببيها دلّلي

روحًا عرفتُ وعشقها التدليل

*

رغم المواجع لن تغادر لحظة

فيها نحلّـق للسما ونجول

*

سحرًا جنونًا  يعترينا  يحتفي

فينا تعالي فالجنون جميل

*

فحضنته ناغيته حتى انتشى

وقصيدة صرنا وساد ذهول

*

يا حرف أنت المشتهى والمنتهى

فلقد عشقتك وانتهى التأويل

***

الشاعرة مقبولة عبد الحليم

 

(أوقفني وقال لي إن عبدتني لأجل شيء أشركت بي. وقال لي كلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة. وقال لي العبارة ستر فكيف ما ندبت إليه. وقال لي إذا لم أسووصفك وقلبك إلا على رؤيتي فما تصنع بالمسألة، أتسألني أن أسفر وقد أسفرت أم تسألني أن أحتجب فإلى من تفيض....)

محمد بن عبد الجبار بن الحسن النفري، المواقف والمخاطبات؛ دار الكتب العلمية بيروت،1417 هـ ــ 1997 م.

***

اعتبر فيلسوف الكينونة مارتن هايدغر اللغة مسكن الوجود، والعالم مقرّ سكن الإنسان بما هو كينونة (Da-sein) ملقاة في معتركه (،هذا العالم) وهي لا تفتأ تعيش تجربة الوجود في العالم (être dans le monde). فالعالم حسب هذه القراءة انبجاس وانفراج، في حين تظلّ الأرض هي العتمة والظُلمة التي تحتاج دوما إلى الاستنارة والإظهار؛ ولعل اللغة هي التي تقوم بهذه الاستنارة بالكشف والإظهار للعالم فيها.[1] بصدد هذه المسألة، ذهب هايدغر أبعد ممّا فعل فيتغنشتاين، حيث عمد إلى ترسيخ استقلالية الوجود، في حركيته انكشافه وانحجابه، عن أيّة علاقة تمثّلية مع اللغة.[2] فكيف سيعيد هذا الأخير مشكلة علاقة اللغة بالعالم إلى أرضيتها الأصلية: أرضية الشعر؟

يتحقق الشعر عندما ينادي الشاعر أشياء العالم للظهور، فينضم الكلام عنها ليجعلها تحضر في قصيده. إنّ الشاعر إذ ينادي على هذه الأشياء، إنما يصغي إليها من حيث كونه لا يتكلم إلاّ بمقدار ما يصغي إلى نداء الوجود (يقول: يتكلم الإنسان بقدار ما يجيب عن الكلام. والإجابة هي الإصغاء. فالإصغاء يحدث حين يتحقّق الصمت).

إنّ الاصغاء يحتاج إلى صمت يسبق فعل المناداة والمناشدة، بذلك لا يقول الشاعر كلامه في القصيد إلا وهو يرتحل جيئة ذهابا بين صمت اصغائي وتكلّم انشادي. هذا ما يسمى في عرف هايدغر لغة الوجود التي هي اصغاء وانشاد. وهذه التأرجح التبادلي لا يتحقق إلاّ في تلك القصائد الشعرية التي تتميز بإصغاء جيد للوجود حضور قوي لصداه، بحيث نستطيع دوما نحن القراء قراءتها وانشادها حتى بدون حاجة إلى ذكر اسم كاتبها.

فإذن، يوجد لدى فيلسوف الكينونة ألف سبب وسبب لجعل الشعر لغة الوجود. ذلك أنّ مقام الشعر، هو أصلا مقام اصغاء، يسبق قول القصيد، لا بل يشرطه. والكلام بوصفه قصيدة، لا يكون شعرا إلاّ متى كان صاحبه قادرا على أن يملي قولا فريدا يسميه: "القصيدة"؛ بحيث إنّ هذا القول هو ما سيظل وسيبقى دوما شعرا طالما هو فريد من نوعه، لأنّه قول لا يقول كلّ مرّة سوى القول ذاته (يقول: كل نص شعري يتكلم انطلاقا من هذا القول الشعري الفريد، ولا يقول ـ في كل مرة ـ سوى هذا القول).

ما يحدث في القصيد شيء عجيب متى تؤمّل من هذا الاعتبار الاشاري الذي يقرأ به هايدغر ماهية الشعر. ولعل هذا ما يدعونا إلى طرح السؤال مرّة أخرى: وهذه القصيدة التي يتحدث عنها هايدغر، ترى ما هي على التحقيق؟

في نص لهايدغر حول "الكلام في القول الشعري" يتحدث عن القاء الشعر، ويقول: "إنّ شاعرا عظيما لا يكون كذلك إلاّ بما يلقيه من قول شعري فريد". (la parole dans l’élément du poème, pp41.42)

بماذا يلقي الشاعر العظيم حسب هذا المنظور؟ يلقي بالفرادة في القول. تميز كبار الشعراء يكمن في اجتراحهم لمسالك ولدروب جديدة في أقوالهم الشعرية. يتفنن الشاعر الكبير في اظهار فرادة قوله الشعري، واخص فرادة يمكن أن تميز قولا شعريا كبيرا هي أن يقول كلّ شيء دفعة واحدة (البلاغ). غير أنّ كل بلاغ يحتاج إلى بيان وتبيين، وعندما يصل هذا البلاغ إلى أوج بيانه يصبح إظهارا للحال والأحوال، وهنا ـ حسب هايدغرـ تفعل اللغة أفاعلها بصاحب القول، فتقحم فكره في حوار شديد الانفعال مع القصيد الشعري، وكون قوله حوارا بين الفكر والقول الشعري.

ينقلنا هايدغر عبر قراءته هذه لشعر تراكل وهولدرلن إلى تلك التخوم التي يلتقي فيها الشعر العظيم مع الفكر الأصيل. يجعل هذا اللقاء بين الفكر والشعر الكلام حوارا ومراوحة بين البيان البليغ للقصيد والتفكير الأصيل. اللغة هنا، بما هي مسكن الوجود، إنّما هي المقام الذي ينبغي أن يهتدي الناس إلى الإقامة فيه (يقول: "يبتغي الحوار بين الفكر والشعر استثارة الكلام وانطاقه حتى يتعلم الفانون كيف يهتدون إلى الإقامة في الكلام من جديد).

مقام الشعر إذن يعود إلى هذا الحوار بين الفكر والقصيد، مادام حوار الفكر الصادق مع القول الشعري لا يمكن أن ينتمي إلى غير الشعر إلاّ إذا كان تفكيرا غير أصيل. يطبق هايدغر هذه الفرضية على قراءة مقاطع شعرية لتراكل وهولدرلن، فيخرج منها بحقيقة مثيرة بخصوص كنه الشعر: لا يمكن أن يوصف الشعر Dichtung بأنّه موضوع قصدي، إذ لا يتولد عن أيّ فعل يمنح المعنى. ولعل بورخيس قريب من توصيف هذا الأمر حين تحدث عن لغز الشعر. وهذا اللغز هو ما يكشف هايدغر عن كنه، حين اعتبر الشعر شيئا نتلقاه فقط ولا نتعلمه، وهو بذلك صدى روح غير بشرية تسري في كلام الشعراء.

قد تعتري الصدمة النقاد، الذين يبحثون عن التفسيرات المجازية لأساليب الشعراء الملغزة، عندما يسمعون بأنّ الشاعر نفسه ليس صاحب قوله الشعري. ففي هذه الحالة، لم تعد أهمية الشعر تعزى إلى الفعالية الإنسانية، بل إلى شيء غريب، يقصد به هايدغر حركة الانجذاب، أو تلك "النشوة التي يكابد فيها الوعي استعمال الكلمات على غير مقتضى أصول الكلام المعتاد (التعسف المجازي)".[3]

أينما كان الشعر، ثمة الكينونة. فنشيد الشاعر إصغاء أصيل لهذه الكينونة. ولطالما كلام الشعر لا يأتي إلاّ خلال صمت هذا الإصغاءً، فالشعر بذلك هو الأكثر قدرة على التقاط نداء الوجود الذي سيفصح عن ذاته، رغم هذه العرضة الدائمة لانحجابه عن مدى الرؤية كل مرة، ليحمل الإنسان موته فيها والبدء من جديد.

إن الشعر بوصفه هذه «القدرة الجوهرية لإقامة الكينونة في اللغة» هو ما يعني لدى الشاعر هُولدرلِن إنّ «الإنسان يسكن العالم على نحو شعري». فالعبور الشعري للكينونة خلال نضم الكلام يتم عبر اللغة بصفتها العنصر الدائم للإنسان في العالم. «اللغة هي مستقر الكينونة»، وحضور الكينونة لا يتمظهر إلا في القصيد، لأن فعل القول الأصلي هو الشعر. هكذا يفسر سؤال هُولدرلِن «لماذا الشعراء في زمن الضيق؟» كلّ شيء بخصوص هذه الحاجة الدائمة إلى الشعر؛ والضرورة الفلسفية هي التي تفرض على الشعراء في مثل هذا الزمن، «زمن الضيق»، أن يقولوا "جوهر الشعر". فالشعر يظهر ما ظلّ خفيا في اللغة العادية، وما اقتصر الناس على استعماله للكلام: أي العبور عبر القصيد إلى العالم. بالنسبة لـ«هيدغر» كل شعر يقول جوهره، وفي نفس الوقت الجوهر الكشّاف للغة، أي "القصيدة الأصلية"، أو هذا الحشد الصامت للكائن.[4]

تُبرز القصيدة قوّتها وقدرتها على إظهار الأشياء بالكشف عنها في العالم؛ إنها لا تفعل غير أن تنير العالم أو تسمح بذلك على الأقل، وهذه الخاصية هي ما يمنحها سماكة الأرض وقوّة التأسيس. إنّ الشعر، كما يقول «هيدغر»، هو "اللغة الأصلية" للشعب، أي الفنّ الذي يروي ما تكون اللغة قد أوصلته في صمت تراكمها وتكاثرها الأوّلي إلى المنفتح. وهذا الشعر هو التسمية التأسيسية للكائن ولجوهر كلّ الأشياء (وهو ليس قولا تعسّفيا) التي ستنكشف فيما بعد. إنّه ما يجعل اللغة قادرة على تحقيق (عندما تكون الكلمة الشعرية لغتها الإشارية المسموعة) إقامة الإنسان في العالم على نحو شاعري، عندما تصبح العبارة إشارة رحبة واسعة لا تضيق.

يفتح القصيد الآفاق الرحبة للإقامة في الأرض تحت رعاية السماء، مما يعطي اللغة الأهمية البالغة في إظهار ما يختفي ويتحجّب في هذا الوجود.[5] فأن نسمي الأشياء بإنشاد الشعر يعني، حسب «هيدغر»، أن ندع هذه الأشياء توجد؛ وهي القدرة التي نُسيت تماما من قبل اللغة الأداتية. فأن يُظهر الشعرُ الأشياء كما لو أنّها أعيدت إلى فجر ولادتها، أو كما لو أنّنا "نراها للمرة الأولى"، هو ما يؤكّد قوته على الكشف والإظهار. وهذه القدرة ليست تتم بفضل خيال الشاعر، بل تنتسب إلى الكشف الذي استكملته اللغة قبل ذلك في صمت. وهنا ما على الشاعر سوى أن يكتفي بأن يقول ما تقوله اللغة بصوت خافت.

على هذا الأساس يمكن تفسير الاهتمام القليل الذي يوليه «هيدغر» لذاتية الشاعر الذي يعظّم حقيقة أرض وحقيقة عالم، بدلا من تجربته. فليس الشاعر هو من يستعمل اللغة، بل اللغة هي من تستعمل الشاعر لتستنفد مهماتها بنجاح. فليس الشعر موسيقى اللغة فقط، أو قدرتها على الكشف فحسب، وإنّما حقيقته تكمن أيضا في الصور التي يولّها بطريقته الاشارية. فالصورة الشعرية ليست نسخة منحطة للواقع، ولا علاقة تماثلية فيها بين المحسوس والمعقول، ولا تخصيصا تجريبيا لرسم خيالي أنتجته ذاتية استعلائية.

إنّ الصورة الشعرية مجرّد طريقة في إيضاح العالم وإنارته، بحيث تمكّننا من رؤية شيء ما بداخله. إنّها تّظهر العالم الذي نعيش بداخله، أي عالمنا اليومي الذي تسعفنا في التواجد فيه؛ وهي إذ تسمح بذلك، تظهره لنا بطريقة خاصّة. إنّها تكشف اللامرئي فيه، أي لغز الحضور في قلب المرئي الأشد بساطة والأكثر وضوحا. إنّها، بالأحرى، تخفي ما يتلخّص من العالم العادي المعتاد لنا، فتكون تضمينات لا مرئية للغريب في مظهر المألوف. لكن ما هو هذا الغريب؟ هل هو قضية الفكر الأساسية حقّا؟

يعني عند «هيدغر» انسحاب الكائن المقدّس من عالمنا المعاصر؛ وهو ما يتخذ معنى انسحاب الإله. فالصورة الشعرية، هنا، تعرض الغرابة فجأة ولا تفسّر شيئا، بل وليس من طبيعتها أن تفسّر. هنا يلجأ «هيدغر» مرّة أخرى إلى شاعره الشهير «هولدرلين»، خاصّة في كلامه عن اللغة الشعرية والمقدّس الإله المتواري؛ معتبرا الشعراء، من هذا الطراز، هم رعاة الوجود وحماته الذين يقدرون على قوله شعرا. وهذا هو معنى قول «هولدرلين»: "ما يبقى يؤسّسه الشعراء".

إنّ الشعر لا يؤسّس فقط الوجود، ولكن يؤسّس التاريخ أيضا. فاللغة الشعرية بما هي فضاء رحب، ستكون هي الإقامة الجليلة الجديرة باستقبال هذا اللغز المحيّر والغريب الذي استعصى على طُرقنا المعتادة في استعمال اللغة.[6] فوحدها لغة الشاعر يتأتى عبرها قول ما يكشف عنه هذا الغريب. إنّ الشاعر، باعتباره هذه الكينونة التي يصدح الوجود شعرا عبره، هو الراعي الذي يقول ما يظهر من انكشاف الوجود وتجلّيه في العالم. فليس هناك شعرٌ، إذاً، كما ليس هناك فكر، دون هذه العلاقة الوطيدة التي يحققها الشاعر ويرعاها بين اللغة والوجود.

تكمن مهمّة الشاعر، حسب هذا المنظور، في أن يسائل المقدّس ويطالب به، لا أن يدّعي نبوة معيّنة ووعد بخلاص ما. إنّه الكائن الذي بمكنته أن يعبّر فقط عن شقاء معيّن، شقاء عصره، لا شقاء حياته الخاصّة. لذا، فلغة الشعرية مقدّسة بالمعنى الذي يفيد كونها نوعا من تجلّي المقدّس في كلامه من حيث كون انفعالاته ناجعة وليست هروبا من نوع سيكولوجي. إنّ حزن الشاعر ومنفاه وتمرّده وعذابه أو فرحه، كلّ هذه الإحساسات إنّما تهبط إلى أعماق عصره لتتغذّى من ينابيعه.

اللغة، ها هنا، أكبر من أن تكون أداة تعبير ونقل للمعلومة عن العالم فقط، بل هي تدفّق جديد لتاريخ الكينونة. إنّها ليست تصويرية ولا تخيلية، بل إشارية وصوفية. وتأكيدا لدور اللغة في انجاز هذا التفكير لمهمّته بخصوص الأسئلة الأساسية للفكر، اعتبر «هيدغر»، في معرض حديثه الشاعر جورج تراكل (George Trakl) أنّه لو أمكننا الاستماع اليه وهو يلقي إحدى أروع قصائده بنفسه، فإنّنا سنصغي إليه بكل طواعية وهو ينشدها، متخلّين عن أية رغبة في إدراكها بوضوح مباشر.[7]

فالبيّن مما سبق أنّ الشعر هو ما يضطلع بمهمة التفكير في الوجود، وإذ يسمح بذلك فإنّ هذه المهمة لا يحققها سوى الشعراء الكبار الذين ينيرون الوجود ويظهرونه على حقيقته بكل أصالة شعرية. لذلك لن يكون مهما عدد الذين يفهمون شعر الشعراء، بالقدر الذي يهم نوعيتهم وأصالة تفكيرهم وقدرتهم على الإصغاء لنشيد الشعر وهو يلقى على مسامعهم؛ فإلى هؤلاء الذين يولون الشعر أهميته القصوى التي يستحقها كان ينتمي الفيلسوف مارتن هايدغر.[8]

***

كتبه الحسين أخدوش / المغرب

.......................

[1] يستعمل هيدغر "الأرض" ولا يقصد بها الطبيعة التي خضعت للآلية الحسابية والموضعة التقنية والعلمية خاصّة في العصور الحديثة؛ حيث تم إفراغها من أسرارها حتى صارت مجالا لسيادة الإنسان الحديث. فالطبيعة قد أفشت جميع أسرارها، بينما الأرض بقية غامضة نوعا ما، لا تظهر إلاّ لتنسحب من جديد؛ فهي اللاانكشاف واللاتحجّب الذي يستعصي بطبيعته على أيّ انكشاف.  أنظر بهذا الخصوص:

Heidegger (M): Le principe de raison ; éd Gallimard, Paris, 1962, p.237.

[2] - Heidegger (M) : En guise de contribution à la grammaire et à l’étymologie du mot « être » ; Introduction en la métaphysique (chap. 2), tr et commenté par Pascal David; éd du Seuil, Paris, p.67.

[3] تيموثي كلارك، المعتمد الأدبي في التفكيك: هايدغر، بلانشو، دريدا؛ ترجمة حسام نايل، مراجعة محم بريري، ط 1، (المركز القومي للترجمة: القاهرة، 2011)، ص 99,

[4] - Heidegger (M) : Acheminement vers la parole; tr Jean Beaufret, éd  Gallimard, Paris, 1976, p.63.

[5] تقع قناعة فكرية في صلب تفكير هيدغر مفادها أنّ حقيقة الوجود لا تمنح نفسها لإرادة الهيمنة لدى الإنسان. فلئن كان الموجود معرّض دوما للاستغلال، فإنّ الإنسان بحكم إصراره على أن يبقى قوة مهيمنة لا يتوانى عن تعريض نفسه للإنهاك كما يحدث الآن في العصر الراهن. وعلى خلاف ذلك، يلزم الإنسان أن يتحول عن النمط الحديث للكينونة إلى نمط مختلف جديد يستطيع فيها، باعتباره راعيا للوجود، أن يتعلّم كيف يقيم بجوار الكينونة. يتسم مفهومه للإقامة هذه بطابع روحاني، لأنّه عندما تتعرض هذه "الإقامة الروحية في الوجود" للتصحّر غالبا ما نكون أمام ما يسمّيه هيدغر في كتابه مدخل إلى الميتافيزيقا ب"الانحطاط الروحي للأرض" الذي يسم عصرنا الراهن باعتباره عصر اكتمال التقنية بما هي ميتافيزيقا.  أنظر بهذا الخصوص:

-  Heidegger (M): Introduction à la métaphysique; traduction par Gilbert Kahn, éd Gallimard, Paris, 1967, p.68.

[6] لقد أعلى هيدغر من شأن الشعر معتبرا الفن في أرقى صوره شعر؛ ولأنّ الفن يهيّئا لانكشاف الحقيقة، حقيقة الوجود، فإنّ المهمة الأساسية للفن الشعري تتمثّل في صياغة الحقيقة شعريا. تكشف الحقيقة عن نفسها شعريا، وهذا ما يجعلها قصيدة (Poème)، واللغة ذاتها هي القصيدة الأصل، حيث يأتي الشعر تاليا لها ليعيد ما تقوله.  والأرض هو أساس الفنّ ومأواه ومستقرّه، وهذه الأرض نفسها هي اللغة باعتبارها مأوى الوجود؛ والشعر بما هو، فنّ أصيل، يحاول تأسيس عالم هو بمثابة إنارة للأرض التي هي اللغة الأصلية، فغاية الشعر هنا أن يحاول حمل الوجود على الظهور إلى حيّز الظهور والانكشاف رغم استعصائه وتواريه الدائم. أنظر بهذا الخصوص:

Heidegger (M): Chemins qui ne mènent nulle part; éd Gallimard, Paris, 1987, p.28-29.

[7]  - Heidegger (M): Question 4; nrf, éd Gallimard, 1976, p.50.

[8] مارتن هيدغر، التقنية، الحقيقة، الوجود؛ ترجمة محمد سبيلا وعبد الهادي مفتاح، نشرة المركز الثقافي العربي، ط الأولى، بيروت / الدار البيضاء، 1995، ص 38.

 

زعم (ذو القُروح) في مساقه السابق أنَّه كان للمناكفة بين شرَّاح شِعر (أبي الطَّيِّب المتنبِّي) دَورها في اختلافهم في شرح شِعره؛ وذلك للمغالبة، وإظهار التفوُّق، وأنَّ الشارح الآخَر لا يُقبَل منه في شرح البيت صَرْفٌ ولا عَدْل، كما يقال. فسألته:

ـ ماذا تقصد بالصَّرْف والعَدْل؟

ـ لقد أكثر اللُّغويُّون في تفسير هذا التعبير العَرَبي( )، مع أنَّ معناه يبدو مجازًا واضحًا؛ يشير إلى عدم قبول أيِّ مقابل، لا صَرْفًا ماليًّا للقِيمة، ولا عَدْلًا مِثْليًّا عينيًّا، على سبيل المقايضة. وكثيرًا ما يُعقِّد هؤلاء الأعاجم المسائل الواضحات حتى تستحيل إلى مستغلقات، وكأنها بلغةٍ غير العَرَبيَّة.

ـ لكن ما شأن العَرَب بالصَّرْف بمعناه المالي؟

ـ ما أكثر ما نبالغ في تصوُّر تخلُّف العَرَب قبل الإسلام وعُزلتهم عن شؤون الحضارة! على أنَّ من شواهد النُّحاة، قول الشاعر:

تَنْفِي يداها الحَصَى في كُلِّ هاجرةٍ

نَفْيَ الدَّراهيمِ تنقادُ الصياريفِ

وقال (أَوس بن حَجَر):

وما عَدَلَتْ نَفْسِي بِنَفْسِكَ سَيِّدًا

سَمِعْتُ بِهِ بَيْنَ الدَّرَاهِمِ والأَدَمْ

قيل معناه: بين (العِراق) و(اليَمَن)؛ لأنَّ مبايعاتهم في العِراق بالدَّراهم، وفي اليَمَن بالمقايضة. وقال (أُحَيحَة بن الجُلاح):

فما هِبْرِزِيٌّ مِن دَنانيرِ أَيْلَةٍ

بِأَيْـدِي الوُشاةِ ناصِعٌ يَتَأَكَّلُ

ـ أخرجتنا عن الموضوع قبل أن ندخل فيه!

ـ لا تسأل كي لا نخرج! كنتُ أقول: إنَّ (المتنبِّي) ما ينفكُّ يتلاعب بممدوحيه وشُرَّاح شِعره معًا. ومن ذٰلك ما تقِف عليه في قصيدته يهنِّئ، ظاهرًا، (كافورًا الإخشيدي)، مستهِلًّا بقوله:

إِنَّما التَّهنِئاتُ لِلأَكفاءِ

ولِـمَنْ يَدَّني مِنَ البُعَداءِ

فيصافح كافورًا بهذا المطلع الهجائي، قائلًا: إنه ليس بكُفء للتهنئة أصلًا؛ فإنَّما التهنئات للأكفاء! ومع ذلك، مكثَ بعض الشُّرَّاح هنا ليخرِّجوا هذا البيت، زاعمين أنه إنَّما قصدَ نفسه، وأنَّه ليس بكُفءٍ لكافور ليهنِّئه. على الرغم من قوله: «التَّهنِئاتُ لِلأكفاء»، وليس «من الأكفاء». ثمَّ أعقب هذا بأبياتٍ فيها بعض التمويه. عاودَ بعدها الكرَّة في هجاءٍ صريح:

وبِمِسْكٍ يُكْنَى بِهِ لَيسَ بِالمِسـْ

ـكِ ولَكِنَّـهُ أَريجُ الثَّـناءِ

فكُنية كافور بأبي المِسْك لا جدوى منها، لأنه لا مِسْك له، وإنَّما ثناء الشاعر هو الجدير بأن يكون مِسْكًا لمن لا مِسْك له. مُتْبِعًا ذلك بأبياتٍ تبدو صريحةً في سخريته وتهكُّمه:

تَفضحُ الشَّمسَ كُلَّما ذَرَّتِ الشَّمـ

ــسُ بِشَمْسٍ مُـنـيرَةٍ سَـوداءِ

مَن لِبِيْضِ المُـلوكِ أَن تُـبْدِلَ اللَـو

نَ بِلَـونِ الأُسـتاذِ وَالسَّحـناءِ

يـا رَجـاءَ العُـيونِ في كُـلِّ أَرضٍ

لَـم يَكُن غَيرَ أَن أَراكَ رَجائي!

هكذا كان صنيع (أبي الطَّيِّب). ولا عجب، وإنَّما العجب من صنيع الشُّرَّاح؛ لما يفتعلونه من معانٍ من تلقاء أنفسهم، وإنْ ابتعدت عن منطوق الخِطاب الشِّعري.

ـ أهذا كلُّ ما هنالك؟

ـ لا، بل هناك بعض الضَّلالات الدلاليَّة، البيئيَّة بصفةٍ خاصَّة.

ـ مثل ماذا؟

ـ انظر مثلًا إلى ما كان يورده (ابن المستوفي) من معلومات، كغيره من القدماء، تحتاج إلى تدقيق عِلمي. من هذا ما ورد في شرح بيت (المتنبِّي):

يَتَلَوَّنُ الخِرِّيتُ مِن خَوفِ التَّوَى

فـيـها كَـمـا يَـتَـلَـوَّنُ الحِـرْبـاءُ

قالوا في شروحهم: «الخِرِّيت: الدَّليل. والتَّوَى: الهلاك. والحِرباء: دُويبة تستقبل الشمس فتدور معها حيث دارت، وهو ذكَر أُمِّ حُبَيْن، أكبر من العضاة [كذا! والصواب: العظاية] شيئًا.»(2) هكذا قالوا.

ـ (ابن المستوفي) أم (ابن المستوفى)؟ بالياء أم بالألف المقصورة؟

ـ (ابن المستوفي) بالياء المنقوطة، لا بالألف المقصورة، كما يُكتَب عادةً في الطبعات المِصْريَّة: (ابن المستوفى)، دأبَ المطابع المِصْريَّة التي لا تنقط الياء كسائر العَرَب. وهذا ما جعل الإذاعيَّ المِصْريَّ المعروف بإذاعة الرياض (عبدالملك عبدالرحيم، رحمه الله) في تسجيله الصوتي لـ«ديوان أبي تمَّام» بشرح (الخطيب التبريزي)- على موقع «يوتيوب»، ولعلَّ ذلك التسجيل كان لـ(مكتبة الرياض الناطقة)- يُرَدِّد اسمه على أنه (ابن المستوفَى)!

ـ ولولا شهرة الشاعر والشارح لربما قرأ العنوان أيضًا هكذا: «ديوان أبَى تمَّام بشرح الخطيب التبريزَى»! وهو معذور- قراءةً حرفيَّةً- لأنَّ الياءات مطبوعة أمامه ألفات؛ بهذا الرسم بلا إعجام! لكن عُد بنا إلى ما كنَّا فيه!

ـ ليسمح لنا (ابن المستوفي) ورفقاؤه من شُرَّاح شِعر (المتنبِّي) بالمداخلة، لا مناكفة هاهنا، كما انتقدنا ذلك لدَى بعضهم أحيانًا، ولكن لاستدراكٍ في ما ورد في شرح البيت. ذلك أنَّنا نعرف في بيئاتنا الريفيَّة ما أشار إليه الشاعر في البيت. وقد كان التأمُّل في أحوال البيئة ومخلوقاتها شُغل الأطفال الشاغل قديمًا، يعرفون عنها كما يعرف الأطفال اليوم عن الألعاب الإلكترونيَّة. ولذا يبدو أنَّ وصف الشُّراح فيه ما فيه.

ـ ماذا فيه؟

ـ  أوَّلًا، التصور العامُّ أنَّ الحِرباء- الذي يُعرف عِلميًّا باسم Chamaeleo Calyptratus- يتلوَّن بحسب المحيط الذي يكون فيه؛ فإنْ كان على غُصنٍ أخضر صار لونه أخضر، وإنْ أصبح على جذع شجرة ذي لون بُنِّي، استحال إلى لون بُنِّي، وهكذا، هو تصوُّر من الناحية العلميَّة غير دقيق، فتلوُّنه غير خاضع للون البيئة المحيطة، بل لعوامل فيسيولجيَّة خاصَّة به. وقد أشار المتنبِّي مع التلوُّن إلى «خَوف التَّوَى». وهو ما لم يلحظه الشُّرَّاح. ذلك أنَّ الناس- كما في (جبال فَيْفاء)- يضربون بالحِرباء المثَل في الخوف والتوجُّس؛ لطريقته في الحركة، حين يمدُّ رِجله الأمامية مرارًا قبل أن يُمسِك بغُصن من فروع النَّبت أو الشَّجَر، وهكذا في خطواته التالية. وربما زعموا أنَّه إنَّما يفعل ذلك خوفًا من أن يخسف الله به الأرض، وذلك هو سبب تردُّده وبُطئه في السَّير، إلَّا أنَّنا لم نحفظ عنهم قِصَّة محتملة حول ذلك. والعَرَب تضرب بالحِرباء المَثَل في الرَّجُل الحازم؛ قالوا: لأَنَّ الحِرْبَاء لا تُفارق رجله الغُصْنَ الأوَّلَ حتى تَثْبُتَ على الغُصْن الآخَر، من نحو ما وصفنا أعلاه. وقد وصف (ابن ظَفَر الصِّقِلِّي، ـ565هـ)(3) الحِرْباء- خلال سرده حكاية (عبدالملك بن مروان) مع وزرائه، إذ تمرَّد عليه (عمرو بن سعيد العاص)، في غضون الحملة على (عبدالله بن الزُّبير)- فقال أحد الوزراء: «وددتُ والله أني كنت حِرباء على عودٍ من أعواد تهامة، حتى تنقضي هذه الفِتَن.»  ولا يبدو في تمنِّي القائل: «وددتُ أني كنتُ حِرْباء على عُود...»، إلَّا لما أشرنا إليه من تصوُّرٍ شَعبيِّ أنَّ الحِرباء إنَّما يتوخَّى الحذَر، ولا يُُقْدِم على خطوة حتى يحسب حسابها في أناةٍ وتردُّد! غير أنَّ الصِّقِلِّيَّ بدَوره يشير إلى وصف الحرباء المتوارث، كما وقع في مثل ما وقع فيه شراح بيت أبي الطَّيب، من الزعم أنه يدور مع الشمس. ولعلَّ هذا يتعلَّق بنوع من الحرابي؛ ذلك أننا لا نعرف عن هذه الدُّوَيبة أنها تدور مع الشمس حيث دارت، كما زعموا، وإنَّما هذا معروف في بعض النباتات، كذلك النبات الذي يُسمى (عبَّاد الشمس)، أو (دوَّار الشمس). على أنَّ من أسماء الحِرباء في بعض بيئات (الخليج العَرَبي): محارب الشمس. وقد يكون ما وصفوا ملحوظًا في حرابي الصحراء خاصَّة.

[وللحديث بقية].

***

أ. د. عبد الله بن أحمد الفَيفي

..................................

(1)  يُنظر مثلًا: الزَّبيدي، تاج العروس، (صرف).

(2) (1989)، النِّظام في شرح شِعر المتنبِّي وأبي تمَّام، دراسة وتحقيق: خلف رشيد نعمان، (بغداد: وزارة الثقافة والإعلام)، 1: 399.

(3) (1999)، السُّلوانيَّات: سُلوان المطاع في عدوان الأتباع، تحقيق: أيمن عبدالجبَّار البحيري، (القاهرة: الآفاق العَرَبيَّة)، 29.

ويُلحظ أنَّ المحقِّق ذكر في ترجمة (الصِّقلِّي) أنَّ اسمه «عبدالله بن محمَّد»، (تُنظَر: ص9)، مخالفًا ما ورد على الغلاف، من أنه: «أبو عبدالله محمَّد»!  والصواب أنه: كما جاء في المخطوط، (تُنظَر: ص10): محمَّد بن أبي محمَّد بن ظفر.  وإنَّما قال المؤلِّف: «قال الفقير إلى الله الغني به محمَّد بن أبي محمَّد بن ظفر المَكِّي...»، فسمَّاه المحقِّق: «عبدالله بن محمَّد...»! وهو: «أبو عبدالله محمَّد بن أبي محمَّد عبدالله بن محمَّد بن ظَفَر الصِّقلِّي.» وكذا ذكر محقِّق كتابه أنَّ وفاته «570هـ»، وعلى الغلاف كتب تاريخ الوفاة «568هـ»! والأرجح ما ذكرناها. (وتُنظَر ترجمته في: جمهرة أشعار الصِّقليِّين: تحقيق ودراسة، أسامة اختيار، (بيروت: دار المقتبس، 2016)،  198- 209).

 

دِراسَةٌ نَقديَّةٌ في سَرديَّاتِ الوَجع والمُفارَقةِ القِصصيَّةِ

تَقديـمٌ: لا شكَّ أنَّ اللُّغة التعبيرية للكاتب في جنس التسريد القصصي أو أي جنسٍ أدبي آخر على الرغم من كونها مهمَّةُ جدَّاً في صيانة معمارية النصِّ الأدبي وبلاغته الأُسلوبية من حيث بنية الشكل والمضمون والمُعجم، بيدَ أنَّها لم تكن كافية العمل ما لم تلك اللُّغة الفنيَّة قادرةً على أداء وظائفها البنائية والتركيبية، ومهيمنةً على موحياتها الدلاليَّة والمعنويَّة القريبة والبعيدة بإتقانٍ فريدٍ وعالٍ.

والتي من خلالها يجوس القارئ أو المتلقِّي أرض هذه السردية القصصية ويتمكَّن من جَني ثمار حراثتها وبذارها فكريَّاً ودلاليَّاً؛ ليعيش أجواء ومناخات تلك اللَّحظات الروحية الهاربة التي أنتجها مضمون النصِّ الأدبي على شكل حكاياتٍ وأفكارٍ وقصصٍ سرديةٍ مُتجدِّدةٍ ومتواليةٍ تركت آثارها النفسية المُذهلة وانطباعاتها الكليَّة الراسخة، وأظهرت إسقاطاتها الواقعية المُتراتبة على ذهنية القارئ الواعي، وهيمنت فنيَّاً وجمالياً على مَساقط ظلِّه الفكريَّة المُتعدِّدة، واستحوذت على مِساحاتٍ لونيةٍ واسعةٍ من لَدُنِ اهتماماته الذاتية والفكرية ووعيه بتجلِّيات الخطاب السردي الموجه إليه.

إنَّ هذه الفيوضات الّلُّغوية التي أفرزها جماليات القراءة الصحيحة وآليات التلقِّي المعرفي الحديث هي ما تشي به قصص مدوَّنة (خيانةُ الناَّطورِ) للكاتبِ والباحث والأديب والقاصِّ العراقي المثابر لطيف عبد سالم. والِّذي اتَّخذ من أفياء اللُّغة السرديَّة وظلالها المعرفية أداةً فنيةً طيِّعةً في التمكُّن من أدواته التعبيرية القصصية كمبدعٍ واعدٍ بالجمالِ أحكم قبضه الفنيَّة من خلالها على عناصر القصَّة الأساسية، وأركانها الفنيًّة المهمَّة، والتي تمثَّلت في (الشَّخصيَّات الفواعلية، والحِبكة التي هي سلسلة الأحداث الفعليَّة الثابتة والمُتحركة للصراع، ووحدتا البنية المكانيَّة والزمانيَّة الملتصقتان معاً، وعنصر الصراع، مركز الإثارة الحسيَّة والنفسيَّة الذي يولِّد التشويق القصصي والمتعة النفسيَّة).

أمَّا لُغةُ القَصِّ الحكائي وفاعليةُ الأُسلوب التعبيري اللَّذين هما من أدوات الكاتب الثانويَّة، فضلاً عن مجموعة الرموز والإيحاءات والدلالات والعلامات السِّيميائيَّة، ووجهات نظر الكاتب، وأدوار الشَّخصيَّات الرئيسة، والنهايات القصصيَّة، والتي عادةً ما تكون مُغلقةً أو مفتوحة أو موضوعيةً أو إدهاشيةً فجائيةً صَادمةً لأفقِ توقُّع القارئ بحسب مقال النصِّ ومقامه الثيمي، فإنَّ هذه العناصر جميعها تسهمُ إسهاماً كبيراً وفاعلاً ومكيناً في صُنع وتخليقِ الوحدة الموضوعية لآليات فاعلية الخطاب السردي القصصي.

وهي على الرغم من كونها تُشكلُ عناصرَ وأركاناً ثانويةً في العمل القصصي، بيدَ أنَّها في حقيقة الأمر لها أثرها الفنِّي الكبيرالفاعل في تعضيد البناء القصصي وتوحيد تكامله الفنِّي الصحيح.

العَتبةُ العُنوانيةُ لِلمدوَّنةِ القَصصيَّةِ:

تُمثِّل دالة العنوان في مقاربة حدِّه التعريفي القريب الموجز مفتاحَ مفاتيحِ الدخول (الماستر) إلى بوابة النصِّ الموازي السرديِّة، وتُعدُّ العنونة شاخصها المضيء الأوحد في توجيه بوصلة الدليل أو ومكنوناتها العميقة، وتَقفي آثارها ورموزها البعيدة؛ للكشفِ عن لُقاها الفكريَّة ومكامنها الجوهرية الثمينة. فلا يمكن أن يكون هناك نصٌّ موازٍ قائمٌ بذاته التعبيريَّة من غير أن تكونَ له بالمقابل عتبةٌ عنوانيةٌ قارةٌ تُفصح عن أثر مجاهيله ومرموزاته ومُوحياته الجماليَّة والفنيَّة القريبة منها والبعيدة.

وعلى وفق ما هو مثبتٌ من عتبة المدوَّنة العنوانية الرئيسة (خيانةُ النَاطورِ) يمكن أنْ نقول، لا خيانةٌ يمكنُ أنْ تَحدثَ على أرض فضاء الواقع ما لم يكنْ لها ناطورٌ مسؤولٌ عنها وعن فعلتها الحدثية الشائنة. ولا يصحُّ أبداً ،اْنْ نقولَ ناطوراً ما لم يكن ذلك الناطور مُؤتمناً بحقٍّ عن نطارته، والمحافظة على حقوق رعيته التي أُنيطت له مهمَّة حراسة بوابتها، وإلا فَلنُردِّدَ مُنشدينَ ما أباحَ به أبو تمَّام في توصيفه الرثائي: (كَذَا فَليَجلَّ الخَطبُ وَليَفدحِ الأمرُ فَليسَ لِعينٍ لَمْ يَفضْ مَاؤُها عُذرُ)

وحينَ نُجيل النظرَ مليَّاً في لوحة العنوان الرئيس والعام لمدوَّنة (خيانةُ الناطورِ)، لا بُدَّ وأنْ نستقرئ ونفهم بتدبرٍ واعٍ مضامينه الدلالية ونفكِّكَ شفراته اللُّغوية ومقصدياته المعنوية؛ لنقفَ بتؤدةٍ مُطمئنين عمن هو (الناطورُ) المعيَّن بهذا المعن الدلالي الظاهر والمُضمر الخَفيّ نسقياً وثقافَّياً؟ فلو ذهبنا إلى تجلِّيات المعنى الدلالي القريب لِدالةِ (النَّاطورُ) لاتضحَ لنا أنَّها تعني (الحارسَ) الذي ارتبط فعله الحركي والسكوني الثابت بمهمًّة النطارة اللَّيلية أو الحراسة المكانية التي صارت بعهدته أمنياً. فهوَ أقرب ما يكون شبيهاً بما يُسمَّى في لهجتنا المحليَّة (البَاصوَانِي)أو الحارس اللِّيلي.

في حين أنَّ موحيات المعنى اللُّغوي الدلالي البعيد لمفردة (النَّاطورِ) تعطينا أكثر من معنىً ودلالةٍ توصيفيةٍ دقيقةٍ وجديدةٍ، فالناطور وفقَ ذلك المعنى الآخر البعيد هُوَ العَينُ الحارسة الساهرة التي لا تنامُ، وهو حائط الصدِّ المحافظُ، وهو المسؤول عن حقوق الناس ورعايتها، وهو أيضاً الأمين والمؤتمن، والراعي لحقِّ رعيته، تذكيراً بحديث الرسول الأكرم (ص) القائل: (ألَا كُلكُم رَاعٍ وَكُلكُم مَسؤولٌ عَنْ رَعِيتِهِ). فالرجل راع لأُسرته، والقائد راعٍ لشعبه وأُمَّته، والمعلِّم راعٍ لطُلابه، والأديبُ المبدع راعٍ لأدبه وقرَّائِه، والطبيب راعٍ لمَرضَاه، والأمُّ أسريَّاً راعيةٌ لأبنائها وبناتها.

أمَّا معنى دالة (الخيانةُ)، فهي بالتأكيد الفعل الإنساني السلبي الشائن المَعيب مُطلقاً الذي ترفضه كُلُّ الأعراف والعادات الاجتماعية، ولا تقرُّه سُننُ الدين والشرائع السماويَّة والأرضيَّة المُوحدة. ولا يمكن أن تأتلف دلالة (الخيانةُ) وتتوحدن مع دلالة (الناطور)إنسانياً وفكريَّاً وأخلاقيَّاً وعرفيَّاً أبداً.

فالناطور، إذنْ كلمة لا يمكن أنْ يُختزَلُ معناها اللُّغوي ويختصُّ بمعنى دلالي واحدٍ فقط، أو يقصرها عليه ويُحيِّد عملَها الفعلي تعسفاً. نعم الناطور هو الحارس؛ ولكنَّه حارس من نوعٍ آخر، الحارسُ لأمرٍ مُهمٍّ ما جَللٍّ؛ لذلك يمكن أنْ نعده في مقاربات اللُّغة الحاكم والمسؤول والقائد والإمام والسادن والراهب والحِبرَ. وهو سفينة الصدق والنجاة، ومرفأُ بَرِّ الوصول، وشاطئ الأمن والأمان، وهو ميزان الحقِّ والعدل الذي لا يبخسُ أشياءَه، وهوَ المسؤول عن أشيائه في السراء والضراء، وفي السر والعَلنِ دوماً. فهذا هو المعنى الدلالي البعيد الذي أراده الكاتب (القاصُ) وتوخاه وتقنَعَ به أمام أنظار ومرأى قرَّائه في معماريَّة عنوانه العام لمجموعة (خِيانةُ النَّاطور).

وقد أشار الكاتب إلى تلك التوريات الدلالية، والانزياحات اللُّغوية المتعدَّدة الأصل لمعنى كلمة (الناطورُ) في مستهل توطئته الكتابية الموجزة لهذه التسمية العنوانية القريبة من حياة الناس في مدوُّنته (خيانةُ الناطورِ)، إذ أفصح قائلاً: " ُربَّما يَكونُ بَاعثَاً علَى تَحريكِ الفُضولِ لَدَى المُتلقِّي، ودَافعَاً إلَى السُّؤالِ عَنْ دِلالاتِهِ، فَضلَاً عَمَّنْ هُوَ المَعنِي بِهذَا المَعنَى؟" (خيانةُ الناطورِ، ص7). وختم الكاتب خلاصة ما أراد إيصاله بمجموعته القصصية هذه بالقول: "إذ إنَّ الإخلالَ بِأصولِ أيِّ مَسؤوليَّةٍ ومُخالفةَ قَواعدِها النَّاطقةَ يُعدُّ خِيانةً". (خِيانةُ الناطورِ، ص 9)، وقد تكون خيانة كبرى لا تُغتفرُ.

وعلى وفق تلك التعدُّدية المعنوية فإنَّ العتبة العنوانيةالرئيسة (خيانةُ الناطورِ)قد أدَّت جميع وظائفها العملية الأربع بإقناعٍ وتمكُنٍ. تلك الوظائف التي أكَّدها الناقد الفرنسي جيرار جينيت في كتاب عتباته العنوانية المتعدِّدة (مِنَ النّصِّ إلى المَناصِّ)،لأيِّ منتوجٍ، شعرياً أكان جنسه أمْ سرديَّاً نثرياً؟ ولابدَّ من الإشارة إلى أنَّ (خيانة الناطور) عتبةٌ لقصَّةٍ فرعيَّةٍ اُخيترتْ لتكونَ عنواناً عامَّاً للمُدونة. ويَحصل هذا الاختيارُ كثيراً من باب إطلاق الجزءِ على الكُلِّ لاعتباراتٍ فنيٍّة وجَماليَّةٍ وموضوعيةٍ.

أمَّا العنوانات الفرعية أو الثانوية لعتبات النصِّ الموازي لمدوَّنة (خيانةُ النّاطورِ)، فقد انمازت بلاغتها اللُّغوية بقصرها وجمال اقتصادها اللغوي المكثَّف تركيباً ودلالةً. وقد تناصفت من حيثُ عددها الكمي مع بعضها في بنائها التركيبي النحوي وتوازنت في توصيفها الأُسلوبي بين العنوانات الموضوعية المُباشرة، والَّتي مثَّلتها القصصُ الست: (مواءمةٌ، والمجهولُ، واستلابٌ، والمواجهةٌ، وصرخةٌ، والمَأزقُ)، ونظيراتها العنوانات الفنيَّة الأخرى التي تمثَّلت بالقصص الست: (وأدُ حُلمٍ، وخيانةُ النَاطورِ، وقلبٌ استوطنهُ الأملُ، وضَياعُ الذَاتِ، ونُتوءٌ فِي شَغافِ القلبِ، وجُرحٌ نازفٌ).

أمَّا عتبات نصِّ هذا الكتاب الأخرى فيقف في مقدمتها الإهداء الذي تصدَّرَ مُستهل مدوَّنته لهذا المجموعة القصصيَّة، وقد حرصَ الكاتب لطيف عبد سالم على أنْ يكون إهداؤه الشخصي جَمعياً عامَّاً لا ذاتياً ضيِّقاً فَصدَّره ُإلى أبناء الجامعة الإنسانية التي تُمثل الإنسان المُكابد الآخر من سَواد الناس المكافحينَ إذ قال: "إلَى النُّفوسِ الَّتي تَتوَارى بِأوجاعِها خَلفَ رُكامِ الأيَامِ". (خِيانةُ النَّاطورِ، ص 5).

تعدُّ مجموعة (خيانة الناطور) من المجاميع القصصيَّة القليلة النظائر من التي احتوت على عتبة توطئة تقديمية تُمهِّد الدخول إلى توضيح إشكاليات العنوان العامِ وتَحسمُ تداعياته الدلاليَّة الكثيرة، وتقف على تعدُّدِ آفاق مرجعياته الموضوعية، وأنساقه الثقافية العامَّة والخاصَّة والظاهرة الجليَّة والمُضمرَة الخفيَّة التي كشفت جوانبه الفنيَّة والجماليَّة. مُؤكِّداً في الوقت ذاته على قِول أبي الطيِّب المُتنبِّي في توصيفِ نواطيرَ مِصرَ التي تراوحت معانيها بين حراسِها (النَواطيرِ) وثعالبِها من اللُّصوص وبينَ سادتها وأشرافها: (نَامتْ نَواطيرُ مِصرَ عَنْ ثِعالبِهَا فَقدْ بَشمَنَ وَمَا تَفنَى العَناقيدُ).

تَأثيثُ المُدوَّنةِ القِصصيَّةِ موضوعيَّاً:

القارئ النابه الذي يتتبع بعين نقدية واعية متئدةٍ الهندسةَ المعماريَّةَ والفكريَّةَ لخريطة تأثيث

مدوَّنة (خيانةُ الناطورِ) القصصية، الصادرة بطبعتها الأولى عام 2020م عن مكتبة فضاءات للفنِّ والطباعة والنشر ببغداد، سيلفتُ نظره الفكري أنَّ هذه المجموعة على الرُّغم من صغر حجمها الكمي العددي البالغ اثنتي عشرة قصةً أو نصَّاً سرديَّاً، وبِمساحةٍ وَقيةٍ تَجاوزت الثمانين صفحةً ومن القطع الكتابي فوق المتوسط، فإنها انمازت بسعة كيفها النوعي والموضوعي والدلالي المكين الذي يمنحها درجة التميُّز والتفرُّد القرائي المحبَّب لدى القارئ العادي والقارئ الناقد الحاذق على الرغم من كونها المجموعة القصصية الأولى في سلسلة تعدُّد كتابات الكاتب لطيف سالم المتنوِّعة.

وقد تراوحت مِساحات هذه المجموعة القصصية النَّفسِيَّةِ بين القصص القصيرة والمتوسِّطة والطويلة نوعاً ما، والتي لا يشعر معها القارئ بأيِّ ضَجرٍ أو إملالٍ في قراءتها؛ كونها كٌتُبَتْ بلغةٍ تحشيدٍ سردية مكثفةٍ أنيقةٍ وماتعةٍ، واقتصاد لغويٍّ موجز واعٍ، وبمهارةٍ فنيةٍ احترافيةٍ سَلِسةِ الحَبكِ والسَّبكِ اللُّغوي والدلالي المعنوي بعيداً عن كلِّ أشكال التعقيد اللفظي والغموض المعنوي والإطالة والإطناب،ولا أثر للترهُّل فيها ذلك الذي لا يُحفزُّ القارئ إلَّا على التواصل معها دون الفكاك عنها.

لقد استنَدَ الكاتب والقاصُّ لطيف عبد سالم في تأثيث وبناء مدوَّنته القصصيَّة إلى مجموعةٍ ثرَّةٍ من الأنساق والمراجع الثَّقافيَّة، والموضوعات الفكريَّة اللَّافتة للذهنِ، والِّتي اختارها بعنايةٍ فائقةٍ واهتمامٍ كبيرٍ من تَمظهرات صراع الواقع الحياتي المجتمعي المَديني والرِّيفِي المَعيش لِهُويَّةِ الذات الفردية وعلاقتها الازدواجية الإنسانيَّة المُتوحدنة جِدَاً معَ الذات الأخرى الفرديَّة الجمعية المشتركة.

ومن أمثلة ذلك الصراع قصة (ضياعُ الذاتِ)التي يتحدَّث فيها عن بطلها القادم من أعماق الريف بحثاً عن فرصة عملٍ تُعوُّضهُ عن شعوره الذاتي بالضياع "فِي فَجرِ مُعتَم مُلَبَّدٍ بِالغُيومِ خَرجَ كَعادتِهِ بَاحثَاً عَنْ رِزقهِ. فَرَشَ إزارَ حَظهِ عَلَى رَصيفِ (مَسطَرِ العَمَّالةِ)،جَلسَ طَويلَاً،أَخذَ مِنهُ البَردُ مَأخذَاً، شَارَكَ بَعضَ العُمَّالِ فِي إشعالِ النَّارِ بَحثَاً عَنِ الشُّعُورِ بِالدفءِ، ظَلَّ يَترقَّبُ مِنْ دُونَ جَدوَى، أرهقَهُ الاِنتظارُ بَعدَ أنْ يَأسَ مِنَ الحُصولِ عَلَى فُرصةِ عَملٍ فِي ذَلكَ اليَومِ، أحسَّ بِحاجةٍ مَاسَّةٍ لِلراحةِ، فَلمْ يَجدْ مَكانَاً لِيستريحَ بِهِ أفضلَ مِنَ مُقهَى (العُمَّال) المُطلَّةِ عَلَى المَسْطَرِ". (خِيانةُ النَّاطور، ص 47).

وقد هَيمنتْ تجلِّيات صراع ثنائية المقدَّس والمدنَّس الواقعية السرديَّة بظلالها السحرية والجديدة على تشكَّلات بنية هذه المجموعة القصصية، وعلى إيقاع حمولاتها الفكرية ومخرجاتها الحدثية والموضوعية الفاعلة. والتي كانت تمثِّل مناطق إشعاعٍ بارزةٍ وفناراتٍ ضوئيةً لافتةً في الإبداع والابتداع الفنِّي لا يمكن تجاوزها في خانة الميتا سرد الحداثوي العراقي المُعصرن نوعاً وكمَّاً.

واعتمد القاص لطيف سالم كثيراً في مُعجمه السَّردي والقصصي على إشكاليات وأزمات الواقع العراقي الحداثوي على وجه الخصوص، وعلى وقع تداعياته الحياتية الساخنة. فكانت مواجعه وخيباته وانكساراته ونكوصاته التخاذلية المتكرِّرة تمثِّلُ بحقٍّ مظاهر ديستوبيا فوضى هذا الواقع الشرير والمدنَّس الحياتي لِهُويةُ الآخر في خطِّ علاقته الجدليَّة والإشكالية المباشرة وفي تشاكله التضادي والحدِّي مع يوتوبيا مدينة المقدَّس الإنساني الذي ينشد صفاتِ المحبَّة والفضيلة، ويسعى إلى الوئام في ظلٍّ مجتمع فاضلٍ يسوده السلام والأمان؛ لذلك كان النهج الواقعي نواة بيت حكايات المدونة السردية (خيانة الناطورٍ) التي منحها الكاتب جُلَّ اهتماماته ووضعها نَصبَ عينهِ السَّرديَّة:

"الحَربُ سَلبتنِي اِبنِي فِي مُقتَبِل عُمرِهِ، وَاليومَ أظنُّ أنَّ خُيُولَ المَوتِ تَزحفُ صَوبَ مَنْ سَلَبَتْ قُلوبَ العَائلةِ، وَأسَرتْ أرواحَهُم بِضحكاتِهَا وَبَراءةِ حَركَاتِهَا، وَقَلبِي لَمْ يُسعَدْ بِهَا بَعدَ. وَلَمْ يَقطعْ عَليهِ صَمتِهِ وَهوَ يَحتضنُهَا سِوَى صَوتِ كَابحِ السَّيَّارةِ، وَإِشعارِ صَاحبِهَا إيَّاهُ بُوصولِ المُستشفَى". (خِيانةُ الناطورِ، ص62، 63). هذا الفقدُ الحزين الظالم هو ما كشفت عنه قصَّة (نُتوءٌ فِي شِغافِ القَلبِ).

لم تكن أفكار الواقع وحكايات صراعه المتجدِّدة هي المُهيمن الثيمي الصوري الأوحد الذي فرض سطوته السرديَّة وفاعليته السحرية الحكائية على وحدات مجموعة (خيانةُ الناطورِ) الفكرية والموضوعية فحسب، وإنَّما كانت لتمظهرات التراث أو الموروث الشعبي العراقي والتاريخي الحديث الحصَّةُ الأهمُّ والأسمى في إنتاج هذه المدوَّنة. ومن نماذج التراث الشعبي العراقي الجيِّدة التي تصوُّر مشاهد الصراع القائم بين الإقطاع الجائر والفلَّاح المسالم قصة (استلابُ) الحقوق منه:

"لَمْ يَجدْ بُداً مِنْ اللُّجوءِ إلَى التَّوسُّلِ وَهوَ يُقسِمُ بِأغلظِ الأَيمَانِ بَينَ يَديهِ، أنَّهُ لَا يَقصدُ أيَّ شَيءٍ فِيهِ مَساسٌ بِمنزلَةِ الشَّيخِ أو سُركَالِهِ، إلَّا أنَّ مَا تَوَالَى مِنْ مَحاولاتهِ قَصَدَ اِستعطافَ السُّركالِ لَمْ تُجدِ نَفعَاً أمامَ قَسوتِهِ الَتيِ تُميِّزهُ عَنْ غَيرهِ، حَيثُ أعمَتْ نَشوةُ السُّلطةِ والشَّهوةِ فِي إذلالِ الرِّجالِ بَصيرتِه، لَمْ يَتوانَ عَنْ مُمارسةِ مَا عُرِفَ بِهِ مٍنْ عُنجهيةٍ، فَشرَعَ بإهانتهِ وَشتَمِهِ عَلَى مَرأى وَمَسمعٍ مِنْ جِيرانِهِ الَّذينَ أثارَهُم الفُضولُ وَدَفعَهُم لِلتَوافدِ، إلّى جَانبِ زَوجتِه الَّتي لَمْ تَبَسْ بِبِنتِ شَفةٍ، ثُمَّ أمَرَهُ بصوتٍ عَالٍ قَائِلَاً: - تَحرَّكْ أمَامِي.. تَحرَّكْ أمِامِي..-يَا كَلبُ..". (خِيانةُ النَاطورِ، ص 24، 25).

وقد أبدع الكاتب والقاص لطيف عبد سالم في تخليق وإنتاج لوحات التمثيل القصصي الحكائي والدرامي لشخصيات التراث العراقي الشعبي وإظهار رموزه الحاكمة والمحكومة بمختلف أشكاله ومسمياته الزمانية والمكانية وخاصةً في زمن حكم شيوخ سلطة الاستلاب القبلي الإقطاعي وسطوته القبلية الجائرة على الذات الإنسانية الفلاحية التي تمثل السواد الأعظم من عامَّة الناس.

وقد رسم الكاتب في خبايا مدوَّنته (خيانةُ الناطورٍ) -وفي تلافيف قصَّته بالذات (وأدُ حلمٍ) - رسم بحيادية واتقانٍ موضوعي صوراً وحشيةً حزينةً ومؤلمةً جدَّاً وعديدةً عن دكتاتورية وظلم واستبداد وتجاوزات ذلك الواقع الزمكاني الجائر والمهيمن للذات الإنسانية. وقد أسهمت مفاهيم ومصطلحات ذلك الواقع مثل، (السّركالُ والمَحفُوظُ والحَاشيَّة) كرموز وأصوات ناشزة وطاغية في تجسيد أدوار الشخصيَّات الرئيسة والثانوية وإظهارها بالصورة الإيموجية المرئية والحركية الدراميَّة البشعة التي تناسبها في تمثيل واتقانِ فاعلية واقعة الحدث الحكائية السردية التي جاء فصالها على قياسها:

"ذَاكرتُهُ الحُبلَى بِنشيجِ الأيامِ تَسرَحُ بِفضاءٍ فَسيحٍ، فِي غَمرةِ تَواردِ خَواطرهِ المَشحونةٍ بِصورِ ظُلمِ الإقطاعِ وَجَورِ جَحيمهِ، أغمضَ عَينيهِ طَمَعَاً فِي إغفاءَةٍ قَصيرةٍ، َاستَسلَمَ لِلنومِ سَريعَاً، اِلتبسَ عَليهِ الحُلُمُ بِغيرهِ بَعدَ أنْ أيقظتهُ رَفَسَةٌ مَسمومةٌ تَزَامَنَ فِعلُ وقُوعِهَا عَلَى خَاصرتِهِ مَعَ نَشازِ أصواتِ ثُلَّةٍ مِنَ الرِّجالِ: أيُّهذَا الشَّقيُّ..المَحَفُوظُ أَمَرَ بِجلائِكَ بَعيدَاً عَنِ القَريةِ!" (خِيانةُ النَاطورِ، ص 15).

لقد كان القاصُّ لطيف أميناً في نقل الأحداث الواقعية والغرائبية والمخيالية بقداستها ودناستها إلى القارئ، وجعله يتعاطف مع وقع تلك الأحداث ويتصوَّرها شكليَّاً وذهنياً، خاصةً وأنها تمثِّل مرحلةً مهمَّةً من مراحل تاريخ العراق السياسي والاجتماعي الحديث، وأحداثه الخفية التي تتستَّر الآيدلوجيا عليها بقناعها الدفين الذي لا يمكن فكُّ شفراته بسهولةٍ؛ الأمر الذي دفعه للوقوف عندها مليَّاً. فَفي ذات السياق يوثِّق القاصُّ للحياة الأُسريَّة في قصَّة (صرخةٌ) وصراع الزوجة الطاهرة النقية مع زوجها بمحاربة أشكال الرذيلة التي يمتهنا ويمارسها سلوكاً عدائياً دنيئاً بحقِّها الوجودي:

"اِستبعادَهُ مَحاولةَ لُجوءِ زَوجتهِ لِاعتمادِ خَيارَ التَّمرُّدِ، شَجعَهُ عَلَى المُضِي فِي غَيهِ، فَلَمْ يَكنْ فِي تَفكيرهِ مَا يُوحِي بِغيرِ مَا اِعتَادَ عَليهِ فِي كُلِّ يَومٍ، لَكنْ ألَمَ جُرحِهَا الغَائرِ فِي أيامِهَا، جَعلَهَا تُلَمْلِمُ بَقايَا إنسانِيتِهَا الضَائعةِ وَتَستعِدُّ لِدفعِ ثَمنِ دُخولِ مَعتَرَكِ رَفضِ خَيبتِهَا، فَلمْ تُعطِهِ ذَاتَ فَجرٍ فُرصةَ التَّلَذُذِ بِأذلالِهَا، إذْ اِعترتْهَا رَعشَةُ غَضَبٍ عِندَ عَودتِهِ إلَى مَنزلِهِ، سُرعانَ مَا أدخلتهَا فِي مُواجَهَةٍ مَعَ مَنْ طَحَنَ إنسانيتَهَا بِرَحَى غُرورِهِ". (خِيانةُ النَاطورِ، ص 56).

من هنا تُشكِّلُ مُهيمنات الواقع الحياتي ، وتجلِّيات الموروث الشعبي التراثي والثقافي المعرفي والإنطلوجي والسوسيو ثقافي للمجتمع العراقي نقطةَ الصراع المفصليَّة وبؤرة الأحداث الإشكالية الدائرة بين جدلية (المُقدَّسِ والمدَّنسِ)،والحياة والموت، والخير والشرِّ، والوجود واللَّاوجود أو العدم (أكون أو لا أكون) أشبهُ بما يجسده المشهد الهاملتي الكبير لشكسبير في رواية مسرحيته الشهيرة.

أكون مؤتمناً وراعياً مسؤولاً أو خائناً خذولاً غيرَ مسؤولٍ، فلَا أكون إلَّا عوناً ونصيراً للرَّعية لا مغتصباً لحقوق إنسانها، ولا أكون إلَّا أهلاً للعهد والوفاء، وليس نصيراً للذُّل والاستبداد والخيانة التي لا تغيب عنه الشمس ولا تُحجب بغربالِ الزمن القميء. وتأتي قصة (خيانةُ الناطورِ) التي اُختيرت إن تكونَ عنواناً عامَّاً للمجموعة القصصية في مقدَّمة هذا المقدَّس العلمي الذي تعرَّض لخيانة الانتهاك الدنيء في سرقة جهد باحثٍ أكاديمي رفيع من قبل سطوة الآخر الجاهل المسؤول:

"مَا الخَطبُ يَا صَديقِي؟ قاَلَهَا وَهَبَّ مُسرِعَا إلَّى صَديقهِ الَّذي لَمْ يُكلِّفُ نَفسَهُ الكَلامَ، إذْ سَلَّمَهُ رِسالةَ مَاجستيرٍ، وَهوَ يُشيرُ بِطرفِ إصبِعِهِ إلَى عُنوَانهِ، فُوجِئَ مِثلَ صَاحبِهِ بِالعنوانِ الَّذي كَلَّفَهُ اِختيارَهُ لِدراستِهِ قَبلِ سَنواتٍ أياماً ولياليَ طَويلةً، هَولَ الصَدمَةِ وَعُنفِهَا لَمْ يَفقدُهُ الشُّعورَ بِضرورةِ التَّيقنِ أكثرَ، بَدَأَ يَتَصَفَّحَ الكِتَابَ المَطبوعَ بِشكلٍ أنيقٍ، لَمِ يَجدْ شيئا قَدْ تَغيَّرَ مِنْ دِراستِهِ غَيرَ اِستبدالِ اِسمِ المَسؤولِ بِالباحثِ!". (خِيانةُ النَّاطورِ، ص 41، 42).

أُسلوبيةُ الكَاتبِ القَصصيَّةِ:

بوجهات نظرهِ التعدُّدية المتواضعة وبأسلوبيته الفنيَّة استنطق لطيف عبد سالم أصوت شخصياته ورموزه القصصيَّة الفاعلة على أرض الواقع وتمثيلها دراميَّاً، واستحضر بتلقائيةٍ عفويةٍ مُحنكةٍ ديمومةَ الصراع لفكري الإنساني الوجودي المجتمعي القائم بينها من خلال تَنامي سير فِعليَّاته الحدثية المرتبطة بالوحدات الزمانية والمكانية. واهتم بالتأكيد على تلاحم نسيج الوحدة الموضوعية للخطاب النصِّي وديمومتها الترابطية مع الوحدة العضوية الكبرى للخطاب السردي العام،والإمساك بتلابيب أذيالها في ترجمة الخطاب دون المساس بوحدة عناصره الأساسية أو الخروج عنها فنيَّاً.

وقد عمد الكاتب في أسلوبية فنِّه التعبيريَّة إلى أنْ تكون جميع نصوصه السردية الاثني عشر نصَّاً واقعيةً صرفةً تستمدُّ نسغها الروحي الجوهري، وتنفسَها الرِئَوِي النقيِّ، وتشكُّلَها الحكائي الفنِّي المتنامي من أرضية ومحيط الواقع الحالي، ومن تفاصيل الحياة اليومية المعيشية للإنسان، ومن مرجعيات التراث الحداثوي ومصادر ثقافته النوعية المؤثِّرة، ومن خزائن الموروث الشعبي العراقي التأصيلي الضارب في العمق الريفي والمديني أطناباً من عقود الزمن والتاريخ.

فتنوَّعت أفكار موضوعاته الكتابية التي خصَّ بها الإنسان الذي هو المعادل للحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والفكرية والثقافية. تلك التعدُّديَّة التي تمثَّل مناطق التبئير المُكثَّف في الوطن العراقي الكبير بمختلف اتجاهاته وطوائفه ومسمياته المذهبية والإثنية والوجودية. ولنقرأ في هذا الخصوص مشهداً ختامياً من قصة (المواجهةُ) التي يشعر فيها البطل في ظل التقاليد وثقل العادات والموروثات الاجتماعية بهزيمته النكراء وَوَهَنهِ وتخاذله الشخصي عن مواجهة قاتل أبيه عمداً:

"ذَاتَ يَومٍ أَسَرَّهُ أحدُهُم عَنْ بَعضِ جَوانبِ فَجيعتهِ قَائلَاً: - كُلُّ تَرْكَةِ وَالدِكَ هُوَ الصِّريفةُ الَّتي تَسكنها، أبوكَ شَيَّدَهَا بِالتَّرجِي وَالاستعطَافِ، وَلَا تَملُكُ مِنهَا سِوَى الطِّينِ. لَمْ يَكترِثْ لِمَا طَرَقَ سَمعَهُ وَلَمْ يَحدْ عَمَّا عَزَمَ عَليهِ، حَدَّثَ نَفسَهً قِائِلَاً: - قَدْ يِكونُ مُخادِعَاً كَمَا قَالتْ وَالدتِي[...] إذْ شَعرَ بِهزيمتِهِ وَهوَ يَتجرَّعُ رياحَ الخَيبةِ، حِينَ أقرَّ بِوهَنهِ أمامَ سَطوةِ قَاتلِ أبيهِ عَمدَاً، فَالنكدُ الَّذي أحرَقَ رُوحَهُ فِي المَاضِي، سَوفَ يُحرقُهَا بِلَا رَيبٍ فِي المُستقبلِ!". (خيانةُ الناطورِ، ص32، 33).

لقد كتب لطيف عبد سالم تسريداته القصصيَّة عن شخوصه ورموزه الصوتية بلغة الحضور أو الغياب للمواءمة بين الذات الأنويَّة والآخر، وللأحلام الموءودة والشعور بالاغتراب النفسي، ووثَّقَ للمصير الإنساني المجهول، ولثقافة استلاب الحاكم الجائر في بخس حقوق الناس. ورسمَ في الوقت نفسه لوحاتٍ قصصيةً رائعةَ الجمال ومدهشةً! للمواجهة بين طرفي الصراع المُختلفينِ، وشخَّصَ أنساقَ خيانةِ الناطورِ المؤتمن على حياة الناس من خلال سوداوية هذا الصراع الدامي بالوجع .

واتشحت بعض قصصه بالأمل الذي يستوطن القلوب المتألمة، وعن ضياعِ الذَّاتِ الإنسانية المُحطَّمة، وسماع صدى صرختها المدويَّة، وكَتبَ عن النتوءات العارضة التي تَصيب شِغاف القلب المَكلومةِ، وختمَ سرديَّاته الحكائية بما يَتعرَّض له الإنسان من مأزقٍ وظلمٍ لا فكاكَ عنه، وجروحٍ نازفةٍ لا بُدَّ منها كونه إنساناً مجتمعيَّاً تَحيق بمحيط تجربته الحياتية ما دام يعيش حيَّاً على أرض وبساط الواقع.

تقنيةُ الخَواتيمِ والبداياتِ القصصيَّةِ:

أمَّا بخصوص فنية التعبير الأسلوبية للبدايات والنهايات، كيف ابتدأت قصص الكاتب؟ وكيف انتهت في مجوعته (خيانةُ الناطورِ). فقد انتهى القاص لطيف عبد سالم في مركز اشتغالاته إلى أن تكون المقاربة التوافقية إحدى وسائله الأسلوبية للموازنة بين بداياته ونهاياته القصصيَّة تارةَ، وتارةً أخرى تكون أسلوبية الانزياح وانحرافاته البلاغية الجديدة سبيلاًموحِّداً لحسن تخلُّصاته الموضوعية النهائيَّة، وتارةً ثالثةً لا سبيل لخواتيمه السردية إلَّا المفارقة الإدهاشيَّة والفجائيَّة الصادمة التوقُّع.

لقد ارتأى الكاتب لطيف عبد سالم فكريَّاً أنْ تكون جميع مطالع مُقدِّماته أو مستهلات حكاياته القصصية مقدِّماتٍ افتتاحيةً خبريةً توصيفيةً لا إنشائيةً عن شخصياته الرئيسة، وحرص أنْ تكون مفاتيحُ تقديمِ لُغتها الطلليَّة لغةً زمانيةً ماتعةً وشائقةً مُحبَّبةً تستهوي قراءتُها المُتلقِّي وتجذبه نفسياً إلى الانجرار مع وقع حكايتها الموضوعية وجماليات موحيات توصيفها الرمزي المُتراتب نسقيَّاً. ولنقف متأملين كيف بدأ القاص لطيف مقدمة قصته التراثية (استلابٌ)؟وكيفَ يُخبرُ عن حركة بطلها زمانياً ومكانياً. "لَا يَعودُ إلَى مَنزلهِ إلَّا مَعَ غُروبِ الشَّمسِ، وَقَدْ غَدَا مِنْ فَرطِ تَعبِ النَّهارِ مَنهوكَ القِوَى، فَاعتَادَ أنْ يَنامَ مُبكِّرَاً فِي أغلبِ الأيامِ، وَيَستيقظَ مَعَ غَبشةِ الفَجرِ". (خِيانةُ النَّاطورِ، ص23).

وفي الوقت ذاته عكف القاصُّ جديَّاً على أن تكون هندسة نهاياته أو خواتيمه القصصية نهاياتٍ متنوعةً التخلُّص ومتعدِّدة الأفكار والرؤى ، وليست على شاكلةٍ أسلوبيةٍ نمطيةٍ واحدةٍ مملةٍ تأتي رتيبةً. وتأتي (النهايات الموضوعية)أولى خواتيم هذا التنوُّع وتمثِّله قصص خمس وهي: (المَجهولُ، والمُواجهةُ، وضَياعُ الذَّاتِ، وصَرخةٌ، وجُرحٌ نَازفٌ). التي تخبر نهايتها الموضوعية بحركة بطلها الرئيس، "ِانطلَقَ هَائِمَاً عَلَى وَجهِهِ وَهوَ يَحمِلُ جُرحَاً غَائِراً دَامياً مُؤلمَاً، أًبلغُ أثرَاً وَأعمقُ ألمَاً فيِ النَّفسِ مِمَّا تَركتهُ مَشارِطُ الأطبَاءِ مِنْ نُدُوبٍ فِي جِسمِهِ النَّحيلِ". (خِيانةُ النَاطورِ، ص 76).:

في حين يأتي النوع الثاني ما يُسمَّى نهاياتِ المُفارقةِ القَصديَّةِ الصَادمةِ بإثارتها، ويمثِّلُها أربع قصص هي: (مواءمةٌ، واستلابٌ، وخِيانةٌ الناطورٍ، وًنُتوءُ في شَغافِ القَلبِ). فلنقرأ ما تعرَّضَ له الباحث العلمي من إجحافٍ بحقِّ ملكيته العلمية التي اُغتصبتْ منه."بَدأَ بِتصفُحِ الكِتابِ المَطبوعِ بِشكلٍ أنيقٍ، لَمْ يًجدْ شًيئاً قَدْ تَغيَّرَ مِنَ دِراستِهِ غَيرَ اِستبدالِ اِسمِ المَسؤولِ بِالباحثِ". (خيانةُ الناطورِ، ص 42). أما في قصة (مواءمةٌ)، فلنستمع إلى ما قاله بطلها الأمّيُّ من مفارقة في خاتمتها المثيرة الأثر. "قَالتْ لَهُ والذُعرُ بَائنٌ فِي نَظراتِها: - كَيفَ تَكتُبُ رِسالةً، وأنتَ لَا تَقرأُ وَتَكتُبُ؟ أشارَ بِيدهِ قَائِلَا: -وَمَا الضَيرُ فِي ذَلكَ ؟ماَدامَ هُوَ أيضَاً لَا يُجيدُ الِقراءةَ والكِتاَبةُ!". (خِيانةُ النَّاطورِ، ص 12) .

ويأتي النوع الثالث وهو النهايات الفجائية المُدهشة، ويمثِّله القِصتانِ، (وأدُ حُلمٍ، والمَأزقُ)، "حَمَلَ القُرويُّ العَجوزَ عَلَى ظَهرِهِ وَسَارَ بِهَا صُحبةَ شُرطيٍّ فِي شَارعِ مَركزِ النَاحيةِ الرَّئيسِ الَّذي يَنتهِي عِندَ السُّوقِ المَسقوفِ، كَانَ فِي قَرارَةِ نَفسِهِ يَأملُ أنْ يَرَاهَا أحدٌ مِنْ عَائلتِهَا أو مِنْ مَعارِفهَا وَيُخَلِّصُهُ مِنْ عَناءِ حَملِها. طُوالَ الطَّريقِ، كُلَّما شَاهدَ القُرويُّ شَاخصَاً أمامَهُ، أوْ بِمُحاذاتهِ، أوْ قَريبَاً مِنهُ، صَرخَ بِه: -اِفتحِ الطَّريقَ ، تَنحَّى جَانبَاً، وَإلَّا سَتصبَحُ اِبنَهَا!". (خِيانةُ النَاطورِ، ص 70).

أمَّا النوع الرابع والأخير فهو ما يُسمَّى بالنهايات أو الخواتيم المفتوحة، ويمثِّلهُ تطبيقياً وإجرائيَّاً قصَّة (قَلبٌ استوطنهُ الأملُ)، وتشترك معها في هذا السياق قصَّة (ضَياعُ الذاتِ) التي ورد ذكرها مع قصص النهايات الموضوعية لخيانة الناطور."نَعَمٌ يَا بُنَيَ قَبلَ أنْ التحِفَ الثَرَى أحلمُ بِوطَنٍ أجملَ! استحوذَ الذِّهولُ عَلَى الفَتَى، تَسمَّرَ فِي مَكانهِ، بَاتَ يَشعرُ بِالألم فِي رَأسِهِ وَهوَ يَنظرُ مَبهوتَاً إلَى العَربَة المُتهالكَةِ، وَهيَ تَبتَعدُ عَنْ الزُقاقِ رُويداً رُويداً نَحوَ فَضاءٍ مَجهُولٍ". (خيانةُ النَاطورِ، ص345) .

فهذه التعدُّدية والتنوَّع النهائي في اختيار خواتيم القصص والحكايات دليل على وعي الكاتب وتمكُّنه من أدواته القصصيّة في اختيار وتوظيف النهايات التي تُناسب الشخصية الفواعلية التي قامت بتمثِّل الحدث السردي تمثيلاً حقيقيَّاً.فضلاً عن أنَّ التعددية تمنح النصَّ السردي قبولاً معرفياً وثقافياً إنسانياً مُحبَّباً في كسر أفق جدار الواقع الحياتي المألوف وتحطيم رِتِمِهِ الإيقاعي الثابت. وكما في هذا السياق،"أغلقت البَابَ، اِحتضنَتْ اِبنَهَا، اِمتدَّ بَصرَهَا إلَى الأفُق حيث شروق الشمس، ضحكت بكل جوارحها وهي تشعر بنسائم الصباح لأول مرة في حياتها. (خِيانةُ النَّاطورِ، ص 57).

بِنيةُ المَكانِ القِصصيَّةُ:

يعدُّ المكان وبنيته التعدديَّة من أكثر عناصر السرد القصصيَّة الأساسيَّة التصاقاً بالحدث واهتماماً به، وارتباطاً بحركة الفواعل (الشخصيات) وتنقلاتها السريعة. فالمكان يُجِّد بنية الحدث الفعلية ويمنحها صفة التَفرُّد والاستقلاليَّة وخاصَّية التغيُّر. وفي الوقت نفسه يُحدِّدُ المكان هُوية الشخصيات الفاعلة، ويؤكِّد صلة انتمائها الوجودي في العمل الأدبي أمام أنظار قارئه ومتلقيه الواعي.

لذلك فإنَّ المكان المُحدَّد بزمن معيَّنٍ ما، يكشف عن خبايا العمل السردي وعمق تلافيفه النسقية الظاهرة والمضمرة، ويُلقي بالضوء على أهمِّ مناطقه الجوهرية التي من خلالها يستمتع القارئ بمثاباته ويتواصل مع أحداثه إلى آخر منطقة من مناطقه الحدثية المتساوقة. فلا حدث يحدث من غير مكان يؤصِّله،ولا شخصيَّات يظهر تواصلها إلَّا مع البنية المكانية التي توثق معالمه التاريخية.

وتأتي أهمية المكان الزمكانية من أهمية الحدث، فلا يمكن أنْ نصف مكاناً بالأهمية والسمو ما لم يكن الصراع الحدثي كبيراً وأصيلاً ومضيئاً. لذلكَ فإنَّ المكان عند الكاتب لطيف عبد سالم يأخذ مكانته الدلالية الاعتبارية والفنيَّة الواسعة في وقع مصفوفاته القصصية لمجموعة (خيانة الناطور).

وقد يكون المكان عنده فضاءً فكريَّاً ذهنيَّاً ومعنويَّاً ليس له حيز أو فراغ أو حدود تحدَّه في فضاء النصِّ السردي. وهو المنظور القليل الذي يشغل تفكير شخصياته في مِساحة هذه المدونة ويَهبُها صفة التواصل الحواري والحكائي مع المتلقِّي. وهذا ما سيكشفه وعي القاري النابه الحاذق أو ألمعية (الناقد) في اشتغالات اشتباكه وتصدِّيه لبنية العمل القصصي السردي المكين. وأنَّ النماذج القصصية التي يمكن أنْ تكون المثال الأوفى الجيّد للبنية المكانية المعنوية الذهنية تكمن في القصص الثلاث الأتية: (قَلبٌ استوطنهٌ الأملُ)، و (نَتوءٌ في شِغافِ القَلبِ)، و (جَرحٌ نَازفٌ):

"اِختلطَ الألمُ بِالأملِ، فَاعتدنَا عَلَى الحُزنِ، حَتَّى أصبحَ جُزءاً مِنْ عَوالمِنَا، إلَّا أنَّ الحُلمَ لَا يَزالُ يَلهثُ مَا بَينَنَا. ذُهِلَ الفَتى، زَاتْ حَيرتُهُ، لَمْ يَعد قَادرَاً عَلَى إدراكِ مَا يَبطنُ الرَّجلُ فِي خَبايا أقوَالهِ، فَرجاهُ طَالباً تَوضيحَ مَقاصدِ عِباراتِهِ...". (خيانة الناطور، ص 45) فالألم والأمل والحزن مكانها القلب.

أمَّا الحيز الأكبر الثاني الذي شغلَ تفكير القاص لطيف عبد سالم، فهو البنية المكانية التي لها تمثيل ماديٌّ وجوديٌّ على سطح الأرض في الفضاء النَّصّي السَّردي. وهذا ما انمازت به بنية المكان التعددية في أغلب قصص المجموعة الاثنتي عشرة قصةً. لذلك وظَّف الكاتب مجموعة كبيرة من المثابات المكانية في طيَّات قصصه، بدأً من أصغر وحدةٍ مكانيةٍ إلى أكبر وحدةٍ مكانية تسمو بفاعلية الحدث السردي وتظهر تناميه الحثيث.

فجاءت اشتغالاته المكانية منصبَّةً بالدرجة الأولى على المثابات والأمكنة التي لها الأثر الكبير والفاعل في حياة الإنسان وفي ترسيخ وجوده الاجتماعي. فهذا الاهتمام الكبير بالتقانات المكانية دفعه إلى استحضار وذكر الكثير من الأمكنة التي وردت متجليةً في طيَّات قصصه، فوظف، (البيتَ والأسرةَ والدارَ والمَنزلَ والمُضيفَ والصِّريفةَ والطُولَةَ والشارعَ والزقاق والمَقهى ومجالسَ الخمرَ ومكانَ العملَ والمدينةَ والقريةَ والنَاحيةَ ومكاتبَ الكُتبِ بالمتنبِّي ومِراكزِ العملِ ومَراكزَ البُحوثِ العلميةِ ومَراكزَ الشُّرطةِ وسَطح الدَارِ وقَاعةَ الطَواري والمَشافيَ ومَتاجرَ بغدادَ التِّجاريةِ)،وغيرها من مقاربات تلك الأمكنة والمثابات والمعالم العمرانيةومجاوراتها اللغوية والدلالية في بيت مشغله:

"ارتَدَى ثِيابَهُ، تَأنَقَ وَتَعطَّرَ، هَمَّ بِالخُروجِ؛ لإمضاءِ لَيلتِهِ كَالعادةِ فِي اِرتيادِ مَجالسِ الخَمرِ، مَا إنْ وَضعَ يَدَهُ عَلَى مَقبضِ البَابِ، حَتَّى نَادتهُ زَوجتهُ بِنبرةٍ يَشوبُها الحُزنُ قَائِلةً: اِبنكَ يُعانِي مِنَ الحُمَى مُنذُ ثَلاثةِ أيامٍ! رَدَّ صَارِخاً: - ومَنْ أخبرَكَ أنَّني طَبيبٌ؟! أشاحَتْ وجَهَهَا دُونَهُ قَبلَ أنْ يُطلقَ ضِحكةً عَاليَةً وَيُغادرُ المَنزلَ". (خيانةُ النَاطورِ، ص 55). فَتمثُّلات المكانية واضحة في قصته (صرخةٌ).

والمكان عند لطيف عبد سالم لا يقف عند حدود المدينة المُتحضِّرة وزحام مثاباتها الضوئيَّة المُبهرة، فقد تجاوزت المكانية لديه حدود المَدى المكاني، فتوغل في وجعه السردي بقصصه وحكاياته إلى عالم الريف وإلى فضاء وحداته الزمكانية التي فضحت وكشفت الكثير من تجليات الصراع الوجودي والألم العراقي الذي تعرض له الإنسان ابن الريف ونواته الفواعلية.

وقد ظهرت آثار هذه المكانية الضاربة في العمق من خلال المفارقات القصصيَّة الصادمة السوداء التي عَبَّرت عنها شخصيات قصصه وأصواته الداعية إلى التحرر من العبودية ونبذل أشكال الذل وممارسات الاسترقاق البشري. والتي هي جزء كبير من آيدلوجيَّة الكاتب وفلسفته.

وقد عزفَ القاص لطيف عبد سالم سرديَّاً في أسلوبية لغة موسيقاه المُعجميَّة القصصيَّة على أوتار ذلك الوجع المرير الأسود فأطرب وأبكى، وأمات متلقيه وأحيا، ذلك الوجع الإنساني الكبير الذي كشفت عنه فضاءات قصصه الواقعية بوضوح تامٍ وتجرُّد ونكران ذاتٍ صوبَ القارئ اللبيب:

"رِحلتهُ الَّتِي بَدأهَا فَجرَاً وَهوَ يَنتقلُ مِنْ قَريةٍ إلَى قَريةٍ أُخرَى، لَمْ تُسفرْ عَنْ أيِّ نَتيجةٍ تَشفِي غَليلَهُ فَكَمَا كَانَ يَأملُ، الشَّمسُ فِي طَريقِهَا إلَى المَغيبِ وَقَدْ وَصلَ قَريةً نَائيةً، لَا مَعرفةَ لَهُ فِيهَا بِقريبٍ أو صديقٍ، وَلَا يَتذكَّرُ أنَّهُ زًارَهَا أو مَرَّ بِهَا فِي وَقتٍ سَابقٍ، تَوقَّفَ عَنِ السَّيرِ فِي أطرافِ المَدينةِ بِمُحاذَاةِ جَدولٍ صَغيرٍ، ارخَى قَدميهِ مِنَ السَّرجِ، نَزَلَ مِنَ عَلَى ظَهرِ فَرسِهِ؛ لِيَتركَ لَهَا فُرصةَ الحَصُولِ عَلَى حَاجتِهَا مِنَ المَاءِ". (خِيانةُ النَاطورِ، ص 17). هكذا ينتقل القاصُّ من مكان لأخر، من المدينة إلى القرية، ومن القرية إلى الريف الواسع الأمكنة وعوالم الطبيعة الثابتة والمتحركة.

إنَّ جدلية الخفاء والتجلي السردي لصراع المقدس والمدنس والمفارقة الإدهاشية الصادمة السوداء في ثنائيات المواجهة المحتدمة بين الخير والشر والحياة والموت والوجود والعدم التي استأثرت كثيراً باهتمام الكاتب وتخليقه الإبداعي والفني الإنتاجي تؤكد لنا بصدقٍ أنَّ تجربة القاصِّ والكاتب لطيف عبد سالم الإجرائية الثريَّة في مدونته القصصية (خِيانة ُالناطورِ) يمكن أنْ نعدَها إضافة نوعيةً ومعرفية نافعةً وماتعةً إلى مكتبة سرديات القصة العراقية القصيرة؛ كونها تلقى احترامَ ومقبوليةَ رِضَا القارئ واستحسانه الذوقي والمَعرفي في آليَّات القراءة وجمالياتِ التلقِّي.

***

د. جبَّار ماجد البهادليّ - ناقدٌ وكاتبٌ عِراقيّ

قراءة في قصيدة " معالمُ السِرِّ الأبهى" للشاعر مصطفى علي

من لجج التجربة الشعرية الفريدة للشاعر مصطفى علي، نستلهم من معينه العرفاني الصوفي الذي يغوص في أغوار النفس الإنسانية، ليكشف عن تجليات الروح في رحلتها الأبدية نحو المطلق.

اسعى هنا الى التمعن في هذه القصيدة الشعرية التي توحد نسيجيها الوجداني والفلسفي، راسمةً ملامح "السر الأبهى" الذي يكمن في جوهر الوجود، ويتجلى في مرآة اللغة الشعرية المكثفة..

لقد اعتمدت في تحليلاتي هذه منهجًا نقديًا يزاوج بين الأدوات الأدبية والفنية والفلسفية، ساعيًا إلى تفكيك البنى الجمالية والدلالية لما ورد فيها، واستكشاف أبعادها النفسية والوجودية. فكل مقطع شعري هنا هو بمثابة نافذة تُفتح على عالم من الرموز والإنزياحات، حيث تتراقص الكلمات على إيقاع الشوق والحنين، وتتجسد المعاني في صور باهرة تتحدى المألوف.

ان الخيط الناظم الذي يجمع هذه المقاطع هو رحلة الإنسان الروحية، بكل ما تحمله من عطش وجودي، وصراع بين الشك واليقين، وتوق إلى الفناء في حضرة الجمال المطلق. من "إيقاد فوانيس القوافي" في دم الشاعر، مرورًا بـ "خصام سمادير الرؤى"، و"السفر السماوي على أجياد عاصفة المنايا"، وصولًا إلى "معانقة أثر الحقيقة المتواري كالظلال"، تتكشف أمامنا دروب هذه الرحلة الشاقة والمضيئة في آن.

اهدف من وراء ذلك إلى تقديم صورة متكاملة ومنسجمة لهذه التجربة الشعرية الثرية، لا بوصفها شذرات متناثرة، بل كأجزاء من مشروع نقدي أوسع، يسعى إلى استجلاء القيم الجمالية والفكرية في الشعر العربي المعاصر ذي النزعة الصوفية والوجودية.

إنها دعوة، في الوقت ذاته، للقارئ كي يشارك في هذا السفر النقدي، متأملاً كيف يمكن للكلمات أن تتحول إلى "بيارق للغيوب"، وكيف يمكن للسراب أن يصير "ينبوعًا يتفجر من ينابيع الخيال".

بالعنوان: يحمل في طياته دعوة للتأمل والبحث عن المعنى العميق للحياة والوجود. انه عنوان فلسفي قبل كل شيء، يدعو إلى عدم الاكتفاء بالسطح، وإلى البحث عن العلامات التي تدل على سر الحياة الأبهى، سر الجمال، سر الوجود.

العنوان يجمع بين الفلسفة الوجودية، والمعرفة التأملية، والبعد الصوفي، ليقدم لنا رؤية شاملة عن الإنسان الباحث عن الحقيقة، والذي لا يكتفي بما هو ظاهر، بل يسعى إلى ما هو مخفي.. إلى السر الأبهى.. والذي يشير إلى نوع من السر الذي يتجاوز المعنى المباشر للكتمان أو الخفاء؛ فكلمة “الأبهى” تعني الأكثر جمالاً وبهاءً، ما يجعل السر هنا ليس مجرد أمر مخفي، بل هو سر مضيء، سر يتجلى فيه الجمال الإلهي أو الوجودي، أو ربما سر الحياة والروح.  والذي سنبحث عنه في مفاصل القصيدة.. علنا نصله...

1. القوافي وصقيع اليومي: الثورة على الجمود

أوْقدْ فوانيسَ القوافي في دمي

واهجرْ صقيعَ العابرِ اليوميِّ طقساً

موحشاً كجليدِ أوهامِ الجِدالْ

*

نداء مشحون بالعاطفة والرمز:

"أوقد فوانيسَ القوافي في دمي"

في هذه الصورة الباهرة، تتحول القوافي إلى فوانيس، نورًا داخليًا يشتعل في دم الشاعر.. في إشارة إلى الإبداع المنبثق من أعماق الألم والوعي.. انه إنزياح دلالي مدهش: فلا القوافي توقد عادةً، ولا الدم يُضيء.. خرق للمألوف، يجعل الشعر ذاته فعلًا من أفعال الإشراق الداخلي.

ثم وبإنزياح آخر يقول:

"واهجرْ صقيعَ العابرِ اليوميِّ طقساً"

هنا يرسم رفضًا للابتذال والروتين، فاليومي العابر مجمَّد، كالصقيع، بلا دفء ولا معنى.. إذن، الدعوة إلى الثورة على المعتاد، والبحث عن وهج الحياة الحقيقي عبر الإبداع والشعر. ليبلغ التصوير ذروته:

"موحشاً كجليدِ أوهامِ الجِدالْ"

حيث يربط الجدال العقيم، الذي لا يلد إلا الوهم، بالجليد الموحش، فكل صراعٍ لغويٍ أو جدلي بلا جوهر، إنما يُنتج برودة وخواء وعدم.

يبني الشاعر صورًا مبتكرة، يتجاوز بها حدود التعبير التقليدي، موظفًا المجاز والاستعارة بلغة مشبعة بالإيقاع الداخلي.

النص يحتج على الابتذال والجمود، ويدعو إلى إشعال جذوة الإبداع والمعنى وسط ركام اليومي العابر.

انه القلق الوجودي الذي يحاصر المبدع، الذي يؤكد الحاجة إلى تحطيم السكون الاجتماعي المفرغ من الدفء.. يكشف النص، وعبر رمزيته، عن حالة الركود التي تصيب المجتمعات حين تستبدل الفعل الحقيقي بالجدال العقيم.

مقطع صغير، لكنه صرخة إبداعٍ ضد خريف الروح، وثورة على موات العادة.. انه إشعالٌ لفتائل القصيدة في ليل الصقيع الإنساني، حيث يبقى الشاعر وحده، حاملًا فوانيسه ليضيء عتمة الحياة التي خانتها الكلمات اليومية.

2. خصام الاوهام وجمر السؤال: في وعي الألم..

خاصمْ سَماديرَ الرؤى

واشعلْ بقلبي موقِداً يكوي

فُؤادَكَ أو فؤادي مثلما

يكوي النُهى جمرُ السؤال

*

مواصلة الثورة بمواصلة النضال:

"خاصمْ سَماديرَ الرؤى"

في إنزياح دلالي لافت، إذ يجعل الرؤى كائناتٍ يمكن خصامها، والسَمادير ـ وهي الأوهام والأطياف ـ تتحول هنا إلى خصوم، في استعارة توحي بصراع الذات مع أحلامها المراوغة.

معمّقًا المشهد بالطلب الحارق:

"واشعلْ بقلبي موقِداً ..."

فالإشعال هنا لا يكتفي بإضاءة داخلية، بل يحترق، ليلامس فؤاد الآخر أو فؤاد الشاعر نفسه، مؤكداً وحدة الألم بين الذوات.

وتتجلى الذروة في:

"مثلما يكوي النُهى جمرُ السؤال"

حيث يتحول العقل المفكر (النهى) إلى ضحيةٍ لجمر الأسئلة، في مشهدٍ فلسفيٍّ بالغ الإبداع، يحفر في أعماق الحيرة والبحث الإنساني.

مقطع يشعل المجاز حتى لهيب الحيرة.. يصوغ من الألم معرفةً، ومن خصام الرؤى يقظةً، حتى يصير السؤال نارًا تضيء طريق العارف في عتمة التيه.

المقطع الشعري هنا يأتي كثيفًا ومشحونًا، مبحرًا في أعمق طبقات الوعي الإنساني، حيث ينهض الشاعر بنداء وجودي حارق: "خاصمْ" هذه الأطياف المرتبكة بين حلم ووهم، التي تصبح خصمًا يستحق المقاومة، مما يعكس دعوة لتمرّد العقل الإنساني على الإغواءات العاطفية المضللة. إنها صورة باذخة الدلالة؛ حيث يتحول اللاوعي إلى غابة يجب الخروج منها بوعي مشبوب.. املا في ان يتحول القلب إلى ميدان اشتعال داخلي.. احتراق لا يستهلك صاحبه بل ينيره.. حريق معرفي يحفّز الذات على تجاوز التكلس الروحي.

يصل التصعيد الرمزي ذروته عند: "مثلما يكوي النُهى جمرُ السؤال"، في مشهدٍ يُغري بالتأمل؛ فالعقل، الذي يفترض فيه البرودة والاتزان، يكويه السؤال، ليكشف أن البحث عن الحقيقة ليس برودًا بل معاناة ملتهبة.

هنا، تتداخل نار القلب مع جمر الفكر، ليرسم الشاعر لوحة معرفية عن الألم بوصفه بوابة الوعي، وعن خصام الأوهام كشرط ضروري لولادة النور الداخلي، في قصيدة تتقد بالحيرة وتستنير بالتمرد على العتمة.

3. الخلود في الفناء: ذوبان الذات في المثال..

أيّانَ بلْ كيفَ المولّهُ يَمّحي

حتى فناءِ الذاتِ في عِشْقِ المثالْ؟

انه سؤال وجودي مشحون بالشجن ذلك الذي يطلقه الشاعر بقوله: "أيّانَ بلْ كيفَ المولّهُ يَمّحي".. في إنزياح لغوي ودلالي باهر، يجعل العاشق المتيم معادلًا للخلود، فلا زمانٌ (أيّان) ولا كيفيةٌ تستطيع محو العاشق المولّه. هنا تتجسد استحالة الفناء العاطفي إلا بفناء الذات الكاملة.

ثم يعمق الصورة بإجابه فلسفية مدهشة ومفاجئة:

"حتى فناءِ الذاتِ في عِشْقِ المثالْ" انها لحظة، يتحول العشق فيها إلى مثالية مطلقة لا تكتمل إلا بفناء الأنا الفردية، في تصوير بلاغي يتجاوز العشق الغريزي إلى العشق الروحي الصوفي.

اذن فهو يمدنا بشعلة وجدانية تتوهج بأسئلة الكينونة والحب، حيث يُصبح العاشق نارًا لا تخمد إلا إذا ذابت الذات في المثال الأعلى.. وليجعل من القصيدة مرآة لحريق الإنسان الباحث عن المطلق.

الشاعر يتعامل هنا مع الحب بوصفه فعلاً فلسفيًا مطلقًا، وليس مجرد انفعال عاطفي. في "أيّان بل كيف" حيث يتحول الزمان والمكان إلى أطرٍ عاجزةٍ عن احتواء العاشق، مما يشير إلى تجاوز الحب للأبعاد الوجودية.

أما صورة "فناء الذات" فتمثل أرقى مراحل العشق الصوفي حيث تتلاشى الأنانية الفردية في حضرة المثال.. هكذا يتماهى النص مع تجارب كبار العارفين أمثال الحلاج وابن عربي وسواهما، حيث يكون العشق سبيل الخلاص والذوبان الكوني.

في هذا المقطع تتخذ القصيدة بُعدًا وجوديًا ثريًا، يمزج بين حرارة القلب ونور الفكرة، وينحت الجمال من لهب العشق السرمدي.

4. الغيبوبة والانجذاب: البحث عن المطلق..

ويغيبُ مندهشاً ومجذوباً

لِطيفِ الغامضِ المخفيّ

سكراناً بألغازِ القريحةِ والخيالْ

ينطلق الشاعر هنا من صورة وجدانية آسرة:

"ويغيبُ مندهشاً ومجذوباً"

انه تصوّر الغياب لا كفعلٍ حسي بل كحالة انخطافٍ روحي، حيث تتلاقى الدهشة بالانجذاب. الجمع بين "مندهش" و"مجذوب" يرسم رحلةً إلى غيبوبة الوعي بفعل الجمال المطلق. ثم يتماهى مع الغيب:

"لِطَيفِ الغامضِ المخفيّ"

ليُحيل الغياب إلى تَتبع طيفٍ خفي، مما يعمّق الغموض ويكثف المعنى الصوفيّ للبحث عن المطلق. لتبلغ الذروة:

"سكراناً بألغازِ القريحةِ والخيالْ"

حيث يتحول السكر من حالةٍ حسية إلى انتشاء معرفي، نابع من ألغاز الإبداع، وليرتقي بالوجدان إلى مقام السُكر العقلي.

مؤكدًا سُكْر المعرفة ودهشة الكشف.. حيث يتوه العاشق بين عتمات الخيال، حاملاً قنديل القريحة صوب الغائب الأبدي.

انه تعامل مع الغياب بوصفه فعلاً من أفعال الاستنارة. "الطيف الغامض المخفي" وهو في الان ذاته، رمزًا للعالم الداخلي الغائر الذي لا يُكشف إلا لمن يسكر بسؤال الإبداع. السكر هنا لا يُفسد العقل، بل يوقظه على ألغاز الخلق.

كما يمزج بين المتعة والارتباك، بين اللذة العقلية والانخطاف الروحي، مما يخلق نصًا مزدوج الطبقات: سردي في ظاهره، صوفي في جوهره.. فيُحيل القارئ إلى تجربة السُكر بمعناه الأسمى: التوحُّد مع غموض الوجود.

انه فتحًا أفقًا تأويليًا أوسع، نظرت إلى الغياب والسُكر بوصفهما مجازات عن السعي الإنساني نحو الحقيقة الماورائية.

بهذا التوليف، تتضح ثنائية ما أراد الشاعر: إبداع لغوي أخّاذ وتجربة فلسفية مشبعة بجماليات الحيرة والانخطاف الروحي.

5. بين الحنين والظمأ: رحلة في تخوم الوجود..

قلبي يُحدّثني بأنّهما معاً

ظَمَأٌ وُجوديٌّ بأعماقِ الورى

وَحَنينُهم أبَداً لِفُراتِ ماءِ الروحِ

في قلبِ الرِمالْ

*

بمخاطبة الوجدان:

"قلبي يُحدّثني بأنّهما معاً"،

يحمّل القلب قدرة النُطق والحوار، مما يضفي على العاطفة عمقًا معرفيًا، ويؤسس لجسرٍ بين الذات ومكنونها الخفي. ثم يكمل بصورة شعرية مدهشة:

"ظَمَأٌ وُجوديٌّ بأعماقِ الورى"،

مؤكدًا أن العطش هنا ليس حسّيًا بل وجودي، عطشٌ للمعنى وللمطلق يضرب بجذوره في أعماق الإنسانية كلها، في إشارة فلسفية راقية يعززها بصورة باهرة:

"وَحَنينُهم أبداً لِفُراتِ ماءِ الروحِ"،

إذ يصوّر الروح نهرًا جاريًا (فراتًا) يسعى إليه الورى بظمئهم السرمدي، لينسكب المعنى صافيًا فوق رمال العدم.

يصوغ الشاعر هنا ملحمة عطش الإنسان للروح، حيث يتحول الفؤاد إلى رسولٍ بين صحراء الحياة وينابيع الخلود. حيث يستبطن الشاعر جدلية العطش والحنين كجوهر للوجود الإنساني.

* فـ الظَمأ الوجودي هو استعارة عن الحيرة الأنطولوجية: بحث دائم عن الحقيقة، عن "فرات الروح" الذي قد لا يُبلَغ إلا بالحنين الأبدي.

* بينما الماء، رمز الحياة، لا يسكب في الأجساد بل في الأرواح، مما يشي بحس صوفي عميق حيث تتماهى الذات في نهر المطلق.

بهذا، يتجاوز النص الشعري كونه تصويرًا وجدانيًا ليصبح تأملاً فلسفيًا في حقيقة الوجود الإنساني الظمآن إلى معناه الخالد.

6. جياد الريح، سفر الغيب: وجودية في العبور الشعري..

سَفَرٌ سَماويٌّ على أجْيادِ عاصِفةِ

المَنايا والرؤى

وعلى جِيادِ الريحِ صاهِلةَ الخُطى

للغيبِ والمجهولِ

والسِرِّ المُحالْ

انفجار مجازي أخّاذ:

"سفرٌ سماويٌّ على أجْيادِ عاصفةِ المنايا والرؤى"،

في إنزياح دلالي مزدوج، حيث يُزَوِّج الموت بالحلم، ويجعل العاصفة مطيةً في سفرٍ يتجاوز حدود الأرض. هنا تتماهى الفناءات مع البشارات، ويصبح الإنسان فارسًا بين الرؤى والمنايا. ثم يضاعف الشاعر الإيقاع التصويري:

"وعلى جيادِ الريحِ صاهلةَ الخُطى

للغيب والمجهول والسِرِّ المُحال"،

فجياد الريح، ذات الطبيعة الهوجاء، تصهل بخطى قادمة من الغيب، مواصلة السير نحو المطلق والمستحيل.

إنها معانقة المطلق بجموح الخيال، فالشاعر يمتطي رياح الموت والرؤيا معًا، قاصدًا سديم الغيب، حاملاً توق الإنسان الأزلي إلى الماوراء.. انه تجسيد للرحلة الوجودية الكبرى:

* السفر السماوي لا يُقصد به التنقل المادي، بل التحليق الوجودي بين حقائق الفناء وأحلام الخلود.

* المنايا والرؤى توأمان في طريق الإنسان نحو كشف الحقيقة الكبرى، والجياد الصاهلة رمزٌ للجموح الداخلي نحو المجهول.

* الغيب والمحال في النهاية ليسا نهاية، بل بداية أخرى لا تدرك إلا بنشوة الفناء المتجاوز للأطر المحدودة للعقل البشري.

هكذا يتعانق النص مع الميثولوجيا الصوفية والأساطير الكبرى عن السفر نحو السر الأبدي.

7. أرجوحة الأقدار: بين وعد الخلود وعاصفة الزوال..

أُرْجوحةٌ سَكرى تَدلّتْ من عُرى أقدارِنا

ما بينَ وَعْدٍ دائمٍ في سَرْمَدٍ

وَحَصادِ قَشٍّ زائلٍ

عَصَفتْ بهِ سُحُبُ النهايةِ والزَوالْ

*

اختصار للتوتر الأبدي بين المصير والاختيار

"أُرْجوحةٌ سَكرى تَدلّتْ من عُرى أقدارِنا".

الأرجوحة، رمز الطفولة والفرح، تغدو هنا متهالكة وثملة، مشدودة إلى حبال القدر الواهية، في استعارة تنطوي على قلق وجودي عميق. تلحقها توسعة للمشهد:

"ما بينَ وَعْدٍ دائمٍ في سرمدٍ وحصادِ قَشٍّ زائلٍ"،

في تباين حاد بين الخلود الموعود وهشاشة المكاسب الدنيوية، حينؤ تحترق الأحلام كما تحترق سنابل القش مع أول عاصفة. متوجًا ببناء درامي اخاذ..:

"عصفت به سحب النهاية والزوال"،

فالنهاية ليست هدوءًا بل عاصفة مدمرة، تهدم كل بناء هشّ أنشأه الإنسان فوق رمال الغرور.. انها رقصة المصير الإنساني فوق حبال الفناء، حيث تترنح الآمال بين وعد السرمد وخيبة الزوال.

هذا التعامل مع فكرة القدر بوصفه لعبة عبثية لا تخلو من الإغواء والوهم يمنحنا لحظة تأمل في:

* الأرجوحة السكرى رمز للحياة المتأرجحة بين الإيمان بالمطلق والانخداع بالمحسوس الزائل.

* الوعود السرمدية التي تمثل الأمل الوجودي، بينما حصاد القش رمز للمكاسب الزائلة التي يعصف بها الموت/ النهاية، حسب الرؤية، وهي ليست خاتمة هادئة، بل إعصار يُسقط الأقنعة ويعرّي المصائر.

وبهذا العمق نجد ان النص يُماثل في عمقه نصوص الوجوديين الكبار، حيث الإنسان معلق بين حرية جارحة وقدرٍ لا يرحم.

8. الاحتراق في مجامر التجلّي: في إشراقات الشعر..

أرواحُنا فَرْطَ التَواجُدِ

أطْلقتْ أسمائَهُ

مُتَجَلّياً ومُعانِقاً

أشواقَ من فازوا بِقُرْبٍ أو وِصالْ

*

انفتاح لأفق الروح على اتساعه:

"أرواحُنا فَرْطَ التَواجُدِ أطلقتْ أسمائَهُ"

في صورة باهرة، تتماهى الأرواح مع الوجود حتى تتجاوز ذواتها، لتطلق الأسماء كإشارات كونية نحو الحبيب المتجلي.. هذا الانزياح الدلالي يحوّل الذات إلى طاقة متجددة من الحضور. ثم يكمل:

"مُتَجَلّياً وَمُعانِقاً أشواقَ من فازوا بقُربٍ أو وِصالْ"

في انسيابٍ مدهش، يحوّل الشوق إلى مادة حسية تُعانق المتجلي، في مشهدٍ روحي.. إنساني مكثف، يلامس قمة التوق إلى المطلق. ان هذه المفاصل الإبداعية، تجسّد عطش الوجود إلى الانصهار في نور الحضور.

انه تجاوز لحدود الزمان والمكان عبر مفهوم "فرط التواجد"، وهو إحساس فائق بالحضور يتماهى مع فكرة الحلول العرفاني. الأرواح هنا ليست مجرد كينونات معزولة، بل أمواج من التجلّي تذوب في النور الإلهي.

التجلي والمعانقة يتحولان إلى رمز فلسفي لرغبة الكائن في تذويب الفواصل بين الذات والآخر، بين المحدود والمطلق. في نسيج القصيدة، لا يتحدث الشاعر عن لقاءٍ أرضي، بل عن لحظة اتحاد كونية حيث تصبح الأشواق لغة كونية تترجم شغف الوجود..

هكذا، تتحول التجربة الشعرية إلى لحظة إشراق عرفاني، تتلاشى فيها حدود اللغة، فلا يبقى سوى العناق الروحي بين الأرواح والنور.

الشاعر مصطفى يسكب رؤياه اشراقة في كأس العارفين؛ ليجعل من الكلمات سلالمَ نحو الضياء، ومن الأشواق قناديلَ تُنير درب العشاق التائهين في مجاهل الفقد والحنين.

9. نبوءة الأمل المشتعل: في جمرات القصيدة..

ما كانَ مُطْلَقُها سِوى

أمَلٍ تَفَتّقّ من لظى أشواقِها

وَطَريقةٍ سِحريّةٍ للسائرينَ على الطريقِ

يسوقُهم ضمأُ البرايا للكمالْ

*

ينسج الشاعر رؤيا كونية دقيقة:

"ما كانَ مُطْلَقُها سِوى

أملٍ تفتّق من لظى أشواقِها"

في صورةٍ مدهشةٍ، يتحول الأمل إلى برعمٍ متفجّر من لظى الأشواق، حيث الانزياح الدلالي يحوّل الألم إلى ولادة، والانتظار إلى اشتعال خلاق. ويواصل الإبداع بقوله:

"وطريقةٍ سحريةٍ للسائرينَ على الطريقِ

يسوقُهم ضمأُ البرايا للكمالْ"

في تناغم باهر، تصبح المسيرة الإنسانية نحو الكمال طقسًا صوفيًا يحفّه العطش الأبدي للمعنى.. خلق لهالة رمزية بين الحب، والطريق، توطئة للاكتمال، كأنها مرآة لجوع الإنسان الأزلي إلى المطلق.

الشاعر يتموضع هنا في فلسفة وجودية عميقة، حين يتحدث عن الأمل المتفتق من لظى الشوق، والذي لا ينبع من ترف، بل من وجعٍ متأصل.

ان الطريق السحري يشير إلى الرحلة الوجودية التي يقوم بها الكائن البشري، مدفوعًا بظمأ لا يرويه إلا الاقتراب من الكمال.

الشاعر هنا ينسج تجربة صوفية بامتياز، حيث تتحول الحياة إلى عبور نحو المطلق، والسير إلى غاية لا تتحقق بالكامل، لكنها تمنح المعنى لاستمرارية المسير. إنها قصيدة تحرق الذات بحنينها كي تصنع نورها.

ينبع المقطع من رماد الأشواق، ليُشعل فينا عطش البحث عن الجمال المطلق، محولًا الكلمات إلى مرايا تعكس رحلة الإنسان الأبدية بين جمر الشوق وواحات الأمل.

10. بيارق الغيوب: سفر المعنى في فضاء القصيدة..

لِيَعودَ من فَلَكِ الغيوبِ بيارِقاً

تقفو نِداءَ الحقِّ في سوحِ النِزالْ

يستحضر الشاعر صورة مذهلة حين يقول:

"لِيَعودَ من فَلَكِ الغيوبِ بيارِقاً"

هنا، تتجاوز العودة معناها الحسي لتصبح ارتحالًا ميتافيزيقيًا من الغياب إلى الحضور، في انزياح دلالي يصور الروح وهي تنتزع المعنى من أقاليم المجهول. ثم يربط ذلك بنداء القيم السامية:

"تقفو نداءَ الحقِّ في سوحِ النِزالْ"

حيث تتجسد الحقائق على هيئة بيارق شامخة، تسير خلف نداء الحق في ميادين الصراع، مشعلًا الحلم بالتغيير والنهوض. يبهرنا هذا المقطع بروعته حين يدمج بين الأمل، والالتزام، والفداء في أنشودة خالدة ضد النسيان.

انها جدلية الغياب والحضور؛ حيث تغدو الغيوب مهودًا للمعنى، والحقائق الراسخة لا تخرج إلا من أعماق الغموض.

الفلك هنا رمز للقدر، والبيارق تمثّل الانتصار الأخلاقي في ساحة وجودٍ مشتبك. وفي هذه الرحلة، يستدعي الشاعر فكرة النضال ضد العبث، حيث تكون المعركة في السوح ليست بالسيف فقط، بل بمعاني الروح المتوهجة بالحق.

إنه نشيد المقاتل الذي يرفض السكون في حظيرة النسيان، ويشعل راياته باسم الحق والكرامة.

بهذه الصورة، يصنع الشاعر مجرّة من الوعود، ويبعث من رماد الغيوب بيارقًا للأمل، ليؤكد أن المعنى الحقيقي لا يُولد إلا من صراعٍ مشبعٍ بالحق والنقاء.

11. رحلة الأرواح: إشراق السرى نحو فجور الخلود..

هِيَ رحْلةُ العُشّاقِ في الأسفارِ

ما طالَ السُرى

لِيَضوعَ في الارواحِ فجراً سَرْمَديّاً

ذو الجَلالْ

*

بنصاعةٍ صوفية يقول:

"هِيَ رحْلةُ العُشّاقِ في الأسفارِ"

في صورة مدهشة، تتحول الأسفار من تنقّلٍ مادي إلى عبورٍ روحيّ، حيث العشاق هنا هم السائرون على طريق الحقيقة المطلقة. ثم يتابع انزياحه الخلاق:

"ما طالَ السُرى

لِيَضوعَ في الأرواح فجراً سرمدياً

ذو الجلالْ"

فالسُرى لا ينتهي بالإنهاك، بل يفضي إلى إشراق داخلي خالد، فجراً أبدياً من الجلال والنور. هنا ينسج الشعر من رحلة التعب.. إشراق الخلود، وتحول من الألم.. طقسًا للانبثاق الروحي المتعالي.

نصير هنا أمام رحلة عارفين لا مسافرين. الأسفار ليست حركةً بين المدن، بل عبورٌ بين المقامات الروحية.

فالفجر السرمدي هو صورة فلسفية مكثفة: لا يشير إلى الفجر التقليدي، بل إلى ولادة دائمة للمعرفة والوجد.

اما في بُعده الاجتماعي، فهو يحتفي ببطولة العاشق الباحث عن المعنى، رغم قسوة السرى وطول الطريق.. في رفض لكل ما هو ساكنٌ وخامل.. هكذا يغدو السُرى فعل تحررٍ داخلي، رحلة باتجاه الله او المطلق، باتجاه الذات المستنيرة.

إنه سفرُ الأرواح نحو فجور لا يغيب، إشراق يتحدى الزمن والعدم، حيث الجلال يغمر الخطوات المكلومة بنور السرمدية.

12. اسفار العشق وسهام الروح: تيه العاطفة الإنسانية..

لا تسألِ العُشّاقَ عن أسْفارِهمْ

وأسألْ سِهامَ الروحِ كم طاشتْ

وكم نَفَرَ الغزالْ

*

إنزياح بلاغي مدهش، حين يطلب:

"لا تسألِ العشاق عن أسفارهم"

مُحوِّلًا السفر هنا إلى رمز للرحلة الروحية والعاطفية معًا، لا مجرد انتقال مكاني. الأسفار.. معادل شعري للهجرة الوجدانية المجهولة، حيث تفقد الأسئلة جدواها أمام اتساع التجربة العاطفية. ثم يوجه النص بوصلة الحواس إلى العمق الحقيقي:

"واسألْ سهامَ الروحِ كم طاشتْ"

في تجسيد بليغ للروح كقوسٍ متوتّر، يطلق سهام الشغف، لكنها كثيرًا ما تخطئ أهدافها، في إشارة إلى خيبات العشق وعدم يقينيته. وتأتي الصورة الأخيرة لتعميق المشهد:

"وكم نفرَ الغزالْ"

فيها استعارة حركية مدهشة؛ فالغزال رمز للروح الهاربة من قبضة الحب، مرتبكة بين الانجذاب والفرار. انه فيض من حرارة المشاعر المتوثبة، وصورٍ تكتنز بالمعنى، حيث تصبح الرحلة العاطفية هروبًا مستمرًا، والروح ميدانًا لسهام تتناسل بين الأمل والانكسار.

بالرغم من اعتماد النص على البساطة الظاهرية فانه يمتلك عمقًا داخليًا مثيرًا للتأمل، من خلال ما تصنعه الموسيقى عبر التوازن بين الفعل والجواب (لا تسأل/ واسأل). الإيقاع الداخلي نابض بتوترات الوجد، والمجازات تنفتح على عوالم متعددة دون ادعاء.

الشاعر يطرح هنا فكرة عجز المعرفة الإنسانية عن احتواء التجربة العاطفية.. فالحب هنا لا يُدرك بالسؤال العقلي بل يُعاش بالحدس والألم واشتعال الروح.. فالأسفار الداخلية أعقد من أن تُروى، والروح تضيع سهامها كما تضيع الحقائق أمام الفيض العاطفي.

13. خطى العشق على قارعة التلاشي: تيه القلب في تلابيب الجمال..

وإسألْ خُطى القيّافِ إن طال السُرى

كم ذابَ عشقاً حَدَّ قارعةِ التلاشي

في تلابيبِ الجمالْ

*

طلب استهلالي وبديع وبليغ:

"واسألْ خُطى القيّافِ إن طال السُرى"

حيث يحوّل الخُطى إلى شاهدة حية على رحلة العشق البعيدة الغور، والدليل على ذلك هو ما يمكن ان يجيبه والقيّاف.. ذياك الذي قفي اثار طول السرى.. حتى كاد ان يغدو مرآةً للضياع العاطفي الطويل. ثم ينتقل إلى تصوير مذهل للذوبان الوجداني:

"كم ذابَ عشقاً حَدَّ قارعةِ التلاشي"

إنها صورة شاعرية مدهشة حيث يتقاطع العشق مع الموت التدريجي، وتبلغ العاطفة أقصى ذروتها حتى قارعة التلاشي.. تكمن روعة التعبير في مزجه بين متناقضين: "قارعة" و"التلاشي"، فالقارعة تُوحي بالدهشة والهول والصدمة، وكأنها طرقٌ عنيفٌ على أبواب القلب(اذا اخذناها من قرع يقرع)، أما التلاشي فيشير إلى الذوبان التدريجي والتبخر الهادئ للذات. وفي هذا التناقض تكمن عبقرية الصورة، إذ يتحول سكون التلاشي إلى صخبٍ داخلي، والفناء الصامت إلى قرعٍ هائلٍ يزلزل أركان الوجود.

أما دلالة "قارعة التلاشي" فتتجاوز معنى "طول السرى" أو الدرب الطويل، لتصل إلى مفهوم أكثر عمقًا وتأثيرًا.. إنها القيامة الصغرى التي تحل بالعاشق، والفاجعة المهيبة التي تُفني كيانه. هي لحظة الانكشاف الكامل أمام حقيقة العشق، حيث يقف الإنسان مذهولًا على حافة الزوال، يرتعد من هول ما يبصر، ويتلذذ بألم الفناء في ذات الوقت.

ويُتوَّج المشهد:

"في تلابيبِ الجمالْ"

فالجمال هنا ليس مظهريًا فقط، بل قيدٌ والتباسٌ أبدي، تتشبث به الروح حتى الاحتراق. نص مشحون بجماليات الذوبان، حيث الحب رحلة أبدية ينمحي فيها الكائن في حضرة الجمال، وتذوب الخطى في صمت السرمدي. كما ويتدفق بإيقاع رقيق ومنساب، مع استخدام كلمات ذات وقع تصويري عالٍ مثل: القيّاف، السرى، التلاشي، التلابيب. هذه المفردات تخلق نسيجًا صوتيًا يمزج بين الرقة والحزن. إضافة الى ذلك يقارب النص مأزق الوجود العاطفي: فالعشق ليس بلوغًا للآخر، بل رحلة احتراق ذاتي في دروب الجمال المستحيل. الحب هنا يلتبس مع الفناء، والسؤال لا يطلب جوابًا بل يحاكي ضياع الأثر وسط التيه الأبدي.

14. سراب القلب وجمر الغرام: في انكسارات العشق الشعري..

فَلَكم تَعلّلَ عاشقٌ بِسَرابِ قلبِ

البيدِ يَحْسَبُ موجَهُ

فَرْطَ الغرامِ وَجَمْرِهِ

ماءاً زُلالْ

في هذا المشهد الشعري الباهر، يقول الشاعر:

"فَلَكم تَعلّلَ عاشقٌ بِسَرابِ قلبِ البيدِ"

ينزاح المعنى منذ الوهلة الأولى، إذ يُرى القلب وقد تحول إلى صحراء قاحلة، بينما السَّرابُ .. الوهم المتلألئ الكاذب.. يغدو وعدًا كاذبًا بالنجاة العاطفية، فتتجسد العاطفة في بعدها الخادع. ويتابع:

"يَحْسَبُ موجَهُ فَرْطَ الغرامِ وَجَمْرِهِ ماءاً زُلالْ"

في قلب هذا التصوير، تتماهى الحواس: فالعطش إلى الحب يُرى سرابًا مائيًا، والموج ليس ماءً بل احتدام الغرام والاحتراق. إنها مفارقة مؤلمة ترسم ضياع الإنسان في متاهة رجاءاته الخادعة.

انه رصد لوهم العشق بوجهه الخادع، المفرط بالغرام والمتوسل ان لا يكون السراب الا ماء زلال.. وهو امر محال.. مرجحًا الحاجة الإنسانية إلى التعلّل بالأحلام المستحيلة، املًا بالخلاص والسكينة.

انه تأمل في ميتافيزيقا الرغبة: فالعاشق يطارد صورةً لا وجود لها إلا بوصفها وهمًا داخليًا، كما يطارد الإنسان في حياته الكمال الذي لا يُدرك. الجمر والزلال، الغرام والماء، البيد والسراب.. كلها تناقضات تُلخّص المعركة الوجودية بين الأمل وخيانة الواقع. فالموج ليس رحمة بل احتراق، والماء ليس ارتواءً بل خيبة مستدامة. بهذا يصبح المقطع مرآة فلسفية تعكس سخرية المصير الإنساني.

15. سراب الخيال وبراكين الممكن: في قدرة الوهم على صناعة الحقيقة..

لا تحْسَبنّ سرابَهُ وَهْماً إذا

ما صارَ يُنْبوعاً

تفجّرَ من ينابيعِ الخيالْ

يجيبنا هنا استدراكًا عما عاناه في المقطع السابق

"لا تحسبنّ سرابَهُ وَهْماً إذا / ما صارَ ينبوعاً تفجّرَ من ينابيعِ الخيالْ"

بإنزياح دلالي مدهش، يرفع السراب من رمزية الوهم إلى إمكانية التحوّل الخلّاق. هنا يتجاوز التصوير الشعري التقليدي، فـ"السراب"، بدلاً من كونه خداعًا محضًا، يتحول إلى ينبوع حقيقي، شريطة أن يتم النظر إليه عبر نوافذ الخيال الخلّاق. إنها صورة شعرية باهرة، تستنهض فينا فكرة أن الوهم أحيانًا هو البذرة الأولى لكل حقيقة ممكنة، وبهذا يُعيد النص الاعتبار للخيال، لا كفرار من الواقع بل كقوة خفية لصناعة الوجود الجديد. على المستوى النفسي والاجتماعي، يوقظ النص الأمل في تجاوز حدود المألوف، وعلى المستوى السياسي، يشي برفض الانحناء أمام مظاهر الهزيمة الظاهرة، والتمسك بأحلام لا تموت. ان هذه الأبيات تحتفي بقدرة الروح الإنسانية على تحويل السراب إلى أنهار، حين يؤمن الخيال بسلطانه، فتتخلق العوالم لا من الماء، بل من إصرار الرؤية.. انه توطيد للعلاقة العميقة بين التجريد والخلق. انه التحوّل: أي أن ما يُظنّ وهماً، قد يكون فقط طورًا أوليًا لحقيقةٍ لم تكتمل. في هذا المعنى، يحوّل الشاعر الخيال من عالم المراوغة إلى مختبر للإمكانيات. السراب ليس خداعًا، بل هو "نواة الإمكان" حين يحلّق الوعي فوق إسار الواقع البارد.

16. ظلال السرّ وهتك الحجاب: في جدلية الحقيقة والمطاردة الشعرية..

فإذا الحقيقةُ أظهرتْ أنوارَها

للعارِفينَ بِسرِّها

هَتَكوا الحِجابَ وعانقوا

أثَراً تراءى كالظِلالْ

ويواصل مستبطنًا الواقع:

"فإذا الحقيقةُ أظهرتْ أنوارَها / للعارِفينَ بِسرِّها"

في هذه الصورة الشعرية الباهرة، تظهر الحقيقة ككائن نورانيٍّ يكشف عن جوهره فقط لمن بلغ سرّ المعرفة. الإنزياح هنا يحوّل الحقيقة من فكرة ذهنية إلى كيان مشعّ حيّ، يتطلب استنارةً داخليةً للوصول إليه. ويواصل قائلاً:

"هَتَكوا الحِجابَ وعانقوا / أثَراً تراءى كالظِلالْ"

العارفون لا يكتفون بالرؤية، بل يهتكون الحجاب، في دلالة رمزية على كسر الحواجز بين الظاهر والباطن. لكن المفارقة المدهشة أن ما يعانقونه ليس الحقيقة المطلقة، بل أثرها الظلّي، ما يعمّق فلسفة الغياب الدائم للحقيقة الكاملة. يتجلى النص بانزياحات دلالية تخترق السائد، أما نفسيًا اوفلسفيًا، فهو تصوير مدهش لعطش الإنسان السرمدي لمعرفة تظل تتوارى خلف ستائر الظنون. انه تجسيد للرحلة الأبدية للإنسان نحو نور الحقيقة، رحلة لا تنتهي إلا بمعانقة الظلال، حيث يظل السرّ معلقًا فوق قلوب العارفين كنجمة لا تُطال. يشتغل هذا المقطع على التوازن بين الرؤيا والضياع؛ فالعارفون، رغم هتك الحجب، لا يلامسون إلا أطياف المعنى. هنا يطرح الشاعر رؤية للمعرفة بوصفها فعلًا لا نهائيًا من الكشف والاشتياق، فالسرّ لا يُمتلك، بل يُلاحق في انعكاساته، كما أن الظلّ يظل دومًا بعيدًا عن اليد.

17.  خيول الشك وخرائط الضلال: في جدلية التيه الروحي..

يا أيُّها الضلّيلُ حَسْبُكَ مُسْرِجاً

خيلَ الشكوكِ العادياتِ ضوابِحاً

والمورياتِ على يقينِ الروحِ

قدْحاً أو بَريقاً في متاهاتِ الضلال

*

بخطاب تحذيري قوي بقول:

"يا أيُّها الضلّيلُ حَسْبُكَ مُسْرِجاً

خيلَ الشكوكِ العادياتِ ضوابِحاً"

في صورة شعرية مدهشة، ينزاح العقل المشكك عن مجاله، ليغدو فارسًا جامحًا، يُسرّج الخيول التي لا تجري إلا في ميادين الشك. هذه الخيول العاديات الضوابح تلهث خلف سراب التيه، دون أن تصل إلى يقين. ثم يقول:

"والمورياتِ على يقينِ الروحِ / قدحاً أو بَريقاً في متاهاتِ الضلالْ"

يصوّر هنا تصادم الشك باليقين: فالشك يحاول قدح شراراته فوق يقين الروح، لكنه لا يولد إلا وهجًا عابرًا أو ومضة ضياع داخل متاهات الضلال.

الإنزياح هنا يكمن في قلب الأدوار: إذ يصير الشك قنّاصًا، يهاجم أرض الروح، ولكن عبثًا.

يجسّد النص مواجهة شرسة بين الثبات الداخلي وعواصف الفكر المرتاب، أما نفسيًا وسياسيًا، فهو تعبير عن الاضطراب الذي يعيشه الإنسان حين يفقد بوصلة الإيمان بالحقائق الكبرى.

هذا المقطع يُقيم معركة بين العقل المأزوم والروح الواثقة، حيث يخسر الشك، رغم ضجيجه، أمام صمت اليقين الذي لا تُطفئه أعاصير الضلال.

يوظف الشاعر آلية التصعيد الإيقاعي والدرامي من خلال صورة الخيول العاديات، ما يضفي حركية داخلية على النص. يطرح جدلية الشك واليقين: هل الشك علامة حياة أم ضرب من الهلاك؟ يظهر هنا أن الشك الذي لا يهتدي، لا ينجب معرفة، بل ينتج تيهًا دائمًا.

النص، بهذا العمق، يتحول إلى درس تأملي عن طبيعة الحقيقة والهشاشة الوجودية أمام غواية الظن والوهم. 

ان التناص القرآني في هذا المقطع بين وواضح ولن اخوض به

18. رحلة النصال المكسورة: سفر التجربة والوعي الشعري..

سفري طويلٌ ليْتَ راحلتي وَعَتْ

أنّ التجاربَ رحلةٌ نحو البواطنِ والجوى

فيها تَكسّرت النِصالُ على النِصالْ

*

يفتتح الشاعر المقطع قائلاً:

"سفري طويلٌ ليْتَ راحلتي وَعَتْ"

في ايحاء شعري توكيدي وعميق، يستعير السفر بوصفه مجازًا للحياة ومسيرتها الداخلية، حيث يحلم بأن تعي الراحلة ثقل الرحلة وقسوتها. الانزياح هنا دلالي بالغ: إذ تتحول الراحلة/ البهيمة إلى كائن عاقل منتظر للفهم. ويتابع الشاعر بإضاءة فلسفية:

"أنّ التجاربَ رحلةٌ نحو البواطنِ والجوى"

ليُصوّر التجربة الإنسانية كغوص مستمر نحو الداخل، نحو الجوى، وهو الغمّ العميق، في ملمح نفسي واجتماعي يرصد نضوج الإنسان عبر الانكسارات. وتبلغ الصورة ذروتها في:

"فيها تَكسّرت النِصالُ على النِصالْ"

مشهد بهيج للألم المتكرر؛ فالنصال لا تتكسر على الصخر، بل على نصال أخرى، مما يخلق مجازًا مدهشًا عن قسوة الحياة، وصراع الإرادات، وانكسار الآمال فوق خيبات أخرى.. وهو تضمين لبيت من قصيدة المتنبي التي مطلعها (نعد المشرفية والعوالي/ وتقتلنا المنون بلا قتال)

فالشاعر يعيد تعريف السفر العرفاني بوصفه انكسارًا متكررًا، ورحلة شاقة صوب معرفة الذات عبر معارك لا تُحسم الا بتكسر النصول على بعضها.

انه يستثمر الكثافة التصويرية والبناء التراكمي للجملة الشعرية، فيغدو النص مشهدًا حيًّا لحركة الوعي في معترك الوجود. كما ويطرح رؤية وجودية للمعاناة:

أن النضج لا يتحقق إلا بالارتحال إلى مواطن الألم، حيث لا انتصار إلا بوعي التكرار المرير للمراس والامتحان، ولا نهوض إلا فوق أنقاض التجربة. بذلك يغدو الألم ذاته دربًا لا مفر منه في تشكيل الكينونة.

19. رهائن المسير الخفي: في معاناة الطريق والجهل البصيري..

هل أدْركتْ كُنْهَ المسيرِ رَواحلي

هيهاتَ لو عرفت إذن

ما كانَ أدركها الهُزالْ؟

يقول الشاعر:

"هل أدركتْ كُنْهَ المسيرِ رَواحلي"

في استهلال مشبع بالأسى العميق، يتساءل الشاعر عن وعي الرواحِل.. وهي استعارة للذات أو القوة الداخلية.. بجوهر الرحلة، أي المسيرة الوجودية المضنية. الإنزياح هنا بالغ الذكاء، إذ تسند الإدراك للراحلة (البهيمة العجماء)، كأنها كيانٌ يعي ويتألم. ثم يواصل:

"هيهاتَ لو عرفت إذن / ما كانَ أدركها الهُزالْ"

بإنسيابية مدهشة، ينتقل إلى تظهير المأساة: لو أدركت الرواحِل حجم التحديات، لما نخرها الهزال!. تتجلى هنا صورة نفسية واجتماعية باهرة: التعب لا يأتي فقط من الطريق، بل من الجهل بحجم الرحلة، ومن الآمال العمياء. عليه نرى ان النص.. ببنيته وأبعاده.. يرسم الضعف الإنساني حين يسير في دروب الوجود دون بوصلة، حتى تتآكله خيبات الطريق دون وعي.

الشاعر يلخص هنا تراجيديا الإنسان السائر في العتمة: أن الجهل بكُنه المسير هو بداية الإنهاك، وأن المعرفة وحدها هي التي تؤجل الهزال، أو ترفعه.

الصور الشعرية تتوهج بدفق شعوري عميق.. فالرواحِل ليست فقط أدوات سفر، بل رموز للروح المسافرة في متاهة الحياة.

ان جدلية الإدراك والمعاناة التي تطرح هنا: أن هي الا البصيرة التي تقي الروح من التهالك العبثي، فيما يؤدي العمى الوجودي إلى الذبول قبل الأوان.

إنها مرثية خفية للذات البشرية السائرة نحو مصيرها، بين وعي مأساوي أو هلاك غير مُدرك.

20. رحلة الضوال: في أشواق الإنسان وسراب المصير..

هِيَ رحلةٌ أبَديّةٌ

أشواقُها كَدموعها لا تنتهي

حتى تلاقي الروحُ ما تَعِدُ الضّوالْ

يقول الشاعر:

"هِيَ رحلةٌ أبَديّةٌ"

من الوهلة الأولى، يصوغ الشاعر جملة قصيرة لكنها مشبعة بالمعنى.. فالحياة ـ أو الوجود ذاته ـ يُصاغ كـ"رحلة" لا تعرف النهاية.. إنه انزياح بلاغي يجعل من الزمن المجهول قافلة دائمة. ويواصل:

"أشواقُها كَدموعها لا تنتهي"

في هذه الصورة الباهرة، يوازي بين الأشواق والدموع: كلاهما تيارٌ جارٍ، لا يعرف السكون. الانزياح هنا أن الشوق والدَّمع يصبحان جوهر هذه الرحلة الأبدية، وقوامها العاطفي المؤلم. ليختم بقوله:

"حتى تلاقي الروحُ ما تَعِدُ الضّوالْ"

صورة مدهشة للروح كمسافرة تلهث خلف الضوالٍ "جمع ضالة"، وعودٍ ضائعة أو أحلامٍ مفقودة، تكمل انكسارات الرحلة.

انها تلك الحياةً الإنسانية المحكومة بالبحث الدائم والافتقاد الدائم، في تشريح نفسي.. وجودي لاهث وعميق.

الشاعر ينسج سيمفونية حزينة لمسيرة الإنسان، حيث الأشواق والدموع تتقاطعان في طريق مفتوح نحو وعدٍ لا يُمسك، بل يظل يحوم في ضباب الأبد.

هذا النص يتميز بكثافة رمزية عالية، يعمل فيها الشاعر على المزاوجة بين حركة الروح المستمرة وبين سراب الأمل.

إضافة الى ما يتجلى فيه، كمرآة صافية لفكرة العبث الوجودي: أن كل بحث روحي في الحياة، هو بحث عن ضوالٍ لا تكتمل أبدًا، مما يجعل من الحياة نفسها وعدًا مؤجلًا.

وهكذا يخلق الشاعر عبر رشاقة الكلمات حزنًا ميتافيزيقيًا ناعمًا يتسلل إلى وجدان القارئ دون استئذان.

نختم لنقول:

ان العنوان يحمل في طياته دعوة للتأمل والبحث عن المعنى العميق للحياة والوجود. انه عنوان فلسفي قبل كل شيء، يدعو إلى عدم الاكتفاء بالسطح، وإلى البحث عن العلامات التي تدل على سر الحياة الأبهى، سر الجمال، سر الوجود.

العنوان يجمع بين الفلسفة الوجودية، والمعرفة التأملية، والبعد الصوفي، ليقدم لنا رؤية شاملة عن الإنسان الباحث عن الحقيقة، والذي لا يكتفي بما هو ظاهر، بل يسعى إلى ما هو مخفي، إلى السر الأبهى.

**

طارق الحلفي – شاعر وناقد / ألمانيا

.........................

رابط القصيدة

https://www.almothaqaf.com/nesos/980992

الأديبة عفاف عمورة (إينانا.. سيدةُ البداياتِ التي لا تنطفئ)

تحمل قصيدة "إينانا... سيدةُ البداياتِ التي لا تنطفئ" للشاعرة الفلسطينية عفاف عمورة طاقةً رمزيةً كثيفة، تتجلّى من خلال استدعاء الرمز الأسطوري لإينانا، آلهة الحياة والخصب والموت، والانبعاث في الميثولوجيا السومرية. هذا الاستدعاء لا يُقصد به مجرد إحالة جمالية، بل ينبثق من عمق نفسي وشعوري يجعل من القصيدة رحلة وجودية داخل الذات الأنثوية المعذّبة والمنبعثة في آن. تنتمي هذه القراءة إلى المنهج النفساني الرمزي، مستندةً إلى مفاهيم كارل غوستاف يونغ، لا سيما "الذات"، "الأنيموس"، "الظل"، و"الرحلة التحولية".

المحور الأول: إينانا كرمز أرشيتيبي — تجلّي الأنوثة الكونية:

في اللاوعي الجمعي بحسب كارل غوستاف يونغ، تمثل الآلهات الإناث (كإينانا، عشتار، ديميتير، إيزيس...) صورة الأنيما، وهي الأنثى الداخلية الموجودة في نفس الرجل، كما تمثّل الأنوثة الكونية الخلّاقة في وعي المرأة. تقول في القصيدة:

 "مثلُ إينانا، تنهضينَ من سُباتِ الليلِ، وتنفضينَ عن كاهلكِ غبارَ الأزمنةِ الخائنة،"

هنا نرصد حركة إينانا من الركود إلى النهوض، من الظلام إلى النور، وهي سمة أساسية في بنية "الرحلة البطولية" الأنثوية. إينانا ليست مجازاً للمرأة، بل المرأة بوصفها أسطورة، قادرة على التجدّد من تحت ركام الألم والخيانة والزمن،والقهر السياسي والعسكري المدمّر، وهو ما يرسّخ حضورها كرمز للذات المتمرّدة على الاستلاب.

المحور الثاني: الرحلة إلى العمق — النزول إلى الظل والموت الرمزي:

يحدّثنا كارل غوستاف يونغ عن أهمية مواجهة "الظل"، أي الجانب المظلم من النفس، في سبيل تحقيق التكامل النفسي. تظهر هذه الرحلة في القصيدة:

 "مثلُ إينانا، تنزلينَ إلى ظلماتِ الذات، واجهينَ الموتَ دونَ ارتجاف، وتعودينَ منهُ مكلّلةً بأكاليلِ البقاء."

إنها رحلة التحوّل الداخلي، حيث تنزل البطلة إلى عتمة الذات، تواجه موتاً رمزياً، لكنها تعود — كما في الأسطورة — محمّلةً بوعي جديد، ببذور الولادة التالية. في هذا السياق، يُقرأ الموت لا كفناء بل كمرحلة من مراحل النضج النفسي، وفقاً لما يؤكده يونغ: "لا يُمكن للإنسان أن يصبح مستنيراً بتخيّل صور النور، بل عبر جعل الظلمة واعية".

المحور الثالث: الحبّ كقوة شافية — الأيروس الإلهي لا الغريزي:

في مقابل العنف والانكسار، تتمركز الأنثى في القصيدة كينبوع حبّ غير مشروط ، تقول: "تُحبّينَ لا كالبشرِ، بل كما تُحبُّ الأرضُ مطرَها، وكما يعشقُ القمرُ انسكابَهُ في البحر."

الحبّ هنا ليس فعلاً شخصياً بل كوسمولوجياً، ينتمي إلى دائرة الأيروس المقدّس في فكر  كارل غوستاف يونغ، حيث يصبح الحبّ قوة شافية، طاقة تدمج الأضداد: الحنوّ والغضب، الجسد والروح، الموت والحياة. بهذا الحبّ، تُضمّد الشاعرة الجراح الجمعية، وتحوّل الأنثى إلى كاهنة/مُعالجة، لا مجرد حبيبة.

المحور الرابع: اللغة بوصفها مسكن الأنثى وصوتها، تقول :

 "تسكنينَ الحرفَ كما تسكنُ الروحُ جسدَها، وتَكتبينَ الزمانَ بأناملِ الإشراق."

هنا تتحوّل اللغة إلى امتداد للكيان الأنثوي. ليست الكتابة ترفاً، بل وسيلة للبقاء، ولإعادة كتابة الزمن/القدر. وفقاً ليونغ، تصبح اللغة إحدى وسائل تحقيق "الذات" وتفريغ اللاوعي. الكتابة الشعرية، إذاً، تُشكّل هنا طقساَ طهورياً، وتحريراً من الصمت والجُرح.

المحور الخامس: حضور الوطن والمنفى — البعد الجماعي للذات الأنثوية. تقول الشاعرة عفاف عمورة : "تُقيمينَ فينا كما يقيمُ الوطنُ في دمِ الغريب، وتُوقظينَ في قلوبِ المرهقينَ شهوةَ العودةِ إلى الحياة."

تُجسّد إينانا المعاصرة هنا الأنثى اللاجئة/المنفية، الحاملة لذاكرة الوطن السليب والحنين لكل ذرة تراب فيه وهو فلسطين من البحر إلى النهر ، لكن من موقع منيع لا هش. في هذا البُعد، تتقاطع الذات الأنثوية مع الهوية الجماعية الفلسطينية، فتُصبح المرأة هنا حاملًا للذاكرة، ومعادلاً للوطن المسلوب، بل ومحفّزاً على استرداده.

خاتمة: إينانا الجديدة — بين الأسطورة والتحقّق النفسي.

في قصيدة عفاف عمورة، لا تظهر إينانا بوصفها تمثالًا أسطورياً جامداً، بل كطاقة رمزية متحرّكة، تتلبّس الذات الأنثوية المعاصرة، لتقدّم من خلالها مشروعاً للنهضة النفسية والوجودية. تُصبح الأنثى بذلك رمزاً للحياة وسط الموت، وللمعنى وسط الفراغ، وللنور وسط الظلمة.

إنها القصيدة التي تُعيد للرمز الأسطوري حياته، وتمنحه جسداً نابضاً، ينهض من تحت أنقاض الحروب والخذلان، ويُعلن: "أنا البداية التي لا تنطفئ".

***

بقلم: عماد خالد رحمة - برلين

.......................

إينانا... سيدةُ البداياتِ التي لا تنطفئ

مثلُ إينانا، تنهضينَ من سُباتِ الليلِ،

وتنفضينَ عن كاهلكِ غبارَ الأزمنةِ الخائنة،

تسيرينَ بثوبِ النورِ،

فتنحني لكِ الجهاتُ،

وتُشرِقُ في خطاكِ معالمُ البدايات.

*

كأنكِ دعاءُ الأمهاتِ في المهاجر،

أو دمعةُ العاشقِ حينَ يضيعُ الوطن،

كأنكِ البُشرى التي تهمسُ بها النجومُ

لقلبِ الأرضِ المتعبِ.

*

تُحيينَ ما ماتَ من القصائدِ،

وتنثرينَ على قلوبِ الذاهلينَ

عبقَ الدهشةِ الأولى،

كأنكِ نارٌ أوقدها العشاقُ

في معابدِ الانتظار،

تُضيئينَ بها ليالي الغيابِ

وتُطهّرينَ بها جُرحَ الصمتِ.

*

حينَ تسقطُ المدنُ،

وتخفتُ في الشرايينِ أنفاسُ الانتماء،

تكونينَ الحنينَ الذي لا يُنسى،

والصوتَ الذي يُعيدُ للهويةِ معناها.

أنتِ يا ابنةَ الفجرِ،

من رَشّت على ترابِ الوجودِ

ندى البدايات.

*

تُحبّينَ لا كالبشرِ،

بل كما تُحبُّ الأرضُ مطرَها،

وكما يعشقُ القمرُ انسكابَهُ في البحر.

تُحبينَ بحنوِّ السكينة،

وبغضبِ الأعاصير،

وتُضمّدينَ بالقبلِ ما مزّقتهُ الحروبُ في الأرواح.

*

تسكنينَ الحرفَ كما تسكنُ الروحُ جسدَها،

وتَكتبينَ الزمانَ بأناملِ الإشراق،

تمشينَ فوقَ جراحِنا

كأنكِ نشيدٌ لا يُنسى،

وكأنكِ وعدٌ لا يُخلف.

*

مثلُ إينانا، تنزلينَ إلى ظلماتِ الذات،

تواجهينَ الموتَ دونَ ارتجاف،

وتعودينَ منهُ

مكلّلةً بأكاليلِ البقاء.

*

أنتِ القصيدةُ التي لم تُكتبْ بعد،

والأُمنيةُ التي تأبى أن تموت.

تُقيمينَ فينا كما يقيمُ الوطنُ في دمِ الغريب،

وتُوقظينَ في قلوبِ المرهقينَ

شهوةَ العودةِ إلى الحياة.

*

أنتِ، مثلُ إينانا،

سيدةُ النهاياتِ التي تبدأ،

وملكةُ البداياتِ التي لا تنطفئ،

سِرُّ الحياةِ حينَ تُنسى،

ونبضُها حينَ تُطفأُ القلوب.

***

بقلم: عماد خالد رحمة - برلين

لرواية (الوقوف على عتبات الأمس) للأديب المصري أحمد طايل.. دراسة نقدية سيميائية

عنوان الرواية "الوقوف على عتبات الأمس" للأديب المصري أحمد طايل، عنوان يحمل في طياته دلالات نفسية واجتماعية وفكرية عميقة تتجاوز المعنى السطحي للكلمات، لتصل إلى تساؤلات في الهوية والانتماء، بل تسجيل موقف، هو موقف كاتب العمل، وانحيازه للهوية المصرية، بحركتها الحضارية الديناميكية، دون ان يغرق نفسه في تقديس كل ما ينتمي إلى الماضي؛ وسنثبت استنتاجنا هذا من خلال تفكيك عنوان الرواية، باعتباره العتبة الأولى، والأهم، واستخراج دلالاته ، ومن ثم الانتقال إلى متن الرواية التي امتدّت على أكثر من 140 صفحة من القطع المتوسط، في النسخة الإلكترونية المتوفرة عندي، واستخراج الدلالات والإشارات التي تؤكد مضمون العنوان.

تفكيك دلالات العنوان:

الوقوف: يشير إلى حالة من التردد أو التأمل أو الترقب. البطل في الرواية ليس منغمسًا تمامًا في الماضي، ولكنه أيضًا ليس منفصلًا عنه. إنه يقف على أعتابه، يسترجع ذكرياته ويقارنها بالحاضر. هذا الوقوف يعكس حالة نفسية معقدة من الحنين والضياع والرغبة في استعادة الهوية.

عتبات: توحي بالحدود أو الفواصل بين مرحلتين أو عالمين. العتبة مكان انتقالي، يفصل بين مكانين، زمانين، أو حالتين مختلفتين، ولكن، متلاصقتين أيضاً، وهو أيضًا مكان يثير التساؤلات والذكريات. عتبات الأمس تمثل ذكريات الماضي، وتقاليده، وقيمه. الوقوف على هذه العتبات يعني استحضار الماضي ومواجهته.

الأمس: يرمز إلى الماضي بكل ما يحمله من ذكريات، وأشخاص، وأحداث. الأمس ليس مجرد فترة زمنية، ولكنه أيضًا مخزن للهوية والتراث والقيم. في الرواية، الأمس هو القرية بكل تفاصيلها البسيطة والحميمة.

الدلالات المستخرجة من العنوان:

الحنين والذاكرة: العنوان يعكس بقوة موضوع الحنين إلى الماضي واستعادة الذكريات. البطل يقف على عتبات الأمس يسترجع أيامه الخوالي ويحن إلى بساطة وجمال الحياة في القرية.

صراع الهوية: العنوان يوحي بصراع الهوية الذي يعيشه البطل، بين هويته القديمة المتجذرة في القرية، وهويته الحديثة التي تشكلت في المدينة. إنه يقف على عتبة هذا الصراع، يحاول التوفيق بين العالمين.

التغير والتطور: العنوان يحمل في طياته فكرة التغير والتطور الذي يشهده المجتمع. الوقوف على عتبات الأمس يعني أيضًا مواجهة التغيرات التي طرأت على القرية ومحاولة فهم تأثيرها على الهوية والقيم.

التأمل والتساؤل: العنوان يعكس حالة التأمل والتساؤل التي يمر بها البطل. إنه يتأمل في الماضي، ويتساءل عن الحاضر والمستقبل، ويحاول إيجاد معنى لوجوده في هذا العالم المتغير.

باختصار، عنوان الرواية "الوقوف على عتبات الأمس" هو عنوان مكثف ومعبر، يحمل في طياته العديد من الدلالات والمواضيع الرئيسية التي تتناولها الرواية. إنه عنوان يلخص رحلة البطل النفسية والروحية، ويعكس صراع الهوية والحنين إلى الماضي في وجه التغيرات الحديثة.

نظام العلامات

السيميولوجيا، كما طوّرها فرديناند دي سوسير، تركز على العلاقة بين الدال (الصيغة اللغوية) والمدلول (المفهوم أو الفكرة). في الرواية، تُستخدم العلامات لاستكشاف مواضيع مثل الهوية، الذاكرة، والتغيير الاجتماعي.

مقدمة

رواية "الوقوف على عتبات الأمس" هي عملٌ سرديٌّ يجمع بين الذكريات الشخصية والانتماء الجمعي، مع التركيز على الصراع بين التراث والحداثة في سياق مصري ريفي. يتمحور التحليل السيميولوجي حول دراسة العلامات (الكلمات، الشخصيات، الأحداث، الرموز) وكيفية تكوينها للمعنى، مستخدمًا الاقتباسات من النص لتوضيح كل جانب.

١. بنية الثنائيات الضدية:

الثنائيات المعارضة هي زوج من المفاهيم المتناقضة تساعد في ترتيب المعنى في النص.

ثنائية الماضي والحاضر:

تتجاوز هذه الثنائية مجرد الحنين، لتصبح صراعًا بين الأصالة والمعاصرة. الماضي يمثل القيم الريفية الأصيلة، بينما الحاضر يجسد تأثيرات العولمة والتغيرات الاجتماعية. العودة إلى القرية ليست مجرد رحلة نوستالجية، بل هي محاولة لإعادة اكتشاف الذات في مواجهة التغيرات. البطل يصارع بين هويته القديمة والواقع الجديد.

لنقرأ هذا الاقتباس الذي يوضح التحول المادي الملموس الذي يراه البطل: "هذا الطريق الذي كنت أسير به ذهابًا وعودة لسنوات طويلة، كان مجرد حقول على الجانبين، الآن لا وجود لأي نوع من الزراعات"، والاقتباس التالي يعمّق فكرة الحنين إلى الماضي كحنين إلى قيم اجتماعية وإنسانية: "أحلم بعودة الريف إلى ريفيته، إلى عفويته، إلى تراحمه، إلى المشاركة بالأحزان قبل الأفراح".

من ناحيةٍ أخرى فإنّ توقّع المجتمع لعودة البطل دلالةٌ ذكيّةٌ على قوة الذاكرة الجمعية والانتماء الدائمة، مما يشكل علامة للاستمرارية: "كنا ننتظر هذا اليوم من سنوات وكنا جميعًا على ثقة أنك عائد عائد فالأيام لا تمحو ما فعلت حتى إن بعدت لعقود حزنًا على تغييرات حدثت ما كنت تتوقعها" (ص. 4).

ثنائية المدينة والقرية:

لا تقتصر الثنائية على المكان، بل تمتد لتشمل نمط الحياة، والعلاقات الاجتماعية، والقيم. المدينة تمثل الفردية والتحرر، بينما القرية تمثل الجماعية والترابط الأسري. البطل، المثقف العائد من المدينة، يحمل في داخله صراعًا بين هذين العالمين، ويعي المفارقة بين رفاهية الحياة في المدينة، ودفء الحياة في القرية: "على الرغم من سكناي بأرقى الأماكن ومدى الرفاهية التي أعيشها إلا أن أجمل لحظاتي هي ذهابي للموعد الشهري الذي نلتقي به جميعا كإخوة"؛ والاقتباس التالي يلخص انتماء البطل العاطفي للقرية: " باختصار كلما قارنت بين القرية والمدينة، أحن إلى خبز أمي. هذا أنا..."

ثنائية الحياة والموت:

الموت ليس نهاية، بل هو جزء من دورة الحياة في القرية. وخير ما يمثل هذه الفكرة في الرواية هي زيارة المقابر التي تذكّر البطل بالروابط العائلية والاجتماعية التي تتجاوز الموت. فالمقبرة تصبح مكانًا للتواصل مع الماضي والأجداد، وتأكيدًا على استمرارية الهوية. "مررت بيدي على الجدران وكأنني أطلب منهم السلام عليّ، وجدت نفسي لا إراديًّا أجثو على قدمي، أرفع يديّ أقرأ الفاتحة بصوت عال بعض الشىء ولساني يلهج بالدعوات"، وهل هناك علاقة روحية آكثر من الحديث بين الأحياء والأموات؟

2. تحليل سيميائية الشخصيات والعلاقات:

البطل (رشدي):

يمثل المثقف الحائر بين الماضي والحاضر، والباحث عن الهوية في زمن التغير. تطوره النفسي خلال الرواية مهم، حيث يبدأ برحلة نوستالجية وينتهي بمشروع لإحياء قريته. * "عدت؛ لأن هذه قريتي وهؤلاء أهلي، لم أبحث عن شغل فراغ كما قلت؛ لأني لست موظفا، أنا صاحب شركات لها اسمها".

أهل القرية:

يمثلون مجتمعًا متماسكًا يحافظ على قيمه وتقاليده، ولكنهم أيضًا يواجهون تحديات التحديث. هناك تنوع في الشخصيات (الشيوخ، الشباب، المتعلمون) مما يثري صورة المجتمع... "قريتنا تثير غيرة القرى المجاورة بها عدد قد يدهشك إن صرحت به من أساتذة الجامعة في كل مجالات العلم".

العلاقات الأسرية:

تلعب دورًا محوريًا في الرواية، حيث تمثل الأسرة مصدر الدعم والانتماء للبطل. علاقة البطل بأبيه المتوفى دلالة على استمرار مجتمع الرواية يتوارث القيم على تعاقب الزمن، بمعنى آخر: القيم الأصيلة لا تموت.

3. تحليل سيميائية المواضيع والرموز:

الحنين إلى الماضي:

يتجاوز كونه شعورًا شخصيًا ليصبح قوة دافعة للتغيير الإيجابي في الحاضر.

الماضي يقدم حلولًا أو قيمًا يمكن الاستفادة منها في مواجهة تحديات الحاضر... "أحلم بعودة الريف إلى ريفيته، إلى عفويته، إلى تراحمه، إلى المشاركة بالأحزان قبل الأفراح".

التغير الاجتماعي:

يتم استكشافه من خلال مظاهر مادية (تغير شكل البيوت والزراعة) وقيمية (تغير العلاقات الاجتماعية والأخلاق).  الرواية تقدم رؤية نقدية للتحديث السطحي الذي يركز على المظاهر ويتجاهل الجوهر..."حتى بعض الفلاحين تغيرت بعض أمورهم، الكثير منهم بالحقول صار يرتدي البنطلون، وبين أيديهم أجهزة المحمول على تنوع ماركاته، حتى الفتيات تغير تام حدث لهن، ثياب على أحدث الموضات، ورأيت شابات يحتضنَّ أيادي الشباب، ذهب الخجل العفوي الذي كان مصاحبًا لهن، فقد كن يسرن دومًا على مسافات متباعدة عن الشباب، حقًّا العولمة تزحف سريعًا". "نحن نأخذ من أيِّ متغير القشرة الخارجية لا يهمنا المحتوى".

4. الرموز والعلامات:

* البيت: يرمز إلى الهوية والجذور والانتماء، وهو مكان استعادة الذكريات والقيم الأصيلة.

* الحقول والزرع: ترمز إلى الخصوبة والعطاء والارتباط بالأصل، وهي مصدر فخر واعتزاز لأهل القرية؛ لكنها تتقلص مع الزحف العمراني، مما يعكس فقدان جزء من الهوية.

* الجذع الشجري المنحني: يرمز إلى استمرارية الحياة وتجددها، والارتباط العميق بين الإنسان والطبيعة.

* إرث الأب: رمز للثروة الحقيقية، ليست مادية، بل مبنية على الروابط الإنسانية والإيثار. هذا يضع معيارًا أخلاقيًا يسعى البطل لتحقيقه، مما يعكس علامة للقيم الثقافية..

5. بنية السرد وزمن الرواية:

بنية السرد واستخدام الزمن في الرواية لهما أهمية كبيرة في التحليل السيميولوجي.

* الوصف الغني:

اعتمد السرد على الوصف المفصّل للمشاهد والشخصيات والأحداث، مما خلق جوًا واقعيًا وحيويًا. الوصف ليس مجرد تزيين بلاغي أو بياني، بل هو أداة لإبراز الثنائيات الضدية والمواضيع الرئيسية.

* تعدد الأصوات:

لم تقتصر الرواية على صوت البطل، بل تضمنت أصواتًا أخرى من أهل القرية، مما يثري السرد ويقدّم وجهات نظر مختلفة. هذا التعدد الصوتي يساعد في رسم صورة شاملة للمجتمع الريفي.

* تكسير الزمن الخطي

يتنقل السرد بين الماضي والحاضر، مما يعكس رحلة البطل الداخلية. هذا الهيكل غير الخطي يدل على تفاعل الذاكرة مع الواقع، مشيرًا إلى أن الماضي ليس مجرد خلفية، بل قوة نشطة تشكل الحاضر، مما يشكل علامة لتداخل الزمن.

* الزمن الدوري:

عودة البطل إلى القرية وقراره البقاء يشيران إلى نمط دوري، حيث أن الذهاب والعودة جزء من دورة حياة أكبر.

هذه الدورية تعزز موضوع الاستمرارية وطبيعة الروابط الثقافية والعائلية الدائمة، مما يعكس علامة للاستدامة.

* التركيز على الذاكرة:

يعتمد السرد، في الرواية، وبشكلٍ كبيرٍ، على الذاكرة واسترجاع الماضي، مما يخلق بنية زمنية غير خطية؛ والذكريات ليست مجرد استطرادات، بل هي جزءٌ أساسيٌّ من بناء المعنى وتطوّر الشخصيات.

اقتباس: الأحلام التي تدفع عودة البطل هي أداة رئيسية لدمج الماضي بالحاضر.

هذا الهيكل غير الخطي يدل على تفاعل الذاكرة مع الواقع، مشيرًا إلى أن الماضي ليس مجرد خلفية، بل قوة نشطة تشكل الحاضر، مما يشكل علامة لتداخل الزمن.

الخلاصة:

رواية "الوقوف على عتبات الأمس"، للأديب المصري أحمد طايل، هي عمل أدبي غني بالدلالات والعلامات السيميولوجية المعقدة. من خلال تحليل الثنائيات الضدية، والشخصيات، والمواضيع، والرموز، وبنية السرد، نرى أن الرواية تتجاوز مجرد الحنين إلى الماضي لتقديم رؤية عميقة للتغير الاجتماعي وصراع الهوية في المجتمعات الريفية. إنها دعوة للتوازن بين الأصالة والمعاصرة، وللحفاظ على القيم الإنسانية في وجه التحديات الحديثة.

***

منذر فالح الغزالي

بون/ ألمانيا الاتحادية في ٣/٥/٢٠٢٥

 

يُعْتَبَر الشاعرُ السوري نِزار قَبَّاني (1923 دِمَشْق _ 1998 لندن) أَحَدَ أبرز وأشهر الشُّعَراء العرب في القرن العشرين، وَهُوَ أكثرُ شُعراء العربية إنتاجًا وشُهرةً ومَبِيعًا وجَمَاهيرية، بسبب أُسلوبه السَّهْل المُمْتَنِع، وشَفَافيةِ شِعْرِه، وغِنائيته، وبساطته، وسُهولة الوُصول إلى الجُمهور، مِمَّا جَعَلَه يَحْظَى بِشَعبية واسعة في العَالَمِ العربي.

أَصْدَرَ أَوَّلَ دَواوينه عام 1944، بِعُنوان (قالتْ لِيَ السَّمْراء)، وَقَدْ نَشَرَه خِلال دِراسته الحُقُوق، حَيْثُ قامَ بطبعه عَلى نَفَقَتِه الخَاصَّة، وَقَدْ أثارتْ قصائدُ دِيوانِه الأوَّلِ _ الذي ضَمَّ قصائد جريئة في الغَزَلِ والتَّغَنِّي بِجَسَدِ المَرْأةِ ومَفَاتِنِهَا _ جَدَلًا واسعًا، وَذَاعَ صِيتُهُ بَعْدَ نَشْرِ الدِّيوان كَشَاعِرٍ إبَاحِيٍّ. وَقَدْ هُوجِمَ مِنْ قِبَلِ الشَّرائحِ المُحَافِظَةِ التي اعْتَبَرَتْهُ شِعْرًا إبَاحِيًّا هَدَّامًا. والصَّرَاحَةُ الجِنْسِيَّةُ في البيئة الدِّمَشْقِيَّة المُحَافِظَة كَانَتْ تَعَدِّيًا واضحًا على العاداتِ والتقاليدِ والقِيَمِ، لَمْ يَجْرُؤْ عَلَيْهِ سِوَى شَابٍّ صَغِير السِّنِّ.

يَقُولُ قَبَّاني بأسى عَمَّا جَرَى حِينَ صُدور ذلك الدِّيوان: " أَحْدَثَ وَجَعًا عَمِيقًا في جَسَدِ المَدينةِ التي تَرْفُضُ أنْ تَعترفَ بِجَسَدِهَا أوْ بأحلامِها، لَقَدْ هَاجَمُوني بِشَراسةِ وَحْشٍ مَطْعُون، وكانَ لَحْمِي يَوْمَئِذٍ طَرِيًّا ".

وفي هذا الدِّيوانِ، تَتَعَدَّد الأصواتُ الشِّعْرية، وتَتكاثرُ الاتِّجَاهاتُ الوِجْدانية والحِسِّية، والقَصائدُ تَتَرَاوَحُ في خِطَابِهَا بَيْنَ العَاشِقِ وَالعَاشِقَةِ، بَيْنَ البَغِيِّ والفَتَاةِ الضَّحِيَّةِ، بَيْنَ مُتَسَوِّلِ المُتعةِ العابرةِ وَالواقعِ الهَشِّ الذي قَدْ يُفْضِي لاستجداءِ العاطفةِ.

إحدى قَصائدِ الدِّيوانِ بِعُنوانِ (وَرَقَة إلى القارئ) يَقُولُ فِيهَا قَبَّاني : " شِرَاعٌ أنا لا يُطِيقُ الوُصُولَ / ضَيَاعٌ أنا لا يُرِيدُ الهُدَى ". هَذا البَيْتُ الشِّعْرِيُّ يُمَثِّلُ البِطاقةَ التَّعريفية الأُولَى للشاعرِ السُّوري في بِدَاياته، بِمَا يَحْمِلُه مِنْ رَفْضِ الشَّبَابِ وثَوْرَتِهِ وتَمَرُّدِهِ وَعُنْفُوَانِه. كما أنَّ قَصائدَ الدِّيوانِ تُسلِّط الضَّوْءَ عَلى المَشاعرِ الجَيَّاشَةِ والعَوَاطِفِ الفائرةِ للشَّابِّ الذي يَعِيشُ أُولَى سَنَوَاتِ العِشْرِين.

والرَّفْضُ كَانَ مَنْهَجًا شِعريًّا قائمًا بذاته عِند قَبَّاني في كُلِّ مَراحلِ حَيَاتِهِ الشِّعْرِية، وَلَمْ يَكُنْ شُعورًا عابرًا، والتَّمَرُّدُ كَانَ سِياسةً لُغوية في جَميعِ كِتاباته الشِّعْرية والنَّثْرية، وَلَمْ يَكُنْ إحْسَاسًا وَلِيدَ الصُّدْفَةِ. أي إنَّ الرَّفْضَ والتَّمَرُّدَ شَكَّلا هُوِيَّةً وُجوديةً دائمةً ومُستمرة للشَّاعِرِ الذي سَيَطْغَى اسْمُهُ ويَنتشر صِيتُهُ في الشِّعْرِ العربيِّ المُعَاصِرِ، لذلكَ آثَرَ قَبَّاني تَربيةَ العَدَاوَاتِ معَ السُّلْطَةِ، وَلَيْسَ مُجاملتها والتَّقَرُّب إلَيْهَا والانخراط تَحْتَ ظِلِّ شُعراءِ البَلاطِ.

وَقَدْ هَاجَمَ الشَّيْخُ علي الطنطاوي نزارَ قَبَّاني ودِيوانَه (قالتْ لِيَ السَّمْرَاء) قائلًا : " طُبع في دِمَشْق مُنْذُ سَنَة كتاب صغير، زاهي الغِلاف ناعمه ملفوف بالورق الشَّفَّاف الذي تُلَفُّ بِهِ عُلَبُ الشُّكولاتةِ في الأعراس، مَعْقُود عليه شريط أحمر كالذي أوجبَ الفرنسيون أوَّلَ العهد باحتلالهم الشَّام وَضْعَه في خُصورِ بَعْضِهِنَّ لِيُعْرَفْنَ بِه، فيه كلام مَطبوع على صِفَة الشِّعْر، فيه أشطار طُولها واحد، إذا قِسْتَهَا بالسنتمترات، يَشتمل عَلى وَصْفِ مَا يَكُون بَيْنَ الفَاسقِ القَارحِ، والبَغِيِّ المُتَمَرِّسَةِ المُتَوَقِّحَة، وَصْفًا واقعيًّا، لا خَيَال فيه، لأنَّ صاحبه ليس بالأديب الواسع الخَيَال، بَلْ هُوَ مُدَلَّلٌ، غني، عزيز على أَبَوَيْه، وهو طالب في مدرسة، وَقَدْ قَرَأَ كِتَابَه الطلابُ في مدارسهم، والطالباتُ " [مجلة الرِّسَالة، العدد 661، 4 آذار (مارس) 1946].

وكما يَظْهَر اسْمُ الشاعر نِزار قَبَّاني وديوانُه (قالتْ لِيَ السَّمْرَاء) في الشِّعْرِ العربيِّ المُعَاصِر، يَظْهَرُ اسْمُ الشَّاعر التشيلي بابلو نِيرودا (1904_1973/ نوبل 1971) في الشِّعْرِ الإسبانيِّ المُعَاصِر وَدِيوانُه (عِشْرُون قصيدة حُب وأُغْنِيَةٌ يائسةٌ / 1924)، وَقَدْ أثارَ الجَدَلَ بسبب مُحْتواه الجِنْسِيِّ، لا سِيَّمَا بالنَّظَر إلى سِنِّ المُؤلِّف المُبَكِّرَة جِدًّا. وَيَعْتَبِرُهُ النُّقَّادُ أشهرَ دِيوان شِعْري في اللغة الإسبانية، بَلْ إنَّهُ أكثر الدواوين انتشارًا ومَبِيعًا في تاريخ هذه اللغة على الإطلاق.

يَنْتمي هَذا الكِتَابُ إلى فَترةِ شباب نِيرودا، وكثيرًا مَا يُوصَف بأنَّه تَطَوُّر واعٍ لأُسلوبِه الشِّعْرِيِّ، مُتَجَاوِزًا القَوالِب الحَدَاثية السائدة التي مَيَّزَتْ أعْمَالَه السَّابقة. ومعَ أنَّ القَصائد مُسْتَوْحَاة مِنْ تَجَارِب نِيرودا العاطفية الواقعية في شبابه، إلا أنَّ الكتاب لَيْسَ مُهْدى لحبيبة واحدة فقط.

والشاعرُ يَمْزُجُ الصِّفَات الجَسدية لِمُخْتَلَفِ النِّسَاءِ في شَبَابِه لِيُشَكِّلَ مِثَالًا لِلْحَبيبةِ، لا يُشير إلى أيِّ شخص مُحَدَّد، بَلْ يُجَسِّد فِكرةً شِعريةً بَحْتَة عَنْ حَبيبته. وَقَد ابتعدَ نِيرودا عَن الطُّمُوحِ الشِّعْرِيِّ والبَلاغَةِ الرَّفيعةِ التي سَعَتْ إلى تَجسيدِ أسرارِ الإنسانيةِ والكَوْنِ، وَاقْتَرَبَ مِنَ البَسَاطَةِ والعَفْوِيَّةِ، حَيْثُ تَتَمَيَّزُ مُفْرَدَاتُ الدِّيوانِ بالسُّهُولَةِ، فَهِيَ تَنْتَمِي إلى نِطَاقِ اللغة الأدبية التقليدية المُرتبطة بالرُّومانسية والحَدَاثة. وهَذا الدِّيوانُ لَمْ يَكُنْ وَحْدَه ذَا طَابَعٍ حَزين ومُؤلِم بَيْنَ أعمالِ نِيرودا، فَقَدْ عَاصَرَ الشاعرُ التشيلي مُعْظَمَ الحُروب والأحداث التي عَصَفَتْ ببلاده وبالعَالَمِ خِلال القَرْن العِشْرين.

وَمِنْ أبرزِ الأحداثِ التي تَرَكَتْ جِرَاحًا غائرةً في نَفْسِه، مَقْتَلُ أو انتحار صَدِيقِهِ الرَّئيس التشيلي المُنْتَخَب آنذاك سَلْفادور أليندي داخل القَصْر الرئاسي عام 1973، الذي أطاحَ بِهِ قائدُ الجَيْشِ أُوغستو بينوشيه. وَقَدْ تُوُفِّيَ نِيرودا بَعْدَ مَقْتَلِ أليندي ببضعة أيام، وكانَ آخَرُ الجُمَلِ، وَلَعَلَّهَا آخِرُ جُملة في سِيرته الذاتية (أعترفُ بأنَّني قَدْ عِشْتُ): " لَقَدْ عَادُوا لِيَخُونوا تشيلي مَرَّةً أُخْرَى ".

***

إبراهيم أبو عواد / كاتب من الأردن

"يقول النهر أنت ابني" للشاعر العراقي فارس مطر

المقدمة: يُعد الشعر العربي الحديث، ولا سيما في تجاربه ما بعد التفعيلة، مساحةً رحبة لاستبطان الذات في علاقتها بالكون والمصير والآخر. ومن بين هذه الأصوات المعاصرة، يبرز الشاعر العراقي فارس مطر، الذي يحمل تجربته الوجودية عبر نسيج لغوي متوترٍ بين الفقد والانبعاث.

مؤكداً أنَّ الثقافة العربية المعاصرة تشهد صراعاً على المفاهيم وتداخلاً في الدلالات، ولعلّ أبرزها مفهوم التعدّدية، الذي حُصر في إطاره السياسي الحزبي الضيق، وتُركت أبعاده الحضارية والأنتروبولوجية والثقافية خارج التداول أو التفعيل. في الوقت ذاته، تواصل القصيدة العربية الحديثة لعب دورها في التعبير عن تلك الأزمة، عبر مساءلة الوجود والهوية والذاكرة من داخل فضاء لغوي مشحون بالرمز والمنفى والانتماء المتشظي.

إنّ المفهوم الرائج للتعددية في المشهد العربي يكاد ينحصر في البعد الحزبي أو التياري، بوصفها مجرَّد ترخيص قانوني لوجود آراء سياسية متعدّدة. غير أنّ التعدّدية في بعدها العميق، كما يراها مفكرون كـالمفكر الجزائري (مالك بن نبي) أحد رُوّاد النهضة الفكرية الإسلامية في القرن العشرين والمفكر المغربي (محمد عابد الجابري)، تتعلق بقدرة الثقافة على تمثّل الآخر، وهضم التنوع وإعادة إنتاجه من داخل الذات، دون أن يُنظر إليه كتهديد.

إنّ المجتمعات التي لم تطوّر أدوات معرفية وهوياتية تستوعب التعدد، تفشل في تحويل التنوع إلى طاقة، وتحوّله بدلاً من ذلك إلى صراع أو انقسام. وهذا ما عبّر عنه عالِم الاجتماع البولندي زيغمونت باومان حين قال: "المجتمع الذي لا يتقن فنّ الاختلاف، لا ينجو من شبح التفكك."

في المقابل، نرى أنَّ التعددية في الحضارة العربية الإسلامية، في فترات ازدهارها، لم تكن مجرد تسامح سلبي، بل مشروعاً فعلياً للتفاعل الخلاق مع الآخر؛ فمدن مثل بغداد وقرطبة والقاهرة ودمشق والقدس لم تكن محطات عبور ثقافية فقط، بل مختبرات كبرى لإنتاج معرفة متعددة اللغات والانتماءات، كتبها وأثراها شعراء وفلاسفة وأطباء من أديان وقوميات شتى.

وهذا ما يجعلنا نعيد التفكير في التعددية، لا كسياسة، بل كـ (حس حضاري)، كما يسميه الناقد والمفكر الفلسطيني إدوارد سعيد، يكون بمثابة القدرة على الإصغاء إلى الآخر دون أن ترتعد ذاتك.

في ظل هذا العجز عن تمثل التعددية كهوية حضارية، تأتي القصيدة الحديثة، ومنها نص فارس مطر، لتجسد مأساة الذات العربية الممزقة بين أصل منسي ومنفى دائم. القصيدة "يقول النهر أنت ابني" ليست فقط تأملاً في العلاقة بين الإنسان والمكان، بل مرآة لخيبة ثقافية أعمق.

من هذا المنطلق، تهدف هذه الدراسة إلى دمج مسارين فكريين متوازيين: الأول نقدي ثقافي يرصد الخلل في تلقي وتوظيف مفهوم التعددية في الثقافة العربية، والثاني تحليل شعري يتخذ من قصيدة "يقول النهر أنت ابني" لفارس مطر نموذجاً لتجسيد أزمة الهوية والمنفى والبحث عن الأصل. وسنرى كيف يتقاطع الرمز الشعري مع المفهوم الثقافي لتشكيل صورة بانورامية لأزمة الوعي العربي الحديث، بين عجزه عن تمثل التعددية حضارياً، وحنينه المستميت إلى ضفاف مفقودة.

في قصيدته "يقول النهر أنت ابني"، يعيد الشاعر مطر تشكيل العلاقة بين الإنسان والطبيعة في بنيةٍ دراميةٍ تضع الذات في مواجهة مأساوية مع الزمن والذاكرة والموت.

تسعى هذه الدراسة إلى تقديم قراءة نقدية موسعة للقصيدة، عبر تحليل بنيتها الموضوعية والرمزية واللغوية، من خلال تفكيك عناصرها الموضوعية والرمزية والأسلوبية، واستجلاء أبعادها الفكرية والشعورية. مع مقارنتها ببعض نماذج الشعر العربي الحديث. حيث تمثل قصيدة "يقول النهر أنت ابني" للشاعر العراقي فارس مطر نموذجاً رفيعاً للقصيدة الحديثة التي تتوسل الرمز والأسطورة لإعادة تشكيل علاقة الإنسان بالمكان والوجود. هنا يتداخل النهر باعتباره معلماً طبيعياً وحاملاً للذاكرة مع شخصية الجد المنفي، مما يمنح النص كثافة شعورية ويؤسسه على قاعدة الغربة والحنين والبحث عن هوية مفقودة.

تدور القصيدة حول نداء داخلي تتلبسه صورة "النهر"، الذي يخاطب الذات عبر الذاكرة الجمعية الممثلة بالجد المنفي.  حيث نجد الشاعر فارس مطر يستنطق النهر ككائن حي، حامل للذاكرة والموت والحياة، مكوّناً نصاً يقوم على ثنائية الوجود والغياب. بكاء الإنسان، عبثية البناء، ضياع الآثار، كلّها رموز لفشل الإنسان في ترك بصمته الخالدة. ومع ذلك، ثمة دعوة صريحة للانبعاث عبر الكلمة، عبر القصيدة ذاتها، بما يجعل من فعل الكتابة محاولة خلاص أو مقاومة للعدم.

وهذا يدفعنا للخوض في البنية الموضوعية للقصيدة، كونها تتمحور حول حوار وجودي بين النهر (ككيان طبيعي ورمزي) وبين الشاعر أو أسلافه المنفيين. منذ البداية، يواجهنا الشاعر مطر بتساؤل وجودي: لماذا لم تبكِ؟ ما يضع الفعل العاطفي البسيط (البكاء) في مرتبة المصير والموقف من الحياة.

يمضي النص في تتبع علاقة الذات بالزمن والمكان عبر صورة قافلة تضيع قبل أن تبدأ مسيرتها، مما يوحي بعقم المحاولة الإنسانية في مواجهة المطلق.

يتحول النهر هنا إلى شاهد أبوي على خيبة المسيرة الإنسانية، ثم إلى موصٍ ينصح بالوفاء للذاكرة وإطلاق الأسماء كوسيلة لإعادة خلق الوجود الضائع. فالنهر هنا رمز وليس مجرد طبيعة صامتة، بل يتحوّل إلى "أب" يتبنّى الإنسان الغريب والمنفي. هو معلم زمني ومكاني، يحفظ الذاكرة ويمنح الشرعية للهوية الضائعة. وهذا التوظيف الرمزي يعيد إلى الأذهان استلهامات نهر الفرات ودجلة في الوجدان العراقي كشرايين للحضارة والهوية. وهو رمز للذاكرة، للأصل، وللانتماء المنكسر. وهو صوت التاريخ الطبيعي الذي يطالب بالاستمرارية رغم الغربة والمحو.

تنعكس في خطاب الجدّ المنفي رمزية النفي من الوطن أو الوجود الأصلي، حيث يصبح التيه قدراً ملازماً. الغربة هنا ليست سياسية فقط بل كينونية: "لا وجهٌ ولا ضفةٌ"، أي غياب المكان المألوف والانتماء.

أما الدمع فإنّه يمثل الرمزية، وهو إحدى الأدوات المركزية في بناء القصيدة كما يمثل الاعتراف بالمحدودية البشرية، والبكاء كفعل خلاص داخلي.

هنا نبدأ من جديد في البحث عن رمزية العباءة التي تعبّر تمام التعبير عن استعارة من الإرث الثقيل للهم الإنساني والجماعي.

أما الحصان المُسمّى ريحاً، فهو استعارة للانفلات والتحرّر من القيود الماديّة، واستعجال المصير.

أما الغربة، فهي رمزٌ للغربة المزدوجة؛ غربة الذات عن المكان وعن ذاتها، مما يكرّس فقدان الضفة والوجه معاً.

هذه الرموز تتجاور في نص ينضح بالأسى من جهة، وبإرادة خافتة للبعث من جهة أخرى.

ـ الأسلوب واللغة:

تتسم لغة فارس مطر بكثافة إيحائية عالية، مع استعمال متقشف للأدوات البلاغية، يفضِّل الإيحاء على التصريح. حيث نلحظ أنّ الجمل قصيرة في الغالب، متقطعة، مما يعكس توتر الوجدان، ويواكب تموجات النهر نفسه. كما يعتمد التوازي بين الصور في المقطع الواحد لخلق إيقاع داخلي غير مرئي، حيث تتناوب أفعال الزمن والفناء والحياة بشكل دائري.

القصيدة مكتوبة بلغة مشحونة بالانفعال والاختزال، حيث الكثافة البلاغية تحلّ محل السرد. الأفعال فيها مكثفة ("لم تكن تبكي"، "يغزل وقته"، "أطلق الأسماء") ما يمنح النص طابعًا ديناميكياً.

ـ البنية المجازية:

اعتمد الشاعر فارس مطر في قصيدته (يقول النهر أنت ابني) على صور حركية مفعمة بالحيوية (القافلة، الرمل، الحصان، الريح)، مما أعطى القصيدة بعداً أسطورياً وطبيعياً معاً. الصورة الشعرية ليست وصفاً بل خلق لعالم موازٍ للواقع.

ـ الحوار الداخلي:

استخدام ضمير المخاطب ("أنت ابني") والحوار مع النهر يمنح النص طابعاً درامياً داخلياً، حيث يتحوّل الحديث من نداء الوجود إلى استكشاف الوعي الفردي والجمعي.

ـ البنية الإيقاعية:

على الرغم من أنَّ القصيدة نثرية، إلّا أنّ بنيتها الإيقاعية تقوم على التكرار الداخلي والجرس الصوتي لبعض المفردات (كالتكرار الجزئي لكلمات مثل "قصيدتك"، "ريحاً"، "أطلق"، "احفظني"). هذه التقنية تمنح القصيدة إيقاعاً خفياً ينوب عن الوزن التقليدي، ما يجعلها تستجيب لمعيار "الموسيقى الداخلية" الذي تحدّث عنه الشاعر والفيلسوف والكاتب الفرنسي بول فاليري والشاعر السوري علي أحمد سعيد إسبر الملقب بـ (أدونيس).

تقدم قصيدة "يقول النهر أنت ابني" عملاً شعرياً مشبعاً بالرمز والحنين، متكئاً على التراث الجغرافي والأسطوري، وعلى التجربة الإنسانية في الغربة والمنفى. يتميّز نص فارس مطر بقدرته على تحويل القلق الوجودي إلى شعر، وتحويل الفقد إلى فعل للكتابة والخلق. إنها قصيدة تقف على تخوم الموت والبعث، وعلى حافة الوطن والغربة، ممهورة بصوت الذاكرة العراقية العميقة.

ـ مقارنة نقدية مع أصوات معاصرة:

... مع الشاعر العراقي بدر شاكر السيّاب ابن قرَية جِيْكُور في محافظة البصرة في جنوب العراق، والذي يعدُّ واحداً من الشعراء المشهورين. حيث يتقاطع النص مع تجربة السياب في تحويل عناصر الطبيعة (مطر، نهر) إلى شخصيات شبه أسطورية تتداخل مع مصير الإنسان.

غير أن مطر يتجاوز الرومانتيكية نحو مقاربة أكثر حداثية، ترى في النهر ذاكرة للغياب أكثر مما هو بشارة بالخلاص.

... مع الشاعر الفلسطيني محمود درويش ابن قرية البروة في الجليل الأعلى، وهو من كبار الشعراء العرب، يحمل النص أصداء غربة درويش، خاصة في تيمات التيه واللاانتماء. لكنّ الشاعر فارس مطر يركّز على وحدة المصير الفردي بعمق أنطولوجي، بعيداً عن النبرة القومية التي غلبت على تجربة الشاعر محمود درويش.

مع الشاعر والمفكر السوري علي أحمد سعيد إسبر (أدونيس)، ابن قرية قصابين ـ جبلة وهو من الشعراء الكبار في عالمنا العربي الحديث. يتقارب الشاعر فارس مطر مع أدونيس في وعيه بوظيفة اللغة كشريك فاعل في خلق الوجود الشعري. لذا فالقصيدة هنا ليست وصفاً للعالم بل محاولة لإعادة خلقه، حيث الكلمة تميت وتحيي في آن واحد.

في الختام:

في قصيدته "يقول النهر أنت ابني"، يقدم فارس مطر نصاً شعرياً ينتمي إلى فضاء الحداثة القلقة، حيث تتحوَّل الطبيعة إلى شاهد على غربة الإنسان وعلى صراعه الدائم مع الفناء والنسيان.

تتميز القصيدة ببنائها الرمزي المتين، ولغتها المشحونة بالإيحاء، وانفتاحها على مستويات متعددة من التأويل.

تجربة فارس مطر هنا تؤكد مكانته كشاعر قادر على مزج الوجداني بالكوني، والخسارة الفردية بالمأساة الوجودية الكبرى.

***

بقلم: عماد خالد رحمة ـ برلين

..........................

يقول النهر أنت ابني

لماذا لم تكن تبكي

لِتُعطي الدمعَ فرصَتَهُ

وَتَبني صَرحَكَ الوَهمِي

تَنمو مثلَ قافلَةٍ

تَضيعُ بأوَّلِ الخطواتِ

لا آثارَ

لا أوراقَ

كانَ الرَّملُ يَغزِلُ وقتَهُ أيضاً

سأسأَل عن عباءَةِ هَمِّكَ البَشَرِي

أتَحمِلُني بكامِلِ موتِيَ المُعلَنْ؟

وَتُطفِئُ كُلَّ أورِدَتي؟

*

يَقولُ النَهرُ: أنتَ ابني

يُخاطِبُ جَدِّيَ المَنفيّ

إذا شَرَّقْتَ إحفَظني

ولا تَترُكْ قِرابَكَ دونَ ذاكِرَتي

وأيضاً.. أطلِقِ الأَسماءَ كي تَعدو

حِصانُكَ سَمِّهِ ريحاً

وكُنْ قَلِقَاً

قصيدَتُكَ التي قَتَلَتكَ قد تُحييكَ ثانيَةً

كما انفَعَلَتْ قصائِدُنا

تَهَيَّأ كي تَرى زَمَناً وأمكِنَةً

وأنتَ غَريبُكَ المجهولُ

لا وَجهٌ ولا ضِفَةٌ

***

فارس مطر

إنّي محَييكِ يا أرضي بمِحْبرتي

لمّا علمت بأنّ الشِعْرَ يرتشف

(من قصيدة أمام بابك، ديوان قوافل من كلام)

للشاعر إبراهيم أوحسين

***

لكل إنسان مشكلة يود حلها في حياته، أقصد مسألة وجودية حاسمة وليس فقط مشكلة عادية. وفيما يخصّ حالة صديقنا الشاعر إبراهيم أوحسين، فعلى ما أعرف بالقرب منه رحمه الله، فقد كانت قضيته الشعرية مسألةً فكرية في غاية الجدّية؛ إذ كان شعره مرتبطا بصنف من المشكلات التي تلتصق بحياة أولئك الذين يخاطرون بنمط وجودهم الذاتي المسكون شعرا. أولئك الذين يغامرون بالشعر سبيلا لتسوية مشكلاتهم الوجودية والميتافزيقية.

كان الراحل إبراهيم أوحسين ينتمي إلى هذا الصنف دون أن يعلم حجم المغامرة الفكرية التي دخل معتركها شعريا. حقّا، لم يكن ـ رحمه الله عليه ـ يدري أنّ قدرا ما هو من اختار له الاقتراب من دائرة الخطر هذه؛ أي خطر المجازة بالشعر في دوائر صوّفية شأنها أن تُذيب كينونة هَشَّة في أشواق وشطحات صوفية سمّاها هو بنفسه: "هلوسات شاعر".[1]

والواقع أنّ الشاعر هنا فصح عن شقاء ما، شقاء ليس كشقاء سواد الناس، أي شقاء عصره الذي عاشه: عصر ضمور وتيه الكينونة. لذا كانت لغته الشعرية في أحايين كثيرة مسلكا ومعبرا اشاريا لهذا الشقاء المقدّس: أقصد المعنى الذي يفيد كون هذه اللغة نوعا من تجلّي المقدّس في كلامه من حيث كون انفعالاته إشراقات صوفية وليس تعبيرات سيكولوجية. وهذا نجده لديه جليا في قصيدة له بعنوان "غريب أنا"[2]:

[...]

وإنني لمّا استفقت من الكَرَى

علمتُ بأني ما برحتُ مكانيا

وهذا بريقُ الحُلمِ أركبني سدى

على فرسٍ لمّا طردت حماريا!

وخلدني فوق العروش كأنني

إذا مِتُّ يوما لن أعُدَّ عِظاميا

كذا عطشُ المنفى وإنْ فاضَ ماؤُهُ

فلا الماءُ مائي، لا الهواءُ هوائيا

تعجَّلتُ موتي قبل موتي وليس لي

سوى قَوْلِ: ربي لا تزِدْنِي الدَّواهِيَا

وما نفْعُها الأفهامُ تحضرُ بعدَما

بأقلاميَ السَّكرى كَتَبْتُ فنائِيِا؟

كسرْتُ زُجاجاتي ولُمْتُ زُجاجها

فمنْ يا تُرى يَبْكِي الدموعَ مكانيَا؟

يوّد الشاعر في هذه القصيدة قول كلّ شيء دفعة واحدة، كما لو كانت كينونته قوة انفجارية تسعى إلى الاندفاع خارج طورها الزماني. هنا، تريد قصيدة "غريب أنا" تأكيد مهمّة الشعر الأساس، وهي: أن تكون شاعرا هو ما يعني أن تغترب في لغة هي بدورها مغتربة في زمنية لا قبل لها بها. فالضرورة الشعرية هي ما يفرض على الشعراء «زمن الضيق» أن يقولوا "جوهر الشعر".

إنّ الشعر بهذا المفهوم هو الذي بمكنته أن يظهر ما ظلّ خفيا في اللغة العادية، أي ما استعصى على الناس قوله بلغتهم العادية المتداولة. إنّ الشعر ما يحقّق هذا العبور عبر القصيدة إلى العالم. فأينما كان الشعر، فثمة كينونة تكابد مصيرها، وما نشيد الشاعر إلاّ إصغاء أصيل لهذه الكينونة.

فلطالما كلام الشعر لا يتأتى إلاّ خلال صمت الإصغاء، كذلك الشاعر لا يكون قادرا على التقاط نداء القصيد ـ الذي يبتغي أن يفصح عن ذاته في قصيدة ـ إلاّ إذا أحسن وأجاد الإصغاء لنداء الكينونة.

بالنسبة لـ«هيدغر»، مثلا، يظلّ كل شعر يقول جوهره طالما هو في ذات الوقت الجوهر الكشّاف للغة: أي "القصيدة الأصلية"، أو هذا الحشد الصامت للكائن.[3] فهذا ما تحقّقه قصيدة شاعرنا إبراهيم أوحسين، حيث نجد حزنه بمثابة منفاه الاختياري، ومنفاه هذا علة تمرّده، كما تمرّده علّة عذابه، وعذابه آت من فهمه لأكثر مما ينبغي.

تدفّقا من هذا النمط لا يبرّره سوى أنّ كلمات الشاعر التي تصعد من أعماق وجدانه، إنّما هي في حقيقتها اختراق لشيء يكبر قدرته، شيء ما يعجز المرء على قول ما يريد إزاءه بحرية؛ أوليس ذلك بنداء الكينونة التي تتغذّى من أعماق وينابيع ثقافة عصره؟

يقينا، اللغة هنا هي أكبر من أن تكون مجرّد تعبيرات، أو مجرّد نقل لمعلومات ما عن العالم الذي شكل عصره؛ الأمر على خلاف ذلك، لأنّ اللغة هاته هي على الحقيقة تدفّق للكينونة ولزمانية شعرية ما. إنّها على التحقيق ليست تصويرية ولا تعبيرية، بل إشارية صوفية. 

 مسألة فنّية من هذه الشاكلة ستظلّ غير واضحة ولا مفهومة لمن يقرأ الشعر بنظارات الناقد الأدبي صاحب المنهج. وليسمح لي النقاد الذين يطمئنون لعتبات المناهج النقدية بخصوص وجهة النظر هذه، حيث أرى أنّ تذوقا ما وحده الكفيل بأن يمسك بتلابيب القصيد خاصّة عند إجادة الإصغاء للشعر: أوليس الشعر إصغاء لكينونة تأبى إلاّ أن تقيم في بيت شعري داخل هذا العالم؟

إنّ الشعر لدى صديقنا إبراهيم أوحسين يقد اضطلع فعليا بِمَهمة التفكير، ويتجلى ذلك بقوة حين بحثه المستمر عن سبل رتق تمزّقات كينونة أعياها تمظهرها المتلعثم في اللغة, والشاعر إذ سمح لنا كقراء بالمشاركة في هذه اللعبة الخطرة، يكون قد أنجز أخطر مَهَمة يضطلع بها الشعراء ذوي القدرة على إنارة دروب الحياة الميتافيزيقية، حين يكشفون اللثام عن حقيقتها المأساوية بِكلّ أصالة شعرية.

لذلك ليس مُهِمًّا كم عدد الذين سيقرأون هذا الشعر الجاد في طرح قضيته رَفِيعَة الْمَقَامِ هاته، بالقدر الذي يهم نوعيتهم، وكيف سيقدّرون أهميته الميتافيزيقية الخطيرة.

*** 

كتبه الحسين أخدوش / المغرب

......................

[1] أنظر إهداءه في بداية ديوانه: قوافل من كلام، ص 5.

[2]  ديوان قوافل من كلام، ص. ص. 39، 40.

[3] - Heidegger (M) : Acheminement vers la parole; tr Jean Beaufret, éd  Gallimard, Paris, 1976, p.63.

 

رواية الأطروحة

في رأينا أن التسمية الأقرب لرواية (منازل العطراني) هي ما يسميه النقد الفرنسي (رواية الأطروحة Roman à thèse)، أي أن المؤلف لديه أطروحة (thèse) أو وجهة نظر يريد الدفاع عنها وإيصالها للقارئ وأقناعه بها (سنوضح لاحقا وجهة نظر مؤلف هذه الرواية).

وفي رواية كهذه غالبا ما يركز المؤلف اهتمامه الأكبر على موضوع الرواية، حتى لو تم على حساب التقنية الروائية، أحيانا. وفي الرواية التي نناقشها أختار المؤلف أن تكون روايته مزيجا من سيرة شخصية Biographie يروي فيها وقائع حياة شخص آخر، والده، وفي الوقت نفسه سيرة ذاتية يروي فيها وقائع حياته الخاصة.

ولكن لا نستبعد أن يقرأها آخرون كعملية توثيق وأرشفة لفترة محددة من تاريخ العراق (من خمسينيات القرن الماضي حتى مطلع القرن الحالي). وربما يعتبرها البعض (مانفيستو) (هجائي) للحزب الشيوعي العراقي.

بالإضافة لذلك، نجد هنا وهناك من صفحات الرواية أرشفة وتسجيل لعادات وتقاليد سكان منطقة محددة من جغرافية العراق (مناطق نهر الغراف)، مما يقرب الرواية الى ميدان السوسيو/ انثروبولوجي (الصفحات 23، 58، 50، 66.)

ومن أجل إيضاح وإيصال وجهة نظره سعى الكاتب، ومنذ البداية لتوظيف كل العناصر التكوينية للرواية: (الاستهلال، الحبكة، طريقة السرد، الحوار، العقدة، تصاعد الأحداث، الزمن الاسترجاعي، الصراع، الشخصيات، الديكور، الزمان، الفضاء المكاني ونوعيته، اللغة... الخ).

ولأن (منازل) سيرة ذاتية، ولأنها تذكر أسماء شخصيات ووقائع تاريخية حقيقية، فمن المتوقع أن يفتش بعض القراء عن (المصداقية) في السرد، ويطرحون تساؤلات منها: هل ما سرده مؤلف (منازل) واقعي، أم من صنع الخيال، صادق أو لا، يتطابق حرفيا مع الواقع أو مبالغ فيه، هل أن المؤلف أمين في النقل أم محايد أو انتقائي؟

سيكون من اللاجدوى أن نشغل أنفسنا بالتساؤلات أعلاه بها، لسببين:

أولهما: أن غلاف الكتاب يحمل مفردة (رواية)، أي عمل أدبي من صنع المخيلة، أو للمخيلة دور كبير فيه. وبهذا يكون أحد الأغراض من وجود مفردة (رواية) على الغلاف، هو استخدامها من قبل المؤلف ك(درع) يحتمي به من عتاب أو لوم أو نقد، وربما حتى هجوم. فلو عاتبه قارئ بقوله: الشخصية الفلانية في روايتك أعرفها جيدا وتعايشت معها وما كانت مثل وصفك لها، أو قال له آخر: أن الحدث الفلاني في روايتك كان بهذا الشكل وليس كما صورته، فأن جواب المؤلف سيكون واحدا: أنا أكتب رواية ولا أنقل وقائع وحقائق.

والسبب الثاني، هو أن أي مؤلف للسيرة الذاتية يوقع على ما يسميه الناقد الفرنسي فيليب لوجن Philippe Lejeune (ميثاق أو تعهد السيرة الذاتية Pacte autobiographique). وهذا العقد، في رأي الناقد، هو ''التزام ضمني يتعهد بموجبه المؤلف أن يسرد حياته كلها، أو جزء منها، ويقدم معلومات صحيحة وحقيقية عنه، بالطبع من وجهة نظر المؤلف، أي المعلومات التي يراها هو صحيحة. أما نحن القراء فما يهمنا هو أن ندرك هل ما يسرده المؤلف محتمل الوقوع أو غير محتمل، متماسك أو غير متماسك، جيد أو سيئ، وما إلى ذلك.'' أي، أن الموضوع ''لا علاقة له بين التمييز بين الحق والباطل.''

عرفنا الضحية لكن من هو الجلاد في (منازل)؟

لا يمكن إجابة هذا السؤال دون معرفة (قصة) الرواية، ودون الاطلاع على الشخصية المركزية فيها، محمد الخلف.

(محمد الخلف) معلم، وناشط سياسي ينتمي الى (جماعة) حزبية. من هي (الجماعة)؟ الرواية لا تذكر أسمها الصريح أبدا، لا على لسان المؤلف ولا الراوي المحايد ولا الشخصيات الرئيسية ولا الثانوية، ولا (وهذا أمر غريب) على لسان الخلف نفسه، ولا حتى على لسان حزبيين ينشطون في صفوف الجماعة (سليم، مثلا). ولا ترد كلمة (الحزب) في الرواية كلها سوى مرة واحدة، وحتى في هذه المرة يرد ذكر الحزب لكن دون ذكر (الشيوعي): ''الزعيم الأوحد والحزب الأوحد كلاهما متألّه يظن أنه يقبض على المعنى ... ص7''. لكن القارئ، إذا كان عراقيا، يفهم بسهولة أن (الجماعة) هي الحزب الشيوعي العراقي، خصوصا مع وجود تلميحات كثيرة، وكل تلميح منها يصل حد التصريح.

وبسبب هذا الانتماء الى (الجماعة) تتم محاكمة الخلف ثم مساومته ''في شتم رموز انتمائه السياسي والفكري مقابل الإفراج عنه''، وعندما يرفض يسجن ويفصل من وظيفته، تاركا عائلته دون معيل، ثم يهرب من السجن، ويظل متخفيا قبل العودة لأسرته. هذه هي القصة.

أما شخصية محمد الخلف فهي كالتالي:

محمد الخلف إنسان أنموذج. لا يملك الا الصفات والشمائل الحميدة على مختلف الأصعدة:

سياسيا: يتمتع بوعي سياسي حاد وقدرة على تحليل الأمور وربط بعضها بالبعض الآخر وصولا الى استنتاجات صحيحة، شجاع لا يتردد ان يتحدى القاضي ويفند بشجاعة الاتهامات ضده ويصفها بأنها ''أكاذيب وافتراء وكلام ملفق ص6''، ولم يندم أو يتراجع عندما صدر بحقه الحكم بالسجن: ''كان هذا اختياري وطريقي مضيت فيه، تركت ورائي عشرة أبناء وزوجة لا ماء ولا زاد ص7''. وهو مبدأي، وفلسفته في الحياة هي: ''يموت الشجر بجانب البئر عطشا، لكنه لا ينحني أبدا لطلب الماء ص7''، أي هو ثابت لا يغير مبادئه ولا يساوم عليها، وبعيد عن أي تفكير وسلوك براغماتي نفعي أو ميكافيلي، وقد قرن القول بالفعل فارتضى لنفسه أن يسجن ويضحي بسعادته وبسعادة أسرته من دفاعا عن المبادئ.

أخلاقيا: يبر الخلف بوالدته، يحترم زوجته حد التقديس، ذو ذهنية حضارية تنويرية، متسامح في تربيته لأولاده وبناته وعلاقته معهم أساسها الاحترام المتبادل.

اجتماعيا: يحب الخلف ويحترم أقاربه ومعارفه وهم بدورهم يبادلونه الحب والاحترام الكبير الى حد أن واحدا منهم قال له في أيام تخفيه: ''أنا حاضر لأي طلب تأمرني به، أنا رهن أشارتك ص 28'‘.

ثقافيا ومعرفيا، يتمتع بثقافة غنية، وله مطالعات أدبية واسعة، وفي شبابه كانت له ''مكتبة تضم كتبا لجورج حنا، طه حسين، سلامة موسى، المنفلوطي، جبران خليل جبران، مجلات الهلال، الآداب، الأديب، أهل النفط، فضلا عن دواوين الشعر وكتب النحو ص49'' بالإضافة لكتاب عرب وأجانب (تقدميين)، المضغوط، دويستوفسكي ص82، وحتى اثناء فترة تشرده وتخفيه ظل مواظبا على قراءة الروايات ص92، ويتمتع بقدرات فنية أبرزها الخط، ضليع بتاريخ بلاده العراق ''منذ فجر التاريخ حتى اليوم ... من الملك السومري لوكالة زاكيي.. حتى مقتل الزعيم (قاسم) ص35''.

باختصار، محمد الخلف (خُلِق مُبَرأ من كل عيب)، مع ذلك لاقى التشريد والفصل من العمل وترك عائلته لمصيرها دون معيل، ثم سجن وهرب وظل متخفيا... الخ.

إذن، محمد الخلف ضحية. ولأن لكل ضحية جلاد فمن هو الجلاد هنا؟

السلطة الحكومية (قلنا السلطة بشكل مطلق ولم نقل السلطات)؟ أم (الجماعة) السياسية التي ينتمي اليها محمد الخلف؟

نحن نفترض أن الرواية ترى أن (الجماعة) هي السبب (الأصلي) في الأذى الذي طال محمد الخلف وأسرته، ثم يأتي دور السلطة السياسية. هذا افتراض منا وسنحاول أثباته كالآتي:

أولا: لولا انتماء محمد الخلف الى (الجماعة) لما لاحقته السلطة السياسية، أصلا، ولوحق من مدينة لأخرى في بداية وظيفته، ولما فصل من وظيفته لاحقا، ولما سجن وفر من سجنه ثم ظل متخفيا وتحملت عائلته الأذى. بل لولا انتمائه الى (الجماعة) لما كانت، أصلا، توجد رواية أسمها (منازل العطراني).

(الجماعة)، كما سنجد ونحن نتقدم في القراءة وحتى الوصول الى الخاتمة، هي (لُب) موضوع الرواية وداينمو أحداثها وثيمتها المركزية التي يتكرر حضورها بتواتر من البداية حتى النهاية، تلميحا مرة وتصريحا مرات، بتعاطف مرات قليلة، وبنقد وهجاء مرات أكثر، وبحيادية، وبحنين نوستالجي أحيانا، ويرد أسمها على ألسنة الجميع: الراوي المحايد والشخصية الرئيسية والشخصيات الثانوية، سواء في زمن الرواية الفعلي أو الزمن الاستذكاري.

وفي مقابل هذا الحضور الكاسح ل(الجماعة)، فأن السلطة السياسية حضورها ضعيف جدا، وتكاد تغيب نهائيا ويتوقف حضورها ودورها في منتصف الرواية، كما سنوضح تاليا.

ثانيا: في رواية (منازل) محمد الخلف هو البطل protagoniste، ووفقا لمواصفات رواية كلاسيكية مثل (منازل)، يفترض أن يوجد خصم للبطل antagoniste، أي شخصية (حقيقية أو معنوية) يساهم وجودها في احتدام الصراع وتحريك الأحداث، ويزيد القصة توترا، وتكون حاضرة (سواء حضورها المادي المباشر أو حضورها المعنوي اللامباشر، أي أفكارها) من البداية حتى النهاية، وتسبب الأذى للبطل.

من يمثل هذا العنصر، أي الخصم L’adversaire وتنطبق عليه هذه المواصفات في (منازل)؟ الافتراض (وفقا للاستهلال في السطور الأولى من الصفحة الأولى) يؤشر على السلطة السياسية، لأنها هي التي سجنت الخلف، ورأيناه هاربا من سجنها ومشاركا في تظاهرة سياسية.

لكن هذا الافتراض يضعف كلما تقدمنا في قراءة الرواية، وهذا الضعف يتم بالتوازي مع ضعف ثم تلاشي (حضور) السلطة السياسية في الرواية.

السلطة السياسية، بصراعاتها وانقلاباتها العسكرية وعسسها ومخبريها تكاد تكون (غائبة) في تفاصيل (حياة) محمد الخلف؛ غائبة في تفكيره وتأملاته وذاكرته الاسترجاعية. السلطة السياسية في الرواية ليست خصما واقعيا وانما هي (خصم شبحي وهمي faux adversaire)، وحتى إذا وُجدت فهي هشة حد الانكسار، إذ استطاع الخلف ان يتحداها وينتصر عليها، منذ بداية الرواية.

فقد تحدى محمد الخلف بجرأة السلطتين القضائية والتنفيذية (رمز الظلم والقمع)، وصار في قاعة المحكمة هو (القاضي) الذي يّكَذب ويدحض ويفند أقوال القاضي الرسمي. وحتى بعد أن أوُدع السجن استطاع أن يفر منه. ثم، أن الخلف استطاع أن يعيش، متخفيا، بعيدا عن رقابة ونفوذ ووطأة السلطة السياسية القمعية، لكن (الجماعة) لم تغب أبدا وظلت حاضرة معه، وكانت (أفكار)ها ترافقه حتى الى سرير نومه، وتتسلل اليه مع ذرات الهواء.

ثالثا: (من الناحية التقنية) تكف السلطة السياسية، ك(شخصية) روائية معنوية في الرواية، عن ممارسة دورها المعرقل لمسيرة البطل، بصورة تكاد ان تكون نهائية، في منتصف الرواية، بل حتى قبل منتصفها. فبعد مرور عشرة أشهر على بداية الرواية (زمن الرواية خمس سنوات)، وبعد مائة صفحة (الرواية تتكون من 235 صفحة) فكر الأبن البكر خالد ''بشكل جاد في عودة والده'' من (مخبأه) في منطقة الغراف الى بغداد لأن ''إجراءات التفتيش على الطرق الخارجية ليست بالصرامة والتشدد التي كانت عليه سابقا ص102''. وفعلا عاد الخلف الى بيته في بغداد؛ عاد '' الى دفء البيت والتفكير بالعمل والمستقبل ص129''، والتأم شمل الأسرة من جديد ''هرع اليه أولاده، تلقوه بلهفة''، وبعد فترة قصيرة حصل الخلف على عمل مؤقت يعين به عائلته.

وجهة نظر المؤلف

هنا، في هذا الجزء من الرواية عادت الأمور الى طبيعتها قبل السجن؛ انتهت (رحلة) البطل وحُلتْ عقدة الرواية، ووصل السرد الى ذروته. وبالنتيجة، هذا يعني زوال التشوق والترقب والتوقع عند القارئ بعد أن وصل الأمر الى نهاية التوتر والإثارة والمخاطر وبدأ الانفراج، أي وصلنا لخاتمة الصراع.

ومادامت (رحلة) البطل وصلت خاتمتها، فماذا تبقى لبطل الرواية أن يفعله، وماذا تبقى للرواية أن تقوله في الصفحات القادمة؟

ما تبقى، في رأينا، هو (وجهة نظر المؤلف)؛ ما تبقى هو، الموضوع الذي تعتبره الرواية الأكثر أهمية؛ ما تبقى هو (الخطيئة الأصلية)، عندما أنتمى محمد الخلف الى (الجماعة) في شبابه، وما تبقى، أيضا، هو صراع محمد الخلف مع نفسه (ولحد كبير جدا مع أسرته وخصوصا ابنه البكر، خالد) في وجوب حسم موقفه النهائي والخروج نهائيا من (الجماعة) لأنه بسبب سياستها، يقول الخلف ''سلمنا أنفسنا للذبح''، وظل أعضائها يجنون ''هذا التوارث الأبدي للخسارات''، وهي ك(جماعة) سياسية لم تنتج في ''كتبها سوى اللغو.''

ذكرنا في البداية أن (الجماعة) هي الحزب الشيوعي العراقي. ومن حق مؤلف (منازل) أن يقول ما يريد بحق الحزب الشيوعي، وأي موضوع آخر يناقشه، مثلما يحق لأي مؤلف آخر أن يدافع أو ينتقد أو يناقش في أي موضوع يختاره. هذا حق لا جدال فيه. وكل ما يراد من المؤلف، في هذه الحال، أن يكون طرحه متماسكا ومقنعا، من الناحية التقنية. فيما يخص مؤلف الرواية التي نناقشها، فأنه أراد الدفاع عن وجهة نظره، كما قلنا، منذ السطور الأولى، أي الاستهلال.

الاستهلال

الواقع، أن موضوع علاقة الخلف ب(الجماعة) (وهو زبدة الزبدة) طرحته الرواية منذ سطورها الأولى، أي منذ الاستهلال (أنسبت incipit).

وببراعة تحسب له اختار مؤلف (منازل) ما يسميه النقد الفرنسي (الاستهلال الساكن l’incipit Statique) الذي بموجبه يلجأ المؤلف، منذ البداية، الى تزويد القارئ بمعلومات وافية فيما يخص معظم العناصر التكوينية لروايته.

يبدأ الاستهلال في (المنازل) هكذا:

'' أين المسار؟ بعد أن بت ليلتك في بيت أحد أصحابك المعلمين في الكوت، أصبحت طليقا الآن، قالها محمد الخلف بحيرة وذهول، ما زلت في ملابس السجن!! المصادفة وحدها أنقذتك من العودة الى الزنزانة مرة ثانية، وجدت نفسك من جديد وسط المتظاهرين (يسقط ... يعيش)، يلمحك (صالح كيطان) أحد أصدقائك القدامى فيسرع في مناشدتك للانسحاب من التظاهرة بسرعة، التوجه نحو منزله في وسط المدينة، أدرك (صالح) عدم جدوى الاحتجاج مع صراخ البيانات المتصاعدة من الأذاعة، وتسارع الأحداث التي تنبئ بسيطرة الانقلابيين على السلطة، امتثلت لمناشدته أخيرا، بينما تعلو وجهه دهشة السؤال: ما الذي جاء بك الى السجن يا محمد؟ لست مستعدا الآن أن أذكر الأسباب يا صديقي وسط هذا الجو المشحون بالقلق والتوتر، دعنا نصل الى البيت بأمان'' ص5.''

وبفضل هذه الأسطر القليلة نجح المؤلف أن يزودنا بمعلومات وافية وجوهرية: اسم الشخصية المركزية، محمد الخلف، ووضعه الاجتماعي السياسي، اسم المكان (الكوت)، الزمن (8 شباط 1963)، الأجواء القائمة، وهي اضطراب سياسي نتيجة انقلاب عسكري وحدوث ردود أفعال جماهيرية ضده (تظاهرات وسط الكوت). وبفضل هذا الاستهلال استطاع المؤلف أن يخلق أفق من التوقع عند القارئ، وسَّهلَ له أن يستنتج نوع القصة التي سيقرأها، فهي رواية سياسية وليست من الخيال العلمي، مثلا، ولا قصة تاريخية، ولا فلسفية ولا رواية رعب ولا رواية مغامرات ولا خيال علمي، بل هي ستدور حول تخفي سجين سياسي هارب.

هذه كلها، كما قلنا، معلومات مهمة، لكن الأكثر أهمية (عندي على الأقل) هو شخصية (صالح كيطان) التي خلقها المؤلف، لتخدم غرضا في غاية الأهمية (هكذا نفترض.)

صالح لا يستمر دوره في الرواية كلها أكثر من 24 ساعة، ولا يقوم ألا بفعل واحد (استضاف الخلف في بيته ليلة واحدة) ولا يتفوه الا بعدة جمل، ثم يختفي نهائيا من الرواية ولم نعد نلتقيه أبدا، وكأن الروائي لم يخلقه، لكن بعد أن أنجز دوره الاستراتيجي الذي أعده له المؤلف، والمتمثل في (إحباط) محمد الخلف. إن صالح كيطان هو أخطر شخصية (أحباطية) في الرواية، ودوره، رغم قصره، محوري. ونذهب أبعد فنقول إن صالح هو بطل الرواية الفعلي وهو عمودها الفقري، وهو الغائب الحاضر، وسنرى أن (فلسفته) أو أفكاره هي التي تنتصر في نهاية الرواية. والغريب، أننا لا نعثر على معلومات عنه في الرواية، لا على لسانه هو ولا على لسان الراوي المحايد (العليم بكل شيء)، ولا على لسان محمد خلف ولا الشخصيات الثانوية.

كل ما نعرفه هو أن صالح ‘'صديق قديم'' للخلف. وما خلا هذه المعلومة فما من معلومات آخري عنه. ولهذا سنضطر نحن القراء للاستعانة بالتخمين والافتراض، واعتمادا على النزر القليل جدا من أقواله، للتعرف عليه.

يبدو أن صالح كان (ونشدد على مفردة كان) ناشطا سياسيا ومنتميا لذات (الجماعة) الحزبية لكنه، كما يبدو أيضا، غادر صفوفها (مكرها) لسبب أو آخر، والأرجح بسبب (فعل) يتعارض ويتناقض مع تفكير (الجماعة) وقيمها، كأن يكون قد (أُجبر) على إعلانه البراءة من (الجماعة)، أو تقديمه اعترافات على الجماعة، كما كان شائعا تلك الأيام. هذا مجرد تخمين منا تشجعنا على تبنيه (المحاضرة حول فلسفة البراءة) التي القاها صالح على الخلف. فعندما قال الأخير أنه دخل السجن مخلفا ورائه عائلة كبيرة العدد بدون معيل، لأنه رفض أن يشتم ''رموز انتمائه السياسي والفكري'‘، رد عليه صالح بنبرة (أستاذية)، فيها لوم وتقريع، وبلغة أنيقة وفارهة، ومنتقاة بعناية خصوصا سطرها الأخير:

'' هل هذا صحيح في اعتقادك؟ أن تترك عائلة بهذا العدد، ماذا يحصل لو شتمت الرموز يا أخي؟ هل سيزعلون عليك؟ أم تنقلب الدنيا؟ الإنسان يؤكد وجوده بفاعلية وحضور وازدهار عبر ممارسة الفكر بصورة حية خلاقة متجددة بناءة مثمرة، هنا البطولة الحقيقية لا في السجون ص 7''

لكن هذه (الفلسفة) التي يبشر بها صالح والتي ترفضها (الجماعة)، وكان محمد الخلف نفسه قد رفضها وظل يرفضها قبل لقائه بصالح ويعتبرها (خيانة) و(انهيار) و(سقوط أخلاقي)، تخفي مشاعر إحباط وخيبة ويأس (يبدو) أن صالح يعاني منها. يقول صالح، وهو يسمع اخبار نجاح انقلاب 8 شباط: ''أصبحت الأماني هباء يا محمد! كل شيء صار واضحا ص9''

ويضع صالح مسؤولية نجاح انقلاب 8 شباط على عاتق (الجماعة) بسبب تعاليها وابتعادها عن مطالب عامة الناس واحتكارها للحقيقة ورفضها للديمقراطية والليبرالية والتعددية الحزبية: ''منطق التعصب الذي يفتك بالإنسان، الزعيم الأوحد والحزب الأوحد، كلاهما متأله يظن أنه يقبض على المعنى، أو يمتلك مفاتيح الحقيقة وحده لا شريك له، يملك الحلول للإصلاح ص7''

الآن صار واضحا أن ''الأماني'' التي يتحدث عنها صالح ليست شخصية، تخصه وحده، أنما هي أماني سياسية عامة (كان) يأمل من الحزب أن يحققها (هذه المرة الأولى في الرواية كلها ترد مفردة ''الحزب''، وصالح يعني الحزب الشيوعي العراقي، كما هو واضح في السياقات.)

وبما أن (الأماني أصبحت هباء) كما يستنتج صالح، والحزب أو (الجماعة) سائرة في طريق الانتحار الجماعي، فأنه من العبث واللاجدوى، وفقا لآرائه، أن يدافع المرء عن قضية عامة، ناهيك عن البقاء في صفوف (الجماعة) التي ينتمي اليها الخلف، والدفاع عنها. وهذه القناعة عند صالح ليست بنت يومها، أي لم تتولد عنده صباح 8 شباط بعد نجاح الانقلاب، وإنما هي سابقة للانقلاب. والدليل هو، أن أول فعل قام به صالح هو ''مناشدة محمد الخلف، عندما التقاه بعد غياب، للانسحاب بسرعة من التظاهرة'' التي كان المشاركون فيها يهتفون ضد انقلاب 8 شباط 1963، فوافق الخلف (فورا).

هنا، إذا تحدثنا من الناحية التقنية، صارت الرواية وهي ما تزال في بدايتها،، أمام مفترق طريقين: أما أن يظل محمد الخلف كما كان في السجن قبل لقاءه بصالح كيطان: الخلف الديناميكي، المتفاؤل والمفعم بالأمل، الذي يتحدى السجانين مرددا مع زملائه في السجن ''وكأنهم في عرس'' ''السجن ليس لنا ...''، الجريء المغامر، الفار من سجنه طوعا لمواصلة نشاطه السياسي الحزبي، المضحي بسعادة أسرته لقاء دفاعه عن مبادئ يؤمن بها، الرافض للبراغماتية كفلسفة عملية في الحياة.

أما الطريق الآخر هو، أن ينتصر صالح كيطان (أي أفكاره وآرائه ونصائحه، لأنه شخصيا لن يظهر ثانية في الرواية، كما قلنا)، ذو العقلية البراغماتية، الواقعي، والمحبط، اليائس، الذي لا يجد جدوى من التظاهر ضد انقلاب شباط، والذي يفضل أن يتبرأ الناشط الحزبي من جماعته ولا يظل قابعا داخل سجن، والذي يؤمن بأن الغاية تبرر الوسيلة.

إذا انتصر محمد الخلف، أي اذا استمر محمد الخلف كما هو، محمد الخلف الديناميكي، فستنعكس ديناميكيته على الدينامية الداخلية للرواية، لأنه سيظل، لأنه بطل الرواية أو الشخصية المركزية فيها، يبحث عن أفكار وحلول، ويظل القارئ يبحث معه أيضا؛ وإذا حدث العكس وانتصرت أفكار صالح (الذي يملك حلا جاهزا معاكسا أو مضادا) فستنطفئ الديناميكية الداخلية للرواية وتصاب بفقر الدم. ما قلناه توا ليس موقفا منا، ولا هو رفض أو تعاطف مع أي شخصية في الرواية.

نقوله لأن المؤلف لم يمهد الطريق أمامنا نحن القراء ولم يهيأنا لهذا التحول الراديكالي عند محمد الخلف بعد لقائه بصديقه صالح، حتى نقتنع. فلكي يحدث تغير أو تحول عميق (عاطفي، نفسي، فكري، سياسي، جسدي) عند شخصية روائية ما فأنه يجب أن يكون نتيجة لمرور الشخصية بتجارب أو مواقف أو ممارسة أفعال، أو نقد ذاتي تدريجي ومتواصل، أو نتيجة تشخيص الشخصية لعيوبها، أو تعلمها من دروس حياتية مهمة. وهذا كله لم يحدث لمحمد الخلف (حتى ولو على شكل تململ) قبل لقائه بصديقه صالح كيطان.

فالمؤلف قدم لنا محمد الخلف، في أول ظهور له، ك(ضد) و(نقيض) لصالح كيطان: الخلف شخص راديكالي، أو مبدأي بلغته وبلغة الجماعة التي ينتمي اليها، مؤمن بقضية فكرية ومنتمي ل(جماعة) سياسية يضحي بأسرته وبراحته وبوظيفته حتى لا يشتم قادتها أو رموزها، وقبل ذلك كان قد تشرد من مدينة لأخرى، قوي وبمواصفات قائد. وعندما فر من السجن فإنه فعل ذلك، وفقا للمنطق، لا ليظل متخفيا وإنما ليواصل نشاطه السياسي الحزبي مثلما يفعل، عادة، كل السجناء الفارين. ومثلما فعل هو عندما غامر واشترك، وهو بملابس السجن، في التظاهرة المناوئة للانقلاب، قبل أن يخرجه منها صالح كيطان.

بالإضافة لهذا كله، فأن محمد الخلف ليس ساذجا حتى يغير آرائه وقناعاته بمجرد أن يلتقي أحد أصدقائه القدامى، بل يتمتع بوعي سياسي وقدرة على فهم ما يدور في بلاده، وتحليل وربط الأحداث. والأهم من هذا، أنه لا يوجد ما يدل، لا تصريحا ولا تلميحا، على مواقف انتقادية كان الخلف يجاهر بها ضد (الجماعة) سابقا، أي قبل لقائه بصالح كيطان.

ولهذا فأنه لا يبدو أمرا مقنعا ومتماسكا ومنطقيا (من ناحية تقنية صرف) أن يكون صالح كيطان هو الشخصية (الساندة L’allié) للشخصية الرئيسية، أي أن يكون محمد الخلف في ''مأزق'' وأن ''يشفق'' عليه صالح كيطان، وليس العكس، ويقدم له صالح الأسناد العون والنصيحة: ''إهدأ قليلا يا محمد، أنا حاضر لمساعدتك ص6''.

أيضا ليس منطقيا أن يصبح الخلف، بمجرد لقائه بصديقة صالح، يائسا ومستسلما لقدره ''الفاس وقع بالراس ص6''، وكان هو نفسه قبل يوم ينشد ''السجن ليس لنا نحن الأباة'' ص14''، ويرى أمامه في الكوت كيف يتظاهر بسطاء الناس شجبا للانقلاب، ويسمع عن ''فقراء الشاكرية والصالحية وحي الأكراد والكاظمية يحملون السلاح ضد الانقلاب ص14'' !

كذلك ليس منطقيا أن يتفق الخلف مع أراء صالح، هكذا بسرعة وبدون نقاشات وطرح أسئلة. فبعد مقولة صالح التي ذكرناها توا: ‘‘أصبحت الأماني هباء يا محمد كل شيء صار واضحا!'' وافقه محمد الخلف الرأي فورا وبدون أي تفكير أو مراجعة أو استفسار، قائلا: '' نعم يا صالح لقد توارى زمن الآمال، استحالت الى ركام. ص9 ''. وعندما تمادى صالح في لوم وتقريع محمد الخلف فأن الأخير لم يرد ولم يحاول تفنيد أقوال صالح، إنما راح يتوسل به قائلا: ''ارحمني يا صالح استعين بك لا تجلدني أكثر أرجوك! ص7''

إن ما حدث لبطل (منازل)، محمد الخلف، هو كما لو أنه تعرض الى توسنامي فكري سياسي في ليلة واحدة، أو أُخضع لعملية غسيل دماغ سياسي فكري وتم حقنه بوعي سياسي مضاد لوعيه السابق، فصار الخلف نسخة (فوتو كوبي) من صالح.

والغريب حد الاندهاش هو، أن صالح حقق نجاحا باهرا يشبه السحر، فبعدما غادر الخلف منزل صديقه في الصباح التالي واستقل سيارة متجها نحو الجنوب، صار يرى فقراء الفلاحين المتعبين وقد تراصفوا ''كالخراف''، وأحاديثهم ''ثرثرة'' !!

وظل محمد الخلف، منذ لحظة خروجه من دار صالح كيطان، يزداد تغيرا، وابتعادا عن ما كانه داخل السجن، كلما كانت الأيام تتقدم. فقد بدأ بمرور الأيام ''يجد نفسه في متاهة... لا يعلم وجهته أين؟ '' ويرى '' أن ما يجري أشبه بالعبث واللاجدوى (و) شعوره بالمأزق الذي فيه يتعمق ''. وظل الخلف يسأل نفسه ''من أدخلك في هذه الورطة؟ ويردد مع نفسه' ‘كنت غارقا بوهم'' '' ويعلن بتشاؤم شديد '' ستغدو الأيام المقبلة مرعبة ''، وشرع ''يقاضي نفسه في عزلة تامة (وبدت) تضيع كل تلك الرؤى، الأحلام، الأصدقاء، تتعذر الرؤية، تغيم الدنيا كأن لا تاريخ، لا موقف، لا محبة ... ''. وبعد أن كان الخلف يردد مع زملاءه داخل السجن ببسالة وتحد وبفرح غامر وتحد (السجن ليس لنا نحن الأباة) صار الآن، وهو حر طليق، مذعورا خائفا مثل طفل يحتمي بأمه: '' بي شوق لأمي تحضر معي هذه العزلة'' (الصفحات،60،83، 61، 20، 29، 33).

والغريب، أو المفارقة هي، أن محمد الخلف (الثاني) ظل يبتعد عن محمد الخلف (الأول) كلما كانت الأوضاع الأمنية العامة في البلاد تتحسن، ويزول الخطر عنه ويشعر هو باستقرار وبأمان أكثر مع أسرته. فبعد أن عاد لأسرته والتأم الشمل وشعر بالأمان، بتنا نسمعه يوبخ نفسه والذين كانوا ينشطون معه في صفوف الجماعة: '' اشد ما أخشى ان نكون مصابين بعمى الألوان، فنفقد القدرة على التمييز. ص208''، وعن (الجماعة) يقول: ''لم يدرك واحد منهم ان الزمن يتحرك ص172.. انه الوهم الذي قادنا الى هذا المصير ص173'')

و ظل يردد أمام أبنه البكر: ''تاهت السفن والأشرعة يا ولدي. ص223''، ويقول لسليم الذي اقترح عليه العودة الى صفوف (الجماعة): ''أنا يا صديقي حتى الجهات الأربع ضيعتها، أبدو كمن علق في فضاء فارغ في مهب رياح عاتية ... ذاكرتي لا تعمل كما ينبغي ... شيء ما يموت في مكان بعيد ص208''، ويتساءل بمرارة وبأسف وبندم: ‘'لماذا أسلمنا أنفسنا للذبح؟ لم نعد نقرأ في كتبنا سوى اللغو ص91''.

و (اللغو) الذي يعنيه الخلف هو ما كان يعتبرها سابقا (أسس) النظرية التي يؤمن بها، والتي بموجبها يوجد (أعداء) (طبقيين)، فها هو الآن يسائل نفسه في مونولوغ داخلي: ''لِمَ كان يكافح؟ ومن أجل من؟ من هم الأعداء؟ ص206''. وأخيرا يعلن ''إن شعلة الحنين الى عالمي الأول همدت ص''.

ثم الوصول الى الاستنتاج الأعظم والذي من أجله كُتبت الرواية: ''لم أعد أصلح للجماعة ص207''.

تقنية تخدم المؤلف

''لم أعد أصلح للجماعة.'' هل هذا استنتاج أو قرار محمد الخلف نفسه، يقوله بحرية كاملة، أو وضعه المؤلف على لسانه ؟

نفضل أن تمر الإجابة على السؤال أعلاه عبر معرفة تقنية السرد. فقد اختار مؤلف (منازل أن تكون روايته مشابهة للنوع الذي يطلق عليه النقد تسمية رواية بولوفونيك ( polyphonique)، أي تحتوي على عدة رواة يروون عدة أحداث، كل واحد يروي الحدث وفقا لوجهة نظره. وفي (منازل) يتعدد الرواة ويتبادلون السرد بالتناوب وتتداخل أصواتهم حتى في ذات الصفحة الواحدة، الى حد تختلط الأمور أحيانا فلا نعرف من يتحدث.

والأرجح أن المؤلف اعتمد هذه التقنية لأنها تخدم غرضه، وهو عدم اقتصار البطولة على الشخصية المركزية، محمد الخلف وحده، أو لنقل حتى لا يصبح صوت الخلف هو الصوت الوحيد السائد، ولهذا خلق شخصيات ثانوية لكنها تقترب من البطولة، بل أن صوتها يعلو، أحيانا، على صوت الخلف نفسه (الأبن البكر، مثلا).

شخصية روائية بعدة نسخ

لكن، عن أي محمد الخلف نتحدث؟ فنحن أمام أربع نسخ للخلف وليست واحدة: الخلف السياسي، والخلف رب الأسرة، والخلف السياسي منذ شبابه وانتمائه الى (الجماعة) وحتى هروبه من السجن ولقائه بصديقه صالح كيطان، وأخيرا الخلف السياسي ما بعد هذا اللقاء وحتى نهاية الرواية.

فرغم ان محمد الخلف هو الشخصية المركزية التي لولا وجودها ما وُجدت الرواية أصلا، الا أنه ليس (البطل) في الرواية. كل شخصيات الرواية، تقريبا، هم أبطال: الأبن خالد، الأم زهرة، الأقارب، الأصدقاء. ولهذا فأن محمد الخلف لا يمكن اعتباره الراوي البطل (narrateur héros)، إنما يشاركه كما قلنا، أبطال آخرون، تعمد المؤلف، وبإلحاح، أن يمنحهم، وعلى امتداد صفحات الرواية، فرصا ذهبية لكي يكونوا، هم أيضا، رواة لهم مواقفهم ولهم آرائهم المهمة. وهنا بالذات يواجهنا (أشكال)، تقني. فالغرض من استخدام تقنية تعددية الأصوات في (رواية البولوفينيك) هو، إيصال وجهات نظر مختلفة، وهذا لا نجده في (منازل). فنحن أمام وجهتي نظر؛ (البطل) محمد الخلف من جهة، ويقابله من جهة أخرى أبنه خالد وزوجته زهرة ومعهم الراوي. هولاء كلهم يجمعهم رأي (واحد) هو، نقد حتى لا نقول (تسفيه) (الجماعة) السياسية التي ينتمي لها وينشط فيها محمد الخلف، وصولا إلى ثنيه نهائيا عن العودة لها ثانية، وهذا ما حصل. ودائما ما يتبادل هولاء السرد، سواء قصر أو طال الوقت الذي ’يمنح لهم، وحتى السارد بصيغة المتكلم (أنا) فهو شبه غائب، وكذلك الراوي العليم بكل شيء ( omniscient third person) فهو غائب.

وكما ذكرنا فأن هذا التعدد في وجود الرواة لم يتم صدفة أو بدون هدف، بل هو يعكس، استراتيجيا، 'وجهة نظر' المؤلف، أي تصوره وفهمه وتقيميه للموضوع الجوهري، أو الثيمة الرئيسية، أو الموضوع، أو الأطروحة المركزية في الرواية: تمجيد يصل حد التقديس لمحمد الخلف (الإنسان) (رب الأسرة) (المبرأ من كل عيب) كما ذكرنا، وهجاء (الجماعة) السياسية التي ينشط فيها محمد الخلف، (جماعة سلاتين) كما تسميهم زهرة زوجة الخلف، أو 'جماعتك' كما يسميهم الأبن خالد مخاطبا أباه.

بالطبع، تعدد الأصوات في أي عمل روائي هو أمر ديمقراطي، لكن في (منازل) يؤدي دورا مغايرا، لأن تعدد الأصوات يتم على حساب تقليص مساحة حرية التعبير عند (بطل) الرواية، حتى لا نقول إسكاته. بطل (منازل)، محمد الخلف، ليس بمقدوره أن يعبر عن مكنوناته بوضوح وبحرية، بسبب (رقابة)، كي لا نقول (قمع) يُفرض عليه، بتواطئ بين المؤلف، والراوي المحايد، والشخصيات الرئيسية.

فالروائي منذ بداية الرواية يُخرج بطله محمد الخلف من السجن ثم يلقيه في (سجن) صديقه صالح كيطان ليغسل له (ذنوبه) السياسية الحزبية، ثم يخرجه المؤلف ويلقيه في غياهب (سجن) آخر، هو الحفرة، أو مكان اختبائه. بعد ذلك يعيده إلى بغداد لكن دون أي أتصال مع الناس: (لم أدخل مقهى أو متنزها، لا أزور أحدا ولا يزورني.ص136 )، وكأنه مصاب بمرض نقص المناعة، ثم يرسله الى (سجن) آخر في الرمادي: '' اخبرني سليم عليك الاستعداد بعد غد للالتحاق بعملك الجديد في الرمادي ص 163.'') (ص166، 167) ورغم أن سليم يخبر الخلف بأن ''المشروع يضم عددا من المغضوب عليهم من المفصولين والمعتقلين سابقا من جماعتك '' ألا أننا لم نر ولم نسمع نقاشات، مهما كانت، تدور بين الخلف و(رفاقه) السابقين، بل نجد الخلف ''في الليل يخلو الى نفسه في غرفة منزوية عن بقية الغرف الأخرى داخل موقع المشروع'' ص171).

وبالإضافة لهذه العزلة المفروضة على بطل الرواية من قبل المؤلف، فأن الأخير لم يفسح المجال أمام بطله ليتحدث عن نفسه. فمثلا، لم يتحدث محمد الخلف من بداية الرواية حتى نهايتها عن سنواته التي قضاها في صفوف (الجماعة)، ولم يتحدث الخلف عن معتقداته وآرائه ومواقف (جماعته)، أو ما يسميه هو ''انتمائي السياسي والفكري ص 7 '' لا أمام أفراد عائلته ولا أقاربه ولا أمام زملائه في العمل في الرمادي ولا أمام أي شخص التقاه ؛ لم يتحدث عنها لا اثناء وجوده في السجن ولا في الفترات التي سبقتها بدليل أننا لم نسمعه يتحدث، ولم يتحدث عنها خلال فترة التخفي ولا لاحقا ’ حتى بدا محمد الخلف انسانا لا علاقة له بالسياسة.

وحتى عندما يريد محمد الخلف أن يعبر بصراحة وبحرية عن ما يجول في خاطره خصوصا في القضايا السياسية، فأنه يجد أمامه قامعين يترصدونه، وأشرسهم نجله البكر، خالد، حتى أضطر الخلف في أحدى المرات أن يعلن عن غضبه فقال موبخا نجله: '' أود لفت انتباهك الى أنك غالبا ما تتحدث عن (جماعتي)، كأنك تحاسبني كمذنب أمام تاريخي وانتمائي ص 141''، ومثل الأب انتبهت الزوجة زهرة للقسوة السياسية التي كان خالد يتعامل بها مع أبيه فأرادت ''ثني خالد عن توجيه اللوم لوالده ص49''.

ثم يأتي دور أم الخلف التي تؤنبه محذرة '' خلي سلاتين يسلتكم ص 33 ''، ترددها كنوع من العتاب ... لأبنها الكبير وهو منصرف عنها للعمل السياسي، ثم تظهر ثانية، زوجة الخلف، زهرة وهي تخاطب ابنها: '' أنت وابوك وأمثالكم من البشر دفعتم الثمن غاليا ص 44 ''

وحتى عندما يغالي الأبن في (لوم) أبيه بحدة، او كما يقول الأب: ''بلهجة لم أسمعه يتحدث معي بها سابقا'' وويتهيأ الأب لتعنيف أبنه، فأن المؤلف يتدخل ويمنعه ثم يدفعه أن يقول: ''تهيأت لتعنيفه (الأبن خالد) لأني لم أسمعه يتحدث معي بهذه اللهجة، لكني سرعان ما ترددت بعد أن أظهر لي مودة وأسفا شديدا حينها ادركت أنه أهل للمسؤولية ص50''.

وكما نرى فأن محمد الخلف (ونحن نتحدث هنا عن محمد خلف السياسي، وليس رب العائلة) يبدو وكأنه (محاصر) من قبل الجميع، ومنطفئ: لا مغامرات، لا أفعال خلاقة، لا مشاريع ولا أهداف مستقبلية، ولا حتى حرية تعبير يتمتع بها.

وعلى امتداد زمن الرواية الذي يبدأ في 8 شباط 1963 (كي لا نذكر الزمن الاسترجاعي الاستذكاري) وتنتهي مطلع عام 2003 حيث''حشود العساكر (التي) تنتظر على الحدود لاحتلال البلاد وغزوها ص252 ''، لا نسمع محمد الخلف يعلق أو يدلي برأيه، رغم ان العراق شهد خلال هذه الفترة أحداث عاصفة: انقلاب 1963 وما تبعه من عمليات انتقامية عشوائية في غاية العنف، انقلاب 18 تشرين بقيادة عبد السلام عارف ؛ نكسة حزيران التي تركت أثارها في المجتمع العراقي خصوصا عند النخب ؛ عودة البعث ثانية للسلطة، الحرب العراقية الإيرانية، حرب الكويت، انتفاضة آذار الشعبية، الحصار الاقتصادي، ''حشود العساكر التي تنتظر احتلال البلاد''.

الخلف يبدو وكأن مهمته التي خلق من أجلها في الرواية، هي توبيخ ولوم نفسه بسبب انتمائه السابق الى (الجماعة)، و(تجريح) (الجماعة) سواء بأسلوب الجلد الذاتي، أو عن طريق جلد الآخرين له، خصوصا أبنه البكر، وصولا الى القرار الاستراتيجي ''أنا لا أصلح للجماعة''

***

د. حسين كركوش

(إليها هاءً غيرَ قابلٍ للسكتِ) من ديوانه – ثورة الورد.

الشاعر "منير محمد خلف" من مواليد: الحسكة – سورية 1970· عضو اتحاد الكتاب العرب (عضو جمعية الشعر) يعمل مدرساً للغة العربيّة · صدر له المجموعات الشعرية التالية:

1. غبار على نوافذ الروح – دار الحصاد – دمشق.1995

2. سقوط آخر الأنهار - دمشق 1997.

3. لمن تأخذون البلاد؟ اتحاد الكتاب العرب 2000.

4. جنازة الإرث – اتحاد الكتاب العرب.2002

- نال عدداً من الجوائز الشعرية في سورية وخارجها من أبرزها:

1- جائزة سعاد الصباح في الكويت 1995.

2- جائزة المزرعة عن أفضل مجموعة شعرية في السويداء 2001.

3- جائزة طنجة في المغرب 2002.

4- جائزة أديب عباسي في الأردن 2004 وغيرها.

ينشر في الدوريات العربية والمحلية.

البنية الدلاليّة للنص:

دمشق في كل دلالاتها وزخمها وحضورها في الماضي والحاضر والمستقبل، التي عبر عنها الشاعر "منير الخلف" في هذه القصيدة، تظل عنده (روضةً من زخرفِ الأحلامِ)، شكلت حالة عشقٍ لروح هائمة في نور وظلال حضورها الأبدي، وفي نبض ياسمينها وزخرف أحلامها، التي لم يجد ذاته يوما إلا بين ياسمينها وعطره.

عيناكِ نبْضَا ياسمينِ الشَّامِ

يا روضةً من زُخْرُفِ الأحلامِ

هي عينا دمشق التي لم تعرف النوم عبر تاريخها، هي بوابة التاريخ، وجذوة المجد التي لم تنطفئ... هي سر الخلود وشعلة النور التي تضيء لأهلها ومن يعرف معنى الحلم والأمل عندما يغفو التاريخ.

دمشق التي أنهكها اليوم الجوع والقهر والحصار والموت وشهوة الدم، حتى خَفَتَ نور عينها ولم تعد تشع كي تضيء للمتعبين من أهلها طريق الخلاص... دمشق التي لم تعرف النوم عبر تاريخها، ها هي اليوم تكاد تغمض عينيها وتغفو من ظلم تتر ومغول العصر، حتى راح شعراؤها ومحبّوها يتمنون لها النوم والراحة والسكينة والخلاص من كل ما عانته، لعلها تصحو من جديد لتستعيد مجدها.

يخاطبها الشاعر "منير الخلف" وفي روحه وعقله ألف سؤال وسؤال:

عيناكِ.. لا أدري أأطرقُ مُتعباً

بابَ الفؤادِ بقبضتَي إحجامِ؟

عيناكِ عنقودَا كلامٍ صامتٍ

مَنْ ذا يُترجِمُ يقظتي لتنامي؟

هو يخاطب دمشق المكلومة في وجودها، يخاطب مشعل التاريخ.. ونبض قلبه وقلب كل عشاق الحريّة الذين أتعبهم ما أصابها من رزايا،، حيث لم يدرِ كيف الدخول إلى مجدها من جديد، وهو يرى الصمت وغياب البهجة في حضورها... وهذا ما يحزنه ويجعل القهر وعذاب الروح ينالا منه.. ويتساءل في داخله من ذا الذي يستطيع أن يفسر حبنا وأشواقنا لك يا دمشق، وكل أحلامنا ورغباتنا التي تأججت اليوم في مسامات وجودنا، تنتظر ارتياحك وعودة مجد التاريخ في عينيك؟.

ها هو الشاعر "منير" يدعوها أن تنام... أن ترتاح من قهرها على زند انتظاره وانتظار كلِ محبيها، لعلها تصحو من جديد. وهنا يحضرني شوق ولهفة الشاعر "سعيد عقل" لدمشق وهو يقول:

طالَتْ نَـوَىً وبَكَـى مِـن شَوْقِـهِ الوَتَـرُ

خُـذنِـي بِعَينَـيـكَ وَاهْـــرُبْ أيُّـهــا الـقَـمَـرُ

لم يَبقَ في الليلِ إلا الصّوتُ مُرتَعِشاً

إلا الـحَـمَــائِــمُ، إلا الــضَــائِــعُ الـــزَّهَــــرُ

كيف لا تصحو دمشق أيقونة التاريخ وهناك من يعشقها وهي من ألهم كل من عرفها سر البلاغة ونبض الحرف. يدعوها الشاعر "منير" بعد أن عاش هو آلامها أن تنام قائلاً:

نامي على زندِ انتظاري، إنَّهُ

وَشْمٌ على خدِّ البَلاغةِ نامي

ودعي مفاتيحَ اللّغاتِ على يَدِي

نعم... كيف لا تنهض دمشق من جديد... وهي الشآم التي لا يغيب حضورها رغم كل ما حاكه أعداء الإنسانيّة والجمال والحب ضدها... وهذا يعيدني ثانية لسعيد عقل وهو يخاطب دمشق:

(شَــآمُ يــا ابـنــةَ مـــاضٍ حـاضِــرٍ أبـــداً

كـأنّـكِ السَّـيـفُ مـجـدَ الـقـولِ يَخْتَـصِـرُ

حَـمَـلـتِ دُنـيــا عـلــى كـفَّـيـكِ فالتَـفَـتَـتْ

إلـيـكِ دُنـيـا، وأغـضَـى دُونَـــك الـقَــدَر).

يقول الشاعر "منير خلف" مخاطباً دمشق الروح والعشق والبهجة والحضور، ومحطة لعناق الروح والجسد بينها وبين محبيها ومغرميها:

سأجيءُ نحوَكِ شاعراً كَلِفَاً بِمَ

جَادَ العِنَاق بثروةِ الإلهامِ.

كيف لا يجيد شاعرنا ويعشق عناقها وهي الشآم التي عشقها كل شاعر عربي عرفها وعرف أهلها بطيبهم وحبهم.. ألم يقل "سعيد عقل" بها:

(شـــــآمُ أهــلـــوكِ أحـبــابــي، وَمَـوعِــدُنــا

أواخِــرُ الصَّـيـفِ، آنَ الـكَـرْمُ يُعتَـصَـرُ

نُـعَـتِّــقُ الـنـغَـمَـاتِ الـبــيــضَ نَـرشُـفُـهــا

يــومَ الأمَـاسِـي، لا خَـمــرٌ ولا سَـهَــرُ

شَــآمُ يــا ابـنــةَ مـــاضٍ حـاضِــرٍ أبـــداً

كـأنّـكِ السَّـيـفُ مـجـدَ الـقـولِ يَخْتَـصِـر).

البعد الجمالي في القصيدة:

يركز البعد الجمالي على تحليل وتقييم الجماليات في الأعمال الأدبيّة، وفهم كيفيّة استخدام العناصر الجماليّة مثل اللغة، الأسلوب، الصور، والرموز في النصوص الأدبيّة لإثارة المشاعر والتأثير في القارئ. وعلى هذا الأساس تأتي دراستنا للغة القصيدة أولاً.

لغة القصيدة:

لقد شكلت اللغة هنا آليّةً استراتيجية هامة في البناء الشعري للقصيدة، فهي كسفينة راحت تنقل الشاعر والمتلقي معاً إلى آفاق المجهول من أجل الكشف عن الرؤى الهاربة في المتاهات السريّة البعيدة، الأمر الذي يجعل المتلقي يذهب إلى تأويل ملفوظ القصيدة تأويلاً استعاريّاً، عندما يدرك غموض المعنى في لغة النص. (إليها هاءً غيرَ قابلٍ للسكتِ).. (عيناكِ عنقودَا كلامٍ صامتٍ)... (ودعي مفاتيحَ اللّغاتِ على يَدِي).. (مَنْ ذا يُترجِمُ يقظتي لتنامي؟). مع هذا الغموض في النص يفتح المتلقي بنية وآفاق القصيدة على كل ما تمثله معارفه عن دمشق التاريخ... فبوابة التاريخ وعمقه ومجده، هي بحر عميق في كنوز دلالات حضورها فتسهل للمتلقي أن يغرف من كنوز هذه الدلالات كل ما يستطيع عقله وعاطفته وحبه وشوقه لدمشق.

تمتاز لغة النص بسلاستها ونصوعها وسهولتها وفصاحتها. فالكلام الفصيح هو الظاهر البين الذي يستلذ السمع منه ويميل إليه. وما يميز لغة النص أيضاً، عذوبة (النسيب) في لغة القصيدة التي فرضها عشق الشاعر لدمشق، فهناك تهالك في الصبابة، وإفراط في الوجد واللوعة والرقة، وأخيراً جودة المعنى التي تأتي من "اتفاق المقال مع واقع الحال"، كما يقال... يخاطب الشاعر "منير الخلف" دمشق:

عيناكِ نبْضَا ياسمينِ الشَّامِ

يا روضةً من زُخْرُفِ الأحلامِ

عيناكِ.. لا أدري أأطرقُ مُتعباً

بابَ الفؤادِ بقبضتَي إحجامِ؟

عيناكِ عنقودَا كلامٍ صامتٍ

مَنْ ذا يُترجِمُ يقظتي لتنامي؟.

الرمز في القصيدة:

إن للرمز قبل كل شيء معنىً خفيّاً وايحاءً، يحاول الأديب عكس ما يدور في خلده عن طريق الرمز والقناع والأسطورة، وهو في الشعر العربي الحديث بشكل عام، يعتبر الوليد الشرعي لظروف القمع السياسي والاجتماعي والثقافي والفكري، فالأديب يصعب عليه أن يطلق أفكاره بحريّة تامة وبصورة مباشرة، لذلك يلجأ الى تقنية الرمز. وتزداد قيمة الرمز وأثره محل الأشياء بكونه تعبيراً لا شعوريّاً يتجاوز الواقع الى الايحاء به، فهو قد يبدأ من الواقع ولكن لا يرسم الواقع، بل يُردُّ الى الذات، وفيها ينهار عالم المادة وعلاقاتها الطبيعيّة لتقوم على انقاضها علاقات جديدة مشروطة بالرؤية الذاتيّة لمستخدم الرمز.

بيد أن الرمز في القصيدة عند الشاعر "منير خلف" جاء هنا ليعبر عن عمق تاريخ دمشق وتعدد سجاياها الجميلة، إن كان في طبيعتها أو طبيعة أهلها عبر التاريخ.

ففي عنوان القصيدة (إليها "هاءً" غيرَ قابلٍ للسكتِ)، يأتي حرف (الهاء) هنا، الحرف الأول لاسم حبيبة الشاعر، هذه الحبيبة التي تساوت في عشقه لها مع عشقه لدمشق... فالمرأة تظل في رمزيتها كـ"عشتار" الخصب والعطاء الذي لا ينضب، أو ك"فينوس" آلهة الجمال التي تحقق الدهشة، ودمشق كذلك.

كما يأتي (الياسمين) في القصيدة رمزاً يعبر عن جمالها وعطر ماضيها وحاضرها ومستقبلها، فهي (روضةً من زُخْرُفِ الأحلامِ.)، كما وصفها الشاعر.

أما أن تكون دمشق عند الشاعر (مفاتيح اللغات)، فتعدد اللغات (رمز) يدل على عمق دمشق الحضاري، ومنها كانت أول أبجدية في التاريخ وعلى أرضها قامت حضارات، ومرت عليها شعوب عديدة تركت الكثير من مفردات لغاتها ممتزجة ومتعانقة مع لغتها العربيّة حتى اليوم.

لقد وظف الشاعر الرمز في القصيدة ببراعة عالية، يريد به إبراز قدراته الابداعيّة والجماليّة من جهة. إضافة لكونه يعني حالة باطنيّة معقّدة من أحوال النفس، وموقفا عاطفيّاً أو وجدانيّاً من جهة ثانية. وبوصفه أيضاً أكثر فاعليّةً وقدرةً على التعبير بدلالات واسعة مختلفة من جهة ثالثة.

الصور الشعريّة في القصيدة:

تظل الصور الشعريّة هي الوسيلة التي يستخدمها الشعراء لنقل الأفكار والمشاعر بطريقة ذهنيّة أو حسيّة ملموسة. كما تحتل الصورة أهميّهً كبيرةً في تشكيل البناء العام للعمل الأدبي، على اعتبار أن العمل الأدبي أو النص بعمومه، هو صورة، يقوم الكاتب أو الأديب في تجسيدها شعراً أو نثراً. ومن خلال استخدام الصور الشعريّة، يمكن للشاعر أن يخلق عوالم خياليّة غنيّة بالتفاصيل، مما يسمح للقراء بقراءة النص بشكل أعمق وأكثر تفاعليّة.

من هذا المنطلق المنهجي، اعتمد الشاعر "منير خلف" كثيراً على الصورة الذهنيّة والحسيّة معاً، ساعياً بخبرته وتراكم معرفته بدور الصورة وأهميتها فنيّاً وجماليّاً ومعرفيّاً، حيث قام بتشخيص تلك الصور الذهنيّة خاصة في النص، عبر اللغة ومحسناتها البديعيّة البلاغيّة من التشبيه والاستعارة والكناية. فصار للمعنى وجوداً آخر من جهة دلالة الألفاظ وجماليّة صياغتها، والتطابق بين الصورة والتجربة الشعريّة للشاعر، إضافة لتحقيق حيويتها وايحائيتها، والمتعة الفنيّة في ذاتها، بما تحويه من خيال بديع.

لقد جاءت القصيدة بمعظمها مشبعة بصور حسيّة وذهنيّة عالية التشكيل، لتشكل من كل هذه الصور المنفردة ومجتمعة، صورة كليّة لدمشق التي حركت كل أحاسيس الشاعر وكوامن وجدانه، وألهمته معنى الحياة والخلود والبوح:

(عيناكِ نبْضَا ياسمينِ الشَّامِ).. (يا روضةً من زُخْرُفِ الأحلامِ).. (أأطرق.. باب الفؤاد).. (عيناكِ عنقودَا كلامٍ صامتٍ).. (وَشْمٌ على خدِّ البَلاغةِ).. (مفاتيحَ اللّغاتِ)...

شعريّة المكان في القصيدة:

تظل العلاقة بين الإنسان والمكان علاقة قديمة متجذرة في أعماق النفس البشريّة، وطبيعة هذه الوشيجة تشكلها تلك العلاقة الحميميّة بين البيئتين الطبيعيّة والاجتماعيّة اللتين ترعرع فيهما الإنسان، ونمت إدراكاته وأحاسيسه وتشكل هويته وإحساسه بذاته. فالشاعر الجاهلي تعلق بالطلل وبالرسوم الدارسة وأماكن الظعن، وانعكست أشجانه ورؤاه الشعريّة على تلك الأماكن، فكان يسافر إليها للذكرى والتذكر، ويقف حيالها حزيناً يذرف الدمع مدرارا ويستعيد لحظات الماضي بكل تفاصيله في لذّة وشجن وحرقة والتياع. ويركز الشاعر الحديث على موطنه ومسقط رأسه ثم يخرج من هذه الرؤية الضيقة وتتوسع نظرته لتشمل أماكن متعددة كالبيت والنهر والقرية والمدينة...إلخ. ولكن هناك علاقة أخرى أشد عمقاً تربط الإنسان بالمكان، وهي الوطن الذي يعبر عن انتماء الإنسان وارتباطه الحضاري بكل مفرداته من لغة وثقافة وآمال وألام وعيش مشترك، ففي هذا الانتماء الحضاري تبقى العلاقة وطيدة بين الذكريات والمكان، لتشكل جزءاً هاماً من تجربة الشاعر، فيبني علاقات مع جمادات المكان، ويعمل على أنسنتها، من خلال مخاطبتها ومحاورتها.. وهذا ما عبر عنه الشاعر "محمد خلف" في انتمائه لدمشق التي راح يبين لنا عبر كل تلك الصور الذهنيّة والحسيّة واللغة الشفافة التي جاءت في القصيدة، عن حبه وعشقه وانتمائه لها.. حيث يقول:

يا روضةً من زُخْرُفِ الأحلامِ

نامي على زندِ انتظاري...

ودعي مفاتيحَ اللّغاتِ على يَدِي

لأفكَّ شِفرةَ شوقيَ المتُنامي

سأجيئ نحوَكِ شاعراً كَلِفَاً بِمَ

جَادَ العِنَاق بثروةِ الإلهامِ

الموسيقى الخارجية والإيقاع الداخلي في النص الشعري:

تظل الموسيقي تلازم الخطاب الشعري، وهي جزء من القصيدة لا تنفصل عنها، لأنها تنشأ في داخلها، مراوحةً بين الحركات والسكنات، ولا تنفصل عن سياق المعنى، فينضبط ويرتبط بها.

إن مصدر الموسيقى في التشكيل الخارجي للقصيدة متعلق بالتفعيلة (الوزن) والقافية.

أما الإيقاع فهو ذلك التناغم الداخلي الحاصل من النبر أو الصوت الداخلي للنص الناجم عن الحالة النفسيّة والشعوريّة وحتى الحالة الفيزيولوجيّة للشاعر، التي تتطابق وتتناغم مع طبيعة كلمات القصيدة وحروفها وتراكيبها وصورها ونسيجها البلاغي من تشابيه واستعارة وكناية وجناس وطباق وغير ذلك. وبالتالي مدى قدرة الشاعر على تحقيق الانسجام والوحدة بين مكونات القصيدة كي يصدر عنها رتم موسيقي ينسجم مع بنيتها العامة.

مع شعر الحداثة (التفعيلة أو الشعر المنثور) تطور الإيقاع فانتقل من نظام الصوت المتشابه، والبنيات المتماثلة في الوحدات المتقابلة، ومن نظام الوزن الصارم في الشعر والقافيّة، إلى إيقاع جديد متحرر متسامح مع نفسه، ومن ثمة صار الصوت يؤدي دورا ًبالغ الأهميّة في التأثير على المتلقي بما يحمل من خصوصيات في التنغيم والنبر والجهر والهمس.

إن هذا التطور في الرتم الموسيقي سيجده المتلقي في قصيدة الشاعر: "منير الخلف" (إليها هاءً غيرَ قابلٍ للسكتِ). لقد استطاع الشاعر في هذه القصيدة القائمة في موسيقاها الخارجيّة على تفعيلة (متفاعل)، وغلبت على نهاية الشطر في بنية القصيدة حرف (الميم) بكل ما يحمل هذا الحرف من دفقات وجدانيّة تخاطب عاطفة المتلقي وحسه وشغاف قلبه ووجدانه. أما على مستوى الموسيقى الداخليّة، فقد جاءت دقة الشاعر في اختيار الألفاظ، ثم قدرته على الملاءمة بين ألفاظه وإيحاءاته الفكريّة، وقدرته التعبيريّة في اختيار الكلمات، ثم تحقيقه لحالة الانسجام بين الأصوات ودلالاتها، ساهم كل ذلك في تشكيل رتم موسيقي تعانق فيه نغم الموسيقي الخارجي الصادر عن الوزن والقافية مع الإيقاع الداخلي أو الموسيقى الداخليّة للنص، وبالتالي منح مكونات القصيدة التناغم والتوازي والتساوي بين أجزاء الكلام.

***

د. عدنان عويّد

كاتب وباحث وناقد من سوريا.

....................

(إليها هاءً غيرَ قابلٍ للسكتِ)

عيناكِ نبْضَا ياسمينِ الشَّامِ

يا روضةً من زُخْرُفِ الأحلامِ

عيناكِ.. لا أدري أأطرقُ مُتعباً

بابَ الفؤادِ بقبضتَي إحجامِ؟

عيناكِ عنقودَا كلامٍ صامتٍ

مَنْ ذا يُترجِمُ يقظتي لتنامي؟

نامي على زندِ انتظاري، إنَّهُ

وَشْمٌ على خدِّ البَلاغةِ نامي

ودعي مفاتيحَ اللّغاتِ على يَدِي

لأفكَّ شِفرةَ شوقيَ المتُنامي

سأجيئ نحوَكِ شاعراً كَلِفَاً بِمَ

جَادَ العِنَاق بثروةِ الإلهام

مقدمة تحليل قصيدة "العمائم": الجندي، الهذيان، والخذلان الكبير

عند التوغل في أبعاد الصور الشعرية التي يصوغها شاعرنا الكبير، تظهر بوضوح مفارقة جوهرية تُعدّ أساساً لأعماله؛ إذ يتجلى فيها عشقه للحرية، ورفضه القاطع لكل مظاهر الاضطهاد والاستغلال. في نصوصه، لا تقتصر مهمة الكلمة على إبراز جمالها فقط، بل تتعدى ذلك لتغوص في أعماق الواقع المتصدع، فتستخرج رؤى مبتكرة مفعمة بالإبداع وتُجسّد تجارب شخصيته الاستثنائية.

ليس شعره مجرد لعبة لغوية، أو نزوة فكرية عابرة، بل يُمثل بيانًا أدبيًا وفكريًا محمّلًا برسائل تهدف إلى إيقاظ الوعي وتحفيز التأمل والإبداع. هذا ابن بغداد، الذي ترعرع على ضفاف دجلة، وحافظ على خيوط الأمل متماسكة رغم تجربة النفي والغربة، لم يتخلَّ عن بريق التفاؤل. كما عبّر عن ذلك قائلًا: لم أفقد الأمل بانتصار الأمل. فيتصور كشخصية الفارس الذي، رغم العواصف التي تلاحقه، يظل يحلق نحو النور.

تشغل قصيدة "العمائم" مكانة مميزة في تجربتها الأدبية، من خلال تناول آثار ما بعد الحرب؛ فتفتح أبوابها على مشهد مزدوج، يجمع بين نقد بنية القهر الجديدة، وكشف الجراح العميقة التي يتركها الصراع على أرواح وأجساد البشر. لا تُقدَّم الحرب على أنها لحظة عابرة أو مجرد حدث انتهى، بل تتحول إلى زمن داخلي يأكل من الروح، حتى بعد صمت المدافع. الجندي الذي يجد نفسه على عتبة الأسئلة لا يظهر كبطل منتصر ولا كضحية فقط، بل يصبح رمزًا لمعاناة شعوب بأكملها أُعيد تشكيلها قسرًا من دون أن يترك لها خيار أو اعتبار لرغبتها في تحمّل هذا الإرث الثقيل من الخذلان.

وفي هذا السياق، يتجلى الشاعر كمثقف عضوي نابض بالحيوية، بحسب رؤية غرامشي، لا يكتفي بتوثيق تشوهات الأنظمة، بل يسعى جاهدًا إلى إيقاظ الوعي وسط سبات الجماعات. قصيدة "العمائم" ليست مجرد تمرين جمالي محض، بل هي موقف وجودي وموقف مقاوم ضد التزييف والعنف المغلف بالرموز الزائفة. تتحدى القوى المهيمنة متسائلة: هل تتحول معاناة الحرب إلى وجه جديد أم أن السلطة تكتفي بتشكيلها تحت غطاء عمائم مصطنعة؟

عرض القصيدة

العمائم...

في الليلْ

حين ينام الكون

فوقَ فراش أصابعكَ

توقظُ تكتكةُ الساعةِ أحلامَكَ

المتعبةَ

من دوران نهار اليوم.

في الليلْ

حينَ تغرِّدُ أطيافُ الماضي

في رأسكَ

تُسلمُ عينيكَ للذةِ هذي الفكرةِ:

أنْ تنظرَ في الظلمةِ حواليكَ

فترى الأشباحَ الحائمةَ

أنهاراً من ذاكرةِ الشارعِ

والناس

هناكَ ....

حيثُ الحلمُ بقايا جثةِ نادلِ مقهى

(حسن عجمي) *.

في الليلْ

حينَ تنامُ

محتضناً دقاتِ القلبِ

وأسوارَ نهارٍ مُرٍّ مَـرَّ

ترى وجهَ الجندي العائدِ

من ساحاتِ الحربِ،

وغبارُ المعركةِ تنهشُ

بمساماتِ الجلدِ الأسمر

والعينان بلا أفقٍ

وشقوقُ يديهِ تتساءلُ

عن Nivia cream

في صدر امرأةٍ عاريةٍ

تتمدَّدُ فوق فراش الرغبةِ

في الأحلامْ .....

عندَ مساءٍ مظلمْ

في البارٍ الغافي

في حضنِ شارع الرشيدْ

بمقابل سينما الزوراءْ

جلسَ بجواركَ عندَ المائدةِ

ذاكَ الجنديُ،

وكؤوسُ البيرةِ (الدرافت) عامرةٌ

حتى آخر نبضٍ في الرأسْ،

أقراصُ الڤاليوم المستوردةُ

من شركاتِ بلادِ القاتلِ

ودهاليزِ تجار الحربْ

خارج صلاحيةِ النوم

بينَ أصابعهِ المرتعشة.

البيرةُ كانتْ باردةً،

الجو الخانقُ يقطعُ أنفاسَ محاربنا،

الروادُ زبائنُ خارجَ هذا العالم.

يعرقُ صاحبُكَ الجالسُ بجواركَ

يغنّي....

في هذيانٍ....

مثلَ هذيان المحمومِ

في مستشفى الأمراضِ الصدريةِ.

في الليلْ

حينَ ينامُ العالمُ ... ذاكَ .....

فوق سرير الأمنِ

يسهرُ ذاتُ الجندي

في جوفِ صريفتهِ المبنيةِ*

بمخالبِ الجوعِ

وهديرِ اللاأمن

يتساءلُ:

- هل أستبدلُ ثوبَ الحربِ الماضيةِ

بعمائمِهم؟

تحليل الأبيات الرئيسية في النص:

العتبة، العنوان: "العمائم" كمفتاح تأويلي

يُعدّ عنوان "العمائم" مفتاحًا تأويليًا يكشف التحولات السياسية والرمزية في القصيدة؛ فهو لا يخدم وظيفة جمالية فقط، بل يشكك أيضًا في استخدام الرموز الدينية لتبرير منظومة سلطوية جديدة بعد الاحتلال. فقد تحولت العمائم من رمز ديني نمطي إلى استعارة سياسية تُشير إلى سلطة تخفي وراءها وجه المقدّس آليات إعادة إنتاج القمع والفساد باسم الهوية والدين.

إن صياغة العنوان بصيغة الجمع تبرز انتشار هذه الظاهرة واتساع مدارها، مما يمنح العنوان دلالة تتجاوز الفرد لتطال بنية السلطة بأكملها. ويتجلى هذا الأمر بوضوح في تساؤل الجندي الختامي، الذي يُظهر تحوّلًا من قمع عسكري مباشر إلى قمع مؤدلج ديني، فيصبح العنوان بذلك بوابة لفهم التوتر بين الماضي والحاضر—وبحث عن هوية يُخفيها خطاب زائف تُزيّفه العمائم

المقطع الأول: استدعاء الذاكرة في ليل الذات

في الليلْ

حين ينام الكون

فوقَ فراش أصابعكَ

توقظُ تكتكةُ الساعةِ

أحلامَكَ المتعبةَ

 من دوران نهار اليوم

يقدّم الشاعر تصويرًا للّيل على أنه أكثر من مجرد فترة هدوء، حيث يتجلى كزمن تتبدى فيه التوترات الداخلية بوضوح، لتصبح العزلة انعكاسًا يعكس الإنهاك المتراكم من واقع مضطرب ومليء بالتحديات. ففي العبارة "حين ينام الكون فوق فراش أصابعك"، يوحي المشهد الظاهري بالهدوء، إلا أن أصابع الشاعر تحمل في طيّاتها عبء العالم بأسره. هذا التصوير الرمزي يشير إلى وعيٍ مثقل بمزيج من العجز والحذر المستمر. وليس الليل هنا محطة للراحة أو الاستشفاء، بل هو مساحة يعري فيها استمرار الألم الكامن، حيث يتحوّل السكون الخارجي إلى معترك داخلي دائم. وفي هذا المشهد، يلتقي الإحساس العميق بالحنين مع وعي مأزوم يعي حضوره ويتأمل ذاته، لكنه يبقى عاجزًا عن الفعل المباشر.

تُعتبر تكتكة الساعة في النص رمزًا ذا دلالة مزدوجة؛ فهي من ناحية تمثل صوت الزمن المستمر في تسجيله، الذي يكشف عن ثقل تعاقب الأيام، ويوقظ الأحلام لا كمهرب بل كأعباء مرهقة تحكمها قسوة الواقع، حيث يمتد دوران النهار إلى أعماق ليل الذات. ومن ناحية أخرى، تعكس هذه التكتكة نبضًا يحمل في طياته ذاكرة مفعمة بندوب الحرب، ما يجعلها رمزًا للصمود في وجه الرتابة وسجلًا داخليًا للآلام المتراكمة.

إن ربط "الأحلام" بـ"التعب" و"النهار" يشير إلى أن التجربة اليومية للذات لا تُفارقها حتى في أكثر لحظات الهدوء المفترض. فالنهار الذي قد يُحيل إلى السلطة والواقع الاجتماعي المتغير في القصيدة، لا يترك مجالًا للراحة، بل يُخلف أثرًا نفسيًا يتجلّى ليلًا في شكل وعي قلق وأفكار متعبة.

المقطع الثاني: الليل كفضاء للاستعادة والإنصات: جدلية الحضور الغائب

"في الليل،

 حينَ تغرِّدُ أطيافُ الماضي

 في رأسكَ،

 تُسلِّمُ عينيكَ للذّةِ هذه الفكرة:"

"أنْ تنظرَ في الظلمةِ حواليكَ

 فترى الأشباحَ الحائمةَ

 أنهاراً من ذاكرةِ الشارعِ."

يمهّد الشاعر من خلال هذا المقطع لمشهدٍ تأملي عميق تنفتح فيه الذات على استعادة الماضي، لا بوصفه حدثًا مضى، بل كحالة تأملية مستمرة تعيد تشكيل الإدراك في لحظة السكون الليلي. الليل هنا لا يُقدّم كمجرد زمن خارجي، بل كفضاء داخلي، تتجلّى فيه الذكرى عبر "تغريد أطياف الماضي"، في مفارقة شعرية تربط بين الجمال (التغريد) والألم (الطيف).

هذا التوظيف ينقل الذكرى من كونها عبئًا إلى مصدر لذّة تأملية؛ إذ يتخلى الشاعر عن مقاومة الذكرى ويُسلّم عينيه للفكرة، كما لو أن الألم ذاته بات مألوفًا، وربما مرغوبًا، لما يحمله من حضور يُعيد تثبيت هوية الذات في مواجهة النسيان.

"أن تنظر في الظلمة حواليك" لا تعني فقط النظر الحسي، بل التوجه بالبصيرة نحو الغياب، فيتحول الظلام من عتمة صامتة إلى مجال بصري داخلي تظهر فيه "الأشباح الحائمة". هذه الأشباح ليست مرعبة، بل شاهدة، تمثل حضورًا غيابيًا لمن عبروا، وتشير إلى أن الأمكنة، مثل "الشارع"، لا تخلو من ذاكرة، بل تجري فيها "أنهار" من الذكرى، كما تجري الحياة في العروق.

المزج بين "الأشباح" و"أنهار من ذاكرة الشارع" يُنتج صورة مركبة تعبر عن الوعي الجمعي؛ الأشباح كمجاز للراحلين أو الضحايا، والشارع كحيّز للتجربة اليومية التي لم تَعُد محايدة، بل مشبعة بتاريخ خفي يُقيم في الجدران والأرصفة.

في هذا المقطع، يتحول الليل من مجرد خلفية شعرية إلى حالة ذهنية، تتكثف فيها الرؤى والحنين، ويصير الظلام حافزًا للتأمل لا للاختباء. إنه وعي يتجاوز الحاضر، ويستحضر التاريخ الشخصي والجمعي في آن، حيث الذكرى لا تُستعاد فقط، بل تُعاد صياغتها كحضور قائم بذاته

المقطع الثالث: الناس هناك: استدعاء الوطن من موقع المنفى وتفكيك حلم المثقف

"والناس هناك...

 حيثُ الحلمُ بقايا جثةِ نادلِ مقهى (حسن عجمي)"

في هذا المقطع، يستحضر الشاعر الوطن من موقع الاغتراب، مستخدمًا تعبير "الناس هناك" كإشارة مكانية مشبعة بدلالة الانفصال، تُحيل إلى أولئك الذين بقوا داخل جغرافيا الوطن، بينما الذات الشاعرة تعيش خارجه، في المنفى أو المنفى الرمزي. لا ترد العبارة بوصفها حيادية أو توصيفًا عاديًا للمكان، بل تنطوي على مسافة شعورية تتوزع بين الحنين والخذلان، إذ تتحول "هناك" إلى مكان مُتخيَّلٍ مفعم بالذاكرة والألم.

يرتكز المشهد الشعري على مقهى "حسن عجمي"، وهو أكثر من معلم واقعي، إذ يتجلّى بوصفه رمزًا للحراك الثقافي ومجتمع المثقفين، حيث كان التقاء المثقفين والأدباء في مثل هذه الفضاءات يمثّل بؤرًا للجدل الفكري والتعبير الحر. غير أن صورة "الحلم" في هذا السياق لا تأتي مشرقة أو حيّة، بل تُقدَّم في أقصى حالاتها انكسارًا، إذ يُختزل في "بقايا جثةِ نادل".

النادل، الشخصية الهامشية في المشهد اليومي، يُستدعى هنا كأيقونة للزمن الثقافي الذي مضى؛ فما كان يدور حوله من تفاعل حيوي صار الآن أثرًا بعد عين، مجسّدًا في "بقايا جثة". لا يشير الشاعر إلى النادل كشخص فحسب، بل كجزء من منظومة ثقافية بأكملها تآكلت، فتفكك الحلم الذي كان ذات يوم يرفرف في فضاء المقهى وارتبط بحيوية الكلمة والنقاش.

إن توصيف الحلم بأنه "جثة" لا يحمل فقط دلالة على الفقد، بل يكشف تحوّل الفضاء الثقافي إلى موقع مأساوي، يوحي بأنّ الحلم الجماعي الذي كان يربط الأدباء والمفكرين بالمكان قد انتهى نهاية مأساوية، بل مشوّهة. هذا ما يجعل المقطع يتجاوز الحنين إلى صيغة نقدية جارحة لواقع المثقف والوطن، حيث تحوّلت رموز الحياة الثقافية إلى شواهد على موت المعنى.

ويُلاحظ أن الشاعر لا يُصوّر الوطن في حالة مواجهة مباشرة، بل يُركّب صورة من خلال انعكاسات الذاكرة، حيث تتحوّل الأماكن إلى مقابر رمزية للأحلام، والمقهى، بكونه مركزًا ثقافيًا، يصبح رمزًا لما كان يمكن أن يكون ولم يتحقق.

الخلاصة:

تُعبّر هذه الصورة عن ثنائية الحنين والخذلان، وعن المفارقة بين وطنٍ محفوظ في الذاكرة بوصفه مساحة للأمل، ووطنٍ متلاشٍ في الواقع حيث تحوّلت الأحلام إلى أشلاء رمزية. بقايا جثة نادل المقهى ليست سوى استعارة عن انهيار المشروع الثقافي والجماعي الذي كان يحتضنه المكان، وتُصبح "الناس هناك" عبارة شحن شعوري موجّه من مغترب يواجه الوطن بوصفه ماضيًا منهارًا لا يستعاد. منها إلّا بقايا.

المقطع الرابع: الجندي كصورة عن شعبٍ أنهكته الحروب

في الليلْ

حينَ تنامُ

محتضناً دقاتِ القلبِ

وأسوارَ نهارٍ مُرٍّ مَـرَّ

ترى وجهَ الجندي العائدِ

من ساحاتِ الحربِ،

وغبارُ المعركةِ تنهشُ

بمساماتِ الجلدِ الأسمر

والعينان بلا أفقٍ

في هذا المقطع الشعري، تُبنى التجربة على ثنائية الليل/النهار بوصفها إطارًا زمنيًا وشعوريًا يعكس التوتر الداخلي الناتج عن الحرب. إذ يُقدّم الليل لا بوصفه فضاءً للسكينة فحسب، بل كمساحة تأمُّلٍ ذاتي، يُستدعى فيها المكبوت والمقموع، حيث "ينام" المتكلم ظاهريًا، لكنه "يحتضن دقات القلب"، بما يشير إلى يقظة وجدانية تُقاوم السكون الخارجي.

تشير عبارة "أسوارَ نهارٍ مُرٍّ مَـرَّ" إلى النهار بوصفه معادلاً للمعاناة اليومية، حيث يتحول الزمن إلى بنية مغلقة تحاصر الذات. فـ"الأسوار" لا تُمثّل هنا مجرد بُنية مكانية، بل دلالة على آثار التجربة المُعاشة، أي أن الشاعر يعكس أثر الزمن المؤلم على البنية النفسية للشخصية الشعرية.

في هذا السياق، يُستدعى "وجه الجندي العائد من ساحات الحرب" ليشكّل صورةً رمزية للذات المجروحة، سواء أكانت ذاتًا فردية أم جمعية. فـ"العودة" هنا لا تُمثّل نهاية الصراع أو الانعتاق من الحرب، بل على العكس، تشير إلى استمرارية أثرها. إذ يظهر "الجندي" وقد التصق به غبار المعركة حتى بعد عودته، حيث يقول:

 "وغبارُ المعركةِ تنهشُ بمساماتِ الجلدِ الأسمر".

هذه الصورة تتجاوز الطابع الفيزيائي للغبار لتُحيله إلى رمز للذاكرة القتالية، تلك التي تتسلل إلى مسامات الجسد وتستقر فيه. فالـ "غبار" لا يمثّل هنا أثرًا خارجيًا عابرًا، بل حالة من الالتصاق الوجودي، إذ تنهش الحرب الجسد وتُعيد تشكيله بوصفه شاهداً دائمًا على عنفها.

أما عبارة "والعينان بلا أفق" فتُكثّف البعد النفسي للمشهد، إذ تُعلن انهيار القدرة على التطلّع إلى المستقبل. فـ"العينان" اللتان تُعدان رمزًا للرؤية والرجاء، تتحوّلان إلى مرآة للفراغ، ما يشي بحالة من الانكسار العميق وفقدان الإيمان بإمكانية التغيير أو النجاة.

خلاصة:

تقوم هذه الأبيات على ترسيم معمار شعري تُنقل فيه آثار الحرب من حيز الزمان والمكان إلى داخل الجسد والوعي. إنها تجربة لا تنتهي بانتهاء المعركة، بل تظل تنهش النفس والجسد معًا، كما في استعارة "الغبار" و"العينان بلا أفق". هنا تتجلى الحرب لا كحدث تاريخي، بل كزمن داخلي مستمر، يُحوّل الإنسان العائد ذاتًا تُصارع ماضيها في كل لحظة ليل.

المقطع الخامس: تمازج الواقعية بالرمزية السريالية:

وشقوقُ يديهِ تتساءلُ

عن Nivia cream

في صدر امرأةٍ عاريةٍ

تتمدَّدُ فوق فراش الرغبةِ

في الأحلامْ .....

يمكن تأويل هذا المشهد الشعري بوصفه مثالًا مركّبًا على تمازج الواقعية بالرمزية السريالية، حيث يخلق الشاعر توتّرًا شعريًا يعبّر عن الهوة بين الرغبة والحرمان، ويعيد مساءلة بنى القيم الجمالية والاجتماعية ضمن سياقٍ معاصر. النص يشتغل على ثنائية الجسد/الرغبة والحرمان/القهر، محوّلاً الرموز اليومية إلى أدوات تفكيك للواقع الاجتماعي.

1- "شقوق اليدين" – رمز العمل والحرمان: يمثل تعبير "شقوق اليدين" بعدًا واقعيًا يحيل إلى المعاناة الجسدية الناتجة عن الفقر والعمل اليدوي القاسي. غير أن هذه الصورة لا تكتفي بالإشارة إلى البعد الفيزيائي، بل تتحول إلى أثر رمزي يدلّ على جراح أعمق في الكرامة الإنسانية، وعلى ماضيٍ مثقل بالتجربة القهرية. تتحول اليد – أداة الفعل والإنتاج – إلى وثيقة مرئية للخذلان الاجتماعي، حيث الجسد يصبح حاملًا لتاريخ الاضطهاد الطبقي.

2- عن Nivia cream

– ترف مستحيل ورغبة مقموعة: إن استحضار منتج تجميلي غربي مثل "Nivia cream" داخل نص شعري عربي تقليدي التكوين، يمثّل خرقًا متعمدًا لأفق التوقّع وكسرًا لتراتبية الصور الشعرية المعتادة. هنا، لا يُذكر الكريم بوصفه غرضًا ماديًا فقط، بل يتحوّل إلى رمز للرغبة المؤجلة، بل ربما إلى استعارة عن الحلم بالراحة، بالترف، بالأنوثة كما تُسوّق في الثقافة الغربية. حضور هذه العلامة التجارية في سياق الفقر يمنحها دلالة عبثية: الرغبة غير موجهة إلى المرأة ذاتها، بل إلى "الكريم" الذي يعبر عن بُعد استهلاكي غير متاح، مما يُنتج انزياحًا في مركز الرغبة من الجسد إلى الرمز.

3. "في صدر امرأة عارية" – التوتر بين الجسد والرمز: يقدّم الشاعر جسد المرأة – عاريًا – لا بوصفه موضوعًا للرغبة بحد ذاته، بل كفضاء يتم فيه تموضع الحلم. المفارقة أن الرغبة لا تتجه نحو الجسد مباشرة، بل إلى شيء ثانوي موجود عليه: الكريم. بهذا التوجيه، تتحوّل المرأة إلى مرآة تعكس حاجة الشاعر لا إلى العلاقة، بل إلى التعويض؛ التعويض عن الفقر والخذلان والتشييء. الجسد الأنثوي هنا ليس بؤرة الشبق، بل إطارًا لرغبة ضائعة في منتجٍ استهلاكي يعجز الإنسان عن بلوغه.

قراءة شمولية:

يُشكّل هذا المقطع نموذجًا لما يمكن تسميته "سريالية الحرمان"، حيث تُمزَج مفردات الواقع القاسي بعناصر سوريالية متخيلة، فتُنتج حالة من المفارقة التجربة الذاتية العميقة. يتقاطع النقد الطبقي مع النقد الثقافي في هذا المقطع، حيث يظهر المنتج الغربي بوصفه رمزًا للمُحال في واقع عربي مسكون بالعوز والذل. واللافت أن الرغبة، في هذا السياق، لم تعد غريزية بحتة، بل غدت مشوّهة، مَرضيّة، تائهة، تبحث عن تجسدٍ رمزيٍ للكرامة ولو في منتج تجميلي.

المقطع السادس: يظل الماضي جرحًا مفتوحًا يلاحق من عاشه.

عندَ مساءٍ مظلمْ

في البارٍ الغافي

في حضنِ شارع الرشيدْ

بمقابل سينما الزوراءْ

جلسَ بجواركَ عندَ المائدةِ

ذاكَ الجنديُ،

وكؤوسُ البيرةِ (الدرافت) عامرةٌ

حتى آخر نبضٍ في الرأسْ،

أقراصُ الڤاليوم المستوردةُ

من شركاتِ بلادِ القاتلِ

ودهاليزِ تجار الحربْ

خارج صلاحيةِ النوم

في هذه الأبيات، يرسم الشاعر مشهدًا شديد الواقعية والمرارة، مشبعًا بالرموز التي تُلامس وجدان الإنسان في زمن الخيبة، حيث تختلط تفاصيل المكان واللحظة بحمولة تاريخية ونفسية كثيفة.

"عند مساءٍ مظلم": الافتتاح الزمني هنا ليس توصيفًا للوقت فحسب، بل إيحاء لحالة الاغتراب النفسي يتراجع فيها الضوء، وتطفو على السطح مشاعر الوحدة والانطفاء الداخلي. هو المساء الذي لا يهب الراحة، بل يُغرق النفس في قتامتها.

"في البار الغافي": البار ليس ملهى، بل محطة إنسانية للهروب المؤقت من واقعٍ خانق؛ إنه ملاذ المرتجفين من الحروب والقلق، مكان لا يزدهر بالضوء بل يغفو على أنين المتعبين.

"في حضن شارع الرشيد بمقابل سينما الزوراء": يُسند المشهد إلى ذاكرة المدينة؛ شارع الرشيد ليس مجرد عنوان، بل ذاكرة معمّدة بالمجد والتاريخ. وسينما الزوراء هنا تمثل الحنين إلى زمن ثقافي كانت فيه الصورة تعني شيئًا، وكان للفن دور في تشكيل الوعي. هذا التحديد المكاني يُحمّل القصيدة طابعًا شجيًّا، يربط الحاضر المنكسر بماضٍ لا يزال يُقاوم النسيان.

"جلس بجوارك عند المائدة ذاك الجندي": هذا الجندي ليس شخصية محددة، بل صورة جامعة لأرواح أُحرقت في أتون الحروب. لا يحمل وجهًا بعينه، لأن وجهه وجه كل من نجا ولم ينجُ، كل من عاد ولم يعد كما كان. يجلس عند المائدة ليشاركك لحظة صامتة تُحاكي مرارة العيش بعد العاصفة.

"وكؤوس البيرة (الدرافت) عامرة حتى آخر نبض في الرأس":هنا تظهر محاولة يائسة للانغماس في النسيان؛ البيرة لا تُسكر بقدر ما تُحاول أن تضع حاجزًا شفافًا بين المرء وذاكرته، ولكن "حتى آخر نبض" توحي بأن الألم مستمر، وأن كل رشفة ليست هروبًا بل تأكيدًا على عمق الخسارة.

"أقراص الڤاليوم المستوردة من شركات بلاد القاتل": في هذا السطر تتكثف المفارقة المأساوية: فالعلاج يأتي من الجهة نفسها التي صنعت الألم. الفاليوم – رمز الهروب الكيميائي – يُنتج من قبل أولئك الذين يراكمون أرباحهم من خراب أرواح الآخرين. إنها سلعة الهدوء في عالمٍ لا يعرف السكينة.

"ودهاليز تجار الحرب خارج صلاحية النوم": الخاتمة تلقي بكامل الثقل: من يحكم هذا المشهد هم تجار الدم، أولئك الذين لا ينامون لأنهم يستثمرون في استمرار القلق. أما الإنسان العادي، فخارج صلاحية النوم؛ لا أحلام له، فقط سهرٌ يقظٌ يحرس جراحه المفتوحة.

خلاصة وتأمل

في هذه اللوحة الشعرية، يلتقط الشاعر لحظة إنسانية جامعة، حيث يتحوّل المكان العادي – بار وشارع وسينما – إلى مسرح للوجع الإنساني الممتد. لا حاجة إلى الكلمات الثقيلة أو الشعارات، لأن الجندي المرهق، والدواء المُسَكِّن، والكأس الممتلئة، كلها كافية لتقول ما لا يُقال.

القصيدة لا تُدين شخصًا بعينه، بل ترسم ملامح نظام عبثي تُصنع فيه المخدرات الروحية من نفس المواد التي صيغ منها العنف. إنها قصيدة عن الذين لا يملكون صوتًا، فيُشاركونك الطاولة والشراب والخذلان ذاته.

المقطع السابع (الذروة): البحث المضني عن متنفس وسط ضباب الضغوط.

بينَ أصابعهِ المرتعشهْ.

البيرةُ كانتْ باردةً،

الجو الخانقُ يقطعُ أنفاسَ محاربنا،

الروادُ زبائنُ خارجَ هذا العالم.

يعرقُ صاحبُكَ الجالسُ بجواركَ

يغنّي....

في هذيانٍ....

مثلَ هذيان المحمومِ

في مستشفى الأمراضِ الصدريةِ.

يُبرز هذا المقطع مشهدًا شعريًا غنيًا بالصور الحسية والرموز التي تكشف عن حالة نفسية وجودية معقدة، تتمثل في توتر داخلي واغتراب نفسي وسط أجواء حياتية يومية تفرض ضغوطًا خانقة على الذات الإنسانية.

1- "الأصابع المرتعشة " تجسيد للتوتر النفسي والجسدي. يبدأ المقطع بتفصيل جسدي بسيط، لكنه يحمل دلالة عميقة؛ إذ تُبرز الأصابع المرتعشة حالة من القلق والخوف، وهو توتر جسدي يعكس اضطرابًا نفسيًا داخليًا، وكأنه صرخة صامتة تعبّر عن اضطراب روحي مستمر.

2- "البيرةُ كانتْ باردةً،" برودة البيرة فقدان الدفء العاطفي. يتحول مشروب مألوف إلى رمز لانعدام الحنان والراحة النفسية. وصف "البيرة كانت باردة" لا يعبر فقط عن حالة حرارية، بل عن برودة عاطفية وانقطاع التواصل الإنساني، مما يعكس حالة من العزلة والاغتراب في وسط مألوف لكنه فاقد للحياة.

3- "الجو الخانق وقطع الأنفاس" تصوير رمزي للضغوط والتوتر النفسي. تُعبّر عبارة "الجو الخانق يقطع أنفاس محاربنا" عن شعور الاختناق، ليس فقط الجسدي، بل الوجودي. الشخص "المحارب" لا يرمز إلى نصر، بل إلى صراع مستمر ومتعب ينهك الروح، حيث تتحول أبسط الحقوق الإنسانية مثل التنفس إلى معركة.

4- "الرواد كزبائن خارج" العالم الاغتراب في الفضاء الاجتماعي. تشبيه الرواد بـ"زبائن خارج هذا العالم" ينقل إحساسًا بالغربة والانعزال الاجتماعي. الأشخاص في هذا الفضاء لا ينتمون إليه، بل يمرون من خلاله كزائرين أو مستهلكين بلا جذور، مما يعكس شحة التواصل الإنساني والدفء في العلاقات.

5- "عرق الجالس بجانبك تجسيد مرئي للضغط و التعب. عرق الشخص الجالس بجانب المتحدث يرمز إلى إجهاد نفسي وجسدي مزمن، علامة على الضغط المستمر الذي يثقل كاهل الإنسان، حتى في لحظات السكون والراحة الظاهرية، ما يدل على استحالة الهروب من هذا العبء.

6- الغناء في هذيان التعبير عن حالة نفسية مختلطة. الغناء هنا لا يعبر عن الفرح أو الاستقرار، بل هو تصدّر صوتي لحالة هذيان ذهني، كأنّه محاولة لتفجير مشاعر متراكمة أو تحرر من ضغوط نفسية، ما يمنح الغناء بعدًا غامضًا ومتناقضًا.

7- الهذيان الطبي استعارة للحالة النفسية الجسدية المنهارة. المقارنة بين هذيان الجندي وهذيان المريض المحموم في مستشفى الأمراض الصدرية تجمع بين الضعف الجسدي والنفسي، وتُبرز مدى انهيار الذات وافتقادها للسيطرة على الذات والتنفس، مما يشي بفقدان عميق للقدرة على الصمود.

خلاصة:

تشكل الأبيات سردًا شعريًا يعكس التوترات الداخلية التي يعيشها الإنسان في زمن يغلب عليه الاغتراب والبرودة العاطفية. تلتقي التفاصيل اليومية الدقيقة مع معاناة عميقة، مما يصنع حالة متشابكة من الألم النفسي والاغتراب الاجتماعي. كما أن اللغة التصويرية تغوص في مشهد إنساني هشّ يتصارع مع قيد الاختناق الروحي والجسدي، بينما الغناء في خضم الهذيان يظهر كصوت وحيد يعبّر عن الألم المستمر والبحث المضني عن متنفس وسط ضباب الضغوط.

في الليلْ

حينَ ينامُ العالمُ ... ذاكَ .....

فوق سرير الأمنِ

يسهرُ ذاتُ الجندي

في جوفِ صريفتهِ المبنيةِ*

بمخالبِ الجوعِ

وهديرِ اللاأمن

يتساءلُ:

- هل أستبدلُ ثوبَ الحربِ الماضيةِ

بعمائمِهم؟

المقطع الثامن- الأبعاد الداخلية والشعورية للذات: الشاعر بعد الحرب. لا يُقدَّم الجندي هنا كبطل منتصر، بل كإنسان يعيش على هامش الأمن، محاصرًا بأسئلة الهوية والجدوى، وسط عالم يغطّ في نوم جماعي لا يُبالي.

في هذا المقطع، يرسم الشاعر لوحة ليلية خافتة، لكنها مكتظة بالتوتر الداخلي والاغتراب النفسي، من خلال صورة "الجندي أولًا: زمن الصمت وصوت اليقظة

"في الليل، حين ينام العالم" — هي لحظة فارقة لا تنتمي إلى الزمن الكوني المعتاد، بل إلى منطقة خارجة عن الإيقاع العام، حيث يتوقف ضجيج الخارج ليبدأ صخب الداخل. العالم ينام؛ أي أن المجتمعات اختارت النسيان أو الاستسلام، بينما تبقى الذات الفردية، ممثَّلة بالجندي، يقظة في مواجهة الذاكرة والتاريخ.

ثانيًا: سرير الأمن: خديعة الاستقرار: "فوق سرير الأمن" ليست عبارة تُعبّر عن الطمأنينة، بل عن المفارقة؛ فبينما يُفترض أن يكون "السرير" موضع راحة، يصبح رمزًا مقلوبًا لاستقرارٍ مزيّف. إنه الأمان الذي يُبنى على هشاشة، ويُقدَّم كتعويض رمزي لأولئك الذين فقدوا كل شيء. أما الجندي، فلا ينام عليه، بل يسهر فوقه، كما لو أنه حارسٌ لوهمٍ جماعي.

ثالثًا: الصريفة والجوع واللا أمن: الواقع المادي العاري: يصف الشاعر "صريفةً" لا تُبنى بالإسمنت أو الطين، بل بـ"مخالب الجوع" و"هدير اللاأمن". الصريفة ليست مأوى فحسب، بل شهادة على واقع القهر الاقتصادي والاجتماعي. الجوع ليس حالة طارئة، بل بُنية داخلية للمكان. أما اللاأمن، فهو ليس غياب النظام فحسب، بل صوت داخلي دائم يشبه هديرًا لا ينقطع، يُعكر على الجندي أي احتمال للاستقرار.

رابعًا: "هل أستبدل ثوب الحرب الماضية بعمائمهم؟" السؤال المصيري: هوية الجندي وموقعه من السلطة: "هنا، يبلغ الصراع ذروته. "ثوب الحرب" ليس لباسًا عسكريًا، بل كناية عن تجربة وجودية قاسية شكّلت وعي الجندي وجرّحته. في المقابل، تُحيل "العمائم" إلى رمز ثقافي-اجتماعي يشير إلى سلطة جديدة تسعى لفرض شكل من أشكال الامتثال أو إعادة تشكيل الهوية الفردية ضمن قالبها الخاص.

 السؤال ليس عن مجرد تبديل مظهر، بل عن مصير: هل يتخلى الإنسان عن تاريخه الشخصي ليذوب في شكل من أشكال التماهي الجماعي الذي قد يمنحه الأمان لكنه يسلبه ذاته؟

إسقاط على الواقع العراقي: الجندي كصورة عن شعبٍ أنهكته الحروب: يأخذ هذا النص أبعادًا أوسع إذا ما قرأناه ضمن سياق العراق المعاصر. فـ"الجندي الساهر" ليس فردًا معزولًا، بل مرآة لشعبٍ بكامله عاش في ظل الحروب، كثيرًا ما وجد نفسه مجرد وقودٍ لصراعات لم يخترها، ولا ناقة له فيها ولا جمل.

الصريفة المبنية بالجوع هي استعارة دقيقة لحياة ملايين العراقيين في أطراف المدن، ممن دُفعوا دفعًا إلى حروب لم تكن لهم يد في إشعالها، ثم تُركوا في مواجهة تبعاتها وحدهم.

أما "العمائم"، فليست بالضرورة رمزًا دينيًا، بل قد تشير إلى سلطات ما بعد الحرب، التي رفعت شعارات العدالة لكنها أسست لنظام جديد من التبعية والانقسام، وسعت لإعادة تشكيل الوعي الجمعي على أسس طائفية أو فئوية. وهنا يطرح النص تساؤلًا حادًا:

 هل المطلوب من الإنسان أن ينسى الحرب، بكل مرارتها، ليقبل نظامًا جديدًا يُجبره على الصمت والامتثال مقابل فتات الأمان؟

الخلاصة الأدبية الواقعية

في هذا المقطع، لا يقدّم الشاعر موقفًا سياسيًا مباشرًا، بل يرسم مشهدًا إنسانيًا عميقًا لجندي يقف عند حافة الأسئلة. النص يُدين الحرب، لكنه لا يبرئ ما بعدها. ينتقد الغفلة الجماعية، لكنه لا يلوم الفرد على حيرته. هو نصٌّ عن التمزق، عن شعبٍ كامل مثّلته ذات الجندي، يجد نفسه كل مرة يُعاد تشكيله من جديد، دون أن يُسأل: هل ترغب أن تكون جزءًا من هذا المشهد تكتسي القصيدة بعدًا بلاغيًا ولغويًا متكاملاً يتجاوز مجرد الإخبار؛ فهي مشبعة بالاستعارات و الانزياحات الدلالية التي تكشف عن صراعات داخلية وعلاقة معقدة بين الفرد والواقع. تتنقل لغة القصيدة بسلاسة بين النبرة التقريرية والموسيقية، مما يضفي عليها قوة هجائية وتعبيرية مبهرة.

التحليل البلاغي واللغوي والانزياحات الدلالية في قصيدة "العمائم"

تتسم قصيدة "العمائم" بكثافة لغوية تتجاوز مجرد نقل المعلومات، فتغوص في أبعاد بلاغية مركبة يمزج فيها الشاعر بين الحداثة والسياسية وبين الذات والجماعة. يستعمل الشاعر لغة تتحرر من القيود العادية لتبني خطابًا مفعمًا بالاستعارات والانزياحات الدلالية، مما يعكس حالة اغتراب ذات حائرة في زمن ما بعد الحرب.

الاستعارات المحورية:

"هذيان المحموم": استعارة تُعبّر عن اضطراب داخلي عنيف كأن الذات تعاني من حمى مستمرة، في تجسيد للتوتر النفسي والانقسام بين الذاكرة والواقع؛ لغة الألم الذي يستحيل كتمّه.

"صريفة مبنية بمخالب الجوع":

صورة تصويرية تختزل قوة الفقر الذي يتجاوز الإيذاء الجسدي ليعيد تشكيل المكان ذاته؛ إذ تُبنى الصريفة هنا ليس بالحجارة، وإنما بألم الجوع ورمزيه القاسية.

"هدير اللاأمن":

تعبير يصور حالة القلق المستمر كضجيج داخلي لا ينقطع، حتى في لحظات السكون، مما يُبرز توتر الوجود الذي يعتري النفس.

"تغريد الأطياف":

مفارقة شعرية يمنحها الشاعر صوتًا غير معتاد؛ حيث تتردد أصوات الماضي في الحاضر كأنها همسات متلاطمة بين الذكرى والحقيقة، لا تنبع من واقع مادي مُحدد.

الهيكل النصي وبنيته:

الشكل الحر والانتقال الليلي: يعتمد الشاعر على نمط الشعر الحر الذي يتحرر من قيود الوزن والقافية التقليدية، مما يُضفي إحساسًا بحرية السيرورة والانفلات. يتكرر افتتاح البيت بعبارة "في الليل" لتوليد زمن متمدد يعيد إحياء الذكريات المختلطة بين الجنون والحنين.

التنقل الزمني والمكاني: تنتقل القصيدة بسلاسة بين أزمنة الماضي والحاضر، من مشاهد الحرب إلى صخب الحياة اليومية، ومن أماكن محفورة في الذاكرة مثل مقهى حسن عجمي وشارع الرشيد وسينما الزوراء. هذا الانتقال يُشعر القارئ بتلاشي الثبات ليصبح المكان شاهدًا على آلام ومعاناة مجتمع مفكك الهرم.

البنية السلطوية:

تظهر السلطة في القصيدة كمفهوم مهيمن سواء كانت عسكرية أم دينية، حيث يُباع الفرد على أنه مجرد كيان مسحوق تحت نفوذها. يظهر الجندي كرمز لشخص فقد صوته الحر، متوارٍ في خطاب الهيمنة الذي يعيد صياغة مفاهيم الهوية والانتماء لتبرير القمع.

البنية الكلية:

من خلال هذا البناء العميق، تُمارس القصيدة نقدًا صارمًا للغة السائدة بفك تشفيرها وبناء لغة بديلة تستمد قوتها من الألم والتجربة الفردية المركبة. تتحرر الكلمات من معانيها التقليدية لتلامس واقعًا جديدًا يفوق القدرة على الاستيعاب في ظل لغة مألوفة ومعلبة. إنها رسالة تُشعل التساؤلات دون تقديم إجابات حاسمة، متنقلة بعمق بين صراع الإنسان وآثار العنف على اللغة والحياة.

الخاتمة:

تمثل قصيدة "العمائم" نصًا احتجاجيًا يتجاوز البنية التقليدية للرثاء أو الحنين، إذ تقدم قراءة شعرية نقدية لتحولات السلطة والهوية في العراق. فهي تطرح تساؤلًا وجوديًا مركزًا يكشف مأساة ما بعد الحرب، ويتساءل: «هل أستبدل ثوب الحرب الماضية بعمائمهم؟"، فيكشف بذلك عن انتقال القهر من سطوة العسكر إلى قناع ديني مؤدلج.

من خلال صورها المكثفة، وانزياحاتها الدلالية ورموزها المركبة، تتقصى القصيدة أثر السلطة المتلبسة بالدين في تشويه الوعي الجمعي، وتحويل "التحرير" إلى شكلٍ آخر من القهر المقنن. ليست مجرد وثيقة أسيرة لخيبة فردية، بل هي مرآة تُعرّي الانكسار الجماعي وتُعيد تشكيل الهوية تحت وطأة نظام يفرض أقنعة رمزية زائفة. وترصد القصيدة لحظة الانكسار، وفي الوقت نفسه تُبدع مقاومة عبر اللغة؛ تتحول الكلمات إلى أدوات فعل، مما يجعل القصيدة مساحة افتكاك رمزي من سطوة الماضي والحاضر المزيف.

وفي خضم هذا الخراب، لا ينهض المعنى تلقائيًا من الركام؛ بل يحتاج إلى من "يوقظه" – إلى شاعر أو مثقف قادر على مواجهة الصمت والإنكار، حاملًا صوت كل نفس منهكة وكل ضمير حيّ. هكذا تُثبت "العمائم" أن الشعر لا يزال قادرًا على استدعاء المعنى من تحت الركام، وإعادة تعريف الحرية بوصفها موقفًا لا يُشترى ولا يُفَوَّت.

وبهذا، تُشكّل القصيدة دعوة نقدية وجوهرية لمقاومة كل منظومة قهر مهما ارتدت من أثواب رمزية متجددة، مما يجعلها خطابًا ثريًا يتمرد على أنظمة الهيمنة من خلال إعادة إحياء الوعي الجمعي واستنهاض المعنى الحقيقي للحرية.

***

سهيل الزهاوي – أديب وناقد

مدام دالاوي والحداثة في الأدب

بقلم: مالليكا ديساي وكونال راي

ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم

***

بأسلوبها التجريبي وتأملاتها الجميلة في الحياة والفقد، تُعد رواية مدام دالاوي لفرجينيا وولف نصًا حداثيًا معقدًا وجذابًا في آن، وأحد أهم الأعمال في المدونة الأدبية البريطانية. تتبع الرواية حياة كلاريسا دالاوي، سيدة من علية القوم، وهي تستعد للحفل الذي ستقيمه مساء ذلك اليوم. كما تُعد واحدة من أكثر أعمال وولف تحديًا، وقد يجدها القارئ غير المعتاد على أسلوبها صعبة منذ البداية. يتجلى هذا في أن الرواية تبدأ بإلقاء القارئ مباشرة في خضم يوم كلاريسا وتدفق أفكارها، دون أي شرح مسبق. إلا أنه ما إن يفهم القارئ استخدام وولف لتقنية تيار الوعي، حتى يصبح من السهل فهم السرد، مما يتيح له التأمل في القضايا التي تعالجها الرواية.

يُعد عمل وولف نصًا حداثيًا مهمًا لأنه يكسر القيود التقليدية بعدة طرق. فهناك مواضيع متعددة تُتناول في الرواية مثل المثلية الجنسية، والاضطرابات النفسية، والتواصل والخصوصية، والاضطهاد، وغيرها، وذلك من خلال الشخصيات، وبنية الحبكة غير التقليدية، والأسلوب السردي. كما أن استخدام وولف لتيار الوعي له أثر فاعل في هذه العناصر أيضًا.

تدخل الرواية في التأملات الداخلية لشخصياتها، مما يخلق تأثيرًا نفسيًا واقعيًا وقويًا. وتُعتبر فرجينيا وولف واحدة من أبرز المدافعين عن تيار الوعي، إذ تتيح للقارئ الدخول إلى عقول وقلوب شخصياتها. فهي تضيف مستوى من الواقعية النفسية لم تتمكن الروايات الفيكتورية من بلوغه. فالأحداث اليومية تُرى من منظور جديد، حيث تُستكشف العمليات الداخلية للشخصيات، وتتنافس الذكريات على الحضور، وتظهر الأفكار دون سابق إنذار، وتُمنح الأمور العميقة والتافهة على حد سواء نفس القدر من الأهمية. وهكذا يُحاكي أسلوب الرواية أنماط التفكير البشري، حيث تتدفق الأفكار دون توقف، وتنتقل فجأة من فكرة إلى أخرى أو من ذكرى إلى أخرى. لذا تشد الرواية انتباه القارئ وتجعله مشاركًا نشطًا في أحداث اليوم.

ينبع انخراط القارئ من غياب الراوي الواحد. إذ تُروى الرواية كاملة من خلال المونولوجات الداخلية للشخصيات، لا من خلال الحوارات الخارجية. وهنا تلعب وولف بفكرة الحوار، حيث إن معظم الشخصيات لا تتحدث بصوت مسموع، لكن تياراتها الفكرية الداخلية واضحة بما يكفي لتوضح التفاعلات فيما بينها. ويتعزز ذلك بتعليقات خفية على السلوكيات الظاهرة والمظاهر الخارجية.

ما يجعل مدام دالاوي رواية ساحرة بحق هو الطريقة التي تنتقل بها الوعي بين الشخصيات بانسيابية تامة. ومع ذلك، فإن هذه التحولات دقيقة وقد تمر دون أن تُلاحظ. قد لا يكون القارئ مستعدًا في المرة الأولى التي تُدخل فيها وولف وعي شخصية أخرى في السرد، والسهولة التي يتم بها ذلك تجعله يتوقف لوهلة ويتساءل عن كيفية تغيُّر وجهة النظر فجأة. تكمن براعة الكاتبة في طريقة صنعها لهذه الروابط، باستخدام أحداث يومية اعتيادية لربط الشخصيات من خلال الزمان والمكان. وكما تتبدل الأفكار، يتبدل الوعي، ويجب على القارئ أن يكون يقظًا لتحديد اللحظة التي يتغير فيها السرد. وتستخدم الرواية هذا الأسلوب ببراعة، خاصة أن الجمل تُصاغ لتتدفق كالأفكار تمامًا.

لذلك، فإن مدام دالاوي ليست رواية تقليدية من حيث السرد. إنها أشبه بفسيفساء من الذكريات والأفكار المتداخلة لشخصيات مختلفة مجتمعة معًا. تجمع بين الماضي والحاضر، وتُفسح المجال لتقاطعات متعددة للمنظور في يوم واحد. أما من حيث الحبكة، فإن الرواية تدفعنا لتجاوز بنيتها الظاهرة وفهم كل شخصية وما تمثله. تلعب الرواية على ثنائية الزمن والزمنية، عبر التنقل بين الماضي والحاضر، مما يعكس التقلّب العاطفي والزمني لدى كلاريسا. والانتقالات بين الأزمنة سريعة حقًا، لكن عقولنا بدورها قد تكون سريعة التحوّل بنفس القدر. فالبشر يبدو أنهم خاضعون لزمن الساعة الذي يتقدم بلا توقف، لكنهم في الواقع ليسوا كذلك. إذ إن عقولهم تتجاهل الزمن الخارجي وتتبع نوعًا آخر من الزمن الداخلي. وتركز الرواية على هذا الإحساس الداخلي بالزمن وتُقابله بمفهوم الزمن الخارجي، عبر تقدم اليوم. وتُعد ساعة "بيج بن" رمزًا دائمًا للزمن في الرواية، إذ تربط حياة الشخصيات من خلال مرور الوقت. وتستخدم وولف بقية المدينة للحفاظ على الإحساس بالزمن أيضًا. فالرواية تكاد ترسم خريطة لمدينة لندن، باعتبارها جزءًا لا يتجزأ من حياة شخصياتها.

وعليه، تُعد مدام دالاوي رواية حداثية مفصلية، لأنها تبتعد عن فكرة وجوب تقديم "حبكة" محكمة للقارئ. فقد رفضت وولف بنفسها أن تكون عبدة للحبكة. وبينما كانت الرواية الفيكتورية التقليدية تولي أهمية كبيرة للبنية والشكل، فإن وولف تركز في روايتها على "لماذا" و"كيف" يحدث الحدث. لا تُقدم الرواية تسلسلاً زمنيًا للأحداث المهمة فحسب، بل تتنقل ذهابًا وإيابًا عبر الزمن، لتُمكِّن القارئ من عيش اليوم ذاته من وجهات نظر شخصيات متعددة. وبهذا، يُعاد تقديم التجربة والذاكرة بطريقة جديدة – كسلسلة غير مترابطة من الأفكار.

لا تتناول الرواية شخصيات ممزقة بين الماضي والحاضر فحسب، بل أيضًا بين مثاليْن متعارضيْن: التقاليد والحداثة. يظهر هذا الموضوع في تأملات كلاريسا، إذ تكافح لإيجاد توازن بين الحفاظ على الدور التقليدي الذي تشغله، وتخيل الحياة التي كان يمكن أن تعيشها لو أنها اختارت التمرد على الأعراف. وتذكّر شخصيتها بشخصية هِيدا جابلر في مسرحية هنريك إبسن، والتي عانت هي الأخرى من قيود المجتمع الفيكتوري وانتهى بها الأمر إلى الانتحار. هذا ما يتقاطع مع نهاية مدام دالاوي حين يقدم سبتيموس – لا كلاريسا – على الانتحار، لأن المجتمع لم يستطع تقبُّل مرضه النفسي أو توفير المساعدة الكافية له.

كما أن ابنة كلاريسا، إليزابيث، ممزقة بدورها بين نموذجين: الأم التقليدية، والسيدة كيلمان التي تمثل المرأة العصرية الجديدة. غير أن فرجينيا وولف لا تستخدم الرواية لتُرجّح إحدى المرأتين أو تُفضّل المنظومة التي تمثلها إحداهما على الأخرى، بل تكتفي بتمثيل تعايش التقليد والحداثة جنبًا إلى جنب.

تُجسّد شخصياتها بشكل فعّال نماذج كاريكاتورية لمُثُل المجتمع الفيكتوري، ومع ذلك تبقى قريبة من القارئ بسبب اطلاعه على أفكارها وطريقة معالجتها لحياتها الداخلية. وبذلك، تبعث مدام دالاوي برسالة تدعو إلى ضرورة تحوّل المجتمع في طريقة تفكيره، لا بمجرد وصف أفعال الشخصيات الظاهرة، بل بكشف تياراتهم الفكرية الداخلية. وقد ذكّرني هذا، كقارئ، بعمل إرنست همنجواي أهمية أن تكون جادًا، وهو هجاء للمجتمع الفيكتوري وأعرافه. غير أن مدام دالاوي تُسلّط الضوء على الطبقة العليا في المجتمع، وتُقابلها بشخصية سبتيموس، الجندي السابق الذي شهد أهوال الحرب. وتُوجّه وولف نقدًا لاذعًا للطبقات الحاكمة، لاهتمامها الزائد بالبذخ والمجاملات الاجتماعية، في وقت يعاني فيه أشخاص مثل سبتيموس من صدمات عميقة بسبب غياب الفهم والرعاية في المجتمع.

ومن خلال شخصية كلاريسا، تُبرز وولف كيف أن دورها كمضيفة حفلات ليس سوى صورة للحياة المرسومة لها، مشيرةً بذلك إلى الكيفية التي صُوِّرت بها الشخصيات النسائية في الأدب ما قبل الحداثي. غير أن ظهور الحداثة الأدبية قدّم لنا شخصية مثيرة للاهتمام في كلاريسا، إذ رسمت وولف توازنًا بارعًا في ملامحها، وفي الوقت ذاته سمحت لصراعاتها الداخلية بالظهور من خلال مونولوجاتها الداخلية.

أرادت وولف أن تكون كلاريسا صوت "الحقيقة العاقلة"، بينما يكون سبتيموس صوت "الحقيقة المجنونة"، وقد مكّنه انفصاله عن الواقع من إصدار أحكام قاسية على الآخرين، لا تستطيع كلاريسا إصدارها. ورغم أنه يبدو مختلفًا عنها على السطح، إلا أنه يشترك معها في سمات عديدة. فبصفته "الظل" أو "المرآة لها"، يُجسّد سبتيموس التناقض بين الصراع الواعي لقدامى المحاربين من الطبقة العاملة، وتلك الرفاهية العمياء التي تنعم بها الطبقة العليا. ومعاناته تُشكّك في الكيفية التي يعمل بها المجتمع الإنجليزي. وبما أن أفكاره تتردد كثيرًا في ذهن كلاريسا، تصبح الحدود الفاصلة بين ما يُعتبر عقلانيةً وجنونًا أضيق فأضيق.

رغم أن الأمر قد يحدث تدريجيًا، إلا أن القارئ يُدرك في النهاية أن سبتيموس وكلاريسا، رغم أنهما يبدوان نقيضين تمامًا للوهلة الأولى، متشابهان إلى حدّ كبير في نظرتهما إلى الحياة. فكلاريسا دالاوي، من خلال حفلاتها – رغم سطحيتها – تمنح نفسها للعالم وتشارك في الحياة. أما سبتيموس، فرغم توقه لذلك، فإنه عاجز عن مشاركة الآخرين حياتهم أو العطاء لهم، لأنه لم يبقَ لديه شيء ليمنحه.

وهكذا، فإن الرواية، والتي حملت اسم مدام دالاوي عن حق، تُصوّر مجتمعًا يتمحور حول العلاقات التي يقيمها المرء مع الآخرين. والفكرة التي تنقلها وولف هي أنه، رغم امتلاك الإنسان لأفكار داخلية فردية، إلا أنه يظل خاضعًا لعلاقاته الخارجية. كما تتناول الرواية شكلًا من أشكال الأسر، إذ تسعى الشخصيات للعثور على هويةٍ لها، لكنها تبقى مقيدة بالزمن، ومتطلبات المجتمع، والحرب، وغيرها. ومن هنا، يسري في الرواية شوق عميق إلى الحرية.

تُعد مدام دالاوي عملًا حداثيًا بالغ التحدي، لكنه أيضًا مثالٌ نموذجي، يضم بين دفّتيه طيفًا واسعًا من الموضوعات والأفكار، مما يجعله كتابًا لا غنى عن قراءته لأي شخص مهتم بالأدب.

(انتهت)

***

.................

* مراجعة كتاب – مدام دالاوي لفرجينيا وولف

في وقت ما، واجه معظم الناس روايات اُعتبرت "كلاسيكية"- أعمال دائمة الحضور، لازمنية نُقلت الينا عبر العصور ولايزال صداها يتردد لدى القراء عبر الأجيال. انها صاغت ليس فقط الادب وانما ايضا منْ نحن وكيف نرى العالم. ان جذور الفكر الكلاسيكي تعود الى اليونان القديمة، حيث القصائد الملحمية لهوميروس، في الأليادة والاوديسة والأساطير اليونانية القديمة بشكل عام كونها وضعت الاساس لروايات كلاسيكية معينة.

وعلى مر العصور، استلهم عدد هائل من المؤلفين من الميثولوجيا اليونانية القديمة ليؤلفوا أعمالهم الابداعية الرائعة. أساطير الإثنا عشر إلهاً وشخصيات اخرى مثل اوديسيوس وهرقل وبروميثيوس وايروس ألهبت خيال الكتاب الكلاسيك والحديثين ايضا بدءاً من جيمس جويس حتى اوسكاروايلد.

نعرض هنا خمس روايات كلاسيكية تجذرت في الأساطير اليونانية والتي يجب ان يقرأها كل شخص على الأقل مرة واحدة في حياته.

1- رواية يوليسيس لجيمس جويس

يُعتبر جيمس جويس أحد أعظم الروائيين الايرلنديين في التاريخ، وإعجابه بعمل هوميروس يمتد عميقا. هو اعجب خصيصا باوديسوس الذي اعتبره احد اكثر الشخصيات الادبية شمولا وتعقيدا. رحلة اوديسوس الذي أمضى عشر سنوات في السجن في طريقه الى بلده ايثاكا بعد حرب طروادة، ألهمت جويس في روايته يوليسيس عام 1922 التي يحمل عنوانها شكلا لاتينيا للاوديسة.

في يوليسيس، يخبرنا جويس عن تجربة ثلاثة اشخاص في نفس اليوم وفي نفس المدينة. في دبلن، يوم 16 حزيران 1904. الاشخاص الثلاثة هم ليبولد بلوم وزوجته مولي، وستيفن ديدالوس. الرواية في مستواها الاساسي هي كتاب حول بحث ستيفن عن اب رمزي وعن بحث بلوم عن ابن. هنا يتوازى بحث يوليسيس مع بحث تيليماكوس عن اوديسيوس في الاوديسة. وفي ايماءة للاوديسة، جرى بناء الرواية على شكل حلقات، كل واحدة سُميت بعد لحظة مفصلية في ملحمة هوميروس، بعناوين مثل كاليبسو، آكلة اللوتس، العملاق، سيرس، بينيلوب، ايثاكا.

يرسم جويس ببراعة أوجه تشابه مجازية بين شخصياته وتلك التي في الاوديسة، بالاضافة الى الاشارة لأحداث رئيسية. بطل الرواية ليوبولد بلوم هو نسخة حديثة للاوديسة، بينما زوجته مولي بلوم ترمز الى بينيلوب. هذه الصورة تُستكمل بواسطة ستيفن ديدلوس الذي هو تيليماكوس المقابل لابن اوديسيوس. وكما في معظم عمل جويس، تستكشف يوليسيس مواضيع عن القومية الايرلندية والعلاقات المعقدة مع الحكم البريطاني، مازجة السياسة بالاسطورة القديمة. هذه التوليفة تجعل رواية جويس عملا فنيا شخصيا وعالميا ايضا. جيمس جويس يبني روايته بخيال استثنائي من العمق والثراء. ونظرا لأن الرواية متفردة في تاريخ الادب، فهي اعتُبرت واحدة من أهم الأعمال الممتعة في القرن العشرين.

3- رواية فرانكشتاين لماري شيلي1501 hatam

نُشرت رواية فرانكشتاين لأول مرة عام 1818 لترمز الى عمل شهير في الادب القوطي والخيال العلمي. الرواية تتتبع طموح شاب عالِم هو فيكتور فرانكشتاين الذي تقوده رغبته للتغلب على الموت وكشف اسرار الحياة الى خلق مخلوق في المختبر يشبه الانسان . القصة تتكشف من خلال سلسلة من الرسائل والحكايات، تروي رحلة فيكتور ونتائج خلقه. ونظرا لأن أحداث الرواية وُضعت على خلفية اوربا في اواخر القرن الثامن عشر، فانها تستطلع موضوعات في الاخلاق العلمية، وطبيعة الوحشية ونتائج اللعب مع الله.

ان عنوان رواية ماري شيلي لعام 1818 فرانكشتاين او بروموثيوس الحديث لم يأت صدفة. تستمد شيلي الإلهام من شخصية بروميثيوس "بروميثيوس المقيد" لإسخيليوس. في فرانكشتاين، هي تعيد تصوّر هذه الاسطورة القديمة من خلال عدسة الفكر القوطي الفكتوري. هذا العمل الرائد في خلق الحياة من لاشيء يعكس اسطورة بروميثيوس الذي هزم آلهة الاولمب عبر سرقة النار ليمنحها للانسانية – وبهذا يعطيها القوة لبناء الحضارة.

لكن اشارة شيلي لاسطورة بروميثيوس لا تنتهي هنا. هي ايضا تعكس تأثير عقوبة بروميثيوس في مصير فيكتور. في الميثولوجيا اليونانية، حكم زيوس على برومثيوس بالعذاب الأبدي، مقيدا اياه الى صخرة حيث يلتهم نسر كبده كل يوم، فقط ليتجدد في اليوم التالي.

وبنفس الطريقة، يقع فيكتور في فخ دائرة من الألم والذنب، يطارده بلاهوادة نفس المخلوق الذي أخرجه للحياة. هذه الموازاة بين الاسطورة والتراجيديا الحديثة تجعل فرانكشتاين واحدة من أعظم الاعمال في الادب القوطي. اسطورة بروميثيوس يُعتقد انها إلهام لرواية فرانكشتاين الكلاسيكية.

3- رواية صورة دوريان جراي لاوسكار وايلد1502 hatam

صورة دوريان جراي للكاتب الايرلندي اوسكار وايلد نُشرت عام 1890، وترمز كاستطلاع كلاسيكي للاخلاق ونتائج الرغبة غير المقيدة. الرواية تتبع حياة دوريان جراي الشاب المفتون بقيم المتعة لرجل يسمى لورد هنري. القصة تدخل منعطفا مظلما عندما يرغب دوريان ان تتقدم صورته في العمر بدلا منه مما يقود الى كشف مزعج للانحلال الاخلاقي الناتج عن اسلوب حياته.

وتضيف القصة بان ذلك الشاب المتعجرف يقوده هوسه بالجمال لبيع روحه لشباب أبدي. صديقه الفنان باسل هالوارد يرسم صورة لدوريان الذي يصبح وبشكل غامض أكبر سنا وأكثر فسادا عاكسا آثامه بينما يبقى دوريان ذاته دون مساس في ذلك الوقت.

هذه الفكرة في الغرور تبدو مألوفة: في تركيب الرواية، يستمد وايلد إلهاما فضفاضا من الاسطورة اليونانية القديمة لنرجس. في هذه الاسطورة، الصياد نرجس المشهور بجماله، رفض كل اولئك الذين سعوا للتقرب منه والتودد اليه. بالنهاية، هو اصبح مفتونا بصورته اللامعة المنعكسة في بركة ماء، غير مدرك انها فقط انعكاس له. في افتتانه بجماله، أصاب نرجس الذبول وهو ينظر الى الماء حتى غرق في النهاية.

يمكن النظر الى دوريان جراي كنرجس في العصر الفكتوري، مُستهلك بغروره. هوسه بصورته أصبح أخيرا سببا لهلاكه ومن ثم سقوطه المأساوي. اسطورة نرجس التي يتردد صداها في عمل وايلد تبدو أكثر ملائمة اليوم من أي وقت مضى وان هذا العمل الكلاسيكي يختزن دروسا بليغة وقيّمة.

وايلد ينتقد المجتمع الفيكتوري، ثنائية طبيعة الانسان، وجاذبية الجماليات تدعو القراء للتفكير في نتائج السير وراء المتعة دون مراعاة الحدود الاخلاقية.

4- رواية السيرة الذاتية لريد للمؤلف آن كارسون

رواية السيرة الذاتية لريد هي رواية شعرية معاصرة أكثر كلاسيكية نُشرت عام 1998 للمؤلفة والبروفيسورة الكندية آن كارسون. إلهامها يكمن في اسطورة هرقل وعمله العاشر، حيث كان يجب عليه استرداد الحيوان الاليف من العملاق ثلاثي الجسد جيريون . في الميثولوجيا اليونانية، جرى وصف جيريون كعملاق وحشي، هو حفيد ميدوسا وابن اخ بيغاسوس.

في روايتها، تقدم كارسون تفسيرا مجازيا حيا للاسطورة. جيريون وُصف كشاب "وحشي" يتحمل الإساءة من أخيه الاكبر، ويجد العزاء في التصوير ويشعل علاقة رومانسية مع شاب اسمه هرقل الذي يتخلى عنه في ذروة العشق. لذا ينسجب جوريان الى عالم خلقهُ بكاميرته، مفتونا بجناحيه ولونهما الاحمر . لكن كل ذلك تحطم فجأة بعودة هرقل.

في تصوّرها تبيّن كارسون كيف ان كاتبا ضليعا في الميثولوجيا القديمة يمكنه صياغة هذه القصص لتعبّر عن شيء نقدي خاص به، يتردد صداه بقوة لدى القارئ الحديث. كارسون تنقل قصة جيريون الى العالم الحديث، لذا هو ليس فقط كائن خرافي وانما هو فتى مراهق متقلب المزاج يكافح صعوبات الجنس والحب والهوية.

5- رواية حتى تكون لنا وجوه للكاتب سي.اس. ليوس

رواية حتى نمتلك وجوها، تحكي اسطورة cupid &psyche . وكما يوضح المؤلف في ملاحظة له في النهاية، هو يغير القصة نوعا ما. القصة الناتجة تستطلع موضوعات الايمان والحسد والحب وخداع الكلمات.

الجزء الاول من الرواية كُتب من منظور نفس الاخت الكبرى اوريل، كإتهام ضد الآلهة. القصة صيغت في مملكة غلوم الخيالية، مدينة بدائية يتصل شعبها احيانا مع اليونان الهيلنستية المتحضرة.

في الجزء الثاني من الكتاب يباشر القاص تغييرا في العقلية (ليوس يستعمل مصطلح تحويل) ويفهم بان اتهامها الاول كان ملوثا بفشلها وعيوبها، وان الآلهة حاضرة بكل حب في حياة الانسان.

الرواية نُشرت عام 1956 (1) .المؤلف له ايضا رواية سجلات نارينا. انها تستمد من شخصيتين أقل شهرة في ميثولوجيا اليونان: ايروس، إله الحب، وpsyche إلهة الروح. ليوس يعيد تصوّر القصة القديمة الرغبة Cupid (النظير الروماني للايروس) والنفس psyche كما حُكيت من قبل أبوليوس في القرن الثاني الميلادي في مسعى لتغيير منظورها.

الرواية تحكي اسطورة إله الرغبة والنفس من خلال رؤية الاخت الكبرى للنفس واسمها اوريال. وخلافا للاسطورة اليونانية التي توصف بها اخت النفس كحسودة لعلاقتها مع ايروس، خداع اختهم وخيانتها، يعطي ليوس اوريال صوتا مقنعا. هي تتهم علنا الالهة بمحاولة انقاذ النفس التي ضُحي بها لـ "إله الجبل".

اوريال تقص القصة كما لو انها حدثت "حقا"، متحدية الاسطورة القديمة. على هذا النحو، يبيّن ليوس كيف ان قصة مثل قصته يمكن ان تعيد صياغة معنى الاسطورة.

Greek Reporter, May9, 2025

***

حاتم حميد محسن

......................

الهوامش

(1) اوريل تدرك بالنهاية ان الآلهة لاتستطيع "مواجهتنا وجها لوجه قبل ان نمتلك وجوها"، ذلك يعني ان امتلاك وجه يتضمن كونك واع بكامل نفس المرء، الخير والشر، وفهم دوافع المرء ونتائج أفعاله.

 

كتب الأستاذ ناجح المعموري* كتاباً خاصاً في صديقه الشاعر موفّق محمد أبو خُمرة شاعراً وإنساناً حليّاً أصيلاً. ساعتمدُ هذا الكتاب مصدراً لمقالي هذا فضلاً عن ديوان الشاعر (ربما هو الأول) المعروف "عبديئيل"** وليس عندي غير ذلك. في لقاء في الحلة ما أعزّه وما أندره مع الشاعر موفّق أبو خُمرة في مقهى الجندول المطل على نهر الفرات وعلى رقبة جسر الحلة الرئيس عصرية أحد أيام شهر شباط الفائت أهداني الأستاذ موفّق كتاباً ألّفه الكاتب والروائي الأستاذ ناجح المعموري بعنوان " قُبّعة موفق محمد ". هناك التقيتُ بنخبة من مثقفي وأدباء وشعراء الحلة كان فيهم الأستاذ ناجح المعموري نفسه. قدّم لي أبو خُمرة هذا الكتاب بكلمة قال فيها [الصديق العزيز وأُستاذي عدنان الظاهر مع محبّتي.. موفّق مُحمد]. كان موفق زمان عبد الكريم قاسم أحد تلاميذي في متوسطة الحلة للبنين وكذلك كان المعموري... دار الزمان لنغدو أصدقاء.

لم يقصّر الأستاذ ناجح المعموري في تقديمه وتحليله لقصائد أبو خُمرة..

وأعجبني فيما كتب أمران وقف عندهما وقفة متأنية متفحّصة هما شدة تعلّق الشاعر بوالدته من جهة وبالنهر، فرات الحلة، من الجهة الأخرى. حلل هذا الأمر نفسياً بل وجنسياً فذكر عُقدة أوديب التي لم أجد لها أثراً فيما كتب أبو خمرة من شعر يخص والدته. تزوج أوديب أُمّه من غير أنْ يعرف أنها أمّه ففقأ عينيه وقد عرفَ الحقيقة ندماً وتكفيراً! حبُّ الوالدات الواعي القصدي هو لا شكَّ غير الزواج منهنَّ عن طريق الخطأ والجهل. أغلب مادة فصل (المكان والذاكرة في نص " محلّة الطاق ") مكرّس لهذه الموضوعة أستعير منه الآتي:

[.. والأم في نصوص موفّق محمد موزعة على ثنائيات الحياة، الحزن / الفرح، الإنبعاث والموات وفي الحالتين كانت وظلّت مُثيرة للذائذ غير المكشوفة والحسيات المرموز لها وأعتقدُ بأنَّ علاقة الشاعر موفق محمد مع الأم علاقة أوديبية تتحقق بالإتصال الثقافي والرمزي وهذا هو سبب تكرار تمركزات الأم في كل قصائده، الأم المقدّسة التي لا يُنقصُ الإتصال من قداستها / الصفحة 70]. نحن لا نعرفُ أمّاً مُقدّسة إنما عرفنا الربّة عشتار سومر وبابل آلهة للخصب والنماء وعرفنا بغايا المعابد المقدسات حيث ممارسة الجنس في المعابد معهنَّ هي عملية مقدّسة: البغاء المقدس. نعم، يتكاثر البشر بهذه الممارسات لكنَّ أحداً لم يعتبر عشتار وسواها من بغايا المعابد أمّاً لأحد. هنَّ أمهات للجميع لا لشخص بعينه. وليس في هذا الأمر من غرابة إذْ مرّت البشرية بمراحل ساد فيها شيوع الجنس وإشاعة الأرض والنساء وكل ما تمتلك العشيرة أو القبيلة أو المجتمع البدائي. جميل أنْ يعرّج الأستاذ المعموري على أسطورة بوذا حيث كتب [.. وهنا انحرفت الأسطورة البوذية التي خصّبت والدة بوذا، عندما نزل إليها شعاع من القمر واتصل معها إدخالاً رمزياً فأنتج بوذا / الصفحة 69]. ألسنا نجد هنا مشابه بين مولد بوذا وقصة مولد عيسى المسيح إبن مريم العذراء؟ بوذا نتاج شعاع قمري دخل أمه وعيسى نتاج روح الله بهيئة بشر أتى مريمَ ليصنعَ لها غُلاماً زكيّاً هو عيسى المسيح [.. فاتخذتْ من دونهم حِجاباً فأرسلنا إليها روحَنا فتمثّلَ لها بَشراً سويّا. قالت إني أعوذُ بالرحمن منكَ إنْ كنتَ تقيّا. قال إنما أنا رسولُ ربّكِ لأهَبَ لكِ غُلاماً زكيّا /  سورة مريم الآيات 17، 18، 19]. وقبل عيسى المسيح خُلِقَ آدمُ بنفخة من روح ربّه [إذْ قال ربّكَ للملائكة إني خالقٌ بشراً من طين. فإذا سويّتهُ ونفختُ فيه من روحي فقَعوا له ساجدين. سورة ص، الآيات 71، 72]. لا وجود للمرأة في قصة خلق آدم. لم تحمله امرأةٌ في رحمها إنما أصله من طين. وهو بذا يختلف عن كل من بوذا ثم المسيح.

يحضرني في هذا المقام كتاب الكاتب لورانس

D.H.Lawrence

بعنوان " أبناء وعشّاق "

Sons and Lovers

عرض فيه عميق تعلّقه بوالدته حدَّ العشق وكان مثل أبو خُمرة يتيم الأب. كما يحضرني ما كتب ذات يوم الأستاذ أحمد فؤاد نجم من أنه يعشق أمّه.. ولا غرابة في هذه المسألة فطبيعي أنْ يتعلق الصبي أو الشاب اليتيم الأب بأمّه بديلاً وتعويضاً عن أبيه الراحل. وهذا ما جاء بلسان عيسى:

 [وبَرّاً بوالدتي ولم يجعلني جبّاراً شقيّا / سورة مريم، الآية 32]. جهدُ الأستاذ ناجح المعموري جهد مشكور حيث أضاء جوانب من شخصية ونفسية وظروف الشاعر موفق أبو خمرة قد لا يعرفها عنه الكثيرون وهذه إحدى مهمات النقد والناقد فالناقد مكتشف ومحلل ومستنتج ومُنظّر.

لم يترك الأستاذ ناجح المعموري لي فُسحة كبيرة لأكتب عن الجوانب الأكثر جديّة في فن أبو خمرة الشعري والهيكلية النظرية في بناء القصيدة. لذا سأصرف جهدي لجوانب أخرى في شعر الشاعر أبو خُمرة وأحاول معرفة بواطن وخفايا أشعاره وأعدد بعضّ مفاصل حياته التي لعبت أدواراً حاسمة في تحديد طبيعة شعره وأنماط سلوكه.

فجيعة الشاعر بفقده ولده

شارك الإبن الأكبر للشاعر في إنتفاضة شعبان عام 1991 ثم إختفى أثره ولعله انتهى في المقابر الجماعية التي خلّفها نظام صدام حسين وحزبه الحاكم يومذاك. قصيدته " صور مؤطّرة " تحكي فاجعته بولده وما حلَّ بالعراقيين من بؤس ومصائب وقتل عشوائي إثرَ إنتصار النظام على الإنتفاضة الشعبانية (آذار).. يقرأها المرء فينهارُ بكاءً. ما قال فيها؟

(حين رأى بأمِّ عينيه طفليه يشحذانْ

زوجَته رغم دماءِ الحيضِ في معمعة العربانْ

عضَّ على يديهِ

أطبقَ فكيهِ

دقَّ بكل قوّةٍ برأسهِ الحيطانْ

ولم تزلْ عاريةً تُحرق في معمعةِ العُربانْ).

كيف كان رد فعل الأب المفجوع يرى طفليه يستجديان وزوجه حائرة لا تدري ما تصنع؟ لم يبدد طاقته الإنفعالية بالألفاظ إنما عبّر عن حالته بالصور الأكثر بلاغةً من أي كلام. لم يتكلم بل قال: عضَّ على يديه.. أطبقَ فكيهِ.. دقَّ بكلِ قوّةٍ برأسه الحيطانْ. هكذا كان جواب الشاعر: العض بالأسنان والإطباق بها ثمَّ ضرب الرأس بالحيطان. هيجان واحتجاج عاصف وكفر بأخلاق الحكام الذين حكمونا وداسوا على رقابنا بإسم القومية العربية والوحدة العربية ثم زيّنوها بالإشتراكية إطاراً وتبجّحاً وزخرفاً لكي يسرفوا في ظلم وفي قتل شعوبهم. لم يحمل الشاعر السلاح ضد قاتلي ولده ولكنْ صيّرته المأساة شاعراً يعرف كيف يعبّر عن غضبه وكيف يصرّفُ هذا الغضب وفي أي وجه يجري تصريفه.

يمضي الشاعر في رسم صور المحنة الكبرى التي أحاقت بالعراق والعراقيين وهو وعائلته نموذج ممتاز لهذه المحنة. نقرأ في المقطع الثاني كيف غادر الفقيد إطارَ صورته المُعلّقة على أحد جدران بيتهم ليقضي بعض الوقت مع والديه. أرى في هذا المشهد واحدة من قمم الشاعر الإبداعية. إنه يتخيل ويتمنى ويحوّل الرغبة المستحيلة إلى شئ يشبه الواقع.. إنه يحلم بل ويمشي في نومه حالماً والحلم قد يطابق ما نريد وقد يخالفه. المفجوع يخدع نفسه ليؤاسيها ولينسيها هول الكارثة وربما يهرب للكحول أو المخدّرات والشاعر أبو خمرة صريح في هذا الأمر لا يتحرّج من ذكر الكحول في شعره أبداً يتناوله بأشكال وصيغ شتّى من قبيل (إلى علي الندّاف أولاً وإلى نص عَرَق ثانياً / قصيدة زائر الليل / الصفحة 73 من ديوان الشاعر عبديئيل). ثم (شكراً للخمرةِ بعد منتصف الليل.. فقد شدّتْ فوق رقبتي المهروشة رأس ملياردير لم تستطعْ حمله.. فأعنتها على ذلك باليدين / قصيدة برقيات الصفحة 68).

ثمَّ ما قال في قصيدة " الثلج المقلي ":

(أدفعُ بابَ الحانةِ في منتصفِ الليلِ

أنصافُ المشلولين

الجثثُ المُلقاةُ على بعضٍ دون استنكارٍ أو خوفٍ

واليأسُ المصلوبُ على وجهي يفتحُ عينيهِ

على الجيلِ الطالعِ من قنيناتِ العرقِ الأبيضَ مثبوراً)

أكيد كان الكلام هذا زمان الحرب العراقية ـ الإيرانية الدموية والثقيلة.

الشاعر والكحول

يكادُ العرق لا يفارق الشاعر في بعض قصائده فهل هو هروب من تكاليف ومتاعب الحياة أم أنه عامل مساعد للإبداع الشعري كما هو شأن الكثيرين من مشاهير الشعراء والروائيين... الكحول أو المخدّرات أو كلاهما والأمثلة كثيرة ومعروفة. الكحول لأبي خُمرة برزخ مزدوجٌ فرع يُفضي به للخلاص من حالات نفسية متأزمة جرّاء الحصار والجوع   والحروب وتعسف السلطات الحاكمة. أما الفرع الآخر فإنه طريق الإبداع وإجتراح آفاق فنية لا تتأتى للشاعر في ساعات صحوه. يغلبُ على ظني أنَّ الشاعر موفّق لا يقول شيئاً من الشعر إلاّ إذا كان مخموراً أو واقعاً تحت سطوة وسلطان العرق العراقي الأبيض / حليب السباع. في أية درجة من درجات ومستويات السكر يكتب أشعاره؟ لا أحسبُ أنه يُثّقل كثيراً حين يعنُّ له أنْ يكتب شعراً وإلاّ لفقد الخيطَ والعصفور وأشعاره خير شاهد على ذلك، لا يبدو عليها أنها تترنح تحت تأثير المشروب. يكتب تحت سيطرة تامة رغم الخمرة سوى بعض الفلتات القليلة التي تختفي فيها قوة إرادته فيفلت منه الوزن الإيقاعي للقصيدة وتتنوع وتختلط التفعيلات ويمزج الشعر الفصيح بالشعر العامي وببعض الأغاني العراقية كأغاني سعدي الحلّي خاصةً فضلاً عن الأغاني العربية ومنها أغنية لنجاة الصغيرة " وآنة بداري وأخبّي.. ص 75 " وأخرى لفريد الأطرش أغنية " يبو ضحكة جنان مليانة حنان.. ص 81 " التي يحبها كذلك العزيز الفذ الأستاذ صائب خليل. في قصيدة " زائر الليل " المُهداة إلى صديقه علي الندّاف أمثلة كثيرة تؤكّد إستنتاجاتي وفيها من السخرية التي لا يجيدها إلا موفق أبو خمرة فإنه بارع في اصطيادها ووضعها في محلاتها المناسبة فتتألق روح السخرية ممزوجة برائحة وتأثير الخمرة. وما أروعه حين يسخر حيث تدمع العين ويفتّرُ الثغر عن بسمة. نماذج من قصيدة زائر الليل

(يعشقُ القلبُ ولا أعرفُ سِرّهْ

ويُريني بفمِ الإبريقِ سِحرهْ

وهو نصٌّ لم أعدْ أشربُ غيرَهْ

عندما حددّ هذا السوقُ سِعرهْ

لم أعدْ أمشي بخطٍّ مُختلفْ

وبساقٍ تكتبُ الميمَ ألفْ

*

يا نصفيَّ الغائبْ  

يا مُثقَل الرأسين

بستْ يد الخمّارْ

ما باعني بالدَينْ

وأذهبُ أبعدْ

أتسلّقُ جمجمتي المكتظّةَ بالقازوقْ

وأضربُ فيها خيمةَ خمرٍ للفقراء

*

إقرعْ طبلَ الخمرةِ ولنبدأ فصلَ التطبيرْ)

موفق محمد أبو خمرة عالم خاص متميّز وعلامة فارقة في فن الخمريات أقرب في فنه الشعري لعالم البداءة والوحشية المتحضّرة مع وعي ضارب في أعماق التراث العربي الإسلامي. في بعض أشعاره ملامح من طبيعة شعر مظفر النواب وعلي محمود طه المهندس ولا سيما قصيدته " الجندول ". عدا ذلك لم أعثر في شعره على أي أثر لبقية الشعراء القدامى والمحدثين. ثقافته القرآنية واضحة وكذلك حفظه وتمكّنه من نظم الشعر الشعبي. لم يكتب قصيدة واحدة كاملة في الكأس والخمر كما كان شأنُ أبي نؤاس مثلاً. الخمرةُ تتغلغل برشاقة في بعض قصائده فتأتي كأفضل وأحلى ما تكون.

في لحظة فراقنا بعد لقائنا في مقهى الجندول قال لي موفّق: سأحلّق هذه الليلة. قلت له أتعني أنك ستتجاوز ربع العرق في هذه الأمسية؟ أجاب على الفور: بل نص البُطل هو ميزاني اليومي. أحبّته مدينته الحلة لصراحته وجرأته وانفتاح قلبه وصدره وبادلته حبّاً بحب ومحضته الإعجاب والود وإعلاء الشأن. في مقطع " الظل " من قصيدة " قصائد بالكاريكاتير " / الصفحة 111 كتب موفق الشاعر

(قبلَ غيابِ الشمسِ

وفي بارٍ ملغومٍ يترنّحُ من ثقلِ همومي

فاجأني ظلّي وهو يُصفّقُ للنادلِ

يطلبُ رُبعاً آخرَ يشربهُ صِرْفاً

ويقولُ سلامٌ

قلتُ سلاماً شيخَ السكّيرينْ

فبعدَ مغيبِ الشمسِ فأين تنامُ؟).

كعادته... يلتقط الشاعرُ ما يناسب أجواءه النفسية والشعرية من مجزوءات من العديد من سور القرآن. هنا وظّف بعض ما جاء في سورة هود [ولقد جاءتْ رُسُلنا إبراهيمَ بالبشرى قالوا سلاماً قال سلامٌ فما لبِثَ أنْ جاءَ بعجلٍ حَنيذ / الآية 69]. لم يؤثّر تغيير سياق الوضع الإعرابي لكلمة " سلام " على نسيج وتأثير الجملة على متلقيها. إستشهادات الشاعر بمجزوءات الآيات كثيرة ربما أُلفتُ النظرَ إليها كلاّ في حينه.. ربّما!

سرحتُ بعيداً فأعود لقصيدة " صُوَرٌ مؤطّرة ".

(من صورته المؤطّرة بالموتِ والفضّة والسوادْ

قبّلَ والديهِ

أزاحَ عن عينيهما الرمادْ

فجُنَّ مما قد رأى

حطبٌ من البشرِ المُكدّسِ في صناديقِ العتادْ

سيلٌ من اللعناتِ يقتّصُ العبادَ ويستقرُّ على جحيم

من صورته المؤطّرة بالموتِ والفضةِ والرمادْ

شيّعَ والديهِ

رتّلَ بعضَ الدمعِ في عينيهِ

آياً من الذِكْرِ الحكيمْ

ولفَّ صورته وعادْ).

هذا هو الفقيد الشهيد البار بوالديه يفارق قبره ليكونَ مع أبويهِ.. يقبلّهما... يودّعهما ثم يعود لرقدته الأبدية. أيستحيلُ بقاءُ الميّت مع أبويه حيّاً؟

هذا بعضٌ من قصيدة " صور مؤطّرة ".

فجائع الشاعر بفقد الأصدقاء

عبد الجبار عبّاس

عبد الجبار عبّاس مثقف حلاّوي وناقد معروف في الأوساط الأدبية. إنه شقيق أخينا وزميلنا وصديقنا الأستاذ عبد الأمير عبّاس وباقي أشقّائه ستار وغفّار وزاهر الصغير أو أزهر. لا أعرف ظروف وأسباب وملابسات رحيله ولكنْ أفهم من سياق القصيدة التي كتبها فيه " الجب والعقرب " وقدّم لها " أبانا الذي في المقابر نحنُ ضحاياك ".. إلى الناقد الراحل عبد الجبار عبّاس... أفهم أنه عانى من سجن وتعذيب ربما حتى الموت تحت هذا التعذيب. لم يؤرّخ الشاعر لأحداث موت عبد الجبار كذلك الحال مع كافة قصائد الديوان. يغلبُ على ظني أنَّ الناقد قد فارق الحياة في ثمانينيات القرن الماضي. رسم الشاعر مأساة حياة صديقه في السجن ويبدو أنهما كانا معاً نزيلي هذا السجن.. رسمها بصور دامية يتفطّرُ لها قلبُ القارئ وكتبها بصيغ ودلالات جديدة مُبتكرة لم يأتها الشعراء الذين كتبوا عن حالات مماثلة. كرر الشاعر اسم عبد الجبار مراراً ليحفر في ذاكرتنا أخدوداً عميقاً يذكّرنا بمأساة هذا الإنسان الجميل الوديع المسالم:

(أُقسمُ يا عبدَ الجبّارْ

طيلةَ هذا العمرِ المرِّ

ومنذُ عرفتكَ في غيابةِ هذا الجبِ

لم أتبينْ وجهكَ

فاجأني صوتُكَ منذُ اليومِ الأولِّ مسحوناً

بأنينٍ يتخثّرُ فيهِ الموتُ

فتأبطتُ جراحي

قلتُ اصبرْ يا مَلَكَ الضيمْ

وتجرّعْ من هذا السُمِّ قليلاً

فسيأتي حتماً بعضُ السيّارةْ

وسيصرخُ وارِدُهمْ يا بُشرى

فأجابَ الصمتُ

وتوسّدنا الجبَّ طويلاً).

إذاً كان عبد الجبار تحت التعذيب في أحد سجون الطاغية والمجرم الأكبر الذي أذاق العراقيين الهوان والذل والموت. إنه السجن ـ جب يوسف. يأمل الشاعر ويتمنى أنْ ينقذهما من هذا الموت البطئ منقذٌ كما أنقذت السيّارة يوسف بن يعقوب بإخراجه من الجب. الرجوع مرة أخرى للتراث الديني والتشبث بالأساطير حين تنغلق الأبوابُ وتنسدُّ السبل. طال مكوثُ الشاعر وصديقه الناقد في السجن " وتوسّدنا الجبَّ طويلاً ".

أقتطعُ شذراتٍ من مقاطع هذه القصيدة فالتركيز أفضل وأشد وقعاً من الإطالة والتمدد فوق المساحات:

(مكتوماً كان أنينكَ

ما لكَ لا تنطقُ أو تصرخُ

كنتَ تعبُّ السُمَّ الأزرقَ من أشواكِ الجب

*

دعنا نرحلْ يا عبد الجبار

فلقد أنهكنا هذا الجبُّ العقربُ

*

كحّل عينيكَ ودعنا نرحل

أوكان لزاماً أنْ تحرقنا الكلماتُ

وأنْ توقدَ في الجسدِ التنورَ

*

كيف سنخرجُ؟

قلتُ اصرخْ يا عبدَ الجبّار

فلعلَّ حبالاً تمتدُّ

وامتدّت

أغرقنا الطوفانُ وأودعنا في جبٍّ أعمق

*

وابيّضتْ عيناكَ

وجاءوا بدمٍ كَذبٍ فوق قميصكَ يا عبدَ الجبّار

وقالوا عذّبهُ الترحالُ كثيراً

عذّبهُ الرفضُ كثيراً

وأنتَ تصارعُ في هذا الجبِّ كواسجًهُ

وتمدُّ حروفاً من نورٍ كي تشرقَ شمسُ الكلمات

تشرقُ شمسُ الكلماتِ

ولا أحدٌ يسألُ عن عبد الجبار

*

ساعدكَ اللهُ أيا عبد الجبار

فما من أحدٍ في هذا العالم

مدَّ إليكَ يداً أو قالَ سلاماً

ما دفعتْ ريحٌ ظهركَ يا عبد الجبّار

وحدكَ كنتَ تصارعُ

كان الهمُّ صليبُكَ

والفقرُ صليبُكَ

والفكرُ صليبُكَ

فتوسّدتَ بهذا الثالوثِ وصار لِجاما).

علاقة الشاعر بزوجه

رغم الحصار والحروب والجوع وفقد الأحبّة وما أحاق بالعراق من دمار وخراب وموت ومقابر جماعية... ورغم الميل للخمرة والسكر وقول الشعر... ظلَّ الشاعر موفّق محمد مؤدّباً كيّساً لم يتلفظ كلماتٍ سوقية بذيئة مهما كانت حالته النفسية والشعرية. لم يجدّف أو يكفر. بل ظلَّ في غاية الرقة حين اضطرته الحالات إلى الإشارة إلى سياقات جنسية فأشار ورمز وكنّى وتكلم بالمجاز. هل هو متديّن؟ لا أظن، لكني أراه متأثراً بالأجواء الدينية ولا من غرابة فدار عائلة الشاعر قريبة من نهر الفرات في محلة الطاق تقابلها حسينية آل وتوت وليس بعيداً عنها مسجد ومقر الشبيبة الحسينية. وفي محلة الطاق دارٌ خصصها السيد جعفر القزويني لملتقى المواكب الحسينية وقراءة التعازي في أيام وليالي عاشوراء العشرة. ومحلتا الطاق والجامعين ملأى بالحسينيات وقبور الأولياء. لديَّ دليلان على هذا: حفظه للكثير من الآيات القرآنية ثم هيبته واحترامه للمرأة أمّاً ورمزاً. لنسمع ما قال في قصيدة " زوجة الشاعر " التي جسّد فيها مثاله الأخلاقي العالي حين اقترب من جسد زوجه مخموراً فأبدع في رموزه وكناياته ومجازاته هيبةً لجسد زوجه وأدباً فطرياً وُلد معه في صلب طبيعته:

(تعرفُ هذا العائدَ من عُلب الليلِ

ومن صخبِ الحاناتِ

مملوءاً رعباً ونقاشاً

مُكتظّاً بالأحلامِ المُرّةْ

حاولَ بعد الربعِ الأولِ أنْ يملأَ كلَّ خطوطِ الطولِ

خطوطِ العَرضِ بكبريتٍ

ويفُجّرَ هذا الكونَ ويبني مملكةً الفقراءِ

حاولَ أنْ يسمعَ كلَّ الأصواتِ

وأنْ يشربَ نخْبَ الموتِ الجاثمِ كالليلِ على الطرُقاتْ.

تعرفُ هذا العائدَ مُنقسماً كالرملِ على كفِّ العصرِ

لا يحملُ إلاّ كُتباً وقصائدَ ممنوعةْ

وحنيناً يتفجّرُ كالبركانِ إلى عينيها

تفتحُ بين يديهِ الينبوعَ المتدفّقَ للذّةِ ما بين النهدِ وبين الشفتينِ

يتأرجحُ بين الحلمِ وبين اليقظة

ويُتمتمُ أشياءً لا تعرفها

وتموتُ الرغبةُ في العينين).

إشارات وتلميحات بليغة رائعة تصوّر رغبة الزوج المخمور في ممارسة الجنس المشروع مع حليلته ف [تفتحُ بين يديهِ الينبوعَ المتدفّقَ للذةِ ما بين النهدِ وبين الشفتين]. منعه أدبه وحياؤه واحترامه لأم أولاده من ذكر هذا الينبوع بالإسم! حتى وهو في بيته وحيداً مع زوجه أو مختلياً بها لم يفارقه ذِكرُ الخمرِ خاصة وقد أتاها مخموراً ربما في ساعة متأخرة من الليل. الطب يقول إنَّ الكحولَ يقوّي الرغبة الجنسية لدى متعاطيه لكنه يُضعف القدرة الجنسية.

الإبداع كثير في أشعار الشاعر موفّق محمد أبو خُمرةْ أو... أبو خَمرةْ ولا خَمرة بدون خُمرةٍ وتخمير.

إنتهت سياحتي مع ديوان عبديئيل وقد تركتُ الكثير من روائع قصائده لأنتقلَ إلى الجزء الثاني من هذا العرض. عبد إيل تعني باللغة الآرامية ولغات شرقية أخرى عبد الله، فإيل هو الله ومدينة القدس هي إيلياء. وإسم العَلَم إيليا معروف في الغرب فهو إسم والد زعيم الثورة البلشفية فلاديمير إيليج لينين.. إصل إيليج هو إيليا. كذلك هو الإسم الأول للروائي السوفياتي الشهير إيليا إهرينبورك. بل والإسم إلياس هو من إيليا ولدينا أسطورة خضر الياس ثم إسم العَلَم المعروف في العراق " ياس " والياس نبتة واسعة الإنتشار في العراق رائحتها جيّدة. وأظنُّ أنَّ الإسم ياسين أو يس مشتق من إلياس! المهم...

مع المعموري وكتابه " قبعة موفق محمد "

أنتقل الآن إلى إحدى القصائد التي جاءت ضمن كتاب " قُبّعة موفق محمد " للأستاذ ناجح المعموري فقد استأثرت باهتمامي لما فيها من خصوصيات... أعني قصيدة " سرّي للغاية ". إختياري لهذه القصيدة لا يعني أني لم أُعجب بغيرها لكنها فرضت نفسها عليَّ والنفس ألوان وأشكال وأمزجة. ثم، أجاد الأستاذ المعموري في تناوله لقصائد الشاعر الأخرى عن الحلة ومحلة الطاق وفرات الحلة فكفاني مؤونة التصدي لهذه الموضوعات الطريفة والكثيرة الإغراء لشخص مثلي حلاّوي أباً عن جد، وسعيدٌ من اكتفى بغيره / قول مأثور.

ماذا في قصيدة " سرّي للغاية "؟

فيها السخرية اللاذعة التي تجعلُ القارئ يضحكُ ما شاءَ له الضحك. يسخر الشاعر فيها من نفسه قبل غيره كما يسخر فيها من زمانه ومن ظروفه العراقية وكان بعضها قاتلاً وقد عاصر وعاش تلك الظروف من حروب وغزو وحصار ودمار واحتلال. كيف لا يغرق بالضحك من يقرأ:

(ألمْ ترَ أنْ لاحمارَ في العالم يُشبه موفّق مُحمد

فهو الوحيد الذي يسيرُ على قدمين اثنينِ

عابراً الشوارعَ من المناطق التي يشمُّ فيها جلدَ أخيه الوحشي

لاعناً مَنْ دجّنهُ

فهو يخافُ الحكوماتِ

وهذا وحدهُ كافٍ لتتويجهِ مَلِكاً رغمَ أنه يكرهُ الأضواءَ

فلم يقف شامخاً مُبرطِماً على قاعدةٍ أُسقِطَ صنَمها

مُحذّراً الجماهيرَ بعدَ الذي ذاقتهُ الآن

أنْ لاتفتدي بِدمها أيّاً كان

راسماً بأُذنيهِ علامةَ النصرِ

لاطشاً ذيلَهُ بين إليتهِ خَجلاً

من القادمين الذين عانوا الأمرّين في المنافي

**

دعْ الحمارَ طائراً فوق بساط الفيسيفساء الذي أنضجوهُ حتى احترقَ

ليهبطَ حالماً بالسترِ والأمانِ

وهو المربوطُ إلى العربةِ مُذْ كان جحشاً

بريئاً لاهياً لا يعرفُ معنى القطعة المُعلّقة في رقبتهِ

وهو يسيرُ جَنبَ أخيه الأكبر

الحيوان تحت التجربة

وقد صقلته التجاربُ حلوُها ومُرّها

فانفردَ بالعربة

**

ولم يفرحْ إلاّ مرةً واحدةً

حين قرأ على جدارٍ آيلٍ للسقوطِ البولُ للحميرِ

فماتَ تحته قبلَ أنْ يُفرِغَ ما في رأسهِ من سموم

يشربُ صِرْفاً نخبَ عذاباتِ لم يذُقها

وهو يجلسُ على عجيزتهِ غَرِداً طَرِباً

ماسكاً بيمناهُ بُطلاً من تشريبِ التمر الذي صنعه بيدهِ

بجهاز تقطيرٍ لم تعِرهُ لجانُ التفتيشِ إهتماماً

**

فصنع منه ما صنعَ من أسلحة الدمار الشامل)

هل ترك الشاعر أبو خُمرة أمراً لم يذكرهُ مما مرَّ على العراق من مصائب وكوارث ومِحَن؟ حوّلته الكوارث إلى حمار من باب الإحتجاج على ما لا يستطيعُ ردّه أو الوقوف بوجهه. لم يكن وحده في هذا [الإستحمار] إنما ضرب من نفسه مَثَلاً ليس إلاّ. إستحمرَ الجميعُ لأنهم قبلوا بما جرى واستكانوا للحاكم الغاشم والدموي المستبد الذي ساقهم للموت والحروب والحصار والجوع فما الذي يميّزهم عن الحمير؟ إنه صوت عالٍ صارخ ـ ناهق فهل يا ناسُ مَنْ يسمعُ؟! هنا يؤرّخ الشاعر لإسقاط تمثال صدام حسين في نيسان 2003 من فوق قاعدته في منتصف ساحة الفردوس في بغداد، وقد رأى  العراقيون هذا المشهد على الفضائيات في حينه.. ويُحذّر العراقيين أنْ لا يؤلّهوا حاكماً آخر يفتدونه بدمائهم كما كان الشأن مع صدام حيث كانت هتافات بعض الجماهير (بالروح بالدم نفديك يا زعيم). من صور الشاعر الساخرة النادرة [راسماً بأُذنيهِ علامةَ النصر]. وهذا هو واقع حال آذان الحمير والخيول فإنها دوماً، تقريباً، مُنتصِبة للأعلى كما يصنع أحدنا علامة النصر بسبابته ووسطاه لتشكيل الحرف الإنكليزي

V = Victory

الذي يعني النصر.

لم يترك شاردةً أو ورادة إلاّ ومسّها خفيفاً أو ثقيلاً. إنشغاله بسقوط صدام وفلسفة الحمير لم يُنسيانه ذكرَ العراقيين الذي غادروا أو أُجبروا على مغادرة العراق ولا سيّما الأدباء والشعراء منهم حيث شاعت فكرة أدباء الداخل وأدباء الخارج. يشعر الشاعر بالخجل من هؤلاء المغتربين ويقرر أنه لا رأيَ له بمسألةِ أدب الداخل والخارج

(لاطشاً ذيله بين إليتيهِ خجلاً

من القادمين الذين عانوا الأمرّين في المنافي

*

فلا رأيَ له بأدب الداخل أو الخارج).

لم يفرّط بحق أحد من أعضاء الفريقين... إنه صديق الجميع وإنه حبيب الجميع. كما لم تسلم من سخرية لسانه لجانُ التفتيش الدولية التي كانت تبحث سُدىً عن أسلحة الدمار الشامل وألحّت وألحت حتى أضجرت العراقيين وأسأمتهم. وكما عرفناه جاءت سخريته عميقة المغزى قوية التأثير

(ماسكاً بيمناهُ بُطلاً من تشريب التمر الذي صنعه بيدهِ

بجهاز تقطير لم تعرهُ لجان التفتيش إهتماماً

فصنع منه ما صنعَ من أسلحة الدمار الشامل)

تستحقُ لجان التفتيش والتجسس ومن وقف وراءها مِن وراء البحار والمحيطات.. تستحق ما هو أكثر من هذه النماذج الساخرة.

نمضي مع إبداعات موفّق أبو خمرة وكشوفاته في فنون السخرية غير المسبوقة. قال مُغنيّاً شعراً شعبياً من نظمه، حسبما أعتقد، يضج بالسخرية وتتنوع فيه صور ولوحات بليغة كأنها ملوّنة مُشتقة من عالم وطولات وطبائع الحمير والجحاش أو الجحوش. نفّذَ حفلته أمام جمهور أصغى له ثمَّ:

(فألهبَ الجمهورَ وصفّقوا له كثيراً

وخرجوا وهم يحملونه على أكتافهم هاتفين

[لو نعرفْ إنتَ بيا طولة]

*

لم يخلّفَ أحداً

رغمَ فحولتهِ التي يمكنُ أنْ يقفَ عليها

مُستغنيّاً عن قوائمهِ الأربعة

يخرجُ وحيداً عارياً كما خلقه اللهُ).

الطولة هي الأسطبّل لمن لا يعرف معناها. هل استمتعنا بصورة بالغة الجدّة شديدة التأثير وقوية الدلالة كمثل ما قال في سطرين إثنين فقط هما (رغم فحولته التي يمكن أنْ يقفَ عليها / مُستغنياً عن قوائمه الأربعة)؟ هل تحتاج هذه اللوحة إلى تفسير أم أنَّ معناها فيها غير خافٍ وإشارتها أقوى من البرق الخاطف. ثم:

(فعلامَ خروجكَ يا صاحبي!؟

قالها أخٌ لم يفارقْ طولته منذُ سقوط العهد الملكي

أنا أفكّر إذاً أنا ديخْ).

يُذكرني السؤال: فعلام خروجكَ يا صاحبي بما قال أحمد شوقي في أوبريت مجنون ليلى [ماذا وقوفكَ والفتيانُ قد ساروا]. يبقى التساؤل المشروع عن قصد الشاعر بالأخ الذي لم يفارق طولته منذ سقوط العهد الملكي! هل يقصد العقائديين ممن ثبتوا ولم ينكسروا ولم يخونوا؟ أيقصد نفسه إذْ حافظ على موقعه اليساري ودفاعه عن الفقراء والمستضعفين في الأرض؟ لكنه يلمز هذا الأخ لأنه مفكّرٌ وثائر أو ثوري إذاً هو في نظره حمار آخر.. ديخ.. أي لا يتحرك إلاّ بنهره وزجره بعبارة ديخ الشائعة خصوصاً في الحلة وضواحيها وأريافها. أم أنا على ضلال في تفسيري؟ أرجو ذلك. للحركة في السياسة نظريات وتأويلات وكذلك للسكون والثبات. لمن الأفضلية.. للمتحرك أم للثابت؟ للثابت في حركته أم للمتحرك غير الثابت؟ على أية حال... مَن استعمل قبل موفق كلمة " ديخْ "؟ القديمة التي ربما تعود أصولها للسومريين أو البابليين أو أنها كلمة آرامية صابئية. على الصفحة 143 موجز للتأريخ السياسي والوظيفي للشاعر أبو خُمرة يكشف فيه معاناته ومحنته زمان البعث وما بعد البعث وهو قليل من كثير لم يشأ أنْ يكشفه للحليين ولعموم العراقيين.

أقدّر في الختام جهود الأستاذ ناجح المعموري في نقده وتحليله لقصائد الحلة في أشعار صديقه موفّق محمد أبو خمرة.. أخص منها بالذكر قصيدة غَزَل حلّي وقصيدة شمس الحلة ثم يا حلّة وأخيراً قصيدة محلّة

الطاق.

(تحفّظ غير خطير الشأن).

طه باقر والشاعر من محلة الطاق.. نعم. لكنَّ البصير وعلي جواد الطاهر وعبد الجبار عبّاس.. كلاّ! الراحل الطاهر من محلة جبران [عكد المُفتي] ودار ذويه قريب من دار أهلي في هذا العكد القديم الشهير.

إنها تذكرة للأستاذ ناجح المعموري / الصفحة 78 من كتابه "قبعة موفق محمد".

***

د. عدنان الظاهر

آذار 2013

..............................

* ناجح المعموري / كتاب قبعة موفق محمد. منشورات تموز، دمشق، الطبعة الأولى 2012.

* موفق محمد / ديوان عبديئيل، طباعة وإخراج قوس للطباعة، كوبنهاكن، الطبعة الأولى 2000

 

للشاعرة الفلسطينية إيمان مصاروة

تشكل قصيدة "قلبٌ بين مزدوجين" للشاعرة الفلسطينية إيمان مصاروة مثالاً شعرياً نادراً يتقاطع فيه البعد الوجودي مع البعد الفني التأويلي، ويعيد تمثّل الشعر كخطاب يتجاوز البلاغة إلى استحضار الكينونة في بعدها الأنطلوجي والزماني. تندرج القصيدة ضمن الشعر الحداثي المتحرر من الأوزان التقليدية، غير أنها تعيد توظيف تراث الخليل وتوقيعات الشعر العربي الكلاسيكي بطريقة تتماهى مع التجريب الصوفي والانخطاف الرؤيوي في لغة معاصرة.

أولًا: في المعمار الفني والعتبة العنوانية:

يحمل العنوان "قلب بين مزدوجين" بعداً دلالياً عميقاً، يُستثمر فيه التشكيل الطباعي (المزدوجين) بوصفه علامة ترميزية تحتضن القلب بين القيد والتمييز، بين الاحتواء والاغتراب، وهو ما يشي بأنّ القصيدة ليست فقط عرضاً لعاطفة، بل هي استبطان لمسار وجودي موارب. فالقلب هنا ليس مركز الانفعال العاطفي فحسب، بل هو مركز المعنى.

ثانياً: الذات الشعرية بين الطفولة والكهولة – جدل الهوية والانشطار "كهلٌ إذا أبصرته / طفلٌ يعاندُ مِفصلَه..."

تبدأ القصيدة بإدخال القارئ إلى منطقة توتر وجودي: الكهل-الطفل. وهذا التناقض ليس سوى صورة عن الانشطار الداخلي للذات المعاصرة التي تعيش شروخات زمنية ونفسية. الذات هنا غير متطابقة، بل متعددة، تعيش كظلٍّ غائب حاضر، تنتمي إلى الماضي وتبحث عن ملامحها في الحاضر المنكسر.

ويظهر هذا الجدل أيضاً في قولها:  "هو كلّ شيء حين نبصر وردة في الريح يغمرها المطر..."

فالذات ليست فقط متشظية، بل تستدعي تمثّلات كونية وعاطفية لجمع شتاتها عبر استعارات الطبيعة والذاكرة.

ثالثًا: بين الغياب والحضور – ثنائية الزمن واللغة:

القصيدة تتداخل فيها مفردات الزمن بشكل مركزي: الغياب، الحنين، الليل، الماضي، الذكرى، المستقبل، وكلها مغموسة في لغة شبه صوفية ترى أن الشعر ليس ترفًا بل أداة لتلمّس الأثر.

 "يا ليل لا تُطل العتاب ولا تنادِ قاتلي / يا ليل كم كتبت على أطرافك الدنيا..."

في هذا المقطع، يتحول الليل إلى كائن رمزي، شاهد على الأحزان ومحاور للشاعرة، في تقليد يذكّر بأفق القصيدة الصوفية والعتابية، كما عند ابن عربي أو النفري، حيث يُستدعى الليل ليكون فضاء الكشف.

رابعًا: الشعر كخلاص – مناجاة الفن ضد العدم.

من أبرز محاور القصيدة إعلانها الفلسفي حول الشعر كملاذ أخير ضد الفناء:

"لماذا الشعر؟... لأن الوجدَ وجهٌ لا يواريه التراب ولا الممات..."

هنا تستعيد القصيدة أطروحة جمالية وجودية: أن الشعر لا يقول فقط ما لا يُقال، بل هو وجه للحضور في وجه العدم، قافية للخلود في زمن هشّ. فالقصيدة تُعلن أن الشعر ليس قولًا جميلاً، بل وجوداً مقاوِماً للفناء.

خامسًا: البنية التأويلية: من الاستعارة إلى التأويل الهيرمينوطيقي.

تفيض القصيدة باستعارات مركبة: الليل، المطر، الرسائل، الكأس، المدى، البيت، فنجان الغيب، وجميعها تستبطن مدلولات وجودية – كلٌّ منها حاملٌ لبعدٍ تأويلي لا يُفكك إلا عبر قراءة دائرية (هرمينوطيقية)، كما يقترح بول ريكور، حيث تنفتح اللغة على أفق لا نهائي للمعنى.

 "هذه القصيدة كالحياة... تُجيد محو الغيب فيك..."

تقوم القصيدة إذن على الشعر بوصفه حدثاً معرفياً وروحياً، يتكشّف شيئاً فشيئاً، لا كإخبار بل كرؤيا.

سادساً: البُعد الوطني والالتزام الرمزي.

تتسلّل إلى ثنايا قصيدة "قلبٌ بين مزدوجين" إشارات وطنية ورمزية عن الأوطان: "يا دُرَّةَ الأوطانِ يا وجعاً يُراقُ على المشاعر..."

هنا يتجاوز الحديث الشعري الذات ليحتضن الذات الجمعية. ولكن الوطن لا يُذكر مباشرة ككيان سياسي، بل يُستحضر ككناية عن الألم الجمعي والأمل المستتر، كأن الشاعرة تريد إعادة الوطن إلى لغته الشاعرية الأولى، لا بوصفه سلطة بل روحاً.

سابعاً: الصوت الأنثوي المتفرد – بين العاشقة والمُؤوِّلة.

تُظهر القصيدة صوتاً نسائياً متمايزاً، بعيداً عن التكرارات السطحية للخطاب العاطفي النسوي، لتنتج لنا شاعرة-مُؤوِّلة، تمزج بين البوح العاطفي والتفكيك الرمزي، وتخلق توازياً بين الأنوثة والقصيدة، بين الحنين والنصّ.

خاتمة:

قصيدة "قلبٌ بين مزدوجين" للشاعرة إيمان مصاروة ليست مجرد تدفّق وجداني، بل عمل شعريّ معماريّ مكتمل، يُزاوج بين اللغة ككائن حيّ والزمن كأثر. الشعر فيها طريقٌ للنجاة، وتأويلٌ للذات، ودفتر حضور في وجه الغياب. إن إيمان مصاروة تقدّم في هذا النصّ شعراً لا يُقرأ فحسب، بل يُعاش ويُتأمَّل، وتحفر بوعي شعري وجودي في بنية اللغة والكينونة معاً.

***

بقلم: عماد خالد رحمة - برلين

........................

قَلْبٌ بَيْنَ مُزْدَوَجَيْنِ

هُوَ شَائِكُ المَعْنَى كَثِيرُ الأَسْئِلَهْ 

كَهْلٌ إِذَا أَبْصَرْتَهُ 

طِفْلٌ يُعَانِدُ مِقْصَلَهْ....... 

ظِلٌّ تَرَسَّخَ فِي الْغِيَابِ 

وَحَاضِرٌ إِنْ ضَلَّ فِي الدَّرْبِ الْمُسَافِرُ 

يَقْرَأُ الصُّحُفَ الْقَدِيمَةَ وَالْمَقَاهِيَ حِينَ يَهْجُرُهَا الرِّفَاقُ.... 

وَمَا تَبَقَّى مِنْ رَسَائِلَ لَمْ تَصِلْ.......

عَهْدٌ يَخُونُ الصَّمْتَ وَاللَّيْلَ الطَّوِيلَ 

وَمَا يُقَالُ عَلَى الشِّفَاهِ الْمُقْفَلَهْ....... 

**

هُوَ كُلُّ شَيْءٍ حِينَ نُبْصِرُ وَرْدَةً فِي الرِّيحِ يَغْمُرُهَا الْمَطَرْ..... 

هُوَ لَيْلُنَا الْمُنْثُورُ فِي الطُّرُقَاتِ يَسْأَلُ مَنْ هَجَرْ...... 

هُوَ آيَةُ الْمَنْسِيِّ بَيْنَ الْحَاضِرِينَ وَذَاكِرَةٌ 

هُوَ كُلُّ أُغْنِيَةٍ يُعَانِقُهَا الْوَتَرْ..... 

هُوَ صَمْتُنَا الْبَاقِي عَلَى جَسَدِ الْحُرُوفِ..... 

فَوَاصِلُ الْآهَاتِ 

مَا أَخْفَى الْمُحِبُّ عَنِ الْحَبِيبَةِ 

حِينَ غَادَرَهَا لِتَبْقَى نَجْمَةً عَذْرَاءَ قَيَّدَهَا الْقَدَرْ..... 

يَالَيْلُ لَا تُطِلْ الْعِتَابَ وَلَا تُنْادِي قَاتِلِي 

يَالَيْلُ كَمْ كَتَبَتْ عَلَى أَطْرَافِكَ 

الدُّنْيَا وَلَمْ تَقْرَأْ جِرَاحَ السَّابِقِينَ 

أَكُنْتُ وَحْدِي أَكْتُبُ الشِّعْرَ الْمُسَجَّى فَوْقَ أَوْزَانِ الْخَلِيلْ.... 

أَمْشِي إِلَيْكَ تُعيدُنِي الأَيَّامُ مَوَّالًا تُرّدِّدُهُ 

الشِّفَاهُ وَيَحْتَوِيهِ الشَّوْقُ فِي دَرْبِ الْحَنِينْ.... 

يَا شِعْرُ مَنْ أَعْطَاكَ هَذَا السِّحْرَ 

مَنْ أَغْوَاكَ مَنْ أَسْقَاكَ كَأْسَ الْعَاشِقِينْ.... 

يَا شِعْرَ قَلْبِي بَيْتُكَ الْحُرُّ الْمُقَيَّدُ 

بَحْرُكَ الْمُمْتَدُّ فِينَا كَالْمَدَى 

وَجْهُ الْكِنَايَةِ وَالرُّؤَى 

سِحْرُكَ الْمَأْثُورُ فِي الْكَلِمَاتِ وَالتَّأْوِيلْ..... 

*

أَمْضَيْتُ عُمْرِي فِي حُرُوفِ قَصِيدَةٍ 

لَا تَسْتَرِيحُ كَأَنَّهَا الدُّنْيَا تَدُورُ وَلَا تَبُوحُ 

بِمَا تَكُنْ وَلَيْسَ سِرًّا مَا تَرَى..... 

هَذِي الْقَصِيدَةُ كَالْحَيَاةِ تُجِيدُ مَحْوَ الْغَيْبِ فِيكَ 

تُجِيدُ صَقْلَ الصَّمْتِ... تَحْمِلُ لَيْلَهَا شِعْرًا 

وَتُكْمِلُ فِي الْوُجُودِ غِيَابَهَا 

مَنْ ذَا يُبَعْثِرُ فِي الْجَوَابِ الْأَسْئِلَهْ..... 

لِمَاذَا الشِّعْرُ؟؟!... 

لِأَنَّ الْوَجْدَ وَجْهٌ لَا يُوَارِيْهِ التُّرَابُ وَلَا الْمَمَاتْ 

أَعْمَارُنَا ذِكْرَى وَبَيْتُ الشِّعْرِ قَافِيَةُ الْخُلودْ.... 

قِفَا نَبْكِ".. لَقَدْ رَحَلَ الْجَمِيعُ وَلَمْ يَزَلْ بَاقٍ "

يُذَكُّرُنَا بِليْلَى شَوْقُهَا الْمَأْثُورُ فِي قَوْلِ الرُّوَاةْ 

فَحَيَاتُنَا بِالشِّعْرِ تَكْبُرُ لَا تَشِيخُ وَلَا تَمُوتْ.... 

وَحَيَاتُنَا طِفْلُ الْخُلودِ مُدَثَّرٌ بِالْمُعْجِزَاتِ 

حَيَاتُنَا مَا أَضْمَرَتْ أَنْفَاسُنَا مِنْ أَمنِيَاتْ.... 

فَاكْتُبْ لَهَا شِعْرًا يَلِيقُ بِعَاشِقٍ 

وَطَنِي النَّبِيُّ وَكُلُّ شَيْءٍ فِي مَعَانِيهِ أَنَا 

بَيْتَانِ مِنْ صِدْقٍ وَقَافِيَتِي 

تُفَسِّرُ مَا تُوَارِيةِ الْكِنَايَةُ لِلشَّبَابِ 

كَأَنَّهَا أُمٌّ سَتَفْضَحُ سِرَّنَا 

**

سَافَرْتُ فِي مَاضِيكَ يَا قَلْبِي الْجَرِيحْ 

سَافَرْتُ أَقْرَأَ مَا تَعَلَّقَ فِي السَّتَائِرِ 

حَوْلَ كَعْبَتِنَا 

وَنَظَرْتُ حَوْلِي لَا أَرَى إِلَّاكَ 

عَشْرُ قَصَائِدَ وَقَصِيدَتِي فِيكُمْ تُرَتِّلُ فَخْرَهَا 

هَذَا هُوَ الشِّعْرُ الَّذِي حَفِظَ النَّدَى 

وَبَدَا الْمَدَى فِي رَاحَتَيْهِ كَأَنَّهُ الإكسيرُ إِن شِئْتَ الْخُلودْ.... 

فَاحْفَظْ لِنَفْسِكَ شَوْقَهَا وَاكْتُبْ 

فَإِنَّ الْحَرْفَ طِفْلُ الرُّوحِ فِي هَذَا الْوُجُودِ.... 

يَوْمًا سَيَذْكُرُنَا الْمُسَافِرُ لِلطَّرِيقِ 

وَيَنْحَنِي الزَّمَنُ الطَّوِيلُ كَأَنَّهُ الْمُشْتَاقُ لِلذِّكْرَى 

وَلِلْأَحْلَامِ لِلَّنَّجْوَى الَّتِي فِي رَاحَتَيْهِ 

لِفِنْجَانٍ وَحِيدٍ يَقْرَأُ الْغَيْبَ الْمُوَارَى 

أَيُّهَا الْمَاضِي أَتَعْلَمُ مَا غَدِي 

أأنا سَعِيدٌ أَمْ شَقِيٌّ..؟ 

كَتَبَ الَّذِينَ عَرَفْتَهُمْ أَنَّ السَّعَادَةَ أَنْ تُحَاوِلَ مَا تُرِيدُ.. 

كَتَبَ الَّذِينَ قَضَوْا عَلَى يَأْسِ الْعَبِيدْ 

أَنَّ الشُّعُورَ يَدُ الإِلَٰهِ وَأَنَّ صَوْتَ الشِّعْرِ وَحْيٌ مِنْ جَدِيدْ..... 

كَتَبَتْ يَدِي لِلْعَاشِقِينَ 

اقْرَأْ فَأَنْتَ الْمُبْتَدَأُ 

إقْرَأْ وَقُلْ مَا شِئْتَ فِي مَا شِئْتَ 

لَسْتَ الْآنَ وَحْدَكَ يَحْتَوِيكَ الشِّعْرُ قَلْبًا دَافِئَ المَعْنَى 

كَتَبَ الْمُسَافِرُ فِي الْأَثَرْ.... 

اللَّيْلُ أَطْوَلُ مِنْ عِنَاقٍ لَا يُرَى 

وَاللَّيْلُ أَعْمَقُ مِنْ خَيَالٍ فِي الرُّؤَى 

وَاللَّيْلُ شِعْرٌ فِي شِفَاهِ الْمُتْعَبِينْ 

وَخَتَمْتُ فِيكُمْ هَا هُنَا بَعْضِي 

جَوَابًا يَسْتَبِيحُ الأَسْئِلَهْ...... 

قَلْبِي الْمُعَلَّقُ فِي الْحُرُوفِ 

وَفِي الْبِحُورِ وَفِي الْعُيُونِ الْمُسْبَلَةْ 

تَارِيخُ شَوْقٍ لَمْ يَزَلْ يَرْوِي النِّهَايَةَ 

وَالنِّهَايَةُ فِيكَ تَسْأَلُ حَنْظَلَهْ....... 

يَا دُرَّةَ الأَوْطَانِ يَا وَجَعًا يُرَاقُ عَلَى الْمَشَاعِرِ 

هَلْ أَرَاكَ بِكُلِّ وَجْهٍ حُرَّةً تَبْدُو كَآخِرِ زَفْرَةٍ 

فِي الرُّوحِ تُزْهِرُ مُشْرِقَهْ  !!!!.....

***

إِيمَانٌ مُصَارَوَة 

النَّاصِرَة \\ 19-5-2025 

حين يصنع الراوي أقدار القارئ

«نحب الذكريات لأنها لا تتغير ولا تشيخ، بينما نحن نتغيّر ونشيخ»..  (الرواية ص 213)

تقديم: ... وأنا أمسك الظرف بيسراي وأفتحه بيمناي لأخرج ما به، هاجمني هجوم من يدعوني إلى عناق أدبي، عنوان الرواية التي وصلتني هدية من الشاعرة والأديبة والروائية فاتحة مرشيد، «ليلة مع رباب (سيرة سيف الراوي)» الصّادرة في طبعتها الأولى 2025 عن المركز الثقافي للكتاب.

أثارني العنوان وهيّج ما بداخلي من أسئلة مفاتيح محتملة للرواية، ووضعني قبل الإبحار في عوالمها السردية، أمام تساؤلات أولية عِدّة، هذه العتبة المفتوحة على كل التأويلات والغامضة، في الآن نفسه، رغم وُضوح علاماتها الفنية والجمالية التي يفصح عنها الغلاف.

قلّبت الصّفحات 220، وأنا أتساءل موظفاً ما ملكت من معرفة بسيطة في عالم الرواية، قارئاً يشاغب على النقد، لأحلّ لغز عتبة «ليلة مع رباب» التي كشفت لي عن بعض أسرارها، من تكون رباب هذه؟ لماذا ليلة وليست ليالي؟ ومن يكون هذا الذي يحلم بليلة واحدة مع رباب؟  ومن سيف هذا؟ وهل هي سيرة "سيف" أو سيرة القارئ؟

اتّسع العنوان ليفتح للقراءة الأولية الكاشفة تأويلاتها، في محاولة لاقتحام معاقلها وفضّ أسرارها الخفية، وسبر أغوار لغة سردها.

عتبة بمثابة باب قلعة الرواية؛ حيث يتحصّن الباب تحت تفسيرات وتأويلات تتعدّد بتعدّد الفاتحين والمغامرين، والمُتعطّشين لِلَذّة الفتح المبين، حين يقفون عند مداخلها منتشين بنصرهم وهم قد خرجوا بإحساس غير الذي دخلوا به، إحساس يمتزج، لا محالة، باللذة والألم، بالحب والكره، بالقوة والضّعف، بالانتصار والهزيمة وهو قدر الفاتحين.

أول الفتح..

دخلت «ليلة مع رباب» قارئا أتحسّسُ معاقلها وخباياها، وأتلمّسُ طريقا إلى شخوصها وفضاءاتها وأحداثها لأجد لي مكانا، ليس ببعيد، للمراقبة، من دون تدخّل، محاولاً الخروج منها برصيد وافر من الأحاسيس والملاحظات والترميمات والإرشادات، راجيا أن تُضفي على الرواية مُسحة من جميل شغفٍ يُحفّز قرّاء محتملين لولوج عالم هذه الرواية.

«ليلة مع رباب»، رواية تسائل في القارئ جزءاً منه، يظنّه منْسيّاً أو متواريّاً في غياهب النفس والذّاكرة، حين تضعه أمام مرآةٍ تعكس ما يهرب منه مبتعداً عنه وهو ملاحقه، عالم يدفعه، من دون مقدّمات ولا حِيَل سردية، بل ببناء تشكّلت أحداثه، وتلاقت شخوصه وتفاعلت، وانفتحت فضاءاته وتنوّعت في غير ضيق، لتبصُم على عمل متميّز يُنبّه، يُسجّل، يحكي بجرأة آسرة، يكتنه أعماق النّفس عبر خطاب يمتاز بغناه وتنوّعه، رغم بساطة لغته القويّة والمتماسكة، الظاهرة والمخادعة.

من الشيخوخة تنطلق الرواية لتنتهي إليها، «إنها الشيخوخة يا سادة» ، يأخذنا السارد عبر اتفاق مبيّت مع الراوي «سيف»، إلى عالم ينسج خطواته ببطء، لكنه لذيذ، يفتح أمام القارئ فرصا للتأمل والوقوف للسؤال، عن ماضيه وحاضره والآتي من أيامه، وما يعتمل فيها من أحداث، توقف القارئ أمام نفسه وأمام الأسئلة العابرة للنص الروائي. فالراوي يتوجّه بالكلام إلى القارئ، يبرم معه اتفاقاً قبل ولوج عالمه الحكائي، ينسج معه شكلاً من الأُلفة تفتح للسرد آفاقاً يلتئم فيها القارئ بالشخوص والأحداث بحلوها ومرها، بنحسها وسعدها، يُعدّه لتلقي الآتي من الحكي الجميل، فاتحاً افق انتظاره على ما سياتي من الأحداث مستعملاً من الأمثال الشعبية ما يضفي على السرد قوته وتماسكه وسيرورته، ومن الأسئلة ما يفتح لفضوله المعرفي أن يغوص في نفسه عبر الشخوص التي تتحرك داخل النص، مع ترك هوامش وتفاصيل يكتبها القارئ بِصَمْتِه وتأمُّلاته ليُعيد تشكيل بعضها حين يضع نفسه في لُججها.

بحس الطبيبة العارفة بمكامن النفس البشرية وخباياها، وبمبضع الجرّاح تتّبع الطبيبة/الكاتبة دروب النّفس ومجاهلها، تُعرّي ما اختبأ تحت أردية الألم والوجع، أو توارى خلف الحبّ والكره، أو تردّد بين الأمل والرجاء، لتفسح مجالات للبوح والكلام والسؤال، والانخراط في صناعة أقدار هذه النفس وتحمّلها ومكابدتها، فتوقِف القارئ/الإنسان أمام ذاته، تذكّره كي لا ينسى أنّه يَجُرّ رجليه جرّاً إلى نهاية محتومة، يعرفها ويتجاهلها، «عن هذه الذات سأحْكي، وبالتحديد عن نسخة منّي لم تعد موجودة» ، فهل هي نسخة من الراوي «سيف» أو نسخة منّا نحن الذين فتحنا الرواية لنكون جزءاً منها؟ «فالنّاس سوف ينسون ما قلته، وسوف ينسون ما فعلته، لكنّهم أبدا لن ينسوا ما جعلتهم يشعرون به» .

بنفس الجرأة التي اقتحمت بها الكاتبة فاتحة مرشيد عوالم رواياتها السابقة، تحاول أن تجعل من الهمّ والألم الإنساني مصدر إلهام امتاز بتدفّق لغوي سلس، هادئ وجِرّيء، في تناسبٍ مع الأحداث وانتقالاتها لتغوص عبر السؤال الحاضر دائما في متن الحكي، يدعم القارئ ويشدّه شداًّ إلى سيرورته المتوالية. تقتحم دهاليز النفس تُشَرِّحها، تعتصرها بهدوء العارفة المتمكّنة من أدواتها، وبوساطة تداخلٍ لغوي يجمع بين عربية سليمة ومثل عامي دارج على الألسن، وذلك لنقل التفاصيل والأحداث التي تبني المعمار الروائي من مبتدئها إلى منتهاها عبر لغة ثرية ثرّة، سلسة الانقياد، سهلة وقوية في نفس الآن بتواشجها مع الأحداث، تتسع دوائرها لتشمل كل مكونات الرواية، مظللة بالأمثال الشعبية المحفورة في ذاكرة الزمان والنّاس، لتجعل منها سيرة «سيف» والقارئ.

«ليلة مع رباب»، رواية تهمس إلى القارئ حين يواكب الأحداث، يرافق الشخوص، يكتشف الفضاءات، ولا سبيل له إلى التراجع حين يقتحم معاقلها، أو التسرّع وهو يجوب دروبها، لأنّها حتماً ستقوده إلى مصيره المحتوم، المسكوت عنه خوفاً أو كرهاً، وهو يقطع مراحل العمر ساهِياً لاهِياً، لا ينتظر ليصله النداء رغماً عنه، سيصل من دون تبريرٍ لذلك، «وما حاجتي على التبرير لكم؟»  وقد دخلتم القلعة تنشدون الفتح، مواجهة مستفزّة، منبّهة تجثم على القلب ضاغطةً، تعيدنا إلينا، قاطعة مع الذي مضى، مستشرفة الآتي الذي لا نعلم عنه شيئا. بما أنّها علامات قاطعة وقاسية مع الحال والحاضر، تهمس لنكتشف ذواتنا/مآلنا، نبحث عنا بين سطور الحكي ومن خلاله، لتنتقل القراءة إلى انصهار وحلول بذات «سيف الراوي» الذي هو نحن، ومصاحبته عبر توالي الأحداث وتناميها. لعل الكاتبة تتقصّد، في الإعلان عن الفكرة بسهولة ومن دون مقدمات، ليعرف القارئ الذي تحيطه الأسئلة المُنَبِّهة، أنه هو المقصود، من جهة. ومن جهة أخرى، تُمكّنه من مجاورة الشخوص والتّماهي معها ليخرج من الرواية بأقل الأضرار. فالسارد يعلن ذلك بأسئلة مواكبة للسرد، تلك الأسئلة التي تضع القارئ في قلب السردية، تشده إلى المتن لتجعل منه مشاركاً فاعلاً في الأحداث لا متفرّجاً، ومنتبهاً أن هذا الجسد الذي، يَحمل ويُحمل، أدّى مهمّته، وحان الوقت لأن يستريح، «وهل بمقدور القلب أن يُحيي الخراب؟» ؛ ما دام العطّار لا يصلح ما أفسد الزمان. أحداثٌ تُوقف القارئ أمام نفسه متسائلاً في غير بحثٍ عن جوابٍ، ليحسب سنوات عمره التي تمر تباعاً، وأمام خياريْن: إمّا «أن ما لا نستطيع الحديث عنه، ينبغي أن نتجاوزه في صمت» ، نتجاوزه ونمضي إلى الأمام؛ أو نلزم الصّمت والعيش «خارج الزّمن» حسب تعبير إليوت، ليصبح مجرد ذاكرة، «إنّها مأساة الإنسان، تكمن في تمزّقه.. فقلبه يريد الحب، وعقله يسعى للنّجاح، أمّا روحه فلا تحلم إلا بالسّلام" ، "ولكم أن تفسروا كما يحلوا لكم» .

بنفس الجرأة التي تحرّك دواخل القارئ كما في كل رواياتها، تحاول الكاتبة في «ليلة مع رباب»، فتح موضوع «الشيخوخة» بما قبلها وما بعدها، مواربة باب عيادتها النفسية، بحذر من يملك آليات ولوج النفس الإنسانية بتؤدة يصاحبها التّبصّر والحكمة والذّكاء، نبحث عن أنفسنا ونحن نلج مكتشفين أسرارها، فاتحين معاقلها، نبحث عنّا، نستمع إلى ذواتنا أكثر مما نحكي. تستحضر الكاتبة تلك الأمثال الشعبية التي تغذّي المتن الحكائي وتجعله قريبا من القارئ، بما يتّسق مع الأحداث والحوار والشخصيات أيضا، في تآلف متين، صادق ورصين، وتكتب لتهمس إليك، لا لتعطيك خلاصاً، بل تمنحك مرآة تنظر فيها إليك، يقول الراوي: «كل واحد منكم رسم في ذهنه صورة معينة، هي في الحقيقة تعبّر عنه أكثر مما تعبّر عني» .

ما لا تخطئه عين القارئ، هو امتلاك الكاتبة/الطبيبة الخبرة الكافية مع اتساع اطلاعها عن تجاويف النفس البشرية، وما يصنعها كذات تكابد الآلام والأوجاع، والكره والحب، والانتظار والإقدام، في بحث عن الاستقرار النفسي حين تبوح بهواجسها وما يعتمل بداخلها، و«سيف الراوي» نموذجها، وهو استمرار لنهج الكاتبة المتميّز الذي يلج عوالم ودهاليز النفس الإنسانية بإيقاع سردي عبر لغة لا تخجل من قاموسها الحافل بما يقرّب المعنى ويسهل الغوص فيه.

الرواية أكثر من سرد لسيرة «سيف الراوي» الذي وقف أمام شيخوخته ليروي ماضيه وحاضره بحضور القارئ كشاهد أولاً، ومنتظرٍ لمصيرٍ قد يقترب من مصيره، ما منحها رؤيةً تجمع بين الجسد والعقل، بين التفكير والمغامرة، عامرة بالأسئلة التي لا تنتظر أجوبة آنية من القارئ، وتحفر فيه طريقا إلينا، نكتشف عبره أنفسنا التي نظن أننا نفهم دواخلها رغم حملها لنا، بطريقة غير مباشرة، لأن الأدب عند المبدعة فاتحة مرشيد «غير مجامل، قد يجعلنا نلمس الجانب الإنساني في أعماقنا المعتمة، أو يوقظ إنسانيتنا أمام بشاعة وجهنا الآخر» ، لعلّها صدقت، ونظنّها كذلك حين وصلت بالقارئ إلى مشارف النفس المثقلة بالهموم والباحثة عن لحظات العشق الكاسحة للأحزان، «لا تيأس أبداً أيها العزيز، أزهر من جديد، أثبت لهم أم الذّبول خرافة» ، ولأنه «عبر الكتابة نستطيع ترميم الكثير فينا» .

***

ذ. عبد الهادي عبد المطلب

الدار البيضاء:20/05/2025

 

الذكريات وحدها شاهدة على الفلوات التي مررنا بها، كنّا صغارًا نلعب ونلهو في المزارع والنخيل، وكانت الطبيعة تزف الناظرين، الهواء، المطر الذي كان فورة بركان تتفجر داخل العيون العميقة. وبين الحقول نشاهد العصافير بأشكالها وأنواعها، وما بين المرامي نرى تلك السمكات الصغيرة التي نسميها "الحرسون"، ومن هذا وذاك نرى الحيوانات بأنواعها في الحقول ترعى بالعشب الأخضر، منها البقر والحمير، تلك الدابة التي يستخدمها بعض الفلاحين في التنقل والنقل. بل تراها تجرّ عربتها في الأسواق، تقف مع مالكها تنتظر زبونًا عازمًا للذهاب إلى قريته يحمل احتياجات منزله.

لكنّ الحمار يزدان بأنواع الحنّاء التي تصبغ على جسده، فهي شفرة المالك عندما تضيع أو تُسرق. ولك من الجهالة جزء منها، مع شقاوة اليوم، قد ترى حمارًا يمشي لا مالك يملكه، ضائعًا في أرض الله، وقد يقوم بعض الصبية بإيذائه بالعصي والحجارة، فتسمع نهيقه متألمًا من أفعالهم الشنيعة، وهم يهرجون ويضحكون بكلّ فرح وسرور. بقيت تلك الذكريات مؤلمة في حقّ الحمار الذي يحمل أثقالًا ينوء الإنسان بحملها.

تداعت هذه الصور التراثية إلى مخيلتي وأنا أقرأ رواية "صوت الحمير" للروائي أيمن العتوم، وهي رواية لم تتركني كما كنت قبل قراءتها، إذ ما إن أغلقت آخر صفحاتها، حتى وجدتني أبحث عن أعمال أخرى لكاتبها. الرواية غريبة في فكرتها، مدهشة في طرحها، وتنبض بشيءٍ من السخرية الحزينة التي تُشبه صرخة مكتومة. تدور أحداثها حول الشيخ علي، الرجل الذي كان يومًا غارقًا في السكر والإهمال، ثم جرّته خيانة زوجته وعشيقها إلى لحظة دموية دفعته إلى قتل الاثنين. تلك الجريمة فتحت له باب التوبة، فهرب من قريته، وذهب إلى مصر، حيث التحق بالأزهر وتخرّج إمامًا، ثم عاد إلى قريته ليقود الناس إلى الخير، أو هكذا أراد.

لكن عودته لم تكن خاتمة، بل بداية حقيقية لرحلة أخرى، رحلة وجودية، جسّدها شراؤه لحمار لم يكن يعلم أنه يتكلم. أبو صابر، الحمار الذي يخفي لسانًا بشريًا، وعقلًا ناضجًا، وقلبًا صبورًا. لم تكن العلاقة بين الشيخ علي والحمار علاقة مالك بمملوكه، بل تحوّلت إلى علاقة إنسان بمرآته، بظلّه، وربما بضميره. عبر الحوارات التي تنشأ بينهما، نكتشف عالمًا جديدًا، حيث للحمار رأي وحكمة وتأمل وسخرية لاذعة من بني الإنسان.

في مسيرتهم بين القرى، يتعرضان لمواقف عديدة: الذئاب، السقوط في الهضاب، الضياع، والموت المحدق، وكلّ موقف يحمل تجربة عميقة، يكشف فيها أبو صابر للشيخ علي شيئًا من نفسه ومن الحياة. حين يسقط الشيخ في هوة جبلية وتبدو نجاته مستحيلة، يعود الحمار، في لحظة وفاء ويجلب له النجدة من المدينة، في لحظة اختزلت كلّ شيء. لم يكن مجرّد إنقاذ، بل كان إعلانًا صامتًا عن عمق العلاقة، وعن إنسانية هذا الكائن الذي نُسقط عليه كلّ صفات الغباء والبلادة ظلمًا.

الروائي جعل من الحمار حكيمًا، بينما يجعل من الإنسان موضع التساؤل. قلبَ الصورة النمطية، ليجعل القارئ يعيد النظر في تصوراته الثابتة. فالحمار في ثقافتنا الشعبية رمز للغباء والهوان والاستغلال، بينما هو في الحقيقة مخلوق صبور خدوم، لا يشكو ولا يُقدّر. نسج الكاتب روايته بأسلوب يجمع بين السرد التقليدي والحوار الرمزي، بكلمات مشبعة بشاعرية العتوم المعهودة، وبتأملاته التي تغوص في النفس والدين والوجود، أدت إلى أن تجتمع في شخصية القارئ صفات متضادة، فهو يبتسم ويتألم ويغضب ويتأمل، في آنٍ واحد.

الرواية لا تقف عند حدّ التوبة، أو علاقة الشيخ بالحمار، بل تتجاوزها لتمسّ قضايا أكبر، كالعدالة والرحمة، وأهمية الإنصات إلى الآخر، وفكرة من يملك "الحق في الحديث"، ومن تُمنح له سلطة التوجيه. وربما كانت الرواية كلها صرخة في وجه مجتمع يُقصي المختلف، ويصنف الكائنات، ويمنح التفوق لمن يملك الصوت الأعلى، لا العقل الأعمق.

حين أغلقتُ الرواية، قفزت إلى ذهني مرة أخرى تلك المشاهد التراثية التي تداعت حين كنت أستمتع بقراءة الرواية. كانت مجرّد مشاهد عابرة، لكنها اليوم صارت مشاهد دامعة، بعد أن أعطى العتوم صوتًا لمن لا صوت له. لقد قدّم لنا درسًا في الإنصات، وربما في الإنسانية.

***

فؤاد الجشي - السعودية

تُعد رواية النباتية للكاتبة هانغ كانغ Han Kang  واحدة من الأعمال الأدبيىة الآسيوية البارزة في القرن الواحد والعشرين، التي عبّرت عن التمرد الصامت ضد السلطة الاجتماعية والجسدية، نُشرت الرواية لأول مرة عام 2007، باللغة الكورية، وقد نالت شهرة عالمية بعد فوزها بجائزة مان بوكر الدولية عام 2016، وتُرجمت لاحقاً الى عدة لغات، بفضل المترجمة الإنجيليزية التي قامت بها (Deborah Smith)،  تدور الرواية حول تحول بطلتها (يونغ هاي) من إمرأة عادية في المجتمع الكوري المحافظ الى شخصية ترفض تناول اللحوم، بعد ترى في منامها حلماً دموياً، ومن ثم تتجه الى نوع من الانفصال التام عن الجسد والعالم، في رحلة وجودية عميقة وصادمة. ومن خلال هذه القصة الفريدة، تفتح هانغ كانغ الباب أمام قراءات متعددة تتوزع بين الابعاد الفنية والدلالات الرمزية والأدبية.

الأبعاد الفنية في الرواية

الرواية مؤلفة من ثلاثة أجزاء، كل منها يروي من منظور مختلف. فالرواية، تروي من منظور زوج (يونغ هاي) الذي يرى في قرارها نوعاً من الإزعاج والعار الاجتماعي. ثم شخصية الرسام، الذي يروي من وجهة نظر صهرها، وهو فنان يستغلها كمادة لمشروع فني يتجاوز الحدود الأخلاقية. والجزء الثالث، هي أشجار اللهب وتُعد تورية عن شقيقتها الكبرى (إن هاي) التي تحاول إنقاذها من إنهيارها العقلي.

  من الناحية الفنية، تعتمد رواية النباتية على تقنية السرد المجزّء واللغة الشعرية، حيث تروي من خلال ثلاث وجهات نظر مختلفة؛ زوج البطلة، وصهرها، وأختها الكبرى. هذا التعدد في الأصوات السردية لا يضيء فقط على تطور شخصية (يونغ هاي)، بل يعكس أيضاً كيفية رؤية المجتمع لها، ويكشف عن الأنانية واللامبالات التي تحيط بها. (هذا التعدد السردي يُضفي بعداً درامياً ويعكس تحوّل وجهات النظر تجاه (يونغ هاي)، من اللامبالاة الى التشيء ثم الى الشفقة). كما يقول الناقد الأدبي البريطاني (بودي ماكس).

اللغة التي تستخدمها الكاتبة كانغ تتسم بالإقتضاب والشاعرية في آنِ معاً، حيث تُعبر بسلاسة عن العنف الكامن في الحياة اليومية، والمشاعر المعقدة التي تنشأ في العلاقات الإنسانية. أما الصورة الفنية، خاصة تلك المرتبطة بالطبيعة والجسد، تُستخدم بكثافة لتشكل عالم روحي موازِ لعالم الواقع. الرواية لا تُروى من صوت المرأة نفسها، بل من أصوات من حولها كأن العالم لا يسمع صوتها، بل يراقب سقوطها في صمت، فاللغة التي تستخدمها هانغ كانغ، مفعمة بالتوتر والنعومة في آنِ واحد، فالكتابة عندها دقيقة كالشفرة، جافة أحياناً، لكنها قادرة على إختراق النفس.

الأبعاد النفسية: الجنون كتحرر

الرواية تتعمق في البنية النفسية لشخصية (يونغ هاي)، التي تبدأ رحلتها مع قرار التوقف عن أكل اللحوم إثر حلم دموي مرعب، لكن هذا القرار يتحول الى رفض شامل للسلطة الجسدية والاجتماعية. ثم تتدرج حالتها النفسية من العزلة والقلق الى الإنفصال التام عن الذات والواقع، في عملية يمكن قراءتها كتعبير عن إكتئاب حاد أو آضطراب ذهني، لكنها في الوقت ذاته تمثل ثورة صامتة ضد السجن المجتمعي.  من خلال ذلك، تطرح الرواية أسئلة كبرى عن الحرية الفردية والهويات المتمردة، وعن حدود ما يُعتبر (طبيعياً) أو (مقبولاً) في السياق الثقافي الكوري، الذي يميل الى المحافظة والأمتثال.

الحلم الدموي الذي تراه (يونغ هاي)، حيث تصف أشلاء الحيوانات والدم ينزف من فمها، هو نقطة التحوّل التي تدفعها الى رفض تناول اللحوم. كما في نص الرواية: (لقد رأيت دماً، رأيت لحوماً تتفكك، شعرت بأنني كنت آكل نفسي). لكن الأمر لا يتوقف عند هذا القرار الغذائي، بل يتطور الى رغبة في التحول الى نبات. هذا الرفض للجسد البشري ولرغباته يُفسر على أنه نوع من التمرد النفسي ضد القيود الاجتماعية، ولكن أيضاً كتعبير عن ألم عميق دفين. إن الرواية تستدعي في طياتها قراءات فرويدية، حيث يتماهى الكبت الجنسي مع الرفض الغذائي، ويتحول اللاوعي الى أداة مقاومة، وفي النهاية، تنغلق (يونغ هاي) على عالمها، وتغدو كائناً غير إنساني، نباتياً بالمعنى الوجودي. تقول وهي في المصحة: (لا أريد جسداً. لا أحتاج الى لحم. الأشجار لا تُقل دعوها لتعيش).

الدلالات الأدبية والرمزية، الجسد والسلطة والمجتمع

تحمل الرواية رمزية عالية جداً، (فالنباتية هنا ليست فقط موقفاً غذائياُ) بل هي صرخة رمزية ضد العنف، لا سيما العنف الذكوري والإجتماعي،  بدءاً من العنف الغذائي وإنتهاءاً  بالعنف الأسري والمجتمعي، والى الرغبة في التحول الى كائن غير مؤذِ، نقي، بل وحتى نباتي، (بالمعنى الحرفي المجاز). تحاول البطلة أن تتحرر من جسدها، من شهوتها، من كونها كائناً أنثوياً يُستهلك. فالجسد الأنثوي يتحول الى ساحة صراع، حيث يُستغل ويُعاد تشكيله بحسب هوى الآخرين.

تُمثل الرواية أيضاً صراع الفرد مع السلطة الأبوية والبطريركية، فشخصية الزوج، على سبيل المثال، ترى (يونغ هاي) مجرد أداة للراحة الشخصية، لا ككائن مستقل. أما الصهر فيحولها الى مشروع فني مشوّه، في النهاية تنفلت (يونغ هاي) من هذه الشبكة عبر إنهيارها العقلي، وكأن الجنون هو السبيل الوحيد للحرية.  في إسقاط عصري على قضايا المناخ والحقوق الحيوانية، كذلك، تفتح أيضاً تأويلات بيئية، حيث يمكن إعتبار رفض أكل اللحوم إعتراضاً على العنف البيئي والإستهلاكي، في إسقاط عصري على قضايا المناخ والحقوق الحيوانية.

الزوج على سبيل المثال، يعبر عن إحباطه قائلاً: (كل ما أردته منها أن تكون زوجة عادية. إمرأة تطهو لي وتخدمني. ما الذي حصل لها فجأة؟) أما الصهر، فيستخدم جسدها كلوحة جنسية من دون وعيها الكامل، في إسقاط واضح على العنف الجنسي الرمزي والفعلي. وكأن الكاتبة تقول، إن الجسد الأنثوي في الثقافة الذكورية يُستثمر كموضوع لا كذات.

تأثير الرواية وأهميتها الأدبية

من خلال روايتها، تُعيد هانغ كانغ تعريف حدود الرواية الكورية المعاصرة، حيث تدمج بين الحس الفلسفي والطرح النسوي والقلق الوجودي، وتُعد روايتها النباتية من أبرز الامثلة على الرواية التي تتحدى القارئ فكرياً وعاطفياً، فهي تجربة جمالية ونفسية غير مريحة، ولكنها ضرورية لكل من يؤمن بقوة الأدب. كما ألهمت الرواية العديد من الدراسات الأكاديمية التي تناولتها من زوايا ما بعد الإستعمار، النسوية، البيئية، والتحليل النفسي، لتغدو واحدة من أكثر الروايات الكورية دراسةً وتفكيكاً في الغرب.

الفن كتحدِ للواقع والقوالب الفنية

رواية النباتية ليست فقط قصة عن الجنون أو الإنعزال، بل هي عمل أدبي يتحدى القوالب الثقافية والجنسية والاجتماعية، عبر لغة حسية وعميقة، وتصوير نفسي معقّد، تقدم هانغ يانغ نقداً مريراً للمجتمع الحديث، وتطرح تساؤلات وجودية حول معنى الإنسان والحرية والجسد والهوية. في النهاية، تبقى النباتية رواية مفتوحة على التأويل، تلامس القارئ من زوايا متعددة، وتبقى محفورة في الذاكرة كصرخة ناعمة ولكنها مزلزلة ضد كل أنواع القهر الممنهج.

رواية النباتية هي إستعارة كبرى عن التمرد الهادئ ضد السيطرة الذكورية، والخروج من نمط الحياة المستهلكة التي تفرضها المجتمعات الحديثة، وهي أكثر من مجرد رواية  الامتناع عن الطعام أو إنهيار نفسي، إنها عمل أدبي بالغ الرمزية، يُدين العنف البنيوي في المجتمعات المحافظة، ويُجسد صرخة أنثوية في وجه التملك والإستغلال، بأسلوب سردي مميز ولغة تختلط فيها الواقعية والرمزية، فهنا تقدم هانغ كانغ عملاً جديراً بالتأمل والقراءة المتأنية، يُعيد مسآءلة معنى الإنسانية والجسد والحرية.

***

د. عصام البرّام - القاهرة

لعلَّ بيت الداء لدَى أولئك الشُّرَّاح الذين شرحوا شِعر (المتنبِّي) و(أبي تمَّام) أنهم إمَّا نحويُّون، وإمَّا لُغويُّون، أو خليط من أرباب هاتين الصناعتين، وليسوا من النقد في عِيرٍ ولا نَفير. هكذا زعم (ذو القُروح). فأمسكتُ بخِناقه:

ـ وما العيب في ذلك؟

ـ هم لذلك قد اعتادوا على النحو والصَّرف، أي على الانشغال بتحليل الكلمات بناءً، أو بالجمل إعرابًا، ولا كبير شأن لمعظمهم بالأساليب والوحدات البنائيَّة للنصوص. ومن ثَمَّ لا غرابة أن تراهم لا يلتفتون إلى مواقع الأبيات من القصائد إلَّا لمامًا، ولو فعلوا لشَرحتْ لهم القصيدة معظم ما يُرهقون أنفسهم فيه ويُرهقون به القارئ من الشطحات البعيدة. بَيْد أنَّ تلك الشطحات، من جانبٍ آخَر، قد تأتي مقصودةً لذاتها، كما تقدَّم في المساق السابق؛ للمناكفة، والمغالبة، وإظهار التفوُّق، وأنَّ الشارح الآخَر لا يُقبَل منه في المسألة صَرْفٌ ولا عَدْل، كما يقال. ولذا سيتجلَّى لك، إنْ وازنتَ، أنَّ شرح (أبي العلاء المَعَرِّي) لشِعر (أبي الطَّيِّب) هو أقرب إلى المعنى الشِّعري من شروح (ابن جِنِّي)، و(الواحدي)، و(العكبري)، وأضرابهم،  ممَّن مَلأوا الدُّنيا وشغلوا النَّاس في غير طائل.

ـ في المساق السابق حلَّلتَ شرحهم لبعض أبيات (أبي الطَّيِّب). هل من نماذج أخرى؟

ـ خذ مثالًا آخَر على هذا ممَّا جاء في شرحهم بيت (أبي تمَّام)، عن مَلِك الرُّوم (توفلس)، في فتح (عمُّوريَّة):

وَلَّى وقَد أَلجَمَ الخَطِّيُّ مَنطِقَهُ  :::  بِسَكْتَةٍ تَحتَها الأَحشاءُ في صَخَبِ

ذلك أنَّه لمَّا شرحَ (الصُّولي، -335هـ)(1) البيت بقوله: «مِن خوف الرِّماح لا يُطيق الكلام، ولكن أحشاءه تصطخب. يريد: أنَّ الفَزَع ربما أحدثَ صاحبه، وتحرَّكت أرياح بطنه»، تعقَّبه (ابن المستوفي، ـ637هـ)(2) قائلًا: «لو قطع فسره [كذا!] عند قوله «تصطخب» أتى بالمعنى، أمَّا الباقي، فزيادة قبيحة، لم يُرِدها أبو تمَّام، ولا دلَّ عليها شِعره.» ثمَّ أردف: «ولمَّا فرغتُ من نقل ذلك، وقعَ إليَّ كتاب المرزوقي، الذي سمَّاه «كتاب الانتصار من ظَلَمة أبي تمَّام»، فوجدته قال، عُقيب بيت أبي تمَّام هذا: «ذكرَ بعضهم أنه وَلَّى هذا المنهزم وهو من خوف الرِّماح لا يطيق الكلام»... قال المرزوقي: «هذا لفظه في تفسير هذا البيت... ولو تأمَّل هذا المُفَسِّر أدنَى تأمُّل لكفَى مؤونة هذا الغوص البعيد. والوجه أن يكون المعنى: ألجَمَه الخوفُ بلجامٍ من السكون [كذا! ولعلَّ الصواب: السكوت] لكن قَلْبه يَجِب وأحشاؤه تَخفِق، حتى صار لهما كالجَلَبَة، وهذا معلوم من الخائفين، حتى ربما يسمع صوت جوانحهم من لاقاهم على خُطَى».»  وكان (الخطيب التبريزي، ـ502هـ)(3) قد تبِع (المرزوقي) أيضًا في انتقاد شرح الصُّولي، قائلًا: «لا يُلتفت إلى ما ذُكِر من معناه سِوَى هذا.»  يقصد أنه لا يُلتفت إلى شرح الصُّولي.  والحقُّ أنَّ شرح الصُّولي وارد، ولا يستدعي كلَّ ذلك الاستنكار الغريب. علاوة على أنَّه من العجيب قول ابن المستوفي: إنَّ ما ذكره الصُّولي «زيادة قبيحة لم يُرِدها أبو تمَّام، ولا دلَّ عليها شِعره!» فمَن قال لك، يا ابن المستوفي، إنَّ أبا تمَّام كان في سياق مدح (توفلس) مَلِك (الرُّوم)؟! لقد قامت الأبيات على هجاء مَلِك الرُّوم وتقبيح صورته. فما الغريب أن يقول فيه كلامًا هجائيًّا قبيحًا، مقابل ما كان يقوله في (المعتصم) من كلام مدحيٍّ جميل؟!

ـ لكن (ابن المستوفي) لم يكن نحويًّا، بل كان أديبًا ومؤرِّخًا!

ـ ليس الإشكال في النحو عينه، بل في طغيان الحِرفة العِلْميَّة الصارمة على ذوق صاحبها في فهم النصوص. وقد كان صاحبك وريث ذلك من الاشتغال بالحديث النبوي، وعلومه، مع اشتغاله بالنحو واللُّغة والعَروض والقوافي، وعِلم الأنساب. والأغرب في اعتراضه السابق كأنَّه- ومَن قال بقوله- لم يسمعوا، مثلًا، بالحديث النبوي عن إدبار الشيطان- وحاله كحال (توفلس)- إذا نُودي إلى الصَّلاة، حتَّى لا يَسمع التَّأذين!(4)  فمن غير المستغرب أن يكون الشاعر قد نظر إلى معنى ذلك الحديث، تشبيهًا لتوفلس في خوفه وإدباره بالشيطان، في صورته الواردة في الحديث، أو نظرَ إلى غير الحديث ممَّا هو من مألوف كلام الناس عن حالات الخوف والفِرار وما ينتاب صاحبهما. أمَّا ما قاله (المرزوقي، -421هـ) حول مؤونة الغوص البعيد على المعاني، فلا معنى له؛ فأبو تمَّام نفسه من أرباب الغوص البعيد على المعاني. على الرغم من أنَّ معنى بيته واضح، لا غوص فيه، لا في معناه ولا في شرحه، ومغزاه مفهوم لكلِّ ذي قراءة، لولا تلك المماحكات التي أشرنا إليها بين الشُّرَّاح، التي كانت تَأُزُّ كلَّ واحدٍ إلى التماس المآخذ في شرح الآخَر ومواطن النقد فيه.

كما يبدو من المناكفة أيضًا اعتراضُ (ابن المستوفي) على شرح (التبريزي) بيت (أبي الطَّيِّب):

أَنساعُها مَمغوطَةٌ وخِفافُها   :::   مَنكُوحَةٌ وطَريقُها عَذراءُ

فلمَّا قال التبريزي(5) في شرح البيت: «جعل خِفافها منكوحةً لأنها دامية، فكأنها العذراء التي قد نُكِحت، وجعل الطريق عذراء لأنها لم تُسلَك قَبل. وحَسُن المعنى لأنه جعل الطريق عذراء؛ لأنها لم تُسْلَك. العذراء: هي التي جرت العادة بأن تُنكَح. وهي هنا ناكحة لأنها التي أدمت الخفاف.» هَبَّ (ابن المستوفي)(6)، قائلًا: «قال المبارك بن أحمد: إنَّما تنكِح خفافَها غِلَظُ الأرض والحصَى. فالناكح غير الطريق. والطريق عذراء لأنها لم تُسْلَك.» فأفسدَ بهذا معنى الشاعر، وأفسد التفاتَ التبريزي في شرحه، بكلامه هذا الذي لا معنى له. فنحن نعلم أنَّ الذي نكحَ خفافَ الناقة غِلَظُ الأرض والحصَى، ولكن أين كان هذا الغِلَظُ والحصى؟ أليسا في الطريق التي يصوِّرها الشاعر، ويصوِّر المفارقة بين عُذريَّتها وما تفعله بأخفاف الناقة؟! وهو ما التفتَ إليه التبريزي. فكيف أصبح «الناكح غير الطريق»؟!

إنَّما هي المناكفة بين الشُّرَّاح، إذن؛ لأنَّ (ابن المستوفي) لم يوضح لنا سبب اعتراضه، إلَّا بما هو سبب لعدم الاعتراض أصلًا؛ بل بما هو- فضلًا عن خوائه من المعنى- مسطِّح للشِّعر!

وكذا تجد في كلامه على أبيات (المتنبِّي):

بَينــي وبَيــنَ أَبــي عَلِــيٍّ مِثلُــهُ   :::   شُمُّ الجِبـــالِ ومِثلَهُـــنَّ رَجـــاءُ

وعِقابُ لُبنـــانٍ وكَيــفَ بِقَطعِهـا   :::   وهُوَ الشِّـــتاءُ وصَـــيفُهُنَّ شِـتاءُ

لَبَـسَ الثُّلوجُ بِهــا عَلَـيَّ مَسـالِكي   :::   فكَأَنَّهـــــا بِبَياضِــــها سَـــوداءُ

وكَــذا الكَريــمُ إِذا أَقــامَ بِبَـلـدَةٍ   :::   ســالَ النُّضــارُ بِهــا وقامَ الـمـاءُ

جَمَـدَ القِطـارُ ولَو رَأَتـهُ كَمـا تَـرَى   :::   بُهِتَــت فَلَــمْ تَتَبَجَّـــسِ الأَنــواءُ

فبعد أن ساق اختلافات الشُّراح- ولاسيما حول البيت الأخير، لما فيه من تقديم وتأخير- ولمَّا لم يجد ما يعترض به، قال: «ولو أعاد ذِكرَ الممدوح أو ضميره بعد قوله «وكذا»، كان أجود، ولم يحتجْ إلى هذا التأويل.»(7) ونقول: إنَّ (ابن المستوفي) لو سكتَ هنا، لكان أجود، فلم يكن في حاجةٍ إلى مثل هذا التعليق البارد كعِقاب (لُبنان)! فمَن قال إنَّ إعادة ذكر الممدوح أو ضميره بعد قول الشاعر «وكذا» كان أجود؟! لقد أراد الشاعر أن يضرب هذا مثلًا لكلِّ كريم، ولم يُرِد أن يقيِّده بالممدوح. وهذا هو الأجود. أي «وكذا حال كلِّ كريم، إذا أقام ببلدٍ سال النضار فيه، أي الذَّهب، وجَمَدَ الماء.» ثمَّ لولا احتمال الشِّعر لتعدُّد القراءات والتأويلات، لَما كان شِعرًا، بل إخبارًا وتقريرًا، ولَما نام أبو الطيِّب ملء جفونه عن شوارده، ليسهر الخلق جرَّاه ويختصموا! ومن هنا فإنَّ كلام ابن المستوفي غير صحيح، لا من الوجهة الشِّعريَّة، ولا من الوجهة النقديَّة.

[وللحديث بقية].

***

أ. د. عبد الله بن أحمد الفَيفي

..........................

(1)  (د.ت)، شرح الصُّولي لديوان أبي تمَّام، دراسة وتحقيق: خلف رشيد نعمان، (بغداد: وزارة الإعلام)،  1: 201. 

(2)  (1989)، النِّظام في شرح شِعر المتنبِّي وأبي تمَّام، دراسة وتحقيق: خلف رشيد نعمان، (بغداد: وزارة الثقافة والإعلام)، 2: 56- 57.

(3)  (1987)، ديوان أبي تمَّام بشرح الخطيب التبريزي، تحقيق: محمَّد عبده عَزَّام، (القاهرة: دار المعارف)، 1: 67.

(4)  يُنظَر: البخاري، (1981)، صحيح البخاري، عناية: مصطفى ديب البُغا، (دمشق/ بيروت: دار القلم)، (الحديث 583)، 1: 220.

(5)  (2000)، الموضح في شرح شِعر أبي الطَّيِّب المتنبِّي، دراسة وتحقيق: خلف رشيد نعمان، (بغداد: دار الشؤون الثقافيَّة العامَّة)، 1: 146.

(6)  ابن المستوفي، 1: 398.

(7)  م.ن، 1: 406.

العنوان مدونات محظورة: مفكرة او ساحة طرح آراء شخصية لنقل الاخبار او التعبير عن الافكار، هذه المقدمة تدفعنا الى مدخل تفكيك سرد الرواية التي كتبها (طارق الكناني) من ثلاثة فصول كلها مدونات محظورة كتبها بأسلوب شيق وكلمات شفافة ذاكراً في البدء جريمة قتل لشخص يعمل في شركة نشاط تجاري قتل من قبل امرأة ترجلت من سيارة مرسيدس حمراء اللون موديل حديث، قتلته في مكتبه عند سماع صوت اطلاق نار من قبل شخص شاهد الحادث قتل هو الآخر وسجلت الجريمتان ضد مجهول.

(كانت هذه السطور جزءاً من افادة الموظف التي نقلها لي صديقي ضابط التحقيق، فالمسكين لم يصل الى بيته بعد تدوين افادته في ليلتها حيث مات في حادث دهس وهو في طريقه الى موقف السيارات ولم يعرف الجاني، فالعجلة التي دهسته كانت بلا ارقام وتحمل عدة هوائيات للاتصالات (اريل) وسوداء اللون، اما صديقي الضابط فيقول في اليوم التالي تم غلق المحضر وقيدت الحادثتان ضد مجهول) ص9

احدى المدونات وصول العمالة المصرية الى العراق والتي بلغت في احدى السنوات ما يزيد على ثمانية ملايين مصري حسب ما دون في الرواية هذا الكم من الاشخاص يحولون عملة الدولار الى بلدهم، البعض منهم (بلطكية) بلهجتهم قاموا بإعمال دونية متاجرة بالمخدرات، قسم لاقى جزاءه والبعض استفاد من هذه الاموال وابتعد عن اصحاب السوء.. كان العراق ساحة كبيرة لكل الاعمال التي تقام بها المجموعات على جميع اشكالها كون العراق والعراقيون منشغلون في حرب الثمان سنوات.. ذكرها الروائي (طارق الكناني) بالتفاصيل لأنها واقع حال.

(ففي كل مفصل من مفاصل الحياة تجد المصريين، سمعت من اصدقائي ان الكثير من اصدقائنا قد تزوجوا من العراقيات وخصوصاً زوجات الشهداء، لقد صار الزواج منهن مكسباً كبيرا، حيث تستلم التعويضات الكبيرة من سيارة وراتب مضاعف ودار سكن والكثير من الامتيازات والبنك يمنح العراقي الذي ينوي الزواج من امرأة شهيد قرض ستة آلاف دينار اي ما يعادل نحو عشرين الف دولار). ص40

الرواية فيها دوافع جنسية.. محشوة بالجنس او الايحاءات الجنسية في صفات كثيرة اذكر منها ص72 ص74 ص92 ص119....

(أ حسست بحرارة كفه وهو يضعها على عجيزتي التي بدت أكبر حجما من ذي قبل، فقد كنت واقفة امام المرآة حين وقف هو خافي وبدأ يداعب صدري ويضغط على حلمتي مما أثارني ولم أعد اسيطر على نفسي، فبين نشوة الشهوة والجنس تعالى لهاثي وبدأنا نتسابق أينا أكثر لهاثا حين مددت يدي على موضعه الحساس) ي72 

الرواية مشحونة بعدد كبير من الاشخاص او الاصوات الكثيرة تكشف لنا الاحداث من خلال حركتها بالاعتماد على الحوار الذي يقال عنه بانه نكهة السرد من اجل التوتر كعمل او صيغة لشد المتلقي مثل: منى / سهى / زهدي المصري / مدير البنك / حامد القصاب / شامل / مهند / منال / ناهض / رعد /ساهرة الى اخره... هذا الكم من الاصوات اشتركوا في بناء السرد.. في حوار او علاقات او حوادث، تجد في الرواية الغدر بين الاشخاص ومضاجعات وتصفية للعلاقات الجنسية مثال ذلك من قبل (منال) وصديقها الذي غدر به (حامد) الذي قام بقتل احد الثلاثة الذين ضاجعوه والذين جلبهم زوج (منال) الغير شرعي كونه من رجال الامن تزوجها بدون علم دائرته .. زواج غير معلن لأنه تزوجها بدون موافقة امنية..

(تورطت في أحد الايام مع شابة كنت الاحقها، وكانت ترفضني بشدة، ولكني فوجئت بها في أحد الايام تدعوني الى بيتها، صدقتها وذهبت للموعد وعندما تعريت تماما استعدادا لممارسة الجنس معها فوجئت بصديقها مفوض الامن وثلاثة من رفاقه يقفون فوق راسي، لقد اشبعوني ضربا ولم يتركوني حتى مارسوا الجنس معي جميعهم وصوروني بكاميرا السوني خاصتهم وانت بهذا الوضع وتركوني يومها غير قادر على السير، بل كنت انزف دما من عورتي) ص91

الاحداث تتسارع في الرواية، الشخص الذي اغتصب من قبل الثلاثة قام بقتل احداهم انتقاما مما جعل زوج (منال) يدخل الرعب في قلبه لأنه عرف بانها تصفية حساب من قبل الشخص الذي اغتصبوه والذي قام بقتل (منال) التي غدرت به، والدها اصيب بالشلل عند سماع مقتل ابنته اما زوجها الغير شرعي لا يستطيع ان يبلغ بانها زوجته خوفا من طرده من وظيفته كونه رجل امن..

الفصل الثاني دخول الامريكان الى بعض مناطق العراق مثل سدة الهندية عن طريق المسيب، حصل ارتباك بين الناس وحديث عن البنك وحراسته من قبل اصحاب العمارة خوفا من الفرهود، كما حدث عام 1991 والحديث عن العائدين على ظهر الدبابات الامريكية والاحزاب الاسلامية.

(فهناك العائدون على ظهور الدبابات الامريكية، وهناك العائدون بمرافقة الحرس الايراني من الاحزاب الاسلامية التي اتخذت من ايران ملجأ لها، وهناك طبقة ثالثة ظهرت وهي طبقة العمائم التي تفشت بشكل غريب خلال ايام حتى سيطرت على مقاليد الامور، وهؤلاء من اهل البلد واكثرهم من الرعاع ومن السراق ولا علاقة لهم بالدين) ص172

الفصل الثالث انتقل بنا الراوي الى مدونات وحكايات عن الاشخاص مثل (منى) وما مرت به من صعوبات الحياة و(انيسة) والحديث عن حياتها اليومية وما تقوم به من تصرفات مستذكرا سهى وساهرة وبطة وام صلاح ومنال وبشرى وكذلك مدير البنك وساهرة ومهند والحديث عن الهجرة الى اسبانيا وامريكا..

(ـ هل صحيح انك ستهاجرين الى امريكا؟

ـ ما هذا السؤال المفاجئ ومن اخبرك بذلك؟

ـ لقد غبت عن الدوام ثلاثة ايام فسألتهم فقيل لي انها اكملت متطلبات الهجرة وستغادر الى امريكا هل هذا صحيح؟

ــ هو فيه الكثير من الصحة، فأنا أكملت مستلزمات الهجرة والموافقات الرسمية ولكني لم احدد اليوم الذي سأسافر فيه ولماذا اصلا هذه الهجرة؟) ص278

لتنتهي الرواية بهذه الكلمات الموجعة:

(فكل هؤلاء المجانين انما يجذبهم الى هذا السوق صدق المشاعر التي يحصل عليها هؤلاء من أم قد غاب عنها وليدها وهي ترجو عودته، فهي تتصدق عليهم رجاء رحمته تعالى او صدقة من مريض يرجو الشفاء من مرض عضال وهو يعرف انه راحل لا محالة ومع ذلك هو يبذل من الصدقات لهؤلاء المجانين والشحاذين متأملا ان يحصل على الطمأنينة الابدية) 

 اشتغل الروائي (طارق الكناني) بسرد جميل حكائي موجع ذاكرا وقائع التاريخ العراقي من حروب ومظاهر وطقوس انسانية من الماضي والترميز مستذكرا حرب الثمان سنوات والشعبانية والتحولات السياسية عن حكايات السلطة فكان توظيف الروائي لها من خلال ابطاله وثقافتهم من رؤية فكرية وهموم العصر ومعالجة الزمن الماضي في الرواية مع الحاضر يجعل السرد او التأليف ابداعي مؤثر في نفوس القراء ..

يذكر الرواية من اصدار مؤسسة المثقف، سيدني – أستراليا، ودار العارف للمطبوعات بيروت / لبنان عام 2024 بواقع 308 صفحة من الحجم المتوسط..

**** 

أياد خضير الشمري

 

 

تجليات الفردانية والهوية والإيمان في مرآة السرد

إن رواية "قيامة الخفافيش" هي عمل أدبي يغوص عميقًا في تعقيدات النفس البشرية والمجتمع. تنسج الرواية، عبر شخصية "سلمان" المحورية، صراعًا مريرًا بين الفردانية التواقة للتحرر من جانب، والانتماء الجمعي بضغوطه من جانب آخر. وهي تستكشف أزمة الهوية في عالم تتصارع فيه الموروثات مع العقلانية. وبجرأة لافتة، تطرح الرواية تساؤلات حول المسلمات الدينية، داعيةً إلى التسامح الفكري عبر تعدد الأصوات. ورغم نضج "سلمان" الثقافي، تكشف الرواية عن هشاشته النفسية والاجتماعية، تاركةً للقارئ مساحة للتأويل. كل ذلك ضمن بنية سردية محكمة، تستخدم الزمن الدائري لتعميق الرمزية، وتبلغ ذروتها في جدل مفتوح حول النسوية والذكورية، مُظهرةً قدرة الكاتب على إثارة الأسئلة الكبرى دون فرض إجابات نهائية، خاصةً حين يتعلق الأمر بتوازنات المجتمع وقضاياه الشائكة.

في هذا المقال، نتناول رواية "قيامة الخفافيش" من بعض الزوايا المهمة، وخصوصا تلك المرتبطة بالأفكار المطروحة في الرواية:

الغلاف:

يُعدّ غلاف الكتاب بمثابة العتبة البصرية الأولى التي يلج منها القارئ إلى عالم النص، بل إنه قد يختزل في رمزيته أعمق رؤى العمل. وفي رواية "قيامة الخفافيش"، يبدو الغلاف الحالي -في رأيي- بعيدًا كل البعد عن عمقها الفكري، كما أن العنوان ذاته قد لا يُسعف القارئ في استكشاف المكنونات العميقة والمقاصد التي تسعى الرواية لإيصالها.

جدلية الفردانية والانتماء: صراع الذات في مواجهة القطيع:

تغوص الرواية في فصولها لاستكشاف الصراع الأزلي بين تطلعات الفرد وآصرة الانتماء الاجتماعي، أو ما يُصطلح عليه حديثًا بجدلية "الفردانية" و"الجمعانية". يتجسد هذا الصراع في سعي الفرد لتأصيل حريته في الحياة والتعبير والاعتقاد، مقابل غريزة الانتماء وما تفرضه من تنازلات لضمان الأمن والتآزر.

يُعدّ اشمئزاز "سلمان" من قريته، وما يعتريها من زهوٍ مُصطنعٍ بالقيم -بينما يُدرك هو زيفها-، تجسيدًا لهذا الصراع الذي لا يهدأ، إلا حين تبقى الفردانية ضمن حدودها المقبولة، حفظًا لتماسك النسيج المجتمعي.

وعبر المقارنة بين القرية والمدينة، يكشف الكاتب عن التباينات الثقافية والاجتماعية التي تُسهم في تشكيل الفروقات الفردية والامتيازات الاقتصادية والعلمية، حيث تمثل القرية عالم القيم المنغلقة، بينما ترمز المدينة إلى المجتمع المفتوح بدلالاته الثقافية المتعددة.

الهوية وتجلياتها: بحث "سلمان" عن الذات في عالم متناقض:

يُطلّ موضوع الهوية برأسه بقوة في نسيج الرواية؛ فالهوية الإنسانية تتشكل من منظومة الأفكار والقيم والمبادئ الأخلاقية، وما ينبثق عنها من سلوكيات، ويُصبح تجسيدُ هذه الهوية ضرورةً حياتيةً للفرد.

نجد شخصية "سلمان"، ببنيتها الثقافية، تسعى للتحرر من قيود مجتمعها، وربما -حتى لا نُجحف بحق الكاتب- أُريدَ لـ"سلمان" أن يبقى خارج نطاق "الكياسة الاجتماعية" التقليدية، تلك التي تفرض على الفرد المختلف موازنة دقيقة بين إعلان هويته والتصالح مع الذات، وبين إخفائها لكسب ود الآخرين. تتجلى صراعات الهوية لدى "سلمان" في تلك التخيلات الذهنية التي تتنازعه بين شخصيات مُقدسة يرفضها عقله العلمي، وكأنه يعيش صراعًا داخليًا بين الموروث والواقع، صراعًا قديمًا يتجدد في خلايا دماغه.

ولم يقتصر الأمر على ذلك، بل نجح الكاتب في تضمين الرواية هويات متعددة ومتنوعة عبر شخصيات متضادة ومتباينة مع الشخصية المحورية، مما يُثري النص معرفيًا ويجذب القارئ إلى حوارات دينية وفلسفية، حيث يقف كلٌّ عند حدود هويته. هذا التعدد يُتيح للكاتب أيضًا استعراض مخزونه المعرفي والثقافي والفلسفي، دون إلزام بالانتصار لرأي بعينه، وإن كان من المقبول أن يميل إلى وجهة نظر يراها جديرة بالاهتمام.

الخروج من صندوق الإيمان: جرأة الطرح وعمق المعالجة:

تتناول الرواية، بجرأة لافتة، قضيةً محوريةً قلّما تُطرق في فضائنا الأدبي، وهي اهتزاز اليقين الديني لدى "الشخصية الرئيسية". فالدين، الذي يُعدّ من المسلمات في مجتمعاتنا العربية الإسلامية، يُصبح موضع تساؤل. إن تقديم شخصية محورية "لا دينية" هو خيار عميق وجريء، قد يُصنّف العمل ضمن "الأدب المثير للجدل"، ويُدخل الكاتب في مواجهة مع المجتمع، بعد أن كانت مسودة الرواية حبيسة قراره. وهذا يعني ترقّب عواقب قد تكون وخيمة. ومع ذلك، يبدو أن الكاتب قد نجح في طرح أفكار دينية متنوعة ومتضادة، بهدف تنبيه القارئ إلى طبيعة الاختلاف في وجهات النظر، ودعوة المجتمعات للابتعاد عن التعصب الأعمى. فلا غضاضة في أن تحمل الرواية رسائل أخلاقية ومعرفية، سواء بطريقة مباشرة أو رمزية، كما فعل الكاتب هنا.

البنية النفسية والاجتماعية للشخصية المحورية: تناقضات وانعكاسات:

تُترك البنية النفسية والاجتماعية للشخصية الرئيسية لتتشكل في وعي القارئ أكثر مما يُقررها الكاتب بشكل مُسبق؛ فالقارئ ذو الوعي والفهم العميق قد يرى في شخصية "سلمان" وعيًا متدنيًا وثقة مهزوزة، وافتقارًا لآليات التوازن النفسي. بينما قارئ آخر، ربما يجد في هذه البنية انعكاسًا لتجربته الخاصة، فيتعاطف معها ويُبرر انفعالاتها.

ومن جهة أخرى، يكشف النص عن تناقض لافت في شخصية "سلمان": فبينما تُظهر حواراته حول الثقافة والكتب نضجًا فكريًا يتطلب وعيًا واتزانًا، تكشف تفاعلاته الاجتماعية عن بنية غير ناضجة، متسرعة في ردود أفعالها، تفتقر إلى فهم دقيق لمن حولها، ولا تعكس ثقافتها المزعومة. هذا يشير إلى اضطراب بنيوي في الشخصية، إما أن الكاتب لم يلتفت إليه، أو أنه تعمّد عكس جانب من شخصيته الحقيقية. ويُستشف من ذلك أن نضجه الثقافي قد سبق نضجه النفسي والاجتماعي، مما انعكس على سلوكياته.

نسيج النص السردي: بين الزمن الدائري وذروة الجدل:

تتألق الرواية بهيكل سردي متوازن، حيث تأتي البدايات جاذبة، مُفعمة بأحداث مثيرة وغامضة تستدعي التفكيك. ويلعب مفهوم "الخفافيش" دورًا محوريًا في هذا، بما يحمله من تأويلات متعددة. ومع تصاعد الأحداث، يزداد المفهوم غموضًا، فيتصاعد معه التشويق، الذي يُقدمه الكاتب بجرعات محسوبة عبر توظيف تقنية "الاسترجاع" (فلاش باك) أو الزمن الدائري، حيث لا يسير الزمن خطيًا من ماضٍ إلى حاضر ومستقبل، بل في حركة دائرية تُعيد الشخصيات والأحداث، وكأن الواقع كتاب يُمكننا تصفح صفحاته السابقة.

هذه البنية الزمنية الدائرية تُضفي رمزية على الأحداث التي تتكرر دون تغييرات جذرية، فالواقع يُعيد إنتاج نفسه، والشخصيات حبيسة دائرة سببية مُحكمة، مما يمنح النص تماسكه وتناسقه، فالأحداث التي تبدو عرضية سرعان ما يتكشّف موقعها وأهميتها. وفي ذروة السرد، تنفجر الأحداث كبركان ثائر، مُفجرةً جدلًا عميقًا حول قضايا النسوية والذكورية، بين مجتمعات رسّخت الذكورية كأيديولوجية دينية واجتماعية، وتيار مُضاد يسعى لإعادة التوازن الطبيعي بين الجنسين، لكنه، في نظر الكاتب ربما، أخطأ في وسائله وأساليبه، فبدا كخفاش ليل مُخيف، يُهدد بتخريب الواقع الاجتماعي بدلاً من إرساء العدل. ويبدو أن الكاتب تعمّد عدم حسم هذه القضية الجدلية، تاركًا نهاياتها مفتوحة.

***

أكبر مدن

14 مايو 2025

 

شكل صدور رواية "مدام بوفاري" سنة 1856 للأديب الفرنسي غوستاف فلوبير حدثا أدبيا بكل المقاييس. سواء من حيث المنعطف الذي دشنه بالقطيعة مع الحركة الرومانسية السائدة، أو من حيث ردود الأفعال التي تراوحت بين الترحيب والتنديد، لتنتهي بالمحاكمة.

كان القرن التاسع عشر قرن الرواية العظيمة، ففيه تفجرت المواهب في كافة الاتجاهات، بين الفانتازيا والرومانسية القائمة على تمجيد الذات واللذات، ثم الخيال العلمي وقصص الرعب. وحتى تكتمل الدائرة كان لابد أن يتطور شكل للكتابة يدور حول ما يحدث لنا في الحياة فعلا. فما يحدث في كل زمان يشكل في الحقيقة مادة خصبة لكتابة عشرات الروايات، والسؤال المتبقي هو: كيف نكتبه؟

إن الكتابة عن الحياة والواقع ليست مجرد سرد للأحداث أو ادعاء تصوير الأشخاص على حقيقتهم، لأن الأمر يتطلب قدرة على الخلق الفني وتنسيق مجمل تصورات الكاتب عن الحياة الإنسانية. لذا قبل أن يشرع فلوبير في كتابة رائعته "مدام بوفاري" كان قد بذل سعيا حثيثا لمحاولة إبداع قصة عاطفية من طراز جديد، وإيجاد موطئ قدم داخل المدرسة الرومانسية التي ضمت آنذاك عباقرة أبرزهم فكتور هوغو، غير أنه قرر العدول عن ذلك عملاً بنصيحة صديقه الناقد بوليه، الذي قذف بمخطوطة قصة "البائسون " من النافذة صائحا:"

- دعها لجامعي القمامة فإنها لا تصلح حتى لهذا. يجب أن تعدل تماما عن كتابة أي موضوع غامض ليس في ذهنك صورة واضحة عنه. ألم تدرك يا غوستاف أنك عاشق للحوار العاطفي ذي الطابع الغنائي؟ يجب أن تعدل عن هذا اللون على الفور. خذ موضوعا من الواقع، من الأحداث التي تقع لكافة الطبقات الاجتماعية، ثم اكتب دون تكلف!"

إن مشكلة أغلب أدبائنا الشباب أنهم ينظرون بعين الريبة لهذا النمط من النقد القاسي. البعض يعتبره تضييقا على حرية الخلق والإبداع، في حين يعدُه آخرون سلطوية تسعى للحفاظ على الوضع الراهن، والإبقاء على أقلام معدودة في الواجهة. لكن من حسن حظ فلوبير أنه حظي بمثل هذا الناقد، فحديثه عن الكتابة دون تكلف هو برأيي شعلة فجرت مكنونات الإبداع لدى فلوبير، حين قرر أن يجعل من الأحداث التي جرت بقريته موضوعا لعمل أدبي واقعي.

في سنة 1936 صدر كتاب بعنوان (مدام بوفاري، كتابات أولية ومقاطع غير منشورة) لصاحب مكتبة اسمه غابرييل لولو؛ كانت بحوزته مسودات تكشف جوهر العمل الأدبي الذي اشتغل عليه فلوبير. ولعل أهم ما نستخلصه من مخطوطات أي عمل أدبي خالد هو أن الأفكار العظيمة لا تنشأ من فراغ، وإنما تمد جذورها العميقة في أرض الحقيقة. ففي بيته المتواضع بالريف الفرنسي كان فلوبير يتابع عن كثب وقائع حياة طائشة للسيدة ديلفين زوجة الدكتور جورج ديلمار. فتاة برجوازية مولعة بالقصص العاطفية، تدفعها حياة الريف المملة إلى الخيانة ثم الانهيار الداخلي فالخيانة. وفي مذكراته كشف فلوبير عن معرفته الدقيقة بالسيدة، وحرصه منذ الوهلة الأولى على أن تكون بطلة لرواية سيكتبها. وقد نجح صديقه الناقد في تحريره من التردد والخوف من الوقوع تحت طائلة القانون بتهمة التشهير.

لم يكن الأمر هَينا على أية حال كما يصف ذلك في رسالة لصديقته الكاتبة جورج صاند:

"- أنت لا تعرفين ما معنى أن يمسك المرء طوال يوم كامل رأسه بين يديه، ويعصر دماغه من أجل كلمة واحدة. بالنسبة لك تدفق الفكرة عريضة، مستمرة كالفيضان. أما لي أنا، فإنها قطرات شحيحة. علي أن أبني سدا كبيرا لأنتج منه شلالا. آه، لشد ما عرفتُ تباريح الأسلوب ".

ورغم مشقة الكتابة إلا أن فلوبير تمكن من إنهاء روايته، وكشف فيها عن ملاحظات تتسم بالدقة والعمق، وتحليل فريد لشخصية "إيما بوفاري"، تلك الخائنة التي حققت له الريادة والشهرة. لكن العقبات لم تنته بعد، حيث اشترط الناشرون تجريد القصة من واقعيتها، بإضفاء مزيد من اللمسات العاطفية على الأحداث، وتكليف لجنة مختصة بتنقيح الأسلوب والتخفيف من جرعة التحرر. لذا قرر فلوبير نشرها على حلقات في مجلة أسبوعية، غير أن الحلقة الأولى قوبلت برفض شديد من طرف الامبراطور نابليون الثالث، الذي مزق عدد المجلة وهدد بإغلاقها.

وحين يبدع الكاتب فإنه يهز بالضرورة أركان وضع سائد، ويأبى الاستسلام لقواعد متعارف عليها حتى وإن كانت خالية من الحس والمنطق. وفي حالة فلوبير فإن الأمر كان يقتضي محاكمة بتهمة إفساد الأخلاق والتهجم على تقاليد الأسر الشريفة!

عبّر الشاعر لامارتين، رغم عدائه لفلوبير، عن رفضه لهذه المحاكمة التي ليست سوى إهانة لشرف الأدب، وتحامل غير مبرر على رواية ستصبح يوما ما حجر الزاوية في الأدب العالمي الحديث. وصرَّح مارسيل بروست بأن فلوبير هو والد الرواية الحديثة، وأن الأدباء مدينون له. لقد شعر الجميع بأن فلوبير عَكَس بجرأة ذاك السأم من زيف العالم الرومانسي الذي يخفي آلام الحاضر ومشاكله، وعرض الحقيقة بأسلوب خال من التجميل اللفظي. وبفضل جرأته تحولت برجوازية عصره إلى "بوفارية"، تتصف بخداع الواقع والنفس، وتلهث خلف المشاعر الخيالية هروبا من قبح العالم وآلامه.

أمضى فلوبير خمس سنوات من الجهد الشاق ليؤلف قصته، وليبرهن على أن الواقعية ليست سردا ممسوخا أو تصويرا فوتوغرافيا بقدر ما هي خَلق فني لمجتمع يتحرك في لحظة ما من الحياة اليومية، وبأشخاصه العاديين جدا. أما وظيفة الكاتب فهي دقة الوصف، وانتقاء الجمل التي تحدث الأثر المطلوب لدى القارئ.

  ***

حميد بن خيبش

هذه خطوة فيها شيء من المجازفة بالنسبة لي، ذاك أني لأول مرّة أتعرّضُ فيها لإحدى روايات ماركيز الأكثر شُهرة / مائة عام من العُزلة"1"، بل وإنها المرة الأولى التي أعرض فيها قراءتي لرواية كاتب من أمريكا اللاتينية هو غابرييل غارسيا ماركيز الكولومبي. نعم، إنها مُجازفة لأنَّ هذه الرواية بالغة التعقيد متشابكة في أحداثها كثيرة هي الأسماء التي وردت فيها وكثيرة كذلك أسماء المدن والأماكن والبيوت والطرقات. ثم  التنقلات السريعة من واقعة لأخرى ومن حدث لأخر غيره فضلاً عن تشابك ما هو واقعي بما هو فوق الخيال من خوارق وخرافات لا يمكن أنْ تحدث في عالمنا المرئي والمحسوس. فضلاً عن الشذوذ وتجاوز الأعراف والمألوف من عادات وطقوس. ف " خوسيه أركاديو بوينديا " يتزوج أخته ريبيكا بالتبنّي. حين قيل له إنها أختك أجاب: لا يهمني ذلك. وحين قيل له: هذا مخالف للطبيعة والقانون يحضره أجاب: أشخُّ مرتين على الطبيعة / الصفحات 117 و 118. و أوريليانو خوسيه يغازل ويتبادل القُبل مع عمّته أمارانتا / الصفحات 175 ـ 177. ثم نرى في نهاية الرواية أنَّ " أوريليانو " يغتصب خالته أمارانتا أورسولا وهي في عصمة زوج بلجيكي ثم يتزوجها بعد ذلك / الصفحات 476 ـ 478. لكنْ كانت مدينة أو قرية " ماكوندو " قلب ومركز أغلب أحداث الرواية. وغطّت الحرب الأهلية بين اللبراليين والمحافظين في بلد لا نعرف اسمه أجزاء كثيرة من صفحات هذه الرواية [أثار الكولونيل أوريليانو بوينديا اثنتين وثلاثين إنتفاضة مُسلّحة خسرها جميعاً. وكان لديه سبعة عشر ابناً ذَكَراً من سبع عشرة امرأة مختلفة / ص 129  بعد هذه التوطئة القصيرة والعجلى أعودُ لأشخّصَ أبرز خصائص وعلامات هذه الرواية:

1 ـ الخرافات والخوارق والمعجزات

2 ـ رمز الغجري الساحر ميلكياديس

3 ـ طغيان العُهر والبغاء في مدينة ماكوندو

4 ـ ماركيز والعرب.

الخرافات والخوارق والمعجزات

تكادُ هذه الرواية أنْ تكون بغالبية أحداثها قصص خوارق وعالم من جن وجنيّات وسياحات في اللامعقول وقوى غيبية مجهولة تُحرّك البشر والصخر وتقرأ المجهول. السؤال: لماذا عمد هذا الروائي الكبير إلى مثل هذه الأساليب وهل كانت ضرورية سواء له ككاتب النص أو للنص المروي؟ ما كانت مقاصده قبل وبعد كل شئ؟ بقدر تعلق الأمر بي وعلى قدر فهمي للرواية فإني أستطيع القول بثقة إنَّ هذه الخوارق والمعجزات والخرافات كانت بمجموعها حاجات ووسائل وأساليب ضرورية للكاتب بالدرجة الأولى والأخيرة. وسائل تُلبّي حاجات نفسية وثقافية تضغط عليه بإلحاح فيتخذ من الخرافات واللامعقول والميتافيزيقا أقنعة تارةً وقنوات تصريف تاراتٍ أُخَر. وبصراحة مُبسّطة أقول: ما وجدتها ضرورية لبناء متطلبات النص ولا تأثيرَ لها على شروط ومتطلبات السرد والربط ما بين الحوادث ولم تُضفْ قوة إقناع إضافية يُحس القارئ بها فيزداد إلتصاقاً وشوقاً لمتابعة السرد. يستطيع القارئ الكريم حذف أيٍّ من هذه الخزعبلات ليتأكد أنها لم تكن ضرورية أبداً بل وفي أفضل حالاتها ما كانت إلاّ فضول كلام وهذيان وثرثرة. إذاً هي ضرورية للكاتب وليس للنص. الكاتب بحاجة ماسّة لها لا الكتاب. هل يتوجب علينا الجري وراءه مستجدين تفسيراته؟ كلاّ، لا نحن بالمجبرين على الإستجداء منه ولا هو بالمُجبر على الإستجابة والعطاء وتقديم الأجوبة التي نتوقع منه. لنسمع ما قال السيد ماركيز في مقدمة روايته الأخرى الأفضل في نظري والأروع أعني رواية " الحبٌّ في زمن الكوليرا ": [... أما ماركيز فإنه يقول في أكثر من مناسبة " الخيال هو في تهيئة الواقع ليصبحَ فناً] و [الغرائبي يأخذني ولا يبقى من الواقع إلاّ أرض القصة]. وقال في مكان آخر عن مائة عام من العزلة [إنها تنتمي إلى أدب الهروب من الواقع. كنتُ أودُّ التعبير عن الإرادة الواعية لا أنْ تعدم الواقع. ولكنْ علينا أنْ نُدركَ أنها لم تصالح الواقع / الصفحة 6].

في كلامه هذا تناقض كبير وإلاّ فكيف تكون الإرادة الواعية غير متصالحة مع الواقع؟ الإرادة الواعية هي التعبير الحي والأقوى عن الواقع وما الواقع إلاّ إرادة. ثم إنه يعترفُ أنَّ رواية مائة عام من العزلة تنتمي إلى أدب الهروب من الواقع ! لمن يتجه الكاتب إذا ما هرب من الواقع؟ أمامه عندئذٍ سبيل واحد منفتح على مصراعيه: الخرافات والخوارق والخزعبلات والإيمان بالسحر وقارئات الورق والكفوف والإيمان بسحر بعض الغجر من أمثال ميلكياديس الذي جعله الكاتب يرافقنا لعقود بعد موته فهو الغائب بالموت والحاضر برغبة الكاتب تطميناً لحاجات نفسية وعقلية يُحسُ هو بها لكنا لا نُحسُّ بها ولا نراها.

أسوق أمثلة ونماذج لهذه الخزعبلات التي لم أقتنعْ قطُّ بها ولا بجدواها ولا بأهميتها للأحداث التي فصّلها الراوي رغم قراءتي المتأنيّة لهذه الرواية الطويلة /  501 صفحة:

[.. ولم تعدْ أورسولا إلى تذكّر زخم تلك النظرة حتى يوم دخل فيه أوريليانو الصغير المطبخ، وهو في السن الثالثة من عمره، في اللحظة التي كانت ترفع قدراً تغلي عن الموقد وتضعها على المائدة فقال

الصغيرُ المُتردد وهو عند الباب: سوف تسقط. كانت القدر ثابتة تماماً في وسط المنضدة لكنها بدأت تتحرك فور إعلان الطفل ذلك، حركة لا رجوعَ عنها بإتجاه الحافة وكانها مدفوعة بآلية داخلية وتهشّمت على الأرض / الصفحتان 23 و 24]. كما سبق وأنْ قال الروائي ماركيز عن هذا الطفل ما يلي:

[... أما أوريليانو، أول كائن بشري وُلِدَ في ماكوندو فكان سيبلغ السادسة من عمره في آذار. وكان صامتاً ومنطوياً على نفسه. وقد بكى وهو في بطن أمّه وخرج إلى النور بعينين مفتوحتين. وبينما هم يقطعون له الحبل السُرّي كان يحرّك رأسه من جهة إلى أخرى ليتعرفَ على أشياء الغُرفة ويتفحّص وجوه الناس بفضول ودون دهشة / ص 23]

وكتب عن نفس الطفل هذا ما يلي:

[.. ولكنَّ عينيه، بالمقابل، صارتا مُجدّداً الجمرتين اللتين أخافتا مَن رأوهُ عند ولادته واللتين كانتا تحرّكان الكراسي بمجرد النظر إليها / الصفحة 294]. ثم كتب عنه وقد كَبُر وغدا الكولونيل أوريليانو بوينديا

[وفي صباح أحد الأيام وجد أورسولا ـ والدته ـ تبكي تحت شجرة الكستناء على ركبتي زوجها الميّت / الصفحة 295]. ثم كتب عن أب يحاول البرهنة على أنَّ قدرات الله غير محدودة [... حمل إليه الصبي الذي ساعده في القُدّاس فنجاناً من الشوكولاتة الكثيفة يتصاعد منه البخار فجرعه دون يأخذ نَفَساً. وبعد ذلك مسح شفتيه بمنديل أخرجه من كُمّه ومدَّ ذراعيه وأغمض عينيه وعندئذٍ طفا الأبُ نيكانور مرتفعاً اثني عَشَرَ سنتيمتراً فوق سطح الأرض. كانت وسيلة مُقنعة / الصفحات 104 و 105]. أيُعقل مثل الكلام؟ أصحيحٌ أنْ يرتفع شخص فوق الأرض بعد تناول فنجان من مشروب الشوكولاتة؟ أهذا دليل على وجود قوة خارقة لا نعرف ما هي تفعل المستحيل كأنْ تقهر قانون الجاذبية الأرضية فترفع بشراً فوق سطح الأرض ويبقى كذلك مُعلّقاً في الهواء؟ هل هذا دليل على وجود الرب؟ هنا بالطبع سخرية واضحة من دعاوى رجل الدين المسيحي الأب نيكانور وبرهانه على وجود الرب. قد نفهم مثل هذا الكلام على أنه نكتة ساخرة مُصممة ضد الدين وضد فكرة وجود إله خالق.

نقرأ في الصفحة 43 أنَّ الغجر جاءوا إلى قرية ماكوندو ببساط طائر كأداة تسلية [وقد نبش الناسُ الأرضَ، بالطبع، ليُخرجوا آخرَ نقودهم الذهبية ويستمتعوا بجولة طيران سريعة فوق بيوت القرية / ص 43].

ما تفسير هذه الخوارق والظاهرات غير المسبوقة وما أهميتها بالنسبة لسياقات نصوص الرواية؟ كيف يبكي طفلٌ وهو لم يزل في بطن أُمّه وهل في الإمكان سماع مثل هذا البكاء؟ نعم، نتابع حركات الجنين في شهريه الأخيرين في بطن أمه ولكن لا من أحد ادّعى سماع صوت جنين وهو في رحم والدته. المواليد الجُدد يبكون لحظة استنشاقهم الهواء الحر لأول مرة وهذا البكاء ضروري لإنفتاح الرئتين وتدشين عملية التنفس شهيقاً وزفيراً. تكلم الروائي الألماني كونتر هاس في رواية طبل الصفيح عن إنسان تأخر نموه بسبب حادثة سقوط تعرّض لها هذا الإنسان زمن طفولته. وربما لهذا السبب أو لغيره كان في مقدوره أنْ يُحطّم زجاج النوافذ والأبواب إذا ضرب على طبلة معلّقة في رقبته تتدلّى على صدره ورافق هذا الضرب إطلاق صرخات حادّة عالية. واضح مصدر هذه الحكاية.. ففي التوراة مثيل لها يقول إنَّ... إذا ضرب على طبله وتعالى صُراخه تنهارُ حصون مدينة أريحا.. ! خرافات وأمانٍ لا أكثر. في رواية مائة عام من العزلة غير القليل من أشباه هذه الخزعبلات.

أورسولا هي أم الطفل الخارق أوريليانو

مثال آخر له طبيعة أخرى مُغايرة وله ما يشابهه في مسرحيات شكسبير وخاصة هاملت ومكبث. أقصد ظهور أشباح القتلى غيلةً. ففي هذه الرواية يقتل رأسُ عائلة آل بوينديا ومؤسس قرية ماكوندو المدعو خوسيه أركاديو بوينديا.. يقتل شخصاً وجّه له إهانة إتهمه فيها بالعجز الجنسي بطعنه في رقبته برمح. ما الذي حصل بعد مقتل برودينثيو أغيلار؟

[.. وفي ليلة لم تجدْ فيها أورسولا إلى النوم سبيلاً، خرجت إلى الفناء لتشربَ ماءً فرأتْ برودينثيو أغيلار إلى جانب الجرّة. كان شاحباً وبملامح شديدة الحُزن يحاول أنْ يسدَّ بسدادة من أوراق الحلفاء الثقب الذي في حنجرته..].... [وبعد ليلتين من ذلك رأت أورسولا، مرةً أخرى، برودينثيو أغيلار في الحمّام يغسل بأوراق الحلفاء الدم المتخثّر على عنقه. وفي ليلة أخرى رأته يتمشّى تحت المطر. تضايق خوسيه أركاديو بوينديا من رؤى زوجته وخرج إلى الفناء مُسلّحاً بالرمح. وهناك كان الميّت بملامحه الحزينة فصاح به خوسيه أركاديو بوينديا: إذهبْ إلى الجحيم. فكل مرة تعودُ فيها سأعودُ لقتلك من جديد. لم ينصرفْ برودينثيو أغيلار ولم يجرؤ خوسيه أركاديو على قذفه بالرمح. ومنذ ذلك الحين لم يعدْ يستطيع النوم / ص 33]. رأينا مثل هذه الرؤى في مسرحيات شكسبير فدم الأبرياء المسفوك ظُلماً لا ينفكُّ يؤرّق سافكيه القَتَلة ويؤنب الضمائر ويستصرخ شرف الإنسانية أنْ تهبَّ لأخذ الثأر. أردتُ القول إنَّ هذا الأسلوب قديم ومطروق ولا من جديد فيه.

لكنْ هل هو ضروري للرواية وتتابع أحداثها؟ ذلكمْ هو السؤال الذي قد نختلف كثيراً حوله.

الغجري الساحر ميلكياديس

قلتُ سابقاً إنَّ الروائي ماركيز كان شديد الحرص على إبقاء هذا الغجري في الرواية بالعرض وبالطول نجده إينما وليّنا متلبساً الأحداث مُخترقاً أنسجة القصص والسرد فما السرُّ في ذلك وما مغزى وأهمية هذا الشبح الذي فارق الحياة منذ أوائل صفحات الرواية؟ [.. وفي ما بعد ذلك، أكدَّ له غجرٌ آخرون أنَّ ميلكياديس قد مات فعلاً تحت وطأة الحُمّى في كثبان شواطئ سنغافورة، وأنَّ جثمانه قد أُلقي في أعمق مكان من بحر جاوا / الصفحة 26]. نمضي مع صفحات الرواية لنقرأ في الصفحات 90 ـ 91 ـ 92 أنَّ هذا الرجل ما زال حيّاً لكنه أخيراُ يموت في النهر غَرَقاً ! قُبيلَ موته غرقاً كان يردد عبارات من قبيل [لقد بلغتُ الخلود] و [إننا من ماء]، [لقد متُّ بالحُمّى على كثبان شواطئ سنغافورة].  صحيح أنَّ مؤسس قرية ماكوندو السيد خوزيه أركاديو بوينديا قد تأثّر بشخصية وخوارق الغجري الساحر ميلكياديس وصحيح أنه تعلّم منه سر تركيز أشعة الشمس بواسطة عدسة كما تعلّم منه صنعة الخيمياء / الكيمياء / لأجل مضاعفة الذهب أي زيادة تركيزه.. وقبل ذلك محاولة إستخلاصه من الأرض وما تحتها بالمغناطيس.. كل هذا صحيح لكن الساحر الميت منذ عقود ظلَّ سيّداً لبعض المواقف حتى بعد وفاة مؤسس القرية. جاء ذكره عدّة مرات في الصفحة 498 أي قُبيل ختام الرواية فماذا قيل عنه وما أهمية ذِكْره لعدد من المرات؟ أنقل ما كتب الروائي عنه، والكلام عن أوريليانو إبن أخت وزوج أمارنتا أورسولا:

[... لأنه صار يعرف عندئذٍ أنَّ قَدَره مكتوب في رِقاق ميلكيادس. وجدها سليمةً بين النباتات الخرافية والبرك المُدخّنة والحشرات المُضيئة التي أزالت من الغرفة كلَّ أثرٍ لمرور البشر على الأرض ولم يجدْ الهدوء ليُخرجها إلى النور، وإنما هناك بالذات، وهو واقف ودون أدنى صعوبةٍ، كما لو أنها مكتوبة بالقشتالية، تحت بريق الظهيرة الُمبهِر، بدأ يحلُّ رموزها بصوتٍ عالٍ. كانت تروي تاريخ الأسرة وقد كتبها ملكياديس بأدق التفاصيل وأتفهها، قبل مائة عام من وقوعها؟ لقد كتبها بالسنسكريتية وهي لغته الأم.... أما وسيلة الحماية الأخيرة وكان أوريليانو قد بدأ بتبنيها عندما أسلمَ نفسه لتشوش حب أمرانتا أورسولا فتكمن في أنَّ ميلكيادس لم يوردْ الوقائع مُرتّبة وفق زمن البشر المتعارف عليه وإنما ركّزَ قرناً كاملاً من الأحداث اليومية بحيث تتواجدُ جميعها متعايشة في لحظة واحدة.... / الصفحة 498]. هنا إذاً الجواب الشافي والدقيق عن تساؤلاتي حول الغجري الساحر ميلكيادس. إنه كتب تاريخ أسرة مؤسس قرية ماكوندو والجد الأعلى لعائلة بوينديا السيد " خوسيه أركاديو بوينديا " على مدى قرن كامل من الزمن ولكنْ جعل تفاصيل هذا التاريخ تتعايش في لحظة واحدة. وقد سبق وأنْ كشف أوريليانو بعض رموز الغجري ميلكيادس المكتوبة على بعض الرقاق والتي تقول ( أول السلالة مربوط إلى شجرة وآخرهم يأكله النمل ) وهذا بالفعل ما قد حصل، فقد قضّى الجد المؤسس العديد من آواخر سني عمره مربوطاً إلى شجرة كستناء ضخمة  هناك كان يجلس ويأكل وينام تحت رعاية زوجه أورسولا. أما آخر السلالة، وهو نتاج زواج غريب، فقد جفَّ وافترسه من ثم النمل.

ثم نقرأ في آخر سطور هذه الرواية الطويلة ما يلي [... في اللحظة التي ينتهي فيها أوريليانو بوينديا من حلِّ رموز الرِقاق، وأنَّ كل ما هو مكتوب فيها لا يمكن أنْ يتكرر منذ الأزل إلى الأبد، لأنَّ السلالات المحكومة بمائة عام من العُزلة ليست لها فُرصة أخرى على  الأرض].

هل هي نبوءة ساحر غجري أو أنها واقعة ملموسة أم أنها حقيقة علمية؟

لقد جاء في الرواية ولعدة مرات ذِكر نبوءات أو تفسيرات نوستراداموس، فهل ما كتب الساحر الغجري في رقاقه عن تاريخ ومصير عائلة بوينديا كان أحد نبؤات نوستراداموس؟

العُهر والبغاء في مدينة ماكوندو

كثُر البغاء والبغايا واتسعت الدعارة وبيوتها مع تطور قرية ماكوندو التدريجي من مجرد قرية صغيرة بائسة إلى مدينة شهدت أولى معالم الحكومة والرأسمالية. ظهر فيها شاب إيطالي يعلم فتيات المدينة أصول الرقص ويبيع إسطوانات الموسيقى ثم يغدو خطيباً لإحدى بنات المؤسس. ثم يأتي القطار ومعه يأتي البريد الأسبوعي منتظماً.. ثم يأتي الكهرباء حتى يبلغ التطور الرأسمالي في هذه المدينة مستويات قريبة من الذروة بتأسيس شركة أصحابها أمريكان لزراعة وتسويق الموز. تأسست مع نشوء هذه الشركة طبقة عمالية بلغ تعدادها أكثر من ثلاثة آلاف عامل.

أصبح النقيصُ يواجه نقيضه: العمال الفقراء أمام الرأسمال. كانت الحكومة المركزية بالطبع مع الرأسمال تحميه وتدافع عنه بكافة الوسائل القانونية وغير القانونية على رأسها قوة الشرطة والسلاح والجيش. مع شركة الموز بدأت إضرابات العمال وبدأ القتل الجماعي للمضربين [أنَّ الجيش حاصر ثلاثة آلاف عامل وقتلهم بالرشاشات وحُملت الجثث في قطار من مائتي عَرَبة لتُرمى في البحر / الصفحة 491.. مثلاً]. ثم حلَّ الخراب وأُغلقت الشركة وهرب أصحابها كلٌّ إلى بلده.

هل لهذا التطور الرأسمالي التدريجي علاقة بسعة إنتشار البغاء في مدينة ماكوندو؟ الجواب كلاّ، كان البغاء موجوداً خاصة بوجود الغجر الموسمي، وكان هناك ما دامت كانت هناك بغايا.

ـ من أوائل مومسات قرية موكاندو شابّة اسمها بيلار تيرنيرا [كانت ضمن الهجرة التي تُوّجت بتأسيس ماكوندو، إقتادتها أسرتها لإبعادها عن الرجل الذي اغتصبها وهي في الرابعة عشرة وظلَّ يُحبّها حتى بلوغها الثانية والعشرين لكنه لم يُحسم أمره قط في إعلان علاقتهما أمام الملأ / ص 39]. سقطت تحت أعباء حرمانها ونكبتها بمن أحبّت تحت رحمة قوة إغراء الشاب خوسيه أركاديو إبن أورسولا البِكر فعاشرها وعاشرته حتى فاجأته ذات يو م بالقول [أنت الآن رجل بالفعل. ولأنه لم يفهم ما الذي تعنيه فقد أوضحت الأمرَ حَرفاً فحرفاً: سيكونُ لك ابن / ص 44]. بدل أنْ يتزوجَ منها [عقد خوسيه أركاديو خرقة حمراء حول رأسه ورحل مع الغجر / ص 47]. في غيبته ورحيله مع الغجر ولدت بيلار تيرنيرا وَلَداً وكان بالطبع ابنَ سِفاح ! أسموه كذلك خوسيه أركاديو.

سنقرأ في الصفحة 79 أنَّ هذه المرأة أنجبت إبنين آخرين من أبوين مجهولين ! وسنعرف أنَّ أورليانو قضّى ليلة وهو تحت حالة سكر شديدة مع هذه المرأة / ص 86، ثم تخبره فيما بعدُ أنها قد حملت منه وإنه سيعترف بما حملت ويمنحه اسمه / ص 97.

منذ هذه اللحظة بدأ نطاق الدعارة بالإتساع وكما يلي:

ـ حانوت كاتارينو

ما كان هذا الحانوت إلاّ نِزلاً أو منزولاً مخصصاً لممارسة الدعارة يُديره رجلٌ اسمه كاتارينو. نقرأ وصفاً أنموذجياً لما كان يدور هناك من سمسرة:

[.. ذهبَ أوريليانو ـ إبن أورسولا الثاني ـ إلى حانوت كاتارينو... وأمام باب في أقصى المكان يدخل ويخرجُ منه بعض الرجال كانت تجلس وتُهوّي بصمت إمرأة الكرسي الهزّاز البدينة. وكان كاتارينو الذي يضع وردةً من اللبّأد على أُذنه يبيعُ القادمين طاساتٍ من عصير قصب السُكّر المُخمّر ويتحينُ الفُرص ليدنو من الرجال ويضعُ يده حيثُ لا ينبغي له أنْ يضعها. في حوالي منتصف الليل صار الحرُّ لا يُطاق. وقد استمع أوريليانو إلى الأخبار حتى نهايتها دون أنْ يجد بينها خبراً يهمُّ أسرته. وكان يتأهبُ للعودة إلى البيت عندما أومأتْ له المرأةُ البدينة بيدها وقالت: أُدخلْ أنتَ أيضاً. لا يُكلّفكَ ذلك إلاّ عشرين سنتافو. ألقى أوريليانو قطعة النقود في الحصّالة التي تضعها البدينة بين ساقيها ودخل الحجرة دون أنْ يدري السبب. كانت المراهقة الخُلاسية بنهديها الشبيهين بضرع كلبة عاريةً على الفراش وكان قد مرَّ على الغرفة قبل أوريليانو في تلك الليلة ثلاثةٌ وستون رجلاً... / ص 68].

يتكرر ذِكرُ حانوت كاتارينو مِراراً في هذه الرواية لأنَّ مرتاديه كِثارٌ ومن مختلف فئات مجتمع مدينة ماكوندو كباراً ومراهقين عزّاباً ومتزوجين عسكريين ومدنيين. لقد ارتاده أوريليانو مرةً ثانية مع صديقيه / ص 85. كما ارتاده الكولونيل أركاديو / ص 139. العجيب أنَّ هذا حاول اغتصابَ أمّهِ بيلار تيرنيرا وما كان يعرف أنها أمُّه. حاول ذلك مراراً فوافقت لكنها خدعته إذْ اتفقت مع فتاة عذراء اسمها صوفيا قديسة الرحمة لقاء أجر سخيٍّ أنْ تلتقيه في الظلام في المكان والزمان المحددين ففوجئ بها وقد عرف أنها امرأة أخرى وطابت له وصارا يمارسان الحب يومياً وبشكل دائم.. و [في الفترة التي عُيّنَ فيها أركاديو قائداً مدنياً و عسكرياً للقرية أنجبا إبنة / ص 141].

هكذا كان مجتمع مدينة ماكوندو وكما وصفه الأب نيكانور رينا [.. ذُعرَ من الجدب الروحي لأهالي ماكوندو الذين يزدهرون في الرذيلة مُثبّتين إلى قانون السجيّة دون أنْ يُعمّدوا أبناءَهم أو يقدّسوا أيام الأعياد. فكّرَ أنه ليست هناك بقعة أرض بحاجة إلى بذرة الرب أكثر منها. وقرر البقاءَ أسبوعاً آخرَ ليُنصّرَ المختونين والوثنيين ويُشرّع حالات مساكنة المحظيات / ص 103].

بيترا كوتيس

تمثّلُ هذه المرأة نموذجاً آخرَ لحال مدينة ماكوندو ولوضع النساء بشكل عام فيها حيث المجون المنفلت والقصف واللهو والعبث والجنس المتعدد الأساليب والألوان وسيادة الخرافات واجتماع النقائض حيث الإلحاد والدين فضلاً عمّا دار من حروب أهلية استمرت لبضعة أعوام ثم تمرد عسكري كان قادة الإثنين رجالاً شباباً من عائلة بوينيدا. ما الغريب في قصة هذه السيّدة؟ كانت أرملة شابة وفي ظرف خاص كانت تضاجع أخوين في وقت واحد ظانّةً أنه واحدٌ نظراً للشبه الكبير بين هذين الأخوين. أُصيب كلاهما بمرض جنسي / زُهري لعله السفلس أو السيلان عالجاه وشفيا منه. هذا الأمر يدل بقوة أنَّ هذه ( السيّدة ) كانت تمارس الجنس مع غير الأخوين. أي أنها كانت هي الأخرى بغيّا. لكنَّ مصيرها في نهاية المطاف انتهى أنْ تكون عشيقة دائمة لأحد هذين الأخوين المدعو أوريليانو الثاني.. أحد أبناء وسليل عائلة بوينيدا. الغريب، ولا غرابة في القص الخيالي والعجائبي لما كان يدور في مدينة خُرافية قامت مِن وفوق لاشئ، أنَّ هذه السيّدة الأرملة ظلّت عشيقة للسيد أوريليانو الثاني حتى بعد زواجه بل وكان هذا يُقضّي أياماً وشهوراً معها في بيتها وبعلم زوجه السيّدة فرناندا [.. وكانت قناعته تزداد بأنَّ نجمه الطيّب لا علاقةَ له بسلوكه وإنما بتأثير خليلته بيترا كوتيس، وأنَّ لحُبّها فضيلة قلب نظام الطبيعة. وكان مُقتنعاً بأنَّ هذا هو سبب ثروته إلى حدّ أنه لم يُبعدْ بيترا كوتيس قطّ عن بهائمه وحتى عندما تزوّجَ وأنجب أبناءً واصلَ العيش معها بموافقة زوجته فرناندا / ص 233].

أشكال أخرى للدعارة في مدينة ماكوندو

ـ صبيّات الجوع والدعارة مقابل الطعام

" تُسمسرُ " قوّادة في بيتها على مجموعة من الصبايا صغيرات السن مُدقعات يمارسن البغاء مقابل القليل من الطعام تبيعه القوّادة لهن بما يتقاضين من نقود الزبائن لا أكثر. تبين هذه الصورة مدى الفقر والعَوَز والفاقة التي كانت سائدة في مدينة ماكوندو قبل خرابها وهجرة من هاجر منها وانمحاء أثر عائلة بوينيدا. نقرأ ما كتب ماركيز:

[في الأمسية التي ألقى فيها أوريليانو محاضرته عن الصراصير إنتهى النقاش في بيت البنات اللواتي يُضاجعنَ بدافع الجوع، وهو ماخور وهمي في ضواحي ماكوندو صاحبته قوّادة باسمة، مُعذّبة بهوس فتح أبواب وإغلاقها... وما أنْ يتلقين مبلغ البيزو وخمسين سنتافو حتى ينفقنه على رغيف خبز وقطعة جبن تبيعه لهنَّ صاحبة المحل / الصفحات 467 ـ 468].

ما سبب قول الروائي عن هؤلاء الصبايا إنهنَّ محض اختلاق وإنَّ محل الدعارة هذا لا وجودَ له إلاّ في المخيّلة وإنَّ  ذلك الطعام ليس حقيقياً / نفس الصفحتين مارتي الذِكْر؟ إنها خرافة مدينة اسمها ماكوندو قامت من العدم وستؤول بعد مائة عام إلى عدم ( أول السلالة مربوط إلى شجرة وآخرهم يأكله النمل / ص 498 ). كل شئ فيها غير طبيعي وناسها منحرفون يخالفون نواميس وقوانين الطبيعة السوية.

ـ السيّدات الفرنسيات

ورد ذِكْرُ السيدات الفرنسيات أكثرَ من مرّة في رواية ماركيز بنعوت شتى ليس بينها ما يُشيرُ إلى مزاولتهنَّ البِغاء [.. والشئ الوحيد الذي تبقّى من تلك المبادرة الفاشلة هو نفحة التجديد التي جلبتها السيّدات الفرنسيات، فقد بدّلنَ بفنونهنَّ الطبيعية أساليب الحب التقليدية وأودى حُسنُ معشرهنَّ بحانوت كاتارينو العتيق.. / ص 239]. حانوت كاتارينو هو منزول الدعارة الذي سبق ذكره مراراً.  هل نفهم من عبارة " وأودى حُسنُ معشرهنَّ بحانوت كاتارينو " أنهنَّ كذلك مومسات يمارسن البِغاء في دار خاص بهنَّ بطرق وأساليب فرنسية جديدة على عالم مدينة ماكوندو حتى أقفر حانوت كاتارينو وأقفل أبوابه بعد أنْ عرف زبائنه القدامى مزايا وحسنات منزول الفرنسيات؟ [بدّلنَ بفنونهنَّ الطبيعية أساليبَ الحب التقليدية / ص 239]. ورد ذِكرهنَّ في الصفحة 273 وفي الصفحة 274. خلا مرة واحدة فقط أسماهنَّ فيها مومسات [المومسات الفرنسيات / الصفحة 393]

ـ نساء وقوّادات بابليات !

ما كان في رأس السيد غابرييل غارسيا ماركيز إذْ ينعت مومسات وقوّادات بأنهنَّ بابليات؟ إنه لم يزر العراق والعراق في الزمن القديم هو بابل وبابل أكثر من بابل فالأولى كانت بابل المشرّع الأكبر حمورابي ثم بابل نبوخذّنصّر الكلداني ثم بابل اليوم وهي محافظة مركزها مدينة الحلة. هذا عرض شديد الإيجاز لتاريخ بابل يدفعني للتساؤل عن مغزى وهدف كاتب الرواية من نعته للبغايا والقوّادات بإنهنَّ بابليات؟! قد يقول قائلٌ إنه حرصي وغيرتي على بابل، بابل العراق وبابل حمورابي ونبوخذّنصّر ثم عراق اليوم البابلي وعاصمته مدينتي ومدينة أهلي وأجدادي: الحلّة. لا أنفي هذا أبداً وكيف أنفيه. لا أنصرف للجزئيات وبعض تفاصيل الحياة وما حصل في العراق لأكثر من نصف قرن من تطاحنات عقائدية ـ سياسية ثم مذهبية وحروب وغزو وحصار طويل ممُضٍّ قاتل ثم احتلال أدّت في بعض منعطفاتها إلى تشويشات وتشويهات وادعاءات يصعب دحضها حول سلوك بعض العراقيات [البابليات] خاصة في الكويت ومشايخ الخليج. نرى اليوم نظير ذلك مما تتعرضَّ له حرائر سوريا في بلدان اللجوء تركيا والأردن ولبنان. هل هذا ما قصده السيد ماركيز؟ لا، أبداً. إنه جدَّ بعيد عن العراق والخليج.. إنه رجل من كولومبيا في أمريكا اللاتينية ثم إنه ليس سلمان رشدي ! إذاً أية بابل كان قد عنى؟ عشتار آلهة الجنس والخصب والتناسل؟ بغايا معابد بابل يمارسن الجنس المقدّس؟ سمير أميس الملكة التي قيل عنها إنها كانت تعشق حصانها وكانت تمارس الجنس معه؟ الراجح أنَّ الرجلَ قد قصد بغايا المعابد اللواتي كنَّ يمارسن الجنس للتكاثر مجاناً لوجه الإله مردوخ.  أظنَّ أنَّ السيد ماركيز قد شطح وارتكب خطأً لا لزومَ له أبداً. البغاء أقدم مهنة في تاريخ البشرية ومع البغاء تأتي السمسرة والقوادات والقوادون وكان ولم يزل معروفاً ومنتشراً في كافة بقاع العالم فما الذي حدا به إلى حصر هذا الأمر ببابل ولم يذكر أثينا مثلاً أو روما؟ المهم... لقد ذكر الرجلُ بابلَ في عددٍ من المناسبات، قال في الصفحة 278  [.. وفي يوم أربعاء مجيد جاؤوا بقطار مُحمّل بمومسات غير معقولات، إناث بابليات بارعات بأساليب عريقة في القدم ومزوّدات بكل أنواع المراهم والأجهزة لإستثارة العاجزين وتنشيط الخجولين وإشباع نهم النهمين وتحفيز المتواضعين وتقويم غير السويين وإصلاح المتوحدين].

كما قال في الصفحة 462 ما يلي [... وإنَّ شركة الموز رحلت وإنَّ ماكوندو تنعم أخيراً بالسلام منذ سنوات طويلة. وقاده ذلك التجوال إلى حي التسامح المتردي حيث كانت تُحرقُ في أزمنة أخرى رزم من الأوراق النقدية لتنشيط رقصات الكومبيامبا، وتحوّلَ آنئذٍ إلى متاهة شوارع أشدّ كآبةً وبؤساً من الشوارع الأخرى، مع بعض القناديل الحمراء التي لا تزالُ مُضاءةً فيه، وقاعات رقص مُقفرة مُزيّنة ببقايا أكاليل زهرٍ حيث أراملُ لا أحدَ الحزيناتُ والبديناتُ والجدّات الفرنسيات والقوّادات البابليات، يواصلنَ الإنتظار إلى جوار الفونوغرافات]. كانت شركة الموز رمزاً لنشوء وتطور الرأسمالية في مدينة ماكوندو حيث حصل التضاد والتصادم الأعظم بينها وبين العمال ووقع إثرَ ذلك ما وقع من مقتل ثلاثة آلاف عامل من عمال هذه الشركة.

أما القناديل الحمراء فإنه رمزٌ معروف في مدن الغرب وأمريكا توضع أمام بيوت الدعارة لإرشاد وقيادة الزبائن إليها. كما توضع في البيوت الخاصة أمام حجرات السيّدات ليلاً في ساعات ممارسة الحب ـ الجنس مع عشّاقهن والرجال مع صديقاتهم.

إستفزني ذكرُ بابلَ وأنا بابلي ! يا ماركيز / حذارِ... إبتعد عن بابل. تجنّب نيران بابل وغضب عشتار ومردوخ.

ماركيز والعرب

أخيراً، هل كان السيد ماركيز ضد العرب في روايته هذه؟  يصعب البت في هذا الأمر. ذكرَ العرب في مواضع شتّى تبدو لأول وهلة محايدة لا لونَ ولا طعمَ لها لكني... نعم لكني... أظنُّ، وبعض الظن إثمٌ، أنَّ فيها رائحة مشبوهة لكنها خجولة حَذِرة لأسباب معروفة. ذكر العربَ بأوصاف لا تُشرّفُ أحداً من العرب وخلطهم بالترك إذْ أطلق على شارعهم اسم شارع التُرك ! لا أتدخلُّ فيما قال لكني أكتب حرفياً ما قال عنهم وأترك الحكم للقرّاء الكرام.

[.. كانت ماكوندو آخذة بالتبدّل فالناس الذين جاؤوا مع أورسولا اكتشفوا جودة أرضها وموقعها الممتاز بالنسبة لمنطقة المستنقعات، وسرعانَ ما تحوّلتْ الضيعة التي كانت صغيرة ومتواضعة في أزمنة أخرى إلى قرية تعجُّ بالنشاط. فيها متاجر وورش حِرفية وطريق تجاري دائم جاء عَبْرَه أولُّ العربِ الذين ينتعلون البابوجات ويُعلّقون الأقراطَ في آذانهم ليقايضوا عقوداً من الزجاج ببغاوات / الصفحتان 51 ـ 52].

هل كان العربُ الأوائل يضعون أقراطاً في آذانهم؟ ذلك ما لا أعرفه وما لم أسمعْ به. غير أنَّ أمراً أفرحني ذاك أنَّ هؤلاء العرب الأوائل ما كانوا يمشون حُفاة الأقدام بل كانوا [ينتعلون البابوجات]. هذا أول ذِكْرٍ للعرب في هذه الرواية.

في الصفحة التالية 53 جاء ذكرُ العرب كما يلي:

[.. فرضَ خوسيه أركاديو بوينديا خلال وقت قصير حالة من النظام والعمل لم يسمحْ فيها إلاّ بتصريحٍ وحيد: إطلاق سراح الطيور التي كانت مُنذُ تأسيس ماكوندو تبعثُ المرح في الجو بألحانها، واستبدالها بساعات موسيقية في كل البيوت وهي ساعات جميلة من الخشب المشغول بمهارة، كان العربُ يبادلونها بالببغاوات.. / ص 53]. العربُ إذاً تجّار يُقدّرون أهمية وقيمة الطيور ولا سيّما طيور الببغاء الزاهية في ألوانها والعجيبة في قدرتها على نطق بعض الكلمات البسيطة.

ما قال ماركيز أيضاً عن العرب؟  قال في الصفحة 73 عنهم ما يلي:

[كان دون أبولينار موسكوتي الحاكم قد وصلَ إلى ماكوندو دون ضجّة ونزلَ في فندق يعقوب الذي أقامه أحدُ أول العرب الذين جاؤوا يقايضون بضائعهم التافهة بالببغاوات]. كما ورد ذِكْرُ العرب في الصفحة 400   كما يلي [.. وكان شارع الأتراك قد عاد مُجدداً إلى ما كان عليه، شارع الأزمنة التي كان فيها العربُ ذوو الأخفاف والأقراط في آذانهم يجوبون العالم مُستبدلين بضائعهم الرخيصة بالببغاوات]. غير أنَّ الروائي ماركيز مدح العربَ مرتين، نقرأ ما قال عنهم في الأولى [.... لكنَّ عربَ الجيل الثالث كانوا جالسين في المكان نفسه والوضع نفسه الذي جلس فيه آباؤهم وأجدادُهم صامتين، رابطي الجأش، عصيين على الزمن والكارثة، مُفعمين بالحياة أو الموت مثلما كانوا بعد وباء الأرق وحروب الكولونيل أوريليانو بوينديا الإثنتين والثلاثين. وكانت تُثير الذهولَ متانة معنوياتهم أمام أنقاض مناضد اللعب وعربات المأكولات المقلية وأكشاك الرماية على الهدف / ص 401]. وقال في المرة الثانية عنهم [... ربما كانت بيترا كوتيس هي الوطنية الوحيدة التي لها قلب عربي. فقد رأتْ وقائعَ الدمار الأخيرة في حظائرها وإسطبلاّتها التي جرفتها العاصفة ولكنها تمكّنت من إبقاء البيت مُنتصباً / ص 401]. هل رأى ماركيز عرباً في جمهورية كولومبيا يضعون في آذانهم أقراطاً وينتعلون بابوجات ويقايضون بضاعة رخيصة بطيور الببغاء؟ جميل منه أنْ يعترف لهم بالصمود أمام الكوارث وبفضيلة متانة المعنويات. لا أعرف شيئاً عن تاريخ العرب في كولومبيا لذا ليس في الوسع مناقشة ماركيز أو محاججته أو دحض ادعاءاته حول ما قال في العرب. لماذا يُسمّي الشارع الخاص بهم شارع التُرك؟ بالمناسبة... في مدينة ميونيخ الألمانية شارع حيوي معروف يحمل اسم شارع التُرك

Türkenstrasse

كما أنَّ في فنلندا مدينة كبيرة شهيرة اسمها توركو !

خلاصة إستعراضية سريعة:

يستطيعُ أيُّ قارئٍ لرواية مائة عام من العزلة أنْ يقولَ عنها إنها استعراض مُفصّل لتاريخ عائلة خوسيه أركاديو بوينديا، رأس عائلة بوينديا ومؤسس قرية ماكوندو التي تطورت فغدت مدينة ثم درست بفعل عوامل كثيرة فصّلها الراوي بدقّة. نظرة عجلى على شخوص هذه العائلة تترك لدينا الإنطباع القوي أنَّ جميعَ أفراد هذه العائلة بكافة أجيالها المتعاقبة ( مع إستثناءات قليلة ) هم ليسوا أسوياء حسب القواعد المعروفة للجنس البشري. فهم بين مجنون أو شاذ جانح أو منحرف عقلاً وسلوكاً. أستعرضهم واحداً واحداً:

الرأس والمؤسس خوسيه أركاديو بوينديا /  كان بفطرته ضد أي شكل من أشكال الحكومة وكان شعوره وقراره أنه هو سيّد وحاكم ومؤسس مدينة ماكوندو. لم يُخفِ ذلك أبداً فقد قال للحاكم الذي أرسلته الحكومة المركزية بصريح العبارة [أنتَ وأنا سنبقى عدوين / ص 76].

ـ إنصرف إلى المقامرة بصراع الديّكة

ـ قتل شخصاً وجّه له إهانة بطعنة رمح قاتلة

ـ مضى عام على زواجه دون أنْ يستطيع ممارسة حقوقه الزوجية مع زوجه أورسولا إلاّ في اليوم الذي قتل فيه غريمه إذْ ( دخلَ خوسيه أركاديو بوينديا إلى غرفة النوم حين كانت امرأته تقوم بارتداء بنطال العفّة فأمرها وهو يهزُّ الرمحَ في مواجهتها " إخلعي هذا " ولم يخامر الشكُّ أورسولا في تصميم زوجها / ص 32 ). [.. وانطلقت الشائعة بأنَّ أورسولا ما زالت عذراء بعد سنة من زواجها لأنَّ زوجها عِنّين / ص 31].

ـ شغل نفسه في محاولات لصنع أو إستخلاص أو تركيز الذهب / إذا لم تخشَ اللهَ فاخشَ المعادن.. هذا ما قال لإبنه أوريليانو.

ـ إنتهى أمره إلى مصير غريب إذْ دأب على قضاء وقته جالساً أو نائماً تحت شجرة كستناء بل ومن ثمَّ ربطوه بحبل إلى جذع هذه الشجرة.

ولده البِكر خوسيه أركاديو /

ـ عاشر امرأة تُدعى بيلار تيرنيرا ثم تركها ليلتحق بالغجر [كان يوم خميس وفي ليلة السبت عقد خوسيه اركاديو خرقة حمراء حول رأسه ورحل مع الغجر / ص 47]. أنجبت منه في غيابه طفلاً كفله جده وجدته وأسموه خوسيه أركاديو لكنهم بسّطوا الإسم فصاروا ينادونه أركاديو. هذا إذاً إبنُ سفاح.

ـ تزوج من ريبيكا، أخته بالتبني. وهذه لم تترك عاداتها القديمة زمن طفولتها إذْ بقيت تمصُّ اصبعها وتأكل الطين والتراب وتحتفظ في كيس عظام أبيها الراحل.

الإبن الثاني الأصغر هو أوريليانو /  تزوّج الطفلة ريميديوس، إبنة الحاكم الصغرى. خطبها حين كانت ما زالت ( تبول في فراشها )... وتزوّجها لدى ظهور أولى علامات بلوغها. كان فارق العمر بينهما كبيراً. ماتت ريميديوس وهي حامل مسمومة عن طريق الخطأ فالسم كان أصلاً مُعدّاً لغيرها، لريبيكا فسلمت هذه وماتت تلك.

ـ إنضمّ إلى صفوف الثوّار اللبراليين ضد الحكومة وحزب المحافظين وصار يُسمّى الكولونيل اوريليانو بوينديا. [أثار اثنتين وثلاثين انتفاضة مُسلّحة خسرها جميعها. وكان لديه سبعة عشرَ ابناً ذكراً من سبع عشرة امرأة مُختلفة أُبيدوا واحداً بعد الآخر في ليلة واحدة قبل أنْ يُكمل أكبرهم خمساً وثلاثين سنة / ص 129].

ـ [رفضَ المعاش التقاعدي مدى الحياة بعد أنْ انتهت الحربُ وعاش حتى الشيخوخة من الأسماك الذهبية الصغيرة التي يصنعها في مشغله في ماكوندو / ص 129].

أمارانتا.. الإبنة الوحيدة لأورسولا وخوسيه أركاديو بوينديا /  أمارانتا أكثر أفراد هذه العائلة شذوذاً.

ـ أحبّت خطيب أختها الإيطالي وكان قرارها الأكيد أنْ تحول دون زواجهما [.. لكنها عاهدتْ نفسها بأنَّ ريبيكا لن تتزوج إلاّ بالمرور على جثّتها / ص 89]

ـ  حاولت قتل أختها المُتبناة، ريبيكا، بالسم لكنَّ السم أخطأ طريقه فصار من  نصيب ريميديوس الجميلة زوج شقيقها أوريليانو خوسيه.

ـ أحرقت كفها ثم لفّته بكمّادات سود لازمت كفّها طوال حياتها.

ـ  رفضت عروض الزواج وبقيت عزباء حتى آخر العمر.

ـ شرعت لفترة بمغازلة ابن أخيها وبادلته القُبل بل وكانا يتحممان عاريين معاً. يبدو أنَّ ابن أخيها كان عازماً إما على ممارسة الجنس معها أو الزواج منها. سأل مرةً [هل يُمكن للمرء أنْ يتزوجَ من عمّته؟ فأجابه أحد الجنود: ليس ممكناً فحسب، بل إننا نخوضُ هذه الحرب ضد الخوارنة كي يستطيع أحدنا الزواج من أُمّه نفسها / ص 184].

[كانت تقولُ له وهي مُحاصرة بكلاب صيده: أنت وحش. ليس صحيحاً أنه يُمكن عملَ هذا مع عمّة مسكينة إلاّ بالحصول على موافقة خاصة من البابا. فيعدها أوريليانو خوسيه بأنْ يذهبَ إلى روما ويعدها بأنْ يجتازَ أوربا زاحفاً على ركبتيه وأنْ يُقبّلَ خُفَّ الحِبر الأعظم لمجرّد أنْ تُنزل هي جسورها المُعلّقة / 184 ـ 185].

رأي أخير

لا يشكُّ أحدٌ في قدرات الروائي غابرييل غارسيا ماركيز الكتابية وعلى رأس هذه القُدرات، لا الخيال الجموح المُنفلت حتى إلى ما وراء المعقول والمعروف، إنما الغوض عميقاً في التفاصيل بصبر لا مثيلَ له. ثم، إلى جانب ذلك وربما قبله.. قدراته العجيبة في التمهيد للأحداث. إنه لا يضع الواقعة أو الحدث أمام القارئ مباشرة بل يُمهد لها تمهيداً منطقياً مُقنعاً قويّاً مُعززاً بالحجج المنطقية التي تجعل قارئه مُستسلماً لما يقول ومؤمناً بما يقول. قلّة من الروائيين والكتاب مّنْ له هذه القدرات التي لا تتوفر إلاّ في كبار الموهوبين. إنه يعرف كيف ومتى يتسلل إلى قلب وعقل القارئ ليسحبه معه إلى حيثُ يُريد. في هذه الرواية الكثير من الخرافات وقد سبق وأنْ عرضتُ نماذجَ منها. بل ويبدو لي أنَّ الرواية أصلاً هي نوعٌ من أنواع القص الخُرافي حيث يمتزج السحر بالخوارق. كما يبدو أنَّ ماركيز قرأ كتاب ألف ليلة وليلة إذْ ذكرَ البساط السحري الطائر ومصباح علاء الدين دون أنْ يذكر علاء الدين [.. وقصّة الصيّاد الذي طلب من جاره أنْ يُعيره قطعة رصاص لشبكته وكافأه بعد ذلك بسمكة وجد ماسة في بطنها، وقصّة المصباح الذي يُلبّي الرغبات والسجاجيد التي تطير / ص 226]. أسلوب هذه الرواية شيّقٌ متين البنيان لا ثغرات فيه ولغة الرواية لغة واضحة لا تعقيد أو عُسرة فيها ومستقيمة بدون تعرّجات وفذلكات. ومن مزايا السيد ماركيز تمكّنه من تصوير الحب والجنس والبورنو بشكل لا أحسبُ أنَّ أحداً من كتاب الرواية يستطيع أنْ يتفوق عليه. بالطبع إنه يكتب بما لديه من تجارب في هذه الميادين. كما أنه بارع في شؤون الحرب وقضايا الصراع الطبقي الذي حصره في النزاع الدموي بين حزب ليبرالي وآخر محافظ.

عندي قناعة أنَّ رواية ماركيز الأخرى " الحب في زمن الكوليرا " (2) أفضل من رواية مائة عام من العُزلة. لستُ بصدد عقد مقارنة تحليلية مُفصّلة بين الروايتين فذلك أمر آخر قد يقومُ به غيري.

***

د. عدنان الظاهر

نيسان 2013

..........................

غابرييل غارسيا ماركيز / مائة عام من العزلة، ترجمة صالح علماني. دار المدى للثقافة والنشر. بيروت الطبعة الخامسة 2012.

(2) غابرييل غارسيا ماركيز / الحب في زمن الكوليرا، ترجمة صالح علماني. دار المدى للثقافة والنشر. بيروت الطبعة الثالثة  2004.

 

تُعْتَبَر رواية مِئة عام مِن العُزلة (1967) للروائي الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز (1927_ 2014 / نوبل 1982) مِن أهَمِّ الأعمالِ الأدبية العالمية على الإطلاق، حَيْثُ يَرْوي سِيرةَ عائلة بوينديا على مَدى عِدَّة أجيال في مَدينة خيالية تُدْعَى ماكوندو. وَتَعتمد الرِّوايةُ على أُسلوب الواقعية السِّحْرية، حَيْثُ يَمتزج الواقعُ بالخَيالِ ضِمْنَ إطارٍ أدبيٍّ حَالِمٍ.

تُمثِّل الرِّوايةُ إعادةَ تَفْسيرٍ للتاريخِ الكُولومبي، حَيْثُ تَطْرَح أفكارًا جديدةً في كَيفيةِ تأويلِ الأحداثِ اليومية، وَالوَقائعِ الحياتية، وَرَبْطِ البُنى المَعِيشية الخُرافية بِالدَّهْشَةِ العَقليةِ والانبهارِ الوِجْدَانيِّ، وَالهُروبِ مِنْ ضَغْطِ الواقعِ الماديِّ إلى صِناعةِ عَالَمٍ غَرائبيٍّ قادر على إثارةِ الأسئلةِ المصيرية، وتَكوينِ التَّأمُّلاتِ العميقة. وهَكذا يَتِمُّ تَشييدُ فَلسفةِ الحِكاياتِ عَلى الذُّهُولِ وخَلْطِ السِّحْرِ بالواقعِ، والانتقالِ مِنْ حُلْمٍ إلى حُلْمٍ في فَضَاءَاتٍ لُغَوِيَّة، والقَلَقِ مِنْ خَسَارَةِ الحُلْمِ في ظِلِّ التَّغَيُّرَاتِ المُتَسَارِعَةِ في الزَّمَانِ الافتراضيِّ والمَكَانِ الخَيَالِيِّ، مِمَّا يُؤَدِّي إلى نَقْلِ الأحكامِ العقليةِ والأفعالِ الاجتماعيةِ مِنْ رَتَابَةِ الحَياةِ اليومية إلى الحَقيقةِ الكَامنةِ في التَّأمُّلِ الرُّوحِيِّ والتَّفسيرِ المَادِيِّ والتَّجْرِبَةِ الإنسانية.

إنَّ القَضايا المُخْتَلِطَةَ في التاريخِ، وَالمَسَائِلَ المُتَشَابِكَةَ في الحَضَارَةِ، تُشكِّل سُلطةً ذات طبيعة تَرَاتُبِيَّة عَلى الصَّعِيدَيْن: العائليِّ والمُجْتَمَعِيِّ، وتُمثِّل هُوِيَّةً ذات طبيعة مَركزية عَلى المُسْتَوَيَيْن: المَعنويِّ والماديِّ. وهَذه الأمُورُ مُجْتَمِعَةً تَتَجَسَّدُ في عائلة بوينديا في كُلِّ أجيالِها، وتَفاصيلِ حَيَاتِهَا، وَتَحَوُّلاتِ أفكارِها، ومَسَارَاتِ أحلامِها. وهَذه العَائِلَةُ الخَيَالِيَّةُ المُتَصَوَّرَةُ ذِهْنِيًّا وأدَبِيًّا، صَنَعَتْ أُسْطُورَتَهَا الخَاصَّة في اللغةِ المُدْهِشَةِ السَّاحِرَةِ، والأُسْلُوبِ المُحْكَمِ الجَذَّابِ. واللغةُ كَمَادَّةٍ خَام، والأُسْلُوبُ كَتَيَّارٍ حَامِلٍ للحِكَايَاتِ المُتَشَعِّبَةِ، كِلاهُمَا يَقُومُ عَلى دِقَّةِ الوَصْفِ وَالبَرَاعَةِ في اقْتِنَاصِ اللحظةِ الإبداعية.

والمَلحمةُ السَّرديةُ التي قَدَّمَهَا ماركيز تَستند إلى إضفاءِ السِّحْرِ عَلى عناصر الواقع، بشكلٍ مُستمِر ودائم، وُصُولًا إلى مَنظومةٍ أدبية خُرافية تَبتكِر الخَيَالَ، وتَجْعَلُهُ حَيَاةً مُعَاشَةً، مِمَّا يُؤَدِّي إلى صِناعةِ عَالَمٍ أُسْطُورِيٍّ، يُنتج الأوهامَ، ويُصَدِّقُهَا، وَيَدْفَع القارئَ إلى التعاملِ مَعَهَا بِوَصْفِهَا حَقَائق تَجَسَّدَتْ يَوْمًا مَا عَلى أرضِ الواقعِ. وهَكذا تُصبح الأخْيِلَةُ حَيَوَاتٍ مَحسوسةً، وتُصبح الأساطيرُ وَقَائع مَلْمُوسة. وكُلُّ هَذا مِنْ أجْلِ تَفكيكِ هَياكلِ الطبيعة البشرية، وإرجاعِها إلى الجُذورِ الفَلْسفيةِ الأوَّلِيَّة، والأنْوِيَةِ التاريخية البِدائية، والمَاضِي الذي لا يَمْضِي، وَالأحلامِ المَقموعةِ، والذكرياتِ المَنْسِيَّة، وَالرَّغَبَاتِ المَكبوتة.

وَطَرَائقُ السَّرْدِ المُتَشَعِّبِ، وَالتَّسَلْسُلُ الزَّمَنِيُّ المُعَقَّدُ، وَشَبَكَةُ الشَّخصياتِ المُتَدَاخِلَةِ، هِيَ الأُسُسُ الفِكرية في الرِّواية، التي تُرَتِّب الفَوْضَى، فَوْضَى المَشاعرِ، وَفَوْضَى الصِّرَاعاتِ التاريخية، وَفَوْضَى الأحلامِ غَيْرِ الواقعية، وَفَوْضَى خَيْبَاتِ الأمَلِ، وَفَوْضَى الأحزانِ التي تَرْبِطُ المَاضِي بالحاضرِ. وكَمَا أنَّ طبيعةَ الأحكامِ تُحدِّد مَاهِيَّةَ الأفعال، كذلك تَرتيب الفَوْضَى في العَمَلِ الأدبيِّ يُحدِّد الأدوارَ الاجتماعية، ويُعِيد تَعْرِيفَها إبداعيًّا، مِنْ أجْلِ كَسْرِ العُزلةِ المَفروضة عَلى مَشاعرِ الألَمِ، والتَّمَرُّدِ عَلى الواقعِ. وكَمَا أنَّ الإنسانَ لا يَختار أبَوَيْه، كذلك لا يَختار الزَّمَانَ والمَكَانَ اللَّذَيْن يَعِيش فيهما، وهذا يَعْكِسُ أهميةَ الانقلابِ عَلى الواقعِ، وصِناعةِ واقعٍ جَديد، عَن طَريقِ تَفْعِيلِ الأحلامِ، وتَجذيرِ الخَيَالِ، وَبَعْثِ السِّحْرِ في الكَلِمَاتِ وَالأحداثِ والمَوَاقِفِ. وهذه هِيَ فَلسفةَ الواقعية السِّحْرية التي انْتَشَرَتْ في أدبِ أمريكا اللاتينية خِلال السِّتينيات والسَّبعينيات مِنَ القَرْن العِشْرين، وَشَكَّلَت الحركةُ حَدَثًا أدبيًّا هامًّا، وَنَقْلَةً نَوْعِيَّة جَديدة في عَالَمِ الإبداعِ الأدبيِّ، وَقَدْ قَادَهَا كُتَّابٌ حَطَّمُوا القواعدَ التقليدية للكِتابةِ، وامتازوا بالجُرأةِ والزَّخرفةِ والتَّنميقِ وإطلاقِ العِنَانِ لِحُرِّيةِ الخَيَالِ، والمَيْلِ إلى كُلِّ مَا هُوَ تَجْريبي وذُو طَابَع سِيَاسِي، مِثْل:غابرييل غارسيا ماركيز مِنْ كُولومبيا، وماريو فارغاس يوسا مِنَ بيرو، وخوليو كورتاثر مِنَ الأرجنتين، وكارلوس فوينتس مِنَ المَكسيك.

وَمِثْلَمَا اخْتَرَعَ الروائيُّ الأمريكيُّ ويليام فوكنر (1897 _ 1962 / نوبل 1949) مدينة جيفرسون الخَيَالِيَّة، للحَديثِ عَنْ مَسْقَطِ رَأسِه في الجُنوبِ الأمريكيِّ، وَوَصَفَ مِنْ خِلالِهَا تَوَالي الأجيالِ التي شَهِدَتْهَا، اخترعَ ماركيز مَدينةَ ماكوندو الخَيَالِيَّة، لِتَكُونَ شَبيهةً بِمَدينة أراكاتاكا، التي وُلِدَ فِيها في شَمالِ كولومبيا، لِيَجْعَلَ مِنها صُورةً لِكُولومبيا، بَلْ وَحَتَّى لِدُوَلِ قَارَّة أمريكا اللاتينية. وهذا يَقُودُ إلى مَوضوع مُهِم، وَهُوَ تأثير فوكنر في ماركيز، فَقَدْ صَرَّحَ بِهِ ماركيز عَلَنًا في خِطاب قَبوله لجائزة نوبل للآداب (1982) بالإشارةِ إلَيْهِ قَائِلًا: (أُسْتَاذي ويليام فوكنر). وَمَثَّلَتْ بعضُ المُفْرَدَاتِ والمواضيع في أعمال فوكنر، مِثْلَ الغُمُوضِ والبَحْرِ وَثَقَافَةِ الكاريبي والعُزْلةِ، قِيَمًا أسَاسِيَّة في روايات ماركيز. وَقَدْ قال ماركيز في حديث صَحَفِيٍّ: (إنَّ مُشْكلتي لَمْ تَكُنْ في كَيفيةِ تَقْلِيدِ فوكنر، لكنْ في كَيفيةِ تَدْميره، كانَ تأثيرُه يَشُلُّ حَرَكَتي). وفي حَديثٍ آخَر: (إذا كانتْ رِوَاياتي جَيِّدة، فذلكَ لِسَبَبٍ وَاحِدٍ، هُوَ أنَّني حاولتُ أنْ أتجاوزَ فوكنر في كِتابةِ مَا هُوَ مُستحيل، وَتَقْدِيم عوالم وانفعالات، يَستحيل أنْ تُقَدِّمَهَا الكِتابةُ والكَلِمَات مِثْل فوكنر، ولكنْ لَمْ أستطعْ أنْ أتجاوزَ فوكنر أبدًا، إلا أنَّني اقتربتُ مِنْه).

***

إبراهيم أبو عواد

 

قراءة في أفق الشعر الوجداني وتحوّلات المعنى في لغته الحُبّية

يمثّل الشاعر الفلسطيني محمود السرساوي أحد الأصوات الشعرية التي تجسّد في كتابتها توتّر الوجد بين الداخل والكون، بين الذاتي والعالمي، حيث تتجلى القصيدة عنده كضرب من الانكشاف الأنطولوجي المضمّخ بماء الحب، لا كفعل لغوي فحسب، بل كإزاحة للرؤية وتحويل للغة إلى طاقة كشف. في قصيدته "لأنك أنت" يفتح السرساوي أفقًا من الوجد الخالص الذي يزاوج بين الإنساني والطبيعي، بين الحب والكينونة، بأسلوب شعري ينأى عن المباشرة ليتوسل الرمز والتكثيف والتجريد الحسي.

أولًا: جدلية الذات والآخر — من الهوية إلى الذوبان:

العنوان نفسه "لأنك أنت" يشكّل جملة شرطية ناقصة، ما يضمر أن القصيدة كلّها هي جواب ذلك الشرط. هذه البنية المعلقة تمنح النص كثافة وجدانية وتفتح إمكانات متعددة للتأويل. فـ"أنت" هنا ليست فقط ضمير المخاطب، بل هي مطلق الحضور، قد تكون الحبيب/الآخر، وقد تكون الكينونة/المطلق، وقد تكون صورة الذات وقد انعكست في الآخر.

إن الشاعر ينطلق من "أنت" لا كطرف خارجي، بل كشرط أولي للوجود وللإدراك:

 "لأنك أنت / الساعة خارج الوردة / خارج العطر المسفوح على الأعشاب"

يُخرج السرساوي الزمن من معناه الميكانيكي، ليجعله توقيتًا شعوريًا مرتبطًا بالحب. "الساعة" لم تعد وحدة لقياس الوقت، بل لحظة وجودية متجاوزة "للوردة" و"العطر"، كأنّ الحب هنا يفكّك العلامات الحسية ليستعيد المعنى الأصيل للوجود..

ثانيًا: اللغة الشعرية كفعل انبثاقي:

يعتمد سرساوي على الاقتصاد اللغوي والتكثيف الدلالي، حيث تتراصف الصور الشعرية في توليفات غير مألوفة، تصنع انزياحات لغوية تعبّر عن التوتر بين الداخل والخارج:

 "يخرج من كفيك المطر / سرب دروب ظامئة / وشجر يتوجع".

الصورة هنا تتجاوز الاستعارة التقليدية، لتقيم علاقة بين الجسد (الكف) والطبيعة (المطر، الدروب، الشجر). لا حضور لمخاطب خامل، بل لكائن فاعل، خالق، يسقي الكون بفيضه، ويستدرج الظمأ إلى الاكتمال. في هذا السياق، يصبح الآخر (أنت) كينونة فياضة بالمعنى، مركزًا كونيًا تتجاذب نحوه العناصر.

ثالثًا: السفر كاستعارة للبحث عن الذات

في قوله:

"كم اكتمل الآن بك / كم احتاج السفر إليك"

يتحوّل الحبيب إلى وجهة روحية، إلى اكتمال وجودي يتوق إليه المتكلم. "السفر" ليس حركة مادية، بل تعبير عن التوق الأنطولوجي نحو الاندماج، وكأن الهوية لا تكتمل إلا بالآخر، بما يحيل إلى تصوّر هيغلي للاعتراف: أن الذات لا تكتمل إلا عبر الآخر.

رابعًا: انكسار الزمن وتجاوز الواقعي

"صفير دمه المشع على المقاعد / والهمس الذي أسقط كرة العالم / بقبلة واحدة"

تشكّل هذه الصورة إحدى أكثر مواضع النص كثافة وغرابة. هنا يتحول "الهمس" إلى قوة كونية قادرة على "إسقاط" العالم، ليس عبر العنف بل عبر الحب. تتلاشى الحدود بين الخاص والعالمي، بين ما هو حسي وما هو ميتافيزيقي، فيصبح "القبلة" حدثًا كونيًا، أشبه بما يسميه باشلار بـ"الصورة الجوهرية" التي تحرّك فينا مخيلة العالم.

خامسًا: تفكيك مفهوم البداية — الحب بوصفه أصلًا

تبلغ القصيدة ذروتها في ختامها:

"لأنك أنت / في البدء كان الحب"

هنا يستعيد الشاعر جملة الكتاب المقدس "في البدء كان الكلمة"، لكنه يستبدل "الكلمة" بـ"الحب"، مما يشير إلى تأويل وجودي مغاير: الحب ليس عاطفة عابرة بل أصل الكينونة. بهذا التوليف، يقيم الشاعر فلسفة شعرية ترى في الحب قوة الخلق والبدء، لا فقط انفعالًا ذاتيًا.

سادسًا: تحليل الأسلوب والدلالة الجمالية:

1. الأسلوب:

تتسم القصيدة بلغة شعرية تعتمد على المجاز والانزياح.

لا وجود لقافية أو وزن تقليدي، مما يضعها في إطار الشعر الحر الحداثي.

التكرار (خاصة عبارة "لأنك أنت") يمنح النص إيقاعًا داخليًا ويُرسّخ البنية الدائرية للخطاب الوجداني.

2. الفضاء الدلالي:

الطبيعة (السماء، المطر، الشجر) تحضر بوصفها مرآة للمشاعر الداخلية.

هناك تشاكل بين الخارجي (الكون) والداخلي (الحب)، مما يضفي على القصيدة طابعًا كونيًا لا شخصيًا فقط.

3. الجمالية الكلية:

القصيدة لا تسعى إلى وصف شعور، بل إلى تجسيده.

الحب هنا ليس حالة بين اثنين، بل شرط أنطولوجي للوجود.

خاتمة:

قصيدة "لأنك أنت" لمحمود سرساوي ليست فقط نشيدًا للحب، بل تأمل شعري في معنى الوجود، حيث يلتقي الشعري بالفلسفي، والحسي بالميتافيزيقي. إنها قصيدة تجترح لغة جديدة لقول العاطفة، لا تسكن في الحنين أو الغياب، بل تقيم في الحضور، حضور الآخر الذي تتجلّى به الأشياء ويكتمل به المعنى.

يستحق النص أن يُقرأ كجزء من مشروع شعري فلسطيني وعربي يعيد للحب مكانته كقوة معرفية وجمالية لا كحالة رومانسية فقط، ويتجاوز حدود التعبير التقليدي ليخوض في جوهر الإنسان وعلاقته بالعالم.

***

بقلم: عماد خالد رحمة - برلين.

للكاتبة الأسيرة المحررة عائشة عودة

لكل مناضل وأسير الحق بأن يحلم بالحرية ويؤمن بأن السجن والأسر والتعذيب الذي سيلاقيه هو ما يتوجب عليه دفعه ثمنّا للشمس، شمس الحرية والإنعتاق من ظلم السجّان وجبروته. وقد وفقت الكاتبة عائشة عودة عندما وزعت تجربتها النضالية في الأسر على كتابين هما أحلام بالحرية وثمنا للشمس موثقة تجربتها الاعتقالية وما رافقها من صولات وجولات مع المحقق والسجَّان مع حرصها على إبراز الإرادة الفلسطينية الصلبة. وقد أتى هذا التوثيق بلغة رشيقة وجذابة حيث تأخذنا بكاميرة قلمها وصدق نبضها لنكون أمام ما يشبه المشاهد التصويرية للحدث وليس أمام نص سردي جاف. فتجعل القارىء يتألم لألمها ويزهو لإنتصارها وهو يرافقها في تنقلاتها من سجن لآخر تقف منتصبة القامة أمام المحقق.

لم تكتب عائشة عودة تلك التجربة لتستدر تعاطف القارىء مع عذاباتها ومعاناتها بل كانت تهدف لتحفيزه على الإنحياز للعدالة وعدم الإستكانة في وجه الظلم وعلى استمرار جذوة النضال والتحدي والإستفادة من تجربتها وتجارب زميلاتها لتشكل الرافعة الصلبة لإستمرار المقاومة. لذا نجد انها لم تركز في هذين الكتابين بشكل لافت على عذاباتها الشخصية والامها بل خصصت الحيز الأكبر من صفحاتهما للحديث عن النضال المشترك للأسيرات وذوبان الفوارق والخلافات السياسية بينهن، وأيضا على إستمرار هذا النضال داخل أقبية السجن وحرصهن على التعليم والتعلم ونقل الصورة الأنقى عن فلسطين واحقية شعبها بها.

بالعودة إلى الكتابين يمكن للقارىء أن يلمس العديد من النقاط التي أثارتها الكاتبة ومنها:

المرأة العربية ودورها ونظرة المجتمع لها:

تطرقت الكاتبة إلى وضع المرأة في المجتمع الفلسطينيّ، سيما مسألة التّفريق بين الولد والبنت وتفضيل الذّكر على الأنثى مشيرة إلى مواقف كثيرة جوبهت بها فقط لكونها "بنتاً"، ومن تلك المواقف ردة فعل عمّها عندما اطلعته على ورقة علاماتها المدرسية التي تشيرإلى تفوقها، فرغم فرحه بالنتيجة إلا أنّه قال: "بس يا خسارة إنك بنت"، لترد عليه بالقول:"ليش الولد أحسن منّي؟ لا يوجد أحد من أبنائك واولاد عائلتنا يستطيع القراءة أفضل منّي". أما حجّة عمها فهي أن البنت لا تستطيع التغيب عن البيت كما الولد. تقول عائشة منذ ذلك الحين سكنني رفض مطلق لمنطق التّمييز ذاك، وتحوّل الرّفض إلى معركة دائمة أديرها بصمت، وبشكل تلقائي بيني وبين المنطق الّذي يجعلني أقل قيمة وأكثر عبئاً من الولد أو الرّجل كوني فتاة".(أحلام بالحرية 44 و45).

وتستمر محاولات التضييق على البنت عائشة ومحاولة أمّها عدم إكمال تعليمها خارج القرية، وتطوع عدد من النسوة للضغط على أمها بالقول:"شو بدك في وجع الراس بكرة بتصير بنك تكتب رسايل للشباب شو بدها تفيدك حجتك بعدين، وين بتحطي راسك ساعتها (ثمنا للشّمس، ص61)،

وتسلط الكاتبة الضوء على وضع المرأة الفلسطينية وتغول السلطة الذكورية التي ترى في المرأة مجرد ربة منزل وحاضنة أطفال، وتورد عائشة كيف انها استطاعت تنسيب عدد من النسوة في الإتحاد العام للمرأة الفلسطينية لتفاجىء في اليوم التالي بطلبهن الإنسحاب وشطب أسمائهن من الإتحاد ولأسباب متشابهة فهذه رغبة واوامر الأخ، الإبن، الزوج، وحتى إبن العم. وتقول المرأة المنسحبة لا اريد أن أكون سببا في إدخال أي منهم السجن او حرمانه من العمل. (أحلام بالحرية 117). إنها ثقافة متجذرة في مجتمعنا العربي والشرقي نكاد نجدها عندها الرجل الأمي وأيضا عند المتعلم في بعض الأحيان، ألم يجرؤ المحامي أنطون جاسر على لوم عائشة لإنخراطها بالسياسية وشذوذها عن هذه الثقافة حينما قال: "ما كان لك أن تزجّي بنفسك في السّياسة وتدخلي السّجن، وكان من الأفضل لك، البقاء في بيتك لتعيشي حياتك مثل باقي الفتيات فذلك خير من أن تكوني سجينة، وفي ردها على دعوة المحامي لها للركون في المنزل تقول عائشة: "لسنا مجرد سجينات بل نحن طاقة محركة في جميع الإتجاهات لم يكن بالامكان خلقها لو بقينا في الماء الراكد مجرد ربّات بيوت،  فأنا أكثر حرية من عشرات الملايين من نساء ورجال أمتك العربية الذين يقبعون في بيوتهم مكبلين بخوفهم. (ثمنا للشمس 50 و52).

لكن إنخراط عائشة وزميلاتها في النضال السياسي والمواجهة أثبت عقم تلك النظرة الدونية للمرأة، وفي مناجاتها مع غسان كنفاني تقول عائشة: " هل تسمع يا غسان كنفاني لم نعد أقزامًا ها هي المرأة تنطلق من قمقمها مارداً فتكنس الأفكار الشوها التي تمنعها من الإرادة وتلصق بها العجز وسبب الهزائم، أفقن أيتها النساء ها هي عائدة سعد تنطلق مفجرة إرادتها قنابل على رؤوس جنود الاحتلال"(أحلام بالحريّة 116).

الذاكرة والمكان عند عائشة

تحضر الذاكرة والمكان بقوة وفي أكثر من موقف في هذين الكتابين. ومن دون أن يشعر القارىء بنوع من الخلل يعيب انسيابية النص السردي وتماسكه استطاعت الكاتبة وبحرفية عالية أن توائم بين الحدث الآني وتسترجع ما يناسبه من ذكريات ومواقف سابقة، فمثلا تبدأ الكاتبة بوصف لحظة اعتقالها في الأول من آذار1969 عندما انتبهت لوجود شخص غريبأ أدركت انه من رجال الإحتلال يقف على الرصيف يبادرها قائلا: مرحبا اليست هذه صورتك؟ لتجيبه بالإيجاب وتكمل سيرها نحو البيت، وبينما كان القارىء متحفزا لمعرفة ما جرى نجد أن الكاتبة وبعفوية تامة تأخذنا للحديث عن بيتها وبكل التفاصيل تصف لنا مدخله المرصوف ببلاط حجري وتسهب في وصف جدران البيت وشبابيكه ولا تنسى ان تذكر لنا أسماء قاطنيه من أفراد العائلة وانواع النباتات والزهور التي زرعت في احواضه. لقد أرادت الكاتبة من وراء ذكرها لأوصاف بيتها وجماليته وسكونه القول انها في اليوم الأول من آذار 1969 سيكون المعتقل بيتها الجديد الذي تنتقل إليه بملء إرادتها. وقد أسترسلت في وصف بيتها ربما لأن حدسها أنبأها بأن هذا البيت سينسف –وهذا ما حصل- فأرادت أن يبقى عالقاً بالذاكرة.

واثناء اقتيادها للتحقيق تعيدنا الكاتبة إلى بداية تفتح وعيها السياسي وانتسابها لحركة القوميين العرب وتشكيل اول خلية تنظيمية من بنات صفها الثاني ثانوي " روضة الفرخ، شريفةحمودة، محاسن الترتير، وسلافة البرغوتي بإشراف مسؤولة الخلية لطفية الحواري.

أيضا عندما اعتقلت ووضعت في الجيب تعيدنا الكاتبة إلى مجزرة دير ياسين وهجوم عصابات "شترين" وقتلهم مؤذن الجامع قبل الآذان ليدخل الجنود ويذبحوا الفران وإمرأة حامل كانت متواجدة بالفرن واستطاعت زينب ابنة خالتها الإختباء في الفرن خلف كومة الحطب يسكنها الخوف ثم تشعر بسائل دافىء يسري تحتها ويرنخ ثيابها فأغمي عليها ليجدها أخوها بعد أيام وينقلها إلى المستشفى (أحلام بالحرية42).

جمالية القبح في السرد:

لقد رافقنا الكاتبة وهي تجوب بنا اروقة وزنازين السجون تروي لنا تجربتها بمرارتها وقسوتها، وبالرغم من أساليب التعذيب الوحشية وما رافقها من امتهان للكرامة الإنسانية وتعامل المحقق مع الأسرى بما يندى له الجبين ومع كل هذا القبح في تصرف المحقق استطاعت عائشة وبما تملكه من أدوات وبلغة أنيقة وشفافة ان تنقل لنا الصورة دون خدش للحياء وإن لامسته في بعض الفقرات، بحيث جعلت القارىء ينجذب إلى النص ويتفاعل معه ويرى فيه أيضا نوعا مما يسمى بجمالية القبح بالرغم من قسوة المشهد وقبحه، تقول عائشة في الحديث عن محاولة امتهان جسدها وتعريته: "أمسك أحدهم بقدمي والآخر بذراعي مسحا الأرض بجسدي ثم خرجا بي إلى الممر وساروا بي حيث كان صف من الشباب ولم اجرؤ على فتح عيوني كي لا تصطدم بعيون احدهم، وقد انفجر أحد الشباب باكيا كان بكاؤه نشيجاً (احلام بالحرية 125)

لقد أظهرت الكاتبة تعامل المحقق مع الأسيرة حيث يبيح لنفسه امتهان الكرامة والتعذيب النفسي والجسدي إضافة إلى تجاوزه المحظور وتلفظه بكلمات نابية وتناوله للعب على وتر الأعراض والتهديد بانتهاكها. وفي معرض التحقيق مع عائشة يقول لها: "رح أشلك واخلع عيونك وأشوه وجهك وأخليك متل القردة(احلام بالحرية47). ناهيك عن نعتها اكثر من مرة بالعاهرة. كل هذه العذابات لم تفت من عضد الكاتبة الأسيرة فهي كما قالت لا تذكر انها كانت تتألم بل كانت تشحن إرادة الصمود والتحدي مع كل صفعة أو ركلة فهذا ثمن المواجهة (أحلام بالحرية 54). وفي موضع آخر أجادت الكاتبة في وصف احد المحققين مصرة على إظهار قبحه من الخارج كما الداخل فتقول عنه "انه ضخم الجثة ذا كرش يندفع أمامه كعربة، له شوارب كثيفة وصلعة واسعة إفترشت معظم مساحة رأسه، مقطب الجبين كأنما فصل خصيصاً لإنتاج الرعب ( أحلام بالحريّة 70).

نلمسُ في هذين الكتابين الصدق والشفافية في سرد عائشة للوقائع فلم تنسب لنفسها البطولات الوهمية ولم تدعي أنها المرأة الخارقة التي لا تضعف او تلين بل كانت الإنسانة الطبيعية التي تتقاذفها المشاعر والأحاسيس وتسيطر عليها أحيانا لحظات ضعف ويأس كما لحظات القوة والتصميم. فبعد ان مورس عليها أقسى انواع الترهيب عندما دخل عليها رجلان وقالا لها هل تعرفين أننا جئنا لشلك؟ لقد فعل هذا القول فعله في إرباكها وسيطر عليها الخوف من فكرة الشلل لذا آثرت الإعتراف بأنها من وضع القنبلة ظنا منها ان اعترافها هذا ليس سوى مناورة لكسب الوقت وتفادي الشلل المزعوم. كذلك نلمس روح التضامن والإيثار لدى الأسيرة عائشة عندما اعلمها المحقق "ابو هاني" بأنه سوف يؤذي زميلتها رسميّة ويضربها حتى الموت، وحين بدأ بتنفيذ وعيده بدأت رسمية تصرخ من الألم وعائشة تصرخ خوفا عليها إلى أن تشنجت يدا رسمية وصرخت "إنشلو إيديّ". أمام هذا الموقف لم يكن امام عائشة لإنقاذ زميلتها من شلل محتم إلا ان صرخت في وجه المحقق "أوقفوا الضرب عن رسمية وأنا أدلكم على مكان الأسلحة" (أحلام بالحريّة 94).

بكل صدق تصف عائشة الصراع الداخلي الذي عاشته وهي مضربة عن الطعام ينهشها الجوع تقول: "كانت عيوني تبحلق في قطع الخبز وانشدَّ كامل جذعي ومال باتجاهها، لكن لن أسمح بأن تضعف إرادتي أمام قطعة خبز "(ثمنا للشمس116).

مع أن هذين الكتابين يؤرخان لتجربة عائشة النضالية في الأسر إلا أنها لم تقلل من شأن زميلاتها ونضالهن المشترك ولم تنسب لنفسها صورة البطل الأوحد بل نجدها قد أفردت لأكثر من واحدة منهن مساحة لا بأس بها ليتعرف القارىء على دور المرأة الفلسطينية ومساهمتها في النضال وتضحياتها في سبيل القضية الأم. ومن هؤلاء المناضلات اللواتي ذُكرن : "حياة عبيدو، ليلى عودة، سامية الطويل، ليلى وعائدة قمري، عزية رزوز، حنان عسلي، إنتصار بسيسو، مريم الشخشير، رندة النابلسي، سهام الوزني، لطفية الحواري، عائدة سعد، وعفيفة بنورة وغيرهن وكما تقول عائشة". إن اتساع دائرة النساء اللواتي يغادرن حالة السلبية والإنزواء هو البرهان على نهوض الأمة(ثمنا للشمس88).

ولم تكن المرأة الفلسطينة وحدها في ساحات النضال والمواجهة بل أن تحركها النضالي هذا ألهم العديد من نساء العالم للتضامن ولنصرة القضية الفلسطينية أمثال باولا و ماركوت من هولندا، المناضلة الفرنسية نادية بريدلي وهي من أصل مغربي وبعد الإفراج عنها إلتحقت بالجبهة الديمقراطية في بيروت لحين وفاتها. وكذلك الطالبة الهولندية "لودوين" والكندية "لي"التي ذهلت من حجم الكذب الذي حشوه في الرؤوس، الشرطية "أوديت" التي جاءت من باريس وبعد نقاشات مع الأسيرات افلت عائدة لفرنسا فلا يمكنها ان تكون مواطنة في دولة قائمة على الكذب وظلم شعب آخر (ثمنا للشمس67). أما "تريز هلسة" الفتاة الأردنية كما هي فلسطينية نشأت في بيت عروبي وامتهنت مهنة التمريض قبل ان تلتحق بالعمل الفدائي وتشارك في عملية خطف طائرة والهبوط في مطار اللد لتنتهي جريحة وأسيرة.

المواجهات مع السجّان:

ابرزت الكاتبة محاولة مديرة السجن الإدعاء بأن الدافع الوحيد لما قامت به عائشة وزميلاتها إنما نابع فقط من كراهيتهن لليهود، في محاولة منها لنزع صفة النضال السياسي عنهنّ، عندما وصفتهن قائلة: انتن لستُنَّ سياسيات بل مجرد قاتلات للأطفال أعماكن الحقد وكره لليهود الذي تبثه إذاعة "أحمد سعيد"، وفي هذا ترى عائشة ان مديرة السجن بمحاولتها هذه تنسف كامل الحقوق والأهداف النضالية للأسيرات وتحولهنّ إلى مجرد مرضى بشيء إسمه كراهية اليهود"(ثمنا للشمس41). كما أنّ إصرار عائشة على اعتبار نفسها مناضلة سياسية وهذا حقٌ لها، جعلها لا تتهاون مع أي خطأ ولو كان غير مقصود ينزع عنها هذه الصفة، فعندما أهدتها الشاعرة فدوى طوقان قصيدة عنونتها " إلى السجينة عائشة عودة" فأن مصطلح السجينة لم يرق لها ووخزها فقالت معاتبة: " ألسنا مناضلات وأسيرات يا شاعرتنا؟ هل فاتك الفرق؟"( ثمنا للشمس205). ولم تمنع ظروف وقسوة الإعتقال عائشة من أن توضح رأيها أمام السجّان بأن دولته قامت على الإرهاب والتزوير والسرقة والمجازر كمجزرة ديرياسين ومجزرة كفرقاسم وغيرها من الإرتكابات. (ثمنا للشمس38)

ولأن الإعتقال أو الأسر ليس سوى مرحلة من مراحل النضال والمقاومة فقد دأبت الأسيرات على إكمال دورهن في إثبات أحقيتهن بهذه الارض وكثيرا ما كانت تدور بينهن وبين مديرة السجن او المحققين نقاشات سياسية تبين هزالة موقف المحتل، وأبرزت الكاتبة العديد من مراحل النضال والوقوف في وجه السجّان وكيف ان المعتقلات استطعن منع المحتل من رفع أعلامه في أروقة السجن المخصص لهُنَّ. وذكرت الكاتبة الكثير من حالات الإضراب عن الطعام لحين تحسين ظروف أعتقالهن والحصول على مطالبهن وأهمها الحصول على الكتب ولوازم الكتابة. ناهيك عن رفضهن وعدم اعترافهن بالمحكمة ومحاكماتها الصورية وأحكامها المعلبة.

كما أن الاعتقال لم يفت من عضد المناضلات فاستحدثن وخاصة في الفترة التي تلت صدور الأحكام بحقهن برامج تثقيفية وسياسية وترفيهية وحلقات تدريس ووزعت الأدوار والمهمات على كل أسيرة تبعا لثقافتها وخبرتها. فكتبن النصوص المسرحية وأصدرن مجلة ثقافية سميت "العروة الوثقى" واستحدث ايضا ما يشبه المكتبة والمدرسة إضافة الى بعض الأنشطة الرياضية.

وتنهي عائشة عودة سرد تجربتها بفرحة ناقصة فهي وإن أفرج عنها بعد عشر سنوات بصفقة تبادل إلا ان فرحتها بقيت ناقصة بسبب قرار الإبعاد المرفق بالإفراج لتبدأ كما تقول رحلة أخرى في مشوار الحياة.

ختاما احلام بالحرية وثمنا للشمس من الإجحاف ان نصفهما بأدب السجون أو أدب السيرة بل ينتميان إلى أدب الحرية، وقد كتبا بلغة إنسانية رفيعة لامست الوجدان العربي لا بل هزته عسى أن يفيق من سباته الذي طال.

جمالية القبح في السرد

وبالرغم من أساليب التعذيب الوحشية وما رافقها من امتهان للكرامة الإنسانية وتعامل المحقق مع الأسرى بكل تعجرف، إلا ان الكاتبة وفي وصفها لتلك الوقائع والممارسات بلغة أنيقة وشفافة تجعل القارىء منجذبأ إلى النص ومتفاعلا معه ويرى فيه أيضا نوعا مما يسمى بجمالية القبح بالرغم من قسوة المشهد، تقول عائشة في الحديث عن محاولة امتهان جسدها وتعريته: "أمسك أحدهم بقدمي والآخر بذراعي مسحا الأرض بجسدي ثم خرجا بي إلى الممر وساروا بي حيث كان صف من الشباب ولم اجرؤ على فتح عيوني كي لا تصطدم بعيون احدهم، وقد انفجر أحد الشباب باكيا كان بكاؤه نشيجاً (125)

لقد أظهرت الكاتبة تعامل المحقق مع الأسيرة حيث يبيح لنفسه امتهان الكرامة والتعذيب النفسي والجسدي إضافة إلى تجاوزه المحظور وتلفظه بكلمات نابية وتناوله للعب على وتر الأعراض والتهديد بانتهاكها. وفي معرض التحقيق مع عائشة يقول لها: "رح أشلك واخلع عيونك وأشوه وجهك وأخليك متل القردة(47). ناهيك عن نعتها اكثر من مرة بالعاهرة. كل هذه العذابات لم تفت من عضد الكاتبة الأسيرة فهي كما قالت لا تذكر انها كانت تتألم بل كانت تشحن إرادة الصمود والتحدي مع كل صفعة أو ركلة فهذا ثمن المواجهة (54). وفي موضع آخر أجادت الكاتبة في وصف احد المحققين مصرة على إظهار قبحه من الخارج كما الداخل فتقول عنه "انه ضخم الجثة ذا كرش يندفع أمامه كعربة، له شوارب كثيفة وصلعة واسعة إفترشت معظم مساحة رأسه، مقطب الجبين كأنما فصل خصيصاً لإنتاج الرعب (70).

***

عفيف قاووق – لبنان

 

"فان غوغ ببزة عسكرية".. جدلية الإنكشاف والإحتجاب أو في التداخل بين الفني والسياسي

مدخل: هذا النص الشعري هو الأثر الثالث في الأعمال الشعرية لضياء البوسالمي بعد مجموعته الأولى " أقف وحيدا أمام الجدار " الصادرة سنة 2018 ومجموعته الثانية " ألف طيف وطيف للموت " الصادرة سنة 2020، هو شاعر ينتمي لثورة 17 ديسمبر- 14 جانفي 2011، بآمتياز بحكم أن أغلب ما أصدره كان في العشرية الأولى للثورة، فلا يمكن له أن ينفلت من تداعياتها إن قليلا أو كثيرا وقد نعثر عن أثر لذلك فيما يحبر، وذلك رغم ما أصاب الثورة من نكوص، حاد بها عما كانت منذورة له من آمال وأحلام.

1-عتبات النص:

هذه المجموعة الشعرية نشرت ضمن سلسلة شعرية تحمل عنوان نبض عن دار النشر pop Libris  في الثلث الأول من سنة 2025 في طبعتها الأولى، الكتاب من الحجم الصغير، يشتمل على خمس وعشرين نصا شعريا وردت في مائة وعشر صفحات

أ – غلاف الكتاب: يحمل الغلاف صورة لفان غوغ الرسام الشهير (1853- 1890) ببزة عسكرية بلون أزرق سماوي في الجانب الأيمن من الغلاف، يزداد دكانة في جانبه الأيسر، يحتل العنوان مساحة كبيرة من الغلاف باللون الأصفر، في جزئه الأول وبخط غليظ في حين يكون الجزء الثاني بخط صغير، في أسفل العنوان يمينا إسم الشاعر، في الجانب الأيسر من الغلاف إسم للسلسلة التي تحتضن الأثر الشعري – نبض -. الصورة في الغلاف تطابق عنوان الكتاب، فكأن العنوان تأكيد للصورة وليست الصورة تأكيدا للعنوان، لأننا إزاء أثر لغوي قد يظل جنسه مفتوحا على المجهول، إلا أنه قائم على اللغة أساسا وإن تخللته بعض الرسوم واللوحات للرسامة المصرية مي كريم، أعدت خصيصا للمجموعة في تداخل بين فني الرسم والكتابة فهل تكون الرسوم أصدق إنباء من الحروف؟ جنس الكتابة سيتكشف إذا تجاوزنا الغلاف إلى متن الكتاب. أسفل الغلاف نجد إسم دار النشر pop Libris.

ب – العنوان: هو في الأصل عنوان القصيدة الأولى التي وهبت إسمها للمجموعة ومكنت مصمم الكتاب من إستيحاء صورة الغلاف، إن العنوان بلاغيا يدخل في دلالة الجزء على الكل. العنوان من حيث التركيب النحوي تركيب إسنادي مسند إليه مع مسند: علم + مركب بالجر مبدوء بحرف الجر – ب – الذي يدل على الحالية أو الوصفية، فنحن إزاء علم- رسام ذي شهرة عالمية- وضعه الشاعر في حالة مفارقة une situation paradoxale حيث ألبسه بزة عسكرية، مما يفتح النص على أسئلة الدلالة الحارقة.قد يكون للمناخات التي كتبت فيها المجموعة أثرها في ذلك من حيث صياغة العنوان ومن حيث دلالاته ومن حيث إختياره كعنوان للأثر.

ج- بنية الكتاب: التصدير: يشتمل على سطرين شعريين من قصيد " أثر الفراشة " لمحمود درويش نشر في كتاب أثر الفراشة الصادر عن دار الريس، بيروت، سنة 2008. هذان السطران يضفيان شرعية أدبية لإسم السلسلة- سلسلة نبض- في تلاحم بين الجانب الفيزيولوجي والجانب الإبداعي. إن أثر الفراشة لا يرى ولا يزول وهو نظرية فلسفية وفيزيائية تعني أن أي حدث يحدث في الكون يكون ناتجا عن مجموعة أحداث صغيرة لم يلاحظها أحد.

على سبيل المقدمة: بعد الإهداء والتنويه نعثر على نص مربك يصعب تصنيفه إختار له صاحبه عنوانا فرنسيا Antipréface ،و لئن كان موقعه في الكتاب يشي بأنه تقديم للعمل أو رسم لمعالم قراءة له،فإن صاحبه وهو الأستاذ ناظم بن إبراهيم حاول أن يكون نصه في تضاد مع ما هو متعارف عليه في المقدمات بل جعله يزخر بمفاهيم نقدية مستنبتة من مجالات جديدة على النقد الأدبي أو هي تعمل على وضع لبنات جديدة ل" مدرسة تخرج عن المألوف والسائد في قراءة النصوص الشعرية ".تمسح المقدمة/ المضادة تسع صفحات (من الصفحة 11 إلى الصفحة 20) مليئة بمعجم نقدي يطرح أسئلة أكثر مما يقدم أجوبة، من قبيل من أين تستمد النصوص شرعيتها، هل مأتاها النقد المسلط عليها، أم أنها هي التي تعطي للناقد ما به يؤسس شرعية لنقده؟ يعمد الأستاذ ناظم إلى إستبدال مفاهيم إغريقية/ غربية بمفاهيم من لغتنا العامية مثل " البطحاء " بدل الأغوراl'agora والبلطجي بدل الناقد، بحثا عن خصوصية ثقافية، فالنقد ليس مصطلحا مهاجرا بل له ما يؤصله في المدونة الأدبية القديمة [ آنظر إبن رشيق القيرواني (ت 456 هج / 1064 م)، العمدة في محاسن الشعر ونقده وآدابه، ] ومصطلح النقد مصطلح مهاجر من مجال المال والتجارة إلى مجال الأدب والنصوص، هي هجرة داخل الثقافة العربية الإسلامية، من المعنى اللغوي إلى المعنى الإصطلاحي " فالنقد يعرف لغة بأنه تمييز الدراهم وإخراج الزائف منها ويأتي بمعنى فحص الشيء وكشف عيوبه، أما في الإصطلاح فالنقد هو تمحيص العمل الأدبي بشكل متكامل بعد الإنتهاء من كتابته، بكشف مواطن الجودة والرداءة فيه " (آنظر، شيرين أحمد، تعريف النقد، موقع " موضوع" بتاريخ 29 مارس 2022). هل تحتاج نصوص الشاعر إلى فوضى خلاقة يضطلع بها " بلطجية " يعملون معاول " النقد " فيها بغاية تفجيرها من الداخل، فتتشظى بنيتها ويعمل البلطجية على لملمة ما تناثر من مكوناتها وإعادة صياغتها ضمن رؤية جديدة محكومة بتراجيديا معاصرة، في ظل واقع مترع بالسوداوية.

أقسام الكتاب: ينقسم الأثر في متنه إلى ثلاثة أقسام، كل قسم يشتمل على عدد من. القصائد، القسم الأول عنوانه " أيها الماضي من رآك " من الصفحة 21 إلى الصفحة 44، ويشتمل على أربع قصائد. القسم الثاني، عنوانه " حقول من الكلمات الصدئة "، من الصفحة 45 إلى الصفحة 98، ويشتمل على أربع عشرة قصيدة. القسم الثالث عنوانه " تحت جسر الوقت "، من الصفحة 99 إلى الصفحة 128، ويشتمل على سبع قصائد.

2 – تحليل أقسام الكتاب:

سنحاول إختيار قصيدة من كل قسم لتحليلها تكون معبرة عن القسم والعمل على ربطها بالعنوان الجامع للقسم.

أ – القسم الأول: إخترنا القصيد الذي وهب نفسه للأثر فحملته المجموعة الشعرية، إنه قصيد " فإن غوغ ببزة عسكرية " وهو مهدى من الشاعر إلى علاء الدين سليم..شاعرا سينمائيا. رأى الشاعر في أعماله السينمائية مثل الأغورا ومزجا بين فني الشعر والسينما، فكانت الصورة فيها قدر من الشاعرية، من أعماله أغورا (سنة 2024)، طلامس (سنة 2019)، آخر واحد فينا (سنة 2012)، بابلون Babylon إخراج مشترك (سنة 2012). مما يلفت الانتباه في القصيد قيامه على مفارقة صغرى داخل المفارقة الكبرى التي أشرنا إليها آنفا، والتي تجمع بين العسكريتارية وأحد رموز المدرسة الإنطباعية في الرسم، داخل هذا الإطار العام نفاجأ ب"تجريد" من وهبوا حياتهم للدفاع عن الوطن من حب الوطن أو تهميش مشاعرهم، مما عرف عن المؤسسة العسكرية صمتها، بعيدا عن ضجيج الإعلام، يتيح الشاعر للجنود فرصة الإدلاء بشهاداتهم، يقول الشاعر: " للمهمشين رأي في حب الوطن (شهادات لجنود من الألفية الثانية) ص 23.إن المفارقة التي تفوح رائحتها في الجمع بين الفن والحرب هي التي تتيح للشاعر أن يتحدث عن الوطنية من منظار الإنخراط في المؤسسة العسكرية ، تمكن تلك الثنائية الدخول إلى عوالم الإنتماء في صيغه المتعددة يقول الشاعر عن ذلك " الدفاع عن الوطن علكة بطعم الكرز، لكن لذتها زائلة " (ص 25) يعي الشاعر أن التضحيات الجسام التي يبذلها العسكر بمنسوب مرتفع من الوطنية سيركب عليها السياسي ليحولها إلى خطب مطولة بالفصحى وذكرى سنوية كعيد الأضحى والجامع بين الأضحى والتضحية دماء مسفوحة تسأل لأجل ماذا تلك التضحيات.(ص 25).إذا كان فإن غوغ القادم من عالم الفن – الرسم – وتحيل الببلوغرافيا الخاصة به إلى نوبات من الجنون كان يعيشها وصلت به إلى حد أنه إنتزع أذنه، فإن العسكري الذي يقضي عمره في خدمة وطنه، مرابطا على الثغور بحساسيته الوطنية المرتفع منسوبها، يصبح الضجر الذي رباه ولازمه حتى صار وحشا كاسرا يأتمر بأمره ورهن إشارته، لا جرم حينئذ أن يقدم العسكري على إنتزاع أذنيه الإثنتين من مكانيهما (ص27) ينتهي المقطع الأول من قصيد " فان غوغ ببزة عسكرية " برسم لأذن نازفة وقد لطخ الدم جزءا من الرسم وقد حبرت الرسامة كلمات مأخوذة من المقطع الأول تحكي عن حادثة الأذنين، الرسم يربط بين المقطعين الأول والثاني، رسم الأذنين الداميتين كان بالدماء، لاشيء يربط بين الجندي وفإن غوغ سوى إلتجائهما إلى الحلول الراديكالية (ص 28)، في واقع مترع بالفوضى ومطل على مدارات الجنون واللامعنى. يستعين الشاعر باللغة ليصرف معنى اللفظ في أوجه مختلفة، ينتقل من المعنى الحرفي la dénotation لكلمة " عين وأعين " إلى المعاني الحافة la connotation وما أكثرها في اللغة العربية. أعين تسيل وتتدفق لينسكب منها في جسد العسكري عزم، ثم يعود للعين، حاسة النظر مع فعل "رأى " البصرية حيث هي متمحضة للرؤية دون سواها وقد فقدت قدرتها على الإيحاء والتعبير " ولا تقدر على إظهار الفرح " (ص 29).الدماء عند العسكر مجيرة لإرادة العسكري يصرفها كيف يشاء. " عسكري قف " (ص 29) هذه الجملة ملغزة، الشخص يعرف بنفسه ثم يصدر الأمر بالتوقف، أم أن هناك شخص آخر أمر العسكري بالتوقف، أم هي هواجس العسكري تخاطبه، لأن متقبل الخطاب غير واضح المعالم، فيكون مقول القول عتبة لدخول عوالم الجنون، تتوقف حاسة السمع عن أداء دورها " لم يسمع شيئا هذه المرة " (ص 29) تبقى حاسة البصر لترى المعجزة " أعين ترى المعجزة تتحقق " (ص 29) هي معجزة الإرتواء الذاتي أو التغذية المرتدة التي تؤشر على الإكتفاء بالذات، في قطيعة تامة مع محيطه ومع العالم الخارجي، فالعجز عن التفاعل وعن إظهار الفرح، فما يحاول كتابته على الحائط، بدمائه النازفة يصدر عن ذهن مشوش، تعقبها نوبة من الضحك تثير دهشتهم بل إنه أكثر ما أدهشهم (ص 30) تلك النوبات هي " طقوس عبور" إلى حياة أخرى وهي مؤشر على " الخلاص " الذي بحث عنه ووجد فيه الحل لآلامه. إن الحياة الأخرى التي يبشر بها، سيتسلح من أجل خوض معاركها والبداية ستكون بالإنقطاع عما حوله وآسترجاع ألق البدايات، سيقطع أذنيه ويدخل عالم الصمم لن يهتم بحركة الشفاه ولن يقرأها حتى لا يعيد الصلة بسالف عهده وسيخلق نواميس جديدة يعيش بها، يؤسس بها هذه الحياة الجديدة ويؤثثها فيلتقي سيدة فاتنة تحمل مولوده دون أن يعاشرها ويدخل بنا عوالمه العجائبية والسحرية، تتكثف في آخر القصيد الرموز ذات البعد الأسطوري، لكأن هذه الحياة الأخرى في حاجة إلى ميتافيزيقا مختلفة مزيج من تراثات قديمة منها التوراتي/ الكتابي ومنها الوثني، يستعيد الشاعر علاقته بواقعه الجديد " سيعلمها وجنينها لغة الأعين " (ص 31)، يعمد الشاعر إلى ملاحقة معالم ميتافيزيقية ذات صلة بما عاشه وبما أفضى به إلى عالم الجنون لتفكيكها، فأثر أفعى الخطيئة الأصلية للبشرية، سبب الخروج من الجنة بغواية آدم وحواء، دفعه ليعلن توبة نصوحا، فما عاد اللون الأخضر بكثافته الدلالية يغريه بتجدد الحياة وبعطائها وإزدهارها، وأنه لن يكون فريسة في المستقبل لوسوسة الشيطان فقد سحب منه ذرائع الغواية وذلك بآقتلاع أذنيه، فنبتت مكانهما زهرتا قرنفل – زهرة الآلهة في الثقافات القديمة، رمزا للتفاني والإخلاص والحب والسحر والتميز.

في علاقة عنوان القسم الأول " أيها الماضي.. من رآك؟ " بقصيدة " فان غوغ ببزة عسكرية " شخصية الرسام تحيل إلى فترة من تاريخ الآخر، يستنطقها الشاعر في ظرفية تاريخية تتسم بالتوتر السياسي والثقافي، من باب " تكلم حتى أراك " فالماضي الذي غلب على السطور الشعرية للقصيد، يمثل أمامنا وبيننا في الهنا والآن هو للتجاوز، فالمراوحة بين ماض مختلف عنا ولكنه صبغنا بصبغته التي لم نجد بعد منها فكاكا، صبغة الإكراه دون الرضا وحاضرنا الذي لن تقوم له قائمة إلا بآعتماد سبيلي الهدم والبناء. لقد تعامل الشاعر مع هذه المعضلة بتوخي منهجية جدلية قائمة على ثنائية الخفاء والتجلي كما عرفت عند الناقد السوري كمال أبو ديب، فالخفاء يشير إلى الطبقات العميقة والمضمرة في النص الشعري وفي ما لا يقال صراحة ولكنه يفهم عبر التلميح والتأويل  أما التجلي فهو العناصر الظاهرة في النص كالصورة الشعرية والتشبيه والإستعارة والمجاز والإيقاع والتركيب اللفظي. فالتفاعل الجدلي بين هذين المفهومين يصنع المعنى في النصوص الشعرية.  متوسلا ما عرف في تراثنا من بحث عن الأشباه والنظائر حتى يجعل من مآلات الأمور تكاد تكون متطابقة.

***

بقلم: رمضان بن رمضان

 

للأديبة والناقدة السورية د. عبير خالد يحيى

الدكتورة عبير خالد يحيى، أديبة وشاعرة وناقدة، لها جهد كبير في ترويج النظرية الذرائعية في النقد، صدر لها عدة كتب نقدية تطبيقية على هذا المنهج، بالإضافة إلى مجموعاتٍ قصصية، وشعرية ورواية واحدة، هي موضوع هذه الدراسة.

تُمثّل رواية (بين حياتين) للكاتبة عبير خالد يحيى، عملاً سردياً معمّقاً يتناول التجربة الإنسانية المعقّدة، حيث تستعرض مسار حياة الشخصية المحورية، "غالية"، عبر مراحلَ متباينةٍ، وما اعترضها من تحدياتٍ وصراعاتٍ ذات أبعادٍ نفسيةٍ واجتماعية. تتميّز الرواية بأسلوبها الأدبي ّالمتفرّد وقدرتها على النفاذ إلى مكامن النفس البشرية العميقة، بالتوازي مع إضاءة قضايا اجتماعيةٍ ونفسيةٍ ذات أهميةٍ بالغة.

يتناول هذا التحليل استعراضًا لعناصر القوة الأدبية الكامنة في الرواية، من حيث البناء الأسلوبي، وعمق الأفكار المطروحة، وذلك بالاستناد إلى مفاهيمَ مستمدّةٍ من حقول النقد النفسي والاجتماعي. سيتم التركيز على كيفية تجلّي الأبعاد النفسيّة في بنية الشخصية وتطورها، وكيف تتفاعل هذه الأبعاد مع السياق الاجتماعي المحيط. كما ستتمّ الإشارة إلى الجانب الذرائعي (Pragmatic) في النص، والذي يرتبط بالقصدية والأثر المتوخى، لا سيما وأن الكاتبة تمتلك تخصصًا في النقد الذرائعي، وإن كان له مفهوم وإجراءات مختلفة عمّا نقصده في هذه الدراسة.

أولاً: عناصر القوة في الأسلوب

تتجسد قوة الأسلوب السردي في رواية (بين حياتين) عبر جوانب متعدّدة تسهم في تشكيل عالمها السردي وجذب اهتمام المتلقي:

1. تعدّد مستويات السرد: يتّسم السرد بالانتقال المتقن بين صوت السارد العليم، الذي يقدم الأحداث والشخصيات من منظورٍ خارجيٍّ شامل، وصوت الشخصية الرئيسية "غالية"، كما يتجلى في مذكراتها وتأملاتها الباطنية. يسهم هذا التعدد في إتاحة رؤيةٍ شاملةٍ للأحداث لدى القارئ، ويمكّنه من استكشاف أعماق نفسية غالية وفهم صراعاتها الداخلية بصورةٍ مباشرةٍ. يُضاف إلى ذلك وجود مقدمةٍ بقلم ناقدٍ آخر، مما يضفي بعدًا ميتا سرديًا على بنية النص.

2. البناء السردي المتماسك: يتميز هيكل الرواية بكونه غير خطيٍّ ومتشظٍّ، مما يعكس الفوضى الداخلية في نفسية غالية وشعورها المتفتت بالذات. يتنقل السرد بين أزمنة مختلفة - الطفولة، المراهقة، والبلوغ، وحتى عوالم متخيلة - مما يخلق سردًا متعدد الطبقات يعكس تدفق الذاكرة والطبيعة الدورية للصدمة.

على الرغم من التناوب الزمني والانتقال بين المراحل العمرية المختلفة، تحتفظ الرواية بتماسكها السردي من خلال خيطٍ ناظمٍ يربط بين الأحداث والشخصيات، ويكشف عن التأثير التراكمي للخبرات الماضية على الحالة النفسية والسلوكية للشخصية في الحاضر. يتم تقديم المعلومات بصورة تدرّجية تكشف عن أسرار الماضي وتأثيراتها على الحاضر، مما يسهم في الحفاظ على عنصر التشويق لدى القارئ ويسلط الضوء على ديناميكية التطور النفسي للشخصية.

من منظورٍ نفسيٍّ، يعكس هذا الهيكل نظرية فرويد حول العودالقهري compulsion) (Repetition عودة التجارب المؤلمة لتطارد الفرد حتى يتمَّ مواجهتها.

3. لغة ذات طابع تصويري وإيحائي: تتميز لغة الرواية بكونها شعرية وغنية بالصور الحسّيّة والتراكيب المجازية، ما يعزّز العمق النفسي للسرد. تستخدم عبير خالد يحيى أسلوبًا إيقاعيًا يمزج بين الواقعية والسريالية، مما يتيح للقراء الغوص في العالم الداخلي لغالية.

اللغة متأمّلةْ، ومثيرةْ للإحساس، وغالبًا ما تعتمد على الاستعارات والتشبيهات لنقل الحالات العاطفية. على سبيل المثال، في "الفصل الثاني: رسائل الماضي"، يتمّ وصف عصام بصور رومانسية وسحرية:

"عينان واسعتان سوداوان مكحلتان بأهداب تتماهى مع شعرٍ أسود فاحم، ينسدل بتموجات عريضة ليصل إلى منكبيه، عندما يتكلّم تنصت إليه غالية باستغراق شديد، يأسرها صوته، وتسحرها كلماته."

تعكس هذه اللغة الشعرية الطبيعة المثالية لعصام كرمزٍ للبراءة والهروب، وتكشف عن اعتماد غالية النفسي عليه كآليةٍ للتعامل مع الصدمة.

من منظورٍ نفسيٍّ، يمكن ربط هذا بمفهوم الأنا العليا (superego)حيث يجسّد عصام النسخة المثالية التي تطمح غالية للوصول إليها.

التباين بين الوصف الشعري للطفولة والصور القاسية للحياة البالغة، كما في "القفص الحديدي"، يبرز صراع الهوية (Identity conflict) حيث تحاول غالية التوفيق بين براءتها السابقة ومعاناتها الحالية.

4. الاستخدام الموظَّف للرموز:

تُعدّ الرمزية عنصرًا أساسيًا في الأسلوبية، وهي مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالاستكشاف النفسي للذاكرة والهوية والصدمة.

تزخر الرواية برموزٍ متعدّدةٍ تثري دلالاتها وتضيف أبعادًا فلسفيةً ونفسيةً إلى النسيج النصي.

- الصديق الخيالي (عصام/سوسو): باعتباره رمزاً للعالم الداخلي لطفولة الشخصية، وآلية نفسية للتكيف (Coping Mechanism) وملاذًا لها من قسوة الواقع الخارجي. يعكس الاقتباس التالي لجوء الشخصية إلى عالم داخلي خيالي كوسيلة للهروب من الواقع والتعامل مع المخاوف: "أما صديق غالية الخيالي، فطفل عمره تسع سنوات، مليح الوجه... يروي لها الكثير من الحكايات، يأخذها إلى عوالم مليئة بالغرابة والمغامرات المثيرة، لطالما أحبّت طريقة سرده لقصص كان فيها البطل الذي ينتصر على كل الأشرار، تستمتع بحكاياته تلك أكثر من استمتاعها بحكايات الجدّة التي كانت تشعرها بالخوف من الغول والذئب..."

- عصام كرمز للذاكرة والصدمة: من ناحيةٍ ثانية، يمثّل عصام ملاذًا ومصدرًا للصدمة، كصديقٍ خياليٍّ في طفولة غالية، يجسّد براءتها المفقودة وأمان سنواتها الأولى؛ لكنّ رحيله وإعادة ظهوره يرمزان إلى قبضة الذاكرة المستمرة. في "الفصل الثاني: رسائل الماضي"، يقول عصام:

‘سوف أراقبك من بعيد، وسأقترب أحيانا ًمتسللاً، لكن بسحنة وبهيئة لن تعرفيني بها، قد تحزرين، وتشكّين بأنها أنا. يشير هذا إلى الذاكرة كقوة غامضة ومؤرقة، تساهم في أزمة الهوية عند غالية. من منظورٍ نفسي، يمكن اعتبار عصام تجسيداً للاشعور (unconscious) حيث يحمل ذكريات مكبوتة تؤثر على قراراتها.

- البحر والشمس كرموز للهوية والأمل: يرمز البحر والشمس إلى الخسارة والأمل. يعكس البحر عمق صراعات غالية العاطفية، بينما تشير الشمس إلى التجدد. في "تداعيات الوداع. تعكس الصورة التاليةصراع غالية مع الصدمة ورحلتها نحو هويةٍ مستقرة، حيث تبحث عن الراحة في الدورات الطبيعية.   "كانت غالية تبكي عصام!... ودّعها ووعدها ذات مغيبٍ وقال: ‘سأحضر إليك كلّ غروب، عندما ترتمي الشمس في حضن البحر، تغيبُ عنكِ لتشرقَ في مكان آخر ...". من منظور يونغ، يمكن اعتبار البحر رمزًا للاوعي الجماعي (Collective unconscious)، بينما تمثل الشمس  "الأنا"  (ego)التي تسعى للتوازن؛ وتُشكل عناصر البحر والشمس والقمر ثلاثية رمزية تتغير إيحاءاتها تبعًا لتطور الأحداث وتحول رؤية غالية للحياة، مما قد يعكس مراحل مختلفة من تطورها النفسي

- الحبس والتحرر: ترمز مفردات مثل "القفص الحديدي"، و"الزريبة"، و"القبر" إلى حالة القمع النفسي والاجتماعي والشعور بالسجن الذي عاشتها غالية في إطار تجربتها الزوجية..

في "زينة الحياة الدنيا"، يُصور إرهاق غالية "تسقط يدا غالية على ذراعَي الأريكة متهالكة، تحول دون سقوط كتلتها التعبة المتضخمة أرضا." يعكس هذا الانحدار حالتها النفسية، حيث تحاصرها التوقعات الاجتماعية، لكن رفضها للأدوية يشير إلى التحرر. من منظور نفسي، يمثل هذا انتقالًا من الإذعان إلى الإرادة الذاتية.

ثانياً: عناصر القوة في الأفكار والموضوعات

تطرح الرواية جملةً من الأفكار والموضوعات العميقة التي تعكس فهماً دقيقًا للحياة الإنسانية وصراعاتها المتجذرة، مع تركيز خاص على الأبعاد النفسية والاجتماعية:

1. أهمية مرحلة الطفولة وتأثيراتها النفسية: تُبرز الرواية الدور المحوري لمرحلة الطفولة وتأثيرها المستمر على مسار حياة الفرد وبنيته النفسية. لا تُعدّ شخصية الصديق الخيالي مجرّد تفصيلٍ هامشي، بل هي مكوِّنٌ أساسيٌّ في البنية النفسية لغالية، تعكس حاجتها الفطرية إلى الرفقة والدعم في مواجهة عالمٍ يبدو غامضًا وغير مفهوم بالنسبة لها. يستمر هذا التأثير حتى بعد تجاوزها مرحلة الطفولة، مما يؤكّد على أنّ بعض الاحتياجات الأساسية وأنماط التكيّف النفسي تتشكّل في مراحلَ مبكرةٍ من العمر وتستمرّ في التأثير على السلوكيات والعلاقات المستقبلية.

2. الصدمة والمرونة النفسية (Resilience): تتعرض غالية لسلسلةٍ من الصدمات المتوالية خلال حياتها، بدءًا من حادث والدها الذي قد يمثّل صدمةَ طفوليةً مبكرة (Childhood Trauma)، مرورًا بمرارة تجربتها الزوجية التي تتضمن عنفًا نفسيًا وجسديًا، وصولًا إلى فقدان والدتها وجنينها. لا تكتفي الرواية بسرد هذه الصدمات، بل تركّز بشكلٍ أساسيٍّ على آليات تعامل غالية معها، وقدرتها على الصمود والمقاومة في وجهها. إنّ التحوّل الذي تشهده شخصيتها من موقع الضحية إلى موقع الساعي نحو النجاة واستعادة الذات يُمثِّل جوهرَ مفهوم المرونة النفسية، وقدرة الفرد على التعافي والنمو بعد التعرض للشدائد.

3. تعقيدات العلاقات الأسرية وتأثيرها على الصحة النفسية: تصور الرواية العلاقات الأسرية بتعقيداتها المتشعبة، حيث تتجلى مظاهر الحب والدعم في علاقة غالية بوالدتها وجدتها وأختها سما، مما يوفر لها شبكة دعم نفسي أساسية. بينما تبرز في المقابل صور القسوة والظلم ضمن محيط عائلة زوجها، مما يشكل بيئة سامة تؤثر سلبًا على صحتها النفسية وشعورها بالذات. كما تتطرق الرواية إلى تأثير التقاليد والأعراف الاجتماعية على القرارات المصيرية، ومن ذلك الإصرار على بقاء غالية في زواجها رغم معاناتها الشديدة، مما يعكس الضغط الاجتماعي الذي يمكن أن يؤدي إلى تفاقم المشكلات النفسية. "بات زواجي قبراً تحكمه كلمات، عقد قرانه الشرع على وحشٍ بشريٍّ لا يعرف كيف يمارس الحياة، تسرسبت حياتي من أوراق تقويم أيامي، مبللةً بدموع قهر ساد كلَّ لياليّا وجزءاً من نهاراتي، أخلصت حدّ التفاني لكلّ من حولي، حتى لجلادي الذي بنى أساطير انتصاراته الشبقية على تخوم الخيانة...". في هذا المقطع، تشبّه الكاتبة الزواج بالقبر، ما يعكس الشعور بالاختناق النفسيّ وفقدان الحياة، كما يشير إلى "دموع القهر" التي تعبّر عن المعاناة النفسية الشديدة.

4. قضايا المرأة في السياق الاجتماعي وتأثيرها النفسي: تتناول الرواية، بصورةٍ ضمنية وصريحة، قضايا تتعلّق بوضع المرأة في المجتمعات الشرقية، ومنها الضغوط الاجتماعية المرتبطة بالزواج والإنجاب (خاصةً إنجاب الذكور)، والتعرّض للعنف الأسري، وتقييد حريتها والتصرّف في ممتلكاتها. هذه الضغوط والانتهاكات لا تؤثّر فقط على الجانب الاجتماعي للمرأة، بل تترك آثارًا نفسيةً عميقةً تتمثّل في الشعور بالعجز، فقدان الثقة بالنفس، الاكتئاب، والقلق.

تُعدّ قصّة عمة مصطفى المسجونة في الزريبة رمزًا صارخًا لقمع المرأة وإسكات صوتها، وتجسيدًا للآثار النفسية المدمّرة. يسلّط الحوار التالي الضوء على الآثار النفسية المدمرة، من الإهمال والحرمان، وفقدان الكرامة، مما يؤدي إلى "بكاء حتى ابيضّت العينان" كدليل على المعاناة النفسية الشديدة.…"من أنت يا خالة؟ أجاب بصوت مخنوق: «عمّة مصطفى - «ولماذا أنت هنا؟! ما قصتك؟"، تجيب العجوز بحسرة: «أظن أنّ عمري قد تجاوز الستين، أقيم هنا منذ أكثر من عشر سنوات، كنت قبلها أعيش مع أختي وأولادها، توفيت وضاق أولادها ذرعاً بي، لم أتزوّاج بعد موت زوجي، قدمت إلى أخي والد مصطفى، أعطيته قطعة الأرض خاصّتي... مقابل أن أقيم عنده ويكون لي سترًاا.» تتنهّد وتزفر زفرةً حارّة، ثم تستأنف: - «لكنّ زوجته لم يرق لها ذلك، أجبرته على إلقائي هنا، وأشاعت بين الناس أنني توفّيت بعد أن توفّيَت أختي، لم يعلم أحدٌ بوجودي هنا، أذاقتني كل ألوان المهانة، بكيت حتى ابيضّت عيناي، تتعاقب عليّ الفصول، فأغرق شتاءً بالمطر المتسلّل من هذا السقف الهش، وأكتوي صيفاً بلهيب الشمس الحارقة....»"

5. مسار البحث عن الذات والتحرر النفسي: تُمثّل رحلة غالية مساراً للبحث عن ذاتها التي تعرّضت للفقدان تحت وطأة الظروف القاسية والضغوط النفسية والاجتماعية. تجد غالية في فعل الكتابة ملاذاً ووسيلةً للتعبير عن كيانها واستعادة صوتها المقموع، ما يمثّل عملية تطهيرٍ نفسي (Catharsis) وإعادة بناء للذات. إن تطوّرها ككاتبة وناقدة يُمثّل تجسيداً لعملية التحرر، ليس فقط من القيود الخارجية، بل أيضاً من القيود النفسية الداخلية التي فرضتها عليها مسارات حياتها؛ ويعكس مقالها عن "الرجولة" في الخاتمة درجة الوعي والنضج التي بلغتها في تحليل العلاقات الإنسانية وديناميكيات القوة، مما يشير إلى اكتمالٍ نسبيٍّ لمسار تطوّرها النفسي.

يُظهر المقطع التالي كيف أصبحت الكتابة وسيلةً لغالية ليس فقط للتعبير، بل لإعادة تنظيم أفكارها ومشاعرها، والنظر إلى الحياة من منظورٍ جديد، مما يشير إلى عملية نموٍّ نفسي وفكري: "وتناسخت الأيام والسنين في جنات أروادية، وغالية قد تخرّجت من كلية الطب، واختصّت في طبّ الأطفال؛ لكنّي لمحتُها كاتبةً، وتعرّفت عليها من بين سطورها في مدوّنتها، وهي تكتب روائع من قصص وشعرٍ عن ذلك العالم البحريّ العجيب. ".

والاقتباس التالي يُصوّر لحظة التحوّل النفسي والنهوض من حالة "الموت" النفسي، باستخدام استعارة "الحمامة التي نبت الريش في أجنحتها" للتعبير عن استعادة القوة والقدرة على التحليق بعد فترةٍ من القمع والألم: "نبت الريش في أجنحة الحمامة التي تعرّضت للقصّ والبتر، وبدأتْ ترفرف برفرفاتٍ بسيطة، كلَّ يوم أطير قليلاً ثمّ أعود إلى قبري، إلى أن كان ذلك اليوم الذي حلّقت فيه في السّماء ولم أرجع إلّا في الليل..."

6. الجانب الذرائعي والأثر النفسي: يمكن قراءة الرواية من منظورٍ ذرائعيٍّ، عبر النظر إلى القصدية والأثر المتوخّى منها. قد يتمثّل قصد المؤلفة من خلال تقديم هذه القصة في تسليط الضوء على حجم المعاناة النفسية والاجتماعية التي قد يتعرّض لها الأفراد نتيجةً للظلم، والتأكيد على الدور الحيوي للدعم النفسيّ والاجتماعيّ في تجاوز هذه المحن. أمّا الأثر المتوقَّع على المتلقّي، فيتمثّل في إثارة مشاعر التعاطف، وربما تحفيزه على إعادة النظر في هذه القضايا ضمن سياقه الواقعي، وقد تسهم الرواية في زيادة الوعي بضرورة الصحة النفسية وأهمية مواجهة الظلم. يُلاحظ أيضًا أن استخدام الكاتبة لخبرتها في مجال النقد ينعكس في بناء السرد وعمق تحليل الشخصيات، حيث يتجلى التحليل النفسي والاجتماعي بصورةٍ متكاملةٍ ضمن النسيج السردي للرواية، مما يعزّز من مصداقيتها وتأثيرها.

خاتمة

رواية "بين حياتين" إسهامٌ أدبيٌّ بارزٌ، يجمع بين البراعة السردية وعمق الطرح الفكري، مع تحليلٍ نفسيٍّ واجتماعيٍّ للشخصيات والأحداث. من خلال أسلوبها التصويري ولغتها الإيحائية، تنقلنا الرواية في رحلة سرديّةٍ مؤثرة عبر حياة شخصيةٍ تواجه ظروفًا بالغة القسوة، لتؤكد في المحصلة على قدرة الروح البشرية على الصمود والتكيف، والسعي نحو إيجاد بصيص الأمل حتى في أحلك الظروف. إن عناصر القوة المتجلية في الرواية، سواء على مستوى البناء الأسلوبي المتقن أو ثراء الأفكار المطروحة التي تتناول الأبعاد النفسية والاجتماعية بعمق، تجعل منها نصًا يستحق القراءة والتدبر، وتُعدّ شهادةً على أنّ الأدب بمقدوره أن يكون مرآةً عاكسة للواقع الإنساني وأداةً فاعلةً للفهم والتغيير على المستويين الفردي والمجتمعي..

***

بقلم: منذر فالح الغزالي

كاتب وناقد من سوريا، يعيش في ألمانيا الاتحادية

بون في 10/5/2025

وطفة الفرات.. هكذا أرات لاسمها أن يكون فراتيّاً بعظمة الفرات الخالد، الذي لم ينس عبر تاريخه الطويل من ارتبط به أو عاش على ضفتيه، حيث لازالت آثارهم متجذرة في تربته وشامخة كأشجار حوره وصفصافه، ترمي بظلالها على صفحات مياهه بفرح الخلود. فالخلود سر الحياة، وكل منا يبحث عنه في مهد ولادته وبالطريقة التي يمتلك فيها أدواته المعرفيّة أو الابداعيّة.

وطفة.. أديبة قاصة، فراتية التربة والهوى من محافظة الرقة. امتلكت ناصية اللغة، ومهنة الحرف وصياغته قلائد من شيح الفرات وكيصومه وغربه وطرفاه وورده الجوري، تتجلى في تربته ومائه وطينه وزله ونخيله وأهله وشعبيّة لهجتهم، الكثير مما كتبت من قصص أو خواطر عن حب أهل الفرات وأحلامهم وآمالهم وآلامهم وفقرهم وجوعهم وغربتهم وأفرحهم وأحزنهم. وما يميز "وطفة الفرات" تلك القدرة الهائلة على تصوير أحداث قصصها بدقة فائقة، كفنان قدير يمتلك أدواته الفنيّة والثقافيّة والخبرة في الحياة والأدب معاً، مكنتها من فهم النفس الإنسانيّة ومعرفة أسرارها وكوامن قوتها وضعفها وأحلامها.

بنية الحدث القصصي:

إن بنية الحدث القصصي لـ (روح.. وخمسة ظلال) التي بين أيدينا تحكي عن حالات فقدٍ لخمسة شخصيات شكلوا ظلال روح وجسد عند القاصة، مات منهم أربعة، وظل واحد شكل في القصة كلها ذاكرة إنسان تُرك حياً لا ليعيش.. بل ليتذكر. وأن تصير عيناه حافظةً لوجوه غابت، وصوتاً هو الوحيد الذي مازال ينادي أسماء لا يرد عليها أحد منها.

مع الفقد يملأ الحنين روح من فقد أحبته، ليفجر في داخل هذه الروح الألم وغربة الروح ذاتها، فمع حضور الحنين تقول "وطفة":  (الحنين …ليس ما نشعر به حين نفتقد.. بل ما نشعر به حين نتألم لأننا ما زلنا نتذكر).

هم خمسة أخوة كما تقول القاصة (هي أصغرهم كانت مثل حافة قصيدةٍ لا تُقرأ، أو كلمة تُركت على الهامش، لكنها تشهد على كل المعنى.. خمسة إخوة كأصابع يدٍ كانت تمسك الحياة دون خوف ثم تناثرت.. كل إصبعٍ منها في جهة كأن الحياة تقول: لا تجتمعوا مجددا).

تقول القاصة "وطفة" عن سماتِ وخصائصَ كل فقيد منهم:

الأول: كان يغني.. وجمال صوته يفتح أبواب الفجر حتى أيقن أهله بأن الشمس لن تخرج إلا إذا غنّى. إلا أنه اختفى ذات صباح قالوا إنّه التحق بالغيم… وأمه كانت تقول وهي تكفكف الغبار عن وسادته: “من يرحل بصوته، لا يعود بجسده.”

أما الثاني: فكان يحلم كثيرا في مستقبل مزهر يعيش فيه.. كان يخطط كما تقول "وطف" لبناء مدنٍ فوق السحاب. ولكن خاب كل حلمه في عالم لا يعرف إلا الحرب والموت.. لقد أخذته الحرب وضاع حلمه الذي كان يرسم ملامحه في دفتره … ولم يعد منه لأهله إلا هذا الدفتر بعد أن حرقت نيران المعركة أجزاءً، وبقاء نظرة عالقة في صورة.. وفردة حذاء..

والفقيد الثالث" كان قلب العائلة كما تقول "وطفة" (إن ضحك ضحكت العائلة كلها، وإن مرض …مرضت السماء.). لقد أصابه المرض في صمت، ومات في صمت، وكانت فاجعة رحيله في صمت أيضاً، وعند فراقه حزنت حتى السماء التي أبت أن تمطر لشدّة حزنها.

بقي الرابع من الأخوة الذي ناله الفقد. فهو توأم الروح والجسد للقاصة كما تقول "وطفة" كانا طفين لا يتفارقان.. كانا ينامان في فراش واحد، يتشاركان الغطاء والحلم والسكينة معا.. عندما كبر بدأت شقيقته تشعر بالغربة نحوه.. لم تعد ألفة الطفولة تهزه اتجاه شقيقته، حتى سألته أخته:

- أين هو صوتك الذي كنت تنادين به في طفولتنا..

- رد عليها: “دفنتُه كي أعيش.” فأي حياة هذه يا أختاه التي تطلب منا فناء حتى الذاكرة. ومن يفقد ذاكرته سيفقد وجوده في هذه الحياة ذاتها.

بقيت أخيرا القاصة.. بقيت كما تقول "وطفة" لتحرس أسماء إخوتها الذين غادروا عالمها الشقي.. بقيت تحمل صورهم في صدرها، الذي تحول فيه هذا الصدر إلى معرض لتلك الوجوه التي فارقتها.. تناديهم.. تكلمهم تناجيهم، ولكن لا مجيب. فأصبحت ذكراهم تثقل كاهلها، وشغلت حياتها، فجعلها هم الفقد وعذاب الروح (تجلس كل ليلة في فناء البيت القديم…تحمل قميصا لهذا… دفتراً لذاك…… صورةً للآخر… ودمعةً لما تبقّى.). لقد أصبحت الوحشة عالمها، واتخذت من الريح صديقا لها تناشدها أن تشفي حنيها، راجية منها أن  تمر "بأسمائهم… لعلّهم يسمعون وهي تذكر الريح بأنهم أربعة..

أول.. ثانٍ… ثالث…. رابع…ومعهم حنينها وصمتها وفقدها…

تسطر "وطفة" في نهاية قصتها رؤيةً فلسفيّةً في عالم الفقد والعذاب والقهر: لم يعُد الغياب موتاً.. وفي عالم الغياب يظل الإنسان حياً فقط  ليهتف بأسماء من ماتوا…من رحلوا، ولكن يظل لهذا الهتاف صدى شأنه شأن من رحل لن يعود. وعند الفقد يتفجر الحنين ليشكل عالم وجع الإنسان وغربته الروحيّة.

التكنيك الفني في القصة:

عنوان القصة: (روح.. وخمسة ظلال)، لم يأت عنوان القصة عبثياً، بقدر ما جاء عتبة سيميائيّة أوليّة لقصتها، مدروسة بدقة عالية، فهو تعبير عن موقف إنساني تراجيدي في جوهره، والمعادلة الفكرية فيه تأتي بين طرف الروح التي تشكل عصب حياة الإنسان وعنصر وجوده الفعلي، فعند ضعف الروح أو تلاشيها تضعف مسيرة حياة الإنسان وقد تنتهي، وبين الظلال التي تعني التلاشي أو الفقد.. فالظل الذي يغيب صاحبه، يبقى ولكن يتحول إلى ذكرى.

السرد أو الرؤية من الخلف:

في حالة السرد من الخلف يكون السارد أكثر معرفة بالشخصيّة الروائيّة، فهو يعرف ماذا يجري خلف الجدران وفي أعماق البطل وفي ذهنه أو ما يشعر به نفسه، فليس لشخصياته أسرار، إنه سارد عالم بكل شيء وفي كل شيء. فالسارد كلي العلم. والسارد في هذه القصة هو الضمير المتكلم، وهذا ما أعطى القاصة القدرة على استبطان شخصيات قصتها واطلاعنا على عوالم تلك الشخصيات والجوانب الخاصة بها، رغم أن شخصيات القصة فاقدة لأسمائها، الأمر الذي تحولت فيه هذه الشخصيات في القصة إلى رموز لها دلالات أرحب وأعمق، قدمتها القاصة بأبعاد إنسانيّة تتكرر في المجتمع، وهنا يترك للمتلقي تأويل الأبعاد الفكريّة والإنسانيّة لهذه الشخصيات.

التمهيد للحدث القصي وخاتمته:

إن القاصة استطاعت من خلال خبرتها وعمق تجربتها وشفافية إحساسها، أن تمهد للحدث القصصي هنا وتهيئ الجو له بسلاسة وتنسيق عالٍ، يستجيب مع المواقف الواردة في بنية القصة بشكل يثير الرغبة عند المتلقي لمعرفة النهاية. فالقاصة مثقفة مهدت لقصتها بروى فكريّة عميقة تناولت فيها ربط الذكرة بالإنسان، وجعلت من هذه الذاكرة وسيلة لإثبات حياة الإنسان، بل جعلت الإنسان نفسه هو الذاكرة حيث تقول: (أن تُترَك حياً لا لتعيش..بل لتتذكّر). ثم ذهبت في مقدمة سردها إلى الاشارة (للحنين) الذي يتولد مع الفقد، وبالتالي نحن نشعر بالحنين لأننا نتذكر. بهذا العمق الفلسفي الذي ربطت فيه "وطفة" ما بين التذكر والحنين والألم في حياة الإنسان، مهدت لقصتها.

أما نهاية القصة فجاءت مرتبطة في مقدمتها أو التمهيد لها، حيث ظلت الفكرة الفلسفيّة للفقد والذاكرة والألم هي العوالم التي تهيمن على الإنسان. تقول القاصة في نهاية قصتها: (هكذا أفهم الحنين الآن، أنه وجعي حين أنادي، ولا يردّ إلا الليل.).

لغة القصة وتشكيلها البلاغي والسردي:

لقد اعتمد القاصة في سرد قصتها على شكل حكاية.. حكاية تحمل أبعاداً اجتماعيّة وفلسفيّة أو فكريّة،  عرضت أحداثها  بلغة سهلة عذبة رقيقة غنيّة وشفافة، تكاد ترتفع بأسلوب صياغتها إلى مستوى الشعر، وما منحها أو أجاز لها هذه السمة هو ترابط عبارات القصة وتماسكها وجماليّة صورها وانزياحاتها ومفردات البلاغة فيها التي منحت بنية السرد القصصي رتماً موسيقيّاً هادئاً  مشبعاً بالحزن، يجعل المتلقي يشعر عند قرأتها كأنه يقرأ قصيدة نثر، وهذا الشكل من السرد السهل والممتنع لا يقدر عليه إلا الكاتب القدير والمتمرس في الكتابة والحائز على قدرات فنيّة عالية. إن هذا السرد مستمد في الحقيقة من وضوح الرؤية وعمقها عن القاصة "وطفة" بحيث تتلاشى هنا الحواجز إلى حد كبير بين القاصة والمتلقي.

الأبعاد الإنسانيّة للقصة:

إن الكاتب أو الأديب أو الفنان الحقيقي، هو الذي يلتزم بالواقع المحيط به، وينحاز لجذوره الاجتماعيّة والطبقيّة وتناقضاتها، والعمل على تصويرها وطرح الحلول لها إن أمكن. وإن الأديب الملتزم هو الذي يلتزم بواقعه بالقدر الذي يلتزم فيه بقيمه ومبادئه التي يبشر بها في كتاباته.

إن العناية بالإنسان.. بهمومه ورقيه، تهدف إلى تحرير الإنسان من غربته وقهره واستلابه وجوعه، ومقاومة من يعمل على امتصاص قوته وجهده وسلبه حريته أو تعذيبه وسجنه وحتى قتله.

لا شك إن قصة (روح.. وخمسة ظلال)، هي عمل لا يخرج عن سياق الأعمال الملتزمة بقضايا الإنسان، ربما تعبر القصة عن حياة حياة حالة فردية معينة أرادت القصة تسليط الضوء عليها، بيد أن  القاصة هي ابنة سورية أيضاً التي عاشت خمسة عشر عاماً من القهر والعذاب والجوع والظلم والتشرد وسفك الدماء، وبالتالي جاءت قصتها هذه تعبيراً حياً عن معاناة الشعب السوري الذي فقدت فيه أكثر الأسر فقيداً أو اكثر، بل هناك أسر قتل كل أفرادها في هذه الحرب القذرة.

(روح.. وخمسة ظلال)، هي تعبير مصغر برأيي عن ملحمة الموت في سورية، هذه الملحمة التي جاءت في جوهرها لتجسد - بعلم "وطفة" أو بدون علمها -، بشكل مكثف، وبرؤى فلسفيّة وفكريّة وبفنية عاليّة، جعلت المتلقي يعيش كل كلمة أو عبارة فيها لأنها تعبر عنه أو عن أخيه أو قريبه أو جاره.. لقد تحول الموت في سورية إلى عادة لم يعد له ذاك التأثير العميق على السطح، بسبب كثرة من مات أو قتل، ولكن (التذكر) ظل جذوة تسعر في أعماق كل نفس كل فرد من سوريا يتصاعد لهيبا يحرق الروح عندما تفتح دفاتره.

كل الشكر للقاصة المبدعة "وطفة الفرات" التي دخلت إلى أعماق كل منا، وجعلتنا نفكر من جديد بمن فقناهم، والأهم لماذا فقدناهم.

***              

د. عدنان عويد:

كاتب وباحث من سوريّة

في رواية "الطريق إلى سحماتا" لإبراهيم السعافين

حظيت العتبات النصية باهتمام بالغ في الدراسات النقدية الحديثة بوصفها من المفاهيم النقدية الحديثة في الدرس النقدي المعاصر الغربي والعربي، وأصبحت تشكل ظاهرة لا يغفل عنها لدورها المهم والتي أصبحت متصدرة للمشهد لا هامشية كما في السابق.

ويعود الفضل لهذا الاهتمام للناقد الفرنسي جيرار جينيت الذي قدم دراسة مفصلة عن العتبات وضبط المصطلح، وأولى اهتمام، وعناية للنص، ومكوناته. فهي تساهم في جذب القارئ وتشويقه وتستدعيه للغوص في عالم النص، وتنسج خطابًا روائيًا عن النص الإبداعي وترسل حديثًا عن المجتمع والعالم فهي شديدة الارتباط بالنص.

ويعد المنهج السيميائي بما يسخره من إمكانات للكشف عن دلالات العتبات، بوصفها نصوصا موازية وإشارات تكشف عن الدلالات المضمرة، وتجيب عن أسئلة العتبات وكيفية تشكلها بوابات للدخول الى متن الرواية وحدود العلاقة بين تلك العتبات وأفق التوقع عند المتلقي، ومن خلال هذا المنهج تم دراسة الشكل الخارجي للغلاف والعنوان في رواية "الطريق إلى سحماتا"، وتعد الأولى للدكتور إبراهيم السعافين، الصادرة عن دار الأهلية للنشر والتوزيع، لعام 2017م، وتقع في 300 صفحة من القطع المتوسط، تناولت قضية مقاومة الشعب الفلسطيني، وتصدّيه المستمرّ للمشروع الاستيطاني الصهيوني في وطنه، كما تحكي لنا قصص أبناء الأراضي المغتصبة عام 1948، وانتقال بعضهم إلى فلسطين المحتلة 1967، ومن ثم توزعوا بين بقاع العالم المختلفة، وتدور أحداث الرواية في عدد كبير من المحطّات: أمريكا، ومصر، ولبنان، والأردن، وكندا، والكويت، وفلسطين.

سيميائية الغلاف

يعد الغلاف الخارجي لأي عمل إبداعي مكتوب أول واجهة مفتوحة أمام القارئ، والعتبة الأولى التي تصافح بصر المتلقي وتهيئه لتلقي العمل، لذلك أصبح محل عناية واهتمام الشعراء والكتًاب، فالغلاف الخارجي يتضمن كل ما يحيط بالرواية فهو يعد واجهة إشهارية وتقنية يقدم بها الكاتب روايته للقراء.

يخضع الغلاف إلى منطق مزدوج بين صاحب الراوية والقارئ الأول لها، وبمجرد إطلاع ذلك الفنان المطالب بإنشاء غلاف لكتاب الراوية يتخيل مجموعة من العلامات التي تكون متسقة ومتناسقة مع النص الروائي. وأهم ما نجده في غلاف الرواية اسم الكاتب الذي يعتبر أهم العناصر، التي لا يمكننا تجاهلها أو تجاوزها، لأنه العلامة الفارقة بين كاتب وآخر، فهي تثبت هوية الكتاب لصاحبه، ويحقق ملكيته الأدبية والفكرية على عمله. ويحمل الغلاف صورة تقع على البصر مباشرة، وهي علامة غير لغوية قد ينتبه إليها القارئ قبل العنوان أحيانًا. ولا ننسى تفاعل وتمازج الأشكال والأشعة الضوئية عبر اللون فيؤلف المظهر الخارجي في اللوحة بانسجامها لتحقق الوحدة الجمالية.1471 saafeen

وهذا ما جاء في غلاف رواية "الطريق إلى سحماتا" فهو العتبة الأساسية التي تساعد القارئ في الدخول إلى النص لما يحمله من مؤشرات ودلالات. وقد خضع لمنطق مزدوج بين صاحب الرواية والقارئ الأول، فبمجرد إطلاع الفنان المطالب بإنشاء غلاف لكتاب الرواية يتخيل له مجموعة من العلامات التي تكون متسقة ومتناسقة مع النص الروائي. ويعد تحليل صورة الغلاف أول ما يتم البدء به كونها قراءة تتجاوز الوصف، لاعتبارها تحمل العديد من التأويل والقراءات، فهي قراءة تحاول الربط بين مستويي التعيين والتضمين اللذان يشكلان الوظيفة السيميائية. ومن هنا فغلاف الرواية لم يكن من صنع المؤلف وحده وإنما هو من صنع الفنان التشكيلي أيضا وكأنه عقد مشترك بينهما.

تظهر رواية "الطريق إلى سحماتا" بشكل طولي، طولها (21) وعرضها (14)، وهذا يدل على أن غلاف الرواية يتبع على مقاس متوسط (21*14). وتحمل صورة الغلاف لوحة فنية من تصميم الشاعر والفنان زهير أبو شايب، والغلاف كما قلنا يعد العتبة التي تصافح بصر المتلقي فأصبح ذا أهمية، فهو مدخل بصري إلى بنى النص بوصفه مجموعة من العلامات البصرية والتشكيلية التي تكون موجهة للقارئ، ويعمل على رسم أفق انتظاره وتحفيزه قبل القراءة. ويمنح الغلاف هوية بصرية يجب أن نقبلها كإحدى هويات النص، فالغلاف أول من يحقق التواصل مع القارئ قبل النص نفسه (حسين نجمي، شعرية الفضاء السردي، ص:22).

وجاء غلاف الرواية مستندًا على جملة من العناصر المتجانسة، حيث تبدأ الصورة بالخلفية الزرقاء النابعة ربما من سماء سحماتا الصافية، كما ظهر فيها حمامتان الأولى تحمل في فمها ورقة بيضاء على شكل طائرة، بينما الأخرى وكأنها تجلس تنتظر وصولها على أيقونة أسطوانية حمراء اللون وكأنها تمثل نقطة إطفاء، الألوان والحمام تدل على السلام والنقاء، ربما أراد من ذلك الروائي أن يبعث الأمل بتحقق حلم السلام والعودة. ولم تكن اللوحة هذه عبثًا بل وضعت بقصدية وتعكس مضمون العمل الأدبي.

أما بالنسبة لاسم الكاتب فقد جاء متصدرًا للغلاف وتحته العنوان. إذًا تموضع اسم المؤلف في الرواية في واجهة الغلاف، فكأن الروائي إبراهيم السعافين أراد إبراز حضوره المتميز منذ البداية، وكان اسمه فوق العنوان مباشرة، ليثبت الروائي أنه جزء لا يتجزأ من النص وأحداثه. وجاء الاسم باللون الأبيض، ومن المتعارف عليه فهو يعد مؤشرًا لنهاية دورة في حياة الإنسان وبداية دورة جديدة، وهو من الألوان المشرقة، كما يرمز للنقاء والسلام والهدوء والراحة، وبرأي فالروائي إبراهيم السعافين يتصف بتلك الصفات، وربما أراد من ذلك أيضًا أن يصف لنا شخصيات الرواية بأنهم يتصفون بالنقاء والهدوء وحلمهم السلام والعيش في وطنهم فلسطين.

أما الغلاف الخلفي للرواية والذي يعد العتبة الأخيرة للكاتب وتقوم بوظيفة عملية، وتعد عتبة أساسية لا تقل أهمية عن الواجهة الأمامية، وهي دلالة على إنهاء العمل وتزيد الرواية جمالية وجاذبية للمتلقي، وقد اشتملت الواجهة الخلفية للرواية على صورة كلاسيكية للروائي وربما كان لذلك انعكاس على سردية الرواية، وبجانبها نجد كلمات موجزة كتبها الناقد والشاعر زهير أبو شايب، تشيد بهذا العمل والذي وصفه برواية دافئة وعذبة وملأى بالشخصيات الإيجابية...

سيمياء العنوان

أصبح العنوان في النص الحديث ضرورة ملحة لا يمكن الاستغناء عنها في بناء النصوص، والعنوان له الصدارة حيث يبرز متميزًا بشكله وحجمه فهو أول لقاء بالقارئ والنص.

لقد كُتِبَ عنوان الرواية بالبند العريض حتى يتسنى للقارئ تمييزه عن جميع العناصر الأخرى، وتموضع العنوان بعد اسم الكاتب مباشرة، ليدل على أهمية العنوان وارتباطه بصاحبه، كما أنه وضعت لفظة رواية في أعلى الغلاف الى الجهة اليسرى وبلون البنفسجي، وذلك لتمييز العمل عن باقي الأجناس الأخرى كالقصة.

جاء العنوان بالصيغة الاسمية مزدوجة بين صيغتين يفصل بينهما حرف الجر (الطريق إلى سحماتا)، ومن دلالات الجملة الاسمية الثبوت والاستقرار، وكأن الروائي أراد من ذلك ثبات واستقرار شخوص الرواية في طريقهم إلى الوطن والعمل بجهد للعودة وتحريره، فالطريق دلالة على الرحلة التي ستمضي بها شخوص الرواية وأحداثها، وحرف الجر إلى من معانيه انتهاء الغاية المكانية وكأن الكاتب يشير إلى أن الأحداث ستؤول وتنتهي في قرية سحماتا، القرية الصامدة في شمال عكا في فلسطين الأم، والتي في الأصل تبدأ منها أحداث الرواية. وقد جاء كذلك باللون الأبيض الدال على النقاء والسلام، وربما هذا ما جعله يكتسب بعدا جماليا فالخط واللون يحملان خصوصية كعلامة رمزية للنص.

فالعنوان يعد عتبة رئيسة تقع عليها أنظار المتلقي وهو يدخل ضمن الوظيفة الإغرائية التي تستدعي القارئ وتستدرجه لقراءة النص وفك معانيه، فيؤثر فيه ويثير في نفسه نوع من الفضول لمعرفة حكاية هذه القرية وما آلت إليه، ولا يستطيع ذلك إلا من خلال الولوج إلى النص.

وبعد هذه الرحلة في فضاء الغلاف الخارجي للرواية نستطيع القول لا يمكن لأي قارئ للنص أن يتجاهل عتباته النصية فهي رسالة بين المتلقي والكاتب تمكنه من الولوج إلى النص وتمنحه مفاتيح الاستكشاف. وهي فضاء من العلامات والدلالات ولها وظيفتها الإغرائية والملفتة، وتضيفت جمالية على النص.

***

د. نهال عبد الله غرايبة

أكاديمية وباحثة أردنية/ أستاذ مساعد/ قسم اللغة العربية وآدابها/ الجامعة الإسلامية بمينيسوتا/ المركز الرئيسي

 

يتفق قراء الأديب التركي عزيز نيسن، وأغلب نقاده كذلك، على أن سره الإبداعي يكمن في بساطته، وقدرته على التعامل مع الأحداث بفنية عالية. إنه الكاتب الذي لا يكتفي بمتابعة الوقائع من شرفته، بل يتسلل بخفة ساحر من ثقب المفتاح، ليرصد أدق تفاصيل شخصياته، وينقل بسخرية بالغة الألم مجريات الحياة اليومية، والقضايا التي تشغل البسطاء.

عاش محمد نصرت نيسن حياة متقلبة، ونزل في ضيافة السجون التركية مرارا بسبب مواقفه الحادة، وتمرده الذي يصل حد الجنون. وجعل من الكلمة السهلة واللاذعة وسيلته لكشف مفارقات حادة، نتجت عن تأرجح المجتمع بين أصوله الشرقية وتطلعه للغرب. فأغنى المكتبة الأدبية بعشرات القصص الساخرة والمستلهمة من واقع مرير.

في روايته المميزة (أطفال آخر زمن) يُقارب عزيز نيسن الحياة الأسرية من منظور طفلين يتبادلان الرسائل. وإذا كنا قد تعودنا أن يكتب الأديب للأطفال ويتحدث إليهم، فإن نيسن يقلب المعادلة ليُفسح المجال للأطفال كي يتحدثوا لنا وعنا، ويهدموا تمثلات سائدة لدى أغلب الآباء بأنهم عند حسن الظن، وأن أبناءهم راضون عنهم مادام السكوت علامة رضا!

يقول نيسن مُنبها قراءه " إن هذه الرواية، وإن كانت كُتبت بشكل روائي، إلا أنها دروس مرتبطة بهذه الخصال الطيبة والقبيحة. وهي للأطفال والكبار، ولكل من يحترمون الحياة الأسرية ويحبونها. خواطر عذبة تبعث التسلية وتحمل الموعظة."

صيغت الرواية ضمن قالب يعتمد رسائل متبادلة بين أحمد تارباري وزينب يالكر؛ صديقان يكشفان من خلال يوميات الأسرة والصف الدراسي جملة من الظواهر والمشاكل التي تؤثر سلبا على الصغار، وتحد من استمتاعهم بتلك المرحلة العمرية.

يحكي أحمد في رسالته الأولى عن المعلم الجديد الذي يأمرهم بنسيان كل ما تعلموه ليبدؤوا التعلم من جديد. الأمر الذي استنكره التلاميذ لما فيه من إساءة غير مباشرة لمعلمهم القديم الذي انتقل إلى منطقة أخرى. وأمام إصراره يقرر الأذكياء منهم النسيان عمدا ليضعوه في موقف حرج أمام المدير.

وفي رسالة زينب نقف على تصرف لا يُقَدر الآباء خطورته، حين يسعون لإعطاء القدوة من أنفسهم معتمدين على الأكاذيب. وهكذا تكتشف الطفلة أثناء جدالها مع بعض رفاق المدرسة أن أباها لم يكن الأول على فصله كما يزعم، فتضع بذلك حدا لتوبيخه المستمر.

   وينقلنا أحمد في رسالة أخرى إلى تمثلات التلاميذ حول المفتش، والذعر الذي يتملكهم بفعل ضغط المعلم وحرصه الزائد على تأكيد تفوق صغاره. وخلال رده على أسئلة المفتش يتحول الارتباك إلى لوحة ساخرة تحرر الفصل بكامله من التوتر.

وتكشف مريم في إحدى يومياتها عن خطورة الأحاديث الصريحة أمام الأبناء، وإبدائهم لمواقفهم من الآخرين دون انتباه لما يسببه ذلك للطفل من حيرة وتشتت، خاصة حين تصبح العلاقة مع الآخر رهينة الزيف والمجاملة المفرطة. لقد كان حديث الأب عن "زينالي بيك " الكسول الذي أصبح ثريا يملك الشركات، سببا في تذمر الابن أمام صيغ المجاملة التي رافقت حفل خطبة البنت الكبرى من ابن "زينالي بيك"، بل ورفضه متابعة دراسته ليصبح غبيا يملك مالا كثيرا، تماما مثل "زينالي بيك".

وفي رسالة أخرى نطالع موقف الصغار من الواجبات المنزلية التي يُثقل بها المعلم كاهلهم، وتساؤلهم حول الغاية من هذا العمل الشاق وجدوى القيام به، خاصة إن كان المعلم لا يتابعه. فعثمان، التلميذ الشاطر في صف زينب، يؤكد لرفاقه أن المعلم لا يلقي نظرة على واجباتهم المنزلية، بل يمزقها ويلقي بها في وعاء النفايات. ويقرر أن يكتب كلاما فارغا بدل الواجب المنزلي ليؤكد صحة كلامه. ولسوء الحظ تزور إحدى الجارات بيت المعلم، وتستغرب من قدرته على تصحيح كم هائل من الواجبات المنزلية، لكن الأخير يؤكد لها أن الجميع أذكياء ومتفوقون، وخير دليل على ذلك ورقة عثمان!

يضع عزيز نيسن أصبعا حارقة على المواقف التي تسيء للطفولة، ويتبين من خلالها عجزُ الراشدين على أن ينفذوا الوصايا التي يتلونها كل ليلة على صغارهم. فبعض الآباء الذين يجعلون من حصَّالة النقود سبيلا لتعويد الطفل على الحرص وترشيد الإنفاق، قد يضطرون لاقتراض المال منها بعد أن خسروا راتب الشهر في حفلة رأس السنة! وهكذا تتحول النصائح في ضمير الطفل إلى خزعبلات يمل سماعها، ويمنعه من الاحتجاج عليها صوت أحدهما وهو يردد متوعدا:" إذا فتحت فمك بمثل هذا الكلام أصُب الفلفل في فمك!"

ولعل أشد ما يؤلم الصغار هو لجوء الوالدين أو المدرسين إلى الصراخ والتهديد واللهجة المتعالية، خاصة حين يعجزون عن تبرير سلوك معين، أو الإجابة عن سؤال محرج. فأسئلة من قبيل: كيف تلد النساء؟ ولماذا لا يرقص الرجال؟ وهل الأطفال حقا لا يفهمون كل شيء؟ هي تعبير عن الفضول المعرفي الذي تتسم به تلك المرحلة العمرية. وما أحوج الصغار إلى من ييسر لهم الفهم دون تظاهر بالحرج أو الخجل. لكنها مفارقات المجتمع الشرقي التي يدفع الأبناء ثمنها غاليا في بعض الأحيان.

يُصرح عزيز نيسن في ختام عمله المشوق ذاك بأن الرسائل من وحي خياله، وأن هدفه هو إسداء النصائح للكبار بلسان الصغار:" لقد كان ما أردته، وما آمل به هو ألا تتحول قلوبكم الصغيرة النقية الصافية كالمرآة، بعد إدراك هذه المفاسد، إلى اقتدائها والتمثل بها. وأن تفطنوا إلى أن العمل القبيح هو عمل قبيح، سواء صدر عن المعلم أو عن والد الطفل أو والدته اللذين هما أعز الناس على قلبه. وأن تأخذوا العبرة ولا تنساقوا في دروب الأعمال القبيحة أبدا".

 ***

حميد بن خيبش

هاتف جنابي، عبد الستار نور علي وبدل رفو مزوري

الشعراء هاتف جنابي، عبد الستار نور علي وبدل رفو مزوري. ثلاثتهم غادروا العراق مبكرا وعاشوا في بلدان المهجر المختلفة، هاتف جنابي استقر في بولندا، عبد الستار نور علي في السويد، وبدل رفو في النمسا.

1- هاتف جنابي:1468 hatif

اندمج هاتف جنابي في الثقافة البولندية وبرع في اتقان لغة القوم حتى أصبح أحد أعلامها في الشعر والترجمة وحصد العديد من الجوائز البولندية الرفيعة وشارك في معظم المهرجانات الشعرية التي نظمت في بولندا من قبل اتحاد الكتاب البولنديين او المؤسسات البولندية الثقافية الاخرى، وانجز موسوعته انطلوجيا الشعر البولندي التي شملت معظم شعراء بولندا. درس في جامعة وارشو المسرح وحصل على الدكتوراة في الادب.

أصدر الجنابي مجموعة من الدواوين الشعرية الرصينة، تناولها النقاد بالدراسة والاشادة بتجربة الشاعر وخصه الباحث د. عدنان عباس بدراسة وافية صدرت في كتاب عن جامعة مكسيموفيتش في بوزنان / بولندا، وسبق لي ان تناولت بعض شعره والاشارة الى خصائص تجربته الواسعة وعرّفت بصدور بعض دواوينه.

يمتاز شعر الجنابي بعمق الفكرة التي تنطوي على فلسفة ضمنية تجعل قصيدته بحاجة الى قاعدة معرفية غنية لفك معانيها المختفية تحت ظلال الكلمات العارية من رداء البهرجة اللفظية التي يلجأ اليها الشعر النمطي (الكلائشي).

من ديوانه فراديس، ايائل وعساكر الصادر عن دار المدى عام 1998 نختار من قصيدة الانسان والغابة هذا المقطع:

الغابة المبتهلة

بقطرة ندى وكبرياء الماء أو

حفاوة الاوراق

بالضوء والمغيب

مباركة

الغابة المنهمرة  

من وحشة الاعشاب والندى

ونخلة تشق قلب الليل والمدى

مباركة

الغابة الطفلية المحتشدة

تحت الرماد والحصى

مباركة

يا غابة مباركة

قومي برغبة الوداع

قومي بنشوة التداعي أو بزفرة الفناء

ياغابة مقلوعة الاظافر

منزوعة النخاع

تبددي في الضوء والاشياء نطفة فريدة.

الوحش

في الكلام ينهش الحروف والبهاء والخيال

الوحش في الطريق

نلاحظ ان اختيار الغابة أضفى على القصيدة ظلالا شاملة تفسح الطريق أمام الشاعر ليقدم رؤية فلسفية من خلال نص شعري مقتضب، فاستعار للغابة الاظافر والنخاع في قوله (يا غابة مقطوعة الاظافر / منزوعة النخاع..) وفي الصفتين ما يحفز المتلقي على إعادة النظر بالنص كي يستخرج العلاقة بينهما وبين رؤية الشاعر التي زادها غموضا تبديده في الضوء والاشياء نطفة فريدة، لما في تلك التعابير من احالات لنصوص قد يظن القارئ انها نصوص مقدسة وقد يتركها المتلقي لتستقر على هامش النص الشعري دون حاجة الى استيفاء المعني المراد من قبل الشاعر.

يقول الناقد د. عدنان عباس في معرض تحليله لاحدى قصائد هاتف (يشكل هاتف في ايقاعاته البسيطة، واستطراده النثري في اوصافه، ملامح قصيدته هذه ذات الخلفية الوجودية حيث يقوم بتوزيع وتنظيم صورها بين التوليف السينمائي الى التوليف المشهدي على شكل لوحة متعددة العناصر.) دلالات المكان في قصيدة غيمة، فصل في كتاب د. عدنان عباس *

في مقالي عن وليمة الاسماك رسمت بعض ملامح قصيدة هاتف جنابي، نقتبس من المقال الفقرة التالية:

إن إعادة قراءة قصيدة هاتف الجنابي امر مألوف لانها لا تقدم نفسها بسهولة لمن يريد الاحاطة بكنهها، عليك تناولها باناة ورفق فوراء الكلمات التي أمامك وهي مرصوفة على الورق بكثافة ظاهرة، أبعاد بحاجة الى استشراف آفاقها التي تتطلب البحث عن منابع الفكرة، المغامرة، التي يـبغـي الشاعر اللعب على اسرارها بهدوء غريب يغمر مناخ القصيدة ليقدمها الى القارئ كي يفتح امامه مرافئ غير مأهولة تسمح باكتشاف اللامكان الذي ينطلق منه الشاعر وغالبا ما يكون الوطن المقصي في اعماق الذاكرة والحاضر في كل مكان.1 مؤيد، الحوار المتمدن

ملاحظة: انتقل مؤخرا الى بريطانيا.

2 - عبد الستار نور علي:abdulsatar noorali

شاعر غزير الانتاج يخوض في بحار الشعر الكلاسيكي والحديث، ويبحر مع الكلمة الناقدة، فهو ناقد متابع للجديد، ومترجم للادب السويدي.

نشأ بـبغداد، محلة باب الشيخ المعروفة بغالبية سكانها الكورد، فهو من كورد بغداد، يجيد العربية ودرَسها في كلية الاداب بجامعة بغداد.

 تفتحت موهبته في سن مبكرة فجرب الشعر والنثر، اغتنت تجربته من خلال عمله مدرسا للادب في بغداد والحلة حتى احالته على التقاعد عام 1989.فهاجر من العراق واستقر في السويد منذ عام 1992.

 تعلم السويدية وعمل مترجما وشارك في تأسيس صحيفة مونديال التي كانت تصدر بعدة لغات: السويدية والعربية والكردية والاسبانية في مدينة اسكلستونا / السويد.

حقق طموحه في النشر باللغة السويدية، فنشر في صحيفة الشعبFolket وشارك في عدد من الندوات والامسيات الشعرية وخصه التلفزيون السويدي بفلم وثائقي قصير.

للشاعر نور علي العديد من الاصدارات منها شعرية باللغتين العربية والسويدية كما ترجم جلجامش وهي مسرحية شعرية للشاعر السويدي أيه لينده.

وله ديوان في جوف الليل

وكتاب بعنوان باب الشيخ / مجموعة مقالات

وكتاب شعراء سويديون، دراسات ونصوص

في قصيدته سجل أنا كردي

يتداخل صوته كمبدع للنص مع المتلقي، مؤكدا على سريان الانهار والنخيل والجبال في أعماقه فهو ابن الجبل وابن دجلة والفرات، ولا ينسى العلاقة بينه وبين المحيط الذي يناضل فيه من اجل حقوقه، فها هو جبل سفين (جبل في كوردستان العراق) يروي - ينشد بلغة الشاعر - قصة جبال الاوراس - جبال الجزائر التي احتضنت ثورة الجزائر ذات المليون شهيد.

يحاول الشاعر رصف الوقائع الفلسطينية الشهيرة الى جانب الكوارث التي حلت بالشعب الكوردي، فيستحضر القدس وحلبجة في هذا المقطع الشعري:

وسيناء تناغي

ضلعي المكسور في القدس

وفي صبرا شاتيلا

وحلبجة...

ولمن يجهل تلك الوقائع الدائمية فان صبرا وشاتيلا حدثت في لبنان، وحلبجة مدينة كوردية في كوردستان العراق ضربت بالقنابل الكيماوية.

في قصيدته سجل أنا كردي يستلهم نور علي قصيدة محمود درويش الشهيرة سجل أنا عربي، ويحاول خلق محاور تتعامد مع قصيدة درويش دون تقليد.

سجل أنا كردي محاولة لتأصيل البعد السياسي لصالح النضال الانساني الذي كان في الاساس مدعاة لهجرة الشاعر من بلاده ليعيش في شرنقة المنفى:

سجِّلْ أنا كردي!

ما ارتديتُ يوماً صورةً بالزيتِ والألوانِ

أو ساريةً ترفعُ أعلامَ الحواريينَ في شوارعٍ

تصطفُّ في أبوابِ أهواءِ الشيوخِ والملوكِ

والأئمةِ الساهينَ عن صلاتهمْ !

للشاعر قصائد كثيرة منشورة في المواقع الادبية تستحق جمعها في ديوان، تناولها النقاد بالدرس والتحليل.

3- بدل رفو مزوري:1467 badal raffow

الشاعر بدل رفو مزوري من منطقة الشيخان، كوردستان، اضطر الى مغادرة العراق واستقر في النمسا، اتقن اللغة الالمانية وترجم لشعراء النمسا.

صدرت له أنطلوجيا شعراء النمسا عام 2008 ترجم فيها لمجموعة كبيرة من الشعراء وأعقبها بترجمة قصائد حب نمساوية، صدرت عام 2010

برع بدل رفو في العمل الصحفي منذ وقت مبكر ونشر في جريدة الحدباء الموصلية نهاية سبعينيات القرن الماضي، صدرت له عدة كتب منها:

- ومضات جبلية، من الشعر الكوردي المعاصر، بغداد 1989

- أغنية الباز، قصائد كوردية مترجمة، دهوك 2001

- وطن اسمه أفيفان، قصائد كوردية مترجمة، القاهرة 2009

نشر شعره في العديد من المجلات والصحف والمواقع الثقافية، وقد تابعت الكثير من قصائده ونشرت له مجلة تموز التي تصدر في السويد / مالمو مجموعة من القصائد نقرأ هذا المقطع من قصيدة لالش:

للحزن أغنية

وللمأساة ملحمة

ولوجع الايزدي قلب

يدمى

طوال سفري وترحالي

لم أر بلادا او طبيعة

أجمل وأبهى من وادي لالش

لم أستنشق هواء نقيا يغزو

الاعماق

مثل هواء وادي لالش

لم تهدأ روحي في بقاع الارض

مثلما تهدأ في وادي لالش

لالش بلاد الصفاء

واصالة الكُرد

جمال الروح

يكشف هذا المقطع المنتقى من قصيدة لالش عمق الارتباط العاطفي بموطن الشاعر، والمعروف ان لالش معبد مقدس للديانة الايزدية في محافظة دهوك اقليم كوردستان، والملاحظ ان الشاعر بدل رفو يعيش المهجر او بالاحرى (المنفى) بكل تفاصيله، ويرافقه الحنين اينما حل حتى وهو يزور مرابع صباه في كوردستان يعيش عازفا مزمار الغربة بهدوء وبدون ضوضاء، حتى اختياراته في الاهداء سواء لقصيدة او كتاب يجد من يحمل لقب المهاجر فيمنحه كلمة من شعره المعجون بمياه الغربة، قصيدته " زمن اليباب" على سبيل المثال يهديها الى روائية فلسطينية تعيش في استراليا، دينا سليم. صديقة الكرد والحرية:

فلتكفكف الغربة دموعها

على مضاجع بلاد تودع

عشاقها

لمصائر مجهولة

لارصفة تقاوم الزمهرير

الوطن... يادينا

زوجة أب قاسية

وبلاد الغربة

غدت أما رحيمة

فليرقص الزمن على جراح الشعر

والكلمات **

ما ان يحط رحاله من سفر حتى تجده في بلاد نائية، من طرقات الهند المزدحمة بالاطفال والعربات التي تجرها الثيران الى شفشاون في بلاد المغرب والتي يقول عنها:

شفشاون...

قمم جبال...

حكايات ينابيع رأس الماء،

تحلو فيها الحياة

شفشاون..

مدينة غزت روح شاعر كردي

رحال

يبحث عن عوالم الشعر والشعراء

يبحث..

عن ربيع الاندلس

في مهد حضارات الكرد

ولا عجب ان يحصل الشاعر بدل رفو على ارفع وسام من مدينة شفشاون التي أقام فيها وكتب لها وتعايش مع اهلها بعض عام او اكثر.

***

د. مؤيد عبد الستار - السويد

.......................

* فضاءات وأشكال وأفكار محتدمة في (وليمة الاسماك) لهاتف جنابي، جامعة ادم مسكوفيج، بولندا - بوزنان ص 105، 2018

 1- رابط مقالي في الحوار المتمدن عن ديوان وليمة الاسماك

https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=599625

** ينظر قصائد في المهجر، مجلة تموز، العدد 63 سنة 2016، مالمو / السويد

 

يتّجه المرء إلى الماضي ليكتبَ يحاكيه في الحاضر، وهذا يُلقي بظِلال سؤالٍ مفاده: ما الغاية من تلك العودة إلى الماضي والكتابة عنه ومنه؟ يزيد في استشكال الموضوع حين يتَقصّد الكاتب نوعاً معيناً من التأليف الضارب بجذوره في التراث لكنه حديثُ المضمون والمحتوى. ثم، إنّ الحديث عن الكتابة يتطلب منا الوقوف على أنواعها وأساليبها، مما يجرّنا إلى إماطة اللثام عن الأصل الذي يجمع ويلمُّ كل أصناف الكتابة، ونعني بذلك الإنتاج الأدبي.

لم يكن مفهوم الأدب يخرج عن التربية والرعاية وقد يعني حُسن الضيافة والوفادة عند العرب الأوائل حيث يقول الشاعر طرفة بن العبد:

نحن في المشتاة ندعو الجفلى

فلا ترى الآدِب فينا ينتقــــــــر.

استقرّ مفهوم الأدب، مع ازدهار الحضارة العربية الإسلامية، على كل شكل من أشكال التعبير الإنساني؛ وذلك بما استطاع الإنسان أن يُنتِجه بأسلوب بليغ يصل تأثيره إلى المتلقي ويتفاعل معه. وإذا كان مفهوم الأدب قد شمل كل الفنون الشعرية والنثرية التي أنتجها العرب من قصائد وسِير، أو قصص وحكايات، أو خطب ومقامات... فإن مفهومه اليوم، في الوطن العربي، لا يخرج عن المعنى الذي تسلّل إلى أوطاننا من الغرب: مع المدّ الاستعماري، أو انفتاح الشعوب على بعضها فيما يعرف بالمثاقفة ومع انمحاء الحدود بفضل الشبكة العنكبوتية. كان من نتيجة ذلك أن توارى الأدب في معناه القديم أو اختفت بعض أصنافه، لتفسح الطريق أمام المعنى الحديث وأصنافه الجديدة من قبيل القصة والرواية والمسرحية...ألخ.

ليس من المبالغة في شيء القول إن الحديث عن الماضي هو، في الآن ذاته، حديث عن الحاضر. وليس جميلاً أن يعود الكاتب الى التراث فحسب، بل إن عودتَه تُعدُّ أشهى موردٍ يمكن أن يُحفّزه على الإبداع. يحضر التراث فينا شئنا هذا أم أبَيْنا؛ والحداثة لا يوقِفها حاجز. فإن كانت نوافذنا مفتوحة وتسمح بهبوب الرياح علينا من كل حدب وصوب، فلا ينبغي أن نسمح لها باقتلاعنا من جذورنا كما جاء في الحكمة الهندية*. يقول عيسى علي العاكوب عن دافع الرجوع إلى التراث[1]: «إن التراث الثقافي لأية أمّة يظل معيناً ثرّاً يرفد دائماً عقول الأجيال الجديدة المبدعة من أبناء هذه الأمة بزادٍ أصيل يُسهم في تقوية الطاقات الجديدة، ويضاعف مصالحةَ منتَجها الثقافي مع جمهورها المتلقي، ويحصِّن فرادَتها وتميزها وخصوصيتها». ومن جهة ثانية، يؤكد جلبير دوران في دراسة أفردَها للبنى الأنثروبولوجية للخيال، أنّ للأسطورة حوضاً دلالياً يتشكل من ست مراحل منها الانسيالات (حوض التجميع). تشير مرحلة الانسيالات «إلى جملة التيارات داخل وسط ثقافي: فهي قد تكون إما انبعاثات من الحوض الدلالي ذاته الذي كان فاعلاً في الماضي، وإما اختمارات جديدة ناجمة عن أحداث تاريخية، كالحروب أو ظواهر ذات أهمية كبرى على المستوى التاريخي ـ السياسي»[2]. فالتراث يظل ماثلاً بآليات وطرائق متباينة وليس من السهل التخلّص من نُسغه، فهو يشكّل النموذج الأصلي الذي يؤطر فكر المبدع وذهنية المجتمع الذي نشأ فيه هذا المبدع أو ذاك.

***

يتجاوب مع هذه التوطئة نص أنيق في شكله، باذخ في لغته، طريف في موضوعه، خاطه صاحبه كمن يخيط كعب كتاب وهو يسفّره. النص للمفكر والمبدع المغربي عبد الاله بلقزيز تحت عنوان "الماضون الى الماضي"؛ وقد عُرض خلال الدورة السادسة والعشرين للمعرض الدولي للكتاب بالدار البيضاء، عن منتدى المعارف اللبناني. النصّ وصفه صاحبه بالسردية، على عادته في الكتابات السابقة، يذيل عناوينها بالصفة التي يرتضيها له من قبيل: نص، رواية، سردية...

يخرج هذا النص، "الماضون الى الماضي"، شكلاً ومضموناً عن النصوص الإبداعية التي صدرت للمؤلف: ثلاثة منها** غازلت اللغة العربية في جوهرها وجاءت «نصوصاً مفتوحةً تتحرّك بين تخوم الشعر والنثر الفنّي، وتنْتَحل بعضَ التأمل الفلسفي والشطح الصوفي»[3]. والحقيقة، أنّك تجدها أشهى وأمتع النصوص عبارةً وتركيباً، تسافر بك رفقة جهابذة اللغة إلى العصر الذهبي للحضارة العربية الإسلامية. إلى جانب هذه النصوص الثلاثة، تأتي مجموعة الروايات*،  وهي أعمال تخييلية نثرية تصور شخصيات وأحداث تشغل بال الرأي العام وتعالج قضايا المجتمع المغربي خاصة والمجتمع العربي والإنساني عامة.  تتناول هذه الروايات قضايا الفقر والهشاشة، الهجرة الداخلية والخارجية، التطرف والإرهاب، التكسب بالدين وبالسياسة، تدنّي القيم الأخلاقية والمهنية، وأشياء أخرى ساهمت في احتقان الوضع، ودفعت المجتمع الى حراك تَّم قمعُه في أغلب الأحيان. ينضم الى هذيْن الصنفين، نوع ثالث** يتناول فيه حالةً عاشها الكاتب ورسخت ذكراها في مخيلته، وقد استلّها من مذكراته اليومية زمن حصاره وحصار بيروت من طرف المحتل الصهيوني الإسرائيلي. وأمّا النص الذي نحن بصدد معالجته، فهو سردية من صنف المقامة. يحتفي الكاتب فيه باللسان العربي المبين وآدابه - وفي ذلك تلميح منه إلى ما آلَ إليه وضع اللغة العربية من تهميش وتفقير لفظي وشظف دلالي وإملاق جمالي، ومن هذه الآداب العربية البديعة، المقامةُ بوصفها شكلاً من أشكال الإبداع الأدبي الأصيل- بغية ابتعاثه من المتاحف ونفض ما عليه من الغبار. وكم هو جميل هذا الاحتفاء حين يُعنوِنُ مقاماته التسع بأسماء حِرف وصنائع اندرست معالمها واضمحلّت، لكنها تشهد على حياة الهامش في مرحلة تاريخية عقبت الاستعمار الفرنسي. يقول في الاستهلال: «في الاحتفاء هذا فعلُ اعترافٍ بجميل ما صنعت هذه الحِرَف لمجتمعاتها وأهل تلك المجتمعات، وما يسّرتْه للنّاس من سُبُل العيش ومن وسائل لمجالدة ما تصعَّبَ من ظروف».[4]

***

كان من أظهر أنواع الأقاصيص في القرن الرابع الهجري «فن المقامات، وهي القصص القصيرة التي يودعها الكاتب ما يشاء من فكرة أدبية، أو فلسفية، أو خطرة وجدانية، أو لمحة من لمحات الدعابة والمجون».[5] فهي نوع أدبي جديد في ذلك الزمان تأسس على الحكايات والنوادر والمُطايبات التي كانت رائجة ساعتئذٍ؛ وإن عدّها البعض مجرد أكاذيب كما جاء عند ابن خلكان فيما يحكى عن الحريري «إنّ هذا قد وضع شيئاً من الأكاذيب وهو يمليه على الناس»[6].  ذكر أبو القاسم الحريري (446هـ/516هـ)، في مطلع مقاماته، أن بديع الزمان الهمذاني (358هـ/398هـ) هو صاحب فن المقامات وأنّه «سبّاق غايات، وصاحب آيات، وأنّ المتصدّي بعده لإنشاء مقامة، ولو أُوتي بلاغة قُدامة، لا يغترف إلاّ من فضالته، ولا يسري ذلك المسرى إلاّ بدلالته»[7].  يذهب فريق من النقاد الأوائل أنّ الهمذاني استلهم فنّ المقامة من «أحاديث ابن دريد» كابن عبد ربه وابن قتيبة، وبمثل هذا قال بعض المتأخّرين كجرجي زيدان وزكي مبارك. لكن هناك مائز بين النوعين؛ إذ تعتمد «أحاديث ابن دريد» على تعدد الرواة والأبطال في حين أن المقامة لها راوية واحد وبطل واحد. هذا ما يؤكده عبد الله إبراهيم في موسوعته التي خصّصها للسردية العربية «أن مقامات الهمذاني وقَفَ على مُناقلتِها راوٍ وبطلٌ، ولا تتضمن أحاديث ابن دريد شيئاً من ذلك، فما هي سوى أخبار مسندة»[8]. على العموم، فهي حكاية فنية راقية عربية المنشأ والأصل. يشعر القارئ العربي المعاصر، حين يدرس المقامة، «بمشاعر متباينة، فهو، من جهة، يتعامل مع شكل "عربي" خالص، ورغم أنه لا يتبين منشأه بدقة، فهو متأكّد أنه متولّد عن أصالة أرض الآباء، وأن سماته لا تحمل أي علامة تدل على تأثير أجنبي»[9]

***

يتبادر إلى الذهن سؤال ما جدوى العودة إلى المقامة؟ أو ماذا نصنع بالأدب القديم جملة وتفصيلاً؟ يأتي الجواب من وجهين: الوجه الأول، تدفع به الأسئلة الجديدة التي تطرحها العلوم الإنسانية إلى ضرورة إعادة كتابة ودراسة النصوص القديمة، فهي تمكّننا من فهم ذاتنا وكيف تشكّلت الذهنية التي تتحكم فينا. وأما الوجه الثاني، فاقتداءً بما فعلته الشعوب الأخرى التي أعادت كتابة الأوديسا والإلياذة وجلجامش أو غيرها من الأساطير والخرافات مما أثرى مكتباتهم وأنعش خيالهم. ذكرتُ أن المقامة تتأسّس على الحكايات والنوادر كالتي تحكيها الجدّات للصغار؛ سوى أن حكايات الجدّات تنحو نحو الخرافة التي لا يُعرف لها مؤلِّف، هذه واحدة. وأما الثانية؛ فجمهور المقامة لا علاقة له بجمهور الحكاية الشفهية؛ ذلك أن جمهور المقامة هو من الخاصّة ويتطلّب حدّاً معيَّناً وقدراً من المعرفة باللسان العربي. وقد ميّزها عبد الفتاح كيليطو عن الخرافة قائلاً: «ليست المقامة حكاية خرافية. فليس للحكاية الخرافية مؤلِّف، ومن العبث الوصول إلى نسختها الأصليّة، وما يمكن هو مساءلة الراوي الذي استقاها من رواة تضيع لائحة أسمائهم من ماض يتزايد بعداً»[10]. أكثر من ذلك، أن المؤلف يُخفي «صوته بنقله إلى شخصياته التي تكتسب، بهذه الخديعة، استقلالاً وحضوراً لا يختلفان عن استقلال وحضور الأشخاص الحقيقيين»[11].

***

يعرّف بطرس البستاني المقامات بأنّها[12] «أقاصيص خيالية مختلفة الأغراض والموضوعات، فمنها الأدبية، ومنها العلمية، ومنها الدينية، ومنها الاجتماعية أو الخلقية، ومنها المجونية.  وفيها سُخر شديد، ونقد لاذع. وفيها ضُروب من التخابُث والاحتيال، للتكسُّب والتعيُّش. وفيها صور متلوِّنة لطبائع المجتمع وعاداته». كما تستند المقامة، فيما حدّده نقاد الأدب العربي، على ركنيْن مهمّيْن: «أولهما: راوٍ ينهض بمهمة إخبارية محدّدة، وثانيهما: بطل ينجز مهمة واضحة، ومن خلاصة تفاعل الراوي والبطل، يتكوّن متن حكائي قوامه الرواية والحكاية، والعلاقة التي تربطهما»[13]. وإذا كانت المقامةُ سرديةً تجمع بين الشعر والنثر القائميْن على الصنعة، فإنّها تندرج في دائرة التعدد والمزج بين أساليب وموضوعات النظم والنثر. تدور «المقامات على بطل متبدل الألوان، كثير الاحتيال، فيه شرّ كبير، وفيه خير كبير؛ فهو ديِّن منافق، صادق كاذب، متزهد ماجن، واعظ مخادع، كل شيء وضده. وهو إلى ذلك واسع العلم والأدب، شاعر خطيب، متكلم راوية، تجده في كل مقامة، وقلما خلت مقامة منه، ويتولى الحديث عنه راوية خيالي مثله، يفاجئه في كل مقامة، ويفضح أسراره، وينقل أخباره»[14].

والفن القصصي ضعيف في المقامات لقصرها؛ ثم لأن القصة ليست غاية فيها بل واسطة لإظهار شخصية بطلها في مختلف أحواله. ولقد تمر مقامات غثة باردة لا قيمة فيها للقصة البتة. لكنّها تتميّز بلغة رفيعة باذخة؛ «وتمتاز المقامات في جمال لغتها، وكثرة غريبها، واعتمادها على المجاز أكثر من الحقيقة، واصطباغها بالصنعة أكثر من الطبع، فهي ملتزمة السجعات، أنيقة العبارات، حافلة بالمحسِّنات المعنوية واللفظية. فيها الأمثال والأشعار، والآيات والأحاديث، فكل مقامة قطعة أدبية، لغتها لغة الشعر على الأكثر لا لغة النثر»[15].

***

استهلّ عبد الإله بلقزيز نصّه، الماضون إلى الماضي، بالحديث عن جنس هذا المؤلَّف الجديد، وقد صنّفه ضمن «سرديات من زمن تصرّم». يروم من وراء هذا الاستهلال وضع اليد على دواعي العودة إلى هذا الفن الأدبي بالضبط. سبق أن ذكرت أن صاحبه يعدّه احتفاءً باللغة وبالتراث، كما هو احتفاء بفترة تكاد تُطوى آثارها من تاريخ المجتمع المغربي القريب، تاريخ الهامش؛ وهكذا يتحول النص إلى وثيقة تاريخية توثِّق لصنائع هذه المرحلة وتشير للتغيرات التي طرأت. وعليه، أحصر تناولي لهذا المؤلَّف من أربع زوايا:

الحرف والصنائع.

الفن المعماري.

العادات والتقاليد.

اللغة التي عالج بها الكاتب هذه السردية.

الحرف والصنائع: اجترح الكاتب لمقاماته التسع عناوين تحمل أسماء حرف وصنائع بعضها اندرس والآخر يحتضر. جاءت العناوين على الشكل التالي متتابعة: نواقيس وقِراب للزينة، "البرّاح"، "الدلّال"، "النفّار"، "طالب معاشو"، "الحلايقي"، "الكسال"، فقيه "الحضار"، ثم "الخطابة". حِرف وصنائع يتميّز بها البشر عن سائر المخلوقات إلى جانب العلوم، حسب عبد الرحمن ابن خلدون؛ وهي مما تُنتجه ملكة العقل المميزة للإنسان، والتي تدفعه إلى «السعي في المعاش والاعتمال في تحصيله من وجوهه، واكتسابه لما جعل الله فيه من الافتقار إلى الغذاء في حياته وبقائه، وهداه إلى التماسه وطلبه»[16].

إن الحرف والصنائع لا تخرج من الأرض كالفطر؛ لكنّها ضرورة مُلحة تفرضها حاجة البشر، ثم لا يلبث بعضها أن يختفي مع انتفاء الغرض منها أو تعوض بغيرها. وأكثر ما ساهم في اندثار الحرف والصنائع التقليدية زحف التحديث على المغرب ودخوله إلى زمن الآلات العصرية وظهور نمط حديث جاء مقترناً بانتشار التقدم التقني والعلمي. والسردية تؤرِّخ لما يَعتوِر بعض الحرف أو العادات من تراجع وضمور. يصف حال "الدلّال"، وهو شخص يرتزق مما يفيء عليه من دراهم بعد عرض أمتعة الناس للبيع بالمزاد العلني في ساحة السوق؛ «وقلّما كنت واجداً من يتخلّص من قنيةٍ قديمة ابتغاء ابتياع جديدة؛ فالأكثرون حِراص على قديمهم، ولهم من تبرير ذلك مذاهب: من القول إنه ميراث الآباء والأجداد، إلى القول إن محتِد القديم شريف أين منه رذالة الجديد وخسّته، إلى القول إن البيع يزري بقيمة المباع ولا يرعى لصاحبه حقّاً، إلى التأميل من مزيد محافظةٍ عليه في ارتفاع سعره أكثر»[17]. حرفة "الدلّال" كان لها شأن كبير وقد كانت مورد رزق في السابق؛ بله، تُمكن من درجة غِنى استطاع جدُّ والده أن يعيشَ وأسرتَه في رفاه وسعة بفضلها: «ألم يبنِ بها والد جدي على نساء أربع، واقتنى رياضاً رحباً استوطنته العوائل جميعاً، وأنجب ما يزيد على دزينة من الولد، وأجرى النفقة على الجميع»[18]. رفاهٌ يُترجم في الذهنية المغربية آنذاك بتعدد الزوجات والولد الكثير والسكن الفسيح.

إذا كان عبد الإله بلقزيز يأتي على ذكر أسباب انتعاش حرفة "الدلّال"، فهو يؤرخ بذلك لمرحلة تاريخية مهمة، كما سبق القول، عرفها المغرب بعد الاستقلال. تميّزت هذه المرحلة بهجرتين قويتين: الأولى، تتمثل في رجوع الفرنسيين إلى بلادهم بعد الاستقلال، وبالتالي عليهم التخلص مما يؤثث مساكنهم؛ «كان أكثر زبنائه، حينها، من الفرنسيين الأجانب الذين بدأوا يشدون رحالهم إلى بلادهم بعد الاستقلال»[19]. وأما الثانية، فترتبط بنكبة فلسطين، إذ بقيام دولة إسرائيل على أرض فلسطين، شجعت اليهود على الهجرة إلى أرض الميعاد. فكان أن تحرك اليهود المغاربة وهجروا ملّاحاتهم (الملاح حي يسكنه اليهود بالمغرب)، وليس لهم من خيار سوى التخلص من متاعهم؛ «كان اليهود، حينها، قد احتلوا القدس وما بقي من فلسطين، والجو مكفهِرٌّ في البلاد، والناس غاضبون»[20]. وما إن نضبت ينابيع مغادرة الأجانب حتى تراجعت مداخيل حرفة "الدلال" واتجهت نحو البوار.

تقاس على هذا باقي الحرف، منها التي توارت مع اجتياح وسائل تواصل جديدة. عوّض المذياعُ والتلفازُ والهاتفُ والأنترنيتُ "البراح" و"النفار"، كما عوّضت المدرسةُ الحديثة والمدرّس الفقيه "الحضار"، وحلّت مواقع التواصل الاجتماعي بفضل الهواتف الخلوية دور "الدلّال" أو دور "الخطابة". نفس الكلام، يقال في حقّ "الكسال" الذي فسح المجال للحمّامات المنزلية أو الحمامات التركية أو قاعات التدليك الطبّي. وتراجع دور "الحلايقي" وأضحى قطعة سينوغرافية فولكلورية تؤثث بعض الفضاءات تطييباً وجلباً للسياح.

***

الفن المعماري: لئن كان مسقط رأس صاحب السردية هو مدينة النخيل، وجوار زاوية أبي العباس السبتي؛ فليس غريباً أن تجري أحداث هذه المقامات في مراكش؛ المدينة التي تنازعت الزعامة على سيادة المغرب، مع سابقتها فاس، والتي كانت لها على عهد المرابطين المؤسسين ثم الموحدين والسعديين. ليس غريباً ألاّ يستدمج النص بعض معالمها الحضارية: الأسوار والأبواب، الأزقة والحومات، الأسواق والحمامات، الزوايا والمدارس، البيوتات والرياض، البساتين والساحات...

ما إن جفّت ينابيع مداخيل حرفة "الدلال" وبدأ يكتنفها البوار؛ حتى تعس حظه وزاد كدّه في البحث عن قوته وقوت أولاده. يذرع خلف سيدة، في طريق طويل ومُلتوٍ، حتى وصلت رياضاً من رياضات المدينة؛ يقول: «ألفيت نفسي في رياض بديع يتوسّطه حوض مشجَّر مزهر تتوسّطه فسقية من رخام تقع نافورة في قلبها يدّفق منها الماء، وجدرانه مرصعة بأصناف مختلفة من الزليج الفاسي والأندلسي، وأرضيته مبلطة بالرخام. وقفت مدهوشاً من وقع جمال المكان»[21]. في هذه الفقرة، بالقدر الذي يسجل فيه الكاتب معاناة "الدلال" وهو يكدّ في الحصول على ميرة يعول بها النفس والأهل كما حدّث على لسانه؛ «أرسل قدمي في الآفاق بحثاً عمّا لا أعرف، وأطحن الهواء في الأرجاء، عساني أُلْفي في المدن جواب نفسٍ عليلةٍ وفؤاد من الغمّ تفطّر: كيف أمتار الميرة لأفواه ثلاثة وأكسو عُريَ من ينظِر كسوتي، وأنا عن بلوغ المرام بمنأى؟»[22]. بالقدر الذي يقف فيه مشدوهاً أمام بهاء وجمال الرياض الذي انتهى إليه. وقفة لها أكثر من دلالة ومعنى، خصوصاً وصفه لهذه المَعلَمة الشاهدة على ثراء أهلها وتألق الصانع المغربي. فأنت في هذا الفضاء، تستفز كل حواسك؛ تشنّف سمعك برقرقة ماء النافورة أو شقشقة العصافير، وتلتقط خياشيمك روائح الحوض المزهر بالريحان والخزامى أو أشجار الليمون وشجيرات الورد الدمشقي، أما العين فتسرح بين جدران المكان المرصعة بالزليج الفاسي والأندلسي والمبلط برخام يبعث في النفس رطوبة تجدها وانت تمرر حاسة لمسك على صفحتها...لهذا وقف مدهوشاً من جمال المكان. جمال ذوق ينقلك إلى زمن صرنا نفتقده اليوم في هندسة أحيائنا ومدننا ودورنا.

***

العادات والتقاليد: يعمّ الرخاء بلدة ما، فيميل أهلها إلى الدّعة والسكينة، وإلى الكماليات من الحياة؛ الأمر الذي يكون له تأثير على الذهنية كما على الأبدان. يُصاب القوم في صحتهم من أثر ذلك الرخاء، مما يضطرهم إلى اتباع حميات ووصفات تتطاير من الأفواه إلى الآذان. ويكون، لهذا، وقع على أسعار بعض المواد، كما حال بعض الأعشاب والأغراس عندنا اليوم. إن شدة الطلب عليها يزيد في سعرها؛ وهذا ما يسجله كاتبنا في حديثه عن سعر بعض المواد: «وأكثر عجبي غلاء سعر المنخول وتقتر المشترين في الطلب. سألته السبب فأجابني أن النخالة، اليوم، أغلى من الدقيق، وهي إلى صحة البدن اليوم مصروفة، مذ صارت منافعها عند الأطباء معروفة، فهي – قال لي – في جملة المنصوح به في الحمية والتنحيف، وللمرضى بالسكري والإمساك غذاء خفيف»[23]. ولست أرى اليوم مواقعَ التواصل الاجتماعي إلاّ ساحة "جامع الفنا" بمراكش أو ساحة "الهديم" بمكناس أو ساحة "باب بوجلود" بفاس، أو محلات العطارين في كل المدن والقرى المغربية وهي تعرض هذه السلع للتنحيف أو تغليظ الأرداف أو زيادة منسوب الفحولة وهلُمَّ جرّاً من العقاقير التي جادت بصناعتها قريحة العشابين.

لا يمكن بأية حال أن تأتي على ذكر بعض الحرف: "البراح" و"النفار" و"الكسال" ثم "الخطابة"، ولا تأتي على ذكر الأعراس والطقوس المحيطة بها. إذ يعتبر عرس الزواج محطة تتجلى فيها مجموعة من العادات والتقاليد؛ وكان "للخطابة" دورٌ كبيرٌ في الجمع بين الأزواج. يتودّد إليها الشباب من الذكور ويطرقون لها السمع وهي تسرد تفاصيل جسد فتاة؛ كما تتسارع الفتيات لكسب ودّها ويتملّقنها في أن تدلّ شاباً صالحاً ليطلب أيديهن. إذا ما تمّ المراد، أُقيم العرس تحت صخب ولعب وغناء ورقص. يصف الكاتب مجريات الأحداث في مقصورة العروس حيث تتولاها "النكافة" بالعناية اللازمة؛ يحكي على لسانها: «وبعد أن نفرغ من اللغط والمداعبة، نعمد إلى تمشيط شعرها وترويق الوجه بكُحل طبيعي من المرود، ثم نُقفّي ذلك بوضع الأصباغ المناسبة: على الجفنيْن والشفتيْن والوجنتيْن والجيد لإسفار الجسم عن المفاتن الجاذبة»[24]. طقس لا يخلو منه عرس زفاف. حتى هذه الساعة، كل شيء يؤشّر على الاحتفال والابتهاج بالمناسبة؛ لكن ساعة زفّ العروس لعريسها تتوقف الأنفاس وتنبري أسئلة الشرف والحظ، أو السعد والنحس. وقد صورت مقامة "الخطابة" المشهد أفضل تصوير: «وحين تُزَفّ إلى العريس – على عادتنا في ذلك الزمن – فيعثر سؤالُه عنها على الجواب. وبعد التهاني والأماني بدوام العشرة والبنين، يحين الحين للإعراس الكبير في الخَلوة، فترى النساء متأهّبات للجيم والسين، وأهل العروسيْن على رؤوسهم الطير إلى أن تُفلح الفحولة، فتوقِّع على سروال العروس بصم الرجولة. وقد يُعرس العريس ويطيل الاختلاء فلا يُدمي ويُحبِط النُّظّار، فتكون علامة شؤمٍ عليه أو دليلَ حظه في مَن ليست من الأبكار»[25].

اللغة والأسلوب: لم يألُ عبد الإله بلقزيز، وهو يحتفي باللغة العربية، جهداً في التلذذ بعباراتها وتراكيبها؛ ينتقي الجميل منها للمواقف الجميلة، ويستدعي القبيح في معناه لمواقف القُبح. من بداية النص حتى متمِّه، عليك أن تستأنس بالقاموس. قال عنه الناقد المغربي نجيب العوفي في ندوة فكرية*: «لا يرسل الكلام على عواهنه ولا يقبل بسهله ومبتذله، بل ينتقي لغته وكلماته بأناقة ورهافة، وينضدها في جمل وعبارات كما تنضد العقود والأحجار الكريمة». تحضر العبارة أمامك فتطرح السؤال: أصحيح أنها فصيحة وأنت تردّدها عامّية دارجة على لسان العامة؟ فعلاً، هو نفض للغبار على ما اندرس من اللسان العربي وتوارى أمام اللسان الأجنبي المتحكم. إذا كانت المقامة تُزاوج بين الشعري والنثري، وتستدعي الصنعة في ذلك؛ وكاتب المقامة ليس له من سبيل إلّا السير على هذا النهج والطريق؛ فذلك ما حدا بعبد الإله بلقزيز أن يؤثث نصه بقدر كبير من المحسنات البديعية، فلا تحسّ أنه يتصنع ذلك، أو أن النص يعجُّ بما لا يطيق منها. رتق النصّ رتقاً محكماً ووشّاهُ بالمحسنات البديعية دون إطناب أو إسفاف. تجده يسجع في القول في جمل قصيرة تتقارب فيها العبارات المسموعة استواءً واستقامةً. يذكر ابن جنّي أنّ السجع سُمّيَ سجعاً لاشتباه أواخره وتناسب فواصله.  وهو كلام مقفّى يزيد النص رشاقة وخفة يستلذّ بها القارئ النهم؛ يقول[26]: «قضيت طفولتي مسطولاً بالكلام، ووجدت فيه الضالة والجمام». أو مثلاً، «لكنّي سبأت بالكسل وبهأت، لأنّي بقراءة الكتب والأسعار جهلت»[27]. وكذلك قوله[28]: «أصبحت، مع كرور الأيام، بالحلقة أكلف، وبتّ أطايب مائدتها أعلف. فكنت أبز أقراني بفصح لساني لأني بخوافيها ومحاشيها أعرف». ثم يُطابِق، في مواضع أخرى، في الجملة بين الكلمتين البسيطتين فيحدث بذلك جرساً يجده صاحب الذائقة: «فكان كلما أمر أو نهى خَذِيت له في غير وجلٍ أو ذلة»[29]. أو قوله[30]: «يأخذ مني جهدي القُلّ والكُثر حين الصعود إلى مصاد العقبة أو المرتفع». ناهيك عن المفاعيل المطلقة التي تُحدث إيقاعاً موسيقياً يصاحبك وأنت تتنقل بين أحداث المقامة؛ «قبل أن يفلّ عودهما حين أصبحت الأرض فِلّاً، ومن الخير فَلاًّ ومبعث سأم»[31]. وقوله[32]«مَن دلَهَه حب الحرفة تدليهاً». أو قوله: «يتحدث إلينا بعربية تشقق تشقيقاً، لا شقشقة فيها ولا فيها نقيقاً». وليس من توظيفٍ لهذه المحسنات وأثرٍ، سوى رغبة الكاتب في إظهار أفكاره وأهدافه؛ ثم التأثير على العاطفة من جهة، وعلى الموسيقا الداخلية من جهة ثانية.

كم هو دقيق وصفه لأساتذته بالمدرسة الثانوية، وأخصّ بالذكر أستاذ اللغة العربية الذي «يتحدّث "إليهم" بعربية تُشقّقُ تشقيقاً، لا شقشقة فيها ولا فيها نقيقاً... ينتقي من الألفاظ مأنوقها، ويفهمك في غير مشقة أو عناء، ويتميز النصوص مأصولها ومسروقها، ويريك سُبل بيان الصدق من الرياء»[33]. وبالمقابل، يتحدث عن والده، "الدلّال"، الذي لم يكن يحسن الكلام على النحو التالي: «كان والدي فأفاءً؛ حصراً عند الكلام مع شَيْن في النطق من فرط إسهال الفاء على اللسان، وتلك عند جدّي مثلبة في الحرفة ومنقصة، ومبعثة على معايرات ذوي المهنة من شرّ الخلق وأسقاطهم»[34].

انتقى لمشاهد أخرى تعابيرها حسب طبيعة الحالة؛ فالمُكْدِي ليس أمامه إلّا المدافعة والضرب في الأرض لتوفير لقمة عيشه وعيش من يكفل. يجب أن يُثبت جدارته في القدرة على الصمود بين أقرانه في الحرفة. أدرك البطل "الدلّال" وهو مقبل على امتهان حرفة الأجداد فيما يرويه عنه «من حينها، أدركت أن ليس لي من خِيَرةٍ غير العوم وحدي واجتراح مكاني بين الأقران، بعد ردح من العزازة بظلّ جدي؛ وأنا لا سبيل لديّ إلى أن أكون ما كان وإن شغلتُ عوضَه المكان؛ فليس من ضهيٍّ لجدي ولا ضريب بين الرجال الصِّيد، ولا من أفوهٍ مثله بين أقرانه الصناديد»[35].

تناولت المقامة مشهداً آخر يندرج في موضوعات المقامات، ضمن ما تعالجه من قضايا المجتمع المسكوت عنها، وهو ارتياد دور الدعارة وأصناف المومسات وكيف يُنظر إليهن؛ «عاشرت أصناف المومسات جميعا، وكنت أتقلّب بينهنّ كل ليلة وما أتخيّر؛ فالمرأة عندي، مثل الطعام، لا تُعاف ولا أُميز فيهن بين من تهدّل صدرها ومن نهدها يناف؛ لقد تكون الواحدة حسناء كاعباً، لكنك تلفي خاطرك منها هارباً، وقد يكون من حظك الضهياء، لكنّها تنفث فيك المتعة الهوجاء»[36].

في باب السباب وكيْل الشتائم والتنقيص من البشر، إمّا لسلوكهم أو مظاهرهم أو مواقفهم، فقد كان اختيار العبارة في منتهى الدقة، كأن كاتبنا نذر نفسه لرصد مثالب ومناقب الخلق في هذه الأمور. تتطيّر أم "طالب معاشو" منه ساعة ولادته، وتحطّ من قدره وهو يترعرع بين يديها، ويلتقط من فيها توصيف الظروف التي رافقت ولادته؛ يقول[37]: «قُذفتُ في رحمها في ليلة نحساء طالبَت فيها والدي بالطلاق فعاقبها بأن ركبها عَنوةً. وحين بعرتْني -كما كانت تسمي ولادتي – أطلقتُ بكائي عويلاً ممتداً بلغ حدّ الصراخ حتى تطيرت منّي ودعت إلى حسن العاقبة من هذا الجرو المنحوس الذي لفظته أحشاؤها». ويقابل ذلك، بالوصف الحسن حين يتعرّض، مثلاً، للحاج عمر بوسلهام الذي تدخّل له عند الوالد ليرافق الحاج إبراهيم "النفار" بالقول[38]: «من أدمث خلق الله وأشدهم رِعةً ونُسكاً، وأنه يتنفّل في الصدقات نظير نوافله في الصلوات، ويحسب الإعطاء الحسن مدفَعَةً للنوائب. لذلك كان سيد الرأي والنصيحة في الحي ومقصِد السائلين رأيَه».

***

على سبيل الختم:

تأتي سردية "الماضون إلى الماضي"، ضمن الإنتاج الأدبي لعبد الإله بلقزيز في الوسط؛ يجسُر بها المسافة الإستتيقية بين نصوصه الأدبية التي رابضت على التخوم بين النثري والشعري؛ والأعمال الروائية التي تتناول الواقع المغربي والعربي. ثم إنّ السردية تُفصح عن إلمام كبير بالفنون الإبداعية قديمها وحديثها لدى كاتبها، وكأنّه «يجادل ويتنوّق الحكي فيُنزله من المسامع المنازلَ»[39]، لعل المهتمين بالشأن الثقافي في المغرب والوطن العربي يلتفتون إلى لغتهم وتراثهم. وما إخاله إلا أنّه يتظاهَرُ وينتفضُ من خلال هذا النص، ليزعج السلطة الثقافية بكلّ أشكالها. وفي ذات الوقت، يحتفي باللسان والتراث العربيَيْن ويساهم بوضع وثيقة تاريخية، أمام الباحثين، تؤرِّخ للمرحلة التي طالتها أحداث هذه المقامات.

***

محمد رزيق مبارك

الدار البيضاء: 12/05/2025

..............................

*  وجدت نسبتها إلى الزعيم الهندي المهاتما غاندي (1869م/1948م)، وإلى الشاعر روبندرونات طاغور (1861م/1941م).

[1] حسن علي المخلف، التراث والسرد. (الدوحة: وزارة الثقافة والتراث، قطر. إدارة البحوث والدراسات الثقافية، 2010)، ص9.

[2] فالنتينا غراسي، مدخل إلى علم اجتماع المخيال نحو فهم الحياة اليومية. ترجمة محمد عبد النور وسعود المولى. (قطر: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2018)، ص41.

**  رائحة المكان، ليليات ثم على صهوة الكلام.

[3]  عبد الإله بلقزيز، الماضون إلى الماضي. (بيروت: منتدى المعارف، 2020)، ص15

* صيف جليدي، سراديب النهايات، يوميات موت حي، الحركة..

**  حالة حصار.

[4] ن م. ص11.

[5]  زكي مبارك، النثر الفني في القرن الرابع الهجري. (القاهرة: مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، 2012)، ص199-200.

[6]  نقلاً عن عبد الفتاح كيليطو، المقامات: السرد والأنساق الثقافية.  ص209. ابن خلكان الجزء 4، ص 396.

[7]  أبو القاسم الحريري، مقامات الحريري. (بيروت: دار بيروت للطباعة والنشر، 1978)، ص13.

[8]  عبد الله إبراهيم، السردية العربية. (الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، 1992)، ص184.

[9]  عبد الفتاح كيليطو، المقامات: السرد والأنساق الثقافية. ص175.

[10] عبد الفتاح كيليطو، المقامات: السرد والأنساق الثقافية، ص5.

[11]  عبد الفتاح كيليطو، المقامات: السرد والأنساق الثقافية، ص 204.

[12]  بطرس البستاني، أدباء العرب في الأعصر العباسية: حياتهم، آثارهم، نقد آثارهم. (القاهرة: مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، 2014)، ص 303.

[13]  عبد الله إبراهيم، موسوعة السرد العربي. (دبي: المجلس الوطني للإعلام، 2016)، ج 2، ص 242.

[14] بطرس البستاني، أدباء العرب في الأعصر العباسية، ص 303.

[15] بطرس البستاني، أدباء العرب في الأعصر العباسية، ص 303.

[16]  عبد الرحمن بن خلدون، مقدمة ابن خلدون. تحقيق عبد الله محمد الدرويش. (دمشق: دار يعرب، 2004)، الجزء 1، ص 132.

[17]  عبد الإله بلقزيز، الماضون إلى الماضي. ص 62.

[18]  عبد الإله بلقزيز، الماضون إلى الماضي، ص63.

[19] عبد الإله بلقزيز، الماضون إلى الماضي، ص 63.

[20] عبد الإله بلقزيز، الماضون إلى الماضي، ص 63.

[21] عبد الإله بلقزيز، الماضون إلى الماضي، ص 66.

[22]  عبد الإله بلقزيز، الماضون إلى الماضي، ص74.

[23]  عبد الإله بلقزيز، الماضون إلى الماضي، ص50.

[24]  عبد الإله بلقزيز، الماضون إلى الماضي، ص 189.

[25]  عبد الإله بلقزيز، الماضون إلى الماضي، ص 190.

*  في ما بين الفلسفة والأدب من الاتصال. ندوة فكرية عقدتها كلية الآداب والعلوم الإنسانية بنمسيك احتفاءً بالأعمال الأدبية لعبد الإله بلقزيز.

[26]  عبد الإله بلقزيز، الماضون إلى الماضي، ص 187.

[27]  عبد الإله بلقزيز، الماضون إلى الماضي، ص 134.

[28]  عبد الإله بلقزيز، الماضون إلى الماضي، ص 116.

[29]  عبد الإله بلقزيز، الماضون إلى الماضي، ص 57.

[30]  عبد الإله بلقزيز، الماضون إلى الماضي، ص 96.

[31]  عبد الإله بلقزيز، الماضون إلى الماضي، ص 140.

[32]  عبد الإله بلقزيز، الماضون إلى الماضي، ص 55.

[33]  عبد الإله بلقزيز، الماضون إلى الماضي، ص 170.

[34]  عبد الإله بلقزيز، الماضون إلى الماضي، ص 55.

[35]  عبد الإله بلقزيز، الماضون إلى الماضي، ص 61.

[36]  عبد الإله بلقزيز، الماضون إلى الماضي، ص 108.

[37]  عبد الإله بلقزيز، الماضون إلى الماضي، ص 97.

[38]  عبد الإله بلقزيز، الماضون إلى الماضي، ص 81.

[39]  عبد الإله بلقزيز، الماضون إلى الماضي، ص116.

 

يبدأ تلقي عرض مسرحية (رأسي من الجنوب) حالما يقع البصر على البوستر الإعلاني الذي استخدم مفردات كثيرة تبوح بوضوح بشيء من فكرة ومفردات لغة العرض، السيادة للكوفية (الشماغ) والمشحوف والكتابة المسمارية على اليمين وتراثيات (كف تتوسطه عين وهلال وأم سبع عيون) على اليسار والحجم الأكبر لتكوين حيوان الجاموس والخلفية شبكة صيد الأسماك المقارب لتكوين الكوفية، جميع المفردات مأخوذة من جنوب العراق، ويعزز هذا المصدر عنوان العرض (رأسي من الجنوب) الذي يتصدر البوستر، ليقول أن: فكرة العرض أخذت من ما باح به الجنوب الساكن في رأس المؤلف والمخرج.

يدخل المتلقي في أجواء قبل دخوله وجلوسه على المصاطب والكراسي التي تحتل ضلعين كمساحة للمشاهدة، أما الضلعين الآخرين فهما مساحة للأداء، أجواء ما قبل بدء العرض يصنعها صوت خوار الجاموس المصحوب مع انين غامض.

حالما تضاء مساحة الأداء، ينكشف فضاء العرض للمصمم ضياء حمزه، الذي عمل إنشاء تكوينات من القصب غلفت الجدران وجزء السقف واحد الاعمدة، والأرضية الترابية وقارب الأهوار المسمى محليا (بالمشحوف) مع انتشار شبكات صيد الأسماك، وهي المفردات نفسها -تقريبا- التي وضعت في تصميم البوستر الإعلاني.1460 janob

يظهر من بين الجمهور (شاب) و (شابة) يقدمون باللغة العربية والانجليزية نبذة عن الأهوار واستعراض اهميتها (أن الأهوار العراقية بيئة فريدة من نوعها) والأضرار التي لحقت بها بسبب عمليات التجفيف وإقامة السدود وقطع مصادر المياه من بعض الدول المحيطة بالعراق.

نقطة انطلاق الحدث تبدأ عندما يتحرك رأس من طين وجسم إنسان مغطى بشبكة صيد، يتحرك ببطء ويتلمس طريقه وينزع عنه طبقة الطين ليظهر ملامح الإنسان، وفي الطرف البعيد يتحرك كائن ويزيح عن نفسه كتل طينية ليظهر رأس جاموس بجسد إنسان، يلتقيان بعد فراق وإنهاك، يستند أحدهما على الآخر، ثمة علاقة قديمة وعميقة تمخضت عن ولادة القارب المحلي الصنع (المشحوف) اداة التنقل والصيد.

لم تنطق الشخصيات بلغة الكلام للتعبير عن مشاعرها وانفعالاتها وما يجول بخاطرها، بل استخدمت لغة الإيماءة والإشارة والحركة المعبرة التي نفذت إلى وجدان المتلقي، وفي الوقت الذي تلاشت فيه لغة الحوار السمعية التقليدية، تبدت اللغة البصرية بأبهى صورها.

ثيمة العرض هي الوشائج بين مكونات البيئة (التراب والماء والقصب والجاموس والقصب …) وبين الإنسان/ المواطن. ذلك ان إنعاش الأهوار يعني إنعاش الإنسان والجاموس ونمو القصب والأسماك والطيور، وتصنع القوارب (المشاحيف)1461 janob

من يملك الحس والروح والعقل المتواشج بكل مكونات وتفاصيل وجزيئات بقعة أرض وينتمي إليها ويحبها لدرجة انه يقدسها ويدافع عنها هو الإنسان الوطني الذي يحب التراب والتراث والإنسان والحيوان والنبات والأشياء.. لماذا؟ لأنه مرتبط بهذا المكان (بقعة الأرض) المسمى وطن، ولد وعاش فيها وتجذرت روحه وذكرياته وأزهرت أواصر لا نهاية لها. العمل في هذا العرض عرف الوطنية بأنها ليست هتافات حماسية ولا شعارات سياسية وحسب، تتجلى الوطنية في التماهي مع ذرات التراب واحتضان من يعيش عليه.

احدى أهم جماليات هذا العرض، انه لم ينطق العرض بأي كلمة مباشرة عن الوطن، استثمر مفردات قليلة العدد عميقة الدلالة (القصب، الجاموس، المشحوف، التراب) وعمل على استنطاق انتماءها وحبها والتصاقها ببيئة الاهوار، وفي الوقت نفسه عزز روح الوطنية لدى المتلقي الذي أصغى طوال زمن العرض بحواس رصدت تفاصيل عرض قال كلمة جاءت من صوت خارجي وليس من الشخصيات المتواجدة أمام المتلقي، صوت شجي، يعاتب بمحبة، ويحرض بتثوير: (من منكم يزيل التجاعيد وجه الجنوب)

الجانب الجمالي الآخر في عرض (رأسي من الجنوب) هو صعوبة تحديد انتماء العرض فنيا لنوع درامي محدد، اذ انه يبدأ بمعلومات سردية باللغتين العربية والانجليزية من فتى وفتاة، تبدأ دراما العرض بشغل مسرحي حركة تعبيرية يؤديها ممثل شخصية الرجل الجنوبي وشخصية الجاموس، تتحول الأحداث إلى صراع حالما يدخل إلى المشهد شخصيتان أجنبيان (رجل وامرأة) من غير بيئة الاهوار - سياح/ مستكشفين/ مستعمرين - يأخذون تراب وقصب، يرفض مربي الجاموس والجاموس وجودهما ويريدان استعادة ما أخذوه، يستحيل الأمر إلى صراع بالأيدي وبكل شيء بصياغة كيروكرافية إيمائية راقصة، عدا بعض الحالات التي يكون فيها ضرب على جدران القصب الهشة فتصدر أصوات لا تتناسب ومسار الإيقاع الحركي، إلى جانب عملية سحب جثث الأجانب لم تكن بالخفة والمرونة المتوافقة، في نهاية العرض يموت مربي الجاموس، يحزن الجاموس على فقدان مربيه ويهيل التراب على رأسه، بالصورة نفسها التي تحزن بها نساء الجنوب على فقدان أحبتهم. يأتي صوت الشعر من خارج مساحة ليقول (حزنت الأرض فخلق الله جنًوبا يبكي) تدخل امرأتين متلحفات بالعباءة وسط صوت النعي والبكاء واللطم على الصدور. موت الرجل الجنوبي جعل المشهد الأخير يغور في عمق الواقعية بفعل اللطم ونثر التراب على الرأس وصوت الأنين والنعي المؤلم.1462 janob

واستنادا وقائع العرض يمكن القول بصعوبة تجنيسه، وتحديد انتمائه إلى التمثيل الصامت أو إلى عروض الكيروغراف … أنه عرض ينطوي على الجدة على وفق مزيج متجانس من ابتكار المؤلف والمخرج والممثل (محمد كويش) وفريق العرض المتضامن معه. 

لقد أثبت فريق العرض أن المسرحية الشعبية لا تعني الحوار باللهجة العامية الدارجة وفيض من قفشات ومواقف كوميدية تقدمها شخصيات محلية ساخرة، مع ضرورة حضور الرقصات والأغاني … إلى آخره. أثبت فريق العرض أن المسرحية الشعبية هي التي تتناول ما يعنى به الشعب ويثير اهتمامه ويتعاطف معه، بمعنى آخر يطرح القضايا ذات الأهتمام الشعبي ويبحث في معالجتها جماليا، وعليه يمكن القول: أن العرض المسرحي -وكل الفنون والآداب بأنواعها- يكون شعبيا ويحصل على استجابة فكرية وجمالية واسعة عندما يجد الجمهور/ الشعب شيئاً من روحه فيه.

يتحقق التكامل في عرض مسرحي عندما تكون تقنيات جزءا عضويا وليس تجميليا زائدا ويمكن رفعه او تغييره دون تأثير في بعض مكوناته، (رأسي من الجنوب) أظهر تلاحما عضويا بين البقع الضوئية المسلطة على مساحة الأداء وألوانها، وحتى الاضاءة الحمراء خلف جدران القصب والسلم الذي ظهرت منه بعض الشخصيات وغادرت وصناعة لون الشمس الاصفر … و بالتوقيتات الدقيقة -للسينوغراف علي السوداني- المرافقة لموسيقى الوجع والمؤثرات الصوتية بمحمولاتها الوجدانية الحزينة، ومنها حضور أغنية أو ترنيمة الــ (دللول يا الولد) التراثية التي تستخدم لهدهدة الأطفال  صدىً عَذِب في نفوس العراقيين، يرجع بعض الباحثين اصولها إلى الحضارة السومرية (4000 - 2004 ق.م) وتعد من أقدم الآداب الموجهة للأطفال، منحت العرض امتداد تاريخي متزامن مع تاريخ الاهوار القصب والجاموس كلها حاضرة منذ آلاف السنين والمواطن الجنوبي هو سومري الاصل.   وقد اتسق تأثير الاضاءة والمؤثرات الصوتية مع طغيان اللون الأسود على أزياء الشخصيات، تولد عن كل هذا وحدة إيقاعية نوع من التكامل الفني جعل الجمهور الحاضر مستغرقا في العرض طوال الأربعين دقيقة.

احد تعريفات البلاغة يقول: (انها إيصال المعاني بلغة بسيطة) وقد أوصل عرض مسرحية (رأسي من الجنوب) رسالته بمفردات جميلة وواضحة استلها المؤلف/المخرج (محمد كويش) وفريقه من بيئة الاهوار الجنوبية واعادوا صياغتها فنيا لأنهم لا يعيشون ولا يعملون بعزلة وقطيعة عن جميع مكونات بيئة الأرض وما فوقها وما في جوفها وبيئة المجتمع والاقتصاد والسياسة، ذلك أن الفنان ابن بيئته يتفاعل معها ويحرص عليها ومنها ينطلق إلى فضاء الإبداع.   

ملاحظة: انتظار الجمهور لفترة غير قصيرة في ممر ضيق، والدخول إلى قاعة العرض في الظلام، سياقٌ يفضل أن يعاد النظر به، لأنه يعكر صفو الاستعداد النفسي لتلقي العرض والدخول في أجوائه. مع التنويه الى أن الكثير من مواقع الجلوس في باحة منتدى المسرح لا توفر مشاهدة مريحة.

***

ا. د. حبيب ظاهر حبيب

 

حدَّثَنا (ذو القُروح) في المساق السابق عن بيت (المتنبِّي):

أَلُوْمُ بِهِ مَنْ لامَني في وِدادِهِ

 وحُقَّ لِخَيْرِ الخَلْقِ مِن خَيْرِهِ الوُدُّ

وكيف أنَّ (ابن جِنِّي) جاء شارحًا، فقال: «أي: هو خَير الخَلْق وأنا كذلك! وحقيقٌ أهل الخَير أنْ يودَّ بعضهم بعضًا، فحقيق عليَّ، إذن، أن أودَّه!» فردَّ كلامَه (ابنُ معقل) قائلًا: «أقول: إنَّه يُحتمل أن يكون «من خَيره» راجعًا إلى آباء الممدوح، كأنَّه قال: هو خَير الخَلْق من خَير الخَلْق، وهذا الأقرب والأشبه بغرضه؛ لأنَّ وصفه نفسه بأنَّه خَير الناس من أقصى الرَّقاعة، وأقبح الشَّناعة!»(1) وقال ذو القُروح: إنَّه على طرافة شرح ابن جِنِّي- ولا يَبعد أن يكون ما ذكرَ هو مقصود الشاعر بالفعل، ولعلَّ ابن جِنِّي أعلم بمقاصد المتنبِّي من غيره- فإنَّ معناه حسب شرح ابن معقل لا يخلو من الشناعة أيضًا! وذلك بعد أن ذكرَ أنَّ (أبا الطَّيِّب) كان يَصِل من سُخف المديح ما لا يَصِل إليه عابدٌ خانعٌ مع ربِّه، بالرغم من ادِّعائه الكرامة والاعتزاز بالذات. قال: ويبدو هذا التعالي لديه تظاهرًا نفسيًّا يُخفي نقيضه، أو قُل: إنه ضربٌ من التعويض النَّفسي. قلتُ:

ـ وما المستغرب في تأليه (المتنبِّي) بعض ممدوحيه، وهو القائل عن بعضهم:

وإِذا مُدِحتَ فَلا لِتَكْسَبَ رِفعَـةً ::: لِلشَّاكِرينَ عَلـى الإِلَـــهِ ثَـنــاءُ

ـ قطعتْ جهيزة قول كلِّ خطيب، ببيته هذا! والبيت من قصيدة مديح في (هارون بن عبد العزيز الأوراجي)، الكاتب، وكان صوفيَّ المذهب.

ـ إذا كان هذا في مديح كاتبٍ صوفيٍّ، فماذا تُراه قائلًا عمَّن فوقه منزلة؟!

ـ وأعود إلى القول: إنَّ ابن معقل كثيرًا ما يخطِّئ ابنَ جنِّي ويبدو هو الخاطئ. ومن ذلك ما ذكره في بيتنا الشاهد؛ فما علاقة آباء الممدوح بسياق البيت؟ وإنَّما كان (المتنبِّي) يشير إلى وِداده هو للممدوح: «ألومُ به مَنْ لَامَني في وِدادِهِ.» فلمَّا لامَه اللائمون على وِداده إيَّاه، أجابهم بأنَّ الطيور على أشكالها تقع: «وحُقَّ لِخَيْرِ الخَلْقِ من خَيْرِهِ الوُدُّ.» أمَّا ما أشار إليه (ابن معقل)، فتكلُّفٌ محض. وأمَّا حكاية الرَّقاعة والشَّناعة، إنْ صحَّت، فله أن يقذف بها أبا الطَّيِّب كما شاء، ولا حاجة به إلى تحريف معانيه لتبرئته من الرَّقاعة والشَّناعة! وليس المعنى بغريبٍ على أبي الطَّيِّب في فخره بذاته، ووقوفه أحيانًا نِدًّا لممدوحيه، في انفصام شخصيَّته التي لازمت خِطابة الشِّعري: بين الخنوع والكبرياء. لكأنَّ ابن معقل ما كان يعرف طبيعة المتنبِّي تلك! والحقُّ أنَّه إنَّما كان يوقِع ابنَ معقل في مثل هذا حُبُّ المِراء، ونزوعُه إلى التنقُّص من شُرَّاح شِعر المتنبِّي، وإظهار أنَّه يفهم شِعره خيرًا منهم. وقد كان هذا يحمله أحيانًا على الذهاب إلى معانٍ بعيدة، كما رأينا في البيت السابق، وأحيانًا إلى معانٍ أقلَّ شِعريَّة وبلاغيَّة. مثال هذه الحالة الأخيرة أنَّه توقَّف أيضًا عند قول أبي الطَّيِّب، من داليَّةٍ أخرى:

ومِنِّي استَفادَ النَّاسُ كُلَّ فَضِيلةٍ ::: فَجازوا بِتَركِ الذَّمِّ إِنْ لَم يَكُنْ حَمْدُ

فعاب على (ابن جنِّي) شرحه البيت؛ لأنَّه قال: «قوله: «فجازوا»، كما تقول: هذا الدِّرهمُ يجوزُ على خُبْث نَقده؛ أي: يُتَسَمَّح به، أي: فغايتُهم أن لا يُذَمُّوا، وأمَّا أن يُحمَدوا، فلا.» فانتكس (ابنُ معقل) بمعنى البيت، قائلًا: «وأقول: إنَّه قد عابوا عليه هذا التفسير، وقيل: كيف يزعم أنَّه قد أحكمَ سماع شِعر أبي الطَّيِّب منه، وقراءته عليه، ويقول هذا القول؟ وإنَّما قوله: «فجازوا» أمرٌ من المجازاة، لا من الجواز، أي: «فجازوا» على ما استفدتم منِّي من الغرائب بترك الذَّمِّ لي إنْ لم يكن منكم حَمْد.»(2)

ـ فأيُّ المعنيين الآن أبلغ؟

ـ هنا السؤال! أيُّهما أبلغ: أن يطلب الشاعر من النَّاس أن يتركوا ذَمَّه، إنْ لم يحمدوه؟ وأنَّى للمحسود أن يطلب من حاسده ترك ذَمِّه أصلًا، فضلًا عن احتمال الحمد؟! أهذا أبلغ، أم أن يصوِّر ما اكتسبوه من غرائب- [وظاهرٌ هنا أنَّ الرواية التي يعتمد عليها (ابن معقل) في شرحه بلفظ «كل غريبة» لا «كل فضيلة»]- إنَّما اكتسبوها منه هو، لتَستُرهم من الذَّمِّ، وأمَّا الحَمْد فهيهات؛ فهو بعيدٌ عن «شواربهم»؟

ـ لا شكَّ عندك أنَّ فهم (ابن جنِّي) لمراد الشاعر هنا أَوْجَه، وأبلغ، وأشبه بمذهب (أبي الطَّيِّب) في الشِّعر والفخر، مما فهمه (ابن معقل)، أو قُل: مما حاول فهمه، لتخطيء ابن جنِّي؟

ـ لا شك! حتى لقد جعل (ابن معقل) الشاعرَ ملتفتًا إلى التسوُّل لدَى حاسدِيه ليكفُّوا عنه ذَمَّهم! وما كان هذا ممَّا يليق بالمتنبِّي الالتفات إليه، ولا حتى بمَن دون المتنبِّي، في تكبُّره وتعاليه. وإنَّما «جازوا» فعلٌ ماضٍ، معطوفٌ على الفعل الماضي في صدر البيت، بلا التفات: «استفادَ الناس... فجازوا...». تساوقًا مع قوله قبل هذا البيت مباشرةً:

يَرومونَ شأوي في الكَلامِ وإنَّما ::: يُحاكي الفَتَى فيما خَلا المَنطِقَ القِردُ

فَهُمْ في جُموعٍ لا يَراها ابنُ دَأْيَةٍ ::: وهُمْ في ضَجيجٍ لا يُحِسُّ بِها الخُـلْدُ

فهم من الحقارة كالقرود، والقِرد قد يحاكي الفتَى لكنَّه لا يبلغ شأوه، وهم من الخفاء بحيث لا يراهم حتى الغُراب (ابن دَأْيَة)، على حِدَّة بَصَره، ولا يسمعهم حتى (الخُلْد)، نوع من الفئران، على رهافة سمعه. وهكذا كان المتنبِّي يُوقِع شُرَّاحه في حبائل القراءات المحتملة، ليسهروا جرَّاها ويختصموا؛ بمثل استعماله كلمة «جازوا» هاهنا، التي يُمكِن أن تُقرَأ على وجهَيها، مع ما بين القراءتين من بَون في الدلالة والتصوير والشِّعريَّة.

ـ غير أنَّه يبدو أنَّه كان بين شُرَّاح شِعر (أبي الطَّيِّب) من المماحكات، كما كان بين شُرَّاح شِعر (أبي تمَّام)؛ فظلَّ ذلك يحمل أحدهم على تنقُّص الآخَر، وإظهار أنَّه أكثر منه فهمًا للشِّعر ودِقَّة.

ـ ومِن ثَمَّ كانوا يصنعون من حَبَّة بيتٍ شِعريٍّ سطحيٍّ قُبَّةً هائلةً، يستعرضون تحتها عضلاتهم في الحفر اللُّغوي، والتشقيق الفارغ، والمصارعة الحُرَّة شرحًا وتشريحًا.(3) وستلحظ أنَّ هؤلاء الشُّراح يقعون في معرَّة (وحدة البيت)، فلا ينظرون إلى البيت في سياقه من الأبيات غالبًا، بل يدندنون على البيت الواحد، وكأن لا علاقة له بما قبله وما بعده؛ فترى منهم في ذلك العجب العجاب من المعاني التي يتوهَّمون منها ما قد لا يتوهَّمه إلَّا من ليس في وعيه!

ـ مثال ذلك؟

ـ خُذ مثلًا توقُّفهم الطويل العريض والمعقَّد أمام بيت المتنبِّي الواضح:

إِنَّ المُعينَ عَلى الصَّبابَةِ بِالأَسَى ::: أَولَــى بِرَحمَــةِ رَبِّهـا وإِخـائِهِ

وقد جاء قبله:

مـا الخِـلُّ إِلَّا مَـن أَوَدُّ بِقَلْبِـهِ ::: وأَرَى بِطَرْفٍ لا يَرَى بِسِوائِهِ(4)

فالبيت، حين يُربَط بسياقه، أوضح من أن يحتاج إلى شرحٍ أصلًا. يقول الشاعر: إنَّما خِلُّه من النَّاس ذلك الذي يتفاعل معه، ويشاركه همومه وأحزانه، وكأنَّه يحمل قَلْبه وطَرْفه، فيودُّ ما يَودُّه، ويرى ما يرى. ومن ثَمَّ بنى على هذا بيته التالي، الذي عَدَّه الشُّرَّاح مُشْكِلًا، وما هو بمُشْكِل؛ ليقول: إنَّ أَولى الناس برحمة العاشق، أو رَبِّ الصَّبابة، وبإخائه، ذلك الخِلُّ الذي يُعين على هموم الصَّبابة، ويُشرِك رَبَّها حُزنَه بحُزنه، متعاطفًا معه، مستشعِرًا حاله، لا ذلك الذي يلومه، ويبكِّته، وكأنَّه قد ارتكب جُرمًا، فضلًا عن الآخَر الذي يعمل بالوشاية ضِدَّه. والأسَى إزاء مأساة الإنسان فيه عَونٌ له من الناحية النفسيَّة، والبكاء لبكائه محمود، بعكس جُمود العَين. ألا ترى إلى كلام (عبدالقاهر الجرجاني)(5) في بيت (العبَّاس بن الأحنف):

سأَطلبُ بُعْدَ الدَّارِ عنكُمْ لِتَقْربوا ::: وتَسْكُبُ عينايَ الدُّموعَ لتَجمُدا

لمَّا قال: «لا ترَى أحدًا يذكرُ عينَه بالجمودِ إلاَّ وهُوَ يشكوها ويذمُّها وينسبها إلى البُخْل، ويَعُدُّ امتناعها من البكاءِ تَرْكًا لمعونةِ صاحِبها على ما بهِ من الهمِّ، ألا ترى إلى قوله:

ألا إِنَّ عَينًا لم تَجُدْ يومَ واسِطٍ ::: عليكَ بجاري دمعِها لَـجَمُوْدُ

فأتَى بالجمودِ تأكيدًا لنفي الجُودِ، ومُحالٌ أن يَجْعَلها لا تَجودُ بالبكاءِ وليس هناك التماسُ بكاءٍ... وعلى ذلك قولُ أهل اللُّغةِ: «عَينٌ جَمُودٌ، لا ماءَ فيها، وسَنةٌ جمادٌ، لا مطرَ فيها، وناقةٌ جمادٌ، لا لَبَن فيها«، وكما لا تُجْعَلُ السَّنةُ والناقةُ جمادًا إلَّا على مَعْنى أنَّ السَّنةَ بخيلةٌ بالقَطْر، والناقةَ لا تَسْخُو بالدَّرِّ، كذلك حُكْمُ العَينِ لا تُجْعَل »جَمُودًا« إِلَّا وهناكَ ما يَقْتضي إرادةَ البُكاءِ منها، وما يَجْعَلُها إِذا بكَتْ مُحْسِنةً موصوفَةً بأنْ قَدْ جادَتْ وسَخَتْ، وإِذا لم تَبْكِ، مسِيئةً موصوفةً بأنْ قد ضَنَّتْ وبَخِلَتْ... وجملةُ الأمرِ أَنَّا لا نعلمُ أحدًا جعلَ جُمود العَين دليلَ سرورٍ وأمارةَ غِبْطةٍ، وكنايةً عن أنَّ الحالَ حالُ فرحٍ.»

ـ وإذا كان هذا شأن العَين حين تخذل صاحبها عن البكاء في ظَرفٍ يستدعيه، فكذلك شأن خليله حين لا يتفاعل معه بالأسَى والبكاء.

ـ نعم، وإنْ كان المتنبِّي لا يقصد- كما توقَّفتْ عنده عقول الشُّرَّاح؛ فقالوا: إنَّ الأسَى إنَّما يزيد الأسَى ولا يُعين عليه- أنْ يقف خِلُّه ليبكي لبكائه فحسب، بل يقصد أيضًا أن يتمثَّل أساهُ موقفًا نبيلًا، يَظهر، في الأقل، في الكفِّ عن اللَّوم، مع الإشفاق عليه ممَّا هو فيه.

وهكذا ستجد هؤلاء الشُّرَّاح يُشرِّقون ويُغرِّبون، متوقِّفين مع كُلِّ كلمة، مبتوتة عن سياقها من النص، مأخوذة بدلالتها المعجميَّة العقيم، لا بدلالتها الشِّعريَّة.(6)

[وللحديث بقية].

***

أ. د. عبد الله بن أحمد الفَيفي

.........................

(1) ابن معقل، (2003)، المآخِذ على شُرَّاح ديوان أبي الطيِّب المتنبي، تحقيق: عبد العزيز بن ناصر المانع، (الرياض: مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلاميَّة)، 1: 76- 77.

(2) م.ن، 1: 79.

(3) يُنظَر في هذا: ابن المستوفي، (1989)، النِّظام في شرح شِعر المتنبِّي وأبي تمَّام، دراسة وتحقيق: خلف رشيد نعمان، (بغداد: وزارة الثقافة والإعلام).

(4) بسِوائه بمعنى: بسِواه، أي بغَيره. لكن من التحكُّم غير المفهوم فَتْحُ اللُّغويِّين السِّين في (سِوَى) عند مدِّ مقصورها، فتجد الكلمة قد كُتِبت: (بسَوائه)، مع أنَّ المعنى يصبح هنا بلا معنى! إلَّا في ديوان (المتنبِّي) بتصحيح (عبدالوهاب عزام)، حيث تجد: «بسِوائه»، بكسر السِّين، وهكذا ينبغي أن تكون! فإنْ قيل: «هكذا نطقت العَرَب»، قلنا: هاتوا التسجيل الصوتيَّ لعَرَبيٍّ سَوِيِّ العقل واللِّسان، يقول: «بِسِوَى»، فإذا مَدَّ الكلمة قال: «بِسَوَاء»! لا يُقبل هنا التسجيل عن اللُّثْغ أو المعاتيه!

(5) (1984)، دلائل الإعجاز، قرأه وعلَّق عليه: أبو فهر محمود محمَّد شاكر، (القاهرة: مكتبة الخانجي)، 269- 271.

(6) يُنظَر: ابن المستوفي، 1: 346- 352.

 

للشاعر الأمريكي ازرا باوند

قصيدة الرواي بين استجابة الإحالة ودينامية الزمن الضائع

***

توطئة: تشتغل آليات الدال الشعري في الأوضاع القصدية بوصفه هدفا تتوجه به الذات الراوية تجليا يتكشف بوعي شعري مقارب إلى محكي السارد العليم في المتون السردية، لذا وجدنا الصلات والأواصر في محكيات النص الشعري وكأنها إشارات إلى زمن تصويري مستعاد في الإحالة والتصدير والإيحاء. تأخذنا قصيدة الشاعر الأمريكي الكبير (ازرا باوند) الموسومة ب (رسالة من زوجة تاجر النهر) نحو جملة من الدوال المقرونة والمرتهنة بشبكة أفعال وصياغات إشارية الطابع وإحالية في رصد الصلات الدﻻلية الدينامية التي تجعل من زمن المكان الشعري في النص التحاما وحدود جملة أفكار واسترجاعات وأحاسيس جعلت تتجسد على نحو ميلودرامي، يلخص لنا حكاية المرسل إليه متماثلا في أفق شخصانية لقطاتية مستعادة شعريا وتركيز تشكيل محكيات دائرة الراوي ذاتا وموضوعا وداﻻ.

- فعلية استرجاع الزمن عبر مستلزمات المتن النصي

إن فعلية العلاقة الاحوالية في حدود خصائص الزمن الشعري، تفصل ما بين (سياق داخلي = سياق خارجي) أي أن المنظومة المعرفية للبنية الزمنية تقع ضمن حدود خاصة من الخصوص وعامة من العموم. إذ عندما يأتي الزمن في حالة (سياق داخلي = ذات = كينونة) فلربما تقع شرطية مقصوديته في مسار حركة فعلية - ذاتية، كحال النموذج الاستهلالي من قول النص:

قد كان شعري ما يزال

يقص خطاً يستقيم على الجبين.

على هذا النحو الذي جاءت به الجمل الأولى من النص، تتبين ثمة حركة زمنية بين الجملة الأولية والثانية، فالأولى تحدد فضاء الزمن الممدود وصوﻻ إلى الملحقة الفعلية في (يقص خطاً) ثم إلى مسار حركة الكشف الوضعي المرسوم بصياغة الحدوث الحال (يستقيم على الجبين) وبوسعنا القول أن الاستعانة الذاتية للزمن حلت في إطار (فضاء الحكي؟) من خلال إبقاء عنصر الزمن وأدواته (قد كان؟) ومعنى ذلك أن دائرة الأفعال تتم بملازمة زمنيين (زمن سابق - زمن حاضر) وتتنوع الأداة الزمانية بشروطها الأحوالية لتظل عملية القول متأرجحة ومعلقة أحياناً:

- أيام ذاك - وكنت عند الباب ألعب بالزهور

وكنت تأتي راكبا عذابات زانٍ

الوهم صيرها حصان.

قد كنت تنظر حيث أجلس، أو تدور

حول المكان وكان بين يديك من ريش الطيور

زرق لعبت بها كثار.

وواضح من هذه المقاطع، أنه ليس هناك من دﻻﻻت واصلة بين الموضوع والمضمون، ولكننا في صدد  إحتمال أن رؤية (الذات الراوية) تتحرك ضمن استعادات حاصلة في زمن المقابلة بين قطبي (قد كان - أيام ذاك) والنتيجة المشار إليها هي عين الذات الفاعلة والموصولة في إمكانية عكس ذلك الآخر في مرآة مرويها الذاكراتي (أيام ذاك، وكنت عند الباب ألعب بالزهور، وكنت تأتي راكبا عذابات زانٍ). إذا استبعدنا دﻻلة جملة (عذابات زانٍ) من كونها تقع في محمل التشبيه، فما دورها الدﻻلي الاصل لو افترضنا كونها جاءت ضمن مستدرك أحوالي خاص؟ ولربما الجملة ﻻ تتعدى فاعلية اللحظة الكسيرة أو اللحظة المشوشة من إستعادة الذاكرة بحدود التشبيه والمشبه به، ليندرج القول في أقصى أحواله في سياق حالة قصدية ما. عموما المقاطع الشعرية في شتى محاورها ﻻ تخرج عن منظومة الأفعال الزمانية المشرئبة في صورة المكان وذاتية العودة بسياق الأحوال إلى تموجات وتحوﻻت عاطفية وذاتية معمقة بحضور المتخيل في سعيه التشكيلي والإيحائي الصرف.

١- تصاعدية الزمن وتصويرية كشوفية الحاكي:

لعل قصيدة (رسالة من زوجة تاجر النهر) هي من الدﻻﻻت الشعرية التي تستأثر لذاتها تلك الصفة الانطباعية الروحية بالعشق لذلك الوعي المكنون في زمن مصائر الغياب والانتظار لذلك الآتي من المحال، فهي بدورها تجسد الزمن العمري لذاتها الحاكية والمتشاكلة مع مراحل نموها ذات العلاقة التضادية بين (الأنا - الأنت) توكيدا لرؤية كون ما تشعر به محض كلمات في رسالة متداعية تتقاذفها أمواج الغياب والفقد، مع كل هذا تبقى مقاطعها الإحالية بالقول تسمو وتصف صيرورة وجودها المموه بمزمام نفوذ خسارات الأشياء الحاصلة في تفاصيل مصيرها الدﻻلي:

حتى إذا بلغت أربعة وعشرة

زوجت من موﻻي، منك، فما عرفت الضحك مرة

إذ كان يمنعني الحياء.

أني - وقد أطرقت رأسي - كنت أنظر للجدار !

نوديت ألفاً أو يزيد.. فما التفت إلى الوراء.

٢- بناء القصيدة ومحكية المظاهر الصوتية:

أن القارىء لبعض مقاطع الصورة والحاﻻت الشعرية عبر بيئتها وسياقها العام والخاص، لربما يعاين الحجم المبذول من الاصوات المائعة والسائلة والغليضة ومدى ملاءمتها لشكل الدﻻﻻت المترشحة في مواضع صوتية تحاكي دﻻﻻت السيولة والانبساط والجريان كمياه النهر: (زوجت من مولاي، منك) بيد أن ألتقاط أنفاس الأصوات الحروفية تبقى ضمن حدود تركيبية من الناحية العضوية، وصوﻻ إلى المصادقة الإيقاعية في وظيفة الصوت الدوالي المتمثل في عدة منطوقات محكية في بناء الطاقة الصوتية دليلا ومؤشرا على طبيعة البناء السيولية للأصوات: (نوديت ألفاً أو يزيد.. فما التفت إلى الوراء) فالمقطعية الدوالية ها هنا تتفاوت في ضرورة اللازمة المفردية - الإيقاعية، ولكنها ﻻ تخلو من الموسيقى الصوتية في هسهسة مظاهر التصويت الذي يوحي للسامع بمدى حدية الصورة في موضع الجمل اللغوية. وبطبيعة الحال قد تصبح محموﻻت الأفعال والصفات في محاور الظواهر الصوتية إلى نقائض وخروجات بتحويل الظاهرة الصوتية إلى حركة بلوغية بالمعنى والدﻻلة كما الحال سابقا في الجمل الأستهلالية الأولى (قد كان شعري ما يزال، يقص خطاً يستقيم عل الجبين) أو جملة (وكنت تأتي راكبا عذابات زانٍ) ان أياً من الاستعدادات الفاعليةفي الجمل مصدرها موضعا في مقاصد (الصوت - الصفة - الأستعارة - المؤول) لتكون حقيقة المعنى تحوﻻ في إشادات الأصوات في الزمان والمكان والظرف والحال. لذا فأن القابلية الأصواتية في متعاقبات الصور والحاﻻت في البناء النصي، تجري بالمتحقق الصوتي - اتجاها داﻻ في حصولية ربط فروقات الصورة والتصور في خيارات الانماذج المبدية للوجود الإمكاني:

حتى إذا مر عام بي، كففت عن العبوس

وودت لو ضموا ثراي إلى ثراك مدى الزمان

مدى الزمان، مدى الزمان!

ربما أن هيمنة أفعال الراوي الذاتية تدفع المشهد الزمني نحو جملة إنبثاق في (الذاكرة - الراهن - الحلم - الرؤيا - الأصوات) بما يساعد صورة تقادم الزمن بمعناه الوجودي، على إستعادة - الحاكية - لاحوالها المتتابعة وتناميها في وجه فتوة الملفوظ (حتى إذا ما مر عام بي، كففت عن العبوس) وﻻ شك أن حركة الزمن بهذه الصيغة الاعتبارية تحيل من قابلية التمثيل الاستقبالي للحال الزمني إلى موجه يتطلع نحو الثبات في فضاء الحال (كففت عن العبوس) لذا يمكننا القول بأن الموجه إليه قصدا يبقى كصيغة تمثيلية لواقع حسي يقارب مناداة ضمير الغياب (وودت لو ضموا ثراي إلى ثراك مدى الزمان.. مدى الزمان، مدى الزمان) فخاصية الاستقدام والاختتام بالمد الزمني تتجاوز طرف المخاطبة للذات الراوية، لتحمل فعالية الأمنية إلى حالة ﻻ تتعدى مستوى معادلة اللزومية المرفقة بحواس قرائية راثية بقابلية الانشطار والزوال بكيفيات وحدات الغياب (مدى الزمان، مدى الزمان!).

- مطات الانتظار.. المساحة اللامنظورة من زمن اللاعودة

تتنازع مفردات (السفر - الانتظار - الخيبة) في أشد مفاصل السياق الشعري للنص، لذا فهي قصيدة المعادل العياني للمحسوس الغيابي، خصوصاً وإن موجهات العنونة المركزية (رسالة من زوجة تاجر النهر؟) تعكس ذلك المستوى الارتباطي من دال (الانتظار - السفر) حافلان بالاحتمالات المخيبة والمستجيبة لمنطقة الحلم وآلياته المكثفة والمضاعفة:

حتى إذا مر عام بي، عزمت على سفار

و قصدت - كوتون - البعيدة في سفار:

أصعدت في النهر الذي للموج فيه

صخب يدوم بالمياه.. كأن فيه هوى تدور.

و مضت شهور خمسة منذ ارتحلت. مضت شهور !

و على ذرى الأشجار حولي ها هنا، تثب القرود

و تضج في لغط حزين لا يطاق ! متى تعود !.

مما يحفزنا نحو رغبة التأويل، هو ذلك الضمير المستتر في قرار صيغة التعدد الصوتي (متى تعود !) فالمستوى المركب بين سياق الذات الراوية عبر صوتها الإجمالي والمخصوص ثمة مسافة إجرائية خاصة وكيفية في التعدد والتوحد، فعبر المستوى الأول ثمة آلية التمركز الحكواتي العام حاﻻ، أما في المستوى الآخر فهو المقصود بالوظيفة المضافة في التعلق الذاتي وسريته الماثلة في خطرات التماهي المتجاوز لمنطقة النطق والمنطوق التعجبي في مؤسطر الجملة. بمعنى ما ان الذات غدا يسيرها الانفصال الصوتي، وفي الجانب التشكيلي من زمن النص ثمة مفترضات بوظائف التصور الذاتي (أصعدت في النهر الذي للموج فيه صخب يدوم بالمياه.. كأن فيه هوى تدور.

- تعليق القراءة:

لعل القابلية التصويرية ها هنا اكتسابا ﻻحتماﻻت ظنية في سياق فاعلية حاسة الراوية، ليتأتى مفعول توظيف أنسنة الأشياء (القرود؟) باستعارة مستجيبة لمنطوق مخيلة الراوية التي ﻻ تنفك عن معاودة تحريكها للمخيلة التي باتت تحفظ تمثيلات الاستلهام في مفترضات حكواتية دائمة الاستعادة لذلك الغائب والحاضر في قاع النهر والذاكرة والزمن والمكان وطرائق توليد الحكي في حكايا الفقد والفقدان:

إني رأيتك تسحب القدمين في يوم الوداع

و الان، عند الباب، تنتشر الطحالب زاحفات

من كل أنواع الطحالب، يمتنعن على اقتلاع

و الريح كالآهات، والورقات تسقط مبكرات.

هكذا وجدنا (قصيدة الراوية) تحفظ لذاتها ودوالها صور مرثية مفترضة محفوفة برحيل ذلك الزوج عبر رحلاته النهرية، مستشرفا لذاته بانوراما عالم القاع والضياع بين طبقات الطحالب والحشائش العميقة من وجوه وخرائط القاع، تاركا لتلك الزوجة عملية تدوين آخر رسائلها المفترضة إلى ذلك النهر المثقل بمرايا الجثث الغاطسة والخضرة والتواريخ الدائرة في صفير الريح واستجابة لاصداء حكايا قصيدة زوجة تاجر النهر.

***

حيدر عبد الرضا – كاتب وناقد عراقي

في المثقف اليوم