
الأبعاد السياسية لرواية يوتوبيا للكاتب المصري الدكتور أحمد خالد توفيق
أود في البداية أن استهل هذه المقالة بأربع نقط أساسية:
- تعتبر الرواية من فصيلة روايات الفانتازيا بأبعاد سياسية محضة. لقد تنبأت بخطورة الاحتقان الاجتماعي في مصر مبكرا. لقد وصف لنا الكاتب بإبداع الكبار تطور حدته، أي حدة الاحتقان والتوتر الشعبي، وقابليته في تفجير ثورة عارمة. لقد قدم للقارئ نصا من صنف الديستوبيا أو أدب الفوضى، وبين بمشاهد مبهرة ومخيفة كيف تحول هذا القطر العربي إلى فضاء استقوى فيه الشر وساد فيه الظلم والقهر. الرواية صدرت سنة 2008، وتوقعت انفجار الأوضاع سنة 2023، وحل الربيع العربي بمصر الشقيقة سنة 2011. توقعات الكاتب كانت صادقة ووطنية محضة (دق ناقوس الخطر مبكرا، ولم يجد الآذان الصاغية لدى مصادر القرار السياسي في بلاده).
- الرسالة السياسية القوية في الرواية تتجلى في إبراز الدور المحوري للطبقة الوسطى كصمام أمان، وعماد الاستقرار، ومحرك دائم للنمو، ومرسخ لمقومات التربية على الديمقراطية والعقلانية. التاريخ يشهد لها بذلك. لقد كانت أساس نجاح عصر الأنوار الغربي. لقد كانت وراء انفجار الثورات العلمية والثقافية والسياسية والصناعية الكبرى في التاريخ، وتحولت بعد انتصار النيوليبرالية إلى الآلية القارة الحامية للتوازن وديمومة التفوق الحضاري. بفضل قوة هذه الطبقة الاجتماعية تم القضاء على المعتقدات البالية والأفكار الرجعية وعلى رأسها الفكرة التي روجتها الكنيسة لمدة قرون "الفقير أقرب إلى الله من الغني".
- عكس ما وقع في أقطار الدول العربية من ثورات شعبية إبان ما عرف بالربيع العربي، وعلى رأسها تونس ومصر، تمكنت الخصوصية المغربية من تجاوز هذا المنعطف الصعب. فتطورات الأحداث في إطار "20 فبراير" أبانت أن لحمة المجتمع المغربي غير منفكة وغير منحلة. لقد عرفت الطبقة الوسطى انتعاشة ما بين 1999 و2000. كما كان للانفتاح السياسي وتراكماته الدستورية والسياسية منذ مطلع التسعينات وقع إيجابي على تطور النظام السياسي المغربي. سقف المطالب حركة 20 فبراير اقتصر على المطالبة بالإصلاح، وتوج المسار برمته في إطار الاستمرارية بتراكم المكتسبات بالإصلاحات الدستورية والسياسية المعروفة. تقدمت البلاد في العهد الجديد بشكل ملموس في تشييد بنياتها التحتية والصناعية والخدماتية والتكنولوجية. هناك كذلك جهود لإضفاء نوع من المناعة على مشروعي التغطية الصحية والحماية الاجتماعية.....
- مغرب اليوم في حاجة إلى الانتباه لآفة تراجع الطبقة الوسطى. البلاد تعيش موجات تصخم مربكة للقدرات الشرائية ومضعفة للادخار والاستثمار الوطنيين. إنها الموجات المرتبطة بالظرفية الاقتصادية العالمية والظروف الداخلية للبلاد (اختلالات في الحكامة السياسية). على السلطات بمختلف مشاربها الانتباه إلى المكانة المحورية للأسرة والمدرسة العمومية كصانعة للطبقة الوسطى. هذه الأخيرة في حاجة لدعم متواصل من طرف الدولة، دعم ينسجم مع تطلعاتها واحتياجاتها. الدولة في حاجة في هذا الشأن لتشييد مصاعد قارة بين الطبقات وتوطيد ديمومة آثارها الإيجابية على البنية المجتمعية بشكل عام.
عودة إلى الرواية وعنوان المداخلة نتساءل: كيف عالج الكاتب معضلة التناحر الطبقي ووأد الطبقة الوسطى وانفجار الأوضاع في مصر الشقيقة في الرواية؟
جوابا على هذا السؤال الهام، واعتمادا على المنهاج البرهاني المعتمد في قراءتي التأويلية لهذا النص، سأبين للقارئ كيف أبدع الكاتب في عتبات النص الروائي ومتنه للرفع من قوة تأثير مضمونهما والوصول إلى أهدافه التي حددها مسبقا بإتقان الأدباء الكبار. لقد استثمر في جملة من الوحدات الأيقونية واللغوية والإشارية مستهدفا أفق انتظار القارئ وإثارة اشتهائه لقراءة الرواية، بل وتحريك فضوله ودفعه بحماس لمعرفة تفاصيل أكثر تخص النص الحكائي في مجمله.
إن ثقافته السياسية والعلمية والفكرية والأدبية العالية، التي يشهد له بها كبار رواد الفكر والأدب عربيا، والتي سخرها بإتقان لنسج متخيل إبداعي في خدمة السياسة، يمكن القول أن توفيق تمكن بنجاح في إحكام صياغة عبارات نصه الروائي، موجها إياها إلى المتلقي العارف، المصري بشكل خاص والعربي بشكل عام، مخاطبا العقل والوجدان، ومحرضا إياه في نفس الآن على التعلم والتطور والوعي بأوضاع واقعه وبالوقع السلبي للتذبذب في منطق ممارسة السلطة في دولة الجمهورية العربية المصرية الشقيقة منذ الاستقلال. إنه عمل تخيلي مرعب عكس صورة واقع اجتماعي أصيب بآفة الترهل والتفسخ القاتلين.
لقد دحرج توفيق الكلمات المختارة بانتظام وعناية وتدبر الأدباء الكبار. لقد انتقاها الواحدة تلو الأخرى، محولا إياها إلى تعبير موضوعي صادق عن هموم الشعب المصري، متعمدا شحن هذا التعبير برسائل مبطنة داعية للتغيير قبل فوات الأوان. لقد صوب سهام كلماته مركزا على استنهاض الهمم الشعبية والمؤسساتية ملتمسا برفق ورحمة حاجة الشعب المصري الاستعجالية لخلق منعطف سياسي يليق بتاريخ حضارته. الأولوية بالنسبة له، كما ورد في عبارات الرواية تتجلى في مناهضة الظلم والاستبداد الوائد لعزائم الأفراد والجماعات، والحاجة إلى إنتاج الزعامات السياسية والمجتمعية المسؤولة والشجاعة، والقادرة على تامين الانتقال إلى أوضاع مغايرة تتوج بنجاح الثورة الهادئة المنشودة، وبالتالي خلق نسق سياسي جديد يساعد المصريين على استرداد حقوقهم المسلوبة.
لقد عبرت بجلاء عن الأدوار المحورية التي يلعبها الأدب في التصوير الإبداعي لأوضاع وأحوال المجتمع المصري في مختلف المجالات وبالأخص في المجال السياسي. ما توقعه الكاتب بالفعل تحول إلى واقع معاش. توترت الأوضاع في الأقطار العربية مجسدة إلى حد بعيد أحداث الرواية. النص تحول في مضمونه إلى ما يشبه دعوة أو صرخة وصلت إلى الناس بسرعة بعدما فضحت لهم حقيقة مآسي أوضاعهم. في نفس الآن، سجل المتتبعون نوع من التماهي أو اللامبالاة في منطق ممارسة السلطة لدى الطبقة الحاكمة. استمر التذبذب في تدبر شؤون البلاد إلى أن خرجت التطورات الخطيرة عن السيطرة. انفجرت الأوضاع، وتفاقم الاحتقان عربيا، وازداد الاقتناع لدى جمهور القراء بالأدوار الريادية للأدباء والمفكرين في حياة مجتمعاتهم ومنعطفاتها السلبية والإيجابية. النظرة العلمية الثاقبة للكاتب كطبيب جعلته يتفوق عربيا وبامتياز في تعرية مخاطر التماهي مع استفحال الانكسار في روح وجسم المجتمع الواحد، وما يترتب عن ذلك من نشر للمآسي والظلم والتناقضات القاتلة وسوء الأحوال.
لقد استثمر توفيق في العتبات بعبقرية ليعكس للقارئ الأبعاد السياسية التي خالجته منذ البداية: العنوان الرئيس، العناوين الفرعية، التنويه، التصدير، الاستهلال.... لقد تحول البعد السياسي إلى الهدف الأكثر حضورا منذ بوابة النص وفتح مغاليقه باحترافية على المتن الروائي. إجمالا، تخللت النص عبارات مؤثرة جدا قدمت إضاءات جمالية راقية أعانت وتعين المتلقي عن فك شيفرات النص في مجمله وحمولاته الدلالية والإيديولوجية.
الانشغال بالهموم السياسية جعل الكاتب يختار عنوانا مدويا في تاريخ الفكر والفلسفة: "يوتوبيا" أي "المكان الطيب". كلنا يستحضر العبارة ومكانتها في فلسفة كل من أفلاطون، وتوماس مور مدشن أدب المدينة الفاضلة، و"مدينة الله" للقديس سانت أوغسطين، و"آراء أهل المدينة الفاضلة "للفرابي"، و"أطلانطس الجديدة" لفرانسيس بيكون، و"مدينة الشمس" لتوماس كامبيلا. الامتعاض من أوضاع الحياة الدنيا وتدني مستوى العدالة والكرامة بها جعل الفلاسفة والمفكرين ورجال الدين يفكرون في مكان مثالي متخيل لا وجود له في الواقع، وهو مكان يتجاوز نطاق الوجود المادي، ويترجم الأفكار المثالية السامية المجسدة لأهداف العصر ونوازعه غير المحققة.
عقائديا، الشائع في الأوساط الشعبية العربية يبرز أن مفهوم "يوتوبيا" يصنف ب"اللامكان"، أي أنه من الحقائق الربانية التي يجب أن يصبو إليها الإنسان كمستخلف في الأرض. فهو مرادف في القرآن الكريم لكلمة "طوبى": "الذين آمنوا وعملوا الصالحات طوبى لهم وحسن مآب". وكلمة "طوبى" هي اسم الجنة بالحبشية، وبذلك تكون عبارة "طوبى لهم" تعني "الجنة لهم"، وهو في حد ذاته دعوة للبحث عن مكان تتحقق فيه السعادة الكاملة. فبحث الفرد مع مجتمعه عن تحقيق جزء منها على وجه الأرض هو السبيل الوحيد المعبر عن اشتياقه للمكان الطيب الموجود في الآخرة المعد للصالحين.
في نفس الآن، إثارة كلمة "يوتوبيا" في الرواية هي مماثلة لإثارة اليوتوبيات في مختلف مراحل التاريخ. ترديدها من حين لحين لا يتم إلا في حالة الحاجة للاحتجاج جراء رفض الواقع وما فيه من شقاء ومتاعب، بحيث يعبر مرددوها عن حلمهم بمستقبل مشرق تلفه السعادة والسعي لدنوه من الكمال في جميع جوانبه الإنسانية. يتم إثارتها بسبب الامتعاض من "الديستوبيا" كفضاء أكثر قسوة وجور للإنسان، فضاء يفيض بالظلم والبشاعة، ويعني المكان الخبيث الشرير المغرق في الفساد والقهر والمرارة.
الرواية هي عبارة عن صرخة سياسية محضة تحذيرية مسبقة أكثر من كونها معالجة لمشكلات الواقع. العنوان "يوتوبيا" كتب بلون معبر عن الضجر والسخط والانحطاط والقسوة لجعله مرادفا لكلمة "الديستوبيا". فناس يوتوبيا عالجوا الملل الذي يعتري حياة الترف والمجون بالبحث عن الإثارة في إيذاء فقراء أرض الأغيار "شبرا"، والتلذذ بتعذيبهم بممارسة البطش والتجبر المتوحش عليهم. التسلية بالنسبة لهم لا ترتقي إلى أعلى المستويات إلا بالعبث بجسد الفقراء المستباح مجانا.
لقد أشاع الكاتب للقراء مآسي الشرخ الطبقي على صعيد الأمة الواحدة. لقد أبرز بحبكته السردية من البداية إلى النهاية كيف يضيع روح الأمن ويستفحل العداء الداخلي. تفاقم حدة الاضطراب لا تقتصر على الأغنياء المترفين، بل عمت كذلك الفقراء في مجتمع الأغيار كذلك. الكل يعاني من اضطراب في الفكر وخلل في السلوك. الفقراء كذلك يسوغون قبح أفعالهم بحاجتهم وعوزهم. بدورهم يمارسون العنف والقتل والاغتصاب والإدمان. الفقر لم يجعل القلوب رحيمة ببعضها البعض بسبب تلاشي معنى الحياة لديهم.
صور الكاتب انكسار روح الأمة متعمدا إبراز التقابل المروع لسلوك طبقتين متناحرتين. إنه تقابل بتفاعلات أدت إلى غرق شعب الأغيار في الفقر والضياع والظلام والتشرذم واختفاء كلي للسلطة العمومية، وانعزال سكان يوتوبيا الحاكمة المتحكمة والمسيطرة على زمام السلطة بدعم عمالقة الرأسماليين معتقدين أن ديمومة الاستقرار مرتبطة بحماية الأجنبي.
شباب يوتوبيا، الذي جرب كل شيء إلى أن أصبح سجين واقع البذخ والضجر والملل، باحثا تحت ضغط الإدمان عن الإثارة والحماس وتجرع ملذات العبث بأجساد الفقراء، وممارسة الإثم والتعدي وخرق القواعد وكسر التابو والتمرد على كل القيم الإنسانية...... إنهم جيل لا يعمل، عشش الكسل والملل في نفوس شبابه. إنهم جيل فاشل وفاسد لا يأبه بأي شيء. مشاعرهم خالية من أي عاطفة أو مشاعر نبيلة. سيطر عليهم الكبر والاستعلاء بسبب تنشئتهم في مدينة يوتوبيا. يشعرون بالنشوة والسعادة حد الثمالة عندما يتمكنون من إلغاء ووأد الآخر المهمش بوحشية معتبرين إياه لا يستحق الحياة.
في المقابل، في بلاد الأغيار (بلاد شبرا بمصر القديمة) يجثم شبح الفقر بوطأته الثقيلة على قلوب الناس ساحقا وجودهم اليومي. يعيشون بلا مأكل ولا مشرب ولا ثياب ولا سقف ولا كرامة ولا تلفزة أو جهاز هاتف .... هم غارقون في سوء التنشئة والانعدام الكلي لقيم التربية والتعليم. تتفشى بينهم كل موبقات الانحراف كالسرقة والنهب والخوف والنذالة والجبن والعنف... يصفهم شباب يوتوبيا بكونهم يتظاهرون أنهم أحياء.
عبر الكاتب عن هذا المكان الموحش بعبارة: "نحن في قلب اللامكان بالمعنى الحرفي للكلمة". إنهما المكانين اللذان دفعا بالكاتب إلى عنونة فروع الرواية بتوالي كلمتين : الصياد (شباب يوتوبيا الذي يمثله علاء) والفريسة (أهل الأغيار الذي يمثلهم ضمير الرواية جابر المثقف). أبشع عبارة وردت في الرواية وعبرت عن هذا التوحش والعداء المرعب: "راسم فعلها (شاب يوتوبي).. اختطف واحدا من هؤلاء الأغيار العاطلين وعاد به إلى يوتوبيا. قضى ورفاقه أياما ممتعة في ملاحقة هذا المخطوف بالسيارات، ثم قتلوه واحتفظ راسم بيده المبتورة بعدما قام بتحنيطها". أما حدث الغدر بجابر من طرف علاء والتنكر لجميله، بعدما نجح في إنقاذه من مخالب الأغيار بمعية صديقته، فبين بجلاء قسوة الطبقة الرأسمالية المحتكرة للسلطة وخيرات البلاد. لقد طفى على سطح الأحداث في الرواية وواقع الأقطار أن النعومة في السياسة على المستويين الوطني والدولي في طريقها للاضمحلال.
لقد غمر الكاتب عتبة التنويه بالرسائل السياسية. لقد كشف عن نواياه المكنونة والمعلنة. لقد أفشى في هذه العتبة أن المكان سيكون موجودا عما قريب أو سيكون هناك مكان يشبهه وإن اختلفت التسمية. في نفس العتبة وجه احمد خالد توفيق تحذيرا من مآل استمرار نفس منطق ممارسة السلطة في التفاعل الرسمي مع الواقع المعاش للمصريين. لقد أنذر مبكرا بتحول أحداث الرواية إلى واقع. وبذلك يكون التنويه قد أدى وظيفة الإغراء وتوجيه القارئ نحو دلالة النص السياسية.
بدورها عتبة التصدير كانت بمثابة تحذير سياسي. عنونها الكاتب ب "إلى الأجيال القادمة" مبرزا العلاقة بين الاقتباس والمتن الروائي، محذرا بذلك من خطر قادم ومصير أسود ينتظره المصريون.
والحالة هاته، يكون الكاتب محقا عندما عبر سياسيا عن مآسي صراع الطبقتين الاجتماعيتين بترديد كلمة "الظلام" كمرادف لعقم الإنتاج والفقر والإهمال. لذلك تم تكرار هذه اللفظة بكثرة في المواطن التي تتحدث فيها الرواية عن أرض الأغيار: "خرائب مظلمة"، "ممرات مظلمة"، ... لم يتحدث لا عن الشمس ولا عن القمر في وصفه لهذا الموطن. الفضاءات التي يتحرك فيها شباب الأغيار بممراتها وأنفاقها مظلمة حالكة كما هي حياتهم. فباستثناء جابر، والذي يمكن تصنيفه كضمير للرواية، وضع الأغيار الاجتماعي لا يجعلهم يستحضرون في حياتهم أي قيمة من القيم الإنسانية الدالة على كونهم يعيشون فوق تراب وطن واحد. فبروز الطيبة في بعض اللحظات والأمكنة، يعتبرها شباب يوتوبيا غباء وسداجة. إنه الاعتبار الذي مكن علاء من استغلال إنسانية جابر والإطاحة به، واغتصاب شقيقته صفية. لم يجد هذا الشاب اليوتوبي، بتوحشه الرأسمالي الليبرالي، أي رادع للنيل من أثمن شيء يملكه جابر، ألا وهو شرف وعذرية أخته وكرامتها. لقد عبر عن ذلك، وهو يتحدث عن الأغيار، بالعبارة التالية :" لم يكن فقركم ذنبنا ... تدفعون ثمن حماقاتكم وغبائكم وخنوعكم ... ". إنها مآسي نشر ثقافة الإنتاج والاستهلاك المفرطين. تجبرت النوازع المصلحية ووئدت الروح الإنسانية وتأزمت الأوضاع النفسية والاجتماعية للفقراء والمهمشين.
تحقيقا لأهدافه السياسة المرسومة مسبقا، أسهب الكاتب في التعبير السياسي عن تعالي القيم الرأسمالية الليبرالية على لسان علاء الشاب اليوتوبي : "عندما كان آباؤنا يقتنصون الفرص كان آباؤكم يقفون أمام طوابير الرواتب في المصالح الحكومية" .... "أنتم لم تفهموا اللعبة ... عندما هب الجميع ثائرين من كل قطر في الأرض هززتم أنتم رؤوسكم وتذرعتم بالإيمان والرضا بما قسم لكم ... تدينكم زائف تبررون به ضعفكم ... أنتم أقل منا في كل شيء...". لقد ردد هذه العبارات مبررا استباحة شرف صفية وقتل جابر وقطع يده والاحتفاظ بها كتذكار. في نفس السياق، منطق الرواية صنف الطبقة الشعبية في مصر بمثابة ديكور رخيص وشكلي لا قيمة له، لكن وجوده ضروري لعلية القوم (العمل الشاق، الترفيه، الاستهلاك، ......).
على المستوى الفني، استثمر الكاتب في المجال السينمائي لإثارة الانتباه أن الفنون الجميلة في خدمة الثقافة والسياسة. في عتبة الاستهلال استعرض الكاتب فيلم "الفصيلة" Platoon الذي جرت أحداثه في الفيتنام. وهو تعبير واضح عن فترة الحرب الباردة. الفيلم حائز على عدة جوائز لكون القضية الفيتنامية تحولت إلى رمز للمقاومة في العالم. فبالرغم من الأوضاع المتردية بالفيتنام لم تستطع أمريكا من فرض سيطرتها عليها. في نفس الوقت تبين القضية أن إرادة الشعوب لا تقهر.
منذ عتبة الاستهلال حافظ الكاتب على استرساله في تقديم الإضاءات السياسية الساطعة متعمدا إنارة طريق القارئ في مسار كل فصول الرواية. الصراع بين الصياد والفريسة شكل واقعا تاريخيا أفرز بشكل دائم الحقيقة السياسية الآتية: استفحال الصراع الطبقي يزيد من حدة الكراهية والحقد ما بين أبناء الشعب الواحد وما بين شعوب الدول المتخلفة أو السائرة في طريق النمو وشعوب الدول المتقدمة المستفيدة من تطورات القرن الماضي. لقد عبر مشهد اتلاف عين جابر على قساوة التوحش الديستوبي، وبشاعة استباحة استغلال القوي بغناه وعلمه وتفوقه التكنولوجي للضعيف بفقره وجهله وتخلفه.
فحتى اليد الملقاة على الأرض والغارقة في بركة من الدماء على صفحة الواجهة من الغلاف كانت لها دلالة سياسية معبرة عن عجز السواعد في الوطن العربي وتخليها عن واجبها. اليد البيضاء للمواطن المعتنى بوجوده هي رمز للإحسان والقدرة والسلطان والعمل والإنتاج. وئدت اليد الوطنية في مصر، بحيث أصبحت ترمز للذل والخضوع وتشي بالحاجة والفقر المدقع. الحياة في مكان الرواية تشبه أي شيء عدا الحياة. إنها حياة ينعدم فيها النظام وينتفي فيها العدل وتتلاشى فيها المساواة في أبسط أشكالها.
استثمر الكاتب في التناص الديني والأدبي والتاريخي مركزا على إبراز الأبعاد السياسية للرواية.
- التناص الديني: تم استحضار قصة بني آدم وقابيل وهابيل مبرزا طبيعة التجبر والبطش ما بين الأخ وأخيه في بداية استخلاف الإنسان أرضا. تم الفتك بجابر من طرف الشاب اليوتوبي في الرواية حيث تم تعمد إثارة عبارة "لم يكن هناك غراب ... لم يكن هناك غراب" مرتين متتابعتين (التوكيد اللفظي). الإحالة على قصة قابيل وهابيل هي مجرد تذكير بطغيان الصراع كطبيعة بشرية بين الأخوة. بفعل تطور استفحال دوافع الصراع بين البشر، تم تجاوز الدوافع التقليدية كالغيرة والحسد والطمع كمحرضات على الصراع الدموي، وإبراز المرور إلى دوافع جديدة لا تمت بسابقاتها بصلة. اليوتوبيون يقتلون الأغيار بدون ذنب لمجرد الرغبة في التسلية وحب المغامرة وتلذذ سفك الدماء البشرية. في هذا الصدد، قتل جابر بعد الغدر به. في هذا الحادث قابل الكاتب الخير/الشر وصراعهما التاريخي في الحياة البشرية. تم قتل جابر ببرودة دم بعدما غامر بحياته من أجل إنقاذ الشاب اليوتوبي وصديقته.
- التناص الأدبي: لقد استحضر الكاتب نصوصا أدبية دامجا إياها في نسق حبكة سردية مدروسة منذ العنوان، مرورا بالمتن ووصولا إلى النهاية. لقد اقتبس الكاتب من منهجية ومواضيع جورج أوربيل، كاتب رواية الديستوبيا سنة 1984، والتي تحكي عن مستقبل تسيطر فيه سلطة استبدادية وعالم لا تهدأ فيه الحرب والرقابة الحكومية والتلاعب بالجماهير. لقد قام أوربيل بتصور المستقبل المظلم حيث توجد التكنولوجيا في المجال العام كأداة في يد النخبة للسيطرة على المجتمع. إنه التصور الذي بدأت معالم تحققه اليوم تبرز بالواضح. استحضر كذلك أشعار عبد الرحمان الأبنودي وقصيدته التي كتبت بالعامية "احنا شعبين شعبين شعبين ... شوف الأول فين والثاني فين". لقد استثمر توفيق في الأدب لاستحضار التقابل التاريخي لطبقتين مجتمعيتين، تارة بمنطق السيطرة والاستغلال، وتارة بنشوب شرارات الثورات (الأغنياء محتكري سلطة السياسة والاقتصاد والفقراء المهمشين)، مبرزا صعوبة هدم الحاجزين بين الشعبين: الحاجز المادي (الأسوار والبوابات والأسلاك المكهربة والحراس)، والنفسي الذي يتجلى في الحقد الاجتماعي الطبقي الأعمى.
- التناص التاريخي: استحضر الثورات التاريخية التي أسقطت الأنظمة كالثورة الفرنسية، منبها القارئ إلى ظهور سمات جديدة في العالم العربي سماها بالزمن الغريب. وذكر بوعد بلفور وحكم نابليون بونابارت وعبارته الشهيرة "أنا إمبراطوركم فاقتلوني ... لكن الجند لم يفعلوا .. هيبته جعلتهم يجثون على ركبهم أمامه وهم يبكون". فجابر طغت عليه صورة الأقوى المتفوق وسقط ضحيتها...
الخاتمة
يتضح من خلال التمعن في فصول الرواية ومضمونها، أن الهم الذي سيطر على الكاتب منذ عتبات الرواية إلى النهاية كان أساسه تمرير الدلالات السياسية من خلال تطور الصراع الطبقي في المجتمعات العربية. لقد عبر أدبيا وبإبداع تخيلي متميز إلى المآل الزمني لهذا الصراع السياسي ما بين أبناء المجتمع الواحد (مصر) ووصوله إلى درجات متوحشة في العقود الأولى من الألفية الثالثة.
لقد اعتمد في حبكته السردية على التتابع الزمني للأحداث. الزمن بالنسبة للكاتب في هذه الرواية أعم وأشمل من المكان، وبذلك يكون قد نجح في جعل مضمون الرواية في رمتها فنا زمانيا ملتصقا بامتياز بتطور حياة مجتمع بلاده كنموذج. لقد جسد لنا طوال فقرات صفحاتها أن زمن الإنسان المصري وتطور وعيه وأوضاعه منذ الاستقلال إلى مرحلة تفاقم تردي الأوضاع في مختلف المجالات.
إجمالا، لقد اكتسى مفهوم الزمن في الرواية بطابع العمق السياسي المرتبط بالتطورات الحضارية العالمية. الرواية تجاوزت النظرة السطحية في تحليل الظواهر. الأنظمة الحاكمة العربية تعيش في حلقات مفرغة لم تراكم من خلالها إلا الضعف وهشاشة اللحمة الشعبية المؤيدة لها. لقد ربط بإتقان زمن الحكاية بزمن الكتابة وزمن القراءة وزمن الكاتب والزمن التاريخي.
الرواية في توالي أحداثها حزينة ومقلقة بفعل تجسيدها لحقيقة مطاردة القوي للضعيف تاريخيا. المطاردة التي وصلت إلى حدود لا تطاق في عصرنا الحالي. ما جعل الرواية متميزة يتجلى في كونها ركزت على تقنيات المفارقات الزمنية في خدمة البعد السياسي. تخللتها الاستذكارات والاسترجاعات من الماضي. لجأ الكاتب كذلك إلى الإستباقات والتنبؤات والاستشرافات وتقنية المشهد المبهر والمخيف في نفس الآن، ليتوج عمله هذا بتقنية الخلاصة المؤثرة. انكسار لحمة المجتمع الواحد وصلت إلى حد ملل شباب يوتوبيا من كل أنواع الترف وفقدان أهالي شبرا الإحساس والمشاعر وغرقهم في مستنقع العنف والقتل والاعتداء.
إنه الواقع المتناقض الوائد لطموحات ترسيخ الوعي بأهمية القراءة والمعرفة والتدين العقلاني في المجتمع المصري. فسكان يوتوبيا يعتمرون ويلجؤون للعبادة لكن ليس حبا في الدين، بل بسبب خوفهم من فقد الثراء والنعيم الذي يعيشونه. على عكس ذلك لا يمارس أهل شبرا التدين إلا من باب تشبثهم بالأمل في حياة النعيم بعد الموت. القراءة عند جابر لا تفيده إلا في تحقيق تغييبه عن الواقع المرير الذي يعيشه، بينما عند الشاب اليوتوبي ما هي إلا نوعا رخيصا من المخدرات تغيب مستهلكيه عن الوعي. إنه مآل مخيف في زمن مرعب. الأهداف النبيلة للقراءة التي يتوخى منها المرء اكتساب وتراكم المعارف وتطوير وعيه بمعاني الحياة أصبحت تضمحل لتحل محلها التفاهة والإدمان والكسل.
***
الكاتب الحسين بوخرطة