قراءات نقدية

قراءات نقدية

قراءة نقدية تحليلية لقصيدة فيكتوريا

للشاعرة د. هـ. ماريا إلينّا راميريز – فنزويلا

***

فيكتوريا

أفقٌ هادئٌ، الطيورُ

لا تحلق في أسراب؛

العقابُ يعبرُ الرياح

باندفاعٍ، وطيرانهُ هادئٌ في الأعالي.

*

تقتربُ العاصفة، وقت

يصل، ضاربًا السفينة بشدة؛

يستيقظُ المحارب

مواجهة المدّ بقبضة الدَّفَّة.

*

يقاومُ كل ضربة ويعطي

منعرجًا غير متوقع؛

المحاربُ لا يندب ولا يتوقف

عندما يشتعل الغضب وتنتصر المعركة،

محققًا النصر.

***

د. هـ. ماريا إلينّا راميريز - فنزويلا.

...............

القراءة النقدية:

قصيدة (فيكتوريا) (للشاعرة د. هـ. ماريا إلينّا راميريز)، تأتي لتجسد حالة صراع داخلي يمر به الإنسان في مواجهة التحديات الحياتية. هذه القصيدة، التي تمتاز بلغة أدبية دقيقة وصور شعرية قوية، تنطوي على معاني عميقة تتعلق بالصمود والنصر في خضم الأزمات. لنقرأ القصيدة تحليليًا من خلال دراسة بعض عناصرها الأدبية والفنية.

1. العنوان ودلالته

عنوان القصيدة (فيكتوريا) (التي تعني النصر باللغة اللاتينية) يفتح أمام القارئ أفقًا من التفاؤل والطموح. فهو يوحي بأن الموضوع الرئيسي للقصيدة هو تحقيق الانتصار، لكن السؤال الأبرز يبقى: هل هذا النصر يسير بسهولة، أم أن هناك تحديات قاسية تقف في وجهه؟

2. المحتوى والموضوع

تبدأ القصيدة بأفق هادئ، حيث تذكر الشاعرة في البيت الأول أن الطيور لا تحلق في أسراب، بل إن العقاب، رمز القوة والشجاعة، يعبر الرياح باندفاع بينما طيرانه هادئ في الأعالي. هذا المشهد يُعد تمهيدًا رائعًا، حيث ينقل القارئ إلى حالة من السكون الذي سرعان ما يواجه تغييرات جوهرية.

تقترب العاصفة في البيت الثاني، مما يعني قدوم فترة من الفوضى والصراع. العاصفة تمثل التحديات والظروف القاسية التي قد تهدد الاستقرار. لكن في مواجهة هذه العاصفة، يظهر المحارب الذي يستعد لملاقاة المد بشجاعة واحترافية، كما يظهر من خلال (قبضة الدَّفَّة). الدفَّة هنا ليست مجرد أداة تقليدية، بل تمثل قدرة الإنسان على التحكم في مسار حياته والتوجيه في الأوقات الصعبة.

3. الصور الشعرية

القصيدة مليئة بالصور الشعرية التي تضفي عليها طابعًا دراميًا وتأمليًا في آن واحد. على سبيل المثال، تشبيه الطيور بالعقاب في بداية القصيدة يُعطي انطباعًا بالقوة والقدرة على التحليق عكس الرياح، في حين أن العاصفة تمثل القوى المدمرة التي تلوح في الأفق. إن هذه الصورة الثابتة ثم المتحركة تشير إلى تقلبات الحياة بين السكون والفوضى.

4. الرمزية والتفسير النفسي

المحارب في القصيدة ليس مجرد صورة للمقاتل، بل يمثل الإنسان الذي يواجه التحديات والمحن بحكمة وشجاعة. إنه يرفض الاستسلام أو الندم، ويتابع مسيرته في ظل اشتعال الغضب الذي يرافق كل معركة. هذا المحارب، الذي لا يندب ولا يتوقف، يمثل الإرادة الصلبة في مواجهة المصاعب، وهي قيمة أساسية يمكن أن يربطها القارئ بالصراع النفسي أو الاجتماعي الذي يمر به أي إنسان في حياته.

5. الأسلوب والتراكيب اللغوية

الشاعرة تستخدم أسلوبًا مميزًا، يعتمد على التوازن بين السكون والاضطراب. ففي بداية القصيدة نجد السكون والتوازن مع وصف الأفق الهادئ، بينما في نهاية القصيدة يسيطر العنفوان والاندفاع الذي يعبر عن النصر والنجاح بعد صراع طويل. كما أن الإيقاع الذي يميز القصيدة ينقل إحساسًا بالتحرك الدائم والتحدي المستمر، حتى وإن كانت الكلمات في ظاهرها هادئة.

6. الرمز الكوني في القصيدة

العاصفة التي تقترب تمثل صراعًا داخليًا أو خارجيًا، لكنها في النهاية تدفع المحارب إلى النهوض ومواجهة التحديات. وبالتالي، فإن النصر الذي يتحقق في نهاية القصيدة ليس مجرد انتصار عسكري أو مادي، بل هو انتصار داخلي على النفس والظروف.

7. الرسالة والتوجه الفلسفي

القصيدة تحمل رسالة فلسفية عميقة تتعلق بالصراع الداخلي للإنسان في مواجهة الظروف القاسية. هي دعوة للإصرار على المضي قدمًا، والتعامل مع الأزمات بروح المحارب الذي لا ينهار أمام التحديات. يمكننا أن نرى في هذه الرسالة دعوة للإنسان إلى أن لا يستسلم، بل يستمر في الكفاح حتى ولو كانت الظروف ضدَّه.

8. الختام

قصيدة (فيكتوريا) هي رحلة عبر رمزية الحرب والصراع، حيث تكشف عن أبعاد النفس البشرية وكيف يمكن للفرد أن يواجه التحديات العاتية بعزيمة لا تلين. الشاعرة قد قدمت لنا نصًا عميقًا، مفعمًا بالحكمة، يرفع شعار النصر من خلال الصمود والمثابرة.

***

بقلم: كريم عبد الله – العراق

جدلية المقدس والمدنس في (أتوضأ بالدم) للأديب محمد خالد النبالي

يتسم النص "أتوضأ بالدم" ببنية لغوية حداثية تتأسس على التفكيك وإعادة تشكيل المعنى، حيث تتوتر اللغة بين البعد الصوفي والاحتجاجي، رافضة الانصياع للنمط التقليدي، ما ينتج تراكيب تستدعي تأويلات مفتوحة. يتماهى هذا التوجه مع تفكيكية جاك دريدا، التي ترى أن اللغة ليست مجرد وسيلة لنقل الفكر، بل ساحة للصراع بين الدلالات والانزياحات. لكن ما يميز النص ليس فقط تبني التفكيك، بل توظيفه لإحداث صدمة دلالية لدى القارئ، حيث يتم تحوير معاني الطهارة والدم من سياق ديني إلى سياق احتجاجي، ما يفرض على المتلقي إعادة قراءة مألوفاته اللغوية ضمن سياقات غير تقليدية.
تفكيك البنية السردية والرمزية في النص
يتميز النص بطابعه التأملي الذي يتجاوز السرد التقليدي إلى تفكيك الذات داخل مشهدية متشظية، موظفاً تقنيات التكرار البنيوي والتوتر الدلالي لتعزيز أثره الاحتجاجي. يتجلى ذلك بوضوح في جملة: "أتوضأ بالدم خمس مرات كلما ذكرت اسم بلادي"، حيث تعاد صياغة مفهوم الطهارة عبر استبدال الماء بالدم، مما يخلق مفارقة تجمع بين الفعل الديني والفعل الثوري. هذه الإزاحة الدلالية تتقاطع مع رؤية بول ريكور للاستعارة بوصفها أداةً لإعادة تشكيل الفهم، لا مجرد عنصر زخرفي.
يتلاقى هذا التوظيف الرمزي مع بعض أعمال غسان كنفاني، حيث يتحول الجسد إلى استعارة للوطن، كما في رواية "رجال في الشمس"، حين يختنق الأبطال داخل الخزان وكأن الوطن ذاته يختنق. بالمثل، في هذا النص، يصبح الجسد وسيطاً لنقل تجربة الفقد والمعاناة الوطنية، ويتحول الدم إلى عنصر تطهر يعيد إنتاج معانٍ تتجاوز الاستخدام التقليدي للرموز الدينية.
لا يقتصر النص على استدعاء الرموز، بل يوظفها في سياق احتجاجي يُعيد تعريف مفاهيم التضحية والطهارة، ما يتماشى مع طرح جورج باتاي حول العلاقة بين العنف المقدس وإعادة تشكيل القيم. فالدم هنا ليس مجرد سائل مسفوك، بل فعل وجودي يعكس تحول الألم إلى أداة للتماهي مع الوطن، حيث تصبح المعاناة شكلاً من أشكال الولادة الجديدة داخل سياق نضالي. بهذا، يضع النص القارئ أمام تجربة دلالية متجددة تتحدى الحدود التقليدية للمعنى.
التوتر بين الجسد والوطن
يتحول الجسد في النص إلى مرآة للوطن، حيث يصبح الألم الجسدي انعكاساً لمعاناة الأرض، كما يظهر في قول الأديب: "إنني أتعثر في متتالية من الحسرات، غارقة في عيني، أوراق الزيتون التي تقسو عليّ، تكوي وجهي وجنبي، وتُلقي بي في جبال الموتى، تراقبني بالضغائن المسنّنة، تخبرني أنني لم أكن سوى نشارة أزمان الحثالة." هنا، لا يكون الجسد تعبيراً عن فردية المتحدث فقط، بل يتحول إلى نص احتجاجي ضد محو الهوية الوطنية، حيث تتداخل المعاناة الفردية مع القمع الجماعي.
هذا التصور يتقاطع مع رؤية إدوارد سعيد حول المكان كهوية، إذ يرى أن المنفى ليس مجرد خروج من المكان، بل تجربة تعيد تشكيل الهوية داخل النص، مما يجعل الجسد ذاته امتداداً للمكان.
تظهر هذه العلاقة بين الجسد والوطن أيضاً في نصوص محمود درويش، حيث يكتب: "جسدي هو المعبر الأخير"، في إشارة إلى أن الجسد ليس مجرد كيان مادي، بل مساحة مقاومة. وبهذا، يتحول الألم في "أتوضأ بالدم" إلى رمز لمعاناة الوطن، حيث يتداخل الألم الفردي مع الجرح الجماعي، ويصبح الجسد ساحة مقاومة تكتب من خلالها الهوية الوطنية في مواجهة التلاشي.
التحولات الزمنية المتشابكة
لا يخضع النص لمنطق الزمن الخطي، بل يتبنى بنية دائرية تتداخل فيها لحظات الاحتضار والاستذكار والمواجهة الداخلية، كما في: "كلما قبضت على هذا الكون، كانت يدي تغوص في رغوةٍ وجفاء، تُزهر الكلمات تحت أطراف أصابعي، لعلني أستطيع أن أقتلعها من جذورها." هذا الأسلوب يستدعي تقنية "تيار الوعي" التي وظفها جيمس جويس، حيث تتحول اللغة إلى تدفق داخلي يعكس تناقضات الذات ويضع القارئ في حالة تفاعل وجداني عميق مع النص.
يتشابه هذا البناء الزمني مع ما نجده في روايات مثل مئة عام من العزلة لغابرييل غارسيا ماركيز، حيث يتداخل الماضي بالحاضر في مشاهد تتكرر بطرق مختلفة، مما يخلق شعوراً بأن الشخصيات محاصرة في دوائر زمنية لا نهاية لها. في "أتوضأ بالدم"، هذا التداخل الزمني يعزز الإحساس بأن الألم الوطني متجدد، وكأن التاريخ يعيد إنتاج القمع والاحتجاج بشكل مستمر.
البنية الصوتية والانفعالية للنص
يعتمد النص على إيقاع داخلي متوتر يعكس طابعه الاحتجاجي، حيث يتجلى التكرار الإيقاعي في: "رضوخٌ، رضوخٌ"، مما يخلق تأثيرًا صوتياً أشبه بضربة طبول في فضاء معتم، معززاً الإحساس بالتمرد والاحتدام الداخلي. كما يتجسد التوتر بين الهمس والصراخ في عبارة: "تفرّ دمعتاي، يصدح الصوت كزلزلة قبري"، حيث يؤدي الانتقال من الوصف الهادئ إلى الانفجار الصوتي إلى تصعيد درامي يعكس تصاعد الاحتدام الوجودي داخل النص.
يتشابه هذا الاستخدام للإيقاع مع ما نراه في قصائد مظفر النواب، حيث تخلق التكرارات الإيقاعية توتراً يشبه الاحتجاج الصوتي داخل النص، مما يمنح اللغة بعداً نضالياً إضافياً.
البعد السياسي والاحتجاجي للنص
لا يقتصر النص على تقديم خطاب احتجاجي مباشر، بل يعيد إنتاجه بأسلوب حداثي جمالي، حيث يتحول السؤال السياسي إلى مأزق وجودي يتجاوز الخطاب الأيديولوجي التقليدي نحو تفكيك أعمق للعلاقة بين الفرد والسلطة. يتجلى ذلك في إعادة صياغة مفاهيم الطهارة، التضحية، والألم لتصبح أدوات مقاومة رمزية تعكس واقعاً سياسياً مضطرباً.
في ظل سياقات القمع، يتحول الجسد في النص إلى مساحة اشتباك بين السلطة والمقاومة، حيث يتم تحميل النزيف دلالات وطنية، كما في: "تفرّ دمعتاي، يصدح الصوت كزلزلة قبري، وتبدأ الطرقات بالازدحام بالتعب." هنا، يتماهى الألم الشخصي مع الجرح الجمعي، ويتحول الصوت إلى فعل احتجاجي يزعزع الصمت المفروض. يعكس هذا مفهوم "السيطرة الحيوية" (Biopolitics) عند ميشيل فوكو، الذي يرى أن السلطة تتحكم في أجساد الأفراد وتحولها إلى موضوع للرقابة والعقاب، حيث يصبح الجسد نفسه ميداناً للصراع السياسي.
يمكن مقارنة هذا الطرح برؤية جان بول سارتر حول الأدب الملتزم، حيث يؤكد أن الكاتب الملتزم لا يهدف إلى تقديم إجابات، بل يضع القارئ في مواجهة الأسئلة القاسية، تماماً كما تفعل نصوص المسرح الوجودي التي تسائل جدوى المقاومة والسلطة. بهذا، لا يكتفي النص بتوثيق الألم، بل يحوله إلى أداة مساءلة وإعادة تشكيل للوعي السياسي والإنساني.
جدلية المقدس والمدنس في النص
يطرح النص تصادمًا بين الحسي والروحاني، حيث يتم تفكيك مفهوم التطهر من الدنس عبر استبداله بالتضحية الدموية. هنا، يبدو أن المقدس في النص لا ينفصل عن العنف، بل يتماهى معه، كما يرى جورج باتاي. هذه الجدلية تتكرر في الأدب الصوفي حيث يصبح الجسد وسيلة تطهير من خلال الألم، كما في تجارب الحلاج.
هكذا، يتجاوز نص" أتوضأ بالدم" الثنائيات التقليدية بين المقدس والمدنس، وبين الفردي والجماعي، ليكشف عن اشتباك دائم بين السياسي والوجودي. وبهذا، لا يصبح النص مجرد خطاب احتجاجي، بل يتحول إلى ساحة مقاومة لغوية حيث تتحدى اللغة ذاتها السائد، ليظل المعنى مفتوحاً على التأويل في فضاء الصراع والتغيير.
***
قراءة نقدية من إنجاز فاطمة عبد الله
..........................
"أتَوضأ بالدّم"
بينما تُجفف الشمس أشعّتها عني، يَتجمد الفم في صمتٍ ضائع، وكلّي في نعمتك، يا رب، أستظلُّ بظلال الليل. الليل الذي يقشِّرني كقشرةٍ رقيقة، بينما يشرب الدفء من عروقي كأنما يسلبني قوة الإيمان.
أي يأسٍ قد حرّرني من خيوط حياتي أو قبضة الموت، بينما تنهش فيّ براثن الشهوة الخالصة.
صوتي يغتالني، وكل المحيطات تَغتَسلُ من غريزتي، ترتشفُ من زخم المشاعر الجياشة، والبحار تنبُع من أطراف شِفاه الحرف، تندمج كأنها تلد صوت الوطن.
كلما قبضت على هذا الكون، كانت يدي تغوص في رغوةٍ وجفاء، تُزهر الكلمات تحت أطراف أصابعي، لعلني أستطيع أن أقتلعها من جذورها، إلى أن يأتيني نحيب الوطن يأمرني بأن أتوضأ بالدّم خمس مرات، كلما ذَكَرتُ اسم بلادي.
إنني أتعثر في متتالية من الحسرات، غارقة في عيني، أوراق الزيتون التي تقسو عليّ، تكوي وجهي وجنبي، وتُلقي بي في جبال الموتى، تراقبني بالضغائن المسنّنة، تخبرني أنني لم أكن سوى نشارة أزمان الحثالة. رضوخٌ، رضوخٌ، كل ما في الوجود حيّ إلا أنا، وحيدًا، كحطب الشتاء يُثرثر في فمي.
تفرّ دمعتاي، يصدح الصوت كزلزلة قبري، وتبدأ الطرقات بالازدحام بالتعب، بينما تنادي الحرائر في صرخات مكتومة: "لا تُنادي، يا ابنة أُم، لا تسألي أين العرب؟"، وكأن السؤال قد أصبح جرحًا نازفًا لا ينتهي. كأنما نداء الذاكرة يتحدى الزمن، فتظل الحقيقة أسيرة، تطاردني كلما أردت أن أكون.
أعوم في هذه الكلمات، في رماد الوجع، وأنا مُصمّم على أن أتوضأ بالدَم، أُقدس لحمي الذي يُزهق، بدماء تعكس ألوان الأمل والحنين، لعلي أستطيع أن أبعث الحياة في هذا الضمير الميت.
***
الأديب محمد خالد النبالي

في هذه التقنية، لا نكتفي بسرد الأحلام كما هي، بل نقوم بإعادة تشكيلها جمالياً، حيث يستلهم الشاعر موضوعات وأفكار الأحلام التي تمثل تجارب متعددة الأبعاد: دينية، أدبية، اجتماعية، أو ثقافية. التحول هنا لا يتم فقط عبر توثيق الأحلام، بل من خلال التناص الذي يفتح فضاءً تأويليًا متعدد الطبقات، حيث تصبح الأحلام نصًا أدبيًا.
يتداخل التناص في هذه العملية بين ثلاثة مستويات أساسية:
1. الحالم الأول: وهو صاحب الحلم الأصلي، سواء أكان فردًا يحلم في الواقع أم حلمًا واردًا في نص.
2. الحالم الثاني: الشاعر الذي يعيد صياغة الحلم في شكل هايكو، ملتقطًا جوهره الآني.
3. الحالم الثالث: القارئ الذي يعيد اختبار الحلم عبر قراءة النص والتفاعل معه، مما يمنحه بُعدًا جديدًا في كل مرة.
كل مستوى يشكل حلقة وصل في بناء التجربة الجمالية للحلم، مما يجعل الهايكو أكثر من مجرد توثيق، بل إعادة إنتاج الحلم داخل فضاء تأويلي مفتوح. لا يقتصر التناص في هذه التقنية على مجرد الإشارة إلى نصوص الأحلام الأدبية أو الفلسفية أو الدينية، بل يتحول إلى طابع متجدد ومفتوح، حيث تصبح الإشارات المتناثرة جزءًا من بنية الهايكو ذاتها. الحلم بطبيعته غير خاضع لقواعد منطقية محددة، فهو تجربة قائمة على التدفق العاطفي والصوري. وعند تحويله إلى هايكو، يتم التركيز على التقاط لحظته الجوهرية دون الحاجة إلى ترتيب زمني أو تفسير مباشر. هذا يشبه تيار الوعي الشعري، حيث تتجسد اللحظات الشعورية في حالة مؤقتة، غامضة، لكنها مشحونة بالإيحاءات. يُنظر إلى الحلم في بعض النظريات النقدية على أنه نص ذاتي غير مكتمل، يتشكل داخل وعي الفرد لكنه مفتوح للتأويل بمجرد نقله إلى شكل مكتوب. في هذا السياق، يمكننا الاستفادة من مقاربات مثل: جاك دريدا ونظرية النص المفتوح، حيث يصبح الحلم نصًا متحولًا قابلًا لإعادة التفسير بلا نهاية. عبر هذا المنظور، فإن تحويل الحلم إلى هايكو إعادة بناء للصورة الحلمية ضمن سياق جديد يثريها بالتأويلات المتعددة. إضافة إلى الطرح الفلسفي السابق، فإن عملية تحويل الأحلام إلى هايكو لا تقتصر على إعادة بناء الصور الحلمية داخل النص، بل ترتبط كذلك بكيفية تأثير هذه الفلسفات على البنية اللغوية والصورة الشعرية. رغم أن الحلم تجربة شخصية، إلا أنه لا ينفصل عن تأثير السياقات الثقافية والاجتماعية. الرموز التي تظهر في الأحلام قد تكون متأثرة بـالميثولوجيا، التاريخ، الدين، والأساطير الشعبية، مما يجعل كل هايكو امتدادًا ثقافيًا لحلم فردي. هنا، يتحول التناص إلى نقطة تلاقٍ بين البنية الذاتية للحلم والموروث الجمعي الذي يتشكل داخله. لا يقتصر دور القارئ هنا على التلقي السلبي، بل يدخل في عالم الحلم ويبدأ في إعادة إنتاجه داخل وعيه الخاص. في كل قراءة جديدة، يتشكل الحلم من جديد، ويصبح الهايكو جسرًا بين التجربة الشخصية والتأويل الجماعي. هذه الطبيعة التفاعلية للهايكو الحلمي تمنحه قوة خاصة، حيث لا يبقى مجرد نص مغلق، بل يتحول إلى مساحة مشتركة بين الشاعر والقارئ والتجربة الحلمية ذاتها. كل قراءة هي إعادة خلق للحلم داخل وعي جديد، مما يجعل الهايكو تجربة غير نهائية، متجددة، وقابلة لإعادة المعايشة والتأويل.
***
عباس محمد عمارة

الشيء الذي لم تستوعبه بعد؛ الفلسفة النسوية، ومنظمات دعوات تحرير المرأة هو أن علاقة المرأة بالرجل علاقة تكامل، حيث يسعى الرجل إلى امتلاك المرأة واحتوائها، في حين تطمح المرأةُ إلى رجل يحترم قدراتها العقلية، وتقلبات مزاجها، ويقدر أنوثتها، ويستوعب أسرارها. وفي السعي إلى بعضهما البعض، يكمن جوهر العلاقة القائمة على المودة أولا ثم الحب ثانيا.
لكننا نطالع في إحدى الأعمال السردية الحديثة؛ تجازواً لهذه العلاقة، وبوثقتها في خانة الماديات، والمقصود بها تحويل قيمة الجسد من دوره الثقافي السيميولوجي، وبعده القيمي والوظيفي إلى دور إيروتيكي. هذا ما عبرت عنه رواية الملهمات ل"فاتحة مرشيد"؛ بل تعدى الأمر إلى استلاب المرأة في علاقتها بالرجل، والمجتمع بشكل عام، حيث أرادت الكاتبة تبرير منطلقات خيانة الزوجة بخيانة مماثلة لزوجها، وفي الكثير من المشاهد ربطت الإلهام عند شخصية "الكاتب إدريس" بتعداد نزواته الجنسية، والمفاخرة بفحولته، لكنها لم تستحضر قيمة الجنس عند الزوجين، إنه توافق وتطبيع مع علاقات عابرة من منطلقات الحرية الفردية، لذلك نقول بأن الفكر النسوي في الإبداع الروائي يجعل موضوع الجسد والمرأة مبأراً، ومحوراً للبناء السردي؛ كأن الشروط المعرفية للنص لا تكتمل إلا بإفراد هذا الموضوع، لذلك كل صفحات الرواية كنت أسأل نفسي ماذا تريد أن تقول الساردة الحقيقية، انطلاقا من مستويات السرد؟، ماهي غايتها؟ ما هو أفقها السردي والمعرفي؟ لا نختلف في كون الأدب صورة للمجتمع المتناقض، وتعبير عن الحياة في تقلباتها، لكن ينبغي معالجة إشكال الهيمنة الذكورية، أو علاقة الرجل بالمرأة في ظل واقعية سردية تحتكم إلى التشريع والقانون والدين والأعراف السردية في الكتابة. إن الجسد معطى بيولجي ونفسي واجتماعي، ومن ثمة نطرح سؤالا آخر لماذا لا تهتم النسوية بظلم هذا الجسد؟؛ بانتهاكه، وتداعياته التي تنتج نساء يعانين في صمت، حيث تحفل المجتمعات العربية بمثل هذا الانتهاكات، وجدير بالأدب أن يلتفت إليها ليؤكد دوره المعرفي.
في إطار هذا القلق الفكري الذي صاحب القراءة، يتضح أن الكاتبة استحضرت بقوة مفهوم " النص آلة كسولة" يقول "أمبرتو إيكو": «النص إن هو إلا نسيج فضاءات بيضاء، وفرجات ينبغي ملؤها، ومن يبثه يتكهن بأنها فرجات سوف تملأ، فيتركها بيضاء [....] وهو أن النص يمثل آلية كسولة تحيا من قيمة المعنى الزائدة التي يكون المتلقي قد أدخلها إلى النص». (القارئ في الحكاية ص: 63). يبدو أن الرواية ابتغت إلى هذا المعنى سبيلا عبر تقنية تداخل، وتكاثر الحكايات التي يسميها "سعيد جبار" ب "التوالد السردي" في كتابه الذي يحمل نفس الإسم، حيث تعمل الساردة على الحكي بالاستذكار من خلال الاعترافات والرسائل، اعتراف الزوجة بخيانتها، أمام زوج فاقد للوعي، بعد حاثة سير غرامية؛ إنه انتقام للمشاعر باللاشعور؛ حيث يتوارى الحقد والكراهية والتحامل على خيانة الزوج التي لا تبررها منظومة الأخلاق كذلك. «بينما أمينة تحكي لعمر قصتها مع كامل التفاصيل، وتجد لذة شبه سادية في سرد أحاسيسها، لمحت شبه حركة من سبابته اليمنى» ( الرواية، ص: 125). إن التوالد السردي أسلوب ذكي وفريد في الكتابة الروائية، يفسح مجال الإبداع والخيال للكاتب، ويمنحه فرصة التعبير بانسيابية وحرية بدون قيود التلقي التي تقبع في ذهنه، من بينها سؤال: من هو القارئ وما هي قدرته وكفاءته السردية؟ إن هذا الانتقال بين الأحداث بمشاهد سردية تميز الفن السنيمائي، جاء لتعميق النَّفَس السردي، وإطالته؛ حيث تتوالد وتتعانق الأفكار، إنه حيلة، وحلية فنية؛ الأولى تقلص زمن السرد وتكثفه، والثانية لعبة سردية تشويقية تنقل القارئ من حالة إلى أخرى.
تصور الرواية نمطا من الرجل الشهواني الذي يفاخر بذكورته وفحولته في اتصال بمفهوم الإبداع والكتابة «وعندما شرحت لها أنني أكتب بعد ممارسة الحب، بكت في البداية كطفلة مدللة». ( الرواية ص: 100) لقد نقلت الرواية مفهوم الإلهام من الروح والعقل إلى الجنس، وهنا سقطت رؤية الساردة في المستوى الطيني الذي بلورته "سعاد الناصر" في كتابها "البوح السردي"، حيث يتم تشيئ جسد المرأة، إنها رؤية ذات احتمالات متعددة للمبدعين والنساء، ولمفهوم الإلهام. لقد ارتبط الإلهام قديماً بشيطان يلهم الشعراء بلاغة الكلمة، وقوة التصوير، كما ارتبط عند علماء النفس بالصفاء الذهني، وعند الأطباء بممارسة الرياضة. إن الإلهام فيما يبدو طاقة حسية لاشعورية، وفي نفس الوقت، هو شعلة من نور تقذف في الذهن فتتشكل الأفكار وتتراص فيما بينها، لكن عند "إدريس الكاتب" بطل الرواية انتقل الإلهام من الحسي إلى المحسوس، الأمر يبدو معقداً، وغير واضح ، فهل تريد الساردة أن تجعل من العلاقة الحميمية محفزاً للإلهام من خلال ارتفاع منسوب الأدرنالين، حيث يرتفع مؤشر السعادة، المرتبط بهدوء الأعصاب، وصفاء الذهن؟ هل تلمح إلى كون المرأة/ الحدث الرئيس حافزاً سردياً بتعبير بوريس "توماشفسكي"، أو قوة فاعلة بتعبير "غريماس"، مهما يكن، فالرواية تنزع نحو تجريد المرأة من هويتها، من روحها، حسب الرؤية التي انطلقنا منها منذ بداية التحليل ؛ رؤية تستمد مرجعياتها من النقد النسوي ذاته، ومن المنهج الأنثروبولوجي الذي يجعل من علاقة المرأة بالرجل علاقة تكامل، في احترام تام لسلطتها العقلية، وتدبيرها للشؤون التربوية، والاجتماعية، والاقتصادية، والإعلامية، والسياسية.
***
د. عبد الـمُجيب رحمون

قراءة تحليلية لـ "قراءة نقدية سيميائية لقصيدة" محارة عارية أنا"،

بقلم: سلوى علي – كردستان العراق"

للناقد كريم عبد الله

***

القراءة السيميائية (Semiotic Reading) تُعدّ منهجًا نقديًا حديثًا يهدف إلى فك رموز النصوص الأدبية واستكشاف دلالاتها العميقة عبر تحليل العلامات والرموز التي تحملها. تعتمد هذه القراءة على النظر إلى النص كنظام من العلامات المترابطة، حيث تتجاوز حدود اللغة التقليدية لتشمل الرموز البصرية، السمعية، وحتى الثقافية التي تشكل معًا شبكة معقدة من المعاني المحتملة. في هذا الإطار، تكتسب السيميائيات أهميتها من قدرتها على كشف الطبقات الخفية للنصوص، سواء كانت تلك الطبقات متعلقة بالرموز الصريحة أو الضمنية، أو بالإشارات الثقافية والاجتماعية التي قد لا تكون ظاهرة مباشرة.

تستند القراءة السيميائية إلى نظرية العلامات (semiotics) التي طورها فلاسفة مثل فردينان دي سوسير وشارلز ساندرس بيرس، والتي تركز على كيفية إنتاج المعنى وتداوله عبر العلامات. في مجال الشعر والأدب، تتيح هذه القراءة للنقاد استكشاف العلاقات بين الكلمات والصور البلاغية من جهة، وبين السياق الثقافي والاجتماعي الذي نشأ فيه النص من جهة أخرى.

فيما يتعلق بقصيدة "محارة عارية أنا"، تأتي القراءة السيميائية لتسلط الضوء على الرموز المركزية في النص، مثل "المحارة العارية" و"الأرواح العائمة" و"زنابق الطفولة"، وغيرها من العناصر التي تحمل دلالات متعددة المستويات. من خلال تحليل هذه الرموز والعلاقات بينها، يمكن الكشف عن الأبعاد النفسية، الوجودية، وحتى الاجتماعية التي يعالجها النص. كما تساعد القراءة السيميائية في فهم كيف تتفاعل هذه الرموز لإنشاء صورة شعرية متكاملة تعكس حالات إنسانية عميقة مثل الألم، الحنين، والبحث عن الذات.

وكجسر الى مرساة الفجر أجدل حبائل الندى مع زميلي د. كريم عبد الله.. معبدًا الطريق توطئة للعبور الى شجرة الأغاني..

الجوانب الإيجابية في القراءة النقدية:

1. تحليل الرموز والعلامات:

- الكاتب/ الناقد د. كريم عبد الله قدم قراءة دقيقة للرموز المستخدمة في القصيدة مثل "المحارة العارية"، "الأرواح العائمة"، و"زنابق الطفولة". هذه التحليلات أظهرت فهمًا عميقًا لدلالات هذه الرموز وكيف أنها تعكس حالات نفسية وعاطفية معقدة.

- على سبيل المثال، تفسيره للمحارة العارية كرمز للضعف والعجز عن حماية الذات كان منطقيًا ومتناغمًا مع النص.

2. التركيز على السيميائيات النفسية:

- الكاتب/ الناقد استخدم مفاهيم سيميائية لتوضيح التوتر النفسي والصراع الداخلي الذي تعاني منه الشاعرة. فالعبارة "أحلامي أحلام طفلة في سنوات الشوق" تم تحليلها بشكل مكين، كتعبير عن الحنين إلى الماضي والبحث عن السلام الداخلي.

3. التناول الزماني والمكاني:

- القراءة اهتمت بالانتقالات الزمنية في النص (من الطفولة إلى الحاضر) وكيف أن هذه الانتقالات تعكس حالة من عدم الاستقرار والبحث المستمر عن الأمان.

- هذا التحليل أضاف بعدًا جديدًا للنص وأظهر كيف يمكن للزمان أن يكون أداة للتعبير عن المشاعر المعقدة.

4. التوتر بين الذات والعالم الخارجي:

- الكاتب/ الناقد أشار إلى التوتر بين الذات المتألمة والعالم الخارجي، وهو موضوع أساسي في النص. فالأسئلة المتكررة مثل "من يجد لي شفتيه؟" و" من يجد لي شهد الاصطبار؟" تم تفسيرها بشكل جيد كتعبير عن الحاجة إلى الحب والقبول.

5. الختام والتعبير العاطفي:

- التركيز على الختام ودور الصدى والصرخة ("ياااايها الصدى") كان ملحوظًا.. فالكاتب/ الناقد تمكن من تسليط الضوء على أهمية هذه اللحظات في إيصال مشاعر الألم والحاجة إلى الخلاص.

الا ان قراءة د. كريم عبد الله النقدية انطوت على نقاط ضعف أو إخفاقات تجلت في:

1. الاعتماد المفرط على التفسير الشخصي:

- بينما كانت القراءة غنية بالملاحظات، إلا أنها اعتمدت بشكل كبير على تفسير شخصي للرموز دون تقديم أدلة واضحة من النص أو النظرية السيميائية التي تدعم هذا التفسير. على سبيل المثال، تفسير "الأرواح العائمة" كإشارة إلى "الفجوة بين الوعي واللاوعي" قد يكون مبالغًا فيه وغير مدعوم بشكل كافٍ من النص.

2. غياب التحليل الهيكلي:

- القراءة لم تتطرق إلى البنية الشعرية للنص بشكل كافٍ. لم يتم تحليل الإيقاع، التكرار، أو حتى الصور البلاغية من حيث دورها في بناء النص وتقوية رسالته.

3. إغفال البعد الاجتماعي والسياسي:

- النص مليء بالإشارات التي يمكن أن تُقرأ ضمن سياق اجتماعي وسياسي، خاصةً فيما يتعلق بالضياع والحنين إلى الماضي. ومع ذلك، فإن القراءة لم تستكشف هذه الجوانب بشكل كافٍ، مما أدى إلى تقليل العمق العام للتحليل.

4. الإسهاب في بعض النقاط:

- القراءة أحيانًا تميل إلى الإسهاب في تفسير بعض العناصر دون غيرها. على سبيل المثال، تم التركيز بشدة على "المحارة العارية" بينما تم تجاهل عناصر أخرى مهمة مثل "صوت يجلجل ما وراء الحدود" الذي يمكن أن يكون رمزًا قويًا للشعور بالعزلة والتشتت.

5. الافتقار إلى التنويع في النظرية السيميائية:

- القراءة اعتمدت بشكل كبير على تفسير الرموز من منظور نفسي فقط، دون استخدام نظريات سيميائية أخرى مثل التحليل الدلالي أو النسقي. هذا جعل التحليل أقل تنوعًا وأكثر تحديدًا.

6. الإغفال عن اللغة الشعرية:

- القراءة لم تركز بشكل كافٍ على اللغة الشعرية نفسها، مثل استخدام الكلمات والتراكيب الغريبة (مثل "عرائشي"، "دهشتي التّوّاقة") وكيفية تأثيرها على المعنى العام للنص.

ولكن..هل استطاع الكاتب قراءة النص بشكل سليم؟

نعم، الكاتب استطاع تقديم قراءة شاملة ومبنية على الفهم العميق للنص، لكنها ليست كاملة. القراءة كانت قوية في تحليل الرموز والصور الأساسية، ولكنها أهملت بعض الجوانب الأخرى مثل البنية الشعرية والبعد الاجتماعي والسياسي. بالإضافة إلى ذلك، كان هناك اعتماد مفرط على التفسير النفسي دون استكشاف آفاق أخرى للنص.

اقتراحات لتحسين القراءة النقدية:

1. استخدام نظريات سيميائية متعددة:

- يمكن إدخال نظريات أخرى مثل التحليل النصّي أو التحليل البنيوي لفهم العلاقات بين العناصر المختلفة في النص.

2. التركيز على اللغة والأسلوب:

- يجب التركيز أكثر على اللغة الشعرية والصور البلاغية وكيفية تأثيرها على بناء المعنى.

3. لنظر إلى السياق الاجتماعي والسياسي:

- يمكن تحليل النص من منظور اجتماعي وسياسي، خاصةً إذا كان هناك أي إشارات في النص إلى قضايا تتعلق بالمجتمع أو السياسة.

4. تقليل الإسهاب:

- يمكن تقليص التركيز المفرط على بعض العناصر لجعل التحليل أكثر توازنًا وشمولًا.

عليه أجد ان القراءة النقدية لقصيدة "محارة عارية أنا" قدمت رؤية مثيرة للاهتمام حول الرموز والعلاقات داخل النص، بالرغم من محدودية في بعض الجوانب. بينما استطاع الكاتب فهم النص بشكل عام، إلا أن هناك حاجة إلى تعميق التحليل من خلال النظر إلى العناصر اللغوية والهيكلية والسياقية. إذا تم دمج هذه الجوانب، يمكن أن تكون القراءة أكثر شمولًا وإثراءً.

***

طارق الحلفي

................

رابط الموضوع

https://www.almothaqaf.com/readings-5/980111

قراءة نقدية سيميائية لقصيدة "محارة عارية أنا"، بقلم: سلوى علي – كردستان العراق

القصيدة / محارة عارية أنا / للشاعرة سلوى علي تمثل حالة من الغموض والتشظي العاطفي، وهي رحلة داخل الذات المتألمة والممزقة بين الألم والذاكرة، بين الحنين والضياع. تتبنى القصيدة أسلوبًا شعريًا غنيًا بالصور البلاغية والمعاني الرمزية التي تفتح المجال أمام القارئ لقراءة النص من عدة زوايا، وهو ما يسمح للقراءة السيميائية بتحليل العلامات والرموز والعلاقات التي تميز النص.
1. الرموز والعلامات
محارة عارية: يعد هذا التعبير من العنوان مركزًا رمزيًا بارزًا في النص. /المحارة/ تشير إلى الكائن المغلق الذي يحتفظ بما هو ثمين داخلها، ولكن عندما تكون /عارية/، تصبح غير قادرة على الحماية أو الإختفاء، مما يعكس حالة نفسية مكشوفة، عاطفية، وهشة. المحارة العارية تشير إلى الذات التي أصبحت عاجزة عن حماية أسرارها، معلنة عن هشاشتها الداخلية وحاجتها الماسة إلى الاهتمام والعطف.
الأرواح العائمة: هذا التعبير يدخل في مجال ماورائي يعكس حالة من الضياع في عالم غير مرئي، حيث لا يستطيع الشخص الوصول إلى الفهم الكامل لما يحدث حوله، في إشارة إلى الفجوة بين الوعي واللاوعي، بين الواقع والخيال. استخدام /العائم/ يوحي بحالة من التشتت واللاغية التي يشعر بها الشخص في رحلة بحثه عن ذاته.
زنابق طفولتي: الزنابق رمز للنقاء والجمال، لكن في هذه القصيدة تأتي محملة بالحنين والذكريات التي تحث الذاكرة على إيقاظ الماضي المؤلم. /زنابق طفولتي/ تدل على الطفولة البريئة التي فقدت في ظل الزمن القاسي.
الذاكرة على صراخ بأزقتها الخاوية: الذاكرة، هنا، تتجسد كمساحة فارغة، مليئة بالصراخ، كأنها شوارع مهجورة تفتقر إلى الحياة. هذه الأزقة الخاوية تعكس حالة العزلة والفراغ العاطفي الذي تعيشه الشاعرة، وهو صدى للألم الداخلي الذي لا يجد من يسمعه.
2. السيميائيات النفسية والتأويلية
أحلامي أحلام طفلة في سنوات الشوق: هذه العبارة تشير إلى براءة الطفولة وأحلامها البسيطة، ولكنها محملة بالوجع الناتج عن الزمن والمسافات الملعونة، حيث أن الحلم الطفولي النقي تحوّل إلى شوقٍ مرير. هذه الانتقالية بين الطفولة والنضج تعكس سعيًا مستمرًا للعثور على شيء مفقود، وهو الإحساس بالسلام الداخلي والراحة النفسية.
مَنْ يجدُ لي شفتيه؟: هذا السؤال يعكس الفقد العاطفي والجسدي، ويبحث عن المحبة والاحتواء الذي يمكن أن يخلص الذات من غربتها الداخلية. الشفاه هنا قد تمثل شفاه الأب، الأم، أو أي شخص آخر يشبع الحاجة الإنسانية العميقة للمحبة والقبول.
محارةٌ عارية أنا: هذه العودة للعنوان في نهاية القصيدة هي بمثابة إعادة التوكيد على حالة الفقد والضعف، حيث أن الشاعرة لا تزال تعيش حالة من العراء الداخلي، مفتوحة للريح والدموع، غير قادرة على حماية نفسها أو العيش بسلام مع نفسها.
3. السيميائيات الزمانية والمكانية
القصيدة تَنتقل بين عوالم مختلفة، ما بين الطفولة (زنابق الطفولة، حلم البلابل) إلى الحاضر الذي تتوالى فيه الخيبات والصراخ، ثم العودة إلى زمن الطفولة أو الأمس من خلال البحث عن /قبلة عيد/ و/شفاه أبي/. هذه الانتقالات الزمانية تحمل في طياتها إحساسًا دائمًا بالحركة والبحث عن الاستقرار في زمن غير مستقر.
تسارعت نبضي كهمّي المملوء المحموم: الصورة هنا تبرز توترًا داخليًا غير قابل للتهدئة. النبض والتسارع هو تمثيل للحالة العاطفية والفكرية المضطربة، التي تعكس جمودًا في الذات في الوقت ذاته. نجد أن الشاعرة تسعى لتسريع الزمن، لكنها تدرك في النهاية أن الوقت /قصير/، وتجد نفسها في حالة من الندم على ما فات.
4. التوتر بين الذات والعالم الخارجي
تتراوح القصيدة بين التوتر الداخلي للشاعرة وبين محاولاتها المستمرة للوصول إلى الأمان والطمأنينة. /محارة عارية/، كما ذكرنا، تمثل الذات المتألمة والمنفتحة على العالم الخارجي، وهي هنا، تتساءل عن من يمكن أن ينقذها من الألم، فمن خلال الأسئلة المتكررة /مَنْ يجدُ لي شفتيه؟/ و /مَنْ يجدُ لي شهد الاصطبار؟/، تبدو الشاعرة في حالة بحث مستمر عن خلاص، لا يجد لها سبيلًا إلا في التمسك بالماضي والذكريات.
5. الختام والتعبير العاطفي
يااااا أيها الصدى .. يا أيها الصدى/: هذا التكرار يشير إلى تواصل الشاعرة مع عالم بعيد عنها، وهو صدى لصرخة ألم ونداء لشخص أو لحالة من الخلاص لم تأتِ بعد. الصدى هو الصوت الذي يظل يعود إليك بعد أن ينقطع، وهو هنا يرمز إلى إصرار الشاعرة على الوصول إلى الحقيقة أو الراحة النفسية التي طالما بحثت عنها.
أصرخ في زمن الضجيج وااااأبتاه!: الختام بصرخة /أبتاه/ يجسد الحنين الأبوي الذي يطفو على السطح بعد أن كانت الشاعرة تطوف في عوالم معتمة مليئة بالتشويش والمشاعر المضطربة. الأب هنا يمثل مصدر الحماية والراحة، وهو آخر أمل يمكن أن يلتجئ إليه الشخص الذي يعيش في العراء.
الخلاصة:
القصيدة /محارة عارية أنا/ هي نص شعري مكثف وعميق يدمج بين الرمزية والسيميائية في التعبير عن حالة الضياع والبحث عن الذات. من خلال الرموز والألوان والعلاقات المكانية والزمانية، تفتح الشاعرة مجالًا للتأمل في الهوية، والحب، والضياع، والحنين. النص يعكس تجارب إنسانية متعددة، وهو يجسد التوتر بين الذات والعالم، وبين الحلم والواقع، وبين الماضي والمستقبل.
***
بقلم: كريم عبد الله – العراق
....................


محارة عارية أنا
بقلم : سلوى علي

كلّما أتأملُ الأرواحَ العائمة في عالمٍ لا مرئي، تتناغى الضربات الشاردة للقلب صلوات بأسرار عرائشي، ليدغدغ حكايات الوسائد المحشوة بحلمِ البلابل تحت خبايا نهار متدفق فوق أحجار التمني. فجأة، صوت يجلجل ما وراء الحدود زنابق طفولتي، لتحثّ الذاكرة على صراخ بأزقتها الخاوية وتلامس رماد سروجي كريح العراء بين نتوءات الخيال. يتسـارعُ نبضي كـهمّي المملوء المحموم فـوق مـشارف التأوه بإرث عــظيم، ينقّي قــلائده من كســـرات صـرخة منتفضـة بترتـها الخيبات.
أحلامي أحلام طفلة في سنوات الشوق ملعونة المسافات، تنتظر مـعانقة دمـوعي اليتيمة قُبلة عيد مـن جـذع شـجـرة التهمه الضباب وتناثر.
مَنْ يجدُ لي شفتيه؟! لأتطهر من غربتي وأغزل ضفائري بدندنة أزهار مدججة بطربه الغجري.
مَنْ يجدُ لي شهد الاصطبار..؟! فذاااك الصوت مازال قاتلي..!!
كي أقتفي هديل سراب حديقة مجهولة يتأرجح الجفاف بين مداراته، مشوشة الفكر. عساه ينساب مروجاً من سندس سرمديّ، قزحية الألوان، فراشاتها أزلية، براعمها أيقونات بلورية فوق جسدي المغتصب.
يااااا أيها الصدى.. يا أيها الصدى.
محارةٌ عارية أنا تغرق بأوردة الحنين بين فراديسه الضاحكة وقمحه الناضج، أتوسل اليك دع ابتهالاتي تتوهج، امهلْ دهشتي التواقة فالوقت قصير، دعني أمتطي صهوة الطيف بارتعاشاتي وهزيع الوجد بين جموح الخيال، لأسرق قُبلة واحدة من شفاه أبي وأصرخ في زمن الضجيج وااااأبتاه!

إلهام مختلف،

بقلم: الكاتب علي عزيز - كردستان العراق.

الليلة وعكس كل الليالي تقلبت في فراشك كثيرا ! احساسك بالحرارة يشعرك بالاختناق، لن تتحمل، راسك امسى كوره للدبابير، منذ المغيب وراسك مزدحم بالكلمات والذكريات، وحيدا انت في غرفتك الخاوية، خاوية كالمقبرة التي تحتضن امك في هذه المدينة المكتومة والحزينة، انت والاخرين كأنكم موتى، مع انك في هذه العتمة والخوف اردت ان تكون صرخة،صرخة اذا لم تمزق ستار الصمت علها توقظ اناسا نائمون منذ الازل ولا يريدون الاستيقاظ،اردت ولكن هيهات، لم يسمحوا لك اولئك الذين ينشرون في عناوين صحفهم و برامجهم حقوق الانسان ويتغنون للإنسانية بأعلى صوت لكنهم في غرفهم السوداء وفي سراديبهم يستحوذون على الحقوق والاحلام والامان واعترافات الانسان. لن تستطيع ان تخدع نفسك اكثر من ذلك، اقتنعت اخيرا انك هذه الليلة لن تنام، دفعت بقدميك غطائك وجلست تلف ذراعيك كالمفجوع حول ساقيك نظرت بصمت نحو الكتب الملقاة على دكة النافذة، بماذا تفكر يا ترى؟ هذه المرة لن يعتقوك، تعرفهم جيدا فهم مجرد كلام وضحكات مزيفة، مقنعة وجوههم، تصرفاتهم تمثيل ووعودهم كاذبة، ماذا تريد ان تفعل؟ نهضت كالمجنون نحو الكتب اخرجت ورقة بيضاء والتقطت القلم المرمي بجوار السرير وكتبت (لا اعرف) تأملت بصمت تلك الكلمة تثاؤبك المنقطع ملأ عينيك بالدموع مسحتها بظهر كفك بسرعة ونظرت الى الكلمة ومحوتها بالقلم وكتبت (لماذا؟)
نهضت من غير وعيٍ وتجولت في الغرفة ذهابا وإيابا ادخلت اصابعك بين شعرك عده مرات محاولا تخفيف الالم، كان راسك يؤلمك كثيرا وكانه بالونة مليئة بالهواء على وشك الانفجار،ماذا تنوي ان تكتب؟.. مقاله؟ نثر؟ انت حتى لست بقاص، لا تقل انك ستكتب شعرا؟ فهذا موضوع لا ينسى ابدا، قالوا لك عليك ان لا تكتب الشعر اطلاقا، فضحكت كثيرا، الا يعرفون ان حياة الطيور في تحليقها ضربوك بكف اوقفوك عن ضحكاتك، هذه الليلة تريد ان تضع حدا لإهاناتهم واستخفافهم بكرامتك وجميع القيود التي تحيط بحياتك والكلمة هي سلاحك الوحيد آآاه ما اصعبها من مواجهة ! صياح ديك الجيران افزعك رفعت راسك ناظرا الى النافذة قلت مع نفسك النهار! نظرت الى الورقة التي امامك عضضت شفتاك بضجر وكتبت (يسقط....) ثم ارتديت ملابسك وخرجت.
..................
المقدمة:
تدور القصة حول حالة نفسية معقدة لبطل يعاني من ضغط داخلي وخارجي في محيطه الاجتماعي والسياسي. تتناول القصة الصراع الداخلي للشخصية ومحاولتها للتعبير عن ألمها وإحباطها باستخدام الكلمة كأداة للمواجهة. في هذا التحليل السيميائي، سيتم التركيز على الرمزية، التركيب اللغوي، والعناصر السردية التي تساهم في بناء دلالة القصة.
1. الشخصية:
الشخصية الرئيسية في القصة هي شخصية مضطربة نفسيًا، يعبر عنها من خلال استخدامه لأفكار وأحاسيس متضاربة. يتضح من النص أن الشخصية تعاني من شعور بالاختناق الداخلي والضغط النفسي، وهو ما يظهر في العبارات مثل /رأسك امسى كرة للدبابير/ و /الشعور بالحرارة الذي يشعرك بالاختناق/. هذا الاختناق ليس فقط جسديًا، بل هو أيضًا معنوي، نتيجة للحالة التي يمر بها الشخص في بيئته الاجتماعية والسياسية.
2. الرمزية:
النافذة: تعد النافذة في النص رمزًا لفصل بين العالم الداخلي للشخصية والعالم الخارجي، وهي نافذة يطل منها الشخص على واقعه الذي يعاني منه. الكتب على النافذة تمثل ربما محاولة للهرب إلى المعرفة أو الإلهام الذي يبدو أنه غير مجدي في تغيير حالته.
الورقة البيضاء: الورقة البيضاء تمثل بداية جديدة أو محاولة للبدء في التعبير عن الذات، لكنها تصبح محض شعور بالضياع كما يظهر في كتابة /لا اعرف/ ثم محوها وكتابة /لماذا؟/. هذه التفاعلات تشير إلى حالة من الحيرة والتشوش الذهني الذي يعيشه البطل.
الديك: صياح الديك يشير إلى بداية اليوم الجديد، وهو يمثل الضوء الذي يتسلل إلى ظلام الليل ولكن دون أن يكون له تأثير حقيقي في تحسين الحالة النفسية للبطل.
3. البنية السردية:
القصة تتبع أسلوب التداعي الحر للأفكار والمشاعر، حيث لا توجد تسلسل زمني دقيق أو تطور واضح للأحداث. السرد ينقل القارئ عبر التبدلات النفسية للمحكوم عليهم بمأزق داخلي؛ إذ تبدأ الشخصية تفكر في الموت، في الكلمات، في الغضب، ثم في محاولات لكتابة شيء قد يغير الواقع. هذا الأسلوب يعكس حالة نفسية مشوشة ومضطربة، وهو ما يعزز من إحساس القارئ بمدى التوتر الذي يعيشه البطل.
4. اللغة:
اللغة المستخدمة في القصة مليئة بالصور المجازية القوية مثل /رأسك كورة للدبابير/ و /الشعور بالاختناق/. هذه الصور تعكس الصراع الداخلي للبطل وتظهر قسوة الواقع الذي يعيشه. استخدام العبارات المباشرة مثل /لا اعرف/ و /لماذا؟/ يزيد من وضوح الإحساس بالضياع والاستفهام المستمر الذي يواجهه البطل في محاولاته لتفسير وجوده.
5. الفضاء الزماني والمكاني:
الزمان: القصة تتم في /الليلة/، ما يوحي بتوقيت يكون فيه البطل في عزلة، سواء كان الوقت مساءً أو في مرحلة الليل حيث يغلب الهدوء والظلام. الليل هنا يشير إلى حالة من الانغلاق الداخلي، حيث لا يمكن للفكر أن يجد مخرجًا.
المكان: يتم تحديد المكان بشكل ضبابي وغير محدد بشكل دقيق، لكن وصف الغرفة بأنها /خاوية كالمقبرة/ يجعلها مكانًا منغلقًا ومكتومًا، ما يعزز شعور العزلة والفراغ الداخلي. كما أن المدينة نفسها تُوصف بأنها /مكتومة وحزينة/، مما يشير إلى قسوة البيئة المحيطة التي يعيش فيها البطل.
6. الرسالة أو المضمون:
القصة تعكس الصراع الشخصي والوجودي الذي يواجهه الإنسان في بيئة تتسم بالقمع الاجتماعي والسياسي. الرغبة في التعبير عن الذات والكلمة التي هي سلاح البطل تتعثر بسبب الضغوط الخارجية. الكتابة هنا تصبح أداة مقاومة في وجه الواقع الذي يعاني منه البطل، لكن في النهاية، يبقى الشخص عاجزًا عن تغيير الوضع. الكلمة /يسقط.../ التي يكتبها في النهاية تظل غير مكتملة، مما يعكس عجزه عن إيجاد إجابة أو حل لحالته.
الخاتمة:
هذه القصة تتعامل مع موضوعات الاغتراب والضياع الداخلي في عالم مليء بالصمت والظلام. من خلال السيميائية، يمكن رؤية كيف يستخدم الكاتب الرموز والأفكار المتداخلة لخلق جو من القلق والتوتر الذي يعكس حالة الشخصية. إن تداخل الذات مع المحيط القاسي يعكس الأبعاد النفسية والاجتماعية التي يعاني منها الإنسان في مجتمع يرفض الاستماع إلى معاناته.
***
بقلم: كريم عبد الله – العراق

عرضت مسرحية (فرح) الموجهة للأطفال - تأليف وإخراج حسين علي صالح، يومي الأربعاء والخميس ٢٦- ٢٧ / ٢/ ٢٠٢٥ على مسرّح الرشيد، الساعة الحادية عشر صباحا، فقد عمل القائمون على العرض على مراعاة توقيت العرض ليناسب حضور جمهور كبير من تلاميذ المدارس.
أحكم المؤلف (المؤلف المخرج) حكاية المسرحية وحبك أحداثها: الأب (غضبان) والأم (قوية) يدفعون (فرح) و (سعيد) لسرقة أموال موجودة في دار الأيتام، بناء على خطة محكمة وضعها (غضبان) يسرق الاخوين (فرح) و (سعيد) حقيبة الأموال، يتناولها منهم (غضبان) ليفتحها ويفرح بكمية الأموال، ويجد فيها ورق يعطيها لـ (سعيد) لرميها ، ويأمره لاصطحاب (فرح) والذهاب للتسول وإحضار الطعام، في الشارع يسرق (سعيد) و (فرح) كيس طعام من أحد المارة، لكنه يتمكن من الامساك بهما ويجد معهما الورقة، وبعد التحقق منهما بخصوص الورقة، يخبرهم انه (نبيل) مدير دار الايتام، وأن هذه الورقة فيها اسماء الايتام ومعها أموال تبرعات اليتامى ومعالجة مرضى السرطان مسروقة ، يعترفان له بعملية السرقة، وانهما نادمين على فعلتهما، وتكشف فرح عن إصابتها بمرض السرطان، يتفقون على استرجاع الأموال وإعادتها إلى مستحقيها، وينجحون في تكبيل (غضبان) و (قوية) لانتزاع اعترافاتهم لتحدث فعل التعرف ومفاجأة بأنهما قاموا بخطف (فرح) و(سعيد) يتم الاتصال بالشرطة لاعتقال المذنبين، ويعم الفرح.1138 farah

يتضح من خلال سرد الحكاية أن المؤلف/المخرج عمد إلى تسمية شخصياته لتكون دالة على طبعها ومفصحة عن جوهرها، كما أنه حرص تبسيط فكرة العرض للطفل وإيصالها عبر المتن الحكائي (لا يجب تسخير الأطفال في أعمال شريرة مثل التسول والسرقة، والتأكيد على الحفاظ عليهم، مع التنبيه إلى التعاون من أجل مساعدة الأيتام ومرضى السرطان)
(المفاجأة والصدمة والصدفة) ثلاثة عوامل توافرت في العرض، أسهم إثنان منها في زيادة التفاعل وهما عامل (المفاجأة) وعامل (الصدمة) أما العامل الثالث (الصدفة) فقد أسهم في تأرجح مصداقية الأحداث وتوفير القناعات بمجرياتها ، تجسدت المفاجأة في تعرف ان (فرح) و (سعيد) ليسا أبناء هذه العائلة القاسية مما زاد في التشويق والإثارة لمتابعة الآتي من الفعل الدرامي، اما الصدمة القاسية فتجلت في فعل إزالة الشعر المستعار (الباروكة) عن رأس (فرح) وظهورها صلعاء، وحوارها الدال على اصابتها بمرض السرطان، مما رفع نسبة التعاطف معها ومشاركة المتلقي لمشاعرها، وقد كان لعامل (الصدفة) دور في دفع الأحداث للتصاعد مع الاخذ بالاعتبار ان وجود ثلاث مصادفات متتالية تجعل المتلقي أمام حيرة بدرجة ما، الصدفة الاولى لقاء الطفلين فرح وسعيد بمدير دار الأيتام (نبيل) في الشارع، الصدفة الثانية احتفاظ (سعيد) بورقة ووقوع نظر مدير دار الأيتام عليها ليكتشف السرقة من خلالها ويحدث التحول في الأحداث، الصدفة الثالثة احتفاظ (غضبان) بهاتف عائلة (فرح و سعيد) وفعل الاتصال بهم الذي أنهى المسرحية بعجالة بعد إعادة حقيبة الأموال.1139 farahتنوعت فضاءات العرض وبيئة الأحداث، فقد تغير المناظر لثلاث مرات، الفضاء الأول أقرب إلى التجريد والايحاء بالمكان منه إلى الفضاءات الواقعية الموجهة للأطفال، ثلاث شبابيك وباب ملونة، يبدو عليها آثار الفقر والاهمال معلقة في الفضاء، الفضاء الثاني والثالث صنعته صورة منظر شارع، عرضت بواسطة جهاز الـ (داتاشو) مع اضافة مصطبة، أما ما ملأ الفضاء وجعل الحيوية تتدفق في ارجاءه فهي حركة الممثلين وتوزيعها على مناطق خشبة المسرح فضلا عن وضوح بنية الشخصيات وتصنيفها على طرفي معادلة الصراع المناسبة للطفل منذ بداية العرض (غضبان وزوجته قوية) الطرف الشرير و (فرح واخوها سعيد) الطرف الخيِّر، ومنح المؤلف/ المخرج شخصية (نبيل) فعل حل الصراع.
تقول (وينفريد وارد) في كتابها الرائع (مسرح الأطفال): (المخرج الذي يستطيع أن يرى العالم من خلال نظرة الطفل هو وحده الذي ينبغي أن يخرج مسرحيات الأطفال) ويمكن تعميم هذه المقولة لتشمل المؤلفين والممثلين والشعراء والموسيقيين وجميع من يتوجه بنتاجه إلى الطفل، وقد حققت مسرحية (فرح) أهدافها التثقيفية والجمالية بفضل ما تمتع به فريق العرض من روح الطفولة و مستندين في ذلك لخبرتهم الفنية وما زرعه المخرج (حسين علي صالح) الخبير بخبايا مسرح الطفل فيهم، مع الاشادة بالحضور الجميل لجميع الممثلين (قاسم السيد وسلوى الخياط وعدي الكرخي وأحمد شوقي وبنين أيمن) الذين جسدوا خصائص التمثيل في العرض الموجه للطفل من خلال نقطتين أساسيتين: محاكاة الحركة والإلقاء ذي السمات الطفولية، لا وجود انفعالات مأساوية عميقة ولا إسراف في المواقف الكوميدية.
تعد الكوميديا والاغاني من الأمور الأساسية الواجب حضورها في مسرح الطفل، ذلك أنها من الجماليات المؤطرة للدراما الطفلية، ولتكون عناصر ترويحية تساعد في امتصاص توترات الصراع، لذا وظف المخرج عنصر الكوميديا في العديد من بعض المواقف، وعمل على تزيين العرض بالأغاني المؤلفة من قبل الشاعر (عبد الرزاق الربيعي) والحان (هادي الشاطي) وهي معبرة عن الشخصيات والأحداث الدرامية، وأسهمت في تصاعد الأحداث لكونها جزء عضوي في العرض وليس جزء ترفيهي وحسب. وهنا لابد من الاشارة المحمودة لعدم سماع الموسيقى والمؤثرات الصوتية ولا الانتباه إلى الاضاءة والمؤثرات الضوئية بصورة منفردة، لقد أدت الموسيقى الإضاءة فعلا أساسيا في صناعة الجو النفسي العام للعرض، وشكلت لغة متضامنة مع الصورة الكلية للتكامل الفني في العرض.1141 farahليس من اليسير السيطرة على انتباه جموع الأطفال، ما لم يمتلك العرض وسائل تجعل انتباههم مركزا على ما يقدم إليهم لمدة ساعة تقريبا، ان حكاية العرض واحداثه وتنوع شخصيات وأداء الممثلين ومهارة الفنيين.. كلها عوامل صنعت العرض وأسهمت في جعل المتلقي الصغير مشدودا وغير قادر على التفريط في لحظات من العرض، وهذا من المؤشرات الهامة على النجاح، مع ملاحظة حضور أطفال ليسوا من الفئة العمرية (9 - 12) سنة التي يمكن أن تتابع عرض مسرحي لستين دقيقة، وهذا أمر خارج سيطرة القائمين على أي عرض مسرحي، إذ لا يمكن حصر الفئة العمرية واستبعاد فئة أخرى من الدخول إلى القاعة، ويبدو أن مسألة تحديد الفئات العمرية لا يعدو كونه مسألة نظرية أكاديمية.
إن مثابرة وجهود فريق عرض مسرحية (فرح) إلى جانب العروض الاخرى الموجهة للأطفال التي قدمت خلال الشهور القليلة الماضية، أنتجتها جهات عديدة، تؤشر علامة مضيئة في مسيرة المسرح ودلالة حقيقية لتعافي الدراما المسرحية في بغداد، مع الأخذ بعين الاعتبار أن تكون هذه العروض موجهة ليس لتلاميذ المدارس حصرا، إذ يفضل تنفتح على عموم الأطفال، وأن يكونوا بصحبة ذويهم لأن عروض مسرح الطفل موجهة للعائلة ضمنا، لأن موضوعاتها وافكارها تمس الحياة الاجتماعية العامة.
***
د. حبيب ظاهر حبيب

 قراءة في تجليات المضمر

يبدو أنَّ الرياضات الروحية والعشق هما ما يحققان للعارف الوحدة الشخصية للوجود ولوازمها وتحقق لمن  أدرجها ذاتاً أشبه بالذات الملائكية، ونعلم أنَّ العرفانيين اعتمدوا الكشف والشهود والمقصود بالشهود العرفاني هنا هو مقام حق اليقين والذي يؤدي إلى الوصول إلى أعمق ساحات الوجود، وقد يتأتى هذا بفطرة نقية من دون الاعتماد على المنهج العلمي للعرفان كالشهود القلبي ودون أنْ يطوي المنازل السلوكية للرياضة فبالإمكان الوصول إلى العشق من خلال الإيمان برواسخ العقيدة وتعطش النفس للفناء بالذات العليا ومن بين هؤلاء الزهاد والمؤمنون باليقين، و من أحب كمال الوجود من علماء وشعراء، ولربما أناس بسطاء قد تجدرت فيهم ثوابت اليقين فراحوا يجهدون أنفسهم بالعمل الصالح وإفناء ذواتهم في أنوار الخالق الرحيبة، فتتولد لديهم المعاني القيمية التي بها تزيل من أمامهم الحجب فراحوا يتوسلون الفيوضات الربانية والانصهار ببركاتها النورانية.

والشاعر الدكتور عبد الأمير الورد واحد من أولئك الذين تكشَّفت لديهم الأنوار الرحيبة، وكما عرفناه أستاذاً ومربياً كانت تتجلى شخصيته الإيمانية بخلقه العالي وباستشهاداته القرآنية والأحاديث النبوية الشريفة وما يحفظ من أحاديث لأهل البيت (عليهم السلام) ولا سيما في الدرس وخارجه، فضلاً عن الشواهد الشعرية ذات النزعة الدينية والصوفية وما استقى طلبته من مواعظه وإرشاداته والاقتداء بشخصيته النجيبة.

أما ما تجلى في شعره من خصال وصور ملائكية، فهي كثيرة، لابد أن نتناول نماذج منها؛ كونها تترجم ما في مكنوناته القدسية، يقول في إحدى قصائده:

يا من هواهُ يغذِّي فؤادي

رحماكَ يا ربِّ يوم المعادِ

*

رحماكَ ربي بعبد فقير

شانت هواه ضروب الشرور

*

مازال يرجوك حُسنَ المصير

إذ لا شفيعٌ سوى خير هادي

*

رحماك يا ربِّ ضلَّت خطانا

حين اتَّبعنا دليلا هوانا

*

إنَّا فزعنا فهبنا الأمانا

يا غافراً يا رحيم العبادِ

فنرى الشاعر في دعائه الذي سكبه شعراً يحاول تنقية نفسه طالباً الرحمة والمغفرة، بينما هو يُظهِر ضعفه أمام خالقه، بوصفه الفقير لتلك الرحمة، إذ شانت هواه أنواع الشرور كما يقول، وتلك عادة مستحسنة من لدن الزهاد والعرفانيين والمتصوفة في تبرير ضعفهم وطلب السماح والمغفرة؛ لإطفاء الذنب وستر العيب، كما أنَّه يبث ذلك؛ ليُظهر أنَّ الخلق بحاجة إلى مغفرة الخالق؛ لأنَّ طبيعة النفس البشرية هي إملاء حاجتها الدنيوية المتعلقة بالجسد؛ لذا يدعو الله بحسن المصير والعاقبة، ويبدو أنَّ الشاعر من دون وعيه يُظهر لنا إيمانه باليوم الآخر، وما الفزع منه إلا صورة حية لذلك، مترجياً الأمان ليوم لاتنفع فيه معذرة ﴿يَوْمَ لَا يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ﴾(غافر: 52) فهو المؤمن بأنَّ الله رؤوف رحيم بعباده.

وفي نص آخر بعنوان (جد لي بلطفك) يقول:

جدْ لي بلطفك كي تُعزَّ مكانتي

فبغيرِ لطفك لا أريمُ ذليلا

*

جد لي بلطفك كي أتيه على المدى

فخراً وأُصرعُ في هواك قتيلا

*

الآن تعطيهِ بغيرِ تأخُّرٍ

فأخو الضنى لا يقبلُ التأجيلا

*

آياتُ فضلك محكماتٌ كلها

وضَّاحة لا تقبل التأويلا

فنجده ينزع هنا نزعة صوفية وهو يطلب من الخالق سبحانه اللطف به من دون غيره؛ لأنَّ طلب اللطف من غير الله مذلَّة، بينما نجد في البيت الثاني رغبته الذوبان بهذا المدى فخراً ... متمنياً أن يُصرَع في هواه قتيلاً، فهو المضنى بحبِّه، فلا تأجيل لهذا اللطف؛ كون الله سبحانه هو الضامن لهذا اللطف الذي سيناله حتماً مؤمناً بفضل الله الذي لابدَّ أن يتحقق، وليس في حسبان الشاعر أن يقبل التأويل. ولعل الدكتور الورد كان موقناً وحفياً بأقوال الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ومنها قوله: " والذي نفسي بيده ما من الناس أحد يدخل الجنة بعمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل" (متفق عليه).

فالصورة الملائكية تتجلى لدى الشاعر، وهو ينغمر في لطائف الله الذي يتمثل بسعي العبد إلى بارئه عن طريق الدعاء والإيمان بالله من أنَّه هو صاحب الفضل من دون مِنَّةٍ على العباد. ويبدو أنَّ الشاعر يعيش منزلة اليقظة "إنَّ منزل اليقظة هو منزل التنبه والوعي وإدراك الذات، وعدم كون الإنسان من مصاديق، فالناس نيام بمعنى أنَّه يتعين علينا أن نقوم بإيقاظ أنفسنا بأنفسنا ونلقِّن أنفسنا بأننا إيقاظ ولسنا نياماً" وهكذا يعيش الورد حالات الإيمان الذي لابد أن يستمر لديه؛ ليبقى قلبه يقظاً وأنْ لايسقط في حجب الظلمات.

أما قصيدة (دعاء الأمان) فتُعَدُّ من النصوص التي توثق للشاعر ملائكيته في التهجد والدعاء والتسبيح فهو يقول:

أمان أمان - أمان أمان - أمان أمان

ربّ الحنان

ربّ الأمان

لكَ الركوعُ والخضوعُ والخشوع في الجنان

أمان أمان - أمان أمان - أمان أمان.

لك السجود والوجودُ والمكان والزمان

أمان أمان- أمان أمان- أمان أمان

أنت الهدى والمنتهى والمبتدأ والعنفوان

أمان أمان- أمان أمان- أمان أمان

ربُّ العطايا ترجو البرايا محو الخطايا هَبها الأمان.

أمان أمان- أمان أمان- أمان أمان.

القصيدة كُتبت عام 1985 م, وهذا العام هو ذروة الحرب العراقية الإيرانية، بينما الورد ذلك الإنسان التقي الذي يدعو إلى السلام من أجل الحفاظ على الأرواح من تلك الحرب التي كانت تنزل الصواريخ على منازل الناس؛ ماجعله يدعو الله أنْ يبثَّ الأمان في النفوس، فالله هو ربُّ الأمان وربُّ الحنان، فالعبادة له وحده بكل أشكالها كما أنَّ كل شيء له. ولعل الشاعر انماز في الأدعية باللغة السهلة المبسطة؛ كونها تتناغم مع ثقافة الناس الذي يدعو لهم أن تنفرج عنهم الغُمَّة التي سادت البلاد، واستفحل شرورها عليهم فراح الشاعر يردد لفظة (أمان) بعد كل سطر شعري من القصيدة، وهذا نابع من إيمانه العميق بالله سبحانه وتعالى خالق الخلق ومدبر الأمر.

نخلص أنَّ الإنسان يمكنه أن يصل إلى مرتبة الملاك حين يكرس النقاء بأفعاله وأعماله، وخلقه الحسن وعبادته الصادقة، ما يجعله يرى ذاته تتطوف في أنوار الإشراق الإلهي الذي تظلل عوالُمه المؤمنين والصديقين والأنقياء وحسن أولئك رفيقا.

***

بقلم أ.د. رحيم عبد علي الغرباوي

قصيدة في زمن الشوق والحرمان: بوح القلب

قصيدة / بوح قصيدة / للشاعرة اللبنانية حنان يوسف تحمل في طياتها مزيجًا من الشوق، الألم، والحنين، وتنقل القارئ إلى عالم عاطفي مليء بالتناقضات، حيث تعبر الشاعرة عن صراع داخلي عميق بين الحب والحرمان، الأمل واليأس، التواجد والغياب. هي قصيدة تتناول الرغبة في التواصل والاتصال مع الآخر، لكنها تبرز أيضًا الألم الناتج عن المسافات التي تفصل بين الأحبة.

الموضوع العام:

القصيدة ترتكز على فكرة الاشتياق والحب الممنوع أو البعيد، حيث تتعامل الشاعرة مع مشاعر متناقضة ومتداخلة. من خلال بوحها الداخلي، تنقل لنا الشاعرة تفاصيل العاطفة الهائلة التي يشعر بها الشخص في حالة الحب أو الاشتياق، وهي مشاعر متوترة بسبب المسافة بين الأحبة أو الزمن الذي يمر ويؤثر على العلاقة. على الرغم من هذه المسافة، يبقى الحب حيويًا في القلب، ولكن يتبدد بمرور الوقت وتزداد مشاعر الحنين، ويحل معها شعور آخر من الفقد.

التقنيات الأدبية:

الاستعارات والتشابيه: الشاعرة تستخدم استعارات غنية ومعبرة لخلق صور شعرية حية. على سبيل المثال:

/نبضاً يتراقصُ في صدري/: استعارة تُجسد تأثير الحب على الشاعرة بشكل قوي، حيث يُظهر القلب كآلة حية تتأثر بالعواطف بشكل فوري.

/في بوحه أسراري/: هنا، البوح يصبح وسيلة للكشف عن الذات، وهو رمز للكشف عن المشاعر المخفية.

/والمسافات شموعٌ تتوهج بالشوق الكبير/: توازن بين المسافة والشوق، حيث تصبح المسافات شيئًا يتوهج في القلب بدلاً من أن تكون مجرد فراغ.

الرمزية:

الزمان والمكان: الزمان والمكان في القصيدة يلعبان دورًا أساسيًا في تعميق شعور الغربة والفقد. /سكن في زمنِ الأبعاد/ و/عشقك المهزوم/ يعكسان الحنين لماضي أو لحظة كانت أكثر حضورًا في الذاكرة من الواقع الحالي.

الشوق والحرمان: الشوق يصبح عنصرًا أساسيًا في القصيدة، ولكنه لا يأتي في صورة ممتعة أو مفرحة، بل هو شوق يرتبط بالحرمان والألم. /نم قرير الشوق على صدر الحرمان/ يمثل حالة من التعايش مع الألم الناتج عن الفقد أو البعد، مما يضيف بعدًا مأساويًا في القصيدة.

التكرار: التكرار في القصيدة ليس مجرد وسيلة لإضفاء الإيقاع، بل هو أداة لتكثيف المشاعر وتعميقها. تكرار كلمات مثل /الشوق/، /الحنين/، و/الزمان/ يعكس تكرار التجربة العاطفية نفسها، بما في ذلك الصراع الداخلي المستمر بين الأمل والفقد.

الأسلوب واللغة:

الشاعرة استخدمت لغة شاعرية، تميل إلى الغموض في بعض الأحيان، مما يفتح المجال لتفسير متعدد المعاني. الكلمات مثل /غدر بشتائك/ و/أحنى ظهرك الزمان/ تحمل إحساسًا بالخذلان والظروف التي تحول دون التقاء الأحبة أو حدوث اللقاء المأمول.

استخدام الشاعرة لبعض الألفاظ ذات الطابع الكلاسيكي مثل /صبري/، /الحنين/، و/الوقار/ يمنح القصيدة بعدًا ثقافيًا تقليديًا، لكنه في الوقت ذاته يتناغم مع طبيعة القصيدة المرهفة التي تحمل أبعادًا عاطفية وفلسفية. هذا التزاوج بين العاطفة الشخصية واللغة الرمزية يجعل من القصيدة مساحة مفتوحة للقراء ليتواصلوا مع أفكارهم الخاصة حول الحب والفقد.

الصور الشعرية:

القصيدة مليئة بالصور الشعرية التي تترجم الصراع الداخلي بين الرغبة والفقد، مثل:

/المسافات شموعٌ تتوهج بالشوق الكبير/: صورة شعرية غنية حيث تتحول المسافات إلى شموع تضيء في قلب الشاعرة، مما يضيف بعدًا شاعريًا ورومانسيًا للصراع الداخلي.

/في بياضِ شَعرك يلمعُ الوقارُ/: الشعر هنا ليس مجرد عنصر مادي، بل هو رمز للوقار والنضوج الذي يتجلى في علاقة الشاعرة بالمحبوب أو في عالمها الداخلي.

/نم قرير الشوق على صدر الحرمان/: هذه الصورة تمثل صراعًا داخليًا، حيث يتعايش الشوق مع الحرمان، ويبدو أن الشاعرة قد اعتادت هذا الوضع المؤلم.

الختام والفكرة الفلسفية:

القصيدة تنتهي بتعبير مكثف عن الحزن والتقبل لمفهوم الفقد: /فأنا مثلك،، اسكن إنما،،؟ في زمن بلا أسياد/. في هذه السطور، نرى نوعًا من التمرد على الزمن وعلى القيود التي يفرضها الواقع، حيث يختتم النص بعبارة تشير إلى نوع من التأمل الفلسفي في الحرية والوجود في /زمن بلا أسياد/. إنها دعوة للعيش بوعي مكثف رغم الألم، والتصالح مع الواقع.

الاستنتاج:

قصيدة /بوح قصيدة/ هي عمل شعري متقن يعكس صراع الذات مع مشاعر الشوق والحرمان في عالم مليء بالتناقضات. عبر استخدام الرمزية والاستعارات واللغة العاطفية العميقة، تطرح الشاعرة رؤية حساسة للعلاقة بين الفرد وواقعه الداخلي، وتعبر عن فكرة الاشتياق والحب بشكل يعكس القوة والضعف في آن واحد. القصيدة تلخص تجربة إنسانية عميقة مليئة بالألم والأمل، مما يجعلها مؤثرة وقادرة على لمس قلوب القراء.

***

بقلم: كريم عبد الله – العراق

..........................

بوح قصيدة

قرأتُ فيكَ نبضاً

يتراقصُ في صدري

يهمسُ بسرّي

غرسني،،

في حقولِ الاشتياق

سلبَ صبري

وتمادى في الابتعاد

في بوحه أسراري..

ولهفةُ اللقاء

تسبحُ في ثنايا أوردتي

والمسافات شموعٌ

تتوهج بالشوق الكبير

سكن في زمنِ الأبعاد

أسمعُ أنينك المتعب

غدرَ بشتائك

وأحنى ظهرك الزمان

يا وصالاً،،

دونَه جفّت العروق

والنبضُ ارتهان

في بياضِ شَعرك

يلمعُ الوقارُ

في صدرك ،،

ذاب الحنينُ

إلى القصيدة

دائم البحث عن الحنان

في دروب مخفية

ومتاهات

عن عشقك المهزوم

فنم قرير الشوق

على صدر الحرمان

فأنا مثلك،،

اسكن إنما،،؟

في زمن بلا أسياد

***

حنان يوسف – لبنان

يُعد مفهوم الأنا والآخر من أبرز المحاور الفكرية والفلسفية التي شغلت النقاد والكتّاب في النصوص الابداعية بشكل عام، والنصوص الروائية بشكل خاص. إذ يمثل هذا المفهوم إنعكاساً للعلاقة الجدلية بين الفرد والمجتمع، وبين الذات والهُويات المختلفة، ففي النصوص الروائية، يظهر هذا المحور كعنصر مركزي يُسهم في بناء الشخصيات، والحبكة في ثيمة النص، والرسالة التي يُراد إيصالها.
فالأنا هو مركز الذات وتجليّ الهُوية، حيث تمثل الأنا في الرواية الذات الواعية التي تسعى لفهم العالم المحيط بها، وتعكس رؤية الكاتب للحياة والوجود، فالأنا ليست مجرد شخصية في النص؛ بل هي وسيلة للتعبير عن القيم، والطموحات، والصراعات الداخلية، وفي كثير من الأحيان، تكون الأنا هي البطل أو الراوي الذي يوجه القاريء لفهم السياق السردي.
وعلى سبيل المثال، في روايات الحداثة وما بعدها، نجد الأنا تواجه أزمة هُوية عميقة نتيجة التغيرات الاجتماعية والسايسية. فالروائي يعبّر عن هذا من خلال تيارات الوعي والسرد الداخلي، حيث تكشف الأنا عن هشاشتها وشكوكها في محاولة لفهم العالم المتغير من حولها.
وعندما نقول (الآخر)؛ هو المرآة والنقيض، فالآخر في البناء الروائي يُمثل كل ما هو مختلف عن الذات، قد يكون الآخر شخصية ذات هوية مغايرة ثقافياً، أو دينياً، أو إجتماعياً، أو حتى رمزاً لأفكار ومفاهيم مناقضة لما تؤمن بها الأنا. كما يظهر الآخر كعامل محفز للصراع والتطور في النص، حيث يسلط الضوء على التباين بين الذات والغيرية. كما هو الحال في النصوص التي تتناول قضايا الاستعمار أو التعدد الثقافي، يُظهر الآخر غالبًا كرمز للهيمنة أو التهميش. في هذه الحالة، تتجلى العلاقة بين الأنا والآخر كصراع حضاري أو ثقافي، يعكس مواقف المجتمع تجاه الإختلاف.
العلاقة الجدلية بين الأنا والآخر
تُظهر العلاقة بي الأنا والآخر في الرواية جدلية معقدة تحمل في طياتها جوانب الصراع والتفاهم. فمن جهة، يُعد الآخر وسيلة لتحدي الأنا وإجبارها على مواجهة ذاتها، ومن جهة أخرى، يُمكن ان يكون الآخر رمزاً للتهديد أو مصدراً للسلام.
وعلى سبيل المثال، ففي رواية (الغريب) للروائي البير كامو، يُمثل الآخر المجتمع الذي يُحاكم الأنا وهو البطل (ميرسو) على أفعاله وطبيعته اللانتمائية، كما يصفها أيضاً الكاتب والروائي الفيلسوف كولن ولسن في كتابه اللامنتمي؛ هذه العلاقة تعكس إغتراب الإنسان الحديث والمعاصر وصراعه مع القيم الاجتماعية التي يفرضها الآخر.
فالأنا والآخر تعد أداة للنقد الاجتماعي، حيث تلعب العلاقة بين الأنا والآخر دوراً هاماً في النقد الإجتماعي، وذلك من خلال كشف التحيزات الثقافية والتمييز العرقي والجندرة والاختلاف الديني. فالروائي يستخدم هذه العلاقة ليُبرز التوترات الاجتماعية والسياسية، ويدعو المتلقي أو القاريء لإعادة التفكير والتقييم في تلك القضايا.
إن الأنا والآخر لهما بعدان في السايق الثقافي والحضاري، وتمتد العلاقة بينهما في النص الروائي الى سياقات أوسع تعكس التفاعل بين الثقافات والحضارات، ففي الأدب العالمي نجد الروايات التي تتناول الاحتكاك بين الحضارات المختلفة نتيجة الإستعمار أو الهجرة أو التبادل الثقافي، فتُقدم الآخر بوصفه مرآة تُظهر للأنا مدى تشابكها مع العالم الخارجي.
كما يتجلى هذا في أعمال مثل (قلب الظلام) للروائي جوزيف كونراد، حيث يُصور الآخر بوصفه النقيض للحضارة الاوربية، مما يفتح النقاش حول المركزية الأوربية ونظرتها الى الآخر. في المقابل، نجد أدب ما بعد الإستعمار يركز على إعادة تعريف الآخر من وجهة نظره الخاصة، كما هو الحال في أعمال تشينوا أتشيبي، التي تُظهر الأنا الافريقية وهي تُعيد صياغة علاقتها بالآخر الغربي.
الآخر الداخلي: صراع الذات مع نفسها
لا يقتصر مفهوم الآخر على الكيانات الخارجية، بل يمتد ليشمل (الآخر الداخلي) أي الجزء المختلف أو المكبوت داخل الذات الانسانية نفسها، يظهر هذا الجانب في الروايات التي تستكشف صراعات الهُوية والانقسام الداخلي، حيث تصبح الأنا عالقة بين متناقضات أو ولاءات متعددة. ففي رواية (دكتور جيكل ومستر هايد) لروبرت لويس ستيفنسون، يُقدم الآخر الداخلي بوصفه إنعكاساً للصراع الاخلاقي والنفسي داخل الإنسان، فالأنا هنا لا تواجه تهديداً خارجياً، بل تعيش معركة داخلية تعكس الصراع الأزلي بين الخير والشر في النفس البشرية على مرّ الازمان.
أما الأنا والآخر في الرواية العربية، ففي الأدب العربي، تأخذ العلاقة بين الأنا والآخر طابعاً خاصاً نتيجة التداخل التأريخي بين الثقافات الشرقية والغربية، فالرواية العربية الحديثة، خاصة تلك التي ظهرت بعد فترة الإستعمار، تُركز على إستكشاف علاقة الهُوية الذاتية بالمؤثرات الخارجية.
وعلى سبيل المثال، في رواية (موسم الهجرة الى الشمال) للروائي السوداني الطيب صالح، نجد بطله يعيش صراعاً بين هُويته كشرقي والآخر المتمثل في بلاد الغرب الذين عاش معهم، فالرواية تُظهره ليس فقط كخصم، بل كجزء من الأنا ذاته، ما يعكس تعقيد بين الذات والغيرية في السياق العربي.
إن البُعد الفلسفي للأنا والآخر في الرواية على المستوى الفلسفي، تناقش العلاقة بين الأنا والآخر بوصفها تعبيراً عن رغبة الإنسان في الفهم والإعتراف، يقول الفيلسوف إيمانويل ليفيناس؛ (يُبرز أهمية الآخر في البناء الروائي وحتى الشعري والتشكيلي، بوصفه أسا ساً للأخلاق، حيث يُشكل وجود الآخر دعوة للذات للإنفتاح والإعتراف بالإختلاف)
هذا البُعد الفلسفي يظهر في العديد من الروايات التي تُركز على التعاطف والتفاهم بين الأنا والآخر، كما هو الحال في رواية (البؤساء) للروائي فكتور هوغو، حيث يُعيد الآخر بطل روايته (جان فالجان) تعريف نفسه من خلال التفاعل مع الآخرين الذين يمدّون له يد العون أو يواجهونه بتحديات أخلاقية.
الأنا والآخر: بين الصدام والتعايش
إن العلاقة بين الأنا والآخر لا تُخزل في الصراع فقط، بل تحمل إمكانيات للتعايش والتكامل في الروايات التي تُعالج قضايا العولمة والهُويات المتعددة، حيث تظهر الأنا وهي تعيد تشكيل نفسها من خلال قبول الآخر، هذا التفاعل يُنتج هُويات هجينة تعكس تعقيد العالم الحديث وتنوعه.
من هنا، ومن خلال إستكشاف العلاقة بين الأنا والآخر في النصوص الروائية، يُمكن فهمم العديد من القضايا الإنسانية المعاصرة مثل الهُوية ، والتعددية، والإنفتاح على الآخر، فالرواية بوصفها شكلاً أدبياً تمتلك القدرة على إظهار الصراعات الداخلية والخارجية للأنا، وتجعل القاريء المتلقي جزءاً من رحلة البحث عن الذات والتفاهم مع الغير، فهذا التنوع في العلاقة بين الأنا والآخر يجعل النص الروائي مساحة غنية للتأمل والتحليل والاستغراق في عالم النص الإبداعي.
إن مفهوم الأنا والآخر في النص الروائي يُعد أداة فنية وفكرية تعكس عمق التجربة الإنسانية وتعقيدها. من خلال هذا المفهوم، يستطيع الكاتب تسليط الضوء على الهُوية والاختلاف، الصراع والتعايش، ليقدم صورة غنية ومتعددة الأبعاد عن الإنسان والعالم. إن فهم هذه العلاقة في النصوص الروائية يُضيف بُعداً أعمق لتفسير العمل الأدبي وإدراك رسالته الإنسانية المنشودة نحو تغيير العالم.
***
د. عصام البرّام - القاهرة

(تقنية جديدة في الهايكو)

تقنية تحويل الأحلام إلى هايكو تمثل نهجًا مبتكرًا نسعى لاستخلاص جوهر الأحلام – تلك التجارب العقلية العابرة للحدود – وصياغتها في قالب شعري مكثف يحمل طابع الهايكو. هذا الأسلوب لا يكتفي بتسجيل الصور والمشاعر التي تتشكل في أعماق النوم، بل يعيد تشكيلها لتصبح لوحات شعرية نابضة بالحياة، تمنح القارئ إحساسًا وكأنه يتنقل داخل فضاء الحلم نفسه. فالأحلام، كما يراها علماء النفس، تعيش في عالم موازٍ، حيث تنهار قيود الزمن والمكان، وتتحرر الروح من أغلال المنطق اليومي. هذه التقنية، إذن، ليست مجرد أداة فنية، بل جسر يربط بين اللاوعي والتعبير الشعري.

**

باشو والأحلام: إعادة تأويل “أعشاب الصيف”

في قصيدة الهايكو الشهيرة التي كتبها ماتسوو باشو:

*أعشاب الصيف

كل ما تبقى من أحلام

المحاربين*

كان التفسير التقليدي يميل إلى قراءة “الأحلام” هنا كرمز للطموحات أو الآمال الضائعة. لكن فوكاساوا شينجي، الباحث في الأدب الياباني الكلاسيكي، يقدم رؤية مغايرة في مقاله “حلم عن محاربين” المنشور على موقع Nippon.com. يرى شينجي أن باشو كان يشير إلى أحلام النوم الحقيقية، مستندًا إلى تجربة شخصية عاشها الشاعر. ففي زيارته إلى تاكاداتشي، غفا باشو وحلم بيوشيتسوني وبينكي وآخرين يروون قصص معاركهم الأخيرة. وعندما فتح عينيه، لم يجد أمامه سوى أعشاب الصيف تملأ المشهد. بناءً على ذلك، يمكن إعادة صياغة الهايكو كما يلي:

"أعشاب الصيف

كل ما بقي من حلم

عن محاربين"

هذا التفسير يفتح أفقًا جديدًا لفهم الهايكو، حيث يصبح الحلم مدخلاً لاستكشاف أبعاد شعرية لم تُطرق من قبل بشكل متكامل. الأحلام هي نوافذ اللاوعي، تطل منها صور وأحاسيس تتحدى قوانين الطبيعة والمنطق. في المقابل، يُعرف الهايكو بقدرته على التقاط لحظة عابرة من الواقع بكل وضوحها وحيويتها. للوهلة الأولى، قد يبدو الاثنان على طرفي نقيض: الأحلام بطبيعتها الفوضوية، والهايكو بتركيزه على “الآن وهنا”. لكن هذا التناقض الظاهري يتحول إلى تكامل إبداعي عبر هذه التقنية. فالأحلام تضيف إلى الهايكو طبقة من الخيال اللامحدود، مما يوسع آفاقه الجمالية ويمنحه عمقًا تعبيريًا جديدًا.

***

كيف تعمل هذه التقنية؟

تقنية تحويل الأحلام إلى هايكو تتجاوز القواعد التقليدية للشعر مع الحفاظ على جوهر الهايكو ومن أبرز سماتها:

1- تحطيم الحدود الفيزيائية: تتيح تداخل الأزمنة أو تحرك الأشياء بطرق مستحيلة واقعيًا.

2- تحرير الخيال الشعري: تمكّن من خلق نصوص سريالية أو فانتازية أو تاريخية أو واقعية.. حسب طبيعة الحلم.

3- توظيف استخدام الأنسنة دون افتعال: إذ يمكن للحلم أن يمنح الطبيعة صفات إنسانية يجعلها تتفاعل مع المشاعر الإنسانية.

4- التنقل عبر الزمن: تربط بين الماضي والحاضر والمستقبل بحرية مطلقة.

5- التلاعب بوظائف الحواس: كأن تتحول حاسة السمع إلى حاسة الذوق وهكذا بقية الحواس الأخرى

6- إبراز البعد النفسي: تعكس الرغبات والمخاوف الدفينة، مضيفة طبقة عاطفية عميقة.

7- التناص مع الأحلام الشهيرة: تستلهم من أحلام تاريخية أو أدبية لإعادة صياغتها من جديد.

الهدف من هذه التقنية:

تسعى هذه التقنية إلى تحرير الهايكو من قيوده التقليدية دون التفريط بروحه، لتفتح له أبوابًا جديدة نحو الإبداع. كما تهدف إلى إعادة تقديم أحلام عالمية معروفة بأسلوب شعري مكثف، مما يعزز من مكانة الهايكو كفن عابر للثقافات. هذا بالإضافة أهميته في مجال الدراسات العلمية.

نماذج شعرية تطبيقية

إليكم بعض الأمثلة التي صيغت وفق هذه التقنية من تأليفي:

1-

منبه الهاتف –

أمسك أوراقًا نقدية

تتبعثر في الهواء

2-

 غفوة –

قطار يعانق

سحب السماء

3-

 قيلولة –

مطر يغمر

أرضية غرفتي

5-

بنج عام –

أرقص مع فراشات

في حديقة المشفى

6-

 قبل اليقظة –

تنزلق قدمي

في هاوية الغرفة

7-

 استيقاظ –

بنكهة القهوة

صياح الديك

8-

جرس الباب –

أتوق لتكملة

الحلم

9-

 صوت عجلات -

فشلت في التقاط صورة

مع السندباد

10-

 نوم ثقيل-

سماء من حديد

حقول النفط

11-

 الفتى –

أحد عشر نجمًا

يركعون أمامي

12-

لمعةُ النصل—

الأبُ يلتفتُ

نحوَ النداءِ

13-

مطر خفيف –

أحلم بشراء منزل

ثم أفتح عيني

14-

 نوم عميق-

أتحدث مع حفيدي

الذي لم يولد بعد

الخاتمة:

تقنية تحويل الأحلام إلى هايكو ليست مجرد تجربة شعرية، بل محاولة نظرية وتطبيقية لاستكشاف أعماق الاحلام وإعادة تشكيلها بأسلوب فني راقٍ. إنها خطوة نحو تطوير الهايكو ليصبح أكثر شمولية، مع الحفاظ على بساطته وقوته.وهي دعوة لشعراء الهايكو للكتابة بهذه التقنية .

***

عباس محمد عمارة

عندما تقرأ رواية تتوقع أن تكون بين النور والظلام، متنقلًا بين مشاهد مختلفة تثير مشاعرك، وتضعك في أجواء لا تنتهي من التشويق والتفكير العميق. فالقصص ليست مجرّد كلمات تُسرد، بل هي عوالم تُبنى داخل العقول، وأحداث تتشابك لتشكل نسيجًا فنيًا يعكس خيال الكاتب ورؤيته. من هنا، تأتي أهمية الرواية التي تأخذنا في رحلة سينمائية من خلال الكلمات، فتنسج لنا صورًا حية ومؤثرة تجعلنا نشعر وكأننا جزء من الأحداث.
الرواية التي انتهيت من قراءتها للكاتب زهران القاسمي هي واحدة من تلك الأعمال التي تترك أثرًا لا يُمحى. استطاع القاسمي، من خلال أسلوبه الفريد، أن ينقلنا إلى عالم مستوحى من تراث عُمان، حيث تمتزج الحداثة بالأصالة، ويصبح التاريخ خلفية زاخرة بالتفاصيل التي تدعم السرد الروائي. إنّ القصة ليست مجرد حبكة درامية، بل هي تجربة عميقة تمنح القارئ إحساسًا بالغوص في بحرٍ من اللغة العذبة والتراكيب الأدبية الراقية.
ما يميز هذه الرواية هو قدرتها على خلق مشاهد ذات طابع سينمائي، حيث تتجلى التفاصيل بوضوح، وتتحول الكلمات إلى صور حيّة داخل مخيلة القارئ. لم يقتصر على السرد التقليدي، بل استخدم تقنيات سردية متقدمة جعلت القارئ يعيش التجربة وكأنه يشاهد فلمًا متكامل العناصر.
من بين أكثر المشاهد تأثيرًا في الرواية، ذلك المشهد الذي يصف فيه الكاتب الغراب الجبلي، الذي لا يُعرف متى هبط، بسواده الفاحم وعينيه المرتكزتين على الأرض. هذا المشهد يحمل في طياته رمزية عميقة تعكس حالة الترقب والتشاؤم التي قد تراود الشخصيات أو ربما القارئ نفسه. بأسلوب دقيق ومفعم بالحيوية، استطاع الكاتب أن يجعل من الغراب عنصرًا دراميًا ذا دلالة، يضيف إلى أجواء القصة طابعًا غامضًا مثيرًا للتساؤل.
الرواية لا تعتمد فقط على الحبكة القوية، بل أيضًا على اللغة الراقية والأسلوب البديع الذي يمزج بين الوصف الدقيق والخيال الخصب. النص مليء بالجمل التي تحفّز الذهن، وتجعل القارئ يتوقف للتأمل في معانيها العميقة. على سبيل المثال، ذلك المقطع الذي يصف عمل الفلاح في اقتلاع الحشائش بطريقة تجعل القارئ يشعر وكأنه يشاهد مشهدًا حيًا من يوميات الريف. التفاصيل الدقيقة، مثل تفتت التربة في يده وتساقطها كالمطر، تضفي على المشهد حسًّا واقعيًا يجذب القارئ ويغمره داخل القصة.
إلى جانب اللغة الرصينة، تميزت الرواية ببنائها الدرامي المحكم، حيث تتوالى الأحداث بسلاسة دون شعور بالتكلف أو الإطالة غير الضرورية. كلّ مشهد له دوره في تعزيز الفكرة العامة للرواية، مما يجعلها عملًا متكاملًا يستحق القراءة والتأمل. كما أنّ الشخصيات مرسومة بعناية، حيث تعكس تصرفاتها وأفكارها ملامح إنسانية حقيقية، تجعل القارئ يتفاعل معها ويشعر بقربها.
الكاتب نجح أيضًا في توظيف الرمزية بطريقة ذكية، حيث استخدم العناصر الطبيعية، مثل الغراب والحقل، لإيصال معانيَ خفية تتجاوز السرد المباشر. هذه الرمزية تمنح الرواية أبعادًا متعددة، تجعلها قابلة للتفسير من زوايا مختلفة، مما يزيد من قيمتها الأدبية وعمقها الفكري.
من ناحية أخرى، استطاع المؤلف أن يمزج بين الواقع والخيال بأسلوب سلس، حيث تتداخل المشاهد الحقيقية مع الأحداث المتخيلة بطريقة تجعل القارئ يتساءل عن الخط الفاصل بينهما. هذا التداخل يضيف عنصر التشويق، ويدفع القارئ إلى الاستمرار في القراءة لمعرفة المزيد عن هذا العالم الذي خلقه الكاتب.
الرواية تعكس قدرة الكاتب على بناء عوالم سردية غنية بالتفاصيل والدلالات العميقة. هي ليست مجرد قصة تُقرأ ثم تُنسى، بل هي عمل أدبي يترك أثره في ذهن القارئ، ويدفعه إلى التفكير والتأمل في معانيه ورموزه.
الرواية تستحقّ أن تُصنف ضمن الأعمال الأدبية المتميزة، ليس فقط على المستوى الخليجي، بل أيضًا على المستوى العربي والعالمي. إنها رواية تُقرأ بشغف، وتظلّ تفاصيلها عالقة في الذاكرة، مما يجعلها واحدة من تلك الأعمال الأدبية التي تستحق أن تترجم إلى لغات مختلفة.
***
فؤاد الجشي

 

هذه مقالتي الرابعة من سلسلة مقالات نناقش فيها الرواية القصيرة جدًا أو الميكرو نوفيلا، يطلق عليها أيضًا مسميات متعددة مثل الرواية المكثفة، الرواية المصغرة أو الرواية القصيرة القصيرة،
ترجمة انجليزي
الرواية القصيرة جدًا أو الميكرو نوفيلا، يطلق عليها أيضًا مسميات متعددة مثل الرواية المكثفة، الرواية المصغرة أو الرواية القصيرة القصيرة، عندما تضع هذه المصطلحات على موقع من مواقع الترجمة والذكاء الأصطناعي ويمكنكم فعل ذلك سيترجم لنا كالأتي:
The very short novel
or micro novella
or the short short story.
يمكنكم جميعًا الدخول في نقاشات مع" الشات جي بي تي" أو "ديبسيك" أو أي موقع آخر أو البحث على منصات الكتب العالمية، ستجدون عشرات الروايات صدرت في العقود الماضية تصنف بوصف ميكرو نوفيلا، بعض أغلفتها يوجد هذا الوصف وبعضها نجد الصفة في عرض الناشر أو المقالات النقدية وتوجد عشرات النماذج صدرت بداية هذا القرن، كنت اشرت في أحدى مقالاتي لوجود المصطلح في قاموسِ أكسفورد، وتعريفًا للنوفيلا القصيرة: “روايةٌ قصيرةٌ، اسم. قصةٌ متوسطةُ الطولِ لها خصائصُ الرواية. أي ظهرَ المصطلحُ في الأدبِ الإنجليزيِّ منذ زمن بعيد.

عندما نطلع على المقالة الأولى للكاتب العراقي حميد الحريزي، فهو يدعي ابتكار المصطلح ويقول كتب مقالة في 2015 ثم نشر أول رواية قصيرة جدًا في 2019، مدعيًا أنها أول رواية قصيرة جدًا في الكون، نناقش هذه النقطة بموضوعية، نفهم من كلامه أنه ابتكر المصطلح حسب زعمه ثم انتظر أربع سنوات ليكتب أول عمل، ثم توقف ثم نشر إلى أن تواصلنا معه قبل شهور ونظمنا ندوات نقاشية وبدأنا البحث بجدية وكذلك كتبت أربع ر.ق.ج وخمسة أصدقاء نشروا رواياتهم مع الوصف على الأغلفة.
حقيقة تطور النقاش وكان الحريزي يردد نفس الأسطوانة في تعريف المصطلح بأنه نوع جديد هو من ابتكره والرواية القصيرة جدًا ضرورية ورفيقة سفرنا في القطار، خمس أو عشر عبارات يرددها في كل لقاء ومقال وحوار ويطلب من الجميع الأعتراف به ويقول تنظيراتنا واختراعي، طبعًا هو يجهل أو يتجاهل وجود مصطلح الميكرو نوفيلا والتي ولدت ما بين الحربين بحسب مقال الأكاديمي البريطاني ديفيد جيمس، نشر المقال في عام 2009 بعنوان (توطين الحداثة المتأخرة: الإقليمية بين الحربين ونشأة الرواية القصيره) في في مجلة الأدب الحديث.
الحريزي لم يعلم مطلقًا بتجربة الكاتبة الأمريكية نانسي ستولمان وزملاء لها، حيث كتبوا ما يسمى الرواية القصيرة والقصيرة جدا بحجم (100 × 100) أو بحجم (100 × 50) رواية «مئة في مئة»، أي مئة فصل، وكل فصل يكون مئة كلمة فقط. فيكون عدد كلمات الرواية عشرة آلاف كلمة فقط أو خمسون وفصل وكل فصل مئة كلمة
أو (50 × 50) أي خمسين فصل وكل فصل خمسين كلمة فقط أي الرواية تساوي الفين وخمسمائة كلمة فقط.
كذلك ران ووكر، قاص وروائي وأستاذ جامعي أمريكي له روايتين مئة فصل كل فصل مئة كلمة، يذكر أن مصطلح ميكرو نوفيلا ليس جديدا ابدا ولكن الأكثر صعوبة هو الأشكال التجريبية الجديدة والابتكار خلق نصوص إبداعية جديدة وتتجدد عند كل تجربة وهناك عدد قليل كتب بهذه الطريقة وقد جربتها روايتي ليليث وهايل بحجم (100 × 50)، صدرت عن دار أطياف في يناير 2025.
كما أعيد واشير إلى مقال منشور بالقدس العربي بتاريخ 9 سبتمبر عام 2008
بعنوان/قراءة في قصة ‘حلم وردى للكاتب الليبي غازي القبلاوي، بقلم محمد المصراتي، ذكر مصطلح الرواية القصيرة جدًا ووصف أعمال بورخيس واحسان عبد القدوس أنها تندرج تحت خانة ‘روايات قصيرة جداً، أي أن هذا المصطلح متداولا عربيا أيضا قبل أن يعرفه الكاتب العراقي حميد الحريزي وغيره من الذين اصدروا بيان الرواية القصيرة جدًا أو المصغرات.
هذه الإشارات والإستدلالات ليس تلفيقًا مني، تجدونها بسهولة وتجدون مقالات كثيرة باللغة الإنجليزية يتداولون مصطلح رواية قصيرة جدًا لوصف بعض أعمال كتاب مثل: إرنست همنغواي، ألبرت كامو، دونالد بارثلمي، فرانسيسك ميراليس، سارة مازي، خورخي لويس بورخيس، فرانز كافكا، أوغستو مونتيروسو وغيرهم.
حتى على المستوى العراقي نجد أن نقاشات كثيرة حدثت لوصف أعمال حمدي مخلف الحديثي وعلي غازي وراسم الحديثي، هذا حدث قبل 2015، مما يجعلنا نستنتج أن الحريزي التقط المصطلح ثم كتب وهو لا يذكر هؤلاء في تنظيراته الضعيفة جدًا، رغبته ليكون المخترع انساه الأمانة الأدبية والعلمية وحتى عندما يكتب أحدنا ويورد مادة أو غلاف كتاب غربي موجود عليه ميكرو نوفيلا، يقول أننا نجير المصطلح للغرب.
خلال بحثي وجدت احدى المدونات الإبداعية الأدبية الفرنسية تعمل ورش ونقاشات حول الإبداع السردي ومنها الميكرو نوفيلا والأشكال الوجيزة المكثفة، هذه المدونة تأسست قبل سنوات وفيها مقالات ونقاشات وملخص ورش واصدارات.
أختم بالقول نحن في المنتدى العربي الأوروبي للسينما والمسرح والنقاد والكتاب ناقشنا موضوع الميكرو نوفيلا أو الرواية القصيرة جدًا، لتحسين إبداعنا وتشجيع هذا النوع الموجود أصلاً منذ عقود طويلة، ومتابعة الجديد وأشكال تجريبية متجددة، لم يكن هدفنا تتويج فلان أو علان كرائد عظيم أو مخترع عبقري، وعبارة أنا مخترع الرواية القصيرة جدًا، سذاجة والأغرب أن الحريزي أصبح يخدع نفسه ويوهمها أنه العبقري الفذ.
***
حميد عقبي

 

جنكيز إيتماتوف مثل أي كاتب عظيم، خلق كونا كاملا من الصور الفنية والمواضيع والأفكار، تميزت بوجهة نظر ذات بعد أيديولوجي وحتى تنبؤي حاد. أعماله الفنية، ذات قوة تعبيرية جبارة، بثت فيها رؤية الكاتب ـ المفكر للعالم الحياة، وفكره المتسائل والباحث، المحذر للنوع البشري من الخيارات السلبية والقاتلة، وطرح خيارات للتطور تقدم طرق خلاص جديدة
إن علامات إبداعه الأصيلة والعميقة التي تؤثر بصورة فعلية على وعي قرائه، تمثل الصورة الرمزية والاكتشافات الواسعة لإيتماتوف، التي دخلت في زمننا في التداول في حياتنا اليومية. دعونا نتذكر من روايات الكاتب صور «المانكورتي» و«الجينات الوراثية الفوضوية»، فالكاتب أدخل الأحداث الأولى والفصول الأولى والصور الأولى التي لم تعرفها أبدا الثقافية العالمية. فما أروع «فيلوفي الراهب ـ اللاعائد» الفضائي وانتحاره الكوني. إن مغني الجبال والسهوب إيتماتوف، أضفى على العلاقة بالطبيعة، من صميم قلبه، رؤية داخلية وعضوية خاصة
إن مجال الوعي او تكويرة نو، التي تخترق بوضوح خاص، روايات إيتماتوف الأخيرة، غير ممكنة التصور من دون وعي الإنسان بجذور تطوره، ومن دون الشعور بتتابعية الصلة والقرابة مختومة في أقدم الطوطميات والمعتقدات الأسطورية والطقوس القديمة. وليس محض الصدفة أن تكون حيوانات إيتماتوف الوحشية الشهيرة ـ أحد ثوابت إبداعه وإحدى النقاط المرجعية القيمة له. إن أهم التغيرات في الوجود هي واحدة من الشِداد، التي تحمل تصميم عالمه الفني، فروايات وقصص إيتماتوف تفوح بروح العلاقات القديمة بالحيوانات
لنتذكر المرأة ـ السمكة، سلف والدة قبلية نيخفيف التي تمتهن الصيد في رواية «الكلب الأبلق الراكض على حافة البحر»، أو الظبية ـ الأم ذات القرون من رواية «السفينة البيضاء. حينما يتم التخلي عن الأساطير القديمة، تطرح جانبا مشاعر الامتنان لأولئك الأسلاف البعيدين الذين جلبوا بتضحياتهم للوجود إكليلا عقلانيا، حينها يظهر الإنسان ذو البعد الواحد، الوغد المتغطرس والمتبجح الذي لا يتذكر روابط القرابة. إذ أن علاقة الصلة مزدوجة، فهي ترتبط طبيعيا بالآباء والأجداد، والأبعد رأسيا بأدنى مخلوق.
ينشأ في عالم إيتماتوف الفني موضوع الابن الضال بصورة راسخة، الذي يعممه الكاتب إلى حدود رمز الإنسان والبشرية بأسرها، التي تهدد أنشطتها الكوكب بأكمله.
إن دراسة نثر ايتماتوف الناضج تتيح لنا الحديث عن أنه ينطوي على مادة أسطورية وفلكلورية غنية، عالجها الكاتب وراجعها وفق رؤيته. هنا يمكن للمرء أن يميز وحدات فلكلورية/ أسطورية نافذة، من الحافز والباعث المنفرد إلى مجموعة الحوافز والبواعث الراسخة، وبُنى مضامين كاملة تحولت في إطار توجهات الكاتب وإبداعه. في الوقت نفسه تشكل الحوافز والبواعث، سواء المنفردة أو بُنيوية الخط العام للفكرة الرئيسية. إن الأسطورة في أعمال أيتماتوف هي وسيلة للتعبير عن موقفه الأخلاقي ـ الفلسفي من العصر، وهي محاولة للنظر إلى مشاكل البشرية، من خلال منظور الحكمة التي مرّت على ظهورها قرون. إن مضمون الأسطورة، وتنوعها تتيح لنا استعمالها كمفتاح فك شيفرة يخلق مضمونا متعدد الأوجه والطبقات
إن إبداع إيتماتوف يصب في اتجاه أدبي كامل ظهر في ستينيات القرن العشرين، وسُمي اصطلاحا الاتجاه الميثولوجي (الأسطوري). فخصوصية أعمال كتاب هذا الاتجاه، كتاب النثر الريفي، أصبح السعي نحو استكشاف السبب الأول والجذري للكارثة، التي تهدد حياة الناس ومبادئها الأساسية. وبمساعدة الأسطورة والخرافات والمأثورات الشعبية يدخلون في جدل مع العقلانية والبراغماتية (النفعية) للحضارة المعاصرة. وظهرت في الفلكور والأساطير، معايير أخلاقية سجلت ووضعت بصورة مجازية، على مدى قرون. وفي هذا تم اكتشاف نماذج النزاعات في المستقبل التي تندلع نتيجة لانتهاك هذه المعايير التي كان من الممكن أن تكون بمثابة تحذير للمعاصرين والأحفاد. وقال جنكيز إيتماتوف بهذه المناسبة: «لقد اتضح منذ زمن قديم أن الإنسان يحاول حماية الطبيعة من نفسه، وكيف أنه يعكف على هذه المشكلة الأبدية، للحفاظ على ثروة وجمال العالم المحيط». لقد ظهر أن القضية حيوية حتى أن الناس في العالم القديم جسدوها في شكل مآس وتراجيديات، واعتبروا أن من الضروري أن يمارسوا النقد الذاتي لموقفهم من الطبيعة، وعبّروا عن تأنيب الضمير
إن التناص الأسطوري والأسطوري/ السياسي يهيمن على قصص مثل «السفينة البيضاء» و«الغرانيق المبكرة» والكلب الأبلق». إن الصورة الفنية في هذه الأعمال هي صورة الطفل والعجوز، أحدهما لم ينفصل تماما بعد عن الطبيعة البكر، والثاني يقترب إلى الخطوط التي تفصل الوجود الاجتماعي عن الفكر الطبيعي الأنطولوجي. إن تحول الرمز الأسطوري تدريجيا يتسم بالانتقال من الطبيعي إلى مستوى الإدراك العاكس للعالم
ينشأ في عالم إيتماتوف الفني موضوع الابن الضال بصورة راسخة، الذي يعممه الكاتب إلى حدود رمز الإنسان والبشرية بأسرها، التي تهدد أنشطتها الكوكب بأكمله. ليس لدى إيتماتوف إحالات مباشرة إلى القصص التوراتية، ولكن عقدة الابن الضال مع مكوناتها الرئيسية حاضرة في مسار الكاتب الإبداعي. إن فلسفة الأخلاق لنثر إيتماتوف الناضج من المضمون الإيكولوجي يقترب أكثر من موضوع علم الأخرويات. حينما يهدد الدمار ليس فقط الطبيعة الحية، وإنما أيضا الوجود البشري. ويسود في الروايات موضوع مثل نهاية العالم أو موضوع التدمير الذاتي للنوع. على سبيل المثال رفض أجنة ـ كاساندرا الظهور إلى الدنيا، والانتحار الجماعي للحيتان في رواية «ماركة كاساندرا». ولدت هذه الموضوعات في عالم إيتماتوف الفني، بالدرجة الأولى من أساس الفكر الوجودي، وحالة العالم المعاصر، وكوارث العصر.
أسطورة إيتماتوف هي أولا وقبل كل شيء، حكمة الأجداد وتجربة الأجيال التي اختبرتها القرون، التجربة التي تتحول في وعي كل إنسان تبعا لقدراته الروحية وهدفه من التعاطي مع الأسطورة.
إن رواية «ماركة كاساندرا» «هرطقة القرن العشرين»، قريبة من أعمال ما بعد الحداثة في أواخر القرن العشرين، وموضوع بحث إيتماتوف في هذه الرواية يغدو العالم المضطرب الذي يعاني من الخلل وفقدان النظام. وليس من قبيل الصدفة إن الرواية تنتقل إلى الغرب، إلى أمريكا ـ رمز التطور المتسارع للحضارة، حيث لا وجود للجذور القومية الروحية، فحالة الفوضى تسيطر على العالم بأسره، ويسود هنا الوعي بعبث الحياة، الذي ينحصر في الاعتقاد بأن الإنسان فقد السيطرة على الوجود. ولكن لا يجوز إدراجه من دون شرط في أدب ما بعد الحداثة، نظرا لأنه لم يجر تدمير الأسطورة، ولا تغدو وسيلة في لعبة الكريات الزجاجية، بل على العكس من ذلك، إن الأسطورة تنظم السرد.
تكمن في أساس فكرة الكاتب الفنية مأساة الخيار الشخصي، مأساة قدر الإنسان. ويتغلب إيتماتوف خلال عمله على العدمية. إن رواية «ماركة كاسندارا» ـ هي مصير إشاعة الإنساني في المجتمع المعاصر الممزق في فضاء افتراضي. وعلى الرغم من وفاة صاحب نظرية جينات ـ كاساندرا، يؤكد الكاتب على أنه لا يجوز التوقف عن التفكير. إن اكتشاف فليوفي يشهد على بداية حقبة جديدة في تطور البشرية. وكان هدف فن إيتماتوف دائما إيقاظ شعور الإنسان بالجمال والخير والحب لكل ما يحيط به. والأسطورة بالنسبة له هي وسيلة لفهم العالم غير المستقر، بل إنه المطلق الذي يمكن أن يكون معيارا لتقييم الحقيقة والكذب في تيار الواقع التاريخي. إن أسطورة إيتماتوف هي أولا وقبل كل شيء، حكمة الأجداد وتجربة الأجيال التي اختبرتها القرون، التجربة التي تتحول في وعي كل إنسان تبعا لقدراته الروحية وهدفه من التعاطي مع الأسطورة.
كتب ميخائيل باختين إن تحضير أعمال الأدب العظيمة يجري على مدى قرون، وفي حقبة إبداعها يجري فقط قطف الثمار اليانعة لعملية نضج طويلة ومعقدة. إن محاولة فهم وتأويل العــــمل الفــــني بالاعتمـــاد وحسب على ظروف عصرها، وفقط بالاعتـــماد على ظروف الزمن القريب، لن تجعلنا نخترق عمق دلالاتها، لذلك دعونا نقول إن الأسطورة في إبداع إيتماتوف هي مرحلة طبيعية وعضوية لفهم الإنسان لمصيره ومكانه في التاريخ، من خلال منظور تجربة القرون التي اُدرجت في الأساطير.
***
د. فالح الحمراني

"من باب توأمة البصيرة والبصر..."

كنت قد كتبت في المدخل الى هذه القصيدة المثيرة وفي الفقرة الأخيرة.. باننا "سنبحر مع الشاعر جمال مصطفى في قراءة "بانوراميته" ... بالتفصيل.."، واليوم نبدأ بالمقاطع من (21ـ 30)..
"حين تكون القصيدة مفتوحة كأفق وملمومة كقطرة ماء"

القسم الرابع: من باب توأمة البصيرة والبصر..." (4)
لغزُ الجمال وسِرُّ الأبدية
(21)
"مِن بابِ لُغْزى في الكتابِ

بأنها عذراءُ ساحِرةٌ جميلَةْ

في البرجِ حُجْرَتُها تُطلُّ على الفراتِ،

يَفُضُّها مَن يستطيعُ لِلُغْزِها حَلّاً

ولكنْ

لَمْ يَفُزْ أحَدٌ فَعاشَتْ هكذا في البرج

عذْراءً وساحرةً جليلةْ"

الطهارة والسحر:
يتوهّجُ هذا النص بإشراقاته الرمزية، حيث تتشابكُ الأسطورة بالتاريخ، والدين بالفكر، ليشيّد الشاعر معمارًا لغويًا مدهشًا، يحتضن أبعادًا فلسفية وإنسانية عميقة، مستنطقًا سِرَّ الأنوثةِ المتعالية، والحكمةِ التي تستعصي على الامتلاك.
ففي قلب البرج، المطلِّ على الفرات، تستقرُّ العذراءُ الساحرة، جميلةٌ في حضورها، مهيبةٌ في صمتها، وكأنها تجسيدٌ لسرٍّ أزليٍّ لا يُدرك إلا بالمكاشفة الروحية. إنها ليست مجرد امرأة، بل كيانٌ ميثولوجيٌّ ينهلُ من عوالم المعرفة السرّانية، من "باب لُغزى في الكتاب"، حيث يتماهى وجودُها مع النصوص المقدّسة، لتظلَّ لغزًا يُغرِي العقول، ويستفزُّ التوقَ الإنساني نحو الإدراك..
البرجُ هنا ليس مجرّد حصنٍ منيع، بل استعارةٌ للسموّ المعرفي، للعزلة التي لا تُبتَر، لحقيقةٍ لا تُفضّ إلا لمن يملك مفتاح الفهم العميق. "يَفُضُّها مَن يستطيعُ لِلُغْزِها حَلّاً"، لكن أحدًا لم يفلح، فبقيت العذراءُ في سموِّها، تتأرجحُ بين الجمال والغموض.. بين الإغواء والنقاء.. بين الانكشاف والاحتجاب، كأنها طيفُ الحكمةِ المتجلّية، تظلُّ بعيدة المنال، خالدةً في برجها، حيث لا يطولها إلّا مَن أدرك أسرارَ الوجود..
فاللّغز الذي يطرحه النصّ ليس مجرد أحجية أدبية، بل استعارة كبرى للصراع الإنساني مع المعرفة، وللمعركة الأزلية بين الطموح الإنساني والقدر المحتوم.

جدلية البراءة والانفتاح على التجربة
(22)
"عن نَحلَةٍ في البُرْجِ

إنَّ صديقَها فَرَسَ النَبي

كانَتْ لهُ في البُرجِ شِبْهُ جُنَيْنَةٍ

فيها مِن الخَشْخاشِ ما يَكفي

تَعالي جَرِّبي "

نحلة البرج:
الانزياحات الرمزية المكثفة في هذا المقطع تجمع بين الطبيعة والمقدّس، البراءة والتجربة، العزلة والانفتاح، في مشهدٍ تتداخل فيه الكائنات والأزمنة لتشكل عالمًا شعريًا مدهشًا.
يبدأ الشاعر برسم صورة: "نَحْلةٍ في البُرْجِ"، في مشهد يوحي بالتناقض، إذ يجمع بين الكائن الحرّ الطليق والمكان المغلق الذي يحمل في ذاته معاني العزلة والسموّ. لكن هذه النحلة ليست وحدها، بل ترتبط بعلاقة فريدة مع "فَرَسَ النبي"/ السرعوف.. ربما أراد الشاعر من هذا الكائن/ الحشرة ان يحمله دلالات دينية او رمزية استنادا الى ورود كلمة " النبي".. فيمنحه ما يُذكِّر بالصبر والزهد والعلاقة الخاصة بالسماء. هذه الصداقة تخلق جسرًا بين الأرضيّ والروحيّ، بين الفطريّ والميتافيزيقيّ، حيث النحلة رمزٌ للعمل الدؤوب والتلقيح والخصوبة، بينما فرس النبي رمزٌ للتأمل والانتظار المهيب.
ثم يفتح الشاعر نافذة على المكان كجنّة صغيرة، فيقول: " كانَتْ لهُ في البُرجِ شِبْهُ جُنَيْنَةٍ"، حيث يتجاوز البرج كونه مجرد بناء حجري، ليصبح مكانًا حيًّا، نابضًا بالطبيعة، ومساحةً تجمع التناقضات في تناغمٍ خفيّ. ويعمّق الشاعر هذه الفكرة بذكر "الخشخاش"، وهو نبات ارتبط تاريخيًا بالراحة والنسيان والسموّ الروحي، مما يضيف بُعدًا صوفيًا، وكأنه دعوة للانغماس في حالة من التأمل والانفتاح على التجربة الداخلية.
ويأتي النداء الأخير: "تَعالي جَرِّبي"، ليفتح باب الدعوة إلى الآخر.. النحلة او سواها.. المخاطَبة المجهولة، ليكون الختام تحفيزًا لاستكشاف هذا العالم السحري والتفاعل معه، وكأن الشاعر يهمس: "البرج ليس سجنًا، بل تجربة، جنة مخبّأة تحتاج لمن يكتشفها".

البصيرة في مرايا العمى
(23)
"في حُجْرةِ العمْيانِ لو دخلَ البصيرُ

يَصيرُ أعمى،

هيَ كُلُّ ما فيها مَرايا

لا يَرى العمْيانُ صورَتَهُمْ ولكِنْ

ما عَداها يُبْصِرونْ

فيها جميعَ وكُلَّ ما قد يَشتَهونْ"

حجرة العميان:
يأخذنا هذا المقطع الشعري إلى فضاءٍ فلسفي عميق حيث تتداخل الرؤية والعمى.. البصيرة والوهم.. الإدراك والحقيقة، في صورةٍ شعرية مدهشة تتلاعب بالمفارقات ببراعة.
يبدأ الشاعر بتقديم مشهد مهيب: "في حُجْرةِ العمْيانِ لو دخلَ البصيرُ يَصيرُ أعمى"، حيث تتجلّى أولى مفارقات النص.. فالعجز عن الرؤية لا يعود مجرد عطبٍ جسدي، بل هو حالة مكتسبة، يفرضها المكان وقوانينه. إننا أمام قلبٍ جذريٍّ للمفاهيم، حيث تتحوّل البصيرة إلى عمى بمجرد دخول عالمٍ تحكمه قوانين أخرى، وكأن المعرفة والجهل يتبادلان الأدوار حسب السياق.
ثم يكشف الشاعر سرّ هذه الحجرة: "هي كُلُّ ما فيها مَرايا"، وهنا تبلغ الرمزية ذروتها. فالمرآة رمزٌ للرؤية، لكنها أيضًا سجنٌ للوهم، وفخٌّ للذات الباحثة عن صورتها. غير أن المفارقة الأدهى أن العميان لا يرون أنفسهم، لكنهم يبصرون كل شيء آخر، في مشهد يذكّرنا بمفهوم الحقيقة في الفلسفة الأفلاطونية، حيث الرؤية ليست دائمًا إدراكًا، والعمى ليس دائمًا فقدانًا للمعرفة.
وأخيرًا، يأتي السطر الختامي: "فيها جميعَ وكُلَّ ما قد يَشتَهونْ"، ليكشف عن البعد الإنساني العميق للنص؛ إذ لا شيء ينقص العميان سوى رؤية أنفسهم، وكأن إدراك الذات هو الغياب الأشدّ وطأة، وهو العمى الحقيقي الذي لا يُعوَّض برؤية أي شيء آخر.
بهذا، يقدّم الشاعر تأمّلًا فلسفيًا عن الإدراك والوجود، حيث لا يكون العمى في فقدان البصر، بل في فقدان رؤية الذات في مرايا الحقيقة.

طقوس الماء والنظر
(24)
"في الصيْفِ في السَنةِ الكبيسةِ

يومَ مَوْلِدِ عشْتَروتَ وعرْسِ بابِلْ

في مهْرَجانِ الليْلة البيضاءِ أو سَهَرِ العنادِلْ

قبْلَ الغروبِ،

البرجُ تَصعدُهُ النواظيرُ التي حَملَ الرجالُ

رجالُ بابلَ كُلُّهُمْ أوْ جُلُّهُمْ عندَ المساءْ

لِيُشاهدوا غَسْلَ العريسِ البَدْرِ

يَسبحُ في الفراتِ معَ النساءْ"

بابلُ تحت ضوء البدر:
إلى عالمٍ طقوسيٍّ مهيب، يأخذنا هذا المقطع حيث تتلاقى الأسطورة والتاريخ وفي مشهدٍ يحتفل بالحياة والماء والنظر.. إنّه نصٌ يفيض بالرمزية والإيحاء، إذ يحشد الشاعر فيه دلالات دينية، اجتماعية، وفلسفية، ويعيد صياغتها في لوحةٍ شعريةٍ فاتنة.
الأسطورة والتاريخ: الزمن المقدّس
يبدأ النص بالإشارة إلى "الصيف في السنة الكبيسة"، حين يلتقي الزمن الدنيوي بالزمن المقدّس، في لحظةٍ استثنائيةٍ تتقاطع فيها الولادة (مولد عشتروت) مع الاتحاد (عرس بابل). وهنا، عشتروت، إلهة الحب والخصب، ترمز للولادة الجديدة، في حين أن بابل تمثل الحاضرة الكبرى، بكل ثقلها التاريخي والأسطوري.
الليلة البيضاء: الطقوس والرموز في برج بابل
يأخذنا هذا المقطع الشعري إلى عالم الاحتفالات المقدسة، والطقوس الغامضة، حيث يتشابك الزمن الأسطوري بالتاريخي، والروحاني بالحسيّ، في مشهدٍ يموج بالحياة والرمزية العميقة.
الرؤية والنظر: سُلطة الرجال وسحر النساء
يكتسب المشهد بعدًا بصريًا طاغيًا، حيث: "البرجُ تَصعدُهُ النواظيرُ التي حملَ الرجالُ" النواظير هنا ليست مجرد أدواتٍ للرؤية، بل رمزٌ لسلطة المراقبة الذكورية التي تتحقق في احتشاد "رجال بابل: " عند المساء، يترقبون طقسًا لا يخلو من الدهشة والمهابة: "لِيُشاهدوا غَسْلَ العريسِ البَدْرِ يَسبحُ في الفراتِ معَ النساءْ.. الماء هنا فضاءٌ للتطهير والانبعاث، لكنه أيضًا ساحةُ الانكشاف، حيث يتجلى العري الطقوسي كجزءٍ من الطهر والاحتفال.
المرأة والماء: ثنائية التطهير والانعتاق
يحمل الماء في هذا المشهد دلالة مزدوجة، فهو وسيلة التطهير الطقسي، لكنه أيضًا مساحةٌ للتحرر والذوبان. إنّ اختلاط البدر بالماء، وغسله في حضور النساء، مشهدٌ يُعيد إلى الأذهان طقوس الإخصاب القديمة، حيث تلتقي السماء بالأرض، ويستعيد الإنسان صلته بالكون الأولي.
الرمزية العميقة: ولادة الضوء في الماء
في النهاية، يمكن قراءة هذا المقطع كقصيدةٍ تحتفي بولادة الضوء في الماء، وبإعادة صياغة العلاقة.. بين الذكر والأنثى.. بين المقدس والمدنس.. بين الرؤية والانكشاف. كل شيءٍ في النص يبدو محكمًا ومتداخلًا في شبكةٍ من الرموز العريقة التي تجعل منه قصيدةً طقوسيةً تُعيد إحياء ميثولوجيا بابل برؤية حداثية آسرة.

ارتقاءٌ من اللوح إلى القلب
(25)
"يا بابَ أبوابِ الكتابِ اللوحِ

والمُغْني عن

الأبراجِ،

والأعشابِ أجْمَعَ،

والأطِبَّةْ

يا بابَ (حَيَّ على المَحَبَّةْ)"

بابُ المعرفة والمحبة:
قدرات الشاعر الإبداعية والفكرية تتجلى بالاستناد إلى لغة خصبة ورمزية تنضح بالدلالات الصوفية والتأملات العميقة. حين يستهل خطابه بنداءٍ احتفائي إلى "باب أبواب الكتاب اللوح"، وكأن الشاعر يُخاطب أصل المعرفة، وجوهر الحكمة الأولى (وبهذا فهو يعيدنا الى النص الأول من البارانوما: " قد جاءَ في ديباجةِ اللوحِ الكتابِ بِأنّهُ.. ").. هذه العبارة تحمل ثِقَلًا دينيًّا وفلسفيًّا، حيث يلتقي الكتاب الإلهي باللوح المحفوظ، في صورةٍ تعيدنا إلى مركزية الكلمة كمنبعٍ للمعرفة والوجود.
الكتاب واللوح: المعرفة الكونية
يمنح النصُ البابَ صفةَ التجاوز، فهو "المُغني عن الأبراجِ، والأعشابِ أجْمَعَ، والأطِبَّةْ". هنا، يبدو الشاعر وكأنه يضع المعرفة المقدّسة في مقام أعلى من العلم الدنيوي، حيث يصبح "الباب" رمزًا للخلاص الكلّي، مغنيًا عن الحاجة إلى الوسائل البشرية التقليدية للبحث عن الحقيقة أو العلاج.
البعد الصوفي: المعرفة بوصفها محبة
يصل النص إلى ذروته العاطفية والروحية حين يقول: "يا بابَ (حَيَّ على المَحَبَّةْ)". هنا يتحول الباب من كونه مدخلًا للمعرفة إلى بوابةٍ للحبّ، في إشارةٍ تمزج بين الدلالة الدينية والإنسانية. فكلمة "حَيَّ" تستدعي الأذان الإسلامي، لكنها تتجاوز النداء التقليدي للصلاة نحو دعوةٍ أسمى، حيث تكون المحبة هي الغاية العظمى للوجود.. وهو الامر الذي نراه منعكسا كنفحة في طريق الوجد الصوفية..
الرمزية العميقة: بين الدين والإنسان
يُعيد النص تشكيل العلاقة بين العقل والقلب، بين المعرفة والمحبة، ليضع المحبة في قمة الهرم الروحي، باعتبارها الغاية النهائية التي تتجاوز كل وسائل الفهم الأخرى. بهذا المعنى، يكتسب الباب بعدًا رمزيًا يتجاوز كونه مدخلًا للحكمة، ليصبح رمزًا للخلاص العاطفي والروحي.
إنه نصٌ يتوهّج بالدلالات العميقة، حيث تتضافر الرمزية الدينية والفلسفية مع أبعادٍ إنسانية صافية، ليصبح "الباب" مدخلًا للحكمة، لكنه أيضًا دعوةٌ مفتوحة للحبّ، باعتباره أسمى أشكال المعرفة.

رحلة الهبوط إلى الذات
(26)
"في سرّةِ البُرجِ البليغِ وأنتَ تَصعدُ:

حُجْرةُ الفُصْحى هناكَ، بَناتُها مِن حَوْلِها

سَبْعٌ وسبعونَ انغماسةَ لثْغةٍ

في ريقِ مَرْشَفِها الذي فَتَن الإلهْ

يا بُلْبُلاً قد عَلَّقَتْهُ على حبال غرامِها حتّى اعتَراهْ

طَرَبُ الهبوطِ الحُرِّ

مِن

آهٍ

لِ آهْ

يا بُعْدَ سدْرةِ مُنْتَهاهْ"

آهات البرج:
تتجلى هنا قدرات الشاعر الإبداعية والفكرية، حين يستند إلى لغة خصبة.. ورمزية تنضح بالدلالات الصوفية والتأملات العميقة.. فهو يبدأ بمشهد صعودي إلى: "سرّة البرج البليغ"، وهو مكانٌ مهيب.. إذا اخذنا بانزياحات مفهوم السرة وعلاقتها بالحبل السري، الذي يستمد منه الجنين حاجاته المادية، فمعناها هنا هو السمو في الترقية الروحية أو الفكرية..
وفي حجرة الفُصحى، يلتقي الصعود بالهبوط، وما ترمز اليه الفُصْحى من قمة التعبير اللغوي وأسمى درجات الفهم لقداسة اللغة، حيث تمثل هذه الحجرة موطن الفصاحة والبلاغة، ثم يأتي ذكر: " بَناتُها مِن حَوْلِها سَبْعٌ وسبعونَ انغماسةَ لثْغةٍ" ليرمز إلى الأجيال التي حملت لواء اللغة عبر الزمان.. فالرقم سبعٌ وسبعون يتناغم مع طقوسٍ مليئة بالتكرار واللذّة اللغوية. (وقد يعني بها اللهجات المحلية وذائقتها المتجلية بفرادتها ولذاذتها وامتلاء مفرداتها بالدلالات.. راوية حكاية الاندغام والتشابك في المعاني والإنزياحات). ويُختتم الشطر بتفسير هذه الفصحى التي فتن بها الاله: "ريق مرشفها الذي فتن الإله". هذه الصورة تعكس تأثير اللغة بوصفها سرًا إلهيًا خفيًا لا يدركه سوى التأمل العميق.. حيث يبدو أن اللغة تتجاوز عالم البشر لتغدو وسيلة تواصل بين الإلهي والإنساني، كقوة تأثير شعورية ومعنوية على الذات، بما في ذلك التمرد على الأطر الثابتة للواقع..
ثم يتحول النص فجأة إلى صورة شعرية مع "البُلْبُل" الذي يبدو فيه كرمز للحب الأسير الذي يعاني لذة السقوط الحر في بحر الشوق الإلهي.. ليحكي عن الألم والنشوة. هذا التحول يشير إلى التوتر بين الحرية والمأسَاة.. الطرب والدمار.. بين النشوة والشجن.. الذي ينتهي بموال „آهٍ لِ آهْ" الذي يشكل تكرارًا موسيقيًا يخلق نوعًا من التموج الشعوري بين الطرح الفلسفي والوجداني، او تكملة للإيقاع الموسيقي/ العروضي.. كالمواويل المتنوعة، التي ترد في اغانينا التراثية والتي تمنح المرء لحظة حبور وتهلل.. لا تضاهيها اية لحظة سوى عويل المسرة.. وكأن المستمع اليه يفز من سبات المّ به او حلم راود يقظته.. انها الرحلة الوجدانية التي لا تنتهي، لينبثق أخيرًا "يا بُعْدَ سدْرةِ مُنْتَهاهْ"، مذكّرًا بالحدود النهائية للعقل البشري في بحثه عن المعرفة، وهي رمز للحقيقة النهائية التي لا يمكن الوصول إليها إلا بالتسامي الروحي.
الرمزية في النص تضيء العلاقة بين الكلمات والمشاعر.. الصعود والهبوط.. الحب والخيانة.. النثر والشعر، مما يجعل البرج مجازًا للوصول إلى درجات عالية من الوعي، لكن في الوقت ذاته يَكشف عن الصراع الداخلي في التذبذب بين الغبطة والأسى.. بين الفرح والألم..

ضيق الاختلاف وسعة اللامحدود
(27)
"هيَ حجرةٌ للأنبياءْ

زرْقاءُ: سُرّةُ ما وراءْ

يَتَجادلونَ على طبيعَة ذلك المعبودِ رَبّا

سرعانَ ما ضاقتْ بهِمْ:

كُلٌّ يُريدُ مِن المُهندسِ حُجْرةً

قالَ: ابشروا سعَةً ورَحْبا"

حجرة الأنبياء:
بمشهد مهيب وغامض يمزج هذا المقطع بين الأبعاد الفكرية والرمزية والدينية، ليقدم رؤية عميقة تأملية تعبر عن صراع البشر الأزلي مع المفاهيم الإلهية والوجودية. استهلال النص بعبارة "هيَ حجرةٌ للأنبياء" يرمز إلى مكان مقدس، حيث تتلاقى العقول المستنيرة بالنبوة في مساحة فكرية وروحية، مما يشير إلى وجود فضاء معرفي مخصص للبحث عن الحقيقة المطلقة.
ثم ان وصف حجرة الأنبياء "زرْقاءُ: سُرّةُ ما وراءْ" يضفي بعدًا كونيًا على هذا المكان، فهو رمز لما هو أبعد من الإدراك الحسي، اللون الأزرق، لون الغيب الذي يلفّ الكون بأسراره.. رمز السموّ واللامحدود.. ولكنها "سرّة ما وراء"، أي مركز ما يتجاوز المحسوس والمعروف، وكأنها بؤرة تجمع الغيب والتأويلات المفتوحة.. حيث تبدأ التساؤلات الفلسفية حول طبيعة الإله.. وبتعبير الشاعر "يَتَجادلونَ على طبيعَة ذلك المعبودِ رَبّا" عاكسًا النزاع الفكري العميق الذي يعيشه الأنبياء والبشر، بحثًا عن إدراك ماهية الإله.
هذا المشهد يحاكي تاريخ الفكر الديني والفلسفي، حيث يتنازع المفسرون والمفكرون حول الجوهر الإلهي، كلٌّ يبحث عن حقيقة تستوعب رؤيته. لكن سرعان ما تتحول الحجرة إلى رمز لضيق".. الاختلاف".. ضيق الإنسان تجاه تعددية الآراء وتفسيراته المحدودة للعالم الروحي، الذي "سرعانَ ما ضاقتْ بهم"، وكأن التأويلات لا تتسع للجميع رغم اتساع المعنى المطلق.
ولكن الشاعر يلخص الحل من خلال المهندس "كُلٌّ يُريدُ مِن المُهندسِ حُجْرةً"، حيث المهندس هو رمز للحكمة الإلهية التي تسع الجميع وتمنحهم الأمل في التوافق من خلال التعددية في الأفكار والرؤى.. أو ربما للإنسان نفسه، الساعي إلى إيجاد فضاء تتسع فيه الرؤى المختلفة.. "ابشروا سعَةً ورَحْبا" حيث يتحول الضيق إلى رحابة للفهم
ان النص يحمل عمقًا فكريًا ودينيًا بشكل لا يخفى عند المتأمل المتأني، لأنه يتناول إشكالية الاختلاف داخل الوحدة.. والصراع بين المطلق والنسبي، كما يُبرز التناقض البشري بين البحث عن الحقيقة والرغبة في امتلاكها، في لغة ترميزية كثيفة ومشحونة بالدلالات الفلسفية واللاهوتية.

الحكمة الطائرة بين الأرض والسماء
(28)
"هيَ قُبّةٌ فَلَكيّةٌ أمْ مَكْتَبَهْ؟

إدريسُ حُجْرتُهُ تَطيرُ كَمَركبَهْ!

ويُقالُ: شُوهِدَ مَرّةً يَمشي

وسطحُ البرجِ لا أحَدٌ عليهِ سواهُ حتى

ويُقالُ والأقوالُ عن إدريسَ شَتّى:

الحُجْرةُ انتُهِبَتْ وأُفْرِغَتْ الرُفوفْ"

إدريس ومركبته:
يتسم هذا المقطع بجماليات لغوية وصوفية عميقة، حيث ينفتح على تساؤل يحمل بعدًا معرفيًا وكوزمولوجيًا: "هي قبةٌ فلكيةٌ أم مكتبة؟"، ليضع القارئ أمام تأرجح رمزي بين العلم السماوي والتدوين الأرضي.. ليُبرز بشكل رمز، فكرة المعرفة والارتقاء الروحي في إطار فلسفي وديني.. بين الفلك بوصفه لغة الكون.. والكتاب بوصفه لغة الإنسان.. هذا التساؤل يعكس التداخل بين المعرفة الدنيوية والحكمة الكونية، في إشارة إلى إدريس، النبي الذي رفع إلى السماء، والذي يُنسب إليه الكتابة والعلم والخط والصناعة، فيتحول إلى جسرٍ بين الأرض والماوراء..
الحجرة التي يسكنها إدريس ليست حجرة جامدة، بل كيانٌ متحرك، مركبةٌ تطير.. "إدريسُ حُجْرتُهُ تَطيرُ كَمَركبَهْ!"، فإننا نرى صورة ديناميكية، حيث تتحول الغرفة إلى مركبة، في إشارة إلى سفر إدريس بين العوالم المادية والروحية، مما يعكس قدرة العقل المستنير على التنقل بحرية بين الأفكار والرؤى.. أنها تجسيد للمعرفة في حالتها القصوى، حيث لا تسجنها جدران ولا تحدها المسافات.. بين العوالم الكونية والعقلية.. ليُبرز أن الفضاء ليس مجرد موقع مادي، بل هو مكان معرفي يتجاوز الأبعاد الفيزيائية. اما حين يقول الشاعر: "ويُقالُ: شُوهِدَ مَرّةً يَمشي وسطحُ البرجِ لا أحَدٌ عليهِ سواهُ" تحمل دلالات عميقة حول العزلة التي تميز الباحثين عن الحقيقة المطلقة، فإدريس هنا رمزي لمن يسير على درب المعرفة منفردًا، عابرًا الحدود بين الأرض والسماء.
لكن الجانب المأساوي يظهر في المفارقة، التي تكمن في أن هذه الحجرة قد "انتُهِبَتْ وأُفْرِغَتْ الرُفوف"، وكأن الحكمة السماوية قد سُرقت أو تلاشت، أو أن المعرفة التي كانت تتوهج قد طُمست بفعل الزمن أو النسيان.. او أن الشاعر يشير هنا إلى ما فقدته الحضارة الانسانية أو المعرفة العظيمة التي كانت يوما ما تزخر بها البشرية، نتيجة الحروب والصراعات (ولنا ان نتذكر ما فُعل في بغداد على يد المغول وما حصل لمكتبة الإسكندرية وسواهما).. مما يعكس الألم الإنساني المرتبط بضياع الحكمة.
النص يحمل رمزية عميقة تتجاوز الحدث الظاهري، فهو يتأمل في مصير المعرفة، في ارتباطها بالزمن، وفي تحول الحكيم إلى أسطورة، محاطًا بأقوالٍ "شتى" قد تُزيده حضورًا أو تُلقي به في ضباب الحكايات.. بلاغيًا، تتراقص الأبيات بين الإخبار والتأمل.. بين الحركة والثبات.. بين الغموض والوضوح، مما يجعلها تنبض بجدلية الوجود والمعرفة والمصير الإنساني.

" الفراغ المضيء بين الإيمان واللاإيمان
(29)
"هيَ حجرةُ البوذا صغيرهْ

ليستْ مؤثَّثةً

إذا دخَلَ المُريدونَ الحُفاةُ تَرَبّعوا:

بِاللهِ تُؤمِنُ؟ يَسألُ الكُفّارُ بوذا

أيْ نَعمْ كانَ الجوابْ

بِاللهِ تُؤمِنُ؟ يسألُ العُبّادُ بوذا

لا ولا كان الجوابْ

هيَ حجْرةُ البوذا منيرهْ"

حجرة بوذا:
تأخذنا هذه الأبيات إلى حجرة بوذا الصغيرة، لكنها رغم صِغَرها، تتسع لمفارقات كبرى تتعلق بالوجود والإيمان والتناقضات الظاهرية في الفكر البشري. فهي "ليست مؤثثةً" وكأنها تجسد الزهد المطلق، والفراغ الذي يحمل الامتلاء الروحي في طياته، مما ينسجم مع مفهوم التخلي الذي يميز تعاليم بوذا، حيث الفراغ ليس نقصًا بل فضاءً للتحرر من الماديات.
ثم تتجلى أعظم الجدليات حين تتقاطع أسئلة الإيمان واللاإيمان، ليكون بوذا نفسه مرآةً تعكس التناقضات البشرية. حين يسأله "الكفار" إن كان يؤمن بالله، يجيب: "نعم". وحين يسأله "العُبّاد"، تكون الإجابة: "لا ولا". هنا يكمن التلاعب العميق بالثنائيات التقليدية، فبوذا لا ينتمي إلى يقين محدد، بل يتجاوز الفهم الضيق للإيمان والإنكار، مما يجعل إجاباته صدى لحكمة تتجاوز التصنيف القاطع.. فالحقيقة الإلهية في الفلسفة البوذية ليست مطلقة، بل مرنة، وهذا يعكس تباين الرؤى حول الله والوجود.
رغم الحيرة التي يثيرها هذا التعارض، فإن حجرة بوذا تظل "منيرة"، وكأنها تُعلن أن الحقيقة ليست في الجواب، بل في النور الكامن في السؤال ذاته. إنها حجرة التأمل المطلق، حيث تتلاشى ثنائية الإيمان واللاإيمان، ليبقى النور وحده الحقيقة الوحيدة.. لأنه نور الحكمة الداخلية والمعرفة الروحية المتحررة من الظلام الداخلي.

معجزة الشفاء وزهرة الثالوث
(30)
"هيَ حجْرةٌ ليسوعَ

تَعرفها لأنَّ أتانَهُ بالبابِ واقفةٌ

وتعرفها لأنَّ قبْلَكَ أعرَجاً

شاهدْتَ يَدخلُها ويَخرجُ غيرَ أعرجْ

هي حجْرةٌ لِيسوعَ تَعرفها

لأنَّ قلادةً مِن زهرة الثالوثِ

ألطَفَ زهرةٍ روحاً بِعائِلةِ البَنفسجْ

تُرِكَتْ هُناكَ مُعَلَّقَه"

حجرة يسوع:
يتجلى في هذا المقطع الشعري بعدٌ رمزي عميق يتشابك فيه اللاهوتي بالإنساني.. والمعجزي بالطبيعي، في مشهد متخم بالدلالات الروحية والفلسفية. فالحجرة التي تُنسب إلى يسوع ليست مجرد مكان، بل فضاء ميتافيزيقي تتجسد فيه المعجزة، ويُضاء فيه المعنى من خلال الرموز الموحية بالشفاء والتطهير الروحي.
يبدأ النص بتأكيد هوية المكان عبر العلامات:
"هيَ حجرةٌ ليسوعَ / تَعرفها لأنَّ أتانَهُ بالبابِ واقفةٌ".
يثير شعورًا بالتقديس والرهبة، فتلك "الحجرة" ليست مكانًا عاديًا، بل رمزًا للمكان المقدس الذي تتجلى فيه معجزاته.. وأتانه هنا ليست مجرد دابة، بل إشارة قوية إلى المسيح بوصفه انسانًا وديعًا ومتواضعًا، كما في دخوله أورشليم، حيث كان الأتان رمزًا لحكم الرحمة لا القوة.. والبساطة مع العمق الروحي. ثم تأتي المعجزة مضمرةً ولكنها حاضرة بقوة:
"لأنَّ قبْلَكَ أعرَجاً / شاهدْتَ يَدخلُها ويَخرجُ غيرَ أعرجْ".
هذا المرور السريع على معجزة الشفاء، دون تفاصيل، يعزز أثرها العجائبي من خلال الإيحاء لا التصريح، بان التحرر من القيود الجسدية والروحية لا يمثل الا تجربة التحول الداخلي، وكأن الحجرة هي مكان الانبعاث الروحي والتحرر من الألم.. وكأن القارئ يشارك في اكتشاف السر الكامن في الحجرة.
لكن الإشارة الأكثر عمقًا تكمن في "قلادةً مِن زهرة الثالوثِ / ألطَفَ زهرةٍ روحاً بِعائِلةِ البَنفسجْ / تُرِكَتْ هُناكَ مُعَلَّقَه"
زهرة الثالوث، تلك الزهرة البنفسجية التي ترمز في المسيحية إلى التواضع، الحزن، الفداء، او الثالوث المقدس (الآب والابن والروح القدس).
ان لون البنفسج هنا ليس مجرد تفصيل، بل يشير إلى الألم المختلط بالأمل، وإلى الصفاء الداخلي المستمد من التجارب الصعبة. الزهرة "معلّقة" هناك كأنها أثر مقدس، مما يعزز الطابع الصوفي للنص.
إنها هدية مقدسة، أثرٌ من يسوع، وعلامة على بقاء الروح حتى بعد الرحيل. فالزهرة المعلقة في الحجرة كأنها صلاة صامتة، أو ذكرى من عالم الغيب، أو بقايا نور لم يخبُ بعد.
النص ينسج بعدًا فلسفيًا واجتماعيًا وإنسانيًا عبر الغياب والحضور.. المعجزة والرمز.. المادي والروحاني، ليجعل حجرة يسوع ليست مكانًا مغلقًا بل مزيجًا متوازنًا من العمق الروحي والرمزية الدينية، وفضاءً مفتوحًا على الإيمان والتأمل والتجدد والدهشة.
***
طارق الحلفي
......................
* رابط القصيدة
https://www.almothaqaf.com/nesos/971491
* رابط المدخل
https://www.almothaqaf.com/readings-5/979452
* رابط القسم الاول
https://www.almothaqaf.org/readings-5/979564
* رابط القسم الثاني
https://www.almothaqaf.com/readings-5/979680
* رابط القسم الثالث//
https://www.almothaqaf.com/readings-5/979779

تعدد الأهواء السردية بتعدد الأمزجة الشخوصية

توطئة: تجسد الأحداث في رواية (البعوض) للكاتب الأمريكي وليم فاكنر، ترجمة جمال الدين الرمادي، ذلك النوع من التشكل الوقائعي بفكرة جعلت ترتبط بعنصري الزمان والمكان بصورة قائمة في حدود تركيز الحكي على وقائع ذات ملامح تقترب من حياة الأهواء والأمزجة الفردية، تفردا يجعلها متعددة في أدوارها وتنقلاتها القائمة بطريقة البناء الاستعراضي في الفنون التراجيديا، وهذه الوقائع لربما بدا من جهة عامة متنامية غير أنها من جهة خاصة تبدو غير دالة عن فحوى ركيزة مدلولية معتمدة، فهي بكل الاحوال رواية لا تحظى بأهمية أدب فوكنر الروائي الكبير، بقدر ما تبرز في كونها محض سلوكيات تمثل فئة من الشخصيات الارستقراطية التي تجمعها واقعة مكانية متحركة في فلك ذلك اليخت العائم فوق أمواج ثقيلة وكأنها مياه ملوثة ببقع زيوت أو طبقات من حشرات البعوض افراضا على حد توصيف وسائل ومعادلات السرد المكشوفة والمتشظية في الإقناع والتماسك السردي والفني.
- الخطاب السردي وديمومة الوقائع المتناثرة
يحشد الكاتب في مجموع أحداثه الروائية، جملة من التنوعات الحوارية التي تتسم بالوحدة الزمنية المؤشرة لذاتها ضمن يافطة كل عتبة متنية للنمو السردي، لذا واجهتنا ثمة حوارات لا تقتضي الغاية منها سوى فرض أسلوب الإسهاب في الحوار دون ربط الأحداث بوازعة دﻻلية من شأنها دعم هوية الرؤية السردية في المبنى الروائي.. وﻻ تتوقف انشغالات المساحات الحوارية المقتضبة عن أية وقائع تقودنا نحو فسحة تبئيرية تجذبنا نحو غاية مدلولية ما، فقد وجدنا الوحدات الحوارية تعبر عن مسارات كاشفة من الغو والفضاضة المعتمدة من قبل مستويات الركة في الوعي الشخوصي. أخذت الرواية (البعوض) مسار حركتها من بيئة صراعية في المشاهد التي تتعلق بعملية إبحار المجموعة الشخوصية على ظهر ذلك اليخت. ولكنها جميعها محض حاﻻت ليست بما يمكنه وصفه بالدوافع الحقيقية لمووعة الرواية: وأين هي بالضبط فكرة الرواية ؟ وما الدور الذي تشكله تلك المجموعات المتحاورة في ما بينها رجاﻻ ونساء، إذ لو معنا فيها، لما وجدنا سوى ضخامة هائلة من التهريج والاستعراضية في خضم سياحة جماعية على ظهر ذلك اليخت الذي يشكل بدور الوحدة العولمية للكائن الارستقراطي بكامل علاماته وسماته الأهوائية. فالسارد يضع المتلقي من بداية السرد الحواري وحتى آخر لمحة عابرة في مسار الرواية داخل حدود حجامية نقاشية ﻻ تعكس أية علامة ثقافية على نوع ومظهر الشخصيات، بقدر ما تبرز حاﻻت ضوضائية وضجيجية قائمة ودائرة بين كل طرفين من شخصيات اليخت المتعددة. لعل تزايد عد الشخوص الفجائية في ظهوريتها، جعل من الرواية كمكنون غاكس في نزوات وأمزجة غير مدروسة ومحسوبة. الكلك يتحاور، الكل يضع الأجواء في النص ضمن مقاربة مخصوصة بكونه ذلك الفرد الأكثر جدوى ثقلا في سماته الإدراكية والعقلية، لذا هذا الأمر الذي جعل بدور من كل هوية شخوصية وكأنها منفتحة على دواخل الشخصية الأخرى من ذات الوحدة السردية: (جلس الجميع حول مائدة البريدج وهم يتحدثون ويمرحون وراحت السيدة مورير تتطلع نحو الفضاء أحيانا، والسفينة تشق عباب الماء. / ص٤٤ الرواية) يستهل السارد بضمير الأنا العليم سرده بخطاب أتى أرهاصا للكشف عن أجواء الحكي وعن تلك الدوافع السلوكية والأفعالية التي تقف وراء بعض محفزات عن طبيعة تلك الرحلة البحرية التي هي بحد ذاتها ﻻ تتجاوز البناء التعددي دون انقطاع لتقديم الأوضاع الشخوصية وكأنها ذلك الصرح المتصاعد نحو هدية الحياة الحقيقية. ولكن في الواقع كوننا كقراء للرواية، ﻻ يصادفنا سوى التكرار لبعض من الأحداث وإعادة الهيئات المحورية ضمن فرصة عروضية تحكي هذرا داخل الأحداث. الغريب في أمر أننا ﻻ نواجه ثمة محصلة حقيقية لوجود مكون (البعوض) سوى من ناحية تهكنية خاصة بمؤشرات المعادل التقريبي في مرمزات الوظيفة الروائية.
- تعليق القراءة:
لعل من مظاهر لنا أن رواية (البعوض) قد جاءت كحكاية روائية من دﻻﻻت الخارج الروائي، ذلك لكونها تتطلع نحو ذلك الشكل المتنامي بالأفعال الخاطفة والمبعثرة حيث ليبدأها السارد بتهيئة الحوارات المقتضية، ويستكملها بحاﻻت صورية هامدة في الحكي والشد الموضوعي، ولأجل تسوية اصة للرواية أجدني أقول أن الخطاب السردي في (البعوض) حله في حدود العلاقات والاضطراب الشخوصية الخارجية مع انشطار الوظيفة المركزة للمهمة الموضوعية الجادة. لقد فارقت حبكة الرواية الحوار الداخلي للشخصية واللغة الوصفية العميقة وتقانة أدوات بناء الأحداث بالصورة والأسلوب والشعرية الجمالية الكبيرة، فيما بقيت صور وأحوال مدار حكاية الرواية حالة غارقة بتعدد الأهواء السردية بتكاثر واقع نفسي استعراضي جعلها رواية ذات دﻻﻻت ترتبط بأحساس المؤلف للواقعة الخاصة بمقصديات الذاتية ، دون أن تسجل الرواية ذاتها أدنى صورة فنية بالاحواء التي كان يقصدها المؤلف في عين طاته الفردية. وكأنها صورة رامزة تبحر على ظهر تلك السفينة العائمة وسط أمواج الأهواء والأمزجة الشخوصية الموظفة تهكما في أدوات السرد الروائي.
***
حيدر عبد الرضا

قراءة نقدية تحليلية لقصيدة "شُذُوذٌ كيميائي" داخل غرف الإنفلونزا – للشاعر فراس جمعة كاظم – العراق
***

شُذُوذٌ كيميائي داخل غرف الإنفلونزا

فِي النِّزَاعِ عَلَى بَابِ الباصِ

قمصانٌ تَتَمَوَّجُ

وأَحْذِيَةٌ تَتَرَاكَمُ وتطيرُ

الصُّرَاخُ مذبحٌ مناسبٌ للاضلاعِ الناتئةِ

لَا...............

لَا تسرقوا الْمَحْفَظَةَ

الْمَحْفَظَةُ سَرِيرٌ مُقْفَلٌ

لبطاقةِ الباصِ رَقم ٩

دَرَاهِمُ مَرْبُوطَةٌ بمقصلةِ الْقَاضِي السَّمِينِ

الأطفال يُغمضونَ.....

تَدعكُهم قَذِيفَة

دَاخِلُ لُعبةِ السَّرَاوِيلِ الْفَارِغَةِ

الأمهات طاهياتٌ جيدات

يَمْتَزِجُ الرُّزُّ المُحمرُ

مَع رَكْضَةِ حِصَانٍ

حَسَاءُ مَعَدٌ للطواويسِ الْبَيْضَاءِ فَقَط

المناجلُ لِلضَحَايَا....

لَا للمزارعين

يُشاركُ جَرَسٌ ضَخْم وعكاتِ البَنادِق

لَا وَقْتَ لأعواد الثِّقابِ الكونكريتية

لَا وَقْتَ لعناقِ الأشجار الْعَارِيَّة للمظلات

القَهْوَةُ أكواب لدُنة لأفواه حَدِيدِيَّة

مَسَامِيرٌ بصِنَاعَة فاخرة لتثبيتِ الأصابع

الحانة تراجِيدِيا قرمزيةٌ لِرَجُلٍ طَاعِنٍ

الْمَطَاعِمُ فوانيسُ السندويشات البرونزيةُ

طائرة.......

تَسْتَضِيفُ الْمَدَارِسَ الْمُسَلَّحَةَ

تَلاَمِيذٌ يرسمون د ا رنَا

ويرسمون طائرة

وَعُلْبَةَ سردين مُتَعَفِّنٍ

وَحِذَاءً محشوراً فِي سَرِيرٍ مُعَقَّمٍ

الأمعاء تَحِيضُ اعشاشاً

مِنْ الْجُبْنِ الرَّاشِح

وَالْكَثِيرَ مِنْ الفايروسات الْمُحَمَّصَةِ

بَاعَةُ البراندي........

تَكدسوا فِي شَارِعِ الوَطَن

البرانديُ حَزِينٌ

السَّاعَةُ الْحَادِيَة عَشَرَ مساءً

أضواء الزئبق تتقافزُ عَلَى النَّهْرِ

اسماك نَظِيفَةٌ جداً

تُشاطِرُ الْمَاءَ غناءَهُ الْفَاحِشَ

تَعومُ الْمَتاحِفُ تَحْتَ حُفْرَةِ المصائر

رِمَالُ بَارِدَةُ تَغَطسُ

وحبيباتُ مهجوراتُ يتشنَّجن

كَمَا عَاصِفَةٍ عالقةٍ بِسِياجِ

تتعامدُ الأجساد الرَّاسِخَة

مَع الأعوام العصيّة

قبلاتٌ علْوِيَّةٌ تُدْفَنُ دَاخِلَ قُبَّعَةٍ

أَشْجَارُ المَزَامِيرُ القَاحِلَة.......

تترصعُ خَلْفَ مَرْقَدِ الْفَمِ

فَمُ يترهلُ

فَمُ مُضْطَرِبٌ تماماً

الْفَمُ مقهىً عَرِيضٌ

يَرْشَحُ الْكَثِيرَ مِنْ القصائد اللزجةِ

مَدامِعُ مَعاقَةٌ دَاخِلَ شَبَابِيكِ الْمَاءِ

عذراواتٌ كمناجمَ مُنْقَرِضَة

تَعَدُّ مَا ذَبُلَ مِن أشرطة الْيَنَابِيعِ الساخنةِ

العوانسُ صُخُورٌ مُتَحَلِّلَةٌ فِي مَرْمَى الْمَعَاطِفٍ

مَعَاطِفُ ثَقِيلَةٌ جداً

تَحْمِلُ الإناث الْخَالِدَةَ

كَمَا تحْمِلُ الشِّتَاءُ

الجَلِيدُ أرقام مُجَرَّدَةٌ مِنْ الْعُشَّاقِ الْمَوْتَى

الجَلِيدُ فُقّاعَةُ الرأسمالية الثلجيةِ

الاكواخُ انهار مِن الدُّخَانِ الْعَاطِل

تتناسلُ مَع زجاجاتِ النَّبِيذِ المُثلّجِ

يتزاوجُ النَّبِيذُ مَعَ قَطْعِهِ كَعْكٍ ذائبة

يَفْرُغ الكأس فِي بَطْنِ تِمْثَال

سَاقٌ عَرْجَاءُ استبدلت بِرَاْأس

اصبح الرأس اعرجا بِمَا لَا يُطَاقُ

تَذَكَّرَةٌ زئبقية نهائية

تزفرُها مؤخرات النوافير

الشَّوَارِعُ خَرْسَاءُ هَذِهِ اللَّيْلَةِ

ولائم جَاهِزَةٌ تَمَامًا

وقَتْلَى جاهزون ايضاً

النوافيرُ تموءُ بِبُطْء

تُعَبِّر الأنفلونزا الصُّلْبَة

الى خَاتِمَةٍ الْفَنّ

وَخَاتَمُةِ الْغِنَاء

المنصاتُ عَمَلِيَّةٌ جِرَاحِيَّةٌ

خَارِجَةٌ عَنْ السَّيْطَرَةِ

نَسَبَةُ الشِّفَاءِ

صفر بالـ %.

***

بقلم: فراس جمعة كاظم.

..............................
القراءة النقدية:
قصيدة /شُذُوذٌ كيميائي داخل غرف الإنفلونزا/ هي عبارة عن رحلة إلى أعماق الوجود الإنساني المُعذب والممزق، إذ تشكل لغة الشاعر ساحة متشابكة من الرموز والتخيلات البصرية التي تجسد أبعادًا متعددة للواقع المأزوم والمضطرب.
البنية والأسلوب:
القصيدة تتميز ببنية سردية غير تقليدية، حيث تبرز الصور الشعرية بشكل متسلسل وغير خطي، ما يخلق حالة من الفوضى والارتباك الذي يعكس أجواء الانفلات الفكري والتشويش العاطفي. في هذه القصيدة، لا يبدو أن الشاعر يتبع تسلسلًا منطقيًا للأحداث؛ بل يعتمد على تقديم مشاهد معزولة عن بعضها البعض لتشكيل لوحة من الفوضى الكيمياوية، كما يوحي العنوان /شُذُوذٌ كيميائي/ من خلال تكثيف الصور غير المتوقعة.
الصور الرمزية والتشابك الفكري:
الصور التي يقدمها الشاعر تجعلنا نشعر وكأننا في وسط عالم يختلط فيه العنف بالعجز، والهزيمة بالأمل. فالصور مثل /قمصانٌ تَتَمَوَّجُ/ و/أحذيةٌ تتراكمُ وتطيرُ/ تعبّر عن حركة غير مستقرة، تمامًا كما هي الحالة العامة في القصيدة. الطيران والتراكم المتناقض بين الأشياء يشيران إلى حالة من التفكك والضياع.
النمط الرمزي المكرر في القصيدة هو تكرار /المحفظة/ و/بطاقة الباص/، مما يعطي شعورًا مستمرًا بفقدان الهوية أو تكرار الحياة الروتينية التي يرفضها الشاعر في هذه اللحظة، بالإضافة إلى أن /المحفظة/ قد تكون رمزًا للقيمة والمكانة الاجتماعية المفقودة في هذا الواقع المربك.
المرجعية الثقافية والسياسية:
الشاعر يدمج إشارات إلى الأزمات السياسية والاجتماعية التي يمر بها المجتمع العربي، من خلال تطرقه لمفردات مثل /دَرَاهِمُ مَرْبُوطَةٌ بمقصلةِ الْقَاضِي السَّمِينِ/ و/المناجلُ لِلضَحَايَا/. هنا لا يُبدي الشاعر فقط صورة واقعية للألم، بل يوجه نقدًا حادًا للظلم الاجتماعي والفقر والتفاوت الطبقي، حيث تبرز الهياكل السياسية والاقتصادية القاسية التي تتحكم في مصير الأفراد.
العلاقة بين الفرد والمجتمع:
القصيدة تركز على تناقضات الحياة في المجتمع وتُظهر كيف أن الأفراد، بما فيهم الأطفال والنساء، يُسحبون في دوامة من الألم والمعاناة. يظهر هنا انتقاد حاد للمجتمع الذي يعاني من اللامبالاة والتهميش، فيما يضيع الأمل في ظل الظروف الصعبة. يتم تقديم صورة المجتمع كمكان بائس مليء بالحروب النفسية والجسدية، حيث يتم تحويل الحياة إلى معركة يومية للبقاء.
التوجه التجريدي والرمزية:
القصيدة مليئة بالرمزية الغامضة التي تتجاوز حدود المعنى المباشر لتصل إلى عوالم فنية مجازية. من بين هذه الرموز، تظهر الفكرة القوية /العوانس صُخُورٌ مُتَحَلِّلَةٌ/، والتي تُعيد تشكيل صور المجتمع المتهالك بتلك اللغة الرقيقة التي تبدو كأنها تأملات عميقة حول قضية العنوسة والمجتمع المغلق. هذا المزج بين الرمزية المفرطة والسياقات الاجتماعية يجعل القصيدة أشبه بلوحة فنية قاسية تثير الأسئلة وتفتح أبواب التأمل في العديد من القضايا.
التوتر بين الواقع والخيال:
القصيدة تتنقل بين الواقع والخيال بمهارة لافتة، حيث يبدو أحيانًا أن القصيدة تمثل حلمًا مرعبًا، وأحيانًا أخرى تشبه كابوسًا مستمرًا. الصور الشعرية الممتزجة بالخيال المتطرف - مثل /الطواويس البيضاء/، /الفمُ مقهىً عريضٌ/، /العوانس صُخُورٌ مُتَحَلِّلَةٌ/ - تخلق إحساسًا بتنافر وخلل داخلي، يضع الشاعر نفسه على شفا الهاوية بين المعاناة والهروب. تتعدد صور الموت والانفصال والفراغ النفسي لتُظهر تناقضات الإنسان أمام الواقع الصعب.
النهاية والتفاعل مع العالم الخارجي:
النهاية التي يقدمها الشاعر هي بمثابة توجيه للقارئ لمواصلة التساؤل حول مصير الإنسانية في ظل الفوضى المتنامية: /النوافيرُ تموءُ بِبُطْء/، /الشَّوَارِعُ خَرْسَاءُ هَذِهِ اللَّيْلَةِ/. تُختتم القصيدة بجو من التشاؤم العميق، حيث لا يوجد أفق للنجاة أو الخلاص. تشعر وكأن الشاعر يسلط الضوء على العجز المطلق أمام ما يواجهه الفرد من معاناة.
الخلاصة:
في قصيدته، يستخدم فراس جمعة كاظم أسلوبًا غير تقليدي يعكس تشوهات الواقع من خلال الصور الرمزية القوية واللغة المربكة، مما يجعل القارئ يدخل في عالم من اللامعقول، بينما يشير إلى معاناة الفرد والمجتمع في أوقات الأزمات. تشكل القصيدة مرآة معكوسة لحالة المجتمع الممزق بين الماضي الحزين والمستقبل المجهول، حيث تمثل الانفصال بين الجسد والعقل، والروح والواقع.
***
بقلم: كريم عبد الله – العراق

قراءة نقدية سيميائية في قصيدة "الصمتُ فقط" للشاعرة سابرينا موريللي – ايطاليا

الصمتُ فقط

لنْ يكونَ هناكَ صمتٌ فقط بينَ أحضانِ كلماتي، سأسيرُ في تأرجحٍ لاهوتي مِن الأفكارِ التي تخصني، مبعثرة في أفقٍ يهمسُ لي بالحياة عنك.

سأستدعي ذكريات كامنة مِن زمنٍ يطالب بكلِ شغف، بكل اضطرابٍ مِن ذلكَ البيت المرتبك في نموذج لفعلٍ لمْ أعدْ أستطيعُ تصريفه.

مغمورةٌ في سرابِ ذلك الحب الضائع، أتيهُ في ضبابِ طريقٍ تغطيهِ أفكار متشابكة في هوةٍ من الألم.

سأرددُ رغبةً في احتضانٍ، في غروبٍ أخير يبتعدُ، أفكاري التي لا يمكن ملؤها، التي تداعبني بين الأبيات العابرة والكسولة.

لنْ يكونَ هناك صمت فقط، حيث تتجلى روحك في ذلك التنهد الصامت الذي تركتهُ في صدري؛ صرخةٌ ستنفجرُ في الكون في تناغمٍ تامٍ مع سيمفونية ستعزف بين نغمات وجودك الخالد.

***

سابرينا موريللي- ايطاليا.

......................

القراءة النقدية:

تعدّ قصيدة / الصمتُ فقط/ - للشاعرة الإيطالية سابرينا موريللي نصًا شعريًا مليئًا بالرمزية والتعبير المكثف، يعكس الصراع الداخلي بين الصمت والكلام، بين الفقد والذكرى، وبين الحب والموت. باستخدام أسلوب سيميائي، يمكن تحليل الدلالات الرمزية والعلامات التي تقود إلى فهم أعمق للقصيدة وأبعادها النفسية والفلسفية.

1. الصمت كعلامة رمزية:

البداية مع العنوان /الصمت فقط/ يشير إلى تناقض مبدئي؛ فالصمت في العنوان يقابل الفعل والتعبير الذي تطرحه الكلمات في النص. يفتح هذا التناقض أمام المتلقي أسئلة فلسفية عميقة حول المعنى والحضور والغياب. في البداية، تتحدث الشاعرة عن عدم وجود /صمت فقط/، إذ تعترف بأن الصمت ليس مجرد غياب الصوت، بل هو أيضًا مشبع بالوجود الكثيف للأفكار والعواطف. هنا، /الصمت/ يصبح علامة على حالة من الوجود المزدوج: الصمت المادي مقابل الصمت الداخلي المملوء.

2. اللغة وأبعادها الزمنية:

تتمثل السيميائية في هذه القصيدة في تداخل الأبعاد الزمنية في النص. تتنقل الشاعرة بين الزمن الحاضر والماضي، وتحاول أن تعيد استحضار الذكريات واللحظات الماضية التي يسيطر عليها الحب المفقود. تعبير /سأستدعي ذكريات كامنة/ يشير إلى عودة إلى الماضي واستعادة للحظات زمنية قد تكون فقدت بالفعل، مما يشير إلى عدم القدرة على التفاعل مع الزمن الحاضر كما كان من قبل. الماضي يتداخل مع الحاضر، حيث يصبح الحب والذكريات علامات يمكن للشاعرة أن تعيد اكتشافها.

3. الفقد والوحدة:

/سراب ذلك الحب الضائع/ و/أتيه في ضباب/ تعد علامات دالة على الفقد المستمر والضياع. الشاعرة تعبر عن شعور مؤلم من فقدان الأمل، وتستخدم استعارات سيميائية (مثل "السراب" و"الضباب") لتصوير هذا الفقد. الفقد هنا ليس مجرد غياب لشخص أو شيء، بل هو فقدان الذات وابتعاد المشاعر الحقيقية عن الواقع، مما يولد حالة من الغموض والضياع الداخلي.

4. الصرخة والموسيقى:

الصوت في القصيدة لا يظهر إلا في النهاية، وفي لحظة الانفجار الوجودي، حيث /صرخةٌ ستنفجرُ في الكون في تناغمٍ تامٍ مع سيمفونية ستعزف بين نغمات وجودك الخالد/. يتجلى الصمت هنا في تضاده مع الصرخة، مما يعطي للقصيدة طابعًا ملحميًا يتسم بالاحتشاد العاطفي. إن هذه /الصرخة/ ليست مجرد خروج مفاجئ للصوت، بل هي علامة على تمرد الذات على صمتها الداخلي، وعلى السعي للتحرر من أصفاد الذكريات. السيمفونية، بما تحمل من تناغم، تصبح بمثابة تجسيد لصوت الحب الخالد والوجود الذي لا ينتهي.

5. الرمزية في النهاية:

القصيدة تُختتم بتعبير عن التناغم بين الحضور والغائب، بين الوجود والعدم. عندما تقول الشاعرة /سيمفونية ستعزف بين نغمات وجودك الخالد/، يظهر أن المعنى لا يأتي من الفقد فقط، بل من الإصرار على استحضار الحضور عبر الموسيقى والصرخة، مما يترك القارئ في مواجهة مع السؤال الوجودي: هل يمكن للصمت أن يصبح صوتًا؟ هل يمكن للحب الضائع أن يتحول إلى موسيقى خالدة؟

الخلاصة:

قصيدة /الصمتُ فقط/ تعد نصًا شعريًا مليئًا بالرمزية والسيميائية العميقة. تتعامل مع الصمت ليس كغياب، بل كحالة مليئة بالذكريات والآلام والتوق. ينجح النص في خلق تضاد داخلي بين الصمت والصوت، بين الفقد والحضور، وبين الحياة والموت. ومن خلال هذا التفاعل بين العناصر، تسعى الشاعرة إلى التعبير عن عالم داخلي معقد، حيث يصير الصمت والألم والحب الخالد علامات ذات دلالات شديدة القوة، تحمل في طياتها أكثر من مجرد كلمات، بل تنبض بحياة ومعانٍ أعمق.

***

بقلم: كريم عبد الله – العراق

يمكن التّوقف هنا على أهم فصول وأبواب الكتاب، حيث يتطرّق الكاتب إلى ست روايات لستة روائيين عرب لتكون شواهد على شواطئ النّص/ الاقتباس التّمهيدي في الرّواية العربية، وهم حيدر حيدر، عبد الرحمن منيف، صنع الله ابراهيم، ابراهيم الكوني، جبرا ابراهيم جبرا وسالم حميش.

(دأب حيـدر حيـدر ابـتـداء بروايتـه الأولى (الفهـد) ما على جعله عتبة الاقتباس

التمهيـدي عنصراً رئيساً من عناصر لعبتــه الروائية حتـى صــارت لازمة تتكرر فيما بعد في كل رواياته تقريباً، بل حتى في عدد من قصصه القصيرة أيضاً (التموجات وحكاية النورس المهاجــر مثلاً). نصـوص الاقتبـاس التمهيدي لدى حيدر متنوعة من حيث جنـس النـص المقبــوس وحجمه ومؤلفه؛ ففي رواية الفهد يأتي الاقتباس

نصاً نثرياً طويلاً خالياً من التوقيع بينما يكون في وليمة لأعشاب البحر، مقطعا

صغيراً موقعاً باسم هرمان ملفل......). ص 290

وعندما يخصّص رواية "الزّمن الموحش" للدّراسة يقول:

(الاقتباس التمهيـدي في هذه الرواية نص من الشعر الحديث، ويمكن القـول إنه طويل نسبياً قياساً إلى كونها اقتباساً تمهيدياً لنص روائي، ولكن مع ذلك ثمة

بنيــة متماسكة للنص تظهر في الانسجام الواضح والمدروس بين محطاته الثلاث:

البداية والوسط والنهاية. من السهل أن يكتشف القارئ أن نص الاقتباس برمتــه يتمحور حول موضوعة الزمن الذي يلبسه الناص ثوب القدرة والتحكم في الأحداث والمصائر فيقدمه بوصفه (فاعلاً) سلبياً مرة وإيجابياً أخـرى....). ص 291

ويرى الكاتب أنّ الرّوائي حيدر يصف الزّمن أحياناً بالسّلبية وأخرى بالإيجابية، وفي ذلك يقول:

(الانتقال في النص الشعري من كون الزمن عاملاً سلبياً إلى كونه عاملاً إيجابياً يتم من خلال أداة الاستدراك "ولكن"، كي يضع الشاعر بوساطتها ما سلف من شرور الزمن وراء ظهره وينظر إلى الأمام حيث الوجه الآخر للزمن: الزمـن المداوي الشافي، حيث المستقبل، إذ يقول:

لأن الزمن يقهر الزوايا الحادة

ويغلق الجراح

أريد أن أنسى الزمن العاري والقاتل

إلخ....

ولكن...

لأن الزمن يشفي تلك الجراح

ويسوي الجراح

فإني أرغب في تشييد دعامة للزمن...

أريد الآن أن أعيد إليه الكمال......). ص 291, 292

ويضيف الكاتب في هذا السّياق حول خصال هذه الرّواية والتي تميّزها من روايات حيدر الأخرى:

(يتميز نص الاقتباس التمهيدي في الزمن الموحش عنه في روايات حيدر الأخـرى بخصلتين بارزتين: الأولى أن توقيع نـص الاقتباس في هذه الرواية عام مطلق (شاعر من أفريقيا)،  بينما يأتي في الروايات الأخرى باسم مؤلفه الصريح حيناً، وغفلاً خالياً من التوقيع حيناً آخر. أما الخصلة الثانية فهي أن نـص الاقتبـاس التمهيـدي في هذه الرواية محاط بثلاث عتبات خاصة به؛ فبالإضافة إلى التوقيع الذي يـأتي في الأسفل تعلو نص الاقتباس عتبتان أخريان: الصفة الأدبية لنـص الاقتباس أو نوع العتبة (تقديم) وعنوان نص الاقتباس (مراسيم دفن)، ما يمنح نص الاقتباس استقلالية تامة وهوية خاصة به وهذه سمة يمتاز بها هذا الاقتباس التمهيدي). ص 297

في الفصل الثّاني يتحدّث الكاتب عن رواية "سباق المسافات الطويلة" للرّوائي عبد الرحمن منيف.

يصف الرّوائي منيف بأنّه من الرّوائيين الذين بدؤوا كتابة الرّواية في أوائل السّبعينيات، أي في خضم الفترة التي بدأت الرّواية العربية تأخذ منحى جديداً ( فنياً وموضوعاتياً) مفارقاً للمنجز الرّوائي العربي حتى ذلك الحين، لكنّه يؤكّد على أنّ منيف دخل نادي الرّوائيين العرب في مرحلة متأخرة نسبياً من حياته التي قضى شطرها الأوّل في العمل السّياسي:

( ولكنه ما لبث أن وجد نفسـه كارها للسياسة وألاعيبها ووجد في الرواية مجالاً بديلاً للتعبير عن رؤاه وأفكاره وأحلامـه، فغـادر الأولى إلى الثانية باحثـاً في اللغة والعوالم المتشكلة منها عن الحلم الذي لم يستطع تحقيقه عبر العمل السياسي). ص 291. وربما كانت الخلفية السّياسية التي قدم منها منيف إلى عالم الرواية هي التـي جعلتـه يـشــتغل في الكثير من أعماله عـل المـادة التاريخية التي تتميز عنــده على الأقل بسمتين: الأولى أنها لا تعود إلى التاريخ البعيد (كما هي لدى الكثير من الروائيين)، بل إلى التاريخ القريب الحديث. أما الثانية فهي أنها لا تخاطب أحـداث التاريخ ووقائعه وشخصياته بل تقارب ذلك التاريخ الذي يروي حكاية تشكل المنطقـة والتحـولات التـي طرأت على شعوبها وصراع الآخرين عليهـا، مستفيداً في ذلـك من خبرته السياسية وقدرته على قــراءة التاريخ وتحليلـه استناداً إلى تخصصه في مجال النفط واقتصادياته وسياساته وأثر كل ذلك في تشكل تاريخ المنطقة الحديث).

ثم يتابع الكاتب:

(من هنا ستتقدم موضوعات مثل اكتشاف النفط في المنطقة وأثره في تشـكل

شخصية الإنسان فيها نفسياً واجتماعياً، وصراع القـوى الغربية عليـه لتكـون واحــدة من أهم المواد التي سيشتغل عليها منيف في رواياته عموماً....). ص360

يقسّم الكاتب هذه الرّواية إلى خمسة اقتباسات تمهيدية، ويرى أنّها تتكامل فيما بينها لتشكّل نص الرّواية، وتنتج دلالته الكلية، وفي النّتيجة يرى أنّ:

(الاقتباسات التمهيدية للأقسام الخمسة تتكامل فيما بينها لتشـكل نـصــاً مرافقاً لنص الرواية وتنتج دلالة مجاورة لدلالة النص الروائي؛ فما دامـت الأقسـام تتكامل فيما بينها فإن الاقتباسات الممهدة لها والدالة عليها سـتتكامل فيما بينهـا أيضاً). ص409

يتوجّه الكاتب بعدها إلى الاقتباسات التّمهيدية الخاصة وعتبات النّص في أربع روايات أخرى، هي:

بيروت بيروت للرّوائي صنع الله ابراهيم، البئر أسطورة الصّحراء وأسطرة الواقع للرّوائي ابراهيم الكوني، يوميات سراب عفان للرّوائي جبرا ابراهيم جبرا ورواية فتنة الرّؤوس والنّسوة للرّوائي سالم حميش في الفصول الثّالث والرّابع والخامس والسّادس من الصّفحة 419- 567.

وكما بدأ دكتور ولات كتابه ب" عتبة الدّخول" فقد أنهاه ب " عتبة الخروج" وفي بداية الفقرة الأولى فيها يطرح تساؤلات عدة:

(ما الذي يمكن أن يخرج به من قام برحلة كهذه في رحـاب العتبات النصــة ودهاليـز المتون التي تحيـط بها تلك العتبات؟ وكيف يكن للمغامر الخروج من "ورطة"، من هذا النوع؟ وإذا كان صاحب المغامرة اتخذ من عتبة الدخـول بوابـة للعبور إلى متن موضوعه ومنبراً لتسويغ مغامرته وتسويقها لـدى القارئ، فـماذا عساه أن يخبر به ذلك القارئ قبل أن يترك عتبة الخروج خلف ظهره، وهو الذي أطال الإقامة في ربوع ذلك المتن وتجول في دروبه وأزقته وتعرف إلى بعـض معالمه وخفايـاه)؟

ليختتم الخروج بعبارات ربّما أراد لها أن تكون أجوبة لتلك التّساؤلات حيث يقول:

(أود أن أختم هذه المغامرة (مؤقتاً) بالإشـارة إلى أمرين: الأول أن الدراسة قامت بمسح عتبة الاقتباس في ما يربو عن ماثتين وثلاثين رواية، كما قامت بدراســة تحليلية تفصيلية لتلك العتبة النصية في ستة نماذج روائية عربية وقد خلصـت في النهاية إلى نتائج وأحــكام وتصنيفـات بخصــوص العتبـات النصية عموماً وعتبـــة الاقتباس التمهيدي على نحو خاص تراها جديدة وهامة، ولكنها لا تدعي أنهـا نتائج وأحكام نهائية وقطعية وقارة، بل ترى أنها قراءة واحدة من قـراءات كثيرة ممكنة، ولكنها في الوقت نفسـه تؤكد أنها مختلفة لأن منطلقها مختلف.

الأمر الثاني أنه مما لاشك فيه أن ثمة العشرات وربما المئات من النصـوص الروائية العربية التي تشتمل على عتبة الاقتباس التمهيدي وما تشــملها الدراســة الراهنة (لأنه من المتعذر على أية دراسة أن تعاين أو تمسـح كل النصـوص التـي تدخل في نطاق عملها....).

وربّما يحاول من خلالها الإجابة على ما تضمّن كتابه من اللحظة التي قرّر فيها الاستجمام في شواطئ النّص التي أراد لها أن تكون بمثابة بصمات خالدة له في هذه الموضوعات التي سلك سبيلها، وهي مليئة بالصّعوبات والتّعرجات، لكنّه وفّق فيها إلى حدّ كبير، وتمكّن من تجاوز الصّعاب والأسلاك الشّائكة التي اعترضت سبيله، وهذا بحدّ ذاته جعله موفقاً في مغامراته التي أبدى خشيته منها في البداية؛ ولكن هذا لا يعني أنّ القارئ للكتاب ربّما يسجّل عليه بعض الملاحظات، وهي بحدّ ذاتها من باب الحرص على الكاتب وعلى كتابه:

الملاحظة الأولى: الكتاب ضخم جدّاً يتضمّن 600 صفحة، ما يتطلّب وقتاً طويلاً في قراءته والاطلاع عليه، لأنّ موضوع الكتاب جديد على القرّاء وإن كان سهل الفهم على المختصين أو النّخبة.

حبّذا لو كان مقسّماً إلى قسمين أو جزئين، أو اختصره الكاتب إلى صفحات أقلّ.

الملاحظة الثّانية: استشهد الكاتب بست روايات لستة روائيين عرب بالإضافة إلى استشهاده بأمثلة وشواهد لكتّاب آخرين من العرب والأجانب، حبّذا لو كان يستشهد بروايات لروائيين كرد أيضاً، من خلال كتابه كان سيتمكّن قرّاء العربية وكتّابها من التّعرف عليهم والتّعرف إلى ثقافة الشّعب الكردي وأدبه المكتوب بالعربية.

***

نارين عمر

......................

* د. ولات محمد ـ دكتوراه في اللغة العربية وآدابها ـ قسم الدراسات الأدبية، 2011.

المؤلفات:

ـ كتاب: دلالات النص الآخر في عالم جبرا إبراهيم جبرا الروائي، الهيئة العامة السورية للكتاب، 2007.

ـ كتاب: شواطئ النص.. الاقتباس التمهيدي في الرواية العربية. دار لوتس للنشر الحر، مصر/ المغرب، 2023/ 2024.

ـ كتاب دراسات في الرواية العربية (قيد الإنجاز).

ـ كتاب تاريخي ثقافي، ترجمة من الكردية للعربية (قيد الإنجاز).

 

أحداث رواية "قيامة الخفافيش" وتيماتُها تتوالدُ متتاليةً كلما أمعنتَ فيها قراءةً، فهي رواية الأكشن والسوسبانس، ورواية الحكمة والعِبرة، ورواية الواقع والتخييل، فمن أيِّ جهةٍ جسسْتَها وجدتها ممتلئةً مكتنزةً، ففي نهايتها ترى "الخفافيش" التي أسَّسها سلمان في قرية من قرى البحرين لإحقاق حقٍّ مُضَيَّعٍ، قد لاحقته لعنتُها في بوغوتا كولومبيا، وأوردتْه غرفة الإنعاش ميتا تسري فيه بقيةٌ من حياةٍ.

خفافيشُ سلمان تنتقي ضحاياها تشبعهم ضرباً مبرِّحاً، وترميهم قرب سكناتهم، مكتوبٌ على قمصانهم "أنا مجرمٌ آثمٌ"، وفي سلمان تجتمع تناقضاتُ الإنسان، يلاحظها منبهراً فيمن حوله، ويغفل عنها في نفسه، يراها في والده مكشِّراً في أهله، مبتسماً للغرباء ص57، الغضوبِ الذي يخرجِه غضبُه عن طوره، الوديع الرَّفيقِ مع نباتات حديقة البيت، ضُرِب ضرباً شديداً في كمينٍ نصبه له الخفافيش، وحين أوصلوه إلى البيت، لم يستقرَّ به المقام طويلاً، فاختلق سبباً عكَّرَ به مزاجَه، وعلا صراخه، وانهال على زوجته بضربٍ موجِعٍ ص62، شديد القسوة على سلمان لكنه يتودد إلى الله أنْ لا يوريه مكروهاً فيه ص92.

يكتشف سلمان بعداً آخر للإنسان، فهو وحده "الكائنُ ذو الأسرار" الذي يعود له حقُّ التصرُّف فيها ص320. تولَد الأحداثُ العظيمةُ الخطيرة من رحم حدثٍ صغيرٍ ولادةَ الحرائق اللاهبة من مستصغر الشرر، نتيجةٌ وصل إليها سلمان في السجن، فقد اكتشف في إحدى استرجاعات شريط حياته "حدثاً" قلَبَ حنقه وكُرهه لأبيه حبّاً له، واكتشف به سبب سلوكه الأنثوي الذي كان يُعيَّرُ به بين أقرانه، وسبب تطرُّفه في مناصرة قضايا المرأة، والمطالبة بحقوقها، والحرص على توعيتها ص534.

لفتتِ الرواية النظر إلى قيمة "التجربة الشخصية"، حصيلة المغامرات التي بها يتباينُ الناس، وبها ينبني التاريخ الشخصي والجمعي، وهي منعدمةٌ أو تكادُ في المجتمع البحريني، بينما هي أساسُ فاعلية المجتمعات المتطورة، لذا قام سلمان بتفكيك شخصيته وإعادة بنائها مستلهماً من تجربته الخاصة، التي وضع معالمَها من خلال دراسة "الكتب المحرمة"، وقد شاركته في هذه التجربة أختُه نور ص100، وحاولَ الحاج كامل عبد اللطيف صاحب مكتبة الضياء أن يُقنعه بالابتعاد عن هذه القراءات مشيراً بأسبقيته في سلوك هذه الطريق، وأنَّه رجع عنها بعد طول تأمل وتدبُّر، فكان جوابُ سلمان:" تجربتك مختلفةٌ عن تجربتي" ص74.

اكتشف عبر القراءة النفاق الاجتماعي المستشري، وازدواجية مواقف الناس، وانغماسَ المجتمع في مراتع العفن السلوكي، وتخلفه الذي جعله يعظِّمُ شخصيات وهمية لا تاريخ ولا واقع لها كالشيخ الكنعاني، خلع سلمان على مجتمعه وصف "الطواويسِ" حين استبدَّ بهم الرعبُ من الخفافيش. وضعت القراءةُ سلمان وجهاً لوجهٍ مع قضايا وجودية كبرى يعْشى مجتمعُه عن رؤيتها، ظهر بعضٌ منها مع الشيخ الإمام السجين في جدلٍ غدا حديث السجناء، وفي السجن اعترف له اللصُّ الظريف حين أوشك على استكمال محكوميته بأنَّه قد نضج على يديْه بالرغم من أنَّه أكبرُ منه سنّاً ص551، هذا الاعترافُ أثار في سلمان تساؤلاً هو: بأيِّ حقٍّ يستفرد عالم الكبار بـ "الوصاية" على الجيل الذي بعدهم، فرغبات "عالم الصغار" وشطحاتُه هي عينُها التي كانتْ أمسِ لعالم الكبار؟ فكيف يسمح لنفسه ما لا يسمح بها لمن بعده؟ ص77، وخرج بنتيجة أنَّ هذا الاستحواذ تولَّد عنه "إحباط وغضب" الجيل الجديد، فظهر ذلك في تمرداتهم وثوراتهم ص204، كما أدرك فرْقَ المترعرع في المدينة عن الذي نشأ في القرية من أنَّ الأوَّل منفتحٌ على التعدد والاختلاف والثاني منغلقٌ على الهوية، متعصبٌ لها ص208.

أكسبتْه القراءة قوَّةَ شخصيةٍ، لا يعبأ بردَّات فعل غيره، فقد مرَّ بمحتجين يتوَّعدون الخفافيش الذين اعتدوْا على ثلاثة شبان جدد، وانصرف عنهم غير مكترثٍ، واتصل به صديقُه وأبلغه سخَطَ الناس وتشنيعهم عليه، إذْ لمْ يؤازرهم مع أنَّ أخته مخطوفةٌ، لكنَّه لم يشأ أن يكلِّفَ نفسه إفهامهم ولو عن طريق الفيسبوك ص209.

وقع محمد عبد الكريم بين مخالب الخفافيش، وأردَوْه مثخناً في دمائه، وهشَّموا هاتفه وحاسوبه المحمول، واستدعتْه الشرطة، وأقرأوه ملفَّه المتخمَ بإيقاع الفتيات وابتزازِهن، وسوَّى وضعيته بالتعاون معهم على رصد الخفافيش وإسقاطهم، وَكان محمد عبد الكريم معروفاً بين رفقائه في الدراسة بالمكر والخبث، استعاض بهما عن شجاعةٍ مفقودة، فكان محلَّ مقتٍ وازدراء، وبرَّرَ مكرَه بأنَّ له وجوداً شخصياً ووجوداً سياسياً "هكذا هي النفس الإنسانية، حقيرة. مزدوجة. متناقضة ومعقدة" قالها في نفسه ص348، ولما أعطتهُ الشرطة مساحةَ تصرُّفٍ بمقتضى العملية الأمنية وبطلبٍ منه، ظهرتْ نذالتُه ودناءته ص370، ومرضه النفسي مع الخفاشة التي وقعتْ في قبضته ص380.

تُظهِرُ الروايةُ المجتمعَ البحريني هشّاً سطحياً يتأجَّجُ غضبُه بكلمةٍ وينطفئُ بأخرى، فقد أوقع محمد عبد الكريم في فخه سلمان، ولغيرته منه وحسده انتهزها فرصةً، فأظهره للمجتمع مجرماً حقيراً بنشر صوره المشبوهة في صفحات الفيسبوك قبل أن يتم التحقيق البوليسي الرسمي، فخرج الناس منددين به، واعتصموا أمام محافظة الشرطة طالبين تسليمه لإنزال القصاص به، ثم أجرى الصحفي الشهير أيمن حسين تحقيقاً معه في حجزه فأبهرته إجابته، ونشر مقالته، وسرعان ما تضامن هؤلاء الذين احتجُّوا عليه من قبل، وتعاطفوا مع قضيته، ولمَّا اضطر سلمانُ بعد خروجه من السجن لتنفيذ الوصية المحرجة لصديقه يوسف المتوفى، حوَّله هؤلاء الناسُ أنفسهم إلى أيقونة شرٍّ وشؤمٍ وفسادٍ، وجنى على أهله، ورحل إلى غير رجعة إلى بوغوتا كولومبيا.

روايةٌ في 604 صفحةً، مثيرةٌ على صعيد الفكر والعاطفة والتأمل والحركة، تصلحُ موضوعَ ورشات المناقشة والتحليل، وتصلح لأن تكون فيلماً سينمائياً ناجحاً، يمتحي الروائي أحداثها من واقع مجتمعه في البحرين، يقدمه في صورة موضوعية لا يتحرج من ذكر بعض ملامح التقاليد والثقافة الشعبية، ومن المزاج والسلوك الإنساني الفردي والجماعي، ويعرض ثقافته السائدة ويأمل كسرها من خلال صرامة العقل النقدي ومشرط السؤال.

***

عبد اللطيف الحاج اقويدر

  كاتب جزائري.

......................

* حسين كاظم روائي من البحرين....الطبعة الأولى، 2024، دار سؤال للنشر، بيروت، لبنان.  

من خلال التّنزه في وعلى شواطئ الكتاب المعنون "شواطئ النّص، الاقتباس التّمهيدي في الرّواية العربية" للكاتب الدّكتور ولات محمد الصّادر عن منشورات دار لوتس للنّشر الحر، الإصدار رقم 757 يناير 2024 سوف نجد أنّه بذل جهداً كبيراً في كتابته وإعداده، وخصّص له سنوات طويلة ليكون الكتاب الأوّل في النّقد العربي الذي يخصّ عتبة الاقتباس، كما يؤكّد هو على ذلك على الغلاف الخلفي لكتابه بالقول:

(كتاب شواطئ النص۔ وهو الأول في النقد العربي الذي يخص عتبة الاقتباس epigraph وحدها ببحث شامل ومعمق-  يبحث في آلية عمل هذه العتبة النصية لدى كل من الروائي والقارئ في الرواية العربية...). ربّما لذلك نجده يهدي كتابه هذا إلى نفسه:

إهداء 2

إليْ ها...

التي أحببتها وأحبتني

التي أخلصُ لها وأخلصتْ لي

التي فعلتُ من أجلها الكثير القليل

التي احترمتُ رغباتها وتفهمتْ أفكاري

التي خذلتها سهواً فلم تؤذني عمداً

التي بذلتْ الكثير لهذا العمل

فاستحقت هذا الإهداء

إلى نفسي..

وكان الإهداء 2:

""إلى خير جليس" الصّفحة 3

وقبل هذه الفقرة يطرح عدّة تساؤلات:

(ما الذي يدفع الرّوائي (وغيره) إلى تصدير نصّه باقتباس ذاتي أو غيري؟ ولماذا يمهد الروائي لنصه باقتباس واحد وأحياناً أخرى باقتباسين أو أكثر؟ وهل يؤثّر وجود ذلك الاقتباس في تأويل النص؟ وهل يختلف الدور الوظيفي للاقتباس إذا ما جاء في صدر النص الروائي أو في صدر أحد فصوله؟ لماذا بات انشغال الروائي بوضع نص مقتبس أو أكتر قبل نصه أو بعده ظاهرة منتشرة في التجربة الروائية العربية خلال العقود الأخيرة؟ متى بدأت الرواية العربية

باستخدام الاقتباس التمهيدي؟ وكيف؟ وهل وجد في النص العربي القديم ما يشبه الاقتباس التمهيدي الراهن؟ وماذا كان موقف النقد منه آنذاك)؟

في فقرة "عتبة الدّخول" يبدأ الكاتب بهذا التّساؤل:

(من أين يمكن للمرء أن يبدأ مغامرة كهذه؟ وكيف؟ ما الذي يحدّد في مثل هذه الحال نقطة البداية التي يمكن للباحث التّأسيس عليها بغية الخروج بنتائج ترضي شيئاً من طموحه وشغفه؟) الصّفحة 5

إذاً، يرى الكاتب ولات أنّ ما بدأ به كان مغامرة، ويتساءل عن نقطة البداية التي ترضي طموحه وشغفه.

نجد الكاتب في الباب الأوّل يتحدّث عن العتبات النّصية- الاقتباس التّمهيدي الأساس النّظري.. عرض ومناقشة، ويقسّمه إلى فصلين، في الفصل الأوّل من كتابه يتحدّث عن العتبات النّصية في النّقد الغربي ثمّ العتبات النّصية في التّراث العربي أدباً ونقداً، العتبات النّصية في النّقد العربي الحديث وينهيه بهذا السّؤال: لماذا العتبات؟

من خلال بحثه عن تعريف للعتبات النّصية في النّقد الغربي يرى بأنها تعني:

(البدايات: العنوان، العنوان الفرعي، لوحة الغلاف، علامة التّجنيس، اسم المؤلف، اسم النّاشر، تاريخ النّشر، المقدّمة، الإهداء، كلمة الشّكر، التّنويه أو الإشارة، الاقتباس التّمهيدي، عنوان الفصل، الحواشي، الاقتباس الختامي، كلمة الغلاف، قائمة المراجع، والملاحق والفهارس. تلك هي الوحدات او العلامات اللفظية وغير اللفظية التي تندرج تحت مصطلح العتبات النّصية thresholds/ seuils او النّصوص الموازية paratexts..)). الصّفحة 21

ويرى أنّ الأمر في العتبات النّصية في التّراث العربي لا يختلف عن هذه كثيراً:

(يتمثّل محيط النّص في الأدب العربي القديم في مجموعة من العلامات، منها العنوان والمقدّمة والافتتاحيات والتّصدير والختم والتّوقيع والتّذييل والحاشية والشّروح والتأريخ. وهي عتبات يرتبط بعضها بالنّص (مراسلات وخطب) وبعضها الآخر بالكتاب). الصّفحة 34

والنّقد العربي الحديث لم يؤسّس لمنهج نقدي أو نظرية يمكن الحديث عنها في هذا الإطار إلا بعد صدور كتاب جيرار جينيت (عتبات seuils) عام 1987. ص 21

أمّا في الفصل الثّاني سنجد دكتور ولات مركّزاً على الاقتباس التّمهيدي، وفيه يتحدّث عن أصل المصطلح، موضع نصّه، زمن ظهوره ومادة الاقتباس، مؤلف الاقتباس التّمهيدي ومرسله ومستقبله ولماذا وظائف الاقتباس التّمهيدي؟

وعن أصل المصطلح عند جيرار جينيت يقول:

(أصل المصطلح: يستخدم المختصون بالآثار بحثأ وكتابة ملفوظ epigraph للدلالـة على الكتابة والرسوم المنقوشة على محيط بناء أو تمثال؛ فقد كانوا قديماً يكتبـون وينقشـون ويرسـمون عـلى الحجـارة والصخور وعلى جــدران المبـاني والتماثيـل لغايات مختلفة، وكانت هذه الممارسة منتشرة في المنطقة العربية أيضاً). أمّا عن مؤلف الاقتباس فإنّه يورد ما أورده جيرار جينيت أيضاً:

(... وفق هذا التّعريف سنكون أمام ثلاثة فاعلين حقيقيين او مفترضين لهم علاقة بالاقتباس التمهيدي: الأول مؤلفه والثاني مرسله( المؤلف أو الناشر او طرف آخر) الذي يختاره ليكون عتبة للنص، والثالث هو المرسل إليه الذي يكون حسل جينيت هو قارئ النص نفسه...). ص90

وفي حديثه عن الاقتباس لغة واصطلاحاً يقول:

(الاقتباس لغة: القبس: الشعلة من نار نقتلسها من معظم، واقتباسها: الأخذ منها، قبست منه ناراً...الاقتباس اصطلاحاً يعني إدخال المؤلف كلاماً منسوباً للغير في نصه، ويكون ذلك إما للتحلية أو الاستدلال..). ص 118

يتحدّث في الباب الثّاني من الفصل الأوّل حول الاقتباس التّمهيدي في الرّواية العربية- دراسة وتصنيف- يجيب فيها على الأسئلة الخمسة المتعلقة بالاقتباس التّمهيدي في الرّواية العربية مستشهداً بالقرآن والأحاديث النّبوية والنّصوص الشّعرية والنّثرية وغيرها، تبدأ من الصّفحة 125 إلى الصّفحة 222، وبعدها ينتقل إلى الفصل الثّالث حيث الحديث عن:

الاقتباس التّمهيدي حقلاً للإبداع، نماذج خاصة من الرّواية العربية، فيقول في مستهل هذا الفصل:

(انطلاقاً من كون الاقتباس التمهيدي لعبة فنية وإحـدى الوسائل والأدوات التي يقوم الروائي بتوظيفها بغية تشكيل نصه وإثارة قارئه، فإن هذه العتبة ذاتها قد تتحول أحياناً في كتابة الروائي إلى مادة للإبداع والابتكار، كي تؤدي دورها المفترض في أفضل صورة ممكنة. لهذا قد يعثر القارئ أحياناً على نماذج لاستخدام هذه العتبة الروائية تتميز بلمسات إبداعية تخرجها عن إطارها المألـوف والمعتاد شـكلاً

ووظيفة.......). ص 223

وفي هذا الفصل أيضاً يستشهد بأمثلة وشواهد من القرآن وسفر التّكوين والعهد القديم والنّصوص الشّعرية والنّثرية وغيرها من النّصوص.

في الباب الثّالث نجده يأتي على:

الإجراء العملي/ من عتبة الاقتباس إلى نصّ الرّواية، وفيه يتطرّق إلى الرّواية العربية الحديثة والعتبات النّصية، مدخل خاص، وعلى شاطئ قراءة النّص، شيء عن خصوصية الاقتباس التّمهيدي. وهنا يؤكّد على عوامل تطوّر الرّواية العربية الحديثة حيث يقول:

(يجمع الدارسون على أن جملة من العوامل السياسية والاجتماعية والثقافية اجتمعت وتضافرت وتناسلت ابتداء من النصف الثاني من القرن الماضي وأثرت تأثيراً كبيراً في إعادة تشكل الرواية العربية حتى راحت ملامحها تتغير بوضـوح. ابتداء من منتصف الستينيات، إلى أن تبلورت (الملامح) بصورة أوضح مع مطلـع سبعينيات القرن. أما العوامل السياسية فيمكن إيجازها في حدثين بارزين: نكبة 1948 ونكسة 1967اللتين دفعتا بالمثقف العربي إلى إعادة طـرح الأسئلة بصيـغ جديدة سعياً منه إلى معرفة الأسباب التي أدت إلى تلك الانكسارات وفتح آفاق جديــدة). ص 267

ويؤكّد على أنّ الرّواية العربية تطوّرت وازدهرت بفضل تأثرها بالرّوايات الأجنبية وخاصة بعد أن نشطت الترجمة إلى العربية لأعمال روائية وغير روائية منذ مطلع الستينيات، وصارت بين يدي الرّوائي العربي مجموعة من أهم الرّوايات العالمية الكبرى.

...... يتبع

***

نارين عمر

 

(قد يتساءل البعض حول علاقة القطط بقصائد الهايكو وبالعكس.. والجواب هو: هناك قاسم مشترك بينها، وهو الغموض.. فالقطط تخفي بداخلها لغزا، كما هي قصائد الهايكو – الشاعرة البولندية مارتا تشوسيلوفسكا).

تنتشر في اليابان حاليا القطط البرية اليابانية الأصيلة (ياما نيكو) المعروفة ب (آمور ياما نيكو)، و(إيريوموتي ياما نيكو) التي تتقن السباحة وتسلق الأشجار في الغابات شبه الاستوائية من جزيرة (إيريوموتي) بالدرجة الأساس. وهي مهددة بالانقراض، ومدرجة ضمن القائمة الحمراء للاتحاد الدولي لحفظ الطبيعة (آي يو سي إن) (الاتحاد العالمي للصون سابقا) منذ عام 2008. ويعود اكتشافها إلى عام 1965 من قبل (يوكيو توغاوا)، أما وصفها للمرة الأولى فقد تم من قبل (يوشينوري إيمايزومي) في عام 1967. علما تشير البحوث العلمية إلى وجود القطط البرية في الأرخبيل الياباني إلى نحو (5000) سنة قبل الميلاد. أما القطط المنزلية فهي دخيلة، ويعود تاريخ استقدامها من الهند وعبر الصين إلى اليابان إلى عام (538 أو 552 ميلادية) تقريبا وفق إحدى النظريات، وإلى تواريخ لاحقة وفقا لنظريات أخرى، وكان ذلك بهدف محاربة الفئران والجرذان التي كانت تتلف النصوص والأعمال البوذية المقدسة على اللفائف المصنوعة من ورق الأرز. أما أول ذكر لقطة منزلية فقد جاء في مذكرات بتاريخ 11 آذار 889، وتعود للإمبراطور الشاب (أودا) (867 – 931 م) الذي حكم خلال الفترة (887 – 931)، وكانت سوداء اللون، وقد جلبت في عام 884 كهدية لوالده الإمبراطور (كوكو) (830 – 887 م). أما الإمبراطور (إيتشيجو) (980 – 1011 م) فقد أطلق أول اسم مسجل لقطة منزلية، وكان (ميوبو نو أوتادو) التي كانت تحت رعاية وصيفات القصر الإمبراطوري. وتشير السجلات القديمة لتلك الفترة إلى انتشار هذه القطط المدللة في القصور الإمبراطورية حاملة بطاقة بيضاء جميلة مع وجود طوق جذاب أحمر اللون حول رقبتها وإمكانية اللعب بالخيوط الغالية. أما أول لوحة فنية رسمت لهذه القطط فكانت بريشة الرسام الياباني المعروف (توبا نو سوجو) (1053 – 1140)، وجاءت بين صفحات مخطوطة نادرة عرفت باسم (تشوجوجيجا). وهكذا بدأ انتشار القطط المنزلية الاليفة المولودة في اليابان في تلك الفترة، وظهرت في الفولكلور والفنون التقليدية وأقيمت الأضرحة والمعابد ذات الصلة بالقطط (نيكوجينجا، كونوشيماجينجا، نامبوجينجا، غوتوكوجي – كوتوكوئين، إيمادو - مانيكي نيكو). علما صدر في عام 1602 مرسوما عن ممثل إمبراطوري في (كيوتو) لإطلاق سراح جميع القطط المستخدمة في التعامل مع الفئران والجرذان التي تؤثر سلبا على أعداد دودة القز والصناعات المرتبطة بها. كما أصدر (تسونايوشي) أيضا مرسوما في عام 1685 لتحرير القطط والكلاب من القيود. وعرفت بعدها القطط ذات الذيل القصير الشبيه بذيل الأرنب على أنها اليابانية، وترمز إلى الحظ السعيد، وامتلاكها يعد بالرخاء والسعادة والحياة الرغيدة والترف والنعومة. وأيضا ذات الذيل الطويل على أنها الأجنبية، واستقدمت بعد ذلك القطط السيامية والامريكية وغيرها، وازداد الاهتمام بالقطط في اليابان على نحو ملحوظ، وتشير الاحصائيات الوطنية إلى وجود (9،06) مليون مالك قطط مسجل في عام 2023 مع وجود (15،9) مليون حيوان أليف بما في ذلك الكلاب. وبحسب (هانتاني ساداهيكو) كانت القطط محبوبة وحاضرة دائما في الثقافة اليابانية قديما وحديثا وبخاصة في الفولكلور والأمثال والحكايات والأدب بجميع فنونه، ويرى وصولها إلى اليابان قبل نحو (1200 – 1300) سنة تقريبا (من فترة نارا 710 – 794 م إلى فترة هييان 794 – 1185 م). أما (ميشيل هوي) فقد كتب قائلا (كانت القطط حاضرة في الأدب الياباني منذ القرن الحادي عشر وحتى الوقت الحاضر، وذلك لطبيعتها الغريبة والغامضة وشخصيتها الآسرة وارتباطها بالطقوس الدينية على مستوى البلاد على نحو ملحوظ). وقد خلد العديد من شعراء الهايكو اليابانيين شغفهم بالقطط. وندرج ادناه أسماء أهمهم وفقا لتاريخ ولادتهم مع نماذج من قصائدهم مترجمة عن اللغة الإنكليزية: -

كاواي شيغيتسو (1634 – 1718) 1 -

تمارس القطط الحب داخل المعبد

ولكن يلوم الناس الرجل وزوجته

عندما يفعلونها في ذات المكان

***

2 – ماتسو باشوو (1644 – 1694)

تنمو الهرة

هزيلة

لوقوعها في الحب وتناولها الشعير

***

3- شيموتو سايمارو (1656 – 1737)

إنها تفيض بالحب

القطة لعوب

كمحظية

*

قطيطة

تشم

الحلزون

(كتبها في عام 1697 أو قبل ذلك)

***

4 – كونيشي رايزان (1654 – 1716)

كلاهما

بشارب –

تزاوج القط

***

6 – كينبو (؟ - 1727)

هر واقع في الحب

لا يقوى على اصطياد فأرة

كم هو مثير للشفقة

***

6 – يوسا بوسون (1716 – 1784)

أمجاد المساء –

يمضخ الهر زهرة

وهو مشغول البال

***

7 - كوباياشي إيسا (1763 – 1828)

ترك الظلام

العودة للظلام

مغامرات القط الغرامية

*

تتحرش بالفراشة

بواسطة ذيلها...

القطيطة

*

تلتقط القطيطة إحداها

من وقت إلى آخر...

أوراق الشجر المتساقطة

*

قطة مزرعة

تتوسد حضن

بوذا

*

هطول المطر في موسم الربيع -

طفل يعلم القطة

الرقص

*

قطيطة

تلعب الغميضة

وسط البرسيم

*

قطة كبيرة

تطرح نفسها على المروحة

لتغفو

***

8 – ماساوكا شيكي (1867 – 1902)

قطة خالية البال

كادت أن تصطاد

طائر سمان

*

قطة ضالة

تقضي حاجتها في الجنينة

في الشتاء

*

ثلج يتساقط

و قطة بيضاء على السطح

يسمع صوتها دون أن تشاهد

(أول قصيدة هايكو كتبها شيكي عندما كان في ال (17) من العمر. وقد وردت في رسالة مؤرخة في 8 كانون الثاني 1885 وموجهة إلى تاكيمورا كوتو 1865 – 1901)

***

9 - تومياسو فوسي (1885 – 1979)

ما من شيء

يجهله -

القط قابع فوق الموقد

(بالإضافة إلى قصائد كتبها الشاعر تان تايغي (1709 – 1771) والشاعر إتسوجين ونيكان إهاجاكي من أواخر عصر ميجي 1868 – 1912 وغيرهم من شعراء الهايكو الذين شكل حب القطط لديهم سعادة قصوى)

كما كانت القطط حاضرة وبشدة في بقية الفنون الأدبية اليابانية منذ القرن الحادي عشر، وبإمكاننا هنا أن نسوق بعض الأمثلة على ذلك: (حكاية جينجي) لموراساكي شيكيبو (973 – 1025)، و(أنا قطة) ورواية (القط الذي أنقذ الكتب) لسوسيكي ناتسوم (1867 – 1916)، و(وقائع الطائر الزنبركي، كافكا على الشاطئ، مطاردة الأغنام البرية، التخلي عن قطة) لهاروكي موراكامي المولود في عام 1949. وأيضا رواية (قطة ورجل وامرأتان 1936) للروائي (جونيشيرو تانيزاكي) (1886 – 1965)، ورواية (القط الضيف) لتاكاشي هيرايدي 2001 ورواية (لو اختفت القطط من على وجه الأرض) لجينكي كاوا مورا 2012 و(سجلات القط المسافر) للكاتب (هيرو أريكاوا). وفي مجال الشعر كانت القطط السبب الرئيس في ترسيخ السمعة الأدبية للشاعر الياباني (ساكوتارو هاجيوارا) (1886 – 1942) مؤلف قصيدة (القط الأزرق – آو نيكو) 1936 وقصة (مدينة القطط) 1935. وجميعها أعمال أدبية يابانية أظهرت وفاء وأمانة وطيبة وأناقة وذكاء وجمال القطط اليابانية بطريقة أو بأخرى. أما في مجال الرسم فقد اشتهرفنان ال (أوكييو – إه) الياباني المعروف (أوتاغاوا كونيوشي) (1797 – 1861) الذي عرف بحبه الكبير للقطط. وأيضا الرسام (هيشيدا شونسو (1874 – 1911) الذي أرسى أسلوب (نيهونغا) في الرسم، ورسم لوحة (القط الأسود) في عام 1910 لتصبح بعدها من الممتلكات الثقافية اليابانية الهامة مع تنزيلها على الطوابع البريدية التذكارية المطبوعة في عام 1979. واشتهر في مجال النحت الخاص بموضوع القطط الفنان (أساكورا فوميو) (1883 – 1964) الذي يلقبه بعض النقاد بوالد النحت الياباني الحديث.

كما شكلت القطط الكثير من العناوين والمحتويات لأعمال خالدة من الأدب العالمي لنفس الأسباب، وقد قال عنها (ليوناردو دافينتشي) ذات مرة: (كل قط هو تحفة أدبية). ومنها أعمال لشارل بودلير وسيدوني غابرييل كوليت ولويس فيرديناند سيلين وباتريشيا هايسميث وإدغار آلان بو وغونتير غراس وت. س. إليوت وفيرجينيا وولف وفكتور هيغو وشارلز ديكنز وألكسندر دوما وغيرهم كثر. كذلك الأمر بالنسبة لشعراء الهايكو. ومن قصائدهم (مترجمة عن الإنكليزية):

1 - مينال ساروش / الهند

بواكير المطر

يترك القط بصمات كفوفه الموحلة

على دواسة باب المدخل

***

2 - ديلان بوجوجيفيتش / صربيا

ورقة التوت التي تساقطت

و تلقفتها الريح -

ثمة قطيطة تعبث بها

***

3 - توميسلاف ماريتيك / كرواتيا

ينعكس ظل النمر على الحائط

ثمة قطيطة قدام المصباح

تعترضه

***

4 - ألجوثا فوكوفيتش / كرواتيا

بيت الأسرة -

تجثم القطة فوق حصيرة الترحيب

تنتظر وتنتظر

***

5 - آنا كيتس / الولايات المتحدة الامريكية

خلفت القطة المفترسة

بقعة دافئة

على ممسحة الأحذية

***

6 - فيبك لاير / الدنمارك

نصف بدر

ثمة قطيطة وحيدة

على عتبة الباب

***

7 - دجوردجا فوكيليتش روزيتش / كرواتيا

صياح في الليل

الهر الذي يملكه صاحب الفندق

في أسرة النزيلات

***

8 - غالينا يرشوفا / روسيا

تحاصرها الكلمات

من اللغات الروسية والبلغارية والإنكليزية

مواء الهر

***

9 - ميلان كرمبوتيتش / كرواتيا

الهر المتشرد

أحضر الحبيبات

لحبيبة قلبه

***

10 - مايك غالاغر / ايرلندا

يتربص القط

الأسود

من كل زاوية

***

11 - جيرغانا يانينسا / بلغاريا

صباح شتائي

ظلال القط

حول المخبز

***

12 - مانوج شارما / النيبال

الشمس في الشتاء...

تتسلل القطيطة

إلى صندوق البطاطا

***

13 - نجو بينه أنه خوا / فيتنام

ريح باردة

قطة ضالة تلحس القمر المكتمل

في البركة

***

14 - تشن شياو / الصين

عينان تتحركان

وسط الظلمة

قطة سوداء اللون

***

15 - أندريوس لونيكاس / ليتوانيا

تتفتح أزهار الكرز

ثمة جوقة من القطط

في كل قرية

***

16 - أنجلي دودهار / الهند

ضوء الشمس والظلال -

أنا والقط

أذهلنا زقاء الطاووس

***

17 - ليودميلا خريستوفا / بلغاريا

قمر مكتمل

ينساب ظل القط منزلقا

نحو الأسفل

***

18 - ديفيد سيرجنت / إنكلترا

عودة الأجدل

ضريح القط

يغطيه الريش

***

19 - جودي أ. توتس / الولايات المتحدة الامريكية

توهج ضوء الشوارع

الظهور المفاجئ لظل القط

عبر الطريق

***

20 - زيليكا فوتشينيتش / كرواتيا

ثمة زهور على الأرضية -

لقد جلبت القطة بكفوفها

أمطار الصيف

***

21 – أنيس كيسيفيتش / كرواتيا

القمر إلى جانب قطتي

على العتبة الحجرية للباب

التنعم بدفء الشمس

***

22 – صوفيا روسينوفا / روسيا

أستفيق اليوم

لاجد نفسي على الجانب الخطأ

من سرير قطتي

أما في الأدب العربي فنقرأ (خمارة القط الأسود - نجيب محفوظ، أبو هريرة – ذوالنون أيوب، في بيتنا قط – ود سامي، حكايتي مع صديقي القط – د. محمد لبيب سالم، القط المنتظر – منى برنس، أم القطط – محمد الدرقاوي). بالإضافة إلى العديد من قصائد الهايكو للشعراء (عباس محمد عمارة، سالم الياس مدالو، لطيفة أدهو، محمد زعل السلوم، وليد المسعودي، أكد الجبوري، بكاي كطباش، حيان محمد الحسن، عماد الدين موسى، سعد برغش، ممدوح رزق، فتحي مهذب، محمد الفخاري، بن يونس ماجن).

***

بنيامين يوخنا دانيال

............................

1 – فوكاساوا نوريكو، شوارب القطط، اليابان بالعربي، عدد يوم 30 / 4 / 2024.

2 – فوكوساوا نوريكو، قطة تستكشق الحلزون، اليابان بالعربي، عدد يوم 18 / 6 / 2024.

3 – إيتاكورا كيمي، رحلة لاكتشاف أسرار القطط اليابانية، اليابان بالعربي، عدد يوم 8 / 5 / 2021.

4 – حسن عبدة حسن (ترجمة)، (حب القطط يتجذر في الثقافة والأساطير اليابانية منذ القدم)، الإمارات اليوم، عدد يوم 13 / 8 / 2024.

5 – محمود سعيد دياب، أساطير باستيت وإينيكو.. بوابة الأهرام تصحبك في رحلة لاكتشاف أسرار القطط في مصر واليابان قديما، الأهرام، عدد يوم 15 / 5 / 2021.

6 – Imaizumi Tadaaki، Is It True Japanese Cats Have Short Tails ?. https: // web – japan.org

7 – Sarah Psaradelis، What Place do Cats Have in Japanese Culture ?. https: // www. catster. com

8 – Cat Haiku by Traditional Japanese Poets. https: // poetryispretentious. com

9 – Hantani Sadahiko، Why are cats so loved and ever- present in Japanese culture ?. https: // www. quora.com

10 – Michelle Hui، Feline Fancy – Cats in Japanese Literature. https: // www. courtauldlan.com

11 – Per Diem / Daily Haiku for May 2021: Cats / https: // thehaikufoundation. org

12 – World Haiku Series 2020 (59)، haiku by Manoj Sharma. https: // akitahaiku. com

13 – Cat Haiku. www. uvm. edu

14– Cat Haiku – Poetic Champions. https: // poeticchampions. com

15 – Cat Haiku. https: // www. catspawbooks. com

16 – Haiku Dialogue – the way of the cat. https: // thehaikufoundation.org

17 – The she cat by Matsuo Basho. https: // allpoetry. com

18 – Shiki’s first haiku. https: // jkeithvincent. com

19 - A story of cat by Masaoka Shiki. https: // allpoetry. com

20 – A fancy – free cat by Masaoka Shiki. https: // allpoetry. com

21 – The Kitten and the Snail. https: // www. nippon. con

22 – Ukiyo – e Cats: Felines in Japan. https: // www. Tofugu. com

قراءة موجزة لقصيدة الشاعر طارق الحلفي "الراقصة"

القصيدة تتهادى بين ثنايا الخيال والرهافة، متجسدة في صورة لوحة تسكن الجدار، لكنها ليست جامدة، بل كيان نابض بالحياة يتوق إلى الانعتاق.  يرسم الشاعر مشهدًا شديد الحساسية، حيث الضوء يتسلل ببهائه، والنسيم يخفق بعشق:

"ونسيم شفه وجد الهبوب"

 فيبعث الحياة والحيوية في اللوحة الساكنة، حتى تغدو الرقصة قدرًا حتميًا، لا مجرد رغبة عابرة للراقصة:" نزلت خجلى من اللوحة جذلى"

يبرع النص في تصوير العلاقة بين الحركة والسكون، بين التجريد والتجسد، حتى يبدو النسيم عاشقًا لعوب والراقصة معشوقة مولّهة وشغوفة تهفو إلى الالتحام به.

لحظة المسّ الأولى بينهما ليست مجرد تفاعل عابر، بل هي احتراق وجداني يهزّ الجمود والصمت، ويوقظ فتنة دفينة في أعماق راقصة اللوحة.

تنساب الكلمات كرقصة خجلى، تتدرج من التردد إلى الاندفاع، حيث يتجلى التحول الجمالي من السكون إلى الحركة، من الجمود إلى الحياة:

 " هي قد مدت ذراعيها اليه

ـ أيدس الرقص ما بين يديّ وسيسأل؟

ابتهالًا: راقصيني"

ثم، في لحظة مهيبة، يتلاشى النسيم، تاركًا خلفه ضحكات الستائر ودهشتها:

" دهشة غصت من الضحك

أكاليل الستارة

حينما حركها الريح

وغادر"

وكأن الحكاية كلها كانت ومضة عابرة بين الحقيقة والخيال، بين الحضور والغياب.

 هذه الخاتمة المدهشة تترك القارئ بين غموض ساحر ودهشة تتراقص في فضاء النص، حيث يبقى السؤال معلقًا: هل كانت الرقصة حلمًا أم انبثاقًا للحياة من سكون الفن؟

القصيدة تأخذنا الى حكاية ممتعة تستحق قراءتها بتمعن وباستمتاع.

لقد أحببت راقصتك أيها الحلفي  

**

سعاد الراعي

................

راقصة

لوحة فوق الجدار

ابيضًا كان الجدار

وشعاع يهرق الضوء بهاء من خلال النافذة

ونسيم شفه وجد الهبوب

فتثنى مرحًا تحمله

لوعة رقص.. فاستدار

حينها مست ذراعيه بعفو معصميها

نزلت خجلى من اللوحة جذلى

ضرجتها فتنة وارتج صمت

حينما طاش عليها الامر

اختالت طروبا

وتأنت بابتسام محض لحظة..

بأناة..

هي قد مدت ذراعيها اليه

ـ أيدس الرقص ما بين يديّ وسيسأل؟

ابتهالًا: راقصيني

لم يهفهف حولها الا هنيهه

ما احتضنها!

ما اعتصرها!

حينما مست ذراعيه يديها

ومضى يلتاث في الصالة وقتا

منذ.. لا تدري ولكن!

وتلاشى..

.....

.....

دهشة غصت من الضحك

أكاليل الستارة

حينما حركها الريح

وغادر

***

طارق الحلفي

https://almothaqaf.org/nesos/979942

هذه الرواية، للكاتبة العراقية المغتربة إنعام كجه جي، تبحث مخلّفات الحقبة الدكتاتورية في العراق، وتأثيرها السياسي والاجتماعي والنفسي في عيّناتٍ عراقيّةٍ مختارة، تمثّل الطيف الواسع للعراقيين، من الذين قفزوا من السفينة قبل أن تغرق، أي هرب الكثير منهم، واستقرارهم في بلدان اللجوء الأوروبي، حيث فتّش عن تلك العينات باحثون متخصّصون من عدّة دوائر صحية. بحثوا أمرهم في إحدى لجان البرلمان الأوروبي، فاختاروا تلك العيّنات بعد تدقيق، وأرسلوهم إلى مدينة بازل السويسرية، ليجرّبوا فيهم عقاراً جديداً للإدمان العقائدي. هذه العيّنات، هم أربع شخصيّات من مرجعياتٍ مختلفة، جعلوها تتجاور في مكانٍ واحد؛ حاتم الحاتمي، الذي يعرّف نفسه؛ مدمن قومية عربية، وغزوان البابلي؛ خرّيج سجون، ومن محبي أهل البيت، وبشيرة حسّون؛ يسارية، ودلاله؛ مبشّرةٌ آثورية. هيّأت لهم شركات صناعة الدواء إقامةً على طرف المدينة، في سكنٍ جامعيٍّ غير بعيدٍ عن مواقع الشركات.

المهووسون بالأوهام

وقد انتُدب مشرفاً لهم على معالجتهم عراقيٌّ أيضاً، دكتور بلاسم؛ اختصاصي في الطب النفسي، وبات يسمّى بينهم" حلّال العقد"، وهي شخصيةٌ مثيرةٌ للجدل بأفكارها المتفتّحة المطروحة في الرواية. أحبّ سندس ابنة بشيرة من طليقها، وتأسّف لأنّه لم تكن ضمن الفريق الذي يشرف عليه. حين أُوكلت المهمة، إلى بلاسم، ضحك على تشخيص العراقيين عامةً، بأنّهم مدمنو عقائد، وأسرى أوهام، تدفعهم إلى رفض أيِّ واقعٍ جديد، وحين جادلهم بأنّ هذه مشكلتهم الخاصة، أوضحوا له بأنّ لهم تأثيراً في حياة الآخرين، فتخشاهم دول اللجوء، حيث يجلب المهووسون بتلك الأوهام لمواطنيها الضرر. بلاسم الذي راح يعالجهم، بالاستماع إلى اعترافاتهم، وقصص حياتهم وأفكارهم، يعتقد بأنّهم بالغوا في توصيف الأضرار التي يسبّبها هؤلاء المهووسون، وأنّهم أخطأوا الهدف، فلم يُسمع عن عراقيٍّ نفّذ عمليةً إرهابيّة في أوروبا، فيرى أنّ العراقيين مظلومون، فهم كـ" سلسبيل له سمعة خل".

حنوٌّ عجيب

يعجب السارد العليم من دول اللجوء، بحنوّها الواضح على المحتمين بها اكثر من بلادهم، هناك يجتهدون في تطبيب أجسادهم وترميم نفوسهم، وإصلاح عطب أرواحهم. بطواعية، يدعونهم إلى تقبّل فكرة العلاج من الإدمان العقائدي، حيث لم يُجبروا عليها، ووضعوا تواقيعهم على الالتزام بتنفيذها عبر إجازةٍ صيفيّةٍ مغريةٍ في سويسرا، ولهذا سمّت الروائية إنعام كجه جي الرواية" صيف سويسري" وهو عنوانٌ جاذبٌ للقارئ، الذي كلّما توغّل في قراءة صفحاتها، يمضي قدماً، لمعرفة مصائر الشخصيات العراقية المنتخبة، إلى أين تؤول، وهل ستشفى من إدمانها العقائدي، وبقولٍ أكبر؛ هل يمكن إشفاؤهم من ذاكرة الماضي؟. الجمل الرشيقة، التي أتقنت كجه جي صياغتها، وكذلك المقاطع القصيرة بعنواناتها الدالّة على محتوى كلّ مقطع، تحفّز القارئ على قراءة الرواية بشغف.

قومي ويساريّة

جاء السرد من قبل راوٍ عليم، ويتناوب معه في الروي حاتم الحاتمي. وصوت سندس، الذي تُختتم به الرواية. سردهم تمثّل في طرح ماضي هذه الشخصيات في العراق، ومن ثمّ مآلهم الآن في المنفى، في فترة العلاج السويسري.

ترمي كجه جي سنّارة التشويق للقارئ منذ الصفحة الأولى، حيث يتحدّث الراوي المشارك حاتم حاتمي عن ولعه بالتي يصحو وينام وهو يتمتم باسمها، فهي لم تفارقه بعد كلّ تلك السنوات في العراق وفي بلد لجوئه الأوروبي. يعلم القارئ بعد صفحاتٍ كثيرةٍ من الرواية، أنّ تلك التي يتحدّث عنها حاتم هي بشيرة، التي تتداعي ذكرياته في العراق عنها، حين كان ضابط أمن، ويتذكّر الحادثة المرعبة، التي أرعبت أهل الحي، حين أُمر الرفاق البعثيون بقتل رفاقهم، وهنا الحاتمي يقتل صديقه "أبو محمد". وهو يقرّ في جلسات العلاج بكلّ الممارسات القمعية، التي أُمر بها ونفّذها، حيث كان ضابط أمن، من ضمن مهمّاته، مراقبة بشيرة اليسارية، إذ كانت جارته، يراقبها بتكليفٍ من قبل السلطات الأمنية. وهو الذي أنقذها حينما زجّت في السجن، فأناب المحقق بالتحقيق معها، ومن ثمّ بطريقته الخاصة، أطلق سراحها. بشيرة علمت لاحقاً أنّه هو من كان يراقبها. فواجهته بذلك في مجمع إقامتهم السويسري. ذاك يقود إلى تجديد علاقة حبٍّ نشأت في بغداد، فقد كان يحبّها، منذ ذلك الوقت. الآن علمت بحبّه القديم لها فتزوّجا. كجه جي ركّزت على شخصيّتي الحاتمي وبشيرة، بصفتهما يمثّلان أكبر تيارين سياسيين سائدين في العراق؛ القومي والماركسي.

بين الوطن والمنفى

مسار السرد، يمرّ عبر غربال المقارنة بين الوطن والمنفى والتداعي الحر للأفكار والعواطف، فسونيا، الممرّضة، التي تناولهم الحبوب البرتقالية والصفراء والخضراء، تلك الحبوب التي فعلت فعلها، فأعتقت الألسن المربوطة، فأفصحت وباحت بحيثيات ماضيها. الممرضة أثارت في الحاتمي ذكرياته مع النساء في بغداد؛ الزوجة، التي وجّه لها صفعة، بعد أن غسلت بدلته الحزبية، التي أهداها إليه الرفيق القائد، وظلّ يرتديها بعرقها طوال أسبوعين، هو نوعٌ من عبادة الفرد، التي تجسّده الدكتاتوريات. غير الزوجة، هناك الفتاة التي تكتب الشعر، التي يريد أن يجعلها زوجة ثانية انتقاماً من الأولى، غير ذلك مغامراته مع (الكاولية). لكنّ السفن لم تجرِ كما يشتهي النظام الدكتاتوري آنذاك، فيحكي قصّة طلبه اللجوء، إذ اختار أن يكون إنسانيّاً لأسبابٍ مرضيّة، فلا أحد يصدّق لجوءه السياسي والنظام مازال قائماً آنذاك. وها هو في بازل، يفكّر في مصائر رفاقه. فقد كان عازماً على عدم تغيير قناعاته الفكرية، فهي محفوظةٌ في" بقجة الممتلكات الثمينة" .

تأتي الرواية على سيرة بشيرة حسون، التي كانت مترددةً في قبول دعوة رعاية المهاجرين للذهاب إلى سويسرا، لأجل العلاج من إدمان العقائد، وهي اليسارية، فاشترطت رفقة ابنتها لها، كحجّة لعدم الذهاب، لكنّهم وافقوا، ومن ثمّ أدركت بأنّها فرصةٌ لأن تسترخي في بازل، في سويسرا قبلة الميسورين العرب، بصيفها الرائق، على ضفاف بحيرة جنيف، الأثرياء الذين يصفها حزبها بأنهّم "مصاصو دماء الشغيلة. لا بدّ من تأميم ثرواتهم ومصانعهم. انتزاع أراضيهم وتوزيعها على الفلاحين وأبناء الشعب". ومع عدم وجود رغبةٍ حقيقيةٍ في تحقيق أغراض فكرة العلاج من الإدمان العقائد "ستضحك على دائرة الاندماج وتذهب لتمدّ ساقيها في شمس بازل". سخريّتها وصلت إلى أنّها تموت من الضحك، وهي تستمع إلى قصص نظرائها. هذه الساخرة، تعتبر نفسها ذات تاريخٍ نضاليٍّ مشرف" اغتصبوها ولم تعترف. تلوّثت لكنّها خرجت نظيفةً من عار الوشاية. ينحني الرفاق لتضحيتها. والرفيقات"، زوّجوها ستراً لها من رجلٍ غريب الطباع، يرطن بأسماء أساطين الفلسفة الماركسية والأدب الروسي. تشرّدت معه بين العواصم بيروت ودمشق وعدن، وحين وصلوا قبرص، حمل أغراضه ورحل.

وإذا كان حاتم وبشيرة، بعد انتهاء الإجازة السويسرية، عادا إلى ألمانيا، منفاهما الأول، واستقرا هناك، فإنّ غزوان عاد إلى العراق، وأصبح ذا نفوذ ديني، أما دلاله، فقد عادت أيضاً إلى موطنها في كردستان، وهي المبشّرة ضمن شهود يهو، وهي منظمةٌ تبشيريّةٌ انتشرت في الولايات المتحدة الأميركية، وهي كانت محظورةً في العراق، كان زوجها لاعب كرة قدم عراقي . دمّرت زواجها ومضت بعيداً في مهمتها التبشيريّة، فسُجنت مرّات عدة، وبالنتيجة تركت زوجها في العراق، وهربت إلى المنفى.

وفاق وشقاق

في بداية الرواية، تصوّر فنتازي من قبل الراوي العليم، عن مقهى بغدادي، تجتمع فيه شخصيات العراق في تاريخه القريب والبعيد، هو "مقهى وفاق"، بكلّ ما لهذه الكلمة من معنى، فتتوافق فيه شخصيّاتٌ مثل الملك غازي وعبد الكريم قاسم وصدام حسين ونوري السعيد، وسليمة باشا ويونس بحري، والرفيق فهد والسيد الصدر، جميعهم يتقاسمون التخوت. بهذا التوافق الفنتازي، يتحقّق حلميّاً كلّ ما هو معاكسٌ للواقع الحقيقي، حيث" يصبح اللامعقول معقولاً، تجفّ سواقي الدم التي لوّثت دجلة وعكّرت الفرات.." هي رؤيةٌ تلوّح بأن ما صار اليه العراق، من توزّع أبنائه في الشتات، ما هو إلاّ نتيجة اللا توافق بين مكوّناته في التاريخ القريب، وتحديداً في القرن العشرين. اللا توافق، صوّرته كجه جي، بمقهى فنتازي أيضاً، في أواخر صفحات الرواية، سمّته هنا" مقهى الشقاق"، فترسم هنا صوراً معاكسةً لشخصيّات مقهى التوافق ذاتها، وكلّ واحدةٍ منها، تجلس بمفردها، مثلاً" جلس الملك غازي يلعب الشطرنج وحيداً. يدير ظهره لعبد الكريم قاسم" عكس الطاولة الجامعة بينهما في مقهى التوافق. وتُذكر الشخصيّات ذاتها ولكنّهم هنا مستعدّون للتضارب بالكراسي. بهذا تلقي كجه جي تبعة انهيار البلاد على الأيدلوجيات المتصارعة، حيث في الشرق، لا معنى للاختلاف سوى الخصومة، وإقصاء الرأي الآخر. ما شكّل أرضية دكتاتورية، نمت فيها جميع السلبيات القاتلة، مثل تأليه الدكتاتور، والتعصب الأعمى، واستخدام أبشع أنواع العنف في تعذيب المعارضين.

بهذه الفنتازيا السوداء، تريد كجه جي إقناع القارئ بأنّه هذا هو الواقع العراقي الحقيقي" لا غشاوة على عيني المشاهد ولا مونتاج يتلاعب بالصور، يقصقص ويلصق كما يشاء". هذه الفنتازيا، تبدو معلّلةً لمحصّلة الرواية من أنّ شخوصها فقدوا الإيمان بقدرة العلاج السويسري، على انتشالهم من الخدر وجمود الماضي، بهتوا من أنّ حبوب العلاج حوّلت غزوان الساخر، الذي التزم بابتلاعها إلى شخصٍ رزينٍ متجهّم مثل حارس سجن، كأنّه صفن صفنةً كبيرةً على ماضيه المُعذّب، غزوان الذي "عاش خيبات متتالية لا تجتمع إلاّ في عمر واحد إلاّ لعراقي" . إذ ذاك بدء الباقون بالتحايل على ابتلاعها، خشية أن يتحوّلوا مثل غزوان. وإذا كان تناول العقار ركناً أساسياً، فإنّ عدم التزامهم يعني فشل التجربة، ومن ثم استمرار ولائهم لماضيهم، ماضي التعصّب لعقائدهم.

***

باقر صاحب - كاتب عراقي

...........................

* صدرت الرواية عن منشورات تكوين والرافدين- الكويت- بغداد- بيروت عام 2024.

 

يُعَدُّ الشعر من أبرز أشكال التعبير التي تعكس مشاعر الإنسان بكل تفاصيلها، وتتناول قضاياه الأساسية، خاصةً في أوقات الأزمات والصراعات. في هذا السياق، يأتي كتاب "الشعر نداء للسلام: دراسات لأصوات شعرية عربية" للناقد والمخرج السينمائي اليمني حميد عقبي، المقيم في فرنسا، ليقدّم أصواتًا شعرية متنوعة تتناول موضوع السلام. يستعرض الكتاب تجارب اثني عشر شاعرًا، وهم: صبري يوسف، أحمد الفلاحي، ابتسام أبو سعدة، سمير بيّة، دورين سعد، بدر السُّويطي، مفتاح العلواني، آية الوشيش، عبد الودود سيف بن سيف، مروة أبو ضيف، سرجون فايز كرم، وفخر العزب. تأتي هذه الأصوات من خلفيات ثقافية متعددة، مما يُثري الحوار حول دور الشعر في معالجة قضايا الحرب والسلم.

يتناول عقبي في مقدمته أهمية الشعر في معالجة هذه القضايا، مشيرًا إلى الفعاليات الثقافية التي تُعقد سنويًا لتعزيز الحوار في هذا الشأن. من خلال هذا العمل، يسعى عقبي إلى تقديم رؤى جديدة حول قدرة الشعر على تجسيد الأحلام والطموحات الإنسانية في عالم مليء بالتحديات، مما يجعل هذا الكتاب خطوة مهمة نحو تعزيز الوعي الثقافي والإنساني في المجتمع العربي. يتألف الكتاب من 204 صفحات، وصدر عن دار صبري يوسف في ستوكهولم، السويد، في مطلع هذا العام 2025.

تجارب شعراء من ثقافات متنوعة

استعرض عقبي في كتابه تجارب شعراء مميزين، بدءًا بالأديب والتشكيلي السوري صبري يوسف، الذي يُعتبر واحدًا من الأصوات الأدبية والفنية المؤثرة في المشهد الثقافي العربي. يجمع يوسف بين موهبة الكتابة وفن الرسم، مما يُتيح له التعبير عن رؤيته للعالم من خلال عدة أبعاد فنية. يتميز بأسلوبه الشعري الذي يحمل تأملات عميقة حول الحياة والإنسان والطبيعة، حيث تعتمد نصوصه على الرمزية والتشبيهات المبتكرة، مما يعكس تجربته الشخصية كفنان يعيش في زمن الفوضى والصراعات.

السَّلامُ مطرٌ نقيٌّ 

يهطلُ مِن أحضانِ السَّماءِ 

نعمةً عَلى جبينِ البشرِ! 

*

خُصوبةٌ يانعةٌ متدلِّيةٌ 

مِن عُيُونِ اللَّيلِ .. 

مِن نقاوةِ النَّدى! 

*

نورٌ يزدادُ سُطُوعاً كَوَجْهِ الصَّباحِ

تظهر هذه الأبيات أسلوبًا رمزيًا قويًا، حيث يُجسّد السلام كنعمة تُهطل من السماء، مما يعكس الأمل في الخلاص. استخدام الاستعارة يعزز من شعور القارئ بجمالية السلام، في مواجهة قسوة الواقع.

أما أحمد الفلاحي، الشاعر اليمني البارز، فيُعتبر من أبرز الأصوات الشعرية المعاصرة في اليمن. وُلِد في بيئة ثقافية غنية ساهمت في تشكيل رؤيته الشعرية الفريدة. من خلال تنوع نصوصه وعمقها، يعبر الفلاحي عن القضايا الإنسانية والاجتماعية، مُبرزًا معاناة الشعب اليمني في ظل الأزمات والصراعات. يتميز أسلوبه بلغة مكثفة وصور رمزية قوية تعكس قلق الإنسان العربي في مواجهة واقعه المعقد.

"الآن وقد بدأ العام"

ألآن وقد بدأ العام، 

ماذا يعني؟ 

الحرب ما زالت تبيض، 

والأطفال يلتحفون الرَّماد، 

وأسماك الزِّينة تركض في الحوض. 

لا جدوى سوى الآهات 

تكرّر زفراتها، 

والأوطان تسكب عبراتها، 

والموتى 

يتوسّدون اللَّحد. 

الكربون يفيض بالماء، 

والبيئة تغتاظ.

تتسم هذه الأبيات بالقلق والاحتدام، حيث تعكس معاناة الشعب اليمني. الصور الشعرية المكثفة تُظهر الفوضى التي تعيشها المجتمعات، ويبرز استخدام الرموز مثل "الأطفال يلتحفون الرَّماد" عمق المأساة الإنسانية.

من جهة أخرى، تُعد ابتسام أبو سعدة، الشاعرة الفلسطينية، من الأسماء اللامعة في الساحة الأدبية العربية. وُلدت في بيئة غنية بالتاريخ والثقافة، مما شكل لها مصدر إلهام دائم في كتاباتها. تعبر قصائدها عن الآلام والتجارب الإنسانية التي يعيشها الشعب الفلسطيني، مستندةً إلى الذاكرة والحنين. تتميز أسلوبها الشعري بالتجديد والعمق، حيث تمتزج فيه المشاعر الخاصة بالمعاناة مع القدرة على تصوير الجمال.

أخبريه حين أموت.. 

أن ثمة لاجئة تعبت من الشتات وحطت على صدره 

امرأة تفتش بين أغصان الأشجار العتيقة على أحرفٍ 

نقشها العشق قديمًا فلم تمت. 

تعبث بالأوراق اليابسة عن أثرٍ لقبلاتكما المختبئة خلف الأسوار 

تخبِّئ آخر رصاصة يحملها مقاوم في صدرها.. سيُنهيها بها يومًا.. 

وأن ثمة موتًا يعيش في قلبي ولا يقتله.. 

أخبريه كم كان حزنه متورِّطًا في حزني 

وكم كان وجعه متوغِّلاً في لحمي.

تتجاوز هذه الأبيات حدود الألم الشخصي لتصبح تأملًا في الهوية والحنين. تُبرز الشاعرة الصراع بين الحياة والموت، مما يُكسب النص عمقًا عاطفيًا يعكس تجارب اللاجئين.

عبد الودود سيف بن سيف، رمزٌ للشعر اليمني المعاصر، حيث تمتد تجربته لأكثر من نصف قرن، رغم قسوة الواقع والأزمات المستمرة التي تعصف باليمن. بعيدًا عن الأضواء، يجد الشاعر في منصات التواصل الاجتماعي متنفسًا لنشر قصائده، متجاوزًا بذلك غياب الدعم الإعلامي الذي يعاني منه الكثير من المبدعين.

تتسم قصائد بن سيف بتجسيد المعاناة الإنسانية تحت وطأة الحرب، حيث يعيش الشاعر في عالم يتبدل فيه ثمن الرصاص ليصبح أقل من ثمن الخبز. هذه الصورة تعكس واقعًا مأساويًا يتمثل في مفارقات الحياة والموت، حيث تتقاطع الأبعاد الإنسانية مع القسوة التي تفرضها الظروف.

تداعيات.. بدخول عمر الرَّابع والسَّبعين. 

١ ـ متعّبٌ! ودمي مطبِقٌ في خناق دمي. أحتمي بعناد الطَّلاسم؟ 

أم أرتمي صوب اَخر قبَّرةٍ سوف تسطعُ جاهشةً من زنادِ فمي؟ 

أم أؤجِّلُ هذا الدُّعاءَ وهذا الدُّعاءَ إلى حلمٍ مرجأٍ، سوف يصدحُ 

ثانيةً، ربّما، من رمادِ شذى الياسمين؟ 

الطَّواحينُ عامرةٌ. والسَّلاطينُ إنْ كسروا أمةً؛ أسروا أمّةً. 

وليكنْ! تلك أحلامهم. هم يخافون عنفَ الشّذى، ونعافُ صنوفَ 

الأذى. فلماذا إذا افتتحوا قريةً قاسمونا البطولةَ؟ 

إنَّ الشَّجى يستجرُّ الشَّجى. والرَّمادُ إذا حاصر الجمرَ أرمدها عنوةً. 

فلندع ما "لروما" لقيصرها! ولنقلْ: إنَّ بعضَ الرَّثاءِ، إذن، صالحٌ 

للهجاءِ.

تعبّر الأبيات عن حالة من الألم والاختناق، حيث يصف الشاعر معاناته الداخلية ويطرح أسئلة وجودية حول الهروب من الواقع. يتردد بين الأمل والإحباط، مشيرًا إلى حلم هش قد يصدح من "رمادِ شذى الياسمين". كما يتناول الظلم الاجتماعي والسياسي، متسائلًا عن الهوية والانتماء في ظل الاستبداد. في النهاية، يعكس استمرار الألم، مشيرًا إلى أن الحزن يمكن أن يحمل قيمة في التعبير الفني، مما يجسد رحلة البحث عن الأمل في سياق المعاناة.

يُعَدُّ الدكتور سرجون فائز كرم، الشاعر اللبناني، صوتًا مميزًا في عالم الشعر المعاصر. ينسج كرم قصائده بأحلام نابضة بالمحبة، متجاوزًا قسوة البعد عن الوطن. نصوصه ليست مجرد كلمات، بل لوحات حية تنبض بروح بيروت المتعبة، التي تحمل في طياتها أملًا لا ينطفئ. تتداخل مشاعر الغربة والحنين، مما يجعل من بيروت رمزًا خالدًا للحياة التي تعاند القبح والانكسار.

من خلال صور متشابكة ودلالات ساحرة، يفتح كرم نافذة على عالم شعري يمزج بين التشظي الداخلي والرغبة في السلام. تتجاوز قصائده حدود الألم لتكون دعوة للتأمل في قوة الحب والإبداع، حتى في وجه الصراعات. كل نص يُعتبر استكشافًا لذاته، حيث لا ينسى وطنه لحظة. تتكرر أسماء المدن في قصائده، مما يجعل القارئ يشعر وكأنه يعيش اللحظة بكل ما فيها من معاناة.

بيروت

الغربان تتداعى إلى الاجتماع 

فتتداعى فيه. 

*

في يدي البرهان 

حين يخرج ظلّي في مظاهرة خلفي 

كي يمسك يديك فوق علبة سجائري 

تشعلان لينطفئ الكون 

فأرى… 

*

في بيروت 

أحبّ الناس وأكره جثّة القصيدة 

التي تفوح بي ومنّي، 

وأصلّي أن يعود الله غدًا من حيث جاء 

وثغره الباسم 

وردة ملء يديه.

تتسم الأبيات بالحنين والارتباط بالوطن. استخدام الرمزية يعكس التوتر بين الجذور والغربة، ويظهر كيف يمكن للشعر أن يكون وسيلة للتعبير عن الحب والافتقاد.

تفرض الحرب نفسها كواقع مؤلم في أغلب الكتابات الإبداعية اليمنية، مما يجعل من الصعب على المبدعين ابتكار وهم السعادة في وطن يعاني. في خضم هذه المعاناة، تبرز تجربة الشاعر فخر العزب، الذي يعبّر في قصائد عن الألم والبحث عن الأمل والسلام. تتسم نصوص العزب بالتكثيف والتشظي، مثلما يتجلى في قصيدته "التقاطات"، حيث يُستخدم "الوعل اليماني" كرمز للحوار الذاتي، مما يجسد القوة والصمود في مواجهة الخراب.

التقاطات

أخبِّئ نفسي في قرن وعلٍ يماني 

هكذا أصافح التاريخ 

وأصاحبه في حله وترحاله 

وأكوِّن نديمه 

حين يشرب النَّبيذ من أباريق الجرار. 

*

أكوِّر نفسي في نعيق غراب 

يستريح على ساحل "صيرة" 

تحت عيون شمس الظهيرة 

وهو يفكر كيف يقضي يومه في معية البشر 

(غاق.. غاق) 

وأنا بلا صدى 

كاسمٍ عالقٍ في هامشٍ منسي.

تُبرز هذه الأبيات قوة الرموز، مثل "الوعل اليماني"، كوسيلة للحوار الذاتي. النص يعكس الصمود في مواجهة الأزمات، ويظهر كيف يمكن للفن أن يكون ملاذًا في أوقات الشدة.

بدر السويطي، شاعر ومترجم وروائي عربي، ينسج قصائده من عمق الأحلام، ويطلقها كزفرة تحمل آهات الحياة، لكنه يظل مبتسمًا، متمسكًا بالأمل. تتجلى في عناوين دواوينه عناصر النفي والغياب، مما يعكس حلمه بالسلام والوطن. ورغم غنى تجربته الشعرية، إلا أنها لم تحظَ بالاهتمام النقدي الكافي.

نموذج من ديوان "شوارع برائحة القهوة والمطر"

مرَّتِ الأيَّامُ بلذَّتِها ومرارتِها 

بلهفةِ شاعرٍ يَترقَّبُ المَواعيدَ 

يرتشفُ قهوتَهُ الصَّباحيّةِ 

وينظرُ للساعةِ مُرتبكاً 

قَلقٌ كعصفورٍ على غُصنٍ 

يرتجفُ قلبُهُ مِنْ شدَّةِ القًلَقِ 

وثرثرةِ الرِّيحِ في أكشاكِ الهواتفِ 

العموميَّةِ المطليّةِ بالأحمرِ 

تردِّدُ كذبةَ نيسان 

لتزهر الأحلامُ في الرَّبيعِ 

لقاءٌ وعناقٌ 

يا إلهي لقَدْ مرَّ الزَّمنُ مِنْ هنا 

حَاملاً على ظهرهِ ما تبقَّى مِنَ الزَّمنِ 

كحافلاتِ "لندن" الحَمراء 

تَقلُّ الرُّكَّابَ إلى وجهتهم 

وتُكمِلُ مسيرَها في صخبِ المدينةِ 

الَّتي كانَتْ تجلسُ بالقربِ منّي 

وأنا أحاولُ حَلَّ أحيائِها المتقاطعةِ 

هكذا مرَّ الزَّمنُ 

في مدائنِ المطرِ والضَّبابِ 

وذهبت إلى النِّسيانِ 

لأكملَ سيرةَ النَّفي والغيابِ!

تُعبر هذه الأبيات عن الزمان والمكان كعوامل مؤثرة في تجربة الإنسان. الأسلوب السلس يعكس الأمل في الحياة، رغم المعاناة، مما يجعلها تعبيرًا عن البحث عن الجمال في الفوضى.

تُبرز قصائد دورين سعد الشاعرة اللبنانية عمق المعاناة الإنسانية، مسلطةً الضوء على كوارث الواقع وآلام المرأة، الضحية الكبرى للأزمات الاقتصادية والسياسية. تتجنب الهروب إلى المتخيّل، بل تسعى لجعله يعيد تشكيل الواقع، فتطرح أسئلة وجودية عميقة دون إجابات جاهزة. تعكس كتاباتها جماليات التعبير بلغة بسيطة، تلامس الجروح المؤلمة، وتجسد مشاعر معقدة تعكس حالة المرأة التي فقدت القدرة على الاستمتاع بالحياة.

لا تسألها

لا تسلْ عن حزنٍ حفر في عيني امرأةٍ 

أو ابتسامةٍ غابت عن شفَتي وردةٍ 

كانت تُضيء الحياة، 

تلك المرأة لا تُشبه نساء الأرض. 

لا تُفرحها حفلة راقصة 

ولا يُغريها غنَّآء…

تُبرز هذه الأبيات الصراع الداخلي للمرأة. الأسلوب المباشر يعكس الألم والمعاناة، مما يُكسب النص طابعًا واقعيًا، ويعبر عن حالة فقدان الأمل.

كما تمثل الشاعرة الليبية آية الوشيش صوتًا شابًا يتجاوز الحدود التقليدية للشعر، مُعَبِّرةً عن واقع مجتمعها المليء بالتناقضات والصراعات. تجمع في كتاباتها بين السخرية الحادة والبوح الأنثوي الشجاع، مُسلِّطةً الضوء على تجارب ذاتية ومجتمعية في مواجهة الأزمات الكبرى مثل الحروب والفقدان.

وانتظرتُكَ

حتَّى جفَّ قلبي 

وصارَ زيتونة 

مجعَّدة 

انتظرت المواعيد 

الَّتي حلفت بابتسامتك العريضة 

أنَّها حقيقيّة 

خلف تكَّات السَّاعة 

كان قلبي يركض كلّ ليلة 

أعدُّ الثَّواني وأراقصها 

وأصنع من الصَّبر حجاباً 

لكنَّك لم تأتِ.

تُعبر الأبيات عن الانتظار والأمل المفقود، حيث تتداخل الصور الشعرية لتظهر التجربة الإنسانية المعقدة. الأسلوب يمزج بين السخرية والجدية، مما يجعل النص مستنيرًا بتجارب الحياة.

أسلوب أدبي متنوع

في كتابه "الشعر نداء للسلام"، يتبنى حميد عقبي أسلوبًا أدبيًا متنوعًا يجمع بين السلاسة والعمق، مما يتيح للقارئ الانغماس في عالم من المشاعر والأفكار. يتسم أسلوبه بالرمزية، حيث يستخدم الصور الشعرية لتجسيد القضايا الإنسانية المعقدة، مثل الحرب والسلام.

يمثل أسلوب عقبي في الكتابة جسرًا بين الألم والأمل، حيث يسلط الضوء على قوة الشعر كوسيلة للتعبير عن التجارب الفردية والجماعية. من خلال تناوله للوضع النفسي وتأثير البيئة، يظهر كيف يمكن للكلمة أن تكون أداة للتغيير والتواصل في عالم مضطرب. إن هذا الكتاب، بعمقه ورمزيته، يدعونا جميعًا للتفكر في دور الأدب في بناء عالم أكثر فهمًا وتسامحًا.

كما تكمن أهمية هذا الكتاب في دراسة تجارب متنوعة ونصوص جديدة تنتمي أغلبها إلى ما بعد الحداثة، حيث لا تزال دراسة مثل هذه النصوص قليلة. ومثل هذه الأعمال يصعب أن يتم تطبيق مناهج النقد القديمة أو المتداولة، فهي تتميز بالتداخل مع فنون صورية وأجناس متعددة. وكان تناول عقبي لها بعين سينمائي وفنان تشكيلي، ولم يكن تشريحًا نقديًا أكاديميًا. في تحليله للنصوص، نلمس كأنه أشبه بالدراماتورج الذي يحاول معالجة هذه النصوص مسرحيًا، أو السيناريست الذي يبحث عن المشهدية واللقطات المؤثرة التي تحمل عمقًا رمزيًا ودلاليًا وجماليات بصرية. اتبع عقبي منهج التحليل الموضوعي والنفسي، لكنه يذهب أكثر من مجرد تقديم تحليلات نقدية للدراسة الأكاديمية، كونه حاول محاورة المبدع عبر نصه وفهمه، والكشف عن نداء السلام الذي قد يأتي همسًا أو صراخًا أو مجرد حلم في هذه النصوص. كل هذه الأصوات من بلدان أصابتها الحرب والخراب ويعبث بها الموت، صورت نصوصهم لقطات من هذا الرعب المخيف والقلق النفسي وفداحة الفقد، ولكن يظل الأمل والحلم وحب الحياة والعشق للجمال رغم قسوة الواقع ورعبه.

في ختام هذا الاستعراض، يتضح أن كتاب "الشعر نداء للسلام" لحميد عقبي لا يقتصر على كونه مجرد مجموعة من النصوص الشعرية، بل هو تأمل عميق في الإنسانية وآلامها. يعكس الكتاب قضايا معقدة تتعلق بالسلام والحرب، مستندًا إلى تجارب شعراء من خلفيات متنوعة. يمثل أسلوب عقبي في الكتابة جسرًا بين الألم والأمل، حيث يسلط الضوء على قوة الشعر كوسيلة للتعبير عن التجارب الفردية والجماعية.

***

محمد المخلافي - كاتب وباحث/ يمني

في قصيدة "مطر على خدّ الطّين"، ينسج الشّاعر العراقيّ حسين السيّاب خيوط تجربته الشّعريّة على نولِ كلماته، يرسم بدموع الحنين لوحة فنّيّة لتأمّلاته في الرّوح والوجود، يتناول مجموعة من المواضيع، بما فيها الحنين إلى الوطن، البحث عن الحبّ وعن الذّات، اليأس والتّأمّل في سرّ الحياة والموت، هذه المواضيع تجعل القصيدة مؤثّرة، وتعكس شدّة المشاعر الّتي يتمّ التّعبير عنها.

في هذا المقال، أقدّم رؤية شاملة، وتحليلا مفصّلا للقصيدة، أتناول فيه الرّموز والصّور الشّعريّة المستخدمة، والمضامين الرئيسيّة، اللّغة والإيقاع.

تسير بنا هذه القصيدة عبر دروب الرّوح؛ لتأخذنا في مسار عميق داخل أنفسنا، فتتكشّف لنا خبايا الذّات وأغوارها، وتتجسّد أمامنا صور من الواقع، ممزوجة بأحلام الشّاعر وتطلّعاته. 

في كلّ بيت من الأبيات، يتردّد صدىً لمشاعر إنسانيّة عميقة، تتجاوز حدود الزّمان والمكان، وتلامس قلوبنا بلطف، مثيرة فينا تساؤلات وجوديّة عميقة.

 تعكس هذه المشاعر تجربة إنسان يعيش في خضمّ زمن عصيب، يحمل في أعماقه حبّا لوطنه، وشوقا إلى الحياة.

يحمل العنوان صورة المطر على الطّين، وهو مشهد يختزل في بساطته جمال الطّبيعة وعظمتها، فقطرات المطر تتراقص على سطح الأرض، لترسم لوحة بديعة، تمتزج فيها ألوان السّماء والأرض في تناغم.

يرمز المطر إلى الحياة والخصوبة، بينما يرمز الطّين إلى الأرض والوطن والانتماء، فهو يحتضن البذور، لينبت منها الزّرع، إنّهما معا يشكّلان دورة الحياة في أبهى صورها. قطرات المطر تنهمر على الأرض، فتغسلها وتنقّيها، وتذكّرنا بقدرة الطّبيعة على التّجدّد والبعث من جديد.

هذه الثّنائيّة تخلق توازنا بين عنصريّ الحياة والموت، وتعكس رؤية الشّاعر للوجود؛ كدورة مستمرّة من الخلق والفناء، وهي دعوة للتّأمّل في أبسط مظاهر الوجود.

ينتقل بعد ذلك إلى الحديث عن ذاته، حيث يقول: "من دون جناح أغرّد خارج السّرب"، يصف نفسه بأنّه خارج السّرب، ليعبّر عن إحساسه بالاغتراب والوحدة والانعزال عن المجتمع، يشعر بالانفصال عن الآخرين، وأنّه يعيش في عالم خاصّ به مليء بالتّساؤلات والتّناقضات، يشبّه نفسه بطائر يغرّد، لكنّه بلا أجنحة، أيّ يحاول التميّز والتّفرّد عن الآخرين، لكنّه يفتقر إلى الأدوات أو القدرات الّتي تمكّنه من ذلك.

هذا الاغتراب ليس إحساسا شخصيّا فقط، بل هو وصف لحالة الضّياع الّتي يعيشها الإنسان العربيّ في عالمنا الحديث، حيث تسود الفرديّة والتّنافس، وصعوبة إيجاد مكانه.

يشعر السيّاب أنّه غريب عن ذاته، وغريب عن العالم من حوله، وهذا الشّعور يتفاقم مع تزايد الضّغوط النّفسيّة والاجتماعيّة الّتي يعيشها، يبحث عن ملاذ آمن، وعن مكان يشعر فيه بالانتماء، لكنّه يجد نفسه تائها في متاهة الحياة، حيث يحيط به الخوف والقلق.

هذه الحالة من الضّياع والاغتراب تعكس أزمة الهويّة الّتي يعيشها الإنسان العربيّ، الّذي يجد صعوبة في التّوفيق بين هويّته التّقليديّة وبين متطلّبات العصر الحديث.

يستخدم الشّاعر رموزا أخرى في قصيدته، مثل الغيم، الّذي يرمز به إلى الأحلام والأماني، أمّا السّرب فيرمز إلى الجماعة والمجتمع.

"يقرع طبول النّشوة": يستخدم رمزَ الطبول للتّعبير عن الفرح أو الاحتفال، لكنّه فرح محاط بالوحدة، كأنّه صدىً للاحتفال، يتردّد في مكان خالٍ، ويُعزَف في عزلة وانفراد.

"على حافّة القمر المنسيّ أجلس": يستعير صورة حافّة القمر، لتجسيد عزلته ووحدته، وكأنّه يجلس في مكان مهجور ومنسيّ.

تضيء هذه الرّموز لتكشف عن أعماق تجربته الإنسانيّة، فتدعونا إلى الاقتراب أكثر من روحه الشّاعرة، نستشعر صراعه في الحياة بين رغباته في الانتماء والوحدة، وبين إحساسه بالاغتراب، يعبّر عن أعمق مشاعره وأفكاره وآماله بطريقة مؤثّرة، يستخدمها كنوافذ تطلّ على عالمه الدّاخليّ، من خلالها نستشعر ألمه وأمله، يقول: "الغيم صاحبي"، وهذه استعارة لصفة الصّداقة مع الغيم، وتصوير لعلاقته الوثيقة بالطّبيعة، وكأنّه يجد في الغيم صديقا ورفيقا.

كما تتوشّح القصيدة بلغة مكثّفة قويّة ومؤثّرة، تتناغم فيها التّراكيب اللّغويّة الأنيقة، فتتجلى قدرته على تطويع اللّغة وتحويلها إلى أداة فنّيّة قادرة على التّعبير عن مكنوناته.

من أبرز الصّور الشّعريّة في القصيدة: "أطرّز النّجمات على خدّ اللّيل"، و"أتأمّل القيامة على أبواب المتاهة"، و"محمولاً على أكتافِ الذّنوب".

تشير هذه الصّور إلى رؤية الشّاعر إلى الكون والحياة، فالنّجوم الّتي يطرّزها على خدّ اللّيل ترمز إلى الأمل والتّفاؤل، يشبه اللّيل بصفحةٍ أو قماش أسود، والنّجوم كخيوط أو نقوش يطرّز بها هذا اللّيل، ليضفي عليه جمالا وبهجة، بينما القيامة الّتي يتأمّلها على أبواب المتاهة فترمز إلى الخوف والقلق.

قد تشير المتاهة إلى الحياة بصعوباتها وضياعها، بينما القيامة تحمل معنى النّهاية والموت، وهذا التّصوير يعكس تفكير الشّاعر في الموت كحقيقة قادمة بعد متاهة الحياة.

كما يظهر الحنين إلى الوطن والحبيبة في عدّة أبيات:

- "عواصفُ حنين تجتاحني": يصف الحالة الشّوق الجارفة الّتي تنتابه، مستخدما كلمة "عواصف"؛ للتّعبير عن قوّة هذا الشّعور وتأثيره عليه.

- "ثمّةَ لحظاتٌ لا تنسى كنتُ فيها بينَ ذراعيكِ أستريحُ من تعبِ الرّحلةِ": يستحضر ذكريات ولحظات دافئة قضاها في وطنه مع الحبيبة، فيشعر بالحنين إلى تلك الأيّام الّتي أحسّ فيها بالرّاحة والأمان والاستقرار.

- أحنُّ للشّتاء.. أطرِّزُ النّجماتِ على خدّ اللّيل": يعبّر عن حنينه إلى مظاهر طبيعيّة وأجواء معيّنة في وطنه، مثل فصل الشّتاء ونجوم اللّيل، حيث يرتبط ذلك لديه بذكريات جميلة وأوقات سعيدة.

- أتأمَّلُ القيامةَ على أبوابِ المتاهةِ": هذا البيت يحمل دلالاتٍ رمزيّة عميقة، ويمكن تفسيره على أنّه تعبير عن الحنين إلى الماضي، وإلى فترة ذهبيّة في تاريخ الوطن، حيث كانت الحياة أبسط وأكثر نقاء.

يستخدم السيّاب التّشبيهات والمشاهد الحسّيّة بشكل كبير للتّعبير عن المشاعر، مثل: "عواصف الحنين" و"تطريز النّجمات"، ممّا يجعل القارئ يشعر بقوّة الشّوق الّذي يعاني منه.

يوظّف بعض الرّموز مثل "المعبد" و"المتاهة"؛ للتّعبير عن أبعاد أعمق، مثل البعد التّاريخيّ والثّقافيّ، ويستخدم بعض التّناقضات في القصيدة، وبعض الصّور القويّة الموحيّة، للتّعبير عن حالة نفسيّة قلقة، وعن حالة الاغتراب والضّياع الّتي يعيشها، مثل: "وحيداً يقفُ بالمقلوب"، الّتي تشير إلى الفوضى والقلق، و"بينما تتسرّبُ زمرُ الجنِّ من الشّطآنِ"، الّتي تعكس بعض الأفكار السّلبيّة المتسلّلة إلى وعيه، أمّا "الشّطآن" فتمثّل المكان المألوف الّذي يتحوّل هنا إلى مصدر للتّهديد.

هذا التّصوير يخلق جوّا من الخوف وعدم الاستقرار، والشّعور أنّ قوىً مجهولة تتسلّل إلى حياتنا وتزعزع استقرارنا.

"يتلظّى دمي"، هذه العبارة تصوّر حالة الغضب أو الانفعال الشّديد أو الإثارة. يستعير صفة التّلظّي (الاشتعال) للدّم؛ ليصوّر الشّوق أو الحنين الملتهب الّذي يجتاحه.

يعكس هذا التّصوير عمق التّوتّر الّذي يتخبّط فيه الإنسان، والقلق الوجوديّ الّذي يساوره تجاه ما يهدّد استقراره.

يقول أيضا: أطرِّزُ النّجماتِ على خدّ اللّيلِ، الغافي على أسوارِ معبد ''إينانا''، يرسم هنا صورة ليل ساكن ومهيب، حيث يغفو اللّيل على أسوار معبد "إينانا"، إلهة الحبّ والحرب عند السّومريين، وهو من أقدم المعابد في العراق.

تطريز النّجمات على خدّ اللّيل، يضفي جمالا ورونقا على هذا المشهد، وكأنّه يزيّن ظلمة اللّيل بأضواء سماويّة.

هذا المزيج بين اللّيل، المعبد، والنّجوم يخلق أجواءً من السّحر والغموض.

"أتأمَّلُ القيامةَ على أبوابِ المتاهةِ"، بعد جمال اللّيل، ينتقل إلى مشهد معاكس تماما، حيث يتأمّل القيامة، محوّلا إدراك القارئ من المحسوس إلى الرّوحاني. هذه القيامة ليست قيامة منتظرة، بل هي قيامة متأمّلة على "أبواب المتاهة".

تشير المتاهة إلى الضّياع والتّيه، وكأنّ القيامة لن تأتي إلا بعد معاناة وتخبّط، وهذا ما يعكس رؤية قاتمة لحياتنا، حيث يرى أنّ الخلاص أو القيامة بعيد المنال.

"بشبقِ الصّمتِ أداوي خربشاتِ المطر على وجهي"، هنا يكمن المزج بين المتعة والألم، ممّا يوحي بلذّة كامنة في الصّمت، بينما "خربشات المطر" على الوجه، توحي بآثار الحزن والمعاناة.

يداوي الشّاعر آلامه بالصّمت، فالصّمت هو ملاذه الوحيد وراحته، يستعير صفة الشّبق للصّمت؛ ليصور احتياجه إلى الهدوء والسّلام، وكأنّه يجد في الصّمت ملاذا يشفيه من آثار المطر.

"حين شقَّ شطُّ البداياتِ مجرىً لحكايةٍ تسلّلَتْ من مخيِّلةِ الفرات"، في هذا البيت يشير إلى بداية قصّة أو تجربة جديدة.

"شطّ البدايات" يمثّل نقطة انطلاق، و"مجرى الحكاية" يجسّد مسار هذه التّجربة، والفرات، النّهر العظيم، هو مصدر الإلهام والإبداع، وكأنّ الحكاية قد ولدت من رحم هذا النّهر العظيم الّذي يشير به إلى الوطن.

"تمسّكتُ بأظافر الشّيطان، يمّمتُ وجهيَ شطرَ بابِ الأزل"، قوى الشّر هي "أظافر الشّيطان" الّتي ترمز إلى الخطايا والمعاصي، لكنّه في الوقت نفسه يتّجه نحو "باب الأزل"، أيّ نحو الله، أو الحقيقة المطلقة، ويستعير صورة أظافر الشّيطان لتجسيد حالة من الإصرار والعزيمة القويّة، في سبيل تحقيق هدف غير مشروع.

هذا التّناقض يعكس الصّراع بين الخير والشّر، بين الانجذاب إلى الملذّات ورغبة الإنسان في الوصول إلى الحقيقة.

"أسعى إليكِ، محمولاً على أكتافِ الذّنوب"، هذا البيت يكشف عن عمق العلاقة بين الشّاعر والمخاطب (المرأة)، فهو يسعى إليها، محمّلا بالأوزار، وهذا ما يعكس فكرة أنّ الحبّ قد يكون مرتبطا بالخطيئة، أو أنّ الإنسان قد يرتكب الخطايا بدافع الحبّ، قد يكون محمّلا بالهموم أيضا، الّتي تثقل عليه مسيرته فيعبّر عنها بالأوزار، يستعير أيضا صورة الأكتاف الّتي تحمل الأثقال؛ ليصوّر الشّعور بالذّنب أو الخطايا الّتي تثقل كاهله.

"فكِّي أبوابكِ الثّمانيَ لنتقاسمَ الخطايا السّبع"، يستعير هنا صورة الأبواب الّتي تفتح؛ لتصوّر الانفتاح على الآخر وتقاسم المسؤوليّة أو المصائب معه، ويطلب من حبيبته أن تفتح له أبوابها، لتشاركه خطاياه.

الأبواب الثمّانية قد ترمز إلى أبواب الجنّة أو النّار، وتقاسم الخطايا السّبع يشير إلى تحمّل تبعات الحياة وأوزارها، وهذا يقود إلى التّفكير في الموت وما بعده.

"وتظلّين خطيئتي المقدّسة الّتي لا تبصرُ النّورَ"، يستعير صفة القداسة للخطيئة، لإظهار حالة العشق، أو التّعلّق بشيء يعتبره خطيئة، لكنّه يحمل قيمة عالية في قلبه، ويخفيه عن النّاس كَسِرٍّ مكتوم في أعماق قلبه، أو كعاشق يخفي عن العالمين معشوقته، يجعلها سرّا بينه وبين نفسه، يتقبّلها بكلّ ما فيها من ألم ولذّة، أو كجرح لا يندمل، لكنّه يمنحنه شعورا فريدا لا يريد أن يشاركه فيه أحد.

"الخطايا السّبع" تشير إلى الخطايا الكبرى، لكنّه يضفي عليها بعدا مقدّسا، حيث يعتبر المرأة "خطيئته المقدّسة الّتي لا تبصر النّور"، وهذا التّعبير يوحي أنّ الحبّ، حتّى لو كان مرتبطا بالخطيئة، يبقى شيئا مقدّسا وساميا.

هذا البيت الشّعريّ عميق ومثير للتّساؤلات، فهو مليء بالرّموز الدّينيّة، ما يجعله غنيّا بالمعاني والإيحاءات، سأحاول تفكيكه وتحليله بشكل مفصّل:

- "فكِّي أبوابكِ الثّمانيَ": يرمز بها إلى أبواب بيتها أو قلبها، أو إلى الحواجز والصّعوبات الّتي يجب عليه تجاوزها ها للوصول إلى تلك المرأة، يطلب منها أن تكشف له عن هذه الجوانب وأن تفتح له قلبها. يمكن اعتبار الأبواب؛ كرمز لطبقات شخصيّة المرأة أو جوانبها المتعدّدة.

- "لنتقاسمَ الخطايا السّبع: يشير إلى الخطايا السّبع المميتة في المسيحيّة، مستخدما هذا المفهوم الدّينيّ بشكل مجازيّ، وقد يعني أيضا، الاعتراف بالضّعف البشريّ، والتّورّط في العلاقة والمشاركة في الألم والمعاناة، وهذا ما يعكس فكرة أن الإنسان خطّاء بطبعه، وأنّ الشّاعر والمرأة ليسا استثناء من ذلك.

- "وتظلّين خطيئتي المقدّسةَ الّتي لا تبصرُ النّور": يصف خطيئته بالمقدّسة، وهذا يضفي عليها طابعا خاصّا، ممّا يعني الحبّ المحرّم الّذي يشير إلى أنّ علاقته بالمرأة هي "خطيئة" في نظر المجتمع أو الدّين، إن كانت من دين آخر ويحرّم عليه الارتباط بها، لكنّها في نظره "مقدّسة" بسبب الحبّ الشّدّيد الّذي يكنّه لها.

- "الّتي لا تبصر النّور": هذه العبارة تعمّق فكرة السّريّة، وقد تعني أنّ هذه الخطيئة تبقى مخفيّة عن أعين النّاس، ولا يمكن البوح بها علنا، فهذه الخطيئة (العلاقة) الّتي لا يراها أحد هي شأن شخصيّ بين الشّاعر والمرأة، ولا يمكن لأحد آخر تفهّمها.

على الجانب الآخر.. رغم مما تحمله هذه القصيدة من أوجاع وإحساس بالاغتراب، إلّا أنّها توقد جذوة الأمل في القلب، فمثلا نجد احتفاءً عميقا بجمال الطّبيعة في العنوان، الّذي يحمل صورة المطر الملامس لخدّ الطّين، ثمّ تصوير لمشهد اللّيل المرصّع بالنّجوم، والحنين إلى الشّتاء.

هذا الاحتفاء بجمال الطّبيعة يعكس حساسيّة الشّاعر المرهفة، وقدرته على استشعار الجمال في مظاهر الحياة، وهذا الشّوق إلى الحبيبة، يمثّل قوّة دافعة تدفعه إلى الأمام، ويوقظ فيه الأمل.

يتفكّر الشّاعر في قيمة الوجود ومعنى الحبّ، الحياة والموت. هذا التّفكّر هو بحث عن المعنى، ما يضفي على القصيدة عمقا فلسفيّا وإنسانيّا، وفي النّهاية يتقبّل فكرة الخطيئة كجزء من التّجربة الإنسانيّة، ويراها بعين مختلفة، حيث تصبح "خطيئته المقدّسة"، وهذا ما يشير إلى قدرته على تجاوز الألم والمعاناة، وتحويلها إلى جزء من تجربته الرّوحيّة.

عن الإيقاع في القصيدة: نلاحظ بعض التّفعيلات المتنوّعة، ما يخلق إيقاعا حرّا يتماشى مع تدفّق المشاعر والأفكار، ويعبّر عنها بطريقة مباشرة وغير مباشرة. لا يقتصر الإيقاع على مستوى الأسطر والجمل فقط، بل يمتدّ إلى مستوى الكلمات والأصوات، والتّنوّع في طول الجمل وبعض التّكرار؛ وذلك لخلق إيقاع حرّ ومتجدّد، فالسيّاب يختار كلماته بعناية؛ لتكون متناغمة من حيث الأصوات والحروف، وهذا ما يخلق بعض الإيقاع الدّاخليّ، الّذي يضفي على القصيدة جمالا خاصّا.

أيضا: استخدم الشّاعر الأفعال المضارعة مثل: (أغرّد، يقرع، تتسرّب، يتلظّى، تجتاحني، أستريح، أجلس، أنظر، تدور، أحنّ، أطرّز، أتأمّل، أداوي، أسعى، نتقاسم، تظلّين، تبصر)، وذلك لإضفاء الحيويّة والاستمراريّة على النّصّ وجعله أكثر تأثيرا في المتلقّي، أو لإبراز إحساسه بالزّمن المتدفّق، والإفصاح عن مشاعره المتغيّرة، سواء كانت فرحا أو حزنا، أملا أو يأسا.

وبعد.. تحمل هذه القصيدة رؤية السيّاب للعالم والإنسان، ويمكن القول إنّها قصيدة مركّبة، تجمع بين عناصر اليأس والأمل، وتعبّر عن مشاعر متناقضة ومتضاربة، تعكس حالة الإنسان في مواجهة صعوبات الحياة وتحدّياتها، وتصوّر صراعه الدّائم بين الألم والمعاناة، وحياته الّتي تتأرجح بين لحظات الحزن والفرح.

***

صباح بشير - أديبة وناقدة فلسطينيّة

......................

مطرٌ على خدِّ الطّين

بقلم: حسين السياب

من دونِ جناحٍ أغرِّدُ خارجَ السّرب

توهّمتُ، وأُوهِمتُ أنّ الغيمَ صاحبي

وظلّي هناك...

يقرعُ طبولَ النّشوةِ

وحيداً يقفُ بالمقلوب

بينما تتسرّبُ زمرُ الجنِّ من الشّطآنِ!

يتلظّى دمي

عواصفُ حنين تجتاحني

ثمّةَ لحظاتٌ لا تنسى

كنتُ فيها بينَ ذراعيكِ

أستريحُ من تعبِ الرّحلةِ

دونَ قلقٍ

دون خوفٍ من مكانٍ

على حافَّةِ القمر المنسيِّ أجلسُ

أنظرُ لسنيِّ العمرِ

الّتي تدورُ في ساعةِ أبي

أحنُّ للشّتاء..

أطرِّزُ النّجماتِ على خدّ اللّيلِ

الغافي على أسوارِ معبد ''إينانا"

أتأمَّلُ القيامةَ على أبوابِ المتاهةِ

بشبقِ الصّمتِ أداوي خربشاتِ المطر على وجهي

حين شقَّ شطُّ البداياتِ مجرىً لحكايةٍ تسلّلَتْ

من مخيِّلةِ الفرات

تمسّكتُ بأظافر الشّيطان

يمّمتُ وجهيَ شطرَ بابِ الأزل

أسعى إليكِ

محمولاً على أكتافِ الذّنوب

فكِّي أبوابكِ الثّمانيَ لنتقاسمَ الخطايا السّبعةَ

وتظلّين خطيئتي المقدّسةَ الّتي لا تبصرُ النّور..

 

لا يمثل العنوان المصمم بعناية مجرد بطاقة تعريف للعمل الأدبي، بل يمتلك قوة تأثيرية هائلة تُساهم في توجيه القارئ، وإثارة اهتمامه، وحتى ترسيخ الكتاب في ذاكرته، فيمكن للعناوين الجيدة أن تصبح بوابات تجذب ذلك القارئ، مانحة إيّاه وعوداً ضمنية حول الأسلوب والمحتوى، أو ربما تُوقعه في شبكة من التوقعات والانطباعات التي قد تنتهي، في بعض الحالات، إلى خيانة للنص ذاته.

تتجاوز أهمية العنوان مجرد الجاذبية الأولى؛ فهو يلعب دوراً محورياً في تسويق الكتاب، خاصة في ظل هذه الموجة الكبيرة من الطباعة والنشر، وتعدد الخيارات أمام القراء، إذ تستطيع العناوين المميزة إثارة الفضول وتحفيز النقاشات، فعلى سبيل المثال لا الحصر، نجح عنوان مثل "ووترفون" للروائي نعيم آل مسافر، أو "إنجيل موكا" للشاعر علي فرحان، أو "نزيلات هاديس" للشاعرة إبتهال بليبل، أو "بتريكور" للشاعرة ذكريات عبد الله وغيرها من العناوين المشابهة، في أنْ يلفت أنتباهي –على أقل تقدير- ويدعوني للبحث في دلالته ومدى أرتباطه بمحتوى المطبوع، وهذا الأمر يبدو نسبيا ويختلف من شخص لآخر، حسب الذائقة الشخصية والتوجهات الفكرية.

تكمن قوة العنوان ربما في المخاطرة التي تكتنف هذه العملية، فالسعي وراء العناوين الجذابة قد يؤدي إلى تبسيط مفرط قد يقلل من قيمة العمل الأدبي، فقد تُختار كلمات مختزلة لا تعكس عمق المحتوى أو تفرده، مما يؤدي إلى انطباع غير دقيق عن النص، وعلى العكس من ذلك تكمن المخاطرة الكبرى أيضا في خلق توقعات عالية من خلال العنوان، قد تؤدي إلى إحباط القارئ أو خيبته، إذا فشل النص في الوفاء بما يَعِدُ به العنوان.

يشير جيرار جينيت في كتابه الذائع الصيت "عتبات النص" (Paratexts: Thresholds of   Interpretation) إلى أن العنوان يُعدّ جزءاً من العتبات النصية، وهي تلك العناصر التي تسبق النص وتوجه فهمه، فبالنسبة له لا يُعد مجرد عنصر تسويقي، بل هو بداية لتوجيه القارئ نحو توقعات معينة، يرسمها في ذهنه، ومن خلاله يتعرض إلى نوع من الغواية، حيث يُعدّ بمثابة فخ فكري يستثير الفضول، إلا أن هذا الفضول –كما ألمحنا سابقاً- قد يتسبب في خيانة النص نفسه إذا لم يطابق النص الواقع الذي يوحي به العنوان.

وفي هذا السياق، تظهر غواية القارئ كعملية إبداعية تهدف إلى خلق حالة من الجذب للقارئ نحو النص، فقد ينجذب إلى العنوان لأنه يَعِدُه بشيء جديد أو مثير، ولكن ما يحدث في بعض الأحيان هو أن هذا الوعد لا يتطابق مع محتوى النص، وهنا تكمن المفارقة بين العنوان الذي يعِد بشيء لافت للنظر، وبين النص الذي قد لا يكون قادراً على الوفاء بهذا الوعد، هذه الخيانة قد تكون مقصودة كجزء من استراتيجية فنية تهدف إلى تشويش القارئ وإثارة تساؤلاته حول العمل الأدبي.

قد تكون الخيانة، في بعض الأحيان، جزءاً من عملية إبداعية تهدف إلى تفكيك المعاني وتقويض التوقعات، يصبح العنوان، في مثل هذه الحالات، أداة للتمويه، حيث يعكس صورة مشوهة عن النص ويثير تساؤلات حول موثوقية المعنى الذي يقدمه العمل، وقد يكون هذا التحدي بين العنوان والنص، بين الواقع والمخيلة، وسيلة لتحفيز القارئ على إعادة التفكير في النص بشكل أعمق، فخيانة العنوان قد تكون خطوة أولى في اكتشاف عمق النص، وتفكيك طبقات المعنى التي لا تظهر إلا بعد تجاوز التوقعات المبدئية.

وهناك جانب آخر بالغ الأهمية، لا يمكن إغفاله، في دراسة العناوين يكمن في علاقتها بالسياقات الثقافية والاجتماعية التي تُنتج فيها، إذ أنَّ العنوان، بوصفه عتبة نصية وفقاً لنظرية جيرار جينيت، لا ينفصل عن الإطار الثقافي الذي ينتمي إليه النص، بل يعكس بوعي أو دون وعي التوجهات الفكرية والقيم الاجتماعية التي يتفاعل معها الكاتب، ففي هذا السياق، يتحول العنوان إلى مرآة تعكس روح العصر وتحدياته، فهو ليس مجرد علامة تجارية لتسويق الكتاب فقط، بل أداة تواصل مع القارئ تعبر عن انتماء النص إلى منظومة فكرية محددة.

ويمكن النظر أيضا إلى العناوين بوصفها مؤشرات للاتجاهات الأدبية السائدة؛ فهي تكشف عن نزعات الحداثة أو ما بعد الحداثة في الأدب من خلال اختيار الألفاظ، والتكثيف، وأحياناً اللعب باللغة أو الخروج عن المألوف، فالعناوين التي تستخدم كلمات غريبة أو مفاهيم فلسفية قد تعكس رغبة في استفزاز القارئ ودفعه إلى التفكير، بينما العناوين التي تركز على البساطة والوضوح قد تهدف إلى التقرب من الجمهور.

يُستخدم العنوان أيضاً لإبراز الهويات الثقافية أو التوجهات الأيديولوجية، حيث نجد أن بعض العناوين تحمل إشارات إلى التراث المحلي، كالمجموعة القصصية (كُلُلوش) للقاصة رغد السهيل، بينما تسعى أخرى إلى تجاوز الحدود الثقافية باستخدام مفردات ذات طابع عالمي، كـ (بوغيز العجيب) للروائي ضياء جبيلي، هذه الاختيارات ليست اعتباطية، بل تعكس رؤية الكاتب لموقعه، وما إذا كان يسعى إلى توطيد هويته الثقافية أو الرغبة بالخروج من أفق هذه الهويّة نحو العالمية، أو اللا محلية، على أقل تقدير.

لذا تتطلب لعبة العنوان مهارات نقدية متقدمة من الكاتب والقارئ، فهو ليس مجرد نافذة للاقتراب من النص، بل هو التحدي الأول الذي يُجبر القارئ على إعادة تقييم كل ما يعلمه عن النصوص والأدب بشكل عام، فالعلاقة بين العنوان والنص ليست علاقة ثابتة، بل هي علاقة متأرجحة ومركبة، يُصبح فيها العنوان نقطة البداية التي تحدد مسار القراءة، وتُثير الأسئلة الأكثر عمقًا حول الأدب ذاته.

***

أمجد نجم الزيدي

من خلال مجموعته الشعرية “ضربٌ على أوتار القصيدة“

أصدر الشاعر الدكتور نسيم عاطف الأسدي مؤخرًا مجموعة شعرية جديدة تحمل عنوان “ضربٌ على أوتار القصيدة” حيث تتنوّع قصائد هذه المجموعة بموضوعاتها التي يغلب عليها الطابع الرومانسي المُتَّسِم بطابع الحب والغرام والغزل مع وجود عدد من القصائد ذات صبغة نقدية ثائرة تعكس ما يسود أحوال الوطن العربي من ظروفٍ سياسية بائسة يعتريها الفساد بأشكال وصور متعدّدة الأوجه، ولكننا في هذهِ المجموعة الشعرية سنتناول بالتعليق والتعقيب على قصائد الجانب الرومانسي الغالب في هذه المجموعة.

إنّنا نجد في شعر نسيم الأسدي الوجدان الرومانسي للشاعر متلاقيًا مع التعبير الذاتي ليعبِّر عن تجاربهِ تعبيرًا مليئًا بالصور الشعرية والإيحاءات الغنيّة الموحية الخصبة.

إنّ شعر الدكتور نسيم الذاتي (subjective poetry) تعبيرٌ أصيل وصادق عن أحاسيسهِ ومشاعرِهِ وعواطفِهِ ووجدانه النابع من واقع خصب بذاتيّتهِ وذائقتهِ ومن قوة الخيال الخالق الذي هو البوتقة التي تنصهر فيها كل عناصر هذا العالم من ذهنية وشعورية.

ينتمي نسيم الأسدي إلى المدرسة الرومانسية في مجموعته الشعرية هذه إلى حدٍ كبير، تلك المدرسة التي يحلوا لعشاقها التغني بِلوعة وألم البُعد والفراق، هذا التغني الذي يدغدغ حواس المستمع، ويحمله إلى دنيا من شجن لطيف ولحنٍ أليف، دون أن يبعث في السامع أسى أو يدفع به إلى الإشفاق أو التعاطف على الشاعر الولهان المُتيّم المتألم بفعل وضعهِ الغرامي تجاه المحبوبة. أي أنّ الشاعر الرومانسي هنا يستعذب الشجن، ويحلّق في جو المعاناة، ويتغنى بالألم في كبرياء وعزّة، وفي رقّة وعذوبة كأنّهُ يداوي بنفسِهِ جراحَهُ، ويشدو لروحهِ بما يُرَوِّح عن نفسه. وهو في قصيدة “عودي أليَّ” (ص79) يظهر وكأنَّه يشقي نفسَهُ فذلك هو غايته ومبتغاهُ، حتى تنصهر روحهُ بالألم لتصدر عنها أعذب الألحان، فقد جاء في هذه القصيدة قول الشاعر:

عودي فَطَعمُ البُعدِ يُهلِكُني أسًى

والشوقُ يَفري في الفؤادِ وَيَقطَعُ

*

عودي فإنَّ العشقَ بَعدَكِ تائهٌ

يبكي بمحرابِ الغرامِ ويركَعُ

*

ما كُلُّ هذا الهجرِ يا أُمنيّتي

فالشوقُ مذبوحٌ هُنا يتوجَعُ

*

أتَرَكتِني وحدي يُجرِّحُني الصَّدى

وأناكِ يُطرِبُها أنيني تَسْمَعُ

*

عودي إليَّ فمَن سيُشعِلُ مُهجَتي

ولها بمحكَمَةِ الهوى مَنْ يشفَعُ

*

عودي إليَّ فليسَ طيفُكِ كافيًا

والصَّبرُ شابَ فليسَ صَبرُهُ ينفَعُ

لقد صوَّر شاعرنا نسيم الأسدي في الأبيات التالية من قصيدة “رُدّي تراتيلَ الغرامِ” (ص74)، عاطفةَ الحب تصويرًا شعريًا جميلًا، محَّص فيهِ تلكَ العاطفة النبيلة وشرّحها تشريحًا وجدانيًا رائعًا موفقًا ومجموع ما سجله من خفقاتِ قلبِهِ وهمساتِ روحِهِ يلقي الأضواء على نفسية هذا العاشق الصادق الذي يحلِّق في الأجواء العالية، فشاعرنا بتوصيفِهِ كشاعر الحب والجمال، قد أحبَّ في كلِّ أطوارهِ حُبًّا غامرًا أصيلًا، وكان يلتمس في حُبِّهِ ينبوع الشعر وصفاء الروح، فسجّل نتاج تجاربِهِ في شعرهِ الذي قبسه مِن الهام وجدِهِ ووحي عذابِهِ وبلائِهِ في العشق كما يتضح في أبيات هذه القصيدة التي يقول فيها شاعرنا:

صَلَّيتُ في محراب عينيها سُدًى

فبغيرِ عيني لحظُ عينيكِ انشغَلْ

*

للأمسِ ذكرانا يُسافِرُ عُمرُها

طيفًا يُغَرِّدُ في أمانينا الأملْ

*

أضحى السُّهادُ رفيقَ أحلامِ الصِّبا

ومضى يُسامِرُ لَيلَنا طيفُ الخجَلْ

*

ضَيّعتِ أيامَ السعادةِ كلَّها

تترنَّمين بضَربِ أوتارِ الزَّعَلْ

*

وَبِنا الغرامُ تَصَلَّبَتْ أقدامُهُ

فإليكِ بي يمشي الغرامُ وقد وَجِلْ

*

قد هامَ قلبي ينتشي مُتأمِّلًا

لكنّهُ رامَ السرابَ فما وَصَلْ

وهكذا، فشاعرنا مُحِبٌّ عاشقٌ ينظر للحب كمعنى مقدّس سام، ويظل هنا سادنًا ينشده أجمل ألحانِهِ وأرقّها، ويعيشُ في دنيا من الحب والجمال مليئة بالجمال والقداسة والسمو الروحي النبيل.

وما ورد في أبيات القصيدة أعلاه يفصح عن شأن الشعراء الصادقين مرهفي الحسّ والحالمين كشاعرنا د. نسيم الأسدي الذي رسم في هذه المجموعة الشعرية، عواطفه ومشاعره وأحاسيسه بصدقٍ وأمانة في شعرهِ وسجّل لنا خفقات قلبه واعترافات حبهِ.

ونرى في شعرهِ هنا عدة أوتار.. فهو أحيانًا يُمعِن في تصوير صبواتهِ العاطفية قريبة المزاج من شعراء الرومانسية المحلّقين والمتعبدين في معبد الجمال كأنّه يصلي للحب في شعرٍ يشكّل قصيدةً حالمة يكشف من خلالها لنا اللثام عن قلب أشرق الحب في ثناياه، فإذا هو خفقة من خففاتِهِ وومضة من ومضاتهِ، فهو مفتونٌ بالجمال يمتزج فيشعرهِ هنا الجمال والفن والحُسن وهو يصوِّر عاطفة الحب بصورة دقيقة تدل على عمق تجربتهِ في هذا السبيل وعلى فهمه لسرائر روح المرأة وتلوّنها. والرقة عند شاعرنا طبع أصيل عنده وقد ابتكر تعبيرات وكلمات موحية وأضاف ألى قاموس الوجدان تعبيرات قوية ومعاني عميقة رائعة في قصيدتهِ “فلنتَفِقْ” (ص27) حيث يقول فيها:

فلنتفِقْ! / أنّا إلى بحرِ الغرامِ سننطلقْ.. /

وسنقطِفُ الشوقَ المُدَلّى / من كرومِ الحُبِّ /

مِن قيثارةِ الأملِ المُحلّى / بينَ نغْماتِ السّرابِ /

بينَ آهاتِ القلقْ… / فلنتفقْ!

*

أنتِ المزيجُ الأوَليُّ.. /

الآخِرِيُّ.. الدُّنيويُّ.. / الدائريُّ.. السّرمديُّ /

الكوكبِيُّ.. المُستبيحُ المُحتَرِقْ…. / أنت المرايا.. /

والثنايا.. والزّوايا / والخبايا.. والهدايا.. /

والكتابةُ والورقْ…. / أنتِ التّحضُّرُ.. /

والتّبَشُّرُ.. والتبعثُرُ.. / والتبختُرُ.. / والتفكّرُ /

والتشرذُمُ والنَّسَقْ…. / أنتِ التفتُّحُ.. /

والتفسُّحُ.. والتبجُّحُ.. / والتأرجُحُ.. أنتِ

إنشادُ الحَبَقْ….

وفي قصيدة “ما عادَ ينفعُ في الغرامِ عتابُ” (ص 42) نلمس حرارة العاشق المدمن وصدق المحب المفتون وتلكَ العاطفة الدافقة حين يصوِّر مشاعره وأحاسيسهُ نحو محبوبتهِ الحسناء في أنغامٍ عذبة تسيل رقةً وجمالًا موسيقى معبِّرة عن روح العاشق وقلبه الواله.. وشاعرنا بكونهِ هنا شاعرًا رومانسيًا حالمًا يتمنى أن تخلو له الدنيا هو ومن يحب ليسعد بالعاطفة بعيدًا عن ضجيج العالم.. ليبقى معها في حالة الحب الصادق. ولقد ابدع الشاعر نسيم الأسدي في شعر الحب (Love Poetry) أيّما إبداع وأصدقه واستحدث تعبيراتْ جديدة وتراكيب جميلة أضافها إلى قاموسه الشعري. وفي شعرهِ نجد أنَّ الذاتية (subjectivity) عنده قوية وعميقة في فنه وحياتهِ. ونلمس عند هذه النقطة الصدق الشعوري لديه الذي يكون شعر الشاعر دليلًا على سمات وملامح الصورة الحقيقية الصادقة لما يختلج في نفسِهِ. وهذه الخاصية الرئيسية في شعر نسيم الأسدي هي من أبرز سمات المذهب الرومانسي عنده حيث يتحلّى بأصالة الابداع (originality of creativity) التي تبرز دائمًا في أشعار الحب والغزل لديهِ.

وبهذا فإنّ اختيار نسيم الأسدي للكلمة المؤثرة هي أول خطوة للبناء الفني للقصيدة الشعرية، وشاعرنا يجيد اختيار الكلمة المؤثرة ويحسن التوزيع الموسيقي للكلمات الشعرية كما نرى في قصيدتهِ آنفة الذكر أعلاه، ففي تلك القصيدة نرى أنها تكاد تجمع أكثر الخصائص البيانية لشعر نسيم الأسدي بما فيها من ألفاظ سلسة مشرقة أنيقة مثل (الحب دينُ العاشقين – تداعب هُدْبَهُ الأهداب – عبدوا الغرام – الحب تغريد الصباح وورده – إلى الغرامِ مآبُهم – غيابُهن تواجد – حضورهن غياب)، وكل هذه المعاني تكشفه الأبيات التالية من هذه القصيدة:

إني أُحَلِّقُ في مقاماتِ الهوى

حُرًّا تداعبُ هُدْبَهُ الأهدابُ

*

ما ضَيَّعَ العُشّاقَ شيءٌ مثلما

فَعلَ الفراقُ، وفي الوصالِ حسابُ

*

الحُبُّ دينُ العاشقين فكلُّهُم

عبدوا الغرامَ وبايعوهُ وتابوا

*

الحبُّ تغريدُ الصباحِ ووردُهُ

مَن قال إنّه لوعةٌ وعذابُ!؟

*

أهلُ الغرامِ إلى الغرامِ مآبُهُم

ذاب الهوى في العاشقينَ فذابوا

*

بعضُ النساءِ غيابُهُنَّ تواجدٌ

وحضورُهُنّ مع الحبيبِ غيابُ

وبعد كلّ تلكَ الرومانسية من عذوبة ورقة، ومن التصوير التعبيري الرفيع للحب الذي يتبناه شاعرنا، فإنّنا نندهش عند قراءة قصيدة “العزُّ تحت تصرفي وجهنم” (ص 19) حيث يظهر شاعرنا الذي عهدنا رقته في قصائد الحب والغزل وكأنّه شهريار الذي يتحكّم بالنساء مُبديًا استعلاءً تجاههنَّ انطلاقًا من النزعة الذكورية للرجل في تعامله مع النساء، وإنّنا نعتقد على سبيل التكهن والافتراض أنّ شاعرنا في تلك القصيدة التي سنورد مقطوعةً منها لاحقًا، قد اندفع إلى كلماته الحادّة مع المحبوبة خاصةً وإلى النساء عمومًا، بفعلِ حادثةٍ ما قد بدت من سلوكِ أو تصرّف امرأةٍ معه، فأغضبتهُ وأثارت حفيظتَهُ وأساءت إلى كرامتهِ وعنفوانهِ وشموخهِ كرجل، فانطلق يتعالى على المرأة والنساء بشكل عام في قصيدتهِ هذهِ من خلال كلماتهِ النفّاذة النابعة من تأثيرات الطاقة الجنسية (اللبيدو) التي تُشعِر الرجال عادةً بتفوقهم على الجنس اللطيف، وتحَفّزهم على التعامل مع النساء بفوقية، ولكنَّ الحق يقتضي أنه اذا اعتبرنا توجُّه شاعرنا إلى النساء بهذا الشكل وبهذه السطوة شعرًا، انتقاصًا مِن مكانتهم وكيانهم، فإنّنا لا نستطيع أن ننكر جمالية التركيب اللغوي لهذه القصيدة مع بعض التحفظ من مضمونها لشدة اللهجة الغاضبة للشاعر الذي عهدناه في معظم أشعاره الخاصة بالحب، شاعرًا يذوب حبًّا ووجدًا في محبوباتهِ من النساء بكلِّ رقةٍ وتوهجًا إنسانيًا. وإليكم النص التالي من هذهِ القصيدة:

قد ساءَها في الحُبِّ أني احكُمُ

أُلقي النساءَ إلى الفَنا أو أرحَمُ

*

وبأنّني سلطانُ مملكة الهوى

والعزُّ تحتَ تَصرُّفي وجهَنَّمُ

*

وبإنني إذما أمرتُ فجازمٌ

قولي حسامٌ أيَّ أمرٍ يَحسِمُ

*

وبنظرةٍ تمشي الأمورُ كما أرى

فالرِّمشُ مني نافذٌ مُتَحَكِّمُ

*

الحبُّ بعدي ميّتٌ مُتمزِّقٌ

وبلمسةٍ أُحيي الهوى فَيُبَرعِمُ

*

إنّ النساءَ خواتمٌ في إصبعي

كحروفِ أبياتِ القصيدةِ أنظِمُ

وأخيرًا وليس آخرًا، ومما تقدّم نستخلص أنّ الشاعر الدكتور نسيم عاطف الأسدي كان في شعره حلو الأسلوب، جزل اللفظ، جيّد اختيار الكلام، وإنّ لألفاظه ومعانيهِ رونقًا أخّاذًا، وإنّ في شعره في مجموعته هذه موسيقى تتناغى ألفاظُها، وفيها إنسكابٌ جمالي، وسلسلة من الصور بومضاتٍ جمالية ورصانة مكينة تفيض بالذوب الإنساني الذي يجعل شاعرنا ينطلق في وجدانيّتهِ الرومانسية في هذه المجموعة وفي مجموعاته الشعرية السابقة كما عَوَّدنا دائمًا.

فلهُ منّا أجمل التحيات وأطيب التمنيات بدوام التوفيق والمزيد من الإبداع والعطاء.

***

بقلم: د. منير توما – كفر ياسيف

فالنتاين

(الى كلِّ الآمرين بالحبّ المشعِّ بياضا وفضيلة، والناهين عن البغضاء والرياء والخطيئة)

***

في عيدِ ميلادِ الحدائقِ

راودتني وردة ٌ عن عِطرها..

بيضاءَ كانتْ مثلَ أحلام ِ الطفولةِ..

قلتُ في نفسي: سأقطفها

*

مددتُ يدي..

فكرَّ عليَّ سِربٌ من فراشات ٍ..

سقطتُ مُضَرَّجا ً بالخوفِ

مَغشِيّا ً عليّا

*

هل كان يومَ الحَشْر ِ؟

أمْ أنّ الذي أبصرتهُ هذيٌ ثقيلُ الهذر ِ

من أثر ِ الحُمَيّا؟

*

أبصرتُ أزهارَ الحديقة ِ تشتكي حَمَقي !

وحين نكرْتُ

جاء الصوتُ يشهدُ للحديقة ِ من يَديّا

*

فخجلتُ مني

واسْتحْتْ عينايَ من وجهي !

وروحي غادرَتْ جسدي فصحتُ بها:

أغيثني

فقالتْ: لاتَ وقتَ ندامة ٍ

فاخلدْ بنار الإثم ِ ملعونا ً شقِيّا

*

فسقطتُ ثانية ً ببئر الخوفِ

مغشيّا ً عليّا

*

قُمْ صاحَ صوتٌ...

فاستفقتُ

وجدتُ " عشقائيلَ " قربي..

قال: تهديكَ المَلاكُ السومرية ُ:

عِشقَها وكتابَ عِفتِها..

فخذهُ بقوّة ٍ

واصْدعْ بنورِ صَباحِهِ الليلَ الدّجيّا

*

وتقولُ: يا يحيى السماويُّ

الذي خَبَرَ الخنادقَ.. والحدائقَ..

والعذاباتِ.. المسرّات ِ..

الذي مضغَ اللظى والصّابَ..

والعذبَ الشّهيّا

*

إني قَبَلتُكَ تائِبا ً

فاحذرْ جنوحَا ً عن صِراطِ الياسمين ِ..

كُن ِ الحديقة َ للفراشةِ..

والظليلة َ للحَمامَة ِ..

للضّرير ِ الدربَ والعكازَ..

للرّاعي الرّبابة َ..

للغزالِ الخائِفِ الظمآن ِ رِيّا..

*

وتقولُ:

يا يحيى السّماويُّ الفراتيّ التسابيح ِ

الشهيدُ الحيُّ.. والحيُّ الشهيدُ

وخاتمُ العشّاق ِ في عصر ٍ يضجُّ

خنا ً وغيّا:

*

اليومَ قد أكملتُ سِفْرَكَ..

فانطلِقْ برسالة ِ العشقِ المُقدَّس ِ

كنْ رسولي في الهوى حتى يُعادَ الإعتِبارُ

لعَقلِ " قيسِ بنِ الملوّحِ " و" الشريدِ السّومريِّ "

ويسْتعيدَ عَفافهُ: الوَجْدُ.. التهَيُّمُ..

يَسْتحيلُ العِشقُ خبزا ً للقلوبِ

فلا يعودُ الحزنُ سيماءَ المُحَيّا

*

وتقولُ:

يا يحيى السّماويُّ المُضرَّجُ بالتبتّل ِ

كنْ بعِزّة ِ سَيِّدِ الشّجَر ِ النخيل ِ:

يموتُ مُنتصِبا ً..

ومثلَ الوردِ: لو ذبحوهُ يبقى عطرُهُ

يذكو شذِيّا

*

العِشْقُ بابٌ للخلودِ

فإنَّ " قيسَ بنَ الملوّح ِ " لمْ يزلْ لليوم ِ حَيّا!

*

فاحفظْ وصِيَّتها المُقدَّسة َ الأخيرة َ:

لا تخنْ شرفَ النخيل ِ

ولا تمُتْ إلآ " بلالا ً " سومريّا!

***

القراءة:

1- السياق والبنية الفنية:

يُقدّم الشاعر يحيى السماوي في قصيدته "فالنتين" رؤيةً وجوديةً تتعانق فيها الذات الشاعرة مع رمزية الحب المقدس والصراع الأخلاقي، عبر لغة شعرية مكثفة تستدعي التراث الثقافي العراقي "السومري" والأساطير العربية "كقيس بن الملوّح".

تُبنى القصيدة على حوار درامي بين الشاعر وذاته، وبينه وبين كينونات رمزية "كالفراشات، الصوت الغيبي، الملاك السومري"، مما يُضفي طابعًا أسطوريًا على النص.

2- الثيمات الرئيسية:

أ- الصراع بين البراءة والإثم: تبدأ القصيدة باغراء الوردة البيضاء، رمز الطفولة والنقاء، لكن محاولة قطفها تُقابل بمقاومة سرب الفراشات، وكأنها حراس للحديقة المقدسة. هذا الصراع يعكس التناقض بين رغبة الإنسان في امتلاك الجمال وبين قدسيته التي ترفض الانتهاك، مما يولد الشعور بالذنب "سقطت مضرجًا بالخوف".

ب- التكفير والخلاص:

يتحول الخطاب من فضاء الحديقة "الطبيعة" إلى فضاء ديني "يوم الحشر، نار الإثم"، حيث تُلام الذات على "حماقتها"، وتنفصل الروح عن الجسد في إشارة إلى الانهيار الأخلاقي. لكن الصوت الغيبي "قمْ... اصْدعْ بنور صباحه الليل الدجيّا" يمنح فرصة للخلاص عبر تبني رسالة الحب المقدس.

ج- الهوية الثقافية:

يربط السماوي بين الحب والتاريخ العراقي عبر شخصيات مثل "الشريد السومري" و"بلالًا سومريًا"، مؤكدًا أن الحب ليس عاطفة فردية بل تراكمٌ حضاريًّ. الإشارة إلى "الفراتي" و"النخيل" يربط النص بجغرافيا العراق، مع تحويلها إلى رمز للصمود "يموت منتصبًا مثل النخيل".

د- الشهادة والخلود:

تُقدَّم فكرة الموت كفعل مقاومة "لا تَمُتْ إلا بلالًا سومريًا"، حيث يتحول الشاعر إلى شهيد حي يحمل رسالة الحب في زمن "الخنا والغي". هنا، يصبح العشق بابًا للخلود، كما في أسطورة قيس الذي لم يمت رغم موته الجسدي.

3- الأدوات الفنية:

أ- التناص:       

يحاور النص نصوصًا دينية "إشارات إلى يوم القيامة، الصراط"، وأدبية "قيس بن الملوّح، بلال الحبشي"، وأسطورية "الملاك السومري"، مما يخلق حوارًا بين الماضي والحاضر.

ب- الرمزية:

- الوردة البيضاء: البراءة المفقودة.

- الفراشات: حراس الفضيلة أو ضمير الجماعة.

- النخيل: الصمود والهوية.

- النار/الليل الدجيّ: الخطيئة والجهل.

ج- المفارقة:

استخدام لغة دينية لوصف العشق "سِفْرَكَ"، "رسولي في الهوى" يرفع الحب إلى مرتبة القداسة، في مقابل تشويه القيم في العصر الحديث "عصر يضج خنا وغيّا".

د- التكرار:

تكرار سقوط الشاعر "سقطت مغشيًّا عليّا" يعكس دورته بين الخطيئة والتكفير، بينما تكرار فعل "تقول" يُؤنسن صوت الملاك، جاعلًا الوصية حوارًا داخليًا.

4- السياق التاريخي والاجتماعي:

لا يمكن فصل النص عن سيرة السماوي العراقي المهاجر، الذي عاش الحرب والمنفى. ف"الخنادق" و"العذابات" تشير إلى عنف الواقع، بينما تمثل الحديقة فضاءً مثاليًا للمقاومة بالجمال. الدعوة إلى "أن يكون الرسول في الهوى" هي محاولة لاستعادة الإيمان بالإنسان وسط الدمار.

5- الخاتمة:

"فالنتين" ليست قصيدة حب تقليدية، بل بيانٌ فلسفيًّ يدعو إلى تحويل العشق إلى فعل ثوري ضد الانحطاط الأخلاقي والسياسي. السماوي يصهر الموروث الديني والأسطوري في بوتقة الحداثة، مقدّمًا الحب كمشروع خلاص فردي وجماعي، حيث الجمال (الوردة) والمقاومة (النخيل) وجهان لروح واحدة.

***

بهيج حسن مسعود

 

(قراءة سيميائية - تقنية للمشهد التأسيسي في فيلم "المسألة الكبرى" بين الخطاب البصري والأيديولوجيا السياسية)

المشهد البصري الفخم "المشهد التأسيسي" / "Establishing Shot" الذي قدمه المخرج محمد شكري جميل في فيلم "المسألة الكبرى" كما ترونه بجلاء من خلال هذه الصورة المنتقاة من استهلال الفيلم مثَّل علامة فارقة في تاريخ السينما العراقية، حيث كان تجسيداً عميقاً لمدرسة "السرد البصري المركب" / "Complex Visual Narrative". وقد تجلت في هذا المشهد براعة المخرج في توظيف التقنيات السينمائية لخدمة المضمون الفكري والجمالي معاً. المشهد، في جوهره، كشف عن أيديولوجيا عميقة حولت الموت من نهاية حتمية إلى بداية متجددة، ومن حدث فردي إلى ظاهرة جمعية. العراقيون، في هذا السياق البصري، في تحول دائم إلى "مشاريع استشهاد" كيانات معلقة بين الحضور والغياب، بين الحياة والموت، في حالة انتظار دائم للحظة التحول النهائي. هذا التوظيف السينمائي المعقد يكشف عن عمق الوعي الجمعي العراقي بفكرة الموت كمصير جماعي مؤجل، وعن تحول الاستشهاد من حدث تاريخي إلى أيديولوجيا ثقافية مستمرة. المشهد، بهذا المعنى، ليس مجرد تصوير جمالي للحظة درامية، بل هو نص بصري عميق يكشف عن البنى العميقة للوعي الجمعي العراقي المعاصر.

وفي إطار التحليل السيميائي العميق للمشهد، كانت حركة الفرسان من اليمين إلى اليسار قد شكلت خروجاً واعياً على المألوف في السينما الغربية. وهي حركة معاكسة لاتجاه القراءة في الثقافة الانكليزية حركة خلقت توتراً دلالياً كشف عن استثمار المخرج تقنية بث الدلالات في خلق توتر بصري يتناغم مع موضوع الفيلم الذي تناول ثورة العشرين ومقاومة الاحتلال الإنجليزي. وكان هذا التوظيف قد أسس لخطاب بصري مقاوم عبر اللغة السينمائية نفسها.

تجلّت في هذا المشهد براعةٌ استثنائيةٌ في توظيف تقنية التصوير الظِّلي، حيث تجاوزَ المخرجُ حدودَ الجماليات البصرية، ليؤسسَ خطاباً بصرياً عميقاً حول ثنائية الوجود والعدم في الوعي العراقي المعاصر. وقد استثمرَ المخرجُ تقنيةَ الإضاءة الخلفية بحرفيةٍ عالية، محوِّلاً الفرسانَ إلى أيقوناتٍ رمزية تراقصت على حافة الأفق، في حوارٍ بصريٍّ مع قرص الشمس المتوهج أو الغارب. الإضاءة الخلفية (Backlight) لعبت دوراً محورياً في تجريد الفرسان من فرديتهم وتحويلهم إلى رموز مجردة للتضحية. هذا التجريد البصري يتوازى مع التجريد المفاهيمي للموت في الثقافة العراقية المعاصرة، حيث تحول الاستشهاد من فعل فردي إلى مشروع جمعي مستمر.

اكتسبت حركةُ الفرسان "البطيئة والمنتظمة" / "Synchronized Slow Motion" بُعداً روحياً عميقاً عبر تناغمها مع لحظات الغروب أو الشروق الكونيتان، وتجلّت براعةُ المخرج في توظيف الواقعية الشاعرية، حيث تحولت الأجسادُ البشرية إلى رموزٍ مجردةٍ عبّرت عن فلسفة المقاومة والخلود.1079 shokri

أسّسَ المشهدُ لما يمكن تسميته بـ "جماليات الصمود الجمعي" حيث تحولت حركةُ الفرسان نحو الأفق إلى طقسٍ بصريٍّ حاكى الموروثَ الملحمي العراقي. وعبر توظيف تقنية "الإضاءة المنخفضة" / "Low-Key Lighting"  خلقَ المخرجُ تضاداً درامياً بين ظلال الفرسان السوداء والخلفية المتوهجة، مؤسساً لخطابٍ بصريٍّ رفضَ ثنائية الاستسلام والمقاومة، وأكّدَ على حتمية المواجهة التاريخية.

كما مثّلَ هذا المشهدُ ذروةَ الصورة المتحركة، حيث تحولت الحركةُ الجسدية للفرسان إلى حركةٍ فكريةٍ أسّست لأيديولوجيا المقاومة المستمرة. وعبر هذا التوظيف البارع للعناصر السينمائية، تحولَ المشهدُ من مجرد لقطةٍ جماليةٍ إلى وثيقةٍ بصريةٍ أرّخت لروح الصمود العراقي في مواجهة كل أشكال الهيمنة والاحتلال. توازى التجريد البصري مع التجريد المفاهيمي للموت في الثقافة العراقية المعاصرة، حيث تحول الاستشهاد من فعل فردي إلى مشروع جمعي مستمر من خلال تتابع حركة الفرسان باتجاه غياب قرص الشمس وهذا ما يؤكد عليه خطاب السلطة في كون المواطن العراقي مشروع استشهاد مؤجل وبهتاف واحد "نموت نموت ويحيا الوطن" وبتراتبية طوعية أدلجتها أغنيات التوجيه السلطوي كما في "إحنا مرة نعيش" إشارة للولادة "ومرة نموت" إشارة للغياب الطبيعي والقسري والذي لابد أن يكون من أجل الوطن ظاهرياً من أجل السلطة تعبوياً "مرّة بكل عمرنا" أي تجريد الإنسان من حريته وتقبل هذا المفهوم وفي النهاية يا حبذا لو كان هذا المسار الحتمي من أجل الوطن.

التل بارتفاعه المهيب مَثّل عنصراً محورياً في بناء المشهد، إذ عمل كحد فاصل بين عالمين: العالم الأرضي بواقعيته المادية، والعالم السماوي برمزيته الميثولوجية. وقد عززت زاوية التصوير المنخفضة هذا الفصل البصري، مؤكدة على ثنائية الحياة والموت، مع الحفاظ على جسر بصري بينهما من خلال حركة الفرسان المستمرة نحو الأفق.

في المستوى الأيديولوجي، كشف المشهد عن بعد مستتر خلف جمالياته البصرية. فلم يكن مجرد لقطة سينمائية جمالية، بل كان تجسيداً بصرياً لمنظومة أيديولوجية متكاملة. وقد وظف المخرج الأسلوب البصري على مستويين متوازيين: جمالي: قدم صورة مثالية للاستشهاد، وأيديولوجي أسس لثقافة تطبيع الموت وتقديسه.

الفروسية، كعنصر درامي وثقافي، لعبت دوراً حيوياً محورياً في تشكيل المعنى. فالفارس على صهوة جواده مثَّل امتداداً لتقليد عربي عريق يربط بين الفروسية والشرف والشجاعة. هذا الارتباط حوَّل الاستشهاد من مجرد موت إلى فعل بطولي نبيل، يستحق أن يُؤدى بكل ما يليق به من كبرياء وشموخ. العلاقة بين الفارس وجواده تجاوزت البعد المادي لتصبح تجسيداً للوحدة بين الإرادة والفعل، بين الروح والجسد. الجواد هنا ليس مجرد وسيلة حركة، بل هو امتداد لروح الفارس وإرادته، يشاركه رحلته نحو المصير المحتوم بنفس الكبرياء والشموخ.

وفي قراءة تحليلية أولى لما مر والتي سيظهر في قادم المقالة ما يخالفها، برزت الحركة البطيئة للفرسان "البطيئة والمنتظمة" / "Synchronized Slow Motion" كلحظة تأمل وجودي عميق، وليست تردداً أو خوفاً من المجهول. إنها لحظة وعي كامل بالمصير، حيث تحوّل الزمن من تتابع خطي إلى لحظة ممتدة من التأمل الواعي. البطء هنا يعمل كآلية سينمائية لتكثيف المعنى وتعميق الدلالة، محولاً الحركة المادية إلى تأمل روحي وليس استسلاماً. كما إنّ الانسياب البطيء لحركة الفرسان كشف عن جدلية عميقة أخرى بين الإرادة والقدر. فهو ليس استسلاماً سلبياً للمصير، بل قبولاً واعياً به، تجلى ذلك في التناغم بين حركة الفرسان وحركة الشمس نحو الغروب أو حتى الشروق في رؤية معاكسة. هذا التناغم حول القلق من المجهول إلى سكينة روحية عميقة، والخوف من الموت إلى تصالح مع المصير. حيث نشير بقوة الى أن المشهد مثل نموذجاً لكيفية توظيف الفن السينمائي كأداة للهندسة الاجتماعية والسيطرة السياسية الفكرية.

لكن في قراءة أخرى مضادة نجد أن المخرج قد نجح في خلق مشهد يعمل على مستويين متناقضين. فبينما قدم ظاهر المشهد الصورة التي تريدها السلطة، فرسان يتجهون نحو الاستشهاد في لحظة مهيبة، جاءت الموسيقى الجنائزية الحزينة، مقترنة بالحركة البطيئة المترددة للفرسان، لتكشف عن الحقيقة المؤلمة خلف قناع البطولة السياسية المؤدلجة المفروضة.

لم تكن تقنية الحركة البطيئة مجرد خيار جمالي، بل كانت تعبيراً صامتاً عن مقاومة المصير المفروض. فقد اختار المخرج إظهار التردد والخوف الطبيعي من الموت، كاشفاً بذلك زيف الخطاب الرسمي. وكان التباين اللوني والتدرج الضوئي قد أسهما في خلق عمق بصري خدم الرؤية الدرامية، فيما عزز التكوين الذهبي من جماليات المشهد وقوته التعبيرية. وهكذا تحول المشهد إلى وثيقة نقدية كشفت العنف الرمزي للسلطة، متخفياً خلف جمالية بصرية بدت للوهلة الأولى متماهية مع الخطاب الرسمي. وكانت تلك براعة عظيمة من المخرج في استخدام الفن كأداة للمقاومة الناعمة، حيث نجح في قول الحقيقة دون الاصطدام المباشر مع السلطة.

وفي النهاية، مثَّل هذا المشهد في ضوء الوعي النقدي المعاصر الحر نموذجاً متميزاً في السينما العراقية، جمع بين البراعة التقنية والعمق الفكري، وأظهر قدرة المخرج على خلق خطاب بصري متعدد المستويات، حمل في طياته رسائل مضادة للخطاب الرسمي، مغلفة بجماليات سينمائية رفيعة المستوى.

***

بقلم الكاتب والناقد: كاظم نعمة اللامي

أبو جويدة

 

قدمت دائرة السينما والمسرح الفرقة الوطنية للتمثيل ضمن الموسم المسرحي 2024 على مسرح المنصور يوم الاثنين 2024/11/26 الساعة الحادية عشر صباحاً ولمدة ثلاثة أيام/مسرحية مملكة الالعاب. تأليف وإخراج: محمد حماد.

 أهم ما يميز الفنون عبر التاريخ هو دورها الاجتماعي الذي أثرت من خلالها على حياة الأفراد والجماعات، (أفلاطون) صاحب المبدأ المثالي يؤكد على أثر الفن في السلوك الاجتماعي.

تبدأ المسرحية بتحرك دمى(الفارس) و(العروسة) و(الجندي) و(راعي البقر) في محل ألعاب، خروج هذه الدمى وتحركها من اماكنها على الرفوف بمحل الألعاب لتقف ستوب كادر، وبمجرد دخول صاحب المحل جاء يبحث عن مفاتيحه التي نساها، استغرب بائع الدمى من وقوفهم بهذه الكيفية وتركت أماكنها، واتهمهم انهم عصابة دخلت لتسرق المحل، وبالمقابل هم ايضا اتهموه انه سارق اتى في الظلام حاملاً مصباح يدوي لينير له الطريق.

وبعد نقاش وجدال بين الطرفين اخبرهم البائع نيته ببيع محل الالعاب كون الدمى أصبحت لا يفضلها الأطفال في ألعابهم، ولا يقتنيها، بعد أن دخل جهاز المحمول الى حياتهم.

 تحايلت الدمى على صاحب المحل بأن لا يستغني عنهم ويفرط فيهم من خلال بيع المحل، إلا أنه أصر على موقفه، وبعد كثرة الإلحاح وافق شرط أن يدخل كل منهم في تحدِ مع جهاز الموبايل، ومن هنا أنطلق الصراع بين شخصيات الدمى من جهة وجهاز الموبايل من جهة أخرى وسط حالة من الدهشة والاثارة والتشويق لجذب انتباه المتلقي الصغير وهو من يُحكم المنازلة ومن ينتصر تكون الغلبة له.

أول نزال بدأ بين لعبة الفارس يقابله الموبايل، وكل منهم يطرح ما عنده من أفعال وفوائد للمجتمع انتهت المنازلة بفوز الفارس على جهاز المحمول. ثم تبدأ الجولات تباعاً بين راعي البقر والمحمول، انتهت المنازلة بفوزالمحمول. وكذا الحال مع المنازلة الثالثة مع الجندي يفوز ايضاً الجهاز على غريمه. المنازلة الأخيرة تكون بين باربي والموبايل، اشرك الحكم الجمهور بسؤاله لهم (هل تحبون العروسة ام جهاز الموبايل) ينقسم جمهور الأطفال ما بين مُحب للدمية وآخر مُحب للموبايل فينتهي النزال بتعادل الطرفين.675 show

فكرة العمل جميلة جدا وجديدة الى حد ما، إلا أن الربع الأول من المسرحية أفلت الكادر ايقاع العمل ووقع في الرتابة مما سبب حالة من الضوضاء في اماكن جلوس الأطفال وهذا أثر على سير العمل، رغم محاولة الممثلين من إشراك المتلقي الصغير الذي جاءوا بشغف وحب واندفاع لمشاهدة المسرحية، تغير مسار العمل بعد ذلك ومسك الممثلون زمام الأمر بمساعدة الأغاني والموسيقى المصاحبة للعمل التي أضفت جواً من البهجة والمرح في نفوس الأطفال.

جاءت نهاية المسرحية بعيدة نوعاً ما عن اقناع الاطفال الصغار بفوز جهاز الموبايل على ألعاب الدمى، سيما وأن المسرحية كانت تحاكي مراحل عمرية مهمة من (6-9) سنة و(9-12) سنة أي المراحل الستة من المدرسة.

 يؤشر على أداء الممثلين لمسرح الأطفال الحاجة إلى التفاعل مع جمهوره بصورة تجعلهم أكثر انتباها للعرض.

أزياء الشخصيات بسيطة جدا من حيث التصميم واختيار الالوان غير موفق لمسرح الاطفال، فالاطفال اعتادوا على مشاهدة تغيير المشاهد والألوان الزاهية ذات البهرج الواضح، كانت واضحة بسيطة واقعية لا لبس فيها، لعموم الشخصيات، شخصية العروسة تحتاج الكثير من العناية والبهرجة واستخدام الألوان الزاهية المحببة للطفل في هذه المرحلة، أما الهاتف الخلوي (الموبايل) يحتاج الكثير من العناية في تصميم وتنفيذ زي الشخصية، واظهاره بشكل أكثر اقناعاً وقرباً للطفل من حيث التصميم واللون.

تبدو لعبة راعي البقر مقحمة غريبة عن ثقافة الطفل المعاصر.

يحسب الى العمل فقرة تبديل الأزياء في اعلى يمين ويسار المسرح لجانبي الصراع شخصيات الدمى مع الهاتف، الاضاءة رغم أنها كانت موفقة في مواطن كثيرة في المسرحية، وجود البقعة على مكان تغيير وتبديل الأزياء في كلا الجانبين يكون أكثر راحة لنظر المتلقي لو كانت البقعة موجهة الى الجانب الايمن حيث الممثلون الدمى وبالمقابل بقعة اخرى الى جانب الصراع في اعلى يمين المسرح والتي تمثلت في مكان تبديل وتغيير ازياء جهاز الخلوي.676 show

تنتهي المسرحية وعلى الرغم من فوز وتمكن جهاز الموبايل، الا ان صاحب محل بيع الدمى يعزف عن رأيه ويقرر الاحتفاظ بالدمى وعدم بيع المحل.

فالنهاية جاءت بعيدة عن الإقناع والتصديق لما آلت اليه الاحداث، وعلى غير توقع المتلقي الصغير.

 نبارك لقائد العمل المؤلف والمخرج محمد حماد، وكادر مسرحية مملكة الالعاب، (اسراء ياسين باربي)، (حميد عباس صاحب محل الالعاب)، (منتظر خضير الموبايل)، (صادق والي الفارس)، (شوقي فريد راعي البقر)، (مصطفى الطيب الجندي).

نبارك للجنود المجهولين خلف الستار من التقنيين والفنيين والاداريين على الأزياء (وجدان عبد الله) والاكسسوارات (انتصار عبد كشيش)، تصميم الديكور (خالد وليد)، الاضاءة (محمد رحيم)، الماكياج (هشام جواد).

***

ا.د. فاتن جمعة سعدون

تقدم مجموعة "البابا الطائر Flying Pope " للياباني "بانيا ناتسواشي " (BAN'YA. NATSUISHI) عددا من النصوص المختزلة الغرائبية المختلفة شكلا ومضمونا عن الهايكو الكلاسيكي. يحملنا الهايجن المغامر خلال تلك النصوص المليئة بالمساحات البيضاء، في رحلة روحية عبر العالم كي نتأمل تفاصيله اللامتناهية بشغف واهتمام. وقارئ بانيا ناتسواشي هو قارئ غير عادي، مثقف ومغامر، يتوقف عند كل لفظة، يمتلك هذا القارئ ذهنية متقدة تسهم في تشكيل بنية النصوص.

يسعى بانيا ناتسواشي -من خلال "البابا الطائر" التي تعدّ مِلاحة شعريّة في عالمنا المتشابك- إلى تجديد اللغة من خلال تناول المفردة المستحدثة والمواكبة لروح العصر، بما فيه من مستجدات وتفاصيل جديدة لامتناهية. فقد يلجأ البعض إلى التأويل بحثا عن ماهية "البابا" المحيرة، فهي تارة تعرج إلى السماء في رحلة روحية، وتارة أخرى تغوص في البحار أو تهيم في الصحراء، أو تتألم في جوف الأرض، متجاوزة بذلك حدود الزمان والمكان والثقافة والعقائد واللغة أيضا. وقد يرى البعض الآخر أنها تعكس تأملات الهايجن وقلقه الداخلي تجاه ما يحدث في العالم، بحثا عن السكينة والسلام. هذه الرؤية ما بعد الحداثية أصبحت تنظر إلى الشعر على أنّه مسألة معقّدة ومتراكبة تتداخل فيها الإدراكات المتعدّدة، والمناهل المعرفيّة، ويتسع بها شكل الوجود، بعيدا عن المنظور الكلاسيكي الذي يُخضع الهايكو إلى اللحظة الجمالية "الساتوري" المنبثقة من فلسفة الزن البوذية.

ولعل "بانيا" استلهم "البابا" كـ"معادل موضوعي" ينقل من خلاله مشاعر الإنسان المعاصر، وتجاربه اليومية في مشهديات لافتة وساحرة أشبه بالأساطير، والفلكلور الشعبي، وقصص المغامرات. مع ذلك يظهر البابا الطائر على طبيعته البشرية، حين يعزف على البيانو باكيا معتصر الفؤاد:

عازفًا على التشيلو

البابا الطائر

ينزف الدموع

(ت. محمد عضيمة)

وأحيانا يؤدي بعض الطقوس الدينية كالصيام والصلاة، وقد يغفل عن أدائها أحيانا:

مرّ على صيامهِ

أسبوعٌ كاملٌ؟

البابا الطّائرُ في السَّماء.

(ت. محمد عضيمة)

وقد يظهر على هيئة طفل صغير تائه عندما يتلاشى قوس قزح، وفي صورة أخرى يحمل كلبه العجوز:

عندَ اختفاءِ قوسِ القُزحِ

قد يغدو طفلاً  تائهاً

البابا الطائرُ في السَّماء.

**

ولدٌ صغيرٌ يحمِلُ

كلبَهُ العجوزَ

البابا الطائرُ في السَّماء.

(ت. محمد عضيمة)

على الرغم من تلك القراءات التي تقدم اقتراحات حول طبيعة البابا الطائر، تظل نصوص "البابا الطائر" مفتوحة على الاحتمالات، عصية على تقديم معنى أو تأويل بعينه، ونكتشف، في نهاية تجوالنا وتأملاتنا في هذا العالم، أنها عبارة عن لوحات تحتوي على تشكلات سحابية متنوعة تحلق في السماء، تبدو في مشهديات فانتازية غير معقولة أو منطقية، لكنها ممتعة وفاتنة ومدهشة: 

فئرانُ الصَّحراءِ

تردُّ تحيةَ

البابا الطائرِ في السَّماء.

يقدم هذا النص تصورا حداثيا لا يأبه بالمعاني ولا يقدم كل شيء للمتلقي، كأنه  يريد أن يخبرنا أن الإبداع الحقيقي لا يكمن فقط في ما يُقال، ولكن أيضًا في المساحة الفارغة من البوح. تعد تلك المساحات البيضاء "ma" في اليابانية، بمثابة  " لوحات فنية غير مكتملة -( ويبدو أن ثقافة اليابان تزخر بالمساحات البيضاء التي هي أكثر بلاغة من الكلمات)- تسهم في خلق نص عميق ومدهش. يقوم القارئ بملـء البياض الأشبه بفراغات اللوحة، أو الأجزاء الصامتة في المقطوعة الموسيقية. في هذه الحالة لا تكون مهمة الهايجن تقديم نص مكتمل، حيث يعتمد على حنكة القارئ الذي يضفي على النص مسحة من تجاربه وعالمه الخاص. يُستخدم البياض كوسيلة للإيحاء بأن هناك أشياء لا تزال كامنة تحتاج إلى مساحة أكبر للتأمل في عوالم النص. تشير (فيرجينيا لا شاريه) إلى أن "البياض هو الخلاصة التي لا يمكن شرحها، والنقاء الذي لا يمكن تجربته، إنها لحظة الصدق التي لا تلد غيرها، فالبياض في النص لا شكل له ولا حدود، لأنه حالة أصيلة وهو مكتمل بحد ذاته. الفراغ في النص الخطي هو مساحة الحرية التي لا اتجاه لها" وهي بهذا المعنى لا تخضع النص للتفسير والتأويل، إنما تضعه صوب احتمالات لا حدود لها.

يقول بانيا ناتسواشي في "البابا الطائر":

يُتشدُ قصائدَ هايكو

بلا مواسمَ أو فصولِ

البابا الطائرُ في السَّماء.

يلخص هذا النص تحديدا سمات الهايكو الجمالية التي تبناها بانيا ناتسواشي، وغيره من أعضاء "جمعية هايكو العالم" التي ارتكزت مفاهيمها على هايكاي باشو وبوسون وإيسا، ثم انطلقت فيما بعد – لاسيما في فترة ما بعد الحرب – نحو الكتابة التي تقترب من أدب ما بعد الحداثة، تحت تأثير التيارات الجديدة في الواقع الثقافي والاجتماعي والاقتصادي والفكري في العصر الحديث، وتنامي تيارات العولمة والتطور التكنولوجي المتسارع. وانطلاقا من الدعوة إلى تجديد المسار الإبداعيّ وتطوير الأساليب الإبداعية، كان التجريب هو الأداة الناجعة في كتابة موضوعات تلامس الواقع المعاصر.

تظهر نصوص "البابا الطائر" جنوح بانيا ناتسواشي إلى التجريب بتبنيه طريقة الـ"موكي هايكو" التي تستغني عن الكلمة الموسمية وكلمات القطع، تعبر عن وجهة نظر الكاتب، ومشاعره وقضايا العالم، بدلا من اللجوء إلى تناول الطبيعة كأساس في الكتابة الإبداعية. فمهمة الشاعر الأساسيّة – في تصوّر "بانيا" - هي التعبير عن قلق الإنسان وهمومه في حياتنا المعاصرة، والانطلاق به نحو المستقبل.

تنشأ التجربة الجماليَّة في نص الهايكو كعامل مشترك بين الهايجن، عبر الحدس عندما يتماهى بشكل عفوي  مع الأشياء الحسية من حوله، وبين القارئ عبر التصور الذهني لحظة القراءة والتفاعل مع النص. تلك العلاقة بين الكاتب والمتلقي هي ما تخلق المساحة البيضاء؛ فالنص يظل غير مكتمل، لأنه بعد كتابته في انتظار القارئ الذي يعيد قراءته من زوايا أخرى مختلفة، ويعيد تشكيله من جديد، فيزداد النص – بعد إعادة تكوينه – وهجا وثراء. تدخل هذه اللحظة التأملية (أو ما يسمى حالة الوعي) كاتب الهايكو (ومن ثم المتلقي) إلى التجربة الفورية، وتقوم ببلورة الرؤى الفنية لدى كل منهما.

الأرضُ

دمعةٌ كبيرةٌ

في نظرِ البابا الطائرِ في السَّماء.

يقدم النص صورة غير معتادة في شعرية الهايكو، لكنها مثيرة وممتعة. حتما سيدفع البياض قارئ النص للتساؤل: كيف تكون الأرض دمعة كبيرة؟ إنها صورة الأرض الحزينة التي تحوى في جوفها آلام وآهات البشرية. إنها صورة تجعل بؤبؤ العين يتسع حين تخيلها، وتزداد حركته يمنة ويسرة، ويتحرك من الأعلى إلى الأسفل، ومن الأسفل إلى الأعلى، نتيجة الارتباك الذهني والانفعالي، وتزايد حدة التوتر، لحظة التوحد معها، وخلق لحظة مشعة بالفتنة والجمال. يمثل البياض الصورة الظلّية التي تجمع المحتوى الأساسي للّوحة في نص الهايكو -تماما مثلما نتمعن في ظلال الأشياء، لحظة انعكاس القمر على صفحة الليل- ومن غموض تلك الظلال يتولد سحر الفن في لوحة الليل الفاتنة. 

يعتمد الهايكو في الأساس على ما لم يُذكر في النص، عبر مساحات بيضاء متعمدة غير مرئية تخلق حدة وتوترا بين جزئي النص. تتوازى أحيانا هذه المساحات البيضاء مع النص المرئي على الصفحة، مما يبعث ببعض الرسائل المشفرة للقارئ. تقوم عملية القطع -سواء بوضع كلمة قطع "كيرجي" أم بدونها- بالمزج بين صورتين متناقضتين، وإحداث نوع من التناغم بينهما، كما تمنح النص لمحات جمالية. تحدث عملية القطع فجوة توتر شعري تنشا من المفارقة الناشئة من الجمع بين المتناقضات وطرحها في سياق متناغم، وغاية ذلك هو تقديم رؤىً جديدة للعالم.

في قِنديلٍ من المِلحِ الصَّخريِّ

يَحبِسُ الشَّمسَ

البابا الطائرُ في السَّماء.

 يجمع النص بين مشهدين غرائبيين: الأول صورة قنديل من الملح الصخري والأخرى هو حدث غير متوقع، مما يجعل القارئ يدخل عالما حلميا من الفانتازيا مليئا بالمتناقضات، لكنه حتما سينجذب إلى سحره وفتنته، ولن يملّ التجوال في أروقته الخرافية.

في "البابا الطائر" نستشعر صدى شيء ما خارج نطاق أسطر النصوص الثلاثة. إنها لحظة الاكتشاف التي تعد عنصرا حيويا في أي شكل إبداعي، حتى في طبيعة الأشياء المألوفة لدى الرائي (الهايجن/ المستكشف). في تلك اللحظة الجمالية المتشظية يمكنُ للكمالِ أن يتحققَ عبرَ التفاصيلِ الدقيقة للأشياءِ. ففي لحظات الفراغ والسكون، سيان أكنت في بقعة جبلية أم في مدينة مزدحمة وصاخبة، "ستكشفُ الأشياء لك عن ذاتِها، وسينتجُ عن ذلك كلِه نوعٌ من البهجةِ والرهبةِ والاحتفاءِ والعَجبِ، وللحظةٍ ما، سَيتبدى لكَ الكمالُ". "بروس روس" (Bruce Ross) - جوهر الهايكو The essence of haiku). هنا تصبح المساحة البيضاء بمثابة ممر جبلي يسمح للعابر (الهايجن) بالتأمل الذاتي، أو لوحة داخلية فارغة يتأمل من خلالها العالم: 

عندَ اختفاءِ قوسِ القُزحِ

قد يغدو طفلاً تائهاً

البابا الطائرُ في السَّماء.

*

عندما ينزِلُ المطرُ

تزدادُ كثافةُ حاجبيِّ

البابا الطائرِ في السَّماء.

*

الأرضُ

دمعةٌ كبيرةٌ

في نظرِ البابا الطائرِ في السَّماء.

(ت. محمد عضيمة)

تعكس هذه النصوص الثلاثة حدود اللغة أمام ضخامة العالم، حين نفكر في الاحتمالات اللامحدودة التي تكمن خارج حدود النص. هذا الإحساس بالانفتاح والنقص هو ما يجعل الهايكو شكلاً أدبيًا عميقًا وفاتنا.  نستشعر نهاية كل سطر عملية القطع (على الرغم من عدم وجود الكلمة أو العلامة) التي هي بمثابة فاصل يخلق نوعا من التشويق والدهشة، ويظل القارئ  في لحظات من التأمل الذهني يشكل بنية النص، ويكمل الفجوات الناقصة في الصورة الحسية أو المتخيلة.  تخلق المساحات البيضاء المتعمدة غير المرئية حدة وتوترا بين جزئي النص، أحيانا تتوازى مع النص المرئي على الصفحة، مما يبعث ببعض الرسائل المشفرة للقارئ. تقوم عملية القطع بالمزج بين صورتين متناقضتين، وتطرحهما في سياق متناغم، وغاية ذلك هو تقديم رؤىً جديدة للعالم الذي نحيا فيه.

***

حسني التهامي - مصر

 

أُعيدُ الشعرَ تاجًا فوقَ رأسٍ

بهِ الدنيا تتيهُ على سِواها

هكذا يفتحُ لنا الشاعر ابنُ الثمانيةَ عشرَ ربيعاً (حيدر كرّار) مغاليقَ قلبه الصغير ومكنونات نفسه الإبداعية، وما فيها من حبٍّ للشعر، ومنزلةٍ رفيعة له ترتقي الى مكانة تاجٍ مرصَّعٍ بيواقيت الفنِّ الجميل، طريقاً مُخطَّطاً لأملٍ راودهُ عن نفسه، وحلمٍ رافقَ لياليه وأحلامه أملاً، وعشقَ عمرٍ، وهدفٍ، عملَ ويعملُ منْ أجل الوصول اليه غايةً عليا، منذ نعومةِ أظفارِ وعيهِ الغضِّ الرقيق، وتفتُّح موهبته، وهو يتوغلُ، ويتجوّل في بساتين الشعر العربيّ دراسةً مُختارةً (الفرع الأدبي/ المدرسة الإعدادية/ كربلاء)، ليجد نفسهُ وسط عالم الأدب، وسحره وغواياته، ممتطيّاً صهوة الشعر موهبةً وهوايةً ومحبةً واختياراً، لينطلَ به، فينهل من ينبوعه ما يسقي برعم الموهبة الشعرية ماءً وغذاءً وعشقاً، ليكبر ... ويرتفع ... ويُزهرَ ... فيثمر كتابةً ونشراً (في الصحفِ والمجلات والمواقع الألكترونية)، ليغدو فرحاً غامراً يملأ نفسه بهجةً ومسرةً ،وحلماً يتحقّق، وهو مايزالُ على مقاعد الدراسة الإعدادية، فكيف بعد عشرة أعوامٍ، وبعد عشرين، وثلاثين... و.. وبعد تجربة أعمق فأعمق، وأغزرَ فأغزر؟ إنّه الشاعر الذي جعل من تاريخ الشعر العربيّ وإضاءاته وقيمه الفنية والبلاغية، وبنائه الرصين المتين البنيان، ومجده الخالد التليد، مصباحاً يحمله ليضيءَ به دربه الأدبي، ومثالاً يحتذيه:

على خُطى الفرزدقِ كنتُ أسعى

أُحيي مجدَ مَنْ سادوا ذُراها

وفعلاً سار على خطاهم، ليحي مجدهم، وهو البرعم الصغير الخصب المزروع في بستان الشعر العربي المعاصر، وأوراق أشجاره المثمرة متوجهة بفخر نحو هذا التاريخ العميق الجذور، والغزير من الثمار اليانعة القطوف، والكواكب السيّارة عبر الزمن. فهو ينهلُ منْ نبع الشعر العربيّ القديم؛ لأنه الجذرُ والسدرة التي يستريح في ظلالها الوارفة، مستمتعاً بثمارها اليانعة. ولا يفوته الحديث والجديد في بستان الشعر.

حيدر كرّار - الموهبة الاستثنائية - يتجوّل في عوالم الشعر، قديمِه وحديثِه، وهو يحملُ قلمه، وخزينه الأدبي والمعرفي، راسماً وبائحاً بما في أحاسيسهِ وعواطفه، وتجربته الغرّة الذاتية، وما يحملُ من فكرٍ إنسانيٍّ ووطني، وكأنّه قد اشتعلَ رأسُه شيباً وخبرةً مترامية الزمان والمكان:

غدوتُ الفجرَ من رحمِ التحدّي

تُضيءُ رؤايَ دربَ السائرينَ

*

أنا طيرُ السما لا شيءَ يحني

جناحي نحوَ أرضِ الظالمينَ

هذا هو شاعرنا الغضُّ الطريُّ، يرفض الظلم، ويمقت الظالمين، ويرفعُ على كتفيه روح التحدي والحقَّ، محلِّقاً حرّاً مثل طيرٍ يأبى القفصّ، ويقاوم كي لا يُصطاد بسهام القهرِ والجورِ والطغاة. فلقد وُلد حرّاً أبيّاً، راسماً لنفسه العلا طريقاً ومُقاماً وموئلاً، نجماً ساطعاً برّاقاً، وكأنه مناضل عاش غمار النضال الطويل، حتى ابيضَّ شعرُ رأسه:

فلا نَجمٌ يُنافسُني شعاعًا

ولا قمرٌ يُساومُني سَناهَا

*

كذا كُتِبَ الخلودُ على جبيني

أنا للحقِّ إنْ دارتْ رحاها

هذا الشاعرُ الغضُّ الغرير حين يتأمل الحياةَ، ويتوغل في معناها، منْ خلال تجربته القصيرة فيها، وكأنّه حكيمٌ خبرها طويلاً، وعايش غمراتها بكلِّ ما تضطرب وتموج، من تجاربَ مُعلِّمة تكتنز بها النفس، ويستقيم العُود، لتمدَّ الإنسان بوعي وإدراكٍ خلال السنين، فيكبرُ معها ليمنح الآخرين عمق ما تكتنز من تجارب، ومعانٍ وعِبَر، وما تمنحه من معرفةٍ ليقدمها حكمةً وعِظةً، ويُشرعَ أبوابَها أمام المتلقي طبقاً دسماً جاهزاً:

المشردون في الساحات

يراقبون اللافتات العتيقة

كأنها نصوص مقدسة

بينما العشاق القدامى

يمزقون تذاكرهم الأخيرة

ويشطبون أسماءهم

من دفاتر الأمنيات

*

أما العابرون

فلا يعرفون من المدينة

إلا ظلالهم

الراكضة خلف الغياب

*

ما معنى الانتظار؟

العجائز في الشرفات

يفتحون الراديو القديم

ليتأكدوا أن العالم لم ينطفئ بعد

(من قصيدة "المدينة لا تنام")

موهبة الشاعر حيدر كرّار تتجسّد بجلاء بين تعاطيه فنّ الشعر بشكليه الكلاسيكي الفراهيدي، والجديد بشكله النثري (قصيدة النثر)، وبإمكانية ومقدرة واضحة، تتجلّى في قصائده، ولا تخفى على البصر الفنيّ والبصيرة الخبيرة المتابعة. كما أنّ لها من جماليات الشعر بجوانبها المختلفة وعناصرها المتعدّدة: من عاطفة وأحاسيس، وخيال خصب، وأسلوب فيه من الجودة الكثير، والبلاغة التعبيرية، والبيان بمختلف عناصره ووظائفها، والسلامة اللغوية، وهو ما يشير الى إمكانيات الشاعر، وموهبته الكبيرة، وثقافته اللغوية والشعرية، ومتابعاته وقراءاته، ونضجه الفكري، ووعيه بمجريات ما يجري حوله في وطنه، وما يراه في العالم حولنا، وموقفه الشخصي من خلال قناعاته. وهو تجاوزٌ لسِنِّه المبكر.

لم يكتفِ حيدر كرّار بما أسلفنا من أغراض شعرية عامة، تلمس حياة الناس والوطن، وموقفه، لكنّه طرقَ أبواب الذاتيات، معبّراً عن عاطفة الحبِّ في نفسه الطريّة العود، ودور الحبِّ في تنقية القلب والنفس، وجماله وحلاوة أحاسيسه، يقول في قصيدة (ربيعُ الحبِّ) بأسلوبه الرقيق الجميل مختاراً الألفاظ المناسبة للحال، ولعاطفة الحبِّ:

تَراقَصَ زَهرُهُ في كُلِّ رَوضٍ

وَغَرَّدَ طَيرُهُ لَحْنَ السُّرُورِ

*

فَيا أَهلَ الهَوى، هَلْ مِنْ رَبيعٍ

يُضيءُ قُلُوبَنا بَعدَ الدُّهُورِ؟

*

رَأيتُ الحُبَّ يَسري في رُبَاهُ

كَنَهرٍ فاضَ مِنْ عَينِ الزُّهُورِ

*

فَصِرْتُ أَجُوبُ بُسْتانَ التَّمنِّي

وَأَحْمِلُ مِنْ دُناهُ عَطْرَ نُورِي

*

إِذَا مَرَّ الهَوى فَافْتَحْ قُليبًا

يكُونُ لِحُبِّهِ أَرضَ الطُّهُورِ

*

فَلا تَخشَ الخُطُوبَ وَعِشْ هَنِيئًا

فَإِنَّ الحُبَّ يَصْنَعُ مِنْكَ نُورِي

إنَّ هذا الأسلوب الرقيق الشفاف والجميل صوراً، وأداءً تعبيرياً، والمُترَف بوشيٍّ مُحلّىً بالعاطفة والحسِّ المرهف، إنّه ميزة يتحلّى بها الشاعر بما يجعله – إنْ واصلَ فيه – وطوَّره، يجعله من شعراء الغزل الرقيق ليدخلَ النفسَ بسلاسة وعذوبة:

وَلا تَحْسَبْ صَبَاحَ العُمْرِ يفْنَى

إِذَا غَنَّتْ عَلَى الأَغْصَانِ طِيرِي

*

فَكُلُّ الحُبِّ في الدُّنيا رَبِيعٌ

وَإِنْ جَارَتْ عَلَيهِ يَدُ الدُّهُورِ

*

فَأَزهِرْ كَالمدى وَازْهُو بِوَصْلٍ

يَجُودُ عَلَى الفُؤَادِ بِمَا يُسرِّي

*

وَدَعْ أَيَّامَكَ الغَبْرَاءَ تَمْضِي

فَإِنَّ الحُبَّ يَغْسِلُ كُلَّ زُورِ

يمتاز شعره شكلياً – كما ذكرنا – بأنه على اللونين العمودي الفراهيدي والحديث المتجدّد، وهو في الاثنين يجيد الصياغة، بمكنةٍ واضحة، تدلّ على مقدرة، وإمكانية، وموهبة استثنائية، وجودة، ومعرفة دقيقة بالشكلين، وكأنه خبير قديم فيهما، وهو ما نفتقده في الغالبية العظمى ممن يكتبون ما يسمونه شعراً (قصيدة نثر). وإنَّ لتجربته الغضّة فرصةً في التنامي والرقي والتطوّر أكثر فأكثر مع السنين والخبرة الإضافية، ومواصلة المعرفة وتطوير الذات الشعرية والشاعرية، والثقافية العامة. وهو ما يؤهّله لأخذ مكانته العالية في وادي عبقر، وعالم الشعر اللذيذ. فهو لم يكتفِ بما ذكرنا من أغراض شعرية، بل تجاوزها الى العميق من المضامين والمعاني والأفكار، مستنداً أيضاً الى عالم السرد الغني الواسع الذي يضيف جمالية أخرى من جماليات فنّ السرد القصصي، مما يزيد من غنى القصيدة، وتوسيع عالمها الحسّي والخيالي والصُوَري، يقول في قصيدته (شارع الوقت):

الساعةُ الثامنةُ إلا قليلاً،

والشارعُ يمتدُّ كحبلِ غسيلٍ

عليهِ ثيابُ الزمنِ المنشورة.

*

العجوزُ الذي يجلسُ في الزاويةِ،

يعدُّ المارةَ كأنهم دقائقُ مفقودةٌ

من عمرهِ.

والطفلُ الذي يبيعُ الحلوى،

يرسمُ حلمَهُ على زجاجِ السياراتِ.

*

في شارعِ الوقت،

لا أحدَ يعرفُ إلى أينَ يمضي،

ولا أحدَ يسألُ عن وجهتِكَ.

فقط الريحُ

تطوي الأيامَ كصفحاتِ جريدةٍ قديمة.

لِنتمعّنْ في الصور المدهشة المستحدَثة، المختارة بدقةِ صياغةٍ شعرية ماهرة حاذقة، ومخيال خصب غزير الأرجاء واسع الأنحاء، عامر بالصور والتشكيل اللوني بريشة الكلمات، والبلاغة الماهرة استعارةً وكنايةً وتشبيهاً ومجازاً:

(كحبل غسيل)، (ثياب الزمن المنشورة)، (كأنهم دقائقُ مفقودةٌ)، (يرسمُ حلمَهُ على زجاجِ السياراتِ)، (شارعِ الوقت)، (تطوي الأيامَ كصفحاتِ جريدةٍ قديمة).

(حيدر كرّار) ابن التسعة عشر ربيعاً، البرعم الشعريِّ، وقد بدأ ربيعُ الشعر عنده يسقي موهبته وتجربته، لينمو ويُزهر بألوان الفنِّ الجميل، هو شاعر قادمٌ على عربةِ أبوللو الشعرية، وهو يملأها، ويُضيئها بمصباح شعره البرّاق. ولسنا مبالغين:

فـ(المكتوب باين من عنوانِهِ).

***

عبد الستار نورعلي

شباط 2025

قصيدة /النهر اليابس/ للشاعر العراقي رياض الكاتب تتسم بأسلوب شعري يجمع بين الرمزية والوجدانية، وتعرض تصويرًا مؤلمًا لواقع قريته المنكوبة، حيث يتداخل فيها الألم والموت والحياة. نرصد في القصيدة عدة جوانب أسلوبية ونقدية يمكن تفصيلها على النحو التالي:

1. استخدام الرمزية:

النهر اليابس في العنوان والمفردات الأخرى مثل /المرايا/، /السنين العجاف/، و/الصقيع/ ليست مجرد صور طبيعية، بل تمثل حالة من القحط الروحي والوجودي، حيث يصبح النهر الذي كان مصدر حياة ومصدر خصب، يابسًا، في إشارة إلى ضياع الأمل والجفاف المعنوي. النهر اليابس يشير إلى موت الأحلام وآمال الناس في ظل الحروب والمحن التي تعرضت لها المنطقة.

2. التراكيب البلاغية:

تمثل القصيدة مجموعة من التراكيب البلاغية الموحية التي تخلق إيقاعًا شعريًا خاصًا، مثل /شتاء صيفي/ و/غيمة بلا مطر/. هذه التناقضات تثير تساؤلات حول ماهية الزمن والمكان، وتظهر كيف أن الأشياء التي يفترض أن تكون متناقضة تصبح في الواقع جزءًا من واقع واحد غير طبيعي. كما أن استخدام /غيمة بلا مطر/ يوحي بالفراغ والعجز.

3. الصور الشعرية:

القصيدة مليئة بالصور الشعرية التي تخلق حسًا بصريًا وذاتيًا عميقًا. مثلًا، /لوحة على جدار التراب في شارع الشمس/ و/ثوب قريتي الأخضر/ تحمل دلالات قوية على الارتباط بالطبيعة والتراب كمكان تاريخي وثقافي، لكنها أيضًا تمثل فقدانًا للزمن الجميل. هذا التصوير يمنح القارئ إحساسًا بالزمن المنقضي، ويثير الأسئلة حول معنى الهوية والوطن.

4. الإيقاع الداخلي:

القصيدة تتسم بإيقاع داخلي مشدود يعكس التوترات النفسية للراوي والشخصيات. تتداخل المفردات والمجازات مثل /زمن الحداثة/ و/فصل واحد/ للإشارة إلى تشظي الزمن وفقدان انسجامه. هذا التشظي يظهر من خلال الاستخدام المكثف للصور السريعة والمجزأة، التي تجسد حالة من التمزق في الذاكرة والتاريخ.

5. التأثير العاطفي والوجداني:

القصيدة تنضح بالحزن والأسى، حيث تُصور بمرارة ضياع ملامح الحياة الماضية في قريته، سواء من خلال اختفاء النهر أو موت الطيور المهاجرة. هذه الرموز تشير إلى الافتقاد للأصالة والهوية في ظل ظروف قاسية.

6. الأبعاد الاجتماعية والسياسية:

في خلفية القصيدة، هناك إشارة واضحة إلى المعاناة الاجتماعية والسياسية للعراق والمنطقة العربية، كما يتضح من ذكر /الزهور الشهداء/ و/المبازل/ و/التمور/ التي تمثل واقعًا مأساويًا من الحروب والمجاعات والنزاعات. عبر هذه الصور، يعكس الشاعر تأثيرات هذه الأوضاع على المجتمعات البسيطة، حيث يندمج الألم الشخصي في صورة جماعية.

الختام:

قصيدة /النهر اليابس/ للشاعر رياض الكاتب تعكس ببراعة صورة مجتمع يواجه الجفاف الروحي والوجودي، من خلال لغة رمزية غنية بالصور الشعرية التي تثير في القارئ مشاعر الأسى والرفض. ومن خلال التفاعل بين الزمان والمكان، يبرز الشاعر صورة من صور المعاناة الإنسانية في ظل العوامل الاجتماعية والسياسية، مما يجعل القصيدة نموذجًا للأدب الذي ينطلق من خصوصية المكان نحو التعميم الإنساني.

*** 

بقلم: كريم عبد الله - العراق

...........................

النهر اليابس

في زحمة المرايا جلست قريتي تمشط نخلها على ضفاف النهر اليابس، تحيط بها  سنين عجاف ولوحة على جدار التراب في شارع الشمس مرسوم فيها زهور الشهداء، واقف على اعتاب الباب شتاء صيفي يرتدي غيمة بلا مطر وصقيع صلاحيته نافذة مذ دخل الجفاف، قباب الطين مازال اثرها في اقدام المجالس ونكهة العفوية عطرها يغطي الناحية القديمة في ثوب قريتي الاخضر، مواسم (الطيور المهاجرة) والاكواخ الخشبية ورائحة العنبر بين امواج النهر تمتطي هبوب الريح ، جمعتها الاهوار في صورة جنوبية تشبه العقال وعباءة ثلجية يرتديها المالك الحزين عندما يبحث عن بركة من بقايا المبازل، ثمة طقوس تشرينية على منافذ دروب السماء امطرت سوادا في نواحي الذكرى، امسية التمور استهلها البرحي بقراءة سورة الالوان صفقت جميع الفصول في زمن الحداثة ما عاد في لباسها فصل واحد، هناك الف اغنية جمعتها قريتي في قرص واحد كلها تندب ذلك النهر اليابس.

***

رياض الكاتب – العراق

 

"الجميلات النائمات" لكاواباتا الياباني و"ذكرياتي مع غانياتي الحزينات" لماركيز

أجملُ ما في الكتابة الإبداعيّة أنّها تُعرّي صاحبَها وتتغلغلُ في ثنايا نفسيّته وأفكاره، وتَعْرضُه على القارئ بجرأة وسَطوة، تجعلُ هذا القارئ يُسحَرُ ويَدهَش ويتمنّى ويحلم، ولكنّه يظلّ لا يتعدّى ذلك.

كلّ إنسان يتمنّى في ساعات من عمره لو بإمكانه أنْ يقفَ على مُرتفع ليروي لكلّ الناس عمّا يحلم، وبماذا يُفكّر، ليعترف أمامهم بكلّ خطاياه، يكشف لهم أسرارَه الخاصّة ويُشركُهم في همومه التي تُعذّبه. لكنّ هذه هي منحة الخالق التي خَصّ بها المُبدعين وحدَهم وحرمَ الآخرين منها، فكان المبدعون مرافقي الزمن، خالدين بخلوده، بينما يضمحلُّ الآخرون ويغدَوْن كما لو أنّهم لم يكونوا.

ويظلّ الزمنُ رفيقَ المُبدع اللدود، يُطاردُه في كلّ تحرّكاته ويُذَكِّرُه بأنّه له بالمرصاد. وهذا ما دفع هنري جيمس (1843 – 1916) ليقول: "أرصدوا ما حولكم في شكل متواصل، أرصدوا قدومَ العمر.. وأنا نفسي أرصد انهياري الخاص. بهذه الطريقة كلّ شيء يمكن أن يكون مفيداً.. أو هذا ما آمله على الأقل. لذا أحاول أن ألتقط من الزمن أفضلَ ما يُعطيه". وقد تكون هذه المُلازَمةُ القاتلة للزمن هي التي دفعت بفرجينيا وولف (1882-1941) إلى اقتناعها بعَدَميّة جدوى الحياة بقولها "أجل.. إنّ هذا ما أفكّر فيه، إننا نعيشُ من دون مستقبل. وهذه هي غرابة الأمر، إذ نبدو كمَن يطرقُ أنفَه على باب موصد" وتُقرر الانتحار برَمي نفسها في الماء، وتفارقُ الحياة قانعة راضية بما اختارت.

لكن معظم الناس يتشاغلون عن الزَّمن، يتهرّبون منه، ويحاولون نسيانه، وفي بعض الحالات تَحدّيه.

حقيقة إنسانيّة يعيشها كلُّ إنسان، أنّ عبورَ الواحد للعقد السابع من عمره يجد نفسَه مشدودا من حيث لا يدري بالماضي البعيد الذي كانَه يوما، فتجده ينتهز أيّة فرصة ليعودَ بجُلسائه، والأكثر بنفسه، إلى أيام زمان التي كانت ومضَت، يتحسّرُ عليها، ويشتاق إليها، ويتمنّى لو تعود. ويجد نفسَه في أحلامه المُتَقاربة يعود إلى البيت الذي وُلد وكَبُر فيه، ولأفراد الأسرة، وللحارة والأقارب والجيران، ويعيش من جديد ما كان له من صَداقات وخلافات مع هذا وذاك، وأيّة قصص حبّ كانت له مع هذه الفتاة من الأقارب أو الجيران، وقد تأخذُ به الأحلام، وعلى ليال مُتقاربة ليعيشَ من جديد قصّةَ حبّ كانت قد عصَفت به في شبابه وتركت أثرَها على حياته كلّها.

هكذا يجد الواحدُ نفسَه تتأرجحُ ما بين ماضٍ كان، ويُلاحقه بقوّة، وحاضر يعيشُه لم تعُد له فيه أيّةُ آمالٍ وطموحات، وإنّما عقاربُ ساعة تُذكِّرُه في كلّ نظرة إليها بأنَّ العمرَ يمضي، وساعةَ الرّحيل قادمةٌ، فيستزيدُها بالسّرعة ليرتاحَ ويتخلّصَ ممّا هو فيه إذا كان زاهدا في حياته، أو يرتجفُ مع كل نَقلة لعقاربها، ويُخَيّلُ له تَرَصُّدُ رسول الموت به ليَحملَه وينقلَه إلى حيث المُسْتَقرّ الأبديّ.

وإذا كان الإنسان العاديّ يكتفي بسَرد بعض قصص ماضيه للأصدقاء المُقَرّبين منه أو يحتفظُ بها لنفسه خوفا من تعليقات الناس وانتقاداتهم والنَّيْل منه وقد تقدّمَت به السنون، فإنّ المُبدعَ من الكُتّاب والشعراء يجد نفسَه في صراع شديد يُعاني منه، وفي انشداد كبير لتفريغ ما يختزنُ في ذاكرته على مدى سنين عمره كلّها بسَرد سيرته الذاتية ليخلّدَها لأنّه يراها الأكثرَ صدقا وأمانة للإنسان الذي كانَه.

وتزدادُ المشكلةُ وتتأزّم، وقد تؤدّي إلى خلافات وعداوات في مجتمع كمجتمعنا العربي المُحافظ، المُتمَسّك بالعادات والتَّقاليد والمَفاهيم الجاهليّة والقَبَليّة والتَّباينات المَذهبيّة والدينيّة والعائليّة فلا يرضى ولا يؤمن بأيّة علاقة صداقة بريئة بين رجل وامرأة، وتثور ثائرتُه إذا عرف بقصّة حبّ بين شاب وفتاة، والوَيل لهما إذا كانا ينتميان لدينَيْن أو مَذْهَبَيْن مُختلفَين. وكم من ضحيّة لاقت مصيرَها بقَتْلها للمحافظة على شرَف العائلة، وكم من نزاعات دامية وحتى حروب قامت.

يجد المُبدع العربي في وطننا العربي نفسَه مُحاصرةً بكلّ هذه القُيود والمُحرّمات، والذين تمرّدوا وكسروا القيود لاقوا الأَمَرَّيْنَ وخاصّة إذا كانت مُبدعةً أمثال ليلى بعلبكي وأحلام مستغانمي وحنان الشيخ وكوليت خوري وسلوى النعيمي. ويذكر كلّنا العاصفةَ التي واجهتها غادة السمّان عندما نشرَتْ رسائلَ غسان كنفاني الغراميّة لها.

ويعترف محمود شقير في كتابه "أنا والكتابة" قائلا: "ولأعترف بأنّ الخوفَ انعكس بشكل أو بآخر على كتاباتي. وإذا ما تذكّرنا المحرّمات الثلاثة: الجنس والسياسة والدين، التي يُحْظَرُ على الكاتب في البلدان العربية الاقترابَ منها إلّا على نحو طفيف، فإنّ نتاجي الإبداعي يُعاني من هذا الخوف، وحين يتعلّقُ الأمر بالكتابة، فإنّني أخاف من السلطة الدينيّة في المقام الأول ثم من السلطة الاجتماعيّة، يأتي بعدها الخوفُ من السلطة السياسيّة ثالثا، ومن الاحتلال الإسرائيلي في المقام الأخير" ويعترف بأنّه لم يُفكّر بكتابات لها هذه الدرجة من التحدّي. والرّقابة الداخليّة لديَّ قويّة إلى الحدِّ الذي لا يجعلني أفكِّرُ بكتابة من هذا النوع". (أنا والكتابة. محمود شقير. مكتبة كل شيء 2023 حيفا ص188 وص190)

والآن إلى منزل ذكريات محمود شقير

هذه المقدّمة الطويلة قصدتُ بها التّمهيدَ لتناول رواية محمود شقير الأخيرة "منزل الذكريات" إصدار (نوفل 2024) التي يصفها بالنوفيلا، أيّ الرواية القصيرة رغم عدد صفحاتها التي تصل إلى 177 صفحة.

وأتخيّل محمود شقير وقد تجاوز الثمانين من عمره، يجلس أمام نافذة بيته ينظر إلى البعيد ويُقلِّبُ بين يديه روايتَيْ الكاتب الياباني ياسوناري كاواباتا "الجميلات النائمات" والكاتب الكولومبي غابرئيل غارسيا ماركيز "ذكرياتي مع غانياتي الحزينات" ويشطح به الخيالُ إلى سنوات بعيدة تُعيدُ له رفاقَ الطفولة وزملاءَ المدرسة وأصدقاءَ فترَتَي المُراهقة والشباب وما فيهما من تقلّبات، ومفاجآت، وحبّ، وألم. ويسقطُ الكتابان من يديه فينتبه إلى نفسه ويُفاجَأ ببطلَي كاواباتا وماركيز يبتسمان له ويقولان معا:

- استمر في بَوْحك الجميل، نحن في شوق للمزيد.

فينتفضُ ويستعيذُ بالله من الشيطان الرجيم، ويُقسم أنّ كلّ ما باح به من تدابير محمد الأصغر، وحاشا له، وهو الإنسان المحافظ الملتزم بعادات وتقاليد أهله، ولا تُشغله إلّا قضايا وهموم أبناء شعبه الرّازح تحت الاحتلال، وأمَّته التي تعيشُ كلَّ هذا الذلّ في هذا الزمن الرّديء، فحاشا له أنْ يلتفتَ لمثل هذه التّرْهات والمُغريات.

وقبل أنْ ينهيَ كلامَه يدخلُ محمد الأصغر يُرحِّب بالضَّيفَيْن العزيزين ويدعوهما للانضمام إلى الحضور الذين ملأوا صحنَ الدّار للمُشاركة في تشييع جثمان زوجته سناء التي فتك بها كوفيد 19.

وهكذا نأى الكاتبُ محمود شقير بنفسه عن كلّ ما قد يجلبُ عليه كلامُ الناس من المَتاعب، وحَمَّلَ هذا العِبْءَ الثقيلَ لقريبه وقرينه محمد الأصغر الذي اعتاد على السّهرات الجميلة والقصص برفقة قريبه رهوان.

ويتجلّى محمود شقير في إطلاق خياله تاركا قرينَه وصنيعتَه محمد الأصغر ليمارسَ حياتَه التي تحلو له ما بين تخييلٍ لا ضوابطَ له، وواقعٍ يدمي القلوبَ من ظلم المُحتل وتَفَلُّتِ المُجرمين، وشعبٍ ضعيفٍ يعاني كلّ صُروف الظلم، لكنّه لا يفقدُ الأملَ في المستقبل.

محمد الأصغر ليس غريبا علينا، فقد عرفناه في قصص وروايات محمود شقير يتقمَّص شخصيتَة ويتستّر عليها، ويُطلق العِنانَ لنفسه لتنطلقَ كما يحلو لها في هذه الحياة التي يعيشُها بحلوها ومُرّها، وكما عرفنا محود شقير هكذا يكون محمد الأصغر نموذجا للإنسان المُنفتحِ على الحياة والناس، الوفيِّ والمُحبِّ لزوجته سناء التي تُرافقه في السّرّاء والضّرّاء، وتبقى له نِعْمَ الزوجة. وإذا كان قد خَتَم قصصَ "نوافذ للبَوْح والحنين" بجلسته الهادئة الدافئة مع سناء وهما يحتسيان القهوة بتفاؤل ووئام تحتضنُه ويحتضنُها.. فإنه ابتدأ روايتَه "منزل الذكريات" بموت سناء ومشاهد مأتمِها وتشييعها إلى مَرقدها الأخير، وإحساسِه الكبير المؤلم بفَقْد شريكة حياته، وتَشكَّكَ في قدرته على العيش وحدَه بدون سناء وأنه، كما يقول" ربّما لن أعيش بعد سناء سوى سنة واحدة أو سنتين. وأنا أشعر بضراوة الفَقْد، حين أجد مكانَها شاغرا في السّرير، وحين يكون الفراغُ المُتشكِّلُ فيه أكبرَ ممّا يُمكن احتمالُه في أيّ حال. أشعر بوحشة ضارية تلفُّ غرفة نومنا والبيتَ ومحيطَ البيت والحيّ، وأينما نظرتُ تكبر الوحشةُ ويُعلن الموتُ هيمنتَه على الأمكنة المُحيطة بي، ويُعذّبني وجهُ سناء الشاحبُ وعيناها المغمضتان على فراغ" (ص10)

وتُعذّبه الكوابيس التي تُحاصره في الليل، وتدفعه للشك في في حقيقة موت سناء، لربّما تعرّضت لحالة إغماء؟ وتسرّعوا في دفنها، وفكّر بنبش قبرها وإخراجِها من القبر لكي يتأكّدَ من حقيقة موتها. (ص12)

وظلّ لفترة يتخيّل سناء تعيش معه، تزورُه، تنام إلى جانبه، تُشاركه في شرب القهوة الصّباحيّة، وتستحمُّ بنعومة وهو يراقبها عاريةً والماءُ ينسكبُ على جسدها، وتُرافقه في تجواله في شوارع وأزقّة القدس، ويتناول معها وجبةَ الغذاء في المطعم الذي اعتادا على الأكل فيه.

لحظة التَّحوّل في مشاعر محمد الأصغر

الإنسان بطبيعته وُجد ليعيش مع غيره من الناس، ولا يجد سعادته إلّا برفقة أنيس يُؤنسه ويُشاركه في حياته، والرجل وجَد أنيسَه في المرأة، والمرأةُ وجدَتْه في الرجل. ولا يختلف محمد الأصغر عن غيره من البشر، فما كاد الأسبوع الثالث ينقضي على فراقه لسناء حتى بدأت الوحدةُ تُزعجه، وإهمالُ الناس له يُضايقه، وشوقُه لأنيس يملأ عليه حياتَه يُدغدغ مشاعرَه ويذكّره بكلام عجائزِ حَيّه "أعزب دهر ولا أرمَل شهر".

وكانت لحظةُ التَّحوّل بدخول جارته الأرملةِ أسمهان التي فقدت زوجَها قبل خمسة أشهر من جرّاء إصابته بفيروس الكورونا عليه بجسدها الطويل الفتّان بما يبعثه من إثارة وجاذبيّة مثيرة للفضول. جاءت أسمهان كما قالت لتأخذَ ملابسَ المرحومة سناء للتبرع بها صَدَقة عن روحها لمَن تحتاج إليها من النساء. (ص22) لكنّها بتلميحات جنسية واضحة قالت له:

-كانت سناء غاطسة في النّعيم معك.

وتابعت بكلماتها المُثيرة له: انتبه لنفسك، طوال سنوات وهي تمصُّ دمَك، وأنت تكتبُ عنها يا عيني أحلى كلام. (ص23)

وتركته يستعيد كلماتها ونغَمَة صوتها وتلميحاتها، وفي أحلام ليله بدأت تُزاحمُ سناءَ في الاستئثار به. تأتيه سناء بقميص نومها الداخليّ، تقتربُ منه وتنام إلى جواره ملتصقة به بشغف وإذا ما فتح عينيه ونظر إليها يكتشف أنها أسمهان بكل ما لديها من شَبَق ومكبوتات فيُشَدُّ إلى جسدها الفتّان النّابض بالحياة. (ص28)

وهكذا بدأت الأيام تُبعد بمحمد الأصغر عن سناء وذكراها، فالبعيدُ عن العَين بعيدٌ عن القلب. وأخذت الحياة تفعل فعلَها، ووجد نفسَه وقد استسلم للنوم يحلم "كمَن يقف على مَفْرق طرق، مهموما حائرا مُشتّتا" وكان رهوان المُنقذَ له من حيرته بأنْ جاءه وعرض عليه الخروجَ من سجنه البيتي إلى مكان سيجد فيه الرّاحةَ والاستمتاع، ولم يتردد محمد الأصغر ولم يستفسر، فقد كان راغبا في الخروج من حالة الحزن والحيرة والضّياع، ارتدى ثيابه وتعطّر كما لو أنه ذاهب إلى حفل استقبال. (ص29)

وأخذه رهوان إلى بيت "فريال" التي تبيع المُتعة لطالبيها من مُحبّي المغامرة. وكنّا قد تعرّفنا على بيت فريال في مجموعة "نوافذ للبوح والحنين ص203، ووجد محمد الأصغر نفسَه مندفعا نحو فريال بجسدها الجميل "وقوامِها الرّشيق وتنورتِها القصيرة التي تكشف مساحةً غير قليلة من فخذَيْها، وبلوزتِها التي تنمُّ عن نهدين مُكتنزين وهي تنثر شعرَها على صدرها في حركة إغراء، " (ص30) وسارع رهوان الذي لاحظ اندفاعَ محمد الأصغر نحو فريال بتَقديمه لها بقوله: "أقدّمُ لك أحدَ أبناء عائلتي، العم محمد الأصغر، محرّر الكتب ومُصحّح الصحف قبل صدورها وذهابها إلى القرّاء، الذي ماتت زوجته قبل أسابيع ، وهو الآن فاقدٌ مُلتاعٌ، محتاجٌ إلى مَن تُسْري عنه وتقتلعُ الحزنَ من صدره وتمنحُه الحبّ والحنان." وفاجأته في هذا الموقف زوجته سناء تُعاتبه وتؤنّبه على فعلته قائلة:

-ما الذي تنوي أن تفعله يا محمد؟ هل وقعتَ في حبائل رهوان؟ وإلى أين يأخذُك هذا الدّاشر وأنتَ عجوز طاعن في السّن؟!!

فتضايق، وكاد يشتبك معها في شجار، وقال لها بغضب:

-اسمعي يا سناء، نامي واتركيني أنام" (30-32)

وقرّر بعد زيارته لقبر سناء ألّا يعود مرّة ثانية لزيارته، وحتى انجذابه إلى الكَنَبة التي كان يجلس هو وسناء عليها خفّ وانصرف إلى مراقبة بيوت الحيّ من خلف زجاج شرفته. وبدأت أسمهان تُشغله فيتذكّر حديثها عن النسيان بمرور الزمن، ويندفع في قراءة كتابي ماركيز وكاواباتا عن الجميلات الصغيرات النائمات، ويشدّان به ليحذو حذوهما فيكتب رواية شبيهة لما كتبا.

وهنا كانت المشكلة، ومنها انبثق الحلُّ.

المشكلة في الصيغة التي يُقدّم فيها الكاتبُ تفاصيلَ مغامراته الماضية والتي يفكر بالخَوض فيها مُتَشَبِّها ببطلَي ماركيز وكاواباتا للقارئ العربي المحافظ الرّافض لما يمسّ العادات والتقاليد والمُعتقدات الدينيّة.

ووجد الحلّ السّريع في إمكانيّة البَوح بكل أسرار حياته الخاصّة الماضية والحاضرة، ويبدو للقارئ في ذات الوقت مِثالَ الطهارة والنَّقاء والالتزام بكلّ مَفاهيم المجتمع الذي يُعايشه، وذلك باختياره كتابة رواية لما تُتيحُه له الرواية من الحريّة في بناء عالم كما يحلو له، تعيش فيه نماذج متنوّعة ومتناقضة من الناس، تتصرّف كما تريد.

ووجد في "الواقعيّة السِّحريّة" المَخْرَج الأمثل، وكان قد فعل ذلك في أعمال سابقة له، وأتى بشخصيات يرفضها المجتمع المُحافظ مثل شخصيّة المغنية شاكيرا والرّاقصات العاهرات في "نوافذ للبوح والحنين"، ورهوان بكل أفعاله المُنافية لمفاهيم مجتمعه. ولم يثُر أحد على الكاتب، ولم تُوَجَّه إليه سهامُ الاتّهام بالخيانة والدَّعارة ونَشْر الفَساد. كما أنّه أتى بشخصيّات مشهورة ومحبوبة مثل لاعب كرة القدم البرازيلي رونالدو ومايكل جاكسون ورامبو وهو يرى "أن المَزج والتّقابل والتّعايش وتبادل التّأثير، وخلط الواقعي بالخيالي الذي يتبدّى في قصصي التي تحمل أسماء هؤلاء النجوم، يقود المتلقي إلى حالة من التأمّل ومن التفكير في أوضاعنا التي تصل حدّ السرياليّة حينا، والضّحك المُبكي حينا آخر". (أنا والكتابة ص80)

وهو في قَصِّه هذا استحضر شخصياتِ بطلَي ماركيز وكاواباتا وكذلك ماريا زخاروفا الروسيّة، وكُثْرا من الذين ذكرهم في قصصه ورواياته السّابقة. وتحاشى السّهامَ ضدّه بجعل محمد الأصغر يقوم مقامَه ويظهر بدلا منه أمام الناس.

فالكاتب منذ الصفحة الأولى من "منزل الذكريات" انتزع القارئ من واقعه المَعيش الذي تعوّدَ عليه ورضيَ به إلى أجواء يتداخلُ فيها الواقع باللاواقع بتَوافق تام وتناسُقِ العناصر المُتَضادّة مع بعضها. فنلتقي في تشييع سناء زوجة محمد الأصغر بشخصيّات مختلفة منها التي نعرفها ولا تزال على قيد الحياة مثل رهوان وبعضٍ من عائلة محمد الأصغر، ونلتقي بعدد من شخصيات قصصه ورواياته التي كتبها، وبطلَي رواية ياسوناري كاواباتا وماركيز، وهكذا نرى تَجَمُّعَ شخصيات مختلفة، منها شخصياتٌ هو خلقَها في رواياته وقصصه، وشخصيّاتٌ ماتت منذ سنوات، وأخرى أبطالُ روايات لكُتّاب غير عرب. كلّهم اجتمعوا معا لتشييع سناء زوجة محمد الأصغر. هذا التّداخل ما بين الشخصيات في الواقع المرئي وفي اللاواقع المُتَخيّل جعل حتى محمد الأصغر نفسه يتساءل بحيرة ودهشة:

-"هل أحلم؟ هل أهلوس؟ أم هو عالمي الذي أدمنتُه مع الكتب وأبطال الروايات؟ ولو أنّ أمي ما زالت على قيد الحياة كانت ستُصابُ بالحيرة والذهول، وستقولُ إنّني ممسوس ولم أعد مالكا قوايَ العقلية" (ص10)

هذا الواقع الذي يتقاطع فيه العالمُ الرّوحيّ بالعالم الماديّ، وما هو خارق للطبيعة والدُّنيوي، ويتعايش فيه الواقعُ مع اللاواقع بتوافق وقبول هو ما اتُّفِقَ عليه باسم "الواقعيّة السحرية" التي تَميّز بها كُتّابُ أمريكا اللاتينية مثل ماركيز منذ روايته "مائة عام من العزلة" ومن ثم اكتسحت العالم الروائي وأصبحت الوسيلةَ المفضَّلةَ عند الكاتب للهروب من المُواجهة المُباشرة إلى التستُّر بخَلْق هذا العالم السّحريّ بشخصياته المختلفة ليقول ما يريد ولينتقدَ ويثيرَ ويٌحرّضَ ويبوحَ بقصص حبّه ويكشف أسرارَ الآخرين من خلال شخصيّات روايته المُتعايشين معا بتَصاف وقبول.

وإذا كان محمود شقير في رواياته وقصصه السابقة مثل: "احتمالات طفيفة" و "صورة شاكيرا" و "ابنة خالتي كوندوليزا" قد لامس "الواقعيّة السحرية" بخَفَر وتهيّب، فإنّه ازداد بأسا وتفاعلا ومُمارسة في قصص "نوافذ للبوح والحنين" حتى نجدَه في "منزل الذكريات" يعيش هذا الواقع السحري الذي خلقَه، ومنه ينطلق ليُوَجّه سهامَه في كلّ الاتجاهات وليقولَ كلمتَه بقوّة ووضوح.

فمنزل الذكريات هي نموذج ممتاز للواقعيّة السحرية، فيها تتشابك الشخصياتُ وتتداخلُ المشاهد، فلا يتمَكَّن القارئ من التّمييز بين الواقع والخيال وحياةِ الواحد اليومية وما يعيشُه في أحلامه، ويُطلق لنفسه الحرية فيشتم جُندَ الاحتلال ويتمنى زوالَهم، ويفضح تدميرَهم لحياة الناس بإطلاق المجرمين والقَتَلة والعملاء للاعتداء على الناس، وتقويض أمنهم، وتنغيص حياتهم، وتمزيق وحدتهم وتشتيت شملهم كما يفعل البلطجي جميحان شقيق أسمهان وعصابتُه من المجرمين، وحماية الاحتلال للموبقات كي تنتشرَ في المجمتع بتأمين بيوت العاهرات ومجالسِ شُرْب الخمور التي تُقامُ قريبةً من معسكرات المُحتل كما رأينا بيت فريال.

"السّهل المُمتنع والسُّخرية النّاعمة" ما ميّزا أسلوب محمود شقير السّرديّ في معظم كتاباته، ويلمس القارئ السّخرية الناعمة القويّة في عرض وشرح وتفسير ووصف وحوار محمود شقير. ويقول محمود شقير "إنّ هذه السّخرية جاءته نتاجا أكيدا للأوضاع المُرّة التي نحياها تحت الاحتلال، حيث العُسْفُ والاذلالُ ومصادرةُ الأرض وتغييرُ مَعالمِ المَشهد الفلسطيني وخَلقُ مَشهد آخر غريب من جهة، ومن جهة أخرى ثمّة التّخلّفُ الذي نُعاني منه وانهيارُ القيم، وتراجعُ العقلانيّة وانتشارُ النَّزَعات العشائريّة والعائلية المتخلّفة، وتعريضُ مجتمعنا وحياتنا إلى مصير بائس لم نشهده من قبل (أنا والكتابة ص126).

الحلم مَهْرَب ومَصْيدة محمد الأصغر

استخدم محمود شقير الحلمَ بصورة جميلة في المواقف التي تستحيل أن تجري في الواقع في العديد من قصصه السابقة. وفي بعض قصص مجموعة "نوافق للبوح والحنين" يجد في الحلم وسيلته ليلتقي الجميلة المغنية شاكرا ويُجالسها ويحدثها وهي في كامل عُريها ص 170 ومرّة ثانية صفحة 181. وفي روايته "منزل الذكريات"

شكّل الحلم عنصرا أساسيا في حياة محمد الأصغر، وقام بمهمّتين متناقضتين:

الأولى أنّه كان القَيْدَ الذي شلّ حياتَه وحدّد مَسارَه وسَببَ ما لاقاه من مَشاكلَ وآلام.

الثانية تحوّل ليكون المَهْربَ الذي يجد فيه فرصة للابتعاد عن مُضايقات الغَيْر له.

في الحلم كانت تعزيتُه عن فَقْد زوجته سناء التي كانت تأتيه، رغم موتها، كلَّ ليلة وتنامُ إلى جانبه وتتناول معه وجبةَ الفطور ويتجوّلُ برفقتها في شوارع وأزقّة القدس.

وفي الحلم كانت تحضرُ إليه أسمهان بفتنتها وإغرائها، ولا تغيبُ عن فكره حتى ساعات النهار.

وزارته الصغيرة الفاتنة سميرة وقضى معها الساعات.

وفي الحلم يزوره بطلا مركيز وكاواباتا يحادثانه ويتحاوران معه ويشدّانه إلى عالمهما السّحري الجميل، يقرأ في روايتيهما ويشعر بأنهما يتسبّبان باجتذابه نحو تجربة لم يُفكر فيها من قبل حتى أصبح رهينتهما، وأمنيتُه فقط أن ينجحَ في كتابة قصة كالتي كتباها. (ص34).

ولكن الحلم أصبح سببَ تعاسته والقَيدَ الذي شلّ حياتَه وحدّد مسارَه، وما لاقاه من مشاكلَ وآلام، وتضاءل دورُه وانحصر، كما ذكرتُ أعلاه، ليكونَ المَهْربَ الذي يجد فيه فرصةً للابتعاد عن مُضايقات الغير له.

حتى سناء زوجته أصبحت المُلاحقةَ له في الأحلام والمُراقبةَ، فلا يقوم بعمل أو يُفكر بغيرها، وخاصة بأسمهان، حتى تكونَ له بالمرصاد، فتلومُه وتوبّخه حتى أنها أصبحت تُضايقه، وصارحها بضيق واضح بقوله لها ساعة اعترضته وهو في بيت فريال بلومها له لقبوله عروض رهوان له بزيارة بيت العاهرات:

-اسمعي يا سناء، نامي واتركيني أنام. (ص32)

ومن ساعتها قرّر الابتعاد عن سناء والانقطاع عن زيارة قبرها.

وأحلامه، خاصة بأسمهان، واستحواذها على فكره وأعصابه كانت السببَ في وقوعه بحبائلها حيث قالت له بعد زيارتها له لأخذ ملابس سناء:

-شُفتَك قبل ليلتين في المَنام.

وكان هو قد تذكّر لقاءَه بها في الحلم وتساءل:

هل تَمكّنتْ من الإطلال على حلمي أم كان لها حلمُها الخاص؟ (ص49)

وفي لقاء آخر صارحته باتّهامها له بمضايقتها والاعتداء عليها:

-أنتَ عملتَ العَمايل معي، تخطّيْتَ الحدودَ يا محمد. هل نسيتَ حلمَك المفضوح؟ وأنت تتنعمُ بجسدي وما تقول إلّا أنّه حلال عليك.

وحاول الدّفاع عن تهوِّره معها في الحلم بقوله:

-لقد التبس عليَّ الأمر لأنكِ جئتِ إليَّ بقميص داخليّ اعتادت سناء أن ترتديَه.

فقاطعته قائلة:

-ولا تنسَ أنّكَ كلما جئتُ إلى بيتك، تخترقُ جسدي بعينيك.

وهدّدته قائلة:

-لازم تُصْلح الخطأَ الذي ارتكبتَه، أو أرفعُ الأمر إلى أخي جميحان. والزواج هو دواء كل علّة. (51-55)

ولم يتأخر أخوها جميحان، وجاءه مُهدّدا شاتما مُتّهما إيّاه:

-أنتَ مَسَستَ شرفَ أختي، وتخطيتَ الحدودَ معها في حلمك الآثم، وبنظرات عينيك الآثمتين.

وصفعه على وجهه وضغط على عنقه حتى كاد يختنقُ، وأمره بأنْ يتزوج أختَه أسمهان.

وبالفعل تزوّجها. (ص66)

وظلّ جميحان يلاحقُ محمد الأصغر وأحلامَه، وأجبره على الذهاب إلى المسجد والصلاة خمس مرات في اليوم، ثم أجبره على القيام بالعُمرة.

وعندما قال محمد الأصغر لجميحان:

-بأيّ حقّ يُحاسَبُ المرء على أحلامه مهما اشتطت هذه الأحلام؟

أجابه جميحان:

-هذه الأحلام تشير إلى رغبة فاسقة فاجرة تحقّقت، أو هي في طريقها إلى التحقّق. والمطلوبُ منك محاصرة الأحلام المرفوضة ودحرَها، وعدم الاقتراب من أيّ شيء يُعكرُ قُدْسيّة الزواج. (ص119)

وبدأ محمد الأصغر يخافُ الأحلامَ وما تجرّ عليه من ويلات، ولكنه لا يستطيع التّحَكّمَ بها. وفكّر في التّوقّف عن النّوم فلا ينام مُطلقا كي لا يحلمَ. ولكن كيف يُمكنه ذلك وقد يغلبُه النُّعاسُ فينام ويحلم؟

ويعود جميحان ليطارده في أحلامه، فيباغته مرة مع أسمهان وهو في الحمام يستحم مع الفاتنة الصغيرة سميرة، وأخرى يأتيه وهو يلعب بالسيف في كلّ اتّجاه مهدّدا متوعّدا. (ص132) ممّا دفعه للتّفكير بالهرب من البيت والبلدة خوفا من اعتداءات جميحان.

ولم تتوقف ملاحقات جميحان لمحمد الأصغر، واضطره على التَّنازل لزوجته أسمهان عن كلّ ما يملك وحتى البيت، وبعد أن حصل على التّوكيل من أخته أسمهان قام بإجباره على الطلاق منها، وطرَدَه من البيت. (ص171) فالتجأ إلى قريبه رهوان وسَكن عنده.

علاقة محمد الأصغر ببطلي كاواباتا ومركيز ما بين الإعجاب والتّحدّي

يقول محمد الأصغر قرين محمود شقير وبطل منزل ذكرياته:

-"أوّل كتابين انشدَّ اهتمامي نحوهما وفضّلتُهما على غيرهما هما رواية "الجميلات النائمات" للياباني كاواباتا ورواية "ذكرياتي مع غانياتي الحزينات" للكولومبي ماركيز". وكانا دافعا قويّا لتفكيره بتصرّفاتهما وليسأل نفسَه:

-هل كان العجوزان مضطرّين إلى الدّخول في تجاربَ مع فتيات شابات وهما طاعنان في السنّ، بينما يُفتَرضُ فيهما أن يحترما شيخوختيهما فلا يُفرِّطا في الرّكض وراء المُتَع الزائلة؟

واستمرّت حياةُ محمد الأصغر، بطل محمود شقير تتأرجحُ ما بين حياته الخاصّة التي يُمارسها في حياته اليومية وحياته التي يعيشها في أحلامه وكوابيسه. وما بين الحياتين نجدهُ يعيش في عالم أحلامه وكوابيسه، ولا تكون حياتُه اليوميةُ إلّا صَدى ونتيجةً لها ومُوجِّهةً لكلّ أفكاره وتصرّفاته. وتوالت الجلساتُ التي تجمعهم، وتعدّدت الأحاديث والمواضيع وتبادل الهموم وأوجاعها، وحدّثه كلٌّ منهما عن متعة النوم في السرير إلى جوار فتاة مُخَدَّرة عذراء. وكيف أنّه بهذه الساعات التي ينامُها إلى جانب الصغيرة الفاتنة النائمة يستعيدُ الشريطَ الطويل من ذكرياته عن مغامراته في سنوات الفتوّة والوقوف على تفاصيلها، وكأنّه بذلك يردُّ على العَجْز الذي يأتي مُرافقا لسنوات الشيخوخة، وكأنّه في الوقت ذاته تعبيرٌ عن العَزاء بأنّ حياة العجوز لم تذهب خواءً وسُدى، ولم تكن مجرّد خيبات تليها خيبات. (ص105).

وازدادت رغبة بطل شقير في كتابة روايةٍ شبيهة، بل وتتفوَّقُ على ما كتبا مع إدراكه للفروق الكبيرة ما بين المجتمعات التي عاشها ويعيشها كلٌّ منهم. وقلّدهما في التّوجه لبيت العاهرات طالبا أنْ يقضي ساعات مع فتاة صغيرة يتأملها وهي بكامل عُريِها ساعات الليل وهو يتمدّدُ إلى جانبها.

وانبهر محمد الأصغر بجمال الفتيات وخاصة سميّرة، التي انتبه إلى أنّها كانت تريدُه وتحاولُ إغراءَه وهي تتظاهرُ بالنَّوم إلى جانبه بحركاتها، حتى أنّها زارته في بيته ودخلت الحمامَ معه واستحمّا (ص160-161). وهذا مما أشعره بالغرور، فأراد المُباهاة بجميلاته أمام بطلَيْ ماركيز وكاواباتا، وبدافع داخلي أنْ يريهما أنَّ الفتاة الفلسطينيّة تتفوَّقُ على غيرها بالجمال والفتنة.

الاحتلال وظلمُه للناس، وحمايتُه للظّواهر السلبيّة وزيادتها

لم يتجاهل محمد الأصغر بطل محمود شقير وجودَ المحتل الإسرائيلي والمُضايقات والتَّعَدّيات التي يقوم بها ضدّ الجماهير العربية في الأراضي المحتلة، ولم ينج هو، رغم تقدّمه بالسّن، من مُهاجمة الجنود لبيته وتوقيفِه بتهمة التّحريض ضدَّ المُحتلين ومن ثم لأنّ ابنَ أخيه مُتَّهم بعمل مُناهض. (ص73-75) كذلك اعتُقل رهوان (ص156)

ويذكر بعضا من موبقات الاحتلال التي تُدمّر العلاقات الاجتماعية والسلوكية، وكيف يعمل المحتّلُّ على حماية تجّار المُخدّرات وعملاء الاحتلال الذين يحملون السلاح جهارا ويهدّدون أبناء جلدتهم من المواطنين العُزَّل، ويتجاهل عن قصْد تصرّفات المجموعات العابثة والفَوْضويّة، والمجموعات الإجراميّة المُتمَّثلة في جميحان ومجموعته، ورعايته لبيوت العاهرات الليلية والملاهي المختلفة كبيت فريال المُقام قريبا من المستوطنة، وجُند الاحتلال (ص35)، هذه البيوت التي تجذب إليها مختلف انتماءات الناس. ويفضح تصرّفات المُحتَلّ الذي يقوم بتزويد الناس بمختلف المواد والحاجيّات وحتى بالأدوية المَغشوشة مُنتهية الصّلاحيّة. (ص39) ويصفه أنّه احتلال استعماري طاغ(ص45).

ويشير إلى ما وصلت إليه الحياة المعيشيّة للناس، وضَعف العلاقات الاجتماعية نتيجة لظلم المُحتَل، وسيطرة مجموعات الإجرام وتجّار المخدّرات والعملاء حتى لم يعد الضّعيفُ أو المسكين أو المُعتَدى عليه من قِبَل البلطجيّة والفوضويين يجد مَن يقف إلى جانبه ويمدّ له يدَ المساعدة، كما جرى معه هو عندما اعتدَتْ بعض هذه المجموعات من الزعران (ص93) على بيته وسبَّبت بعضَ الأضرار، واختطاف ثلاثة شبّان ملثمين له من بيته وتهديدهم له بالموت إذا لم يصمت ونطق بأيّة كلمة. ولم يجد مَن يقف إلى جانبه ومساندته حتى من أبناء عائلته، ولكلٍّ أسبابه التي شرحها، وشعر أنّهم لا يملكون ردّا على مًن تعرّض له وعلى مًن يتعرّض له لاحقا في ظلّ غياب القانون (ص58-61).

وما جرى لمحمد الأصغر في علاقته بجميحان البلطجي الذي لاحقه وضايقه وأجبره على الزواج من شقيقته أسمهان، واضطره على الذهاب إلى المسجد وأداء الصلاة ومن ثم على القيام بالعُمرة وبعدها على تسجيل كل ما يملك حتى داره باسم أسمهان وأخيرا اختلق أسبابا واهية ليُجبره على الطلاق ثم طرده من البيت واستولى عليه. وما هذا إلّا صورة مُصَغّرّة لما يُعانيه الناس العاديين في ظلّ الاحتلال وحمايته لأمثال جميحان وغيره من العملاء والبلطجيّة.

محمد الأصغر نموذج للفلسطيني الصّامد

قد يبدو محمد الأصغر للقارئ، نتيجة لما جرى له من قبل جميحان، ضعيفا مستسلما لا يجرؤ على الرّفض والدّفاع عن نفسه حتى إذا ضُرب وأهينَ وطُرد من بيته، ولكن محمد الأصغر الحقيقي هو الذي نرافقه وهو يواجه جنودَ الاحتلال وتعدِّياتهم واعتقالاتهم بقوّة وصمود وثقة بالنّفس (ص74-75).

وفي حديثه مع بطلي كاواباتا وماركيز يتوسّع في الكلام حول ما يُعانيه الشعب من ظلم المحتلين وصمود الناس وتقديمهم التضحيات الكبيرة (116) وعندما يخبره رهوان بعد أن خرج من الاعتقال "أن المحققين يرونك مُحرِّضا ولديهم قناعة أنّك تجتمع بشباب عائلة العبداللات وتبثُّ فيهم روحا مُعادية، فأنت في نظرهم مٌحرِّض بشكل مباشر من خلال الاجتماعات، وغير مباشر من خلال الكتب المسمومة "(ص157-158) وتمنى محمد الأصغر بعد سماعه كلمات رهوان "لو أنّ البغل جميحان يُقدِّر كم أنا عرضة للأذى من المحتلين فيعتقني من أذاه" (ص158).

فمحمد الأصغر كان ضعيفا ومُستسلما وخاضعا لأبناء شعبه أمثال جميحان ومجموعات الشباب، فهو يشفق عليهم ويرثي لهم لأنَّهم ضحيّة الاحتلال وثمرته ونتيجة للأوضاع المعيشيّة السيّئة التي يُعاني منها الناس، أمّا مع المحتل وجنوده فكان قويّا ثابتا لا يضعف ولا يهين ومُثابرا على الرفض والمقاومة بما يبثُّه في الشباب من روح المقاومة والصّمود، وبما يكتبه في كتبه التي يقرؤها الكثيرون.

وما هذه الكلمات التي ينهي بها محمد الأصغر سيرته "أمّا جنود الاحتلال فقد ذابوا في ثنايا الليل مثل عصابة من لصوص أو مثل قُطّاع طرق نَهّابين" (ص176) إلّا الشهادة التي تؤكد قوّة وعزيمة وصمود محمد الأصغر في رفض المحتلّ ومقاومتة.

مفاجأة محمود شقير

استطاع محمود شقير في الكثير من رواياته وقصصه القصيرة أن يخلق شخصية محمد الأصغر لتكون مشابهة له إلى حدّ التّطابق بكل ما يتَّصف من الصّفات التي تُقرّبُه من القارئ وتُحبّبه به، فالكثير من الصّفات، وخاصّة في كلامه وسُخريَّته النّاعمة، وهدوئه وتفكيره المُتّزن ونمط حياته البسيطة هي نفسها التي نعرف محمود شقير بها.

ويُفاجئني الصديق الكاتب محمود شقير في الأمسية التي شاركنا فيها حول روايته "منزل الذكريات" في مدينة حيفا يوم 6.2.2025 بقوله لي هامسا إنّ "ع" الذي يسطو على كتُب محمد الأصغر هو مَن يُمثّله، وليس محمد الأصغر. وعدتُ في ساعات الليل المتأخرة لأكتب له عبر الواتس آب: " العزيز محمود. راجعتُ اليوم شخصيّة "ع" في مجموعة "نوافذ للبوح والحنين" فهل هو بالفعل الذي قلتَ إنّك هو؟ فالشَّبَه بينك وبين محمد الكبير أكثر ومع محمد الأصغر تطابق كامل. فعَنْ أيّ محمود آخر قصدتَ بأنّك هو؟

وجاء جوابه: "ع هو أنا محمود شقير/ أنظر آخر مشهد في "نوافذ/ محمد الكبير هو أخي وجه الشبه بيننا أنّه شيوعي وأنا كذلك. دمتَ وسلمتَ."

ولم يُقنعني بذلك لأنّ شخصيّة "ع" كما عرفناها ورافَقْناها في مجموعة "نوافذ للفرح والحنين" مناقضة لشخصية محمود شقير اللهم إلّا إذا قبلنا بما يراه علم النفس إنّ هناك من الناس مَن يرَوْن شبيها لهم ومُتمّما لشخصيتهم في مَن هو النّقيضُ والمُغايرُ لكلّ ما يتّصفون به.

وأرى في شخصيّة محمد الكبير في مجموعة "نوافذ للبوح والحنين" و"منزل الذكريات" الشخصية الأقرب من شخصية "ع" إلى شخصية محمود شقير، فهو مثله انتمى للحزب الشيوعي واعتُقل وعُذّب ونُفي لسنوات عديدة وتشرّد إلى أن عاد وسُمح له بالإقامة في القدس. ولكن شخصيّة محمد الأصغر تظل هي الأكثر مطابقة لشخصيته.

وإذا ما قبلنا بما يقوله محمود شقير فإنّه يؤكّد بذلك ما قد يحدثُ لبعض الرّوائيين حيث تتمرّد عليهم شخصيّة يخلقونها في عملهم الروائي وتخرج عن طاعتهم وتتصرّفُ بحرية تامة. ويحدث أيضا أن يُلقي الروائي من صفاته على أكثر من شخصيّة من شخصيات روايته فيُرى في كلّ منها أو في إحداها فقط.

القدس تظلُّ في القلب وجُنود الاحتلال إلى التّلاشي

رغم ظلم المحتل وتفشّي الجريمة والاعتداءات، وانحسار الشعور بالأمان ظلّ محمد الأصغر، كغيره من الناس، العاشقَ لمدينته القدس، يتجوَّلُ في شوارعها وأزقتها، يتحدّث إلى الناس في أسواقها، يتناول الطعام في مطاعمها مع زوجته سناء والجلوس مع أصدقائه في مَقاهيها.

وكانت نهاية بطل "منزل ذكريات" محمود شقير أن صَحا في بيت رهوان على ضجيج في الخارج وطَرَقات شديدة على الباب واقتحام عدد من جنود الاحتلال بهدف اعتقاله مع رهوان.

لكنّ جنود الاحتلال ذابوا في ثنايا الليل مثل عصابة من لصوص أو مثل قُطّاع طُرق نهّابين.

وكان هو ورهوان يستقبلان الشمس ويضحكان باستمتاع، وعلى مقربة منهما وقفت أسمهان مبتسمة مشجّعةً، وقد تحرّرت من سطوة أخيها المجرم الشيطان.

نهاية الكلام لمحمود شقير

وحتى لا يطول الكلام وتتشعّب النّقاط أنهي بكلمات محمود شقير نفسه التي قالها في كتابه "أنا والكتابة ص242" لتكون الخاتمة:

"أعترف أنّ الكتابة هي مصدرُ قوّتي الوحيدةِ تقريبا، أستطيعُ عبرَ الكتابة أنْ أخوضَ صراعي المشروع ضدّ التَّخلّفِ والجَهل وضدّ التَّسلّطِ والاستغلال، أستطيعُ أنْ أُعرِّيَ كلّ خَلَلٍ وأيّةَ مظاهرَ سلبيّةٍ من حولي، كما أستطيعُ أنْ أُعزّزَ النّفورَ من كلّ ما يتناقضُ مع الحسّ الإنساني السّليم. ولولا الكتابةُ التي تهَبُ معنى أكيدا لحياتي لَما استطعتُ مُواصلةَ العيش."

***

د. نبيه القاسم - الرامة

 

القصيدة /مطرٌ في عينيّ/ للشاعرة هنده السميراني هي نص شعري يعكس عمق الحزن والقلق الذي يعيشه الشاعر في مواجهة الحياة، بتمثيل استبصاري للواقع الداخلي للذات التي تعيش لحظة من الأسا والضياع. من خلال دراسة نقدية أسلوبية لهذه القصيدة، يمكن تحليلها عبر مجموعة من الأبعاد الجمالية واللغوية والفكرية التي تقدمها.

1. البنية اللغوية والتعبير المجازي:

القصيدة تميزت باستخدام العديد من الصور البلاغية والاستعارات التي تتسلسل في نسقٍ مؤثر لتعكس الألم الداخلي، مثل /تتسَلَّلُ فِي جُنْحِ الْأَسَى/ و/تتَكَاثَفُ سُحُبُ الْأَحْزَانِ/. هذه الاستعارات تستخدم سحب الحزن والضوء والتأمل الداخلي لخلق حالة درامية ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالحالة النفسية للشاعرة. السحب هنا ليست فقط صورًا بصرية ولكنها تعبير عن تراكمات الألم، بينما الظلام الذي يحيط بالشاعرة يعد استعارة للحالة النفسية المظلمة التي تحيط بها.

المفارقة:

تظهر المفارقة في تضاد الكلمات مثل /تَتَمَنَّعُ وَتَفِرُّ مِنْ ظَلاَمٍ/ حيث تتقاطع الرغبة في الضوء (الحروف المضيئة) مع الهروب من الظلام الداخلي. هذا التنافر بين الأمل والواقع الحزين يُظهر الصراع الدائم بين الذات الداخلية وتحديات الحياة.

2. الرمزية:

المطر: المطر في العنوان والعناصر الأخرى من النص يُمكن تفسيره كرمزية للعاطفة الجياشة أو الندم والحزن. المطر هو نوع من /الانسكاب/ الداخلي الذي يعكس غزارة المشاعر التي تتراكم في النفس، سواء أكانت أحزانًا أم أملاً ضائعًا.

الظلام والنور: كذلك، يظهر التوتر بين الظلام والنور كرمزية لصراع النفس بين الإحباط والإرادة. الظلام يرمز إلى اليأس أو عدم الفهم، بينما النور يرمز إلى المحاولات المستمرة للبحث عن إجابات أو طريق للخروج.

الأسئلة الوجودية: /أَيَّ السُّبُلِ تَقْتَفِيهَا؟/ و/أَيَّ الدُّرُوبِ تَسْلُكُ؟/ تشير إلى تائهة الشاعرة في بحثها عن معنى لحياتها أو لمشروعها الإبداعي. هذا التردد في اتخاذ القرار والضياع يبرزان الحالة الوجودية التي تعيشها الذات في حالة حيرة وتوهان.

3. الإيقاع والتنقل بين الأزمنة:

الشاعرة تنتقل بين الزمن الحاضر والماضي من خلال ذكر السنوات والتجارب: /عِجَافِ السِّنِينِ/، مما يعكس مرور الزمن المؤلم. كما يظهر التنقل بين الأمل واليأس في تتابع سريع، ما يعزز شعور المتلقي بالتحولات السريعة والمفاجئة التي تعيشها الشاعرة.

4. الأسلوب الشعري والانسياب:

استخدام الشاعرة للأسلوب الشعري المنساب والمتتابع بين الجمل الطويلة والعبارات المتقطعة يعكس تذبذب المشاعر بين الفقد والأمل. تميزت الجمل بجزالة الكلمات وثراء الأسلوب، إلا أنها تواكب شعور بالشتات والتعب العقلي. هذا الأسلوب يعكس كثافة الشعور الحزين والإحساس بالانفصال الداخلي.

5. التأثير العاطفي والفكري:

القصيدة تعكس حالة من الانكسار النفسي، لكن على الرغم من هذا، فإن هناك بحثًا مستمرًا عن المعنى والتعبير. الشاعرة تستمر في استخدام البحث عن الكلمات المعبرة عبر الألم: /تُضِيئُنِي فَتَتَمَنَّعُ/، ما يجعل القصيدة تمتلك تأثيرًا عاطفيًا قويًا على المتلقي.

الخاتمة:

هذه القصيدة تقدم صورة متكاملة عن المعاناة الداخلية، تجمع بين الفلسفة الوجودية والشاعرية العالية. تتشابك الصور الرمزية مع الأسلوب المتقن، مما يعكس قدرة الشاعرة هنده السميراني على التعبير عن تضاعف الألم مع فترات من البحث عن الذات والأمل. هذه القصيدة تجعل القارئ يتأمل في أسئلة الحياة الكبرى: ماذا نفعل عندما يتلاشى الفرح؟ وكيف نواجه ظلامنا الداخلي؟

***

بقلم: كريم عبد الله - العراق

.......................

مَطَرٌ.. فِي عَيْنَيّ!!

عِنْدَ مَغِيبِ الْفَرَحِ وَالشَّجَنُ يَتَسَلَّلُ فِي جُنْحِ الْأَسَى إِلَيّ، تَتَكَاثَفُ سُحُبُ الْأَحْزَانِ فِي سَمَاءِ وُجُودِي، تَتَهَاوَى أَعْمِدَةُ الضِّيَاءِ وَ يُرْخِي عَلَيّ سَوَادٌ مُقِيمٌ! أُنَاجِي حُرُوفًا تُضِيئُنِي فَتَتَمَنَّعُ وَتَفِرُّ مِنْ ظَلاَمٍ يَسْكُنُ فُؤَادِي! تَرْتَعِدُ فَرَائِصُ الْكَلِمَاتِ مِنْ لَسْعِ الْجَفَاءِ وَتَأْوِي إِلَى كَهْفِ الظُّنُونِ! أَنُوءُ بِحِمْلِ عِجَافِ السِّنِينِ قَصَّتْ جَنَاحَ أَحْلاَمِي! أَقِفُ عَلَى شَفَا الْأُمْنِيَاتِ وَأَنْسِجُ مِنْ خُيُوطِ الصَّبْرِ لِبَاسًا يَعْصِمُنِي مِنْ صَقِيعِ الْجُحُودِ! تَتَزَاحَمُ عَلَى جَلَدِي جُيُوشُ الْأَذَى، فَأُقْبِلُ بِقَلْبٍ قُدَّ مِنْ نُورٍ وَأُدْبِرُ.. وَالْخَيْبَة!! أَتَبَعْثَرُ وَالرُّوحُ تَتَلَجْلَجُ فِي شِبَاكِ الْحَيْرَةِ : أَيَّ السُّبُلِ تَقْتَفِيهَا لِتُلَمْلِمَ شَتَاتَ قَصِيدَةٍ تَرْثِي فِيهَا عُيُونًا مَا فَتِئَتْ تُمْطِرُ وَجَعًا وَلاَ يَرْتَوِي جَسَدٌ مَلَّ الْأَنِينَ ؟! أَيَّ الدُّرُوبِ تَسْلُكُ لِتُعَانِقَ ظِلاَلَ الْمَعْنَى دُونَ خَوْفٍ مِنْ بَرَاثِنِ الصَّمْتِ الرَّجِيمِ؟!

وَتَضِيعُ أَنَاي وَالرُّوحُ فِي شِعَابِ رِحْلَةِ السُّؤَالِ لاَ يَظْفَرُ بِالْجَوَابِ الْمُبِينِ..!!

***

هنده السميراني - -تونس- فيفري 2025-

قراءة في رواية "منزل الذّكريات" للأديب محمود شقير

رواية "منزل الذّكريات" للأديب محمود شقير، الصّادرة عن دار "نوفل هاشيت أنطوان" في بيروت، تتكوّن من مئة وسبعة وسبعين صفحة، وثلاث وستّين لوحة سرديّة، يستلهمها أديبنا من روايتي "الجميلات النّائمات" للكاتب الياباني ياسوناري كاواباتا و"ذكريات عن عاهراتي الحزينات" لماركيز، محاولا استكشاف أبعاد تجربة الشّيخوخة الإنسانيّة، متناولا أسرار الرّغبات وقوّة الذّاكرة في مواجهة الفقدان، ومن خلال مقارنة عميقة، يكشف عن أوجه الشّبه والاختلاف في تجربة الشّيخوخة عبر الثّقافات، ويفتح للقارئ نافذة على الأدب العالميّ، ويدفعه للغوص في أعماق الرّوايتين المذكورتين؛ ليسافر عبر الزّمان والمكان، بحثا عن أصداء مشتركة بين هذه الرّوايات الثّلاث.

حيكت هذه الرّواية من وحي الواقع الفلسطينيّ، بخيوط تناص ذكيّ محكم، فيه حوار مع عملاقي الأدب كاواباتا وماركيز، حول الشّيخوخة ومعانيها، يتأمّلون في زوال الشّباب ويبحثون عن معنى الحياة بعد ذبولها، فتلقي أنّات الشّيخوخة ببطل الرّواية، مع أنّات بطليّ كاواباتا وماركيز، وكأنّما يتمّ البحث عن إجابة لسؤال أزليّ، ما معنى الشّيخوخة في حياة الإنسان؟

في عالم كواباتا الإبداعيّ، يدخلنا الكاتب إلى أعماق نفس "إيغوشي" العجوز، الّذي يحاول استعادة شبابه الضّائع في عالم الأحلام، تعود إليه ذكرى النّساء اللّواتي مررن بحياته، لكنّ القدر يخبّئ له مفاجأة مؤلمة، إذ تفارق فتاته الحياة وتتركه غارقا في تأثّره.

أَمّا عجوز ماركيز، ففي غياهب العمر ووحدة العزلة، يقرّر الاحتفال بعيد ميلاده بطريقة غريبة، يبحث عن فتاة عذراء تعيد إليه شبابه، فيجد فاتنة تبيع نفسها لتنفق على أسرتها المعدمة، وحين تقف أمامه بكلّ براءتها وجمالها، يتذكّر كلّ امرأة أحبّها، فيدرك قيمة الأنثى ويسمو عن أهواء الغريزة.

هذان العجوزان هما طيفان يحضران من كتابين، ويخلقان فانتازيا تطغى على الواقع وتحيله طيفا خياليّا، وفي غياهب الوحدة، يذوي بطل الرّواية "محمّد الأصغر"، وهو كاتب عجوز ومحرّر للصّحف، في السّابعة والثّمانين من عمره، يمثّل انعكاسا للعجوزين المذكورين، لكنّه يحمل في طيّاته خصوصيّة التّجربة العربيّة، في توليفة فنّيّة ثريّة بالرّمزيّة والمعاني.

تتوفّى رفيقة دربه سناء وتترك له شبح فقدانها المرير، وفي كلّ صباح، يصنع فنجانين من القهوة، أحدهما له والآخر لها، ومع كلّ رشفة يتخيّلها أمامه، وكأنّها لم تغادره قطّ، يتحدّث إليها ويسمع صوتها، وتكون حاضرة في صحوه ومنامه.

تمحورت شخصيّة محمّد حول الهرب إلى عالم الذّكريات، فكان بيته مرآة لحالته النّفسيّة، وبوصفه راويا قدّم لنا نظرة عميقه لعالمه الدّاخليّ، وعلاقته بالماضي والحاضر وخوفه من المستقبل، وفي ليلة ما وبعد لقائه بأسمهان، جامعة التبرّعات، انغمس في حلم عميق تمادى فيه معها؛ ليتبيّن له لاحقا أنّ أحلامه لم تعد ملاذا آمنا، بل أصبحت مكشوفه أمام أعين المتطفّلين، حيث تفكّ أسمهان مع أخيها "جميحان" شفره هذه الأحلام، وينتهي الأمر بإجبار محمّد على الزّواج منها؛ فتتحوّل حياته إلى جحيم بسبب تسلّط جميحان وأتباعه الزّعران عليه، فيلجأ إلى صديقيّه العجوزين في سهرة متخيّلة، يبوح لهما بمعاناته.

كان يحدّث نفسه قائلا (ص10): هل أحلم؟ هل أهلوس؟ أم هو عالمي الّذي أدمنته مع الكتب وأبطال الرّوايات؟

في هذا النّص الرّوائيّ، يلتقي عبق الشّرق والغرب في لوحة جميلة، تتداخل فيها شخصيّات كواباتا وماركيز، مع أبطال شقير (محمّد الأصغر، القنفذ ورهوان وقيس، فريال وسميره وأسمهان، ثمّ جميحان) وتتشابك مع رموز أدبيّة وتاريخيّة؛ لتعطي للنّصّ عمقا تاريخيّا وثقافيّا، كأحمد شوقي، خليل السّكاكيني، الحجّاج بن يوسف، عليّ بن أبي طالب، وأبي ذرّ الغفّاريّ، ويضيف كتاب أخبار النّساء لابن القيّم الجوزيّة، وشعر الأصمعيّ وعلقمة، لمسة من الرّقة والجمال على هذا النّصّ الإبداعيّ.

كما يرد ذكر الرّئيس الأمريكيّ "جو بايدن" (ص104)، وتبرز مقولة عمر بن الخطاب (ص86) كصدى لواقعنا المعاصر، حيث يتردّد سؤال الهويّة والحرّيّة: متى استعبدتم النّاس وقد ولدتهم أمّهاتهم أحرارا؟

المكان.. خريطة نفسيّة لشخوص العمل:

تتعدّد الأماكن في النّص منها المغلق؛ كالبيت الّذي يمثّل الملاذ الآمن لمحمّد، فيعكس حياته الخاصّة وعلاقاته بزوجتيه، وهو المكان الّذي اجتمع فيه بأصدقائه المتخيّلين. كان مكانا للذّكريات والأحلام، وللحزن والوحدة أيضا، أمّا نزل فريال، فجسّد الجانب المظلم والمغري من الحياة.

كما رسم النّصّ صورة حيّة عن مدينة القدس الّتي تحتضن الأحداث؛ فتتجلّى فيها مأساة شعبنا وصورة الإنسان المتأمّل في مصير حياته، الباحث عن بصيص من الحبّ والدّفء في عالم مضنٍ.

يصف مدارس القدس العريقة، مقاهيها ومطاعمها وأسواقها النّابضة بالحياة، يصوّر لنا كيف تحافظ على هويّتها الأصيلة رغم كلّ شيء. وعن الوطن بوصفه مكانا مفتوحا، فقد حمل دلالات عميقة، فهو هويّة وجذور ورمز للانتماء والأصالة، وبالتّالي فهو فضاء ثقافيّ واجتماعيّ وتاريخيّ ونفسيّ، تجسَّد كعنصر أساسيّ في تشكيل وعيّ الشّخوص وتحديد مسارها.

يشير الكاتب أيضا، إلى غياب القانون، حيث يصبح الفرد رهينه للفوضى والعنف، وتسلّط المجرمين يقول (ص60): "ألجأ إلى العائلة لحمايتي من الأشرار في غياب القانون، وهو الغائب الأكبر في زمن الاحتلال".

كما تظهر اليابان وكولومبيا في النّصّ، وهما تمثّلان عالما بعيدا عن الواقع الفلسطينيّ، وفي حوار متخيّل تتجلّى فيه تباينات المعاناة الإنسانيّة المختلفة، يواجه محمّد صديقيّه العجوزين قائلا (ص116): "ننشغل هنا في فلسطين بتقديم التّضحيات، وفي توديع الشّهداء، إلّا أنّ العجوزين ساهيان لاهيان، لا يؤرّقهما أيّ همّ أو غمّ ممّا نقاسيه نحن".

يردّ العجوز اليابانيّ منتفضا (ص117): "مازلنا نعاني من إشعاعات القنبلة الذّريّة الّتي أسقطت على هيروشيما". ويقول عجوز ماركيز: "نحن في كولومبيا عانينا من أنظمه الاستبداد، ومن تجّار المخدّرات".

 الأبعاد الزّمنيّة في الرّواية:

لا يقتصر دور الزّمن في هذه الرّواية على كونه إطارا زمنيّا محدّدا، بل يتجاوز ذلك إلى مستوى أعمق، فهو رمز عميق يعكس حالة البطل النّفسيّة والمجتمعيّة المتردّية، كما أنّ تداخل الماضي والحاضر في وعيّ البطل، يعكس حالة الحنين إلى الماضي ورغبة في الهروب من الحاضر المؤلم.

يستخدم الكاتب الزّمن كسلاح للسّخرية من الأوضاع الحاليّة، حيث يصور الزّمن كوحش يبتلع كلّ شيء جميل، لكنّه في الوقت نفسه يترك بصيصا من الأمل في المستقبل.

يدور الحدث في الزّمن الحاضر ممّا يمنح القارئ انطباعا أنّ الأحداث تجري الآن. هذا الاختيار الزّمنيّ ليس اعتباطيّا، بل هو عنصر أساسيّ في البناء الرّوائيّ، يعكس اهتمام الكاتب بقضايا الوطن الملحّة، ويقدّم لنا صورة معاصره للحياة، فهو يتناول تحدّيات المجتمع الرّاهنة بواقعيّة ملحوظه، ممّا يخلق التّشويق والإثارة، ويقرّب القارئ من شخصيات العمل والأحداث.

تمّ توظيف الزّمن كأداة فنّيّة مؤثّرة، تعمّق رؤيتنا للواقع، من خلاله يتجسّد إحساس محمّد بالعجز واليأس، كما في قوله (ص11): "أعيش حربي الخاصّة مع الزّمن".

يوجّه انتقادات لاذعة للزّمن الّذي نعيشه، مستنكرا الانحطاط الأخلاقيّ، معربا عن استيائه من واقع يعجّ بالفساد، يقول (ص58): "الزّمن الّذي ابتلينا فيه بطفيليّين زعران، وتجّار مخدّرات وعملاء، يحملون السّلاح يهدّدون به أبناء جلدتهم من المواطنين العزّل".

يصف الزّمن على امتداد النّصّ بأوصاف مختلفة، فمثلا يقول (ص62): "هذا زمن السّفلة والأوباش"، ويقول (ص97): "هذا الزّمن الغشوم"، وفي (ص162) "هذا الزّمن الخوّان" وفي (ص116) "زمن ضمور القدرة على تنفيذ الرّغبات".

 في أعماق اللّاوعيّ، الأحلام بوّابة إلى عالم آخر:

لجأ الكاتب إلى الحوار الدّاخليّ بشكل مكثّف؛ ليعبّر عن صراع محمّد مع ذكرياته وأحلامه ومخاوفه، ينسج النّصّ من خيوط الأحلام والكوابيس الّتي تعكس مكنونات نفس البطل المأزومة بفقد زوجته، وبعض الجوانب الخفيّة من شخصيّته ونفسيّته، وفي كلّ حلم أو كابوس، نستشعر نبضا خافقا يترجم آلامه من الفراق والفقد، نتجوّل في متاهات ذهنه، ونشهد صراعاته الدّاخليّة العميقة، ونستكشف دوافعه وخفاياه.

من خلال عالم الأحلام واللّاوعي، يسافر القارئ إلى عالم موازٍ، ينبض بالأسرار والمفاجآت، ويتمّ التّعبير عن الواقع الاجتماعيّ والسّياسيّ، وعن قضايا فلسفيّة ووجوديّة، أمّا أحلام اليقظة فجسّدت انعكاسا لرغبات محمّد وأمانيه؛ لتؤكّد على التّناقض الصّارخ بين عالمه الواقعيّ والمتخيّل، وتكشف عن تقلّبات مشاعره بينهما، في ظلّ تمسكّه ببصيص الأمل في بستان ذاكرته.

يكتب (ص11): "قرّرت مواصلة العيش، وليس معي من عدّة أو عتاد سوى الذّاكرة، أتّكئ عليها واستخرج منها بين الحين والآخر ما يساعدني على تجرّع الآلام، والنّظر إلى المستقبل بتفاؤل".

العنوان "منزل الذّكريات".. مفتاح لعمق النّصّ:

يعود به الزّمن الى الوراء، وتمرّ المشاهد في ذهنه وكأنّها شريط سينمائيّ، يتذكّر كوثر صديقه الطّفولة، ويحنّ إلى أيّام الشّباب وزواجه من سناء، يستعيد ذكرياته مع أسمهان فيشعر بالشّفقة عليها، فهي مسلوبة الإرادة وضحيّة للظّلم والقهر، تعيش مع أخيها الطّاغية الّذي استبدّ بهما وسلب بيته، فيقول ملتاعا (ص172): "سلّمته مفتاح البيت وأنا أشعر أنّني أسلّم تاريخي وتاريخ سناء، وذكرياتنا الّتي كانت لنا في هذا البيت".

بذلك يتجلّى عنوان الرّواية "منزل الذّكريات"؛ كمرآه تعكس بريق أيّام سعيدة مضت، ونبع حنين لا ينضب، يلوذ به قلب محمّد الحزين.

هذا العنوان، هو مفتاح لفهم عمق النّصّ وتشابكاته النّفسيّة والاجتماعيّة، إذ يرمز المنزل إلى الملاذ الآمن والذّكريات واكتشاف الذّات، فهو المكان الّذي يلجأ إليه البطل هربا من صخب الحاضر؛ ليعيش في عالم الأحلام.

أمّا الذّكريات فهي تداعيات وارهاصات تتحكّم في حاضر البطل، تربطه بماضيه وتمنحه الشّعور بالاستمراريّة والانتماء، لكنّها تبقيه أسيرا للماضي بشوق وعاطفة تسود السّطور، وهنا يكمن التّساؤل عن معنى الحياة والوجود، فهل الذّكريات نعمه أم نقمه؟

هكذا.. يحمل العنوان في طيّاته دلالات عميقه ومتشعبة، فهو يرمز إلى المكان والزّمان والشّخصيّة والعاطفة.

 مرايا الكلمات والإسقاط السّياسيّ في النّصّ:

يمارس الكاتب فنّا دقيقا هو فنّ الإسقاط؛ وذلك لتقديم صورة إبداعيّة تتجاوز الظّاهر، وتعكس حقيقة ما وراءها، فيسقط الواقع على شخصيّات العمل، الّذين يمثّلون امتدادا للواقع السّياسيّ الّذي نعيشه بسلوكيّاتهم وأفكارهم وحواراتهم، ذات المعاني العميقة، يقدّم إشارات رمزيّة تدعونا إلى التّوقّف عندها، فالشّخصيّة الشّريرة "جميحان" تجسّد إفرازات السّلطة والأنظمة المستبدّة والاحتلال.

أمّا "أسمهان" فتمثّل الشّعوب الضّعيفة المستسلمة، ورغم الهوان الّذي تعيشه إلّا أنّها تحترم جلّادها وتخلص له.

يتابع محمّد في نقد حالنا وأحوالنا، محدّثا نفسه، متأمّلا الواقع (ص155): "هل سيهبّ رهوان للدّفاع وهو الّذي لن يجرؤ على الوقوف في وجه التيّار الكاسح للمتزمّتين؟ هل يستطيع ابن العائلة "قيس" الّذي لم ينجز ما بقي من فصول روايته حتّى الآن أن يتدخّل ولو من خلال الكتابة؛ لوضع النّقاط على الحروف ولنقد حاله الانحطاط الّتي وصلنا إليها، حيث لا احترام للرّأيّ والرّأيّ الآخر، وحيث هيمنة الصّوت والرّأيّ الواحد وتفشّي الجهل في كلّ مفاصل المجتمع؟"

يتابع: "هل ينفعك عجوز كواباتا وعجوز ماركيز، وهما الحرّان الطّليقان في بلديهما؟"

هذا الحوار الدّاخليّ يشرح الكثير، فالكاتب بذكاء يستخدم أسئلة مفتوحة، تحمل إشارات واضحة إلى التّحدّيات الجسيمة الّتي نواجهها، إذ يمثّل قيس الجيل الشّاب الّذي يحلم بالتّغيير ويسعى لاستخدام الأدوات المتاحة؛ كالإعلام والثّقافة لنقل صوته إلى العالم، لكنّه لا يفعل، لا يكتب ولا يكمل روايته!

هذا الشّعور بالعجز عن إتمام مهمّته، ينبع من الأوضاع الّتي نعيشها، وذلك ما يشير إلى دور المثقّفين، فقيس هو الكاتب الّذي يمتلك القدرة على التّأثير من خلال كتاباته، لكنّه يتردّد في استخدام هذه القدرة، ما يعكس حاله التّيه الّتي يعيشها الكثير من مثقّفينا، حيث يتصارعون بين رغبتهم في التّغيير وبين خوفهم من العواقب، في واقع يغيب فيه احترام الآراء وتكبّل حريّه التّعبير، مما يضعف نشاط المثقّف ويعرقل إنتاجه الفكريّ.

أمّا "التيّار الكاسح للمتزمّتين" فيجسّد تلك الفئة المتشدّدة، الّتي تتّسم بالتّعصب والرّفض القاطع لأيّ رأي مخالف لها، ما يؤدّي إلى زيادة الإنقسام في المجتمع، ويؤثّر سلبا على النّسيج الإجتماعيّ والثّقافيّ فيه.

شخصيّة "رهوان" أيضا، هي استعارة للقيادات المتردّدة في اتّخاذ القرارات الحاسمة، أمّا عجوزا "كواباتا" و"ماركيز" فهما نموذجان للدّول الصّديقة الّتي لا تقدّم المساعدة، بسبب الاختلاف الثّقافيّ، أو اختلاف الظّروف والأوضاع، أو المصالح والتّوجّهات أو لأيّ سبب آخر.  وعن اسم "جميحان" فيشير إلى شخص سريع الحركة والفعل، هو اسم عربيّ يعود أصله إلى الجذر اللّغويّ "جمح" الّذي يدلّ على الحركة السّريعة والاندفاع، وأحيانا القوّة والعنف، أمّا "حان" فتدلّ على الوقت المناسب أو الحاضر، ولشخصيّة "جميحان" علاقة وثيقة بين اسمه وصفاته الّتي تتوافق مع سلوكه العنيف، وقدرته على التّأثير في الآخرين وإخافتهم، مستغلّا بطشه لتحقيق أهدافه، متّخذا من الدّين ستارا لتبرير أفعاله وتغطية زلّاته.

من هنا فاختيار الكاتب لاسم "جميحان" لم يكن مصادفة، وربّما يكون نوعا من السّخرية اللّغويّة، فقد وظّفت في النّصّ بعض المواقف والكلمات السّاخرة، الّتي تتراوح بين النّقد اللّاذع وبين الفكاهة الّتي تخفّف من وطأة الواقع، وتسمح بتقبّله.

إنّها سخرية تحمل في طيّاتها وعيا عميقا، تشدّ انتباه المتلقّي وتخاطب العقل والوجدان، تجعل الأفكار أكثر تأثيرا، وتكشف عن مكامن الخلل، وتحرّك الوعي إلى إعادة النّظر في المسلّمات والبديهيّات.

 بين ثنايا السّطور، تأمّلات وهمسات الكاتب:

في ثنايا السّطور، ينثر الكاتب حِكَما استقاها من تجاربه، ينتقد التّفكير الذّكوريّ الّذي يقيّد المرأة، فمثلا يكتب عن أسمهان (ص90): "لم يسمح لها بمواصلة تعلّمها في المدرسة، أخرجها منها وألزمها البقاء في البيت، كما لو أنّ فضيحة ستحلّ بالعائلة". ويقول عن فريال (ص31): "تأسّيت على الجمال الّذي لا يسنده ثقافة رصينة وارفة".

نتذكّر هنا ما ورد من شعر بشر الفزاريّ حيث يقول: لا خير في حسن الجسوم وطولها، إذا لم يزن حسن الجسوم عقول.

كما يشير إلى غياب ثقافة القراءة في مجتمعاتنا العربيّة، ويتساءل على لسان محمّد عن مصير كتبه بعد رحيله؛ وكأنّها جزء من روحه سيفارقها رغما عنه، يقول (ص83): "هي كتب في بعضها وصف عميق لما نحن فيه من تخلّف وانحطاط، وإشارات صحيحة إلى طريق الخروج مما نحن فيه من تخبّط وبؤس، وفوضى وجهل وخراب، لكن.. قلّة هم الَّذين يقرأون الكتب، وقلّة هم الَّذين يدركون إلى أين نحن سائرون".

 وبعد.. تترك هذه الرّواية أثرا عميقا في نفوس القرّاء، فهي رواية توسّع المدارك وتثير العواطف وتشعل الحواسّ، تحمل رسالة هامّة عن الحياة والذّاكرة الّتي توجهّنا عبر متاهات الزّمن، فالذّاكرة هي الكنز الّذي نحمله معنا أينما ذهبنا، وهي شاهد على التّاريخ الشّخصيّ والجماعيّ، وأداة للبقاء والتحدّي في وجه النّسيان والمحو، وهي أيضا الجرح الّذي لا يندمل، والجسر الّذي نبني عليه مستقبلنا.

***

صباح بشير

06.02.2025

كنت قد كتبت في المدخل الى هذه القصيدة المثيرة وفي الفقرة الأخيرة.. باننا "سنبحر مع الشاعر جمال مصطفى في قراءة "بانوراميته" ... بالتفصيل..". واليوم نبدأ بالمقاطع من (11ـ 20)..

"حين تكون القصيدة مفتوحة كأفق وملمومة كقطرة ماء"، القسم الثالث: "في هزيع البرج تحتاط الطيور.."

دهشةُ الصعود ومكرُ الارتفاع

(11)

"البُرجُ أعْرَقُ مِنكِ بابِلْ

البُرجُ أحلامُ الأوائِلْ

في لَجْمِ غطْرسةِ البُغاةِ الآلِههْ

مَنْ يَحْسبونَ الأرضَ سَلَّةَ فاكِههْ

والناسَ تَحْتَهُمو عبيدا

......................

البُرجُ فاجأَهُمْ صعودا"

عراقة البرج:

يتوهّج هذا النص الشعري بإشراقات فلسفية وإنسانية تتجاوز الظاهر لتغوص في أعماق الدلالة والرؤية. فالشاعر، وهو يقارن بين البرج وبابل، يجعل من البرج كياناً يتسامى على المدينة نفسها، إذ يقول: "البُرجُ أعْرَقُ مِنكِ بابِلْ"، فيلفت انتباهنا إلى أن العمارة ليست حجارة صماء، بل تجسيدٌ للأحلام، وإرادةٌ للمقاومة، وتاريخٌ يتجاوز من بناه أو حكمه.

ثم تأتي العبارة "البُرجُ أحلامُ الأوائِلْ" لترسّخ أن البنيان ليس مجرد صرح مادي، بل هو تجلٍّ لروح الأجيال، صدى لتطلعات الإنسان الذي يسعى لكبح جماح الطغيان، في "لَجْمِ غطْرسةِ البُغاةِ الآلِهَهْ"، حيث يستحضر الشاعر الطغاة الذين نصّبوا أنفسهم آلهة، مستبدين بالناس، معتبرين الأرض مجرد "سَلَّةَ فاكِههْ"، ينهبونها، بينما البشر في نظرهم "عبيدا". هنا، يفضح النص ذهنية المستبدّ، الذي يرى العالم متاعاً، والناس أدواتٍ لا شركاء في الوجود.

لكن البرج، وهو رمز للإرادة الإنسانية، يخرج عن السيطرة، يفاجئ الطغاة "صعودا"، في انقلاب على منطقهم القمعي، كأن الأحجار ذاتها تتمرّد، وكأن الأحلام، مهما خُنِقَت، تصرّ على العلوّ والخلود، شاهدةً على عظمة الإنسان أمام هشاشة الطغيان.

هذا النص يفتح أبواب التأمل العميق في علاقة الإنسان بالسلطة والتاريخ.. مما يجعل القارئ يتساءل عن مصير الإنسان في تحدي الطغاة ومواجهة قوى الاستبداد..

"البرجُ.. بين الخرافة والتجلي"

(12)

"في البدءِ كان البرجُ محمولاً

على رُخِّ الخُرافةْ

حتى أناخَ بأرضِ بابلْ

أخَذَتُهُ مِنهُ قصيدتي

كالهودجِ الحَلَزونِ تحملُهُ زرافةْ

وبهِ تَطوفُ على المدائِنْ"

البرج والقصيدة:

يغوص هذا المقطع الشعري في جدلية الخرافة والواقع، فيكشف بأسلوب رمزي كيف تتحول الأسطورة إلى حقيقة ملموسة، وكيف تتجلى العمارة كفكرة عابرة للزمن. يستهل الشاعر بقوله: "في البدءِ كان البرجُ محمولاً / على رُخِّ الخُرافةْ"، حيث يستدعي طائر الرُخّ الأسطوري، ذاك الكائن الخرافي الجبار، ليسلط به الشاعر الضوء على دور الخرافات والأساطير في بناء المعتقدات والتصورات الإنسانية، من خلال الاشارة إلى أن البرج بدأ كحلم مستحيل، كمحض أسطورة تتناقلها الألسن. لكنه سرعان ما يرسو في "أرضِ بابلْ"، لينتقل من فضاء الخيال إلى أرض الواقع، وكأن الشاعر يوثّق رحلة الفكرة من الوهم إلى التجسيد.

غير أن اللافت هنا هو التدخل الشعري، حيث يقول: "أخَذَتُهُ مِنهُ قصيدتي"، فيجعل من الشعر قوة قادرة على امتلاك المعمار، وكأن الكلمات ليست مجرد وصف، بل إعادة خلق للواقع.. انها القوة التحويلية للكلمة والشعر التي تظهر.. وكأن القصيدة تحتضن البرج وتحمِل معانيه وتاريخه..

تتجلى عبقرية النص في إضفاء بعد جمالي جديد على البرج، فبدلاً من أن يكون حجراً صامتاً، يصبح كائناً متحركاً في صورة "الهودجِ الحَلَزونِ تحملُهُ زرافةْ"، في مشهد يمزج الغرائبية بالسلاسة، ويمنح البرج طابعاً حيًّا، متنقلاً، غير مستقر.. بمعنى آخر.. يشير إلى انفتاح المعاني وتجوالها في آفاق متعددة، لتجعل القارئ يتفاعل مع المضمون الإبداعي، مما يثري الفكر ويغذي الروح، ويدعو إلى التأمل في معاني الوجود والحضارة..

ثم تأتي الذروة في قوله: "وبهِ تَطوفُ على المدائِنْ"، في إشارة إلى انتشار الأفكار، إلى أن العمارة ليست مجرد بناء جامد، بل إرثٌ حضاري يتجاوز المكان، كأنها رسالةٌ متنقلة تحملها الأزمنة والشعوب.. وان ببطئ

" سفرٌ في سماوات بابل"

(13)

"في البُرْجِ بُرْجٌ لِلْطيورِ

مَعاً تَطيرُ لِكيْ تُطَرِّزَ في الصباحِ

سماءَ بابِلْ"

بُرْجٌ الطيور:

هذا المقطع الشعري يعكس جماليات اللغة العربية وعمق المعاني التي تحملها، حيث يُعبّر عن الأمل والانطلاق في فضاء جديد.. انه يُشرّع نافذة على رؤية تتجاوز المادي إلى الرمزي، حيث لا يكتفي الشاعر بالنظر إلى البرج كصرح معماري، بل يكتشف في داخله "بُرْجٌ لِلْطيورِ"، في إشارة إلى أن كل بناء يحمل في جوهره بعدًا آخر، أكثر شفافية وحرية. فالبرج هنا ليس مجرد كيان حجري، بل فضاء للحياة، للحركة، وللتحليق، مما يضفي عليه طابعًا إنسانيًا وروحيًا يتجاوز صرامة المعمار إلى انفتاح الرؤية.

ثم تأتي الصورة البديعة "مَعاً تَطيرُ لِكيْ تُطَرِّزَ في الصباحِ / سماءَ بابِلْ..  لحظة الانتعاش والإبداع، التي من خلالها يرسم الشاعر لوحةً حيةً للطيران الجماعي للطيور، لكنه لا يكتفي بوصف الحركة، بل يضفي عليها بُعدًا إبداعيًا عبر فعل "تُطَرِّزَ"، وكأن الطيور تغزل خيوط الصباح على قماش السماء، في استعارة تحتفي بالجمال الخالص.

هذه الصورة تحيل إلى الفكرة الفلسفية العميقة بأن المعمار ليس مجرد بناء صاعد نحو الأعلى، بل هو امتدادٌ لما حوله، يندمج مع الطبيعة، يتفاعل مع الضوء والهواء والحياة. كما أن وجود الطيور يرمز إلى الحرية، في مقابل ما قد يمثله البرج من سطوة الإنسان على المكان، مما يخلق جدلية بين الثبات والحركة.. بين الجثوم والتحليق.. بين السلطة والانعتاق، بين الحجر والكائن الحي، في توازن شعري بديع بين الفكرة والصورة.

"حيثُ تتكلم الغابة"

(14)

"هِيَ حُجْرَةُ الشامانِ

فارِغةٌ تَماماً

لَو دَخَلْتَ تَصيرُ غابَةْ

هِيَ حُجْرَةُ الشامانِ

فيها قد تُفَقِّهُكَ الأيائِلُ بالتَخاطُرِ

فِقْهَ إبْكاءِ السَحابَةْ"

حُجْرَةُ الشامانِ:

الشاعر يفتح أبواب الإدراك على فضاء يتجاوز المألوف فيغوص في عوالم الغموض والروحانية، حيث تتحول „حُجْرَةُ الشامانِ“، التي تبدو فارغةً تمامًا، إلى كونٍ آخر يعجّ بالحياة.. يتسع لتحولات مدهشة. الشاعر يوظف المفارقة بين "الفراغ" و"الامتلاء"، فالغرفة التي تبدو خاوية تتحوّل بمجرد الدخول إليها إلى „غابَةْ“، في دلالة على أن الوعي، لا المادة، هو الذي يمنح الأشياء حقيقتها.. قد تمثل الحجرة هنا العقل الباطن، أو الروح، فيما تشير الغابة إلى رمزية الطبيعة والحياة.

ثم تأتي الصورة المدهشة في قوله: „فيها قد تُفَقِّهُكَ الأيائِلُ بالتَخاطُرِ“، إذ يجعل من الأيائل معلمين روحيين، ينقلون الحكمة عبر التخاطر، في استدعاءٍ لرمزية الحيوان في الموروث الشاماني، حيث تُعدّ الكائنات جزءًا من نسيج الكون الروحي، قادرة على الإيحاء والتعليم. لكن الدرس هنا ليس مألوفًا، إنه „فِقْهَ إبْكاءِ السَحابَةْ“، وهو تعبير مدهش يكثّف فكرة الحكمة المتجاوزة، حيث يصبح الفقه – وهو عادةً مجال العقل والاستنباط – مرتبطًا بقدرة غامضة على استدرار المطر، وكأن المعرفة هنا ليست فقط إدراكًا، بل تماهٍ مع الطبيعة.. عن اتصال حميمي، او انصهارٌ في إيقاع الكون.. لالتقاط مشاعر الكون نفسه..

في هذا المقطع، يخلق الشاعر توليفةً بين الفلسفة والروحانية والشعر، إذ يجعل من الغرفة فضاءً للتحوّل، ومن الطبيعة نصًا يُقرأ دون كلمات، ليؤكد أن المعنى لا يُلقى جاهزًا، بل يُكتشف عبر التجربة والانفتاح على أسرار الوجود.

هذا النص لا يقدم إجابات مباشرة، بل يخلق جوًّا من الغموض والرهبة، مستدعيًا القارئ للتأمل في أعماق ذاته والعالم من حوله.

"إشراقة الصديق.. نارٌ تُضيء البرج“

(15)

"في باب مانعةِ الصواعقِ

عَنْهُ في اللوح الكتابِ إشارةٌ:

أنْ سوفَ يَجترحُ الصديقُ …...

إنارةَ البُرْجِ المُعَلّى

لَمْ يذكروا مَن كانَ ذيّاكَ الصديقُ

لَربّما خوفاً عليهِ كأنّهُ

قد كانَ (تِسْلا)"

العلم والصداقة:

يتجلى في هذا المقطع الشعري إبداع شاعر متمكن من نسج خيوطًا دلالية متشابكة وذات أبعاد فكرية وتاريخية مشحونة بالدلالات، حيث يستدعي الشاعر ثنائية النبوءة والتجاهل، العبقرية والنسيان، الحقيقة والتغييب. فالشاعر لم يكتفِ بتقديم صورة بصرية، بل غاص في أعماق المعاني، واستنطق الرموز، ليقدم لنا لوحة فنية متكاملة، تتجاوز حدود النص الشعري إلى آفاق أرحب من الفكر والفلسفة.

يتميز المقطع بصياغة لغوية رصينة، وكلمات مختارة بعناية، تعكس عمق تفكير الشاعر.

في البداية، يضعنا أمام مشهد غامض عند "باب مانعةِ الصواعقِ"، وهي صورة توحي بالحماية والمنع، لكنها في ذات الوقت تستبطن الإشارة إلى قوة هائلة مخبأة، وكأننا أمام مدخل إلى سرّ منسيّ.. وقد تحمل في طياتها إشارة إلى الحماية والإيمان، وأن هناك قوة أعلى تحمي الإنسان..

ثم تأتي الإشارة إلى "اللوح الكتابِ"، وهو استدعاء ديني يرمز إلى الأزلية والثبات، حيث تُكتب الأقدار والمعارف العظمى، لكن المفارقة تكمن في أن هذا اللوح، رغم احتوائه على النبوءة، لم يُصرّح باسم "الصديق" الذي "يجترحُ إنارةَ البُرْجِ المُعَلّى"، أي أنه سيشعل النور في القمم، في استدعاء رمزي لعصر الاكتشافات والاختراعات، وللروح التي تحاول اختراق الظلام بالمعرفة.

غير أن الغموض يزداد، إذ يتساءل الشاعر: "لَمْ يذكروا مَن كانَ ذيّاكَ الصديقُ"، ليشير إلى تهميش المتفرّدين في التاريخ، قبل أن يفاجئنا بالخاتمة: "لَربّما خوفاً عليهِ كأنّهُ قد كانَ (تِسْلا)". وهنا تتجلى عبقرية النص، حيث يستدعي نيكولا تسلا، المخترع الذي أحدث ثورة في الكهرباء لكنه تعرض للتهميش، في إشارة إلى أن العباقرة غالبًا ما يُحاربون أو يُنسون، رغم أنهم هم من يضيئون العالم.

بهذا، ينسج النص رؤية فلسفية حول علاقة السلطة بالمعرفة، حيث يُخشى على المبدعين أو يُحجب ذكرهم، وكأن النور الذي يشعلونه ليس مجرد طاقة، بل فعل تمرّد يهدد المألوف ويكشف المستور.

وهْمُ السلطة وبريقُ الزوال

(16)

"هي حُجْرَةُ التيجانِ

تَدْخُلُها بِقِيراطَيْنِ مِن ذَهَبٍ

دقائِقَ

كامبِراطورٍ، كَقَيْصَرَ أو كَكِسرى أو كَسلْطانٍ

كما مَلِكِ المُلوكْ

العرشُ فيها، الصولَجانُ، الخاتَمُ الطُغْراءُ

وحْدَكَ ها هنا الآنَ المُتَوَجُّ

بَيْنَ مَن قد تَوَّجوكْ"

غرفة التيجان:

يتناول هذا المقطع الشعري بنية السلطة ورمزية التتويج، ليكشف هشاشة العروش التي تبدو متألقة في ظاهرها لكنها محكومة بزمنٍ لا يرحم.

الشاعر يبدأ بمشهد يوحي بالفخامة الملوكية: "هي حُجْرَةُ التيجانِ"، حيث تُستدعى رمزية المُلك، لا بوصفه منصبًا ثابتًا، بل كطَقس عابر، إذ أن الدخول إليها لا يكون إلا بثمن، "بِقِيراطَيْنِ مِن ذَهَبٍ"،"، تُبرز قيمة الثروة والمكانة التي تصحب الدخول إلى عالم الملوك.. وهو ثمن رمزي، يوحي بأن المجد يُشترى لحظيًا، لكنه غير دائم، مجرد، وقتًا محدودًا.. دقائق معدودة من السيادة، كحكمٍ على حافة الفناء.

ثم ينتقل النص إلى تشبيه الحاكم المتوّج بأساطين السلطة عبر التاريخ: " كامبِراطورٍ، كَقَيْصَرَ أو كَكِسرى أو كَسلْطانٍ / كما مَلِكِ المُلوكْ "في استدعاءٍ لمختلف أنظمة الحكم، لو تتناوب الحضارات على قمة الهرم.. وكأن الشاعر يؤكد أن التاج واحد وإن تبدّلت الرؤوس التي تحمله. كذلك لا يمثل "الصولَجانُ، الخاتَمُ الطُغْراءُ"، الا رموزًا تتجسد فيها الإرادة والقوة.. غير أن المفارقة تتجلى في أن هذا التتويج، رغم طقوسه المهيبة، ليس إلا لحظة عابرة، إذ يقول: "وحْدَكَ ها هنا الآنَ المُتَوَجُّ / بَيْنَ مَن قد تَوَّجوكْ"، فالمشهد بأسره ليس سوى مسرح للآخرين، أولئك الذين صنعوا هذا المجد الزائف.

بهذا، يكشف النصّ بمهارة أدبية كيف أن السلطة لا تمنح صاحبها خلودًا، بل تجعل منه دمية في يد التاريخ، لحظة مجد تذوب في نهر الزمن، وتاجًا يُثقل الرأس أكثر مما يُتوّجه.

صراعٌ أبديّ ودورةٌ لا تنتهي

(17)

في حجرةِ الشطرنجِ يَمتَدُّ السِجالُ إلى الشروقْ

والفائزونَ يُكَرَّمونَ

بأنْ يزوروا حُجْرةَ الأسرارِ ما فوقَ الغيومِ

ليَسألوا: أنّى وكيفَ متى وأين؟

.................

في الصُبْحِ سادِنُ حُجْرةِ الشطْرنجِ

يَشْطفها بِخُرطومِ المياهِ مِن الدماءِ

ويُوقِظُ الصَرْعى مِن الجيْشيْنِ

يُوقِفُهُمْ على ذاتِ المَرَبَّعِ مِن جديدْ"

حُجرة الشطرنج:

يتخذ هذا المقطع الشعري من حجرة الشطرنج فضاءً رمزياً للصراع الوجودي، حيث تمتد المعركة "إلى الشروق"، في إشارة إلى أن المواجهة ليست لحظةً عابرة، بل امتدادٌ مستمر يتجاوز حدود الزمن، وكأن الحياة ذاتها لعبةٌ شطرنجية لا تنتهي إلا لتبدأ من جديد. غير أن اللافت هنا هو تكريم الفائزين، لا بمنحهم جوائز مادية، بل بإعطائهم فرصة "أنْ يزوروا حُجْرةَ الأسرارِ ما فوقَ الغيومِ"، وهو مشهد يتجاوز البعد الأرضي ليأخذنا إلى أفقٍ ميتافيزيقي، حيث تتاح لهم معرفة الأسرار الكبرى، لكن دون إجابات حاسمة، إذ تبقى الأسئلة مفتوحة: "أنّى وكيفَ متى وأين؟"، في إشارة إلى أن حتى النصر لا يهبُ اليقين.

ثم تأتي الذروة الصادمة مع الصبح، حين يدخل "سادنُ حُجْرةِ الشطرنجِ"، فيتجلى دوره كمُنظّمٍ للعبة الأبدية، إذ "يَشْطفها بِخُرطومِ المياهِ مِن الدماءِ"، مما يحوّل المشهد إلى استعارة للحروب التي تُخاض مرارًا، حيث تُمحى آثار الدم لكن المعركة تستأنف، ويتحوّل القتلى إلى بيادق جديدة: "ويُوقِظُ الصَرْعى مِن الجيْشيْنِ / يُوقِفُهُمْ على ذاتِ المَرَبَّعِ مِن جديدْ"، مما يعكس عبثية الصراع، حيث لا نهاية للمعركة، بل مجرد إعادة تدوير للجنود، وكأن التاريخ ذاته رقعة شطرنج تُعاد صياغتها بنفس القواعد، مهما تغيّرت الوجوه.

بهذا، يصوغ الشاعر رؤيةً فلسفية للقدر الإنساني، حيث تظل الحروب دائرة، والأسئلة قائمة، فيما يظل اللاعبون مجرد بيادق في رقعةٍ لا تبوح بكل أسرارها.

وقد يصور هذا المقطع الشعري كفضاء رمزي يعبر عن صراع الشاعر الداخلي في عملية كتابة القصيدة، وكأن القصيدة نفسها جولة شطرنج يسعى فيها للوصول إلى عمق المعنى، والولوج إلى "حُجرة الأسرار ما فوق الغيوم"، رمز الإلهام والمعرفة العليا.

فالسِجالُ يبدأ ممتدًا "... إلى الشروق".. انها رحلة الشاعر الليلة بحثاً عن الكلمات والمعاني والصور الشعرية، التي قد تستمر حتى بزوغ الفجر، حيث تتوهج لحظة الإبداع بانتصار الفكرة، فتُكرَّم القصيدة بحصولها على لمحة من الأسرار. بهذا التكريم يسمح للشاعر أن يسأل الأسئلة الكبرى "أنّى وكيفَ متى وأين؟"؛ استكشاف متسلسل لكل شيء غامض، بحثًا عن الحقيقة.

في "الصُبْحِ"، يعود السادن/ الشاعر، ليطهّر وينظف مسوداته من الكلمات والابيات والمقاطع التي اسقطها من القصيدة.. والتي كانت ضحايا الالغاء والتبديل.. إيذانًا بجولة جديدة.. مراجعة للعمل وتوكيدًا لنتائجه في تأثيث قصيدته.. خلال المراجعة يعود/ يوقظ الشاعر لـ (كل) ما كتب وما شطب "يُوقِظُ الصَرْعى مِن الجيْشيْنِ"، لتعود إلى مكانها "على ذاتِ المَرَبَّعِ"، أي للبت في الخيارات.. كدلالةً على تكرار دورة الصراع الإبداعي. او في إشارة إلى أن الصراع مع الإبداع لا ينتهي؛ فبعد كل قصيدة تبدأ معركة جديدة بحثًا مفردة او صورة او عن نص آخر.

الموتُ الذي لا يموت

(18)

"في حُجْرةِ الحُجُراتِ

نعْشٌ

في النهارِ يطوفُ مرفوعاً بِذاتِهْ

...............

في حُجْرةِ الحُجُراتِ

نعْشٌ

يَختفي ليْلاً فلا يبقى هناكَ سوى بَناته"

النعش وبناته

يستحضر الشاعر مشهدًا غامضًا يتجاوز دلالاته المباشرة، لينسج رؤية فلسفية عن الموت والخلود، الحضور والغياب، والتناقض الذي يحكم دورة الحياة.. فهو يقدم تماهياً عميقاً بين رمزية "بنات نعش" وأبعاد الحياة والموت، حيث تتجلى صورة الكون في هيئة نعشٍ يطوف في النهار شامخًا، رمزًا للوجود الإنساني في مواجهة الزمن وعبوره المستمر.

النص يبدأ بصياغةٍ مدهشة: "في حُجْرةِ الحُجُراتِ / نعْشٌ"، مما يخلق صورة ذات أبعاد متعددة، فـ "حُجرة الحُجرات" توحي بعمقٍ سرّي، كأننا أمام جوهر الأشياء ومخبأ الأسرار، حيث يكمن النعش، لكنه ليس جمادًا هامدًا، بل يتحرك في وضح النهار: "يطوفُ مرفوعاً بِذاتِهْ"، مما يبعث شعورًا بالغرابة والرهبة، وكأن الموت نفسه لا يخضع لقوانين الطبيعة، بل يظل حاضرًا متجولًا بين الأحياء، منتصبًا بذاته، لا يحتاج لمن يحمله، بل كأنه كائنٌ له استقلاليته وقدرته على الحركة.

لكن في الليل، يتحوّل المشهد تمامًا: "يَختفي ليْلاً فلا يبقى هناكَ سوى بَناتهْ"، في صورة تتسم بالغموض الميتافيزيقي، إذ أن اختفاء النعش يوحي بأن الموت ليس نهاية، بل هو أصلٌ يُخلف وراءه أثرًا، يتمثل في "بناته"، واللواتي قد يرمزن إلى التركة التي يتركها الراحل، سواء كانت أفكاره، موروثه، أو تأثيره المستمر في الوجود. وهي أيضًا إشارة أسطورية للكوكبة التي تبقى مرئية لتشهد على غياب مَن رحلوا..

انها رؤية فلسفية مذهلة: الموت ليس فناءً مطلقًا، بل حضورٌ متكرر، يتجلى نهارًا كواقعٍ لا يمكن تجاهله، ويذوب ليلاً تاركًا خلفه امتداداته، كأن الغياب ذاته نوعٌ من الحضور، وكأن "النعش" ليس فقط تابوتًا، بل هو فكرةٌ لا تموت.

الصراع بين السحر والعلم

(19)

في بابِ (هاروتٌ وماروتٌ) مِن اللوحِ الكتابْ

قالا لِقرْميدو: سنجعلُ فوقَ بُرْجِكَ

غيْمةً في صيْفِ بابلَ

تُنعشُ البرْجَ العظيمَ وتَغْسلُهْ

لكِنَّ قرْميدو تَوَجّسَ:

عنْدنا تِسْلا، كذلكَ عندنا الشامانُ

يَجْتَرِحانِ ما شِئْنا بِلا سِحْرٍ،

بِأيْدينا نُصُمِّمُ ما نُريدُ ونَجْعَلُهْ ...........

بين هاروت وماروت

يمزج هذا المقطع بين الأسطورة والتاريخ والعلم، ليخلق فضاءً تأويليًا واسعًا يعكس جدلية القوة، بين الغيبي والإنساني، وبين السحر والعقل، وبين التقاليد والحداثة.

يبدأ النص بإحالة دينية إلى قصة "هاروت وماروت"، وهما الملكان اللذان ورد ذكرهما في القرآن بصفتهما معلّمين للسحر، مما يمنح المشهد بعدًا ميثولوجيًا غامضًا. في هذا السياق، يقف "قرْميدو"، الذي يبدو وكأنه رمزٌ للمعمار أو للحضارة التي تبني مجدها بيدها، أمام وعدٍ قادمٍ من قوى عليا: "سنجعلُ فوقَ بُرْجِكَ / غيْمةً في صيْفِ بابلَ / تُنعشُ البرْجَ العظيمَ وتَغْسلُهْ"، وهي صورة شعرية تنطوي على دلالات التطهير والتجديد والخلود، فالماء هنا ليس مجرد فيض سماوي، بل امتدادٌ للرحمة، ولإرادةٍ تسعى لصيانة البنيان وحمايته من الزمن..

لكن المفارقة تنشأ من موقف "قرْميدو"، الذي "تَوَجّسَ"، فهو لا يرى في هذه الهبة الإلهية ضرورة، بل يستعيض عنها بالمعرفة البشرية: "عندنا تِسْلا، كذلكَ عندنا الشامانُ"، في استدعاء عبقري لشخصية نيكولا تسلا، رمز الحداثة والكهرباء، والشامان، الذي يمثل الحكمة الروحية المستندة إلى الحدس والعرافة.

يؤكد قرميدو استقلالية الإنسان عن القوى الغيبية بقوله: "بِأيْدينا نُصُمِّمُ ما نُريدُ ونَجْعَلُهْ"، وهو تعبير عن لحظة تاريخية فارقة، حيث يقف الإنسان في مواجهة الميثولوجيا، ليؤكد أنه قادرٌ على اجتراح المعجزات بلا حاجةٍ إلى السحر.

النص يطرح جدلية فلسفية عميقة حول الصراع بين الإيمان بالقدرات الغيبية والاعتماد على الذات، ليترك القارئ أمام تساؤل مفتوح: هل نحن بحاجة إلى معجزة، أم أن معجزتنا تكمن في وعينا ومعرفتنا وإرادتنا؟

الزمن كذاكرةٍ أسطورية

(20)

الطابقُ العشرونَ مُتْحَفُ (سوفَ كانَ) وفيهِ: أجنحةٌ

لِجبرائيلَ، ألواحُ الزمرّدِ، نَعْلُ آدمَ، مشطُ حواءَ، البراقُ،

وفُلْكُ نوحٍ، صُورُ إسْرافيلَ، والرُخُّ الذي عَبَرَ البِحارَ

مُحَلِّقاً بالسندبادِ، فَرائِصُ الأسرار تَرتعدُ ارتعاداً في

ضميرِ الغيبِ قُرْبَ عمامةِ الخَضِرِ، الدفوفُ تَزُفُّ بَدراً مِثْلَ

فاكهةٍ يُقَطِّعُهُ بِخِنْجَرِهِ إلهُ المَدِّ سْكْراناً لِيأكُلَهُ أهِلَّهْ

في (سَوفَ كانْ):

حَجَرُ الفَلاسِفةِ، الهِيولى، والبَهيموثُ المُحَنّطُ،

واهتزازُ ضفيرةِ الزمَنِ المُولِّهُ والمُوَلَّهْ"

متحف "سوفَ كان":

يستدعي الشاعر شخوصًا وأساطيرَ ورموزًا دينيةً وتاريخيةً لتشكل نسيجًا من التأملات حول الزمن، والذاكرة، والخيال البشري.. انها رحلةً ساحرةً في الزمن. فالعنوان المستتر "سوفَ كان" يجسد تناقضًا زمنيًا عميقًا، إذ يجمع بين المستقبل والماضي في تركيبٍ واحد، وكأنه يشير إلى أن الماضي ليس ثابتًا، بل هو امتدادٌ متحولٌ في الزمن، يتجدد بتأويلاتنا له.

ان افتتاحية " الطابقُ العشرونَ مُتْحَفُ (سوفَ كانَ)"، تشي بأننا أمام فضاءٍ رمزيٍّ معلّق بين الأرض والسماء، حيث تترابط العناصر الميثولوجية والدينية والأسطورية داخل متحفٍ يعرض إرث البشرية الروحي والمعرفي. ففيه "أجنحةٌ لِجبرائيلَ، ألواحُ الزمرّدِ، نَعْلُ آدمَ، مشطُ حواءَ، البراقُ"، حيث يتجاور المقدس مع الحلمي، والتاريخي مع الخرافي، في انسجامٍ يذكرنا بموسوعات المعرفة القديمة، التي لم تكن تفصل بين الدين والأسطورة والعلم.

في هذا المتحف أيضًا، "الرُخُّ الذي عَبَرَ البِحارَ مُحَلِّقاً بالسندبادِ"، في استدعاءٍ للخيال السردي العربي، حيث تندمج الأسطورة بالحكاية، ويتحول الزمن إلى كيانٍ عضوي ينبض داخل الذاكرة الجماعية.

أما المشهد الأكثر غرابةً فيأتي مع "الدفوفُ تَزُفُّ بَدراً مِثْلَ فاكهةٍ يُقَطِّعُهُ بِخِنْجَرِهِ إلهُ المَدِّ سْكْراناً لِيأكُلَهُ أهِلَّهْ"، حيث تتجلى رمزية القمر، الذي يتعرض للذبح كفريسةٍ للزمن، وكأن الشاعر يرمز إلى الفناء والتحوّل المستمر للأشياء، متمثلًا بالقمر في سيرورته من البزوغ حتى التمام.. ومن الاكتمال حتى المحاق.. ليعاود دورته..

ويُختتم المقطع بإشاراتٍ أكثر عمقًا: "حَجَرُ الفَلاسِفةِ، الهِيولى، والبَهيموثُ المُحَنّطُ، واهتزازُ ضفيرةِ الزمَنِ"، حيث يتحول الزمن إلى ضفيرةٍ حية، تهتز بين أيدي المبدعين والعلماء والفلاسفة، في تصويرٍ مدهشٍ للزمن ككيانٍ ديناميكي، لا كخطٍ جامدٍ في الماضي.

بهذا، يقيم النص احتفاليةً معرفيةً وزمنيةً، حيث يصبح الماضي مشروعًا مستقبليًا، والحكايات القديمة ليست محض ذكريات، بل طاقةٌ متجددةٌ تُعيد تشكيل وعينا بالعالم.

***

طارق الحلفي

......................

* رابط القصيدة //

  https://www.almothaqaf.com/nesos/971491

* رابط المدخل //

https://www.almothaqaf.com/readings-5/979452

* رابط القسم الاول //

  https://www.almothaqaf.org/readings-5/979564

* رابط القسم الثاني //

https://www.almothaqaf.com/readings-5/979680

للشاعر اسماعيل عزيز - العراق

قصيدة /حين يضحك الندى/ للشاعر إسماعيل عزيز هي قصيدة تتسم بالعاطفة العميقة والرمزية المكثفة، وتعبّر عن الحيرة والتأمل في الحياة والمصير، عبر صور بلاغية وتصويرية تتمحور حول التغيرات الطبيعية والوجودية. القصيدة تجمع بين الفلسفة والتجربة الشعرية، مما يجعلها تلامس مشاعر القارئ من خلال الأسلوب المتأمل الذي يعكس حالة من القلق والبحث عن معنى الحياة والوجود. نستطيع من خلال تحليل الأسلوب البلاغي لهذه القصيدة استكشاف عدة جوانب جمالية وفكرية.

1. الصور البلاغية والرمزية:

القصيدة مليئة بالصور البلاغية المعقدة التي تحاول التعبير عن مشاعر الشاعر في مواجهة الحياة وتحدياتها. تتراوح الصور بين الخيال البصري والصوتي، لتخلق مشهداً شعرياً يغمر القارئ.

/المطر الساقط فوق ربى أيامك/: بدايةً، يقدّم الشاعر المطر كرمز للتغيير والذكريات الماضية التي تمثل الماضي البعيد. المطر هنا ليس مجرد عنصر طبيعي، بل يمثل حنينًا أو تغييرات تُترك وراءها آثار تتداخل مع الزمان.

/يحمل طعم الحصرم/: إشارة إلى طعم الحزن أو الفقد، فالحصرم هو الثمر غير الناضج، مما يرمز إلى شيء غير مكتمل أو غير مُحقق بعد، وهي صورة تعبّر عن مشاعر الشاعر من خلال طعم غير مكتمل.

/فلا يجمع النهر إلا صرير العواصف/: هذه الصورة تخلق التوتر بين النهر الذي يرمز إلى التدفق والاستمرارية، والعواصف التي تمثل الصعوبات والمشاكل. يصبح النهر هنا ساحة للصراع بين الحركة السلسة والصعاب التي تواجهها الحياة.

/وفي بوابة الرمس لملمة من عزاء/: يخلق الشاعر صورة حزينة تمزج بين الموت أو الفقد والتعزية. /بوابة الرمس/ تشير إلى قبر أو مكان الظلمة والموت، بينما /لملمة من عزاء/ تدل على محاولة التخفيف من الحزن. الصورة توحي بأن الحياة والموت يتداخلان في لحظة واحدة.

2. الأسلوب السردي والتأملي:

القصيدة تعتمد على الأسلوب السردي الذي يتنقل بين الوقائع العاطفية والخيالية، ويستعرض مشاهد من الطبيعة والحياة. هناك سرد لصور متتالية تعكس تأملات الشاعر حول الحياة:

/اصغي قليلا/: هذه الجملة تأخذ القارئ إلى حالة من الاستماع والتأمل، مما يجعل النص يبدو وكأن الشاعر يوجه رسالة خاصة للمتلقي، فيحثه على التفكير في الواقع الذي يمر به.

/تلفت قليلاً/: هي دعوة إلى التنبه والوعي، ربما للبحث عن إجابة أو رؤية أفضل للأمور التي تحيط بالشاعر.

3. التكرار والتوتر الداخلي:

التكرار في القصيدة يُستخدم لتحقيق توتر داخلي بين الوجود والألم. الشاعر يكرر بعض الأسئلة والتوجهات التي تجعل القارئ يشعر بالحيرة والضياع:

/ألا تسمع؟/: تكرار السؤال هنا يخلق شعورًا بالاستفهام المستمر عن الحياة والعالم المحيط، وكأن الشاعر يحاول أن يقنع ذاته أو القارئ بالحقيقة التي يسعى إلى كشفها.

/أثقال الهموم تومض من فوق مشارفها/: هذه الصورة تبرز الوزن الثقيل للمشاعر أو الأفكار التي يواجهها الشاعر، وتستمر الصورة الحسية عبر التوتر بين الصمت والضجيج.

4. الرمزية في الكلمات:

الشاعر يعمد إلى استخدام كلمات تحمل معانٍ رمزية، مثل /الرواسي/ و/طبول حرب/. هذه الكلمات لا تشير فقط إلى مشهد طبيعي، بل تحمل دلالات عميقة تتعلق بالصراع الداخلي والتحديات التي يواجهها الفرد:

/الرواسي/: تستخدم للإشارة إلى الثبات والصمود، ولكن هذه الرواسي يتم /استقبالها/ من قبل الأعاصير، مما يشير إلى أن الثبات لا يعني بالضرورة السلام أو الاستقرار في الحياة، بل يمكن أن يتعرض للموجات العاتية من التحديات.

/زمجرة السحب كطبول حرب/: هنا يظهر الصراع بين الكائنات الطبيعية كرمز للصراع الداخلي الذي يعيشه الشاعر. طبول الحرب تشير إلى الاقتراب من لحظة الأزمة أو القرار الصعب.

5. التوازن بين الأمل والضياع:

رغم جميع الصور الحزينة والصراعات التي تعرضها القصيدة، هناك إشارات متقطعة للأمل، مثل /في كل تيه دليل/ و**/انتظر حتى يتسلل الشذا من غبار التراب/**. هذا التوازن بين الأمل والضياع يعكس حالة من اليأس، ولكنه يشير في الوقت نفسه إلى أنه حتى في أصعب اللحظات يمكن أن يجد الإنسان بصيصًا من النور.

/يتسلل الشذا من غبار التراب/: تشير هذه الصورة إلى أن الجمال أو الراحة يمكن أن تأتي من أماكن غير متوقعة، حتى من داخل المعاناة نفسها. هذه الجملة تمثل الأمل الذي يتسلل بصمت، رغم العواصف والهموم التي تسيطر على العالم الخارجي.

6. الأسلوب الصوتي:

القصيدة تحتوي على العديد من العناصر الصوتية التي تعزز الإحساس بالحدة والتوتر في النص:

/زمجرة السحب/ و**/طبول حرب/**: تستخدم هذه الأصوات القوية لخلق صورة حية للعواصف والمشاكل القادمة. هذه الأصوات تعكس حالة من التوتر والقلق المستمر في حياة الشاعر.

الخاتمة:

قصيدة /حين يضحك الندى/ هي نص شعري مليء بالصور البلاغية التي تُعبّر عن توترات النفس البشرية بين الأمل والضياع، بين الحياة والموت، بين القوة والضعف. الشاعر إسماعيل عزيز يستخدم الرمزية والتكرار ليخلق حالة من التأمل الوجودي العميق، حيث تعكس الصور الطبيعية الصراع الداخلي والتساؤلات الفلسفية التي قد يواجهها الفرد في حياته. في النهاية، تبقى القصيدة تحمل شعورًا بالبحث المستمر عن معنى وجودي وحقيقة تتسلل من تحت غبار التحديات.

***

بقلم: كريم عبد الله - العراق

....................

حين يضحك الندى

المطر الساقط فوق ربى ايامك، يحمل طعم الحصرم، فلا يجمع النهر الا صرير العواصف، ولم يكن الندى اقل منفعة منك، ففي دجى الليل قبلة من دجى، وفي بوابة الرمس لملمة من عزاء، اليك الحديث، انت؛ اصغي قليلا، لم تكن الاغصان التي احرقت مما صفا نورها وطاب دخانها، ولا البرق في لمعانه من النوع المضيء، فاقصر خطاك، وتلفت قليلا. فهذا القطر ينتهي نهرا حتى وإن قل. ألست ترى؟ اثقال الهموم تومض من فوق مشارفها قبب المنابر كالرواسي تستقبل هوج الأعاصير، ألا تسمع ؟ زمجرة السحب كطبول حرب يرتد صداها على لمعان السفوح. ولكن في كل تيه دليل، فانتظر حتى يتسلل الشذا من غبار التراب.

***

اسماعيل عزيز- العراق

 

في المثقف اليوم