قراءات نقدية

بولص آدم: حَلاّق الشِّعر.. بين الكرامة والوجود

في نص "حلّاق الشعر" للكاتب العراقي مروان ياسين الدليمي، لا نقرأ حكاية مهنة عابرة، بل نشهد مرآة مزدوجة لحياة كاملة تنحتها الضرورة وتصقلها الكرامة، حيث يتحوّل الحلاق إلى شاعر يقصّ ذاته كما يقصّ شَعر الآخرين، وتغدو الحلاقة رمزًا لفعل الكتابة نفسه: عمل يدوي وعقلي وروحي، يمارَس كل يوم ضد المحو والاختزال. فليست المهنة هنا مجرد وظيفة، بل استعارة وجودية لقصيدة تُكتب في الظل، ويقول صاحبها بيقين: "أنا كنت حلاقاً… وكانت القصائد، في داخلي، تقصّ رأسي كل يوم."

في هذا النص الذي يتكثف فيه زمن الحصار وجفاف العالم، لا يتحدث الكاتب عن "التجربة" باعتبارها شيئاً ماضياً، بل يتحدث عن "الهوية"، وكيف يمكن للواقع أن يحاول قسر الإنسان المبدع إلى زاوية ضيقة، تختزله في لقطة واحدة، أو في صفة مهنية، أو في تعليق عابر من أحدهم. يقول:

"أن يُختزَل إنسانٌ في مهنةٍ عابرة، أن يُنسى كل كفاحه، فقط لأنّ أحدهم لم يحتمل أن يراك تُواصل...".

هكذا تصبح نظرة الازدراء اليومية، مجرد "كلمة" أو "نظرة"، سلاحًا رمزيًا يقاتل به المجتمع ما لا يستطيع فهمه أو تحمله.

المفارقة العنيفة أن المجتمع لا يغفر للمبدع حاجته إلى العمل اليدوي، بل يكاد يطلب منه أن يبقى فوق الأرض وفوق الحاجة، وكأن الإبداع لا يتنفس إلا في ترف. لكن، كما كتب جورج أورويل الذي عمل في غسيل الصحون قبل أن يصبح أحد أعظم الكتّاب الإنجليز:

"أكتب لأني لا أستطيع العيش بصمت، ولكنني كنت أعيش في صمتٍ قسري طويل، حين لم يكن لي مكان في عالم الكتب".

كثير من المبدعين الكبار لم يصلوا إلى عالم الأدب أو الفن إلا عبر دروب الحرف والمهن:

الشاعر الروسي فلاديمير ماياكوفسكي الذي عمل رسام لافتات إعلانية.

المسرحي الأمريكي سام شيفلين الذي عمل في مصنع للسيارات.

الكاتب الفرنسي ألبير كامو الذي شغل وظائف مكتبية متواضعة قبل أن يصبح أيقونة فكرية وأدبية.

تشارلز بوكوفسكي عمل سنوات طويلة في مكاتب البريد، وكان يقول: "الكتابة كانت نجاتي من الوظيفة التي لا تنتهي"

توفى يانسون، الكاتبة الفنلندية الشهيرة بمخلوقات الـ "Moomin"، كانت ترسم الكاريكاتير في الصحف لتعيل نفسها.

بيير شوفالييه هو مثال مهم وملهم ضمن الحديث عن المبدعين الذين مارسوا مهنًا يدوية قبل أن يحققوا حضورهم في الحقول الفنية. فقد عمل لحّامًا في بداياته، وهي مهنة تتطلب تركيزًا وصبرًا ودقة، ثم انتقل إلى الكتابة والإخراج السينمائي، ليصبح لاحقًا أحد الأسماء المؤثرة في دعم سينما المؤلف، خاصة عندما تولّى مسؤولية قسم السينما في قناة Arte الفرنسية.

المكسيكي خوان رولفو، كاتب كبير وصاحب رواية "بيدرو بارامو" المؤثرة في أدب أميركا اللاتينية، عمل قبل شهرته موظفًا في سجل السكان المدنيين وبائعًا للأجهزة المكتبية، وعانى من الفقر والضياع.

غابرييل غارسيا ماركيز، كان صحفيًا يعمل في ظروف شديدة التقشف، ولفترة، كان يكتب في الصباح ويبيع الموسوعات المنزلية من باب إلى باب ليلاً ليكفي أسرته.

الروائي الياباني كواباتا ياسوناري الحائز أيضاً على نوبل، عمل مصححًا صحفيًا ومتدربًا في النشر، وكان يعيش حياة تقشفية شديدة في طوكيو. لم يكن يملك حتى حذاءً يليق به عند حضوره أول اجتماع أدبي هام.

إن رحلة الإبداع لا تنفي الكدح، بل تسبقه غالبًا. ما بين لحّام فرنسي وحلاق عراقي وكاتب مكسيكي يعمل موظفًا مغمورًا، تكمن الحقيقة البسيطة: الإبداع ليس امتيازًا برجوازيًا، بل هو صرخة كائن حر، ينحت صوته في كل الظروف.

والمذهل أن هذا "التوتر" بين الكرامة الداخلية والوظيفة الخارجية هو ما يصنع غالبًا جوهر الإبداع. كما قال الفيلسوف هربرت ماركوز: "الحرية الحقيقية لا تُقاس بامتلاك الوقت، بل بامتلاك النفس رغم الوقت".

يكتب مروان: "الكلمة لم تكن وصفًا، بل طعنة. وسكينها ليس في معناها، بل في ما تُخفيه من نيّة."

هنا تصبح اللغة الاجتماعية أداة عنف رمزي، وتصبح السخرية من "حلاق" ـ وإن كان شاعرًا ـ إهانة موجهة لا إلى المهنة، بل إلى الكينونة الإنسانية التي يُفترض بها أن تتجاوز التصنيف.

إن العنوان ذاته "حلّاق الشِّعر" يحمل هذا الازدواج المؤلم والساخر:

فمن جهة هو من يقصّ "شَعر" الآخرين – مادة الجمال الخارجي، ومن جهة أخرى هو من يُقصي "شِعره" – مادة الجمال الداخلي. لكنه يفعل ذلك بكبرياء وهدوء، كمن يعرف أن وظيفته الأعمق هي ما لا يُرى، ما لا يُدفع ثمنه، ولكنه يبقى. في لحظة سخرية من أحد الزبائن، يتوقف الزمن:

"ما حاجتك إلى الشعر، وأنت حلاق؟!"

فيضحك هو، لا من الجملة، بل من جهلها.

في نص "حلّاق الشِّعر"، لا يُدافع الكاتب عن "الحلاقة" كوظيفة، بل يدافع عن الحق في أن تكون أي مهنة طريقاً للكرامة، لا سيفاً للمهانة. بل إنه ينزع من المهنة أي سطوة اجتماعية:

"المقص بيدي، لا على عنقي."

في اختصار يليق بشاعر يعرف كيف يضع الجملة حيث توجع.

لقد مرّ المبدعون في عقودهم الأخيرة بحصار مزدوج: الحصار الاقتصادي، ثم الحصار المعنوي. أُجبر الكثيرون منهم على العمل في المهن اليدوية، وواجهوا نظرات الاحتقار المبطنة من بيئات لا تعرف كيف تُقدّر القيمة إلا إذا جاءت عبر سلطة أو مال. وهكذا، كما تقول حنة أرندت:

"المجتمع الذي لا يعرف كيف يحترم فكر أبنائه، سيقسو عليهم بألف طريقة، ثم يتساءل: لماذا غادرونا؟"

لكن "حلّاق الشِّعر" لا يغادر، بل يبقى، يضحك، يصمت، ينتظر، يقصّ شَعر الزبائن نهارًا، ويقصّ القصائد لروحه ليلاً. ويعرف، كما في خاتمة النص:

ويظل، كلما نادوه “حلاقًا”، يبتسم ويواصل.

لأنه يعرف:

أن القصيدة الأخيرة، دائمًا، له.

بهذا اليقين العميق، تظل كرامة المبدع محفوظة رغم كل محاولات الاقتطاع أو الاختزال، لأن الإبداع لا يُقاس بوضع اليد، بل بموضع القلب. والقصيدة، كما الحياة، لا تُختَزَل فيما تراه العيون، بل فيما تصنعه الكلمات في الظل.

***

بولص آدم

في المثقف اليوم