قراءات نقدية
كريم عبد الله: قراءة نقدية تحليلية في قصيدة الشاعرة آمَال زَكَرِيَّا

"رِحْلَةُ الْوَجْعِ عَلَى ضَفَّةِ الْكَلام"
***
رِحْلَةُ الْوَجْعِ عَلَى ضَفَّةِ الْكَلام
آمَال زَكَرِيَّا - الجزائر
حِينَمَا اغْتَالَنِي صَقِيعُ الْهِجْرِ
فَتَحْتُ قَمِيصَ الْحُبِّ..
فَرَاعَتْنِي نَظَرَاتُ أَزْرَارِهِ الْمُذْعُورَةْ!
تَدَاهَمَتْنِي أَجْنَاسٌ غَرِيبَةٌ
تَتَنَزَّهُ عَلَى رَحيقِ حُقُولِي..
وَذَاكَ الْاخْتِنَاقُ مِنْ أَنْفَاسِهَا الْمَرِيضَةْ.
حَمَلْتُ مَلائِكَتِي حَيْثُ لَا شُمُوعٌ
تَرْتَدِي الْأَقْنَعةَ فِي سُكُونٍ..
وَلَا تَلْوِيحٌ..
وَدُرُوسٌ كَثِيرَةٌ
مِنْ مُصَمِّمَةِ الْأَزْيَاءِ:
تَعَلَّمْتُ أَنْ أُحِيكَ فُسْتَانَ اللَّامُبَالاَتْ.
وَمِنْ مُصَفِّفَةِ الشَّعْرِ
أَنْ أَقُصَّ سَنَابِلِي الْمُنْحَدِرَةَ عَلَى صَدْرِهِ.
مِنَ الرَّاقِصَةِ
أَنْ أَضَعَ قَدَمِي عَلَى لَهَبِ الْمَجَامِرِ..
وَأَتَلَوَّى وَجَعاً كَحَيَّةِ الْهِنْدِ لَيْلَةَ الْاكْتِمَالِ.
مِنْ بَائِعَاتِ الْهَوَى
أَنْ أَطْرَحَ جَسَدِي لِلْحُزْنِ..
عَلَى سَرِيرٍ بَارِدٍ..
لِأَتَقَاضَى حَفْنَةَ نِسْيَانٍ.
مِنَ الشَّاعِرَاتِ:
أَنْ أَعْتَنِقَ الْمَجَازَ عَقِيدَةً..
وَأَتَنَفَّسَ عُسْرَ الْحِبْرِ..
لِأَحْشُوَ الْحُرُوفَ أَلَماً وَعَتْباً.
مِنْ أَهْلِ الْفَنِّ
لَوْحَةٌ ثُلَاثِيَّةُ الْأَبْعَادِ..
تُوَهمُكَ بِأَلْوَانِ الْفَرَحِ وَالرِّضَا..
بِفُرْشَاةِ الصَّمْتِ الْبَاهِتِ.
مِنَ الْعَارِيَاتِ مِنَ الْحَيَاءِ
أَنْ أَتَجَرَّدَ مِنْ يَقِينِي..
بِبَيَاضِ غُيُومِكِ..
وَأَشُقَّ عَبَابَ الْبَحْرِ..
بِلَا مَوَاثِيقَ وَعُهُودٍ.
وَمِنْ.. وَمِنْ.. وَمِنْ..
وَمِنْ نُزُوحِ نِسْيَانِكَ..
تَعَلَّمْتُ أَنَّ الْحُبَّ كِذْبَةٌ كُبْرَى..
وَأَنَّ وَهَجَ الْبِيَادِرِ نُورٌ زَائِفْ.
***
القراءة النقدية:
تُعدّ القصيدة "رحلة الوجع على ضفة الكلام" للشاعرة الجزائرية آمال زكريا من أبرز الأعمال الشعرية التي تفيض بمشاعر الألم والحزن، حيث تتجلى فيها صورة الصراع الداخلي والتشظي النفسي في مواجهة الواقع المعاصر بكل ما يحمله من آلام وهجران. ومن خلال هذه القصيدة، يمكن للقارئ أن يتلمس عمق المعاناة الإنسانية التي تتراوح بين الخيانة، الغربة، والخيبة، مع تعبيرات شعرية مكثفة تنطوي على معاني رمزية تتراوح بين الأمل واليأس.
البنية الشكلية للقصيدة
القصيدة تتبع أسلوبًا شعريًا حُرًّا (شعر التفعيلة)، ما يسمح للشاعرة بتوظيف اللغة بشكل يتناسب مع تدفق مشاعرها الداخلية، متجاوزة الأطر التقليدية للقصيدة العمودية. هذا الخيار البنيوي يعكس تفكك الذات الشاعرة وتشتتها، حيث لا تجد نفسها قادرة على التوحد مع أي إطار ثابت، سواء كان شعريًا أو اجتماعيًا.
اللغة والإيقاع
تستخدم الشاعرة في قصيدتها لغة رمزية غنية ودالة على العديد من الأبعاد النفسية والفكرية. فمن خلال الكلمات مثل "صقيع الهجر"، "أزرار مذعورة"، و"أنفاس مريضة"، تخلق الشاعرة جوًّا من الكآبة والتشويش الذهني، حيث يغلب على النص مشهدية الألم الذي لا يُحتمل. هذا الاستخدام المكثف للصور الشعرية يعزز من عمق الإحساس بالوجع الذي تعيشه الشخصية الشاعرة.
أما الإيقاع، فقد توزع الشاعرة جملها الشعرية على مستوى وزني غير منتظم، ما يعكس فوضى الألم والشعور المتناثر في نفسها. هذه التوزيعات التي تحرك الانتباه بشكل مفاجئ وتترك القارئ في حالة من الترقب المستمر، تتناسب مع موضوع النص الذي يسرد رحلة الوجع.
الرمزية والمعاني
تستهل الشاعرة قصيدتها بتعبير صريح عن حالة الاغتراب "صقيع الهجر"، حيث تتبدد مشاعر الحب في مواجهة قسوة الهجر. ثم تأتي عبارة "فَرَاعَتْنِي نَظَرَاتُ أَزْرَارِهِ الْمُذْعُورَة"، وهو تعبير يعكس قسوة الخيانة والتشظي الذي يعاني منه الكائن البشري في علاقاته العاطفية.
كما تتسم القصيدة بالكثير من الرمزية التي تحمل معاني عميقة عن "اللامبالاة" و"الفقد". في الفقرة التي تقول فيها "تعلمت أن أحيا فستان اللامبالاة"، تبرز صورة الفتاة أو الأنثى التي تمثّل الاستسلام للهزيمة النفسية، وهو ما يتكرر في التلميحات التي تتحدث عن "بائعات الهوى" و"الراقصة"، بما يعكس الاغتراب الاجتماعي والفكري.
وبالحديث عن موضوع "الحب الكذبة الكبرى"، تنطوي القصيدة على نقد اجتماعي عميق للعلاقات العاطفية التي فقدت معناها النقي، وصارت تجارة أو وسيلة هروب من الألم، كما يظهر في قول الشاعرة: "تعلمت أن الحب كذبة كبرى".
الأسلوب والرمز الديني
توظف الشاعرة الرمزية الدينية بشكل ضمني حين تتحدث عن "حمل الملائكة"، ما يرمز إلى التقديس والأمل في تجنب التلوث الروحي، لكن سرعان ما تتحول هذه الرمزية إلى تشويش وفوضى، فلا تجد الملائكة ملاذًا في واقع مليء بالخيبات. كما يشير السياق العام للمفردات مثل "الملائكة"، "الشموع"، "الصمت الباهت" إلى حضور مكثف لمفاهيم روحية ودينية، ولكنها تبدو مشوهة ومعتمة بفعل الوجع والتجربة القاسية.
الختام والتطور
إن القصيدة في مجملها توثق رحلة شديدة الوجع تتخللها لحظات من الدرس والتعلم عبر معاناة الحياة العاطفية، بدءًا من حب مستحيل، مرورًا بالخيبة، وانتهاءً بإدراك الحقيقة المرة التي تقول إن "الحب كذبة كبرى". وتعد هذه النهاية، التي تضمن في طياتها اعترافًا بالحقيقة القاسية، تعبيرًا عن النضج الشعري والتطور الروحي للشاعرة.
الخلاصة
قصيدة "رحلة الوجع على ضفة الكلام" تمثل تجربة شعرية غنية ومكثفة تختزل الكثير من المشاعر الإنسانية المُعذبة. تدمج الشاعرة فيها الأسلوب الشخصي مع الرمزية الاجتماعية والدينية لتصل إلى قمة التعبير عن الألم، ليس فقط على المستوى الشخصي، بل أيضًا على المستوى الاجتماعي والفكري. هذه القصيدة تعتبر نموذجًا مهمًا في الشعر المعاصر الذي يعكس معاناة الذات في عالم مليء بالضغوط النفسية والعاطفية.
***
بقلم: كريم عبد الله – العراق