قراءات نقدية
علاء حمد: البنية الاستثمارية للقول النصّي لدى الشاعرة السورية وفاء مخلوف
عندما ندخل مرحلة التقويل النصّي، فهذا يعني أنّ أمامنا بعض النصوص التي تعلن عن نفسها بشكلها التلقائي، ومن هنا نستطيع أن نقدّر حالة الخلق النصّي، المواجهة النصّية والعلاقات التي تشكّل إطاراً حركياً في القول الآني والقول المتقدّم. وفي هذه الحالة فسوف نكون مع الدلالات الحركية والتي تكون عادة من اختصاص الأفعال بجميع تموضعها؛ الماضوي والحاضر والتموضعي والفعل المتقدم، ويعتبر الأخير مقدّما من خلال وضعه المستقبلي كفعل، ومتقدّماً من ناحية وحدات المعاني الدالة عليه.
ننطلق من خلال المنطلق اللغوي، والبنية ووظيفتها، والكشف عن شيفرات النصّ والمعاني العليا التي يشترك بها النصّ، وهي الحالات والاتجاهات النصّية التي تظهر كعلاقات تكوينية من جهة، وعلاقات دلالية تحدث عادة في داخل النصّ من جهة أخرى، وكلّ اتجاه من اتجاهات النصّ يعني أنّ هناك مخاتلات تنبيهية تقودنا إلى الوجود النصّي، وهذه التنبيهات لا تظهر بشكل عفوي، بل من خلال الذات الحقيقية التي تخزّن الأشياء، وتعمل على إيجاد عالم غير مطروق والالتجاء له، ومن هنا نقول إنّ الفعل المتقدّم حالة إبداعية تنوب عن القول الذي تمّت ترجمته إلى فعل مكتوب.
نقترب من نصوص الشاعرة السورية وفاء مخلوف، وهي تقرّب الرمز إلى الرمز من خلال البنية الاستثمارية؛ فإنّ أية تجربة تتصل بمعانيها من خلال القول اللامكتوب، أي أنّ المقروء الشفوي قد سيطر قبيل الكتابة، وهي المحطة الأولى لدى الشاعرة عندما تكون في المنحى الدلالي قبل كلّ شيء، والمنحى النصّي؛ وهي تزوّدنا بعناوين ومطالع لغوية تؤدي إلى وحدة النصّ.
عصف ريح بالطور الأخير
جلبة تهزّ سارية العمر
ارتحال قارب الوجه البشوش
مدينة.. تئنّ تحت أزيز الموت
وشاعر يرسم قصيدته.. أنثى
تغرق بالهزيع الأوّل
لشطر الشعر
سكون.. شحوب
مأساة بلد تغفو
على وقع
أقدام أطفالها الحفاة
من قصيدة: بلا عنوان
تغطي البنية الرمزية وانسجامها النصّي المقاطع النصّية والتي تتآلف مع منظور القصيدة، مثلا: تعتبر البنية النصّية وليدة عدة سياقات، ومنها التأويل الرمزي، كبنية فعّالة في النصّ المكتوب، وفاعلية النصّ من فاعلية التعدّدية السياقية ومفاهيمها والتي يلجأ بعضها إلى الرمزية أو الفعل التخييلي، والذي يلتقي مع التراكيب ودلالاتها.
عصف ريح بالطور الأخير + جلبة تهزّ سارية العمر + ارتحال قارب الوجه البشوش + مدينة.. تئنّ تحت أزيز الموت + وشاعر يرسم قصيدته.. أنثى + تغرق بالهزيع الأوّل + لشطر الشعر + سكون.. شحوب + مأساة بلد تغفو + على وقع + أقدام أطفالها الحفاة
عندما نتكلم عن البنية الرمزية، نتكلم عن الصورة الشعرية أيضاً، وكذلك لغة الاختلاف واللتين ترافقان النصّ مع كلّ جملة اعتمدت فعل التخييل من جهة، وحركة المعاني من جهة أخرى، حيث أنّ الوقوف يكون أمام الرمزية ككائن حركيّ.
نتوجّه نحو قوّة المعنى والتأويل والإيحاء، وجلّ ما نلاحظه؛ التواصل القولي وامتداد الجمل الشعرية، بحيث أنّ الواحدة يكون مكملة للأخرى، ومن هنا يكون تعدّدية المعاني منسجمة مع منظور اللغة العام.
يرتبط النصّ كبنية منغلقة على معانيه، ومن خلال هذا المنظور نلاحظ أنّ الشاعرة وفاء مخلوف قد جعلت المقاربات مفتوحة، وهي تلك المقاربات السياقية والتي تقودنا إلى الكلمات المركّبة في كلّ سياق تواصلي؛ مثلا: عصف ريح بالطور الأخير = جلبة تهزّ سارية العمر... ارتحال قارب الوجه البشوش = مدينة.. تئنّ تحت أزيز الموت...
كلّ جملة شعريّة من هذه الجمل، تساوي لنا، اختلافا مشروطاً، وهو اختلاف المعنى من جهة واختلاف اللغة من جهة أخرى، فالذي نلاحظه أنّ المعاني ليست مستقرّة في زاوية النصّ، بل تخرج بأنساق تراتبية وعلاقات لغوية متعدّدة مع الخارج النصّي.
بقايا علم يرفرف
ممزق الأطراف
تئنّ ساريته
بصدأ الحديد
صدى نشيد الأرض
غال في زاوية الجدار
من قصيدة: بلا عنوان
هناك أسلوب تواصلي للمقاربة البنيوية؛ ومن خلال اللغة نلاحظ هذه الأبنية التي اعتمدتها الشاعرة وفاء مخلوف، وتعد هذه الأبنية مفاهيم وصيغاً تركيبية غير محدودة، أي أنّ اللامحدود يتدخّل في البناء النصّي وذلك من خلال المكون الدلالي Semantic component والمكون اللغوي Linguistic component.
بقايا علم يرفرف + ممزق الأطراف + تئنّ ساريته + بصدأ الحديد + صدى نشيد الأرض + غال في زاوية الجدار
هناك المقاربة التأمّلية، وهناك الاقتراب بلا أمل، والأولى تعتمد قوّة الدلالة اللغوية، بينما الثانية فتعتمد قوّة دلالة المعنى، أي أنّ المكون الدلالي يوزّع طاقة العودة ويحصد طاقة اليأس في الثانية، حيث أنّ دلالة النصّ، من دلالة اليومي والأحداث المتوالية في الكثير من الشؤون المحيطة بالشاعرة.
بقايا علم يرفرف ممزق الأطراف؛ ندمج الجملتين لكي توصلنا إلى دلالة تكميلية وهي الأنين (تئنّ ساريته) حيث شبّهت الشاعرة وفاء البيئة بالبحر، وهي والذين من حولها على ظهرها ينتظرون.
بعض بقايا أصوات فرح
يقتلها الدوي
الوطن إشارة مرور
صوب الجحيم
نعق غراب فوق دم
الشهيد
من قصيدة: بلا عنوان
تعتبر بعض الأحداث مضمرة الدراية، فيبحث عنها الشاعر ليظهرها، وبعضها عدم التفات الناس عليها، ومن خلال منظور الحدث الآني غير الظاهر، فإنّ بناء المشهدية يكون بين ظهور الحدث من عدمه، لذلك فالمشهد الظاهري هو الذي يحرّك الفعل الحركي ويخرجه من النقطة العمياء.
بعض بقايا أصوات فرح + يقتلها الدوي + الوطن إشارة مرور + صوب الجحيم + نعق غراب فوق دم + الشهيد
التجاذب والقلق؛ التقابل والتنافر، المعقول واللامعقول...إلخ، ومن خلال الرؤية المقطعية نعتبرها وسائل مولّدة لتنمية النصّ وديناميته في المنظور الكتابي؛ لذلك نلاحظ أن الشاعرة وفاء مخلوف، تميل إلى الدلالة الإشارية وهي تشير بقلق إلى الفرح مثلا، وتشير إلى الوطن من خلال التشبيه، وكذلك استقرار التشبيه من خلال المعنى (صوب الجحيم)، هذه الوسائل تقودنا إلى التنافر بين الواقع الظاهري، والواقع الأوّلي، أي أنّ وجه المقارنة قائم بين مرحلتين من الزمنية.
حركة النص من خلال المكون الدلالي Semantic component
نأخذ المساحة الصالحة للعنوان وما تقدّمه الأنساق التواصلية بين الواقع الدلالي في النصّ، والعلاقة الدلالية مع خارج النصّ، أي أنّ المنظورين ومن خلال الجذب الدلالي يقوداننا إلى تناقضات في الحدث اليومي من جهة، وإلى النظرة الثاقبة للأشياء من جهة أخرى، فعوامل المعالجة وعدمها تؤدّي إلى تأثيرات في الحسّية الداخلية، لذلك نلاحظ ظهور اليومي على العامة، ومن هنا يكون النقل الحيّ من خلال التوظيف الشعري، هو الدلالة التي نبحث عنها في المعتقد الكتابي.
أعلن قلقي على البلاد
وعلى الإنسان في بلادي
بلادي التي انزوت كأرملة
في سواد
لتجهض في عدّتها حملا
من زيف التاريخ
ومستنقع الحاضر
فأحمل أنا عبء ماض وحاضر
ينزف حقيقة لن تقال ...
من قصيدة: إعلان
عندما نقول حركة النصّ، إذن نتجاوز الجمود النصّي، والحركة هي دلالة غير مستقرة بوتيرة المعنى، بل تتعدّى إلى اللغة وإلى الأفعال الحركية والتي تلازم النصّ وأي نصّ يمرّ أمامنا؛ ولكن موضوعنا يختلف قليلا بخصوصية الحركة، فالفعل الحركي الدال، هو مركز الانطلاقة، والذي يعتبر الدالة النصّية في النصّ أو في الجمل الشعرية التي تتعاقب الواحدة مع الأخرى.
أعلن قلقي على البلاد + وعلى الإنسان في بلادي + بلادي التي انزوت كأرملة + في سواد + لتجهض في عدّتها حملا + من زيف التاريخ + ومستنقع الحاضر + فأحمل أنا عبء ماض وحاضر + ينزف حقيقة لن تقال ...
لقد أكّد الباحث المصري الدكتور أحمد مختار بأنّه (هناك تحويل للدلالة من المعنى الكلّي إلى المعنى الجزئي)، وهنا يتطلب اللعب بالألفاظ والمراوغة، لذلك نلاحظ من خلال الرؤية المقطعية أنّ الشاعرة تبنّت هذا التغيير من خلال مفردة القلق، ولهذه المفردة خاصّية نفسية كما يؤكد ابن سينا: إنّ ما يميز التحليل الدلالي عند ابن سينا هو وقوفه على البعد النفسي والذهني اللذين يصاحبان العملية الدلالية.
فقد وزّعت الشاعرة السورية وفاء مخلوف قلقها بين البلاد والإنسان، وهذا يعني أنّ القلق الداخلي لديها أخرجته في التكوين النصّي، وهو المكون الدلالي الراقد في النفس الداخلية.
لم تكتف الشاعرة بالقلق، بل ذهبت إلى حالة التشبيه من خلال الاستعارة، فقد شبّهت البلاد كأرملة، وهو ليس بوصف، بقدر ما أخذت تميل إلى تعدّدية المسمّيات من خلال الذات الحقيقية، واعتبرت كلّ مسمّى حقيقة تواصلية للحدث اليومي.
لذا لن أقلق على الحقيقة
أو هو ليس بقلق
هو حزن من نوع مفجع
أو خوف من نوع مربك
لذا أعلن فجيعتي على بلادي
من قصيدة: إعلان
من المدلول الضيّق إلى المدلول الواسع يخرج النصّ، وتكون السببية هي النافذة في المنظور الكتابي، لذلك عندما تتبدّل المعاني، تتبدّل الدلالة، أي أنّ التغييرات مستمرّة بين نصّ ونصّ. ومن هنا يكون تعدّد المقاربات بين المعنى النصّي الداخلي، والمعاني الخارجية، أي أنّ الاستعارة تكون قد أخذت مساحة في النصّ، وخصوصاً تلك الاستعارة التصوّرية التي لا يستغني عنها شاعر.
لذا لن أقلق على الحقيقة + أو هو ليس بقلق + هو حزن من نوع مفجع + أو خوف من نوع مربك + لذا أعلن فجيعتي على بلادي
من خلال القلق العائم في النصّ، نلاحظ أنّ الخيبات والنكسات هي المقصودة في النصّ المكتوب، ومن هنا تحضر الدلالة القلقة أيضاً. فهناك علاقة مباشرة بين النصّ الشعري (النصّ الحتمي Imperative text)، وبين الحسّية الداخلية؛ ونلاحظ كذلك ما ذكره ابن سينا، حيث يميل إلى الوجود الذهني للعلامات اللغوية وارتسامها في النفس والخيال، عندما يكون راصداً للعملية الدلالية.
وعندما تؤكّد الشاعرة على القلق بخصوص الحقيقة، فإنّها تنتقل إلى أيقونة ثانية، أي أنّ القلق وليده الحزن، والحزن الصامت أقوى أنواع الحزن، فالموت هو المنتظر، إذن نستطيع أن نرسم عنونة أخرى للنصّ الدال للشاعرة السورية وفاء مخلوف وهو: القلق، والحزن، والموت في المنظور النصّي.
ويقودنا النصّ إلى الحسّ المأساوي، وهو الشعر المأساوي الذي يجعلنا معه في مساحة من المعرفة، تلك الدراية التي يعاني منها الآخر أيضاً، أي أنّ التحوّلات والولادات التي اعتمدتها الشاعرة، كانت على صيغة خطوط متوالية، فالقلق + الحزن + الفجيعة + الخوف = فجيعة البلاد. وفجيعة البلاد من فجيعة الفرد الذي يعاني بشكل يومي.
***
كتابة: علاء حمد – العراق
............................
بلا عنوان
عصف ريح بالطور الأخير
جلبة تهزّ سارية العمر
ارتحال قارب الوجه البشوش
مدينة.. تئنّ تحت أزيز الموت
وشاعر يرسم قصيدته.. أنثى
تغرق بالهزيع الأوّل
لشطر الشعر
سكون.. شحوب
مأساة بلد تغفو
على وقع
أقدام أطفالها الحفاة
*
بقايا علم يرفرف
ممزق الأطراف
تئن ساريته
بصدأ الحديد
صدى نشيد الأرض
غال في زاوية الجدار
بعض بقايا أصوات فرح
يقتلها الدوي
الوطن إشارة مرور
صوب الجحيم
نعق غراب فوق دم
الشهيد
**
إعلان
أعلن قلقي على البلاد
وعلى الإنسان في بلادي
بلادي التي انزوت كأرملة
في سواد
لتجهض في عدّتها حملا
من زيف التاريخ
ومستنقع الحاضر
فأحمل أنا عبء ماض وحاضر
ينزف حقيقة لن تقال ...
لذا لن أقلق على الحقيقة
أو هو ليس بقلق
هو حزن من نوع مفجع
أو خوف من نوع مربك
لذا أعلن فجيعتي على بلادي
***
وفاء مخلوف - سورية