دِراسةٌ نَقديَّةٌ لِمدوَّنةِ عَلي عُبَيد القِصصيَّةِ (لُغةٌ الأَرضِ)
مِهَادٌ تنظيريّ:
لا شكَّ أنَّ لكلِّ دراسةٍ ثقافيةٍ جادةٍ، مَفاهيمَها الخاصَّة والعامَّة في حركة التشغيل النقدي، ومن مفاهيم مركزيَّة التشغيل الثقافي الحداثوي بهذه الدراسة النقديَّة الخاصَّة مفهومانِ رئيسان ومهمَّانِ، الأوَّل، مفهوم (الأنساق) بقسميها الظاهر المتجلِّي، والمضمر الخَفي القريب والبعيد، والثاني، مفهوم (الثقافةُ) بشقيها العام والخاصّ الأدبي الواسع شعراً وسرداً. والَّلذانِ يُشكِّلان خزيناً معرفياً ثرَّاً، ومرجعاً ثقافياً واعداً يرفدان به شخصية الكاتب الإبداعية المنتجة في شتَّى ضروب ثقافة المعرفة.
ولِتقريبِ معنى هذين المفهومين المتلازمين، لا بُدَّ من التمييز المعرفي الابستمولوجي والكشف عن هُويَّة الآخر من هذه الأنساق الثقافية المرتبطة ارتباطاً وثيقاً بفقه لُغة اللِّسانيات عند رائدها دي سوسير، وبالمناهج النقديَّة الحديثة بنيويَّاً وسيميائيَّاً وأُسلوبياً وتفكيكياً على أساس نقدي ثقافي حداثوي، وليس على أساس تواتر النقد الأدبي التقليدي المعروف. هذا النقد الثقافي النسقي الجديد الذي أثَّثَ له ووضع مفاهيم أسسه في عالمنا العربي الناقد والمفكِّر الدِّكتور عبد الله الغذَّامي.
ومفهوم (النسقُ) في المناهج النقديَّة النسقية الحداثوية التي تهتمُّ بتمظهرات البنية الشكليَّة للنص، التركيب اللُّغوي يأتي في حدِّه مُقابلاً لمفهوم كلمة (النظامُ) العربيَّة، أو كلمة (سِستِمٌ) أو السِّستِمُ باللُّغة الإنكَليزية. ويُشير معناه إلى أنَّه نظام استقلالي قائم بذاته الوجودية، ويُشكِّل في تأسيسه الحدِّي كُلاً ذاتياً مُوحَّداً. ويشير في المعاجم الفلسفية كما يُعرِّفه أُستاذ الفلسفة مراد وهبة جبران صفحة (734) في كتابه الموسوم (المُعجم الفَلسفيّ)، النسق، بأنَّهُ "عبارة عن عناصر تترابط فيما بينها وتُحدِث فعلاً ما. هذه العناصر تتأثَّر بوجودها في النسق، وتتغيَّر بخروجها منه". فالترابط شرطها الأساس.
ثُمَّ يُضيف وهبة موضِّحاً بداية تكوين النسق من خلال تحديد الغاية منه وتحديد حدوده، ثُمَّ يتبعه التفكير في الأنسقة الفرعية الأخرى. وفي الوقت ذاته يُشير عبد الله الغذامي صفحة (80) في كتابه (النقدُ الثقافيُّ) إلى استخدام كلمة (النسقُ) مُجملاً في الخطاب العام والخاصِّ، ويشيع استخدامها في الكتابات كثيراً إلى درجة قد تُشوَّهُ دلالتها القصديَّة في هذه الكتابة التي انتشرت فيها. أي أنْ الغذامي بقدر ما هو فَرِحٌ بشيوعها وانتشارها السريع فإنَّه ينبِّه إلى سوء استخدامها غير الصحيح.
أمَّا مفهوم (الثقافةُ) التي يقصدها النُّقاد الحداثيون، ويتوخَّاها ما بعدهم في خطِّ الحداثة، فهي في نظرهم تقانةٌ فنيَّة من تقانات الممارسات الفعلية والفاعلية الدالة والمُعبِّرة التي تقوم على إجراء تطبيقٍ لمفاهيم التحليل النفسي والسلوكي المُختلفة . وعلى وفق ذلك فإنَّ عبد الله الغذامي قد اتَّخذ من مفهوم (النسق) مفتاحاً أساسيَّاً مركزيَّاً مهمَّاً لمشروعه الثقافي ولمصطلحاته النقديَّة الجديدة.
ويعدَّه في الوقت ذاته منتميَّاً أو ينتسب لمفهوم (الثقافة)، وهذا يشي بأنَّ النسق الثقافي هو المصطلح الجوهري البؤري الذي أقام عليه الغذامي أُسَ مشروعه التشغيلي النقدي الثقافي؛لذلك كان حريَّاً بنا من تحديد مفهوم حدِّ (الثقافة) ومعرفة دلالاتها وأبعادها القريبة والبعيدة؛ ليتسنى لنا معرفة المفهوم الكلِّي المُوَحْدَن لجملة مصطلح (النسقُ الثَّقافيُّ) الذي وضع أُسسه البنائية الغذامي في نقده الثقافي.
فهذه المفاهيم التعريفة لحدِّ مفهوم (النسق الثقافي) تُحيلُنا في هذه التوطئة المِهاديَّة التَّظيبرية إلى مفهوم (النقد الثقافي) عند الغذامي المُوئِل المؤسِّس الذي يسعى فيه كثيراًبقصدياته الثقافية وتنظيرات كتبه إلى الكشف عن مُضمرات النصّ الأدبيّ وبيان مُعمياته الغيبية الخفية، والقبض في حفريَّاته على لُقى جمراته الخفية خلفَ تَمظهرات الخطاب الأدبي الظاهر والعمل فعلياً على إبطال الخطاب المؤسساتي المُخدِّر لوعي القارئ وفكره. ومن ثُّمَّ الدعوة إلى الاهتمام بكل ما هو مستور ومهمَّش مُغيبٌ ومجهولٌ عن الأنظار، وكشف التعبير في سلوكيات الثقافة النسقية التي هي محطُّ أنظار واهتمام النقد الثقافي الحداثوي التي لم يلتفت إليها النقد الأدبي التقليدي المشهور في الإرث الأدبي.
مَنهجُ المُدوَّنةِ النَّقديةِ الثَّقافيّ
ومثلما أنَّ النقد الأدبي في رأي رولان بارت النقدي يُشبِهُ الثقافةَ، بل قد يكون مثابةً مضيئةً من مثابات الثقافة الساطعة، فإنَّ كلاً من الشعر والسرد يُمثِّلان جنساً من الأجناس الأدبية المتاحة، ونوعاً مميَّزاً من أنواعها الفريدة المتعدِّدة. ويمكن اعتبارهما مُعادلاً مُوضوعياً مُهمَّاً وراكزاً لمفهوم الثقافة العام ؛ لكونهما يمكن أنْ يَحُلَّا محلَّ الثقافة ويعملان عملهما المحوري في الخطاب الأدبي.
ومن خلال هذا التعالق الفكري المتَّحد بين مفهومي فضاء (الأدب والثقافة)، أي بين مِهماز الأنساق الثقافيَّة الشِّعريَّة، ومِهماز الأنساق الثقافية النصوصية الأدبية السردية نستطيع أنْ ننفذَ إلى مركزيَّة التشغيل السردي بتؤدةٍ وإلى محورها الثقافي في دراستنا النقدية التأمليَّة لِعِلي حُسين عُبيد القصصية الموسومة بلافتتها العنوانية (لُغةُ الأرضِ)، ونتقفَّى بوعيٍ آثار أنساق سردياتها الثقافية الخفية والمتجلِّية، ونجوس خِلالَ الدِّيارِفيها استقصاءً وتردُّداً وحراثة فكريةً وعمليةً بتقانة مسبار الحقيقة المستترة، وسونار غواص البحث عن الصدفات الباطنية الثمينة والعميقة الماكثة في النصِّ.
فغاياتنا النقديَّة عبر أثير مجسَّاتنا النقديَّة الكشف عن جذوة جمرات النصوص القصصيَّة الملتهبة، وتحديد تمظهرات المناطق العَيبيَّة المُستقبَحَة التي تقف بمثاباتها الشامخة القَصِيَّةِ البعيدة، وربَّما القريبة خلفَ جماليات النصِّ السردي بأقنعتها الرمزية المُزيَّفة الظاهرة التي تُعطيك بموحياتها المتجلِّية من طَرف السواتر النصيَّة حَلاوةً وجمالاً نسقياً أدبياً آسراً لذائقة المتلقِّي العادي غيرالناقد.
ومن الخَطلِ جدَّاً أنْ ننظرَ إلى ظواهر النصِّ على أنَّها جواهر، مُستبدلينَ الجيمَ هاءً، والهاءَ جِيماً، وأن نكتفي بها دون أن نتعمَّقَ في مكنونات بواطنها الداخلية المغيَّبة الحقيقية؛ لأن العلاقة الخطية بين الظواهر والجواهر النصيَّة عَلاقة تضليليةٌ مُخدِّرةٌ لا تنمُّ عن صدق حقائق المكنونات وجواهرها النفسية المؤثِّرة الأصيلة؛ بل قد تُعطيك مؤشِّراً حقيقياً سلبيَّاً راسخاً في وجوديته الثابتة. هكذا تبدو مظاهر القصِّ السردي، لم تكنْ دائماً مرآة صدقٍ عاكسةً لحقيقة راهن عقابيل الواقع الجوهرية.قد تكون الظواهر النصيَّة الشكليَّة جميلةً للقارئ؛ لكنْ في بواطنها الخفيَّة المستترةِ فَاسدةً.
هَندسةُ مِعماريَّةِ المُدوَّنةِ القِصصيَّةِ
(لُغةُ الأرضِ)، هذه المُدوَّنة القصصية الطويلة الدالة على بسالة عتبتها العنوانية الفنيَّة الانزياحيَّة المؤنسنة غير المألوفة في تركيب بنيتها اللُّغويَّة للقارئ، والتي أنتجها القاصُّ والروائيّ الكاتب العراقي المثابر عليّ حُسين عُبيد. وهي المجموعة القصصيَّة الفائزة بجائزة الطيِّب صالح العالميَّة للقصَّة، الدورة التاسعة (2018)، والصادرة بطبعتها الأولى عام (2021م) عن دار الفؤاد للنشر والتوزيع بمصرَ، وبحجم نوعي وكمي من القطع الورقي المتوسِّط والذي بلغ نحو (148) صفحةً.
وقد احتوت طياتها القصصية على أربعة عشر نصَّاً قصصياً طويلاً في سمت تسريده الحكائي الفنِّي، وجاء خطابها التسريدي النصِّي متنوِّعاً في وحداته الموضوعية، ومتجدِّداً في أفكاره القصصية الماتعة. وقد مازج الكاتب فيها بين العنوانات الفنيَّة الآسرة، والكاسرة لأفق توقُّ القارئ والمتلقي، وبين العنوانات التقريرية الحِسيَّة المُباشرة في التلقي دونَ عناء أو نَصَبٍ في فهمها وعُسرٍ في تفسيرها وتأويلها. وقد أنصف القاصُّ والرائيّ علي حُسين عُبيد بعدالةٍ موضوعيةٍ وحيادية ثابتة بين جماليات عنواناتها الانزياحية الفنيِّة والتلقائية المباشرة، فكانت الحصيلة الإنتاجية لكلتا الفئتين سبعة عنواناتٍ لكلِّ صنفٍ من قصص الفئتين المتعادلتين في التناظر العددي والنوعي.
والقارئ النابه المُتتبع بخطىً نقديةٍ وفكريةٍ واعيةٍ لمحتويات نصوص هذه المجموعة القصصية الموضوعية المتعدِّدة تميُّزاً بثراء فكرها، وإيقاع أسلوبها التعبيري الفني المتوهّج إشراقاً وإضاءة، سيلتفتْ إلى نقطةٍ ضوئيةٍ جوهريَّةٍ محوريَّةٍ مُهمَّةٍ، وهي أنَّ المعادل الموضوعي والقاسم الفنِّي المشترك بين أفكار أو موضوعات المدوَّنة الأربع عشرة قصةً هو في جميع الحالات نسقٌ غيابي سحيقٌ بعيدٌ جداً واحدٌ، هو النسق (الإنساني) المضمر أو الخفي المستور خلف الحقيقة البعيدة. والذي يمكن أنْ نسمِّيه بشكل آخر نسق (الجامعة الإنسانية) الثقافي الذي هو نسق ثنائية (الحَربُ والسِّلمُ) .
وأنَّ أغلب ما يطرحه القاصُّ في سرديَّاته من حكاياتٍ قصصيَّة حقيقيةٍ أمْ مخياليةٍ ذي صبغةٍ عجائبيةٍ أُسطوريةٍ من رحم مُتبنَّيات وإسقاطات الواقع المعيش، هي تُمثِّل في بنيتها الشكلية النسق الثقافي القريب الظاهر الذي يتلقاه القارئ وجهاً لوجهٍ، ويفهمه بوضوح مباشر من مثابات واقعة النص الحدثية الموضوعية، وليس هو الخفي العميق المستتر الغائر البُعد في مكامنه القصديَّة.
أمَّا الذي يتوَّخَّاه الكاتب في مراميه الشريفة ومقصدياته الفكرية البعيدة المُضمرة، فهو السرُّ النسقي المنشود والغاية الذاتية العظمى لموحيات النسق الثقافي المضمر في فضح وقع وأسرار جماليات النصِّ المَعيبَة الشائنة، والرجعية المُستقبحة الباطنة التي يتخفَّى وراءها القاصُّ الرائيّ ويتقنَّع خلفها بقناع النصِّ الخفي بعيداً عن فلسفة مظاهرها الصوريَّة وأشكالها اللغويَّة المُباشرة.
ولعلَّ اللَّافت والمهمَّ في آليات النصِّ الحكائي لمجموعة (لُغةُ الأرضِ) الإنتاجية لا تظهر سماتها النسقية الإنسانية محصورةً بمفهومها الصريح الواضح (الجامعة الإنسانيَّة)، لقد تجاوزها إلى أوسع من ذلك إلى المعاني والدِّلالات في الألفاظ الأُخرى المجاورة التي تُشير مُوحيات رصها الرمزية المضمرة بتكثيفاتها اللُّغوية الملتقطة إلى المهمَّشين من الناس والمجهولين والمغيَّبين وقد يصحب ذلك التقطير المقموعونَ والمَسكوت عنهم بقصد أو غير قصدٍ في اليوتوبيا المثالية لمدينة القصِّ السردية الفاضلة، أو في ضدها عالم الديستوبيا لكل أشكال الرفض والاحتجاج والمناهضة والكفاح الثوري ضد طوارق الاستبداد والألم والمعاناة والظلم التي يستمدَّه الكاتب في فلسفته الإبداعية من الطوباوية المخياليَّة القصصية لمثابات واقع الراهن المعيش الذي لا يخلو من فضاء سحر الواقعية.
فكلُّ قصص هذه النتاجات السرديَّة ذات الأنساق الثقافية الإنسانية هي في الحقيقة أشكال ثقافةٍ ما مُعبِّرةٌ، ودالة على وقع مضانها الفكرية المتراتبة مثلما هي في المقابل الدلالي أشكال معانٍ إنسانيةٍ هادفةِ ما.ويصحب شكل ذلك التقطير اللِّساني الثقافي القريب تقطيرٌ إنسانيٌّ بعيدٌ، والَّذي من ماهيته الأُسلوبية الفنيَّة (التكثثيف والرمز والإيحاء والإيهام والإبهام والإضمار والاستتار) . وربَّما يكون الغموض المُبهم المقصود من صفاته الفنيَّة ورؤاه الفلسفية الفكرية والعقائدية الثوريَّة المُلحَّة.
عَتبَاتُ المدوَّنةِ القِصصيَّةِ
لقد دَرَجَتْ كُلُّ المدوَّنات الأدبيَّة والنصوص القصصيَّة بكلِّ ضروبها الإنشائية قاطبةً أنْ يكون لها في واقع الحال الإنتاجي عتبةٌ عنوانيَّةٌ ماثلةٌ هي بمثابة بوابة الدخول الأولى، أو نافذة المرور الضوئية الرشيدة والراشدة إلى مدينة الشعر أو السرد الفاضلة. وهي في الوقت نفسه تُعدُّ هالة النص الفناريَّة الرئيسة المُوازية لمرافئ النصِّ الضوئية الداخلية الفرعية الأخرى ولمحطاته، وبها يَستدِلُ القارئ على فكرة الخطاب النصِّي ويَستنطق منها دلالته المعرفيَّة المُضمرة والظاهرية.
ذلك كون العنونة تُشكِّلُ عنصراً وظيفياً مهمَّاً من عناصر الإدهاش وآليات التلقِّي القرائي. حيثُ ترصد العلاقة الخطيَّة المباشرة بين موضوعة الحدث ونهايته من طرف،وتجلِّياته منه طرف آخر. ولتأكيد ضرورة هذه المُتبنيَّات المعرفية والآراء النقديَّة، فإنَّ العنونة أو العتبات العنوانية قد تضيف بُعداً جمالياً ودلالياً جديداً إلى النصوص القصصية. وقد تكون هذه العنونة علامةً سيميائيةً وأيقونيةً وخلاصةً تفرديةً إيحائيةً تكثيفيةً كاشفةً لمسار القص وتوجُّهاته السردية المتفاوتة في المتن؛ لذا فإنَّ العنونة تكون علامة دالةً على جنس المحتوى القصصي القصير أو العمل الرِّوائيِّ الواسع الكبير.
لقد أخذنا بتأمُّلٍ من المفكِّر والناقد الفرنسي الكبير جيرار جينيت، بأنَّ لكلِّ نصٍّ أدبيٍّ له عتباته النصيَّة الأخرى، وله وظائفه العنوانية النوعية المتعدِّدة التي تميِّزه عن سواه من العنوانات أو العتبات الإنتاجية المتناظرة له. وحين نمعن النظر جليَّاً في طيَّات مجموعة الكاتب والقاص والرِّوائي العراقيّ علي حسين عُبيد القصصية (لُغة الأرض) المتعدِّدة لُغاتها السردية الأرضية بدوالِ كل عنونةٍ أرضيةٍ منها، لا نجد لها عتباتٍ (جينتية) أخرى تتصدَّرها غير ما هو ظاهر من فيها عتبة النصِّ العنوانية الرئيسة،وعتبات نظائرها النصوص القصصية الفرعية الداخلية للمدوَّنه.
وحتَّى صفحة (الإهداء) التي تتصدَّر المجموعة جاءت فارغةً بنقاطٍ بيانيَّةٍ بياضيَّةٍ خاليةً من بيانات المُهدَى إليه، وليس هناك من بياناتٍ أُخرى تُذكر، ولا حتَّى من أيِّ تصديراتٍ أو تناصَّاتٍ قوليَّةٍ نصيَّةٍ أُخرى تعضد فكرة المدوَّنة. وربَّما كانت فكرةً ذكيةً إلماحيةً من إبداع ووعي الكاتب أحال تتمتها إلى المتلقِّي أو القارئ ليضعَ اِسماً مُعيَّناً ما لرمزيَّة المُهدَى إليه الذي ربَّما هو الإنسان الرمز أو بنو آدم النسق الخفي المضمر في لغات أرض هذه المجموعة القصصية الذي كرَّمه الله عن بقية مخلوقاته الكونية المتعدِّدة بالعقل الراجح والفكر الواعي الثاقب واللِّسان اللَّفظي الحافظ.
ولكنَّ اللَّافت للنظر جدَّاً في هذه المدوَّنة الإنسانية الشائقة الفكر ومحتوى الموضوع (لُغةُ الأرض)، هو أنَّها تزيَّنت أو وُشِمَتْ بعبارةٍ تَذكِرةٍ خطيَّةٍ تُخبِرُ متلقيها بأنها (المجموعة القصصية الفائزة بجائزة الطيِّب صالح[الدَّولية]،الدورة التاسعة (2018) ) ؛لكي تكونَ هي الأيقونة التصديريَّة المُتفرِّدة لعتبات النصِّ السردي الأخرى، والتي تؤدِّي وظائفها الإنتاجية الدالة على أنساقها الثقافية المتعدِّدة.
وحين نستقصي البحث والتحليل والتعليل والتفسير في الكشف عن مُضمرات المعنى الدلالي والنسقي الثقافي القريب والبعيد لعبارة (لغةُ الأرض) العنوانية الرئيسة الماثلة على صفحة لوحة الغلاف الأول من المجموعة القِصصية ذاتها،؛ فسنجدُ لمعناها الانزياحي المؤنسن تفسيرينِ كاشفينِ لشفرتها اللُّغوية لا ثالث وسيط بينهما إلَّا القارئ النابه (الناقد) لممحتوياتها البيانية الثرة والمُبهرة.
فالأوَّل، يكمن في المعنى الدلالي القريب لكلمة (لُغة) الدالة على الرموز الصوتية، والتي وضع لها ابن جني من قُدَامى اللُّغويين تعريفاً يقترب من تعريفات نقَّادنا المحدثينَ، فقال: "أمَّا حدُّها فإنَّها أصواتٌ يُعبِّر بها كلُّ قومٍ عن أغراضِهم". إذن هي أصوات لُغوية مُعبِّرة أُسندت إلى المضاف أليه كلمة (الأرض) الثابتة من الجوامد غير الناطقة، فَاُستُنطِقَتْ وَأُنْسِنَتْ وأصبحت إنساناً كائناً حيوياً، له لُغته التُّرجمانيَّة المُعبِّرة عن أغراضه الحياتية، وأيُّ لُغةٍ مثل هذه اللُّغة الجامعة.
وأمَّا التفسير الثاني فهو المعنى الدلالي الخفي البعيد والذي هو مَناط التفسير والتحليل النقدي المُتعدِّد للنسق الثقافي المُغلق بحجاب الحقيقة النسقية هو (لغةُ الأرضِ)، لغةُ ثنائية المتضاداتِ (الحربُ والسَّلامُ)، (الحبُّ والفصامُ)، (الخيرُ والانتقام)، والرفضُ والقبولُ)،و (القاتل والمُقتولُ) .هي لغة الإنسان الفاعلة ابن هذه الأرض البار، ووليدها المعمِّر الإيجابي الغالب وعدوِّها المُدمِّر السِّلبي الضارب، والباني لعرش دولتها الكونية ورمزيتها الثقافية في هذا الوجود الإنساني الواسع الفضاء.
والأرض هي الأُمُّ، وهي الوطنُ الأسمى، وحبُّ الحبيب المألوف الأول الأوفى، ومنبت العشق الإنساني الرافض لديستوبيا كلَّ أشكال الظُّلم والفوضى والخراب والدمار والفساد الذي يُهدِّد بالموت والزوال والتلاشي. فلولا الإنسان صنيعها لِمَا ازدهرت الأرضُ، ولولا الأرض لما تكلَّم الإنسان معرباً بها عن مقصدياته؛ فهي امتناع حقيقي لوجود، ووجود لامتناع لا يحدث إلَّا بها.
فالعلاقة الخطيَّة النسقيَّة المغشيَّة بينهما علاقة عشقٍ إنسانية، وصرخةٌ مُتوحدنةٌ ترفض لغة الذُّل والتحقير والتصغير والامتهان؛ وتعشق لُغة الحُبِّ والتكريم والتبجيل والإباء والإحسان؛لذلك أحسن القاصُّ علي حسين عُبيد مُهمَّة تشييد مِعمارها البنائي التركيبي واختيار صرحها العنواني الرئيسِ.
وفي واقع الأمر أنَّ لافتة (لغةُ الأرضِ)، هي إحدى عتبات النصِّ الموازي وهالته السحريَّة الوامضة، وقصةٌ فرعيَّة من قصصه النصيَّة الداخليَّة؛ بيدَ أنَّ الكاتب علي حسين عُبيد قد اتَّخذها عتبةً عنوانيةً أوليَّةً رئيسة لهذه المجموعة القصصيَّة. وذلك من باب نافلة التغليب والتميُّز والفرادة والتَّحبيب بإطلاقِ اسمِ الجزء الفرعي الثانوي على الكُلِّي القصصي العنواني الرئيسِ التصديري.
ومن موحيات هذه العنونة الكليَّة المُتفرِّدة في جمالية استنطاق نسغها الروحي واللُّغوي الألسني الإنساني، أنَّ القاصّ عُبيد قد أراد من هذه العتبة العنوانية أنْ تكون مثابةً نسقيةً واعدةً، ودالةً سيمائية إشاريةً مضيئةً لامعةً من مثابات النقد الثقافي تَصلحُ أنْ تكون هي المعادل الموضوعي الإنساني الناطق بصوت الحقِّ المدوِّي بالإنابة عن كلِّ حكايات القصصِّ وأفكارها الموضوعية التي زخرت بها محتويات هذه المدونة القصصية التي يمكن أنْ نطلق عليها مدوَّنَةَ (حَربٍ وسَلامٍ) .
تطبيقاتٌ قصصيَّةٌ لأنساق المدوَّنةِ الثقافيَّةِ
1- (لُغةُ الارضِ):
من أواخر نصوص هذه المدوَّنة القصصيَّة نصُّ قصَّةِ (لغةُ الأرض)، والتي هي رسالة خيرٍ ومحبةٍ وسلام من الأجداد والآباء الأولينَ إلى الأبناء والأحفاد الآخرينَ، وهي أيضاً رسالة أمانٌ وتحذيٌ لهم وللإنسانية. وقد كتبها القاصُّ الفذ علي حسين عُبيد بأُسلوبٍ تعبيري سرديّ فنتازي وعجائبي غرائبيٍّ مخياليٍّ لا يخلو من تأثيرات الواقع وتهويماته السحريَّة التي فيه الكثير من الرهان الواقعي المرير الذي يُعاني منه الأبناء من بني الإنسان في ترميم وصيانة حياتهم الشخصية وعُمارة أرضهم الدنيوية من دنس شرِّ العوارض الظاهريَّة وطوارئ المخاطر الخفيَّة المُحدِقَة.
ولنقرأ بعضاً من أحداث هذه القصّة الشائقة التي جسَّد فيها الرائي وحدة حضورية الزمكان والشخصيات الفاعلية المتصارعة والأحداث الفعلية القائمة من عناصر الفنِّ القصصي، وعقدة حركة الصراع الدائر بين قطبي الخير والشرِّمن أنساق ثقافة الظاهر والمضمر تجسيداً سرديَّاً حيَّاً:
"عَمَلَ سَلُام بِنصيحةِ أُمِّهِ وسَافرَ إِلى الرِّيفِ وَعَادَ بِالفلَّاحِ مِنْ قَريةِ أَجدادِهِ، قَريةٌ اسمُها (أُمُّ الرُّمانِ)، لَمْ يُمانعْ (خِنيابُ) فِي المَجِيءِ مَعَ سَلَامٍ بِمجردِ عَرِفَ أنَّهُ اِبنَ صَديقهِ (جَميلُ)، غَيَّرَ مَلابسَهُ عَلَى الفَورِ وَصَحبَهُ إلى المَدينةِ، لَمْ يَندهشْ الفلَّاحُ عِندَمَا لَاحظَ بَقايَا الأمراضِ وَهيَ تَعيثُ فَسَاداً بِالتُّرابِ وَتَكسوهُ بِاللَّونِ الأحمرِ، كَانَ يَعرِفَ بِفُطرتهِ وَحِكمتِهِ أنَّ هذهِ الأرضَ تُعانِي مِنْ عِلَلٍ مُتراكمَةٍ، وَمَعَ أنَّهُ يَتمَتَّعُ بِثقةٍ عَاليةٍ بِنفسهِ وقُدرتهُ عَلَى تَطبيبِها، إلَّا أنَّ هَذَا وَحدَهُ لَا يَكفِي، لِأنَّ الحَلَّ المُكَمِّلَ لِجهودِهِ عِندَ أهلَ الأرضِ وَحدَهُم وَقدْ أَخبرَهُم بِذَلِكَ". (لُغةُ الأرضِ، ص 122، 123) .
أراد القاصُّ أنْ يوجِّه رسالةً ظاهريةً إلى المتلقِّي مَفادُها أنَّ هذه الأرض التي أصابها المرض المفاجئ بفعل فاعلٍ مؤثِّرٍ، هي الوطن الأصل أو دولة الإنسان التي يحيا بها، ويعتاش عليها نسباً. وأنَّ هذا لفلاَّح الملَّقب بـ (طبيب الأرضِ) هو المُصلح والفاعل الظاهر الذي شخَّصَ لها الدواء من الداء الذي أضمره الإنسان لأخيه الإنسان قصداً عبر عقود متواليةٍ من الزمن، وإنَّ الحلَّ السحري يكمن بيده إنْ أراد التخلُّص والتحرُّر من ذلك الوباءِ القذر المُهلك الذي يكمن تحت جلود باطن الأرض.وليس من وسيلةٍ سوى التخلُّص منه واجتثاثه وقطعه نهائياً؛ للحصول على راحةٍ وأمانٍ:
"اِرمِ هَذَا المَرَضَ الخَبيثَ بَعيداً عَنْ بَيتِكَ وَأرضِكَ.أنهَى الفَلَّاحُ عَمَلَهُ وَغَادرَ إِلى قَريتِهِ، وَمُنذُ ذَلكَ اليَومِ بَدَأَ لَون ُالطِّينِ يَتغيَّرُ فِي حَديقةِ البَيتِ والحَدائقِ المُجاورةِ لها، وَشَرَعَ الاِحمرارُ الَّذِي أصابَ التُّربةَ يَضمحلُّ بِالتدريجِ، وبَدأتْ بَعضُ الأشجارِ تَنمُو بِإصرارٍ غَريبٍ. وَثمَّةَ نَخلَاتٌ جَميلاتٌ بدأْنَ يُحلقْنَ بِضفائرِهُنُّ في فَناءِ الدَّارِ الأَمامِي، وَأشجارٌ أُخرَى مِنَ الرُّمَّانِ والأعنابِ أَخذَتْ جُذورُهَا تَشقُّ طَريقَهَا فِي التُّربَةِ الجَديدةِ، لَوَّنَ بَعضُ الزُّهورِ والوَرودُ أَرضَ الحَديقةِ". (لُغةُ الأرضِ، ص 125) .
هكذا يمضي الكاتب في وضع أنساق الداء الظاهر والدواء الخفي الساتر من خلال تلافيف هذه الأرض الأمِّ التي تحكي وتنطق وتشكو ما أصابها من خراب وفسادٍ ودمارٍ عاث بها ردحاً طويلاً من توالي عتبات الزمن. إنَّها دولة الإنسان الحاكم مع رعيته من الإنسان المحكوم، وأثر قمع الظالم للمظلوم. فلا بدَّ أن يستجيب القدر للسواد الأعظم المظلوم من ظلم هذا القاهر المضمر المُستتر.
ولعلَّ الرسالة الختامية التي قدَّمها الكاتب في خواتيم قصته الكونية هذه، كانت رسالةً سلمٍ لا حربٍ طلبيةٍ صريحةٍ ومؤثِّرةٍ للباقين منهم. فهي في حقيقة الأمر رسالة تحذير ظاهر للإنسان الحاضر من عدوِّه الخفي المستتر المقنّع القاهر الذي عانى منه الراحلون من بني جنسه البشر:
"تَجَنبُوا الحُرُوبَ الَّتِي عَانَى مِنهَا الرَّاحِلُونَ". (لغة الأرض، ص 126) في مسيرة حياتهم دون حسابٍ لها نتيجة غفلة عدم يقظتهم. وهذه العبارة الختامية هي إحدى الأوراق الدفينة التي تركها الراحلون من السلف الأول إلى أخلافهم الشباب من الباقين؛ لتكون وثقةَ عهدٍ ووصيةَ سلامٍ وتنبيهٍ لهم من رسائل تاريخ الآباء التي حفظتها بواطن الأرض في رحمها الدافئ الدفين، ونقلتها إليهم ظاهراً من آبائهم السابقين؛ لكيلا يقعوا في الأخطاء التي وقعوا فيها ودفعوا ثمنها باهضاً عبر تساير الزمن.
ونفهم من شفرات هذه الرسائل التي رفعها الكاتب القاصُّ إلى قارئه النابه الفهيمِ أنَّ الأنساق الأرضية القديمة على الرغم من كون ظاهرها التراسلي جميلاً،؛ فإنَّ مُضمرها المخفي المستور فاسدٌ وقميءٌ قبيح. لذلك كانت بلاغة الأرض جمالياتُ لغتَها البيانية الناطقة بالحقِّ في محاربة نوايا الفاسدين الآمرين به سلوكاً ومنهجاً فعلياً لا يَرضي الخيِّرينَ من أبناء هذه الأرض الخيِّرة المعطاء.
2- (رَجلٌ يَعِدُ نَفسَهُ لِلرَحيلِ):
ومن بين القصص المهمَّة ذات الطابع الإنساني والاجتماعي الأُسري الجيِّد قصة (رجلٌ يعدُّ نفسَه لِلرحيلِ) . وتتلخص حكايتها الموضوعية بقصة شابٍ عنيدٍ أراد أنْ يذهبَ مساءً إلى مزرعةٍ في أعماق الصحراء المُقفرة المترامية الأطراف؛ لجلب الماء والخضرة وزيارة صديقه البدوي الذي يسكن في أطراف هذه الصحراء الموحشة، بيدَ أنَّه ذهب ولم يعدْ؛ نتيجة عناده وفشله الفكري وسوء تدبيره العقلي، وتدليله الأُسري المبالغ فيه كثيراً عن اللَّازم. فضلاً عن عدم الشعور بالمسؤولية؛ بسبب إهمال الأهل في تشديد الرقابة الأوليَّة عليه.ومثل هذا السلوك الفعلي الطائش قد رافقَ مسيرة حياته اليوميَّة؛ نتيجة سوء تصرفاته المراهقية القلقة التي أودت به إلى التهلكة الذاتية والخسران:
"فِي دَقائقَ اِختفَى أمجدُ فِي رِحابِ الصَّحراءِ، كَانَ الوَقتُ عَصرَاً، نَادَى خَلفَهُ أبوهُ:- يُوجدُ لَدينَا مَا يَكفينَا مِنَ الغِذاءِ والمَاءِ، لَا تَقتُلُ نَفسَكَ وَتَقتُلُنِي. ثُمَّ رَكضَ أبوهُ خَلفَهُ صَارِخاً مُتوعِّداً مِنْ دُونِ جَدوَى، غَابَ أمجدُ بَينَ كُثبانِ الرِّمالِ، بَعدَ حِينٍ عَادَ الأبُّ وَحدَهُ خَافِضَاً رَأسَهُ نَحوَ الأرض يَهُزُّ يَدَهُ فِي الهَواءِ آسفَاً مَقهُوراً، سَأَلَهُ أحدُهُم : -هَلْ حَقَّاً رَافقَ اِبنِكَ بَعضُ أَصدقائِهِ؟ - لَمْ أرَ أحَدَاً سِوَى الصَحراءِ الوَاسعةِ، كَأنَّ الأرضَ اِنشقتْ وَبَلعَتهُ". (لُغةُ الأرضِ، ص 40) .
إنَّ بيانات الحكاية القصصية تخبر ظاهرياً عن نسق فكرتها الإنسانية الخيَّرة التي من أجلها دفع الشاب العنيد أمجد حياته ثمناً للحصول على مبتغاه وهدفة المنشود الذي شدَّ الرحال إليه غير مبالٍ أو مكترثٍ لما يحدث له من مهالك أو مخاطر وحوش خارجية تواجهه في سير رحلته الصحراويَّة.
غير أنَّ النسق الخفي المستتر الذي يكمن وراء سير هذه الرحلة الصحراويَّة هو إهمال الآباء وتقصيرهم في التربية حيال الأبناء، وفشلهم في الحدِّ من فعل تصرفاتهم وسلوكياتهم النفسية غير الصحيحة المندفعة كثيراً وراء رغباتهم المضطربة؛ نتيجة تلبية كلِّ طلباتهم السلبية والإيجابية دون حسابٍ أو تخَطيطٍ أو فهم مَدروسٍ لحصيلة النتائج الكارثية الوخيمة التي تحصل لهم بسبب عنادهم الكبير؛ كونهم ينعمون صِغاراً منذ نعومة أظفارهم بحياة فائضة عن حاجاتهم اليومية المتزايدة.
الأمر السلبي الذي دفع أحد الرجال من أصحاب والد أمجد الرجل المسن الكبير عن سبب هذا العناد والفوضى غير النظامية التي رافقت حياة ابنه أمجد نسقاً يوميَّاً وحياتياً خفيَّاً غير معروف للآخرين إلَّا من قبل أُمِّه وأبيه الرجل الكبير العجوز.وهذا ما صرَّح به أبوه لأصدقائه مُخبِرَاً عنه:
"- مُنذ مَتَى تُلازمهُ نَوباتُ العَنَادِ؟ - مُنذُ أنْ وَلدتُهُ أُمُّهُ.- كَانَ عَليكَ أَنْ تُرَبِّيهُ عَلَى مَصاعبِ الحَياةِ وَلَا تُبالغُ فِي تَدليلهِ. - لَمْ يَكُنْ الأَمرُ بِيدِي أُمُّهُ عَلَّمتهُ عَلَى الدَّلالِ وَكَبُرَ العَنادُ مَعَهُ. كُنتُ أُفكِرُ بِطريقةٍ مَا كَي أُخبرُهُ بِرحيلِ اِبنِهِ، خَاصَّةً إنَّنَا نَقتربُ مِنْ زِريبتِنَا، قُلتُ لَهُ: - فِي كُلِّ الأحوَالِ هَذَا لَا يُعفيكَ مِنْ مَسؤوليَّة التَّربيةِ، عَلينَا أَنْ نُصحِّحَ أَخطَاءَ أَولادِنَا". (لُغةُ الأرضِ، ص 48) .
إذن الإهمال والتهميش واللَّامبالاة في تلقي التربية الصحيحة واللَّا التزام بالمسؤولية التي تحدُّ من الأنساق الخفيَّة المؤدِّية إلى الفشل الذريع الذي هو سبب هذا النكوص والانكسار والوجع والألم الذي يفتك بالإنسانية. فإذ كان الطموح وتحقيق الآمال والرغائب الذاتية هو النسق الثقافي الجميل الظاهر لبطل هذه القصة السادر في غَيِّهِ، فإنَّ عاقبة النسق الآخر الغائر المسكوت عنه،هو السقوط الحتمي والموت البطيء القاهر للذات الإنسانية المعذّبة. فكانت خاتمة الواقعة الحدثية الفجائية خيرَ جواب مُعبِّرٍ عن تساؤل الأبِّ الرجل الكبير المُسنِّ الآثر،"هَلْ مَاتَ اِبنِي؟". (لُغةُ الأرضِ، ص 48).
ومثل هذا السلوك الفردي السادر في الغَيِّ والجهل والعناد يدفع ثمنه الباهض الآباء؛ نتيجة كثرة أخطائهم أكثر مما يقع فعله المشين على الأبناء أنفسهم. فالغفلة والتراخي واللَّا جدوى من صفات هذا النسق الغادر؛ لذلك كانت رسائل القاصِّ عُبيد الظاهرة المُتجلِّية والباطنة المُتخفية علامةً فارقةً ومضيئةً من علامات تحطيم هذا النسق الثقافي السائد والمُتهالك، واستبدال عَطَبِهِ بأنساقٍ إنسانيَّةٍ جديدةٍ تُناسب واقعة الحدث الموضوعية وتَصبُّ في خُطى وحدتها الكُليَّة التي تجعلها تعيش بسلام.
3- (مَنحوتَةُ العِشقِ):
قصةُ (منحوتةُ العشقِ) الدالة لافتة عتبتها العنوانية اللَّفظية على مضان واقعة الحدث الموضوعية
القصصية. هذه القصَّة ذات المغزى العاطفي الإنساني والجمالي العشقي الروحي ينقلنا علي حسين عُبيد في تسريداته الحكائية وأنساقه القصصية الطويلة الظاهريَّة المتجلَّية إلى جماليات مثابات الريف العراقي الأصيل، وإلى طبيعة أجوائه البهيَّة النقيَّة الساحرة تكويناً طبيعياً ثابتاً ومتحرِّكاً.
وليس بواقعة هذا الحدث الإنساني الاجتماعي المتواتر يكتفي الكاتب فحسب، بل يسرد لنا بلغته الفنية التعبيرية الشفيفة والماتعة اللَّطيفة حكايةَ فتاةٍ قرويَّةٍ فُراتيةٍ تدعى (زَكِيَّةُ)، إحدى شخصيات هذه القصة مناصفةً مع مثيلها الشاب البطل. هذه الفتاة الجميلة التي تُشبهُ المنحوتة الفرعونية للملكة (نِفر تيتي) في روعة جمالها وقوامها وهيأتها الشكليَّة، فضلاً عن سلوكياتها الآسرة. ويعدُها الكاتب علي حسين عُبيد مثالاً حيَّاً واعداً وأُنموذجاً رائعاً للمرأة الحقيقية المثقَّفة الواعية،والقارئة والرَّسَّامة المُبهرة، والفنانة المُبدعة المُثابرة في عملها الفنِّي والاجتماعي اللَّافت لأنظار الآخرين من الوِعاة:
"يَا لَهَاَ مِنْ مَلكةٍ! عَينَاها حَضارتَانِ، أوْ تَجمعُ بَينَ حَضارتَينِ، حَضارةُ الفَراعنةِ، وَحَضارةُ الرَّافدينِ". (لغة الأرضِ)، ص 65) . إنها نِفَر تيتي العراقية الريفية الحديثة العهد والقديمة الأثر تأصيلاً.
اِلتقتْ هذه الفتاة النموذجية في قعر مزرعتها القرويَّة الهادئة والخاصَّة بعائلتها بأحد الشاب يُماثلها في تلاقي الأفكار والميول والثقافات وتطابقاً في السلوك والاهتمامات الفكرية والجمالية التي يبحث عنها في أمانيه الحُلُمية وتطلعاته الشخصية الذاتية التي قلما نجدها في امرأةٍ من المدينة. فكيفَ إذا كان هذا النسق الفنِّي الجمالي الظاهر اللَّافت موجوداً في فضاءات مثابات الريف المكانية الجميلة:
"يَتهَادَى أَمامَ بَاصِرَتِي جَسَدٌ أَهيفُ، فَتاةٌ تَضعُ عَلَى كَتفِهَا قِربَةَ مَاءٍ مِنَ المَعدَنِ، وَتَمضِي بِغَنَجٍ عَفويٍّ صَوبَ ضِفةِ النَّهرِ، لِتَجلُبَ المَاءَ وَحدَهَا، تَتَهَادَى بَينَ ظِلالِ الأشجَارِ، تَشُدُّ وَسَطَهَا بِحزَامٍ أسودَ مُزركشٍ، قدُّهَا يَتمايلُ كَغُصنِ رُمَّانٍ، وَجهُهَا دَائريٌّ مُشرقٌ، نَاصعُ البَياضِ، أَجلسُ عَلَى جَانبِي الطَّريقِ، أوْ الأصَحُّ أتَّخفَّى خَلفَ شَجَرَةٍ كَثيفَةٍ، أَنتظرُ عَودةَ زَكيَّةَ مِنَ النَّهرِ، أُريدُ فَقَطْ أَنْ أَرَى تَقاطيعَ جَسدِهَا، وَهَلْ يُشبِهُ رُوحَهَا الَّتي رأَيتُها مَرسومَةً فِي عَينِي أُمِّي، عَادَتْ زَكيةُ كَأنَّها تَمشِي عَلَى مَاءِ بُحيرةٍ سَاكِنٍ...". (لُغةُ الأرضِ، ص 62) . حقَّاً إنَّها الملكة الفرعونية التي فُتِنَ بِها سابقاً.
هذه هي المواصفات الحقيقية التي رسمها القاصُّ الحاذق في فنيِّة التعبير القصصية لفتاة بطل قصته الشاب القروي المثابر الذي فُتن بهذا الهدوء والجمال القمحي الفرعوني الآسر الذي يُشابه جمال وفتنة ملكة مصر الفرعونية. فيعجب بها أيما إعجاب ويُقرِّر الزواج منها فوراً بعد فرصة هذا اللِّقاء التعريفي العاطفي العشقي الروحي المُميز المُنتظر، والمُثمر بالرخاء والجمال والعطاء:
"شَعَرتُ بِالهدوءِ وَالتَّوازنِ، وَدَخلتُ الكُوخَ، وَجَدتُهُ نَظيفَاً مَفروشَاً بِصورةٍ غَيرِ مُتوقِّعَةٍ، قِمةٌ مِنْ قِمَمِ الجَمالِ، تَناسقُ أَلوانِ الفِراشِ، الوَسادةُ الزَّرقاءُ النَاعمَةُ، وَثَمَّةَ بَعضُ لَوحاتٍ لِلرسمِ تَتَوزَّعُ الجُدرانَ، مَناظرٌ طَبيعيةٌ، وَوُجوهٌ (بُورتَرَيه) مُشرقةٌ وَمَنحوتاتٌ صَغيرةٌ فِي غَايةِ التَّعبير الجَمَالِي [...] فَأيقنتُ عَلَى نَحوٍ لَا يَقبلُ الشَكَّ إِنَّني بِإزَاءِ ذَوقٍ مُتميِّزٍ". (لُغةُ الأرضِ، ص 64) .
هكذا بهذا التوصيف المخيالي التصويري الإيماجي المحبَّب للنفس تبدو شخصية (زكيَّة) الفتاة الحالمة العاشقة والمعشوقة في عيون حبيبها الشاب البطل الهُمام العاشق، امرأةٌ فوق العادة وفوق تصورات العقل وما يرسمه من خيال جامح لمواصفات الزوجة المثالية الرائعة التكوين والتدوين.
لكنَّ الذي لفت انتباهي في السياقات النسقية الظاهرة لهذه الفتاة السابقة لزمانها ومكانها من خلال هذا اللِّقاء العشقي الظامئ، والتي لا يمكن أنْ تخطر على بالِ أحدٍ من القرَّاء والمُتلقين في مثل هكذا، الثقافة والوعي المُتَّقد وحسن النباهة والإبداع والجمال الظاهر المُتجلِّي الذي تنماز به المرأة الريفية (زكَّية) عن مثيلاتها المرأة الحضرية الأخرى في المدينة. ولنستمع بتأمُّلٍ إلى نصوص هذا الحوار الذي أثَّثه الكاتب لشخصية بطلة قصَّته القرويَّة،كأنه إزاء حوار مثقفين لا إزاء امرأة فلَّاحة:
"- مَا رَأيُكُ بِالرسمِ؟ وَمَا الأقربُ إِليكَ هُوَ أمْ النَّحتُ؟[فَكانَ الجَوابُ مُفحماَ]-بَينَ الاثنينِ يُوجدُ فَارِقٌ أَراهُ وَاسعَاً، الرَّسمُ يَمنحُكَ صُورةً تَبحَثُ فِيهَا عَنِ الرُّوحِ، أمَّا المَنحوتةُ فَتمنحك رُوحَاً تَبحثُ فِيهَا عَنِ الصُورةِ.- فِعلَاً هُوَ فَارق ٌكَبيرٌ.- ولأنَّني أَحببتُ الرَّسمَ أوّلاً، تَجدنِي مُتلهفَةً لِلبحثِ عَنْ جَمَالِ الأروَاحِ فِي الصُّور.-وهلْ تَجدينَ مَا تَبحثينَ عَنهُ؟-لَيسَ دَائِمَاً؛لَكنَّنِي أَحثُّ نَفسِي كَي تَكشفَ الجَمالَ المَخبُوءَ فِي أَعماقِ الصُّورِ.- مَاذَا تَعنِي لَكَ الصُورُ؟-الصُّور هِيَ حَياتُنا نَفسَهَا". (لُغةُ الأرضِ، ص65) .
فمثل هذا الطرح الذي تبحث فيه البطلة زكية عن جمال الأرواح الخبيئة في صور الرسم الفنيَّة؛ فإنَّ الكاتب علي عُبيد يبحث عن جمال الأنساق الخفيَّة في الحدث القصصي وفكرة حكايته التي تهم المتلقِّي. لذلك فإنَّ هذا الطرح الثقافي الفني الذي دار بين شخصيتي الحبيبينِ العاشقينِ، هو طرح جميل ماتع ونافع للرَّائينَ والمتلقينَ في ظاهره الخارجي المُعلن، إمَّا في خبايا باطنه الداخلي المُستتر المضمر فيوحي بإبطال وتحطيم نسق النظرة الدونية القاصرة عن أبناء الريف وبناتها بأنهم متخلِّفون ولا يُولُونَ الثقافةَ والجمالَ والفنَّ أيَّةَ أهميةٍ بالغةٍ وإدراكٍ فنِّي خاصٍّ لتراثهم الثقافي.
هذه النظرة تشي بأنَّ أبناء الريف همُ صُنَّاع الأدب ودُعاةُ الفنِّ والجمال والإبداع والثقافة.وحتَّى في مجالات السياسة والاجتماع والاقتصاد، إنَّهم موئلُ الفكر الثقافي ومرجعياته في ريف العراق، وفي صعيد مصر، وريف سوريا وبلاد الشام. هم إبداع خفيٌّ وظاهر ناتج عن عمق حضاراتهم الكونية الراسخة، وتاريخهم العربيّ الأصيل الزاخر المتوهج بأفانين العلم والمعرفة والحضارة والتقدُّم:
"إنَّها اِمرَأة ٌمِنْ طِرازِ النِّساءِ الفَريداتِ،تَسحرُهَا الخَفايَا، وَلَا تَستَمتِعُ بِالظاهرِ السَّهلِ،أوْ مَا يَتواجدُ فِي السَّطحِ، فَهوَ مَنظورٌ مِنَ الجَميعِ، أمَّا الأعمَاقُ فَلَا يَصلُ إليهَا غَيرُ القَادرينَ عَلَى الغَوصِ بِعُدَّةٍ كَاملةِ تَقَيهُم الغَرقَ، فَيغوصُونَ وَيَعوُدُنَ إِلى السَّطحِ مُحمَّلِينَ بِاللؤلؤِ وَالمِرجانِ وبِالجَمالِ العَمِيقِ" . (لغة الأرض، ص 67) . وهذا يعني أن لغة الأرض تبحث جليَّاً في عمق الجواهر لا في سطح المظاهر.
وتكلَّلت بشائر هذا العشق الإنساني الروحي المتهافت بالزواج المقترن أساسه الروحي بالثقافة والوعي ومظاهر الحبِّ والجمال. فالثقافة المكتسبة هي التي تصنع الوعي الذاتي وتُشذِّبُ العقل من الشوائب واللّمم الفكري وتهذِّبهُ. والإبداع الفنِّي هو الذي ينتج الجمال الروحي والحسِّي، والموهبة الفذَّة هي التي تخلق الوعي والإدراك وإنتاج ما لا يمكن تصوره في واقع الحياة الثقافية والفنيّة.
ولأوِّل مرَّةٍ أرى جماليات النسق الثقافي الظاهر المُبين تلتقي بجماليات النسق الثقافي الخفي المستور العميق في تخليق واعية الإبداع الفني الذي تعضده تبنياته فكرة (الجامعة الإنسانية) التي أوصلت شخصية بطلي القصة إلى التلاقي والوحدانية في الفكرة والعمل والرأي والاقتران الجمعي الذي تبوح به خواتيم هذه القصة الإنسانية المبهرة في صناعة موضوعتها الإبداعية والفكرية:
"بَعدَ شُهورٍ مِنْ زِيارتِي لَهَا فِي المِزرعةِ، اِنتقلنَا مِنْ قَريةِ (أُمِّ البطِّ) إِلَى مَركزِ المَدينةِ، وَمَعَنَا المَنحوتةُ الفِرعونيةُ الَّتي أَصبَحَتْ الآنَ زَوجَتِي رَسمِيَّاً". (لُغةُ الأرضِ، ص 68) . والمساءلة التي تطرح نفسها، هل تبقى وشائج النسقينِ الثقافيينِ (الظاهر والخفي) كمدينةٍ فاضلةٍ متوحدٍنةٍ الثقافة في مركز المدينة كما هي في أعماق الريف دون انحلال أو تغيُّر على مسيرتهما الخطيَّة المتناظرة ؟
4- (مُدُنُ البَارُودِ):
الكاتب المِقدامُ والهُمامُ الذي يأخذك بأُسلوبه الماتع بغتةً على جناح السرد المتصاعد الشفيف من أجواء الحبِّ والثقافة والفنِّ والجمال ولغة الإمتاع والمؤانسة إلى وقائع الحرب المُدمِّرة الضروس بلغة الرصاص والبارود والقتل العشوائي المخيف الرخيص بهُوية الفوضى؛ نتيجة سقوط المدن بفوضى الإرهاب وسيطرة المجاميع المسلحة الثائرة ضد أنظمة الحكم الدكتاتوري المُستبِد الظالم.
والقاصُ أو الكاتب الذي ينتقل من فكرةٍ إلى فكرةٍ أُخرى بنفس التكثيف اللُّغوي وقوَّة الإيحاء والترميز والإضمار والإظهار والمفارقة الصادمة، وفجائية الانبهار؛ لهوَ كاتبٌ واعٍ وقاصٌّ حاذق يعي ما عليه من التزام وحقوق ثابتات، وما لهُ من واجباتٍ ومُتغيِّراتٍ تُجاه عناصر الفنِّ القصصي التي تمكِّنه أدواته التعبيرية من السيطرة على وقائع السردية وفاعلياتها الحكائية في بنية التركيب القصصي لواقعة الحدث الموضوعية التي أقام عليها مشاهد حركية النص القصصي الُمتسارع.
فهذه الإضمامة المهمَّة بأُسلوبية الكاتب التنوِّعيَّة وانتقالاته السردية السريعة المتجدِّدة، تُحيلنا الدراسة النقدية التتبعية الكاشفة فيها نسقياً وثقافياً إلى نموذج آخر من نماذج سرديات قصصه ذات الطابع الحربي العسكري الاجتماعي الإنساني المرتبط ببعضه في حيثيات وقائعه وأحداثه الدراميَّة التي تجسَّدت فيها واقعة الحدث التراجيدي المؤسف الحزين في قصته (مُدنُ البارودِ) الناطقة بالموت والخراب والدمار والفساد الذي لا إصلاح له إلَّا الحكمة ورجاحة العقل ونبذ لُغة العنف.
وبإيجاز تحكي مدونة (مُدنُ البارودِ) قصةَ رَجلينِ أخوينِ عراقيينِ كان يعملان ضابطين في سلك الجيش العراقيّ السابق إبَّانَ انهيار نظام الحكم القائم وسقوط المدن العراقية الواحدة تلو الأخرى، وهيمنة الأحزاب والمجاميع الثورية المُسلحة على زمام الأمور وإدارتها بشكل فوضوي وعفوي غير منظمٍ ولا يخضع لنظام أو لقانون عادل يكفل الحقَّ للآخرين من الناس الذين هم السواد الأعظم من الشعب. رغم أن الكاتب لم يصرح بتلكَ الأمور لأسبابٍ فنيَّةٍ وإبداعيةٍ يحتفظ بها لنفسه.
آثرَ هذانِ الأَخوانِ الضابطان العودة إلى مدينتهما الأُمِّ بعد انهيار المنظومة العسكرية المُنتظمة؛ لكنَّهما ونتيجة لتلك الظروف الطارئة والمداهمات وغياب حكم القانون على البلاد فقد واجها الكثير من الصعوبات والمخاطر الجمَّة حيال عودتهما لعائلتيهما سالمين دون خسائر ألمَّت بهما قسراً.
"سَمِعنَا أَصواتَ رَصاصٍ مُتَقطَعٍ وَمستمِّرٍ، فَعرفنَا أَنَّ المَدينةَ تَعيشُ حَالةً مِنَ الفُوضَى، فَكَّرِتُ بِالمخاطرِ الَّتِي قَدْ تُودِي بِحياتِنَا، خَطَرَ فِي بَالِي العَودةُ أنَا وَأخِي الأصغرُ وَعَدمُ الدخولِ فِي المَجهولِ؛ لَكنْ وُجودُ أُّمِّي وَطفلِي وإخوانِي فِي دَاخلِ أَحياءِ المَدينةِ أجبَرَنِي عَلَى دُخولِهَا، فَلَا مَجالٌ لِتركِهُم فِي هَذهِ الأوضاعِ المُرتبكةِ، وَحِينَ اِستشرتُ أخِي الأصغرَ يُوسُفَ بِالعودةِ إِلَى المَكَانِ الَّذي أَتينَا مِنهُ رَفَضَ ذَلِكَ البِتَةً. لَمْ تَصلْ بِنَا السَّيَّارةُ إِلى البَوابَةِ، أَنزلَ الرُّكَّابَ عَلَى بُعدٍ مِائةِ مِترٍ عَنهَا، تَقدَّمنَا بِخُطواتٍ مُتعثِّرَةٍ نَحوَ المَدخلِ القَريبِ، تَحسَّسَ أخِي يُوسفُ المُسَدَّسَ المُثَبَّتَ فِي حِزَامِهِ...". (لُغةُ الأرضِ، ص 15) .
هذا هو الطابع الحربيّ الظاهر لنسق المدينة المعبَّأ بالانفلات الأمني وشيوع لغة الرصاص والتحشيد المليشياتي الخارجي غير المقنَّن الذي يقود زمام الأمور الحالية ويحكم الإنسان عند غياب لغة القانون، وتفشي استمراء ألم المعاناة والمواجهة التي مرَّ بها بطلا القصة الضابطان في مسيرة عودتهما إلى المدينة المهجورة إلَّا من مجاميع عسكرة الثائرين على نظام الدولة الحاكمة:
"دَخَلنَا مَركزَ المَدينةِ عَلَى مَضَضٍ وَالذهُولُ يَتَلبَّسُ كِلَينَا، شَارِعَانِ مُعبَّدَانِ مُتوازيَانِ تَفصلهُمَا جَزرَةٌ وَسطيَّةٌ خَرسانيَّةٌ، لَمْ تَتوقَّفْ لَعلَعَةُ الرَّصاصِ وَقَذائفُ الهَاونِ وَأسلحةٌ أُخرَى لَا يُعرَفُ نَوعُهَا أو حَجمُهَا تَسقطُ فِي أماكنَ مُتفرِقةً، المِحَالُ كُلُّهَا مُغلقةٌ، وَالشوارِعُ مَهجورةٌ، خَطونَا بِضعُ خُطواتٍ عَلَى وَجَلٍ، فَدخلنَا بِأَرجُلِنا فِي الفَخِ، تَقدَّمَ إلينَا شَخصٌ مِنْ بَينَ مَجموعةِ أَشخاصٍ يَشهرُونَ السَّلاحَ بِقَلقٍ وَرُعبٍ، كَانَ يَحمِلُ فِي يِدهِ (رَشاشَ كَلاشنكوف) وَيَرتَدِي حِزَامَاً مِنَ الرَّصاصِ، عَينَاهُ يَنبثقُ مِنهَمَا غَضبٌ مُستَعَرٌّ، تِختلطُ فِيهِ مَشاعرٌ شَتَّى". (لُغةُ الأرضِ، ص 15، 16) .
على وفق هذه الكيفية المحتشدة بظلال الحرب المحليَّة المتخبُّطة كانت تُدارُ شؤون المدينة، بل البلد كله، ويُتركُ رعاياه من المواطنين يتخبَّط بعضهم بعضاً دون رقيب أو حسيب بينهم. فهذا هو المنظور من المشهد الظاهري لثقافة الحرب والاقتتال الطائفي وما يخلفه من ويلاتٍ ودمار وخراب مُستشر. أمَّا المستفيد من هذه الأمور في النسق الخفي المغيَّب غير الظاهر هم أعداء الإنسانيةٍ، ودعاة الخراب وتُجَّار الحروب من مناهضي الحُريَّة والدِعةِ والسَّلام الذي يحقِّقُ للناس حقَّ تقرير مصيرهم الراهن وبناء مستقبلهم. فلا سلام خفي يحدث ويمكث قاراً في الأرض إلَّا بتقويض غائلة الحرب النسق الجائر الذي يقضي على الحرث والنسل والأمل كي يحدث السلام.
5- (مَشاهِدُ مِنْ سِيرةِ الأَلَمِ):
من يتتبع الفضاء القصصي التسريدي لِعَليّ حسين عُبيد سيجد أنَّه فضاء ليس ثابتاً مُعيَّناً، بل يكاد أن يكون فضاءً مُتحوِّلاً ومُتحركاً أو مُتغيراً ومتنوعاً وثريَّاً بموضوعاته الإنسانية والاجتماعية، وتعدُّد رغباته وطموحاته وأحلامه الذاتية الشخصية التي ينفتح فيها على هُوية الآخر الشريك الجمعي من خلال الخروج من نافذة الذاتية الضيقة إلى الذاتية الجمعية المشتركة التي لا تقف رحى عجلتها المحورية عند حدٍّ معرفيٍّ معيَّنٍ ما، بل تكون عابرةً لكلِّ الحدود والمسافات الزمكانية.
فهذه الخطوات الضوئية الإجرائية التي تنماز بها أسلوبية القاصِّ الثقافية التعبيرية لها دلائلها ومرجعياتها الثقافية وخصائصها التطبيقية المتحقِّقة على سطح الواقع الفضائي النصَّي السردي. ويمكن أن نستدل على تلك التلقائية الإثرائية في مقصديات النص الحكائي لِعَلي حسين عُبيد في نصِّ مصفوفته القصصية (مَشاهدٌ مِنْ سِيرةِ الأَلمِ) الدالة على وقائع موضوعيتها السيرية الحدثية.
فكل مشهد من مشاهد هذه السيرة الألميَّة العشرة يمثِّلُ لافتةً عنوانيةً موضوعيةً سيريًّةً قصيرةً فاعلةً ومستقلةً من لافتات وقائع وأحداث مصادرالألم التي وظَّفها القاص في طيَّات هذه المصفوفة العُشريَّة. حتَّى ترى الرائي عُبيد مُتنقِّلاً في موضوعاتها الفعلية الحيوية وفضاءات مثاباتها المكانية وحركة صراع شخوصها الفاعلية. فتراهُ تارةً يتحدث فيها عن شابٍ يعشق الحَمَامِ، وتارةً أخرى إيثار صبيتينِ، وتارةً ثالثةً عن رجلٍ صَديقٍ للأشجار، وتارةً رابعةً عن حُلُمِ عاشقينِ مُحبَّينِ، وتارةً خامسةً عن سلوك حياة (قِطٍ وجروٍّ)، وتارةً سادسةً عن مشهد من مشاهد الفقر والفاقة، وتارة سابعةً عن الدعة والشعور بالسعادة في غرف فنادق الدرجة الأولى المكيَّفة، وتارةً ثامنةً عن الذات القصصية العليمة في التعامل مع ضرورات الحياة وفهم جمالياتها، وتارةً تاسعةً عن مشهد من مشاهد العمل في المحيط الخارجي للحياة اليومية، وتارةً أخيرة عاشرةً عن هواجس فتاةٍ عاشقةٍ شقراء ساحرة الجمال بشكلها.وللتدليل على خريطة ذلك التنوِّع سنقرأ بعضاً من نصوص قصصها.
وحين نجيل النظر في مشاهد هذه المصفوفة القصصية القصيرة العشرة ونكشف عن أثر شفراته الموضوعية اللغُّوية نرى أنَّ وقائع كلَّ مشهدٍ يمثِّل في تصويرها الظاهري المرئي الحسِّي للقارئ نسقاً ثقافياً وقيمياً مشرقاً من أنساق يوتوبيا حياة المدينة القصصية الفاضلة لهذا القاصِّ الفاعل.
في حين نلحظ أنَّ الجانب الآخر غير المُتجلِّي أو المُستتر بحجابٍ خفي عميق غائر، والملموس معنىً وتصوِّراً عقلياً راسخاً، يمثِّل نسقاً سِيريَّاً مؤلماً من أنساق ديستوبيا الواقع المثالي المخيالي الاقصائي والتهميشي الرفضي لحياة الإنسان، فضلاً عن تأثيرات الفوضى العامة ومشاهد القمع والتجهيل والنكوص والانكسار الروحي الرجعي الذي يسيطر على عالمه الجمعي الذاتي المشترك.
وهذه المشاهد السيريَّة العشرة على مستوى الفكر التنظيري، أمَّا على خطِّ المستوى الإجرائي التطبيقي، فلنا في المشهد الأول ذي الرقم (1) من مشاهد هذه السيرة المحتشدة بالألم والأوجاع والخسارات.تلك هي قصة الشاب رياض الذي يعشق تربية الحَمَامَ،ولكنَّه لفرط حبِّه لا يجني الكثير منه إلَّا القليلَ، وفي صنفٍ ما من حَمَامِ (الأورفلِّي) الذي يطرد الشرَّ ويجلب الرزق على حدِّ قول رياض لنفسه الذي يرعى تلك الحمامات الأليفة ويهمس لها بأحلامه اليقظة ونهاراته الضَّاجَّة بها:
"عِندَمَا وَصَلتْ سَيَّارةُ الأُجرةِ وَعَلَى سَطحِهَا نَعشُ رِياضٍ، كَانتْ حَمامَاتُهُ تُراقبُ المَشهدَ مِنْ فَوقِ سِتَارةِ البَيتِ، كَأنَّها عَرِفَتْ بِرحِيلهِ، لَقَدْ أخذتهُ الحَربُ بِأحضانِهَا...". (لُغةُ الأرضِ، ص 102) . هكذا يصف القاص الرائي نهاية سيرة الشاب رياض الذي أحبَّ الحَمَامَ وعشق تربيته، وكيف كان وفاء الحَمَامِ المؤنسن لروحه الطاهرة المُحلِّقة في سماء عِلِييِّ الشهادة. ولنلتفت إلى نسق الإضمار في شعور الرائي تجاه رياض الشهيد الراحل، وكيف وضع نهايةً ختامية للحّمِامِ الذي أحبَّ جانيه الشاب (رياض) ؟وكيف أوفى له بصدق غرائبي عجيب بعدأن أحسَّ بفراغ موته المفاجئ وانقطاعه:
"الحَمَامُ لَمْ يَعُدْ يَشربُ وَلَا يَأكُلُ، أَيامٌ مَرَّتْ وَالحَمَامُ لَمْ يَخرُجْ مِنَ القِنِّ، عِزلَةُ الحَمَامِ كَانتْ قَاتِلَةً، اِنقطعَ الهَديلُ تَمَامَاً، السَّوادُ مَلَأ السَّطحَ وَالبيتَ والقُلُوبَ...كَثيرونَ قَالُوا.. سَمِعنَا الحَمَامَ وَهوَ يّبكِي..". (لُغةُ الأرضِ، ص 102) . وهل هناك أصدق وأنبل من مشاعر سيرة الألم والنواح الهديلي التي دبَّجتها مسرودات القاصِّ في صفة الوفاء والإخلاص لروح هذا الرفيق الصاحب والأنيس الراحل.
وفي جانب آخر من جوانب سيرة الألم التي حفلت بها قصص هذه المصفوفة الفرعية الثانوية من المدوَّنة الرئيسة، ذلك هو المشهد الثامن من مشاهد الألم والوجع العراقي الكبير المستديم الذي لا ينتهي؛ نتيجة تطاول يد الزمن على شخصية الإنسان وفرض خيباته ونكوصاته المُهينةَ على ذاته الروحية والنفسية تحت غائلة عادياته المثيرة، وكان الفقر والفاقة من أبرز علاماته الظاهرة.
وحين نتأمَّل سطوراً من مشاهد سيرة الألم في واقعة هذا الحدث الثامن تأمُّلاً نقدياً للعين البصرية الثالثة يتداعى إليكَ شعور من اليقين القلبي الثابت، لا شعورَ الشكِّ الظنِّي المتحوِّل غير الثابت بأنَّ القاصَّ الرائي علي حسين عُبيد يتحدَّث بكلِّ ثقةٍ وكياسةٍ عن مشهد من مشاهد سيرته الذاتية الخاصَّة، وعن أناه الذاتية الجمعية الحقيقية، لا يروي عن حال لسان شخوصه وأبطاله المفترضين تخيلُّاً في واقعة الحدث الموضوعية، إنَّه يتماهى معهم ويتناهى عنهم كليَّاً. حتى تظنَّ كلَّ الظنِّ بأنَّ الراوي العليم لمشاهد سيرة الألم هو القاصُّ نفسه في التعبير عن حال ذاته السيريَّة.
وسترى علاقته الوضعية مع شخصيات قصته المهمشين الذين يشعرون بعطب الحياة المستهلكة. وهذا التوافق وارد في توحدُن سيرة القاصِّ مع فعليات فواعل شخوصه المُلتقطة التقاطاً صورياً دقيقاً من صور الواقعة السحرية الحافلة بتوالي صراعات الألم والوجع والمُضمَّخة بالفقر والمعاناة المستمرة المريرة التي أفرزتها آثار الحرب الداخلية المُدمِّرة والانهزامات الدولية المتكرِّرة عليه.
ولنقف في هذا الميدان الواسع الرحب الذي يجمع بين مناطق الواقعية والأسطورية المخيالية في منطقة سيريَّة ثرةٍ ومُحتشدةٍ بثقافة جدلية (الألم والأمل) من مناطق تَشكُّلات فضائه القصصي النصِّي وخطابه السردي الذي يُؤرخن تدويناً لعصرنة الحدث الموضوعي الفعلي بكل تمظهراته الحدثوية والفنيَّة والجماليَّة والشخصيَّة التي أظهرتها التقاطات عين عدسته الصورية الزاخرة في تجلّيات النصِّ الزمكانية والحَدَثِّيَّة وحركة الصراع الدائر بين مساعي الخير الحميدة وردود الشر البغيضة. "فِي عَصرٍ رَبيعيٍّ قِادتنِي خُطايَ إِلَى[قِسمِ] الَفلسفةِ[ بِكليَّة ِالآدابِ] فِي جَامعةِ بَغدادَ بِمنطقةِ بَابِ المُعظَّمِ، كُنتُ عَلَى مُوعدٍ مَعَ صَديقينِ يَدرُسانِ الفَلسفةَ؛ كِي نَقضيَ بَعضَ الوَقتِ في نادِي الجَامعةِ، وَنَخرجَ نَتسكعَ فِي بَابِ المُعظَّمِ وَالميدانِ وَشَارعِ الرَّشيدِ؛ لِننتهيَ أخيراً في اتَّحادِ الأُدباءِ، قَبلَ أنْ أصلَ بَابَ الجَامعةِ بِقليلٍ فَاجَأتنِي لَوحةٌ مِنَ الخَزفِ أوْ النُّورةِ لَا أَتذكَّرُهَا بِالضبطِ، كَان نِصفُها الأعلَى مُهشَّمَاً، أمَّا النِّصفُ الأسفلُ فَكانَ سَليماً، وَبدَتْ لِيْ لَوحةً جًميلةً وَأنيقةً[..] كَمْ ثَمنُ اللَّوحةِ؟ -قَالَ: سَبعةَ آلافٍ، إلَى جَانِبِهَا يَقفُ طِفلٌ أَبيضُ جَميلٌ...". (لُغةُ الأرضِ، ص 110) .
فحين نُعيد النظر جليَّاً مرةً أخرى بقراءة المشهد القصصي للحكاية ونتفحَّصه جيداً، فسترى أنَّ المثابات المكانية لفضاء النصِّ السردي هي نفسها الواقعية الماثلة في وقتنا الحالي أو الحاضر، وأنَّ الشخوص الفاعلين هم أنفسهم من طلَّاب هذه المؤسسة التعليمية (جامعة بغداد) وخريجيها، وأنَّ
فضاء مشهد العرض المكاني (شارع الرشيد) هو نفسه الماثل لنا في المشهد الفني الجمالي الإبداعي.
فهذا هو النسق القيمي الثقافي الإيماجي الصوري الظاهر، في حين يكمن النسق الثقافي الآخر المُغيَب والمسكوت عنه قصدياً في صورة الطفل المُهمَّش بائع اللوحة الذي يُعاني الفقر المدقع والحرمان والفاقة وألم الانكسار والصمت القاتل الرهيب؛ بدليل أنَّ القاص وضع لنفسه سؤالاً عن شخصية هذا الطفل المعذَّب المتهالكة فقال: "لِمَاذَا لَمْ أَتحِ لَهُ فُرصةً كَافيةً كَيْ يُفصحَ عَنْ رَغبتِهِ فِي الكَلَامِ؟". (لُغةُ الأرضِ، ص 111) .وكأنَّه يدعو المتلقِّي لمشاركته بالتساؤل الإنساني لمعرفة الجواب.
ويمضي الكاتب أو الرائي أو القاصُّ أو السارد العليمُ بتساؤله في خاتمة هذه القصة لمعرفة ما يخبئه هذا الطفل الشقي من هموم طافيةٍ وعذابات وتحسُّرات تسوِّرُ بواطن شخصيته الإنسانية البريئة التي تخفي هموم وجع الحياة وصعوبات آلامها الجمة الكاسرة التي ألقت بظلالهاعلى نفسه:
"خَرَجنَا مِنَ الجَامعةِ، ثَلاثَتُنَا، أنَا أَحملُ كِيسَ اللَّوحةِ المُهشَّمَةِ، وَهُمَا يَحملانِ حَافظتَيِنِ لِلكُتبِ، عُدنَا من الطَّريقِ نَفسِهِ، رَأيتُ الطِّفلَ يَجلسُ وَحِيدَاً دُونَمَا لَوحَةٍ أو صَديقٍ، كُنَّا نَسيرُ فِي الجَانبِ الآخِر لِلشارِعِ، لَمْ يِتِنِبَّهْ الطِّفلُ لِي، كَانتْ تَقاسيمُ وَجهِهِ المُعبَّأِ بِالتساؤلِ وَاضحةً لِي، كَانَ بَصرهُ يَتدفقُ نَحوَ بَابِ الجَامعةِ،كَأنَّهُ بِانتظارِ شَخصٍ مَا،لَمْ أعرفْ مِنْ هُوَ إِلَى الآنَ...". (لُغةُ الأرضِ،ص 111) .
من المؤكَّد أنَّ هذه التأمُّلات الصوريَّة الحادَّة في وجه الطفل والاحتمالات التي قرأ فيها الكاتب صور تفسيرات مظهر شخصيته وما يحمله من أنساق قيمية معيشيةٍ عن أثر الواقع المزري على حياته تركها القاصُّ علي عبيد إلى فكر القارئ ودرجة وعيه الناضج في اختيار ووضع جواب عن تساؤله لإتمام واقعة الحدث الختامية المفتوحة بقراءات احتمالية تأخذ أكثر من جواب أو تفسير له.
6- (حبٌّ جامعيٌّ):
ونذهب في تصفحنا البصري والفكري لفِهرستِ هذه المجموعة القصصية إلى قراءة نصِّه القصصي العاطفي (حُبٌّ جامعيٌّ) الدال على محتوى عتبة عنوانه في تقييم حركة العلاقات العاطفية في الحياة الجامعية وعلاقاتها النصيَّة الدقيقة تحديداً بالجانب الاجتماعي الأسري والإنساني الذي تَتحرَّك الإنسان فيه وفق منظومة القيم والعلاقات الاجتماعية الثابتة والمتحركة حيال ما يُميَّزُ به شخصٌ لافت للنظر عن آخر مَغمورٍ أو فقيرٍ مُعدَمٍ مَقهورٍ غيرِلافتٍ للآخرين في فضائه الزَّمكاني.
والمُلاحظ أنَّ قصة (حُبٌّ جامعيٌّ) تبدأ بحكاية حبٍّ بسيطةٍ وتنتهي بفكرةٍ قَيِّمَةٍ تتكاثر فيها الأفكار والرؤى والأحلام بمخاضاتٍ سرديةٍ عديدةٍ؛ لِتُعلِنَ عن علاقة أحد طلبة الدراسات الأوليَّة (الجامعة) بفتاةٍ ثرَّيةٍ ميسورة الحال تُدعى (سميرة) زميلة له في القسم والذي يدرس فيه والكليَّة. كانت تماثله في التفوُّق والميول والطموحات وتحقيق الأماني المستقبلية؛ لتثمرَ عن إعلان هذا الحب الجامعي في بداياته الشائقة العذبة. حيث تنطلق شرارة شآبيب هذا الحبِّ من موقف إنساني شهمٍ وتنتهي العلاقة العاطفية بموقف إنساني آخر غادر لمبادئ الحب الحقيقي وصيانة كيانه الإنساني الخاصّ:
"بَعدَ أنْ اِنتهَى الدَّوامُ لمْ يَأتِهَا أبوهَا فِي الوَقتِ المُحَدَّدِ، تَأخَّرتِ السيَّارةُ عَلَيهَا، فَتقدَّمتُ مِنهَا بِثقةٍ وَقُلت لها: أنَا سَأقومُ بِهمَّةِ إِيصالكِ إِلَى البَيتِ فِي أحدِ أحياءِ (بغدادَ)، لَمْ تَقبلْ فِي البِدايةِ، لَكنْ سُخونةُ الجّوِّ وَيَأسَها مِنْ مَجِيء أبيهَا وخَوفاً مِنْ سَائقِي سَيَّاراتِ الأُجرةِ، دَفعهَا لِلقبولِ،فَتَحتُ لَهَا البَابَ الأمامَ، تَرددتْ قَليلاً ثُمَّ رَكِبتْ صَدرَ السَيَّارةِ، كَانتْ قَلقةً، تَشعرُ بِالحرجِ، وَكُنتُ أُحاولُ اِنتهازَ الفُرصةِ كَي أُفَاتُحهَا بِعَلاقةٍ عَاطفيةٍ دَائمةٍ؛ لَكنَّني فَكَّرَتُ أنَّ التَّوقيتَ خَاطِئٌ لِمِثلِ هَذهِ العَلاقةِ، وَسَأبدُو سَخيفَاً وَمُستغِلَاً لَهَا؛لِأنَّهَا الآنَ تَصعدُ فِي سَيَّارتِي؛لِذلكَ أجَّلتُ مُفاتحتَها إِلى فُرصةٍ أَفضل، وَبدأنَا َتَناولُ أحاديثَ عَنِ الدُّروسِ والمَحاضرِ والأساتذةِ وَعَن المُستقبلِ...". (لُغةُ الأرضِ، ص115) .
من تجلِّيات هذا الموقف النسقي الإنساني الظاهر أخذت أواصر العلاقة الإنسانية الجميلة تنمو وتزدهر لما تبقَّى من سنينَ الدراسة المتوالية سنةً تلو الأخرى؛ لتكشف عن علاقة وثيقة من آخر بينهما كما يصف هذا النسق السردي الرائي لتمظهراته ويؤكِّد أنَّ عُرى الحبِّ بدأت تكبر مع انقضاء الزمن حتى وصلت نتائجه إلى نهاياته الصادمة التي وضعت حداً فاصلاً لمفترق طرق:
"السَّنةُ الرابعةُ كَانتْ تَختلفُ عَنْ جَميعِ السَّنواتَ الثلاثِ المَاضيَةِ، فَهيَ سَنَةُ المُفاجآتِ كَمَا أَسميتًهَا أَنَا، كُنتُ أَظنُّ أنَّ الحُبَّ مِثلُ شَجرةٍ تَنمُو بِتصاعدٍ وَتَزدادُ خُضرةً وَأغصَانَاً وَثِماراً[...] وفِي الشُّهور الأُولى بَدَأتْ سَميرةُ تَبتَعِدُ شَيئاً فَشَيئَاً، وَكَانتْ تَختَلِقُ الأعذارَ، حَتَّى حِينَ تَأخَّر عَليهَا أبُوهَا رَفضتِ الصُعودَ مَعِي، وَأخذتنِي الشُّكوكُ بِصديقِي، يَا لِي مِنْ أحمق، تَأخَّرَ أبوهَا كَثيرَاً فَاستأجرتْ سَيَّارةَ أُجرةٍ تَكسِي وَلَمْ تَركبْ مَعِي، مَشيتُ وَراءَ سَيَّارةِ الأُجرةِ تَابعتُها حَتَّى أوصلتُها البيتَ، نَزلتْ مِنْ السَّيَّارةِ، وَقَبلَ أنْ تَدخُلَ بَيتَها رَأتنِي بِوضوحٍ، نَظرتُ إليهَا بِشوقٍ وَحُبٍّ نِبراتُهُ تَلهبُ كِيانِي كُلَّهُ،لَكنَّها أغلقتِ البَابَ وَلَمْ تُوجِّهُ دَعوةً بِالدخولِ وَلَو كَذِبَاً". (لُغةُ الأرضِ، ص 117، 118) .
إنَّ سَيرَ هذهِ الأحداث المتوتِّرة، يشي بأنَّ النسق الثقافي الخارجي لموضوعة الحب الجميل قد وئدت في رحمها الأصلي الأُمِ وَدُفِنَتْ وماتت ولم يعد لها أثر مزهر لحياته الباقية. ويُعزَى سبب ذلك التجافي والشتات بين العاشقينِ المُحبَّينِ إلى اتساعِ هُوةِ مسافة الفارق المادي بينهما، فهو طالب علمٍ من أُسرةٍ فقيرة ٍمعدومةٍ الحال، وهي ابنة ذوات ميسورة الحال ثرية ناعمة رغيدة ترفة العيش.
فعلى الرغم من أنَّ المال والثراء لم يكن سبباً كافياً في عدم اقتران الحبيبينِ تحت سقف عائلي واحدٍ؛ بيدَ أنّ رأي الأهل وتصرفهم في النظر إلى الحياة بنظرة استعلاء دنيوي مادي كانت القشِّةُ التي قصمت ظهر الحبِّ وسبباً كافياً في الكشف عن القيم السلبية الخفيَّة للنسق الثقافي الجائر. وهذا ما تشي به انثيلات الخاتمة القصصية التي أوجزت بلاغة الفرق بينهما في نهاية هذا الحبِّ الغادر:
"لَقَدْ رَأيتُ الرَّجلَ الَّذِي سَرَقَ مِنِّي حَبيبتِي فِي أخرَ يَومٍ لِلسنَةِ الأخيرةِ، وَهوَ يَصطحبُها بِسيَّارةٍ فَارهةٍ، وَتَبدُو عَلَيهِ عَلاماتُ الغِنَى وَالتَّرفِ، وَحِينَ مَرَّتِ السَيَّارةُ مِنْ جَانبِي،لَمْ تَلتَفِتْ سَميرةُ إِليَّ، لَكنَّنِي تَأكدتُ تَمَامَاً أنَّها فَقدتْ عُذوبتَها وَتِلقائيتَهَا وَإنسانيتَها إِلَى الأَبدِ"؟ (لغة الأرضِ، ص 118) .
فكل الدلائل والعلامات السردية السيميائية لخطاب القصص القصيرة تُشير باهتمامٍ إلى أنَّ القيمة النسقية الثقافية الأولى لديمومة هذا الحبِّ كانت إنسانيةً إيحائيةً بحتةً، وتؤكِّد في الوقت ذاته أنَّ سبب فشل الثيمة النسقية الثقافية الداخلية المضمرة كانت قيمةً اجتماعيةً إنسانيةً قَبيحة بحتة تحكمها العلاقات المادية الصرفة وتُحرِّكُها، وليست العلاقات الروحية الإنسانية الثابتة الحقَّة، وهو النسق العَيبِي الخفي الذي يستتر وراءه الكاتب في مثاقفاته النسقية المتوخاة في مقاصدها الثقافية الجديدة.
7- (فِصَـامٌ):
وفي موضوع مغاير آخر من موضوعات علم نفس الشخصية الإنسانية الحديث، نلجُ الى الدخول إلى مضان قصَّة النصِّ السردي المدوَّن (فِصَامٌ) الدالُ على موضوعة الأمراض النفسيَّة الحديثة التي تصيب الإنسان المعاصر كثيراً.فهذا الهوس النفسي المتضاد في الازدواجية الشخصية العقلية، هو ما حصل فعلاً وأصاب البطل الرئيس لشخصية قصة (فصامٌ) .القصَّة المتمايزة فنيَّاً في ضبط إيقاعها الأُسلوبي السردي والجمالي الفنِّي، والتي كتبها المُبدع عَلِي عُبيد بتماهي روح الطبيب المشخِّص، وتقمص المريض الشاكي من ازدواجية الداء واستفحال آثاره النفسية القريبة والبعيدة.
لقد كتب القاصُّ حكاية هذا النصِّ وفكرته الموضوعية الدقيقة بأسلوبٍ فنِّي غرائبي وعجائبي مخيالي لا يخلو من اسقاطات الواقع النفسي الإنساني وتمظهراته، وكأنك حقيقةً أمامَ طبيبٍ ماهرٍ يعرف الداء الواقع ويشخِّص الدواء الناجع، وبمعيته مريض يستعرض حالات المرض ونوبات الألم التي تنهتك نفسيته بالخراب، وتُدمِّرُ شخصيته بازدواجية تهويماته العقلية الممتلئة بالسراب.
إنَّ هذا القاصَّ العليم الرائي يعيش تجلِّيات النسق النفسي الإنساني الظاهر للشخصية ويتحسَّس بموحياته النفسية مضمرات واقعة الحدث الموضوعية التي بُنيتْ عليها فكرة القصَّة واجترحتها نسقاً ذا قيمةٍ اجتماعيةٍ ونفسيةٍ عُليا لا بُدَّ من عرضها كضرورةٍ من ضرورات العصر وإسقاطاته.
وباختصار موجز نستعرض الآنَ في نصَّ قصةِ (فِصَامٌ) شخصية رَجلٍ أو زوجٍ من خلال عَلاقته الأسرية الحميمية مع زوجته التي يحبَّها كثيراً، وفي الوقت نفسه أو ذاته يمقتها نفسياً ويتمنَّى أنْ يتخلَّص منها بسبب هوسه وتخبُّطه النفسي المتوتر ذي المؤشِّر الصاعد والهابط مع نوبات المرض التي شغلته كثيراً وسيطرت كليَّاً على هواجسه العقلية واِتِّزانِ أفكاره الشخصية :
"فَمَا أَمدُّ رُوحِي عَلَى سَريرِ النَّومِ إِلَى جَانبِ زَوجتِي حَتَّى أَشعرَ بِالاحتقَانِ يَفورُ فِي خَلايَا جَسَدِي يَطعنُنِي وَيُحيلنِي إِلَى جَمرَةِ دِمَاءٍ مُشتعلةٍ وَتَوتِرٍ يَصلُ حَدَّ الفَزَعِ، يَجتاحُنِي، مَشاعرِي تَصلُ دَرَجةَ الغَليانِ، وَخَوفٌ دَائِمٌ يَركضُ فِي شَرايينِ دَمِي، إِنَّها تَنَامُ إِلَى جَانِبي أوْ أنَا الَّذِي أَلتحقُ بِهَا فَأجدُهَا بِانتظارِي عَلَى السَّريرِ، أَخافُ أَنْ تَمُدَّ يَدَهَا وَتَمُسَّ جَسَدِي، يَفزعُنِي حَدَثٌ كَهَذَا، وَإذِا مَدَّتْ يَدَهَا سَأترك السَّريرَ، ضَجِرَاً مُصَابَاً بِقَرَفٍ مُقزِّزٍ، أَبتعدُ عَنْ السَّريرِ حَتَّى تَغفوَ ثُمَّ أعودُ، وِفِي هَذهِ اللَّيلةِ، سَيحدَثُ الشَّيءُ نَفسُهُ؛ لَكنَّنِي قَرَّرتُ أَنْ أضعَ حَدَّاً لِهَذَا العَذابِ، فَأوقفُ حَياةَ زَوجتِي كَي تَتَهاوَى الأسوارُ الَّتي غَالِبَاً مَا تَلتَفُّ حَولَ رُوحِي وَجَسدِي فِي كَابوسٍ أَخشَى أنْ يَظلَّ قَائِمَاً فِي حَيَاتِي إِلَى الأبدِ، خُطَّتِي مُتقَنَةٌ تَمَامَاً، لَا يَمكنُ أنْ يَطولَهَا الفَشَلُ إِلَّا إِذَا عَدَلتُ عَنْ قَرَارِي". (لغةُ الأرضِ، ص 70) .
إنَّ سرديات مجريات واقعة الحدث النصيَّة تخبرُ بوجعٍ مؤسفٍ مثيرٍ عن نسقها الجلي الظاهر، وتكشف عن تمظهرات الشخصية غير السويَّة المظهر والنقيَّة الجوهر. إنها مكابدات اختلاق فصام الشخصية السوية التي استحالت إلى كوابيس ومخايل مَرضيةٍ وخُططٍ نَفسيةٍ غيرِ مُجديةٍ لمواجهة واقع الحال المرضي الوسواسي القاهر الصادم نفساً الذي انعكس سلباً على شريكة حياته الزوجية:
"كُنتُ أَتمَنَى أنْ أتخلصَ مِنْهاَ، أَنْ تُغادِرَ الحَياةَ، لَكٍنْ الأمرُ العَجيبُ الَّذِي سَيحدِثُ دَائِمَاً. هُوَ اِفتقادِي لَهَا إذَا اِبتعَدَتْ عَنِّي إِلَى مَكانٍ بَعيدٍ، فَأنَا لَا أَحتملُ ذَلِكَ نَهارَاً وَاحِدَاً، كُنتُ أتمنَّاهَا إِلى جَانِبِي، إذا غَابتْ، أَشعرُ بَأنفاسِهَا، وَأسمَعُ صَوتَ ضِحكتِهَا، العَجيبُ أنَّ ضِحكتَهَا وَهِيَ بَعيدةٌ، تَبدُو سَاحِرَةً مُمتعةً حَدَّ الدَّهشةِ؛ وَلَكنِ حِينَ أَجدهَا بَينَ يَديَّ قَريبَةً مِنْ نَظَرِي سَيخفِتُ كُلُّ شَيْءٍ، وَسَتنقلِبُ ضِحكتُهَا إِلَى عَذَابٍ مَريرٍ[...] ". (لغة الأرض، ص70، 71) .
وقد دعاه هذا السلوك النفسي المتناقض بين ثنائية الخير والشر والحبِّ والكُره لزوجته إلى وضع خطةٍ بسيطةٍ للتخلُّص من زوجته؛ لكن وساوسه وهوسه وتخيُّلاته حالت دون تنفيذ فعله الشائن الذي لم يتمكن في محاولاته الفاشلة من تحقيقه عاجلاً أمْ آجلاً، إنها نقطة الضعف المسيطرة على نفسه والتي لم يتمكن أنْ يتخلَّص منها أبداً، إنها أشبه بالوسواس القهري الذي يَلِحِّ عليه:
"عَجِبُتُ مِنْ نَفسِي لِمَاذَا أُفكِرُ بِالقَضاءِ عَليهَا؟.. بَكيتُ.. وَعَرِفتُ أَنَّ رَأفتِي الَّتِي تَتَكَرَّرُ دَائماً فِي لَحظاتٍ كَهذِهِ سَتقودَنِي إِلَى فَشلٍ آخرَ، لَكنِّي رَأيتُ شَيئَاً مَا يَتحرَكُ إِلَى جَانبِهَا، فَوقَ فِراشِهَا، أنهيَتُ بُكائِي، كَانَ الجِدَارُ قَدْ بَدَأَ يَتأسَّسُ، يُولَدُ لِتَوِّهِ. وَأصبحَ سُورَاً شَاهِقَاً..". (لُغةُ الأرضِ، ص 70) .
لم يفلح البطل الغالب بالفصام من تنفيذ خطته للتخلُّص من شبح زوجته أُمِّ ابنته الوحيدة، فهو على الرغم من العداء السلبي النفسي القاهر المضمر النسق الذي يكنه للزوجة من أجل إبعاد شبحها الوجودي معه، راح يذكر بتأنٍ كلَّ محاسنها وتصرفاتها الإيجابية معه في سرير النوم، وكيف كانت جَلِدةً وصبوراً على تحمل أفعاله الغريبة المتزايدة وسلوكياته المتناقضة سلباً وإيجاباً:
"دَائِمَاً تَفعلُ العَكسَ، مِئاتُ اللَّيالِي الَّتي مَرَّتْ عَلَيهَا وَهيَ تُقرِّبُ سَاقهَا مِنْ جَسدِي، فَأنهضُ كَالملدوغِ، ثُمَّ أَعودُ إِلَى سَريرِهَا فَأسمعُ بُكاءهَا بُوضوحٍ وَأحيانَاً أرَى الدَمعَ يَبرقُ مِنْ سَوادِ عَينيهَا، وَبَعدَ ذَلكَ تَمُدُّ يَدَهَا وَلَا تُقَرِّبُ جَسدَهَا إلَّا بَعدَ مُرورِ سَاعاتٍ طَويلةٍ مِنْ اللَّيلِ، وَمَعَ ذَلكَ فِي غَمرَةِ النَّومِ وَعُمقِهِ حِينمَا يَحدُثُ أنْ تُلامَسنِي، أَفرُّ مَرعُوبَاً مِنْ كَابوسِ الأسوارِ المُتناسِلَةِ وَأتركُ السَّريرَ، مَشهدٌ لَا يَتغيَّرُ قَطٌّ، بِل يَزدادُ رُسُوخَاً...". (لُغةُ الأرضِ، ص 72) .
على وفق هذه الكيفية المتناقضة بين الفعل وردِّ الفعل يقضي الزوج المريض لياليه السودَ مع زوجته في غمرة صراع دائم آسر لا أوَّل له ولا نهاية تجعل منه يستوي على جبل الرحمة وضفاف الأمان من هذا الهوس المرير القاتل للنفس الإنسانية. علَّه يجد علاجاً ناجعاً شافياً لمرضه ويتخلَّص من كوابيس أحلامه المُتكرِّرة بتناسل السور، فهو يرغب بالتعافي والتشافي من أعراض هذا الفصام الشخصي الخطير الذي قَلبَ حياته رأساً على عَقِبٍ؛ لكنَّ رغبته بالشفاء تتلاشى دائماً:
"إنَّ حَالاتِ كَهذهِ الَّتي أفقدتْ حَياتِي يُمكنُ مَعالجتُهَا، لَكنْ لَمْ أكنْ أُصدِقُ ذَلكَ، تَتلَاشَى رَغبتِي بِالشفاءَ، وَلْم أُحاولْ ذَلكَ، مُطلقَاً، حَتَّى مِنْ أَجلِ اِبنتِي الجَميلةِ الَّتِي لَا تُشبهُ أُمَّهَا إلَّا بِصوتِها وَحُزنِ عَينيهَا وَوَجهِهَا المُستديرِ وَشَعرِها الأسودِ اللَّامعِ وَهُزَالِ جَسدِهَا! اِبنتِي الَّتي أحبُّهَا كَثيرَاً لَمْ أجدْ فِيهَا سَببَاً لِتَجاوزَ مِحنَتِي مَعَ الأَسوَارِ...". (لُغةُ الأرضِ، ص 73) .
ونفهم من تجلِّيات هذه الدفقة الشعورية السرديَّة الدرامية المشهد أنَّ البطل الفصامي السلوك في ازدواجيته النفسية القلقة وغير المتَّزنة بفعل اضطرابه النفسي المؤثِّر يحمل في تناقضه النفسي والشخصي سلوك الإنسان الطبيعي السوي الخيِّر،وهو النسق المُتَّفقُ عليه الظاهر، وسلوك النسق المضاد الآخر غير السوي المضطرب المدمِّر الغائر في النفس الإنسانية، وهو القيمة السلبية لثقافة الشخصية في صراعها المرير مع الخير والحياة. وهذا يشي بأنه يحمل ثقل النسقين في آنٍ واحدٍ، مما جعله نسقاً سلبياً على الدوام. وهنا تظهر مهارات القاصِّ في التقاط زوايا عديدة لشخصياته.
8- (قِيَامَةُ الجُثَّةِ):
(قِيَامَةُ الجِثَّةِ) آخر قصّة من قصص مدونته (لغةُ الأرضِ)، والتي كتبها القاصّ علي حسين عُبيد بلغةِ فنيَّةٍ مغايرةٍ وأُسلوب غرائبي فجائعي فيه من مهارة الإدهاش والمفارقات الصادمة عن ويلات الحروب والأخطار التي تمرُّ بها البلدان جراء قيام المتطرفين بأفعالٍ وممارساتٍ تمسُّ هيبةَ الدولةِ أولاً، وثانياً، تُعرِّض أمنها ومواطنيها لخطر الموت الرخيص، الأمر الذي يضطرهم إلى تركهم للأرض والزرع والحرث والنسل والديار عندما يشعر الإنسان بأنَّ بقاءه في مدينته وملازمته لأرضه يُعرِّضه للموت المحقَّق والخطر الدائم الذي يسلبه إرادته وحريته وأمانه الحياتي اليومي.
ونصُّ (قِيامةُ الجِثَّةِ) يسرد بتجلٍّ دراماتيكي وتراجيدي فاجع حزين ومؤسفٍ قصَّةَ شَابٍ قُتِلَ في ظروف الإرهاب، وتمَّ إيداعه عند رجل شيخ عجوز مشلول الحركة في قرية تقع على أطراف المدينة، هرب أهله اضطراراً من مثابة المكان الساخن الذي جرت فيه وقائع الأحداث الداخلية :
"هَا هِيَ السَّاحةُ المَكشوفةُ الَّتي قُتِلَ فِيهَا الشَّابُ، لَمْ أَنسَ المَكانَ الَّذِي خَرَّ صَرِيعَاً فِيهِ، تَخَيَّلتُ نَومتَهُ في لَحظاتِ قَتلهِ، وَكَانَ مُنكفِئَاً عَلَى وَجهِهِ كَأنَّهُ يُريدُ مُعانقةَ الأَرضِ، خَطَوتُ فِي السَّاحةِ، وَصَلتُ المَكانَ نَفسَهُ". (لغة الأرضِ، ص 138) . في هذا المشهد الزمكاني تتجلَّى دراما الحدث السردي.
من تفاصيل هذه الحكاية التي وظِّفتْ مرجعياتُها التي تشي بها واقعة الحدث الموضوعية يتبيَّن من فضاء النصِّ العنصر المكاني المرتبط بزمنٍ محدَّدٍ ما، وتعرَفُ إحدى شخصياته بؤرة الحدث الفاعلة (مقتل الشاب)، فيتضح النسق الثقافي لموضوعة الإرهاب والتهجير والنزوح القسري الذي كان من فعليات هذا الحدث الأمني الساخن الذي على إثره، ثمَّ تركهم الديار في المدينة، وإيداعهم الشاب القتيل في القرية عند الشيخ العجوز المشلول، والنزوح منه عندما تفاقمت ظروف الإرهاب.
لكن عندما انطفأت جذوة الإرهاب وخَفَّ لَظى لهيبه القاتل قرَّرَ ذَوو القتيل الشاب العودة للديار وإلى بيت الشيخ العجوز لتسلم جثته المودعة عند هذا الرجل المُسنِّ، ولكنَّ نسيج الحكاية السرديَّة أخذَ اتجاهاً آخر أكثر تعقَّيدًا. فحصلت مفآجات صادمة مؤلمة لم تكن في الحسبان؛ نتيجةَ موت الشيخ العجوز، وإثر تحركات مُخلَّفَات قيام الإرهاب التطرفي الجديد الذي لم يكن مألوفاً من قبل في المجتمع، والذي فرض نفسه حالاً طارئاً على واقع حال عقابيل الراهن الظرفي المعيش.
"قَادَنِي نَحوَ بَيتِ الشَّيخِ المَشلولِ، وَصلتُ الحَدِيقةَ الخَارجيَة الَتي تَتَصدَّرُ البَيتَ، حَيثُ كَانَ يَجلسُ الشَّيخُ المَشلولُ عَلَى كَرسِيٍّ مُتحرِكٍ يَومَ نُزوحِنَا[ ...] فًتِحَ البابُ فِي تَردَّدٍ، خَرَجَ مِنهُ طِفلٌ مُراهقٌ فِي مُنتصفِ العِقدِ الثَّاني مِنْ عُمرهِ أو أقلٍّ، رَحَّبَ بِي بِصوتٍ خَفيضٍ مُرتعِدٍ، وَكَمَا يَفعلُ أولادُنَا الكُرماءُ دَائِمَاً، قَالَ:-تَفضَّل اِدخلْ.شَكرتُهُ ثُمَّ سَألتهُ عَنِ الشَّيخِ المَشلولِ". (لُغةُ الأرضِ)، ص 139، 140) .
هكذا سارت الأمور في البحث، وبعد تسلُّمهم الأوراق من الطفل وقراءة ما دوَّنه الشيخ من توصيات لعائلته بخصوص جثة الشاب القتيل الذي هو الأمانة التي حملها نيابةً عن أهله، وما رافق تلك الأمانة من أحداث جِسامٍ ومفارقاتٍ وخوفٍ رهيب من طارقات الطبيعة وشرِّ رجال الإرهاب والجماعات الإرهابية المسلحة التي واجها الشيخ المشلول للحفاظ على الوديعة البشرية من العبث.
إنَّ قِيامة النسق الإنساني الظاهر تؤِكِّد ما قام به الرجل العجوز من إصرارٍ ثابتٍ عجيبٍ ووفاءٍ خالصٍ عجيب بالعهد لأُمِّ الشاب القتيل إلى آخر لحظةٍ من لحظات التصدِّي لتلك الجماعات المتشدِّدة. وهذا هو النسق الثقافي المعلن الصريح لفعل الخير، أمَّا النسق المُغيَّب المجهول من هذا الحدث، فهو عنصر الشرِّ الذي يستهدف حُرمة الإنسان في بلده ومدينته التي سقطت فيها حقوق البشر واُنتهكت مبادئُهُ وأخلاقه وقيمه دون رعايةٍ للدين والعرف والعادات والتقاليد. وهذا ما تشي به خاتمة القصة المؤثرة في فكِّ شفرة النسق الإنساني المضمر لسرديات واقعة قصة (قِيامةُ الجُثَّةِ) :
"نَزَلَ رَجُلانِ آخرانِ مِنَ السَّيَّارةِ الكَبيرةِ، حَمَلَا الجُثَّةَ بَعدَ أنْ فَكَّاَ عُقدَةَ الحَبلِ مِنَ الذِراعِ، وَضعَاهَا فِي جَوفِ السَيَّارةِ، فِي تِلكَ اللَّحظةِ رَاودنِي هَاجِسٌ مُرعبٌ بَأنَّهم سَوفَ يُصادرونَ الجُثَّةَ مِنِّي، وَأنَّ السَّيَّارةَ سَوفَ تَسرعُ بِهَا إِلى مِكانٍ مِجهولٍ، تِحِرِّكتِ السَّيَّارةُ مُسرعةُ، اِستدارتْ نِحوِ الجهِةَ المُعاكسةَ لِبَيتِي، أَخذُوا الجُثَّةَ مَعَهُم وغَابُوا فِي لُجةِ الظَّلامِ". (لُغةُ الأرضِ، ص 147) .
إنَّ أحداث القصَّة بدأً من مُفتتحها وانثيالات مُستعرضها الحدثي وحتَّى ونهايات خواتيمها توحي جميعها بأنك أمام تسريد أحداث رواية بكامل عناصرها الفنيَّة، وليس إزاء حكاية طويلة متعدِّدة الأفكار ومتجددة الرؤى وكثيرة الأنساق الإنسانية والاجتماعية والوطنية والنفسية لسيمائية الحدث.
9- (النَّافِـذةُ):
ومن أُسلوبية القص الحكائي الطويل الماتع بآفاق تسريداته الفنيَّة والجمالية المترابطة، نتحوَّل إلى نوافذ من القصِّ السردي القصير المكثَّف الذي تعلن عنه لافتة قصَّته العنوانية الموسومة بـ (النافذةُ)، المتوالية القصصية القصيرة المتكاملة التي احتوت في مضانها السردي على ست نوافذ قصصيةٍ قصيرةٍ في وحدة موضوعاتها وارتباطها الوثيق بعنوان المصفوفة السردية الأم (النافذةُ) .
وقد حرص الكاتب عبيد أن تكون هذه النوافذ القصيرة التقاطاتٍ فنيَّة وتسريدية مضيئة من واقع الحال اليومي الاجتماعي الأُسري المألوف وغير المألوف التي هي محطُّ اهتمام القارئ النابه. ومن بين نوافل الاختيار الحكائي أنْ نبتدئ بأول قصَّةٍ تحمل الرقم (1) من غير عنوان كونها جزئيةً ترقيميةً في المصفوفة المتوالية؛ لكونها جاءت مفتتحاً لمسرودات هذه القصة. والتي كتبها الكاتب أو القاص العليم علي عبيد بلغة ضمير الغائب أو الحاضر المتكلِّم الفاعل في خطابه مع الآخر.
وتدور أحداث هذه القصة الواقعية الحلمية عن حكاية رجلٍ مُقاتلٍ زوجُ امرأةٍ مثاليةٍ حالمة تحبُّ زوجها كثيراً، ويستعدُّ زوجها الذهاب إلى ساحات القتال؛ لكنَّ زوجته تحلم بأنه هذه المرَّة سوف لن يعود إليها سالماً كالمرَّات الأخرى السابقة، على الرغم من أنه يؤكِّد عودته الأبديَّة إليها، فتقول:
"أُكابِدُ نُفسِي كَي أبدُوَ مَرِحَةُ مُستقرةً، أَبتسمُ أمامَ عَينيهِ، لَكِنْ لِسَانِي يَتَحَجَّرُ مِنْ فَمِي وَتَخوننِي الكَلماتُ، فِي قَلبِي هَديرٌ مُوَّارٍ، يًمزِّقُ رُوحِي وَجَسدِي، حُلُمٌ خَبيثٌ يَدهمُنِي، لَا أَستطيعُ البَوحَ بِهِ، صَوتٌ وَصَداهُ سَيبقَى يَتردَّدُ فِي رَأسِي إلَى الأبدِ، يَقول ُالصَّوتُ: زَوجُكِ لَنْ يَعودَ هَذهِ المَرَّةِ!". ( لُغةُ الأرضِ، ص51) .
هكذا تبدو الأمور السرديَّة للحكاية وتتضح على ظواهرها النسقية الحاضرة، بأنَّ لامجال لعودة الزوج هذه المرة من جبهات القتال؛ وذلك بحسب ظنون الزوجة ورؤياها الحُلمية. ولكن هل تتحقَّق نبوءتها الحُلُميَّة أو شكَّها الظنِّي الاعتقادي حِيال زوجها. هذا النسق الخفي سنلمسه من خلال خاتمة القصَّة التي أراد لها الكاتب أن تكون خليطاً من الخيال اللَّذيذ والواقع اليومي الزوجي القريب:
"قَفَزتُ مِنْ نَومِي، زَوجِي يَغفُو إلَى جَانبِي بِوجهِهِ الوَديعِ، أنفاسُهُ كَمَا عَهدتُهَا تَنشرُ الأَمانَ فِي رُوحِي وَقَلبِي وَتَجعلَ البَيتَ جَنَّةً مِنْ أمانٍ وَسَلامٍ؛ لَكنَّنِي لَمْ أَستطعْ النَّومَ بَعدَ هَذَا الحَلِّ، فِي الصَباحي ِ تَفاجَأ بِاستيقاظِي وَاِحمرارِ عَينَيَّ، وَرَأى غَمامَةَ حُزنِى تَكسُو مَلامِحِي، لَمْ يَقُلْ شَيئَاً فِي البِدايةِ، لكنَّهُ حِينَ أكملَ اِرتداءَ مَلابسِ الرَّحيلِ، وَتَمنطَقَ بِالرصاصِ، هَمَسَ فِي أُذنيَّ :- سَأبقَى مَعكِ إلَى الأَبَدِ يَا...". (لُغة الأرضِ، ص52) .نهاية فراغية مفتوحة تحتمل أكثر من تحليل وتأويل.
إنَّ موحيات النصِّ الحُلُمية والواقعية على الأرض تؤكَّد بقاء الزوج المقاتل حَّياً مع زوجته الحبيبة؛ لكن هذا الإيحاء قد يحتمل أمراً آخر من خلال النهاية التي تركها لنا القاصُّ مفتوحةً النداء باسم الزوجة، قد يكون بقاءً معنوياً وليس مادياً يعيش بذكراه لزوجته إلى الأبد، لأنَّ الحبَّ الحقيقي لا يموت أصحابه المحبُّون والعاشقون، وهذا هو مكمن مضمرات الحدث القصصي الخفي البعيد.
ومثل ما بدأنا بتفكيك قصَّة الجزء الأول عن المرأة الزوجة الحالمة من قصة (النافذة) الأم المتوالية القصصية، نتحوَّل إلى آخر جزء منها هو السادس ومختتمها القصصي الذي يخبر أيضاً عن أحلامِ امرأةٍ عاشقةٍ تحبُّ زوجها الحاضر الغائب وتحلم به في النظر إلى ملابسه كرمزٍ صُوري من رموز حضوريته معه في بيتها الآمن، الذي هو مثابة هذا النسق الثقافي الحُلمي الظاهر الجَلي:
"فِي البَذلةِ البَيضَاءِ، اِمتلأتْ، فَاضتْ بِالجسدِ الأَليفِ، تَقدَّمتُ صَوبَهَا، إِنَّهَا لَمْ تَزلْ مُمتَلئَةً فَائضةً، تَقَرَّبَتُ مِنَها كَثيرَاً، اِحتويتُهَا بِذراعِي وَألقيتُ بِرأسِي فِي دِفْءِ الصَدر ِالوَاسعِ،غِبتُ عَنْ كُلِّ شَيءٍ، وَأنَا أَستمعُ لِطرقةٍ مُمَيَّزةٍ .. طَرقةٍ.. طَرقةٍ وَبعَدَ بُرهةٍ... طَرقةٍ ثَالثةٍ". (لغة الأرض، ص 58) .
هذا التوكيد اللَّفظي لوقع صوت الطرقات الثلاث المميَّزة يقترن أو يشي بنسق حضورية الزوج المؤكَّدة للبيت وإن كنات الحضوريةُ حُلُميةً. وأنَّ هذه الأنسنة الحضورية للبذلة التي نفخت فيها الزوجة روح زوجها، أو استحضرته مخيلتها في نسغ عالٍ من الحبِّ الروحي يمنح القصَّة بُعداً سرديَّاً وفنيَّاً وجمالياً في أُسلوبية القاصِّ الذي أعطى المرأة في أكثر من نصٍّ قصصي، وفي هذا النسق الثقافي المضمر حضوراً فاعلاً ومميَّزاً سواء أكان بقصة (النافذة)،أو في غيرها من القصص الأخرى التي تؤكِّد بدقةٍ مهارة الكاتب وقدرته في تجسيد وقائع الحدث السرديَّة تجسيداً فنيَّاً مُدهشاً.
10- (أَنينٌ مُتوارَثٌ):
(أنينٌ مُتوارثٌ)، هي القصَّةُُ الأولى من قصص مدوَّنةِ (لُغةُ الأرضِ)، والدالة على معانيها الموضوعية في أنَّ هذا الأنين المتوارث، هو أنينٌ أو بكاءٌ إنسانيٌّ في أدبيات وأعراف المجتمع العراقي الراسخ تأصيلاً. هو بالحقيقة في هذه القصة الأنين البكائي والحزن السومري المتوارث أُسرياً؛ نتيجة نوبات الطَلَقِ الولادي للمَرأة عند حدوث المخاض المفاجئ أو غير المفاجئ الطبيعي.
وهو النسق الثقافي الإنساني الأول المُعلن للقارئ ظاهرياً في طيَّات هذه القصة الحافلة بالحكايات الفكريَّة التي تفرضها سيميائية الفضاء القصصي وأجواؤه الحدثية. بقي أنْ نخوض التأمُل في قراءة هذه القصة (الإنسانية) المتفرِّدة في خصوصية موضوعها الساخن الطارئ؛ لنتعرَّفَ على النسق المضمر الذي يتخفَّى بترقبٍ وراءه الكاتب في تلافيف تسريداته الففجائية الصادمة الحدث.
وتتلخص مجريات الحدث القصصي وصراع حبكته الدرامية عن قصة امرأة أرملة مع شقيقها يحدث لها مخاضٌ أو طلقٌ ولادي في ظروف حربٍ غير اعتيادية من ظروف طوارئ البلد الذي تتعَّرض فيه بنيته التحتية ومراكزه الصحيَّة إلى الدمار والخراب نتيجة وضع فُرِضَ عليه. هذه المرأة يفاجئها مخاض الولادة العسير في بيئة صحراوية خالية من المستشفيات ومن دُور الولادة، وحتَّى من النساء القابلات من ذوي الخبرة والاختصاص، فكان المخاض عسيراً زمكانياً عليهم:
"خَطونَا مَعَاً فِي أَعمَاقِ الصَّحراءِ المُحاصرَةِ بِالبردِ، لَمْ تَقُلْ صَاحِبَةُ المَزرعة ِإِلَى أيَن تَسيرُ بِنَا، كَانَ صَوتُ الأنينِ يَطرِقُ سَمعِي بِشِدَّةٍ، خِفتُ عَلَى شَقيقتِي مِنَ المَوتِ الَّذِي تَتَمنَّاهُ هِيَ وَأخشاهُ أَنَا، لَا شَكَّ أنَّ الكَلامَ المُجَرَّدَ يَختلفُ عَنْ مُواجهةِ الحَقيقةِ، فَالإنسانُ يُعلِنُ مَواقفَ كَثيرةً بِلسانهِ؛ وَلكنَّهَا عِندَمَا تُصبِحُ حَقيقةً سَوفَ يَتراجَعُ عَمَّا لَفَظهُ لِسانُهُ، شَقيقتِي تَمَنَّتِ المُوتَ فِي النّهَارِ الفَائِتِ، وَهَا هُوَ يُفاجِئُهَا فِي اللَّيلِ وَيُصبِحُ حَقيقةً لَا مَفَرَّ مِنْهَا، قُلتُ لِلمرأةِ الَّتي رَافقتنَا: أَخشَى عَلَى شَقيقتِي مِنَ الخَطَرِ الَّذِي يُحِيقُ بِهَا، مَاذَا سَتفعلينَ؟ -هَدِّئْ مِنْ رَوعِكَ سَوفَ نَجِدُ حَلَّاً". (لُغةُ الأرضِ، ص 9) .
تمثِّلُ هذه الدفقة السردية الإنسانية الطويلة والمتواثبة الخطى بؤرة الحدث القصصي الدرامي الساخن، وهي في الوقت ذاته موجز بيانه النسقي الثقافي البائن للمتلقِّي والقارئ الناقد المعرفي. والمُساءَلةُ التي تُلقي بنفسها الاستفهامي، هل من الممكن أنْ نجد حَلَّاً ناجعاً لهذا المأزق الإنساني الصعب في مثل تلك الظروف المأساوية الحالكة التي فرضت نفسها لحلِّ هذا المشكل الإنساني الكبير وكيف يكون نوع هذا الحلِّ؟ لنعرف المُغيث له من النسق الخفي الآخر لهذه الواقعة الحدثية.
"رُبَّمَا تَحدُثُ هَذهِ المُعجزةُ، فَتُغيِّرُ كُلَّ شَيءٍ رَأسَاً عَلَى عَقِبِ لِدرجةٍ أَنَّ المَوتَ قَدْ يَتحوَّلُ إِلَى حَياةٍ، وَالظلامَ إلَى ضَوءٍ، وَاليَأسَ إلَى أَملٍ، والخَوفَ إلَى قُوَّةٍ، وَهَا هِيَ تَحدُثُ بِالفعلِ، فِي لَحظةٍ فَقدنَا فِيهَا الأملَ بِكُلِّ شِيءٍ، إِلَّا مِنْ ذِلكَ التَشبثِ المُستميتِ بِنَبَضِ الحَياةِ حَتَّى آخرَ الأنفاسِ، فَفِي غَمرةِ حَالةِ التَّرقُّبِ وَالقَلقِ والخَرابِ وَضَياعِ الرَّجاءِ، يَنبثقُ ضَوءٌ ضَئيلٌ لِلأمَل، مَا يَلبثُ أنْ يَشِعَّ... يَنمُو.. يَكبرُ..يَتصاعدُ لِتنَطلقَ صَرخةُ وَليدٍ جَديدٍ،كَانتْ صَرخةَ جَنينٍ أزليٍّ تَراكمتْ مُنذَ بِدءِ الخَليقةِ وَانطلقَتْ اللَّحظةَ، كَي تَتَحدَّى الحَربَ وَكُلَّ أَشكالِ المَوتِ الأُخرَى...". (لُغةُ الأرض، ص 12) .
في لُجةِ هذا المخاض العسير تنكشف تلك الصرخة الأنينيَّة المُتعثِّرة، وبكلِّ تأكيدٍ أنَّها صرخة الأمل والنسق الخفي المفقود، والتي كنات مُغيَّبةً عن الأنظار في وقوعها الحَلِّي المفاجئ التي رسمها القاصُّ عَلي حسين عُبيد بعينه السرديَّة الباصرة وبرؤياه الحُلميَّة المِخياليَّة الماتعة في لوحةٍ هذه القصة الاستثنائية الدرامية المتحركة التي يمكن أن تحصل في ظروف طوارئ غيرِ عاديَّةٍ.
وعلى وفق هذه المتوالية الحركية الواثبة الخطى تبدأ حركة الصراع الدرامي للحكاية القصصية، وتتفاعل دينامياً لتصلَ إلى قمَّةِ الصراع وهرمه العالي، ثُمَّ تنفرج حبكة عقدته الحَلِّيَّة ويتمخَّض عنها تحوِّلاٍت إنسانية وفعليَّةٍ غيرِ مُتوقعةِ الحدوث. ولكن هذا كلُّه في صوبٍ والخاتمة التّخَلُّصِيَّة للقصة في صوب موضوعي جميل آخر. فلنقرأ ما كتبه القاصُّ لها من تخريجٍ فنِّيٍ مؤنسنٍ رائعٍ:
: لَمْ تَجِبْ بِشَيءٍ، تَقَاطرتِ الدُّموعُ مِنْ عَينيهَا، تَنَبَّهتُ إِلَى خَطيئتِي، لَيسَ صَحِيحَاً أَنْ أُذَكِّرَهَا الآنَ بِزوجِهَا الَّذِي خَطفتهُ الحَربُ، حَاولتُ مُعالجةَ الأَمرِ المَوقفِ، لَكنَّنِي فَشلتُ، فَقَدْ كَانَ قَلبُها يَبكِي بِصوتٍ مَسمُوعٍ". (لغة الأرض، ص 14) .
لقد أراد الكاتب أنْ يبعث برسالة يخبر فيها قارئهُ بهذه الخاتمة التراجيدية الحزينة الشفيفة المؤسفة لما آلت إليه صِعابُ الأمورِ، وأراد أنْ يقول أنَّ النسق الظاهر بدأت قيمته الإنسانية العُليا بأنينٍ بكائي قديم مُتوارث مَسموعٍ، وخُتِمَتْ بأنينٍ قلبي مُؤنسنٍ مَسموعٍ يُقطِّعُ نِياطَ القَلبِ، ويؤلِّبُ شغاف القلب وعلائقه بالحزن السومريّ المُتوارث المُستديم الذي لا يمكن انتزاعه أبداً من النفس العراقيَّة.
11- (أَزيزُ الذُّبَابِ):
من بين نصوص هذه المجموعة القصصية قصَّة (أَزيزُ الذُّبابِ) التوثيقية التي يلتقط الكاتب في نسقها الثقافي الظاهر مشاهد الفوضى والألم التي مرَّ بها الشعب العراقي في تاريخه المعاصر والحديث خلال واقعة الاِنتفاضته الشعبانية ضد نظام الحكم البائد في آذار/مارس من عام 1991، والتي لم يكتب لها النجاح لأسبابٍ كثيرةٍ خارجة ٍعن إرادته واستقلالة. والَّتي لم يُصرِّح الكاتب بذكرها في بياناته السردية،وأنَّ موحياتهاالحكائية تفضح المسكوت عنه وتكشف عن أنساقها الخفيَّة.
وها هو القاصُّ علي عُبيد يُتَرجِمُ لهَّذه الانتفاضة الشعبية نسقياً بلغة (أزيزِ الذُبابِ) العشوائية ويصف لما حدث لإنسانية المجتمع من ترهيبٍ وقمعٍ وقتلٍ بطريقةٍ وحشيةٍ، تكشف عن جوعٍ وقهرٍ وإذلال:
"تَقدَّمَ الرَّجلُ بِعصبيةٍ، وَسَحَبَ الغِطاءَ بِقُوَّةٍ عَنْ الجُثَّةِ، فَانكشفَ الوَجهُ مُجدَّدَاً، فِيمَا عَادتْ مَجاميعُ الذُّبابِ تُهاجِمَ الوَجهَ بَأزيزٍ يَقترِبُ مِمَا يَحدثُهُ الرَّصاصُ، رَأيتُ مَجموعةَ رِجالِ تَخطَّو الجُثَّةَ، فِي عُيونِهم تَشتَعِلُ نَارُ الغَضبِ، دَنَا مِنِّي أخِي وَقَالَ: لِنبتعدَ مِنْ هُنَا". (لُغةُ الأرضِ، ص 28) .
مِمَا يُلاحظ أنَّ القاص قد قرنَ في التشابه ما بين أزير مجاميع الذباب وأصوات لعلعة رصاص مجاميع الرجال الآخرين في انتهاك حرمة الإنسان التي كرمها الله في هذ النسق الخفي من فوضى القتل. فهذا القتل المجاني الرخيص لهوية الإنسان يتبعه في النسق المُضمرِ دَمار وتخريب للمباني الحكومية الأمنية وضياع وتحطيم للبنية التحيَّة اللُّوجستيَّة للشعب ونهب مخزونه. وقد أرخن الكاتب لهذا التهافت غير المسبوق لِلاستيلاء على غذاء الشعب من مخازنه الرئيسة بحجَّة أنه مال للشعب المتعطش من حقِّه الحصول عليه إثر معاناة الحصار الاقتصادي وحرمان الشعب من مُتعِ خيراته:
"وَاصلنَا السَّيرَ نَحوَ مَخازنِ الغِذَاءِ، كَانتَ تَمُرُّ مِنْ جَانبِنَا سَيَّاراتُ حِمْلٍ صَغيرةٍ مُعبَّأةٍ بِأنواعِ الأغذية خفي ِ، وَثَمَّةَ عَرباتُ دَفعٍ يَدويَّةٍ مُحمَّلةٍ بَأكياسٍ مِنَ الطَّحينِ والرُّزِ يَدفعُها شَبابٌ نَحوَ الأحياءِ السَّكنيَّة ِالبَعيدةِ، الشَّارعُ فِي حَالةِ هَرجٍ وَمَرَجٍ، لَا شَيءَ يَخضعُ لَلانضبَاطِ القَانونيِّ أو العُرفيِّ أو حَتَّى الذَاتيِّ، لَمْ أرَ مِثلَ هَذَا المَشهدِ مِنْ قَبلُ، أَشخاصٌ يِحملونَ أكياسَاً عَلَى ظُهورِهم وَيغذُّون السيرَ فُرادَى إلَى بُيوتِهم وَجماعاتٌ تَفعلُ الشَّيءَ نَفسَهُ، وَصلنَا بَاحةً وَاسعةً تَتقدَّمُ المَخازنَ، كَانتْ جَمهرةُ النَّاسِ فِيها هَائلةُ[...] رِحتُ أَتأمَّلُ هَذَا المَشهدَ الغَريبَ، قُلتُ لِأخِي: هَلْ كُنتَ تَتَوقَّعُ حُدوثَ شَيءٍ مِنْ هَذَا الَّذِي تَراهُ؟ - نَعمْ هَذَا لَيسَ بِالأمرِ الغَريبِ، بَلْ هُوَ السُّلوكُ المُتوقَّعُ مِنْ أُناسٍ يُحاصرُهم الجُوعُ. -هَلِ الجُوعُ يُبرِّرُ هَذهِ التَجاوزاتِ؟". (لُغةُ الأرضِ، ص 30، 31) .
هكذا يُفصحُ نسق (الفرهود) الخفي عن نفسه الجائعة باعتباره بعضاً من حقوقهم المدنية المسلوبة. وعلى الرغم من ذلك الألم الحسير الذي وظَّفته عدسة الرائي القاصِّ، فإنَّه لا يصح إلَّا الصحيح في كل هذا الخراب الحادث للحياة،كانت الخاتمة مُعِّبرةًعن أمل الكاتب وحبِّه لله (الرَّزاقُ الحَيُّ)،ص37.
12- (بَساتِينٌ مُلَغَّمَةٌ):
ومن النصوص ذات الطابع الإنساني التي تتحدَّث في نسقها الظاهري المعلن عن ويلات الحروب ونتائجها الوخيمة على الإنسان قصَّة (بَساتينٌ ملغَّمةٌ) التي حفلت بها مجموعة (لُغةُ الأرضِ) . حيث تصف حكاية هذا النصِّ السردي قصَّة مجموعة من الرجال والنساء ساقتهم أقدار الحرب السير في بساتين ملغومة بالمخاطر والمهالك من أجل استعادة جثة شابٍ مغدورٍ، لكنَّ الأمورَ تَسيرُ بالمقلوب:
"تَبقَى للأَماكنِ والبُيوتِ نَكهتُهَا الخَاصَّةُ فِي الذَّاكرةِ، نَألفهَا وَتألفَنَا كَمَا يَقولُ غَاستونُ باشلارُ، كَأنَّها كَائناتٌ لَا تَنسَى، مَضتْ سَاعاتٌ عَلَى تَركِنَا الصَّحراءَ، تَوغَّلنَا فِي بَساتينِ النِّخيلِ، أقنعنَا الأبَّ الذي فَقَدَ ابنَهُ بِالمجيءِ مَعَنَا، عَلَى أنْ نَعودَ لِابنهِ المَدفونِ هُنَا بَعدَ الحُصولِ عَلَى وَاسطةِ نَقلٍ نَحملُ رُفاتَهُ مِنَ القَبرِ المُؤقتِ إِلَى المَدينةِ[...] مَعَ الغُروبِ يَجبُ أَنْ نَصِلَ إِلَى البَيتِ البَديلِ لَمْ تَكنْ العَرافةُ مُخطئَةً عِندَمَا حَذرتنِي مِنْ صُعوبةِ وأخطارِ الطَّريقِ المُؤدِّي إِلَى الرِّيفِ". (لُغةُ الأرضِ،ص128) .
هذا هو النسق الثقافي المتجلِّي الَّذي من أجله بدأت رحلة الأشخاص في نفق متاهة عذاب مظلم للوصول إلى الغاية المنشودة لتحقيق المَرام المقصود؛ ولكن بعد مصاعبٍ جمَّة واجهتم وخسارات:
"اِبتعدنَا عَنْ مَكانِ الاِنفجارِ، صِرنَا نَخوضُ فِي حُقولٍ جَديدةٍ، المَطرُ يَتزايدُ، الظَّلامُ يَتكاثَفُ، سَمعنَا جَلبةً ولَغطَاً خَلفَنَا لَا نَعرِفُ لِمَنْ، تَعالتِ الأصواتُ عِندَ مَكانِ الاِنفجارِ، حَثثنَا الخَطوَ عَلَى وَقعِ أَنينِ مَكتومٍ أَخذَ يَخفُّ بِالتدريجِ، لَمْ يَعُدْ هُناكَ أَنينٌ أوْ حَركةٌ فِي الجَسدِ مَبتَورِ السَاق، لَاحَتْ بُيوتُ القَريةِ وَمِنْ بِينهَا البَيتُ المُرامُ، فِيمَا أخذتِ السَّمَاءُ تَمطرُ فُوقَ أَجسادِنَا بِغزارةٍ وَكَرمٍ غَيرِ مَسبُوقِ". (لُغةُ الأرضِ، ص 136) .
من تجليات هذه الخاتمة نفهم ثقافة المضمر النسقي المستور الذي أوصلهم إلى هذه النتيجة التي على إثر بدايتها السببية ومستعرضاتها الفعلية ونهايتها الحقيقية المؤسفة توفي والد الشاب المغدور المُودَعِ قبرُهُ في مكانٍ مَا، والذي كان يأمل أنْ يعود بجثة ابنه إلى الديار سالماً؛ لكنَّ الأقدار التي فرضتها لعبة الحروب على الشعوب المغدورة قسراً كانت سبباً رئيساً خفيَّاً في كل هذه الخسارات الروحية والنفسية والوطنية التي دمرت البلد وأحالته من سلام إلى حربٍ مدمرةٍ لاتُقيمُ للإنسان عِزَّاً ولا كرامةً، والخاسر الأوحد فيها هم الكادحون من المهمشين والمُضحِّينَ الشرفاء من أبنائه الأُباة.
والقاصُّ في موضع تلك الخاتمة الموضوعية يبعث برسالة إيحائية سلبية مفادها أنهم وصلوا لهدفهم (البيتُ المُرامُ) ؛ ولكنْ دون جدوى، فالفشل كان حليفهم؛ لأنَّ فقدوا الأبَّ ولي الأمر. ولم يفلحوا إلَّا بِالمطرِ الغزير الذي غسل أدرانهم المتعفنة من جرِّاء رحلة ويلات الحرب لا السلام.
13- (خَطايَا الآباءِ):
من يتتبع بتأملٍ وتدبُّرٍ فكريٍّ نصَّ (خَطايا الآباءِ)، سيقرأ أنَّها من شاكلة القصص السيمائية ذات الإيحاءات الرمزية الكبيرة في مضان أنساقها الثقافية،والتي تتحدَّث بكل جرأةٍ وانصافٍ عن خطايا الآباء الراحلين الكثيرة التي ورثها عنهم الأبناء الخَلفِ، ولم يتخلَّصوا من فكِّ الاشتباك عنها، كونها تمثِّل تِركةً ثقيلةً استغلها تُجَّار الحروب من أعداء الحرية والسلام، لتبقى أرضاً خِصبَةً لديمومة الخراب واليَباب. والأنكى أن الآباء قد سمحوا لأنساق الفساد أن تصيب أرضهم بشتىَّ الأمراض:
"غَمَامةُ حُزنٍ دَهمَتْ الأَمًّ هَبِطَ الاِبنُ بِرأسِهِ عَلَى يَدِهَا، قَبَّلَ ظَاهرَ كَفِّهَا، لَاحظَ الصَمتَ والسُّكونَ الَّذِي يُخيِّمُ عَلَى الحَديقةِ، تَراءتْ لَهُ الصُورُ الثّلاثُ فِي غُرفةِ الجِلوسِ، جَميعُهم قَتلتهُمُ الحُروبُ الثَلاثُ بِطريقةٍ مُباشرةٍ أوْ غَيرِ مُباشرةٍ، قَالَ: أُمِّي ثَلاثُ حُروبٍ مُدَمِّرةٍ تَكرَّرتْ فَوقَ أرضِنَا فِي زَمنٍ وَجيزٍ، بَينَمَا هُناكَ أراضٍ لَمْ تِمسْهِا الحُروبُ عَشراتُ أوْ مِئاتُ السِّنينِ، مَاذَا نُسمِّي ذَلكَ؟ هَلْ هِيَ لَعنةٌ تَستهدفَنَا أَمْ مَاذَا؟ - بَلْ هِيَ مِنْ أخطاءِ الرَّاحلينَ". (لغة الأرض، ص 79) .
واللَّافت للنظر في موحيات هذه الحكاية الإخبارية أن القاصَّ لم يُسمٍّ تلك الحروب الثلاث المدمِّرة باسمها الصريح بل ترك ذلك لوعي القاري النابه الإيحائي. وواضح أنها الحروب التي مرَّ بها العراق مع جيرانه الإقليميين (حرب إيران)، وأعدائه الخارجيين (حرب الخليج الأولى والثانية) . التي مازالت آثارها البعيد تنكأ فتق الجروح والآلام على وقع قلوب أجيال من العراقيين الشباب.
أما تساؤله المثير هناك أراضٍ لم تمسحها الحروب منذ عقود من الزمن إلا أرضنا! وألقى باللُّوم على الراحلين من الآباء. فهذا يعني أن هناك أنساقاً خفيَّةً من بعض السلف السابقين لا تتمنَّى - في ولائها للأجنبي-الخير والاستقرار للعراق بسبب تبعيتها له وخضوعها وخنوعها لإرادته الدولية، لا بسبب جهلها وغَيِّها في صيانة أرضها وَعِرضِهَا لأنَّهم لم يركنواإلى العلاج الناجع الصحيح للخطأ.
أما الأرض الأخرى التي لم تصِبها الأمراض والأورام الخبيثة؛ في محميَّة من جهات دولية نافذة.
ويمضي القاص بخطى وئيدة في استعراض ويلات الحروب الثلاث القاسية الأليمة التي شُنَّت على العراق وعلى شعبه الصابر المحتسب؛ بسبب أخطاء القائمين على حُكمه وإدارته العابثة. ونكتفي في هذا المضمار السردي لنسق الحرب والخراب بالخاتمة النهائية التي تكشف عن النسق الخفي لهذه الحروب التي خلَّفت الحصار والموت والدمار والعاهات والمآسي التي مازالت شاهداً على العصر، وقد قرن القاص في الجانب الإنساني بين الضحية العسكري وصنوه المدني المسالم:
"هَدَءَ القَصفُ، تَذكَّرنَا المُقدَّمَ (جَميل)، خَرجنَا مِن المَقّرِّ بَاحثينَ عَنهُ، شَاهدنَاهُ عَلَى مَبعدةٍ مِنَّا، جَسدينِ مُتشابكينِ مَعَاً، وَهَرعنَا إليهمَا، رَأينَا الأبَّ مَبتورَ السَّاقينِ، بَدَا كَأنَّهُ يَضمُّ اِبنتَهُ بِقوِّةٍ إِلَى صَدرهِ فِي لَوحةٍ لَنْ نَنسَى مَأساتَهَا مَا حَيِينَا". (لغة الأرض، ص 88) .
و الذي نستوحيه من أنساق هذه الخاتمة المأساوية الظاهرة والخفيَّة إلى أخطاء الآباء التي تمثَّلت بشخصية الضحية الأولى الضابط الطيَّار جميل الذي لم يحسب حساباً لمثل هكذا أخطاءٍ مُروَّعةٍ تقع، والضحيَّة الأخرى هي الشخيصة الثانية ابنته الطالبة الجامعية التي راحت ضحية هذا الخطأ.
14- (أَورامٌ لَيست حَميدَةً):
هي نصُّ من القصص التي توسَّطت بموضعها الحدثي المثير نصوص مصفوفة (لُغةُ الأرضِ) بالحديث عن أوهام الناس وهذياناتهم الكثيرة عن الآخر، حتَّى صارت هذه الأوهام والخرافات الملطَّخة بالخطأ كأنها أورام مريض يهلوس بالإعياء والداء؛ ولكَّنها أوراماً ليست حميدةً، بل هي خبيثة تنوء عن فهم خاطئ للحياة والإنسان. والقصة تسرد حكاية شاب يُدعى حَمودي طالته أوهام الآخرين وتخرُّصاتهم عليه بالتهويم والأخطاء والاتِّهامات غير الصحية التي لا تستند لرأي راجح:
"خَرجَتْ بَدريةُ تَضوعُ مِنهَا رَائحةُ الصِّدقِ وَالورعِ، وَقَفَتْ عَلَى عَتبةِ البَابِ وَقَالتْ لَهُم: مَنْ مِنكُم رَأَى (حَمودِي) يَضربُ الطِفلَ؛ بَلْ هُوَ الَّذي نَزلَ إليهِ وَأخرجَهُ مِنْ فُوِهَةِ المَجاري المَفتوحَةِ وَسَطَ الزُّقاقِ وَأنقذهُ مِنَ المَوتِ؟ وَلولَاهً لِظلَّ الطِّفلُ مَطموراً إلَى الأبدِ فِي مِياهٍ ثَقيلةٍ آسنةٍ؛ لَكنَّهُم لَمْ يُصدِّقُوا وَأهمَلُوا أقوالهَا وَطالبوا بِحَجرِ حِمودي، أو إبعادِهِ عَنِ الحَيِّ ؛ لأنَّهُ بَاتَ يُشكِّلُ خَطرَاً عَلَى أرواحِ أطفالِهُم كَمَا قَالُوا[...] وإنْ لِمحوهٌ مَرَّةً أُخرَى فِي أَزقةِ الحّيِّ فَلهُم أنْ يُسَلِّمُوهُ لِأقربِ مُستشفَى لِلمجانينِ،وَمُنذُ ذَلكَ العَهدِ بَدأتْ حَيَاةٌ جَديدةٌ لِحمودِي يَعيشُها فِي حِجرَةٍ ضَيقةٍ تَنفتحُ فِي جِدارِهاكُوَّةٌ تُساوِي مِساحةَ الوَجهِ،وَأجملُ مَا فِيهَا إطلالتُهاعَلَى الزُّقاقِ مُباشرةً" (لغة الأرض، ص91) .
بهذه الكيفية السردية المُتراتبة كانت اتِّهامات الآخرين تطول شخصية حمودي النسق الثقافي الظاهر لهذه القصة الإنسانية المُمتلئة بأمراض المجتمع وأوهامهم التَّخيُّلية التي تصيب العقلاء.وفي النهاية يجد الكاتب مَخرجاً فنيَّاً مُناسباً لهذا النفق الضيق الذي نال الشخصية من خلال علاقة حمودي ببدرية. ولعلَّ هذا التخريجَ،هو النسق الخفي المضمر لتحقيق الآمال والانتصار للشخصية:
"ثَمَّةَ بَوحٌ بِأصواتٍ شَجيَّةٍ مَشوبةٍ بِحُزنٍ رَقيقٍ .. عَتَبٌ وَلَوعَةٌ وَبَقايَا عِشقٍ كَبيٍر.. يَلتصقُ الجَسدانِ كُتلَةً مِنْ نُورٍ، لِتبدأَ طُقوسُ التَّسامِي.. حُزمةُ ضَوءٍ تَرصدُهَا العُيونُ، تَخرجُ مِنْ كُوةٍ صَغيرةٍ وَتَمضِي بِاتجاهِ السَّماءِ شِهابَاً سَاطعاً يَدورُ فَي الفَضاءِ، ثُمَّ يَعلُو وَيَعلُو صَوبَ النِّهاياتَ الَبعيدةِ وَيَنفُذ إلَى مَا وَراءِ النُّجومٍ". (لُغةُ الأرضِ، ص 100) .
هكذا نطقت خواتيم القصَة بنسق الحقِّ الخفي الذي حلقَّ فيه القاص علي حسين عُبيد بأعالي مخايل فضاءات السرد ليمنح الشخصية الفواعلية الارتكاسيَّة الحزينة المضطهدة حقَّ وفائها الإنساني النبيل الذي لا غضاضة فيه أبداً؛ لتنعم بالأمل الجميل بعد الألم الخليل الذي رافقها وهماً.
ولا بدَّ من التنبيه للقارئ المعرفي النبيه من خلال انتهاء هذا المقام الدراسي النقدي لقصص المدوِّنة السردية الأربعَ عشرة (لُغةُ الأرضِ)، أنِّ هناك أنساقاً ثقافيةً خفيَّةً أخرى كثيره لم يصرح بها الكاتب القاص علي عبيد ولم يسمها باسمها؛ وقد تركها لوعي المتلقي أو إلى القارئ النوعي النموذجي أو (الناقد الفذ الألمعي) ؛ لأسباب كثيرة أراها جديرةً حسب ظنِّي واعتقادي لقراءتي وتحليلي لخطاب المدونة السردية والوقوف على جوانبها الإنسانية وموضوعاتها الفنيَّة العديدة.
إنِّ امتناع الكاتب عن التصريح المباشر كان له ما يُبرره من مسوغات شروط المسابقة الدولية التي فازت بها هذه المجموعة،والتي تنبذ الحديث عن أثر الأنساق الحسَّاسة التي تتعلَّق بالطائفية والحزبية وتابو الدين والقضايا الدَّوْلِية الأخرى التي تقف حائلاً دون الاشتراك بالمسابقة العالميَّة.
ويبدو لي أنها فرصة إلماعية مُهمَّة من الكاتب المبدع علي حسين أنْ يستخدم فيها لُغة التلميح والإضمار والإشارات السيمائية التي تُعَبِّرعن صدق علاماتها الأيقونية الخبيئة خلف السواتر والحُجبُ البعيدة. بقي أن تعرف هكذا تكلَّمت مُدوَّنة الكاتب بلغة الأرض البيانية ونطقت بترجمانها اللُّغوي الناصع. و"رُبَّ لِحظٍ أَبلغُ مِنْ لفظٍ" كما ورد في أمثال تراث الأثر العربي البياني القويم. ورحم الله عمرو بن بحر الجاحظ حينما قال مُبيِّناً أثر الكلام البليغ: " رُبَّ إشارةٍ أبلغُ مِنْ عِبَارِةٍ".
أَنساقُ الفِضاءِ المَكاني السَّرديَّةُ
يعدُّ المكان هو الفضاء النصِّي الذي ينبثق منه فعل الحدث السَّردي وتتفجَّرُ منه فاعلية حكاياته الفكرية المتساوقة بحركة شخوصه الفواعلية الُمنتظمة. والذي يسهم إسهاماً كبيراً في إنتاج وتخليق لُغة الكاتب وتشكيل إيقاعه السردي التعبيري عندما يرتبط أثره ارتباطاً وثيقاً بحدثٍ زماني محدِّدٍ.
وعلى وفق ذلك التوصيف الزمكاني فإنَّ كلَّ الفضاءات المكانية المتعدِّدة تؤدِّي دوراً زمانياً مهمَّاً وفاعلاً في تشكيل ثقافة القاصِّ الكاتب المعرفيَّة، وتؤكِّد تعميق هاجس هُوية ارتباطه الأرضي به وانتمائه الثابت والمتحرِّك له. لذلك فإنَّ المكان يُشكِّل مَصدراً ثرَّاً من مصادر أنساقه ومرجعياته الثقافية المتنوِّعة. فإذا كان المكان يُمثلُ صوت الشاعر الثائر المُدَوِّي، فإنّه يشكِّل نقطة انطلاق السارد التتابعية التي ينتقل من خلالها إلى فضاءات عوالمه النصيَّة الفسيحة عبر تحوِّلات تقنيات الاستباق والتأخير السرديَّة لواقعة الحدث الموضوعيَّة. وقد يكون هذا المكان ماديَّاً حسيَّاً أو معنوياً.
لقد حرص القاصُّ علي عُبيد في مشغله القصصي الوارف على توظيف واستدعاء كلِّ الأمكنة والمثابات السرديَّة المُتاحة التي تناسب أنساق ثقافة الوحدة الموضوعية لواقعة الحدث السرديَّة. فاستحضرَ أشكال المدينة وتمظهراتها الحضرية،وتناول معالم َالريفِ وأجواءه السِّحريَّة، وكتب عن تجلِّيات الصحراء القاحلة وتضاريسها المُناخية المقفرة. وتفاعل مع عناصر الطبيعة الكونية الثابتة والمتحركة بكل تفاصيلها واستنطقها صوتياً وأنسنها حركيَّاً، حتَّى وصفها جماليَّاً بـ (لُغةِ الأرضِ) .
ومثلما أنَّ المكان وطن الشاعر الساكن في قلبه النابض، فإن المكان هو مثابة القاصِّ والرائي السارد الحاضر فكراً ووجوداً. وقد يخلق السارد الحاذق عبر مخياله التصوُّري من المكان الحسِّي الواقعي لا مكاناً افتراضياً بديلاً عن أصالة المكان الحقيقي الأول. وتلك هي مَقدرة فاعلية الإبداع القصصي عند الكاتب عندما يوظف في مسروداته الحكاية على أنَّها فكرة قائمة بذاتها، والفكرة قد تُودِي عبر أحداثها الزمكانية المتوالية إلى مجموعةٍ مُدهشةًمُتناسلة من الأفكار الموضوعية الهادفة.
فأمكنة مثابية مثل، فضاءات الأحياء والبيوت والشوارع والأزقة والحدائق العامَّة والبساتين والمزارع والغابات ومظاهر الطبيعة الكونيّة الساكنة والمتحركة التي وظَّفها القاصُّ في مدوَّنته السردية (لُغةُ الأرضِ) التي تمَّ التعرض إليها وتحليلها وتأويلها نسقياً، تُمثِّل جلِّياً في أنساقها الثقافية الخارجية المكشوفة مظاهرَ حسيَّةَ لمواطن الجمال والإبداع.
ويُقابها في الوقت ذاته في تضادات أنساقها المضمرة البعيدة النظر أنَّها تُمثِّل مِرجعياتٍ رمزيةً لمخابئ القُبح وكامنه؛ كون أنَّ الأنساق الخفيَّة العميقة التي تُحركها هي أنساق رموز دَولة الخَراب والفسادِ والدَّمارِ واليأسِ والاقصاء والتهميشِ القصدي العميق الذي هدفه رفعة الإنسان واستقرار رفاهية المكان في كل زمانٍ ومكانٍ. ولابدَّ من خلال هذا الإلمامة الإشارة إلى تمظهرات التمثُّلات المكانيَّة المهمَّة التي تضمنتها النصوص القصصية الأربعة عشر وحفلت بها هذه المدونة النسقية.
تَمَثُّلاتُ الفِضاءِ المَكاني النَّسقيَّةُ
1- نَسقُ المَدينةِ (المَدِينِي):
من التَّمَثُّلات المكانية الرئيسة والمهمُّة نسق (المَدينة) أو الحاضرة التي وظفَّها القاصُّ كثيراً في مدونته. كون المدينة شغلت حيزاً كبيراً من قبل شخصياته الأساسية والثانوية التي قامت بالحدث. فكانت المدينة إحدى مرجعيات الكتاب الثقافية وموئِل أفكاره ونقطة انطلاق حركة الصراع الدائر.
"الاِرتبَاكُ وَالقلقُ يَعبثُ بِنَا، السَّيَّارة تَنطلق ُبِنَا نَحوَ المَدينةِ، وَثمَّةَ سَيَّاراتٌ قَادمةٌ مِنْ المَدينةِ مُصابةٌ بِالذُّعرِ، أَكفُّ النَّاسِ تُطالبُنَا بِالعودةِ وَعَدمِ مُواصلةِ الطَّريقِ، تَكرَّر هَذَا التَّحذيرُ مِرارَاً، لَكِنْ السَّائقَ أصرَّ عَلَى مُواصلةِ السَّيرِ لِأمرٍ نَجهلَهُ، بَقِي أقلُّ مِنْ أَلفِ مَترٍ وَنَصلُ بَوابةَ المَدينةِ الغَربِيَّة ظَهرتْ خُيوطُ دُخانٍ أسودَ وَرَصاصيٍّ تَتصاعدُ مِنْ أماكنَ وَبِناياتٍ مُتفرقةٍ...". (لغة الأرض، ص 15) .
2- نَسقُ الرِّيفِ (الرِّيفِي):
لنسق الأرياف والقرى عند الكاتب علي حسين عُبيد مكانةُ كبيرةُ في عرض مسروداته الحكائية المتعدِّدة؛ فضلاً عن أنَّ أجواء الريف وتضاريسه وتخومه من مشاهد العمل القصصي الإدهاشية التي تستهوي الكثير من إمتاع قُرِّائه ومُتلقِّيه.لذلك كان للعمل القصصي في الريف له خصوصياته.
"فِي قِريةِ (أُمِّ البَطِّ) تَسكنُ عَائلتِي وَعَائلةُ زَوجتِي الَّتِي كَانتْ تَمتَلِكُ مَزرعةً صَغيرةً فِي تِلكَ القَريَّةِ، كَانتْ أُمِّي كُلَّمَا اِحتجنَا لِشيءٍ مِنَ المَزرعةِ أَخذتْ كِيسَاً مُتوسِّطَ الحَجمِ، تَلتقِي زَوجتِي (قَبلَ أنْ أَتزوجَ مِنهَا)،تُسلِّمُ عَليهَا وَيَتجاذبانِ أَطرافَ الحَديثِ،وَأكثرَهُ كَانَ يَدورُعَنْ شُؤونِ النِّساءِ، وَكانتْ أُمِّي تَصرُّ عَلَى أَنْ تَسألَهَا عَنِ الفَرقِ بَينَ نِساءِ الأَمسِ وَنِساءِ اليَومِ..." (لُغةُ الأرضِ، ص59) .
3 - نَسقُ الصَّحراءِ (الصَّحراويّ):
شغلت نسقية الصحراء أو الفيافي نسبة كبيرةً وحيزاً سردياً ماتعاً في وقائعه وأحداثه ومفارقاته الطارئة التي تفرضها واقعة الموضوع الحدثية على شخوصها ومكانها وزمانها وحركة صراعها.
"تَفَرقنَا عَنْ بَعضنَا فِي مَسافاتٍ مُتباعدَةٍ، صَحراءُ رَمليَّةٌ لَا يَحدُّهَا شَيءٌ سِوى أُفقِ السَّماءِ، حَرارةُ الشَّمسِ تَتَصَاعدُ، أَشعتُهَا تَصفعُ وَجَه الأرضِ فَتبدُو أَكثرَ شَراسَةً وَصمتَاً وَتَوحُّشَاً، بَدَأنَا نُدقِّقُ فِي الرُّؤيةِ، نَشحذُ البَصرَ بِأقصَى طَاقتِهِ، عَلَّنَا نَعثرُ عَلَى شَيءٍ يِدلُّنَا أوْ يَقودُنَا إِلَى الشَّابِ أَمجدَ الَّذي لَا نَعرفُ أَينَ هُوَ الآن؟ ..." . (لغة الأرض، ص 46) .
4- نَسقُ الأرضِ (الأَرضِي):
لدالة الأرض العتبة العنوانية المهمَّة الأولى المُسندة بالإضافة لدالة اللُّغة في هذه المدونة مكانةٌ خاصَّةُفي تأثيث مدلولات قصديات الخطاب السردي التي استمدَّت منه حكاياتها الجمعية المشتركة. وكان للأرض أنساقها الثقافية القريبة والبعيدة التي وظَّفها الكاتب عُبيد في آثار حفرياته السرديَّة الكاشفة. وكم هو جميل أنْ في النسق الفكري والجمالي أنْ يدافع الإنسان عن أرضه ويضحي من أجلها؛ ولكن الأجمل والأسمى أن يحيا على أديم هذه الأرض ويٌعَمِّرُها تُربَةً..تُربَة، وقَطرَةً..قَطرةً.
"شَمَّرَ (خِنيَابُ) عَنْ سَاعدِيهِ، بَدَتْ عَضلاتُهُ مَفتولةً، وَجسدهُ كُتلةً صُلبةً، دَخلَ إِلَى الحَديقةِ، وَقَفَ فِي مُنتصفِهَا، غَرزَ أَصابعَ كَفِّهِ فِي الأَرضِ وَحَمَلَ حَفنَةً مِنْ تُرابِهَا المِريضِ، نَظَرَ إليهَا وَتَمَعَّنَهَا بِعُمقٍ، رَاحَ يَتأمَّلُهَا وَيُركِزُ فِيهَا، أغمضَ عَينيهِ كَأنَّه يَستذكِرُ سِيرَةً أوْ سِرَّاً مَا، أَخذَ يَشمُّهَا، فَتغيَّرَ وَجهُهُ وَهوَ يَستنشِقُ التُّرابَ الَمائِلَ لِلحُمْرَةِ...". (لُغةُ الأرضِ، ص 119) .
5- نَسَقُ البَيتِ (البَيتِي):
لقد وظف القاصُّ البيت في مدونته السردية (لُغةُ الأرض) عامةً وفي أكثر من قصة خاصةً، كون البيت أو المنزل هو المثابة المكانية التي يلتصق بها الإنسان في حياته اليومية وعمله باستمرار.
" إِلَى جَانبِ بَيتِ نُوفةَ العَاقرِ، يَقعُ بَيتُ حَبيبتِي الشَقراءِ ذَاتَ العُيُونِ الخُضرِ، بَيتُنَا يَقعُ مَقابلَ بَيتِهَا، كَانَ يُسمِّيهَا الشَّبَابَ وَالمُراهقونَ، (الفَتاةَ الأوربيةَ) لِجمالِها، لَا أنسَى اللِّقاءَ الأَولَ الَّذِي جَمعنِي بِهَا عَلَى قَارِعةِ الطَّريقِ غُروبَاً، حِينَمَا مَسكتْ يَديَ بِيدِهَا الصَغيرةِ وَوَضعتهَا عَلَى قَلبِهَا، فَأحسستُ نَبضَهَا يَتلاحَقُ بِذعرٍ يَتناقَضُ مَعَ سَعادَتِكِ آنذَاكَ...". (لُغةُ الأرضِ، ص 113) .
6- نَسَقُ الحَدائقِ (الحَدَائِقِي):
للحدائق في تَمَثلُّات الكاتب ميزة فنيَّة وجماليَّة خاصة ترتبط بإيقاع الحدث الزمكاني وتمنح مساحة من التأمل والتفكير؛ كون الحديقة تعدُّ عنصراً ترويحياً من عناصر الطبيعة الكونية الثابتة.
"حَانَ وَقتُ العَصرِ، خَرجَ مُجدَّداً إِلَى الحَديقةِ، خُيوطُ الشَّمسِ تَندلِقُ عَليهَا حَانيَةً رَقتيقَةً، نَظرَ إِلَى الأَرضِ، لَاحظَ أنَّ الاِحمرارَ قَدْ بَدَأَ يَخفُّ وَيَقلُّ فِيهِ، أَشجارُ الرُّمانِ تَتعَالَى وَتَنثرُ أَغصانَهَا فِي الأَرجاءِ، النَخلَاتُ تُسَرِّحُ جَدائلَهَا فِي غَنَجٍ، عِطرُ القِداحِ يَملأُ رِئتَيهِ، حَديقةٌ تَتَصدَّرُ بَيتَهُ، وَأرضهُ تَتَعَافَى بِالتدريِجِ، أُمُّهُ أَطلَّتْ عَليهِ مِنْ دَاخلِ البَيتِ...". (لغة الأرض، ص 83) .
7- نَسقُ المُقَهى التَّرفِيهِي، والحيِّ (الأَحْيَائِي):
للأزقة والأحياء السكنية والمقاهي الشعبية أثر بالغ وكبير في حركة الإنسان اليومية؛ لذلك كان حضورهما مهمَّاً في الأنساق الثقافية الخفية والمتجليَّة عند القاص؛ كونها تشكل بؤراً فنَّيةً للحدث المكاني. وقد عبَّرت عن مقصدياتها الموضوعية والجمالية التي من خلالها تكتمل عناصر الحدث.
"أَتَابِعُ فِلمَاً عَربيَّاً فِي مُقهَى (أَبو يَاسين) بِحيِّ رَمضانَ، فِي جَيبِي عَشرَةُ فُلوسٍ فَقَطْ تَكفِي لِتسديدِ الشَّايِّ الَّذِي شَربتُهُ مَقابِلَ الجِلوسِ فِي المُقهَى، الدُّنيَا لَيلٌ وَغدَاً يُومُ عِيدٍ، وَأنَا لَا أَملكُ سِوَى هَذهِ (العَشرةِ فُلُوسٍ)، فَكرتُ أَنَّني لَنْ أَدفعَهَا لَأبِي يَاسين القَهوجِي، حَتَّى أَستطيعَ غَدَاً أَركبُ الأُرجوحَةَ المَنصوبةَ بَينَ نَخلتينِ شَاهقتينِ فِي مَنطقة (الحُرِّ) ...". (لغة الأرض، ص 107) .
هذه الأنساق الثقافية المكانية السبعة التي حفلت بها تمظهرات المجموعة السردية (لُغة الأرضِ) واُستخدمت في مسارات القص الحكائي في المدينة والريف والصحراء والأزقة والأحياء، هي الأكثر شهرةً وبروزاً في المدوَّنة.وكان لتوظيفها الفني أثر بالغ في الكشف عن أنساقها ومرجعياتها الجميلة والمستقبحة للنفس الإنسانية.
وهناك أنساق ثانوية أخرى سيكتشفها القارئ النموذجي النابه بنفسه لإضافتها إلى الأنساق التي تمَّ كشفها وفكِّ شفراتها اللُّغوية والدلالية النسقية في تجلِّيات هذه الدراسة النسقية، وربَّما قد تكون هناك أنساق أخرى مضمرةً وظاهرةً لم يتم الكشف عنها أو التنبيه إليها، فالمدونة تحتمل أكثر من تحليلٍ وتعليلٍ وتفسيرٍ وتأويلٍ. وهذا الفعل هو ما يميِّز سمة الخطاب النصِّي السردي الإبداعي المكين الناجح، سواء أكان إنتاجه قصصياً أم روائياً، ويقابله في النظير الأخر الخطاب الشعري.
أُسلوبيَّةُ القَاصِ السَّرديَّةُ
إنَّ أهمَّ ما يميَّز الكاتبَ والقاصَّ والرِّوائي عليّ حسين عُبيد ويؤشِّر فنيَّاً لسمات مُعجمه القصصي التسريدي أُسلوبيته التعبيرية في اعتماده لمنهج أساليب السردية المعاصرة (الموضوعيَّة والدراميَّة) المُتوحدنة معاً في إنتاج وتخليق حدثٍ سرديٍّ قصصيٍّ سَبكيٍّ وحَبكِيٍّ شائقِ اللُّغةِ. وَاِتباعه لمنهج فنيَّة القصِّ التعبيري الطويل الذي يجد الكاتب نفسه به كثيراً، ويُجيدُ بإتقانٍ لعبته الفكرية والإبداعية بهذا الحسِّ الإنساني الكبير الذي له طعمه الخاصُّ وبصمته اللَّونية المتميِّزة. ومن ثمَّ ابتعاده عن فنيَّة الاختزال والتكثيف والتحشيد السردي التي هي من أهمِّ تقانات القصِّ القصير الذي يعتمد على فنِّ التوقُّع والمفارقة الحدثية والصدمة الإدهاشية المؤثِّرة بصناعة الحدث السردي وتأثيثه الإبداعي.
وكلُّ نصِّ قصصي من قصصه الطويلة يُشعرك أنَّك تقرأ خطاب روايةً (نوفلا) قصيرة كاملةً بتعدُّد أصوات شخوصها (البوليفونية) وأحداثها ووحدات زمانها ومكانها وحركة صراعها وفكّ حبكتها العُقدية، وحسن خواتيمها التي تجمع بين فنيَّة الخاتمة الموضوعية والانفتاحية.فهذا النفس القصصي الطويل يمنح الناقد النابه نافذةً تأمّليَّةً في الكتابةِ عن كلِّ قصَّةٍ من قصص هذه المجموعة التراتبية.
وهذا يشي بأنَّ علي حسين عُبيد، هو ليس الكاتب والرِّوائي والقاصُّ الشاخصة سمات هُويته التعريفية في أدبيات السرد القصصي فَحسب، بل هو مثالٌ للأديب والمثقَّف العضوي المثابر الذي يحمل في كتاباته التعبيرية الهم الجمعي المشترك للجامعة الإنسانية قاطبةً. فلا عجب أنْ تراه واثباً مُتنقلاً، تارةً يكتب عن موضوعات الحرب والسلم، وتارةً عن الموتِ والحياةِ، وتارةً عن الحبِّ والكُرهِ، وتارةً عن الخيرِ والشرِّ، وتارة عن ازدواجية النفس الإنسانية ظاهرياً وباطنياً، وتارةً عن ألم الفقر والشعور بالغنى. إنه إنسان هذه الأرض فلا يخفى عليه خافيها ولا يصعب عليه ظاهرها.
وتكشف مدونة (لُغةُ الأرضِ) عن أنَّ القاصَّ علي عبيد قارئ جيِّد وألمعي فعال يُجيد قواعد لُعبة القص الفنِّي الطويل بهذا النفس الإنساني الكبير الذي يمنحه مِساحةً سَرديةً كبيرةً من حُريَّة التعبير الفكري والمعرفي. وأنَّ أغلب القصص في هذه المجموعة الانطلوجية الواقعية المخيالية والغرائبية المتنوَّعة اعتمدت كتابتها السرديَّة على تأصيل واقعة الحدث السردي وتأثيثه بلغةٍ فنيَّةٍ وجمالية واعدة بالكثير الكثير الناهض على مستوى الفكرة والحكاية وفاعليتها السرديَّة في التعبير الأدبي.
وتمكين الشخصية الفاعلية من أداء دورها الوظيفي المناط بها بحُريَّةٍ في عملية القصِّ السردي وبروزها بصور وأشكال موضوعيةٍ مغايرةٍ، لها طعمها الفنَّي والجمالي الخاصِّ. والَّتي تُدلِّلُ على أنَّهالا يكتبُها غيرُهُ إلَّا كاتبَها الماهر التخصُّصيّ المتفرِّد بجماليات أسلوبيته الإنسانيَّة والموضوعيَّة.
أمَّا ما يُميَّز مُعجمة السردي القصصي الطويل، فهو أنَّ أغلب أو معظم كتاباته القصصية إن لم أقل جميعها كانت لُغتها النسقيَّة مُخصَّصةً للإنسانية في يوتوبيا الأنساق الثقافية الظاهرة في مدينته القصصية الفاضلة. فَكُتِبَتْ عن المُهمشين والمجهولين والمغيبين، وعن رمزية سيمياء المقموعين والمسكوت عنهم قصدياً في ديستوبيا الأنساق الثقافية الخفيَّة والمضمرة الإهماليَّة التي ترفض كلَّ أشكال الظلم وفوضى الخراب والدَّمار والوجع الإنساني المَرير الذي يشلُّ خطَّ حركته التنويرية والمعرفية وينتهك آدَمِيَّته الإنسانية التي هي هويته الذاتية.وكان الكاتب سيرياً يتخفَّى وراء سطوره.
وبعيداً عن لغة التسطيح السردي فقد حظيت المرأةُ بشتَّى ضروبها التعدُّدية الإنسانية المهذّبة، لا سيَّما الزوجةُ والحبيبة والعاشقة والمعشوقة والأخت والأمّ والبنت في محتوى مدوَّنة علي حسين القصصية (لُغةُ الأرضِ) بِمساحةٍ تعبيريةٍ جمعيةٍ واسعةِ الكتابة في فضائه القصصي، ولَقيتْ اهتماماً نفسيَّاً وموضوعيَّاً كبيراً وطيِّباً لافتاً في إنتاجه السَّردي. فكانت مثلما كان الوطنُ الكبيرُ القاسمُ الفنِّيَّ المشتركَ لشخصياته البطولية الفاعلة في تراجيديا الحدث القصصي الطويل والعلاقات الإنسانية.
وفي الوقت ذاته لم يغفل القاصُّ الكتابة عن أثر الشخصية الذكورية سواء أكانت شابةً أو شيخاً عجوزاً أو طفلاً. وقد استمدَّ الكاتب مرجعيات موضوعاته القصصيَّه الحكائيَّة من تمظهرات عقابيل الواقع والتقاط رهاناته أُسسه الطافية على سطح الفضاء المكاني اليومي وأسقاط أنساقها ومصادرها على وقع سردياته الثقافية بلغةٍ فنيَّة تحرريَّةٍ تجمع بين مرايا الواقعية الملتقطة، ومخايل الفكرية العجائبية التي تُحطِم جدار توقُّع عطب المألوف اليومي. على الرغم من أنَّها فيها نسبة كبيرة من هجس الواقع وتهويمات أحلامه النوميَّة. وقد ساعدته هذه الممارسة الاشتغالية على ذلك التخليق الابتداعي لغته الفنيَّة الفخمة وإيقاع أسلوبه الجمالي التعبيري الفنِّي المُغرِي الماتع للقارئ.
وعلى وفق إشارات هذه الأسلوبية النسقية التي امتاز بها القاصُّ عبيد في سرديات أنساقه الثقافية الإنسانية (الخفيَّة والمُتجلِّية) المتنوِّعة، كان بمدونته القصصية الناضجة فنيَّاً (لغةُ الأرض) ضمير الأمة الواعي المشخِّص وترجمانها الأدبي الناطق وليس الخفي المستتر الساكت.وإنْ كان للغموض الفنِّي إثر موحياته السيميائية وعلاماته الأيقونية الإشارية الضاربة سهماًفي صميم الحدث السردي.
وكان علي حسين عبيد بحقٍّ شاخصها الإبداعي الأوحد، وكاتبها النوعي المثابر الذي يمكن أنْ نعدَّ عمله الإبداعي القصصي الطويل هذا في سونار اجتراحات النقديَّة المحايدة إضافة نوعيةً مهمَّةً ومتفرَّدة في الإسهام برفد فهرست مكتبة السرديات القصصية العربية عموماً، والعراقية على وجه الخصوص بكل ما هو جديد حداثوي ماتع رائع تكويناً وتأصيلاً وتلقياً معرفيَّاً لافتاً لنظر القارئ. م, فيما أخذت السماء تمطر فوها ولا يصعب عليه ظاهرها.ئيساً في كل هذه الخسارات الروحية والنفسية مرام, فيما أخذت السماء تمطر فو م, فيما أخذت السماء تمطر فوها ولا يصعب عليه ظاهرها.ئيساً في كل هذه الخسارات الروحية والنفسية مرام, فيما أخذت السماء تمطر فو
***
د. جبَّار ماجد البهادليّ / نَاقدٌ وكَاتبٌ عِراقيّ
م, فيما أخذت السماء تمطر فوها ولا يصعب عليه ظاهرها.ئيساً في كل هذه الخسارات الروحية والنفسية مرام, فيما أخذت السماء تمطر فو