قراءات نقدية

قراءات نقدية

قراءة في الأبعاد النفسية والاجتماعية والسياسية في قصيدة الشاعر يحيى السماوي

مقدمة: تشكل قصيدة "هذيان" للشاعر يحيى السماوي نصًا شعريًا يتداخل فيه الخاص بالعام والذاتي بالوطني، ضمن بنية رمزية متقنة تُعبِّر عن تجربة اغتراب قسري وانتماء جريح. فهي ليست مجرد حالة ذهنية تنطق بالتيه أو الاضطراب، بل تتحول إلى صرخة إنسانية وسياسية تفضح واقعًا منهكًا بالخداع والخذلان، وتفتح فضاءً شعريًا يُعيد فيه بناء الوطن عبر اللغة بعد أن فقد جذوره في الجغرافيا.

ولا يمكن فهم هذه القصيدة دون الوقوف عند التجربة الشعرية للشاعر ذاته، إذ يُعد السماوي شاعرًا وطنيًا من الطراز الأول ظل وفيًا لقضايا الوطن رغم المنفى. يعبر عن حبه للوطن بأشعار مشبعة بالحنين والتأمل، ويشخص أزماته دون تجميل؛ فهو يسعى عبر شعره إلى كشف أسباب الخلل واقتراح إمكانيات التغيير. يستلهم رموزه من ثلاثة منابع أساسية: التناص الديني والتناص التأريخي والتناص الأسطوري، ويُعرف عنه استخدامه المبدع لتقنية القناع في التعبير عن آرائه السياسية والاجتماعية.

تتميز القصيدة بقدرتها على توحيد مشاعر الألم والرفض مع لمسة من الحنين، حيث توظف صورًا من الطبيعة وعناصر الحياة اليومية لتجسد التباين بين الطموحات الفردية والجماعية، وبين الهوية الأصيلة والاغتراب القسري. كما تتجلى في النص إشارات قوية إلى وحدة الجراح الوطنية؛ إذ يمتد الألم من البصرة جنوبًا إلى "بيرة مكرون" في كردستان، ليصبح جرحًا مشتركًا يجمع معاناة الشعب بأكمله.

أولًا: العنوان – "هذيان" كمدخل تأويلي شامل

دلالة العنوان ووظائفه في قصيدة "هذيان"

يمثّل العنوان بوصفه العتبة النصية الأولى مفتاحًا تأويليًا أساسًا؛ فهو يفتح أفق التلقي ويضع القارئ في حالة استعداد لفهم المضامين والدلالات. في قصيدة "هذيان" للشاعر يحيى السماوي، يتجاوز العنوان معناه النفسي المباشر المرتبط بحالة ذهنية مشوشة، ليغدو رمزا متعدد الأبعاد يجسد الأبعاد الاجتماعية والسياسية إلى جانب الأبعاد النفسية.

فـ "الهذيان" هنا لا يُفهم كغيره من الانفعالات الداخلية المعزولة، بل يُتخذ بعدًا وجوديًا يُعبّر عن تفكك داخلي ناتج عن صدمة الاغتراب، وخراب العالم، وانهيار قيم الانتماء. هذا يجعل العنوان صرخة إنسانية وسياسية تُدعو إلى الوعي والتمرد وإعادة بناء الهوية الوطنية، كما يتبين من التصوير الشعري الذي يشير إلى الانقسام بين الطموحات والواقع القاسي.

يؤدي العنوان في هذه القصيدة ثلاث وظائف أساسية:

1. الوظيفة التعيينية: يضع العنوان القارئ أمام تجربة شعورية خاصة، فيُمهّده لدخول عالم النص الداخلي. فهو يُعلن حالة في اضطرابٍ متعمدٍ، تتطلب إعادة قراءة المفاهيم الثابتة، وهو ما يتجلى في صورة "الهذيان" كحالة عقلية وصراعية تعكس الحالة الوطنية.

2. الوظيفة الوصفية: يكشف العنوان عن الجو النفسي والفكري الذي يسود النص؛ فهو يرسخ فكرة الاضطراب الشامل ليس فقط في أذهان الأفراد، بل في الحالة العاطفية للمجتمع بأسره. مثلاً، حين يصف السماوي تجربة الهذيان، يصبح هذا الوصف إشارة إلى انزلاق الهوية بين الحلم والواقع، بين الصوت المقموع والرغبة في الإفصاح.

3.  الوظيفة الدلالية الضمنية: تتجلى هذه الوظيفة بشكل تدريجي؛ ففي كل قراءة يُعمق القارئ فهمه بأن "الهذيان" ليس مجرد اضطراب فردي، بل هو مرآة للمأساة الجمعية. فالقصيدة تضع هذا العنوان كرمز يستحضر انتقادات لاذعة للنظام والواقع السياسية والاجتماعية غير العادلة، حيث يتحول الهذيان إلى شكل احتجاجٍ على عالم مختلّ.

وتتجلى جمالية العنوان أيضًا عبر الانزياح اللغوي الذي يُعد سمة بارزة في أسلوب السماوي، إذ لا يُقصَد من "الهذيان" اختلالًا عقليًا بحتًا؛ بل هو شكلٌ من أشكال الاحتجاج على عالم يفقد معانيه، ويصبح علامةً على التوتر بين الحلم والواقع. تعكس هذه الشحنة الرمزية المكنونة في العنوان مختلف أوجه المقاومة والانكسار والحنين والتمرد، لتكشف عن خلاصة التجربة الشعرية الكامنة في القصيدة.

إنه عنوان يُوحي بتوتر داخلي لا ينفصل عن توتر خارجي؛ فهو تعبيرٌ شعري عن وعي مأزوم يعيش في وطن مفكك، تحت فوضى عارمة، ويبحث عن خلاصه في لغة متمردة على السائد. على سبيل المثال، في قراءة بعض الصور النصية المتفرعة من العنوان، يتجلى أن الشاعر يسعى لإعادة تأطير مفاهيم الانتماء والهوية في ظل الانقسامات المعيشية والاجتماعية، مما يبرز دلالات نقدية ترتبط بأزمة حضارية لا تعرف سوى التردي.

ثانيًا: القصيدة

هذيان

مـا أقـربَ الـسـمـاءَ مـن عـيـنـي..

ومـا أبـعـدَ الأرضَ عـن قـدمـي!

*

كـنـخـلـةٍ تـنـتـصـبُ وسـط الـريـح:

جذري في مكانٍ

وظلي في مكانٍ آخرَ

أتـدلّـى مـشـنـوقـاً بـحـبـلِ الـغربة

مُـتـَّـهَـمـاً بـيـقـيـنـي فـي مـحـكـمـة الـظـنـون

ولـيـس مـن نـبـيٍّ جـديـدٍ

يُـخـيـطُ جُـرحـي الـمـمـتـدَّ

مـن نـخـيـل الـبـصـرة

حـتـى سـفـوح " بيره مكرون «!

*

أنـا الـراعـي..

لا أمـلـكُ مـن الـقـطـيـع إلآ:

الـروثَ والـبـعـر!

ومن النفطِ إلاّ:

السخامَ والدخان!

وأملكُ مـن الـوطـن:

بـعـضَ تـرابـهِ الـعـالـق بـحـذائـي

حين عبرتُ حدودَهُ

بجواز سفرٍ مُزوَّر..

وأمـلـكُ مـن ساستِهِ الذين امتلكوا

قصور الدنيا:

وعـداً بـمـرحـاضٍ فـي الـجـنـة!

*

ومع ذلك: سأبقى مبتسمًا

رغم قوس النارِ الملتفِّ حول رقبتي!

***

ثالثُا: تحليل النص – من الرمزية إلى المواجهة

1- المشهد الافتتاحي:

"ما أقربَ السماءَ من عيني / وما أبعدَ الأرضَ عن قدمي!"

يعرض الشاعر تناقضًا بين مشهدين يبدوان متضادين على المستوى المادي. فعبارة "ما أقربَ السماءَ من عيني" تُشير إلى بُعد فكري قريب يُعبّر عن رغبات أو تصورات يمكن الاقتراب منها ذهنيًا، بينما تُبرز عبارة "وما أبعدَ الأرضَ عن قدمي" فقدان الارتباط بالواقع المادي. وفي هذا السياق، يحمل الحديث عن بعد الأرض دلالة مزدوجة؛ فهي لا تعكس فقط انقطاع الصلة مع الجذور والظروف الحسية، بل تؤكد أيضًا حالة الاغتراب عن الوطن، حيث يبدوا الشاعر منفصلًا عن تربة أصله التي كانت يومًا رمزًا للانتماء والأمان.

بهذا، يستخدم الشاعر هذا التباين ليُظهر الصراع بين عالم التصوّر والشعور الملموس، مُسلطًا الضوء على الحالة المادية والانفصال عن الوطن. إذ أن "الأرض" هنا تمثل ليس فقط الواقع المحيط والذي يفترض أن يثبت الفرد وترسخ هويته، بل تُعبّر أيضًا عن فقدان القرب من الوطن، مما يضفي على النص بعدًا نقديًا يعكس شعور الاغتراب والانفصال عن الجذور الوطنية.

2- استعارة النخلة المشطورة:

كنخلةٍ تنتصب وسط الريح...

جذري في مكانٍ

وظلي في مكانٍ آخرَ

تـدلّـى مـشـنـوقـاً بـحـبـلِ الـغربة

في هذه الاستعارة يتجلّى استخدام الشاعر لصورة النخلة كرمز متعدد الأبعاد يُعبّر عن معاناة الانفصال والانتماء معًا. يبدأ النص بتصوير النخلة ككيان ثابت يقف شامخًا وسط عاصفة الرياح، حيث يعلن الشاعر من خلال عبارة "جذري في مكان" ارتباطه العميق بأصول الوطن وهويته الراسخة كما تُمثّلها الجذور. وعلى النقيض من ذلك، يظهر عبارة "وظلي في مكان آخر" حالة الانفصال بين الداخل والظاهر، إذ يُشير الظل هنا إلى بُعد منفصل لا ينتمي إلى نفس الإطار المكاني، مما يعكس الانقسام النفسي والمادي الذي يعاني منه الفرد في حالة الاغتراب.

يتجاوز التباين الموضّح بين الثبات والانفصال مجرد تصوير جمالي، حيث يُعيد الشاعر من خلاله صياغة الهوية الشعرية لتتحول إلى صرخة نقدية تُفضح واقع الاغتراب والانهيار السوسيو-سياسي. ففي سياق هذه القراءة، تصبح النخلة أكثر من مجرد رمز نباتي، إذ تتحول إلى أيقونة معقدة متعددة الطبقات تُجسّد الهوية الوطنية المقسومة بين الأصل والمنفى، وهو ما يُسلط الضوء على محاولات التجذر في زمن يفرض فيه الواقع الانقسام والتشتت.

كما تُضفي صورة "أتدلّى مشنوقًا بحبل الغربة" بعدًا وجوديًا على الاغتراب؛ إذ لا يخلو من الدلالة على أن قيد الاغتراب يتجاوز الانفصال الجغرافي، بل يمتدّ ليخلّد حالة ألم وجودي مستمر يعانيها الشاعر في ظل ظروف الانفصال والضياع.

باختصار، يسعى الشاعر إلى دمج الرموز الطبيعية مع تجارب الوجدان المرهقة لتسليط الضوء على الصراع الدائم بين الرغبة في الثبات ورغبة البقاء على اتصال بالجذور، وبين واقع الانفصال الذي يفرض نفسه في مختلف جوانب الحياة. هكذا، تتحول النخلة إلى رمز نقدي يشمل معاناة الهوية الوطنية، مما يتيح للقارئ استيعاب التوتر الأساسي بين الهوية والاغتراب في ظل واقع اجتماعي وسياسي متشظٍ.

3- حالة الاتهام والشك المحيط باليقين:

مُتَّهماً بيقيني في محكمة الظنون"

يبدأ الشاعر بتحويل اليقين إلى كيان يُدان ويُتهم ضمن "محكمة الظنون"، حيث تتحول الأفكار الثابتة والمفاهيم المعتقدة إلى موضوع مطروح للشك والنقد. إن عبارة "متَّهماً بيقيني" لا تعني أنه يُهاجم يقينه بشكل عشوائي، بل تشير إلى أن حتى الثوابت التي يُعتد بها تصبح عرضة للمساءلة في بيئة يغلب عليها الريبة والشك. تُعد "محكمة الظنون" رمزًا مليئًا بالتساؤلات، فهي ليست مؤسسة قانونية بقدر ما هي مساحة فكرية تُحاكم فيها المشاعر والأفكار تحت وطأة عدم الثقة. بهذا، يُظهر الشاعر كيف أن اليقين، الذي يُفترض أن يكون قاعدة صلبة، يتحول إلى مفهوم متغير وغير مستقر في ظل مناخ من الشك المتواصل، مما يفتح الباب لتفكيك المفاهيم الثابتة وإعادة تقييمها.

4- مفردات الاغتراب القاسي:

"وليس من نبيٍّ جديدٍ يُخيط جرحي الممتدّ من نخيل البصرة حتى سفوح بيره مكرون"

استخدام الصورة الرمزية والجغرافية:

يُوظّف الشاعر صورة رمزية ذات طابع جغرافي وشعبي لتحديد مدى اتساع الألم. فتحديد الجرح بأنه يمتد من "نخيل البصرة" إلى "سفوح بيره مكرون" يؤكد أن معاناة الشاعر ليست خاصة بفئة أو منطقة بعينها، بل هي تجربة وطنية تشمل كافة مكونات الشعب العراقي. هذا الاستخدام يسلّط الضوء على الوحدة في الوجدان الجمعي رغم الانقسامات الجغرافية أو الاجتماعية.

رمزية "النبي الجديد": الشاعر لا يقصد بالنبي الجديد المفهوم الديني التقليدي، بل يستخدمه كرمز لحاجة المجتمع العراقي إلى قيادة تغييرية وقادرة على شفاء الجراح وإرساء العدالة الاجتماعية. إذ يشير إلى أنه ليست مجرد كلمات أو وعود دينية تُستشعر في المناسبات، بل يحتاج الشعب إلى شخصية قيادية تُترجم الوعود إلى أفعال ملموسة تُضمّد الجراح وتعيد الثقة والانتماء.

الجراح كرمز للوحدة والجماعية: الجرح الممتد الذي تذكره العبارة يُجسد معاناة جماعية، إذ يمثّل الذكرى المؤلمة للانقسامات والتهميش في المجتمع. هذا الجرح ليس مجرد تجربة فردية، بل هو صرخة موحّدة ضد الانقسام والتهميش الذي يعيشه المواطنون. الشاعر بذلك يتخذ من الألم وقالب الانتهاكات تجربة سياسية واجتماعية تُبرز الحاجة إلى تجاوز الخلافات من أجل قلب صفحة جديدة من العدالة والمصالحة.

الدلالة السياسية والنقد الاجتماعي: يجسد المقطع نقدًا لاذعًا للأنظمة التي تترك الجراح مفتوحة وغير معالجّة، مؤكِّدًا بأن الشعوب التي تعاني من الظلم والتهميش تحتاج إلى قيادة تغييرية لا تعتمد على الرموز الفارغة أو الوعود الباطلة، بل تسعى لإصلاح الواقع وتحقيق العدالة. إن هذا الموقف يُعد تحديًا للسلطات التي تترك الشعب يتألم دون أن تتحمل مسؤوليتها عن الانقسامات والخيبات.

5- التعبير عن الهوية المُهملة:

أنـا الـراعـي..

لا أمـلـكُ مـن الـقـطـيـع إلآ:

الـروثَ والـبـعـر!

ومن النفطِ إلاّ:

السخامَ والدخان!

يُصوِّر الشاعر نفسه برمز الراعي الذي فقد القدرة على امتلاك سوى بقايا لا قيمة لها، مثل "الروث" و"البعير"، في إشارة إلى حالة العجز والفقر التي يعاني منها نظامه. هنا يُظهر الشاعر كيف أن الهوية الوطنية المُهملة لم تعد تحمل الأمل أو الازدهار، بل أصبحت رمزًا للإحباط الجماعي والضياع.

كما يُبرز النص التناقض الجذري بين ما كان من المفترض أن يكون مصدر النهضة—النفط الذي يرمز إلى الثراء والعزة الوطنية—وما تحول إليه في الواقع، أي "السخام" و"الدخان". هذا الاستخدام للرموز يكشف عن الخيانة الأعمق؛ حيث تُستغل موارد الوطن لخدمة مصالح نخبة محدودة تُضاعف من الفجوة بين الغنى والفقر، بينما يظل المواطن العادي مُنهَكًا بتلوث يعكس الفساد المنتشر في هذا النظام.

بهذا، يُقدِّم الشاعر نقدًا اجتماعيًا وسياسيًا حادًا، يعكس حالة الانقسام والانفصال بين الطموحات المتداعية للشعب والواقع المُرّ الذي يفرضه النظام. تتجسد الهوية الوطنية هنا في صورة شذوذ، تجمع بين ملامح الإحباط واليأس كدلالة على سخونة الظلم والاستغلال، مما يجعل القصيدة صرخة احتجاجية ضد تلك المعادلات غير العادلة.

6- فوضى الهوية والانتماء:

وأملكُ مـن الـوطـن:

بـعـضَ تـرابـهِ الـعـالـق بـحـذائـي

حين عبرتُ حدودَهُ

بجواز سفرٍ مُزوَّر ..

يُجسّد الشاعر في هذا المقطع معاناة الاغتراب والتمزق النفسي من خلال تصويره لحالة فقدان الهوية والانتماء. يقول:

"وأملكُ من الوطن بعضَ ترابه العالق بحذائي حين عبرتُ حدودَهُ بجواز سفرٍ مزوَّر.. "

في هذه الأسطر، لا تُعدّ الذرات العالقة بالحذاء مجرد بقايا أثر لعبور جغرافي؛ بل تتحوّل إلى رمز لهوية مفقودة وحنين معنوي ثقيل. فالوطن هنا لم يعد ملكًا يتمتع به الشاعر، بل صار أثرًا يُنتزع منه مع كل خطوة، مما يدل على حالة الانفصال والاغتراب العميق.

كما يُبرز الشاعر استخدامه لجواز السفر المزوّر ليس كدلالة على انتهاك قانوني فحسب، بل كاستعارة كبرى لفقدان الشرعية في العيش ضمن حدود الهوية والانتماء الحقيقي. هذا الجواز المزور يرمز إلى مأزق الذات التي تُنازع بين الرغبة في الانتماء والواقع الذي لا يعترف بها، أي أن الوثائق التي كان يُفترض أن تُثبت علاقتها بالوطن ما هي إلا أوراق تُزيّن صورة زائفة بدلًا من أن تعكس الانتماء الحقيقي.

بهذا، يُظهر النص حالة من الفوضى والاضطراب داخل الذات، حيث يعاني الفرد من انفصال بين هويته المُتوقعة وهويته الواقعية في وطن لا يبقي له مكانًا ثابتًا، مما يعكس نقدًا حادًا للواقع السياسي والاجتماعي الذي يُسرق فيه الفرد حتى جزئاته الأكثر حميمة

7- ترف القصور ووعود المراحيض: سخرية سوداء من سلطة تُراكم وتخدع:

"وأملك من ساسته الذين امتلكوا قصور الدنيا / وعدًا بمرحاض في الجنة"

تناول القصيدة فكرة الترف المبالغ فيه لدى السلطة مقابل وعود جوفاء للشعب بأسلوب السخرية السوداء، وتحديدًا في البيت الشعري "وأملك من ساسته الذين امتلكوا قصور الدنيا / وعدًا بمرحاض في الجنة". من خلال هذا التباين، يكشف الشاعر عن التفاوت الحاد بين الاستغلال الفاحش للثروات والامتيازات من قبل قادة المتنفذين، وبين الوعود التي تبدو فارغة وتقدم للفقراء بطريقة استهزائيه، مثل الوعد بـ"مرحاض في الجنة." يتجاوز الشاعر بذلك النقد التقليدي ليبرز العلاقة غير المتكافئة بين السلطة والشعب، حيث يتم توظيف السخرية السوداء لتحويل مسألة الوعد بالجنة إلى سخرية مؤلمة، مما يكشف عن كيفية استخدام الدين كغطاء لممارسات الفساد السياسي والتمييز الطبقي. إذ أن هذا الطرح ليس مجرد مفارقة شعرية، بل هو دعوة لوعي مجتمعي يندد بنظام يمنح المواطن القليل، فيما يحصر الثروة والكرامة والقرارات المصيرية بين أيديه.

8. لحظة التحدي في النهاية:

"ومع ذلك: سأبقى مبتسمًا / رغم قوس النار الملتفّ حول رقبتي"

تعبير عن الإصرار على الحياة والمقاومة، وعن التمسك بالأمل والكرامة رغم كل المعاناة. الابتسامة هنا ليست خضوعًا، إنما فعل تحدٍ وجودي، كأنها سلاحه الأخير أمام القهر.

قوس النار هي صورة مركبة ذات دلالة قوية، تعكس الضغوط المفروضة والتهديد الدائم، وربما تشير إلى شيء عسكري مثل ساحة معركة أو خطر محيط. النار تعبر عن الخطر والعذاب والعنف، وربما ترمز إلى الرقابة السياسية أو القمع.

الجزء المتعلق بالالتفاف حول الرقبة يعكس البعد الجسدي الحسي للعذاب، حيث تعتبر الرقبة رمزًا للحياة والتنفس والكلام، وكل ما يهددها هو تهديد للوجود أو للحرية.

بشكل عام، الشاعر يوحي بأنه محاصر بالخطر والكبت وربما الموت، لكنه يظل مبتسمًا متحديًا تلك الظروف. هذا يمثل ذروة المقاومة الشعرية والوجودية، حيث تتحول المعاناة إلى عنصر للصمود بدلاً من الانكسار.

من الناحية السياسية، قوس النار قد يعبر عن الحصار من السلطة أو الاحتلال أو القمع الاجتماعي والسياسي الذي يطوق الشاعر أو شعبه، ومع ذلك فهو لا يتخلى عن الأمل أو الكبرياء.

على الصعيد النفسي، الابتسامة تحمل معنى الرفض الصامت أو التمسك بالذات رغم الألم. إنها توازن داخلي بين الخارج المضطرم والداخل الصامد.

رابعًا: الشعر كأداة للتغيير: التأمل السياسي في 'هذيان

تطرح قصيدة "هذيان" رؤية شاعرية مشحونة بالغضب والخذلان، حيث يتحول الشعر إلى وسيلة لمساءلة الواقع السياسي وتفكيك بنية النظام التي تمارس التهميش والخداع. العنوان "هذيان" لا يُشير فقط إلى اضطراب نفسي، بل يتجاوز ذلك ليصبح رمزًا لحالة التشويش الناتجة عن واقع سياسي واجتماعي مختل، حيث يتحول الحلم إلى جحيم يومي.

في مقاطع متعددة، يُظهر الشاعر نقدًا لاذعًا للأنظمة الحاكمة من خلال صور رمزية مثل:

-    "ليس من نبيٍّ جديدٍ يخيط جرحي"،

-    "مرحاض في الجنة" مقابل "قصور الدنيا"،

-    "قوس النار الملتفّ حول رقبتي"،

-    "جواز السفر المزوَّر" و"بعض تراب الوطن العالق بالحذاء".

كلها صور تكشف عن واقع شعب مسحوق بين وعد الخلاص الكاذب وواقع الإقصاء، بين الخطاب الديني المفرغ من محتواه، وبين غياب العدالة الاجتماعية والسياسية.

في "هذيان"، لا ينفصل الألم الفردي عن الوجع الجماعي، بل يعكس أزمة وطنٍ تتجسد في ذات الشاعر، فيتمدد "الجرح" من نخيل البصرة حتى "سفوح بيره مكرون"، دلالة على امتداد المعاناة بين مكونات الشعب العراقي. هذه الرمزية تُبرز أن الظلم واحد، والخذلان مشترك، والحرية ما زالت حلمًا بعيدًا، مما يجعل من القصيدة صرخة سياسية واجتماعية تدعو إلى مقاومة القهر وإعادة صياغة الهوية الوطنية.

رابعًا: الأسلوب الفني والبناء التعبيري

يعتمد الشاعر في قصيدته على لغة رمزية معاصرة تجمع بين عبارات كلاسيكية وأخرى حديثة، مما يجعل النص يتفاعل بعمق مع واقع الوجدان الانساني، فيلامس آلامه وآماله. يتسم النص بافتتاحيات قوية تقسم المساحات الإدراكية بين السماء والأرض، ويستخدم تراكيب فنية مثل التشبيه والاستعارة لتوضيح الانفصال بين الحلم والواقع، مما يخلق حالة من التوتر الشعري بين الداخل والخارج.

تتميز اللغة بثرائها المجازي وتكثيف الصورة الشعرية، حيث يختار الشاعر عبارات نارية وصادمة تُظهر بوضوح الجراح الاجتماعية والسياسية، مما يعزز من أثر النص على المتلقي عبر خلق حالة من الموافقة الشعورية على قسوة الواقع. وفي ذات السياق، تُستخدم السخرية السوداء لكشف زيف الواقع والسلطة، مما يضفي فاعلية نقدية على الرسالة.

من خلال الرمزية والمفارقات، يخلق الشاعر عالمًا شعريًا متعدد الطبقات، يظهر فيه تناقض واضح بين ما يُشاع من وعود رنانة وبين الواقع المُر الذي يعيشه المواطن. تُبرز رموز مثل "بيره مكرون" الاضطهاد الشامل الذي يشمل كافة مكونات الشعب، مؤكدًا على وحدة المعاناة في مواجهة نظام يمارس الظلم ويخدع المواطنين بوعود زائفة. كما أن هذه الرموز تتحول إلى دعوة لإعادة صياغة الهوية الوطنية على أساس مقاومة مشتركة للألم والظلم، تتجاوز الانقسامات وتوحّد القوى في سبيل تحقيق العدالة الاجتماعية والسياسية.

خاتمة: الهذيان كفعل مقاومة

قصيدة "هذيان" ليست مجرد خطاب شعري عن الاغتراب، بل هي وثيقة روحية وسياسية توثق معاناة شعب يُخدَع ويُقصى، ومع ذلك يظل متشبثًا بكرامته ووعيه. من خلال العنوان وما يحمله من أبعاد، ينجح الشاعر في تحويل الهذيان من حالة مرضية إلى أداة فكرية وجمالية تُقاوم التسلط؛ فتُعيد للذات المنفية صوتها، وللأرض المهملة ظلها.

تشكل القصيدة لوحة فنية تحمل بداخلها صراعات داخلية ومجتمعية متشابكة، إذ يستعرض الشاعر حالة ذهنية غامرة تتمازج فيها عوامل الإصرار على البقاء مع مرارة الانتماء لمجتمع مضطرب. إن العنوان "هذيان" لا يُعبر فقط عن اضطراب عقلي، بل يعكس تشويش الواقع الذي يحول الحلم إلى جحيم يومي، وتسخر الأبيات من فساد السلطات واستغلال الثروات، فيتحول ألم الفرد إلى نقد حاد لهذا النظام.

علاوة على ذلك، يدعو النص إلى التفكير الجماعي حول كيفية تحويل حالة الألم إلى قوة محفزة للتغيير الاجتماعي والسياسي، إذ تستلهم القصيدة من واقع الاضطهاد صرخة تحدٍ تطالب بإعادة صياغة الهوية الوطنية وبناء جسور المقاومة في وجه الفوضى والظلم. وفي النهاية، تبقى رسالة "هذيان" صرخة أمل ومسالة تدعو إلى صمود الذات، حتى وإن كان ذلك بالصمت والابتسامة المتمردة في مواجهة قوس النار الذي يحيط بها.

***

سهيل الزهاوي – أديب وناقد عراقي

 

وقراءة في سردية “عزازيل” ليوسف زيدان

توطئة: ليست هذه القراءة دعوة إلى تأويل يقيني، ولا محاولة لاقتناص مفتاح سردي يُغلق الرواية بإحكام. بل هي انزلاقٌ حرّ في الهوامش التي تركها يوسف زيدان مفتوحة عمدًا، كأنّه يعرف أن الحكاية ليست في ما كُتب، بل فيما لم يُكتب، في ما خُبّئ خلف سطور الراهب، وفيما ارتجف بين الجسد والمغفرة دون أن يُقال.

“عزازيل” ليست رواية تُقرأ كأنها وثيقة، بل كأنها مرآة: من نظر فيها طلب الحقيقة، ومن تَأملها خاف من الوجه الذي رآه فيها.

مقدمة:

في لحظة مفارقة، حين يختلط اللاهوت بالنزيف، والمقدّس بالحسّي، يولد النص الذي لا يريد أن يشرح شيئًا، بل أن يحرّض على التورط. سردية “عزازيل” لا تُحاكم عقيدة ولا تؤرّخ لانشقاق، بل تُقيم في المنطقة الرمادية بين الله والإنسان، بين الرغبة والتوبة، بين الحبر واللحم.

هنا لا يتكلّم يوسف زيدان بوصفه مؤرّخًا ولا هيبا بوصفه شاهدًا، بل يتناوبان معًا على الحفر في قاع الإنسان: ذلك الكائن الذي عُلِّم كيف يخاف جسده، ويُقدّس صمته، ويتوسّل الغفران لأجل قبلةٍ لم يستطع أن ينساها.

في هذه الدراسة، لا نبحث عن حكم، بل عن تأمل، لا عن خلاصٍ جاهز، بل عن سردية مكسورة تُطل من وراء الكلمات، لعلّها تجد فينا قارئًا لا يطلب إدانة الراهب، بل يفهم ارتباكه، ويعترف، سرًا، أنه يشبهه.

ثمة أشياء لا تُكتب لكي تُفهَم، بل لكي تُلامَس. ليست الرواية هنا إلّا جلدًا قديمًا تركه التاريخ على حبل الغفران، ليرتديه من يشاء، لا ليحتمي من البرد، بل ليعرف كيف يرتعش.

عزازيل، في دلالته الأولى، ليس اسمًا لشيطان كما درجت التفاسير، بل هو التسمية التي تُطلق على المجهول فينا، ذاك الصوت المُهمَل، المُبعد، الذي كلّما أنكرناه، ازداد حضورًا. في الرواية، لا يظهر عزازيل كشخصية بل كاهتزاز داخلي، كظل لا وجه له، كصوتٍ يخرج من أعمق نقطة في الذات حين تهتز الأرض تحت يقينها. هو مرآة لا تعكس، بل تُكسر.

هيبا، ذلك الراهب الذي يُمسك القلم ليكتب سيرته، لا يفعل ذلك لأنه يريد أن يروي، بل لأنه لا يعرف كيف يصمت. لم ينجُ من الحرب، ولم ينجُ من اللاهوت، ولم ينجُ من ذاته. الرجل الذي جاء من جنوب الصعيد ليحتمي بالكنيسة، كان يركض، في الحقيقة، من شيء أعمق من الاضطهاد: من جسده، من صوته، من تلك الرعشة التي لم يستطع أن يسميها حبًا، ولم يجرؤ أن يعترف بها كفهم.

ومارثا؟ ليست امرأة. بل اختبارٌ مكتمل. اختبارٌ للجسد حين يتورّط في الحنان، وللطهر حين يفقد تعريفه القديم. مارثا ليست غواية، بل مفردة جديدة في قاموسٍ لم يكن يعرف سوى مفردتين: الطاعة والعقاب. مارثا هي اللحظة التي يُحسّ فيها الراهب بأن الله لا يسكن فقط في المذابح ولا في الجدران المذهبة، بل في جلد إنسانٍ يرتعش، في عينين تسألان بصمت: هل الحب خطيئة؟ وهل المغفرة فعلٌ فردي؟ أم أنها امتياز تحتكره المؤسسة؟

الرواية تُسلّط الضوء لا على صراع العقائد كما يبدو، بل على التمزق الذي يحدث حين يصبح الإيمان سكينًا موجهًا ضد الجسد. يوسف زيدان لا يُدين الراهب، ولا يُبرّئه، بل يتركه في منتصف الطريق، عارياً من الحُكم، محاطاً بأسئلته، لا لكي يصل، بل لكي يتأمّل الحافة.

حين يقول هيبا عن علاقته بمارثا: “لم تكن خطيئة كما ظننت، بل كانت لحظة صدق نادرة”، ينفتح الجرح. لا جرح الفعل، بل جرح التأويل. كأن الطهر، في جوهره، لا يعني الامتناع بل الصدق. كأن الجسد، إن كُتب بصدق، يكون صلاة. وهذه الجملة وحدها كافية لتقوّض مئات الصفحات من التراتيل التي صاغتها السلطة لتجعل من الإنسان تابعًا لرغبتها في تعريف النجاة.

من خلف ذلك، يتردّد صدى أصواتٍ بعيدة، أصواتٍ لم تكن لتصمت لو أتيح لها الكلام. صوت إرنست بلوخ حين كتب عن الرجاء بوصفه بوصلة الإنسان نحو “ما لم يُولد بعد”، صوت سيمون فايل وهي تكتب أن “العقيدة التي لا تعبر عن الجرح، ليست أكثر من سلطة متنكّرة”. في هذا الإطار، تُصبح الكتابة نفسها – عند هيبا – نوعًا من الاعتراف الذي لا يبحث عن عفو، بل عن إعادة ترتيب المعنى. وكأن السردية ليست توثيقًا لما جرى، بل لما كان ينبغي أن يُقال ولم يُقل.

الرواية لا تُنهي هيبا، بل تُبقيه بيننا، بوصفه احتمالًا لكل من ظنّ أن التديّن يعني قمع الرغبة، أو أن الله لا يُرى إلّا من خلف حجابٍ من جلد. “عزازيل” تفتح الباب لتأويل الطهر نفسه، لا بوصفه قيدًا بل بوصفه ساحة صراع. الطهر، في هذه الرواية، ليس نقيض الجسد، بل طريقه الآخر. والراهب الذي ظنّ أنه يهرب من الخطيئة، كان – دون أن يدري – يهرب من سؤال لم يعرف كيف يواجهه: ما معنى أن تحب، دون أن تُحاسَب على شعورك؟

يوسف زيدان، دون أن يصرّح، ينسف جوهر العلاقة بين اللاهوت والجنس، بين المقدّس والغريزي، ليعيد الاعتبار للإنسان بوصفه كائنًا هشًّا، لا كاملًا، كائنًا يرى الله من زاوية منخفضة، لا من برجٍ عقائدي. والمغفرة التي يتوسلها الجسد، ليست مطلبًا من السماء، بل رجاءٌ بأن يسمح له الزمن بأن يُكتب من جديد، بعيدًا عن الجُدران التي علّمتنا أن نكره أنفسنا لأننا نشعر.

ولذلك، لا تنتهي الرواية كما تنتهي الحكايات، بل تبدأ عند النقطة التي يكتب فيها هيبا دون وجل، أن الجسد – حين لا يُخاف – يُصبح أصدق من العقيدة، وأعمق من النبوة، وأشدّ صلةً بالله، إن كُتب بدمٍ لا يستأذن الكهنة.

***

إبراهيم برسي – باحث وناقد سودني

 

تأخذنا قصيدة هل تسمعني؟" إلى تعدّد فكرة الغياب التي تتناوب بين سطوة الغياب: حضورٌ لا يُرى.. وحين يتكلم الغياب. والغياب كقوة خفية. والحضور الغائب. والغياب.. حين يصبح أبلغ من الحضور وحين يُملي الغياب معناه.

لذا فإنّنا نلج إلى الغياب بوصفه حضورًا مضاداً.

تبتدئ القصيدة بسؤالٍ بسيط ظاهرياً، عميق وجودياً: "هل تسمعني؟" — سؤال يضمر شكًّا في التلقي، ولكنه أيضاً يؤسّس لتيمة الغياب بوصفه مركزاً للرؤية، حيث يصبح الغائبُ أكثر تأثيراً من الحاضر، واللاوجود شرطاً للرؤية المطلقة. ينقلنا الشاعر فارس مطر من المألوف إلى ما وراءه، من الصورة المحذوفة إلى الغيمة المتحوّلة، في انتقالٍ من الماديّ إلى المجازيّ، ومن الواقعيّ إلى الكونيّ. يأخذنا من خلال أتباع منهج البنية الأسلوبية المادية إلى تفكيك الظاهر لإعادة بناء اللامرئي.

قصيدة "هل تسمعني؟" للشاعر فارس مطر تنتمي إلى قصيدة النثر، حيث تتحرر من القافية والإيقاع التقليدي، لكنها تحافظ على إيقاع داخلي ناتج عن التكرار، قارعاً جرسه الموسيقي الخاص، متحرراً من التركيب الموازي، والمجاز المحكم. نلحظ تكراراً هادئاً لأنماط لغوية كـ: "كـ.."، "قد.."،"عندما.."، ما يمنح النص نسقًا تأملياً متصاعداً.

الصور في قصيدة "هل تسمعني؟" لا تُقال لتصف، بل لتُفسِّر. الشاعر مطر، يستخدم الصور لا كتجميل بل كأداة فلسفية: "كصورةٍ محذوفةٍ من الهاتف الخلوي"، "كقارئ ترك الكتاب"، "كغيمة بدّلت الرياح شكلها". هذه التشبيهات تمثل لحظات خفوت الوجود، لا اختفاؤه. ساحباً لإدراكنا نحو أفقه الفلسفي من خلال الشعر بوصفه كينونةً بديلة.

القصيدة ليست فقط تأملاً في الموت أو الغياب، بل محاولة شعرية لتأثيث عالمٍ غير مرئي، يمنح الإنسان خفةً وانسيابيةً: "ستكونُ حُرًّا خفيفًا ويكونُ الهواءُ عادلاً" . هنا يتكشّف الشاعر فارس مطر عن رؤية طوباوية، تتجاوز ثنائية الحياة والموت. فأن تغيب، لا يعني أن تفنى، بل أن تتحول. الغائب يتماهى مع الكون، يتحوّل إلى: "تغريدة"، "قصيدة"، "نبض في الأغصان". إنها عودة كونية تتخذ شكلاً شعريًا خالصًا.

متساوقاً مع المجاز بوصفه نظامًا معرفيًا. حيث تبدو القصيدة مكتظة بالمجازات، لكنها ليست زينةً بل رؤية. نقرأ مثلاً: "ربما فكرةُ الغيابِ أكثرُ أناقةً وسُرياليةً من المثوى الأخير"، هنا يقرن الشاعر مطر بين الفكرة والأناقة، الغياب والسوريالية. إنه يفكّك الصورة النمطية للموت، ويُعيد تركيبه بوصفه حالة انفتاح على الكون، لا نقطة نهاية. من هنا كان ما بعد الحضور – الإنسان كقصيدة كونية، وهي نقطة الذروة في القصيدة حيث تجلت في الاتحاد بالطبيعة – حتى يصبح الإنسان ماءً، طيراً، شجرة، أغنية.

يقول: "تذيبُ نفسك في ساقيةِ الماءِ التي تدخلُ الغابةَ

لتشربَكَ الأشجارُ والأطيارُ والأفواهُ". يذوب الشاعر مطر في الكائنات الأخرى، لا يزعم تميزاً، بل اتحاداً كليّاً. في هذا الفضاء الواسع، لا توجد حدود بين الشاعر والعالم، بل تناغمٌ مطلق يُختم بنداء: "أيها التناغمُ الكبير، هل تسمعني؟" "هل تسمع، قلبَ الشجرة؟"، هنا تتحول القصيدة من خطاب غيابي إلى صلاة وجودية، إلى نشيد كوني مفتوح. وهنا يأخذنا ببراعته من الذات إلى الكلّ.

قصيدة "هل تسمعني؟" ليست رثاءً ولا تأملاً فرديّاً في الغياب، بل هي بناءٌ شعريٌّ لبديلٍ وجوديّ، يتجاوز الموت، ويتخيّل الإنسان روحًا حرّة منسابة في تفاصيل الطبيعة. لذا وجدنا الشاعر فارس مطر لا يكتب عن الموت، بل عن التحوُّل، عن إمكانية النجاة من الثبات عبر الذوبان، وعن الكتابة كحياة أخرى. إنها قصيدة لا تُقرأ بعين واحدة، بل تتطلب الإصغاء كما تُشير نهايتها، وكأنّ الشاعر يريد من القصيدة أن تكون صوتاً في شجرة، أو همسة في كونٍ مزدحمٍ بالحضور الصامت.

رائع، لنغص إذن في تحليل رمزي دقيق لبعض المقاطع، لنكشف الطبقات العميقة التي تنطوي عليها رموز النص:

تحليل رمزي لمقاطع مختارة من القصيدة

1. "كصورةٍ محذوفةٍ من الهاتف الخلوي"

الرمز: الصورة المحذوفة

الدلالة: هذا المشهد اليومي المألوف يتحوّل عند الشاعر مطر إلى استعارة كبرى عن الغياب الرقمي/الوجودي. إنّ حذف الصورة لا يعني أنّ الشخص لم يكن، بل أنّ أثره صار لا مرئياً. استخدام الهاتف – رمز الذاكرة العصرية – يشير إلى أننا في زمن يُمحى فيه الوجود بسهولة.

المعنى الأعمق: الغياب هنا لا يتصل بالموت فحسب، بل بالتلاشي التدريجي من ذاكرة الآخرين، ومن الوجود المعنوي.

2. "كغيمةٍ بدَّلَتِ الرياحُ شكلَها مجدداً"

الرمز: الغيمة المتبدّلة

الدلالة: الغيمة ترمز في الأدب الصوفي والشعري إلى الروح، إلى الكائن المتحوّل، الخفيف، العابر. تغيّر شكلها، يُشير إلى قدرة الكائن على التقمّص والتحوّل وعدم الثبات.

المعنى الأعمق: يؤكّد الشاعر على أنّ الغياب ليس نقطة نهاية، بل حالة ديناميكية، حضور بصيغة أخرى، تتغيّر وفق الرياح (القدر/المصير).

3. "الغيابُ رهينةُ الحضور / ونغمةٌ في وتر قد تثيرُها ريشةٌ في أيِّ وقت"

الرمز: الوتر والريشة

الدلالة: الوتر يحمل طاقة صوتية كامنة، لكنه لا يُصدر صوتاً إلا إذا حرّكته الريشة. هذا رمز عميق لوجود كامن، غائب، لكنه قابل لأن يُستحضر في أي لحظة.

المعنى الأعمق: الغائب ليس منفصلاً عن العالم، بل هو جزء من نسيجه، ينتظر فقط "اللمسة" ليعود إلى الاهتزاز – أي إلى الحياة أو الذكرى أو الإلهام.

4. "تذيبُ نفسك في ساقيةِ الماءِ التي تدخلُ الغابةَ"

الرمز: الساقية/الماء

الدلالة: الماء هو جوهر التحوّل في الرمزية الكونية. الذوبان في الساقية يعني الاتحاد بالعناصر، التخلي عن الفردانية، والتحول إلى جزء من المنظومة الحيوية الكبرى: الطبيعة.

المعنى الأعمق: دعوة للاندماج، للذوبان في الكلّ. الشاعر فارس مطر لا يريد أن يُذكر كاسم، بل كأثر حسي في الوجود – كماءٍ يسري في كائنات الأرض.

5. "هل تسمع، قلبَ الشجرة؟"

الرمز: قلب الشجرة

الدلالة: قلب الشجرة قد يكون استعارة عن الحياة الداخلية لكل كائن حيّ، أو عن وعي الطبيعة ذاته. إنه السؤال النهائي: هل للطبيعة وعي؟ هل يمكنها الإصغاء؟ وهل نصير نحن جزءًا من ذاك الوعي بعد الغياب؟

المعنى الأعمق: الشاعر يطرح هنا سؤالاً وجودياً ميتافيزيقياً: هل هناك صدى للروح في العالم بعد أن تغيب؟ هل يمكن للأثر أن يُسمع حتى لو لم يُنطق؟من هنا يمكننا القول انّ قصيدة "هل تسمعني؟" تمثّل نصاً شعرياً مكثفاً من حيث بنيته الفكرية وجمالياته التعبيرية، حيث يتقاطع فيه الحضور والغياب، ويتحوّل الكائن الإنساني إلى طيف كوني يتناثر في الطبيعة والعالم. إنها قصيدة ذات طابع تأمليّ عميق، تنتمي إلى ما يمكن وصفه بـ"الشعر الوجودي الحديث"، حيث تتداخل الأسئلة الكبرى مع الشفافية الشعرية.

البنية الفنية للنص: كان تأكيدنا على الشكل الشعري كون قصيدة

"هل تسمعني؟" تنتمي إلى شعر النثر، إذ تخلو من القافية التقليدية لكنها تحافظ على إيقاع داخلي مستند إلى التكرار، والتنويع الصرفي، وتعدّد الأنماط التركيبية. فالجملة الشعرية في القصيدة طويلة نسبياً، متدفقة، أقرب إلى المونولوج الداخلي، وتتحرك عبر تدرّج شعوري نحو الذروة التأملية في نهاية النص.

كون الشاعر مطر اتبع مسار التكرار والنسق الإيقاعي مستخدماً أدوات التشبيه مثل "كـ..."، والمقاطع الشرطية "عندما.."، وهذا ما يخلق نسقاً من التوازي البنائي، ويُفضي إلى حالة من التماوج الصوتي الذي يُشبه "خفقان الغياب". هذا البناء الفني يُعزز الأثر النفسي للنص، ويؤكد حالة الانسياب التي تتماهى مع رمزية الماء والهواء في المضمون.

لغة قصيدة "هل تسمعني؟" مكتظة بالصور الشعرية حيث جاءت اللغة في القصيدة تُزاوج بين اليومي والمجرد، بين التقني (الهاتف الخلوي) والفلسفي (الغياب الفيزيائي). هذا التداخل يعكس قدرة الشاعر على تحويل المفرد العابر إلى كوني، والمألوف إلى رمزي.

أما الصورة الشعرية هنا فإنها لا تؤدي وظيفة التجميل، بل تؤسس للرؤية. نلحظ مثلاً:

"كصورةٍ محذوفةٍ من الهاتف الخلوي"، "كغيمةٍ بدَّلَتِ الرياحُ شكلَها مجدداً". هذان التشبيهان يُحيلان إلى الغياب كفعلٍ لا يُدرَك بالحواس، بل بالأثر. الصورة في هذا النص لا تُجسّد، بل تُفسّر وتؤول. من خلال رؤيته الفلسفية للنص كما أسلفنا معتبراً الغياب كحالة وجودية:

كون القصيدة تتمحور حول فكرة الغياب، لكن الغياب هنا ليس نفياً للوجود، بل تحولاً في شكله. فالشاعر فارس مطر يقول هنا:

"يصوغُكَ الغيابُ غائباً لا يُرى،

هذا يعني -فيزيائياً- لستَ موجداً"

المفارقة في هذا السياق أنّ الغياب يتطلب وجوداً سابقاً، بل ويعيد تشكيله. هكذا يتقاطع الشعري بالعلمي، ليؤسس رؤية وجودية للغياب كتحوّل، لا كفقد. ساحباً المتلقي من الكائن إلى الكونية:ففي المقطع الأخير، تبلغ القصيدة ذروتها الفلسفية والجمالية، حين يتحوّل الكائن إلى مكوّن كوني يقول الشاعر فارس مطر: "تذيبُ نفسك في ساقيةِ الماءِ التي تدخلُ الغابةَ لتشربَكَ الأشجارُ والأطيارُ والأفواهُ"، هذا الذوبان ليس مجرد اندماج بالطبيعة، بل هو تخلٍّ تام عن الفردانية لصالح الوجود الجمعي. الإنسان لا يعود فقط جزءًا من العالم، بل يصبح العالم نفسه.

ولو عدنا إلى البنية التأويلية والرمزية فنجد هناك رمزاً مركزياً في القصيدة: (الغياب) حيث الغياب هو الثيمة المركزية، ويأخذ التأويل الهيرمينوطيقي في القصيدة وجوهاً متعدّدة: الصورة المحذوفة، القطار الذي فات، الغيمة المتغيرة. كلها تدل على وجود سابق يتحول إلى لا مرئي.كما يتحوّل من الذات إلى الطبيعة: كون الشاعر مطر سعى لإنهاء قصيدة "هل تسمعني؟" إلى صوت في الطبيعة حين قال: "وستغدو حفيفاً في النسمةِ، قصيدةً في الخميلةِ نبضاً في الأغصانِ"

هذا الانصهار هو أسمى درجات الوجود في القصيدة. الغياب لا يُنظر إليه كموت، بل كتحقّق أعلى للكينونة عبر الفن والطبيعة.

فالقصيدة برمّتها بياناً شعرياً ضمنيّاً تعبّر تمام التعبير عن قدرة اللغة على منح الخلود، وعن الشعر كوسيط بين الحضور والعدم. فحتى في الغياب، تظل الكلمة قادرة على البقاء، على الإنشاد، على أن تكون "ريشة تُحرّك الوتر".

إن عبارة "هل تسمع، قلب الشجرة؟" لا تخاطب كائنًا بعينه، بل تُحيل إلى وعي كوني، تنتقل فيه الذات من ضمير المتكلم إلى ذرات العالم.

خاتمة

قصيدة "هل تسمعني؟" نص شعري فريد في معالجته لفكرة الغياب، حيث يمزج بين الحس الفلسفي والنبض الشعري، ويجعل من الفناء مدخلاً للحياة الكونية. إنها قصيدة لا تُنشد الحزن، بل تحتفي بالتحوّل، وتكتب الذات من جديد في جسد الطبيعة، بأثرٍ يظل قائماً ما دام في الشجرة قلبٌ يسمع.

***

بقلم: عماد خالد رحمة - برلين

................

هل تسمعني؟

.. وعندما تختفي كشيءٍ كان هنا قبل قليل

أو كصورةٍ محذوفةٍ من الهاتف الخلوي

كقارئٍ تركَ الكتابَ على المنضدة

كخُلُوِ الرصيفِ منكَ تماماً

عندما تركبُ القطارَ قبل لحظات

أو كغيمةٍ بدَّلَتِ الرياحُ شكلَها مجدداً

يصوغُكَ الغيابُ غائباً لا يُرى،

هذا يعني -فيزيائياً- لستَ موجداً

ومع استبعادِ أن تكونَ قد لمستَ شيئاً قاتلاً

أو.. مَسَّكَ شيءٌ قاتلٌ

فقد خرجتَ من المسرح

-تأويلاً- يعني هذا أنكَ صرتَ مُشاهداً يرى غيابهُ

ولعلهم يذكرونكَ في مناسبة

ويقولونَ: روحهُ الآن تُطِلُّ علينا

ربما فكرةُ الغيابِ أكثرُ أناقةً وسُرياليةً من المثوى الأخير

-مجازاً- الغائبُ رهينةُ الحضور

ونغمةٌ في وتر قد تثيرُها ريشةٌ في أيِّ وقت

في النتيجةِ أنت غائبٌ وصامتٌ

ولا تستطيعُ الكتابةَ

لكن، مع افتراضِ وجودك اللّامرئيِّ

ستكونُ حُراً خفيفاً

ويكونُ الهواءُ عادلاً

ولن تكونَ لك وِجهةٌ أخيرةٌ

مُقبلٌ من كل الجهات

قابلٌ لكل شيءٍ

منهمرٌ

مضيءٌ

حالمٌ

‏ممتلئٌ مالئٌ كالأثير

إن اتَّحَدْتَ بشيء صِرتَهُ

آمِلٌ

متأملٌ

وقد تختارُ أن تكون سلاماً..

ورغيفاً..

وكماناً يُهَذِّبُ الكوكبَ من جديد

‏وعلى سبيل البساطة

تذيبُ نفسك في ساقيةِ الماءِ التي تدخلُ الغابةَ

لتشربَكَ الأشجارُ والأطيارُ والأفواهُ

فتصبحُ تغريدةً، أغنيةً

وستغدو حفيفاً في النسمةِ

قصيدةً في الخميلةِ

نبضاً في الأغصانِ

أيها التناغمُ الكبير

هل تسمعني؟

هل تسمعُ، قلبَ الشجرة؟

***

فارس مطر

شاعر عراقي يقيم في العاصمة الألمانية برلين

 

أمَّا العينان فهما الشعر والتصوف. ولكن ما هو هذا الهوى الذي أَلتَاثُ من أجله، وأَرومُ توحيدَه من خلال سفحِ دمي حروفًا تنظرُ إلى المطلق، وإلى الوجود وكوائنه بعيني الشعر والتصوف ؟.

إنه الهوى المحضُ الخالي من نوازع الذات ونوازغها، ومن اُنظومات المخلوقات وشرائطها، الصاعدُ عبوديةً صوب كُلِّي الجمال. فأَنْ تعشق معناه أن يكون عشقكَ عاريًا من الأغراض والأهداف، ومن المُتعِ الحسِّيةِ الراكضةِ على افراس الغرائز، مرادًا لوجه المحبوب دون سواه.

ومنذ التهب هذا العشقُ في دواخلي أصبح الشعر والتصوف عَينينِ لكياني، بهما أسمعُ وأرَى، وبهما أُحلِّق في الملكوت، فتنفذ إلي منه الإشارات والرموز والاستعارات والحدوس والسماديرُ ( = الرؤى)، وتتنافذُ تنافذ الضوء في الماء، والعِطر في الهواء. مما يُفضي بهاتين العينين إلى أن تُخضعَ كل واحدة منهما أختها إلى تجربتها ابتغاء مَرضاةِ المطلقِ، وتوحيدِ العشقِ فيه، ووسيلتُهما إلى ذلك الخيالُ؛ الذي هو حضرة الحضرات، وبرزخُ البرازخِ الفاصلُ بين المعلوم والمجهول، وبين المحسوسِ والمعقول. وهذا التموقُع للخيال هو الذي يؤهله إلى التقاط الحقائق بعيدا عن الفصل وبعيدًا عن ضيق الثنائيات.

فبالخيال أكشفُ عن قصور العقل المجرَّد ومحدوديته، وبه أجمع بين الضدين، وأرى الجسمَ في مكانين، والنورَ في سُويداء الحنادس، وأُمسكُ الأشياءَ في تبدُّلاتها وتقلباتها، وأُصغي إلى لغاتها المتدفقة فيَّ ببهاءِ لا أبينَ منه ولا أسنى.

إن الخيال هو الركن المركزي في مَشهدي الصوفي والشعري، ومرآتي التي أشاهد فيها الماديَّ متضمِّنًا روحًا، والمعنويَّ متضمنا مادةً، قبل أن تخبرني بذلك الفيزياء الحديثة، ومن ثمة فإنني لا أخجلُ من الاعتذار إلى حجرٍ مثلاً إذا عثرتُ فيه، لكونه كائنا مُسبِّحا بحَمْدِ مُكوِّنه.

فالشعر عين تُشوِّقك إلى المحبوب، والتصوف عينٌ تَحمِلُك إلى بابه، حتى ولو طُردَت منه. وهاتان العينان تصُبُّ كل واحدة منهما في الأخرى، وتتجادل معها لغةً وتخييلاً وتصورًا. وأنا – عن طريق لغتهما المكثفة الخاصة- أسعى إلى ربطِ الإنسان بالحقيقة دفعةً واحدة، بُغية الوصول به إلى ما تمناه الشاعر أبو الحسن علي بن محمد البديهي الشهرزوري حين قال:

أُتمنَّى على الزمانُ مُحالاً

   أن تَرَى مقلتايَ طلعة حُرٍّ

والحرُّ هو من أحبَّه المطْلق وكاشفَه بسر الأسرار، ومَنَحَهُ ياقوتةَ الحقائق المتحقِّقة، وأطلعَ شمسَه في ليل الانكسارات والانجراحات والإحباطات، لكي يُبصرَ فيها مَنْ لم يُبصرْ كيف يَجمعُ السماءَ والأرضَ في جُبَّة واحدة، وكيف يَبتُر أنانيتَه العمياءَ التي هي أسُّ الداء في الوجود.

وكَمْ أنا متشوق إلى أن أكون هذا الحر، غير أن أهوائي كثيرا ما تُصَفدني كلما انغمرتُ في التجربة وأوغلتُ فيها رياضة ومجاهدة،وليس هذا عيبًا مادمت كائنا بشريا فالبشر ما هُمْ إلا مجموعة أهواء ورغبات مشتعلة تلهث خلق الارتواء بطرائق قِدَدٍ. وأنجحُهم في التجربة هو من امتلك القدرة على إلجامِ شهواتِه الجامحةَ وتطلعاته السفلَى. فالحرية تجربة في اللانهائي، منبعثة من وجدان صادق، ولا يكون الوجدان صادقا إلا إذا كان له حنين دائم إلى أصله الأول في عالم الذرِّ، وتوقٌ إلى مراودةِ العَصيِّ، وكشفِ الغامض، واقتحام المجهول. وكل من لديه هذا الوجدان هو بالطبع مُتصوف في محراب الحياة، ينفصل عن ظاهرها، ليُؤكد اتصاله بباطنها.

وقد منحني الشعر والتصوف – حين نظرتُ بعينيهما إلى الكون ومُكونِه – هذا الوجدان الشفاف الذي لا ذرة فيه لكُرهِ أيٍّ كان، فهو يسَعُ العوالمَ كلها، ويكتُبها محَبَّةً كما كتبَها مُوجِدُها في البدءِ

الشعر والتصوف يَنْبُعانِ من ذاتي مُلَوَّنين بألوان سِتَّةٍ مجتمعةٍ ومتضافرةٍ، متواجشةٍ ومتناغمةٍ، في كل واحد منهما، هي:

1- انبثاقُهما من تجربة فردية باطنية صادقة.

2- إحساسُهما بألم المعاناة والمكابدة الوجوديى

3- تجوالُهما في المناطِقِ القصية الممتنعِ التجولُ فيها.

4- اكتشافُهما المجهول برؤى غائصةٍ في الأعماقِ، نزَّاعةٍ إلى المطلق.

5- تجاوزُهما حدودَ المكان والزمان والمستحيل

6- انصهارُهما في نار الشوق إلى المطلق؛ التي تُمِدُّهُمَا بلغة مفارقةٍ نائيةٍ عن اللغة المتداولة، خالصة من شوائب التزييف...لغةٍ تُشيرُ إلى قُدْسِيَّة المحبوب إشارة قصدٍ شَطْحِي. ومعنى القصدُ الشطحي أَنْ يَكُونَ الجَسَدُ النصي مسكونًا بروح الكلمات، ومدلولاتها الجديدة، النائية عن المدلولات القديمة. وذلك لأن الحروف فيها هي بمثابة أمةٍ من الأمم، مخاطَبةٍ ومكلفَةٍ، لا أفصحَ لسانًا، ولا أوضحَ بيانًا منها.

بهذه الخصائص كتبتُ وأكتب من أجل توحيد العشق، مبتعدًا عن التصريح، لأن التصريح إذا دخل الشعر والتصوف أفسدَهما، وجعل نضارتهما وطلاوتهما قُبحًا ومَذلةً. ولَكمْ تفتنني فيهما هاتيك الغرابةُ التي تُحوِّل المصطلح الواحدَ في كل مقام من المقامات إلى مولودٍ جديد، فاتنٍ ومُدهشٍ. هل هذا راجع إلى كون تجاربهما متباينةُ ُ ومتنوعةُ ُ مَظْهرًا ومتسقة ومتوحِّدةُ ُ مَخبَرًا؟ أم لكونهما ينطلقان من تصورات في العشق غير معلومة للآخرين، وينشُدان الحقيقة الأسمى فيما وراء الحقيقة البشرية؟.

يحق لي هنا أن أقول: إن الشعر والتصوف منذوران لما هو خفي، والخفي دائما يأسَرنا، وُيدخلنا في أواوينه، ويُشوِّقنا إلى بُعده واحتجابه، خصوصًا إذا ما تم ربطه بخفي آخر، وهو المحتجِب البعيدُ الأبعدُ اللانهائي. واهتمامُهما هذا بالخفي الممْعِن في الخفاء هو الذي جعلهما يساهمان في إنتاج معرفةٍ جديدة بالوجود وبالإنسان، وبالمطلق كذلك. وهو الذي دفعهما إلى التحرك في مدار الصيرورة والتجدد والتجديد بحيث أنه يكون من الصعب عليهما أن يعيشا مغامرة روحية دون أن يكون للجمال نصيب في قلبيهما الظامئين، ونفسيهما المتعطشتين، وروحيهما اللتين تطربان للمعاني الجزئية والكلانية في الكون، وتريان أنَّ كل ما فيه جميلٌ بالأصالة، وأن القبحَ فيه ليس إلا عارضًا مآلُه الارتفاعُ والامِّحاءُ.

إن حاجة عين الشعر إلى التصوف كحاجة عين التصوف إلى الشعر، فالأولى تحتاج إلى تحقيق اللحظة الصوفية التي تدمجُها في الزمن الروحي غير المقيَّد بالدقائق والساعات، والثانية تحتاج إلى الشعر لإبراز المكاشفات والتجليات والفيوضات الفائضة عليها من لدن المحبوب.

وتحت ضغط هاتين العينين أَجدُني في موضع الانسحاق، وموضِع الإبلاس، وأجدُ لغتي في موضع العجز عن احتواء المعاني الكبيرة. فألتحفُ التكثيف أحيانًا، وأحيانا أخرى أُوثر الصمت، وأُفسح المجال للبياض لكي يختزن فيوضات المعاني، وانهمارات الرؤى عَلَّني أصلُ إلى ما وصل إليه مولانا جلال الدين الرومي في قوله:

قَالَ لِي وَاٌلرُّوحُ ثَمْلَى بِاٌلْمُنى:

مَنْ بِبَابي؟ قُلْتُ: بِالبَابِ أَنَا

*

قالَ لِي: أَنْكَرْتَ تَوْحِيدَ اٌلْهَوَى

عِنْدَمَا فَرَّقْتَ فِيهِ بَيْنَنا

*

وَمَضَى عَامٌ، فَلَمَّا جِئْتُهُ

أَفْتَحُ اٌلْبَابَ عَلَيْهِ مَوْهِنَا

*

قَالَ لِي: مَنْ أَنْتَ؟ قُلْتُ: اٌنْظُرْ فَمَا

ثَمَّ إِلاَّ أَنْتَ بَاٌلْبَابَ هنَا

*

قَالَ لِي: أَدْرَكْتَ تَوْحيدَ اٌلْهَوَى

وَعَرَفْتَ اٌلْحُبَّ، فَاٌدْخُلْ يَا أَنَا

وإني لأرى من خلال تجربتي الشعرية والصوفية أن هاته التجربة الشعرية والصوفية هي المُؤهَّلة جماليا وشهودًأ بصائريًّا لجمع السماء والأرض في ثوب واحد، هو ثوب العشق الخلاق الذي لا يُرحِّل الحقيقة لا عُلْويًّا ولا سُفليا، وإنما يجعلها ناطقة في القلوب بأسمى معاني الكون وتجليات كُلِّي الجمال فيه. والوصولُ إلى كلي الجمال مشروط بحَجْبِ السِّوَى، وتوحيد الهوى، وتوحيدِ الهوى لا يتحقق إلا إذا كان حالُكَ يقول:

أَنَا لَكَ... لاَ لِي

فَخُذنِي مِنِّي

ومِن السّوَى إِلَيْكْ

ولاَ تَأْخُذْنِي منكَ إِلَيّْ

ولا شك أنك إذا وَحَّدْتَ الهوى ستَصِلُ، وإذا وصلتَ فإنك لن ترى فيما سواه إلا نَفَسًا من أنفاس مَحَبَته.

***

الدكتور أحمد بلحاج آية وارهام

تعريف الغَزَل كما ورد في القواميس اللغوية هو فنّ من فنون الشِّعر، يتغنَّى فيه الشَّاعر باِمرأة ويُحمِّله مشاعره

ومن تعريفاته أيضا ـ هوالشِّعْرُ الَّذِي يُقَالُ فِي النِّسَاءِ وَوَصْفِهِنَّ وَالتَّشَبُّبِ بِهِنَّ.

يُقال للظّبي غزال وللظبية غزالة والغزالة في اللغة أيضا هي الشّمس عند الضّحى

وقد شبّه الشعراء القدامى حبيباتهم بالشّمس تعبيرًا عن وضاءتها وحسنها مثل عنترة في قوله:

أَشارَت إِلَيها الشَّمسُ عِندَ غُروبِها 

تَقولُ إِذا اسوَدّ الدُّجَى فَاطلِعِي بَعدي

والغزل هو فتل الصّوف خيوطا وقد ورد في القرآن قوله في سورة النحل ـ وَلاَ تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها ـ

وقد جمع المعرّي بين الغزْل والغزَل في أحد أبياته قائلا:

سُقيا لِشَوْهاءَ ما هَمّتْ بفاحشَةٍ 

غدتْ على الغزلِ، ليستْ تعرِفُ الغزَلا

هذه مناسبة إذن للوقوف على العلاقة بين الغزَل والغزْل والغزالة فيبدو لي إذن أن غزل الصوف حول المغزل هو مثل غزل الكلام حول المرأة التي تشبه الغزالة في حسنها وفي كثير من طباعها فغزْل الصوف يتطلب اللطف والحذق والمداومة حول المغزل وشعر الغزل يتطلب كذلك المهارة اللغوية ولطف المقاربة كما قيل في قواميس اللغة هو محادثة النساء بِلُطْفٍ وَرِقَّةٍ وَكَلاَمٍ عَذْبٍ وَتَوَدَّدَ إِلَيْهِنَّ وأما التشبيه بين الحبيبة والغزالة فأمر شائع في مدوّنات الغزل كقول قيس بن الملوّج مخاطبا ظبية:

أَيا شِبهَ لَيلى لا تُراعي فَإِنَّني 

 لَكِ اليَومَ مِن بَينِ الوُحوشِ صَديقُ

*

فَعَيناكِ عَيناها وَجيدُكِ جيدُها 

سِوى أَنَّ عَظمَ السّاقِ مِنكِ دَقيقُ

وهذا الشاعر المنخّل اليشكري هو أيضا يجد شبها وتوافقا آخر ولكنه مع البعير والناقة ليعبّر عن تمام الانسجام وكماله بينه وبين حبيبته حيق قال:

وأحبُّها وتحبّني 

ويُحبّ ناقتها بعيري

قيس بن الملوّح  يستحضر هو أيضا زمن طفولته مع حبيبته ليلى وهما يرعيان صغار الغنم فيقول:

تعلّقتُ ليلى وهي غرّ صغيرة

ولم يبد للأتراب من ثديها حجمُ

*

صغيرين نرعى البُهم يا ليت أنّنا

إلى اليوم لم نكبر ولم تكبر البَهمُ

 تمثّل الطفولة الصّفاء والنّقاوة والبياض الذي لم تَشُبه شائبة والعاطفة فيه صادقة تنأى عن هواجس الغرائز وحسابات المصالح وقد صوّر الشابي الطفولة فاِعتبرها حلما لذيذا مرفرفا وذلك في أسلوب صيغة التعجّب الذي يرشح بمعاني المحبّة والاِشتياق المَشُوبة بشيء من الحسرة على اِنقضاء عهدها حيث يقول:

للّه ما أحلى الطفولة إنّها حلم الحياة

عـهد كمعسول الرّؤى ما بين أجنحة السُّبات

وعذوبة الطفولة لدى الشّابي جعلته يفتتح بها ـ معلّقته ـ صلوات في هيكل الحب ـ إذ يستهلّها قائلا:

عذبة أنت كالطفولة كالأحلام كاللّحن كالصّباح الجديد

أمّا الشّاعر التونسي ـ حاتم حمّادي ـ وهو من آخر حبّات العنقود في مدوّنة الشعر التونسي فقد نشر أخيرا قصيدا جديدا عاد فيه هو أيضا إلى ألعاب الطفولة خاصّة منها لعبة الغمّيضة لينال قبلة من حبيبته جائزة له بعد عناء البحث والفوز بالرّهان فهذه اللعبة البريئة والمسليّة تُعتبر أكثر صدقا وأبلغ حميميّة من طقوس الحبّ الرّسمية الخاضعة للبروتكولات

قصيدة ـ الغُمَّيْضَةُ ـ للشاعر ـ حاتم حمّادي ـ تونس

إنْ أَقْرُبْكِ

أَغْمِضِي عَيْنَيَّ بِمنديلٍ صغيرٍ

أو وِشَاحٍ

ثُمَّ

تَوَارَيْ قَلِيلاً…قَلِيلاً

وتَسَلَّلِي

ثم تَخَفَّيْ بِتُؤَدَةٍ

وراءَ جدارٍ

أو

وراء ستارٍ

كطفلةٍ تَتَسَلَّى بِي

تحت…

جُنْحِ الظَّلاَمِ

وَإِذَا…

بعْد جَمِيلِ تَعَثُّرٍ

وبعدَ بحثٍ حليمٍ

وَكَدٍّ خفيفٍ ومُزَاحٍ

وَجَدْتُكِ دون عناءٍ

لِيَكُنْ حَظِّي مِنَ الرِّهَانِ

قُبلة برقيّة خاطفة

بِالكَادِ تمسح مسحا خفيفا

على الخدَّيْنِ

مثلما

يفعل جميع الأطفالِ،

سأراها مخاطرة

ومجازفة كبرى

وجزاء

وسترينها مُخَالَفَة

وأحلى عقاب

صَرَاحَةً…صراحةً

أريدُ أن ألْعبَ معكِ

مثلَما يلعب جميع الصِّغارِ

إنّي…

مَلَلْتُ الحُبَّ الرّسْمِيَّ

والقُبُلاَتِ مِنْ نَارٍ!

قصيدة الغمّيضة للشاعر حاتم حمّادي عودة إلى ينابيع الشّعر العُذري واِستلهام لرموز الرّومنطقية وهي من ناحية أخرى مواصلة في تفاصيلها وصورها وأبعادها لمسيرة الشّعر الجديد بتونس .

***

سُوف عبيد ـ تونس

 

قراءة نقدية في قصيدة "لأنك أنت" للشاعرة رشا السيد احمد – ألمانيا – سوريا.

***

لأنك أنت

و كتبت لأنك نبي الحب الذي حل في قلبي وأقرأني السلام من لدن قلب عاشق

و فتح لي كتب نور خفية صفحة تلو صفحة وأقرأني آيات بينات

كنت ذاك الملاك الذي حملني معه لسموات علا بعيدا عن هرطقة الرصاص وجنون اشتعل في الأوطان

بينما كان علي أن أزرع في دربك كل الحكايات الجميلة وأمسح عن قلبك التعب لأن قلبي صار ينابض قلبك بجنون

منذ الأزل كل ما كنت أحتاجه هو أنت وحينما سكنت قلبي عرفت ينبوع الأغاني فصرت أسقي الورود منه فنبتَ في كل زاوية من قلبي أغنية وقصيدة تنزلت من السماء

قُبلتك المطولة حين ألتقينا هذا الفجر أخذتني بدوار عذب وكانت بنكهة الرؤى المسافرة في أكوان تمنحك السعادة بقوة في لحظتها أدركت أنك ذاك الذي كان يحضرني من عهود مضت قبيل كل فجر فأصحو بألف سبب للفرح والطمأنينة ويصير  العالم أنا وأنت ولا غير

ففي سفرنا على جنح السمر كان يتجلى الكون عذبا شفيفا حينها كنت تحدثني عن الله الذي لا يخلف وعده وكنت أحدثه عنك مطولا بحنو وأزرع من نجوم عينيك في سمائي عرسا للشغب فأنا المملوءة بك حد التماهي بكل نبض يؤثث الروح شغفا واشتعال فأذوب بك أكثر

وأنسى الكون كله ووحدك تبقى في الروح .

سيدة المعبد

***

القراءة النقدية:

القصيدة "لأنك أنت" للشاعرة رشا السيد أحمد هي قطعة شعرية تمتزج فيها الرومانسية بالروحانية، وتعبر عن حب عميق ومتجدد يتجاوز الحدود المادية والتجسيد الجسدي. ومن خلال هذه القصيدة، نجد أن الشاعرة تستخدم مجموعة من الرموز الأدبية والتصاوير البلاغية التي تُمثل حبًا كونياً، وتوحُّدًا روحانيًا بين الشاعر والمحبوب.

المعنى العميق والتوظيف الروحي:

تبدأ الشاعرة النص بعبارة "لأنك أنت" التي تعتبر بمثابة مفتاح لفهم النص، حيث تُمثل المحبوب أو الحبيب كجوهر هذا الوجود، وتوحي بأن وجود المحبوب هو السبب الذي من أجله تحيا الشاعرة. هذه البداية تأخذنا إلى فكرة الحب الكوني، حيث يُنظر إلى المحبوب ليس كإنسان فقط، بل كرمز للطاقة الإيجابية التي تملأ الروح.

من خلال استخدامها لعبارة "نبي الحب الذي حل في قلبي"، تخلق الشاعرة صورة دينية تُحيل إلى قدسية هذا الحب، حيث يصبح المحبوب معلمًا ومصدرًا للطاقة الروحية والإلهية. هذا التوظيف يعكس تسليم الشاعرة الكامل للمحبوب، وجعل العلاقة بينهما أكثر من مجرد علاقة دنيوية؛ إنها علاقة روحية متكاملة.

الصور البلاغية والرمزية:

تستمر الشاعرة في استخدام صور بلاغية عالية، مثل "فتح لي كتب نور خفية"، و"كنت ذاك الملاك الذي حملني معه لسموات علا". هذه الصور تتجاوز الواقع الحسي لتعكس عوالم غيبية متخيلة، في صورة الملاك الذي ينقل الشاعرة إلى عوالم أعلى من خلال الحب. هذه الصورة تُبنى على المجاز، حيث يُنظر إلى الحب كأداة للوصول إلى النقاء الروحي والسمو.

وفي تعبيرها عن الحب الذي يتجاوز الواقع العنيف، يبرز تصويرها للمحبوب الذي "حملني معه لسموات علا بعيدا عن هرطقة الرصاص وجنون اشتعل في الأوطان". هذا لا يقتصر على تصوير الحبيب كملاذ روحي فقط، بل يشير أيضًا إلى الهروب من ضغوط الحياة والعنف الذي يهدد الإنسان في الواقع.

الحب كمصدر إلهام وإبداع:

في النص، تتحدث الشاعرة عن اكتشاف "ينبوع الأغاني"، الذي يمثل الإلهام الذي ينبع من الحب. الشاعرة تُصوّر الحب كمصدر للإبداع الفني؛ حيث يصبح القلب مليئًا بالأغاني والقصائد التي تنزل من السماء. هذه الصورة تعكس كيف يُمكن للحب أن يكون محركًا إبداعيًا، يملأ الروح بكل ما هو جميل ويُعيد ترتيب العواطف والتجارب بشكل يُنتج إبداعات فنية تلامس الروح.

القبلة كرمزية روحية:

تُصور الشاعرة القبلة على أنها أكثر من مجرد لمسة جسدية، بل تجربة روحية تحمل في طياتها تحولًا عاطفيًا وذهنيًا. حيث تقول "قُبلتك المطولة حين ألتقينا هذا الفجر أخذتني بدوار عذب"، وهو تعبير قوي عن التأثير العاطفي الكبير لهذا اللقاء. القبلة هنا تمثل أيضًا لحظة من الاتحاد الروحي بين الشاعر والمحبوب، الذي يتم تصويره على أنه لحظة تجسيد حقيقي للحب الأبدي.

الاندماج الكوني والتماهي مع المحبوب:

النص يتحدث عن التماهي بين الشاعرة والمحبوب بشكل مكثف: "أنا المملوءة بك حد التماهي". هذه الجملة تُشير إلى وحدة وجودية بين المحبين، حيث يتناغم الوجود الروحي لكل منهما ليصبحوا كيانًا واحدًا. هذه الفكرة تعكس التوحد الروحي، وهو أحد المواضيع المركزية في الأدب الصوفي، حيث يكون الحب هو وسيلة للوصول إلى الكمال والنقاء.

التصوير الديني والفلسفي:

كما أن الشاعرة تذكر في جزء من القصيدة: "كنت تحدثني عن الله الذي لا يخلف وعده وكنت أحدثه عنك مطولا بحنو"، هذه الصورة تشير إلى أن العلاقة مع المحبوب تتعدى حدود الشخص الواحد لتصل إلى علاقة مع الذات الإلهية. وهذا يُعطي النص بعدًا دينيًا، حيث يتم الربط بين الحب الإلهي وحب المحبوب، ما يعزز من فكرة أن الحب ليس مجرد مشاعر بشرية، بل هو اتصال مع الكون بأسره ومع المبدأ الأسمى.

الخلاصة:

القصيدة، في مجملها، تعد إعلانًا عن حب روحي متجدد يعكس الترابط الكوني بين الشاعر والمحبوب. هي قصيدة تتجاوز الحدود العاطفية لتدخل في مجالات روحانية وفلسفية عميقة، حيث الحب ليس مجرد ارتباط بين شخصين، بل هو مظهر من مظاهر الاتحاد مع الكون ومع الذات الإلهية.

من خلال استخدام الرمزية الدينية والبلاغة الرفيعة، تقدم الشاعرة قصيدتها كوسيلة لتمجيد الحب الذي يتجاوز الفناء والزمان، ليبقى راسخًا في الوجود الأبدي.

***

بقلم: كريم عبد الله – العراق

"ماقالت الريح لليل".. لغة مكثفة وصور حسية ورمزية طاغية في مشهد شعري متداخل

- داخلت بين الرموز التاريخية والروحية لتُظهر صورة نصية جميلة من روح الخطاب "القرآني"

- تناولت نصوصها بقالب وجداني تأملي كرست فيه تجربة إنسانية مليئة بالايحاء والرمزية

***

ليس عبثاً أن تَهبُ الرياح لتربك سكون الليل باحثةً عمن ينصت لنشيجها، لمن يستجلي ما فيها ويفهم مغزى ما جاءت به، وما حملت في طياتها، الاستفهام والتأكيد الذي جاءت به لهيب عبد الخالق في عنوان ديوانها تحاول أن تبين من خلاله الحوار الخفي الذي يدور بين الإنسان والطبيعة، وأن تنقل حالة عدم الاستقرار التي عليها الريح وما يكتمه الليل من أسرار لا تقبل البوح. "ما قالت الريح لليل" يفتح أفقاً من التأويل والدهشة، وما يلامس الروح من شغف لمعرفة خفايا ذلك المجهول في قولها لليل.

قصائد عديدة ضمها ديوان "ما قالت الريح لليل" اشتغلت عليها لهيب عبد الخالق بالتأمل وإلتقاط اللحظات الهاربة وما تتضمنه بعض الذكريات من غموض ومشاعر لا تتوافق مع ما يعيشه العالم اليوم من صخب وفوضى. أحتوى ديوانها الحنين الناعم، رافقته أسئلة لم يُحرر لها جواب، وفيه من الحب ما لا شبيه له فيما سمعنا من الروايات، هو كالريح فعلا تمر وتغير وتترك آثراً على مساراتها التي لا بوح فيها لما تقول لليل.

الاستفهام الذي تضمنه العنوان يأخذ القارئ نحو تشظيات الروح التي تلامس وجعها وجمالها، حاولت لهيب أن تعبر عما يجول في خاطر المتلقي من سؤال حول القوة التي تكمن في ذلك البوح الذي اسرت الريح به الليل فحولت بكلماتها ضبابية التصور إلى قوة الموقف التي تنم عن معرفة (ما قالت الريح لليل) رغم ما لف الجملة من إبهام، فهل من سامع لما قالت الريح، أم أن قولها ذهب مع عتمة الليل وإنبلاج الصباح، ذلك ما أخفته لهيب عنا وعن القراء كي نواصل معرفة ما جرى من خلال نصوصها أنقينا بعض من نصوص الديوان وخضنا في تفاصيلها.

العنوان جاء بصيغة الإيحاء الرمزي أرادت منه لهيب عبد الخالق الإشارة فيه إلى حديث أو بعض من أسرار لتضفي بعض من غموض أو لإثارة الفضول، أو أن تضع القارئ على عتبة التأمل في طابع الحوار الذي دار بين الريح والليل وما تهمس به النفس في خلجات ذلك الليل وسكونه، نشعر به لكننا لانعرف فحواه، نلمسه عبر حركة الريح، ونألفه من سكون الليل الذي يدفع صيغة الحوار التي طغت على النص إلى أن تضفي عليه بعداً فلسفياً في هذا التلاقي، فالليل ساكن، والريح حركة، فكيف جمعت لهيب الحركة بالسكون في تكوين جميل وصاغت منه عنوان ديوانها.

وفي الإهداء جاءت لهيب بأبيات مقتضبة صورت من خلالها الخطاب التاريخي بشكل متداخل مع الرموز المكانية والزمانية، بأعتبار أن ما جاءت به من ذكر للمكان يؤرخ لحقب زمنية عرفت باسماء تلك الأماكن، موحية من خلالها باستيفاء المعنى من الخطاب الديني الذي مثل قصص تلك الأمكنة التي وردت في القرآن الكريم، ومن نصوص صريحة جاء ذكرها نصا بالاسم في النص القرآني. (إرم ذات العماد التي لم يخلق مثلها في البلاد) الفجر (7)، (1).

إرم..

أعمدةُ رخامٍ، أم دخان..

في الإشارة التي جاءت بها لهيب (إرم) المدينة التي عرفت باسم أولئك القوم، أرادت منها التحديد كدلالة نصية على المقصود (إرم) دون غيرها، لكنها في الخطاب الضمني موجهة وتحمل خطاباً توجيهياً فيه من الرجاء، الخوف، التخفيف، التوبة، الأمل بالنجاة، العودة من الموت، والهرب من بين أنياب الحرب التي تستعر وتخلف ما تخلف من دمار مثلته لهيب بالدخان.

استحضرت لهيب (إرم) الأسطورية لتصف من خلالها مشهداً للدمار بعد الكوارث (الحروب وغيرها)، كما وصفت التحول والتغيير الذي قد يطال الأشياء والمواقف، فها هي أعمدة الرخام التي تمثل جمال المنظر، تتحول إلى دخان يتطاير وربما يخنق الجميع، أي التحول من الجمال إلى الزوال.

لا تنظري للوراء،

لا تنظري إلى بحار الخطايا،

لتنسلّي مثلَ فجرٍ رصاصيّ من بحرِ القذائف،

وعلى أعمدةِ الدخانِ ارفعي رجاءكِ،

الخطاب الذي بدئته لهيب بالنداء (لاتنظري للوراء)، وكأن لهيب تصر على أن يكون نص الإهداء مدعم بالتأثير الروحي الذي تطغى عليه سطوة التأثير الروحي أو الحسي للدين، فالهالة التي ترسمها (القصص القرآني) تستحوذ على مساحة التفكير في محيطنا أو مجتمعاتنا الشرقية، وما أن تعمل على الربط بما يحمل خطاب التقديس فذلك مدعاة لتقبل الطرح والميل نحو مضمونه أكثر من أي خطاب أخر، توجه دقيق نجحت لهيب من خلاله لنشر مساحة التقبل لخطاب الإهداء أكثر مما لوكان ذلك الخطاب يقتصر ربما على صورة مغايرة لصورة الخطاب الروحي.

مزجت لهيب عبد الخالق بين الرمزية الدلالية وقوة الصورة الشعرية، فخطابها الذي بدء بالنداء كان قوي التأثير يحمل طابعاً تأملياً لكنه قاتم، عكست من خلاله تجربة حياتية قد توصف بالمريرة بعمق تأثيراتها التي خلفتها الحروب وما تحمله من آثار الدمار.

قد لا يسـتمعُ أحدٌ..

قد يخنقنا ​ الدخانُ..

لكنهُ الوحيدُ الخارجُ من لجُّةِ الحربِ سليماً، كما هو... دُخانْ.....

وعلى حصَاها المجمرِ، عليكِ قطعَ الأميالِ..

كرست لهيب في إهدائها حقيقة أوردتها ب(قد) وهي كما نعرف (حرف إمتناع لوجود)، (قد لا يسـتمعُ أحدٌ.. قد يخنقنا الدخانُ..)، وهي تحتمل العكس أيضا، فقد لايسمعنا أحد، وقد لانختق، لكن الثابت أن الدخان هو الناجي الوحيد من هول الحرب، والذي خرج منها كما هو...دخان.

تلك الأبيات لاتخلوا من نصيحة، أي أن لهيب تدعو من خلال أبياتها للمضي دون الاكتراث بما جرى من هول تلك الاحداث، والسعي لبدء صفحة جديدة من صفحات الحياة على الرغم مما كان، فالحياة لاتتوقف، وتلك دعوة للأمل بان القادم ربما يكون أفضل رغم السوداوية التي ضمنتها وصف حالة المعاناة والمستقبل المجهول.

أرادت لهيب أن توصل للقارئ حقيقة فعلية مفادها أن الحرب دمار مهما كانت نتائجها، وجسدت تلك الصورة عبر ما جاءت به من رموز وصور مثلتها ب (الدخان والحرب)، ثم الرحيل في دعواها لترك الماضي والابتعاد رغم الألم، إلا أنها كرست حقيقة ثابتة أيضا أن لا مدينة فاضلة نركن إليها، وأن لا أمل بالجنة الموعودة وسط ما نعيشه من لاجدوى ومعاناة، وأن الصفة الثابتة التي نعرفها ونلمسها بين أيدينا تتمثل في أن الدخان يرمز للحقيقة وسط مشاهد الدمار الذي نعيشه، صورة تعبر عن إنكسار نفسي تام لم تسعف الرموز التي تضمنها نص لهيب من أن تجعل تلك من الليل مكاناً آمناً نلجأ إليه لنستريح من تعب الأيام.

ففي بواكير ديوانها الذي بدأته ب"همسُ الظلال" تقول لهيب عبد الخالق:

ﹶوحين ﹸيغمرني

المساء بثلجه

ﹸأتدفأ بأغنيات

الحقول ﹸوأرسم على

اﹺلضباب ​ﹰزورقا

الواضح من هذا النص أن هناك طابعاً تأملياً يضفي بابعاده على القصيدة بشكل كامل، أرادت منه لهيب المزج بين الطبيعة والوجدان، أرادت أن تجسد لحظة دفء في النفوس بمواجهة البرودة التي توصف بها أجواء المساء، وهو تاويل وظفته لهيب للدلالة على الوحدة أو الحزن التي تدفع الشاعرة للتعويض عنهما باستحضار صور الماضي المألوفة.

ﹸوأرصف على ​

رف موقدي

ﹰزهرة ﹸخبأتها بين

ﹼدف ﹶتي كتاب..

على تضمين نصها بعنصر آخر يبعث على الدفء الروحي مثلته بالذكريات الجميلة (أغنيات الحقول)، وجاءت بالحلم على صيغة صورة من الخيال لتمثل لها مهرباً من الواقع الذي تشير إليه " أرسم على الضباب زورقاً"، وهذه دلالة أيضا أرادت منها لهيب أن تبقي على الأمل معقوداً على الحدث الذي أرادته مستمراً لتبقى تفاصيله محفوظة بعناية تشكل دفء داخلي، صورة وجدانية رمزية رائعة وجميلة رسمتها لهببعبد الخالق لتدفع بنصها إلى الإرتقاء بما ضمنته من أغراض وجدانية ودلالات مؤكدة "زهرة خبأتها بين دفتَي كتاب"، نص شكلت فيه الذكريات هاجساً لمقاومة برودة الحياة عبر استحضار الذكريات وصور الأيام الجميلة في الخيال.

ثم في "ماقالت الريح لليل" تلك البارزة الناهدة التي أطلقتها على الديوان كله اسماً وعنواناً عرفت لهيب ديوانها بتلك القصيدة، وأضفت من جمال صورها وتشكيلها وموسيقاها على الديوان كله، فحين تصادف ديوان لهيب عبد الخالق هذا يدفعك إلى تساؤل كبير، حتى قبل تصفحه أو قراءته يفيد... (ماذا قالت الريح لليل).

ما قالتِ الريحُ لليل....

(ميلودراما)

لا تمض

ﹸكن ﹶمثل ​السماء

كلوحة ​ﹶسوداء

أْجري كالسفين على

ﹶمداها، أنشر ​

الأنغام ﹶبين غمامها

وأ راقص الأشجار

أعصف في

صواريك التياعي ثم

أغمض ﹶشوق ﹶتلك الأرض

قالت عنها (مليودراما) وهذه توظف في النص الشعري للتعبير عن المبالغة فيما يتناوله الشاعر من مشاعر وبخاصة الحزن، ما يجعل النص مؤثراً جداً لما يحتويه من عاطفة طاغية، أي أن الشاعر يأتي بالانفعالات القوية والمشاهد المؤثرة لإثارة تعاطف القارئ، وقد تكون تلك الانفاعالات صادقة أو مفتعلة إلا أنها لابد وأن تكون مشحونة عاطفياً.

خطاب الذات أو خطاب الآخر واضح في هذا النص (لا تمضي) هناك مخاطب، وهناك طلب بعدم الرحيل، وفيه ايضا توصيف وتشبيه ذهبت منهما لهيب لترسم لوحة شعرية وليس صورة، فهي تقول (كن مثل السماء) أي تمثيل بحركة السماء وسعتهان وهذا تعبير عن الحياة واستمرارها، وفي الأرة تقول (أجري كالسفين على مداها) وهي دعوة للحرية والانفلات من قيود الحياة وتعقيداتها، وهذه فيها إيحاءات كثيرة، ما يعني أن لهيب قصدت أن تكتب بالايحاء لتزيد من غموض النص الذي وفرت للقارئ فيه مساحة من الأمل ينشر جميل أثره مثل الموسيقى التي يستمع إليها الإنسان في كلتا حالاته (المبهجة ونقيضها)، وهنا جاءت على توضيح ما أعترى المخاطب من هموم فقالت (أعصف في صواريك التياعي) وهذه صورة تعبر عن الاحساس بالهزيمة الننفسية التي تمزق الروح وتترك احساساً باللوعة.

أتركه على خد ​

الوسادة دمعة ﹼحرى

وأنفاسا ﹸتح ﹼل ﹸق

مثل ذاك ​الحزن

في ﹶع ﹶب ﹺق السواقي،

عاشقان أنا ﹶوأنت

ﹶنلف ﹰبعضا

مثلما ﹶتلتف ﹸ أغصان الغروب

على ﹶشواطئ ﹶأسر​

ﹾفتفي قهرها أو ﹶهﹶاجﹾرت مثل

الطيور إلى ﹶأقاصي ﹾالذاكرة

وبصورة حسية تمتزج بالعاطفة جسدت صورة لهيب صورة رومانسية يغلب عليها الطابع التأملي الذي جهدت فيه لتصوير الحزن والحب كشعور متداخل يعبر عن حالة وجدانية مركبة لتصوير لحظة تأمل شاعرية جسدتها دمعة على الوسادة تعقبها أنفاس مقطعة، وهي تعبير دقيق عن حزن عميق فينتاب النفس حتى يصل إلى هذا (النشيج) (الوسادة دمعة حرى، وأنفاساً تحلق)، تعبير قد يكون مثالي حقيقي حين وظفته لهيب في تلك الجزئية الدلالية، ونجحت فعلاً في ايصال مفهوم ما قصدت عبر ما أنتقته من مفردات(تصوير طبيعي للحدث) والصورة التي تعتمد على الطبيعة في التعبير عن المشاعر تضفي مزيداً من التفاعل والتأمل على شكل النص ومضمونه.

هذه التأملية التفاعلية التي صبغت بها لهيب عبد الخالق هذا الجزء من النص، اظهرت من خلاله حالة عاطفية راقية تلغي ال(أنا) وتنصهر الذات العاشقة وتندمج المشاعر فيها (مثلما تلتف أغصان الغروب)، ابرزت الخيال كعنصر حقيقي في النص قادر على شحن النص بالعاطفة المطلوبة، ومن جهة أخرى الإرتقاء بمستوى التفاعل مع القارئ عبر إنتقاء الكلمة ومرادفها بدقة وحذر، وهو أسلوب حرفي متقن أجادته لهيب وتمكنت من تحقيق ما أرادت من تشكيل انعكست أبعاده على النص.

ﹶنُّنسل من ​ﹺطين الخليقة

ﹶمثل جرح ﹴنافر

أو ﹶنهدﹺين ﹸتغشيان ​

ﹶبريق ذاك الوجد

ﹶتنطويان في عرق النخيل

ﹸترقر ﹶق​ان

الشوق ﹰأغنية ﹶكلفح ​

الهاجرة.

غلب على النص التأمل الوجودي نوتلك مساحة ربما يعدها البعض من النقاد أو يحسبها على الصيغ الفلسفية في الشعرنوهي قريبة أو في خضم ذاك التفسير، لكن الشعر الفلسفي الوجودي مضامين لاتنطبق على ما جاءت به لهيب في نصها، قد يحمل نصها لمحة من تلك التوصيفات، لكن لايطلق عليه نصاً فلسفياً أو وجودياً بمعنى (المدرسة الوجودية)*، تناول النص مسالة الوجود من باب النشأة من الطين، وهي حتمية فكل الوجود الإنساني من الطين أي أن الموضوع محسوم وبنصوص قرآنية لاجدال فيها، وهنا أنتفت صفة (النص الفلسفي الوجودي) عن نص لهيب عبد الخالق فهي قد نقلت ولن تنشأ الفرضية.

هي أرادت أن يكون المدخل بصورة الحدث الفلسفي، وكان لها وجميل ما أتت به فقد جردت الصورة الشعرية التي رسمتها من التزويق والبهرجة اللغوية والزيادات الفلسفية، ونقتها بما مزجتها معها من الحب والشوق والرغبة والألم والإثارة(نهدين تغشيان بريق الوجد)، (عرق النخيل" و"أغنية كلفح الهاجرة) وفيها تعبير عن المشاعر القاسية والملتهبة التي تترك تأثيراتها على المحبين، تلك المشاعر والتقلبات وأشكال العشق والرغبات تؤسس لمشهد الحدث في النص، لذلك ظهرت صورتها بكل جرأة تحمل من الإحساس ما يضفي الدهشة على المشهد الشعري بكامل تأثيره على النص.

ظلّ النرجس

ﹸيترنح ﹸسمت

ﹺالضوء ﹶوي​

ﹸكبش ما أبقى ​

ﹸأيلول على ﹸشر

ﹶفت نا،

أتذك ﹸر حين تمر ﹶبي

الأﹸشباح، ﹰسياجا يملؤه ​

ﹸالآس ﹸوأعراق

حملت لهيب النص نبرة من الحزن وكعهدنا بقصائد الديوان الأخرى، أو الطابع الغالب على ديوانها (ماقالت الريح لليل) يحمل طابع الحنين والتأمل، بزت الأحداث فيه اعتماداً على الذاكرة الحسية نوالأحداث التي داخلتها لهيب لتنشأ منها دراما الحدث، أو الحبكة الدرامية للنص، ومنها أرادت ان تجسد اللحظة الحسية الدافئة وتفاصيلها التي أراتدت لها أن تغلب على التفاصيل اليومية التي داخلتها مع المكان والزمان وحتى الحدث.

الشحن العاطفي واضح في ثنايا النص، استعادة الأحداث من الماضي، استذكار اللحظات، (الشاي، النعناع، شمس العصر) كل تلك الرموز مشحونة بالعاطفة لما فيها من دلالية حسية تترجم ما حدث حينها لتنسج منها مشهداً يضج بالحنين يعود بالقارئ للجذور وما ينتمي إليه لكن بشوق يطغى حتى اللحظة ويعبر مداها.

"الشحن العاطفي المتصارع بين الروح والجسد سبب أصيل في تجاذب وتدافع وتنافر قواميس اللغة ودلالاتها وتشعّبها في هذا الديوان، حيث تشكل القصيدة مرآة شاعرها"(2).

الجوري ﹸوزاوية ​ﹺالنعناع ​

ﹺالأخضر ﹸحيث ﹸأﹸهيء ﹶشاي

أبي، ﹸوالشمس تجر

ذيول العصر هناك ​ﹶكبوت

ﹶكم هر في ﹸحضن ​

ﹺالطين،

باسلوب تاملي هادئ كما العادة في ديوانها أستطاعت لهيب عبد الخالق أن تسوق الاحباط ليكون مقبولاً في مضامين نصوصها، وبلغة شعرية راقية ورقيقة ومشاهد بصرية جميلة لترسم لنا مشهداً من الحنين للماضي، الصور التي جاءت بها لهيب حسية حركية متقنة في ابعادها وألوانها، صور مفعمة بذاكرة طبيعية شكلت ربما جزء من ذاكرة النص، أو الذات الشاعرة، استطاعت من خلالها لهيب أن تشكل بعداً أخر أمتاز باحتواءه للزمن، وأن يكون مؤثر نفسياً حتى في تناقضات الصورة التي جاءت بها لهيب وتمثلت بالدفء والغياب.

نص حالم يضج بالحنين لصورة الأب ومشهد الشاي عند شمس العصر، رسمته لهيب بصورة جمالية غاية بالروعة عكست كل تلك المشاعر ونجحت بتوظيف الصورة الشعرية المدعمة بتأثير الزمان وجمالية المكان وبدلالة المشاعر باسلوب تأملي يمزج بين الحزن والجمال.

"ما قالت الريح لليل" حمل صوراً حسية جريئة كرست من خلالها الشاعرة الإثارة والرغبة، وربطت بين المشاعر بإختلاف سماتها واشكالها، نقلت طبيعة الفقد القاسية، كما سجلت ما مشاعر الحنين للماضي بتداخل رائع بين الزمان والمكان، والتي عبرت عنهما بدلالة حسية ورمزية معبرة ودقيقة، ونجحت بإثارة القارئ واستمالته نحو أبعاد قد لايقرأها عند شعراء آخرين بلغة مكثفة مالت فيها إلى الرمزية التي تتوافق والايقاع الموسيقي التشكيلي الذي يرافق الأداء الشعري.

نص متفاوت التصور ما بين سمتي الخلق والرغبة، غني بالدلالات الوجودية، قدم حقائق قائمة حول خلق الإنسان من طين واصفاً إياه بأنه كائن يوصف بالوجد واللهفة، وعكس تجربة عاطفية عميقة، بلغة تصويرية شاعرية، تستحضر مشاعر الحب والحزن معًا في مشهد تأملي داخلي، يحمل دعوة للتعبير والانطلاق رغم الألم، والثبات رغم التقلّبات، والانغماس في الحياة كفعلٍ شعري جميل، إلأ انه يحمل طابعًا رمزيًا وتأمليًا، ويدعو إلى الثبات والتحرر في آنٍ واحد.

***

سعد الدغمان – أديب وناقد عراقي

...........................

* لهيب عبد الخالق شاعرة من جيل الثمانينات وكاتبة ومؤسسة وعضوة هيئة إدارية لمنتدى الأدباء الشباب، عضو اتحاد الأدباء والكتاب العراقيين، عضو نقابة الصحفيين العراقيين بدرجة سكرتير تحرير، تكتب بالنقد والبحوث الأدبية ومترجمة للشعر الإنكليزي صدر لها:

− انكسارات لطفولة غصن − مجموعة شعرية، منشورات آمال الزهاوي شركة عشتار للطباعة والنشر والتوزيع بغداد عام 1987.

− وطن وخبز وجسد، مجموعة شعرية، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد 1999.

− بين انهيارين− الاستراتيجية الأمريكية الجديدة (كتاب سياسي)، صدر عن الدار الأهلية – الأردن عام 2004.

− ترانيم سومرية، مجموعة شعرية، صدرت عن الدار الأهلية

−الأردن عام 2014.

− سوسيولوجيا الدم – مجموعة مقالات ودراسات صدرت عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر− بيروت عام 2015.

− مسافة جرح، مجموعة شعرية، صدرت عن الدار الأهلية− الأردن عام 2019.

* كاتبة سياسية ولها دراسات سياسية وإعلامية باحثة في مجال الإعلام، لها نحو 300 بحثا في ﹼكل مجالات الإعلام والسياسة والثقافة، نشرت في صحف عربية وعدة مراكز دراسات.

هوامش

1- قرآن كريم، سورة الفجر، الآية (7).

2- الدكتور ناصر حسين النزر، الشعر بين الرويَّة والبديهة و الروح والجسد، قراءة في ديوان (قبل التيه برقصة) للشاعر والناقد هاني الحسن، موقع المطيرفي، 2023/05/29.

* المدرسة الوجودية هي اتجاه فلسفي وفكري ثم تحول إلى تيار أدبي وفني، يركّز على الوجود الإنساني الفردي، والحرية، والاختيار، والقلق، والعبثية، ويُعلي من قيمة التجربة الشخصية على أي نظام خارجي أو عقلاني.

"رِحْلَةُ الْوَجْعِ عَلَى ضَفَّةِ الْكَلام"

***

رِحْلَةُ الْوَجْعِ عَلَى ضَفَّةِ الْكَلام

آمَال زَكَرِيَّا - الجزائر

حِينَمَا اغْتَالَنِي صَقِيعُ الْهِجْرِ

فَتَحْتُ قَمِيصَ الْحُبِّ..

فَرَاعَتْنِي نَظَرَاتُ أَزْرَارِهِ الْمُذْعُورَةْ!

تَدَاهَمَتْنِي أَجْنَاسٌ غَرِيبَةٌ

تَتَنَزَّهُ عَلَى رَحيقِ حُقُولِي..

وَذَاكَ الْاخْتِنَاقُ مِنْ أَنْفَاسِهَا الْمَرِيضَةْ.

حَمَلْتُ مَلائِكَتِي حَيْثُ لَا شُمُوعٌ

تَرْتَدِي الْأَقْنَعةَ فِي سُكُونٍ..

وَلَا تَلْوِيحٌ..

وَدُرُوسٌ كَثِيرَةٌ

مِنْ مُصَمِّمَةِ الْأَزْيَاءِ:

تَعَلَّمْتُ أَنْ أُحِيكَ فُسْتَانَ اللَّامُبَالاَتْ.

وَمِنْ مُصَفِّفَةِ الشَّعْرِ

أَنْ أَقُصَّ سَنَابِلِي الْمُنْحَدِرَةَ عَلَى صَدْرِهِ.

مِنَ الرَّاقِصَةِ

أَنْ أَضَعَ قَدَمِي عَلَى لَهَبِ الْمَجَامِرِ..

وَأَتَلَوَّى وَجَعاً كَحَيَّةِ الْهِنْدِ لَيْلَةَ الْاكْتِمَالِ.

مِنْ بَائِعَاتِ الْهَوَى

أَنْ أَطْرَحَ جَسَدِي لِلْحُزْنِ..

عَلَى سَرِيرٍ بَارِدٍ..

لِأَتَقَاضَى حَفْنَةَ نِسْيَانٍ.

مِنَ الشَّاعِرَاتِ:

أَنْ أَعْتَنِقَ الْمَجَازَ عَقِيدَةً..

وَأَتَنَفَّسَ عُسْرَ الْحِبْرِ..

لِأَحْشُوَ الْحُرُوفَ أَلَماً وَعَتْباً.

مِنْ أَهْلِ الْفَنِّ

لَوْحَةٌ ثُلَاثِيَّةُ الْأَبْعَادِ..

تُوَهمُكَ بِأَلْوَانِ الْفَرَحِ وَالرِّضَا..

بِفُرْشَاةِ الصَّمْتِ الْبَاهِتِ.

مِنَ الْعَارِيَاتِ مِنَ الْحَيَاءِ

أَنْ أَتَجَرَّدَ مِنْ يَقِينِي..

بِبَيَاضِ غُيُومِكِ..

وَأَشُقَّ عَبَابَ الْبَحْرِ..

بِلَا مَوَاثِيقَ وَعُهُودٍ.

وَمِنْ.. وَمِنْ.. وَمِنْ..

وَمِنْ نُزُوحِ نِسْيَانِكَ..

تَعَلَّمْتُ أَنَّ الْحُبَّ كِذْبَةٌ كُبْرَى..

وَأَنَّ وَهَجَ الْبِيَادِرِ نُورٌ زَائِفْ.

***

القراءة النقدية:

تُعدّ القصيدة "رحلة الوجع على ضفة الكلام" للشاعرة الجزائرية آمال زكريا من أبرز الأعمال الشعرية التي تفيض بمشاعر الألم والحزن، حيث تتجلى فيها صورة الصراع الداخلي والتشظي النفسي في مواجهة الواقع المعاصر بكل ما يحمله من آلام وهجران. ومن خلال هذه القصيدة، يمكن للقارئ أن يتلمس عمق المعاناة الإنسانية التي تتراوح بين الخيانة، الغربة، والخيبة، مع تعبيرات شعرية مكثفة تنطوي على معاني رمزية تتراوح بين الأمل واليأس.

البنية الشكلية للقصيدة

القصيدة تتبع أسلوبًا شعريًا حُرًّا (شعر التفعيلة)، ما يسمح للشاعرة بتوظيف اللغة بشكل يتناسب مع تدفق مشاعرها الداخلية، متجاوزة الأطر التقليدية للقصيدة العمودية. هذا الخيار البنيوي يعكس تفكك الذات الشاعرة وتشتتها، حيث لا تجد نفسها قادرة على التوحد مع أي إطار ثابت، سواء كان شعريًا أو اجتماعيًا.

اللغة والإيقاع

تستخدم الشاعرة في قصيدتها لغة رمزية غنية ودالة على العديد من الأبعاد النفسية والفكرية. فمن خلال الكلمات مثل "صقيع الهجر"، "أزرار مذعورة"، و"أنفاس مريضة"، تخلق الشاعرة جوًّا من الكآبة والتشويش الذهني، حيث يغلب على النص مشهدية الألم الذي لا يُحتمل. هذا الاستخدام المكثف للصور الشعرية يعزز من عمق الإحساس بالوجع الذي تعيشه الشخصية الشاعرة.

أما الإيقاع، فقد توزع الشاعرة جملها الشعرية على مستوى وزني غير منتظم، ما يعكس فوضى الألم والشعور المتناثر في نفسها. هذه التوزيعات التي تحرك الانتباه بشكل مفاجئ وتترك القارئ في حالة من الترقب المستمر، تتناسب مع موضوع النص الذي يسرد رحلة الوجع.

الرمزية والمعاني

تستهل الشاعرة قصيدتها بتعبير صريح عن حالة الاغتراب "صقيع الهجر"، حيث تتبدد مشاعر الحب في مواجهة قسوة الهجر. ثم تأتي عبارة "فَرَاعَتْنِي نَظَرَاتُ أَزْرَارِهِ الْمُذْعُورَة"، وهو تعبير يعكس قسوة الخيانة والتشظي الذي يعاني منه الكائن البشري في علاقاته العاطفية.

كما تتسم القصيدة بالكثير من الرمزية التي تحمل معاني عميقة عن "اللامبالاة" و"الفقد". في الفقرة التي تقول فيها "تعلمت أن أحيا فستان اللامبالاة"، تبرز صورة الفتاة أو الأنثى التي تمثّل الاستسلام للهزيمة النفسية، وهو ما يتكرر في التلميحات التي تتحدث عن "بائعات الهوى" و"الراقصة"، بما يعكس الاغتراب الاجتماعي والفكري.

وبالحديث عن موضوع "الحب الكذبة الكبرى"، تنطوي القصيدة على نقد اجتماعي عميق للعلاقات العاطفية التي فقدت معناها النقي، وصارت تجارة أو وسيلة هروب من الألم، كما يظهر في قول الشاعرة: "تعلمت أن الحب كذبة كبرى".

الأسلوب والرمز الديني

توظف الشاعرة الرمزية الدينية بشكل ضمني حين تتحدث عن "حمل الملائكة"، ما يرمز إلى التقديس والأمل في تجنب التلوث الروحي، لكن سرعان ما تتحول هذه الرمزية إلى تشويش وفوضى، فلا تجد الملائكة ملاذًا في واقع مليء بالخيبات. كما يشير السياق العام للمفردات مثل "الملائكة"، "الشموع"، "الصمت الباهت" إلى حضور مكثف لمفاهيم روحية ودينية، ولكنها تبدو مشوهة ومعتمة بفعل الوجع والتجربة القاسية.

الختام والتطور

إن القصيدة في مجملها توثق رحلة شديدة الوجع تتخللها لحظات من الدرس والتعلم عبر معاناة الحياة العاطفية، بدءًا من حب مستحيل، مرورًا بالخيبة، وانتهاءً بإدراك الحقيقة المرة التي تقول إن "الحب كذبة كبرى". وتعد هذه النهاية، التي تضمن في طياتها اعترافًا بالحقيقة القاسية، تعبيرًا عن النضج الشعري والتطور الروحي للشاعرة.

الخلاصة

قصيدة "رحلة الوجع على ضفة الكلام" تمثل تجربة شعرية غنية ومكثفة تختزل الكثير من المشاعر الإنسانية المُعذبة. تدمج الشاعرة فيها الأسلوب الشخصي مع الرمزية الاجتماعية والدينية لتصل إلى قمة التعبير عن الألم، ليس فقط على المستوى الشخصي، بل أيضًا على المستوى الاجتماعي والفكري. هذه القصيدة تعتبر نموذجًا مهمًا في الشعر المعاصر الذي يعكس معاناة الذات في عالم مليء بالضغوط النفسية والعاطفية.

***

بقلم: كريم عبد الله – العراق

للقاص المغربي عبد الحميد الغرباوي

المدينة والهامش

صورة (1)

يدُك، في يد السارد قارئا مستمعا لنبض الكلام، لا كمن لا يعرف متاهات المدن الإبداعية، أو كمن لا يستطيع فك شفرات السفار بين دروب الحكي، ومفازات الدلالات والرموز، بل يجوب بك أزقة ودروب مدينته التي "لا طمأنينة فيها"، يوقفك هنا لتتأمل، وهناك لتتذكر، وبعيدا لتسأل، تِجوالٌ، رغم خطواته المتسارعة حكياً، يتوَقَّفُ بك عند تفاصيل تفتح لك أفقاً لتغوص معه في مسارات ودهاليز وجنبات مدينته العامرة بالروائح والأصوات والصراخ والصخب والآسئلة.

تسير جنبه وأنتَ تتوجّسُ أن تصادف أحداً أو مكاناً أو حدثاً يوقفك رغما عنك لتطرح السؤال، ولكل حدث سؤال.

تسير معه وفي خلدك يدور، دون توقّف، "لا طمأنينة في مدينتي"[1]، تكتشف، تسبر أغوارها، تُخالط ناسها، تسْكُنُ أحياءها وأزقّتها، تستشعر خوفها وما يَقُضُّ هدوءها وسلامها، تدنو من عوالم كأنها صيغت بيد رسّام خبر تقنيات الرسم والكلام، "استبدّ بي الشعور أن هذه المدينة حيث أعيش غابة، والبقاء فيها للأشرس والأقوى"[2]، لكنّه يعرف مدينته جيدا، كل شبر فيها، ناسها على اختلاف طبقاتهم ومستوياتهم، يعرف حيواناتها، قططها وكلابها وعصافيرها وحتى أصغر حشراتها، تلك النحلة التي لا تُخلف موعدها عند شرفة بيت، "والقطّة التي تجوب الأمكنة ليلا تأكل من خشاش الأرض"[3].

المدينة كتاب مفتوح على عوالم ظاهرة أو مخبوءة، وعلى أناس لا يتشابهون، لا يربط بينهم رابط، إلاّ رابط تواجدهم في هذه المدينة، أناس من الهامش يؤثثون فضاءاتها التي تتنوع بتنوع الشخوص والأحداث والوقائع.

صورة (2)

وأنت مشدود إلى يد السارد مُنْبهر، يبني أمامك بحرفية عالية، معمار الحكايات والقصص التي لا تتشابه، بلغة تدرك معانيها ومواقعها ودلالاتها وصورها وهي تتحرك أمامك، عياناً، واضحة صادقة ومؤثرة تفتح لك بلغتها السلسة، نوافذ تطلّ منها على دواخل شخوصها وما يعتمل فيها من ألم وفرح وسخط وتوجُّسٍ وبؤسٍ وخيبات.

"لا طمأنينة في مدينتي"، مذكرات رجل خبر النّاس والأشياء والفضاءات المشكّلة لها، مذكرات بعضها اعترافات لأناسٍ يبدؤون نهارهم كما بدأوه منذ زمن "بالركض في المدينة"[4]، ركض وراء لقمة العيش، أو بحثاً عن شيء ما، ركض يقطع الأنفاس بهدف وبدون هدف، في طريق ليس ككل الطرق، "المدينة مضمار كبير للركض يصحبه هدير وعويل ونداءات وصراخ"[5] لتجد نفسك عابرا نفس الطريق في نفس المدينة تركض مع الرّاكضين لمعرفة ما يختبئ وراء النصوص وبياض الصفحات.

المدينة فضاء منفتح على الهَمّ والوجع الإنساني، حيث تختلط فيه الوجوه ببعضها، وتنصهر داخله الأوجاع والآلام، لتُفرزَ ذواتاً إنسانية بعيدة عن معنى الإنسان في حقيقته، وتقتربُ من الألم تصوغه نصوص "لا طمأنينة في مدينتي" بحضور قوي يحمل من التناقضات الكثير، ومن المعاناة الكثير، ممزوجا بنكهات أليمة تجوب الشوارع والأزقة والحارات والمقاهي والأسواق، وكلام الناس البسطاء والمهمّشين.

قوة النصوص في فضحها للهامش، لحيوات هي جذوة اشغال الحكي القصصي عند القاص عبد الحميد الغرباوي، والمدينة، هنا، هي الباب الواسع والمُخيف الذي رغم الوجع والألم الذي يسري داخلها، فاتحة أذرعها تتحمّلُ ما تبقى من الإنسان العادي الذي لا يُحسن من نهاره إلاّ الركض في أحياء المدينة العامرة بالحرمان والمرارة والعزلة والقهر هو وأشباهه الذين يتقاسمون معه نفس البداية ونفس المسار والمصير.

نصوص المجموعة تتماسك، يشد بعضها بعضا، تدفع بالقارئ إلى الاسترسال قراءةً والمشاركة الإيجابية في إنتاج مخبوء ما وراء السرد، نص يدفعك إلى نص، وكل نص مستقل يحمل طيته أدواته البنائية، يسيرا وحيدا غير منفصل عن المجموعة، عبر سرد سلس متماسك يفتح للقارئ مجالات للتأويل والمتعة، والدخول إلى عوالم وفضاءات الشخوص التي تركض باحثة عن الفرح والأمل للخروج من دائرة الهامش القابض بثقله على الحياة في المدينة التي تبحث، كناسها، عن الطمأنينة الهاربة لعيش إنساني كريم.

ترتبط المدينة بشخوصها كأنّهم هم المدينة نفسها، "وماذا تكون المدينة سوى البشر، كما قال وليام شكسبير، يؤثثونها بحياتهم ومعيوشهم اليومي، لأن المدينة تكون بناسها وحالاتهم التي يكونون عليها حين يركضون وراء ما يُقبضُ ومالا يُقبض، من خلال حكايات المجموعة التي تولد في الشقق والمقاهي والشوارع والساحات والأزقّة، وعلى الشُّرفات.. تُسيّر شخوصها مجبرة على احترام الأضواء ومواقيت العمل والتنقّلات، والوقوف في الطوابير وتحمّل بذاءة الناس، ودفع ضرائب التساكن والتجاور، وتحمّل الضجيج والصراخ، والتعايش مع لا طمأنينة الدينة/المدن. وكل تحول في المدينة ينعكس على كل نص من نصوص المجموعة، شكلا ومُعجماً وحركة وتصويرا وسردا.. ليصبح لكل نص بطل، بطل بصيغة الجمع، لأنه يمثل الكثيرين من أمثاله في مدينة السارد وفي مدن أخرى، تنتظر من يفتح أبوابها لتظهر أسرارها، فتتحرك حواس الأمكنة المشيدة للنصوص، وتهيج الأصوات وتتحرك بالتالي دواخل الشخوص التي تحضر بأمزجة ودلالات جديدة تحكي بتصرفاتها واقعا يختلف باختلاف الفضاءات والذوات التي تجمعها، وتبني بها ومعها حالات ومشاهد تمر أمام القارئ متسارعة مرة، وبطيئة مرة، ومشاكسة مرات، من ركض يقطع الأنفاس إلى آخر مطاف الرّكض حين يقف السارد والقارئ معا أمام نفسيهما.. "يا أنا"[6].. هل فعلا "يا أنا" ليخاطب السارد نفسه، أو "يا أنا" هي يا أنت أيها القارئ، "فِقْ أو قِفْ، ليحضُر السؤال صادما، هل كما دخلتُ راكضا خرجت؟

"يا أنا"، نص جاء قفلة للحكي ونهاية له، ملخّصاً جامعا كل النصوص بحرفية واضحة. أنا والشخوص والمدينة وما يجمع بينها من ألم وقهر وحزن وتحدّ، سؤال يظهر جليا أمام ناظر المتلقي عند نهاية القراءة، هل كما دخلتُ خرجتُ أو في نفسي بعضا من السارد والشخوص والأمكنة والألم؟ أكيد، في نفسي شيء.

ختاما..

يكفي القارئ أن يقرأ عن هذه المدينة التي لا طمأنينة فيها، مستمتعا، راكضا، متسائلا.. ورغم أن لكل شيء نهاية، ولكي يعود هذا القارئ لجمال السرد واكتشاف متع الحكي وأسراره، وخبايا المدينة الرابضة بين السطور، فلْيُعِدْ قراءة المجموعة، ولن يندم.

***

عبد المطلب عبد الهادي

.......................

[1] عبد الحميد الغرباوي. لا طمأنينة في مدينتي. قصص. منشورات باب الحكمة 2023.

[2] لا طمأنينة في مدينتي. ص 41.

[3] لا طمأنينة في مدينتي ص 89.

[4] الركض في المدينة. نص قصصي ضمن المجموعة القصصية ص 13.

[5] لا طمأنينة في مدينتي. ص 15

[6] يا أناـ نص من المجموعة ص 101..

 

"بطل رواية موسم الهجرة إلى الشمال للطيب صالح"

موسم الهجرة إلى الشمال للكاتب السوداني العالمي الطيب صالح، رواية لا تنقضي عجائبها، تأتيها من مكان تجد فيها العجب، تتناولها من كل زاوية تلقى فيها الثراء، تكرر قراءتها فتجد فيها شيئا جديدا مع كل قراءة.

هذه الرواية جاءت ضمن تيار روايات الصراع الحضاري التي تناقش العلاقة بين الشرق والغرب، بين الحضارة العربية والحضارة الغربية، وممن تناول تلك القضية رواية "أديب" لطه حسين، "وعصفور من الشرق" لتوفيق الحكيم و"الحي اللاتيني" لسهيل إدريس، وغيرها.

أجرى الكُتَّابُ جميعُهم - في هذه الروايات - صراعًا بين العاطفة والعقل، وقد غلبت العاطفة على الشخصية العربية، لكن الطيب صالح في موسم الهجرة إلى الشمال جعل العقل مسيطرا على البطل، ومحركا لأحداث الرواية، بل نستطيع القول إن العقل كان بطلا من أبطال الرواية.

وهذا أسلوب انتهجه الكاتب مخالفا لما جاء في روايته "عرس الزين" حيث جعل الحب هو محور الرواية، وكان بطلها " الزين رسولا للحب ينقل عطره من مكان لمكان" عرس الزين ص23

شخصية مصطفى سعيد كما رسمها الكاتب تخلو من العاطفة تماما، فلا مكان للعاطفة في حياته.

منذ طفولته فقدَ والده، ولم يتأثر، وربَّته أمه بشخصيتها الخالية من الحنان المعهود لدى الأمهات.

وعندما قرر السفر قرر وحده، دون مشورتها، فلم تحزن لفراقه، ولم تغضب لانفراده بالرأي، بل قالت له:" افعل ما شئت، سافر أو ابق، أنت وشأنك، إنها حياتك، وأنت حر فيها" ص27

يشير مصطفى سعيد إلى عقله كثيرا في هذه الرواية، وورد ذلك صراحة وضمنا في حوالي أربعة عشر موضعا من الرواية، فتارة يقول عن عقله إنه مدية " كان عقلي كأنه مدية حادة " ص33

المُدية هي السكين، وهي في لغات بعض العرب، ولا توجد لدى بعضهم، وقد وردت عن أبي هريرة تعقيبا على حديث سليمان عليه السلام، واختلاف المرأتين في أمومة طفل: "قال أبو هريرة: واللَّهِ إنْ سمعت بالسكين إلَّا يومئذ، وما كنَّا نقول إلّا المُدْيَة".

قلت تارة يسميه مدية، وتارة يقول آلة، و" آلة صماء" ص32 وتارات يقول عقل، فكان كما قال في وصيته للراوي: " إنني أعرف بعقلي ما يجب فعله " ص 70

لا عجب فإن الحصيف يدرك قدراته، ويوظِّفها، فكذلك كان مصطفى سعيد، وهو يقول: " كان سلاحي هذه المدية الحادة في جمجمتي " ويردف: " وفي صدري إحساس بارد " ص30 كناية عن غلبة العقل على شخصيته، وخلوه من القلب والعاطفة، فيوظف عقله الذي "يقطع في برود وفعالية"ص26

ويجد الكاتب لبطله مبررا، حينما يقول على لسان أحد المحامين في المحاكمة المشهورة: "مصطفى سعيد يا حضرات المحلفين رجل نبيل استوعب عقله حضارة الغرب، ولكنها حطمت قلبه" ص36، و " ومضى يرسم صورة لعقل عبقري دفعته الظروف إلى القتل" ص36.

ولكن الحقية إن هذا البطل منذ نشأ، فقد نشأ بعقل دون قلب.

هكذا كانت تعاتبه مسز روبنسن - وهي التي استقبلته في القاهرة وأكرمته، وتابعت دراسته فيها، ووقفت مودِّعة، تبكي، حين سفره بالباخرة إلى لندن، وواسته في المحاكمة، وتابعت أعماله وكيلةً له في لندن، وأغدقت عليه من العاطفة والحنان الكثير- "ألا تستطيع أن تنسى عقلك أبدا ؟!" ص32

وكتبت في رسالتها للراوي: " كان لموزي عقل عبقري، لكنه كان متهورا، كان غير قادر على تقبل السعادة أو إعطائها" ص149 هنا جملة محورية لخَّصت صراع العقل والقلب في شخصية مصطفى سعيد.

كذلك - بسبب عقله المتحكم في عاطفته - كانت علاقته بالأماكن، فلا ينتمي لمكان، فكل البلاد لديه جبالٌ تتفاوت أحجامها:

"ففكرت قليلا في البلد الذي خلفته ورائي فكان مثل جبل ضربت خيمتي عنده، وفي الصباح قلعت الأوتاد وأسرجت بعيري، وواصلت رحلتي، وفكرت في القاهرة – ونحن في وادي حلفا-فتخيلها عقلي جبلا آخر..." ص 28، "كان كل همي أن أصل إلى لندن جبلا آخر أكبر من القاهرة" ص 30

تبدو في كل مواقف الشخصية، وفي كل صفحات الرواية سيطرة العقل، ويقابلها خلوه من العاطفة، فهذه مسز روبنسن بكل مواقفها التي فعلتها تجاهه ورغم حنوها وعطفها عليه: " وتحنو عليّ كما تحنو أم على ولدها " ص 30 فكانت تبكي عند سفره، وكان هو يصف نفسه في تلك اللحظة: "إلا أنني لم أكن حزينا" ص30

جملة أخرى تثبت خلوه من العاطفة، حين قال: " لم أكن أحس تجاههم بأي إحساس بالجميل، كنت أتقبّل مساعداتهم كأنها واجب يقومون به نحوي" ص27

هكذا كان العقل مسيطرا على شخصية مصطفى سعيد، ومتحكما في أحداث الرواية، يفرض وجوده على صياغة المواقف وكان لسطوة العقل دور كبير في كل ما صادفه البطل من مآسٍ.

وأثَّرَ كذلك على بقية الشخصيات، حين أصابهم ما أصابهم، لا لشيء إلا لصلتهم برجل لا يُعلِي من قيمة شيء، كما يُعلي من قيمة العقل، وهو نفسه كان ضحية لعقله المتحكم، فالإنسان عقل وقلب، ولكلٍّ منهما وقت يتسيَّد فيه، فلا يُستعمَل العقل حيث يتطلب الأمر قلبًا، ولا يأخذ القلبُ دور العقل، فلو طغى أحدهما على الآخر، هنا يكون الخلل، وتكون الكارثة، ربما هذه هي جزء من الرسالة التي أراد الطيب صالح إيصالها للقراء من باب التطهير من الفعل المشين.

***

طارق يسن الطاهر

..........................

1) المقال وفق الطبعة الثانية للرواية دار العودة- بيروت

شأن كثيرين ممن وجدوا في هذا الفضاء الأزرق مرتعا لأحلامهم والحرية الكاملة كما الأحقية في البوح الجريء والصريح، بعيدا عن الوصاية والصرامة والاحتكار الذي جار على أجيال متعاقبة، تنفيسا عمّا يكابدون، على نحو مبدئي، وتفجيرا للملكات، نلفي المبدع  المغربي المثابر ياسر الحيرش، في دأبه المخاتل، وديدنه المشاكس، محاولا نقش اسمه بنرجسية في طوباوية المكان، وضمن حدود خطاب سير ذاتي، متمرد على إملاءات وقيود الزمان، أي أنه يلغي هذا الأخير، ويعطّل كامل أضرب تأثيراته، كعامل ليس تقود تأويلاته إلا إلى الحشو والزوائد السرطانية فخدش الشعرية انتهاء.

من هنا فتركيز هذا المبدع، حسب المتيسر لنا من إبداعه، وما استطعنا تحصيله من حضوره الفيسبوكي اللافت، على نزره، وهذا يعود ــ ربما ــ إلى كون تجربته في ملامح بداياتها، بالطبع، إنما هو منبثق من خلفية تقديس المكان.

ففي تقديري، عمق الممارسة الإبداعية، يرتبط ارتباطا وثيقا، ويظل ألصق لحمة، بمنسوب التجارب، هذا الأخير الذي يتغذى هو بدوره، على تنويع الأمكنة، وكثرة الأسفار، صقلا للروح وإنعاشا لها، قبل رجّ ما في العقل من أفكار، والدفع بها تاليا إلى الإنكتاب.

الأكيد أنه من رحم المعاناة، يولد الابداع. وكتابات الحيرش، سواء في جنس الهايكو، أو الشذري منها، إنما تحتفي احتفاء حقيقيا بذاكرة المكان، وتتبنى الأسلوبية المتناغمة وإيقاعات تيمة المكان، بما يجري سياقات الديباجات الفلسفية الراعية لهذا الغرض في شعرية هذا المبدع الواعد الشاب.

نقتطف له هذا الطقس الموالي:

" أنا لا أكتب

أنا أضع ما تساقط مني

على السطر".

لعل مفردة" تساقط" فضلا عن إيحاءاتها القرآنية، تجبر المتلقي على استحضار قصة تفاحة نيوتن.

إنها الإحالة، هنا على هيمنة المكان وسلطته وجبروته وقوة تأثيره على الذات المبدعة، وهي جاذبية متخيلة ومتفشية في أبعاد اللانهائي واللامحدود، ترقى بفعل الكتابة، واضعة إياه في مستويات الرمزية والكمال.

فهو لا يكتب، على حدّ تعبيره، والنقيض أنه ينكتب، أي انه يضع القصيدة/ المكان فوق الحياة، أهمية ورمزية وقداسة وغائية، الشيء الذي يترجم بشكل مباشر صدق التجربة وعمقها، على الرغم من بساطة المعجم وإنشائيته في الكثير من الأحيان. 

وفي مناسبة أخرى تأصيلا للقواعد المنظومة القيمية، إبداعيا وحياتيا، وفي فهم مغاير ومجدد لمعاني الصداقة، كأنما يحاول أن يصحح للجيل، يقول بانسابية سيرية:

"الصداقة علاقة راقية جدا

فقط تحتاج إلى أناس

يعرفون معنى الوفاء ...

بعض الأصدقاء يشبهون النهر المتدفق

في كل شيء طهرا وعذوبة وارتواء

شكرا للأصدقاء الذين يلمسون

نبرة التوجع من أصواتنا وصمتنا ويفهموننا

فحن نكتب لهم ويكتبون لنا ...

نشعر بهم ويشعرون بنا

وحتى إن أخطأنا...

اللهم ارزقنا الصحبة الطيبة الصالحة الصداقة الطيبة والقلوب النقية ...

اللهم أدم ودنا

وأسعدنا سعادة دائمة ...

وامنع كل من يريد لنا السوء...".

تأويل هذه النص القصير، يحيل على جملة من دوال تقاطع النفسي بالعاطفي، يغلف ذلك الخطاب الحِجاجي الحِكمي، كما لو أن الذات تسترسل بجرد أجوبة تفرضها أسئلة بياضات المكان، بحيث لا تتبقى سوى ورقة الصداقة كوعاء لنظير هذا الهواجس المترسبة في ذاكرة مترهلة ومثقلة.

بذا فالعصارة تك حكمة وجودية تخلّدا السطور: الصداقة الحقيقية تغربل الأخطاء، أي أنها بالمعنى النقدي التحليلي، تملي بأبجديات التصالحات الذاتية والغيرية والكونية.

مثلما نورد له الاقتباس الآتي، كذلك:

"لا يحتاج إلى

ملاهي من تكون

السعادة بداخله..!"

واضح، على الرغم من الخرق التركيبي، هنا، أن سعادة الذات، وفي جوانية انزياح، هي رجّح شعرية المكان، ومنحها الغلبة على سائر الميكانيزمات الأخرى، فاثمرت مثيل هذه القول الشعري المترنم بالفوقية المكانية.

نجرد له أيضا، الومضات الموالية:

"هي الدنيا

لا تعطي أحد ما يتمناه رغم أنى أبذل الجهد المطلوب ...

سأقضي حياتي بين مد الأمل وجزر التمني".

..............

"المطر يثير في الحنين والشجن لأيام مضت ولن تعود....

فكلما سقط المطر يتملكني حنين لا يوصف لأن أبكي...".

.............

"قليل من الضباب هنا وهناك بين جبال الاطلس بين غابة ازرو وافران بجلبابي الأسود وحدها الأمطار من تزرع في الارتياح

وتجلب لي الهواء الطلق النقي...

لا يخصني سوى رفيق وصديق وفي...".

.............

"في الليل يعلو

ضجيج القلب...

آه من الم غيابك..!".

..............

"نحتاج جرعة لننسى كل ما مررنا به في حياتنا ....

هناك أماكن احببناها

فقط لأننا سرقنا فيها من الحياة لحظات السعادة.".

"ضحكنا فيها من قلوبنا....

فكلما مررنا على تلك الأماكن...

ستظل جدرانها تذكرنا بتلك اللحظات...

ليتنا نستطيع إيقاف الزمن عندها...

حتى لو تاهت الخطوات وكأن آثار النبضات تدلنا فنبصرها كوضوح الشمس.... ثم نغمض أعيننا....ونتمنى".

...............

"ما نفع أن تشفى من كل الأوجاع

وتعود شخصا لا يشعر

شخص يابس

لا ينبض فيه عرق اخضر

كالصوان المتصحر

فأنا رغم عذاباتي

جروحي أنهار كنهر الكوثر

وأناملي أغصان

وأوجاعي أحلي من السكر

وآهاتي يخالطها العنبر

فهناك فرق بين من يشعر ومن لا يشعر

يا مهوى لا بد لك أن تتحرر...".

..................

"عندما يغيب القمر

تزحف النجوم للاحتضان

دراع أمي... وأخي...".

خلاصة القول إن الشاعر المغربي ياسر الحيرش، أو كما اختار عبر لقب أدبي أن يُنادى" مهوى عقل"، يرى في المكان الإعجاز الذي قد يغيب عن الآخرين، فهو ما ينفك يكتبه كتابة واعية، أو بالأحرى ينكتب لقدسية الأمكنة على قهريتها، مدغدغا جوارح المتلقي، بسرديات الخطاب الحكمى الذي اقتضى أن تكون المعمارية والبناء الواجهاتي لنصوصه صافية كريستالية، تضعنا إزاء مرايا تكبرنا بأجيال، كجيل تربى على عدم التقشف في النهل مما هو جاهز وتافه وعابر.

والأكيد أن ثمة حسب ما تقدم، جملة من المواضيع تسبح مسايرة لهذه التيمة الأم، تيمة المكان، كتجارب الليل والأمومة والفقد والعشق، إلخ... في نصوص طقوسية تمهرسها السلاسة لمبدع دؤوب ما يلبث يشاكس حظوظ الكتابة والحياة، في عالم ملغوم مكرّس للارتجالية والفردانية والاغتراب الروحي.

***

أحمد الشيخاوي

شاعر وناقد من المغرب  

 

"الكتابة كفعل وجود: قراءة في تمرد القصيدة على الطلب"

في قصيدة "أنا لا أكتب حسب الطلب" للشاعرة مجيدة محمدي تسجّل الشاعرة موقفًا وجوديًا من فعل الكتابة، موقفًا يعيد ترتيب العلاقة بين الشاعر ونصه، بين الكلمة وسياقات إنتاجها، بين الصدق الشعري ومتطلبات السوق، فتأتي القصيدة عنوانًا وصرخة، وموقفًا لا يحتمل التأجيل. العنوان ليس مجرد مفتتح للنص، بل هو لبّ القصيدة كلّها، جوهرها وشكلها في آن. إن عبارة "أنا لا أكتب حسب الطلب" تحمل في طيّاتها رفضًا معلنًا للامتثال، وإعلانًا صارخًا للحرية الإبداعية، وترسيخًا لرؤية ترى في الشعر ضرورةً داخلية لا تُقاس بمقاسات الذوق العام، ولا تُكيّف نفسها وفق الطلب الخارجي، بل تنبع من الداخل، من ذات تعي ما تكتب، وتكتب لأن الكتابة وحدها تتيح لها أن تكون.

منذ السطر الأول، تخلع الشاعرة قفازات المجاملة، وتدخل النص حافية الوجدان، لتعلن أنها لا تعبّئ المعاني في علب أنيقة بمقاسات السوق، فالتشبيه هنا يفضح الاستهلاكية التي غزت اللغة، ويُعرّي مفهوم الشعر المُعدّ مسبقًا كسلعة تُقدّم في غرف قياس اللغة لزبائن مترددين. هي لا تكتب كما يُفصّل القميص على ذوق المستهلك، بل تنسج القصيدة كما تُنحت الذات، بكامل تمردها ونتوءاتها. فاللغة لديها ليست قالبًا يُصبّ فيه المعنى، بل هي الجمر الذي تسير عليه، والشظايا المغروسة في عمق اليوميّ.

وفي هذا السياق، ترفض الشاعرة أن يكون الشعر خاليًا من الصدق، مفضّلة الانحياز لما هو حيّ حتى وإن كان موجعًا، على ما هو مُصطنع وإن بدا جميلًا. تقول: "فأنا لا أؤمن بالـ 'خالٍ من'، ولا أعترف بالمواد الحافظة في نصوصي، ولا أستخدم أدوات التجميل اللغوية". هذا التعداد الثلاثي يختزل موقفها الشعري: إنها لا تلجأ إلى الزينة، ولا تستخدم القناع، بل تضع الحقيقة كما هي، ببثورها، بندوبها، وبملامحها التي صنعها التاريخ على وجه الحقيقة. ويأتي هذا الرفض كتجلٍّ لرؤية أخلاقية قبل أن تكون جمالية، فالنص ليس مرآةً ناعمة للواقع، بل خنجر يعرّي سطح الأشياء.

يتحوّل الشعر، في منطق مجيدة، إلى فعل مقاومة، إلى يقظة في وجه النسيان. فهي لا تكتب حسب رغبة الآخرين في نسيان ما لا يُنسى، ولا وفق جدولهم الأسبوعي لمواعيد الانفصال عن الواقع. هي لا تكتب لترضي، بل لتقلب وسائد القارئ قبل النوم، فتوقظه على شظايا النهار التي بقيت مغروسة فيه. هذا التصوير الشعري ليس عاديًّا؛ إنه يجعل من القصيدة حجرًا صغيرًا في حذاء الطمأنينة، ومسمارًا في نعش الركود. فالكتابة لا تستكين، بل تفجّر المخبوء، وتهتك ستار الراحة الزائفة.

الشاعرة هنا تنفي عن نفسها صفة التاجر اللغوي، قائلة: "أنا لا أبيع الحروف، ولا أملك دكانًا في سوق البلاغة، ولا أفتتح عروض 'اشترِ واحدة واحصل على استعارتين مجانًا'". هذا السخرية المريرة من بلاغة السوق، ومن عروض الشعر المغشوش، لا تمس اللغة وحدها، بل تطعن المؤسسة الشعرية المعاصرة، تلك التي جعلت من النص حدثًا تسويقيًا، ومن الكلمة طُعمًا للضجيج. بينما الشاعرة ترى في الكتابة حاجة تنبع من الداخل، من خفقة القلب، من ضغط الهواء على الصدر، من نبض الكينونة: "لأنني لو لم أفعل، لنفى الهواء نفسه من صدري، وتحول القلب إلى رصيف مهجور".

وتتخذ اللغة بعدًا أخلاقيًا حين تقول: "أنا أكتب لأن الكلمات تطالبني بالعدالة، وتضع على طاولتي فواتير الأيام المنهوبة". هنا تتحول المفردة إلى شاهد في محكمة الذاكرة، وإلى صوت يُعيد صياغة الزمن المنهوب. الكتابة ليست ترفًا، بل ضرورة وجودية، محاولة أخيرة لإنقاذ الصدق من الاختناق في زحام عناوين لا تقول شيئًا، وصورٍ لا تنظر إلا إلى نفسها. وكأن القصيدة هنا تفكك لغة الاستعراض الفارغة، وتعيد الاعتبار للمعنى بوصفه أداة كشف، لا مرآة زائفة.

ولا تكتفي الشاعرة بهذا القدر من التمرد، بل تُشهر رفضها لأن تكون "صالحة للنشر"، وتستخف بأن تُعلّق على جدار مهرجان، لأن الكتابة لديها لا تشبه عرض الأزياء، ولا تخضع لمعايير لجان التحكيم. إنها فعل شبيه بزلازل الأرض، بصراخ الخشب تحت منشار الفقد، بانفجار حبة الرمان في وجه السكين. هذه الصور المجازية، على كثافتها وبلاغتها، لا تأتي من فراغ، بل من واقع داخلي ملتهب، من تجربة معيشة لا تحتمل الزيف.

وهي حين تقول: "أنا لا أكتب كي أمر عبر بوابات الرقابة بسلام، ولا أضع كمامة على فمي حين أكتب"، فهي تُعلن صراحة أن النص فعل حرية، وأنها تكتب بوجهها الحقيقي، لا بنسخة مفلترة منه. هذه المواقف ليست شعرًا فحسب، بل فلسفة في الكتابة، فلسفة تُجذر الشعر في الأرض، في الألم، في الوقوف حافيًا على جمر الأسئلة. وحين تقول: "أنا أكتب بمبادئي، التي لا تدخل المصعد مع أصحاب الياقات البيضاء"، فإنها تعزل نفسها عن نخبوية مزيفة، وعن تصفيق المصالح، وتعيد للكتابة طهرها الأول.

وفي آخر النص، لا تتوسل التصفيق، بل تُعلن: "أنا لا أكتب كي تصفقوا لي، بل لأصرخ، لأعترف، لأشهر وجعي علنًا، وأتركه يمشي في الشوارع، بلا خجل، بلا أقنعة، بلا تخفيضات موسمية". هي تكتب لأن الصمت خيانة، ولأن التنكر للوجع جريمة. تكتب كي تحرّر الكلمات المعلقة في غرف التحقيق، الكلمات التي قُمِعت لسنوات، وعُلّقت كما تُعلّق الحقيقة في دهاليز السلطة والرقابة.

ويأتي الختام سؤالًا فلسفيًا يلخّص كل هذا الموقف: "لأنني لو كتبت كما تريدون، فمن سيكتبني كما أنا؟". في هذا السؤال، تكمن كل معاناة المبدع مع الذائقة العامة، وكل صراع بين الذات والمعايير، بين الحرية والقوالب. إنه ليس سؤالًا بلاغيًا، بل صيحة وجودية، تكثّف قلق الهوية، وتُعيد الاعتبار لفعل الكتابة بوصفه فعلًا للنجاة.

وهكذا، تتحول القصيدة من مجرد نص شعري إلى بيان شعري وجودي، ومن تجربة لغوية إلى موقف أخلاقي وجمالي. تتقاطع فيها البلاغة مع الفلسفة، ويتصاعد فيها الصوت الشعري حتى يصير صرخة تتردّد في الذاكرة، لا تنسى، ولا يُراد لها أن تُنسى.

 ***

بقلم: سمير اليوسف

...............................

أنا لا أكتب حسب الطلب

مجيدة محمدي

أنا لا أكتب حسب الطلب،

ولا أعبّئ المعاني في علبٍ أنيقةٍ بمقاسات السوق،

ولا أطبع القصيدة كأنها قميصٌ صُنع ليُرضي ذوق الزبائن المترددين ،

في غرف قياس اللغة.

أنا لا أكتب شعراً خالٍ من الصدق،

فأنا لا أؤمن بالـ "خالٍ مِنَ"،

ولا أعترف بالمواد الحافظة في نصوصي،

ولا أستخدم أدوات التجميل اللغوية كي أخفي البثور

التي صنعها التاريخ على وجه الحقيقة.

أنا لا أكتب حسب رغبتكم في نسيان ما لا ينسى،

ولا حسب جدولكم الأسبوعي لمواعيد الانفصال عن الواقع،

أنا لا أكتب كي أريحكم،

بل لأقلب وسائدكم قبل النوم،

وأتأكد أن كل شظايا النهار ما زالت مغروسة في أعماقكم.

أنا لا أبيع الحروف،

ولا أملك دكاناً في سوق البلاغة،

ولا أفتتح عروض "اشتر واحدة واحصل على استعارتين مجاناً"،

أنا أكتب، لا لأنكم طلبتم،

بل لأنني لو لم أفعل،

لنفى الهواء نفسه من صدري،

وتحول القلب إلى رصيفٍ مهجور.

أنا أكتب لأن الكلمات تطالبني بالعدالة،

وتضع على طاولتي فواتير الأيام المنهوبة،

أنا أكتب كي لا يموت الصدق اختناقاً

في زحام عناوين لا تقول شيئاً

وصورٍ لا تنظر إلا إلى نفسها.

أنا لا أكتب كي أكون "صالحة للنشر"،

ولا كي أُعلّق على جدار أحد المهرجانات،

أنا أكتب كما تصرخ الأرض حين تلد زلزالها،

أكتب كما يئن الخشب تحت منشار الفقد،

كما تنفجر حبة رمان في وجه السكين.

أنا لا أكتب كي أكون على مقاس قلقكم،

ولا كي أمرّ عبر بوابات الرقابة بسلام،

أنا لا أضع كمامةً على فمي حين أكتب،

وأخلع قناعي ولا أخشى من أن النص "لا يحتمل" وجهي الحقيقي.

أنا أكتب حسب قناعاتي،

التي تسير حافية القدمين فوق جمر الأسئلة،

أنا أكتب بمبادئي،

التي لا تدخل المصعد مع أصحاب الياقات البيضاء،

ولا تنتظر دورها في طوابير المديح.

أنا لا أكتب حسب الطلب،

بل حسب النبض، حسب الألم، حسب الرؤيا،

أنا لا أكتب لإرضاء "اللجنة"،

بل لأُرضي الغصة في حلقي،

وأحرر الكلمات التي عُلّقت لسنوات

في غرف التحقيق.

أنا لا أكتب كي تصفقوا لي،

بل لأصرخ، لأعترف، لأشهر وجعي علناً،

وأتركه يمشي في الشوارع،

بلا خجل، بلا أقنعة، بلا تخفيضات موسمية.

أنا لا أكتب حسب الطلب،

أنا أكتب لأنني لا أعرف أن أكون غير ذلك،

لأنني لو كتبت كما تريدون،

فمن سيكتبني كما أنا؟

...من سيكتبني كما أنا؟

للروائية المقدسية صباح بشير

تنتمي الكاتبة صباح بشير إلى مدينة القدس، وهذا الانتماء لا يُعدّ مجرد خلفية جغرافية، بل يتجلّى في نسيج سردها وتكوين شخصياتها، حيث تتداخل الهموم الوطنية مع الذاتية، ويبرز حضور المكان بوصفه جزءًا من الهوية الثقافية والشخصية للمرأة الفلسطينية.

يتعزز هذا البعد في روايتها رحلة إلى ذات امرأة، التي تمثل امتدادًا لصوت أنثوي يعبّر عن الداخل في ضوء الخارج، ويقارب قضايا المرأة من منطلق معايشة يومية وواقعية، متأثرة بخصوصية المكان المقدسيّ وانعكاساته النفسية والاجتماعية.

تبرز الرواية كمساحة سردية تنفتح فيها البطلة على أعماقها، عبر رحلة تتسم بالصدق والتمزق الداخلي، ومن خلال هذه الرحلة، تنجلي معالم الحسّ الأنثوي في مستويات متعددة:

على مستوى اللغة، تنحو الكاتبة إلى خطاب وجداني رقيق، يحمل كثافة عاطفية دون أن يقع في الاستسهال، ويكشف عن طاقة تعبيرية مشحونة بالأسى والانكسارات.

أما على مستوى الموضوع، فتعالج الرواية قضايا المرأة من زوايا متعددة: الحب، الحرية، القيود الاجتماعية، الهشاشة النفسية، والبحث عن الذات.

يتبدى الحسّ الأنثوي كذلك في بناء الشخصية الرئيسة التي تخوض صراعًا داخليًا بين ما ترغب فيه وما يُفرض عليها. إنها امرأة تعيش في مجتمع يراكم التوقعات فوق كاهلها، فيما هي تسعى لتعرية الذات من الزيف والتصالح مع حقيقتها الداخلية. ولعلّ جمالية هذا الطرح تكمن في أن الكاتبة لا تُقدّم صورة نمطية عن "المرأة الضحية"، بل تخلق بطلة واعية، تحاول فك اشتباكها مع المعايير الاجتماعية، وتعيد تشكيل ذاتها بالكتابة، وكأن الرواية ذاتها هي فعل تحرّر رمزي.

تتحوّل الكتابة، في هذا السياق، إلى ملاذ وجودي، تسكنه البطلة كما تسكنه الكاتبة، فتتداخل الأصوات وتتماهى الذوات، لتصير الرواية أشبه بـ"يوميات الوعي الأنثوي"، لا تكتفي برصد الألم بل تسعى إلى فهمه وتجاوزه.

البنية السردية والانزياح الزمني:

تتسم البنية السردية في الرواية بمرونة واضحة وانفتاح على تعددية الأصوات الداخلية، إذ تعتمد الكاتبة أسلوب السرد بضمير المتكلم، لتتيح للقارئ الولوج إلى عمق التجربة الذاتية للبطلة دون وسائط. من خلال هذا البناء، يتشكّل النص بوصفه اعترافًا طويلًا، أو مرآة تعكس حركة الذات في فضاء زمني غير خطي، حيث تتشابك الأزمنة بين الحاضر والماضي، وتختلط الوقائع بالذكريات والانفعالات.

كما تنزع الرواية إلى تفكيك الزمن التقليدي، فليست هناك حبكة نمطية ذات بداية وذروة ونهاية، بل رحلة تتكئ على التداعي الحر، والانتقالات الداخلية التي تُعبّر عن تشظي الذات النسوية، وفي الوقت نفسه عن محاولتها لاستعادة تماسكها.

هذا التفكك الزمني لا يُضعف النص، بل يمنحه صدقه التعبيري، ويجعل من الفوضى شكلًا جمالياً يحاكي الفوضى الداخلية التي تعيشها البطلة.

تُسهم هذه البنية كذلك في تعميق الحسّ الأنثوي، إذ تحاكي طريقة السرد تلك أسلوب التفكير الداخلي للمرأة في مواجهة ذاتها والعالم من حولها، حيث لا تسير الأحداث بخطّ مستقيم، بل تأخذ طابعًا دائريًا، يشبه اجترار الذكريات، وتحليل التجارب، والتردد أمام الاختيارات.

اللغة كمرآة وجدانية:

تتميّز لغة الرواية بقدرٍ عالٍ من الشفافية والحميمية، حيث تميل صباح بشير إلى أسلوب تعبيري يلامس الشعرية من دون أن يتخلّى عن الوضوح، فاللغة هنا ليست وسيلة لنقل الوقائع فحسب، بل هي كائن حيّ، نابض بالعاطفة، يوازي رحلة البطلة الداخلية في بحثها عن ذاتها.

في هذا السياق، يتجلّى الحسّ الأنثوي في اختيار المفردات، إيقاع الجمل، وبناء الصور، بما يعكس طبيعة التجربة النسوية التي تميل إلى التأمل، وتُراكم الإحساس على الحكم، وتُعلي من شأن العاطفة كقوة معرفية.

كما تتجلّى اللغة في الرواية بوصفها مساحة للمقاومة، لا تخضع الذات الأنثوية لقاموس السائد، بل تعيد تشكيله عبر التهكم أحيانًا، وعبر الانسحاب إلى لغة داخلية صامتة أحيانًا أخرى. وهنا تبرز براعة الكاتبة في الموازنة بين لغة الواقع ولغة الذات، فتمزج بين الخطاب الخارجي والبوح الداخلي، فتنتج نصًا مزدوج الطبقة: ظاهرٌ سرديّ، وباطنٌ شعوريّ.

ويُلاحظ أيضًا أن الكاتبة تعتمد على اقتصاد لغوي دقيق، فيه اختزال للتجربة دون إخلال بأثرها. وهذا ينسجم مع طبيعة الرواية كنوع أدبي قائم على شحذ الإحساس أكثر من تعقيد الحدث، وعلى تصوير الوجدان أكثر من تسجيل الوقائع.

المحسنات اللغوية: جمالية الإيحاء والتكثيف:

تتجلّى المحسنات اللغوية في الرواية بوصفها رافدًا جماليًا يُثري النص ويزيد من وقعه الشعوري دون أن يتحوّل إلى تزيينٍ بلاغي فارغ، وتوظف الكاتبة هذه المحسنات بخفّة ورشاقة، فتأتي غالبًا في مواضع الانفعال والتأمل، لتكثف المعنى وتمنحه عمقًا شعريًا. فالتكرار يُستخدم ليُعبّر عن التردّد أو الإلحاح الشعوري، بينما تُوظّف المقابلات والطباق لخلق توتر دلالي بين الثنائيات التي تعيشها البطلة.

أما الصور البلاغية، من استعارات وتشبيهات، فتبتعد عن النمطية لتلامس العمق النفسي، وتعبّر عن الهشاشة والخوف والرغبة بصور مشحونة بالمعنى.

كما يُضفي الالتفات في الضمائر مرونة إيقاعية وتقلّبًا شعوريًا يعكس طبيعة الاضطراب الداخلي للبطلة، ويُعيد تشكيل النبرة السردية بطريقة ديناميكية.

خلاصة تحليلنا:

تشكّل رواية (رحلة إلى ذات امرأة) للكاتبة صباح بشير نصًا سرديًا يتجاوز كونه مجرد حكاية شخصية؛ ليغدو تجربة وجودية نسوية تُقارب الذات من خلال اللغة والذاكرة والتأمل.

لقد استطاعت الكاتبة، بانتمائها إلى القدس وهمومها، وبتسلّحها بحسّ أنثوي شفيف، أن تكتب رواية تحتفي بالهشاشة دون أن تقع في الانهزام، وتُواجه القيود دون افتعال البطولة.

وقد بدا هذا الحسّ الأنثوي جليًا في لغة الرواية الشفيفة، وفي بنيتها السردية المرنة، وفي المحسنات البلاغية التي عمّقت التجربة الشعورية للنص، فجاء السرد مشبعًا بالحسّ الداخلي، متكئًا على الاستبطان، ومفتوحًا على أسئلة المرأة في مجتمعات محافظة تُقيّد الحرية وتُحاصر الذات.

إن رواية رحلة إلى ذات امرأة ليست فقط مرآة لذاتٍ أنثوية تبحث عن خلاصها، بل هي أيضًا أداة للبوح والمقاومة، تؤكّد أن الكتابة النسوية ليست مجرد صدى لمعاناة، بل فعل إبداعي قادر على زعزعة الصمت، وإضفاء المعنى على التشظي.

بعد كلّ ما تقدم فليس علينا هنا إلا أن نهنئ أنفسنا، أدباء ومثقفين، بتلك الظاهرة الأدبية الموفقة في سعييها لكينونة صلبة تضاف الى أسس مشهد ثقافي فلسطيني مقدسي عربي وعالمي في الغد القريب، وأنا على ثقة بأن تلك الرواية التي تناولناها في تحليلنا المتواضع هذا لو ترجمت الى لغات العالم لأخذت طريقها إلى الانتشار لما تتضمنه من مقومات متكاملة لا غبار عليها.

نسأل الله تعالى التوفيق لكاتبتنا وروائيتنا المقدسية صباح بشير .

***

علاء الأديب - بغداد

الثالث عشر من نيسان ٢٠٢٥

 

عرفت السينما الإيرانية، منذ سبعينيات القرن الماضي، مسارًا متمايزًا عن السائد في العالم العربي والغرب على حدٍّ سواء، حيث تجسّدت فيها طاقة سردية وجمالية لا تسعى إلى الترفيه أو التوثيق السطحي للواقع، لكنها اتجهت إلى إنتاج معنى وجودي ومجازي ينبثق من الهامش، ويتغذّى من صمت المحذوف والمنسي، ويُروى عبر خطابٍ شعريٍّ يعاند القوالب التقليدية. في هذا المنحى، سنجد أن السينما الإيرانية تبحث عن الغامض والمُلتبس الذي يحمل في ثناياه نزيف الذات، واهتزاز المجتمع، وتوتّر العلاقة بين الفرد والمنظومة، بين الواقع والتأويل، وبين المقدّس والمعاش.

لقد استطاع مخرجون كبار، مثل عباس كيارستمي، محسن مخملباف، جعفر بناهي، سميرة مخملباف، أصغر فرهادي وآخرين، أن ينحتوا ملامح مدرسة فنية وإنسانية فريدة، تُوظِّف الحد الأدنى من الوسائط البصرية والتقنية، وتُراهن على اللغة الخافتة، والإيقاع البطيء، والفضاءات الريفية أو الشعبية، لتبني عالمًا سينمائيًّا يشبه قصيدة تتناسل من داخل صمتٍ مشروخ، حيث الكاميرا لا تُراقب بل تتأمل، والعدسة لا تفضح بل تُصغي.

الهامش في السينما الإيرانية يتعدّى المفهوم الجغرافي أو الطبقي، ليخلق أنطولوجيا ورمزية في آنٍ واحد. نرى الطفل، العجوز، المرأة، المجنون، الفقير، المعاق، المهمَّش ثقافيًّا أو دينيًّا، يتحوّل إلى مركز ثقل دلالي، وإلى مرآة للوجود الإنساني العاري. نلمس هذا جليًّا في أفلام مثل "أين منزل صديقي؟" لكيارستمي، حيث يتحوّل مسار طفل في قرية نائية إلى سؤال وجودي وشعري عن المسؤولية والتعاطف، أو في فيلم "الدائرة" لجعفر بناهي، الذي يكشف قسوة النظام الاجتماعي على النساء المهمَّشات، دون صراخ أو إدانة مباشرة، بل عبر بنية سردية حلزونية وشبه وثائقية تنقلنا من مصير امرأة إلى أخرى، كأننا نكتشف قسوة العالم من داخله لا من خارجه.

ما يُميّز الخطاب السينمائي الإيراني هو قدرته على تحويل اليومي والعابر إلى صورة مجازية ذات كثافة شعرية وروحية إنسانية. هذه الخطابات تتقاطع مع تقاليد شعرية صوفية عريقة في الثقافة الفارسية، مثل ميراث الرومي أو حافظ الشيرازي، ويُعاد إنتاجها بصريًّا لا لغويًّا، حيث تصبح المشاهد بمثابة أبيات مرئية، محمّلة بالدلالات، ومفتوحة على التأويل. لا غرابة إذن أن نشهد تماهيًا بين السرد السينمائي والمجاز الشعري، كأن كلّ فيلم هو طريقة غير مباشرة للبوح أو للنجاة من قمع الذاكرة والرقابة معًا.

الشاعرية هنا لم تكن ترفًا جماليًّا بل تكتيكًا سرديًّا وموقفًا فنيًّا وأخلاقيًّا. حين تُجبر الرقابة الرسمية المخرج على الالتفاف حول المحظور، يُصبح الشعر – لا بوصفه زخرفًا بل كحيلة – الوسيلة الأكثر فاعلية للتسلل إلى المسكوت عنه. من هنا، تحضر الحكايات الجزئية، اللقطات الطويلة، التفاصيل الصغيرة، الفراغات، الصمت، الرموز، وتَغيبُ الحبكات التقليدية الصارمة أو النهاية المغلقة والبطولات الفردية. فالعالم في السينما الإيرانية ليس حتمية بل احتمال، والمصير ليس حكاية تُروى بل تجربة تُعاش وتُتأمَّل.

ومن خلال هذا الأسلوب الشعري، يُعاد تأهيل الهوامش الصغيرة وتفكيك المركز. فبينما تُهمِّش الأنظمة السلطوية والسياسية والذكورية بعض الأجساد والطبقات، تُعيد السينما الإيرانية رسم خريطة الحضور الإنساني، مُفضّلة الشخصيات التي لا صوت لها، التي تقف على الحافة، تلك التي لا يُراهن عليها المجتمع لكنها تتحوّل إلى مرايا أخلاقية وفلسفية له. تُحيلنا هذه النظرة إلى مفهوم "العين الأخلاقية" في السينما، وهي العين التي لا تُصدر أحكامًا بل تستضيف الآخر، تُنصت إليه، وتنقله من التشييء إلى الوجود.

اللافت أيضًا أن شعريّة السينما الإيرانية لا تعني التهويم أو الانفصال عن الواقع وتفخيمه أو تقزيمه؛ إنها تنبع من صلب المعيش اليومي، لكنها تمنحه بعدًا ساحرًا تأويليًّا وجماليًّا، بحيث يُصبح القروي، أو المرأة المنفية، أو الطفل التائه، بمثابة نبي صغير يفتح أعيننا على هشاشة العالم وقبحه. وربما هذا ما يُفسِّر قدرة هذه السينما على التأثير العالمي دون أن تخون محليّتها، ودون أن تسقط في التبسيط أو الفلكلور.

تُقدِّم السينما الإيرانية، من خلال خطابها الشعري، نوعًا من المقاومة الرمزية، لا تتّخذ شكل الاحتجاج والصراخ المباشر؛ هي تُراهن على إزاحة المعنى، وإرباك المتلقي، وتفكيك السلطة داخل اللغة والصورة. إنها مقاومة تستدعي التفكير، وتُربِّي الذائقة، وتُعيد تشكيل وعينا الإنساني، مُستخدمة أدوات بسيطة وإمكانيات محدودة، لكنها تحمل رؤى كونية وحساسية إنسانية عالية.

في المحصلة، يمكننا القول إن تصوير الهامش وشعرنة الخطاب في السينما الإيرانية ليس فقط خيارًا جماليًّا، لكنه ضرورة فكرية وجودية، واستراتيجية فنية لمواجهة القهر بالصورة، والسجن بالرمز، والغياب بالتأويل. إنها سينما تُجيد الإصغاء للهمس الداخلي للعالم، وتَجعل من كل لحظة هامشية – لحظة مركزية لفهم الذات والآخر.

سنُحلِّق في هذا الكتاب مع عدد كبير من الأفلام الإيرانية، وحاولنا تقديم قراءة تأملية ومناقشة الكثير من القضايا. نشكر الأديب الشاعر صبري يوسف الذي قدَّم الدعم البديع ليرى هذا الكتاب النور ويكون بين أيديكم. نُرحب بملاحظاتكم ومناقشة أي فكرة أو نقطة.

***

حميد عقبي

........................

* صدر عن دار صبري يوسف في ستوكهولم كتاب تصوير الهامش وشعريّة الخطاب في السِّينما الإيرانيّة

"صراخ الروح العالي"

"لم أكن اظن ان الظلال ستدركني.. ظلال ما استغبرته.. وما استأخرته من ايامي".. هذا ما تردد في خاطري وانا اطالع هذه القصائر "طلبتُ حتفي".. للشاعر الحنظل عادل.. الذي اجده فيها واقفًا أمام تجربة شعرية جديدة وعميقة.. مفعمة بالألم والحنين والفقد، من خلال ما رسمه، من لوحة إنسانية مؤثرة تتنقل بين مشاعر الحب والخسارة والندم.

قبل ان اتسقط ثمار هذه القصائر او ان اتعرض الى مميزاتها وخصائصها الفنية التي وجدت انها تتمحور حول:

* اللغة الشعرية: التي تتميز بالرمزية العميقة والإيحاءات الشعورية المكثفة، حيث يستخدم الشاعر استعارات مذهلة كـ "أراقص نبضي" و"يرفع أستار الفردوس".

* البناء الدرامي: الذي يعتمد على التدرج العاطفي المؤلم، من لحظات الانتظار والشوق إلى مراحل الفقد والحزن العميق.

* الصور الشعرية: مذهلة ومكثفة، تتجلى في تشخيص المشاعر وإعطائها أبعاداً إنسانية متعددة.

أضف الى ذلك انها تكشف عن دلالات عميقة في التجربة الإنسانية المتعددة الأبعاد.. خاصة حين يمتزج الحب بالألم.. والانتظار بالفقد.. فالشاعر يستحضر امرأة تشبه "عشتار"، ويصور علاقة معقدة مليئة بالتناقضات والمشاعر المتداخلة.

لقد استطاع الشاعر الحنظل عادل ان يوظف التقنيات الشعرية المثيرة للدهشة من خلال:

- البراعة في توظيف الاستعارات

- التنوع في إيقاع اللغة

- الاستخدام مبتكر للصور الشعرية

وسواها من التقنيات التي تمنح القارئ لحظات ممتعة وسارة من التأمل والاتقاد الذي يولده التفاعل مع كل "قصيرة"..

ان القراءة التفصيلية التي اسعى اليها هنا، للغوص في مفردات ومفاصل هذه القصائر.. والإنزياحات الأدبية والفكرية والنفسية والمعرفية لا تحدها، بل تأتي استكمالًا لمتعة التبصر في هذه التجربة المبهرة..

1

"حينَ جئتُ اليكِ

حاملاً روحي على لهفةِ اللقاء

أراقصُ نبضي بلا احتراس

كالساعي الى موعدهِ الأوّل

لم أعرف

أنني سأعود ..

الى حتفي"

اللقاءُ بين اللهفةِ والمصير..

"حينَ جئتُ إليكِ

حاملاً روحي على لهفةِ اللقاء"

يبدأُ المقطعُ بتصويرٍ لحالةِ التوقِ العاطفيِّ، حيثُ يأتي الراوي مُندفعًا نحو محبوبتهِ، محمولًا بروحٍ تشتعلُ بالشوق. اللهفةُ هنا ليست مجرّد مشاعر عابرة، بل حالة وجودية، تجعلُ اللقاءَ أشبهَ بحدثٍ مصيريّ، تتوحّدُ فيه الذاتُ مع نبضِ الانتظار.

رقصةُ القلبِ بلا احتراس..

"أراقصُ نبضي بلا احتراس

كالساعي إلى موعدهِ الأوّل"

يُبرزُ المقطعُ عفويّةَ الحبِّ في بدايتهِ، حيثُ ينغمسُ العاشقُ بكاملِ كيانهِ دون حذر، كما لو كان في لقائهِ الأوّل، حيثُ الأحلامُ لا تعرفُ الخوفَ، والتوقُ لا يَحملُ معهُ احتمالَ الفقد. إنّها لحظةٌ منطلقةٌ تمامًا نحو الآخر، تفيضُ بالاندفاعِ والثقة.

التحوّلُ الصادم.. من اللقاءِ إلى الفناء..

"لم أعرف

أنني سأعود..

إلى حتفي"

هنا، يحدثُ الانقلابُ الدراميُّ في المشهد: اللهفةُ التي حملت العاشقَ نحو اللقاءِ لم تكن سوى طريقٍ إلى الهلاك. فبدلًا من العثورِ على الحُبِّ أو السعادة، يجدُ الراوي نفسَهُ عائدًا إلى حتفه، وكأنَّ اللقاءَ كان كمينًا شعوريًا، أو لحظةَ انكشافٍ قاسية.

الحبُّ كقدرٍ مجهول..

المقطعُ يُجسّدُ المفارقةَ الأزليةَ بين التوقِ والخسارة. أحيانًا، نندفعُ نحو من نُحبُّ بكلِّ ما فينا، دون أن نُدركَ أنّنا نتقدّمُ نحو مصيرٍ مجهول، قد يكون نهايةً لا عودةَ منها.

**

2

"أربعونَ عاما

بين دمعةٍ وأخرى

أنتَ لن تجدَ عمرا آخر

يجودُ بالبُكاء

فاسقِ إن استَطَعت ..

تجاعيدَ خَدّيك

واحرقْ بناضبِ الدَمعِ..

جُرحَك"

البكاءُ كزمنٍ مستمرّ..

"أربعونَ عامًا

بين دمعةٍ وأخرى"

يبدأُ هذا المقطعُ بتحديدِ زمنٍ طويلٍ مُتشظٍّ بين الدموع، فالأربعونَ عامًا، ليست مجرد عددٍ، بل تصبح حالةً شعوريةً ممتدة، تُختصرُ بين دمعةٍ وأخرى.. والزمنُ هنا لا يُقاسُ بالأيامِ أو العقود، بل يُقاسُ بالبكاءِ، وكأنّ الحياةَ ليست سوى محطاتٍ متتابعةٍ من الحزن.

لا عمرَ آخر للحزن..

"أنتَ لن تجدَ عمرًا آخر

يجودُ بالبكاء"

يتحوّلُ الخطابُ إلى نبرةِ الحقيقةِ القاسية، حيثُ يواجهُ الراوي ذاتَه أو المتلقي بحتميةِ الزمنِ الضائع في الحزن. لا يوجدُ عُمرٌ آخر يمكن أن يُمنحَ للحزنِ أو البكاء، وكأنَّ الشاعرَ يقول: هذا هو زمنك الوحيد، فماذا ستفعل به؟

الدموعُ كوقودٍ للذكرى والاحتراق

"فاسْقِ إن استطعت..

تجاعيدَ خَدّيك،

واحرق بناضبِ الدمعِ..

جُرحَك"

في هذه الصورةِ المكثّفة، تتحوّل الدموعُ من وسيلةٍ للبكاءِ إلى طقسٍ شعائريّ:

* سقايةُ التجاعيدِ بالدموع: كأنّ الزمنَ يُروى بالحزن، والشيخوخةُ تُصبحُ تربةً خصبةً للذكرياتِ المؤلمة.

* إحراق الجُرحِ بالدمع الناشف: حيثُ يتحوّلُ البكاءُ من تنفيسٍ إلى أداةِ تطهيرٍ، لكن بثمنٍ باهظ، فبدلًا من أن يُبرِد الجرح، يُلهبهُ أكثر.

الحزنُ كاختيارٍ لا مهربَ منه..

المقطعُ يعكسُ جدليّة الزمنِ والحزن، وكيفَ أنّ بعضَ الجراحِ لا تُشفى، بل تتحوّلُ إلى طقوسٍ يوميّة تُمارَسُ بين التجاعيدِ والدموع. هنا، البكاءُ ليس ضعفًا، بل طقسُ حياةٍ ممتدة، حيثُ يصبحُ الجرحُ كيانًا لا يُفارقُ صاحبه.

**

3

بَسطتُ كالمَجنونِ كلتا يدَيّ

مُبتهجاً

بكِ.. بي

ليُسقِطَ في غفلَتي

ما أدّخَرَ من دِفئكِ

ذلكَ الأحمقُ..

قلبي

"

القلبُ الأحمقُ ووهْمُ الامتلاءِ..

"بسطتُ كالمجنونِ

كلتا يديّ مبتهجًا

بكِ.. بي"

يفتتحُ المقطعُ بصورةٍ تجسدُ الفرحَ الطاغي والمطلق.. الشاعرُ يبسطُ يديه بلا حذرٍ، كالمجنونِ الذي لا يُفكّر بعواقب فرحه.. ليس الامتدادُ الجسديُّ هنا إلا انعكاسًا لانفتاحِ الروحِ وتوهّم الامتلاءِ بالآخر، وكأنَّ الحبيبَ أصبحَ سببًا مزدوجًا للفرح: فهو يُبتهجُ بها، لكنه في الوقتِ نفسهِ يُبتهجُ بنفسه لأنّه معها، في لحظةِ توحّدٍ زائف.

السقوطُ في الغفلةِ.. والخديعةُ الدافئة..

"ليسقِطَ في غفلتي

ما أدّخرَ من دفئكِ"

يحدثُ التحوّلُ فجأةً، حيثُ يُدركُ الشاعر أنَّه لم يكن يحتضنُ حرارةً حقيقية، بل كان يسقطُ ضحيةً لوهم الدفء المدّخر. الغفلةُ هنا ليست نسيانًا عابرًا، بل هي حالةُ انخداعٍ عاطفيّ، حيثُ يكتشفُ أنَّ دفءَ الحبيبِ لم يكنْ حقيقياً أو دائمًا.

القلبُ.. ذلكَ الأحمقُ..

"ذلك الأحمقُ..

قلبي"

في النهايةِ، يُلقي الشاعرُ اللومَ على قلبهِ، واصفًا إيّاه بالأحمق، وكأنّه طفلٌ ساذجٌ صدّقَ السرابَ واستثمرَ في حبٍّ لم يكن كما تخيّل. القلبُ هنا ليس مُجرد عضوٍ نابضٍ.. بل هو كيانٌ مستقلٌ.. كائنٌ ساذجٌ يسقطُ في المصيدةِ مرارًا وتكرارًا، غيرَ متعلّمٍ من تجاربهِ السابقة.

الدفءُ الذي لم يكن..

المقطعُ يُجسّدُ الفرحَ العاطفيّ المندفعَ الذي يتحوّلُ إلى خيبةٍ صامتة، حيثُ يكونُ الاحتواءُ في البدايةِ وهمًا يُكتشفُ لاحقًا. الشاعرُ يختصرُ هذهِ الرحلةَ بين الابتهاجِ والسقوطِ في كلمةٍ واحدة: "الأحمق"، ليكونَ القلبُ هو الضحيةُ الأبديةُ التي لا تتعلمُ من التجربة.

**

4

لمّا ارتحلتِ

أفقتُ كسيرا

كصَقرٍ طوتهُ الشِباك

كسرتُ أجنحَتي

صرتُ في السَبعينَ يتيما

أحملُ زلّاتي

"

الغيابُ الذي يُكسِرُ الأجنحة..

"لمّا ارتحلتِ

أفقتُ كسيرًا"

يبدأُ المقطعُ بصدمةِ الغيابِ التي تأتي كإفاقةٍ موجعة، حيثُ لا يكونُ الوعيُ هنا مُحرِّرًا، بل لحظةَ انكسارٍ حادٍّ تُعرّي هشاشةَ الذات بعد الفقد. الرحيلُ يُنتج كسرًا داخليًا، ليس في الجسدِ فحسب، بل في الروحِ التي باتت حطامًا وذكرى لمجدٍ مضى.

الصقرُ الجريح.. الاستعارةُ الموجعة..

"كصقرٍ طوتهُ الشباك

كسرتُ أجنحتي"

يشبِّهُ الشاعرُ نفسهُ بالصقر، وهو رمزٌ للقوةِ والحريّةِ والكبرياءِ، لكنهُ هنا ليس محلّقًا، بل مُستَلبٌ، مُقيَّدٌ، ضحيةُ شباكٍ أحكمت قبضتَها عليه. الأسوأُ من ذلكَ أنَّه لم يكتفِ بالسقوط، بل هو مَن كسرَ أجنحتهِ بنفسهِ، وكأنّه يجلدُ ذاتهُ على العجزِ عن الطيرانِ من جديد.

اليُتمُ في السبعين.. التيهُ في الندم..

"صرتُ في السبعينَ يتيمًا

أحملُ زلّاتي"

هُنا يتحوّلُ الزمنُ إلى شاهدٍ على الوحشة. السبعونَ ليستْ مُجرَّد عمرٍ، بل هي عقودٌ من الوحدةِ التي لم يملأها شيء بعد الغياب.. المفارقةُ القاسيةُ تكمنُ في وصفِ النفسِ بـ "اليتيم"، رغمَ أنَّ هذهِ الكلمةَ ترتبطُ غالبًا بفقدانِ الأهلِ في الطفولة، إلا أنَّ الشاعرَ يستخدمُها ليُشيرَ إلى خسارةٍ متأخرة، لكنها أشدُّ وطأةً، لأنها تُجرِّدُ المرءَ من آخرِ سندٍ لهُ في الحيا. أمّا الزلّاتُ فهي الأخطاءُ أو الندوبُ التي يُثقلُ بها الماضي كاهلهُ، وكأنَّهُ يُحمِّلُ نفسهُ مسؤوليةَ الخسارةِ أو عجزَهُ عن استعادتها.

انكسارٌ بلا تعافٍ..

المقطعُ يُقدّمُ صورةً مُكثّفةً للفقدِ المُرّ الذي لا يُجبرهُ الزمن، حيثُ يصبحُ المُحبُّ أسيرًا للندمِ والتقدّمِ في العمر بلا عزاءٍ ولا تعافٍ. إنهُ صقرٌ لم يعد يُحلق، بل فقدَ حتى الرغبةَ في المحاولة، مُحاطًا بحطامِ جناحيهِ وذكرياتِ ما كانَ يومًا سماءً مفتوحةً أمامه.

**

5

أمقُتُ بَعدكِ الذكريات

جَمالُها المُميتُ..

كالسَوط

مزّقَ ما بقيَ منّي

كبائسٍ..

لم يقتُلهُ الانتحار

"

الذكرياتُ كأدواتِ تعذيب..

"أمقُتُ بَعدكِ الذكريات"

يبدأ المقطعُ بتصريحٍ قويٍّ ومباشرٍ عن رفض الذكرياتِ ونبذها، رغم أن الذكرى في العادة تكون عزاءً لمن فقد، أو سلوانًا للوحيد، لكن هنا تتحوّلُ إلى عبءٍ نفسيّ ثقيل، وكأنها لعنةٌ تستمرُّ في مطاردةِ الشاعر. الذكرياتُ لا تُواسيه، بل تزيدُ من معاناته، فهي جزءٌ من الفقد، بل ربما أكثر إيلامًا منهُ، لأنها تُبقيه في دائرة الألم دون مخرج.

الجَمالُ المُميت.. حين تُصبح الذكرى سيفًا ذا حدّين

"جَمالُها المُميتُ..

كالسَوط"

يُبرز الشاعرُ المفارقةَ المؤلمةَ بين كون الذكرى جميلةً لكنها في ذات الوقت تُميتُ صاحبها. فهي ليستْ مُجردُ صورٍ تُعاد في الذهن، بل هي سوطٌ يلهبُ الروحَ ويُمزّقُ البقايا. وهذا التوصيف يُحوّل الذكرى إلى أداة تعذيبٍ لا تُبقي ولا تذر، تُعيد الألمَ في كلّ لحظة، تُبقي الفقدَ حاضرًا أكثر من الغيابِ نفسه.

البؤسُ والانتحار.. البقاءُ في العذابِ دون خلاص..

"مزّقَ ما بقيَ منّي

كبائسٍ..

لم يقتُلهُ الانتحار"

الصورةُ هنا تصلُ إلى ذروتها القاتمة؛ فالشاعرُ لا يجد ما تبقى منهُ الّا البؤس، ليس مجردَ بؤس.. بل كابوسًا لا يُمكن الاستيقاظُ منه، كابوسًا يملكُ وعيًا ذاتيًا.. كيانًا حزينًا لم يمت.. رغم محاولات التخلص من هذا البؤس. الانتحارُ هنا رمزٌ للخلاصِ الذي لم يحدث، وكأنَّ هذا الكابوسَ.. تمامًا مثل الذكرى.. محكومٌ عليهِ بالبقاءِ للأبد، مُستمرٌ في تمزيق ما تبقى من الشاعرِ دون رحمة.

العذابُ المستمرّ..

يُقدّمُ المقطعُ رؤيةً قاسيةً للذكرى، إذ لا يرى فيها الشاعرُ حنينًا، ولا تعزيةً، بل كابوسًا وجلدًا ذاتيًا مستمرًا. إنها حالةُ فَقْدٍ لا نهاية لها، مُعاناةٌ ترفضُ أن تخمدَ مع الزمن، بل تزيدُ من حدتها، فتُبقي الشاعرَ مُحاصرًا بين الجمالِ الذي لا يستطيعُ العيشَ بدونه، والعذابِ الذي لا يستطيعُ تحمّله.

**

6

أنتَ..

أسرفتَ في الشُربِ بذاكَ الكأس

الذي أصلَحتَ كَسرَه

منذُ عُقود

لا تَعي

أنّكَ لن تثمل.. مرّتين

بذاتِ الكأس ..

وتَنجو"

وهمُ اللذةِ المُتكرّرة.. حين لا يُصلح الكسرُ ما انكسر..

"أنتَ..

أسرفتَ في الشُربِ بذاكَ الكأس

الذي أصلَحتَ كَسرَه

منذُ عُقود"

يبدأُ المقطعُ بخطابٍ مُباشرٍ للشخصيّة المُخاطبة، حيثُ يبدو الشاعر وكأنّه يُعاتبُ نفسَهُ أو يُخاطبُ شخصًا غارقًا في الوهم. الكأسُ هنا ليس مجرد كأسٍ مادي، بل رمزٌ لشيء انكسر في الماضي.. ربما علاقة، ربما حلم، ربما تجربة قديمة.. وحاول المخاطَب إصلاحه، لكن عبثًا حاول. فعل "أسرفتَ في الشُرب" يوحي بالإفراط في التمسك بالماضي، بالإصرار على استعادة تجربةٍ انتهت، رغم وضوح هشاشتها.

الإدمانُ على الوهم.. واستحالة العودة إلى ذات النشوة..

"لا تَعي

أنَّكَ لن تثمل.. مرّتين

بذاتِ الكأس ..

وتنجو"

تتّضحُ الفكرةُ أكثر في هذه الأسطر، حيثُ يُحذّرُ الشاعرُ من الوقوع في وهم تكرار اللذة القديمة. فالمخاطَب يعتقدُ أنه يستطيع أن يستعيد الشعور ذاته الذي اختبره في الماضي، لكنهُ لا يدركُ أن التجربة لا يُمكنُ أن تتكرر بنفس النقاء والبهجة.. حتى لو بدا الكأسُ مُرمّمًا، إلا أن التصدّع يظلّ موجودًا، والتجربة لن تعود كما كانت.

الهلاكُ في إعادة المحاولة

"وتنجو"

تأتي النهايةُ مُباغتةً وقاطعةً، حيثُ يضعُ الشاعرُ الحقيقة بوضوح: لن ينجو من يُحاول أن يختبر ذات اللذة مرتين. فالتجربةُ الأولى كانت بريئةً، أما الثانية فهي محكومةٌ بالمعرفة، بالخذلان، بالندم. وكأنّ الشاعر يقول: من جرّب الانكسار مرةً، لن يخرج سالمًا إن أعاد التجربة، بل سيكون السقوطُ أشدّ إيلامًا.

الثمن الباهظ للشرب.. مرتين.. من ذات الكأس..

يطرحُ المقطعُ تأمّلًا عميقًا حول استحالة استعادة الماضي كما كان، وحول إصرار الإنسان على خداع نفسه بالعودة إلى شيء انتهى منذ زمن. إنهُ تذكيرٌ قاسٍ بأننا لا نشربُ من ذات الكأس مرتين دون أن ندفع الثمن.

**

7

لا عذرَ أخمدُ به حُزني

حينَ فقَدتُكِ

بلا وَعي

يا لَلجَهل

تركتُ الريحَ بينَنا

ترفعُ أستار الفردوس"

الخذلان أمام الفقد.. والجهل الذي لا يُصلح ما ضاع..

"لا عذرَ أخمدُ به حُزني

حينَ فقدتُكِ

بلا وعي"

يفتتحُ الشاعرُ المقطع باعترافٍ قاطعٍ بالعجز؛ فليس هناك عذرٌ يخفّفُ عنه وطأةَ الفقد، ولا مبررٌ يستطيع أن يُسكن الحزن. إنهُ فقدانٌ لم يكن تدريجيًا، بل مباغتًا، فـ"بلا وعي" تُشير إلى الصدمة.. إلى انطفاء العلاقة دون إدراكٍ كاملٍ من طرف الشاعر، أو ربما إلى إهمالٍ ما جعلهُ غير مُدركٍ لما كان يحدث حتى فات الأوان.

الريحُ بين الحبيبين.. واليد التي لم تُمسك بالفردوس..

"يا لَلجَهل..

تركتُ الريحَ بينَنا"

ينتقلُ الشاعرُ من الحزن إلى تأنيب الذات، حيثُ يُدركُ أن الجهل لم يكن فقط في عدم الوعي بالفقد، بل في ترك المسافة بينه وبين الآخر تكبرُ حتى تسرّبت الريح بينهما. و "الريح " هنا رمزٌ للفجوة، لسوء الفهم، لعدم التمسّك بما كان عليهما الحفاظ عليه. لم تكن هذه الريح مجرد عابرٍ خفيف، بل كانت قوةً قادرةً على إزاحة الحجاب بين الحبيبين، ورفع "أستار الفردوس"، أي تعرية الحقيقة القاسية: أنه لم يعد هناك ملاذٌ أو حب محفوظ.

الفردوس الضائع إلى الأبد..

"ترفعُ أستار الفردوس"

الفردوسُ هنا ليس مجرد مكان، بل حالة من الطمأنينة والحب، والتي لم يتمكن الشاعر من الحفاظ عليها. رفعُ الأستار يُشير إلى زوال السِتر عن الحقيقة، إلى أن العلاقة لم تعُد كما كانت، وربما إلى انكشاف هشاشتها أمام قوى الزمن والخذلان.

يُصوّر هذا المقطعُ الندم القاتل على الفقد، والاعتراف بأنّ الأخطاء لا تُمحى بالعذر، وأنّ بعض الفجوات بين البشر تكبر حتى تصبح هاويةً لا جسر لها. إنه نصٌ عن الخسارة التي لا رجوع عنها، وعن الحسرة التي لا دواء لها إلا القبول المتأخر بالحقيقة.

**

8

كيفَ للدَقائقِ أن تَمضي

بَعدَكِ

يأبى قلبي اجتيازَ الزمَن

منتظراً.. بلا يأس

أن تدُبَّ أحرُفٌ منكِ

الى هاتفي"

الزمن المتوقّف في غيابكِ.. والانتظار الذي لا يلين..

"كيفَ للدقائقِ أن تَمضي

بعدَكِ"

يفتتحُ الشاعرُ المقطعَ بتساؤلٍ وجوديّ، حيثُ يُصبحُ مرور الوقت مستحيلًا في غياب الحبيبة. فالمسافة بين اللحظات تتّسعُ، والدقائق التي كانت تمضي بسلاسةٍ في حضورها تتحوّلُ إلى عبء ثقيل، إلى زمنٍ جامدٍ يأبى أن يتحرّك.

القلبُ العالق في لحظة الفقد

"يأبى قلبي اجتيازَ الزمَن"

القلبُ هنا ليس مجرّد عضوٍ ينبض، بل كيانٌ يرفضُ التأقلم مع الواقع الجديد. الزمنُ يستمرّ، لكنهُ يظلُّ عالقًا في لحظة الفقد، في انتظارِ شيءٍ يُعيده إلى الحياة. واللافتُ أنّه رغم هذا التمسّك بالماضي، لا يبدو اليأس حاضرًا بالكامل، بل هناك مساحةٌ للأمل، وإن كانت معلّقةً على خيطٍ رفيع.

الهاتف كنافذةٍ للأمل المعلّق

"منتظراً..

بلا يأس

أن تدُبَّ أحرُفٌ منكِ

إلى هاتفي"

يتحوّل الهاتفُ هنا إلى رمزٍ للرجاء، نافذةٍ مُعلقةٍ بين الصمت والكلمات، بين النسيان والتواصل. فحتى في الغياب، لا يزال هناك أملٌ بأن تصل رسالة، كلمة، حرفٌ واحدٌ يعيد الحياة إلى هذا الانتظار.

التمسّك بالأمل رغم استحالته..

المقطعُ يصوّرُ حالةَ التوقّف في الزمن بعد الفقد، وكيف يمكن للغياب أن يجعل حتى الدقائق تمرّ بصعوبة. إنه نصٌّ عن التمسّك بالأمل رغم استحالته، عن الانتظار الذي يرفضُ الاعترافَ بالنهاية، وعن هشاشة الإنسان أمام الحبّ والغياب.

**

9

لستِ امرأةً أخرى

بلّلَتْ شوقي كأمطارِ صَيف

عشتارٌ أنتِ

في ملَكوتِها

شبَكتُ كفَيَّ

جثَوتُ أدعو

الّا يطلَّ الصَباح"

عِشْتَارُ الحُبِّ.. والرَجاءُ الذي يَخشَى الصَباح..

"لستِ امرأةً أخرى"

يبدأ الشاعرُ المقطعَ بالتفرُّدِ والتمييز، نافياً أن تكون الحبيبةُ مجرّد امرأةٍ أخرى عابرة. إنها ليست كغيرها، بل هي التي روَت عطشَ الشوق، كما تفعل أمطار الصيف حين تسقطُ فجأةً، مُنعشةً الروحَ وملوّنةً الأرضَ بالحياة.

عشتارُ الحُبّ والقداسة..

"عشتارٌ أنتِ

في ملكوتها"

يُشبِّهُ الشاعرُ محبوبتَهُ بالإلهةِ عشتار، ربةِ الحبّ والجمال والخصب، مُضفيًا عليها بُعدًا أسطوريًا مقدّسًا. فهي ليست فقط معشوقةً، بل كيانٌ سماويّ، ملكةٌ في معبدها الخاص، لا تُقارنُ بالبشر. هذا التشبيه يُبرزُ عمقَ المشاعر، وارتقاءَ العلاقة إلى مستوى يفوقُ الحبَّ العاديّ، ليُصبح ضربًا من العشقِ الإلهيّ.

الخشوعُ والرهبة في حضرةِ الحبّ..

"شبَكتُ كفَيَّ،

جثَوتُ أدعو،

ألّا يطلَّ الصباح"

يأخذنا هذا المشهدُ إلى صورة العابد الذي يسجدُ أمام معبوده، يملؤهُ الرجاءُ والخوفُ معًا. فالشاعرُ لا يريدُ أن ينتهي هذا الليل، هذا الزمن الذي يجمعه بها. الصباحُ لا يُمثّلُ النور هنا، بل الفقدان، اللحظة التي قد تُنتزعُ منهُ محبوبتُه، فيُفضّلُ أن يبقى الليلُ ممتدًا إلى الأبد.

ترنيمةٌ للعشقِ..

هذا المقطعُ هو ترنيمةٌ للعشقِ الذي يختلطُ بالقداسة، للحبِّ الذي يتجاوزُ المألوف، ليُصبحَ صلاةً وهمسًا للآلهة. إنه رفضٌ للزمن الذي يُهدّد الوصال، وتوسّلٌ للبقاء في حضرة العشق الأبديّ.

**

10

إعذريني

أتيتُك لا أجيدُ التماسَ الطَريق

كما الأعمى بلا عصا

وليس عندي فراسةُ شاعر

فكانت عثرَتي

بوّابةَ الآخرة"

العِشْقُ كَضَياع.. وَالمَحْبُوبَةُ بَابُ الآخِرَة..

"اعذريني"

يبدأُ الشاعرُ بنداءِ الاعتذارِ الصادقِ، وكأنّهُ يُدركُ مُسبقًا أنّ ما اقترفهُ لا غفرانَ له. الاعتذارُ هنا ليس مجردَ طلبٍ للعفو، بل هو إحساسٌ بالعجزِ أمامَ قدرٍ محتومٍ لا مهربَ منه.

الضَياعُ فِي دُروبِ العِشق..

"أتيتُك لا أجيدُ التماسَ الطريق

كما الأعمى بلا عصا"

يتجلى في هذا التصوير إحساسٌ مُطلقٌ بالتيهِ والضياعِ أمامَ الحبيبة. فهو لم يأتِ إليها واثقًا، ولا عاشقًا يُمسِكُ بمصيرهِ بيديه، بل جاء تائهًا، كالأعمى الذي لا يملكُ حتى عصاهُ ليستدلَّ بها على الطريق. هذا التشبيه يُبرزُ مدى ضعفهِ أمامها، وكيف أنّهُ فقدَ كلّ قدرةٍ على توجيهِ خطاه.

حينَ تَكُون العَثْرَةُ قَدَرًا..

"وليس عندي فراسةُ شاعر

فكانت عثرتي

بوابة الآخرة"

يُقرّ الشاعرُ أنّهُ لم يكن حكيمًا ولا شاعرًا قادِرًا على التنبؤِ بالمآلات، بل وقع ببراءةٍ في حبٍّ لم يُدرك أنه سيكون نهايته. العثرةُ هنا ليست مجرد خطأ عابر، بل قدرٌ مفصليّ، تحوُّلٌ جعلهُ يعبرُ نحو "الآخرة"، حيثُ النهاية المطلقة، الموت أو الفناء العاطفيّ.

الحبَّ.. من صورِ الموت..

هذا المقطعُ هو صورةٌ للحبِّ الذي يُلقي بصاحبهِ في التهلكة، العشق الذي لا مخرجَ منه إلا العبورُ إلى الآخرة. الحبيبةُ ليست فقط وجهةً، بل بابٌ نحو الفناءِ التام، وكأنّ الحبَّ عند الشاعرِ ليس إلا صورةً أخرى من صورِ الموت..

سيظل الشاعر عادل الحنظل محدقًا بما ينحدر من صراخ روحه العالي.. متواطئًا به على نفسه..

**

طارق الحلفي

..........................

الرابط:/

https://www.almothaqaf.com/nesos/980544

أولًا: المستوى التركيبي – البناء اللغوي والنحوي

تُفتَتَح القصيدة بجملة فعلية مكثّفة:

"أجنحةٌ للريحِ قد نُشِرَتْ، فانطلقتْ"

توظف الشاعرة هنا فعلين بصيغة الماضي المجهول ("نُشِرَتْ"، "انطلقت") ما يُضفي طابعًا قدريًا على حركة الأرواح، وكأن الرحيل قد كُتب على هذه الأجنحة منذ البداية.

الأسلوب مركّب بشكل يمنح السطر رهافةً صوتيّة وسلاسةً إيقاعية، مع نبرة تأملية.

ثانيًا: الإيقاع الداخلي والموسيقى الشعرية

القصيدة مكتوبة على نمط السطر الحر (شعر التفعيلة) مع التزام داخلي بإيقاعات صوتية تقوم على التكرار والتوازي:

"ترفرفُ، تصعدُ، تحلّقُ"

هذا التوالي للفعل المضارع بصيغة الجمع ثلاثي الإيقاع يمنح القصيدة نغمة ترتيلية/تراتيلية (Liturgical Tone)، تعزز من صورة الصعود الروحي، وتبني إيقاعًا يتناسب مع طابع الرثاء والتقديس.

التكرار لا يقتصر على الأفعال، بل يشمل الصور والأصوات (مثل "الركام"، "الصمت"، "الموتى") مما يُؤسّس لتماسك نصّي، وحالة موسيقية قائمة على التوازي والتدوير الصوتي.

ثالثًا: الصورة الشعرية – البُنية الرمزية

تفيض القصيدة بصور شعرية غنية متعددة المستويات:

الصورة الجمالية – الجسد والروح:

"تنسابُ كريشٍ هائم،

ترفرفُ، تصعدُ، تحلّقُ..."

صورة الريش الهائم تشير إلى الخفة، التلاشي، والبراءة الطفولية. هذا الرمز يُستخدم كأداة لتصعيد المأساة إلى مستوى كوني–روحي، ويُقابل لاحقًا بصورة الغراب:

"أجنحةُ الغِربانِ تمرُّ فوقَ الخراب..."

في هذا التناص البصري، تقوم الشاعرة ببناء ثنائية نقيضية بين "أجنحة الغراب" و"أجنحة الملائكة"، بين الموت والبقاء، الدنس والطهر، الظلام والنور.

رابعًا: التناص الديني والأسطوري

النص يتكئ على رمزية دينية عالية توحي بالعمق اللاهوتي والإنساني للمأساة:

"كأنهم السرافيم" — في إشارة إلى الملائكة العليا في الميثولوجيا السماوية.

"من مذابحِ النورِ تُولدُ / صورةٌ داكنة" — مفارقة بلاغية تقلب المفاهيم، حيث يولد الظلام من النور.

"ولدَ قابيل الملعون" — نهاية رمزية توثّق الجريمة بأصلها التوراتي؛ الأخ الذي يقتل أخاه، في إحالة إلى القتل الأول في التاريخ البشري.

هذا التناص مع قصة قابيل وهابيل يضيف بعدًا أخلاقيًا وجوديًا للنص، يجعل من القاتل المعاصر امتدادًا لإثمٍ أوليٍّ أبديٍّ.

خامسًا: الأسلوب العاطفي – شحنة وجدانية مكثّفة

القصيدة تفيض بالحزن، لكنها لا تسقط في المباشرة أو الخطابة. بل تستخدم أسلوبًا شبه طقوسيّ:

"أعمالُهم الصغيرةُ / قُدِّمَت للهِ هديةً / من أمهاتٍ مكلومات."

هنا تتحول الأم إلى كاهنة حزينة، تقدم قرابينها على مذبح الألم.

أسلوب التعبير يتسم بالتقديس والرهبة، ويمنح النص عمقًا وجدانيًا يكاد يُسمع صوته في الصمت.

سادسًا: المفارقة (Paradox) كأداة جمالية

المفارقة عنصر أسلوبي بارز في القصيدة:

"ولا ينوحُ على الراحلينَ / إلّا الركام" — مفارقة بين الإنسان والجماد، حيث يصبح الصخر أكثر وفاءً من البشر.

"من مذابح النور تُولد صورة داكنة" — مفارقة بين المفترض والمتحقّق.

تُستخدم هذه التقنيات لتسليط الضوء على عجز المنطق أمام المأساة، وعلى قلب المفاهيم في زمن القتل المجّاني.

خاتمة أسلوبية:

في "مذبحة الأبرياء"، تعتمد فرانكا كولوتسو أسلوبًا شعريًا يتميز بـ:

الرمزية الكثيفة

الإيقاع الداخلي الهادئ والموجع

التناص الديني والوجداني

الصور البصرية الممزوجة بعناصر سماوية وأرضية

إنها قصيدة تكتب الحزن لا لتستهلكه، بل لتؤبّده، وتحوله إلى أثر شعري خالد.

الأسلوب هنا ليس مجرد وسيلة للتعبير، بل هو جزء عضوي من المأساة نفسها.

***

بقلم: كريم عبد الله – العراق

...............................

مذبحة الأبرياء

أجنحةٌ للريحِ قد نُشِرَتْ، فانطلقتْ

في موكبِ الصمتِ العلوي،

تنسابُ كريشٍ هائم،

ترفرفُ، تصعدُ، تحلّقُ،

من مستشفى غزّةَ المكلوم،

حيثُ الصاروخُ قد هوى،

فمزّقَ قلبًا عتيقًا، نابضًا بالحياة.

*

نهضوا معًا، كأنهم السرافيم،

خُطِفوا من لعبِ الطفولةِ البريئة،

والآنَ اللّعبُ مذبحةٌ لا تنتهي.

أجنحةُ الغِربانِ تمرُّ فوقَ الخراب،

تداعبُ أجنحةَ الملائكةِ في الأعالي.

*

يبهتُ المساءُ

وسطَ أشباحٍ تتهادَى،

ولا ينوحُ على الراحلينَ

إلّا الركام،

موتى بلا ذنبٍ يُذكَر،

وقبرٌ جماعيٌّ

للأطرافِ المبتورةِ.

*

الأطفالُ ما عادوا يخافون،

فزمجرةُ الجحيمِ سكنت،

والجوعُ، والعطشُ، صمتوا.

أعمالُهم الصغيرةُ

قُدِّمَت للهِ هديةً

من أمهاتٍ مكلومات.

من مذابحِ النورِ تُولدُ

صورةٌ داكنة،

تكشفُ أرضًا مدنّسةً

ووَلدَ قابيل الملعون.

***

للشاعرة: فرانكا كولوتسو - ايطاليا

هناك فرق كبير برأيي بين الدراسات النقديّة للأدب من وجهة نظر الدراسات الأسلوبيّة، وبين الدراسات القائمة على مناهج النقد الأدبي السياقيّة منها أوالنسقيّة، كـ (البنيويّة، والتفكيكيّة، والشكلانيّة، والواقعيّة، والواقعيّة الاشتراكيّة ونظريّة الانعكاس..) وغير ذلك. هذا بالرغم من أن الدراسات الأسلوبيّة تتضمن بعض معطيات هذه المناهج بالضرورة، إلا أن الدراسات الأسلوبيّة أكثر علميّة من جهة، وأكثر شموليّة وتعقيداً من جهة أخرى.

ونظراً لأهميّة اللغة كقاسم مشترك بين علم الأسلوبيّة والعلم المنهجي في النقد الأدبي، فثمة علاقة وطيدة تكامليّة بين علم الأسلوب وعلم اللغة أيضاً، فكل منهما يكمل الآخر، فَعَاِلمُ الأسلوب يحتاج في دراساته التحليليّة إلى قدر من علم اللغة يكفيه لفهمه اللغوي للنصوص، كما يحتاج عالِم اللغة إلى قدر من المقولات الأدبيّة تكفيه بالمقابل للإحاطة اللغويّة بالنصوص الأدبيّة. ونظراً لتعدد المستويات التي يشتغل عليها الأسلوب كما سيمر معنا لاحقاً لذلك يفضل في الدراسات الأسلوبيّة تناول مستوى واحداً من مستويات الأسلوبيّة عند دراسة أي نص أدبي، لتلافي الدخول في متاهات تلك المستويات إذا ما اجتمعت في دراسة واحدة كما سيتبين معنا لا حقاً، وعلى هذا يأتي اختيارنا لدراستنا هنا للمستوى البلاغي في التحليل الأسلوبي. دون إهمال لبقية المستويات ولو من باب التعريف بها.

مستويات التحليل الأسلوبي للنص الأدبي:

المستوى البلاغي في علم الأسلوب:

يدين التحليل الأسلوبي في نشأته وتطوره إلى علم اللغة، وقد أستفاد منه النقد الأدبي واعتبره واحداً من مجالات نقد الأدب، باعتباره – أي التحليل الأسلوبي - يشتغل على بنية لغويّة ينتجها الأديب عن وعي وقصد تامين، إضافة إلى اعتناء التحليل الأسلوبي بدراسة (النص الأدبي) ووصف طريقة صياغته والتعبير عنه، وتزويد علم البلاغة بالنتائج التي يصل إليها من قراءة النصوص وتحليلها، وذلك بعد استخلاص التحليلات النصيّة وقراءة ما وراء السطور، كالمضمر والمسكوت عنه، وإبراز أشكال المجاز، وأنساق الصور الفنيّة، وطريقة تكوين البنية التخيليّة في النص بأكمله. وهذه المهمة للتحليل الأسلوبي الأدبي تعتبر من أهم وجوه الدراسة الأسلوبيّة، وذلك لما في هذه الدراسة من تخطٍ للخصائص الجزئيّة للعمل الأدبي، والنظر إليه بشموليته التي توضح خصائصه المميزة له عن غيره من الأعمال الأدبيّة. وليس هناك من مبالغة في القول بأن الأسلوبيّة أحيانًا تكون جزءاً من نموذج التواصل البلاغي، وتنفصل أحيانًا عن هذا النموذج أو تتسع حتى تكاد أن تمثل البلاغة كلها باعتبارها ـ الأسلوبيّة ـ بلاغة مختزلة أو مكثفة، على اعتبار المستوى البلاغي يدرس الصور الفنيّة والاستعارات والمجازات، واستخدام المحسنات البديعيّة، وأساليب الإنشاء الطلبي. كـ (اﻷﻣﺮ واﻟﻨﻬﻲ واﻻﺳﺘﻔﻬﺎم واﻟﺘﻤﻨﻲ واﻟﻨﺪاء. وغير الطلبي، كـ ( المدح، والذم، والقسم، والتعجب والرجاء، وفي المدح والذم (1). والاستفهام، والأمر، والنهي، والقسم، والتعجب، والنداء، والدعاء، وما تؤدّيه كل هذه الأساليب من معان. (2).

على العموم إن دراسة التحليل الأسلوبي على المستوى البلاغي تُساعد في الوصول إلى استنتاجات كثيرة يتضمنها النص المسلط عليه ضوء هذا التحليل، كما تساعد على امتلاك القدرة في الربط بين مفردات النص بكل مكوناتها، وجعل القارئ يتعمق فيما وراء السطور ليكتشف ما يريده كاتب النص.

إن عالم الأسلوب ينظر إلى النص الأدبي من زاوية بلاغيّة النص نظرة خاصة، تهدف إلى كشف جوانب جماليّة اللغة ودورها ومكانتها في جميع ظواهرها أو تجلياتها، بدءا بالأصوات، مروراً بحسن اللفظ وجودة المعنى، وصولاً إلى أبنيّة الجمل الأكثر تركيباً. وهو علم يحدد قدرة الأديب أو المبدع أيضاً على استعمال أصوات وتراكيب اللغة استعمالا فنيّا جماليّا من خلال تفاعل العناصر اللغويّة كلّها في ما بينها داخل النص، ثم مدى تأثير كلّ تلك العناصر اللغويّة على المتلقي وما تحدثه من أثر جميل فيه، وبناء على ذلك يتخذ علم الأسلوب ثلاثة مقوّمات أساسيّة لتحليل النص الأدبي لغوياً هي:

أولها: يتعلق باختيارات الكاتب المتنوّعة من إمكانات اللغة الهائلة.

وثانيها: استخدامه الانزياحات اللغويّة عن النمط المعهود للغة بما تحمله هذه الانزياحات من تشبيه واستعارة وكناية وتقديم وتأخير أو انزياحات نحوية وصرفية وغير ذلك من مفردات البلاغة.

وثالثها: قوالبه التي يختارها للتعبير. حتى يمكن القول إنّ أسلوب الكاتب لمحة عن حياته أو هو الكاتب أو الأديب ذاته.

أما أهم المفردات التي يشتغل عليه الأسلوب في علاقته مع البلاغة:

أولا حسن اللفظ:

إن اللفظ مثلاً يجب يكون سمحاً، سهل مخارج الحروف في مواضعها، عليه رونق الفصاحة، وأن لا تكون اللغة وحشية بحاجة للقواميس اللغوية، وأن لا تكون متنافرة الحروف. فالكلام الفصيح هو الظاهر البين الذي يستلذ له السمع ويميل إليه، ولحاسة السمع الدور كبير في استحسان اللفظ أو النفور منه. لذلك يجب أن تكون الألفاظ مسبوكة مع الخلو من البشاعة. فجزالة اللغة تستخدم عادة في مواقف القوة والفخر وما شابه. أما اللغة الرقيقة العذبة في الفم واللذيذة في السمع، والرقيقة الحاشية والناعمة الملمس، فنجدها في الغزل ووصف ما هو جميل وما جرى مجراهما. هذا ويجب أن تكون معاني الجزالة والرقة تنسجم مع ألفاظهما، وأن حسن اللفظ قائم على رنته الموسيقية اللذيذة في الأذن، وأن تكون اللفظة الواحدة منسجمة مع بقية أجزاء الكلام، ففي إتقان السبك أو براعة الصياغة يكمن سر فن التعبير. وعلى هذا يمتاز الكلام الجديد بسلاسته ونصوعه وسهولته وتخير لفظه وإصابة معناه، وجودة مطالعه ولين مقاطعه واستواء تقاسيمه وتعادل أطرافه.

إن الأديب الشاعر أو القاص أو الروائي، عندما يقوم بوصف معاناة الإنسان في ظروف الفقر والمرض والجوع والحروب على سبيل المثال، نراه مبدياً مشاركته الوجدانيّة مع هذه الحالات، ومختاراً المفردات الصوتيّة الرئيسة المعبرة في مثل هذه الحالات الاجتماعيّة، كالإغراق في الحزن والشكوى لما تثيره من أسف وتحسر على المظاهر البادية له. لذلك نجد في متن النص الأدبي مفردات صوتيّة مثل: (عجفاء- مسلولة – هزال – ميتة – مخالب – عمياء – الجوع – يقتل – عواء – الجثة – الكفن.) وغير ذلك. وكذا الأمر حين ننظر إلى الصور التي يرسمها الشاعر أو القاص أو الروائي من خلال التراكيب نحو : (الخيمة العجفاء – مخالب الريح – أغرق في ذكرياتي – تعفن الجسد – مثخن بالجراح –عواء الريح.). فهذه الصور سوداويّة قاتمة يسكنها الحزن القوي المغموس بالألم. أما في حالات الفرح والانتصار والنجاح وغير ذلك، لا شك أن المفردات الصوتيّة والصور ستكون مشبعة بالفرح والمسرة والهناء والسعادة.

ثانياً علاقة اللفظ والمعنى:

لا يمكن أن تكون هناك جماليّة حقيقة للفظ إذا لم يرتبط اللفظ بالمعنى، فاللفظ جسم وروحه المعنى. وطرفي المعادة هذه تتطلب:

1- جودة المعنى:

إن جودة المعنى تأتي من اتفاق المقال مع واقع الحال. فلكل مقام مقال. فهناك المديح والهجاء والرثاء والوصف والتشبيه، والمبالغة والاشارة والارداف. وهناك (النسيب وهو الشعر الذي يبين فيه التهالك في الصبابة، والإفراط في الوجد واللوعة، ونجد فيه من التصابي والرقة أكثر من الخشن والجلادة، و فيه من الخشوع والذلة أكثر من الإباء والأنفة والعز، وأن يكون جماع الأمر فيه، ما ضاد التحفظ والعزيمة، ووافق الانحلال والرخاوة.).(3). ومن عيوب المعاني يأتي فساد المقابلات، وفساد التفسير، والاستحالة، والتناقض، ومخالفة العرف، وعدم إصابة الوصف والتشبيه. ويأتي أيضاً: (الإخلال: "وهو أن يترك من اللفظ ما يتم به المعنى . والحشو: "وهو أن يحشى البيت بلفظ لا يحتاج إليه لإقامة الوزن" . والتثليم: "وهو أن يأتي الشاعر بأسماء يقصر عنها العروض، فيضطر إلى ثلمها والنقص منها". والتذنيب: "وهو عكس التثليم، وذلك أن يأتي الشاعر بألفاظ تقصر عن العروض، فيضطر إلى الزيادة فيها".    والتغيير: وهو أن يحيل الشاعر الاسم عن حاله وصورته إلى صور أخرى، إذا اضطرته العروض إلى ذلك". والتفصيل: وهو ألا ينتظم للشاعر نسق الكلام على ما ينبغي لمكان العروض، فيقدم ويؤخر). (4). ومن أهم أغراض الشعراء أيضا، تأتي: (المعاني الشعرية الخالصة: وخير المعاني هنا ما مال القلب إلى قبولها أسرع من اللسان إلى وصفها.(5). وهناك (اللحظة الشعريّة: وهي بالضرورة كتابة شاقة، ذلك لأنها من المفترض أن تستجلي كوامن الذات، وتكشف عن تلك الشحنة التي تتلبس الشاعر في لحظة، وهي بالضرورة لحظة زمنيّة، يسموا إليها الشاعر بوثبة من وثبات خياله، ويكفي فيها قول النقاد بأنها تهز النفوس وتخلب الألباب).(6).

رابعاً هناك أيضاٍ التكرار في الشعر:

يُعدّ التكرار ظاهرة فنيّة عرفها الشعر العربي منذ القديم، وأقبل علی توظيفها كبار الشعراء، للتعبير عن أفكارهم وتطلّعاتهم، فالتكرار يحمل في ثناياه دلالات نفسيّة وانفعاليّة مختلفة تفرضها طبيعة السياق، ويُعدّ وسیلة من وسائل تشكيل الموسيقي الداخليّة، ومحفزاً لإثراء دلالات النص، وإغناء الخطاب جمالاً وائتلافاً نسقيّاً. وللتكرار أيضاً أهمية خاصة إذ هو أسلوب تعبيري يصوّر انفعالات النفس وخلجاتها، واللفظ المكرَّر هو المفتاح الذي ينشر الضوء على الصورة، لاتّصاله الوثيق بالوجدان، فالمتكلّم إنّما يكرّر ما يثير اهتماماً عنده، وهو يحبّ في الوقت نفسه أن ينقله إلى نفوس مخاطبيه، أو مَن هم في حكم المخاطبين ممّن يصل القول إليهم على بُعد الزمان والمكان، ولذا اتُّخذ التكرار وسيلة لتحقيق الموسيقى كما بينا قبل قليل، التي هي بلا شك أقوى وسائل الإيحاء، وأقربُ إلى الدلالات اللغويّة النفسيّة في سيولة أنغامها. (7). كما يعد التكرار أحد العوامل التي ترتبط بالقدرة على الفهم، فالفهم يكون أسرع في حالة استخدام التكرار بالألفاظ نفسها داخل القصيدة الحديثة. و التكرار هو أساس الإيقاع بجميع صوره، فنجده في الموسيقى بطبيعة الحال، كما نجده أساسا لنظرية القافية في الشعر، وللتكرار مدلول نفسي (سيكولوجي) يساعد الناقد على تحليل نفسيّة الشاعر، والدوافع الحقيقية التي لا يخفيها عن الآخرين، أو التي لا يشاء أن يفصح عنها فيهدينا إليها التكرار، مما يجعلها على تماسك مباشر واندماج سريع من أحداث القصيدة، ثم إنّ تعبير الشاعر عن هذه الجوانب يعيد التوازن إلى حالته الطبيعيّة، فهو مضطر إلى أن يفرغ هذه المشاعر التي يكون التكرار وسيلة من وسائل الترفيه عن النفس. وللتكرار فوائد كثيرة في الحقيقة، فهو أداة أدبية لها دور جمالي في النص مثل كل الأساليب البلاغية الأخرى، بشرط أن يأتي التكرار في مكانه في النص، لكي يقوم بدوره الجمالي، وسيظل التكرار بشكل عام في معظم النصوص الأدبيّة وسيلة لتحرير أعمق الأسرار الأدبيّة.

وسائل تحقّق التكرار في النصّ الأدبي:

يتحقق التكرار في النص الأدبي عبر أشكال عدّة، منها:

1- تكرار الحرف:

وهو يقتضي تكرار حروف بعينها في الكلام، ممّا يعطي الألفاظ التي ترد فيها تلك الحروف أبعاداً تكشف عن حالة الشاعر النفسيّة. فتكرار الحرف (من أبسط أنواع التكرار وأقلّها أهميّة في الدلالة، وقد يلجأ إليه الشاعر بدوافع شعورية، لتعزيز الإيقاع في محاولة منه لمحاكاة الحدث الذي يتناوله، وربما جاء للشاعر عفواً دون قصد.). (8).

2- تكرار اللفظة أو الكلمة:

وهو تكرار الألفاظ الواردة في الكلام لإغناء دلالاتها وإكسابها قوةً تأثيريّة. فتكرار الكلمة يمتلك في النصّ أثراً عظيماً في موسَقَته، إذ تکون القيمة السمعيّة لهذا التكرار أكبر من قيمة تكرار الحرف الواحد في الكلمة. ويكون هذا التكرار ناتجاً عن أهمية هذه المفردة وأثرها في إيصال المعنى، حيث تأتي مرّة للتأكيد أو التحريض ولكشف اللبس، فضلاً عن ما تقوم به من إيقاع صوتي داخل النصّ الشعري.(9).

3- تكرار الترکيب:

يعد تكرار الترکيب أو الجملة هو تكرار يعكس الأهميّة التي يوليها المتكلّم لمضمون تلك الجمل المكرّرة بوصفه مفتاحاً لفهم المضمون العام الذي يتوخّاه المتكلّم، فضلاً عمّا تحقّقه من توازن هندسي وعاطفي بين الكلام ومعناه، وربّما تكون هذه العبارة هي المرتكز الأساس الذي يقوم عليه البناء الدلالي للنصّ، فضلاً عن المهمّة النغميّة التي يؤدّيها التكرار. ويحتاج تكرار التراکيب إلى مهارة ودقّة، بحيث يعرف الشاعر أين يضعه، فيجيء في مكانه اللائق، وأن تلمسه يد الشاعر تلك اللمسة السحرية التي تبعث الحياة في الكلمات. ويعدّ تكرار الكلمة في النصّ، وتكرار الجملة في السياق ذا أثر عظيم في توافر الجانب الموسيقيّ، ولهذا التكرار من القيمة السمعيّة ما هو أكبر ممّا هو لتكرار الحرف الواحد في الكلمة أو في الكلام (10).

والتكرار أخيراً يُظهر الأهميّة لقدرة الشاعر على تكوين سياقات شعريّة ذات دلالات فنيّة تخيليّة مثيرة للمتلقي، تعمل على جذب انتباهه، ليتمثل القارئ النصَّ الشعريَّ الذي يصوّره الشاعر.(11). فضلاً عمّا تحقّقه من توازن هندسي وعاطفي بين الكلام ومعناه كما بينا قبل قليل.

ومن أهم المستويات التي يسلط عليها النقد الأسلوبي الأدبي مبضعه أيضاً يأتي:

- المستوى الصوتي: إن النص الأدبي بنية لغويّة كما في أساسه كما بينا في موقع سابق، ومن هذا المنطلق تبدأ الأسلوبيّة بالإفادة من الإمكانات التعبيريّة الكامنة في المادة الصوتيّة التي هي كل ما يحدث إحساسات سمعيّة عند المتلقي. كالأصوات وما يتألف منها، وتعاقب الرنات المختلفة للحركات، والإيقاع والشدّة وطول الصوت والتكرار والتجانس، وغيرها من الإمكانات التعبيريّة الصوتيّة. كما ويُدرس فيه الوزن، والقافية، والتنغيم، والنبر، والقطع، وصفات الأصوات من همس وجهر وشدّة ورخاوة، وأثر كل ذلك في المعنى.(12).

وهناك عناصر الإلقاء الصوتي كالنطق واللفظ وطبقة الصوت. (ويتضمن الإلقاء الفعّال ثلاثة عناصر رئيسيّة هي: الصوت، والجسد واللغة، ويتضمن الإلقاء الصوتي معدل السرعة والتوقفات، حجم الصوت، طبقة الصوت وتغيراتها، نوعية الصوت، النطق واللفظ. بينما تتضمن عناصر الإلقاء الجسدي المظهر، الوقوف، تعابير الوجه، الاتصال البصري، الحركة، الإيماءات..). (13).

- المستوى الصرفي: ويُدرس فيه الصيغ الصرفية، والعناصر الصوتيّة وما ينتج عنها من معاني صرفيّة أو نحويّة، وتأثير الصرف على المعاني النحويّة. والانتباه للاشتقاقات، والعلاقات القائمة بينها، فإن القاعدة اللغوية التي تقول: (إن كل زيادة في المبنى تؤدي إلى زيادة في المعنى). صحيحة، إلا أنه لابد من الانتباه إلى أن هذه الزيادة في المعنى لا تؤدي إلى قطع الصلة بين الأصل والاشتقاق.

- المستوى النحوي أو التركيبي: وتُدرس فيه الجملة من حيث طولها و قصرها، والفعل والفاعل، والمبتدأ والخبر، والتقديم والتأخير، والإضافة، والتعريف والتنكير، والصفة والموصوف، والعدد والمعدود، والصلة والموصول، والتذكير والتأنيث، والروابط وما تشمله من حروف وأفعال وتراكيب مكانيّة وزمانيّة، والبنية العميقة والبنية السطحيّة، والمبني للمعلوم والمبني للمجهول، والقرائن اللفظية أو المعنوية التي يستخدمها الكاتب، وطبيعة الضمائر، وغيره الكثير، مما له من دور في المعنى.  وهنا ينتقل المحلل الأسلوبي من الأصوات المفردة إلى الكلمة التي تتكون من مجموعة متضامه من الأصوات اللغويّة منتجة دلالات خاصة أو متعددة يستدعيها السياق النصي الذي ينتجه المبدع عن وعي وقصد، ويتجسد في اختيار مجموعة معينة من المفردات اللغوية دون غيرها، فالمفردات اللغوية تشكل رصيدًا ضخمًا من الوسائل الأسلوبيّة التي يتم انتقاء الكلمة المناسبة منها، وما المترادفات والمشتركات وتنوع دلالات الألفاظ والتطور الدائم في ذخيرة المفردات والمرونة في اختيار الكلمة والعبارات الجاهزة والأقوال المأثورة سوى الأساس الذي يعتمد عليه التنويع في البناء الأسلوبي .(14).

- المستوى الدلالي: ويُدرس فيه العتبات كـالعناوين، والكلمات المفاتيح، والسياق اللغوي، والصيغ اللغوية والاستفهاميّة، وطبيعة المعجم اللغوي المستخدم في النص، والرموز، وعلامات التأنيث والتذكير، والجمع والتعريف.

- مستوى الصورة: وهنا يرصد المحلل الأسلوبي في هذا المستوى، المظاهر التعبيريّة التي يستخدمها المبدع في النص من خلال عمليّة التصوير الفني، فالصورة الفنيّة أو الأدبيّة إن هي إلا انحرافات دلاليّة لبعض المفردات اللغويّة، والانحراف أو الانزياح ـ في المصطلح الأسلوبي ـ ينتج عددًا من القيم الأسلوبيّة التي تُسهم في الثراء الدلالي للنص الأدبي، وهذا ما يبرز جليًّا في المستوى الحقيقي والمجازي، حيث الأول هو الأصل والثاني انحراف متعمد عنه، لأنه ينتج قيمًا فنيّة ودلاليّة لا ينتجها المستوى الحقيقي ،(15).

على العموم: إن دراسة مستويات التحليل الأسلوبي، تستلزم محللًا أسلوبيًّا، بدلًا من الناقد الأدبي، وذلك لما بينهما من فرق وظيفيّ، فالمحلل الأسلوبي يُعنى بالبحث عن البنى الأسلوبيّة التي تُحدِث توترًا في النص، وتؤثّر على القارئ، وهو كثيرًا ما يستخدم حتى الإحصاء للبحث عما يعرف بالانزياحات الأسلوبيّة داخل النص، وعن قوانين الصوت وقواعد النحو والدلالة والبلاغة، ومدى تكرار هذه الانزياحات وتواترها. أما الناقد الأدبي، فلا يلتفت لتلك البنى الأسلوبيّة، إلا فيما تحدثه من أثر جمالي كبير في النص، ويقدّم للنص نقدًا انطباعيًّا ذاتيًّا، تكون تلك البنى الأسلوبيّة جزءًا من نقد النص، كما أن عمل الناقد الأدبيّ في النقد الأدبي يتعامل مع الظروف الذاتيّة والموضوعية التي تحيط بالأديب، ويكون أكثر حريّة.

التحليل الأسلوبي من زاوية المتلقي:

يظل للمتلقي دور هام في العمليّة الإبداعيّة، فهو الحكم على جودة النص، أو رداءته ومن ثم قبوله أو رفضه، وذلك يحتم على المبدع أن يطوع لغته حتى تخدم فكرته، بحيث تكون اللغة خاضعة لما هو سائد في عصره من طرائق تعبيريّة درج عليها مجتمعه، وهذه الحتميّة إنما تراعي دور المتلقي الذي سوف يصل إليه النص، فالنص الأدبي يكتب ليقرأ لا ليظل حبيس أدراج المكاتب. لذلك فلا يوجد إحساس بقيمة النص الأدبي إلا بمتلقيه، وتكمن قدرة صاحب النص في نجاحه وقدرته على إيقاظ ذهن القارئ، وذلك عن طريق المجيء بما لا ينتظره القارئ، أي اللجوء إلى غير المتوقع والتوجه إلى غير المألوف0 فالمبدع في نصه إنما عليه أيضاً مراعاة حالة المتلقي وثقافته، فلكل مقام مقال. وخطاب الإنسان لابد أن يكون ملائماً لدرجة فهمه، حتى لا ينصرف عن قراءة النص الذي يُعد وسيطاً لغويّاً يقوم بنقل فكر المؤلف إلى قارئه.

ملاك القول:

لاشك أنَّ النظريّةَ الأسلوبيّةَ هي لغويّةٌ أساسًا كما بينا في موقع سابق، وبالتالي فهي تتعرَّضُ بالدرس للنصوص الأدبيّة وغير الأدبية، إلا أنها تقوم بوصفُ النَّصِّ الأدبي بِنَاءً على مناهجَ مأخوذةٍ من علم اللغة كما يُعَرِّفُهَا الناقد الفرنسي ( مايكل ريفاتير) بأنها منهجٌ لغوي في الأساس، وذلك على أساسِ أنَّ النَّصَّ الأدبي نَصٌّ لغوي لا يمكن إدراكُ كُنْهِهِ أو سبرُ أغواره دونَ تحليلِ العلاقات اللغويّة التي ينطوي عليها .

وقد تختلفُ الأسلوبيّةُ عن بعض نظريات النقد الأدبي من حيثُ اعتمادِهَا على منهجٍ موضوعيٍّ مأخوذٍ من مبادئِ علم اللغة، ولكنها فيما عدا ذلك تتفقُ مع غيرها من النظريات النقديّة المعاصرة من حيثُ التركيز على النَّصِّ الأدبي واعتباره نقطةَ البداية والنهاية في عمليات التحليل. لكنَّ العلاقةَ الوثيقةَ بينَ الأسلوبيّةِ وعلم اللغة جعلت للأسلوبيّة مكانًا في النقد الأدبي فأصبحت تحتلُّ المكانةَ التي كانت تحتلُّهَا الدراساتُ السيكولوجيّة والسوسيولوجيّة وغيرها من الدراسات التي قدَّمَتْ مناهجَ عديدةً للتفسير. وعلى هذا الأساس ساعدت الأسلوبية الناقد على التخلي عن هذه الدراسات التقليديّة التي يمكن أن تشتِّتَ الانتباهَ بعيدًا عن النص الأدبي، واقتربت بالناقد أكثر فأكثر من جوهر وظيفته التي تتمثل في تحليل العلاقات اللغويّة للنص الأدبي الذي ينهضُ عليها في أساسياته. وهذا برأي ما جعل الأسلوبيّة تقع في فخ الشكلانيّة، بل هي إذا ما أعطيناها صفة المنهج ليست إلا منهجاً شكلانيّاً في النقد الأدبي.

د. عدنان عويّد - كاتب وباحث من سوريا.

.......................

الهوامش:

1- (في حقيقة الإنشاء وتقسيمه – موقع هنداوي -).

2- لدراسة هذه المستويات بشكل موسع يراجع - الأسلوبيّة النصيّة، تنظير وتطبيق لتحليل النصوص الأدبية، النص الشعري نموذجًا - د. ياسر عبد الحسيب رضوان).

3- (الغزل والنسيب – موقع هنداوي).

4- (- عيوب المعـــاني والأساليب في تراث العرب - أ.د. محمد رفعت زنجير. موقع اللغة العربيّة.).

5- (استجابات الجمهور لقصائد أبي العتاهية في كتاب الأغاني دراسة ضمن مشروع بلاغة الجمهور - رحمة القرشي – وزارة الثقافة السعوديّة - https://engage.moc.gov.sa/).

6- (اللحظة الشعرية تنثر القلق في جنبات القصيدة –عثمان حسن - موقع الخليج -).

7- (قراءات نقدية ظاهرة التكرار ودلالاتها الفنيّة في شعر الدكتور علي مجيد البديري- د. رسول بلاوي – موقع – صحيفة المثقف – بتصرف).

8- (لغة الشعر العراقي المعاصر، عمران خضير، ط1، الكويت، وكالة المطبوعات، 1982: 144.). بتصرف.

9- (قراءات نقدية ظاهرة التكرار ودلالاتها الفنيّة في شعر الدكتور علي مجيد البديري- د. رسول بلاوي – موقع – صحيفة المثقف – بتصرف).

10- ( التكرار بين المثير والتأثير، عزّ الدين علي السيّد، ط2، بيروت، عالم الكتب، 1978: ص80). بتصرف.

11- (التكرار وعلاقته بالنص الشعري: شعر لسان الدين بن الخطيب أنموذجًا -عبد الفتاح محمد سالم صالح السيد- موقع جامعة قطر.). بتصرف.

12- (النظرية الأدبية الحديثة – تقديم مقارن - ترجمة سمير مسعود – وزارة الثقافة – دمشق 1992م). بتصرف.

13- (عناصر الإلقاء الصوتي النطق واللفظ وطبقة الصوت - د. محمد ابراهيم بدره – موقع - ttps://illaftrainoftrainers.com/ ).

14- (الشعر والتجربة – ترجمة سلمى الخضراء – مراجعة توفيق صايغ – دار اليقظة العربية ومؤسسة فرانكلين 1963 0). بتصرف.

15- (الشعر والتجربة – ترجمة سلمى الخضراء – مراجعة توفيق صايغ – دار اليقظة العربية ومؤسسة فرانكلين 1963 0). بتصرف.

 

في حقيقة الأمر، لم أجد أصدق من هؤلاء، ولا أمرّ من تجاربهم المنطوية على جملة من الأسرار، فإذا هم يأبون إلاّ الإفراج عنها، والبوح من غير نفاق ولا أدلجة، بما يكابدون، سواء أكان رياض ورد تعطّر أعماقهم، أم خناجر تمزق ذواتهم.

طالما آمنت بإبداعهم، ورصين ووازن حرفهم، لأنهم من وجهة نظري، فوق العروض وأكبر منه، إذ يجسّدون الحالة الإنسانية التي تفرض باشتراكية هويتها، منظومة ما يكتب لحضورهم الابداعي الخلود، ومقوّمات ما يربك الوعي ويدغدغ الذائقة.

إنهم وبكل ما تحمل الكلمة من معاني للبساطة والعمق، في آن، شعراء السّليقة، المقيّدون بمسؤولياتهم اتجاه القارء المقتنع تمام الاقتناع بضرورة تنويع المشهد، وعدم ترجيح كفّة جنس إبداعي على أخرى، كون ذلك فيه من الجور ما فيه.

إنهم المباهون بالانتماء إلى ذواتهم، فقط، ذواتهم التي أجبرتهم على تفريغ، سواء، ما يثقلها من أوجاع، أو يطربها من مسرّات، بيد أنه إجبار بطعم الاختيار الطوعي النابع من صميم القلب الثرثار المستأنس بأبجديات الكتابة المتحرّرة من كل القواعد والقيود.

ولعل واجبنا إزاء هذا السرب، حسن الاصغاء، قبل أن نطلق الأحكام الجزافية التي من شأنها هدم أجمل ما يمكن أن يجود به مشهد الثراء والتنوع الأجناسي الذي يخدم الثقافة الإنسانية في طور حداثتها بل وما بعد حداثتها، على النحو الباني لأجيال منتشلة من واقع الحيرة والكدر والخدر، سليمة الوعي راقية الذائقة.

لأننا إن ضيّقنا عليهم، وحاولنا فرض الرقابة والوصاية عليهم، واحتكار أحقّيتهم في التعبير، نكون قد جنينا على أنفسنا قبل أن نظلمهم، من دون شك.

خاصة إذا فطنا إلى أن الكثير من الشعر المنتسب إلى الممارسات الخليلية، لا يكاد يتجاوز كونه نظما جافا متيبسا، لا تدب في عروقه روح الشعر أو الشعرية، لا من قريب أو بعيد.

من بين هذه التجارب التي استرعت انتباهي، ما يبدعه شاعر النجود العليا، مثلما تحلو لي تسميته، امحمد لمنيصري، كصوت هشّ قادم من أدغال مغرب العمق.

لقد عشق الكتابة منذ نعومة أظافره، وشبّ على هذا العشق، ولم يزل ذلك ديدنه، بحيث صادق مرايا شعر السليقة، بكل براءة وعفوية وصدق، فعكست هذه المرايا المصقولة، أنوار وأسرار سليقته الخلاقة والمبهرة.

إجمالا، يمكننا جرد أبعاد هذه التجربة السخية والذكية، في ما تتلفّع به من أقنعة للخطاب الصوفي، بشكل مطّرد وتبعا للأهمية والأولوية البالغة، تباعا، على النحو التالي:

أحاسيس الانتماء الدافئة

يمثل مفهوم الانتماء، مرجعا أساسيا، في شعرية لمنيصري السّليقية، ويحرّك سكونية المكنون لديه، ويرجّ رواسب ذاكرته، مسايرة للمنحى الذي يحفز على النهل من تعاليم الوطنية الحرة والقحّة والواعية.

فكتابته في هذا الصدد، تأخذ منحنى تصاعديا، بحيث تبدأ بالهم المحلّي، وتمرّ بالجهوي أو الإقليمي، كي ترسو، أخيرا، على شواطئ الانتماء الإنساني الذي تعدّ الوطنية المسؤولة، نواته الأولى، وعصبه النابض.

نقتبس له قوله:

{فتهافتت أصوات العالمين تشجبكم

مباركة مسعانا وبالألوف

خسرتم وبادرت دول لفضح طرحكم

بعدما درست نتائج التحاليل والكشوف

واتضح أنكم لستم شرعيين لأمكم

تسترزق بكم لملء الجيوب والجوف

وشعب ينعم بالكرامة على مرآى عيونكم

فوق أرضه بخير حال وخير الظروف

متم كمدا وأقبرت مزاعمكم

في ردهات الطي بين الرفوف

ضيّعتم فرصا بالكاد أتتكم

صفحا تبناها وطني بالقلب العطوف

حوصرتم وسجنتم بعقر خرابكم

وتزينت أيامكم بألوان الخسوف

حدّثونا عن الرمال وبما جاد قفركم

نحدثكم عن منجزات بدانيات القطوف}(1).

بهذه الأسلوبية المشوّقة، متدفقة المعاني بانسيابية، وبنبرة خفيضة عاقلة، منتصر لقضيتنا المشروعة والعادلة، قضية الصحراء، يذمّ نزعة التّشردم والتفكك إلى دويلات، في زمن صارخ التحديات يقضي بضرورة، تجاوز الخلافات وتوحيد الصف في مجابهة التكالبات وأطماع الأعداء والمرتزقة.

ويقول كذلك:

{من الشرق أشرق فجرهم

أنوارا سطعت بكم كيف

بدءا بوجدة فما وجدوا

إلا شيما من أمل نظيف

وحطوا بفاس رحالهم وتبركوا

بكل صنو ذي فرع شريف

وأقاموا بالرباط رباطهم

يرومون الحق لا سنن التزييف

وبالبيضاء ابيضت أيادهم

كرما وجودا بالبذل الكثيف

وبتطوان أرخوا حمائمهم

تدعوا للسَّلم والسِّلم حليف

ويوم بسبتة قد دخلوا

فتلقتهم بنسمات الخريف

وإلى طنجة زفّ بالحب عريسهم

من الشمال وقت المصيف}(2).

روح البداوة

يقول في إحدى مناسبات العتاب التي يطبعها السمو الروحي، ويوجهها وازع الحِلم ورجاحة العقل في التّموقف، ونسج ملامح العلاقات الاجتماعية:

{كانوا بدوا والخيل تسكنهم

وغيد النساء والنوق والشاء

حازت شرفا قصائدهم

ستائر أضحت لخير بناء

ألوذ بحمى الإله أروم شفاعته

من نبي كريم تفرّد بالصفاء

وأحمد الله راجيا عفوا وصفحا

فما ادّخرتُ زادا ليوم اللقاء

وأملي صلاة دائمة بلا كلل

على جوهر العقد ذرة النجباء

وعلى آل بيته والصحب قاطبة

أهل التقى في دوحة الشرفاء}(3).

من هنا، يظل للشعر الذي تختزل متونه، وتدبّج معماريته، لغة الضاد الساحرة، جِلدا واحدا أوحدا، لا يتغير، حتى وإن أخذ شكل القصيدة تمظهرات، اقتضاها التطور الإنساني والعربي، على مرّ العصور.

إنها روح البداوة التي ما تنفك تسكن هويتنا، وتنكّه وجودنا، مهما انخرطنا في دورات الحضارة والحداثة، وطارت بنا إلى أقاصي الآفاق، الثورة التقنية والتطور.

إنها الروح ذاتها التي أنجبت عمالقة وفحول الشعراء العرب، ممن خلّدت قصائدهم، ونقشت بماء الذهب، راعية لذكراهم، سادنة لملامح أمجادهم.

مثلما يقول:

{وأبلغي سلامي لأهل البذل والجود

عراجين تدلّت من باسقات النخيل

لأهل الفضل أهل العهود

حازوا السبق تفانوا في رد الجميل

وللقصور تخفي جمال القدود

ومخمليات العيون والطرف الكحيل

ويا غزلان المها من تلك النجود

عودي للشرب وارتعي وقت الأصيل

وبوقع خطاك كسّري كل الجمود

وبالنظرات جودي قبيل الرحيل

فكفاك هجرا فلا مزيد من الصدود

وبالوصل جودي ولو بالنزر القليل

فما عهدنا فيك نقضا للوعود}(4).

أسئلة الفقد

يحاور شاعرنا ذاته طويلا، فيحاصرها بأسئلة الفقد، مجسّما لنا معاناة كاملة، مع تجربة الموت.

يستدعى موتاه، يعودون، عبر قصائده، فوجوههم أول ما يفتح، كما آخر ما يغلق، صاحبنا العين، عليه.

لتقبع شريكة حياته السابقة، أم الفلذات، والتي اختطفتها منه يد الردى، مبكرا، على حين غرة، وعلى نحو فجائي، لم يكن ليتوقّعه أحد.. وتظل رافلة في الرمزية والحفاوة التي مهما برعت القصائد وتفننت في صياغتها، فإنها أنأى وأقل من أن تحيط بما يشفى الغليل، أو يجدي حتّى.

نورد له الأسطر الشعرية الموالية، إذ يقول في بكائية مهزومة تتفطر لها القلوب:

{كتبتُ بالأقلام وصغت نثرا

لأرثي دارا كنتُ راعيها

بكيتُ على أطلالها ونظمتُ شعرا

فالدار داري ومن حقّي أبكيها

بعدما أضحت خرابا وقفرا

كأن لا وجود للحي فيها

وصرت أبكيها ظهرا وعصرا

عساي أعزّي النفس فيها

حتّى ارتوى الخد مني دمعا

ولا العينُ جفّت مآقيها

ولولا إيماني لقلتُ: ظلما

فكل نفس الموت لاقيها

فاهدأ يا قلبي وصبرا

واترك الأرواح لحكم باريها

يقول البعض للدار: قبرا

فصدق وجه التشبيه فيها

فبمقابر الدنيا نعيش دهرا

وبمقابر الأخرى الخلود فيها}(5).

ختام القول أنه بنظير هذه المرثاة، وبما هو أثمن وأكثر، أيضا، يمكن أن تجود قريحة مبدع واعد، تكتبه سليقته، ولا شيء عداها، حتى ليبدوا مستسلما كليا، لنوبات الحنين والرغبة في مجاورة عوالم أمجاد العروض، بل ومنخرطا في المحاكاة الوجودية لها، بما هي ناموس الجمال، ودساتير الهشاشة التي ما لبث يُبدع فصولها، ديوان العرب، بشتى أضرب القداسة والعنفوان والتفوق والهيمنة والجبروت، على امتداد التاريخ البشري الشفهي والمطبوع.

***

أحمد الشيخاوي - شاعر وناقد مغربي

...................

هامش:

(1) مقتطف من قصيدة" ذبنا في حب البلاد".

(2) مقتطف من قصيدة" فخر الانتماء".

(3) مقتطف من قصيدة" الخيل تسكنهم وغيد النساء".

(4) مقتطف من قصيدة" همس القوافي".

(5) مقتطف من قصيدة" حتى ارتوى الخد".

مهرجان الأمل من رماد الحلم

تعد قصيدة "مهرجان" للشاعر العراقي يحيى السماوي إحدى القصائد التي تسير بخطى متوازنة بين التعبير عن المشاعر الفردية وإبراز الطموحات الجماعية. ينجح السماوي في بناء نص يمنح الحلم مكانة فاعلة، رغم العوائق الجاثمة على واقع مليء بالمرارة والتحديات. تعكس القصيدة معاناة شخصية تغوص في أعماق واقع اجتماعي وسياسي مضطرب، لكنها في ذات الوقت تتطلع لتخطي تلك المعاناة بإبداع يتضمن نبضات أمل ومقاومة، حتى وإن بدا المشهد موحشًا ومثقلًا بخيبات متراكمة. السماوي يرسم هنا حالة شديدة التعقيد في لحظات انكسار الأمل، لكنه لا يسلم زمام قلمه للاستسلام، بل يُقيم من هذا الانكسار "مهرجانًا" للفرح يواجه به عبث الظروف التي اغتالت طموحاته.

السماوي يُعدّ شاعرًا وطنيًا من الطراز الأول، تتجلى في قصائده مشاعر عميقة من الولاء للوطن وانتماء لا يقبل المساومة. وعلى الرغم من تنوّع موضوعاته ورؤاه الشعرية، بقي الوطن محورًا ثابتًا في كتاباته؛ فقد عبّر عن جماله، أفصح عن شوقه إليه، ونقل في أبياته ألم الغربة وحنين العودة، ليصوغ لوحات شعرية تختزن وجع الأرض وأملها المستمر.

لم يكتفِ السماوي بأن يكون شاعرًا محايدًا لمعاناة شعبه، بل اتخذ من شعره أداة قوية للنقد وكشف الحقائق، إذ تمكن بأسلوب شعري متميز يحمل مزيجًا من السخط والإبداع من تعرية وجوه الطغاة دون مواربة. بمزيجٍ من الذكاء والشجاعة، حوّل مشاعر الحسرة التي يعيشها إلى فنّ قادرٍ على خدمة القضية الوطنية بكل صدق، ليصبح قلمه صوتًا لمن عجزوا عن التعبير عن آلامهم.

لم ينحصر شعر السماوي في استرجاع الماضي أو تصوير الحاضر فحسب، بل كان دائم السعي إلى استشراف المستقبل من خلال قصائد تجمع بين الألم والأمل في تناغم يعكس عمق المقاومة الفكرية والفنية. تجاوزت كلماته حدود الشعر التقليدي لتصبح صرخة إنسانية تعبّر عن معاناة الأرض وطموح شعبٍ يطمح للحرية والخلاص من قيود الاستبداد. بين الحلم والهزيمة، تكشف القصيدة عن تركيبة فريدة ليست مقتصرة على التعبير عن فرحة مطلقة أو ألم متفرد. بدلاً من ذلك، يستعرض النص صراعًا داخليًا يجسد العبور بين الحلم الذي يغزو خيال الشاعر والألم القابع في ظلال واقعه. السماوي في هذه الحالة لا ينكفئ أمام حزنه، بل يعيدُ تشكيله إلى فعل نضالي، يحوله إلى مهرجان مقاومة يعاند السواد المحيط. لذا، "المهرجان " هنا ليس مجرد لحظة احتفال عابرة، بل هو حالة من التحدي المستمر للحاضر المظلم ورغبة في تحقيق انتصار معنوي يتجاوز الانكسار.

القصيدة تتسم بلغة رمزية مشبعة بالمستويات المنفتحة على مختلف القراءات، حيث تبدأ من زاوية الحزن الفردي، لتنتقل إلى فضاءات أوسع تتناول قضايا مجتمعية وسياسية تشترك مع الهمّ الذاتي للشاعر. هذا التشابك يجعل النص تأمليًا معقدًا، يُراوح بين المساحات الشخصية والجماعية، ويمزج البعد الإنساني مع الهم الوطني والرمزيات الأسطورية والصوفية.

مهرجان

سأقيمُ  من تلقاءِ حزني  مهرجاناً للفَرَحْ

أدعو إليهِ أحبّتي:

الأنهارَ والأشجارَ والأطيارَ

والأطفالَ والفقراءَ والعشاقَ

والعيدَ المؤجَّلَ في تقاويمي..

وأقواسَ القُزَحْ

*

أتلو بهِ ندَمي على أخمارِ مُغتبَقي

وكأسِ المُصْطبَحْ

*

لأنامَ مقرورَ التبتّلِ والرَّبابةِ والمُدامةِ

والقَدَحْ..

التحليل الرمزي والدلالي

عنوان القصيدة:

يحمل عنوان القصيدة "مهرجان" مغزى عميقًا يتخطى معناه التقليدي. ففي العرف الشعري العربي، غالبًا ما يشير المهرجان إلى مظاهر البهجة العامة والفرح الجماعي. غير أن السماوي يُعيد صياغة هذه الدلالة ليحمل العنوان مفارقة لافتة: فهو لا يعبر عن احتفال ظاهر بالفرح، بل عن فعل مقاومة يُولد من رحم الخراب والخيبة. بهذا، يصبح العنوان بحد ذاته أداة للتعبير عن قدرة الشاعر على ابتكار الفرح من قلب المعاناة وتحويل الألم إلى وسيلة نضالية تعزز مواجهته للواقع المعتم.

الفضاء الرمزي في مطلع القصيد:

العبارة الافتتاحية، *"سأقيم من تلقاء حزني مهرجانًا للفرح"*، تكشف عن حالة جدلية تجمع بين الانكسار الداخلي وعزيمة صميميه لخلق معنى جديد ينبثق من عمق المعاناة. لا يمثل المهرجان مجرد فعل احتفالي مؤقت، بل يتحول إلى مقاومة رمزية تُعيد صياغة الزمن بالبحث عن لحظات الفرح بين أوجاع الحاضر. بذلك، ترسم القصيدة صورة لتجربة تُمزج فيها الحزن بالقدرة على الإبداع كمحاولة لتجاوز الأزمات المأزومة.

الدعوة إلى المهرجان: تعزيز رمزية المهمّشين

عندما يستدعي السماوي الأنهر، الأشجار، الطيور، الأطفال، الفقراء، والعشاق لينضموا إلى مهرجانه الرمزي، فإنه لا يقوم بذلك بشكل عفوي أو سطحي يعبر عن معالم بيئية أو اجتماعية فقط؛ بل يصوغ عالماً شعرياً موازياً يُعيد فيه ترتيب منفيي الحياة وهامشييها ليكونوا محوراً لهذا الاحتفاء المتعدد الأبعاد.

تلقي الرموز التي اختارها الشاعر في قصيدته "مهرجان" بظلالها على النص بعمق فريد، مما يُغني أبعاده الرمزية ويمنحها حيوية تتداخل بسلاسة في بنية القصيدة. كل رمز يقدم وجهة نظر الشاعر بطريقة مترابطة، ويبرز إصراره على التعبير عن قضايا النضال والأمل من خلال قالب إبداعي ينسجم مع وجدان القارئ.

الأنهار: تبدو كمرآة لاستمرارية النضال وديناميكية الحياة؛ فهي تقدم صورة للعطاء المستمر والتحول البنّاء، مما يجسد التغيير الاجتماعي الذي ينشأ عن جهود النضال المتواصلة. الأنهار ليست مجرد تفصيل جغرافي، بل تُعد رمزًا للتجديد والإصرار.

الأشجار: تشكل تجسيدًا حيًا للصمود والثبات. بوقوفها في وجه الرياح العاتية، تُمثل صورة رمزية للمناضلين الذين يتشبثون بأهدافهم رغم التحديات والمصاعب. قوة جذورها ووقوفها أمام عواصف الحياة تشابه روح النضال الجماعية.

الأطيار تعبر بشكل رمزي عن الحرية والطموحات البشرية، حيث يرمز طيرانها إلى التحرر من قيود الاستبداد. إنها تشير إلى تلك الأحلام المتجددة التي يُحييها المناضلون بجهادهم، مؤكدين السعي نحو نقاء فكري وإنساني.

الأطفال: يحملون دلالة مزدوجة؛ فالبراءة التي يمثلونها تعكس الأمل، بينما يجسدون أيضًا المستقبل الحامل لإمكانية التغيير. إنهم رمز الجيل الناشئ الذي سيواصل درب النضال ويُعيد صياغة العالم كما حلم به أسلافه.

الفقراء: يظهرون كقلب نابض للنضال الاجتماعي، إذ يجسدون المحرك الأساسي للتحولات المجتمعية. يمثلون صوت العدالة المندفعة نحو تغيير الواقع وظروف العيش، فهم الشريك الحقيقي الذي يُعيد صياغة الحكاية الإنسانية نحو الإنصاف.

العشاق: يتجاوز رمزيًّا الحب التقليدي ليُعبر عن حالة إنسانية أعمق ترتكز على الإخلاص والتضحية. حبهم يمتد ليشمل التفاني في سبيل قيم سامية تتخطى الذاتية، مقدمًا صورة أصيلة للحب كقوة دافعة للتغيير.

الرمزية في القصيدة تظهر بشكل مميز في جمعها بين الفكرة النضالية والشخصية الجماعية التي يحاول الشاعر تصويرها. إنها تتداخل بسلاسة مع الواقع الاجتماعي والسياسي، لتبدع تجربة فنية توفر للقارئ فرصة استكشاف هذه الرموز من زوايا مختلفة وتفاعل غني بالفكر والمشاعر.

طقوس الندم وشعرية المراجعة الذاتية

"أتلو بهِ ندَمي على أخمارِ مُغتبَقي

وكأسِ المُصْطبَحْ"

الندم، كما يظهر في النص، ليس مجرد استجابة شعورية عابرة، بل يحمل أبعادًا أعمق تُحيل إلى معاني التطهير وإعادة البناء الفكري. في هذا السياق، يأخذ الندم طابعًا ثوريًا وليس استسلاميًا؛ فهو يمثّل حالة من التأمل النقدي الذاتي التي تُفضي إلى صياغة وعي أكثر نضجًا بالذات وبالمسيرة النضالية.

1- الندم كعملية تنقية

من خلال الاستعمال الدقيق للمفردات مثل "أخماري" و"كأس المصطبح"، يبدو أن الندم يتجاوز كونه مجرد حزن على تجربة غير مكتملة أو قرار ناقص. بدلاً من ذلك، يُصور كحالة من الانغماس العميق في الذات لإزاحة شوائب القوى العاطفية والفكرية التي قد تُثقل المسار النضالي. هذه الإحالة تتقاطع مع أسلوب عرف عنه شعراء استخدموا التصوف كأداة للتعبير عن أزماتهم النضالية، مما يفتح المجال لفهم أوسع لشخصية الشاعر، الذي لا يُقيد تجربته بلحظة زمنية عابرة.

2 - ارتباط الندم بالنضال

الندم الذي يعبر عنه يحيى السماوي لا يخلو من النزعة النضالية والاعتراف الإنساني بالأخطاء أو العثرات. لكنه بدل التوقف عندها، يلتقط الحلم الذي قد تبدّد بعض جوانبه ليستمر في طريقه بوعي أكثر عمقًا وتجربة أكثر خبرة. في هذا الإطار، حيث تتحول الأخطاء أو خيبات الأمل إلى وقود لإحياء الأمل المهشم وإعادة بناء الحلم من رماده.

3 - الندم كحالة مستمرة

العبارة "أتلو به ندمي" تكشف عن ديناميكية الندم بوصفه عملية دائمة الحضور داخل منظومة الشاعر الفكرية والنفسية. هذه العملية المستمرة لا تشير فقط إلى تفاعل مع الماضي، بل تُعبر أيضًا عن تطور وعي الشاعر عبر الزمن، وكأن هذا الندم هو شعيرة عقلية وروحية يراجع خلالها ذاته والعالم المحيط به بشكل متجدد ومفتوح.

التأثير العام:

النص يدفع نحو مقاربة تجعل من الندم عنصرًا جوهريًا في رحلة النضال الواعي لا مجرد حالة ضعف أو انكسار. يمكنك التفكير في توسيع التحليل من خلال تعميق العلاقة بين هذه الرؤية للتطهير وبين الأساليب الأدبية والتاريخية التي أبرزت هذا النوع من "الوعي النادم" كشكل فعّال من أشكال المقاومة الرمزية والنفسية للنكسات الفردية والجماعية.

هذا الاسترجاع الشعري يتحول إلى فعل تطهيري يعزز عزم الشاعر في إعادة توجيه المسار بدل التخلي عن الحلم الأصيل.

البيت الاخير: السكون بوصفه التجسيد النهائي للتصالح

لأنامَ مقرورَ التبتّلِ والرَّبابةِ والمُدامةِ

والقَدَحْ..

في البيت الأخير، لا يُختزل النوم في كونه رمزًا للهزيمة أو الانكسار، بل يتجلّى كحالة من السكون الواعي، حيث يبلغ الشاعر لحظة تصالح مع ذاته ومع واقعه بعد رحلة طويلة من الصراعات الداخلية.

يمتزج النص في هذا المقطع بدلالات صوفية ورمزية غنية، يمكن تحليلها على النحو التالي:

التبتل يعكس عزلة روحية لا تعني الانفصال عن العالم، بل تحقيق صفاء داخلي يمنح الشاعر القوة لاستكمال مسيرته برؤية أعمق وأكثر صفاء.

الربابة ليست مجرد أداة موسيقية، بل تحمل دلالة أعمق تُجسّد الحنين إلى الماضي والنضال، فتُعيد إحياء نبض التجربة الشعرية والكفاحية بصورة تأملية عميقة.

أما المدامة والقدح، فهما يتجاوزان معانيهما الحسية ليشكّلا رمزين للحظات تأمل وجودي. يمزجان بين العشق والحكمة، حيث ينفتح الشاعر على فهم أكثر شمولاً لطبيعة المقاومة وأبعادها.

تجليات السياق السياسي في البنية الرمزية للقصيدة

في هذا المشهد الختامي، يصل الشاعر إلى حالة من السكينة التي تُستمد من وعي أعمق بالنضال والوجود، بعيدًا عن أي شعور بالهزيمة. بذلك، يصبح الشعر ليس فقط وسيلة للاستمرار، بل تجسيدًا لحياة متجددة وتجربة ممتدة.

لا يمكن فصل قصيدة مهرجان عن السياق السياسي والتاريخي الذي شكّل تجربة الشاعر يحيى السماوي، فهو ليس مجرد شاعر ينسج أبياته من برج عاجي، بل كان ناشطًا سياسيًا ومعارضًا حادًا للأنظمة القمعية، ومناضلًا في صفوف حركة يسارية تسعى لتحقيق العدالة الاجتماعية. هذه الخلفية النضالية تظهر بوضوح في القصيدة، حين يُمزج الحزن الشخصي بالحزن الجماعي، ويتحول الأمل المؤجل إلى رمز لمشروع مقاومة ينهض من رماد الخيبات.

استحضار كلمات مثل الفقراء، الأطفال، العشاق، والعيد المؤجل لا يحمل فقط دلالات عاطفية، بل يصقل رموزًا تعبّر عن الطبقات الاجتماعية المرتبطة تاريخيًا بحركات النضال والعدل الطبقي. أما العيد المؤجل، فقد يُقرأ كإشارة إلى تعثر مشاريع التحرر في تحقيق غاياتها أو كرمز ليوم الانتصار الذي تخيله الشاعر ولم يدركه في حياته، إلا أنه ظل مؤمنًا بإمكانية وقوعه.

على خطى الشعراء الثوريين مثل بابلو نيرودا وغيرهم، يصوغ السماوي قصيدته كفعل مقاومة رمزي، حيث تتقاطع الروحانية مع النزعة الثورية، ليغدو النص مساحة للبوح والاحتجاج في آن واحد. تمثل هذه القصيدة بذلك صورة مختزلة لمأساة جيل آمن بالتغيير، واجه القمع ولم يُسلِّم نفسه لليأس.

البنية الأسلوبية في قصيدة "مهرجان"

تتسم البنية الأسلوبية في قصيدة "مهرجان" بلغة زاخرة بالرموز والدلالات التي تبرز قدرة الشاعر على الجمع بين التعبير الذاتي العميق والرؤية الجماعية. تتخذ الألفاظ المستخدمة، التي تبدو للوهلة الأولى متعلقة بعالم اللذة والندم مثل "أخماري"، "المصطبح"، "المدامة"، "التبتل"، و"القدح"، أبعادًا رمزية تتجاوز مفاهيم التوبة الفردية أو الصراعات الروحية التقليدية. فهذه الكلمات تحمل معاني أعمق تعكس الشعور بخيبة الأمل وانكسار الحلم الجمعي، وتتضمن دعوة لإعادة توظيف أدوات التعبير الروحي والجمالي كإستراتيجية للصمود والتحدي.

في إطار هذا الطرح، تتحول تلك الألفاظ إلى رموز شعرية تتجسد فيها حالة النضال الصامت الذي يبحث عن استعادة بهجة الحياة من وسط أنقاض الخذلان. وبهذه الطريقة، يصبح الأسلوب أكثر من مجرد أداة جمالية، إذ يتشكل كموقف فكري يرفض الانهيار، ويعمل على إعادة صياغة العلاقة بين الشعر والواقع، وبين الذات المتألمة والحلم الجماعي المؤجل.

خاتمة: الحزن كمّا يولّد طقساً جمالياً

القصيدة ليست مجرد تعبير عن الحزن أو رثاء للأحلام الضائعة، بل هي تجسيد حي لاستمرارية الحركة والنضال في مواجهة التحديات. ينأى الشاعر بنفسه عن خيار الاستسلام للألم، ليحوله بدلاً من ذلك إلى مصدر قوة ودافع يبث روح الكفاح الجماعي. باستخدام أدوات شعرية مثل الإيقاع والتكرار، يقوم السماوي بتقديم صورة عميقة للصراع المستمر بين الأمل والإحباط، وهو ما يجعل القصيدة رمزًا حيًا لمقاومة لا تعرف التوقف.

في هذه الأعمال الشعرية، الحزن ليس مجرد حالة أو نهاية مطلقة، بل يتجسد كدافع يحفز على التحرك نحو المستقبل، مما يبرز أن الحركة هي عنصر أساسي لاستمرار الحياة وإحياء قيم العدالة الاجتماعية في قلب المعاناة. القصيدة تمثل دعوة ملهمة تذكّر بأن الكفاح لا ينقطع، وأن الأمل قابل للاستعادة حتى في أحلك الظروف.

من خلال هذا المنظور، تصبح القصيدة أكثر من مجرد تعبير عن للأسى؛ إنها دعوة للتحفيز على الاستمرارية والنضال، مما يلقي الضوء على أن الشعر قادر على تجاوز مفهوم الرثاء إلى فضاءات المقاومة والبناء.

***

سهيل الزهاوي

حينَ يَتكلَّمُ الغرامُ

الشاعرة: د. آمال بوحرب

 ***

قُلتُ له: أَتَكتُبُ في الغَزَلِ؟

قالَ: بَلى… وَكَيفَ لا،

ومُلهمتي

مَلِكةُ البيانِ؟

إذا انشَقَّ الفَجرُ من تَحتِ أَناملِها،

وأشرَقَتْ في فَجرِها الغُرَّةُ البيضاءُ

أزهَرَتْ بَينَ يديَّ قَوافيها،

تَنسُجُ مِن شَهقةِ أَنفاسِها

رَوضَ قَصائدَ،

وتَزرَعُ على خَدِّ الورقِ

رِياضَ المعاني

 *

شَفَتاها — يا وَيحَ قَلبي —

تُطعِمُ الدهرَ شَهداً،

وتُسكِرُ الحروفَ نَبيذاً،

وتَرقُصُ الأوزانُ على لحنِها

كما تَرقُصُ الأغصانُ

إذا لامَسَها النسيمُ…

 *

عُيونُها مَنَاجِمُ ياقوتٍ،

تَستَخرِجُ منها المعاني،

تُرسِلُها إليَّ كَما الطيرُ

يأتي بالبِشارةِ لِعُشٍّ قَفرٍ،

وفي رَعشَةِ رَمشِها

أقرَأُ تَوقيعَ أمرٍ سُلطانيٍّ

لا تخرج مِن وَلائي

 *

نارُ الهوى تحتَ الخِمارِ

تَتلهَّبُ…

كلَّما قُلتُ: أُطفِئُها… تَتَّسِعُ!

هيَ خَمرٌ بكَفِّ القَدَرِ سُكِبَتْ،

وما لِقلبي سِوى أن يَشرَبَ

 *

فقلتُ له:

لو تَراني… أنا الظَّمأى التي

تَرفُضُ البحرَ إلّا مِن أنفاسِكَ!

وأنا الحارسةُ المَسحورةُ…

كلّما أَوشكَ سِرّي يَفضَحُني…

أَدفِنُهُ وراءَ نَجمَةٍ… فتأتيني بالقمرِ!

 *

أسكتُ الحبَّ فتنطِقُ أَجفاني…

وأُخفِي الدّمعَ، فالريحُ تُراوِدُ ألحاني!

لغةُ الجَسَدِ تَخونُ الكَتمَ،

والغرامُ إذا تَكلَّمَ… يَصنَعُ الكونَ مِن رَمادي.

القراءة النقدية:

هذا النص هو قصيدة تُعبّر عن تجربة شعرية تتنقل بين الحب والغرام، وتستحضر صورًا غنية ومجازات بديعة تعبّر عن التفاعل بين الذات الشاعرة والحبيب. تمثل هذه القصيدة لحظة تأملية مليئة بالانفعالات والحسّية التي تتحدث عنها الشاعرة د. آمال بوحرب، متجلّية في قالب شعري مكثّف.

 العنوان: "حينَ يَتكلَّمُ الغرامُ"

يعتبر العنوان بمثابة دعوة لإسماع صوت الغرام حينما يتحدث بلغةٍ غير تقليدية. يتفاعل الحب هنا ككائن حي، يحمل نبرةً تتجاوز الشعور التقليدي ليصبح حديثًا يحمل بُعدًا عميقًا وأسطوريًا. في العنوان يتضح أن الحب ليس مجرد شعور، بل هو قوة فاعلة تُعبّر عن نفسها بلغةٍ فريدة تتجاوز الكلمات.

 1. البداية الحوارية:

القصيدة تبدأ بحوار داخلي بين الشاعرة والحبيب، حيث يسألها إن كانت تكتب في الغزل، فيرد بأنها تكتب، بل إن مصدر إلهامها هو "مَلِكَةُ البيان". هذا التصريح يشير إلى أن الشاعرة تكتب في غزلٍ غير تقليدي، غزلٌ مشبع بالفن والبلاغة، بلغةٍ تتجاوز المفردات لتغوص في معاني الجمال.

2. الصور الشعرية والزخرفة اللغوية:

تعجّ القصيدة بصور شعرية دقيقة ومبتكرة:

"إذا انشَقَّ الفَجرُ من تَحتِ أَناملِها": في هذا البيت نجد تعبيرًا مجازيًا عن النور الذي ينبثق من يدي الحبيبة، كأنها تخلق الحياة أو الفجر بكل معانيه.

"شَفَتاها تُطعِمُ الدهرَ شَهداً": الشفاه هنا تصبح مصدرًا للحياة واللذة، تفيض بالعذوبة كما يفعل العسل في الزمان.

"عُيونُها مَنَاجِمُ ياقوتٍ": العينين تُقدمان ككنوز، يتدفق منهما المعنى والجمال، كما أن الياقوت رمزٌ للثمين والنادر.

3. الحب والمشاعر المتضاربة:

القصيدة تتعامل مع الحب وكأنه قوة عاتية، لا يمكن التحكم بها أو إخمادها:

"نارُ الهوى تحتَ الخِمارِ تتلهبُ": هنا تشير الشاعرة إلى أن الحب كالنار المتأججة، التي لا يمكن إطفاؤها، بل تزداد اتقادًا كلما حاولت التراجع عنها. هو قوة يصعب على الشخص مقاومتها.

"هيَ خَمرٌ بكَفِّ القَدَرِ سُكِبَتْ": شُبه الحب هنا بالخمر المسكوب من يد القدر، مما يوحي أن الحب ليس خاضعًا لإرادة الشاعرة، بل هو أمرٌ مقدر في أيدي الأقدار.

4. الحب كسرٍّ غير مكشوف:

"أَدفِنُهُ وراءَ نَجمَةٍ… فتأتيني بالقمرِ!": تتحدث الشاعرة عن محاولات إخفاء مشاعرها، ولكنها تفشل دائمًا، إذ يظل الحب ظاهرًا أو مشرقًا كالقمر، مهما حاولت إخفاءه.

 5. اللغة الجسدية وعلاقتها بالكتمان:

"لغةُ الجَسَدِ تَخونُ الكَتمَ": في هذا البيت تكشف الشاعرة عن الصراع الداخلي الذي يحدث بين الكتمان والشعور الذي لا يمكن إخفاؤه. الجسد يصبح في هذه اللحظة المعبّر الحقيقي عن الحب والمشاعر التي تخون الصمت.

 6. الغرام كصانع للكون:

"الغرامُ إذا تَكلَّمَ… يَصنَعُ الكونَ مِن رَمادي": هذه الجملة تعبر عن قوة الحب الخلاقة، التي قادرة على تحويل الواقع إلى شيء جديد. إذا تكلّم الحب، يخلق الكون كما يشاء، من رماديته إلى عالم آخر مليء بالألوان والجمال.

 7. الختام:

القصيدة تنطلق من مرجعية ذاتية عميقة تحيط بتجربة حب لا متناهية، حيث الحب ليس مجرد مشاعر عابرة، بل هو أمرٌ حتمي، صراع بين السيطرة والاستسلام لقدر الغرام الذي يكتب الكون من رماد. النص يفيض بتعبيرات مليئة بالتصاوير الشعرية الحسية التي تعكس قوة الشعر في التعبير عن الجوانب الخفية في العلاقة العاطفية بين المحب والمحبوبة.

***

بقلم: كريم عبد الله – العراق

تتواصل رحلة الإبداع مع سامي الساحلي وتتشعب فروعها، فيتنقل بنا المبدع السامي بكل سلاسة وانسيابية ويسافر بنا من فراديسه وجنانه في الرسم الخلاق المتفرد الذي يجسد جدلية الصراع بين الوعي واللاوعي، بين التلقائية والعفوية والإرتجال وبين الرسم القصدي والمتعمد والمدروس.

 ليأخذنا إلى بحور الشعر العميقة فيتناول تارة صراعات بين البحار والبحر، بحر الواقع وبحر الهوى، في ديوانه " سندباد الحكايا"، ويصف طورا آخر لوحات بديعة مستوحاة من رسومه وخياله وفكره الخصب المتجدد، تتجلى في ديوانه "قناديل العشق " وغيرها من الأشعار.

بعدها يبحر بنا في ميدان الأدب ضمن العديد من الروايات التي تتميز بالأبعاد المتعددة، وتزخر بالأفكار الفلسفية المعاصرة، والتى تتناول صراع الإنسان المعاصر بين الحرية والتحرر والبحث عن كينونة الأشياء وصراع الوجود الأبدي وماهيته وغيرها من قيم إنسانية، وبأسلوب سردى رائع.

ومن أهم كتاباته في مجال الأدب الحديث والمعاصر، كتابه الفريد والمتميز " نبوءات المينيرفا"، وهو عبارة عن مجموعة أقصوصات في الأدب الذهني والسرد الفلسفي، ذات أسلوب أدبي فريد وتفكير فلسفي عميق، تتناول مشكلة الهوية الشخصية والوجدان البشري. حيث تبحث شخصياته فى أسئلة مثل من أنا؟، وما هى أهدافي ورغباتي؟، وكيف يمكنني تحقيق السعادة؟

كما تمزج العديد من شخصيات سامي الساحلي بين العقلانية والجوانب العاطفية والجدل الفلسفى، إذ تتيح للقارئ فرصة التفكير فى أفكار مثل الحرية والقيم والوجود، والزمن.

كما تتحدث عن التناقضات فى العلاقات الإنسانية والحب، وكيف يتأثر الفرد بالظروف الإجتماعية والتاريخية التى يعيشها، فتظهر أفكار فلسفية حول الحرية والقدر وتأثير القرارات الفردية على مجرى الحياة.

كذلك يقدم سامي الساحلي نظرة عميقة على التاريخ السياسى والإجتماعى، وهو ما منح كتابه "نبوءات المينيرفا" وغيره من الروايات والكتابات البعد السياسي والإجتماعى والفلسفى فى معترك الحياة.1325 karima

  إضافة إلى أن رواياته تستكشف العلاقات الإنسانية بأشكالها المختلفة، مثل الحب والصداقة والخيانة والغيرة.. حيث يعرض سامي الساحلي.. كيف يمكن أن تؤثر هذه العلاقات على الأفراد نفسياً وتغير مسار حياتهم.

وبالتالى تشجع رواياته القراء على التأمل والتفكير العميق فى معاناة الإنسان والبحث عن معنى الحياة.

ولا يخفانا أن هذه النظرة الشاملة والعميقة للحياة والوجود للأديب الشاعر والفنان سامي الساحلي، مرجعها تكوينه الوافر وخبرته الشاسعة في جميع المجالات، اللذان اكتسبهما خلال تنقلاته وأسفاره بين الشرق والغرب ومختلف أقطاع العالم، وقد كان لذلك تأثير كبير على كتاباته وخاصة في مجال الفن الذي بدوره أثر كثيرا على كتاباته سواء كان ذلك في الصور الشعرية، أو في الوصف السردي والتفكير الوجودي الفلسفي في المجال الأدبي، حيث تذكرنا كتاباته دائما بخياله اللامحدود الواضح خاصة في اللوحات السريالية المتأرجحة بين الواقع والخيال، لفناننا المخضرم، المتشائل، إذ قام برسم شخصياته التي هي جزء لا يتجزأ منه ومن حياته وذاته الفرحة حينا والمعذبة أحيانا، بعناية فائقة في لوحاته، وخاصة تلك التي تعبر عن البحر والبحارة ومعاناتهم اليومية اللذيذة لكسب الرزق، وسبر بحور الدنيا والعشق والغرام، وبين أسطر كتاباته، ونخص بالذكر كتاب" نبوءات المينيرفا "، حيث أعطى فيه لهذه الشخصيات بعدا فلسفيا، فأصبحت تمثل رموزا لمفاهيم مثل الحرية والحب، وكمثال على ذلك قوله في أقصوصة: "نبوءات راسبوتين العرب":"...بدأت أكتشف نفسي وأبحث عن الغد، اليوم، وصفحات الحب." ثم قوله:"...ربما حلمت أني عصفور أطير... لا هذا ليس حلما ولكن سأعيشه عن قريب...".

كما جعل شخصياته ترمز لمفاهيم أخرى مثل السلطة والوجدان وغيرها من المفاهيم الوجودية.

 وتمثل التجارب الشخصية لأبطاله تصاعدا هرمونيا للصراع بين الفرد والنظام من جهة وبين الأنا للبطل ومنظوره الفلسفي للحياة وصراعه معها بشتى الطرق، أو أي وسيلة يسعى من خلالها لأجل التغيير.

ونستحضر هنا قوله في أقصوصة: " كامنجا":"أنا حر وإسمي...

لا لن أقول

بل تعرفون...

سأعيده على أسماعكم لآخر مرة

أنا... حررررر"

و يتناول أديبنا المبدع الشخصية ليمنحها جدلية التعايش مع حركة النص الروائى الذى يكتبه، كذلك يبتعد فى محور الشخصية التى منحها أشكالًا تبدو للوهلة الأولى بأنها عادية هزلية أو لامبالية أو هامشية.. إلخ، ثم يفاجئ بها القارئ بغرائبيتها وعمقها الفلسفي، وكمثال على ذلك أقصوصة " سبيل الغفران" و"هنيئا لك..كش ملك" وغيرها...

كما يقدم سامي الساحلي في " نبوءات المينيرفا" نظرة شاملة ومعمقة عن الإنسانية والعالم السياسي والثقافي والإجتماعي والفني، وصراعاتهم، والبحث عن الاستقرار.

ويشيد الكتاب بزخم من الأفكار الفلسفية المعاصرة، والصراعات الوجودية والعديد من القيم الإنسانية، والإتجاهات الفلسفية التي جعلت الانسان محاصرا بتناقضات الذات والهوية واستلاب الفرد في عالم متسلط، كما كانت هذه الإتجاهات الفلسفية والصراعات الذاتية والوجودية موضع دراسة للفيلسوف الألماني " تيودور أدورنو" ضمن محاولته الانحياز لإنقاذ الذات. وقد أثارها الأديب الشاعر والفنان سامي الساحلي بأسلوب سردي مميز، ينقل القارئ إلى عوالم مختلفة تجعله أكثر التصاقا بواقع يتوزع بين التمرد تارة وبين البحث عن معنى الحياة المتجددة في عالمنا المعاصر تارة أخرى.

كما تقاطعت هذه الدراسات الفلسفية لسامي الساحلي مع الفكر "الهيڨلي" (جورج فريدريش هيغل فيلسوف ألماني) بوصفه وتحليله للتجربة الانسانية من أجل اكتشاف حركة العقل وآليته التي تجسدت في الجدل في جوهره السلبي لطبيعة الاشياء.

ولعل أهم الأفكار والتساؤلات والصراعات الذاتية والوجودية التي تعرض إليها سامي الساحلي في فكره الفلسفي بصفة عامة وفي كتابه " نبوءات المينيرفا" بصفة خاصة، هي صراع الزمكان، حيث نجد شخصياته تتنقل في سرعة الضوء بين الماضي والحاضر والمستقبل، وتتأرجح بين السماء والأرض وبين عالم الواقع وعوالم خرافية وعوالم أخرى تمزج بين الواقع والحلم مردها الخيال الشاسع اللامحدود لفناننا الأديب والشاعر، والذي تجلى في العديد من الأقصوصات منها " ابن بطوطة " و " ليلة مرصعة بالنجوم"، فالممكن التخييلي الذي يمنحه لنا السرد ها هنا، هو معنى المستقبل بوصفه مواجهة لقوة الزمان المدمرة، وهشاشة الحياة معًا. لكن الهوية التي تخترعها القصص ليست هوية فوق الزمان، بل هي هوية تاريخية زمنية تجيز العبور من التاريخ إلى السرد.

والذي يجعل الوجود في العالم يمر عبر السؤال عن الزمان، وأن ليس من زمان إلا صلب الكينونة، وذلك عبر مفهوم المستقبل بوصفه هو الذي يصنع الحاضر، وهو الذي يجعل الوجود في العالم ممكنًا أيضًا.

وهنا نستحضر ما يقوله الفيلسوف الفرنسي "بول ريكور" في الفقرة رقم ٦٥ من كتاب "الكينونة والزمان"، حيث نقرأ ما يلي: «فالكانيَّة تنبثق من المستقبل، بحيث إن المستقبل الذي قد-كان (وبعبارة أفضل: الذي كان-يكون) قد سرَّح الحاضر انطلاقًا من ذاته. وإن هذا النحو من الظاهرة الموحِّدة، من جهة ما هي مستقبل يكون-ما-كان-على-سبيل-الاستحضار، نحن نسميها الزمانية.» وانطلاقًا من هنا نصبح كائنات مفتوحة على المستقبل بوصفنا «اعتزامًا مستبقًا»، وقدرة على الاستشراف، واستطاعة للإقبال على الممكن، وهو معنى أن نوجَد على نحو أصيل.

كما جاء في كتاب "السرد الفلسفي" للأديب والمفكر العراقي "عبد اللطيف الحرز" أن الفلسفة هي تصورات لكائن حادث زماني، وقد توصل إلى هذه المعرفة المتكلمون من خلال تطور زماني في سنوات التعليم والتعلَم. إذن كل المفاهيم الفلسفية من هذه الناحية هي مفاهيم زمانية، وبالتالي فهي جزء من تاريخ شخصي لمجموعة من الناس.

كما عبر العديد من الأدباء عن فكرة الصراع الزمكاني أمثال الكاتب والروائي المصري "توفيق الحكيم" في كتابه " عودة الروح" وكذلك "أهل الكهف" الذي تأثر فيه بقصة أهل الكهف في القرآن الكريم.

مجموعة من الصراعات والجدليات والأفكار الوجودية جمعها سامي الساحلي في كتابه الفريد والمميز " نبوءات المينيرفا" ليؤكد ما قاله المفكر والأديب الدكتور السويسري "كارل يونغ": "الصراعات هي جزء لا يتجزأ من التطور الإنساني، ومن خلالها يتم تحقيق التغيير والتقدم "، من جهة، ومن جهة أخرى ليلهم القراء للتفكير في القضايا الأخلاقية والفلسفية المعقدة وتحفيزهم على البحث في المعاني العميقة للحياة والإنسانية والبحث عن الإستقرار وكذلك البحث لفك عقدة الحياة الساكنة في الروح البشرية.

كما يمثل كتاب " نبوءات المينيرفا" من منظورنا الشخصي قراءة مثيرة للعقل الإنساني ولمحبي الأدب الذهني والفلسفي، تحتاج إلى وقت لفهم وتقدير جميع الأفكار والرموز المدرجة فيه لأنه يتناول مواضيع غير تقليدية أو رتيبة ويقدم تحليلات عميقة للشخصيات والمجتمعات العالمية والإنسانية تنم عن فهم عميق لمبدعنا السامي للحياة ومعناها...

***

بقلم: الشاعرة التونسية كريمة بن مسعود - تونس

 

يرى عالم الآشوريات الروسي فلاديمير يمليانوف إن الشاعر / المترجم نيكولاي جوميلوف(1868 – 1921) ليس أول من تعامل مع ملحمة جلجامش وترجمها للروسية، كما  أشار الباحث الأدبي نيكولاي ليرنر (1887-1934) في مراجعته لتك الترجمة. فكما يبدو أن  ليرنر لم يكن يعرف أن ترجمه أخرى قد ظهرت قبل ذلك للوحة الطوفان من ملحمة "جلجامش"، وهذه المرة ليست إعادة سرد لقصة الطوفان، بل خلط نصين للملحمة. وكان  مترجم اللوحة هو الأديب الحاصل على جائزة نوبل للأدب إيفان بونين(1870- 1953). ولم يتعرف فن تحقيق النصوص في روسيا على النسخة الأصلية التي ترجم عنها بونين نصه حتى وقت متأخر. ففي ديوان قصائد 1903-1906 ظهرت قصيدة غريبة جداً عنوانها "الطوفان- أسطورة كلدانية" ما يلي ترجمة لنصها:

الطوفان

أساطير كلدانية

عندما اكتمل بناء السفينة وامتلأت بركابها،

أنا الملك كاسيسادرا، كسيستروس،

دفنتُ في سيبار ميثاق القانون،

وارتفع صوت في السماء: "عند الغروب

ستنهمر أمطار غزيرة على الأرض. أغلق

باب السفينة". وعندما حل الموعد المضروب

لدخول السفينة. انتظرتُ الليل بخوف،

و غلقْتُ باب السفينة وقد تملكني الخوف،

وبخوف أسلمتُ مصيري

لـلملاح "بوسوركورغال"، وفي الصباح

هبت زوبعة، وغطت الغيوم الأرض من كل مكان.

ودوى "رومانو" في وسط السماء. وتقدم "نيبرو" و"ساررو"

معاً عبر الأودية وعلى الجبال. وأطلق "نيرغال" الريح.

وملأ "نينيب" الأنهار، التي جلبت

الموت والدمار لكل ما هو حيَ. وبلغتْ المياه

تخوم السماء. وغرقتْ الدنيا في الظلام،

ولم يَر الأخ أخاه. وصعدت الإلهة  بنفسها

إلى قمم "أنو" وقد ركبها الخوف،

وراحت تنتحب في عروشها، وبكت عشتار معها بمرارة.

وعصفت الزوابع والعواصف والرياح في العالم ستة أيام

وسبع ليال - وأخيراً،

استكانت مع فجر اليوم. وانخفضت المياه،

وخفت شدة الأمطار. بكيتُ على الهالكين،

وقد جرفتني الأمواج حسب مشيئتها- وأمامي،

طفت الجثث كجذوع شجر. أجهشتُ بالبكاء

وانا افتح النافذة وأرى الشمس.

اللافت أن بوتين يستخدم اسما ءالملك "زيوسودار" والملاح "بوزو – اموري" وأسماء الإلهة "شوللات" و"خانيش" و"ننتوررتا" من نصوص آخري للملحمة غير النص البابلي المعروف.

وفي دراسته التي عرضها بصورة في مفصلة في كتابه " جلجامش" ضمن سلسلة "سيرة العظماء" ودراسته الأخرى التي اعتمدت المقالة عليها من بين نصوص أخرى، يسلط يمليانوف الضوء على مصادر قصيدة " الطوفان" ويقدم قراءة  تأويلية لمضمونها. وحسب معطياته يمكن الحكم على تأريخ هذه القطعة من خلال مذكرات زوجة بونين، فيرا مورومتسيفا-بونينا، التي كتبت إن قصيدة الطوفان". "الأساطير الكلدانية" كتبت في ربيع عام 1906، ضمن قصائد أخرى من السلسلة الشرقية، مرتبطة بزيارته إلى تركيا (أبريل 1903) والقوقاز (يونيو 1904). وعلى الرغم من هذه المعلومات الشاملة، فإن تاريخ كتابة النص يخفي مستوى دلاليًا ثانيًا   تتعلق بعالم بونين نفسه.

وقد حاولت إيرينا تايروفا تفسير هذا العمل في أطروحتها "التراث الشرقي. في إبداع إيفان بونين"، التي دافعت عنها في معهد الأدب العالمي. وتتضمن الأطروحة فقرة بعنوان "أبطال الأساطير السومرية/ الأكادية في قصيدتي "الطوفان" (1905) و"إستارا" (1906-1907)." واستناداً إلى  موجز الأطروحة فان المؤلفة اعتمدت عند التعامل مع مقطوعة "الطوفان" على مقال بقلم الباحثة فيرنيكا أفاناسييفا"الأساطير الكلدانية"  "زيوسودر"، التي نُشرت في موسوعة "أساطير شعوب العالم" 1992" لذلك لم تحدد  بالضبط مصدر قصيدة الشاعر.

ونرى أن بونين ترجم مقطع ملحمة جلجامش بدقة شديدة بالنسبة لعصره، رغم أنه لم يعرف لغتها الأصلية، بل اعتمد على ترجمة ملحمة جلجامش لإحدى اللغات الأوروبية، والتي ترجع اغلبها إلى ترجمة نصوص بول هاوبت لجلجامش، إلى الإنجليزية. لكن السؤال الذي يطرح نفسه: لماذا احتاج بونين إلى خلط نص حكاية الطوفان كما رواها بيروسوس البابلي، وكما جاءت في النسخة البابلية بترجمة بول هاوبت، ويبدو لنا إن ذلك يكمن في التيار الرئيسي لرؤية بونين للحياة.

وتجدر الإشارة إلى أن ترجمة النص القديم، لا تحتوي على عناصر من الأسلوب الرفيع والسلافية الكنسية. ويمكن تعريف الأسلوب على أنه أدبي متوسط يخلو من المفارقات التاريخية والرثاء. ولا يذكر المترجم أسماء الأساطير الكلدانية التي اخذ النص عنها. في هذه الحالة لم يرَ المترجم أن من الضروري أن يُدخل القارئ في ملحمة معروفة في تاريخ الشرق. ولا شكّ في أن بونين يعرف الأساطير الآشورية (بتعبيره، الكلدانية) ويشير المقطع الآشوري (بتعبيره، الكلداني) إلى ملحمة إزدوبار. (كما كان يُقرأ اسم جلجامش آنذاك). كان يعرف أيضًا عن اليوناني بيرُسوس الكلداني الذي كتب نسخته الخاصة عن الطوفان. ربما يكون قد سمى المقطع كلدانيًا بسبب اصول بيروسوسوس. لكن حبكة الملحمة وشخص إيزدوبار ( جلجامش) وما شابه ذلك من أمور تاريخية وفيلولوجية لم تكن مهمة بالنسبة لبونين. فهو لم يجعل جلجامش أو كسيسدرا بطلاً لترجمته. كان البطل الحقيقي للنص هو الطوفان وميثاق.

ومن مذكرات الشاعر نستنتج أن بونين هو " الملك كاسيسادر، كسيوثروس" (زيوسودار في النص البابلي)، غير أنه حسد صانع السفينة لانه عايش الطوفان في مكان مريح ودافي لا خطر عليه، بينما هو بونين  تعرض لأكثر من كارثة شهدها قرنه وكان دوما قريبا من الهلاك. والآن أصبح السياق التاريخي لترجمة بونين واضحا. اعتبر بونين أحداث ثورة عام 1905 وما تلاها من ثورات وتقلبات تاريخية في روسيا بمثابة طوفان. وإذا كان بونين الشاب يأمل في مواجهة طوفان الثورة بمساعدة الكلمة ( ميثاق القانون)، التي كانت مدفونة مؤقتًا في مدينة الشمس، فإن بونين المسن لم يعد ( كما في مذكراته) يعقد الأمل على الكلمة والميثاق، لأنه كان مقتنعًا بأن البشر سيعودون إلى حالة الفوضى والتجديف التي سادت قبل الطوفان، وإذا فهمنا كل هذا، فسوف يصبح لنا واضحًا أن قصيدة الطوفان الكلدانيية هي نص لا يمت بصلة بميول بونين الإستشراقية وقصائده التي كتبها متأثرا برحلاته إلى الشرق.  بل هي رد فعل الشاعر على أحداث الثورة الروسية الأولى التي نذرت بالفواجع على روسيا، وتعرضها لأكثر من طوفان، كما رأى بونين.

***

د. فالح الحمـراني

 

عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: َ(منْ أحب لقاء الله أحب الله لقاءه)

أخـافُ عـلـــــيَّ مــنـي لا عـلــيــهِ

حـبــيـــبٌ كـــــلُّ أمـري فـي يَـدَيْــهِ

*

أنـا الـتَّـيـهـانُ فـيـهِ ولـيـسَ تِــيـهـاً

ولــــكـنْ ـ فـرطَ مَـغــنَـمَـةٍ ـ بِــتَـيْـهِ

*

ولـو كـان الـردى يُـدنـي مــشـوقـاً

لـمـا بـخـلَ الـمـشـوقُ بـأصْـغَـرَيـهِ

*

نظرتُ الى اسْـمِـهِ فأضَـعْـتُ لُــبِّـي

فـكــيـف إذا نــظـرتُ غــداً إلــيــهِ

***

للحسين بن منصور الحلاج...

أريدك لا أريـــدك للثواب   

ولكـــني أريـــــدك للعقـــاب

*

فكل مآربي قد نلت منها  

 سوى ملذوذ وجدي بالعـذاب

الشعرُ.. امتدادُ روحي مُتّقد باليقظةِ، المفعمة بالحلم.. انه أسمى النِّعَمِ الربّانيّةِ، التي تُعزّزُ اتّحادَ الإنسانِ بالحياةِ، والإنسانِ بالإنسانِ والمخلوق بالخالق.. محققة السمو والارتقاء المجتمعي..

وباستدعاء النص الشعري (رباعية/3) للتفكيك والكشف عن مستوره والمسكوت عنه.. الذي نسجت عوالمه انامل الشاعر يحيى السماوي مقترنة بلوحة دالة على نبض صوفي.. كون التجربة الصوفية والتجربة الفنية بؤرتهما واحدة ولقائهما في افق روحي غايته السمو بالذات الانسانية..

أخـافُ عـلـيَّ مــنـي لا عـلـــــــيــهِ

حـبــيـبٌ كــــلُّ أمـري فـي يَــــدَيْــهِ

*

أنـا الـتَّـيـهـانُ فـيـهِ ولـيـسَ تِــيـهـاً

ولـكـنْ ـ فـرطَ مَـغــنَـــمَـةٍ ـ بِــتَـيْـهِ

 فالمنتج يوظف السردية الشعرية كي يرتقي بنصه من التعبير الذاتي الى افق موضوعي متفرد بعمق الرؤية عبر الفاظ موحية تلامس الحياة ونبضها اليومي لتضفي على تراكيبها الجملية طراوة وانسيابية تدغدغ المشاعر من خلال نسيجها اللغوي المساير للمسات الشعرية المعبرة عن بواطن الذات واعتماد الجــمل المتميزة بدلالاتها الخالقة لصـــورها الحركية وانتقالاتها الواعية.. فضلا عن ان النص يكشف عن ظاهرة صوفية متحرّر من اية مرجعية من جهة.. ومن جهة اخرى تأكيدها على الجانب الإنساني والرغبة بالسمو البشري والنقاء النفسي من جهة اخرى..

ولـو كـان الـردى يُـدنـي مــشـوقـاً

لـمـا بـخـلَ الـمـشـوقُ بـأصْـغَـرَيـهِ

*

نظرتُ الى اسْـمِـهِ فأضَعْـتُ لُــبِّـي

فـكـيـف إذا نــظـرتُ غــداً إلــيــهِ

فالنص يعتمد معمارية بنائية مازجة ما بين الذات والموضوع بصورة كاشفة عن الحالة السايكولوجية بلغة شفيفة كاشفة عن المعنى.. مع رؤية معرفية تنحو لملامسة الحقائق العميقة في الكون.. اضافة الى انالمنتج (الشاعر) يعمل على تفعيل خاصية الرمز والعمق الدلالي للمفردة، المفتوح على التأويل، مع الأسلوب العاطفي الخارج باتجاه الحنين والشوق الاستثنائي للذوبان في روح الله.. بتوظيف تقنية الاسلوب الصوري في انتزاع اللحظة وتسجيلها.. مع عناية دقيقة في رسمها وطريق توزيع مناخاتها.. حتى صار عنصر الحركة يشكل احــد معــطيات المستوى الحــسي للغة التي وظفت الاشياء بطريقة موحية اسهمت في تطوير البناء الدرامي للنص الشعري...المكتنز بالعاطفة المتدفقة.. المتميزة بعمقها الدلالي وجماليات صورها المعبرة عن الحالة الشعورية..

فائدة

لقد ارتبطت التجربة الصوفية بالشعر المعاصر ارتباطًا كبيرًا لدى كثير من الشعراء المعاصرين بالحديث عن مُجريات ومكنونات تجاربهم في مظاهرها المختلفة.. ومن أبرز هذه المظاهر الصوفية في الشعر العربي المعاصر عزوف النظرة التقليدية للحزن إلى نظرة عميقة هادئة تبث روح التامل الكوني وتذوب في الوجود وخالقه..

 فائدة

لقد اصطبغ القرن الثالث بصبغة الحب الإلهي، موضوعة التصوف المركزية وتجلياته التي اتخذت مع القرن الرابع الهجري شطحات وكتابات شذرية متشظية، كما يبدو واضحًا عند الحلاج في طواسينه، حيث يتكوّن كل طاسين وابن عربي في تجلياته خاصة....

فائدة

لقد كانت العلاقة بين الجمال والتصوف والفنون الابداعية لانها تقترن بالحق الخالق للموجدات بعلاقة وثيقة تكشف عن التداخل الفني والتداخل الصوفي من اجل الارتقاء الروحي والجمالي..

***

أ. علوان السلمان

تقديمٌ: ليس من السهل أنْ نصنِّفَ العمل الروائيَّ السرديَّ تصنيفاً فئويَّاً مُعيَّناً ووضعه في خانةٍ انتمائيَّةٍ ما لم يتمُّ تقصِّي أحداث الرواية ومعرفتها وتفكيك شفرات ثيمتها الفكرية والموضوعية برويَّةٍ ودقَّةٍ. ومن ثمَّ الوقوف مليَّاً عند حركة شخصياتها الفواعلية المتنامية، ومعرفة علاقاتها بمثاباتها المكانية والزمانية التي جرت عليها الأحداث واشتبكت فيها عُرى المواقف والرؤى والأفكار والتطلُّعات.

لذلكَ من الخَطَلِ جدَّاً أنْ نحكم على رواية (امرأةُ الظلِّ) لعبدِ الرِّضا صالح محمَّد بأنَّها رواية أخلاقية أو اجتماعية أو تاريخية أو سياسية أو أي مغزى أو تصنيف فكري مُعيَّن ما آخر يلتصق بها. فهي في واقع الأمر رواية شموليَّة مفتوحةٌ تجمع بين طياتها السردية وثيمها الفكرية المتعدَّدة بين سرديات الهدف أو المغزى القصدي الاجتماعي الأخلاقي والإنساني والنفسي والديني والسياسي والتاريخي والبيئي الزمكاني وأدب الارتحال السِّيري، فضلاً عن أثرِ العامل الاقتصادي المهمِّ الذي يَتحكَّم بحياة الناس المعيشية ويوجِّهُ بوصلةَ مصائر دخل رفاهية أفراد المجتمع العامَّة والخاصَّة.

هذا هو السياق والتصنيف العام أو التوزيع الجُغرافي لنوع الرواية على الرُّغم من المِساحةِ المكانيةِ السردية الكبيرة والواسعة التي احتلتها حكايات الواقع الاجتماعي الخُلُقي لوحدة الرواية الموضوعية وثيمتها التي جمعت بين خطَّي السرد الواقعي الحقيقي والمُتخيَّل السردي الافتراضي والغرائبي أو السحري الأُسطوري، وهو كثير في فضاء الرواية والذي لا يمكن التفريق بينهما أبداً نتيجة الدمج.

وأعني بذلك التآلف المُتوحدُنَ بين الواقعي الحقيقي الصرف والمُتصوَّر التخيُّلي في بطانة البناء السردي المُحكم الذي اشتغل عليه السارد كاتب الرواية، وبتقنياتٍ سرديَّةٍ مختلفةٍ ومُغايرةٍ لا تحسُّ بها بين الواقعي والمفترض حتَّى لكأنَّك تعيش أحداثاً حقيقيةً واقعيةً آنيةً (مائةً بالمائةِ) ؛ لذلك لم تنفكُّ عن مخيلتك الوصفية الاجتماعية والتاريخية اليومية. وهذا الاتقان السردي المتآلف يُحسبُ فنيَّاً وجماليَّاً لِمؤلِّف الرواية الذي سيطر على ذهنية المُتلقِّي بشغفٍ وحبٍّ وإمتاعٍ بِدْأً من مطلع أحداثها حتى خواتيم نهاياتها، وفق أسلوب سرديٍّ بسيطٍ وسحريٍّ شفيفٍ أخَّاذٍ مُحبَّبٍ لرغبة ونفوس القُرَّاءِ.

صدقاً -لا انحيازاً- نحنُ أمام عملٍ روائيٍّ سرديٍّ متنوِّعٍ ثرٍّ لا يقف عند ضفةٍ ما أو عند مرفأ من مرافئ ضفاف الواقعية وتداعياتها الحالية والمستقبلية، بل أكثر من ذلك التصوّر. فالمؤلِّف السارد أو الراوي العليم يجولُ بخاطرك الذهني شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً وبجميع أو مختلف الاتِّجاهات السرديَّة لواقعة الحدث الفكريَّة التي تتطلَّبها بوصلة اتِّجاهات الحدث التسريدي الفنِّي أفقياً وعمودياً متوازناً. مع قُدرةٍ عجيبةٍ ومكينةٍ من التَّحكُّم الفكري بنسيج الرواية وكثرة فاعلية روافدها وفروعها وبناء حكاياتها المتجدِّدة، ومن ثمَّ الإمساك بتلابيب أذيالها السردية وأردانها الفكرية وفق بوتقةٍ من الإحكَام والتَّقانات الفنيَّة المتفرِّدة التي تجعلها تصبُّ بتدفقٍ حُرٍّ سَلسٍ وانهمارٍ طبيعيٍّ غير مُتكلِّفِ الصُّنعةِ في مركزيَّة المصبِّ العام لوحدة الرواية الموضوعيَّة.، وإنْ كان الكاتب يُحيلُ الجزء في العمل كُلاً والكُلَّ جزءاً بيدَ أنَّه لايخرج عن فَلَكِ الرواية وسياقها السَّردي العام أو الخاصِّ بالواقعة.

عُنوانُ الرِّوايَةِ:

إنَّ قارئاً لبيباً نَابهاً وواعياً حينما يقف عند لافتةَ عنوان ضوئي لافتٍ للنظر مثل، (امرأةُ الظلِّ) يتألَّفُ من كلمتينِ ثريتينِ تُكونان جُملةً اسميةً سحريةً إدهاشيةً مُكتنزةً بكثافة ضبابها الفكري حتماً سيتداعى إلى فكره الذهني أنَّه إزاء عنوان فنِّيِّ وجماليٍّ فخمٍ وكبيرٍ يُمكن قراءاته بعدة أوجه وبأكثر من قراءةٍ وتحليلٍ ذِهني؛ كونُ مفردةُ (الظلِّ) تُثير جملةً من الشكوك الفكريَّة والأسباب والمخرجات الثقافية الكثيرة التي تلفُّ بنية هذا الغموض والتَّفلسف الرؤيوي الذي تُوحي به عتبة العنوان المُمتعة.

وفي الوقت نفسه يُثير مغزى العنوان هاجساً وتساؤلاً موضوعيَّاً فريداً بالقول: مَنْ امرأةُ الظلِّ هذهِ التي يقصدها الكاتب الرائي؟ وما قصتُها الحقيقيةُ؟ فضلاً عن أنَّ العنوان-سيميائياً- يحتوي على مُوحيات وصورٍ رمزيةٍ عاليةٍ من المعاني والدلالات مثل، البحث عن الهُوية المفقودة لهذه المرأة أو الشعور بالاضطهاد الذاتي والانخفاض المعنوي الذي تتعرَّض له آفاق صور هذه المرأة المجهولة.

أمَّا من حيث الجمال اللُّغوي فإنَّ العنوان ذو جاذبيةٍ فنيَّةٍ تُثير فينا الانتباه والتأمُّل، وتُثير الفضول الذهني للقارئ في التفكير فيه وتجذبه إليه. وهذا ناتج عن تركيبه اللُّغوي الموجز من كلمتين مُلغَّمَتَينِ بالمعاني والدلالات القريبة والبعيدة التي تجعل منه ليس عنواناً طبيعياً عادياً كأيِّ العنوانات التقريرية الأُخرى المباشرة وغير اللَّافتة لأنظار القارئ. فإذنْ الغموض الفنِّي والرمزي، وقيم جماله اللُّغوي والتركيبي البنيوي، والجاذبية السحريَّة فيه هي من جَماليات هذا العنوان وفنيَّاته التعبيريَّة المُعصرنة في سياقات البلاغة الجديدة التي جعلت منه عنواناً غنيَّاً بأكثر من صورةٍ ومشهد إنسانيٍّ.

هذا من جانبٍ ومن جانبٍ آخر، لو أردنا البحث والتقصِّي عن المعنى الدلالي القريب والبعيد لهذه العتبة الإثرائية المهمَّة لوجدنا أنَّ المعنى الدلالي القريب يُشير إلى أكثر من احتمالٍ فكريٍّ ورمزيٍّ وتصوُّريٍّ في كون هذه المرأة التي تعيش في مَساقط الظلِّ وألوانه التي تُغطِّيها بغشاوة الرمز الضبابية يَحتملُ أنْ يكون هذا الظلُّ تحت رعاية أو خلف شخصٍ آخرَ ما، كَأنْ يكون زوجها، أو حبيبها أو عشيقها أو قد يَمِتُّ بصلة رَحِمٍ لها لا تَرغب في الظهور مباشرةً وتُفضِّلُ البقاء في الظلِّ.

واحتمال أنْ تكون (امرأةُ الظلِّ) غيرَ مَرئيةٍ أو منظورةٍ من قبل محيطها الاجتماعي البيئي، واحتمال أنْ يكون (الظلُّ) سَبباً بعدم رغبتها في الظهور وتَجنبِ أماكنهُ العامةَ؛ لِئلَّا يَنكشفُ سِرُّها وينفضح أمرها؛ لذلكَ هيَ تبقى في (الظلِّ) حَافزاً مُثيراً للفضول لمن يرغب من القرَّاء البحث عن أثر قصتها.

أمَّا من حيث المعنى الدلالي البعيد تبقى (امرأةُ الظلِّ) رَمزاً للدونيَّةِ والعنف والسقوط والاضطهاد والانحطاط الاجتماعي والأخلاقي الذي تُواجهه وسط محيطها اليومي الاعتيادي. وقد تكون رمزاً للصمت والخوف والنكوص الذي يمنع المرأة من التعبير عَلناً عن ذاتها وكشفِ هُويتها الشخصية للآخرين. وربَّما في مقاصد رمزيتها الصورية هذه تبحث عن معاني الهُوية والاستقلال الذاتي الهاملتي لها (أكونُ أو لا أكونُ) في هذا الفضاء الجمعي الإنساني الكثير الأنساق والسياق والثقافات.

وبشكّلٍ عامٍ فإنَّ عنواناً مثل، (امرأةُ الظلِّ) يشكِّل في تعدديته اللُّغوية والفنيَّة والجماليَّة مدعاةً للإثارة والانبهار والمعاني الإدهاشية الكثيرة التي تجد لها مكاناً مُحبَّباً في قلب القارئ. خاصةً وأنَّ العنوان في تركيبه البنائي النحوي يُشير إلى أنَّه جملةٌ خبريةٌ مُكوَّنة-من اسمٍ مُضافٍ ومضافٍ إليه- لمبتدأ محذوف تقديره المعنى القريب للمبنى النحوي، (العنوانُ اُمرأةُ الظلِّ)، أو (الروايةُ ظلُّ امرأةٍ).1320 abulrida

شَخصيَّاتُ الروايةِ:

إنَّ المتتبع لأحداث الرواية المتشابكة، وعلى وجه الخصوص أخصُّ القارئَ الناقد والناظر بعينٍ نقديةٍ ثالثةٍ، سيقرأُ أنَّ رواية (امرأةُ الظلِّ) تعدُّ من صنف الروايات (البوليفونية) المتعدِّدة الأصوات والرموز على الرغم من أنَّ الشخصية الرئيسة لها أُحادية، وهي شخصيَّة البطل العراقي (عدنان) الجَنوبي المُنحدر من أرياف قرية بقضاء المجر الكبير التابع لمدينة العمارة مركز محافظة ميسان.

ولعلَّ اللَّافت للنظر في سرديَّات هذه الرواية كثرة شخصياتها الثانوية التي تتصل بشخصية البطل عدنان، وتعدُّد رموزها وأصواتها الثانوية التي تجاوزت أكثر من ثلاثين شخصيةً ذكورية وأنثوية فرعية، وإنْ كانت الغلبةُ المُسيطرة على مسرح الأحداث فيها للشخصيَّات الذكورية التي بلغت نحوَ عشرينَ شخصيةً، مقابل عشر شخصياتٍ أُنثويةٍ تشكِّلُ ثلثَ الرواية الكُلِّي وعصبَ نواة مركزيتها الظلِّية الظاهرة والمتنفذة في سير أنساقها الثقافية ومصادر مُوئِلها السرديَّة الجمعية الفاعلة الأثر.

وعلى وفق ذلك المنظور الإحصائي لهندسة عمارة هذه الرواية وتأثيثها الوجودي الفواعلي فإنَّ شخصياتها الرئيسة والثانوية المؤثِّرة والمتأثِّرة تنقسم على قسمين مختلفين. النوع الأول مِنها يَنمازُ بكونه شخصياتٍ مُثقَّفةً وعلى درجةٍ كبيرةٍ من الوعي والمعرفة والإدراك المعنوي والحسِّي مثل شخصية (عدنان ود.يوسف ود. عماد ود. عاصم وقصي ود. حسن ووفاء)، وغيرهم من الشخصيات الأخرى، بوصفهم حاصلينَ على شهاداتٍ عِلميَّةٍ أوليَّةٍ وأُخرَى عُليا في الحياة وتبوأوا مناصبَ ومقاعدَ وظيفيةً مُعتبرةً وراقيةً وحسَّاسةً في بنية المجتمع، وشغلوا مراكزَ عمليةً محترمةً، وتمتَّعُوا بمصدرِ عَيشٍ كافٍ لسدِّ حاجاتهم الذاتية في مواجهة أعباء الحياة والتّكيُّف مع ظروفها المختلفة.

أمَّا الطرف الثاني أو الآخر من هذه الشخصيَّات الأولى، الذي هو الطرف السلبي النقيض للنوع الأول فيكاد أنْ يكون أغلبه -وعلى وجه الخصوص من الشخصيات الأُنثوية النسوية- ومن نوعٍ المُهمَّشة والمُعدمة والمَسحوقة مُجتمعياً وطبقياً، ومن التي جارت عليها يدُ الزمن وتطاولت عليها مخالبُ الشرِّ؛ نتيجةَ فشلها الذريع في مواجهة واقع الحياة وكثرة أعبائه. وبالتالي خرجتْ وانحرفت عن جادة الصواب لعوامل كثيرةٍ، نفسيةٍ وماديةٍ واجتماعيةٍ قاهرةٍ جعلتها أنْ تكون إحدى ضحايا إسقاطات المجتمع وتحوُّلاته الزمكانية السريعة التي لم تمنحها فرصة مراجعة تقييم الذات وتقويمها:

"تَمّثَّلتْ صُورةُ أطيافٍ أمامَ عَينيهِ، وَمَا مَنحتُهُ لَهُ بِالأمسِ مِنْ رَاحةٍ وَحَنانٍ وَدِفءٍ، لَمْ يَنلهُ مُنذُ خَمسةَ عَشَرَ عَامَاً مِن زَوجتهِ (وفاء)، وَمَا أعطتُهُ أطيافُ مِنْ عَطاءٍ جَعلهُ يَشعرُ بِسعادةٍ غَامِرَةٍ، وَمَا قَدَّمتْهُ لَهُ مِنْ أداءٍ لَمْ يَعهدْهُ مِنْ قَبلُ وَلَا فِي الفِيديوهاتِ الإباحيَّةِ، جَعَلَهُ يَشعرُ بِرجُولتهِ وَشَخصيتهِ وَكَيانِهِ، وَتَساءَلَ: مَاذَا يَضرُّ (وَفَاءَ) لَو أنَّها عَاملتنِي بِنفسِ الطَّريقةِ..." (امرأةُ الظلِّ، ص 26).

وعلى الرُّغم من أنَّ الصراع الأساسي القائم بين هذه الشخصيات الذكورية والأُنثوية في رواية (امرأةُ الظلِّ)، هو صراع الخير والشرِّ الأبدي، الذي هو بالحقيقة صراع يوتوبيا الحياة الفاضلة مع ديستنوبيا الفوضى وعوامل الانحلال والتِّيه والتشرُّد والضياع وحجم الفساد المستشري بجسد المجتمع إثر التفاوت الاجتماعي الطبقي الكبير والفقر والفاقة، فإنَّ شخصيات النوع الأول الذكورية أو الفحوليَّة من الرجال إذا أمكن التعبير التسريدي عنها، والتي تُمثِّلُ القيم العُليا والمبادئ الجوهرية الإيجابية لبنية المُجتمع أنَّها تحمل في دواخلها النفسية ثنائيةً التضاد (الإيجاب والسلب) الازدواجيةً.

فضلاً عن ذلك كلِّه عدم الثبات والمحافظة على خطِّها القيمي الاجتماعي السامي. فالكثير منها قد انقلب على أعقاب ذاته الوجودية الساميَّة وشخصيته المُقدَّسة نحو هاوية السقوط في الفعل السَّلبي المُدنَّس في تصرفاته ونزواته، وجنوحه غير المبرر إلى ممارسة فعل الخيانة الزوجية العائلية؛ نتيجة رغائب عابرةٍ كلَّفته دفع ثمنها أعزَّ ما يملك من الشرف نفسياً واجتماعيَّاً وحضاريَّاً:

"لِلأَسفِ لَقدْ تَذَوَّقَتْ وَفاءً مِنْ نَفسِ الإناءِ الَّذي تَذَوَّقْتُ مِنهُ، وَسبَّبَ لِي تَصَدُّعَ دِماغِي وَجُنونِي، هَلْ تَستطيعُ بَعدَ الآنَ مُحاسبتِي عَلَى هَفوتِي؟ وَهيَ الأُخرى شَرِبَتْ مِنْ كَأسِ الخَطيئةِ" (امرأة الظلِّ، ص238).

وقد عمد المؤلِّف إلى التعريف بهذه الشخصيات والحديث عن سيرتهم الذاتية وحياتهم المعيشية، فعدنان الشخصية الأولى للرواية والذي يعمل مُوظَّفاً محترماً بوزارة الاتِّصالات قد تعرَّض لمثل هذه الهِزَّاتِ الارتداديةِ القيميةِ والأخلاقية المُستقبحة، وكذلك الحال حدث مع صديق طفولته وزميل دراسته الابتدائية والثانوية المهندس المِعماري والأُستاذ الأكاديمي الجامعي د. يوسف، والذي هو أخُ (امرأةِ الظلِّ) التي هي ثيمة الروايةوأسُ هالتها الموضوعية المُتعدَّدة التعريف بالأسماء والهُويات الشخصية، سواءٌ باسمها الحقيقي (فاتن) أو بأسمائها الافتراضية الخفيَّة المُضمرة مثل، (أطياف أو نضال). فمثل هذا الشاب المُتعلِّم تَعرَّض للانكسار والهزيمة والتشهير الاجتماعي الذي مسَّ سمعته وشخصيته؛بسبب انجراره وراء أفعالٍ وتصرُّفاتٍ إغرائيةٍ أنثويةٍ أوقعته في شِرك حبائلها المُحكَمة:

"حَضَرتُ ذَلكَ اليَوِم إلَى بَيتِ المَقَاولِ، واسْتقبلتْنِي (دِيمَا) أجملَ اِستقبالٍ، وَكَانتْ تَرتَدِي فُستانَاً رَائِعَاً يَليقُ بِقوامِهَا المَمشُوقِ، ويُظهِرُ مَفاتنَ جَسدِهَا المُثيرَ، جَلسنَا سَاعةً نَتحدَّث، ثُمَّ أحضرَتْ لِي زُجاجةَ شَرابٍ أجنبيٍّ لَمْ أرَ مَاركتَهَا مِنْ قَبلُ، فَسألتُهَا وَأنَا أَشيرُ لِزُجاجةِ الوَيسكِي؟ هَلْ تَشربينَ؟- أحيانَاً قَليلاً. وَهلْ يَعلمُ الوَالدُ بِذلِكَ؟ ". (امرأةُ الظلِّ، ص 111). هذا ما دَارَ بَينَ يُوسفَ المهندس الأكاديمي ودِيمَا التي ادَّعت أنّها ابنة المقاول بهجت وليست زوجته التي أُجبِرَتْ على الزواج منه.

فهذه الشخصيات الارتكاسية بقدر ما فيها من سلوكيَّاتٍ أخلاقيةٍ مُقدَّسةٍ وصفاتٍ إنسانيةٍ مُحترمةٍ ظهرت على خطِّ أفقها السِّيري الاجتماعي شوائبٌ وتصرُّفاتٌ وأفعالٌ حياتيةٌ مُدنَّسةٌ ومنبوذةٌ لوَّثتْ صورتها الجميلة وهزَّت مستقبلها الذاتي. ومن هنا احتدمت هُوَّة هذا الصراع الفكري والاجتماعي بين نوازع هذه الشخصيات ومراميها الوجودية العاطفية. غير أنَّ الكاتب (المُؤلِّف) في نهاية الأمر ينتصر لشطآن الحقيقة الإيجابية التي لا بدَّ منها مهما كان ثمن المُدَنَّس السلبي الذي وقعت بفكاكه.

أمكنةُ الرِّوايةِ:

المكانُ يعدُّ من بين أحد أهمِّ عناصر الرواية الأربعة، (الأحداث والشخصيَّات والمكان والزمان)، فضلاً عن حوارية الرواية ولغة سردياتها الضافية والتي تعدُّ من متممات الرواية؛ وذلك لأنَّ المكان يرتبط ارتباطاً حقيقياً ومباشراً بزمانية الحدث السردي للواقعة، ويكشف عن طبيعة الأحداث وتناميها واتساع تَعدُّد رقعتها المكانية عبر تقنيات السرد الممكنة. ويلتصق بحياة الفرد وأصوله التاريخية وجذوره الأوليَّة، وما ينتتج عنه من تطوُّراتٍ داخليةٍ وخارجيةٍ تدفع الشخصية إلى تركه والسفر أو الهجرة عنه، ومن ثمَّ البحث عن مكان آخر يناسب حياته ومستقبله الذاتي والجمعي العام.

فلا يمكن أنْ تمضي الأحداث والوقائع دون مكانٍ أو زمانٍ معيَّنٍ ما، سواءٌ أكان هذا المكان حقيقياً واقعياً راسخاً في الوجود الأرضي أم افتراضياً مخياليَّاً تصويرياً مُفتعلاً، أو بديلاً يكون مثابةً للشخصية ومقرَّاً لطبيعة حياتها ومستقبلها وارتباطها بالعام الجمعي والمحيطي الخارجي.

وحين نُجيلُ النظرَ في البحث عن أمكنة الرواية ومثاباتها الحقيقية والمتخيَّلة أو البديلة نجد أنها ابتدأت من أصغر مكانٍ في الوجود الطبيعي إلى أكبر منه اتِّساعاً إشارةً إلى أنَّ بطل الرواية (عدنان) جذوره المكانية الأولى تبدأ من قريةٍ الحَشرِيَّةِ الصغيرة بقضاء المجر الكبير أحد أقضية مدينة العمارة الأكثر كثافةً وشُهرةً واتِّساعاً. ومع تنامي سرعة الأحداث وتزايد وتيرتها الفعلية وتطوُّرها الزمكاني تنتقل الأمكنة بشكلٍ طبيعي عبر مجسَّات السرد وأثيره الحركي إلى فضاءاتٍ ومثاباتٍ عديدةٍ أُخرى. وتشكِّل مدينة العمارة نواة أحداث الرواية ومركزها الفناري المشع الذي به ولدت أحداث وحركة الشخصيات الفواعلية وانتقلت وقائع فعلياتها الحدثية التي تكوُّنُ (امرأةَ الظلِّ):

"أَنهُوا المَرحلةَ الابتدائيةَ، وَانتقلُوا إلَى المَرحلةِ المُتوسِّطةِ، وَكَانَ عَليهُم الانتقالُ إلَى مَدينةِ المَجَرِ الكَبيرِ لِعدَمِ وُجودِ مُتوسِّطةٍ فِي القَريةِ. اِنتقلتْ عَائلةُ عَدنانَ إلَى مَدينةِ المَجرِ، وَفِي أيامِ الدِّراسةِ تَأتِي وَفَاءُ لِتسكُنَ مَعهُم. وَفِي العُطلةِ تَعودُ إلَى أهلِهَا فِي القَريَةِ". (امرأةُ الظلِّ، ص30).ثُمَّ "اِنتقلَ عَدنانُ وَعائلتُهُ إلَى مَدينةِ العُمارَةِ مَحلِّ عَملهِ، وَكَانتْ وَفاءُ وَفاتنُ تَزُورانَهُم أيامَ العطلة". (امرأةُ الظلِّ، ص36).

وبفعل ارتباط وطبيعة عملها الدؤوب وتداخلها الجمعي تتجدَّد مجريات المكانية وتنتقل إلى بغداد العاصمة الأُمُّ التي أخذت أكثر من نصف أحداث الرواية السرديَّة؛ كونها المدينةَ الأكثرَ اتِّساعاً وأفقاً وحركةً ومستقبلاً التي يلتقي فيها أكثر الشخصيَّات الفاعلة للرواية والقادمون من أمكنة أخرى عديدةٍ. فَاُضحتْ بغداد بؤرةً أخرى للحدث ومتَّسعاً لرقعته الجغرافية الممتدَّة حركيَّاً، ومثل هذا الحراكِ جعلَ الأمكنة تتعدَّد وتتسع رقعتها فتصل افتراضيَّاً إلى الموصل والرمادي وإلى دهوك في كردستان الشَّمال العراقي حتَّى وصلت إلى النمسا وألمانيا خارج العراق من دول أوربا الغربية؛ وفقاً لِما تتطلَّبه هذه الشخصيات من حركةٍ دائمةٍ حثيثةٍ وتطوُّرٍ دراميٍّ بَصَريٍّ سريعِ التحوُّلات.

ووفق تلك التعدُّدية يبقى المكان هو الكاشف الحقيقي عن شخصيَّات الرواية والمعبِّر عن حقيقة انتمائهم الوجودي والمستقبلي الذي من خلاله يُبنى السرد بناءً مُحكماً سَليماً. ولا أدلُّ على ذلك عدنان بطل الرواية وشخصيتها الأولى البارزة في الحدث، والذي كشف حركته تنوِّع هذه المثابات المكانية وتجدُّدها عبر الزمن إلى وحدات أكثر فعلاً وحركةً. فلا وجود لمكانٍ حقيقي أو افتراضي على الأرض دون ارتباطٍ وثيقٍ بفواعل الشخصيات ومُسايرةٍ لفعليات حدثها السردي المُحدَّد بمكانٍ:

"هَيَّأتْ فَاتنُ نَفسَهَا لِلحياةِ الجَديدةِ وَطَارَتْ إلَى النَّمسَا وَفِي المَطارِ اِستقبلَهَا جَلالُ، وَرَفَقَهَا مَعهُ إلَى شُقتهِ لِترتاحَ، وَفِي اليَومِ الثَّاني قَصَدَ أحدَ المَساجدِ لِعَقدِ القَرانِ وَتَمَّ كُلُّ شَيءٍ". (امرأةُ الظلِّ، 176).

وكان كاتب الرواية على درجةٍ كبيرةٍ من الوعي السردي الثقافي في اختياره وتعامله الدقيق مع المثابات المكانية ومصادر الطبيعة المُتحرِّكة والثابتة التي شكَّلت صُوراً مهمَّةً من مصادر إتمام الرواية وسير حركتها الوئيدة أو الواثبة السريعة بشكلٍ طبيعيٍّ غيرِ مُتكلِّفٍ ودونَ تَرهُّلٍ سرديٍّ زائدٍ تَشعرُ بِالمللِ منه. فالكاتب الرائي يقنعك ذهنياً بأنَّ المكان هو فعل فاعلٍ لا بدَّ من وجوده على الأرض والانتقال به من عالم صغير جزئي إلى آخر كليٍّ أكبر موحَّدٍ يمنح العمل الروائي سمةً بارزةً في تصدير الأحداث وتفاعلها الحثيث إلى شطآن حقيقة مرافئ السرد مكمن العمل وهُويته.

(امرأةُ الظلِّ) جدليَّةُ السَّردِ المُقدَّسِ والمُدنَّسِ الواقعي:

رواية (امرأةُ الظلِّ) مدوَّنة سرديَّةٌ لمؤلِّفها الكاتب والروائي المثابر العراقي عبد الرِّضا صالح محمَّد، والصادرة بطبعتها الأولى عام 2023م عن مؤسسة حماد الثقافية للنشر والتوزيع في بغداد/ العراق، والحاصلة في 2024 على القائمة القصيرة لجائزة ماندلا العالمية للرواية. وهي من فئة الحجم المتوسّط، وبعددٍ كميٍّ بلغ نحوَ (249) صفحةً يُضاهي حجمه النوعي الكيفي إعداداً وتأثيثاً.

تعدُّ رواية (امرأةُ الظلِّ) من أكثر روايات السارد عبد الرِّضا صَالح محمَّد الروائية العشر إيغالاً وتعميقاً في سرديات الواقع العراقي ومن أبرزها حضوراً إجرائياً وتطبيقاً عملياً لافتاً للنظر في متضادات ثنائية (المُقدَّس والمُدنَّس). وأُنموذجاً حيَّاً مُصغَّراً وفاعلاً لواقعة الحدث السردية، ومهمازاً تخليقياً وإنتاجياً كاشفاً في حِفرياته الأثرية عن مناطق المُهمَّش والمغيَّب والمسكوت عن أدبياته.

(امرأةُ الظلِّ) مثال واقعيٌّ وتخيُّليٌّ صادقٌ لصفحات من توتوبيا مدينة السرد الفاضلة، وجدلية صراعه الأزلي القائم مع ديستوبيا الفساد وفوضى التردي والانحطاط والتشظي النوعي الأخلاقي والاجتماعي والثقافي والديني الذي تمرُّ به الأُمة العراقية الحديثة عبر تاريخها الزمكاني الطويل الذي أسقط الكاتب مراياه الصورية على الواقع الحياتي المَعيش بِرُمَّتِهِ.

فمدونة مثل (امرأةُ الظلِّ) ما هي إلَّا رحلةٌ أدبيةٌ استكشافيةٌ تسريدية ارتحاليَّة للكشف عن حيثيات الواقع وتمظهراته (الإيجابية والسلبية)، وهي أيضاً في الوقت ذاته جلدٌ للذات الفردية الإنسانية وتعريتها عن حقيقتها الأمَّارة بالسوء ودرن الرذيلة الناتئ، والذي يمكن أن يكون مَحطَّة ودرساً لها. ولنستمعَ في هذا السياق الثقافي الحياتي إلى قصَّة الدكتور عماد طبيب الأمراض النفسية صديق عدنان بطل الرواية وأحدى ضحايا الأحزاب النافذة التي افرزتها التحوَّلات المجتمعية السريعة:

"هَاجرتُ تَحتَ التَّهديدِ والخَوفِ مِنَ القَتلِ إلَى ألمانيَا تَاركَاً بَيتِي وَأولادِي، وعَمِلتُ هُناكَ كَطبيبٍ مُمارسٍ فِي جَامعةِ بَرلينَ، وَلِسِتِ سَنواتٍ عَمِلتُ بِجدٍّ وَإخلاصٍ وَلكنِّي أشعرُ بِالغُربةِ وَالحَنينِ إلَى وَطَنِي وَبَيتِي وَعَائلتِي". (امرأةُ الظلِّ، ص 46). ولاقى الدكتور عماد من التهميش ما لم يَلقِهِ في حياته.

وقد وصل أثر خُطى هذا المُقدَّس الفاعلي لشخصيات الرواية الرئيسة والثانوية إلى أعلى درجات السمو والرُّقي الإنساني والاجتماعي؛ بيد أنَّها لم تستطع أنْ تحافظ على سلمِّ رتبة رِتمِ هذا التراقي السامي أمام مُغريات الانحطاط القيمي والأخلاقي المعطوب الذي وصل إليه المجتمع في اهتزاز هُويته وغزو ثقافته الشخصية في الخفاء أو التجلِّي من قبلِ هذه الأنساق الثقافية الدخيلة على قيمه.

وقد أنتجت لنا حدَّة هذا الصراع المُحتدم الخطير الذي كشفت عنه وقائع الرواية بين هذا المُقدَّس الجمعي والمدنَّس الأناني الذاتي الضيِّق، وأظهرت جملةً من الصراعات البينية التي تلبَّست حياةَ الناس من الشخصيِّات الذكورية والأنثوية فكانت نتيجة ذلك الفعل رواية (امرأةُ الظلِّ) التي هي بحقٍّ رواية الصراع بين الماضي والحاضر، أي بين فواعل الأمسِ وفعليَّات اليومِ، وبين هُدى الفضيلة، وقذارة رؤى الخطيئة، وبين التحضُّر والتخلُّف، وبينَ التعلُّم والتجهُّل، وبين الثبات والتحوُّل للأسوأ:

"اِستمرَّ الحَالُ يَسيرُ بِهدوءٍ عَلَى أتمِّ وَجهٍ، حَتَّى عَامٍ 2006م، وفِي خِضمِّ دَوامةِ الاِضطرابَاتِ الَّتِي اِجتاحَتِ البِلادَ وَخاصَّةً فِي العَاصمَةِ بَغدادَ، وَعَلَى أثرِ الجَريمةِ المُنظَّمَةِ الَّتِي قَادتهَا أيادٍ خَفيَّةٌ فِي إثارةِ الفَوارقِ الطَّائفيَّةِ، وَالقَتلِ عَلَى الهُويَّةِ، وَاستهدافِ النُّخبِ مِنَ العُقولِ المُمَيَّزةِ الَّتي تَخدِمُ الوَطنَ بِإخلاصٍ وَعِلميَّةٍ وَقُدرةٍ عَاليةٍ، وخَاصَّةً أَساتذةُ الجَامعاتِ والأطباءُ المَعروفونَ بِقُدراتِهُم المَهنيَّةِ المَعرُوفَةِ". (امرأةُ الظلِّ، ص46).  وغيرها من وسائل التصفية التي قامت بها الأحزاب المُهيمنة.

إنَّ جميع هذه الصراعات الناشبة لمُهيمنات الواقع كانت سبباً مرجعياً كافياً، ومُبرِّراً تسويغياً مُلحَّاً على حمل الكاتب مؤلِّف الرواية بإظهار مجموعة من السرود القصصية المتكاملة في إنتاج نواة رواية ذاتَ وحدةٍ موضوعيةٍ مُتعدِّدة الرؤى والأفكار ومتجدِّدة الحكايات في تنشيط فاعلية السرد وفي شتَّى المجالات والأفق الواقعية، وعلى المستوى (الاجتماعي والأخلاقي والنفسي والروحي والثقافي والديني والفكري والاقتصادي) الذي شغل مِساحاتٍ كافيةً في تعضيد فكرة السرد وتأكيده.

وقد اجتمعت كل هذه الأفكار التعدُّدية المُجاوزة لِلسُنَنِ والتقاليد والأعراف في واقعة موضوعية مثل، (امرأةُ الظلِّ) التي كانت هي النقطة المحورية الثابتة التي تُدِيرُ رَحى التَّسريد في فلك إبداعي تخليقي مُتجدِّد الأفكار والحلول والمُعطيات التي تُسهم في صنع واقعة الحدث التي كشفت من خلال سونارها التسريدي عن حُمولاتِ الواقع وفضحت الهُوَّةَ السحيقةَ بين مُدخلاته ومُخرجاته الاجتماعية:

"دَخَلَ عَلَى (د. عَاصمٍ) فِي عِيادتِهِ أشخَاصٌ، وَمَعَهُم مَريضٌ وَبَعدَ فَحصهِ وَجَدَ أنَّ حَالتَهُ بَسيطةٌ مُمكنُ عِلاجهُ بِوَصفةٍ طِبيَّةٍ، لَكنَّهُم رَفضُوا وَصفتَهُ، وَطَلبُوا مِنهُ أنْ يُحرِّرَ لَهُم تَقريرَاً يُؤكِّدُ عِلاجَهُ خَارجَ البِلادِ، لَكنَّهُ رَفضَ ذَلكَ مُبيِّنَاً لَهُم أنَّه يَتكفَّلُ بِعلاجهِ فِي دَاخلِ البِلادِ وَشفائهِ بِفترةٍ قَصيرةٍ. أصرُّوا عَلَى رَأيَهُم وَطَلبُوا مِنهُ كِتابةَ التقريرِ بَأيِّ ثَمنٍ يَرغبُ فِيهِ، وَأنَّهُم مُستعدونَ لِلدفعِ، لَيسَ كَرِشوةٍ لإغرائِهِ، بَلْ لِكِي يُمسِكُوا عَليهِ نَقطةَ ضُعفٍ يُهدِّدونَه بِهَا، لَكنَّهُ رَفضَ مَطلبَهُم بِقوِّةٍ، فَبادَرَهُ أحدُهُم وَكَلمَّهُ بِصوتٍ مُنخفضٍ: (أنَا أحدُ قِياديِّ الحِزبِ... وَهَذَا أبي، حَاولْ قَدرَ اِستطاعتِكَ تَنفيذَ طَلبِنَا) غَيرَ أنَّه رَفضَ مَرَّةً أُخرَى، خَرجُوا مُستائينَ بَعدَ أنْ يَأسُوا مِنهُ، وَسَمِعَ أحَدَهُم يَقولُ أثناءَ خُروجِهُم: (بَسيطَة سَتكتبهُ وَأنتَ صَاغرٌ بَعدَ أنْ تَدفعَ ثَمنَ وَقاحَتِكَ) ". (امرأةُ الظلِّ، ص 51).

من نوافل العمل الإبداعي السردي المُعجمي -تأثيثياً وإبداعيَّاً- أنَّ الكاتب أو الروائي يُقسِّمُ روايته على شكل فصولٍ مُتعدِّدةٍ، أو على شكل متواليةٍ قصصيةٍ، أو حكائيةٍ ترتبط ارتباطاً كُليَّاً ووثيقاً بالقيمة الفكرية لوحدة الموضوع الأُمّ من خلال المحافظة على جوهر الوحدة العضوية السرديَّة، أو يقوم بتقسيم روايته على شكلِ أجزاءٍ رقميةٍ أو عنواناتٍ فرعيةِ مُتعدّدةِ لا تخرج عن نظام الروايَّة.

بيدَ أنَّ الرائي عبد الرضا صالح محمّد قد كسر قوَّة الجدار الصُلب لهذا المألوف التوقُّعي، وحطَّمَ هندسته التراتبية المعمارية المعهودة. كونه عمدَ فنيَّاً وجماليَّاً وتراتبيَّاً إلى تقسيم روايته على شكل جلساتٍ نفسيةٍ متواليةٍ بدلاً من الفصول أوالمتواليات القصصية الحكائية القصيرة المرتبطة بالحدث الأكبر بدأً من الجلسة النفسية الذاتية الأولى التي هي مُفتتح الرواية ومُستهلها أو مطلعها، وانتهاءً بالجلسة السادسة والِّتي هي آخر جلسةٍ من جلسات الرواية ومختتمها النهائي والتخلُّصي للخروج.

وحين نبحث عن الدافع الحقيقي لهذا التقسيم الإجرائي الجديد وغير المرئي المألوف في التسمية لا في العمل، سنجد أنَّ الكاتب كان مُحقَّاً في تقسيمه ورؤيته الفكرية في صناعة الحدث السردي وعنونته. وأنَّ النسق الثقافي المُضمر وراءَ تسميتها بالجلسات يعود إلى هوس الحالة النفسية الحالمة للبطل، والتي كانت تُنازع حياته الشخصية التي مرَّ بها البطل (عدنان) عبر مراحل السرد المتوالية.

إنَّ مراحل السرد الروائي هي بمثابة جلساتٍ نفسيَّةٍ وفكريَّةٍ أحالنا فيها الكاتب إلى التماهي مع بطل الرواية، الشخصية الحالمة نفسياً عبر أثير هذا التلقِّي القرائي الشائق؛ لأنَّ البطل عدنان عاش حياةً ازدواجيةً قلقةً ومركَّبةً صَعبةً بين الواقع والتخيُّل الحُلُمي. ولازمهُ تأزُّماً نفسيَّاً وشعوراً مَرَضيَّاً حتَّى أواخر أحداث الرواية ومُنتهاها، والتي كانت فعلاً ختامياً حَدثياً سرديَّاً إدهاشيَّاً صادماً.

هذه هي خفايا الحقيقة الفعلية اللَّافتة للنظر في توزيع أحداث الرواية على شكل جلساتٍ نفسيةٍ وليست أجزاءً متواليةً. وكقارئٍ أو مُتلقٍ تشعر إزاء قصدية هذا التقسيم النفسي -حقَّاً- أنَّك أمام راوٍ عليمٍ واعٍ كطبيبٍ سرديٍّ حاذقٍ يُشخِّصُ حالات المرض لشخصية بطله، ويستعرض تفاقم عِلَلِه النفسيِّةِ والاجتماعية الكثيرة التي رافقته في حياته، والتي نبَّهَهُ إليها صديقهُ د.عماد طبيب الأمراض النفسية والعقلية في أكثر من جلسةٍ زاره عدنان بعيادته الخاصَّة بشارع التربية في مدينة العُمارة:

"كَانَ عَدنانُ مُنصتَاً لِلدُكتورِ وَمُستجيبَاً لأوامِرهِ وَهوَ يَقولُ بِنفسهِ: هَلْ حَقَّاً أنَا مَريضٌ حَتَّى تَحسَّنتُ؟ وَهوَ مُبتسمٌ وَجَّهَ سُؤالاً لِلدُكتورِ: عَلَى مَا يَبدُو أنَّكَ تَعرفُ مَرَضِي مُسبَقَاً؛ لِذلكَ قُلتَ لِي: تَحسَّنتَ كَثيراً، أليسَ هَذَا غَريبَاً يَا دُكتورُ؟! لَا لَيسَ غَريبَاً، بَلَى أنِّي لَاحظتُ عَلاماتِ المَرضِ عَليكَ لَقُدرَتِي عَلَى تَشخيصِ المَرضِ مِنْ اللَّحظة الأُولى الَّتِي أتحدَّثُ بِهَا لَأيِّ شَخصٍ. وَقَدْ لَاحظتُ عَلاماتِ المَرضِ عَلَى وَجهِكَ أثناءَ حَديثِنَا فِي السَّيَّارةِ". (امرأةُ الظلِّ، ص61).

ولا يكتفي بذلك الإجراء بل يضع له الحلول والمعالجات عبر تنامي جدلية هذا التسريد الجَلساتي المُتعاقب الأثر الذي هو بمثابة الداء والدواء الناجع معاً لاستشفاء مريضه وبطله الأول (عدنان)، وكذاك حال شخوص مرضاه الآخرين من أسقامهم وعِللهم الاجتماعية الكثيرة عبر هذا الوعي السردي الذي وزَّعهُ على فضاء جلساته السردية بشكلٍ عادلٍ خلال استخدامه الأمثل لتقنيتي (الاستقدام والاسترجاع) أو الفلاش باك الفنِّي الذي يُناور فيه الكاتب على حمل قارئه ومتلقيه على التقلُّب والتواصل مع سير الأحداث حتَّى نهاية الرواية بأُسلوبٍه الابتداعي الإمتاعي السردي المَكين الذي من خلاله اكتشف المرأة الظلَّ فاتن التي يبحث عنها والتي كانت تتخفَى باسم أطيافٍ ونضال:

"وَمَا إنْ وَضَعَ رَأسَهُ عَلَى الوِسادةِ غَفَا ولَمَ يَستيقظْ، إلَّا عَلَى صَوتِ الهَاتفِ، وَلمَّا فَتَحَهُ وَجدَ رَقمَ (أطيافٍ) بَادرَهَا بِتحيةٍ رَقيقةٍ: أهلاَ وَمَرحبَاً أطيافُ. قَاطعتْهُ بِصوتٍ شَديدٍ: عَدنانَ مَاذَا تُريدُ مِنِّي؟ ألا يَكفيكَ مَا مَنَحتُكَ تِلكَ اللَّيلةَ؟ لَا أُريدُ إلَّا الخَيرَ عَزيزتِي. عزيزتُكَ أنَا أمْ وفاءُ؟ حِينَ ذَلكَ تَأكَّدَ أنَّها فَاتنٌ، حِينَمَا ذَكَرَتْ اسمَ زَوجتَهُ وَرَدَّ عَليهَا بِرقَّةٍ: دَعِينَا مِمَا مَضَى، وَلِنفتحَ صَفحةً جديدةً، فَأنَا مُنذُ اليومَ الِّذي نِمتُ مَعَكِ وَأنَا مَا زِلتُ أشعرُ بِطُعمِ تِلكَ اللَّيلةِ، وَعِطرُ جَسدِكَ لَا يُفارقُنِي". (امرأةُ الظلِّ، ص163). ثم ينتقل الراوي بعد ذلك للحديث عن أخيها يوسف دون علمها وعلمه.

أنساقُ الواقعِ السَّرديَّةِ ومَصادرهُ الثقافيَّةُ:

إنَّ الحديث عن أنساق الواقع السردية وتعدُّد انعطافاته ومصادره الثقافية الظاهرة والمضمرة، يُحيلنا هذا الأمر إلى أُسلوبية الكاتب السردية في تدشين فكرة الرواية وإنتاجها، ذلك الأُسلوب الذي يمزج فيه المؤلِّف بين الواقعي الحيِّ الماثل، والأُسطوري التخيُّلي، وبلغةٍ سرديةٍ رشيقةٍ لا يمكن التفريق فيها بينهما بسهولةٍ أو يسُرٍ؛ كون هذا التخيُّلي المؤسطر الماتع استمِدَّ صوره من منابع بنية الواقع الآني الحاضر، والذي هو جزء من إرثه الشعبي الحضاري وتاريخه زمنه الماضي الطويل.

وعلى وفق ذلك أخذت أُسلوبية الواقعية السحرية مأخذاً سرديَّاًّ كبيراً من الكاتب في إنتاج جلسات الرواية الست وتأثيث وحداتها الحكائيَّة المُتراتبة وأفكارها الموضوعية المُتعاقبة. وكانت عوامل الخير والشرِّ المختلفة من أهمِّ مصادر اشتغالات الكاتب ومراجعه الموضوعيَّة والفكريَّة، والِّتي تُمثِّل مناطق بُؤرة الصراع المزدوج في رواية (امرأةُ الظِّلِّ) التي خرجت إلى إطار ما بعد الحداثة. ولا أدلُّ على ذلك التمايز قدرة الكاتب على التحكُم بقارئة ونقله من حالٍ إلى حالٍ آخر من الغرابة:

"خَرَجَ مِنْ بَابِ المَصحِّ، لِيجدَ أمامَهُ كُلَّاً مِنْ زَوجتِهِ وَفَاء، وَالعَاهرِ فَاتنِ، وَالداعرِ خَالدٍ، رَحَّبُوا بِهِ بِحرارةٍ بَالغةٍ، وَفَتَحتْ وَفاءُ ذِراعيهَا لِمعانقتِهِ! وصَارَ كُلٌّ مِنْ خَالدٍ وَفاتنٍ إلَى جَانبيهِ يَتأبطانِ ذَراعيهِ لِيَخرجَا مَعَهُ! إلَّا أنَّه دَفعَهُمَا بِقوَّةٍ وأزاحَ وَفاءَ مِنْ أمامِهِ، وَصاحَ بِهُم بِغضبٍ، يَسألُهُم عَمَا يُريدونَ مِنهُ فَأجابوهُ بِصوتٍ وَاحدٍ، سَمعِنَا بِشفائِكَ، وَفَرِحنَا لَكَ، جِئنَا نَنقلُكَ للبيتِ. صَرَخَ فِي وُجوهِهُم صَرخةً مُدوّيَةً، اِرتجَتْ لَهَا الجُدرانُ والأبوابُ وَالشَّبابيكُ والزُّجاجُ وَسَمِعَهَا مَنْ فِي المَصحِّ، ثُمَّ أُغمِي عَليهِ. بَعدَ فَترةٍ صَحَا لِيجدَ نَفسَهُ فِي مُستشفَى المَدينةِ...". (امرأة الظلِّ، ص 243).

ولغرض تسليط الضوء على منابع الصراع ونقاطه المهمَّة ومثاباته المكانية وفضاءاته ومصادره الواقعية، نستعرضُ أهمَّ ما احتوته مساحات الفضاء الحكائي السردي لهذا المقدَّس والمُدنَّس الثقافي الذي صار هاجساً شخصيَّاً مُلحاً وفناراتٍ مشعَّةً تضيء أحداث الرواية، وتشخِّص مناطق الواقع السردي وأقانيمه الرخوة والصُلبة، وتكشف بعينٍ نقديةٍ واعيةٍ تطلُّعات وميول ورغائب وثقافات شخصياته المزدوجة وتحوُّلاتها الاجتماعية والإنسانية السريعةوفق نقاط هذه المختصرات الرقمية:

1-استذكار حكائي سيري شعبي لمراحل الطفولة المبكرة والصِّبا والشباب والرجولة أو النضج لشخصيات الرواية المهمَّة، (عدنان، وفاء، فاتن، يوسف، أُسرة عدنان وفاتن أخت يوسف، د. عماد). واستحضار سرديٌّ واثبُ الخطى، والتقاط صوريّ عَيني مُكثَّفٍ لحياة طبيعة الريف العراقي وحياة الإنسان المديني المُتحضِّر. ومن ثُمَّ بيان انعكاس آثارهما وإسقاطاتهما الإيجابية والسلبية على حياة أبطال الرواية وشخصياتها الرئيسة والفرعية من أوَّل جلسةٍ نفسيَّةٍ من جلسات الرواية التعريفية.

2- تدوين سيري شخصي ذاتي محلي وشعبي، وأرخنة زمانية لمثابات المكانية ونقاط فضاءاتها التعدُّدية بدأً من نقطة الشروع الأولى (القرية)، نواة المكانية، ثُمَّ تواصلاً سيريَّاً لمركز القضاء، فانتقالاً مُنتظماً لزحمة المدينة مركز المحافظة، فالخارج العراقي، وبخط السِّيرالآتي: (قرية الحَشريَّة، قضاء المَجَرِ الكبير، مدينة العُمارة، بغداد، الموصل، الرمادي، دهوك، وخارج العراق النمسا).

3- استعراض إجرائي وتطبيقي كبير لحياة الناس العامَّة من أبناء الشعب العراقي ساكني الريف، وإظهار قوة توحُّدهم الاجتماعي والإنساني والفكري في مواجهة مصاعب الحياة، والوقوف بوعيٍ عند أنساق التحوُّلات الاجتماعية والتغيُّرات الأخلاقية الطارئة السريعة التي أخذت تغزو وتصيب منظومة القيم الحياتية في مدن العراق الصغيرة والكبيرة؛ نتيجةَ عوامل جمَّةٍ وسلوكياتٍ أخلاقيةٍ خارجيةٍ شاذة وغريبةٍ لم تكن مألوفةً في بنية المجتمع وثقافته المحلية والتراثية والدينية العامَّة.

4- الإشارة السردية التوثيقية إلى الأحداث السياسية التي مرَّ بها تاريخ العراق الحديث والمعاصر ما بعد تغيير نظام الحكم السابق القائم، واستدعاء أحداث الفتنة الطائفية ومن أيقظها إثنياً في عام 2006م، والتي أدَّت إلى القتل على الهُوية. واستهداف النُّخب والكفاءات العلمية والأكاديمية المُثقَّفة الواعية من أبناء البلد. والتهجير الطوعي والاضطراري داخل البلد وخارجة نتيجة ذلك الطارئ.

5-انتقاد علنيٌّ جادٌ وواضحٌ لسياسة القائمين على حكم البلد من المُتحكمين بمصائر الناس. واستياء وطني ونقمة العامة من أبناء الشعب تُجاه ما تقوم به الأحزاب الكثيرة التي أخذت تُسيطر على زمام الأمور الداخلية وتتحكَّم بالسياسة الخارجية للعراق وولاء تبعيتهم للخارج وارتباطهم بغير الوطني.

6- عمد الكاتب أو الراوي العليم لرواية (امرأةُ الظلِّ) في منهج مركزية اشتغالاته إلى الأُسلوب الحكائي القصصي المتعدِّد الحكايات الذي يبدأ في كل جلسةٍ من جلسات الرواية بحكايةٍ سرديَّةٍ عن أحداثها الفعلية وعن شخوصها ووحداتها الزمكانية، ثمَّ ينتقل فنيَّاً إلى حكايةٍ جديدةٍ في جلسةٍ أخرى متوالية تصبُّ جميع الجلسات الست بمركز وحدة الحدث الموضوعية لواقعة الرواية وأٍس ثيمتها.

7- تَفرُّدُ الكاتب عبد الرضا صالح محمَّد في روايته بالكشف عن الاستهداف القصدي للكفاءات العلمية من الأطباء في ظلِّ منظومة الحكم الجديد للعراق. واستئثار ثلةٌ كبيرة من متنفذي الأحزاب بالسيطرة في تسيير وتسخير النظام الصحي لمنافعهم الذاتية والشخصية، واستبعاد العناصر الوطنية المخلصة من الأطباء الذين يُعارضون فلسفة وتَدَخُلُ الأحزاب وتوجُّهاتهم التبعية في تدمير بنية النظام الصحي. وخير مثال على ذلك ما تعرَّض له د. عماد مدير إحدى مستشفيات بغداد وولداه.

8- في ظلِّ قيام هذا الاستئثار الحزبي والمؤسساتي قام الروائي بتشخيص وتعريةِ الواقع السياسي المتردِّي الذي يُسيِّره بعض الأشخاص والرموز التابعين لأجنداتٍ خارجيةٍ لا يهمها مصلحة البلد، وبالتالي عملوا على تنفيذ مخططاتهم الرامية إلى إبقاء البلد مُتخلِّفاً تابعاً لعجلة الأجنبي الناقم عليه.

9- وقد جاء الحديث عن هذا الواقع السياسي الفاسد؛ نتيجة شعور عامَّة الناس من أبناء الشعب باستمراء ألم الظلم والحيف والشعور بالنكوص النفسي جراء التمايز المقصود في إرباك حياتهم.

10- الجانب العاطفي الذاتي والأخلاقي الاجتماعي لحياة كثير من الناس الذي عكسه أبطال الرواية في أحداث رواية (امرأةُ الظلِّ) أخذَ مأخذًاً فنيَّاً كبيراً من مِساحات فضاءات العمل الروائي الضافية، وخاصةً فيما يتَّصل بِعَيِّنَةِ بطلِ الرواية المتفرِّد عدنان وزوجته وفاء وابنته صَبا وأصدقائه المُقرَّبين مثل يُوسف وأطياف أو فاتن ونضال ولين وخالد، وممَن التقى بهم البطل عدنان في بغداد والعمارة.

11- وفي الأعمِّ الأغلب أنَّ التسريد العاطفي للرواية تدور أحداثه وموضوعاته عن أنساق الفساد الأخلاقي والاجتماعي، وعن تتصدُّع القيم الصُلبة والأعراف والتقاليد الثابتة للمجتمع المديني والريفي التي ظهرت عيِّناتها الحقيقية عند الكثير من النسوة والفتيات العاهرات ممن مارسن مهنة البغاء بسببٍ أو من غير سببٍ مقنعٍ؛ نتيجةً لشعورهن بالضياع والسقوط، شخصيَّات مثل أطياف أو فاتن وحنان ونضال ولين وديما وسناء من اللَّائي عَاشرَهُنَّ البطل عدنان وصديقه خالد ود.يوسف.

12- إنَّ الحديث عن المقدَّس والمُدنَّس في سرديَّات الرواية له أكثر من موضوع أو حكاية أو فكرةٍ تبدأ ثيمتها الخيِّرة بالفضيلة وتنتهي سيرتها بالسيِّئة الرذيلة أو بالفاحشة الخطيئة.ومن صور ونماذج ثنائية التضاد في هذا المقدَّس والمدنَّس حكايات وقصص شخصية البطل عدنان وشخصية صديقه يوسف والطارئ خالد مع ثلةٍ كبيرةٍ من عواهر البغاء والمُومسات ضحايا ثقافة المجتمع وإسقاطاته.

13-على هامش تسلسل أحداث الرواية التاريخي الزمكاني، عكفَ الكاتب الرائي على تدوين أحداث الرواية ومنها وثيقة الاستسلام التاريخية التي أبرمها ضباطٌ عسكريونَ كُبَارٌ من النظام البعثي السابق للحكم بخيمة سفوان المذلَّة مع الأمريكان؛ بسبب دخول العراق للكويت وخوضه الحرب.

14- إنَّ الأغرب في شخصيَّات الرواية سواءٌ الرئيسة أم الثانوية أنَّ كلَّ شخصيَّة من شخصيَّاتها الفواعلية تحمل في ذاتها النفسية صفاتٍ وخصالاً تضاديةً ازدواجيةً إيجابيةً وسلبيةً معاً، وهي تُمارس حياتها اليومية مع الآخرين. وكان هذا التضاد الفعلي دافعاً نفسياً رغائبياً وإغرائياً مشجِّعاً ومُؤثِّراً لنزوح هذه الشخصيَّات إلى مُستنقع الرذيلة الهابط والسقوط في جحيم هاويته السحيقة القذرة. وقد عكس صوراً مختلفة من ثيمات مرآة الواقع المتأثِّر بالانحرافات الجديدة للتغيير.

15- في كلُّ جلسةٍ من جلسات الرواية أو عيِّنة من عيِّنات فصولها الستة تُثارُ فكرةٌ جديدةٌ ولافتةٌ وتبرزها للنظر مع تنامي استمرارية الحدث فتتطوَّر وتتفاعل بسرعةٍ فائقةٍ وبحسب سير المواقف والأحداث التي يعيشها الأشخاص ويتفاعلون معها في ظلِّ مجتمع مليء بالغرابة والجِدِّةِ والكشف.

16- (امرأةُ الظلِّ) رواية من نتاج السرد العراقي الحديث ما بعد التغيير السياسي، لذلك فهي رواية متعدِّدة الآفاق والرؤى عن نتاج واقع الوضع الاجتماعي الأخلاقي والسياسي والاقتصادي والفكري والديني الزمكاني. وتعكس كلُّ جلسة من جلساتها التقاطاً عينياً وصورياً حيَّاً ما عن هذه التَّعدُّدية.

17-استخدم الكاتب مؤلِّف الرواية بعضاً من المفردات والجمل والتراكيب الشعبية باللَّهجة العراقية المَحليَّة الدارجة أملتها عليه ضرورات السرد وتأثيراته الواقعية النفسية. وقد أراد الرائي من هذه اللهجة المؤثِّرة انتقاداًلاذعاً وصارخاً لسياسة الدولة وتوجَّهاتها بعدم الاهتمام بمصالح أبناء الشعب.

18- تضمَّنت الرواية بين طيَّاتها السردية، ولا سِيِّما أواخر جلساتها الفصلية النفسية سرداً وثائقياً عن تكرار فترة القتل الطائفي والتهجير العرقي والإثني على الهُوية الدينية الذي شهده العراق في تاريخه المعاصر والحديث في الأعوام (2005، 2006، 2007)، ومَاتلاهُ من أعوام الفتنة الطائفية.

19- الوقوف عند أهمِّ فصلٍ من فصول الرواية صفحة (238)، وهو موضوع الخيانة الزوجية بين البطل عدنان وزوجته وفاء والانجرار نحو السقوط في هاوية الفساد والخطيئة. وقد تذوَّق كلاهما من بئر الخيانة نفسها، وكان العقاب بالمثل (العينُ بالعين والسنُّ بالسِّنِّ)، وعلى الباغي تدور الدوائر.

20- الرواية على الرُّغم من كونها تسردُ أحداثاً مكانية وزمانيةً عديدةً، فإنَّها احتوت بين جنباتها الفكرية الكثير من الرؤى الأفكار والأحلام والأمراض النفسية التي حصلت لمرضى علم النفس بسبب تهيُّؤاتهم ونزواتهم ورغائبهم وقُدارتهم العقليَّة وبوجه خاصٍ عن بطل الرواية عدنان وفاتن. والرواية تعدُّ انتقالاً نوعيَّاً صادقاً في أكوان المكان والزمان واستدعاءً جريئاً للحضور والغيَّاب.

21-الفصل الأخير أو الجلسة الأخيرة، والَّتي هي خاتمة الرواية ومنتهاها كانت بحقٍّ خاتمةً فجائيةً مُذهلةً وصادمةً للقارئ بحدثها الفنتازي الأخَّاذ الذي كسر فيه الكاتب سياق توقُّع المألوفِ الحياتي لشخصية البطل، وكيف سارت حياته الاجتماعية والخُلُقية بعد انتهاء أحداث الرواية ودخوله بغيبوبة حُلُميةٍ كبيرةٍ مُفزعةٍ في الوقت الذي كان المتلقِّي يتوقَّعُ أنْه مَشهدٌ واقعيٌّ تَعرَّضَ له البطلُ:

"اِنحنَتْ وَفاءُ وقَبَّلتْهُ فِي جَبينِهِ وَسَالتْ دُموعُهَا، ثُمَّ صَعدَتْ صَبَا إلَى سَريرهِ وَاحتضنتهُ وَقَبَّلتهُ، فَهمَسَ بِأُذنِها: مَا الَّذِي حَدَثَ لِي؟ وَمَا يَجرِي؟ مُنذُ أُسبوعٍ وَأَنتَ غَائبٌ عَنِ الوَعِي؛بَسببِ الاِنفجارِ الَّذي هَزَّ المّدينةّ، وَرَاحَ ضَحيتهِ الكَثيرونَ! أَ لَا تَتَذكرُ يَا أَبِي ؟ حِينَهَا تَذَكَّرَ اللَّحظاتِ الأخيرةَ حَينَمَا كَانَ وَاقفَاً قُربَ السُّوقِ". (امرأةُ الظلِّ، ص 244).

***

د. جبَّار ماجد البهادليّ / ناقدٌ وكاتبٌ عراقيّ

في عرف سينما الرعب والإثارة يركز الكاتب على إتلاف واجهة الكائن الحي خصوصا الإنسان، أو يبتدع مخلوقا جديدا غير مألوف بين البشر، حيث يبدأ الشعور بالرعب انطلاقا من مفردات العنوان أو من كلمة مباشرة أو غير مباشرة واحدة مرتبطة بمتن أو موضوع الكتاب، عادة ما ينجذب المشاهد أو القارىء بمجرد ذكر فيلم رعب، حتى صار يكفي ذكر الرعب كدلالة ولا يهم بعد ذلك العنوان الرسمي الذي اختاره الكاتب للفيلم.

النفس البشرية لا تستأنس إلّا بما هو مألوف، وانطلاقا من هذه الظاهر النفسية على الكاتب أن يكون ذكيا ويلعب على خارج المألوف. فالبقرة مثلا حتى وإن رأت الإنسان ممسوخا فلا تلقي له بالا، أكيد ستعتبره مخلوقا مختلفا وكفى، حتى نحن البشر قد لا تشكل في أنفسها عملية إتلاف وجوه المخلوقات الأخرى أي رعب يُذكر، فقد نعتبرها نحن أيضا مخلوقات غريبة وربما نشك في وجودها كالمخلوقات الفضائية المزعومة، لكن الرعب هي تلك التعديلات السيئة التي يدخلها المخرج على السمات المألوفة من وجه الإنسان بالأخص، كتجمع بشري يحقق الأمن والطمأنينة والهدوء والاستئناس كلما تكاثر في ملامحه المشتركة المعهودة، هنا تحدث الإثارة بما أجاده مخرج فيلم الأموات الأحياء، مع أنه لم يمسخ الرؤوس بل ظهرت جماجم البشر في شكلها العادي، أمّا غير العادي فيها فهو أنها تتحرك فارغة من لحمها، وأحيانا مهدور متناثر لحمها ربما لأن بعضهم حديثي الدفن، وأحيان رؤوس بمحيطها الهندسية المعتاد يتقاطع من وجوهها الدم واللحم الحي، ويقصد المخلوقات البشرية التي أصيبت بالعدوى. الرأس كلمة عامة، نقول رأس الجبل، رؤوس الأصابع، رأس الخيط.. وكما عهدنا أن لكل شيء رأس، وهو ما يعلو الشيء بعكس القدمين في الكائنات الحية أو القاعدة عند الزواحف أو الجبل وكل المواضيع الجامدة.

قبل أن نبحث عن الدلالة العميقة للمسخ في الأدب العربي والأجنبي، وفي النصوص المقدسة: (فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ)1. حتى في المواضيع والصور التي اعتادت أبصارنا على استقامتها واستواء مناظرها وأشكالها، دعنا نقف عند "رؤوس ممسوخة" كعنوان بحده ذاته ممسوخ لأنه لم يحقق الدلالة المرجوة منه، فلأن من الشائع أن نقول وجوه ممسوخة حتى نثير السؤال لماذا مُسخت هذه الوجوه وبُدلت عن سليقتها، مثلا لو أن الله غير من شكل هذه الفرقة المعاقبة مع الإبقاء على ملامح الإنسان في وجه القرد فهل كانت ستتحقق الإثارة ثم يظهر أثر العقاب بمعناه الكلي؟ أكيد يبدو السؤال حول تبدّل شكل الرأس مسألة غير مدهشة ولا هي مثيرة للرعب أيضا، وكموضوع منظور أكيد سيتغير الوضع النفسي لمن شدّوا على كراسيهم انتظارا للمفروض أنه فيلم أو قصة رعب، كما يقول الدكتور ".. كثيراً ما كانت المفردة ملتصقة بما يحتويه الكتاب من موضوعات، بحيث يكون العنوان مرآة لهذا الكتاب، وأعتقد بأن هناك كانت أسس قد تم الاتفاق عليها بين المؤلفين، وهي عدم خروج العنوان على متن الكتاب.."2.

لأن الرأس وإن عبثنا بشكله ومسخناه فلن يذهب بعيدا عن الأشكال الهندسية المألوفة، كأن نحوله من الشكل المستدير إلى مربع أو مستطيل مثلا، وهذا ما يشاهده الأطفال يوميا في أفلام الكارتون حيث لا يثير فيهم ذلك أي فزع بل تراهم يتابعون حلقاته بمتعة لا متناهية، كالشخصية الشهيرة بينهم المعنونة بـ"سبنج بوب" مثلا، مع أن واجهته مربعة ومحيطه مكعب، لكن الذي حافظ على استقرار وضعهم النفسي مع أنهم أسرع إلى الرعب هي ملامح "سبنج بوب" الطبيعية، ولو توفر عنصر العرب فيها لصادرتها منظمة حقوق الطفل، لكنه توافق مع ما يصفها كثير من النقادة والدارسين كتأثير بصري للعنوان من حيث هو دلالة على شكل هندسي أو معنى لغوي بسيط.

لكن الموضوع الأكثر عمقا الذي نطرحه في هذه القراءة هو التناول الحسّي المبدئي لمفردات العنوان كبوابة آخذة بالذهن إلى مضمون مرتبط بمحتوى النص القصصي أو الروائي، فالعنوان تترتب عنه شراهة لقراءة المضمون، فإن لم يفلح الكاتب في توفير هذه الميزة فأكيد سيحتم على القارئ التدخل بإمّا البحث عن مضمون آخر منساب للعنوان، أو التفكير في عنوان آخر مناسب للقصة أو الرواية أو البحث أو الكتاب ككل، وربما يحصره في دائرة من فساد المزاج ليهمل النص أو الكتاب بمجمله، فالقارئ مدعو دائما إلى الاستمتاع وليس للتفكير مع الكاتب لمراجعة ما قرر من عنوان ومضمون، حتى مصمم صورة الغلاف لم يفهم المغزى الكامن وراء العنوان، فلم يجد حيلة للتعبير غير تلك الصورة التي لا يبدو عليها أي مسخ أمام إلّا ما عهدناه من لون في البشر ذوي البشرة السوداء، حتى أن الكاتب دفع المصمم إلى متاهة في التعامل مع العنوان، فعمد وضع صورة غامضة، كالتي تبدو لرأس إنسان عادي في الظلام، إنه ظلام فرضه العنوان على المصمم، بخلاف مصمم رؤوس شخصيات رواية "الأحياء الأموات" أو "الأموات قادمون"، فمن خلال صورة الرأس الأسود والعنوان يتراءى لك أن الكتاب يثري بعمق ظاهرة التمييز العنصري، خصوصا لدى الذين لا يحسنون قراء اللغة العربية ليتصفحوا الكتاب فيعرفوا أن المضمون يبحث خارج دلالة كل من الغلاف والعنوان.

يبدو أن صاحب العنوان لم يكلف نفسه كثيرا من العناء بحثا عن عتبة أكثر دقة، سوى إسقاط كلمة رؤوس على وجوه التي اعتبرها مكرسة في أفلام وقصص مشابهة، فعتّب بها الكتاب لزوم الاختلاف الذي اعتقد أنه رحمة، ولا يدري أنه قضى فنّيا على العنوان بتجاهله إدارة فنون وأجناس المجاز في اللغة، وفنية التعامل مع المرئي سواء كان صورة متحركة أو صورة جامدة، الفكرة التي تطرحها نظرية الاليغوريا في إبراز بلاغة الصورة أو الفكرة: "صورة مجازية تنسج من مادة سردية وتنطوي على معنى ظاهر وآخر خفي، كونها من المجاز السردي"3، بالمعنى الذي أشار إليه الباحث والمستشار في التسويق الرقمي الدكتور حسام جندل، ورغم أنه غير متخصص في الأدب إلّا أن المقولة أعجبتني لأتخذ منها مرجعية بخصوص جاذبية العنوان للدلالة على موضوع تجاري أو أدبي أو حساب أو موقع رقمي مما يتعلق بالحسابات والمدونات والصفحات الشخصية، لأن المعنى ينطبق كذلك على الكتاب حيث يقول: " إن الكلمات القوية هي مصطلحات تثير استجابة عاطفية ويمكن أن تجعل عناوينك أكثر إقناعًا. تستهدف هذه الكلمات مشاعر القراء، مما يدفعهم إلى النقر على محتواك بدافع الفضول أو الإثارة أو الخوف من فوات الأشياء (FOMO) أو محفزات عاطفية أخرى."

فكلمة رؤوس جعلت المعنى مشتتا وغير دقيق، فكل المخلوقات الحيّة على وجه الأرض، وكل المواضيع الموجودة في الكون وسائر الأشياء لها رؤوس، واختلاف أشكالها ومواضع حواسها من جماليات الكون وفسيفسائه، فهذا المعنى الكامن في أذهاننا هو الذي نسخ ما يمكن أن يتضمنه (رؤوس ممسوخة) من معنى، (إِنَّ فِي ٱخۡتِلَٰفِ ٱلَّيۡلِ وَٱلنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ ٱللَّهُ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ لَأٓيَٰتٖ لِّقَوۡمٖ يَتَّقُونَ) يونس (6).

لاحظ أن ما ورد للإشارة إلى أنه تنوع عادي، فاختلاف جزئيات مكونات الكون حالة تجعلنا نستمتع، فالهندسة تثبت أن اختلاف أشكال المخلوقات مظهر جمالي، كما هو الحال في مظهر الخضر والفواكه، ففاكهة الموز مثلا ليست ممسوخة مقارنة بالتفاح، ورأس الحصان ليس ممسوخا كذلك الحال إذا ما قارناه برأس الأسد، وبناء على ما ورد في الآيات من معنى فإن الليل ليس ممسوخا مقارنة بالنهار الذي نحبه عادة في تعلّقنا المسطح به، فقط لأن أجدادنا أقنعونا بأنه مخيف حتى لا نتجرأ فنخرج ونحن صغار فيفقدوننا، وربما من سوء حظ الليل حين اختاره اللصوص للتخفي والمخادعة، فماذا نقول عنه اليوم حين عرفنا أنه يصلح للسهر والمسامرة ولخوض الأعمال الشاقة تفاديا لحر الشمس، وأن اللصوص تخلوا عن ظلام الليل وصاروا ينفذون خططهم في وضح النهار، وكذلك لم يعد النهار وحده يساعدنا على قضاء حوائجنا الكثيرة، حيث كان الإنسان يظن أنه لا يمكن أن يدركها ويراها ويصل إليها في الظلام، إذن لا جديد ولا مدهش ولا مثير في العنوان "رؤوس ممسوخة"، والأصح وجوه ممسوخة لأن هذا المسخ هو الذي يوفر ويُراكم الغرابة والدهشة في مشاعر الآخر بناء على المقارنة التي تحدث سريعا داخل النفس، فما الذي تريد الوصول إليه وأنت تمسخ الرأس الذي عهدناه كرويا إلى شكل مكعب مثلا، ما هو إذن المجهود المبذول في طرح عنوان يتمتع بوظيفة فنية مكتملة الخصائص والدلالات؟ فلو أنه سطّح المعنى وقال رؤوس ملونة مثلا أو ملطخة لكان العنوان أكثر دقة، لأن الوجوه بما يعني الملامح هية المعنية بالإثارة في الأدب ويبدو المعنى أكثر جلاء في النصوص السينمائية كما هو متعارف عليه لدى متتبعي أفلام الرعب.

كثير من البشر خلقوا برؤوس غير سوية، ولأن مساحة وجوههم مألوفة بيننا، ومواضع حواسهم متمركزة في أمكنتها الطبيعية لم نشعر اتجاههم بأي رعب، أو حتى حساسية معينة تجعلنا نراهم ممسوخين على رأي صاحب العنوان، الرسامون الكبار يعتبرون الأشكال الهندسية تأسيسا فنّيا للوصول إلى رسم رأس الإنسان، فيعتبرون رأس الطفل مثلا مستديرا بينما رأس الرجل مستطيل، وبعض الوجوه تأتي مثلثة، وهكذا ينصحون المبتدئين بالانطلاق من هذه الأشكال.

***

بقلم: الكاتب الجزائري عبد الباقي قربوعه

...........................

1- البقرة الآية: 65.

2- مجلة فرقد الإبداعية عدد: 01 أغسطس 2023م

3- الاليغوريا، ادارة دار التنوير العمانية تأريخ النشر: 26 /2/2019.

قراءة في قصيدة (أبي) للشاعر العراقي فارس مطر

المقدمة: تأتي القصيدة بعنوان بسيط: "أبي"، لكن سرعان ما تنقلب البساطة إلى عمق، إذ يتكشف النص عن تجربة وجودية في فَقْد الأب، لا بوصفه غياباً جسدياً فقط، بل كفقدٍ للمعنى، وللدفء، وللاتجاه. يتجلى النص عبر خطاب ذاتي حميمي يتداخل فيه الحاضر بالماضي، والغياب بالحضور، والذات بالآخر، بلغة مشحونة بالشجن والرمزية.

أولًا: البنية الدلالية للنص

1. الغياب كقدر وجودي:

منذ السطر الأول: "أنا طريدة الغياب يا أبي"، يؤسِّس الشاعر لحالة من التيه الوجودي، فليس الغائب فحسب، بل "طريدة" الغياب، كأن الغياب صيّاد، والذات مَطاردة على الدوام. هذا التصوير يمنح الغياب قوة فاعلة/مؤذية، ويجعل الذات في موقع الضحية.

2. الحضور الغائب للأب:

الأب هنا ليس شخصية محدّدة، بل أقرب إلى أيقونة رمزية، تمثل الحماية، والحنان، واليقين. لكنه حاضر في الذكرى، وغائب في الواقع. يقول: "نجوت إذ نفخت في ملامحي / وقلتَ لي: هناك نجمتان قرب تلة الضياع". هذه النجاة ليست خلاصاً حقيقياً، بل نوع من النجاة المؤقتة التي تنتهي بالفَقد.

3. التوتر بين الاقتراب والافتراق:

"وكنتَ قد حاذيتني / فلنفترق!"

ذروة المفارقة تتجلى هنا: لحظة الاقتراب لا تنتهي بالتوحد، بل بالافتراق. هذا الصراع بين الحنين والواقع، بين التلاقي والانفصال، يُشكّل البُعد الدرامي في النص.

ثانيًا: الجماليات الأسلوبية والرمزية

1. اللغة الشعرية:

اللغة في النص تتسم بالكثافة والتكثيف، كل سطر مشحون بمعانٍ أكثر مما يُقال. المفردات مثل: طريدة، الغياب، المصب، الضفاف، الثقوب، تشحن النص بدلالات مفتوحة، تُشير إلى الضياع، النهاية، والفراغ.

2. الصورة الشعرية:

الصورة في القصيدة تنتمي إلى المدرسة الرمزية/التعبيرية، حيث نجد صورًا مثل:

"رميتَ لي من قلبك الثقوب" — صورة عكسية للمألوف، إذ أن ما يُلقى عادة هو العطاء، لا الثقوب، وكأن الأب قد سلّمها جرحه الخاص كوصية.

"صوتاً وناياً مُقمراً" — يحيل إلى الإرث المعنوي، صوت الأب يستمر، لكنه مرتبط بالحزن (الناي) وبالرقة (القمر).

3. الرمز:

النجم والضفاف والمصب: ترمز إلى الرحلة الوجودية، حيث المصب هو النهاية (الموت أو الغياب الكامل)، والضفاف هي مراحل الحياة أو محطات الفقد.

الناي: رمز للحزن الدفين، وهو آلة تُصدر أنينًا لا صوتًا، فيحمل البعد الصوفي والوجداني معاً.

ثالثًا: بنية الصوت والشخصية

القصيدة تُبنى على ضمير المتكلم، ما يمنحها طابعاً اعترافياً وجدانياً. الصوت الذكوري هنا ليس مجرد ابن، بل كائن وجودي في صراع مع الفقد، وكأن الأب لم يكن فرداً، بل تمثيلًا للثبات وسط عالم آخذ في الانهيار.

في قصيدة "أبي"، تكتب الذات عن الغياب لا كحالة عابرة، بل كـ"مصير". فالنص يَعبُر من الذات الفردية إلى التجربة الإنسانية العامة، حيث يُصبح الأب رمزاً لكل ما نفقده في طريقنا نحو النضج أو الفقد أو الموت.

بنية النص الرمزية، وصوره المشحونة، ولغته الوجدانية العالية، تجعله تجربة شعرية تلامس العمق الفلسفي للغياب، وتضع المتلقي في مواجهة سؤال كبير: كيف نحيا وسط ما نفقد

من جهة التحليل النفسي لقصيدة "أبي"

أولًا: الأب بوصفه صورة نفسية لا واقعية في علم النفس، يُشكّل "الأب" أحد أركان التكوين النفسي المبكر للطفل، ويُنظر إليه بوصفه رمزًا للسلطة، الحماية، الحدود، والتوجيه. في هذه القصيدة، لا يظهر الأب كشخصية واقعية بقدر ما يتجلى كـ"صورة نفسية" محفورة في اللاوعي، حاضرة في الغياب، ومؤثرة حتى بعد الفقد.

"نجوت إذ نفخت في ملامحي" – يشير هذا إلى العلاقة التأسيسية بين الأب والابن، حيث يمنحه – رمزياً – الحياة، الهوية، والنجاة من التلاشي.

لكن هذه النجاة مشروطة ومرتبطة بفعل انفصال لاحق:

"فلنفترق!" – وكأن هذه النجاة لا تكتمل، بل تُفضي إلى تكرار الجرح النفسي القديم، أي الافتراق الأول الذي يترك أثراً دائمًا في البنية العاطفية للابن.

ثانيًا: الابن كذات مكسورة بين التعلق والانفصال من وجهة نظر نفسية، المتكلمة في النص تعيش في منطقة هشّة بين الرغبة في التماهي مع الأب، والحاجة إلى التحرر من سلطته الرمزية. هذا يُنتج توترًا داخليًا بين:

التعلق: "كنتَ قد حاذيتني" – أي اقترب، شاركها لحظة حميمة من الحضور.

الانفصال: "فلنفترق!" – لا يأتي الانفصال من الابن، بل من الأب، مما يوحي بـ خيانة شعورية أو ترك مبكر يترسخ في اللاوعي كصدمة انفصال.

هذا الصراع الداخلي بين الرغبة في القرب والواقع المحتّم للغياب هو ما يدفع الذات إلى التشظي، إلى الشعور بأنها "طريدة الغياب". وكأن الغياب هنا ليس حدثاً، بل نموذجاً نفسياً متكرراً.

ثالثًا: الرموز بوصفها تعبيرات لاشعورية:

القصيدة غنية بالرموز التي يمكن تفسيرها نفسياً على النحو التالي:

"الثقوب": حين "يرمي له الأب من قلبه الثقوب"، فإنّ هذه الصورة تعبّر عن توريث الجرح، حيث يُسلّم الأب – بلا وعي – آلامه الخاصة إلى ابنه، فيتحول إلى حامل لميراث نفسي مثقل.

"الصوت والناي المقمّر": الناي رمز للحزن، والصوت هنا هو صدى الأب الغائب في داخله، الذي تستبطنه لتُحاوره بعد رحيله. هذا يشير إلى ما يُعرف بـ "التمثل الداخلي للأب" في علم النفس، وهو بقاء صورة الأب داخل النفس، تؤنسن الغياب لكنها لا تملأ الفراغ.

رابعًا: نهاية المصب كرمزية للموت أو التلاشي النفسي

"علني أموت في نهاية المصب" – هذا التعبير ليس مجرد رغبة في الموت الجسدي، بل يمكن قراءته كـ توق إلى الخلاص من التيه الداخلي، أو كحالة من الاكتئاب اللاشعوري المرتبط بعدم معالجة الحزن القديم.

كما أن التشبيه الأخير: "شارداً كموجة"، يُبرز فقدان الجذور النفسية، فالموجة بلا شاطئ، بلا ثبات، بلا وجهة... تمامًا كما هي الذات المتكلمة، التي فَقَدت بوصلة الأمان في غياب الأب.

الخاتمة:

القصيدة تكشف عن نص نفسي محض، يتحدث من لاوعي جريح، ومن بنية شعورية تعاني من فقد رمزي فادح. الأب هنا ليس ميتاً بالضرورة، لكنه ميت في وجدان الذات، وهذا ما يجعل النص فعل حداد متواصل، ورغبة في ترميم الذات عبر مواجهة الغياب لا نسيانه.

هذه المواجهة تتم بالشعر، لأنه – كما يقول علماء النفس التحليليون – أحد أدق وسائل التعبير عن الوجدان الدفين، والمصالحة مع "الخسارة الأولى"1317 faris matar

بقلم: الباحث والناقد عماد رحمة

للشاعرة التونسية كريمة الحسيني

عن دار المسار للنشر والتوزيع - 2024 صدر للشاعرة كريمة الحسيني مجموعتها الشعرية الثالثة والتي تجمع بين دفتيها (34) قصيدة و(9) ومضات.

منذ الوهلة الاولى تجد نفسك أمام عتبة يدفعك التأويل فيها إلى متابعة القراءة لكشف عن ما تخبّئه العنونة (مواويل للعشق والشجن) من التساؤل حول ما تريد الشاعرة البوح به مما يجعل القارئ في جاذبية الشّدّ النفسيّ للصورة، من خلال مواويلها التي تحمل بين طياتها مجموعتين من المواويل (النصوص) بعناوينها الفرعية إحداهما للعشق (مواويل عشق، ليس للحب دائرة، الطريق الى القلب، رسائل عشق، حنين، كيف أتحرر منك....) وكما تقول في ومضتها (ليس للحب دائرة):

باكرا تختلط الموسيقى بالقهوة

فتحدث الولادة

وتحيا الإبتسامات على الوجوه الكئيبة

المكتظة بالمخاوف....

والثانية للشجن (لا ظل يشبهني، معانقة السراب، جحيم الصمت، أكوام رماد، ضياع، فوضى المشاعر، تائهون، خذلان، زيف الغرام، ضياع، انكسار،....) وكما في ومضتها (احتراق):

لنبدأ من اليوم بتبادل الأدوار...

تحترق أنت

وأستمتع أنا بمشهد الدمار

ان الولوج لمجموعتيها هذه لا بد ان يكون من خلال عتبتها والتي هي كالمرآة العاكسة لذاتها أولا ولفضاء تخيلاتها ثانيا، كونها مفتاح الدلالة لقوى الفعل التأويلي الموظف للفت النظر الى (أنا) الشاعرة. هذا البناء الذي وظفتهُ في العنونة الرئبسية والعناوين الفرعية جاء طبقاً للمناخات التي واكبتها وفق الحدث القائم في حينه.

من خلال نصوصها هذه نستكشف ان أنين الحب يسري بتدرج الدلالة من البوح بالحب الى الرجاء، الى الحزن والانكسار من خلال سيل من المشاعر والهموم الرقيقة بوضوحها وجمالها، بوحها وشفافيتها المتراكمة في مخيّلتها والتي هي من نتاج إفرازات الآخر وانعكاساته في أنا الشاعرة. وكما تقول في قصيدتها (مواويل عشق) :

أنا لا أرتب الشوق

تقودني مشاعري إليك

كلما اشتد البرد

تأخذني الذكرى

لأنمو بين أناملك

أزهارا برية

ومواويل عشق

وعناقيد عنب لم يدركها الخريف

تكتسب قصائد الشاعرة كريمة الحسيني مسحة من انعكاسات أناها تجاه الاخر محملة تارة بالجمال والعشق والامل، وفي الاخرى باليأس والضياع، بالحزن والعتاب، لذا تكشف لنا عدستها من خلال نصوصها عن مفاتيح أعماقها وترجمة عنونتها باسلوب سردي محملا بالغنائية من خلال لغة بسيطة خالية من الأقنعة والتوظيف الاسطوري والترميز لتكون لغة سلسة محملة بكل ما لديها من أثقالها ومناجاتها النفسية، فالمتحدثة دائما هي ذات الشاعرة وهي تعكس تجربة إنسانية غنية ومتعددة الأبعاد، حيث تتداخل الذات مع العالم المحيط بها من خلال استحضار موضوعات العزلة، البحث عن الذات، والتحول النفسي للشاعرة وكما تقول في قصيدتها (جحيم الصمت) :

قاسية هي القلوب من حولي

تشبه الموت الذي يزج بك

في الجحيم

أنهض كل يوم على العدم

لا عناق يذيب الثلج

المتراكم على كتفي

لا شمس تطرق نافذتي

أرتب شعري

وصدري المبعثر على السرير

تتكشق سرديتها من قولها (أنهض كل يوم على العدم... أرتب شعري وصدري المبعثر على السرير..) وغنائيتها تتجلى بما يعكسه التوتر والتداخل بين الحضور والغياب (قاسية هي القلوب من حولي / تشُبه الموت الذي يزج بك، لا شمس تطرق نافذتي...)

من خلال هذا التزاوج والبساطة تستدعي في ذهن المتلقي فكرة العلاقة المستمرة بين الذات والعالم الخارجي عبر تحولات نفسية معبرة عن رحلة الشاعرة بين التشتت الداخلي والوصول إلى الاستقرار.

يظهر هذا الصراع بين الأنا والآخر بشكل عميق في حالة وجودية بين الحاضر والماضي، بين الاستقرار والاضطراب عاكسة لنا من خلال مراياها المقعرة نموها النفسي ورغبتها في الانتقال من حالة الانغلاق إلى حالة الانفتاح فيتضح في الصورة أن الحلم كان يشكل عالمًا متخيلًا بينما الرؤية تأتي بعد مرحلة من الضياع والانتظار وكما تقول في قصيدتها (ليس للحب دائرة):

ذلك الشيء الذي يطوقك

لا أعرف ما هو

لكنه يشبهني كثيرا

يجعلني أجري نحوك

بلهفة العالم

وأرمي كل الحزن خلفي

أرسم على الأرض دائرة

لا تسع سوانا...

كلانا مكبل بالخوف

قصائدها تعكس الجدل المتواصل بين أَناها والآخر، فتتصارع في داخلها الحقيقة والوهْم. فتعكس مراياها مجموعة من التناقضات فتعرّي زيف الأَقنعة وكما تقول في نفس قصيدتها (تائهون):

أشخاص تائهون

في الشوارع مبعثرون

شيخ يحمل عكازا بيد تشققت

تيبست من التعب ومعاناة السنين

تحت الحائط سيدة في الستين

لا تكف عن التدخين

تمد يدها للعابرين

لتشتري سجائر

تتناسي بها وجعا وحنينا...

في نصوص مجموعتها هذه تعكس انتصارات الروحِ وانكساراتها فتمتاز قصائدها بانسيابية سلسة بين محاورها محملة بصور لها قيمة عاطفية تعبّر عن المفاهيم التي لها دلالاتها، والمشحونة بطاقة انفعالية مخزونة في أناها...

من هنا جاءت نصوص المجموعة وهي منحازة إلى مايشبه الهاجس اليومي، حيث يحضر الآخر بوصفه رمزاً نابضاً وتحضر أناها بوصفها انعكاساً لتصرفات ندها الآخر عبر سيل من الصور الشعرية الجميلة وكما في قصيدتها (معانقة السراب):

أعرف أنك كل ليلة تشتاقني

وتمد يدك إلى أطراف السرير

لعلك تلامس دقات قلبي

وأعرف أن عطري يطوقك مع كل هبَة هواء

وكل صباح تبحث عني بين اللحاف والوسادة

لتغمرني بالقبلات

القصيدة لدى الشاعرة كريمة تولد داخل ذاتها اولا ثم تخرج من أعماق الشاعرة وهي تحمل هاجس الأنا وشظايا الألم والحنين، وذلك لأن رهافة الحس لديها قد فرض عليها هذا التماهي مع التأزمات وفقا لما تقتضيه خبرتها الشعورية... فالأنا لديها هي تعبير عن ذاتيتها ومن خلالها تمتلك بعداً انسانياً مفعما بخصائص متعددة كالفرح والحزن والأمل وكما في قصيدتها (الله):

لا شيء أكتبه حين يهطل المطر

فقط أرسم من قطراته على النافذة

قلوبا وقُبلا

طفلة تجري وتبتسم...

أرقبُ السماءَ بكلِّ حزمها

تُلمَع الأسطح القديمة

أرقبُ الأشجار العارية

تغتسل

أرقبُ الأرضَ تبتهج

أرقبُ العمر يمضي..

من خلال قصائدها تشعر وكأن الشاعرة نصبت عدستها على السطح وأخذت معها عدة الرسم وهي تراقب من خلالها ما يجري على الأرض لتجسده في صور شعرية جميلة.

ولكون الشاعرة تشتغل ضمن القصيدة الغنائية لذا تراها دوما تبحث في مضمونها الروحي من خلال تصوير ذاتيتها أي عالمها الداخلي فجاءت قصائدها وكأتها مرآة الذات الفردية فمثلت أناها في أعماق التمركز الأنوي لتكون وسيلة تفاعل وتواصل مع أنا الآخر.

ومن خلال فيضها الشعري تتحسس منذ خطوتك الاولى في المجموعة ما تصبو اليه الشاعرة من اقتناص اللحظات الهاربة التي تمكنها من ايجاد معادلا نفسيا لحالات الارهاق النفسي وكما في قصيدنها (إمراة من ضوء):

لا تنتظر مني

أن أجلس في الظل

أعد خيوط الشمس

ودرجات الإنتظار

أنا إمراة من ضوء

يغويني عرقي

المستلقي على جسدي

أعاند الصيف

وختاما نقول:

تمظهرت ظاهرة اللامنتمي الى المكان في قصائدها الشعرية كشكل من أشكال التمرد على الواقع كونها ترى تلك النسمة التي تستحق المغامرة من أجلها، فبدأ شعرها يتجه ليتقمط دلالة الذات بوصفه الفضاء الحضوري، فجاءت قصائد المجموعة منحازة إلى مايشبه الهاجس اليومي فاشتغلت الشاعرة على أسلوب السيرذاتي وهو شكل من أشكال السرد الشعري وكما تقول في قصيدتها (عسكر وخيام):

حرب تتجدد كل لحظة

لن أخرج منها بسلام..

أحلامي عسكر وخيام

تلاحقني أصواتهم

تحاصرني..

كرشاشة في وجهي

ولست قادرة على الكلام

***

نزار حنا الديراني

 

قبل أيام حيث كان برد الشتاء قد اشتد من جديد - توجهنا سوية أنا والصديق الشاعر العراقي فارس مطر لقضاء أمسية عشاء في مطعم تركي في أحد أحياء العاصمة برلين المتنوع الثقافات والمكتظ بالحكايات المبعثرة وألوانها. ركنا إلى زاوية منعزلة تطفو الأضواء على جدران جنباتها نتناول أطراف الحديث عن الثقافة والأدب والحياة العامة والأصدقاء وأوضاعهم.

التقيت فارس هذا المساء بعد انقطاع دام لأكثر من أربعة أشهر، جلس نحوي بابتسامة هادئة وعيون تحمل ثقل التأمل والكلمات. تبادلنا الرأي عن الشعر، وعن قصيدته الجديدة الموسومة "الوقت الثقيل" التي أسمعني: سألته عن مخاض هذه القصيدة، عن لحظة ميلادها، وعن الأحاسيس التي تسربت بين أبياتها، فأطرق قليلا، ثم قال بصوت شجي: "الوقت ليس مجرد عقارب تدور، إنه ثقل الأيام التي تتراكم في الروح، هو صدى الزمن والعودة إليه من جديد، الانتظار الذي يكبر ببطء حتى يغدو جزءا من ذواتنا."

كانت كلماته لغة تنبض بالحياة رغم صمتها، تحمل ذات الإيقاع الذي قرأته في قصيدته، وكأن الشعر ليس مجرد كتابة، بل كيان يعيش داخل الشاعر ويتحدث من خلاله. في تلك اللحظة، شعرت أنني لا أحاوره فقط، بل كنت أتنقل بين أبياته، أعيش صوره، وأحمل شيئا من "الوقت الثقيل" الذي أسكنه بين سطوره...

كالعادة، يمر صباحاً في الحي الهادئ

يحيي أشجار البلوط

وسياج الورد

وقطة خلف نافذة مطلة

‏صباح الخير، يقول لجوقة التلاميذ

يتفحص المنتظرين عند المحطة في أخر الشارع

الرجل المستعجل ذو الحذاء الرياضي

موظفة البنك ببدلتها السوداء

كلب الهسكي البني والسيدة البولندية

متقاعدة تحاول التنصل من عادة الذهاب الى العمل باكراً

مُدَخّنٌ أنيقٌ يقف جانباً

زوجان بحقيبة سفر واحدة يتحدثان عن بلد دافئ

والستيني النحيف، سائق الحافلة التي وصلت تواً

عبر موقف الدراجات الهوائية

يواصل المشي مطرقاً متأملاً حذائه الطبي المريح

المعطف الرمادي الذي يغطي أسفل ركبتيه

عصاه التي تَنكَأُ ممر المشاة

والأحجار المصفوفة بمهارة، تغريه بمواصلة الخطى

لا يجدُ بُدّاً من قليل الفضول

إذ يشير الى جهة العنوان الصحيحة

لمسنٍّ لم يُعرهُ اهتماماً ويواصل المشي الى الوجهة الخطأ

عرضهُ مساعدة عجوز يزيح الثلج من مدخل بيته

والذي يتجاهله تماماً

استعداده إعطاء دورس مجانية

دون أن يلقى استجابة من الأم

التي تبحث عن من يساعد ابنتها

تقديم يورو وأربعين سنتاً ليافع انصرف مسرعاً

لم يجد في جيبه عملات معدنية

لشراء بسكويت من ماكنة البيع الآلي، لم يره أصلاً

إبراز بطاقة النقل الشهرية لمفتش التذاكر

الذي تخطاه متجاهلاً في قطار الأنفاق

أو تنبيه راكبة منشغلة بهاتفها الخلوي

ستفوِّت محطتها، لن ترد عليه

أيها الشبح الذي لا يُرى ولا يُسمع

دع قمراً يطير من صدرك دائماً

عِشْ أغنياتك

فأنت من ترك الصالة مضاءة بعد العشاء الأخير

عُد الى مثواك في مقبرة الحي الأنيقة

‏اكنس الأوراق المتساقطة التي تغطي اسمك

لا بأس إن لم تجد باقةً أو شمعةً

لا بأس، فقد عشت مهمشاً مغموراً

وسعيداً هادئاً كما الآن

غداً ستقوم بجولة أخرى

وستصرُّ على أنك حيٌّ متحركٌ

يبذل عطاؤه اللا مرئي

‏لطالما قلتَ لنفسك:

يوماً ما لن تفتقدني المدينة

وجوهها، شوارعها، منتدياتها

سأُبعِدُ المظلة وأترك المطر يُكملُ المعنى

نكتشف كل شيء عن حياتنا في اللحظة الأخيرة

من الصدع يدخل الضوء

من الإغماضة تنبثق الرؤى

الى صدري يعود سرب الكراكي

تتدلى نباتات الشرفة

يبدأ اللحن

على الضباب أفتح النافذة

أضع قلبي على راحتيَّ

واستشرف البدايات الجديدة

في فضاء نص أدبي من الشعر كهذا "الوقت الثقيل"، يريد الشاعر فارس مطر، أن يضعنا في قلب تجربة شعورية تتجاوز الزمن المادي، حيث يصبح الوقت أكثر من مجرد حركة عقارب الساعة، بل يتحول إلى كيان ثقيل يسكن الأرواح ويضغط على الذاكرة والأحلام. إنه يأخذنا إلى عالم من التأمل العميق، حيث يتجلى الانتظار، القلق، الإحساس بالفقد، وثقل اللحظات التي تمر ببطء كأنها تحفر في الوجدان.

يبدو أن الشاعر لا يكتفي بوضعنا كمراقبين خارج القصيدة، بل يريدنا أن نعيشها ونحمل عبء الوقت معه. نحن لسنا مجرد قراء، بل نشعر بثقل الزمن في كلمات القصيدة، في إيقاعها المتباطئ، في صورها التي تمتد كظلال طويلة في مساء لا ينتهي. ربما يريد أن يضعنا في تلك المساحة الرمادية بين الماضي الذي لا يرحل والمستقبل الذي لا يأتي، حيث نصبح عالقين في لحظة دائمة من التأمل والحيرة، تماما كما هو. إنه لا يكتب عن الوقت كفكرة مجردة، بل يجعله ملموسا، محسوسا، متسربا في تفاصيل الحياة اليومية، ليجعلنا نتساءل معه: هل نحن الذين نحمل الوقت، أم أن الوقت هو الذي يحملنا؟

الحديث، حيث تمتزج الكلمة بالصورة، وتتداخل الفكرة بالإيقاع، يبرز لنا نص شعري يفيض بتأملات الشاعر، الذي لا يكتفي التعبير في قصيدته الجديدة عن معايشاته في محيط، ذاته، إنما أن يكون صدى لوجدانه، بل يجسد قلقه الفكري في تركيب لغوي يتحدى الأشكال التقليدية.

قصيدة "الوقت الثقيل"، لفارس مطر، نموذج لهذا التحول الحداثي، إذ لا تقتصر على البوح العاطفي، بل تتشابك فيها الرؤى والهموم الإنسانية والتجربة الشخصية. في هذه القصيدة، يستبطن إحساسا بالحزن والاغتراب بلغة متدفقة، تستدعي إيقاعا داخليا يتجاوز الأوزان التقليدية، فيغدو الوزن الحر وسيلة لاستيعاب تدفق الشعور وتحولات الصورة. فيما بنية القصيدة تتسم بالحركة والانسيابية، فالصور تنساب، متحررة من التحديد الزمني أو المكاني، فتارة تتخذ صوتا حزينا، وتارة أخرى تبشر بالخلاص. وهذا ما يجعلها نص مفتوح، متعدد الدلالات، تتباين تأويلاته وفقا للسياقات المختلفة.

هي محاولة للقبض على جوهر التجربة الإنسانية بلغة تترك المجال للمتلقي كي يشارك في بناء المعنى، فلا يقتصر دور القارئ على التلقي السلبي، بل يصبح شريك في إعادة خلق النص. وهكذا، يتحول الشعر إلى مختبر للغة، حيث تختبر طاقاته التعبيرية، ويعاد تشكيل علاقته بالزمن، بالمكان، وبالمعنى ذاته.

"الوقت الثقيل" مثال على كيف يمكن للحداثة الشعرية أن تتجاوز مجرد التجريب الشكلي، لتصبح وسيلة لاكتشاف الذات والعالم، ولإعادة صياغة الوجود بلغة تستوعب تعقيداته وتوتراته...

***

عصام الياسري

في مجموعة حسن علي البطران - "مقاربة تفكيكية"

إشكالية القراءة والتأويل

تقف مجموعة “على باب مغارة” للكاتب" حسن علي البطران "أمام القارئ كبنية نصيّة مركّبة تتطلب أدوات تحليلية متشابكة ومقاربات متعددة المستويات، إذ لا تكتفي بكونها مجموعة من النصوص القصصية القصيرة جدًّا، بل تتحول إلى فضاء دلالي مفتوح على تأويلات لا متناهية. فكل نص فيها يُشبه شذرةً سرديةً تختزل العالم بأسره في بضع كلمات، ومع ذلك تحتفظ بعمقٍ فلسفيّ ووجوديّ لافت، يفرض على القارئ الانخراط في تجربة تأويلية مستمرة.

إن هذا النوع من الكتابة يضع القارئ في مواجهة إشكالية مركزية: كيف يمكن قراءة نصٍّ يُكثّف التجربة الإنسانية في ومضة لغوية، دون أن يُضحّي بالمعنى أو يُفرّط في الأثر؟ وهي إشكالية عبّر عنها أدونيس حين قال: “القصيدة العظيمة هي تلك التي لا تنتهي عند آخر كلمة فيها، بل تبدأ هناك.”، وهو قول يمكن إسقاطه على القصة القصيرة جدًّا بوصفها “قصيدة سردية” مشحونة بالدلالة يرى كذلك  صلاح فضل أن “النص القصير لا يُقاس بطوله، بل بقدرته على اختزال العالم”، بينما يشير يوسف إدريس إلى أن “القصة الجيدة ليست تلك التي تحكي كثيرًا، بل تلك التي توحي كثيرًا”. ومن هذا المنظور، فإن قصص البطران تشتغل على منطق الإيحاء أكثر من التصريح، وعلى الاقتصاد اللغوي المكثّف الذي يفتح أبوابًا كثيرة لمعاني مركّبة ومتداخلة من هنا، تستدعي هذه المجموعة قراءة تأملية تتجاوز الظاهر النصّي إلى أعمق طبقاته الرمزية والفكرية، قراءةً تراهن على كشف ما هو مسكوت عنه في البنية السردية، وعلى تأويل ما يتخفّى خلف الصمت، والبياض، والاختزال.

عتبات النص: سيميائيات الغلاف والعنوان

تُعدّ العتبات النصية مداخل تأويلية لفهم البنية الرمزية للنص، ولعل أولى هذه العتبات هي الغلاف والعنوان، بما يحتويانه من رموز وألوان تحمل شحنة دلالية عميقة. ففي اللوحة البصرية، يتجلى صراع الأضداد بشكل واضح؛ إذ يهيمن اللون الأسود على الخلفية، وهو لونٌ يرمز في علم النفس التحليلي عند "كارل غوستاف يونغ "إلى اللاوعي الجمعي، حيث تستقر الرموز البدئية والأساطير المؤسسة للذهنية البشرية. تتخلل هذا السواد بقعٌ زرقاء متدرجة، تُفهم كأفق للأمل المحتمل وسط الظلمة، مما ينسجم مع مفهوم ميخائيل باختين عن “الكرنفالية”، حيث ينبثق الجديد من الفوضى ويولد المعنى من قلب العتمة.

أما اللون البني الذي كُتب به العنوان، فيحيل إلى الأرض والجذور، ما يربط المتن القصصي بأسئلة الهوية والانتماء، باعتبار الأرض رمزًا للثبات والعمق التاريخي.

وبالانتقال إلى العنوان ذاته، نجد أن لفظة “المغارة” تحمل أبعادًا رمزية متعددة؛ فهي عند أفلاطون رمزٌ لعالم الظلال والوهم، حيث يعيش البشر أسرى الجهل في الكهف الأسطوري إلى أن يتحرروا عبر المعرفة. بينما في التصوف، كما عند "ابن عربي،"تمثل المغارة محطةً من محطات الكشف والمعرفة الباطنية، حيث ينزوي المتصوف لبلوغ الحقيقة. أما عبارة “على الباب” فتُشير إلى لحظة مفصلية من الانتقال بين عالمين، بين الداخل والخارج، بين الجهل والمعرفة، وهي لحظة عبور تُذكّر بنظرية "فان جيب "حول “مراسيم العبور” التي تمثل الحالة الانتقالية في الطقوس الاجتماعية والثقافية.

البنية السردية: شعرية التكثيف

تتجلى في مجموعة “على باب مغارة” شعرية التكثيف السردي كأحد أبرز ملامح الكتابة القصصية القصيرة جدًّا، وهي شعرية تتأسّس على آليتين بارزتين: الحذف والانزياح اللغوي.

أما الحذف، فهو يشمل حذف الروابط النحوية والتفاصيل السردية التقليدية، حيث تعتمد الجمل على الاختزال الحاد، وغالبًا ما تُقدَّم كجُمل قصيرة جدًّا، مشحونة بالدلالة. وهو ما يجعل من “البياض” عنصراً بنيوياً أساسياً في التلقي، يفتح النص على تعدد القراءات. هذا ما يتقاطع مع رؤية إمبرتو إيكو في مفهوم “العمل المفتوح”، حيث يُستدعى القارئ ليكون شريكًا فعليًا في بناء المعنى، من خلال ملء البياضات واستكمال الفراغات التي يخلّفها النص عمدًا. كما يُولّد هذا النمط السردي ما يُعرف بـ”صدمة التلقّي” كما نظّر لها هانس ياوس، إذ يُفاجَأ المتلقي ببنية متوترة ومقتضبة تجبره على إعادة ترتيب أفق انتظاراته، وتفعيل أدواته التأويلية

الأبعاد الرمزية: مستويات التأويل

تزخر مجموعة “على باب مغارة” بثقل رمزي كثيف، يتيح قراءات متعددة عبر مستويات تأويلية متداخلة، تبدأ من البعد الوجودي، مرورًا بالاجتماعي، وصولًا إلى النفسي. على المستوى الوجودي، تتجسد الرموز بوصفها إسقاطات على أسئلة الكينونة والعبث والمصير؛ فـقصة “مرآة مشوشة” تقدّم الحذاء كرمز ثقيل الوقع، يتقاطع مع أطروحة سارتر: “الجحيم هو الآخرون”، حيث يتكثف فيها ثقل النظرة الخارجية على الذات وتشويهها. وفي قصة “منى”، يصبح الغصن المنفصل استعارة عن انفصال الإنسان عن الإله، في استحضار لفكرة نيتشه حول “موت الإله”، وما يترتب عليها من وحدة الوجود وقلق المعنى. أما قصة “نتيجة”، فيرتفع فيها القفص من مجرد أداة مكانية إلى استعارة فوكوية بامتياز، تجسّد تصوّر ميشيل فوكو عن المجتمع كمؤسسة رقابية ضخمة، حيث يتحول الأفراد إلى سجناء ضمن شبكة من الضوابط والمعايير الخفية.

على المستوى الاجتماعي، تتكرّر ثنائية الرجل/المرأة، لا بوصفها صراعًا جنسانيًا سطحيًا، بل كتمثيل عميق لجدلية الهيمنة والخضوع. ففي هذا السياق، تُستعاد رؤية جان بودريار حول الجسد بوصفه فضاءً للسلطة والتشييء، كما تتجلى المرأة بوصفها “علامة دالّة” داخل نظام أبوي صارم، وفق تحليل جوليا كريستيفا، حيث يتحول الجسد الأنثوي إلى معبر دلالي يُحاصر بالخطابات الذكورية.

أما المستوى النفسي، فينبثق من الرموز الأكثر حميمية: فـ”المرآة المشوشة” تعكس أزمة الهوية وانقسام الذات، مستلهمة نظرية جاك لاكان حول “مرحلة المرآة”، حيث يرى الفرد صورته الخارجية مشوهة وغير مكتملة. كما تعبّر “العصفورة المحبوسة” عن الخوف العميق من الحرية، وهي صورة سيكولوجية معقدة ترتبط برؤية إريك فروم، الذي اعتبر أن الإنسان قد يهاب الحرية أكثر مما يرغبها، لأنها تضعه أمام مسؤولية وجوده الكامل.

بهذه التوليفات الرمزية، تتحول القصص القصيرة جدًّا في هذه المجموعة إلى شظايا من واقع مشحون بالألم، واللايقين، والتمرد الصامت، حيث يعمل الرمز كسلاح جمالي حادّ يكشف هشاشة الكائن في مواجهة ذاته والعالم.

التناصات الثقافية وجماليات التلقي

تنبني مجموعة “على باب مغارة” على شبكة كثيفة من التناصات التي تُغني الدلالة وتضاعف مستويات التأويل، فتتداخل فيها المرجعيات الدينية والأدبية، لتنتج نصًا شديد الانفتاح على الذاكرة الثقافية الجماعية. ففي المستوى الديني، نجد توظيفًا لرموز ذات طابع قرآني وشيعي بامتياز، كما في كلمة “القوارير” في قصة “نتيجة”، التي تستدعي قوله تعالى: (إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها)، في إحالة رمزية إلى هشاشة الوجود الإنساني وزوال المظاهر. وفي الإهداء، تظهر “الصخرة” كعلامة قوية على الصلابة والمواجهة، تتقاطع دلاليًا مع قول الإمام علي: “كن كالصخرة لا تحركها الرياح”، مما يضفي على النص بعدًا أخلاقيًا وصوفيًا مستترًا.

أما على صعيد التناص الأدبي، فإن الحيوان الرمزي في القصص يُفعّل من خلال مرجعيات درامية وفكرية؛ فـ”الكلب” في قصة “غنوة” لا يظهر كعنصر ساذج، بل يذكّر بمسرحية “كلب الهراسة” لسعد الله ونوس، حيث يتحول الحيوان إلى أداة رمزية لتفكيك بنية السلطة والعنف. كذلك، فإن “القرد” في “موز وقفص” يفتح باب التفسير على مقولات الداروينية الاجتماعية، التي تقرأ الإنسان من منظور التطور والغريزة، مظهرة كيف يتحول التهريج إلى قناع للمأساة.

وتُستكمل هذه الشبكة الرمزية من خلال جماليات التلقي التي تحوّل القارئ إلى فاعل نصي حقيقي. إذ تتجلى بعض القصص كبنى مشفّرة، تعتمد على التشفير الرياضي، كما في الأرقام المضمنة ضمن “الإضمامات”، التي توحي بنظام مغلق، يستدعي أطروحة إيمانويل ليفيناس حول “الكلي والمطلق”، حيث يُحبَس المعنى داخل شكل هندسي دقيق يُجبر القارئ على فك شيفراته. كما أن التوترات الداخلية بين العلامات تخلق ما يشبه التنافر المعرفي، يظهر بشكل حادّ في قصة “نتيجة”، التي تمزج بين الرقص والوباء، مما يُحدث “صدمة تأويلية” تجبر المتلقي على مراجعة مسلماته الإدراكية، مستحضرًا بذلك مفهوم ياوس عن تلقي النص بوصفه تجربة انفعالية معرفية.

بهذا التمازج بين التناصات العميقة وجماليات التلقي النشطة، تتحول القراءة إلى مغامرة وجودية وثقافية، تجعل من النص القصير جدًا حقلًا تأويليًا لا نهائيًا.

المغارة كبنية ميتاسردية

في مجموعة “على باب مغارة”، تتحول “المغارة” من مجرد عنوان إلى بنية ميتاسردية تتجاوز فضاء الحكاية لتصبح تمثيلًا رمزيًا لانغلاق العالم وتشظّي المعنى. فهي من جهة فضاء سيميائي بالمعنى الذي طرحه تشارلز ساندرز بيرس، حيث لا تنفصل العلامات عن دلالاتها بل تولّد بعضها البعض في سلسلة لا نهائية من الإحالات. ومن جهة أخرى، تشكل استعارة كبرى للعالم باعتباره نصًا قابلًا للتفكيك، على نحو ما بلوره جاك دريدا في مشروعه التفكيكي، حيث لا وجود لمعنى نهائي، بل فقط طبقات من الدلالة المؤجلة. أما المغارة بوصفها مرآة مكسورة، فهي تعكس أزمة الإنسان المعاصر في بحثه القلق عن الحقيقة، في عالم تنهار فيه الثوابت وتذوب الحدود بين الذات والعالم.

بهذا المعنى، لا تقدّم القصص نهاية مغلقة أو أجوبة حاسمة، بل تفتح “أبوابًا” على أسئلة جديدة، كما لو أن كل قصة ما هي إلا مدخل رمزي إلى مغارة أكبر، حيث لا يُتاح للقارئ سوى المزيد من التوغل في العتمة بحثًا عن بصيص من المعنى. وهنا تتجلى جمالية النهايات المفتوحة، حيث يتشارك الكاتب والقارئ في لعبة التأويل، في بنية سردية لا تتوقف عن إعادة إنتاج ذاتها.

***

الباحثة والناقدة العربية

د. آمال بوحرب

............................

المراجع والمصادر

1- محمد السعيد (2019) سيميائيات العتبات، منشورات ضفاف

2- علي حمدان (2018) جماليات القصة القصيرة جداً: البنية والدلالة، اتحاد الكتاب العرب

3- خالد الزهراني (2021) الرمز والسرد في الأدب المعاصر، المركز الثقافي العربي

4- آمال بوحرب (2020) هيرمينوطيقا النص القصير، دار عزة للنشر والتوزيع

5. نادية العبودي (2017) تأويل الخطاب القصصي الحديث، دار الفارابي

6. صلاح القاسمي (2022) سرديات ما بعد الحداثة في الخليج العربي، دار مدارك

المراجع الأجنبية مترجمة للعربية

1. موريس بلانشو (1955) الفضاء الأدبي، دار غاليمار

2. أمبرتو إيكو (1989) العمل المفتوح، جامعة هارفارد للنشر

ختم من الانواء يشهده الكمأ..

كنت قد كتبت في الفقرة الأخيرة من المدخل الى هذه القصيدة المثيرة. والتي كانت تحت عنوان "حين تكون القصيدة مفتوحة كأفق وملمومة كقطرة ماء" باننا "سنبحر مع الشاعر جمال مصطفى في قراءة "بانوراميته" ... بالتفصيل.."

واليوم هو مسك الختام للبانوراما بمقاطعها (51ـ 64)..

القسم السابع/ الاخير: "ختم من الانواء يشهده الكمأ.. "(7)

القنطرةُ بين المادّةِ والمجاز

(51)

"في بابِ لاهوتا مِن اللوح الكتابِ:

البرجُ قنطرةٌ على بحْرِ المَجازْ

البرجُ شهْقةُ تُرْكُوازْ

البرْجُ فازْ

بِشاهِدَهْ

مِن دونِ قبْرْ"

البرجُ شهقةُ التركواز:

يستهلّ هذا المقطع بإشارةٍ إلى "بابِ لاهوتا"، وهو ما يفتحُ النصَّ على بعدٍ دينيٍّ وروحانيّ، حيث يتداخلُ المقدّسُ بالرمزيّ، واللاهوتيّ بالمجازيّ، ليصبح البرج جسرًا بين الواقع والمُتعالي..

وقد يعني جمال مصطفى بمفردة "لاهوتا" بـ " تحرير الانسان".. خاصة ان استخدام مصطلح " لاهوت التحرير" كان قد شاع في أمريكا اللاتينية في خمسينيات وستينيات القرن الماضي.. وهو مزيج من اللاهوت المسيحي والتحليلات الاجتماعية-الاقتصادية الماركسية، والذي مثل ممارسة سياسية لعلماء الدين في أمريكا اللاتينية (البيرو، والبرازيل، والأوروجواي، وإسبانيا) والذين جعل دعاته عبارة: «الخيار التفضيلي للفقراء» شائعة.

البرجُ: القنطرةُ التي تعبرُ بحرَ المجاز

"البرجُ قنطرةٌ على بحرِ المجاز"

هنا، يتخذ البرجُ وظيفةً انتقاليةً، فهو ليس كيانًا جامدًا، بل معبرٌ فوق بحرٍ من المجاز. إنّه المكان الذي يسمحُ للإنسان بتجاوز المادّة والولوج إلى أفقٍ أوسع، حيث تسبحُ الأفكار والمعاني دون قيود. فالمجازُ هو الفضاءُ الذي يتحرّر فيه الفكرُ من سلطةِ الحرفيّة، ليتحوّل إلى طيفٍ لا يُمسَكُ باليد، بل يُدرَكُ بالبصيرة.

الشهقةُ التركوازية: البرجُ ككائنٍ حيّ

"البرجُ شهقةُ تركواز"

تأتي هذه الصورة مُذهلةً في رمزيتها، فالشهقةُ تعبيرٌ عن دهشةٍ أو ولادةٍ جديدة، وكأنّ البرجَ ليس مجرّد بناءٍ هندسيّ، بل كائنٌ نابضٌ بالحياة، يلهثُ تحت ثقلِ الأسرار، أو يزفرُ دهشةَ الانكشاف. أمّا "التركواز"، فهو لونٌ يوحي بالروحانية والصفاء، لون البحر والسماء، حيثُ يلتقي العمقُ بالعلوّ، وكأنّ البرج يستمدُّ جوهرَهُ من هذا الامتزاج بين الأرضيّ والسماويّ.

الفوزُ بالشاهد دون القبر

"البرجُ فازْ بشاهدِه مِن دون قبر"

يصلُ المقطعُ إلى ذروة المفارقة: البرجُ نال شاهدًا يُخلّد اسمه، لكنّه لم يُدفَن، لم يمت، لم يتحوّل إلى أثرٍ بعد عين. هذه إشارةٌ عميقةٌ إلى الخلود الفكريّ والوجوديّ: البرجُ ليس قبرًا للأفكار، بل هو شاهدٌ عليها، ذاكرةٌ حيّةٌ تُقاومُ الفناء.

البرجُ كيانٌ خالدٌ في بحر المجاز

في هذا المقطع، يتحوّل البرجُ إلى كائنٍ متجاوزٍ للزمان والمكان، ليس مجرد بناء، بل روحٌ تتنفّسُ المجاز، وتشهدُ على خلود الفكرة وسط فناء المادّة. هو الجسرُ بين المعرفةِ والسرّ، بين الإدراكِ والحدس، بين المرئيّ والمخفيّ، حيث لا نهاية للحقيقة، كما لا قبر للحلم.

ابنةُ المهندسِ التي أسقطتْ البرج

(52)

"في باب لاهُوتا كذلك: إنّ لاهُوتا الصغيرةَ وحْدَها

صعَدتْ تُطَيِّرُ طائرَ التنّينِ (مِن ورَقٍ مُقَوّى)

حينَ باغَتَها العُقابْ

يا بِنْتَ والدِها المُهندسِ باختفائكِ

حَلَّ بالبُرْجِ الخرابْ"

لاهوتا الصغيرةُ:

الطيرانُ الورقيّ: لعبةُ الطفولة أم استعارةُ المصير؟

"إنّ لاهُوتا الصغيرةَ وحدَها صعدتْ تُطَيِّرُ طائرَ التنّينِ (مِن ورَقٍ مُقَوّى)"

يبدأُ المقطعُ بصورةٍ تحملُ براءةً مُضلّلة: طفلةٌ تُحلّقُ بطائرٍ ورقيّ. لكنّ الاسمَ "لاهوتا" لا يوحي بالبراءة وحدها، بل يُحيلُ إلى البُعد الإلهيّ والميتافيزيقيّ. إنها ليست مجرد فتاةٍ، بل رمزٌ للنقاء المعرفيّ، للروحِ التي تتلمّسُ الأفقَ، تحاولُ التحليقَ ولو عبرَ وهمٍ مصنوعٍ من ورقٍ مقوّى.

العُقابُ المباغِت: سقوطُ البراءة وصدامُ المصير

"حينَ باغَتَها العُقابْ"

العُقابُ هنا ليس مجرد طائرٍ جارحٍ، بل قدرٌ داهم، أو ربما عينُ السلطةِ المُترصّدة، أو سطوةُ الحقيقةِ التي لا تُهادنُ الأوهام. المباغتةُ تحملُ إحساسًا بالكارثة، وكأنّ الطيرانَ ليس مُباحًا لكلِّ أحد، وأنّ كلَّ تحليقٍ محكومٌ بالسقوط إذا ما تجاوز حدودهُ المرسومة.

الابنةُ والمهندس: الخطيئةُ والخراب

"يا بِنْتَ والدِها المُهندسِ باختفائكِ حَلَّ بالبُرْجِ الخرابْ"

يتحوّلُ السردُ إلى نبرةِ رثاءٍ لاهوتيّ: الفتاةُ ليست مجرد فردٍ، بل هي ركيزةٌ خفيّةٌ من بنية البرج. والدها المهندسُ قد يكونُ إشارةً إلى باني البرج الأول، إلى العقلِ الذي أنشأ هذا الصرح، أو حتى إلى العقل الإنسانيّ ذاته الذي يصنعُ ويرتّبُ العوالم.. لكن حين اختفت ابنتهُ، حين غابت روحُ الحلمِ أو النقاء أو البراءة الفكرية، انهار البرجُ معها.

البرجُ ككائنٍ حيّ يموتُ بفقدانِ روحه

البرجُ ليس حجارةً، بل كائنٌ ينبضُ بالحياة، يعتمدُ في قيامهِ على أرواح ساكنيه. فحين غابت "لاهوتا الصغيرة"، حلّ الخرابُ، لا كمجرد انهيارٍ ماديّ، بل كموتٍ لفكرة، كفقدانٍ لجوهرٍ كان يُبقي البرجَ قائمًا..

البراءةُ التي كانت عِمادًا للسقف

لاهوتا لم تكن مجرد طفلةٍ تلعبُ، بل كانت عمودًا روحيًّا، نقطةَ اتّزانٍ.. بين الطفولةِ والعلم.. بين الحلمِ والهندسة.. بين البراءةِ والقدرة.. وعندما سقطتْ، لم تسقط وحدها، بل أخذت معها البرج، كأنّ البناءَ بلا روحٍ، هو خرابٌ محتوم.

اغتيالُ العلوّ والتسلقُ الطفيليّ

(53)

"كانتْ صنوبرةً قد اتَّشَحتْ بِشالٍ مِن وجومْ

إذ أنَّ لِبْلاباً تَطّفَّلَ، راحَ أسودَ يَعتليها

البعضُ قالَ: هيَ الأفاعي السودُ

قرْميدو أفاقَ على

فحيحِ صُعودِها قَدَّ الصنوبرةِ الطويلِ إلى الغيومْ"

*

الصنوبرةُ واللبلاب: الصنوبرةُ المُتوّجةُ بالحزن

"كانتْ صنوبرةً قد اتَّشَحتْ بِشالٍ مِن وجومْ"

الصنوبرةُ هنا رمزٌ للسمُوِّ والاستقامةِ والشموخ، لكنها مُتوّجةٌ بالحزن، مُحاطةٌ بصمتٍ ثقيل، وكأنّها تدركُ مصيرها الوشيك. هذا الوجومُ قد يكون حكمةً صامتةً أو إدراكًا مريرًا لحتمية السقوط حين يُفسح العلوّ المجالَ للطفيليين.

اللبلابُ الأسود: الطفيليُّ الذي يسرقُ العلوّ

"إذ أنَّ لِبْلاباً تَطّفَّلَ، راحَ أسودَ يَعتليها"

اللبلابُ ليس مجرد نباتٍ متسلق، بل رمزٌ للطفيليات التي تتغذّى على شموخ الآخرين، والتي تَنمو على حساب غيرها.. إنه لا يكتفي بالتسلق، بل يُحوّل الصنوبرةَ الشامخة إلى دعامةٍ له، يلتفُّ حولها ليصعدَ، حتى يُسلبها ذاتها، فيصبح علوّها مجرّد منصةٍ لصعودِ الآخر.

الأفاعي السود: التحوّلُ من الطفيلِ إلى الخطر

"البعضُ قالَ: هيَ الأفاعي السودُ"

هنا يبرزُ التأويلُ الآخر: ليس اللبلابُ مجرّد نباتٍ مُتطفّل، بل هو تهديدٌ أكثر خطورة، أقربُ إلى الأفاعي السوداء. الفكرة تتجاوزُ الاستغلالَ الطبيعيّ إلى الاغتيال المُتعمّد، إلى التآمر والهيمنة والخداع.

قرْميدو وصُعودُ الأفعى إلى الغيوم

"قرْميدو أفاقَ على

فحيحِ صُعودِها قَدَّ الصنوبرةِ الطويلِ إلى الغيومْ"

قرْميدو هنا شاهدٌ متأخرٌ، يُدركُ الحقيقة بعد فوات الأوان. لا يَصحو على تسلقٍ بريء، بل على "فحيح"، على صوتٍ يُنذرُ بالخطر، على صعودٍ قاتلٍ مزّق الصنوبرةَ، لا ليستظلَّ بظلّها، بل ليُقصيها تمامًا.

عندما يُقتلُ العلوُّ بأيدي متسلقيه

القصيدةُ تُعيدُ إنتاجَ مأساةٍ متكررة: حين لا يُحاربُ العلوّ من الخارج، بل يُنهكُ من داخله، من أولئك الذين يَتسلّقون عليه دون أن يُضيفوا إليه، حتى يُنهكوهُ ويُحيلوه إلى أنقاض. إنها حكايةُ الاغتيالِ التدريجيّ، حيثُ الطفيلياتُ لا تكتفي بالتسلّق، بل تَقتلُ السُلّمَ الذي أوصلها إلى الأعلى.

ان الحاضر والتاريخ يمنحنا من الأمثلة العديد إذا ما شئنا ان نمنح هذا المقطع انزياحًا سياسيًا..

الهشاشةُ والرؤيا المهدّدة

(54)

"في حُجْرةِ البلّورِ أعلى البُرجِ

تلكَ بِخلْوةِ الرُؤيا تُنادمُهُ الحُدوسُ

سهْرانَ يَخشى أنْ يَنامَ

إذا غفى سِنَةً تُقَطِّعهُ الفؤوسُ"

*

خَلوةُ الرؤيا: عزلةُ الحكيم أم هشاشةُ النبوءة؟

"في حُجْرةِ البلّورِ أعلى البُرجِ

تلكَ بِخلْوةِ الرُؤيا تُنادمُهُ الحُدوسُ"

في هذا المشهد، نرتقي إلى حجرةٍ شفّافة، بَلّورية، مُحلّقة في الأعلى، موطنٍ للرؤى والحدس. البلّور هنا رمزٌ للنقاء والشفافية، لكنه أيضًا رمزٌ للهشاشةِ والقلق. هذه الحجرة ليست مجرد مكان، بل هي فضاءٌ ذهنيّ، عالمٌ من التأملِ والتنبؤ، حيث يتجلّى المستقبلُ حدسًا لا يقينًا.

هنا يقفُ الحاكمُ أو النبيُّ أو الفيلسوفُ، في حالةٍ من السهرِ الدائم، مشدودًا إلى رؤاه، مُحاطًا بهواجسه. فهو لا يُخاطبُ العالَم، بل يُنادمُ الحدوس، يُحاورُ الاحتمالاتِ والرؤى، في عُزلةٍ تكادُ تكونُ رهبانية.

الرعبُ من النوم: حين يُهدَّد الوعي بالفناء

"سهْرانَ يَخشى أنْ يَنامَ

إذا غفى سِنَةً تُقَطِّعهُ الفؤوسُ"

لكن هذه الرؤى ليست طمأنينةً، بل عبءٌ ثقيل، يقظةٌ مفروضة، وسهرٌ لا خيار فيه. فهو يخشى النوم، لأن الغفوةَ ليست مجرد استراحة، بل تهديدٌ وجوديّ. الفؤوسُ تنتظرُ سقوطه، تتربّصُ بغيابه ولو للحظة، وكأن الإدراك هو درعه الوحيد ضد الفناء/ ويمكن منحها بعدًا سياسيًا في الان ذاته..

القلقُ المعرفيّ والمصير المعلّق

هذه الصورةُ تعكس حالةَ كلِّ عالِمٍ أو حكيمٍ أو نبيٍّ او حاكم.. يرى ما لا يراهُ الآخرون، ويَعرف أنَّ لحظةَ الغفلةِ كافيةٌ لينهارَ كل شيء. إنها رمزية العالِم المهدَّد، المفكر المحاصر، النبيّ/ الحاكم/ السياسي الذي لا يستطيعُ أن يستسلم للنوم لأن العالمَ حوله يتربّصُ به.

البرجُ العالي وسيفُ الفؤوس

هذه الحُجرةُ البَلّوريةُ ليست امتيازًا، بل عبءٌ ثقيل. من يصلُ إلى ذروة البرج، حيثُ الرؤى تتجلى، لا يُسمح له بالنوم، لأنَّ وعيه هو آخر ما يحميه من السقوط. إنها مأساةُ البصيرة، او الحصيرة/ كرسي الحكم.. حيث الإدراكُ لا يَمنحُ الراحة، بل يُحوّلُ الحياةَ إلى سهرٍ دائم، لأنَّ السقوطَ ينتظرُ لحظةَ الغفلة

الأفعوانُ بين الحقيقةِ والأسطورة

(55)

"لِلْإفْعُوانِ حُجَيْرةٌ صغْرى: قَفَصْ

.............

عيْناهُ ياقوتِيّتانِ، لِسانُهُ المَشْطورُ سَيْفْ

لا تَقتلوا ذا الأفعُوانَ فَإنَّهُ في البُرْجِ ضَيْفْ

وَهْو الذي لَدَغَ الذي اغتالَ المُهَنْدِسَ

...............

هكذا في بابِلٍ بَعْدَ الخرابِ

البَعضُ يَبْتَدِعُ القصَصْ"

*

ضَيفُ البرج: الحكايةُ بعد الخراب

"لِلْإفْعُوانِ حُجَيْرةٌ صغْرى: قَفَصْ

...

عيْناهُ ياقوتِيّتانِ، لِسانُهُ المَشْطورُ سَيْفْ"

في قلبِ البرج، حيثُ تتشابكُ الرموز، يقبع الأفعوانُ في حُجيرةٍ صغيرة، كأنّه كنزٌ محفوظٌ أو لعنةٌ مقيّدة. الحُجيرةُ هنا ليست فقط مكانًا، بل هي فضاءٌ رمزيٌّ يَجمع بين الحبسِ والقداسةِ والخطر. الأفعوانُ ليس مخلوقًا عاديًّا؛ عيناهُ ياقوتٌ، ولسانه المشطورُ سيفٌ، وكأنهُ كائنٌ بين الحياةِ والمعدن، بين الأسطورةِ والواقع.

الجريمةُ والعقاب: الثأرُ المتسلسل

"لا تَقتلوا ذا الأفعُوانَ فَإنَّهُ في البُرْجِ ضَيْفْ

وَهْو الذي لَدَغَ الذي اغتالَ المُهَنْدِسَ"

لكن هذه الحُجيرةَ تخبّئُ سرًّا أشدّ غموضًا، فالأفعوانُ الذي يُوصى بعدم قتله، هو نفسهُ الذي لدغَ القاتلَ، أي أنَّه أداةُ انتقامٍ، أو لعنةٌ تنقلبُ على من أطلقها. هنا تتجلّى فكرةُ العدلِ القَدريّ، حيث لا يفلتُ قاتلٌ من مصيره، وكأنَّ البرجَ نفسَهُ يُعيد ترتيبَ موازينِ العدالة، عبرَ رمزيّة الأفعوان.

الأسطورةُ تصوغُ التاريخ

"هكذا في بابِلٍ بَعْدَ الخرابِ

البَعضُ يَبْتَدِعُ القصَصْ"

لكن.. هل هذه القصةُ حقيقية؟ أم أنها ولدت من فوضى الخراب، كإحدى الحكايات التي يبتدعها الناسُ بعد السقوطِ ليُفسِّروا به مصيرهم؟ هنا يُشير النص إلى دورِ الأسطورةِ في إعادة بناء الواقع، فحين يسقطُ البرجُ، لا يبقى سوى القصصِ لملءِ الفراغِ، والتاريخِ ليكونَ مرآةً للندمِ أو التبرير.

البرجُ حين يُصبحُ ذاكرةً وأُسطورة

هذا المقطع يتناولُ تقاطعَ الحقيقةِ بالخيال، والعدالةِ بالقَدَر، حيث يتحوّل كل حدثٍ إلى سرديةٍ بعد الخراب. البرجُ، الذي كان رمزَ العظمة، يصبحُ فضاءً للأساطير، حيثُ لا يُعرفُ إن كانت الحقيقةُ هي ما جرى، أم ما رُويَ بعد ذلك.. وهكذا، يبقى الأفعوانُ، لا ككائنٍ، بل كرمزٍ للقصصِ التي يبتدعُها الناسُ حين تُدمَّرُ الأبراجُ، وتبدأُ الأممُ بإعادةِ صياغةِ مصيرها من جديد.

البرجُ بين الظهورِ والغياب

(56)

"مِن بعْدِ آلافِ السِنين

قوافِلُ الدنيا على طُرِقِ الحريرِ تَراهُ يَطفو

مِن بعيدٍ في سُراها ثُمَّ يَغْطسْ

...............

لا بُرجَ

ذي شَهَقاتُهُ مِن بَعْدِهِ يَلْمَعنَ لَيْلاً

كالجواري السابِحاتِ هناكَ كُنَّسْ"

السرابُ الأبدي: برجٌ يطفو على ذاكرةِ الحرير

"مِن بعْدِ آلافِ السِنين

قوافِلُ الدنيا على طُرِقِ الحريرِ تَراهُ يَطفو

مِن بعيدٍ في سُراها ثُمَّ يَغْطسْ"

يرسمُ هذا المقطعُ صورةً للبرجِ وقد أصبحَ شبحًا في ذاكرةِ التاريخ، يظهرُ ويختفي كسرابٍ يُطارده المسافرون على طُرقِ الحرير. إنهُ ليس حجرًا قائمًا، بل فكرةٌ متذبذبةٌ بين الحضورِ والغياب، بين الحقيقةِ والوهم.. كأنَّ البرجَ لم يَسقطْ تمامًا، بل ارتحلَ إلى مستوى آخر، حيثُ لم يعُد معمارًا، بل أسطورةً تُرشد القوافلَ كما كانت النجومُ ترشدُ البحّارة.

السقوطُ الذي يُضيء: البرجُ حين يُصبحُ ذكرى

"لا بُرجَ

ذي شَهَقاتُهُ مِن بَعْدِهِ يَلْمَعنَ لَيْلاً

كالجواري السابِحاتِ هناكَ كُنَّسْ"

لكن، رغم سقوطِ البرج، تبقى شهقاتهُ تُضيءُ كالنجماتِ في سماءِ التاريخ. البرجُ تحوَّل إلى أثرٍ ممتدٍّ في الزمن، ليس حضورًا مادّيًا، بل إشعاعًا يُرشدُ السائرين، تمامًا كما كانت الأبراجُ السماويةُ تهدي العابرين في الليل.

البرجُ حين يتحوّلُ إلى أسطورةٍ خالدة

هذا المقطعُ يؤكد أنَّ العظمةَ لا تُقاسُ فقط بالبقاءِ المادّي، بل بالقدرةِ على التحوّلِ إلى ذكرى تضيءُ رغم الفناء. البرجُ، الذي كان شامخًا، لم يمتْ، بل صارَ نجمًا في سماءِ التاريخ، يلمعُ في الليلِ، تمامًا كما تلمعُ الأساطيرُ في وجدانِ الأجيال.

حينَ ينهارُ البناءُ، ويبقى الختمُ

(57)

"البرجُ مِن بَعْدِ الخرابْ

أَثَرٌ كما الختْم اسطواني

طبْعٌ عراقيُّ المَعاني

في الشِعْر في شَجَنِ الأغاني

في النَوْحِ مُرّاً

في معاتَبَةِ الزمانِ"

البرجُ الخالد: أثرٌ في الذاكرة لا يزول

"البرجُ مِن بَعْدِ الخرابْ

أَثَرٌ كما الختْمُ اسطواني"

ينطلقُ هذا المقطعُ من حقيقة الخرابِ الذي حلَّ بالبرج، لكنه لا ينتهي عند السقوطِ، بل يتجاوزه إلى البقاءِ بصيغةٍ أخرى.. فكما أنَّ الختمَ الأسطوانيّ في الحضارةِ العراقيةِ القديمة كان أداةً لحفظِ الهويّةِ والبصمةِ الثقافية، كذلك صار البرجُ بعد انهياره أثرًا خالدًا، طابعًا مطبوعًا في ذاكرةِ الزمن.. البرجُ لم يعد بناءً مرئيًا، بل نقشًا عميقًا في هوية العراق، في الشعرِ، في الغناء، في الحزن الممتدّ عبر العصور.

البرجُ في الشعرِ والمناحةِ العراقية

"طبْعٌ عراقيُّ المَعاني

في الشِعْر في شَجَنِ الأغاني

في النَوْحِ مُرّاً

في معاتَبَةِ الزمانِ"

هنا، يتحوّل البرجُ إلى رمزٍ للوجعِ العراقيّ المتأصل، حُزنٍ يُغنّى في المواويل، ويُكتبُ في القصائد، ويُبثُّ في النواحِ والمناحاتِ التي توارثتها الأجيال. كأنَّ البرجَ لم يكن مجرّد صرحٍ معماريّ، بل كيانًا يمتدّ في صوتِ الأرضِ وذاكرةِ التاريخ..

البرجُ نقشٌ أبديّ في وجدان العراق

هذا المقطعُ يؤكد أنَّ البرجَ لم يسقطْ تمامًا، بل وجدَ حياةً أخرى في الوجدانِ العراقيّ. إنهُ الأثرُ الذي لا تمحوهُ العصور، والوجعُ الذي لا يُمكنُ نسيانه، والنقشُ الذي يُعيدُ نفسهُ في كلّ أغنيةٍ، في كلِّ قصيدةٍ، في كلِّ زفرةٍ حزينةٍ تعاتبُ الزمان.

الخرابُ بعدَ العظمة

(58)

"مَرثيّةٌ في بابِ قرْميدو

مِن اللوحِ الكتابْ:

..............

لكَأنَّ بابِلَ آهِ مِن بَعْدِ المُهَنْدسِ

أرضُ بُورْ

حتّى لو ارتفَعَتْ جنائِنُ أو قصورْ

حتّى لو امتَدَّتْ على نهْر الفراتِ بِها الجسورْ"

بابلُ بعدَ المهندس: مجدٌ بلا روح

"لكَأنَّ بابِلَ آهِ مِن بَعْدِ المُهَنْدسِ

أرضُ بُورْ"

يبدأ المقطعُ بتجسيدِ الفراغِ الذي خلّفهُ المهندس، ذاك الذي كان العقلَ المدبِّرَ والروحَ المُبدعةَ لبابل. فغيابُهُ ليس مجرد رحيلِ شخصٍ، بل انطفاءُ فكرةٍ، وتحجُّرُ حضارةٍ.. بابلُ بعدهُ لم تعد خصبةً كما كانت، بل تحوّلت إلى "أرضِ بُور"، صورةٌ تعكسُ التصحُّر الفكريّ والروحيّ الذي يعقبُ فقدانَ المبدعين الكبار.

قصورٌ وجسورٌ بلا حياة

"حتّى لو ارتفَعَتْ جنائِنُ أو قصورْ

حتّى لو امتَدَّتْ على نهْر الفراتِ بِها الجسورْ"

هنا، يُعاد تعريفُ المجدِ، فلا القصورُ ولا الحدائقُ المُعلَّقة ولا الجسورُ التي تعبرُ الفراتَ كفيلةٌ بإعادةِ الحياةِ إلى بابلَ. المقطعُ يطرحُ تساؤلًا وجوديًّا: ما قيمةُ التمدُّدِ العمرانيّ حين يفقدُ المكانُ روحه؟ هذه الصورةُ تذكرنا بحضاراتٍ كثيرةٍ عاشتْ بعد سقوطِ عباقرتِها، وظلّت قائمةً في ظاهرِها، لكنَّها فقدت جوهرَها.

موتُ الفكرةِ رغم بقاءِ البناء

هذه المرثيّةُ ليست فقط عن بابل، بل عن كلِّ مجدٍ يتحوَّل إلى قشرةٍ فارغةٍ حينَ يغيبُ مَن صنعوهُ. إنها رثاءٌ للحضارةِ حينَ تواصلُ الصعودَ المادّي، بينما يتلاشى فيها الإبداعُ والعبقريةُ، فلا يبقى منها سوى أطلالٍ مزيّنةٍ تُخفي داخلها فراغًا لا يُعوَّض.

الجمادُ بعدَ الحياة

(59)

"الفيلُ والنَحّاتُ ماتا

وهُو مُنْتَصِبٌ على الرَفِّ الزُجاجي:

برْجُ عاجِ"

برجُ العاج: مجدٌ جامدٌ بلا روح

"الفيلُ والنحّاتُ ماتا"

تبدأ الصورةُ بمفارقةٍ موجعةٍ: الحياةُ التي كانت تتحرَّكُ في الفيلِ، والروحُ التي كانت تُشكِّلُهُ عبر يدِ النحّاتِ، قد غابتا، لكنَّ البرجَ بقيَ منتصبًا.. هنا، يتحوَّل البرجُ من كيانٍ نابضٍ بالحياةِ إلى مجرَّدِ شكلٍ جامدٍ فقدَ مصدرَهُ الحيويّ.. الفيلُ رمزٌ للقوةِ والطبيعة، والنحّاتُ رمزٌ للإبداعِ والخلق، ومع موتِ الاثنين، يبقى ما صنعاهُ كتحفةٍ بلا روح.

البرجُ على الرفِّ الزجاجي

"وهو منتصبٌ على الرفِّ الزجاجي"

صورةُ البرجِ على رفٍّ زجاجيّ تشيرُ إلى تحنيطِ العظمةِ وتحويلها إلى مجرَّدِ تذكارٍ للعرضِ، لا شيء يتحرَّكُ فيه، لا نبض، لا تفاعل.. الزجاجُ رمزٌ للعُزلةِ والهشاشةِ في آنٍ، إذ يحفظُ الشيءَ من التلاشي لكنهُ أيضًا يُفصِلهُ عن الحياةِ الحقيقيّة.. هكذا، يتحوَّلُ البرجُ من صرحٍ شاهقٍ إلى مجرّدِ قطعةٍ محفوظةٍ في متحفِ الزمن.

برجُ العاج: وهمُ المجدِ البعيد

"برجُ عاج"

هذه الخاتمةُ المكثّفةُ تختزلُ فكرةَ الانفصالِ عن الواقع، حيث يصبح البرجُ رمزًا لنخبويّةٍ باردةٍ لا تمتُّ إلى الحياةِ بصلة.. فبرجُ العاجِ في الثقافةِ الإنسانيةِ هو رمزُ العزلةِ الفكرية، مكانٌ مُترفٌ لكنَّهُ بعيدٌ عن همومِ الناس.

هل يبقى البرجُ بعدَ موتِ صُنّاعِهِ؟

بهذه الصورةِ الحادّة، يتساءلُ المقطعُ عن مصيرِ العظمةِ حينَ تصبحُ مجرّدَ ذكرى. هل يظلُّ البرجُ حيًّا حينَ يموتُ مَن أعطاهُ الحياة؟ أم أنَّهُ يتحوَّلُ إلى أثرٍ لا يُذكّرُ إلا بالخواء؟ هنا تكمنُ مأساةُ المجدِ المُتحجِّر، حين يصبحُ حاضرُهُ قفصًا زجاجيًّا لماضٍ كانَ يومًا حيًّا.

رحيلُ العقول وبعثُ الإرث

(60)

أولادُ قرْميدو المُعَلّمِ

بَعْدَهُ كَمُهَندسينْ

فَرّوا إلى الهندِ التي فَرحَتْ بِهِمْ

فَرَحَ الكفيفةِ بالعيونْ

أولادُ قرميدو المُعَلّمِ

ها هُمو يَتَناسلونْ"

هروبُ المهندسين وولادةُ الأبديّة

"أولادُ قرميدو المُعَلّمِ

بعدهُ كمُهندسينْ

فَرّوا إلى الهندِ التي فَرِحَتْ بهمْ"

يُقدّمُ المقطعُ صورةً للحركةِ الدائمةِ للمعرفةِ، حيث لا تموتُ الأفكارُ بموتِ أصحابها، بل تبحثُ عن أرضٍ جديدةٍ لتنمو فيها.. بعد رحيلِ قرميدو، يرحلُ تلامذتُهُ، لكنَّهم لا يضيعونَ في العدم، بل يجدونَ ملاذًا في الهند، تلك الأرضُ التي طالما احتضنتِ الفلسفةَ والرياضياتِ والعمارة. استقبالُ الهندِ لهؤلاءِ المهندسينِ ليس مجردَ قبولٍ، بل فرحةٌ تُشبهُ فرحةَ الكفيفةِ حينَ تُبصرُ، وكأنّ المعرفةَ جاءتْ لتفتحَ عيونَها على رؤى جديدة.

الاستمرارية: المعرفةُ لا تموت

"أولادُ قرميدو المُعلّمِ

ها هُمو يَتَناسلونْ"

هنا تكتملُ الدائرةُ، إذ لا يتوقّفُ الأثرُ عندَ شخصٍ واحدٍ، بل يمتدُّ عبرَ الأجيال. الهندسةُ، كالفكرِ العميقِ، لا تعرفُ حدًّا زمنيًّا أو جغرافيًّا، بل هي شجرةٌ تستمرُّ في النموِّ والتفرّع. فرارُ أولادِ قرميدو ليسَ خسارةً، بل امتدادٌ لروحهِ في أماكنَ أخرى، لتُعيدَ بناءَ مجدٍ جديد.

البرجُ في كلِّ مكان

بينما ينهارُ برجُ بابل، يُعادُ بناؤهُ في أماكنَ أخرى، ليس بالحجارة، بل بالعقولِ التي تحملُ فكرَ المهندسِ العظيم. هكذا، يُصبحُ قرميدو أسطورةً لا تنتهي، إذ تتحوّلُ معرفتُهُ إلى سلالةٍ من العقولِ الخلّاقةِ التي تستمرُّ في البناءِ والتجديد.

سقوط البرج وسرقةُ الحلم

(61)

"في الليلةِ البَغْضاءِ

في الثُلُثِ الأخيرِ

تَناهَبَ المُتَلَثِّمونَ البُرجَ

فاحتَمَلوا الكنوزَ لِيَختفوا

قَبْلَ انجِلاءِ المَذبَحةْ

حتى لَقد خَلَعوا عن الثِيرانِ

كُلَّ الأجنِحةْ"

"في الليلةِ البغْضاءِ في الثُلُثِ الأخيرِ تناهَبَ المُتلثّمونَ البُرجَ فاحتَمَلوا الكنوزَ ليختفوا قبلَ انجِلاءِ المذبحةْ"

يُصوّرُ هذا المقطع مشهدًا دراميًا لانهيار البرج تحت وطأةِ الطمعِ والخراب.. إنَّ اختيارَ "الليلةِ البغضاء" و "الثُلُثِ الأخيرِ" يُوحي بأنّ النهايةَ كانتْ محسومةً، وكأنَّ الزمنَ بلغَ لحظاتهِ الأكثر ظلمةً قبلَ الفجر. المتلثّمونَ، مجهولو الهوية، يمثّلونَ أولئكَ الذين لا يأتونَ إلّا في العتمةِ ليسرقوا الأحلامَ والإنجازاتِ، ويختفوا دون أثر، وكأنَّ البرجَ لم يكنْ يومًا سوى سرابٍ تبخّرَ في فوضى الطمعِ والخراب.

السرقةُ الكبرى: أكثرُ من كنوز

"حتى لقد خلعوا عن الثيرانِ كلَّ الأجنحةْ"

في هذه الصورةِ المؤلمةِ، لا تتوقّفُ الخسارةُ عندَ نهبِ الكنوز، بل تمتدُّ إلى نزعِ الأجنحةِ عن الثيران، التي قد تكونُ رمزًا للحريةِ والإبداعِ والقوةِ الأسطورية. هنا يتحوّلُ الفعلُ إلى جريمةٍ مزدوجة: ليسَ فقط سرقةُ الماديات، بل اغتيالُ الفكرةِ ذاتها، كأنَّ الطموحَ الذي كانَ يحلّقُ صارَ حبيسًا بلا أمل.

البرجُ ينهار، لكنّه لا يموت

قد يكونُ البرجُ قد سقط، لكنَّ السؤالَ الأهمَّ هو: هل يستطيعُ النهبُ والموتُ والخرابُ أن يُطفئَ فكرةً؟ مثلما تستمرُّ الأسطورةُ بعدَ الدمار، يبقى البرجُ خالدًا في الذاكرةِ، ولو بدونِ أجنحة.

ميراثُ البرجِ وصراعُ الأحفاد

(62)

"في البرجِ

في أحشائِهِ قرْميدةٌ ذَهَبِيَّةٌ

جاءَ الحفيدُ

مِن بَعْدِ قرْنٍ أو يَزيدُ على الخرابِ

فَحازَها

كُلُّ الذينَ تَمَلَّكوها بَعْدَ ذلكَ يَزعمونَ بأنَّهُمْ

أحفادُ قرْميدو وقرْميدو وليْسَ سِواهُ جَدُّهُمُ الوحيدُ"

القرْميدةُ الذهبية:

"في البرجِ

في أحشائِهِ قرْميدةٌ ذَهَبِيَّةٌ

جاءَ الحفيدُ

مِن بَعْدِ قرْنٍ أو يَزيدُ على الخرابِ

فَحازَها"

يقفُ هذا المقطعُ عندَ فكرةِ الميراثِ المفقودِ والمُستعاد، حيثُ يرمزُ البرجُ إلى حضارةٍ ضائعةٍ لكنّها تحتفظُ بجوهرٍ ذهبيٍّ في أعماقها.. القرْميدةُ الذهبيةُ ليستْ مجرّدَ قطعةٍ ماديةٍ، بل هي الرمزُ الوحيدُ الباقي من مجدِ البرجِ بعدَ قرنٍ من الخراب.. عودةُ الحفيدِ بعدَ زمنٍ طويلٍ تُوحي بالتواصلِ المستمرِّ بينَ الأجيالِ، حيثُ يُحاولُ الماضي أن يجدَ صدىً في المستقبل.

الشرعيةُ الضائعة وصراعُ الهوية

"كُلُّ الذينَ تَمَلَّكوها بَعْدَ ذلكَ يَزعمونَ بأنَّهُمْ

أحفادُ قرْميدو وقرْميدو وليْسَ سِواهُ جَدُّهُمُ الوحيدُ"

هنا تتجلّى مفارقةُ الملكيةِ والشرعية، حيثُ تتحوّلُ القرْميدةُ الذهبيةُ إلى رمزٍ للصراعِ على الانتماءِ والهوية.. ما إن يستعيدَ الحفيدُ هذه الجوهرةَ حتى يتنازعَ عليها الجميعُ، زاعمينَ الانتسابَ إلى المهندسِ الأسطوريِّ قرْميدو، وكأنَّ الإرثَ الحضاريَّ لا ينتمي لأحدٍ بمفردهِ، بل يُصبحُ ملكيةً متنازعًا عليها بينَ الطامحينَ لإعادةِ كتابةِ التاريخِ لصالحهم.

البرجُ كحقيقةٍ تتجاوزُ الملموس

هذا المقطعُ يُشيرُ إلى استمرارِ البحثِ عن الجذورِ وسطَ الخرابِ، حيثُ لا يُمكنُ لأحدٍ أن يدّعي ملكيةَ المجدِ وحده. فالبرجُ، وإن تهدّم، يبقى فكرةً حيّةً في ذاكرةِ الأحفادِ، لكنّ صراعاتِ الميراثِ قد تُفسدُ المعنى الحقيقيَّ للإنجازِ الحضاري.

الحَجَرُ الذي هَجَرَ بابل

(63)

"في بابِ جَلْميدو بنِ قرميدو مِن اللوحِ الكتابِ:

هُوَ الذي قد هَرْمَنَ الأهرامَ

في شَتّى بِقاعِ الأرضِ إذْ قدَّ الحَجَرْ

ولِأنَّ جلْميدو تَدارَكَ سَهْوَ والِدهِ

فَقَدْ بَقيَتْ بَدائِعُهُ وقَد صَرَفَ النَظَرْ

عن بابِلِ الأولى وعن برجٍ يُقالُ ... ولا أثَرْ"

باب جَلْميدو:

"في بابِ جَلْميدو بنِ قرْميدو مِن اللوحِ الكتابِ:

هُوَ الذي قد هَرْمَنَ الأهرامَ

في شَتّى بِقاعِ الأرضِ إذْ قدَّ الحَجَرْ"

يضعنا هذا المقطعُ أمام شخصيّةٍ جديدةٍ في ملحمة البرج: جَلْميدو بن قرْميدو، والذي يبدو أنَّهُ ابنٌ بارٌّ بالحجارةِ لا بالبرج.. فبدلًا من أن يكونَ امتدادًا لوالدهِ، يتّجهُ إلى بناءِ مجدِه في أماكنَ أخرى، مشيّدًا الأهرامَ في شتّى بقاعِ الأرض.. الاسمُ نفسه "جَلْميدو" مأخوذٌ من الجَلْمَد، أي الصخرِ الصلبِ، مما يعكسُ صلابتهُ كمهندسٍ، لكنهُ في ذاتِ الوقتِ يوحي بقسوتهِ وانفصالهِ عن إرثِ والده.

التراجعُ عن الحُلم البابلي

"ولِأنَّ جلْميدو تَدارَكَ سَهْوَ والِدهِ

فَقَدْ بَقيَتْ بَدائِعُهُ وقَد صَرَفَ النَظَرْ

عن بابِلِ الأولى وعن برجٍ يُقالُ ... ولا أثَرْ"

يُشيرُ السطرُ إلى أنَّ جَلْميدو رأى في مشروعِ والدهِ قرْميدو خطأً لم يُرِد تكرارَه، فقد اعتبرَ برجَ بابلِ مغامرةً فاشلةً أو حلُمًا مستحيلًا، فاختارَ بناءَ صروحٍ أخرى أكثر استدامة.. وفي ذلك تناصٌّ مع التاريخ، حيثُ نجدُ أنَّ الأهراماتِ صمدتْ بينما اندثرتْ أبراجُ بابلَ المزعومة..

الإرثُ المُتجاهَل

هذا المقطعُ يُسلّطُ الضوء على صراعِ الأجيالِ في الإبداعِ والهوية، حيثُ يُفضّلُ الابنُ إنشاءَ معجزاتِه الخاصةِ بدلًا من إحياءِ مجدِ والده. وفي النهايةِ، فإنَّ برجَ بابلَ، على عكسِ الأهراماتِ، تحوَّلَ إلى مجردِ أسطورةٍ... بلا أثر.

شهادتان متناقضتان

(64)

"مَن قالَ أنَّ هناكَ بُرْجاً؟

لا دليلَ سوى القصيدةِ والمَكيدةِ:

في القصيدةِ لا يَزالُ

وفي المَكيدةِ لا تَزالُ الشاهدةْ"

البرجُ بين الحقيقةِ والوهم

"مَن قالَ أنَّ هناكَ بُرْجاً ؟

لا دليلَ سوى القصيدةِ والمَكيدةِ:"

في هذا المقطع، يُثيرُ الشاعرُ تساؤلًا جوهريًا: هل وُجدَ برجُ بابلِ أصلًا، أم أنّهُ مجرَّدُ أسطورةٍ حَفِظتْها القصائدُ ورَوَّجَتها المكائدُ؟ هذا التساؤل يفتحُ البابَ أمام التشكيكِ في التاريخِ المُتداوَل، حيثُ لا يبقى من البرجِ شيءٌ ملموسٌ سوى اللغةِ التي خلّدتهُ، والمؤامراتِ التي أحاطتْ به..

القصيدةُ والمكيدةُ

"في القصيدةِ لا يَزالُ،

وفي المَكيدةِ لا تَزالُ الشاهدةْ"

يُبرزُ النصُّ ثنائيةَ البقاءِ والفناء:

* البرجُ حيٌّ في القصيدةِ، حيثُ استمرَّ في الخيالِ الأدبيِّ والأسطورة، وهذا تأكيدٌ على قوَّةِ اللغةِ في حفظِ الأشياءِ حتى لو زالت مادّيًا..

* وفي "المكيدةِ"، تبقى الشاهدةُ، بمعنى أنَّ التلاعبَ السياسيَّ أو التاريخيَّ هو ما صنعَ أسطورتهُ أو طمسَها. فهل كان البرجُ حقيقةً سُوّيتْ بالأرضِ، أم كان خرافةً ضخّمتْها المصالحُ السياسيةُ واللاهوتية؟

البرجُ كفكرةٍ خالدة

المقطعُ يُثيرُ مسألةً فلسفيةً: هل للأشياءِ وجودٌ خارجَ اللغةِ والتأويل؟ برجُ بابلَ لم ينجُ ماديًا، لكنّهُ يظلُّ قائمًا في الخيالِ البشري، يتوهّجُ كلّما أُعيدتْ روايتُهُ.

***

فتنة الانطباع في حدائق الابداع

بانوراما برج بابل بين الحداثة والأصالة

في رحلتنا عبر بانوراما برج بابل، نقف عند تخوم قصيدة تتجاوز حدود الزمان والمكان، متوغلة في بواطن النفس البشرية، متشابكة مع نسيج التاريخ والأسطورة، مستعيدة في ثناياها أصداء الماضي بحروف المستقبل. إنها قصيدة تتموضع عند نقطة التقاء الشعر بالحكمة، واللغة بالحلم، والتاريخ بالحداثة، لتُشيد برجًا من الكلمات، لا يتهاوى كما تهاوت أبراج الإنسان، بل يعلو ويتمدّد في آفاق الشعر والوعي.

حداثة الأسلوب وعظمة البناء

تتجلى أهمية هذه القصيدة في قدرتها على أن تكون جسرًا بين عصور متباينة، إذ تتشابك أصداء الأسلوب الحداثي بتقنياته الجريئة مع ألق العمود الشعري بأوزانه ورنينه الموسيقي، مما يخلق نصًا لا يقف عند حدود التجريب، بل يعيد تعريف العلاقة بين الشكل والمضمون. فالقصيدة ليست مجرد انعكاس لمرحلة شعرية، بل هي تجسيد لحالة من النضوج الفني والتجاوز الإبداعي الذي يضعها في مصاف التجارب الشعرية الخالدة.

جمال مصطفى: الشاعر الحداثي بامتياز

يؤكد الشاعر جمال مصطفى حضوره كمجدد في حقل الكتابة الشعرية، حيث لا يرضى بالسائد، بل يغامر في عوالم لغوية وفكرية لا يطرقها إلا القلّة. إنه شاعر يمزج بين الروح الكلاسيكية والروح الحداثية، بحيث لا ينحاز إلى طرف دون الآخر، بل يُعيد تشكيل القصيدة ضمن فضاء خاص به، فيُحكم قبضته على المعنى دون أن يخنق الإيقاع، ويحتفي بالموسيقى الداخلية للكلمات دون أن يقع في شرك التقليد.

بين قديم الوزن وحداثة الرؤيا

في قصيدته، يخلق جمال مصطفى توازنًا بديعًا بين الشكل التقليدي المتمثل في التفعيلة والوزن، وبين الروح الحداثية التي تتجلى في انزياحاته الأسلوبية وصوره الشعرية الأخّاذة. فهو لا يكتفي بمجاراة التراث، بل يعيد صوغه وفق منظور جديد، يراعي التناغم الصوتي والإيقاع اللفظي، ليخرج لنا قصيدة تنبض بالحياة، تُموسق الفكرة وتُهندس الإحساس، بحيث تبدو وكأنها كائن شعري يتنفس في كل سطر.

المعجم اللفظي ودهشة الصورة

لا يمكن المرور على هذه القصيدة دون التوقف عند المعجم اللفظي الغني.. والذي ينضح بالثراء اللغوي والتكثيف الدلالي، حيث تتقاطع الكلمات والتراكيب في نسيج محكم، يزخر بالاستعارات والكنايات التي تفتح أفق التأويل على مصراعيه. فكل صورة شعرية تنفلت من أسر المألوف، وكل مفردة تنبثق كحجر كريم في صرح البلاغة، مما يمنح القصيدة طابعًا فريدًا يجعلها عصيّة على النسيان.

السرد الشعري والرمزية العميقة

يمزج الشاعر بين السرد غير التقليدي وبين الرمزية الكثيفة، فلا تُروى القصيدة كحدث زمني متتابع، بل كأمواج متلاحقة من المجاز، تنكسر عند صخور الذاكرة البشرية، لتعيد تشكيل الواقع وفق رؤية خاصة. استخدامه الجريء للغة يتجلى في اختيار الكلمات التي تستفز المخيلة، والتراكيب التي تنفجر في الذهن كإيقاع زلزالي، محدثة أثرًا لا يزول بسهولة. إنه توظيف شعري لا يكتفي بملامسة العاطفة، بل يغوص في العمق الوجداني والفكري، محققًا تفاعلًا لا واعيًا بين النص والمتلقي.

الهوية الشعرية الفريدة

إن أعظم ما يميز هذه القصيدة هو صوتها الفريد، إذ استطاع الشاعر أن يطوّر أسلوبًا شخصيًا يُميز قصيدته عن غيرها، فيخلق تجربة شعرية مُتفرّدة، لا تشبه إلا ذاتها. وهذا التفرد لا ينبع فقط من إتقان الصنعة الشعرية، بل من الرؤية التي تقف خلف النص، ومن الجرأة على انتهاك الحدود التقليدية بين الأجناس الأدبية، ليخرج العمل في النهاية وكأنه مشهد بانورامي تتداخل فيه الألوان والأزمنة والظلال، مُحققًا تجربة قرائية لا تُنسى.

برجٌ لا ينهار

في نهاية المطاف، تظل بانوراما برج بابل علامة فارقة في الشعر العربي الحديث، قصيدةٌ تحمل في مفاصلها روح التجديد، لكنها لا تنفصل عن جذور الشعر الضاربة في عمق التراث. إنها مرآة لعالم يتشظى، لكنها في الوقت ذاته نبوءة لعالم يولد من بين الركام. إن البرج الذي شيده الشاعر هنا ليس كأبراج البشر التي هوت تحت ثقل غرورها، بل هو برج من الحروف والصور والأفكار، صامدٌ في وجه الريح، متعاليًا عن الزوال. إنه برج بابل الذي لم يُهدم، بل بُعث من جديد، ليظل شاهدًا على خلود الكلمة حين تصاغ بنبض الشعر الحق.

**

طارق الحلفي

......................

* رابط القصيدة //

https://www.almothaqaf.com/nesos/971491

* رابط المدخل //

https://www.almothaqaf.com/readings-5/979452

* رابط القسم الاول //

https://www.almothaqaf.org/readings-5/979564

* رابط القسم الثاني //

https://www.almothaqaf.com/readings-5/979680

* رابط القسم الثالث//

https://www.almothaqaf.com/readings-5/979779

* رابط القسم الرابع//

https://www.almothaqaf.com/readings-5/980014

* رابط القسم الخامس//

https://www.almothaqaf.com/readings-5/980259

* رابط القسم السادس//

https://www.almothaqaf.com/readings-5/980524

"جينالوجيا الهوية" عند نجيب محفوظ

في كل حكاية لنجيب محفوظ، تتحول مصر إلى كائنٍ حي يهمس بأسراره، يصرخ بجراحه، ويغني بآماله. ليست الحارة مجرد مكان، بل هي حيث تختبر القيم في مواجهة الفقر، وتتصارع الأحلام مع جدار الواقع. محفوظ لم يكتب عن مصر كسارد محايد، بل كـ"شاهد عيان على التحولات الوجودية" لفرد يذوب في الجماعة، وجماعة تحمل أعباء فرد واحد.

في الثلاثية، يتحول الزمن إلى شخصيةٍ رئيسية. حركة الشمس على جدران الحارة، أصوات الباعة، وصمت الليالي- كلها تفاصيل تكشف عن صراع التاريخ مع الحداثة. جيل "السيد أحمد عبدالجواد" المتمسك بالهيبة والتراث، وجيل "كمال" المتأرجح بين الشك والحقيقة، وجيل "عبد المنعم" الثائر على الاستعمار والأفكار البالية... هنا تصبح الحارة سجلاً لتاريخ مصر الاجتماعي والسياسي، حيث "السلطة الأبوية" تمثل نظام الحكم، وتمرد الأبناء يرمز لثورات لم تكتمل.

عندما يعود محفوظ إلى الفراعنة في "كفاح طيبة" أو "عبث الأقدار"، فهو لا يروي تاريخاً منقرضاً، بل يعيد تشكيل الذاكرة كسلاحٍ ضد النسيان. الملك خوفو في "عبث الأقدار" هو مرآة لكل نظامٍ يظن أنه قادر على تحنيط الزمن. هذه العودة ليست هروباً إلى الماضي، بل تأكيد أن الهوية المصرية كالنيل: تتدفق عبر العصور، تغذي الحاضر، وتنبئ بالمستقبل.

شخصيات محفوظ ليست أبطالاً خارقين، بل بشراً عاديين تكسر أحلامهم على صخرة الواقع. "سعيد مهران" في "اللص والكلاب" يتحول من ثائرٍ إلى هائمٍ في دهاليز الانتقام، و"محجوب عبد الدايم" في "أولاد حارتنا" يختار اللامعنى كرد فعلٍ على ظلم الكون. لكن حتى في هزائمهم، هناك نور متمرد. محفوظ يؤمن بأن الكرامة لا تقاس بالانتصار، بل بالقدرة على الاستمرار. مصر هنا ليست أرضاً للخلود، بل أرضاً تخلد لأنها ترفض أن تموت.

الاحتفال كـفعل ثقافي: 

احتفال وزارة الثقافة بذكرى محفوظ، تحت قيادة مثقف مثل أمير نبيه، هو أكثر من فعالية روتينية. إنه إحياء لفكرة أن الأدب ضمير الأمة. محفوظ لم يكن يكتب ليُدخل القراء إلى عوالمه، بل ليدخل إلى عوالمهم، يقلب أوراقهم المخبأة تحت الوسادة، ويسألهم: أين أنتم من مصر؟ الاحتفال به اليوم هو استعادة لذلك السؤال، وتذكير بأن الثقافة ليست ترفاً، بل مشروع حياة يواجه محاولات طمس الهوية.

مصر التي رسمها محفوظ تشبه "أولاد حارتنا": وطن يولد من رحم المعاناة، يحمل جرحاً قديماً، لكنه يعيد تشكيل نفسه كل يوم. الاحتفاء به هو احتفاء بنا-بأسئلتنا، بهشاشتنا، وبقدرتنا على أن نكون أبطال حكاية لم تكتب نهايتها بعد. وكما قال محفوظ ذات مرة:  «مصر لا تحتاج إلى من ينقذها، بل إلى من يفهمها». 

فليكن هذا الاحتفال بداية فهمٍ جديد.

عندما نتحدث عن نجيب محفوظ، لا نتحدث عن كاتب عابرٍ في ذاكرة الثقافة العربية، بل عن رجل حول الحارات والأزقة إلى كون مكتملِ الأسرار، يحمل في تفاصيله نبض شعب وروحَ وطن. مصر محفوظ ليست مجرد جغرافيا أو تاريخاً مدوناً، بل هي إنسان يصرخ بصمت، وحلم يتجدد تحت رماد اليأس. كتبها بدم القلب، فصار كل حرفٍ في رواياته خريطةً لوجدانٍ جمعيٍ يعرف القهرَ ولا يستسلم، ويحمل الكبرياءَ حتى في لحظات السقوط.

في ثلاثيته الخالدة، لم يكتفِ برسم شخصياتٍ تعيش وتصارع، بل نحت وجهاً لمصرَ الشعبية: تلك التي تختزل في حارة صغيرة أسرارَ القرون. الفقراء هناك ليسوا ضحايا، بل حكماء يزرعون الكرامة في تراب الفاقة. والشباب العاصف بأسئلته هو ذاته الذي يحمل بذور التغيير تحت عباءة التقليد. لم يكن محفوظ روائياً فحسب، بل كان نبيّاً يرصد تحولات الروح المصرية التي لا تموت، حتى عندما يظَن أنها انكسرت.

ولا ننسى أنه عاد بنا إلى مصر الفراعنة في أعمال مثل «رادوبيس» و«كفاح طيبة»، ليذكرنا بأن الهوية ليست لحظةً عابرة، بل نهراً يجري من الماضي إلى الحاضر، حاملاً في ضفافه ذاكرة لا تغتال. فمصر ليست وطناً على الخريطة، بل علامة وجودية تسأل: كيف نبقى أحياء رغم كل شيء؟

اليوم، حين تحتفل وزارة الثقافة مع المثقفين بيوم نجيب محفوظ، فإنها لا تحتفي برمزٍ أدبيٍ فحسب، بل تحيي ذلك الحوار الخالد بين الماضي والمستقبل. صديقي الكاتب أمير نبيه، وكيل الوزارة، يعرف جيداً أن الاحتفال بمحفوظ ليس حدثاً ثقافياً تقليدياً، بل هو إعادة لرسم الخيط الرفيع بين الأدب والحياة. محفوظ الذي حول الأدبَ إلى فعل مقاومة، والثقافةَ إلى سلاحٍ ضد النسيان.

هذا الاحتفال، في جوهره، هو إعلان بأن مصر محفوظ ما زالت حية: في شابٍ يقرأ «زقاق المدق» لأول مرة، وفي امرأةٍ تكتشف في «ثريا» مرآة لأسئلتها، وفي مثقف يحمل القلمَ ليسجل زمنه دون خوف. فلتكن المناسبة ذكرى، ولكن لتكن أيضاً دعوة لأن نكتب مصرنا من جديد، كما فعل محفوظ: بعين تعشق التفاصيل، وقلب يؤمن بأن النور ينتصر، حتى لو طال الليل.

***

د. عبد السلام فاروق

تبكينَ من وجَعي وقد صَعُبا؟

صبري العنيدُ سَيُتْعِبُ التَّعَبا

*

عَقَدَ البكاءُ على قياثِرنا

أملا ً بجعلِ نحيبِهِ طَرَبا

*

إني ألِفتُ الحزنَ من صِغري

أمَّا ً رؤوما ً ... والعذابَ أبا

*

هيهات يُوهِنُ صخرتي وجَعٌ

أرأيتِ نارا ً تحذرُ الحَطبا؟

الشعرُ هو لغةُ المُساءلةِ الكونيّةِ الخلّاقةِ التي تختزلُ المسافاتِ العمياءَ والزمكانيّةَ الهوجاءَ... كونه يعزّزُ اتّحادَ الإنسانِ بالحياةِ، والإنسانِ بالإنسانِ وبالوجودِ باختراقٌه وتجاوزه للمألوف ...على حد تعبير الشاعرة آمال عواد رضوان..

والنص الشعري (رباعية) الذي نسجت عوالمه الصورية انامل منتجه الشاعر يحيى السماوي..الذي يكشف فيه عن تشكيل فني متساوق في وظائفه  النفسية والدلالية والجمالية المقترنة بلوحة تشكلية متشابكة الخطوط والالوان حققتها ريشة منتجها  الفنان سعدي عبدالكريم مشكلة نصا موازيا اسهم في الكشف عن مضمون النص..

تبكينَ من وجَعي وقد صَعُبا؟

صبري العنيدُ سَيُتْعِبُ التَّعَبا

*

عَقَدَ البكاءُ على قياثِرنا

أملا ً بجعلِ نحيبِهِ طَرَبا

فالنص بوح شفيف يمتاز بعميق  معناه واتساق مبناه..مع حبكة أسلوبية ممزوجة بجمال وقوة العاطفة التي تنبثق من التداعي الدلالي الذي تظهره الذات المنتجة من خلال سرد مكنوناتها.. فضلا عن انه يوظف ظاهرة التّناصّ  الكاشفة عن حافظته  وذاكرته المتقدة وقدرته على اظها ره بتوظيفه (النص الشعري)  من اجل الارتقاء بتنامي نصه..كما في قوله(صبري العنيد سيتعب التعبا) الذي يجرنا صوب قول الامام علي(ع) (ساصبر حتى يعلم الصبر اني صبرت على شيء أمر من الصبر)..فضلا عن توظيفه تقنية التنقيط(النص الصامت) الدال على المحذوف الذي يستدعي المستهلك لملء فراغاته..

إني ألِفتُ الحزنَ من صِغري

أمَّا ً رؤوما ً ... والعذابَ أبا

*

هيهات يُوهِنُ صخرتي وجَعٌ

أرأيتِ نارا ً تحذرُ الحَطبا؟

فالمنتج يقوم بتفعيل عمل الذاكرة وشحنها بطاقة دينامية تسهم في تطوير الحدث والبناء الشعري..وذلك باقتناص اللحظة وتحويرها بكينونة لغوية تحيلها من الواقعي الممزوج بالخيال الى جمالي يستفز ذاكرة المستهلك(المتلقي) بتوظيفه تقنيات فنية واسلوبية كالاستفهام الباحث عن جواب والمتناقضات وصراعاتها (النحيب والطرب..)

وبذلك قدم المنتج نصا استقطب اللحظة الحدثية واضفى عليها عمقها فصارت تخاطب عواطف متلقيها فتترك اثرها في ذاته باعتمادها تيمات(الضياع/ الغربة/ الجسد) التي شكلت حضورا فاعلا في معمار النص المتميز بمحمولاته اللفظية المفضية الى عوالم التامل واشغال الفكر لتوسيع مديات النص..

***

الناقد علوان السلمان

....................

* للوحة: من أعمال الصديق الناقد والفنان التشكيلي سعدي عبد الكريم

في أدب حنا مينا، البحر ليس مجرد خلفية مكانية، بل كائنٌ حي، قوةٌ طاغية، وخصمٌ أبديّ يتحدّى الإنسان بلا هوادة. ليس زرقةً هادئةً، بل امتدادٌ لقدَرٍ لا يرحم، ولمصائر تتلاطم كما الأمواج العاتية. البحر عنده ليس مجرد طبيعة، بل اختبارٌ للإنسان، ساحةٌ للصراع بين الإرادة البشرية والوجود القاسي.

في كل موجةٍ متكسّرة، في كل ريحٍ تعصف بسفينةٍ منهكة، يعيد القدر كتابة المصير، حيث لا يمكن فصل معركة الإنسان ضد البحر عن معركته ضد الاستغلال والقهر. البحر هو النقطة التي تتقاطع عندها المأساة الفردية مع المأساة الجمعية، وهو المساحة التي يكشف فيها حنا مينا هشاشة الإنسان أمام العناصر الطبيعية، لكنه أيضًا المكان الذي يُعيد فيه تأكيد كرامة الكادحين والمقهورين، الذين وإن هُزموا، فإنهم لم يتخلوا عن المواجهة.

لم يكن حنا مينا كاتبًا معزولًا عن عصره، بل كان ابنًا لزمنٍ ملتهب، رأى الفقر ممتزجًا بالقهر السياسي، وعاش الاشتراكية لا كنظريةٍ مجرّدة، بل كضرورةٍ ملحّة لمن سُحقوا تحت عجلة النظام الطبقي. كان يرى الأدب فعل مقاومة، وليس ترفًا فكريًا، بل سلاحًا يواجه به الإنسان مصيره، كما يواجه البحّار أمواج المحيط الهائج.

ولهذا لم تكن العدالة الاجتماعية والصراع الطبقي في رواياته مجرد مواضيع عابرة، بل روحًا تسري في شخصياته، حيث يتحول الفقراء والعمال والمهمشون إلى رموزٍ لصراعٍ أوسع، في مواجهة عالمٍ يفرض عليهم الفقر كما لو كان قَدَرًا محتومًا. في هذا السياق، يتجلّى تأثير الفكر الاشتراكي في أعماله ليس كموقفٍ سياسيّ مباشر، بل كرؤيةٍ فلسفية للوجود، حيث يصبح النضال الاجتماعي ضرورةً حتمية لا تقتصر على الأيديولوجيات، بل تتجذر في التجربة اليومية للطبقات المسحوقة، من الصيادين والبحارة إلى الفلاحين وعمال الموانئ.

هذه الفئات، التي تشكل العمود الفقري لعوالمه الروائية، هي ذاتها التي تكتب تاريخها بعرقها وصمودها، رغم أنها لا تملك حق تسجيله رسميًا في كتب المنتصرين.

وسط هذا العالم القاسي، تتجلى المرأة في أدب حنا مينا ليست كضحيةٍ فقط، بل كقوةٍ فاعلة في ملحمة الصراع. هي الحبيبة التي تشارك الرجل أعباء الحياة، والأم التي تحمل أوزار الفقر، والمتمردة التي ترفض الانحناء. شخصياته النسائية، رغم معاناتها، تحمل قلقًا وجوديًا عميقًا، نداءً داخليًا لا يرضى بالخضوع، وكأنها صورةٌ أخرى للبحر ذاته: قاسيةٌ، عنيدة، عصيّةٌ على الكسر.

لم تكن المرأة في أعماله مجرد تابع للرجل، بل كانت شريكةً في الوجود، في الألم، وفي الثورة على القهر. تتجسد عبرها صورة مزدوجة للمعاناة والقوة في آنٍ واحد. يضعها الكاتب في مواجهة القدر ذاته الذي يواجهه الرجل، لكنه يمنحها بُعدًا إضافيًا: مقاومة أعباء المجتمع الذي يفرض عليها قيودًا مزدوجة، سواء عبر الفقر أو التقاليد أو القوانين الجائرة.

ومن خلال هذه الشخصيات، يعيد تشكيل صورة المرأة ليس كرمزٍ سلبي للاستسلام، بل كفاعلٍ تاريخي قادر على صنع مصيره، تمامًا كما البحارة الذين يقفون في وجه العاصفة رغم معرفتهم بالمخاطر المحدقة بهم.

لكن الاشتراكية التي آمن بها لم تكن شعارًا خطابيًا في رواياته، بل نسيجًا متغلغلًا في العوالم السردية، تتجسد في شخصيات ترى العمل قيمةً عليا، وفي ثنائيات الغني والفقير، القوي والضعيف.

في البحر، لا تسود الألقاب، بل القدرة على الصمود. أما على اليابسة، فالقوانين تُصاغ لخدمة أصحاب النفوذ، والتفاوت الطبقي يُحدّد المصير قبل أن تبدأ المعركة. البحر، رغم قسوته، أكثر عدلًا من المجتمع، حيث لا يمنح امتيازاته إلا لمن يستحقها، بلا محاباةٍ أو استغلال.

هذه المقارنة بين البحر والمدينة ليست سطحية، بل تحمل في عمقها فلسفةً خاصة، حيث يصبح البحر رمزًا للعدالة النقية التي لا تنحاز إلا للكفاءة، بينما تتحول المدينة إلى متاهةٍ من الطبقية والفساد والقوانين التي تحكمها المصالح الضيقة.

وفي هذا المفهوم، يمكن فهم البحر كبديلٍ عن المدينة، كمكانٍ يحمل في طياته إمكانية النجاة رغم المخاطر، مقابل استحالة النجاة داخل المدن التي تلتهم أرواح المقهورين دون أن تمنحهم حتى شرف المواجهة.

الهجرة والنفي في أدب حنا مينا ليسا مجرد انتقالٍ مكاني، بل تجربةٌ وجودية تشبه اغتراب الإنسان عن نفسه. شخصياته المهاجرة لا تبحث فقط عن وطنٍ بديل، بل عن معنى، عن حياةٍ لا تفرض عليها الهزيمة مسبقًا. إنها رحلةٌ دائرية، تبدأ بالقهر وتنتهي عنده، وكأن كل الطرق، مهما تفرقت، تعيد الإنسان إلى نقطة البداية: إلى البحر، إلى الريح التي تعصف بالأشرعة، إلى المصير الذي يحاول الهروب منه، لكنه يطارده كظله.

ليست الهجرة مجرد فعلٍ جغرافي في أدب حنا مينا، بل هي قدرٌ آخر يُفرض على الإنسان حين تصبح الأرض مكانًا طاردًا، حين تتحول المدن إلى جدرانٍ باردة تمنع الحلم بالنجاة.

لكن المهاجر في رواياته لا يجد وطنًا جديدًا، بل يكتشف أن الاغتراب حالةٌ داخلية لا يمكن تجاوزها بمجرد تغيير المكان. هذه الرؤية تجعل من شخصياته رموزًا للإنسان الممزّق، الباحث عن الخلاص في أماكن لا تقدّم سوى أوهام الخلاص.

أسلوبه السردي يلتقط هذه العوالم بوضوحٍ أخّاذ، حيث يكتب بلغةٍ تحمل قسوة البحر وعذوبته معًا. لا يلجأ إلى تجميل المأساة، بل يتركها تتكشف دون أقنعة. ثمة شيءٌ فطريّ في لغته، كأنها امتدادٌ لصوت العمّال والصيادين، مملوءةٌ بموسيقى داخلية تنبع من صدى الواقع ذاته، لا من زخارف البلاغة.

كل جملةٍ لديه تحمل أثر العرق والملح والرمل، كل حوارٍ يكشف عن مرارةٍ لا تحتاج إلى تفسير. أسلوبه لا يعتمد على البهرجة اللغوية، بل على الدقة في التقاط التفاصيل، على البساطة التي تخفي وراءها عوالم معقدة، على الاقتصاد في الكلمات الذي يُنتج تأثيرًا عميقًا دون حاجةٍ إلى الإطالة أو الخطابة.

عالم حنا مينا هو عالم الذين لا يملكون ترف الاختيار، لكنه أيضًا عالم الذين يرفضون الاستسلام، الذين يقفون في وجه البحر رغم يقينهم بأنهم قد يُهزمون، لأن الهزيمة الحقيقية ليست في الغرق، بل في التوقف عن المجابهة.

في هذا الإيمان العميق بالنضال كقَدَرٍ محتوم، يكمن سرّ خلود أدبه. لهذا لم يكن حنا مينا كاتبًا عابرًا في تاريخ الرواية العربية، بل كان شاهدًا على عصره، وحاملًا لآلام المقهورين، وناقلًا لصوتهم الذي لم يكن ليسمع لولا وجود أدبٍ يعيد إليهم حقهم في الحكي، وحقهم في الحلم، وحقهم في النضال حتى آخر رمق.

***

إبراهيم برسي

" زيدٌ يصارعُ كلَّ شُذّاذِ الورى

هو لا يُقاتلُ في العراقِ هِشاما

*

فَتَرَفّعوا عن تُرّهاتِ تُراثِنا

فَزَعيمُنا رغمَ الأسى يَتَسامى

*

بعواطفي صنعاءُ جئتُكِ ناصراً

وأصوغُ أوجاعَ الفُؤادِ (كَلاما) "

بمهارة وبراعة شعريتين عاليتين وغاضبتين، وبشجاعة ونبل وحس عربي وإنساني صادق وحقيقي، كتب الشاعر القدير الدكتور "مصطفى علي" ونزفَ وأطلقَ صرخته الشعرية الغاضبة والعالية، وأَعني بها قصيدته الموسومة بـ " لا تصلبوا زيداً غباءً مرتين". وأرى ان الدكتور مصطفى قد استطاع ان يُثبت لنا نحن قرّاؤه ومتلقو شعره الرصين، وقصائده المهمة المُتعددة الأفكار والرؤى والاغراض والاشكال ان كل هذه العناصر تبدو جليّة وجليلة وصريحة وباسلة في ابياته الشعرية التي قمتُ بإختيارها في مفتتح هذه القراءة الموجزة التي اسعى من خلالها الى مشاركة اخي الشاعر المبدع د. مصطفى في صرخته الشعرية النبيلة هذه .

وأرى كذلك: أَنَّ هذه القصيدة هي محاولة صادقة من الشاعر لدعوتنا وتحريضنا وجدانياً وإنسانياً وثقافياً للوقوف مع شعبنا اليمني العربي الاصيل، كما في ابياته الشعرية الآتية

" ياساكناً  يَمَنَ  الجنوبِ، كتابُنا

وَصَفَ  التثاقلَ في النفيرِ  حَراما

*

يانارُ أعداءِ الطُفولَةِ والصِبا

كوني على يَمَنِ الأُباةِ سَلاما

*

أَوَ نَصْلِبَنْ زيداً ونخذله كما

كُنّا مع الجَدِّ الأصيلِ لِئاما "

ويُمكن الاشارة: الى أَنَّ الشاعر، قد حاول جاهداً أَن ينأى بقصيدته هذه عن المباشرة الفجّة والزعيق الخادش والثرثرات الكلامية والعنتريات الفارغة التي لاعلاقة لها بالشعر الحقيقي من حيث جوهر خطابه الابداعي والجمالي.

وكذلك فان الشاعر حاول أَن تكون قصيدته هذه ذات رؤية ملحمية تكمن في تعددية ثيماتها وبولفينية أصواتها الداخلية والعالية والمتماهية والمتعاشقة مع بعضها البعض بكل عمق وغضب وإحتجاج . وكذلك تكون ذات بنية نصّية وتدوينية شاهقة حتى أعالي جبال اليمن العالية والمُتعالية بعمق تاريخ البلاد العريق  بالحضارة والأصالة والمجد والشموخ والحكمة والشواهد الخالدة . وأُريدُ القولَ كذلكَ: انني وبعد قراءات مُتعددة في القصيدة، استطعتُ أَن أُلاحظ بحدس وتأويل، أَنّ الشاعر قد استطاع تدوين قصيدته هذه بلغة شعرية فخمة، ولا أُريدُ المبالغة في القول إذا قلتُ بأنَّها ذكّرتني بجزالة وديباجة لغة الشاعر الخالد " أبي الطيّب المتنبي " كما في بيته الشعري هذا:

" عَرَبٌ أطاعوا رومَهم فَمَليكُهم

عبداً يصيرُ أمامَهمْ وَغُلاما "

وكذلك أَيقظت بداخلي لغة الشاعر العراقي الفذ "محمد مهدي الجواهري" كما في بيته الشعري التالي:

"وأرى جياعَ الشعبِ راقدةً على

ألَمِ الطِوى كي يُسْكِتوهُ نِياما "

وكذلك بيته الشعري هذا:

"عَتَبي على زمن الخنا فَمُلوكُهُ

زرعوا الوَنا بشعوبهم فتنامى".

وفي ختام هذه القراءة الأوّلية المُقتضبة لقصيدة الشاعر د. مصطفى علي، أودُّ القول: سلاماً لشعب اليمن العريق والأصيل والنبيل وهو يحاربُ ويدافع عن شعب فلسطين وغزّة بشكل خاص وإستثنائي وبكل شجاعة وقوّة وإقتدار. وسلاماً اخي الأنسان والشاعر الحقيقي د. مصطفى علي على كتابة وتدوين هذه القصيدة الباسلة والجريئة والملحمية أَيضاً.

***

سعد جاسم

قراءة في قصة "هدايا من عتمة الركام" للقاصة سعاد الراعي

***

الطفولة حين تنقلب إلى شهادة على الخراب

تفتح القصة نافذتها على عالمٍ متشظٍّ بين الموت والرجاء، حيث تُمسي الطفولة مجرَّدة من براءتها، مثقلة بالحروب التي تصنع رجالًا صغارًا قبل الأوان. "هبة"، بطلتنا ذات الأعوام الستة، ليست مجرد طفلة، بل هي انعكاسٌ لحالة أجيالٍ ولدت وسط النيران، وكأنها ابنة الرماد الذي يتجدد مع كل قصف، مثل طائر الفينيق الذي يستحيل رماده حياةً جديدة، ولكن بفارقٍ مرير: هذه الحياة لا تزال محاصرة بالموت.

وسط عالم تلاشى تحت القصف، وتحت سماء لم تعد تحمي، تسير الطفلة هبة بين أنقاض بيتهم، بحثًا عن هدايا العيد لأمها وأختها. ليس في المشهد ما يوحي بالعيد سوى عناد الأمل في قلبها، قلب صغير لم يتوقف عن الإيمان بوجود ما يستحق الحياة وسط هذا الدمار. هنا تتجلى أكثر الصور إيلامًا للمأساة الإنسانية في غزة: حين تتحول مخلفات الحرب إلى ذكريات، وتصير الحجارة بقايا الأحبة.

 بساطة المعاناة وعظمة الدلالة

تبدأ القصة بتصوير هبة وهي مربوطة بحبلٍ إلى والدتها وأختها، كأن القدر قد كبّلها قبل أن تمتلك حتى حرية الطفولة. إنها ليست مجرد صورة عابرة، بل رمزٌ قويٌّ للارتباط الجبري بالمأساة، إذ لا خيار لها سوى البقاء داخل هذه الدائرة المغلقة من الفقد والخوف. غير أن فعلها الأول في القصة هو محاولة الانعتاق: تفكّ قيودها، ليس بمعنى التمرد، بل كاستجابة لغريزة البقاء، وكأنها تسعى خلف بارقة من النور وسط العتمة.

تتحرك القصة بين لحظتين زمنيتين: الماضي حيث البيت والحياة، والحاضر حيث الدمار والفقد. هذه المفارقة تُكسب الأحداث بعدًا دراميًا مؤلمًا، فالطفلة لا تبحث عن كنوز ولا عن دمية أو قطعة حلوى كما يفعل أقرانها، بل تنبش في الركام عن بقايا حياة.. عن أشياء يمكن أن تُهدى.. عن رموز تعيد تشكيل صورتها عن ذاتها.. عن بقيةٍ من دفء العائلة التي انهارت تحت القصف.. وعن عائلتها التي ضاعت في رماد القصف، وما تجده ليس مجرد أشياء، بل شظايا ذاكرة متشظية، قطعًا من حياةٍ كانت نابضة ذات يوم.

الصورة الرمزية للأشياء:

الحَجَر والإبزيم والدبوس: دلالات الرماد والهوية والذاكرة

الحَجَر: شاهدة الألم وبصمة الغياب

حين تلتقط هبة الحجر الملطخ بدم والدها وأخيها، لا تراه مجرد حجر، بل هو شهادة دامغة على الفقد.. أثر باقي من حياة زالت، وقطعة من ذاكرةٍ ترفض أن تمحى.. للحجر هنا رمز مزدوج:

1.  شاهد قبر غير مُعلن، حيث يرقد الأحباء دون وداع.

2.  ذاكرة ملموسة، تتحدى النسيان والطمس، وكأن الطفلة ترفض أن يموت والدها وأخوها في العدم.

ان هذا الحجر هو صكّ الملكية الوحيد المتبقي لعائلة هبة على هذه الأرض.. انه ليس جمادًا.. بل نبضًا في يد طفلة، وشهادة على أن المكان لم يكن مجرد أنقاض، بل بيتًا وروحًا وحياة.

الإبزيم: آخر خيط يربطها بالأب

حين تعثر هبة على إبزيم حزام والدها، لا تراه مجرد معدن محترق، بل رباطًا أخيرًا بينها وبين الأب الذي لم يعد هنا.. يذكّرنا هذا الرمز بما تعنيه الممتلكات الشخصية لمن فقدناهم؛ كيف يمكن لشيء صغير كإبزيم أن يكون أثقل من جبل حين يُحمل بذاكرة القلب.. أنها تستعيد عبره شيئًا من الأمان الغائب.

الدبوس: أثر الطفولة المسلوبة

أما الدبوس المعدني، الذي كان يربط لفافة أخيها الرضيع، فهو أكثر الرموز قسوة. إنه بقايا براءة لم تكتمل، وطفولة توقفت قبل أن تبدأ. إن التقاطها لهذا الدبوس لا يأتي من باب الصدفة، بل هو محاولة لا واعية لاحتضان الذكرى، لملامسة ظلّ الأخ الغائب.. تحمله كما لو أنها تحضن ما تبقى من أخيها، وكأنها تطوي بين راحتيها أنفاسه التي لم تعش طويلًا.

الطفولة حين تُسلب، والمستقبل حين يُسرق

تمثل شخصية هبة نموذجًا لما تصنعه الحرب بطفولة الإنسان، فهي لم تعد مجرد طفلة، بل أصبحت ذاكرة حية للفقد والمعاناة. فالطفلة هبة ليست استثناءً في واقع غزة، بل هي مثال يتكرر كل يوم.. والحرب هنا لا تقتل الجسد فقط، بل تقتل الطفولة، فهي تجبر الصغار على حمل مسؤوليات أكبر من أعمارهم.. انها تجبرهم على نسيان اللعب، وعلى استبدال الدمى بحجارةٍ. ففي عمر سنوات ست تحمل هبة من النضج ما يفوق سنها، وما في يدها الصغيرة ليس سوى ذكريات مفجعة من تحت الركام..

الحرب هنا ليست فقط دمارًا ماديًا، بل تدميرًا نفسيًا بطيئًا، يخلّف أرواحًا صغيرة محملةً بحزنٍ لا يليق بسنها.. وحياةً فقدت ألوانها قبل أن تبدأ..

ان المأساة الحقيقية ليست فقط فيما حدث، بل فيما سيأتي، في أجيالٍ تنشأ وسط هذا الدمار، فلا يبقى لديها سوى خيارين: الصمود أو الفناء.

بين جدار برلين وأنقاض غزة

يدخل الصحفي إلى المشهد كعينٍ خارجية ترصد الحدث، لكنه سرعان ما يتحول إلى شاهدٍ مغلوبٍ على أمره أمام عظمة ما يرى.. عدسته التي أرادت نقل الخبر وجدت نفسها تنقل إنسانيةً لا يمكن أن تختزلها الكلمات، فتتحول الطفلة إلى صورة تعبيرية تلخص معاناة غزة بأكملها.

حين يقارن الصحفي بين حجارة جدار برلين التي تباع كتذكارات وبين أنقاض غزة التي تباع بقرار سياسي، فإنه يضع المأساة في إطار عالمي من التهجير والاستغلال السياسي.

** جدار برلين كان رمزًا للانقسام ثم للتحرر، أما بيوت غزة المهدمة، فتضع الحرب في سياق أوسع.. انها ليست إلا ضريبة تُدفع.. لقرارات سياسية لا ترى في البشر إلا أرقامًا في صفقات التهجير والاقتلاع.. وما حجارة غزة الا "تصفية حسابات"، تُدمَّر ليُمحى أثر أهلها، ويُشترى مصيرها بقرارات القوى الكبرى.

** المفارقة أن أنقاض برلين صارت تذكارًا للحرية، بينما أنقاض غزة تُباع ضمن صفقات التهجير الجماعي، كما يتجلى في مشروع شراء أرض غزة بقرار ترامب، وكأن الأرض لا تُشترى الا بدم أصحابها.

** الاحتلال والتشريد يصبح جزءًا من منظومة عالمية تتكرر بأشكال مختلفة عبر التاريخ.

البساطة العميقة في نصٍّ مشحونٍ بالعاطفة

تنتمي القصة إلى السرد الواقعي العاطفي، حيث تتشابك التفاصيل الصغيرة مع دلالاتٍ كبرى.. اللغة بسيطة لكنها مغموسة بالشاعرية، فكل جملة تحمل شحنة وجدانية، تبتعد عن المباشرة.. لكنها تغرس المعنى في عمق القارئ دون عناء.

الحوار قليل، لكنه مكثف، حيث تمسك الطفلة بهداياها وتجيب بكل براءة:

"أبحث عن هدايا لأمي وأختي، لأن اليوم عيد."

وكأنها بهذه الجملة تعيد تعريف الهدايا والحياة والعيد نفسه، العيد هنا ليس احتفالًا، بل هو استعادة لما تبقى من العائلة، والهدايا ليست مجرد أشياء، بل هي شواهد على وجود من رحلوا.

بين الذاكرة والنجاة

هبة ليست مجرد شخصية.. بل صوتًا لكل الأطفال الذين نشأوا وينشأون وسط الدمار.. فلا يجدون في الركام إلا ما يربطهم بماضٍ كان ينبغي أن يكون حاضرهم ومستقبلهم.

 القصة تلقي الضوء على مأساة تتكرر بلا انقطاع، حيث الحروب ليست فقط معارك على الأرض، بل صلب مستمر للطفولة، وتحويل للأحلام إلى ركام.

يد هبة الصغيرة، لا تحمل مجرد حجارة، بل تاريخًا مشبعًا بالألم، وذكرى ترفض أن تُنسى، تمامًا كما تأبى غزة أن تُمحى رغم كل ما يحيط بها من ظلام.

هكذا تتحول أبسط الأشياء إلى أعمق الرموز، وتصير الحجارة ذاكرة.. والدبوس ذكرى.. والإبزيم رابطًا أخيرًا بعالم لم يعد موجودًا.

لقد نجحت القاصة الراعي سعاد في ان تسلمنا الى هبة التي أخذتنا في جولتها لسماع حكاية غزة كاملة..

**

طارق الحلفي

..............................

الرابط:

https://www.almothaqaf.com/nesos/980644

أهمية العنوان ودلالاته

يحمل عنوان القصيدة "لا تصلبوا زيداً غباءً مرتين" للشاعر د. مصطفى علي، بُعدًا احتجاجيًا قويًا، يتجاوز الإطار الزمني إلى فضاء الوعي الجمعي للأمة. "زيد ابن علي زين العابدين" هنا ليس مجرد شخصية تاريخية دينية، بل هو رمز للنضال والاستشهاد، مُمثلًا بذلك، كل من يخوض المعارك ضد الظلم. العنوان يعبّر عن رفض الخيانة المتكررة للمبادئ، ويوحي بأن تكرار الخطأ في خذلان القادة والمجاهدين هو بمثابة إثم حضاري قاتل.

تنبض القصيدة بجزالة اللفظ وتكثيف الصور الشعرية العميقة، فالشاعر يعزف على أوتار الرمز والتأويل، ليحوّل النص إلى منظومة متكاملة من الاستعارات والتشابيه التي تعبر عن الأوضاع السياسية والاجتماعية للعالم العربي واليمن بشكل خاص. فالأبيات الشعرية تتسم بإيقاع قوي يستند إلى توظيف بحر كامل رصين يتناسب مع طبيعة النص الاحتجاجي، كما أن التكرار في الصياغات يزيد من التأكيد على المعاني.

تمتاز القصيدة بانسيابية سلسة بين محاورها، حيث يبدأ الشاعر بوصف المشهد البطولي لأنصار زيد، ثم ينتقل إلى خيانة العرب، ومنها إلى واقع اليمن وغزة، ليتوج النص بدعوة لاستعادة الوعي والنهوض. هذا الانتقال غير المتكلف يجعل القارئ يعيش التجربة وكأنها وحدة متكاملة، دون أن يشعر بالانقطاع أو الفجوة بين المعاني.

ان حضور "هدهد سليمان" و"نبأ بلقيس" في القصيدة، يبرز قوة التلميحات التاريخية من اجل اعادة إنتاج أحداث الماضي في سياق معاصر وجديد. فالقصيدة تُسقط رمزية الهدهد الذي كان ناقلًا للنبأ اليقيني على الواقع المعاصر، حيث يتم تبادل الرسائل بين الحق والباطل، بين المخلصين والخونة، وبين من يبني الحضارة ومن يهدمها. كما أن استحضار بلقيس يُشير إلى حالة الحصار والخذلان الذي تتعرض له اليمن، حيث تستعيد القصيدة ما حلّ بسبأ من انقسامات وتخاذل في وجه الأخطار المحدقة.

فَهَداهِدي حَمَلتْ لنا نَبَأَ التي

قَدَحَتْ أَواراً في دمي وَأُواما

*

سَبَأٌ بِها بَلْقيسُ حاصَرَها العِدى

وَقبائلٌ من قومِها تَتَعامى

القصيدة تسلط الضوء على التباينات السياسية بين شمال اليمن وجنوبه، مشيرة إلى معضلة التثاقل في النفير والتخاذل في الدفاع عن المبادئ. هذه الإشارة لا تأتي بمعزل عن القضية الفلسطينية، إذ أن غزة هنا تصبح مرآة تعكس واقع اليمن الممزّق بفعل الصراعات والخيانة الداخلية. ويظهر بوضوح التقابل بين "أنصار الإمام" الذين يقفون مع غزة وبين "الأعاريب" الذين يتحالفون مع الغزاة لإعدام غزاة، في استعادة دقيقة للواقع السياسي العربي المتهالك.

يا ساكناً يَمَنَ الجنوبِ، كتابُنا

وَصَفَ التثاقلَ في النفيرِ حَراما

*

يا نارُ أعداءِ الطُفولَةِ والصِبا

كوني على يَمَنِ الأُباةِ سَلاما

*

أسفاً سُليْمى لا عُروبَةَ إنّما

عربٌ وَصاروا عالةً ورُكاما

*

عَرَبٌ أطاعوا رومَهم فَمَليكُهم

عبداً يصيرُ أمامَهمْ وَغُلاما

تتجلى فلسفة القصيدة العميقة في مقاربة الحياة بوصفها "رسالة وشهادة"، حيث يبرز مفهوم التضحية في سبيل القيم السامية، ويصبح الزهد والتقشف عنصرين متلازمين مع الصمود والكفاح. كما يعكس الشاعر سخطه تجاه الحكّام المتخاذلين الذين "زرعوا الوَنا بشعوبهم فتنامى"، وهو تصوير دقيق لكيفية تسلل الوهن إلى جسد الأمة، نتيجة الخيانة والخنوع. أما على الصعيد الإنساني، فإن القصيدة تصوّر وجع الجياع الذين "يُسكتون نيامًا" في مقابل بذخ المترفين، مما يجعلها صرخة مدوية ضد الظلم الاجتماعي.

وأرى جياعَ الشعبِ راقدةً على

ألَمِ الطِوى كي يُسْكِتوهُ نِياما

*

أيَسُرُّ سُكّانُ الخليجِ إذا رَأوْا

مُدُنَ الجوارِ خرائباً وَحُطاما

تنبض القصيدة بالرموز التي تعكس أبعادًا متعددة، إذ أن "زيد" ليس فردًا بل فكرة، و"صنعاء" ليست مدينة فقط بل وجدانًا للهوية المقاومة. كما أن "حرائر" و"أيامى" تُجسدان مأساة الأمة المغتصبة، في حين أن "الأعاريب" هنا ليسوا سوى أداة للتواطؤ مع المستعمر. هذه الرموز تخلق شبكة من المعاني التي تجعل القصيدة نصًا مفتوحًا على التأويل.

وأرى أعاريبَ الفلاةِ وراءهم

مُتَسوّرينَ مع الغُزاةِ خِياما

*

عرباً تثاقلَ ركْبُها عن نُصرةٍ

فَسَبى الدخيلُ حرائراً وأيامى

*

يمكن القول إن الشاعر يروم من خلال هذه القصيدة استنهاض الوعي العربي والإسلامي، وفضح التخاذل والخيانة، والتحذير من تكرار أخطاء الماضي. إنه نصّ يرفض الاستسلام، ويؤكد على أن التضحية تظلّ جوهر الرسالة النضالية، وأن "زيد"، رمز الفداء، يجب أن يُنصر لا أن يُخذل.

أَوَ نَصْلِبَنْ زيداً ونخذله كما

كُنّا مع الجَدِّ الأصيلِ لِئاما

*

أنَخونُ زيدَ الخيلِ ثانيةً بها

وَنَخطُّ شاهدةَ السعيدِ خِتاما؟

*

لا تصلبوا زيدًا غباءً مرتين" ليست مجرد قصيدة، بل هي شهادة على العصر، تحمل بين أبياتها وجع أمة، وتُجسد في رموزها صراع الحق مع الباطل، والخذلان مع الوفاء. إنها صرخة احتجاج ضد التخاذل العربي، ودعوة للنهوض من سبات الخنوع، لتعيد للأمة مجدها المفقود.

يحقق الشاعر هذا كله بلغة جزلة، صوفية الدلالات، تتلاعب بالألفاظ كما تتلاعب الأمواج بصخور الشاطئ، في قصيدة تقف شامخة كالنخيل في وجه العواصف.

**

سعاد الراعي

في عرف سينما الرعب والإثارة يركز الكاتب على إتلاف واجهة الكائن الحي خصوصا الإنسان، أو يبتدع مخلوقا جديدا غير مألوف بين البشر، حيث يبدأ الشعور بالرعب انطلاقا من مفردات العنوان أو من كلمة مباشرة أو غير مباشرة واحدة مرتبطة بمتن أو موضوع الكتاب، عادة ما ينجذب المشاهد أو القارىء بمجرد ذكر فيلم رعب، حتى صار يكفي ذكر الرعب كدلالة ولا يهم بعد ذلك العنوان الرسمي الذي اختاره الكاتب للفيلم.

النفس البشرية لا تستأنس إلّا بما هو مألوف، وانطلاقا من هذه الظاهر النفسية على الكاتب أن يكون ذكيا ويلعب على خارج المألوف. فالبقرة مثلا حتى وإن رأت الإنسان ممسوخا فلا تلقي له بالا، أكيد ستعتبره مخلوقا مختلفا وكفى، حتى نحن البشر قد لا تشكل في أنفسها عملية إتلاف المخلوقات الأخرى أي رعب يُذكر، فقد نعتبرها نحن أيضا مخلوقات غريبة وربما نشك في وجوها كالمخلوقات الفضائية المزعومة، لكن الرعب هي تلك التعديلات السيئة التي يدخلها المخرج على السمات المألوفة على وجه الإنسان بالأخص، كتجمع بشري يحقق الأمن والطمأنينة والهدوء والاستئناس كلما تكاثر في ملامحه المشتركة المعهودة، هنا تحدث الإثارة بما أجاده مخرج فيلم الأموات الأحياء، مع أنه لم يمسخ الرؤوس بل ظهرت جماجم البشر في شكلها العادي، أمّا غير العادي فيها فهو أنها تتحرك فارغة من لحمها، وأحيانا مهدور متناثر ربما لأن بعضهم حديثي الدفن، وأحيان رؤوس بمحيطها الهندسية المعتاد يتقاطع من وجوهها الدم واللحم الحي، ويقصد المخلوقات البشرية التي أصيبت بالعدوى. الرأس كلمة عامة، نقول رأس الجبل، رؤوس الأصابع، رأس الخيط.. وكما عهدنا أن لكل شيء رأس، وهو ما يعلو الشيء بعكس القدمين في الكائنات الحية أو القاعدة عند الزواحف أو الجبل وكل المواضيع الجامدة.

قبل أن نبحث عن الدلالة العميقة للمسخ في الأدب العربي والأجنبي، وفي النصوص المقدسة: (فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ)1. حتى في المواضيع والصور التي اعتادت أبصارنا على استقامتها واستواء مناظرها وأشكالها، دعنا نقف عند "رؤوس ممسوخة" كعنوان بحده هو ذاته ممسوخا لأنه لم يحقق الدلالة المرجوة منه، فلأن من الشائع أن نقول وجوه ممسوخة حتى نثير السؤال لماذا مُسخت هذه الوجوه وبُدلت عن سليقتها، مثلا لو أن الله غير من شكل هذه الفرقة المعاقبة مع الإبقاء على ملامح الإنسان في وجه القرد فهل كانت ستتحقق الإثارة ثم يظهر أثر العقاب بمعناه الكلي؟ أكيد يبدو السؤال حول تبدّل شكل الرأس مسألة مدهشة ولا هي مثيرة للرعب أيضا، وكموضوع منظور أكيد سيتغير الوضع النفسي لمن شدّوا على كراسيهم انتظارا للمفروض أنه فيلم أو قصة رعب، كما يقول الدكتور ".. كثيراً ما كانت المفردة ملتصقة بما يحتويه الكتاب من موضوعات، بحيث يكون العنوان مرآة لهذا الكتاب، وأعتقد بأن هناك كانت أسس قد تم الاتفاق عليها بين المؤلفين، وهي عدم خروج العنوان على متن الكتاب.."2.

لأن الرأس وإن عبثنا بشكله ومسخناه فلن يذهب بعيدا عن الأشكال الهندسية المألوفة، كأن نحوله من الشكل المستدير إلى مربع أو مستطيل مثلا، وهذا ما يشاهده الأطفال يوميا في أفلام الكارتون حيث لا يثير فيهم ذلك أي فزع بل تراهم يتابعون حلقاته بمتعة لا متناهية، كالشخصية الشهيرة بينهم المعنونة بـ"سبنج بوب" مثلا، مع أن واجهته مربعة ومحيطه مكعب، لكن الذي حافظ على استقرار وضعهم النفسي مع أنهم أسرع إلى الرعب هي ملامح "سبنج بوب" الطبيعية، ولو توفر عنصر العرب فيها لصادرتها منظمة حقوق الطفل، لكنه توافق مع ما يصفها كثير من النقادة والدارسين كتأثير بصري للعنوان من حيث هو دلالة على شكل هندسي أو معنى لغوي بسيط.

لكن الموضوع الأكثر عمقا الذي نطرحه في هذه القراءة هو التناول الحسّي المبدئي لمفردات العنوان كبوابة آخذة بالذهن إلى مضمون مرتبط بمحتوى النص القصصي أو الروائي، فالعنوان تترتب عنه شراهة لقراءة المضمون، فإن لم يفلح الكاتب في توفير هذه الميزة فأكيد سيحتم على القارئ التدخل بإمّا البحث عن مضمون آخر منساب للعنوان، أو التفكير في عنوان آخر مناسب للقصة أو الرواية أو البحث أو الكتاب ككل، وربما يحصره في دائرة من فساد المزاج ليهمل النص أو الكتاب بمجمله، فالقارئ مدعو دائما إلى الاستمتاع وليس للتفكير مع الكاتب لمراجعة ما قرر من عنوان ومضمون.

يبدو أن صاحب العنوان لم يكلف نفسه كثيرا من العناء بحثا عن عتبة أكثر دقة، سوى إسقاط كلمة رؤوس على وجوه التي اعتبرها مكرسة في أفلام وقصص مشابهة، فعتّب بها الكتاب لزوم الاختلاف الذي اعتقد أنه رحمة، ولا يدري أنه قضى فنّيا على العنوان بتجاهله إدارة فنون وأجناس المجاز في اللغة، وفنية التعامل مع المرئي سواء كان صورة متحركة أو صورة جامدة، الفكرة التي تطرحها نظرية الاليغوريا في إبراز بلاغة الصورة أو الفكرة: "صورة مجازية تنسج من مادة سردية وتنطوي على معنى ظاهر وآخر خفي، كونها من المجاز السردي3"، بالمعنى الذي أشار إليه الباحث والمستشار في التسويق الرقمي الدكتور حسام جندل، ورغم أنه غير متخصص في الأدب إلّا أن المقولة أعجبتني لأتخذ منها مرجعية بخصوص جاذبية العنوان للدلالة على موضوع تجاري أو أدبي أو حساب أو موقع رقمي مما يتعلق بالحسابات والمدونات والصفحات الشخصية، لأن المعنى ينطبق كذلك على الكتاب حيث يقول: " إن الكلمات القوية هي مصطلحات تثير استجابة عاطفية ويمكن أن تجعل عناوينك أكثر إقناعًا. تستهدف هذه الكلمات مشاعر القراء، مما يدفعهم إلى النقر على محتواك بدافع الفضول أو الإثارة أو الخوف من فوات الأشياء (FOMO) أو محفزات عاطفية أخرى."

فكلمة رؤوس جعلت المعنى مشتتا وغير دقيق، فكل المخلوقات الحيّة على وجه الأرض، وكل المواضيع الموجودة في الكون وسائر الأشياء لها رؤوس، واختلاف أشكالها ومواضع حواسها من جماليات الكون وفسيفسائه، فهذا المعنى الكامن في أذهاننا هو الذي نسخ ما يمكن أن يتضمنه (رؤوس ممسوخة) من معنى، (إِنَّ فِي ٱخۡتِلَٰفِ ٱلَّيۡلِ وَٱلنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ ٱللَّهُ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ لَأٓيَٰتٖ لِّقَوۡمٖ يَتَّقُونَ) يونس (6).

لاحظ أن ما ورد للإشارة إلى أنه تنوع عادي، فاختلاف جزئيات مكونات الكون حالة تجعلنا نستمتع، فالهندسة تثبت أن اختلاف أشكال المخلوقات مظهر جمالي، كما هو الحال في مظهر الخضر والفواكه، ففاكهة الموز مثلا ليست ممسوخة مقارنة بالتفاح، ورأس الحصان ليس ممسوخا كذلك الحال إذا ما قارناه برأس الأسد، وبناء على ما ورد في الآيات من معنى فإن الليل ليس ممسوخا مقارنة بالنهار الذي نحبه عادة في تعلّقنا المسطح به، فقط لأن أجدادنا أقنعونا بأنه مخيف حتى لا نتجرأ فنخر ونحن صغار فيفقدوننا، وربما من سوء حظ الليل حين اختاره اللصوص للتخفي والمخادعة، فماذا نقول عنه اليوم حين عرفنا أنه يصلح للسهر والمسامرة ولخوض الأعمال الشاقة تفاديا لحر الشمس، وأن اللصوص تخلوا عن ظلام الليل وصاروا ينفذون خططهم في وضح النهار، وكذلك لم يعد النهار وحده يساعدنا على قضاء حوائجنا الكثيرة، حيث كان الإنسان يظن أنه لا يمكن أن يدركها ويراها ويصل إليها في الظلام، إذن لا جديد ولا مدهش ولا مثير في العنوان "رؤوس ممسوخة"، والأصح وجوه ممسوخة لأن هذا المسخ هو الذي يوفر ويُراكم الغرابة والدهشة في مشاعر الآخر بناء على المقارنة التي تحدث سريعا داخل النفس، فإلى ماذا تريد الوصول وأنت تمسخ الرأس الذي عهدناه كرويا أإلى شكل مكعب مثلا، ما هو إذن المجهود المبذول في طرح عنوان يتمتع بوظيفة فنية مكتملة الخصائص والدلالات؟

كثير من البشر خلقوا برؤوس غير سوية، ولأن مساحة وجوههم مألوفة بيننا، ومواضع حواسهم متمركزة في أمكنتها الطبيعية لم نشعر اتجاههم بأي رعب، أو حتى حساسية معينة تجعلنا نراهم ممسوخين على رأي صاحب العنوان، الرسامون الكبار يعتبرون الأشكال الهندسية تأسيسا فنّيا للوصول إلى رسم رأس الإنسان، فيعتبرون رأس الطفل مثلا مستديرا بينما رأس الرجل مستطيل، وبعض الوجوه تأتي مثلثة، وهكذا ينصحون المبتدئين بالانطلاق من هذه الأشكال.

***

الكاتب الجزائري عبد الباقي قربوعه

..................

1- البقرة الآية: 65.

2- مجلة فرقد الإبداعية عدد: 01 أغسطس 2023م

3- الاليغوريا، ادارة دار التنوير العمانية تأريخ النشر: 26 /2/2019.

 

ميخائيل ميخائيلوفيتش هو الابن الأصغر للأديب ميخائيل شوخولوف (1905 ـ 1984) الحائز على جائزة نوبل عن روايته "الدون الهادئ"، عالم وفيلسوف وإستاد جامعة وناشط اجتماعي ترأس صندوق شولوخوف المهتم بميراث الكاتب المشهور ومستشارا متحفه، وهو مؤلف للعديد من الأعمال ونال العديد من الأوسمة، وعاش لآخر أيامه بقدر عمر أبيه وتفاعل مع قضايا العصر والمجتمع الذي عايشه.

توفي شولوخوف الابن في 21 أكتوبر 2013. ونشرت "الصحيفة الأدبية" "ليتيراتورنايا غازيتا" الصادرة بموسكو، آخر حديث صحفي ادلى به قبيل وفاته، وكرسه لأبيه أنسانا وأديبا، والذي عاش في زمن صعب وانتج أعمالا خالدة، جعلت منه شخصية عصر كامل تدور حولها الكثير من الأساطير والاختلافات، وربما الحقائق. إضافة الى أن المادة مهمة من جهة التعرف على عالم الأديب ومختبره الحياتي والإبداعي للمساعدة على فهم أعماله والعثور على تأويل مناسب لها. المادة هذه قائمة على ردود شوخولوف الابن على أسئلة الصحيفة

ـ الناس يريدون أن يسمعوا عن شولوخوف أشياء غير عادية، بيد انه كان أنسانا عاديا لم يتميز عن الآخرين بشيء، باستثناء حينما كان يجلس خلف طاولة الكتابة.

وعى ميخائيل شولوخوف أن أباه أديب، وهو يسمع من الآخرين المحيطين عنه ولم ير أن شوخولوف يكتب مذكرات شخصية للتاريخ، ولمستقبل مؤلفاته. فلقد كانت لديه ذاكرة قوية ليس فقط للأحداث الكبرى، ولكن للأحداث الصغيرة، ومظهر الناس، وتغيرات الطبيعة.

وكان شولوخوف الأب يذهب إلى طاولة العمل دون سابق إنذار ملمح بذلك للمحيطين به بأنه، بحاجة للهدوء وأن يلتزموا السكينة وعدم إزعاجه لمدة زمنية محددة.

ولم يشرع مؤلف الدون الهادئ كتابة أعماله بوضع خطة مسبقة لها. ولم نلاحظ من أية نقطة يبدأ العمل، وبالأحرى أن خطة العمل تترتب في رأسه ومن ثم يجلس أمام الطاولة ويسكب كل شيء على الورقة. ولم يذهب شولوخوف بنفسه إلى الأرشيف الحكومي لاستقاء المعلومات الخاصة بأعماله، وإذا ما احتاج إلى وثائق خاصة، فإنه يطلب من الجهات المعنية أن ترسل له الوثائق المطلوبة...

 وقد أتاحت له علاقاته بالمحرر الأدبي لصحيفة البرادات الناطقة باسم اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفياتي، بالحصول على المواد والكتب المطلوبة لإعماله الأدبية. بينما بقي الأرشيف الذي كان بحاجة ماسة له لروايته " المدافعون عن الوطن" مُغلقا أمامه، وكان من الصعب عليه الكتابة عن الحقائق وعن العمليات العسكرية من دون معرفة كافة التفاصيل، وعانى كثيرا بسبب ذلك.

 شوخولوف الأب لم يحب أوساط أدباء موسكو، وتحدث عنهم كوصوليين ومدبري دسائس وهم كذلك -بالفعل-. وتجري بينهم عملية غريبة حيث يتجمع فريق من الأدباء ويتبنى فكرة ما، ومن أجل تلك الفكرة يتشاحنون ويتعاركون ويرمي أحدهم الآخر بالسجن، ولحد التصفية الجسدية. لقد سئم شولوخوف من وسط أدباء موسكو...

استلهم شولوخوف معارفه بالتاريخ والتقاليد والعلاقات اليومية واللغة التصورية والأمثال وأغاني القوقاز من خلال التعامل مع محيطه الواسع، وعرف الكثير من القوقاز أنفسهم الذين كانوا يتحدثون عن مصاعبهم بروح من الدعابة، وعرف بصورة جيدة الأغاني القوقازية وكانت لديه كثير من موسوعات الأمثال والحكم، ولكنه لم يحب الاقتباس من الآخرين. ونادرا ما كان يقتبس عبارات من أعماله أثناء حديثه.

كان يتابع باهتمام الحركة الأدبية في البلاد، ويقرأ بسرعة كبيرة، ولكن حينما كان يقرأ كل ما يقع بيده فانه يقراه بإمعان ولكن بسرعة، وقرأ معاصريه من الأدباء مثل تفاردوفسكي وسيمينوف وابراموف وبيلوف واستافيف وراسبوتين. لقد قرأ لكل هذا الرعيل بمتعة كبيرة وأعاد قراءتهم وامتدحهم. ومن ثم أطلقوا عليهم " تيار القرويين"، (لأنهم تناولوا مشاكل القرية السوفياتية والفلاحين).

لم يهتم شولوخوف بجمع أرشيفه والحفاظ عليه، وحرقَ الكثير من أوراقه واعتنى فقط بجزء من الأرشيف. 

ويصعب القول بأن كان لديه بعد الحرب العالمية الثانية أرشيف بالمعنى الدقيق للكلمة، فقد كانت لديه في الصناديق حزم بعشر أو اثنتي عشرة صفحة، إنها على الأغلب مخطوطات، ولكن لا يمكن القول إن لديه أرشيفا وأنه جمعة ورتبه.

وتتذكر أرملته بأنه كان يخجل من كل ذلك، حينما شرعت بجمع مخطوطاته كان يقول لها "ماذا تفعلين فسيعرف بعد ذلك أحد الأصدقاء ويقول انظروا إلى شوخولوف أنه يثمن نفسه بنفسه يجمع أرشيفا" وحينمها  اتهموه بمختلف الكبائر (في إشارة إلى تهمة انتحاله رواية الدون الهادئ من احد الكتاب المعادين لثورة اكتوبر) فإنه وافق مع أرملته، وبدا يكتب كل شيء بيده ومن ثم تقوم هي بطبعه والاحتفاظ به، ولم يعترض في هذه الحالة. ومن المؤسف أن يكون كل هذا قد ضاع إبان الحرب العالمية الثانية. إنه أيضا لغز!.

 أن القول بان الكسندر سولجينيتسين (الذي تبنى مزاعم انتحال شولوخوف لرواية الدون الهادئ) نغص حياة شولوخوف عار من الصحة، وانه اعطى رايا حسنا بقصصه " يوم من حياة ايفان دينيسوفتس" و" فناء ماتريونا". وحينما ظهر الكلام الفارغ في باريس (مجموعة من المقالات التي تشكك بان يكون شولوخوف هو مؤلف رواية الدون الهادئ) وكتب سولجينيتسين مقدمة له، عرف شولوخوف بصدور مثل هذا الكتاب، واكتفى بالقول للشخص الذي عرض عليه مضمون المقدمة التي كتبها سولجينيتسن :"ما يبغي هذا الرجل غريب الأطوار؟".

أن مقولة شولوخوف الشهيرة:" أن قدر الأديب مأساوي" تنطبق تماما عليه. والكلام لا يدور عن حياته المعيشية، وإنما حول مصيره الأدبي. والحملة التي تعرض لها ومازالت سارية لحد يومنا هذا. ولسبب ما كانوا مستعدين وبكل سرور " للقضاء عليه" إن وسط أدباء موسكو لم يشعر نحوه بالحب، وكان يكن له نفس المشاعر".

لقد جرى تفسير الكثير من المحن التي تعرض لها شولوخوف بالحسد، ولكن كما قال هو أن " كلمة حسد لا تفسر شيئا. لهذا فان مقوله " قدر الأديب المأساوي" توافق شولوخوف.

***

د. فالح الحمـراني

 

في رحاب الشعر المعاصر، تقف هاتان القصيدتان شامختين كشجرتين باسقتين في صحراء المألوف، تتحديان المتلقي بلغة مكثفة وصور متراكبة تستعصي على التأويل السطحي. إنهما نصان يتوشحان برداء الرمز، وينسجان خيوط المعنى في نسيج متشابك من الدلالات المتعددة.

أولاً: قصيدة "غموض" - جدلية الذات والكون

تفتتح القصيدة الأولى بمشهد سريالي حيث تستعير الريح صفة إنسانية في محاولة "غرف العطش" من النهر، في مفارقة تقلب الموازين الطبيعية، فالريح - التي لا تعطش - تغترف من النهر عطش الشاعر، وكأن الطبيعة باتت وعاءً لعواطف الإنسان وانفعالاته:

"أن أرادتْ الريح أن تغرفَ من النهرِ عطشي"

هذه الاستعارة المركبة تؤسس لرؤيا شعرية تتجاوز حدود المنطق، وتطرح سؤال العلاقة بين الذات الإنسانية والظواهر الكونية. فالشاعر يجعل من الريح كائناً قادراً على فهم معاناته والتعاطف معها، بل والتدخل لتخفيفها.

ثم تتصاعد حدة التشخيص في المقطع التالي:

"أو تذرف ببطءٍ دموعا ليأسي"

حيث تصبح الريح قادرة على البكاء نيابة عن الذات الشاعرة، في حالة من التماهي الكامل بين الإنساني والطبيعي. هذا الامتزاج بين الذات والموضوع يشكل أحد السمات الجوهرية للقصيدة، ويعكس اتجاهاً صوفياً يتجلى في فكرة وحدة الوجود.

ينتقل النص بعد ذلك إلى صورة "أصابع النذور" في علاقتها بالمتكلم، وهي صورة غامضة تحيل إلى فكرة العهود المقدسة التي التزم بها الشاعر:

"أتتْ إليّ.. لأعرف أصابع نذوري"

وتتوالى الصور الشعرية لتجسد فكرة التعالق بين الروح والطين، بين السماوي والأرضي:

"هي الروح ملتصقة بالطينِ / تطفئُ خوفي"

وهنا تتجلى ثنائية أخرى مركزية في القصيدة، هي ثنائية الخوف والأمان، حيث تصبح العودة إلى الأرض (الطين) ملاذاً روحياً يقي من الخوف الوجودي.

تنعطف القصيدة بعد ذلك نحو مفارقة أخرى تقوم على قلب المتوقع:

"إني وجدتُ في الحُمّى ما يشفيني / وفي آثامي وديعة ما يسلّيني"

فالحمى - وهي حالة مرضية - تتحول إلى مصدر للشفاء، والآثام - وهي انحراف عن المسار الأخلاقي - تصبح منبعاً للتسلية والسكينة. هذا الانقلاب الدلالي يعكس روح تمرد تتخطى المألوف وتسعى لتأسيس منظومة قيمية بديلة.

تختتم القصيدة بإعلان صريح عن حالة الغموض العامة التي أشار إليها العنوان:

"غامض كل شيء / الاّ قلعة التنين."

إنها خاتمة صادمة تترك المتلقي أمام لغز جديد، فما هي "قلعة التنين" هذه التي تمثل الوضوح الوحيد وسط ضبابية المشهد العام؟ ربما هي رمز للسلطة، أو للخوف المتجسد، أو لمركز القوة الذي يفرض هيمنته على المشهد الإنساني.

ثانياً: قصيدة "وصول المعنى" - مسرح الصراع الرمزي

تنطلق القصيدة الثانية من لوحة تشكيلية تتكون من عناصر متباينة متناثرة، كأنها مشاهد متقطعة من فيلم سريالي:

"أوزّة وحيدة / ثمة غربان هزيلة / مخالبٌ جائعة تتربّص بالأحلام"

تبدأ المشهدية بصورة الأوزة الوحيدة، رمز الضعف والانفراد، ثم الغربان الهزيلة التي تنتمي في مخيال الثقافة إلى عوالم الشؤم والموت، ثم المخالب الجائعة التي تستهدف لا الجسد بل الأحلام - وهنا تتجلى استعارة بليغة تجسد فكرة تهديد عوالم الحلم والتخييل.

يتصاعد المشهد الدرامي بصورتي النار والنمر:

"نيران تضيءُ أشجارا مثمرة / نمر يسقط في رماد."

إنها صور متناقضة تجمع بين الإضاءة والسقوط، بين النار المستعرة والرماد المتبقي منها، في جدلية الفناء والتجدد.

ينتقل النص بعد ذلك إلى مستوى ميتا شعري، حيث يتأمل في العلاقة بين الدال والمدلول:

"حين يزعم الحرف بأن اسما قد أنكر معناه"

وهنا نكتشف أن عنوان القصيدة "وصول المعنى" يحمل مفارقة، فالمعنى لا يصل بشكل مباشر بل عبر مسارات ملتوية من الإنكار والتحول. الحرف يزعم، والاسم ينكر، في حالة من الانفصال بين اللغة وما تحيل إليه.

تختتم القصيدة بعبارة مكثفة تبدو كخلاصة فلسفية:

"وصولا لظلمة صادقة."

فالظلمة - رغم دلالاتها السلبية المعتادة - توصف بالصدق، في انقلاب دلالي آخر يشبه ما رأيناه في القصيدة الأولى. وكأن الحقيقة لا توجد في النور والوضوح، بل في الظلام والغموض، في مقاربة تذكرنا بالمنهج السلبي في التصوف، حيث يوصف الله بما ليس هو، لا بما هو.

المقاربة الجمالية والأسلوبية:

تتميز القصيدتان بسمات أسلوبية مشتركة أبرزها:

* الاقتصاد اللغوي: حيث تتسم اللغة بالتكثيف الشديد والاختزال، فتقول الكثير بالقليل من المفردات.

* المفارقة: وهي تقنية بارزة في النصين، تقوم على الجمع بين المتناقضات ومنح الأشياء صفات نقيضها (الحمى تشفي، الآثام تسلي، الظلمة صادقة).

* السريالية: حيث تتوالى الصور في تداعٍ حر يتجاوز منطق السببية، فتتجاور عناصر متباعدة في الواقع (الريح تغرف العطش، النمر يسقط في الرماد).

* الشخصنة: منح الأشياء والظواهر الطبيعية صفات إنسانية (الريح تغرف وتذرف، الحرف يزعم، الاسم ينكر).

*  الرمزية: استخدام عناصر رمزية موحية (التنين، الأوزة، الغربان) بدلالات مفتوحة على تأويلات متعددة.

تقف هاتان القصيدتان عند تخوم الشعر الصافي، متحررتين من أعباء السرد والخطابة، ساعيتين لخلق تجربة جمالية تغوص في أعماق الذات والوجود. إنهما تنتميان إلى تيار الشعر الرؤيوي الذي يتجاوز المباشرة والسطحية، ويسعى لتفجير طاقات اللغة الكامنة.

القصيدتان تتحديان المتلقي وتدعوانه للمشاركة في إنتاج المعنى، فالغموض فيهما ليس عيباً بل فضيلة، والإبهام ليس قصورًا بل غنى دلاليًا. إنهما تعكسان وعياً شعريًا متقدمًا يؤمن بأن مهمة الشعر ليست تقديم أجوبة جاهزة، بل طرح أسئلة جديدة تفتح آفاق التأمل والتفكير.

**

طارق الحلفي

.................

الرابط

https://www.almothaqaf.com/nesos/980415

ذات مرّة سائلني أحد الكتّاب العرب في هولندا/اوترخت، هل زرت قبر كمال السبتي؟ هل قرأت لصديقه وسام هاشم؟.
بصراحة يومها لم أكن اعرف من هو المرحوم كمال، ترحمت عليه ثم قرأت له فيما بعد، القليل ممّا نشر عنه، فقد طبع صورته في مرآة الخلود.
أما وسام هاشم، كان أسمه متداولاً في الساحة الأدبية منذ أوخر التسعينيات رغم صغري الأدبي يومذاك.
هو شاعر نثري، كتب النّص الأدبي منذ أواخر السبيعينيات ومطلع الثمانينيات من القرن الماضي؛ فرّ بجلد كتاباته من حروبٍ طاحنةٍ في بلدٍ استمدّ إبداعه منه؛ بينما أنا مارست رسالة الكتابة عام ١٩٩٩-٢٠٠٠.
وسام على شاكلتي لا يقرأ لكلّ من هبّ ودبّ، نصوصه، قصائده لا تتعالى على القارئ؛ لغة السهل الممتنع.على قلّة ذات الوقت والمشاغل، قرأت له سهول في قفص، من أنتِ؛ السبورة، قبلة في الميترو…
في كتابي (نخيل في بستان الذاكرة) كتبتُ عن (مبدعين عرفتهم عن قرب) خلال رسالتي الكهنوتية والأدبية، وفي كتاب آخر عنوانه (مبدعون قرأت لهم) لم ينشر؛ كان الهاشم أحدهم، وسام هاشم الذي تسخّى علينا نحن ملّة الأدباء والقرّاء يستحق هذا الغيض من ذلك الفيض.
قبل بضع سنوات أرسلت لي إحدى الصديقات المشتغلات في الحقل الأدبي بالعراق مقالاً للأكاديمي العراقي علي المرهح بخصوص المبدع وسام هاشم… فحفزني بعد أن نال استحساني، لكي أعلق هذه المّعلّقة المتواضعة في سبورته البيضاء كبياض قلبه واشعاره:
وسام هاشم وسبورته البيضاء
لا أدري ما الذي جعلني أظن، وليس كُل الظن إثمًا، بأنّ هذه المرّة لم يجلس شاعرنا المرموق وسام هاشم تلميذًا، ليقرأ ما يمليه عليه معلموه في المدرسةِ كما كانا أيام الصبا في بلدنا الأم؛ بل صار هو الأستاذ وكتب على تلك السبورة البيضاء ما يمر به وعليه أدبيًا وإنسانيًا، بقلم اسود أو بقلم له لون الحياة؟!
حين أكتبُ أمزق الكثير مِن الأوراق، وعلى الحاسبة احذف، اعدل، أغيّر، أضيف، يا ترى هل حمل وسام بيدٍ قلمًا وبيدٍ أخرى ممحاةً ، أم محى من فكر وجدانه ثمّة كتابات أحتفظ بها لذاته ولم يودّ ان يكتبها لنا على السبورات؟!.
نحن حملة القلم أبناء الكار الأدبي الواحد قد نفهم ما يكتبه بعضنا الآخر على ظهر فكر وقلب، إذ نجيد قرأت ما بين السطور، فليس لدينا معاناة ( المعنى في قلب الشّاعر)؛ ففي سبورة وسام القليل من كثير إبداعه، فإن كانت الكلمة عاكسة لكاتبها وصدى أعماقٍ لصاحبها، فإن نصوص وسام تحكي كثيرًا عن لوعة خلجات روحه ونقاء سريرة كاتبها وسمو رسالته.
إنَّ كتابات ذلك العراقي السومري الذي أجلُّ، أراها معمذة بنهري دجلة والفرات، فكُلّما أطالع لوسام هاشم ولغيره أقول ان قصيدة النثر في العراق لاتزال في مرتبتها الأولى.
حين خذلته الحياة، واضناه الأسى... لم يلعن حظه، ولم يغني محسود ما عندي بخت؛ ولم يضع السبع عيون على أغلفة دواوينه، بل شطب مفردة الخذلان من قاموسه وكتب للإنسان عن المفهوم الحقيقي للحياة، وسام صرخة إبداع في وجه الحياة، أوَليس هو القائل: "يخطئ العراقي فقط بنوع السبورة التي تكتب عليه”.
إن وسام الإنسان الذي نشر في زمن الممنوع (سهول في قفص) غدى الشّعر قفصه الحي ومتنفسه الأوحد حسب قرأتي له، فذلكَ الرافديني الذي هجته الحروب، واكتوى بصقيع غربته، إذ رصاصة إغتالت أحلامه في وطنه الأم، لكنه لم يقف مكتوف اليد، بل راح يبحث في غربته عمّا فقده ليدله عليه، فحوّل آهاته إلى نسمات حياة تعج بالابتكار الخلاّق.
من يقرأ لوسام، سيجده غيمة عصرت نفسها طيبة وحبّا وشعرّا...؛ فكانت غيمته الأدبية ماطرة في سهول روح كل من يقرأه ؛ فلا عجب أن ثمّة نصوصٍ لهُ تجدها ذات طابع وجداني بل لاهوتي، وكأنها معمذة بمياه نهري دجلة والفرات!.
وسام الذي كتب نصًا مشاكسًا عنوانه (غلطة العراقي)، أقول بدوري يخطأ من لا يقرأ لوسام هاشم.
خاتمة مطافي
إلى ذلك الشّاعر الإنساني، غير التقليدي أقول لا يزال الكثير من إبداعك لتكتبه على سبورة الأدب؛ تلك شهادة للتاريخ عن شاعر يتربع على عرش معبد الشّعر بلون أدبي خاص به لا يُقلد ولا يكرر.
ولعلّي هنا أبوح لكم بسرٍ: كلما قرأت له أجدني في حضرة ظاهرة أدبية إنسانية، فيها الإمتاع والإقناع والإبداع، فذاك القمر الذي خسف في بلادنا بحكم ظروف يطيل الحديث عنها إن بدء، بات شمس إبداع في دنيا الاغتراب والمشهد الثقافي. إنّه وسام هاشم، الذي أبى أن يرمي يمين النسيان على بلده ورفض بيعه في سوق الأوطان، فترك ذاته وديعةً في نصوصٍ مُعلقة على سبورة تنتصر للإنسان والحياة، تصرخُ استغاثة في وجه الإله مِنَ العباد والبلاد.
دمت ودام نبض إبداعك كلمةً خالدةً على سبورات الوجود. الّلهم آمين.
***
الأب يوسف جزراوي/ أمريكا

 

في المثقف اليوم