قراءات نقدية

قراءات نقدية

الأبعاد المحورية المركزة اللامحددة، الفصل الثالث - المبحث (1)

توطئة: مثلما الحال في كل روايات (جوزيه ساراماغو) لعلنا نواجه ثيمة (الراوي المهيمن؟) عبر آليات وتمفصلات رواية (الشبيه) لكي تقتضي بهذا الحال تناول هذه الرواية على أساس من الشخصيات المتحفزة داخليا عن طريق (الحوار الضمني - المونولوج) ومما ﻻ شك فيه أن مسارية الأبعاد المحورية في موجهات (السارد حياديا) تم بفعل خصوصية الوسائط الاستطرادية التي شغلت ثلاث أرباع الفصل أو القسم الروائي الأولى - بلوغا نحو ذلك المركب النواتي كمظهرا شخوصيا من تمظهرات حساسية المحور الفاعل في تحريك العلاقات الحكائية وتأزيمها بعدة وظائف من المحور الداخلي واستقراء مبعث مواصفات الأحداث بطرائق ﻻ تحمل من الشكوكية والخيبة الانتظارية مطلقاً.

- مرايا ولوج الشبيه في تفاصيل مركزة:

تكشف القيم الاستهلالية الأولى من جل تفاصيل (السارد حيادا) بأن الضرورة التعرفية للشخصية كعلامة نصية مدرجة في مفترقات الاسم والتسمية التي راحت تشكل بذاتها ذلك الفضاء التضفيري المرشح في جل تمظهرات الوحدات المسرودة والسردية، أي أن الشخصية تحضر داخل قمعية نعتها وكنيتها الاسمائية، ذلك إتصالا مع محفز كونها تعمل في مجال تدريس مادة التاريخ، وهذا الأمر ما جعلها منكفئة على ذلك الحس المرجعي الذي يقدم الأشياء عبر خياراتها الإدارية ضمن ذلك الطابع التدويني أو الوثائقي حصرا، لذا فهي - أي الشخصية - تواجه تفاصيل حياتية مملة من جراء تقادم العمر والزمن على موضعيتها المفترقة عن جسد الحياة وملذاتها، لذا عن ذلك المحل الخاص ببيع أشرطة أفلام وثائقية ﻻ مشكلة في ان تكون المادة المضغوطة في حلقات ذلك الشريط عائد إلى ملهاة أو مأساة أو حتى كوميديا ساخرة، كان الأهم لدى الشخصية تزجية بعض الوقت مع تلك المادة المنسوخة على ذلك الشريط بطريقة أو بأخرى: (الرجل الذي دخل إلى المحل لتأجير شريط فيديو يحمل بطاقة تعريفه أسما غير مألوف تماما، ذا مذاق كلاسيكي عتيق، تيرتو ليانو ماكسيمو أفونونسو، لا أقل وأكثر من هذا . فأما - ماكسيمو - و- أفونسو - المتعلمين بشكل واسع، فإنه يستطيع تحملهما مع ذلك، رغم أن الأمر يتعلق بالحالة النفسية التي يوجد عليها - وأما تيرتو ليانو فجثم على نفسه منذ أول يوم أدرك فيه أن هذا الأسم المشؤم يمكن أن ينطق بسخرية قد تكون مهينة. /ص٩ الرواية) لعل الظروف التي تحيط بالإيماءة النعتوية للشخصية هي كل ما يتعلق بسياق الحبكة والتماسك المنظوري المستخدم من قبل السارد المتكلم، ولكننا عندما نعلم بأن الرجل هو مدرس لمادة التاريخ تتأكد لدينا بأن الشخصية تتعامل وحدود التسمية من خلال مجال التأثير الصراعي بين (المحدث - اللامحدث) أو الفاعل أو اللافاعل، وبعبارة موجزة يمكننا القول بأن الشخصية يشكل في ذاته عاملا سياقيا جعله تجسيدا مقصودا في ترابط ذاته إزاء معطيات الواقع المحدث، لذا فهو يتوجس الفعل السياقي في حياته كونه مندثرا في حجب الانفعاﻻت التأريخية . وهذا الأمر ما دفع زميله استاذ مادة الرياضيات بالاقتراح عليه بالذهاب إلى ذلك المحل ليبتاع لنفسه شريطاً مدمجا لأي مادة مريحة من شأنها زرع الود والمتعة في دواخل استاذ مادة التاريخ

١- الوهن الروحي في البنية الشخوصية:

قلنا سلفا بأن (سياق الترابط) هو بدوره ما يشكل لدى الشخصية أفونسو كل هذه البواعث من الغثيان والضجر، ذلك لأنه (عاملا سياقيا ؟) وهذه الموارد السياقية في عمل وشخصية ومسمى الفاعل -أفونسو- مصدرا للكثير من التفاصيل الغامضة في حياته المشحونة بمعنى الحوادث المرجعية في مادة التاريخ، وعلى هذا النحو راح زميله مدرس مادة الرياضيات يخبره بوجود ذلك الشريط الذي هو مادة بسيطة تحتوي على محض روح فكاهية تقريبا: (لأخذ فكرة واضحة عن حالته، يكفي القول أنه كان متزوجاً ولا يذكر ما الذي دفعه للزواج، تطلق اليوم ولا يريد أيضاً أن يذكر اسباب الفراق .. في المقابل لم يتبق من القِران الفاشل أبناء يطالبونه اليوم بأن يقدم لهم مجانا العالم من فضة، لكن التاريخ الحلو، مادة التاريخ الجدية التي استدعوه  لتدريسها، والتي يمكن أن تكون ملاذه المريح . / ص١٠ الرواية) ويمكننا تعريف علاقات الترابط على أنها علاقات تشنجية تقوم على صلة الأواصر الحاضرة في النسق بغيرها من الأوضاع الغائبة عنها والمترابطة معها، بخاصة فنحن ﻻ نرتب كل الوحدات الواردة في النص على أنها علاقات مخصوصة في المستوى التفصيلي، بل أننا نكتفي برصد الحالات في ثباتها ونفيها وذكر الاسباب الناتجة عنها . وعلى هذا النحو يمكننا التعامل مع طبيعة الشخصية على أنها تعاني من تصدعات قهرية عديدة، أولها غياب الحضور الأمري، وآخرها التسليم المتحفي للمادة التاريخية تجسيداً وإمعانا وشرودا . إذ أننا إزاء حالة حسية اختلطت عليها الاحوال والأزمنة، لذا بدت غالبية عظمى من التركيبة الأسمائية الكلاسيكية المشبعة بالمذاق والنكهة المجتزأة من العنوانات والشواهد الميثولوجية: (كتب مسجل الإعارة عنوان الفليم وتاريخ الخروج المواقف ليومه، وبعد ذلك أشار إلى المستأجر وبين له السطر الذي ينبغي أن يوقع فيه - أظهر التوقيع الكلمتين الأخيرتين من الأسم، ماكسيمو أفونسو، من دون تيرتو ليانو، لكن، كمن قرر مسبقاً أسرا يثير جدلاً، همهم الزبون، وهو يكتب في الوقت ذاته -هكذا؟- يكون أسرع . ص١١ الرواية) نقول بطريقة ما ﻻ يمكننا الإفصاح عنها الآن، خصوصا والأمر يرتبط بصورة المواصفات التضادية في عوالم روايات ساراماغو، فاللروائي علاقة بالرواية متصلة في حدود مجاﻻت تفاعلية مقصودة بين ثنائية (الآخر - المؤخر) فهي بدورها محملة بطاقة تأويلية تصاحبها تلك القدرة الخاصة على (الاستطراد في مخبوء التفاصيل ؟) وما دامت الرواية هي عالم من الأحداث الكلامية، ﻻ عالم الأحداث العابرة والتخاطرية، لذا فإن رجل مادة التاريخ من الإمكان أن يبدو في حالة تضاد وتنافر إزاء مسلمات الحياة الحاضرية، غير إنه في الأونة الأخيرة أصبح متحررا من قيود التاريخ طالما إنه شعر بالحاجة للخروج من زمن المؤرخ والوثيقة، فهو الآن يحاول العيش كباقي الأناس مادام قد هيئه لذاته ذلك الفضول بالتفرج على ذلك الفلم: (وبينما كان يحتفظ بالشريط في محفظته المتعبة، كابد الأستاذ تيرتو ليانو ماكسيمو أفونونسو، بكبرياء يستحق التقدير، حتى ﻻ يظهر ما أصابه من امتعاض بسبب ما قام به مستخدم المحل من وشاية مجانية - لكنه لم يجد بدأ من أن يقول في نفسه، رغم أنه يلوم نفسه بسبب ظلم الفكرة الدنيئة، أن الذنب هو ذنب الزميل، ذنب هوس بعض الأشخاص بتقديم النصائح من دون أن يطلب أحد منهم ذلك . /ص١١)

٢- المسافة القصدية الفاصلة بين تكنيك السارد وحوارية الشخصية:

إن ما يميز (المسافة القصدية ؟) في هذا الشكل من وحدات الإنتاج في مجال البينات الصغرى في فصول رواية (الشبيه) ذلك المستوى الارتباطي الفاصل والواصل بين آفاق (تكنيك السارد الفاعل) ونوعية مؤشرات استراتيجية الشخصية الروائية المتبدي في محاقب القابلية الانفعالية الدالة، لذا نقول أن أدلة التكنيك قد حلت في مدار علاقة تحويلية في الاعتبار الذي يكشف لنا بأن مؤوﻻت التجسيد الربطية بين احوال الشخصية تيرتو ليانو وذلك الرجل صاحب محل التسجيل، قد جاءت في حدود مباينة مؤثرة بشكل ملموس، ذلك لأن فعل التكنيك الساردي، أخذ يتصل بكلا الطرفين في حدود قابلية واقعة بالمحتمل المزامن، أي لعل الأمر هو صورة فرضية من روابط السرد، بما هي الإشارة إلى سنين مشبعة بالوعي الافعالي المجانب لمواضع الشخصية المحورية، كما الحال يرد في هذه الوحدات مثالا: (و الحقيقة أن بعض الأصوات غير واضحة التي تصدر من أفواهنا بطريقة إدارية أو غير إدارية - تدرجات الصوت التي يعلن فيها أنه رهن إشارة الزبون ردا على عبارة -أمسية سعيدة - الاضطرارية التي وجهوها إليه. ص١١الرواية) لعل الرابط بين الشخصية وصاحب المحل، محفوظة في مجال جزئية محتملة من تصورات الشخصية ذاتها، إذن الأمر بدوره يشكل حالة حسية نادرة مبعثها حلفية الشخصية بالنقصان والخيبة من جراء نعته المهمش في جيوب التواريخ الأسمائية العتيقة . وذلك أيضاً ما ينطبق على عنوان الفلم الذي جاء بمسمى (الإلحاح هو سر النجاح ؟) ليعكس حالة الخصوصية في منزل الشخصية في وضع علاقاتها الهامشية مع محيطها المجتمعي، كذلك الأمر سيان على قدم عرض هذا الفلم القصير الذي قد تم عرضه منذ أكثر خمس سنوات مضت، إذن المستوى العلائقي ها هنا راح يضم بالدليل المحتمل ما بين محتوى الفلم ومكونات الشخصية في الآن نفسه: (لكني أقول لك الآن، يا عزيزي، إنه ينبغي لك، بل من الضروري أن تشاهد - الإلحاح هو سر النجاح - وهو بالضبط عنوان الفلم - كان بوسع أستاذ التاريخ أن يسأل في أي قاعة سينمائية يعرض، وهو ما قد يرد عليه استاذ الرياضيات مصححا إنه ﻻ يعرض، بل عرض سابقاً. /ص١٢. ص١٣ الرواية) ربما الأمر إلى الآن ﻻ يتعدى حدود: العامل = الذات / العامل = الموضوع: ذات الحالة = ذات الفعل = ذات الموضوعة) ولما كان الأمر هكذا مقصورا في عدة عوامل موقفية في النص، نستدل بأن تجسيد علاقة الفاعل محايثة للشروط التداخلية في مؤخر السارد المتكلم، وصوﻻ بها إلى علاقة تتقصى الوضع التمثيلي للانموذج الشخوصي وفعاليته الدﻻلية .

- خصوصية الأداء وتقانة الاستطراد:

لعل الشيء الحقيقي في بنيات رواية (جوزيه ساراماغو) هو خصوصية الأداء وجزالة تقانة العمق الاستطرادي، فالروائي ساراماغو يقدم حقيقة شخصيته الروائية ضمن حدود وقائع استطرادية من شأنها إعادة ترتيب منظور النص عبر خاصية الإحساس المفعم بما تتجلى به مقاصد الترتيب المعتمد من وجود افتراض الأحداث ذات المادة تعديلا ومحكومية تحوﻻت العناصر والمكونات الشخوصية من جهة إلى أخرى من مقومات الأحداث والحدوث . لذا في أكثر الأحوال مالم يصادفنا صوت ووجود الشخصية ألا وهي في خفاء ذاتية السارد المتكلم ومن خلفه المؤلف الضمني، أو الذات الثانية للحكي . أن الشخصية الغير مشخصة في روايات ساراماغو حلت في أحوال صوت الراوي حلوﻻ إسناديا يحكي لنا الأشياء التي ﻻ تعرفها الشخصية ذاتها، لذا فإننا نفترض الصوتين (السارد - الشخصية) داخل موجهات كلية المؤلف في النص تحديدا. غير أن ﻻ يعني صوت المؤلف في موجهات الشخوص ووعي السارد، بل نقصد المساحة المنظورية للمؤلف ورؤيته في آليات النص إجمالا، وهذا الأمر ما جعل مغزى الشخصية في رواية (الشبيه) وكأنها الفعل التدرجي في مرابع المؤلف الكلي، وهنا يظهر الإحساس المركب لدى الشخصية والمؤلف الذي هو في صميم مؤشرات جل روايات المؤلف نفسه .

١- الكائن الشخوصي بين المتمثل بالفعل والشاهد العاملي:

رأينا في الأجزاء الأولى من الفصل الروائي الأولي، كيفية تقديم الشخصية المحورية ضمن أهليتها النفسية والأيديولوجية، بل أن الشخصية راحت تنهض بوظيفة حساسة من حيث تحريك العلاقات الدﻻلية وتأزيمها، لهذا نذهب إلى القول بأن شخصيات (جوزيه ساراماغو) تتصف بوظائف داخلية، ولعل سبب ذلك واضح للقارىء لروايات ساراماغو كونها غ ترصد الابعاد النفسية من خلال وساطات السارد المتكلم، وهذا الأمر ما راح يوفر للشخصية في رواية (الشبيه) إلى الملامح الكاملة بين المونولوج الداخلي للشخصية والمروي بوساطة السارد العليم: (غسل تيرتو ليانو ماكسيمو أفونسو أواني طعام العشاء بعناية، فقد كان دائما يعتبر أنه من الواجب المقدس أن يترك كل شيء نظيفاً - لعد كان بوسعنا أن نتحاشى هذا الشرح المتكلف لو قلنا إن تيرتو ليانو توجه مباشرة، أي في خط مستقيم إلى طاولة العمل، أخذ شريط الفديو، جال ببصره عبر المعلومات الواردة في وجه العلبة وظهرها . / ص٢٠ الرواية) إن معظم المقتطفات الواردة داخل القوسين، كلها عبارة عن حاﻻت خاصة من (تكنيك السارد العليم) ولكننا عندما تصادفنا ثمة تعليقات حوارية داخلية مقتضبة فهي حتما تعود إلى الشخصية أو ما يمكننا تسميته ب (الميتافيكت) تلك الآلية التي تتبنى طرح الأسئلة ما بين المتخيل والواقع أو الشخصية المذابة في سمات السارد العليم.

٢- الأنا الشخصية وصيغة الراوي السرد الذاتي:

لعل (أنا الشخصية) أو تلك العلاقة المخصوصة بين مسار أزمنة صيغة فواعل السارد العليم، هي المسار المحقق بين جهتي: (الراوي المهيمن = تداخل الشخصية= بين المحورين = أنا الشخصية = الراوي السرد ذاتي) بلوغا نحو امتلاك الراوي إلى كافة تمثيلات الشخصية ضمن مواقعها الدائرة في مساحات مرآة السارد العليم: (عندما انتهى الفيلم، كان أفونسو أكثر غضبا من نفسه مما كان عليه حيال الزميل - فما كان يؤلمه،كما يحدث دائماً للسذج، هو هذا الأمر نفسه - فلا يظهر في حكاية الفلم غير قصة طموح جامح وشخصي لممثلة شابة وجميلة تجسد تجسد أحسن ما لقنوها . /ص٢١ الرواية) من اللافت للنظر أن صراعات الشخصية لا تجرؤ في ظاهرها المتحفظ إطلاق بعض الكلمات البذيئة حول مادة الفلم التي قام بمشاهدتها وقد بدد بوضع الوقت في معاينة نزهات كان من الأولى به تصحيح دفاتر الطلاب الامتحانية في هذا الوقت الذي كرسه هكذا دون جدوى بمشاهدات جمال تلك الممثلة فقط، لذا فها هنا نعاين كيفية حدوث ذلك الشكل ردود الشخصية : (بصوت عالٍ، قال، غدا سوف اعيد هذا اغراء، ولم يشعر بدهشة هذه المرة . /ص٢١ الرواية) يتبين من هنا أن صوت وفعل الشخصية جاء مذابا بصوت السارد المتكلم، وهذه هي حدود حرية الشخصية في عالم ساراماغو بالتحديد . الشخصية من النوع المحافظ جداً، لذا من المعيب أن يطلق الكلمات الأكثر بذاته، ولكنه على ما يبدو كان يحاول الترويح عن نفسه بهذه الكلمات .

- الحضور الخفي للأشياء وصورة الشبيه:

إذا كان البحث عن المؤشرات في روابط وعلامات الأجزاء الأولى من رواية (الشبيه) فينبغي لنا معرفة الحالة الزمنية والظرفية والذاكراتية للشخصية في ذاتها ضمن حدودها الواصلة ما بين (آلية الربط = سياق التركيب) لعل ما حدث للشخصية لم يكن اعتمادا خالصاً على ما تم قراءته في كتاب حضارة بلاد الرافدين وخاصة ملكهم حمورابي، وﻻ من جهة ما ان مؤثرات الوحدة في شقته لربما تترك في نفسه تلك الارهاصات بوجود من يترقب خطواته في غفلة منه داخل الغرف والممر المركبة الاكثر توغلا في معاناة الشخصية بذاتها. عندما عاد أفونسو من دورة تجوالية أختصرت بدخول الحمام ثم المطبخ، ثم عاد بعد ذلك إلى غرفة جلوسه حيث آلة الكتابة، والطاولة الصغيرة وجهاز التلفاز، ثم همهم قائلا بشيء من الخوف: (هذا إذن؟) ثم تحول بعد ذلك بالانشغال بتشغيل جهاز التلفاز ثم شريط ذلك الفيلم الذي يحمل عنوان (الإلحاح هو سر النجاح) مما جعلنا نستخلص بأن الشخصية استلهم مفردة - الإلحاح - بصورة فطرية حتى راح يعيد مشاهدته لذلك الفيلم، بعد أن كان قبل عدة ساعات بين ارجاعه لصاحب المحل: وفكم ما الذي حدث بالضبط للشخصية وجعله يعاود مشاهدة الفيلم مجددا بعد أن شاهده أول مرة وأكتشف سوء وخواء محتواه، بأستثناء تلك الممثلة الجميلة هل يود مثلا معاودة رؤية الفتاة مجدداً احتمالاً ؟ أم إنه كان يني التدقيق في الاجزاءالفلمية هكذا دون قصدية، لو افترضنا ذلك ؟.

- مشاهد من الفيلم: (ضغط من جديد على زر جهاز التحكم عن بعد ثم، منحنيا إلى الأمام، ومرفقاه متكئتان على الركبتين - شاهد من جديد قصة تلك المرأة الشابة الجميلة التي كانت تريد أن تحقق نجاحاً في حياتها .. بعد مرور عشرين دقيقة، رآها تدلف إلى الفندق وتتوجه إلى مكتب الإستقبال، وسمعها تنطق باسمها - إنيش دي كاشترو، سمعها بعد ذلك تتابع - لدي حجز هنا في فندقكم - نظر إليها الموظف وجها لوجه، إلى الكاميرا، وليس لها، أو إليها هي التي كانت تقف مكان إبهام يده التي تمسك جهاز التحكم عن بعد ضغطت بسرعة على زر التوقف، لكن الصورة كانت قد مرت، ومن المنطقي ألا يتلف الشريط سدى من أجل ممثل من الكومبارس أو ما يزيد قليلا عن ذلك . / ص٢٤ الرواية) .

- تعليق القراءة:

لعل ما يحدث في الاجزاء الأولى من رواية (الشبيه) ما يشرع منا وقفة تأويليلة خاصة، حيث من المفيد أن نؤول مسار الاحداث الأخيرة بذلك الطابع من التمحيص لنقول: على حد علمنا الشخصية كان قد أطلع على شريط الفيلم منذ البداية جيدا ما دفعه الأمر إلى أن يكون غاضبا على زميله أستاذ الرياضيات لكون الأخير هو من اقترح عليه هذا الفيلم بإلحاح قصدي نوعا ما فما سر اهتمامه بإعادة التركيز حول وجه موظف إستقبال الفندق بخاصة وهو يعد من الكومبارس مثالا ؟ . مما ﻻ شك فيه أن جوزيف يضعنا إزاء خيارات محتملة بواسطة ذلك الموظف المدرج في لقطة عابرة من الفيلم، خصوصا وأن الشخصية أكتشف بمدى الشبه الواقع بينه وبين ذلك الموظف: (؛هذا أنا، قال ومرة أخرى أحس بشعر جلده ينتصب .ة/ ص٢٥ الرواية) كذلك نلاحظ ظهور مثل هذه التقانة الخاصة ب (الميتافكشن) عندما تتعلق بمحاورة السارد العليم للشخصية كمونولوج داخلي: (يا لها من فكرة، عزيزي تيرتو ليانو،أرجوك أن تلاحظ أن له شاربا،بينما وجهك أنت محلوق ./ ص٢٥ الرواية) من الغريب والمدهش في نهاية الفصل الاول من الرواية يكتشف الشخصية بعد جولة قلقة مفتشا في أغراضه القديمة يتعرف على صورة شخصية له عقود إلى خمس سنوات كان له فيها شاربا . في الحقيقة هناك العديد من الأسئلة الخاصة حول هذا الفصل، لكننا سوف نكتفي بالقول بأن (جوزيه ساراماغو) وضعنا بنية تقانية معمقة بحركية التكثيف والتحفيز في متابعة روايته (الشبيه) التي جعلتنا نواجه إجرائية روائية تتراوح ما بين (الأبعاد المحورية المركزة) وذلك الجانب من (الكشوفات اللامحدودة) في تضاعيف متوازنة ومتكابدة من جدلية زمن وجهات الخطاب الروائي الأكثر استطرادا وحبكة وإتصالا في الأزمنة المعادلية للشبيه وتواتر مأزومية الصورة والشخصية والأحداث الفاعلة والمتوالدة في زمن التنصيص الروائي .

***

حيدر عبد الرضا

 

ذاكرة في الحجر، عنوان لافت ومُعبّر، ذلك أنّ الذاكرة العربية الجمعيّة منها او الفرديّة معظمها في الحجر وهي حُبلى بالذكريات الموجعة نتيجة الممارسات القهرية المعتمدة من قبل أغلب أدوات النظام الرسمي العربي بحق مواطنيه تحت ذرائع مختلفة حينًا ومختلقة أحيانًا أخرى. كان لإطلاق إسم "عربي" على بطل الرواية دلالة عميقة، فهذا العربي  يشبه بشكل أو بآخر كل مواطن عربي في بعض محطاته. كما أتت الرواية لتؤرخ الموجة المسماة بالربيع العربي التي عصفت بأغلبية البلدان العربية في العقدين الأخيرين.

تتمحور الرواية حول الحياة التي عاشها "عربي" بكل مراحلها منذ طفولته في كنف والده المثقف المُدمن على إقتناء الكتب وقراءتها والمؤمن بفكرة العروبة إيمان لا حدود له لدرجة يقول في هذا أنّه "ابن الفكرة الشرعيّ، ولست لقيطا على أبوابها. نشأتُ في بيتها وكبرت معها وبها، وصار لا بدّ من ترتيب هذا البيت وتطهيره وتعقيمه. لقد صبرنا كثيرا،وصدّقنا على مضَض أنّ من حقّ الغاية أنّ تُبرّر الوسيلة فإذا بالوسيلة صارت هي الغاية". وأصبحت الفكرة بكامل رحابتها وعظمتها،  تتحوّل إلى لباس ضيّق على مقاس نفوس صغيرة".(12). ويستذكر عربي تحذيرات والدته لزوجها من مغبّة ما هو مُقدم عليه فتقول:"لن تنفعك مبادئك ولن تشفع لك. سيفرُمونك فرمًا كما فرموا غيرك. ماذا سيكون مصيرنا لو حلّ المكروه بهذا البيت؟"(12). لكن الزوج لم يرتدع وبقي مصرًا على مواقفه آملاً  بتغيير الواقع الشاذ وإعادة فكرة العروبة إلى موقعها الطبيعي ودورها الطليعي لكن كما يقول عربي "العروبة هي التي أودت بأبي إلى مُعتقل حُماتِها، حين تلصّصوا عليه في الحلم فوجدوه يردم الخندق بين الفكرة والتطبيق"(8).

لقد نشأ عربي في كنف والديه ونصائحهما فوالده ينصحه بالقول: " عِشْ أبيّا يا عربي، فالعمر وقفة إباء أو لا يكون، املأ رأسك قبل بطنك، واجعل من وقتك سلّما للصعود، ابتعد عن الثرثرة والفراغ يا ولدي، حتى تقترب من الإنجاز والمعرفة، أما والدته قتلقنه أصول الأمان وراحة البال اللّتين اختصرتهما في عبارتين حاسمتين: "احذر السياسة يا عربي.. السياسة خراب  بيوت"(17). هذه النصائح المتناقضة خلقت من عربي شخصية مضطربة إلى جانب نرجسية مفرطة لإيمانه المطلق بفطنته وحنكته وبحجم المعارف التي يكتنزها، لقد امتاز عربي بشيء من الواقعية وحتّى العبثية في بعض المواقف –إذا جاز التعبير- لذا نجده ينأى بنفسه عندما تم اقتياد خطيبته تيماء متسائلاً: "ما الذي كانت ستستفيده تيماء لو اقتادوني معها،  والتهموا جُبنتها أمام عينيّ، سوى  مزيد من الموت قهرا أو القهر موتا؟ أوليست الحمِيّة والشهامة بغير مَقْدرة غير بطولة زائفة أو سيف من خشب؟(9). لم يكن ليدرك ذلك غير حكيم ذي فراسة مثلي، حتى لو رآني من هم دون حكمتي نذلا (وهنا مظهر من مظتهر نرجسيته). ويردف قائلًا:"  سامحيني إن عجزت أن أحميك يا تيمائي.. مازلت مؤمنا بحكمتي التي اقتضت عدم الشجاعة الزائفة، ما دامت المواقف لا ﹸتقاس سوى بنتائجها(55) .

في وصف غير بعيد عن الحقيقة يقول عربي في نقاشاته مع صديقته تالا تلك الفتاة المشبعة بالأفكار اليسارية،منتقدا الشعارات الفارغة التي ترفع تحت مسمى الصالح العام فيقول: هناك أيديولوجيات ومذاهب متصارعة، تدّعي كلها امتلاك الحقيقة كي توّظفها للصالح الخاص، تحت بند الصالح العّام.(24).− ﹸكلٌ يدّعي صواب فكرته حتى شعار( أمّة عربية واحدة، ذات رسالة خالدة).. لن تَجِدي منه على أرض الواقع سوى العصبيّة القُطريّة والطائفيّة، والشعبويّة والفئوية..التي ما فتأت تتقلص إلى إقطاعيّة عائلية احتكاريّة يتمّ توريثها تحت بند الصالح العام (24).

وفي موضع آخر تبرز لنا الرواية ضعف النفس البشرية التي غالبًا ما تودي بالمبادىء التي تسقط وتنحني لسلطان الرفاه وبحبوحة العيش!  فقد فوجىء عربي خلال بحثه لاحقا عن تالا عبر الفايسبوك بأنّ صفحتها شبيهة بصفحات إعلانات للموضة ومظاهر الرفاه سيّارتها الفارهة، حديقتها بمسبحها المستدير! مظاهر ثراء فاحش لشيوعيّة متعصّبة تنحاز للطبقات الكادحة لكن المفاجأة زالت بظهوراسم زوجها وهو سليلٌ لإحدى  مافيات الاقتصاد ممّن انتفخت بطونهم بالتُخمة على موائد الجياع. (142).

ويبدو اننا في عصر المفاهيم المقلوبة، والوازرة تزر وزر أختها وليس كما آمنّا، لذا فإن عربي حُمِلَّ وزر أبيه، عندما أوقف من قبل أحد الحواجز، "فأي مهزلة أن يتحوّل اسم أبيك على بطاقة هويّتك، بعد عشرين عاما من غيابه، إلى دليل إدانة كامل ضدّك"(29).

أجادت الكاتبة في وصف الممارسات في اقبية الإعتقال وصورتها كما عاشها الكثيرين من المواطنين العرب الذين أصابتهم هذه اللعنة، ويصف عربي هذا المشهد بالقول: "كلابٌ جائعة لاستفتاح الحفلة ولعقِ عصائر النزيف..  ﹺعِصِيّ غليظة لهشاشة العظام..حبالٌ لتعليق الجلود الممزّقة بالسياط، ودواليبٌ لطيّها.. كلاليب للأظافر، ﹸبصاق وأكفّ غليظة للصحو.. مسامير وسجائر مطفأة للكلام.. أسلاك ﹺمكهرِبة، تجوس بين السُرّة والفخذين لامتحان الرجولة..  صيام للنهارات والليالي، ينتهي بربع رغيف عفن، وطاسة ماء صدئة.. وقتلى بلاجنازة.لكنّني نجوت وهربت (31)..

وتنقلنا الرواية إلى إحدى تداعيات الربيع العربي وإلى أصحاب اللحى الذين سخروا الدين لغايات شخصية وقاموا بأعمال السبيّ والقتل باسم الدين، وكان من بين ضحاياهم الأزيدية جيلان التي وهبها الأمير إلى عربي الذي بفطنته إستطاع نيل ثقة الجماعة لدرجة كُلف في إحدى المرات بخطبة الجمعة، ولتبيان الإنتقائية التي تعتمدها هذه الجماعات وخصوصا في تعاملها مع الدين وأحكامه يورد عربي اعتراض أمير الجماعة عليه لأنه ذكر في خطبة الجمعة الآية 125 من سورة النحل: ﴿ ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ۚ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ ۖ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ﴾(ص46). متمنيا عليه اللجوء إلى آيات أخرى تحث على الجهاد والقتال وليس الحوار والجدال الهادىء.

ينتقل عربي بعد الإستعانة بحيتان التهريب ليصل إلى فرنسا ويخضع للتحقيق حول سبب مجيئه هربًا، وهنا تبرز العنصرية لدى المحقق الفرنسي بعد أن عرف أن اسمه عربي فقال: عربي! ومحترم! هل تدفع الشُبهة عن نفسك أم تؤكّدها(161). لقد ضقنا ذرعا بكم" لكن عربي بسرعة بديهيته يجيب: "سبق وأن ضاقت شعوبنا ذرعا بكُم على امتداد عقود من الاستعمار، لا بأس أن تتحمّلونا قليلا إلى أن تضع حربُنا أوزارها. (85).

وفي فرنسا محطته الأخيرة يلتقي عربي بصديقته "أوود" التي تعمل في إحدى المنظمات الإنسانية  وتسمح له بالعيش معها، وفي إشارة ألى إختلاف الثقافات والتقاليد بين الشعوب يقول : "لم أسأل أوود يوما عن سابق علاقاتها مثلما سألتُ ذات يوم تالة عن عذريّة شفتيها ولا منحتُ نفسي قطّ حقّ السؤال. هل تراني سقطت وانحدرت أم ارتفعتُ وارتقيت؟(88). ولأجل إزالة الغشاوة عن الأعين حيث ينظر الجميع الى الغرب وكأنه مهد الحريات والديمقراطية  توضح أوود لصديقها عربي الأمر وتقول:" لا تغرنَّك حريّاتنا وديمقراطيّاتنا الغربية كثيرا. هي اسم يفتقر إلى مسمّى حقيقيّ، بدليل أنّنا نؤمن بها داخليّا وننتهكها خارج حدودنا ومع غيرنا وكأنها حقّ محتكَر لنا. لا أنصحك أن تصدّق كثيرا أننا جنّة اﷲ على الأرض، فليس كل ما يلمع ذهبا يا حبيبي 107).

ختاما إن رواية ذاكرة في الحجر مليئة بالإشارات وتسمح بإجراء إسقاطات كثيرة على واقع البلدان العربية كل من منظوره وخصوصيته.وهي بشكل أو بآخر تشكل نوعا من الوثيقة التاريخية لحقبة من الزمن العربي المكلوم.

***

بقلم: عفيف قاووق – لبنان

لا يموت الإنسان إلى حين لا يتذكر احد

لا تخف كثيرا من الموت

بل من الحياة الناقصة

المحزن من الحياة

وليس الحياة قصيرة

و المحزن إننا بدءنا الحياة متأخرين

برتولد بريخت

الكاتب المسرحي الألماني

***

لرواية الصديق العزيز حازم كمال الدين أهمية من حيث انها ترتبط بشكل واقعي للأحداث عراقية، يشير لها الموقف من خلال الشخصيات التي اتخذ منها أبطال لروايته، ومن المعروف أن حازم كمال الدين هو مسرحي، كما عرفناه في دمشق عندما استضافتنا سوريا العروبة، ونحن تركنا الوطن بسبب من الاضطهاد السياسي، من قبل (الحليف) حزب البعث العربي الاشتراكي، بعد فرط عقد الجبهة الوطنية والقومية التقدمية، والتي للأسف وقعت حسب شروط الحزب الحاكم حزب البعث، وهنا حلت المأساة .

حازم كمال الدين وعدد غير قليل من المثقفين والكتاب والصحفين هجروا الوطن، وانبروا كل في مجاله، وحازم ورفاقه اسسوا فرقة مسرحية، وعرضوا اعمالهم على مسرح قاعة الحمراء في وسط دمشق، ولاقت مسرحياتهم النجاح في عروض دامت لاسابيع، حازم خريج معهد الفنون الجميلة في بغداد ولديه طموح في تطوير نفسه وهذا ما ظهر عندما توفرت الامكانيات له في بلد المهجر هولاندا بلد الزهور الجميلة، لقد استفاد من خبرة اساتذته في مجال التمثيل والإخراج، من أمثال يوسف العاني وفخرية عبد الكريم (زينب) وسامي عبد الحميد ،جاسم العبودي، صلاح القصب، جعفر السعدي، ابراهيم جلال، خليل شوقي، ، وقاسم محمد، وبدري حسون فريد وغيرهم ممن شاركو في المسرح العراقي، والذي لعب دورا مهما في تطوير الشارع العراقي، فمثلا مسرحية اني امك ياشاكر في الخمسينات من القرن الماضي وأيام الملكية، لعبت دورا مهما في تثوير الشارع ورفع معنوياته ومطاليبه، وفي الستينات عرضت مسرحية النخلة والجيران وهي رواية كتبها خالد الذكر غائب طعمة فرمان الروائي العراقي المعروف، كانت تتحدث عن طبيعة المجتمع العراقي والمعانات التي يعاني منها في السياسة والاجتماع والعيش في ظل الأنظمة السابقة .

أن أذكر هذه المقدمة لكون كاتبنا المسرحي حازم كمال الدين هو له باع طويل في تطوير منهجية المسرح مكتسب لتجارب كتاب المسرح من خلال تواجده اليوم في المهجر (هولاندا) وقد كتب عنه الكثير في مجالات عمله المسرحي المبدع.

و قد أطل علينا في روايته الجميلة:

الــوريث

عن البدء في قرأة الرواية، يطل علينا د. فتحي بن معمر في تقيم هذه الرواية [هل اتاكم حديث من يستحق الحياة على تخوم الموت] ويستطرد قائلا: هذا العنوان مقتبس من عنوان مقالة ليسري الشيخاوي حول حازم كمال الدين فنان يستنطق الحياة على تخوم الموت.

يقول د. فتحي (الحقائق عل الأرض تقول ألا خيار سوى الاخيار في ظروف لا خيار فيه) صيحة تراجيدية متحشرجة تخرج من صلب (أيوب) احبه لتعلن عجزه وعجز بلاده ودكتاتوره ومعارضيه بل وعجزنا جميعا إزاء النظام العالمي الجديد الما بعد عولمي والما بعد حداثي، حيرة كبرى تنتابه، كما تنتبنا كقراء فنقف محدودين أمام(فلسفة رعناء) _ والعبارة له _ تتسلط عليه وعلينا في حوار حجاجي أقرب إلى السفسطائية بحثا عن إجابة تغدو بمجرد الوصول اليها معظلة لا تختلف عن معضلة أيهما أسبق البيضة أو الدجاجة..فستطرد بمقالته الفلسفي عن رواية حازم كمال الدين كاتبا: ففي سابقة أولى من نوعها أقام حازم كمال الدين نصه على خمسة أقسام اخرج أحدثها وحرك شخصياتها أنطقها على أركاح (جمع ركح) عديدة تنوعت بها ومعها الأفضية والامكنة كما تخاتلت وتبادلت الأدوار فلم تعدم الرواية بعضا من ساحاتها أثينا الاغريقية بما فيها من توضيح مسرحي، ولم تخلو من بعض ملامح ساحات الجدل في روما،كما رشحت في ثناياها ملامح بلاد وادي الرافدين وعكاظيات أسواق العرب وأيامهم انتثر في بعض طياتها عبير الحضارة الغربية صلف زمن ما بعد الحداثة في التصور القول الفعل والممارسة. فكان هذا النص عصيا على التجنيس وان وسمه صاحبه برواية، فبلغ التشويق ذروته وصار سلام الخير شاهقا. ونص المقالة وسردية للرواية خاض فيها الدكتور فتحي بن معمر طريقين اولهما فلسفي والاخر يدخل ضمن مفاهيم علم الاجتماع في تشخيصي لأ أبطال الرواية. بدء الكاتب روايته في القسم الأول تحت عنوان وادي الرافدين (القلعة المقدسة) نحنوا صخرة فصارت قلعة: خشبية عثيقة. طرقها يصر إذا ارتفع ويخشخش إذا هوى، نوافذها مشبعة بظلال، ،زوجاجها مضبب بغباء ملتحم بمعدن يستعصي تميزه عن حائط كان في الأصل حجرا سحقته حقب سحرية وواقعية وغبارية ومطرية فاكتسى روحا هائمة الألوان والأزمان والاحساس! من نافذة القلعة يلوح غصن زهرة عباد شمس كمن ينادي فجرا ستلوحه شمس فيتقطر على حافات السماء. نسائم تربت على زهرة عباد الشمس الحمراء، يفر من الزهرة خفق جناحي نحلة، يصطفق بالنافذة فيتكسر ازيزه .. كوة تلوح داخل الزجاج، صمت. يصف الفجر تحت ضربات الشمس صمت . الصباح المتعثر بألوان الفجر عازم على الظهور صمت. صياح ديك يثلم الصمت طائرات إلى زهرة عباد الشمس مخلفا كوة في كلوس اب. من كوة النافذة تتبين باحة كلوس اب. باح عتيقة صخرية رابطة الجيش تمركز في وسط القلعة. كلوس اب. في ركن من الباحة محراب. في المحراب شبح إذا ما نظر حوله فسوف يوصف الفضاء هكذا: _ هذا الفضاء زمن تحول أمواجا ثائرة تحجرت وهي في أوج الثوران واذا ما ما تأمل الأمواج الثائرة غمغم: انها على اهبة الاستعداد لاتنكر لتحجرها والتحول ماء أجاجا. كلوس اب.

من خلال هذه السردية القصيرة التي اتخذ المؤلف عنوان لها وادي الرافدين متحمسا للكتابة عن هذه الحضارة العظيمة التي سجلت في التاريخ، وكأنها الجذر الأساسي الذي استمدت منها الحضارات في العالم بمشرقه ومغربه أولوياتها ومنها مسلة حمرابي واضع القوانين في العالم وكذلك الهندسة في ماسمي بالجنائن المعلقة وهي إحدى عجائب الدنيا السبع، ولا ننسى كيف أن اشور بنيبال في الدولة الاشورية، قام بإنشاء اول مكتبة في العالم المكتبة التي ضمت الكثير من المخطوطات من جلود الحيوانات، ف المؤلف يريد أن يصف لنا وبشكل تصويري لبوابة عشتار بجمالها ورونقها وهي المدخل لشارع الموكب حيث تسير فيه مواكب ملكية عند انتصارات مملكة بابل على يد نبوخذ نصر ماسمي (بالسبي البابلي).

و لمتابعة رواية الوريث وفي هذا المقطع يكتب الراوي في سرديته: في ليلة زاف غونريل من إسفاف وجد العريس نفسه في المخدع أمام عروس مستلقية مثنية الركعتين على وجها خمار خفيف، فاتبع بسرعة وصية ابيه وكشف عن الشيء بين ساقيه وارامى فوقها. لكنه لم يعرف ما العمل! فقد عجز عن تحديد المكان الذي يولج فيه الشيء: (أهو الفتحة الصغيرة بحجم عين الإبرة، أم الفطر الطولي المسيجيد بما يشبه شفتين متهدلين تحت عين الإبرة؟) كانت تساؤلاته ضاربة في الاطناب ذاهبة حد الارتباك وقد قصد منها فتحة التبول وماتحتاج.لمن يعرف كيف ينفذ وصية والده القاضية بايلاج الشيء في الشيء: تقصد الفتحة الصغيرة بحجم عين الإبرة، ام الفطر الطولي؟ همس بعصبية لوالد العروس،الملك لير، الذي اجابه بهمس متواطئ (في الفطر يا يا ابني!) الأمر الذي جعله يرفع صوته: (الفطرالثأر وغسل العار ليس فتحة يا عمي! الفطر الذي تقصده شق تطبق عليه شفتان، وأبي أمرني أن أدخله في الفتحة! .

حدث ذلك لما تأخر الوقت إبان انتظار والده هرقل بن ذي الجوشن ووالد العروس الملك لير بصبر شب عن الطوق ظهوره المظفر من قبة الزفاف بشارة النصر على العروس: المنديل الخفاق الملطخ باللون الأحمر اللزج.

و إذ أعلن النفير نتيجة التأخير اقتحم الملك لير قبة الزفاف مرتعدا في صوته رئيس (هل يعقل أن تكون ابتي فاقدة للعذرية ؟) ومايترتب على ذلك الزئير من عواقب تلوث اسم العائلة الجليلة وتوقظ حفلات الثأر وغسل العار. وأصابه فرح بليد حين انجلت الأحجية ابان اندفاع الحوار السالف مع إسفاف الذي لم يتزحزح عن رأية قيد انملة: _ لا يمكن إدخال الشيء في فتحة صغيرة بحجم خرم الإبرة!هل رأيت الفتحة ياعمي؟ تعال إريك ايها. وسحب الملك لير بقوة صوب ساقي العروس التي شدت خمارها على وجهها بقوة ولمت ساويها ففلقهما اساف عنوة: " انظر بنفسك يا عمي! لاتوجد فتحو أخرى! فقط الفطر الطولي المغطى بكتلة لحم تشبه الشفتين! . والحوار يطول،

و من هنا نستنتج ان ما أراده المؤلف في هذه السردية، أن يقول ان المجتمع منذ عهود سالفة لم يجد ما يعلم الجنسين عن علم وظائف الذكر والأنثى وحتى الوظيفة التشريحية لكل عضو فيه، أضافة الى العادات و التقاليد منها البكارة عند الزوجة واشهارها

بين المدعوين في حفل الزفاف ليؤكدوا طهرة وشرف الزوجة .

و انتقل إلى عنوان اخر وهو [ مونولوخ أيوب ] وقد اتخذ المؤلف من أيوب بطل لروايته مع أربعة اخرين لهم ادورهم. وعنوان الفصل (شهر الحرب الرابع، لسعة ضوء) يسرد فيه مشهد التالي: يوم قصف مصنع حليب الأطفال عصافير الجنة . على الطاولة أمامنا أنا واساف وجبة الظهيرة في مطعم قريب من يشق السماء من العدم. شرعت بالتعليق: _ هذه ليست طائرات حر... لكن تعليقي قاطعته قذائف فراغية التهمت بقية حروف كلمة حربية _بم بم بم بم بم، في تلك الزلزلة ضاعت أيضا صرختي (يا أمي الحقيقي!) لم يسمعها أح

حتى انا. هرع اساف بعيدا وصاح علي؛ _ دعنا نجري خلف خلف أولئك الناس! إلى أين؟ إلى المطبخ؟ صرخت بارتباك، لا! إلى هنا. صاح بيد اني لم أعد أراه، أين أختفيت يا اساف ؟ هنا في المخبأ! أسرع، تحت السلم ؟ نعم أركض، هذا ليس مخبأ! إنه دورة مياه! دو ة مياه ؟! مرحاض! ثم ماذا!؟ أنها مرحاض يا إسفاف! ادخل! هذا هو الملجأ الوحيد في هذه الساعة أسرع! ادخل! ادخل!، انهال القصف مجددا وضاع التفكير. هرعت تاركا ريحا مسكونة بلازمة، إسفاف: ادخل! أدخل! ادخل! أدخل!، محاطة بصرخات اخرين كفقاعات انفجرت وتوقفت صورتها عن الحركة في الهواء. دخلت التواليت، مرحاض من متر مربع، أكثر من 12 شخص مكبوسين داخل المرحاض يتنفسون من رئات بعضهم يتلمسون ايدي من بجانبهم متوهمين انها ايديهم الشخصية، كتلة من لحم 12 شخصا انصهرت فكانت كائنا ب 48 من الأطراف و24 من الأعين ما لانهاية من أصوات الاستغاثة واللعنات و الآيات . روائح الطعام ما تزال تخرج مع التنفس المنقطع لمن حط في التواليت وقد نسي البعض أن يمضخ لقمته ا يبصقها.

هكذا يصف روائينا الحرب وماتجر من مآسي قاسية على الإنسان مخلفاتها، القتل و الأسر والدمار للمدن وتيتيم أطفال في العائلة والأرامل.

ويستمر في سرد هذه الحرب التي تأكل الأخضر واليابس لان القائد هكذا يريد ؛ يتابع، صاح إساف: لم أعد أسمع شيئا عن طريق السماعة الإلكترونية يبدو أن الاتصالات الإلكترونية قصفت. لم أفهم شيئا مما قال، ساد صمت جاف بللثه بتمتمته: ماذا قلت؟ فرد اساف دون فاصل المعتاد: كيف تجرؤ على شتم القائد إسماعيل يسن حفظه الله ورعاه ؟ أنعقد لساني من عبارة الرئيس القائد حفظه الله ورعاه: _ وماذا تريد أن أقول؟ أدبج له قصيدة مدح؟! _ انتبه لكلماتك! الرئيس القائد حفظه الله ورعاه يجب أن يحمي نفسه أسوة بأبناء شعبه! باغتتني صحوة متأخرة ؛ [ لايمكن أن يتكلم أحد من اتحاد الرافدين الديمقراطي عن حق إسماعيل ياسين في الدفاع عن نفسه، ولن يسميه الرئيس القائد حفظه الله.بلمح البصر استرجعت صورة الخط المائل في الصحراء وتمترست خلف أساليب العمل السري وأجبت ؛ يجب أن يحمي حضرته نفسه، ولكن سيادته يقود عملياته البطولية من مكان تتعرض فيه حياتك وحياتي للخطر، و شبكات تجسس الرجل الكاوبوي متغلغلة داخل كل اجهزته!.

و يواصل السردية حول مأسي الحرب وما آلة اليه من الخسارة في كل شيئ حتى بالمال وشراء السلاح ذو التكنلوجي العالية أضافة للخسائر الاخرى من القتلى والأسرى . الرواية غطت مراحل من تاريخ وادي الرافدين في سردية تصلح لان تكون مسرحية خاصة وان الكاتب لها هو رجل مسرحي وفي فترة تواجده في المهجر (هولاندا) بعد أن ترك الوطن ليس اختيارا وإنما بسبب الاضطهاد والمعاناة نتيجة حكم الحزب الواحد وكذلك اضطهاد الرأي الاخر، والحروب التي تصدرت المشهد السياسي، منها الحصار الجائر على الشعب، والعدوان الأمريكي البريطاني الغربي على العراق بلد الرافدين وموطن الحضارات الأولى السومرية والبابلية والاكدية والاشورية.

رواية الوريث جديرة بالقرأة، وهي صادرة من دار الكتاب في تونس ويتضمن 376 صفحة، اتمنى للعزيز الصديق حازم كمال الدين المسرحي و الكاتب، المؤلف لهذه السردية الشيقة والمتضمنة في اسلوبها الاكاديمي، الفلسفي والتاريخي، في طياتها تاريخ أحداث بلد الرافدين، من أجل أن تكون هذه الرواية في المستقبل عمل مسرحي له النجاح والوفقية دوم.

***

محمد جواد فارس - طبيب وكاتب

 

قراءة نقدية لقصيدة ما عادَ ينفعُ في الهوى التلميحُ

إني بحبكِ واضحٌ وصريحُ

وحروفُ شعري في هواكَ تبوحُ

*

عانيتُ ما عانيتِ من ألمِ الجَوَى

لا ضوءَ في نفقِ الضياعِ يلوحُ

*

بي مثل مابكِ يا صديقةُ من هوى

همٌ يؤرقُ في الفؤادِ لحوحُ

*

حتّامَ ندفنُ في الهوى أحلامَنا

ونظلُّ في طَلَلِ البُعادِ ننوحُ

*

نَتَقَبّلُ الخيباتِ دونَ تَمَلْمُلٍ

أفلا يداوي جُرحَهُ المجروحُ

*

هل نستمرُّ على الطريقِ مع الأسى

لا بُدَّ من بعد الضّبابِ وضوحُ

*

أيقنتُ أنّ الدربَ أولُ خُطوةٍ

من بعد تِيهٍ يبدأُ التصحيحُ

*

مازلت أسعى كي أنالَ سعادتي

ما خابَ في نيلِ المُرادِ طَمُوحُ

*

حتى نطيرَ إلى ذُرَى أحلامِنا

لم تُغنِ عن قِممِ الجبالِ سفوحُ

*

قد باتَ حبكِ في الخلايا من دَمِي

ولقد أقَرَّ بذلك التّشْرِيحُ

*

هو ثابتٌ مادامَ نبضيَ عامراً

لا لنْ يزولَ وفي الأضَالعِ روحُ

*

ما غابَ صوتُك عن حدودِ مَسَامعي

قد باتَ في صمتِ الخَوَاء يصيحُ

*

قَسَمَاتُ وجهِك في مرايا غرفتي

ورَشَاشُ عِطْرِك في المكانِ يفوحُ

*

ماذا أقولُ وقد مَلكتِ حُشَاشتي

ماذا عساهُ سيفعلُ المذبوحُ

*

هيا لنعلنْ ما تكتَّمَ للملا

ما عادَ ينفعُ في الهوى التلميحُ

***

عبد الناصر عليوي العبيدي

......................

اللمسات والهيكلية الصورية والدرامية:

1. اللمسات البيانية:

التشبيه والاستعارة:

في البيت "لا ضوءَ في نفقِ الضياعِ يلوحُ"، نجد استعارة واضحة تشبه الحالة النفسية لنفق مظلم، وهو تشبيه قوي يبرز مشاعر الضياع واليأس.

"قد باتَ حبكِ في الخلايا من دَمِي"، استعارة أخرى تجعل الحب جزءًا من الدم والخلايا، وكأن الحب قد أصبح جزءًا من الجسم، مما يضفي إحساسًا بالقرب الدائم والاستمرارية.

التجسيد:

في البيت "قد باتَ في صمتِ الخَوَاءِ يصيحُ"، يظهر تجسيد للخواء، وكأنه يمتلك صوتًا يصيح في الصمت، مما يضفي أبعادًا درامية للحزن الداخلي الذي يعانيه المتكلم.

التشخيص:

"أفلا يداوي جُرحَهُ المجروحُ"، في هذا البيت نجد تشخيصًا حيث يُنظر إلى الجرح وكأنه كائن حي يمكنه مداواة نفسه، وهذا يزيد من الإحساس بالمعاناة المتبادلة بين المحبين.

2. الهيكلية الصورية:

البداية:

النص يبدأ بوضوح الحب وصراحته، مما يُعد تمهيدًا للتوترات الدرامية التي ستتبعها، حيث يتم الانتقال تدريجيًا من حالة الاعتراف إلى التوتر الناتج عن الصعوبات في الحب.

التصاعد الدرامي:

تتصاعد القصيدة مع تصوير الألم والخيبات المتبادلة بين الحبيبين، من خلال صور مثل "همٌ يؤرّقُ في الفؤادِ لحوحُ" و"نظلُّ في طَلَلِ البُعادِ ننوحُ". هنا تتجلى قوة العاطفة والدراما في المشاعر.

الذروة:

البيت الذي يقول "مازلت أسعى كي أنالَ سعادتي" يمثل نقطة الذروة، حيث يبرز الطموح للوصول إلى السعادة بالرغم من الألم والخيبات.

النهاية:

القصيدة تختتم بالدعوة إلى التصريح بالمشاعر أمام الجميع، "ما عادَ ينفعُ في الهوى التلميحُ"، مما يُعد نهاية تصاعدية درامية تُعبر عن قرار جريء بالاعتراف بالحب.

3. الدراما العاطفية:

الصراع الداخلي:

القصيدة تعبر عن صراع داخلي بين الألم والأمل، وبين مشاعر الحب والمعاناة. من خلال البيت "هل نستمرُّ على الطريقِ مع الأسى"، نرى أن الشاعر يعيش تناقضات عاطفية، حيث يتساءل عن إمكانية الاستمرار في ظل المعاناة.

القرار النهائي:

النهاية الدرامية تكشف عن تطور عاطفي كبير، حيث يتحول الصراع إلى قرار بالإفصاح عن الحب والمضي قدمًا. هذا التحول الدرامي يمثل قمة الصراع والتخلص من التردد.

الهيكلية البيانية والدرامية:

النص يتميز بتماسكه من حيث البناء البياني والدرامي. يبدأ النص باعتراف صريح بالحب، ثم ينتقل إلى تصوير المعاناة والمشاعر المعقدة، ويصل إلى الذروة بالتصريح بضرورة الاستمرار في الحب بالرغم من كل التحديات.

فن التوظيف والتضمين وجوهره العام والخاص

(1. التوظيف (العام والخاص):

أ. التوظيف العام:

الصور البلاغية والاستعارات:

الشاعر يستخدم التوظيف البلاغي للتعبير عن مشاعر الحب والمعاناة بطريقة تتجاوز اللغة المباشرة. على سبيل المثال، توظيف صورة "نفق الضياع" لا يعبر فقط عن ضياع الحب، بل يعكس أيضًا حالة التوهان التي يشعر بها الإنسان في حياته العاطفية. هذه الصورة تمثل توظيفًا عامًا لأزمة الإنسان في مواجهة الحب والفراق.

توظيف التضاد والتناقض:

في القصيدة، نرى توظيفًا لتناقضات مثل النور والظلام، والصمت والصراخ، والجرح والمجروح. هذه العناصر المتناقضة تضفي على النص بعدًا دراميًا يعكس صراع الشاعر الداخلي. مثلًا، التضاد بين "الخواء" و"الصياح" يبرز تأثير الحبيبة رغم غيابها، مما يعمق من معاناة الشاعر ويجعل النص أكثر غنى على مستوى المشاعر.

ب. التوظيف الخاص:

توظيف الحب كعنصر وجودي:

- الحب في القصيدة ليس مجرد عاطفة عابرة، بل يمثل جزءًا أساسيًا من وجود الشاعر. الشاعر يوظف فكرة الحب كشيء مرتبط بالخلايا والدم، وكأنه جزء من تركيبته الجسدية والنفسية. هذا التوظيف الخاص يجعل الحب عنصرًا ضروريًا للحياة، مما يضفي على القصيدة بُعدًا فلسفيًا يتجاوز الحب العاطفي التقليدي إلى حب أعمق، يكاد يكون وجوديًا.

توظيف الفراق كقوة خفية:

الفراق في هذه القصيدة ليس مجرد غياب مادي، بل هو قوة تؤثر على جميع جوانب حياة الشاعر. الشاعر يوظف الغياب ليجعل الحبيبة حاضرة في كل شيء من حوله، سواء في "مرايا الغرفة" أو "رائحة العطر". هذا التوظيف الخاص يعبر عن استمرارية الحب رغم الفراق، مما يجعل الحبيبة حضورًا دائمًا في حياة الشاعر، حتى في غيابها الجسدي.

2. التضمين (العام والخاص):

أ. التضمين العام:

المعاناة المشتركة:

في القصيدة، نرى تضمينًا لفكرة المعاناة المشتركة بين المتكلم والحبيبة. استخدام عبارات مثل "عانيتُ ما عانيتِ" يُضمّن فكرة أن الألم ليس مقتصرًا على الشاعر وحده، بل هو مشترك بينه وبين الحبيبة. هذا التضمين يعزز من الإحساس بالاتحاد بين الحبيبين في مواجهة الصعوبات والمشاعر العاطفية.

تضمين فلسفة الصبر والتحول:

هناك تضمين لفكرة أن الألم هو جزء من رحلة التحول نحو الأفضل. العبارة "من بعد تِيهٍ يبدأُ التصحيحُ" تضمّن فلسفة تشير إلى أن التيه والمعاناة هما خطوات ضرورية للوصول إلى الفهم والنضج. الشاعر هنا يُضمّن فكرة التحول والتعلم من التجربة العاطفية، مما يضفي على النص معنى أعمق يتجاوز الحب الشخصي إلى فكرة النمو الروحي والعاطفي.

ب. التضمين الخاص:

الرمزية الوطنية:

رغم أن القصيدة تركز على العلاقة العاطفية، هناك تضمين خاص قد يرتبط بالوطن أو الهموم العامة، خاصة في عبارات مثل "حتى نطيرَ إلى ذُرَى أحلامِنا". يمكن أن يُفسر هذا على أنه رمزية لطموح أكبر يتجاوز العلاقة الشخصية، ليعبر عن حلم بالحرية أو السعادة المشتركة على مستوى أكبر. هذا التضمين الخاص يفتح الباب لتفسيرات أوسع تجعل القصيدة تتحدث عن قضايا أكثر شمولًا.

تضمين لحظة التحول في الحب:

في نهاية القصيدة، الشاعر يضمّن فكرة أن التلميح لم يعد كافيًا، وأنه حان وقت التصريح بالحب. هذا التحول يمثل تضمينًا خاصًا لفكرة أن العلاقة العاطفية يجب أن تكون واضحة وصريحة لكي تزدهر. هذا التضمين الخاص يعبر عن لحظة حاسمة في العلاقة، حيث ينتقل الحب من مجرد إحساس داخلي إلى شيء يحتاج إلى الإفصاح عنه بشكل علني.

3. جوهر التوظيف والتضمين (العام والخاص):

أ. الجوهر العام:

التوظيف والتضمين في القصيدة يعكسان فكرة الصراع الإنساني الدائم بين الحب والألم، النور والظلام، والتمني والواقع.** الحب يُصور كقوة طبيعية لا يمكن السيطرة عليها، مثل الدم الذي يجري في العروق، والمعاناة تُعتبر جزءًا من هذه الرحلة العاطفية. التوظيف العام يعبر عن تجارب إنسانية شاملة تتجاوز الفرد إلى المجتمع.

ب. الجوهر الخاص:

على المستوى الخاص، التوظيف والتضمين يعكسان علاقة الشاعر الشخصية بالحبيبة، وتجربته الفريدة مع الحب والمعاناة.** الحب في هذه القصيدة ليس مجرد علاقة عاطفية، بل هو تجربة تتعلق بوجود الشاعر نفسه. التضمين الخاص يلمّح إلى جوانب أعمق في العلاقة، مثل التأمل في دور الحب في تشكيل هويته الشخصية والنفسية.

فن التوظيف والتضمين في هذه القصيدة يعزز من عمقها ويضفي عليها أبعادًا متعددة، سواء على مستوى التجربة العاطفية الشخصية أو على مستوى التجربة الإنسانية العامة. الشاعر يستخدم هذه العناصر بشكل مبتكر ليخلق نصًا يتحدث إلى القارئ بطريقة تجعله يعيش معه تجربة الحب والمعاناة بشكل مشترك.

المضامين الدراماتيكية

1.الصراع بين الحب والمعاناة:

"عانيتُ ما عانيتِ من ألمِ الجَوَى"

2. فقدان الأمل والتيه:

لا ضوءَ في نفقِ الضياعِ يلوحُ"

3. الاستسلام للخيبات:

"نَتَقَبّلُ الخيباتِ دونَ تَمَلْمُلٍ"

4. الأمل في التغيير والتحول:

"أيقنتُ أنّ الدربَ أولُ خُطوةٍ، من بعد تِيهٍ يبدأُ التصحيحُ"

5. التصريح بالحب بعد التردد:

"ما عادَ ينفعُ في الهوى التلميحُ"

6. العلاقة بين الجرح والمجروح:

"أفلا يداوي جُرحَهُ المجروحُ".

7. القوة الثابتة للحب:

"هو ثابتٌ مادامَ نبضيَ عامراً"

8. الفراق الحاضر في الذكريات:

"قَسَمَاتُ وجهِك في مرايا غرفتي"

9. ذروة التضحية في الحب:

"ماذا عساهُ سيفعلُ المذبوحُ"

10. التحرر من التردد:

"هيا لنعلنْ ما تكتَّمَ للملا"

المضامين الدراماتيكية

تعبر عن رحلة عاطفية مليئة بالصراع والتوتر بين الحب والألم، اليأس والأمل، التردد والشجاعة. هذه المضامين تجعل النص مؤثرًا ومعبرًا عن تجارب إنسانية عميقة تجعل القارئ يعيش تجربة الشاعر بشكل مكثف.

التجنيس والدلالة

التجنيس:

التجنيس هو استخدام كلمتين أو أكثر تتشابه في البنية الصوتية أو الحروف، لكن تختلف في المعنى. في القصيدة، يمكن أن نلاحظ وجود تجنيس في عدة أماكن:

1. "الجوى" و"الضياع"

- هذه الكلمات تشترك في بعض الحروف وتستخدم في سياق واحد لإظهار تشابه بين معانيهما. فالجوى يعبر عن ألم الحب العميق، والضياع يشير إلى التيه والافتقاد. هنا، التجنيس يساهم في تكثيف الألم الذي يعانيه الشاعر.

2. "النور" و"الظلام":

على الرغم من أنهما تضادان، إلا أن التجنيس الصوتي في وجودهما يبرز الفكرة بأن الحياة مزيج من النقيضين، ما يعمق الشعور بالصراع الداخلي الذي يمر به الشاعر.

3. "الجرح" و"المجروح":

التجنيس في هذه الكلمات يبرز المعاناة المتبادلة بين الشاعر والحبيبة، ويعكس الترابط بينهما في الألم. الجرح والمجروح يتشاركان نفس الجذر، مما يعكس اتحاد الشعور بين الطرفين.

الدلالة:

الدلالة في القصيدة تعتمد على استخدام المفردات والصور الشعرية لخلق معانٍ عميقة متعددة الأبعاد:

1. دلالة الحب كجزء من الوجود:

الحب في القصيدة ليس مجرد علاقة بين اثنين، بل هو مرتبط بالروح والجسد. الشاعر يقول: "قد باتَ حبكِ في الخلايا من دمي"، وهو ما يدل على أن الحب أصبح جزءًا أساسيًا من تركيبته الجسدية والعاطفية، مما يضفي عليه دلالة وجودية.

2. دلالة الفراق والمعاناة:

الفراق هنا ليس مجرد غياب جسدي، بل هو قوة دائمة تلاحق الشاعر وتسيطر على مشاعره. "ما غابَ صوتُك عن حدودِ مَسَامعي" يدل على أن الحبيبة حاضرة رغم الغياب، مما يضفي بُعدًا مأساويًا على الفراق.

3. دلالة الانتقال من التلميح إلى التصريح

في نهاية القصيدة، يُعلن الشاعر: "ما عادَ ينفعُ في الهوى التلميحُ". هذا التحول من التلميح إلى التصريح يحمل دلالة على النضج في العلاقة، وأن الحبيبين وصلا إلى مرحلة لا يمكن فيها الاستمرار باللعب بالرموز والإشارات، بل يتطلب الأمر وضوحًا وصراحة تامة.

4. دلالة "التصحيح" و"الوضوح":

استخدام الشاعر لكلمات مثل "التصحيح" و"الوضوح" يدل على أن الحب والعلاقة هما رحلة نحو النضج والنور، بعد فترة من الألم والتيه. هذا يعبر عن دلالة فلسفية تتعلق بفكرة أن الحب قد يكون وسيلة للارتقاء الشخصي.

الترابط بين التجنيس والدلالة:

التجنيس . في هذه القصيدة يساهم في تعزيز الدلالة. عندما يستخدم الشاعر كلمات متشابهة في البنية مثل "الجرح" و"المجروح"، فإنه يعكس وحدة المصير والمعاناة بين الحبيبين. هذا الترابط بين الأصوات والمعاني يضفي على القصيدة انسجامًا داخليًا ويعمق من تأثيرها العاطفي.

التجنيس أيضًا يستخدم لتكرار الأفكار بطريقة تزيد من وضوح الدلالة، مثل "الصمت" و"الصياح"؛ حيث يتم إبراز أن الصمت الذي يشعر به الشاعر مليء بالضجيج الداخلي، وكأن غياب الحبيبة ليس هدوءًا بل هو حالة من الصراخ المكبوت.

التجنيس في هذه القصيدة لا يقتصر فقط على تجميل النص، بل هو أداة تعبيرية تدعم الدلالات العميقة التي يريد الشاعر إيصالها. من خلاله، تتعزز معاني الحب، الفراق، الصراع الداخلي، والنضج العاطفي. التجنيس والدلالة يتفاعلان بشكل متكامل لجعل القصيدة أكثر تأثيرًا ووضوحًا في إيصال مشاعر الشاعر وأفكاره الفلسفية حول الحب.

القصيدة تعكس مشاعر عميقة وأصيلة، حيث تبرز التوتر بين الحب والمعاناة بطريقة تجعل القارئ يشعر بأنه جزء من هذه التجربة العاطفية.

،وتترك أثرًا عميقًا في القارئ الذي قد يجد نفسه في هذه المشاعر المختلطة.

دمت بكل النقاء والابداع

***

سلام السيد

أسطرة مكونات السرد وحكاية الواقع المؤسطر

توطئة: لعل رواية (صخرة طانيوس) للروائي القدير المبدع أمين معلوف من الأعمال الروائية التي تحتل لذاتها ذلك الانفتاح السردي بين قطبي (التاريخ - الاسطورة)لذا فإنها تجسد عملية (الحكي التكويني؟) المتمثل في ممهدات (القص ما قبل الرواية؟) كذلك فهو القص في طريقه إلى إنشاء حكاية روائية موصولة ما بين نقطتي (التاريخ - الأسطورة) وصوﻻ إلى حاﻻت من التشكيلات التعقيبية من قبل السارد المشارك الذي راح يتعامل مع مادة الحكي من خلال مواقف ذاكراتية لها جذورها الممتدة في عمق التمثيل التاريخي للضاحية ورموزها المغروسة في علائق زمكانية مطردة في إلانتاج والتجوهر داخل تلك الاحياز المؤسطرة من مادة الأشياء والذوات والسياقات والأدارة المرجعية التي تحددها مخطوطة علاماتية غارقة فيها العديد من الوصايا والأسماء والأدوار العاملية .

١- مسميات الصخور وملحمة الطفولة الرائية:

ﻻ شك أن علاقات الأفعال المحكية في السرد الروائي بدأت من مواطن (الأنسنة المغايرة؟) لمعاجم وموارد وسياقات تسمية الأشياء الموضعية ضمن حدوثات حبكوية تتصل وهوية الدور الذي تترتب عليه طبيعة ذلك النوع الفرضي من المسمى. فمن خلال آلية صوت السارد نتعرف على مرابع طفولة السارد المشارك الذي سيغدو تجسيدا للحكي المرسل بطريقة العرض المسرود المباشر كقوله:(للصخور اسماء في الضيعة التي أبصرت فيها النور .. فهناك المركب، ورأس الدب، والكمين، والجدار، وكذلك التوأمان المعروفان ببزاز الغول .. وهناك تحديدا صخرة العسكر التي كان الجنود يرابطون عندها حين تطارد الكتيبة العصاة . /ص٩ الرواية) لعل هنا ما يجعلنا نتعرف على طبيعة البذرة النواتية الأولى من المسرود، خصوصا وأن ماهية الحكي جارية كصوتا يسعى إلى صياغة مشاريع المسميات ورموزها عبر نماذج لها كل التعالق والعلاقة مع خلفية (السارد المشارك - المشهد السياقي) بلوغا نحو مراجعة الأوليات المحفوظة في سجل هذه الضيعة من خلاصات ذات وشائج وطيدة وهوية وموقع وصوت السارد المشارك . فمثلا نعاين بأن مرجحات الثيمة الموضوعية تتركز في فحوى تلك الجملة من الصخور وماهية مسمياتها التي ترتبط وطبيعة الزمكانية لجذور الضيعة والشخصية الساردة، وهذا الأمر ما راح بدوره يوفر للرواية ثمة مؤشرات مؤولة يكون حاصل إنتاجها مجموعة دﻻﻻت مؤسطرة - مؤنسنة، تمنح المستهل الإمكاني الأولي من الحكي قابلية ورود وقائع الأنموذج وتتقاطع معه في عدة وحدات من ذات الإطار في التسمية ودﻻئلها الواقعية المؤسطرة . وعلى هذا الوجه هل يمكننا الحديث عن مجموعة الصخور القناعية الواردة في الزمكانية الروائية على إنها الخلفيات النموذجية في دﻻئل الوقائع الحدثية؟ أم أن الطبيعة التاريخية للكائن الجيلوجي هو المستودع الباطني والظاهري في صيغة خطاب العناصر العلائقية في الرواية؟ . يرد لنا صوت السارد متراوحا بين (علاقة طفولة - خطاب مونولوجي - حوارية كائن - خارج وداخل مخطوطة) أو ذلك المستوى من (المرسل إليه ساردا؟) فكأن سياق السارد القيمة الوسطية الواقعة ما بين (ضمير المتكلم - جهات السرد - ممكنات السارد) ومما يثير الانتباه هو حجم العلاقة ما بين المستويين أن تدخل السارد الخارجي لا يكون أحيانا إﻻ في شكل وقفات تعاقبية فيما يقع المستوى الآخر بضمير المتكلم (على لسان طفولة السارد ذاته؟) وهذا الأمر الأخير هو من المواجهة بالنسبة للسارد ولثام الطفولة في حين لحظته الممكنة:(أبصر في الحلم طبيعة طفولتي، تتراءى أمام ناظري صخرة أخرى ... تلوح كمقعد جليل، متقعر، كأنه اهترأ في موقع المؤخرة - وهي الصخرة الوحيدة التي تحمل على ما أظن أسم رجل،صخرة طانيوس .. لطالما تأملت ذلك العرش الحجري ولم اجروء على ملامسته . ليس خوفاً من الخطر، ففي الضيعة، كانت الصخور مرتع لهونا المفضل، وقد اعتدت في طفولتي، على تحدي أترابي الأكبر مني سنا، والمجازفة بتسلق أخطر الصخور . ص٩ الرواية) .

٢- الصلة الدﻻلية بين السارد والحدث الرئيسي:

ﻻ شك ان القارئ يلاحظ ان هذه الوحدات المحكية من زمن السارد المشارك، ما هي إلا متعلقات مركزية مثبتة في جملة مؤديات تحكي قصة الصخور في الضيعة، فالسارد من خلالها بدا محايداً مبدئياً إزاء موقعي (السارد طفلا - السارد قارئا = ساردين مستقلين) وعندما نتأمل العلاقة المحدد في خطاب الرواية، نعاين بأن ما يتحدث به الخطاب، ﻻ يتعدى حدود علاقة شخصية ذلك الطفل الذي يجازف بتسلق الصخور، دون ان ننكر بأن هناك (ساردا شاهدا) جعل يجسد موقعه كضميرا غيابيا تاركا المجال لذلك الطفل الذي هو ذاته يتحدث طويلا عن طفولته وعلاقته بتلك الصخرة المؤسطرة:(لا، لم احجم خوفا من الانزلاق بل كان تطهيرا وعهدا، انتزعه مني جدي قبل أشهر على وفاته - كل الصخور إلا تلك الصخرة ! .. وكان الصبية الآخرون يظلون مثلي على مسافة منها ويشعرون نحوها بالرهبة المتطيرة نفسها - كان يلقب بطانيوس الكشك . وقد جلس على هذه الصخرة ثم توارى عن الانظار . /ص٩ص١٠ الرواية) ﻻ شك أن بنية الحكاية بنية ذات حكايات متفرعة ومتوازية ومتقاطعة . فحكاية هذا الطفل مع ذلك الحجر تنتهي بمحاور حكائية شاخصة في مستوى أسطرة الكون والوجود وطبيعة الأغراض الشخوصية بذلك الترابط التبئيري الذي يلعب فيه المخزون الذاكراتي المدون في المخطوطة الخضراء دورا ﻻ يتجسد للسارد سوى أن يكون  شاهداً ومرسلاً إليه من خلال ما تمليه عليه حكايا تلك المخطوطة .

٣- المخطوطات الثلاثة وغرائبية غياب طانيوس:

إن طبيعة الشخصيات في رواية (صخرة طانيوس)ذات ملامح أسطورية منتقاة عن طريق الخطاب المروي، لذا بدت وكأنها كائنات ملفعة بأشد الاوضاع دورا في إكمال ملامح حركية شخوصية تختزن هيئاتها وسلوكها رؤى الحكواتي المشحون برغبة إيصال المادة التأريخية بروح الكينونات القائمة على وتيرة الشد والجذب والتقديم والتأخير لما هو أكثر إجلالاً في حوادث تلك الحكايا المروات:(غالبا ما ذكر أمامي ذلك الرجل، بطل الكثير من الحكايات المحلية، وكان اسمه يثير فضولي - كنت أعلم أن طانيوس أحد الأسماء العامية الكثيرة لأنطوان على غرار أنطوان - وانطونيوس،ومطانيوس، وطانوس ... ولكن لم ذلك اللقب المضحك - الكشك؟ - لم يشأ جدي ان يبوح لي بالسر - كان طانيوس ابن لميا . /ص١٠ الرواية) تتناظر مترابطات الكشف والتعالق ضمن فعالية بروز توالادات الأسمائية ومحايثاتها التي تشق طريقاً مرجعيا مرموزا في شتى العقود والأعقاب الزمكانية، وصوﻻ منها إلى الهوية التحققية في محاولة تفعيل الأدوار في المسميات وإنطلاقا من عملية إغتيال البطريرك بواسطة بندقية القنصل الانكليزي:(هكذا كان جدي يتكلم حين ﻻ يرغب الرد على اسئلتي، فيلغي بشذرات الكلام كأنه يهدي إلى سبيل . / ص١٠ الرواية) وقد تكون كل السبل ﻻ تهدي إلى أيا منها (لقد اضطررت للانتظار سنوات طويلة قبل اكتشاف الحقيقة وما جرى)تخبرنا الرواية بأن أسم لميا كان من الذيوع والإنتشار في الضيعة نظر لذلك القول الشعبي الدارج (لميا .. لميا .. كيف بتخبي هالحلا؟) وعلى هذا الوجه صار حتمي في الايام الراهنة من زمن أحوال الرواية .

٤- جبرايل والشغف بتواريخ ذاكرة الضيعة:

إن ما يميز الواقع التأريخي دليلا وتوليفا ونمذجة، هو ذلك الطابع من المزاوجة في مزامنة (الحتمية المصدرية - الإرادة التخييلية) لذا فإن أوجه الأهمية تبقى ضمن  مدارات سياقية مشبعة بروح المعالجة الإنتاجية في مستويات (الزمكانية - الذوات الشخوصية) حيث سيتحول ما كان مرجعا ووثيقة إلى مبأرٕ في مستوى الإنتاج المتخيل . وقد شاءت إرادة السارد المشارك ومن وراءه المؤلف أن يلقي أحد طرفي (التأرخة - التخييل)في الجانب الأكثر خطابا وبلاغاً،ذلك عملا بما يقتضيه خطاب الحكاية السياقية من مشخصات وقائعية أكثر تفعيلا لأدوار الأدلة السردية في النص، وتبعا لهذا تواجهنا تحصيلات السارد موضحا ومعللا ما كانت تخفيه لميا عن انظار الناس في الضيعة، لقد كان السارد المشارك ذو همة واسعة في تقص الاخبار والأحداث الأكثر خفاء فيما يتعلق وحياة لميا الصورية، ولكونه كان يدون ما يسمعه أو ما كان يخبره به جبرايل توصل إلى حقيقة كون هناك مخطوطات ثلاثة تتحدث عن طانيوس، وخصوصا ان أصحاب هذه المخطوطات كانوا ممن يعرفون طانيوس عن كثب، ولكن هنالك مخطوطة وهي الثالثة كانت أكثر حداثة ووثوقية، كان مؤلفها ذلك القس الذي توفى غداة الحرب العالمية الأولى، وهو ما كان يطلق عليه ب (الراهب إلياس كفريبدا)و كغريبدا هو اسم الضيعة - وكانت تعني هذه التسمية ب (أخبار الجبل) وقد تخبرنا الرواية عن لسان حال السارد: (كان كتابا غريبا، وفريدا، ومحيرا .. ففي بعض صفحاته كانت النبرة ذاتية، يتحمس فيها اليراع ويفلت من عقاله، فينطلق الأسلوب ويسترسل .. ثم وعلى حين غرة ينكفىء الراهب، كأنه خشي إرتكاب إثم الغرور . /ص١٢ الرواية)و الغريب في موضوع هذا الكتاب الذي قام السارد المشارك بمطالعته من التوطئة وحتى الختام، أنه كان يوجه إلى السارد مثل هذا القول القصدي:(أنت الذي سوف تقرأ كتابي ./ص١٣ الرواية)

- الكتاب الأخضر ورحلة المخطوطة الغوائية

١- الجمل التصديرية وسلطة موجهات الرمز:

لقد تابعنا سلفا في كتاب (عتبات) لجيرار جنيت ما تحدث عنه حول (التصديرات التوجيهية) التي تقع عادة بين مداخل الفصول، حيث منها ما كان ذاتيا من قبل تنصيصات الكاتب نفسه، ومنها ما كان مقتبس من متون الاساطير والملاحم، غير أننا ﻻحظنا في مداخل ما بين الفصول في رواية (صخرة طانيوس)ذلك الاقتطاع الضمني من حيز استنتاجات المؤلف الإظهارية في مدخلية كل فصل وكان أغلبها يعود إلى صلب موضوعة الرواية ذاتها . لعلنا من جهة ما لاحظنا أن طبيعة المحكي في مسرود الرواية كان ذو التبئير الداخلي الثابت، أي هو عملية اختيار السارد لذي شخصية محددة ليقدم الأحداث من خلالها. فقد سعى ما جاء تحت عنونة (العبور الأول: إغواء لميا) ذلك التصدير السردي الذي راح يستطرد في طبيعة الحياة في الضيعة، وكيف كانت محكومة من قبل ملكا اقطاعيا، حيث تعود زمنية حكمه إلى سلالة عريضة ومتينة من المشائخ: (عصر الشيخ في الزمن الحاضر، دون تحديد آخر، ﻻ تخفى على أحدهم، فقد كان ذلك الذي عاشت لميا في ظله . /ص١٧ الرواية) وتخبرنا الرواية إلى إن عشرات المقاطعات التي تجاوز فكفريبدا التي تتجاوز مساحة مقاطعته،كان يملكها الشيخ الأقطاعي فكفريبدا كانت هي الأخرى من ضمن ما يملكه ذلك الشيخ وصوﻻ إلى إمتلاك كافة حقولها، لذا كانت حدود حكميته لا تتجاوز (ثلاثمائة بيت!)و كان يعمل هذا الشيخ وأتباعه ضمن سلطة ما يسمى ب (أمير الجبل) وما تشتمل عليه مجموعة الأقاليم الأخرى بدءاً بطرابلس ودمشق وصيدا وعكا . ورغم وجود سلطة الاميركان سكان الضيعة يقدسون السلطان شيخهم الأقطاعي، ذلك لكونه ذو مقامية رصينة ومهيوبة من قبل جميع الأهالي: (كانوا يسلكون كثرا كل صباح، طريق القصر لانتظار استيقاظه من النوم .. متدافعين في الرواق الذي يفضي إلى مخدعه .. وحين يطل عليهم، تلهج حلوقهم بالأدعية التي يهمسونها همسا - كان معظمهم يحاكي زيه، سرواﻻ أسود فضفاضا - وعندما يؤوب هؤﻻء الرجال إلى بيوتهم ﻻحقا خلال النهار،يخبرون زوجاتهم: لقد رأيت يد الشيخ هذا الصباح؟ عوضا عن: قبلت يد الشيخ؟ كانوا يقبلونها ﻻ ريب وعلانية ولكنهم يأبون الاعتراف بذلك ./ص١٨ الرواية) ﻻ شك أن القارئ يلاحظ أن هذه الأمثلة تقترب من العبودية والرق، ولكنها عادات كان الناس في الضيعة قد استحسنها على قدم وساق .لعل الخطاب الروائي في مواطن الأحوال السردية، شبه متهكم وباذخ بسخرية لاذعة، وقد يكون الامر ممكننا بشكل من الأشكال . إذ لم تكن مجالات الرواية ذات مستوى خاص من لعبة الخفاء، خصوصا وان طبيعة دﻻﻻت النص تعكس الإرث الواسع من العبودية في تلك الازمنة الضاجة برحيق (السوط - الكف) وبمجرد نظرة أولية في قراءة تواريخ الاقطاعية سوف تتاح لنا معرفة الكثير عن مراحل عصيبة عاشتها الشعوب العربية في ظل هذه القوى الاحتكارية، ولكن كلامنا هذا قد يبدو مختلفا بخصوص وضع الشيخ ذات السترة الخضراء المطرزة بخيوط ذهبية، وهو يحمل صولجانا ليس لمعاقبة عصاته من الناس، بل ذلك إكماﻻ لعلامات وقاره وهيبته:(لم يكن الاقطاعي يعاقب على تنكيله برعيته، ولو صدف في نادر الأحيان أن وبخته السلطات العليا، فلأنها تعتزم التخلص منه لأسباب مختلفة - وعندما يسعف الحظ الفلاحين بسيد أقل جشعا وقسوة من سواه، يعتبرون أنفسهم محظوظين - كان ذلك هو الوضع السائد في كفريبدا، وأذكر أنني فوجئت وثارت حفيظتي، غير مرة، بسبب الود الذي كان يذكر به القرويون ذلك الشيخ وعهده ./ص١٩ الرواية) .

٢- تطويع خطاب الشخصيات لخطاب السارد:

و مما ﻻ شك فيه لاحظنا كيفية حدوث ظاهرة حين يتولى (الراوي؟) إسقاط الخطاب الاسنادي برمته ويبقى مطوعا خطاب الشخصية ليلائم خطابه نحويا وتركيبيا ودﻻليا، حتى وكأن الشخصيات في بعض الاحيان تبدو بعيدة عن مؤهلات إطلاق الكلام تماماً، كما تبقى حالة الربط بين الشخوص وصوت السارد المهيمن، وكأنها حالة تكوينية تنبع من عضوية العلاقة الخاصة والعامة في الرواية، ولكننا لو أحصينا جميع الاعمال التاريخية في الرواية، لوجدنا أن أغلبها ما يتيح للسارد العليم حرية تولي كافة الاصوات والعناصر العاملية .

- لميا والغواية بطبيعة الشيخ الشبقية

إن مشهد المقدمات الأولية من رواية (صخرة طانيوس) التي جاءتنا بوصفها الحركة في الزمنين (الذاتي = الموضوعي) وبما إن كلا الزمنين ﻻ يمكن فصلهما عن خطية الترابط في متواليات المسرود والسرد، وعلى هذا الاساس يتبين لنا أن المنظور الروائي ينطلق في تصوره للزمن النفسي والعاطفي الغرائزي من مبدأ مقاربة الطبيعة التراتيبية عبر الترابط بين دواخل الشخوص والاحداث ذات المتعلقات بالوصلة بين (الزمن - الذات)ومن خلال ديمومة بعض الصلات نتوقف على ملامح الصلة اللامباشرة حسيا وعاطفياً بين لميا وذلك الشيخ، إذ تتجلى ثمة حاﻻت شعورية لدى لميا تتعلق بمتابعة حاﻻت الشيخ الصحية التي حدثت بالمصادفة أمام تنصتات لميا له .. بل اصبحت حاﻻت الشيخ بمثابة الاهتمام لدى لميا وهي المرأة المتزوجة من إحد وكلاء الشيخ ذاته: (لربما كانت لميا تستحق بكل تأكيد زوجا أقل غثاثة،فقد كانت مرحة، ومغناجا، وعفوية، وكلما لفتت الأنظار بملاحظة نبيهة أو ضحكة مقتضبة، أو دندنت أغنية،رمقها جريس عابسا - قد يكون جريس على صواب، فلو أنها امتثلت لنصائحه، لوفرت دون شك على نفسها وعلى أهلها الكثير من المآسي،ولما أثارت في حياتها كل هذه الأقاويل - كان للشيخ على الأرجح نوايا مبيتة، إنما ﻻ يعني ذلك أن كل ابتسامة، وكل كلمة ودودة يتفوه بها كانت محسوبة . /ص٣٠ .ص٣١ الرواية) .

١- الخطاب المخاتل والمعنى الآخر:

عادة ما يكون المسرود الخطابي في وحدات الرواية (صخرة طانيوس) مخاتلا إن صح التعبير، ذلك لقدوم جملة من الوحدات على اهمية متكاثرة من الملمحات على المستوى الدﻻلي والمعنى الآخر من التحصيل كحالة مخمنة من القارئ في محاولة لربط الحقائق. أما بخصوص المؤشرات الحاصلة في نتيجة المحتملات الواردة، ما تشكل بذاتها رواجا جوانيا من حيث دﻻلة تقارب وميل لميا إلى الشيخ الأقطاعي عاطفياً: (في الواقع كانت المرأة الشابة غالبا ما تستسلم لطباعها العفوية) وعلى نحو من هذا السياق نلمح جملة أحاسيس شاردة تتكون في وحدة لميا بذاتها، ليبدأ جبرايل مؤكدًا: (كان حادثا مجرد حادث، ولكن عينيه كانتا تلمعان .. ومضى يسرد بأطناب وتنميق . /ص٣٢ الرواية) يتضح لنا في هذه الوحدات بأن السارد المشارك مازال تحت عبء قراءة المخطوطة في زاوية ما من زمنه المتخيل، لذا فهو زمن الإحالة في المتعلقات الدﻻليةالمضمرة، ومعنى هذا أن جميع محددات العلاقة الناظمة ما بين السارد وامتداد صفحات المخطوطة، ما غدا يشكل بذاته الحالة التنفيذية والمزامنة والمقيدة في منتج المؤوﻻت التعرفية فيما يتعلق بخطاطة الناظم السردي وزمنها اللامحدد في فعل الافعال المسرودة عبر عين الزمن الذي هو المرسل إليه ساردا .

- تعليق القراءة:

لعل حاﻻت الالتباس والتناقض من الشيوع في منظومة خلق نتائجية الأسباب والأغراض في بعض مواطن الرواية، فهناك عدة بناءات لم يحسن معلوف إعادة إنتاجها روائيا، لذا بقيت أشبه بحالة المراوحة بين (الاسطرة - التاريخ) . قد ﻻ ننكر أبدأ ما عليه أدوات معلوف الروائية من مثابرة ولياقة اسلوبية متينة، ولكن هناك مثالب في عملية الإقناع الاسبابي والحبكوي في متواليات صياغة العلل النصية، فما وجه هذا التقارب الفجائي بين(الشيخ = لميا) وكأنه حدث دون مبررات كافية من الشد والتدرج الموضوعي؟ ثم ما حجم هذه المادة السياقية لتشكل كل هذا التدليل المركز في جوامع النص؟ أما بخصوص تلك المخطوطات فلا يمكن ان تدون الحياة برمتها للشخوص والمصائر؟ عموما تبقى فرضيات الإنتاج عرضا في الأحوال المكانية والزمنية، ولا تعبر بمقدار حدود إرغامية على الاقتناع فيها ومن خلالها، ذلك لكونها محايثات خلطية تبدأ من (اسطرة مكونات السرد) وتنتهي ب (حكاية الواقع المؤسطر؟) فهي دﻻليا مدعمة من جوانب حسية تذكرنا بالاساطير الإغريقية ومن ناحية كونها تجربة المتخيل الروائي المنبسط بأجلى إمكانية الكتابة الروائية المتثاقفة .

***

حيدر عبد الرضا – كاتب وناقد عراقي

حكاية جعفر التميمي من بغداد إلى الجائزة الملكية

في عالم مليء بالتحديات والفرص، تبرز بعض الشخصيات التي تتمكن من تحويل تجارب الحياة الصعبة إلى قصص نجاح تلهم الآخرين. إحدى هذه الشخصيات هو جعفر التميمي، الذي حقق نجاحًا ملحوظًا في النرويج، بعد أن قدم إليها كلاجئ حرب من العراق. رحلته من ضابط بحرية في بغداد إلى رائد في قطاع النقل الجماعي في النرويج تمثل قصة ملهمة عن الإصرار، التفاني، والقدرة على التكيف مع تحديات الحياة. وُلد جعفر التميمي ونشأ في العاصمة العراقية بغداد، حيث كانت عائلته جزءًا من المجتمع العراقي الذي تأثر بشدة بالحروب والأزمات السياسية. جعفر، الذي كان يمتلك طموحًا كبيرًا، التحق بالبحرية العراقية وأصبح ضابطًا بحريًا، حيث تعلم الانضباط والعمل الجماعي والاستراتيجية. حصل على فرصة للتدريب والدراسة في إيطاليا، مما وسّع آفاقه وعزّز من مهاراته القيادية. ولكن تغيرت الظروف السياسية بشكل جذري عندما غزا النظام العراقي الكويت في أوائل التسعينيات، مما أدى إلى اندلاع حرب الخليج. جعفر التميمي وجد نفسه مجبرًا على العودة إلى ساحات القتال، ولكن هذه المرة كان الوضع مختلفًا، حيث تدهورت الأوضاع بشكل كبير وأصبح البقاء في العراق أمرًا مستحيلاً. في عام 1993، وبعد مرور عامين في مخيمات اللاجئين في السعودية، وصل جعفر التميمي إلى النرويج كلاجئ حرب. كانت بداية جديدة في بلد بعيد عن وطنه وثقافته، ولكن جعفر لم يدع الظروف تتحكم في مسار حياته. بدأ بتعلم اللغة النرويجية وعمل في مختلف الوظائف، من عامل نظافة إلى نادل، وذلك ليصبح جزءًا من المجتمع الجديد. مع مرور الوقت، لم يكن هدف جعفر التميمي فقط الحصول على عمل، بل كان يسعى لتحقيق تأثير إيجابي في المجتمع النرويجي. استمر في تحسين مهاراته وأخذ دورات تدريبية في القيادة والإدارة، مما فتح له أبواباً جديدة في حياته المهنية. في النهاية، وصل إلى مناصب قيادية في قطاع السينما، حيث شغل منصب المدير التنفيذي لـ"Oslo Kino".

لكن طموحه لم يتوقف عند هذا الحد. في عام 2016، تم تعيينه كمدير تنفيذي لشركة "Viken KollektivTerminaler FKF" (VKT)، وهي شركة مسؤولة عن إدارة وتشغيل البنية التحتية للنقل الجماعي في منطقة فيكن. تحت قيادته، شهدت الشركة توسعاً كبيراً في مسؤولياتها، حيث ارتفع عدد المحطات والمرافق التي تديرها من 18 محطة إلى أكثر من 2300 محطة ومرفق. قيادة النقل الجماعي بلمسة من الانضباط العسكري. تعكس مسيرة جعفر التميمي في قطاع النقل الجماعي فلسفته المستمدة من خلفيته العسكرية. فهو يؤمن بالعمل الدؤوب، الانضباط، والتخطيط الاستراتيجي لتحقيق الأهداف. تمكن من تطبيق هذه المبادئ في تطوير البنية التحتية للنقل الجماعي في النرويج، مما أدى إلى تحسين الخدمات وزيادة رضا المستخدمين. كان له دور كبير في تحديث محطة الحافلات في أوسلو، وهي واحدة من أكثر المحطات ازدحامًا في النرويج، حيث ساهم في زيادة كفاءة استخدامها وتحسين جودتها. الجائزة الملكية: تقدير للإنجازات. تقديرًا لإنجازاته البارزة في مجال النقل الجماعي، حصل جعفر التميمي على جائزة ملكية، وهي واحدة من أعلى درجات التكريم في النرويج. هذه الجائزة لا تعكس فقط نجاحه المهني، بل تمثل أيضًا اعترافًا رسميًا بمساهماته الكبيرة في تحسين جودة الحياة العامة من خلال تطوير خدمات النقل الجماعي. التزامه بالمجتمع والمستقبل. إلى جانب نجاحه المهني، لم ينسَ جعفر التميمي دوره كعضو نشط في المجتمع. يشارك بانتظام في أنشطة تهدف إلى دعم اللاجئين الجدد ومساعدتهم على الاندماج في المجتمع النرويجي. كما يسعى جاهداً لتعزيز مفهوم التنوع والشمولية في بيئات العمل، سواء في القطاع العام أو الخاص. بالإضافة إلى ذلك، لا يزال التميمي مرتبطًا بوطنه الأم. في زياراته للعراق، يحاول أن ينقل تجربته ومعرفته للسلطات المحلية، مشجعاً إياهم على اعتماد النماذج الناجحة للنقل الجماعي من أجل تحسين البنية التحتية لمدن مثل بغداد. جعفر التميمي هو مثال حي على كيف يمكن للإصرار والشجاعة أن يحولا التحديات إلى فرص. من ضابط بحرية شاب في بغداد إلى رائد في قطاع النقل الجماعي في النرويج، تمكن من أن يصنع لنفسه مكانة مرموقة بفضل عمله الجاد وإيمانه بأهمية العطاء للمجتمع. حصوله على الجائزة الملكية هو تتويج لمسيرته الحافلة ويعد شهادة على تأثيره الإيجابي الكبير في النرويج وخارجها. قصته ليست مجرد قصة نجاح فردي، بل هي شهادة على قدرة الإنسان على التغلب على الصعاب وتحقيق تأثير إيجابي في حياته وحياة الآخرين.

***

زكية خيرهم

ان المفاهيم الجديدة للرواية التاريخية بانها بنية زمنية متخيلة خاصة داخل البنية الحديثة الواقعية او ما يعبر عنه تاريخ متخيل خاص داخل التاريخ الموضوعي وقد يكون هذا التاريخ المتخيل تاريخيا جزئياً او عاما، ذاتيا أو مجتمعياً وقد يكون تاريخاً لشخص أو لحدث او لموقف او للحظة تحول اجتماعي.. هذا ما يلمسه القارئ في رواية حب في قندهار للروائي محمد الزهراني الصادرة عن منشورات ضفاف بيروت،2016.

ومن خلال استقراء العنوان وما ينطوي عليه من دلالات يمكن ان نتوقع ما سيحكيه النص..يملي علينا النظر فيه وتحليله بما يتوافق مع قراءتي من حيث علاقته بالتاريخ لان التاريخ يتمظهر من خلال النص الروائي

 ان القارئ للمدونة او السيرة يتبادر في ذهنه ان نوع النص هنا ديني تاريخي سياسي للماضي القريب وما جرى من احداث في الواقع الافغاني والحركات الجهادية لطلبان ضد الوجود الروسي، في وقتها حتى طور الامر حتى تحول الى تنظيم القاعدة والتحاق العديد ن الشباب في الوطن العربي وما حصل من تعصب وتشدد الديني.

 وقد يتساءل القارئ عن هذه الثنائية التي تجمع الحب مع الحرب والاقتتال ..

عند الولوج الى النص يهيئ القارئ نفسه للأقبال على عمل فني ينتمي الى جنس السيرة الذاتية يجسده شخصية رجل (عيد بن سالم) والذي يبدو انها تحكي قصته في رحلة الى افغانستان للالتحاق بالمجاهدين في مرحلة من الماضي القريب حيث تتضح السمات العامة في سرده الروائي الاتجاه التقليدي الواقعي الذي يستدعي التاريخ باستخدام عدد من التقنيات الفنية الحديثة التي تعمل على المزج بين الماضي البعيد الذي يعود الموروث الديني في زمن الحركات والغزوات في اوائل عصر الاسلامي والماضي القريب

اتسمت الرواية حب في قندهار كونه نص نثري تخيلي سردي واقعي يدور حول شخصيات متورطة في رحلة جهادية كما نراه جليا من ظاهر عنونة بعض فصوله (سفر الى المجهول)، (الفضاء المجهول)،(لايزالون يحتلّون رأسك)،(كوابيس)، (الخوف والتردد)، (صرنا كالدمى)،(هؤلاء الوحوش)، (تطرف فكري)،(فقد حقيقي)  والذي يتضح ذلك من خلال المناصات التي ذكرها السارد

في توضيح" الاسماء والشخصيات التي وردت في الرواية هي شخصيات روائية متخيلة، غير حقيقية، ولا ظلال لها في الواقع بل هي محض خيال.

ومن خلال تساؤلات السارد التي نراها عل ظهر الغلاف التي تبين حالة الندم والتورط والتغرير به "كثيراً ما كنت أتساءل بحرقة وألم: " لمن تركت أهلي وأحبابي.. وذكرياتي الجميلة وأصدقاء الطفولة؟ وكنت أقول:

هل يستحق أهلي تلك الغصة التي تركتها لهم؟

وهل يستحقون تلك الحرقة التي زرعتها في قلوبهم ؟ خصوصا والدتي الحبيبة.. التي وصلت الاخبار عنها في رسالة قصيرة " امك في العناية المركزة أصيبت بانهيار عصبي وربما بجلطة في الدماغ"

يظهر الكاتب تهكمه ونقده والتعبير عن حالات الرفض لحالات التطرف والتكفير والتشدد والذي نراه جليا على لسان السارد المتكلم العليم " ان الولع بالعلم والتقنية أنفع وأجدى من التشبث بالخوارق والمعجزات " ص107

وكما يقول في بنية نصية أخرى " هناك حقيقة يجب أن أواجهها، أعترف أولا بأنني ارتكبت خطأً في التفكير، يجب أن اصلحه، أعتقد أن الله هداني الآن لأستيقظ من هذا الضلال، أشعر بنور يشدني الى رؤية المدينة "ص118

وعلى لسان أحد شخصياته " التي تصف الجهاد بالتطرف وتصف المجاهدين بالوحوش" ص138

في اضمامة الرواية 43 فصل جعل لكل فصل عنونة اختارها بعناية وذلك بهدف جذب وتشويق القراء لموضوعاته الحكائية معتمدا البناء التقليدي البسيط للرواية استهل الرواية في عنونة (ذاكرة الطفولة) حيث اعتمد الروائي تقنية الاسترجاع الارتدادي والرجوع الى الطفولة

 " كان ابي يهرب من حياته الرتيبة الى النوم. يخرج صباحاً ليجني رزقه بما يكسبه من أجرة التكسي الابيض القديم، ويعود في المساء مجهدا لا يريد الكلام " ص9

البناء الفني

أولى الروائي الزهراني اهمية كبير ة للعنوان الرئيس واختار عناوين فصولها بعناية وذلك بهدف جذب وتشويق القراء لموضوعه الروائي وتحقيق غايته فاختار (حب في قندهار) الذي يشير الى عنونة مكانية وقد يتوقع القارئ قصة حب في هذه المدينة.ولكن حين نلج متن الرواية لا نجد للحب مكانا في وسط هذا التشدد ابان تلك الفترة، نراه في لقاء عابر بسيط بين عيد بن سالم الشخصية المحورية ونازك التي قد تعرف عليها في احدى الليالي التي تسرب فيها وهروبه الى باكستان بحثا عن فضاءات مختلفة " وربما قد شعرت بالملل من قيود الجماعة التي صارت تنظيماً ارهابيا بكل وضوح، شعرت بالخوف، واردت الخلاص منهم والنجاة بنفسي من دون وعي مني " ص99

اعتمد الروائي على البناء التقليدي البسيط للرواية، اسلوب لغوي سردي بسيط وبلغة مباشرة وقد يلمس القارئ بعض البنى السردية التقريرية بأسلوب الصحفي، ضمّن الروائي بعض النصوص النثرية على لسان السارد الشخصية المحورية.

صور لنا الزهراني المكان والزمان ورسم الشخصيات، يدير الحوار بينهما ولم يهبط الى اللغة العامية ويصور الصراع بينهما تصويرا مشوقا بأسلوب سردي جميل ومشوق بسيط قريب من فهم الناس يجذب فضول القارئ لمعرفة تلك المرحلة التاريخية  ليوصل اليهم معلوماته التاريخية بأسلوب واضح سهل وسلس وبلغة فصحى عذبة الايقاع تركز على الفكرة والمضمون مصوراً الشخصيات بأبعادها النفسية ومحركاً اياها من منظور علوي في اطار ثنائية الخير والشر أو الشقاء والسعادة.

" لن انتظر أكثر. يجب أن أنجو بما تبقى لي من أمل في الحياة. سأهرب في ليلة سوداء، قبل أن يفتح الفجر صدره. الشجاعة هي المواجهة، نعم حين تواجه الحقيقة، وتتخذ موقفاً يحفظ كرامة الانسان، فانت شجاع، الشجاعة مواجهة أبطال، وليس مواجهة الغدر وانتظار الطعنات الحاقدة من هؤلاء الذين تربت قلوبهم على الغدر والخيانة" ص118

وفي النهاية فقد احسن الروائي في اختيار موضوعاته ومضامينه الروائية ورصد التحولات التاريخية ذات الاتجاه الواقعي في تلك المرحلة بشكل ادبي صادق

***

طالب عمران المعموري

والذي حارت البريّة فيه

حيوان مستحدث من جمادِ

المعرّي.

أخطر الأكاذيب التي ألبست ثوب الإبداع، وخدعنا بها البلاغيون، ونقدة الأدب الملقَنين والملقِنين معاً، هو التشبيه البلاغي الذي لا بلاغة فيه ولا هم يفرحون؛ فالمرء من الصحراء إلى المدينة، ومن البعير إلى الطيارة، هو صديق موجودات بيئته التي هي عدوته في الوقت نفسه؛ أما معينه فثقافته واطلاعه، إن بصراً أو سماعاً:

لَقَد أَقومُ مَقاماً لَو يَقومُ بِهِ

أَرى وَأَسمَعُ ما لَو يَسمَعُ الفيلُ

لَظَلَّ يُرعَدُ إِلّا أَن يَكونَ لَهُ

مِنَ الرَسولِ بِإِذنِ اللَهِ تَنويلُ

هكذا كان كعب بن زهير يرتعد خوفاً، ولأنه يكابر في خوفه جعل الفيل يرتعد خوفا ثم شبّه نفسه به! ولعلّ مخبوءاً لوّح به الشاعر ليوقع عقداً ثقافيا يجلب له الأمان؛ ذلك لأن الرسول الأكرم ولد في عام الفيل وهو العام الذي غزا فيه إبرهة الحبشي الكعبة بجيش تصحبه الفيلة، لذلك كَسِيَ الشاعر خوفه بهول تلك الحادثة التي استهدفت الكعبة، ثم جعل الفيل الذي ظلت حادثته مرعبة، ولم ينكسر إلا بعد تدخل الله "عزّ وجل" حين دحر الفيل وأصحابه، بطيرٍ أبابيل.

الفيل ـــــــــــــــ الطير

الإنسان

لقد وفرت الشواهد أو الخزين المعرفي للشاعر ضمان الأمان، فمن الموروث والذاكرة الجمعية والثقافة القرائية الاستقصائية، من كل هذا تقترن الأشياء، وعلى الرغم من امتلاك الإنسان العقل والكلام، إلا أنه مع يقينه من أنه سيد المخلوقات تتسرب من بين جدران لغته بأنه أضعف من الحيوان والجماد، بل يتمنى أن يصل لبعض من مزاياهما؛ لذا نرى أن التشبيه في أسّه ثقافي، وذلك أمرٌ لم يدركه الأولون فوصلنا عبر التلقين، كما (إن الصورة الجديدة في القصيدة المعاصرة لم تدفع إليها نزوة طائلة، أو مجرد رغبة في التجديد، وإنما جاءت لتحول عميق لثقافتنا الفكرية والفنية)(1)، ويبدو أن محمد مندور أدرك التحول ولم يتناول عيوب الجذور، ولأن التحول ثقافي وفكري وهو تحول تصحيحي لمفاهيم رسخت بوساطة التلقين، فهذا يعني أن علينا أن نقرأ ما قبل التحول وحتى ما بعده، ونقول إن كل تشبيه هو ثقافي وكل صورة هي ثقافية، نابعة من علاقة المرء بالموجودات من حوله.

يذهب مارتن هايدغر إلى أن اللغة تكشف لنا خفايا الأشياء، وتظهرها بألوانها وأصواتها، فهو يرى) أن اللغة تُشكل الوسيلة التي ينهض من خلالها تاريخياً عالم أي شعب من الشعوب... ويلاحظ هايدغر في الوقت نفسه أنه بينما تشير هذه الصورة إلى ما يمكن قوله، تجلب اللغة أيضاً إلى العالم ما لا يقبل القول، فذلك الشيء الذي لا يمكن قوله، أو الظل الذي تُسقطه الصور الرأسية للأشياء، يرسم حدود الواقع دون أن يحاول تحديد معالمه)(2).

واقع الحال أنّ الإنسان العربي أو الشرق أوسطي، يمارس نسق التعويض بالشتائم فيصف خصمه بالحيوان، الكلب، القرد، الخنزير، هجاءً منطلقاً من حقيقة أن الإنسان أعلى منزلة، لكنه في الوقت نفسه يصف حبيبته بالغزالة والحمامة واليمامة ويصف الرجل الشجاع بالأسد، فهل في الأمر نوع من أنسنة الحيوان القوي الجميل، وحيونة الإنسان الضعيف القبيح؟ الجواب: لا، فالمرء ابن محيطه، ويتعامل مع ما يراه، جمالاً وقبحاً، قوةً وضعفاً، أليس هناك من يعبد البقرة؟ ولعلهم يعبدونها لما تهبه لهم، فالبشر عبد العطايا وعبد القوي وأسير الجمال، لذلك يلتصق بأقرب المعوضات لخيباته؛ فقد (يكون الواقع كبيراً جداً كضخامة الكون، على سبيل المثال، أو ربما يكون صغيراً جداً، إنما يكتنفه الغموض. سجل جاك دريدا (Jacques Derrida) تجربة مقلقة عندما التقت عيناه بعيني قطته التي كانت تحدق به وهو عار. فنحن ننظر إلى القطط في معظم الحالات أنها كائنات جديرة بأن تكون موضع اهتمامنا، ولكن كيف تنظر إلينا هذه القطط؟ هل ترانا كأي شيء آخر، أو ليس بالشيء الكثير؟ وما الشعور الذي ينتاب قطة عندما تنظر إلى إنسان دريدا؟)(3)، ودلالة أن الواقع كبير، وربما الموجودات تشكل قلقا وخوفاً للإنسان، نجد أبا الطيب المتنبي يجعل من حصانه معلّما موبّخا له ولنا:

يَقولُ بِشِعبِ بَوّانٍ حِصاني

أَعَن هَذا يُسارُ إِلى الطِعانِ

*

أَبوكُم آدَمٌ سَنَّ المَعاصي

وَعَلَّمَكُم مُفارَقَةَ الجِنانِ

أليس الحصان هنا أعلى رتبة من الناس جميعا؟ إن القطة التي هي حيوان أليف حيرت جاك دريدا، وجعلته يخشى أن ترى عريه، وإن كان ذلك افتراضاً، لكن لماذا رفع المتنبي حصانه إلى رتبة من يملك الحجة على راكبه؟ أليس في ذلك جلدٌ لضعف الإنسان، فالمتنبي نفسه، حين أراد أن يصف قوة وشجاعة ومنزلة سيف الدولة، شبهه تشبيهاً ثقافيا ورسم صورة سيرية ثقافية، لا صورة بلاغية، جيث قال:

يا سيف دولة ذِي الْجلَال وَمن لَهُ

خير الخلائق والأنام سميُّ

*

أَو مَا ترى صفّين كَيفَ أتيتها

فانجاب عَنْهَا الْعَسْكَر الغربيُّ

*

فَكَأَنَّهُ جَيش ابْن حَرْب رعته

حَتَّى كَأَنَّك يَا عَليّ عَليُّ

لقد اختلف مقام القول والاقتضاء التداولي، فارتفع المتنبي عن نسق الحيونة الثقافي، وشبه من يريده قوياً بسند تاريخي لرجل قوي معتمدا على ثقافته برسم الصورة والتشبيه الثقافي، من دون الاحتياج إلى الموجودات المحايثة له، بل غرف صورة من الأثر الراسخ المستمر الذي يمثل قوة إنجازية في أي حجاج.

لقد تعامل "أبو الطيب" مع الموجودات من حوله تعاملاً براغماتياً، فعلى الرغم من تهمة الفحولة التي وسمه بها عبد الله الغذامي الذي لم يفرق بين فحولة الشعر والذكورة النسقية، نجد أبا الطيب ينسف الذكورة من دون التنازل عن فحولته الشعرية:

فلو كان النساء كمن فقدنا

لفضلت النساء على الرجال

ولأن الشمس من الموجودات المؤرقة والمحببة للإنسان في آن واحد؛ والشمس من المعبودات تاريخيا، وجدنا المتنبي يصف المرأة بالشمس لكنه يفضلها على الشمس الحقيقية:

فليت طالعة الشمسين غائبةٌ

وليت غائبة الشمسين لم تغب

وقد يتساءل القارئ الكريم ويقول: نراك ذهبت إلى الجمادات وتركت الحيوان، فأقول: إن أبا الطيب نفسه احتاج إلى أن يصف نفسه بالأسد:

إِذا رأيتَ نُيوبَ اللَيثِ بارِزَةً

فَلا تَظُنَّنَّ أَنَّ اللَيثَ يبتَسِمُ

فكم هي مفارقة، وقد يقال: إنه مقام القول، لكن ألم يرفع المتنبي رتبة حصانه إلى منزلة الناصح المذكر/ الموبخ، وهل الحصان أعلى رتبة من الأسد؟ لكن الجواب يكمن في أن الإنسان يعيش شعورا لما يكمله، فهو من دون الموجودات من حوله، يبقى أسير الاحتياج والنقص، وهذا شائع جدا في الأدب العربي والشرق أوسطي.

وإذن، كل تشبيه هو ثقافي محض، نابعٌ من الثقافة والقلق الإبداعي، ذلك لأن (الأفكار التي أزاحت جذرياً آفاق فروع العلوم الإنسانية في نصف القرن الماضي ظهرت للوهلة الأولى كنظريات للثقافة بشكل عام، وعندما بدأ فردينان دي سوسير (Ferdinand de Saussure) بتقدير قيمة اللغة ورفع منزلتها بمعزل عن أي مرسى مفترض لها في الأشياء أو الأفكار، اتضح أن تفسير العالم الذي اتخذته المعاني التي تعلمناها قد لا يكون أكثر من نتاج للثقافة. وكانت الكيانات المستقلة التي ميزتها اللغة عن بعضها بعضاً مدينة لنظام الاختلافات الذي سلمنا به أكثر من كونها مدينة لأي وجود)(4)، وهذه الاختلافات هي بنت الاحتياج، فالمرء إن عدِم وجود ما يحتاجه، لجأ للغيبيّ؛ لأن (معظم المناقشات التي تتناول الثقافة تتجه بصورة ملحوظة نحو النقد الثقافي، وتسلم بالعلاقات الممكنة بين الصور المرئية والتراكيب اللفظية، من دون طمس الاختلافات العامة بينهما)(5).

ولنا أن نقر بنزعة الاحتياج لدى الإنسان، فضلا عن محاورته لما حوله من موجودات، بل حتى لما هو غيبي؛ فعلى الرغم من أنه يغدق على نفسه بكل الصفات الحيوانية، وهذا يشي بأن الحيوان أعلى رتبة! لأن المرء مجبول بالتطلع إلى الصفات الأسمى؛ لكننا وربما ننهي هذا بمفارقة، وهي أن المرء حين يتذكر عقله يرمي كل الموجودات جانباً ويحلق عالياً، كما في قول المتنبي:

حولي بكل مكان منهم خلقٌ

تخطي إذا جئت باستفهامهم بمن!

لقد رمى المتنبي خصومه بالحيونة أو انعدام العقل؛ لأن (من الاستفهامية) للعاقل. ولنا أن نختتم بقول أحمد الصافي النجفي:

يعترض العقل على خالقٍ

من بين مخلوقاته العقل!

أيعترض؟ وحين يصف ما يريد وصفه، يضفي على الموصوف صفات مستعارة من الحيوان؟ ليس من أمر سوى نسق المواءمة، وإن كل تشبيه إنما هو ثقافي.

وقد قالت العرب: (ﻳﻨﺒﻐﻲ ﻟﻠﻘﺎﺋﺪ اﻟﻌﻈﻴﻢ ﺃﻥ ﻳﻜﻮﻥ ﻓﻴﻪ ﻋﺸﺮ ﺧﺼﺎﻝ ﻣﻦ ﺿﺮﻭﺏ اﻟﺤﻴﻮاﻥ: ﺳﺨﺎء اﻟﺪﻳﻚ، ﻭﺗﺤﻨﻦ اﻟﺪﺟﺎﺟﺔ، ﻭﻧﺠﺪﺓ اﻷﺳﺪ، ﻭﺣﻤﻠﺔ اﻟﺨﻨﺰﻳﺮ ﻭﺭﻭﻏﺎﻥ اﻟﺜﻌﻠﺐ، ﻭﺻﺒﺮ اﻟﻜﻠﺐ، ﻭﺣﺮاﺳﺔ اﻟﻜﺮﻛﻲ، ﻭﺣﺬﺭ اﻟﻐﺮاﺏ، ﻭﻏﺎﺭﺓ اﻟﺬﺋﺐ، ﻭﺳﻤﻦ ﺑﻌﺮﻭا، ﻭﻫﻲ ﺩاﺑﺔ ﺑﺨﺮاﺳﺎﻥ ﺗﺴﻤﻦ ﻋﻠﻰ اﻟﺘﻌﺐ ﻭاﻟﺸﻘﺎء)(6).  أبو حيان التوحيدي.

***

ا. د. حسين القاصد

أستاذ النقد الثقافي في الجامعة المستنصرية كلية الآداب

........................

(1) فن الشعر، محمد مندور: مؤسسة هنداوي للنشر (المملكة المتحدة)، 2017: 47.

(2) الثقافة والواقع، نحو نظرية للنقد الثقافي، كاثرين بيلسي، تر: باسل المسالمة، وزارة الثقافة- دمشق، 2017: 18.

(3) الثقافة والواقع، نحو نظرية للنقد الثقافي: 19.

(4) الثقافة والواقع، نحو نظرية للنقد الثقافي: 20.

(5) المكان نفسه.

(6) الإمتاع والمؤانسة، أبو حيان التوحيدي، تحقيق: أحمد أمين وأحمد الزين، مؤسسة الهنداوي، ٢٠١٩ : ٤٩ – ٥٠.

 

"تغريبة القافر" للروائي العماني زهران القاسمي نموذجاً

لكي يشدَّنا زهران القاسمي، إلى روايته، الفائزة بجائزة البوكر العالمية للرواية العربية لعام 2023، منذ صفحاتها الأول، يُعلنُ في قرية "المسفاة" عن حادث غرقٍ في بئر، لكن لم تُعرف هوية الغريق أو الغريقة. فتنفتح أبواب حبكة الرواية، حين نعلم أنّ الغريقة هي امرأةٌ تدعى "مريم بنت حمد" زوجة "عبد الله بن جميل".

مع ذهول زوجها بما حدث، بدأ يتساءل: ما هو الباعث لذهابها إلى هناك، وهي تتخوّف من الآبار، سنكتشف بأنَّ الذي جذبها إلى هناك جنينها، فالغريقة، كانتْ حاملاً، حيث أنّهُ قبلَ أن يتمَّ تكفينها، صرختْ خالتها بعبارةٍ بليغةٍ:" في بطنها حياة، في بطنها حياة" ص:13. وبالرغم من توجيه شيخ القرية، بأن تُدفن الميتة، وفي بطنها الجنين، تتمرد عمّتها "كاذية" على ذلك بأن تقوم بشقّ بطن ابنة أخيها لتُخرج منه الجنين، حيث كان حيّاً سالماً، ولذا سُميّ "سالم" وهنا تتجلىّ لنا، ثنائية الحياة والموت.

كانت مريم في أثناء فترة حملها تحلم بأشياءٍ غريبةٍ تنبىء بموتها المبكر، وولادة ابنها، وبمهمة الوليد المستقبلية، فهو القافر الذي وهبه الله معجزة السمع عن بعد، فيجوس في القفار، بحثاً عن منابع الماء في جوف الأرض، في الصخور والجبال. حين همّوا بإحضار نعشها، كان المطر ينهمر بغزارة، حتى أنَّ القبر امتلأ بالمياه، في مشهدٍ يحمل دلالةً، بأنَّ الفقيدة ماتت غريقة ودُفنت غريقة.

هنا يعود الراوي إلى عبد الله بن جميل، حين زار "كاذية"، تفاجأ أنّ لديه ولداً، فاحتضنه، حين ذاك فطن الصغير إلى حامله وابتسم له، لاحظت مرضعته آسيا بنت محمد، وهي التي ثكلت بناتها الخمس، وهاجر زوجها، بأنَّ الطفل" منذ أن كان يحبو رأته يميل بأذنه اليسرى على كتفه ويحكّها عليها:ص49.

هنا يريد الراوي استدراجنا إلى ما يريد، بأنَّ تلك الأذن التي تحكّه، دأب على إلصاقها بالأرض، كأنّها بداية نموِّ موهبته وهو صغيرٌ كقافر، يتتبّع أثر الماء في باطن الأرض.

تلحظ "كاذية" ذلك الأمر أيضاَ، لكنّها تكتم ذلك عن نساء القرية لئلاّ يحسدنه، لم تطلعْ سوى أبيه، الذي ضحك من الأمر، لكن ذلك حدث معه وطفله سالم في عمر التاسعة عندما أخذه في رحلةٍ إلى الوديان البعيدة .

وحين بلغ سالم من العمر 15 سنة بانت موهبة اكتشاف الماء تحت الأرض بإلصاق أذنه على التراب الذي من تحته انبجس الماء، في البقعة التي يمتلكها سلام بن وعري العاموري، حيث انكشاف الماء عبر ينبوعٍ صغير، جاء في أثناء جدبٍ حلّ في القرية بعد خصبٍ دامَ فيها بعدد سنوات عمر سالم، وحصل أن اتّفق أهالي القرية بأن يجدوا آثار القناة القديمة التي تسقي مزروعاتهم، ما دامت عين الوعري لا تكفي إلاّ لأغراض الشرب وطهي الطعام. وبدؤوا بالبحث عن أثر القناة التي تُسمّى عندهم (الفلج)، لكنّهم تعبوا ويئسوا ولما يجدوا الفلج.

ينبوعُ الحب

بعد سردٍ متتابعٍ، لكلِّ جهود أهالي القرية، ومضيِّهم أيّاماً عديدةً في الحفر في المكان الذي قال عنه سالم بأنه المكان الخطأ، يتّضح لهم صحّة كلام سالم، وأنَّ الماء تدفّق في المكان الذي أصرَّ عليه، فرح أهل القرية، حيث انساب الماء في أراضيهم، ومضوا يرتّبون أمورهم في سقي محاصيلهم وتنظيف بيوتهم، حينذاك اعترف أهل القرية بأنَّ سالم هو القافر فعلاً، بعد أن كانوا يسمّونهم باستصغارٍ ابن الغريقة. عند ذاك شاع خبر قرية المسفاة بين القرى، وجاء البدو الرّحّل يستسقون من أفلاجها، وبدأ الناس يعقدون اتفاقياتٍ مع سالم بشأن تتّبع الماء في قراهم، ولكنّ ومضة حبٍ برقت بين سالم وفتاة جاءت مع أمها إلى كاذيّة، ثمّ رحلتا إلى حيث لفّهما الغياب، وكأنها تنتظره في قريةٍ بعيدة. في الوقت نفسه عرّج الراوي إلى الحديث عن أناسٍ جاؤوه من قرية المسيلة، لكي يبحث أثر الماء في أفلاجهم المطمورة، وحلَّ في قريتهم الجدب، مثلما هو حال قرية المسفاة، وبقية القرى. ومضى هو وأبوه الى المسيلة، وكانت المفاجأة، بأنّ الطفلة التي جلست جنبه وتحدّثا كأنهما يعرفان بعضاً منذ زمن، أصبحت فتاة جميلةً تُسحر من يراها، ونزل هو وأبوه ضيفاً في بيت أهلها، جرفه الحب، حتى أفلح سالم بالزواج منها.

عائلةٌ مائية

لكنّ الخبر المؤلم موت عبد الله بن جميل، في العالم المائي ذاته، الذي غرقت فيه زوجته ريم، أم سالم. ولذلك عاهد سالم نفسه، أن يترك مهنة القافر، لأنّ فيه مماته. ولكن يأتي رجلٌ اسمه محسن بن ضيف، يطلب القافر، بعد أن أصاب ما يسمّيه بن ضيف "البلدة" الجدب، لكنّ سالم تردّد كثيراً في الأمر، وألحّت زوجته على ترك المهنة، خشية أن ]موت كميتة أبيه، ولكن بن ضيف تعهّد له بأنه سيكتب له حقوقه كاملة، (نصف البلدة) وتتسلّمها زوجته في حال مماته.

نهايةٌ مأساوية

كانت غيبة سالم طويلة، وأخذت أهل زوجته الظنون بأنّهُ مات غرقاً في أحد الأفلاج، وكان سالم قد أصيب بجروح، منها شجٌّ في رأسه، في سبيل تهشيم الصخرة الجاثمة على القناة، بعد كفاحه المرير، يموت سالم غرقاً في الماء المتدفق جارفاً كل شيء بما فيه هو، كانت ضرباته الغاضبة، انتقاميةً على ما كلِّ ما هو بائسٌ في حياته، على البعد عن زوجته، الذي أطاله عدم تهشّم الصخرة الصمّاء. كانت لحظة حياةٍ أو موت، هي التضحية والمغامرة، حين تتهشّم الصخرة أخيراً، ويتدفّق الماء هادراً في أرجاء البلدة، لكنّ سالم يموت غريقاً ومتأثراً بجروحه البليغة.

***

باقر صاحب - أديب وناقد عراقي

.................

* صدرت الرواية بطبعتها الثامنة عن دار الرافدين –بغداد، ودار ميسكلياني-تونس عام 2023

 

رواية فرصة ثانية للأديبة الفلسطينية صباح بشير، صدرت مؤخرًا عن دار الشامل للنشر والتوزيع. وبرغم صفحاتها التي لم تتعدَّ ال260 صفحة، إلا أن الكاتبة استطاعت التطرّق وإثارة العديد من القضايا والإشكاليّات الإجتماعية، وقدّمتها لنا من خلال ثلاث حكايات ليست غريبة عن واقعنا العربي وأن تجمع بين هذه الحكايات وتقدّمها في رواية خُطّت بأسلوب سلِس وبلغة سهلة الفهم بعيدة عن أي تصَنُّع. فتُحفّز القارىء لمتابعة القراءة. وإذا أردنا تجنيس هذه الرواية فإنها برأيي تنتمي الى الأدب الواقعي والاجتماعي كونها تتطرّق الى قضايا اجتماعية واقعية يكاد لا يخلو أيّ مجتمع في وطننا العربي من وجودها. فقد تناولت مسألة الزواج والأمومة والعلاقات العاطفية العابرة، ومدى انعكاس هذه المسائل على حياة الفرد والأسرة في آن.

وقبل الغوص في مضمون الرواية وشخصياتها، لا بدّ من التوقّف للإشادة بجماليّة الوصف الذي قدّمته لنا الكاتبة، ونورد مثالا على هذا، ما أجاد به قلمها من بوحٍ تصف فيه مدينة حيفا وعراقتها فتقول: "مدينـة حيفـا التّـي تعـجّ بالحيـاة ، سـيمفونيّة مـن البشـر والحجـر والبحـر والحيـاة، تتراقـص أمواجهـا علـى إيقـاع أنغـام البحـر المتوسّـط،  وتلامـس جبـال الكرمـل الشّـامخة حكاياتهـا الإنسـانيّة، تشـكّل حيفـا لوحـة فنّيّـة سـاحرة،  فيهـا مـن التناقضـات مـا يضفـي عليهـا جمـالا خاصّـا، مـن جمـال البحـر إلـى صخـب المدينـة، مـن خضـرة الجبـال إلـى زرقـة السّـماء، من عراقـة التّاريخ إلـى حداثـة الحاضـر، وهـي لا تنـام علـى وسـائد الليـل، بـل تبقـى مُضـاءة بأنوارهـا السّـاطعة؛ كأنّهـا تقـاوم الظلام، وتعلـن عـن إيمانهـا بالحيـاة، فهـي ليسـت مجـرّد مدينـة علـى خريطـة، بل هي حكايـة إنسـانيّة خالـدة، حكايـة شـعب عـاش علـى هـذه الأرض منـذ القِـدَم، حكايـة صمـود وكفـاح، حـبّ وأمـل.(83).

وفي موضع آخر تقدّم لنا الكاتبة رؤيتها ومفهومها للأمومة، وهنا أقتبس بعضاً ممّا ورد: "كلّ أمّ هـي عالـم خـاصّ بحـدّ ذاتـه، لهـا رائحـة فريـدة تعبّـر عـن شـخصيّتها وحنانهـا وحبّهـا، تلـك الرائحـة ليسـت مجـرّد شـعور حسّـيّ فحسـب، بـل هي لغة الحـبّ والحنـان والتضحيـة التـي تلامـس أرقّ المشـاعر الإنسـانيّة. فالأمومـة لحـن يرافـق المـرأة طوال حياتهـا،. فالشـمس تشـرق مـن عيـون الأمّهـات، وشـال الحرير على أكتافهـنّ سـرّ مـن أسـرار القداسـة، ينسـجن مـن العطـاء أجمـل أثـواب العطـف والحنـان، ويغمـرن أبناءهـنّ بالـدّفء والأمـان" (50)، كما أن هُدى التي تكفّلت برعاية ابن شقيقتها تقول "أنّ الأمومـة ليسـت محصـورة علـى الإنجاب البيولوجـي فقـط، بـل هـي شـعور عميـق بالحـبّ والعطـاء، يمكـن أن ينبـض فـي قلـب كلّ امـرأة" (219).

بالعودة إلى الرواية، وكما أسلفنا فقد اثارت بعض القضايا الإجتماعية وسنحاول التطرّق إليها قدر المستطاع:

الحكاية الأولى حكاية مصطفى الذي توفيّت زوجته فاتن على سرير الولادة بعد أن أنجبت وليدها يحيى، وهنا تبدأ أم مصطفى على حثّ ابنها للزواج من هدى شقيقة زوجته المتوفاة، بعد أن لمست منها كل تعاطف وحنوّ تجاه ابن شقيقتها وتعلّقها به ، وبدأت كلّ من والدة مصطفى ووالدة هدى بمحاصرتهما بالحجج والموجبات التي تجعل من هذا الزواج ضرورة لا بل واجباً فقط لأجل رعاية الطفل الوليد دون الإكتراث لمشاعر الزوجين المفترضين. فوالدة مصطفى تلفت نظره إلى هدى التي ستكون زوجـة مثاليّـة لـه، وأنّ حبّهـا ليحيـى لا يضاهيه حـبّ الأمّ لابنهـا، إضافة إلى كونها جميلـة وأنيقـة ورقيقـة.

وعلى الضفة الأخرى نجد والدة هدى تحاول إقناع ابنتها بهذا الزواج، وتضغط عليها من زاوية تعلّقها بيحيى في حال رفضها فتقول: أن والده مصطفـى لن يوافق علـى بقـاء فلـذة كبـده تحـت جناحـك الرّقيـق إن تزوّجـتِ يومًـا برجـل آخـر؟ هـل تظنّـين أنّ يحيـى سـيظلّ برفقتـك بعدهـا؟ وأمام هذا الإلحاح من كلا الجانبين يتمّ الزواج الخالي من أحاسيس عاطفية تجذب العروسين اللذين بقيا لفترة لا بأس بها تحت سقف واحد دون أي تلامس او حياة حميميةّ. قبل أن تستقيم الأمورلاحقًا ليباشرا حياة زوجية مكتملة.

وعلى هامش حكاية مصطفى مع هدى، نجد أن المرأة تبقى هي الأنثى التي تصرّ على الإنتصار لأنوثتها مهما كانت الظروف، فمثلاً هدى التي ارتضت شبه مرغمة للزواج بمصطفى بعد وفاة شقيقتها فاتن، ومع كلّ تفهّمها لحيثيّات هذا الزواج ولحجم الحبّ والوفاء الذي يكنّه مصطفى لزوجته المتوفاة، إلا أنها وفي لحظة غضب نجدها تثور في وجهه وتنبّهه إلى أنّها هدى وليست فاتن قائلة: "لتفهم أن فاتن  لـم تعـُد موجـودة،  أنـا هنـا حاضـرة،  مُحبّـة ومخلصـة، لا تقارنّـي بهـا، فأنـا لسـت نسـخة عنهـا ولـن أكـون، أنـا هـدى، أمّ ابنـك، زوجتـك، شـريكة حياتـك، متـى سـتدرك ذلـك؟ لا أريد أن أكـون فـي المرتبـة الثّانيـة بعـد فاتـن".(214).وتكمل قائلة: "لا أسـتطيع البقـاء فـي بيـت لا أشـعر فيـه بالحبّ، لا أشـعر فيه بأنوثتي ككلّ النساء، أحتـاج أن أكـون محبوبة ومقدّرة  ومرغوبـة" (217).

أمّا مصطفى، فعلى الرغم من زواجه – الأخوي إذا جاز التعبير- يبقى الرجل الذي تجتاحه الغيرة وبوادر الشك بعد ان لاحظ معاودة هدى لرحلتها الجامعية واختلاطها بالزملاء، ممّا أشعل نار الغيرة والشك في قلبه، محاولا إقناعها بالابتعاد عن أحد رفاقها بالجامعة لتواجهه بالقول: "كرامتـي خـطّ أحمر لا أسـاوم عليه، لا تظنّ أنّ حبّـي وتعلّقـي بيحيـى سـيجبرني علـى السـكوت عـن إهاناتـك وشـكوكك، فمشـاعري ليسـت رخيصـة. وعنـد الاختيـار بـين كرامتـي وبينـه، سـأختار كرامتـي دون تـردّد".(229).

الحكاية الثانية في هذه الرواية هي حكاية عبدالله شقيق مصطفى الذي تزوّج من "لبنى"، فكان الزوج العاشق والصبور على تصرّفاتها المستفزة والتى لا تفوّت أيّة فرصة لتشارك صديقاتها في حفلاتهنّ وسهراتهنّ دون الإلتفات إلى مسؤوليّاتها تجاه زوجها، كما انها ترفض الحمل والإنجاب وتعتبر ان هذا القرار مصيـريّ سـيغيّر حياتهـا وهي تريد الاسـتمتاع بشـبابها وأيّامـها قبـل أن تدفنهمـا فـي الأمومـة كما قالت.

لقد امتاز زواج عبدالله ولبنى بوجود فجوة ثقافية بينهما، وعدم انسجام أو توافق حتى في الهوايات، لا بل أكثر من ذلك حتى في الأطعمة، فهي لا تضع مثلا الثوم في الملوخية فقط لانها تكره رائحته وتفرض على زوجها تناولها كما هي. وأيضا تقضي معظم الوقت امام شاشة التلفاز وصوته المرتفع ممّا يمنع زوجها عبدالله من ممارسة هوايته المفضّلة وهي القراءة. هذا التنافر وغياب لغة التفهّم والتفاهم بينهما جعلهما يعيشان في شبه طلاق عاطفي وإن وُجدا تحت سقفٍ واحد.

انطلاقا من علاقة لبني بزوجها عبدالله، تثير الكاتبة مسألة اعتبار الزواج من قِبل البعض وخاصة الفتيات، بمثابة الطريـق للخلاص من الكبت او الحرمان الذي تعانيه الفتاة في بيت أهلها، وهذا ما أفصحت عنه لبنى لصديقتها هدى بأنها وافقت علـى الزّواج من عبد الله رغـم افتقـار قلبهـا للميـل نحـوه، واختـلاف اهتماماتهمـا كاختـلاف الليـل والنهـار. وتستذكر تهديـدات والدهـا الصّارمـة قبـل الـزّواج، بمنعهـا مـن الخـروج مـن المنـزل، وكيف كانت طفولـتها مقيّـدة بقوانين صارمـة، فالأجـواء مشـحونة بجدّيّـة مقيتـة، كأنّها تعيـش فـي سـجن مقفـل. وتكمل لبنى في بوحها فتقول: " كنـت أختنـق وأتـوق إلـى التحـرّر للعيـش حيـاة طبيعيّـة كباقـي الفتيـات. لذلـك، فـررتُ مـن سـجنهم بـزواج لـم يكن حبّـا حقيقيّاً، فقـد كان عبد الله بوّابتي الوحيـدة نحـو عالـمٍ جديـدٍ ينبـض بالحرّيّـة والانفتـاح، عالـم يغـدق علـيّ فيـه حبّـه وعنايتـه واهتمامـه دون حـدود"(252).

أما الحكاية الثالثة في هذه الرواية فبطلها ابراهيم طبيب الأسنان وهو صديق مصطفى وشريكه في معرض لتجارة السيارات، وإبراهيم هذا تزوّج مرّتين وفشل في زواجه، ممّا ولّد لديه نفوراً من عالم النّساء، وأصبـح أكثـر حـذراً من الزواج ومؤمناً أنّ السّعادة لا تأتي من الـزواج فقـط، بـل مـن الإيمـان بالنفس والعمل المخلص ومسـاعدة الآخرين . وسأل نفسه: " هـل الـزواج مـأوىً للحـبّ أم قيـد لـلأرواح؟ هـل المرأة شـريكة في رحلـة الحيـاة أم لغـز نحـاول نحـن الرّجال فـكّ رموزه؟(58)، فالـزّواج بحسـب رأيـه قفـص ذهبـيّ، يحبِـس فيـه الرجـل حريّتـه، ويقيّـد مشـاعره وأحلامـه، ويخـدع العطشـى ويُضِلّهـم عـن طريقهـم"(59).

لكن القدر شاء أن يلتقي إبراهيم بجارته "نهاية" وتنشأ بينهما علاقة مودّة وإلفة أوصلتهما إلى السرير، ولكن ابراهيم بقي مصرّاً على موقفه من الزواج عندما طلبت منه نهاية ان يتزوّجا، وشـعرت بأحلامهـا تتحطّـم أمـام صخـرة الواقـع، رفضت بشـدّة الاسـتمرار فـي هـذه العلاقـة بعد أن اعترف لها ابراهيم قائلاً: "الزواج أنـا لا أُؤمـن بقيـوده، ولا أرى فيـه سـوى قفـص يحاصـر حريّتـي، إنّ علاقتنـا جميلـة هكـذا، فلمـاذا نفسـدها بـأوراق رسـميّة قد تصبـح عبئا على قلوبنـا؟ أريـد أن أكون معكِ دون قيـود أو شـروط، يكفـي أن تتلاقـى أرواحنـا، وأن تتناغـم قلوبنا؛ لتصبـح الحيـاة سـيمفونيّة جميلة تعزف لحن الحبّ".(145).

نلاحظ في هذه الرواية الدعوة ولو غير مباشرة للإهتمام بالشأن الثقافي والفنّي، من خلال الإشارة إلى اهتمام ابراهيم بالموسيقى مثلاً "عندما استمع إلى معزوفة موسيقيّة من بيت جارته " نهاية" هـي موسـيقى «نينـوى» وتورد لنا الكاتبة نبذة عن هذه السيمفونية التي يُختَلـف حـول مؤلفّهـا وتقول بأن "للموسيقى  سـحرها الخاص فهي تتجاوز حـدود الزّمان والمـكان، وتتحـدّث بلغـة عالميّـة يفهمهـا القلـب قبـل العقـل".

كما برزت دعوة مماثلة تحثّ على الإهتمام بالقراءة، وفي رسالة ملؤها الأمل، وبلفتة ذكيّة تشير الكاتبة إلى روايتها الأولى التي أقتبست منها فقرة تُثري روايتنا الحالية، ولا تبدو دخيلة عليها لتتحدّث عن الحبّ والأمل، فعندما لاحظ ابراهيم انّ هناك امرأة  تتصفّح كتاب«رحلـة إلـى ذات امرأة» سألها إن كانت قرأت الفقرة التي تقول:«هـا أنـا أجلـس علـى شـرفتي الجميلـة وأدوّن الذكريـات، بعـد أن أَغلقـتُ أبـواب قلبـي بإحـكام وفتحـت أبـواب العقـل علـى مصراعيهـا»..؟ لتجيبه: "يُخيّـل إلـيّ أنّنـا نُسـارع أحيانـا في إغـلاق أبواب قلوبنا، لكنّنـي أؤمـن أنّ الحـبّ قادرعلـى إحيـاء القلـوب المنهكة، فلا تقفـل قلبـك أبـدا، فالحيـاة جميلـة، كيـف نعيشـها بقلـب مغلـق؟ تذكّر يا أخي، أنّ أبواب القلب مثل أبواب البيوت، إذا أغلقتها تمامـا لـن يدخـل إليهـا الهواء والنّور، لكـن.. إذا فتحتها بحذر فسـتدخل إليها السّعادة والأمل والحبّ".(150).

واستكمالاً لرسالة الأمل هذه، تُنهي الكاتبة روايتها بانتظام العلاقة الزوجيّة بين مصطفى وهدى الحامل في شهرها السادس، وكذلك لبنى بعد أن راجعت نفسها واقرّت بخطئها تعود إلى زوجها عبدالله، وها هي في شهرها الثامن تنتظر مولودها، وأخيراً ابراهيم تجاوزعقدة الخوف من الزواج وتزوّج من جارته نهاية. واعتبر كل منهم بأن القدر أو المستقبل منحه فرصة ثانية لإنعاش حياته.

لا بد وأن نسأل إذا كانت الرواية تحدّثت عن أن ابراهيم  ومصطفى وعبدالله وأيضا لبنى قد منح كلّ منهم فرصته الثانية، يبقى السؤال مُعلقًا وهو: ما هي الفرصة الحقيقيّة التي مُنحت الى هدى او حُرمت منها ؟ .

رواية فرصة ثانية رسالة مفعمة بالأمل ، وإثر كل كبوة لا بُدّ من النهوض لتستمر الحياة بكل تلاوينها.

ختاما أقول، سبق للكاتبة صباح بشير أن منحتني فرصة أولى لقراءة كتابها "رحلة إلى ذات امرأة" وها هي اليوم مشكورة تمنحني فرصتي الثانية لقراءة هذه الرواية الشائقة. وأختم بالقول مبارك للأديبة وإلى المزيد من التألّق والنجاحات.

***

عفيف قاووق – لبنان

للشاعر منذرعبد الحر

تتسم اللغة الشعرية الحديثة بخصائص فنية متعددة تحقق الأداء البنيوي للشاعر وقدرته على توظيفها لصياغة تجربته الشعرية وترجمة تصوراته واحاسيسه وهمومه السايكولوجية والسيسولوجية بصيغ إبداعية فريدة تميز كل تجربة عن غيرها في الصفة الجمالية والمحتوى الفكري ومستوى التعبير والاستخدام الإيحائي لمدلولات الكلمة الى اقصى مدياتها .

منظور النقد

ولاشك أن التصدي للغة الشعرية في منظور النقد مهمة غير يسيرة وتتطلب إدراكا بالمحاور التي يمكن من خلالها تناول المادة الادبية والشعرية منها بشكل خاص وهي تتباين من ناقد الى آخر، فتعليل الغموض والتضمين في النص الشعري وضروراته التعبيرية وتوظيف مدلولات الرمز والاساطير والمجاز والانزياح والكناية وغيرها التي يستخدمها الشاعر للإرتقاء ببنائه الداخلي للقصيدة أو النص وشحن المفردة بطاقة إيحائية لتجسيد مقاصده، كلها ادواته التي تلتقي في بودقة واحدة لتفريغ الإعصار النفسي الكبير والاسفار عن النداء الكامن في الأعماق .

وشاعرنا المبدع منذر عبد الحر لامس هذه المعضلة فأشار في احدى مقابلاته الى قصور النقد في تحليل الأسس التي اوردناها فيقول (لا أبالغ ولا أجدني متجنيا على أحد حين أقول إن الكتابات النقدية التي تناولت تجربتي الأدبية في عمومها، معظمها لا علاقة له بعلم النقد، مع تقديري واعتزازي للكتابات النقدية الرصينة التي تناولتني برؤيةٍ علميةٍ مهمة، وعلى العموم فإن أكثر النقد العربي بعيد عن عمق النص الأدبي وجوهر الاشتغال فيه من قبل الأدباء في مختلف اختصاصاتهم، لأن النقد الآن بمثابة كشف واستبصار وغور في النص والتجربة، وليس انطباعاً عاما أو رأيا عائماً لا مرتكزات علمية ونظرية فيه) . فمن هذا المنطلق فإن الناقد أمام مسؤولية مزدوجة تتمثل بتفسير الأسس السايكولوجية وجماليات التعبير اللغوي وكذلك القواعد النقدية الصارمة التي تقيد أي نص ابداعي مع التسليم أن حضور كل المفاهيم والاسس النظرية والاكاديمية عند تناول مجموعة ما أو نص بعينه مهمة عسيرة بل ومستحيلة في اغلب الاحيان .

المجموعة الشعرية (دموع النهر) للشاعر الصادرة عن دار الشؤون الثقافية العامة – بغداد 2024) ضمت 14 نصاً، وهي في مجملها تنبض بوجع جنوبي معهود ومتوتر ولغة سلسلة تنوء بأعباء الذكريات والمرادفات المثقلة بالحزن النبيل، وتأخذ بتلابيب المتلقي لكي يعيش معه مرارة التجربة ولحظات الفرح الصغيرة المتناثرة والنادرة بين الأبيات بأسلوب إستبعد الغموض في التعبير دون أن ينعكس ذلك سلبا على جهده لتكثيف الصورة وخلق فضاء مترامٍ للانفعالات والحس الداخلي والوصول به الى الهزة النفسية أوالدهشة فأجاد بقوة السيطرة على الكلمة المنتقاة والتغلغل الى الدخيلة:

نفخر بأبائنا ...

وهم يفتحون نهاراتهم بشهقة

ويزرعون فينا فسائل فرح

فنرى أكواخنا قصورا

وثيابنا مطرزة بينابيع الحب

لأن أمهاتنا ..شغلن عيونهن المتعبات

بترتيق ما غضب من بقع فيها

إثر خصام بين الألوان .173 mounder adulhor

بالعودة الى النص يلاحظ المتلقي أنه رغم البساطة المتناهية في تناول الاضداد بين الفقر المدقع والفخر والقناعة، إلا أن أسلوب الطرح لم يسقط في حبائل السهولة والكتابة السردية التقليدية هنا ينبض الشعر بقدرة بيّنة، فقد طرح الشاعر قضية اجتماعية خطيرة تأكل من ضفاف المجتمع وتنخر في كيانه، الأب المنكوب والكوخ المتداعي والملابس العتيقة الممزقة وفوضى الالوان لكنه أفلح في سبكها بعيدا عن النثر المجرد في هيئة صور شعرية في غاية الجمال، وقرّب بدقة المفهومين المتعاكسين الى الذائقة الشعرية، الافتخار بالأب المتعب من اجل الاسرة والام الساهرة على تأمين حاجات الاسرة بأدنى المتاح والكوخ الذي يغدو قصرا فيما إذا ساد الاسرة التآلف مع الموجودات من حولها .

واضح أن نصوص المجموعة حافلة بتراكيب مجازية مقننة في التعبير دون إسراف في ايراد التفصيلات التي تهوى بالشعر الى هوة المباشرة والتقريرية، فشاعرنا منذر ركن إلى إيراد الكثير من هذه التراكيب اللغوية ( نجوما تتكسر، بستان من عبير وأغان، الليل وحش مجنون، نادتهم سياط الظهيرة، ماتت عليها فواخت أحلامنا، تكسر صوتي على امواج حروفها، كأنه عقد يطوق عنق الليل، سقطت طفولاتنا في سواقي الثعابين، دعها تغفو على اعقاب سجائرك ... إلخ) وغيرها كثير ومنها هذا الانتقاء حين تعجن الشرفة وترمز الى الاطلالة النبض بالموت كما أن العشب الاصفر المريض الذي يرمز الى احتضار النماء وقسوة الزمن:

من شرفة صفراء

عجنها النبض بالموت

ذابت عقارب الوقت ..

وسال دمها على العشب الأصفر

ويتكأ شاعرنا أيضاً على الصور الخيالية الانزياحية التي تخالف المألوف وذلك بتوظيف تغييرات لغوية على مستوى النص لإثراء تجربته الشعرية أي انه استطاع أن يخلق لغة داخل اللغة لكن بعيدا عن الإيغال في التعقيد والغموض، ففي (مروج الغواية) يستعيد الشاعر ذكرياته المفعمة بالاحاسيس والمشاعر عن محلة الجمهورية في البصرة والتي توحي بالقدم والعراقة والتغيير بعدما كان إسمها الفيصلية لتتحول الى الجمهورية مع السقوط المأساوي للملكية في العراق فيطرح وقائع تلك الايام بلغة آسرة و صادمة لكنها تقطر شوقا وخضوعا للممكن:

كي لا ألتفت إليك

فأجرح سماء صمتك

بشرارة عشق

أغني من بعيد

لشر جنوني فيك

انا الساعي إليك على جناح اشتياقي

العائد إليك من صهيل معارك

وحتوف أحلام

وجفاف أمنيات

خطواتي ..قوافل

قطعت صحارى الوهم

كي تصل إلى دوحة المنفى

وترقد في حيرتها ...

في نصه (مناجاة متأخرة) المهداة الى الشاعر الكبير بدر شاكر السياب المترعة بالصور الشعرية النابضة بالتشبيهات والاستعارات التي تشي بما وراء الكلمة فالتعلق بفنار الخوف والسؤال عن العودة الحائرة وجحود الخليج لها مدلولات سياسية، فلقد عانى السياب كثيرا نتيجة موقفه السياسي الداعم لإنتفاضة عام 1952 وهروبة الى الكويت وهناك حيث كتب اجمل قصائده ومنها (غريب على الخليج ) التي جسدت انفعالاته المريرة الناجمة عن المرض والغربة والتوق الشديد والمؤلم للعودة الى جيكور رمزا للوطن . هذه المكابدات الغائرة في ذات السياب وغيرها أختارها شاعرنا منذر ليستلهم ويحيك منها نسيجا بارعا من الصور الشعرية المتتابعة والغنية بالمقاصد:

عابرا همس الطين

وخفقات أجنحة البلابل

اللائي يرددن غناءك

لم يكن جيكور

إلا عتبك النحيل على البحار

تلك التي فصلتك عن ربوع بكائك

وجعلتك ترنو إلى السفن التائهة

متعلقاً بفنار الفزع

وانت تلوك لوعة

وسؤالاً عن عودة حائرة

يا من رسم على جحود الخليج

خيبة وغربة مداها سرير يطفو

على صبر فادح .

إنسان مقهور

وفي نصه (دموع النهر) يصور الشاعر النهر كأنه البشير الذي يطرق الأبواب وإنه يطوي الليل ويصارع النهار فيستخدم النهر كناية للإنسان المقهور الذي عليه أن يكف عن الوجع ويجيد فن التمرد والمواجهة وأن يتخطى سنوات الجدب والقهر بعد أن يصرخ باؤلئك الذين يهربون ويهابون المواجهة:

آن لضجيج مراياك

أن يفتت زوادة الصبر

لتمضي بعيداً

فالنهر …

تسلق ظهيرته بعكاز

ليمسك بالشمس

ويضعها على رمح هياجه

يصرخ بالقوافل الهاربة

إمسحوا رماد الخوف

عن عيونكم

وتحفل قصائد المجموعة بصيغ مستعارة من القران الكريم أو المرويات أو الإرث الشعبي الغزير لتقريب المقصد الى ذهن المتلقي وإضفاء المزيد من الحيوية الى نواة النص الشعري، فهنا مثلا يفسر التلون وإخفاء الدخيلة الشريرة بالتلفع بالورد الذي يرمز للرقة والنقاء والحب، كما يستعين بواقعة استواء سفينة النبي نوح على جبل الجودي التي وفرت للكائنات على متنها الحماية من سطوة وغضب الله وذلك في مسعى لتأكيد عبثية المحاولات الرامية الى النيل من نبل المشاعر وصدق الدفينة:

وسكاكين غدر

ملفوفة بالورد

لا عليك

*

سنرسو على الجودي

فقد " قِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ

و يَا سَمَاءُ أَقْلِعِي"

فيما هم لم تعصمهم جبال الوهم

ولم يحمهم سور

أو تحملهم غيمة صنعوها.

ويستمد الشاعر منذر عبد الحر من خزين الشعر الشعبي أرق واجمل النصوص المعبرة عن الوجع والمكابدة والبعد القسري عن الديار والصبر الآيل للنفاذ فيستعين بمقطع في غاية الجمال ل (الطير الاغريقي) شاعرالجنوب العذب الراحل جبار الغزي ليشحن بها نصه ويقشر الكلمة لكي تتكامل اللوحة الغنية بالقهر والوجع:

ما لهذا العاشق

رمى نفسه في أحضان الصمت

وعبر جراحه

ليعانق الغربة ؟

....................

(بسّك تره تعديتْ حد الجفه وياي

أعطش وأذوك الموت وبجفك الماي) !

ذقه… هو ملاذك الأمين.

قال شاعر الحداثة الانكليزي توماس إرنست هيوم (أنه لا خلق وبالتالي لا شعر إلاّ إذا استطاع الشاعر بالمراس الشديد والاخلاص العنيف أن (يحني) اللغة لمنحى فكره بدقة) وهذا ما فعله منذر عبد الحر وعبرت عنه نصوص (دموع النهر) بإقتدار مشهود.

***

محمد حسين الداغستاني

في الخامس عشر من تشرين الاول عام 1965 وعلى شاطيء بحيرة في كازخستان، وصل خبر الفوز بجائزة نوبل للادب  لرجل قصير القامة، خشن الصوت، ذو عينين زرقاويتين حادتين كان يقضي إجازته في خيمة ومعه حقيبة مليئة بالكتب، يحملها معه أينما يذهب، يعود إليها بين الحين والآخر، إنها رواية الحرب والسلم لتولستوي ودايفيد كوبر فيلد لديكنز، وقصص موباسان ومجموعة أعمال تشيخوف، كان في الستين من عمره لم ينجز سوى كتابين الأول رواية متوسطة الحجم والثاني ملحمة روائية يعنوان " الدون الهادئ " أراد فيها أن يتبع خطى المعلم تولستوي. عندما سُأل ميخائيل شولوخوف عن خبر فوزه بجائزة نوبل ابتسم ابتسامته المعهودة وقال للصحفيين :"من الصعب أن يخرجني هذا الخبر من متعتي اليومية، إعادة قراءة الحرب والسلم، واصطياد السمك والعيش وسط الناس مثل ديكنز.. ولكن هذا لايمنع أن تأتي للانسان ضربتان من ضربات الحظ في يوم واحد، الحصول على جائزة نوبل واصطياد بطة كبيرة".158 ail hosan

ولد ميخائيل ألكساندروفيتش شولوخوف  في 24 أيار عام 1905، كان عمره خمس سنوات عندما توفى تولستوي، بعد ذلك سمع من والدته إنها كانت تشاهد الكاتب الكبير وهو يتجول مع الفلاحين ويمنحهم بركاته، كانت الأم قد تعلمت الكتابة والقراءة من أجل أن تكتب خطابات لابنها عندما سافر للدراسة في موسكو عام 1922، أما أبوه فقد عمل في معظم المهن، فلاح، بياع في دكان صغير، تاجر أبقار، عامل في مطحنة للدقيق، وعندما يصل شولوخوف الى موسكو للدراسة تضطره الظروف أن يعمل حمالاً في المراكب وكاتب حسابات، في العام 1924 ينشر أولى قصصه القصيرة، لكنه يقرر في العام 1925 أن يحذو حذو تولستوي ويكتب ملحمة روائية جديدة: "لتكن بعدة أجزاء.. تتناول الحرب والسلم.. والحب والموت.. والعدل والحقيقة". وتمضي السنوات وهو يكتب في أجزائها، حيث ظهر الجزء الاول منها عام 1928، بينما ظهر الجزء الاخير عام 1940.. هكذا حقق شولوخوف رواية بأربعة أجزاء وبثلاثة آلاف صفحة.بنفس حجم روايته الاثيرة الحرب والسلم.

في الدون الهادئ يروي لنا شولوخوف حياة القوزاقي ميلخوف العائد لقريته من آخر الحروب مع تركيا، وعلاقته بحبيبته اكسينيا وزوجته ناتاليا، واخيه واخته وجيرانه واصدقائه، واعدائه، وزملائه في الحرب والعمل والتمرد، وارتفاع نجم حياته من الارض، الى الحرب والمجد، والتحقق بالحب والانجاب، ثم تردده وسثوطه وفاجعته وانهياره الى ان يصبح طريدا محطما، فقد كل شيء، لم يبق له الا ابنه الصغير وحسه الخلقي المعذب بالاثم والضياع.. انها رواية لايكاد يفلت من اطارها العريض شيء من احداث الموت والبلاد، الحب والحرب. 

يكتب شولوخوف: "في المجال الانساني، القراء بدأو يعقدون مقارنات بين الحرب والسلم والدون الهاديء.. لكنهم لايدرون ان تولستوي غير حياتي منذ ان كنت في الخامسة عشر من عمري حيث عثرت في احدى المكتبات نسخة قديمة من كتاب المعلم تولستوي"..

ومثلما يتذكر القراء ملحمة "الدون الهادئ" واعمال شولوخوف التي وضعته في مصاف كبار كتاب العالم، ستتذكر الثقافة العراقية باعتزاز شديد  المترجم والناقد والباحث الراحل كاظم سعد الدين بموسوعيته التي كانت تتنقل ما بين حقول المعرفة، في سعي طويل وشاق لا يكف عن الكتابة والترجمة طوال اكثر من نصف قرن، كانت فيه الاعمال التي قدمها تقدم نماذج متميزة للقيمة الادبية والفكرية، كان كاظم سغد الدين يتنفس الثقافة، ويراقب اتجاهاتها، ويشعر ان عليه ان يقدم للقارئ نماذج تنحاز الى قيم الانسانية، ولم يكن هناك اقرب اليه من اتجاه الواقعية الاشتراكية بتكوينه الطبقي واحلام كتابه، وكان يعزز في وعيه ضرورة الانتماء الى هذا الاتجاه، فهو يريد كما قال يوما في حوار صحفي ان يقدم " أجمل الكتب  للقارئ"، وقد كان هذا الاختيار يعني نموذج الادب الملتزم بقضايا الناس، ولا شك في ان تنوع ترجماته هو اول ما يلفت انتباه القارئ حيث الانتقال من ادب الاطفال الى التاريخ مرورا بالتراث الشعبي الذي كان ابرز اعلامه وليس انتهاء بكتابه الموسوعي " مشاهير أدباء العالم. ذكريات وحوارات " . في سجل كاظم سعد الدين عشرات الكتب، وفي خزانته التي تركها بعد موته الكثير من الاعمال التي تنتظر ان تمتد لها ايدي الناشرين، وكان من بينها هذا الكتاب " لقاءات مع شولوخوف " المثير للبهجة والمحفز للعقل والوجدان .

***

علي حسين – رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية

 

قراءة نقدية تحليلية

إباء الصقور قصيدة لقصة الأمير علي الدحام العبيدي

يــكادُ الصقرُ أنْ يَفنَى سُعَاراً

ويــأنَفُ جِــيفَةً عِــندَ اَلْعُقَابِ

*

وَيَــبْقَى دَائِــمًا شَــهْمًا كَرِيمًا

يُــخَالِفُ كُــلَّ ذِي ظُفْرٍ وَنَابِ

*

يَــعَافُ مَــوَائِدَ اَلْأَنْــذَالِ زُهْدًا

إِذَامَــا اَلــنَّاسُ دَفَّــتْ كَالذُُّبَابِ

*

يَـــرُومُ اَلــطَّيِّبَاتِ وَلَا يُــبَالِي

إِذا اَلْــجَنَبَاتُ شُكَّتْ بِالْحِرَابِ

*

فَمَنْ يَرْضَعْ حَلِيبَ اَلْعِزِّ طِفْلاً

يَــعِشْ حُــرًّاعَزِيزًا لَا يُحَابِي

*

وَمَــنْ لِــلْأُسْدِ دَوْمًــا كَانَ نِدًّا

مُــحَالٌ يَرْتَجِي فَضْلَ اَلْكِلَابِ

*

دَعِ اَلْأَنْــذَالَ تَــأْكُلُ مِنْ حَرَامٍ

وَتَــرْفُلُ بِــالْحَرِيرِ مِنَ اَلثِّيَابِ

*

فَلَمْ تَخْفِ اَلثِّيَابُ ذُيُولَ خِزْيٍ

وَإِنْ أَخْــفَتْ ذُيُــولاً لِــلدَّوَابِ

*

فَــمَنْ بِالْحَيِّ يَعْرِفُ كُلَّ لِصِّ

وَعَــاهِــرَةٍ تَــخَــفَّتْ بِــالنِّقَابِ

*

سَــيَبْقَى اَلْخِزْيُ لِلْأَجْيَالِ إِرْثًا

وَلَوْ فَلَتَ الخَسِيسُ مِن اَلْعِقَابِ

***

عــبـد الناصرعـليوي الـعبيدي

قصيدة "إباء الصقور" للأمير علي الدحام العبيدي تجسد روح الفروسية والشهامة من خلال رمزية الصقر، الذي يُمثل القوة والكرامة في مواجهة التحديات.

1. الرمزية:

- الصقر يُرمز إلى العزة والكرامة، ويُقابله في النص العقاب، الذي يُمثل النقيض الأخر.

- الحليب والمواشي تعكس معاني النبل والصفاء، حيث يشير الشاعر إلى أن من ينشأ على العزة لن يرضى بالذل.

2. الأسلوب:

- القصيدة تتبع أسلوبًا شعريًا تقليديًا يعتمد على السجع، ما يعطي النص موسيقى خاصة تُعزز من قوته التعبيرية.

- الاستخدام المتكرر للطباق يعكس الصراع بين النبل والذل، مثلًا: "الطيبات" مقابل "موائد الأندال"، و"الأسد" مقابل "الكلاب".

3. المعاني:

- الشاعر يبرز قيمة الفخر والإباء التي لا تقبل المساومة، فهو يرى أن النبلاء يبتعدون عن كل ما يُدنس عزتهم.

- النص يُحاكي رفض القيم المنحطة، والإصرار على التمسك بالقيم الرفيعة حتى في ظل الصعوبات.

4. الرسالة:

- الشاعر يوجه دعوة للتمسك بالكرامة والرفض لكل ما يُلحق العار، مشيرًا إلى أن الخزي سيظل ملازمًا للذليل، حتى لو تزين بالحرير.

(الأسلوب الصوتي)

استخدام الحروف والأصوات المناسبة في الأبيات، كالتقارب الصوتي، يمكن أن يعزز الإيقاع.

مثلًا، استخدام حروف ذات وقع صوتي قوي أو ناعم بحسب طبيعة المشاعر التي يريد الشاعر إيصالها.

في قصيدة "إباء الصقور"، الإيقاع الموسيقي يتجلى من خلال الوزن الشعري المنتظم، القافية المتناسقة، والسجع الموجود في نهايات الأبيات، مما يضفي على النص تأثيرًا قويًا ومؤثرًا.

(المضامين الدراماتيكية من خلال التصوير الشعري والتوظيف البلاغي).

تشكل إطارًا دراميًا قويًا يعزز من تأثير القصيدة، ويجعلها تحمل رسالة عميقة حول الإباء والشموخ في مواجهة الظلم والخضوع، مما يجعل القارئ يشعر بعمق الصراع الداخلي الذي يعيشه الصقر كشخصية رمزية.

  1. الصراع بين العزة والذل:

التصوير: الصقر يرمز إلى العزة والشهامة، في حين أن العقاب وجيفة الأندال تمثل الذل والخضوع.

التوظيف: الصقر يرفض الاقتراب من الجيفة التي يتناولها العقاب، وهو تصوير بلاغي للصراع الداخلي بين قيم النبل والكرامة وبين الانحطاط والذل.

2. الإباء والشموخ:

التصوير: الصقر يبقى دائمًا شامخًا كريمًا، يخالف كل ذي ظفر وناب، مما يعكس الإباء والشموخ الذي لا ينحني أمام المغريات أو التحديات.

التوظيف: هذا الإصرار على الشموخ يعكس فلسفة الإنسان الحر الذي لا يساوم على كرامته ولا يخضع للضغوط.

3. الزهد والترف:

- التصوير: الصقر يعاف موائد الأندال رغم زخمها، في إشارة إلى رفض الترف الممزوج بالذل.

التوظيف: يُستخدم هذا التصوير لتوضيح قيمة الزهد في الحياة، حيث يفضل الصقر الكرامة على الرفاهية غير المشروعة، مما يعكس فلسفة الحياة الكريمة.

4. الفضيلة في مواجهة الرذيلة:

التصوير: الشاعر يجمع بين الصفات المتضادة مثل "الأسد" و"الكلاب"، و"الحلال" و"الحرام"، لتصوير الصراع الأزلي بين الفضيلة والرذيلة.

التوظيف: يستخدم الشاعر هذه المتضادات لتوضيح أن الفضيلة لا تخضع للرذيلة، حتى لو ارتدت الأخيرة ثيابًا زائفة كالحرير.

5. الخزي والعار:

التصوير: رغم أن الذليل قد ينجو من العقاب، إلا أن الخزي يبقى إرثًا للأجيال، مما يعكس أثر العار الذي لا يمحوه الزمن.

التوظيف: هنا يستخدم الشاعر هذا التصوير لتوضيح أن العار لا يمكن إخفاؤه بالمال أو السلطة، وأن العواقب الأخلاقية للأفعال لا تزول.

6. التمسك بالقيم الإنسانية:

التصوير: الصقر، الذي يرفض الذل ويختار الموت بعزة، يمثل الإنسان الذي يتمسك بالقيم الإنسانية العليا.

التوظيف: يبرز الشاعر من خلال هذا التصوير رسالة التمسك بالمبادئ والرفض التام لأي مساومة على الكرامة.

(التوليفات الصوتية وجوهر الدلالات والرموز)

1. الحروف القوية والجهرية:

الحروف مثل "ص"، "ر"، "ق"، و"ض" المستخدمة في كلمات مثل "الصقر"، "سُعارًا"، "فنَى"، "كرِيمًا" تعكس القوة والشموخ.

هذه الحروف تضفي على النص طابعًا حادًا وجادًا، مما يعكس دلالة القوة والشجاعة المرتبطة بالصقر كرمز للعزة والكرامة.

2. التكرار الصوتي:

التكرار في الكلمات ذات الحروف المتشابهة مثل "ذِي ظُفْرٍ" و"نَابِ"، "جَنَبَاتُ" و"حِرَابِ"، يُعزز الإيقاع الموسيقي ويوحد دلالات القوة والمواجهة.

هذا التكرار يعزز من صورة الصراع المستمر بين العزة والخضوع، كما يربط الرموز ببعضها البعض صوتيًا ومعنويًا.

3. التصوير الصوتي (الأونوماتوبيا):

الأصوات المستخدمة لتقليد أو إيحاء المعاني مثل "سُعارًا" و"دَفَّتْ" تساهم في نقل الصورة الحسية والتجربة الشعورية.

استخدام هذه الأصوات يُمكّن الشاعر من خلق تجربة حسية تعكس جوهر المعنى المتعلق بالشدة والرفض، حيث يحاكي الصوت المعنى ويعزز من قوة الرمز.

4.الانسجام الصوتي بين الكلمات:

الانسجام بين الكلمات مثل "ذِي ظُفْرٍ" و"نَابِ"، و"الطَّيِّبَاتِ" و"يُبَالِي" يُعزز من الترابط بين المعاني، ويقوي الرمز.

- هذا الانسجام الصوتي يُمكّن النص من أن يكون أكثر تماسكًا ودلالة على الوحدة بين المعاني المرتبطة بالكرامة والشرف.

5. السجع:

السجع في الكلمات مثل "ذِي ظُفْرٍ وَنَابِ" و"كَالذُّبَابِ" يُضيف بعدًا صوتيًا يرمز إلى التحدي المستمر والمواجهة.

هذا التكرار الصوتي الموسيقي يُبرز دلالة التحدي الذي لا ينتهي، ويجعل الرمز أكثر قوة ووضوحًا.

6. الصوتيات اللينة:

الحروف اللينة مثل "م" و"ن" في كلمات مثل "كرِيمًا"، "يُخالِفُ"، و"ظُفْرٍ" تضيف نغمة هادئة ولكن قوية، تعكس التعقل والرزانة.

هذه الحروف تُضفي عمقًا على الرموز، حيث يُصور الصقر ليس فقط كقوي، بل أيضًا ككائن نبيل وهادئ.

(التجنيس الأدبي للقصيدة)

القصيدة "إباء الصقور" تنتمي إلى الشعر الفخم أو الحماسي، وهو نوع من الشعر يتميز بتناول موضوعات الشجاعة، العزة، الكرامة، والبطولة.

ويمكن تصنيفه أيضًا ضمن الشعر الرمزي، حيث تعتمد القصيدة بشكل كبير على الرموز والاستعارات (مثل الصقر) للتعبير عن المفاهيم المعنوية، مثل العزة والكرامة، بطرق غير مباشرة ولكن قوية.

إضافة إلى ذلك، القصيدة تنتمي إلى

الشعر العمودي التقليدي حيث تعتمد على الوزن والقافية المتناسقين، وهو ما يُعزز من قيمتها البلاغية والإيقاعية، مما يجعلها تندرج بوضوح ضمن إطار الشعر العربي الكلاسيكي..

(بيان تفعيلاتها)

القصيدة مبنية على موسيقا البحر الوافر وتفعيلاته الأساسية

مفاعلتن مفاعلتن فعولن مع جواز الزحاف في مفاعلتن لتصب مفاعيلن

استخدام تفعيلاته الأساسية "مفاعلتن ومفاعيلن" بنمط منتظم في كل بيت. صياغتها مؤنقة ومعبرة تستحق التأمل والتاويل

***

بقلم الناقد: سلام السيد

 

تختلف اللغة الابداعية عن اللغة اليومية المباشرة بالعديد من الصفات والسمات، ففي حين يتمحور همُّ اللغة اليومية المتداولة بين الناس في عملية التوصيل، فإن اللغة الابداعية كما يرى دارسو الادب ونقاده، لا سيما الخبراء في علم الاسلوب، تتمحور في هموم أخرى مختلفة تمام الاختلاف، مع عدم تجاهل عملية التوصيل، ذلك أن الكتّاب والشعراء الجادين لا يتنازلون عن عملية نقاوة التوصيل اللغوي، ويصرّون في الآن ذاته على جماليات اللغة الابداعية، علمًا ان هذه اللغة تختلف الى حد بعيد عن لغة الكتابات النثرية، اقول هذا وانا افكر في اللغة المخادعة التي تحدثت عنها في هاجس سابق، فهناك فرق بين اللغة الابداعية في الشعر والقصة وبينها في لغة المقالة التي يُفترض ان تكون واضحة كونها ترمي الى توصيل معنى او اكثر تم تحديده مسبقًا من قبل كاتبه المرسِل له.

تتصف اللغة الابداعية، كما يظهر من اعمال ادبية راقية ومعروفة، بالعديد من الصفات، ذلك ان حمولتها تختلف عن حمولة اللغة اليومية المباشرة او حتى لغة الكتابة النثرية خاصة في المقالة الصحفية بالعديد من الامور، فيما يلي اشير إلى عدد من مُميزات اللغة الابداعية.

* الانزياح: تنزاح اللغة الادبية لا سيما في مجال الشعر، عن اللغة اليومية المباشرة، ضمن محاولتها رفد ذاتها بحمولة تتوزع على المتطلبات الادبية المتفق عليها بين الدارسين وهي: الفكرة، المشاعر الوجدانية، الخيال والاسلوب. لهذا تنحو هذه اللغة حينًا نحو الغموض وآخر نحو الوضوح، وتحاول في كلتا الحالتين أن تُحقق هدفها المقصود، وهو إثارة مشاعر قارئها بحيث تتماهى هذه المشاعر مع مشاعر صاحبها الشاعر، فتتداخل بذلك فيما بين المرسِل/ الشاعر او الكاتب وفيما بين المرسَل اليه/ القارئ، وقد تحدّث عن عملية التأثر هذه العديد من النقاد والباحثين الادبيين، اذكر منهم اثنين احدهما عربي والآخر أجنبي، أما العربي فهو حازم القرطاجني صاحب الكتاب الرائد في علم الشعر وصناعته واعني به كتاب "منهاج البلغاء وسراج الادباء". لمن يهمه الامر اقول إن طبعة محققة صدرت من هذا الكتاب الهام في نقدنا العربي القديم ضمن منشورات الغرب الاسلامي المُميزة، وان الباحث الدكتور المتخصص في دراسة ادبنا العربي القديم خاصة الشعر محمد محمد أبو موسى وضع كتابا رائعًا حول هذا الكتاب-منهاج البلغاء- قرّب فيه مفاهيمه وما تضمنه من آراء ورؤى متعمقة. حمل هذا الكتاب عنوان" تقريب منهاج البلغاء". اما الاجنبي فهو جون كوين صاحب الكتابين اللافتين عن "اللغة العليا" و"بناء لغة الشعر"، وقد تمت ترجمة هذين الكتابين إلى العربية، وبإمكان من يود التوسع في الموضوع قراءتهما.

* الايحاء: وواضح من هذا ان اللغة الابداعية، تختلف عن اللغة اليومية المتداولة، في كونها لغة ايحائية تعتمد التلميح والاشارة من بعيد او قريب، وسيلةً لتوصيل ما تود توصيله، وهنا تؤدي براعة الانسان/ الكاتب المبدع، دورًا رئيسيًا في تشكيل هذه اللغة، فهو يتحدث إلى قارئه بلغة تكتسب كل صفات اللغة، غير انها تختلف عنها جوهريًا، ففي حين أن اللغة المتداولة يوميًا، وحتى لغة المقالة الصحفية إلى حد بعيد، ترمي إلى توصيل معنى واحد محدد مسبقًا من قبل الكاتب، فان اللغة الايحائية ترمي إلى اكثر من معنى، يبرز من بين هذه المعاني، نقل الحالة التي يود الشاعر أو الكاتب السردي توصيلها إلى قارئه، لهذا فان بإمكاننا أن نقول إن ما وراء الكلمات أهم بكثير من الكلمات ذاتها في اللغة الايحائية، وينطبق على هذه اللغة ما اعتدنا على قوله في مثلنا السائر وهو " الحكي الك واسمعي يا جارة". من هكذا منطلق أعتقد أنه يتوجب علينا التعامل مع اللغة الابداعية ضمن اعتبار مختلف عن ذاك الذي نتعامل به مع اللغة اليومية المتداولة. من مواصفات هذه اللغة- الايحائية- انها تتحدث من داخل اللغة وليس من خارجها فهي لا تذكر ما تود ذكره بطرائق مباشرة، بقدر ما تذكره ضمن سياقاته الشعرية والقصصية ايضًا. ومن مواصفات هذه اللغة أيضًا تُجسّد الحالة التي يعيشها الراوي الشعري او القصصي وتروي ما ترمي إلى روايته من وجهة نظر هذا الراوي.. كما يتخيلها الكاتب مرهف الاحساس واسع التجربة وشديد الملاحظة. للتوسع في هذا الموضوع اقترح على من يريد أن يقرأ كتاب " عناصر القصة"، لمؤلفه روبرت شولز ترجمة محمد منقذ الهاشمي.

* الغائية: وتتمثل هذه في أن اللغة الابداعية تتحوّل في العمل الادبي الابداعي، من كونها اداة توصيل وحسب، الى لغة تتغيّا ذاتها، بمعنى أنها تضحي هدفًا جماليًا قائمًا بحد ذاته له استقلاليته وبُعده القائم بذاته، لكنه يستهدف اول ما يستهدف عملية التأثير عبر استعمال صاحبه الكاتب، قاصًا او شاعرًا، للجماليات اللغوية، وهو يفعل هذا كله، معتمدًا على التأثير اللغوي في قارئه. لهذا نلاحظ أن المبدعين الجُدد لا سيما في مجال كتابة القصة والرواية، يبتعدون عن الجماليات القديمة المتعارف عليها كلاسيكيًا وقديمًا، ويلجؤون إلى استعمال اللغة النابعة من أعماق الحالة الادبية المقصود توصيلها من مُرسِل إلى مُرسَل إليه. على هذا يمكننا أن نشير إلى أن المبدع الجديد والمُجدد يسمح لنفسه التلاعب في اللغة تقديمًا وتأخيرًا، وهو ما سبق وحدث في نماذج عديدة من شعرنا العربي ايضًا، ولعلّنا نشير هنا إلى مثال بارز مارسه الكثيرون من كُتّاب القصة المحدثين في مقدمتهم الكاتب العربي المصري اللامع يوسف ادريس، عندما قدموا مثلًا الفعل على الفاعل، على العكس مما تقول به الاسس اللغوية المتعارف او المتفق عليها.

صفوة الرأي، أن اللغة الابداعية تختلف عن اللغة المتداولة يوميًا بين الناس، وأنها تتصف بالعديد من المواصفات والصفات المختلفة، أهمها الانزياح، الايحاء والغائية. وعليه بإمكاننا القول إن الاختلاف بين هاتين اللغتين إنما يؤدي أمرين هامين جدًا احدهما في صميم اللغة الابداعية وهو تأثير المرسل/ الكاتب في المرسل إليه/ القارئ، والآخر أن اللغة الابداعية عادة ما تُجدد شباب اللغة كما قال الشاعر الفرنسي الهامّ جدًا بول فالري.

***

هاجس: ناجي ظاهر

بقلم: إميلي زاريفيتش

ترجمة : د. محمد عبد الحليم غنيم

***

لماذا يُعتبر أن يُؤكل المرء على يد تمساح يُدعى "كارل الصغير" هو في الواقع درس في مخاطر رأس المال الأجنبي.

يمتلك معظم الكتاب على الأقل تجربة واحدة غريبة وملغزة في محفظتهم الأدبية. إذا استعرضت تاريخ الأدب الروسي، ستجد "التمساح" (الاسم الروسي: "كروكوديل") لفيودور دوستويفسكي. نُشرت القصة في عام 1865 في مجلة "إيبوك"، وهي بعيدة عن روايات دوستويفسكي المميزة التي تتناول الجرائم وطغيان الدولة، وتُعتبر بلا شك أغرب قصة قصيرة له.

شخصية "التمساح" الرئيسية هي نقيض كابتن هوك من "بيتر بان"، إذ أن احتمال أن يُلتهم من قبل تمساح لا يقلب حياته رأساً على عقب، بل يُحسنها. إيفان ماتفيتش هو موظف مدني وإنسان عادي. تتغير حياته بشكل جذري في أحد الأيام عندما يزور مع زوجته، إيلينا إيفانوفنا، وصديقه، سيميون سيميونيتش، الذي يكون راوي القصة، متجر "باساج" في سانت بطرسبرغ. هناك تمساح حي، أحضره ألماني إلى روسيا، معروض في المتجر. إيفان، في محاولة لإظهار شجاعته، يستهزئ بالوحش إلى درجة أنه يواجه العواقب: يُبتلع حياً.

داخل بطن الوحش (الذي يُطلق عليه مالكوه اسم "كارل الصغير")، يجد إيفان بالفعل محيطه مريحاً وملائماً، ويقرر أن يستقر فيه. ترغب إيلينا إيفانوفنا، الغاضبة والمذعورة، في إخراجه بالقوة، لكن مالك التمساح يرفض إيذاء المخلوق. ولا يهتم إيفان ماتفيتش بالعودة إلى المجتمع كأحد أفراده العاديين بدخل ضئيل. كونه مقيمًا داخل التمساح، يمتلك هوية جديدة فريدة وفرصة لجني ثروة.

إن اختفاء شخصية ما في أحشاء حيوان ليس من الموضوعات غير المعتادة في الأدب الكلاسيكي. فقد كان لابد من إخراج شخصية ذات الرداء الأحمر من جسد الذئب الشرير الكبير. وكان لابد أن يهرب بينوكيو وخالقه جيبيتو من داخل وحش بحري بطريقة ما بعد أن ابتلعهما المحيط. ولكن ما يجعل قصة دوستويفسكي غريبة للغاية هو عدم وجود أي إلحاح في الهروب من هذا المصير المروع كجزء من رحلة البطل. والواقع أن الشخصية تحب هذا الوضع وتريد البقاء. ولكن لماذا؟

تعتبر هذه القصة الساخرة، بحسب النقاد، أنها تعبر عن السخرية. ليس إيفان ماتفيتش والتمساح مجرد شخص وملاذه، بل هما يهدفان إلى نقد العلاقات المحلية والدولية من جميع الجوانب.

"يجب على إيفان ماتفيتش، باعتباره الابن الحقيقي للوطن، أن يفرح ويفخر بأنه هو نفسه ضاعف قيمة تمساح أجنبي، وربما ضاعفها ثلاث مرات."

تقدم القصة "هجاءً حاداً لمعاصري المؤلف واستعارة للعلاقة الغامضة بين روسيا وأوروبا"، كما يكتب الروائي تشارلز هولديفير. ويثير التمساح الألماني من أصول أفريقية (على الأرجح) الذي يلتهم رجلاً روسياً في سانت بطرسبرغ نقاشاً ليس حول الحياة والموت، بل حول توغلات رأس المال الأجنبي في روسيا، وتهديد "التقدم"، والمبادئ الاقتصادية.

يوافق R. A. Peace، مؤلف كتاب "المراجعة السلافية وأوروبا الشرقية"، على أن إيفان ماتفيتش والتمساح يمثلان نوعًا من الاتحاد المشوه. كتب دوستويفسكي في الوقت الذي كانت فيه روسيا.

تسعى روسيا في ذلك الوقت لتحقيق "علاقات اقتصادية جديدة"... وهي عبارة مشحونة تتكرر طوال القصة، مثل "البرينتسيب الاقتصادي" [القاعدة الاقتصادية]. الراوي نفسه هو مدافع عن "البرينتسيب الاقتصادي"، وكان هذا موضوعًا مهمًا في الصحافة في ذلك الوقت، كما يتضح عندما يحاول [الراوي، سيميون سيميونيتش] توضيح الأمر لزوجة إيفان ماتفيتش المذعورة.

يوضح سيميون سيميونيتش أن هناك فوائد غير متوقعة لجذب رأس المال الأجنبي إلى وطننا، "كما قرأت عن ذلك في صباح ذلك اليوم في صحيفة بيترسبورجسكي إزفستيا وفي فولوس." (دستويفسكي قد قام بتغيير أسماء الصحف الحقيقية بشكل خفيف، وهي سانكت-بطرسبرغسكي فييدوموستي [أخبار سانت بطرسبرج] و جولوس [الصوت].)

تتفوق قيمة المبادئ الاقتصادية التي تحكم استهلاك الحيوانات الخارجية على الأضرار المحتملة التي قد تسببها أجهزة هضم تلك الحيوانات.

يكتب بيس: "على الرغم من أن موظفًا روسيًا جيدًا قد ابتلعه تمساح أجنبي، يبدو أن هناك فائدة متبادلة، حتى من وجهة نظر الشخص الذي ابتلعه التمساح، حيث يدعي إيفان ماتفيتش أن 'تغذية التمساح بنفسي، أستلم بالمقابل الغذاء منه؛ ومن ثم فإننا نغذي بعضنا البعض بشكل متبادل.'"

وعندما يبلغ سيميوني سيميونيش الحدث إلى السلطات، يطمئنه المسؤول "التابع" تيموفي سيميونيش بأن كل شيء على ما يرام. يوضح تيموفي سيميونيش أن روسيا تحتاج إلى "إنشاء صناعة"،

"إننا لابد وأن نخلق رأس المال؛ وهذا يعني أننا لابد وأن نخلق طبقة متوسطة، أو ما يسمى بالبرجوازية، وبما أننا لا نملك رأس مال، فلابد وأن نجتذبها من الخارج. [...] إن إيفان ماتفيتش، باعتباره ابناً حقيقياً للوطن، لابد وأن يفرح ويفخر بأنه هو نفسه قد ضاعف قيمة تمساح أجنبي، وربما ضاعفها ثلاث مرات. وهذا ضروري لجذب [الآخرين]. فإذا نجح أحدهم، فسوف يأتي آخر ومعه تمساح، وسوف يأتي ثالث بتمساحين ثم ثلاثة في المرة الواحدة، وسوف يتشكل رأس المال حولهم. وعندئذ سوف تنشأ البرجوازية. ولابد وأن نشجع هذا".

يكتب بيس أن من الواضح أن التمساح هو "رمز للطبيعة الجشعة للأعمال الأجنبية على الأراضي الروسية". كانت الخصخصة في الهواء، واعتقد دوستويفسكي أنها تشكل خطراً. من ناحية أخرى، كان إيفان ماتفيتش راضياً بالبقاء داخل بطن الوحش، سعيداً بأن يكون "مثالاً على العظمة والاستسلام للقدر!"

ربما لا تشترك الشخصيات في معظم القصص الخيالية في نفس المشاعر. ولكن من ناحية أخرى، لم يكتب دوستويفسكي هذه القصص.

(تمت)

***

.......................

الكاتبة: إميلي زاريفيتش/ Emily Zarevich: إميلي آر زاريفيتش هي معلمة لغة إنجليزية وكاتبة من مدينة بيرلينجتون، أونتاريو، كندا. نُشرت أعمالها في العديد من المجلات والمواقع الإلكترونية، كما تُعرض أعمالها بانتظام في مجلات Inspire the Mind وThe Archive وEarly Bird Books وHistory Magazine وSmithsonian Magazine وThe Queen’s Quarterly وغيرها.

 

حينما تطالعنا بعض الآراء حول الأعمال الأدبية، خاصة تلك الصادرة بالبلدان التي تفتقد إلى المؤسسات الديمقراطية، وهي تبتغي أن يكون الأدب بكل أجناسه، معبرا عن هموم الشعوب، لدرجة انه قد يصبح عبارة عن بيانات تنديدية او مخطوطات لمشاريع سياسية واجتماعية، تموسقها القافية اذا كانت منظومة الخ...، فهذا يدل أن هناك غياب مهول للمؤسسات السياسية وعلى رأسها الأحزاب، وهو غياب الفعل وليس غياب الجمهرة. لأنها هي التي من المفروض أن تؤدي هذا الدور. وفي ظل هذا الغياب، ونتيجة لهذه الآراء التي تكون في الغالب تحت ضغط إديولوجي، او فقط رغبة في لمس صوت يعبر بصدق، يصبح الأدب مؤسسة سياسية بامتياز. وهكذا قد يغيب مفهوم "الأدبية" littérarité، حيث من المفروض أن توحي النصوص الأدبية بالموضوع بفنية ممتعة ، ولا تسميه حتى لا تسقط في المباشر والتقريرية. فالأدبية تتجلى في هذا الإيحاء.

لكن حينما يحتفظ الأدب بأدبيته وهو يعبر عن هموم الشعوب، قد يتعرض للانتقاد بدعوى أنه غامض ولا يفي بالغرض. وهكذا تطرح إشكالية التواصل الأدبي. بمعنى هل يجب على الأدب أن يحافظ على التواصل العادي كما يحافظ عليه أي خطاب يهدف إلى توصيل الفكرة؟ بطبيعة الحال إذا اخذ هذا المنحى، سوف يسقط في المباشر كما سبق الذكر. إذن كيف يمكن تحقيق هذا التواصل الأدبي؟ هل يتحقق بالرضوخ إلى رغبة هؤلاء المنتقدين على حساب عنصر الأدبية؟ أم التمسك بجوهر الأدبية دون أي اعتبار لهذه الآراء ؟

قد يقول قائل بأن "الأدبية" ليست مفهوما جامدا. بل لنا "أدبيات". فكما هو الشأن بالنسبة للموسيقى حيث هناك موسيقى شعبية وأخرى بدوية وأخرى عصرية الخ.. فلِمَ لا نتحدث عن أدبية شعبية وأخرى بدوية الخ... فالإنسان بطبعه يحب ما يمتعه، لكن ما يمتع مجموعة ما قد لا يمتع مجموعات أخرى... لهذا أيضا نجد في الفنون التشكيلية من يميل إلى الفن التشخيصي وآخر يجد ضالته في الفن التجريدي...

الأذواق إذن تختلف، ومن خلالها يتم الحديث عن عنصر الأدبية.

إلا أن الحديث هنا، رغم هذا التعدد في الأذواق، لا يخرج عن الإبداع الأدبي، أي الكتابة الموسومة بنوع من الخيال، وليست الكتابة التقريرية المباشرة...

***

محمد العرجوني

 

فلك حصرية: صُحفيّة الجذر العملي والمعرفي، وكاتبة مقال أدبي، امتلكت ناصية الأدب من خلال عملها في اتحاد الكتاب العرب كرئيسة تحرير لمجلة أدبيّة هي "الأسبوع الأدبي"، أكسبها العمل بها خبرة ومعرفة بالأدب وقضاياه الحلوة والمرة معاً، لتنتقل فيما بعد إلى كتابة الرواية.

في مضموم الرواية:

في روايتها (بطعم التوت البري)، تضعنا الروائيّة "فلك حصرية" أمام أحداث واقعيّة في مضمونها، وربما في بعض شخصياتها من خلال الوثائق المرفقة، مع تأكيدنا بأن بقية الشخصيات المتخيّلة في الرواية لا تخرج في الحقيقة عن الواقع الذي جرت فيه الأحداث، على اعتبار أن مجريات الأحداث التي قامت "الروائيّة" بسردها، هي أحداث واقعيّة لا مست كل أفراد المجتمع السوري كبارهم وصغارهم.. نسائهم ورجالهم، ولم تترك أحداً خارج دائرتها غير تجار الوطن والفاسدين الذين وجدوا في مجريات أحداث قهر الشعب السوري وظلمه وجوعه وجريان دمه المجاني وهجرته وتشرده، بيئة لتحقيق مصالحهم الشخصيّة على كافة المستويات.

تنطلق أحداث الرواية ومعظم شخصياتها من دمشق العاصمة، ودمشق هنا في جوهر ما جرى فيها من أحداث إرهابيّة، ابتدأت عام (2011وامتدت إلى اليوم 2024)، تمثل في الحقيقة الأراضي السورية كلها مجازاً، فلا فرق في هذه المعاناة بين أهالي دمشق وأيّة بقعة من سورية، فالكل تحولت حياتهم إلى جحيم وقهر وجوع ومعاناة في تدبير شؤون حياتهم اليوميّة ولقمة عيشهم، والأهم سيلان الدم المجاني، وفقدان للأمان وعدم الاستقرار.

تُقسم الروائيّة رواياتها من حيث المضمون إلى محطات، ولكل محطة شخصيتها أو شخصياتها الذين تجمعهم مأساة واحدة هي تكالب كل قوى الشر في الداخل والخارج عليهم، وقد حولوا حياتهم إلى جحيم حقيقي، فقدوا فيه الأمن والاستقرار، ففي أي مكان يوجدون فيه تلاحقهم قذائف الموت الهمجية التي لا تفرق بين صغير وكبير وبريء وشرير، فالكل بنظر من يُلقي القذائف مدان سياسيّاً أو دينيّاً أو أخلاقيّاَ.

مع أول محطة في الرواية، تؤكد الروائيّة توحدها هي مع دمشق بقولها متسائلة:

من أنت؟.

من أنا؟؟.146 falak hasrya

ومع هذا التوحد الصوفي للروائيّة، يأتي حبها بل عشقها لدمشق بكل الحالات التي تعيشها مدينة الياسمين من موت وحياة .. حقيقة أم سراباً.. جسداً أم روحاً.. ضحكاً كانت أم دمعاً.. لتعبر عن هذا العشق اللامتناهي لها بقولها: (توت سياح كنت أم وهم ظل لكأس مهشمة، فأنا السجين بأهدابك القتيل بفتنة تفاصيلك، فضميني.. ضميني.. ضميني واسكبي التاريخ مداماً في الروح، لعل طعم توتك ينسحب من حلقي فاستيقظ من هيستريا الضياع ...) ص5-6. ثم تعود الروائيّة لتعبر عن كل ذاك التآمر الذي تعرضت له دمشق من قبل الأشقاء العرب مستشهدة بقصيدة للشاعر الدمشقي "نزار قباني" وهي بعنوان "سامحونا" التي يصف فيها حالة العرب وما وصلوا إليه من تردي وتشرد، والتي مطلعها: (إن تجمعنا كأغنام على ظهر سفينة... وتشردنا على كل المحيطات سنيناً وسنينا... لم نجد ما بين تجار العرب تاجراً يقبل أن يعلفنا أو يشترينا... سامحونا سامحونا إن رفضنا كل شيء واقتلعنا كل شيء ورمينا لكم أسماءنا ... فالبوادي رفضتنا .. والموانئ رفضتنا والمطارات التي تستقبل الطير صباحاً ومساءً ... رفضتنا... - ليقول أخيراً- سامحونا إن كفرنا.). ص7.

هنا مع كفرنا في عصر ليس له تسمية، تبدأ أحداث رواية الأديبة "فلك حصريًّة" (بطعم التوت البري) بكل حموضته.

في محطتها الثانية غير المعنونة إلا بعبارة للأديبة والروائيّة الكبيرة " غادة السمان" الدمشقيّة المنبت والهوى التي عاشت الغربة تقول: (أي هرب ما دامت الأشياء تسكننا، وما دمنا حين نرحل هرباً منها، نجد أنفسنا وحيدين معها وجهاً لوجه.). ص8

لقد اشتغلت الروائيّة هنا على شخصيّة تعشق الشام، ولكن ظروف القهر التي ألمت بها منذ عام (2011)، جعلتها تعيش حالة من الصراع النفسي العميق والتردد بين البقاء في الشام لعشقها لها، دمشق التي تعبأت برائحة وعطر الياسمين الذي تعربش على أصابعها، وعجزت كل رياح الغدر على اقتلاعها من جذور الأرض، رغم أن روحها تركتها الأحداث (المصيبة) مشلوحة على أسطحة مساءتها تغازل لآلئ مآذن الأموي، وبين مغارتها للخلاص من هول فجيعتها التي تعيشها.

قامت الروائيّة بوصف دمشق وتاريخها العريق المشبع بالفرح والامجاد، وجمال طبيعتها في غوطتها وعذوبة مياهها وسر خلود نهر بردى فيها... دمشق التي كانت قبلة الدينا ومجد التاريخ": (دمشق هل الخلد الذي وعدوا به... إلاك بين شوادن وشوادي ... قالوا تحب الشام ؟، قلت جوانحي مقصوصة فيها، وقلت فوادي) ص11. وهي التي قال في أحد مناطقها الجميلة وهي "دمر" الشاعر الكبير" بشارة الخوري" في قصيدته: "خيال من دمر":

(أيها الدوح، دوح دمر إني لست أنسى تلك الليالي اليتامى.

سألتني وكفها فوق قلبي عمرك الله هل تحب الشآم؟.

قلت حباً زق الحمامة للفرخ فلم لا تكون ذاك الحماما..).ص.11.

(دمشق حملتها أشواق عشاق محفوفين ببريق الغموض والمجهول والأسرار فيما ينفث الصوت سحرا يلف اليقظة ويدوخ العقل، ويسكر الرأس ويخطف الكروان الفيروزي سنابل الوجدان والملل:

شآم أرض الشهامات التي اصطبغت

بعندي تمته الشمس منسكب) ص12.

صراع مرير يتداخل في نفسيّة هذه الشخصيّة العاشقة  لدمشق، لتقرر أخيرا الهجرة بعد أن سدّت أمامها كل أبواب الأمان والاستقرار، وأصبح الموت يلاحق الجميع بقذائف حملت التخلف والكراهية والحقد على الحياة. ولكن الهجرة أو الهزيمة الروحيّة والجسديّة ليست في المحصلة أفضل من البقاء. فها هي الطرق المؤدية إلي الهجرة تحيط بها المخاطر من كل حدب وصوب، ويأتي في مقدمتها مراكب أو سفن الهروب التي أكل الدهر عليها وشرب، وهي تدار لنقل المهاجرين عبر البحر بأيادي تجار لا يهمهم إلا جمع المال من الذين قسى عليهم الدهر كل قساوة حتى اضطروا إلى الاستجارة من الرمضاء بالنار.

هذا هو حال قوارب الهروب إلى المجهول كما تصفها الروائية : (قوارب متداعية كأنها منبعثة من مقبرة الخردة.. أركانها محطمة حتى حركة إصلاحها وبعث الحياة والحركة في أحشائها وأصالها المرتدة إلى زمن ماضٍ باتت معها عملية الإيقاظ  وبعت الحياة والرشاقة فيها مستحيلة، فهي تمثل في أوصالها ومنظرها ما يؤكد شيخوختها، وبالتالي خروجها من الخدمة منذ أمد طويل. أما مآل هذه السفن المتهالكة التي أودى بعضها بحياة مئات السورين في عرض البحر طعما لأسماك القرش، فهو شبيه بنهاية الباخرة  (تايتنك) عام  (1912)، التي راح نتيجة تحطمها موت (1500) راكبا. ص23.

أما في محطة الرواية الثالثة، (على ضفاف الحزن يذبح الأمل)... قصة حب أشبه بالحب العذري بين "فهر وليلى". فهر طالب الطب في جامعة تشرين، وليلى طالبة الأدب العربي في الجامعة ذاتها، أحبا بعضهما رغم اختلاف الاختصاص لكل منهما، إلا أن ما يجمعهما أقرب بكثير... فالأمزجة وطريقة التفكير وأسلوبيّة التقويم للأشياء والأحوال والظواهر، كانت كلها تعمل على ربط الخيوط الخفيّة لتخلق الوصل بين روحين لم يمانع الأهل من التحامهما، فكانت الموافقة على الخطوبة كاستعداد لتحقيق الزواج.

لم تكد الفرحة تتبرعم في القلوب وتفتح باب السعادة في تحقيق الحلم ، حتى كان بدء الزحف الهمجي لقوى التخلف الذين عمت بصرهم وبصيرتهم أيديولوجيا التكفير من جهة، ومصالح القوى الخارجيّة ودولارتها من جهة ثانية، هذا الزحف الفاتك المتوحش على سورية، وكأن قيامة القتل قد قامت لتحصد الأرواح والحجر والشجر وكل ما يمت إلى حياة السوريين بصلة... كان اختراق صاروخ "غراد" لإحدى القوى الهمجيّة المتوحشة على حي آمن لم يسلم من نتائجه الكارثية الكثير من سكان الحي الشعبي الذي يسكنه "فهر" أيضا، الأمر الذي جعل "فهر" وأهله يفكرون بترك المدينة كلها والهجرة إلى دمشق التي لم تكن هي الأخرى بمنأى عما تعيشه المدن السوريّة كافة من انفجارات وألغام تقطف الأرواح دون رحمة وسابق إنذار. وهذا ما جعله وأهله يفكرون بالرحيل إلى أوربا، فاختار "فهر" فرنسا بعد أن أقنع حبيبته أن تلتحق مع أهله في السفر إلى "أزمير" ومنها يلتحقون جميعاً به. غير أن "ليلى" كانت أكثر رغبة في تسريع الالتحاق بخطيبها، وبعد جهد وجدت المهرب والأوراق التي تسمح لها بالسفر.. هي زوارق الموت المتعبة المتهالكة نفسها من سينقلها وينقل بشر من لحم ودم، أطفال ونساء وشباب وصبايا وأمهات ورجال إلى شواطئ أوربا، ولكن في هذه الرحلة لم تستطع قوارب الموت أن تقاوم هيجان عواصف البحر وعنفوانه، فكانت الكارثة الكبرى لكل من كان في القارب، بعد أن فككت العواصف حديده وخشبه، وتركت لسمك القرش أجساداً بدون أكفان، أو أسماء أو طقوس وداع.

المحطة الرابعة من الرواية: (كثير من الموسيقى – وقليل من الخبز). حكاية شباب امتلكتهم موسيقى الروك، أبطالها " ربيع صبري و أنس المغربي)... "ربيع صبري" الذي كان يحلم بتشكل فرقة موسيقيّة في الجامعة اتفق مع صديقه " أنس المغربي" أن يسمياها "خبز دولة" هذا الخبز الذي سأل " أنس " صديقه "ربيع" : ماذا تقصد بـ "خبز دولة"؟.

(- قصدك الخبز تبع الأفران الحكوميّة يلي متوفر دائما ولكل طبقات المجتمع وبسعر رخيص.

- ويمثل الأمان والاستقرار والعيش الكريم بـ / دولة كريمة ومستقرة وذات سيادة ... فالخبز أكثر من غذاء.

قوم نعزف شي شغلة.

قوم نلغي فرق العملة.

قوم نجمع كل ها/لخبز.

قوم نعمل دولة.) ص57.

لم يكن الخبز وحده ومآسيه من يقهر "ربيع وأنس"، بل تلك القذيفة التي فتت جسد ربيع إلى شقف صغيرة غيبت كل معالمها، للتترك " أنس" وحيدا كاد أن يفقد كل شيء بفقدان صديق العمر. فقرر أخيراً أن يهاجر إلى لبنان ويترك بيته وأهله وحيه وأحبابه ودمشق التي أحبها وأحبته، وهو يقول في قرارة نفسه: (لم يكن هناك أي وظيفة لأشخاص مثلي، وأنا لست الشخص الذي يستطيع حمل السلاح.). ص59... فكانت بيروت أولى المحطات التي استقبلت "أنس" العازف وقائد فرقة موسيقى الروك السورية " خبز دولة"، لينجح في إقامة عدّة حفلات خلال عامين من وصوله، إلا أن فرص العمل شحت في لبنان، الأمر الذي أوقعه وأعضاء فرقته بضائقة ذات اليد... فقد الأمل من أن تكون لبنان خشبة خلاصه فقرر الرحيل بعد أن باع معظم أدوات الفرقة الموسيقية، وعلى جناح السرعة كان في تركيا حيث سبقه إليها أعضاء فرقته ( محمد باز - حكمت قسار – بشار درويش.)، ومنها سافروا عبر المتوسط إلى أوربا...المحطة الأولى كانت "كرواتيا"، التي أقاموا فبها أول حفلاتهم الموسيقيّة في مخيم اللاجئين. وبعد انتشار أخبار حفلهم الناجح هذا، أقاموا حفلهم الثاني في أكبر المسارح في زغرب، وبعدها انفتحت أبواب المستقبل أمام الفرقة، ومع الزمن بدأت الفرقة تتلقى الكثير من الدعوات والعروض في ألمانيا وغيرها من مدن أوربا. وفي كل يوم تضيف الفرقة لرصيدها رقماً بعد رقم وأغنية بعد أخرى، وراحوا يدخلون إلى الأغاني كلمات عربيّة في حفلاتهم، ونجحت في جذب كل الفئات العمريّة.. هكذا مضت رحلة اغتراب أعضاء الفرقة التي عانت كل أنواع القهر في رحلة المتوسط ، ليأتي ابداعهم الموسيقي كي يعتقهم من كل تلك العذابات، ويدفعهم إلى عوالم حفلات ومهرجانات في جميع أنحاء أوربا. ولسان حالهم يقول: (ها نحن نقدم صورة حضاريّة عن بلد ظلم من قبل ومن بعد، وشعب تاه أفراده في الشتات، ومات تحت الأنقاض، ودفن في البحر بلا شواهد وأسماء، وربما بات وجبة طعام لأسماك القرش أو تماسيح متوحشة لا تعرف الاكتفاء ولا يصل إليها الإحساس .. مثلما قتل وذبح متخلفين يحللون القتل تحت شعار " الله أكبر وتكبير"... ويحللون الاغتصاب تحت شريعة "نكاح الجهاد".. ويقطعون الرؤوس بتأويل آيات واعتماد أحاديث وفتاوى أوجدها من يكره الاختلاف، وهم بذلك يعارضون دين المحبة والرحمة... يقول أنس: لسنا مجرمين .. نحن أناس عاديون.).ص 75- 76.

المحطة الخامسة في الرواية: (في القلب غصة)

أسرة دمشقيّة حاصرها القهر والجوع والقتل المجاني، فقررت ترك دمشق والذهاب إلى لبنان الشقيق، ولكن ظلم ذوي القربى كان أشد مرارةً على "أبي السعد وزوجته لجين وابنتاه حلا وربا وطفله الصغير ذو الخمس سنوات سعد". .. لبنان التي مرت بحرب تموز استقبل أهلها المهجرين السوريون بكل رحابة صدر وفتحوا للمهجرين منهم حتى بيوتهم، ها هم اليوم في أزمة سوريّة الدامية يحاصرون ويذلون السورين الذين لجأوا إلى لبنان هرباً من الموت  ويذيقوهم الذل والهوان...

(ما يتعرض له السوريون حرام ... حرام والله.

جريمة يا بشر ... يا عرب.. يا أبناء جلدتنا.).ص80.

ظلم ذوي القرى جعل أبا سعد يفكر في الهرب إلى الغرب، فكانت وجهته بعد أن اتفق مع المهربين هي مصر – الاسكندرية، ليدخل في رحلة عذاب مع جشع المهربين الذين أمنوا لهم إقامة رديئة في مواصفاتها حتى يأتي وقت تهريبهم ‘ إلى ايطاليا... القوارب التي ستنقلهم هي ذاتها قوارب الموت بما حازت عليه من مواصفات رديئة في بنائها أو هيكلها المتأكل.

تمت انطلاقة الرحلة بكل معاناتها التي ولدتها عواصف البحر وأمواجه العاتية المتلاطمة، إضافة لتعطل القارب وتركهم في عرض البحر ينهشهم الجوع والخوف والمرض، إلى أن أنقذتهم طوافة حرس الحدود البحريّة الايطاليّة، التي اقتادتهم إلى " سركوزة"، وهناك بدأت رحلة العذاب والإهانة للمهاجرين في الكامب، هذا الكامب الذي تحول إلى معتقل مورست فيه كل أساليب القهر والإذلال، فحتى الكلاب البوليسيّة سمح لها بممارسة دورها في نهش أجساد المهاجرين. .. بضعة أيام وهم على هذه الحال حتى سمح لهم بالخروج من الكامب والتوجه إلى الدولة الأوربيّة التي يرغب كل منها الذهاب ‘ليها بعد أن قدموا كل المعلومات المتعلقة بشخصياتهن للبوليس الايطالي.

كانت وجهة أبا سعد وأسرته "السويد"، حيث أقلتهم حافة مع عشرين مهاجر آخر كانت لهم وجهات أخرى غير السويد. أخيرا أبدت السويد  ترحيبها بأبي "سعد" وعائلته وفتحت لهم مدينة "مالمو" ذراعيها وقلبها لتطوي صفحات رحلة مضنية ستمسي في عداد الزمن مع الذكريات التي لا تخلوا من المرارة والحلاوة والحقيقة والخيال. (كانت رحلة حلم.. تجردت من كل ما علق فيها من كوابيس وعذابات ... رحلة ألق... بكل ما كان يحف بها ويلاحقها من ألم ودموع وجوع وخوف وحرمان وتشرد.. مسيرة موت لروح فارقت دمشق ولم تفارقها ..). ص151.

المحطة السادسة: (عصافير... تنقر الذاكرة ...).

لم يكن رمي القذائف يرحم أحدا.. فالكل مدان أمامها ويجب أن يموت بنظر ممارسي الإرهاب ومدعي الثورة باسم الإنسان وحقوق الإنسان الضائعة في سورية.. قذائف أخرى طالت ألسنة لهبها وقوة تفجيرها مقصف جامعة البرامكة، في تلك الاستراحة باتت القبور مشرعة والأجساد متطايرة، وفناجين القهوة تطايرت مع أيدي شاربيها ليمتزج الدم مع البن. كان لماجد الحظ الأوفر من بين العديد من زملائه الطلبة الذين تواجدوا في استراحة التداول في شؤون المعرفة والعلم والمستقبل، لقد أصيبت إحدى قدميه بشظيّة، بينما فارق الحياة زميله "علي" الذي كان يشاركه الطاولة بعد أن حطمت إحدى شظايا القذائف رأسه. وكذلك كان مصير صديقه "مازن" توأم الروح.

ماجد ممدد على سرير في "مشفى المجتهد" ما بين الموت والحياة في العناية المشدّدة...

- (حمداً لله على سلامتك.

- الحمد لله وما شاء قدر وفعل.

- اللهم لا نسألك رد القضاء ولكن نسألك اللطف به.

لو طلعتم على الغيب لرضيتم بالواقع). ص159،

بهذه العقليّة الايمانيّة الجبريّة، رضي واستكان والد ماجد وعائلته، وهم الذين لم يرحمهم الارهاب أيضاً... صاروخ من صواريخ الغدر يتوجه إلي بيتهم الجميل في دمر فيحيله إلى ركام، ليقرر بعد ذلك أبا ماجد الهجرة دون تردد... باع محله وسيارته واستقرض مبلغاً من شقيقه... كانت وجهة العائلة تركيا. ومن هناك قرر "أبو ماجد" أن يهاجر ولديه "ماجد ومحمود" إلى أوربا لتكملة دراساتهما هناك. قسم بينهما مبلغا من المال يكفيهما في رحلة الهروب التي لا تُعرف مخاطرها ونتائجها.... غادر الأخوان إلى الجزائر بالطائرة، ومن هناك التقيا بالمهربين بعد جهد كبير، لنقلهما مع عدد آخر من راغبي الهجرة إلى مدينة "زوارة" في ليبيا... ومنها ابتدأت رحلة الموت والعذاب والذل والخوف وجشع المهربين وعواصف البحر ورعبه، بقارب مطاطي احتشد في جوفه المهاجرون كعلب السردين.. حالفهم الحظ في الوصول إلى شواطئ ايطاليا، وفي مركز الإيواء التقى "ماجد ومحمود" بأصدقاء لهم نالهم شقاء دمشق مثلهما.. يتابع الجميع رحلة الهجرة منهم إلى ألمانيا، ومنهم إلى اليونان وإلى إيطاليا... وقبل انطلاقة الحافلة يصيح أحد الشباب مخاطبا صديقه بلال:

(- انظر يا بلال... نجمة براقة رائعة.. ما أروعها... إنها تقترب... أجل تقترب نحونا...فضحك بلال وتأمله باستغراب:

- أية نجمة تلك يا سهيل ؟. إنها تكبر) ص177.

أما ما تبقى من محطات في الرواية فهي لا تخرج عن السياق العام لمعاناة المهاجرين التي جئنا عليها في المحطات الأولى بشكل خاص ولكل الموطنين بشكل عام، فهذه المحطة السابعة التي تبين لنا حالة الشاب "عاصم" خريج كلية الاقتصاد من جامعة دمشق، الذي لم يستطع الحصول على وظيفة فيها فأمن له والده عملاً بعقد مدته عشرة سنوات في الإمارات.. وعند انتهاء العقد فُرض عليه أن يغادر دبي بعد أن عجز في تأمين عمل بديل له هناك. فالعودة إلى سورية لم تعد ممكنة فهناك قذائف الموت وهناك المعاناة في تأمين متطلبات الحياة الضروريّة... وهناك الخدمة العسكريّة التي لا يعرف سنين بقائه فيها.. فقرر الهجرة إلى تركيا ومنها إلى أوربا في رحلة العذاب ذاتها،

في المحطة الثامنة هي قصص مهاجرين فقدوا الأمل في كل شيء فقرروا  الرحيل بحثاً عن الأمل في بلاد الغربة، وهم يعلمون بأن الأمل الحقيقي في وطنهم حتى لو حققوه في الغرب إلا أنه يظل ناقصاً ومشوباً بالشوق والحنين إلى الوطن ... (ريناد) شابة مغربيّة أو غجرية جميلة تمارس مهنة ضرب الفأل والعرافة.. استغلت ضياع العقول والأجساد والأرواح عند المهاجرين في مركز التجمع فراحت تمارس مهنتها التي وجد فيها المسافرون سلوى لمعرفة ما يستقبلهم من أيام.. (كذب المنجمون ولو صدقوا).. ولكنه العجز هو الذي يدفع مثل هؤلاء المهاجرين البؤساء إلى " ريناد".

أما في المحطة الثامنة: قصة الشاب عمران الذي ضاقت به سبل الحياة، وملأ الخوف والاحساس بالموت حياته والذي يمكن أن يناله في أية لحظة.. رحلة جديدة مع بعض المهاجرين عن طريق الطائرة من مطار حميميم .. هي المعاناة ذاتها، ولكن هذه المرة في أرض الوطن أولاً.. تبدأ بتأخر سفر الطائرة عدّة أيام بدون سبب .. وارتفاع في الأجر، وعند الوصول إلى القامشلي تبدأ رحلة المهربين من القامشلي إلى تركيا التي يشارك بها ويسهل أمرها بعض الأكراد ومنهم في مواقع المسؤوليّة.. ابتزاز مالي.. ومتاجرة بالبشر... وخيانة للوطن.. يصل عمران وصحبه بعد معاناة قاسية إلى تركيا لتبدأ رحلة العذاب الأخرى إلى أوربا ... تجار آخرون من المهربين وقوارب مطاطيّة.. وسفن متهالكة.. وعواصف البحر.. والخوف من المجهول حتى بعد وصولهم أوربا.

في المحطة الأخيرة من الرواية وهي: (الأعمار رهائن... المصارع).

في المحطة الخاتمة من الرواية، تدخلنا الروائيّة "فلك حصرية" في أسباب أخرى لمعاناة السوريين قبل أن تنالهم قذائف الجهل والتخلف والأيديولوجيا العمياء ولعبة الدولار وشهوة السلطة وخيانة الوطن. تدخلنا في عالم الفساد الذي راح ينخر الدولة والمجتمع منذ عدّة عقود.. هنا تَكْشِفُ لنا (المسكوت عنه) وحتى (المضمر) في حياة الشعب السوري.. في مسرحيّة "كاسك ياوطن" لـ"محمد الماغوط" نظرياً، و"دريد لحام وهالة شوكت" والعديد من الممثلين السورين تطبيقاً.. في كاسك يا وطن تظهر لنا تشكل الارهاصات الأولى  لمعاناة السوريين،التي تتصاعد فيها أحداث المسرحية للوصول إلى مشهد بيع الأطفال من أجل تأمين لقمة العيش.. وفي بيع الأطفال تُفْقًدُ قيمة المناضلين الحقيقيين والشرفاء في هذا الوطن..

(- من مال الله يا محسنين .. من مال الشعب يا مناضلين.

- ما وراك يا أخي".

- كما ترى يا أخي ... إيد من ورا وإيد من أدام.

- الله أومال شو عم تبيع؟!!.

- عم بيع ضنايا... عبود بابا عبود...عود حبيبي.

- يعني عم تبيع ولادك؟ !!.

-إيه نعم... عمرك شفت هيك أب .. العمى شو حقير أنا.

- جدهم شهيد.

وإلهم شجرة عيلة.

- ولك إلهم سنديانة عيلة.) ص233.

هذا المشهد يحصل فعلا في الأحداث السوريًة الأخيرة حيث تقوم امرأة ببيع أربع أطفال (أولادها) لسائح أجنبي بـ (600) دولار.

وهنا يستمر التعجب الممزوج باللامعقول كما تقول الروائيّة.. لتكشف جدليّة الواقع عما هو خطير فعلًاً، وبأنه ما من شيء يأتي من فراغ، وما من فعل ينطلق من المجرد.. فكل شيء بدا لنا اليوم حقيقة استند إليها "الماغوط".

هذه هي الحقيقة (إنسان بلدي ضاع أو ضيّع.. إنسان النكبة الجديدة دفعه الخوف من الموت للهروب إلى الموت، فمات قهرا وحزنا ويأساً وقلة كرامة قبل أن يموت غرقاً وتنكيلاً ورفضاً لوجوده فوق مسرح الوجود.). ص241.

الرواية في الشكل"

لم يأت عنوان الرواية عبثاً، بل جاء مدروساً وبعناية فائقة. فتوت الشام الحلو المذاق الجميل المنظر ذو الشهرة الواسعة الذي يعبر عن جماليّة الشام بكل تجلياتها، يأت العنوان ليشي بنوع آخر من التوت، وهو التوت البري، بطعمه الحامض، وهو هنا يدل على طبيعة التغيرات الكبيرة والجسيمة في قهرها ومصيبتها التي بدأت تنال الشام وسورية عموما  وحولت حياة أهلها بكل تفاصيلها إلى جحيم.

أما غلاف الكتاب بألوانه التي سيطر عليه اللون الأحمر والأسود والبني الغامق، وهي ألوان حارة في سماتها وخصائصها، تشير أيضاً إلى عمق المآساة (الترجيديا)، التي تمر بها الشام، فالدم المسفوح في كل مكان يشير إلى حياة فقدت زهوها وجماليّة علاقاتها وحتى طبيعتها، فساد ظلام الروح والعقل والجسد معا. وهنا يتطابق عنوان الرواية مع ألوان الغلاف ليشكلا لوحة تراجيديّة بكل تفاصيلها.

بناء الحدث الروائي:

جاءت الأحداث في الرواية متماسكة وعقلانيّة إلى حد كبير، حيث ترتكز في مضمونها وقيامها ودوافعها وأحدث كل محطة فيها إلى أسباب حقيقيّة، هي من ساهم في هروب السوريين من الموت والفقر والجوع والخوف الذي حل في دمشق وسورية كلها.

فأحداث الرواية كما بينا في عرضنا لبنيتها كانت مفعمة بالكوارث والمصائب والدم. وكل الأحداث الواردة في محطاتها تدور في إطار المشكلات العامة التي وقعت فيها سورية. فمعظم شخصياتها ذات حالات فرديّة أو أسريّة إلى حد ما، قد حكمتها الغربة والهجرة وشقاء مسيرتها، ووعيها وسلوكياتها، وهذا ما جعلها تخلوا وتقطع إلى حد بعيد مع العلاقات الاجتماعيّة، رغم أن ذكريات الأهل والأصحاب والوطن كانت طريّة في ذاكرة كل فرد منها.

الملامح الشخصيّة:

إن الحدث يظل فعلاً هلاميّاً ما لم تشكله الشخصيات بحسب حركتها وعلاقاتها ودرجة وعيها، وبالتالي مساراتها التي يشكلها الكاتب. وشخصيات الرواية كانت مقنعة تماما كونها تعبر عن شخصيات حقيقيّة في مواقفها وتفكيرها وحتى سلوكياتها .. بيد أنها شخصيات الرواية رغم ما قامت به من مغامرات قاسيّة هروباً من الموت في وطنها، إلا أنها ظلت فاقدة لإرادتها في صنع أحداثها، عدا قرارها في الهجرة، أما كل ما حدث لها في مسار رحلة الهجرة ظلت محكومة مستسلمة للقدر أولاً، وللمهربين ورجال بوليس الشواطئ الأوربية ثانياً. وهذا ما جعلها شخصيات غير ناضجة فنيّا داخل محطات الرواية، فالقاصة هي من كان يوصف حركتها وطريقة تفكيرها وحالاتها النفسيّة بحيث تشعر وكأن الكاتبة هي من رافق كل شخصيات روايتها في كل محطات الرواية، وهي الشاهد على كل ما تعرضوا له من معاناة، داعمة سردها في النهاية ببعض الوثائق لتحقيق مصداقيّة ما جرى لأبطال الرواية....

القص بطريقة المقالة:

الرواية تتكون من عدّة عناوين أو محطات كما بينتُ بداية، وهذا يدل على تأثير العمل الصحفي على الروائيّة من جهة، وكونها كاتبة مقالة أدبيّة كان التأثير على سردها، أو قصها الروائي من جهة ثانية. فهناك غياب كبير للحور عند شخوصها كونها كما قلنا هي من قام بتأدية هذا الدور من خلال رسم شخصياتها وحركتهم ومعاناتهم منذ انطلاقتهم الأولى وصولاً إلى المحطة الأخيرة لكل شخصية. علماً أن هذه الطريقة في عرض أحداث الرواية فسح في المجال واسعاً للروائيّة أن تجود في عبارات وجمل لغويّة بتعبير بلاغي ذي صنعة وصياغة أدبيّة  تحقق الإدهاش عند المتلقي، إلا أن تكرار العديد من جملها وعبارتها في محطات الرواية، قلل من حماس المتلقي ودهشته لها، فيضطر أحياناً إلى القفز متجاوزاً ما يتكرر في سردها من وصف للطبيعة على سبيل المثال ومنها البحر وعواصفه وانعكاسه على نفسيّة شخوصها.

العناية باللغة:

العناية باللغة التي صيغت بطريقة شاعريّة. تجد فيها الكثير من المحسنات البديعيّة، كالترادف، والطباق، والمقابلة، والتورية، وكثرة الانزياحات اللغويّة، والصور البيانيّة كالتشبيه والاستعارة والكنايّة، الأمر الذي يجعل المتلقي يشعر بأن مسألة التعامل مع البلاغة بشكل مدروس كحرفة تمتهنها الروائيّة بشكل متعمد، وهذا ما حول الصفة الأدبيّة من السهل الممتنع، إلى تصنيع متكلف يرهق دلالات المعنى.. إن صياغة البلاغة في أسلوب الروائيّة هو أقرب إلى الشعر منه إلى النثر. كما أشرنا قبل قليل.

التناص:

استخدمت الروائيّة التناص بشكل عقلاني، وهذا يدلّ على سعة ثقافتها وقدرتها على التضمين، فهناك الكثير من الأحدث التاريخيّة والشعر والأمثال والحكم والأقوال التي وظفتها بشكل ذكي وعقلاني لإغناء مواقف مرت بها شخوصها في محطاتها الروائية مثل:  غرق الباخرة (تيانتك). وقصيدة نزار قباني (سامحونا) وكل ما ورد من أقوال وأشعار مشبعة بمضامين تتفق وجوهر مضمون شخصياتها ومسيرة هجرتهم ومعاناتهم. كما هو الحال مع غادة السمان. وماريو فارغاس يوسا. وبدر شاكر السياب. وغير ذلك الكثير وصولاً إلى الماغوط وكاس ياوطن.

الرواية تقع في (286) صفحة من القطع المتوسط. إصدار دار العراب – دمشق سوريّة - حلبوني الجادة الرئيسة.

***

د. عدنان عويّد

كاتب وباحث من سورية

في رواية " قطط إسطنبول" لزياد حمامي

تلخيص: سنحاول في هذه الدراسة مقاربة رواية (قطط إسطنبول) للروائي السوري زياد كمال حمامي والنبش في دلالات ورمزية القطط في هذا العمل وفق منهج الثنائيات الضدية  لما (تشكله الثنائيات من تباينات دلالية تجعلها عنصًرا فاعلًا في تكوين المعنى، وإنتاج الدلالة، والخروج بالنص إلى أبعد المستويات) ولما للثنائيات من قدرة على تعرية الحقائق وكشف المواقف، وإظهار تناقضات المجتمع، والربط بين ما قد يبدو منفصلا، مع ردم الهوة بين طرفي الثنائية مهما كانت تلك الهوة سحيقة، حتى وإن كان الطرفان يقفان على طرفي نقيض (الإنسان / الحيوان) لنتساءل عن السر في اختيار القطط دون غيرها من الحيوانات الأليفة والمفترسة للتعبير عن الواقع العربي.

Summary

In this study, we will try to approach the novel (Istanbul Cats) by the novelist Ziad Kamal Hammami,  and to dig into the connotations and symbolism of cats in this work according to the method of antithetical binaries (the binaries are formed from semantic differences that make them an effective element in forming meaning, producing  significance, and taking the text to the farthest levels) and because binaries have the ability to expose facts and reveal positions, highlight the advantages and disadvantages, show the contradictions of society, link what may seem separate, and bridge the gap between the two sides of the binary no matter how deep that gap is, even if the two sides stand on opposite sides (human/animal)  to ask about the secret in choosing cats over other domestic and predatory animals to express Arab reality.

تستمر الرواية تأكيد نفسها باعتبارها الجنس الأدبي الأنسب لتصوير ذبذبات الواقع العربي ورصد كل تفاصيله، والأقدر على مواكبة تفاعلات الإنسان العربي في واقع  زئبقي مختل عصي على التصنيف يعاني أزمة قيم، يتحول (se métamorphose) باستمرار، لا يستطيع أي تعبير فني آخر غير الرواية مواكبة جميع تلك التفاعلات،  فاستطاعت الرواية بذلك ملامسة كل المواضيع والقضايا الراهنة... ولعل من القضايا المعاصرة الحارقة في عصرنا، قضية وضع اللاجئين العرب في الدول المجاورة التي اضطر الكثير من العرب اللجوء إليها بعد تفجير الأوضاع بأوطانهم غداة انفجار أزمة الخليج الثانية والغزو الأمريكي للعراق، وما نتج عنها من اندلاع أحداث الربيع العربي التي دحرت الكثير من العرب خارج أوطانهم... فتهاوت قيمة العربي في بورصة المعاملات الإنسانية، وجعلته يتقبل المهانة ويعيش معاناة الإذلال والاحتقار...

وقد حاولت الرواية تصوير هذا الواقع وتجاوزت تشيء الإنسان العربي إلى حيونته وإبراز أرذل الحيوانات أرقى منه، بعدما رأى الروائي العربي أن اللغة المباشرة عاجزة على استيعاب حماقات وزئبقية هذا العصر، وربما وجد في الرمزية الوسيلة الأنسب للتعبير عن واقع اختلت فيه الموازين وصار فيه الحيوان (الذي كان رمزا للوحشية والهمجية) أرقى من الإنسان وقيمه الإنسانية التي تتبجح كل حين بالكرامة والتسامح والتضامن...  وقد يكون في حيونة الإنسان، وأنسنة الحيوان طريقة للتعبير عن واقع يعيش أزمة قيم، واقع أشبه ما يكون بغابة البقاء فيها للفاسد الأقوى، ولا مكان فيها للنبل والشرف، وضحاياه الأوائل العفة والكرامة الإنسانية... ولعل من الروايات الصادرة حديثا في هذا الموضوع رواية (قطط إسطنبول للروائي السوري زياد كمال حمامي لتنضاف إلى فسيفساء مشروعه الروائي بعد روايات (الظهور الأخير للجد العظيم) و(الخاتم الأعظم) ورواية (قيامة البتول الأخيرة) ...

تحكي رواية (قطط إسطنبول) قصة لاجئ سوري - اختار له السارد اسم اللولو - يتفاعل مع عدد من القوى الفاعلة أغلبهم لاجئين سوريين في تركيا وقطته التي كانت  طيلة أحداث الرواية تحدثه وتلهمه فجعلها أنيسة دربه بعد أن اختار لها اسم الآنسة "هند خانم"، وهي في نظره (قطة مختلفة عن كلّ القطط التي تعجّ بها إسطنبول) ص.24 ولم يقتصر السرد على حياة اللولو في اللجوء بل كان السرد يتراجع في بعض اللحظات ليذكر بحياة هذه الشخصية في بلادها سوريا قبل الحرب، كما كان ينفتح على المستقبل الذي يتطلع إليه بطل الرواية...

أحداث الرواية وفضاؤها تضع رواية (قطط إسطنبول) في إطار أدب الهامش الذي يقارب معاناة المهمشين، ومنها معاناة اللاجئين والمشردين وما يتعرضون له من استغلال واضطهاد يفقدهم أحيانا إنسانيتهم، ويجعل حياتهم أشبه بحياة القطط الضالة والكلاب المشردة، هذا ما كشفت عنه الرواية منذ أول فقرة فيها، فقد  افتتحت الرواية بأول مشهد يقارن فيه السارد بين اللاجئين المشردين والقطط والكلاب الضالة: (ليس لدى المشردين مأوى في ليالي البؤس، غير ظلام الحدائق بعد منتصف الليل، أو مقابر المدن أو تحت الجسور الرَّطِبة أو الأماكن المهجورة، يتشابهون مع الكلاب الضالة وقطط الليل) بداية الرواية ص7. وظلت مقارنة اللاجئين بالقطط حاضرة في معظم المشاهد سواء وهم يتحركون في المجتمع أو وهم قابعون في السجون يقول السارد واصفا اللاجئين في السجن (الأجساد النائمة على جوانبها مثل القطط ) ص100

تدور معظم الأحداث بحي الغجر وهو (أسوء أحياء إسطنبول سمعة) ص 31 /32 وهو حي يعج ب (قوَّاد الدعارة وبائعي الحبوب المخدرة والحشيش والزبَّالين المتجولين، حتى عدم فتح أبواب البيوت أثناء سماع جرْسِ المبنى سرتْ عادة، خشية أن يكون القادمُ لصّا أو مُحتالا أو عصابة ... ) ص32

الرواية بهذا المحتوى تفصح عن مضمونها، وتنكشف للقارئ كرواية تحاول معالجة قضايا إنسانية كثيرة بأبعادها السياسية الاقتصادية الاجتماعية والثقافية... فتبسط للقارئ ملامح تلك الأبعاد بمجرد تصفح المشهد الأول من المشاهد الخمسة والأربعون التي تتشكل منها الرواية. وفيه يصادف  اللاجئ (اللولو) بعد منتصف ليل في حديقة من حدائق إسطنبول فتاة سورية تدعى شام وهي في حالة نفسية منهارة، حاول مساعدتها بأخذها إلى بناية في حي الغجر على أطراف "اسنيورت" ليجد نفسه في ماخور معد لاستغلال فتيات جنسيا من جنسيات عربية مختلفة منهن (ياسمين المغربية، جليلة من اليمن، بتول اللبنانية، سماح العراقية، مريومة الليبية...) مما يجعل معظم القراء يفترضون انطلاقا من هذا الافتتاح أن القطط في العنوان قد تكون تعبيرا رمزيا عن أولئك الفتيات ومن هن في وضعهن، خاصة وأنه شبههن بالقطط فقال في ياسمين ("ياسمينة" المغربية، هي شابة سمراء جميلة، عيناها صغيرتان مثل قطة إفريقية)...  ويتعزز هذا الافتراض في تلك العداوة الشرسة المضمرة في الوعي الإنساني بين الكلاب والقطط، فأول ما تلفظت به القطة (شام) في حواراتها هو شتم الكلاب، فقد ظهرت وهي لا تكف عن وصف الآخرين بالكلاب (تنتهي شتائمها بترديد كلمة واحدة: "كلاب... كلاب"،) ص8 (تصرخ : كلاب كلّكم كلاب) ص20 ...

إذا كانت هذه المؤشرات في بداية الرواية تسمح بافتراض إطلاق القطط على كل من هو في وضعية هذه الفتيات... فإن ذلك يفرض طرح أسئلة من قبيل: ما سبب اختيار القطط، دون غيرها من الحيوانات خاصة وأن الرواية ذكرت الكلاب قبل القطط في أول تشبيه لحال اللاجئين والمشردين (يتشابهون مع الكلاب الضالة وقطط الليل)؟  وما دلالة ورمزية القطط في هذه الرواية؟ وهل للقطط دلالة إيجابية أم دلالة سالبة خاصة وأن للقطط في الفكر الإنساني معاني متباينة؟...

لابد من الإشارة منذ البداية إلى أن القطط كانت موضوع دراسات فلسفية فكرية كثيرة نكتفي للإشارة منها إلى كتاب (فلسفة القطط) لجون جراي ومشروع البروفسورة لي كلير لا بيرج (ماركس الموجه للقطط:  (Marx for Cats   كما حضرت القطط  في عدد من الأعمال الفنية والسردية منذ القديم مع اختلاف النظر إلى القطط وتباين الموقف منها بين:

موقف يبجل القطط ويبرز إيجابياتها في حياة الإنسان كحمايته من القوارض والزواحف السامة التي قد تهدد حياته، إضافة إلى دورها في تسلية الإنسان ومؤانسته، وبين من استعملها رمزا حسب الرسائل المراد تبليغها... لذلك وجدنا من المؤلفات ما تدعو إلى الاستفادة من القطط كما في كتاب (فكر وتصرف كأنك قط) لستيفان جارنييه ترجمة فالس بورس. وهو موقف يجد جذوره في ثقافات قديمة أضفت على القطط هالة من التقديس كما كان عند الفراعنة الذين اعتبروها إلهة البيت والخصوبة وحامية الفرعون، كما اعتبرها اليابانيون جالبة الحظ السعيد والثروة. وتوجد لدى الاسكندنافيين حكايات وأساطير تظهر فيها قطتان تجر عربة الإلهة فريا الإلهة المرتبطة في الثقافة الاسكندنافية بالحب والجنس والجمال والخصوبة والذهب والحرب والموت... وفي الثقافة الإسلامية قد يكون الإحسان إلى القطط سبيلا لدخول الجنة، وسوء معاملتها سببا في دخول جهنم إذ روي عن الرسول قوله (عُذِّبَتِ امْرَأَةٌ في هِرَّةٍ سَجَنَتْها حتَّى ماتَتْ، فَدَخَلَتْ فيها النَّارَ، لا هي أطْعَمَتْها ولا سَقَتْها، إذْ حَبَسَتْها، ولا هي تَرَكَتْها تَأْكُلُ مِن خَشاشِ الأرْضِ)

- في مقابل ذلك وجد ويوجد موقف يهين القطط ويعتبرها رمزا للشر والدناسة وسببا في نقل الكثير من الأمراض للبشر، إضافة إلى ما قد يسببه شعرها وفضلاتها من إزعاج أو مرض لبعض الأشخاص الذين لهم حساسية تجاه ذلك، لذلك يدعو أصحاب هذا الموقف عدم مخالطة القطط، وضرورة إبعادها عن البيت .

والمتتبع للأعمال السردية العربية المعاصرة يلاحظ مدى حضور القطط في عناوين عدد من الروايات المعاصرة مثل رواية (خمارة القط الأسود) لنجيب محفوظ، ورواية (قطط العام الفائت) لإبراهيم عبد المجيد، ورواية (قطة في عرين الأسد) للكاتبة منى سلام ومنها (قطط إسطنبول)... فكيف حضرت القطط في هذه الرواية الأخيرة.؟ وما دلالات حضورها في الرواية؟

في قراءة لرواية (قطط إسطنبول) تبين أن لفظة (قطط) تكررت في الرواية حوالي 128 مرة، توزعت حسب الجنس (مذكر قط 34مرة ومؤنث قطة 48 مرة) وذكرت جمعا (قطط 46 مرة) واستعمل اللفظ حوالي مائة مرة بمعناه الحقيقي  في إشارة  إلى ذلك (الحيوان المستأنس الأليف  من فصيلة السنوريات) وفي الحالات الأخرى استعير القط للتعبير عن الإنسان، أو استعير الإنسان للتعبير عن القطط ... فتراوح  استعماله بين الرفع من قيمة القطط وأنسنتها بإسناد أفعال وصفات إنسانية إليها، وبين الحط من قيمة الإنسان وقطقطته وإبرازه في أدنى المراتب الحيوانية...

وبما أن الرواية بنيت على التقابل بين عالم واقعي مرفوض تسوده قيم سالبة تقوم على الاستغلال والاضطهاد يرفضه البطل، وبين عالم منشود يحلم البطل بتحقيقه يستعيد فيه إنسانيته وتراعى فيه القيم الإنسانية... فإن لفظ "قطط" ومشتقاتها تحكمت فيها نفس الثنائية: هكذا وجدنا لفظ (قط) الذي ارتبط في الغالب باسم البطل (اللولو) يتوزع بين دلالتين متقابلتين: دلالة موجبة تبرز القط قويا قادرا على المناورة والانتصار على خصومه (اللولو يتلاعب بالجميع تلاعب القط بالفأر) ص102، ودلالة سالبة هي الأكثر حضورا يرفض فيها اللولو أن يحيا حياة القطط (أنا لست قطا) ص161. كما يستعمل كلمة قط في سياقات تحط من شأن البطل ويرفض فيها  (أن يكون مجرد شِبْهَ قط من قطط إسطنبول) ص 161 وينتقد وضعا تحط فيه الكرامة الإنسانية سواء بمدينة حلب أيام الحرب  حيث (أصبحنا فيه مجرد قطط تائهة) ص112 أو بمدينة إسطنبول حيث قيل له (أنت مجرد قط لاجئ) ص182... وحتى إذا قصد قنصلية بلاده بحثا عن وثائق تؤكد لديه صفة لاجئ وتتيح له حرية الحركة في تركيا (أهين أمام مبنى الهجرة وطرد مثل قط أجرب)ص224 فلم يبق أمامه سوى التساؤل في حالة اليأس (هل أنا محنط مثل قط) ص 236 ... والتساؤل في حال التفاؤل (ماذا لو تحولت إلى قط جائع) ص255

هكذا تتغير دلالة القط في ارتباطها بالبطل اللولو، وهي شخصية مبنية في الأساس على التقابل بين دلالة اسمه الإيجابية، ودلالة حياته التي لم تكن سوى سلسة من الخيبات والمآسي: فاسمه الحقيقي كما ورد في الرواية (جميل بن سعيد بن فوزية الحلبي) شاب لم يتجاوز الثلاثين سنة يشعر أن صفات اسمه لا تطابق فيه شيئا يقول :(لستُ شابا مثيرا تتودّد إليه النساء، ولم يكن أبي سعيدا لقد عاش عاملا، في مزرعة الأغا، وكان يقول دائما: كلاب الآغا تعيش أحسن منَّا. - لم تفُزْ أمّيِ بأيّ شيء، ولا أدري لماذا أسموها فوزية ؟ ! وهي المرأة التي كانت تلعن حظها العاثر دائما، وتشتم عمرَها كله، حتى حين أنجبتني، كانت تدير وجهها عنّي، وتقول لي: ما أتعسَك! إنكَ تشبه والدك.... ولكن السؤال الذي يجب ألا أنساه، كيف سأغيّر حياتي وأبني؟ حين أستطيع دفنَ الماضي اللئيم، سأكون شخصا آخر غير الذي يعدونه لاجئا منبوذا) ص 120 .

ومن مظاهر التقابل في شخصية البطل أيضا ذلك التقاطع بين الكاتب والسارد والبطل، والتداخل بين السيري التاريخي الذي عاشه الكاتب وبين الروائي المتخيل الذي تخيله السارد، فحتى وإن ظلت شخصية اللولو شخصية متخيلة لا وجود لها إلا على الورق، فقارئ الرواية يشم الكثير من الأحداث الذاتية من سيرة الكاتب ينسبها السارد للولو عبر سارد يتحكم في رقاب شخصياته، يبعد ويقصي من يشاء ويعلي من قدر من يحب، يعرف عن كل شيء عن شخصياته: تفاصيل ماضيهم، وما يعيشونه في حاضرهم، وما يفكرون فيه في خلوتهم وحتى ما يحلمون به، بل كان يتسلل إلى عقل القطط فيعرف ما تفكر فيه وما يدور بخلدها، وما يسعدها، ولم ترتاح من زوارها، ومن وما يقلق راحتها، فيحرك كل الشخصيات على هواه...

ومن مظاهر التقابل كذلك في حياة البطل الروائية التركيز على تلك العلاقات المأزومة بين بطل يحاول الظهور بطاقة وقيم إيجابية، يصارع واقعا مأزوما ينخره الفساد ولا أمل في إصلاحه وتغييره، حيث حاول اللولو التعامل بطهرانية في واقع موبوء فاسد، اشتغل مهناً كثيرة دون أن تؤمن له أي مهنة لقمة عيش كريم، يقول اللولو (اشتغلتُ في البداية عاملَ بناء كي أتابع دراستي، ثم بائع "موبايلات" مستعملة، تطورت قليلا، افتتحت محلا  لبيع وتصليح الآلات الموسيقية، خسرت، ربحت، غامرت، اجتهدت، قاومت كلّ ما يحبط هدفي، ومن أجله سأستمر) ص175 ويقول في مكان آخر (اشتغلتُ في سوق الخضار حمَّالا، للبطيخ ومناولا، ومنظفا للمستودعات...) ويقول فيه السارد (أمام وابلٍ من الإحباط المتتالي، والتنقُّلِ من مهنة غسلِ الصحون في مطعمٍ ما، إلى حمَّالٍ  للأدوات المنزلية المستعملة، ومن مُوَزّع المياه الغازيّة المعبأة بعبوات بلاستيكية إلى صيَّاح في "بازار" المنطقة الكبير، ناهيك عن أعمال الدهان، ومهنٍ أخرى،  وَجَد اللولو عملا مقبولا ً بعد عُزلة مقيتة، لم يحصد فيها غير الندم...) ص 249  وكل شغل اشتغله إلا اكتشف كيف يتسلل الفساد إلى دواليبه، وكيف بني على امتصاص دم الفقراء، ويكفي الإشارة إلى ما وقف عليه من تزوير في تواريخ استهلاك المواد، وعبث الفئران والصراصير فوق المأكولات التي تقدم للناس، مما جعله يقف مشدوها ويتساءل (أكنَّا نأكل من هذه الأغذية الفاسدة ولا ننتبه إلى بداية تاريخ الإنتاج، ونهاية مدّته الصحية؟!".)  يقول السارد واصفا المخزن الذي أوكلت إليه مهمة ترتيب المواد الغذائية فيه (المخزن الكبير تقطنه جحافلُ الفئران، وربما أبرمت عهودا مع كتائب القوارضِ المرئية وغير المرئية، رأى بعينيه الثاقبتين تلك الصراصيرَ المنفردة، تمشي فوق البقايا الطريّة لنُتَفٍ من حلويات سكريّة ترقد مهروسة على الأرض، وها هي تعبث في المكان، دون أن يمنعها أو يبيدها أحد.... أصابه شيءٌ من الغثيان، عندما تأكد أن كلّ ما في المخزن الكبير قد فقد صلاحيتَه منذ وقتٍ طويل! ) ص252 وعلى الرغم من كل تلك السوداوية في الحياة، والفساد الذي يعمّ الواقع فقد ظل اللولو أبيَّ النفس عزيزها لا يقبل الإهانة، ولا يرضى لنفسه أن يعيش عالة على أحد، بل و(لا يقبل أن يدفع أحدٌ من الذين يجلسون على طاولته ليرة واحدة. هو يتكفل بكل شيء) ص 29...

هكذا ظل هذا البطل المأساوي يصارع الحياة، والسارد يضيق عليه الخناق، وما أن يفتح أمامه أملا كاذبا حتى يكتشف بداية معاناة جديدة، تكالبت عليه المشاكل، وتحالفت عليه القوى الإنسانية وحتى الطبيعية، فما كاد يجد عملا يضمن له دخلا يكفيه ضنك العيش، من خلال (فتح "بسطة" صغيرة يضعها على أحد الأرصفة، ويبيع فيها "الجوارب والكلاسين" والقمصان الرجالية الداخلية...) ص 115 حتى ضرب إسطنبول فيضان جرف كل شيء -ولم تسلم منه حتى القطط- فجرف (بسطة) اللولو مما أزم علاقته بصديقه عبود الأقرع الذي موّل المشروع...

ومن ضمن الثنائيات التي تحكمت في مسار السرد نجد قطتين رئيسيتين فقط وسط كل هذا العالم المأساوي التراجيدي كانتا محببتين لقلب البطل اللولو: القطة الأولى: تجلت بمظهر إنساني مثلته فتاة سورية في العشرينيات من عمرها اختار لها السارد اسم (شام). أما القطة الثانية : فقدمتها الرواية بمظهر حيواني مثلته قطة اختار لها السارد اسم (هند خانم) وقد خضعت هاتان القطتان لنفس الثنائية وبنيت قصصهما هي الأخرى على التقابل:

- هكذا قدم لنا السارد القطة الإنسان شام بقيمتين متناقضتين والنظر إليها من زاويتين مختلفتين نظرة إلى الجسد ونظرة إلى الموقف: وبقدر التركيز على جمال شام جسديا وإظهار مفاتنها فهي فتاة جميلة في العشرينات من عمرها، جمالها فطري يعشقه كل من رآه فقد كانت منذ طفولتها (طفلة مرِحة، ذات شعر أشقر، وعينين سماويتين.. قوامها متناسق، وصدرها أبيض مثل الحليب الشهي) ص33/34  بذات القدر رصدت الرواية  التحول الذي أصاب جسد هذه القطة المشاكسة  إذ صارت في نهاية الرواية  فتاة مريضة منهكة جسديا(لم يعد قلبها يشتعل، وصراخها لم يعد يتعالى، العطش والجوع والبرد يحيلها إلى كتلة لا تقدر على الحَراك، ولا حتى على الزحف مثل سلحفاة عاجزة، تحسُّ أنها في قبرها، بلا شواهد، ولا صلاة، وتمنّت أن تنهار الجدران فوقها، تقبرها، وتقطع أنفاسها...) ص167 لقد انتهى جسد (شام) الفاتن، وصارت جسدا لا يحرك شهوة أحد، جسد يصفه اللولو للقطة المغربية ياسمين قائلا:  (تفوح منها رائحة العطر والحشيش معا...  كانت مستسلمة، باردة، لا شهوة تحركها ولا رغبة تناديها، مثلَ دمية لا أحاسيسَ فيها، الفارق بيننا وبين الدمى في تلك اللحظة، أننا نملك أرواحا مكسورة، متهالكة، مستبدة، مضطهدة، والدمى يا ياسمينة، كما تعرفين، هي بلا روح، ولكننا في تلك اللحظة كنَّا معا بلا حياة) ص168.

بالإضافة إلى هذا التقابل على مستوى الجسد، الذي تحول من جسد فاتن إلى جسد متهالك، رصدت الرواية تقابلا في القيم التي عاشت عليها القطة (شام) فهي وإن كانت تمتهن الدعارة فإنها تحمل قيم التمرد والرفض إنها قطة مشاكسة تحاول (التمرد على شرف مهنة الدعارة) بعد أن رفعت شعار (الموت أشرف لي من أن أكون داعرة) ص21 تصيح بأعلى صوتها (أنا شام...  أنا لستُ داعرة.) ص7.

ويتجلى التقابل أكثر في البون الشاسع بين حجم المعاناة الداخلية والمظهر الخارجي في حياة (شام) فهي كانت تظهر للعامة وحتى لأقرب الناس إليها (أمها) أنها تعيش حياة مستقرة في أسرة محافظة، لكنها في العمق كانت تعاني ألم جرح غائر بسبب الاغتصاب والاستغلال الجنسي في سن صغيرة من طرف زوج أمها الذي كان بمثابة والدها...

- القطة الثانية المحببة لقلب اللولو حيوان آثر السارد والبطل أن يصفانها بالآنسة والأميرة والقطة الفاضلة ص106 إنها (جميلةِ الجميلات الآنسة  "هند خانم"، ذات الشعر الذهبي، والغرّة الوردية، والعيون الزرق السماوية...) ص23 بخلاف كل القوى الفاعلة التي كانت مواقفها تتطور وتتغير حسب الأحداث، فقد ظلت "هند خانم" على نفس الصورة الإيجابية طيلة النص الروائي فهي (مؤمنة، ولا يمكن أي أحد آخرَ أن يغيّر رأيها أبداً) ص24. وهي على الدوام (تحمل قلبا طيبا مسامحا) ص99. (فهي قطة حساسة جدا) ص98 و(قطة ودودة، قطة مميزة) ص 99... (وهي القطة التي لم يخب ظنُّها في غدر بني البشر أبدا...) ص110 و(تعرف ما يخبّئه الإنسان من مشاعر نحوها) ص111... فهي على الدوام جميلة لا يتأثر جمالها بالمتغيرات حولها (أن القطة الجميلة " هند خانم"، وهي القطة المختلفة عن بقية القطط...) ص174

وبخلاف كل الشخصيات التي تنوعت علاقتها بالبطل بين المد والجزر، فقد ظلت القطة "هند خانم" تحافظ على نفس العلاقة مع البطل تداعبه (تمدُّ الآنسة "هند خانم" يدَها الناعمة، تداعب صدره، في منطقة القلب العاشق غيرِ الآمنة) ص31  تشكل له السند والعون في كل اللحظات الصعبة، فهي من جعلته يتراجع عن تنفيذ الجريمة لما فكر في اختطاف طفل وطلب دية من أهله، فتراجع عن فكرته احتراما لمشاعر "هند خانم " ص182، وما عاد إلى القبو إلا (نظرت إليه القطة الجميلة مستفسرة عمَّا فكربه) ص31، فقد لعبت دور الأم والحبيبة والصديقة التي تنصحه وتشجعه على القيام بالأفعال الإيجابية، وتحول بينه وبين كل ما هو سلبي: فهي التي فرضت عليه فتح حقيبة صديقه الشاعر المتوفى "نادر الرحَّال" وهي التي أوحت إليه بقرار الانتقام لقطته المحبوبة (شام). ص150... إن القطة "هند خانم"  كانت دائما  تنام بقرب البطل، وتسهر معه في أيام الشدة، تواسيه، تشعر بالخطر الذي يحدق به،   تنبهه لتربص الأعداء، فلما شعرت بسوء علاقة اللولو ببراق الاسطنبولي  رآها ( تبكي ثم تبكي ملء العين والذاكرة) ص178  ويكفي القطة "هند خانم" فخرا أنها  وهي من جعلته تخلى عن فكرة ارتكاب جريمة، فلم يتراجع عما كان قد خطط له إلا احتراما  لمشاعرها قال بعدما اقتنع بصواب رأيها:(لا أريدها أن تفقد الثقة والأمان، ولا أن تنظر إلى وجهي، كما تنظر إلى وجه رجلٍ مجرم...) ص 183

هكذا يكتشف القارئ أن الرواية في كل تفاصيلها تؤنسن القطة "هند خانم" بل تجعل لها وظائف لم يتشرف بها الإنسان في النص، فعاشت حياة روائية بعيدة عن الفحش والفحشاء، يقول فيها السارد (ولا يمكن لمثلها أنْ يرتكب الفاحشة، ولا أن تحمِل سِفاحا، هذا أمرٌ معيبٌ في حقّها) ص160 فهي قطة صاحبة مبادئ لا تتوفر في أغلب شخصيات الرواية فهي دائما (تنتصرلمبادئها الواضحة) ص177 فيما كان الفساد والدعارة والغش والاستغلال والكراهية العملة الأكثر رواجا بين بني البشر، والقيم الأكثر تحريكا للعلاقات الإنسانية... لذلك لم يكن للبطل إلا أن يعامل القطة "هند خانم" (بكل مودّةٍ واحترام وتقدير) ص107 في الوقت الذي انعدمت فيه الثقة بين الأصدقاء وصار شخص يرى نفسه النموذج الأمثل ينظر للآخرين نظرة احتقار وازدراء لا يرى فيها إلا البلادة والتهور مهما كانت الصداقة،ولنستمع كيف يقدم السارد شخصية عبود  الأقرع صديق اللولو الذي لا يفارقه  (أما "عبود الأقرع"، فهو حكاية مختلفة بحدّ ذاتها، وقد عَدَّه اللولو الظلَّ الذي لا يمكن التخلي عنه، رغم بلاهته أحيانا، وغبائه

السرمدي، وتهوّره الدائم الذي قد يسبب بعض الحرج في أوقات مصيرية حاسمة.) ص 30 . هكذا صار البطل ينظر لزملائه من الشخصيات الآدمية كقطط متشردة ضالة، فيما يرفع قطته (هند خانم) إلى مستوى الملائكة في قيمها وتصرفاته.

في ختام هذه الدراسة، يتضح مدى التقابل الذي بنيت عليه أحداث الرواية، وكيف سعى الكاتب زياد كمال الحمامي إلى أنسنة القطط بالرفع من قيمها وأفعالها وعلاقاتها بالإنسان  من جهة، وقطقطة الإنسان بإظهار الجانب السلبي في علاقاته الإنسانية من جهة أخرى، هكذا وجدنا القطط  في الرواية تتعامل وفق مبادئ ومشاعر صادقة في أحاسيسها وأفعالها ولكل قطة (هوية ودفتر صحي)... في وقت فشل اللولو وغيره من اللاجئين في الحصول على (الكيملك) "بطاقة الحماية الدولية للاجئين التي تكفلها كل القوانين الدولية" وأكثر من ذلك قصد قنصلية بلده التي يفترض فيها أن تحمي كل مواطن وتضمن له حقوقه، قصدها بحثا عن الأمن والأمان ف(أهين أمام مبنى الهجرة وطرد مثل قط أجرب) ص224... لكن كل ذلك لا يغيب آثار التضامن بين اللاجئين في بعض اللحظات الحرجة كما تجلى في سلوك لاجئين عندما تكفلوا (بدفع ما كانت تدفعه سلام لأهلها لشراء الدواء بعدما قتلها شاذ معتوه) وتضامن اللولو مع المرأة المسنة في محنة تجاوز الحدود، وتلك خاصية من خصائص الثنائيات التي اعتمدناها منهجا في مقاربة هذه الرواية لما (تشكله الثنائيات من تباينات دلالية تجعلها عنصًرا فاعلًا في تكوين المعنى، وإنتاج الدلالة، والخروج بالنص إلى أبعد المستويات)

ولما للثنائيات من قدرة على تعرية الحقائق وكشف المواقف، وإبراز المحاسن والمساوئ، وإظهار تناقضات المجتمع، على الربط بين ما قد يبدو منفصلا، وردم الهوة بين طرفي الثنائية مهما كانت تلك الهوة سحيقة، حتى وإن كان الطرفان يقفان على طرفي نقيض (الإنسان / الحيوان)، فبأضدادها تتميز الأشياء... لذلك نأمل أن نكون برصد بعض الثنائيات قد وقفنا على إبراز الاختلافات، وإظهار التناقضات، في حياة مبنية على التقابل، لا استمرار فيها إلا بوجود الخير والشر، والصالح والفاسد، والمستغِل والمستغَل ومن وظائف الرواية والروائي إضاءة العتمات التي يعشش فيها الفساد وإماطة اللثام عن المسكوت عنه وكشف المستور.

***

بقلم الكبير الداديسي

صدر للشاعرة السورية ميادة مهنا سليمان[1] ديوان شعري جديد موسوم بعنوان:" قصير فستان صبري" عن دار المتن بالعراق الشقيق، والديوان يتضمن  إهداءً لروح زوجها رامز سلمان سليمان، ومقدّمة للشاعر عبد الله السمطي، وإضاءة للدكتور محمد عبد الرضا شياع، وقد تضمَّن الدّيوان ستة وأربعين نصّاً مُقسّمة إلى ثَلاثة أَقْسَامٍ بِعتبات فرعية، ترتبط بالعَتبة الرئيسية، وهذا التّقسيم يُعطي للمتلقي انطباعا جليا بأن الشاعرة قد خَطّطت مُسبقا لهذا المِعمار بكل فُسيفسائه المرصوصة لَبنَاتٍ متينة، تحكمها علاقات مبنية على رُؤية إبداعية تنهل من قاموس العاطفة والمشاعر، وهذا ما نلمسه بقوة في الحقول المعجمية للمجموعة الشعرية -ويقصد بمفهوم الحقل المعجمي مجموع الألفاظ التي تتعلق بموضوع معين- التي تُفردُ مساحات واسعة لألفاظ وجدانية تحتفي بالحب، بالحياة، بالوفاء، والجمال ... مع الحرص على خلق ترتيب يفسح المجال لوهج المعنى بشكل يتخطى الدال والمدلول في مستوى البنى السطحية للغة، وينفذ إلى أن يَحفر في مستويات التكثيف اللّغوي (المَبْنَى) ويتوّسل بالمجاز والرمز والاستعارات البلاغية لينقل (المَعْنى). ونقرأ من أجواء الديوان ما يفيد ما تمّت الإشارة له أعلاه:

قررت هذا الصباح

أن أفخخ نفسي

بالأزهار بالأشواق

بالأشعار بالنّغمات

قررت أن أحيط خِصريْ

بحزام ناسف

من الحب والقبلاتْ

وأكمن لك في درب ما

بين الورود، بين البيوت

بين بساتين الكلماتْ

لاشَكَّ تَمُرُّ...

سأفجّر نفسي فيك !

ولتتناثر أشلاء الوجد

والعشق والضَّمّاتْ [2]

وعوداً على بدء، نعود إلى العتبة،أعطى علم السيميولوجيا أهمية كبرى للعنوان إذ اعتبره أساسيا في مقاربة النص الأدبي، وبوابة لِدخول أغوار النص، واستنطاقه.

واعتبره شُولز:"خالقَ النّص الأدبِي ومانحا الهَوية" وقد عَرّف "جيرارجينيت”، العتبة العنوانيّة بقوله: إنها «نقطة ذهاب وإيّاب إلى النَّص» أيْ إشارات دالّة ورامزة تفتح مغاليق النَّص وتكشف عن غموضه!! وعرّفها أيضا بقوله إنّها «علامات دلاليّة تُشرّع أبواب النصّ أمام المتلقّي للولوج إلى أعماقه» أي إنّها مداخل قِرائِية لكي نصل إلى أعماق النَّص، إنّ العنوان وإن كان حَمّال أَوجه لا يكون صادقا دائما، فالعناوين مُخاتلة وربما صادمة،  وعنوان الديوان الموسوم ب " قصير فستان صبري" يرتبط في تجليه اللغوي بغُنج أنثوي باذخ، ما يوحي بأن اجتيازنا العتبة سيفضي بنا إلى بوابة عالم ميادة مهنا سليمان الساحر والمفعم بروح جامحة متوثبة، ولكن دعونا قبل ولوج هذا العالم نتعرف على عتبة الديوان تركيبيا، إنها عبارة عن جملة إسمية وإعرابها كالتالي:

قصيرٌ: خبر مقدم جوازا مرفوع

فستان: مبتدأ مؤخر مرفوع وهو مضاف

صبرِ: مضاف إليه مجرور بِكسرةٍ مقدرة على آخره، منع من ظهورها   اشتغال المحل بالحركة المناسبة  .

ياء المتكلم: ضمير مبني في محل جر بالإضافة

ولوج عالم الشاعرة يستقبلنا بعتبات فرعية ثلاث هي عبارة عن فساتين نُسجت من سدى ولحمة المشاعر والعاطفة المتجذرة في الذات الشاعرة فانحسرتْ عن زخارف ذات ألون مبهرة، وتجليات وجدانية شفافة، أصبغت على فساتين شاعرتنا مسحة من الجرأة و الإثارة جعلتها تشد انتباه واهتمام المتلقي، وأجدني أقتبس من فستانها الثالث هذه المقاطع المقتطعة من نص " قصير فستان صبري "

أنيقٌ حبي

في حضرة وسامتك

وقصيرٌ جدّاً

فستان صبري

إذا تخاصمنا

يُعَرّي سوأة الحنين

ويوصل لسَعات الأسى

إلى جمرِ ولَهي

فينطفئ زهوي

قصير جدّاً

فستان صبري

إذا افترقنَا

ولست أعلم كم مترَ عناقٍ

يطيل قماش وقتٍ

يقصّه وجع الاشتيّاق !

إن الشاعرة في هذه النص تؤكد على الصورة الشعرية، والموسيقى والإحساس والوجدان، والمخيلة.  وتكشف لنا عن حبها لشعرية النص وقوته التعبيرية وعلى الحضور الانساني، والعاطفي، والوصفي، وعلى تجربتها الجمالية من خلال التجليات والإشراقات الوجدانية، واحترامها للإيقاع الخارجي بتعدد حروف  القوافي والروي (عناق / اِشتياق)، الذي يسند ه ايقاع داخلي يرسم سمة إبداعية للنص،معتمدة خاصيات : التكرار والتوازي وطبعا نجد هذه الحالة تتكرر في نصوص أخرى.

لنلاحظ مثلا هذا المقطع من نص اقتحمني عشقا[3] وهو يوجد ضمن نصوص الفستان الأول ص 27

لا تكن هادئا

لا تكن عاقلا

مدّ لِي يَدكَ

واصعد معي دَرَجَ الجنونْ

ما الشِّعر تلميذ عاقلٌ

ولا الحبُّ طفل هادئٌ

كلاهما بحرٌ هائجٌ

غاضبٌ تارة

وتارةً حنونْ

كنْ شقِيّاً عابئاً

تعال نلعبْ فوق روابي اللغةِ

يطيب لي القفزُ

على الباء

يطيب لي الاختباءُ

خَلْف حرف النّون

مدّ لي يدك عبر المدى

واهزأْ بالمسافات والحواجز

أصرخ من بعيد :

أحبّك. أحبّك

دعها تعانق الفضَا

تعال اقترب مني قليلا

دعني اعديك

بأنفاس العشق الثّائرْ

تعال اقترب منّي قليلا

وخد منِّي فيروس جنوني

في هذا النص العميق نلمس ” شعرية” قوية تضفي عليه تدفّقا عاطفيا يسهم في ثراء الإبداع الشعري الصادر عن ذات شاعرة متمرسة وعاشت في أجواء شعرية واستعداد طبيعي لقول الشعر، ويمكن القول أن :" الشعريّة ليست تاريخ الشعر ولا تاريخ الشعراء… والشعريّة ليست فن الشعر لأن فنّ الشعر يقبل القسمة على أجناس وأغراض… والشّعرية ليست الشّعر ولا نظريّة الشّعر… إن الشعريّة في ذاتها هي ما يجعل الشّعر شعرًا، وما يُسبِغ على حيّز الشّعر صفة الشّعر، ولعلّها جوهره المطلق، إنّ الشعريّة ” محاولة لوضع نظريّة عامة ومجرَّدة ومحايِثة للأدب بوصفه فنًّا لفظيًا، إنّما يستنبط القوانين التي يتوجه الخطاب اللغوي بموجبها وجهة أدبيّة، فهي إذًا تشخيص قوانين الأدبيّة في أي خطاب لغوي، وبصرف النظر عن اختلاف اللغات"[4]

من الفستان الأول أقتبس نص "وأما بنعمة حبّك سأحدّثُ"

وأما بنعمة حُبِّكَ

فسَأُحَدِّثُ :

أنَا المُخلَّدَةُ

في جنانِ العِشق

مُذْ أَشرقَتْ بسمَتِي

من ليلِ رِمشيك

أنَا المُتَّكِئةُ

على أَرَائِكِ النَّعِيمِ

وَوَسائدِ الهناء

مُذْ غفَوتُ عَلَى زِندَيك

أنَا الزَّاهِيةُ بِأساورِ الجَمَال

وسندس الدلال

مُذِ اخضوضرَتْ كَفِّي

بلَمسَةِ كَفَّيك

وأَمَّا بنعمة حُبِّكَ

فسَأُحَدِّثُ:

أنَا الرَّافلة بأثوابِ النَّعِيمِ

فَكُمْ مرَّةٍ تَشَرَّدْتُ

وَوَجَدتُ وَطني

في عينيك[5] !

تَعتبرُ جوليا كريستيفا "أن كل نص هو صدى لنصوص أخرى، وهو مكان تتقاطع فيه النصوص، والنصية نفسها هي مجموعة من النصوص المتداخلة، حيث يحيل النص بالضرورة إلى نصوص سابقة أو معاصرة له" وترى أيضا: «أن كل نص يتكوّن من فسيفساء من الاستشهادات، وكل نص هو امتصاص وتحويل لنص آخر"[6].

أسوق وجهة نظر الناقدة والمحللة النفسية  الفرنسية جوليا كريستيفا التي تقول بتقاطع نصين أو أكثر في نص واحد، وأنا أتوقف أمام قصيدة  "وأما بنعمة حبّك سأحدّثُ" التي تحيل مباشرة على تناص جلي مع سورة الضحى، والتقاطع النصي مع القرآن الكريم باعتباره أولا كتابا مقدسا، وثانيا ظاهرة سيميائية تشمل علامة ماديّة ولغويّة متعدّدة المعاني، إيحائيّة تتجاوز أحاديّة الدلالة إلى تعدّديتها مما يفرض علينا مراعاة التناص الداخلي المتمثل  في اسم السورة ومتنها، وأيضا التناص الخارجي الذي يكمن في علاقة القرآن بباقي النصوص السماوية، وكذلك النصوص البشرية من نثر وشعر[7]، فإلى أي حد كانت الشاعرة وفية لهذا النهج وموفقة في توظيفه بشكل يخدم القصيدة؟ تقول الشاعرة: وأما بنعمة حبك سأحدث، نلاحظ أن هناك تناصا على مستوى الشكل والتركيب وأيضا المضمون مع الآية القرآنية:" وأما بنعمة ربك فحدث"، والتناص حدث هنا من خلال محاكاة الشاعرة للآية بشكل يكاد يكون حرفيا على مستوى الشكل والفكرة، وهذا يتكرر أيضا في مقطع :

أنَا المُتَّكِئةُ

على أَرَائِكِ النَّعِيمِ

وَوَسائدِ الهناء

التي تتقاطع مع جزء من الآية 13 من سورة الانسان:" مُّتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكۖ".

هذا التقاطع النصي رغمه جزئيته  فهو يعكس استحضارَ نصٍّ غائب في نص حاضر لغاية أسلوبية أو معنوية.

إن حلاوة الشعر، وسحره لا يعرف سرهما إلا الشعراء. حيث يتلمسون ومضاته في الكون. وميادة مهنا سليمان، تقتبس هذه الومضات، وتحولها إلى شعر ترضِي بها نفسها، وترضي نزعة نفس المتلقي/ القارئ،  إنها تعرف كيف تُدمجنا في عالمها الشعري، فنجالس الحس والجمال، كي يشتعل داخلنا كقراء، ومتلقين. إننا نستضيء بهذا النور الشعري البديع، لنفهم تجليات  ثنائية الحضور و الغياب التي استحضرتها الشاعرة من خلال عدد من نصوصها التي تحتفي بالحبيب الحاضر الغائب، وتفرد له مساحات واسعة تكشف لنا  مدى حب الشاعرة لشعرية النص وقوته التعبيرية، ومحاولتها التوفيق بين القضايا الوجودية والاجتماعية والذاتية التي تطرقت لها في نصوصها وفنيات خطابها الشعري الذي يدور حول مفهوم: الموت /الحياة،  الحضور /الغياب، الانسان/الطبيعة...

وبالتالي نطرح هذا السؤال: هل الشاعرة في مجموعتها قصير فستان صبري تكشف عن الإنسان فيها؟ .الإنسان العاشق، المحب للحياة؟. الذي يرفض ما هو كائن وموجود؟.. هل اللغة الموظفة في الوصف، والعرض والتأويل قادرة على نقل مكنونات الذات الشاعرة؟

تقول الشاعرة في نص أهنئ نفسي المقتطف من الفستان الأول :

في العيد

كَكُل الأيَّام

أشتَاقُ إليك

أَسْرِقُ نَفسي مِن بَيْنِ النَّاسِ

وأنادِي عَليك

فَيُجيبُ النّبضُ الدافئ:

يا عَاشِقَتِي أَنَا كُلِّي لديك

في العيد

أوشوشُ صورتَكَ الحُلوة

تَهمِسُ لِي شَيئًا عَذِبًا

فَتَتَوهُ الخَفقةُ مِنِّي

آهِ مِن كَلِماتِكَ!

تأسُرُني جِدًّا

تَسحَرُنِي

تُغوِينِي بَسْمَةٌ شَفَتَيَكْ

في العيد

تَتزيَّنُ دُنْيَايَ بوجودِك

فَأُهنِّيُّ نَفْسِي بِأَنَّكَ حُبِّي

وَبِأَنِّي أَغْفُو دومًا

في عينيك

من  خلال هذا النص نتبين تجربة الشاعرة الذاتية، وقوة العاطفة الجياشة التي تشدها إلى الحبيب الحاضر /الغائب، فنراها تدخل في حوار مفعم بالرومانسية معه، يشوبه  تدفق وجداني و توهج اِنفعالي، ولعل السؤال الذي طرحناه من

من قبل يجد صداه في مقاطع هذا النص الذي يكشف عن تجليات وجدانية تتطلب منا إنصاتا دقيقا لما بين السطور من أجل فهم زخم البوح الصادر عن الذات الشاعرة الملتاعة التي تعاني تَبعات الغياب المقترن بالحضور المجرد غير المحسوس.

خاتمة

الشاعرة ميادة مهنا سليمان أدبية متميزة وهي من الأصوات الشعرية التي تتمتع بمكانة بارزة في سوريا والعالم العربي تمتاز قصائدها بتنوع وثراء جمالي يشوبه نوع من الغموض الفني المقصود الهادف إلى فتح باب التأويل أمام القارئ للمشاركة في عملية تشكيل النص وبناء معماره، كما أن لغتها مُوحية تتوسل بالتكثيف والايجاز، وتبتعد عن المباشرة، ولم تَخْل العديد نصوص ديوانها "قصير فستان صبري" من الرمز والتناص، سعيا لتوسيع المعنى وتجويع اللفظ بأسلوب بلاغي قوي.

محمد محضار أديب من المغرب

***

بقلم: محمد محضار

...........................

[1] شاعرة من سوريا لها ثلاث مجموعات شعرية وخمس مجموعات قصصية

[2] ديوان قصير فستان صبري ص 41

[3] ديوان قصير فستان صبري ص 27

[4] حسن ناظم، مفاهيم الشعرية دراسة مقارنة في الأصول والمنهج والمفاهيم، المركز الثقافي العربي، بيروت، ط 1، 1994 ص9

[5] ديوان قصير فستان أحلامي ص60

[6] عبد الكريم شرفي رابطة أدباء الشام 31كانون الأول 2020م

[7] التناص في القرآن الكريم مجلة الرابطة المحمدية للعلماء المغرب،  2012-08-28م

 

للاديب حميد الحريزي

تملك التجربة الروائية للاستاذ حميد الحريزي براعة ابداعية في صياغة السرد الروائي الحديث، على ضفاف الرؤية الفكرية الناضجة والمدركة لمجريات الواقع والمفاصل التي تتحكم به، فهو غني عن التعريف في الابداع والصياغة والتكوين في الفن الروائي من خلال مسيرته الطويلة والغنية في الخبرة المتألقة في الابتكار داخل النص الروائي، وقد قدم عدة الروايات قيمة تناولت مراحل السياسية لتاريخ العراق الحديث، الذي عرف بالصراع السياسي الدموي والانقلابات والمفاجأة العاصفة، يسوقها ضمن رؤية فكرية واقعية ورصينة، في الاتجاه الواقعية الانتقادية، في إسلوب تراجيدي ناقد، في اسلوبية التعامل مع الاحداث وتقلباتها. وفي السنوات الاخيرة ابتكر صياغة فنية حديثة في السرد الروائي، أطلق عليها: الرواية القصيرة جداً، وهذا الوليد الحديث يعتمد على سمات وخصائص، قوامها التكثيف والاختزال والتركيز في صياغة الحدث الروائي، اي انه يتجه الى الهدف المنشود مباشرة، دون اطالة وزخرفة وصفية مطولة في السرد، وهذا ما يتطلبه الواقع الحديث في السرعة والاختزال، مع الحفاظ على شكلية السرد الروائي، وقدم في هذا المجال أكثر من ست روايات قصيرة جداً، وآخرها (هذيان محموم) في براعة النقد الاجتماعي، من خلال الجدل والمناقشة. تخص المقولات الدينية وخطابها المعلن، وكذلك يتناول مراسيم تشييع المتوفى من البداية حتى النهاية بوضعه في القبر، واقامة مراسيم العزاء وتقديم موائد الطعام وغيرها من الاعراف والتقاليد الدينية والاجتماعية بشكل مفصل والمبالغة التي لا تعطي قيمة وانسانية للمتوفي، يضعها في مشرحة في المحاججة والنقاش ويفند مقولاته بالحوار الرصين والهادف، أي ان محاولة الرواية القصيرة جداً (هذيان محموم) نقل هذه التقاليد والاعراف الدينية والاجتماعية، من اللامنطق واللامعقول، الى سكة المنطق والمعقول، بشكل حضاري متطور ومتمدن، اي بنزع ثوب التخلف والسلفية، الى ثوب المنطق الحضاري، كما هو متبع في الشعوب المتحضرة و المتمدنة، في تعاملها في مراسيم التشيع والعزاء، التي تعطي قيمة واحترام واعتزاز للمتوفي، بدون الانزلاق إلى الابتذال والتفاهة. كما يعرض معنى الفكري لرسائل السماوية للأديان والرسل والمبشرين والأنبياء، في معاني السلام والمحبة وعدم التفريق والشقاق والخلاف، ان تسود عقلية وثقافة التسامح والاخاء، يعني هدفها السير بالمجتمع نحو الانسانية والتحضر، عكس ما هو معمول به في يومنا هذا في الخطاب الديني ومقولاته الفكرية وعاداته وتقاليده بعيدة جداً عن وصايا رب العالمين ورسله وأنبيائه، هذا النكوص، اصبح الدين ورجاله ومراجعه، يعبرعن المشكلة والازمة القائمة، وتعقيد المعاناة وتشديدها نحو الخناق السلطوي، اي الانزلاق نحو التراجيدية / الكوميدية الالهية، بأن ينسبون كل شيء حتى المخالف للعقل والمنطق الى رب العالمين . ومن هذا المنطلق تتفجر الاسئلة والتساؤلات (ينسبون كل أمر الى الله كالفقر والغنى، السلطة والوجاهة والمال والنساء والبنين، مما لا يستقيم مع العقل الحكيم. أو يدفع بعض الناس الى الكفر بهذا الاله غير العادل في توزيع الهبات والصفات على مخلوقاته دون عدل) ص10. إن المناقشة الفكر الديني السائد في الوقت الراهن، خرج عن رسالة الدين الانسانية وفكرها النبيل، اذ تدخلت المصالح والمنافع من بعض رجال الدين والمشرفين على الخطاب الديني، ان يقفون مع القوى الظالمة والسلطة الغاشمة، بذلك اصبح للدين وجهين احدهما يناقض الاخر، والغلبة النافعة التي تبحث عن كنز الذهب والدولار، قادوا الحياة في اتعس حالاتها من جحيم المعاناة، حتى أصبح الموت راحة وسلامة، وان الموتى تحت الأرض أفضل من الحياة فوق الأرض (أن الموت يحمل السلام والراحة الابدية، أما الحياة فهي تجربة واحدة لن تتكرر ثانية) وكانت لقاءات (حامد) في العالم الآخر (عالم الاموت) مع الكثير من الشرائح الاجتماعية المتضررة ظلما وعدواناً، قتلت بدم بارد لانها طالبت بحقوقها الشرعية، مثل شهداء انتفاضة أكتوبر الشبابية، التي سميت انتفاضة وطن ( - لا تخف يا جاري العزيز فانا جارك في المقبرة، ولكني اقدم منك من حيث تاريخ الدفن هنا، فلم تمض عليَّ اكثر من سنة، فقد قتلت في تظاهرات اكتوبر الشبابية المناهضة للسلطة الفاسدة الحاكمة في العراق) ص14. هكذا تكون الاحلام مشاعة بالقتل والاجهاض، لانها تفكر بحياة افضل بالاماني والاحلام والرغبات الانسانية النزيهة. هذا يدفعنا الى المسائلة: ماهو دور الدين والمراجع الدينية، في هدر ارواح بريئة بالقتل؟، ماهو دورها في صبغة الدين بالزيف والاحتيال؟ ماهي المقولات الدينية في معاني الفرح والحزن والتعاسة والسعادة والجوع والشبع ؟ لماذا تقود الحياة الى العدم والغاء الاخر، لماذا محاربة الجمال والخير لكي يتغلب الباطل والقبح؟ لماذا سطوة ونفوذ المقايضات تجري تحت الطاولة في الحياة في العقلية الدينية السائدة؟ هنا يدفعنا الى عدم الخوف من العدم، كما يقول أبيقور (أيها الانسان لا تخف من العدم لانك كنت سابقاً في العدم، كنت عدماً لمليارات السنين، لا تملك خبرة واحدة للعدم، فكر في كل الزمن الذي مررت به قبل ان تولد) ص4.134 اhorayzi

دوافع الرؤية الفكرية التي كونت وصياغة الحدث الروائي وأهميته في الترميز الدال وهي.

1 - الحدث الأول: الذئاب الغازية المكشرة الأنياب التي اقتحمت الدار وعاثت خراباً وفزعاً ورعباً لأهل الدار. ليس فقط سرقت الجمل بما حمل، وإنما سرقت الأماني والتطلعات بغدٍ أفضل، وهذا البعد الرمزي لحقيقية العراق الحالي بكل التفاصيل الدراماتيكية والسريالية.

2 -الحدث الثاني: الظروف المعيشية القاسية في أزماتها خانقة وتفاقمها نحو الخناق الكلي، تدفع العقل الى الجنون والانتحار (خروجك قبل ثلاثة أيام على الدراجة في الشارع و درجة الحرارة 55 م، لتجلب الثلج بسبب انقطاع التيار الكهربائي، كان خروجك انتحارياً، فما إن عدت الى الدار حتى سقطت مغمياً عليك) ص27.

3 - الحدث الثالث: الظلم الاجتماعي على المرأة بتبريرات اجتماعية ودينية، بأنها ناقصة العقل، او عورة ينبغي لجمها وحصرها في البيت، ومنعها من حقوقها في الكثير من المسائل الجوهرية، اعطى كل شيء للرجل وحرمان كل شيء للمرأة.

4 - شماعة (الدين افيون الشعوب): خرجت من ظرفها وسياقها الزمني ضد الكنيسة المتسلطة آنذاك، وأصبحت سلاحاً في مواجهة المعترضين والمعارضين، وصفهم بالكفر والإلحاد، السلاح الناجح والخطير بيد العقلية السلفية المنغلقة، وتكميم الأفواه وخنق حرية الفكر المتنور، وتشويه السمعة لأصحاب المدنية والعلمانية .

صياغة المضمون الفكري وأبعاده الرمزية الدالة:

تغليف الحدث السردي برؤية فكرية تضع موجودات الواقع الفعلي في مسائله الرئيسية في الشأن السياسي والاجتماعي والديني، هي مهمة في غاية الصعوبة، ان تملك معنى ومغزى ورمز، لابد من مهارة احترافية في التسويق والصياغة بشكل تؤثر لدى القارئ والمتابع، لذلك اختار الاستاذ حميد الحريزي اللعبة السريالية أو الحدث السريالي الواقعي، الذي يتناسب مع سريالية الواقع القائم، وموت بطل الرواية والشخصية المحورية (حامد) لكي يضع مرئياته في الحياة والموت، تحت مشرحة الجدل والمناقشة، في الصراع القائم بين الحقائق والمغالطات في مقولاتهم الفكرية البالية، التي لم تعد تصلح لمتطلبات الزمن الحاضر، بل اصبحت من الزمن الماضي، يعاد تدويرها وانتاجها بشكل مخالف للعقل والمنطق، بل راحت تصب في المتاجرة والربح لصالح المنافع الضيقة، بالضد من المصالح العامة، وما شخصية (حامد) تمثل شخصية المثقف الملتزم الذي لا يساوم على الحقائق ولا يبيع قلمه لمن هب ودب، بغمط مجريات الأمور مقابل مقايضات مالية. لا يمكن ان يصمت أمام معاناة الانسان والوطن. لا يمكن ان يصمت عن الصواب، في تفنيد المفاهيم والتقاليد الاجتماعية والدينية المغلوطة، ان يجابه بالمواقف الصلبة في الرفض والتمرد، وهذه الشخصية (حامد) هي تمثل المؤلف نفسه (تساءل بطل الرواية، ليستعرض عناوين كتبه العزيزة التي لم يتمكن من قرائتها لحد الآن..... أننا أيتامك ايها الغادر) ص5، وهنا يتبادر السؤال: كيف يكون موت المؤلف قبل ان يحدد مصير بطل الرواية ضمن روايته الجديدة، وما صيغة (هذيان محموم) هو عنوان استفزازي يغري القارئ، والعمق الفكري لهذا الهذيان، هو صراخ المثقف الواعي لما يجري من مهاترات وتجارة واسفاف في غسل العقول بالعواطف الدينية المزيفة، ليكون الباطل منتصراً على الحق والحقائق. انها صرخة احتجاج وتمرد على ما يقومون بهدم المجتمع، بالعادات والتقاليد الدينية المتخلفة التي لا تحترم قيمة الإنسان لا في حياته ولا في موته، وهو في سرير الموت حتى مراسيم الدفن ومراسيم اقامة العزاء وتقديم الطعام والموائد خلال أيام الوفاة وفي يوم الأربعين لغيابه عن الحياة، يتناولها بشكل ساخر وانتقادي. هذا الاحتجاج يمتلك مشروعية منطقية (- صرخ حامد بأعلى صوت، يا أحبتي أنا لا اريد أن تقام على روحي الفاتحة وتولم الولائم، يكفيني ان تزرع على قبري شجرة واحدة مزدهرة) وكذلك بدلاً من البذخ في تقديم الطعام، يمكن توزيعه على الفقراء. وأن يكون لمراسيم الجنازة والدفن، قيمة حضارية وانسانية، تحترم المتوفي بالتقدير والإجلال وليس وضعه في (الصندوق الخشبي العفن والضيق ناتئ المسامير الذي سيلقى فيه بعد ان تخمد انفاسه، والادهى من ذلك بأن هذا الصندوق القذر سيوضع فوق سقف سيارة ويربط بالحبال معرضاً لحرارة الشمس اللاهبة و الرياح المغبرة صيفاً ولزخات المطر والبرد في الشتاء دون رحمة ودون احترام من اقرب الناس اليه ومن الذارفين الدموع نفاقاً عليه، فلا يحمل في سيارة خاصة مكيفة كبقية البشر في نقل الجنائز) ص6. هذا المحاور الجدلية لبطل الرواية (حامد) خلال رحلته إلى عالم السفلي (الأموات) تبقى اسئلة عالقة للحياة جديرة بالاحترام، مقولات الفكر الديني السلفي لم تعد تلائم الظرف الراهن، التي تحولت الى التراجيدية الكوميدية. واصحاب الالهة الارض الذين اصبحوا لعبة بيد السلطة الظالمة، كأنهم نزعوا ثوب الدين الصائب بالمسؤولية والنزاهة، بأنهم مبشرين للخير وليس للشر في وجود هذه الالهة (على فرض وجود، فهذه الالهة بوصفها آلهة هي أسمى من أن تهتم بأمرك أيها المسكين المتوهم، أن الالهة في عليائها تنتظر لتموت لتحاسبك، ما وزنك أنت؟ ما قيمتك أنت في هذا العالم اللامتناهي؟) ص17. الجدل في مناقشات بطل الرواية (حامد) اين يقف رجال الدين ومراجعهم؟. اذا كانت تقف مع العدل وإحقاق المظلومين، يكونوا في صف قوى الخير، أما ان يقفوا مع سلطة المال والسلطة الظالمة، يفقدون دورهم كرجال دين مصلحين، وإنما يكونوا اتباع تحركهم شهية المال والنفوذ والسطوة المتنفذة.

أن الحوارات التي يقدمها بطل الرواية (حامد) تدور في ذهن كل مثقف ملتزم بمسؤولية القلم والمواقف الرشيدة. وهي تمثل صراع اليوم بكل تفاصيله الاساسية.. انها حمى الهموم الاساسية للواقع والحياة.

***

جمعة عبدالله

 

قراءة وتحليل قراءة وتحليل لقصص قصيرة جدا المجموعة (6)  للشاعر والقاص عادل الحنظل:

كينابيع الطفولة نبتكر شهواتنا غماما من الكلمات.. بغية اعادة صياغة احلامنا قصائدا.. قصصا.. روايات او.. ما يفاجئنا به الشاعر الحنظل عادل...الذي يلملم عبق لهاثنا.. ليقدم لنا رئة نتنفس منها بروق الدهشة والتأمل..

هل لي ان ارتجل دون ان اتخبط متجنبا الإعادة والتكرار فأشير الى ما يبلل كافة النصوص من مياه مشتركة كامنة في قصرها وكثافتها وطرافتها ولغتها القوية وتعبيراتها البلاغية المميزة من تشبيه واستعارة وتورية.. مما يمنحها إيقاعاً خاصاً يشبه الشعر في تكثيفه وتركيزه.. فيضفي عليها طابعاً مميزاً يجعل القارئ يتوقف متأملا في المعاني التي يحملها النص وانزياحاتها التي تجعل منه مرتعا للتأويلات والرسائل التربوية والفكرية والفلسفية والرمزية المهمة..

ساتناول كل نص بما يميزه قراءة وتاويلا ..

001

القصة الأولى:

"والدي ليسَ كسائرِ البَشر، أوحىٰ إليّ أن أقرأ، كالأنبياء، فابتدأَ كلُّ شيء، بعده."

النص الذي بين أيدينا يغزل بفنية عالية قصيدة فكرية تحاكي رحلة الإنسان في دروب المعرفة، حيث يتجلى الأب كنبع للحكمة والإلهام.. يفتح أمام ابنه آفاق القراءة، ويضيء له مسارات العلم كما الأنبياء يهدون برسالتهم. في وصف الأب بأنه "ليس كسائر البشر"، نلمس دفء العلاقة، وأثرها العميق في تشكيل وعي الابن. هذه العلاقة ليست مجرد رباط دم، بل هي جسر يمتد نحو عالم الفكر، حيث تنغرس بذور الثقافة وتنمو لتثمر فهماً عميقاً للحياة.

النص يتألق بجملة ختامية، تُحاكي لحظة التحول: "فابتدأَ كلُّ شيء، بعده"، كإيذان ببداية جديدة تعقبها رحلة بحث دؤوب عن الحقيقة والمعرفة. القراءة هنا لا تقتصر على كونها مجرد عادة، بل هي انفتاح على عوالم رحبة، كالوحي الإلهي الذي يُبصّر الروح ويحرر العقل. في نهاية المطاف، النص يفيض بالرموز، يجعل منه رسالة تربوية وفلسفية تستحق التأمل والتفكر العميق.

002

القصة الثانية:

"عندما كثرَتْ أخطائي، وجدتُني مُضطرّاً أن أُعيدَ الحِساب، ولمَا لم أجدْ ما أقوّمُهُ، ابتدأتُ من جَديد، بالأخطاءِ ذاتها."

تجسيد لرحلة الإنسان في متاهات النفس، حيث تتناوب الأخطاء والندم كظلال متكررة تعكس صعوبة التحرر من دائرة السقوط المتجدد. رغم اعتيادية الفكرة، إلا أن النص يتألق بجاذبية تعبيرية تجعل من مراجعة الذات مشهداً درامياً مفعماً بالتأمل. هنا، يتأرجح الإنسان بين وعيه بأخطائه وعجزه عن اجتيازها، ليظل عالقاً في دوامة الإعادة بلا تحسن يذكر.

اللغة تحمل بساطة مباشرة تعكس اضطراباً داخلياً، وتجسد رغبة مُلحة في التصحيح، وإن بدا التغيير بعيد المنال. التكرار في الأفعال، مثل "أُعيدَ الحِساب" و"ابتدأتُ من جَديد"، يصور محاولات متكررة للخلاص، محاولات تحكمها الجدية والجدلية مع الذات. في النهاية، يتجلى النص كقطعة أدبية مكثفة، حيث تتسارع الأحداث كنبض قلق، تعبيراً عن استعجال في مواجهة النفس. إنها قصة عن النقد الذاتي، تنبئ بصعوبة التغيير، ورغبة مستمرة في كسر القيود والارتقاء.

003

القصة الثالثة:

"استطاعَ كتمانَ علاقاتِهِ المُنحرِفة، بجدارة، ولما ثقُلَ حِملُها، قرّرَ التوبةَ، فانفضَح."

القصة تتألق بقوة تعبيرية وعمق فلسفي، وتصور رحلة الإنسان في مواجهة ذاته المثقلة بالأسرار والذنوب. تبدأ بهدوء مخادع، حيث تستعرض ثقل الكتمان وما يترتب عليه من ضغوط نفسية خانقة، لتنتهي بانكشاف مدوٍ يزلزل النفس. عبر لغة مكثفة ومفردات قوية مثل "كتمان" و"ثقُلَ حِملُها"، تتجلى الدراما الداخلية فيها، وتُبرز الصراع بين الرغبة في التوبة والخوف من الفضيحة.

بنية النص متماسكة، تبدأ بالكتمان ثم تتصاعد تدريجياً نحو لحظة الكشف، حيث تتحول التوبة من فكرة خفية إلى حقيقة تتطلب مواجهة شجاعة. الصور البلاغية مثل "ثقُلَ حِملُها" تعكس عمق المعاناة النفسية، بينما الإيقاع المتغير يترجم تصاعد التوتر الداخلي.

في جوهره، يعالج النص صعوبة التحرر من الذنوب، ويدعو إلى التوبة الصادقة رغم المخاطر. إنه تأمل في طبيعة الكتمان، والعبء الثقيل الذي لا يمكن التخلص منه إلا بالصدق مع الذات والمواجهة الحقيقية.

004

القصة الرابعة:

"كانَ دائما في الأمام، لم يقُلْ ذلك، عرَفتُ هذا، من توالي الطعنِ، في ظهرِه."

النص يتجلى في بساطة مكثفة، لكنه يعصف بالقارئ بصور شعرية مؤثرة تعكس مرارة الخيانة وعبء النجاح. في كلمات قليلة، يعري النص حقيقة العلاقات الإنسانية المتقلبة، حيث يصبح النجاح نفسه سبباً للطعنات الخفية. التشبيه بالطعن في الظهر يجسد قسوة الغدر، ويصور كيف أن الشخص المتقدم، الذي يتصدر الصفوف، يتحمل وحده خناجر الحسد والخيانة.

الأسلوب السردي يختزل في بساطته عالماً من التوترات الداخلية، حيث تتوالى الطعنات في صمت، معلنة عن صراع خفي بين التفوق والعداء. النص يتلاعب برمزية "الأمام" و"الظهر"، ليبرز الفجوة بين الظاهر والباطن، بين القيادة والثقة المهدورة.

إنه نص يستحضر تعقيدات النفس البشرية، ويُبرز كيف أن النجاح لا يأتي بلا ثمن، حيث يكون الشخص الناجح عرضة لسهام الخيانة المتخفية، في تجربة لا تزداد إلا عمقاً وتأملاً مع كل قراءة

005

القصة الخامسة:

"أنا أفكرّ، أنا أكتُب، أنا أُحبّ، أنا ...، إذن أنا موجود، لماذا نحنُ في الوجود؟ أصلاً."

انه تأمل في أعماق الذات والوجود، مستلهماً من الفكرة الديكارتية "أنا أفكر إذن أنا موجود"، ليعيد صياغتها بعبارات تجمع بين الفكر والفعل، ويضيف إليها أبعاداً جديدة من الحب والكتابة. بتكرار "أنا"، يُبرز النص الوجود الذاتي كجوهر لا ينفصل عن الأنشطة الإنسانية التي تشكل هوية الفرد. هنا، يتردد صدى الفلسفة في جمل بسيطة لكنها محملة بالمعاني العميقة، حيث التصاعد من التفكير إلى الحب يعكس رحلة الإنسان في البحث عن ذاته.

انه تصاعد بطيء، يبلغ ذروته بسؤال وجودي مفتوح: "لماذا نحنُ في الوجود؟ أصلاً."، سؤال يحمل في طياته القلق الوجودي والرغبة في فهم معنى الحياة. التكرار يُضفي على القصه إيقاعاً داخلياً، يُكسره السؤال الختامي ليبقى معلقاً في ذهن القارئ. إنها قطعة أدبية تتجاوز بساطتها الظاهرية لتغوص في جوهر الفلسفة، وتحفز القارئ على تأمل أعمق في ماهية الوجود والذات.

006

القصة السادسة:

"تابَ، أبدلَ الكأسَ بالعِمامَة، لا أدري، في أي جانبٍ، تكمُنُ الذُنوب."

حياكة تجسد رحلة التوبة والتحول الروحي، متسائلاً بعمق عن جوهر الذنوب ومعنى التغيير. باستخدام لغة بسيطة لكنها مشحونة بالدلالات، تصور التحول من حياة المعصية إلى التدين من خلال استبدال "الكأس" بـ"العِمامَة"، في صورة بلاغية تعبر عن الانتقال من الضياع إلى الصلاح. لكن النص لا يكتفي بهذا التحول الظاهري، بل ينتهي بتساؤل فلسفي ينبض بالشك: هل التوبة الخارجية كافية لمحو الذنوب، أم أن هذه الذنوب تختبئ في أعماق النفس، بعيدة عن متناول التغيير الظاهري؟

الأسلوب السردي التأملي للنص يخلق تناغماً بين وصف التحول وإثارة التساؤلات، مما يمنح القصة قوة فكرية وفنية. الجملة الأخيرة، بتأملها المفتوح، تعكس قلق الإنسان المستمر حول طبيعة الذنب ومعناه الحقيقي. في النهاية،  انها تعبير عن تعقيدات التوبة، حيث لا يكتفي بالتغير الظاهري بل يبحث في أعماق الروح عن الصفاء المفقود.

007

القصة السابعة:

"رمَتْ ورَقةً بين قدَمَيْ، عُنوانُها، لعلّها مُخطئة، أجهَلُ جُغرافيا النساء."

النص ينسج ببساطته وعمقه لوحة شعرية تختزل الحيرة الإنسانية أمام غموض النساء. بأسلوب سردي مختصر وتعبير بلاغي دقيق، يتناول النص تعقيد العلاقات الإنسانية ويجسد محاولة فهم "جغرافيا النساء" كاستكشاف لخريطة مجهولة. مشهد إلقاء الورقة بين القدمين يعبر عن محاولة التواصل العاجزة، في رمزية تشير إلى عمق التباعد والصعوبة في فهم المرأة.

تعبير "أجهل جغرافيا النساء" يخلق صورة بلاغية مؤثرة تعكس الفجوة بين الظاهر والباطن، ويعزز النص عبر هذا التشبيه جمالاً لغوياً وبُعداً فلسفياً يتساءل عن مدى قدرة الإنسان على فك طلاسم الآخر. رغم قصره، يفتح النص أفقاً للتأمل في تعقيدات النفس البشرية وغموض العلاقات، تاركاً القارئ أمام تساؤل دائم حول إمكانية فهم العالم الداخلي للنساء، ومثيراً تساؤلات أعمق حول الفروق النفسية والتعقيدات التي تشكل جوهر العلاقات بين الجنسين.

008

القصة الثامنة:

"انتصَرتُ في الحَرب، على نفسي، بخَسائرَ فادِحة، أدركُ أني سأبحَثُ عن تعويض، لاحقاً"

بصور بلاغية عميقة ينسج القاص حكاية الصراع الداخلي الذي يخوضه الإنسان في معركة مع ذاته. في هذا الصراع، يظهر الانتصار على النفس بوصفه نجاحاً مريراً، إذ لا يأتي دون خسائر فادحة تترك أثرها العميق في الروح. بعبارات مختصرة وقوية، يعبر النص عن رحلة النمو الشخصي التي تبدأ بالتغلب على العيوب الذاتية، لكنها تترك وراءها جراحاً تحتاج إلى التئام، وتثير تساؤلات عن كيفية التعويض والتوازن.

الحرب الداخلية التي ينتصر فيها المرء على نفسه تحمل في طياتها التضحيات الضرورية للنمو والتغيير، لكنها تفتح باباً للتفكير في كلفة هذا الانتصار. بذلك، يلامس النص جوهر النضال الشخصي، ويطرح تساؤلات فلسفية حول الثمن الذي ندفعه مقابل التقدم والتحول. إنه تأمل في رحلة الإنسان نحو ذاته، حيث يكمن الانتصار الحقيقي في التوازن الذي يسعى لتحقيقه بعد أن يخفت ضجيج المعركة.

009

القصة التاسعة:

"لم أدركْ جَدّي، لم أعرفْه، رحَلَ قبلَ أن أفطَن، ورغمَ ذلك، أكيلُ لهُ المديحَ، دائماً."

يتجلى النص في بساطته وعمقه، في نسجه خيوط حنين وتقدير للأجداد الذين لم يعرفهم الكاتب شخصياً، لكنه يشعر نحوهم بإجلال متوارث عبر الأجيال. يعبر النص عن تلك الصلة الخفية التي تربطنا بأسلافنا، حتى في غياب المعرفة المباشرة. فبالرغم من عدم إدراكه لشخص الجد، إلا أن الحنين يلامس قلبه، ويعكس احتراماً راسخاً في وجدان العائلة.

بلغة بسيطة يعبر الكاتب عن مشاعر عميقة، فالتكرار في "لم أدركْ"، "لم أعرفْه" يثري النص بإيقاع هادئ، يحمل نغمات الاحترام المستمر. الجد هنا ليس مجرد فرد، بل رمزٌ لكل الأجداد، لتلك الجذور العميقة التي تغذي شجرة العائلة بالقيم والتقاليد.

هذا النص هو وقفة تأمل في استمرارية التراث والاحترام عبر الزمن، دعوة لتقدير ما ورثناه من أسلافنا، وما نحمله للأجيال القادمة من حب واعتزاز.

010

القصة العاشرة:

"تعوّدَتِ الابتسسام، تلكَ ايماءةٌ بلا مشاعِر، كلَ ما تتمّنىٰ، أن تنجَلي المعرَكة، بالكثيرِ من الغَنائم، على جَسدٍ بلا حياة."

النص يعبر برقة وعمق عن التناقض بين المظهر والجوهر، حيث تختبئ المشاعر خلف ابتسامة معتادة، في مشهد يعكس اضطراباً داخلياً عميقاً. يتناول النص صراع الإنسان مع ذاته، محاولاً تحقيق نجاحات خارجية رغم الألم الداخلي المستتر.

اللغة في النص قوية، تختزل في بساطتها معاناة معقدة، وتُظهر صراعاً مريراً بين ما يُبديه المرء للعالم وما يعيشه داخلياً. الصور البلاغية، كـ"ابتسامة بلا مشاعر" و"جسد بلا حياة"، تُبرز الفراغ الداخلي وتعمّق من وقع الصراع النفسي.

النص يتدفق بإيقاع هادئ ومتماسك، يعكس السكينة الظاهرية المحفوفة بالعواصف النفسية. يُعري النص واقع التعايش مع التناقضات الداخلية، ويثير التأمل في مدى توازن الإنسان بين النجاح الخارجي وسلامه النفسي..

في النهاية، يلتقط النص ببراعة تلك المعركة الخفية، مُبيناً كيف تتلاشى السعادة الحقيقية تحت وطأة الابتسامات المزيفة.

011

القصة الحادية عشر:

"نظَرَ إليّ بغَيْظ، كانَ في عَينَيهِ شيئٌ مُخيف، أردتُ أن أغادر، نظرتُ حولي، لا أحَد."

يحبك القاص  مشهداً يغمره التوتر والرعب، حيث تتجلى الوحدة في أعمق معانيها. العينان اللتان تحملان شيئاً مخيفاً، تشكلان نافذة إلى تهديد خفي، فتوقظ في النفس رغبة ملحة للهرب. لكن ما يعمق الرهبة هو تلك العزلة المطلقة؛ حيث لا ملاذ، لا أحد يُبدد الوحشة.

اللغة بسيطة لكنها نافذة، تختزل في كلمات قليلة شعوراً بالاضطراب النفسي والانغلاق، وتخلق جواً من الخوف الملموس. الجمل القصيرة المتلاحقة تعكس إيقاعاً متسارعاً، يواكب دقات قلب يعتصره الهلع.

الأسلوب السردي المباشر يُقحم القارئ في حالة من الترقب، لتتحول النظرة المريبة إلى كابوس يقظ. يبرز النص التناقض بين الحضور المخيف والغياب البارد، مجسداً العزلة الموحشة والخوف الكامن في أعماق النفس.

بهذا، يغدو النص مرآة تعكس هشاشة الروح أمام تهديد مجهول، محاطة بفراغ قاتل.

012

القصة الثانية عشر:

"قفزتُ على الحَبل، لابدّ أن أصِلَ الى الطرفِ الآخَر، بحَذر، لا يحكمُ خُطواتي قانونُ الجاذبية، بل قانونُ الهِجرة."

يتأمل النص في رحلة الإنسان لتحقيق أهدافه وسط تحديات الحياة، مستخدماً لغة رمزية تعبّر عن المخاطرة والتوازن. يشبّه السعي لتحقيق الغايات بالقفز على حبل، حيث لا تسود قوانين الجاذبية بل قوانين الهجرة، مما يرمز إلى التحديات الاجتماعية والسياسية التي تؤثر على قرارات الإنسان ومساراته. ان الجمل القصيرة والتعبير المكثف تكشف صراعاً داخلياً مستمراً، حيث يتطلب الوصول إلى الهدف حذراً دقيقاً وسط ظروف معقدة. الصور البلاغية في النص تعبر عن التوازن بين الرغبة في التقدم والخوف من السقوط، مما يعزز الإيقاع المتزن ويكشف عن عمق فلسفي في التفكير حول القوانين التي تحكم حياتنا. يعبر النص في مجمله عن رحلة الإنسان الحذرة لتحقيق النجاح، محاطاً بقوانين تحدّ من حريته، مما يجعله قطعة أدبية تأملية تستحق الغوص في دلالاتها.

013

القصة الثالثة عشر:

"أينَ اختَفَتْ أوراقُ التوت، سُؤالٌ بريء."

النص يتجاوز بساطته الظاهرةوسهولة فهمه، ليكشف لنا عن عمق معنوي وفلسفي. ببضع كلمات، يطرح تساؤلاً بريئاً لكنه يحمل في طياته معاني ودلالات عميقة . "أوراق التوت" التي لطالما ارتبطت بالحماية والستر، تختفي، مما يفتح باب التأمل في حقيقة ما كان مخفياً. السؤال البريء يكشف عن توتر بين البراءة وكشف المستور، متسائلاً عن مغزى الحقيقة بعد زوال القناع. النص يمتاز بلغة مكثفة  وإيقاع هادئ وبسيط، يؤكد دلالات براءة السؤال وعمق المعاني المخفية وراءه وتأثيره . كما يمكن ان  ينير الدرب الى الكيفية التي تطرح بها الأسئلة البسيطة.. تلك التي تحمل في طياتها عمقاً فكرياً.

النص  يتناول  ايضا المعنى الفلسفي للبراءة ومخاطرها في كشف الحقائق، اما في الجانب الرمزي، فانه يعبر عن التحولات التي تحدث عندما تُرفع الحجب. انها دعوة للتفكير النقدي، مؤكداً أن البراءة ليست مجرد جهل، بل قد تكون بداية لوعي نوعي وشجاعة في مواجهة ما خفي. او انه البحث البريء والصادق عن الحقيقة دون تلاعب أو تحايل. باختصار، إنه نص قصير ، مركب من جملتين قصيرتين، تمنحانه تماسكاً وبنية واضحة..لكنه غني بالمعاني، يثير الفكر ويستدعي التأمل.

014

القصة الرابعة عشر:

"أسمَعَها أجملَ الشِعْر، أعذبَ الكلام، طافَ بها الدُنيا، كانَ فمُها الهدَف، ولم يُفتَحْ."

يعبّر النص بلغة رقيقة وشاعرية عن الجهد المبذول في الحب، متسائلاً عن جدواه رغم المحاولات المستمرة. يتناول النص بأسلوب بسيط وعفوي تساؤلاً يحمل في طياته إحباطاً واستفساراً بريئاً عن الحقيقة المختبئة خلف الحجاب. الكلمات المختارة بعناية تجسد هذا التساؤل البريء، بينما تكشف الصور البلاغية مثل "أوراق التوت" عن رمزية الحماية والأسرار المكنونة. النص ينساب بإيقاع هادئ، يعكس عمقاً فكرياً وفلسفياً في البحث عن الحقائق المخفية وراء الأسئلة البسيطة. في نهايته، يترك النص القارئ أمام تأملات حول قوة الاستفسار العفوي في كشف الغموض، وإزالة الحجاب عن الحقائق المدفونة. هذه الكلمات القليلة تحمل بداخلها صراعاً بين السعي والخيبة، مظهرة كيف يمكن للبساطة أن تكون مدخلاً للغوص في أعماق الأمور، حيث تتلاقى الرومانسية بالتأمل الفلسفي.

015

القصة الخامسة عشر:

"السنينُ التي عبَرَتني، كثيرة، كسَرتُها، أعدتُ بناءَها، لأصنعَ منها قَفَصاً، لا يسعُ غيري."

النص ينسج بحرفية أدبية عالية رحلة الحياة في صورة مجازية مؤثرة، حيث يتحدث عن التجارب التي تصوغ الذات رغم قسوتها، ليمتد إلى بناء استقلال داخلي يفضي إلى عزلة ذاتية. بأسلوب شعري غني بالصور البلاغية، يصور النص عملية كسر الذات وإعادة بنائها، ليخلق قفصاً لا يسع سوى صاحبه، وكأنه يسجن نفسه داخل تجاربه. النص متماسك، يتدرج من استذكار السنوات والتجارب، مروراً بالتحولات الداخلية، وصولاً إلى لحظة السجن الذاتي. كل جملة تحكي مرحلة، وكل صورة تحمل عمقاً يعكس الصراع الداخلي. لغة النص هادئة لكنها تحمل تأملات عميقة في كيفية تحويل الألم إلى قوة، وتجعل القارئ يغوص في فلسفة التعامل مع الحياة وتحدياتها. في النهاية، النص يعبر عن كيفية تحول التجارب إلى قيود ذاتية، حيث يصبح الإنسان أسير رحلته الخاصة، مفكراً في كيفية التحرر منها.

***

طارق الحلفي

...............................

رابط قصص قصيرة جدا

https://www.almothaqaf.com/nesos/976664-%D8%B9%D8%A7%D8%AF%D9%84-%D8%A7%D9%84%D8%AD%D9%86%D8%B8%D9%84-%D9%82%D8%B5%D8%B5-%D9%82%D8%B5%D9%8A%D8%B1%D8%A9-%D8%AC%D8%AF%D8%A7-6

للروائي الغلى بوزيد

بوزيد الغلى هو باحث وروائي مغربي متخصص في التراث الحساني، وله بصمة واضحة في الساحة الأدبية الوطنية والعربية. يُعد من أبرز المساهمين في الحفاظ على التراث الشعبي الصحراوي، وذلك من خلال مجموعة من مؤلفاته التي تستعرض ثراء هذا التراث وتنوعه. من بين أبرز أعماله "زاوية أسا: جدل التاريخ والأسطورة"، "دراسات في المأثور الشعبي الحساني"، و"عتبات صحراوية: قراءة في المنجز السردي والأكاديمي بالصحراء". كما أنه نشر العديد من المقالات الأكاديمية في مجلات مرموقة وشارك في فعاليات ثقافية وعلمية داخل المغرب وخارجه.

"الطلح لا يخطئ القبلة" هي رواية تتناول قصة شخصية تمر برحلة فكرية ونفسية، تكشف من خلالها عن هويتها وتخوض تجارب سياسية واجتماعية معقدة. هذه الرواية تقدم سرداً عميقاً لحياة الفرد داخل مجتمع يمزج بين الدين والسياسة، ويعالج قضايا الانتماء والصراع بين الطاعة والتحرر. الرواية تركز على شخصية رئيسية تشعر بالضياع بين ما تؤمن به وما تراه في حياتها الواقعية. بطل الرواية ينتمي إلى تنظيم ديني متشدد، لكنه مع مرور الوقت يبدأ بالتساؤل حول مدى صحة هذا الالتزام الصارم الذي فرضه عليه التنظيم. الرواية تظهر كيف أن مثل هذه الصراعات الداخلية تدفع الشخص لإعادة التفكير في معتقداته وخياراته. من خلال رحلة الراوي في الرواية، نرى معالجة لمسألة الانتماء، حيث يتم تقديم الانتماء إلى الجماعة كنوع من الأمان والمعنى، ولكنه يتحول لاحقاً إلى عبء يقيد حرية الفرد ويحد من قدرته على التفكير بحرية. هذا الصراع هو أحد المحاور الرئيسية في الرواية، حيث يظل الراوي يتردد بين الولاء للجماعة أو السعي نحو التحرر الشخصي واستعادة حريته الفكرية. البعد النفسي لشخصية الراوي يظهر بوضوح في الرواية. هذه الشخصية تبدأ رحلتها كفرد مطيع ومنخرط في التنظيم، لكن مع مرور الزمن يتحول إلى شخص متسائل، ومن ثم متمرد. الرواية تسلط الضوء على الطريقة التي تؤثر بها التنظيمات المغلقة والمتشددة على نفسية الفرد وتفكيره، وكيف أنها قد تدفعه إلى إعادة تقييم حياته واتخاذ قرارات جريئة بالتحرر والانفصال عن تلك الجماعات. في بداية الرواية، يظهر الراوي كشخص تائه يبحث عن اليقين والطمأنينة داخل الجماعة. مع مرور الوقت وتزايد التناقضات بين قناعاته الشخصية وما تمليه عليه الجماعة، يبدأ الراوي بالشك في الطريق الذي اختاره، وهو ما يقوده في النهاية إلى اتخاذ قرار بالتحرر والانفصال عن التنظيم، ليصبح فرداً مستقلاً وقادراً على اتخاذ قراراته بعيداً عن الضغوط الجماعية. في المقابل، تأتي شخصية "أبو النواجر" كأحد الشخصيات القيادية في التنظيم الديني المتشدد. "أبو النواجر" يمثل شخصية قيادية تسعى للسيطرة على أتباعها من خلال الدين، إلا أن الرواية تكشف عن تناقضات جوهرية في هذه الشخصية. فعلى الرغم من ظهوره كمخلص لأفكاره، إلا أنه في المواقف الحاسمة يظهر انتهازية واضحة، حيث يضع مصالحه الشخصية فوق مبادئه التي يروج لها. في نهاية المطاف، تتجلى هشاشته أمام التحديات والمواقف الحقيقية. الرواية تتعامل مع مواضيع حساسة مثل الدين والسياسة، وتوضح كيف يمكن استخدام الدين كوسيلة للسيطرة على الأفراد واستغلالهم من قبل الجماعات المتشددة لتحقيق أهداف سياسية. الجماعة التي ينتمي إليها الراوي تسعى إلى استغلال الدين من أجل فرض سيطرتها، مما يجعل الراوي يشكك في مصداقية أهداف الجماعة. قضية الهوية تمثل أيضاً موضوعاً مركزياً في الرواية، حيث يتصارع الراوي مع ضياع هويته الشخصية بسبب انتمائه إلى الجماعة. الرواية تعالج ببراعة هذا الصراع بين الانتماء والتحرر، وتظهر كيف أن الابتعاد عن القيود الجماعية يفتح الباب لاكتشاف الذات والهوية الشخصية الحقيقية. البنية السردية للرواية تعزز من تجربة القارئ، حيث تميل الرواية إلى الانتقال الزمني التدريجي في سرد أحداثها، مما يسمح بفهم تحولات الراوي الداخلية. يبدأ النص بتقديم الراوي كشخص مؤمن تماماً بما تمليه عليه الجماعة، ثم تتغير تلك القناعة تدريجياً مع مرور الزمن، حتى يصل إلى مرحلة التمرد والاستقلال. الأسلوب الأدبي الذي يستخدمه الكاتب في الرواية يتميز بالعمق والرمزية. بوزيد الغلى يعتمد على لغة غنية بالتأملات الفكرية والفلسفية، وهو ما يجعل القارئ يتفاعل مع التجربة النفسية والروحية التي يخوضها الراوي. النص مليء بالتأملات الداخلية التي تمنح القارئ فرصة لاستكشاف الحالة النفسية للبطل، وكيف يواجه التحديات الداخلية والخارجية.

في النهاية، "الطلح لا يخطئ القبلة" تقدم رحلة عميقة نحو التحرر الشخصي والوعي الذاتي. الرواية تطرح تساؤلات فلسفية عميقة حول الهوية والدين والسياسة، وتسلط الضوء على أهمية الحرية الفردية في عالم تسيطر عليه الجماعات المتشددة.

***

زكية خيرهم

 

في يوم (1960\1\4) قطعت اذاعات العالم برامجها الاعتيادية لتذيع خبر وفاة الفيلسوف والرائي الفرنسي (البير كامو) بحادث اصطدام السيارة التي كان يستقلها بشجرة البلوط، انتشر الخبر في كل عواصم العالم لكن والدته كانت اخر من يعلم فقد كانت مصابة بضعف السمع غير ان شقيقها اعلمها بالخبر بعد جهد جهبد .

ولد البير كامو في الجزائر عام 1913 وتوفي في باريس عام 1960 ولم يكن امام مثقفي العالم كله الا ان يعلنوا الحداد الفلسفي والروحي على هذا الفيلسوف الذي كان يعاني من امراض عصره وحاول ان يعالجها كما انه كان رجل سياسة واخلاق، ناضل من اجل الحرية والعدالة وكاتبا صحفيا لقد وجد مثقفوا عصره عزاء في الثالوث المقدس الذي كان يؤمن به (كامو) وهو :العبث،التمرد، والثورة).

جاء في المعجم الفلسفي الروسي .. (ان كامو فيلسوف وروائي فرنسي وممثل للوجودية الملحدة تشكلت اراءه تحت تأثير (شوبنهاور) و(نيتشه) وتعبر فلسفته عن الضياع والقلق والعدمية، والانسان عنده في حالة عبثية دائمة ومقدر عليه ان يقوم بأنشطة لا معقولة وليس لها اي معنى ..).

وهكذا كانت ثلاثية العبث والتمرد والثورة هي المحاور الرئيسية الثلاث في فكر (كامو) حيث حاول معالجة العبث في روايته الشهيرة (اسطورة سيزف) وقد رفض كامو فكرة الانتحار ويرى ان الحياة يجب ان تعاش وان لم يكن لها معنى حيث اتهم بانه متناقض في احكامه العامة لانه استولت عليه فكرة عبث الحياة.

كان البير كامو يعشق (الجزائر) مسقط راسه وقد تصور ان مصيره قد ارتبط بها وهي كما كان يقول (تمنحني الشمس مجانا فأتمتع بالدفأ ..) وكان يهدف الى نشر حضارة جديدة يشترك فيها العرب والمستوطنون الفرنسيون فأسس فرقة مسرحية كان هو الممثل والمؤلف والمخرج معا ولكن القلق ظل يساوره فعاد الى باريس التي احتلت من قبل قوات هتلر فانضم الى حركة المقاومة السرية في باريس واتخذ شعار .. (انا اتمرد فنحن اذا موجودون) على غرار شعار (ديكارت) (انا افكر اذا انا موجود ..) حتى تحررت باريس عام 1944

حاز البير كامو على اعجاب الكثير من المفكرين الادباء والكتاب من حيث فلسفته واعماله الادبية ونظروا بعين الاهتمام والتحليل رواياته مثل :الغريب،اسطورة سيزف وغيرها وذهبوا الى العلاقة التي تربطه بالفيلسوف الفرنسي الوجودي (جان بول سارتر)من بين الذين كتبوا عنه الكاتب المصري كامل زهيري الذي ركز على مرحلة الطفولة التي مر بها هذا الفيلسوف،كتب زهيري في كتابه الموسوم (الغاضبون) (كان اغرب ما في حياة هذا الاديب انه يحب الرياضة (كرة القدم).. كان يسير وحيدا ويدرس وحيدا ويقف وحيدا وان الشيء الوحيد الذي تعود عليه البير كامو هو الوحدة منذ صباه،وكان يعيش في بيت متواضع لقد احب دراسته حبا عظيما وتعلق باول مدرس علمه الحروف الاولى في المدرسة الابتدائية الى الحد الذي جعله يهدي اليه الخطاب الذي القاه بعد اربعين عاما عندما حصل على جائزة نوبل عام 1957 .

لقد اهتم البير كامو بالشعراء والكتاب والفلاسفة واهتم بفلسفة اليونان اختار لرسالة (الدبلوم) دراسة عنوانها (العلاقة بين الفلسفة اليونانية والمسيحية) الا ان المرض منعه من اكمال دراسته واخذ يكتب بالصحف اليومية التي تصدر بالفرنسية عن الفقراء في الجزائر، وفي باريس ترأس تحرير جريدة كومبا اي (الكفاح) فكانت كتاباته عبارة عن مفاجئة لباريس وللأدب الاوربي كله، رحبت باريس بالكاتب الجديد الذي يكتب عن مأساة الانسان الحديث، لقد كان يتهم حياة الناس بانها حياة عادية سخيفة الانسان يصحو من النوم ويركب الترام ويقضي اربع ساعات في المكتب او المصنع ويتناول طعامه ثم ينام وهكذا ويمضي الاحد والاثنين والثلاثاء والاربعاء والخميس والجمعة بنفس الترتيب .

فأين هي الحياة الحقيقية؟ ومن هو الانسان ولماذا يعيش وماهي الغاية من الحياة ..؟

فماركس يقول ان الاقتصاد هو الذي يحرك التاريخ،فرويد يرى ان الجنس هو الذي يفسر الانسان وعندما جاء البير كامو قال ان الانسان يشبه (سيزف) بطل الاسطورة اليونانية التي تقول عليه ان يحمل صخرة كبيرة الى اعلى قمة الجبل، وهكذا فالحياة خليط من اللذة والسخف كما يراها (كامو) وتتأرجح بين المعقول واللامعقول وليس هناك شيء معقول تماما ولا مجنون تماما.

كان كامو معجبا بالطبيعة ويرجع سر اعجابه بها كما يصرح بانها لا تكذب وشريفة وان الانسان هو المخلوق الوحيد الي يرفض ان يبقى كما هو فهو وجود ومستقبل والحيوان وجود فقط)،هذا ما كتبه عنه كامل زهيري وختاما فالفيلسوف الذي عاش طوال حياته ينادي بفلسفة العبث مات بطريقة عبثية.

***

غريب دوحي

 

عن دار يافا العلمية الحديثة (2023) صدرت رواية السّيرة الذّاتية "أرملة من الجليل" للكاتب محمد بكريّة، وتقع في مئة وسبعٍ وثمانين صفحة، مقسّمة على خمسة فصول.

السيرة الذاتيّة هي مرآة عاكسة لحياة الفرد، ترسم صورة واقعيّة لحياته، بدءًا من الأفراح وانتهاءً بالأحزان، وهي بمثابة شهادة صادقة يقدّمها عن نفسه، يسجّل فيها ما مرّ به من تجارب وأحاسيس.

من الذّاكرة إلى السّرد، رحلة في أعماق الذّات والمجتمع:

ينسج هذا العمل خيطًا رفيعًا يربط بين الذّات والمجتمع والمكان، حيث تتقاطع الذّاكرة الفرديّة مع الذّاكرة الجماعيّة في لوحة متشابكة تشكّل صورة بانوراميّة للحياة.

يروي السّارد حكاية أسرته على خلفيّة تاريخيّة واجتماعيّة متغيّرة، فتتداخل الذّكريات مع الأحداث الّتي شهدها المجتمع، ليتحوّل النّصّ إلى سيرة تعكس روح الزّمان والمكان، وإلى رؤية شخصيّة عن المجتمع الّذي نشأ فيه الكاتب.

في هذا التّناغم، تتجلّى قوة الكلمة في قدرتها على ربط الأجيال وتوثيق الأحداث، وتتجلّى أيضا قدرة الأدب على تجاوز حدود الذّات الفرديّة، وتصوير تجارب وأحلام وآمال الجماعة، فهو نافذة تطلّ على عالم متشابك من العلاقات والتّأثيرات المتبادلة.

يستهلّ بكريّة نصّه بتأكيد قاطع على قوّة ذاكرته، مستبعدًا أيّ احتمال للنّسيان، خاصّة في ظلّ الأحداث الّتي مرّ بها، يعتبر الذّاكرة جزءًا لا يتجزّأ من هوّيته، ورابطًا حيّويًا بين الماضي والحاضر والمستقبل، يستخدم تشبيهًا قويًّا ليوضّح هذه العّلاقة، فيشبّه الذّاكرة بالطّفل الّذي يتمسك بأمّه، والأمّ الّتي لا تتخلّى عن طفلها، مؤكّدا أنّ الذّاكرة ليست مجرّد مستودع للأحداث، بل هي رفيقة دائمة يستأنس بها ويستدعيها وقتما يشاء، سواء في اليقظة أو المنام، ويظهر ذلك واضحا في قوله: "أمسك بمعصمها وألوذُ بها إلى أيّ مكان" (ص 7).

هذا التّعبير المجازيّ يعكس مدى الألفة والتّقارب بين الكاتب وذاكرته، فهذه الفقرة الافتتاحيّة توضّح أهميّة الذّاكرة في حياته، ودورها في تشكيل هويّته وتوجيه مساره، فهي مستودع تجاربه، بها نحفظ قصص الأجداد، وهي الخيط الّذي يجمعنا بأحفادنا، وبوصلتنا الّتي تدلنا على الطّريق، ففي كلّ ذكرى نستعيدها ننقل قيمنا وتقاليدنا، ونزرع في نفوس الأجيال القادمة حبّ الأرض والانتماء إليها، نؤكّد على وجودنا وهويّتنا، ونبني جيلًا واعٍ بتاريخه وماضيه.

في هذا السياق، قرأ كلّ من محمود درويش وإدوارد سعيد واقعهما السياسيّ والإنسانيّ في مرآة الآخر، التقيا على أرضية الذّاكرة والتّاريخ، فبينما رسم درويش معاناة الإنسان في مواجهة واقعه، ناقش سعيد القضيّة بروح إنسانيّة، وقد أدرك كلّ منهما أنّ صراعنا مع الآخر ليس سوى حرب ذاكرة.

أمّا غسّان كنفاني، فجعل من الذّاكرة محورًا أساسيًا في أعماله، مؤكّدًا على دورها في مقاومة النّسيان والحفاظ على الهويّة، في حين اعتبرها سميح القاسم سلاحًا لمواجهة محاولات طمس الهويّة والتّاريخ.

أمّا مقولة الكاتب الرّاحل سلمان ناطور، فتختصر أهميّة الذاكرة الفلسطينيّة، وضرورة الحفاظ عليها؛ لمنع الغياب والتّغييب، حيث قال: "ستأكلنا الضّباع إن بقينا بلا ذاكرة".

لم يتوانَ هؤلاء الأدباء عن استخدامها كوسيلة للتّعبير عن واقعنا، فكانت بالنّسبة لهم بمثابة الجسر الذي يربط بين الماضي والحاضر، وبين الأجيال المتعاقبة.

ينتقل بنا الكاتب إلى طفولته مع والدته الأرملة وإخوته، فالنوستالجيا عنده ليست مجرّد ذكرى، بل هي حالة عاطفيّة عميقة ترافقه في كلّ خطوة، يستعرضُ تفاصيل بيت الطّفولة البسيط، حيث تجسّدت قيمة الأسرة في أبسط صورها، وساد الحبّ في كلّ ركن من أركانه، على الرّغم من آلام الفقد المبكّر، يسرد أحداثاً فارقة في حياته، ويصف المشاعر الّتي رافقتها، ويحلّل الدّروس الّتي تعلّمها منها.

الخوف كموتيف أدبيّ، رحلة داخل النّفس:

يتجسّد الخوف كموتيف أدبيّ في هذا العمل بعدّة مستويات، فهو يظهر بوضوح في تجربة الأمّ بعد وفاة زوجها، حيث عاشت في قلق دائم من فقدان أبنائها أو تعرّضهم للأذى، خاصّة في ظلّ الظّروف الصّعبة الّتي عاشوها.

عكس هذا الخوف تأثير هذه الظّروف على نفسية الأفراد وتصرّفاتهم، كما سلّط الضّوء على قوّة الأم وقدرتها على التغلّب على مخاوفها من أجل حماية أبنائها وتوفير حياة كريمة لهم.

يكتب (ص 74): "الخوف أحيانا يثأر من نفسه، ومن شدّته يتحوّل إلى مخزون قوّة، فالخائف المتحوّل إلى قويّ، لا يلتفت إلى الخلف، ولا يحاول تقليب مواضع خوفه من جديد. هكذا نجحت أمي في ترويض مخاوفها حتّى زأرت كالأسد".

كما لاحق الخوف السّارد كظلٍّ عنيدٍ، منذ بواكير حياته وحتّى بعد أن بلغ أشده. كان خوفه على والدته انعكاسا لمخاوفه العميقة، فبعد أن تيتّم بوفاة والده، عاش في رعب دائم من فقدانها هي الأخرى، وعندما غادرت الدّنيا، رحمها الله، تركت في نفسه جرحا لا يندمل.

لقد ظلّ شبح الخوف من فقدان أمه يلاحقه حتّى في أحلامه، كان يراوده كابوس مزعج، وصفه بالتّفصيل بين الصّفحات (56 الى 59).

ذلك الكابوس كان إشارة واضحة لخوفه من غيابها، فهي بالنّسبة له لم تكن مجرّد أم، بل كانت الوطن والأمان والحضن الدّافئ، تحمّلت كلّ الصّعاب وتعبت وضحّت؛ لأجل تربية أبنائها دون كلل.

يقول (ص 103): "ذات الكابوس لم يفارقني منذ طفولتي إلى أن بلغت رشدي، تساءلت، لماذا يتردّد عليّ هذا الكابوس في منامي من فترة إلى أخرى؟ فأدركت أن خوفا شديداً أصابني في صغري، وترك أثره عليّ إلى يومنا هذا، مع تراجع حدّة الخوف".

في عالم الأدب وفي السّيرة الذاتيّة تحديدا، عندما يتحوّل الخوف إلى "موتيف" متكرّر، فإنّه يتجاوز كونه مجرّد شعور عابر؛ ليصبح نافذة نطلّ منها على أعماق شخصية الكاتب وتجربته الحياتيّة.

في هذا النّصّ، يتحوّل الخوف إلى خيط رفيع يربط بين مختلف مراحل حياة الكاتب، يكشف عن تحوّلاته وتطوّره، يستخدمه كأداة للتّنقيب في أعماق نفسه، لفهم دوافعه ومخاوفه وكشف أسرار شخصيّته، الّتي ربّما، لم يكن مدركا لها في مرحلة مبكّرة من حياته.

يبدأ السّرد منذ عام (1976م)، حين يصف استشهاد جابر الطحان في القرية، في منطقة "المراح" خلال أحداث يوم الأرض، حيث ملأ الصّراخ والنّحيب فراغ اللّيل الّذي تضوّعت منه رائحة الموت.

يصف خوفه قائلاً (ص 18): "كان الرّعب من الموت يعشعش فينا؛ لدرجة كنت وشقيقي محمود، نخاف الذّهاب إلى الحمّام الخارجيّ في ساعات المساء، حين يخيّم الظّلام على الحيّ والقرية".

"كنّا نخاف من الموت، حتّى من الحديث عنه، أمّا ذكر اسم الميت فكان مبعثا للهلع والرّعب، فالحديث عن الموت كفيل أن يبقيَنا في حالة نفسيّة سيئة للغاية".

يتابع السّارد حديثه عن الخوف بعينيّ طفل بريء، لا يشعر بالأمان بسبب الظّروف المحيطة به.

تتّضح آثار تلك التّجارب المؤلمة على روحه، لتغدو فكرة الموت شبحا يطارده في كلّ زاوية، يؤرّق منامه ويقضّ مضجعه، فلطالما ارتسمت في مخيّلته على جدران الغرفة حيث ينام، أشكال وظلال من الضّوء الخافت، تتراقص على الجدران والسّقف، وتتحوّل في خياله إلى أشباح تترصّده، فتزداد نبضات قلبه رعبا وهلعا.

يكتب أيضا (ص 19): "كنت أعزّز التصاقي بالوالدة، الّتي كانت تنام على فراشها بجانبي".

أمّا الأمّ فكان خوفها على أولادها العشرة واضحا، يتعاظم مع تقدّمها في السّن، أصبحت تخشى الوحدة، وتناشد أبناءها ألا يتركوها وحيدة، فهم بالنّسبة لها الملاذ الوحيد في هذه الحياة.

تقول (ص 63): "يمّة خليك حدي".

يقول بكريّه (ص 63): "اعتقدنا أنّ خوفها مصطنع، لاحقاً أدركنا أنّ هذا الخوف حقيقيّ، يشعر به كبار السّنّ في خريف أيّامهم، حيث تسيطر عليهم فكرة الفراق والموت، الخوف في هذه المرحلة معروف وغير مبتذل".

يكتب: "ما أبسط أمنيات العجائز، كأمنيات الأطفال طاهرة نقيّة، فهي لم تبغ شيئا من الدّنيا سوى منحها شعوراً بأنّها عنصر هامّ في هذا المحيط" (ص 51).

يقول أيضا: "كنت أظنّ أنّ المرض الجسديّ، هو أصعب ما يبتلى به الإنسان، لكنّني أنكر ذلك الآن، بعد التّجربة المرّة الّتي عاشتها أمّي مع الخوف، الخوف من الغامض، الخوف من الموت، الخوف من الوحدة، الخوف من أمر نجهله" (ص 46).

أمّا آثار التربيّة الخاطئة الّتي تعرّض لها الكاتب في طفولته؛ فظلت تلاحقه تاركة أثرا عميقا على نفسيّته، يكتب (ص 106):

"أعلم أنّ الوالدة لم تقصد ترهيبي ولا تعذيبي، فوالدتي كانت أميّةً لا تفقه أيّ شيء في علم النّفس وأساليب التربيّة الحديثة، لهذا جهلت تبعات تهديدها لي باختلاق الحكايات المخيفة، على سبيل المثال: "روح نام قبل ما يجيك أبو وجه مسلوخ" أو "أسكت قبل ما يجينا خطّاف الأطفال".

"حينها أندسّ في فراشي، وأطمر وجهي بالغطاء، وأنا ألهث من الخوف". (ص 107).

على صعيد الأحداث العامّة الّتي سادت، يصف الكاتب (ص 27) كيف شهدت قرى عرّابة وسخنين ودير حنّا، أيّاما عصيبة، حيث كانت المواجهات تتكرّر وتخلّف وراءها الشّهداء والمسيرات الحاشدة، الّتي تنطلق وتهتف بالشّعارات الوطنيّة، لتؤكّد على أنّ الارض موطن ووطن، هويّة وكيان.

كان مصطفى، شقيق الكاتب، قلبا ثائرا ينبض بحماس الشّباب المتمرّد، وكان عليّ شقيقه الآخر، عمود المنزل ورفيق والدته في تحمّل أعباء الحياة بعد رحيل الأب عام ثمانية وستين، حاولت العائلة الاعتماد على الزراعة لتوفير لقمة العيش، لكن حادثة تدمير المحاصيل ألقت بظلالها الكئيبة على حياتهم، وزادت من معاناتهم. تلك الحادثة أثرّت في طفله الدّاخليّ وزادت من خوفه، خاصّة حين سمع صراخ أهل البيت يتعالى في فضاء الحي.

يكتب (ص 35): "كان ردّي الطّبيعيّ أن التقطت طرف جلباب الوالدة، تمسكّت بساقها وانفجرت باكيا، خوفا لا حزنا، بكاء المذعور الّذي يشعر أن زلزالا قادما لا محالة، وفرص النّجاة معدومة".

هناك حزنٌ يتسرّب من بين السّطور، يغمر القارئ بحنينٍ مؤرّقٍ، كنسيمٍ يحمل عبق ذكرياتٍ أليمة، واشتياقٍ إلى زمن مضى، وأرواح غابت، تتردّد سيرتها بين ثنايا السّطور؛ كأنينٍ مكتومٍ.

أسلوب الكاتب، والتّأثير الفنّيّ:

يتّبع الكاتب أسلوبًا انفعاليًّا يشدّ القارئ، محدثًا فيه تأثيرات عميقة ومستمرّة؛ ليعكس حالة من التّساؤل والبحث عن الحقيقة، موظّفا أسلوب السّرد الدّاخليّ للكشف عن أفكاره ومشاعره بوضوح.

أمّا اللّغة، فاستُخدمت كأداة تجمع الواقع بالماضي والحاضر، والحزن والفرح، التقى الكاتب من خلالها بطفله الدّاخليّ الّذي كان، وبأحلامه الّتي راودته، ومشاعره الّتي أحسّ بها، وكأنّها حبلاً يمتدّ عبر الزّمن، يربط بين مختلف أطوار حياته، ويصالحه مع ذاته.

كانت نسيجًا من العمق والمعنى، حيث نسجت الكلمات الإيحائيّة خيوطًا من الدّلالات الفلسفيّة؛ لتدفع بالقارئ إلى رحلة تأمليّة في أعماق النّصّ، الّذي تنوّعت فيه المشاعر، لتلامس أعماق النّفس البشريّة، فمن الحيّرة والقلق، إلى الصّبر والأمل، إلى البحث عن الذّات والتّصالح مع الحياة.

التّصنيف الأدبيّ:

الرّواية والسّيرة الذاتيّة هما نوعان أدبيّان لهما خصائص متميّزة، لكنّهما يتقاطعان في بعض الأحيان، ممّا يثير التّساؤلات حول تصنيف الأعمال الأدبيّة الّتي تجمع بينهما.

الرّواية هي شكل أدبيّ سرديّ يتضمّن أحداثًا وشخصيّات خياليّة، وهي مفتوحة على التّأويل والتّفسير، والكاتب في الرّواية يتمتّع بقدر كبير من الحريّة في صياغة الأحداث والشّخوص وتطوير الحبكة.

أمّا السّيرة الذاتيّة فهي تحكي قصّة حياة شخص حقيقيّ، ولكن باستخدام تقنيّات سرديّة روائيّة مثل الوصف، الحوار، الفلاش باك، والرّمزيّة، وغيرها، وذلك لتقديم سردٍ جذّابٍ ومثيرٍ للاهتمام لحياة الشّخص، مع التّركيز على الجوانب الإنسانيّة والنّفسيّة.

هي شكل أدبيّ يجمع بين سحر السّرد وعمق السّيرة، وتمثّل تحدّيًا مثيرًا للنّقاد والكتاب على حدّ سواء.

لقد عرّفها "فيليب لوجون" على أنّها استعادة نثريّة يقوم بها شخص يحكي عن نفسه وواقعه وحياته.

إذن، فالرّواية تعتمد على الخيال، بينما السّيرة ترتكز على وقائع حقيقيّة، حتّى وإن خضعت لعمليات سرديّة وتجميليّة، وكاتب الرّواية يتمتّع بحريّة أكبر في تشكيل الأحداث والشخصيّات، بينما كاتب السّيرة مقيّد بحدود الواقع والحقيقة.

أرى أنّ تصنيف عمل "أرملة من الجليل" كسيرة ذاتيّة، لا رواية، هو التّصنيف الأنسب، الّذي كان يجب وضعه على الغلاف؛ وذلك لارتباطه الوثيق بوقائع حياة الكاتب وتجربته الشخصيّة الحقيقيّة، على الرّغم من العناصر السرديّة المتوفّرة فيه، وعلى الرّغم من وجود بعض السّرد الغيريّ المتعلّق بالأمّ، لكن.. يبقى هذا التّصنيف، هو الأدقّ والأكثر ملائمة للنّصّ.

الذّكريات والزّمن، ورحلة السّرد:

في هذا العمل، يمتدّ السّرد منذ عام (1976م) وحتّى اليوم، وهذا يعني أنّنا أمام رحلة زمنيّة طويلة، شهد فيها المجتمع تحوّلات سياسيّة واجتماعيّة جذريّة، ليغدو الزّمن أداة للتأمّل في تلك التغيّرات العميقة، وتأثيراتها على حياة النّاس.

على مستوى الجغرافيا المتغيّرة، يذكر السّرد أماكن مختلفة، يرصد من خلالها أثر الزّمان وتأثير الأحداث عليها، كما يواكب أجيالًا متعاقبة، لكلّ منها تجربتها الخاصّة، ما يبرز التنوّع والتباين في الرّؤى والتطلّعات، في ظلّ الظّروف المتغيّرة.

يغوص بكريّة في أعماق ذاكرته، لاستعادة الماضي وصياغة سلسلة متماسكة من المشاهد الحيّة، الّتي تسودها الألفة والأجواء الدّافئة، فيذكّرنا بالأرض الخصبة، وبأجدادنا وهم يكدحون في حقولهم، يحصدون ثمار تعبهم بوجوه مشرقة، ليبعث فينا الحنين إلى زمنٍ بسيطٍ مضى، كان فيه الحبّ أصدق، والعلاقات أعمق.

تحتفي الصّفحات (69- 73) بقدوم تشرين، موسم زراعة أشتال الدخان والبندورة في البستان الواسع أمام البيت.

كان هذا الموسم مناسبة لتكاتف العائلة، فكبارها وصغارها يشاركون في فلاحة الأرض، متّحدين في سبيل تحقيق هدف واحد.

أمّا شعور الفقد فقد ظلّ يلازم الكاتب، فكلما شاهد أبًا وابنه معًا، أحسّ بحنين عميق إلى حضن أبيه، كانت تلك اللّحظات مؤلمة ومحرجة في آن واحد، فيشعر وكأنّه غريب في عالمه الخاصّ.

في شيخوختها، كانت الأمّ تجد سعادتها في قضاء الوقت مع ابنائها، تستعيد ذكريات الماضي المرير، الّذي سطّرت فيه بطولات الأرملة الوفيّة المكافحة.

كانت متعتها أن تحكي قصصًا ترويها بفخر المنتصر على الدّنيا وقسوتها، في ظروف بدا فيها النّجاح مستحيلاً، والفشل يتربّص بها كذئب مفترس.

الأرملة، تجسّد قوّة المرأة الفلسطينيّة وصمودها:

يروي الكاتب حادثة الجنديّ الذي طردته أمّه من أمام بيتها بصلابة وشجاعة، ويتساءل (ص78): "هل كانت أمّي قويّة بطبعها؟ أم أنّ الظّروف العصيبة هي من خلقت فيها تلك القوّة؟".

"سألت نفسي: كيف لامرأة شابّة جميلة، كانت تعيش حياة مريحة وآمنة لدى أبويها أن تمتاز بهذه القوّة؟".

الحديث عن أرملة كالكثير من أرامل بلادنا، وَجدَت نفسها ترعى الأيتام دون معيل، إنّه صراع البقاء تماما كما جاء في مسرحية شكسبير مع اختلاف السّياقين "إمّا أن تكون أو لا تكون".

إنّ قصّة هذه الأرملة، هي قصّة صراع من أجل البقاء، قصّة تظهر مدى قوّة المرأة الفلسطينيّة وقدرتها على التكيّف مع أصعب الظّروف، فتاريخنا حافل بقصص نساء صُنعن من صلابة الصّخر، وقوّة الإيمان، قاومن بكلّ ما أوتين من قوّة، وحافظن على هويّتهن وعروبتهن.

يقول بكريّة: هذه هي الورود الّتي أحبّها حدّ الثمّالة، أليست شبيهة بأرامل بلادي؟ الصّابرات، المحصّنات، العفيفات، المؤمنات، الرّاضيات، الطّاهرات، التّقيّات؟ النّقيّات؟ أليست شبيهةً بأمّي؟ (ص 164).

الوجوديّة، وفلسفة الحياة والموت:

يتبنّى هذا العمل "الوجوديّة" في تأكيده على فرديّة التّجربة الإنسانيّة، وعلى أهميّة القلق الوجوديّ في تشكيل هويّة الفرد، يطرح الأسئلة الجوهريّة حول معنى الحياة والموت والحريّة والذّات الإنسانيّة، يدعو المتلقّي إلى التوقّف والتأمّل في الأسئلة الكبرى الّتي شغلت البشريّة منذ الأزل، وإلى إعادة اكتشاف ذاته والعالم من حوله بعين جديدة، يصوّر صراع الإنسان الدّائم مع الحياة، مركّزا على شخصية الأمّ، وكفاحها من أجل إيجاد معنى لحياتها في عالم مليء بالتحدّيات.

يقول الكاتب عن الموت (ص 64 -65): "كم استنزف تفكيري كي أعرف مكنوناته وخباياه، كم بحثت في النّصوص الدّينيّة وقرأت فصولا كثيرة في فلسفة الحياة والموت، لأعرف ماذا يخبئ لبني البشر، هل الموت يعني حياة أخرى لا نعرفها؟ لِمَ نلهثُ خلف حياة فانية؟ ولِمَ يجب أن نعمّر البلاد ونظلم العباد؟ لِمَ الحروب؟ ولِمَ خلقنا الله؟ استغفر الله، وماذا بعد الحياة؟ هل الموت موحش؟ هل الموت تبديل عوالم؟ أم فناء وهباء أبدي؟".

هذه الأسئلة الفلسفيّة الّتي كانت تحطّ رحالها في مخيّلة الكاتب ووجدان، هي جوهر الأدب الكفكاوي، فهي تتناول صراع الحياة؛ لمحاولة فهم سيرورة هذا العالم، الّذي يشغل الموت فيه حيزًّا كبيرًا.

كما اتّسم النّصّ بالتأمّل العميق للأفكار المجرّدة والمعقّدة المتعلّقة بالحياة والموت والمعنى من الوجود، ويبدو أنّ الكاتب قد استغرق تمامًا في عالم كافكا الأدبيّ، حيث تتردّد أصداء أفكاره في تساؤلاته الوجوديّة، ليعبّر عن حيرته وقلقه إزاء هذه الأسئلة الكونيّة، وغموض الحياة.

كما استخدم أيضا التّداعي الذهنيّ؛ لوصف تجربة الوعي الذاتيّ والقلق الوجوديّ، وذلك لخلق عالم سرديّ كثيف ومثير للتّفكير، تتداخل فيه الذّكريات وتتصارع مع مشاعر الخوف والقلق، الّتي رافقت مسيرته نحو النّمو الوجدانيّ، ومراحل تطوّره الفكريّ، والوعي بالذّات، وبالحياة والموت.

فلسفة الكاتب الشخصيّة:

يكشف الكاتب عن فلسفته الخاصّة ونظرته إلى الحياة، يستخدم الماضي كمرآةٍ يعكس فيها الحاضر، يدعونا إلى التعمّق في أنفسنا، واكتشاف كنوزنا الدّاخليّة. ركز على أهمية الإحساس باللّحظة والاستمتاع بالتّفاصيل الصّغيرة، الّتي نغفل عنها عادة أثناء سعينا وراء الحياة.

قدّم رؤيته عن السّعادة مستندًا إلى تجاربه الحياتيّة، مؤكّدًا إيّاها بأمثلة عمليّة؛ كانسجامه مع أسرته، وهم يعتنون بشجر البرتقال، وبفرحتهم بالمكافأة وبدرّاجة ثلاثية العجلات، وصولًا إلى فرحة العيد الّتي كانت تزداد بهجة باقتناء الذبيحة.

يقول (ص 83): "لمّا قطعت مشوارا من عمري، وصرت متمكّنا بقدر ما من فلسفة المواقف والتصرّفات، أدركت أنّ السّعادة تكمن في تفاصيل الأيّام والزّمان، وهي ليست مرحلة ثابتة في مكان ما، أو مرحلة معيّنة من الزّمن، لأنّها تأتيك مصادفة دون استئذان، أو إخطار مسبق، وأقول ذلك ليس من باب إغداق المعلومة، أو استعراض قدرة فلسفيّة، بل لأنّ التجربة الذاتيّة أبلجت مقولتي هذه".

هذه الأحداث الصّغيرة، رسمت لوحة زاهية للفرح في نفوسهم، وأكّدت أنّ السّعادة ليست هدفًا بعيدًا، بل لحظات صغيرة ومتفرّقة تنتشر في تفاصيل الحياة اليوميّة.

هذه الفلسفة تشجّع على تبنّي منظور إيجابيّ للحياة، وتركّز على الأشياء الجيّدة الّتي تحدث معنا، تحثّنا على تقبّل الواقع، والتكيّف مع الظّروف والتغيّرات الّتي تحدث معنا.

التوثيق الأدبي: مرآة الأجيال وإلهام المستقبل

يُجسّد التّوثيق عبر الأدب وكتابة السِّيَر الذاتية أو الغيريّة، مرآةً تعكس تجارب الأفراد وإنجازاتهم، وتُلهم الأجيال القادمة للسّير على خطاهم، ففي طيّات السّرد الأدبيّ وسطور السِّيَر، تتجلّى قيمٌ نبيلة ومبادئ سامية، تُشكّل نبراسًا يهتدي به الشّباب في مسيرتهم نحو تحقيق الذّات والمساهمة في بناء مجتمع أفضل.

إنّ قراءة سيرة ذاتيّة لشخصية ملهمة، أو التعمّق في عمل أدبيّ يوثّق حقبة زمنيّة معيّنة، يُتيح لنا فرصةً للتعلّم من تجارب الآخرين، واكتشاف دروب النّجاح والتغلّب على التحدّيات، وعندما نُسجّل سِيَرنا الذّاتية، أو نكتب عن حياة الآخرين، فإننا نُساهم في حفظ ذاكرة الأمّة، ونُخلّد قصصًا تستحقّ أن تُروى، لتكون مصدر إلهام للأجيال القادمة، وتحفّزهم على تحقيق أحلامهم وطموحاتهم.

ملاحظة أخيرة:

اختتم حديثي بالإشارة إلى نقطة أخيرة تستحقّ الذّكر، وهي أنّني لاحظت وجود عدد من الأخطاء المطبعيّة في الصّفحات، الّتي كان من الممكن تفاديها بمراجعة العمل قبل الطباعة.

آمل من الكاتب أن يتدارك هذه الأخطاء إن قرّر إصدار طبعة جديدة من هذا العمل.

***

صباح بشير

.......................

* ورقة مقدّمة لنادي حيفا الثّقافي، بتاريخ: (22.08.2024)

 

في زمن جمهورية الرعب التي أسسها صدام وحزبه كان كل شيء يخضع للرقابة الامنية المشددة، حتى الجهد الادبي مثل كتابة القصة او الرواية! خوف ان يمس احد صورة الحكم التي يجب ان تكون زاهية، والا يتعرض الكاتب لابشع انواع الاذلال والتعذيب، او يتم اعدامه كما حصل مع الكاتب حسن مطلك، والذي كان يعد اهم الاصوات الادبية الصاعدة، حيث تم اعدامه شنقاً في 18 يوليو من عام 1990، والتهمة جاهزة وهي اشتراكه في محاولة لقلب نظام الحكم، هكذا كانت الاجواء في العراق، حيث كان النظام يتعامل بقسوة شديدة، وعلى الظن والشبهة مع الادباء والكتاب.

ويمكن ان نوضح الصورة عن تلك الحقبة مما يعانيه اي جهد للكتابة (القصة او الرواية) في زمن الطاغية’ كانت تواجه العديد من المعوقات التي أثرت على الكتّاب والمبدعين بشكل عام. ومن أبرز هذه المعوقات:

الرقابة

من أكبر المعوقات كان يتمثل في الرقابة، حيث كان هناك رقابة صارمة على الأعمال الأدبية والفنية، أي نص يجب ان تتم مراجعته قبل الطبع والنشر، فإذا كان يتعارض مع سياسات الحكومة، أو يعبر عن احتجاج أو نقد للنظام، كان يعرض صاحبه للمسائلة القانونية أو حتى الاعتقال، وقد يدفع به للمشنقة او الى احواض التيزاب، لذلك ابتعد اغلب الكتاب عن النقد السياسي، وبعضهم ترك النشر للحفاظ على كرامته، واخرون استخدموا الرمزية للهرب من ملاحقات أجهزة النظام القمعية.

فكانت الاجهزة الرقابية معوق كبير امام الابداع الادبي، وفيما يخص كتابة الرواية.

الموارد المحدودة

كان العراق يعيش ظروف صعبة جدا بسبب عبثية السلطة العفلقية، والتي ادخلت العراق حربين (حرب ايران 1980-1988)، وما ان انتهت حتى عاد صدام لعنترياته الغبية ليدخل العراق حرب مدمرة اخرى (حرب الكويت 1990-1991)، وبعدها دخول العراق فترة الحصار شديدة القسوة بحق المجتمع الى عام 2003، كل هذا جعل العراق فاقد للكثير، حيث كانت هناك نقص في الموارد اللازمة للكتابة والنشر، بما في ذلك قلة دور النشر المحلية، وندرة المعارض الأدبية، مما جعل من الصعب على الكتّاب نشر أعمالهم.

فكان طباعة كتاب يمثل حلم كبير جدا صعب التحقق، لاي كتاب في تلك الفترة الصعبة،

عقوبات نظام البعث

الكتابة الروائية والنقدية لممارسات السلطة او نقد الاوضاع الاقتصادية والاجتماعية قد يمس السلطة ويعتبر انتقاد للنظام، ويصبح مباشرة ضد نظام صدام حسين، وكانت هكذا امور تعرض الكتّاب لمجموعة من العقوبات القاسية، التي تتراوح حسب طبيعة النص المكتوب ومدى تأثيره في النظام. ومن أهم العقوبات التي كان يمكن أن يتعرض لها الكتّاب:

1. الاعتقال: كان العديد من الكتّاب والمثقفين يتعرضون للاعتقال، بتهم تتعلق بالتحريض ضد النظام، أو نشر أفكار معارضة، او حتى بتهمة السعي للانقلاب، وبعض هؤلاء الكتّاب تم احتجازهم لفترات طويلة أو حتى بشكل غير محدد، وبعضهم حتى من دون محاكمة يتم زجه في السجن لسنوات طويلة.

2. التعذيب: هناك تقارير كثيرة تتحدث عن تعرض المعتقلين إلى التعذيب الجسدي والنفسي في السجون، مما يمثل أحد أبشع صور القمع، حيث عمل نظام صدام على تطوير وسائل التعذيب كي تكون رادع عن اي فكرة نقد للسلطة، فقط السمع والطاعة، والا الاذلال التام وبكل وحشية.

3. التهديد والابتزاز: كان الكتّاب يتعرضون لتهديدات مباشرة، سواء ضدهم أو ضد أسرهم، مما يجبر الكثير منهم على التراجع عن التعبير عن أفكارهم، كي يحافظوا على كرامة عوائلهم من بطش السلطة واجهزتها القمعية.

4. الفصل من العمل: الكتّاب والمثقفون العاملون في المؤسسات الحكومية أو التعليمية كانوا قد يفقدون وظائفهم بسبب آرائهم أو كتاباتهم، وحصل هذا الأمر كثيرا في فترة الثمانينات، حيث كان النظام شديد القسوة مع كل ما يمكن ان يحسب انه صوت معارض.

5. الاغتيال: في بعض الحالات، تم اغتيال كتّاب معارضين بشكل علني، وفي كثير من الأحيان كانت تلك عمليات اغتيال تُنفذ بطريقة تخيف الآخرين، فالقتل امر سهل جدا للسلطات البعثية، وهي تعمل به لأنه يزرع الرعب في قلوب أبناء المجتمع.

6. الرقابة: كان هناك رقابة صارمة على المواد الأدبية، مما يعني أن الكثير من الكتب لم تتمكن من النشر، وأي عمل يشتبه في كونه مُعارضاً كان يُحظر تمامًا، كانت الأجواء بوليسية تماما، وكان على الكاتب ان يكون حذر جدا والا تفسر كلمة منه باعتبارها محاولة لقلب النظام.

أشهر الأعمال التي تناولت زمن البعث

هناك العديد من الأعمال الروائية التي تناولت نظام صدام، وواقع الحياة تحت حكمه، وبعض هذه الأعمال كانت مباشرة في انتقادها، بينما تناولت أخرى الظلم والمعاناة بشكل رمزي، إليك بعض من أهم هذه الأعمال:

1.    "البلد الجميل" للكاتب أحمد سعداوي: تناولت بجرأة واقع الحروب وآثارها على المجتمع العراقي وعلى أحلام الإنسان القليلة، وتحكي قصة حب معقدة تتضمن أشباح حبيبة البطل. وتعتبر هذه الرواية أيضًا دراسة عن الحي الشعبي الكبير في بغداد، مدينة الثورة الصدر، وصراع أبنائه مع مصائرهم، وحال البلد تحت حكم الاستبداد البعثي.

2.    رواية "دهاليز للموتى" للكاتب حميد الربيعي: هي أول رواية عن غزو الكويت، وما فعله صدام من جريمة كبرى، وربما هي الروايةُ الأولى في العراق التي نظرت إلى هذا الحدث من أرض الواقع، بعين عراقية، لأن هناك روائيين كويتيين كتبوا عن ذلك، طبعاً من وجهة نظر كويتية منفعلة، ومن هنا تأتي قيمة هذا العمل الروائي، صحيح أن الرواية لم تكن تأريخا أو توثيقا لما حدث ؛ لكنها نقلت جزءاُ غير قليلٍ مما حصل في مسرح الأحداث.

3.    رواية «الحقد الأسود»، للكاتب شاكر خصباك، والتي عنونها لاحقاً بـ«السؤال»، وتناول فيهما التعذيب خلال الفترة التي جاء فيها البعث لحكم العراق بعد الانقلاب على عبد الكريم قاسم، كان خصباك أحد معتقلي ذاك الانقلاب، هو لم ينضم الى الحزب الشيوعي، لكنه كان من المقربين له؛ روايته "الحقد الأسود" هي ذاكرته وذكرياته وهو في معتقل "قصر النهاية"، رأى كل صنوف التعذيب والالم، لم يبخلوا عليه بأية وسيلة للتنكيل به، شاهد عمليات التعذيب وسمع انين وتأوهات المعذبين، ووقف على المنتحرين والذين يموتون تحت التعذيب، سمع قصص الاغتصاب التي كانت تجري؛ بعد ستة أشهر قضاها بمعتقلات الحرس القومي، سارع ليسجل ما علق في ذاكرته، فكانت سفر من 150 صفحة مليئة بالاسى والحزن.

4.    رواية سفاستيكا، للكاتب علي غدير، سفاستيكا هي كلمة سنسكريتية الأصل، تعني «مفض إلى الرفاهة»، لها رمز يتمثل بصليب معقوف، اعتُبر منذ القدم رمزا للازدهار والحظ السعيد، وسبق أن عرفه العراقيون والهندوس والهنود الحمر، تناول الكاتب فترة صعود صدام وصور لنا  سلوكيات العائلة الحاكمة الغريبة، وحاول الكاتب من خلال روايته هذه أن يثبت إمكانية أن يصنع الإنسان لنفسه حظا سعيدًا، يلغي الاعتقاد السائد بأن الإنسان يولد سعيدا أو شقيا، فهو يجذب الخير من خلال التفاؤل به، ويجذب الشرّ من خلال التشاؤم به.

***

الكاتب: اسعد عبدالله عبدعلي

إن دراسة ديوان الشاعرة والأديبة سليمة مليزي من زوايا نقدية متعددة، يلزمني بتقسيم الدراسة إلى عدة محاور تشمل التحليل السيميائي، التفكيكية، الثقافي، الاجتماعي، والنفسي، بالإضافة إلى النظر في الأدب النسوي وأثره في تشكيل هوية المرأة في أشعارها.

1. التحليل السيميائي:

التحليل السيميائي لقصائد سليمة مليزي يكشف عن استخدام رموز متعددة تعكس حالة الاضطراب والتقلبات العاطفية. الكلمات مثل "الروح"، "النقاء"، "الشوق"، "النغمة"، و"الحب" تظهر بشكل متكرر، مما يشير إلى مدى تأثير العواطف العميقة على الشاعرة. هذه الرموز غالبًا ما تكون مرتبطة بمفاهيم الحب، الحنين، الفقدان، والتعلق العاطفي. إن الشاعرة تستعمل هذه الرموز كوسيلة للتعبير عن مشاعرها الشخصية، وكذلك كأداة لاستكشاف عمق تجاربها النفسية.

2. التحليل التفكيكية:

من خلال التحليل التفكيكية، يمكن الكشف عن التناقضات الكامنة في نصوص مليزي. يظهر في قصائدها صراع داخلي بين القوة والضعف، بين التعلق بالحب والرغبة في التحرر. على سبيل المثال، في القصيدة "اغضب كما تشاء"، نجد تناقضًا بين رغبة الشاعرة في الانفصال عن الحب وبين تمسكها بالكبرياء. هذه الازدواجية تعكس التوترات الداخلية التي تعيشها الشاعرة، مما يبرز تعقيد مشاعرها وتجاربها.

3. التحليل الثقافي:

السياق الثقافي الذي كتبت فيه سليمة مليزي لا يمكن إغفاله عند تحليل ديوانها. الشاعرة، كابنة شهيد ومنحدرة من عائلة ثورية، تعكس في قصائدها تجربة حياة مليئة بالصراعات والتحديات. يظهر ذلك بوضوح في قصائدها التي تتحدث عن القرى والاضطرابات التي عاشتها. استخدام الرموز الوطنية مثل "الجزائر"، "الشهيد"، و"الوطن" يبرز التعلق العميق بالشعب والوطن، مما يعكس جزءًا من الهوية الثقافية للشاعرة.

4. التحليل الاجتماعي:

من خلال قصائدها، تسلط سليمة مليزي الضوء على العلاقات الاجتماعية والتأثيرات التي تشكلت نتيجة للأحداث التاريخية والسياسية في الجزائر. القصائد التي تعبر عن تجاربها كابنة شهيد تحمل وزنًا اجتماعيًا كبيرًا، حيث تعكس آثار الاستعمار والتضحية الشخصية من أجل الوطن. هذه القصائد توضح كيف أن الظروف الاجتماعية أثرت بشكل كبير على تشكيل هويتها وكتاباتها.107 salyma

5. التحليل النفسي:

التحليل النفسي لقصائد سليمة مليزي يكشف عن أعماق تجربتها العاطفية والنفسية. قصائد مثل "صهوة عطرك"، "رفقًا بهذا النبض"، و"شهد القلب" تبرز تجربة حب عنيفة وتقلبات عاطفية مستمرة. الحب بالنسبة للشاعرة يمثل قوة مهيمنة تتحكم في حياتها ومشاعرها، وهذا يظهر من خلال وصفها للحب كقوة تؤدي إلى الشوق والحنين، ولكن أيضًا كقوة تعزز الكبرياء الشخصي والكرامة.

6. الأدب النسوي:

فيما يخص الأدب النسوي، يمكن أن نرى أن سليمة مليزي تجمع في قصائدها بين التعلق بالرجل من جهة والرغبة في إثبات ذاتها كأنثى مستقلة من جهة أخرى. التناقض بين حبها الشديد للرجل ووصفه بأنه "ثوبها" و"دفءها"، وبين بحثها عن هويتها الخاصة يظهر بوضوح في قصائدها. هنا، تعكس الشاعرة صراع المرأة بين التقاليد التي تربطها بالرجل وبين رغبتها في التحرر والتعبير عن نفسها ككيان مستقل.

1. الشعر الرومانسي:

- في هذا النوع من الشعر، تعبر مليزي عن مشاعرها العميقة تجاه الحب والعاطفة. قصائدها تحتوي على عناصر من الحب العنيف، الشوق، الحنين، والتقلبات العاطفية. تستخدم الصور الحسية والمجازات للتعبير عن مشاعر الحب المعقدة والصراعات الداخلية.

2. الشعر الوطني:

- مليزي تنتمي إلى عائلة ثورية، مما ينعكس في قصائدها الوطنية التي تعبر فيها عن حبها للوطن وتقديرها للتضحيات التي قدمها الشهداء من أجل الحرية. تستخدم في قصائدها الرموز الوطنية مثل "الشهيد" و"الجزائر"، وتظهر إحساسًا قويًا بالانتماء والوطنية.

نوع الأدب:

سليمة مليزي تمارس الأدب النسوي، وهو نوع من الأدب يعبر عن تجارب المرأة ومشاعرها واهتماماتها، ويسعى لإثبات وجود المرأة في المجتمع كمبدعة مستقلة. في شعرها، تجمع بين التعلق بالرجل من جهة والرغبة في تحقيق ذاتها كأنثى مستقلة من جهة أخرى، مما يعكس صراع المرأة بين التقاليد والرغبة في التحرر.

إضافة إلى ذلك، شعرها ينتمي أيضًا إلى الأدب العاطفي والأدب الوطني، حيث تجمع بين التعبير عن المشاعر الشخصية العميقة وبين الإحساس بالمسؤولية الوطنية. هذا المزج بين الجانبين يعكس تنوع اهتماماتها الأدبية ويظهر قدرة شعرها على التأثير في مجالات متعددة.

الخلاصة:

ديوان سليمة مليزي يشكل نموذجًا معقدًا ومتنوعًا من التجارب العاطفية والنفسية التي تتجسد في سياق اجتماعي وثقافي متشابك. من خلال استكشاف هذه الجوانب المتعددة، يمكننا أن نفهم عمق تأثيراتها كشاعرة وأديبة على جمهورها، وكذلك كيف تسعى لإثبات ذاتها في مجتمع يتسم بالتقاليد والاضطرابات السياسية. هذا التوازن بين التعلق بالرجل والسعي للاستقلال يعكس بشكل كبير تحديات الأدب النسوي في المنطقة العربية.

سليمة مليزي هي شاعرة وأديبة تعبر عن مشاعرها وتجاربها من خلال قصائد تنتمي إلى نوع الشعر الرومانسي والشعر الوطني، حيث تتمحور قصائدها حول مواضيع الحب، الفقدان، الحنين، وكذلك الانتماء للوطن والنضال من أجل الحرية.

***

بقلم: رابح بلحمدي

البليدة الجزائر

مفهوم الثقافة لغة: جاء في "لسان العرب": ثُقف الرجل ثقافةً أي صار حاذقاً، وثقف الشيء قومه وأزال اعوجاجه -  ورجل ثَقِفٌ أي فطنٌ.

فالتثقيف يعني التقويم، والتهذيب، والتنقيح.

الثقافة اصطلاحاً:

بالرغم من تعدد المفاهيم التي تناولت الثقافة ودلالاتها، حتى كادت أن تتجاوز المئة تعريفاً، بل تجاوزتها، يمكننا أن نعرفها  في سياقها العام بأنها: مجموع ما قام الإنسان بإنتاجه في الاتجاهين الماديّ والروحيّ عبر علاقته التاريخيّة مع الطبيعة والمجتمع، مضافاً إليها كل ما اكتسبه هذا الإنسان من مهارات وخبرات عضليّة بفعل نشاطه الفرديّ، أو ما تجذر عنده من قابليات واستعدادات فطريّة انطبعت في جيناته بفعل نشاطه التاريخيّ..(1).

أهميّة النقد الثقافي:

يعد النقد الثقافي من أهم الظواهر الأدبيّة التي رافقت (ما بعد الحداثة) في مجال الأدب والنقد، وقد جاء بمثابة رد فعل على البنيويّة اللسانيّة، والسيميائيات، والنظريّة الجماليّة التي تعتني بالأدب باعتباره ظاهرة لسانيّة شكليّة من جهة، أو ظاهرة فنيّة وجماليّة (شعريّة) من جهة أخرى. هذا وقد استهدف "النقد الثقافي" تقويض البلاغة والنقد الأدبي معاً، بغية بناء بديل منهجي جديد، يتمثل في (المنهج الثقافي) الذي يهتم باستكشاف الأنساق الثقافيّة المضمرة، ودراستها في سياقها الثقافي، والاجتماعي، والسياسي، والتاريخي، والمؤسساتي، إما فهماً أو تفسيراً.

ويرى المفكر المصري "صلاح قنصوه" (1936-2019): (أن النقد الثقافي ليس منهجاً بين المناهج الأخرى، أو مذهباً أو نظريّةً، كما أنه ليس فرعاً أو مجالاً متخصصاً بين فروع المعرفة ومجالاتها، بل هو ممارسة أو فاعليّة تشتغل على دراسة كل ما تفرزه الثقافة من نصوص سواء  أكانت ماديّة أو فكريّة. ويعني النص هنا هو ما تحققه أو تولده كل ممارسة قولاً أو فعلاً أو معنى أو دلالة.).(2). ويمكن القول أيضاً: (إن النقد الثقافي هو نشاط فكري يتخذ من الثقافة بشموليتها موضوعاً لبحثه وتفكيره، ويعبر عن مواقف إزاء تطوراتها وسماتها.). (3)

بينما يرى نقاد آخرون أن النقد الثقافي هو (منهج) سبقنا إليه الغرب (أمريكا وفرنسا)، له أدواته للكشف عن المضمر النسقي في العمل الأدبي. (4). و"النسق الثقافي" كما حدد دلالاته وسماته عبر وظيفته التي يؤديها في النص الناقد السعودي "عبد الله الغذامي" ، بأنه وظيفة تتحقق (حينما يتعارض نسقان أو نظامان من أنظمة الخطاب أحدهما ظاهر والآخر مضمر، ويكون المضمر ناقضاً وناسخاً للظاهر. ويكون ذلك في نصّ واحد، أو في ما هو في حكم النصّ الواحد. ويشترط في النصّ أن يكون جماليّاً،  وأن يكون جماهيريّاً.). (5).

على العموم ليس المهم عندنا أن يكون النقد الثقافي، منهجاً أو نظريّة أو نشاطاً نقديّاً، بقدر ما يهمنا بأنه فرع من فروع النقد النصوصي العام. وهو أيضاً أحد علوم اللغة، المعني بنقد الأنساق المضمرة التي ينطوي عليها الخطاب الثقافي بكل تجلياته وأنماطه. وهو نقد غير مؤسساتي وغير رسمي. إذاً هو معنيّاً ليس بكشف مضمرات النص الأدبي ومرجعياته التاريخية والاجتماعية والسياسية والدينية .. الخ فحسب، وإنما هَمُه الكشف أيضاً عن الأقنعة المخبوء جماليّاً وبلاغيّاً.(6). إضافة لذلك فهو ظاهرة من الظواهر التي تزامنت مع نقد ما بعد الحداثة في الأدب والنقد، وقد راح يستعين بجميع المناهج ليتمكن من كشف وتعرية الأنساق الثقافيّة المضمرة الموجودة في الخطابات الثقافيّة كما بينا أعلاه .

تاريخ ظهور النقد الثقافي:

لقد ظهر النقد الثقافي نتيجة لتوسع الثقافة في النصف الثاني من القرن العشرين، فالثقافة في عمليّة توسعها استطاعت أن تمنح الفرد القدرة على الإبداع والابتكار والخلق، وبالتالي منحت  في حالة توسعها الناقد الثقافي تلك القدرة على كشف العيوب النسقيّة الموجودة في الثقافة ذاتها، دون تفريق بطبيعة الحال بين ثقافة النخبة المختارة، والأخرى الجماهيريّة، ولا بين الآداب الرفيعة والآداب الشعبيّة. (7).

بيد أن الظهور الفعلي والحقيقي للنقد الثقافي لم يتحقق إلا في ثمانينيات القرن العشرين المنصرم والتحديد في عام (1985) في الولايات المتحدة الأمريكية، حيث استفاد هذا النقد من البنيويّة اللسانيّة، والانثروبولوجيا، والتفكيكيّة، والحركة النِسويّة، ونقد الجنوسة، وأطاريح ما بعد مرحلة الاستعمار. أي نقد ما بعد الحداثة عموماً، ويعتبر الناقد الأمريكي "فنسنت .ب. ليتش" أول من تبلور على يده مصطلح النقد الثقافي منهجياً في  كتابه: ”النقد الثقافي – النظريّة الأدبيّة ما بعد البنيويّة"  الذي صدر في عام (1992)، ونقله إلى العربيّة "هشام زغلول" الصادر عن المركز القومي للترجمة في مصر. فـ"ليتش" في طرحه هنا ينتمي إلى نقد (ما بعد الحداثة)، فهو يقوم بتشريح النص تفتيتاً وتفكيكاً، بغية استجلاء الأنظمة غير العقليّة، ولأنساق الثقافيّة الأيديولوجيّة، ضمن رؤية انتقاديّة وظيفيّة. وبتعبير آخر، يتعامل "ليتش" مع النص أو الخطاب، بالتركيز على الأنظمة العقليّة واللاعقليّة، وتفكيكها اختلافاً وتقويضاً وتضاداً على غرار التصور التفكيكي عند "جاك دريدا". ويعمل أيضاً على نقد المؤسسات الأدبيّة التي توجه أذواق القراء بالطريقة التي ترتضيها هذه المؤسسات لما لها من تأثير سلبي على طريقة التلقي والاستجابة لدى القراء.(8). وهذا يدل على أن المنهج الثقافي قد تأثر بمنهجيّة "جاك دريدا" التفكيكيّة القائمة على التقويض، والتشتيت، والتشريح، ولكن ليس من أجل إبراز (التضاد والمتناقض، وتبيان المختلف إضاءة، وهدماً)، بل من أجل استخراج الأنساق الثقافيّة عبر النصوص والخطابات، سواءً أكانت تلك الأنساق الثقافيّة مهيمنة أو مهمشة، وموضعتها في سياقها المرجعي الخارجي، وتبيان مدى تأثر هذه الأنساق بالدراسات الثقافيّة المتنوعة، كالماركسيّة الجديدة، والتاريخانيّة الجديدة، والماديّة الثقافيّة، والنقد الاستعماري (الكولونيالي)، والنقد النِسوي الذي يدافع ثقافيّاً عن كينونة التأنيث في مواجهة سلطة التذكير.  (9).

مبادئ المنهج النقدي الثقافي:

1- يعتبر النقد الثقافي صورة جديدة من العودة إلى ربط النص بمحيطه الثقافي والاجتماعي والسياسي والاقتصادي والتاريخي. وعليه، فالنقد الثقافي يقوم بدراسة الأدب الفني والجمالي باعتباره ظاهرة ثقافيّة مضمرة. أو بتعبير آخر، هو الذي يربط الأدب بسياقه الثقافي غير المعلن. ومن ثم، لا يتعامل النقد الثقافي مع النصوص والخطابات الجماليّة والفنيّة على أنها رموز جماليّة ومجازات شكليّة موحية، بل على أساس أنها أنساق ثقافيّة مضمرة ومتوارية بامتياز، تعكس مجموعة من السياقات الثقافيّة التاريخيّة، والسياسيّة، والاجتماعيّة، والاقتصاديّة، والأخلاقيّة، والقيم الحضاريّة والإنسانيّة. ومن هنا، يتعامل النقد الثقافي مع الأدب الجمالي ليس باعتباره نصاً، بل بمثابته نسقاً ثقافيّاً يؤدي وظيفة نسقيّة ثقافيّة تضمر أكثر مما تعلن.(10).

2- وما يميز المنهج النقدي الثقافي أنه ليس مدرسة محددة المعالم، وإنما هو قابل للتبدل بتبديل شخصيّة الناقد وثقافته وتوجهاته وطبيعة النص وقضاياه. أي إن النقد الثقافي مفتوح على التفسير والتأويل وعلى مناهج السيمائيات وتحليل الخطاب ومختلف العلوم الإنسانيّة المحيطة بالأدب، بل إنه مرتبط بحركات فكريّة وثوريّة كالحركة النِسويّة، وحركة ” الزنوجة ” وصراع الحضارات والثقافات وغير ذلك، مما يقع في باب الخطاب المضمر في النص، والنسق المضمر المحرك له .(11).

3- هو يميز بين النقد الثقافي والنقد الأدبي، إذ يرى أن النقد الأدبي بقي على تقليديته في نقد النصوص الأدبيّة والفنيّة وتفسيرها وتأويلها، ثم إصدار الحكم النقدي المتعارف عليه ضمن مصطلحاته المعروفة، بيد أن النقد الثقافي لا يحل محل النقد الأدبي أو يلغيه، فالعلاقة بينهما علاقة تكامل لا علاقة تنافس أو الغاء لأن النقد الثقافي ينفتح ويستعين بكل المناهج ومنها النقد الأدبي (12).

4- كما يسعى النقد الثقافي إلى إلغاء الطبقيّة الثقافيّة لكونه يركز على أنواع الخطابات عامة، ويدعو إلى المساواة بين الأثرياء والفقراء، ويمقت التمايز الطبقي والعنصري، ويعري الظلم الذي يسلط على المهمشين من خلال تركيزه على ضرب المركز ليتساوى المهمش معه، ويعري ثقافة المؤسسة لتتساوى معها الثقافة الشعبية المهمشة.(13).

5- والنقد الثقافي لا يهمش الآخر سواء كان ذكراً أم انثى، ولا يفرق بين فقير أو غني، ويعلي من شأن الحريّة والمساواة والديمقراطيّة. وقد ساعده تبنيه للحريّة والديمقراطيّة على كشف الأنساق الظاهرة والمضمرة المختلفة التي أنتجت أو تحكمت بالنص سياسيّة كانت، أو اقتصادية، أو دينيّة أو اجتماعيّة، أو قومية أو عرقيّة أو أخلاقيّة من جهة. إضافة إلى أن هذه الأنساق بإمكانها التعبير عن ذواتها بحريّة من جهة ثانيّة، فضلاً على أنه بنقده الأنساق المضمرة والظاهرة في كل الخطابات وبكل أنواعها وصيغها، أخذ يمثل في سياقه العام نقداً إنسانيّاً يخدم الانسان دون النظر إلى مرجعيته الأيديولوجيّة أو القوميّة أو العرقيّة أو الدينيّة أو الطبقيّة .(14).

6- وبناءً على هذا الموقف الإنساني الذي بينا توجهاته أعلاه، فالنقد الثقافي يسعى في أهدافه إلى زحزحة المركزيّة الذكوريّة التي تقصي المرأة، ويعري ذكوريّة المجتمع التي أوجبت هذا التمايز بينهما. وبالتالي الدعوة أو العمل على مساواتها مع الرجل في الحقوق والواجبات.

7- كما التزم النقد الثقافي بقضايا الشعوب ومشكلاتها المجتمعيّة، وبآمالها وطموحتها، وعلى هذا الالتزام راح يعري فهم المؤسسات الرسميّة التي تتبنى النص الجمالي كنص بعيداً عن محيطه أو مرجعياته التي أشرنا إليها سابقاً، سياسيّة أو اجتماعيّة أو اقتصاديّة وغيرها، فهو ينفتح إلى ما هو أبعد من اهتمامات هذه المؤسسات وإلى ما هو أبعد من الجمالي، مركزاً على أنظمة الخطابات المتنوعة، يحفر في داخلها من أجل معرفة معانيها الغامضة.(15).أي إن النقد الثقافي هو تحليل التصورات الثقافيّة للعالم، كما أنه يدخل في نقد أعم هو النقد الحضاري. وفي اللغات الأجنبية يستعمل لفظ Cultural للنقدين معاً. فالنقد الحضاري هو النقد الثقافي من منظور أعم، كون الثقافة وعي تاريخي، وتراكم من الماضي إلى الحاضر. وهي – أي الثقافة - رؤية للعالم تعبر عن ثقافات الشعوب وخصائصها. وعلى هذا الأساس يشتمل النقد الثقافي أربع حلقات متداخلة من الأصغر إلى الأكبر، من (النقد الأدبي، إلى النقد الثقافي، إلى النقد الاجتماعي، إلى النقد الحضاري.)، وتتشارك هذه الحلقات في مركز واحد هو النص، وتنتهي إلى دائرة واحدة هي الواقع. ويمكننا أن نعطي مثالاً على هذه التوجهات أو الحلقات الأربعة التي يمثلها النقد الأدبي، على سبيل المثال لا الحصر: ” النقد الأدبي عند عبد القاهر الجرجاني، والنقد الثقافي عند ابن رشد، والنقد الاجتماعي عند ابن خلدون، والنقد الحضاري عند إدوارد سعيد ” (16).

سمات وخصائص النقد الثقافي:

وهي برأيي سمات وخصائص لا تخرج في الحقيقة عن جوهر أو مضمون المبادئ التي أشرنا إليها أعلاه:

1- ” إبعاد الانتقائيّة المتعاليّة التي تفصل بين النخبوي والإنتاج الشعبي، فيقوم النقد الثقافي بدراسة ما هو جمالي وغير جمالي.

2- كشف جماليات أخرى في النص لم يُلتفت إليها من قبل.

3- الدخول في عمق النص بدلاً من النظرة السطحيّة.

4- كشف القيم النبيلة والحقيقيّة للنص.

5- تذوق النص بوصفه قيمة ثقافيّة، لا مجرد قيمة جماليّة فحسب، وذلك من خلال الكشف عن حقائق تحيط بالنص وقائله.

6- ربط العلوم الإنسانيّة بالأدب (علم الاجتماع، علم النفس، التاريخ…) مما يساهم في إثراء النص والساحة الثقافيّة.

7- ربط النقد الثقافي بالعمل السياسي، فهو يربط عمل المثقف بالسلطة، والسلطة بالمثقف، ويدرس العلاقة المترتبة على ذلك.

8- كشف حقائق متعلقة بالنصوص المهمشة من خلال إلقاء الضوء عليها، حيث يهتم هذا النوع من النقد بنصوص المعارضة، والأدب الشعبي، والأدب النسوي، ونحو ذلك.

9- يتناول النقد الثقافي النسق المضمر في الثقافات المحليّة، للارتقاء بها وتسويقها إلى العالميّة “.

10- هو يميز بين "النقد الثقافي" و"نقد الثقافة"، أو "الدراسات الثقافيّة". فالنقد الثقافي هو الذي يتعامل مع النصوص والخطابات الأدبيّة والجماليّة والفنيّة، فيحاول استكشاف أنساقها الثقافيّة المضمرة غير الواعية، وينتمي هذا النقد الثقافي إلى ما يسمى بنظرية الأدب على سبيل التدقيق. في حين، تنتمي الدراسات الثقافيّة أو نقد الثقافة إلى الانثروبولوجيا، والاثنولوجيا، وعلم الاجتماع، والفلسفة، والإعلام، وغيرها من الحقول المعرفية الأخرى. وهذا يعني - بمعنى أدق - أن الدراسات الثقافيّة تركز على مختلف الخطابات الثقافيّة التي تنتجها المجموعات البشريّة المختلفة والمتنوعة، وعلى مستوى المثاقفة بين تلك الثقافات، وعلى أنواع من الثقافات الخاصة والعامة والهامشية، وبالخصوص الهيمنة الثقافيّة التي راحت تفرض نفسها عبر ما يسمى النظام العالمي الجديد والعولمة. (17).

وفي هذا السياق، يقول "عبد الله الغذامي ”(ونميز هنا بين ” نقد الثقافة ” و” النقد الثقافي “، حيث تكثر المشاريع البحثيّة في ثقافتنا العربيّة، من تلك التي عرضت وتعرض قضايا الفكر والمجتمع والسياسة والثقافة بعامة، وهي مشاريع لها إسهاماتها المهمة والقويّة، وهذا كله يأتي تحت مسمى ” نقد الثقافة “، كما لابد من التمييز بين الدراسات الثقافيّة من جهة والنقد الثقافي من جهة ثانية، وهذا تمييز ضروري التبس على كثير من الناس حيث خلطوا بين ” نقد الثقافة ” وكتابات ” الدراسات الثقافية “، وما نحن بصدده من ” نقد ثقافي “، ونحن نسعى في مشروعنا إلى تخصيص مصطلح ” النقد الثقافي ” ليكون مصطلحاً قائماً على منهجيّة أدواتيّة وإجرائيّة تخصه، أولاً، ثم هي تأخذ على عاتقها أسئلة تتعلق بآليات استقبال النص الجمالي، من حيث إنه المضمر النسقي لا يتبدى على سطح اللغة، ولكنه نسق مضمر تمكن مع الزمن من الاختباء، وتمكن من اصطناع الحيل في التخفي، حتى ليخفى على كتاب النصوص من كبار المبدعين والتجديديين، وسيبدو الحداثي رجعيّاً، بسبب سلطة النسق المضمر عليه.). (18).

أهداف النقد الثقافي:

وهكذا نجد أن النقد الثقافي في سياقه العام يعني التوسع في مجالات الاهتمام والتحليل للأنساق، حتى غدا جزءاً من كل الدراسات الثقافيّة، بما تعنيه الثقافة التي توجز أيضاً بأنها ” دائرة نشاط الإنسان المتحققة على الأرض فعلاً نشطاً، والراسخة، فيمن يدب فوقها من البشر أثراً باقياً “. وعلى هذا الأساس، يمكن لنا أن ندخل النقد الأدبي مع النقد الثقافي، الذي بدوره يضم كماً من المعارف الإنسانيّة والفلسفيّة، والأدبيّة. ومن هنا، فلا خوف على الأدب من هجر الخصوصيّة التي يمثلها في طريقة التعامل معه، وبذلك تتم دراسة النص بكونه أدباً، وبكونه خطاباً ثقافيّاً (19).

الناقد السعودي عبد الله الغذامي:

"عبد الله بن محمد بن عبد الله الغذامي"، من مواليد عام (1946) في عنيزة. أكاديمي وناقد أدبي وثقافي سعودي، وأستاذ النقد والنظريّة في كلية الآداب، قسم اللغة العربيّة، بجامعة الملك سعود بالرياض. ومنح جائزة "الشيخ زايد" للكتاب عام (2022)م  تقديراً لجهوده المتميزة في ميدان النقد الثقافي، ودراسات المرأة والشعر والفكر النقدي التي بدأت منذ منتصف الثمانينات وأحدثت نقلة نوعيّة في الخطاب النقدي العربي.

أبرز أعماله:

تميزت أعمال "الغذامي" بالتنوع، فهو صاحب مشروع في النقد الثقافي، وآخر حول المرأة، وحول اللغة، وكان أول كتبه دراسة عن خصائص شعر "حمزة شحاتة" الألسنيّة، تحت اسم (الخطيئة والتكفير: من البنيويّة إلى التشريحيّة)..(20).

لديه كتاب أثار جدلاً يؤرخ للحداثة الثقافيّة في السعودية تحت اسم (حكاية الحداثة في المملكة العربية السعوديّة).

ويعتبر الناقد السعودي "عبد الله الغذامي" أول باحث عربي تبنى (النقد الثقافي) بمفهومه العربي في كتابه “النقد الثقافي- قراءة في الأنساق العربيّة الثقافيّة” الصادر عام (2000)0. لقد كان "الغذامي" جريئاً في تحطيم ما يعتري الثقافة العربيّة من أنساق مضمرة، وهتك أسرارها بما لم يفكر فيها أحد من قبل، كما فعل في نقده للمتنبي ونزار قباني على سبيل المثال لا الحصر، فأبرز الأنا عند الأول ودونية المرأة عند الثاني، وهو أول باحث عربي تسجل له الريادة، فمشروعه مشروع حيوي مهد الطريق أمام الباحثين العرب لتعرية الأنساق الهدامة الموجودة في الخطابات السابقة للنقد الأدبي.(21). معلناً موتها.

نقد مشروع الغذامي:

لقد كانت هناك محاولات عديدة سلطت الضوء على نقد مشروع النقد الثقافي للغذامي، وكان من أهم ما وجه له من نقد هو محاولته غير المعلنة بشكل مباشر، وهي رغبته في نظريّة جديدة دقيقة ومنهجيّة يسميها (النقد الثقافي)، والتي يؤسس أغلب عناصرها ردا على النقد الأدبي. محاولاً تأسيس جل عناصر نظريته من خلال عناصر معروفة في النقد الأدبي: كالمجاز، والتورية... معتبرا أن النقد الثقافي أعم من النقد الأدبي، لذلك فالمؤلف عنده مؤلفان معهود ومضمر (هو الثقافة). وبالتالي يظل السؤال الجدير بالاهتمام هنا هو: لماذا ينبغي تجاوز النقد الأدبي إلى النقد الثقافي؟.

إن النقد الثقافي لا يمكن أن يكون بديلا للنقد الأدبي، وهو ما يحيل عليه الغذامي نفسه ولو بشكل عرضي، لأن النقد الذي يوجهه للنقد الأدبي ليس نقدا فارغا بل هو محمول بنوع من الازدراء وهذا ما جعل المهتمين بالنقد الادبي يصبون جام غضبهم على الغذامي بعد قوله: (إننا نقول بمفهوم المجاز الكلي متصاحباً مع الوظيفة النسقيّة للغة، والاثنان معاً مفهومان أساسيان في مشروعنا في النقد الثقافي كبديل نظري وإجرائي عن النقد الأدبي).(22). كما يذكر مؤكداً على رغبته هذه التي جاءت في مقدمة كتابة (النقد الثقافي)، وعاد ليكرر هذا القول ذاته ولكن بصيغة أخرى في ندوة عن الشعر عقدت في تونس  تاريخ 22 ستنبر (1997). وفي مقالة له كذلك في جريدة الحياة (أكتوبر 1998): (وبما أن النقد الأدبي غير مؤهل لكشف الخلل الثقافي فقد كانت دعوتي بإعلان موت النقد الأدبي، وإحلال النقد الثقافي مكانه.).(23). وهنا نلاحظ الرغبة الخفيّة في مشروع الغذامي والمتمثلة في العمل على استبدال النقد الأدبي بالنقد الثقافي، كونه يراه أو يتصوره بديلاً. وهذا برأي ما يجعل المشتغل على مشروعه في النقد الثقافي يفقد القدرة على تحديد ملامحه بين كونه باحثاً أو ناقداً.

***

د. عدنان عويّد

كاتب وباحث من سوريّة

............................

الهوامش:

1- (موقع صحيفة المثقف – د. عدنان عويّد - الثقافة والتثاقف.. الثقافة الْعَالِمَة أنموذجا.).

2- (صلاح قنصوه: تمارين في النقد الثقافي، دار ميريت، القاهرة ، ط1، 2002، ص5.).

3- 4- (ميجان الرويلي، سعد البازعي: دليل الناقد الأدبي، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، ط3، 2002، ص.305).

4- (موقع  قناص - مجلة ثقافية – حول مفهوم النقد الثقافي: محاولة للتأصيل | د. حسام الدين فياض).

5- (جامعة البصرة - مركز دراسات البصرة والخليج العربي أخبار ابن قتيبة - دراسة في النسق الثقافي -م.د خالد صكبان حسن).

6- (عبد الله الغذامي: النقد الثقافي – قراءة في الأنساق الثقافية العربية، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، ط3، 2005، ص.83-84.). بتصرف.

7- (قناص - مجلة ثقافية – حول مفهوم النقد الثقافي: محاولة للتأصيل | د. حسام الدين فياض). بتصرف.

8- (جميل حمداوي: النقد الثقافي بين المطرقة والسندان، دار الريف للطبع والنشر الإلكتروني، المغرب (تطوان)، ط1، 2015، ص13). بتصرف.

9- (المرجع نفسه - ص.5). بتصرف.

10- (مركز نقد وتنوير - مفهوم النقد الثقافي في مشروع المفكر العراقي ماجد الغرباوي.). بتصرف.

11- (موقع نقد وتنوير - مفهوم النقد الثقافي في مشروع المفكر العراقي ماجد الغرباوي). بتصرف

12- (حمزة عبيس الجنابي: رؤية في النقد الثقافي، قسم الإعلام، جامعة المستقبل، العراق (بابل)، 05/03/ 2005. – عن مجلة قناص - مجلة ثقافية – حول مفهوم النقد الثقافي: محاولة للتأصيل). بتصرف.

13- (مجلة قناص - مجلة ثقافية – حول مفهوم النقد الثقافي: محاولة للتأصيل).) بتصرف.

14- (جامعة د. موالي الطاهر سعيدة - كلية الآداب واللغات والفنون – قسم الأدب العربي - النقد الثقافي عند عبد هللا الغذامي - مذكرة مكملة لنيل شهادة الماسترLMD في اللغة العربية وآدابها –الطالبة - قداري الضاوية.) لتصرف.

15- (حمزة عبيس الجنابي: رؤية في النقد الثقافي، قسم الإعلام، جامعة المستقبل، العراق (بابل)، 05/03/ 2005.) بتصرف.

16- (محرر الصحيفة: من النقد الأدبي إلى النقد الثقافي، صحيفة الاتحاد، 19/ يوليو / 2019.). بتصرف.

17- (للاستزادة في معرفة خصائص وسمات النقد الثقافي يراجع -جامعة تلمسان - الأستاذ الدكتور  بن اعمر - محاضرات خاصة بالسداسي السادس نقد ومناهج - في مقياس النقد الثقافي - قسم اللغة والأدب العربي).

18- (عبد الله الغذامي، عبد النبي اصطيف: نقد ثقافي أم نقد أدبي، دار الفكر، دمشق، ط1، 2004، ص.37-38.).

19- (مجلة بحوث كلية الآداب – جامعة المتوفية - نظرية النقد الثقافي ما لها وما عليها - د. ملحة بنت معلث بن رشاد السحيمي - أستاذ مساعد في الأدب والنقد بقسم اللغة العربية - كلية الآداب والعلوم الإنسانية بجامعة طيبة بالمدينة المنور.). بتصرف.

20- (الويكيبيديا – بتصرف).

21- (قناص - مجلة ثقافية – حول مفهوم النقد الثقافي: محاولة للتأصيل | د. حسام الدين فياض). بتصرف.

22- عبد الله الغذامي: "النق الثقافي: قراءة في الأنساق الثقافية العربية"، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، الطبعة الأولى، 2000. ص. 79.

23- حول النقد الموجه لعبد الله الغذامي  - راجع موقع - http://rachidelalaoui.blogspot.com/ - النقد الثقافي عند الغذامي.

لقد امتد تيار التجريب ليشمل الرواية والقصة والقصة القصيرة والقصيرة جداً، فعلى صعيد القصة القصيرة خلقت لنفسها تميزا في الساحة الادبية، حيث حققت جماليات على مستوى البناء والفكرة حيث حاول كتابها الخروج عن المألوف والسائد وتكريس كل ما هو جديد، حيث استفاد القاص من الموروث الحكائي والانفتاح على الغرب والتعرف على تقنيات الكتابة السردية العربية والغربية ولعل أهم آليات التجريب الموظفة في القصة القصيرة على اختلاف تمثلها ودرجات وعي كتابها تتجلى في تكسير الميثاق السردي المتعارف عليه، والخروج عن نمطية بنياتها، بتغير طريقة التعامل مع مكونات الخطاب وكسر الحدود بين مختلف الاجناس الادبية، وكذلك الاجناس غير الادبية (كالموسيقى، والتراث، والتاريخ، والصحافة، والسينما، والاسطورة .. وهذا ما لمسته في القصة القصيرة (رؤيا الملك) للقاص أركان القيسي في اتباع هذه الطرق في تحقيق المغايرة واكتساب تجربته القصصية سمات الجدة وتجاوز ما هو سائد في السرد والاستفادة من امكاناتها التعبيرية وتوسيع فضاء التخييل لديها .

نسيج القص

ما يلاحظ في الوهلة الاولى كيف يبدو الاهتمام بكيفية استلهام التاريخ ابتداء من عنوان القصة القصيرة (رؤيا الملك) على اعتبار أن العنوان يمثل واجهة العمل السردي وأول عتبة نصية يقف عندها القارئ قبل الولوج الى الفضاء القصصي وما يملكه العنوان من سيادة وما له في الواقع من تأثير على أي تفسير ممكن للنص اذ يحاول الكاتب من خلاله أن يثبت في قصده بوصفه النواة التي يخيط عليها نسيج القص، فمن خلال استقراء العنوان وما يحمله من دلالات يمكن ان نتوقع ما سيحكيه النص .

ان عنونة القصة (رؤيا الملك) يملي علينا النظر فيه والوقوف عنده وما يتضح علاقته بالتاريخ والموروث الحكائي والتناص (القص) القرآني (رؤيا الملك الفرعوني" وقال الملك اني أرى سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات " يوسف : 43 " ، وان هذا التقاطع بين العنوان والتاريخ الذي قد لا يظهر بشكل جلي في العنوان وانما بعد أن نقرأ استهلال النص نصل الى نتيجة هذا التقاطع :

"الرؤية هذه المرة ليست في مصر بل في بلاد أرض السواد، حيث لم ير الملك في منامه سبع بقرات سمان ولم ير السنبلات الخضر ولا اليابسات، ولم يجد كهنة آمون لتعبير رؤياه"

ومن هذا الاستهلال قد يبني القارئ من البداية ويهيئ نفسه لقراءة نص قصصي ذي صلة بالموروث الديني .

الا ان القاص حاول ان يجسد في قصته (رؤيا الملك) الواقع العراقي في فترة التسعينيات وما وقعت من احداث والظروف التي اسهمت في احداث تغيرات وحصول الانتفاضة ضد النظام الشمولي، حيث صور الكاتب الماضي القريب الواقع الاليم الذي عاشه المجتمع العراقي في تلك الحقبة وهو يستحضر الحرب، الانتفاضة والحصار / التاريخ / الذاكرة.

" رأى في المنام عاصفة تأتي من حفر الباطن تقلع الصحراء الغربية ويختنق بها أهل الوسط، والسماء تمطر نارا وعاصفة تقطع رؤوس الرجال في الجنوب !!

الاستذكار والتاريخ :

لقد جسدت القصة (رؤيا الملك) في مسار حكايتها ذاكرة المجتمع احياء لأحداث التاريخية التي عاشها الفرد العراقي، حرب حفر الباطن وما تبعها من آثار وويلات صبت على رأس المجتمع العراقي :" وما زاد الطين بلة الحاشية ورجال الدولة اتعبوا العامة من الناس

حتى يتمنى الرجل الموت، بل كان الحي يحسد من يموت في تلك السنوات العجاف.... الطفل يصارع الموت بسبب الجفاف الرجل يعمل أسبوعا من أجل أن يشتري نعله ... اشتدت الأمور على الناس من كل صوب وحدب جداول الأنهار بدأت تحتضر"

 يقوم النص السردي (رؤيا الملك ) في جميع تكويناته على خطاب الذاكرة المسيطر على المادة الحكائية والذي استطاع الكاتب الانتقال بانسيابية بين الازمنة والتواريخ في الماضي القريب للواقع العراقي بالاسترجاع والاستذكار والتفكر والاستحضار والتداعي في شكل متخيل، ان استخدام الذاكرة يتطلب تدخل التاريخ لأنه المحرك الاساسي . استعان القاص القيسي بهذه الالية بغية فتح المجال أمام الانسياب عبر الازمنة المختلفة ولأجل حفظ هذه الاحداث التاريخية في الذاكرة الجماعية ." ازدادت المحنة سوءا وغلت الاسعار واصبحت الحيات جحيم واشتعلت النيران في الاسواق وعجزت المستشفيات عن المعالجة .. الناس يتقاتلون على الخبز "

لاشك ان حضور خطاب الذاكرة في النص القصصي ولجوءه الى التذكر يكون خاضعا لسطوة الذاكرة والتي يهيمن عليها الطابع الذاتي سواء كانت فردية أو جماعية فهي تتسم بالانفعالية والرمزية احيانا هو رغبة من القاص قصد التعبير عن قضايا المجتمع واسترجاع ابرز الاحداث التاريخية التي عاشها العراقيين في تلك الحقبة متأثرا بآلامه وهمومه مما يضطره الى ملء فراغاتها عن طريق التخييل الاسترجاعي كعملية ذهنية

" حتى أرسل الملك إلى ولي عهده يعاتبه على الانكسار والتخلي، ثم أبلغه وذكره هذا تفسير رؤياي من قبل لقد كذب ألخماهو ورفاقه في تفسيرها وجانبوا قول الصواب، سيستمر الجرح بالنزف."

ينقل حقيقته التاريخية المكتظة بالأحداث بأسلوب وسرد مكثف موظفا التناص والرمز .وبهذا تتجسد وظيفة الذاكرة والاستذكار في حفظ الماضي وان هذه الذاكرة التاريخية هي ذاكرة جماعية بالأساس والمنسجمة مع الذاكرة الفردية، فالذاكرة أكثر وقعا من التاريخ بالقياس الى درجة تأثيرها على عامة الناس، باعتبارها عنصرا فاعلا ومعبرا عن ظرفية تاريخية معينة .

***

طالب عمران المعموري

الرواية الفلسفية هي أشبه بلوحة فنية تتداخل فيها ألوان الفكر والخيال، وتهدف إلى استكشاف عمق الوجود ومغزى الحياة من خلال حكاية تتجاوز حدود الواقع المألوف. إنها رحلة في عوالم متخيلة، حيث تتشابك الأفكار والمعاني عبر حوارات رمزية وتفاصيل مشحونة بالدلالات. كما تحاول أن تُضيء ظلام التساؤلات الكبرى حول المعرفة، الأخلاق، والحرية، بل وحتى الكينونة ذاتها. تُقدم الشخصيات فيها كأيقونات لفلسفات مختلفة، تعكس مواقف فكرية متباينة، وكأنها تُناظر في ساحة معركة عقلية، تتحاور وتتجادل حول جوهر الإنسان ومعنى الحياة.

الرواية التي بين أيدينا، "واترلو"، تأخذنا إلى هذا العالم الفلسفي والفكري والاجتماعي والرمزي من خلال سرد غامض يحمل في طياته معاني عميقة وتفاصيل متشابكة.

تبدأ القصة ببطلها، الراوي، الذي يجد نفسه في ساحة معركة غريبة.. يتقاتل جيشان دون أن يتأثر الجنود بالخوف أو يتعرضوا للموت.. أنهم يتقاتلون بابتسامات وهدوء، وكأنهم ممثلون في مسرحية عبثية. يتجول البطل بينهم، دون أن يلاحظه أحد أو يعيره اهتمامًا، وكأن وجوده محض وهم. وفي لحظة مفاجئة، يتم القبض عليه ويُعتبر أسيرًا، ويقررون معاقبته بقذفه نحو البحر باستخدام منجنيق، غير أن الراوي، رغم قسوة الموقف، يشعر بالسلام الداخلي وهو يحلق في الهواء، متأملًا العالم من حوله، العالم الذي تركه خلفه حيث اختفت المعركة وعاد كل شيء إلى طبيعته.

يسقط الراوي في البحر، ويبدأ في السباحة دون أن يشعر بالتعب أو الخوف، بل كان محاطًا بمشاعر باردة وساكنة، ولم يكن البحر عدائيًا له. خلال سباحته، يلمح على البُعد هيكلًا عظميًا لحوت، فيقترب ليكتشف أنه ليس سوى سفينة مهترئة، يصعد إليها ليجد امرأة مقيدة إلى كرسي متآكل ومتعفن. حين يحاول التواصل معها، ترد عليه بطريقة غامضة ومشوشة، تذكر له معركة "واترلو" وتلمح إلى فقدانه لذاكرته.. وتدّعي المرأة أنه طبيب تجميل من القرن الحادي والعشرين، ثم تطلب منه القفز من السفينة والتوجه إلى جزيرة قريبة لممارسة حرفته.

ينصاع الراوي لطلبها، وحين يصل إلى الجزيرة، يجد نفسه بين بشر مشوهين بأشكال غريبة؛ أنوف طويلة، آذان كبيرة، وعيون مشوهة، وأطراف غير طبيعية. يستقبلونه كإله، ويبدأ في إجراء عمليات جراحية لتحسين مظهرهم. لكن سرعان ما يلاحظ أن جمالهم المكتسب قد جرّ عليهم مشاكل جديدة، فقد أصبحوا غيورين وعدوانيين بعد أن كانوا متسامحين ومتعاونين. وفيما يعتقد أنه قد انتهى من علاج الجميع، تقتحم عيادته امرأة مشوهة بوجه قبيح، فيباشر بإجراء عملية جراحية لها. ليتضح له في النهاية أنها نفس المرأة التي قابلها على السفينة.

تبدأ المرأة بالكشف عن حقيقة تجربته، وتوضح له أن ما يعيشه ليس سوى حلم من صنع هوسه بالجمال المطلق. ومع اقتراب القصة من نهايتها، يواجه الطبيب حقيقة أنه محبوس داخل حلمه الخاص، غير قادر على الهروب منه، في عالم أصبح فيه إلهًا لسكان الجزيرة. وتؤكد له المرأة أن هذا هو حلمه الأخير، وأنه لن يستطيع العودة إلى زمنه الأصلي أبدًا.

بهذا السرد العميق والمليء بالرمزية، تتجاوز الرواية كونها مجرد حكاية لتصبح تأملًا في ماهية الجمال والحقيقة، ونداءً خافتًا في عالم يمزج بين الواقع والخيال، بين الوعي واللاوعي.

القصة تنطوي على طبقات متعددة من الرمزية و المواقف الفلسفة.. التي يمكن تناولها كاجزاء حسبما وردت:

الجزء الاول

في هذا النص، ينغمس القارئ في جو من العبثية والفوضى، حيث تتشابك رمزية الحرب مع فلسفة الموت ليصورا صورة غير تقليدية لواقع معقد. الكاتب ينحت مشاهد حرب لا تسير وفق القواعد المألوفة؛ فالقتال يدور دون أن يحصد أرواحًا، والجنود يقاتلون بابتسامات باردة، في مشهد يعكس عالماً فقد معناه وغايته. يتنقل الراوي في هذه الساحة، كمن يتجول بين أطلال إنسانية، حيث تُجسد اللامبالاة التامة تبلداً نفسياً وجموداً روحياً، مما يسلط الضوء على عبثية الحرب وتفاهتها. الحرب هنا تتجاوز حدود الجغرافيا والزمان، لتصبح رمزاً لصراع أبدي، حيث العنف يستمر بلا غاية، والدمار لا يؤدي إلى تغيير حقيقي.

ابتسامات الجنود الباردة تخفي وراءها مأساة فقدان الإنسانية، فهي تعبير عن مجتمع أُشبع بالعنف حتى أصبح غير قادر على التفاعل مع المعاناة، وكأن القلوب قد تحجرت. هذه الصورة العبثية تعكس فلسفة الوجود البشري حيث اللاجدوى تسيطر، والمعاني تضيع في دوامة من التكرار الخاوي.

الشخصية الرئيسية في النص هي تجسيد لأزمة الهوية والوجود. حيث يجد نفسه في مكان مجهول، بلا اسم أو تاريخ، مما يعكس حالة من الضياع وعدم الانتماء. فقدانه للاتجاه يعبر عن أزمة الإنسان المعاصر الذي فقد بوصلته وسط زحام الحياة وضجيجها. الجنود الذين يتجاهلونه يجسدون حالة من العزلة والانفصال عن الواقع المحيط، وكأنهم رمز لمجتمع لا يعترف بالفرد ولا يهتم بوجوده، مما يثير في نفسه شعوراً بالغربة والضياع، وكأن حياته تجري في مسرحية عبثية لا نهاية لها.

الحوارات التي تجري بين الراوي والجنود تضفي على النص بعداً فلسفياً عميقاً. فالحوارات تأتي مكررة وروتينية، تُجسد تفاهة المواقف البشرية التي تدور في حلقات مفرغة، فلا تؤدي إلى فهم أو تغيير. التساؤلات التي تراود الشخصية الرئيسية تعمق إحساسه بالضياع والتيه، وكأن الإنسان في بحث دائم عن إجابات في عالم مليء بالتناقضات واللامعقول. إنها رحلة في قلب العبث، حيث لا شيء يبدو ذا معنى، وكل شيء يظل معلّقًا في فضاء من الغموض.

لحظة وضع الشخصية على المنجنيق وقذفها نحو البحر تحمل دلالات تتجاوز حدود الحدث ذاته. المنجنيق هو تجسيد للقوى الغامضة التي تدفع الإنسان نحو مصيره المجهول، وكأنها قوة القدر التي لا مفر منها. أما البحر الأزرق، فهو رمز للمجهول واللامحدود، قد يكون تعبيراً عن رغبة البطل في التحرر من قيود الحياة والمعاناة، أو ربما هو انتقال إلى مرحلة جديدة من الوجود، حيث الإدراك يتسع ليشمل معانٍ جديدة وأبعادًا أعمق.

النقد الاجتماعي والسياسي يظهر بوضوح في النص من خلال تصوير الجنود كأشباه متشابهة في الشكل والتصرف، كأنهم نسخ متطابقة، مما يعكس انتقاداً للمجتمعات الشمولية التي تسحق الفردية وتسعى لتوحيد الجميع على حساب التنوع. الحرب تُعرض كـ"لعبة تثير المرح"، في نقد لاذع لثقافة الترفيه المعاصر، حيث العنف يُستهلك كمادة للإثارة، وتصبح الحروب مجرد عرض إضافي على شاشة التلفاز أو في ألعاب الفيديو.

النهاية المفتوحة، حيث يُقذف البطل نحو البحر، تترك القارئ في حالة من التأمل والتساؤل حول المصير الإنساني ومعنى الوجود في عالم مضطرب. القصة تطرح أسئلة فلسفية عميقة حول عبثية الحرب، وفقدان الهوية، ومعنى الحياة، وتجعل القارئ يواجه حقيقة أن الصراعات التي نعيشها قد تكون بلا جدوى، وأن الإنسانية قد فقدت طريقها في دوامة اللامعقول.

خلاصات وهوامش

1. عبثية الحرب:

يجسد النص حربًا عبثية، حيث يختلط مشهد القتال بابتسامات باردة ولا مبالاة، في دلالة على تفاهة الصراع وانعدام جدواه. الموت غائب، والجنود تائهون في دوامة العنف بلا غاية. هذه الحرب ليست مجرد نزاع عسكري، بل رمزٌ لصراعٍ أعمق، يتجلى فيه فقدان الإنسان انسانيته وسط هذا العبث.

2. رمزية الحرب والموت:

في هذا النص، ترتقي الحرب إلى رمزٍ لصراع أزليّ يتجرد من أي معنى أو هدف، حيث يطلق الجنود النار دون موت أو تغيير. الابتسامات الباردة تعكس تبلد الحواس وفقدان الإنسانية في عالم اعتاد العنف، لترمز إلى عبثية الوجود واللامبالاة تجاه المعاناة البشرية.

3. فقدان الهوية والوجود:

يجسد النص أزمة الهوية والوجود، حيث تعكس الشخصية الرئيسية ضياعها في مكان مجهول وتيهها بلا ملامح واضحة للحياة. يظهر عدم اكتراث الجنود كرمز لعزلة الفرد وغربته في مجتمعٍ بارد لا يعترف بوجوده، ليجسد بذلك الأزمة الوجودية والتشتت في الحياة المعاصرة.

4. السخرية من مفهوم البطولة:

التصور التقليدي للجنود هو أنهم أبطال يقاتلون ويموتون من أجل قضية. هنا، الجنود الذين يبتسمون ولا يموتون يسخرون من هذا المفهوم البطولي التقليدي. قد يشير الكاتب إلى أن البطولة الحقيقية ليست في القتال والموت، بل ربما في إيجاد معنى في الحياة نفسها.

5. النقد الاجتماعي والسياسي:

يجسد النص نقدًا لاذعًا للمجتمعات الشمولية التي تقتل الفردية لصالح التجانس، حيث يتحول الجنود إلى نسخ متماثلة بلا تميز. ويكشف عن قسوة العصر الحديث وعزلة الإنسان العادي وغربته وسط الصراعات وتصنيف الأفراد بناءً على مظهرهم الخارجي والانتماء الظاهري.. وتُختزل الحروب والصراعات إلى ترفيه عابر ومشاهد مثيرة في وسائل الإعلام وألعاب الفيديو، في تحريفٍ للواقع.. اضف الى ذلك عزلة الإنسان العادي وغربته وسط الصراعات.

6. الحوار الداخلي والخارجي:

حوارات الشخصية مع الجنود حيرتها الوجودية وسعيها المحموم للمعنى وسط عبثية المواقف البشرية المكررة. استجابات الجنود الروتينية تكشف فراغ الحياة ودورانها في حلقات مفرغة. تساؤلات الشخصية المستمرة تعمق شعور الضياع، مما يعكس بحث الإنسان عن إجابات في عالم يعج بالتناقضات واللامعقول.

7. التاريخ والتكرار:

تجسد البنادق القديمة عبثية القتال، حيث يتداخل الماضي بالحاضر في صراع عديم الفائدة. الحرب هنا ليست إلا تكراراً لصراعات بائدة، تعيد نفسها بلا جدوى، وكأن البشرية لم تتعلم من أخطائها. إنها حرب متجذرة في الماضي، تتكرر في الحاضر، بلا نهاية أو معنى.

8. اللامبالاة الوجودية:

الابتسامة في مواجهة الموت عادة ما تُعد رمزًا للسلام الداخلي أو الفهم العميق للحياة والموت. في هذا السياق، قد تكون الابتسامة تعبيرًا عن لامبالاة وجودية تجاه الحياة والموت. فهل أدرك الجنود زيف المعركة التي يخوضونها، وبالتالي لا يأخذونها على محمل الجد

9. الرغبة في المعرفة والفهم:

رغم إقراره بالجهل، يعبر البطل عن رغبة ضمنية في المعرفة والفهم. هذا الجهل يمكن أن يكون دافعًا للبحث والتعلم، والسعي لفهم الذات والعالم من حوله. إنه اعتراف بالحاجة إلى البحث عن الحقيقة والمعرفة.

10. البراءة مقابل الفساد:

الخوف والتعب والجنون على الحيوانات (الخيول، الكلاب، السناجب) يمكن تفسيره كرمز للبراءة والطبيعة. هذه الكائنات تمثل البراءة والعفوية في الطبيعة، بينما البشر الذين يُفترض أن يكونوا أكثر عقلانية يتعاملون مع الحرب كمرح وبالتالي تظهر على الحيوانات آثار الصراع بوضوح لأنها غير مهيأة لفهم أو التعامل مع الحرب، والفساد البشري والعنف.. والذي يبرز التناقض بين الطبيعة البريئة، والإنسان المتحارب الذي يتعامل مع الحرب كـ "لعبة تثير المرح والنشاط" والتي لا تفهم دوافعها وأسبابه.

11. الخريطة على الأرض:

ان وجود الخريطة بعيداً عن أقدام البطل يعبر عن البحث عن طريق أو مسار للحياة، او عن الاتجاه وحب المعرفة ولكنه لا بزال امرا غير ملموس او بعيد. وهذا يشير إلى أن البطل يشعر بالحيرة ويبحث عن طريقه في الحياة.

12. الجزيرة الأسد:

وحينما يصف الجزيرة بأنها تربض مثل أسد ظهره باتجاه الأرض يضيف بُعداً من القوة والعظمة. الأسد يمثل القوة والهيمنة، وربما يشير إلى إمكانات غير مستغلة أو إلى وجود شيء قوي ومؤثر في حياة البطل لم يواجهه بعد.

13. البعد الفلسفي والنهاية:

ان وضع الشخصية على المنجنيق والقذف بها نحو البحر، يمكن تفسيره بأبعاد فلسفية عميقة. فالمنجنيق هنا يمكن أن يرمز إلى القوى التي تدفع الإنسان نحو المجهول.. بمعنى اخر  نحو قدره المجهول أو مصيره الحتمي.اما البحر الأزرق المخضر فانه يشير إلى المجهول واللامحدود. او يمكن تفسير عملية القذف نحو البحر تكمن في رغبة البطل في التحرر من قيود الحياة والمعاناة، أو ربما هو انتقال إلى مرحلة جديدة من الوجود أو الإدراك.

14. التقييم النقدي:

النص يمتاز بالقدرة على خلق جو مميز وغير تقليدي من خلال تصوير معركة بلا موت، مما يعكس رؤية فلسفية أو نفسية حول عبثية العنف والحرب. الأسلوب السردي القوي واستخدام الحوار الذكي يضيفان عمقًا للنص ويحثان القارئ على التفكير النقدي. ومع ذلك، قد يجد بعض القراء أن النص يحتاج إلى وضوح أكبر في بعض الجوانب لفهم الرسالة بشكل أفضل. بشكل عام، النص يعتبر قطعة أدبية مثيرة للاهتمام تدفع القارئ إلى التفكير والتأمل في معنى الحرب والعنف في سياق إنساني أوسع .. ان استخدام الوصف التفصيلي والمشاهد السريالية التي تعزز من جاذبية النص. كذلك الأسلوب السردي يعكس تأثيرات الأدب الحديث والعبثي، مما يجعل القارئ يشعر بالاضطراب والتساؤل.

في المجمل، القصة تقدم نقدًا قويًا للحرب والعنف، وتدعو للتأمل في حالة الإنسان المعاصر وفقدان الهوية والمعنى في عالم مليء بالصراعات.

***

الجزء الثاني

في سرد متشابك بين الرمزية والفلسفة، تُظهر القصة رحلة داخلية إلى أعماق الذات البشرية، حيث تتلاقى رموز السفينة والمقصورة المظلمة، والمرأة الموثوقة، لتشكل انعكاساً لحالة الإنسان المعاصر الممزقة بين الواقع والخيال، بين الحاضر والماضي. فالسفينة تعكس مسار الحياة الغامض، بينما تُمثل المقصورة المظلمة العقل الباطن المشحون بالأسرار والرغبات المكبوتة. أما المرأة، فهي تجسيد للعقل المحاصر في دوامة من الأفكار المشوشة، التي لم تكشف عن نفسها بعد. في هذا الفضاء المغلق، يتحاور البطل مع نفسه من خلال المرأة، في صراع داخلي يعكس بحثه عن الهوية في عالم يغمره الغموض والتناقضات.

ان البطل، الذي فقد ذاكرته واسمه، يجد نفسه في مواجهة أزمة هوية عميقة. هذه الأزمة ليست مجرد فقدان للذاكرة، بل هي انقطاع عن الذات، عن العالم المحيط. في سعيه لاكتشاف اسمه، يبحث البطل عن ذاته في عالم يكتنفه الغموض والارتباك. وتتجلى هذه الأزمة في الحوار مع المرأة، حيث تنقلنا القصة بين مشاهد تاريخية وزمانية مختلفة، من معركة واترلو إلى أزمنة أخرى، مما يعكس تشوش إدراك البطل للواقع. هذا التشوش يُذكرنا بفلسفة ديكارت، حيث تُمثل "أنا أفكر، إذن أنا موجود" تحويراً يطرح سؤالاً أعمق: "أنا أحلم، إذن أنا موجود."

وفي قلب هذه الفوضى الزمانية والمكانية، يتفاقم شعور البطل بالضياع. ان الانتقالات المتكررة بين العصور والأحداث تخلق شعوراً بالتيه، حيث لا يستطيع البطل التفريق بين الحلم والواقع. هذه التنقلات تعبر عن فوضى تعتري تجربة البطل، كما لو أن الزمن ذاته أصبح متاهة بلا نهاية، تزيد من شعوره بالعزلة والانفصال عن الواقع.

كما وتحمل نهاية القصة رمزاً للتحرر من هذه القيود النفسية والفكرية. عندما يقفز البطل من السفينة نحو الساحل الآخر، يكون قد اتخذ خطوة نحو التحرر من الأفكار المتشابكة والضياع الذي يحيط به. هذا القفز يمثل رغبة قوية في التخلص من القيود والبحث عن هوية جديدة، حتى وإن كانت الرحلة محفوفة بالمخاطر. تحمل هذه النهاية إشارات إيجابية عن الأمل والسعي نحو الاستقرار النفسي، رغم الغموض الذي يكتنف المصير.

يتناول النص كذلك أبعاداً فلسفية متعددة، من أزمة الهوية إلى مسألة الحقيقة والواقع. فقدان الذاكرة لدى البطل هو رمز لضياع الإنسان المعاصر، الذي يواجه تعقيدات الحياة الحديثة والتكنولوجيا. تداخل الأزمنة في القصة يشكك في مفهوم الحقيقة، فيظل البطل عالقاً بين الواقع والوهم، مما يعمق من تساؤلاته الوجودية. إنه ليس فقط في رحلة بحث عن الذات، بل في محاولة لفهم معنى الحقيقة في عالم يغرق في التشكيك واللامعقول.

خلاصات وهوامش

1. الرمزية والفلسفة:

القصة مليئة بالرموز والدلالات الفلسفية. فالسفينة يمكن ان ترمز إلى رحلة الحياة الغامضة والمجهولة. وما المقصورة المظلمة الا تمثيلا للعقل الباطن المليء بالأسرار والأفكار المكبوتة. اما المرأة الموثوقة فيمكن ان تشير إلى العقل المحاصر بأفكار مشوشة وأسرار لم تُكتشف بعد. ثم ان الحوار مع المرأة لا يمثل الا صراعًا داخليًا بين الواقع والخيال، بين الحاضر والماضي.. هذا الصراع يمكن ان يحيلنا الى البحث عن الذات والهوية في عالم مليء بالتناقضات.

2. فقدان الهوية والذاكرة:

فقدان البطل لذاكرته يعكس حالة اغتراب وجودي وأزمة الهوية والانتماء. فالبحث عن اسمه وذاكرته هو بحث عن ذاته في عالم غريب ومربك. هذه الأزمة تعكس حالة الإنسان المعاصر الذي يشعر بالغربة في عالمه الخاص.. اما المرأة الموثوقة التي تتحدث عن معركة واترلو ، فيعزز فكرة أن الإنسان محاصر في معاركه الداخلية والخارجية، غير قادر على التحرر منها بسهولة..

3. الوهم والواقع:

يتطرق النص إلى العلاقة المعقدة بين الوهم والواقع، حيث ما يبدو حقيقة في البداية قد يتحول إلى سراب. هذا يطرح أسئلة فلسفية حول طبيعة الإدراك البشري، وما إذا كان بإمكاننا الثقة بما نراه ونشعر به.

4. البعد الزماني والمكاني:

القصة تتنقل بين أزمنة وأماكن مختلفة، مما يعزز الشعور بالضياع واللامعقول. الانتقال من القرن الحادي والعشرين إلى القرن التاسع ثم إلى معركة واترلو يعكس تداخل الأزمنة والأحداث في عقل البطل.هذا الانتقال الزماني يعبر عن الفوضى وعدم التماسك في تجربة البطل، مما يجعله غير قادر على التمييز بين الحلم والواقع.

5. الدلالات الاجتماعية:

** العزلة والانفصال الراوي يبدو معزولًا عن الآخرين، حتى في ساحة المعركة. هذه العزلة قد تعكس شعور الإنسان الحديث بالانفصال عن المجتمع والطبيعة، مما يخلق حالة من الضياع والبحث عن مكان للانتماء.

** الخداع الاجتماعي: يمكن رؤية الخداع البصري للسفينة كرمز للخداع الاجتماعي الذي يتعرض له الفرد في حياته، حيث ما يبدو جاذبًا ومغريًا قد يكون في الحقيقة تالفًا ومهترئًا:

6.  الدلالات النفسية:

** التبلد العاطفي: مشاعر الراوي الباردة تشير إلى حالة من التبلد العاطفي أو الانفصال العاطفي، ربما نتيجة للصدمات أو التجارب القاسية التي مر بها. هذه الحالة النفسية تعكس قسوة التجارب التي تجعل الإنسان غير قادر على الاستجابة العاطفية العادية.

** اللاوعي والذكريات المكبوتة: تساؤلات الراوي عن ماضيه وهويته تشير إلى عملية استكشاف للذاكرة واللاوعي. يبدو أن هناك أجزاء من ذاته مفقودة أو منسية، مما يشير إلى حالة من الإنكار أو النسيان المتعمد لتجارب مؤلمة.

7. دور العلم والتكنولوجيا:

المرأة تذكر أن البطل كان طبيب تجميل، مما يعكس دور العلم والتكنولوجيا في تشكيل هوياتنا المعاصرة. البطل الذي كان يغير ملامح الناس لجعلهم "أجمل" قد يعكس كيف أن المجتمع يفرض معايير جمال زائفة تؤدي إلى فقدان الهوية الحقيقية، هذه الفكرة تمتد إلى نقد أعمق للكيفية التي يمكن أن تتلاعب بها التكنولوجيا بأفكارنا وذكرياتنا، مما يؤدي إلى شعور بالانفصال عن الواقع الأصيل

8. النهاية والتحرر:

نهاية القصة حيث يقفز البطل من السفينة تعكس رغبته في التحرر من القيود والأفكار المشوشة التي تحاصره. السباحة إلى الساحل الآخر تمثل سعيه للعثور على نفسه واستعادة هويته.هذه النهاية تحمل دلالات إيجابية عن الأمل والبحث عن الذات، رغم الغموض والتحديات التي يواجهها

9. الحوار والأسلوب:

الحوارات في هذا الجزء تحمل طابعًا فلسفيًا وغامضًا.. الأسئلة والأجوبة تبدو متداخلة ومعقدة، مما يعكس تعقيد الأفكار والمشاعر التي يمر بها البطل. ثم ان أسلوب الحوار يعزز الشعور بالضياع والتيه، حيث أن كل إجابة تفتح بابًا جديدًا من التساؤلات بدلاً من تقديم إجابات واضحة. هذا الأسلوب يعكس حالة الشك وعدم اليقين التي يعيشها البطل.

الاستنتاج:

النص يقدم تأملًا عميقًا في النفس البشرية والعلاقة المعقدة بين الواقع والوهم، والزمن والتحلل، والعزلة والانفصال الاجتماعي. والكشف عن مشاعر الاغتراب والبحث عن الذات في عالم مليء بالسراب والأوهام، والتأثير النفسي للتجارب القاسية، حيث يصبح الإنسان غير قادر على الشعور بالألم أو الخوف، مما يضعه في حالة من الجمود العاطفي والتساؤل حول معناه ووجوده.

الجزء الثالث

في أعقاب معركة واترلو، يجد الراوي نفسه على شواطئ جزيرة غامضة، مأهولة بمخلوقات بشرية غريبة، مشوهة الخِلقة كأنها بقايا من زمن الأساطير. وحين تطأ قدماه الأرض، يلتف حوله أهل الجزيرة بعينين مليئتين بالدهشة والتوقير، وكأنهم يرون فيه إلهاً خرجة لهم من اليحر( بدلا من السماء) ليعيد تشكيلهم من جديد. تلك المخلوقات، التي تشبه نصف إنسان ونصف حيوان، كانت تعيش في ظلال العزلة، بين الغموض والغرابة، في زمن لا ينتمي إلى أي عصر محدد، وكأنها تائهة بين الحاضر والماضي. لم يكن بوسع الراوي تحديد القرن أو الحقبة التي يعيش فيها، فالزمن هنا كان متداخلاً وغائماً، لا يُفرق فيه بين الحلم والواقع.

بفضل مهارته في التشريح والجراحة، يصبح الراوي موضع عبادة، إذ يشرع في إعادة تشكيل أجسادهم لتصبح أكثر جمالاً وأناقة، أقرب إلى صورته البشرية، متحررة من التشوهات التي حملتها لقرون. في البداية، يظن هؤلاء المخلوقات أن الجمال الذي منحهم إياه هو الخلاص المنشود، وأن تلك الهيئة الجديدة ستجلب لهم السعادة الأبدية. إلا أن الرياح تجري بما لا تشتهي السفن، فيتحول ذلك الجمال إلى لعنة تزرع بذور الغيرة والغرور بين أهل الجزيرة. تتبدل العلاقات بين الأفراد، وتظهر صراعات جديدة لم تكن موجودة من قبل، تضعف وحدة المجتمع وتفكك روابطه.

وسط هذا التحول الدراماتيكي، تظل امرأة واحدة، تُدعى "الموثوقة"، تلعب دوراً محورياً في حياة الراوي. تتبعه عبر الأزمنة، حاضرة كالظل، تذكره بالحقيقة القاسية: أن كل ما يعيشه ليس إلا حلماً طويلاً، وأن العودة إلى الماضي أو المضي قدماً نحو المستقبل لن يتحقق إلا إذا حلم بعصر أقل رقيًّا، عصر يعود فيه إلى حالة من البساطة والتوازن.

القصة، بأبعادها الأدبية والفلسفية والرمزية، تطرح تساؤلات جوهرية عن الهوية والذات. فالراوي، الذي ظنه أهل الجزيرة إلهاً قادراً على تغيير مصائرهم، يبدأ بالشك في قدرته على تغيير ذاته أولاً، قبل أن يغيرهم. الجمال، الذي اعتبره أهل الجزيرة منتهى المبتغى، يتبين أنه مجرد غطاء يخفي وراءه تعقيدات نفسية واجتماعية لم يكونوا مستعدين لها. الهوية الذاتية لا تتغير بتغيير المظهر، بل بالتأمل العميق في جوهر الإنسان.

يتداخل في النص الحلم بالواقع بشكل يعكس تشابك الأفكار وتعدد الأزمان. الراوي لا يستطيع تمييز الواقع من الحلم، وكأن الزمن توقف عند نقطة لا يمكنه تجاوزها. "الموثوقة" تأتي لتؤكد له أن ما يراه هو فقط وهم، وأن القوة التي يمتلكها لتغيير الآخرين ليست كافية لتحريره من قيود الزمن والحلم.

رمزياً، يكتنز النص بمعاني عديدة؛ التشوه والجمال يمثلان النقيضين اللذين يعكسان جدلية الخير والشر، والقبول والرفض. الجمال هنا ليس نعمة بقدر ما هو اختبار للقيم والأخلاق. الراوي، الذي كان في نظرهم إلهاً، يجد نفسه ضائعاً بين طموحاته وقدرته المحدودة على فهم تأثير قراراته على المجتمع.

في نهاية المطاف، تطرح القصة أسئلة وجودية عميقة حول ماهية الواقع، وحدود القوة البشرية، ودور الجمال في المجتمع، والأخلاق المرتبطة بالتغيير الجسدي. هل يمكن حقاً للإنسان أن يلعب دور الإله دون أن يتسبب في فساد النظام الطبيعي؟ وهل الجمال دائماً نعمة، أم أنه قد يكون نقمة تُفسد العلاقات الإنسانية؟ القصة تقدم لنا رؤية معقدة عن الوجود الإنساني، حيث يتشابك الحلم بالواقع والجمال بالقبح، في رحلة نحو اكتشاف الذات والهوية والمعنى الحقيقي للحياة.

في قلب النص الذي نسجتَ خيوطه بأفكار متشابكة ومعاني عميقة، ينبثق لنا عالم يعج برموز ودلالات ترتكز على النفس البشرية وما تواجهه من تحديات. هنا، نبدأ رحلتنا في إعادة صياغة هذا النص، محاولين الحفاظ على عمقه وسحره الأدبي في قالبٍ رصين وشعري، ليصل إلى القارئ بسلاسة وأناقة.

خلاصات وهوامش

1. الوصف الخارجي والتشوهات الجسدية:

**  الأوصاف الجسدية: النص مليء بالأوصاف المفصلة للتشوهات الجسدية للبشر في الجزيرة، مما يعكس الهوس بالمظهر الخارجي والجمال. هذا التصوير يمكن تفسيره كرمز للتمييز والعزلة الاجتماعية التي يعاني منها الأفراد المختلفون عن "المعيار" المجتمعي للجمال.

** اللغة والصور: يستخدم الكاتب لغة بصرية قوية ومفصلة وصورًا حية لإبراز القبح والتشوهات الجسدية والجمال المثالي مما يعزز من تأثير النص على القارئ ويدفعه للتفكير في القيم الجمالية والمعايير الاجتماعية. لنقل التشوهات، مما يخلق تباينًا مع الجمال "المثالي" الذي يسعى البطل لتحقيقه.

** الجمال كقيمة نسبية: النص يستكشف فكرة أن الجمال ليس مطلقًا وأن السعي وراء الكمال يمكن أن يكون مدمرًا. التحولات الجسدية تعكس تغيرات داخلية ومجتمعية، وتطرح أسئلة حول ما إذا كان الجمال الخارجي يستحق الثمن الباهظ الذي يُدفع لتحقيقه.

** التشوه كرمز للإنسانية: الشخصيات المشوهة تعكس الطبيعة البشرية الحقيقية التي تحتوي على عيوب وأخطاء. هذا التشويه يصبح رمزًا للأصالة والإنسانية الحقيقية، في مقابل الجمال الزائف الذي يسعى البطل لتحقيقه. –

**التكرار والرمزية**: استخدام التكرار في وصف التحولات الجسدية والشخصيات المختلفة يعزز من الرمزية في النص ويعكس فكرة أن التغيير هو جزء لا يتجزأ من التجربة الإنسانية.

2. البطل والإله:

** الشخصية الرئيسية:البطل يبدو أنه يحمل مزيجًا من القدرات الطبية والهوس بالجمال، مما يجعله رمزًا للشخصية الإلهية في عيون السكان. هذا التصور يمكن أن يشير الى الرغبة البشرية في البحث عن الكمال والاعتقاد بأن المظهر الخارجي يمكن أن يحل جميع المشاكل.

** مفهوم الألوهية: النص يعرض فكرة الإله الذي يهبط على الجزيرة ليغير حياة السكان، ولكنه يكشف في النهاية عن تأثيرات سلبية لهذا التغيير. هذا التحول يمكن أن يرمز إلى الطبيعة المعقدة للتغيير والتحديث وكيف أن التطلعات الإنسانية يمكن أن تؤدي إلى نتائج غير متوقعة.

** نقد للسلطة المطلقة: كما انه يمكن ان يمثل نقدًا للسلطة المطلقة والشخصيات الكاريزمية التي يُنظر إليها كمنقذين. هذه الشخصية تجمع بين الصفات الإيجابية (القدرة على التغيير) والصفات السلبية (الهوس بالكمال)، مما يعكس تناقضات السلطة وكيف يمكن أن تؤدي الطموحات الكبيرة إلى نتائج كارثية.

3. القضايا الاجتماعية:

** الاندماج والتعاون: يوضح النص كيف أن التشوهات الجسدية كانت توحد السكان وتجعلهم أكثر تعاونًا وتسامحًا. هذا التباين بين الوحدة في القبح والصراعات في الجمال يمكن أن يكون نقدًا للمجتمع الذي يمجد الجمال الخارجي على حساب القيم الإنسانية الأساسية.

**النظام الاجتماعي: يعرض النص تحول السكان من حالة من السلام والتعاون إلى حالة من الصراع بسبب التغيرات الجسدية، مما يعكس هشاشة النظام الاجتماعي القائم على المظهر الخارجي.

4. الشخصية النسائية:

** المرأة المشوهة: هذه الشخصية تمثل التحدي الأخير للبطل، مما يعكس فكرة أنه حتى في المجتمعات الأكثر "كمالا" هناك دائمًا تحديات خفية. كما أن صمتها وغموضها يزيدان من تعقيد القصة.

** التغيير والتحول: تحول المرأة من حالة القبح إلى الجمال يعكس مرة أخرى هوس البطل بالجمال الخارجي، ولكن الكشف عن هويتها الحقيقية بانها السيدة الموثوقة يعقد السرد ويضيف بعدًا فلسفيًا حول الهوية والتغيير.

5. الحلم والواقع:

** التداخل بين الحلم والواقع: النص يشير إلى أن التجربة برمتها قد تكون حلمًا ناتجًا عن هوس البطل بالجمال. هذا التداخل بين الحلم والواقع يمكن أن يفسر كتعليق على الطبيعة الوهمية للسعي نحو الكمال. كما يمكن أن يكون وسيلة للهروب الواقع المرير ، وكيف أن هذا السعي يمكن أن يبتلع الفرد في دوامة لا تنتهي. هذه الفكرة تطرح تساؤلات حول طبيعة الوعي البشري وقدرته على التمييز بين الحلم والواقع.

** الزمن والتاريخ: النص يستكشف فكرة الزمن والتنقل بين العصور، مما يضيف عمقًا فلسفيًا حول تأثير الزمن على الهوية والشخصية. يتساءل البطل عن مكانه وزمانه، مما يعكس حالة من الضياع والبحث عن الذات.

6. الانعكاسات الاجتماعية والفلسفية:

**الانعكاسات الفلسفية: النص يطرح أسئلة حول معنى الكمال والجمال، وما إذا كان السعي نحو الجمال يستحق الثمن الذي يُدفع من أجل تحقيقه. هذه الأفكار تعكس قضايا أوسع حول المجتمع والثقافة والقيم.

** الهوية والزمن: النص يستكشف العلاقة بين الهوية والزمن، حيث يتحول الزمن إلى عامل مهم في تشكيل الهوية الشخصية والجماعية. يتساءل البطل عن مكانه وزمانه، مما يعكس حالة من الضياع والبحث عن الذات في عالم يتغير باستمرار.

** القيم الإنسانية: القيمة الحقيقية مقابل القيم الزائفة النص يعكس نقدًا للقيم الزائفة مثل الجمال الخارجي والكمال، ويدعوان إلى التمسك بالقيم الحقيقية مثل التعاون والتضامن وتقبل الاخر المختلف. هذا النقد يعزز من رسالة النص بأن الجمال الحقيقي يكمن في القيم الإنسانية وليس في المظاهر الخارجية.

7. النهاية المفتوحة:

نهاية النص تترك القارئ في حالة من التساؤل حول مصير البطل والمرأة المشوهة، مما يعكس الطبيعة المعقدة وغير الحاسمة للحياة والهوية. ان مثل هذه النهايات تعكس عدم الحسم في القضايا الفلسفية والوجودية التي يطرحها النص، مما يعزز الشعور بالغموض والبحث المستمر عن الحقيقة النهاية تحمل دلالات عميقة تتعلق بالوجود والهوية والواقع.

8. تحدي الواقع:

السيدة التي تعلن أنها الحلم الأخير للراوي تمثل فكرة أن الإنسان قد يصل إلى نقطة لا يمكنه فيها العودة إلى واقعه السابق. هذا يعكس الطبيعة الإنسانية في السعي للتحسين والتغيير وكيف يمكن أن يؤدي ذلك إلى انفصال عن الواقع الأصلي

9. الصراع الداخلي:

الراوي الذي يجد نفسه غير قادر على النوم أو الحلم مرة أخرى يعكس الصراع الداخلي بين الرغبة في التحسين والخوف من الفناء. هذا يعبر عن الحيرة الوجودية والبحث المستمر عن المعنى.

10. السلطة والعزلة:

الراوي الذي يصبح إلهًا يجد نفسه محاطًا بالطاعة والاحترام، لكنه في نفس الوقت يشعر بالعزلة والحيرة. هذا يعكس التناقض بين القوة والسلطة والشعور بالوحدة والعدم.

الاستنتاج

النص رحلة فكرية تتعمق في الفلسفة والوجود، حيث يعكس أزمة الهوية وسعيًا لتحقيق الاستقرار النفسي في عالم متغير. بين تحديات الزمن، يتجلى الجمال في التعاون والتسامح. في عالم غامض، يتجاوز الأبطال المحن بقوة العقل، مؤكدين أن السلام ينبع من الروح والعقل، لا الجسد.

***

طارق الحلفي

..............................

* رابط رواية الجيب "واترلو"

https://www.almothaqaf.com/nesos/975825-%D9%82%D8%B5%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D8%B4%D9%8A%D8%AE-%D8%B9%D8%B3%D9%83%D8%B1-%D9%88%D8%A7%D8%AA%D8%B1%D9%84%D9%88

 

اهتم الواقعيون من كتاب الرواية اهتماماً خاصاً بالزمن التاريخي وجسدوه في كتاباتهم القصصية، وهو الذي يمثل المقابل الخارجي الذي يسقطون عليه عالمهم التخيلي في نصوصهم الروائية. والزمن الحقيقي أو الواقعي هو الذي وقع فعلاً في حياة الناس خارج زمن الرواية الذي يحاول التقرب من تلك الوقائع ليخلق صلة فعالة معه وليمنح زمن الرواية بعداً واقعياً وحقيقياً حتى يكون له وقعه المؤثر في ذهن القارئ المتلقي.95 ghaeb toma farman

إن الزمن العام في رواية (النخلة والجيران)، يدور في الحقبة الزمنية للحرب العالمية الثانية، وفي أثناء وجود الجيش الإنكليزي في العراق مع كل تأثيرات الحرب وسلبياتها، وزمن الرواية مدة محصورة بين شهر "آب" وبداية "كانون الأول"، قبل رحيل الإنكليز، أي "بدايات الأربعينيّات في القرن العشرين". والزمن الحقيقي وهو (العام) في رواية (خمسة أصوات) يمكن أن نحدده بواسطة الأحداث السياسية الموجودة فيها، والظواهر الطبيعية التي تشير إليها الرواية، وبواسطة الدلائل نعرف أن زمن الرواية هو الخمسينيات من القرن العشرين. (المدة ما قبل ثورة 14 تموز 1958)، فالقصة جرت أيام سقوط حكومة (الجمالي)، وأيام فيضان دجلة العام (1954)، وزمن الانتخابات (النيابية)، ولم يشهد تاريخ العراق الحديث انتخابات قبل ثورة 14 تموز إلا في الخمسينيّات، وفي النص، بالحوار بين الشخصيات نقرأ اسم (جبهة الاتحاد الوطني) وهذه إشارة أخرى إلى الحقبة لأن الجبهة تكونت العام 1957، حلت بعد حقبة قصيرة بعد اندلاع ثورة 14 تموز في العام 1958، والزمن في رواية (المخاض) فهو مدة ما بعد ثورة 14 تموز 1958 إلى بداية الستينيّات وهذا يمكن أن نستنتجه من العبارات الصريحة في بعض عبارات الرواية(المخاض:217،226)، فمثلاً "كل رسائلي و تساؤلاتي خلال عامين من عمر الثورة". (المخاض:14)

وعملية تحديد المدة الزمنية في رواية (القربان) ليس سهلاً، لأننا لا نرى أي دلالة نصيّه تشير إلى ذلك، ولكن بواسطة أجواء القصة (الأمكنة، والواقع الاجتماعي) نستطيع الاستنتاج أنها حدثت في الخمسينيّات وفي العهد الملكي وبداية الستينيّات، ونلاحظ في (مقهى دبش)، والكرسي الذي هو رمز للسلطة، والصراع عليه رمز للصراع على السلطة بعدما يموت صاحب الأملاك (دبش) الرجعي الديكتاتوري المتسلط على جميع العاملين وكذلك من حوله، وشدة القساوة مع ابنته (مظلومة).

إن وصية "دبش" لـ"حسن علوان"، وتسليم أملاكه له في حين لم تبلغ (مظلومة) الثامنة عشرة من عمرها يمثل الأمير عبد الإله الذي كان وصياً على عرش العراق، لأن (الملك فيصل الثاني) كان قاصراً مثل مظلومة.

إذا أخذنا بهذا التفكير تكون الأحداث قد جرت في المدة بين (1939) و(1953).96 ghaeb toma farman

إن لا محدودية الزمن، وطبيعة الأحداث، وتطويراتها بعد موت دبش، تجعلنا نربط بين الصراعات الدائرة بين شخصيات الرواية والصراعات السياسية التي حدثت بعد ثورة 14 تموز 1958. ونستطيع أن نحدد الزمن الحقيقي في (ظلال على النافذة)، بفضل بعض المؤشرات والقرائن منها: الرواية التي كتبت العام 1978، وأحداثها جرت في بداية السبعينيّات، لأن عائلة "عبد الواحد" تسكن في حي الوشاش، وهو الحي الذي  بدأ فيه البناء الجديد في نهاية الخمسينيات، وعبد الواحد اشترى قطعة الأرض في هذا الحي وتركها عشر سنوات قبل الشروع في بنائها بيتاً، واستغرق البناء سنتين وإن هذه الأسرة عاشت في بيتها الجديد ثلاث سنوات، والعائلة تعيش في حالة تمزق وانحلال في الداخل التي تجسد وضع المجتمع العراقي في الستينيّات، وكان منفساً على نفسه.

أما الزمن الحقيقي لرواية (آلام السيد معروف) فهو مجهول أيضاً، ولم نر أية إشارة زمنية، ربما لأن الرواية تخللتها موضوعات نفسية، فالموضوع صالح لكل الأزمان، وفي أي مجتمع يعاني أمراضاً اجتماعية واقتصادية، ومن إدارة بيروقراطية في مؤسسات الدولة، ويتحدث الروائي في هذه الرواية عن حياته ومعاناته وآلامه الخاصة. والزمن في رواية (المرتجى والمؤجل)، ليس واضحاً تماماً رغم وجود أدلة زمنية أيضاً، ولم يكن الزمن فيها صريحاً، ويمكن أن نحدد زمن أحداث هذه الرواية من خلال المؤشرات الموجودة في النص بشكل تقريبي، فمثلاً (قصة قطار الموت) التي حدثت العام 1963، على إثر الانقلاب العسكري ضد حكومة (عبد الكريم قاسم)، وهي محاولة لقتل مجموعة من الضباط والمناضلين، وذلك بوضعهم في قطار يحمل البضائع مغلقاً بدون نوافذ، وشحنهم من بغداد إلى السماوة، ليلاقوا حتفهم اختناقاً من شدة حر صيف العراق اللاهب، في ذلك الوقت كان عمر الصبي ثلاثة أشهر، وعندما أصيب الطفل بحادثة سيارة، ونقل للعلاج في الخارج كان لا يزال صغيراً، لدرجة أن الطبيب طلب موافقة أبيه لإجراء العملية لعدم بلوغه الثامن عشرة، أي أن زمن القصة ينحصر بين 1963-1980، والمؤشر الثاني: ما دار بين ثلة من الأصدقاء حول حازم بالعودة إلى العراق، إذ قال أحدهم: "اسمع نصيحتي حازم، سافر ما دامت الجبهة لم تلفظ أنفاسها بعد"( المرتجى والمؤجل:137)، ويقصد الجبهة الوطنية والقومية التقدمية، التي عقدت بين القوى السياسية في العراق عام 1973، وانتهت عملياً عام 1978 إذ إن زمن الرواية كان في السبعينيّات. (ينظر: الزمان والمكان في روايات غائب طعمه فرمان: 155).97 ghaeb toma farman

والزمن العام في رواية (المركب)، تبدأ أحداثها في أواخر آذار دون أن يذكر أية سنة، ينتهي خلال ثلاثة أشهر يعني في حزيران أكد ذلك (خليل) في حواره مع (رائد): "وهكذا هو الزمن يمر كالطيف يبدو لي أمس فقط كنا في سيارة (عصام) (الموسكو فيتش) منطلقين مع الشيخ للقاء المركب الذي كان يجب أن يأخذنا إلى (أم الخنازير). قال (خليل) مستغرباً: أمس فقط يبدو أنني عشت عمراً بأكمله خلال هذه الأشهر الثلاثة".(المركب:217)

ونتلمس مؤشراً آخر بواسطة الحوار الذي دار بين "رائد" :" وهكذا هو الزمن يمر كالطيف يبدو لي أمس فقط كنا في سيارة إذ يقول: "... سأقول لك من أنا، بالمناسبة أنا تركت الحزب وهو انتعاش، فوق النخل فوق، يعني لا يمكن أن اتهم بالتخاذل أو الانتهازية"(المركب:227). ويقصد (الحزب الشيوعي العراقي)، وربما يشير إلى الانتعاش النسبي في الحياة السياسية شبه العلنية، والتي لم يحدث إلا في زمنين: الأول في بداية ثورة 14 تموز 1958 وحتى 1963، والثاني خلال مدة (الجبهة الوطنية والقومية التقدمية) (1973-1978). وكل المؤشرات تؤكد أن وقائع الرواية حدثت في الحقبة الثانية. فضلاً عن  ذلك أن جزيرة (أم الخنازير) لم تكن عام 1959 مرفقاً سياحياً، وأن واسطة النقل (المركب) كانت مستخدمة في السبعينيات، أما في الثمانينيات فقد أنشأ جسر يربط الجزيرة بجانبي الكرخ والرصافة، وجرى الاعتناء، وبدل اسمها إلى جزيرة (الأعراس السياحية). وقد وردت عبارة أخرى تؤكد ما ذهبنا إليه: "هناك عناصر مغرضة تريد تثبيت فشل (القطاع العام)، ويقصد به قطاع الدولة كان سائداً قبل العام 1968، واستبدل بعد ذلك بـ(القطاع الاشتراكي) ومصطلح (التوجيه الاشتراكي)، كان سائداً في حقبة السبعينيات"(المركب:163).

***

د. شازاد كريم عثمان

رواية "فرصة ثانية" مشبعة بالدراما والترقّب والأحداث، رواية تعرض الحدث بكلّ تفاصيله وتترك مجالًا كبيرًا لتسأل وتعظ وتفكّر: "شردت أفكاري حول أسرار الحياة والولادة وسرّ الأمومة، فكيف تتحمّل الأمّهات كلّ هذا الألم؟ هل حبّ الأمّهات لأطفالهنّ يستحقّ هذه التضحية؟ أم هي غريزة فطريّة بحتة؟ أم أنّها قوّة طبيعيّة نسير في فلكها دون وعي منّا؟" ص9-10.  ص18: "هل هذا جزاء من وهبن أجسادهنّ معابد للحياة؟" هذه التساؤلات تضفي على بداية الرواية لونًا تأمّليًّا.

لغة الرواية متقنة جدًّا وسليمة وفيها من الجمال ما يفيض عن أحداث الرواية ويشكّل شطحة شاعريّة رومانسيّة حالمة، مثال: "تحوّلت إلى مراقب صامت لمسرح الحياة الإنسانيّة بمختلف مشاعرها وألوانها، فكلّ من مرّ من أمامي كان يحمل حكاية منقوشة بخطوط الفرح أو الحزن، أو الأمل أو الخوف، أو الترقّب" ص15.

تبدأ الرواية بدراما الولادة بكلّ دقائقها ثمّ الموت بعد الولادة ثمّ الحياة الغضّة لرضيع فقد والدته لحظة قدومه إلى الدنيا، وتنتهي الرواية بالحمل المرتجى والزواج السعيد لثلاث نساء العائلة والأصدقاء: هدى ولبنى ونهاية. 99 sabah basher

وصف فقدان فاتن في البداية كان عميقًا ودقيقًا وشاملًا حيث يعيش القارئ حالة الفقدان مع مصطفى وهدى وأمّ فاتن ويتفاعل معهم. ص22 "من بعيد يظهر وجه مصطفى يحمل بين ذراعيه طفله، ثمرة حبّ انطفأت شمعته قبل الأوان".

وصف الحالات والأشخاص في الرواية يطول ويتوسّع عبر إطار الحبكة، ويدفع الحالة أو الشخص إلى مركز الرواية.

كل شخصيّات الرواية توصف بمثاليّة كبيرة وبحدّ أقصى حيث أنّ صفة الأفضل تدخل في أوصاف كثير من الشخصيّات، مثال على ذلك: مصطفى ومعرض سيّاراته وإبراهيم والمهنيّة العالية في طبّ الأسنان، رغم أنّه قلع سنًّا صحّيًّا لمريض بدل أن يقلع المعطوب ومثاليّة هدى كانت في لطفها وأخلاقها وتضحيتها بمستقبلها من أجل الرضيع اليتيم ابن أختها.

لغة الوصف في الرواية تحتفل بجمالها ودقّتها وتصبح سيّدة الموقف. في وصف المكان، حيفا مثلًا (ص34 وص83)، ووصف الحب والزمان والشخصيات يتغنّى باللغة واللغة تتغنّى به. والوصف، أيضًا، يتحدّى السياق ويصبو إلى الكمال في المشاعر وفي الممتلكات: وصف الحبّ والعشق أخذ قسطًا كبيرًا من الجمال اللغوي والاستعارات المبتكرة واعتلى عرشًا جميلًا يعبّر عن فكرة رئيسيّة في الرواية: الأمومة والإنجاب (ص 50-51).   

فكرة أخرى عميقة وفاعلة طرحتها الرواية وهي مبادرة المرأة في الحبّ: سناء مثلًا، ومن الناحية الأخرى: تحرُّش المريضة بطبيب الأسنان إبراهيم.

حول كلّ الأوصاف في الرواية، وهي جزء كبير منها، يلتفّ خيال خصب يزيّنه جمال اللغة وتتعاقب فيه الاستعارات التي لا تخلو هي الأخرى من الجمال والخيال.

تتخلّل الرواية أسئلة وجوديّة تضفي عليها عمقًا خاصًّا. بالإضافة إلى أسئلة الأمومة التي تدعو إلى التفكير بالموضوع، هناك أسئلة عن الزواج: "هل الزواج مأوى للحبّ أم قيد للأرواح؟"، ص58.

إجمالًا تتحلّى كلّ مشاهد الرواية بالوصف الحالم المتأمّل، والذي يوجّه القارئ إلى دخول جوّ مميّز تبدعه أصوات الرواة وتترك القارئ متقبّلًا لهذا الجوّ وحريصًا على ألّا يمسّه حين يدخل إليه. مثلًا: جوّ وصف الحبّ ص65 يترك القارئ مذهولًا ومتسائلًا عن أنماط الشخصيّات التي مارست الحبّ جسدًا وروحًا، مثل سناء، سكرتيرة مصطفى، بوصفها "لحظة ضعف انسدلت فيها العتمة على نور العقل، فيها استسلم مصطفى لنداءات الجسد وقرّر أن يشارك سناء ليلة حميميّة" ص65، في حين أنّ سناء لم تكن متأكّدة من مشاعر مصطفى تجاهها ورغم ذلك قالت له: "سأكون معك كلّما احتجت إليّ" ص76. هذا المشهد يترك سناء تعيش بين الأمل وخيبة الأمل وبين لحظات القوّة ولحظات الضعف.

تكثر في الرواية مواقف الأمل وخيبات الأمل، الحبّ وتمثيل الحبّ، الإخلاص والتواجد على شفا الخيانة، وهذا جعل الرواية غنيّة بالمشاعر وبالواقع الخيالي وبالخيال الواقعي.

شخصيّات الرواية تتعدّى خطوط الواقع في كثير من الأحيان، مثال على ذلك شخصيّة عبد الله وشخصيّة لبنى وعلاقتهما.

أمّا مشهد إلحاح والدة مصطفى عليه ليتزوّج من هدى فقد كان تقليديًّا، ولكنّ النتيجة كانت إيجابيّة ومثاليّة. إنّ اتخاذ القرارات المصيريّة عند شخصيّات الرواية كانت تقع في إشكاليّات تتراوح بين الواقعي والمتخيّل.

موضوع الشهر الأوّل من زواج مصطفى وهدى كان أحيانًا طبيعيًّا وأحيانًا أخرى متصنّعًا يميل إلى المثاليّة واليوتوبيا، ولا تظهر فيه سيرورة واضحة. وكذلك وضع إبراهيم ونهاية لم تكن فيه سيرورة.

الاسترسال في الوصف أدّى مهمّة واضحة في زيادة إثارة الترقّب وأبطأ مجرى الحبكة.

أثار اهتمامي تواجد الكثير من التناقضات الداخليّة في شخصيّات مصطفى وعبد الله وهدى، وهذا أعطى الرواية بعدًا نفسيًّا لهذه الشخصيّات وأوحى بكثير من التساؤلات حول كونها جزءً من الحياة الواقعيّة أم أنّها من إبداع الكاتبة فقط، كثرة الأوصاف للشخصيّات أدّت إلى تكرار بعض الصور عنها، مثال على ذلك جمال هدى وفاتن ومصطفى. ومع ذلك لم ألاحظ بأنّ هذه الشخصيّات تغيّرت وإنّما معظمها سار على خطّ مستقيم.

لم أستطع أن أتخلّص من عيني الانتقائيّة، كقارئة مهنتها العلاج الزوجي/الأسري، فوجدتُ أنّ الشخصيّات والعلاقات بينها فيها غرابة معيّنة، وربّما تكون الكاتبة قصدت ذلك.

هذه الرواية أثارت اهتمامي فبعد أن قرأتُها تصفّحتُها مرّة ثانية، ووجدْتُ فيها ثلاثة أبعاد للحبّ: الحبّ حسب التعريف المثالي الموجود في النصّ، والحبّ التلقائي الشعوري النادر، والحب كمسؤوليّة تجاه الآخر وتجاه الذات.

وهناك ثلاث طبقات في النصّ: الطبقة الأولى: الظاهر السطحي من العلاقات الاجتماعيّة، والطبقة الثانية: العلاقات من فئة المتوارث والتقليدي، والطبقة الثالثة: ذوبان الفردي الذاتي بالجماعي وفقدان الفرد لجوهره. وهذه الطبقات تمثّل واقعًا لا مهرب منه.

ويبرز محور مركزيّ على طول الرواية وهو: المرأة والرجل. أورد هنا بعض الأمثلة من شخصيّات الرواية:

* عبد الله الرجل الخاضع بشكل كبير ولبنى المرأة المسيطرة في كلّ المجالات الحياتيّة والتي تأخذ مساحتها كاملة وتلغي مساحة زوجها عبد الله.

* هدى وطيبتها اللامتناهية وتضحيتها من أجل يحيى الرضيع ابن أختها فاتن التي ولدته وتوفّيت.

* سناء تتحايل وتتظاهر بالحب لتكسب مدير عملها مصطفى بعد أن توفّيت زوجته فاتن.

* مصطفى الذي استجاب لتظاهر سناء بالحب من ناحية، ومن الناحية الأخرى لم يستطع القرب من هدى بعد أن تزوّجها حيث أظهر عواطف وحبّ طوباوي لفاتن زوجته الراحلة ولم يتمكّن من منازلة الفقدان، وهدى التي استمرّت بالتضحية بذاتها من أجل الرضيع يحيى على الرغم من تجاهل زوجها مصطفى لأنوثتها.

* إبراهيم عاش فشلًا في زواجه مرّتين وكان محبطًا من هذا الوضع، وعندما تعرّف على جارته نهاية شفته من إحباطه وخيباته، إلّا أنّه تركها عندما طلبت منه أن يتزوّجا. في نهاية الرواية يذكر أنهما أخيرًا تزوّجا.

* لا نعرف الكثير عن أم عبد الله وزوجها المتوفّى، إلّا أنّها تؤثّر كثيرًا في حياة ولديها وكنّتيها. أمّ فاتن وهدى أيضًا تؤثّر كثيرًا على ابنتيها وعلى زوجها. بذلك نرى أنّ أم عبد الله وأم فاتن تتبنّيان العرف والتقاليد وأسس النسيج المجتمعي بعيدًا عن المشاعر.

تعدّد الأصوات الراوية والديناميكيّات في المسارات الفرديّة الذاتيّة والتي تندمج في الاجتماعيّة، شكّلت نسيجًا روائيًّا محكمًا وأعطت الرواية زخمًا أجهدني لولا دراميّة الأحداث وتنوّعها والمفاجآت التي تخلق كثيرًا من الترقّب.

مدّ الأحداث الدراميّة في الرواية يأخذ القارئ خارج حدود الرواية ويلقي بسحره عليه غير تارك له مجالًا للتأمُّل.

رواية جذّابة وجميلة وتستحقّ القراءة.

مباركة جهود الكاتبة صباح بشير ومبارك هذا الإبداع.

***

سلمى جبران

 

بنظير هذه السردية المغرقة في خطاب الفوضوية البانية، تبصم الروائية البحرينية ليلى المطوّع، كصوت واعد في المشهد الإبداعي العربي، ملامح منجزها السردي المتشابك الأهداف والحمولات والرؤى والمتون، والذي انتقت له عتبة: المنسيون بين ماءين.

وهو عمل صادر عن دار رشم للنشر والتوزيع، عرعر، حي المباركية، طبعة ثانية2024، المملكة العربية السعودية، والواقع في434صفحة من القطع المتوسط، والمتجزئ إلى فصول نجردها بشكلها التصاعدي:

سليمة، ما حدث لناديا، وأد الماءين، سيرة عين لم تدرك أمومتها إلا مؤخرا، ناديا، أدبيات أهل الجزر/ الواقعة الأولى، ناديا، إيا ناصر، ناديا، ناديا، إيا ناصر، ناديا، سيرة عين اسمها حوز والعناق الأبدي، ناديا، سيرة السكاكين ما بين مد وجزر، سيرة الذنب/ يابسة اغتصبت، أدبيات أهل الجزر/ الواقعة الثانية، ناديا، يعقوب، ناديا، سيرة حالة متواطئة مع الإله خنقت بالرمال، ناديا، أدبيات أهل الجزر، الواقعة الرابعة، ناديا، درويش، ناديا، درويش، سيرة نورس يبحث عن بحره، ناديا، أدبيات أهل الجزر/ الواقعة الخامسة، ناديا.. شيء يسردني، أيوب، ناديا، ناديا، سيرة"ثامار"/ غل النخيل ونخلة فاقدة للذاكرة، حراس النخلة، نادية مع حراس النخلة، سيرة ماء منحسر قبل كل شيء، ناديا تروي عن تداخل الذاكرتين، ناديا، سيرة البحر، نادياــ ثامرا، ما جاء في البيان بعد غرق الجزية، نادياـ ثامارا.

إنه ومن دون هذه الجدولة، ليتوه المتلقي، في غمرة ازدحام الشخصيات، وزئبقية الأحداث، كون شخصية ناديا، هنا، الأكثر استحواذا، وفق ما يتناسب وحضور هذه الثمرة، أو الفلذة، التي هي من إفراز صراح الأجيال، في عكس ذاكرتين الأولى لتمجيد ماضوية البطولات، وشحذ طقوسها، أما الثانية فهي للمحو والتمرد على جغرافية الجنائزي وزمكانية مكابدات الأنثوي، بدرجة أولى.

إذ ما بين الوجه المعهود للمائيات، والوجه الآخر لها، أي داخل إطار لعبة تحريك الشخصيات في مسارات تضارب المصائر، وعلى نحو ينم عن تمكن السارد، تُرسم آفاق التوازي في معنيي الماء.

تقول الراوية:

{صرّ طرفة على أسنانه غيظا لما رآها تهلل، واندفع بسيفه نحو المبعوث. تشابك الرجلان بالسيوف والعيون ترقب. القادم من الشمال، رجل عنترة، لا يهزم، قوي. بضربة أسقط سيف طرفة، وأصابه في كتفه إصابة بليغة، فصاح مخفيا ألمه بكبرياء لا يهزم حين أدرك الموت وهو على ركبتيه:" أفصدني". فشقّه المبعوث. طشّت دماؤه، صرخت الخرنق التي أتت على عجالة راكبة فرسها:" طرفة.'". اتسعت عيناه، سقط على الأرض يلفظ أنفاسه. ساد سكون تام. رأته، رأت سليمة الموت فوق رأسه، حركتها قطعت الصمت من هول الفاجعة. ركضت متجهة إليه، تماسكت الخرنق وجرت خلفها تمنعها، ولكن الحزن عرقلها، فسقطت على التراب ويدها ممتدة إلى سليمة، لعلها تمسك طرف جلبابها. كشفت سليمة عن أعلى جسدها، شاقة جلبابها، مظهرة أوشاما تمتد من العنق، وتتسع باتساع بطنها المكور المخفي عن الأعين، قفزت على جسده، وهي تشد سلسلة الفضة قبل أن تقطعها ليحل العهد، ويسقط لثامها كاشفا عن حسن ملامحها. يغالب النظر إليها ولا يقوى على الحركة لمنعها، وخصمه ينظف سيفه من الدماء. في كل قفزة تقف ناظرة إليه، تتأكد من شهقات الموت، والخرنق تتلوى على الأرض باكية تصرخ شاتمة إياها، ولكن سليمة ظلت تهلل فرحا، وتقفز على الجسد يمينا ويسارا، حتى اصطبغت قدماها، من وطئها، بدمه الشريف. انبرت تحاول منعها، تشدها من ذراعيها، فتتعاركان، وتسقطان على التراب. قوة جبارة تنتاب سليمة، إنها غريزة الأمومة، صراع لأجل جنينها، ليرى النور، فتدفع الخرنق التي تتشبث بقدمها، واصطبغت يدها بدم شقيقها.}(1).

إنها صفحات النسيان، نسيان الكائن المبتلى بشتى صنوف الوباء الوجودي، بل وتناسيه، في سياق ثقافة أصولية متجذرة ومغذية للصوت الرجولي، والراعي لنعرات الفحولة، ما استدعى هذا الزخم، والتكثيف من إيقاعات الشبقي، ولكن... من غير خلاعة مبالغ فيها، مشوشة ومشوهة للمنحى المعماري الإيروسي، في صيانة البعدين: التيمي والفني على حد سواء، بل والاتكالية على كامل هذه الجندرية، عبر الاحتفاء بمفهوميتها، على نحو فلكلوري ومجاني.

وراء كل ذلك، تأتي الأمومة كي تفتح نافذة أمل في عتمة الذات والحياة وجغرافيات شح الماء.

الأمومة وحدها صانعة المعجزات في أدغال هذه السردية الطاعنة بخلفيات الأزمة الهوياتية والإنسانية، تناوبا على أنساق الموروث والتاريخ ومعطيات الطبيعة، وفق تمذهب غرائبي يأخذ بالجوارح، ويستفز الوعي والذائقة، إلى حد بعيد.

تقول كذلك:

{هناك شيء يسردني

تنهض. هي الآن وسط البحر. تشعر بشيء يظهر أسفلها. كما تفعل السلحفاة حين تخدعنا. فنظن أنها اليابسة. ولكنها كانت فعلا يابسة. ينحسر عنها الماء. تبين قمتها. رملها مبتل. تضم ركبتيها. تجلس على القمة. أما الماء فيتراجع كاشفا عن مساحات من الجزيرة. الشمس ترتفع على انحساره. تنتصف في السماء. هنا تشعر بقلق يتصاعد. بشيء لا يهدأ. ولا يسكن. تحفر بيدها الأرض. تغرس ساقها. تذرو التراب. يتشنّج جسدها. ينتصب ظهرها. وترتفع عن الأرض. تشعر أنها تطول. تثبت قدميها بشكل أكبر، وتطول. تطول. شعرها يتمدد. يهتز جسدها هزة أخيرة قبل أن تغيب.

تنهض على الصوت المخيف يسألها: " من الذي عكس نفسه لترى ما لا يُرى؟ّ".

موج البحر يداعبها. مثبتة لا تقوى على الحركة. تميل بصعوبة. يعيد سؤاله. تشعر بحاجة ملحة إلى الميل على مائه. فتميل. هناك على مائه ترى انعكاسها. تشهق خائفة.. إنها نخلة.}(2).

 وإذن... بهذه التراكيمة للأفعال الممتدة في الزمن، والنافذة في شرايين دوراته السرمدية، تأخذ التعبيرية مسارها، منبثقة من موقف تقديم القرابين البشرية تبركا بالنبع، وفضّا لبكارة اليابسة، كي تجود بالماء، مثلما يجود الرحم الأنثوي.

من هنا، ذلكم التلاقي أو التقاطع ما بين معنيين للماء في رمزيته وقداسته وجبروته.

أمعنت الروائية في التأصيل لثقافة وجودية تربط الكائن البشري بكائن طبيعي غامض ومتستر على جملة من الأسرار، كما أنه مُغر بمقامرات مصادقته واكتشاف عوالمه.

ختاما، يمكننا التأكيد على أن الروائية البحرينية ليلى المطوّع، أبدعت وأمتعت في بسط فلسفة خاصة بانتظارات الكائن العربي المنقمع والمكبوت والمطعون في هويته وانتمائه، من هذا البعبع الذي اسمه بحر، في هروبنا المخملي منه وإليه، رابطين مصائرنا بثورته تارة، وتعقله واتزانه تارة أخرى.

إنه جنون المغامرة، بما يجعل الكائن يُسقط على البحر، والماء، عموما، من حيواته وتخشب راهنيته، والعكس بالعكس تماما.

بحيث تدور أحداث الرواية وتدور، ثم تعود لتربطنا بمفهوم الأمومة، في انكفاء ملزم بدوال ما قد يقلب كؤوس وجودنا المعتل والمنقوص، فيشرعها على جود المائيات في موسوعية معانيها.

إنه انتماء ضاغط، جاذب إلى رحاب النوراني، بما قد يتحقق له انفصال الكائن عن اضطهاداته النزوية، والترفع عن بهيميته، لصالح ما يصقل الروح ويمنح الخلاص الذاتي والكوني، في النهاية.

انتماء طوعي للمائيات في تلبّس معنيين.

تقول الراوية ملخصة مسيرة بحر سردي كامل:

"خلال بحثي كنت أنسل الخيوط، أفتش عن الجذور، التصقت بالأرض من دون علم ووعي. خيط مني وخيط منها، الأرض والماء.

عرفت الأرض، عرفت البحر. أجنحتي قوية، ولكن لا هجرة أفردها لأجلها وأطير.

أنا الطائر الحزين، كلما قل الماء، بان الحزن على وجهي.".

بهذا تطرز مبدعة من طينة ليلى المطوع سيرة تأليهها للبحر، وتترنم ملء الشفة بقداسة ولذاذة الانتماء إلى الماء، مجبرا إيانا، على حمله حملا وجوديا هوياتيا في معنيين، تماما، مثلما سبق وأكدنا.

***

أحمد الشيخاوي

شاعر وناقد من المغرب

..........................

هامش:

(1) مقتطف من فصل" سليمة"، صفحة27/28.

(2) مقتطف من فصل" نادياــ ثامارا"، صفحة428.

أنظر رواية" المنسيون بين ماءين"، منشورات دار رشم للنشر والتوزيع، عرعر، حي المباركية، طبعة ثانية2024، المملكة العربية السعودية.

في الذكرى العاشرة للغائب الحاضر

في خمسينات القرن الماضي (القرن العشرين) بينما كان شعراء العالم العربي يجتهدون في كتابة القصيدة التي تُواكب تطوّر القصيدة الغربيّة بمضامينها وشكلها، ويهتمّون في الوقت ذاته بمُواكبة تطوّر الحِراك السياسي والاجتماعي في العالم العربي، خاصّة في الفترة الناصريّة، وتفجّر حركات التّحرّر  في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينيّة، وتشهد الحركة الشعرية العربية تطوّرا هائلا في بنية ومضمون القصيدة، وتبدأ مزاحمة قصيدة النثر لقصيدة التّفعيلة التي بدورها احتلّت السّاحات الشعرية، وقزّمت القصيدة التقليديّة، كان شعراؤنا العرب الفلسطينيّون هنا في البلاد ، والذين يحلو للبعض تسميتهم "عرب الـ 48 نسبة لعام النكبة 1948، يُتابعون ما يصلهم من الشعر العربي ويبنون لأنفسهم مَنهجا شعريا فرضه الواقعُ السياسي والاجتماعي للجماهير العربية في البلاد، في ظل الحكم العسكريّ والسياسات التمييزيّة للحكومات الإسرائيليّة، ويبتكرون أساليب جديدة للتّواصل مع الجماهير باللقاءات المفتوحة في ساحات البلدات العربية. ولهذا اتّخذ هذا الشعر مَنحى المباشرة والبساطة والعَفَويّة والصّدق، فتقبّلته الجماهير وحفظته وحوّلته لأهازيجها في المناسبات المختلفة. وتحوّل شاعرُنا هنا، بالإضافة إلى دوره الثقافيّ، إلى حامل لواء الرّفض والتّحدّي وصوت الجماهير العربية الصّارخ في وجه السياسات الحكوميّة الظالمة.

وكانت قصيدة محمود درويش "سَجّل أنا عربي" وقصيدة توفيق زيّاد " على صدوركم باقون" وقصيدة سميح القاسم "خطاب من سوق البطالة" قصائدَ الجماهير العربية وأناشيدَها الوطنيّة.

عَمَلُ سميح القاسم في الصحافة العربية، صحافة الحزب الشيوعي بالتّحديد، وإقامته في حيفا، واللقاءات الثقافيّة التي كان يُشارك فيها مع الكتّاب والشعراء العرب واليهود، والانفتاح على الثقافات الأخرى، جعله قابلا للتّأثر السّريع والاستفادة والرّغبة في تطوير القصيدة شكلا ومضمونا. وبدأت القصيدة عنده تتوهّج بالجديد الدّائم، وتحتلّ قلوبَ الجماهير، وتُلفت انتباه النقّاد، وتستأثر الدّراسات التي تنشرها الصحافة المحليّة، وتجد طريقَها، في صحافة وإعلام العالم العربي.

لقد استوعب سميح القاسم كلّ التّجديدات والتّغييرات التي طرأت على القصيدة العربية، واطّلاعه على الأدب العبري وعلى الجديد في الأدب العالمي وخاصّة الروسي منه، مَكّنه أن يكون بين الطّلائعيين من الشعراء العرب في دَفع تطوّر القصيدة العربية بخطوات حثيثة. وبسرعة تخلّص من المُباشرة البسيطة والسّطحيّة التي ميّزت قصيدة الستّينات الأولى من القرن الماضي، واتّخذ الرّمز ليكون الخطوة القويّة نحو انطلاقة القصيدة، واحتلّت الرّموز الدينيّة والأسطورية والتاريخيّة والأدبيّة والتراثيّة مَكانة واسعة ومتميّزة في شعره.

ويقول سميح القاسم: "إنّه أصبح يميل في شعره إلى القصائد المُركّبة، المُتعدّدة الأصوات. وبهذا تتحوّل الكلمة من حالتها العاديّة المُتعارَف عليها لتحمل دلالات رمزيّة تفرض على القارئ إعْمال فكره وثقافته وتجاربه للوصول إلى ما ترمي إليه.

كما أنّ سميح عمل على إحياء التراث الشعبي وإغناء قصيدته بالصّوَر الشّعريّة المفردة منها والمُركبة والكليّة كقوله في قصيدة "ريبورتاج عن حزيران عابر":

بين أنقاض حزيران التقينا

أنا والموت، تَداخلنا، اشتعلنا وأضأنا

وعلى أرصفة النكسة قابلتُ كثيرين -

اعذروني

فالعدد،

صار شيئا ونقيضه

والقصيدة عبارة عن مقاطعَ اتّبع فيها أسلوبَ السّرد القصصي، وتتخلّلها أصواتٌ للرّاوي والرّاعي حيث يتبادلان الأدوار. ويُدخل الشاعر مقطعا عموديّا بصوت الفدائيّ ثم يعود إلى صوت الرّاوي، ويُنهي القصيدةَ بخلاصة يُقدّمها الشاعر نفسه.

وعمل سميح على تطوّر شكل قصيدته، حيث عمل على مَدار السنوات المُتلاحقة على توزيع القصيدة إلى مقاطع، واستخدام البناء القَصصي وكتابة القصيدة القصيرة والطويلة كما شهدناها باسم "السّربيّات" عند سميح القاسم، واستخدم مختلف الأساليب الفنيّة كالتّكرار والحوار وازدواجيّة اللغة واستعمال كلمات غير عربية والأرقام وتداخل الشكلين العمودي والحرّ في القصيدة الواحدة، والتضمين النثري واستخدام الأفعال والأسماء في فنيّة رائعة.

سعى سميح القاسم إلى جعل الشعر الذي يُعبّر عن قضيّتة الوطنية شعرا جميلا حافلا بالفن الحقّ، وانتقل للتعبير عن قضيّة الإنسان عموما. هذا الطّابع الإنساني الرّحب كما يقول الناقد صلاح فضل "ارتفع إلى رؤية شموليّة تتّسم بالتّسامح بين الأديان وبالعُلوّ على الصّراعات البشريّة المصلحيّة العابرة".

لقد حرص الشاعر على الالتزام بالضوابط العَروضيّة، وتعامله مع العَروض يكشف حالات رائعة من التّواصل الإبداعيّ مع ظواهر قديمة، وبعثها على نحو جديد وفي إطار من التركيبات الحديثة. فالمُحسّنات الإيقاعيّة في شعره بارزة بشكل لافت وشديد، وصارت ظواهر الجناس والطباق والتّصريع والتّقفية المتقاربة والتكرار والتّوازي والتلاعب بالتفعيلات والبحور علامات بارزة في شعره.

قال سميح القاسم: "إنّني أعتبر إتقان العروض من أهم مَعايير كتابة الشعر وليست قيدا عليه. إنّ الادّعاء الذّاهب إلى أنّ أوزان الشعر العربي هي قيود هو وَهْم مبنيّ على جهل. فهذه الأوزان هي أجنحة حريّة. وعروض الشعر العربي تُعتَبر ثروة موسيقيّة للقصيدة لم يحظ بمثلها أيّ شعب باستثناء الشعب العربي."

ويسخرُ من هؤلاء الذين ابتعدوا عن الشعر الكلاسيكي في حواره مع الكاتب علاء حليحل، "الكرمل الجديد عدد 3-4 ربيع صيف 2012" بقوله: "تركوا الشعرَ الكلاسيكي ليس لأنّهم يريدون تركَه، بل لأنّهم لم يستوعبوه. أقولها صراحة: لم يكتشفوا عَبقريّة الأوزان العربية. العربُ فقط هم مَنْ يملك هذه الثروةَ من الإيقاعات. هذه ثروةٌ موسيقيّة هائلة. صاروا يقولون إنّها قيود. هي قَيْدٌ لمَنْ لا يعرفها. ولكنّها أجنحةُ حريّة إذا أنتَ استوعبتَ الأوزان وصارت جزءًا من تكوينك الداخليّ، من إيقاعك الداخليّ، من نفسِك، فهذه أجنحةُ حريّة ستأخذُكَ إلى أماكنَ لا تتخيّلُها".

ويقول إنّه جدّد في هذه الأوزان وأضاف: "في الكلاسيكيات ثمّة صدرٌ وعجزٌ في البيت الشعريّ. وفي قصيدة الرثاء التي كتبتُها في حافظ الأسد طلع معي صدران للبيت فأبقيتُهما، ثمّ جاء عجزان فأبقيتُهما".

"وبنـــــوا أميّــة يولمــــونَ خيــولَهـــم      وضيوفُهـــم قبل الأُفــولِ أُفــولُ

وسيوفُهم كَلِمُ الهوى المصقولُ

بغداد وقصائد أخرى ص51))

ودمشقُ تطوي الليلَ عن أهدابها

وتُطلُ ساهرةً على أحبابِها من قاسيونَ. وقلبُها قنديلُ)

بغداد ص54)

كما وشكّل الشاعر سميح القاسم ظاهرة مميّزة في الشعر العربي عامة والفلسطيني خاصة في جَمعه بين شكلَي القصيدة التّقليدي والتّجديدي. وحرصه على احتفاظ القصيدة بكلّ خصائص التراث العربي. فقد ظلّ حتى آخر أيام حياته يكتبُ القصيدة الموغلة في التّجديد والحداثةِ إلى جانب القصيدة المتمسّكةِ بعَمودية القصيدة ووحدة الوزن وجماليّة القافية الواحدة. وكما عمل على التجديد والتّحديث في قصيدة التّفعيلة، عمل على التّجديد والاضافة في القصيدة التقليديّة. وقد دأب سميح القاسم على كتابة القصيدة العموديّة على فترات متقاربة وفي مناسبات وطنيّة، وجد أنّ الشكلَ العمودي للقصيدة أكثر ملاءمة وقبولا لها من الشّكل التفعيلي، وهذا برز، بشكل خاص، في قصائد المناسبات الوطنيّة المختلفة، وفي قصائد الحماسة التي جمعها في ثلاث مجموعات، وفي القصائد التي خصّ بها العواصم العربية وجمعها في ديوان "بغداد".

اهتمّ سميح القاسم بالقصيدة التّراثيّة كقيمة يجب المحافظة عليها، ليس فقط في كتابة القصيدة العمودية، وإنّما أيضا في الجو التراثي الذي يُضْفيه على القصيدة والصّور الشعريّة التي ينقلنا بها لجوّ الصحراء وكينونتها:

بنصال أظافره الوَسخة

حكّ البدويّ السّاخطُ غرّته السّائبةَ على مَدرَجة الرّيح

لم يأبه بضَراعة أرواح الموتى المُعترضين على حربِ الطبقات

مَسّدَ عينيه الصّافيتين كقلب نبيّ

وبخفّة وحش صحراويّ دَمْلقَ ساقيه الهائجتين بسُخْط "بلو جينز" السّمل الكالح

وتأهّبَ لمطاوي الخسّة خلف زوايا الليل الفادح

أو بالشكل أو المُفردات التي يستعملها أو الاقتباسات أو الكلمات الغريبة أو الجَزالة. وهذا برز أيضا في استحضاره لبعض المعاني والنّصوص لشعراء قدامى مثل طرفة بن العبد بقوله:

وظلمُ ذوي القربى أشدّ مضاضة    

على المرء من وقع الحسام المهنّد

فيقول سميح:

لكنّ ظلمَ ذوي القربى أشدُّ على

روحي الجريحة من ظلم يُقاويني

ويُذكِّرنا بقوله:

نحنُ الأبُ المحرومُ زقّ فراخَه   

   والتوأمُ المنفيُّ عنه التّوأمُ

بقول الحطيئة:

ماذا تقول لأفراخ بذي مَرخ        زُغْبِ الحواصل لا ماءٌ ولا شجرُ

ألقيتَ كاسبَهم في قَعْر مُظلمة      فاغفر عليك سلامُ الله يا عمرُ

ونجده في اتّباعه للشكل العَموديّ لم يلتزم القيودَ الخليليّة وإنّما عمل على تطوير القصيدة. ورَفْضِ قوقعتها في تعريفها الجاف "كلاسيكيّة"، ورأى في هذه القصيدة قيمةً تراثيّة ثمينة وقابلة للتطوّر والتّعايشِ في كلّ عصر، ومع كلّ مُتَغيّر وجديد. ورفَضَ ادّعاءَ البعضِ بأنّ الأوزانَ الشعرية القديمة عبءٌ ثقيلٌ وغيرُ مُواكبٍ للتطوّرات الحديثة.

ومن مظاهر التأكيد على قيمة التراث الأدبي في القصيدة القديمة اهتمامُ الشاعر سميح القاسم باستخدام الألفاظ الجَزلة التي تُعَزّزُ الانتماء للتّراث الشعري. والجَزالة "تعني قوّةَ الكلام التي تبدو في التّفخيم. وهي مَتانةُ الُألفاظ وعذوبتُها في الفمّ، ولذاذتُها في السّمع، ومواضعُ استعمالها وصف مواقف الحروب، والتّهديد، والتّخويف".(مجدي وهبة معجم المصطلحات العربية في اللغة والأدب). وهو ينقل المُتلقي إلى أجواء قومه العرب وتراكيبِهم اللغويّة ونمَطهم العمودي:

صالوا كماةً دارعين وجالوا مُستقتلين.. وليس ثَمَّ قتالُ

من كَدرة الماضي السّحيق تسلّلوا لتموتَ في آمالهم آمالُ

شقّوا بحارا من دم بعِصِيّهم وبكَوْا على صدر الشعوب ونالوا

وعلى ضحاياهم تسيلُ دموعُهم   ودمي على أنيابهم سَيّالُ

أعرفتَهم يا جرحُ.. عفوك إنّما بعض الجواب كما علمتَ سؤالُ

عاج السّعيدُ عن الطلى متسائلا   وأنا سألتُكِ أنتِ يا أطلالُ

قربانتي بهظتْ، فهل كفّارة  شفعتْ؟ وهل تتبدّل الأحوالُ

كما ونقف على الكلمات الغريبة التي لا تُستخدَم في اللسان العربي المعاصر لوجود بدائلَ متعدّدةٍ مستخدمةٍ. والكلمةُ الغريبة كما عَرفَتْها كتبُ البلاغة " أنْ تكونَ الكلمة وحشيّةً، لا يظهر معناها، فيحتاج في معرفتها إلى أن يُنَقّر عنها في كتب اللغة المبسوطة" (الخطيب القزويني" الإيضاح في علوم البلاغة ص3"

يقول سميح هاجيا:

يعربيّون راية ولسانا                       بيغنيّون نيّةً ومنمّا

شيخهم مهطع ينادي بمصر       في مزاد يبيع بالغُرم غُرما

هيرع في الصّدام نزّاعُ سلم       دونه الموت في الكريهة غمّا

- الهيرع الذي لا يتماسك. الجبان الضعيف.

- مهطّع – نزّاع خنوع ذليل.

وفي قصيدته التي خاطب فيها الجواهري:

يا دجلة الخير ضجّت كلّ جارحة        منّي وأنتَ مُشيح لا تُلبّيني

وارنْتُ وجهكَ من أعماق مجزرتي فهل تراني بعينَيْ مفشغٍ دونِ؟

همُ الأيابس والأسياف مهزلة تُبْكي وتُضْحك أيّام الهوى الجونِ

تفشقوا.. العَلَم المخضوبَ واخترقوا إلى الحياة قَتاما غيرَ مأمون

*وارن- واجه قابل. مفشغ- الرجل قليل الخير والكسول. الأيابس- ما تُجرّب عليه السّيوف وهي صلبة، الجون- الأسود المُشْرب حمرة، تفشّق – توشّح بثوب.

وعمل سميح القاسم على استحضار الشخصيّات وصبغها بملامح العصر الحديث، وكثيرا ما كان يتقمّص الشخصيّة ويتّخذها قناعا إسْقاطيّا يتماهى فيه، وينطلق من خلالها إلى التّعبير عن ملابسات تجربته المصوغة. فقد تقمّص شخصية الشنفرى، وشخصيّة الصحابي ابي ذرّ الغفاريّ. واستحضر الرّموزَ الدينية وتقمّص بعضها مثل شخصية النبي يوسف وهاجر والنبي أيوب والرسول محمد وهابيل والحسين والحاكم بأمر الله.

زمّليني يا خديجة

زمّليني

فقد أبصرتُ وجهي

في حراء الموت

محمولا على رؤيا بهيجة.

أنذا يتقمّصني روحُ رسول الله

وإنّي لأضيفَ إلى أسماء الله الحسنى

اسمَ "الثورة"

فلتأتِ وفودُ الحجاج إليّ

لتأتِ إليّ جموعُ البؤساء

ولنشهر سيف الله

لنُصرة رايتنا الحمراء.

وموسى

ضرب البحرَ الصّاخبَ بعصاه السّحريّة

فانشقّ البحر

ألقى في القوم عصاه فصارت أفعى

تتلوى وتفح وتسعى

سحر؟

لا تصمت.. كذبَ السحر.

والمسيح

حوّلْتُ خدّي دائما

لصَفْعة العدوّ والصّديق

يا ربّنا وربّهم متى تفيق؟

ويستعير نداء المسيح الأخير "إلهي إلهي"

لماذا قتلتني. نبذتني. تركتني.  زنحتني.

وهابيل والحسين والحاكم بأمر الله.

وأخذ بالمُتلقي إلى أجواء الصحراء العربية في سربية الصحراء حيث يعيّشه في أجواء البداوة العربية الكاملة.

هدوءا

سيكتملُ البدرُ عمّا قريبٍ

سيدنو رهيبا بطيئا

سأصرخُ رعبا

وأُمسخُ ذئبا

هدوءا.

على سُنّة الله واللات والأنبياء

تدبُّ العقاربُ

هكذا أيضا في مجموعة "سُبحة للسجلات" اعتمدت القصائد على الأفكار والمعتقدات الباطنيّة، واستفادت منها كثيرا. وسيطرت الأجواء الصّوفيّة بشكل واضح وقد أبدع الشاعر في توظيف الرموز والإشارات والاصطلاحات الباطنية في خدمة إنسانه وقضيّته.

متى تكونين لي ضيقي ومتّسعي في ضجعة الموت؟ أمْ في رَجعة المتع

وهل تكونين، والأكوانُ ذاهلة     عن غيبها لحضورِ الجوع والشّبع

سميح القاسم الشاعر المتطوّر المُتجدّد الحداثي

كما تمسّك سميح القاسم بالتراث والتاريخ والطبيعة العربية الصحراوية حيث رأى في الصحراء مَلجأه ومَهربه ومَأمنه، فقد عمَد إلى التّجديد والتّطوير والتّحديث، وقد اعتبر الحداثة "عمليّة مُستمرّة مُتجدّدة لدى كلّ الشعوب. لا شيء يبقى على ما هو في كل مَناحي الحياة المعيشة يوميّا، وفي مجالات الإبداع المختلفة، دائما يسعى الإنسانُ لتطوير أدواته ومستوى مَعيشته وتغيير نمَط حياته، دائما يتغيّر ويتجدّدُ. قد تُصيبُه النّكساتُ، ويتراجعُ إلى الوراء، ولكن حتى في هذا، يكون التغييرُ وتحديثُ الموجود وثورة على القائم".

ولو تتبّعنا مسيرةَ سميح القاسم الشعرية منذ مجموعته الأولى "مواكب الشّمس" (1958) لوَجدْنا الشاعر الحَداثيّ بامتياز، حيث نجد التّغيير والتّجديد والتطوّر والإبداع المتَفَرّد في كل عمل إبداعيّ جديد يصدرُ له. وقد قالت سلمى الجيوسي إن سميح القاسم هو الشاعر الوحيد الذي تظهر في أعماله مَلامح ما بعد الحداثة في الشعر العربي.

وقد تفرّد سميح القاسم في قصائده الحواريّة في مجموعاته "دخان البراكين" و "دمي على كفي" و "الموت الكبير"، وخاصّة في "سربية انتقام الشنفرى" باستخدام أسلوب البناء الدّراميّ الذي يعتمدُ على عناصر التعبير الدراميّ من حوار (ديالوج) وحوار داخلي (مونولوج) وسَرْد قَصَصي في البناء الشعري وذلك لتَمثيل الصراع والحركة.

وفي الوقت الذي أحسّ فيه الشاعر بتصدُّع المعركة الوطنية وتراجعها، أعلن، على عَجَل، عن ميلاد مرحلة فنيّة جديدة في تجربته الشعرية. مرحلة ديدنُها الانتصارُ للقيَم الجماليّة من خلال نُزوع الشاعر إلى الذّات بتصَدُّعاتها وتشققاتها، الشيء الذي جعل شعرَ هذه المرحلة يمتاز بالغموض الفنيّ الأصيل.

والشاعرُ سميح القاسم، نفسُه، أكّدَ في غير ما مرة، على أنّ منجزه الشعري في المرحلة الثانية، قد تميّز بخفوت الصّوت وتسرَب شعاع الشك إلى يقينيّاته المُطلقة، تلك التي ميّزت المرحلة الأولى. الشكّ هذا ما كان له أنْ يتحقّق لولا التراكم المَعرفي الذي تحصّل لهذا الشاعر من خلال اطّلاعه العميق على خبايا الفلسفة المعاصرة. هذا الأمرُ جعله يُعيد طرح السؤال الأنطولوجي من جديد، مثلما حفّزه لإعادة النظر في قيَمه الجماليّة، وبذلك استطاع سميح القاسم أنْ يؤسّسَ حداثته الخاصة، نقصد حداثةَ الابتداع لا حداثة الإتّباع. والشاعر لم ينتبه إلى هذا الأمر إلا بعدما قرأ دراسة للناقدة الأمريكية تيري دي يونك المعنونة بـ "سميح القاسم وتحديث الجناس». يقول سميح القاسم في إحدى حواراته عن هذا الأمر: «وبهذا لفتت [دي يونك] نَظري إلى مسألة كنت أعيشها من دون أن أنتبه إليها، وهي مسألة المُحاولة المستمرة لتكوين حداثة على أسس تراثية أصيلة، حداثة لا تتنكّرُ للماضي، ولا تتقزّم أمام حداثة الآخر الغربي أو الأجنبي».

رفض سميح القاسم قوقعةَ القصيدة العربية في تعريفها الجافّ "كلاسيكيّة"، ورأى في هذه القصيدة قيمةً تراثيّة ثمينة وقابلةً للتطوّر والتّعايش في كلّ عصر ومع كلّ مُتَغيّر وجديد. ورفَضَ ادّعاء البعض بأن الأوزان الشعريّة القديمة عبءٌ ثقيل وغير مُواكب للتطوّرات الحديثة.

وكان في القصيدة الواحدة يكتبُ المقطعَ الجديدَ وبعده القديم، فتارة ينسج على منوال التّفعيلة وطورا على نسَق بحور الخليل، وحينا يعود لالتقاط نَبْضِ الكلام اليومي، ساحبا البلاغة من عليائها العاجيّ ليرفدَها بصرخات اليومي والمباشر كما كان يهتم بتضمين قصيدته بالأغنية الشعبية والأهزوجة بشكل خاص. ونجد بعضَ المقاطع ليست قصيرة فقط، بل تتقلّص أحيانا إلى أبيات ذات كلمة واحدة، وتُسيطر عليها حركة الفعل:

تبعتُ وبعْتُ

عبدتُ وبدتُ

أُسِرْتُ وسرتُ

بعُدْتُ وعُدْتُ

ومتّ ومتّ

وعُدت بُعثْت

الحداثة في التّعامل مع المخترعات التكنيولوجية الجديدة وأنسَنة بعضها وتعريب أسماءها

يتعاملَ سميح القاسم مع هذه المُستجدّات الجديدة المُتلاحقة، ويُطوّعها للإبداع الشعري، وجعلها جزءا لا يتجزأ من الحياة اليوميّة للإنسان، ويُعَرّب أسماءها بقبولها كما هي في لغتها الأصلية إيمانا منه أنّ المحافظة على اسم ولفظ المخترَع أو المنتوج الجديد من حقّ صاحبه، ولغتنا العربية قادرة على استيعاب الألفاظ الجديدة. الشاعر سميح القاسم واع للتغيير الذي يحدث يوميّا على حياتنا ويعرف خطر هذا علينا نحن الذين نتردّد في تقبّل الجديد الغريب:

لا فينوس. لا تمّوز. ولا أفروديتَ

ولا نرسيسَ. ولا سيزيف. ولا عَشْتارْ

هذا زمنُ ستار أكاديمي

والهامبورغر والكوكاكولا والبَمبرز واللبتون والسوبر ستارْ

الويل لنا والويل لكُمْ

دبليو. دبليو. إس.و. إس. دوت. كوم..

ويتقبّل الهاتف النَّقّال والفاكس بحبّ ويجدُ فيه الوسيلة الأسْرع للتّواصل بين العشّاق:

لنَقّالِكِ الحُلْوِ أشرحُ أسبابَ موتي عليكِ

وبالفاكسِ أٌرسلُ قلبي إليكِ

باي! (ص35)

لا يُخْفي الشاعر عدمَ رضاه عن هذه الوسائل الجديدة السّاحقة لكل حسّ إنسانيّ وإظهار ميله للتلفون القادر على إيصال الصوت الإنساني بكل روعته:

بينَ نقيقِ الفاكس

وصمْتِ الإي.ميل السّاديّ

ينسحبُ التليفون حَيِيًّا

ويظلّ وفيًّا

للصوتِ الإنسانيّ

وهو مقتنع بأنّ المَشاعر الإنسانية والجمال الطبيعي الحقيقي وكلّ ما خلقَه الله هو الأجمل والأبقى والأفضل، لكنه لا يرفضُ الجديدَ ويتعاملُ معه، ويحاولُ أنسنَتَه والتّعايُشَ معه:

لا تُخيّرْني رجاءً

بين أسرار الفراشَه

وجمالِ الهليكوبتر!

استعمال اللغات الأجنبية لخدمة التّشكيل الجَمالي الدّلالي في قصائده

يقول سميح القاسم: "لا مجال لتَقسيم المفردات إلى شعرية ولا شعرية إذا هي تداخلت بصدق فنيّ في حالتها الشعريّة المناسبة، ولعلّ هذا يُفسّر حقيقة تعاملي مع ألفاظ أجنبيّة وتكنولوجيّة تبدو للوهلة الأولى بعيدة عن الشّعر".

استعمال اللغة الإنكليزية

تُواصل اللغة الإنكليزيّة اندفاعَها لتكونَ اللغة العالمية الأولى، ولغةَ الشباب، حتى أنها تفرض حرفَها على كل اللغات نتيجة لطغيان وسائل التّواصل المختلفة، وقد كان الشاعر سميح القاسم واعيا لهذا التحوّل المتواصل، وأبرزه في الكثير من القصائد في مجموعاته المختلفة إضافة إلى انفتاحه على باقي اللغات، ووعيه لأهميّة التّواصُلِ والتّداخُلِ بينَها.

منْ قاعِ الجَهلِ وقاعِ البؤسِ وقاعِ الدِّستْ

East is east and west is west

من قاعِ الحزنِ وقاعِ الموتِ وقاعِ الفاشيّةِ والفاشِسْتْ

هولوكوست

The twins shall never meet

هولوكوست

That game can't run

And west is east and east is west

No more

وقد يستخدم اللغة الأجنبية مكتوبة بالحرف العربي:

توتو توتو

هعربيم يموت

بيوم ريشون.(ص58)

و (نوك أوت) (ص59)

لا قُدسيّة للغة، ويرفضُها طائعة ذليلة

يختلف الشاعر سميح القاسم عن مُعظم المُبدعين إنْ لم يكن كلّهم، في موقفه من اللغة، فقد اعتدنا تأكيدَ الجميع على قُدسيّة اللغة، وأنّ المُبدع الخَلّاق هو الذي يستطيع تطويعَ اللغة وجعلها تأتيه تُجرّرُ أذيالَها مُستجيبة ذليلة. لكنّ الشاعرَ سميح القاسم لا يجدُ في اللغة القُدسيّة، ولا يُريدها مُطيعة مُنقادَة مُستجيبة، تأتمرُ بأمْره:

وكم أزدري اللغةَ العَبْدةَ الطائعهْ

إنّها لغةٌ ضائعهْ

اللغة الطائعةُ هي اللغة الضائعة التي تفقدُ الهالة التي ترتسمُ حولها والقدسّية التي نُغلّفها بها، واللغة كالمرأة، إذا استجابت وانقادت واستسلمت دون تمنّع وعِناد وتَردّد سرعانَ ما تُرمى وتُبعَد وحتى تُزدَرى، وتكون قيمتُها وقدسيّتُها وحرصُنا على الاحتفاظ بها والدّفاع عنها إذا ما لاقينا الأمرّين وكلّ الصّعاب وتجاوزنا المستحيلات في الوصول إليها والفَوْز بها. وعندها فقط نعرفُ قيمتَها وكيف نتعاملُ بها ونستخرجُ المكنونات النادرة والمُتجدّدة التي فيها.

هكذا يتعاملُ الشاعرُ سميح القاسم مع اللغة، وهكذا تتحوّلُ اللغةُ لتكونَ التي يُعطيها دورَها الإبداعي في تأدية ما رَسمَ لها وما أرادتْ أنْ تُؤدّيه.

واهتمامُه ينصبُّ على الحرْف لأنّه الأصل، فهو الأهمّ، وهو المكوّن للكلمة والمُتحَكم بها ومُغيّر صُوَرَها ومَعانيها. ويؤكّدُ أنّ موقفَه من الحرف يتغيّر تبَعًا لما يُنجزهُ الحرفُ ويُقدّمُه، فالحروف تُبهره إذا أتت بالروائع من الكلام والعبارات، وهو يزدريها إذا ما أدّتْ إلى فكرة خانعة:

للحروف تقاليدُها الفاجعهْ

مرّةً، للحروفِ انبهاراتُنا،

حينَ تصطفُّ في آيةٍ رائعهْ

مرّةً، نَزْدَريها طريقًا يُؤدّي

إلى فكرةٍ خانعهْ.(ص136)

هو يحبّ الحروفَ التي تُعبّرُ عمّا يُريده، والتي يجتهدُ في استحضارها ليُبْدعَ من حرارة توهّج جَمْرها لغتَه التي هي ثمرةُ ونتيجةُ ثورته التي اشتعلت، وتجد في اللغة وحروفها مُتنفّسَها وأداةَ توصيلها وانتشارها ووصولها إلى حيث يُريد:

للحروفِ مَسالكُها

وأنا لا أحبُّ الحروفَ قَطيعًا

وأحبُّ الحروفَ التي

صوتُها مِلَّتي

وأحبُّ الحروفَ التي

جَمْرُها.. لغتي

وعلى نارِها نضجَتْ ثورتي

واحبُّ الحروف..

التّلاعب بالحروف وترتيبها ودلالاتها

الحرفُ هو القيمةُ وهو الأساسُ لإبداع الكلمة وتكوين الجملة وإيصال الفكرة، وأيّ تغيير على موقعه يتغيّر معنى الكلمة ويتبدّلُ الهدفُ وتنقلبُ المواقفُ، وهذا صحيحٌ في الكلمة الواحدة أو الجملة:

قَمَرٌ. رَقْمٌ. قرمٌ. رَمَقٌ.

صقْرٌ. قُرْصٌ. قَصْرٌ. رقْصٌ.

دَهمٌ. هَدْمٌ. مَهْدٌ.

لمسٌ. سَمْلٌ. سلْم (ص18)

و

سَقْفٌ

فَقْسٌ

فِسْقٌ (كولاج 3 ص34)

ويتلاعبُ بمواقع الكلمة في الجملة، فالكلمةُ التي يُنْهي بها الجملة تكونُ بدايةَ الجملة الثانية

ليلي يا عيني

عيني يا ليلْ (ص50)

خطايَ تعيبُ عليّ الطريقَ

أعودُ.

يعيبُ عليَّ الطريقُ خُطايَ

أعودُ ببدئي إلى مُنتهايْ

ومن مُنتهايَ أعودُ لبدْئي. (ص89)

وكثيرا ما نجدُ إيقاعَ الحرف أو الكلمة يُسيطرُ على الشاعر فينسابُ معه ويتفاعل ويأتي بالمزيد:

كونغو

سانتو دومينغو

رينغوٌ يرقصْنَ الرومبا

لومومبا

رومبا

سامبا. (ص142)

ووصف لعبة المَحْبوسة مُصوّرا حركة تقلّصات أصابع اليد الخمسة كما تفعل القطّة عندما تستعدّ للهجوم على الخَصم.

قِطَطٌ خمْسٌ

في خطّةِ صَيْدٍ مَدروسَه

إقْذفْ زَهْرَك

واقطُفْ نَصْرَك

يا مَلِكَ المَحْبوسه! (كولاج3 ص57)

المَزج بين النثر اليومي والحوار العادي في القصيدة الواحدة.

أكثر سميح من التّضمينات النثرية في سياقات بعض أعماله الشعرية حيث يستدعي الموقف وتتطلب الضرورة. مثل تضمين خبر صحفي، تضمين نصوص دينيّة، استعمال الكلمات البذيئة، اللغة المحكيّة والفلكلور لتوثيق دلالة، أو تأكيد موقف، أو ترسيخ معنى.

الرموز الدينية والتاريخية أغنت قصائد سميح القاسم واحتلت مكانا مهما في ترسيخ الحَفْر في الماضي.

كذلك اهتمّ بالشخصيات النضالية مثل:    هوتشي منه، جيفارا، كاسترو، ثوار الفيتكونغ، عمر المختار، لومومبا، جميلة بوحيرد إضافة إلى شهداء وشخصيات الشعب الفلسطيني.

رمز الأسطورة

لجأ الشاعر إلى توظيف الأسطورة في تجربته الشعرية، بسبب ثرائها الدّلالي بما تحمله من شحنات إشعاعيّة.

أسطورة أوديب ملكا، أوزيريس وإيزيس، إيكاريوس ووالده ذيذالوس والجناحين من الشمع  (قصيدة جنازة في ثلاثاء الرماد) عن الشهداء الذين قُتلوا في بيسان. ، أُخذة الأميرة يبوس"  التي ارتكز فيها على ديانة الكنعانيين عَبَدة الأوثان.

أنا هملتُ العربيُّ اشهدوني

أدرّبُ عقلي على أحجيات الجنونِ"

أبي مَيْتٌ لا يموتُ

وأمّي أمّي

ومُلكيَ نَهْبٌ لعمّي" (كلمة الفقيد في مهرجان تأبينه)

ثم مجموعة «مقدّمة ابن محمد لرؤى نوستراسميحداموس "

) 2006، التي وصفها البروفيسور إبراهيم طه: «بأنّها في مُحصّلتها العامّة نصّ شعريّ واحد مُتضخّم »Hepertext« في منظومة تناصّاته العديدة وإحالاته وإشاراته السّريعة إلى محطّات بارزة في الموروث الثقافيّ العربيّ والإسلاميّ والحضاريّ العالميّ. ولعلّ المنظومة التّناصيّة التي تَنبني على أساسها هذه المجموعة تقوم أوّل ما تقوم على قائمتين اثنتين:

-1 علاقات حواريّة كبرى مع تنبؤات نوستراداموس.

-2 علاقات حواريّة صغرى من إحالات إلى القرآن الكريم وإشارات إلى الموروث الحضاريّ بصفة عامّة.

كان أقصى ما يطمح إليه نوستراداموس في تنبؤاته هو دقّ ناقوس الخطر المُحدق بالبشر، ولقد خاف سميح القاسم من خوف الناس وارتكانهم إلى السّراب والزّيف والهَلع كاستراتيجيّة دفاعية، وتعلّقهم بقشّة نوستراداموس، فعاد إلى نوستراداموس واخترقَه في وسَطه تماما، وحطّم الخَرابَ المُعشّش في جوانب تنبؤاته، ونقل الكرة من ملعب الغيب إلى ملعب الحاضر المُقدّس، وحوّل تنبؤاته التي تحرقُ كلّ بقعة خضراء إلى رؤى دافئة تبعثُ الإنسان في الإنسان» (إبراهيم طه. “قراءة هيكلية في مقدّمة ابن محمد لرؤى نوستراسميحداموس ) 111 رؤيا في 111 ثلاثية(”. جريدة الا تحاد، 16 / 1/ 2009 ).

رؤيا رؤى نوستراسميحداموس،

على متاهة الزمان والمكانْ

ينتصر الله على الشيطانْ

ويبعثُ الإنسانُ في الإنسانْ

ويولدُ الإنسان للإنسانْ

ويفرحُ الإنسانُ بالإنسانْ.

(سميح القاسم. مقدّمة ابن محمد لرؤى نوستراسميحداموس ) 111 رؤيا في 111 ثلاثية (ص 153)

لكنّ الشاعر رغم هذا الجوّ السريالي، وخَلخلة المألوف وإعادته للواقع في صياغة بشكل جديد يُريده هو، إلاّ أنّه يُبرز ويُؤكد ثوابت أصبحت من مميّزات شعر سميح القاسم منذ سنوات، يدلّ عليها برموز خاصة به، تتمثّل في (الحجر) الذي يرمز به إلى الحقيقة الثابتة و(الوردة) التي ترمز إلى الجمال الروحي و(التفاحة) التي يقصد بها المُتعة الحسيّة في الحياة والوجود الحسّي.

أخيرا واستخلاصا لكل ما قيل، فإنّ الشاعر سميح القاسم ساهم مساهمة كبيرة في التّغيير الذي طرأ على شكل القصيدة، وذلك برز في:

توزيع القصيدة إلى مَقاطع

البناء القصصي

القصائد القصيرة

السِّربيّات

التّكرار

الحوار

ازدواجيّة اللغة

استعمال كلمات غير عربية والأرقام

تداخل الشكلين: العمودي والحرّ في القصيدة

التضمين النثري

استخدام الأفعال والأسماء

وفي مضمون القصيدة:

المُباشرة المنبريّة

الرمز

الرموز الدينيّة

الرموز الأسطوريّة

الرموز التاريخيّة

الرموز الأدبية والتراثيّة

احياء التراث الشعبي والصورة الشعريّة

***

د. نبيه القاسم

................................

* ولد الشاعر سميح القاسم في مدينة الزرقاء الأردنية في الحادي عشر من شهر آب 1939، وتوفي في مستشفى زيف في مدينة صفد حوالي الساعة التاسعة مساء يوم 19.8.2014

رحلة الأمكنة في اللازمن

توطئة: يقيم الشاعر الإنكليزي (ت. س. اليوت) كما يتضح من أبنية قصيدة (رحلة المجوس) موضع بحثنا، تلك الحالة التمييزية بين الشعر كونه احساسا وبين وسائلية الأغراض والوسائط التي تجعل من الخطاب الشعري صورة تماثلية في موصوف (ملحمة الأوضاع الفعلية) خصوصا وأن جل مؤديات الأدوات الوظائفية في حاﻻت قصيدة الشاعر، حلت في حدود إتصالية وشريط تأملات تلك الرحلة المجوسية في حراكها وزمكانها وفضاءاتها، وتوصيفاتها المشتملة على صوت (الرائي الشعري؟) امتدادا نحو حلقات وحيثيات التوليف بين (سياق النص - زاوية الرؤية). نقول لعل الشاعر اليوت في موضوعة نصه كان ينظر إلى حاﻻت وإيحاءات نصه عبر منظوري (العين العارفة - البوصلة الشاهدة) ذلك لأن جميع أحوال النص جاءت في مسار لغة مسرودة ومحاطة بجميع مرايا الأحوال المصحوبة بشرائط فعلية الحوادث ومعرضها التعويلي على إنتاج دﻻﻻت تبقى متصلة ومشدودة الى فحوى المد العنواني في عتبة المركز النصي:

في البرد القارس جئناها،

في شر وقت من العام

لأن تزمع فيه رحلة، ومثل هذه الرحلة الطويلة،

الدروب عميقة، والطقس حديد. ص19

ان السارد الشعري هنا يسعى إلى مد مكونات الحال إلى حالة تفقدية من الإحصاء الاطاري للملفوظ، في حين يباشر على استعادة مواقع اللفظ الدوالي - صورا - من داخل التأشير الفعلي للوصف المحكي (في البرد القارس جئناها، في شر وقت من العام) لا شك أن وحدات الحكي ﻻ تستأثر بأي وسيلة تحديدية ما، خصوصا وأن مستوى وحدات القول كانت احوالية وظرفية عبر خطابها المتصير بصوته الآنوي وبمستواه الخفي في الاوضاع الصوتية للمنطوق الملفوظي (الدروب عميقة، والطقس حديد) يبدو لنا أن الوحدات الدوالية بصورتها الاقرارية، تضعنا إزاء دﻻﻻت وضعية التشير في الشكل والعلاقة والبناء والمسافة بين الدال ومدلوله، فقد ﻻحظنا في الآن نفسه، بأن موجهات (الوصف الخارجي) تغطي أغلب مساحة العلاقة الشعرية، خصوصا وأن الراوي الشعري غدا حضوره تداخلا وتشابكا ومزجا بين (الرائي - الشاعر) وهذا بدوره ما وجدناه من خلال المقاطع اللاحقة والأولى من النص.

ملامح المستعاد وتقلبات هوية الاحوال

لعل من أهم دﻻﻻت قصيدة (رحلة المجوس) في كونها تشكل في ذاتها، عدة حاﻻت مستعادة، من شأنها ان تعيدنا إلى ذاكرة الأزمنة وتعاقباتها في مواضع الاستذكار:

كان الشتاء في منتهاه

و الجمال نال منها الجرب،

في ذائب الثلج باركات.

كانت تمر بنا أوقات نتحسر فيها

على قصور الصيف في السفوح، والشرفات

و الصبايا الناعمات.

إن لحظة مثول المحدد الزمني (الشتاء في منتهاه) يدلي بحقيقة مرارة دﻻلة التشبث بفصل الشتاء، ذلك لكون زحف الموسم الصيفي على قافلة الرحلة قد جعلت الإبل (الجمال نال منها الجرب) لذا فهي من شدة لوعتها كانت تستلق بأجسادها فوق (في ذائب الثلج باركات) وهذه الوجوه الاحوالية المريرة جعلت من حاﻻت الذوات متحسرة على اثارات من ذاكراتها في ديارها التي لم تحدد وجهتها في النص قصدا وعلامة (تمر بنا اوقات نتحسر فيها، على قصور الصيف في السفوح) ولهذا فأن المستويين (السردي - الشعري) يذهبان مذهبا بليغا في مرسل الأداء القصدي في أغراض القصيدة، لذا أغلب الجانب الوصفي والتصويري بتلقائية على جميع افعال استعادة الذاكرة وتكريس أثر الغربة على الذوات كيانا حماﻻ لتقاويم عادات مفردة وجماعية من كيفيات القول (وهناك حداة الجمال وسواقها يلعنون، ويدمدمون بالشكاة ويولولون هاربين) وتتعدد وظائف الدوال في التأثير والحضور - مصدرا للاحزان - إلى جملة  (الحداة = السائقون) فهؤلاء هم أكثر ضررا في الرحلة المجوسية اليبابية، بخاصة وأن شبح الجوع والظمأ وفقدان الأنس بات ظاهرا عليهم في السلوك والأقوال: (ويصرخون في طلب الخمر والنساء.. ونيران الليل تخبو، وليس لنا مأوى) تحفظ الذاكرة للسارد ما كان يفتقده القوم الرحل من غرائز الشرب والمأكل والجسد، فهم في أوج تلاوين شحوب المقام وقصور الوصول إلى ما يخص رغباتهم، وذلك بعد زحف عواصف الليل على ركبهم في اعماق البراري والخوف والقلق من الموت جوعا عطشا.

1- جمالية الأوضاع الحسية وتمفصلات محكيات السرد:

ﻻ شك أن القارئ إلى قصيدة (رحلة المجوس) يعاين مستوى صعود المكان على الوحدة الزمنية، وطغيان السرد على الشعر جملة وتفصيلا، وذلك للارتباط النواتي حيال تداعيات عنصر المكان وحاﻻته القائمة بين (السارد = الكيان المكاني) خلوصا نحو مواجهة ذلك النوع من المنتج الحسي في الأوضاع والمخاطبات والوصف والأخبار:

ثم هبطنا، في السحر، واديا دفيئا

نديا، تحت خط الجليد، يتسم برائحة الخضرة.

و قد يتبين أن العلاقة القائمة بين (الأوضاع الحسية) و (محكيات السارد الشعري) بوصفهما كيفية خاصة تتناسل من خلال مرتكزاتها المحورية، بذلك التناظر العواملي الذي غدا محددا ب (العامل الذي يصف الحال = العامل المتلقي لذلك الحال) وهذه المنظومة العواملية تبرز في موضوعة النص، كحالة علائقية مهيمنة يسودها - الاتصال ممكنا - والانفصال واقعا في مرجحات ثنائية علاقة (النفي - الاثبات) فعلى سبيل المثال تواجهنا غالبا في مقاطع المتن النصي، ذلك التركيز حول ثوابت عواملية في ظهورات محسوس الاشياء، ولكن المعوق الكبير في حوارية النتائج، تبقى رهينة مجاﻻت النفي والفناء في محل النص ومضمونه كحال هذه الجملة السابقة من النص (الاصوات تغني في مسامعنا - وهي تقول إن هذا كله كان حمقا) لهذه العارضة (كان حمقا) نستخلص حقيقة ثبات (الحس الداخلي) وكيفية رفضه من خلال تحققاته كعلاقة واقعية مستشعرة في الوعي المدرك للخارج الوجودي. لذا فأن خطوط (الحلم - اللاحلم) تتجاوز دليل واقعة (الرحلة المجوسية) ذلك لأنها ثيمة سياقية تتوطد في حدود المعلوم السببي، ولكنها من ناحية المحقق بالواقع الحسي، فبدت وكأنها مأوى الحجم الفاعل.

2- العلاقة المكانية ومؤشرات الحركة البرانية:

تسود في جملة مقاطع النص تلك الاوصاف للحال والاحوال الفعلية من علاقة (الرحلة المجوسية) نحو مقتربات تداول تفاصيل وصفية مشفوعة بالوصول بالدﻻلة إلى (تفعيل = تفاعل) الواقع بالتخييلي المستأثر بأشد عوامل التوصيف السردي:

وكان جواد عجوز يعدو خببا في مرعاه

ثم أتينا حانا تكلل مداخله أوراق الكروم

وست أيد تلعب - الزهر -

بقطع من فضة مقامرات،

لدى باب مفتوح.

و أقدام ركل الزقاق الفارغات./ص20

على هذا النحو واجهتنا رؤية معادﻻت الزمكانية موضوعا وشكلا داﻻ للوجود المكاني، حيث الايقاعات الصوتية للمنطوق اللفظوي بدت كحقيقة مدركة بسياقات متزامنة في صيغ (صوت السارد - محاور صفات - شعرية التأثيث المشهدي) وعلى هذا النحو توافينا الاجزاء المقطعية في قصيدة الشاعر ضمن عناصر محكية متصاعدة بزخم دﻻلي عميق في احاسيس الشاعر وأفكاره ورؤاه.

- تعليق القراءة:

لا شك أن القيمة التشكيلية في محصلات قصيدة (الرحلة المجوسية) كانت عنصرا فعالا في البؤرة الدﻻلية المكانية ذات الادوات الموصوفة سردا محكوما بمشارف صوت السارد الشعري، لذا فإن الزمن في النص غدا سلالة غابرة، مركزة على دﻻﻻت التجوال والتحول عبر (الزمان = المكان) ناهيك عن تحقيق العمق الأدائي في لغة حوادثية تقارب القوالب النثرية وصوﻻ إلى لغة سردية تواصلية قائمة على أوصاف (طقوس المكان ؟) و الفضاءات الاغترابية الموحشة القادمة من معطيات (صوت الأنا - احوال الأشياء) وصوﻻ منهما إلى طاقة حافزية متكونة واصفة الواقع الجوال في قعر بؤس غياب يقين الأمنيات:

و لكننا لم نعد نحس راحة هنا

في الناموس القديم

بين أقوام أغراب، بآلهتهم متشبثين

و أني لأكون سيعدا بموت آخر./ص26

و في ضوء هذه المعطيات نرى أن دور السياق المؤول للسارد الشعري، صار يشكل الحالة التمثيلية لجل ممكنات الرحلة الحلمية، فلربما هي خصب دﻻلة ترميزية في مقصدية المخاطب والرائي أو لربما هي صيغة ما تكشف عن حال موت السارد منذ أزل حكاية النص أو ٱنها مخطوطة في رحلة حلم المكان في اللازمن واللاوجود، سوى كونها وصايا ذاكراتية تتحدث في تخييلات الأمكنة الأليفة والموحشة عن رحلة أسفار مجوسية قاهرة.

***

حيدر عبد الرضا

رسالة دكتوراه عن الشاعر الليبي الراحل أحمد رفيق المهدوى، أعمال الكاتب الليبي على المصراتي في أطروحه استشراقيه

***

“الحكم والأمثال الشعبية الليبية”

هذا هو عنوان أول أطروحة في الاستعراب السوفييتي عن الثقافة الليبية دافع عنها المستعرب السوفييتي المسلم عبد الوهاب زاكروفيتش ناليبايف في معهد الاستشراق التابع لأكاديمية العلوم السوفييتية في جمهورية اوزبكستان.

يؤكد عبد الوهاب زاكروفيتش في مقدمته للأطروحة على كونها أول أطروحة عن الفولكلور، بل والثقافة العربية في ليبيا، وأنه اختار هذا الموضوع بالذات للبحث لأهميته العلمية والتطبيقية وحداثته في الاستعراب السوفيتي والأجنبي.

مصادر البحث:

تكمن أهمية هذه الأطروحة في استيعابها لكل الدراسات العربية الليبية والأجنبية في مجال الفولكلور العربي الليبي، بدءًا من أول دراسة عن الفولكلور الليبي للمستشرق الإيطالي أ. بانيتا المنشوره عام 1941 في روما ومقالات جريفيني وفانتولي وغيرهما، مرورا ببعض الكتابات البسيطة في الاستعراب انتهاءا بأعمال الكتاب الليبيين مثل: "المجتمع الليبي من خلال أمثاله الشعبية"، "غومه فارس الصحراء"، "جحا في ليبيا" للمصراتي، ونصوص من الأمثال الشعبية، و"اغنيات من بلادى" لعبد السلام إبراهيم قادربو وغيرهم من الباحثين الليبيين.

وقد أشار الكاتب إلى تطور الدراسات العربيه الفولكلوريه ليس في ليبيا فحسب، بل في كل العالم العربي، حيث انعكس الاهتمام بالفولكلور العربي على صفحات مجلات اختصاصيه مثل “التراث الشعبي” في العراق، و”الفصول الأربعة” في ليبيا، و”مجلة الفنون الشعبية” في القاهرة وغيرها من الدوريات العربية الكثيرة.

وتحدث الباحث بالتفصيل حول أصل الحكم والأمثال الليبيه، ويتفق مع الباحثين الليبيين مثل المصراتي والقشاط وقادربو، الذين أكدوا على أن الغالبيه العظمى من الأمثال الليبيه تعود إلى الأصول العربية القديمة، إلا أنه أكد وجود أشكال أخرى لنفس الحكمة العربية القديمة، أقرب إلى الواقع الليبي ولهذا أثرت اللهجة المحلية على لفظ الكلمات. فمثلا أن المثل العربي المعروف “من كثرة الملاحين غرقت السفينة” ظهر بأشكال ليبيه أخرى مثل: “المركب أن كان كثروا فيها الرياس تغرق” أو “المركب ما تمشيش بزوز(بزوج) رياس” إلخ.

تناول الباحث بالتحليل اللغوي والفني والفكري (أساليب ظهور هذه الحكمة أو تلك) ألفي مثلا وحكمة مأخوذة من مختلف مناطق ليبيا، وجمعها بمختلف الطرق العلمية المعروفة بما فيها الاتصال بسكان المناطق الريفية الليبية الذين سجلوا باصواتهم الأمثال والعبارات الشعبية.

قسم الدكتور عبد الوهاب زاكروفيتش الأمثال الليبية إلى عدة مجموعات مثل: الأمثال التاريخية التي تنتمي إلى الأحداث الكبيرة مثل “التريس ماتوا نهار الاثنين”، أى أن الرجال الشجعان ماتوا في معركة الاثنين 23 أكتوبر 1911 مع الإيطاليين، وأصبح هذا المثل يقال عن الرجال الحقيقيين.

ويقول الليبيون أيضا: “التريس ماتوا نهار السبت”، والمقصود هنا معركة السبت بتاريخ 4 فبراير 1911، أو “الضرب لمحمد والثنا لغومه” والمقصود هنا هو البطل العربي الليبي الكبير غومه المحمودى (1858-1795)، الذي قاتل الاتراك قتالا ضاريا كذلك هناك حكم وأمثال عن معارك بني هلال ورئيسهم أبو زبد الهلالي في ليبيا، مثل: “بو زيد صفا إرفاقته” أي ضيع أبو زيد رفاقه في القتال، أو: “لو كان بو زيد عمار، عمر سواني بلاده”، ويضرب هذا المثل في الحديث عن الأدعياء الذين يتحدثون أكثر مما يعملون.

وتنتمي المجموعة الثانية من الأمثال الليبية إلى الوضع الاجتماعي مثل: “حوت ياكل حوت” أي سمكة تاكل سمكه، ومغزى هذا المثل واضح للقارئ العربي ويمكن تلخيصه بعبارة “القوى ياكل الضعيف”، أو يقال: “اللي عنده حنة يحنى بعبوص حماره”، أي الذي يملك حنة كثيرة يحني حتى ذيل حماره، ويشار به إلى بطر الأغنياء وتبذيرهم، و”ماعين طالعه على حاجبها” و”الشمس ما تتغطاش بالغربال” وغيرها من الأمثال ذات الطابع الاجتماعي المعروفه لكل العرب في كل بقاع الوطن العربي الكبير.

وهناك أمثال تتحدث عن العمل وأهميته بالنسبة للإنسان مما يدل على تطور خاص في حضارة الشعب العربي الليبي، فيقول الليبيون عن العمل النافع المثال التالي: “الحي يموت واللي يدير ما يموت” أي الإنسان لا بد وأن يموت بقدرة الله سبحانه وتعالى، أما العمل الطيب الذي يقوم به فيبقى خالدا أبد الدهر، أو يقال: “البطال عدو الله والناس” وغيرها من الأمثال الكثيرة.

وهكذا فإن الدكتور عبد الوهاب زاكروفيتش حلل الأمثال الليبية إلى مجاميع كثيرة أخرى كأمثال تجسد فيها العلاقات القبليه والعائلية والزواج ومختلف جوانب التقاليد الاجتماعية، ومجموعة أمثال تتناول المسائل الأخلاقية مثل “العار أطول من العمر” أو “الصاحب عالصاحب يبيع عباته” (الإخلاص للصديق)، وأمثال فلسفية مثل: “البر كلها مالحه” أو “ما حلوه بلا مرة”، أو “السيل له شره” وإلخ.

وقد حلل الباحث مختلف الجوانب الفنية واللغوية لهذه الأمثال وأهم ما أكد عليه وحدة الأمثال والحكم العربية في كل مكان مع بعض الفوارق المرتبطة بالموقع الجغرافي والطبيعى والاجتماعي وإلخ من الظروف الموضوعية التي تحيط بهذا الشعب العربي أو ذاك.

ولا بد لنا من الإشارة إلى أن هذه الأطروحة تتميز عن الدراسات العربية التي أطلعنا عليها في هذا المجال بالشمولية والسعه والموضوعية العلمية فالباحث مسلم أوزبيكي مرتبط بتقاليد إسلامية لا تختلف كثيرا عن التقاليد العربية إلا ببعض الخصائص القومية، وهو إضافة إلى هذا مطلع على تقاليد شعوب إسلامية كثيرة في الاتحاد السوفيتي وفي خارجه. هذا من الناحية التطبيقية والخبرة الحياتية، أما من الناحية النظرية فإنه يجيد إضافة إلى لغته الأم واللغات الشرقية القريبة منها، اللغة الروسية والإيطالية وطبعا اللغة العربية التي درسها في معاهد الاستعراب، وكل هذا ساعده بالتالي على الإحاطة إحاطه تامة بمختلف جوانب البحث الذي نال بعد دفاعه عنه شهادة الدكتوراه في الفولكلور. 

رسالة دكتوراه عن الشاعر الليبي الراحل أحمد رفيق المهدوى

أما المستعرب المسلم السوفيتي فريد أسد الله فقد دافع عن أطروحته “حياة وأعمال الشاعر الليبي أحمد رفيق المهدوى” في الكلية الشرقية التابعة لجامعة لينينغراد، وقد أشرفت عليها المستعربه السوفييتية المعروفة البروفيسورة دولينينا. ومن الجدير بالذكر أن المكتبه العربية لم تحظ بكتاب تحليلي قيم وموسع عن شاعر الوطن الليبي أحمد المهدي، إذا ما استثنينا كتابي محمد صادق عفيفي “رفيق شاعر الوطنية الليبيه - 1959”، وخليفه التليسى “رفيق شاعر الوطن - 1965”، وكما يلاحظ القارئ العربي أن الكتاب الأخير مضى عليه فترة زمنية طويلة ظهرت فيها العديد من المعلومات والوثائق عن حياة المهدوى وأعماله مما يبرر فعلا الكتابة من جديد عنه للخروج باستنتاجات جديدة.

ولهذا فإن أهم ما يميز هذه الرسالة عن الدراستين العربيتين السابقتين حداثتها واعتمادها على مصادر عربيه وأجنبية كثيرة، ولكونها اعتمدت على طرق التحليل المقارن والدراسه العلمية الموضوعيه لكل الظواهر الأدبية في ليبيا انئذ ومكانة المهدى الأدبية والمؤثرات الموضوعية والذاتية التي انعكست في شعره وأفكاره الجمالية.

قدم الدكتور فريد في الفصل الأول نبذة مختصرة عن تاريخ الشعر الليبي ومكانة المهدي فيه وقسم سيرة حياة الشاعر إلى ثلاثة مراحل: المرحلة الأولى وتشمل القصائد الأولى حتى عام 1924، والمرحلة الثانية، أو فترة الغربة التي تمتد من عام 1924 حيث اضطر الشاعر إلى السفر إلى تركيا والبقاء فيها حتى 1946. تناول الدكتور فريد أسد الله هاتين الفترتين العصيبتين من حياة الشاعر في الفصل الثاني، وأكد على أن أشعار الغربه تختلف تماما عن قصائده الأولى فهي مليئة بالذكريات العاطفية تجاه الوطن والأصدقاء.

أما الفترة الثالثة والأخيرة من حياة الشاعر (1961-1946)، أي منذ رجوعه إلى وطنه ليبيا حتى أخر يوم لفظ فيه أنفاسه الأخيرة. ركز الدكتور فريد أسد الله في هذه الفصول الثلاثة على الموضوع الرئيسي الذي تناوله الشاعر في كل قصائدة، ألا وهو النضال العادل الذي خاضه الشعب العربي الليبي البطل من أجل الحريه والاستقلال. وقد عالج الباحث الجوانب الجماليه في شعر المهدي وعالمه الفني الشعري، وتناول أهم خصائص شعره التقليديه والتجديديه، ويرى أنه قال الشعر في المدح والوصف والرثاء والهجاء والغزل، إلا أن النضال القومي للشعب الليبي طغى على الموضوعات الأخرى في شعر المهدوي، فهو نادرا ما اهتم بالغزل بسبب التصاقه بالوضع السياسي الحاد. 

أعمال الكاتب الليبي على المصراتي في أطروحه استشراقيه*

دافعت المستشرقة السوفيتية ناتاليا سيرغيفنا فيتيسيفا عن أطروحتها الموسومه “أعمال الكاتب الليبي على مصطفى المصراتي” في نهاية مارس 1984 في معهد الاستشراق التابع لأكاديمية العلوم السوفيتية/ موسكو.

وقد أشرفت المستعربه السوفيتيه المعروفة ف. ن. كيربيتشينكو على هذه الأطروحة وعينت كل من أ. أ. دوليننا (البروفيسوره في الكلية الشرقية/ لينينغراد) و”أ. ناميتوكوفا كمحكّمتين ومناقشتين علميتين للأطروحة”. لا بدّ  للقارىء من أن يشيد بجهود ناتاليا فيتيسيفا ونحن نتفق معها في تحديدها أسباب اختيار المصراتي بالذات، إذ تعتبره واحدًا من رواد الأدب الليبي الفني المعاصر وتحدد بداية نشاطه الإبداعي (من 1955 حتى وقتنا الحاضر) وهذه فترة ليست قصيرة بل غنية ومليئة بالأحداث والنشاطات الأدبية الكثيرة في ليبيا وفي العالم العربي. ولهذا بالذات فإن دراسة أكاديمية متكاملة عن المصراتي تستطيع أن تقدم صورة عن الأدب الليبي المعاصر كله. إضافة إلى ذلك فإن المصراتي كاتب محترف قدم ما يقرب الـ20 عملا من مختلف الأنواع الأدبية بدءاً من القصة وأنواع الكتابات الاجتماعية (الريبورتاج، أدب المذكرات) انتهاءً بالبحوث التاريخية والأدبية وهو ما يزال يمارس النشاط الأدبي حتى الوقت الحالي. كذلك يجب أن لا ننسى الموقف الوطني الذي اتخذه الكاتب منذ بداية حياته الأدبية والاجتماعية. وهكذا فإن الباحثه موفقه في اختيار أعمال المصراتي الأدبية كموضوع لأطروحتها وهي دقيقة في تحديد أهداف الدراسة التي يمكن تلخيصها كما يلي:

1- تحديد المصدر الذي استمد منه الكاتب أفكاره وتوضيح المؤثرات التي انعكست في أعماله.

2- دراسة أعماله التاريخية والنقدية الأدبية.

3- معالجة المضامين والأشكال الفنية التي طرحتها قصص الكاتب.

4- تحديد مكانة الكاتب في الأدب الليبي المعاصر.

واستخدمت الباحثه المنهج العلمي الموضوعي واسترشدت بمبادئ المذهب التاريخي في تحديدها مكانة الكاتب علي المصراتي في الأدب الليبي المعاصر، ولهذا نلاحظ أنها اتجهت إلى دراسة الخصائص التاريخية لتكوّن الأدب الليبي وتطوره، وحددت أهم مراحله وقارنت الظواهر الأدبية في ليبيا وفي الدول العربية الأخرى. ولقد أولت الباحثه أهمية كبيرة لمسائل مثل: ترسخ الفكر التنويري في ليبيا وتكون الخط الفكري لحركة التحررالوطني في ليبيا ودور المصراتي فيها باعتباره من المشاركين النشطين فيها. وبما أن الكاتب لعب دورا كبيرا في ترسخ نوع القصة القصيرة فلهذا درست الباحثه أصل هذا النوع ومراحل تطوره في الأدب الليبي المعاصر. وتعتبر الباحثه أن أعمال المصراتي لم تدرس بعد بما فيه الكفاية (باستثناء كتاب أحمد محمد عطيه) في ليبيا والاتحاد السوفييتي على حد سواء. وقد استفادت من كتاب أحمد محمد عطيه إضافة إلى كتاب الباحث الليبي نجم الدين الكيب، وخاصة من تلك المعلومات التي تخص سيرة حياة الكاتب. واستندت الباحثه أيضًا على آراء الكاتب التي أدلى بها في الأحاديث الشخصية مع الباحثه نفسها في فترة زيارتها لليبيا عدة مرات.

إن القيمة العلمية لهذه الأطروحة تكمن في كونها تطرح ولأول مرة في النقد الأدبي السوفيتي والأجنبي بل العربي، تاريخ الأدب الليبي منذ القرن السابع حتى وقتنا الحاضر. ومن الطبيعي أن تركز الباحثه على الأدب الليبي المعاصر وعلى ظواهره الفكرية والاجتماعية. ووضحت الباحثه بعض أوجه الشبه بين الأدب العربي في ليبيا وفي البلدان العربية الأخرى مثل تسييس الأدب والطابع التنويري في الإبداع الأدبي وتطور بعض الأنواع الأدبية بالذات (القصة القصيرة). ويلاحظ قارئ الأطروحة أن الباحثة استفادت من ضوابط الأدب المقارن في استنباط خصائص تطور الأدب الليبي بالذات في المرحلة الانتقالية مثل غياب المضامين الإكليريكية  وكثرة المضامين المعادية لأوروبا أو ما يسمى بالنزعة المعادية للأوربيين.

وهكذا ولأجل أن نقدم صورة متكاملة عن الأطروحة نرى من الضروري أن نتطرق بإيجاز إلى محتوى الدراسة حسب فصولها. تتألف الأطروحة من المقدمة وأربعة فصول:

1- الفصل الأول: “المراحل الأساسية لتطور الأدب الليبي العربي – تكون الفكر التنويري والأدب التنويري وترسخهما في ليبيا”.

2- العوامل الاجتماعية والثقافية التي أثرت على تكوين الأفكار الجمالية والسياسية عند على المصراتي.

3- نشاط الكاتب الأدبي والتنويري.

4- قصص الكاتب القصيرة. هذا وقد احتوت الأطروحة على خاتمه وفهرست بالمصادر الكثيرة وبمختلف اللغات.

كما سبق وأن قلنا بأن الباحثه كرست الفصل الأول لتاريخ الأدب الليبي ولا نريد هنا أن نتطرق بالتفصيل إلى محتواه بقدر ما نود أن نورد مراحل الأدب الليبي التي اقترحتها الباحثه وهي:

1- مرحلة الفتح العربي لليبيا حتى احتلالها من قبل العثمانيين (من القرن السابع حتى السادس عشر).

2- مرحلة الاحتلال التركي من القرن السادس عشر حتى نهاية القرن التاسع عشر.

3- عصر اليقظة من نهاية القرن التاسع عشر حتى عام 1911.

4- مرحلة الاحتلال الإيطالي (1943-1911) والاحتلال الإنجليزي الفرنسي (1951-1943).

5- عصر النهضة (بعد حصول ليبيا على الاستقلال في عام 1951).

نعتقد أن أسماء المراحل تكفي بحد ذاتها لبيان مدى دقة هذا التقسيم التاريخي الذي يعتمد على الأحداث الكبيرة التي لعبت دورا كبيرا في حياة المجتمع الليبي والتي مارست حضورها المستمر فيه. ونرى أن الباحثة صوبت اهتمامها إلى عصر النهضة بالذات باعتباره يشكل الفترة التاريخية التي بدأ بها الكاتب علي المصراتي نشاطه الأدبي والتنويري. وتقسم ناتاليا فيتيسيفا هذه المرحلة (عصر النهضة) إلى قسمين: الأول يبدأ من الاستقلال الوطني عام 1651 حتى الستينات، أما الثاني فيبدأ من الستينات. ترى الباحثة أن القصة القصيرة ترسخت في هذه الفترة بتأثير من الكتابات الليبية التقليدية الشعبية والأدب العربي في مصر وفي الدول العربية الأخرى. وتبين ناتاليا فيتيسيفا أيضا السمه المميزة للأدب الليبي عن أداب المغرب العربي كلها، التي تجسد التمسك باللغة العربية والاعتداد بها فلم تُكتب القصة مثلا باللغة الإيطالية أوالفرنسية بل باللغة العربية الأم واستمرت النزعات المعادية للأوربيين (الاستعماريين) في ممارسة تأثيرها على الأدب الليبي المعاصر. وتَعتبرُ الباحثةُ فيتيسيفا أحمد الشارف وأحمد رفيق المهدوي وإبراهيم الأسطه عماره أهمَّ أدباء هذه الفترة.

تكرس الباحثة الفصل الثالث لحياة الكاتب ومنابعه الفكرية فتلاحظ أنه أحب الأدب والفولكلور والتاريخ منذ نعومة أظفاره إلا أنه نمي هذه الموهبه في “الغربة” إن جاز التعبير حيث درس في الأزهر ورجع من هناك عام 1948 وبدأ يمارس نشاطه ضمن حركة التحرر الوطني الليبية. وتحدد ناتاليا فيتيسيفا في هذا الفصل السمات التي تميز إبداع علي المصراتي ونلخصها هنا لأهميتها ولكونها تغني القارئ:

1- ساعد نشاط الكاتب التنويري على تعزيز النزعات الوحدوية العربية في الفكر الاجتماعي والسياسي الليبي.

2- حددت الحماسة الوطنية في المرحلة التنويرية اتجاه البحث الروحي ونوع الإبداع الذي كان مكرسا لموضوعه رئيسيه واحده وهي موضوعة الوطن، حيث يهتم الكاتب في أهم أعماله وبحوثه، بتاريخ الشعب الليبي وحضارته وعاداته وتقاليده ونضاله.

3- بدأ علي المصراتي حياته الأدبية ونشاطه التنويري بدراسة تاريخ الشعب الليبي وكرس ما يقارب 10 أعمال كبيرة لهذا الموضوع لكنه لم يكتب روايات تاريخية كما فعل جرجى زيدان في الشقيقة مصر بل عمل على كتابة أعماله بأسلوب مبسط.

4- تميز نشاط الكاتب بالاهتمام بالفولكلورالليبي. وخير مثال على الأعمال الفولكلورية يمكن أن نذكر: “جحا في ليبيا” و”المجتمع الليبي من خلال أمثاله وحكمه” وقسم من كتابه “غومه فارس الصحراء”.

5- اهتمامه بالنقد الأدبي. إن المحاولات الأولى في النقد الأدبي الليبي المعاصر مرتبطة باسم علي المصراتي. ويكفي القارئ أن يتذكر بحوث الكاتب عن الشعراء إبراهيم الاسطه عمر وأحمد الشارف ومصطفى بن ذكرى وغيرهم ليحكم بنفسه عن الدور الكبير الذي لعبه وما زال يلعبه الكاتب علي مصطفى المصراتي.

أما القسم الرابع فتكرسه ناتاليا فيتيسيفا لتحليل مجاميع الكاتب القصصية الأربعة: “المرسال” 1962 “الشراع الممزق” 1963 “حفنة رماد” 1964 “الشمس والغربال” 1977.

لقد استخدم الكاتب مختلف الأشكال لطرح مضامين قصصه، فقد اتسمت بعضها باهتمامها بالحبكة فقط بينما أخذت القصص الأخرى طابع الاهجية السياسية أو السكيتش (حوارات) مما يقربها إلى الدراما المسرحية. وتوجد مجموعة أخرى من القصص تنتمي إلى القصة النفسية. وتشير الباحثة إلى تأثير الأدب المصري على أعمال علي المصراتي، وخاصة طه حسين والأخوين تيمور وتوفيق الحكيم، ولهذا فليس من الغريب أن نجد في أعمال الكاتب نفس الموضوعات المطروقة سابقًا من قبل الكتاب المصريين وهذه سمة يتسم بها أكثر الكتاب العرب. وحللت الباحثة بالتفصيل كل القصص من مختلف الجوانب ولا نرى ضرورة في عرضها بقدر ما نقترح ترجمتها إلى العربية. أخيرا لا يسعنا في نهاية المقال إلا ونقدم شكرنا للباحثة على اهتمامها بأدبنا العربي في ليبيا ونرجو من الاختصاصيين أن يولوا اهتماما كبيرا بمثل هذه الدراسات لما لها أهمية في ثقافتنا العربية المعاصرة.

***

الدكتور زهير ياسين شليبه

.........................

*نُشر المقال في مجلة الفصول الأربعة، العدد 27، ربيع الأول 1394، ديسمبر 1984

 

مدخل: لا شك أن التحولات العميقة التي أصابت المجتمعات في أوربا بعد قيام الثورة الصناعيّة، التي عوّل عليها الأوربيون خلاصهم من جهلهم وفقرهم واستعبادهم، قد خيبت آمالهم بعد وصول الطبقة البرجوازيّة إلى السلطة، وهي الطبقة التي رحبت بها الطبقة العاملة وعموم الكادحين، ووجدت فيها الشريك الحقيقي لخلاصهم من سيطرة الاقطاع والكنيسة والملك. بيد أن الطبقة البرجوازيّة راحت تتخلى عن كل الشعارات التي رفعتها بوجه هذه الأنظمة المستبدة من حريّة وعدالة ومساواة، و بدأت هي ذاتها تمارس قهرها وقمعها واستلابها اقتصاديّا ضد الطبقة العاملة، وغربتها اجتماعيّاً، وشيئتها في المصنع، حيث تحول العامل إلى ترس في آلة الطبقة الرأسماليّة. بل حتى أفكار فلاسفة عصر التنوير المشبعة بالحريّة والعدالة والمساواة ودولة القانون والعلمانيّة والديمقراطيّة، أخذت تختفي لتظهر بدلاً عنها فلسفات جديدة تقول بموت الإله والقيم (نتشه)، وتلاشي البنيّة الاجتماعيّة وسردياتها الكبرى، لتظهر مسألة التركيز على الفرد وحريته الشخصيّة، وضرورة تفكيره من داخله بما  يراه مناسباً له دون النظر إلى مصلحة الآخرين. وعلى هذا الأساس تم تذرير المجتمع، وإفقاده للحمته الاجتماعيّة والأخلاقيّة، وإقصائه عن دوره في الحياة السياسيّة التي بشرت بها الثورة الفرنسيّة، وإيصاله إلى مرحلة الشك (السلبي) بكل شيء يحيط به. وبالتالي عندما يسود تيار الشك الاجتماعي في عمليّة الخلاص المادي من استلاب وتشيئ أولا، والفكري أو الفلسفي ثانياً، وينتفي المركز الثابت للوجود الاجتماعي، وتتحول (اللغة) إلى علامات لا نهائيّة الدلالة، وجد فيها المفكرون الما بعد حداثيين بديلاً عن المشاريع الفكريّة أو السرديات الكبرى التي اشتغلت على الهم الإنساني، وأصبحت عندهم وسيلة لا يقتصر دورها على التواصل والتفاهم فحسب، بل وسيلة لتفسير حركة المجتمع والفكر عموما  كما هو الحال في قضية (اللعب الحر على اللغة)، كما هو الحال عند "جاك دريدا" وكل الداعين للتفكيك. وتأتي هنا مسألة النقد الأدبي ومناهجه وسائل لتعميق تذرير المجتمع وإفقاد الذات لهويتها، من خلال الاشتغال على (اللغة) فلسفيّاً وأدبيّا، كما اشتغلت البنيويّىة أو ما تسمى بـ (البنوية)، وكذلك التفكيكيّة والشكلانيّة الروسيّة والسيميائيّة ونظريّة اللسانيات، ومنها منهج أو نظريّة التلقي موضوع بحثنا.

إن هذا التركيز على اللغة في هذه المناهج الما بعد حداثيّة ساهمت في (تفاقم مشكلة القراءة، وخاصة بعد التأكيد على موت المؤلف الذي يعني رفض التسليم بوجود معنى قصده الكاتب في نصه، فمع الإعلان عن موت المؤلف، ننفتح على تعدد القراءات وتصبح كل قراءة إساءة قراءة لما قبلها، وهذا ما تدعو إليه «نظريّة التلقي"، التي لا تقول بتعدد قراءات النص الواحد فحسب، بل بلا نهائيتها، وباستحالة المعرفة اليقينيّة) لدلالات النص، أي الدخول في متاهات العبث واللامعقول. (1).

في المفهوم:

التلقي لغة:

جاء في معجم لسان العرب (ل-ق-ا) على الاستقبال: «تلقَّاه، أي استقبله، والتلقي هو الاستقبال - كما حكاه الأزهري- وفلان يتلقَّى فلانا أي يستقبله»(2).

ومن آيات القرآن الكريم التي ورد فيها لفظ التلقي نجد قوله عز وجل: {وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآَنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ}. (3).

أما في اللغة الإنجليزية فكلمة: تلق reception تدل أيضاً على الاستقبال أو «طريقة رد فعل شخص أو جماعة اتجاه شيء ما. كقولنا :المسرحيّة (لقيت) قبولاً حماسيًّا من طرف المشاهدين» ومما يسجل هنا، أن (التلقي) في معجم أوكسفورد والموسوعة البريطانية والمعجم الأمريكي ويبستر، بل وحتى في بعض معاجم المصطلحات النقديّة، يرد معناه اللغوي بعيداً عن أية دلالة نظريّة أو جماليّة. (4). كما نجد في المعجم الإنجليزي أوكسفورد أن كلمة reader تدل على «الشخص الذي يقرأ، خاصة الشخص المولع بالمطالعة».

التلقي اصطلاحاً:

"نظريّة التّلقّي" اصطلاحًا عرّفها بعض النقاد العرب ومنهم "محمود عباس عبد الواحد" بأنّها: ("عمليّة التفاعل النّفسي والذّهني مع النّص القرائي". وعرّفها "سيد حسين محمد حسين" بأنّها “النّظريّة التي تقوم على عمليّة التفاعل النّفسي والذّهني مع النّص القرائي من خلال المعنى الذي يكمن في السياق العقلي للقارئ". ويرى "محمد حمود": بأنّها "المشاركة الذّهنيّة والوجدانيّة للحياة الخاصة بالنّص مع القارئ".). (5). إننا نجد أن المفهوم اصطلاحاً اقتصر هنا في دلالاته على المفاهيم الجماليّة والنقديّة، حيث ولجت هذه المفاهيم ساحة النقد الفرنسي عام 1979 بمناسبة المؤتمر الذي عقد في "أنسبريك" (مدينة في فرنسة) من قبل الجمعيّة الدوليّة للأدب المقارن تحت عنوان: "التواصل الأدبي والتلقي" بحضور المنظر الألماني "هانس روبرت ياوس"، وهو مؤسس نظرية التلقي الجمالي.. (6).

وتقول الأكاديميّة الأمريكيّة "جين. ب. تومبكنز". عن نقد استجابة القارئ أو تلقيه: إنه «ليس نظريّة نقديّة موحدة تصوريًّا، إنما هو مصطلح ارتبط بأعمال النقاد الذين يستخدمون كلمات من قبيل: القارئ، وعمليّة القراءة، والاستجابة، ليميزوا حقلاً من حقول المعرفة».(7).

إن جل النقاد المهتمين بالقارئ، أو المتجهين إلى القارئ، اتصلت أسماؤهم بمدارس نقديّة متعددة، نذكر مثلاً: الشكليّة الروسيّة، التفكيكيّة، التأويليّة... وقد عرفت حركيّة هذا الاتجاه النقدي أوجهاً في الفترة المتراوحة بين نهاية الستينات وأوائل الثمانينات، كحركات نقديّة مناهضة آنئذٍ للنقد المتمحور على النص، وتركيزه بشكل الصارم على القارئ، وبهذا التوجه النقدي نحو القارئ، أوجد هذا النقد مجموعة ثريّة من أنواع القراء: كالقراء العالمون، والقراء المثاليون، والقراء المتضمنون، والقراء الحقيقيون، والقراء المحتملون، والقراء الفائقون (السوبر)، ولأدبيون. والقراءة في الحقيقة  ليست مجرد البحث عن المعاني في النصوص، بل هي أيضا ما تتركه النّصوص فينا من التأثير، كأن تُغضبنا مثالاً أو تخيفنا أو تفرحنا أو تعزّينا؛ لأنّ تأثير الكتابة فينا يتجاوز مجرد فهمنا لها ليبلغ القدرة على جعلنا نقوم بأشياء بنفس القدرة التي تجعلنا نفهم من خلالها المعنى الكامن فيها. (8).

ويقسم "فنسنت ليتش" الناقد الأمريكي، انشغالات هذا النقد إلى مرحلتين : (المرحلة الأولى، وفيها يصور نقد "استجابة نشاط القارئ"، على أنه أداة فعالة في فهم النص الأدبي دون أن ينكر أن الموضوع النهائي للاهتمام النقدي هو النص. وفي المرحلة الثانية، يصور نشاط القارئ على أنه والنص سواء، بحيث يصبح هذا النشاط مصدر الاهتمام والقيمة.) (9).

السيرة التاريخيّة لظهور نظريّة التلقي:

يعتبر "أرسطو" في تاريخ الارهاصات الأوليّة للحركة النقديّة، من أبرز رواد الفكر اليوناني اهتماما بـ (فلسـفة التلقي)، أو مفهوم الجمال في استقبال النص، ففي رصيده الفكري والنقدي يتمثل لنا اهتمامه، بهذه المسألة، وكأنهـا محور هام يستقطب تفكيره ويستجمع فلسفته في الحديث عن أجناس الأدب" إذ يعد كتابه "فن الشعر" باشتماله على فكرة (التطهير)، بوصفها مقولة أساسيّة من مقولات التجربة الجماليّة، والتي تقوم وتنهض على استجابة المتلقين وردود أفعالهم تجاه الأثر الأدبي، وهنا نجد أقدم تصوير لنظريّة تقوم فيها استجابة الجمهور المتلقي بدور أساس. بمعنى أن تاريخ نظريّة التلقي والتأويل يعود إلى (نظريّة المحاكاة) عند "أرسطو". وفي حقيقة الأمر، أن الإنسان كان يمارس التلقي ويؤول ما يسمع منذ بداية حياته، ولكن كان ذلك بشكل مبسط وسهل وعفوي، ثم أخذ يتدرج شيئا فشيئا، إلى أن أصبح (لنظريّة التلقي والتأويل) القواعد والنظريات التي تخصها. فكل قراءة للنص الأدبي هي إعادة تأويل له في ضوء معطيات تاريخيّة أو آنيّة، إذ يخضع النص في تشكيلته المتميزة إلى عمليّة تفاعل بين خصائص داخليّة وخصائص خارجيّة، تمثل تحولات السياق الْمُنْتَجِ في ظلاله العمل الأدبي، لذلك ظهرت عدة مناهج امتثلت لتلك المعطيات وحاولت مقاربة النص مقاربة موضوعيّة، والكشف عن مكمن الجماليّة وكيفيّة تشكيلها على أساس أن العمليّة الإبداعيّة هي عمليّة معقدة. فهي تسعى في مجمل أهدافها إلى إشراك واسع وفعلي للمتلقي بغية تطوير ذوقه الجمالي من خلال التواصل الحثيث مع النصوص الفنيّة، حيث أن حضوره أضحى نافذاً منذ وضع اللبنات الأولى لكتابة الرواية، فانتقل من دور المستهلك إلى مرتبة الشريك المحاور الذي يملأ الفراغات، أو البياضات التي أهملها الكاتب في نصه بقصد أو بدون قصد، كما استطاع أن يرغم الكاتب يوما بعد يوم على إسقاط الأقنعة اللغويّة والبلاغيّة التي طالما تدثر بها النص.(10).

أما في تاريخنا الحديث فقد توافرت الأسباب الموضوعيّة والذاتيّة التي هيأت التربة الخصبة لتشكل نظريّة أو منهج "التلقي" برؤية ممنهجة لها آليّة عملها وأدواتها المعرفيّة، وقد توج كل تلك الأسباب السياق التاريخي الذي تشكّلت وتبلورت فيه هذه النظريّة، إذ انبثقت من وسط مجتمع نخرت عظمه سوسة الحرب العالميّة الثانية التي خرج منها مهزوماً. وبسبب هذه الهزيمة تغيرت الكثير من الرؤى الفكريّة والفلسفيّة ومنها الأدبيّة في أوربا، وعليه  نشأت وتبلورت نظريّة "التلقي" في سياق «إبدال» معرفي جديد لا عهد للبشرية به خلفته ظروف تلك الحرب العالميّة. إنها كما يسميها أحد النقاد (نظريّة المنهزم) الذي يحلم بالنهوض وتفادي العوائق التي أودت به إلى الحضيض لتحقيق الذات.

على العموم لقد ظهرت نظرية (التلقي) في أواسط الستينيّات مع مدرسة "كونستانس الألمانيّة" في أعقاب "البنيويّة"، أي عام (1966)، إذ تأسست مع الناقدّين الألمانيَّين "هانس روبرت ياوس" و"فولفغانغ إيزر"،وكانت إرهاصاتها الأوليّة، قد بدأت في البروز نظرياً من خلال الدرس الافتتاحي الذي ألقاه "هانس روبرت ياوس" بجامعة "كونستانس" عام (1968)، والذي (شكّل منعطفاً هامًّا في مسار الدراسة الأدبيّة. حيث رسم الخطوط العريضة لبديل نظري ومنهجي يطمح بالأساس إلى إعادة الاعتبار لتاريخ الأدب الذي فقد مكانته المتميزة وأصبح يعيش على هامش الحركة الثقافيّة لهذا العصر. ولاقتراح المهمة الجديدة للتاريخ الأدبي، ارتأى "ياوس" تأسيس تصور جديد يقوم على اعتبار تاريخ الأدب سيرورة تلق وإنتاج جماليين تتم في تفعيل النصوص الأدبيّة من لدن القارئ الذي يقرأ، والناقد الذي يتأمل، والكاتب نفسه... مدفوع إلى أن ينتج بدوره). (11).

إن الدعوة التجديديّة في منهج التأريخ الأدبي التي رفع لواءها "روبرت ياوس" (هي نتاج سلسلة من احتجاجات جيل مسه اليأس من طبيعة الدراسات الأدبيّة التقليدية كما يقول "ياوس"، حيث ظهرت مجموعة من المقالات التي كانت تحمل شعارات «ثوريّة» كمقال «رؤى الدراسات الألمانيّة في المستقبل» (1973)، لتتوالى بعد ذلك كتب وأبحاث تهدف بدايةً إلى «تحذير الطلبة المبتدئين من مزالق المناهج السابقة، أو ما يسمى (المناهج السياقيّة) وهي مناهج تؤكد بأن (المعنى) هو المعوّل عليه في تحديد المقصود من فحوى التراكيب وتوجيه دلالاتها، وهذا يستدعي الوقوف على مراعاة غرض المتكلم، وأحوال المخاطبين، ومقامات الحديث المختلفة، وكذا المعايير الفنيّة الواردة في النص. ثم اقتراح بدائل عن تلك التقاليد، وغالباً ما كان يتم هذا الاقتراح بطريقة خفيّة إلىً حدِ ما، حتى مُهِدَ الطريق أمام "نظريّة التلقي" بوصفها بديلاً منهجيًّا يكسر الأصنام المنهجية السائدة.).(12).

إذن لقد توافرت الأسباب التي هيأت التربة الخصبة لنظريّة جديدة هي نظريّة (التلقي)، وقد توج كل تلك الأسباب، السياق التاريخي الذي تشكّلت فيه هذه النظريّة، إذ انبثقت من وسط مجتمع دمرته الحرب العالمية الثانية، حيث خرج منها منهزماً كما أشرنا قبل قليل. إن نظريّة التلقي تشكّلت «في سياق يمقت التاريخ وويلاته بعد تلك الحرب، ونشأت في سياق «إبدال» معرفي جديد لا عهد للبشرية به ارتبط بالضرورة بنشأة إطار منافسات وصراعات إقليميّة ودوليّة. سماها الأديب والناقد  "محمد مفتاح" نظريّة المنهزم الذي يحلم بالنهوض وتفادي نتائج حرب أودت به إلى الحضيض وعليه أن يسعى لتحقيق الذات.(13).

أهداف نظرية التلقي:

تسعى نظريّة التلقي، إلى تجديد وتعميق التواصل الأدبي بين النّص والقارئ والاهتمام بهما معا، فأصبحت النظريّة تتداول مفاهيم خاصّة عديدة، مثل: الإنتاج والاستهلاك، ودراسة كيفيّات التّلقّي، و انتقال التأثير من النّص إلى خيال القارئ. فالقراءة عند أصحاب نظرية التلقي هي التي تستدعي ذّاكرة القارئ، وتنفض عنها ما يعتليها من غبار النسيان، مظهرة ما يغطّيه من معارف وتجارب، كما أنّها تجعل المتلقّي يعيش النّص كواقع حياتي، يتأثّر عاطفيًّا بتفاعلاته. ومن هنا جاء الاهتمام بسلطة القارئ كردّة فعلٍ على المناهج النّقديّة السياقيّة السابقة – لا سيّما البنيويّة منها - التي أغفلت في دراستها جانب المتلقّي، واكتفت بمدى فكّه لشفرات النّص، ووضع معايير للكشف عن النظام اللساني فيه، كونها ترى النص مجموعة من العلامات اللغويّة التي تغنينا عن النظر إلى السياقات التي جاء في إطارها، وذلك عبر التفكيك وإعادة التركيب. في حين أن جماليّة "منهج او نظريّة التلقّي" جعلت هذا الفهم للعلامات اللغويّة بنية من بنيات العمل الأدبي، المساهمة في بناء المعنى، ولم تكتف بمجرد كشفه له، فجاءت هذه النظريّة لتثور على المناهج السابقة التي اتخذت من السياقات التاريخيّة والنفسيّة والاجتماعيّة ركائز لها لولوج النصّ وفك رموزه،.(14).

أهم النظريات الفلسفية والأدبيّة التي تأثرت بها نظرية التلقي:

1- الشكلانيون الروس:

إنّ (نظريّة التطور الأدبي الشكلًانيّة) تعتبر بحق أحد أهم عوامل التجديد بالنسبة لتاريخ الأدب، لأنّ التركيز على إدراك (الأدبيّة) في النّص هو الذي أدى بالشكلاًنيين إلى ملاًمسة الطابع الجمالي فيه، ورسّخ مفهوم الشكل، بحيث يندرج في أليّات الاستقبال الجمالي للعمل، وهنا يؤكّد "ياوس" : (إنّ ما يجعل العمل الأدبي عملاً فنّيًّا، هو اختلاًفه النّوعي وليس ارتباطه الوظيفي بالسلسلة غير الأدبيّة، ويقصد هنا التركيز على الشكل فقط وعدم  ارتباطه بالظرف الاقتصاديّة والاجتماعيّة والسياسيّة والثقافيّة. هذا وإن تأثُّر "ياوس" بالشكلانيين  في مسألة إقحام الإدراك الجمالي للمتلقّي مع قضية التفسير الأدبي للشكل، لم يغيّر رأيه في أنّ الشكلًانيين الرّوس لم يستطيعوا بناء نظريّة للتلقي بمفاهيم تهتم بالقارئ قبل النّص، وبآليّات الاستجابة قبل السعي نحو التفسير. فالمدرسة الشكلاًنيّة - برأيه – لا تحتاج إلى القارئ إلّا باعتباره ذاتاً للإدراك ليس إلّا، ويتعيّن عليها أن تتبين الشكل تباعا لحوافز شكل النّص ذاته، أو تكشف عن التقنية الفنيّة المستعملة في هذا الشكل.).(15).

2- الظاهراتيّة:

تأثرت "نظريّة جماليّة التلقي" بـ (ظاهريّة ) الفيلسوف البولندي "رومان انغاردن" تأثّراً مباشراً كتأثرها بالشكلاًنيّة الروسيّة. فالعمل الأدبي في هذا المفهوم ليس شيئا مستقلاً عن تجربة القارئ. والنقد هو عمليّة وصف لحركة القارئ داخل المستويات النّصيّة، ومحاولة التوقّع وسدِّ الثغرات، ومعرفة المسكوت عنه والمضمر. وفي كتابه (النظريّة الأدبيّة) يعدّ الكاتب والناقد وعالم النظريّة الأدبيّة  "جونثان كالر"( نظرية التلقّي) جزءاً من الظاهراتيّة، حيث يقول:  (إنّ العمل الأدبي ليس شيئاً موضوعيًّا يوجد مستقلاً عن أي تجربة، بل إنّه تجربة القارئ، وعليه فإنّ (النقد) يتخذ شكل وصف حركة القارئ عبر النّص، محللاً كيفيّة إنتاجه للمعنى من خلال طريق الارتباطات، وسد ثغرات المسكوت عنه، والتوقّع والحدس، ومن ثمّ التأكيد على هذه التوقّعات أو إحباطها.). (16).

إن جماليّات التلقّي عند "ياوس" هي إحدى طبقات الظاهراتيّة، لأنّ العمل الأدبي عنده يمثّل إجابة عن أفق التوقّعات، ولذا يلزم سيرورة القراءة التاريخيّة برأيه مجموعة من المتلقين، مع النظر إلى تغيّر المعايير الجماليّة تاريخيًّا، كونها لا تعتمد على تجربة قرائيّة واحدة فقط.

3- المنهج السوسيولوجي في النقد الأدبي:

يقترب المنهج السوسيولوجي في النقد من "نظرية التلقي" من حيث (اهتمامه بالمتلقي وثقافته واستعداده لمواجهة النّص الأدبي، وتركيزه على الطبقة الاجتماعيّة التي ينتمي إليها إلى الحدّ الذي يجعل من هذه المدرسة أساساً من الأسس التي قامت عليها نظريّة التلقي. فالنقد السوسيولوجي يرى أنّ الأدب رسالة اجتماعيّة تهدف إلى تحليل المجتمع، وتعمل على تغييره، وهذا المجتمع بدوره هو الذي يعطي (القارئ) أدوات القراءة الصحيحة، لأنّه هو المعنيّ بهذه الرسالة، والقارئ المتلقّي للأدب هو البنية الأولى التي يتكوّن منها المجتمع.).(17). إن المنهج السوسيولوجي بالنسبة لنظريّة التلقي هنا، لا يؤكد برأيي على بنية العلاقات الاجتماعيّة ودورها وتأثيره على المجتمع بشكل عام، وإنما اقتصر دورها على تأثير هذا المجتمع في علاقاته وتناقضاته وصراعاته على القارئ (المتلقي الفرد) وقدرته على تحليل النص لا غير،

المنهج الهيرمينوطيقي:

تتعلق الهيرمينوطيقا كمنهجية للتأويل بالمشاكل التي تنشأ عند التعامل مع الأفعال البشريّة الحاملة لمعنى ونواتج هذه الأفعال، وبالأخص النصوص. وهي بوصفها معرفة منهجيّة، توفر مجموعة أدوات لمعالجة هذه المشاكل. ويرتبط التأويل كتقليد قديم بمجموعة من الإشكالات السائدة والمتكررة  في حياة الإنسان،  فالتأويل نشاط انساني حاضر في كل وقت، ويتطلع البشر إلى فهم ما يرونه مهماً في نظرهم. ونظراً لتاريخ الهيرمينوطيقا الطويل، فمن الطبيعي أن تكون قضاياها، وأدواتها، قد  شهدت تحولاً كبيراً مع مرور الوقت، و لحق هذا التحول مبحث أو مضمون التأويل نفسه. وعلى هذا الأساس تأثرت نظريّة التلقي بالمنهج الهيرمنيوطيقي، على اعتبار القارئ هو من يقوم بتفسير وتأويل  النص، وهو ذاته من يتأثر به من خلال تفسيره وتأويله.

مرتكزات نظريّة التّلقّي:

تمثّل نظريّة التلقي محورا من محاور نظريّة القراءة  وتدور حول ثلاثة محاور تشكل دعامتها الأساسيّة، وهي:

1. القارئ المتلقّي:

وقد أولته نظريّة التلقي أهمّية كبرى، حيث جعلته المحور الذي تدور حوله العمليّة الأدبيّة في تلقي النّصوص، وإنتاج المعنى.

2. بناء المعنى:

لتحديد المعنى عند أصحاب هذه النظريّة لابد من التعريج على مفهوم "الفجوات" أو "البياضات" داخل النصّ، وكيف يسهم القارئ في ملئها لبناء المعنى، يقول "أمبرتو إيكو" ( إن النص هنا ما هو إلا نسيج فضاءات، وفرجات يتركها النص بيضاء كونه يمثل  آلة كسولة أو مقتصدة، تحيا من قيمة المعنى الزائدة التي يكون المتلقي قد أدخلها إلى النص.).(18).

3. أفق التوقعات) أو أفق الانتظار:

بين الدكتور "عبد العزيز حمودة" أن محور نظريّة التلقي الذي يجمع عليه روادها هو (أفق توقع القارئ في تعامله مع النصّ. ومهما اختلفت المسميّات فإنّها تشير إلى شيء واحد وهو: ماذا يتوقع القارئ أن يقر أ في النصّ؟ وهذا التوقع يتوقّف على ثقافة القارئ، وتعليمه، وقراءاته السابقة، أو تربيته الأدبيّة والفنيّة. ). (19).

مبادئ وأسس نظريّة التلقي:

انطلاقاً من العلاقة بين النص وقارئه التي تعتبر جوهر نظريّة التلقي، وهي علاقة محكومة بمجموعة من العمليات النفسيّة والذهنيّة، يشترك فيها قراء الأدب على اختلاف ثقافاتهم وانتماءاتهم، وعصورهم الزمنيّة، جاء الاهتمام بنظريّة التلقي، وهي نظريّة تفسر تلك العمليات، وتضع منظومة من القواعد والمفاهيم والمبادئ النظريّة التي تساعد على فهم عمليات التذوق والاستجابة والوعي، أي محاولة إدراك ومعرفة الحدث الذي ينشأ من خلال القراءة. وهذا ما سوف نشير إليه في تحديدنا لأهم مبادئ وأسس نظريّة التلقي وهي:

1- إنّ أهم ما يمكن أن يميّز نظريّة التلقي هو وجود اتجاهين كبيرين متباينين تعاملا معها هما: اتجاه "جماعة برلين" و"جماعة كونستانس"، حيث قامت الأولى على مهاد نظري فلسفي يستمد تراثه من النظريّة الماركسيّة معتقدة أنّ التواصل الفني يقوم على أربعة عناصر هي: المؤلف والنص والمتلقي والمجتمع؛ ولذلك أخذت هذه الجماعة مآخذ عديدة على جماليات التلقي التي دعت لها مدرسة (كونستانس)، ولعلّ أهمّها هي الطريقة التي تَفْصِلْ فيها بين العلاقة الجدليّة القائمة بين الإنتاج والاستهلاك/ التلقي، حيث سيؤدي الفصل بين الإنتاج والتلقي بنظر أصحاب نظريّة "برلين" إلى فقدان كلّ قيمة وكل طموح من أجل بناء نمط استبدالي جديد. أما جماعة (كونستانس) فيعود لها الفضل في وضع الأسس النظريّة لما يعرف بـ (جماليات التلقي) التي أعادت للقارئ قيمته الحقيقيّة وجعلته قطباً تقوم عليه نظريتها الفلسفيّة والأدبيّة، بل زادت في هذا التوجه إذ جعلته داخلاً في العمليّة الإبداعيّة ذاتها، ولم تول هذه الجماعة شأناً للمجتمع كما فعلت جماعة برلين، لأنها ترى أنّ المجتمع موجود في النص وفي القارئ ومتضمّن فيهما.(20).

2- التركيز على القارئ أو المتلقي: لقد حاولت نظريات الأدب في مسار تطورها التاريخي، أن تُعالج النص الأدبي، وقد توقفت كل نظريّة في إطار جانب أو أكثر من جوانب النص مؤكدة أهميته على حساب الجوانب الأخرى، فكانت المناهج السياقيّة (التي تهتم بالمضمون) تركز على المبدع (الكاتب) وتجعله في قمة الهرم، وعنصراً فاعلاً، واعتبار (معاييره الخاصة) أساساً في فهم العمل الأدبي، على حساب المتلقي الذي أُهمل، ولم يكن له دور يُذكر. لتأتي بعدها مناهج الشكلانيّة الروسيّة والبنيويّة والتفكيكيّة التي أعطت الدور الرئيس للنص، بوصفه بنية محايثة، لا علاقة لها بشيء يقع خارج النص، ولا يجب على القارئ أن يبحث عن دلالات العمل الأدبي خارج إطاره اللغوي، فمهمة القارئ تحليل النص بتشكلاته اللغوّية وفق دلالاتها ، مهملة بذلك المبدع والمتلقي.

بيد أن المناهج الحديثة ومنها "منهج التلقي" قد خطا  خطوة جديدة، تغيرت بها تقاليد النظام السائدة في قراءة النص، إذ تحوّل الدور الرئيس للقارئ، الذي يجب عليه أن يتفاعل مع بنيات النص، فإذا ما حصلت عمليّة الفهم، وجب عليه أن يستحضر ما سبق أن كونته له قراءاته السابقة من ذخيرة معرفيّة لردم فراغات النص، حتى يتمكن من الكشف عن قصديّة المؤلف والنص. فمهمة (القارئ) يجب أن تقوم على مدى قدرته في طرح تقاليد جديدة يُغيِّر بها نظام التقاليد السائدة، وذلك بإجاد أدوات إجرائيّة، يوظفها للتحليل والمقارنة في نصِه الذي يتناوله بالدراسة.(21).

ونستنتج مما سبق بالنسبة للقارئ، يفترض أن يكون ملمّا بمعرفة النصوص والآليات التي تشتغل وفقا لها تلك النصوص، وهذا لا يتأتى إلاّ من المعاشرة الطويلة التي تمنح القدرة على فرز ما يتراكم من هذه النصوص، مثلما تكتسب تلك المعاشرة خبرة في رصد تعاقبها الزمني، وما يحدث من خروقات وتغيير وتشويش على نظم تلك النصوص والتقاليد الفنيّة التي لازمتها، وهي تصل إلى القارئ الحصيف عبر الأزمنة، وهذا يتطلب من القارئ أيضاً ضرورة تركيزه على مفاهيم مثل الظاهراتيّة وعلم النفس واللسانيّات والأنثروبولوجيا، لما لها من أهميّة في كشف خفايا النص، واستثماره وتأويله، واستكشاف الأبعاد المجهولة من الأعمال الأدبيّة والنصوص بمختلف أنواعها، والغوص بأغوار طبقات دلاليّة لا يراها غير القارئ الخبير الفطن، وهي دلالات ليس من الضرورة أن يكون الكاتب قصد إليها بالمرّة. وهذا ما أعطى لهذه النظريّة ميزتها وتفرّدها.

3- القارئ الضمني: إن العمل الأدبي وفق نظريّة التلقي يمثل تفاعلاً حيويّاً بين خصائص النص من جهة وأفق انتظار القارئ من جهة أخرى. أهم ما في نظريّة التلقي أنها تخلق محاورة بين الموضوع والقارئ ، ولا يمكن وصف مثل هذه العمليّة إلاّ بوجود القارئ الضمني، بوصفه وسيطاً بين النص وفعل القراءة ، وهو قارئ يفترضه المبدع لا وجود حقيقي له.(22).

4- العمل الأدبي نتاج العلاقة التفاعليّة بين الَّنص والقارئ:  وبذلك يكون العمل الأدبي في ضوء نظريّة التلقي نتاج العلاقة التفاعليّة بين الَّنص والقارئ، تعينه على ذلك ذخيرته المعرفيّة التي اكتسبها من قراءاته المختلفة، التي تعينه يدرها على فهم النصوص وتأويلها، بالإضافة إلى الاستراتيجيات ذات الوظيفة الازدواجيّة بصفتيها الاستدعائيّة والتوجيهيّة، إذ تستدعي القارئ إلى توظيف مخزونه المعرفي ، ثم  توجهه إلى هدف النص، ومن ثَّم بناء معنى ً للنص، فهي باختصار شديد تعين على إضاءة المناطق الغامضة في النص. هذا التفاعل يتحول الى هيمنة "نظرية التلقي" على كثير من مفاهيم النظريات المتفاعلة معها، من دون الاندماج الذي يفقدها هويتها. فلم تقف نظريّة التلقي ضد منهج معين، إَّنما جاءت لتصعد للقارئ مكانته بعد أن أُهمل في الدارسات الحديثة وتخلصه من سطوة المؤلف كما بينا في أكثر من موقع.

إنّ نظريّة جماليّة التلقي حرّرت النّص – عموما – من سلطة المؤلّف، وأتاحت الفرصة للقارئ لإنتاج المعنى، وفتحت آفاق أوسع أمام النّص، كما حرّرت القراءة من هيمنة المعنى النّهائي القصدي وجعلتها تعانق آفاقاً مفتوحة  تسمح بالانتقال من الوحدة إلى التعدد ومن الفعل إلى التفاعل. (23).

5- إن العمل الأدبي مكيّفاً بالغيريّة: إن الأثر الفنّي لا يمكن أن يكون معزولا بصورة كاملة عن كل ما يمكننا أن ننتظره منه، فالعمل الأدبي يظلّ مكيّفا بالغيريّة أي بالعلاقة بالآخر بوصفه ذاتا مدركة، وحتى في الحالة التي يكون فيها العمل إبداعاً لغويّاً صرفاً، فإنّه يفترض معلومات مسبّقة.

أنّ علاقة النص الفردي بسلسلة النصوص الأخرى المنتمية لجنسه تظهر وكأنّها مسلك إبداع وتحرير متواصل لأفق ما، أي أن النص الجديد يستدعي إلى ذهن القارئ أفق انتظار ونظام يعرف من خلال النصوص السابقة وهو نظام يتعرّض دائما لتغييرات وخروقات وإضافات عديدة أو قد يعاد إنتاجه كما هو. أي أنّ العمل مهما بلغت درجة إغراقه في الجانب الشكلي فإنّه ينطوي على كمً من المعلومات المسبّقة التي توجّهه نحو الانتظار والتوقّع، وهذه المعلومات تقاس بها درجة الجدّة والطرافة، ومن ثمّ فإنّ أفق الانتظار والتوقّع هو ذاك الذي يتكوّن لدى القارئ بواسطة تراث أو سلسلة من الأعمال المعروفة لديه والمطلع عليها قبلا. (24).

6- القطب الفني والجمالي في العمل الفني: إن العمل الأدبي وفق نظريّة التلقي له قطبان: قطب فنّي وقطب جمالي، وإنّ قطبه الفنّي يكمن في النص المتحقق عبر النسيج اللغوي، وما يضمّنه المؤلف من (أشكال تعبيريّة) بغية تبليغ القارئ بحمولات فنيّة. وبالتالي فإنّ هذا القطب مشتمل على دلالة ومعنى وبناء شكليّ.

أما قطبه الجمالي فهو التحقّق الذي ينجزه القارئ عبر عمليّة القراءة المتأمِّلة القادرة على تأويل النص وإخراجه من حيّزه المجرّد إلى حيّزه الملموس. وبذلك يكتسب التأويل بوصفه منهجاً نقديّاً، قيمةً مضاعفةً في إدراك صورة المعنى المتخيّل في النص واستكناه أغواره البعيدة الغور والكشف عن أبعاده المتوارية. وينتج عن هذه القطبيّة الثنائيّة أيضا أنّ العمل الأدبي يمكن أن يتطابق مع النص تماما أو مع إدراك النص، بينما هو في الحقيقة يشغل منزلة وسطا بين المنزلتين. ويمكننا التأكيد هنا أيضاً على أن تذوق العمل الأدبي يمثل المرحلة الأولى في تلقيه وهي الدهشة. بيد أن مرحلة الدهشة تغيب معها السلطة المعرفيّة للعقل، بقياساته ومنطقه وأحكامه الصارمة، فالذوق يساير ما يشعر به المتلقي أمام الاحتمالات الجماليّة الموجودة في العمل الأدبي، وكلما تطابق الموقف العاطفي والوجداني في العمل مع ما يقابلها عند المتلقي، تثار عواطفه وذكرياته وانتباهه، وهو ما يؤدي إلى محاكاة الأبعاد الجماليّة التي تمثل أمامه. بينما الوعي يظل يبحث عن المعنى، الذي يمثل الغاية المعرفيّة، في عملية الإيصال، والمعنى يُنْتَجُ من تركيب الصور في عمليّة واعية قوامها التأمل والتخيل، ثم المقارنة والقياس مع ما يختزنه العقل من تجارب ومعارف سابقة. (25).

نظرية التلقي في الأدب العربي الحديث:

لا شك أن منهج نظريّة "التلقي" كان لها نصيبها في الدراسات النقديّة العربيّة شأنها شأن الكثير من نظريات النقد الأدبي في الغرب، وتأتي أهميّة اهتمام النقاد العرب في هذه النظريّة من كونها تمتلك جذورها المعرفيّة في تاريخ النقد العربي قديماً، وخاصة في القرن الرابع للهجرة كما أشار الناقد "د. مراد فطوم" في كتابه "التلقي في النقد العربي في القرن الرابع الهجري". وعلى هذا الأساس نقول: إن النقد العربي الحديث وطأ تخوم نظريّة التلقي بجدارة. ويظهر هذا من خلال دراسات نقديّة عدّة، تناولت هذه النظريّة محاولة فك رموزها من لدن بعض الباحثين والنقاد العرب. وهذه الخطوة تجعلنا نطل على ما تدخره هذه النظريّة من عناصر إيجابي.

لقد استفادت من هذه النظريّة الكثير من الدراسات، منها على سبيل المثال الا الحصر، دراسة ( التلقي والتأويل مقاربة نسقيّة،  لـ (لدكتور محمد مفتاح). ودراسة "نظريّة الاستقبال، مقدمة نقديّة"، لـ (روبرت هولب، ترجمة الدكتور عز الدين اسماعيل. كما ترجمها أيضا الأستاذ "رعد عبد الجليل".). ودراسة "نظريّة التلقي بالأدب الحديث"، للدكتور "يوسف نور عوض". ودراسة "فعل القراءة نظريّة جماليّة التجاوب"،" لفولفكانك إيزر، ترجمة الدكتور حميد الحمداني، والدكتور الجاللي". ونظريّة "التلقي أصول وتطبيقات"، لـ "بشرى موسى أبو صالح"، ط،1 المركز الثقافي العربي، المغرب، 2004م. و"استقبال النص عند العرب" "دراسات أدبية": لـ "محمد المبارك"، ط،1المؤسسة العربية للدراسات والنشر، لبنان، 1999م. و"نظرية المعنى عند حازم القرطاجني" "فاطمة الوهيبي"،ط،1، المركز الثقافي العربي، المغرب2002،م. و"الشاعر والنص والمتلقي عند حازم القرطاجني". "نصيرة مخربش"، رسالة ماجستير "غير منشورة"، جامعة العقيد الحاج لخضر- باتنة،الجزائر2005،م. و"التلقي في النقد العربي في القرن الرابع الهجري" – "د. مراد فطوم" - 2013، الهيئة العامة السورية للكتاب – وزارة الثقافة. و "ﺟﻣﺎﻟﯾـﺎت اﻟﺗﻟﻘﻲ ﻋﻧد ﻋﺑد اﻟﻘﺎھر اﻟﺟرﺟﺎﻧﻲ" – "أ.د محمد بيع سعيد الغامدي". و "ﻧَظَرِﯾﺔِ اﻟﺗﻠﻘّﻲ ،اﻟﺗّﻔْﻛِﯾرُ اﻟﺟَﻣَﺎﻟِﻲﱡ" ﻋِﻧْدَ اﺑْن طَﺑَﺎطَﺑَﺎ اﻟﻌَﻠَوِي. وما هذا في الحقيقة إلا غيض من فيض.ﱢ

نقد نظريّة التلقي:

إن مناهج النقد ومدارس الفكر تظل نتاج شروط ثقافيّة خاصة، لا يمكن استنباتها في شروط مغايرة إلا بافتعال لن يؤدي أبداً إلى ثمار ذات قيمة، وهذا حال الظروف التي أنتجت منهج أو نظريّة "التلقي" كما بينا في عرض دراستنا هذه، إن كان في مدخل الدراسة، أو عند تطرقنا للظروف التاريخيّة بعد الحرب العالميّة الثانية في ألمانيا التي ساهمت في إنتاج هذه النظريّة بالذات. ونظريّة التلقي شأنها شأن النظريات السابقة أو اللاحقة كثيراً ما تعتورها إشكالات ومآزق ينبغي الإشارة إلى أهمها ويأتي في مقدمتها (طبيعة المتلقي) أو القارئ الذي يعتبر جوهر هذه النظريّة ومحور اشتغالها. حيث يُفرض علينا هنا السؤال التالي الذي يطرحه "الطيب بوعزة" :

من هو هذا القارئ الذي تدعونا نظريّة التلقي إلى الاهتمام به؟. وهذا السؤال من الوجهة المنطقيّة برأيي لن يجد بين منظّري ونقاد “نظرية التلقي” اتفاقاً على ماهيّة هذا القارئ، وهذا إشكال بحد ذاته يضع كل ما نُظر له في هذه النظريّة حول القارئ مجرد تكهنات أو تخيلات لقارئ (مفترض)، بل قارئ بدأ يتلاشى عمليّاً مع إفرازات النظام العالمي الجديد وأساطير ما بعد الحداثة التي ذررت وسلعة كل شيء ومنه القارئ. وهناك ثمة إشكال آخر  ظهر داخل  مدرسة "كونسنتانس أنجزه "آيزر" الذي لم يترك “علم جمال التلقي” كمقاربة منهجية للتاريخ، بل حوله إلى دراسة للنص الأدبي من حيث هو علاقة تواصلية مع القارئ (الفرد) الذي حصره بالقارئ (الضمني). منتهياً إلى أن كل نص يطرح نمط قراءة خاص، لذا يجب على الناقد أن يدرس ويستخلص نظام القراءة الذي “يقترحه” النص لتحقيق الاستجابات المنتظرة من القارئ الفرد، وفي السياق نفسه، يمكن أن ندرج موقف "أمبرتو إيكو"، في كتابه المعنون بـ “القارئ داخل النص”. فالكاتب يحس عند صياغته لنصه بعوائق لسانيّة وثقافيّة ومجتمعيّة تعوق انطلاقه في التعبير، لذا فالنص حسب "إيكو" لا يقول كل شيء، ومن ثم فهو يحتاج إلى القارئ. وعلى الناقد أن يحدد نمط “القارئ النموذجي”، أو “القارئ المثالي” الخاص بالنص الذي يدرسه، وهو النموذج الذي يتوقعه المؤلف ويتمناه، ليس ليقرأ ملفوظات نصه بل أيضا مسكوتاته ومظمراته وما بين سطوره. وعلى هذا الأساس أصبح التوجه في هذه النظريّة نحو القارئ النخبوي أو المتخيل أو الوهمي أو الضمني، وليس القارئ بشكل عام أو القارئ الفعلي الذي له كينونة وجوديّة في الواقع.

وهذه التوجه نحو (الفرد) من الناحية الفكريّة والفلسفيّة والتطبيقيّة، لا يخرج في الحقيقة عن توجهات تحطيم الكتلة الاجتماعيّة وقيمها التي تريدها قيم ما بعد الحداثة. كمشروع لنقد مركزيّة الذات الإنسانيّة. ففلسفة نيتشه هي نقد لهذه المركزيّة ولنمطها العقلاني، وسيكولوجيّة فرويد هي كذلك نقد لمركزيّة العقل والإرادة لمصلحة مقولة اللاشعور والغريزية، وفلسفة البنيويّة هي إقصاء الإنسان لمصلحة البنية واللغة، ومناداة "رولان بارت" (بموت المؤلف) يندرج ضمن السياق ذاته المناهض لفلسفة الحداثة. ونظرية التلقي عندما استبعدت المؤلف تندرج هي أيضا في سياق زحزحة مركزيّة الذات. .(26).

***

د. عدنان عويّد

........................

الهوامش:

1- (عبد العزيز حمودة «المرايا المحدبة من البنيوية إلى التفكيك»، مرجع سابق، ص: 105.).

2- ). (معجم لسان العرب لابن منظور، بيروت، دار صادر، الطبعة الثالثة 1994، مادة «لقا».

3- (سورة النمل، الآية6. وقوله كذلك: {فَتَلَقَّى آَدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} (4)، (سورة البقرة، الآية:36.

4- (نظرية التلقي .. النشأة وإشكالات المصطلح -الدكتور فؤاد عفاني - كاتب وباحث من المغرب. مجلة الكلمة - العدد ( 79 ) السنة العشرون ، ربيع 2013م / 1434هـ). بتصرف.

5- المرجع نفسه.

6- المرجع نفسه. بتصرف.

7- (جبن. ب. تومبكنز «مدخل إلى نقد استجابة القارئ» ضمن كتاب: «نقد استجابة القارئ من الشكلانية الروسية إلى ما بعد البنيوية»، تحرير: جبن. ب. تومبكنز. ترجمة: حسن ناظم وعلي حاكم. مراجعة وتقديم: محمد جواد حسن الموسوي، المجلس الأعلى للثقافة/ المشروع القومي للترجمة 1999. ص:17).

8- ( النقد الأدبي الأمريكي من الثلاثينيات إلى الثمانينيات»، ترجمة محمد يحيى، مراجعة وتقديم: ماهر شفيق فريد. المشروع القومي للترجمة/ المجلس الأعلى للثقافة: 2000، ص: 225. بتصرف.

9- ( فنسنت. ليتش «النقد الأدبي الأمريكي من الثلاثينيات إلى الثمانينيات» -  ص:227.

10- (موقع

 - https://philarchive.org/rec/OCGKPG - مجلة وادي درعة -  -2017الصديق الصادقي العماري. بتصرف.

11- (هانس روبرت ياوس «نحو جمالية للتلقي: تاريخ الأدب تحد لنظرية الأدب»، ترجمة وتقديم محمد مساعدي، مراجعة عز العرب لحكيم بناني، منشورات الكلية المتعددة التخصصات بتازة التابعة لجامعة سيدي محمد بن عبد الله، العدد الثاني، ص: 4و61 و13.).

12- (نظرية التلقي .. النشأة وإشكالات المصطلح -الدكتور فؤاد عفاني - كاتب وباحث من المغرب. مجلة الكلمة - العدد ( 79 ) السنة العشرون ، ربيع 2013م / 1434هـ).

13- (محمد مفتاح «من أجل تلق نسقي»، ضمن أعمال ندوة «نظرية التلقي إشكالات وتطبيقات»، الرباط، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية، سلسلة ندوات ومناظرات، رقم: 24، ص: 43-44.بتصرف.

14- (نظريّة التلقّي - الباحثة / فاطمة عبد الرّزا ق كرمستجي -  دكتوراه فلسفة في اللغة العربية وآدابها/ جامعة محمّد بن  زايد للعلوم الإنسانيّة – و الأستاذ الدكتور/ بلقاسم الجطاري - استاذ النقد الحديث جامعة محمد بن  زايد للعلوم الإنسانية - إصدار يوليو لسنة 20.). بتصرف.

15- (هانس روبيرت ياوس - جماليّة التلقّي من أجل تأويل جديد للنّص، ترجمة - رشيد بنحدو- المشروع القومي للترجمة، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة – مصر، ط 1 ، 2004 ، ص 34 - 37.).

16- (جونثان كالر: النظرية الأدبية، ترجمة: رشاد عبد القادر، منشو ا رت و ا زرة الثقافة – دمشق – الجمهورية العربية السورية، 2004 ، 147 - 148 . وفضل، صلًح: نظرية البنائية في النقد الأدبي، ص 320 - 321 .).

17- (نظرية جماليّة التلقي .. النشأة وإشكالات المصطلح - الدكتور فؤاد عفاني -  كاتب وباحث من المغرب. مجلة الكلمة - العدد ( 79 ) السنة العشرون ، ربيع 2013م / 1434هـ. (ويرجع أيضا حول أهم النظريات الفلسفية والأدبيّة التي تأثرت بها نظرية التلقي كتاب : "التلقي في النقد العربي في القرن الرابع للهجرة" – مراد حسن فطوم – وزارة الثقافة - سورية – الهيئة العامة للكتاب).

18- ( إيكو إمبرتو: القارئ في الحكاية، ترجمة: أنطوان أبو زيد، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء –

المغرب، ط 1 ، 1996 . ص 63).

19- (عبد العزيز حمودة،: المرايا  المحدّبة من البنيوية إلى التفكيك، مجلة عالم العرفة، العدد 232 ، الكويت، 1978 ، ص 323.

20 - ( موقع جامعة كربلاء – كلية العلوم الإسلاميّة - نظرية التلقي، وإطلاق سلطة القارئ – د. علي محمد ياسين – جامعة كربلاء – كلية العلوم الإسلاميّة - ). بتصرف.

21- (مفهومات نظرية القراءة والتلقي – مجلة ديالي للبحوث الإنسانية - أ.د خالد علي مصطفى الجامعة المستنصرية/كلية الآداب. و م. ربى عبد الرضا عبد الرزاق - جامعة ديالى / كلية التربية للعلوم الانسانية. ) بتصرف.

22- (مفهومات نظرية القراءة والتلقي – مجلة ديالي للبحوث الإنسانية - أ.د خالد علي مصطفى - الجامعة المستنصرية/كلية الآداب. و م. ربى عبد الرضا عبد الرزاق - جامعة ديالى / كلية التربية للعلوم الانسانية. ) بتصرف.

23- (– جامعة كربلاء – كلية العلوم الاسلامية - نظرية التلقي، وإطلاق سلطة القارئ - بقلم الدكتور علي محمد ياسين.) بتصرف.

24- ( المرجع نفسه بتصرف).

25- (المرجع نفسه. بتصرف).

26- (موقع الملتقى الفكر للابداع - ملاحظات في نقد "تلقي" نظرية التلقي - الطيب بوعزة. بتصرف).

الرواية التاريخية هي نوع من أنواع الأدب الروائي الذي يعتمد على أحداث تاريخية حقيقية أو متخيلة، حيث يتم دمج الحقائق التاريخية مع العناصر الأدبية والتخيلية، ويهدف هذا النوع من الروايات إلى إعادة إحياء فترات معينة من التاريخ من خلال سرد قصص شخصيات تفاعلوا مع تلك الأحداث أو عاشوا في تلك الأزمنة، وتتيح الرواية التاريخية للقراء فرصة استكشاف الماضي من منظور إنساني، حيث تُبرز المشاعر والتجارب الفردية وسط الأحداث الضخمة.

ويستند الكتاب في كتابتهم إلى أبحاث دقيقة حول تلك الحقبات، مما يضفي مصداقية على السرد، في الوقت نفسه يحرص الكتاب على الاستفادة من الخيال الأدبي لخلق تقلبات درامية وحبكات مثيرة، تُضفي حيوية على الشخصيات وتجعلها أكثر قربًا للقارئ

ان الرواية التاريخية ليست مجرد سرد للأحداث، بل هي وسيلة للاحتفاء بالتراث، ورفع الوعي الثقافي.

اهمية الرواية التاريخية

عند الحديث عن الرواية التاريخية يجب ان نمر على ذكر الفوائد والأهمية من هذا النوع الأدبي من الكتابة، حيث تسهم الرواية التاريخية في (المحافظة على الذاكرة التاريخية)، تساعد الروايات التاريخية في الحفاظ على الأحداث والشخصيات التاريخية، مما يسهم في توعية الأجيال الجديدة بتاريخهم وثقافاتهم.

وتسهم كذلك في (فهم السياقات الاجتماعية والسياسية)، حيث تقدم الروايات سياقًا غنيًا حول العصور الماضية، مما يساعد القراء على فهم القضايا الاجتماعية والسياسية التي كانت قائمة، وكيف أثرت على حياة الأفراد والمجتمعات.

وكذلك تهتم في (تزكية الخيال والوعي الثقافي) تساعد الروايات التاريخية في تنمية الخيال الأدبي وسعة الأفق، حيث يتم مزج الحقائق التاريخية بالخيال، مما يجعل القصة أكثر جذبًا وإثارة.

واحد اهم فوائد الرواية التاريخية هو (تطوير التفكير النقدي)، ان قراءة الروايات التاريخية تشجع القراء على تحليل الأحداث والشخصيات بتفكير نقدي، مما يعزز الفهم الأعمق للقضايا المعقدة.

وايضا يساهم هذا النوع من الكتابة في (تعزيز الهوية الثقافية)، تساهم الروايات التاريخية في تعزيز الهوية الوطنية والقومية، إذ تعكس التقاليد والقيم والأحداث التي شكلت المجتمعات.

وأيضا أهميتها تكون في (تسليط الضوء على التجارب الإنسانية)، فتقدم الروايات لمحات عن التجارب الإنسانية الفردية والجماعية في أوقات الأزمات والحروب، مما يمكن القراء من التعاطف مع الشخصيات وفهم مشاعرهم.

واخير من اهم منافعها هو تسهم في (مواجهة التحديات المعاصرة)، من خلال دراسة الأحداث التاريخية، يمكن استخلاص دروس قيمة في التعامل مع التحديات المعاصرة، سواء كانت سياسية أو اجتماعية.

باختصار، الرواية التاريخية تُعتبر وسيلة قوية للتعلم والترفيه، وتساعد على تعزيز الفهم والتقدير لتاريخ البشرية وثقافاتها.

تتميز الرواية التاريخية بعدة عناصر:

العنصر الاول هو السياق التاريخي: تضع الرواية الأحداث ضمن سياق زمني ومكاني محدد، مما يساعد على فهم الحقائق التاريخية والبيئة الاجتماعية والسياسية في تلك الفترة، والعنصر الثاني هو شخصيات معقدة: غالبًا ما تتضمن الروايات التاريخية شخصيات مستلهمة من شخصيات تاريخية حقيقية، أو شخصيات خيالية ذات خلفيات معقدة، والعنصر الثالث هو التوازن بين الخيال والواقع: تحاول الرواية التاريخية تقديم صورة واقعية عن الأحداث مع إضافة عناصر خيالية أو درامية لجعل القصة أكثر جذبًا وإثارة، والعنصر الرابع هو التوثيق الدقيق: تتطلب الكتابة في هذا النوع من الروايات بحثًا دقيقًا في المصادر التاريخية لضمان دقة الأحداث والبيانات.

معوقات كتابة الرواية التاريخية

كتابة الرواية التاريخية يمكن أن تكون مهمة صعبة وتواجه العديد من المعوقات، ونذكر هنا اهم المعوقات التي يمكن ان تواجه الكاتب... وهي:

1. البحث والتحقيق: تتطلب الروايات التاريخية بحثًا دقيقًا حول الأحداث والشخصيات التاريخية. قد يكون من الصعب العثور على مصادر موثوقة، خاصة في الفترات الزمنية الغامضة أو التي لم يتم توثيقها بشكل جيد

2. التوازن بين الخيال والواقع: يجب على الكاتب أن يجد توازنًا بين الجوانب التاريخية الصحيحة والخيال الأدبي. قد يؤدي التركيز الزائد على الجانب التاريخي إلى رواية جافة، بينما تجاهل الحقائق التاريخية يمكن أن يُضعف مصداقية الرواية.

3. التعقيدات السياسية والاجتماعية: التعامل مع الأحداث التاريخية المعقدة، مثل الحروب، والصراعات السياسية، والصراعات الاجتماعية، يتطلب فهمًا عميقًا للسياق و الأبعاد المختلفة لهذه الأحداث.

4. التاريخ المتنازع عليه: كثير من الأماكن والأحداث التاريخية تخضع لتفسيرات متعددة. الكتابة عن أحداث أو شخصيات تعتبر حساسة أو متنازع عليها قد تسبب جدلًا أو انتقادات.

5. اللغة والأسلوب: اختيار اللغة والأسلوب المناسبين لجعل الرواية مقروءة وجذابة مع الحفاظ على إحساس الفترة الزمنية قد يكون تحديًا. يحتاج الكاتب إلى تطوير أسلوب يتناسب مع الحقبة التاريخية دون أن يكون شديد التعقيد أو بعيدًا عن القارئ.

تلك المعوقات تجعل من كتابة الرواية التاريخية تحديًا يتطلب جهدًا كبيرًا ودراسة دقيقة. ومع ذلك، فإن التغلب على هذه المعوقات يمكن أن يؤدي إلى إنتاج عمل أدبي ممتاز وذو قيمة.

اهم الروايات العراقية التاريخية

تعتبر الرواية العراقية التاريخية من أهم الأشكال الأدبية التي تعكس التاريخ والثقافة العراقية. وإليك أيها القارئ الكريم بعض الروايات العراقية التاريخية التي حققت شهرة واسعة:

1. "النخلة والجيران" للكاتب غائب طعمة فرمان: بُنيتْ أحداث رواية على خلفية آثار الحرب العالمية الثانية في العراق، إذ صيغ نظام الحياة اليومية لشخصياتها في ضوء تداعيات تلك الحرب في بغداد، فظهرت منزوعة الإرادة، ومجرّدة عن أي فعل إيجابي، وما لبثت أن مضت في حال يكتنفها اليأس إلى نهايات مقفلة أدّت بها إما إلى الموت أو القتل أو الغياب، وبذلك تكون الرواية قد طرحت قضية التاريخ الراكد للأمة حيث يتلاشى الأمل بالتغيير. 

2. "الرجع البعيد" للكاتب فؤاد التكرلي: تعتبر هذه الرواية إحدى أهم الروايات العراقية، وهي بحق تمثل النضوج الفكري والتقني لدى كاتب، وتتحدث عن مرحلة حرجة في تاريخ العراق السياسي وظهور الحرس القومي، وتتناول الرواية حقبة مهمة ودموية من تاريخ العراق السياسي تُوّجت بانقلاب 8 شباط العسكري.

3. "صخب ونساء وكاتب مغمور" للكاتب علي بدر: تستعرض الرواية زمن الحصار في شوارع بغداد، وكيف كان شكل الحياة والصعوبات التي واجهت المجتمع بسبب سياسات النظام الحاكم ضمن حبكة روائية رائعة.

4. "وحدها شجرة الرمان" للكاتب سنان أنطون: سردية حكائية بسيطة عن فترتين تاريخيتين ما قبل حرب 2003 وما بعدها والتغييرات التي حصلت، وتصور مشاهد الموت الذي يلتهم قلب بغداد، والذي يظل ماثلاً امام ناظري جواد الذي يمتهن غسل الأموات وتكفينهم، واتخذ شكل الموت ضروباً مروعة من التمثيل بالجثث والتنكيل بها، طعناً وخنقاً وحرقاً وبقراً وتقطيعاً. وقد وصل الأمر بجواد انه تبلبل واحتار بكيفية غسل رأس مقطوع بلا جثة.

5. "تمر الاصابع" للكاتب محسن الرملي: تدور أحداثها بين العراق وإسبانيا وتتناول جوانباً من طبيعة التحول في المجتمع العراقي على مدى ثلاثة أجيال، تتطرق إلى ثنائيات ومواضيع شتى كالحب والحرب والدكتاتورية والحرية والهجرة والتقاليد والحداثة والشرق والغرب.

 تتناول هذه الروايات موضوعات تاريخية واجتماعية متنوعة، مما يجعلها مصادر قيمة لفهم تاريخ العراق وتجارب شعبه، وكذلك تساهم هذه الروايات في تصوير تجارب العراقيين ومعاناتهم عبر العصور.

صدام والرواية التاريخية

سؤال مهم: هل حاول الطاغية صدام حسين كتابة رواية تاريخية؟ الجواب: نعم، الطاغية صدام حسين حاول كتابة رواية تاريخية كتب رواية بعنوان "زبيبة والملك" والتي تم نشرها في أواخر التسعينيات، والمؤكد كانت بعون بعض ادباء السلطة، والرواية تدور حول قصة حب بين شخصية تدعى زبيبة وملك، وتتناول مواضيع مثل الشجاعة والولاء، وتحمل الرواية أيضًا رموزًا واضحة تعكس أفكار صدام حسين السياسية ونظرته للأحداث التاريخية.

فقد استخدم الكاتب شخصيات وأحداث لإبراز مفهوم السلطة والحكم من منظور نظامه السياسي. هذا الجانب جعل الرواية تُقرأ بشكل مختلف، حيث اعتبرها البعض وسيلة لترويج الأفكار السياسية لنظام صدام

الحقيقة ان الرواية لاقت بعض الانتقادات، ولكنها بالنهاية تعكس جزءًا من تفكير صدام ككاتب وأيضًا كزعيم مريض بمرض جنون العظمة.

 ***

 الكاتب: اسعد عبدالله عبدعلي

العراق – بغداد

قراءة في: ماذا لو هبت ريح.. للشاعرة: سنيا فرجاني[1]

كيف يشتغل الخيال؟ سؤال لطالما ظل معلقا بالنسبة لمن يحاول فك شيفرة الإبداع الأدبي. فالإبداع مرتبط بالخيال الذي تجتهد اللغة، حينما تسعف مستعملها، باعتباطيتها لنقله لنا، وغالبا وهي متحدية المنطق النحوي، الذي يقننها، لكن ليس على المستوى النسقي (إلا نادرا حفاظا على شيفرة التواصل)، وإنما على المستوى الاستبدالي. لهذا تلجأ إلى كل الصيغ الأسلوبية والبلاغية والفنية والجمالية الممكنة لتقريبه من المتلقي. وعلى هذا المستوى يمكن تقييم براعة كل شاعر. لكن يظل هذا التقييم خاضعا لنزوات العلوم الإنسانية المعروف عنها بأنها كثيرة المناهج، لكنها بالمقابل، قليلة النتائج مادامت مناهجها غير دقيقة، وغير خاضعة للتجريب. فحاولت كل المدارس المعروفة وكل النقاد عرب وعجم، كل من معجمه الثقافي، تفسير هذه الظاهرة عن طريق تحليل الصور الشعرية [2]. لهذا في نظري يستحسن المغامرة، التي هي نفسها عنصر من عناصر الإبداع، اللجوء أيضا إلى العلوم الحقة، لمحاولة فهم عملية التخييل التي تنتج لنا صورا تمتع القراء، خاصة متلقي الشعر منهم، كالرياضيات والفيزياء الكمومية، والبيولوجيا الكمومية وعلم الأعصاب، مادامت هي أيضا تتقاسم مع الإبداع الأدبي بعض العناصر، كالتجريدية التي نجدها في الرياضيات وفي الفنون التشكيلية والشعر. بل وحتى على مستوى الخيال نفسه، فالفيزياء أو العلوم بصفة عامة تنطلق هي نفسها منه، فتتصور ما قد يحدث أو ما قد ينتج وهو ما تسميه نظريات، في انتظار التطبيق التجريبي. كما حدث مثلا مع علماء الأعصاب[3] قبل أن يتمكنوا منذ زمن غير بعيد، حسب بعض التجارب، من ضبط بعض الطرق لمراقبة تأثير أنواع المثيرات المختلفة على الدماغ البشري. فلاحظوا أن الدماغ، عندما يستقبل إحساسًا جديدًا، سواء عن طريق اللمس أو البصر أو السمع، فإن الخلايا العصبية تطلق نبضات كهربائية عن طريقها يتم تبادل رسائل بالغة الصغر فيما بينها. الشيء الذي قد يحدث أيضا أثناء الكتابة وإنتاج الصور الشعرية. ثم لا ننسى كذلك الإشارة إلى ما سمي بالسيميائية الحيوية[4] التي تدخل في مجال علم الإشارات والأحياء، وهو مجال مفيد جدا في نظري لأنه يهتم بدراسة كيفية صنع المعنى ما قبل المعنى اللغوي، وقد يُستفاد منها حتى ونحن نشتغل من داخل اللغة، لأن هذه اللغة شعرية، وهي في علاقة مع ما يحدث على الصعيد البيولوجي، كما هي أيضا في تفاعل مع ما يحدث على الصعيد النفسي والاجتماعي. من جهة أخرى كذلك، نشير أيضا إلى الأبحاث المتواصلة حول ظاهرة الوعي لدى الإنسان وكيفية تشكله، وهو البحث الذي يقربنا أيضا من عملية تشكل الخيال ما دام فضاؤه أيضا هو المخ. وفي هذا الصدد هناك نظرية اتفق حولها عالمان، تسمى نظرية: [5]"Orch-OR". الأول هو الباحث "ستيووارت هامروف" Stuart Hameroff، مختص في التخدير ومهتم بدراسة تشكل الوعي البيولوجي، والثاني هو الفيزيائي "روجي بنروز" Roger Penrose، عالم رياضيات وفيزيائي ودارس للكون، والحائز على جائزة نوبل للفيزياء، والذي اشتغل كثيرا مع الفيزيائي Stephen Hawking، يساهم في نفس الموضوع بمقاربة كمومية. وأخيرا وليس آخرا، لايفوتني أن أذكر بالنظرية التي تعتمد على انقسام المخ إلى نصفين مختلفين، لعالم النفس والحائز على جائزة نوبل روجر دبليو سبيري[6]، والتي تقول بأن الإنسان المتسم بالتحليل المنطقي وبالمنهجية في تفكيره، يساري الدماغ، أما من له دماغ يميني، فهو أكثر اهتمام بما له علاقة بالفن والابداع بشكل عام. وهكذا تكون قد تحددت المنطقة الدماغية التي ينتج عنها الخيال، او بمصطلح أدق تنتج عنها الصور الشعرية.

هذا الزخم من الأبحاث العلمية، يفسر في اعتقادي وإيماني بأن القبض على كيفية تشكل الخيال، ليس إلا مسألة وقت. وهكذا سوف يتضح بأن المخ كمادة رمادية، وهو، في أوج عملية الخيال، لا ينطلق من فراغ وبشكل هلامي ما دامت فكرة الفراغ مدحوضة علميا حسب الفيزياء[7] الكمومية. ومن جهة أخرى فإن الخيال ليس موجودا لأجله فقط، وبدون وظيفة موضوعية سواء عن وعي أم لا. والدليل وهو أن بعضا مما تصوره الخيال منذ فطنة الإنسان، تحقق عمليا، وهو ما تؤكده الأمثلة المتعددة فيما يسمى بالأدب التخييلي العلمي[8]. وأنا أتحدث عن الخيال وكيفية اشتغاله، في علاقته بالعلم، استحضر الشاعر الفرنسي أبولينير[9] الذي مهد لما سمي بالسريالية فيما بعد، ردا على بعض منتقديه حول انزياحاته (خياله) التي لم تكن تخضع للمعاييرالمتداولة حينها، مجسدا فكرته لتقريبها ممن أسميهم بآكلي المعاني (sensivores) بقوله: "حينما أراد الإنسان تقليد المشي، خلق العجلة التي لا تشبه الرِّجل. وهكذا كان سرياليا من غير أن يعي ذلك". إن هذه الجملة التي تبدو بسيطة، تدخل فيما تحدث عنه إيتيين كلاين Etienne [10]Klein، أحد مناصري "علم الجسور" بين العلوم والفكر والفلسفة وبطبيعة الحال لا يمكن استثناء الإبداع الأدبي والفني من هذه العملية التي تسعى إلى تكسير الفكرة المتداولة التي أدخلت كل معرفة داخل دائرة اختصاصها، مانعة هكذا التفاعل الإيجابي بين المعارف. هكذا إذن، يمكن استيعاب الخيال الجامح الذي يتميز به بعض "الشعراء" (بين مزدوجتين في انتظار مصطلح أقوى، وأعني هنا كتاب ما يسمى بقصيدة النثر)، بالحديث عنه مستحضرين الترابط بين المعارف.

هذه التوطئة، أردتها فسحة نظرية وتحفيزية لتجاوز ما هو متداول حول الخيال سواء لدى الأدباء والفلاسفة كما سبق الذكر، أو لدى المتصوفة، من أمثال ابن عربي الذي حدثنا عن الخيال المنفصل والخيال المتصل[11]، قبل مقاربة قصيدة سونيا الفرجاني التالية، المنشورة على صفحتها في الفيسبوك:

ماذا لو هبّت ريح من الجنوب على عيوب الشعر الغزليّ ونثرته؟

أو شردته

أو شتته؟

سيتطاير في العالم وفي الهباءات

داخل مخابر مكتظة بالمرضى

سيُقْضَى

وقت طويل أمام نهود مرمية على الأرصفة

وحول سيقان وربلات وأعضاء عارية تحوم حولها أسراب من الكواسرْ.

ستغامر النسوة الباكيات بجمع القطع الساقطة،

حلمات دامية

شعور منتوفة وجماجم كانت عليها عيون كسرها الوصف الذليل

فساحت.

يصرخ الباحث العليل أمام أنبوب ومجهر:

هذه حفنة من نحر أنثى

كيف أَوَتْ نجمة محترقة

إلى يرقة ؟

رفعَ الستار

واستدار:

ثمّة تابوت في الريح

ثمة شفاه ترتعش بشدة

تزيح نظراتي وتصفعني.

ثمة شيء غامض يمنعني.

المدن تغلي بالنساء الممزقات.

لحم منتوف يكسو أطراف المباني

طيور تهبط على قطع من الأرجوان

نهد يسقط داخل بوق الصومعة

يرفع المؤذن صوته فيطلع ثدي ويرتطم بالآذان.

تغير لون المنازل و المباني

شبعت الكلاب وشبع الذباب

وشبع الشعر

لكنّ الأرض شيّعت نساءها

وارتطمت في حادث سير أبويّ؟

الفكرة الرئيسية التي انبنت حولها القصيدة هي : استهزاء من الشعر الغزلي ومقت للذكر المهووس بأنوثة المرأة. كيف استعانت بالخيال لتركب صهوته وتقدم فكرتها في طبق مصمم بلغة ماورائية، يشتهيها المتلقي؟ بماذا استعانت كي تجعل من الخيال لغة تفوق لغة الحروف؟ لم تبتعد عن محاكاة الطبيعة. لكنها محاكاة تخرج عن المتداول حسب المنطق الأرسطي.

النص في بنائه، يشبه كتابة سيناريو. وأعتقد أن هذا التشبيه يفي بالغرض لأن الشاعرة تنطلق من فرضية معبر عنها بوضوح: "ماذا لو هبّت ريح من الجنوب". ولعلها الجملة الوحيدة التي لا تخرج عن منطق اللغة المتداول. أما ما تبقى، فيدخل فيما أسميه بمنطق المتعة. فالنص كله متعة، وكل صورة تزيد في نهم المتلقي. لهذا يمكن الحديث عن سيناريو وهو نفسه يدخل في التخيل، فيسمح لها بالتداعي الحر. يتشكل إذن هذا السيناريو من مقدمة جامعة، بقولها:

" سيتطاير في العالم وفي الهباءات

داخل مخابر مكتظة بالمرضى"،

لتهيئنا بشكل مرتب لما قد يحدث بعد هذه الفرضية بكل دقة. وهو ما ستتكلف بوصفه هي نفسها أو على لسان الشخصية الوحيدة التي ركزت عليها في نصها هذا الذي يجمع بين الاستهزاء كما قلنا، والاشمئزاز بفضل الصور الجنونية التي خصت بها المرأة موضوع الشعر الغزلي. وللوقوف على كل ما ذكرنا سوف نخصص لكل فكرة فقرة معنونة.

الفرضية:

"ماذا لو هبّت ريح من الجنوب على عيوب الشعر الغزليّ ونثرته؟

أو شردته

أو شتته؟"

ونحن نتساءل عن كيفية اشتغال الخيال لدى الشاعرة، نلاحظ أنها في هذه الفرضية، انطلقت من الطبيعة باستحضار "الريح الجنوبية". فلا بد لنا في غياب ملاقيط تشد على نوروناتها لتقيس لنا اشتغال الخيال لديها، أن نقوم باستقراءات قد تساعدنا على فهم كيف حضرت صورة "الريح". هل هناك جسيمات أو ذبذبات كهرومغناطيسية، هي التي تشكل هذا الخيال؟ إذا كان الأمر كذلك، كيف تم إفراز هذه الجسيمات في حالة وجودها؟ هل هناك حافز وراء هذا الإفراز ومن ثمة حضور الصورة؟ هل الحافز نفسي، مرتبط بالحالة النفسية للشاعرة في تلك اللحظة بالذات، أم هي ردة فعل اتجاه حدث واقعي أحيته الذاكرة؟ فلنكتفِ بهذه التساؤلات التي تعبر عن جهلنا العلمي حيال عملية لا مناص لنا عنها في عالم الإبداع، لكنها تزرع فينا حدة الاهتمام بهذه العملية الرهيبة عبر ما هو بين يدينا، أي نحاول التعامل مع اللغة التي تتحمل مسؤولية إيصال هذا الخيال، وهي مقاربة لسانية تتفادى الإسقاطات المجانية، معتمدة على اللسان، ككلام محدد بهذا النص، خاضع لمنطق نحوي وآخر معنوي بفضل المرجعيات، وكمنطوق تنسجم أو تتنافر حروفه فيما بينها، وهو ما يساعدنا على فك شيفرات الصور.

فكلمة "الريح"، تجبرنا حسب الثنائيات اللسانية، على استحضار كلمة "الرياح". فمنطقي أن نتساءل لماذا اختيار الكلمة الأولى؟ فالجواب هو أنها ذات وظيفة تدميرية، مناسبة للموضوع، خلافا لكلمة "الرياح". أما كونها "جنوبية" وليست شمالية ولا بحرية (مستحضرين دائما الثنائيات اللسانية) ، فلأنها، كما تُعرفها الأرصاد الجوية، قوية وتهب من الصحراء الكبرى صيفا محولة الجو الخارجي إلى جحيم. وهكذا تصبح الوظيفة التدميرية أكثر فاعلية. لكن الشاعرة ليست متيقنة من وقوع الحدث، وهو ما نستشفه من خلال تساؤلها "ماذا لو" الذي يعبر عن فرضية تضمر في نفس الوقت تمنٍّ صريح وصارخ. فتواصل نورونات الخيال اشتغالها من خلال هذا التمني لتجعل الريح "تهب على عيوب الشعر الغزلي". وهنا نلتقط بملقطنا اللغوي الصورة (في انتظار أن يتم التقاطها عمليا في المختبر العلمي)، التي تبدو أكثر لمعانا وإدهاشا، لأن الريح أُلصقت بما ليس من طبيعتها، وهو مأ اعطى للشعر الغزلي صفة ملموسة كنبتة أو كحنطة، ما نجد له تفسيرا كذلك فيما بعد، حيث تبدو الشاعرة مترددة في فرضيتها أو أمنيتها، وهي تنتقل من: "تنثره" إلى "تشرده" وفي النهاية تستقر أمنيتها على "تشتته". ومن خلال وقفة سريعة، على ما يبدو إطنابا، وهو تراكم أفعال تصورِها لما قد يحدث، ندرك على أن هناك تصاعد خيالي ناتج عن ترددها هذا. ما يتيح لنا تعددا في التأويل. فإذا وقفت عند "تنثره" فمعناه أن لها شك في هذه العملية، مخافة ألا تكون الريح الجنوبية تدميرية، أو ربما تتحول إلى رياح، فاستحضرت عملية فلاحية قد تهدف إلى زرعه كي ينبت مجددا، وهنا فكرة الحنطة التي ذكرناها، وهو ما لا تريده، بل ما لا تتمناه. ثم حينما استدركت الموقف استعانت ب" تشرده". وهذه العملية أيضا لا تعني القضاء عليه، وإنما تفريق محتواه وتبقى فكرة الحفاظ عليه ولو في حالة تشرد، ما ينطبق أيضا على  المتغزل لكي يصبح مهمشا فقط، مادامت عملية التشرد تحمل مدلول الأنسنة. وقد يثير هذا الفعل شهيتنا في التأويل، ونضيف "به" للتشرد، فيصبح لدينا فعل "تشرد به"، وهو ما يعني فضح الشعر الغزلي وذيوع عيوبه بين الناس، وهو بطبيعة الحال  ما قد ينطبق كذلك على شاعر الغزل. لكنها غير مقتنعة بهذه العملية أيضا، يأتي الاستدراك الثالث وكأنها تضغط على زر النورونات لكي تفرز لها صورة أخرى وهي عبارة عن "دعاء" مضمر، مستوحى من ثقافتنا الدينية الشعبية :"اللهم شتته"، لتستقر على هذه العملية /التمني. فتشتيت الشيء، يعني عدم القدرة على تجميعه مجددا، نظرا لبعثرته، ومن ثمة اندثاره النهائي. صورة تذكرني بما قاله الشاعر السوداني إدريس جمّاع، حيث استعمل "النثر" كمرادف "للتشتيت":

"إن حظي كدقيق فوق شوك نثروه // ثم قالوا لحفاة يوم ريح اجمعوه".

وتواصل توليد الصور انطلاقا من هذا الضغط على زر النورونات، "فيتطاير بعد الشتات كهباءات" أو غبار لا نراه إلا إذا كانت هناك أشعة الشمس (وليس غبار الطلع لأن الشاعرة لا تنتظر تلقيحا). من هنا تهيئنا لتتبع خيالها خلال مرحلتين:

المرحلة الأولى:

"سيتطاير في العالم وفي الهباءات".

العالم هنا ممثل بالرصيف، أي بالشارع العمومي في أي مدينة أو بلد، مازالت فيه المرأة "ضحية" الشعر الغزلي.

"سيُقْضَى

وقت طويل أمام نهود مرمية على الأرصفة

وحول سيقان وربلات وأعضاء عارية تحوم حولها أسراب من الكواسرْ.

ستغامر النسوة الباكيات بجمع القطع الساقطة،

حلمات دامية

شعور منتوفة وجماجم كانت عليها عيون كسرها الوصف الذليل

فساحت."

صور خيالية تتقن الحديث عنها عن طريق لقطات السيناريو السينمائي. وكأننا أمام فيلم رعب، تاركة لنا في بداية المقطع تصور الشخصيات أو الكومبارس، باستعمالها فعلا مبنيا للمجهول، مركزة فقط على الحدث بقولها: "سيُقضى..". ولنا أن نتخيل أشخاصا عاديين، ككومبارس، وهم ينظرون بتقزز، ومن غير ملل أيضا، إلى النهود المرمية على الأرصفة، وإلى السيقان والربلات وأعضاء عارية. ولإعطاء الصورة إحساس تقزز ورعب، جعلت هذه الأعضاء كلها ضحية أسراب من الكواسر. ولأنها تمقت الشعر الغزلي كثير العيوب، جعلت من أولئك المدمنين عليه ككومبارس، يتفرجون طويلا في هذه الأعضاء المرمية على الرصيف، ويتفرجون على أسراب الكواسر، وهم شعراء الغزل الكثر، يحومون حولها، لتصبح إذن المرأة هنا ضحية لذلك، وكأنها لا تساوي شيئا ولا آدمية لها ما دامت الشاعرة فصلتها تفصيلا، كأعضاء مرمية على الرصيف. إلا أن السيناريو الذي اختارته الشاعرة، فرض عليها إيجاد بطلة أو بطلات، تغامرن لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، وهن "النسوة الباكيات". فتقوم بجمع القطع الساقطة من حلمات، وشعور منتوفة وجماجم فقدت عيونها، التي كسرها الوصف الذليل. وبعد أن استوفينا تقريبا المرحلة الثانية من هذا السيناريو، نمر إلى المرحلة الثالثة.

المرحلة الثالثة:

يصرخ الباحث العليل أمام أنبوب ومجهر:

هذه حفنة من نحر أنثى

كيف أَوَتْ نجمة محترقة

إلى يرقة ؟

رفعَ الستار

واستدار:

ثمّة تابوت في الريح

ثمة شفاه ترتعش بشدة

تزيح نظراتي وتصفعني.

ثمة شيء غامض يمنعني.

المدن تغلي بالنساء الممزقات.

لحم منتوف يكسو أطراف المباني

طيور تهبط على قطع من الأرجوان

نهد يسقط داخل بوق الصومعة

يرفع المؤذن صوته فيطلع ثدي ويرتطم بالآذان.

تغير لون المنازل و المباني

شبعت الكلاب وشبع الذباب

وشبع الشعر

لكنّ الأرض شيّعت نساءها

وارتطمت في حادث سير أبويّ؟

كسيناريست، تختار الشاعرة شخصية الباحث لتواصل صورها المفزعة. فالباحث "عليل" ما دامت "المخابر مكتظة بالمرضى"، كما سبق وأن أشارت إلى ذلك الشاعرة في بداية الأمر. ثم لا يجب أن ننسى بأننا أمام نص شعري بامتياز، يمتح من السيناريو، لهذا يكون الاهتمام بجمالية اللغة، إما عفويا أو تنقيحا، وهو ما نجد أثره في استعمال الشاعرة نوعا من التوازي بين "الوصف الذليل" في الشعر الغزلي، حسب الشاعرة، و "الباحث العليل"، الشخصية التي سوف تنقل لنا ما تراه، جراء حدث الشعر الغزلي وأثره على جسد المتغزل بها. فالمرور بفضل عملية السجع العفوية، من "الذليل" إلى "العليل"، هدفه تأكيد الشاعرة على أن الشعر الغزلي، وهو متصل بأنبوب، وتحت مجهر الباحث، (الذي بيده مشرط، كما نتخيله)، داخل المختبر النقدي، لن يحصد إلا ما زرعه المتغزل. فرائحة الموت، والصور البشعة، هي التي تتبخر أمامنا ونحن نواصل قراءة النص. فالباحث يصرخ بملء فيه أمام فداحة الشعر الغزلي. فهناك حفنة نحر، وتابوت في الريح وشفاه ترتجف، ونساء ممزقات ونهد داخل بوق الصومعة إلخ....فتكتمل الصورة البشعة، بوجود كلاب شبعت بعد نهش الجثث، وذباب يغطيها. ثم المفاجأة مع "الشعر" الذي شبع بدوره من هذه الجثث، لتعيدنا إلى الموضوع، وهو مقت الشعر الغزلي، الذي ما هو إلا نتيجة "للسير الأبوي"، أو التحكم الذكوري في الحياة، واعتبار جسد المرأة بضاعة.

هكذا تتصور الشاعرة تأثير الشعر الغزلي على كل مناحي الحياة. فتقحمنا بخيالها الجامح داخل عالم المختبرات حيث التشريح والدماء وتناثر أعضاء أنثوية لتعم الصورة المدينة بأكملها. فيكون سببا في تأزيم "مرضى المخابر، وترتطم الأثداء بالآذان، ويتغير لون المنازل والمباني إلخ...".

ماذا نستنتج كآكلي المعنى؟ الشاعرة ترفض الغزل أو التغزل بالمرأة لأن ذلك في نظرها يحط من إنسانيتها كروح قبل أن تكون جسدا كباقي الأجساد. وبهذه القصيدة ترفض تسليع المرأة وكأنها تتخيلها تحت سيطرة ما يسمى ببورصة المال أو بسوق يعرض السلع، بالدلال، وهم شعراء الغزل، كل واحد يزايد شعريا على الآخر ليظفر بفريسته. هي نظرة نسوية بامتياز وليست نسوانية. تدافع عن كرامة المرأة كما تراها هي الشاعرة أيضا. وكأنها تقول: هل رأيتم شاعرة تقول الغزل فتسلع الرجل؟

أتوقف عند هذه القراءة التي أعتبرها محاولة لفهم اشتغال الخيال، تاركا المجال مفتوحا للمتلقين المهتمين بكيفية اشتغاله. هكذا تشتغل، في نظري، نورونات الشاعرة لتتميز بصورها المتولدة بدقة إحساس عال يرفع من دهشة المتلقي نحو ماورائيات لغوية قد تنال منها الفيزياء الكمومية، وبيولوجيا النورونات والأعصاب، في وقت لاحق، لندرك كيف يشتغل الخيال بدقة، كما نالت من إشكالية وجود كل الجسيمات والقوى الأساسية للطبيعة وشرحتها على أساس أنها عبارة عن اهتزازات لها عشرة أبعاد (علما أن الأبعاد المعروفة هي ثلاثة بالنسبة للمكان، وبعد للزمان) بفضل نظرية الأوتار الفائقة. هذه النظرية التي وحدت الفيزياء الكمومية بالفيزياء النسبية، توحد كان يعتبر مستحيلا، قد تفتح الباب لمعرفة إن كان خيالنا هو نفسه وليد أوتار فائقة تشبعنا صورا شعرية، مادمنا كتلا مشكلة من جسيمات لها نفس الخصائص كتلك التي تهتم بها الفيزياء الكمومية.

***

محمد العرجوني

..................

[1] نشر على صفحتها بالفيس بوك

[2] https://dr-almahmoodi.com/%D9%85%D9%81%D9%87%D9%88%D9%85-%D8%A7%D9%84%D8%B5%D9%88%D8%B1%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%B4%D8%B9%D8%B1%D9%8A%D8%A9/#:~:text=%D8%A7%D9%84%D8%B5%D9%88%D8%B1%D8%A9%20%D8%A7%D9%84%D8%B4%D8%B9%D8%B1%D9%8A%D8%A9%20%D9%81%D9%8A%20%D9%85%D9%81%D9%87%D9%88%D9%85%D9%87%D8%A7%20%D8%A7%D9%84%D9%84%D8%BA%D9%88%D9%8A&text=%D8%AA%D9%82%D9%88%D9%85%20%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%A7%D8%AF%D9%8A%D8%A9%20%D8%B9%D9%84%D9%89%20%D8%AA%D8%B6%D9%85%D9%8A%D9%86%20%D9%84%D9%81%D8%B8,%D9%85%D8%AF%D9%84%D9%88%D9%84%D8%A7%D8%AA%D9%87%D8%A7%20%D8%A7%D9%84%D8%B0%D9%87%D9%86%D9%8A%D8%A9%20%D8%BA%D9%8A%D8%B1%20%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%AF%D8%B1%D9%83%D8%A9%20%D8%A8%D8%A7%D9%84%D8%AD%D9%88%D8%A7%D8%B3.

[3] https://www.medicoverhospitals.in/ar/articles/complexity-of-the-human-nervous-system#:~:text=%D8%B9%D9%84%D9%85%20%D8%A7%D9%84%D8%A3%D8%B9%D8%B5%D8%A7%D8%A8%20%D9%87%D9%88%20%D9%81%D8%B1%D8%B9%20%D9%85%D8%AB%D9%8A%D8%B1,%D8%A7%D9%84%D8%B9%D9%84%D8%A7%D9%82%D8%A9%20%D8%A7%D9%84%D8%BA%D8%A7%D9%85%D8%B6%D8%A9%20%D8%A8%D9%8A%D9%86%20%D8%A7%D9%84%D8%AF%D9%85%D8%A7%D8%BA%20%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%84%D9%88%D9%83.

[4] https://ar.wikipedia.org/wiki/%D8%B3%D9%8A%D9%85%D9%8A%D8%A7%D8%A6%D9%8A%D8%A9_%D8%AD%D9%8A%D9%88%D9%8A%D8%A9#:~:text=%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%8A%D9%85%D9%8A%D8%A7%D8%A6%D9%8A%D8%A9%20%D8%A7%D9%84%D8%AD%D9%8A%D9%88%D9%8A%D8%A9%20(%D8%A8%D8%A7%D9%84%D8%A5%D9%86%D8%AC%D9%84%D9%8A%D8%B2%D9%8A%D8%A9%3A%20Biosemiotics),%D9%88%D8%B9%D9%85%D9%84%D9%8A%D8%A7%D8%AA%20%D8%A7%D9%84%D8%A7%D8%AA%D8%B5%D8%A7%D9%84%20%D9%81%D9%8A%20%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%AC%D8%A7%D9%84%20%D8%A7%D9%84%D8%A8%D9%8A%D9%88%D9%84%D9%88%D8%AC%D9%8A.

[5] Francia | The Daily Digest |

[6] Wikipedia

[7] Courts-circuits, Etienne Klein, Gallimard 2023.

[8]  على سبيل الذكرJules Vernes روايات الكاتب الفرنسي جيل فيرن

[9] https://www.bozar.be/fr/regardez-lisez-ecoutez/la-naissance-du-surrealisme#:~:text=Le%20terme%20%C2%AB%20surr%C3%A9alisme%20%C2%BB%20fit%20son,ressemble%20pas%20%C3%A0%20une%20jambe.

[10] Ibid, Etienne Klein.

[11]https://www.alaraby.co.uk/culture/%D8%A7%D9%84%D8%AE%D9%8A%D8%A7%D9%84-%D9%81%D9%8A-%D9%86%D8%B8%D8%B1-%D8%A7%D8%A8%D9%86-%D8%B9%D8%B1%D8%A8%D9%8A-%D8%B3%D8%B1%D9%91-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%A7%D9%84%D9%85-%D9%88%D8%AD%D9%82%D9%8A%D9%82%D8%AA%D9%87

 

رواية أحمد فال الدين الخيالية عن مُفكّر القرن الثاني عشر تدعو إلى إعادة تفسير عصرنا

بقلم: أسلم فاروق علي

ترجمة: د.محمد عبدالحليم غنيم

***

بعد أكثر من شهرين من العمل الشاق، يقف أخيرًا رجل في منتصف العمر بملابس ممزقة وأقدام تنزف أمام أبواب المدينة القديمة. مظهره المنهك يكذب الهدوء الذي يشعر به في الداخل، ويصل إلى أعماق روحه. "كم من الوقت يجب على المرء أن يسافر ليجد نفسه؟" ويتساءل: لماذا كان من الضروري القيام بهذه الرحلة لمجرد الانتقال من جانب من القلب إلى الجانب الآخر؟ يحدق الباحث برهبة في أسوار دمشق المهيبة، التي تحظى بالتبجيل لإبعاد جحافل الغزاة التي وقفت أمامها في حصار لمدة 20 عامًا طويلة. ولكن للأسف، أدرك أنه "لا يوجد جدران أكثر مناعة للاختراق من جدران القلب!" وهل سيذكر التاريخ شخصًا جاهد لمدة عشرين عامًا حتى ينفتح قلبه أخيرًا للنور؟

مع هذا المشهد الافتتاحي المغري، تأخذ رواية أحمد فال الدين الأخيرة القارئ في رحلة إلى العالم الداخلي لواحدة من أكثر الشخصيات شهرة في التاريخ الإسلامي: الفيلسوف والعالم الروحي في القرن الثاني عشر، أبو حامد الغزالي. فال الدين هو مراسل مخضرم لقناة الجزيرة، لكن اهتمامات الكاتب الموريتاني تمتد إلى ما هو أبعد من غرفة الأخبار وتتعمق في الأرشيف، حيث تربط بين الحاضر والماضي. "دانيشماند" ("السيد الحكيم") هو كتابه الخامس؛ كان كتابه الأول – الذي نُشر في عام 2012 – عبارة عن سيرة ذاتية عن سجنه في زنازين سجن معمر القذافي خلال الربيع العربي. (الترجمة الإنجليزية، "في براثن القذافي، تم نشرها للتو من قبل دار عرب في المملكة المتحدة). أعقب مذكرات عام 2012 روايتين في تتابع سريع، نُشرتا في عامي 2018 و2019. وفي عام 2021، عاد فال الدين إلى جذوره الصحفية ونشر مقالًا بطول كتاب عن صعود وسقوط حركة طالبان في أفغانستان.

لطالما اعتبر الشعر مستودعاً للذاكرة التاريخية العربية. إنه "ديوان العرب". لا يزال الشعر يحظى بتقدير كبير بين الناطقين باللغة العربية، إلا أنه لم يعد الشكل السائد للتعبير الأدبي. إن مواجهة العالم العربي مع الحداثة لم تقدم أشكالًا جديدة للحياة فحسب، بل أيضًا أشكالًا جديدة للتعبير الأدبي، وقد اكتسبت الرواية التاريخية مكانة بارزة بسرعة في الأدب العربي الحديث. لقد تبنى الكتاب العرب المعاصرون بشكل متزايد هذا النوع من الأدب لإعادة النظر في الماضي، لكنها تجد أفضل تعبير لها عندما يتم استخدام إعادة التصور الإبداعي للماضي بشكل فعال لتحفيز التفكير وإلقاء الضوء على  الحاضر.

مع "دانيشماند"، يعود فال الدين مرة أخرى إلى هذا النوع من الخيال التاريخي ويعيد تصور فصل مضطرب من الماضي الإسلامي بطريقة تجعلنا نفكر في مأزقنا الحالي. في غزوته الأولى – “الحدقي” (2018) – استكشف فال الدين حياة وعصر العالم الموسوعي العراقي أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ الذي عاش وكتب في العصر الذهبي العباسي في القرن التاسع.. لا يزال الجاحظ يحظى بالاحترام والقراءة على نطاق واسع في العالم العربي اليوم، لكنه يظل شخصية غامضة في الأوساط الأدبية الناطقة باللغة الإنجليزية، ولا يحظى إلا باهتمام مجموعة صغيرة من الأكاديميين والباحثين في الأدب العربي.

في المقابل، يمكن القول إن الغزالي هو أحد أكثر الشخصيات التي تم التدقيق فيها في التراث الفكري الإسلامي ويحظى بشهرة مماثلة في الغرب. تُرجمت أعماله ودُرست في العالم المسيحي اللاتيني، ورغم أنه لحسن الحظ ليس واحداً من المسلمين الخمسة المحتجزين في الجحيم في "الجحيم" لدانتي، فقد تم ذكره في "Convivio"، وهو تأمل الشاعر الفلورنسي حول مختلف مجالات المعرفة السائدة في عصره. يُعتقد أن ديكارت رينيه، أبو نظرية المعرفة الحديثة في القرن السابع عشر كان يمتلك ترجمة لاتينية لسيرة الغزالي الذاتية، “الخلاص من الخطأ” ("المنقذ من الضلال")، والتي تم شرحها بخط يده.وعلى هذا الأساس، اقترح مؤرخو الفلسفة أن الفكر الإسلامي أثر على الفلسفة الأوروبية إلى ما هو أبعد من العصور الوسطى وعصر النهضة. ولا تزال كتب الغزالي تحظى بانتشار واسع، وقد كتبت دراسات لا حصر لها عن حياته وفكره، بما في ذلك الروايات (باللغتين العربية والفارسية). ويضيف فال الدين الآن إلى هذا الإرث المحترم عملاً آخر من الخيال التاريخي، تم تأليفه بعناية في نثر عربي بارع.

بصرف النظر عن المقدمة الأولية التي تدور أحداثها في منتصف القصة، على حافة المهمة الوشيكة، فإن الكتاب يتكشف بتسلسل زمني، متتبعًا مسار حياة الشاب اليتيم محمد، من الشوارع المتربة لبلدة طبران الصغيرة. في منطقة طوس، في خراسان في القرن الثاني عشر، إلى المراكز الرئيسية في نيسابور وأصفهان بغداد ودمشق والقدس. يتبع السرد المتكشف في النهاية طريق العودة إلى المثوى الأخير للسيد الحكيم في مسقط رأسه في شمال شرق إيران، وليس بعيدًا جدًا عن مشهد الحالية.

يبدأ الجزء الأول من الرواية – “اليتيم” – بصبيين صغيرين، محمد وأخيه أحمد، اللذين يكافحان من أجل البقاء مع والدتهما التي ترملت مؤخراً. ترك والدهما ميراثًا صغيرًا لتعليم الأولاد لصديق مخلص، لكن هذه الأموال استنفدت واستدعاهما  الرجل المحتضر لمناقشة مستقبلهما. يأسف صديق العائلة لأنه لا يستطيع إعالتهما بنفسه بسبب حالة الفقر المدقع وتدهور صحته. ومع ذلك، فقد وجد طريقة لتلقي الولدين تعليمًا دينيًا، وهو التعليم الذي سيوفر لهما ماديًا ويحقق رغبة والدهما المتوفى في أن يصبح أبناؤه علماء. يقوم بترتيب تسجيلهما في مدرسة دينية توفر الطعام والسكن والملبس لطلابها. وفي عطلات نهاية الأسبوع، يتمكن الولدان من زيارة والدتهما، التي أصبحت الآن مرتاحة من عبء إعالة ولديها. إن الذكاء المذهل الذي يتمتع به الشاب محمد يميزه على الفور عن أقرانه، ويتنبأ معلموه بمستقبل مشرق له. وبمرور الوقت، تمكن محمد من الحصول على منحة دراسية للدراسة في المدرسة النظامية الكبرى في نيسابور، على يد أحد أبرز علماء العصر، أبو المعالي الجويني.

في الجزء الثاني من الرواية - "الدانشماند" ("المعلم الحكيم") - كبر الطالب المبتدأ ليصبح عالمًا عظيمًا بدأت سمعته تنافس سمعة أستاذه الجويني الذي توفي مؤخرًا. وقد لفت نجاحه انتباه الوزير السلجوقي الكبير أبو علي حسن بن علي الطوسي، المعروف باسم نظام الملك ("منظم العالم")، مؤسس وراعي المدارس النظامية التي تحمل اسمه. وهكذا ينجذب الغزالي إلى عالم السياسة ومكائد البلاط. الخليفة في بغداد ليس أكثر من شخصية اسمية: فالسلطة الحقيقية تكمن في يد السلطان السلجوقي مالك شاه، ابن العظيم ألب أرسلان. خدم نظام الملك ألب أرسلان وتعهد بالولاء والخدمة لوريث السلطان المقتول البالغ من العمر 19 عامًا. والآن، بعد مرور ما يقرب من عقدين من الزمن، أصبح العالم السلجوقي آمنًا نسبيًا وأصبح نظام الملك في ذروة نفوذه. ومع ذلك، هناك دائمًا متظاهرون بالعرش، وطائفة القتلة الباطنية القوية بقيادة حسن الصباح الغامض - رجل الجبل العجوز - مصممة على اغتصاب السلطة من السلاجقة. القتلة هم من الإسماعيليين الشيعة – الموالين للخليفة الفاطمي في القاهرة – وعاثوا فساداً في الشرق الإسلامي من خلال حملة منسقة من القتل، استهدفت القادة والعلماء.

حتى الآن، انضم الدانشماند إلى حاشية الوزير الأعظم، وكتب كتاباً يفند عقيدة الإسماعيليين وعمل كمبعوث للبلاط في مناسبات عديدة. يعين نظام الملك  الغزالي للتدريس في المدرسة النظامية في بغداد – أهم مدارسه – الواقعة في العاصمة الثقافية والفكري للعالم الإسلامي وعلى مقربة من بلاط الخليفة السني. دخلت الإمبراطورية السلجوقية في حالة من الفوضى بعد ذلك بوقت قصير، عندما اغتيل نظام الملك في شهر رمضان عام 1092. وأعقب مقتله الوفاة المفاجئة للسلطان مالك شاه بعد شهر. يتم جر أبناء مالك شاه على الفور إلى معركة ضروس على العرش، وينجذب الغزالي عن غير قصد إلى صراعهم على السلطة، حيث يعمل كمبعوث بين الورثة المتنافسين وأمهاتهم والخليفة.

وعندما توفي الخليفة بعد ذلك بعامين، تخلى الغزالي فجأة عن منصبه التدريسي وهرب إلى المنفى الاختياري. وهكذا يبدأ الجزء الثالث من رواية «الهارب» باستبدال العالم الشهير ثياب البلاط الفاخرة بالملابس الخشنة للمسافر الزاهد، منطلقًا على طريق دمشق وفي الوقت نفسه متخذا الخطوات الأولى نحو اكتشاف الذات. وهكذا ينطلق الجزء الثالث من حيث بدأت الرواية، وأصبح لدينا الآن فكرة أوضح عن سبب إشارة المؤلف إلى المقدمة على أنها ولادة جديدة ("الميلاد الثاني").

وفي الجزء الرابع – "الناسك" – نرافق الباحث وهو يتنقل في دروب روحه المكتشفة حديثاً. وفي الجزء الختامي من الرواية – "بقلب سليم" – نعود إلى طبران، المثوى الأخير للدانشمند. لم يجد المعلم الحكيم الرضا فحسب، بل الأهم من ذلك أنه ترك وراءه ميراثًا فريدًا، وهو دليل على الطريق الذي يؤدي إلى السعادة. وقد ساعدته إقامته الروحية على إنتاج أعظم ما أبدع، وهو عمل عبقري طموح بعنوان:("إحياء علوم الدين").

إن رواية فال الدين عمل ضخم يمنح المرء وقفة كبيرة للتفكير. إلى جانب النثر العربي الغنائي، يتميز الكتاب أيضًا بالوصف الكثيف الشائع في الأنثروبولوجيا الاجتماعية، حيث يستكشف معنى أحداث الحبكة بالنسبة لشخصياتها. إن روايته الإبداعية لقصة حياة الغزالي هي أيضًا وفية جدًا للتاريخ الموثق لحياة العالم العظيم وزمنه.لا يحتاج المرء إلا أن يلجأ إلى دراسة فرانك جريفيل الممتازة "لاهوت الغزالي الفلسفي" ليتعرف عليها. يقدم لنا الفصلان الأولان من كتاب جريفيل الوصف الأكثر تفصيلاً للشخصية التاريخية، بالاعتماد على مجموعة متنوعة من المصادر باللغتين العربية والفارسية، وهي اللغتان التي كتب الغزالي وتحدث بها.

يقوم فال الدين بتزيين السرد التاريخي من خلال الاهتمام الرائع بالتفاصيل، وتصويره للملابس والأعراف الاجتماعية وثقافة الكتاب وممارسات الطهي يعتمد على المصادر التاريخية وقصص الرحلات المكتوبة في الفترة التي تدور أحداث الرواية فيها. على سبيل المثال، تظهر السمبوسة في مأدبة رمضان التي أقامها نظام الملك قبل وقت قصير من اغتياله. ظهرت هذه المعجنات المثلثة المحشوة باللحم المفروم، والتي ترتبط شعبيًا الآن بالمطبخ الهندي، لأول مرة في التاريخ الفارسي "تاريخ البيهقي" ("قصة البيهقي") للمؤرخ الخراساني أبو الفضل البيهقي في القرن الحادي عشر.

وفي حين أن الرواية تنير بالتأكيد فهمها للتاريخ الاجتماعي، فإنها تذهب إلى أبعد من ذلك بكثير، وتقدم منظورًا تنويريًا لفلسفة التاريخ أيضًا. يتعارض فال الدين مع الفكرة الشائعة للتاريخ باعتباره يتكشف على طول سلسلة متصلة واحدة تؤدي إلى نظام اجتماعي مثالي.في حين أن فكرة "نهاية التاريخ" هذه قد دافع عنها ونشرها فرانسيس فوكوياما في الآونة الأخيرة، فإن التقليد يمتد إلى الفيلسوف الألماني في أوائل القرن التاسع عشر جورج فيلهلم فريدريش هيجل وروايته ذات الأسس الفلسفية للتاريخ الخطي، والذي ينتهي عند  النقطة التي يصل فيها المجتمع إلى ذروته وتكتمل الحضارة.

بدلاً من ذلك، يؤكد التوجه السردي للرواية بقوة على المفهوم الدوري للتاريخ، وهي نظرية عبر عنها بوضوح عبد الرحمن بن خلدون، مؤرخ القرن الرابع عشر والمنظر الاجتماعي. وقد ذكر ابن خلدون بشكل مؤثر أن "الحضارة تضر بالتنمية المجتمعية". انبثقت هذه الرؤية الفريدة من إدراك أن الثراء المادي المطلوب لتعزيز السعي لتحقيق التقدم وتطور الحضارة سيكون دائمًا حكرًا حصريًا على النخب القوية. إن تكديس الثروات الكبيرة من قبل هذه النخب يصاحبه حتماً الرغبة في الحفاظ على الحقوق الحصرية لهذه الثروات،وعلى هذا النحو ستظل الجماهير دائمًا مهملة في البرد. وبناء على هذه الرؤية، يرى ابن خلدون أن مسار التاريخ دوري. تصل الحضارات القوية إلى ذروتها ولكنها تنهار في النهاية لأن الكثير منها قد تخلف عن الركب في طريقها إلى السلطة.

في زمن الغزالي، كانت الحضارة الإسلامية لا تزال في صعود، والتناقض بين سياق الرواية وسياقنا يقدم نسخة مقنعة من الدورة الحضارية. إن حقيقة قدرة فال الدين على إعادة تصور الماضي بطريقة إبداعية بطريقة تحفزنا على التفكير في الحاضر ليست فقط مؤشرا قويا على نضوج نوع الرواية التاريخية في الأدب العربي المعاصر، ولكن أيضًا اعتراف بإتقان المؤلف لمهنته. وليس على فال داين أن يعرب علناً عن أسفه لسقوط الحضارة الإسلامية من الرقي؛ بل إنه يقدم صورة مقنعة لما كانت عليه الحال في عصر الغزالي.

في الرواية، تتربع النخب العربية والفارسية على قمة التسلسل الهرمي الاجتماعي، مع اندماج الطبقات العسكرية التركية بسرعة في هذه الرتب. تتكون الطبقات التابعة من الجواري البيزنطيات اللاتي يتم تقديرهن لجمالهن وإعدادهن للخدمة، على غرار خصيان البلاط الذين تم إخصاؤهم في الأراضي المسيحية وبيعهم كعبيد ليتم تدريبهم كبيروقراطيين وحارمين لحريم الرجال الأقوياء. وعلى نحو مماثل، فإن جحافل العنف التي تهدد المملكة هم البرابرة البيض في أوروبا الذين حشدهم البابا أوربان الثاني وجماعته من المتعصبين الدينيين، وانطلقوا لاستعادة القدس من أجل عقيدتهم. هذا التصوير لجحافل البرابرة الأوروبيين - المشهورين بإراقتهم للدماء ونفورهم من الاستحمام - وهم يسيرون نحو القدس عبر القسطنطينية، حيث كان المسيحيون أكثر تحضراً بكثير، يشكل خيطاً سردياً مقنعاً يينظم المجتمع في تسلسل هرمي حضاري محدد بوضوح.

لقد شعر الغزالي بمساوئ الحضارة العالية، خاصة فيما يتعلق بأقرانه من العلماء الذين يتنافسون على الاهتمام ومكانة البلاط. وتسبب انغماسهم في الملذات والأنشطة المادية في اضطراب روحي. لقد تم اختزال "الشريعة" أو القانون الإسلامي المقدس إلى ما لا يزيد عن القانون الوضعي "الفقه"، وهو فقه نفعي تحدده الحيل القانونية والمرونة التأويلية.وبتعبير بلغة عصرنا، فإن الإسلام الذي يرى الغزالي أن أقرانه يمارسونه قد أصبح علمانيًا فعليًا.

لقد زعم الفيلسوف الكندي تشارلز تايلور بشكل مقنع أن الحداثة يتم تعريفها من خلال إطار جوهري، أي رفض معالجة مسائل تتجاوز العالم الحسي، وهذا يعني أننا نعيش في عصر خال إلى حد كبير من أي أساس متعال. وبعبارة أخرى، فإن وجودنا يهيمن عليه الزمن العلماني. ولذلك يرى تايلور أن المجتمع الحديث يتم تعريفه من خلال الأفقية الجذرية، حيث لا توجد نقاط عالية وحيث لم نعد متجذرين في "شيء آخر".

كما طور الغزالي وعيًا شديدًا بأن العالم من حوله كان يتسطح، وبالتالي سعى إلى الخلاص من خلال محاولة إعادة الاتصال بالإله. ومن وجهة النظر هذه، تمثل رحلته عبور حدود الزمن العلماني والعودة إلى عالم الزمن المقدس الأعلى، ولهذا السبب يشير بشكل ملائم إلى النظام الإسلامي الجديد الذي صيغ في تحفته باسم علم الطريق إلى الآخرة" ("علم الطريق الآخرة").

لم يكتب فال الدين مجرد عمل من الخيال التاريخي. من خلال التوثيق الخيالي لقصة حياة أحد أبرز حكماء التراث الفكري الإسلامي، فقد أخذنا بشكل فعّال مع الغزالي في سعيه الروحي. خلال هذه الرحلة، نتعلم أنه حتى العمل الخيالي قادر على عبور حدود الدنيوي المدنّس ويوصلنا إلى عالم المقدس.

(تمت)

***

..................................

أسلم فاروق علي/ Aslam Farouk-Alli: أسلم فاروق علي، دبلوماسي ومترجم، يقوم بإلقاء محاضرات في الدين والدراسات التاريخية واللغة والأدب.حاصل على درجة الماجستير في جامعة كيب تاون كما حصل على درجة الماجستير في الترجمة العربية من جامعة جنوب أفريقيا. ترك العمل الأكاديمي للقيام بوظيفته كدبلوماسي في الخدمة المدنية في جنوب إفريقيا. وهو مؤلف العديد من المقالات وترجم ثلاثة كتب من العربية إلى الإنجليزية.

 

دِراسةٌ نَقديَّةٌ لِمدوَّنةِ عَلي عُبَيد القِصصيَّةِ (لُغةٌ الأَرضِ)

مِهَادٌ تنظيريّ:

لا شكَّ أنَّ لكلِّ دراسةٍ ثقافيةٍ جادةٍ، مَفاهيمَها الخاصَّة والعامَّة في حركة التشغيل النقدي، ومن مفاهيم مركزيَّة التشغيل الثقافي الحداثوي بهذه الدراسة النقديَّة الخاصَّة مفهومانِ رئيسان ومهمَّانِ، الأوَّل، مفهوم (الأنساق) بقسميها الظاهر المتجلِّي، والمضمر الخَفي القريب والبعيد، والثاني، مفهوم (الثقافةُ) بشقيها العام والخاصّ الأدبي الواسع شعراً وسرداً. والَّلذانِ يُشكِّلان خزيناً معرفياً ثرَّاً، ومرجعاً ثقافياً واعداً يرفدان به شخصية الكاتب الإبداعية المنتجة في شتَّى ضروب ثقافة المعرفة.

ولِتقريبِ معنى هذين المفهومين المتلازمين، لا بُدَّ من التمييز المعرفي الابستمولوجي والكشف عن هُويَّة الآخر من هذه الأنساق الثقافية المرتبطة ارتباطاً وثيقاً بفقه لُغة اللِّسانيات عند رائدها دي سوسير، وبالمناهج النقديَّة الحديثة بنيويَّاً وسيميائيَّاً وأُسلوبياً وتفكيكياً على أساس نقدي ثقافي حداثوي، وليس على أساس تواتر النقد الأدبي التقليدي المعروف. هذا النقد الثقافي النسقي الجديد الذي أثَّثَ له ووضع مفاهيم أسسه في عالمنا العربي الناقد والمفكِّر الدِّكتور عبد الله الغذَّامي.

ومفهوم (النسقُ) في المناهج النقديَّة النسقية الحداثوية التي تهتمُّ بتمظهرات البنية الشكليَّة للنص، التركيب اللُّغوي يأتي في حدِّه مُقابلاً لمفهوم كلمة (النظامُ) العربيَّة، أو كلمة (سِستِمٌ) أو السِّستِمُ باللُّغة الإنكَليزية. ويُشير معناه إلى أنَّه نظام استقلالي قائم بذاته الوجودية، ويُشكِّل في تأسيسه الحدِّي كُلاً ذاتياً مُوحَّداً. ويشير في المعاجم الفلسفية كما يُعرِّفه أُستاذ الفلسفة مراد وهبة جبران صفحة (734) في كتابه الموسوم (المُعجم الفَلسفيّ)، النسق، بأنَّهُ "عبارة عن عناصر تترابط فيما بينها وتُحدِث فعلاً ما. هذه العناصر تتأثَّر بوجودها في النسق، وتتغيَّر بخروجها منه". فالترابط شرطها الأساس.

ثُمَّ يُضيف وهبة موضِّحاً بداية تكوين النسق من خلال تحديد الغاية منه وتحديد حدوده، ثُمَّ يتبعه التفكير في الأنسقة الفرعية الأخرى. وفي الوقت ذاته يُشير عبد الله الغذامي صفحة (80) في كتابه (النقدُ الثقافيُّ) إلى استخدام كلمة (النسقُ) مُجملاً في الخطاب العام والخاصِّ، ويشيع استخدامها في الكتابات كثيراً إلى درجة قد تُشوَّهُ دلالتها القصديَّة في هذه الكتابة التي انتشرت فيها. أي أنْ الغذامي بقدر ما هو فَرِحٌ بشيوعها وانتشارها السريع فإنَّه ينبِّه إلى سوء استخدامها غير الصحيح.

أمَّا مفهوم (الثقافةُ) التي يقصدها النُّقاد الحداثيون، ويتوخَّاها ما بعدهم في خطِّ الحداثة، فهي في نظرهم تقانةٌ فنيَّة من تقانات الممارسات الفعلية والفاعلية الدالة والمُعبِّرة التي تقوم على إجراء تطبيقٍ لمفاهيم التحليل النفسي والسلوكي المُختلفة . وعلى وفق ذلك فإنَّ عبد الله الغذامي قد اتَّخذ من مفهوم (النسق) مفتاحاً أساسيَّاً مركزيَّاً مهمَّاً لمشروعه الثقافي ولمصطلحاته النقديَّة الجديدة.

ويعدَّه في الوقت ذاته منتميَّاً أو ينتسب لمفهوم (الثقافة)، وهذا يشي بأنَّ النسق الثقافي هو المصطلح الجوهري البؤري الذي أقام عليه الغذامي أُسَ مشروعه التشغيلي النقدي الثقافي؛لذلك كان حريَّاً بنا من تحديد مفهوم حدِّ (الثقافة) ومعرفة دلالاتها وأبعادها القريبة والبعيدة؛ ليتسنى لنا معرفة المفهوم الكلِّي المُوَحْدَن لجملة مصطلح (النسقُ الثَّقافيُّ) الذي وضع أُسسه البنائية الغذامي في نقده الثقافي.

فهذه المفاهيم التعريفة لحدِّ مفهوم (النسق الثقافي) تُحيلُنا في هذه التوطئة المِهاديَّة التَّظيبرية إلى مفهوم (النقد الثقافي) عند الغذامي المُوئِل المؤسِّس الذي يسعى فيه كثيراًبقصدياته الثقافية وتنظيرات كتبه إلى الكشف عن مُضمرات النصّ الأدبيّ وبيان مُعمياته الغيبية الخفية، والقبض في حفريَّاته على لُقى جمراته الخفية خلفَ تَمظهرات الخطاب الأدبي الظاهر والعمل فعلياً على إبطال الخطاب المؤسساتي المُخدِّر لوعي القارئ وفكره. ومن ثُّمَّ الدعوة إلى الاهتمام بكل ما هو مستور ومهمَّش مُغيبٌ ومجهولٌ عن الأنظار، وكشف التعبير في سلوكيات الثقافة النسقية التي هي محطُّ أنظار واهتمام النقد الثقافي الحداثوي التي لم يلتفت إليها النقد الأدبي التقليدي المشهور في الإرث الأدبي.

مَنهجُ المُدوَّنةِ النَّقديةِ الثَّقافيّ

ومثلما أنَّ النقد الأدبي في رأي رولان بارت النقدي يُشبِهُ الثقافةَ، بل قد يكون مثابةً مضيئةً من مثابات الثقافة الساطعة، فإنَّ كلاً من الشعر والسرد يُمثِّلان جنساً من الأجناس الأدبية المتاحة، ونوعاً مميَّزاً من أنواعها الفريدة المتعدِّدة. ويمكن اعتبارهما مُعادلاً مُوضوعياً مُهمَّاً وراكزاً لمفهوم الثقافة العام ؛ لكونهما يمكن أنْ يَحُلَّا محلَّ الثقافة ويعملان عملهما المحوري في الخطاب الأدبي.

ومن خلال هذا التعالق الفكري المتَّحد بين مفهومي فضاء (الأدب والثقافة)، أي بين مِهماز الأنساق الثقافيَّة الشِّعريَّة، ومِهماز الأنساق الثقافية النصوصية الأدبية السردية نستطيع أنْ ننفذَ إلى مركزيَّة التشغيل السردي بتؤدةٍ وإلى محورها الثقافي في دراستنا النقدية التأمليَّة لِعِلي حُسين عُبيد القصصية الموسومة بلافتتها العنوانية (لُغةُ الأرضِ)، ونتقفَّى بوعيٍ آثار أنساق سردياتها الثقافية الخفية والمتجلِّية، ونجوس خِلالَ الدِّيارِفيها استقصاءً وتردُّداً وحراثة فكريةً وعمليةً بتقانة مسبار الحقيقة المستترة، وسونار غواص البحث عن الصدفات الباطنية الثمينة والعميقة الماكثة في النصِّ.

فغاياتنا النقديَّة عبر أثير مجسَّاتنا النقديَّة الكشف عن جذوة جمرات النصوص القصصيَّة الملتهبة، وتحديد تمظهرات المناطق العَيبيَّة المُستقبَحَة التي تقف بمثاباتها الشامخة القَصِيَّةِ البعيدة، وربَّما القريبة خلفَ جماليات النصِّ السردي بأقنعتها الرمزية المُزيَّفة الظاهرة التي تُعطيك بموحياتها المتجلِّية من طَرف السواتر النصيَّة حَلاوةً وجمالاً نسقياً أدبياً آسراً لذائقة المتلقِّي العادي غيرالناقد.

ومن الخَطلِ جدَّاً أنْ ننظرَ إلى ظواهر النصِّ على أنَّها جواهر، مُستبدلينَ الجيمَ هاءً، والهاءَ جِيماً، وأن نكتفي بها دون أن نتعمَّقَ في مكنونات بواطنها الداخلية المغيَّبة الحقيقية؛ لأن العلاقة الخطية بين الظواهر والجواهر النصيَّة عَلاقة تضليليةٌ مُخدِّرةٌ لا تنمُّ عن صدق حقائق المكنونات وجواهرها النفسية المؤثِّرة الأصيلة؛ بل قد تُعطيك مؤشِّراً حقيقياً سلبيَّاً راسخاً في وجوديته الثابتة. هكذا تبدو مظاهر القصِّ السردي، لم تكنْ دائماً مرآة صدقٍ عاكسةً لحقيقة راهن عقابيل الواقع الجوهرية.قد تكون الظواهر النصيَّة الشكليَّة جميلةً للقارئ؛ لكنْ في بواطنها الخفيَّة المستترةِ فَاسدةً.

هَندسةُ مِعماريَّةِ المُدوَّنةِ القِصصيَّةِ

 (لُغةُ الأرضِ)، هذه المُدوَّنة القصصية الطويلة الدالة على بسالة عتبتها العنوانية الفنيَّة الانزياحيَّة المؤنسنة غير المألوفة في تركيب بنيتها اللُّغويَّة للقارئ، والتي أنتجها القاصُّ والروائيّ الكاتب العراقي المثابر عليّ حُسين عُبيد. وهي المجموعة القصصيَّة الفائزة بجائزة الطيِّب صالح العالميَّة للقصَّة، الدورة التاسعة (2018)، والصادرة بطبعتها الأولى عام (2021م) عن دار الفؤاد للنشر والتوزيع بمصرَ، وبحجم نوعي وكمي من القطع الورقي المتوسِّط والذي بلغ نحو (148) صفحةً.

وقد احتوت طياتها القصصية على أربعة عشر نصَّاً قصصياً طويلاً في سمت تسريده الحكائي الفنِّي، وجاء خطابها التسريدي النصِّي متنوِّعاً في وحداته الموضوعية، ومتجدِّداً في أفكاره القصصية الماتعة. وقد مازج الكاتب فيها بين العنوانات الفنيَّة الآسرة، والكاسرة لأفق توقُّ القارئ والمتلقي، وبين العنوانات التقريرية الحِسيَّة المُباشرة في التلقي دونَ عناء أو نَصَبٍ في فهمها وعُسرٍ في تفسيرها وتأويلها. وقد أنصف القاصُّ والرائيّ علي حُسين عُبيد بعدالةٍ موضوعيةٍ وحيادية ثابتة بين جماليات عنواناتها الانزياحية الفنيِّة والتلقائية المباشرة، فكانت الحصيلة الإنتاجية لكلتا الفئتين سبعة عنواناتٍ لكلِّ صنفٍ من قصص الفئتين المتعادلتين في التناظر العددي والنوعي.

والقارئ النابه المُتتبع بخطىً نقديةٍ وفكريةٍ واعيةٍ لمحتويات نصوص هذه المجموعة القصصية الموضوعية المتعدِّدة تميُّزاً بثراء فكرها، وإيقاع أسلوبها التعبيري الفني المتوهّج إشراقاً وإضاءة، سيلتفتْ إلى نقطةٍ ضوئيةٍ جوهريَّةٍ محوريَّةٍ مُهمَّةٍ، وهي أنَّ المعادل الموضوعي والقاسم الفنِّي المشترك بين أفكار أو موضوعات المدوَّنة الأربع عشرة قصةً هو في جميع الحالات نسقٌ غيابي سحيقٌ بعيدٌ جداً واحدٌ، هو النسق (الإنساني) المضمر أو الخفي المستور خلف الحقيقة البعيدة. والذي يمكن أنْ نسمِّيه بشكل آخر نسق (الجامعة الإنسانية) الثقافي الذي هو نسق ثنائية (الحَربُ والسِّلمُ) .

وأنَّ أغلب ما يطرحه القاصُّ في سرديَّاته من حكاياتٍ قصصيَّة حقيقيةٍ أمْ مخياليةٍ ذي صبغةٍ عجائبيةٍ أُسطوريةٍ من رحم مُتبنَّيات وإسقاطات الواقع المعيش، هي تُمثِّل في بنيتها الشكلية النسق الثقافي القريب الظاهر الذي يتلقاه القارئ وجهاً لوجهٍ، ويفهمه بوضوح مباشر من مثابات واقعة النص الحدثية الموضوعية، وليس هو الخفي العميق المستتر الغائر البُعد في مكامنه القصديَّة.

أمَّا الذي يتوَّخَّاه الكاتب في مراميه الشريفة ومقصدياته الفكرية البعيدة المُضمرة، فهو السرُّ النسقي المنشود والغاية الذاتية العظمى لموحيات النسق الثقافي المضمر في فضح وقع وأسرار جماليات النصِّ المَعيبَة الشائنة، والرجعية المُستقبحة الباطنة التي يتخفَّى وراءها القاصُّ الرائيّ ويتقنَّع خلفها بقناع النصِّ الخفي بعيداً عن فلسفة مظاهرها الصوريَّة وأشكالها اللغويَّة المُباشرة.

ولعلَّ اللَّافت والمهمَّ في آليات النصِّ الحكائي لمجموعة (لُغةُ الأرضِ) الإنتاجية لا تظهر سماتها النسقية الإنسانية محصورةً بمفهومها الصريح الواضح (الجامعة الإنسانيَّة)، لقد تجاوزها إلى أوسع من ذلك إلى المعاني والدِّلالات في الألفاظ الأُخرى المجاورة التي تُشير مُوحيات رصها الرمزية المضمرة بتكثيفاتها اللُّغوية الملتقطة إلى المهمَّشين من الناس والمجهولين والمغيَّبين وقد يصحب ذلك التقطير المقموعونَ والمَسكوت عنهم بقصد أو غير قصدٍ في اليوتوبيا المثالية لمدينة القصِّ السردية الفاضلة، أو في ضدها عالم الديستوبيا لكل أشكال الرفض والاحتجاج والمناهضة والكفاح الثوري ضد طوارق الاستبداد والألم والمعاناة والظلم التي يستمدَّه الكاتب في فلسفته الإبداعية من الطوباوية المخياليَّة القصصية لمثابات واقع الراهن المعيش الذي لا يخلو من فضاء سحر الواقعية.

فكلُّ قصص هذه النتاجات السرديَّة ذات الأنساق الثقافية الإنسانية هي في الحقيقة أشكال ثقافةٍ ما مُعبِّرةٌ، ودالة على وقع مضانها الفكرية المتراتبة مثلما هي في المقابل الدلالي أشكال معانٍ إنسانيةٍ هادفةِ ما.ويصحب شكل ذلك التقطير اللِّساني الثقافي القريب تقطيرٌ إنسانيٌّ بعيدٌ، والَّذي من ماهيته الأُسلوبية الفنيَّة (التكثثيف والرمز والإيحاء والإيهام والإبهام والإضمار والاستتار) . وربَّما يكون الغموض المُبهم المقصود من صفاته الفنيَّة ورؤاه الفلسفية الفكرية والعقائدية الثوريَّة المُلحَّة.

عَتبَاتُ المدوَّنةِ القِصصيَّةِ

لقد دَرَجَتْ كُلُّ المدوَّنات الأدبيَّة والنصوص القصصيَّة بكلِّ ضروبها الإنشائية قاطبةً أنْ يكون لها في واقع الحال الإنتاجي عتبةٌ عنوانيَّةٌ ماثلةٌ هي بمثابة بوابة الدخول الأولى، أو نافذة المرور الضوئية الرشيدة والراشدة إلى مدينة الشعر أو السرد الفاضلة. وهي في الوقت نفسه تُعدُّ هالة النص الفناريَّة الرئيسة المُوازية لمرافئ النصِّ الضوئية الداخلية الفرعية الأخرى ولمحطاته، وبها يَستدِلُ القارئ على فكرة الخطاب النصِّي ويَستنطق منها دلالته المعرفيَّة المُضمرة والظاهرية.

ذلك كون العنونة تُشكِّلُ عنصراً وظيفياً مهمَّاً من عناصر الإدهاش وآليات التلقِّي القرائي. حيثُ ترصد العلاقة الخطيَّة المباشرة بين موضوعة الحدث ونهايته من طرف،وتجلِّياته منه طرف آخر. ولتأكيد ضرورة هذه المُتبنيَّات المعرفية والآراء النقديَّة، فإنَّ العنونة أو العتبات العنوانية قد تضيف بُعداً جمالياً ودلالياً جديداً إلى النصوص القصصية. وقد تكون هذه العنونة علامةً سيميائيةً وأيقونيةً وخلاصةً تفرديةً إيحائيةً تكثيفيةً كاشفةً لمسار القص وتوجُّهاته السردية المتفاوتة في المتن؛ لذا فإنَّ العنونة تكون علامة دالةً على جنس المحتوى القصصي القصير أو العمل الرِّوائيِّ الواسع الكبير.

لقد أخذنا بتأمُّلٍ من المفكِّر والناقد الفرنسي الكبير جيرار جينيت، بأنَّ لكلِّ نصٍّ أدبيٍّ له عتباته النصيَّة الأخرى، وله وظائفه العنوانية النوعية المتعدِّدة التي تميِّزه عن سواه من العنوانات أو العتبات الإنتاجية المتناظرة له. وحين نمعن النظر جليَّاً في طيَّات مجموعة الكاتب والقاص والرِّوائي العراقيّ علي حسين عُبيد القصصية (لُغة الأرض) المتعدِّدة لُغاتها السردية الأرضية بدوالِ كل عنونةٍ أرضيةٍ منها، لا نجد لها عتباتٍ (جينتية) أخرى تتصدَّرها غير ما هو ظاهر من فيها عتبة النصِّ العنوانية الرئيسة،وعتبات نظائرها النصوص القصصية الفرعية الداخلية للمدوَّنه.

وحتَّى صفحة (الإهداء) التي تتصدَّر المجموعة جاءت فارغةً بنقاطٍ بيانيَّةٍ بياضيَّةٍ خاليةً من بيانات المُهدَى إليه، وليس هناك من بياناتٍ أُخرى تُذكر، ولا حتَّى من أيِّ تصديراتٍ أو تناصَّاتٍ قوليَّةٍ نصيَّةٍ أُخرى تعضد فكرة المدوَّنة. وربَّما كانت فكرةً ذكيةً إلماحيةً من إبداع ووعي الكاتب أحال تتمتها إلى المتلقِّي أو القارئ ليضعَ اِسماً مُعيَّناً ما لرمزيَّة المُهدَى إليه الذي ربَّما هو الإنسان الرمز أو بنو آدم النسق الخفي المضمر في لغات أرض هذه المجموعة القصصية الذي كرَّمه الله عن بقية مخلوقاته الكونية المتعدِّدة بالعقل الراجح والفكر الواعي الثاقب واللِّسان اللَّفظي الحافظ.

ولكنَّ اللَّافت للنظر جدَّاً في هذه المدوَّنة الإنسانية الشائقة الفكر ومحتوى الموضوع (لُغةُ الأرض)، هو أنَّها تزيَّنت أو وُشِمَتْ بعبارةٍ تَذكِرةٍ خطيَّةٍ تُخبِرُ متلقيها بأنها (المجموعة القصصية الفائزة بجائزة الطيِّب صالح[الدَّولية]،الدورة التاسعة (2018) ) ؛لكي تكونَ هي الأيقونة التصديريَّة المُتفرِّدة لعتبات النصِّ السردي الأخرى، والتي تؤدِّي وظائفها الإنتاجية الدالة على أنساقها الثقافية المتعدِّدة.

وحين نستقصي البحث والتحليل والتعليل والتفسير في الكشف عن مُضمرات المعنى الدلالي والنسقي الثقافي القريب والبعيد لعبارة (لغةُ الأرض) العنوانية الرئيسة الماثلة على صفحة لوحة الغلاف الأول من المجموعة القِصصية ذاتها،؛ فسنجدُ لمعناها الانزياحي المؤنسن تفسيرينِ كاشفينِ لشفرتها اللُّغوية لا ثالث وسيط بينهما إلَّا القارئ النابه (الناقد) لممحتوياتها البيانية الثرة والمُبهرة.

فالأوَّل، يكمن في المعنى الدلالي القريب لكلمة (لُغة) الدالة على الرموز الصوتية، والتي وضع لها ابن جني من قُدَامى اللُّغويين تعريفاً يقترب من تعريفات نقَّادنا المحدثينَ، فقال: "أمَّا حدُّها فإنَّها أصواتٌ يُعبِّر بها كلُّ قومٍ عن أغراضِهم". إذن هي أصوات لُغوية مُعبِّرة أُسندت إلى المضاف أليه كلمة (الأرض) الثابتة من الجوامد غير الناطقة، فَاُستُنطِقَتْ وَأُنْسِنَتْ وأصبحت إنساناً كائناً حيوياً، له لُغته التُّرجمانيَّة المُعبِّرة عن أغراضه الحياتية، وأيُّ لُغةٍ مثل هذه اللُّغة الجامعة.

وأمَّا التفسير الثاني فهو المعنى الدلالي الخفي البعيد والذي هو مَناط التفسير والتحليل النقدي المُتعدِّد للنسق الثقافي المُغلق بحجاب الحقيقة النسقية هو (لغةُ الأرضِ)، لغةُ ثنائية المتضاداتِ (الحربُ والسَّلامُ)، (الحبُّ والفصامُ)، (الخيرُ والانتقام)، والرفضُ والقبولُ)،و (القاتل والمُقتولُ) .هي لغة الإنسان الفاعلة ابن هذه الأرض البار، ووليدها المعمِّر الإيجابي الغالب وعدوِّها المُدمِّر السِّلبي الضارب، والباني لعرش دولتها الكونية ورمزيتها الثقافية في هذا الوجود الإنساني الواسع الفضاء.

والأرض هي الأُمُّ، وهي الوطنُ الأسمى، وحبُّ الحبيب المألوف الأول الأوفى، ومنبت العشق الإنساني الرافض لديستوبيا كلَّ أشكال الظُّلم والفوضى والخراب والدمار والفساد الذي يُهدِّد بالموت والزوال والتلاشي. فلولا الإنسان صنيعها لِمَا ازدهرت الأرضُ، ولولا الأرض لما تكلَّم الإنسان معرباً بها عن مقصدياته؛ فهي امتناع حقيقي لوجود، ووجود لامتناع لا يحدث إلَّا بها.

فالعلاقة الخطيَّة النسقيَّة المغشيَّة بينهما علاقة عشقٍ إنسانية، وصرخةٌ مُتوحدنةٌ ترفض لغة الذُّل والتحقير والتصغير والامتهان؛ وتعشق لُغة الحُبِّ والتكريم والتبجيل والإباء والإحسان؛لذلك أحسن القاصُّ علي حسين عُبيد مُهمَّة تشييد مِعمارها البنائي التركيبي واختيار صرحها العنواني الرئيسِ.

وفي واقع الأمر أنَّ لافتة (لغةُ الأرضِ)، هي إحدى عتبات النصِّ الموازي وهالته السحريَّة الوامضة، وقصةٌ فرعيَّة من قصصه النصيَّة الداخليَّة؛ بيدَ أنَّ الكاتب علي حسين عُبيد قد اتَّخذها عتبةً عنوانيةً أوليَّةً رئيسة لهذه المجموعة القصصيَّة. وذلك من باب نافلة التغليب والتميُّز والفرادة والتَّحبيب بإطلاقِ اسمِ الجزء الفرعي الثانوي على الكُلِّي القصصي العنواني الرئيسِ التصديري.

ومن موحيات هذه العنونة الكليَّة المُتفرِّدة في جمالية استنطاق نسغها الروحي واللُّغوي الألسني الإنساني، أنَّ القاصّ عُبيد قد أراد من هذه العتبة العنوانية أنْ تكون مثابةً نسقيةً واعدةً، ودالةً سيمائية إشاريةً مضيئةً لامعةً من مثابات النقد الثقافي تَصلحُ أنْ تكون هي المعادل الموضوعي الإنساني الناطق بصوت الحقِّ المدوِّي بالإنابة عن كلِّ حكايات القصصِّ وأفكارها الموضوعية التي زخرت بها محتويات هذه المدونة القصصية التي يمكن أنْ نطلق عليها مدوَّنَةَ (حَربٍ وسَلامٍ) .

تطبيقاتٌ قصصيَّةٌ لأنساق المدوَّنةِ الثقافيَّةِ

1- (لُغةُ الارضِ):

من أواخر نصوص هذه المدوَّنة القصصيَّة نصُّ قصَّةِ (لغةُ الأرض)، والتي هي رسالة خيرٍ ومحبةٍ وسلام من الأجداد والآباء الأولينَ إلى الأبناء والأحفاد الآخرينَ، وهي أيضاً رسالة أمانٌ وتحذيٌ لهم وللإنسانية. وقد كتبها القاصُّ الفذ علي حسين عُبيد بأُسلوبٍ تعبيري سرديّ فنتازي وعجائبي غرائبيٍّ مخياليٍّ لا يخلو من تأثيرات الواقع وتهويماته السحريَّة التي فيه الكثير من الرهان الواقعي المرير الذي يُعاني منه الأبناء من بني الإنسان في ترميم وصيانة حياتهم الشخصية وعُمارة أرضهم الدنيوية من دنس شرِّ العوارض الظاهريَّة وطوارئ المخاطر الخفيَّة المُحدِقَة.

ولنقرأ بعضاً من أحداث هذه القصّة الشائقة التي جسَّد فيها الرائي وحدة حضورية الزمكان والشخصيات الفاعلية المتصارعة والأحداث الفعلية القائمة من عناصر الفنِّ القصصي، وعقدة حركة الصراع الدائر بين قطبي الخير والشرِّمن أنساق ثقافة الظاهر والمضمر تجسيداً سرديَّاً حيَّاً:

"عَمَلَ سَلُام بِنصيحةِ أُمِّهِ وسَافرَ إِلى الرِّيفِ وَعَادَ بِالفلَّاحِ مِنْ قَريةِ أَجدادِهِ، قَريةٌ اسمُها (أُمُّ الرُّمانِ)، لَمْ يُمانعْ (خِنيابُ) فِي المَجِيءِ مَعَ سَلَامٍ بِمجردِ عَرِفَ أنَّهُ اِبنَ صَديقهِ (جَميلُ)، غَيَّرَ مَلابسَهُ عَلَى الفَورِ وَصَحبَهُ إلى المَدينةِ، لَمْ يَندهشْ الفلَّاحُ عِندَمَا لَاحظَ بَقايَا الأمراضِ وَهيَ تَعيثُ فَسَاداً بِالتُّرابِ وَتَكسوهُ بِاللَّونِ الأحمرِ، كَانَ يَعرِفَ بِفُطرتهِ وَحِكمتِهِ أنَّ هذهِ الأرضَ تُعانِي مِنْ عِلَلٍ مُتراكمَةٍ، وَمَعَ أنَّهُ يَتمَتَّعُ بِثقةٍ عَاليةٍ بِنفسهِ وقُدرتهُ عَلَى تَطبيبِها، إلَّا أنَّ هَذَا وَحدَهُ لَا يَكفِي، لِأنَّ الحَلَّ المُكَمِّلَ لِجهودِهِ عِندَ أهلَ الأرضِ وَحدَهُم وَقدْ أَخبرَهُم بِذَلِكَ". (لُغةُ الأرضِ، ص 122، 123) .

أراد القاصُّ أنْ يوجِّه رسالةً ظاهريةً إلى المتلقِّي مَفادُها أنَّ هذه الأرض التي أصابها المرض المفاجئ بفعل فاعلٍ مؤثِّرٍ، هي الوطن الأصل أو دولة الإنسان التي يحيا بها، ويعتاش عليها نسباً. وأنَّ هذا لفلاَّح الملَّقب بـ (طبيب الأرضِ) هو المُصلح والفاعل الظاهر الذي شخَّصَ لها الدواء من الداء الذي أضمره الإنسان لأخيه الإنسان قصداً عبر عقود متواليةٍ من الزمن، وإنَّ الحلَّ السحري يكمن بيده إنْ أراد التخلُّص والتحرُّر من ذلك الوباءِ القذر المُهلك الذي يكمن تحت جلود باطن الأرض.وليس من وسيلةٍ سوى التخلُّص منه واجتثاثه وقطعه نهائياً؛ للحصول على راحةٍ وأمانٍ:

"اِرمِ هَذَا المَرَضَ الخَبيثَ بَعيداً عَنْ بَيتِكَ وَأرضِكَ.أنهَى الفَلَّاحُ عَمَلَهُ وَغَادرَ إِلى قَريتِهِ، وَمُنذُ ذَلكَ اليَومِ بَدَأَ لَون ُالطِّينِ يَتغيَّرُ فِي حَديقةِ البَيتِ والحَدائقِ المُجاورةِ لها، وَشَرَعَ الاِحمرارُ الَّذِي أصابَ التُّربةَ يَضمحلُّ بِالتدريجِ، وبَدأتْ بَعضُ الأشجارِ تَنمُو بِإصرارٍ غَريبٍ. وَثمَّةَ نَخلَاتٌ جَميلاتٌ بدأْنَ يُحلقْنَ بِضفائرِهُنُّ في فَناءِ الدَّارِ الأَمامِي، وَأشجارٌ أُخرَى مِنَ الرُّمَّانِ والأعنابِ أَخذَتْ جُذورُهَا تَشقُّ طَريقَهَا فِي التُّربَةِ الجَديدةِ، لَوَّنَ بَعضُ الزُّهورِ والوَرودُ أَرضَ الحَديقةِ". (لُغةُ الأرضِ، ص 125) .

هكذا يمضي الكاتب في وضع أنساق الداء الظاهر والدواء الخفي الساتر من خلال تلافيف هذه الأرض الأمِّ التي تحكي وتنطق وتشكو ما أصابها من خراب وفسادٍ ودمارٍ عاث بها ردحاً طويلاً من توالي عتبات الزمن. إنَّها دولة الإنسان الحاكم مع رعيته من الإنسان المحكوم، وأثر قمع الظالم للمظلوم. فلا بدَّ أن يستجيب القدر للسواد الأعظم المظلوم من ظلم هذا القاهر المضمر المُستتر.

ولعلَّ الرسالة الختامية التي قدَّمها الكاتب في خواتيم قصته الكونية هذه، كانت رسالةً سلمٍ لا حربٍ طلبيةٍ صريحةٍ ومؤثِّرةٍ للباقين منهم. فهي في حقيقة الأمر رسالة تحذير ظاهر للإنسان الحاضر من عدوِّه الخفي المستتر المقنّع القاهر الذي عانى منه الراحلون من بني جنسه البشر:

"تَجَنبُوا الحُرُوبَ الَّتِي عَانَى مِنهَا الرَّاحِلُونَ". (لغة الأرض، ص 126) في مسيرة حياتهم دون حسابٍ لها نتيجة غفلة عدم يقظتهم. وهذه العبارة الختامية هي إحدى الأوراق الدفينة التي تركها الراحلون من السلف الأول إلى أخلافهم الشباب من الباقين؛ لتكون وثقةَ عهدٍ ووصيةَ سلامٍ وتنبيهٍ لهم من رسائل تاريخ الآباء التي حفظتها بواطن الأرض في رحمها الدافئ الدفين، ونقلتها إليهم ظاهراً من آبائهم السابقين؛ لكيلا يقعوا في الأخطاء التي وقعوا فيها ودفعوا ثمنها باهضاً عبر تساير الزمن.

ونفهم من شفرات هذه الرسائل التي رفعها الكاتب القاصُّ إلى قارئه النابه الفهيمِ أنَّ الأنساق الأرضية القديمة على الرغم من كون ظاهرها التراسلي جميلاً،؛ فإنَّ مُضمرها المخفي المستور فاسدٌ وقميءٌ قبيح. لذلك كانت بلاغة الأرض جمالياتُ لغتَها البيانية الناطقة بالحقِّ في محاربة نوايا الفاسدين الآمرين به سلوكاً ومنهجاً فعلياً لا يَرضي الخيِّرينَ من أبناء هذه الأرض الخيِّرة المعطاء.

2- (رَجلٌ يَعِدُ نَفسَهُ لِلرَحيلِ):

ومن بين القصص المهمَّة ذات الطابع الإنساني والاجتماعي الأُسري الجيِّد قصة (رجلٌ يعدُّ نفسَه لِلرحيلِ) . وتتلخص حكايتها الموضوعية بقصة شابٍ عنيدٍ أراد أنْ يذهبَ مساءً إلى مزرعةٍ في أعماق الصحراء المُقفرة المترامية الأطراف؛ لجلب الماء والخضرة وزيارة صديقه البدوي الذي يسكن في أطراف هذه الصحراء الموحشة، بيدَ أنَّه ذهب ولم يعدْ؛ نتيجة عناده وفشله الفكري وسوء تدبيره العقلي، وتدليله الأُسري المبالغ فيه كثيراً عن اللَّازم. فضلاً عن عدم الشعور بالمسؤولية؛ بسبب إهمال الأهل في تشديد الرقابة الأوليَّة عليه.ومثل هذا السلوك الفعلي الطائش قد رافقَ مسيرة حياته اليوميَّة؛ نتيجة سوء تصرفاته المراهقية القلقة التي أودت به إلى التهلكة الذاتية والخسران:

"فِي دَقائقَ اِختفَى أمجدُ فِي رِحابِ الصَّحراءِ، كَانَ الوَقتُ عَصرَاً، نَادَى خَلفَهُ أبوهُ:- يُوجدُ لَدينَا مَا يَكفينَا مِنَ الغِذاءِ والمَاءِ، لَا تَقتُلُ نَفسَكَ وَتَقتُلُنِي. ثُمَّ رَكضَ أبوهُ خَلفَهُ صَارِخاً مُتوعِّداً مِنْ دُونِ جَدوَى، غَابَ أمجدُ بَينَ كُثبانِ الرِّمالِ، بَعدَ حِينٍ عَادَ الأبُّ وَحدَهُ خَافِضَاً رَأسَهُ نَحوَ الأرض يَهُزُّ يَدَهُ فِي الهَواءِ آسفَاً مَقهُوراً، سَأَلَهُ أحدُهُم : -هَلْ حَقَّاً رَافقَ اِبنِكَ بَعضُ أَصدقائِهِ؟ - لَمْ أرَ أحَدَاً سِوَى الصَحراءِ الوَاسعةِ، كَأنَّ الأرضَ اِنشقتْ وَبَلعَتهُ". (لُغةُ الأرضِ، ص 40) .

إنَّ بيانات الحكاية القصصية تخبر ظاهرياً عن نسق فكرتها الإنسانية الخيَّرة التي من أجلها دفع الشاب العنيد أمجد حياته ثمناً للحصول على مبتغاه وهدفة المنشود الذي شدَّ الرحال إليه غير مبالٍ أو مكترثٍ لما يحدث له من مهالك أو مخاطر وحوش خارجية تواجهه في سير رحلته الصحراويَّة.

غير أنَّ النسق الخفي المستتر الذي يكمن وراء سير هذه الرحلة الصحراويَّة هو إهمال الآباء وتقصيرهم في التربية حيال الأبناء، وفشلهم في الحدِّ من فعل تصرفاتهم وسلوكياتهم النفسية غير الصحيحة المندفعة كثيراً وراء رغباتهم المضطربة؛ نتيجة تلبية كلِّ طلباتهم السلبية والإيجابية دون حسابٍ أو تخَطيطٍ أو فهم مَدروسٍ لحصيلة النتائج الكارثية الوخيمة التي تحصل لهم بسبب عنادهم الكبير؛ كونهم ينعمون صِغاراً منذ نعومة أظفارهم بحياة فائضة عن حاجاتهم اليومية المتزايدة.

الأمر السلبي الذي دفع أحد الرجال من أصحاب والد أمجد الرجل المسن الكبير عن سبب هذا العناد والفوضى غير النظامية التي رافقت حياة ابنه أمجد نسقاً يوميَّاً وحياتياً خفيَّاً غير معروف للآخرين إلَّا من قبل أُمِّه وأبيه الرجل الكبير العجوز.وهذا ما صرَّح به أبوه لأصدقائه مُخبِرَاً عنه:

"- مُنذ مَتَى تُلازمهُ نَوباتُ العَنَادِ؟ - مُنذُ أنْ وَلدتُهُ أُمُّهُ.- كَانَ عَليكَ أَنْ تُرَبِّيهُ عَلَى مَصاعبِ الحَياةِ وَلَا تُبالغُ فِي تَدليلهِ. - لَمْ يَكُنْ الأَمرُ بِيدِي أُمُّهُ عَلَّمتهُ عَلَى الدَّلالِ وَكَبُرَ العَنادُ مَعَهُ. كُنتُ أُفكِرُ بِطريقةٍ مَا كَي أُخبرُهُ بِرحيلِ اِبنِهِ، خَاصَّةً إنَّنَا نَقتربُ مِنْ زِريبتِنَا، قُلتُ لَهُ: - فِي كُلِّ الأحوَالِ هَذَا لَا يُعفيكَ مِنْ مَسؤوليَّة التَّربيةِ، عَلينَا أَنْ نُصحِّحَ أَخطَاءَ أَولادِنَا". (لُغةُ الأرضِ، ص 48) .

إذن الإهمال والتهميش واللَّامبالاة في تلقي التربية الصحيحة واللَّا التزام بالمسؤولية التي تحدُّ من الأنساق الخفيَّة المؤدِّية إلى الفشل الذريع الذي هو سبب هذا النكوص والانكسار والوجع والألم الذي يفتك بالإنسانية. فإذ كان الطموح وتحقيق الآمال والرغائب الذاتية هو النسق الثقافي الجميل الظاهر لبطل هذه القصة السادر في غَيِّهِ، فإنَّ عاقبة النسق الآخر الغائر المسكوت عنه،هو السقوط الحتمي والموت البطيء القاهر للذات الإنسانية المعذّبة. فكانت خاتمة الواقعة الحدثية الفجائية خيرَ جواب مُعبِّرٍ عن تساؤل الأبِّ الرجل الكبير المُسنِّ الآثر،"هَلْ مَاتَ اِبنِي؟". (لُغةُ الأرضِ، ص 48).

ومثل هذا السلوك الفردي السادر في الغَيِّ والجهل والعناد يدفع ثمنه الباهض الآباء؛ نتيجة كثرة أخطائهم أكثر مما يقع فعله المشين على الأبناء أنفسهم. فالغفلة والتراخي واللَّا جدوى من صفات هذا النسق الغادر؛ لذلك كانت رسائل القاصِّ عُبيد الظاهرة المُتجلِّية والباطنة المُتخفية علامةً فارقةً ومضيئةً من علامات تحطيم هذا النسق الثقافي السائد والمُتهالك، واستبدال عَطَبِهِ بأنساقٍ إنسانيَّةٍ جديدةٍ تُناسب واقعة الحدث الموضوعية وتَصبُّ في خُطى وحدتها الكُليَّة التي تجعلها تعيش بسلام.

3- (مَنحوتَةُ العِشقِ):

قصةُ (منحوتةُ العشقِ) الدالة لافتة عتبتها العنوانية اللَّفظية على مضان واقعة الحدث الموضوعية

القصصية. هذه القصَّة ذات المغزى العاطفي الإنساني والجمالي العشقي الروحي ينقلنا علي حسين عُبيد في تسريداته الحكائية وأنساقه القصصية الطويلة الظاهريَّة المتجلَّية إلى جماليات مثابات الريف العراقي الأصيل، وإلى طبيعة أجوائه البهيَّة النقيَّة الساحرة تكويناً طبيعياً ثابتاً ومتحرِّكاً.

وليس بواقعة هذا الحدث الإنساني الاجتماعي المتواتر يكتفي الكاتب فحسب، بل يسرد لنا بلغته الفنية التعبيرية الشفيفة والماتعة اللَّطيفة حكايةَ فتاةٍ قرويَّةٍ فُراتيةٍ تدعى (زَكِيَّةُ)، إحدى شخصيات هذه القصة مناصفةً مع مثيلها الشاب البطل. هذه الفتاة الجميلة التي تُشبهُ المنحوتة الفرعونية للملكة (نِفر تيتي) في روعة جمالها وقوامها وهيأتها الشكليَّة، فضلاً عن سلوكياتها الآسرة. ويعدُها الكاتب علي حسين عُبيد مثالاً حيَّاً واعداً وأُنموذجاً رائعاً للمرأة الحقيقية المثقَّفة الواعية،والقارئة والرَّسَّامة المُبهرة، والفنانة المُبدعة المُثابرة في عملها الفنِّي والاجتماعي اللَّافت لأنظار الآخرين من الوِعاة:

"يَا لَهَاَ مِنْ مَلكةٍ! عَينَاها حَضارتَانِ، أوْ تَجمعُ بَينَ حَضارتَينِ، حَضارةُ الفَراعنةِ، وَحَضارةُ الرَّافدينِ". (لغة الأرضِ)، ص 65) . إنها نِفَر تيتي العراقية الريفية الحديثة العهد والقديمة الأثر تأصيلاً.

اِلتقتْ هذه الفتاة النموذجية في قعر مزرعتها القرويَّة الهادئة والخاصَّة بعائلتها بأحد الشاب يُماثلها في تلاقي الأفكار والميول والثقافات وتطابقاً في السلوك والاهتمامات الفكرية والجمالية التي يبحث عنها في أمانيه الحُلُمية وتطلعاته الشخصية الذاتية التي قلما نجدها في امرأةٍ من المدينة. فكيفَ إذا كان هذا النسق الفنِّي الجمالي الظاهر اللَّافت موجوداً في فضاءات مثابات الريف المكانية الجميلة:

"يَتهَادَى أَمامَ بَاصِرَتِي جَسَدٌ أَهيفُ، فَتاةٌ تَضعُ عَلَى كَتفِهَا قِربَةَ مَاءٍ مِنَ المَعدَنِ، وَتَمضِي بِغَنَجٍ عَفويٍّ صَوبَ ضِفةِ النَّهرِ، لِتَجلُبَ المَاءَ وَحدَهَا، تَتَهَادَى بَينَ ظِلالِ الأشجَارِ، تَشُدُّ وَسَطَهَا بِحزَامٍ أسودَ مُزركشٍ، قدُّهَا يَتمايلُ كَغُصنِ رُمَّانٍ، وَجهُهَا دَائريٌّ مُشرقٌ، نَاصعُ البَياضِ، أَجلسُ عَلَى جَانبِي الطَّريقِ، أوْ الأصَحُّ أتَّخفَّى خَلفَ شَجَرَةٍ كَثيفَةٍ، أَنتظرُ عَودةَ زَكيَّةَ مِنَ النَّهرِ، أُريدُ فَقَطْ أَنْ أَرَى تَقاطيعَ جَسدِهَا، وَهَلْ يُشبِهُ رُوحَهَا الَّتي رأَيتُها مَرسومَةً فِي عَينِي أُمِّي، عَادَتْ زَكيةُ كَأنَّها تَمشِي عَلَى مَاءِ بُحيرةٍ سَاكِنٍ...". (لُغةُ الأرضِ، ص 62) . حقَّاً إنَّها الملكة الفرعونية التي فُتِنَ بِها سابقاً.

هذه هي المواصفات الحقيقية التي رسمها القاصُّ الحاذق في فنيِّة التعبير القصصية لفتاة بطل قصته الشاب القروي المثابر الذي فُتن بهذا الهدوء والجمال القمحي الفرعوني الآسر الذي يُشابه جمال وفتنة ملكة مصر الفرعونية. فيعجب بها أيما إعجاب ويُقرِّر الزواج منها فوراً بعد فرصة هذا اللِّقاء التعريفي العاطفي العشقي الروحي المُميز المُنتظر، والمُثمر بالرخاء والجمال والعطاء:

"شَعَرتُ بِالهدوءِ وَالتَّوازنِ، وَدَخلتُ الكُوخَ، وَجَدتُهُ نَظيفَاً مَفروشَاً بِصورةٍ غَيرِ مُتوقِّعَةٍ، قِمةٌ مِنْ قِمَمِ الجَمالِ، تَناسقُ أَلوانِ الفِراشِ، الوَسادةُ الزَّرقاءُ النَاعمَةُ، وَثَمَّةَ بَعضُ لَوحاتٍ لِلرسمِ تَتَوزَّعُ الجُدرانَ، مَناظرٌ طَبيعيةٌ، وَوُجوهٌ (بُورتَرَيه) مُشرقةٌ وَمَنحوتاتٌ صَغيرةٌ فِي غَايةِ التَّعبير الجَمَالِي [...] فَأيقنتُ عَلَى نَحوٍ لَا يَقبلُ الشَكَّ إِنَّني بِإزَاءِ ذَوقٍ مُتميِّزٍ". (لُغةُ الأرضِ، ص 64) .

هكذا بهذا التوصيف المخيالي التصويري الإيماجي المحبَّب للنفس تبدو شخصية (زكيَّة) الفتاة الحالمة العاشقة والمعشوقة في عيون حبيبها الشاب البطل الهُمام العاشق، امرأةٌ فوق العادة وفوق تصورات العقل وما يرسمه من خيال جامح لمواصفات الزوجة المثالية الرائعة التكوين والتدوين.

لكنَّ الذي لفت انتباهي في السياقات النسقية الظاهرة لهذه الفتاة السابقة لزمانها ومكانها من خلال هذا اللِّقاء العشقي الظامئ، والتي لا يمكن أنْ تخطر على بالِ أحدٍ من القرَّاء والمُتلقين في مثل هكذا، الثقافة والوعي المُتَّقد وحسن النباهة والإبداع والجمال الظاهر المُتجلِّي الذي تنماز به المرأة الريفية (زكَّية) عن مثيلاتها المرأة الحضرية الأخرى في المدينة. ولنستمع بتأمُّلٍ إلى نصوص هذا الحوار الذي أثَّثه الكاتب لشخصية بطلة قصَّته القرويَّة،كأنه إزاء حوار مثقفين لا إزاء امرأة فلَّاحة:

"- مَا رَأيُكُ بِالرسمِ؟ وَمَا الأقربُ إِليكَ هُوَ أمْ النَّحتُ؟[فَكانَ الجَوابُ مُفحماَ]-بَينَ الاثنينِ يُوجدُ فَارِقٌ أَراهُ وَاسعَاً، الرَّسمُ يَمنحُكَ صُورةً تَبحَثُ فِيهَا عَنِ الرُّوحِ، أمَّا المَنحوتةُ فَتمنحك رُوحَاً تَبحثُ فِيهَا عَنِ الصُورةِ.- فِعلَاً هُوَ فَارق ٌكَبيرٌ.- ولأنَّني أَحببتُ الرَّسمَ أوّلاً، تَجدنِي مُتلهفَةً لِلبحثِ عَنْ جَمَالِ الأروَاحِ فِي الصُّور.-وهلْ تَجدينَ مَا تَبحثينَ عَنهُ؟-لَيسَ دَائِمَاً؛لَكنَّنِي أَحثُّ نَفسِي كَي تَكشفَ الجَمالَ المَخبُوءَ فِي أَعماقِ الصُّورِ.- مَاذَا تَعنِي لَكَ الصُورُ؟-الصُّور هِيَ حَياتُنا نَفسَهَا". (لُغةُ الأرضِ، ص65) .

فمثل هذا الطرح الذي تبحث فيه البطلة زكية عن جمال الأرواح الخبيئة في صور الرسم الفنيَّة؛ فإنَّ الكاتب علي عُبيد يبحث عن جمال الأنساق الخفيَّة في الحدث القصصي وفكرة حكايته التي تهم المتلقِّي. لذلك فإنَّ هذا الطرح الثقافي الفني الذي دار بين شخصيتي الحبيبينِ العاشقينِ، هو طرح جميل ماتع ونافع للرَّائينَ والمتلقينَ في ظاهره الخارجي المُعلن، إمَّا في خبايا باطنه الداخلي المُستتر المضمر فيوحي بإبطال وتحطيم نسق النظرة الدونية القاصرة عن أبناء الريف وبناتها بأنهم متخلِّفون ولا يُولُونَ الثقافةَ والجمالَ والفنَّ أيَّةَ أهميةٍ بالغةٍ وإدراكٍ فنِّي خاصٍّ لتراثهم الثقافي.

هذه النظرة تشي بأنَّ أبناء الريف همُ صُنَّاع الأدب ودُعاةُ الفنِّ والجمال والإبداع والثقافة.وحتَّى في مجالات السياسة والاجتماع والاقتصاد، إنَّهم موئلُ الفكر الثقافي ومرجعياته في ريف العراق، وفي صعيد مصر، وريف سوريا وبلاد الشام. هم إبداع خفيٌّ وظاهر ناتج عن عمق حضاراتهم الكونية الراسخة، وتاريخهم العربيّ الأصيل الزاخر المتوهج بأفانين العلم والمعرفة والحضارة والتقدُّم:

"إنَّها اِمرَأة ٌمِنْ طِرازِ النِّساءِ الفَريداتِ،تَسحرُهَا الخَفايَا، وَلَا تَستَمتِعُ بِالظاهرِ السَّهلِ،أوْ مَا يَتواجدُ فِي السَّطحِ، فَهوَ مَنظورٌ مِنَ الجَميعِ، أمَّا الأعمَاقُ فَلَا يَصلُ إليهَا غَيرُ القَادرينَ عَلَى الغَوصِ بِعُدَّةٍ كَاملةِ تَقَيهُم الغَرقَ، فَيغوصُونَ وَيَعوُدُنَ إِلى السَّطحِ مُحمَّلِينَ بِاللؤلؤِ وَالمِرجانِ وبِالجَمالِ العَمِيقِ" . (لغة الأرض، ص 67) . وهذا يعني أن لغة الأرض تبحث جليَّاً في عمق الجواهر لا في سطح المظاهر.

وتكلَّلت بشائر هذا العشق الإنساني الروحي المتهافت بالزواج المقترن أساسه الروحي بالثقافة والوعي ومظاهر الحبِّ والجمال. فالثقافة المكتسبة هي التي تصنع الوعي الذاتي وتُشذِّبُ العقل من الشوائب واللّمم الفكري وتهذِّبهُ. والإبداع الفنِّي هو الذي ينتج الجمال الروحي والحسِّي، والموهبة الفذَّة هي التي تخلق الوعي والإدراك وإنتاج ما لا يمكن تصوره في واقع الحياة الثقافية والفنيّة.

ولأوِّل مرَّةٍ أرى جماليات النسق الثقافي الظاهر المُبين تلتقي بجماليات النسق الثقافي الخفي المستور العميق في تخليق واعية الإبداع الفني الذي تعضده تبنياته فكرة (الجامعة الإنسانية) التي أوصلت شخصية بطلي القصة إلى التلاقي والوحدانية في الفكرة والعمل والرأي والاقتران الجمعي الذي تبوح به خواتيم هذه القصة الإنسانية المبهرة في صناعة موضوعتها الإبداعية والفكرية:

"بَعدَ شُهورٍ مِنْ زِيارتِي لَهَا فِي المِزرعةِ، اِنتقلنَا مِنْ قَريةِ (أُمِّ البطِّ) إِلَى مَركزِ المَدينةِ، وَمَعَنَا المَنحوتةُ الفِرعونيةُ الَّتي أَصبَحَتْ الآنَ زَوجَتِي رَسمِيَّاً". (لُغةُ الأرضِ، ص 68) . والمساءلة التي تطرح نفسها، هل تبقى وشائج النسقينِ الثقافيينِ (الظاهر والخفي) كمدينةٍ فاضلةٍ متوحدٍنةٍ الثقافة في مركز المدينة كما هي في أعماق الريف دون انحلال أو تغيُّر على مسيرتهما الخطيَّة المتناظرة ؟

4- (مُدُنُ البَارُودِ):

الكاتب المِقدامُ والهُمامُ الذي يأخذك بأُسلوبه الماتع بغتةً على جناح السرد المتصاعد الشفيف من أجواء الحبِّ والثقافة والفنِّ والجمال ولغة الإمتاع والمؤانسة إلى وقائع الحرب المُدمِّرة الضروس بلغة الرصاص والبارود والقتل العشوائي المخيف الرخيص بهُوية الفوضى؛ نتيجة سقوط المدن بفوضى الإرهاب وسيطرة المجاميع المسلحة الثائرة ضد أنظمة الحكم الدكتاتوري المُستبِد الظالم.

والقاصُ أو الكاتب الذي ينتقل من فكرةٍ إلى فكرةٍ أُخرى بنفس التكثيف اللُّغوي وقوَّة الإيحاء والترميز والإضمار والإظهار والمفارقة الصادمة، وفجائية الانبهار؛ لهوَ كاتبٌ واعٍ وقاصٌّ حاذق يعي ما عليه من التزام وحقوق ثابتات، وما لهُ من واجباتٍ ومُتغيِّراتٍ تُجاه عناصر الفنِّ القصصي التي تمكِّنه أدواته التعبيرية من السيطرة على وقائع السردية وفاعلياتها الحكائية في بنية التركيب القصصي لواقعة الحدث الموضوعية التي أقام عليها مشاهد حركية النص القصصي الُمتسارع.

فهذه الإضمامة المهمَّة بأُسلوبية الكاتب التنوِّعيَّة وانتقالاته السردية السريعة المتجدِّدة، تُحيلنا الدراسة النقدية التتبعية الكاشفة فيها نسقياً وثقافياً إلى نموذج آخر من نماذج سرديات قصصه ذات الطابع الحربي العسكري الاجتماعي الإنساني المرتبط ببعضه في حيثيات وقائعه وأحداثه الدراميَّة التي تجسَّدت فيها واقعة الحدث التراجيدي المؤسف الحزين في قصته (مُدنُ البارودِ) الناطقة بالموت والخراب والدمار والفساد الذي لا إصلاح له إلَّا الحكمة ورجاحة العقل ونبذ لُغة العنف.

وبإيجاز تحكي مدونة (مُدنُ البارودِ) قصةَ رَجلينِ أخوينِ عراقيينِ كان يعملان ضابطين في سلك الجيش العراقيّ السابق إبَّانَ انهيار نظام الحكم القائم وسقوط المدن العراقية الواحدة تلو الأخرى، وهيمنة الأحزاب والمجاميع الثورية المُسلحة على زمام الأمور وإدارتها بشكل فوضوي وعفوي غير منظمٍ ولا يخضع لنظام أو لقانون عادل يكفل الحقَّ للآخرين من الناس الذين هم السواد الأعظم من الشعب. رغم أن الكاتب لم يصرح بتلكَ الأمور لأسبابٍ فنيَّةٍ وإبداعيةٍ يحتفظ بها لنفسه.

آثرَ هذانِ الأَخوانِ الضابطان العودة إلى مدينتهما الأُمِّ بعد انهيار المنظومة العسكرية المُنتظمة؛ لكنَّهما ونتيجة لتلك الظروف الطارئة والمداهمات وغياب حكم القانون على البلاد فقد واجها الكثير من الصعوبات والمخاطر الجمَّة حيال عودتهما لعائلتيهما سالمين دون خسائر ألمَّت بهما قسراً.

"سَمِعنَا أَصواتَ رَصاصٍ مُتَقطَعٍ وَمستمِّرٍ، فَعرفنَا أَنَّ المَدينةَ تَعيشُ حَالةً مِنَ الفُوضَى، فَكَّرِتُ بِالمخاطرِ الَّتِي قَدْ تُودِي بِحياتِنَا، خَطَرَ فِي بَالِي العَودةُ أنَا وَأخِي الأصغرُ وَعَدمُ الدخولِ فِي المَجهولِ؛ لَكنْ وُجودُ أُّمِّي وَطفلِي وإخوانِي فِي دَاخلِ أَحياءِ المَدينةِ أجبَرَنِي عَلَى دُخولِهَا، فَلَا مَجالٌ لِتركِهُم فِي هَذهِ الأوضاعِ المُرتبكةِ، وَحِينَ اِستشرتُ أخِي الأصغرَ يُوسُفَ بِالعودةِ إِلَى المَكَانِ الَّذي أَتينَا مِنهُ رَفَضَ ذَلِكَ البِتَةً. لَمْ تَصلْ بِنَا السَّيَّارةُ إِلى البَوابَةِ، أَنزلَ الرُّكَّابَ عَلَى بُعدٍ مِائةِ مِترٍ عَنهَا، تَقدَّمنَا بِخُطواتٍ مُتعثِّرَةٍ نَحوَ المَدخلِ القَريبِ، تَحسَّسَ أخِي يُوسفُ المُسَدَّسَ المُثَبَّتَ فِي حِزَامِهِ...". (لُغةُ الأرضِ، ص 15) .

هذا هو الطابع الحربيّ الظاهر لنسق المدينة المعبَّأ بالانفلات الأمني وشيوع لغة الرصاص والتحشيد المليشياتي الخارجي غير المقنَّن الذي يقود زمام الأمور الحالية ويحكم الإنسان عند غياب لغة القانون، وتفشي استمراء ألم المعاناة والمواجهة التي مرَّ بها بطلا القصة الضابطان في مسيرة عودتهما إلى المدينة المهجورة إلَّا من مجاميع عسكرة الثائرين على نظام الدولة الحاكمة:

"دَخَلنَا مَركزَ المَدينةِ عَلَى مَضَضٍ وَالذهُولُ يَتَلبَّسُ كِلَينَا، شَارِعَانِ مُعبَّدَانِ مُتوازيَانِ تَفصلهُمَا جَزرَةٌ وَسطيَّةٌ خَرسانيَّةٌ، لَمْ تَتوقَّفْ لَعلَعَةُ الرَّصاصِ وَقَذائفُ الهَاونِ وَأسلحةٌ أُخرَى لَا يُعرَفُ نَوعُهَا أو حَجمُهَا تَسقطُ فِي أماكنَ مُتفرِقةً، المِحَالُ كُلُّهَا مُغلقةٌ، وَالشوارِعُ مَهجورةٌ، خَطونَا بِضعُ خُطواتٍ عَلَى وَجَلٍ، فَدخلنَا بِأَرجُلِنا فِي الفَخِ، تَقدَّمَ إلينَا شَخصٌ مِنْ بَينَ مَجموعةِ أَشخاصٍ يَشهرُونَ السَّلاحَ بِقَلقٍ وَرُعبٍ، كَانَ يَحمِلُ فِي يِدهِ (رَشاشَ كَلاشنكوف) وَيَرتَدِي حِزَامَاً مِنَ الرَّصاصِ، عَينَاهُ يَنبثقُ مِنهَمَا غَضبٌ مُستَعَرٌّ، تِختلطُ فِيهِ مَشاعرٌ شَتَّى". (لُغةُ الأرضِ، ص 15، 16) .

على وفق هذه الكيفية المحتشدة بظلال الحرب المحليَّة المتخبُّطة كانت تُدارُ شؤون المدينة، بل البلد كله، ويُتركُ رعاياه من المواطنين يتخبَّط بعضهم بعضاً دون رقيب أو حسيب بينهم. فهذا هو المنظور من المشهد الظاهري لثقافة الحرب والاقتتال الطائفي وما يخلفه من ويلاتٍ ودمار وخراب مُستشر. أمَّا المستفيد من هذه الأمور في النسق الخفي المغيَّب غير الظاهر هم أعداء الإنسانيةٍ، ودعاة الخراب وتُجَّار الحروب من مناهضي الحُريَّة والدِعةِ والسَّلام الذي يحقِّقُ للناس حقَّ تقرير مصيرهم الراهن وبناء مستقبلهم. فلا سلام خفي يحدث ويمكث قاراً في الأرض إلَّا بتقويض غائلة الحرب النسق الجائر الذي يقضي على الحرث والنسل والأمل كي يحدث السلام.

5- (مَشاهِدُ مِنْ سِيرةِ الأَلَمِ):

من يتتبع الفضاء القصصي التسريدي لِعَليّ حسين عُبيد سيجد أنَّه فضاء ليس ثابتاً مُعيَّناً، بل يكاد أن يكون فضاءً مُتحوِّلاً ومُتحركاً أو مُتغيراً ومتنوعاً وثريَّاً بموضوعاته الإنسانية والاجتماعية، وتعدُّد رغباته وطموحاته وأحلامه الذاتية الشخصية التي ينفتح فيها على هُوية الآخر الشريك الجمعي من خلال الخروج من نافذة الذاتية الضيقة إلى الذاتية الجمعية المشتركة التي لا تقف رحى عجلتها المحورية عند حدٍّ معرفيٍّ معيَّنٍ ما، بل تكون عابرةً لكلِّ الحدود والمسافات الزمكانية.

فهذه الخطوات الضوئية الإجرائية التي تنماز بها أسلوبية القاصِّ الثقافية التعبيرية لها دلائلها ومرجعياتها الثقافية وخصائصها التطبيقية المتحقِّقة على سطح الواقع الفضائي النصَّي السردي. ويمكن أن نستدل على تلك التلقائية الإثرائية في مقصديات النص الحكائي لِعَلي حسين عُبيد في نصِّ مصفوفته القصصية (مَشاهدٌ مِنْ سِيرةِ الأَلمِ) الدالة على وقائع موضوعيتها السيرية الحدثية.

فكل مشهد من مشاهد هذه السيرة الألميَّة العشرة يمثِّلُ لافتةً عنوانيةً موضوعيةً سيريًّةً قصيرةً فاعلةً ومستقلةً من لافتات وقائع وأحداث مصادرالألم التي وظَّفها القاص في طيَّات هذه المصفوفة العُشريَّة. حتَّى ترى الرائي عُبيد مُتنقِّلاً في موضوعاتها الفعلية الحيوية وفضاءات مثاباتها المكانية وحركة صراع شخوصها الفاعلية. فتراهُ تارةً يتحدث فيها عن شابٍ يعشق الحَمَامِ، وتارةً أخرى إيثار صبيتينِ، وتارةً ثالثةً عن رجلٍ صَديقٍ للأشجار، وتارةً رابعةً عن حُلُمِ عاشقينِ مُحبَّينِ، وتارةً خامسةً عن سلوك حياة (قِطٍ وجروٍّ)، وتارةً سادسةً عن مشهد من مشاهد الفقر والفاقة، وتارة سابعةً عن الدعة والشعور بالسعادة في غرف فنادق الدرجة الأولى المكيَّفة، وتارةً ثامنةً عن الذات القصصية العليمة في التعامل مع ضرورات الحياة وفهم جمالياتها، وتارةً تاسعةً عن مشهد من مشاهد العمل في المحيط الخارجي للحياة اليومية، وتارةً أخيرة عاشرةً عن هواجس فتاةٍ عاشقةٍ شقراء ساحرة الجمال بشكلها.وللتدليل على خريطة ذلك التنوِّع سنقرأ بعضاً من نصوص قصصها.

وحين نجيل النظر في مشاهد هذه المصفوفة القصصية القصيرة العشرة ونكشف عن أثر شفراته الموضوعية اللغُّوية نرى أنَّ وقائع كلَّ مشهدٍ يمثِّل في تصويرها الظاهري المرئي الحسِّي للقارئ نسقاً ثقافياً وقيمياً مشرقاً من أنساق يوتوبيا حياة المدينة القصصية الفاضلة لهذا القاصِّ الفاعل.

في حين نلحظ أنَّ الجانب الآخر غير المُتجلِّي أو المُستتر بحجابٍ خفي عميق غائر، والملموس معنىً وتصوِّراً عقلياً راسخاً، يمثِّل نسقاً سِيريَّاً مؤلماً من أنساق ديستوبيا الواقع المثالي المخيالي الاقصائي والتهميشي الرفضي لحياة الإنسان، فضلاً عن تأثيرات الفوضى العامة ومشاهد القمع والتجهيل والنكوص والانكسار الروحي الرجعي الذي يسيطر على عالمه الجمعي الذاتي المشترك.

وهذه المشاهد السيريَّة العشرة على مستوى الفكر التنظيري، أمَّا على خطِّ المستوى الإجرائي التطبيقي، فلنا في المشهد الأول ذي الرقم (1) من مشاهد هذه السيرة المحتشدة بالألم والأوجاع والخسارات.تلك هي قصة الشاب رياض الذي يعشق تربية الحَمَامَ،ولكنَّه لفرط حبِّه لا يجني الكثير منه إلَّا القليلَ، وفي صنفٍ ما من حَمَامِ (الأورفلِّي) الذي يطرد الشرَّ ويجلب الرزق على حدِّ قول رياض لنفسه الذي يرعى تلك الحمامات الأليفة ويهمس لها بأحلامه اليقظة ونهاراته الضَّاجَّة بها:

"عِندَمَا وَصَلتْ سَيَّارةُ الأُجرةِ وَعَلَى سَطحِهَا نَعشُ رِياضٍ، كَانتْ حَمامَاتُهُ تُراقبُ المَشهدَ مِنْ فَوقِ سِتَارةِ البَيتِ، كَأنَّها عَرِفَتْ بِرحِيلهِ، لَقَدْ أخذتهُ الحَربُ بِأحضانِهَا...". (لُغةُ الأرضِ، ص 102) . هكذا يصف القاص الرائي نهاية سيرة الشاب رياض الذي أحبَّ الحَمَامَ وعشق تربيته، وكيف كان وفاء الحَمَامِ المؤنسن لروحه الطاهرة المُحلِّقة في سماء عِلِييِّ الشهادة. ولنلتفت إلى نسق الإضمار في شعور الرائي تجاه رياض الشهيد الراحل، وكيف وضع نهايةً ختامية للحّمِامِ الذي أحبَّ جانيه الشاب (رياض) ؟وكيف أوفى له بصدق غرائبي عجيب بعدأن أحسَّ بفراغ موته المفاجئ وانقطاعه:

"الحَمَامُ لَمْ يَعُدْ يَشربُ وَلَا يَأكُلُ، أَيامٌ مَرَّتْ وَالحَمَامُ لَمْ يَخرُجْ مِنَ القِنِّ، عِزلَةُ الحَمَامِ كَانتْ قَاتِلَةً، اِنقطعَ الهَديلُ تَمَامَاً، السَّوادُ مَلَأ السَّطحَ وَالبيتَ والقُلُوبَ...كَثيرونَ قَالُوا.. سَمِعنَا الحَمَامَ وَهوَ يّبكِي..". (لُغةُ الأرضِ، ص 102) . وهل هناك أصدق وأنبل من مشاعر سيرة الألم والنواح الهديلي التي دبَّجتها مسرودات القاصِّ في صفة الوفاء والإخلاص لروح هذا الرفيق الصاحب والأنيس الراحل.

وفي جانب آخر من جوانب سيرة الألم التي حفلت بها قصص هذه المصفوفة الفرعية الثانوية من المدوَّنة الرئيسة، ذلك هو المشهد الثامن من مشاهد الألم والوجع العراقي الكبير المستديم الذي لا ينتهي؛ نتيجة تطاول يد الزمن على شخصية الإنسان وفرض خيباته ونكوصاته المُهينةَ على ذاته الروحية والنفسية تحت غائلة عادياته المثيرة، وكان الفقر والفاقة من أبرز علاماته الظاهرة.

وحين نتأمَّل سطوراً من مشاهد سيرة الألم في واقعة هذا الحدث الثامن تأمُّلاً نقدياً للعين البصرية الثالثة يتداعى إليكَ شعور من اليقين القلبي الثابت، لا شعورَ الشكِّ الظنِّي المتحوِّل غير الثابت بأنَّ القاصَّ الرائي علي حسين عُبيد يتحدَّث بكلِّ ثقةٍ وكياسةٍ عن مشهد من مشاهد سيرته الذاتية الخاصَّة، وعن أناه الذاتية الجمعية الحقيقية، لا يروي عن حال لسان شخوصه وأبطاله المفترضين تخيلُّاً في واقعة الحدث الموضوعية، إنَّه يتماهى معهم ويتناهى عنهم كليَّاً. حتى تظنَّ كلَّ الظنِّ بأنَّ الراوي العليم لمشاهد سيرة الألم هو القاصُّ نفسه في التعبير عن حال ذاته السيريَّة.

وسترى علاقته الوضعية مع شخصيات قصته المهمشين الذين يشعرون بعطب الحياة المستهلكة. وهذا التوافق وارد في توحدُن سيرة القاصِّ مع فعليات فواعل شخوصه المُلتقطة التقاطاً صورياً دقيقاً من صور الواقعة السحرية الحافلة بتوالي صراعات الألم والوجع والمُضمَّخة بالفقر والمعاناة المستمرة المريرة التي أفرزتها آثار الحرب الداخلية المُدمِّرة والانهزامات الدولية المتكرِّرة عليه.

ولنقف في هذا الميدان الواسع الرحب الذي يجمع بين مناطق الواقعية والأسطورية المخيالية في منطقة سيريَّة ثرةٍ ومُحتشدةٍ بثقافة جدلية (الألم والأمل) من مناطق تَشكُّلات فضائه القصصي النصِّي وخطابه السردي الذي يُؤرخن تدويناً لعصرنة الحدث الموضوعي الفعلي بكل تمظهراته الحدثوية والفنيَّة والجماليَّة والشخصيَّة التي أظهرتها التقاطات عين عدسته الصورية الزاخرة في تجلّيات النصِّ الزمكانية والحَدَثِّيَّة وحركة الصراع الدائر بين مساعي الخير الحميدة وردود الشر البغيضة.  "فِي عَصرٍ رَبيعيٍّ قِادتنِي خُطايَ إِلَى[قِسمِ] الَفلسفةِ[ بِكليَّة ِالآدابِ] فِي جَامعةِ بَغدادَ بِمنطقةِ بَابِ المُعظَّمِ، كُنتُ عَلَى مُوعدٍ مَعَ صَديقينِ يَدرُسانِ الفَلسفةَ؛ كِي نَقضيَ بَعضَ الوَقتِ في نادِي الجَامعةِ، وَنَخرجَ نَتسكعَ فِي بَابِ المُعظَّمِ وَالميدانِ وَشَارعِ الرَّشيدِ؛ لِننتهيَ أخيراً في اتَّحادِ الأُدباءِ، قَبلَ أنْ أصلَ بَابَ الجَامعةِ بِقليلٍ فَاجَأتنِي لَوحةٌ مِنَ الخَزفِ أوْ النُّورةِ لَا أَتذكَّرُهَا بِالضبطِ، كَان نِصفُها الأعلَى مُهشَّمَاً، أمَّا النِّصفُ الأسفلُ فَكانَ سَليماً، وَبدَتْ لِيْ لَوحةً جًميلةً وَأنيقةً[..] كَمْ ثَمنُ اللَّوحةِ؟ -قَالَ: سَبعةَ آلافٍ، إلَى جَانِبِهَا يَقفُ طِفلٌ أَبيضُ جَميلٌ...". (لُغةُ الأرضِ، ص 110) .

فحين نُعيد النظر جليَّاً مرةً أخرى بقراءة المشهد القصصي للحكاية ونتفحَّصه جيداً، فسترى أنَّ المثابات المكانية لفضاء النصِّ السردي هي نفسها الواقعية الماثلة في وقتنا الحالي أو الحاضر، وأنَّ الشخوص الفاعلين هم أنفسهم من طلَّاب هذه المؤسسة التعليمية (جامعة بغداد) وخريجيها، وأنَّ

فضاء مشهد العرض المكاني (شارع الرشيد) هو نفسه الماثل لنا في المشهد الفني الجمالي الإبداعي.

فهذا هو النسق القيمي الثقافي الإيماجي الصوري الظاهر، في حين يكمن النسق الثقافي الآخر المُغيَب والمسكوت عنه قصدياً في صورة الطفل المُهمَّش بائع اللوحة الذي يُعاني الفقر المدقع والحرمان والفاقة وألم الانكسار والصمت القاتل الرهيب؛ بدليل أنَّ القاص وضع لنفسه سؤالاً عن شخصية هذا الطفل المعذَّب المتهالكة فقال: "لِمَاذَا لَمْ أَتحِ لَهُ فُرصةً كَافيةً كَيْ يُفصحَ عَنْ رَغبتِهِ فِي الكَلَامِ؟". (لُغةُ الأرضِ، ص 111) .وكأنَّه يدعو المتلقِّي لمشاركته بالتساؤل الإنساني لمعرفة الجواب.

ويمضي الكاتب أو الرائي أو القاصُّ أو السارد العليمُ بتساؤله في خاتمة هذه القصة لمعرفة ما يخبئه هذا الطفل الشقي من هموم طافيةٍ وعذابات وتحسُّرات تسوِّرُ بواطن شخصيته الإنسانية البريئة التي تخفي هموم وجع الحياة وصعوبات آلامها الجمة الكاسرة التي ألقت بظلالهاعلى نفسه:

"خَرَجنَا مِنَ الجَامعةِ، ثَلاثَتُنَا، أنَا أَحملُ كِيسَ اللَّوحةِ المُهشَّمَةِ، وَهُمَا يَحملانِ حَافظتَيِنِ لِلكُتبِ، عُدنَا من الطَّريقِ نَفسِهِ، رَأيتُ الطِّفلَ يَجلسُ وَحِيدَاً دُونَمَا لَوحَةٍ أو صَديقٍ، كُنَّا نَسيرُ فِي الجَانبِ الآخِر لِلشارِعِ، لَمْ يِتِنِبَّهْ الطِّفلُ لِي، كَانتْ تَقاسيمُ وَجهِهِ المُعبَّأِ بِالتساؤلِ وَاضحةً لِي، كَانَ بَصرهُ يَتدفقُ نَحوَ بَابِ الجَامعةِ،كَأنَّهُ بِانتظارِ شَخصٍ مَا،لَمْ أعرفْ مِنْ هُوَ إِلَى الآنَ...". (لُغةُ الأرضِ،ص 111) .

من المؤكَّد أنَّ هذه التأمُّلات الصوريَّة الحادَّة في وجه الطفل والاحتمالات التي قرأ فيها الكاتب صور تفسيرات مظهر شخصيته وما يحمله من أنساق قيمية معيشيةٍ عن أثر الواقع المزري على حياته تركها القاصُّ علي عبيد إلى فكر القارئ ودرجة وعيه الناضج في اختيار ووضع جواب عن تساؤله لإتمام واقعة الحدث الختامية المفتوحة بقراءات احتمالية تأخذ أكثر من جواب أو تفسير له.

6- (حبٌّ جامعيٌّ):

ونذهب في تصفحنا البصري والفكري لفِهرستِ هذه المجموعة القصصية إلى قراءة نصِّه القصصي العاطفي (حُبٌّ جامعيٌّ) الدال على محتوى عتبة عنوانه في تقييم حركة العلاقات العاطفية في الحياة الجامعية وعلاقاتها النصيَّة الدقيقة تحديداً بالجانب الاجتماعي الأسري والإنساني الذي تَتحرَّك الإنسان فيه وفق منظومة القيم والعلاقات الاجتماعية الثابتة والمتحركة حيال ما يُميَّزُ به شخصٌ لافت للنظر عن آخر مَغمورٍ أو فقيرٍ مُعدَمٍ مَقهورٍ غيرِلافتٍ للآخرين في فضائه الزَّمكاني.

والمُلاحظ أنَّ قصة (حُبٌّ جامعيٌّ) تبدأ بحكاية حبٍّ بسيطةٍ وتنتهي بفكرةٍ قَيِّمَةٍ تتكاثر فيها الأفكار والرؤى والأحلام بمخاضاتٍ سرديةٍ عديدةٍ؛ لِتُعلِنَ عن علاقة أحد طلبة الدراسات الأوليَّة (الجامعة) بفتاةٍ ثرَّيةٍ ميسورة الحال تُدعى (سميرة) زميلة له في القسم والذي يدرس فيه والكليَّة. كانت تماثله في التفوُّق والميول والطموحات وتحقيق الأماني المستقبلية؛ لتثمرَ عن إعلان هذا الحب الجامعي في بداياته الشائقة العذبة. حيث تنطلق شرارة شآبيب هذا الحبِّ من موقف إنساني شهمٍ وتنتهي العلاقة العاطفية بموقف إنساني آخر غادر لمبادئ الحب الحقيقي وصيانة كيانه الإنساني الخاصّ:

"بَعدَ أنْ اِنتهَى الدَّوامُ لمْ يَأتِهَا أبوهَا فِي الوَقتِ المُحَدَّدِ، تَأخَّرتِ السيَّارةُ عَلَيهَا، فَتقدَّمتُ مِنهَا بِثقةٍ وَقُلت لها: أنَا سَأقومُ بِهمَّةِ إِيصالكِ إِلَى البَيتِ فِي أحدِ أحياءِ (بغدادَ)، لَمْ تَقبلْ فِي البِدايةِ، لَكنْ سُخونةُ الجّوِّ وَيَأسَها مِنْ مَجِيء أبيهَا وخَوفاً مِنْ سَائقِي سَيَّاراتِ الأُجرةِ، دَفعهَا لِلقبولِ،فَتَحتُ لَهَا البَابَ الأمامَ، تَرددتْ قَليلاً ثُمَّ رَكِبتْ صَدرَ السَيَّارةِ، كَانتْ قَلقةً، تَشعرُ بِالحرجِ، وَكُنتُ أُحاولُ اِنتهازَ الفُرصةِ كَي أُفَاتُحهَا بِعَلاقةٍ عَاطفيةٍ دَائمةٍ؛ لَكنَّني فَكَّرَتُ أنَّ التَّوقيتَ خَاطِئٌ لِمِثلِ هَذهِ العَلاقةِ، وَسَأبدُو سَخيفَاً وَمُستغِلَاً لَهَا؛لِأنَّهَا الآنَ تَصعدُ فِي سَيَّارتِي؛لِذلكَ أجَّلتُ مُفاتحتَها إِلى فُرصةٍ أَفضل، وَبدأنَا َتَناولُ أحاديثَ عَنِ الدُّروسِ والمَحاضرِ والأساتذةِ وَعَن المُستقبلِ...". (لُغةُ الأرضِ، ص115) .

من تجلِّيات هذا الموقف النسقي الإنساني الظاهر أخذت أواصر العلاقة الإنسانية الجميلة تنمو وتزدهر لما تبقَّى من سنينَ الدراسة المتوالية سنةً تلو الأخرى؛ لتكشف عن علاقة وثيقة من آخر بينهما كما يصف هذا النسق السردي الرائي لتمظهراته ويؤكِّد أنَّ عُرى الحبِّ بدأت تكبر مع انقضاء الزمن حتى وصلت نتائجه إلى نهاياته الصادمة التي وضعت حداً فاصلاً لمفترق طرق:

"السَّنةُ الرابعةُ كَانتْ تَختلفُ عَنْ جَميعِ السَّنواتَ الثلاثِ المَاضيَةِ، فَهيَ سَنَةُ المُفاجآتِ كَمَا أَسميتًهَا أَنَا، كُنتُ أَظنُّ أنَّ الحُبَّ مِثلُ شَجرةٍ تَنمُو بِتصاعدٍ وَتَزدادُ خُضرةً وَأغصَانَاً وَثِماراً[...] وفِي الشُّهور الأُولى بَدَأتْ سَميرةُ تَبتَعِدُ شَيئاً فَشَيئَاً، وَكَانتْ تَختَلِقُ الأعذارَ، حَتَّى حِينَ تَأخَّر عَليهَا أبُوهَا رَفضتِ الصُعودَ مَعِي، وَأخذتنِي الشُّكوكُ بِصديقِي، يَا لِي مِنْ أحمق، تَأخَّرَ أبوهَا كَثيرَاً فَاستأجرتْ سَيَّارةَ أُجرةٍ تَكسِي وَلَمْ تَركبْ مَعِي، مَشيتُ وَراءَ سَيَّارةِ الأُجرةِ تَابعتُها حَتَّى أوصلتُها البيتَ، نَزلتْ مِنْ السَّيَّارةِ، وَقَبلَ أنْ تَدخُلَ بَيتَها رَأتنِي بِوضوحٍ، نَظرتُ إليهَا بِشوقٍ وَحُبٍّ نِبراتُهُ تَلهبُ كِيانِي كُلَّهُ،لَكنَّها أغلقتِ البَابَ وَلَمْ تُوجِّهُ دَعوةً بِالدخولِ وَلَو كَذِبَاً". (لُغةُ الأرضِ، ص 117، 118) .

إنَّ سَيرَ هذهِ الأحداث المتوتِّرة، يشي بأنَّ النسق الثقافي الخارجي لموضوعة الحب الجميل قد وئدت في رحمها الأصلي الأُمِ وَدُفِنَتْ وماتت ولم يعد لها أثر مزهر لحياته الباقية. ويُعزَى سبب ذلك التجافي والشتات بين العاشقينِ المُحبَّينِ إلى اتساعِ هُوةِ مسافة الفارق المادي بينهما، فهو طالب علمٍ من أُسرةٍ فقيرة ٍمعدومةٍ الحال، وهي ابنة ذوات ميسورة الحال ثرية ناعمة رغيدة ترفة العيش.

فعلى الرغم من أنَّ المال والثراء لم يكن سبباً كافياً في عدم اقتران الحبيبينِ تحت سقف عائلي واحدٍ؛ بيدَ أنّ رأي الأهل وتصرفهم في النظر إلى الحياة بنظرة استعلاء دنيوي مادي كانت القشِّةُ التي قصمت ظهر الحبِّ وسبباً كافياً في الكشف عن القيم السلبية الخفيَّة للنسق الثقافي الجائر. وهذا ما تشي به انثيلات الخاتمة القصصية التي أوجزت بلاغة الفرق بينهما في نهاية هذا الحبِّ الغادر:

"لَقَدْ رَأيتُ الرَّجلَ الَّذِي سَرَقَ مِنِّي حَبيبتِي فِي أخرَ يَومٍ لِلسنَةِ الأخيرةِ، وَهوَ يَصطحبُها بِسيَّارةٍ فَارهةٍ، وَتَبدُو عَلَيهِ عَلاماتُ الغِنَى وَالتَّرفِ، وَحِينَ مَرَّتِ السَيَّارةُ مِنْ جَانبِي،لَمْ تَلتَفِتْ سَميرةُ إِليَّ، لَكنَّنِي تَأكدتُ تَمَامَاً أنَّها فَقدتْ عُذوبتَها وَتِلقائيتَهَا وَإنسانيتَها إِلَى الأَبدِ"؟ (لغة الأرضِ، ص 118) .

فكل الدلائل والعلامات السردية السيميائية لخطاب القصص القصيرة تُشير باهتمامٍ إلى أنَّ القيمة النسقية الثقافية الأولى لديمومة هذا الحبِّ كانت إنسانيةً إيحائيةً بحتةً، وتؤكِّد في الوقت ذاته أنَّ سبب فشل الثيمة النسقية الثقافية الداخلية المضمرة كانت قيمةً اجتماعيةً إنسانيةً قَبيحة بحتة تحكمها العلاقات المادية الصرفة وتُحرِّكُها، وليست العلاقات الروحية الإنسانية الثابتة الحقَّة، وهو النسق العَيبِي الخفي الذي يستتر وراءه الكاتب في مثاقفاته النسقية المتوخاة في مقاصدها الثقافية الجديدة.

7- (فِصَـامٌ):

وفي موضوع مغاير آخر من موضوعات علم نفس الشخصية الإنسانية الحديث، نلجُ الى الدخول إلى مضان قصَّة النصِّ السردي المدوَّن (فِصَامٌ) الدالُ على موضوعة الأمراض النفسيَّة الحديثة التي تصيب الإنسان المعاصر كثيراً.فهذا الهوس النفسي المتضاد في الازدواجية الشخصية العقلية، هو ما حصل فعلاً وأصاب البطل الرئيس لشخصية قصة (فصامٌ) .القصَّة المتمايزة فنيَّاً في ضبط إيقاعها الأُسلوبي السردي والجمالي الفنِّي، والتي كتبها المُبدع عَلِي عُبيد بتماهي روح الطبيب المشخِّص، وتقمص المريض الشاكي من ازدواجية الداء واستفحال آثاره النفسية القريبة والبعيدة.

لقد كتب القاصُّ حكاية هذا النصِّ وفكرته الموضوعية الدقيقة بأسلوبٍ فنِّي غرائبي وعجائبي مخيالي لا يخلو من اسقاطات الواقع النفسي الإنساني وتمظهراته، وكأنك حقيقةً أمامَ طبيبٍ ماهرٍ يعرف الداء الواقع ويشخِّص الدواء الناجع، وبمعيته مريض يستعرض حالات المرض ونوبات الألم التي تنهتك نفسيته بالخراب، وتُدمِّرُ شخصيته بازدواجية تهويماته العقلية الممتلئة بالسراب.

إنَّ هذا القاصَّ العليم الرائي يعيش تجلِّيات النسق النفسي الإنساني الظاهر للشخصية ويتحسَّس بموحياته النفسية مضمرات واقعة الحدث الموضوعية التي بُنيتْ عليها فكرة القصَّة واجترحتها نسقاً ذا قيمةٍ اجتماعيةٍ ونفسيةٍ عُليا لا بُدَّ من عرضها كضرورةٍ من ضرورات العصر وإسقاطاته.

وباختصار موجز نستعرض الآنَ في نصَّ قصةِ (فِصَامٌ) شخصية رَجلٍ أو زوجٍ من خلال عَلاقته الأسرية الحميمية مع زوجته التي يحبَّها كثيراً، وفي الوقت نفسه أو ذاته يمقتها نفسياً ويتمنَّى أنْ يتخلَّص منها بسبب هوسه وتخبُّطه النفسي المتوتر ذي المؤشِّر الصاعد والهابط مع نوبات المرض التي شغلته كثيراً وسيطرت كليَّاً على هواجسه العقلية واِتِّزانِ أفكاره الشخصية :

"فَمَا أَمدُّ رُوحِي عَلَى سَريرِ النَّومِ إِلَى جَانبِ زَوجتِي حَتَّى أَشعرَ بِالاحتقَانِ يَفورُ فِي خَلايَا جَسَدِي يَطعنُنِي وَيُحيلنِي إِلَى جَمرَةِ دِمَاءٍ مُشتعلةٍ وَتَوتِرٍ يَصلُ حَدَّ الفَزَعِ، يَجتاحُنِي، مَشاعرِي تَصلُ دَرَجةَ الغَليانِ، وَخَوفٌ دَائِمٌ يَركضُ فِي شَرايينِ دَمِي، إِنَّها تَنَامُ إِلَى جَانِبي أوْ أنَا الَّذِي أَلتحقُ بِهَا فَأجدُهَا بِانتظارِي عَلَى السَّريرِ، أَخافُ أَنْ تَمُدَّ يَدَهَا وَتَمُسَّ جَسَدِي، يَفزعُنِي حَدَثٌ كَهَذَا، وَإذِا مَدَّتْ يَدَهَا سَأترك السَّريرَ، ضَجِرَاً مُصَابَاً بِقَرَفٍ مُقزِّزٍ، أَبتعدُ عَنْ السَّريرِ حَتَّى تَغفوَ ثُمَّ أعودُ، وِفِي هَذهِ اللَّيلةِ، سَيحدَثُ الشَّيءُ نَفسُهُ؛ لَكنَّنِي قَرَّرتُ أَنْ أضعَ حَدَّاً لِهَذَا العَذابِ، فَأوقفُ حَياةَ زَوجتِي كَي تَتَهاوَى الأسوارُ الَّتي غَالِبَاً مَا تَلتَفُّ حَولَ رُوحِي وَجَسدِي فِي كَابوسٍ أَخشَى أنْ يَظلَّ قَائِمَاً فِي حَيَاتِي إِلَى الأبدِ، خُطَّتِي مُتقَنَةٌ تَمَامَاً، لَا يَمكنُ أنْ يَطولَهَا الفَشَلُ إِلَّا إِذَا عَدَلتُ عَنْ قَرَارِي". (لغةُ الأرضِ، ص 70) .

إنَّ سرديات مجريات واقعة الحدث النصيَّة تخبرُ بوجعٍ مؤسفٍ مثيرٍ عن نسقها الجلي الظاهر، وتكشف عن تمظهرات الشخصية غير السويَّة المظهر والنقيَّة الجوهر. إنها مكابدات اختلاق فصام الشخصية السوية التي استحالت إلى كوابيس ومخايل مَرضيةٍ وخُططٍ نَفسيةٍ غيرِ مُجديةٍ لمواجهة واقع الحال المرضي الوسواسي القاهر الصادم نفساً الذي انعكس سلباً على شريكة حياته الزوجية:

"كُنتُ أَتمَنَى أنْ أتخلصَ مِنْهاَ، أَنْ تُغادِرَ الحَياةَ، لَكٍنْ الأمرُ العَجيبُ الَّذِي سَيحدِثُ دَائِمَاً. هُوَ اِفتقادِي لَهَا إذَا اِبتعَدَتْ عَنِّي إِلَى مَكانٍ بَعيدٍ، فَأنَا لَا أَحتملُ ذَلِكَ نَهارَاً وَاحِدَاً، كُنتُ أتمنَّاهَا إِلى جَانِبِي، إذا غَابتْ، أَشعرُ بَأنفاسِهَا، وَأسمَعُ صَوتَ ضِحكتِهَا، العَجيبُ أنَّ ضِحكتَهَا وَهِيَ بَعيدةٌ، تَبدُو سَاحِرَةً مُمتعةً حَدَّ الدَّهشةِ؛ وَلَكنِ حِينَ أَجدهَا بَينَ يَديَّ قَريبَةً مِنْ نَظَرِي سَيخفِتُ كُلُّ شَيْءٍ، وَسَتنقلِبُ ضِحكتُهَا إِلَى عَذَابٍ مَريرٍ[...] ". (لغة الأرض، ص70، 71) .

وقد دعاه هذا السلوك النفسي المتناقض بين ثنائية الخير والشر والحبِّ والكُره لزوجته إلى وضع خطةٍ بسيطةٍ للتخلُّص من زوجته؛ لكن وساوسه وهوسه وتخيُّلاته حالت دون تنفيذ فعله الشائن الذي لم يتمكن في محاولاته الفاشلة من تحقيقه عاجلاً أمْ آجلاً، إنها نقطة الضعف المسيطرة على نفسه والتي لم يتمكن أنْ يتخلَّص منها أبداً، إنها أشبه بالوسواس القهري الذي يَلِحِّ عليه:

"عَجِبُتُ مِنْ نَفسِي لِمَاذَا أُفكِرُ بِالقَضاءِ عَليهَا؟.. بَكيتُ.. وَعَرِفتُ أَنَّ رَأفتِي الَّتِي تَتَكَرَّرُ دَائماً فِي لَحظاتٍ كَهذِهِ سَتقودَنِي إِلَى فَشلٍ آخرَ، لَكنِّي رَأيتُ شَيئَاً مَا يَتحرَكُ إِلَى جَانبِهَا، فَوقَ فِراشِهَا، أنهيَتُ بُكائِي، كَانَ الجِدَارُ قَدْ بَدَأَ يَتأسَّسُ، يُولَدُ لِتَوِّهِ. وَأصبحَ سُورَاً شَاهِقَاً..". (لُغةُ الأرضِ، ص 70) .

لم يفلح البطل الغالب بالفصام من تنفيذ خطته للتخلُّص من شبح زوجته أُمِّ ابنته الوحيدة، فهو على الرغم من العداء السلبي النفسي القاهر المضمر النسق الذي يكنه للزوجة من أجل إبعاد شبحها الوجودي معه، راح يذكر بتأنٍ كلَّ محاسنها وتصرفاتها الإيجابية معه في سرير النوم، وكيف كانت جَلِدةً وصبوراً على تحمل أفعاله الغريبة المتزايدة وسلوكياته المتناقضة سلباً وإيجاباً:

"دَائِمَاً تَفعلُ العَكسَ، مِئاتُ اللَّيالِي الَّتي مَرَّتْ عَلَيهَا وَهيَ تُقرِّبُ سَاقهَا مِنْ جَسدِي، فَأنهضُ كَالملدوغِ، ثُمَّ أَعودُ إِلَى سَريرِهَا فَأسمعُ بُكاءهَا بُوضوحٍ وَأحيانَاً أرَى الدَمعَ يَبرقُ مِنْ سَوادِ عَينيهَا، وَبَعدَ ذَلكَ تَمُدُّ يَدَهَا وَلَا تُقَرِّبُ جَسدَهَا إلَّا بَعدَ مُرورِ سَاعاتٍ طَويلةٍ مِنْ اللَّيلِ، وَمَعَ ذَلكَ فِي غَمرَةِ النَّومِ وَعُمقِهِ حِينمَا يَحدُثُ أنْ تُلامَسنِي، أَفرُّ مَرعُوبَاً مِنْ كَابوسِ الأسوارِ المُتناسِلَةِ وَأتركُ السَّريرَ، مَشهدٌ لَا يَتغيَّرُ قَطٌّ، بِل يَزدادُ رُسُوخَاً...". (لُغةُ الأرضِ، ص 72) .

على وفق هذه الكيفية المتناقضة بين الفعل وردِّ الفعل يقضي الزوج المريض لياليه السودَ مع زوجته في غمرة صراع دائم آسر لا أوَّل له ولا نهاية تجعل منه يستوي على جبل الرحمة وضفاف الأمان من هذا الهوس المرير القاتل للنفس الإنسانية. علَّه يجد علاجاً ناجعاً شافياً لمرضه ويتخلَّص من كوابيس أحلامه المُتكرِّرة بتناسل السور، فهو يرغب بالتعافي والتشافي من أعراض هذا الفصام الشخصي الخطير الذي قَلبَ حياته رأساً على عَقِبٍ؛ لكنَّ رغبته بالشفاء تتلاشى دائماً:

"إنَّ حَالاتِ كَهذهِ الَّتي أفقدتْ حَياتِي يُمكنُ مَعالجتُهَا، لَكنْ لَمْ أكنْ أُصدِقُ ذَلكَ، تَتلَاشَى رَغبتِي بِالشفاءَ، وَلْم أُحاولْ ذَلكَ، مُطلقَاً، حَتَّى مِنْ أَجلِ اِبنتِي الجَميلةِ الَّتِي لَا تُشبهُ أُمَّهَا إلَّا بِصوتِها وَحُزنِ عَينيهَا وَوَجهِهَا المُستديرِ وَشَعرِها الأسودِ اللَّامعِ وَهُزَالِ جَسدِهَا! اِبنتِي الَّتي أحبُّهَا كَثيرَاً لَمْ أجدْ فِيهَا سَببَاً لِتَجاوزَ مِحنَتِي مَعَ الأَسوَارِ...". (لُغةُ الأرضِ، ص 73) .

ونفهم من تجلِّيات هذه الدفقة الشعورية السرديَّة الدرامية المشهد أنَّ البطل الفصامي السلوك في ازدواجيته النفسية القلقة وغير المتَّزنة بفعل اضطرابه النفسي المؤثِّر يحمل في تناقضه النفسي والشخصي سلوك الإنسان الطبيعي السوي الخيِّر،وهو النسق المُتَّفقُ عليه الظاهر، وسلوك النسق المضاد الآخر غير السوي المضطرب المدمِّر الغائر في النفس الإنسانية، وهو القيمة السلبية لثقافة الشخصية في صراعها المرير مع الخير والحياة. وهذا يشي بأنه يحمل ثقل النسقين في آنٍ واحدٍ، مما جعله نسقاً سلبياً على الدوام. وهنا تظهر مهارات القاصِّ في التقاط زوايا عديدة لشخصياته.

8- (قِيَامَةُ الجُثَّةِ):

 (قِيَامَةُ الجِثَّةِ) آخر قصّة من قصص مدونته (لغةُ الأرضِ)، والتي كتبها القاصّ علي حسين عُبيد بلغةِ فنيَّةٍ مغايرةٍ وأُسلوب غرائبي فجائعي فيه من مهارة الإدهاش والمفارقات الصادمة عن ويلات الحروب والأخطار التي تمرُّ بها البلدان جراء قيام المتطرفين بأفعالٍ وممارساتٍ تمسُّ هيبةَ الدولةِ أولاً، وثانياً، تُعرِّض أمنها ومواطنيها لخطر الموت الرخيص، الأمر الذي يضطرهم إلى تركهم للأرض والزرع والحرث والنسل والديار عندما يشعر الإنسان بأنَّ بقاءه في مدينته وملازمته لأرضه يُعرِّضه للموت المحقَّق والخطر الدائم الذي يسلبه إرادته وحريته وأمانه الحياتي اليومي.

ونصُّ (قِيامةُ الجِثَّةِ) يسرد بتجلٍّ دراماتيكي وتراجيدي فاجع حزين ومؤسفٍ قصَّةَ شَابٍ قُتِلَ في ظروف الإرهاب، وتمَّ إيداعه عند رجل شيخ عجوز مشلول الحركة في قرية تقع على أطراف المدينة، هرب أهله اضطراراً من مثابة المكان الساخن الذي جرت فيه وقائع الأحداث الداخلية :

"هَا هِيَ السَّاحةُ المَكشوفةُ الَّتي قُتِلَ فِيهَا الشَّابُ، لَمْ أَنسَ المَكانَ الَّذِي خَرَّ صَرِيعَاً فِيهِ، تَخَيَّلتُ نَومتَهُ في لَحظاتِ قَتلهِ، وَكَانَ مُنكفِئَاً عَلَى وَجهِهِ كَأنَّهُ يُريدُ مُعانقةَ الأَرضِ، خَطَوتُ فِي السَّاحةِ، وَصَلتُ المَكانَ نَفسَهُ". (لغة الأرضِ، ص 138) . في هذا المشهد الزمكاني تتجلَّى دراما الحدث السردي.

من تفاصيل هذه الحكاية التي وظِّفتْ مرجعياتُها التي تشي بها واقعة الحدث الموضوعية يتبيَّن من فضاء النصِّ العنصر المكاني المرتبط بزمنٍ محدَّدٍ ما، وتعرَفُ إحدى شخصياته بؤرة الحدث الفاعلة (مقتل الشاب)، فيتضح النسق الثقافي لموضوعة الإرهاب والتهجير والنزوح القسري الذي كان من فعليات هذا الحدث الأمني الساخن الذي على إثره، ثمَّ تركهم الديار في المدينة، وإيداعهم الشاب القتيل في القرية عند الشيخ العجوز المشلول، والنزوح منه عندما تفاقمت ظروف الإرهاب.

لكن عندما انطفأت جذوة الإرهاب وخَفَّ لَظى لهيبه القاتل قرَّرَ ذَوو القتيل الشاب العودة للديار وإلى بيت الشيخ العجوز لتسلم جثته المودعة عند هذا الرجل المُسنِّ، ولكنَّ نسيج الحكاية السرديَّة أخذَ اتجاهاً آخر أكثر تعقَّيدًا. فحصلت مفآجات صادمة مؤلمة لم تكن في الحسبان؛ نتيجةَ موت الشيخ العجوز، وإثر تحركات مُخلَّفَات قيام الإرهاب التطرفي الجديد الذي لم يكن مألوفاً من قبل في المجتمع، والذي فرض نفسه حالاً طارئاً على واقع حال عقابيل الراهن الظرفي المعيش.

"قَادَنِي نَحوَ بَيتِ الشَّيخِ المَشلولِ، وَصلتُ الحَدِيقةَ الخَارجيَة الَتي تَتَصدَّرُ البَيتَ، حَيثُ كَانَ يَجلسُ الشَّيخُ المَشلولُ عَلَى كَرسِيٍّ مُتحرِكٍ يَومَ نُزوحِنَا[ ...] فًتِحَ البابُ فِي تَردَّدٍ، خَرَجَ مِنهُ طِفلٌ مُراهقٌ فِي مُنتصفِ العِقدِ الثَّاني مِنْ عُمرهِ أو أقلٍّ، رَحَّبَ بِي بِصوتٍ خَفيضٍ مُرتعِدٍ، وَكَمَا يَفعلُ أولادُنَا الكُرماءُ دَائِمَاً، قَالَ:-تَفضَّل اِدخلْ.شَكرتُهُ ثُمَّ سَألتهُ عَنِ الشَّيخِ المَشلولِ". (لُغةُ الأرضِ)، ص 139، 140) .

هكذا سارت الأمور في البحث، وبعد تسلُّمهم الأوراق من الطفل وقراءة ما دوَّنه الشيخ من توصيات لعائلته بخصوص جثة الشاب القتيل الذي هو الأمانة التي حملها نيابةً عن أهله، وما رافق تلك الأمانة من أحداث جِسامٍ ومفارقاتٍ وخوفٍ رهيب من طارقات الطبيعة وشرِّ رجال الإرهاب والجماعات الإرهابية المسلحة التي واجها الشيخ المشلول للحفاظ على الوديعة البشرية من العبث.

إنَّ قِيامة النسق الإنساني الظاهر تؤِكِّد ما قام به الرجل العجوز من إصرارٍ ثابتٍ عجيبٍ ووفاءٍ خالصٍ عجيب بالعهد لأُمِّ الشاب القتيل إلى آخر لحظةٍ من لحظات التصدِّي لتلك الجماعات المتشدِّدة. وهذا هو النسق الثقافي المعلن الصريح لفعل الخير، أمَّا النسق المُغيَّب المجهول من هذا الحدث، فهو عنصر الشرِّ الذي يستهدف حُرمة الإنسان في بلده ومدينته التي سقطت فيها حقوق البشر واُنتهكت مبادئُهُ وأخلاقه وقيمه دون رعايةٍ للدين والعرف والعادات والتقاليد. وهذا ما تشي به خاتمة القصة المؤثرة في فكِّ شفرة النسق الإنساني المضمر لسرديات واقعة قصة (قِيامةُ الجُثَّةِ) :

"نَزَلَ رَجُلانِ آخرانِ مِنَ السَّيَّارةِ الكَبيرةِ، حَمَلَا الجُثَّةَ بَعدَ أنْ فَكَّاَ عُقدَةَ الحَبلِ مِنَ الذِراعِ، وَضعَاهَا فِي جَوفِ السَيَّارةِ، فِي تِلكَ اللَّحظةِ رَاودنِي هَاجِسٌ مُرعبٌ بَأنَّهم سَوفَ يُصادرونَ الجُثَّةَ مِنِّي، وَأنَّ السَّيَّارةَ سَوفَ تَسرعُ بِهَا إِلى مِكانٍ مِجهولٍ، تِحِرِّكتِ السَّيَّارةُ مُسرعةُ، اِستدارتْ نِحوِ الجهِةَ المُعاكسةَ لِبَيتِي، أَخذُوا الجُثَّةَ مَعَهُم وغَابُوا فِي لُجةِ الظَّلامِ". (لُغةُ الأرضِ، ص 147) .

إنَّ أحداث القصَّة بدأً من مُفتتحها وانثيالات مُستعرضها الحدثي وحتَّى ونهايات خواتيمها توحي جميعها بأنك أمام تسريد أحداث رواية بكامل عناصرها الفنيَّة، وليس إزاء حكاية طويلة متعدِّدة الأفكار ومتجددة الرؤى وكثيرة الأنساق الإنسانية والاجتماعية والوطنية والنفسية لسيمائية الحدث.

9- (النَّافِـذةُ):

ومن أُسلوبية القص الحكائي الطويل الماتع بآفاق تسريداته الفنيَّة والجمالية المترابطة، نتحوَّل إلى نوافذ من القصِّ السردي القصير المكثَّف الذي تعلن عنه لافتة قصَّته العنوانية الموسومة بـ (النافذةُ)، المتوالية القصصية القصيرة المتكاملة التي احتوت في مضانها السردي على ست نوافذ قصصيةٍ قصيرةٍ في وحدة موضوعاتها وارتباطها الوثيق بعنوان المصفوفة السردية الأم (النافذةُ) .

وقد حرص الكاتب عبيد أن تكون هذه النوافذ القصيرة التقاطاتٍ فنيَّة وتسريدية مضيئة من واقع الحال اليومي الاجتماعي الأُسري المألوف وغير المألوف التي هي محطُّ اهتمام القارئ النابه. ومن بين نوافل الاختيار الحكائي أنْ نبتدئ بأول قصَّةٍ تحمل الرقم (1) من غير عنوان كونها جزئيةً ترقيميةً في المصفوفة المتوالية؛ لكونها جاءت مفتتحاً لمسرودات هذه القصة. والتي كتبها الكاتب أو القاص العليم علي عبيد بلغة ضمير الغائب أو الحاضر المتكلِّم الفاعل في خطابه مع الآخر.

وتدور أحداث هذه القصة الواقعية الحلمية عن حكاية رجلٍ مُقاتلٍ زوجُ امرأةٍ مثاليةٍ حالمة تحبُّ زوجها كثيراً، ويستعدُّ زوجها الذهاب إلى ساحات القتال؛ لكنَّ زوجته تحلم بأنه هذه المرَّة سوف لن يعود إليها سالماً كالمرَّات الأخرى السابقة، على الرغم من أنه يؤكِّد عودته الأبديَّة إليها، فتقول:

"أُكابِدُ نُفسِي كَي أبدُوَ مَرِحَةُ مُستقرةً، أَبتسمُ أمامَ عَينيهِ، لَكِنْ لِسَانِي يَتَحَجَّرُ مِنْ فَمِي وَتَخوننِي الكَلماتُ، فِي قَلبِي هَديرٌ مُوَّارٍ، يًمزِّقُ رُوحِي وَجَسدِي، حُلُمٌ خَبيثٌ يَدهمُنِي، لَا أَستطيعُ البَوحَ بِهِ، صَوتٌ وَصَداهُ سَيبقَى يَتردَّدُ فِي رَأسِي إلَى الأبدِ، يَقول ُالصَّوتُ: زَوجُكِ لَنْ يَعودَ هَذهِ المَرَّةِ!". ( لُغةُ الأرضِ، ص51) .

هكذا تبدو الأمور السرديَّة للحكاية وتتضح على ظواهرها النسقية الحاضرة، بأنَّ لامجال لعودة الزوج هذه المرة من جبهات القتال؛ وذلك بحسب ظنون الزوجة ورؤياها الحُلمية. ولكن هل تتحقَّق نبوءتها الحُلُميَّة أو شكَّها الظنِّي الاعتقادي حِيال زوجها. هذا النسق الخفي سنلمسه من خلال خاتمة القصَّة التي أراد لها الكاتب أن تكون خليطاً من الخيال اللَّذيذ والواقع اليومي الزوجي القريب:

"قَفَزتُ مِنْ نَومِي، زَوجِي يَغفُو إلَى جَانبِي بِوجهِهِ الوَديعِ، أنفاسُهُ كَمَا عَهدتُهَا تَنشرُ الأَمانَ فِي رُوحِي وَقَلبِي وَتَجعلَ البَيتَ جَنَّةً مِنْ أمانٍ وَسَلامٍ؛ لَكنَّنِي لَمْ أَستطعْ النَّومَ بَعدَ هَذَا الحَلِّ، فِي الصَباحي ِ تَفاجَأ بِاستيقاظِي وَاِحمرارِ عَينَيَّ، وَرَأى غَمامَةَ حُزنِى تَكسُو مَلامِحِي، لَمْ يَقُلْ شَيئَاً فِي البِدايةِ، لكنَّهُ حِينَ أكملَ اِرتداءَ مَلابسِ الرَّحيلِ، وَتَمنطَقَ بِالرصاصِ، هَمَسَ فِي أُذنيَّ :- سَأبقَى مَعكِ إلَى الأَبَدِ يَا...". (لُغة الأرضِ، ص52) .نهاية فراغية مفتوحة تحتمل أكثر من تحليل وتأويل.

إنَّ موحيات النصِّ الحُلُمية والواقعية على الأرض تؤكَّد بقاء الزوج المقاتل حَّياً مع زوجته الحبيبة؛ لكن هذا الإيحاء قد يحتمل أمراً آخر من خلال النهاية التي تركها لنا القاصُّ مفتوحةً النداء باسم الزوجة، قد يكون بقاءً معنوياً وليس مادياً يعيش بذكراه لزوجته إلى الأبد، لأنَّ الحبَّ الحقيقي لا يموت أصحابه المحبُّون والعاشقون، وهذا هو مكمن مضمرات الحدث القصصي الخفي البعيد.

ومثل ما بدأنا بتفكيك قصَّة الجزء الأول عن المرأة الزوجة الحالمة من قصة (النافذة) الأم المتوالية القصصية، نتحوَّل إلى آخر جزء منها هو السادس ومختتمها القصصي الذي يخبر أيضاً عن أحلامِ امرأةٍ عاشقةٍ تحبُّ زوجها الحاضر الغائب وتحلم به في النظر إلى ملابسه كرمزٍ صُوري من رموز حضوريته معه في بيتها الآمن، الذي هو مثابة هذا النسق الثقافي الحُلمي الظاهر الجَلي:

"فِي البَذلةِ البَيضَاءِ، اِمتلأتْ، فَاضتْ بِالجسدِ الأَليفِ، تَقدَّمتُ صَوبَهَا، إِنَّهَا لَمْ تَزلْ مُمتَلئَةً فَائضةً، تَقَرَّبَتُ مِنَها كَثيرَاً، اِحتويتُهَا بِذراعِي وَألقيتُ بِرأسِي فِي دِفْءِ الصَدر ِالوَاسعِ،غِبتُ عَنْ كُلِّ شَيءٍ، وَأنَا أَستمعُ لِطرقةٍ مُمَيَّزةٍ .. طَرقةٍ.. طَرقةٍ وَبعَدَ بُرهةٍ... طَرقةٍ ثَالثةٍ". (لغة الأرض، ص 58) .

هذا التوكيد اللَّفظي لوقع صوت الطرقات الثلاث المميَّزة يقترن أو يشي بنسق حضورية الزوج المؤكَّدة للبيت وإن كنات الحضوريةُ حُلُميةً. وأنَّ هذه الأنسنة الحضورية للبذلة التي نفخت فيها الزوجة روح زوجها، أو استحضرته مخيلتها في نسغ عالٍ من الحبِّ الروحي يمنح القصَّة بُعداً سرديَّاً وفنيَّاً وجمالياً في أُسلوبية القاصِّ الذي أعطى المرأة في أكثر من نصٍّ قصصي، وفي هذا النسق الثقافي المضمر حضوراً فاعلاً ومميَّزاً سواء أكان بقصة (النافذة)،أو في غيرها من القصص الأخرى التي تؤكِّد بدقةٍ مهارة الكاتب وقدرته في تجسيد وقائع الحدث السرديَّة تجسيداً فنيَّاً مُدهشاً.

10- (أَنينٌ مُتوارَثٌ):

 (أنينٌ مُتوارثٌ)، هي القصَّةُُ الأولى من قصص مدوَّنةِ (لُغةُ الأرضِ)، والدالة على معانيها الموضوعية في أنَّ هذا الأنين المتوارث، هو أنينٌ أو بكاءٌ إنسانيٌّ في أدبيات وأعراف المجتمع العراقي الراسخ تأصيلاً. هو بالحقيقة في هذه القصة الأنين البكائي والحزن السومري المتوارث أُسرياً؛ نتيجة نوبات الطَلَقِ الولادي للمَرأة عند حدوث المخاض المفاجئ أو غير المفاجئ الطبيعي.

وهو النسق الثقافي الإنساني الأول المُعلن للقارئ ظاهرياً في طيَّات هذه القصة الحافلة بالحكايات الفكريَّة التي تفرضها سيميائية الفضاء القصصي وأجواؤه الحدثية. بقي أنْ نخوض التأمُل في قراءة هذه القصة (الإنسانية) المتفرِّدة في خصوصية موضوعها الساخن الطارئ؛ لنتعرَّفَ على النسق المضمر الذي يتخفَّى بترقبٍ وراءه الكاتب في تلافيف تسريداته الففجائية الصادمة الحدث.

وتتلخص مجريات الحدث القصصي وصراع حبكته الدرامية عن قصة امرأة أرملة مع شقيقها يحدث لها مخاضٌ أو طلقٌ ولادي في ظروف حربٍ غير اعتيادية من ظروف طوارئ البلد الذي تتعَّرض فيه بنيته التحتية ومراكزه الصحيَّة إلى الدمار والخراب نتيجة وضع فُرِضَ عليه. هذه المرأة يفاجئها مخاض الولادة العسير في بيئة صحراوية خالية من المستشفيات ومن دُور الولادة، وحتَّى من النساء القابلات من ذوي الخبرة والاختصاص، فكان المخاض عسيراً زمكانياً عليهم:

"خَطونَا مَعَاً فِي أَعمَاقِ الصَّحراءِ المُحاصرَةِ بِالبردِ، لَمْ تَقُلْ صَاحِبَةُ المَزرعة ِإِلَى أيَن تَسيرُ بِنَا، كَانَ صَوتُ الأنينِ يَطرِقُ سَمعِي بِشِدَّةٍ، خِفتُ عَلَى شَقيقتِي مِنَ المَوتِ الَّذِي تَتَمنَّاهُ هِيَ وَأخشاهُ أَنَا، لَا شَكَّ أنَّ الكَلامَ المُجَرَّدَ يَختلفُ عَنْ مُواجهةِ الحَقيقةِ، فَالإنسانُ يُعلِنُ مَواقفَ كَثيرةً بِلسانهِ؛ وَلكنَّهَا عِندَمَا تُصبِحُ حَقيقةً سَوفَ يَتراجَعُ عَمَّا لَفَظهُ لِسانُهُ، شَقيقتِي تَمَنَّتِ المُوتَ فِي النّهَارِ الفَائِتِ، وَهَا هُوَ يُفاجِئُهَا فِي اللَّيلِ وَيُصبِحُ حَقيقةً لَا مَفَرَّ مِنْهَا، قُلتُ لِلمرأةِ الَّتي رَافقتنَا: أَخشَى عَلَى شَقيقتِي مِنَ الخَطَرِ الَّذِي يُحِيقُ بِهَا، مَاذَا سَتفعلينَ؟ -هَدِّئْ مِنْ رَوعِكَ سَوفَ نَجِدُ حَلَّاً". (لُغةُ الأرضِ، ص 9) .

تمثِّلُ هذه الدفقة السردية الإنسانية الطويلة والمتواثبة الخطى بؤرة الحدث القصصي الدرامي الساخن، وهي في الوقت ذاته موجز بيانه النسقي الثقافي البائن للمتلقِّي والقارئ الناقد المعرفي. والمُساءَلةُ التي تُلقي بنفسها الاستفهامي، هل من الممكن أنْ نجد حَلَّاً ناجعاً لهذا المأزق الإنساني الصعب في مثل تلك الظروف المأساوية الحالكة التي فرضت نفسها لحلِّ هذا المشكل الإنساني الكبير وكيف يكون نوع هذا الحلِّ؟ لنعرف المُغيث له من النسق الخفي الآخر لهذه الواقعة الحدثية.

"رُبَّمَا تَحدُثُ هَذهِ المُعجزةُ، فَتُغيِّرُ كُلَّ شَيءٍ رَأسَاً عَلَى عَقِبِ لِدرجةٍ أَنَّ المَوتَ قَدْ يَتحوَّلُ إِلَى حَياةٍ، وَالظلامَ إلَى ضَوءٍ، وَاليَأسَ إلَى أَملٍ، والخَوفَ إلَى قُوَّةٍ، وَهَا هِيَ تَحدُثُ بِالفعلِ، فِي لَحظةٍ فَقدنَا فِيهَا الأملَ بِكُلِّ شِيءٍ، إِلَّا مِنْ ذِلكَ التَشبثِ المُستميتِ بِنَبَضِ الحَياةِ حَتَّى آخرَ الأنفاسِ، فَفِي غَمرةِ حَالةِ التَّرقُّبِ وَالقَلقِ والخَرابِ وَضَياعِ الرَّجاءِ، يَنبثقُ ضَوءٌ ضَئيلٌ لِلأمَل، مَا يَلبثُ أنْ يَشِعَّ... يَنمُو.. يَكبرُ..يَتصاعدُ لِتنَطلقَ صَرخةُ وَليدٍ جَديدٍ،كَانتْ صَرخةَ جَنينٍ أزليٍّ تَراكمتْ مُنذَ بِدءِ الخَليقةِ وَانطلقَتْ اللَّحظةَ، كَي تَتَحدَّى الحَربَ وَكُلَّ أَشكالِ المَوتِ الأُخرَى...". (لُغةُ الأرض، ص 12) .

في لُجةِ هذا المخاض العسير تنكشف تلك الصرخة الأنينيَّة المُتعثِّرة، وبكلِّ تأكيدٍ أنَّها صرخة الأمل والنسق الخفي المفقود، والتي كنات مُغيَّبةً عن الأنظار في وقوعها الحَلِّي المفاجئ التي رسمها القاصُّ عَلي حسين عُبيد بعينه السرديَّة الباصرة وبرؤياه الحُلميَّة المِخياليَّة الماتعة في لوحةٍ هذه القصة الاستثنائية الدرامية المتحركة التي يمكن أن تحصل في ظروف طوارئ غيرِ عاديَّةٍ.

وعلى وفق هذه المتوالية الحركية الواثبة الخطى تبدأ حركة الصراع الدرامي للحكاية القصصية، وتتفاعل دينامياً لتصلَ إلى قمَّةِ الصراع وهرمه العالي، ثُمَّ تنفرج حبكة عقدته الحَلِّيَّة ويتمخَّض عنها تحوِّلاٍت إنسانية وفعليَّةٍ غيرِ مُتوقعةِ الحدوث. ولكن هذا كلُّه في صوبٍ والخاتمة التّخَلُّصِيَّة للقصة في صوب موضوعي جميل آخر. فلنقرأ ما كتبه القاصُّ لها من تخريجٍ فنِّيٍ مؤنسنٍ رائعٍ:

: لَمْ تَجِبْ بِشَيءٍ، تَقَاطرتِ الدُّموعُ مِنْ عَينيهَا، تَنَبَّهتُ إِلَى خَطيئتِي، لَيسَ صَحِيحَاً أَنْ أُذَكِّرَهَا الآنَ بِزوجِهَا الَّذِي خَطفتهُ الحَربُ، حَاولتُ مُعالجةَ الأَمرِ المَوقفِ، لَكنَّنِي فَشلتُ، فَقَدْ كَانَ قَلبُها يَبكِي بِصوتٍ مَسمُوعٍ". (لغة الأرض، ص 14) .

لقد أراد الكاتب أنْ يبعث برسالة يخبر فيها قارئهُ بهذه الخاتمة التراجيدية الحزينة الشفيفة المؤسفة لما آلت إليه صِعابُ الأمورِ، وأراد أنْ يقول أنَّ النسق الظاهر بدأت قيمته الإنسانية العُليا بأنينٍ بكائي قديم مُتوارث مَسموعٍ، وخُتِمَتْ بأنينٍ قلبي مُؤنسنٍ مَسموعٍ يُقطِّعُ نِياطَ القَلبِ، ويؤلِّبُ شغاف القلب وعلائقه بالحزن السومريّ المُتوارث المُستديم الذي لا يمكن انتزاعه أبداً من النفس العراقيَّة.

11- (أَزيزُ الذُّبَابِ):

من بين نصوص هذه المجموعة القصصية قصَّة (أَزيزُ الذُّبابِ) التوثيقية التي يلتقط الكاتب في نسقها الثقافي الظاهر مشاهد الفوضى والألم التي مرَّ بها الشعب العراقي في تاريخه المعاصر والحديث خلال واقعة الاِنتفاضته الشعبانية ضد نظام الحكم البائد في آذار/مارس من عام 1991، والتي لم يكتب لها النجاح لأسبابٍ كثيرةٍ خارجة ٍعن إرادته واستقلالة. والَّتي لم يُصرِّح الكاتب بذكرها في بياناته السردية،وأنَّ موحياتهاالحكائية تفضح المسكوت عنه وتكشف عن أنساقها الخفيَّة.

وها هو القاصُّ علي عُبيد يُتَرجِمُ لهَّذه الانتفاضة الشعبية نسقياً بلغة (أزيزِ الذُبابِ) العشوائية ويصف لما حدث لإنسانية المجتمع من ترهيبٍ وقمعٍ وقتلٍ بطريقةٍ وحشيةٍ، تكشف عن جوعٍ وقهرٍ وإذلال:

"تَقدَّمَ الرَّجلُ بِعصبيةٍ، وَسَحَبَ الغِطاءَ بِقُوَّةٍ عَنْ الجُثَّةِ، فَانكشفَ الوَجهُ مُجدَّدَاً، فِيمَا عَادتْ مَجاميعُ الذُّبابِ تُهاجِمَ الوَجهَ بَأزيزٍ يَقترِبُ مِمَا يَحدثُهُ الرَّصاصُ، رَأيتُ مَجموعةَ رِجالِ تَخطَّو الجُثَّةَ، فِي عُيونِهم تَشتَعِلُ نَارُ الغَضبِ، دَنَا مِنِّي أخِي وَقَالَ: لِنبتعدَ مِنْ هُنَا". (لُغةُ الأرضِ، ص 28) .

مِمَا يُلاحظ أنَّ القاص قد قرنَ في التشابه ما بين أزير مجاميع الذباب وأصوات لعلعة رصاص مجاميع الرجال الآخرين في انتهاك حرمة الإنسان التي كرمها الله في هذ النسق الخفي من فوضى القتل. فهذا القتل المجاني الرخيص لهوية الإنسان يتبعه في النسق المُضمرِ دَمار وتخريب للمباني الحكومية الأمنية وضياع وتحطيم للبنية التحيَّة اللُّوجستيَّة للشعب ونهب مخزونه. وقد أرخن الكاتب لهذا التهافت غير المسبوق لِلاستيلاء على غذاء الشعب من مخازنه الرئيسة بحجَّة أنه مال للشعب المتعطش من حقِّه الحصول عليه إثر معاناة الحصار الاقتصادي وحرمان الشعب من مُتعِ خيراته:

"وَاصلنَا السَّيرَ نَحوَ مَخازنِ الغِذَاءِ، كَانتَ تَمُرُّ مِنْ جَانبِنَا سَيَّاراتُ حِمْلٍ صَغيرةٍ مُعبَّأةٍ بِأنواعِ الأغذية خفي ِ، وَثَمَّةَ عَرباتُ دَفعٍ يَدويَّةٍ مُحمَّلةٍ بَأكياسٍ مِنَ الطَّحينِ والرُّزِ يَدفعُها شَبابٌ نَحوَ الأحياءِ السَّكنيَّة ِالبَعيدةِ، الشَّارعُ فِي حَالةِ هَرجٍ وَمَرَجٍ، لَا شَيءَ يَخضعُ لَلانضبَاطِ القَانونيِّ أو العُرفيِّ أو حَتَّى الذَاتيِّ، لَمْ أرَ مِثلَ هَذَا المَشهدِ مِنْ قَبلُ، أَشخاصٌ يِحملونَ أكياسَاً عَلَى ظُهورِهم وَيغذُّون السيرَ فُرادَى إلَى بُيوتِهم وَجماعاتٌ تَفعلُ الشَّيءَ نَفسَهُ، وَصلنَا بَاحةً وَاسعةً تَتقدَّمُ المَخازنَ، كَانتْ جَمهرةُ النَّاسِ فِيها هَائلةُ[...] رِحتُ أَتأمَّلُ هَذَا المَشهدَ الغَريبَ، قُلتُ لِأخِي: هَلْ كُنتَ تَتَوقَّعُ حُدوثَ شَيءٍ مِنْ هَذَا الَّذِي تَراهُ؟ - نَعمْ هَذَا لَيسَ بِالأمرِ الغَريبِ، بَلْ هُوَ السُّلوكُ المُتوقَّعُ مِنْ أُناسٍ يُحاصرُهم الجُوعُ. -هَلِ الجُوعُ يُبرِّرُ هَذهِ التَجاوزاتِ؟". (لُغةُ الأرضِ، ص 30، 31) .

هكذا يُفصحُ نسق (الفرهود) الخفي عن نفسه الجائعة باعتباره بعضاً من حقوقهم المدنية المسلوبة. وعلى الرغم من ذلك الألم الحسير الذي وظَّفته عدسة الرائي القاصِّ، فإنَّه لا يصح إلَّا الصحيح في كل هذا الخراب الحادث للحياة،كانت الخاتمة مُعِّبرةًعن أمل الكاتب وحبِّه لله (الرَّزاقُ الحَيُّ)،ص37.

12- (بَساتِينٌ مُلَغَّمَةٌ):

ومن النصوص ذات الطابع الإنساني التي تتحدَّث في نسقها الظاهري المعلن عن ويلات الحروب ونتائجها الوخيمة على الإنسان قصَّة (بَساتينٌ ملغَّمةٌ) التي حفلت بها مجموعة (لُغةُ الأرضِ) . حيث تصف حكاية هذا النصِّ السردي قصَّة مجموعة من الرجال والنساء ساقتهم أقدار الحرب السير في بساتين ملغومة بالمخاطر والمهالك من أجل استعادة جثة شابٍ مغدورٍ، لكنَّ الأمورَ تَسيرُ بالمقلوب:

"تَبقَى للأَماكنِ والبُيوتِ نَكهتُهَا الخَاصَّةُ فِي الذَّاكرةِ، نَألفهَا وَتألفَنَا كَمَا يَقولُ غَاستونُ باشلارُ، كَأنَّها كَائناتٌ لَا تَنسَى، مَضتْ سَاعاتٌ عَلَى تَركِنَا الصَّحراءَ، تَوغَّلنَا فِي بَساتينِ النِّخيلِ، أقنعنَا الأبَّ الذي فَقَدَ ابنَهُ بِالمجيءِ مَعَنَا، عَلَى أنْ نَعودَ لِابنهِ المَدفونِ هُنَا بَعدَ الحُصولِ عَلَى وَاسطةِ نَقلٍ نَحملُ رُفاتَهُ مِنَ القَبرِ المُؤقتِ إِلَى المَدينةِ[...] مَعَ الغُروبِ يَجبُ أَنْ نَصِلَ إِلَى البَيتِ البَديلِ لَمْ تَكنْ العَرافةُ مُخطئَةً عِندَمَا حَذرتنِي مِنْ صُعوبةِ وأخطارِ الطَّريقِ المُؤدِّي إِلَى الرِّيفِ". (لُغةُ الأرضِ،ص128) .

هذا هو النسق الثقافي المتجلِّي الَّذي من أجله بدأت رحلة الأشخاص في نفق متاهة عذاب مظلم للوصول إلى الغاية المنشودة لتحقيق المَرام المقصود؛ ولكن بعد مصاعبٍ جمَّة واجهتم وخسارات:

"اِبتعدنَا عَنْ مَكانِ الاِنفجارِ، صِرنَا نَخوضُ فِي حُقولٍ جَديدةٍ، المَطرُ يَتزايدُ، الظَّلامُ يَتكاثَفُ، سَمعنَا جَلبةً ولَغطَاً خَلفَنَا لَا نَعرِفُ لِمَنْ، تَعالتِ الأصواتُ عِندَ مَكانِ الاِنفجارِ، حَثثنَا الخَطوَ عَلَى وَقعِ أَنينِ مَكتومٍ أَخذَ يَخفُّ بِالتدريجِ، لَمْ يَعُدْ هُناكَ أَنينٌ أوْ حَركةٌ فِي الجَسدِ مَبتَورِ السَاق، لَاحَتْ بُيوتُ القَريةِ وَمِنْ بِينهَا البَيتُ المُرامُ، فِيمَا أخذتِ السَّمَاءُ تَمطرُ فُوقَ أَجسادِنَا بِغزارةٍ وَكَرمٍ غَيرِ مَسبُوقِ". (لُغةُ الأرضِ، ص 136) .

من تجليات هذه الخاتمة نفهم ثقافة المضمر النسقي المستور الذي أوصلهم إلى هذه النتيجة التي على إثر بدايتها السببية ومستعرضاتها الفعلية ونهايتها الحقيقية المؤسفة توفي والد الشاب المغدور المُودَعِ قبرُهُ في مكانٍ مَا، والذي كان يأمل أنْ يعود بجثة ابنه إلى الديار سالماً؛ لكنَّ الأقدار التي فرضتها لعبة الحروب على الشعوب المغدورة قسراً كانت سبباً رئيساً خفيَّاً في كل هذه الخسارات الروحية والنفسية والوطنية التي دمرت البلد وأحالته من سلام إلى حربٍ مدمرةٍ لاتُقيمُ للإنسان عِزَّاً ولا كرامةً، والخاسر الأوحد فيها هم الكادحون من المهمشين والمُضحِّينَ الشرفاء من أبنائه الأُباة.

والقاصُّ في موضع تلك الخاتمة الموضوعية يبعث برسالة إيحائية سلبية مفادها أنهم وصلوا لهدفهم (البيتُ المُرامُ) ؛ ولكنْ دون جدوى، فالفشل كان حليفهم؛ لأنَّ فقدوا الأبَّ ولي الأمر. ولم يفلحوا إلَّا بِالمطرِ الغزير الذي غسل أدرانهم المتعفنة من جرِّاء رحلة ويلات الحرب لا السلام.

13- (خَطايَا الآباءِ):

من يتتبع بتأملٍ وتدبُّرٍ فكريٍّ نصَّ (خَطايا الآباءِ)، سيقرأ أنَّها من شاكلة القصص السيمائية ذات الإيحاءات الرمزية الكبيرة في مضان أنساقها الثقافية،والتي تتحدَّث بكل جرأةٍ وانصافٍ عن خطايا الآباء الراحلين الكثيرة التي ورثها عنهم الأبناء الخَلفِ، ولم يتخلَّصوا من فكِّ الاشتباك عنها، كونها تمثِّل تِركةً ثقيلةً استغلها تُجَّار الحروب من أعداء الحرية والسلام، لتبقى أرضاً خِصبَةً لديمومة الخراب واليَباب. والأنكى أن الآباء قد سمحوا لأنساق الفساد أن تصيب أرضهم بشتىَّ الأمراض:

"غَمَامةُ حُزنٍ دَهمَتْ الأَمًّ هَبِطَ الاِبنُ بِرأسِهِ عَلَى يَدِهَا، قَبَّلَ ظَاهرَ كَفِّهَا، لَاحظَ الصَمتَ والسُّكونَ الَّذِي يُخيِّمُ عَلَى الحَديقةِ، تَراءتْ لَهُ الصُورُ الثّلاثُ فِي غُرفةِ الجِلوسِ، جَميعُهم قَتلتهُمُ الحُروبُ الثَلاثُ بِطريقةٍ مُباشرةٍ أوْ غَيرِ مُباشرةٍ، قَالَ: أُمِّي ثَلاثُ حُروبٍ مُدَمِّرةٍ تَكرَّرتْ فَوقَ أرضِنَا فِي زَمنٍ وَجيزٍ، بَينَمَا هُناكَ أراضٍ لَمْ تِمسْهِا الحُروبُ عَشراتُ أوْ مِئاتُ السِّنينِ، مَاذَا نُسمِّي ذَلكَ؟ هَلْ هِيَ لَعنةٌ تَستهدفَنَا أَمْ مَاذَا؟ - بَلْ هِيَ مِنْ أخطاءِ الرَّاحلينَ". (لغة الأرض، ص 79) .

واللَّافت للنظر في موحيات هذه الحكاية الإخبارية أن القاصَّ لم يُسمٍّ تلك الحروب الثلاث المدمِّرة باسمها الصريح بل ترك ذلك لوعي القاري النابه الإيحائي. وواضح أنها الحروب التي مرَّ بها العراق مع جيرانه الإقليميين (حرب إيران)، وأعدائه الخارجيين (حرب الخليج الأولى والثانية) . التي مازالت آثارها البعيد تنكأ فتق الجروح والآلام على وقع قلوب أجيال من العراقيين الشباب.

أما تساؤله المثير هناك أراضٍ لم تمسحها الحروب منذ عقود من الزمن إلا أرضنا! وألقى باللُّوم على الراحلين من الآباء. فهذا يعني أن هناك أنساقاً خفيَّةً من بعض السلف السابقين لا تتمنَّى - في ولائها للأجنبي-الخير والاستقرار للعراق بسبب تبعيتها له وخضوعها وخنوعها لإرادته الدولية، لا بسبب جهلها وغَيِّها في صيانة أرضها وَعِرضِهَا لأنَّهم لم يركنواإلى العلاج الناجع الصحيح للخطأ.

أما الأرض الأخرى التي لم تصِبها الأمراض والأورام الخبيثة؛ في محميَّة من جهات دولية نافذة.

ويمضي القاص بخطى وئيدة في استعراض ويلات الحروب الثلاث القاسية الأليمة التي شُنَّت على العراق وعلى شعبه الصابر المحتسب؛ بسبب أخطاء القائمين على حُكمه وإدارته العابثة. ونكتفي في هذا المضمار السردي لنسق الحرب والخراب بالخاتمة النهائية التي تكشف عن النسق الخفي لهذه الحروب التي خلَّفت الحصار والموت والدمار والعاهات والمآسي التي مازالت شاهداً على العصر، وقد قرن القاص في الجانب الإنساني بين الضحية العسكري وصنوه المدني المسالم:

"هَدَءَ القَصفُ، تَذكَّرنَا المُقدَّمَ (جَميل)، خَرجنَا مِن المَقّرِّ بَاحثينَ عَنهُ، شَاهدنَاهُ عَلَى مَبعدةٍ مِنَّا، جَسدينِ مُتشابكينِ مَعَاً، وَهَرعنَا إليهمَا، رَأينَا الأبَّ مَبتورَ السَّاقينِ، بَدَا كَأنَّهُ يَضمُّ اِبنتَهُ بِقوِّةٍ إِلَى صَدرهِ فِي لَوحةٍ لَنْ نَنسَى مَأساتَهَا مَا حَيِينَا". (لغة الأرض، ص 88) .

و الذي نستوحيه من أنساق هذه الخاتمة المأساوية الظاهرة والخفيَّة إلى أخطاء الآباء التي تمثَّلت بشخصية الضحية الأولى الضابط الطيَّار جميل الذي لم يحسب حساباً لمثل هكذا أخطاءٍ مُروَّعةٍ تقع، والضحيَّة الأخرى هي الشخيصة الثانية ابنته الطالبة الجامعية التي راحت ضحية هذا الخطأ.

14- (أَورامٌ لَيست حَميدَةً):

هي نصُّ من القصص التي توسَّطت بموضعها الحدثي المثير نصوص مصفوفة (لُغةُ الأرضِ) بالحديث عن أوهام الناس وهذياناتهم الكثيرة عن الآخر، حتَّى صارت هذه الأوهام والخرافات الملطَّخة بالخطأ كأنها أورام مريض يهلوس بالإعياء والداء؛ ولكَّنها أوراماً ليست حميدةً، بل هي خبيثة تنوء عن فهم خاطئ للحياة والإنسان. والقصة تسرد حكاية شاب يُدعى حَمودي طالته أوهام الآخرين وتخرُّصاتهم عليه بالتهويم والأخطاء والاتِّهامات غير الصحية التي لا تستند لرأي راجح:

"خَرجَتْ بَدريةُ تَضوعُ مِنهَا رَائحةُ الصِّدقِ وَالورعِ، وَقَفَتْ عَلَى عَتبةِ البَابِ وَقَالتْ لَهُم: مَنْ مِنكُم رَأَى (حَمودِي) يَضربُ الطِفلَ؛ بَلْ هُوَ الَّذي نَزلَ إليهِ وَأخرجَهُ مِنْ فُوِهَةِ المَجاري المَفتوحَةِ وَسَطَ الزُّقاقِ وَأنقذهُ مِنَ المَوتِ؟ وَلولَاهً لِظلَّ الطِّفلُ مَطموراً إلَى الأبدِ فِي مِياهٍ ثَقيلةٍ آسنةٍ؛ لَكنَّهُم لَمْ يُصدِّقُوا وَأهمَلُوا أقوالهَا وَطالبوا بِحَجرِ حِمودي، أو إبعادِهِ عَنِ الحَيِّ ؛ لأنَّهُ بَاتَ يُشكِّلُ خَطرَاً عَلَى أرواحِ أطفالِهُم كَمَا قَالُوا[...] وإنْ لِمحوهٌ مَرَّةً أُخرَى فِي أَزقةِ الحّيِّ فَلهُم أنْ يُسَلِّمُوهُ لِأقربِ مُستشفَى لِلمجانينِ،وَمُنذُ ذَلكَ العَهدِ بَدأتْ حَيَاةٌ جَديدةٌ لِحمودِي يَعيشُها فِي حِجرَةٍ ضَيقةٍ تَنفتحُ فِي جِدارِهاكُوَّةٌ تُساوِي مِساحةَ الوَجهِ،وَأجملُ مَا فِيهَا إطلالتُهاعَلَى الزُّقاقِ مُباشرةً" (لغة الأرض، ص91) .

بهذه الكيفية السردية المُتراتبة كانت اتِّهامات الآخرين تطول شخصية حمودي النسق الثقافي الظاهر لهذه القصة الإنسانية المُمتلئة بأمراض المجتمع وأوهامهم التَّخيُّلية التي تصيب العقلاء.وفي النهاية يجد الكاتب مَخرجاً فنيَّاً مُناسباً لهذا النفق الضيق الذي نال الشخصية من خلال علاقة حمودي ببدرية. ولعلَّ هذا التخريجَ،هو النسق الخفي المضمر لتحقيق الآمال والانتصار للشخصية:

"ثَمَّةَ بَوحٌ بِأصواتٍ شَجيَّةٍ مَشوبةٍ بِحُزنٍ رَقيقٍ .. عَتَبٌ وَلَوعَةٌ وَبَقايَا عِشقٍ كَبيٍر.. يَلتصقُ الجَسدانِ كُتلَةً مِنْ نُورٍ، لِتبدأَ طُقوسُ التَّسامِي.. حُزمةُ ضَوءٍ تَرصدُهَا العُيونُ، تَخرجُ مِنْ كُوةٍ صَغيرةٍ وَتَمضِي بِاتجاهِ السَّماءِ شِهابَاً سَاطعاً يَدورُ فَي الفَضاءِ، ثُمَّ يَعلُو وَيَعلُو صَوبَ النِّهاياتَ الَبعيدةِ وَيَنفُذ إلَى مَا وَراءِ النُّجومٍ". (لُغةُ الأرضِ، ص 100) .

هكذا نطقت خواتيم القصَة بنسق الحقِّ الخفي الذي حلقَّ فيه القاص علي حسين عُبيد بأعالي مخايل فضاءات السرد ليمنح الشخصية الفواعلية الارتكاسيَّة الحزينة المضطهدة حقَّ وفائها الإنساني النبيل الذي لا غضاضة فيه أبداً؛ لتنعم بالأمل الجميل بعد الألم الخليل الذي رافقها وهماً.

ولا بدَّ من التنبيه للقارئ المعرفي النبيه من خلال انتهاء هذا المقام الدراسي النقدي لقصص المدوِّنة السردية الأربعَ عشرة (لُغةُ الأرضِ)، أنِّ هناك أنساقاً ثقافيةً خفيَّةً أخرى كثيره لم يصرح بها الكاتب القاص علي عبيد ولم يسمها باسمها؛ وقد تركها لوعي المتلقي أو إلى القارئ النوعي النموذجي أو (الناقد الفذ الألمعي) ؛ لأسباب كثيرة أراها جديرةً حسب ظنِّي واعتقادي لقراءتي وتحليلي لخطاب المدونة السردية والوقوف على جوانبها الإنسانية وموضوعاتها الفنيَّة العديدة.

إنِّ امتناع الكاتب عن التصريح المباشر كان له ما يُبرره من مسوغات شروط المسابقة الدولية التي فازت بها هذه المجموعة،والتي تنبذ الحديث عن أثر الأنساق الحسَّاسة التي تتعلَّق بالطائفية والحزبية وتابو الدين والقضايا الدَّوْلِية الأخرى التي تقف حائلاً دون الاشتراك بالمسابقة العالميَّة.

ويبدو لي أنها فرصة إلماعية مُهمَّة من الكاتب المبدع علي حسين أنْ يستخدم فيها لُغة التلميح والإضمار والإشارات السيمائية التي تُعَبِّرعن صدق علاماتها الأيقونية الخبيئة خلف السواتر والحُجبُ البعيدة. بقي أن تعرف هكذا تكلَّمت مُدوَّنة الكاتب بلغة الأرض البيانية ونطقت بترجمانها اللُّغوي الناصع. و"رُبَّ لِحظٍ أَبلغُ مِنْ لفظٍ" كما ورد في أمثال تراث الأثر العربي البياني القويم. ورحم الله عمرو بن بحر الجاحظ حينما قال مُبيِّناً أثر الكلام البليغ: " رُبَّ إشارةٍ أبلغُ مِنْ عِبَارِةٍ".

أَنساقُ الفِضاءِ المَكاني السَّرديَّةُ

يعدُّ المكان هو الفضاء النصِّي الذي ينبثق منه فعل الحدث السَّردي وتتفجَّرُ منه فاعلية حكاياته الفكرية المتساوقة بحركة شخوصه الفواعلية الُمنتظمة. والذي يسهم إسهاماً كبيراً في إنتاج وتخليق لُغة الكاتب وتشكيل إيقاعه السردي التعبيري عندما يرتبط أثره ارتباطاً وثيقاً بحدثٍ زماني محدِّدٍ.

وعلى وفق ذلك التوصيف الزمكاني فإنَّ كلَّ الفضاءات المكانية المتعدِّدة تؤدِّي دوراً زمانياً مهمَّاً وفاعلاً في تشكيل ثقافة القاصِّ الكاتب المعرفيَّة، وتؤكِّد تعميق هاجس هُوية ارتباطه الأرضي به وانتمائه الثابت والمتحرِّك له. لذلك فإنَّ المكان يُشكِّل مَصدراً ثرَّاً من مصادر أنساقه ومرجعياته الثقافية المتنوِّعة. فإذا كان المكان يُمثلُ صوت الشاعر الثائر المُدَوِّي، فإنّه يشكِّل نقطة انطلاق السارد التتابعية التي ينتقل من خلالها إلى فضاءات عوالمه النصيَّة الفسيحة عبر تحوِّلات تقنيات الاستباق والتأخير السرديَّة لواقعة الحدث الموضوعيَّة. وقد يكون هذا المكان ماديَّاً حسيَّاً أو معنوياً.

لقد حرص القاصُّ علي عُبيد في مشغله القصصي الوارف على توظيف واستدعاء كلِّ الأمكنة والمثابات السرديَّة المُتاحة التي تناسب أنساق ثقافة الوحدة الموضوعية لواقعة الحدث السرديَّة. فاستحضرَ أشكال المدينة وتمظهراتها الحضرية،وتناول معالم َالريفِ وأجواءه السِّحريَّة، وكتب عن تجلِّيات الصحراء القاحلة وتضاريسها المُناخية المقفرة. وتفاعل مع عناصر الطبيعة الكونية الثابتة والمتحركة بكل تفاصيلها واستنطقها صوتياً وأنسنها حركيَّاً، حتَّى وصفها جماليَّاً بـ (لُغةِ الأرضِ) .

ومثلما أنَّ المكان وطن الشاعر الساكن في قلبه النابض، فإن المكان هو مثابة القاصِّ والرائي السارد الحاضر فكراً ووجوداً. وقد يخلق السارد الحاذق عبر مخياله التصوُّري من المكان الحسِّي الواقعي لا مكاناً افتراضياً بديلاً عن أصالة المكان الحقيقي الأول. وتلك هي مَقدرة فاعلية الإبداع القصصي عند الكاتب عندما يوظف في مسروداته الحكاية على أنَّها فكرة قائمة بذاتها، والفكرة قد تُودِي عبر أحداثها الزمكانية المتوالية إلى مجموعةٍ مُدهشةًمُتناسلة من الأفكار الموضوعية الهادفة.

فأمكنة مثابية مثل، فضاءات الأحياء والبيوت والشوارع والأزقة والحدائق العامَّة والبساتين والمزارع والغابات ومظاهر الطبيعة الكونيّة الساكنة والمتحركة التي وظَّفها القاصُّ في مدوَّنته السردية (لُغةُ الأرضِ) التي تمَّ التعرض إليها وتحليلها وتأويلها نسقياً، تُمثِّل جلِّياً في أنساقها الثقافية الخارجية المكشوفة مظاهرَ حسيَّةَ لمواطن الجمال والإبداع.

ويُقابها في الوقت ذاته في تضادات أنساقها المضمرة البعيدة النظر أنَّها تُمثِّل مِرجعياتٍ رمزيةً لمخابئ القُبح وكامنه؛ كون أنَّ الأنساق الخفيَّة العميقة التي تُحركها هي أنساق رموز دَولة الخَراب والفسادِ والدَّمارِ واليأسِ والاقصاء والتهميشِ القصدي العميق الذي هدفه رفعة الإنسان واستقرار رفاهية المكان في كل زمانٍ ومكانٍ. ولابدَّ من خلال هذا الإلمامة الإشارة إلى تمظهرات التمثُّلات المكانيَّة المهمَّة التي تضمنتها النصوص القصصية الأربعة عشر وحفلت بها هذه المدونة النسقية.

تَمَثُّلاتُ الفِضاءِ المَكاني النَّسقيَّةُ

1- نَسقُ المَدينةِ (المَدِينِي):

من التَّمَثُّلات المكانية الرئيسة والمهمُّة نسق (المَدينة) أو الحاضرة التي وظفَّها القاصُّ كثيراً في مدونته. كون المدينة شغلت حيزاً كبيراً من قبل شخصياته الأساسية والثانوية التي قامت بالحدث. فكانت المدينة إحدى مرجعيات الكتاب الثقافية وموئِل أفكاره ونقطة انطلاق حركة الصراع الدائر.

"الاِرتبَاكُ وَالقلقُ يَعبثُ بِنَا، السَّيَّارة تَنطلق ُبِنَا نَحوَ المَدينةِ، وَثمَّةَ سَيَّاراتٌ قَادمةٌ مِنْ المَدينةِ مُصابةٌ بِالذُّعرِ، أَكفُّ النَّاسِ تُطالبُنَا بِالعودةِ وَعَدمِ مُواصلةِ الطَّريقِ، تَكرَّر هَذَا التَّحذيرُ مِرارَاً، لَكِنْ السَّائقَ أصرَّ عَلَى مُواصلةِ السَّيرِ لِأمرٍ نَجهلَهُ، بَقِي أقلُّ مِنْ أَلفِ مَترٍ وَنَصلُ بَوابةَ المَدينةِ الغَربِيَّة ظَهرتْ خُيوطُ دُخانٍ أسودَ وَرَصاصيٍّ تَتصاعدُ مِنْ أماكنَ وَبِناياتٍ مُتفرقةٍ...". (لغة الأرض، ص 15) .

2- نَسقُ الرِّيفِ (الرِّيفِي):   

لنسق الأرياف والقرى عند الكاتب علي حسين عُبيد مكانةُ كبيرةُ في عرض مسروداته الحكائية المتعدِّدة؛ فضلاً عن أنَّ أجواء الريف وتضاريسه وتخومه من مشاهد العمل القصصي الإدهاشية التي تستهوي الكثير من إمتاع قُرِّائه ومُتلقِّيه.لذلك كان للعمل القصصي في الريف له خصوصياته.

"فِي قِريةِ (أُمِّ البَطِّ) تَسكنُ عَائلتِي وَعَائلةُ زَوجتِي الَّتِي كَانتْ تَمتَلِكُ مَزرعةً صَغيرةً فِي تِلكَ القَريَّةِ، كَانتْ أُمِّي كُلَّمَا اِحتجنَا لِشيءٍ مِنَ المَزرعةِ أَخذتْ كِيسَاً مُتوسِّطَ الحَجمِ، تَلتقِي زَوجتِي (قَبلَ أنْ أَتزوجَ مِنهَا)،تُسلِّمُ عَليهَا وَيَتجاذبانِ أَطرافَ الحَديثِ،وَأكثرَهُ كَانَ يَدورُعَنْ شُؤونِ النِّساءِ، وَكانتْ أُمِّي تَصرُّ عَلَى أَنْ تَسألَهَا عَنِ الفَرقِ بَينَ نِساءِ الأَمسِ وَنِساءِ اليَومِ..." (لُغةُ الأرضِ، ص59) .

3 - نَسقُ الصَّحراءِ (الصَّحراويّ):

شغلت نسقية الصحراء أو الفيافي نسبة كبيرةً وحيزاً سردياً ماتعاً في وقائعه وأحداثه ومفارقاته الطارئة التي تفرضها واقعة الموضوع الحدثية على شخوصها ومكانها وزمانها وحركة صراعها.

"تَفَرقنَا عَنْ بَعضنَا فِي مَسافاتٍ مُتباعدَةٍ، صَحراءُ رَمليَّةٌ لَا يَحدُّهَا شَيءٌ سِوى أُفقِ السَّماءِ، حَرارةُ الشَّمسِ تَتَصَاعدُ، أَشعتُهَا تَصفعُ وَجَه الأرضِ فَتبدُو أَكثرَ شَراسَةً وَصمتَاً وَتَوحُّشَاً، بَدَأنَا نُدقِّقُ فِي الرُّؤيةِ، نَشحذُ البَصرَ بِأقصَى طَاقتِهِ، عَلَّنَا نَعثرُ عَلَى شَيءٍ يِدلُّنَا أوْ يَقودُنَا إِلَى الشَّابِ أَمجدَ الَّذي لَا نَعرفُ أَينَ هُوَ الآن؟ ..." . (لغة الأرض، ص 46) .

4- نَسقُ الأرضِ (الأَرضِي):

لدالة الأرض العتبة العنوانية المهمَّة الأولى المُسندة بالإضافة لدالة اللُّغة في هذه المدونة مكانةٌ خاصَّةُفي تأثيث مدلولات قصديات الخطاب السردي التي استمدَّت منه حكاياتها الجمعية المشتركة. وكان للأرض أنساقها الثقافية القريبة والبعيدة التي وظَّفها الكاتب عُبيد في آثار حفرياته السرديَّة الكاشفة. وكم هو جميل أنْ في النسق الفكري والجمالي أنْ يدافع الإنسان عن أرضه ويضحي من أجلها؛ ولكن الأجمل والأسمى أن يحيا على أديم هذه الأرض ويٌعَمِّرُها تُربَةً..تُربَة، وقَطرَةً..قَطرةً.

"شَمَّرَ (خِنيَابُ) عَنْ سَاعدِيهِ، بَدَتْ عَضلاتُهُ مَفتولةً، وَجسدهُ كُتلةً صُلبةً، دَخلَ إِلَى الحَديقةِ، وَقَفَ فِي مُنتصفِهَا، غَرزَ أَصابعَ كَفِّهِ فِي الأَرضِ وَحَمَلَ حَفنَةً مِنْ تُرابِهَا المِريضِ، نَظَرَ إليهَا وَتَمَعَّنَهَا بِعُمقٍ، رَاحَ يَتأمَّلُهَا وَيُركِزُ فِيهَا، أغمضَ عَينيهِ كَأنَّه يَستذكِرُ سِيرَةً أوْ سِرَّاً مَا، أَخذَ يَشمُّهَا، فَتغيَّرَ وَجهُهُ وَهوَ يَستنشِقُ التُّرابَ الَمائِلَ لِلحُمْرَةِ...". (لُغةُ الأرضِ، ص 119) .

5- نَسَقُ البَيتِ (البَيتِي):

لقد وظف القاصُّ البيت في مدونته السردية (لُغةُ الأرض) عامةً وفي أكثر من قصة خاصةً، كون البيت أو المنزل هو المثابة المكانية التي يلتصق بها الإنسان في حياته اليومية وعمله باستمرار.

" إِلَى جَانبِ بَيتِ نُوفةَ العَاقرِ، يَقعُ بَيتُ حَبيبتِي الشَقراءِ ذَاتَ العُيُونِ الخُضرِ، بَيتُنَا يَقعُ مَقابلَ بَيتِهَا، كَانَ يُسمِّيهَا الشَّبَابَ وَالمُراهقونَ، (الفَتاةَ الأوربيةَ) لِجمالِها، لَا أنسَى اللِّقاءَ الأَولَ الَّذِي جَمعنِي بِهَا عَلَى قَارِعةِ الطَّريقِ غُروبَاً، حِينَمَا مَسكتْ يَديَ بِيدِهَا الصَغيرةِ وَوَضعتهَا عَلَى قَلبِهَا، فَأحسستُ نَبضَهَا يَتلاحَقُ بِذعرٍ يَتناقَضُ مَعَ سَعادَتِكِ آنذَاكَ...". (لُغةُ الأرضِ، ص 113) .

6- نَسَقُ الحَدائقِ (الحَدَائِقِي):

للحدائق في تَمَثلُّات الكاتب ميزة فنيَّة وجماليَّة خاصة ترتبط بإيقاع الحدث الزمكاني وتمنح مساحة من التأمل والتفكير؛ كون الحديقة تعدُّ عنصراً ترويحياً من عناصر الطبيعة الكونية الثابتة.

"حَانَ وَقتُ العَصرِ، خَرجَ مُجدَّداً إِلَى الحَديقةِ، خُيوطُ الشَّمسِ تَندلِقُ عَليهَا حَانيَةً رَقتيقَةً، نَظرَ إِلَى الأَرضِ، لَاحظَ أنَّ الاِحمرارَ قَدْ بَدَأَ يَخفُّ وَيَقلُّ فِيهِ، أَشجارُ الرُّمانِ تَتعَالَى وَتَنثرُ أَغصانَهَا فِي الأَرجاءِ، النَخلَاتُ تُسَرِّحُ جَدائلَهَا فِي غَنَجٍ، عِطرُ القِداحِ يَملأُ رِئتَيهِ، حَديقةٌ تَتَصدَّرُ بَيتَهُ، وَأرضهُ تَتَعَافَى بِالتدريِجِ، أُمُّهُ أَطلَّتْ عَليهِ مِنْ دَاخلِ البَيتِ...". (لغة الأرض، ص 83) .

7- نَسقُ المُقَهى التَّرفِيهِي، والحيِّ (الأَحْيَائِي):

للأزقة والأحياء السكنية والمقاهي الشعبية أثر بالغ وكبير في حركة الإنسان اليومية؛ لذلك كان حضورهما مهمَّاً في الأنساق الثقافية الخفية والمتجليَّة عند القاص؛ كونها تشكل بؤراً فنَّيةً للحدث المكاني. وقد عبَّرت عن مقصدياتها الموضوعية والجمالية التي من خلالها تكتمل عناصر الحدث.

"أَتَابِعُ فِلمَاً عَربيَّاً فِي مُقهَى (أَبو يَاسين) بِحيِّ رَمضانَ، فِي جَيبِي عَشرَةُ فُلوسٍ فَقَطْ تَكفِي لِتسديدِ الشَّايِّ الَّذِي شَربتُهُ مَقابِلَ الجِلوسِ فِي المُقهَى، الدُّنيَا لَيلٌ وَغدَاً يُومُ عِيدٍ، وَأنَا لَا أَملكُ سِوَى هَذهِ (العَشرةِ فُلُوسٍ)، فَكرتُ أَنَّني لَنْ أَدفعَهَا لَأبِي يَاسين القَهوجِي، حَتَّى أَستطيعَ غَدَاً أَركبُ الأُرجوحَةَ المَنصوبةَ بَينَ نَخلتينِ شَاهقتينِ فِي مَنطقة (الحُرِّ) ...". (لغة الأرض، ص 107) .

هذه الأنساق الثقافية المكانية السبعة التي حفلت بها تمظهرات المجموعة السردية (لُغة الأرضِ) واُستخدمت في مسارات القص الحكائي في المدينة والريف والصحراء والأزقة والأحياء، هي الأكثر شهرةً وبروزاً في المدوَّنة.وكان لتوظيفها الفني أثر بالغ في الكشف عن أنساقها ومرجعياتها الجميلة والمستقبحة للنفس الإنسانية.

وهناك أنساق ثانوية أخرى سيكتشفها القارئ النموذجي النابه بنفسه لإضافتها إلى الأنساق التي تمَّ كشفها وفكِّ شفراتها اللُّغوية والدلالية النسقية في تجلِّيات هذه الدراسة النسقية، وربَّما قد تكون هناك أنساق أخرى مضمرةً وظاهرةً لم يتم الكشف عنها أو التنبيه إليها، فالمدونة تحتمل أكثر من تحليلٍ وتعليلٍ وتفسيرٍ وتأويلٍ. وهذا الفعل هو ما يميِّز سمة الخطاب النصِّي السردي الإبداعي المكين الناجح، سواء أكان إنتاجه قصصياً أم روائياً، ويقابله في النظير الأخر الخطاب الشعري.

أُسلوبيَّةُ القَاصِ السَّرديَّةُ

إنَّ أهمَّ ما يميَّز الكاتبَ والقاصَّ والرِّوائي عليّ حسين عُبيد ويؤشِّر فنيَّاً لسمات مُعجمه القصصي التسريدي أُسلوبيته التعبيرية في اعتماده لمنهج أساليب السردية المعاصرة (الموضوعيَّة والدراميَّة) المُتوحدنة معاً في إنتاج وتخليق حدثٍ سرديٍّ قصصيٍّ سَبكيٍّ وحَبكِيٍّ شائقِ اللُّغةِ. وَاِتباعه لمنهج فنيَّة القصِّ التعبيري الطويل الذي يجد الكاتب نفسه به كثيراً، ويُجيدُ بإتقانٍ لعبته الفكرية والإبداعية بهذا الحسِّ الإنساني الكبير الذي له طعمه الخاصُّ وبصمته اللَّونية المتميِّزة. ومن ثمَّ ابتعاده عن فنيَّة الاختزال والتكثيف والتحشيد السردي التي هي من أهمِّ تقانات القصِّ القصير الذي يعتمد على فنِّ التوقُّع والمفارقة الحدثية والصدمة الإدهاشية المؤثِّرة بصناعة الحدث السردي وتأثيثه الإبداعي.

وكلُّ نصِّ قصصي من قصصه الطويلة يُشعرك أنَّك تقرأ خطاب روايةً (نوفلا) قصيرة كاملةً بتعدُّد أصوات شخوصها (البوليفونية) وأحداثها ووحدات زمانها ومكانها وحركة صراعها وفكّ حبكتها العُقدية، وحسن خواتيمها التي تجمع بين فنيَّة الخاتمة الموضوعية والانفتاحية.فهذا النفس القصصي الطويل يمنح الناقد النابه نافذةً تأمّليَّةً في الكتابةِ عن كلِّ قصَّةٍ من قصص هذه المجموعة التراتبية.

وهذا يشي بأنَّ علي حسين عُبيد، هو ليس الكاتب والرِّوائي والقاصُّ الشاخصة سمات هُويته التعريفية في أدبيات السرد القصصي فَحسب، بل هو مثالٌ للأديب والمثقَّف العضوي المثابر الذي يحمل في كتاباته التعبيرية الهم الجمعي المشترك للجامعة الإنسانية قاطبةً. فلا عجب أنْ تراه واثباً مُتنقلاً، تارةً يكتب عن موضوعات الحرب والسلم، وتارةً عن الموتِ والحياةِ، وتارةً عن الحبِّ والكُرهِ، وتارةً عن الخيرِ والشرِّ، وتارة عن ازدواجية النفس الإنسانية ظاهرياً وباطنياً، وتارةً عن ألم الفقر والشعور بالغنى. إنه إنسان هذه الأرض فلا يخفى عليه خافيها ولا يصعب عليه ظاهرها.

وتكشف مدونة (لُغةُ الأرضِ) عن أنَّ القاصَّ علي عبيد قارئ جيِّد وألمعي فعال يُجيد قواعد لُعبة القص الفنِّي الطويل بهذا النفس الإنساني الكبير الذي يمنحه مِساحةً سَرديةً كبيرةً من حُريَّة التعبير الفكري والمعرفي. وأنَّ أغلب القصص في هذه المجموعة الانطلوجية الواقعية المخيالية والغرائبية المتنوَّعة اعتمدت كتابتها السرديَّة على تأصيل واقعة الحدث السردي وتأثيثه بلغةٍ فنيَّةٍ وجمالية واعدة بالكثير الكثير الناهض على مستوى الفكرة والحكاية وفاعليتها السرديَّة في التعبير الأدبي.

وتمكين الشخصية الفاعلية من أداء دورها الوظيفي المناط بها بحُريَّةٍ في عملية القصِّ السردي وبروزها بصور وأشكال موضوعيةٍ مغايرةٍ، لها طعمها الفنَّي والجمالي الخاصِّ. والَّتي تُدلِّلُ على أنَّهالا يكتبُها غيرُهُ إلَّا كاتبَها الماهر التخصُّصيّ المتفرِّد بجماليات أسلوبيته الإنسانيَّة والموضوعيَّة.

أمَّا ما يُميَّز مُعجمة السردي القصصي الطويل، فهو أنَّ أغلب أو معظم كتاباته القصصية إن لم أقل جميعها كانت لُغتها النسقيَّة مُخصَّصةً للإنسانية في يوتوبيا الأنساق الثقافية الظاهرة في مدينته القصصية الفاضلة. فَكُتِبَتْ عن المُهمشين والمجهولين والمغيبين، وعن رمزية سيمياء المقموعين والمسكوت عنهم قصدياً في ديستوبيا الأنساق الثقافية الخفيَّة والمضمرة الإهماليَّة التي ترفض كلَّ أشكال الظلم وفوضى الخراب والدَّمار والوجع الإنساني المَرير الذي يشلُّ خطَّ حركته التنويرية والمعرفية وينتهك آدَمِيَّته الإنسانية التي هي هويته الذاتية.وكان الكاتب سيرياً يتخفَّى وراء سطوره.

وبعيداً عن لغة التسطيح السردي فقد حظيت المرأةُ بشتَّى ضروبها التعدُّدية الإنسانية المهذّبة، لا سيَّما الزوجةُ والحبيبة والعاشقة والمعشوقة والأخت والأمّ والبنت في محتوى مدوَّنة علي حسين القصصية (لُغةُ الأرضِ) بِمساحةٍ تعبيريةٍ جمعيةٍ واسعةِ الكتابة في فضائه القصصي، ولَقيتْ اهتماماً نفسيَّاً وموضوعيَّاً كبيراً وطيِّباً لافتاً في إنتاجه السَّردي. فكانت مثلما كان الوطنُ الكبيرُ القاسمُ الفنِّيَّ المشتركَ لشخصياته البطولية الفاعلة في تراجيديا الحدث القصصي الطويل والعلاقات الإنسانية.

وفي الوقت ذاته لم يغفل القاصُّ الكتابة عن أثر الشخصية الذكورية سواء أكانت شابةً أو شيخاً عجوزاً أو طفلاً. وقد استمدَّ الكاتب مرجعيات موضوعاته القصصيَّه الحكائيَّة من تمظهرات عقابيل الواقع والتقاط رهاناته أُسسه الطافية على سطح الفضاء المكاني اليومي وأسقاط أنساقها ومصادرها على وقع سردياته الثقافية بلغةٍ فنيَّة تحرريَّةٍ تجمع بين مرايا الواقعية الملتقطة، ومخايل الفكرية العجائبية التي تُحطِم جدار توقُّع عطب المألوف اليومي. على الرغم من أنَّها فيها نسبة كبيرة من هجس الواقع وتهويمات أحلامه النوميَّة. وقد ساعدته هذه الممارسة الاشتغالية على ذلك التخليق الابتداعي لغته الفنيَّة الفخمة وإيقاع أسلوبه الجمالي التعبيري الفنِّي المُغرِي الماتع للقارئ.

وعلى وفق إشارات هذه الأسلوبية النسقية التي امتاز بها القاصُّ عبيد في سرديات أنساقه الثقافية الإنسانية (الخفيَّة والمُتجلِّية) المتنوِّعة، كان بمدونته القصصية الناضجة فنيَّاً (لغةُ الأرض) ضمير الأمة الواعي المشخِّص وترجمانها الأدبي الناطق وليس الخفي المستتر الساكت.وإنْ كان للغموض الفنِّي إثر موحياته السيميائية وعلاماته الأيقونية الإشارية الضاربة سهماًفي صميم الحدث السردي.

وكان علي حسين عبيد بحقٍّ شاخصها الإبداعي الأوحد، وكاتبها النوعي المثابر الذي يمكن أنْ نعدَّ عمله الإبداعي القصصي الطويل هذا في سونار اجتراحات النقديَّة المحايدة إضافة نوعيةً مهمَّةً ومتفرَّدة في الإسهام برفد فهرست مكتبة السرديات القصصية العربية عموماً، والعراقية على وجه الخصوص بكل ما هو جديد حداثوي ماتع رائع تكويناً وتأصيلاً وتلقياً معرفيَّاً لافتاً لنظر القارئ.     م, فيما أخذت السماء تمطر فوها ولا يصعب عليه ظاهرها.ئيساً في كل هذه الخسارات الروحية والنفسية مرام, فيما أخذت السماء تمطر فو     م, فيما أخذت السماء تمطر فوها ولا يصعب عليه ظاهرها.ئيساً في كل هذه الخسارات الروحية والنفسية مرام, فيما أخذت السماء تمطر فو

***

د. جبَّار ماجد البهادليّ / نَاقدٌ وكَاتبٌ عِراقيّ

م, فيما أخذت السماء تمطر فوها ولا يصعب عليه ظاهرها.ئيساً في كل هذه الخسارات الروحية والنفسية مرام, فيما أخذت السماء تمطر فو

في المثقف اليوم