قراءات نقدية

قراءات نقدية

يتّجه المرء إلى الماضي ليكتبَ يحاكيه في الحاضر، وهذا يُلقي بظِلال سؤالٍ مفاده: ما الغاية من تلك العودة إلى الماضي والكتابة عنه ومنه؟ يزيد في استشكال الموضوع حين يتَقصّد الكاتب نوعاً معيناً من التأليف الضارب بجذوره في التراث لكنه حديثُ المضمون والمحتوى. ثم، إنّ الحديث عن الكتابة يتطلب منا الوقوف على أنواعها وأساليبها، مما يجرّنا إلى إماطة اللثام عن الأصل الذي يجمع ويلمُّ كل أصناف الكتابة، ونعني بذلك الإنتاج الأدبي.

لم يكن مفهوم الأدب يخرج عن التربية والرعاية وقد يعني حُسن الضيافة والوفادة عند العرب الأوائل حيث يقول الشاعر طرفة بن العبد:

نحن في المشتاة ندعو الجفلى

فلا ترى الآدِب فينا ينتقــــــــر.

استقرّ مفهوم الأدب، مع ازدهار الحضارة العربية الإسلامية، على كل شكل من أشكال التعبير الإنساني؛ وذلك بما استطاع الإنسان أن يُنتِجه بأسلوب بليغ يصل تأثيره إلى المتلقي ويتفاعل معه. وإذا كان مفهوم الأدب قد شمل كل الفنون الشعرية والنثرية التي أنتجها العرب من قصائد وسِير، أو قصص وحكايات، أو خطب ومقامات... فإن مفهومه اليوم، في الوطن العربي، لا يخرج عن المعنى الذي تسلّل إلى أوطاننا من الغرب: مع المدّ الاستعماري، أو انفتاح الشعوب على بعضها فيما يعرف بالمثاقفة ومع انمحاء الحدود بفضل الشبكة العنكبوتية. كان من نتيجة ذلك أن توارى الأدب في معناه القديم أو اختفت بعض أصنافه، لتفسح الطريق أمام المعنى الحديث وأصنافه الجديدة من قبيل القصة والرواية والمسرحية...ألخ.

ليس من المبالغة في شيء القول إن الحديث عن الماضي هو، في الآن ذاته، حديث عن الحاضر. وليس جميلاً أن يعود الكاتب الى التراث فحسب، بل إن عودتَه تُعدُّ أشهى موردٍ يمكن أن يُحفّزه على الإبداع. يحضر التراث فينا شئنا هذا أم أبَيْنا؛ والحداثة لا يوقِفها حاجز. فإن كانت نوافذنا مفتوحة وتسمح بهبوب الرياح علينا من كل حدب وصوب، فلا ينبغي أن نسمح لها باقتلاعنا من جذورنا كما جاء في الحكمة الهندية*. يقول عيسى علي العاكوب عن دافع الرجوع إلى التراث[1]: «إن التراث الثقافي لأية أمّة يظل معيناً ثرّاً يرفد دائماً عقول الأجيال الجديدة المبدعة من أبناء هذه الأمة بزادٍ أصيل يُسهم في تقوية الطاقات الجديدة، ويضاعف مصالحةَ منتَجها الثقافي مع جمهورها المتلقي، ويحصِّن فرادَتها وتميزها وخصوصيتها». ومن جهة ثانية، يؤكد جلبير دوران في دراسة أفردَها للبنى الأنثروبولوجية للخيال، أنّ للأسطورة حوضاً دلالياً يتشكل من ست مراحل منها الانسيالات (حوض التجميع). تشير مرحلة الانسيالات «إلى جملة التيارات داخل وسط ثقافي: فهي قد تكون إما انبعاثات من الحوض الدلالي ذاته الذي كان فاعلاً في الماضي، وإما اختمارات جديدة ناجمة عن أحداث تاريخية، كالحروب أو ظواهر ذات أهمية كبرى على المستوى التاريخي ـ السياسي»[2]. فالتراث يظل ماثلاً بآليات وطرائق متباينة وليس من السهل التخلّص من نُسغه، فهو يشكّل النموذج الأصلي الذي يؤطر فكر المبدع وذهنية المجتمع الذي نشأ فيه هذا المبدع أو ذاك.

***

يتجاوب مع هذه التوطئة نص أنيق في شكله، باذخ في لغته، طريف في موضوعه، خاطه صاحبه كمن يخيط كعب كتاب وهو يسفّره. النص للمفكر والمبدع المغربي عبد الاله بلقزيز تحت عنوان "الماضون الى الماضي"؛ وقد عُرض خلال الدورة السادسة والعشرين للمعرض الدولي للكتاب بالدار البيضاء، عن منتدى المعارف اللبناني. النصّ وصفه صاحبه بالسردية، على عادته في الكتابات السابقة، يذيل عناوينها بالصفة التي يرتضيها له من قبيل: نص، رواية، سردية...

يخرج هذا النص، "الماضون الى الماضي"، شكلاً ومضموناً عن النصوص الإبداعية التي صدرت للمؤلف: ثلاثة منها** غازلت اللغة العربية في جوهرها وجاءت «نصوصاً مفتوحةً تتحرّك بين تخوم الشعر والنثر الفنّي، وتنْتَحل بعضَ التأمل الفلسفي والشطح الصوفي»[3]. والحقيقة، أنّك تجدها أشهى وأمتع النصوص عبارةً وتركيباً، تسافر بك رفقة جهابذة اللغة إلى العصر الذهبي للحضارة العربية الإسلامية. إلى جانب هذه النصوص الثلاثة، تأتي مجموعة الروايات*،  وهي أعمال تخييلية نثرية تصور شخصيات وأحداث تشغل بال الرأي العام وتعالج قضايا المجتمع المغربي خاصة والمجتمع العربي والإنساني عامة.  تتناول هذه الروايات قضايا الفقر والهشاشة، الهجرة الداخلية والخارجية، التطرف والإرهاب، التكسب بالدين وبالسياسة، تدنّي القيم الأخلاقية والمهنية، وأشياء أخرى ساهمت في احتقان الوضع، ودفعت المجتمع الى حراك تَّم قمعُه في أغلب الأحيان. ينضم الى هذيْن الصنفين، نوع ثالث** يتناول فيه حالةً عاشها الكاتب ورسخت ذكراها في مخيلته، وقد استلّها من مذكراته اليومية زمن حصاره وحصار بيروت من طرف المحتل الصهيوني الإسرائيلي. وأمّا النص الذي نحن بصدد معالجته، فهو سردية من صنف المقامة. يحتفي الكاتب فيه باللسان العربي المبين وآدابه - وفي ذلك تلميح منه إلى ما آلَ إليه وضع اللغة العربية من تهميش وتفقير لفظي وشظف دلالي وإملاق جمالي، ومن هذه الآداب العربية البديعة، المقامةُ بوصفها شكلاً من أشكال الإبداع الأدبي الأصيل- بغية ابتعاثه من المتاحف ونفض ما عليه من الغبار. وكم هو جميل هذا الاحتفاء حين يُعنوِنُ مقاماته التسع بأسماء حِرف وصنائع اندرست معالمها واضمحلّت، لكنها تشهد على حياة الهامش في مرحلة تاريخية عقبت الاستعمار الفرنسي. يقول في الاستهلال: «في الاحتفاء هذا فعلُ اعترافٍ بجميل ما صنعت هذه الحِرَف لمجتمعاتها وأهل تلك المجتمعات، وما يسّرتْه للنّاس من سُبُل العيش ومن وسائل لمجالدة ما تصعَّبَ من ظروف».[4]

***

كان من أظهر أنواع الأقاصيص في القرن الرابع الهجري «فن المقامات، وهي القصص القصيرة التي يودعها الكاتب ما يشاء من فكرة أدبية، أو فلسفية، أو خطرة وجدانية، أو لمحة من لمحات الدعابة والمجون».[5] فهي نوع أدبي جديد في ذلك الزمان تأسس على الحكايات والنوادر والمُطايبات التي كانت رائجة ساعتئذٍ؛ وإن عدّها البعض مجرد أكاذيب كما جاء عند ابن خلكان فيما يحكى عن الحريري «إنّ هذا قد وضع شيئاً من الأكاذيب وهو يمليه على الناس»[6].  ذكر أبو القاسم الحريري (446هـ/516هـ)، في مطلع مقاماته، أن بديع الزمان الهمذاني (358هـ/398هـ) هو صاحب فن المقامات وأنّه «سبّاق غايات، وصاحب آيات، وأنّ المتصدّي بعده لإنشاء مقامة، ولو أُوتي بلاغة قُدامة، لا يغترف إلاّ من فضالته، ولا يسري ذلك المسرى إلاّ بدلالته»[7].  يذهب فريق من النقاد الأوائل أنّ الهمذاني استلهم فنّ المقامة من «أحاديث ابن دريد» كابن عبد ربه وابن قتيبة، وبمثل هذا قال بعض المتأخّرين كجرجي زيدان وزكي مبارك. لكن هناك مائز بين النوعين؛ إذ تعتمد «أحاديث ابن دريد» على تعدد الرواة والأبطال في حين أن المقامة لها راوية واحد وبطل واحد. هذا ما يؤكده عبد الله إبراهيم في موسوعته التي خصّصها للسردية العربية «أن مقامات الهمذاني وقَفَ على مُناقلتِها راوٍ وبطلٌ، ولا تتضمن أحاديث ابن دريد شيئاً من ذلك، فما هي سوى أخبار مسندة»[8]. على العموم، فهي حكاية فنية راقية عربية المنشأ والأصل. يشعر القارئ العربي المعاصر، حين يدرس المقامة، «بمشاعر متباينة، فهو، من جهة، يتعامل مع شكل "عربي" خالص، ورغم أنه لا يتبين منشأه بدقة، فهو متأكّد أنه متولّد عن أصالة أرض الآباء، وأن سماته لا تحمل أي علامة تدل على تأثير أجنبي»[9]

***

يتبادر إلى الذهن سؤال ما جدوى العودة إلى المقامة؟ أو ماذا نصنع بالأدب القديم جملة وتفصيلاً؟ يأتي الجواب من وجهين: الوجه الأول، تدفع به الأسئلة الجديدة التي تطرحها العلوم الإنسانية إلى ضرورة إعادة كتابة ودراسة النصوص القديمة، فهي تمكّننا من فهم ذاتنا وكيف تشكّلت الذهنية التي تتحكم فينا. وأما الوجه الثاني، فاقتداءً بما فعلته الشعوب الأخرى التي أعادت كتابة الأوديسا والإلياذة وجلجامش أو غيرها من الأساطير والخرافات مما أثرى مكتباتهم وأنعش خيالهم. ذكرتُ أن المقامة تتأسّس على الحكايات والنوادر كالتي تحكيها الجدّات للصغار؛ سوى أن حكايات الجدّات تنحو نحو الخرافة التي لا يُعرف لها مؤلِّف، هذه واحدة. وأما الثانية؛ فجمهور المقامة لا علاقة له بجمهور الحكاية الشفهية؛ ذلك أن جمهور المقامة هو من الخاصّة ويتطلّب حدّاً معيَّناً وقدراً من المعرفة باللسان العربي. وقد ميّزها عبد الفتاح كيليطو عن الخرافة قائلاً: «ليست المقامة حكاية خرافية. فليس للحكاية الخرافية مؤلِّف، ومن العبث الوصول إلى نسختها الأصليّة، وما يمكن هو مساءلة الراوي الذي استقاها من رواة تضيع لائحة أسمائهم من ماض يتزايد بعداً»[10]. أكثر من ذلك، أن المؤلف يُخفي «صوته بنقله إلى شخصياته التي تكتسب، بهذه الخديعة، استقلالاً وحضوراً لا يختلفان عن استقلال وحضور الأشخاص الحقيقيين»[11].

***

يعرّف بطرس البستاني المقامات بأنّها[12] «أقاصيص خيالية مختلفة الأغراض والموضوعات، فمنها الأدبية، ومنها العلمية، ومنها الدينية، ومنها الاجتماعية أو الخلقية، ومنها المجونية.  وفيها سُخر شديد، ونقد لاذع. وفيها ضُروب من التخابُث والاحتيال، للتكسُّب والتعيُّش. وفيها صور متلوِّنة لطبائع المجتمع وعاداته». كما تستند المقامة، فيما حدّده نقاد الأدب العربي، على ركنيْن مهمّيْن: «أولهما: راوٍ ينهض بمهمة إخبارية محدّدة، وثانيهما: بطل ينجز مهمة واضحة، ومن خلاصة تفاعل الراوي والبطل، يتكوّن متن حكائي قوامه الرواية والحكاية، والعلاقة التي تربطهما»[13]. وإذا كانت المقامةُ سرديةً تجمع بين الشعر والنثر القائميْن على الصنعة، فإنّها تندرج في دائرة التعدد والمزج بين أساليب وموضوعات النظم والنثر. تدور «المقامات على بطل متبدل الألوان، كثير الاحتيال، فيه شرّ كبير، وفيه خير كبير؛ فهو ديِّن منافق، صادق كاذب، متزهد ماجن، واعظ مخادع، كل شيء وضده. وهو إلى ذلك واسع العلم والأدب، شاعر خطيب، متكلم راوية، تجده في كل مقامة، وقلما خلت مقامة منه، ويتولى الحديث عنه راوية خيالي مثله، يفاجئه في كل مقامة، ويفضح أسراره، وينقل أخباره»[14].

والفن القصصي ضعيف في المقامات لقصرها؛ ثم لأن القصة ليست غاية فيها بل واسطة لإظهار شخصية بطلها في مختلف أحواله. ولقد تمر مقامات غثة باردة لا قيمة فيها للقصة البتة. لكنّها تتميّز بلغة رفيعة باذخة؛ «وتمتاز المقامات في جمال لغتها، وكثرة غريبها، واعتمادها على المجاز أكثر من الحقيقة، واصطباغها بالصنعة أكثر من الطبع، فهي ملتزمة السجعات، أنيقة العبارات، حافلة بالمحسِّنات المعنوية واللفظية. فيها الأمثال والأشعار، والآيات والأحاديث، فكل مقامة قطعة أدبية، لغتها لغة الشعر على الأكثر لا لغة النثر»[15].

***

استهلّ عبد الإله بلقزيز نصّه، الماضون إلى الماضي، بالحديث عن جنس هذا المؤلَّف الجديد، وقد صنّفه ضمن «سرديات من زمن تصرّم». يروم من وراء هذا الاستهلال وضع اليد على دواعي العودة إلى هذا الفن الأدبي بالضبط. سبق أن ذكرت أن صاحبه يعدّه احتفاءً باللغة وبالتراث، كما هو احتفاء بفترة تكاد تُطوى آثارها من تاريخ المجتمع المغربي القريب، تاريخ الهامش؛ وهكذا يتحول النص إلى وثيقة تاريخية توثِّق لصنائع هذه المرحلة وتشير للتغيرات التي طرأت. وعليه، أحصر تناولي لهذا المؤلَّف من أربع زوايا:

الحرف والصنائع.

الفن المعماري.

العادات والتقاليد.

اللغة التي عالج بها الكاتب هذه السردية.

الحرف والصنائع: اجترح الكاتب لمقاماته التسع عناوين تحمل أسماء حرف وصنائع بعضها اندرس والآخر يحتضر. جاءت العناوين على الشكل التالي متتابعة: نواقيس وقِراب للزينة، "البرّاح"، "الدلّال"، "النفّار"، "طالب معاشو"، "الحلايقي"، "الكسال"، فقيه "الحضار"، ثم "الخطابة". حِرف وصنائع يتميّز بها البشر عن سائر المخلوقات إلى جانب العلوم، حسب عبد الرحمن ابن خلدون؛ وهي مما تُنتجه ملكة العقل المميزة للإنسان، والتي تدفعه إلى «السعي في المعاش والاعتمال في تحصيله من وجوهه، واكتسابه لما جعل الله فيه من الافتقار إلى الغذاء في حياته وبقائه، وهداه إلى التماسه وطلبه»[16].

إن الحرف والصنائع لا تخرج من الأرض كالفطر؛ لكنّها ضرورة مُلحة تفرضها حاجة البشر، ثم لا يلبث بعضها أن يختفي مع انتفاء الغرض منها أو تعوض بغيرها. وأكثر ما ساهم في اندثار الحرف والصنائع التقليدية زحف التحديث على المغرب ودخوله إلى زمن الآلات العصرية وظهور نمط حديث جاء مقترناً بانتشار التقدم التقني والعلمي. والسردية تؤرِّخ لما يَعتوِر بعض الحرف أو العادات من تراجع وضمور. يصف حال "الدلّال"، وهو شخص يرتزق مما يفيء عليه من دراهم بعد عرض أمتعة الناس للبيع بالمزاد العلني في ساحة السوق؛ «وقلّما كنت واجداً من يتخلّص من قنيةٍ قديمة ابتغاء ابتياع جديدة؛ فالأكثرون حِراص على قديمهم، ولهم من تبرير ذلك مذاهب: من القول إنه ميراث الآباء والأجداد، إلى القول إن محتِد القديم شريف أين منه رذالة الجديد وخسّته، إلى القول إن البيع يزري بقيمة المباع ولا يرعى لصاحبه حقّاً، إلى التأميل من مزيد محافظةٍ عليه في ارتفاع سعره أكثر»[17]. حرفة "الدلّال" كان لها شأن كبير وقد كانت مورد رزق في السابق؛ بله، تُمكن من درجة غِنى استطاع جدُّ والده أن يعيشَ وأسرتَه في رفاه وسعة بفضلها: «ألم يبنِ بها والد جدي على نساء أربع، واقتنى رياضاً رحباً استوطنته العوائل جميعاً، وأنجب ما يزيد على دزينة من الولد، وأجرى النفقة على الجميع»[18]. رفاهٌ يُترجم في الذهنية المغربية آنذاك بتعدد الزوجات والولد الكثير والسكن الفسيح.

إذا كان عبد الإله بلقزيز يأتي على ذكر أسباب انتعاش حرفة "الدلّال"، فهو يؤرخ بذلك لمرحلة تاريخية مهمة، كما سبق القول، عرفها المغرب بعد الاستقلال. تميّزت هذه المرحلة بهجرتين قويتين: الأولى، تتمثل في رجوع الفرنسيين إلى بلادهم بعد الاستقلال، وبالتالي عليهم التخلص مما يؤثث مساكنهم؛ «كان أكثر زبنائه، حينها، من الفرنسيين الأجانب الذين بدأوا يشدون رحالهم إلى بلادهم بعد الاستقلال»[19]. وأما الثانية، فترتبط بنكبة فلسطين، إذ بقيام دولة إسرائيل على أرض فلسطين، شجعت اليهود على الهجرة إلى أرض الميعاد. فكان أن تحرك اليهود المغاربة وهجروا ملّاحاتهم (الملاح حي يسكنه اليهود بالمغرب)، وليس لهم من خيار سوى التخلص من متاعهم؛ «كان اليهود، حينها، قد احتلوا القدس وما بقي من فلسطين، والجو مكفهِرٌّ في البلاد، والناس غاضبون»[20]. وما إن نضبت ينابيع مغادرة الأجانب حتى تراجعت مداخيل حرفة "الدلال" واتجهت نحو البوار.

تقاس على هذا باقي الحرف، منها التي توارت مع اجتياح وسائل تواصل جديدة. عوّض المذياعُ والتلفازُ والهاتفُ والأنترنيتُ "البراح" و"النفار"، كما عوّضت المدرسةُ الحديثة والمدرّس الفقيه "الحضار"، وحلّت مواقع التواصل الاجتماعي بفضل الهواتف الخلوية دور "الدلّال" أو دور "الخطابة". نفس الكلام، يقال في حقّ "الكسال" الذي فسح المجال للحمّامات المنزلية أو الحمامات التركية أو قاعات التدليك الطبّي. وتراجع دور "الحلايقي" وأضحى قطعة سينوغرافية فولكلورية تؤثث بعض الفضاءات تطييباً وجلباً للسياح.

***

الفن المعماري: لئن كان مسقط رأس صاحب السردية هو مدينة النخيل، وجوار زاوية أبي العباس السبتي؛ فليس غريباً أن تجري أحداث هذه المقامات في مراكش؛ المدينة التي تنازعت الزعامة على سيادة المغرب، مع سابقتها فاس، والتي كانت لها على عهد المرابطين المؤسسين ثم الموحدين والسعديين. ليس غريباً ألاّ يستدمج النص بعض معالمها الحضارية: الأسوار والأبواب، الأزقة والحومات، الأسواق والحمامات، الزوايا والمدارس، البيوتات والرياض، البساتين والساحات...

ما إن جفّت ينابيع مداخيل حرفة "الدلال" وبدأ يكتنفها البوار؛ حتى تعس حظه وزاد كدّه في البحث عن قوته وقوت أولاده. يذرع خلف سيدة، في طريق طويل ومُلتوٍ، حتى وصلت رياضاً من رياضات المدينة؛ يقول: «ألفيت نفسي في رياض بديع يتوسّطه حوض مشجَّر مزهر تتوسّطه فسقية من رخام تقع نافورة في قلبها يدّفق منها الماء، وجدرانه مرصعة بأصناف مختلفة من الزليج الفاسي والأندلسي، وأرضيته مبلطة بالرخام. وقفت مدهوشاً من وقع جمال المكان»[21]. في هذه الفقرة، بالقدر الذي يسجل فيه الكاتب معاناة "الدلال" وهو يكدّ في الحصول على ميرة يعول بها النفس والأهل كما حدّث على لسانه؛ «أرسل قدمي في الآفاق بحثاً عمّا لا أعرف، وأطحن الهواء في الأرجاء، عساني أُلْفي في المدن جواب نفسٍ عليلةٍ وفؤاد من الغمّ تفطّر: كيف أمتار الميرة لأفواه ثلاثة وأكسو عُريَ من ينظِر كسوتي، وأنا عن بلوغ المرام بمنأى؟»[22]. بالقدر الذي يقف فيه مشدوهاً أمام بهاء وجمال الرياض الذي انتهى إليه. وقفة لها أكثر من دلالة ومعنى، خصوصاً وصفه لهذه المَعلَمة الشاهدة على ثراء أهلها وتألق الصانع المغربي. فأنت في هذا الفضاء، تستفز كل حواسك؛ تشنّف سمعك برقرقة ماء النافورة أو شقشقة العصافير، وتلتقط خياشيمك روائح الحوض المزهر بالريحان والخزامى أو أشجار الليمون وشجيرات الورد الدمشقي، أما العين فتسرح بين جدران المكان المرصعة بالزليج الفاسي والأندلسي والمبلط برخام يبعث في النفس رطوبة تجدها وانت تمرر حاسة لمسك على صفحتها...لهذا وقف مدهوشاً من جمال المكان. جمال ذوق ينقلك إلى زمن صرنا نفتقده اليوم في هندسة أحيائنا ومدننا ودورنا.

***

العادات والتقاليد: يعمّ الرخاء بلدة ما، فيميل أهلها إلى الدّعة والسكينة، وإلى الكماليات من الحياة؛ الأمر الذي يكون له تأثير على الذهنية كما على الأبدان. يُصاب القوم في صحتهم من أثر ذلك الرخاء، مما يضطرهم إلى اتباع حميات ووصفات تتطاير من الأفواه إلى الآذان. ويكون، لهذا، وقع على أسعار بعض المواد، كما حال بعض الأعشاب والأغراس عندنا اليوم. إن شدة الطلب عليها يزيد في سعرها؛ وهذا ما يسجله كاتبنا في حديثه عن سعر بعض المواد: «وأكثر عجبي غلاء سعر المنخول وتقتر المشترين في الطلب. سألته السبب فأجابني أن النخالة، اليوم، أغلى من الدقيق، وهي إلى صحة البدن اليوم مصروفة، مذ صارت منافعها عند الأطباء معروفة، فهي – قال لي – في جملة المنصوح به في الحمية والتنحيف، وللمرضى بالسكري والإمساك غذاء خفيف»[23]. ولست أرى اليوم مواقعَ التواصل الاجتماعي إلاّ ساحة "جامع الفنا" بمراكش أو ساحة "الهديم" بمكناس أو ساحة "باب بوجلود" بفاس، أو محلات العطارين في كل المدن والقرى المغربية وهي تعرض هذه السلع للتنحيف أو تغليظ الأرداف أو زيادة منسوب الفحولة وهلُمَّ جرّاً من العقاقير التي جادت بصناعتها قريحة العشابين.

لا يمكن بأية حال أن تأتي على ذكر بعض الحرف: "البراح" و"النفار" و"الكسال" ثم "الخطابة"، ولا تأتي على ذكر الأعراس والطقوس المحيطة بها. إذ يعتبر عرس الزواج محطة تتجلى فيها مجموعة من العادات والتقاليد؛ وكان "للخطابة" دورٌ كبيرٌ في الجمع بين الأزواج. يتودّد إليها الشباب من الذكور ويطرقون لها السمع وهي تسرد تفاصيل جسد فتاة؛ كما تتسارع الفتيات لكسب ودّها ويتملّقنها في أن تدلّ شاباً صالحاً ليطلب أيديهن. إذا ما تمّ المراد، أُقيم العرس تحت صخب ولعب وغناء ورقص. يصف الكاتب مجريات الأحداث في مقصورة العروس حيث تتولاها "النكافة" بالعناية اللازمة؛ يحكي على لسانها: «وبعد أن نفرغ من اللغط والمداعبة، نعمد إلى تمشيط شعرها وترويق الوجه بكُحل طبيعي من المرود، ثم نُقفّي ذلك بوضع الأصباغ المناسبة: على الجفنيْن والشفتيْن والوجنتيْن والجيد لإسفار الجسم عن المفاتن الجاذبة»[24]. طقس لا يخلو منه عرس زفاف. حتى هذه الساعة، كل شيء يؤشّر على الاحتفال والابتهاج بالمناسبة؛ لكن ساعة زفّ العروس لعريسها تتوقف الأنفاس وتنبري أسئلة الشرف والحظ، أو السعد والنحس. وقد صورت مقامة "الخطابة" المشهد أفضل تصوير: «وحين تُزَفّ إلى العريس – على عادتنا في ذلك الزمن – فيعثر سؤالُه عنها على الجواب. وبعد التهاني والأماني بدوام العشرة والبنين، يحين الحين للإعراس الكبير في الخَلوة، فترى النساء متأهّبات للجيم والسين، وأهل العروسيْن على رؤوسهم الطير إلى أن تُفلح الفحولة، فتوقِّع على سروال العروس بصم الرجولة. وقد يُعرس العريس ويطيل الاختلاء فلا يُدمي ويُحبِط النُّظّار، فتكون علامة شؤمٍ عليه أو دليلَ حظه في مَن ليست من الأبكار»[25].

اللغة والأسلوب: لم يألُ عبد الإله بلقزيز، وهو يحتفي باللغة العربية، جهداً في التلذذ بعباراتها وتراكيبها؛ ينتقي الجميل منها للمواقف الجميلة، ويستدعي القبيح في معناه لمواقف القُبح. من بداية النص حتى متمِّه، عليك أن تستأنس بالقاموس. قال عنه الناقد المغربي نجيب العوفي في ندوة فكرية*: «لا يرسل الكلام على عواهنه ولا يقبل بسهله ومبتذله، بل ينتقي لغته وكلماته بأناقة ورهافة، وينضدها في جمل وعبارات كما تنضد العقود والأحجار الكريمة». تحضر العبارة أمامك فتطرح السؤال: أصحيح أنها فصيحة وأنت تردّدها عامّية دارجة على لسان العامة؟ فعلاً، هو نفض للغبار على ما اندرس من اللسان العربي وتوارى أمام اللسان الأجنبي المتحكم. إذا كانت المقامة تُزاوج بين الشعري والنثري، وتستدعي الصنعة في ذلك؛ وكاتب المقامة ليس له من سبيل إلّا السير على هذا النهج والطريق؛ فذلك ما حدا بعبد الإله بلقزيز أن يؤثث نصه بقدر كبير من المحسنات البديعية، فلا تحسّ أنه يتصنع ذلك، أو أن النص يعجُّ بما لا يطيق منها. رتق النصّ رتقاً محكماً ووشّاهُ بالمحسنات البديعية دون إطناب أو إسفاف. تجده يسجع في القول في جمل قصيرة تتقارب فيها العبارات المسموعة استواءً واستقامةً. يذكر ابن جنّي أنّ السجع سُمّيَ سجعاً لاشتباه أواخره وتناسب فواصله.  وهو كلام مقفّى يزيد النص رشاقة وخفة يستلذّ بها القارئ النهم؛ يقول[26]: «قضيت طفولتي مسطولاً بالكلام، ووجدت فيه الضالة والجمام». أو مثلاً، «لكنّي سبأت بالكسل وبهأت، لأنّي بقراءة الكتب والأسعار جهلت»[27]. وكذلك قوله[28]: «أصبحت، مع كرور الأيام، بالحلقة أكلف، وبتّ أطايب مائدتها أعلف. فكنت أبز أقراني بفصح لساني لأني بخوافيها ومحاشيها أعرف». ثم يُطابِق، في مواضع أخرى، في الجملة بين الكلمتين البسيطتين فيحدث بذلك جرساً يجده صاحب الذائقة: «فكان كلما أمر أو نهى خَذِيت له في غير وجلٍ أو ذلة»[29]. أو قوله[30]: «يأخذ مني جهدي القُلّ والكُثر حين الصعود إلى مصاد العقبة أو المرتفع». ناهيك عن المفاعيل المطلقة التي تُحدث إيقاعاً موسيقياً يصاحبك وأنت تتنقل بين أحداث المقامة؛ «قبل أن يفلّ عودهما حين أصبحت الأرض فِلّاً، ومن الخير فَلاًّ ومبعث سأم»[31]. وقوله[32]«مَن دلَهَه حب الحرفة تدليهاً». أو قوله: «يتحدث إلينا بعربية تشقق تشقيقاً، لا شقشقة فيها ولا فيها نقيقاً». وليس من توظيفٍ لهذه المحسنات وأثرٍ، سوى رغبة الكاتب في إظهار أفكاره وأهدافه؛ ثم التأثير على العاطفة من جهة، وعلى الموسيقا الداخلية من جهة ثانية.

كم هو دقيق وصفه لأساتذته بالمدرسة الثانوية، وأخصّ بالذكر أستاذ اللغة العربية الذي «يتحدّث "إليهم" بعربية تُشقّقُ تشقيقاً، لا شقشقة فيها ولا فيها نقيقاً... ينتقي من الألفاظ مأنوقها، ويفهمك في غير مشقة أو عناء، ويتميز النصوص مأصولها ومسروقها، ويريك سُبل بيان الصدق من الرياء»[33]. وبالمقابل، يتحدث عن والده، "الدلّال"، الذي لم يكن يحسن الكلام على النحو التالي: «كان والدي فأفاءً؛ حصراً عند الكلام مع شَيْن في النطق من فرط إسهال الفاء على اللسان، وتلك عند جدّي مثلبة في الحرفة ومنقصة، ومبعثة على معايرات ذوي المهنة من شرّ الخلق وأسقاطهم»[34].

انتقى لمشاهد أخرى تعابيرها حسب طبيعة الحالة؛ فالمُكْدِي ليس أمامه إلّا المدافعة والضرب في الأرض لتوفير لقمة عيشه وعيش من يكفل. يجب أن يُثبت جدارته في القدرة على الصمود بين أقرانه في الحرفة. أدرك البطل "الدلّال" وهو مقبل على امتهان حرفة الأجداد فيما يرويه عنه «من حينها، أدركت أن ليس لي من خِيَرةٍ غير العوم وحدي واجتراح مكاني بين الأقران، بعد ردح من العزازة بظلّ جدي؛ وأنا لا سبيل لديّ إلى أن أكون ما كان وإن شغلتُ عوضَه المكان؛ فليس من ضهيٍّ لجدي ولا ضريب بين الرجال الصِّيد، ولا من أفوهٍ مثله بين أقرانه الصناديد»[35].

تناولت المقامة مشهداً آخر يندرج في موضوعات المقامات، ضمن ما تعالجه من قضايا المجتمع المسكوت عنها، وهو ارتياد دور الدعارة وأصناف المومسات وكيف يُنظر إليهن؛ «عاشرت أصناف المومسات جميعا، وكنت أتقلّب بينهنّ كل ليلة وما أتخيّر؛ فالمرأة عندي، مثل الطعام، لا تُعاف ولا أُميز فيهن بين من تهدّل صدرها ومن نهدها يناف؛ لقد تكون الواحدة حسناء كاعباً، لكنك تلفي خاطرك منها هارباً، وقد يكون من حظك الضهياء، لكنّها تنفث فيك المتعة الهوجاء»[36].

في باب السباب وكيْل الشتائم والتنقيص من البشر، إمّا لسلوكهم أو مظاهرهم أو مواقفهم، فقد كان اختيار العبارة في منتهى الدقة، كأن كاتبنا نذر نفسه لرصد مثالب ومناقب الخلق في هذه الأمور. تتطيّر أم "طالب معاشو" منه ساعة ولادته، وتحطّ من قدره وهو يترعرع بين يديها، ويلتقط من فيها توصيف الظروف التي رافقت ولادته؛ يقول[37]: «قُذفتُ في رحمها في ليلة نحساء طالبَت فيها والدي بالطلاق فعاقبها بأن ركبها عَنوةً. وحين بعرتْني -كما كانت تسمي ولادتي – أطلقتُ بكائي عويلاً ممتداً بلغ حدّ الصراخ حتى تطيرت منّي ودعت إلى حسن العاقبة من هذا الجرو المنحوس الذي لفظته أحشاؤها». ويقابل ذلك، بالوصف الحسن حين يتعرّض، مثلاً، للحاج عمر بوسلهام الذي تدخّل له عند الوالد ليرافق الحاج إبراهيم "النفار" بالقول[38]: «من أدمث خلق الله وأشدهم رِعةً ونُسكاً، وأنه يتنفّل في الصدقات نظير نوافله في الصلوات، ويحسب الإعطاء الحسن مدفَعَةً للنوائب. لذلك كان سيد الرأي والنصيحة في الحي ومقصِد السائلين رأيَه».

***

على سبيل الختم:

تأتي سردية "الماضون إلى الماضي"، ضمن الإنتاج الأدبي لعبد الإله بلقزيز في الوسط؛ يجسُر بها المسافة الإستتيقية بين نصوصه الأدبية التي رابضت على التخوم بين النثري والشعري؛ والأعمال الروائية التي تتناول الواقع المغربي والعربي. ثم إنّ السردية تُفصح عن إلمام كبير بالفنون الإبداعية قديمها وحديثها لدى كاتبها، وكأنّه «يجادل ويتنوّق الحكي فيُنزله من المسامع المنازلَ»[39]، لعل المهتمين بالشأن الثقافي في المغرب والوطن العربي يلتفتون إلى لغتهم وتراثهم. وما إخاله إلا أنّه يتظاهَرُ وينتفضُ من خلال هذا النص، ليزعج السلطة الثقافية بكلّ أشكالها. وفي ذات الوقت، يحتفي باللسان والتراث العربيَيْن ويساهم بوضع وثيقة تاريخية، أمام الباحثين، تؤرِّخ للمرحلة التي طالتها أحداث هذه المقامات.

***

محمد رزيق مبارك

الدار البيضاء: 12/05/2025

..............................

*  وجدت نسبتها إلى الزعيم الهندي المهاتما غاندي (1869م/1948م)، وإلى الشاعر روبندرونات طاغور (1861م/1941م).

[1] حسن علي المخلف، التراث والسرد. (الدوحة: وزارة الثقافة والتراث، قطر. إدارة البحوث والدراسات الثقافية، 2010)، ص9.

[2] فالنتينا غراسي، مدخل إلى علم اجتماع المخيال نحو فهم الحياة اليومية. ترجمة محمد عبد النور وسعود المولى. (قطر: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2018)، ص41.

**  رائحة المكان، ليليات ثم على صهوة الكلام.

[3]  عبد الإله بلقزيز، الماضون إلى الماضي. (بيروت: منتدى المعارف، 2020)، ص15

* صيف جليدي، سراديب النهايات، يوميات موت حي، الحركة..

**  حالة حصار.

[4] ن م. ص11.

[5]  زكي مبارك، النثر الفني في القرن الرابع الهجري. (القاهرة: مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، 2012)، ص199-200.

[6]  نقلاً عن عبد الفتاح كيليطو، المقامات: السرد والأنساق الثقافية.  ص209. ابن خلكان الجزء 4، ص 396.

[7]  أبو القاسم الحريري، مقامات الحريري. (بيروت: دار بيروت للطباعة والنشر، 1978)، ص13.

[8]  عبد الله إبراهيم، السردية العربية. (الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، 1992)، ص184.

[9]  عبد الفتاح كيليطو، المقامات: السرد والأنساق الثقافية. ص175.

[10] عبد الفتاح كيليطو، المقامات: السرد والأنساق الثقافية، ص5.

[11]  عبد الفتاح كيليطو، المقامات: السرد والأنساق الثقافية، ص 204.

[12]  بطرس البستاني، أدباء العرب في الأعصر العباسية: حياتهم، آثارهم، نقد آثارهم. (القاهرة: مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، 2014)، ص 303.

[13]  عبد الله إبراهيم، موسوعة السرد العربي. (دبي: المجلس الوطني للإعلام، 2016)، ج 2، ص 242.

[14] بطرس البستاني، أدباء العرب في الأعصر العباسية، ص 303.

[15] بطرس البستاني، أدباء العرب في الأعصر العباسية، ص 303.

[16]  عبد الرحمن بن خلدون، مقدمة ابن خلدون. تحقيق عبد الله محمد الدرويش. (دمشق: دار يعرب، 2004)، الجزء 1، ص 132.

[17]  عبد الإله بلقزيز، الماضون إلى الماضي. ص 62.

[18]  عبد الإله بلقزيز، الماضون إلى الماضي، ص63.

[19] عبد الإله بلقزيز، الماضون إلى الماضي، ص 63.

[20] عبد الإله بلقزيز، الماضون إلى الماضي، ص 63.

[21] عبد الإله بلقزيز، الماضون إلى الماضي، ص 66.

[22]  عبد الإله بلقزيز، الماضون إلى الماضي، ص74.

[23]  عبد الإله بلقزيز، الماضون إلى الماضي، ص50.

[24]  عبد الإله بلقزيز، الماضون إلى الماضي، ص 189.

[25]  عبد الإله بلقزيز، الماضون إلى الماضي، ص 190.

*  في ما بين الفلسفة والأدب من الاتصال. ندوة فكرية عقدتها كلية الآداب والعلوم الإنسانية بنمسيك احتفاءً بالأعمال الأدبية لعبد الإله بلقزيز.

[26]  عبد الإله بلقزيز، الماضون إلى الماضي، ص 187.

[27]  عبد الإله بلقزيز، الماضون إلى الماضي، ص 134.

[28]  عبد الإله بلقزيز، الماضون إلى الماضي، ص 116.

[29]  عبد الإله بلقزيز، الماضون إلى الماضي، ص 57.

[30]  عبد الإله بلقزيز، الماضون إلى الماضي، ص 96.

[31]  عبد الإله بلقزيز، الماضون إلى الماضي، ص 140.

[32]  عبد الإله بلقزيز، الماضون إلى الماضي، ص 55.

[33]  عبد الإله بلقزيز، الماضون إلى الماضي، ص 170.

[34]  عبد الإله بلقزيز، الماضون إلى الماضي، ص 55.

[35]  عبد الإله بلقزيز، الماضون إلى الماضي، ص 61.

[36]  عبد الإله بلقزيز، الماضون إلى الماضي، ص 108.

[37]  عبد الإله بلقزيز، الماضون إلى الماضي، ص 97.

[38]  عبد الإله بلقزيز، الماضون إلى الماضي، ص 81.

[39]  عبد الإله بلقزيز، الماضون إلى الماضي، ص116.

 

يبدأ تلقي عرض مسرحية (رأسي من الجنوب) حالما يقع البصر على البوستر الإعلاني الذي استخدم مفردات كثيرة تبوح بوضوح بشيء من فكرة ومفردات لغة العرض، السيادة للكوفية (الشماغ) والمشحوف والكتابة المسمارية على اليمين وتراثيات (كف تتوسطه عين وهلال وأم سبع عيون) على اليسار والحجم الأكبر لتكوين حيوان الجاموس والخلفية شبكة صيد الأسماك المقارب لتكوين الكوفية، جميع المفردات مأخوذة من جنوب العراق، ويعزز هذا المصدر عنوان العرض (رأسي من الجنوب) الذي يتصدر البوستر، ليقول أن: فكرة العرض أخذت من ما باح به الجنوب الساكن في رأس المؤلف والمخرج.

يدخل المتلقي في أجواء قبل دخوله وجلوسه على المصاطب والكراسي التي تحتل ضلعين كمساحة للمشاهدة، أما الضلعين الآخرين فهما مساحة للأداء، أجواء ما قبل بدء العرض يصنعها صوت خوار الجاموس المصحوب مع انين غامض.

حالما تضاء مساحة الأداء، ينكشف فضاء العرض للمصمم ضياء حمزه، الذي عمل إنشاء تكوينات من القصب غلفت الجدران وجزء السقف واحد الاعمدة، والأرضية الترابية وقارب الأهوار المسمى محليا (بالمشحوف) مع انتشار شبكات صيد الأسماك، وهي المفردات نفسها -تقريبا- التي وضعت في تصميم البوستر الإعلاني.1460 janob

يظهر من بين الجمهور (شاب) و (شابة) يقدمون باللغة العربية والانجليزية نبذة عن الأهوار واستعراض اهميتها (أن الأهوار العراقية بيئة فريدة من نوعها) والأضرار التي لحقت بها بسبب عمليات التجفيف وإقامة السدود وقطع مصادر المياه من بعض الدول المحيطة بالعراق.

نقطة انطلاق الحدث تبدأ عندما يتحرك رأس من طين وجسم إنسان مغطى بشبكة صيد، يتحرك ببطء ويتلمس طريقه وينزع عنه طبقة الطين ليظهر ملامح الإنسان، وفي الطرف البعيد يتحرك كائن ويزيح عن نفسه كتل طينية ليظهر رأس جاموس بجسد إنسان، يلتقيان بعد فراق وإنهاك، يستند أحدهما على الآخر، ثمة علاقة قديمة وعميقة تمخضت عن ولادة القارب المحلي الصنع (المشحوف) اداة التنقل والصيد.

لم تنطق الشخصيات بلغة الكلام للتعبير عن مشاعرها وانفعالاتها وما يجول بخاطرها، بل استخدمت لغة الإيماءة والإشارة والحركة المعبرة التي نفذت إلى وجدان المتلقي، وفي الوقت الذي تلاشت فيه لغة الحوار السمعية التقليدية، تبدت اللغة البصرية بأبهى صورها.

ثيمة العرض هي الوشائج بين مكونات البيئة (التراب والماء والقصب والجاموس والقصب …) وبين الإنسان/ المواطن. ذلك ان إنعاش الأهوار يعني إنعاش الإنسان والجاموس ونمو القصب والأسماك والطيور، وتصنع القوارب (المشاحيف)1461 janob

من يملك الحس والروح والعقل المتواشج بكل مكونات وتفاصيل وجزيئات بقعة أرض وينتمي إليها ويحبها لدرجة انه يقدسها ويدافع عنها هو الإنسان الوطني الذي يحب التراب والتراث والإنسان والحيوان والنبات والأشياء.. لماذا؟ لأنه مرتبط بهذا المكان (بقعة الأرض) المسمى وطن، ولد وعاش فيها وتجذرت روحه وذكرياته وأزهرت أواصر لا نهاية لها. العمل في هذا العرض عرف الوطنية بأنها ليست هتافات حماسية ولا شعارات سياسية وحسب، تتجلى الوطنية في التماهي مع ذرات التراب واحتضان من يعيش عليه.

احدى أهم جماليات هذا العرض، انه لم ينطق العرض بأي كلمة مباشرة عن الوطن، استثمر مفردات قليلة العدد عميقة الدلالة (القصب، الجاموس، المشحوف، التراب) وعمل على استنطاق انتماءها وحبها والتصاقها ببيئة الاهوار، وفي الوقت نفسه عزز روح الوطنية لدى المتلقي الذي أصغى طوال زمن العرض بحواس رصدت تفاصيل عرض قال كلمة جاءت من صوت خارجي وليس من الشخصيات المتواجدة أمام المتلقي، صوت شجي، يعاتب بمحبة، ويحرض بتثوير: (من منكم يزيل التجاعيد وجه الجنوب)

الجانب الجمالي الآخر في عرض (رأسي من الجنوب) هو صعوبة تحديد انتماء العرض فنيا لنوع درامي محدد، اذ انه يبدأ بمعلومات سردية باللغتين العربية والانجليزية من فتى وفتاة، تبدأ دراما العرض بشغل مسرحي حركة تعبيرية يؤديها ممثل شخصية الرجل الجنوبي وشخصية الجاموس، تتحول الأحداث إلى صراع حالما يدخل إلى المشهد شخصيتان أجنبيان (رجل وامرأة) من غير بيئة الاهوار - سياح/ مستكشفين/ مستعمرين - يأخذون تراب وقصب، يرفض مربي الجاموس والجاموس وجودهما ويريدان استعادة ما أخذوه، يستحيل الأمر إلى صراع بالأيدي وبكل شيء بصياغة كيروكرافية إيمائية راقصة، عدا بعض الحالات التي يكون فيها ضرب على جدران القصب الهشة فتصدر أصوات لا تتناسب ومسار الإيقاع الحركي، إلى جانب عملية سحب جثث الأجانب لم تكن بالخفة والمرونة المتوافقة، في نهاية العرض يموت مربي الجاموس، يحزن الجاموس على فقدان مربيه ويهيل التراب على رأسه، بالصورة نفسها التي تحزن بها نساء الجنوب على فقدان أحبتهم. يأتي صوت الشعر من خارج مساحة ليقول (حزنت الأرض فخلق الله جنًوبا يبكي) تدخل امرأتين متلحفات بالعباءة وسط صوت النعي والبكاء واللطم على الصدور. موت الرجل الجنوبي جعل المشهد الأخير يغور في عمق الواقعية بفعل اللطم ونثر التراب على الرأس وصوت الأنين والنعي المؤلم.1462 janob

واستنادا وقائع العرض يمكن القول بصعوبة تجنيسه، وتحديد انتمائه إلى التمثيل الصامت أو إلى عروض الكيروغراف … أنه عرض ينطوي على الجدة على وفق مزيج متجانس من ابتكار المؤلف والمخرج والممثل (محمد كويش) وفريق العرض المتضامن معه. 

لقد أثبت فريق العرض أن المسرحية الشعبية لا تعني الحوار باللهجة العامية الدارجة وفيض من قفشات ومواقف كوميدية تقدمها شخصيات محلية ساخرة، مع ضرورة حضور الرقصات والأغاني … إلى آخره. أثبت فريق العرض أن المسرحية الشعبية هي التي تتناول ما يعنى به الشعب ويثير اهتمامه ويتعاطف معه، بمعنى آخر يطرح القضايا ذات الأهتمام الشعبي ويبحث في معالجتها جماليا، وعليه يمكن القول: أن العرض المسرحي -وكل الفنون والآداب بأنواعها- يكون شعبيا ويحصل على استجابة فكرية وجمالية واسعة عندما يجد الجمهور/ الشعب شيئاً من روحه فيه.

يتحقق التكامل في عرض مسرحي عندما تكون تقنيات جزءا عضويا وليس تجميليا زائدا ويمكن رفعه او تغييره دون تأثير في بعض مكوناته، (رأسي من الجنوب) أظهر تلاحما عضويا بين البقع الضوئية المسلطة على مساحة الأداء وألوانها، وحتى الاضاءة الحمراء خلف جدران القصب والسلم الذي ظهرت منه بعض الشخصيات وغادرت وصناعة لون الشمس الاصفر … و بالتوقيتات الدقيقة -للسينوغراف علي السوداني- المرافقة لموسيقى الوجع والمؤثرات الصوتية بمحمولاتها الوجدانية الحزينة، ومنها حضور أغنية أو ترنيمة الــ (دللول يا الولد) التراثية التي تستخدم لهدهدة الأطفال  صدىً عَذِب في نفوس العراقيين، يرجع بعض الباحثين اصولها إلى الحضارة السومرية (4000 - 2004 ق.م) وتعد من أقدم الآداب الموجهة للأطفال، منحت العرض امتداد تاريخي متزامن مع تاريخ الاهوار القصب والجاموس كلها حاضرة منذ آلاف السنين والمواطن الجنوبي هو سومري الاصل.   وقد اتسق تأثير الاضاءة والمؤثرات الصوتية مع طغيان اللون الأسود على أزياء الشخصيات، تولد عن كل هذا وحدة إيقاعية نوع من التكامل الفني جعل الجمهور الحاضر مستغرقا في العرض طوال الأربعين دقيقة.

احد تعريفات البلاغة يقول: (انها إيصال المعاني بلغة بسيطة) وقد أوصل عرض مسرحية (رأسي من الجنوب) رسالته بمفردات جميلة وواضحة استلها المؤلف/المخرج (محمد كويش) وفريقه من بيئة الاهوار الجنوبية واعادوا صياغتها فنيا لأنهم لا يعيشون ولا يعملون بعزلة وقطيعة عن جميع مكونات بيئة الأرض وما فوقها وما في جوفها وبيئة المجتمع والاقتصاد والسياسة، ذلك أن الفنان ابن بيئته يتفاعل معها ويحرص عليها ومنها ينطلق إلى فضاء الإبداع.   

ملاحظة: انتظار الجمهور لفترة غير قصيرة في ممر ضيق، والدخول إلى قاعة العرض في الظلام، سياقٌ يفضل أن يعاد النظر به، لأنه يعكر صفو الاستعداد النفسي لتلقي العرض والدخول في أجوائه. مع التنويه الى أن الكثير من مواقع الجلوس في باحة منتدى المسرح لا توفر مشاهدة مريحة.

***

ا. د. حبيب ظاهر حبيب

 

حدَّثَنا (ذو القُروح) في المساق السابق عن بيت (المتنبِّي):

أَلُوْمُ بِهِ مَنْ لامَني في وِدادِهِ

 وحُقَّ لِخَيْرِ الخَلْقِ مِن خَيْرِهِ الوُدُّ

وكيف أنَّ (ابن جِنِّي) جاء شارحًا، فقال: «أي: هو خَير الخَلْق وأنا كذلك! وحقيقٌ أهل الخَير أنْ يودَّ بعضهم بعضًا، فحقيق عليَّ، إذن، أن أودَّه!» فردَّ كلامَه (ابنُ معقل) قائلًا: «أقول: إنَّه يُحتمل أن يكون «من خَيره» راجعًا إلى آباء الممدوح، كأنَّه قال: هو خَير الخَلْق من خَير الخَلْق، وهذا الأقرب والأشبه بغرضه؛ لأنَّ وصفه نفسه بأنَّه خَير الناس من أقصى الرَّقاعة، وأقبح الشَّناعة!»(1) وقال ذو القُروح: إنَّه على طرافة شرح ابن جِنِّي- ولا يَبعد أن يكون ما ذكرَ هو مقصود الشاعر بالفعل، ولعلَّ ابن جِنِّي أعلم بمقاصد المتنبِّي من غيره- فإنَّ معناه حسب شرح ابن معقل لا يخلو من الشناعة أيضًا! وذلك بعد أن ذكرَ أنَّ (أبا الطَّيِّب) كان يَصِل من سُخف المديح ما لا يَصِل إليه عابدٌ خانعٌ مع ربِّه، بالرغم من ادِّعائه الكرامة والاعتزاز بالذات. قال: ويبدو هذا التعالي لديه تظاهرًا نفسيًّا يُخفي نقيضه، أو قُل: إنه ضربٌ من التعويض النَّفسي. قلتُ:

ـ وما المستغرب في تأليه (المتنبِّي) بعض ممدوحيه، وهو القائل عن بعضهم:

وإِذا مُدِحتَ فَلا لِتَكْسَبَ رِفعَـةً ::: لِلشَّاكِرينَ عَلـى الإِلَـــهِ ثَـنــاءُ

ـ قطعتْ جهيزة قول كلِّ خطيب، ببيته هذا! والبيت من قصيدة مديح في (هارون بن عبد العزيز الأوراجي)، الكاتب، وكان صوفيَّ المذهب.

ـ إذا كان هذا في مديح كاتبٍ صوفيٍّ، فماذا تُراه قائلًا عمَّن فوقه منزلة؟!

ـ وأعود إلى القول: إنَّ ابن معقل كثيرًا ما يخطِّئ ابنَ جنِّي ويبدو هو الخاطئ. ومن ذلك ما ذكره في بيتنا الشاهد؛ فما علاقة آباء الممدوح بسياق البيت؟ وإنَّما كان (المتنبِّي) يشير إلى وِداده هو للممدوح: «ألومُ به مَنْ لَامَني في وِدادِهِ.» فلمَّا لامَه اللائمون على وِداده إيَّاه، أجابهم بأنَّ الطيور على أشكالها تقع: «وحُقَّ لِخَيْرِ الخَلْقِ من خَيْرِهِ الوُدُّ.» أمَّا ما أشار إليه (ابن معقل)، فتكلُّفٌ محض. وأمَّا حكاية الرَّقاعة والشَّناعة، إنْ صحَّت، فله أن يقذف بها أبا الطَّيِّب كما شاء، ولا حاجة به إلى تحريف معانيه لتبرئته من الرَّقاعة والشَّناعة! وليس المعنى بغريبٍ على أبي الطَّيِّب في فخره بذاته، ووقوفه أحيانًا نِدًّا لممدوحيه، في انفصام شخصيَّته التي لازمت خِطابة الشِّعري: بين الخنوع والكبرياء. لكأنَّ ابن معقل ما كان يعرف طبيعة المتنبِّي تلك! والحقُّ أنَّه إنَّما كان يوقِع ابنَ معقل في مثل هذا حُبُّ المِراء، ونزوعُه إلى التنقُّص من شُرَّاح شِعر المتنبِّي، وإظهار أنَّه يفهم شِعره خيرًا منهم. وقد كان هذا يحمله أحيانًا على الذهاب إلى معانٍ بعيدة، كما رأينا في البيت السابق، وأحيانًا إلى معانٍ أقلَّ شِعريَّة وبلاغيَّة. مثال هذه الحالة الأخيرة أنَّه توقَّف أيضًا عند قول أبي الطَّيِّب، من داليَّةٍ أخرى:

ومِنِّي استَفادَ النَّاسُ كُلَّ فَضِيلةٍ ::: فَجازوا بِتَركِ الذَّمِّ إِنْ لَم يَكُنْ حَمْدُ

فعاب على (ابن جنِّي) شرحه البيت؛ لأنَّه قال: «قوله: «فجازوا»، كما تقول: هذا الدِّرهمُ يجوزُ على خُبْث نَقده؛ أي: يُتَسَمَّح به، أي: فغايتُهم أن لا يُذَمُّوا، وأمَّا أن يُحمَدوا، فلا.» فانتكس (ابنُ معقل) بمعنى البيت، قائلًا: «وأقول: إنَّه قد عابوا عليه هذا التفسير، وقيل: كيف يزعم أنَّه قد أحكمَ سماع شِعر أبي الطَّيِّب منه، وقراءته عليه، ويقول هذا القول؟ وإنَّما قوله: «فجازوا» أمرٌ من المجازاة، لا من الجواز، أي: «فجازوا» على ما استفدتم منِّي من الغرائب بترك الذَّمِّ لي إنْ لم يكن منكم حَمْد.»(2)

ـ فأيُّ المعنيين الآن أبلغ؟

ـ هنا السؤال! أيُّهما أبلغ: أن يطلب الشاعر من النَّاس أن يتركوا ذَمَّه، إنْ لم يحمدوه؟ وأنَّى للمحسود أن يطلب من حاسده ترك ذَمِّه أصلًا، فضلًا عن احتمال الحمد؟! أهذا أبلغ، أم أن يصوِّر ما اكتسبوه من غرائب- [وظاهرٌ هنا أنَّ الرواية التي يعتمد عليها (ابن معقل) في شرحه بلفظ «كل غريبة» لا «كل فضيلة»]- إنَّما اكتسبوها منه هو، لتَستُرهم من الذَّمِّ، وأمَّا الحَمْد فهيهات؛ فهو بعيدٌ عن «شواربهم»؟

ـ لا شكَّ عندك أنَّ فهم (ابن جنِّي) لمراد الشاعر هنا أَوْجَه، وأبلغ، وأشبه بمذهب (أبي الطَّيِّب) في الشِّعر والفخر، مما فهمه (ابن معقل)، أو قُل: مما حاول فهمه، لتخطيء ابن جنِّي؟

ـ لا شك! حتى لقد جعل (ابن معقل) الشاعرَ ملتفتًا إلى التسوُّل لدَى حاسدِيه ليكفُّوا عنه ذَمَّهم! وما كان هذا ممَّا يليق بالمتنبِّي الالتفات إليه، ولا حتى بمَن دون المتنبِّي، في تكبُّره وتعاليه. وإنَّما «جازوا» فعلٌ ماضٍ، معطوفٌ على الفعل الماضي في صدر البيت، بلا التفات: «استفادَ الناس... فجازوا...». تساوقًا مع قوله قبل هذا البيت مباشرةً:

يَرومونَ شأوي في الكَلامِ وإنَّما ::: يُحاكي الفَتَى فيما خَلا المَنطِقَ القِردُ

فَهُمْ في جُموعٍ لا يَراها ابنُ دَأْيَةٍ ::: وهُمْ في ضَجيجٍ لا يُحِسُّ بِها الخُـلْدُ

فهم من الحقارة كالقرود، والقِرد قد يحاكي الفتَى لكنَّه لا يبلغ شأوه، وهم من الخفاء بحيث لا يراهم حتى الغُراب (ابن دَأْيَة)، على حِدَّة بَصَره، ولا يسمعهم حتى (الخُلْد)، نوع من الفئران، على رهافة سمعه. وهكذا كان المتنبِّي يُوقِع شُرَّاحه في حبائل القراءات المحتملة، ليسهروا جرَّاها ويختصموا؛ بمثل استعماله كلمة «جازوا» هاهنا، التي يُمكِن أن تُقرَأ على وجهَيها، مع ما بين القراءتين من بَون في الدلالة والتصوير والشِّعريَّة.

ـ غير أنَّه يبدو أنَّه كان بين شُرَّاح شِعر (أبي الطَّيِّب) من المماحكات، كما كان بين شُرَّاح شِعر (أبي تمَّام)؛ فظلَّ ذلك يحمل أحدهم على تنقُّص الآخَر، وإظهار أنَّه أكثر منه فهمًا للشِّعر ودِقَّة.

ـ ومِن ثَمَّ كانوا يصنعون من حَبَّة بيتٍ شِعريٍّ سطحيٍّ قُبَّةً هائلةً، يستعرضون تحتها عضلاتهم في الحفر اللُّغوي، والتشقيق الفارغ، والمصارعة الحُرَّة شرحًا وتشريحًا.(3) وستلحظ أنَّ هؤلاء الشُّراح يقعون في معرَّة (وحدة البيت)، فلا ينظرون إلى البيت في سياقه من الأبيات غالبًا، بل يدندنون على البيت الواحد، وكأن لا علاقة له بما قبله وما بعده؛ فترى منهم في ذلك العجب العجاب من المعاني التي يتوهَّمون منها ما قد لا يتوهَّمه إلَّا من ليس في وعيه!

ـ مثال ذلك؟

ـ خُذ مثلًا توقُّفهم الطويل العريض والمعقَّد أمام بيت المتنبِّي الواضح:

إِنَّ المُعينَ عَلى الصَّبابَةِ بِالأَسَى ::: أَولَــى بِرَحمَــةِ رَبِّهـا وإِخـائِهِ

وقد جاء قبله:

مـا الخِـلُّ إِلَّا مَـن أَوَدُّ بِقَلْبِـهِ ::: وأَرَى بِطَرْفٍ لا يَرَى بِسِوائِهِ(4)

فالبيت، حين يُربَط بسياقه، أوضح من أن يحتاج إلى شرحٍ أصلًا. يقول الشاعر: إنَّما خِلُّه من النَّاس ذلك الذي يتفاعل معه، ويشاركه همومه وأحزانه، وكأنَّه يحمل قَلْبه وطَرْفه، فيودُّ ما يَودُّه، ويرى ما يرى. ومن ثَمَّ بنى على هذا بيته التالي، الذي عَدَّه الشُّرَّاح مُشْكِلًا، وما هو بمُشْكِل؛ ليقول: إنَّ أَولى الناس برحمة العاشق، أو رَبِّ الصَّبابة، وبإخائه، ذلك الخِلُّ الذي يُعين على هموم الصَّبابة، ويُشرِك رَبَّها حُزنَه بحُزنه، متعاطفًا معه، مستشعِرًا حاله، لا ذلك الذي يلومه، ويبكِّته، وكأنَّه قد ارتكب جُرمًا، فضلًا عن الآخَر الذي يعمل بالوشاية ضِدَّه. والأسَى إزاء مأساة الإنسان فيه عَونٌ له من الناحية النفسيَّة، والبكاء لبكائه محمود، بعكس جُمود العَين. ألا ترى إلى كلام (عبدالقاهر الجرجاني)(5) في بيت (العبَّاس بن الأحنف):

سأَطلبُ بُعْدَ الدَّارِ عنكُمْ لِتَقْربوا ::: وتَسْكُبُ عينايَ الدُّموعَ لتَجمُدا

لمَّا قال: «لا ترَى أحدًا يذكرُ عينَه بالجمودِ إلاَّ وهُوَ يشكوها ويذمُّها وينسبها إلى البُخْل، ويَعُدُّ امتناعها من البكاءِ تَرْكًا لمعونةِ صاحِبها على ما بهِ من الهمِّ، ألا ترى إلى قوله:

ألا إِنَّ عَينًا لم تَجُدْ يومَ واسِطٍ ::: عليكَ بجاري دمعِها لَـجَمُوْدُ

فأتَى بالجمودِ تأكيدًا لنفي الجُودِ، ومُحالٌ أن يَجْعَلها لا تَجودُ بالبكاءِ وليس هناك التماسُ بكاءٍ... وعلى ذلك قولُ أهل اللُّغةِ: «عَينٌ جَمُودٌ، لا ماءَ فيها، وسَنةٌ جمادٌ، لا مطرَ فيها، وناقةٌ جمادٌ، لا لَبَن فيها«، وكما لا تُجْعَلُ السَّنةُ والناقةُ جمادًا إلَّا على مَعْنى أنَّ السَّنةَ بخيلةٌ بالقَطْر، والناقةَ لا تَسْخُو بالدَّرِّ، كذلك حُكْمُ العَينِ لا تُجْعَل »جَمُودًا« إِلَّا وهناكَ ما يَقْتضي إرادةَ البُكاءِ منها، وما يَجْعَلُها إِذا بكَتْ مُحْسِنةً موصوفَةً بأنْ قَدْ جادَتْ وسَخَتْ، وإِذا لم تَبْكِ، مسِيئةً موصوفةً بأنْ قد ضَنَّتْ وبَخِلَتْ... وجملةُ الأمرِ أَنَّا لا نعلمُ أحدًا جعلَ جُمود العَين دليلَ سرورٍ وأمارةَ غِبْطةٍ، وكنايةً عن أنَّ الحالَ حالُ فرحٍ.»

ـ وإذا كان هذا شأن العَين حين تخذل صاحبها عن البكاء في ظَرفٍ يستدعيه، فكذلك شأن خليله حين لا يتفاعل معه بالأسَى والبكاء.

ـ نعم، وإنْ كان المتنبِّي لا يقصد- كما توقَّفتْ عنده عقول الشُّرَّاح؛ فقالوا: إنَّ الأسَى إنَّما يزيد الأسَى ولا يُعين عليه- أنْ يقف خِلُّه ليبكي لبكائه فحسب، بل يقصد أيضًا أن يتمثَّل أساهُ موقفًا نبيلًا، يَظهر، في الأقل، في الكفِّ عن اللَّوم، مع الإشفاق عليه ممَّا هو فيه.

وهكذا ستجد هؤلاء الشُّرَّاح يُشرِّقون ويُغرِّبون، متوقِّفين مع كُلِّ كلمة، مبتوتة عن سياقها من النص، مأخوذة بدلالتها المعجميَّة العقيم، لا بدلالتها الشِّعريَّة.(6)

[وللحديث بقية].

***

أ. د. عبد الله بن أحمد الفَيفي

.........................

(1) ابن معقل، (2003)، المآخِذ على شُرَّاح ديوان أبي الطيِّب المتنبي، تحقيق: عبد العزيز بن ناصر المانع، (الرياض: مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلاميَّة)، 1: 76- 77.

(2) م.ن، 1: 79.

(3) يُنظَر في هذا: ابن المستوفي، (1989)، النِّظام في شرح شِعر المتنبِّي وأبي تمَّام، دراسة وتحقيق: خلف رشيد نعمان، (بغداد: وزارة الثقافة والإعلام).

(4) بسِوائه بمعنى: بسِواه، أي بغَيره. لكن من التحكُّم غير المفهوم فَتْحُ اللُّغويِّين السِّين في (سِوَى) عند مدِّ مقصورها، فتجد الكلمة قد كُتِبت: (بسَوائه)، مع أنَّ المعنى يصبح هنا بلا معنى! إلَّا في ديوان (المتنبِّي) بتصحيح (عبدالوهاب عزام)، حيث تجد: «بسِوائه»، بكسر السِّين، وهكذا ينبغي أن تكون! فإنْ قيل: «هكذا نطقت العَرَب»، قلنا: هاتوا التسجيل الصوتيَّ لعَرَبيٍّ سَوِيِّ العقل واللِّسان، يقول: «بِسِوَى»، فإذا مَدَّ الكلمة قال: «بِسَوَاء»! لا يُقبل هنا التسجيل عن اللُّثْغ أو المعاتيه!

(5) (1984)، دلائل الإعجاز، قرأه وعلَّق عليه: أبو فهر محمود محمَّد شاكر، (القاهرة: مكتبة الخانجي)، 269- 271.

(6) يُنظَر: ابن المستوفي، 1: 346- 352.

 

للشاعر الأمريكي ازرا باوند

قصيدة الرواي بين استجابة الإحالة ودينامية الزمن الضائع

***

توطئة: تشتغل آليات الدال الشعري في الأوضاع القصدية بوصفه هدفا تتوجه به الذات الراوية تجليا يتكشف بوعي شعري مقارب إلى محكي السارد العليم في المتون السردية، لذا وجدنا الصلات والأواصر في محكيات النص الشعري وكأنها إشارات إلى زمن تصويري مستعاد في الإحالة والتصدير والإيحاء. تأخذنا قصيدة الشاعر الأمريكي الكبير (ازرا باوند) الموسومة ب (رسالة من زوجة تاجر النهر) نحو جملة من الدوال المقرونة والمرتهنة بشبكة أفعال وصياغات إشارية الطابع وإحالية في رصد الصلات الدﻻلية الدينامية التي تجعل من زمن المكان الشعري في النص التحاما وحدود جملة أفكار واسترجاعات وأحاسيس جعلت تتجسد على نحو ميلودرامي، يلخص لنا حكاية المرسل إليه متماثلا في أفق شخصانية لقطاتية مستعادة شعريا وتركيز تشكيل محكيات دائرة الراوي ذاتا وموضوعا وداﻻ.

- فعلية استرجاع الزمن عبر مستلزمات المتن النصي

إن فعلية العلاقة الاحوالية في حدود خصائص الزمن الشعري، تفصل ما بين (سياق داخلي = سياق خارجي) أي أن المنظومة المعرفية للبنية الزمنية تقع ضمن حدود خاصة من الخصوص وعامة من العموم. إذ عندما يأتي الزمن في حالة (سياق داخلي = ذات = كينونة) فلربما تقع شرطية مقصوديته في مسار حركة فعلية - ذاتية، كحال النموذج الاستهلالي من قول النص:

قد كان شعري ما يزال

يقص خطاً يستقيم على الجبين.

على هذا النحو الذي جاءت به الجمل الأولى من النص، تتبين ثمة حركة زمنية بين الجملة الأولية والثانية، فالأولى تحدد فضاء الزمن الممدود وصوﻻ إلى الملحقة الفعلية في (يقص خطاً) ثم إلى مسار حركة الكشف الوضعي المرسوم بصياغة الحدوث الحال (يستقيم على الجبين) وبوسعنا القول أن الاستعانة الذاتية للزمن حلت في إطار (فضاء الحكي؟) من خلال إبقاء عنصر الزمن وأدواته (قد كان؟) ومعنى ذلك أن دائرة الأفعال تتم بملازمة زمنيين (زمن سابق - زمن حاضر) وتتنوع الأداة الزمانية بشروطها الأحوالية لتظل عملية القول متأرجحة ومعلقة أحياناً:

- أيام ذاك - وكنت عند الباب ألعب بالزهور

وكنت تأتي راكبا عذابات زانٍ

الوهم صيرها حصان.

قد كنت تنظر حيث أجلس، أو تدور

حول المكان وكان بين يديك من ريش الطيور

زرق لعبت بها كثار.

وواضح من هذه المقاطع، أنه ليس هناك من دﻻﻻت واصلة بين الموضوع والمضمون، ولكننا في صدد  إحتمال أن رؤية (الذات الراوية) تتحرك ضمن استعادات حاصلة في زمن المقابلة بين قطبي (قد كان - أيام ذاك) والنتيجة المشار إليها هي عين الذات الفاعلة والموصولة في إمكانية عكس ذلك الآخر في مرآة مرويها الذاكراتي (أيام ذاك، وكنت عند الباب ألعب بالزهور، وكنت تأتي راكبا عذابات زانٍ). إذا استبعدنا دﻻلة جملة (عذابات زانٍ) من كونها تقع في محمل التشبيه، فما دورها الدﻻلي الاصل لو افترضنا كونها جاءت ضمن مستدرك أحوالي خاص؟ ولربما الجملة ﻻ تتعدى فاعلية اللحظة الكسيرة أو اللحظة المشوشة من إستعادة الذاكرة بحدود التشبيه والمشبه به، ليندرج القول في أقصى أحواله في سياق حالة قصدية ما. عموما المقاطع الشعرية في شتى محاورها ﻻ تخرج عن منظومة الأفعال الزمانية المشرئبة في صورة المكان وذاتية العودة بسياق الأحوال إلى تموجات وتحوﻻت عاطفية وذاتية معمقة بحضور المتخيل في سعيه التشكيلي والإيحائي الصرف.

١- تصاعدية الزمن وتصويرية كشوفية الحاكي:

لعل قصيدة (رسالة من زوجة تاجر النهر) هي من الدﻻﻻت الشعرية التي تستأثر لذاتها تلك الصفة الانطباعية الروحية بالعشق لذلك الوعي المكنون في زمن مصائر الغياب والانتظار لذلك الآتي من المحال، فهي بدورها تجسد الزمن العمري لذاتها الحاكية والمتشاكلة مع مراحل نموها ذات العلاقة التضادية بين (الأنا - الأنت) توكيدا لرؤية كون ما تشعر به محض كلمات في رسالة متداعية تتقاذفها أمواج الغياب والفقد، مع كل هذا تبقى مقاطعها الإحالية بالقول تسمو وتصف صيرورة وجودها المموه بمزمام نفوذ خسارات الأشياء الحاصلة في تفاصيل مصيرها الدﻻلي:

حتى إذا بلغت أربعة وعشرة

زوجت من موﻻي، منك، فما عرفت الضحك مرة

إذ كان يمنعني الحياء.

أني - وقد أطرقت رأسي - كنت أنظر للجدار !

نوديت ألفاً أو يزيد.. فما التفت إلى الوراء.

٢- بناء القصيدة ومحكية المظاهر الصوتية:

أن القارىء لبعض مقاطع الصورة والحاﻻت الشعرية عبر بيئتها وسياقها العام والخاص، لربما يعاين الحجم المبذول من الاصوات المائعة والسائلة والغليضة ومدى ملاءمتها لشكل الدﻻﻻت المترشحة في مواضع صوتية تحاكي دﻻﻻت السيولة والانبساط والجريان كمياه النهر: (زوجت من مولاي، منك) بيد أن ألتقاط أنفاس الأصوات الحروفية تبقى ضمن حدود تركيبية من الناحية العضوية، وصوﻻ إلى المصادقة الإيقاعية في وظيفة الصوت الدوالي المتمثل في عدة منطوقات محكية في بناء الطاقة الصوتية دليلا ومؤشرا على طبيعة البناء السيولية للأصوات: (نوديت ألفاً أو يزيد.. فما التفت إلى الوراء) فالمقطعية الدوالية ها هنا تتفاوت في ضرورة اللازمة المفردية - الإيقاعية، ولكنها ﻻ تخلو من الموسيقى الصوتية في هسهسة مظاهر التصويت الذي يوحي للسامع بمدى حدية الصورة في موضع الجمل اللغوية. وبطبيعة الحال قد تصبح محموﻻت الأفعال والصفات في محاور الظواهر الصوتية إلى نقائض وخروجات بتحويل الظاهرة الصوتية إلى حركة بلوغية بالمعنى والدﻻلة كما الحال سابقا في الجمل الأستهلالية الأولى (قد كان شعري ما يزال، يقص خطاً يستقيم عل الجبين) أو جملة (وكنت تأتي راكبا عذابات زانٍ) ان أياً من الاستعدادات الفاعليةفي الجمل مصدرها موضعا في مقاصد (الصوت - الصفة - الأستعارة - المؤول) لتكون حقيقة المعنى تحوﻻ في إشادات الأصوات في الزمان والمكان والظرف والحال. لذا فأن القابلية الأصواتية في متعاقبات الصور والحاﻻت في البناء النصي، تجري بالمتحقق الصوتي - اتجاها داﻻ في حصولية ربط فروقات الصورة والتصور في خيارات الانماذج المبدية للوجود الإمكاني:

حتى إذا مر عام بي، كففت عن العبوس

وودت لو ضموا ثراي إلى ثراك مدى الزمان

مدى الزمان، مدى الزمان!

ربما أن هيمنة أفعال الراوي الذاتية تدفع المشهد الزمني نحو جملة إنبثاق في (الذاكرة - الراهن - الحلم - الرؤيا - الأصوات) بما يساعد صورة تقادم الزمن بمعناه الوجودي، على إستعادة - الحاكية - لاحوالها المتتابعة وتناميها في وجه فتوة الملفوظ (حتى إذا ما مر عام بي، كففت عن العبوس) وﻻ شك أن حركة الزمن بهذه الصيغة الاعتبارية تحيل من قابلية التمثيل الاستقبالي للحال الزمني إلى موجه يتطلع نحو الثبات في فضاء الحال (كففت عن العبوس) لذا يمكننا القول بأن الموجه إليه قصدا يبقى كصيغة تمثيلية لواقع حسي يقارب مناداة ضمير الغياب (وودت لو ضموا ثراي إلى ثراك مدى الزمان.. مدى الزمان، مدى الزمان) فخاصية الاستقدام والاختتام بالمد الزمني تتجاوز طرف المخاطبة للذات الراوية، لتحمل فعالية الأمنية إلى حالة ﻻ تتعدى مستوى معادلة اللزومية المرفقة بحواس قرائية راثية بقابلية الانشطار والزوال بكيفيات وحدات الغياب (مدى الزمان، مدى الزمان!).

- مطات الانتظار.. المساحة اللامنظورة من زمن اللاعودة

تتنازع مفردات (السفر - الانتظار - الخيبة) في أشد مفاصل السياق الشعري للنص، لذا فهي قصيدة المعادل العياني للمحسوس الغيابي، خصوصاً وإن موجهات العنونة المركزية (رسالة من زوجة تاجر النهر؟) تعكس ذلك المستوى الارتباطي من دال (الانتظار - السفر) حافلان بالاحتمالات المخيبة والمستجيبة لمنطقة الحلم وآلياته المكثفة والمضاعفة:

حتى إذا مر عام بي، عزمت على سفار

و قصدت - كوتون - البعيدة في سفار:

أصعدت في النهر الذي للموج فيه

صخب يدوم بالمياه.. كأن فيه هوى تدور.

و مضت شهور خمسة منذ ارتحلت. مضت شهور !

و على ذرى الأشجار حولي ها هنا، تثب القرود

و تضج في لغط حزين لا يطاق ! متى تعود !.

مما يحفزنا نحو رغبة التأويل، هو ذلك الضمير المستتر في قرار صيغة التعدد الصوتي (متى تعود !) فالمستوى المركب بين سياق الذات الراوية عبر صوتها الإجمالي والمخصوص ثمة مسافة إجرائية خاصة وكيفية في التعدد والتوحد، فعبر المستوى الأول ثمة آلية التمركز الحكواتي العام حاﻻ، أما في المستوى الآخر فهو المقصود بالوظيفة المضافة في التعلق الذاتي وسريته الماثلة في خطرات التماهي المتجاوز لمنطقة النطق والمنطوق التعجبي في مؤسطر الجملة. بمعنى ما ان الذات غدا يسيرها الانفصال الصوتي، وفي الجانب التشكيلي من زمن النص ثمة مفترضات بوظائف التصور الذاتي (أصعدت في النهر الذي للموج فيه صخب يدوم بالمياه.. كأن فيه هوى تدور.

- تعليق القراءة:

لعل القابلية التصويرية ها هنا اكتسابا ﻻحتماﻻت ظنية في سياق فاعلية حاسة الراوية، ليتأتى مفعول توظيف أنسنة الأشياء (القرود؟) باستعارة مستجيبة لمنطوق مخيلة الراوية التي ﻻ تنفك عن معاودة تحريكها للمخيلة التي باتت تحفظ تمثيلات الاستلهام في مفترضات حكواتية دائمة الاستعادة لذلك الغائب والحاضر في قاع النهر والذاكرة والزمن والمكان وطرائق توليد الحكي في حكايا الفقد والفقدان:

إني رأيتك تسحب القدمين في يوم الوداع

و الان، عند الباب، تنتشر الطحالب زاحفات

من كل أنواع الطحالب، يمتنعن على اقتلاع

و الريح كالآهات، والورقات تسقط مبكرات.

هكذا وجدنا (قصيدة الراوية) تحفظ لذاتها ودوالها صور مرثية مفترضة محفوفة برحيل ذلك الزوج عبر رحلاته النهرية، مستشرفا لذاته بانوراما عالم القاع والضياع بين طبقات الطحالب والحشائش العميقة من وجوه وخرائط القاع، تاركا لتلك الزوجة عملية تدوين آخر رسائلها المفترضة إلى ذلك النهر المثقل بمرايا الجثث الغاطسة والخضرة والتواريخ الدائرة في صفير الريح واستجابة لاصداء حكايا قصيدة زوجة تاجر النهر.

***

حيدر عبد الرضا – كاتب وناقد عراقي

تشغل رواية «المقامر» مكانة خاصة في مجمل أعمال فيدور دستويفسكي (1821 1881)، ليس فقط للظروف الشائكة التي أحاطت بالكاتب خلال مدة كتابتها، وإنما لكونها أيضا الحاضن لجملة كبيرة من الأفكار التي ستنساب في الأعمال التي جاءت بعدها لتتجسد فيها بروح نابضة وقوة، تأخذ العقول وتكون موضع دراسات عميقة في جامعات الشرق والغرب لأسبار غورها ولحد يومنا هذا..

من الناحية الشكلية فإن المقامر هي الرواية الوحيدة التي كتبها دوستويفسكي وصدرت (1866) بكتاب على حدة من دون أن تنشر في مجلة أدبية كما هي الحال بالنسبة لرواياته الأخرى. وكانت الرواية مخاض «مقامرة» محضة كادت تؤدي بالأديب الكبير للإفلاس نهائيا وتحول من دون ظهور رواياته الكبرى الأخرى: الجريمة والعقاب والإخوة كارامازوف والأبله والمراهق…. فالمقامر كانت نتاج اتفاق غير عادل فرضه الناشر ستيلوفسكي على دستويفسكي، يقضي بقرضه مبلغا ماليا كان بأمس الحاجة لقاء إصدار كافة أعماله،وأن ينتهي من كتابة رواية بأقل من تسعة أشهر، وبخلافه فإنه سيصادر حقوق طبع أعماله لتسع سنوات واسترجاع السلفة.

وشرع دستويفسكي بكتابة الرواية قبل شهر من انتهاء المهلة وربح «الجولة» فقط بفضل ظهور «الملكة» أنا جريجورفنا التي ستكون زوجته وساعدته على نسخ روايته وتنقيحها في المدة المطلوبة. فكتب الرواية في غضون 26 يوما تلك الأيام التي كانت أيضا منعطفا في حياة دستويفسكي الإبداعية. وتزوج من جريجورفنا التي ستظل رفيقة دربه وسكرتيرته الخاصة حتى اللحظات الأخيرة من حياته. الرواية بشخوصها وبنيتها وأفكارها الرئيسة كانت قد اختمرت في ذهن الكاتب، ويبدو أنها كانت بانتظار المخاض، الذي عجالته المقامرة المريرة

وتدور الرواية حول عائلة جنرال روسي شاءت الظروف أن تحل في مدينة روليتنبورغ الألمانية وتتحكم الانفعالات والمال وعواطف الحب الجياشة وما يتصل بها من مكايد وصفقات وراء الكواليس، بأمور هذه العائلة. وليخفي الجنرال رأس العائلة عشقه لمودموزيل بلانشيه التي لتفترق عن الفرنسي دي جريو وهذا بدوره ارتبط بعلاقات غامضة بربيبة الجنرال بولينا التي أضيف لها قصة مال.... ولم يتخذ موقف اللامبالاة من بولينا ايضا المستر استلي الانكليزي الذي اتشح بالوقار وبرودة الدم.بيد ان معلم اطفال الاسرة الكسي ايفانوفيتش وهو بطل الرواية وسارد احداثها كـ «مذكرات شاب»، سليل عائلة نبيلة وحاصل على تعليم ممتاز تتجلى في نقاشاته الفكرية الحارة وتأملاته عن الناس والحياة، وحده يعيش مغامرة حب قلقة لبولينا، حب حتى الحقد، يحرمه الهدوء ويسرق النوم من عينيه، ويجعله يقبل تأدية دور التابع بالاسرة ليكون بالقرب منها

وتراهن العائلة ومن حولها على موت الجدة صاحبة الأطيان الذي تنتظر وصول خبرها من موسكو ببرقية عاجلة لتقاسم الورث وحل المشاكل العالقة، ولكن العجوز لا البرقية تفاجئ الجميع بالوصول بنفسها لروليتنبورغ وتشرع بالمقامرة بثروتها لتخسرها وتتمحور الرواية حول مصير ألكسي إيفانوفيتش الذي يمارس القمار نزولا لرغبة بولينا ويحالفه الحظ في البداية بالربح، ولكنه يتحول -في نهاية المطاف-   إلى مقامر مدمن لا علاج له، أي كما وصفه الأستاذ استولي «إنسان ضائع» ويتضح في نهاية الرواية بأنه يتنقل بين مدن القمار بأوروبا وينحدر ليكون خادما، ويصدر به حكم بالحبس بسبب عدم إيفائه بالتزامات مالية. فالإدمان كان ملاذا من مأساة الحب غير الناجز، لخنق أصدائه بانفعالات الربح والخسارة، ويرصد الكثير من الباحثين في سيرة دستويفسكي الكثير من ملامح شخصيته والأحداث التي مرت به والناس الذين تعامل معهم في الرواية. فازدواجية الحب والحقد التي ميزت علاقة ألكسي إيفانوفيتش ببولينا تذكرا بعلاقة الحب المعقدة التي ربطت دستويفسكي بابوليناريا سوسلفا. وكان دستويفسكي أيضا قد ولع لمدة 10 سنوات حتى الإدمان بالقمار مثل بطل روايته المقامر.

شخوص رواية المقامر، مثلهم مثل أغلبية شخوص روايات دستويفسكي الأخرى يقفون على حافة الهاوية. هاوية ما. الإفلاس، أو فقدان الصواب أو التعرض لمرض نفسي الموت الفراق مع القريب أو خسارة كل الممتلكات أو الربح أو اجترح مأثرة أو اقتراف جريمة. دائما يقفون أمام خيار تراجيدي. ومعظم تلك الشخصيات أيضا كما يقول ميخائيل باختين متعددة الأصوات. ففي اللحظة الواحدة تتقلب المشاعر والانفعالات ويدلي الإنسان أو يفعل ما ليخطط له ولم يفكر به. هذه الأجواء تهاب عالم دستويفسكي وديناميكية تربك حتى القارئ وتحدث صدمه لديه. دستويفسكي يشرح الروح الإنسانية ليقدم لنا الأجزاء المتكونة منها التي تعوقها عن تحقيق حلم المسيح بإقامة الجنة على الأرض

وينقسم شخوص رواية المقامر إلى معسكرين. الأول يضم الشخصيات الروسية الرئيسية منها الكسي ايفانوفيتش وبولينا الكسندورفنا والجنرال والجدة انتونيدا فاسيليفنا وأربع شخصيات ثانوية يكتفي بإيراد أسمائها فقط. والمعسكر الآخر يضم شخصيات أوروبية فرنسية مودموزيل بلانشيه ورفيقها دي جريو والإنجليزي المستر استلي والألماني البارون بورميلجيليم. ويعكس المعسكران توجهين حضاريين وثقافتين مختلفة بل ومتناقضة لا يمكن أن تلتقي، ونظرت  إلى الأمور بصورة مختلفة حتى حينما يمارسان الفعل نفسه. لكل منطلقه فيه. فالمال مثلا بالنسبة للروسي ليس هدفا بحد ذاته بل وسيلة لنيل الحرية والتحكم بالمصير الشخصي، ومحاولة إنقاذ الآخر، الغريب عنه وفي نهاية المطاف تحقيق الحلم الأثير لدى الروسي: تخليص العالم. الروسي يعيش بعواطفه منفعلا متأججا جامحا مخترقا للأبواب من دون الاكتراث للمراسيم والبروتوكولات، وهو مضياف كريم، حال ما تظهر لديه نقود سوف يدعو  احدا ما لوليمة غداء، أنه قليلا ما يفكر بالغد، وهو مستعد لإلقاء نفسه من قمة جبل نزولا عند أمر حبيته أو ارتكاب الحماقات ليبعث السرور في قلبها، ويقع في حبائل الأوروبي الذي يتقن حبك المكائد، انه يعرف الأوروبي طيب ولكنه أحمق

ويدرج دستويفسكي في المعسكر الأوروبي من شخوص روايته خمس شخصيات تمثل طيفاً أكثر الأمم نفوذا في عصره: الفرنسية والإنجليزية والألمانية وهناك أشباح بولونية، أو على الأقل الأمم التي لها صلات على مستويات مختلفة بالأمة الروسية والسلافية عموما. ونتلمس من خلال تفاعل الشخوص وصدامها أن لكل فرع أيضا خصوصيته في ذهنية الإنسان الروسي. والأحكام التي تطلق على «الأوروبي» هي في واقع أصداء لميول اجتماعية وسياسية كانت سائدة في روسيا. فالفرنسي مغامر يبحث عن المال بأية وسيلة كانت، وهو رغم الرأي الشائع عنه يتميز فقط بأناقة الشكل من دون أن يكون له محتوى ولا مضمون. المال بالنسبة له هدف نهائي ومن أجل يغامر ويخدع ويخون ويلبس الأقنعة ويحتال، لكنه متكبر ينظر إلى الآخرين وخاصة للروس من الأعلى.ويلوح الألماني دقيقا في حياته، إنه يضحي بحاضره في سبيل تأمين مستقبل أحفاده ويعيش لذلك في ظل قواعد لا يحيد عنها تؤدي إلى جفاف روحه. ويبدو الإنجليزي غامضا وباردا في مشاعره يحقق أهدافه بخفاء دون أن يبوح بها، ولكنه يظهر الكرم والشهامة عندما يجد ذلك مناسبا.

وعموما فان الآراء والمواقف من الأوروبي والروسي تأتي على لسان شخوص الرواية ليس بالضرورة هي مواقف الكاتب، لكن المعروف عن دستويفسكي إنه أصولي روسي أصبح محافظا متدينا، بعد الإفراج عنه من سجن الأعمال الشاقة بسبب انتمائه إلى حلقة بيترشيفسكي الاشتراكية التي نشطت إحدى جماعاتها لتحويلها إلى منظمة فعل جماهيري لقلب نظام القيصر. وكان يؤمن بخصوصية الروح الروسية وبرسالته الروسية لإنقاذ العالم لأنه مزاج حضارتين. كان يؤمن أن الشعب الروسي تجسيد للرب، فكان يدافع عنه ويدعو لتنقية صفوفه لإيصاله بطريق السلام والعمل إلى الجنة الموعودة. وكان دائما يبحث عن البديل للحضارة الغربية التي بالغت بميولها المادية.

***

د. فالح الحمراني  

قنّاصة النّور

تلألئي في أفق الكدّ تراقصي على قمم المجد يا نجمة الشّقاء السّاطعة تهادي بين الكواكب بزهو ومرح حوّطتك بسواعد الكدح المستديم من كلّ عين تحسد من كلّ قلب حاقد حصّنتك بيقين صدقي من مكر الموج يشرئبّ صوبك يطفئ وهج قبساتك اللّامعة تمايلي على متن فلاحك المسبوك بالنّصب لتشتعل ثقافة المقل تناثري في رحاب الفؤاد تناسيم عطر وفخار. يا نتاج عمر على جسر التّعب أثمر عند آخر سلّم الوصول سلطان ضيائك توهّج اشمخي فوق كبرياء المنى فلا يحبط انبهارك صواعق ولا يخفي سطوعك سحب أو قنّاصة خلف منافذ الضّغائن يضرب خلسة في عقر الفوز

يسترق الإبداع ينزع عنك ثوب النّور وقبّعة الرّجاء ليصيب سهامه في أوج القمم.

***

جميلة مزرعاني - لبنان الجنوب / ريحانة العرب

....................

القراءة: في الزمان الذي يتناثر فيه الضوء على أطراف الأفق، حيث تلتقي ظلال الحروب الصامتة مع شعاع الأمل الضعيف، تطل قصيدة الشاعرة جميلة مزرعاني كأنها نداء متجدد لروح المقاومة التي لا تكلّ، لا تملّ. "قنّاصة النّور" ليست مجرد كلمات تُنسَج على الورق؛ هي خطاب مستمرّ بين النور والظلام، بين الشجاعة والمخاوف المتربصة.

الشاعرة تتسلل إلى عالمنا كمن يسكب بريقًا في عتمة الليل. تفتح نافذة لرؤية جديدة: النور، الذي غالبًا ما يتصور أنه بعيد عن متناول اليد، يصبح الآن سلاحًا في وجه العتمة. النور ليس فقط إشارة إلى البراءة أو الطيبة، بل هو الفكرة المتمردة، القوة التي تصمد، النية الصافية التي تتحدى الانتقام والخيانة. والشاعرة، بقدرتها على الحرف، تكشف عن "قنّاصة النّور" تلك القوى التي تحاول أن تقتل الجمال، أن تشوه الأنوار قبل أن تضيء.

لكن في خلفية هذه القصيدة، هناك أمر آخر يبعث على التأمل: النور لا يموت. حتى حين يكون الهدف مرمى لسهام الحقد، حتى حين يرسل العدو غدره عبر "منافذ الضغائن"، يبقى النور مرصعًا داخل الشاعرة نفسها، محاطًا بسور من "يقين صدقي" وكأنها تكتب مصيرًا لا يمكن للموج أن يغيره. فالنور في هذه القصيدة ليس ناعسًا أو هائمًا في السماء، بل هو صراع يومي، رقص على أطراف الألم، تمايل على ظهر تعب الإنسان.

الشاعرة كـ"قنّاصة" في حد ذاتها:

الشاعرة هنا ليست مجرد مراقب خارجي للحياة، بل هي القنّاصة نفسها، التي تعيش في صراع دائم مع الظلام داخلها وخارجها. تكتب وتترقب، تبثّ إشعاعاتها رغم الرياح التي تعصف بظلالها. وقنّاصة النّور هي تلك الذاكرة المقاومة التي ترفرف في سماء الحرب الداخلية للإنسان، حيث يظل الجمال والإنسانية هدفًا يتم اصطفاؤه وسط رصاصات الأيام، ليظل يضيء الطريق للآخرين.

التصورات الرمزية التي اختارتها الشاعرة هي صورة كونية لحرب بين "النور" و"الظلام"، ولكن الحرب هنا ليست معركة خارجة عن الذات، بل هي مقاومة خفية تشتعل في أعماقنا في لحظات الضعف والانكسار. الشاعرة لا تنادي في قصيدتها، بل تصرخ فينا جميعًا بأن النور في داخلنا، ورغم كل شيء، يظل وميضه هو الأمل في طريقنا الطويل.

النور، في النهاية، هو النصر:

لكن، ما يجعل القصيدة تخرج عن التقليدية هو الطابع الصوفي الذي يلتف حولها. فالنور ليس فقط جوابًا للظلام، بل هو الجواب الذي يعبر عن هويتنا كإنسان، كما لو أن كل قمة، مهما عتت، هي مجرد نقطة في الطريق نحو هذا النور الأبدي الذي يحترق فينا. النور ليس هدفًا نهائيًا؛ بل هو رحلة، هو الحلم الذي يتحقق على بُعد كل شعاع.

هكذا، بين سطور الشاعرة، نجد أن الظلام ليس العدو المباشر. العدو الأكبر هو الصمت الذي يسمح للظلام بالانتشار. "قنّاصة النّور" هي من يرفض هذا الصمت، يرفض أن يُطعن النور في قلبه، ويرفض أن يُغتال الإبداع في مراحله الأولية. إنها دعوة إلى النضال، إلى الانتصار في تلك المعركة المتواصلة، إلى تحويل كل ضربة للحياة إلى مصدر قوة.

الطاقة السحرية للقصيدة:

إذا كانت القصيدة تحتفل بالنور وتستفزنا لملاقاة الظلام وجهًا لوجه، فإننا لا نغادر ساحة المعركة إلا ونحن أكثر تمسكًا بأحلامنا. لأنها، وببساطة، تحوّل الكلمات إلى أسلحة، والأحلام إلى وقود، والجراح إلى طرقات تعبير. فيها من الإبداع ما يشعل فينا الفتيل، ويجعلنا نواجه الضغوط التي تحيط بنا بأرواحٍ ملؤها العزيمة.

الخاتمة:

شاعرة لبنان الجنوب، جميلة مزرعاني، لا تقدم لنا مجرد كلمات موزونة؛ هي تمنحنا إيقاعًا نرقص عليه رغم كل القنّاصة التي قد تصوّب نحو قلوبنا. قصيدتها تأخذنا إلى مكان بعيد عن الخوف، مكان نعرف فيه أن النور لا يتوقف أبدًا، حتى لو تقطعت أوصالنا تحت ضربات الظلام.

النور لا يُخطف إلا ليُعاد خلقه من جديد.

***

بقلم: كريم عبد الله – العراق

لون جديد من ألوان الإبداع الأدبي، زادت أهميته على الساحة الأدبية العربية، وزاد اهتمام الأدباء والنقاد به خلال السنوات الأخيرة، تمثل في فن (القصة القصيرة جدًا)، الذي تعود نشأته إلى تسعينيات القرن العشرين، وتعد القصة الأردنية القصيرة جدًا من النتاجات السردية المتفاعلة مع شقيقاتها في المنطقة العربية، وامتاز اللون بقصر الحجم، والإيحاء المكثف، إضافة إلى سمات الحذف، والاختزال، والإضمار، مع التصوير البلاغي.

تتميز القصة القصيرة جدًا بعامة بعدد محدود من تقنيات القص، فهي كما وصفها يحيى عبابنة في مقاله (تقنيات القصة القصية جدًا في مجموعة قبل الآوان بكثير) «لا تحتمل كثرة اللقطات، ولا تحتمل أيضًا الوصف، فهي عمل لا يحتمل الوصف والاسترخاء على الإطلاق، ولذا فلا بد من وجود افتتاحية تتواشج مع سائر العبارات وختام القصة، فبداياتها بجملة جذابة ومثيرة، وعبارات متحركة ثائرة، ونهايتها جملة تصعيدية» (مجلة أفكار، ع153، ص43).

إن تقنيات القصة القصيرة جدًا تختلف من رؤية نقدية إلى أخرى، فمنهم من رأى أن التقنيات تنحصر في «خصوصية اللغة، والاقتصاد، والانزياح، والمفارقة، والتناص، والترميز، والأنسنة، والحيوان، والسخرية، والبداية، والقفلة» كما وردت في كتاب شعرية القصة القصيرة جدًا لجاسم خلف إلياس (ص150). بينما اعتقد يوسف الحطيني أن تقنيات القصة القصيرة جدًا هي: «التناص، التشخيص، الإيقاع، العنوان، الحوار»(القصة القصيرة جدًا بين النظرية والتطبيق، ص 33-44 ). ويشير علي المومني في كتابه (الحداثة والتجريب في القصة القصيرة الأردنية) إلى أن تقنيات القصة القصيرة هي: «الرمز، البداية، القفلة، المفارقة، ترابط الأحداث، التكثيف، الشعرية، اللحظة المتفجرة، الفجائية، كسر أفق التوقع، التناص»(ص295).

وتجدر الإشارة إلى أن التقنيات على اختلافها متوفرة في القصة الأردنية القصيرة جدًا، فقد يلجأ إليها كاتب القصة القصيرة جدًا مجتمعة، وربما لا يقوم بتوظيفها جميعها في قصصه، فالقاص محكوم بطبيعة الفكرة وصياغة المحتوى في القصة، فالتقنيات وليدة التجريب والابتكار، والذي سمح بالانتقال للكتابة السردية الممزوجة بالشعر، وممتزجة بالخيال والتراكيب اللغوية المدهشة، والاستعارات والصور الفنية المرافقة للاختزال والتكثيف (يوسف الحنيطي، ص203).

المفارقة في القصة الأردنية

هي من «التقانات التي تفعل القصة القصيرة جدًا، وتشكل أحد أسسها الجمالية، إذ تحول الحياتي إلى معطى لغوي ذي حمولات متزاحمة، وتقترح اقتفاء حساسية الخطاب الإنساني في واقع متخم بالمفارقات اليومية الساخرة ومجالات الحياة المختلفة، فهي توفر لنا فرصة التقاط المفارقات ورسم صورة كاريكاتيرية سريعة نافذة لحالة ما»(جاسم خلف إلياس، ص153).

إن المفارقة ضرورة لا بد منها في الأدب، ووجودها يتحدد بمقدار الفائدة والجمالية التي تضيفها إلى النص، فأهميتها تتجلى في قدرتها على التأثير في المتلقي وصياغة جماليات النص، لها مقدرة على تحفيز دلالات النص عن طريق خلق تناقض ظاهري يوهم المتلقي أنه يواجه موقفًا غير متسق مما يدعوه إلى إمعان النظر فيه في محاولة سبر غوره لينكشف عالم المفارقة والدهشة.

تشكل المفارقة في القصة الأردنية القصيرة جدًا تقنية مهمة؛ لما لها من أبعاد تأثيرية في النص، فلا تكاد تخلو قصة قصيرة جدًا من هذه التقنية، سواء أكانت مفارقة درامية أو لفظية أو مكشوفة، ومن أمثلتها، ما جاء في قصة «جثة» من مجموعة «بعد خراب الحافلة» لسعود قبيلات تقوم المفارقة على الحدث الدرامي، يقول: «مشى الرجل طويلاً ؛ وبينما هو ينقل خطواته مات، غير أنه لم يفطن لموته، كما أنه لم يعرف كيف يأوي إلى قبره، وأخذت جثته تتحلل، فلم يعرف ماذا يفعل بها، فحملها وواصل المشي، عندئذٍ مات مرةً أخرى، وأمعن في الموت، بينما هو لا يزال يواصل المشي»(ص71).

إن قصة قبيلات هذه قائمة على مفارقات مضادة في الحدث، فهي أشبه بعلاقة النوم بالأحلام؛ بمعنى أن كل نص سواء كان قائما على الشعور أو اللاشعور (حلم، كابوس، هذيان) فهو ينبئ عن مفارقة ما، فقصة «جثة» تظهر المفارقة في الحياة والموت اللتان همان مرادفتان للاختناق والأزمة، والعلم بالموت ومعرفته نقيض الجهل بآلية اللجوء إلى القبر. فإن القصة القصيرة جدًا عند قبيلات تتكئ على أبعاد المفارقات المتنوعة القائمة على توظيف عناصر اللاشعور الإنساني، فالمفارقة عنده عبارة عن منظومة من المفارقات السردية المتشكلة من السخرية، والترميز والأسطورة والهذيان.

ومن القاصين الذين وظفوا المفارقة القائمة على الحدث «جلنار زين» إذا لجأت إلى عالم اللاشعور، ومنحت قصصها دفعة شعرية مغرقة بالمتناقضات المتضادة، ففي قصة «كابوس» تصل القاصة إلى جعل عالمها السردي يمتلئ بمفارقات حسية تعتمد فيه على نظام الاسترجاع، تقول: «نهض من نومه مفزوعا.. كان كابوسا جميلا! رأى نفسه في بيته ينهل من طعامه الطيب ويمتطي فوق فراشه الوثير، ممتعا ناظريه بمرأى زوجته الوادعة.. تعوذ بالله من الشيطان، وعاد إلى توسد صاروخ لم ينفجر، متدثرا بفستان ينزّ دما»(ص34).

تقوم هذه القصة من بدايتها على تقنية المفارقة فجعل منها عالمًا فوضويًا في نهايتها، فالتناقض الذي أحدثته القاصة في قولها «كان كابوسًا جميلًا» دفع بالنص نحو تفسير الكابوس تفسيرًا لا منطقيًا يتناقض مع الوصف الشعري، فكيف يكون الكابوس جميلًا بينما الرجل يتعوذ منه؟! وكيف يكون «الطعام الطيب، والفراش الوثير، والزوجة الوادعة مقابل «الصاروخ الذي لم ينفجر، والفستان المليء بالدم» هذا التشويش الذي أحدثته المتناقضات منحت النص مفارقات مختلفة، فالمفارقة كما يشير إليها أحمد الحسين «هي نتيجة لتوفر بعض الأمور من مثل التضاد والثنائيات اللغوية المفارقة، ومقارنة بين حالتين يقدمهما الكاتب من تضاد واختلاف وجهات النظر، وليس بالضرورة أن يكون ذلك معلنا، بل يمكن أن يستشف من النص، وهذه الثنائيات هي بصورة ما معطى لغوي حمل دلالات في الموقف والمضمون؛ لذا فإن هذه الثنائيات قد تضحكنا من جهة لكنها تفرز في جدران أرواحنا تحريضا من جهة أخرى» (ص42).

ومن أنواع المفارقات التي حفلت بها القصة القصيرة جدًا في الأردن المفارقة الساخرة، وهي جزء من المفارقة اللفظية التي تعد كما قال عنها جاسم خلف إلياس: «نمطًا علاميًا أو طريقة من طرائق التعبير، يكون المعنى المقصود فيها مخالفًا للمعنى الظاهر، وينشأ هذا النمط من كون الدال يؤدي مدلولين متناقضين، الأول مدلول حرفي ظاهر، والثاني مدلول سياقي خفي، وهنا تقترب المفارقة من الاستعارة أو المجاز وكلاهما في الواقع بنية ذات دلالات ثنائية. ومن أنماطها الفرعية مفارقة السخرية»(ص157). ومن أمثلة هذا النمط في القصة الأردنية القصيرة جدًا قصة «جوع» لسمير الشريف في مجموعته «مرايا الليل»: «للشهر الرابع لم يتذوق أطفالي طعم اللحم، أقف أمام الجزار أضم قبضتي على قروشي القليلة، للمرة الأخيرة أمسكتْ بي نظراته متلبسا بحيرتي، قبل أن أمتطي سرج شجاعتي، وأطعنه بسؤال: أحتاج عظمات للكلاب في بيتي»(ص55).

أحدثت المفارقة في هذه القصة سخرية مضادة، فعلى الرغم من سير الأحداث بتسلسل وتناسق متناغم مع طبيعة الفكرة التي يميل النص إليها، إلا أن القاص فاجئ المتلقي بمفارقة ساخرة، أراد من خلالها التعبير عن حجم المعاناة الاجتماعية التي تعيشها الطبقات الفقيرة، فالمفارقة الساخر تقنية تستطيع أن تمنح النص لغة خاصة قائمة على جزئيات لفظية، أو صورة تكثيفية، هدفها حمل كثير من الانتقادات، لا سيما وأن المفارقة الساخرة في رأي أحمد الحسين: «قد تقول الشيء وتريد ضده، وهذا يرتبط إلى حد كبير بالسياق، والسخرية جرأة على الواقع وأحيانًا تعبّر عن عدم التطابق بين المأمول والواقع، وقد تنتج عن تباين الأساليب والرؤى، وأحيانًا يكون الشغل على الشخصية فقد تأخذ بعض الحالات الغريبة التي تجعلها أكثر اقترابًا من الواقع»(ص47-48).

وقد تأتي المفارقة من خلال كسر أفق توقع المتلقي بين عنوان القصة ومضمونها، وكذلك من خلال النهايات غير المتوقعة. وهذا ما نلاحظه مثلًا في قصة (بنت الحرام) للقاص جمعة شنب فهي قصة ذات نزوع رمزي تتمركز دلالاتها العميقة في رفض الواقع الاجتماعي القائم على الغدر والخيانة، والفساد والنهب والسلب، وحب الذات والتسلط، فقد وصف القاص (النملة شديدة الحمرة) ببنت الحرام لأنها خانت وخدعت مجموعتها، وتعالت وفضّلت حب الذات على حب الآخرين، فالمفارقة التي أحدثها القاص هي مخالفة طبيعة العلاقات داخل بيت النمل التي تقوم في أساسها على الإيثار وحب الآخرين، فالفرد يعمل لصالح المجموعة، وما هي إلا نموذج للصورة الطبيعية للبشرية القائمة على الاستغلالية وحب التسلط والعمل من أجل المصلحة الشخصية بعيدًا عن النظر إلى أهمية مصالح الآخرين. لقد أراد القاص من القارئ أن يبحث في غموض القصة ولطف الإشارة عن هذه الفكرة من خلال إيجاد عنصر المفارقة والإدهاش.

والمفارقة تنظم بناء الحدث بحيث يتطور في مسار يكون مخالفًا للنهاية المقصودة، فقد يلجأ إليها القاصيين لنسج نهايات يمكن تسميتها بخيبة الانتظار أو كسر أفق التوقع؛ وهو الذي يكسر به توقع القارئ الذي كان ينتظر أن يجد ما يتوقعه من الكلام بناء على المقدمات السياقية، ولكنه يتفاجأ بنتيجة أخرى تناقض توقعاته، فيزيد من تفاعله ومن كثافة المغزى.

ومن أمثلتها «قصة احتفالية» من مجموعة «أربعون رصاصة تكفي» لرامي الجنيدي، يقول: «في يوم الشجرة العالمي، أقامت الجهات المنظمة احتفالا كبيرًا باقتلاع آخر شجرة زيتون معمرة»(ص70)، فعلى الرغم من قصر الجملة القصصية في هذه القصة إلا أن النهاية ألفت صدمة ومفاجأة للمتلقي، إذ خالف الحدث بشكل مغاير توقعات القارئ، فالاحتفال في يوم الشجرة يكون بزراعة الأشجار لا اقتلاعها، كذلك أضافت عبارة شجرة الزيتون المعمرة متخيلًا شعريًا جعل القارئ يتساءل لماذا اختار القاص شجرة الزيتون؟ وربما تكون الإجابة أن شجرة الزيتون رمز للطهارة والمباركة والسلام والهدوء والطمأنينة، وأن اقتلاعها يرمز إلى مضادات هذه التأويلات.

كما لجأ قبيلات في معظم قصصه في مجموعة «بعد خراب الحافلة» إلى مفارقة خيبة الانتظار أو كسر أفق التوقع، التي تنتهي بحدث واحد مغاير للأحداث رغم تعدد الأحداث في القصة، ومن ذلك قصة (رفقة): «صعدا إلى الحافلة معا، وجلسا في مقعد واحد ، غير أن المقعد سرعان ما انقسم إلى نصفين، والحافلة إلى اثنتين.. سارت كل منهما في اتجاه؛ حاملة أحد الراكبين»(ص65) فأحداثها متعددة، مبنية على الجمل القصيرة، ذات الإيقاع السريع، فضلا عن ترتيب في الأحداث مثل الصعود، والجلوس، والانقسام، إلا أن المفارقة حدثت في انقسام الحافلة إلى اثنتين، ثم جاءت المفاجأة أو النهاية في المصير المحتوم الذي حدث نتيجة ما يبدو أنه حادث قوي فصل الأصدقاء عن بعضهم البعض.

وفي نهايات قصص مجموعة محمد عبد الكريم الزيود (وحيدًا كوتر ربابة) لجأ لهذه المفارقة فمثلًا في نهاية قصة المنتصف وأشياء أخرى خالفت ترقب القارئ وكسرت أفق توقعاته كلها، لم يخطر بذهن القارئ أن الفتاة سترسل رسالة وتقول له أنها بانتظاره في قاعة القادمين، فهي خلال القصة لم ترد عليه ولو بكلمة واحدة. وفي قصة فنجان قهوة، نرى أن النهاية كمثيلاتها لجأ فيها إلى كسر أفق التوقع، وذهب الزوج لإعداد فنجان القهوة، الذي طالما حلم أن يكون من إعداد زوجته التي فعل الكثير لها.

إذًا المفارقة تقنية مهمة في تفعيل حركة السرد في القصة القصيرة جدًا، ومن مقوماتها التركيز على جملة من المتناقضات والأضداد؛ لتخلق في النص تنافرًا وتعاكسًا بين الواقع والمتخيل، وتعتمد على خرق المتوقع وكسر أفقه.

***

د. نهال عبد الله غرايبة

أكاديمية وباحثة أردنية/ أستاذ مساعد/ قسم اللغة العربية وآدابها/ الجامعة الإسلامية بمينيسوتا/ المركز الرئيسي

ومضة

بقلم: يحيى السماوي

قالَ ليْ الأعمى: أنا أرضٌ يبابْ

ليس يعنيني إذ أشرقتِ الشمسُ

أو البدرُ عن الشرفةِ غابْ

ما الذي تخسرهُ الصحراءُ إنْ جَفَّ السرابْ؟

***

الشعر كينونة وتاريخ...

الشعريّة الوامضة… كلام فني مضلل وتعبير جمالي موح يسجل موقفٌا أو إحساسا شعريّا يمّر في مخيلة المنتج فيصوغُهُ بألفاظٍ lموحية محدودة بكم وكيف.. وهي تشكل وسيلة من وسائل التجديد الشعري، أو شکل من أشکال الحداثة التي تحاول مجاراة العصر بالتزامها مبدأ الاقتصاد في الالفاظ والاختزال الجملي والابتعاد عن الوصفية والحذف والاضمار..

وباستحضار النص الشعري الوامض الذي نسجته انامل منتجه يحيى السماوي الذي يبحث عن قوانين الابداع.. معتمدا على خيال مركب يهدف إلى تحقيق وجوده في تكوين موضوعي قائم بذاته.. باعتماه لغة الشعر التي هي (لغة داخل اللغة) على حد تعبير بول فاليري.. وبهذا تكون الومضة تغييراً في نظام التعبير عن الأشياء كما في قول أدونيس:

(بَكَتِ المئذنة

حين جاء الغريب

– اشتراها وبنى فوقها مدخنة)

فإيحاء المئذنة في تجربة المنتج قد يكون السكينة، الأمن، السلام.. ثم يأتي الغريب ليشتري ما لا يباع ويبني فوقه ما يناقض رموزها جميعاً..

قالَ ليْ الأعمى: أنا أرضٌ يبابْ

ليس يعنيني إذ أشرقتِ الشمسُ

أو البدرُ عن الشرفةِ غابْ

ما الذي تخسرهُ الصحراءُ

إنْ جَفَّ السرابْ؟

ان الحديث عن الومضة.. هو حديث عن النزعة البلاغية الشعرية وتجاوز الخطابية إلى الإيحائية وتقنية الانزياح والتكثيف واستنطاق رموز الطبيعة وصورها....

وبذلك قدم المنتج نصا تشكل من لقطات سريعة مفاجئة يلتقطها خيال المبدع من مشاهدات الواقع بعد أن يشكلها فنياً وفق رؤيته ورؤياه، فتأتي حافلة بالغرابة، والدهشة، والإمتاع، والطرافة، والمفارقة. والثنائيات الضدية وكثافة العبارة وعمق المعنى..

***

علوان السلمان

..................

فائدة: ان الومضة الشعرية لاتقوم على شعرية الجملة الواحدة بل على شعرية الرؤيا في إطارها البنيوي. فيرتقي الشاعر باللغة مشكلاً كلمات يرتفع مستواها الدلالي المؤثر في ذات وفكر المستهلك (المتلقي)...

* لوحة الأعمى للرسام والنحات والتشكيلي بابلو بيكاسو 1881 1972

 

بقلم: مايكل ميوشو

ترجمة: د. صالح الرزوق

***

 سافرت إلى نيو أورليانز قادما من لندن، حيث أقيم كل عام لبعض الوقت. وقد سافر معظمكم مسافة ما من منزله وجامعته ليستمع إلى محاضرة سألقيها عن أدب الرحلات.  قد يبدو هذا للوهلة الأولى موضوعاً مشكوكاً فيه، أو على الأقل موضوعاً سخيفا لاجتماع رابطة اللغات الحديثة. ولكنني آمل في غضون الساعة القادمة أن أقنعكم بأن السفر، ليس تسلية تافهة ويجب أن نتركها لفقراء شارع بوربون بقبعاتهم الكروية وعلب البيرة التي يشربونها وقمصانهم الغريبة، ولكنه في المصطلحات الأدبية عمل بالغ الأهمية.

أولاً، بطبيعة الحال، يتعين علينا أن نحدد مصطلحاتنا! فوفقاً لبعض المنتقدين والمعترضين، لم يعد الارتحال موجوداً. فقد حلت محله آفة السياحة. ولابد أن نعترف بأن السياحة تأتي في المرتبة الثانية بعد العنصرية أو الاعتداء الجنسي على الأطفال كمؤشر على السلوك غير المقبول سياسياً. قد نعترف بذلك ولكن حتى الآن لم نفعل.  فنحن جميعاً نفضل أن نكون رحالة حقيقيين، وليس مجرد سياح، لو كان بوسعنا أن نحقق رغباتنا.

ولكنني أزعم ـ وهذا موضوعي الليلة ـ أن السفر بالمعنى التقليدي لا يزال ممكناً، وعلاوة على ذلك هو مهم للكاتب وبالتالي للقراء. فكما استمر الإيمان الديني لفترة طويلة بعد وفاة الله المزعومة، وكما استمر الكاتب في إنتاج الروايات لفترة طويلة بعد زوال هذا النوع من الأدب الذي أثار الكثير من الجدل، فإن الناس ما زالوا يسافرون حول العالم، ويكررون تمثيل الطقوس التي كان من المفترض أن تندثر منذ عصور. وعلى المستوى الأكثر أهمية، يبدو لي أن الناس يفعلون ذلك من أجل التمتع بما أسماه الشاعر والاس ستيفنز ملذات "التنقل فقط". وربما لأن الثبات يذكرنا بتلك الحقيقة النهائية للحياة ـ أي الموت ـ فإننا نظل حريصين على إثبات أننا ما زلنا على قيد الحياة من خلال التحرك والاحتكاك بزملائنا المسافرين. إذا نظرنا إلى الأمر بموضوعية، يبدو أن العديد منا قد تم تصميمه بشكل طبيعي لاتباع أنماط الهجرة التي تؤدي ليس فقط إلى وجهة معينة، ولكن إلى حالة حيث يظل "الاكتشاف" حقيقة محتملة حتى في الأماكن التي سبقتنا فيها أعداد كبيرة من البشر.

لقد تكهن الدكتور فرويد بأن "جزءاً كبيراً من متعة السفر يكمن في تحقيق هذه الرغبات المبكرة في الهروب من الأسرة وخاصة الأب". وبهذا المعنى، قد ننظر إلى السفر باعتباره عملاً تمردياً، بل وحتى تخريبياً، وجزءاً من عملية تحقيق الذات. فأنا أسافر لتحديد هويتي الوجودية وتأكيدها. أنا أسافر. إذن أنا موجود.

في كتابه الممتع والعميق "الخارج" ، يناقش بول فوسيل السفر وأدب الرحلة بين الحربين العالمية الأولى والثانية. ويركز بشكل أساسي على التجربة البريطانية، ويلاحظ أن الحرب الشاملة أجبرت معظم الناس على البقاء في ديارهم، أو البقاء في المكان الذي أرسلهم إليه الجيش، وتسبب ذلك في عواقب وخيمة على الفنون والآداب الإنكليزية، ناهيك عن المواطنين بشكل عام. ويزعم فوسيل أنه بدون السفر، سنعاني حتمًا من "فقدان السعة، وتدهور الخيال والإمكانات الفكرية وهو يوازي خسارة حرية الجسد". ويبدو أن الكتاب يحتاجون إلى السفر، وحريته، وتحفيزه ليتصلوا بوجهات نظر جديدة ومبتكرة بنفس الطريقة التي يحتاجون بها إلى الهواء، وللمحررين، ولجمهور القراءة.

إن بقية الناس، سواء أدركنا ذلك بوعي أو بدون وعي، يتوقون أيضاً إلى السفر وما يمثله. ومن يشكك يذكرنا بعدد الأنظمة الشمولية التي تحظر السفر أو تقصره على النخبة المتميزة ــ كل ذلك في محاولة للسيطرة على المواطنين، ولتعميم الجهل والتستر على ما يجري في العالم. تاريخياً، من خلال تقييد حرية الحركة، سعى الطغاة إلى تعزيز الاعتقاد بأن الوطن أرض مقدسة، وأن الأراضي والشعوب الأجنبية محرمة، إن لم تكن شيطانية تماماً.

قبل أكثر من خمسة وسبعين عاماً، افترض روبرت بايرون، مؤلف كتاب "الطريق إلى أوكسيانا"، والذي يعتبره أغلب النقاد أعظم كتاب سفر باللغة الإنجليزية، أن تجاوزات الاستعمار البريطاني وإخفاقاته ترجع إلى "الحد من السفر أو السفر الذي لا يبدع". وعلى الهامش، ومع بعض التردد في الابتعاد عن الأدب إلى السياسة، أتساءل عما إذا كان من الممكن قول الشيء نفسه عن مشاكل الولايات المتحدة في الشرق الأوسط وآسيا الوسطى. هل يمكن أن تكون هذه المشاكل راجعة، جزئياً على الأقل، إلى الجهل العام بتلك الأماكن والشعوب، وعاداتهم وثقافتهم ودينهم؟ أرجوكم لا تعتبروا هذا تصريحاً حزبياً. فاللوم يقع على الجميع. إن سماع رئيسنا يشير إلى مساحات كبيرة من العالم باعتبارها محوراً للشر قد يجعل بعضنا يحتج. ولكن على الطرف الآخر من الطيف السياسي، هناك رجال ينبغي لأحكامهم أن تجعلنا أيضاً نرتجف. إنني أتذكر دان راذير وهو يشير في بداية الحرب في أفغانستان إلى تحالف الشمال باعتبار "أنه شعب مستقل محبا للحرية". ولكن بعد أن سافرت بنفسي إلى ذلك الجزء من العالم، فإنني هنا لأخبركم أن حلفاءنا في الشمال، مثلهم في ذلك كمثل العديد من حلفائنا الآخرين في أفغانستان، هم في الأساس أمراء حرب وتجار مخدرات وبلطجية. وقبل سنوات من تحول انتباهنا إلى أفغانستان، استولى التحالف الشمالي على السلطة في كابول، الأمر الذي كان له عواقب كارثية على سكانها. وعلى النقيض من ذلك، كان ينظر إلى طالبان في البداية باعتبارهم إصلاحيين حقيقيين، بل وحتى منقذين، ولذلك قادوا التحالف الشمالي إلى وادٍ بعيد في أقصى شمال شرق البلاد. وفي ظل التشبث بالوهم القائل بأن عدو عدوي هو صديقي بالضرورة، أعادت الولايات المتحدة الحياة إلى التحالف الشمالي، إلى جانب العديد من أمراء الحرب الآخرين، ورحبت بهم في حملتها ضد طالبان والقاعدة. والآن لم يعد لدينا أي وسيلة لكبح جماح تجاوزات إخواننا في السلاح والذين نشك فيهم.

يكفينا ما سلف من حديث عن الجغرافيا السياسية، وآرائي حولها، وعن تجاربي في آسيا الوسطى. وسأعود إلى موضوعنا. أولاً أود أن أنوه ببول فوسيل الذي كتب في كتابه " السفر في الخارج" يقول: "الرحلة هو عمل. ومن الناحية اللغوية، فإن المرتحل هو من يعاني من المشقة، وهي كلمة مشتقة بدورها من الكلمة اللاتينية "تريباليوم"، وهي أداة تعذيب تتألف من ثلاثة أوتاد مصنوعة لضرب الجسم. وقبل ظهور السياحة، كان السفر يُنظَر إليه باعتباره أشبه بالدراسة، وكان يُنظَر إلى ثماره على أنها زينة للعقل واستنباط الأحكام". ومن المؤكد أن شيئاً من هذا لا يزال ينطبق على هذا الموضوع. فكر في كل هؤلاء الطلاب الجامعيين الذين يقضون سنواتهم الجامعية في الخارج. فكر في الرحالة الذين يأخذون سنة للتجول في جنوب شرق آسيا. فكر في السيدات والسادة الشجعان الذين ينضمون إلى رحلات ليندبلاد في القارة القطبية الجنوبية أو جزر غالاباغوس. إنهم يسافرون إلى حد كبير من أجل التعلم والتطور واكتساب المعرفة الحديثة. وينطبق نفس الشيء على كتاب القصص الخيالية والقصص غير الخيالية. فبالنسبة لهم، يمثل الطريق المفتوح فصلاً دراسياً ومهرباً في الوقت نفسه، ومحاولة للالتفاف حول الصفحة الفارغة ومحاولة لاستكشاف ما لا يمكن فهمه.

صحيح أن هناك أمثلة أقل إيجابية عن السفر. فقد كان هناك دوماً نوع من أنواع معاداة السفر. وفيها لا يذهب الناس إلى أي مكان ويكتفون بأخذ معتقداتهم وافتراضاتهم بعد جولة بالسيارة. وهناك نوع من الكتابة عن السفر يشبه في الحقيقة الكتابة الإرشادية التي تركز على ما يطلق عليه أهل المهنة "الخدمة" والتي تتألف في الغالب من تسجيل ما إذا كانت الملاءات في الفندق رقيقة أو ما إذا كان الخس في المطعم طازجا. ولكن هذا ليس نوع السفر أو الكتابة عن السفر الذي أتحدث عنه اليوم. لا، أنا أحاول إثبات أن السفر الكلاسيكي لا يزال موجوداً وأن أفضل أشكال الكتابة عنه يندرج تحت شكل مهم من أشكال الأدب. وعلاوة على ذلك، أود أن أعتقد أن السفر هو الأساس أو الميتا نص في العديد من النصوص التي لا نربطها عادة بالسفر.

في الشهر الماضي، أثناء قيادتي السيارة من باريس إلى البندقية، صادفت العدد الصادر في أيلول من مجلة هاربر والذي يتناول هذه القضية بشكل مباشر. كان عنوان المقال الذي كتبه نيكولاس ديلبانكو هو "في أي مكان خارج هذا العالم: لماذا كل الكتابة هي كتابة عن السفر". يقدم ديلبانكو حجة مقنعة، أو على الأقل استفزازية، عندما يزعم أن "القاسم المشترك بين الأوديسة ورحلة الحاج ، وحكايات كانتربري والكوميديا الإلهية ـ ناهيك عن دون كيخوتة وموبي ديك أو فاوست ـ في التقاليد الأدبية الغربية هو الحركة شبه الدائمة". ويزعم أن الكتب الأكثر رسوخاً هي الكتب الاستكشافية. إنها رحلات استكشافية تقدم للقراء أحداثاً ورؤى غير مسبوقة، وعالماً من العجائب، وما أسماه عزرا باوند "الأخبار التي تبقى أخباراً". إن أعظم المؤلفين هم في واقع الأمر كتاب رحلات؛ فهم يؤكدون أنني كنت هناك، وشهدت ذلك، ثم عدت لأروي القصة، وأنني لم أقرأ أي شيء من هذا العالم.

قبل سنوات، وكما لو كان يتوقع ديلبانكو، أشار بول فوسيل إلى أن الأدب والسفر كانا متداخلين على الدوام. ولاحظ أن لغة السفر ولغة النقد الأدبي تتقاطعان. ففي كلتا الحالتين نتحدث عن الانطلاق، والبدء، والانتقال، والالتفاف أو الانحراف، والعودة إلى الوراء والتعامل مع الأحداث أو مسار وجهات النظر المختلفة. ثم نقيس المسافات بالكيلومترات، تماماً كما نتحدث عن الشعر، وكثيراً ما نسمع العلماء يناقشون النصوص بمصطلحات تذكرنا بوصف المناظر الطبيعية. إنهم يتحدثون عن الأحداث الصاعدة، والجسور السردية، والأقواس الدرامية، ورسم الشخصيات، وما إلى ذلك.

وأخيرًا، حيث يلاحظ ديلبانكو أن كل الكتابة هي كتابة سفر، يبذل فوسيل قصارى جهده لإثبات كيف أن فقرات معينة من  كتابات السفر المفضلة تحمل السمات المميزة لأنواع أدبية معينة. على سبيل المثال، تشترك هذه الفقرات بكثير من الأمور مع الحكايات الطائشة والمذكرات الشخصية. وفي تفسير رائع بشكل خاص لكتاب بايرون " الطريق إلى أوكسيانا "، يصف الكتاب بأنه "الأرض القاحلة" لكتابة الرحلات، فهو مثل إليوت، بنى كتابه على شذرات من المحادثات والإشارات الأدبية والاقتباسات ولغة هوميروس، وما إلى ذلك.

والآن أتمنى ألا أبدو جاحداً، بعد أن استعنت بفوسيل وديلبانكو لتأكيد كلامي حين يتطلب ذلك، إذا عارضتهما. فالرجلان يقفان إلى جانب الهراطقة الذين يزعمون أن السفر الحقيقي لم يعد موجوداً. ويقول ديلبانكو إن وفاة ويلفريد ثيسيغر كانت بمثابة "ناقوس الخطر بالنسبة للمتجولين على انفراد" ـ بالنسبة للسفر باعتباره مشقة واستكشافاً. ولكن قبل خمسة عشر عاماً أزعجت ثيسيغر وكثيرين من معجبيه عندما انتقدت سيرته الذاتية "حياة اخترتها" في صحيفة نيويورك تايمز لأنها شوهت تجاربه وبالغت في المبالغة في دراماتيكيتها. ومثله كمثل العديد من أشهر الرحالة في القرنين التاسع عشر والعشرين، كان ثيسيغر نادراً ما يسافر بمفرده. ويكتب بأسلوب أناني، وهو ما أدى إلى ترويج الانطباع الخاطئ بأنه كان فرداً معزولا يتجول في البرية القاحلة، ويكافح بموارد محدودة، ولا يستمد قوته إلا من شجاعته الشخصية وعزيمته القوية. ولكن في واقع الأمر، كان ثيسيغر يحظى بدعم مالي من حشد من الموالين الأثرياء ومن الجمعية الجغرافية الملكية. والأمر الأكثر أهمية هو أنه كان يرافقه ويحميه في كثير من الأحيان مئات الجنود من الجيش البريطاني. ولم تأخذه أي من رحلاته الاستكشافية إلى أراضٍ مجهولة أو غير مأهولة. ولم يكتشف مكاناً قط. بل كان يزور فقط الناس الذين عاشوا طويلاً في المكان الذي اختار السفر إليه، وما كانت بعض أشهر رحلاته في الصومال والحبشة لتنجح أبداً لو لم يصادر الإمدادات من القرى المحلية ـ أو يسرقها ـ ويطالب بتوفير المأوى تحت تهديد السلاح، ويرغم المئات من السكان المحليين على العمل بصفة حمالين وكشافة  وحرس شخصي. إن حقيقة أن هذا النوع من السفر لم يعد ممكناً، في رأيي، ليس أمراً مؤسفاً، بل ينبغي الاحتفال به إلى جانب نهاية كل أشكال العنصرية والاستعمار الفاضح.

وبينما يندب فوسيل رحيل المستكشفين الأبطال، فإنه يندد أيضاً بما يتصوره من تجانس في العالم، والطريقة التي أصبحت بها مدن بأكملها ومناطق نائية سابقا قابلة للتبادل وآمنة للأم والأب والصديق والأخت. ويزعم أن تصميم المطارات أصبح "لغة دولية منتشرة في كل مكان". ويسخر قائلاً: "أقرب ما يمكن للمرء أن يستعيد به تجربة السفر اليوم بالمعنى القديم هو قيادة سيارة قديمة بإطارات مهترئة فيها عبر رومانيا أو أفغانستان دون حجز فندقي والاكتفاء باللهجة الفرنسية المخزية".

لا يسعني للرد على هذا إلا أن أقول السيد فوسيل إنه عليه أن يقوم بالمزيد من الجولات. فكما علمت أنه في الشتاء الماضي كانت بانكوك مزدحمة وملوثة وغير جذابة مثل مدينة ليفريك، ولكن هناك مناطق من تايلاند لا تقل عن الربع الخالي بالفراغ والفوضى. وفي كمبوديا شعرت بالحزن الشديد حين رأيت أن سيام ريب، المدينة التابعة لأنجكور وات، تفتخر الآن بفنادق تبدو أنعا نسخة مصغرة من لاس فيجاس، ولكن المشي لمسافة قصيرة في أي اتجاه يجعل المرء متصلا بحياة لم تتغير كثيراً منذ قرون. أو أن المشي لمسافة قصيرة على الطريق الخطأ في أنجكور وات يؤدي إلى الموت ـ حيث لا تزال العديد من المناطق مزروعة بالألغام التي خلفها الخمير الحمر. عندما كنت في لاوس، في العاصمة السابقة لوانج برابانج، كنت أستمتع بإقامة في فندق خمس نجوم، وكنت أستمتع بالمفارقات الجميلة من حولي ـ الرهبان ذوي الثياب الزعفرانية في مقاهي الإنترنت، والسائحين الأستراليين الذين يُعرفون محلياً باسم "مينكي تو"، أو براز السلاحف، بسبب عاداتهم غير الصحية. وهناك مرآب في القصر الملكي السابق يعرض بفخر سيارتين من طراز فورد إدسل وزورق سريع بطول خمسة عشر قدماً له محرك خارجي من طراز إيفينرود، وكلها هدايا من الولايات المتحدة. ولكن عندما حاولت اللحاق بالحافلة إلى العاصمة الجديدة فيينتيان، اكتشفت أن الخدمة قد توقفت لأن قطاع الطرق أغلقوا الطريق. وقبل أسابيع قليلة قاموا بسرقة وقتل حافلة محملة بالمسافرين. وفجأة أدركت أن ميستاه كورتز ربما لم يمت بعد، وأن هناك على بعد أميال قليلة من أفخم الفنادق ما يكفي من الرعب ليفكر به أي كاتب ويقلق أي قارئ ويتحداه.

هناك مناطق محظورة ومناطق غير مستكشفة حتى في المدن الأوروبية التي تم رسم خرائطها بشكل جيد. في فالنسيا بإسبانيا، علمت مؤخرًا أن هناك حيًا يسكنه بالكامل تقريبًا مهاجرون أفارقة تم منع الشرطة ومكاتب البريد وغيرها من الخدمات البلدية من دخوله. أعلنت الحكومة الإسبانية ببساطة أن هذا الحي شديد الخطورة. باختصار، إنه مكان يحتاج إلى بيرتون وسبيك لاستكشافه وتحليله.

ودول بأكملها في إفريقيا وأمريكا اللاتينية والجنوبية تندرج ضمن الفئة نفسها. فهي غير معروفة إلى حد كبير، ونادراً ما يزورها أحد، وغير مريحة إلى درجة غير عادية، ومهددة تماماً كما كانت صحراء دانييل عندما عبرها ويلفريد ثيسيغر في ثلاثينات القرن العشرين. وربما تعطينا الطائرات وشبكة سي إن إن والإنترنت الوهم بأن أي مكان في العالم لا يمكن الوصول إليه أو استكشافه أو فحصه. ولكن الجزائر ربما كانت على مدى عشر سنوات بمثابة الجانب المظلم من القمر، ولقد حولت قسوة الحكومة غير المنتخبة والإرهابيين الإسلاميين ذلك البلد إلى قلب الظلام حيث قُتِل عشرات الآلاف من الناس مع أنهم على بعد ساعة طيران فقط من روما أو نيس.

لو كان غراهام غرين لا يزال على قيد الحياة، لكان قد وجد ليبيريا غريبة وغير معروفة على الخريطة ـ وأكثر عدائية مما كانت عليه عندما ذهب إلى هناك وكتب "رحلة بلا خرائط". وإذا عاد إلى مقاطعة تشياباس في المكسيك، قد لا يخطئ الناس في افتراض أن القليل قد تغير منذ كتب "الطرق الخارجة على القانون" . أطفال عراة ببطون منتفخة، وبالغون يعانون من سوء التغذية والملاريا، ومواجهة عنيفة وتوتر بين الهنود والجيش، والغموض الأخلاقي الذي أصبح السمة المميزة لجرينلاند. ورغم أسباب مختلفة، ورغم التكنولوجيا الجديدة ـ أو ربما بسببها ـ فإن هذه الأماكن أصبحت أكثر اضطراباً من أي وقت مضى. ولابد أن أؤكد أكثر من أي وقت مضى على أنني أطالب بزيارة وكتابة روايات عن شجاعة غرين وقدرته على الغضب وصدقه الجريء.

وأما فيما يتعلق بكون المطارات كلها متشابهة، فإنني أتساءل عما إذا كان فوسيل قد سافر على متن طائرة، كما فعلت في السنوات الأخيرة، إلى دار السلام أو زنجبار أو طشقند.

إنني أشعر، وربما تشعر أنت أيضاً، بنبرة من التوسل الخاص والمصلحة الشخصية التي تسيطر على هذا الخطاب الأكاديمي الذي يتسم بالموضوعية المطلقة. وكان ينبغي لي أن أعترف في وقت مبكر بأن من الصعب عليّ أن أتبنى موقفاً خاصا بشأن السفر وكتابة الرحلات وعلاقتها بالأدب. ففي نهاية المطاف، بدأت مسيرتي المهنية برواية بعنوان " رجل يتحرك "، والتي استوحيت فيها سطوراً من قصيدة "  غيدنغ الصغير" للشاعر تي إس إليوت.

"لن نتوقف عن الاستكشاف،

 ونهاية كل استكشافاتنا

ستكون الوصول إلى نقطة البداية،

والتعرف على المكان لأول مرة."

كانت رواية "الرجل المتحرك" حكاية طريفة عن رحلة بالسيارة عبر الولايات المتحدة إلى أدغال المكسيك. وفي عصر رواية " الراكب السهل"، أعتقد أنه كان من الممكن أن نقول إنها رواية معادية للطريق. ولكنها بالتأكيد لم تقنعني بالبقاء في المنزل. وبدلاً من ذلك، سافرت بنفسي على الطريق، وعلى مدى السنوات الأربع والثلاثين الماضية عشت في فرنسا وإيطاليا وإسبانيا والمغرب وإنكلترا، وسافرت من طرف إفريقيا إلى الطرف الآخر، وقضيت بعض الوقت في عشرات الدول الإسلامية، وتجولت في الكتلة السوفييتية السابقة وآسيا الوسطى، بل وأمضيت بضع سنوات في تكساس، أحد أكثر الأماكن نأيا وغرابة وإثارة للاهتمام ثقافيًا وإرباكًا من كل البلدان التي زرتها. كما أعتبر أن أعظم شرف لي أن أصبح عضوًا في تلك المنظمة الأدبية المتناقضة - معهد تكساس للآداب.

إلى جانب الصور الفوتوغرافية، وأميال الطيران المتكررة، والأمراض المختلفة، وتجارب المستشفى غير السارة، واللقاءات التي لا تنسى مع مسؤولي إنفاذ القانون المحليين، كانت إحدى النتائج الهامة لكل هذه الرحلات هي 16 كتابًا، يرتبط العديد منها بشكل مباشر بمسار رحلتي.

والآن، في سن الحادية والستين، ما زلت أتنقل من مكان إلى آخر، وما زلت لا أمتلك منزلاً أو أثاثاً، ولا أقضي أكثر من بضعة أشهر في مكان واحد. وتظل الحركة والسفر والأماكن البعيدة والاقتلاع من الجذور والاغتراب، من الموضوعات الرئيسية في أعمالي الروائية. وفي السنوات العشرين الماضية أيضاً كتبت بضع مئات من المقالات التي تتناول أماكن أجنبية. ولا أستطيع أن أسمي هذه المقالات أعمالاً روائية بالمعنى التقليدي. فهي بالتأكيد لا تقدم الكثير من الخدمات. بل إنها تحاول استحضار مكان ما وإظهار الراوي ـ أي أنا ـ وهو يمر عبر أماكن وتجارب جديدة. وهي تُروى دائماً تقريباً بضمير المتكلم، وتستخدم مجموعة من الأدوات الروائية ـ الحوار والمشاهد الدرامية والحوادث الكوميدية والمفارقة. وهو أمر منطقي لأنني اعتبرتها بدائل للقصة القصيرة. وعندما تقلص سوق القصص القصيرة إلى حد فقدان الأهمية، قررت التوقف عن كتابة القصص للمجلات الأدبية التي تدفع القليل أو لا تدفع شيئاً، ويقرأها قِلة من الناس أو لا يقرأها أحد. بدلاً من ذلك، كتبت للمجلات والصحف التي أرسلتني إلى أماكن مثيرة للاهتمام، ودفعت الفواتير، وتركتني حرا لإعادة تدوير التجارب في خيالي.

لذا، نعم، هذا الموضوع قريب وعزيز عليّ ويشكل جزءًا لا يتجزأ من عملي. وعلى الرغم من تحذيراتي البسيطة بشأن ديلبانكو وفوسيل، فإنني أتفق معهما جدا. فكل كتابة هي كتابة سفر ــ حتى لو كانت الرحلة بالكامل إلى داخل تلافيف ومتاهات العقل الغامضة، أو حتى لو كانت استكشافًا حميما للجسد. وكما قال دي إتش لورانس ذات يوم لبرتراند راسل: "إن أعظم تجربة في حياة كل رجل هي مغامرته مع المرأة".

إنني أتفق أيضاً مع مارك شورر الذي قال عن دي إتش لورانس إن شخصياته "تكتشف هويتها من خلال استجابتها للمكان". أو بكلمات لورانس آخر ـ لورانس داريل ـ أعتقد أننا "جميعاً أبناء مناظرنا الطبيعية". لقد حاولت في كتاباتي أن أظهر ليس فقط من نحن وماذا نحن. فنحن نتشكل من خلال المكان الذي نتواجد فيه. والمكان يؤثر علينا تماماً كما تفعل الأحداث والأشخاص، فنصبح ـ أو نمتلك القدرة على أن نصبح ـ شخصاً مختلفاً في بيئة مختلفة.

إنني أزعم أن السفر بالنسبة لي هو نوع من الكتابة، أو نص بديل، أو مسودة أولية. وهو ليس مجرد وسيلة للهروب، كما قال غراهام غرين، أو وسيلة لجمع المواد أو محاربة الملل. بل إنه فعل إبداعي حيث يصبح العالم صفحة فارغة وأنا القلم الذي يخط خطوطاً متكررة عبر المناظر الطبيعية. والهدف في كل حالة هو نفسه ـ البصيرة، والفرح، والبهجة، والخبرة الحية، والإثارة البصرية، والمتعة الحسية والاكتشاف. إنه أكثر أماناً من الكحول، وأرخص من الهيروين، إنه طريقتي، بأسلوب آرثر رامبو، لتشويش حواسي بشكل منهجي، وفتح نفسي أمام الجديد وغير المتوقع.

ولكنني لا أريد أن أترك انطباعاً بأنني مجرد متعلم شغوف، أو شخص يتعلم بنفسه في طائرة أو سيارة. وكما ذكرت في وقت سابق، فإن السفر من أجل التعليم له تقليد طويل ومحمود. ولكن بصراحة، على الأقل في البداية، فإن الجهل له مزايا بالنسبة للروائي. فأنا شخصياً أحب الذهاب إلى أماكن لا أتحدث لغتها، ولا أعرف فيها أحداً، ولا أعرف طريقي، ولا أعاني من أوهام بأنني أتحكم في كل شيء. وفي حالة من الارتباك، وحتى الخوف، أشعر بالحيوية واليقظة على نحو لم أشعر به قط في بيتي. وفجأة تعود كل حواسي إلى الوعي، وأستطيع أن أرى وأسمع وأشم ـ وبعد ذلك إذا حالفني الحظ، أستطيع أن أكتب.

إن الصفحات السوداء والمساحات الفارغة على الخريطة، بالنسبة لي، هي نفس الشيء إلى حد كبير. فأنا أتوق دوماً إلى الوصول إلى حقيقة اللغز الذي أعمل باستمرار على صياغته. ورغم أن أياً من الرغبتين لا يمكن تفسيره بالكامل، فإنني أعلم أن السبب الذي يدفعني إلى الكتابة يشترك إلى حد كبير في أسباب سفري، تماماً كما أن الطريقة التي أتبعها في القيام بكلا الأمرين يمكن التعبير عنها بشكل أفضل في سطر كتبه ثيودور روثكي ويقول فيه: "أتعلم بالذهاب إلى مكان يتعين علي الذهاب إليه".

***

ترجمة صالح الرزوق / مع الاستعانة ببرامج الذكاء الصناعي.

.......................

*كلمة ألقيت في مؤتمر الجمعية التشريعية لمنطقة جنوب وسط نيو أورليانز عام 2004.

* مايكل ميوشو Michael Mewshaw روائي أمريكي وكاتب أدب رحلات.

دراسة نقدية في تكوين الحب وأبعاد الحنين

شهدت الكتابة الأدبية النسائية عبر العصور تحولًا بارزًا، حيث تجاوزت مرحلة الإقصاء والصمت لتصبح أداة فعّالة تعبّر من خلالها النساء عن رؤاهن وتجاربهن المتعلقة بالقضايا الاجتماعية والسياسية. ومع ذلك لا تزال العديد من الكاتبات، وخاصة في الدول النامية، يواجهن تحديات تعوق مساعيهن لتحقيق التغيير الذي ينشدنه.

تعد الشاعرة التونسية كريمة الحسيني واحدة من أبرز الأمثلة على الكاتبات اللواتي نجحن في إثبات وجودهن ضمن الساحة الإبداعية العربية المعاصرة. إذ تميّزت بحس فني مرهف يجمع بين العاطفة العميقة والوعي الجمالي الراقي، إلى جانب رسالتها الإنسانية الواضحة. ولقبت بـ"شاعرة السلام"، حيث نسجت في كتاباتها عالمًا زاخرًا بحب الوطن، وجمال الطبيعة، ورومانسية الوجود، فكانت رسائلها الأدبية انعكاسًا لقيم إنسانية سامية مستوحاة من جذور أصيلة تعبّر عن روح الإيثار والتفاني.

في ظل واقع معقد مليء بالتحديات والتحولات، اعتمدت الحسيني تنوعًا فنيًا في أسلوبها الشعري، مما أكسب إبداعاتها عمقًا وشمولية تتماشى مع تطلعات العصر. تميّزت أعمالها بالتكثيف الجمالي الذي يجمع بين الحلم والتأمل، متنقلة بسلاسة بين الغزل الرقيق والمعالجة العميقة للهموم الوطنية. كتاباتها تنبض بمشاعر صادقة تجاه وطن يعاني من أزمات متشابكة، لكنها تجد في الحب طاقة دافعة توجّه حروفها نحو التجدد والانفتاح. كل هذا يعتمد على أسلوب لغوي رقيق وإيقاعات متناغمة، تحمل في طياتها عفوية وصدقًا يصلان مباشرة إلى وجدان القارئ. وإيقاعات متناغمة، تحمل في طياتها عفوية وصدقًا يصلان مباشرة إلى وجدان القارئ..

تُعدّ قصيدتها "مواويل عشق" تجسيدًا فنيًا نموذجيًا لهذا المزج بين الذات والكون، وبين العاطفة والفكرة، حيث تقف أمام نصّ شعري يفيض برهافة شعورية تنصهر فيها الحواس مع الذاكرة، ويتحوّل فيه الحب من مجرد تجربة فردية إلى حالة تأملية شمولية. تميز هذا النص بعمق روحي ورمزي يشعر القارئ بتجربة حب فريدة، يتمازج فيها الحنين بالتفاؤل، ويحمل بعدًا صوفيًا يعكس صورة عشق مليئة بالحياة والدفء على الرغم من متانة الزمن وسيطرة الظروف. الحب هنا عفوي وغير مصطنع، لا يمكن تجاهله أو إيقافه حتى في ظل صعوبة الحياة، ولا يحده الزمن.

ينطلق النص من عنوان يوحي بجماليات الغناء الشعبي وخصوصيته الثقافية – "مواويل" – التي تتميز بإيقاعاتها الداخلية المفعمة بالشجن العاطفي العميق. يشكل هذا العنوان العتبة النصية الأولى التي تفتح أفقًا واسعًا لتفسيرات متنوعة. فالمواويل ليست مجرد ألوان غنائية عاطفية، بل فضاء للتعبير عن الحنين والألم بصيغة تلقائية تخاطب الوجدان الجماعي وتعكس التراث الشفهي الحي. أما كلمة "عشق"، فهي مفردة تتجاوز مفهوم الحب السطحي لتلامس مناطق أعمق من الانغماس الكلي والارتباط الروحي، وبذلك فإن اقتران الكلمتين في العنوان يمنح النص بعدًا وجدانيًا وإنسانيًا شاملًا، ينسجم مع الجو العام للقصيدة ويهيّئ القارئ لرحلة في عمق الذات المحبة والطبيعة الملهمة.

***

سهيل الزهاوي

.........................

مواويل عشق للشاعرة: كريمة الحسيني - تونس

أنا لا أرتب الشوق

تقودني مشاعري إليك

كلما اشتد البرد

تأخذني الذكرى

لأنمو بين أناملك

أزهارا برية

ومواويل عشق

وعناقيد عنب لم يدركها الخريف

لنذوب سويا

حبة حبة

قطرة قطرة

دون أن نعير اهتماما للزمن

إن كان سيمنحنا بعض الوقت

لنرسم للحب خاتمة جديدة

وفصولا سعيدة

بلا برد ولا حرب

ولا أعاصير.  

*** 

..............................

ترجمة القصيدة الى النرويجية سهيل الزهاوي

Oversatt av Suhail Al-Zahawi

Kjærlighetsviser

av Khairema Al-Husseini – Tunisia                                                                 

Jeg styrer ikke lengselen

Følelsene mine fører meg til deg

Når kulden tar til

bærer minnene meg

og jeg spirer mellom fingrene dine

som ville blomster

og kjærlighetsviser

og drueklaser urørt av høsten

La oss smelte sammen

korn for korn

dråpe for dråpe

uten å bry oss om tiden

om den bare gir oss et øyeblikk

til å skrive en ny slutt for kjærligheten

og lykkelige årstider

uten kulde

uten krig

uten stormer

(الأسيرة المحررة)

"احترقت لتضيء" عنوان الرسالة التي كتبها فايز أحمد الخياط وهو في بيروت، ارسلها لأخته ناديا في رام الله؛ وشاء القدر أن يستشهد فايز في قلعة الشقيف بلبنان عام1980 ولا تستلم أخته الرسالة لكونها كانت معتقلة بسبب نشاطها النضالي ومحكومة بمؤبد مع عشرين عاما. ولم تطلع على الرسالة إلا بعد الإفراج عنها بموجب صفقة تبادل العام 1983 وعودتها من البلد التي أبعدت إليه لمدة 12 سنة. لذا وإحياء لذكرى أخيها الشهيد استأذنته لإستعارة عنوان رسالته ليكون عنوانا لما ستبوح به من ذكريات حول تجربتها النضالية والإعتقالية. فكان كتابها إحترقت لتضيء الصادر عن وزارة الثقافة الفلسطينية العام2021.

بلغة سردية شائقة تأخذنا ناديا الخياط بما يشبه السيرة الذاتية لتوثق لنا مراحل من تجربتها النضالية عموما والإعتقالية بشكل خاص، ولا يفوتها ان تعود بنا إلى أولى مراحل تفتح وعيها النضالي عندما إلتحقت بحركة فتح وكان ذاك الإلتحاق بمحض الصدفة عندما رافقت صديقتها للقاء مسؤول التنظيم بغية اعتذارها عن عدم مواصلة عملها التنظيمي بسبب اقتراب موعد خطبتها فما كان من ناديا إلا ان قالت له أنا بدلاً منها ليبدأ مشوارها النضالي إلى جانب رفيقها علاء وبقية الأخوات.

تطرقت الكاتبة للعديد من القضايا وهي توثق تجربتها النضالية وما تعرضت له من قهر وتعذيب في سجون الإحتلال. فتحدثت عن أساليب التعذيب المعتمدة من المحقق والسجان وتنوعها ما بين التعذيب النفسي والتعذيب الجسدي إلى جانب كمية من السباب والشتائم والكلمات البذيئة. فقد اشارت الكاتبة الى الحرب النفسية التي اعتمدها المحقق لكسر إرادتها عندما أوعز لإحدى السجينات اليهوديات ان تخبرها أن شقيقتها مهى هربت من البيت وأهلها يبحثون عنها لقتلها.(10). وفي موضع آخر تورد لنا كيف أن المحقق لجأ لممارسة الضغط عليها مهددا بحرمان أخويها من التقدم للإمتحانات المدرسية إذا لم تتعاون معه.(41). وتبرز كيف ان المحقق يحاول ابتزاز الأسيرة من خلال إثارته لمسألة الشرف والعرض التي تعتبر من المسائل الحرجة في مجتمعنا وخاصة بالنسبة للفتاة ففي مرحلة لاحقة هددها بالإغتصاب: "يلا هلأ بدك تشلحي، اخلعي ملابسك كلها، الآن سأذلك في شرفك وأغتصبك دون أن يهتز لي رمش."(43). لكن نادية لم تنهار بل اضطرته لمغادرة القاعة منهزما بعد ان وجهت له صفعة جوابية افقدته صوابه عندما قالت: "إن من قام باغتصاب الأرض لا يضيره اغتصاب العرض"(44).

ولم يكن التعذيب الجسدي بأقل وطأة على الأسيرة من التعذيب النفسي، وتفنن المحتل وسجانوه باعتماد اقذر الأساليب ومنها ما يعرف بالشبح تقول ناديا: "دخلنا الى ساحة غرف التحقيق، زجوا بي الى ركن بعيد، قيدوا يدي الى الخلف وربطوهما بماسورة تمتد على الحائط وربطوا إحدى قدمي في هذه الماسورة أيضا، أحضروا كيسا أسود له رائحة كريهة، ألبسوني إياه في رأسي عرفت أن هذا ما يسمى بالشبح"(39). كل هذا ولم يستطع المحقق كسر إرادة الأسيرة بل بقيت صامدة تواجه كل محاولاته، فعندما قدم لها الشرطي صحن طعام طالبا منها ان تقرب فمها وتلعق كالكلاب اجابته: "خسئت وخسىء كل من أراد إذلالي وإهانتي، أعد هذا الطعام كي يلعقه أسيادك"(39). وللدلالة على سوء المعاملة التي تتلقاها الأسيرات وعدم اكتراث السجان لأبسط حقوقهن، تشير الكاتبة إلى انها إضطرت لتقطيع مرتبة الإسفنج واستعمالها كبديل عن الفوط الصحية النسائية.

وتسهب الكاتبة في وصف آلية التحقيقات التي ينتهجها المحتل وتنوع الطرق التي يعتمدها أثناء التحقيق، مرة يقوم بإسماع الاسيرة اعتراف إحداهن عليها ويعتبر ذلك ادانة محققة بقوله: "أنا أعفيك من الإعتراف، فاعترافات الغير تخولني بتثبيت التهمة عليك حسب القانون" وتوضح الكاتبة ان القانون الذي يشير إليه المحقق هو ما يعرف ب قانون تامير الذي يدين الاسير بوجود شاهد واحد وهذا كاف للحكم عليه بمؤبدات. وفي موضع آخر تورد الكاتبة كيف ان المحقق لجأ إلى مساومتها على حريتها قائلا لها: "تتعاونين معنا وتصبحين شريكا مهماً لنا مقابل الإفراج عنك، وسنوفر لك كافة مستلزمات العيش الرغيد من تعليم وسكن."(57). ويكون رد الأسيرة ناديا مدويا عندما رفضت هذا العرض بالقول: "إن وافقت على طلبك العجيب هذا سأكون قد خسرت كرامتي ووطني وشعبي ولا يمكنني التفريط بهم لقاء هذا العرض التافه الوضيع". كما تحدثت عن التضييق الذي مارسه المحتل على الأسيرات ومنعه إياهن من الإلتحاق بالجامعة لمتابعة الدراسة.

بإشارة صغيرة تشير ناديا إلى روح التعاضد والإلفة بين الشعب الفلسطيني وكيف ان الأهل والجيران هبوا لمساعدة اهلها في نقل الأثاث بعد تشميع بيتهم بالشمع الأحمر من قبل الإحتلال. وفي موضع آخر نجد والد ناديا يحثها على الصمود والتنبه من أن تنطلي عليها لعبة المخابرات القذرة الهادفة لكسر شوكة الأسيرة ومحاولة تدميرها. وعن صلابة المرأة الفلسطينية تصف ناديا والدتها أم الشهيد فتقول: "أمي لا تلبس السواد على أخي الشهيد، ترتدي الثوب الأنيق، فاتح اللون ما بين البيج والأبيض، لأن هذا الثوب كما تقول والدتها هو آخر ثوب رآني فيه أخوك الشهيد.

وتبرز الكاتبة –الأسيرة- استخفاف الأسرى بما صدر عن المحكمة من أحكام بالمؤبدات وكيف ان الشرطي المكلف بإبلاغهم بما صدر بحقهم توقع أن يقوم باستدعاء سيارة الإسعاف عند إبلاغهم بالأحكام لكنه تفاجأ من ردة فعلهم وسألهم: "الم تفهموا جيدا ما قلته لكم؟ اجابوه "فهمنا فقد تم الحكم علينا بمؤبد وعشرين عاما المهم ان تفهموا أنتم".(68). كما اشارت إلى إلإرادة الصلبة للأسيرات ورفضهن العمل لحساب المحتل، فبعد إكتشافهن أن الملاءات التي يقمن بخياطتها تعود للمستشفيات الإسرائلية قمن بتخريب ما أنجز من أعمال خياطة. وعن تعاضد الأسرى وتضامنهم تذكر ناديا أنه عندما حدث الإضراب في سجن نفحة الصحراوي في شهر رمضان من العام 1980 نتيجة لإستشهاد أسيرين فيه هما علي الجعفري وراسم حلاوة قررت مع زميلاتها من الاسيرات "الإضراب عن الطعام لمدة أربعة ايام تضامنا مع باقي السجون وإحتجاجًا على الممارسات الهمجية بحق الأسرى البواسل"(91). وفي تصرف أخلاقي يدل على روح الأخوة بين الاسيرات ترفض ناديا تناول الحلوى من يد السجانة لأنها لا تستطيع أن تأكلها وأخواتها الأخريات لا يستطعن الحصول عليها أوتذوقها، وسيكون طعمها كالعلقم إذا لم يتذوقهن معا.(128). وأشارت إلى روح التعاون بين الأسيرات والإتفاق فيما بينهن على تشكيل لجنة تنظم الشراء من بقالة السجن "الكانتين" بحيث يتم تجميع المشتريات في غرفة واحدة وتقوم اللجنة بتوزيع الحصص على جميع الغرف بالتساوي، كما يتم إدخار بعض المواد الأساسية للأزمات خاصة استقبال أسيرات جدد.(76).

كما أوردت الكاتبة واقعة ولادة الطفلة ثائرة في السجن التي أغاظت تسميتها هذه السجّانات، وتشير إلى الأثر النفسي السيء الذي يلحق بالطفل المولود في السجن فعند خروج ثائرة بعد سنتين من ولادتها لم تستطع التأقلم مع الحياة الجديدة وكأنها ترفض كل فضاء الحرية وتريد العودة إلى العتمة التي اعتادتها.(113).

لقد حرصت الكاتبة وبكل موضوعية للإضاءة على بقعة ضوء وإن صغيرة بدأت تنمو مع نقاشاتها مع السجانات فتذكر كيف ان نقاشها مع إحداهن أدى الى تغيير الكثير من مفاهيمها وقناعاتها المهزوزة فقدمت إستقالتها من خدمة السجون كونها كما قالت لا تستطيع ان تمارس مهنة بلهاء صماء لا مكان للعقل والمنطق فيها.(129). وفي موضع آخر عندما ادعت السجانة زوبروفيسكي بأن ناديا هددتها بالقتل كيف أن بعض السجينات اليهوديات تحلقن حول الضابطة وسجاناتها وصرحنّ بأن كل ما قيل كذب وافتراء ولم تقم ناديا بأي تهديد.(75).

كما أشارت إلى عدد من النساء الأجنبيات اللواتي إنخرطن في النضال نصرة لفلسطين ومن هؤلاء النسوة الفتاة الألمانية "بريجيت" التي اعتقلت بتهمة اختطاف طائرة إلى عينتيبي عام 1976 والمعاملة الوحشية التي عوملت بها من قبل مخابرات الإحتلال حيث قاموا بإحضار آلة حلاقة يدوية وبدأوا بجز شعرها.

كانت فلسطين حاضرة دوما في وجدان الأسيرات فعند حضور جلسات المحاكمة يبدأن بالهتاف "عاشت فلسطين حرة عربية وهاذي المحكمة مش شرعية" وفي أحدى الجلسات إتفقن على إرتداء قبعات صوفية بألوان العلم الفلسطيني مع إستمرار حضورالكوفية الفلسطينية.(65).

في أكثر من موضع كانت الكاتبة تتوقف عن إكمال سردها لتستذكر بعض الأشخاص او الأماكن المجببة على قلبها، فتحدثنا عن أخيها الشهيد فايز وكيف انه:"شابا وسيما،فاره الطول، متناسق الجسم، شعره أسود وشواربه الكثيفة تزين وجهه البشوش، حبه للوطن والأهل"(12). أما الأمكنة فقد كانت حاضرة لديها عندما داعب هواء الوطن ذاكرتها المثقلة وأخذ يسحبها بهدوء إلى بيت الأهل لتسترسل في وصفه بكل تفاصيله فتقول:" ذلك البيت الجميل في الطابق الارضي، تستقبلك شجرة الياسمين برائحتها الفواحة، تصعد ثلاث درجات لتكون على يمينك حديقة صغيرة وعلى يسارك ثلاث شجرات ليمون شهرية دائمة الخضرة...،إلى آخر الوصف(18). ثم تنقلنا إلى مدينة القدس وحيويتها حيث الشوارع تمتلىء بطلاب المدارس وبالموظفين الذاهبين إلى دوائرهم الرسمية، العمال يهرولون إلى الحافلات، ربات البيوت يقفن أمام بسطات النساء اللواتي أحضرن الخضروات والفواكه وأيضا بائعو الكعك بالسمسم الذي تشتهر به مدينة القدس. ثم تنتقل لوصف هذه المدينة وسورها العريق، قبة الصخرة بكامل بهائها، المسجد الاقصى وكنيسة القيامة، وخارج الأسوار تظهر مآذن المساجد وكأنها تعانق أجراس الكنائس إلى جانب البيوت القديمة التي تدل على قدم تاريخ المدينة وعراقته(28).

ولم يفت الكاتبة من أن تصف لنا الغرفة التي اقتيدت إليها وهي غرفة كئيبة فيها ست أسرة حديدية بطابقين، جدرانها رمادية وسقفها منخفض، وبابها من الحديد المصبوب يعتليه طاقة لا تتعدى العشرين سنتيمتر، أما ممر السجن فينتهي ببوابة ضخمة من القضبان الحديدية.

تختم الكاتبة سردها هذا بالتطرق لعملية التبادل التي تم من خلالها الإفراج عنها ولكن بشرط إبعادها خارج الوطن فتقول ان التحرر من الاسر هو حلم كل أسير لكنهم سرقوا مني فرحة الحرية المنتظرة بقرارهم ابعادي اثنتا عشرة من السنوات لقد أصروا على تحويل لحظات السعادة الى ساعات من المرارة، وانا في الطائرة لمحت وجه أمي فرحا باكيا، حزينا ضاحكا. ختاما نقول ان كتاب "احترقت لتضيء" يوثق لمرحلة من النضال الذي كان للمرأة الدور الريادي والفاعل والذي لا يقل أهمية عن دور الرجل بل يتكامل معه في ذاك الزمن الذي سأسميه بالزمن الجميل للثورة إذا جاز التعبير. ونقول لناديا الخياط بنضالك هذا أبدا لم تحترقي بل أضأتِ أنت ورفيقاتك الدرب لمن حمل وسيحمل شعلة التحرير.

***

عفيف قاووق – لبنان

توفيق أحمد أديب وشاعر من سوريا – منطقة الغاب في حماة، من مواليد (1961)، يحمل إجازة في الحقوق، وقد عمل مسؤولاً للشؤون الثقافيّة في اتحاد الصحفيين، ومعاونا للمدير العام للهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون، ومديرا للتلفزيون العربي السوري ومديرا للإذاعات السوريّة. له تسعة دواوين منها (لو تعرفين) (وأكسر الوقت وأمشي) (نشيد لم يكتمل) (لاهدنة للماء) (جبال الريح). شارك في الكثير من المهرجانات في معظم الدول العربية لدورات متتالية عمل مؤخراً نائباً لرئيس اتحاد الكتاب العرب في سوريا ورئيس تحرير جريدة الأسبوع الأدبي.

أحمد توفيق شاعر كبير متمرس في مهنته، لا مس شعر الحداثة في سياق شعر التفعيلة وشعر النثر، إلا أن دخوله في عالمهما لم يؤثر عليه كثيراً ويجعله يلقي عباءة الشعر التقليدي بعيداً، وبناءً على هذا الموقف الحداثي من الشعر، لم يعد الشعر عنده تعبيراً عن أشواق ورغبات وأحلام ذاتيّة تصب في خانة الأنا لتشبع غرورها أملاً في الشهرة أو الحضور في الساحة الأدبيّة، بل أصبح الشعر عنده إضافة لكونه تعبيراً عن الذات، فهو قضيّة تحمل هم الوطن والأمة والإنسانيّة. ويأتي الحب عنده في كل دلالاته موقفاً فكريّاً وفلسفيّا وصوفيّاً، رغم أنه لم يتخل نهائيّاً عن السباحة نحو جسد المرأة في شعره الذي غالباً ما يغلف رغباته هنا بأقنعة اللغة وبيانها فتمر على المتلقي عابرة (كمزنة) صيف.

في قصيدته "عيناك" يأتي بوح الشاعر "توفيق أحمد" ليعبر عن حالة من الوجد والتوحد الصوفي في عشقه وارتباطه بحبيبته حيث راح يتساءل مستغرباً هل تستطيع عينا حبيبته فعلاً أن ترفضا تحرره من النظر إليها، وهو الذي هام في عشقها لدرجة الوله قائلاً:

(كيف عيناكِ تَرْفُضانِ انعتاقي

إنه العشقُ فتنةُ الخَلاَّق)

هذا العشق الذي زاد من توهجه وهيام روح الشاعر فيه زرقة عيني حبيبته التي تبدت أمامه كزرقة السماء في صفائها وهي تشعره بأن هناك نوراً يتدفق من عين حبيبته ليتخيل في طريقه إلى التيه أمام روحه وعقله عوالم أخرى مجهولة يتخيلها من خارج عالمه المحسوس حيث يقول:

(زُرْقَةٌ تَسْبَحُ السَّماوات فيها

وانطلاقٌ للضوءِ تِلْوَ انطلاق

عَالَمٌ بعضُهُ الوصولُ إلى التِّيهِ

ودنيا مجهولةُ الأَعْمَاْقِ)

في هذا العالم المجهول اللامتناهي في أعماقه الذي نقلته عينا حبيبته الزرقاوان الجميلتان، ضاعت ذاته المتعبة من الشوق واللهفة، متمنياً أن يحط رحال الحب في ميناء عينيها ويستريح استراحة محارب بعد عناء العشق ولهفة اقتراب يوم التلاقي الذي لا يعرف ماذا سيحدث مع الحبيبة، بل هو يعرف ماذا سيحدث عند اللقاء. يقول:

(فيهما أستريحُ سيفاً من الفَتْحِ

ونهراً أضاعَ حُلْمَ السواقي

بِهِمَاْ أَنتهي وُعوداً رماها

بانتظار المجهول يومُ التلاقي)

لقد طاب له اللقاء بحبيبته، حتى راح يشبه فرحه بهذا اللقاء بربيع الطبيعة طالباً منها أن تحدث الناس عن سعادته ولهيب اشتياقه لجسد حبيبته ... مشبهاً تضاريس جسدها بالكروم والدراق والطيور حيث يقول:

(أنا باقٍ ويا الربيعُ تحدَّثْ

عن أغانيَّ…. عن لهيب اشتياقي

عن كُرومٍ تواعدتْ وطيورٍ

شرَدَتْ في مجاهل الدُّرّاقِ)

نعم هو باقي في أحضان حبيبته غير مصدق ما سيناله من سعادة ونشوة وذهول وإشفاق وسكرة الوصل قائلاً:

(أنا باقٍ يلفُّني الآهُ والشوقُ

وبعضُ الذهولِ والإشفاقِ

أنا باقٍ أَخافُ يُسْكرني الوصلُ

وتَفنى في البالِ كأسُ الساقي)

ليعود أخيراً معبراً عن مدارات عشق صوفي لحبيبته قد وصل فيها إلى حالة الهيام والوجد ... إلى درجة الاحتراق في مجمر اللقاء التي لا يمكن إدراك جوهره إلا من سكر في عشق حبيبته قائلاً:

(المداراتُ تنتهي في هوانا

مَجْمَراً صار مُوحشَ الاحتراق

وحدَها الخمرُ أدركتْ ما نُعاني

وتعاني في الساحِ كلُّ العِتاقِ)

رغم أن للقاء الحبيب ذروته ونشوته وبراكينه التي تفجر الروح والجسد، إلا أن هذه البراكين ونيرانها تخمد عند نهاية اللقاء، بيد أنها عند الشاعر "أحمد توفيق" تظل جذوتها تسعر في داخل روحه كحلم يصوغه قلائد من الشعر تبقى ملتصقة كخمر على فم الذواق حيث يقول:

(يَخْمُدُ الشَّوْقُ بالعناقِ فَظَلِّي

حُلُماً غيرَ قابلٍ للعناقِ

حَسْبِيَ الآنَ أَنْ أصوغَكِ شِعراً

ظلَّ خمراً على فمِ الذَوَّاقِ).

البنية الفكريّة لقصيدة عيناك:

لقد شغلت المرأة وعشقها بنية القصيدة، حيث بينت للمتلقي مكانة هذه المرأة ودورها في إشغال عقل وتفكير الشاعر، وكذلك حبه وشوقه للقاء بها، وبالتالي ما فجره هذا الشوق في عالمه الجوَّاني، من حنين ولهفة ورغبة تركه يقول:

(كيف عيناكِ تَرْفُضانِ انعتاقي

إنه العشقُ فتنةُ الخَلاَّق)

الرؤيا في القصيدة:

إن الأساليب التّعبيريّة في الشعر المعاصر أفضت بعد طول التّفاعل مع الحياة والفكر واللّغة، إلى "الرّؤيا" التي أصبحت مُنطلقاً لجيل جديد من الأساليب الشّعريّة المعاصرة، حيث أخذ يتباعد بإيقاع مُتزايد الأسلوب التّعبيري الشعري المباشر، لتحل "الرؤيا" أسلوباً جديداً تكاد تندغم فيها معالم الأشياء الحسّيّة ويخفّ وزن التّجارب العينيّة، وتصبح الكلمات رموزاً لعوالمَ ضاربةٍ في الخفاء، ومشبعة بالمضمر والمسكوت عنه لدى الشاعر والمتلقي معا. فالرؤيا أصبحت على حد تعبير أدونيس قفزة خارج المفاهيم السائدة والمباشرة. يقول الشاعر:

(زُرْقَةٌ تَسْبَحُ السَّماوات فيها

وانطلاقٌ للضوءِ تِلْوَ انطلاق

عَالَمٌ بعضُهُ الوصولُ إلى التِّيهِ

ودنيا مجهولةُ الأَعْمَاْقِ

فيهما أستريحُ سيفاً من الفَتْحِ

ونهراً أضاعَ حُلْمَ السواقي

بِهِمَاْ أَنتهي وُعوداً رماها

بانتظار المجهول يومُ التلاقي)

ففي هذه الأبيات يتلاشى التعبير المباشر للشاعر عن رغباته في لقاء الحبيبة بعد أن سحرته زرقة عينيها وجماليتهما، ليبحر في عالم من الرؤى يتصور فيها حميمية القاء وما سيحققه له من أحلام يتوق لتحقيقها مع حبيبته .. عالم سحري يتوق فيه الشاعر الوصول إلى التيه مجهول الأعماق، هذا وكأن مسيرته للقاء الحبيبة في هذا التيه تشكل هنا معركةً يتمنى انتهائها كمحارب ليلقي بسيفه بعيدا ويستريح من عناء الفتح بلقاء الحبية وعناقها.

التعبير والعبور عند الشاعر:

"التّعبير" و"العبور":

إذا كان (التّعبير) في الشعر يتمّ في يقظة الحواسّ، نتيجة لاستحضار الموجودات بهذه الحواس ذاتها، فإن (العبور) يتمّ بالرّيا المجرّدة والتخيل، من هنا فـ (التّعبير) يقتضي يقظة الحسّ، وعند غياب هذه اليقظة، يتمّ (العبور) عبر التّخيُّل والرّؤيا المجرّدة حيث يقول:

عن أغانيَّ…. عن لهيب اشتياقي

عن كُرومٍ تواعدتْ وطيورٍ

شرَدَتْ في مجاهل الدُّرّاقِ

أنا باقٍ يلفُّني الآهُ والشوقُ

وبعضُ الذهولِ والإشفاقِ

هنا كما يتبين معنا يغيب الاحساس المباشر بالأشياء عند العاشق المتصوف الذي ألهبه الشوق للقاء حبيبته، وهو يتخيل تضاريس جسدها مشبها إياها بـ (بالكروم والطيور والدراق)، في الوقت الذي تلفه اللهفة والذهول والاشفاق معا على حاله التي أنهكها سفر الروح والشوق للقاء تلك التضاريس.

التجريد في القصيدة:

تتجسد عبقرية الشاعر "توفيق أحمد " من خلال قدرته على التجريد، فالفنيّة الحقيقيّة في التعبير الشعري تأتي مع الاشارة، فالعالم فنيّاً ليس أكثر من إشارة، أي ليس في تناول الظاهرة المباشرة، بل في الاشارة إليها، أي التعبير عما هو موجود وراءها، وهذا بالضّرورة نوعٌ من التّجريد، وكأنّ الشاعر المصوِّر المبدِع، يصوِّر عبر رموزه وإشاراته ما يتمناه لكي يمحو "الصّورة" الحقيقية التي يريد البوح بها وإيصالها إلى المتلقي عبر نسيج شفّاف من المعاني لا يحيل على الواقع المباشر، بل على معناه يقول:

(عن كُرومٍ تواعدتْ وطيورٍ

شرَدَتْ في مجاهل الدُّرّاقِ).

إنه عالم مفردات جسد المرأة الذي حاول الشاعر إحضارها مجردة ولكن من خلال أقنعة من مفردات الطبيعة الحيّة.

إن كلّ شاعر أو أديب مبدع هو من يستطيع أن يتجاوز المباشرة في التعبير ليجعل ما يراه حسيّاً، ليس إلا عتبة لما لا يراه، ولا يُعنَى في بوحه هنا بالصّورة زخرفاً وشكلاً، كما يقول "أدونيس" وإنّما يُعنَى من حيث كونها تخبّئ دلالة، وتُشير إلى معنى. ولا تكمن أهميّة الصّورة في سطحها المرئيّ، بل في كونها عتبةً لمعنى ما وباباً يقود الناظر إلى ما وراءه. أي يقوده إلى غيب أو مجرّد ما، سواء في الذّات أو في الطّبيعة.

النص المفتوح في القصيدة:

ما يقصد بالنص المفتوح في القصيدة الحداثية، أنّ الشاعر أو الأديب يعتقد بأنه يخلق نصاً ذا شكل مُكتمِل بهدف تذوُّقه وفهمه من قبل المتلقي، بيد أن النص عند المتلقي برأيي يظل مفتوحاً في دلالاته، بناءً على ثقافة المتلقي ودرجة اهتمامه بالنص، وعلى هذا الأساس يتفاعل المتلقي مع النّصّ ويمارس إحساساً شخصيّاً وثقافة خاصّة تُوجِّه متعته وفهمه في إطار منظور خاصّ به. وإن عمليّة الاستحسان لهذا النص تنبع إذن من التّمتُّع بالعمل الفنّيّ الذي يرجع إلى أن المتلقي يعطيه تأويلاً أو تأويلات بعيدة إلى حد ما عن ما أرده الشاعر أو الأديب من النّصّ. وهكذا نجد أنّ كلّ أثر فنّيّ، حتّى وإن كان مُكتمِلاً ومُغلقَاً من خلال بنيته المضبوطة بدقّة بنظر المؤلف، هو أثر مفتوح بوصفه يُؤوَّل بطرقٍ مختلفة من دون أن تتأثّر خصوصيّته التي لا يمكن أنْ تُختزَل. ويرجع التّمتُّع بالأثر الفنّيّ إلى أنّنا نعطيه تأويلاً ونعيد إحياءَه في إطار جديد.

وهذا الانفتاح في نص (عيناك) عند الشاعر " توفيق أحمد جاء نصاً مفتوحا بسبب عمق معانيه وتجريدها وجماليّة صوره وانفتاح دلالاتها عند المتلقي.

الانزياحات في النص وتجليات مفردات البلاغة:

لا شك إنّ تراكم الانزياحات، والابهام، والتّضادّ، والاستعارة، والكناية، والشبيه، في لغة الشاعر وارتفاع نسبة الكثافة في التّخييل، والتّشتّت في النّسيج، يخلق درجة عالية من التّوتُّر البارز بين البنية الإيقاعيّة والبنية الدّلاليّة في النص.

إن الاكثار من الانزياحات والتشبيه والاستعارة والكناية وغيرها من مفردات علم البلاغة، يحول كل ذلك إلى حرفة عند الشاعر في صياغة نصه، في الوقت الذي هي فيه حالة جماليّة تضفي على النص رونقاً وموسيقى هادئة تحرك إحساس المتلقي وخلجات نفسه.

إن من يقرأ نص (عيناك) يجد الابهام بسبب اتكاء الشاعر على الرؤيا كثيراً كما بينا عند حديثنا عن الرؤيا في القصيدة، مثلما يجد متن النص كله مشبعاً بالتشابيه والاستعارة والكناية، وكأن القصيدة قد صيغت بلاغيّا.

اللازمكانية في النص:

إن ما يميز شعر الحداثة هو النزعة الشمولیّة، التي تتجاوز الزمان والمكان، وهذا ما اتسمت بهه قصيدة" عيناك"، حيث غاب الزمان والمكان المشخصين فيها لتبقى أحاسيس الشاعر وعوالمه تسبح في ذات الشاعر وأحلامه ورغباته وعشقة وصراعه من أجل اللقاء بحبيبته في عالم من الوهم والتخيل، مستمدة القصيدة من تصور الذات الشاعرة حریتها ومغامرات بطلها التي تجمع بین التجربة الفنيّة والرؤية الاستشرافية.

اللغة في القصيدة:

تظل لغة الشعر تحكمها التجربة الفنيّة والانفعال، ذلك أنها لغة تفجيريّة، تكسر منطق العلاقات وتنحرف عن المألوف في بحثها الدائم عن الخلود والتجدد، وهذا ما وجدنا في قصيدة الشاعر " أحمد توفيق" (عيناك). ولأن اللغة هي ماء القصيدة وتربتها الخصبة، عمل الشاعر على صياغة لغة جديدة حيويّة بسيطة في نسيجها ونظام مفرداتها وصورها وحيويتها وعلاقتها بأحاسيس الشاعر ومخيلته وصوره ورؤاه.

الصورة في قصدية "عيناك":

لقد اندمجت في القصيدة الصورة الحسيّة البلاغيّة بالصورة التخيليّة ومنه استطاع الشاعر " احمد توفيق" أن یخلق في صور نصه علاقات روحية متكاملة في أسلوب إبداعي.

أما الخيال ليس مجرد تصور أشياء غائبة عن الحس عنده، إنما الخيال وما يجسده من صور ابداعية جاءت معبرة عن عوالم حسيّة تحيط بالشاعر وتشغل عالمه الداخلي ورغباته وأمانيه، حيث عمل على تجريدها ليجعل منها أقنعة تفرضها معطيات الواقع وعاداته وتقاليده ومخاوفه قائلاً:

(إنَّ سِرَّاً مُخَبَّأً في ضُلوعي

كانَ سربَ الحمام في آفاقي

لكِ مجدٌ ولو تحدثتُ عنهُ

همَّ نَجْمٌ من غبطةٍ لانعتاقِ).

القصيدة من حيث الشكل والمضمون، تظل في سياقها العام أقرب إلى الشعر الحداثي منها إلى التقليدي، فهي قامت على البحر الخفيف من حيث الوزن، ولكن في صورها ورؤاها وأقنعتها وتجسيد بلاغتها هي قصيدة حداثية كما تبين لنا من خلال دراستنا لها.

د. عدنان عويّد:

كاتب وباحث وناقد من سوريا.

.............................

عيناك

بقلم: توفيق احمد

كيف عيناكِ تَرْفُضانِ انعتاقي

إنه العشقُ فتنةُ الخَلاَّق

زُرْقَةٌ تَسْبَحُ السَّماوات فيها

وانطلاقٌ للضوءِ تِلْوَ انطلاق

عَالَمٌ بعضُهُ الوصولُ إلى التِّيهِ

ودنيا مجهولةُ الأَعْمَاْقِ

فيهما أستريحُ سيفاً من الفَتْحِ

ونهراً أضاعَ حُلْمَ السواقي

بِهِمَاْ أَنتهي وُعوداً رماها

بانتظار المجهول يومُ التلاقي

أنا باقٍ ويا الربيعُ تحدَّثْ

عن أغانيَّ…. عن لهيب اشتياقي

عن كُرومٍ تواعدتْ وطيورٍ

شرَدَتْ في مجاهل الدُّرّاقِ

أنا باقٍ يلفُّني الآهُ والشوقُ

وبعضُ الذهولِ والإشفاقِ

أنا باقٍ أَخافُ يُسْكرني الوصلُ

وتَفنى في البالِ كأسُ الساق

يا رفيفَ المساء حَسْبُ انتظاري

أَنْ تكونيهِ لحظةَ الإشراقِ

إنَّ سِرَّاً مُخَبَّأً في ضُلوعي

كانَ سربَ الحمام في آفاقي

لكِ مجدٌ ولو تحدثتُ عنهُ

همَّ نَجْمٌ من غبطةٍ لانعتاقِ

المداراتُ تنتهي في هوانا

مَجْمَراً صار مُوحشَ الإحتراقِ

وحدَها الخمرُ أدركتْ ما نُعاني

وتعاني في الساحِ كلُّ العِتاقِ

يَخْمُدُ الشَّوْقُ بالعناقِ فَظَلِّي

حُلُماً غيرَ قابلٍ للعناقِ

حَسْبِيَ الآنَ أَنْ أصوغَكِ شِعراً

ظلَّ خمراً على فمِ الذَوَّاقِ

للشاعر العراقي فارس مطر

أولاً: مقدمة نقدية أدبية: في زمن يحتدم فيه الجسد على أسرّة العجز والموت، تنهض القصيدة ككائن موازٍ يحاول إعادة تشكيل العالم المنهار. تقدم قصيدة "هدأة" للشاعر فارس مطر نصاً متوتراً ينهل من أقصى لحظات الهشاشة الإنسانية، حيث يتقاطع الوعي الجسدي مع الرؤية الشعرية في مشهد حافل بالمعاني والانهيارات.

الشاعر مطر هنا لا يرثي حاله ولا يتوسل الشفقة، بل يختبر عبر الكتابة أقصى حدود الألم والمقاومة، مستعيضاً عن الجسد المتهالك بنص متوهج بالأصوات والرموز والصور. من خلال تداخل الأزمنة، وكثافة الإيقاع الداخلي، واستدعاء الطبيعة بوصفها شريكاً ومرايا للذات، تتشكل القصيدة كمأوى هش للوعي، في مواجهة التلاشي.

هذه الدراسة تحاول أن تقرأ قصيدة "هدأة" باعتبارها نصاً للحياة داخل العدم، وتجربة شعرية تكتب الجسد، الألم، والانبعاث بكلمات تخشى أن تخبو لكنها تصر على التنفس حتى النهاية

تأتي هذه  القصيدة "هدأة" الموشاة بكل تلاوين الحياة والموت وما بينهما للشاعر فارس مطر في سياق وجودي حاد، حيث يقف الجسد بين الحياة والموت، ويصبح النص الشعري محاولة مستميتة لإعادة بناء الذات في مواجهة العدم. كُتبت هذه القصيدة في "مستشفى الحوادث برلين" بتاريخ 20 ديسمبر 2020، مما يضفي عليها خلفية زمنية ومكانية مؤلمة، تظهر بوضوح في نبرتها المتوترة ولغتها المجازية الكثيفة.

تسعى هذه الدراسة إلى تحليل البنية اللغوية والرمزية للقصيدة، ومقارنتها بتجارب شعرية مشابهة، مع إظهار كيفية تداخل اللغة والوعي الجسدي والكتابة الشعرية في مشهد مهدد بالفناء.

أولاً: البنية الموضوعية للقصيدة:

تدور القصيدة حول تجربة المرض والانهيار الجسدي، لكنها تتجاوز حدود الألم إلى تأمل عميق في ماهية الوجود والشعر. يمكن تلخيص المحاور الكبرى للقصيدة في:

الغياب والاحتضار: حيث يغدو الغياب رحلة محتومة تمهدها "أغنيات"، وتصبح القوارب رمزاً للعبور نحو الغياب يقول:

"أغنياتٌ تُمَهِّدُ دربَ الغيابِ / لعلَّ القواربَ تُؤنِسُ نَهرَكَ".

تجربة الجسد المعطل: الجسد المريض في القصيدة يصبح نصاُ آخر يتجمد ويتكسر:

"باردٌ طعمها يَتَكَوَّرُ تحتَ لساني / نصوصي تجمدُ".

مقاومة الفناء بالشعر: حيث يحاول الشاعر أن يُؤثث بـ"الأوكسيجين" عش القصيدة، يقول:

"أوكسجين يحاول تأثيث عش القصيدة".

الانبعاث عبر الوعي والشعر: رغم شعور الضياع، تعود الحياة عبر القصيدة والأغنيات:

"أعيد التورط بالأغنيات والكلمات.. بوهم الحياة".

ثانياً: اللغة والأسلوب

لغة القصيدة مشحونة بكثافة شعرية عالية، تعتمد على: الصور المجازية المركبة: الشاعر فارس مطر يزاوج هنا بين الحسي والمجرَّد، كما في قوله: "ضغطكَ سربُ إوزٍ يحط ويجفل من قلق الريح".

الإيقاع الداخلي: القصيدة تتنفس بنبضات متقطعة، كأنها تحاكي التنفس المهدد بالانقطاع، مما يخلق إيقاعاً حاداً ومتشظياً.

التكرار البنائي: يتكرر فعل "أُصغي إليها بدون حراكٍ" مما يعكس حالة السكون الجبري والانقطاع بين الذات والعالم.

التحولات الزمنية: القصيدة تتأرجح بين لحظات الوعي وفقدانه، وكأن النص محكوم بلحظات تخاطرية بين الحياة والموت.

ثالثاً: المقارنات النقدية:

يمكن مقارنة هذه القصيدة بتجارب شعرية أخرى استبطنت تجربة المرض والموت، مثل:

ما كتبه الشاعر الفلسطيني محمود درويش في ديوانه "لا أريد لهذه القصيدة أن تنتهي"، حيث تتداخل فكرة المرض مع القلق الشعري.

أما الشاعر العراقي سعدي يوسف فإنه يؤكد في بعض قصائده المتأخرة هذه الحالة، حيث تتحول الغرفة البيضاء إلى فضاء استعاري للفناء القريب. غير أنَّ قصيدة "هدأة" للشاعر فارس مطر تتميز بخصوصية أنها لا تتوسل الرثاء ولا تطلب الشفقة، بل تخلق من الألم مادتها الجمالية، وتحوّل اللحظة السريرية إلى نشيد شعري.

رابعاً: الطابع اللغوي والبلاغي:

المستوى اللغوي: القصيدة تنتمي إلى اللغة الحديثة ذات النبرة التفعيلية الحرّة، لكنها تنأى عن التكلف، وتميل إلى العذوبة العنيفة، مستخدمةً تراكيب صافية على الرغم من غموض المعنى أحياناً.

الصورة البلاغية: تتوزع بين الاستعارة، مثلاً: (الأوكسيجين يؤثِّث عش القصيدة) والتشخيص (الضغط كسرب إوز)، ما يمنح النص حيوية رمزية كبيرة.

الشفافية والغموض: هناك توازن فني دقيق بين الوضوح الشعوري والغموض الرمزي، مما يجعل القصيدة مفتوحة على أكثر من قراءة.

القصيدة بوصفها سرداً جسدياً للألم: يتحوَّل الجسد في  قصيدة "هدأة" إلى كتاب مفتوح، حيث تتكسر اللغة على وقع الألم الفيزيائي. فكل صورة جسدية (اللسان المتجمد، الصدر المصعوق، الدماء المحرَّكة بالإبرة) ليست مجرد وصف، بل ترميز لمراحل تفكك الهوية وصراعها مع العدم.

من الواضح أنَّ النص هنا لا يكتفي برصد تحولات الجسد، بل يجعل من تدهور الجسد نقطة انطلاق لإعادة بناء عالم شعري بديل.

ليس هذا فحسب بل تملك القصيدة بعداً صوتياً وسمعياً حيث تلعب الأصوات دوراً مهماً في النص، سواء عبر الأغنيات الممهدة للغياب، أو هديل الطيور، أو مجاز الرفيف. كل صوت في القصيدة يأتي مشوباً بالخفوت، في تناص مع الحالة الجسدية المنهكة، إذ أنَّ غياب الحركة يقابله غزارة في الأصوات الداخلية، مما يخلق توازناً بين خمود الجسد وفورة الروح. وهذا ما استدعى لتداخل

الوعي واللاوعي في القصيدة، زما يهدف قوله الشاعر مطر في هذا السياق عمق معرفته بالجواني وابتعاده عن اللحائي، فقد تعكس القصيدة تجربة قرب الموت كحالة بينية، حيث تتداخل الهلوسة مع الإدراك الواقعي. فالطبيب والممرضة والطيور والأغنيات كلها تدخل في مسرح اللاوعي.

يتبنى الشاعر فارس مطر هنا تقنية التداعي الحر، مما يضع القارئ أمام مشاهد تنفلت من المنطق الظاهري لكنها مشحونة بالصدق العاطفي . لذا فقد لعب على الآخر سعياً لتقديم دوره في النص فعلى الرغم من أنَّ القصيدة تبدو متوغلة في الذات، إلا أن وجود "الطبيبة" و"الممرض" وحتى الأصوات الطبيعية (الأيائل، الكراكي) يجعل "الآخر" شريكاً في صناعة المعنى. لذا نجد هنا أنَّ العلاقة مع الآخر مزدوجة: هو من يحمل بشرى الحياة (أو موتها) وهو أيضاً صدى لحيرة الذات في مواجهة مصيرها . لذلك عكست قصيدة " هدأة" طقس احتضار وإحياء منذ البداية حتى النهاية، كون القصيدة بُنيت طقسياً: حيث كانت البداية: غياب واستعداد للموت فقد كانت الذروة تعبير عن انهيار جسدي وتأمل شعري. أما النهاية فقد أكّدت على عودة مشروطة إلى الحياة عبر التنفس والشعر.

فالقصيدة بهذا المعنى ليست فقط مرآة لألم الشاعر فارس مطر، بل هي "طقس عبور" رمزي بين الوجود والفناء. وهنا تتجلى رموز الوجود والفناء بعمق شديد من خلال تجليات الثلج واللون الأبيض، فالثلج يحضر كرمز للطهر والموت معاً. اللون الأبيض يطغى في صور الغرفة، والحديقة المغطاة بالثلج، والغموض الأبيض الذي يقشر الذات. اللون الأبيض في قصيدة "هدأة" هو محو تدريجي للوجود المادي، وهو أيضاً فسحة لاحتمال بعث جديد عبر الكتابة.

في هذا السياق لا يمكننا إغفال. البعد الصوفي للنص فالقصيدة لا تخلو من نزعة صوفية مبطنة، خاصة في مشهد المشي على الماء، وكلام البحيرة، وتحليق الطيف فوق الجسد. هذه الصور تحمل شحنة صوفية تعيد الموت إلى تجربة اتحاد مع الكوني والخارق. وكأن الشاعر فارس مطر يكتب تجربة "فناء" روحي داخل سياق موت جسدي محسوس.

في قصيدة "هدأة"، لا يكتفي الشاعر مطر بتوثيق لحظة الاحتضار الجسدي، بل يتجاوزها إلى إعادة تخليق الذات عبر الكلمة. النص ليس بكاءً على جسد ينهار، بل هو احتفاء خافت بما تبقى من نبض الوجود في أطراف اللغة.

استطاعت القصيدة أن تُجسد العلاقة المرهفة بين الألم والكتابة، وأن تجعل من لحظة الضعف القصوى فرصة لشعرية جديدة تقتنص الحياة من بين طبقات الصقيع والموت.

عبر الصور المشحونة، والإيقاع الداخلي المرتجف، والأبعاد الرمزية الممتدة من الجسد إلى الطبيعة، يخط الشاعر درباً مضاداً للنسيان، راسماً ملامح قصيدة تكتب نفسها فيما الزمن يهم بالتلاشي.

"هدأة" ليست نصاً عن الفناء، بل نص عن التمسك الغريزي بالشعر كضرورة، وعن التنفس بالحروف حين تضيق الرئة بالحياة. ولعل هذا ما يجعل القصيدة تجربة شعرية مكتنزة بالألم والجمال معاً، وعملًا مفتوحاً على تأويلات لا تنتهي، تماماً كما هو حال الوجود نفسه.

أخيراً:

قصيدة "هدأة" للشاعر فارس مطر تجربة فريدة في كتابة الألم جسدياً وشعرياً. النص لا يصف المرض فقط، بل يحوّله إلى عملية خلق جديدة تلامس الجوهر العميق للوجود والقصيدة معاً. إنها قصيدة مكتوبة تحت وطأة الوعي المنكسر والجسد المهدّد، لكنها قادرة على تحويل "هدأة" المستشفى إلى فضاء آخر للغناء الخافت الذي يقاوم الصمت الأبدي.

هذه القراءة المتعددة الأوجه، تبدو قصيدة "هدأة" نصاً مركباً، لا يُفكك بمعزل عن فهم علاقة الشاعر مطر بجسده ووجوده، ورؤيته العميقة للقصيدة كخلاص محتمل في لحظة الانطفاء.

‏ولا أنسى أن أذكر بأن هذه القصيدة كتبت مسودتها كفكرة أولية ملاحظات (ثم أكملت بعد أيام ) في مستشفى الحوادث في برلين في 20 من ديسمبر 2020 ‏عندما كان الشاعر فارس مطر مصاباً بوباء الكورونا وتحت التنفس لمدة خمسة أيام.

***

بقلم: عماد خالد رحمة ـ برلين

.......................

هدأةٌ

بقلم: فارس مطر

أغنياتٌ تُمَهِّدُ دربَ الغيابِ  

لعلَّ القواربَ تُؤنِسُ نَهرَكَ

تَحمِلُهذا الضِياءَ لبابِ المحيط

وتُلقي مجاذيفَها

فضَّةٌ وَفَضَاءٌ

رصاصيَّةٌ غُرفتي

باردٌ طعمها يَتَكَوَّرُ تحتَ لساني

نصوصِيَ تَجمُدُ

وَجهي تَكسَّرَ

أسلاكُ صدريَ صَدمَةُ بَرقٍ تُريني غُيومي

وينبُضُ هذا المساءُ أخيراً

يُحيطُ الفراغُ بخاصِرَتي

أُوكسجينُ يُحاولُ تَأثِيثَ عُشِّ القَصيدةِ

وَعيٌ يُجالِسُني

ودمائي تُحَرِّكُها إِبرَةُ الفَخذِ 

تَفتَحُ مَرجاً هضاباً وغابة

لِتَسري الأيائِلُ في جسدي

تَستَقِرُّ القِراءَةُ والزِئبَقُ المُتَكاسِلُ

قالَ المُمَرِّضُ:

ضَغطُكَ سِربُ إِوَزٍ يَحُطُّ

ويَجفُلُ من قَلَقِ الريحِ

أُصغي إليه بدونِ حِرَاكٍ

لِيَملأَ روحي مَجَازُ الرَّفيفِ

تَقولُ الطبيبَةُ:

ثَلجٌ يغطي الحديقةَ

هل دثَّرتكَ القصيدةُ يوماً

فبَانَ الهَديلُ بأوَّلِ لَيلِكَ؟

أُصغي إليها بدونِ حِرَاكٍ

وأترُكُ ذاتي يُقشِّرُها غامضٌ أبيضُ

نَغَماتٌ تُحذِّرُ أنَّ القصيدةَ غَابَت

وأنَّ التَّنَفُّسَ صارَ أقَلَّ

فتصعَقُني لتَعودَ الأغاني  

وتوحي إليَّ، تَنَفَّس بملءِ الحقول

تَنَفَّس لتكتبَ درباً وغيمة

أعود لوعيي فتسألني:

هل مشيت على الماء حين اتبعت الكراكي

وتلكَ البُحَيرةُ هل كلمتكَ؟

فأُصغي إليها بدون حِراكٍ

لينهض منيَ طيفٌ شبيهٌ بشكلي مصابٌ بِمَسٍ

يحلقُ فوقي يدور ويهذي ويصرخُ فيَّ تنفس تنفس

أعود لوعيي

سنونوتان تَرِفُّ بصدري تُعيدانِ حُلمي     

أعيد التورط بالأغنيات وبالكلمات.. بوهم الحياة    

بوجه بعيد يُسمّى قصيدة

بين الذرائعية والفلسفة، قراءة في سر بقاء النصوص الأدبية حيّة عبر الثقافات.

لماذا تظل بعض العبارات حيّة عبر الأجيال، بينما يخفت صدى غيرها مهما كان بليغًا؟ في هذا المقال، تقدم الكاتبة قراءة نقدية ذرائعية تكشف سر قوة النص الأدبي، بوصفه رسالة لا تكتمل إلا بتفاعل الكاتب، واستراتيجيته، وزمانه، وجمهور المتلقين. ومن خلال أمثلة من التراثين الغربي والإسلامي، تدعو القارئ للتأمل: كيف تتغير أصداء الرسائل حين تعبر الزمان والثقافة؟ وأي النصوص تبقى قادرة على ملامسة الوجدان الإنساني مهما تغيرت الأزمنة؟

النص الأدبي، أيًّا كان جنسه، لا يخرج عن كونه رسالة موسومة باستراتيجية كاتبها، يرسلها إلى متلقٍ، ليس بعينه، بل بالعموم، عبر زمكانية تبدأ من لحظة ومكان الإنجاز، وتستمر في الامتداد إلى زمكانية لا متناهية.

لكن، ليست كل رسالة تنجح في بلوغ القلب أو تحريك الفكر؛ فالفارق بين نص وآخر يكمن في نضج التجربة عند المرسل، وفي قدرته على اختيار الاستراتيجية الفكرية التي يكتب بها، بحيث يضمن قبولًا واسعًا عند الجمهور. إنها قوة الذكاء والفطنة التي يمتلكها الكاتب حين يدرس عقلية المتلقي، ويقرأ ثقافته الجمعية، ويخاطب استعداده النفسي والفكري لتلقي الرسالة.

فلو نظرنا إلى نفس الرسالة، بنفس المضمون، تُرسل من كاتبين مختلفين، كل منهما ينتهج استراتيجية مغايرة، وفي زمكانين متباينين، إلى جمهورين بثقافتين جمعيتين متباعدتين، فهل من العدل أن نفاضل بينهما بمعيار واحد؟

طبعًا لا...

ولهذا السبب، حين تناولت الذرائعية النصوص الأدبية بالنقد، راعت دراسة عناصر الإرسال الثلاثة: المرسل، والرسالة، والمرسل إليه. فاختارت النص الرصين أولًا؛ النص الذي يحمل رسالة نافعة للمجتمع، ودرسته في سياق زمكانية كتابته، وفي ضوء فهم واستراتيجية كاتبه، وكذلك وفق ثقافة جمهور التلقي وتوقعاته.

ولعل خير مثال على هذا التباين، قولان يحملان نفس العبرة والوعظ، لكن لكل منهما صدى مختلف:

(حتى أنت يا بروتس؟)

(اتق شر من أحسنت إليه)

القول الأول نقرأه عند شكسبير، الذي صاغه ضمن استراتيجية فلسفية، أسند عليها ثيمة الغدر والخيانة، فنجح في زرعه في وجدان جمهور كان مستعدًا، بثقافته الجمعية، لتقبّل الفكر الفلسفي ومساءلة القيم؛ فبقي قوله حيًا في الذاكرة الإنسانية، ما بقيت الفلسفة ركيزة منهجية في وعي الشعوب.

أما القول الثاني، المنسوب إلى علي بن أبي طالب (كرّم الله وجهه)، فجاء نتاج تجربة قيادة أمة جعلت من الأخلاق والدين ركيزتين. فجاء خطابه موجّهًا إلى جمهور ينتظر، بل يطلب، كلّ ما يعزّز منظومته الأخلاقية، فجعل من مقولته رسالة تتجاوز حدود الغدر والخيانة إلى صراع شامل بين الخير والشر.

وهنا، يبقى السؤال مفتوحًا:

من أي جمهور أنت أيها المتلقي؟

وأي مقولة تجد صداها الأقوى في نفسك؟

وهكذا، يتأكّد لنا أن الرسالة الأدبية لا تحيا ولا تقاس إلا ضمن منظومتها الثلاثية: الكاتب، والاستراتيجية، والجمهور، ولا يُفاضل بين النصوص إلا حين نفهمها بكامل سياقها، لا بسطح مضمونها. فكل نص، هو ابن لحظته، وحفيد ثقافة جمهوره، ورسول كاتبه الذكي.

***

بقلم الناقدة د. عبير خالد يحيي - الاسكندرية – مصر

7 مايو 2025

 

دراسة تحليلية سردية

تعدّ الرواية المعاصرة إحدى أبرز الأدوات التعبيرية عن التجربة الإنسانية بمختلف تجلياتها النفسية والاجتماعية، ولا سيما حين تتناول موضوعات الفقد والبحث عن معنى الحياة وسط المآسي.

في هذا السياق، جاءت رواية فرصة ثانية للأديبة صباح بشير، لتقدم معالجة أدبية حساسة لتجربة فقدان الأمومة، وتحولات العلاقات الإنسانية في مواجهة الموت المفاجئ.

تهدف هذه الدراسة إلى تحليل رواية فرصة ثانية من خلال رصد بنيتها السردية، ودراسة الشخصيات، ودلالات الفضاء المكاني، فضلاً عن استكشاف البعد النفسي والرمزي في العمل.

تعتمد الدراسة منهج التحليل النصي المباشر، مع الاستدلال بمقتطفات من الرواية وأرقام صفحاتها، سعيًا لتقديم قراءة نقدية شاملة تُبرز أهم ملامح التجربة السردية للكاتبة، وتُسهم في إغناء المكتبة النقدية بالدراسات المهتمة بالأدب النسوي الفلسطيني المعاصر.

التقديم:

تُعدّ رواية فرصة ثانية للكاتبة الفلسطينية صباح بشير نموذجًا أدبيًا مميزًا في تصوير معاناة الإنسان مع الفقد، والبحث عن معنى جديد للحياة رغم الألم. عبر سرد حميميّ يأتي على لسان الشخصية الراوية “هدى”، تُقدم الكاتبة قصة موت الأم (فاتن) أثناء الولادة، وما يترتب على ذلك من تحولات نفسية واجتماعية في محيطها العائلي.

تهدف هذه الدراسة إلى تحليل بنية الرواية سرديًا وموضوعيًا، مع التركيز على تجربة الحزن، رمزية الأمل، ودلالات الفضاء المكاني واللغوي داخل العمل.

كما تسعى الدراسة إلى إظهار كيف تنتمي هذه الرواية إلى تيار السرد النسوي الفلسطيني الحديث، الذي يبرز التجربة الإنسانية للمرأة في مواجهة الحياة والموت.

أولًا: البنية السردية والزمن:

*تعتمد الرواية بنية سردية خطية متماسكة، تبدأ من لحظة دخول البطلة فاتن إلى المستشفى (ص5)، وتنتهي بتبني الطفلة من قِبل الأسرة ومواصلة الحياة (ص34).

*تتبنى الرواية ضمير المتكلم من خلال شخصية “هدى”، مما يمنح النص طابعًا شخصيًا حميميًا، وينقل مشاعر الشخصيات بصدق كبير.

يتوزع الزمن في الرواية على محورين:

* زمن واقعي يتمثل في أحداث الولادة والوفاة وما بعدها.

*زمن نفسي ينعكس في تأملات هدى حول ماهية الأمومة والموت، كما في قولها: “هل حب الأمهات لأطفالهن يستحق هذه التضحية؟ أم أنها غريزة فطرية بحتة؟” (ص10).

* تتميز بنية الرواية بالتصاعد الدرامي المنظم، حيث تبدأ بأمل الولادة، تمر بذروة الأزمة (تعثر الولادة وموت فاتن)، ثم تهدأ في النهاية مع ولادة طفل يمثل حياة جديدة.

ثانيًا: تحليل الشخوص في الرواية:

1. شخصية فاتن: تمثل فاتن صورة الأمومة المكافحة، التي تحتمل آلامًا جسدية ونفسية شديدة من أجل إنجاب طفلها. تصفها الراوية هدى قائلة:

“دفعتها إرادة الأمومة إلى الأمام، رغم أن الألم كان ينهش عظامها.” (ص7).

فاتن ليست فقط أمًا بيولوجية، بل رمز للتضحية بكل أشكالها.

2. شخصية مصطفى: هو الزوج المفجوع الذي يتنقل بين مشاعر الأمل والصدمة واليأس. يتجلى ألمه الداخلي حينما يقول:

“كيف سأكمل حياتي بدونها؟ كيف سأربي طفلهما بمفردي؟” (ص20).

يمثل مصطفى معاناة الرجل الشرقي الذي يضطر لتحمل مسؤوليات مضاعفة في غياب الشريكة.

3. شخصية هدى: وهي شقيقة فاتن، تتحول إلى “الأم البديلة” بعد وفاة أختها. تقول متعهدة برعاية ابن أختها:

“عاهدتها أن أكون سندًا له، وأن لا أتخلى عنه.” (ص21).

هدى تعبر عن جانب مهم من التضامن الأسري في مجتمعاتنا الشرقية.

ثالثًا: دلالة المكان والفضاء الروائي:

للمكان في الرواية حضور وظيفي شديد الأهمية:

المستشفى: يتحول إلى مسرح للألم والموت بدلًا من أن يكون فضاءً للشفاء. ويتجلى ذلك من وصف الراوية للبيئة الطبية:

“كل شيء أبيض وباهت لا حياة فيه.” (ص15).

المنزل العائلي: يصبح بؤرة للحزن وملاذًا للذكريات بعد فقدان فاتن، كما نقرأ:

“تحول منزل العائلة إلى مأوى للدموع والآهات.” (ص24).

تُظهر الرواية كيف تتغير دلالات المكان تبعًا للحالة النفسية للشخصيات.

رابعًا: اللغة والأسلوب الفني:

تميزت اللغة السردية في فرصة ثانية بالوضوح والعذوبة، مع مسحة شاعرية خفيفة تناسب جو الرواية المفعم بالمشاعر.

اعتمدت الكاتبة تراكيب لغوية مباشرة غير متكلفة، لكنها مزجتها بصور بلاغية معبرة، مثل قولها عن مشاعر القلق:

“غزاني الخوف بسـهامه الحادة وأخذت أرتجف، شعرت أن العالم من حولي يزداد ظلمة.” (ص13).

كذلك كثفت الروائية استخدام الألوان كرموز نفسية، فكان اللون الأبيض –رغم شيوعه للنقاء– رمزًا للموت والجمود في سياق الرواية، كما قالت هدى:

“كل شيء أبيض وباهت لا حياة فيه.” (ص15).

أما الأسلوب الفني فقد مال إلى تفصيل المشاعر الداخلية بتقنيات السرد الداخلي (المونولوج)، مما جعل القارئ يتماهى مع الشخصيات عاطفيًا.

خامسًا: الثيمات والأفكار الرئيسة:

تدور الرواية حول عدة ثيمات محورية، أبرزها:

1. الأمومة والتضحية: تمثل ولادة فاتن القاسية ذروة رمزية للتضحية من أجل استمرارية الحياة. وقد أظهرت الرواية هذه الفكرة عندما قيل:

“دفعتها إرادة الأمومة إلى الأمام، رغم أن الألم كان ينهش عظامها.” (ص7).

2. الموت والفقد: تصور الرواية كيف أن الموت قد يقتحم اللحظات التي يُنتظر فيها ميلاد حياة جديدة. وكان المشهد المأساوي عند إعلان وفاة فاتن شديد التأثير:

“ببالغ الأسف نعلمكم أن فاتن لم تقاوم مضاعفات خطيرة…” (ص17).

3. الأمل واستمرار الحياة: رغم مأساة الفقد، قدمت الرواية صورة إيجابية عبر الطفل “يحيى” الذي سُمّي رمزًا لاستمرارية الأمل:

“اختار مصطفى اسم ‘يحيى’ لمولوده؛ ليحمل معنى الحياة والأمل الذي لا يريد له أن ينطفئ.” (ص26).

سادسًا: الرموز والإيحاءات الفنية: اعتمدت الرواية عدداً من الرموز البسيطة ولكن العميقة الدلالة، منها:

الطفل يحيى: يمثل ولادة الأمل من رحم الحزن، وقد جسدت تسميته رسالة واضحة مرتبطة بفكرة النهوض بعد السقوط (ص26).

اللون الأبيض: رمز موتيّ، بعكس دلالته التقليدية للنقاء، وهو ما عبرت عنه هدى حين وصفت المستشفى:

“كل شيء أبيض وباهت لا حياة فيه.” (ص15).

الأمومة البديلة: رمزية لديمومة العطاء الإنساني رغم قسوة الفقد.

سابعًا: الجانب النفسي في الرواية:

تحاكي الرواية بدقة علمية مراحل الحداد التي صنفها علماء النفس، وهي: الإنكار، الغضب، الاكتئاب، وأخيرًا القبول:

الإنكار: يظهر في مشاعر الصدمة التي أصابت العائلة فور إعلان وفاة فاتن، كما قالت الراوية: “لم أستطع تصديق ما سمعت.” (ص19).

الاكتئاب: مثّل مصطفى نموذجًا حزينًا عميقًا للغرق في الحزن، إذ قالت عنه الراوية: “تحول منزله إلى سجن من الذكريات، كل زاوية فيه تهمس باسمها.” (ص27).

القبول: يتحقق تدريجيًا عبر قبول مصطفى لتربية الطفل والاستعانة بالدعم العائلي.

هذا التحليل النفسي العميق أضفى على الرواية بعدًا إنسانيًا مقنعًا.

ثامنًا: حضور الأمومة كغريزة واختيار اجتماعي:

تطرح الرواية سؤالاً هامًا حول طبيعة الأمومة: هل هي فطرة أم التزام اجتماعي؟

تتجسد الإجابة في موقف هدى التي تحولت إلى أم بديلة مدفوعة بالحب والوفاء، لا بمجرد القرابة البيولوجية.

يتجلى ذلك حين قالت: “عاهدتها أن أكون سندًا له، وأن لا أتخلى عنه، وأن أحبّه كما أحببت أمه.” (ص21).

هنا، يظهر أن الأمومة في الرواية تمتد إلى دوائر الرعاية والمودة، بما يتجاوز الروابط الدموية.

خلاصة البحث:

رواية فرصة ثانية لصباح بشير تقدم تصويرًا واقعيًا وعاطفيًا لتجربة الفقد الإنساني، وتطرح تساؤلات عميقة حول معنى الحياة بعد غياب الأحبة.

عبر بنية سردية متماسكة، ولغة بسيطة غنية بالصور الشعورية، نجحت الكاتبة في ملامسة مشاعر القارئ، وفي التأكيد على أن الحب والأمل قادران على شفاء الجراح العميقة.

تُظهر الرواية أن الإنسان، رغم الألم، يمتلك القدرة على تجاوز المحن، وبناء معانٍ جديدة للحياة، من خلال الإيمان، والتضامن العائلي، والوفاء للماضي.

تحية تقدير لكاتبة استطاعت ان تمخر عباب الزمن بلا توقف او تردد لتصل الى ما وصلت إليه بكل ما في المراة الفلسطينية تحديدا من إصرار وتحد .

وتمنياتي لها ببلوغ ما تصبو إليه من مراتب السمو الأدبي.

***

علاء الأديب/ بغداد

 

حدَّثَنا (ذو القُروح) في المساق السابق عن قصيدة منسوبة إلى (الجواهري)، تبدو مضطربة الوزن.  عنوانها «حَبَبْتُ الناس»، مؤرَّخة في 12/ 11/ 1965، (بُراغ).  يمضي فيها الشاعر هكذا:

حَبَبْتُ الناسَ والأجناسَ:

والدنيا التي يسمو على لذَّاتها الحبُّ للناسْ

حَبَبْتُ الناسَ والأجناسَ:

في الطِّفل الذي لا ينسُبُ الناسَ لأعراقٍ وأجناسْ

إلى أن يقول:

حَبَبْتُ الناسَ والأجناسَ:

في «الزنجيةِ» الحُلوةِ مَنْ لُفَّتْ وأهلوها بأكياسْ

حَبَبْتُ الناسَ والأجناسَ:

مَنْ شَبَّ، ومَنْ شابَ، ومَنْ أظلمَ كالفحمِ، ومَنْ أشرقَ كالماسْ

وهي في ديوان الشاعر(1)، بلا تعليق من جامعي ديوانه ومحقِّقيه والمشرفين على طبعه، وهم فريقٌ من أربعة أساتذة!  نشروا النصَّ بتنسيقٍ يوحي بأنه موشَّحة أو شِبه موشَّحة. ويبدو أنَّ تقييد جامعي ديوانه للقوافي هو عِلَّةُ الخلل في الإيقاع. ذلك أنَّهم- كما يبدو- لاحظوا أنَّ القوافي لا تستقيم نحويًّا؛ فالشاعر واقع في الإقواء، بحيث يكسر قافيةً ويرفع أخرى، فقيَّدوا القوافي، تلافيًا لذلك العيب، واستراحوا. لكنهم بذلك أوقعوا النصَّ في عيوبٍ إيقاعيَّةٍ أشد.  ولو أنهم أَمَرُّوا النصَّ بكسر الرَّوِيِّ، هكذا:

...التي يسمو على لذَّاتها الحبُّ [إلى الناسِ]

...الذي لا ينسُبُ الناسَ لأعراقٍ وأجناسِ

...من لُفَّتْ وأهلوها بأكياسِ

...ومن أظلمَ كالفحمِ ومن أشرقَ كالماسِ

لاستقامت تفعيلاته. غير أنهم سيواجهون (الإقواء). في قوله:

حببتُ الناسَ والأجناسَ:

في الخمرةِ تختالُ على أنخابهم إذ تُقرع الكاسُ

حببتُ الناسَ والأجناسَ:

مذ عُلِّمتُ أنَّ الناسَ أشباهٌ وأنَّ النبلَ مِقياسُ

ويمكن أن يكون صوابهما:

...على الأنخاب إذ تقرع بالكاسِ

...أنَّ الناسَ أشباهٌ ونُبْلَهُمُ كمِقياسِ

ومما يؤيِّد القول إنَّ الرويَّ مكسورٌ قول الشاعر:

حببتُ الناسَ والأجناسَ:

حُبَّ الأرضِ للفاسِ،

أو القفرة للآسِ،

أو الليل لنبراسِ

قلتُ لـ(ذي القُروح):

ـ معروف أنَّ (الجواهري) كان ارتجاليًّا في شِعره، شفاهيًّا، يعتمد على الإلقاء. ولذا كان من حقِّه على المحقِّقين التوثُّق من نصِّه، وتدقيقه. 

ـ وإنْ كان يُقْوِي، فقد أقوَى قبله (امرؤ القيس) وغيره، على زَعْم من زَعَمَ من القدماء.(2) بيد أنَّ ما نرجِّحه أنَّ القوافي مكسورة أصلًا، إلَّا أنَّ أخطاء اعتورت أربعًا منها، ربما لأخطاء مطبعيَّة، وصوابها مجتمعة:

...التي يسمو على لذَّاتها الحبُّ إلى الناسِ

...من لُفَّتْ وأهلوها بأكياسِ

...على الأنخاب إذ تُقرع بالكاسِ

...أنَّ الناسَ أشباهٌ ونُبْلَهُمُ كمِقياسِ

ومهما يكن، فإنَّ النصَّ يظلُّ تجربةً ضعيفةً من شِعر التفعيلة، لا نعلم أنَّ (الجواهري) كرَّرها!  وإنَّما الشاهد من هذا- مع نشر الشِّعر على عواهنه- إهمال بعض المحقِّقين، كما ينعتون أنفسهم، في الوفاء بما التزموا به من ضبطٍ وتحقيق. وإنْ اغتُفِر في النثر بعض ذلك أحيانًا، فإن الشِّعر لا يغتفره مطلقًا؛ لأنَّ تغيير حرفٍ أو حركةٍ في الشِّعر قمينٌ بارتكاب إساءةٍ إلى النصِّ والنَّاصِّ.

ـ دعك من هذا، وقل لي: لماذا انشغل شعراء المعارضة للشِّعر القديم- وعلى رأسهم (أحمد شوقي)- بمعارضة عُيون الشِّعر العَرَبي، ولم يجرؤ شاعرٌ كبيرٌ على إنشاء قصيدة معارضةٍ لقصيدة لـ(المتنبِّي)؟!

ـ أمَّا أنا فأرى أنَّ معظم الرائع من شِعر (المتنبِّي) في مقدِّمات قصائده، أمَّا ما بعد المقدِّمات فتقليديٌّ نَظْميٌّ غالبًا، مدحًا أو هجاءً أو رثاءً. 

ـ أجل، لقد ظلَّ تقليد المقدِّمات الغَزَليَّة ساريًا في شِعرنا العَرَبيِّ القديم، حاملًا صِدق الشاعر العاطفي، حتى تكاد تكون تلك المقدِّمات هي الشِّعر في كثيرٍ من شِعرنا التراثي، بعيدًا عن المجاملات، والممالقات، التي تتبع تلك المقدِّمات.

ـ حتى لقد كان بعض الشعراء يُسرِف في إطالة تلك المقدِّمات إسرافًا فَجًّا بمعايير اللَّباقة الاجتماعيَّة أو السياسيَّة. من ذلك مثلًا أنَّ (جريرًا) قال قصيدةً من عشرة أبياتٍ في البيعة لـ(عبد العزيز بن الوليد بن مروان) بولاية العهد، جعل ثمانية أبياتٍ منها مقدِّمة في الحنين إلى الديار والأحبَّة وبيتين فقط في غرضه من القصيدة. وهي القصيدة ذات المطلع:

عَفَا نِهْيَا حَمَامَةَ فالجَوَاءُ   :::   لِطُولِ تَبَايُنٍ جَرَتِ الظِّبَاءُ

كذا هي القصيدة في ديوانه.(3) ولئن أضافت بعض الروايات أبياتًا أخرى، فما يغيِّر ذلك من النتيجة، وهي أن المقدِّمة أطول وأشعَر. أمَّا (أبو الطَّيِّب المتنبِّي)، فقد كان يَصِل، بعد مقدِّماته الشِّعريَّة، من سُخف المديح ما لا يَصِل إليه عابدٌ خانعٌ مع ربِّه، بالرغم من ادِّعائه الكرامة والاعتزاز بالذات. ويبدو هذا التعالي لديه تظاهرًا نفسيًّا يُخفي نقيضه، أو قُل: إنه ضربٌ من التعويض نفسيًّا.

ـ مِثل ماذا؟

ـ كثير جِدًّا. لقد كان يتخانع مع ممدوحيه إلى درجة التقديس والتسبيح بحمدهم.  وماذا بعد تأليهه لأحد ممدوحيه قائلًا:

وأَما وحَقِّـكَ وهْوَ غايَةُ مُقْسِمٍ  :::   لَلحَـقُّ أَنتَ وما سِـواكَ الباطِلُ

الطِّيْبُ أَنتَ إِذا أَصابَكَ طِـيْبُـهُ  :::   والماءُ أَنتَ إِذا اغتَسَلتَ الغاسِلُ

ما دارَ في الحَنَكِ اللِّسانُ وقَلَّبَتْ  :::   قَلَمـًا بِأَحسَنَ مِن نَـثاكَ أَنامِـلُ

فاغتسلَ، كما ترى، بهذا الخِزي؛ ليجعل ممدوحه الحقَّ المطلَق، لا شريك له ولا نظير في جماله وكماله!

ـ أيقول عاقلٌ لإنسان، كائنًا من كان: «لَلحَقُّ أَنتَ وما سِواكَ الباطِلُ»؟!

ـ نعم، إذا كان كـ(أبي الطيِّب)، سيقول! ونماذج أبي الطيِّب من هذا القبيل بلا حدود، ليس أوَّلها تسوُّله فضْلة كأس (أبي المِسْك)- الذي نعتَه من بَعد بالعَبْد المثقوب مشفره، حينما لم ينل فضله- ولا آخِرها قوله: «لَلحَقُّ أَنتَ وما سِواكَ الباطِلُ»، أو وصفه ممدوحًا بأنه «خَيرُ الخَلْق مِن خَيرِ الخَلْق»!  ومن الطرائف أنَّ (ابن جِنِّي)- الذي كان يصفه المتنبَّي بأنه أعلم بشِعره منه- شرحَ بيتًا شرحًا أثار سُخرية (ابن معقل)، من الشارح ومن الشاعر معًا، واصفًا إيَّاه بالرقاعة!  ذلك أنَّ أبا الطيِّب قال:

أَلُوْمُ بِهِ مَنْ لامَني في وِدادِهِ   :::   وحُقَّ لِخَيْرِ الخَلْقِ مِن خَيْرِهِ الوُدُّ

فجاء (ابن جِنِّي) شارحًا: «أي: هو خَير الخَلْق وأنا كذلك! وحقيقٌ أهل الخَير أنْ يودَّ بعضهم بعضًا، فحقيق عليَّ، إذن، أن أودَّه!»  فردَّ كلامَه (ابنُ معقل) قائلًا: «أقول: إنَّه يحتمل أن يكون «من خَيره» راجعًا إلى آباء الممدوح، كأنَّه قال: هو خَير الخَلْق من خَير الخَلْق، وهذا الأقرب والأشبه بغرضه؛ لأنَّ وصفه نفسه بأنَّه خَير الناس من أقصى الرَّقاعة، وأقبح الشَّناعة!»(4) وأقول: إنَّه على طرافة شرح ابن جِنِّي- ولا يَبعد أن يكون ما ذكرَ هو مقصود الشاعر بالفعل، ولعلَّ ابن جِنِّي أعلم بمقاصد المتنبِّي من غيره- فإنَّ معناه حسب شرح ابن معقل لا يخلو من الشناعة أيضًا!  هذا، وكثيرًا ما يخطِّئ ابنُ معقل ابنَ جنِّي ويبدو هو الخاطئ.

[وللحديث بقية].

***

أ. د. عبد الله بن أحمد الفَيفي

............................

(1) (1975)، جمعَه وحققَه وأشرفَ على طبعه: إبراهيم السامرائي ومهدي المخزومي وعلي جواد الطاهر ورشيد بكتاش، (العراق: وزارة الإعلام)، 5: 243- 244.

(2) نحن نرى أن ما سُمِّي (إقواءً) في الشِّعر القديم وَهْمٌ؛ إذ لم يكن عن عيبٍ في التقفية، بل عن لغةٍ كانت تستجيز إعرابًا يخالف ما قعَّدة النحويُّون، وفرضوه نحوًا زعموا أنه كان للُغة العَرَب كلِّها.  وقد تطرَّقنا إلى ذلك في مقارباتٍ سابقة.

(3) يُنظَر: (1986)، ديوان جرير، شرح: محمَّد بن حبيب، تحقيق: نعمان محمَّد أمين طه، (القاهرة: دار المعارف)، 667- 668.

(4) ابن معقل، (2003)، المآخِذ على شُرَّاح ديوان أبي الطيِّب المتنبي، تحقيق: عبدالعزيز بن ناصر المانع، (الرياض: مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلاميَّة)، 1: 76- 77. 

للأديبة السورية سمر الديك

مقدمة: تعتبر رواية "ياسمين سومري" للأديبة السورية سمر الديك نصاً سردياً غنياً بالدلالات والعلاقات البنيوية التي يمكن استكشافها من خلال المنهج البنيوي. يركز هذا المنهج على دراسة النص الأدبي باعتباره بنية متكاملة، مؤلفة من عناصر متداخلة تربطها علاقات داخلية، بهدف الكشف عن القوانين والأنظمة التي تحكم بناء النص وتوليد المعنى فيه.

1. بنية الشخصيات والعلاقات:

تتميز الرواية ببنية شخصيات معقدة، حيث تتنوع الأدوار والعلاقات بينها. يمكن تحليل هذه البنية من خلال الثنائيات الضدية والمتشابهة.

* هيفاء وعصام: يمثلان ثنائية زوجية، ولكن علاقتهما تشهد صراعات وتوترات، خاصةً بسبب تدخلات الأم والأخت. يمكن اعتبار عصام ممثلاً للسلطة الذكورية التقليدية، بينما تمثل هيفاء صوتاً نسوياً يسعى للتحرر. "اسمعي جيداً، وتذكري ذلك دائماُ: إنْ لمْ تعجبك طريقة عيشنا، وطريقة تصرفاتي معك، يمكنك أن تغادري البيت بلا رجعة، لقد سئمت هذه الحياة، وسئمت من نظراتك الغريبة هذه."[i] هنا يبرز صراع السلطة الذكورية.

لكن، من جهةٍ أخرى هيفاء وعصام يمثلان ثنائية متوافقة، على اعتبار أنهما زوجان يجمعهما الحب والهدف المشترك للأسرة والأولاد.. لنستمع إلى هذا المونولوج الذي يبرز مشاعر الرضا في قلب هيفاء… "أحمد الله على نعمة الحبّ الذي يسود في بيتنا، رغم بعض المنغصات، ولكن في كل بيت توجد من المشكلات التي قد تسبب المتاعب للجميع، لكن الأهمّ أنني وعصام نتبادل الاحترام والتفاهم في كل صغيرة وكبيرة، يجمعنا حبّ عميق، وهدف واحد مشترك، أن نتفانى من أجل مستقبل ولدينا[ii]."

* هيفاء وسوسن: تمثلان ثنائية ضدية، حيث تتسم علاقتهما بالغيرة والحقد. سوسن تمثل الشخصية السلبية التي تعيق سعادة هيفاء واستقرارها… "كم كانت سوسن تحمل ضدّها من الحقد والغيرة بسبب نجاحها في عملها! بينما هي فشلت حتى في الدراسة، وبقيت جليسة الدار لا تتوانى عن إثارة المشاكل داخل الأسرة، لسبب أو بدون سبب."[iii]

* هيفاء ورجل الياسمين: يمثل هذا الرجل عنصراً غامضاً ومتكرراً في حياة هيفاء، ويمكن اعتباره رمزاً للحب الضائع أو الحلم المنشود. علاقته بهيفاء تتجاوز الواقع لتلامس البعد الرمزي والصوفي…"لكن لمْ تعرف لماذا يتكرر حضوره معها؟! هذه هي المرة الثانية، هل سيعود مرة أخرى؟"[iv]

2. بنية الأحداث والحبكة:

تتكون حبكة الرواية من سلسلة من الأحداث المتداخلة التي تتصاعد وتيرتها تدريجياً. يمكن تحليل بنية الأحداث من خلال:

1. الصراع الرئيسي: يتمثل في صراع هيفاء من أجل الحفاظ على هويتها وتحقيق ذاتها في ظل القيود الاجتماعية والأسرية. "لا لن أضعف ولن أستسلم للمشاكل التي تحيكها سوسن وأمها بين الحين والآخر. سأقاوم كل تلك العقبات وأضع ملحاً على جرحي الذي ينزف بين الحين والآخر."[v]

2. الأحداث المحورية: تشمل زواج هيفاء، والصراعات الأسرية، وظهور رجل الياسمين، وأحداث الثورة السورية، وهجرة هيفاء وأولادها. يصف الاقتباس التالي بداية الثورة كحدثٍ محوريٍّ في الرواية:"… وكان العام 2011 عام الانتفاضة ضد الطغيان، والسياسات الرعناء التي أدخلت البلاد في نفق مظلم، نفق لا أحد يعلم له نهاية، سمعت هيفاء رنين الهاتف...واعتبرها ألم فظيع لم تعرف له سبباً…[vi]"

3. التوازي والتكرار: يتكرر ظهور رجل الياسمين كعنصرٍ دلاليٍّ هام، وكذلك تتكرر صور العنف والفقد. هذه التوازيات والتكرارات تساهم في تعميق المعنى الرمزي للرواية. "قبل أن تغلق النافذة، شاهدت رجلاً ينزف بغزارة، يقوم ويسقط، والرصاص ينهال عليه بلا رحمة، ما إن سقط على الأرض، حتى نظر الى الشرفة التي كانت خلفها هيفاء، رمقها بنظرة عتاب أوجعت قلبها، واستخرج من جيب قميصه الممزق والملطخ بالدماء، زهرة ياسمين لوّث بياضها دمه الحار، ولوّح لها بها، وسقط بلا حراك."[vii]

3. بنية المكان والزمان:

يلعب المكان والزمان دوراً هاماً في بنية الرواية، حيث يساهمان في تشكيل الأحداث والشخصيات.

بنية المكان:

تتنوع الأمكنة في الرواية، حيث تنتقل الأحداث بين البيت والمدينة والمزرعة وبلاد الاغتراب. هذه الأمكنة تمثل عوالم مختلفة لهيفاء، وتعكس تحولاتها النفسية والاجتماعية. لاحظ دفء اللغة في وصف البيت وتفاصيله الإنسانية: "كان بيتهم يغصّ بالنساء والرجال، كل شيء لم يكن طبيعياً فيه، لكنها بفطرة الطفولة لم تفهم ما يجري في بيتهم بعد ان كان آمناً[viii]."، وبرودها وحياديتها حين تصف مكانزالاغتراب، على الرغم من أن الراوي في كليهما هو الراوي العالم ذاته: "لقد حطّت رحالها أخيراً في مدينة مرسيليا، ثاني أكبر مدينة في فرنسا بعد باريس، فهي تُعد من أهم موانئ البحر الأبيض المتوسط[ix]".

بنية الزمان:

تتناول الرواية فترةً زمنيةً واسعةً، تمتد من طفولة هيفاء إلى نضوجها، وتشمل أحداثاً تاريخية هامة مثل الثورة السورية، وما تبعها من اغتراب. الزمن في الرواية ليس خطياً، بل يتداخل فيه الماضي والحاضر والمستقبل، ما يجعل السرد في حالة من الحيوية والتنقل القلق، الذي يشي بحال البطلة هيفاء القلقة غير المستقرة، المشتتة الذهن بين ذكريات عذبة، وحاصرٍ قاسٍ، ومستقبلٍ غامض. الاقتباس التالي يصف تأثير الماضي على الحاضر في وجدان هيفاء… "لمْ تغادر ذاكرة هيفاء تلك الليلة الشاتية الباردة، ولم يغادرها ذلك الصراخ والعويل اللذين حوّلا ذاك الصباح الى كابوس مرعب ظلّ يرافقها مدى الحياة!"[x].

4. بنية اللغة والأسلوب:

تتميز لغة الرواية بالشاعرية والرمزية، حيث تستخدم الكاتبة الصور الفنية والتشبيهات والاستعارات للتعبير عن المشاعر والأفكار.

* الرمزية: يعتبر الياسمين رمزاً محورياً في الرواية، حيث يمثل الحب والجمال والأمل المفقود. كما أن رجل الياسمين يحمل دلالات رمزية تتعلق بالخلاص والتحقق… "يا إلهي! ما الذي يحدث؟! لماذا أنا مرتبكة الى هذا الحدّ؟! مَنْ هذا الذي يحمل راية الوطن خفّاقة لوحده في هذا الطريق؟! أيعقل أن يكون هو نفسه رجل الياسمين؟!"

* التكرار: يتكرر استخدام بعض الكلمات والعبارات، مثل "الحزن" و"الفقد" و"الوطن"، للتأكيد على الثيمات الرئيسية للرواية. "لقد أصبح الإنسان قارةً للحزن[xi]..."، "في الغربة، عليك أن تتكيّف مع المحيط الجديد الذي ساقك القدر إليه[xii]"

* التناص: تحيل الرواية إلى بعض النصوص الأدبية والتاريخية، مما يثري دلالاتها ويمنحها عمقاً ثقافياً، يمثّل استحضار اسم جيكا، المناضل المصري في ثورة يناير ربطاً فكرياً بين الثورة في سوريا، وثورات الربيع العربي المتمثلة بثورة يناير في مصر، ومن ناحية أخرى، يمثل هذا التناص الحالة الإنسانية الشاملة لأبطال الثورة السورية، باعتبارهم ثاروا على الطغيان، وهي حركة ثورية عامة وقيمة إنسانية عليا، "هل أصبحت أمنية هذا الجيل الفتيّ، الجيل الذي بدأ يحلم بالحرية، والكرامة، والخبز، الجيل الذي بدأ يسعى الى تأسيس دولة للقانون، تحفظ البلاد والشعب، وتصون كرامته، وتحقق أمنياته في الحرية والتقدم والسلام، هل أصبح همّه اليوم أن يحظى بجنازةٍ كالتي حظي بها جيكا؟![xiii]"

5. الثنائيات الضدية على مستوى الموضوعات:

تعتمد الرواية على عدة ثنائيات ضدية تساهم في بناء الصراع الدرامي وتعميق الدلالات:

1. ثنائية الحب والكراهية: يتجلى صراع الحب والكراهية في علاقة هيفاء بكل من عصام وسوسن. "على الرغم من زواجهما التقليدي، إلاّ أنّ مشاعر الحبّ بينهما أصبحت رابطاً قوياً يربطهما، لكن الحياة لن تكون هانئة سعيدة كما يتمنى الانسان، فبعد ثلاث سنوات على زواجهما، بدأت المشاكل تطفو على السطح وتعجّ بأمان البيت، وكانت بوصلة الاتهام تتجه دائما صوب سوسن!"[xiv]

2. ثنائية الحياة والموت: يحضر الموت بقوة في الرواية، خاصةً مع أحداث الثورة والحرب، مما يخلق توتراً وجودياً. "لماذا يتكاثر الموت في بلادنا؟! ولماذا الرصاص يعشق أجساد أبنائنا الفتية؟!"[xv]

3. ثنائية الأمل واليأس: تتأرجح هيفاء بين الأمل في غدٍ أفضل واليأس من الواقع المرير. "يا كريم، يا صديقي العزيز...اكتشفت كأنَّني أعرفك منذ زمنٍ طويلٍ، لمحتُ في عينيك حزني... شعرت هيفاء بأنَّ سُحباً سوداء من الضياع تحتضنها...لكنَّها قاومت حتَّى لا تشعر باليأس[xvi]..."

4. ثنائية الشرق والغرب: تبرز ثنائية الشرق والغرب في انتقال هيفاء إلى فرنسا واكتشافها لثقافة مختلفة. "في الغربة، عليك أن تتكيّف مع المحيط الجديد الذي ساقك القدر إليه، وعليك الاندماج في هذا المجتمع الجديد[xvii]."

الخاتمة:

تعتبر رواية "ياسمين سومري" للأديبة السورية سمر الديك، بنيةً سرديةً متكاملة، تتداخل فيها الشخصيات والأحداث والأمكنة والأزمنة واللغة لتشكل عالماً روائياً غنياً بالدلالات. من خلال المنهج البنيوي، يمكننا الكشف عن العلاقات الداخلية التي تربط عناصر الرواية، وفهم القوانين التي تحكم بناء النص وتوليد المعنى فيه. تتناول الرواية قضايا إنسانية واجتماعية وسياسية مهمة، وتقدم رؤيةً عميقةً للواقع السوري المعاصر وتجربة الاغتراب والبحث عن الذات.

***

دراسة نقدية بقلم: منذر فالح الغزالي

بون/ ألمانيا الاتحادية في 4/5/2025

........................

[i] ياسمين سومري ص 18

[ii] ياسمين سومري ص15

[iii]  ياسمين سومري ص14

[iv] ياسمين سومري ص26

[v] ياسمين سومري ص16

[vi][vi] ياسمين سومري ص28

[vii] ياسمين سومري ص25

[viii] ياسمين سومري ص34

[ix] ياسمين سومري ص82

[x] ياسمين سومري ص34

[xi] ياسمين سومري ص11

[xii] ياسمين سومري ص63

[xiii] ياسمين سومري ص 31

[xiv] ياسمين سومري ص16

[xv] ياسمين سومري ص23

[xvi] ياسمين سومري ص154

[xvii] ياسمين سومري ص63

 

الرؤية الفكرية والجمالية في "المجنون وبنت الحبر الناكرة" لِـ مجيدة محمدي

القصيدة التي بين أيدينا ليست مجرّد نص شعري، بل مرآة ناطقة لعلاقة الإنسان – لا الشاعر فحسب – مع اللغة، مع المعنى، مع الخوف، ومع فكرة الخلق ذاتها. إنها ليست فقط قصيدة عن الشعر، بل عن ذلك الصدع الخفيّ الذي يتكوّن في الروح حين تحاول التعبير عما لا يُقال، عن تلك الولادة المؤلمة لكل نص، التي لا تتم إلا على هيئة خيانة، أو على شفير الجنون. من هنا، تتجاوز القصيدة إطارها الجمالي لتُلامس بعمق أسئلة الإنسان الكبرى حول هويته، حريته، وحدود قدرته على الفعل والتعبير. "المجنون وبنت الحبر الناكرة" ليست قصيدة وصفية، بل ذات طابع درامي داخلي، تتصارع فيه الشاعرة مع النص الذي تكتبه، ويبدو في كل سطر أنه يكتبها أكثر مما تكتبه.

تبدأ القصيدة من صورة مقلقة: "أبجديةٌ مكسورة، / تزحف على أطرافها كالعقارب". الأبجدية، أداة الشاعر الأولى، توصف بأنها مكسورة، زاحفة، سامة. التشبيه بالعقارب لا يوحي فقط بالخطر، بل بالانفلات، بالسمّ الذي يسري في اللغة حين لا تكون تحت السيطرة. وحين تقول: "كلّما رتّبتها، / عادت فوضى، كأحلام النائم في حريق"، فهي لا تعبّر عن خلل فني، بل عن انهيار العلاقة بين الإرادة والإنتاج؛ إذ أن القصيدة، حتى حين تُرتّب، تعود إلى حالتها الفوضوية، كأنها تحكمها قوانين داخلية لا تستجيب لنية الكاتب.

ثم تنتقل الشاعرة إلى وصف الكلمات لا كرموز، بل ككائنات عارية، مجروحة، متمردة: "بعض الكلماتِ، / تأتي حافية القدمين، / تُدمي السطور، / وتغادر بلا وداع". هنا تتجلى الرؤية الجمالية للشاعرة التي ترى في اللغة كائنًا يتحرّك بحرية، خارج منطق الطاعة. الكلمات تُدمي النصّ ثم ترحل، بلا اعتذار، بلا اعتراف، وكأنها لا تنتمي. إن الشاعرة – عبر هذا التصوير – تعبّر عن مدى هشاشة الإبداع، عن قصور السيطرة، عن التوحّش الذي قد تتلبّسه الكلمات حين تخرج من رحم القلق.

وتتبلور الرؤية الفكرية للقصيدة حين تقول: "كأنها تعرف أن لا قلبَ لي / ولا قبرَ لها". هذه الثنائية الحادة تكشف تمزّقًا عميقًا: ذات كاتبة بلا عاطفة، وكلمات لا تجد مستقرًّا. فالشاعرة تُحيلنا هنا إلى تجربة شعورية قاسية؛ إنها لا تكتب من الحب، بل من الفراغ، ومن الشعور بالتيه واللا انتماء.

ثم تُجسَّد القصيدة في صورة أنثى، لا على سبيل التأنيس البلاغي فحسب، بل ككيان نفسي عنيد: "هناك، في ركنٍ خفي من الرأس، / تجلس القصيدةُ، / تقضم أظافرها بأسنانها". إنها صورة لامرأة قلقة، عصبية، تختبئ في العقل، لا تخرج إلا حين تشاء. وتتابع: "تضحك... تهمس للمداد، / 'لن أخرج إلا مكسورة... لن أُقال كما يشاء... / أنا الأنثى التي لا تلين'". بهذه العبارة، تعلن القصيدة عن تمرّدها، استقلالها، ورفضها للتشكيل حسب إرادة الكاتب. وهذا التصوير يعطي للنص بعدًا فلسفيًا عميقًا: القصيدة ليست طيّعة، وليست انعكاسًا لرغبة، بل كيان مضاد، ذو إرادة خاصّة.

في لحظة اعتراف نادرة، تقول الشاعرة: "هي تعرف... / أنني أكتبها، / لا حباً... / بل لأنني أخافها". هنا تنقلب العلاقة تمامًا، إذ يصبح الفعل الإبداعي وليد الخوف لا الإلهام. القصيدة تُخيف لأنها تجرّد الذات، وتكشف عمقها، وتفرض عليها إعادة النظر في وجودها، ولأنها – كما ستظهر لاحقًا – تشبه الشاعرة نفسها في تمردها وتشرّدها.

وتتتابع الصور التي تدعم هذا البعد، منها على سبيل المثال: "في كل بيتٍ منها / رائحةٌ تشبه الخيانة". فكل مقطع من القصيدة يحوي طيف خيانة، ليس بالضرورة خيانة حبيب، بل ربما خيانة الذات، خيانة الأمل، خيانة الفكرة الأصلية التي تشوّهها اللغة حين تترجمها. وهذه الخيانة تتجلّى في شكل بصري حاد: "أحرُفُها، / كأظافرٍ نَمَت في العتمة، / تخدشني... / ثم تبتسم كمن لا يذكر ما اقترفه". الشعر هنا لا يداوي، بل يخدش. لا يعالج، بل يفتح جراحًا جديدة، ثم يبتسم بلا مبالاة، كما لو أن القصيدة هي الجلاد الجميل الذي يؤذي من دون تذكّر أو ندم.

ويُستمر في إبراز مراوغة القصيدة وتمنّعها، حيث تقول: "كلّما أوشكت أن تكتمل، / تمدّ ساقاً من الفراغ، / وتفرّ". إن لحظة الاكتمال تُقاطع دائمًا بفعل الغياب. القصيدة تقف عند حافة التحقّق، لكنها تهرب، تترك الشاعرة في منتصف المعنى، كمن "يعدّ المقاطع، / كمن يحصي ضلوع ميت، على عجلة". هذه صورة ذات بُعد شعري وفكري في آن؛ فعدّ المقاطع لا ينتج معنى، بل يستحضر عبثية التشريح دون روح، كأن القصيدة، حين تُفرض بالقوة، تصبح جثة بلا حياة.

ويبلغ التوتر ذروته حين تقول: "كلّما ناديتُها باسمٍ، / قالت: لستُ أنا. / كلّما خلعتُ لها المعاني، / ارتدت قناعاً آخر". هنا يتجلّى جوهر الرؤية الفكرية في النص: المعنى دائم المراوغة، لا يُمسَك، لا يُعرَّف، لا يُوضع في قالب. اللغة تخدع، وتتنكّر، وتُنتج من السؤال ألف سؤال، ومن الوجه ألف قناع. فالقصيدة لا تصل إلى يقين، بل إلى "سؤال جديد" يُغرس في الجبين، في استعارة توحي بالألم والدوام.

وفي مفارقة وجودية قاتلة، تعترف الشاعرة أن القصيدة لا تزورها في الحلم، بل "تنام في قلمي، / وتستيقظ حين أنام". هنا نكتشف الوجه الآخر للقصيدة: ليست حُلُميّة، بل واقعية، ليلية، تظهر حين يغيب الوعي، وتتحكّم بالأداة (القلم)، فتكتب من تلقاء نفسها. هي كينونة مستقلة تسكن الأداة وتفرض سلطتها.

أما النهاية، فهي اعتراف ملؤه الألم والفقد: "كتبتُ غيرها، / أنجبتُ من نساء المعاني ألف ابنة، / لكنها... / هي وحدها / اللعنةُ التي تشبهني". الشاعرة تعلن أنها كتبت الكثير، لكنها لم تُشبه إلا هذه، لأنها قصيدة تشبهها في وجعها وتشرّدها وتمرّدها. إنها قصيدة ليست نتاج إلهام، بل لعنة، ليست بنتًا مطيعة، بل مرآة مكسورة للذات.

في الختام، يمكن القول إن الرؤية الفكرية في هذه القصيدة تقوم على تقويض مركزية الكاتب، لصالح قصيدة تتمتع بوعي ذاتي، وتمرّد وجودي، ولا تخضع للعرف أو المعنى المستقر. أما الرؤية الجمالية، فهي تقوم على صور مدهشة، مليئة بالعنف الرمزي، والمفارقة، والخوف، مما يجعل من النصّ تجربة وجودية وجمالية مكثّفة، تحمل في طياتها السؤال الأكبر: من يكتب من؟ الشاعر أم القصيدة؟

***

بقلم: سمير اليوسف

Alyusef Sameer

.......................

المجنون وبنت الحبر الناكرة

بقلم: مجيدة محمدي

***

أبجديةٌ مكسورة،

تزحف على أطرافها كالعقارب،

كلّما رتّبتها،

عادت فوضى، كأحلام النائم في حريق.

بعض الكلماتِ،

تأتي حافية القدمين،

تُدمي السطور،

وتغادر بلا وداع...

كأنها تعرف أن لا قلبَ لي

ولا قبرَ لها.

هناك، في ركنٍ خفي من الرأس،

تجلس القصيدةُ،

تقضم أظافرها بأسنانها،

تضحك... تهمس للمداد،

"لن أخرج إلا مكسورة... لن أُقال كما يشاء...

أنا الأنثى التي لا تلين "

هي تعرف...

أنني أكتبها،

لا حباً...

بل لأنني أخافها.

في كل بيتٍ منها

رائحةٌ تشبه الخيانة،

أحرُفُها،

كأظافرٍ نَمَت في العتمة،

تخدشني...

ثم تبتسم كمن لا يذكر ما اقترفه.

كلّما أوشكت أن تكتمل،

تمدّ ساقاً من الفراغ،

وتفرّ،

تتركني أعدّ المقاطع،

كمن يحصي ضلوع ميت، على عجلة .

كلّما ناديتُها باسمٍ،

قالت: لستُ أنا.

كلّما خلعتُ لها المعاني،

ارتدت قناعاً آخر،

وغرست في جبيني سؤالاً جديداً.

إنها هي...

الناكرة،

التي لا تزورني في المنام،

لكنها تنام في قلمي،

وتستيقظ حين أنام.

كتبتُ غيرها،

أنجبتُ من نساء المعاني ألف ابنة،

لكنها...

هي وحدها

اللعنةُ التي تشبهني...

 

شكلت رواية يولسيس أوعوليس كما ترجمتها بعض دور النشر الى العربية، كواحدة من روائع الأدب العالمي التي تركت بصمتها على الأجيال اللاحقة، وشكلت إنعطافاً في الأعمال الأدبية فيما بعد، كما صنّفها النقاد في القرن العشرين، وتعد  أبرز أعمال الكاتب الأيرلندي جيمس جويس، حيث تم نشرها في عام 1922، إذ تقع أحداث الرواية في يوم واحد في حياة بطل الشخصية الرئيسية، ليوبولد بلوم، فهي تعتمد على هيكل زمني دقيق وتقنيات أدبية متقدمة وعالية الدقة. فإذا أردنا أن نحدد الجوانب الفنية والدلالات الإبداعية في رواية عوليس، لابد من الإشارة الى هيكل الوقت، تمتاز هذه الرواية بتقنيات هيكل الوقت المعقدة والمتداخلة الأحداث، وتكون هذه الأحداث في خلال يوم واحد فقط، مما تتضمن تداخلًا ضمنياً مع الذكريات والتفكيرات الداخلية للشخصيات، ليخلق تأثيراً زمنيًا فريدًا، كذلك يعزز عمق السرد وفي معنى أعمق دون ترهل في ثيمة النص والبناء الروائي.

لقد إستخدم جيمس جويس تقنية السرد الداخلي للكشف عن تفكير الشخصيات ومشاعرها الداخلية، مما يضيف طبقة إضافية من التعقيد إلى الرواية، ذلك أن جيمس جويس يتقن الأسلوب اللغوي بشكل استثنائي، ويعد أسلوبه اللغوي غنيًا بالرموز والتشبيهات، إذ يُظهر اللغة بدقة مشاعر الشخصيات والتفاصيل الدقيقة للبيئة التي يعيشون فيها. فالرواية تحتوي على العديد من الرموزالتي تضيف طبقات إضافية من الدلالة، فعلى سبيل المثال لا الحصر، إن نهر الليفي يمثل الحياة والتغيير وعدم الاستقرار، حيث يمنح الكاتب صورة تستحق التوقف عندها لمعنى التغير في طبيعة النهر التي يمزج فيه الحياة والتغيير من جهة، وحالة عدم الإستقرار من جهة أخرى كمعادل موضوعي في شخصية البطل القلقة.

كما تتناول الرواية مواضيع مثل الحب والوحدة بشكل فنتازي، وتظهر علاقة بطل الرواية ليوبولد بلوم وزوجته (مولي) بأسلوب معقد، فالكاتب يسعى أن يضع الأثنين تختلط عندهما مشاعر الوحدة والإغتراب، دون المساس بهارمونية تصاعدية في حبكة خيوط الرواية. فرواية (عوليس) تجريبية بشكل كبير في هيكلها وأسلوبها، وتمزج بين الواقع والخيال بطريقة مبتكرة، وتعرض تجارب جديدة في الكتابة، يكاد تفرّد بها جويس لوحده، كما يمكن أن يكون فهم هذه الجوانب الفنية والدلالات الإبداعية في رواية (عوليس) مفتاحًا لتقدير عمق وتعقيد هذه الرواية الأدبية الكلاسيكية. وقد شكك البعض في الحالة النفسية لشخصية الكاتب، إلا إنه ليس هناك دليل قاطع يشير إلى أن جيمس جويس، كان مريضًا نفسيًا، إذ كان معروفًا بتأثير أعماله الأدبية بتفكيره العميق ولغته الغنية، ولم يكن هناك تأكيد مستند أو أدلة تشير إلى أنه كان يعاني من مشاكل نفسية بشكل خاص.

تقنيات الرواية والدلالات الفنية

 إن الرواية تعدّ واحدة من أكثر الأعمال تعقيدًا وعمقًا في الأدب العالمي، تم تأليفها بأسلوب فريد ومتشابك، وتحتوي على تجارب أدبية متنوعة، كما تستند إلى ملحمة هوميروس وتروي حكاية بطل الرواية ليوبولد بلوم، فضلاً عن تميّزها بتعقيداتها اللغوية وهيكلها الفني. فالمتلقي للرواية يلاحظ تسارعاً في الأحداث أو إنخراطًا عميقًا في النص، وقد يكون ذلك نتيجة للأسلوب الأدبي الفريد الذي أختاره جويس للتعبير عن أفكاره ورؤيته الفنية، وليس بالضرورة بسبب مشاكل نفسية في شخصيته.

لقد رسم جميس جويس بطله ليوبولد بلوم بتعقيد كبير، حيث يُظهر جويس الطبائع المتعارضة لشخصية بطله، مما يجعلها بنفس الوقت شخصية غنية ومعقدة، كما تظهر شخصية بلوم في الرواية، كشخص يفكر بشكل عميق ويتأمل في مختلف جوانب الحياة، حيث تتوزع ويتنوع تفكيره بين القضايا العامة والخاصة.

كما يشير جويس الى تعدد الهوايات في شخصية البطل، وهو يعطي هذه الشخصية كرجل متنوع الاهتمامات والهوايات، وهو ينتمي الى عدة جوانب من المجتمع وأفراده الذي يحيطون به من كل المستويات والمراتب الفكرية والطبقات الاجتماعية العادية من شرائح الواقع الذي يعيشه من حوله. ففي فصول الرواية تجد بطله، كيف يتأثر بالبيئة المحيطة به في العاصمة دبلن، وكيف يتفاعل مع الناس والأماكن بطرق مختلفة، مما يلقي الضوء على دور البيئة وتأثيرها في النفس البشرية.

إن جويس، يقدم من خلال شخصية بطله رؤية معقدة للحياة، حيث يتعامل مع مفاهيمها، مثل الوجود والزمان بطرق فريدة ومعقدة. إذ تكمن القوة الرئيسية والبعد الدرامي في كتابات جيمس جويس، من خلال تصويره للأنفعالات الانسانية التي يرسمها في أبطاله،  وما يصطلح عليه (بتقنية تيار الوعي) التي تسمح بتدفق الأفكار ( Stream of Consciousness ) حيث أعتمد جويس في يوليسيس بشكل رئيسي على تقنية تيار الوعي والمشاعر الداخلية للشخصيات، كما تجري في ذهن الإنسان، دون ترتيب منطقي أو تسلسل تقليدي.

تُستخدم هذه التقنية بشكل خاص في تتبع أفكار ليوبولد بلوم وستيفن ديدالوس، بطلي الرواية، وتكشف عن أعماقهما النفسية بأدق التفاصيل. فضلاً عن (التعدد الأسلوبي) فكل فصل في الرواية يُكتب بأسلوب مختلف، من السرد الواقعي الى المحاكاة الساخرة للنثر الصحفي، أو التمثيل المسرحي أو اللغة العلمية، أو التهكم الأدبي، ما يجعل الرواية مختبراً أسلوبياً وتجريبياً بأمتياز. هذا التعدد ليس تزيين لغوي بل يعكس تغيّر الوعي والزاوية التي يُنظر بها الى الأحداث.

أما من الناحية الزمانية والمكانية، تجري أحداث الرواية خلال يوم واحد فقط يوم 16 يونيو 1904، في مدينة دبلن، ومع ذلك فأن هذا الإطار الزمني الضيق يُفتح على مصراعيه من خلال التداعيات والاسترجاعات والتخيلات الذهنية، مما يجعل الزمن الداخلي للرواية أكثر إتساعاً وعمقاً. أما مدينة دبلن، فقد حوّلها جويس الى مدينة أسطورية، ووثقها بجغرافيا دقيقة تعادل في رمزيتها طروادة أو أثينا القديمة.

إن رواية يوليسيس مبنية على هيكل ملحمي يُحاكي الأوديسة لهوميروس. فكل فصل يقابل مغامرة من مغامرات أوديسيوس، لكن جميس جويس، يحوّلها الى معادل يومي عادي، حيث يتحول البحر الى شوارع دبلن، والسفر الملحمي الى جولة في الحانات أو الأسواق. هذه المفارقة بين الحدث العادي والرمز الملحمي تُكسب الرواية طابعاً مزدوجاً من السخرية والتعظيم.

الإنسان ككائن يومي وأسطوري وهوية وأنتماء

إن الرواية في جوهرها، تُعيد لنا يوليسيس بتعريف البطل، إذ لم يعد البطل هو الفارس أو الملك أو الإله، بل هو الإنسان العادي (البطل ليوبولد بلوم) الموظف البسيط اليهودي، الغريب عن المجتمع، الذي يخوض رحلته الذاتية في عالم ملئ بالتناقضات. هذا التحول من البطولة الكلاسيكية الى (بطولة الحياة اليومية) هو جوهر الحداثة.  فالرواية تتناول أسئلة الهوّية الشخصية والوطنية والدينية، بلوم، كيهودي في مجتمع إيرلندي كاثوليكي، يمثل الآخر، والمهمش، والمنفي داخل وطنه. بينما يمثل ستيفن ديدالوس صراع المثقف مع السلطة السياسية والدينية، وبحثه عن (أب رمزي) أو مرشد روحي.

ففي الرواية، تصبح اللغة بطلة بحد ذاتها، تتشكل وتتغير وتتلاعب بالواقع. حيث يتعامل جويس مع اللغة كخامة قابلة للنحت والتشكيل، مما يجعله من أبرز مجددي التعبير الأدبي. هذا الاستخدام المفرط للغة يوصل الى مفارقة التي هي؛ كلما غاصت الرواية في التفاصيل، أقتربت من المطلق والكوني.

إن قراءة رواية يوليسيس ليست نصاً يُقرأ مرة واحدة، بل عمل مفتوح على قراءات متعددة ومتغيرة، قابلة الى التأويل اللامحدود، مما يتيح لكل قارئ أن يخلق تجربته الخاصة به. أما كثافة الإشارات التأريخية والأسطورية والدينية واللغوية تجعل الرواية بمثابة متاهة سردية تحتاج الى تأمل دائم.

يوليسيس ليست مجرد رواية، بل مشروع أدبي وفلسفي وفني في آنٍ معاً. إنها تحدٍ للقارئ، ومغامرة فكرية للكاتب، وتجسد لحلم الحداثة في أن يكون الأدب مرآة عميقة للواقع والخيال معاً. إنها ومن خلال التداخل المعقد بين التقنيات السردية والدلالات الرمزية، قدّم جويس عملاً، ما يزال الى اليوم موضوعاً للبحث والدراسة والجدل والإعجاب.

***

د. عصام البرّام - القاهرة

بين تفكيك البنية وتأسيس الرؤيا..  قراءة نقدية في نص مرشدة جاويش

The Spring of Estrangement”: Fragments of the Feminine Self between Structural Deconstruction and Establishing the Vision – A Critical Reading of Morshida Jawish’s Poem

التمهيد التأويلي: في قصيدتها "نبعة التغريب"، لا تكتب الشاعرة مرشدة جاويش نصاً شعرياً تقليدياً، بل تنتج نصاً مفتوحاً يتماهى مع قصيدة النثر الحديثة، التي – وفق توصيف سوزان برنار –

"تتوافق مع العزلة، تكتب من الهامش وتمنح اللا معنى شكلاً بنيوياً ."

إنها قصيدة لا تكتفي بتصوير الغربة بوصفها تجربة خارجية، بل تنقلها إلى مستوى وجودي، حيث تصبح الذات الأنثوية مأخوذة بقلق التمزق والتشتت الإدراكي.

تتجه هذه القراءة إلى مساءلة مستويات النص الجمالية والدلالية، ضمن مقاربة مزدوجة: تفكيكية تقوض الثبات البنيوي، وأنطولوجية تتقصى صيرورة الذات من داخل العزلة والغياب.

بنية القصيدة وغياب المركز: تتأسس البنية الداخلية لقصيدة نبعة التغريب على تفكيك النظام الشعري التقليدي، عبر الانقلاب على مفهومي الخطية الزمنية والمركز الدلالي. لا يحضر الزمن بوصفه امتداداً سردياً، بل كحالة مائعة، غير محكومة بالتتابع أو العلة. منذ مفتتحها تقول الشاعرة:

"أصداء لأورادٍ سقاها العشق..."

وهي جملة تفتقر إلى اكتمال نحوي ودلالي، ما يعكس استراتيجية تأجيل المعنى (différance)، كما نظر لها جاك دريدا حين قال:

"المعنى ليس ثابتاً، بل يتولد عبر الفروق والانزياحات، وكل نص يحمل تناقضه في داخله."

هنا يتعذر الإمساك بمركز دلالي صلب، إذ تمضي القصيدة في تفكيك بنيتها عبر سلاسل من الصور المنفلتة، كقولها:

"الجرح أوسع من ظلال الشمس"

حيث لا تعمل الاستعارة على التوصيل، بل على زعزعة مرجعية المعنى، وخلق فجوة تأويلية. فـ"الجرح" يتجاوز إشراق "الشمس"، في دلالة على ألم تتسع رقعته خارج حدود الفهم أو الإضاءة. هكذا، يتبدّى غياب المركز لا كفقد، بل كبنية جمالية تعكس تهشيم المعنى وتمرد الذات على انتظامه.

الرؤية الوجودية – الذات في مرآة الغربة: تنفتح قصيدة نبعة التغريب على أفق وجودي يتجاوز تمثيلات الغربة بوصفها تباعداً مكانياً، لتغدو الغربة في النص تجربة روحية عميقة، تؤطر الذات داخل دائرة من العجز الإدراكي والانكسار الشعوري. فالشاعرة تكتب الغربة لا كمفارقة مكان، بل كشرط أنطولوجي يتجلى في قولها:

"فالشمس باردة... وغربة روحي الثكلى يلاحقها الوهن..."

هنا تتلاشى دلالات النور والدفء لتحل محلها صورة الانطفاء والانهيار الداخلي. يغدو الإشراق رمزاً ميتاً، وتتحول الرغبة إلى سكون وجودي، يتناغم مع ما يسميه مارتن هايدغر:

"الانكشاف على العدم بوصفه شرطاً لوعي الكائن لوجوده."

في هذا السياق، تظهر الذات الشعرية كمعلقة بين ثنائية الفقد والانبعاث، تصوغ وجعها لا بوصفه معاناة فحسب، بل كحالة إبداعية تنتج رؤية. تقول:

"أنا الوحيدة، أرتقي بالهم موج الغارقين..."

وهي عبارة تنقل الذات من موقع الانكسار إلى مقام التأمل، حيث الألم ليس نقيضاً للحياة، بل أحد شروط تشكلها. هكذا لا تتماهى الشاعرة مع الحزن، بل تعيد تشكيله كأداة لفهم الذات والعالم.

اللغة الرمزية وصراع الإدراك: اللغة في "نبعة التغريب" لغة متوترة، تتأرجح بين الحسي والرمزي، وتبني عوالمها من مفردات الطبيعة والأصوات (النخلة، الصقيع، الناقوس، اليمامة). تتجلى في قولها:

"كيف أراك؟ حين أراك يمامة مذبوحة، بالدم تمسح كل آثام البشر..."

الصورة هنا لا تكتفي بتمثيل الضحية، بل تمنحها وظيفة تطهيرية تعيد للوجود شيئاً من التوازن. وهذا يتقاطع مع ما تراه جوليا كريستيفا في كتاباتها عن الكتابة الأنثوية:

"الكتابة تعبير عن ذات مهددة، تفكك النظام الرمزي وتعيد بناءه من موقع الهامش."

الأنوثة كمنفى ورؤية صوفية: القصيدة تعبر عن ذات أنثوية تغترب عن عالمها، لكنها لا تستسلم. بل تصوغ جمالية الخسارة كطقس تطهيري. تقول:

"ينتظر شمّاعة للعاجزين على الوصول..."

وفي موضع آخر، تستحضر البعد الصوفي:

"رابعة اللقاء يدعو فراشات الترقب..."

هنا تحضر رابعة العدوية كأيقونة صوفية، تعكس بعداً رؤيوياً  يعيد تعريف الألم بوصفه طريقاً للوصال.

أفق المقارنة – تشظيات الذات في التجربة الشعرية العالمية:

لا تنفصل تجربة "نبعة التغريب" عن الامتدادات الكونية لثيمات العزلة وتفتت الذات في الشعر النسوي العالمي، حيث تتقاطع مع ما نجده مثلاً في شعر سيلفيا بلاث، التي كتبت عن الانهيار الداخلي كمرآة لتمزقات الوعي الأنثوي الحديث، أو في قصائد إميلي ديكنسون التي تحول العزلة إلى فضاء تأملي حميم. ففي كلا التجربتين، كما في نص الشاعرة مرشدة جاويش، لا تطرح الذات بوصفها كياناً منجزاً، بل ككائن قيد التشكل، يستولد رؤيته من داخل الألم والانفصال. هذا التوازي يبرز كيف تتحول اللغة إلى آلية مقاومة، تكتب الهامش وتعيد بناء الهوية خارج المركزيات السردية والاجتماعية.

وبالتالي يمكن القول أن  "نبعة التغريب" ليست نصاً رثائياً للذات بقدر ما هي مشروع شعري يعيد بناءها من داخل الانكسار. فالشاعرة مرشدة جاويش تكتب الغربة كفعل وجودي، يعيد للذات وعيها عبر لغة متوترة، مشبعة بالصور والانزياحات. يتشابك في النص البعد التفكيكي، حيث يتوارى المعنى خلف التشظي والاختلاف، مع البعد الأنطولوجي الذي تسائل فيه الذات وجودها من قلب العزلة. وهكذا، تتجلى القصيدة في نهايتها كتمثيل شعري لـ"الغياب الحي"، حيث لا يكون الغياب نهاية، بل أفقاً مفتوحاً للانبعاث الشعري، ونداءً داخلياً للحياة من تخوم الوجع والوعي

***

قراءة نقدية من إنجاز فاطمة عبدالله

تشكيل الحروف هو وضع العلامة التى تمثل حركة نطق الحرف، ووضعها على الحرف الأخير هو ما يمثل الموقع الإعرابى للكلمة. ولم يكن العرب يعرفون هذا التشكيل ولم يكونوا فى حاجة إليه، فالعربى بسليقته اللغوية الفذة ينطق ويقرأ المضموم مضمومًا والمفتوح مفتوحًا والمكسور مكسورًا دون خطأ واحد. ذلك بالملكة اللغوية دون درس أو تقعيد، تلك السليقة هى التى أخذنا منها التقعيد، فالقدماء كانوا يتحدثون بالسليقة دون خطأ، أما نحن فنتحدث بما يطابق القواعد ونخطىء. العربى القديم يتحدث دون استحضار وبذل مجهود، أما نحن فنستجمع ونستحضر كل قواعد اللغة فى رؤوسنا لكى نتحدث لغة سليمة محاولين ألا نخطئ.

ولمَّا تفشى اللحن والخطأ فى اللغة وضعفت الملكة العربية، احتاج القارئ لوضع علامات على الحروف تبين هيئة نطق الحرف. ومن ذلك يمكننا أيضـًا أن نضع تعريفـًا آخر لتشكيل الحروف، وهو: العلامات التى تبين هيئة نطق الحرف. وكان الباعث الأول فى ذلك هو الحفاظ على الموقع الإعرابى والنطق السليم لحروف القرآن الكريم، وكما نعلم أن حركة واحدة لو اختلفت لتغير المعنى. فلو قلت أو نطقت: ما أحسنَ المساء، لاختلف المعنى عن قولك أو نطقك: ما أحسنُ المساء. فالأولى بفتح النون صارت جملة تعجبية. أما الأخرى بضم النون صارت استفهامية، فصارت تحتاج إلى جواب، فإن قيل أو نـُطق: ما أحسنُ المساء ؟ لقيل: الهدوء، نجومه، سكونه، خواطره... أى شىء من ذلك.

واستدعى ذلك أيضـًا ما فى القرآن الكريم من تقديم وتأخير، ومن ذلك قوله تعالى {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ}[فاطر / 28]. فلولا التشكيل الذى نقل إلينا الآية على معناها الصحيح، لتوهمنا أن الله هو الذى يخشى من العلماء، لكن "الله" منصوبة، فنعلم أنها مفعول به مقدم، و" العلماء " مرفوعة، فنعلم أنها فاعل مؤخر، إذن العلماء هم الفاعلون، فهم الذين يخشون الله تعالى، هم الذين قاموا بفعل الخشية. من هنا باتت الضرورة ملحة لوضع علامات تمكننا من النطق الصحيح والقراءة الصحيحة لما هو مكتوب.

وكان السبق فى ذلك الابتكار يرجع إلى الخليل بن أحمد الفراهيدى المتوفى 170هـ. إذ ابتكر أشكالا توضع فوق أو تحت الحرف لتبين هيئة نطقه، فابتكر شرطة توضع أعلى الحرف لتدل على نطقه مفتوحًا، وشرطة توضع أسفل الحرف لتدل على نطقه مكسورًا. وفتحتان لتدلان على تنوين الفتح، وكسرتان لتنوين الكسر. والواو الصغيرة للضم لأن الواو هى أكثر الحروف مناسبة للضم فاختاره رمزًا وعلامة للضم، وتكرارها يدل على تنوين الضم. والهاء المعقودة للحرف الساكن.

فهذه العلامات أو الأشكال يرجع فضلها إلى الخليل بن أحمد الفراهيدى، فبهذه العلامات قد حُفظت لنا قوامة اللسان وسلامة اللغة. ومن ناحية أخرى وزاوية أخرى جديدة تمامًا، فإن هذه العلامات قد أسهمت فى تنميق الحروف والخطوط وإكسابها شكلا جماليًا فريدًا، هو بحق لا نراه فى لغة إلا العربية، تلك رؤية فنية وجمالية فريدة تقف جنبًا إلى جنب جوار الغرض والهدف الرئيس وهو حماية ووقاية لسان القارىء من النطق الخاطىء.

وختامًا نرجو أن نكون قد حققنا قدرًا من المتعة والإفادة والمعرفة الأصولية فيما تعلق بتشكيل الحروف وفضل العالم اللغوى الكبير الخليل بن أحمد، مبتكر وصاحب فكرة تشكيل الحروف. وللقارىء الكريم خالص التحية والمودة.

***

د. أيمن عيسى - مصر

تُعدّ رواية القربان للكاتب العراقي غائب طعمة فرمان واحدة من أبرز روايات الواقعية الاجتماعية في الأدب العربي، إذ ترصد بانتباه تفاصيل الحياة اليومية للعراقيين في منتصف القرن العشرين، وتغوص في أحوال المهمّشين والمغلوبين على أمرهم في مواجهة تحولات قاسية، سياسية واجتماعية. ومن بين المقاطع اللافتة في الرواية، يأتي مشهد الزورخانة بوصفه تصويرًا كثيف الدلالة لمكان شعبي، يتجاوز كونه فضاءً رياضيًا، ليتحول إلى رمز للهروب المؤقت، والتشبث بما تبقى من توازن داخلي.

يبدأ المشهد بعبارة بسيطة: “راح أغيب كم دقيقة”، لكنّ هذه الجملة، رغم بساطتها، تعبّر عن نزعة داخلية لدى الشخصية للابتعاد عن ضجيج الحياة. فالخروج من المقهى إلى الزورخانة ليس تحركًا عشوائيًا، بل هو فعل انسحاب رمزي من واقع خانق إلى مكان أكثر سكينة، وأكثر التصاقًا بالجسد، وربما بالذكريات أيضًا. هنا، يصبح “الغياب” لحظيًا، لكنه غني بالمعنى.

الزورخانة، كما يصفها المؤلف، ليست صالة رياضية بالمعنى الحديث، بل بيت قديم مجهول الأصل، تنهشه الرطوبة والمطر، وتكسوه طبقة من الإهمال والعزلة. وصف المكان يأتي بتفاصيل دقيقة: الجفرة المثلمة، الدكة الطينية، الحصير المهلهل، والسقف الذي يتسرب منه المطر. كلّ عنصر من هذه العناصر يحمل دلالة خفية. الجفرة، التي كانت في الماضي مركز الحركة والنشاط، أصبحت مهجورة، كأنها استعارة لحالة المجتمع أو لروح الإنسان التي أصابها الوهن. المطر الذي “ينقع الجدران” و”يتسرب من خلال السقف” لا ينظف المكان، بل يضاعف عزلته وانهياره.

اللافت في هذا المشهد أنّ المؤلف لا يصف الزورخانة كفضاء خاص ببطل الرواية وحده، بل يجعلها تنتمي للمجتمع المحلي بأكمله. إنّها “زورخانة المحلة”، تمامًا كما أنّ مقهى “دبش” هو مقهى أهل الطرف. الزورخانة هنا تتحول إلى مؤسسة مجتمعية، لكنها ليست رسمية أو منظمة، بل عفوية بسيطة صادقة. إنها من الأماكن التي تحافظ على طابعها الشعبي، والتي يلجأ إليها الناس متى أحسّوا بثقل أجسادهم أو ضيق صدورهم. بهذا المعنى، يصبح المكان ذاته نوعًا من “القربان”، تضحية بالوقت والجهد والجسد في سبيل الحصول على قدر من السلام الداخلي.

أما مستوى السرد، يتعامل غائب طعمة فرمان مع المكان بوصفه شخصية موازية، لا تقلّ حيوية عن الشخصيات البشرية. فهو يمنح الزورخانة ملامح حسية واضحة، ويجعل القارئ يشعر بخشونة جدرانها، وبرودة أرضها، وبروائحها القديمة. بل إنه، من خلال هذه التفاصيل، يزرع إحساسًا بالزمن الذي مرّ عليها، وكأنها شاهد على تحول الأجيال والمجتمع.

ما يميز هذا المشهد أيضًا هو ارتباطه العميق بالثيمة العامة للرواية: ثيمة التآكل والبقاء. في عالم يبدو وكأنه يسير نحو التفسخ، تتشبث الشخصيات بالأماكن التي تمنحها شيئًا من الثبات. الزورخانة، رغم هشاشتها، تمنح بعض الشخصيات لحظة صدق مع الجسد، مع التعب، وربما مع الذاكرة. ممارسة التمارين فيها ليست فعلًا رياضيًا فحسب، بل طقسًا وجوديًا يعيد للإنسان صلته بالأرض وبنفسه.

 إنّ مشهد الزورخانة في القربان لا يمثل فقط محطة سردية عابرة، بل يكشف عن البنية العميقة للرواية التي تمزج بين وصف الواقع وتحليل النفس، بين اليومي العابر والدلالة الرمزية. وبهذا، يبرهن الكاتب على قدرته الفذّة في تحويل أبسط الأماكن إلى مرايا كاشفة لحياة بأكملها.

***

فؤاد الجشي

 

قراءة نقدية لقصيدة "حبُّ امتناعٍ لامتناع"

 للشاعر جوادغلوم 

***

 المقدمة: بين الحب والخذلان... الوطن في مرآة القصيدة

تُعدّ قصيدة "حبّ امتناعٍ لامتناع" نموذجًا شعريًا مركبًا يدمج بين البعد الشخصي والسياسي، حيث تتزايد التساؤلات حول الانتماء، والخذلان، والهوية الوطنية التي تُهدد تحت وطأة خطاب سلطوي وطائفي يعيد نفسه من خلال الإقصاء بدلاً من المشاركة. لا يرسم الشاعر وطناً مثالياً، بل يضع القارئ أمام وطن مأزوم يكافح تحت سيطرة قوى الهيمنة، حيث تُفرغ المفاهيم الثورية من محتواها لصالح مشاريع طائفية تتجاهل قيم العدالة والحرية. بهذا الصدد، تتجاوز القصيدة كونها مجرد تعبير عاطفي لتصبح أداة مقاومة رمزية تعيد مساءلة العلاقة بين المواطن والوطن، وتكشف تواطؤ السلطة في تشويه الهويات الجمعية.

في هذا المشهد المعقد، يصوغ الشاعر جواد غلوم لوحة شعرية مليئة بالتوتر الذي يجمع بين العاطفي والسياسي، حيث تظهر علاقة غامضة بين الفرد والوطن متنازعة بين الولاء والخداع. يتأرجح النص بين آمال التغيير والحلم بالعدالة وبين انهيار هذه الآمال بفعل الفساد وعدم السعي للتجديد. تبدو الذات الشاعرة محاصرة بين ولائها العاطفي لوطن يُصارع الأزمات وصدمات الواقع السياسي الذي يعيق الطموحات.

يظهر الوطن في هذا النص ككيان متناقض يجمع بين الحب والاغتصاب، الوجود والغياب. يطلب الشعر لكنه يمنع الاقتراب، يغني للحب ويبقى صامتاً إزاء الجراح. يتغلغل هذا التوتر العاطفي في بنية القصيدة وإيقاعها، حيث يمنح اختيار البحر الخفيف مرونة موسيقية تتناغم مع تقلب المشاعر، لتصبح كل تفعيلة نبضًا متوتراً يحمل في داخله شوقاً مكسوراً وانتظاراً محفوفاً بالقلق.

تتميز القصيدة ببنية لغوية مُحكَمة وأسلوب شعري رقيق يعكس براعة الشاعر في كتابة الشعر العمودي والنثري، مؤدية صوتًا فريدًا يُعبر عن عمق الأزمة السياسية والاجتماعية عبر استعارات الحب والخذلان. هنا لا يُمثل الحب رومانسية عابرة، بل ارتباطاً عميقاً بالوطن، في حين يرمز الامتناع إلى الخذلان السياسي، مما يجعل القصيدة صرخة شعرية تعبر عن آلام أمة تبحث عن طريقها وسط وعودٍ فارغة.

....................

حبُّ امتناعٍ لامتناع

بقلم: جواد غلوم

ما الضـيـرُ لـو كانـت "إذا" جازمة

وأيـنعـت " لـو" خـضـرة دائـمــة

وحـقّـــقـتْ " ليـت " لـقـانـا مـعـاً

فــي لــيـلــةٍ سـاخـــنـةٍ حـالـــمــة

مـا الضيـرُ لـو أحـلامـنا أعشبـتْ

مــزرعــة مـن الرؤى الـهـائمــة

ما الضـيـرُ لــو قـاسيـتـي أيقـظت

فــتـوّتــي الــراقــدةَ الــنــائــمـــة

لــكــنها تــهــزأ مــن شــيــبـــتـي

يا ويــحها مــن وغــدةٍ ظــالــمــة

تريــدنــي أغــزلُ شِــعري لـهــا

ســجّــادة عــجــمــيّــة ناعـــمــة

ودون ان أقــرب مــن قـلــبــهــا

فـالقــرب مـنـهـا وصمـة آثــمــة

يا جذوتي تـمـرح فـي داخـلــي

بـيـن دمــائي فـــورة عــارمـــة

ولــم أذق مــن شـهــدها لـعـقــةً

كـأن روحي فـي الهوى صائمة

مـبـهـمـةٌ، غـامـضـةٌ روحُـهــا

أحــارُ مـن صـورتـهـا الغـائمة

فـمـرّةً تـغـضـب مـثـل الســمـا

عــاصــفـةً مـغـبـرّةً صـارمــة

ومـــرَّة تــجــيــئــني غــفْــلــةً

بــاكــيـةً، آســفــةً ، نــادمـــة

وتــارةً يــجــرفــنـي ســيـلُــها

تــقـذفـنـي ريــاحُهــا الهـائـمـة

وبيـن هـذي الحـال او غـيرها

أتــوهُ فــي ألــوانِــهـا القــاتمة

يا طـبعـها الاغرب مـن ريحها

لــيــس لــهـا إقــامـةٌ دائــمــة

قــد نـال مــنِّي كِــبَـرٌ هـــدّني

فــلا ارى واصـلــةً راحـمــة

صديــقــتي مـجـنـونـةٌ كـلُّــها

تـثقل صدري صخـرة جاثمة

***

تحليل الأبيات الرئيسية في النص:

عتبة العنوان:

"حبّ امتناعٍ لامتناع": مفارقة تبدأ من العنوان وتعمّق الأزمة

يجسّد عنوان القصيدة "حبّ امتناعٍ لامتناع" توتراً تركيبياً ينكشف من اللحظة الأولى عبر ازدواجية المعنى وتفكك العلاقة بين الذات والمجتمع، وبين الفرد والوطن. تكرار كلمة "امتناع" في العنوان لا يُساهم فقط في إيقاع لغوي، بل يكشف عن دلالات ثقيلة لعلاقة معطّلة يغلب عليها التمنّع أكثر من التحقق. تبدأ كلمة "حبّ" بمدخل متفائل، لكنها تفقد بهجتها حين تقترن "بامتناع"، حيث يصبح الحب مجرد شغف مُحبط وتوقعات خائبة وانتظار بلا تحقق.

البنية الكاملة "حبّ امتناعٍ لامتناع" تعكس ليس مجرد تمنّع فردي نابع من معوقات شخصية، ولكن تشير أيضاً إلى عائق جماعي أكثر عمقاً يمثل نظاماً مانعاً. يشير هذا إلى سلطة تُكرّس الانفصال وتُجهِض الحُب في مهده. الامتناع الأول يمكن أن يكون تردداً أمام وطن لا يبادل العطاء، بينما الامتناع الثاني يكشف أزمة أكبر مفروضة من سلطة تُحجم الانتماء، وتستبعد من لا يدخل ضمن حدودها.

في هذا السياق، يُقرأ العنوان ليس كموضوع غرامي فقط، بل كعتبة شعرية ترمز إلى وطن يُغنّى له بينما لا يسمع إليه، يُحب ويُقمع في الوقت نفسه، يُرجى الاقتراب منه وفي المقابل يُطرد المحبّون. بهذا المعنى، يتحول "حبّ امتناعٍ لامتناع" إلى رمز لحالة الانفصام بين الدولة ومواطنيها وبين الحلم الوطني أدوات التضليل المؤسسي باسم الديمقراطية.

هذا العنوان لا يفتح باب القصيدة فحسب، بل يُعرّي تناقضات مرحلة تاريخية تُراوح بين الرغبة في التغيير وصرامة الواقع الذي يعيد إنتاج الامتناع بطرق مختلفة.

ثنائية المرأة / الوطن التحليل:

يمزج الشاعر بين العلاقة العاطفية والحالة الوطنية، إذ تتداخل صورة الحبيبة مع الوطن بوصفه كيانًا ملتبسًا بين الحنان والخذلان. تتجلى علاقة الحب هنا في تذبذب دائم؛ فتارة يبدو الوطن كحضن آمن، وتارة أخرى كمصدر للألم والتغريب. هذا التداخل يشي بتجربة مركّبة يعيشها الفرد داخل نظام غير مستقر سياسيًا أو اجتماعيًا.

الرموز اللغوية: "إذا، لو، ليت"

ما الضير لـو كانـت "إذا" جازمة

وأيـنعـت " لـو" خـضـرة دائـمــة

وحـقّـــقـتْ " ليـت " لـقـانـا مـعـاً

البيت الأول من قصيدة "حب امتناع لامتناع" يعكس الرمزية العميقة لحالة الشاعر الداخلية والتصارع الوجداني الذي يعيشه. في هذا البيت، يتساءل الشاعر عن الأثر المحتمل لو أن أدوات الشرط في اللغة العربية كالـ «إذا"، "لو"، و"ليت" كانت ذات تأثير أكبر على الواقع.

في العبارة "ما الضير لو كانت 'إذا' جازمة"، يبحث الشاعر في إمكانيات تحقيق الشرط بثبات عبر أداة "إذا"، التي عادةً ما تشير إلى شرط غير محدد. هنا، يتمنى الشاعر لو كانت تحقق ما يُرجى، مُظهرًا رغبته في قدرة أكبر على التأثير في الواقع وتغييره.

أما عبارة "وأينعت 'لو' خضرة دائمة"، ففيها تنعكس أمنيات الشاعر بأن تتحول الفرضيات إلى واقع مستمر من النمو والخصوبة. هذا يشير إلى رغبة دائمة في التحسين والازدهار، في إطار الطموح لتحقيق رفاهية مستدامة.

ولدى قوله "وحققت 'ليت' لقانا معاً"، يُعبر عن الأمل في أن التمني يتحقق، لكي يجتمع مع الوطن أو في حالة من الوحدة القوية. وهذا اللقاء يعبر عن التئام الرغبة مع الحقيقة، وعود الشعب إلى النضال من أجل وطن حرّ ومزدهر.

الرمز المكاني: "ليلة ساخنة حالمة "التحليل:

تُقدّم عبارة "ليلة ساخنة حالمة" فضاءً زمنيًا مشبعًا بالإيحاءات: تُشير إلى لحظة انتظار أو توقٍ إلى التغيير المنشود، تتداخل فيها التطلعات مع الحنين إلى مستقبل يتجاوز الجمود. هذه الليلة، رغم أنها توحي بإمكانية تحوّل قادم، تبقى حلمًا عابرًا لا يتجسد في واقع ملموس، مما يُبرز تعثّر الإصلاح أمام عراقيل بنيوية.

"ما الضيرُ لو أحلامُنا أعشبتْ مزرعةً من الرؤى الهائمة؟"

في هذا البيت، يستحضر الشاعر صورة خصبة مفعمة بالإمكان، حيث تُشبّه الأحلام المزمنة بربيع مفاجئ يعشب في أرض رمزية هي "مزرعة من الرؤى الهائمة".

 تُوحي كلمة "أعشبت" بتجدّد الآمال وسط مناخ قاحل، لكن اقترانها بـ"الرؤى الهائمة" يخلخل هذا الرجاء؛ فالرؤى هنا بلا وجهة أو أفق ثابت.

 تتمازج في الصورة الحلمية لحظة من الحنين إلى إمكان التغيير مع إدراك خفي لصعوبة تجسيده.

 هكذا يُفلت الحلم من القبض عليه، ويتحوّل إلى صورة مترددة بين خصبٍ رمزي وسراب سياسي، مما يعكس طبيعة الانتظار الوطني المعلّق بين الرغبة والإحباط.

الفتوة النائمة / الصحوة المؤجلة التحليل:

 في البيت "ما الضير لو قاسيتِ أيقظتْ فتوتي الراقدة النائمة"، تتجلى صورة مركبة لفتوة جمعية، ترمز إلى وعي تغييري حيوي كان يومًا ما نابضًا في وجدان الجماهير، لكنه رقد بفعل خيبات متراكمة ونظام طائفي قاهر. المخاطَبة في "لو قاسيتِ" تُحيل إلى القوى التغييرية المحتملة، التي لو قاومت وقاست وتجاوزت التردد، لأيقظت تلك الفتوة الغافية. هكذا تتوزع الصورة على مستويات متعددة: الوطن الذي خذل، والنظام الذي قمع، والقوى التي ترددت، لتكون الفتوة رمزًا لطاقات شعبية مكبوتة تنتظر من يوقظها.

"لكنها تهزأ من شيبتي" التحليل:

يشعر الشاعر بأن رموز الوطن - أو الجهات الرسمية - لا تُقدّر مسيرته الطويلة وتجربته، بل تستخف بها. فـ"الشيب" لا يمثل مجرد كِبَرٍ في السن، بل تجربة ومعرفة نابعة من الانخراط في مسيرة المطالبة بالتغيير. تجاهل هذه التجربة يرمز إلى إقصاء رموز النضج من دوائر التأثير.

"يا ويحها من وغدةٍ ظالمة" التحليل:

تُجسّد "الوغدة الظالمة" القوى التي تحبط محاولات الإصلاح، سواء كانت    سلطات أو بنى تقليدية تُمانع التغيير. الأسى الذي يحمله التعبير ينبع من شعور بالعجز أمام استمرار التجاهل والتهميش.

"تريدني أغزل شعري لها سجادة عجميّة ناعمة" التحليل:

 يرفض الشاعر تزييف مشاعره وتحويل صوته الشعري إلى أداة تجميل للواقع القائم. فـ"السجادة العجميّة الناعمة" ترمز إلى الخطاب الأدبي المزخرف الذي يُطلب منه خدمة أجندة رسمية، دون التطرق إلى جوهر الإشكالات الوطنية.

ودون أن أقرُبَ من قلبها فالقربُ منها وصمةٌ آثمة التحليل:

في هذين البيتين، يتّخذ الشاعر موقفًا أخلاقيًا صارمًا، إذ ينأى بنفسه عن كيانٍ فقد براءته. فـ"القلب" لا يُفهم هنا كرمز للحب، بل كوطن دنّسته أدوات التضليل المؤسسي باسم الديمقراطية.

الحبيبة، التي كانت رمزًا للحلم والانتماء، تتحوّل إلى استعارة لكيان مشوه اختطفته قوى التزييف التي تحترف إعادة تشكيل الوعي تحت عباءة الديمقراطية. لم يعد الاقتراب منها انسجامًا مع الحلم، بل انخراطًا في وهمٍ مُنمّق، ومسايرة لخطابٍ يُعيد إنتاج الغياب كأنه حضور

وهكذا، يعلن الشاعر تمرده الأخلاقي والجمالي؛ رافضًا أن يكون الشعر أداة تجميل لسلطة فاسدة، بل يصرّ على أن تظل الكلمة منحازة للناس، مقاومة للخداع، شاهدة على الحقيقة

"يا جذوتي تمرح في داخلي بين دمائي فورة عارمة" التحليل:

 "الجذوة" هنا رمز للحيوية الفكرية التي لا تنطفئ رغم الإحباط. فهي تعبير عن تمسك داخلي بأمل التغيير أو الإصلاح، وإن ظلّ مؤجلًا أو مكتومًا. "تمرَح في داخلي" تؤكد الحضور المستمر لهذه الفكرة، حتى في ظل واقع معتم.

"ولم أذق من شهدها لعقةً" التحليل:

يشير الشاعر إلى أن التطلعات الكبرى لم تُثمر، فـ"الشهد"، رمز الإنجاز الوطني أو العدالة، ظل بعيد المنال. هذا الإحساس بالحرمان يُعبّر عن فجوة بين الحلم والواقع.

"كأن روحي في الهوى صائمة" التحليل:

الصيام هنا رمزي، يُشير إلى حالة انقطاع وجداني عن الفرح الوطني أو الشعور بالانتماء الحقيقي. فالشاعر يمرّ بحالة امتناع لا عن الحب العاطفي فحسب، بل عن المشاركة الكاملة في وطن لا يحقق طموحات مواطنيه.

"مبهمةٌ، غامضةٌ روحُها" التحليل:

يؤكد الشاعر أن هوية الوطن أصبحت غير مفهومة، وكأنها فقدت بوصلتها. الغموض لا ينبع من غياب المعلومات، بل من التناقضات التي تُحيط بالخطاب الرسمي والممارسة اليومية، ما يُبقي المواطن في حيرة مستمرة.

"أحــارُ مـن صـورتـهـا الغـائمة"

 هنا يبدأ الشاعر بالتيه والتردد، فـ"الصورة الغائمة" تشير إلى وطن لم يعد واضح الملامح، وطن سُلبت منه رؤيته النقية بفعل الكيان المسيطر. الغموض يعكس واقعًا مشوّشًا يفرض الحيرة على من ينتمي إليه.

"فـمـرّةً تـغـضـب مـثـل الســمـا / عــاصــفـةً مـغـبـرّةً صـارمــة"

 الغضب هنا لا يبدو غضبًا موجهًا للعدو، بل غضب داخلي، قاسٍ، عشوائي. وكأن الوطن، تحت سيطرة الكيان، ينقلب على أبنائه، فيكون صارمًا في قمعهم مغبرًا في صورته، عاصفًا بلا عدالة.

"ومـــرَّة تــجــيــئــني غــفْــلــةً / بــاكــيـةً ، آســفــةً ، نــادمـــة"

 هنا يظهر الوجه الآخر للوطن/السلطة، الاعتذار الماكر أو الزائف ربما، وكأنه تذبذب مبرمج بين القسوة والتودد. وقد يكون هذا التصرف تكتيكًا سياسيًا يُستعمل لإخماد الغضب الشعبي أو الالتفاف على المطالب الحقيقية.

"وتــارةً يــجــرفــنـي ســيـلُــها / تــقـذفـنـي ريــاحُهــا الهـائـمـة"

 الوطن هنا لم يعد ثابتًا، بل أصبح قوة قاهرة تجرف وتطيح وتتيه، وكأن المواطن لا يستطيع أن يجد له أرضًا مستقرة داخل وطنه، فالسلطة العابثة حولته إلى مكان طارد، متقلب، لا يُعتمد عليه.

"وبيـن هـذي الحـال او غـيرها / أتــوهُ فــي ألــوانِــهـا القــاتمة"

 أصبح الوطن فضاءً للتشويش السياسي والنفسي، لا نور فيه ولا أمل. الألوان القاتمة رمز للظلم، للقهر، لفقدان المعنى في حياة سياسية واجتماعية فقدت مشروعيتها.

"ياطـبعـها الأغرب مـن ريحها / لــيــس لــهـا إقــامـةٌ دائــمــة"

 تُسند الصفات هنا للحبيبة/الوطن: مزاجها متقلّب، غير مستقر، عبثي. وهذا تلميح إلى سلطة متلونة لا تلتزم بثوابت أو مبادئ، مما يجعل الانتماء الوطني نفسه موضع تساؤل وألم.

"قــد نـال مــنِّي كِــبَـرٌ هـــدّني / فــلا ارى واصـلــةً راحـمــة"

 الزمن الذي مرّ بالشاعر/الجماعة جعله متعبًا، محطّمًا، دون أن تلوح بارقة أمل. و"لا أرى واصلة راحمة" تعني أن لا يد تمتد إليه بالعون من هذا الوطن المختطف.

"صديــقــتي مـجـنـونـةٌ كـلُّــها / تـثقل صدري صخـرة جاثمة"

 في هذا البيت الذروة، تتحول الحبيبة/الوطن إلى "صديقة مجنونة" – وصف يدل على الخذلان العاطفي والسياسي الكامل. هي وطن/صديقة تثقل الكاهل، تجرح بدل أن تداوي، تصير عبئًا بدل أن تكون مأوى.

الخلاصة:

في هذه القراءة، الحبيبة ترمز إلى الوطن الذي أصبح أسيرًا لكيان متسلّط، فاسد، متقلب، لا يُمكن الوثوق به. لا يرى الشاعر الوطن ذاته كعدو، بل يدينه بوصفه واقعًا مختطفًا، ويحمّل السلطة أو الكيان المسيطر المسؤولية عن هذا الانهيار العاطفي والوطني.

 القصيدة هنا تتحول من خطاب وجداني إلى وثيقة مقاومة رمزية، تعبر عن وجع جمعي أكثر مما تعبر عن أزمة ذاتية، وترفض أي تواطؤ مع الزيف.

البعد السياسي في "حبّ امتناعٍ لامتناع"

تكشف قصيدة "حبّ امتناعٍ لامتناع" عن بنية نقدية حادة للواقع السياسي، من خلال لغة مشبعة بالتوترات الرمزية والانزياحات الدلالية التي تعكس تعقيد اللحظة التاريخية التي يعيشها الشاعر. في هذا النص، لا يظهر الوطن كمعطى ثابت، بل كمجال محتكر من قبل قوى سلطوية طائفية تسعى لإعادة تشكيل الهوية الوطنية على أسس إقصائية ومعادية للطائفية، في مفارقة تفضح نفاق الخطاب السائد.

سلطة الهيمنة الطائفية:

تتمثل إحدى أبرز الإشارات السياسية في توظيف الشاعر للرموز الطائفية كأدوات للهيمنة. السلطة في القصيدة لا تتجلى فقط في افتقارها إلى العدالة الاجتماعية، بل كقوة تؤدلج الطائفية وتعيد إنتاجه بما يخدم خطابها السياسي، في تجاهل تام للبعد الثقافي والفني والوطني الجامع. بهذا، تصبح الطائفية أداة للشرذمة وتقويضًا لأي مشروع وطني جامع.

الركود التاريخي و"الفتوة الراقدة":

يرمز تعبير "فتوتي الراقدة النائمة" إلى لحظة من القوة الثورية المؤجلة أو المعطلة. إنها ليست فقط طاقة شبابية تم إخمادها، بل تعبير عن جمود سياسي واجتماعي طال أمده، نتيجة سياسات ممنهجة لتغييب الوعي النقدي وقمع الحركات التغييرية. يقترن هذا المعنى بصورة وطن مغيّب، مُكبّل بقيود الخطاب الطائفي الموجّه، الذي يُقنّع فشل المشروع السياسي بخطابات التوبة الزائفة.

اغتراب الوطن وخيانة الذاكرة:

يتجسد الوطن في النص بوصفه كيانًا مأزومًا، ليس فقط بسبب افتقاره إلى الديمقراطية الحقيقية، بل نتيجة تفكك المعنى الأخلاقي والوجداني الذي كان يربط الأفراد به. تتحول العلاقة بين الشاعر والوطن إلى علاقة مشروخة، محمّلة بالخذلان، حيث تتحول رموز الانتماء إلى أعباء نفسية ثقيلة. يشير ذلك إلى تآكل العقد الوطني وانفصاله عن جذوره الثورية الأصلية لصالح ولاءات طائفية موجهة.

دعوة لتغيير رمزي:

القصيدة لا تكتفي بتوصيف الانهيار، بل تزرع بين سطورها رغبة في التغيير الرمزي، حيث يتم استدعاء اللغة الشعرية كأداة لاستنهاض الوعي الجمعي واستعادة مشروع وطني جديد، يتجاوز منطق الهيمنة، ويعيد الاعتبار لفكرة الوطن كمجال للعدالة، والحرية، والتعددية.

إعادة إنتاج الخطاب الوطني في قصيدة "حبّ امتناعٍ لامتناع"

في قصيدة "حبّ امتناعٍ لامتناع"، يُعيد الشاعر تشكيل صورة وطنية مركّبة تتقاطع فيها الذكريات الثورية مع الانكسارات السياسية، ويتحوّل الوطن من فضاء للانتماء إلى كيان مُشوَّه بفعل التسلّط. هذا التحوّل يتم عبر لغة رمزية تمزج بين الحنين الفردي والخطاب الجماعي، ليغدو النص فضاءً تأويليًا يقاوم السائد بهدوء، دون صراخ مباشر.

أدوات التمني كوسائط مقاومة: تفكيك الثبات وبناء الحلم

تُستخدم أدوات التمني مثل "لو"، "إذا"، و"ليت" ليس بوصفها أدوات تركيبية، بل كعلامات على حالة وطنية معلّقة بين الأمل والانكسار. يُحوّلها الشاعر إلى إشارات على تأجيل الحلم الثوري، ويُقابلها بواقع سياسي جامد، مما يعكس الانقسام بين ما يُطمح إليه وما يُفرض قسرًا. التمني هنا لا يعبّر عن رغبة رومانسية، بل عن اشتقاق سياسي يحمل بذور تمرّد مؤجل.

اللغة كفعل مقاومة: خطاب لا يصرخ بل يهمس

يُعيد الشاعر بناء اللغة لتكون أداة تفكيك لا مواجهة مباشرة. إنه لا يهاجم السلطة صراحة، بل يُعرّي هشاشتها عبر كشف الفجوة بين الحلم والتحقّق. تتحوّل اللغة في القصيدة إلى شكل من أشكال "المقاومة الصامتة"، حيث يُعاد تشكيل الوعي الجمعي من خلال الهمس لا الضجيج، عبر تلميحات مشفّرة تتحدى الخطاب الرسمي.

التخييل السياسي والرفض الرمزي: الوطن كاحتمال مغيّب

يتحوّل الحلم بوطن بديل في القصيدة إلى شكل من أشكال التخييل السياسي؛ لا بوصفه مشروعًا جاهزًا، بل كأفق نقيّ يتجاوز التشويه السلطوي. بهذه الطريقة، لا يدّعي الشاعر تقديم خلاص مباشر، بل يكشف المسافة بين الوطن المأمول والوطن الموجود، ويُبقي الباب مفتوحًا أمام تأويلات تتجاوز الاستكانة.

الحيّز المكاني كفضاء مشحون: من الجغرافيا إلى الذاكرة

لا يظهر المكان في النص كحيّز جغرافي محايد، بل كفضاء دلالي يُحمّل بتوترات وجدانية وسياسية. عبارة مثل "ليلة ساخنة حالمة" لا تصف لحظة زمنية فحسب، بل تُلمّح إلى حالة وطنية مقيّدة تحت سطوة الجمود. المكان هنا يُشفّر التناقضات بين الحركة الثورية الكامنة والتوقف القمعي المفروض، ويُعيد إنتاج مشهد الخذلان في هيئة رمزية.

اللغة كأفق للتحوّل الوطني الهادئ

من خلال هذه القصيدة، لا يكتفي الشاعر بمواجهة النظام، بل يُنتج خطابًا بديلًا يُعيد تشكيل العلاقة بين الذات والوطن، بين اللغة والمقاومة، بين الحلم والخذلان. فتصبح اللغة أداة تفكيك وتحريض داخلي، تُمهّد لوعي جديد يتكوّن بصمت، لكنه يحمل إمكانية التحوّل في لحظة نضوج تاريخية.

الخاتمة

من خلال هذه القراءة المتعمقة، تتناول قصيدة "حبُّ امتناعٍ لامتناع" العلاقة بين الشاعر والوطن ضمن سياق من التناقضات المستمرة. حيث يظهر الوطن كالحبيبة النقية التي يحتفظ فيها الشاعر بأحلامه وآماله للانتفاضة، إلا أن النص يوضح كيف يتم استهلاك هذه الصورة بواسطة كيان فاسد يساهم في تزوير الهوية الوطنية. تعتمد القصيدة على أدوات تمنٍّ مثل "إذا" و"لو" و"ليت"، مما يسلط الضوء على حالة الانتظار الدائمة للتغير نحو نظام ديمقراطي حقيقي. إذ إن الوطن، الذي كان ينبغي أن يكون رمزًا للحياة والعدالة الاجتماعية، يتحول إلى واقع مظلم يقع تحت هيمنة قوى تحيد الهوية النضالية.

يتجسد الصراع بين الماضي النضالي والحاضر الجامد من خلال صورة "الشيب"، التي تُستخدم للسخرية، مما يعكس فقدان الوطن ذاكرته الثورية وتراجع قيمه التقدمية. كما أن الشاعر يراوغ بالاستعارات والانزياحات الدلالية ليصوّر وطنًا غامضًا ومتناقضًا، حيث تتجاوز معاني الكلمات حدّها المعتاد، ما يعمّق من فهم النص ويشحنه بتوتر داخلي يعبّر عن صراع مستمر بين الأمل والخذلان. استعارات مثل "الجذوة" و**"صخرة جاثمة"** تبني صورة للوطن كمكان مليء بالتحديات، يجمع بين الفرح والألم، بين الثورة والقمع.

ويظهر هذا التوتر جليًا في أحد مقاطع القصيدة، حيث يكشف الشاعر عن حالة من الضياع والتشظي الوجداني والسياسي، تتجلى في العلاقة المربكة مع "الحبيبة" التي ترمز بوضوح إلى وطنٍ مسلوب، تهيمن عليه قوى فاسدة ومتقلبة. فـ"الصورة الغائمة" تفتح على واقع غامض الهوية، غير مستقر، يعيش فيه الناس في حيرة دائمة وتقلّب دائم.

الوطن، في هذه الصورة، لم يعد كيانًا ثابتًا حاضنًا، بل يتحوّل إلى قوة متناقضة: تارةً قاسية، "عاصفةً مغبّرةً صارمة"، وتارةً مدّعية للندم والأسف، تحاكي خطاب السلطة حين تتنصّل من العدالة الاجتماعية ثم تتذرّع بالتوبة الزائفة.

يتنقّل الشاعر بين فقدان العدل من جهة، وجبروتٍ سياسي مموّه بلغة المصالحة من جهة أخرى، ليجد نفسه محاطًا "بألوان قاتمة" لا تفضي إلى رجاء. فالوطن، وقد اختطفته قوى متقلّبة الطبع، بات مكانًا للتيه، لا للاستقرار، كما يُظهر البيت: "ليس لها إقامة دائمة". وهكذا يتعمّق الإحساس بانهيار الرابط الأخلاقي والوجداني بين الشاعر و"الوطن"، إذ لم تعد العلاقة علاقة انتماء، بل عبء نفسي ثقيل: "تثقل صدري صخرة جاثمة".

في نهاية المطاف، يُعتبر النص شهادة نقدية غنية تستنهض الوعي الوطني، كاشفة عن الفجوة العميقة بين الأمنيات الجذرية والواقع الخاضع لهيمنة قوى زرعت الفساد والشك داخل البنية الوطنية. إن القصيدة، بلغة شعرية تنبض بالتوتر والمفارقة، تقدّم دعوة لإعادة الاعتبار للأدب كمجال مقاومة، وضرورة استعادة هوية وطنية أصيلة، تحيا فيها روح الثورة والعدالة.

***

سهيل الزهاوي - ناقد

 

قراءة نقدية في قصيدة "ولا هكذا وجع"! للشاعرة الجزائرية آمال زكريا

***

ولا هكذا وجع!

آمال زكريا / الجزائر

كهاوية تمتطي الخيال

مرتوية الغنج

كل بنات جيلي على قدم وساق تترقب

أبي يطرٍز سروج الخيل

وأي الرشمات والخامات سيتفنن بهم في سرج مدللته!

في سري ويقيني

لن يقتني إلا أسلاك الذهب والزمرد والمرجان

وبريش النعام يميٍزه

بطراز عثماني أصيل

فصنع لي تابوت وشيّع أحلامي

لحظتها فقط

وقفت صوب مرآة الذاكرة

ليتضح يتمي المبكر!

مذ آمنت بالحب

منحته قلبي وكياني

وضعني بزنزانة موحشة

حتى يريني النور

أخرجني لموكب يزف فيه ثلاث حوريات

هو يتباهى بحسنهن

وأنا أدوخ في دوار الحضرة

ودهشة تبتلع شظايا لغتي

كل اللآلئ التي أودعتها في حصّالته

وكل رغباتي المشتهاة التي أجلّها

نثرها على جلدهن

حتى السماء خائنة تدوي بالفرح

ليهطلني فيض من دمع لا يجف

كان الشعور غريب

أخفي مأساتي كأم عازبة في جوفها عار ينبض دون هوية

ألم لم يشهده كياني

كلحد ضمني كسر أضلاع هيكلي

أمي الأرض بعنف تحاصرني شامتة

هذا أباك وحبيبك

ذاك رحل

والآخر وأد نبضك

لم أقل ليتني كنت ترابا لكن تمنيت لو أنني

لم أشهق الحياة أبدا...

***

القراءة النقدية:

حين قرأت قصيدة /و لا هكذا وجع!/ للشاعرة آمال زكريا، كنت كمن يطأ عتبة عالم مليء بالأشواك والآلام المستعصية. القصيدة ليست مجرد كلمات مرصوفة بعناية، بل هي حوار داخلي طويل مع الذات، ونداء صامت يمر عبر الزمن ليحكي لنا عن القهر الذي يعتصر القلب، والحزن الذي يطفو على سطح الذاكرة ليغرق كل شيء في ظلاله. في قلب هذه القصيدة تكمن معركة مريرة بين الحب الذي كان يُفترض أن يكون مخلصًا، وبين الواقع الذي لا يعترف بالأحلام، ليُجسد الوجع الذي يتشكل من مزيج معقد من العواطف والأحلام الضائعة.

1. الخيال كهاوية: البداية التي تُنبئ بالخسارة

/كهاوية تمتطي الخيال/، عبارة بسيطة، لكنها في غاية الشدة في رمزيّتها. فالخيال هنا ليس مجرد هروب من الواقع، بل هو الحفرة التي تبتلع الأحلام ببطء. الخيال يُشبه البحر العميق، عميق بما يكفي ليغري العقل بمتعة السباحة فيه، لكنه يحمل في طياته غرقًا حتميًا. وهذه هي مفارقة القصيدة: أن الخيال كان أداة السقوط والضياع، كأن الشاعرة لم تكن تعلم أن عالمها المثالي سيتحطم في لحظة من الوعي الثقيل.

2. /صنع لي تابوتًا وشيّع أحلامي/: من حلم الرفاهية إلى واقع المأساة

الشاعرة تبدأ حلمها بحياة فاخرة، مثالية، يغلفها الذهب والزمرد، في أجواء تشبه الأساطير. /أبي يطرز سروج الخيل/، ليس مجرد مشهد من الطفولة، بل هو استعارة للطمأنينة التي كانت تملأ قلب الطفلة التي كانت تظن أن والدها سيحميها من قسوة العالم. ولكن تأتي اللحظة التي يتحول فيها هذا الأمان إلى نوع آخر من العزلة، لحظة من الخيبة الكبرى عندما تُدرك أن /التابوت/ الذي صنعه والدها ليس لدفن أجسادهم، بل لدفن أحلامهم. التابوت هنا رمز للفخ الذي يدور حول الحلم المثالي ويخنقه. إن الحلم الجميل يتحول إلى عبءٍ ثقيل؛ هو إعلان عن نهاية حقبةٍ كانت مليئة بالأمل.

3. /زنزانة موحشة/ و/الخيانة المحجوبة/

في اللحظة التي تخاطب فيها الشاعرة نفسها قائلة /وضعني في زنزانة موحشة حتى يريني النور/، نرى كيف يختلط الحلم بالواقع، وكيف يصبح الحب في جوهره سجنًا نفسيًا. الشاعرة لا ترى في الحب أملًا، بل قيدًا يتجسد في زنزانة تجعلها ترى النور ولكن من خلف القضبان، كما لو كانت تراقب الضوء من نافذة ضيقة جدًا. هناك شيء أكثر ألمًا في هذه الصورة: إنه شعور بالتضحية الخالدة، أن الحب الذي اعتقدت فيه كان مجرد سراب يورطها في غياهب الحزن.

4. ألم الحب: بين التضحيات والخيانة

نحن هنا أمام حالة من الخيانة العاطفية التي لا تنفصل عن الخيانة الذاتية. الشاعرة تضع نفسها في موقع الضحية، لكن تذكر أنها /منحت قلبها وكيانها/ للحب، وهو ما يعمق الألم بشكل أكبر. لأن الحب، الذي كان يجب أن يكون ملاذًا، أصبح هو نفسه الجلاد. صورة /الحوريات/ في الموكب تضع الشاعرة في موقف المراقب العاجز الذي يرى الآخرين يعيشون في الجمال والنقاء الذي كان من المفترض أن يكون له، بينما هي غارقة في حالة من الاضطراب والدوار. الحوريات، كرموز للجمال المثالي، لا تُمثل فقط الطموحات الضائعة، بل هي في الواقع التذكير بالحلم الذي كانت الشاعرة تأمل في أن تعيشه.

5. من الفقد إلى العزلة: مأساة الأنثى في قلب المجتمع

/أخفي مأساتي كأم عازبة في جوفها عار ينبض دون هوية/، هي صورة تراجيدية تنم عن وحدة شديدة لا تقتصر فقط على الخيانة العاطفية، بل تتعداها إلى ألم الانتماء. هنا لا تتحدث الشاعرة عن ذاتها فقط كضحية لفقدان الحب، بل تقدم نفسها كرمز للمرأة التي تتعذب في صمت داخل بنية اجتماعية لا تتفهم معاناتها. العار الذي تحمله في قلبها ليس فقط ناتجًا عن خيانة الحب، بل هو مرآة لمجتمع يضع عليها عبئًا إضافيًا: عبء الهوية، والمكان الذي يُفترض أن تكون فيه، و/الجسد العاري/ الذي لا ينتمي إلى أي شيء حقيقي أو ثابت.

6. /السماء خائنة/ و/فيض الدموع/: الفقد الذي لا يُغسل

ثم تأتي /السماء الخائنة/ التي /تدوي بالفرح/، وكأن الكون كله يتحول إلى مصدر للخيانة. السماء التي كانت تُعتبر رمزًا للأمل والرحمة، تتبدل هنا إلى مصدر آخر للحزن. الصراع في هذه اللحظة ليس فقط مع الشريك الذي خذلها، بل مع الكون نفسه الذي كان من المفترض أن يحتضنها.

الفيض من الدموع الذي لا يجف هو أعمق من مجرد حزن عابر؛ هو مرآة لنزيف روحي دائم لا يجد شفاء. الشاعرة لا تكتفي بالتعبير عن الحزن، بل تُظهر لنا كيف أن هذا الحزن أصبح جزءًا من كيانها، كيف أصبح جزءًا من جلدها وعظمها، وهو ما يجعل الخروج منه مستحيلاً.

7. النهاية: أمنية الفقد التام

وفي النهاية، تُختتم القصيدة بجملةٍ تحمل في طياتها أمنية محبطة: /تمنيت لو أنني لم أشهق الحياة أبدًا/. هذه العبارة تحمل أعمق معاني العزلة والتفكك؛ حيث يصبح الموت أو الفقد هو الحل الوحيد للمعاناة المستمرة. الشاعرة، في لحظة من اليأس الكامل، ترى أن الحياة التي عاشتها لم تمنحها شيئًا سوى الألم. هذه الجملة لا تعكس فقط خيبة الأمل، بل هي إعلان عن فشل الذات في مواجهة الواقع.

خاتمة تأويلية:

هذه القصيدة هي شهادة على فداحة الفقد، ليس فقط في الحب، بل في الوجود ذاته. الشاعرة لا تُحارب الأذى العاطفي فقط، بل تُحارب كونًا برمته لم يمنحها فرصة لتحقيق الذات كما حلمت. في هذا العالم المملوء بالقيود والخيبات، تصبح الذكريات هي الملاذ الوحيد، ولكنها مع مرور الوقت تتحول إلى شيء أشبه بالقيد الذي يلف الروح.

هذه القصيدة تفتح أمامنا أبوابًا واسعة للتأمل في كيفية تأثير الحب على الذات الإنسانية، وكيف يمكن للألم الناتج عن الخيانة والفقد أن يصبح جزءًا لا يتجزأ من الهوية. إنها ليست مجرد قصيدة عن الحب أو عن الخيانة، بل هي رحلة عميقة إلى عمق النفس الإنسانية التي تصارع نفسها، تبحث عن معنى في عالم غارق في الضياع.

في /و لا هكذا وجع!/ نجد أنفسنا أمام قصيدة تتسلل إلى أعماق النفس البشرية بكل تعقيداتها، لتكشف لنا عن جروحٍ لم تلتئم، وأشباحٍ لا تزال تحوم حول الذات في صمتٍ قاتل. الشاعرة آمال زكريا، من خلال كلماتها، تقدم لنا صورة عن النفس الإنسانية وهي تترنح بين الأمل والخذلان، بين الحب الذي يذبحها والذكريات التي تحاصرها.

النفس هنا ليست مجرد موضوع شعري، بل هي كائن معذب، محاصر في دوامة من التناقضات العاطفية. الحب الذي كان في بداية القصيدة يمثل الأمل والرفاهية، يتحول تدريجيًا إلى سجن، إلى نوع من /الزنزانة الموحشة/، وكأن الشاعرة تتحدث عن دائرة لا نهائية من الألم العاطفي الذي لا يجد مفرًا. ما يجعل هذا الصراع النفسي بالغ العمق هو أن الحب هنا ليس فقط خيانة من الآخر، بل هو خيانة من الذات أيضًا. الشاعرة تتنازل عن نفسها من أجل الحب، تُقدم قلبها دون تحفظ، وعندما تجد أنها قد تمزقت، يبدأ الوعي بالذنب الذاتي، /تمنيت لو أنني لم أشهق الحياة أبداً/. هذه الأمنية ليست مجرد رفض للحياة، بل هي تجسيد لصراع أعمق، صراع يخص الهوية والوجود.

الشاعرة تجد نفسها في مواجهة لا فقط مع الحبيب الذي خذلها، بل مع كونٍ أوسع، مع الحياة التي تضعها في معركة مستمرة لا تملك فيها سوى ذكرياتٍ مشوهة وألمٍ دائم. هذه المشاعر لا تقتصر على الخيانة العاطفية فحسب، بل هي خيانة وجودية، حيث تشعر الشاعرة أنها لم تلبِ توقعاتها، وأن حياتها تحولت إلى سلسلة من التضحيات التي لم تثمر عن شيء سوى الخيبة والمرارة. إن ما تعيشه هو حالة من التشظي الداخلي: إنها روح تتكسر على صخور التوقعات المثالية التي كانت تظنها حقيقية.

عندما تقول /أخفي مأساتي كأم عازبة في جوفها عار ينبض دون هوية/، تتحول هذه الكلمات إلى مرآة للنفس البشرية التي تعاني من انفصال عميق بين ما كانت تظنه عن نفسها وما أصبحت عليه في الواقع. هي في حالة صراع مستمر مع الهوية، تتساءل عمن هي، وما الذي جعلها تكون بهذه الصورة المؤلمة. هي في حالة من اللامكان، لا تنتمي إلى الماضي الذي كانت تحلم به، ولا تجد مكانًا لها في المستقبل الذي كان يمكن أن يكون.

وفي النهاية، تظل القصيدة تسبح في بحر من الأسئلة غير المجاب عنها: هل يمكن للإنسان أن يتحرر من هذه القيود النفسية التي يفرضها على نفسه؟ هل يمكن أن يعيد بناء ذاته بعد أن دمرتها الخيبات؟ إن القصيدة، بكل ألمها، تقدم لنا إجابة غائمة، لكنها دعوة لا واعية إلى الوعي الذاتي، إلى ضرورة أن نتوقف يومًا ما، لا لنتوب عن الحب، بل لنعيد تقييم علاقتنا مع أنفسنا ومع أقدارنا.

لذلك، /ولا هكذا وجع!/ ليست مجرد قصيدة عن الحب والخيانة، بل هي مرآة للنفس التي تحاول أن تجد مكانًا لها في عالم لا يعترف دائمًا بحقها في الفرح. إنها صورة عن الإنسان الذي يشعر بالحيرة والتمزق، بين حقيقة ما هو عليه وأمل ما كان يمكن أن يكون. وكأن الشاعرة قد حاولت أن تطهر نفسها من خلال الكتابة، لكن في كل كلمة، في كل صورة، تكمن تلك الذاكرة التي لا تموت، وتلك الجراح التي لا تشفى، والتي تظل تلاحق النفس حتى تصبح جزءًا من هويتها.

***

بقلم: كريم عبد الله – العراق

"ماذا لو" عنوان للمجموعة القصصية كتبها القاص سمير الشريف، صدرت عن وزارة الثقافة الأردنية عام 2021م، تقع في 132 صفحة من القطع المتوسط، وتضم 120 نصًا قصصيًا، تراوحت بين عدة كلمات وعدة أسطر تناولت الواقع الاجتماعي وعيوبه، وكشفت عن الألم السياسي والهم الوطني والقومي والديني.

تميزت القصة القصيرة جدًا بمراعاتها لظروف العصر من حيث ضيق الوقت وعامل السرعة، وسعت إلى إيصال المضمون بشكل سريع وعميق وكثيف للمتلقي، يحمل رسالة وفكرًا فلسفيًّا بأقل عدد من الكلمات، وهذا ما كانت عليه المجموعة القصصية "ماذا لو" للقاص سمير.

خلال قراءتي للمجموعة لاحظتُ شيئًا من موضوع أطروحتي للدكتوراه (جماليات الفوضى ودلالاتها في الشعر العباسي: (أبو نواس، وأبو تمام، والمتنبي) أنموذجًا) -نُوقِشَت في قسم اللغة العربية وآدابها في كلية الآداب في الجامعة الهاشمية، عام 2020م-، وهو ما أسميته بلاغة التشويش -الذي ورد في الفصل الرابع (جماليات بلاغة التشويش ودلالاتها)-، خاصة تقنية المفارقة وتقنية المحو والكتابة.

وبلمحة سريعة لتعريف التشويش أو الشواش، فهو أحد خصائص الفوضى غير المرغوبة، أدمجت اللغة العامية عبر التاريخ فكرة الفوضى في فكرة الشواش، ولذلك تم تعريف (الشواش) بأنه: "الاضطراب أو الاهتياج أو اللجة البدائية"، وبعدها أصبحت مصطلحًا علميًا جدليًا ومثيرًا في الفيزياء المعاصرة، و"المشوش: تكون عناصره ممزوجة بلا نظام ويصعب تمييزها أو يستحيل".(موسوعة لالاند الفلسفية. ص: 205)، وكمصطلح علمي، فهو يعد: "نظرية في سلوكٍ يبدو عشوائيًا ضمن نسق حتمي، مثل الجو، فعدم قابلية الأنساق المشوشة للتنبؤ لا ترجع إلى عوز في القوانين المتحكمة؛ بل إلى كون النتائج حساسة لتنويعات دقيقة لا يمكن قياسها في الظروف الابتدائية، مثال ذلك (أثر الفراشة: فكرة أن مجرد خفق فراشة لجناحها قد يحدث فرقا بين حدوث إعصار أو عدم حدوثه)"(موسوعة لالاند الفلسفية. ص: 205).

وبالنسبة لمفهوم التشويش فهو مستعار من الإعلام، فالنص الإعلامي لابد أن تكون ألفاظه واضحة الدلالة وبعيدة عن الغموض، وخالية من التشويش الدلالي؛ وهذا النوع من التشويش يحدث نتيجة لعدم فهم الرسالة من جانب المتلقي حتى لو تم نقل الرسالة بدقة فائقة"(حسين علي إبراهيم الفلاحي، الديمقراطية والإعلام والاتصال. ص:177)، أما في معاجمنا اللغوية فقد تمت إضافة كلمة التشويش بحذر ودون أن يكون لها أصل عربي، فجاء في لسان العرب أن التشويش لا أصل له في اللغة العربية. ويأتي الشواش من خلال التعقيد اللفظي والمعنوي، بالإضافة لبعض الظواهر والتقنيات الفنية التي تمثل خروجًا وانتهاكًا للمألوف، وخرقًا لقوانين اللغة المعيارية، فتخرج عن المألوف والمتوقع إلى غير المألوف والمدهش وغير المتوقع.

إن لبعض التقنيات الفنية دورًا جماليًا، فيتم اختراق الأنساق ومخالفة المألوف رغبة في التشويش، والغموض والدلالة على معانٍ غير مرادة؛ لاستثارة المتلقي وإحداث مفاجأة بما لا يتوقعه، وهذا ما عمد إليه القاص في مجموعته (ماذا لو)، من خلال المفارقة، والمحو والكتابة.

المفارقة

تعد المفارقة ذات أهمية بالغة لما لها من قدرة على التأثير في المتلقي وصياغة جماليات النص، فالمفارقة هي حدوث ما لا يتوقع، وهي كما قالت عنها نبيلة إبراهيم: لعبة لغوية ماهرة وذكية بين طرفين: صانع المفارقة وقارئها.

في قصص "ماذا لو" حضرت المفارقة التي تقوم على الجمع بين المتناقضات، والممزوجة بالسخرية: " بعد انتهاء المؤتمر الوطني، عرجت زوجة الرئيس على باريس، لإلقاء نظرة على آخر صرعات الموضة"(موضة، ص9)، فالمفارقة الممزوجة بالسخرية واضحة ما بين المؤتمر الوطني، وصرعات الموضة، إنّ معاناة الشعوب مع حكّامها، خاصةَ من يرفعون ‏شعار الوطنيّة والموت في سبيل الوطن في تلك المؤتمرات، وما يحدث بعدها من تعارض وتناقض، والاهتمام بآخر ما توصلت له الموضة. فالحدث يبدو واقعي، إلا أنه يحيلنا إلى رمزية الفاسد، وهنا فالقاص لجأ إلى هذه التقنية ليدين فيها الاستغلالية والفساد السياسي والانحلال الاجتماعي.

في قصة (مضمضة): "عاد من مركز إيواء المسنين، مطمئناً على والده، خلع الكمامة والنظارة السوداء، اتصل بدار الإفتاء: -هل يُفطر من دخل جوفه الماء وهو يتمضمض للصلاة"(ص: 65)، تظهر المفارقة في ذلك النفاق الديني الظاهر، الذي لا علاقة له بسلوك الإنسان وما يمارسه في حياته اليومية، فالقاص يثير وعي القارئ للتأمل ويشوش تفكيره فكيف يسأل في أمر ديني وبسيط، وهو من وضع والده في دار المسنين، ربما أراد من هذه المفارقة أن يثير عاطفة المتلقي، والانقلاب على الجانب الأخلاقي والسلوكي للإنسان في التعامل بالدين.

كذلك حضرت المفارقة في قصة (دعاء): "اغتسل، تعطّر، ولبس أجمل ما لديه قبل أن يغرف من صندوق التبرعات مردداً: - اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك".(ص: 96)، المفارقة هنا ممزوجة بالسخرية وكذلك تدل على نفاق ديني، فالسخرية تعد أحد أنماط المفارقة التي يلجأ لها الكتّاب على اعتبار أنها قولًا ضد المراد لغرض الاستهزاء، فالقاص هنا يسخر من فعل هذا الرجل الذي يمثل الأغلبية في طريقة التعايش والتعامل بالدين، والدليل التناقض الظاهر بين (يغرف من صندوق التبرعات) و(اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك)، فالتضاد واضح بين الفعل والقول.

ثنائية المحو والكتابة

قد يمحو الكاتب كل ما يشد النص إلى أصل محدد فيجعله دونما انتماء، وبهذا يعمل على إجراء بعض التغييرات على النصوص فيبتعد عن السياق الأصلي ويعيد إنتاجها من جديد.

حضرت هذه الثنائية في قصص المجموعة، فمثلًا في قصة (سنتياغو): "تساءل همنجواي وهو يضع اللمسات الأخيرة على روايته: -هل كان سنتياغو منتصراً، وهو يرى مغامرته تنتهي بهيكل عظميّ؟"(ص113)، إن اسم سنتياغو يستحضر في فكر وذهن المتلقي رواية الشيخ والبحر، لأرنست همنغواي، فالبطل هو سنتياغو الذي قضى عمرًا وهو يناضل ويحاول بناء الآمال التي هاجمتها قروش البحر، وانتهت مغامرته بهيكل عظمي. لجأ القاص لهذه التقنية لإثارة المتلقي وفتح الدلالات على نصوص أخرى وذلك لتوضيح فكرته، سنتياغو كان رمزًا للشعب الكوبي الذي يقاوم ويصارع ظروف معيشته الصعبة، فقد أراد القاص إيصال خيبات أمله وتبخر أحلامه في إصلاح حال الناس في وقتنا الحالي.

وفي قصة (فسادستان): "العبيد في مزارع فسادستان يلهجون بصوت واحد: {ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها}"(ص123)، في هذه القصة يخاطب القاص المتلقي بحسه الفكري متأملًا في التخلص من الظلم والفساد المنتشر، وهنا استحضر القاص الآية الكريمة من سورة النساء(75): {وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هذه الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا}، فالأية الكريمة تحريض للمؤمنين على الجهاد والسعي في إنقاذ المستضعفين في مكة المكرمة، وفي القصة دعاء أولئك العبيد لربهم للخلاص من الفاسدين واضطهادهم للمزارعين، دعاء ممزوج بنوع من التعب بعد رحلة طويلة من القهر والقمع، والقاص يريد نقل ما يعانيه الناس في مجتمعاتنا من ظلم واضطهاد.

حملت قصص مجموعة "ماذا لو" في طياتها رسائل مضمرة، وجاءت في سياقات مكثفة للغة والسرد، فالقاص عندما يريد تحريك ذهن المتلقي نحو النص يسعى لإثارته وكسر التوقع لديه عن طريق الغموض، والمفارقة تدعو للبحث عن المعنى الآخر الذي يتضمنه النص، وفي ثنائية المحو والكتابة يلجأ الكاتب إلى تحوير وتغيير السياقات لبث رسائل مضمرة في ثنايا النص، ليثير فكر المتلقي والبحث عن المعنى المخبوء.

وأخيرَا يعد القاص سمير الشريف مبدع ورائد من روّاد كتابة القصة القصيرة جدًا، وإنَّ مجموعة (ماذا لو) تحمل الكثير في ثناياها، وتستحق الدراسة بشكل أعمق لما تحمله من تقنيات فنية جاء بها القاص، فهي مادة وفيرة للقراءة والأبحاث.

***

د. نهال عبد الله غرايبة

أكاديمية وباحثة أردنية/ أستاذ مساعد/ قسم اللغة العربية وآدابها/ الجامعة الإسلامية بمينيسوتا/ المركز الرئيسي

 

ذنبي كبير

يحيى السماوي

ذنبي كبيرٌ.... مرَّ ليلٌ كاملٌ

من دون ِ لثم ِ قرنفل ِ الشفتين والياقوتتين

ودون تمشيطي جدائلَكِ الحريرْ

والركض ِ خلفَ غزالةِ الفردوس  ما بين الوسادة الملاءة والسرير

فلتغفريْ ليْ إثمَ معصيتي .. جدي عذرا ً لسادنِكِ الموزَّع ِ

بين بادية ِ السماوة ِ والرّصافة  مُطفأَ الينبوع ِ مُتقِدَ السعيرْ

شوقا ً الى صحن ٍ من القبُلاتِ

يقفو جُوعَهُ عطشٌ بتوليٌّ لكأس ٍ من زفير

ولِهَزِّ نخلتكِ القريبةِ.. قرب شمس من عيوني

والبعيدةِ بُعدَ قلبي من يديَّ وبُعدَ وجهِ البدرِ من مُقلِ الضريرْ

***

الخطاب الشعري الصوري نص يقوم على التداعي والتعبير عن ذات تنتج نصا يقوم على التأمل والبوح والاستبطان الذاتي، ويعمل على خلخلة الأجناس الأدبية وصهرها في بوتقة نصية موحدة تقوم على الانزياح، وخلق خطاب مابعد الحداثة..

وباستقصاء عوالم النص الشعري (ذنبي كبير) الذي نسجته انامل منتجه يحيى السماوي نجدها تنحصر في الحبيبة الوجود كونها مستقبل العالم على حد تعبير اراغون.. وعلى مبادئ المدرسة الرومانسية يوجد ال (وطن في أنثى).. وهذا من المرتكزات التي ينطلق منها المنتج (المراة الحبيبة والوطن اضافة الى الحرية التي تمثل التجيد والابداع)

ذنبي كبيرٌ.... مرَّ ليلٌ كاملٌ

من دون ِ لثم ِ قرنفل ِ الشفتين والياقوتتين

ودون تمشيطي جدائلَكِ الحريرْ

والركض ِ خلفَ غزالةِ الفردوس ما بين الوسادة الملاءة والسرير

فالنص يقوم على مستويين: اولهما.. مستوى الرؤيا الذي يترك اثره ولا يعرف النسيان فيبقى محفورا في الذاكرة... وثانيهما.. مستوى التعبير حيث تناغم الالفاظ الموحية تناغمًا يضفي على النص نبرا مموسقا جاذبا.. يمتاز بخصوصيته الجمالية والدلالية..

فلتغفريْ ليْ إثمَ معصيتي .. جدي عذرا ً لسادنِكِ الموزَّع ِ

بين بادية ِ السماوة ِ والرّصافة مُطفأَ الينبوع ِ مُتقِدَ السعيرْ

شوقا ً الى صحن ٍ من القبُلاتِ

يقفو جُوعَهُ عطشٌ بتوليٌّ لكأس ٍ من زفير

فالنص يشكل لوحة فنية.. يربطها خيط شعوري رقيق.. جسده الإحساس.. ورابطه العشق والخروج عن الذات.. تؤطره رومانسية طافحة بالعذوبة والرقة.. اضافة الى تميزه بتنويع أساليبه البنائية والإعلاء من دور التجريب الشعري كي يمنحه قدرة على استيعاب التقنيات المعاصرة كالحوار وتعدد الأصوات وحضور النصوص الغائبة بوعي شعري كشف عن شاعر متزن العواطف دقيق الرؤية، واضح المعالم...

ولِهَزِّ نخلتكِ القريبةِ.. قرب شمس من عيوني

والبعيدةِ بُعدَ قلبي من يديَّ وبُعدَ وجهِ البدرِ من مُقلِ الضريرْ

فالشاعر في نصه المتزن العواطف.. الواضح الرؤية.. يحدث مصالحة بين فكره ووجدانه.. وبين لغته وأفكاره.. اضافة الى اعتماده التكثيف والإيحاء والاختزال والسرد الشعري والتناص ..

وبهذه الروح الرومانسية الشفيفة والنبض الراقص قدم  المنتج نصا متكاملاً متوحد الدلالات والرموز والبناء الفني الذي عمق رؤيته.. واضفى عليها جمالا نابعا من صدق التجربة.. الكاشفة عن قيمة النص الموضوعية والتعبيرية والشعورية.. فقدم المنتج خلاصة اكتنزت بأبجديته الأسلوبية.. وأبرزت خطوطه الشعرية ورسّمت خطواته الإبداعية من تجلياتها الاستهلالية فاحدث تنوعا جاذبا كما وكيفا.. بتوظيف لغة مكتنزة بالفاظها الايحائية الجامعة بين الوصف والسرد والحوار...

***

علوان السلمان – كاتب وناقد عراقي

 

ظهرت الحاجة الملحّة إلى اختراع أدوات تعبير تتجاوز البُعد النفعي المباشر، منذ اللحظة التي تشكّل فيها وعي الإنسان، وبدأ يحاور وجوده ضمن سياق كوني غامض ومترامي الأطراف، لتلامس جوهر تجربته الحيّة في مواجهة الوجود، هذا الإنسان، الذي وجد نفسه في صراع دائم بين الافتتان بالمجهول والخوف منه، لم يتأخر في إنتاج أشكال من التعبير البصري على جدران الكهوف، فحوّل الفضاء الصخري الخام إلى سطح دلالي قادر على حمل تجلياته الأولى، وانفعالاته العميقة، وأسئلته البدئية.

كانت تلك الرسوم والنقوش، التي قد يُظنّ في ظاهرها أنها محاولات توثيقية بدائية، في حقيقتها انبثاقاً أولياً للغة رمزية لا تقل عمقاً عن النصوص الشعرية المعاصرة؛ إذ عملت على تثبيت علاقة الإنسان بالعالم من خلال وسيط بصري مفتوح على التأويل، وهذا ما تؤكده قراءات حديثة لفن الشارع والغرافيتي، إذ يُعرّف مؤلفا كتاب (الغرافيتي وفن الشارع: القراءة والكتابة وتمثيل المدينة)، أفراميديس وتيسيليمبونيدي، هذه الممارسات بوصفها (أفعالاً مادية وممارسات ثقافية في آنٍ معاً، تجمع بين ما هو مرئي وما هو رمزي)، وتمنح الجدران طاقة تواصلية تتجاوز مجرد الجماليات إلى التفاعل الاجتماعي والسياسي.

وقد شبّه الشاعر السريالي ليو ماليت جدران المدينة بأنها (حقل غير محدود من التجليات الشعرية)، تماماً كما كانت جدران الكهوف الأولى تجلّياً لصوت داخلي يسعى لإعادة تشكيل العلاقة بين الإنسان والعالم، وهذا ما يُلمح إليه أحد الكتّاب حين يقول (الغرافيتي قصيدة تكتبها المدينة لنفسها)، في إشارة إلى أن فعل الكتابة على الجدار ليس منفصلاً عن النسيج الحضري، بل ينبع من داخله ويعيد تشكيله من جديد.

لذا تصبح هذه الكتابة مرآة للذاكرة الجمعية والهويات المهمّشة، إذ (تتناقض غالباً مع السرديات المهيمنة) كما يذهب مؤلفا كتاب (الغرافيتي وفن الشارع)، فهي تعكس التوترات الكامنة في الفضاء الحضري، فالجدار ليس مجرد حامل للنص، بل (أرشيف بديل) يوثق اللحظات التاريخية والسياسية التي لا تُلتقطها السجلات الرسمية.

وهكذا، يتلاقى وعي الإنسان الأول، وهو يحفر مشهد الصيد على جدار كهفه، مع وعي الإنسان المعاصر وهو يكتب قصيدة احتجاج أو حب أو انتماء على جدار مدينة أوروبية، فكل كتابة على الجدار هي، في جوهرها، لحظة شعرية تسعى إلى الإمساك بما يتفلّت، وإعادة تمثّل الذات في مرآة العالم.

يُعتبر كتاب (ضدّ أفلاطون- قصائد على حيطان المدن) ترجمة وتقديم ناصر مؤنس، شهادة شعرية معاصرة تكشف عن الحضور الرمزي والبصري للجدران بوصفها فضاءات تعبير إنساني، تتحول فيها المادة الصمّاء إلى حامل للمعنى، ووسيط ثقافي يعكس جدلية العلاقة بين الإنسان والكون، والذي يصف فيه مؤنس شعوره بالخيبة، أنَّ مدينته التي ولد فيها وهي بغداد (على الرغم من عمقها الحضاري إلا أنها لا تريد أن تحتفظ بالأثر، أرادت أو (أريد لها) أن تمحو التراث الحضاري الضارب في عمق التاريخ وتتزامن مع العدم) ربما عكس المدينة الأخرى التي تمثل الوطن البديل؛ مدينة (ليدن الهولندية) والتي (يحتل الأثر حضوراً لافتاً في تشكيل هويتها)، حيث مثلت (القصائد المكتوبة على الجدران) أحد أثارها، والتي يضعها هذا الكتاب في مواجهة مباشرة مع التاريخ الأدبي الرسمي، مؤكّداً أنها ليست محض كتابات عابرة، بل رسائل شعرية عميقة تعيد تعريف الفضاء العام، وتُضفي على الجدران دلالة مغايرة، ففي (صفحة 6) من الكتاب، نقرأ مشهداً افتتاحياً دالاً على هذه الرؤية، إذ يصف لحظة لقائه بقصيدة عربية مرسومة على جدار في مدينة ليدن الهولندية، وهي لـ(جبرا إبراهيم جبرا)، لذا يتساءل (هل هي حاضرة هنا من دون معاونة أحد، هل هي حاضرة من أجلي، هل جاء بها بياض هذا اليوم الثلجّي، هل كتبت نفسها كتعويذة حارسة؟ يا لوهج الشعر في وعي من يعاني من ثقل وطأته)، هذا التساؤل الاستبطاني لا يكتفي بتمجيد أثر الكتابة، بل يمنح الجدار بُعداً شعرياً يوازي المخيال الأول الذي شكّل الرسوم الصخرية عند الإنسان البدائي.

وفي ضوء هذه الرؤية، يتحول الجدار إلى عنصر مركزي في إنتاج الوعي الجمالي والرمزي، فـ(الجدران هي شهود المدن، والغرافيتيا تدعونا إلى رؤية نوع جديد من الفضاء العام في المدينة المعاصرة… يدعونا هذا القول إلى اعتبار المدينة نصّاً يحمل بلاغته البصرية وسلطة خطابه)، هنا تُعاد صياغة المدينة نفسها بوصفها نصاً مفتوحاً، تتشكل معانيه من تفاعلات متعددة بين النص والمكان، بين الكلمة والحائط، بين المارّة والقصيدة، بما يشبه العلاقة الجدلية الأولى بين الإنسان وجدران الكهوف التي عبّرت عن ذهوله أمام الطبيعة.

يتقاطع الكتاب كذلك مع أطروحة "الفضاء الرمزي" التي أشرت اليها سابقاً، فكل جدار يُقرأ هنا لا كحامل فيزيائي للكتابة، بل كبنية دلالية مشبعة بأبعاد سردية، رمزية، وتاريخية، إذ (تختلف القصيدة الحائطية عن القصيدة المنشورة في كتاب فهي ليست عملاً أدبياً فحسب بل مدونة دالة على حوار بين "الحائط والمدينة" "الشعر والحياة" "الرسم والكتابة" إلى جانب دلالاتها الإبداعية هي وثيقة تكشف عن الجانب "الثقافي- الاجتماعي" للمدينة)، هذا الوعي بوظيفة الجدران كمرآة ثقافية يتجاوز التصور التقليدي للمكان، ليقارب ما يمكن تسميته بـ"أنسنة الجدران"، أي تحويل الفضاءات الباردة إلى حوامل لحرارة التعبير الإنساني وقلقه وحيرته الوجودية.

أما من حيث العلاقة مع الإنسان ككائن يسكن الرموز، فإن هذا كتاب يطرح بوضوح البعد الأنطولوجي للقصيدة الحائطية، إذ يصرّ مؤنس في أكثر من موضع على أن هذه النصوص لا تنتمي إلى المؤسسة الأدبية الرسمية، بل إلى الهامش، إلى الرفض، إلى ما يشبه "الصرخة" ضد العالم الحديث الذي بات عصراً رقمياً، يفخر قراءه (بتلك القطيعة الإبستيمولوجية مع روح الاساطير والملاحم الشعرية والفنون الشعبية والخيالات التي تعيش في وفاق تام مع محيطها)، هنا وبهذا المعنى تتماهى الجدران مع الكهوف الأولى، حين كانت الحجارة أول مرآة لانعكاس الذات، وتحوّلت يد الإنسان إلى وسيلة لترسيخ حضوره الهشّ أمام هيبة الكون.

يقدم هذا الكتاب خطاباً نقدياً بصرياً حول الجدار بوصفه حيزاً حيّاً، يتحول فيه النص الشعري من ممارسة فردية إلى فعل اجتماعي، ومن تعبير شخصي إلى تمثيل رمزي لذاكرة المدينة، وكأن كل حائط يصبح في ذاته "وثيقة وجود"، وهو ما يعيدنا إلى أن الجدار، ومنذ البدء، كان وسيظلّ تجسيداً لانبثاق الوعي الإنساني الأول، وتحوّله من الكينونة الغريزية إلى الكينونة الرمزية، التي تتوسل الفن والشعر لقول ما لا يُقال.

***

أمجد نجم الزيدي

........................

* ناصر مؤنس (ترجمة) ضدّ أفلاطون: قصائد على حيطان المدن، دار مخطوطات، 2024.

 الكتابة الشذرية.. أسلوب النبذة..

كما يقول نيتشه

***

نص شذري

يحيى السماوي

نهركِ الذي شربتُهُ

قُبلةً قُبلة

ذَرَفتُهُ

دمعةً دمعة

....................

النص الشذري الذي هو آخر المحاولات التجريبية الشعرية.. الكاشفة عن تأملات ماورائية للوجود الانساني تحققها صوردلالية قائمة على الانزياح الكلمي والإيحاء والترميز والإدهاش والعصف الذهني والتكثيف والايجاز الجملي والتبئير والتركــيز والابتــعاد عن الاستــطراد الوصفي وتفادي الكتابة النسقية..

هذا النوع من الكتابة له وجوده في التراث العربي، لاسيما في المنتج الصوفي والعرفاني.. الذي يقوم على شعرية الانفصال ويتكئ على بلاغة التشظي التي تشكل بمجموعها شاعرية تأملية وجدانية تعتمد لغة يومية ومفردات موحية بعيدة عن التقعر والضبابية.. مع خيال ممزوج بواقعية تسمو بانزياحات لغوية وفواصل تتارجح ما بين الصمت والنطق..

وبالوقوف على عوالم النص الشذري الذي نسجته انامل منتجة الشاعر يحيى السماوي..

نهركِ الذي شربتُهُ

قُبلةً.. قُبلة

ذَرَفتُهُ

دمعةً.. دمعة

نجد انه نص يكشف عن ذهنية متفتحة ورؤية باصرة لوعي الفكرة وتحقيق اضاءتها.. القائمة على مقاطع تأملية.. وانطباعات عقلية ونفسية مستقلة بنفسها على المستوى البصري.. والمتكاملة دلاليا وتركيبيا وتداوليا.. .فضلا عن قيامه على اسلوب التكرار الدال على التوكيد والنمطية الصورية والدلالة النفسية التي من خلالها يفرغ الشاعر المنتج مشاعره ليعيد التوازن ويكشف عن ايقاع داخلي مؤكد للحالة النفسية والانفعالية للذات المنتجة.. فكان لهذا التحول أثره الفاعل في انفتاح النص على المستوى الجمالي والفني والاسلوبي.. اضافة الى الصراعات الضدية (شربته /ذرفته..) التي اضفت على النص نموا متصاعدا بصوره القائمة على الانزياح، والمفارقة والإيحاء، والترميز والإدهاش، والعصف الذهني.

من كل هذا الايجاز نستخلص ان الشذرة التي عانقت الوانا تشكيلة حققتها ريشة منتجها الفنان التشكيلي حيدر عباس عبادي وهي تمارس فعلها وتفاعلها والعوالم النصية بحركية إيقاعية قوامها: الدينامية التي تبدو أنها ضد النسقية، وضد النظام النصي بتجاوزها المالوف من القول.. مع محاولة منتجها استنطاق اللحظات الشعورية عبر نسق لغوي ـ تشكيلي قادر على توليد المعاني.. مع اعتماد الرمز النصي المكثف.. الذي يسمو بالنص وينقله الى عوالم ابداعية محركة للذاكرة وكاشفة عن خزينها المعرفي.. كونه يمتلك قدرة تعبيرية مختزلة لتراكيبها الجملية.. خارجا عن المالوف والقوالب الجاهزة.. بتخلقه من ذاته وعلى ذاته في حركة بؤرية مكثفة.. نامية.. متجددة.. ..

***

علوان السلمان

 

صدرت رواية (عالَم صدام حسين) في بداية عام 2003 عن دار الجمل في كولونيا بألمانيا، لكاتب مجهول باسم مستعار (مهدي حيدر)، وتقع في أربعمائة وأربع عشرة صفحة. صدرت الرواية قُبيل أسابيع قليلة من غزو الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها للعراق لإسقاط النظام، وكأن الرواية جاءت ضمن الحملة الإعلامية والدعائية الداعمة لعملية الغزو، على قاعدة (كلمة حق يُراد بها باطل).

التمهيد:

في رواية (وليمة لأعشاب البحر) للروائي السوري حيدر حيدر (1936 – 2023) وفي الفصل الذي عنونه الكاتب (اللوياثان) ويقع في أربع عشرة صفحة، من ص225 إلى ص238، يوجز الكاتب وبأروع وصف سيرة الحاكم المرعب الذي انبثق من ما وراء الكون ليعيد للأمة العربية والعالم، سيرة جنكيز خان وهولاكو وهتلر وستالين لئلا يتم نسيانهم:

(في غفلة من الزمن وضياع الوعي البشري، جاءنا ذلك اللوياثان المجنون. داهم القارة العذراء بقوة جنده وظلامنا. بدأ عمليات التطهير داخل البلاد ونشر الرعب بدأً من عائلته فعشيرته فطائفته فحزبه فالشعب الذي سطا عليه. وكما كان القياصرة المعتوهون والممسوسون يرتعدون من كوابيس المؤامرات والاغتيال، كان هو يتخيل في ليالي مجده المؤرقة أن هناك خونة يحيكون ضده مؤامرات اغتيال داخل جهازه الحزبي والعسكري.. كان الأمر يتم على شكل مسرحي للمشبوهين أو الذين لم يعلنوا الولاء المطلق أو الذين ينبسون بانتقادات في الاجتماعات السرية للحزب. وكان هؤلاء المتهمون يُغتالون سراً في منازلهم أو مكاتبهم أو يُصدمون بعجلات السيارات في الشوارع، وفي اليوم الثاني تقام لهم جنازات مهيبة كشهداء للوطن.. ذلك اللوياثان الدموي سطا بسحره الأرجواني وحركاته الأكروباتية على ملايين ملاثة بأقدارها وشهواتها العضوية.) ص231.

ولمن لا يعرف (اللوياثان) فقد وردت بحقه تعريفات عدّة، أهمها: هو وحش بحري خرافي أسطوري شبيه بالتنين ينفث من فمه ناراً، جاء ذكره في النصوص التلمودية.

ويبدو أن (اللوياثان) العراقي قد عمل بقاعدة دوستويفسكي: (الأصعب هو امتلاك الفكرة والأسهل هو قطع الرؤوس)، فما دامت الرصاصة والمدية والساطور تقوم بالواجب وزيادة، وهي أدوات (أصدق إنباءً من الكُتبِ)!.. ولم لا ونحن في بيئة خصبة ينطبق عليها قول شاعر العصر الأموي عمر بن أبي ربيعة:

كُتبَ القتلُ والقتالُ علينا... وعلى الغانيات جرُّ الذيولِ.

ملخص الرواية:

ــ يجد القارئ نفسه أمام رواية متعددة الاتجاهات، فهي رواية (سياسية، تاريخية، سيرية، بانورامية، تسجيلية، وثائقية، صحفية)، وهي ليست على لونٍ واحد. شخصيتها الرئيسة هو ذلك الصبي القروي (صدام حسين) القادم من (شويش) إحدى قرى تكريت، الذي سرعان ما تسلق المناصب كما تسلق الصعاب والجرأة والحزم والشدة والقسوة والفظاظة والشراسة. وإلى جانب هذه الشخصية تناولت الرواية عشرات الشخصيات السياسية والعسكرية التي مرّت في تاريخ العراق خلال القرن العشرين وخصوصاً خلال العقود الأربعة التي كانت تتحدث عنها الرواية (الخمسينيات، الستينيات، السبعينيات، الثمانينيات). الكثير من أحداث هذه الرواية (تاريخياً وسياسياً) وقعت فعلاً، وهي متداولة في المؤلفات التي أرشفت تلك الحقبة من تاريخ العراق السياسي، ومنها مثلاً كتاب (العراق.. الشيوعيون والبعثيون والضباط الأحرار) للباحث العراقي المعروف حنّا بَطاطو. ولا نغفل وجود الجانب الأدبي الذي طعّمه الكاتب بخيال مبدع أضاف للرواية تلك المتعة التي يطلبها القارئ الواعي، فالمؤلف أراد الابتعاد (أحياناً) عن سيرورة الأحداث التاريخية ودقتها، فجمح به الخيال ليبتدع بعض الشخصيات الوهمية والأحداث غير الحقيقية، وقد كان موفقاً جداً في اشتباك الحقيقي بالخيال، والمتلقي الواعي هو من يكتشف ذلك بناءً على مخزونه الثقافي والفكري.

التحليل الفني للرواية:

1ــ يرى (تودوروف) أن الهدف والغاية من تحليل النص (هو الكشف عن العلاقات الأساسية التي تشكل أنساقه البنائية الخاصة والتي تتيح لنا التعرف على دلالاته الظاهرة والتاريخية والأيديولوجية وعلى طبيعة الجدل بين النص الظاهري والنص الخفي الذي يتمرد تحت قشرة هذا النص الظاهري ويتفاعل معه) وتأسيساً على ذلك، فإن كاتب هذه الرواية ليس لديه ما يخفيه بين السطور، فقد كشف مضمون روايته مذ أعلن عن عنوانها الصريح الكاشف، ومروراً بصفحات الرواية التي تجاوزت الأربعمائة بقليل وجميعها كانت تشير إلى تلك الحقبة السياسية من تاريخ العراق وما خلفته من صراعات وتنافس غير شريف للاستحواذ على السلطة.

2ــ إذا كان العنوان هو العتبة الأولى للنص والنص الموازي له، فيمنحه هويته من خلال حضوره السيميائي الذي غالبا ما يزج القارئ في لعبة الكشف والتأويل تحت وطأة الضبابية والغموض في العنوان. فإننا هنا أمام عنوان مكشوف للقارئ مسبقاً، ليس فيه ذلك الغموض المفخخ بتأويلات متعددة. (عالَم صدام حسين) هكذا رسم المؤلف بوضوح حدود سرديته، إنه ذلك العالَم الذي ساهم بتكوين شخصية صدام حسين، من (قرية، مدينة، فقر، يُتم، حزب، سياسة، عسكر، طائفة، عشيرة، داخل، خارج، مؤامرة، خيانة، عدو، فصيل مسلح، انقلاب،...الخ) وهذه الشخصية الرئيسة التي ستكون محور الرواية وقطبها هي شخصية نامية، تكبر وتتعملق كلما تقدم تسلسل السرد، من طفل يتيم إلى نائب الرئيس ظاهراً ولكنه الرئيس فعلاً، فكان يملي ما يريد على الرئيس (العجوز) المحاط بأجهزة أمنية وسرية تحصي أنفاسه أسّسها وأدارها النائب بنفسه. ففي مرحلة البناء هذه كان عليه أن يكون رجل الظل الحاضر الغائب ويشرف على الهيكل من وراء الكواليس.

3ــ مهّد الكاتب لسرديته مقدمة من ثلاث وخمسين كلمة ليكون القارئ على بيّنة أن ما يقرأه رواية وليس شيئاً آخر، فيها من الخيال كما فيها من الواقعية، وفيها من اللمحات الأدبية كما فيها من الأسلوب الصحفي والمقالي: "هذه الرواية ليست نصاً تاريخيا، بل هي عمل من نسج الخيال، يستغل الواقع لبناء عالم خيالي موازٍ للعالم الواقعي، يتطابق معه أحياناً ويختلف في أحيان أخرى، فتعطي شخصيات معروفة مصائر مختلفة عن الواقع التاريخي بحسب ما تقتضيه الحاجة الفنية كما يحوي هذا الكتاب اقتباسات عربية وأجنبية من أعمال أدباء ومؤرخين وصحافيين وسياسيين وشعراء." ص5.

4ــ كُتبت الرواية بتقنية الراوي/السارد الخارجي (الكلي العِلم) مع السماح لبعض الشخصيات بحرية البوح والتعبير بحسب تقنية (التداعي الحر) وهنا أبدع الكاتب في رسم تلك الشخصيات وكشف أحاسيسها فرحاً أو حزناً. كما أبدع في استدعاء أنواع الأكلات والسجائر والمشروبات الروحية والجنس بحسب ما يقتضيه المشهد من دون تفريط، وكشف المؤلف المجهول عن دراية لا بأس بها بأسماء محلات وشوارع وأزقة ومقاهي وبارات ونُصب وجداريات بغداد.

5ــ جاءت الرواية بأسلوب التدوير حيث بدأت الرواية من حيث تريد أن تنتهي واقعاً ثم انتهت من حيث بدأت:

"بدأ الهجوم عند الثانية فجراً بتوقيت بغداد يوم الخميس 16 كانون الثاني/يناير 1991. كان صدام نائماً ببذلة كاكية مثقلة بالنياشين، وبحذاء عسكري، مع مسدس في حزام جلد يزنر وسطه.. في مقر محصن تحت ملعب كرة قدم يبعد خمسة كيلومترات عن المجمع الرئاسي حيث أقام 12 سنة محاطا بحرسه الجمهوري منذ أعلن الرئيس أحمد حسن البكر يوم 16 يوليو/ تموز 1979 على التلفزيون، وأمام الأمة جمعاء، اعتزاله وتنحيه عن كل مناصبه لأسبابٍ صحية". ص7...

ثم يسترجع المؤلف لأحداث وقعت قبل عدة عقود، وقبيل انتهاء الرواية يعود لما بدأ به:

"موجة من الغارات الجوية في ذلك الليل البارد من كانون الثاني/يناير 1991.. في الملجأ المحصن تحت مدرجات ملعب كرة القدم نام الرئيس العراقي صدام حسين غير مبالٍ بالانفجارات التي تهز الأرض والسماء" ص397.

6ــ الرواية ممتعة وشيّقة، وهي من النصوص القليلة التي يستمتع بها القارئ أمام هذا الكم الهائل من النصوص الروائية التي تندم أحياناً على قراءتها. والذي أعطى للرواية هذه المتعة العالية هو أسلوب السرد المتدفق والانتقالات السريعة بين النصوص والذي يُعبّر عنه نقدياً بـ(المفارقات الزمنية) وهي بحسب قاموس السرديات: (التنافر الحاصل بالنظام المفترض للأحداث، ونظام ورودها في الخطاب) جيرالد برنس، قاموس السرديات، ص16.

إذ عمل الكاتب على قطع التسلسل الزمني لسرديته ليسترجع أو يستبق الحدث، مما منح النص الروائي تلك السِمة الفنية والجمالية التي ينتظرها القارئ الشغوف بنصوص مميّزة تثيره وتشد انتباهه. وفي هذه الرواية وجدنا تقنية الاسترجاع والاستباق حاضرة بكل قوة.

ففي الصفحة الحادية عشرة من الرواية وبينما المؤلف يتحدث عن طفولة (صدام حسين) القاسية في بداية الأربعينيات، ثم نجده يقفز إلى عام 1975: (قبل أن يهندس اتفاقية الجزائر في 1975، ويتخلى عن نصف شط العرب، كان الأكراد في الشمال يؤرقون سلطة صدام حسين الخفية بثورات مسلحة...) ص11. وبعد عدّة أسطر أخرى يعود إلى الأربعينيات: (خرج خاله خير الله طلفاح من السجن في 1946 مطروداً من السلك العسكري)، وهكذا يستمر المؤلف في هذه المفارقات الزمنية طيلة صفحات روايته.

7ــ الوصف في الرواية هو أحد أركانها الأساسية، وهو الذي يعطي للرواية ذلك المذاق الذي يستمتع به القارئ، ومن دونه تكون الرواية جافة وباهتة وبلا لون ولا طعم. وفي هذه الرواية لجأ المؤلف إلى الوصف باتجاهين: الوصف المادي، والوصف النفسي أو المعنوي.

الوصف المادي: قدم المؤلف عن طريق (السارد الكلي العلم) وصفاً خارجياً للحياة العامة من موجودات وجمادات وطبيعة، كما جاء في هذا النص على سبيل المثال: "بلغ الكرخ عند الغروب، مع كيسٍ ملقى على كتفه. في الشارع الطويل مشت أمامه عجوز محنية الظهر وحفيدتها. برد بغداد دغدغ جرحه القديم. جاءت ريح خفيفة وحملت ضجّة الكرخ بعيداً عنه. لم تكن مصابيح الكهرباء أضيئت بعد.. أسرع الخطى متأكداً أنه بات في بلده ودخل سوق الخضر. قبل أن يبلغ مخزن التمور أضيئت المصابيح دفعة واحدة، ورأى في النور الأصفر كيف تبدلت معالم الحارة. دكاكين زالت، بيوت اتسعت، وأزقة سُدّت بالكراجات. الشجرة الكبيرة أمام الجامع لم يبقَ منها إلا قرمة الجذع." ص73 – 74. نجد في هذا النص كيف رسم السارد/الراوي بدقة مسار الشخصية وهي تجوب الشوارع وجعل الجمادات تنبض بالحياة من خلال الوصف المتدفق المتميّز.

الوصف النفسي أو المعنوي: وهو الوصف الذي يُعنى بعرض تداعيات الوعي الداخلي للشخصية، وكشف الحالة النفسية والشعورية لها، كما في هذا النص على سبيل المثال: "بينما البَرَد يطقطق على الزجاج. رفع كوب القهوة السوداء إلى فمه، وقبل أن يلمس السائل الساخن شفتيه عصفت به رياح حنين غادرة فأضاع الحدود بين أرض الواقع وسماء الخيال، وانتابه ذعرٌ مبهمٌ إذ أحسّ للحظة خاطفة أنه لم يغادر ذلك السجن تحت الأرض وأنه ما زال يتعفن في زنزانة رطبة ينيرها نورٌ خفيف يتسرب عبر نافذة عريضة متسخة وعالية." ص126. وهنا أيضاً نجد السارد/الراوي كيف رسم بدقة اختلاجات الشخصية من الداخل كاشفاً تداعيات الحالة النفسية والشعورية لها.

8ــ لم تهتم الرواية كثيراً بدراسة سايكولوجية صدام من الداخل، بقدر اهتمامها بالمحيط الخارجي له من الناحية الاجتماعية والسياسية، وأكبر الظن عندي أن المؤلف تحاشى ذلك ليحافظ على حياديته في السرد. وهذا لم يمنع المؤلف أن يصوّر شخصية صدام بالشخص القليل الكلام الكثير التفكير، الذي يخطط لكل شيء بصمت ثم يضرب ضربته الاستباقية من دون ثرثرة، فيكون صاعقاً خاطفاً، يقتنص الفرصة لحظة ما تلوح في الأفق من دون تردد: "يكتشف رويداً رويداً أن الصلابة الكامنة في الكلمات هي التي تحسم المواقف. الصلابة، والقدرة على اكتشاف نقطة الضعف في الخصوم. والأهم من كل شيء، الأهم على الإطلاق، القوة، ألا تضعف أبداً، أن تكون دائماً أشرس من الآخرين" ص24.

9ــ كشفت الرواية أهم المحطات الحياتية والسياسية التي عاصرها وتفاعل معها صدام حسين: (اليُتم، الطفولة البائسة، علاقته بخاله خير الله طلفاح، علاقته بابن خاله عدنان خير الله، علاقته بزوجته ساجدة خير الله،رعلاقته بأحمد حسن البكر، علاقته بميشيل عفلق، علاقته المرحلية برفاقه والتخلص منهم لاحقاً واحداً بعد الآخر، تدرجه في المسؤوليات والمناصب) ونقلت الرواية للقارئ صورة واضحة عن الشخصية المركزية فيها، كما كشفت الرواية الاستراتيجية التي بنى عليها صدام حياته، وتمثل ذلك بنقاط محددة كأنها دستور عمله الحزبي والسياسي:

(المَلِك خارج مملكته كلب) ص50.

(يُمكن للحاكم أن يضرب الأحزاب، ويُسمح له حتى أن يرمي حلفاءه في السجون، ولكن بشرطٍ واحد: الاحتفاظ بالقدرة على إقناع النفس بصواب أفعاله. إذا اقتنع هو، لابدّ أن تقتنع الجماهير. إذا اقتنع هو، وبالدهاء الكافي، يستطيع إقناع الجماهير.) ص62.

(إياك أن تكشف مركزك الحقيقي، مقدار قوتك، قبل أن يدرك الجميع أنك فعلاً مصدر خطر، أنك الأقوى والأشرس) ص63.

(الشراسة ليست طبعاً يُولد فينا بل هي قرارٌ إرادي يتخذه المرء بكامل وعيه. الحرص ضروري والصبر فضيلة والتأني طريق النجاة. لكن الأهم من كل ذلك دقّة التنفيذ. الرصاصة التي لا تصيب من عدوك مقتلاً هي رصاصة ترتد إلى صدغك ولو تأخرت في مسارها الأفعواني عشر سنين.) ص97.

(على البعثي أن يتحصن في قلعته) ص129.

(الضعيف يُضعف الجماعة، يُهدد الحزب، علينا أن نتحصن في قلاعنا وأن نستعد طوال الوقت) ص130.

10ــ وظّف الكاتب في روايته مفردات غير عراقية، مما يدل على عدم عراقية الكاتب، وجهله بالمفردات الشعبية في العراق، ومنها: {صباط (بمعنى الحذاء)، الجاط (بمعنى الطبق أو الصحن)، الحارة (بمعنى المحلة أو الحي)، الزلعوم (بمعنى البلعوم او الحلقوم)، الجنرال والكولونيل (رتب عسكرية)، الكنزة (بمعنى (البلوزة)، القمباز (بمعنى الصاية أو الزبون، المازوت (بمعنى الكاز أو الوقود)، الزاروب (بمعنى الدربونة أو الزقاق).. وسنعود لهذه المفردات لاحقاً بشيء من التفصيل.

11ــ يمكن أن نعد هذه الرواية من روايات (الدايستوبيا) حيث صوّرت مدينة بغداد وهي الفضاء الأبرز في الرواية، على أنها مدينة العنف والجريمة والاغتيال والفساد والجنس والخيانة، فحكامها رغم اختلافهم الأيديولوجي ينتهجون (وهذه حقيقة لا غبار عليها) نهج التوحش والإرهاب والتخلف وخنق الحريات وعدم التعايش مع الآخر المختلف وفرض نظام سياسي صارم لا يقبل الرأي الآخر. هي بغداد التي حولها الظلاميون المعقّدون بهوس السلطة إلى مدينة مستباحة نتيجة صراع الإرادات والضرب تحت الحِزام وكسر العِظام، هي بغداد التي تنام على إيقاع انقلاب وتستيقظ على آخر، وعندما لا يجد النظام من ينقلب عليه ينقلب على نفسه ويأكل بعضه بعضاً، هي بغداد فاضل العزاوي في روايته (الديناصور الأخير) حيث يقول: (وفي مدينة بغداد، حيث يستقر الموتى هادئين، صامتين، رأى "س" الذي يُلقب بالديناصور أحياناً، غاليلو جاثياً أمام محكمة التفتيش ذات الوجه الأبوي السماوي، يدلي باعترافاته عن الأحزاب التي عمل داخل صفوفها.

ــ أنا غاليلو، وفي السبعين من عمري، سجين جاثٍ على ركبتي، وبحضور فخامتك، وأمامي الكتاب المقدس الذي ألمسه الآن بيدي، أعلن أني لا أشايع وأحتقر من يقول أن الأرض تدور.

ضحك الديناصور: إنهم هكذا دائماً!) ص63.

12ــ توقفت الرواية عند أهم المحطات السياسية التي مرّ بها العراق خلال الخمسينيات والستينيات والسبعينيات: ثورة أو انقلاب تموز 1958، تمرد عبد الوهاب الشوّاف آذار 1959، محاولة اغتيال عبد الكريم قاسم 1959، انقلاب شباط 1963، انقلاب تشرين 1963 على الحرس القومي، مقتل عبد السلام عارف 1966، انقلاب تموز 1968 على دفعتين: 17 تموز، 30 تموز، المؤامرات والخيانات والدسائس وما رافقها من إعدامات بالجملة للضباط والوزراء والمسؤولين والمعارضين، التوتر بين الحكومات المتعاقبة والأكراد، قصر النهاية رمز الاعتقال القسري والتعذيب الرهيب الذي يذكرنا بسجن الباستيل الفرنسي، ..الخ.

13ــ تحاشت الرواية المساس بالولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وهما لهما الأثر الكبير في الأحداث السياسية لتلك الحقبة (وما بعدها طبعاً) سواء من تحت الطاولة أو من فوقها. ولنذكر القارئ بما جاء في كتاب حنا بطاطو المشار له سابقاً: (اتهام عناصر من القيادة القومية بإقامة اتصالات مع الاستخبارات البريطانية) ص282. وجاء في ص300 من الكتاب نفسه، على لسان ملك الأردن الحسين بن طلال خلال لقاء أجراه معه محمد حسنين هيكل رئيس تحرير جريدة الأهرام القاهرية بتاريخ 27 أيلول 1967: (إن ما جرى في العراق في 8 شباط/فبراير قد حظي بدعم الاستخبارات الأمريكية)

وهذا التحاشي يؤيد وجهة نظرنا أن الأمريكان وبريطانيا هما وراء كتابة هذه الرواية.

14ــ جاء في ختام الرواية في الصفحة 414 في إشارة إلى تاريخ كتابة الرواية: (كتمندو/نيبال 1992 – ليما/بيرو 2002)

ومملكة النيبال (أصبحت جمهورية في عام 2008) تقع في قلب قارة آسيا بين الهند والصين، أما جمهورية بيرو فتقع في غرب قارة أمريكا الجنوبية. ولا نجد أي رابط بين مكان الدولتين وبين كاتب يتناول هكذا رواية تُعنى بشخصية عربية. وقد تكون عبارة الكاتب التي ختم بها روايته صحيحة وقد تكون للتمويه لتشتيت ذهن القارئ.

أخطاء في الرواية:

لم تخلُ الرواية من وجود بعض الأخطاء، ومنها:

1ــ جاء في الصفحة 13: "صلاح الدين بطل حطين الذي خرج من هذه الديار وقهر الفرنجة في القدس سنة 1138"

والصحيح أن هذا تاريخ مولد صلاح الدين، أما تحرير (بيت المقدس) فكان في عام 1187.

2ــ جاء في الصفحة 26: "حين رجع إلى بغداد وجد مهمة ثالثة في انتظاره: تهذيب إمام جامع الحسين الذي وصف البعثيين في خطبة الجمعة بقُطاع الطرق" وفي السياق نفسه جاء في الصفحة 28 عن إمام الجامع نفسه: (قارن بين خطته الصبيانية لترهيب إمام جامع عطا)

وهنا نجد أن اسم الجامع قد تغيّر من (جامع الحسين) إلى (جامع عطا)، وهو خلل بالتأكيد.

3ــ جاء في الصفحة 72: "وكراساً بقلم ميشيل عفلق: على سبيل البعث"، وتكرر في ص128: "أعاد قراءة: على سبيل البعث 7 مرات"، وفي ص187: "في 1960 قرأ: على سبيل البعث"

والصحيح في اسم الكتاب (في سبيل البعث)

4ــ جاء في الصفحة 161 عند الحديث عن خير الله طلفاح: "في خريف 1981، عيّنه الرئيس العراقي صدام حسين عمدة لمدينة بغداد"

والصفحة كلها أخطاء معلوماتية. أولاً: مفردة (عمدة) غير متداولة في العراق، وإنما محافظ. ثانياً: صار خير الله طلفاح محافظاً لبغداد بداية السبعينيات وليس في بداية الثمانينيات، إذ اشتهر عنه محاسبته ارتداء الزي الرجالي (الجارلز) والنسائي (البكيني) السائد حينئذ، وكتب عن ذلك القاص عبد الستار ناصر قصته القصيرة (سيدنا الخليفة) ونُشرت في عام 1975 وسُجن على أثرها عدة أشهر.

5ــ جاء في الصفحة 180: "أُعدّت خطة انقلابية تُنفذ في 6 كانون الثاني/ يناير 1958، يوم استعراض الجيش. عبد الرحمن رفض تنفيذ الخطة بحجة عدم وجود ذخيرة كافية. بعد خمسة أسابيع أقدم الأخ الأصغر – عبد السلام – على تنفيذ ما عجز عنه الأخ الأكبر عبد الرحمن. ثورة 14 تموز/يوليو 1958"!

والصحيح بين شهر كانون الثاني 1958 وشهر تموز 1958 ستة أشهر وليس خمسة أسابيع.

6ــ جاء في الصفحة 181 عند الحديث عن الأخوين عارف: "تحطمت طوافة الرئاسة على صخور بادية الشام، فوجد عبد الرحمن عارف نفسه مضطراً للارتفاع درجة أخرى على سلم السلطة)

والصحيح كما هو المشهور، أن تحطم طائرة عبد السلام عارف كانت في (التنومة) في البصرة، فما علاقة البصرة ببادية الشام؟

7ــ جاء في الصفحة 191: (رئيس الحرس الجمهوري العقيد عبد الرحمن داود) وتكر الاسم أكثر من مرة.

والصحيح هو إبراهيم عبد الرحمن الداود.

8ــ جاء في الصفحة 284 وما بعدها بعدة صفحات تم استدعاء اسم "يوسف رزق الله غنيمة" على أنه شخصية يهودية في العهد الملكي وصار وزيراً للمالية لخمس مرات. ومات بحادث دهس بسيارة سعدون شاكر في عام 1970.

وهنا وقع المؤلف في خطأ مزدوج، فمن جهة هذا الاسم الثلاثي (يوسف رزق الله غنيمة) هو اسم شخصية عراقية مسيحية وليست يهودية، وهو سياسي ومؤرخ وصحافي وكاتب توفي في عام 1950، ومن جهة أخرى فاليهودي الذي صار وزيراً للمالية خمس مرات هو ساسون حسقيل المتوفى في عام 1932 (اسمه موجود أيضاً في هذه الصفحات). ربما كانت مشاهد وأحداث هذه الصفحات في الرواية من خيال الكاتب، وهو ما أميل إليه، ولكن كان عليه اختيار الاسم المناسب لشخصية اليهودي، لا أن يستدعي اسم شخصية مسيحية معروفة ويلبسها الثوب اليهودي.

9ــ جاء في الصفحة 286: "بقي حسقيل – يقصد وزير المالية اليهودي ساسون حسقيل – في بغداد ثلاث سنوات ثم هاجر إلى كندا ومات بسرطان البروستات في مونتريال عام 1939" والصحيح أنه مات في باريس في عام 1932.

10ــ جاء في الصفحة 366 : "العقيد رفعت مصطفى أمر بتنفيذ عملية إنزال لمغاوير اللواء السابع عشر" لغرض القبض على ناظم كزار.

ولكن بعد صفحتين أي في الصفحة 368، يُتهم هذا العقيد بالتواطؤ مع ناظم كزار ويُحكم بالإعدام، ولكن تحت اسم (العقيد عزت مصطفى) مما يدل أن المؤلف أخطأ في الاسم، وهذا طبيعي لأن الرواية حفلت بعشرات الأسماء الحقيقة والوهمية، مما يستدعي نباهة ودقة في استدعاء هذه الأسماء.

11ــ جاء في الصفحة 386 عند الحديث عن فاضل البراك: "عام 1984 نشر الأستاذ المذكور كتاباً عنوانه (المدارس اليهودية والإيرانية في العراق) كان البحث الذي نال عنه شهادة الدكتوراه في جامعة لينين عام 1949"

وهنا وقع المؤلف في خطأ ثلاثي: الأول: كتاب (المدارس اليهودية والإيرانية في العراق) ليس هو أطروحة الدكتوراه لفاضل البراك، بل كان عنوان الأطروحة (دور الجيش العراقي في حكومة الدفاع الوطني والحرب مع بريطانيا سنة 1941). الثاني: أن العام الذي حصل فيه على الدكتوراه عام 1979 وليس في عام 1949 (علماً أن البراك من مواليد 1942، فكيف حصل على الدكتوراه في عام 1949؟)، الثالث: أن الجهة المانحة للشهادة كانت معهد الاستشراق التابع لأكاديمية العلوم السوفيتية في موسكو وليس جامعة لينين كما ذهب مؤلف الرواية.

مجهولية مؤلف الرواية:

أكاد أجزم أن مؤلف الرواية (مهدي حيدر) هو اسم وهمي، وأن مؤلف الروائي الحقيقي هو كاتب أو صحفي غربي متمرس بالشأن العراقي، ولديه معلومات واسعة عن العراق، وكتب روايته هذه باللغة الانجليزية أولاً ثم قام مترجم عربي لديه خبرة واسعة بالترجمة الأدبية بترجمة الرواية إلى اللغة العربية. وهذا الجزم تأسيساً على ما سبق ذكره من الرواية وعلى ما يلي:

1ــ ورد اسم مولود مخلص التكريتي، باسم (مولود مكلس) مما يدل أن المترجم نقل الاسم كما هو، ولو كان المؤلف عراقياً لما خفي عليه اسم (مخلص)، فالمترجم نقل كلمة (مكلس) كما هير(mukhlis)

2ــ تكرر اسم عبدالرحمن داوود ضمن أسماء الذين قاموا بانقلاب 1968، والصحيح إبراهيم عبد الرحمن الداوود، ولو كان المؤلف عراقياً لما خفي عليه ذلك.

3ــ جاء اسم ناصر الحاني، وزير خارجية انقلاب 1968 باسم (ناصر الهاني) مما يدل على أن المترجم نقلها من اللغة الانجليزية كما هير(alhani)

4ــ جاء في الصفحة 10: (حاملاً صباطه) ويقصد الحذاء، ونحن في العراق لا نقول للحذاء (صباط)؟ علماً أن هذه الكلمة تكررت أكثر من مرة في الرواية.

5ــ جاء في الصفحة 15، في وصف ساجدة خير الله طلفاح: ".. وتشبه نساء الحارة حين تفك شعرها"، وتكررت مفردة (الحارة) أكثر من مرة في الرواية، وكما نعلم فإن مفردة (الحارة) مفردة شامية ولا يتم تداولها في العراق، وإنما يُقال: محلة أو طرف أو حي.

6ــ جاء في الصفحة 22 عن صدام حسين: (في 1976، بعد أن صار حاكم العراق الخفي "رجل بغداد القوي" خلع عليه رئيس البلاد أحمد حسن البكر رتبة جنرال، وهو الذي ما كان يوماً جندياً"

من المؤكد لا توجد ضمن التوصيفات العسكرية في العراق رتبة جنرال. علماً أن الرتبة التي مُنحت لصدام أيام حُكم البكر (رغم عدم دخولة للكلية العسكرية) هي الفريق أول الركن.

كما جاء في الصفحة 30: (الكولونيل عبد الكريم قاسم) وتكررت لفظ الكولونيل أكثر من مرة. كما تكررت مفردة (جنرال) أكثر من مرة. في الصفحة 78. وفي الصفحة 153. وهذه توصيفات وألقاب لا يتم تداولها في القاموس العسكري العراقي.

7ــ جاء في الصفحة 20: (كان مولود مكلس مات قبل وقت قصير.. حارب مكلس في الثورة العربية ضد الأتراك.. عينه الملك فيصل الأول مستشاراً خاصاً بعد استقلال العراق ونائباً لرئاسة مجلس الشيوخ)

لقد تردد اسم (مكلس) في الرواية أربع مرات، والمقصود به (مولود مخلص التكريتي)، وهو شخصية سياسية واجتماعية من مدينة تكريت، له الفضل بوصول الكثير من ضباط مدينة تكريت وقتئذ إلى السلك العسكري، ومنهم (أحمد حسن البكر، وخير الله طلفاح)

وجاء في هذا النص عبارة (مجلس الشيوخ)، ونحن نعلم أنه لا يوجد في العهد الملكي هيكل او توصيف إداري أو سياسي باسم (مجلس الشيوخ) وإنما هو (مجلس الأعيان)، وهذا يدل مع كتابة اسم (مكلس) هكذا، أن الرواية كُتبت أولاً بلغة غير عربية وتم ترجمتها لاحقاً من مترجم غير عراقي.

8ــ جاء في الصفحة 33: (في آب/أغسطس 1958 أُعلن تشكيل محاكم ثورية برئاسة ابن عم الرئيس قاسم، فاضل عباس المهداوي..) وتكرر ذلك في الصفحة 68.

والصحيح إنه ابن خالته وليس ابن عمه. ولو كان الروائي عراقياً لما خفيت عليه هذه المعلومة التي يعرفها الجميع.

9ــ يبدو أن المؤلف (ولكونه غير عراقي) لا يعرف من الرُتب العسكرية العراقية غير رتبة (العقيد) إذ تردد في معظم صفحات الرواية: (العقيد أحمد حسن البكر، العقيد عبد الكريم قاسم، العقيد عبد السلام عارف، العقيد عبد الوهاب الشواف، العقيد حردان التكريتي، العقيد صالح مهدي عمّاش، العقيد يحيى عمران، العقيد عبد الكريم سليم حيدر، العقيد عبد الرزاق النايف، العقيد عبد الرحمن داود، العقيد سعدون غيدان، العقيد حماد شهاب، العقيد عبد الكريم مصطفى نصرت، العقيد عبد الغني الراوي، العقيد صالح مهدي، العقيد حسن الجاسم، العقيد مدحت سليمان، العقيد يحيى هيثم، العقيد حسن التازي، العقيد رفعت مصطفى).

فهؤلاء على امتداد صفحات الرواية كلهم (عقيد)! بحسب المؤلف. وهذا دليل آخر أن مؤلف الرواية ليس عراقياً، كما أن المترجم (كما أجزم) ليس عراقياً هو الآخر.

10ــرجاء في الصفحة 39 من الرواية: (لكنه لا يجيدها كما يجيد لعبة الداما)

إذا كان الكاتب يقصد بها لعبة (الدوملة) لكتبها كما هي باللهجة العراقية، ولو كان يقصد (الطاولي) لكتبها كما هي، ولو كانت غير ذلك فلا نعرف في العراق لعبة بهذ الاسم.

11ــ جاء في الصفحة 42 عبارة: (حجارة الباطون)

لا توجد تسمية في العراق لهذا النوع من الحجارة، وربما يقصد المؤلف بها (البلوك)

12ــ جاء في الصفحة 64 من الرواية: (يشرب ويدخن سيجارة تلو أخرى، حتى بدأ الألم في زلعومه)، كما جاء في الصفحة 81: (علقت اللقمة في زلعومه)، وجاء في الصفحة 139 (كأن قلبه عالقٌ في زلعومه).

إن هذه المفردة (زلعومه) لا يتم تداولها في العراق، بل يُقال (بلعومه) أو (حلقومه)

13ــ جاء في الصفحة 70 من الرواية: (قبيلة غرغرية الكردية ضد القبيلة ذاتها.. فقراء حي المكاوي ووادي هجر ضد ارستقراطية حي الدواش..)

والصحيح في هذه الأسماء: القبيلة الكردية اسمها (الكركرية) أو (الجرجرية)، ووادي هجر اسمه (وادي حجر)، وحي الدواش اسمه (حي الدواسة) مما يدل أن المترجم نقلها من اللغة الإنجليزية كما هي.

14ــ جاء في الصفحة 72رمن الرواية: (ملابسه الداخلية وكنزته الصوف امتصتا الدم النازف من بطنه)

ومن المؤكد أننا نحن في العراق لا نتداول كلمة (كنزة) وإنما نقول (بلوزة)

15ــ جاء في الصفحة 83 من الرواية: (وعاء الثلج المعدني، جاط الخضرة، صينية الكباب)

ومن المؤكد أننا في العراق لا نتداول مفردة (جاط) وإنما نتداول مفردة طبق أو صحن؟

16ــ جاء في الصفحة 95: (وقفا وسط سحابة كثيفة من الغبار ومن دخان المازوت)

ومن المؤكد أننا في العراق لا نتداول مفردة (مازوت) وإنما الشائع تداول (كازأو بنزين أو نفط أو وقود)

17ــ جاء في الصفحة 120 من الرواية: (أحد الرفاق البعثيين في السجن حسن عادل الأميري، سأله..)

والصحيح اسمه حسن علي العامري. مما يدل أن المترجم نقل كلمة (الأميري) كما هي:

(Al-Amiri)

18ــ جاء في الصفحة 135: (.. سعدون شاكر الذي يمت بصلة قربى إلى آل مجيد)

والحقيقة أن هذا الرجل واسمه الكامل (سعدون شاكر محمود المفرجي العبيدي) من مدينة بعقوبة في ديالى، وليس له صلة قرابة مع (آل مجيد)، ولو كان المؤلف عراقياً لما خفيت عليه هذه المعلومة.

19ـ جاء في الصفحة 147 من الرواية: (ورأى انعكاس قطة سمينة، قطعت الزقاق واختفت في زاروبٍ وراء مطبخ "الوردة البيضاء")

ومن المؤكد أننا في العراق لا نتداول مفردة (زاروب) وهي بمعنى الدربونة أو الزقاق الضيّق.

20ــ جاء في الصفحة 356 من الرواية: (في عام 1989 نشر عراقي مقيم في أوسلو/النرويج كتاباً عن عمله في المخابرات بعنوان – حقوق الإنسان العراقي – باسمٍ مستعارٍ هو وليد الهَيْلي)

والصحيح اسم الكتاب (حقوق الإنسان في العراق) ومؤلفه أحد كوادر حزب الدعوة واسمه وليد الحلي. ومن الواضح أن المترجم نقل اسم (الهَيْلي) كما هو من اللغة الانجليزية (ALHALI)

21ــ جاء في صفحة 367: (.. رأى فلاحاً آخر في القمباز الفاتح اللون وفوقه الجاكيت..)

ومن المؤكد أننا في العراق لا نتداول مفردة (القمباز) ؟، بل يقال باللهجة العراقية الشعبية (صاية) أو (زبون)

22ــ جاء في الصفحة 386: (جهاز المخابرات، الجهاز الأخطر، نشأ من بقايا جهاز "حنين".. طوال عامين تولى مسؤولية هذا الجهاز أستاذ لمادة التاريخ يُدعى فاضل البراق)!

ولو كان المؤلف عراقياً لما أخطأ في اسم (فاضل البراك) وهو أشهر من نارٍ على علم.

هذه النقاط ومما سبقها من نقاط أخرى أشرنا لها، تثبت بما لا يقبل الشك أن الكاتب غير عراقي، وأن الرواية تم تأليفها أولاً باللغة الانجليزية ثم تُرجمت إلى اللغة العربية من قبل مترجم عربي غير عراقي.

***

قراءة: عبد الله الميالي

"مروة وسام قره جة" شاعرة سوريّة من محافظة اللاذقيّة، خريجة معهد هندسي اختصاص مساحة، وخريجة أدب عربي، عملت في دمشق بمهنة التعليم حيث شغفها، كما عملت في تقديم البرامج التعليميّة على الفضائيّة السوريّة... تقول عن نفسها: (بأنها تهوى الشعر كما أظنه يهواني). هي تسعى جادة لديوان شعر متى سمحت الظروف يتضمن حروفها.

قصيدة بلا عنوان، هكذا أرادت الشاعرة "مروى وسام قره جة"، أن تقدم قصيدتها للمتلقي، ولا أعرف هل السبب في تركها العنوان شاغراً هنا سهواً، أم أنها تدرك أن "الحب" الذي شغل كل مساحة القصيدة هو أكبر من أي عنوان، فـ (الحب) لا يحده زمان أو مكان... نعم الحب أكبر من أي عنوان في هذه الحياة، بل هو جوهر الحياة، هو الروح التي تعبر عن وجود الإنسان ذاته، وإن فقد الإنسان روحه أو جوهره لم يعد هناك طعم حقيقي للحياة.

من هذه المنطلق القيمي الإنساني جاءت القصيدة بكل حمولتها الفكريّة والوجدانيّة والجماليّة مشغولة بالحب. فالشاعرة إنسانة تتجلى إنسانيتها في عمق أحاسيسها ووجدانها ومشاعرها وبوحها، ولفرطِ أو عمق معرفتها بجوهر ودلالات الحبِّ، تظل أُمنيتها أن يغمرَ هذا الحبُّ (أمساً فاتها وغدها). بيد أن هذا الحب الذي شغلها تجاوز المحسوس من شهواته، ليتفرد بكل ما يعبر عن الإنسان وطموحه في خلق علاقات إنسانية نبيلة يسودها الأمن والاستقرار والهدوء والسعادة والفرح. ومن هذا المنطلق تقول الشاعرة "مروة":

من ودّ ودّك بادله وزدْ وداً

ضاعف ودادك ما أسخاكَ بالزّيد

فمن رآكَ بعينِ الحبّ أحضنه

بالحب ضاعف ولا تأبه ولا تحدِ

نعم هكذا تتجلى النزعة الصوفيّة في فهمها للحب، إلا أنها ليست نزعة مفارقة للواقع، هائمة في عالم المثال واللامعقول كما هو الحال عن المتصوفة. بل هي نزعة صوفيّة وجوديّة واقعيّة من نوع آخر، تريد أن تربط الإنسان بواقعه كي يتعلم أن خلاصه الأبدي لا يحققه الهروب من هذا الواقع أو الانغماس في ملذاته وكل مآسيه، بل الالتحام والتوحد به إيجابياً، وهذا لن يتم إلا من خلال إدراك الإنسان لمعنى "الحب والتسامح" والبحث عن القيم الإنسانيّة النبيلة في أعماق كل فرد منا وتوظيفها في علاقاتنا اليوميّة المباشرة ألفة ومحبة.

إن الحب كما تقول الشاعرة: لا يقتل بل يُحيي جوارحنا.. ففي الحب ننسى ونتلاشى الحروب والصراع والقهر والاستبداد والظلم وكل ما يسئ إلى قيمنا النبيلة. لذلك تقول شاعرتنا:

هل يحملُ الضرّ من يشفيكَ من كمَدِ

إني لأنسى إذا أحببتُ عالمكم

والحبُّ يأخذني جمعاً بلا أحدِ

أغدو جناحاً وكم تزدادُ يا عددي

نعم العمر محدود ولن يخلد الإنسان في هذه الحياة، لذلك عليه أن يتشبع بالحب ويمارسه في حياته كي يتخلص من شقاء هذه الحياة حيث تقول:

فكن محباً أيا صاحٍ وكن كَلِفاً

ما العمر إلا فقاعات من الزَّبدِ...

إن الفكرة العامة للقصيدة كما بينا تشتغل على "الحب" ولقد استطاعت الشاعرة تحقيق الانسجام والترابط بين الأفكار الفرعيّة داخل معمار القصيدة والفكرة العامة، لقد نقلتنا ببراعة وقدرة على تراسل الأفكار وانسجامها وحسن الانتقال والربط بينها، كما يلاحظ المتلقي أيضًا عمق الأفكار وابتكارها وأصالتها، وهذا ما يؤثر في المتلقي ومشاعره ويشعره كأنه أمام حدث فكري صيغ بأسلوب قصصي.

الصورة في القصيدة:

لقد شكلت الصورة عنصرًا بارزًا ومهمًّا في هذا النص الشعري، إذ لجأت الأديبة إلى تغليف أفكار النص وتثبيتها في نفس وذهنية القارئ بالصور إلى جانب المعنى، وهذا ما أيقظ العواطف؛ في لغتها التصويريّة. لقد كانت الشاعرة أكثر قدرة على التعبير في بوحها من التقرير. وبالتالي  كلما كان الأدب تعبيريًّا كانت الصور هي التي تتشكل في ذهن القارئ. أما حين يكون الأدب تقريريًّا فإن الأفكار تطغى على الصور.

لقد جاءت الصورة عندها جزئيّة ومباشرة ومشبعة بمفردات البلاغة من تشبيه واستعارة وكناية ومجاز: (أن يغمرَ الحبُّ أمساً فاتني وغدي)، (فمن رآكَ بعينِ الحبّ احضنه)، (لا يقتل الحبُ بل يُحيي جوارحنا)، (والحبُّ يأخذني جمعاً بلا أحدِ)، (ما العمر إلا فقاعات من الزَّبدِ....).

ولكون الشاعرة استطاعت أن تجعل من تراسل صورها حكاية أو اقصوصة حب، فقد أَلَفَتْ هذه الصور الجزئيّة مع بعضها نسيجاً حيّاً من الدلالات المتكاملة والمترابطة ليس مع بعضها فحسب، بل ومع مكونات وخلجات الشاعرة النفسيّة والفكريّة أيضاً لتصبح في الغالب صوراً جديدةً من نسج جديد، يتراءى فيها عالم الشاعرة الداخلي وارتباطه بعالمها الخارجي الذي تدفقت عواطفها واحاسيسها نحوه دون حساب من أجل الارتقاء به عن طريق الحب.

هذا وقد تماها الخيال في قصيدة الشاعرة بالصورة والمجاز. فالخيال المعتمد على أساليب البيان من استعارة ومجاز وتشبيه، يفسِّر مدى ارتباط هذا الخيال بعواطف المتلقي والتأثير فيها من جهة، وبأسباب تجلي هذا الجمال وقدرته على إبراز المعاني في القصيدة وتوضيحها من جهة ثانية.. وبالتالي مدى قرب هذا الجمال ذاته وسرعة إدراكه من قبل المتلقي من جهة ثالثة.

الايقاع في القصيدة:

لقد اشتغلت الشاعرة "مروة" على البحر (البسيط)، وعلى قافية حرف (الدال). وبالتالي هي لم تتمرد كشاعرة معاصر على الوزن والقافية، بل أجادت اختيار البحر والقافية معا، فجاء الرتم الموسيقي هنا مطابقاً في الواقع لمضمون بنية القصيدة وإعطائها جماليّةً ورهافةً أثرت بالمتلقي. إلا أن الشاعرة استطاعت برأيي أن تعتمد بحرفيّة على الصوت في تحقيق الإيقاع، فالصوت جًسًدُ الشّعر، وبه يقوم المعنى. إن المادة الصوتيّة في السياق اللغوي هي عبارة عن الأصوات المتميّزة من تعاقب الرنات المختلفة للحركات والإيقاع والشدّة وطول الأصوات والتكرار وتجانس الأصوات المتحرّكة والسّاكنة ونعومتها، وغير ذلك ممّا يثري الإيقاع ويغنيه، كما اعتمدت الشاعرة أيضاً على الصورة كثيراً في قصيدتها بوصفها مطلباً يُفضي إلى موسيقى جديدة نغمتها مشاعرها وانفعالاتها المرتبطة بالموقف (أهمية الحب) الذي أدى إلى إعطاء قيمة أكبر للإيقاع النفسي وللنسق الكلامي من صورة الوزن العروضي للبيت الشعري.

إن الشاعرة بالصوت والصورة والبلاغة، أمنت في أبيات قصيدتها موسيقى داخليّة جميلة جداً يتساوق بناؤها مع تجربتها.

العاطفة في القصيدة:

العاطفة هي الانفعال النفسي المصاحب للنص، وفي القصيدة نلمس بشكل واضح الانفعال الهادئً الايجابي المشبع بالإنسانيّة والأمل. كما نلمس في القصيدة جانباً مضمرا يحمل هماً وطنياً إلى جانب الهم الإنساني العام.. أما دوافع عاطفة الشاعرة فهي القيم الإنسانيّة العميقة والثابتة، نعم هي عاطفة جياشة، تحمل هماً فرديّا  في مضمونها إلا أنه هم عام في دلالاته.

لغة القصيدة:

لقد توشحت لغة القصيدة بالسماحة والسهولة والترابط والسبك والعذوبه والنعومة والرقة والشفافيّة. والأهم أنها كانت لفة فصيحة بسيطة في الظاهر، وهذا ما يجعل المتلقي يشعر بأنها لغته هو التي يحمل فيها آماله وطموحاته ومعاناته، بيد أنها ليست لغة تقريريّة. إن حسن اللفظ في القصيدة حقق إلى جانب كل سماتها التي أشرنا إليها، رنتها الموسيقية اللذيذة في الأذن أيضاً، فكانت اللفظة الواحدة منسجمة مع بقية أجزاء الكلام، وهنا يكمن سر غرابة السبك وبراعة الصياغة وفن التعبير.).

أخيراً نقول : لقد كنا أمام قصيدة لشاعرة، تمتلك أدوات حرفتها تماماً، استطاعت عبرها أن تنقلنا إلى مساحة كبيرة من الأمل والتفاؤل والمعرفة معاً.. ففي الأمل رحنا نجد أن هناك أصواتاً حرّةً في عالمنا الإنساني الذي فُقد الحب بين مكوناته البشرية في كل مكان، أخذت تقول بإمكانية هذا الأمل أن يزرع عندنا التفاؤل بعالم أفضل. (ونحن محكومون بالأمل) كما يقول المسرحي الراحل "سعد الله ونوس". وكما تقول شاعرتنا:

لفرطِ حبي لطعمِ الحبِّ أُمنيتي

أن يغمرَ الحبُّ أمساً فاتني وغدي

وفي التفاؤل بينت لنا الشاعرة عبر بوحها إن تمسكنا الحب هو طريق لتجاوز معوقات هذا الواقع المرير المشبع بالقهر والظلم والفقر والجوع والغربة والدم.

لا يقتل الحبُ بل يُحيي جوارحنا

هل يحملُ الضرّ من يشفيكَ من كمَدِ

وأخيرا استطاعت الشاعرة عبر بوحها أن تحقق المعرفة بأهمية الحب لمن يجهل قيمته بقولها:

فكن محباً أيا صاحٍ وكن كَلِفاً

ما العمر إلا فقاعات من الزَّبدِ....

***

د. عدنان عويّد

كاتب وباحث وناقد من سوريا

.......................

القصيدة:

لفرطِ حبي لطعمِ الحبِّ أُمنيتي

أن يغمرَ الحبُّ أمساً فاتني وغدي

من ودّ ودّك بادله وزدْ وداً

ضاعف ودادك ما أسخاكَ بالزّيد

فمن رآكَ بعينِ الحبّ احضنه

بالحب ضاعف ولا تأبه ولا تحدِ

لا يقتل الحبُ بل يُحيي جوارحنا

هل يحملُ الضرّ من يشفيكَ من كمَدِ

إني لأنسى إذا أحببتُ عالمكم

والحبُّ يأخذني جمعاً بلا أحدِ

أنسى الحروبَ وخوفاً بات يخنقكم

أغدو جناحاً وكم تزدادُ يا عددي

فكن محباً أيا صاحٍ وكن كَلِفاً

ما العمر إلا فقاعات من الزَّبدِ....

***

الشاعرة مروة وسام مروة

لكي ننفكَّ من قيد المصطلحات؛ إذ نقف على رزمةٍ منها منذ كتاب (تدوروف)، الذي تُرجِم بعنوان «مدخل إلى الأدب العجائبي»- مثل: الخرافي، والأُسطوري، والعجائبي، والغرائبي، والخوارقي، والفنتازي- نرى أنَّ جماع تلك المصطلحات يتمثَّل في ما هو (فوق الواقع من الأدب). واختزال هذا المصطلح في (السُّرياليَّة) في بعض الكتابات محض اختزال؛ فما فوق الواقعيَّة مفهوم أشمل من مذهب فنِّيٍّ واحد. ولقد يجمع نصٌّ ألوانًا شتَّى من تلك الأشكال غير الواقعيَّة، ما يحملنا على أن نسميها جميعًا (أدب ما فوق الواقع).

على أنَّ الأدب من هذا القبيل ضربان: ضربٌ شَعبيٌّ، موروث، وضربٌ فرديٌّ مختلَق، وغير خلَّاق؛ وإنَّما يَنْجُم لغايات شخصيَّة، أو أيديلوجيَّة، أو إعلاميَّة، أو تجاريَّة.

وإذا كان من بدهيَّات فَنِّ السَّرد عمومًا أن يُفضي النصُّ إلى قيمةٍ ما للمتلقِّي آخر المطاف- لا ميزة في ذلك لنهجٍ في القَصِّ على نهج- فإنَّ النُّصوص لتتفاوت في درجة التركيز على تلك القيمة، ومن ثَمَّ لا بُدَّ تتفاوت أدواتها وأساليبها ومستوياتها الفنِّـيَّة.  فكيف إذا كان النَّصُّ يَنْصَبُّ على تأدية تلك الرسالة المنوطة به أوَّلًا وأخيرًا، كما هي الحال في نصٍّ مثل «نَبَأ حَيِّ بن يقظان»، الذي رواه (ابن طُفَيْل) في إحدى رسائله؟ وكيف إذا كان لتلك الرسالة سيطرتها على الناصِّ، بحيث تستحيل إلى عقيدةٍ تتَّخِذ القَصَّ سبيلًا إلى الدعوة والوصول إلى أفئدة الجماهير؟ فنحن عندئذ إزاء نوعٍ من الالتزام، التزامٍ عميقٍ كأعمق ما تكون العقائد.  فما مدَى تأثير ذلك كلِّه في البناء النَّصِّي نفسه؟ وما مدَى تمثيل ذاك النَّمَط من النُّصوص خصوصيَّةً جِنسيَّة؟  تلك هي المنطلقات الأساس لدراسةٍ كُنَّا اشتغلنا عليها حول «نَبَأ حَيِّ بن يقظان»، توخَّىنا فيها الوصول إلى نتائج في حقل النظريَّة النُّصوصيَّة.(1)

لقد كان هذا النصُّ السردي- على سبيل النموذج- يمتاز بخصائص، مثل «الما ورائيَّة»؛ إذ يرتبط بالغَيب، ارتباطًا يميِّزه عن «الخَبَر».  و«الغيبيَّة» هنا قد تعني ما فوق الطبيعة من العالَم، أو عالَـمًا رُوحيًّا، طُوباويًّا، مفارِقًا للواقع المألوف. كما يمتاز بالإعجازيَّة، دورانًا على المعجِز من الأحداث والاستثنائيِّ منها. وكذا «الفَنْتازيَّة»؛ بحيث يتَّكئ على الخيال المجنَّح، بما هي عليه (الفَنْتازيَّة Fantastic) من تحريضٍ مطلَقٍ للخيال في التصوير، وعدم احتفالٍ بمِصداق القَصِّ من الوجهة الواقعيَّة. وكذا «الميثولوجيَّة»؛ متَّخِذًا من الحكايات الأُسطوريَّة، والمصادر السَّلَفيَّة للمأثورات الشَّعبيَّة، ونحوها ممَّا يندرج تحت مصطلح (الميثولوجيا)، وسيلةً للتخييل والتعبير.  وقد تمثَّل هذا في (أُسطورة الظَّبْية الأُمِّ)، إضافةً إلى أنواع منبثَّة من الإشارات ذات المرجعيَّات الميثولوجيَّة المختلفة. كما يَدخل عنصرُ (الحيوان) بصفةٍ محوريَّة أو ثانويَّة.  وما نعنيه من ذلك تلك الاستخدامات ذات البُعد الرمزيِّ والتصويريِّ الأساس. ماثلًا في دَور (الظَّبْية) المحوريِّ، إلى أدوار أخرى ثانويَّة لغيرها: كـ(العُقاب)، و(النَّسْر)، و(الغُراب). 

ومن خصائص هذا النوع من السرد ما تَكتنفه من ضِنانة به على غير أهله، تتوسَّل الرَّمزَ والإيماء.   لكنَّها ضِنانةٌ- كما يصفها (ابن طُفَيْل)- تُشبِه الحِجاب الرقيق، والسَّتْر اللَّطيف، «يَنْهَتِك لِـمَن هو أهله، ويتكاثف لِـمَن لا يستحقُّ تجاوزه حتى لا يتعدَّاه».  فهي ضِنانةٌ نِسبيَّة؛ تُتيح لكلِّ قارئٍ أنْ يأخذ من النَّصِّ بحسبه.  وهي من لوازم هذا النوع من النُّصوص بخاصَّة؛ مِن حيث هو نصٌّ شِفْرَوِيٌّ رمزيٌّ، ومحكومٌ بأهداف رسالةٍ، تسعَى إلى التسامي والشمول في الشكل والمضمون والتأثير. وتلك الخصائص تُفضي إلى طابعٍ عامٍّ في علاقة هذا النوع من النُّصوص بالمتلقِّي.  فـ(النَّبَأ) يرتكز بكلِّ تقنياته الخارجيَّة والداخليَّة، الأسلوبيَّة والخياليَّة، على إحداث التأثير الإيمانيِّ، لا الإقناعي. 

-2-

وكما وُجِد هذا النموذج في تراثنا العربي فإن في تراثنا الشَّعبي منه الكثير. ومنه ما هاجر إلى ثقافات أخرى، غربًا وشرقًا. وفي بحثٍ تطبيقيٍّ كنتُ توقفتُ من ذلك على نموذجَين من المأثورات القصصيَّة في جبال (فَيْفاء).  لا لاستعادة تراثٍ مجهولٍ إلى بيئته الأُولى وأهله فحسب، ولكن أيضًا للإسهامٍ في الدَّرس الأدبي المقارن بما تهيِّئه المادَّة المدروسة من إسهام في هذا الميدان.  ذلك أن الأدب المقارن يفتح الآفاق للتعرُّف على الذات والآخَر، ولسبر العلاقات الثقافيَّة الإنسانيَّة بين شعوب العالم، متخطِّـيًا بمنهاجه الحدود اللُّغويَّة والعِرقيَّة، فضلًا عن الحدود الجغرافيَّة والتاريخيَّة.  ليأخذنا في رحلةٍ إنسانيَّةٍ ماتعةٍ، تكسر الفواصل المصطنعة بين بني الإنسان في تجاربهم على هذه الأرض، تنضاف قيمتُها الثقافيَّة والجماليَّة إلى قيمة أدواتها النقديَّة، الأنجع في تناول مادَّةٍ كمادَّة هذا الموضوع. النموذج الأول تمثَّل في بحثٍ تحت عنوان «بين أُسطورة امْحَمْ عُقَيْسْتَاء في جبال فَيْفاء وأُسطورتَي كَلْكَامش وأوديسيوس Odysseus».  والنموذج الآخَر حكاية أُسطوريَّة تُعْرَف في جبال (فَيْفاء) بحكاية «مَيَّة ومَجَادَة».  وتبدو تلك الحكايةُ الأصلَ الأصيلَ لما أصبح يُعْرَف عالميًّا بأُقصوصة «سندريلا»، التي اتَّخذتْ صِيَغًا عالميَّة متنوِّعة، وبلُغاتٍ شتَّى.(2) 

والحقُّ أنَّ من هذا التراث الشَّعبي المنسي الكثيرَ ممَّا هو جدير بجمعه وتحقيقه ونشره.  وهو تراثٌ نستخفُّ به عادةً، حتى ينبِّهنا الآخَرُ (الغربيُّ) إلى جماليَّاته، أو إلى دِلالاته، أو إلى قِيَمه الإنسانيَّة.  والأنكَى أن ننام عليه حتى نَجِد الآخَر نفسه قد سطا عليه، أو قُل: «أفاد منه»؛ بعيدًا عن حُكمٍ في شأنٍ ما فتئ محلَّ التَّحَرِّي والبحث.

-3-

وإذا كان (الإغريق) معروفين بأساطيرهم، فأساطير الساميِّين أقدم، وأوسع انتشارًا، وإنْ اعتمدتْ على الرواية أكثر من التدوين.  ولقد كان تأثُّر الإغريق بحضارات المشرق وثقافتهم- ويشار هنا إلى حضارة (بلاد الرافدين) و(وادي النِّيل)- منذ وقتٍ مبكِّر في التاريخ، غير أنها اندثرت الأصول المشرقيَّة في معظمها، وبُرِّزَت الآثار الإغريقيَّة حديثًا، بوصفها أصولًا أُولَى، واشتهرتْ مرجعيَّةً للمؤصِّلين، في غضون التيَّار المؤدلَج بالمركزيَّة الأوربيَّة في العقل والفلسفة والحضارة، خلال القرنَين التاسع عشر والعشرين.  وهو ما بات في ذاته اليومَ أُسطورةً من أساطير الأوَّلين!  ذلك أن من النتائج التي تحصَّلت عن البحوث الأنثروبولوجيَّة أنَّ العقل الإنساني واحدٌ في كلِّ مكان، يمتلك القُدرات نفسها، على الرُّغم من الفروق الثقافيَّة بين الشعوب.(3)

-4-

أمَّا في البُعد الثقافيِّ الأدبي، فربَّ قائلٍ: إنَّ الأدباء الغربيِّين هم الذين وضعوا أُسس الرواية بمفهومها الحديث، كما وضعوا أُسس أشياء كثيرة في حياتنا المعاصرة. ذلك لأنَّ الأُمة العَرَبيَّة عاشت منذ القرن السابع للهجرة في سُباتٍ تامٍّ على ماضيها، حتى في مجال فنِّهم الأوَّل: الشِّعر. وخلال تلك الحِقبة وُلِد (ابن خلدون) ووُلِدت مقولته الحضاريَّة، حول «غرام المغلوب بتقليد الغالب».

وفي هذا السياق يمكن أن يقال: كذلك إنَّ أدباء أميركا اللاتينيَّة هم أصحاب السبق في خلق «الفانتازيا» السِّحريَّة، التي يتهافت عليها الروائيُّون العَرَب اليوم، أو بالأحرى ما يُسمَّى الواقعيَّة السِّحريَّة؛ من حيث إنَّ مفهوم «الفنتازيا» يبدو مختلفًا شيئًا ما، يشير إلى أساليب اللَّامعقول، والعبثيَّة التخييليَّة. وهي أمورٌ مشتركةٌ بين فنون شتَّى، وهي قديمة الاستعمال في المصطلح النقدي، ولا تتعلَّق بمدرسة اللَّاتين الأميركان في السَّرد تحديدًا. غير أنَّ هؤلاء «السَّحَرة الواقعيِّين» إنما جاءوا متأثِّرين بالتراث العَرَبي. بل إنَّ بعض بيئاتهم نفسها ما زال متأثِّرًا بالبيئات العَرَبيَّة، ولاسيما الأندلسيَّة، وبعضهم ينحدر من جذور عَرَبيَّة، بعيدة أو قريبة. وهم يقولون ذلك، ويفصِّلون فيه، سواء في مجال السَّرد أو الشِّعر. ولذا فهم أكثر عُروبة منَّا، إذا كانت العُروبة انتماءً ثقافيًّا لا نَسَبًا؛ إذ يؤسفك أن تقف على رأي لـ(أكتافيو باث)، أو (ماركيز)، فتجده يتحدَّث عن التراث العَرَبي وتأثُّره به، وعن الأصول التي ألهمته، أو حتى أخذ عنها مباشرة، ثمَّ تجد العَرَبيَّ في المقابل يجهل تراثه، ويُنكِر على نفسه أنه ذو أصولٍ وعطاءٍ إنسانيٍّ كالآخَرين، ولا يرى الفضل إلَّا «للخواجة»، وكأنه بداية التاريخ ونهايته! ذلك لمرضٍ أُمميٍّ من جهة، ولجهلٍ بالذات وبالتراث من جهةٍ أخرى. وأذكر هنا أنني كتبتُ ذات يوم مقالًا عن (الواقعيَّة السِّحريَّة)، وأصولها العَرَبيَّة، فما كان من أحد الموالين التقليديِّين إلَّا أن انتفض ضدَّ ذلك المقال، منافحًا عمَّا يراه ولاءً مطلقًا للغرب في كلِّ إبداع وحضارة!

إنَّ تطوير الغرب، أو المكسيكيِّين تحديدًا، أو غيرهما، لما ثقفوه عن تراثنا أو التراثات الإنسانيَّة بعامَّة أمرٌ لا خلاف فيه، لكن الخلاف في عزو كلِّ إبداعٍ إلى الغرب، بدءًا وانتهاءً، وكأنه جاء هكذا من فراغ، أو هطل عليهم من السماء، وكأنهم لم يُفيدوا فيه من أحد. وكأنَّنا نحن- بحُكم عمانا المطبق الأخير- خُلِقنا هكذا، وكنَّا كذلك طوال التاريخ. وتلك (عقدة الآخَر الغالب)، في كلِّ مجال. بل إنَّها لم تعد تكفينا (عُقدة الغالب)، التي تحدَّث عنها (ابن خلدون)، بل ترقَّت ليصبح كلُّ ما ليس بعَرَبي جميلًا- في عينينا- وحضاريًّا، وإنْ لم يكن أهله من الغالبين؛ يكفي أنهم ليسوا بعَرَب، وإنْ كانوا متخلِّفين بمعايير التحضُّر. 

وبالعودة إلى مجال الرواية والسَّرد، فإنَّ كتَّابنا المحدثين، بدءًا بـ(نجيب محفوظ)، لم يستلهموا التراث العَرَبي، ولم يطوِّروه كما فعل الآخَرون، وإنَّما قلَّدوا الجاهز المستورد من الغرب؛ لأنهم جزءٌ من الأُنظومة الحضاريَّة التابعة العامَّة؛ ولأنَّ ذلك أسهل. ولهذا لم ينشأ في هذا الميدان تميُّزٌ عربيٌّ حديثٌ يُذكَر، ولا مدرسة، ولا لون ولا رائحة. مع أنَّ بدايات الرواية الحديثة والمعاصرة تشهد بأخذها عن تراث العَرَب، إلى درجة السرقة. وهذه مسألة يعرفها الباحثون في النقد المقارن، وهم كذلك غربيُّون لا شرقيُّون ولا عَرَب. بل لعلَّه ما كان لنا أن نعرف قيمة «ألف ليلة وليلة»، ولا «رسالة الغفران»، ولا «التوابع والزوابع»، ولا «حي بن يقظان»، ولا «رحلة ابن فضلان إلى أوربا في القرون الوسطى»، ولا غيرها، لولا جهود المستشرقين في تحقيق تلك النصوص، وإخراجها من غبار السنين. ولولا جهود الآخَرين في تنبيهنا إلى أهمِّيتها، وقيمتها، وسبقها، فيما كان الأدب الغربي ما يزال «شِعريًّا» بما في ذلك المسرح، ومنذ الإغريق. وعندئذٍ بدأنا نستعيد الذاكرة! لكنها ذاكرة لمَّا تُثمر بعد إبداعًا.

إنَّ أوَّل نصٍّ يمكن أن يمثِّل نصًّا روائيًّا هو نصٌّ عَرَبي، إنْ أخذنا «حيَّ بن يقظان»، لـ(ابن طفيل الأندلسي)- الذي سطا عليه غربيُّون منذ بدايات النهضة، وليس نص «روبنسن كروزو Robinson Crusoe»، لـ(دانيال ديفو Daniel Defoe، ـ1731) إلَّا إحدى تلك السطوات- أو أخذنا سِواه من النصوص، المطبوعة، أو المخطوطة، أو المطمورة.

وهكذا فإن أسلوب السَّرد على طريقة الواقعيَّة السِّحريَّة هو أسلوب الحكي العَرَبي، الذي نجده قديمًا لدَى (الجاحظ) وغيره، بل نجده لدَى أمهاتنا وجداتنا البسيطات، اللائي سمعنا منهن بعض قصص «ألف ليلة وليلة»،  وقِصصًا شبائه بها، قبل أن نسمع بذلك الكتاب التراثي، فضلًا عن أن نقرأه.

ولقد كان بدأَ، فيما نعلم، هذا النَّسَق السَّردي الشَّعبي منذ العصر الأموي مع ازدهار فن القُصاص، و«الحكواتيَّة»، الذي كثيرًا ما يمتزج بالشِّعر والأُسطورة والاستطرادات والنقد السياسي إلى غير ذلك. فهل كُنَّا سنعترف بأسلوبنا السَّردي لولا أن عُلِّب لنا في أميركا اللَّاتينيَّة، وجاءنا على طبقٍ من الإبهار النقدي الحداثي، والمصطلحات السِّحريَّة، والتبشير به مدرسةً معاصرة، وما هو إلَّا بضاعتنا رُدَّت إلينا؟!

نحن، إذن، لا تعجبنا أشكالنا إلَّا إذا رشحت لنا جماليَّاتها عبر المرآة الغربيَّة! بل بالأصح، لا نرى أنفسنا إلَّا من خلال تلك المرآة. وهذه الغفوة قد آن الصحو منها. بل هو العمى الذي يجب أن نجلِّيه عن قلوبنا قبل عيوننا! غير أنَّه لو نادى أحد بغير السائد في النسخة المستوردة، قبل أن يشهد على ذلك شاهدٌ غربيٌّ معتمَد، لقيل عنه: متعصِّب، متخلِّف، متكلِّس، تقليدي، لا يُدرِك القفزات الحديثة التي خطاها الغرب، وإنْ كانت تلك الخطوات إنَّما مشت على جثَّته، بعد أن لبستْ ثيابه. إنَّه العمى الحضاري، الذي نمرُّ بدورته، كما مرَّت به أُمم قبلنا. لا ينفي ذلك ما لدَى الآخَرين من إبداع واستلهام وإسهام، غير أنَّ الفنون تراكم، وتوارد، وتثاقف، وتلاقح. أمَّا أنْ تصل بنا دماثة التواضع إلى نكران الذات، أو أنَّنا كنَّا شيئًا مذكورًا في مسيرة الدهر كلِّه، فإنَّما ذلك هَوانٌ صعب، بَيْد أنَّ مَن يَهُنْ يسهُل الهَوان عليه!

إنَّ المغامرات الحديثة، والحداثيَّة، وما بعد الحداثيَّة، هي لكسر القالب الأوربي- الذي وُضِعت الرواية بأُسسها الحديثة فيه- والتمرُّد عليه. أعني التمرُّد على (البروكرستيَّة Procrusteeanism) الحداثيَّة، نسبةً إلى (سرير بروكرست) في الميثولوجيا الإغريقيَّة، لقولبة كلِّ العالم وفق مقاس السرير الغربي.  من أجل العودة إلى أساليب السَّرد الأصيلة، والمتنوِّعة بحسب الشعوب المختلفة. وما الواقعيِّة السِّحريَّة إلَّا إحدى تلك الصيغ للتمرُّد على الدمغة الاستنساخيَّة التي سادت العالم، كجزء من الدمغات الأخرى، في نطاق الاستعمار الثقافي، سعيًا نحو العودة إلى قيم الاختلاف والتنوُّع الإنساني المثري في الثقافات واللُّغات.

-5-

على أنَّ من الحق القول: إنَّ من النصوص الحديثة والمعاصرة ما لا يرقى لقيمةٍ أدبيةٍ أو اجتماعيةٍ تُذكر. ليس ذلك في السَّرد وحده، بل في الشِّعر أيضًا. ولا سيما حين يصبح النصُّ محض وسيلة إلهاء، وإغواء، وتغييب.  يجاور ذلك فيه أحيانًا عنفٌ لُغوي، ممَّا يُعَدَّ عَرَضًا لمَرَضٍ معاصرٍ عالمي، أكثر استشراءً.  والعنف اللُّغوي ليس سِوَى تمظهرٍ صوتيٍّ للعنف الدموي. وأمَّا ألاعيب الأدباء والنقَّاد المبرِّرة لمثل هذا العنف، فلا تنطلي إلَّا على الثقلاء من أتباع الهوى، أو البلهاء من حوارييهم.  وأنَّى للجمهور الذي يصفِّق عادةً لمثل هذا الأدب، ويتهافت عليه، أن يفقه في النهاية الفرق بين الحقيقة والمجاز، وَفق نظريتهما في البلاغة العَرَبيَّة، أو يعي نظريَّات (كلود ليفي شتراوس) في المعاني الرمزيَّة للكلمات. 

وما هؤلاء الكتاب من العَرَب غير تلاميذ لبعض الخطاب الأدبي الغربي الحديث، الذي يعجُّ بالبذاءات، وبالعنف اللُّغوي، وتصوير الجريمة، والرُّعب، وتطبيع النفوس على تقبُّل الأعمال الدمويَّة، وغير الأخلاقيَّة بأيِّ معيار، سواء في الأدب أو السينما، مسوَّقةً على أنها عبقريَّةٌ وابتكارٌ إبداعي، لا يُشقُّ له غبار! ويمكن أن نضرب مثلًا هنا بمدرسةٍ تأسيسيَّةٍ في هذا المضمار، وهي مدرسة (إدغار ألان بو Edgar Allan Poe، ـ1849)، الشَّاعر والقاص والناقد الأميركي، المشهور بأدبه الغرائبي الغامض، والمعدود رائدًا في الأدب البوليسي. وفي هذا النوع الأخير كان يكتب (بو) أعمالًا أشبه بالتحريض على الإجرام، والتحبيب فيه، أكثر من كونها أدبًا بوليسيًّا، يرسم للجريمة عقابها؛ لتكون له حينئذٍ رسالته النبيلة، حسب مقولة التطهير الأرسطيَّة، أو حتى رسالته العقلانيَّة.  من ذلك، مثلًا، قصة (إدغار ألان بو) القصيرة بعنوان «The Tell-Tale Heart»، التي يمكن ترجمتها إلى «القلب الحاكي، أو الواشي»، المنشورة 1843. وتصوِّر القِصَّة جريمة قتلٍ بشعةٍ جِدًّا ضِدَّ رجل عجوز، وهو نائم. ولم يكن للقاتل من سببٍ منطقي، وإنْ كان منطقًا إجراميًّا، غير أنَّ البطل، كما قال لنا الكاتب، كان يُحِبُّ الرجل العجوز! الذي لم يخطئ في حقِّه قط، ولم يوجِّه إليه أيَّة إهانة، لكن عينه الزرقاء، التي تُشبه عين نَسر، كانت تزعج القاتل! وتذكِّرنا فكرة القصَّة هنا بحكاية «عين الذئب»، للقاصِّ السعودي (محمَّد علوان)، مع الفارق.(4) وهكذا كانت عَين العجوز تزعج البطل المغوار، فقرَّر أن يقتل صاحبها ليتخلَّص من تلك العَين المزعجة إلى الأبد.. هكذا ببساطة، أو قل: بسخافة، قد تُنعَت بالرمزيَّة! ثمَّ بعد شرحٍ مفصَّلٍ طويلٍ ومملٍّ لكيفيَّة تخطيط البطل لتنفيذ الجريمة، الذي استمر عدَّة ليالٍ، يشرح الكاتب للقارئ كيف قام بطله بتقطيع جثة ضحيَّته وإخفائها. كلُّ ذلك بمتعةٍ وتفاخرٍ والتذاذٍ جنوني. لتصيبه في آخِر القِصَّة نوبةٌ هيستيريَّةٌ نفسيَّة، غير مفهومة الأسباب أيضًا، تجعله فجأةً يعترف من تلقاء نفسه لرجال الشرطة بما ارتكبه.

وتلك قِصَّة إجراميَّة بمحتواها أوَّلًا، بائسة، ثانيًا، في فنيَّاتها القصصيَّة. بل قُل: هي قِصَّة لا قِصَّة فيها أصلًا، فلا الجريمة وقعت لأسباب، ولا اعتراف المجرم جاء كذلك لأسباب، واقعيَّة أو غير واقعيَّة. وكأنما الهدف لا يعدو تطبيع الجريمة في المجتمع، بل تعليم هواة المجرمين كيف يمكن أن يجعلوا جرائمهم لُعَبًا احترافيَّة وممتعة. والعجيب أنَّ هذه القِصَّة تقدَّم في (الولايات المتحدة الأميركيَّة) في كتاب منشور بعنوان «The Best Short Stories for High School»، «أفضل القصص القصيرة لطلبة المدارس الثانويَّة»، وقد جعلوها أُولى تلك المفضَّليَّات من القصص القصيرة لطلبة المرحلة الثانويَّة. وبعدها قصَّة «The Murder»، «القاتل»، لـ(جون ستاينبك  John Steinbeck، ـ1968)، الفائز بجائزة نوبل في الأدب، لعام 1962.

وإذن، لا غرابة في ما تشهده الشخصيَّة المعاصرة من تشوُّهٍ، وامِّساخ، ونزوعٍ إجرامي، وجنوحٍ إلى العنف والإرهاب. بل لا غرابة كذلك أن نشهد حديثًا تفنُّن الدول الغربيَّة نفسها في ارتكاب جرائم الإبادة للشعوب، وتأييد ذلك ودعمه بالمال والسلاح، وشرعنته بشتَّى ألوان الخطابات النفاقيَّة واللا أخلاقيَّة؛ فهم خريجو تلك المدارس الأدبيَّة والتعليميَّة، التي تعلِّم فنون الجريمة والانحطاط. هذا علاوة على مدارس تراثهم، بأيديولوجيَّاته العتيقة، التي من تمخُّضاتها أن ترى (الولايات المتحدة الأميركيَّة) اليوم مستعدَّة لدعم الاحتلال الإسرائيلي لـ(فلسطين)، ولو باعت في سبيل ذلك بلاد العم سام بحذافيرها- المحتلَّة بدورها- تاريخًا واقتصادًا وجغرافيا.

إنها الثقافة المسخ- وقد تحوَّلت من نتاج اجتماعي، إلى نتاج أدبي، وتعليمي، وإعلامي- يُمجَّد رموزها، ويمنحون الجوائز، وتُفتَّح لهم أبواب الخلود الوهميَّة، ويروَّج لهم بوصفهم قادة فكر، وروَّاد أدب، ونجوم إبداع، ونماذج عُليا للأجيال الناشئة، وإنْ كانوا بالأحرى مرضى نفسيين، مختلِّين إنسانيًّا، أكثر من أيَّة صفة أخرى شكليَّة يمكن أن تُلصَق بهم أو يُلصقوا بها.

وما الأدباء العَرَب المحدثون؟

إنْ معظمهم إلَّا أيتام، اقتاتوا على موائد أولئك اللئام. مع عُقَد نقصٍ أخرى راسخةٍ لا تخفى، تجعلهم يَعُدُّون كلَّ غربيٍّ قِمَّةً من قِمم التحضُّر والإبداع، ونموذجًا للتأسِّي، لكلِّ حُرٍّ ومجدِّد. والغربي، إلى ذلك، معصومٌ من السَّفَه والعَتَه، وهو فوق النقد والنقاش دائمًا. أمَّا إنْ بدا قبيحًا، فما ذلك إلَّا لأنَّ الشرقيَّ المسكين- لتخلُّفه- لم يَرْقَ إلى المستوى الذي يُدرِك من خلاله عُمق القُبح الجميل المستورد، ومغازيه النيِّرة، ومآربه العظيمة!  

نعم لقد آن الأوان لنقدٍ ثقافيٍّ جادٍّ للأدب، فأين هو؟

وإلَّا كيف يجهد ناقد نفسه في التنقيب عن الأنساق المضرَّة بثقافة المجتمع، المضمرة في النصوص الشِّعريَّة التاريخيَّة، المجازيَّّة، الملبسة، والنخبويَّة جدًّا، ولا يرى الوصفات الجاهزة المكشوفة اليوم، والصريحة، والمباشرة ،والمشروحة بمختلف الوسائل الإيضاحيَّة، المقروءة جدًّا، والمطبوعة جدًّا، في الرواية العَرَبيَّة، ورقيًّا وإلكترونيًّا؟! أيهما أكثر خطورةً هنا، وتأثيرًا على الثقافة، والأخلاق، والمجتمع؟ إلَّا إنْ كانت تلك الأنساق الخفيَّة القديمة- الملومة في إفساد السَّويَّة الثقافيَّة- منظورًا إليها من وجهة نظرٍ عوراء، تُظهر بعضها وتُغطِّى آخَر، وتمتدح ما وافق المزاج- لأنه وافق المزاج- وتعيب نقيضه. وعندئذٍ يكون النقد نفسه قد تَأَدْلَج، فلم يعد نقدًا، ولا عِلمًا؛ إذ لا يرى إلَّا ما يريد، وتُصبح الثقافة تلك مرادفةً للسخافة والسفاهة!

-6-

بالأمس اختُطف الشِّعر العَرَبي إلى ضروب من الهَلْس(5) العَرَبي، تارةً باسم النثر وقصيدته الخُلاسيَّة، وتارةً باسم السَّرد والرواية وديوانهما المعاصر. ثمَّ ها نحن هؤلاء اليوم نشهد اختطاف الرواية العَرَبيَّة نفسها، باسم الرواية التجريبيَّة الفارغة، أو الفنتازيا والعجائبية، أو قل: ما فوق الواقعيَّة. فإذا كان لمضامين تلك الضروب من الأدب في تراثنا العَرَبي القديم وفي تراثنا الشَّعبي القريب مسوِّغاتها وقِيَمها الثقافيَّة، فلا أرى لاستدعائها اليوم من قيمةٍ أدبيَّةٍ أو اجتماعيَّةٍ أو ثقافيةٍ يُعتدُّ بها، بل هو إسهام مع غيره في تغييب العقول، في عصر العِلْم والتحدِّيات المحدقة بالوعي العَرَبي على كل المستويات. ومن هنا يلزم التفريق بين حمولات أدبٍ كانت لائقة بعصر الطفولة البَشَريَّة وأدبٍ يسعى إلى أن يعود بنا اعتسافًا إلى تلك العصور الطفوليَّة، مسثمرًا بقايا جاهليَّاتنا ونزوعاتنا البدائيَّة، التي لم يُفلِح في علاجها التعليم العَرَبي، إنْ لم يكن ما انفكَّ يُمِدُّها بإكسير الحياة الأبديَّة!

وتلك عجائبيَّة معاصرة، حقًّا، تفوق عجائبيَّات التراث مجتمعة!

***

أ. د. عبد الله بن أحمد الفَيفي

.........................

(1)  بحثٌ محكَّمٌ منشورٌ ، (1999)، تحت عنوان «في بِـنْـيَـة النَّصِّ الاعتباريِّ (قراءة جيولوجيَّة في نبإ حَيِّ بن يقظان: نموذجًا)»، (مجلَّة «أبحاث ‏اليرموك»، (جامعة اليرموك)، الأردن، المجلَّد 17، العدد 1، ص 9- 52).

(2)  يُنظَر كتابنا: (2015)، هِجرات الأساطير: من المأثورات الشَّعبيَّة في جبال فَيْفاء إلى كَلْكامش، أوديسيوس، سندريلا (مقاربات تطبيقيَّة في الأدب المقارن)، (الرِّياض: كرسي الأدب السُّعودي- جامعة المَلِك سُعود).    

(3)  يُنظَر: ليفي-شتراوس، كلود، (1986)، الأُسطورة والمعنى، ترجمة: شاكر عبدالحميد؛ مراجعة: عزيز حمزة، (بغداد: وزارة الثقافة والإعلام)، 38.

(4)   الحكاية تبدأ هكذا، (قِصَص قصيرة)، (الرياض: دار العلوم، 1403هـ= 1983م)، 80- 83. ولعل فكرة «عَين الذئب»، كما صوَّرها (علوان)، جاءت من إيحاء عَين (إدغار ألان بو) في قِصَّته تلك. غير أن قِصَّة علوان قد استطاعت الارتقاء عن وحل (بو) إلى شِعريَّة سرديَّة، ذات قيمة فنيَّة. فصَّلتُ القول فيها في كتابي (فصول نقديَّة في الأدب السُّعوديِّ الحديث، (الرِّياض: كرسي الأدب السُّعودي- جامعة المَلِك سُعود، 2014، 1: 255- 281).

(5)   من معاني (الهَلْس) في العَرَبيَّة: مرض السُّلِّ، والهُزال والضمور بصفةٍ عامَّة. وتُحسِن العاميَّة استخدام هذه المفردة في الإشارة إلى كلِّ كلام فارغ، هزيل، مسلول المعنى، لا ماء فيه.

إينانا في الموروث العراقي، هي آلهة رافدينية ترتبط بالحب والجمال، والحرب والعدالة والسلطة السياسية، وكانت تعبد في سومر وعبدها الأكاديون والبابليون والآشوريون تحت اسم عشتار... وقد اختار الأديب سالم الزيدي عنوان روايته (إينانا)(1) التي تمثل اسم فتاة عراقية أيضاً هي قسيمة بطولة الرواية مع حبيبها (مخلص) الذي بقي مخلصاً للوهم الآيدلوجي دون تحديثٍ لأفكارهِ السابقة التي آمن بها أيام فتوته الباكرة، كما هو حال آلاف الشباب الذين وقعوا تحت نير الآيدلوجيات التي دخلت إلى العراق في الربع الأول من القرن العشرين ومنتصفه... ثم دفعوا ثمن ذلك باهضاً (إعدامات / سجون / معتقلات / فصل وظيفي / الهروب إلى الخارج).....

رواية النوفيلا أي الرواية القصيرة وهي ليست من النوع الأدبي الجديد؛ لأن هنالك روايات قصيرة من هذا النوع لأدباء كبار كأرنست همنجواي وديكنز وسواهم وهي نشأت في إيطاليا في القرن الرابع عشر...

وبما أن العنوان يمثل عتبة إجرائية تقارب المحتوى فأقول: إن العنوان هو نص خارجي يكمل النص الداخلي... إن الأفكار الأساسية في الرواية هي الآتي: شاب يساري يغترب بسبب الاضطهاد والملاحقة ويعيش في غربة ويتوقف الزمن لديه عند زمن الأفكار التي آمن بها في صباه التي أصبحت لاتلائم الواقع السياسي المحلي ولا المتغيرات العالمية في موازين القوى الكبرى... بعد التغيير الذي حدث في العراق يأتي (مخلص) بطل الرواية الذي يمثل الشخصية الرئيسة، ويحاول أن يتكيفَ مع الواقع الجديد لكن بصعوبة... فقد وجد من تركهم في حالة تغير ذهني حتى صديقه الذي نظمه سياسياً (قرر الذهاب إلى صديقه الذي كان السبب في انتمائه إلى الحزب حين كان طالباً في الإعدادية) ص 11 ليجد صديقه هذا ومسؤوله بعد عقود من الزمن يقول له (أنا لم يعد لدي أي علاقة بالحزب منذ عشرات السنين توقفتُ عن النشاط السياسي تماماً وأنا الآن مشغول بأمور البيت والوظيفة معذرة) ص 14 وهنا يحدث التقابل السلبي بين مخلص الذي بقي الزمن متوقفاً عنده وبين مسؤوله الذي وعى التغيير؛ فتخلى عن أحلام شبابه المتراكمة وبدأ يفكر بواقعية....إن التجاذب الفكري والنفسي والعاطفي في هذه الرواية كشف حقيقة الشباب المخدوع الذي استعمل كوقود للصراعات على السلطة... وبدأ (مخلص) يقارن بين ما بقي عليه وما هم عليه أعني أصدقاءه في الحزب أو الحياة (تفاقمت المشاكل بين مخلص وأصدقائه القدامى بسبب مواقفه الصارمة) ص53 ف(مخلص) يشهد تحولَ من حوله في الوعي الجديد وبقائه بوعيه القديم... فبدأ يلوك الذكريات (تجول في المدينة وتوقف عند الجدار الذي كان فيه صيد لرجال الأمن عندما كان يكتب شعارات الحزب في ساعة متأخرة من الليل) ص 20 فظل يصارع هاجسين الأول أفكاره القديمة والآخر الواقع الجديد، وفي مسار محاذٍ أيضاً يجد حبيبته السابقة (إينانا) قد تغيرت عندما أصبحت مديرة مدرسة وتلبس الحجاب (لم يعلم أن إينانا قد تغيرت كثيراً لم تعد تلك الفتاة المتحررة من التقاليد المجتمعية كما عرفها) ص 9.... وفي ظل الأوضاع الأمنية المتوترة يقنع حبيبته (إينانا) بالزواج منه وسداد دين حبها له وحبه لها بالزواج؛ ليعوض إحساسه بالهزيمة الفكرية بالانتصار الاجتماعي... وبدأ الحبيبان يحادثان بعضهما يومياً بالهاتف لكن في ليلة ذات وضع أمني متوتر وعند نفاد رصيد هاتفه بالليل أرسل (مخلص) ابن أخته كي يشتري له الرصيد؛ لكنه وجد المحل مقفلاً، فأراد من ابن أخته أن يذهب إلى محل أبعد !!! لكن أخت (مخلص) منعت ابنها من الخروج قائلة لأخيها: (إن الوضع الأمني متوتر فقد انفجرت سيارة عصر اليوم في المنطقة فرد عليها ــــــــ مخلص ـــــــــ بعصبية إذا لم تسمحي له بالذهاب اذهبي أنتِ.. نظرت له أخته بتساؤل وأنت كيف تقبل أن أختك تخرج في ساعة متأخرة من الليل؟ ماذا سيقول أبناء المحلة؟ وماذا سأقول للدوريات عن سبب خروجي؟ هل يصدقوني أنني خرجت لشراء رصيد للهاتف؟) ص 61 فيجيبها بغباء تام (في أوربا المرأة تخرج في أي وقت دون إحراج أو خوف) ص 62 فتجيبه إجابة واعية (أخي نحن في بلاد محترقة وليس في أوربا) ص 62  لم أجد كمتلقٍ أي قناعة في حوار (مخلص) مع أخته فوقع البطل في فخ عدم الإقناع والتعلي؛ فثمة وضوح لأنانيته وخوفه على نفسه من الخروج في الليل... وقعت الرواية في المباشرة والتقريرية بنقد الوضع السياسي وإدانته والاحتجاج الدائم عليه بشكل مباشر(وجد أحد الموظفين الذين يعرفهم جيداً يدير قسماً في الدائرة علماً أن هذا الشخص لا يمتلك الشهادة التي تؤهله لهذا المنصب.....) ص 67 فالنقد جاء مباشراً جداً بالإسهاب حول هذا الموظف... كما جاءت الحوارات قريبة إلى حوارات المسرح أكثر منها إلى حوارات الروايات، ولعل ذلك؛ لأن الكاتب هو مخرج ومؤلف مسرحي أيضاً... فضلاً عن خلو الرواية من المنلوج الداخلي تقريباً مع أن المنلوج الداخلي هو من أعمق الأدوات في الكشف عن دواخل الشخصية وأفكارها الداخلية... يحيط الرواية خيط من الحب ذو التغذية الراجعة الذي كاد أن ينتهي بالزواج لولا أن اُتهم الخطيبان بتفجير السيارة المفخخة التي انفجرت قربهما بسبب تلقي (مخلص) لمكالمة هاتفية بعد الانفجار... فكرة الرواية متداولة ومعروفة إلا أن الإضافة المائزة فيها هي كشف المراهقة السياسية لجيل ضاع بسبب الأدلجة والولاء الأعمى وزيف الوعي.

***

د. مثنى كاظم صادق

..................

(1) إينانا / رواية قصية جداً / سالم الزيدي / الطبعة الأولى 2024 دار رؤى للطباعة والنشر / كركوك

صمت الحواف حين يهزم صوت الطريق

ثمة نصوص لا تُقرأ من أجل الاستمتاع، بل من أجل أن نختبر من خلالها الخدوش التي أحدثها الواقع في وعينا الجمعي.

“نحن والحمير في المنعطف الخطير”، الذي يكتبه القاص اليمني محمد العمراني، ليس مجرد سجل لذكريات قروية أو سرد لحكايات عابرة، بل هو كتابة تستدعي الذات والجماعة إلى مساءلة مؤلمة عن معنى العيش تحت وطأة القهر اليومي والتخلف المتوارث. إنه نص بسيط في ظاهره، لكنه يمارس قسوته على القارئ عبر صمت الأشياء المهملة، وعبر الأصوات التي ارتطمت بجدران التاريخ وانكسرت دون أن يسمعها أحد. هنا، لا تدور الحكاية حول بطل خارق أو فكرة تجريدية، بل حول حيوات معلقة بين انتظار الماء في المنعطف وبين انتظار رحمة السماء. كتابة تهب الألم شكله الأشد تواضعًا: شكل الطفولة المشروخة، شكل الأمل الذي تسرقه الخرافة، وشكل الحروب التي تُنتج الفجيعة اليومية بلا أساطير.

لا تبدو الحكاية هنا مجرد استعادة طفولية أو سرد لسيرة ذاتية متواضعة فحسب، بل هي استعارة مكثفة لانكسار جماعي طويل الأمد، عبر نثر حياة تتشظى بين الجبال والقرى والخراب. الكتاب، وإن جاء تحت غلاف السرد القصصي، إلا أنه يتكئ على بنية تراجيدية تتهكم من مصير الإنسان العربي، خاصة في سياق اليمن المثقل بأعباء الحرب والتهميش.

في بنية النص، يتحول الحمار إلى رمز ثقيل: إنه ليس مجرد دابة تحمل الماء عبر المنعطف الخطر، بل صورة للإنسان ذاته، المساق قسرًا عبر المنعطفات الحادة للتاريخ، بلا وعي ولا إرادة. العمراني يقيم سردية الهلع الطفولي حول المنعطف كمجاز عن رحلة أمة كاملة تسير وراء “الحمير” في لحظة خطيرة من وجودها، مكررة نفس الدروب دون أن تفكر في تغيير المسار.

تتكرر فكرة الفشل الجماعي عبر امتداد السرد: من مشروع إيصال الماء إلى البيوت، الذي احتاج عقودًا كاملة لإنجازه، إلى انهيار المشروع ذاته لاحقًا بسبب غياب التنظيم والفهم المؤسسي. كأن الكاتب يقترح، بلا تصريح مباشر، أن مشكلة المجتمع لا تكمن في الفقر وحده، بل في قابلية عميقة للانقياد والتعطيل الذاتي، في هيمنة ثقافة الإذعان واستمراء الكارثة.

لغة السرد تميل إلى البساطة الخادعة، لكنها تخبئ حسرة ثقيلة. لا يتوسل العمراني البلاغة الزائدة، بل يتعمد أن يجعل التهكم حبل النجاة الوحيد من وطأة الواقع، وكأن الضحك هو الدرع الأخير أمام الانهيار الكلي. تتجاور مفردات الألم والطفولة والموت والخرافة، متداخلة دون أن يضع السرد بينها فواصل صارمة، مما يخلق إحساسًا بالزمن الهلامي، حيث تتراكب التجارب وتتحول الذاكرة إلى وعاء ممتلئ بالخذلان.

تقدم قصص العمراني نقدًا مزدوجًا: نقدًا للبنية الاجتماعية الغارقة في الخرافة، وللذات الفردية العاجزة عن الثورة على الخوف. ففي قصة “بيت تسكنه الخرافة”، لا يتوقف السرد عند السخرية من تقديم العسل والسمن إلى ولي ميت، بل يتجاوزه إلى كشف آلية الاستسلام التي تجعل الأطفال يكبرون وهم يُلقّنون ألا يسألوا. وكأن الكاتب يريد القول: لا شيء ينقذ طفولة مشبعة بالخرافة سوى الكذب الأبيض، أو التمرد الصامت، أو الخيانة الصغيرة التي يبررها البقاء.

الحرب، بما هي ذروة الانهيار الاجتماعي، تحضر بقوة لا تخلو من مشاعر الفقد واليأس. في قصة “الحرب طفل”، يتحول ميلاد طفل إلى لحظة تتزامن مع ولادة جحيم الحرب في اليمن، ليُكتب على المولود أن يحيا في ظل التشرد والخوف. وكأن الحياة ذاتها صارت مشروطة بالنجاة اليومية لا بالتحقق الإنساني. الجملة القصصية هنا تصبح أثقل، يغلب عليها التكرار الموجع، كأن العمراني يريد أن يجرّ القارئ إلى تجربة الانسحاق عبر إعادة اجترار التفاصيل الصغيرة التي تصبح قاتلة عندما تتكرر: الصراخ، الخوف، النزوح، البحث عن دواء، تدهور الصحة، غربة القلب والجسد.

وإذا كانت القصص المبكرة تلعب على وتر الكوميديا السوداء، فإن القصص المتأخرة تتشظى إلى مزيج من العبث والأسى. في قصة “كابوس في العالم”، يبدو السرد وكأنه يحاكي تيار وعي مشوش، حيث الألم الجسدي من خلع الضرس يتحول إلى استعارة صريحة للألم الوطني والاجتماعي: محاولة النجاة في ظل ظروف عبثية ومخيفة، حيث الزمن نفسه يتآمر على الإنسان. خمس ليالٍ من الألم تتحول إلى تاريخ شخصي صغير يعكس تاريخًا جماعيًا أطول.

هنا، يكمن ما يشبه العبث الوجودي الذي تحدث عنه ألبير كامو: أن تجد نفسك مدفوعًا إلى تكرار محاولة الخلاص، رغم معرفتك بأنها عبثية. وكما في عوالم كافكا، تبدو الشخصيات محاصرة في متاهة بلا مخرج، تدور داخل أقدارها الضيقة، مستسلمة لقوى لا تفهمها ولا تستطيع مقاومتها. الطفولة، في هذا النص، ليست بداية بريئة، بل أول خطوة في طريق طويل من الانكسارات الموروثة.

مفارقة أخيرة يزرعها العمراني في قصة “خبر وفاتي”: حين ينتشر خبر وفاته بالخطأ، يجد نفسه محاطًا بأمواج من التقدير والاعتذار، وكأن الموت الزائف وحده يمنح الإنسان، أخيرًا، الاعتراف الذي حُرم منه حيًّا. بهذا يقفل الكتاب بدورة كاملة: تبدأ بالطفولة المعذبة، تمر بمخاض الحرب، وتنتهي بالسخرية من عبث الوجود الإنساني في عالم لا يعترف بالناس إلا وهم جثث أو أخبار عابرة.

ليس “نحن والحمير في المنعطف الخطير” مجرد عمل بسيط. إنه شهادة أدبية على هشاشة الحياة تحت وطأة التخلف والحرب. عمل ينتصر للصوت الإنساني، لا بالخطابة، بل بالحكاية اليومية التي تخترق العظم وتصمت حين تصير الكلمات عبثًا آخر. العمراني هنا لا يطلب منا أن نبكي أو نضحك، بل أن نحمل هذا العبء الصامت للوعي في عالم يركض وراء حميره، ظانًا أن الخلاص يكمن في اللحاق بها.

هكذا تتدفق القصص في هذا العمل كأنهار حزينة فقدت مصباتها، فلا تصل إلى البحر ولا تعود إلى الينابيع. يمضي محمد العمراني بين الذكريات كما يمضي طفلٌ حافي القدمين على حجارة الجبل، يتلمس الوجع في تفاصيل الأشياء الصغيرة: حمار، حجر، كوب ماء، أو نظرة طفل مذعور. في نهاية هذا النص، لا يقدم الكاتب خلاصًا ولا يقترح نجاة، بل يتركنا مع سؤال صامت: هل يمكن أن نواصل العيش بينما نعيد عبور نفس المنعطفات، خلف نفس الحمير، نحمل على ظهورنا نفس الأحلام المهشمة؟

إنها كتابة تنتمي إلى سلالة الألم النبيل، حيث تصير السخرية آخر ما تبقى من جدارة الإنسان بأن يروي، لا ليُغير العالم، بل ليشهد على عبثه، صامتًا كصوت الطريق المهزوم على حواف المنعطف.

***

إبراهيم برسي - كاتب وباحث سوداني

أبني على الغيم للشّاعر التونسي محمّد العلّاقي

** قَبل الغَيم الهَتون:

لاحظتُ عند المصافحة الأولى للمجموعة الشّعريّة: ابني على الغيم.. الصادرة عن دار البياتي للنشر والتي ابدعها الشاعر التونسى محمد العلّاقي (أصيل محافظة القصرين وأستاذ الأدب واللغة العربية بالمعاهد الثانوية وباعث منتدى انطالاس الأدبي والمشرف عليه) لاحظت انّها تمثّل مرحلة أكثر تنوّعا وانفتاحا على أنماط الكتابة الشعرية في تجربة شاعرنا الذي عرفناه آنفا في مجموعته الشعريّة الأولى: ذَوب الرّواح... منحازا الى هَيْبة القصيد العمودي.. فإذا به آنًا يطوّر تجربته باختبار قريحته في قصيد التّفعيلة (الشعر الحرّ) والقصيد النّثري أيضا.. تضمّنت هذه المجموعة أربعا وخمسين قصيدة توزعت على حوالي تسعين صفحة منها حوالي ثلاثين صفحة من الشّعر العمودي (الثلث) والبقية قصائد من الشعر الحرّ والنثري ممّا يحملنا الي القول بأن لشاعرنا نظرة في الكتابة لا تختلف عن الكثيرين من جيلنا في حسم المسائل الخلافية حول ضوابط الكتابة الشعرية ومعايير الشاعرية تمثّلت في توخّي موقف مرن مفاده (أن الشعر هو عملية خلق فنّية تنطلق من خلجات الذّات نتيجة حالة شعوريّة يعيشها الشّاعر الفنّان فيحوّلها إلى حالة شعريّة بلغة متجاوزة للغة المعاجم.. على رأي الدكتور محمد الخبو). وبالتالي تُقاس جودة الكتابة إلى مدى التوغّل والتّوسّع في توليد إمكانات تجسيد تلك الحالة الشعرية (بلغة تتجاوز لغة المعاجم) بقطع النظر عن هيكل القصيدة او وزنها او قافيتها.. وعلى هذا الأساس أكّد الدكتور مصطفى الكيلاني دوما أنّ (المعاجم هي قبور للغة الإبداع الأدبي) هكذا تراءت لي تجربة شاعرنا من خلال هذه المجموعة فيما سأحاول قشع حُجُب الغيم عمّا استطعت إليه سبيلا منها..

** الغيم: (المفتاح اللّغوي الأساسي لرؤيا الشاعر بين العنوان وألمتن)

و الغيم إسم / مصدر مذكّر يستخدم عادة للدّلالة على جمع غيمة التي هي في الأصل كتلة تكثف الماء بعد تبخّره وانخفاض حرارته في الطّبقة الغازية المحيطة بالأرض وهذا المعنى طبعا لا يتناسب مع سياق اللّفظة في الجملة الفعلية التي وضعها الشاعر عنوانا لكتابه: " أبني على الغيم " فجعله قائما على الانزياح بما يمحّض الغيم ليكون أرضيّة صالحة للإنجاز والفعل وبالتالي إثبات الوجود ونحت الكيان أو (تأصيل الكيان) حسب عبارة المرحوم محمود المسعدي..

فماذا يبني لنا محمد العلاقي على الغيم في زمن ممتدٍّ من الماضي إلي الآتي حسب دلالة تصريف الفعل في صيغة المضارع؟؟ وعلى أيّ (غيم) يبني وهو يخرج بالعبارة عن سياق المعاجم؟؟

هذا البناء أو إن شئنا الإنجاز ورد مسندا إلى الأنا / الذّات الشاعرة منشئا كونا شعريا من معالم الخصب تتجاوب اصداؤه في عناوين القصائد (أغلبها من قبيل: سلوا الورد - ربيع مختلف - ابني على الغيم - نحيب الجبل - غيمة سادرة - هي الأرض -وعد الغيم...) وكذلك في مُتونها كتيمات ميّزت لغة الخطاب الشّعري سواء عبر التّوظيف البلاغي أو الرّمزي للمجاز مداره هذه الذات في علاقة بذاتها الفرد وبمحيطها الاجتماعي والثقافي والمكاني والزماني بين الانفعال والتّفاعل.. لذلك انعقدت لغة الكتابة على توظيفات متنوعة لمواقع ضمير المتكلم وطبيعة حضوره وو توظيفات متنوّعة لأبحديات الغيم والمطر والطبيعة عموما وكذلك القصيدة والكتابة في مسارات متنوّعة.. فألفيناه بناء بألواح الكلم على سوامق الغيم دَرُّهُ هتونٌ ودِيَمُ.. من هنا جاء عنوان هذه المداخلة التي حاولت أن تنفذ الي شيء من كوامن هذا الكون الشعري المبلّل بعوامل الرّواء..

** الهتون وما بعده:

يحيلنا تشكيل الكون الشعري في هذه المجموعة على النّزعة الرومنسية المرتبطة بالطبيعة الغنّاء خاصّة بالمطر سواء في ثقافتنا العربية التي يمثل الغيم فيها ظاهرة مُبشّرة بنزول المطر اي الرّواء والخصب احتفى العرب بها كحدث بمثابة عرس وجودي وخاصة منهم الشعراء (امرؤ القيس في معلّقته وعمر ابن أبي ربيعة في مواعيد غرامه تحت جناح المطر وابن خفاجة في تغنّيه بجمال المطر في الأندلس...) أو في الثقافة الغربية التي يمثل الغيم والمطر فيها رمزا للحبّ والزواج حتى أنّ النّاس كانوا يتيمّنون بالزّيجات التي تتمّ في جوّ ممطر لكونها ستعمّر طويلا حسب معتقَدهم (قابريال قارسيا ماركيز في (رواية الحبّ في المنفى) كما أن ما يخلفه جوّ الضباب والغيم والهواء النديّ المنعش وإيقاع نزول المطر من إحساس بالهدوء والارتياح والرّقّة وما يبعثه من مشاعر الحنين يمثّل أرقى درجات الإلهام لدي الشعراء والأستاذ العلاقي منهم إذ يبني على الغيم مستلمها من بواعثه المرجعيّة في جبال القصرين الغابيّة منشئا في ذات الوقت تجربة شعرية رومانسية ليس بالمعنى الغربي الوافد للظاهرة إنّما بالمعنى الدّافق بالمشاعر والتأملات في إطار كتابة معتّقة اتسمت مرجعياتها بخيارات لغوية متينة وصور مُحكمة السّبك متناسلة في مجملها من ثلاثية الأنا (الإنسان والشاعر) والطبيعة بأرضها وسمائها وفصولها وتضاريسها ومناخاتها وخاصة منها المطر وحيثياته المجاورة كما ارتسمت في (قصيدة هي الأرض ص 57:

هي الأرض من تِبر حرفي

تحوك سناها

ومن تُرب حلقي جناها...

وأرضي تعانق سحر السّماء

بأحداق تبر صفا

ربيع وصيف.. خريف شتاء...)

إضافة إلى الكتابة بحرفها وحبّرها وقوافيها وبوحها وإلهامها وأحلامها (قصيدة غيمة سادرة ص 40:

كيف اُسيل لعاب القوافي؟

لتعزف تفعيلتي عن رنين الخواء) في توليفات من تنويع الرمز  والمجاز تروم التّنميق اللّفظي ولا تكتفي باللغة الشعريّة المعتادة (قصيدة: ترصيع الحرف ص 23

سَبّاك مبنى بالبيان مرصّعا

حبّاك مغنى مطرب كرباب

بسلال من لا يحتفي برنيمه

لولا الحروف لما رسمت كتابي)

وكذلك (قصيدة: البياض ص 91

الأغاني مغسولة بدفء الثلج.. كبياض الصّباح على قلبك.. يبعثر الحنين إلى مراتع الخضرة والماء.

و لا تكتفي أيضا بإيحاءات الصورة في تشكُّلها البلاغي أو التركيبي لترتقي أحيانا كثيرة إلى التّشكّل الثّقافي (امضي ولا تغضي ص 51:

هل أستعين بعاضد فيشدّ أزري

مثل هارون لموسى....)

وكذلك (قصيدة عندما. ص 38

عندما ينداح شوقي مدلهما كغروب

يتجنّى لا يعي ما جرّفت أنهُر

 هيرقليدس الفذ من كُروب)

تتجلى الذات الشاعرة من خلالها منحازة إلى الكتابة غير المهلهلة خاصّة في الشعر الذي لا يكون ابدا تعبيرا معتادا ولعلّ التصدير الذي قدم الشاعر فيه وجهة نظره في الكتابة الشعرية ومقروئيتها يبرز تعارضه وبصرامة القوالب الجاهزة ومع الابتذال على حدّ سواء (كلّ قديم حديث في عصره وكلّ تجربة شعريّة تفرض نفسها بمستوى جودتها)

إلى المقطع الذي وضعه على ظهر الغلاف (وهو جزء من قصيدة أبني على الغيم ص 14:

أبني على الغيم صرحا من عطور النّدى

وأملأ الأفق شدوا منه مرتاحا

وأزرع العطف طيبا في رياض الجوى

يُظلّل الوجد قلبا عاج سرّاحا....)

وهذا يؤكده ايضا جنوح الشّاعر إلى المعجم الحوشي في كثير من الأحيان فنجد عبارات من نوع (الرّوق / مهصور الجناح ص15 / هملج النّوم / النّعاس الهمَيسع ص 62 / الدّجنّ ص87 / ندامة الكُسَعيّ ص91...)

لذلك لم يمنع نفسه من المباهاة بامتلاكه ناصية الكتابة في عدد من القصائد وله ذلك بالتّأكيد.

لقد حمّل الشّاعر القصيد موقفا ورسالة جماليّة فنّا ومعنى فضمّنها محتويات لها من الارتدادات نحو الذّات ما لها من الامتدادات نحو الآخر إنسانا ووطنا وحضارة ووجودا. بذلك تجاوزت رؤاه أناه الأدبيّة نحو أناه العاطفيّة في عدة قصائد منها (قصيدة: تعود الذكريات ص11

وهبتكِ قلبي صِدار الأماني

فهلّا وعيتِ مدى ما أعاني...)

فتغنّى بالحبّ وشكا الوجد والشوق بإحساس عميق. ونحو أناه الوجوديّة فتأمّل الحياة والموت ومنزلة الإنسان بينهما واستاء إزاء خريف العمر الدّاهم (قصيدة: قاسٍ عليّ ص 95

قاس عليّ ولا أعيد إلى المدى خفقانه

والعابرون كقطع شحن

ما تركوا لي من نصيبي في الوراثة

ما يصلح للحراثة...

أيّ لحن يتّكئ على مقل الغيم

ليقلب شتائي المتعَب

ربيعا لا يُترِب...)

وامدت أيضا نحو الجذور انتماء وهويّة بدءً بالعائلة (قصيدة: احتفاء بعيد ميلاد ابني عزّو ص 33) والمَنشإ (سبيطلة ص 17 وجدليان ص 20) مرورا بتونس الوطن الأول العشق والقضيّة (قصيدة قرطاج ص 15.. وقصيدة هل من سبيل إلى الإنصاف ص 30:

هل من سبيل إلى الانصاف في بلدي

أم ذاك طيف سراب خلّب نكد؟...

أنّى احتمال الهوان والبلاد لنا

عنوان فخر كغصن ماس من ملد...)

وصولا إلى العراق وفلسطين الوطن الأشمل المثخن بالجراح المنهك بالنّكبات (قصيدة: سلمتم ص 22

سلمتم يا أهالي الرّافدين

لدجلة والفرات تحيّتين...

ترانيم الهوى باحت بحرف

حدا قرطاج بابل أجمعَيْن...)

رافده في ذلك تجربة على وعي عميق بصروف الحياة يحاورها تجربيب على إلمام غير هيّن بتصاريف اللغة الشعريّة..

* آخر المطاف: أو (عرس الذيب بلهجة القصرين التونسيّة):

القصيدة بناء والجملة الشّعريّة بناء.. إلا أنّه بناء يروم (الكون فالاستحالة) في مصافّ الإبداع بصفوة الكتابة وصفوة الرّسالة الجماليّة والقيميّة.. و* أبني على الغيم * لبنة مُجزية من بناء المعنى / القيمة الفُضلى ومحطة مشرقة من بناء القصيدة في سياق الأدب التونسي، تجربة شعرية معتّقة منحازة الى الأصالة والهوية دون انغلاق منفتحة على عصرها وعلى مسار الحداثة دون انقياد أو انسياق. تتحسّس عبر التجريب ذاتها بقلق التّوق نحو أرحب الآفاق.. لذلك أراها امتدادا وإضافة لسابقتها في تجربة الشاعر محمد العلّاقي (ذوب الرّواح) ننتظر ان يواصل (غَيلانها) في مغامرة البناء على الغيم الهَتون إلى أن يصيبَ الشعرَ منه صبيبٌ نافع من رواء الإبداع تكتمل به ذاته وينهل منه القرّاء.. ألم يقل:

أعطّر بالسّحر كلّ الثنايا

أرنّح حرفي ليُرضي أناي..؟؟

***

قراءة أعدّتها الأديبة التونسية كوثر البلعابي

(تاريـخ يتمـزق في جسـد امـرأة) لأدونيس

تمهيـــد: عرف الشعر العربي الحديث حركة إبداعية حديثة ومتطورة، شكلت ظاهرة لفتت انتباه الشعراء والدارسين، تمثلت في تجاوزِ التجاربِ الشعرية السابقة إلى تعميق المضمون بالنهل من مختلف الثقافات الإنسانية، مثل الأساطير والرموز والتصوف، والفكر والفلسفة، والموروث الديني الوثني والسماوي؛ مما أضفى على القصيدة مسحة من الغموض والإبهام أحيانا، عُدَّا من نتائج تطور الشعر الحديث عند عدد من الدارسين منهم الدكتور عبد الرحمن محمد القعود الذي يضع ثلاثة عوامل لظاهرة الإبهام في الشعر العربي المعاصر: " العامل الثقافي والمعرفي وعامل الثقافة والمذاهب الأدبية الغربية، ثم هناك العامل الثالث المتمثل فيما أصاب الشعر العربي من تحولات في بنيته ومفهومـــه(1)

ومفهوم القصيدة الحديثة يَتَشَكّلُ من عالم شِعْري يُعبِّر عن رؤية للوجود والواقع والتاريخ والإنسان وقضاياه وكل ما يتعلق به؛ اعتمادا على رؤيا الشاعر؛ لذلك نهلت القصيدة الحديثة من روافد معرفية متعددة لا يمكن حصرها لدى أهم الشعراء العرب مثل أدونيس قطب الحداثة الشعرية العربية، الذي تتضمن أشعاره، بالإضافة إلى القيمة الفنية الحداثية التي عمل على تطويرها وتحديثها، قيمةً معرفية تتعلق بمختلف الثقافات الإنسانية من تراث فكـري فلسفي وتراث ديني سواء كان وثنيا أو سماويا، تجعل منه مفكرا ومثقفا موسوعيا فضلا عن كونه شاعـرا كبيـرا ومتفـردا. يقـول أدونيس: "لم تعد القصيدة الحديثة تُقَدِّمُ للقارئ أفكاراً ومعانيَ شأن القصيدة القديمة وإنما أصبحت تقدم حالة أو فضاء من الأخيلة والصور ومن الانفعالات وتداعياتها، ولم يعد الشاعر ينطلق من موقف عقلي أو فكري واضح وجاهز إنَّما أخذ ينطلق من مناخ انفعالي نسميه تجربة أو رؤيا"(2)

هكذا، إذاً، كتب شعراء الحداثة قصائدهم محمَّلةً بمضامينَ عميقةٍ تحتاجُ من القارئ أن يكون في مستوى ثقافتهم لفهم قصائدهم وتأويلِ معانيها غيرِ المباشرة التي لا يجوز الوقوفُ عند ظاهرها، بل تجاوزها إلى معانيها الخفيَّة عنْ طريق التأويلِ وفهمِ اللّغة الإيحائية في القصيدة.

وهذا الشعر الجديد حسب أدونيس "يعبر عن قلق الإنسان، أبديا. الشاعر الجديد، والحالة هذه، متفرد، متميز في الخلق وفي مجال انهماكاته الخاصة، كشاعر وشعرُه مركز استقطاب لمشكلات كيانية يعانيها في حضارته وأمته وفي نفسه هو بالذات".(3)

تلك (المشكلات الكيانية التي يَعْنيها الشاعر في حضارته وأمته) هي التي حدت بالشاعر أدونيس إلى النبش في التاريخ الإنساني، والموروث الفكري والديني فأنتج دواوين شهدت على رؤياه الخاصة للإنسان وحضارته، بدءا من (الكتاب)(4) الذي أعلن فيه أدونيس عن موقف جريء من التراث: فقد سعى إلى إزالة صفة القدسية عنه! معتبرا إياه حقلا ثقافيا أنتجه بشر يصيبون ويخطئون، ويمكن أن نحكم لهم أو عليهم، لذا أصبح أدونيس يمارس فكرا نقديا للتراث بلغة الشعر.

والمدونة الشعرية الأدونيسية منطوية على مخزون ثقافي هائل يضع أمام القارئ تراث الإنسانيةَ، بأساطيره ودياناته المختلفة وخرافاته وتاريخه وأحلامه ورموزه، فأدونيس يستدعي كل ذلك ويوظفه توظيفا فنيا يجعل من تجربته الشعرية علامة فارقة في المشهد الشعري العربـي.

ويعد ديوان (تاريخ يتمزق في جسد امرأة)(5) من الدواوين الجريئة في طرح التساؤلات و"تجاوز الخطوط الحُمْر" في تناول الموروث الديني، فقد تجاوز أدونيس ما يُعَدُّ قداسة في الدين. قد نتريث ونقول إن الشعر لغة استعارية بالدرجة الأولى، فيصعب أخذ هذا الديوان على ظاهره، لكن عندما نكتشف أنه يحكي: قصة أم نبي وزوجِ نبي و"معاناتها وكفاحها"، بشكل يناقض النص المقدس يجب أن نتريث لفهم النص الشعري ومقصديته. وكما قلنا سابقا، فأدونيس شاعر موسوعي ويلزمنا - نحن القراءَ- أن نوسع ثقافاتنا للوصول إلى مقصدياتٍ من هذا النوع من الأشعار التي تثير إشكالات كبرى مثل النظرة إلى الموروث الديني الذي يحفل به ديوان (تاريخ يتمزق في جسد امرأة). سنتريث ونحاول سبر أغوار هذا النص الأدونيسي بامتياز.

تأمـل العنـوان:

(تاريخ يتمزق في جسد امرأة) عنوان كبير جدا بالرغم من كلماته المعدوات؛ فالتاريخ علم كبيـر يُعَرِّفه ابن خلدون بأنه " خبرٌ عن الاجتماع الإنسانيِّ الذي هو عُمْران العالم، وما يَعْرِض لذلك العُمْرانِ من الأحوال؛ مثل التوحُّش والتآنس، والعصبيَّات، وأصناف التقلُّبات للبشر بعضهم على بعض، وما ينشأ عن ذلك من المُلك والدول ومراتبها، وما ينتحله البشر بأعمالهم ومساعيهم من الكسب والمعايش، والعلوم والصنائع، وسائر ما يحدث من ذلك العمران من الأحوال"(6)

فهذا التاريخ بضخامته المادية والمعنوية يصيبه التلف والتلاشي عندما يُخْتزل في جَسَد المرأة، ولا يؤول إلى ذلك إلا بسبب "عقلية متخلفة". إن للعنوان بعدا نقديا معترضا على ما أصاب تاريخ الإنسانية وفكرها، فجسد المرأة هو الظاهر الذي يخفي كيانا تجاوزته "العقلية المتسلطة"، إن المرأة في (تاريخ يتمزق في جسد امرة) هي المحك الذي امتحنت فيه قيم الرجولة والعدالة عبر التاريخ، وهي "الضحية" التي "يرجمها العامة مع ابنها"، وكان بإمكان أدونيس أن يقول (تاريخ يتمزق في امرأة) لكن المقصود هو الجسد الذي نُظر إليه نظرة سلبية عبر العصور - في بعض التأويلات الخاطئة للمـوروث الديني- ، وهو الإنتاج المعرفي المستمد من النصوص الدينية، الذي تأوله علماء الدين في مختلف فروع المعرفة، وتم تناقله عبر الأجيال. ذلك الجسد هو العبء الذي جر على المرأة جميع لعنات التاريخ وخطاياه في المجتمعات الذكورية التي تسعى إلى "رجم امرأة مع ابنها". وهي التي كانت تتوق إلى الحرية والحب (أأنا حرة / لأغنيَ حُبــِّـي؟/ص65).

لكن قصدية الشاعر ومحتوى الديوان لا يمكن تَبَيُّنُهُما إلا بعد النبش في باطن قصيدة (تاريخ يتمزق في جسد امرأة) التي يتكئ فيها أدونيس على موروث ديني متنوع بشكل يدعو إلى الرَّويّة في التعامل معها نظرا للجرأة الاستثنائية التي اعتمدها.

- قصيدة بوليفونية:

يستحضر القارئ مباشرة بعد قراءة الأسطر الأولى من هذه القصيدة البوليفونية قصة هاجر زوجِ النبي إبراهيم التي أنجبت له النبيَّ إسماعيل عليه السلام، فهي زوج نبـي وأم نبــي تماما كما في المقطع الأدونيسي:

(هذهِ سيرةُ امرأةٍ عبْدةٍ وابْنِها

نُفِيَتْ لا لِشيْءٍ سوى أنـَّها

كَسَرَتْ قَيْدَها، وَيُحْكى

أنَّها زُوِّجَتْ لِنَـبِيٍّ،

وأنَّ ابْنَها

صارَ مِنْ بَعْدِها نَبِيَّا)(ص7)

إن الصفاتِ التي أسبغها أدونيس على شخصياته تُناقِض ما تضمنه الموروث الديني من عِفَّة وطهارةٍ واستقامَة وتقوى الشخصيات وامتثالٍ لأوامر الله تعالى، فإبراهيم عليه السلام سَلَّم بقضاء الله وترك ابنه وزوجَهُ في "وادٍ غير ذي زرع بمكة" إنها طاعة نبـي قام بما أُمر به من قبل إلهه الذي اصطفاه لتبيلغ الرسالة، وذلك اختبار إلهي، لكن النص الأدونيسي يقدم الأمور على نحو مختلف فالنبي ترك زوجَه وابنه "لا ماءَ لا زرْعَ ..". (ص23) وهذه المرأة في التصوير الأدونيسي شهوانية، تقدس الجسد ونزواته:

" ..ولي شَهـواتٌ،

وأبْحَثُ عَمّا يُمَتِّعُ؟ كَمْ يَصْدُقُ الكافِرونَ. شَهِيٌّ،

جَميلٌ أَنْ نَصُبَّ السَّماواتِ والأَرْضَ في كَأْسِ لَذاتِنا.(39)

وهذه جرأة كبيرة انْتُقد عليها أدونيس غير ما مرة. لقد قدَّم زوجَها النبي متسلطا تَعَمَّد تركها وابنَـها. صحيح أن المبدع يوظف التناص توظيفا خاصا؛ قد يخرج النصُّ الغائب عن مدلوله، لكن أن يتجرأ أدونيس على الشخصيات التي تعتبر شخصياتٍ مقدسةً فهذا توظيف سيء يخدش المشاعر وينبئ القارئَ بما ستأتي به هذه القصيدة المتعددة الأصوات (المرأة – الزوج/الرجل – الراوية) من تطاول على الموروث الديني.

الرجل (النبي/الزوج) متسلط متشبث بالتعاليم التي حصرها أدونيس في القبيلة والأسلاف ومتشبث (بكتاب قديم) ! وصِفَة القِدم عند أدونيس ليست إيجابية طبعا؛ بل ترمز إلى الماضي المتجاوَز وإلى العقلية المتحجرة. والتحرر هو أن "يَقْذِفَ الْحُبُّ جِسْمَ المرأةِ أنَّى يشاء ضد هذي السَّماء) ! (ص21)

يضع الراوي نفسه موضع المدافع عن امرأة: فقد نُفِيتْ لأنها "كَسَرتْ قَيدها"، وكسرُ القيد فعل إيجابي يعادل الحرية والحياة الكريمة، لكنْ أيَّ قيد يقصد أدونيس؟ إنه التعاليم السماوية التي جاءت بها كتب الأنبياء الذين لهم قداستهم في الموروث الديني؛ إنه يزيلها عنهم، فالنبي زوج المرأة العبدة "لم يَجِــئْ في تَعاليمِهِ أنَّها حُرِّرَتْ"(ص7) هذا يشير إلى أن النبي يقيد زوجه العبدة ويمارس قهرا عليها.

هذا هو المدخل الذي يفْتَتِح به أدونيس قصيدته البوليفونية التي تصدم المتلقي بما يراه تناقضا مع ما هو متعارف عليه في الموروث الديني؛ فالأنبياء إنما بعثوا من أجل كرامة الإنسانية وعدالة قضيتها فكيف يكون نبيٌّ طرفا في استهداف امرأة تريد "كسر قيدها".

تتعدد الأصوات ويتمادى الراوي في "تعرية الأنبياء" وفي الدفاع عن امرأة تمردت، لكنها مقيدة بالطفل وهو امتدادها؛ في مقابل حرص النبي زوجِها على " التعاليم الإلهية" حسب ما يُفهم من هذا النص الأدونيسي.

ويفيد الراوي أن كاهنا تحدث عن المرأة بإشفاق (إنها امرأة حية- ميتة)(ص9) مقابل ما "يصدر في حق المرأة من قبل النبي" ! لكنها امرأة النزوات التي تنهج لنفسها حرية التصرف في أنوثتها (قمر للأنوثة للجنس للنزوات وللصبوات)(ص11). هذا القمر الذي "تعبده" متمردةً على تعاليم السماء والأرض (قمر لا لأرض ولا لسماء). (ص11) وتعترض على كونها "عورة" وترتكب زلاتها، وهو اعتراض على ما جاء في غير موضع في الموروث الديني عن أن المرأة عورة. فقد جاء في سنن الترمذي، (حديث1093 ) أن "المرأة عورة فإذا خرجت استشرفها الشيطان". وبالرغم من أن الحديث موجود في أكثر من موضع فهو غريب وضعيف عند فقهاء الحديث، لكن أثره كبير جدا في تشكيل الوعي الديني فيما يخص النظر إلى المرأة، وهو الوعي الذي استهوى أدونيس للدخول من خلاله إلى نقد الموروث الديني من باب الموقف السلبي من المرأة.

والمرأة في نظر المجتمع أداة لإشباع النزوات وما تبقى فهي شر(نصفها رحم وجماع والبقية شرٌّ)(ص13). وفي ذلك إشارة إلى ما تُدووِلَ في الموروث الديني، وتُؤُوِّلَ تأويلا خاطئا يسعى من خلاله أدونيس إلى بناء مواقفه التي تبدو في ظاهرها دفاعا عن المرأة وهي في واقع الأمر بيانٌ لـــتحقير الموروث الديني، ومناصرتها في اعتناق التصورات الوثنية التي تتفق على عبادة الطبيعة واتخاذ عناصرها آلهاتٍ مُبَجّلةً. ورد في نهج البلاغة أن الإمام عليا قال: (المَرْأَةُ شَرٌّ كُلُّهَا وَشَرُّ مَا فِيهَا أَنَّهُ لاَبُدَّ مِنْهَا). وفضلا عن أن هذا الحديث انفرد بروايته الشريفُ الرَّضِي في نهج البلاغة، وعلى فرض التسليم بصحته، يمكن حمل الشَّرِّ فِي الحَدِيثِ عَلَى الجَانِبِ الابْتِلَائِيِّ الَّذِي يَعِيشُهُ الرَّجُلُ مَعَ المَرْأَةِ لَا عَلَى الطَّبِيعَةِ وَالفِطْرَةِ، لِأَنَّ فِطْرَةَ المَرْأَةِ لَا تَخْتَلِفُ عَنْ فِطْرَةِ الرَّجُلِ، فَالعَقْلُ وَالبُعْدُ الإِنْسَانِيُّ وَاحِدٌ فِي كِلَيْهِمَا، إِلَّا أَنَّ اسْتِعْدَادَاتِ كُلٍّ مِنْهُمَا وَافْتِتَانَهُ بِالآخَرِ جَعَلَ المَوْضُوعَ يَكُونُ فِي مَحَلِّ الاخْتِبَارِ وَالابْتِلَاءِ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ. فَلِمَ ينزع أدونيس وهو المثقف والمفكر الكبير إلى التأويل الذي ينال من المرأة أولا ومن الموروث الديني ثانيا؟ !

إن تقديسَ الجسد ورفضَ تعاليم السماء، والاستعانةَ بالميتولوجيا الإغريقية الوثنية من أجل الصراع مع كل ما هو سماوي؛ من أهم الأسس التي بنيت عليها هذه القصيدة البوليفونية. فلابد "من إقفال السماء وعدم تواصل الجسد الذئب الكريم معها" و(أرتميس)، آلهة الصيد والبرية، حامية الأطفال، وآلهة الإنجاب، والعذرية، والخصوبة،(7) في الميتولوجيا الإغريقية؛ هي الـمَــثَلُ والقُدوة والمرجعُ لا تعاليمُ السماء.

ولا تتوقف الجرأة على الدين عند هذا الحد، فأدونيس ينتقل من مستوى إلى مستوى أكثر جرأة على لسان المرأة المتمرِّدة على السماء؛ فهي الحرة في جسدها/ معبودِها ...و"الملائكُ ليسوا ملوكا عليها"(ص17) ولا تجب طاعتهم والامتثالُ لما كُلفـوا بـه؛ بل الطبيعة الوثنية هي السبيل إلى التمرد والخلاص ولا بد من الاعتصام بها. وترفض هذه المرأة أن (تُطْفَأَ الطبيعةُ فيها)(ص18). إنها متمردة تواجِهُ السَّماء بما تحمله من رمزية لأن التعاليم نابعة منها لكنها حزينة، لأن العالم كلَّه يستهدفُها إذْ تريد حرية يرسم أدونيس معالمها الوثنية الشهوانية. وهو ما يرفضه الرجل "المتسلط الماضوي" المتشبث بالسماء وتعاليمها والقبائل وأمجادها وأعرافها.(ص19)

إن أدونيس كاتب موسوعي حقا، لكن موسوعيته في هذا الديوان توظف ضد الدين بشتى أنواع الإشارات والرموز من ذلك استخفاف المرأة "المتمردة" بمسألة فقهية هي (ميراث الحمْل): "كُلُّ ميراثها حَمَل ضائع(7))* ذلك أن الرجل إذا مات، وكان في بطن الأم جنينٌ، فتوريثه ثابت، في الشريعة الإسلامية، وليس بين العلماء في هذا الأصل خلاف. وقد فُصِّلت هذه المسألة في كتب الفقه. (8) كما تستخف بالوحي والتعاليم بنبرة تشكيكية وبلغة جرِّيئة: "هجَّرَتْنا تعاليمُه. أذلك وحي؟"(ص25)

ماذا يريد أدونيس من كل هذا البيان الفكري والموقف من التراث الديني؟ إنه يقدم صورة لامرأة يراها تتوق إلى الحرية وقرنها بأزواج "الأنبياء الذين اسْتَعْبَدوا بتعاليمهم السماوية القبلية المتحجرة المرأةَ" !!. لذا تمردت على الموروث والمجتمع ومارست حرية الجسد في مواجهة المجتمع الشرقي المقيد بأحكام الغيب وتعاليمِ كتبِ أنبيائه؛ فكانت مـدار الصراع ومحور النص وما يصدر عن الآخرين (الرجل والرواية والجوقة) ما هو إلا صدى لفكرها ومواقفها. أدونيس يريد أن "يُعـــرِّيَ" تاريخ البشرية في الشرق أمام العالم بشكل لم يجرؤ شاعر عربي حديث اعتماده؛ فهو، بالنسبة إليه، تاريخ أعمى تقوده رسالات الغيب التي جاء بها الأنبياء الذين "اعْتَدَوا" على الطبيعة الحسية للإنسان لكبت شهوته ونزواته. وفي مقابل كل ذلك ينحاز أدونيس للخرافات الميثولوجية ويعظم وثنيتها، وعلاقتها بالطبيعة وتقديس الجسد على حساب "الكتاب السماوي القديم" فتمني المرأة أن تكون (أرتميس) الآلهة في الميثولوجيا الإغريقية؛ انحيازٌ لوثنيتها. والنبي - حسب أدونيس - "حائــر" لا يعرف كيف يتحايل على تعاليم كتابه السلفي المتوارَث والمفروض من "السماء/ الله" !!!!.

المرأة بين (الجوقة والراوية والرجل) "مناضلة متمردة" ضد ما جاءت به السماء في كتبها وتجاهر برفضها "لا كتاب، خطواتي كتابي"(ص47) كما تجاهر بوثنيتها مخاطبة زوجها:

"اخلعْ ثيابَ السماء، وجئني

في ثياب الطبيعة

لا نشوةٌ، لا كتاب

غير هذا التراب".(ص67)

سيؤول الأمر في آخر هذه المشاهد التي تنضح عصيانا لتعاليم السماء، وتشكيكا بكل ما يرتبط بها إلى رجم المرأة من قبل الحشد مع ابنها الذي اعْتُبِـــرَ جزءا من خطيئتها؛ فلا تسامح ولا رأفة بالمرأة من قِبَل من يرفضون حريتها ووثنيتها. وفكرهم في النص الأدونيسي ذو طبيعة غيبية (موثوقة بحبال النبوات) مناقضة لجوهر الطبيعة القائم على الحس وحرية الجسد دون رقيب سماوي !.

هذه هي النهاية المأساوية التي يختارها أدونيس لكشف (همجية يرى أنها مورست على امرأة تريد حريتها بتجاوز كل التعاليم السماوية وتقديس الطبيعة والجسد) وتعريةِ مجتمعٍ (خاضع لقوى الغيب وجاهل أو متجاهل معنى حياة الطبيعة الحسية).

نقول – مرة أخرى - ماذا يريد أدونيس من (تسفيه) كل ما له علاقة بالدين السماوي الذي يُعَدُّ الغيبُ أحدَ مرتكزاته. قال تعالى (ٱلَّذِينَ يُؤۡمِنُونَ بِٱلۡغَيۡبِ وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلَاةَ/البقرة آية 3:). إن ما سلكه أدونيس لم يطرقه حتى شعراء المجون والشعوبية في العصرين الأموي والعباسي. إنما الشعر لغة الجمال تهفو إليه النفس لما تشكل من صور يبدعها الخيال الثــَّرُّ الذي ينفر عادة من القبح ومن الصدام مع الخصوصيات الدينية كيفما كانت. فالتصدي لتلك الخصوصيات من شأنه إثارة النعرات الطائفية والدينية التي تؤول بالمجتمعات إلى الخراب.

لا تنتهي الأسئلة التي تبحث عن دوافع هذه اللغة الجريئة والمتطاولة على الدين. لعل الراحل جبرا إبراهيم جبرا كان محقا إذ قال مُعَلقا على انحرافات أدونيس الفكرية (لا تعجبوا إن فاز أدونيس بجائزة نوبل !!!) طبعا لم يفز بالجائزة وبقت أراؤه وأفكاره الجريئة تثير أكثر من تساؤل.

***

ميلود لقاح

......................

الهوامش:

1-  الإبهام في شعر الحداثة: العوامل والمظاهر وآليات التأويل، عبد الرحمن محمد القعود، عالم المعرفة، الكويت 2002- ص279.

2-  زمن الشعر: أدونيس –دار العودة بيروت - 1978 (ص 278)

3-  زمن الشعر – ص: 9

4-  دار السـاقــي- بيــروت 1995

5-  دار الساقي 2008- ط: 2

6-  المقدمة. ص33

7-  قاموس المورد، البعلبكي، بيروت، لبنان.

* الشاعر فتح الميم في كلمة(حمل) للحفاظ على السياق العروضي للمتدارك.

8- [الملخص الفقهي:2/290-293] لصالح بن عبد الله آل فوزان.

 

فوق سابع عشق

بعيدةٌ فوق حدودِ الصوت والضوء، وجغرافيةِ الكلام كيانٌ يبني ملجأً خلف القَدر أنا البُعدُ حيث لا آخِر أنا ضحيَّةُ حُلم بلغَ قيامَتَه شَرَدَ من الصَّفعاتِ وخيانةِ الوسائدِ الفاضلة أتأمَّلُ أشيائي الساكنة صباي وكلَّ التفاصيل التي تتدافعُ في البال عَلَّها لم تهرم لم تبلً يرتِّبها الخيال أفراداً تنتظر العاشقَ الذي عاد وانتصر من هذا المكان القصيِّ بي عَنّي يضيق الأُفق في أخمص شوقي أُحطِّمُ جدران بحرٍ عتم تحاصرني هالاتُ ذكرياتٍ غافيةٍ في نظرة لومٍ وعتاب دموع تنهش الصدى حولي وحيٌ تنزّٓل من فوق سابع عِشق يرسمُ عينيك مدينةً من ماءٍ وطين زوارق تحملني إلى حضن السكينة ورسائل ذات أجنحة تبلغني آيات حب تطوي الغربة كطيّ السجل تعود إليّ أسراب قصائد لم تستطع أن تملأ خانات الفراغ أغلقْ دفاترَ لم تدوِّن حضورك فأنت الغيابُ الذي استقرّ أريدك وطناً لا متحفَ ذكريات

***

يسرا طعمة - سوريا

...................

القراءة النقدية:

قصيدة "فوق سابع عشق" للشاعرة السورية يسرا طعمة هي تجربة شعرية تأخذ القارئ في رحلة نفسية وروحية مع الذات الباحثة عن الأمان والهوية في ظل العشق والألم والغربة. تبدأ القصيدة بمقدمة تستعرض مفردات القوة والبعد، مثل "بعيدةٌ فوق حدودِ الصوت والضوء"، ما يخلق انطباعًا بأن الشاعرة تتحدث عن حالة من الغياب أو الابتعاد الشديد، ليس فقط عن المكان بل أيضًا عن الزمن والأحاسيس. هذا البُعد يتيح لها فرصة للتأمل والتفكير في الكيان الذي لا يصل إليه أحد.

اللامحدودية والتأمل في الذات: في هذه النقاط تبرز الشاعرة متأملة في "أشيائها الساكنة" من الماضي، محاولًة الحفاظ على هويتها ومشاعرها، متأرجحة بين حضور الماضي وغياب الحاضر. من هنا يظهر المعنى العميق للحلم الذي بلغ "قيامَتَه"، إذ يعكس الوصول إلى نقطة النهاية أو الاستنارة التي تقود الشخص إلى مرحلة من الفقدان أو التجدد.

علاقة العاشق بالغربة: تعبر الشاعرة عن الفقدان بمرارة، وتحاول عبر تمثيل "الوسائدِ الفاضلة" و"الصفعاتِ" تصوير التجارب الإنسانية القاسية، سواء كانت خيانة أو فقدان للأمان. يقترب هذا التوظيف من بناء الحزن الذي يكتنف الذات ويؤدي إلى انفصال داخلي عاطفي، لاسيما مع "دموع تنهش الصدى حولي"، مما يخلق صورة من الألم النفسي.

الرمزية والتخييل: واحدة من أبرز سمات هذه القصيدة هي غزارة الرمزية التي تنطوي على تصورات شعرية عميقة. فالقصيدة تخاطب مفاهيم "العشق"، "الحنين"، "الغربة"، و"الذكريات"، مستخدمة عناصر مثل "مدينةً من ماءٍ وطين" و"زوارق تحملني إلى حضن السكينة" لترمز إلى الإحساس باللجوء إلى حب قديم، أو إلى رغبة في العودة إلى جذور عاطفية أساسية، بعيدة عن مشاعر العزلة والفراغ.

الانتظار والعاشق: العاشق في هذه القصيدة هو أكثر من مجرد صورة لشخص آخر؛ فهو تعبير عن الأمل في العودة والتجدد، وهو "الذي عاد وانتصر". هذا الانتصار لا يعني بالضرورة الانتصار في الواقع، بل هو انتصار روحي أو عاطفي على الصعوبات والهموم. من هنا، تصبح القصيدة نصًّا تأويليًّا بامتياز، يتناول موضوعات الزمن، والحب، والوجود في صور تعكس تناقضات الإنسان بين الحنين إلى الماضي ورفضه.

الغربة والهويات المفقودة: إن الغربة، سواء كانت في المكان أو في النفس، تتجسد في العديد من النقاط في القصيدة. هناك إشارة إلى "أسراب قصائد لم تستطع أن تملأ خانات الفراغ"، ما يعكس حالة من العجز العاطفي، حيث تظل الكلمات عاجزة عن إعطاء معنى حقيقي للوجود المفقود. إضافة إلى ذلك، تعبير "أريدك وطناً لا متحفَ ذكريات" يكشف عن الرغبة في العثور على الاستقرار الحقيقي، بعيدًا عن مجرد تذكر الأشياء الماضية.

الختام: ختام القصيدة يظهر استقرار الغياب في الذات بقولها "أنت الغيابُ الذي استقرّ". هذا الاستقرار قد يكون صورة للقبول الداخلي بالغربة أو العجز عن التغيير. إن العودة إلى "وطن" وليس مجرد "متحف ذكريات" تشير إلى حالة من الإيمان العميق بضرورة التجدُّد والمصالحة مع النفس والمكان، مما يجعل القصيدة تبرز كوثيقة نفسية تتحدث عن رحلة الإنسان مع العشق والموت والتجدد.

خلاصة: إن "فوق سابع عشق" ليست مجرد قصيدة رومانسية، بل هي تأمل في البعد الروحي والفكري للإنسان الذي يعيش صراعاته الداخلية، بين العشق، والفقد، والعودة إلى الذات. تسلط القصيدة الضوء على محورية العواطف الإنسانية عبر صور أدبية عميقة، مما يجعلها أكثر من مجرد تجربة شعرية، بل رحلة تأويلية تسبر أغوار الروح.

***

بقلم: كريم عبد الله – العراق

ينطلق العرض من رصد ومعايشة عميقة لواقع مرير مضى، اعاد قراءته وصياغته مؤلف الرواية جمال حيدر واعدها للمسرح جميل الرجه، تمت المعالجة على وفق رؤية المخرج (علي عادل السعيدي) وأداء الممثلة (همسة هادي)

المسرحية ذات الصوت الواحد (مونودراما) هي مسرحية بناء الشخصية المنفردة التي تطرح أفكارها ومشاعرها وتتصارع مع ذاتها و/او مع محيطها الخارجي، ذهبت المعالجة النصية والرؤية الإخراجية في هذا العرض إلى انشطار الشخصية، وعرضت حالات ومواقف لعدة شخصيات تأتلف بين حين وآخر مع بعضها وتعود لتظهر كبنية واحدة هي ذاتها بنية المسرحية، ذلك ان تكوين الشخصية في النص المونودرامي يتماهى مع مكونات المسرحية (الفكرة والحوار والحكاية والجو النفسي) مما يقتضي جهدا اخراجيا وتمثيليا أعلى من تقديم عرض تتواجد فيه عدة شخصيات يؤديها عدد من الممثلين، لأن بناء العرض سيكون موزعا عليهم ويشاركون في تقديم الفكرة وطرح العواطف والانفعالات وصناعة الجو العام، يتطلب عرض المونودراما معادلة ميزانسينية تعتمد على ممثل واحد في التوزيعات الحركية وتصميم وتنفيذ المنظر والتفاعل معه ووضعه في المشهد بما يملأ الفضاء بثراء وحيوية وإشباع بصري.1400 show

انطلقت بداية العرض من فضاء ينيره القمر بلونه وتضاريسه الطبيعية، ولكن المكان قاتم وشبه مظلم، تكونت صورة المشهد من حطام ألواح أسطوانية بإيحاء وجود كتابات مسمارية، أو جذوع نخل خاوية وأكياس مواد بناء و مرايا معلقة بحبال ومدرج بثلاث مستويات، يرتفع في المكان ضجيج أصوات محركات ومنبهات السيارات وصافرات قطارات، الشخصية الوحيدة تأتي من اعلى وسط الخشبة وتنزل من مرتفع إلى وسط الوسط، لتبدأ الغناء باللهجة الشعبية العراقية لتقترب من المجتمع الذي تقدم نفسها اليه، وبمرور الزمن يبدو انها من منبثقة من رحم المجتمع وذلك بتكرار اللهجة والخطاب المباشر للجمهور، وعرض الحالات المتعددة فهي تقول: (أنا روح هائمة، بلا بداية او نهاية، هائمة في التيه والألم، احمل في صدري نغما حزينا)

عمل التأليف والإخراج على تشظية الشخصية الواحدة إلى أجزاء من شخصيات متعددة ، وكل شخصية عرضت حالة مكثفة واحدة، أول هذه الحالات هي حالة الشاعر الثمل الذي ينشد شعرا في الطرقات، الحالة الثانية هي المجنون الذي ينطق حكما، ثم الحالة الثالثة: التعرض للاغتصاب ، وبعدها تتصالح مع نفسها لتخاطب الناس المارة / الجمهور الحاضر في القاعة بقولها: (عرفت كل لحظات حزنكم، بكائكم فرحكم ، لقاء على مر السنين … أتحسس خطواتكم كأنكم تركتم أرواحكم هنا) تعود لتجسيد حالة رابعة: الألم من المرض والحزن العشق والدخان والحرائق، ومنها تدخل الشخصية إلى حالة خامسة: الشهيد وأم الشهيد تودع ابنها وسط الدموع والحسرات، تقول عن الشهيد: (لكنني أراه في كل زاوية مظلمة، أراه في كل دمعة تنسكب على هذا التراب، أراه في قمرنا الاحمر) ومن هنا تبدأ نقطة صيرورة القمر الأحمر وكأنها نقطة انطلاق الصراع الدرامي المتصاعد نحو الذروة، بهذا المشهد تمكن الإخراج من تجسير الهوة بين العرض والمتلقي بجمع شتات الحالات الاربعة السابقة التي بدت غير متصلة، وبلورتها في صورة الشهيد وما لها من صدى غاية في الحزن في روح المتلقي.1398 show

الحالة السادسة: بائع الكتب الثرثار الذي يستعرض عنوانات كتبه وينادي على المثقفين، دون استجابة منهم، لا احد يشتري كتب، المثقفون غير متواجدين.

وقد تصدى العرض إلى حالات أخرى باللهجة الشعبية العراقية حينا وحينا باللغة العربية الفصحى المحملة بالصور الشعرية، بالغناء والمواويل الشجية، وبفضل هذا التنويع في لغة العرض المنطوقة تخطى الإخراج الرتابة السردية للنص، وجاء التعزيز الدرامي بمساهمة السينوغرافيا في صناعة عرض (قمر أحمر) بفاعلية كبيرة.

المنظر الواحد الكتلة المنظرية شكلت خلفية ثابتة للعرض ولم تتحرك ولم يتم تفعيلها والتعامل معها إلا في بداية العرض ونهايته، في حين تم تفعيل قطعة الأثاث (المصطبة) بصورة ملفتة، فقد تعددت دلالات استخداماتها (للجلوس، الاغتصاب، تابوت الشهيد، منضدة بيع الكتب …) وكذا الحال مع الورد الأحمر ومصباح الموبايل وقطع المرايا المتأرجحة.

تجلت مهارات الممثلة (همسة هادي) في الانتقال بين الحالات الكثيرة بمرونة عاطفية وحركية عالية، وساهمت بوضوح في الإيهام الشعوري، واثارة التفاعل وصنع المزاج العام للعرض، الانتقالات الصوتية من شخصية إلى أخرى، أظهرت قدرات تعبيرية بالصوت والالقاء، ففي مطلع الأداء الصوتي كانت صوتا مرتجفا رقيقا ، وانتقل إلى الخطابية بصوت مرتفع، وبعدها إلى البكائية، لقد تمكنت من تحقيق نقل الصورة الصوتية وتأثيراتها، فضلا عن سرعة تغيير الأزياء في مشهد بائع الكتب، والتعامل مع قبعة إطفاء الحرائق … وغيرها من الاشتغالات التي أظهر قدرات الممثلة التي فقدت شيئا من حضورها في المشهد الأخير الذي تزاحمت فيه تقنيات الخشبة بكثافة إلى جانب مشاهد الداتاشو والمؤثرات الصوتية والضوئية، التي أخذت تركيز المتلقي وجذبته إليها، وتحديدا منظر الانفجارات (انفجار الكرادة عام 2016 خلف أكثر من ثلاثمائة شهيد) وتحول القمر - الثيمة المركزية للعرض - إلى اللون الأحمر، وتسيّدَ الخشبة بصورة صادمة، وتحيط به غيوم حمراء، بالتزامن مع عروض صور وأفلام وثائقية للانفجارات وما تخلفه من خراب وحطام وشهداء وجرحى وعواطف وانفعالات حزن وغضب.1399 show

ترجمة الحوارات في المشهد الأخير إلى الانكليزية تعولم رسالة العرض وتسعى إلى تدويل قضيته، ولا يريد القائمون على بقاءها في الإطار المحلي والفضاء الوطني بقدر ما يريدون جعلها قضية انسانية عامة، ومن جهة أخرى قد تبدو زائدة ولا ضرورة لها.

في نهاية العرض، يبرز تساؤل أمام المتلقي: من هي هذه الشخصية التي شاهدها في العرض التي خاطبتنا مرارا بقولها: أيها المارون … أيها المارون .. ؟ اذ لابد من تحديد هويتها التي لم تفصح عنها بوضوح طوال زمن العرض، لتأتي إجابة التحليل: أنها ليست شخصية امرأة، أنها المكان والمدينة والعالم بأجمعه تخاطب المارين بها، تجسدت بملامح وصوت أنثى لإيصال فكرة مفادها: أن هذه الشخصية/المدينة تجلت من عمق المأساة وشهدت وعرضت حالات اهل المدينة كلهم، ثم انصرفت من حيث أتت.

هذه التجربة الثانية للمخرج علي عادل والممثلة همسة هادي مما يجعلهما ثنائيا منسجما متوافقا في ابتكار لغات العروض المونودرامية، ويضاف اليهم الفريق المتكامل من التقنيين والفنيين الذي دعم العرض بالمزيد من العناصر الجمالية.

لابد من الإشارة والإشادة بدعم نقابة الفنانين العراقيين في إنتاج الأعمال الفنية وتعشيقها مع دائرة السينما والمسرح.

ملاحظة عامة: دأبت عروض كثيرة على ادخال الجمهور وسط ظلام القاعة وستارة المسرح مفتوحة وتشغيل المؤثرات الصوتية وغالبا يتواجد الممثل/ون على الخشبة. حتى بات هذا التقليد هو القاعدة والاستثناء هو دخول الجمهور واستقراره في قاعة مضاءة والستارة مسدلة .. حبذا لو تم الرجوع إلى التقليد المسرحي الأصلي، إلا في حالة الضرورة الدرامية.

ملاحظة اخيرة: عرض اي مسرحية ليومين أو ثلاثة ثم ينطفئ، لا يصنع جمهورا، ابسط متطلبات صناعة الجمهور هو استمرار العروض حتى آخر متلقي.

عرضت المسرحية على قاعة مسرح الرشيد في العاصمة بغداد، يومي الأربعاء والخميس ٢٣-٢٤ /٤/ ٢٠٢٥، زمن العرض أربعون دقيقة. انتاج نقابة الفنانين العراقيين بالتعاون مع دائرة السينما والمسرح.

***

ا. د. حبيب ظاهر حبيب

الأبعاد السياسية لرواية يوتوبيا للكاتب المصري الدكتور أحمد خالد توفيق

أود في البداية أن استهل هذه المقالة بأربع نقط أساسية:

- تعتبر الرواية من فصيلة روايات الفانتازيا بأبعاد سياسية محضة. لقد تنبأت بخطورة الاحتقان الاجتماعي في مصر مبكرا. لقد وصف لنا الكاتب بإبداع الكبار تطور حدته، أي حدة الاحتقان والتوتر الشعبي، وقابليته في تفجير ثورة عارمة. لقد قدم للقارئ نصا من صنف الديستوبيا أو أدب الفوضى، وبين بمشاهد مبهرة ومخيفة كيف تحول هذا القطر العربي إلى فضاء استقوى فيه الشر وساد فيه الظلم والقهر. الرواية صدرت سنة 2008، وتوقعت انفجار الأوضاع سنة 2023، وحل الربيع العربي بمصر الشقيقة سنة 2011. توقعات الكاتب كانت صادقة ووطنية محضة (دق ناقوس الخطر مبكرا، ولم يجد الآذان الصاغية لدى مصادر القرار السياسي في بلاده).

- الرسالة السياسية القوية في الرواية تتجلى في إبراز الدور المحوري للطبقة الوسطى كصمام أمان، وعماد الاستقرار، ومحرك دائم للنمو، ومرسخ لمقومات التربية على الديمقراطية والعقلانية. التاريخ يشهد لها بذلك. لقد كانت أساس نجاح عصر الأنوار الغربي. لقد كانت وراء انفجار الثورات العلمية والثقافية والسياسية والصناعية الكبرى في التاريخ، وتحولت بعد انتصار النيوليبرالية إلى الآلية القارة الحامية للتوازن وديمومة التفوق الحضاري. بفضل قوة هذه الطبقة الاجتماعية تم القضاء على المعتقدات البالية والأفكار الرجعية وعلى رأسها الفكرة التي روجتها الكنيسة لمدة قرون "الفقير أقرب إلى الله من الغني".

- عكس ما وقع في أقطار الدول العربية من ثورات شعبية إبان ما عرف بالربيع العربي، وعلى رأسها تونس ومصر، تمكنت الخصوصية المغربية من تجاوز هذا المنعطف الصعب. فتطورات الأحداث في إطار "20 فبراير" أبانت أن لحمة المجتمع المغربي غير منفكة وغير منحلة. لقد عرفت الطبقة الوسطى انتعاشة ما بين 1999 و2000. كما كان للانفتاح السياسي وتراكماته الدستورية والسياسية منذ مطلع التسعينات وقع إيجابي على تطور النظام السياسي المغربي. سقف المطالب حركة 20 فبراير اقتصر على المطالبة بالإصلاح، وتوج المسار برمته في إطار الاستمرارية بتراكم المكتسبات بالإصلاحات الدستورية والسياسية المعروفة. تقدمت البلاد في العهد الجديد بشكل ملموس في تشييد بنياتها التحتية والصناعية والخدماتية والتكنولوجية. هناك كذلك جهود لإضفاء نوع من المناعة على مشروعي التغطية الصحية والحماية الاجتماعية.....

- مغرب اليوم في حاجة إلى الانتباه لآفة تراجع الطبقة الوسطى. البلاد تعيش موجات تصخم مربكة للقدرات الشرائية ومضعفة للادخار والاستثمار الوطنيين. إنها الموجات المرتبطة بالظرفية الاقتصادية العالمية والظروف الداخلية للبلاد (اختلالات في الحكامة السياسية). على السلطات بمختلف مشاربها الانتباه إلى المكانة المحورية للأسرة والمدرسة العمومية كصانعة للطبقة الوسطى. هذه الأخيرة في حاجة لدعم متواصل من طرف الدولة، دعم ينسجم مع تطلعاتها واحتياجاتها. الدولة في حاجة في هذا الشأن لتشييد مصاعد قارة بين الطبقات وتوطيد ديمومة آثارها الإيجابية على البنية المجتمعية بشكل عام.

عودة إلى الرواية وعنوان المداخلة نتساءل: كيف عالج الكاتب معضلة التناحر الطبقي ووأد الطبقة الوسطى وانفجار الأوضاع في مصر الشقيقة في الرواية؟

جوابا على هذا السؤال الهام، واعتمادا على المنهاج البرهاني المعتمد في قراءتي التأويلية لهذا النص، سأبين للقارئ كيف أبدع الكاتب في عتبات النص الروائي ومتنه للرفع من قوة تأثير مضمونهما والوصول إلى أهدافه التي حددها مسبقا بإتقان الأدباء الكبار. لقد استثمر في جملة من الوحدات الأيقونية واللغوية والإشارية مستهدفا أفق انتظار القارئ وإثارة اشتهائه لقراءة الرواية، بل وتحريك فضوله ودفعه بحماس لمعرفة تفاصيل أكثر تخص النص الحكائي في مجمله.

إن ثقافته السياسية والعلمية والفكرية والأدبية العالية، التي يشهد له بها كبار رواد الفكر والأدب عربيا، والتي سخرها بإتقان لنسج متخيل إبداعي في خدمة السياسة، يمكن القول أن توفيق تمكن بنجاح في إحكام صياغة عبارات نصه الروائي، موجها إياها إلى المتلقي العارف، المصري بشكل خاص والعربي بشكل عام، مخاطبا العقل والوجدان، ومحرضا إياه في نفس الآن على التعلم والتطور والوعي بأوضاع واقعه وبالوقع السلبي للتذبذب في منطق ممارسة السلطة في دولة الجمهورية العربية المصرية الشقيقة منذ الاستقلال. إنه عمل تخيلي مرعب عكس صورة واقع اجتماعي أصيب بآفة الترهل والتفسخ القاتلين.

لقد دحرج توفيق الكلمات المختارة بانتظام وعناية وتدبر الأدباء الكبار. لقد انتقاها الواحدة تلو الأخرى، محولا إياها إلى تعبير موضوعي صادق عن هموم الشعب المصري، متعمدا شحن هذا التعبير برسائل مبطنة داعية للتغيير قبل فوات الأوان. لقد صوب سهام كلماته مركزا على استنهاض الهمم الشعبية والمؤسساتية ملتمسا برفق ورحمة حاجة الشعب المصري الاستعجالية لخلق منعطف سياسي يليق بتاريخ حضارته. الأولوية بالنسبة له، كما ورد في عبارات الرواية تتجلى في مناهضة الظلم والاستبداد الوائد لعزائم الأفراد والجماعات، والحاجة إلى إنتاج الزعامات السياسية والمجتمعية المسؤولة والشجاعة، والقادرة على تامين الانتقال إلى أوضاع مغايرة تتوج بنجاح الثورة الهادئة المنشودة، وبالتالي خلق نسق سياسي جديد يساعد المصريين على استرداد حقوقهم المسلوبة.

لقد عبرت بجلاء عن الأدوار المحورية التي يلعبها الأدب في التصوير الإبداعي لأوضاع وأحوال المجتمع المصري في مختلف المجالات وبالأخص في المجال السياسي. ما توقعه الكاتب بالفعل تحول إلى واقع معاش. توترت الأوضاع في الأقطار العربية مجسدة إلى حد بعيد أحداث الرواية. النص تحول في مضمونه إلى ما يشبه دعوة أو صرخة وصلت إلى الناس بسرعة بعدما فضحت لهم حقيقة مآسي أوضاعهم. في نفس الآن، سجل المتتبعون نوع من التماهي أو اللامبالاة في منطق ممارسة السلطة لدى الطبقة الحاكمة. استمر التذبذب في تدبر شؤون البلاد إلى أن خرجت التطورات الخطيرة عن السيطرة. انفجرت الأوضاع، وتفاقم الاحتقان عربيا، وازداد الاقتناع لدى جمهور القراء بالأدوار الريادية للأدباء والمفكرين في حياة مجتمعاتهم ومنعطفاتها السلبية والإيجابية. النظرة العلمية الثاقبة للكاتب كطبيب جعلته يتفوق عربيا وبامتياز في تعرية مخاطر التماهي مع استفحال الانكسار في روح وجسم المجتمع الواحد، وما يترتب عن ذلك من نشر للمآسي والظلم والتناقضات القاتلة وسوء الأحوال.

لقد استثمر توفيق في العتبات بعبقرية ليعكس للقارئ الأبعاد السياسية التي خالجته منذ البداية: العنوان الرئيس، العناوين الفرعية، التنويه، التصدير، الاستهلال.... لقد تحول البعد السياسي إلى الهدف الأكثر حضورا منذ بوابة النص وفتح مغاليقه باحترافية على المتن الروائي. إجمالا، تخللت النص عبارات مؤثرة جدا قدمت إضاءات جمالية راقية أعانت وتعين المتلقي عن فك شيفرات النص في مجمله وحمولاته الدلالية والإيديولوجية.

الانشغال بالهموم السياسية جعل الكاتب يختار عنوانا مدويا في تاريخ الفكر والفلسفة: "يوتوبيا" أي "المكان الطيب". كلنا يستحضر العبارة ومكانتها في فلسفة كل من أفلاطون، وتوماس مور مدشن أدب المدينة الفاضلة، و"مدينة الله" للقديس سانت أوغسطين، و"آراء أهل المدينة الفاضلة "للفرابي"، و"أطلانطس الجديدة" لفرانسيس بيكون، و"مدينة الشمس" لتوماس كامبيلا. الامتعاض من أوضاع الحياة الدنيا وتدني مستوى العدالة والكرامة بها جعل الفلاسفة والمفكرين ورجال الدين يفكرون في مكان مثالي متخيل لا وجود له في الواقع، وهو مكان يتجاوز نطاق الوجود المادي، ويترجم الأفكار المثالية السامية المجسدة لأهداف العصر ونوازعه غير المحققة.

عقائديا، الشائع في الأوساط الشعبية العربية يبرز أن مفهوم "يوتوبيا" يصنف ب"اللامكان"، أي أنه من الحقائق الربانية التي يجب أن يصبو إليها الإنسان كمستخلف في الأرض. فهو مرادف في القرآن الكريم لكلمة "طوبى": "الذين آمنوا وعملوا الصالحات طوبى لهم وحسن مآب". وكلمة "طوبى" هي اسم الجنة بالحبشية، وبذلك تكون عبارة "طوبى لهم" تعني "الجنة لهم"، وهو في حد ذاته دعوة للبحث عن مكان تتحقق فيه السعادة الكاملة. فبحث الفرد مع مجتمعه عن تحقيق جزء منها على وجه الأرض هو السبيل الوحيد المعبر عن اشتياقه للمكان الطيب الموجود في الآخرة المعد للصالحين.

في نفس الآن، إثارة كلمة "يوتوبيا" في الرواية هي مماثلة لإثارة اليوتوبيات في مختلف مراحل التاريخ. ترديدها من حين لحين لا يتم إلا في حالة الحاجة للاحتجاج جراء رفض الواقع وما فيه من شقاء ومتاعب، بحيث يعبر مرددوها عن حلمهم بمستقبل مشرق تلفه السعادة والسعي لدنوه من الكمال في جميع جوانبه الإنسانية. يتم إثارتها بسبب الامتعاض من "الديستوبيا" كفضاء أكثر قسوة وجور للإنسان، فضاء يفيض بالظلم والبشاعة، ويعني المكان الخبيث الشرير المغرق في الفساد والقهر والمرارة.

الرواية هي عبارة عن صرخة سياسية محضة تحذيرية مسبقة أكثر من كونها معالجة لمشكلات الواقع. العنوان "يوتوبيا" كتب بلون معبر عن الضجر والسخط والانحطاط والقسوة لجعله مرادفا لكلمة "الديستوبيا". فناس يوتوبيا عالجوا الملل الذي يعتري حياة الترف والمجون بالبحث عن الإثارة في إيذاء فقراء أرض الأغيار "شبرا"، والتلذذ بتعذيبهم بممارسة البطش والتجبر المتوحش عليهم. التسلية بالنسبة لهم لا ترتقي إلى أعلى المستويات إلا بالعبث بجسد الفقراء المستباح مجانا.

لقد أشاع الكاتب للقراء مآسي الشرخ الطبقي على صعيد الأمة الواحدة. لقد أبرز بحبكته السردية من البداية إلى النهاية كيف يضيع روح الأمن ويستفحل العداء الداخلي. تفاقم حدة الاضطراب لا تقتصر على الأغنياء المترفين، بل عمت كذلك الفقراء في مجتمع الأغيار كذلك. الكل يعاني من اضطراب في الفكر وخلل في السلوك. الفقراء كذلك يسوغون قبح أفعالهم بحاجتهم وعوزهم. بدورهم يمارسون العنف والقتل والاغتصاب والإدمان. الفقر لم يجعل القلوب رحيمة ببعضها البعض بسبب تلاشي معنى الحياة لديهم.

صور الكاتب انكسار روح الأمة متعمدا إبراز التقابل المروع لسلوك طبقتين متناحرتين. إنه تقابل بتفاعلات أدت إلى غرق شعب الأغيار في الفقر والضياع والظلام والتشرذم واختفاء كلي للسلطة العمومية، وانعزال سكان يوتوبيا الحاكمة المتحكمة والمسيطرة على زمام السلطة بدعم عمالقة الرأسماليين معتقدين أن ديمومة الاستقرار مرتبطة بحماية الأجنبي.

شباب يوتوبيا، الذي جرب كل شيء إلى أن أصبح سجين واقع البذخ والضجر والملل، باحثا تحت ضغط الإدمان عن الإثارة والحماس وتجرع ملذات العبث بأجساد الفقراء، وممارسة الإثم والتعدي وخرق القواعد وكسر التابو والتمرد على كل القيم الإنسانية...... إنهم جيل لا يعمل، عشش الكسل والملل في نفوس شبابه. إنهم جيل فاشل وفاسد لا يأبه بأي شيء. مشاعرهم خالية من أي عاطفة أو مشاعر نبيلة. سيطر عليهم الكبر والاستعلاء بسبب تنشئتهم في مدينة يوتوبيا. يشعرون بالنشوة والسعادة حد الثمالة عندما يتمكنون من إلغاء ووأد الآخر المهمش بوحشية معتبرين إياه لا يستحق الحياة.

في المقابل، في بلاد الأغيار (بلاد شبرا بمصر القديمة) يجثم شبح الفقر بوطأته الثقيلة على قلوب الناس ساحقا وجودهم اليومي. يعيشون بلا مأكل ولا مشرب ولا ثياب ولا سقف ولا كرامة ولا تلفزة أو جهاز هاتف .... هم غارقون في سوء التنشئة والانعدام الكلي لقيم التربية والتعليم. تتفشى بينهم كل موبقات الانحراف كالسرقة والنهب والخوف والنذالة والجبن والعنف... يصفهم شباب يوتوبيا بكونهم يتظاهرون أنهم أحياء.

عبر الكاتب عن هذا المكان الموحش بعبارة: "نحن في قلب اللامكان بالمعنى الحرفي للكلمة". إنهما المكانين اللذان دفعا بالكاتب إلى عنونة فروع الرواية بتوالي كلمتين : الصياد (شباب يوتوبيا الذي يمثله علاء) والفريسة (أهل الأغيار الذي يمثلهم ضمير الرواية جابر المثقف). أبشع عبارة وردت في الرواية وعبرت عن هذا التوحش والعداء المرعب: "راسم فعلها (شاب يوتوبي).. اختطف واحدا من هؤلاء الأغيار العاطلين وعاد به إلى يوتوبيا. قضى ورفاقه أياما ممتعة في ملاحقة هذا المخطوف بالسيارات، ثم قتلوه واحتفظ راسم بيده المبتورة بعدما قام بتحنيطها". أما حدث الغدر بجابر من طرف علاء والتنكر لجميله، بعدما نجح في إنقاذه من مخالب الأغيار بمعية صديقته، فبين بجلاء قسوة الطبقة الرأسمالية المحتكرة للسلطة وخيرات البلاد. لقد طفى على سطح الأحداث في الرواية وواقع الأقطار أن النعومة في السياسة على المستويين الوطني والدولي في طريقها للاضمحلال.

لقد غمر الكاتب عتبة التنويه بالرسائل السياسية. لقد كشف عن نواياه المكنونة والمعلنة. لقد أفشى في هذه العتبة أن المكان سيكون موجودا عما قريب أو سيكون هناك مكان يشبهه وإن اختلفت التسمية. في نفس العتبة وجه احمد خالد توفيق تحذيرا من مآل استمرار نفس منطق ممارسة السلطة في التفاعل الرسمي مع الواقع المعاش للمصريين. لقد أنذر مبكرا بتحول أحداث الرواية إلى واقع. وبذلك يكون التنويه قد أدى وظيفة الإغراء وتوجيه القارئ نحو دلالة النص السياسية.

بدورها عتبة التصدير كانت بمثابة تحذير سياسي. عنونها الكاتب ب "إلى الأجيال القادمة" مبرزا العلاقة بين الاقتباس والمتن الروائي، محذرا بذلك من خطر قادم ومصير أسود ينتظره المصريون.

والحالة هاته، يكون الكاتب محقا عندما عبر سياسيا عن مآسي صراع الطبقتين الاجتماعيتين بترديد كلمة "الظلام" كمرادف لعقم الإنتاج والفقر والإهمال. لذلك تم تكرار هذه اللفظة بكثرة في المواطن التي تتحدث فيها الرواية عن أرض الأغيار: "خرائب مظلمة"، "ممرات مظلمة"، ... لم يتحدث لا عن الشمس ولا عن القمر في وصفه لهذا الموطن. الفضاءات التي يتحرك فيها شباب الأغيار بممراتها وأنفاقها مظلمة حالكة كما هي حياتهم. فباستثناء جابر، والذي يمكن تصنيفه كضمير للرواية، وضع الأغيار الاجتماعي لا يجعلهم يستحضرون في حياتهم أي قيمة من القيم الإنسانية الدالة على كونهم يعيشون فوق تراب وطن واحد. فبروز الطيبة في بعض اللحظات والأمكنة، يعتبرها شباب يوتوبيا غباء وسداجة. إنه الاعتبار الذي مكن علاء من استغلال إنسانية جابر والإطاحة به، واغتصاب شقيقته صفية. لم يجد هذا الشاب اليوتوبي، بتوحشه الرأسمالي الليبرالي، أي رادع للنيل من أثمن شيء يملكه جابر، ألا وهو شرف وعذرية أخته وكرامتها. لقد عبر عن ذلك، وهو يتحدث عن الأغيار، بالعبارة التالية :" لم يكن فقركم ذنبنا ... تدفعون ثمن حماقاتكم وغبائكم وخنوعكم ... ". إنها مآسي نشر ثقافة الإنتاج والاستهلاك المفرطين. تجبرت النوازع المصلحية ووئدت الروح الإنسانية وتأزمت الأوضاع النفسية والاجتماعية للفقراء والمهمشين.

تحقيقا لأهدافه السياسة المرسومة مسبقا، أسهب الكاتب في التعبير السياسي عن تعالي القيم الرأسمالية الليبرالية على لسان علاء الشاب اليوتوبي : "عندما كان آباؤنا يقتنصون الفرص كان آباؤكم يقفون أمام طوابير الرواتب في المصالح الحكومية" .... "أنتم لم تفهموا اللعبة ... عندما هب الجميع ثائرين من كل قطر في الأرض هززتم أنتم رؤوسكم وتذرعتم بالإيمان والرضا بما قسم لكم ... تدينكم زائف تبررون به ضعفكم ... أنتم أقل منا في كل شيء...". لقد ردد هذه العبارات مبررا استباحة شرف صفية وقتل جابر وقطع يده والاحتفاظ بها كتذكار. في نفس السياق، منطق الرواية صنف الطبقة الشعبية في مصر بمثابة ديكور رخيص وشكلي لا قيمة له، لكن وجوده ضروري لعلية القوم (العمل الشاق، الترفيه، الاستهلاك، ......).

على المستوى الفني، استثمر الكاتب في المجال السينمائي لإثارة الانتباه أن الفنون الجميلة في خدمة الثقافة والسياسة. في عتبة الاستهلال استعرض الكاتب فيلم "الفصيلة" Platoon الذي جرت أحداثه في الفيتنام. وهو تعبير واضح عن فترة الحرب الباردة. الفيلم حائز على عدة جوائز لكون القضية الفيتنامية تحولت إلى رمز للمقاومة في العالم. فبالرغم من الأوضاع المتردية بالفيتنام لم تستطع أمريكا من فرض سيطرتها عليها. في نفس الوقت تبين القضية أن إرادة الشعوب لا تقهر.

منذ عتبة الاستهلال حافظ الكاتب على استرساله في تقديم الإضاءات السياسية الساطعة متعمدا إنارة طريق القارئ في مسار كل فصول الرواية. الصراع بين الصياد والفريسة شكل واقعا تاريخيا أفرز بشكل دائم الحقيقة السياسية الآتية: استفحال الصراع الطبقي يزيد من حدة الكراهية والحقد ما بين أبناء الشعب الواحد وما بين شعوب الدول المتخلفة أو السائرة في طريق النمو وشعوب الدول المتقدمة المستفيدة من تطورات القرن الماضي. لقد عبر مشهد اتلاف عين جابر على قساوة التوحش الديستوبي، وبشاعة استباحة استغلال القوي بغناه وعلمه وتفوقه التكنولوجي للضعيف بفقره وجهله وتخلفه.

فحتى اليد الملقاة على الأرض والغارقة في بركة من الدماء على صفحة الواجهة من الغلاف كانت لها دلالة سياسية معبرة عن عجز السواعد في الوطن العربي وتخليها عن واجبها. اليد البيضاء للمواطن المعتنى بوجوده هي رمز للإحسان والقدرة والسلطان والعمل والإنتاج. وئدت اليد الوطنية في مصر، بحيث أصبحت ترمز للذل والخضوع وتشي بالحاجة والفقر المدقع. الحياة في مكان الرواية تشبه أي شيء عدا الحياة. إنها حياة ينعدم فيها النظام وينتفي فيها العدل وتتلاشى فيها المساواة في أبسط أشكالها.

استثمر الكاتب في التناص الديني والأدبي والتاريخي مركزا على إبراز الأبعاد السياسية للرواية.

- التناص الديني: تم استحضار قصة بني آدم وقابيل وهابيل مبرزا طبيعة التجبر والبطش ما بين الأخ وأخيه في بداية استخلاف الإنسان أرضا. تم الفتك بجابر من طرف الشاب اليوتوبي في الرواية حيث تم تعمد إثارة عبارة "لم يكن هناك غراب ... لم يكن هناك غراب" مرتين متتابعتين (التوكيد اللفظي). الإحالة على قصة قابيل وهابيل هي مجرد تذكير بطغيان الصراع كطبيعة بشرية بين الأخوة. بفعل تطور استفحال دوافع الصراع بين البشر، تم تجاوز الدوافع التقليدية كالغيرة والحسد والطمع كمحرضات على الصراع الدموي، وإبراز المرور إلى دوافع جديدة لا تمت بسابقاتها بصلة. اليوتوبيون يقتلون الأغيار بدون ذنب لمجرد الرغبة في التسلية وحب المغامرة وتلذذ سفك الدماء البشرية. في هذا الصدد، قتل جابر بعد الغدر به. في هذا الحادث قابل الكاتب الخير/الشر وصراعهما التاريخي في الحياة البشرية. تم قتل جابر ببرودة دم بعدما غامر بحياته من أجل إنقاذ الشاب اليوتوبي وصديقته.

- التناص الأدبي: لقد استحضر الكاتب نصوصا أدبية دامجا إياها في نسق حبكة سردية مدروسة منذ العنوان، مرورا بالمتن ووصولا إلى النهاية. لقد اقتبس الكاتب من منهجية ومواضيع جورج أوربيل، كاتب رواية الديستوبيا سنة 1984، والتي تحكي عن مستقبل تسيطر فيه سلطة استبدادية وعالم لا تهدأ فيه الحرب والرقابة الحكومية والتلاعب بالجماهير. لقد قام أوربيل بتصور المستقبل المظلم حيث توجد التكنولوجيا في المجال العام كأداة في يد النخبة للسيطرة على المجتمع. إنه التصور الذي بدأت معالم تحققه اليوم تبرز بالواضح. استحضر كذلك أشعار عبد الرحمان الأبنودي وقصيدته التي كتبت بالعامية "احنا شعبين شعبين شعبين ... شوف الأول فين والثاني فين". لقد استثمر توفيق في الأدب لاستحضار التقابل التاريخي لطبقتين مجتمعيتين، تارة بمنطق السيطرة والاستغلال، وتارة بنشوب شرارات الثورات (الأغنياء محتكري سلطة السياسة والاقتصاد والفقراء المهمشين)، مبرزا صعوبة هدم الحاجزين بين الشعبين: الحاجز المادي (الأسوار والبوابات والأسلاك المكهربة والحراس)، والنفسي الذي يتجلى في الحقد الاجتماعي الطبقي الأعمى.

- التناص التاريخي: استحضر الثورات التاريخية التي أسقطت الأنظمة كالثورة الفرنسية، منبها القارئ إلى ظهور سمات جديدة في العالم العربي سماها بالزمن الغريب. وذكر بوعد بلفور وحكم نابليون بونابارت وعبارته الشهيرة "أنا إمبراطوركم فاقتلوني ... لكن الجند لم يفعلوا .. هيبته جعلتهم يجثون على ركبهم أمامه وهم يبكون". فجابر طغت عليه صورة الأقوى المتفوق وسقط ضحيتها...

الخاتمة

يتضح من خلال التمعن في فصول الرواية ومضمونها، أن الهم الذي سيطر على الكاتب منذ عتبات الرواية إلى النهاية كان أساسه تمرير الدلالات السياسية من خلال تطور الصراع الطبقي في المجتمعات العربية. لقد عبر أدبيا وبإبداع تخيلي متميز إلى المآل الزمني لهذا الصراع السياسي ما بين أبناء المجتمع الواحد (مصر) ووصوله إلى درجات متوحشة في العقود الأولى من الألفية الثالثة.

لقد اعتمد في حبكته السردية على التتابع الزمني للأحداث. الزمن بالنسبة للكاتب في هذه الرواية أعم وأشمل من المكان، وبذلك يكون قد نجح في جعل مضمون الرواية في رمتها فنا زمانيا ملتصقا بامتياز بتطور حياة مجتمع بلاده كنموذج. لقد جسد لنا طوال فقرات صفحاتها أن زمن الإنسان المصري وتطور وعيه وأوضاعه منذ الاستقلال إلى مرحلة تفاقم تردي الأوضاع في مختلف المجالات.

إجمالا، لقد اكتسى مفهوم الزمن في الرواية بطابع العمق السياسي المرتبط بالتطورات الحضارية العالمية. الرواية تجاوزت النظرة السطحية في تحليل الظواهر. الأنظمة الحاكمة العربية تعيش في حلقات مفرغة لم تراكم من خلالها إلا الضعف وهشاشة اللحمة الشعبية المؤيدة لها. لقد ربط بإتقان زمن الحكاية بزمن الكتابة وزمن القراءة وزمن الكاتب والزمن التاريخي.

الرواية في توالي أحداثها حزينة ومقلقة بفعل تجسيدها لحقيقة مطاردة القوي للضعيف تاريخيا. المطاردة التي وصلت إلى حدود لا تطاق في عصرنا الحالي. ما جعل الرواية متميزة يتجلى في كونها ركزت على تقنيات المفارقات الزمنية في خدمة البعد السياسي.  تخللتها الاستذكارات والاسترجاعات من الماضي. لجأ الكاتب كذلك إلى الإستباقات والتنبؤات والاستشرافات وتقنية المشهد المبهر والمخيف في نفس الآن، ليتوج عمله هذا بتقنية الخلاصة المؤثرة. انكسار لحمة المجتمع الواحد وصلت إلى حد ملل شباب يوتوبيا من كل أنواع الترف وفقدان أهالي شبرا الإحساس والمشاعر وغرقهم في مستنقع العنف والقتل والاعتداء.

إنه الواقع المتناقض الوائد لطموحات ترسيخ الوعي بأهمية القراءة والمعرفة والتدين العقلاني في المجتمع المصري. فسكان يوتوبيا يعتمرون ويلجؤون للعبادة لكن ليس حبا في الدين، بل بسبب خوفهم من فقد الثراء والنعيم الذي يعيشونه. على عكس ذلك لا يمارس أهل شبرا التدين إلا من باب تشبثهم بالأمل في حياة النعيم بعد الموت. القراءة عند جابر لا تفيده إلا في تحقيق تغييبه عن الواقع المرير الذي يعيشه، بينما عند الشاب اليوتوبي ما هي إلا نوعا رخيصا من المخدرات تغيب مستهلكيه عن الوعي. إنه مآل مخيف في زمن مرعب. الأهداف النبيلة للقراءة التي يتوخى منها المرء اكتساب وتراكم المعارف وتطوير وعيه بمعاني الحياة أصبحت تضمحل لتحل محلها التفاهة والإدمان والكسل.

***

الكاتب الحسين بوخرطة

تعد مجموعة القصص "تفاصيل" لجمعة شنب والصادرة عن دار العائدون للنشر لعام 2022، نافذة على عوالم إنسانية متنوعة، تتناول موضوعات مثل الفقر المدقع والأحلام المؤجلة، والحب الضائع واليأس القاتل. يستعرض شنب بعمق شخصياته التي غالباً ما تكون مهمشة ومنسية، مما يتيح للقارئ فهمًا أعمق لظروفها وآلامها المستترة.

ضمت المختارات قصص منتخبة من خمس مجموعات هي نتاج تجربة شنب في القصة القصيرة والقصيرة جدًا، إضافة إلى قصص لم تنشر في مجموعة بعد، أي أنها تنشر للمرة الأولى. ويقول المحرر الأول لسلسلة المختارات "لعل هذه المختارات تفتح الباب واسعًا على عالم واحد ممتد ومتعدد، منذ البدايات حتى اليوم، فيقرأ من يريد "تفاصيل" هذه التجربة، بعناصرها الأساسية، وسِماتها الأبرز، فاجتماع هذا العدد وهذا التعدد يتيح قراءة لا تتيحها قراءة المجموعات منفردةً، بل يبرز هنا المؤتلف والمختلف، الواقعي والفانتازي، السوداوي مقابل بعض ثقوب الأمل وبواباته ربما"، لافتا الى "أنها قصص مدهشة بتفاصيلها ولغتها التي تقترب من لغة الشعر. وليست هذه سوى ملامح من عالم جمعة شنب الثري والعجيب، هنا، والآن!".

عالم شنب القصصي

عالم شنب الأدبي ليس عالماً مثالياً، بل يعكس واقعنا الصعب بكل تناقضاته وصراعاته. يتناول شنب في كتاباته حياة البسطاء والمكافحين، هؤلاء الذين لم يحظوا بفرصة الظهور في الصفحات الأولى من الحياة. يمنحهم صوتاً مميزاً، ويجعل القارئ ينظر إليهم بنظرة مختلفة، نظرة تقدّر إنسانيتهم رغم كل التحديات التي يواجهونها.

لغة مكثفة وموحية

يستخدم شنب لغة مكثفة وموحية تختزل الكثير من المعاني بكلمات قليلة. يصف المشاهد بدقة ويترك مساحة للتفكير. كلماته ليست مجرد حروف، بل صور حية تنبض بالحياة.

شخصيات لا تُنسى

الشخصيات التي تعرضها أعمال شنب هي شخصيات لا تُنسى وتظل عالقة في الذاكرة، فهي ليست مجرد أسماء عابرة، بل تمثل نماذج إنسانية واقعية. نتفاعل معها ونتفهم دوافعها، ونشاركها مشاعرها من حزن وفرح. يكتب شنب عن هذه الشخصيات بحب واحترام، بدون إصدار أحكام عليهم، مما يتيح لنا كقراء حرية تقييمهم واتخاذ القرارات بشأنهم.

قضايا إنسانية

يتناول شنب في كتاباته قضايا إنسانية متنوعة، مثل الفقر، واليأس، والحب، والوحدة. يعبر عنها بصدق وشجاعة، ولا يتجنب الخوض في المواضيع الحساسة. لا تقتصر قصصه على التسلية فحسب، بل تهدف إلى تحفيز التفكير ودعوة للتغيير.

"تفاصيل" هي أكثر من مجرد مجموعة قصصية

"تفاصيل" ليست مجرد مجموعة قصصية، بل هي رحلة في العوالم الإنسانية، صرخة ضد الظلم واليأس، واحتفاء بالإنسان البسيط. تدعونا لنرى الجمال في التفاصيل والأمل في الأوقات الصعبة.

بعض الملاحظات:

- تصوير واقعي: يسلط العمل الضوء على الواقع بشفافية، حتى وإن كان مؤلماً.

- وضوح اللغة: تتميز اللغة بالبساطة والوضوح، مما يسهل التواصل مع القارئ.

- العمق الفكري: تحمل القصص دلالات ومعاني عميقة تدعو للتأمل والتفكير.

- تأثير الشخصيات: تظل الشخصيات عالقة في الأذهان بفضل واقعيتها وبُعدها الإنساني.

تحليل موجز لإحدى قصص المجموعة (عمارة تحت الحجر)

بعد قراءة القصة استمالني أسلوب الكاتب وبراعته في استخدامه سيكولوجية الحجر.... وقد حفّزتني لكتابة تحليل بسيط لهذه القصة الجميلة التي أعلم واعتقد أنني لن أفيها حقها في التحليل... هذه محاولتي الأولى في هذا المجال... وآمل أن تروق لصاحب النص لأنه يعد من أكبر وأفضل كتّاب القصة القصيرة.

عمارة تحت الحجر، تأتي تحت تصنيف أدب العزلة الذي من خلاله يوظف المؤلف مصطلح العزلة الذي يعد محفزًا سيكولوجيًا لإنتاج نموذج توصيفي، ووصفي للتعبير والبوح، كما أنه يخلق نوعًا من الصدمة الشعورية تضطرب من خلالها الصورة النمطية لدى المتلقي سواء على مستوى الوعي أو التفكير، وبالتالي يؤدي إلى إرباك في معتقداته الوجدانية والعقلية فتفتح له المجال للتأمل والتأويل.

في هذه القصة يوظف جمعة شنب سيكولوجية الحجر وما له من تأثيرات، فالحجر يولّد لدى الإنسان شحنات انفعالية يصعب التحكم بها، فتتولّد عنها أعراض نفسية مثل الخوف والقلق واضطراب المزاج واضطراب النوم.

جمعة شنب في مجموعاته القصصية يبحث عن العوالم الداخلية للإنسان، ودائم الإفراط في الخيال إلى حد لا يقبله العقل، وهو ما أطلق عليه الدكتور محمد القواسمة في إحدى ندوات جمعية النقاد الأردنيين، مصطلح الاستحالية، فهو الإفراط بالخيال، وكذلك عدم إمكانية وجود الشيء أو حدوث الفعل على أرض الواقع.

تلتقي هذه القصة مع بعض قصصه في مجموعته (قهوة رديئة) مثل قصته (محكمة) و(خلاص)، وكذلك تتوافق مع ما كتبه في تصدير مجموعته بنت الحرام "إن عليّ أن أفعل شيئاً حيال هذا السكون المقيت، كأن أقوم عن الكرسيّ، وأخبر الجدار أني غير مرتاح لانتصابه في وجهي طوال الوقت.. عليّ أن أهمس في أذنه: إنه إن لم ينصرف، فسأنصرف أنا"؛ فالتصدير كان حالة استشراف مستقبلي، وتطابق لما نعيشه الآن من حجر إجباري.

بالنسبة لكريم حاله حال أي شخص محجور عليه، ولقد بدت آثار الحجر النفسية تظهر لديه، فقد تولد عنده شحنة انفعالية قوية اتجاه ليلى ومنشوراتها العديدة، ولم يستطع التحكم بنفسه والتقليل من هذه الشحنة، فجال في خاطره أن قتل ليلى هو الحل الوحيد للتخلص من سماجتها ومن منشوراتها البذيئة، وكذلك رسائلها المتكررة. وإن استخدام الرقم (11) له دلالاته النفسية فتكرار الرقم واحد يعزز نظامًا عصبيًا شديد الحساسية، وكذلك يرتبط بالخيانة وبالجانب الجنائي، وهذا ما تنبه له القارئ من خلال سرد الأحداث وما يجول في خاطر كريم من جريمة قتل ليلى.

ولو أتينا القصة من باب الفوضى، والتي تعبّر عن موقف الإنسان من الوجود ومن الآخر ومن ذاته، نجد أنها تمثلت في سرد المؤلف للأحداث، وتنقله بين الماضي والحاضر، والعودة إلى ماضي كريم منذ الطفولة وما عاناه من قسوة والدته ووالده، وتأثير ذلك عليه في الحاضر، حيث إن الكوابيس تلاحقه وتجثم على صدره ليستيقظ لاهثا يستنشق الهواء بقوة، فأحداث القصة الفوضوية صنعت لدى المتلقي نوعًا من فوضى المشاعر تعاطف مع كريم على الرغم من تفكيره بالقتل، وكره ليلى على الرغم من أنها الضحية. بالرغم من أن ليلى أيضًا تعد ضحية لهذا الحجر، وقد تولدت أيضا لديها شحنات انفعالية، وما منشوراتها سوى تنفيس عن ضغطها النفسي، وربما أرادت التسلح ببعض القيم الإيجابية مثل التكافل الاجتماعي والتضامن والتعاطف، للتخفيف من تلك الشحنات الانفعالية، لذلك تواصلت بكثرة مع سكان العمارة.

وما أن ينتهي القارئ من القصة حتى يصدم بالنهاية التي جاءت على غير المتوقع، فقد كسر المؤلف أفق توقع المتلقي بموت كريم مختنقًا، فقلب الموازين الاجتهادية، محدثًا تشويشًا لوعيه الذي كان ينتظر إلقاء القبض على كريم بسبب جريمة قتل بشعة، ليفاجأ بوجوده مقتولًا خنقًا.

وتبقى الأسئلة معلّقة في ذهن القارئ: هل قتل أحدهم كريم؟ أم قتلته كوابيسه التي كانت تراوده؟

نهاية غير متوقعة، ومفتوحة التأويل، أعدتها سيكولوجيا الحجر... ويبقى السؤال معلّقًا: لماذا مات كريم وعاشت ليلى؟

أخيرًا "تفاصيل" هي إضافة قيمة للأدب العربي، وهي شهادة على موهبة جمعة شنب وتمكنه من أدواته، أتمنى له المزيد من التألق والإبداع.

***

د. نهال عبد الله غرايبة

يعد شعر التصوف من أرقى التعابير الفنية التي تلامس الروح والعقل معًا، فهو دليل على قدرة الإنسان على مزج الجمال الشعري بالكلمة مع العمق الروحي للتعبير عن أسمى معاني الحب والعشق الإلهي رضمن رحلة تأملية تسعى إلى بلوغ الحقيقة الإلهية.

ظهر شعر التصوف كأحد أبرز الألوان الأدبية في التراث العربي والإسلامي، بوصفه جزءا من الحركة الصوفية التي تطمح إلى الوصول للحضور الإلهي عبر الحب والتأمل والزهد. التصوف باعتباره طريقًا روحانيًا يسعى الإنسان من خلاله إلى التقرب من الله والتطهر من شوائب النفس، والانفصال عن العالم المادي. في هذا السياق، جاء بوصفه وسيلة لتصوير العلاقة بين العبد وخالقه، وحب يتجاوز حدود الحب البشري ليصل إلى المطلق.

الحب الإلهي هو المحور الأساسي الذي تناوله شعر التصوف، والذي حمل مجموعة من الموضوعات تبين تجربة المتصوف الروحية. يبرز اسم سلطان العاشقين "ابن الفارض" (1181-1235م)، يوافق بالهجري ( 576- 632). وهو متصوف اشتغل في شبابه بفقه الشافعية، سوري الأصل، مصري المنشأ، وقد دفن في جبل المقطم بجوار مسجده.(1)

تميز ابن الفارض، شاعر الغزل المتصوف، بقدرته الفائقة على التعبير عن ولهه وشوقه لله عزّ وجل باستخدام لغة العشق. من أبرز أعماله "التائية الكبرى" التي تبلغ 760 بيتًا، وهي تحفة فنية تتحدث عن رحلة الروح في البحث عن الخالق، والتي نجد فيها أوجه تشابه مع الأسئلة الفلسفية الكبرى التي يطرحها الإنسان المعاصر.

تجاوز ابن الفارض التصورات التقليدية للعشق، فجعل منه مدخلًا لفهم العلاقة بين الإنسان والخالق. أشار إلى فكرة الفناء في الحب، والتأكيد على الصدق والإخلاص في المحبة لله، وأن الكذب يمنع السالك من الوصول. وقد حملت قصيدة التائية، كسائر قصائده، معاني باطنة ترتبط بشعائر الدين، على غرار قصائد الصوفية التي تقدم الشريعة في صورة مميزة تختلف عن تلك التي صاغها رجال الفقه. يُظهر فيها بعض معاني الصوفية من شوق وخوف ورجاء وإقبال على الحبيب، فيقول:

فطوفانِ نوحٍ عند نَوحي كأدمعي

وإيقادُ نيران الخليلِ كلوعتي

ولولا زفيري أغرقتنيَ أدمعي

ولولا دموعي أحرقتنيَ زفرتي

عبر ابن الفارض عن شدة العشق الذي يعيشه في صور حسيّة ومجازية، يشبه فيها فيض دموعه بطوفان نوح، واحتراق قلبه بنيران الخليل (إبراهيم عليه السلام)، ويشير إلى أن زفيره ودموعه تخففان عنه لهيب الوجد، وإلا لاحترق من شدة نيران شوقه. كما أبدع في قصيدته الخمرية، فقال:

قلبي يحدّثني بأنّك مُتلفي

روحي فداك عرفتَ أم لم تعرفِ

يعبر هذا البيت عن شدة الحب والتعلق الروحي بالمحبوب لدرجة فداء الروح، وهو انعكاس للتجربة الصوفية التي ترى في الحب والجمال المادي تجليًا للجمال الإلهي، حيث يصبح الحب وسيلة للارتقاء الروحي نحو المطلق، وهي الصورة النهائية التي مثلها شعراء التصوف.

حملت قصائد ابن الفارض، بأسلوبه الفريد، أبعادًا روحانية ذات رؤية عرفانية تتخطى الزمان والمكان، وتُلهم الأجيال إلهامًا روحيًا. فجاءت قصائده بمثابة دعوة للتصالح مع الذات، وتجاوز القلق النفسي، والتحرر من الضغوط المادية للوصول إلى السلام الداخلي.

في كتابه" ابن الفارض شاعر الغزل في الحب الإلهي" تناول د علي نجيب عَطوي شعر ابن الفارض، مبينًا كيف ارتقى بالغزل إلى مستويات روحية لا مثيل لها، فيقول:" غربة المحب بين أهله كناية عن تحققه في نفسه بالحي القيوم على النفوس كلها".(2)كذلك" عبر ابن الفارض عن الحب والوجد الإلهي بصور شتى من التعبيرات التي استعارها من شعراء الحب العذري، وبعض الصور من شعر الخيّام".(3)

في عصر الرقمنة يمكننا التحدث عن الخلوة الروحية كفكرة مُلحّة أكثر من أي وقت مضى. "الخلوة" مفهوم صوفي يشير إلى الانفصال عن العالم المادي والاتصال بالعالم الروحي. وفي هذا الزمن لم يعد ينفصل الإنسان عن هاتفه الذكي أو شبكات التواصل الاجتماعي، فتبدو وسيلة لاستعادة الذات بعيدا عن صخب التكنولوجيا.

وإن اشترك شعر التصوف مع الشعر العربي في جمالياته، لكن ما يميز شعر التصوف عنه:

1- فكرة الفناء: وهي محو الصوفي نفسه تمامًا ليصبح وجوده هو وجود الله فيه. الصور الرمزية في هذا السياق تعبر عن الذوبان في النور الإلهي.

2-الرمزية والوجد: استخدام الرموز للتعبير عن الحنين والشوق العارم لله، مثل رمز "الحبيب" للإشارة إلى الله، و"الخمرة" تعبير عن النشوة الروحية، فيقول في قصيدة الخمرية:

شربنا على ذكر الحبيب مدامةً

سكرنا بها من قبل أن يُخلقَ الكرْمُ

3- الزهد والتحرر من الدنيا: يتحدث عن الدنيا ومتاعها، باعتبارها حاجزًا بينها وبين الله.

دنوتُ منها فكانت نار المكلّم قبلي

صارت جبالي دكّا من هيبة المتجلّي

ولولا سرّ خفيّ يدريه من كان مثلي

أنا الفقير المعنّى رقّوا لحالي وذلّي

4- الموسيقى والصور الشعرية ذات إيقاع عذب وصور غنية تصور التجربة الوجدانية للصوفي.

لولا الهوى ماذلّ في الأرضِ عاشقٌ

ولكن عزيز العاشقين ذليلُ

5-الوحدة الموضوعية: ترابط العلاقة بين الإنسان والله.

يربط د. عطوي بين ابن الفارض والتصوف بقوله:" لا يمكن فهم شعر ابن الفارض بمعزل عن التجربة الصوفية، حيث كان مسكونًا بشغف الوصول إلى الحقيقة الإلهية" (عطوي، 1414ه-1994 م)، فكانت قصائده تعبيرًا عن حالاته الروحية المختلفة، من الشوق والوجد إلى الفناء في المحبوب.

لم يكن ابن الفارض مجرد شاعر غزل أو صوفي، بل كان فيلسوفا روحانيّا عبر عن أسمى معاني الحب الإلهي بأسلوب شعري رفيع. تُعد تجربته الشعريّة تجربة إنسانية كونية تعبر عن شوق الإنسان الدائم إلى الجمال والحقيقة. وصفها د. عطوي بأنها كشفت عن الجوانب الخفية في شعره، وحملت رسائل تضجّ بالدعوة إلى التسامح والمحبة الكونية، فيقول ابن الفارض:

ومازلتُ أرى في الحب وحدتي

فلا فرق بين الفِرق والطوائفِ

يمثل في هذا البيت رؤية عالمية تتجاوز الحدود الضيقة لتفسير الإنسان للحياة والأديان، وتقدم الحب كجوهر إنساني مشترك لتعزيز الحوار بين الشعوب.

نرى شعر ابن الفارض، في القراءة المعاصرة، منظومة روحية وفلسفية تتجاوز الزمن، وإرث أدبي يمثل جسرًا بين العصور، قد نكتشف فيه أجوبة للأسئلة الوجودية والنفسية التي تواجه الإنسان اليوم. إذ تمثل رؤية ابن الفارض في الحب رؤية عالمية تتجاوز الحدود الضيقة للتفسيرات التقليدية للحياة والأديان، وتقدم الحب كجوهر إنساني مشترك يعزز الحوار بين الشعوب، مازجًا العشق الإلهي والعاطفة الإنسانية في تجربة شعرية عميقة خلّدت اسمه في الذاكرة الصوفية والأدبية.

***

بقلم: ريما آل كلزلي

......................

 المراجع:

1-شذرات الذهب في أخبار من ذهب، لابن العماد، دار إحياء التراث العربي، بيروت، ج5، ص 149.

2-د علي نجيب العطوي: ابن الفارض شاعر الغزل في الحب الإلهي. الطبعة الأولى: 1994م، بيروت: دار الكتب العلمية، 1994،ص156.

3- نفسه،ص 162.

4-ديوان عمر ابن الفارض. شرح عبد الغني النابلسي، دار إحياء التراث، بيروت.

 

في المثقف اليوم