قراءات نقدية

قراءات نقدية

للشاعر محمد لشياخ

الحلمة كورال، ملحمة زجلية للشاعر الزجال ذ.محمد لشياخ، تقع في 84 صفحة، صدرت عن دار بصمة للنشر والتوزيع، من تقديم الشاعر أمغارالمسناوي . ومادامت الملحمة هي " قصيدة قصصية طويلة، تسرد مآثر بطل حقيقي أو أسطوري تتجسد فيه المُثل، أو سرد لحادث طريف شيق، بإمكان سرده أن يلقي الأضواء على خفايا ونفسيات " [1]. فإن الحلمة.. كورال عصارة تجربة إبداعية ناضجة غذتها الثقافة الأدبية والنقدية للشاعر/الكاتب محمد لشياخ، هي عالم إبداعي يتلبس فيه الشاعر بالحاكي ليوصلنا إلى الخفي الكامن وراء الإنجاز الفعلي للغة، يدل السرد والحكي فيها عن تأمل الكاتب للواقع، وعن صراعه من أجل الوجود والحياة عبّر عن ذلك بواسطة الحوار بين الشاعر/الزجال (الحاكي) والجهال(شويكات غرسهم الزمان ف اقدام الحياة) [2] من جهة، والشاعر المفترض من جهة أخرى موضوعه "القصيدة الزجلية " بين الإمكان والوجود، متأملا ما كانت عليه ووجودها الجمالي في حاضرها وفي تطورها، مستشرفا إلى مستقبل أروع. إنه صراع مر يعيشه الكاتب مع اللغة يغوص في ثخومها باحثا عن معانيها الإيحائية وصورها الجمالية، من أجل بناء عالمه الإبداعي وتأتيت صوره الشعرية الدالة العميقة والمركبة التي تبتعد عن الصور المتداولة الحسية البسيطة، حيث تلتقي في النص مقومات السرد مع مقومات القصيدة الشعرية مما أضفى عليه صبغة التميز والفرادة .

وسنقف على بعض الرموز التي استعملها الشاعر/الكاتب ودلالتها. كما سنستجلي بعض القضايا الأدبية والنقدية التي يتضمنها الديوان مع إحالاتها. الحلمة.. كورال فضاء مليئ بالعتبات والإشارات والنصوص المتناصة التي يستدعيها الكاتب/ المبدع مقتبسا معانيها، و التي يمكن الوقوف عندها زيادة على العتبة الرئيسة وهي العنوان . يسافر الشاعر/ الكاتب بالمتلقي في أزمنة متعاقبة رتبها ورقمها، فجعلها ، تبدأ ب "زمن الظلمة" وتنتهي " بالزمن اللي صبح فيه الظلام جنة، والضوء محنة " الذي يحيل إلى المعاناة وإلى الضبابية وعدم الوضوح، وبهذا يحقق الشاعر الشكل الدائري الذي هو من خصائص القصيدة الحديثة في بنائها من حيث المعنى .إذ يتمم المختتم معنى المفتتح  فيها، يقول في المفتتح:

قال الزجال اللي كتب:

صرخة ف الظلام خارجة عميا

ولد الحلمة كبر ف العتمة. [3]

ويقول في المختتم:

تم   بين القصب

غنى الحالم لحنك المرتل يا جنة

والجنة حلمة. [4]

التيمة الرئيسية المولِّدة للكتابة الشعرية هي " الحلم "، وتدور في فلكها تيمات صغرى من قبيل: الحالم، زمن الحلم، عالم الظلمة، عالم النور، الزجل أو الكلمة أو الحرف .

فبناء النصوص يعتمد على ثنائية الظلمة / النور، وهي ثنائية تضرب عميقا في التاريخ الإنساني فكرا ووجدانا، وهي لصيقة بعالم الحلم، حيث البداية عند الشاعر الزمن الأول الذي مازالت فيه الكلمة في وجودها الأول لها قدسيتها، إذ لم يدنسها بعد الاستعمال، وقد امتطى الشاعر للصعود إلى هذا النبع الصافي أمواج الحلم التي بلغ عددها ثمانية، تؤسس بدورها تلك الأزمنة الثمانية المرتبة، غير أن الشاعر ينحاز إلى عالم الظلمة الذي تختبئ فيه الأسرار، ويخاف من عالم النور حيث تتضح الحقيقة الكاذبة، وتحضر المحنة المؤلمة. إن خروج الشاعر من حيز الظلمة إلى حيز النور، واكتشافه لهذين الحيزين معا يشبه تلك الصرخة الأولى التي تعلن عن خروج الوليد، توا، من الرحم المظلم إلى الفضاء المنير، وهي في هذا السياق، ليست صرخة فرح وحبور وإقبال على الحياة بقدر ماهي صرخة هلع ورعب من مغادرة عالم دافئ تعمه الطمأنينة والسلام، ولا غرابة أن يستهل الشاعر النص الثامن باقتباس مأخوذ من منتسكيو ومفاده: " ينبغي أن نبكي الناس في يوم ميلادهم لا في يوم مماتهم ".

فالحلمة، كلمة، خروج من الظلمة للنور و شمساته، الحلمة رواء ضد العطش، الحلمة حياة خالدة، الحلمة عند الشاعر أنثى ولادة. إذ يعيش ولد الحلمة الكاتب/ الزجال مع القصيدة  تحولاتها الكبرى عبر الأزمنة على مستوى الإبداع نتتبع فيها أحوال الذات المستلهِمة لأحوال النفس المتوحدة والقصيدة الزجلية في شتى مراحل وجودها من الإفصاح والخروج إلى النور إلى التطور  في الحياة  إذ تتماشى الأحداث والتطورات النفسية للكاتب / الشاعر في نفس طويل، بدايته هيام وعشق يقول:

تسع شهور من العشق

قبل ما التاريخ يبدا

قبل ما اللوح يفتح سرداب الرعدة

ويبيع الخوف ف قراطس الندى

قبل ما تبدل وجعة الصوت ثوبها

وتلبس دربال الكلام. [5]

يتنامى الحدث هنا، وتتظافر تقنيات السرد من شخوص وحوار وأزمنة لتصور عسر الولادة والمعاناة الرمزية التي يطرح الكاتب من خلالها  أفكاره الخاصة بأسلوبه الخاص وقد اختار له الصراع بمستوييه الواقعي والرمزي، حيث المعاناة النفسية الحقيقية إبان الإبداع، والبحث الدؤوب عن اللغة المعبرة والتراكيب الدالة تحقيقا للتناسب بين ما هو وجداني والشكل الإبداعي الأدبي في تجربة الشاعر، كل ذلك انطلاقا من تراكم معرفي وتجريبي ورهانات الكاتب الزجال، حيث يبقى الزجل موروثا إبداعيا وفكريا، وملاذا آمنا لطرح الأفكار التي لها علاقة بهذا الفن الأدبي من أجل إيصال المعنى وإسماع الصوت، صوت الزجال الراوي المتلبس في القصيد بالآخر . قال:

فعين راس الماء

تفتل الماء بين صبيعات مطرزة

وبين النقش ترسمت كلمة

برمها الريح على راس عكازه

وجلس مجابه فلجة الشمس. [6]

يدل رسم الكلمة على الكتابة، كما يستنتج ذلك من قوله: قال الزجال اللي كتب. تأكيدا على الكتابة، لأن الكتابة سلطة وتعاقد بين الكتاب والمبدعين والقراء.  يريد الشاعر أن يضفي الطابع العالم على الأدب الشعبي، "الحلمة كورال" تنتمي إلى الأدب الشعبي، والشعر الشعبي تحديدا،  تضعنا في قلب نظرية الأنواع الأدبية، ونعتمد في هذا المجال على ثنائية لغوية: هي اللغة العامية / اللغة الفصيحة أو لغة العوام / لغة الخواص، وكذلك على ثنائية تاريخية انثروبولوجية: شفهي / مكتوب، فتجعلنا نلمس التحول الذي طرأ على الأدب الشعبي، وهو الانتقال من الشفهية إلى الكتابة مع الاحتفاظ بالنوع والخصائص المشتركة ، وكذلك انتقال النصوص الشعبية مما هو منسوب للجماعة ، حيث يبقى المؤلف مجهولا (مثل ألف ليلة وليلة، كتب السير،عنترة بن شداد..) إلى النص المنسوب إلى الثقافة الخاصة، فتصبح لدينا ثنائية أخرى هي الثقافة الشعبية المنسوبة إلى الجماعة/والثقافة الشعبية العالِمة المنسوبة إلى الأفراد المحددين الذين يتوفرون على ملكية إنتاجهم الأدبي، وهكذا يضيف الكاتب الشاعر الأستاذ محمد لشياخ الطابع العالم على هذا النوع الأدبي .

فإذا كان الزجل يستمد مفهومه اللغوي من الحمام الزاجل الذي يحمل الرسائل، فإن للزجال هذا الدور المنوط به ككل أديب ومثقف، أي له رسالة أو رسائل، ومحمد لشياخ ف "الحلمة كورال " أداه بكل المقاييس وعلى جميع المستويات سواء منها الفكري أو الفني الأدبي في تناغم وانسجام تام، بين الشكل والمضمون، فقد أثار من خلال النص مجوعة من الآراء والقضايا التي لها علاقة بهذا النوع الأدبي على مستوى التنظير نقف على بعضها:

-    يقول: الزجال نبي الكلام، الزجال لابس دربال الكلام، يشير إلى الخصائص والصفات التي يجب أن تميز هذا الشاعر، وهي امتلاكه ناصية الإبداع، أي الكلام  وصنعته ، وصنعة الكلام، معرفة تامة باللغة وخصائصها، ومعرفة بقواعدها الفنية في أداء المعاني وتوليدها .

-    قال الحلمة باتول ولدت كلمة، والكلمة بتول الحروف، تدل الباتول على العذراء عموما، فكذاك القصيدة جديدة وإن كانت ذات أصول وتاريخ، نفهم من هذا أن على كل شاعر وكاتب أن يتميز ويتجدد بأسلوبه، الذي يصبح علامة فارقة بينه وبين غيره.

- المبدع لا يموت الزجال لا يموت ينبعث من رماده مثل الفنيق يخلده إبداعه. قال:

ومن تحت الرماد

غتسمعوا كبدة الزجال

كوني يا نار على حرفي " برد وسلام". [7]

وأيضا

الزجال إلى قتلتوه

راه جلدوا كناش للكلمات

راه عظامه قصايد موحيات(..)

غيقراو صبيانكم وصايته ف كتاب الأموات. [8]

ونطرح في هذا السياق، السؤال كيف يخلده شعره؟ يخلده شعره إذا توفرت له الشروط  والصفات ، وأول صفة في الإبداع الذي يمكن أن يخلد صاحبه هي أن يعبر عما هو انساني، وقد سماه "القدرة على السمو اللي ما تيفرقش لا بين الألوان ولا بين الأشكال لا في الحياة ولا في الإنسان" [9].  يضاف إليه شرطا آخر وهوان يكون مدونا ومحينا. قال:

ها روحي

ها خبز معاشي

نقعوا فيه رشاتكم

شاركوني ملحة الكتابة . [10]

-  الشعر والزجل ككل شعر إبداع خلاق وليس انعكاسا ميكانيك للواقع، يستشف هذا الرأي من تكرار "مرايا كذابة" ودلا لتها، ومنه قوله:"لما العالم ضاق بالحالم قرر يرجع للظلام، فين كان قادر يقرا كينونته بلا لغة بلا مرايا كذابة" [11]، والإبداع   يستدعي المعرفة بالأدوات وامتلاكها، ويقتضي الموهبة التي يجب أن تنمى بالصنعة والقدرة على التصرف في اللغة.

- يشير الشاعر / الكاتب أيضا إلى علاقة القصيدة في فن الملحون والقصيدة الزجلية الحديثة على اعتبار أن الأصل واحد والجنس واحد. يقول:

فوسط الغمامة

سمعت خصومة

الرعد غضبان من خليلته السرابة

الماء بينهم حالف ما يشهد (..)

شكون قادر يسقي نخلة الكلام

هنا     تفرق الكلام

هنا     تكفا صدر النبي ف الحافة

هنا     الحلمة نزلت تحفر طريقها ف فيافي

هنا     وراء ظهر الشمس تخبا القدر

لابس سلهام الزهاد . [12]

-    ونسجل مع الناقد الكاتب دور النقد الأدبي في إضاءة الموضوع، وأنه مايزال زهيدا بالمقارنة مع التدفق الإبداعي في هذا المجال، كما يتعزز هذا بالدعوة إلى غربلة التجارب وإعطائها حقها في التقويم والتقييم حيث ورد الغربال الذي يدل على هذا المفهوم في مواضع شتى منها قوله:

قالت الحياة:

وعلا ش ما يكون "إنسان"

"إنسان" تيتماهى مع الصفاء

قادر يقطع دروب الجراح

"انسان" تيعلم الشمس تكون غربالنا . [13]

أما على مستوى الأسلوب واللغة فقد انتقى الشاعر ألفاظا إيحائية يطغى عليها معجم صوفي يحيل إلى الصفاء والسمو مثل: الحلم، الرؤيا، النور، الماء، حيث ترتبط الرؤيا بالأنبياء صلوات الله عليهم، وخاصة رؤيا سيدنا يوسف عليه السلام التي كانت دليله إلى العزيز، كما فسر رؤى غيره ، أما عند المتصوفة فقد ارتبطت الرؤيا بالبشرى الإلاهية، وقد استعملها  الكاتب / الشاعر بهذا المفهوم فجعلها تتعدى الأحلام والحوافز النفسية وتحقيق الرغبات المكبوتة – عند فرويد مثلا – إلى الرؤيا والمكاشفة وتحقيق اللذة والشهوة  بالمعنى الصوفي فتصبح لها علاقة بالنور يقول الشاعر مستدعيا في هذا المعنى معنى قول جلال الدين الرومي:"النور اللي ف العين ما هو إلا آثار من نور القلب .أما النور اللي ف القلب فهو النور الحقيقي". [14]

إن بين الرؤية والرؤيا يتحدد عالم الشاعر الإبداعي الجمالي الحالم، والذي يبدأ بالشهوة والغواية . يقول:

شهوتي أنا ..ف حلمة... سميتها الحياة (..)

شهوتي يعصرني مزاجها ف دوايته

يخوتمني ضمغة  ف وصايته

شهوتي ف حلمة

راغ زينها ف رقاد الضاية

لما غزات بلادها الخيول

يوم خرجت لمناجل ترضع الصابة

تنشر الدفى فصبيعات الحطابة. [15]

أما "الماء " فله ارتباط بالحياة والوجود كما في القرآن الكريم " وجعلنا من الماء كل شيء حي " الأنبياء الآية 30. كما يحيل أيضا الى القوة والطوفان، لكن الشاعر استعمله استعمالا مرتبطا بالشعر وخاصة الصوفي الذي يحمل فيه الماء رمزية شدة العشق والشوق، كما ورد في دراسة رمزية الماء في التراث الشعري العربي، يقول الكاتب:" يرتبط الماء بالشعر الصوفي عند الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي فيصبح دلالة على الحب الإلاهي وتعبيرا عميقا عن الشوق والعشق وعن كل ما هو روحاني وصوفي، فالماء تعبير عن الإغداق في ملكوت الله وأسرار كونه" [16]. يقول:

قال الحالم

فين الماء اللي ماتت غمامته ف عشق أمي

باش تولدني حالم

فين السماء اللي تدلى صدرها باش ترضعني

فين حقي فصوفيات الحضرة

فين دربال الدرويش نحطو تاج

نهار يغسلني نورك من جهلي

نهار يعاوني الصبر على صبري. [17]

بصور تركيبة تجريدية تارة مبنية على المجاز والانزياح تارة أخرى، وباستثمار تجارب الآخرين والتأمل في الحياة، والقدرة على توظيف الرصيد المعرفي والثقافي المتنوع الذي يدل على الزخم المعرفي المتراكم، وامتلاك الكفايات والمهارات الإبداعية حقق الشاعر الزجال الأستاذ محمد لشياخ التناسب الوجداني بين حالته الانفعالية وبين الأسلوب الفني، في إيقاع قوي مبني على التوازي، وعلى تساوي الجمل والمقاطع مثلا:

ياك حنا اللي سمناك حلمة

يا كوكب الذر ف ملكوت الكتبات

يا تاج الورد ف سميت الزهرات

ياسوار كسرى ف قصور الطاووس

المفرخ بيضه فعشاش الكلمات. [18]

حيث تجد التساوي في التركيب "يا كوكب الذر، ياتاج الورد"، "ف ملكوت الكتبات ، فسميت الزهرات". يُكسب النص بنية إيقاعية داخلية قوية، حافظ عليها خصيصة مكتسبة أقرها الكاتب في وصف الحلمة ب "كرال"، وهذا تصنيف نوعي فرعي يعني الجوقة أو المجموعة، وهو مصطلح يستعمل في فنون أخرى، تصنيف كمي غير مؤثر، لأن الشعر يكتب في شكل قصائد مفردة أو قصائد متعددة موضوعها الحياة و" الحياة كورال من الوجعات" يتقاسمها الانسان. ومع ذلك تبقى للإبداع حرية مقيدة في الاشتغال على التخوم بين الأنواع – كما هو شأن التجريبيين -، لكن هناك ملامح كبرى، تراكمت عبر العصور، وشكلت تقاليد أدبية لا يمكن تجاهلها. إلا أن الحدود اليوم بين الأنواع الأدبية لم تعد واضحة. " فالشعر بهذا التصور مساحة يصطخب فيها الجدل بين عناصر الثبات وعناصر الحركة، ساحة تفنى فيها عناصر، وتتخلق أخرى، وتتحدد فاعلية العناصر المتولدة، بمقدار ما تقتضي من رؤى، ومقدار ما تحتوي من إمكانات الكشف وطاقات التغيير." [19]

هكذا عبر شاعرنا المبدع بأسلوبه المتميز ولغته الراقية عن الثابت والمتحول في القصيدة الزجلية عن وعي بالوظائف واستحضار تام للتراكم الثقافي والتجريبي بمؤثراته النفسية والموضوعية، فجاءت تجربته غنية تحتاج إلى أكثر من قراءة، وإلى النظر فيها بأكثر من زاوية.

***

د. فطنة بن ضالي

..................

الهوامش:

[1] سعيد علوش، معجم المصطلحات الأدبية، دارالكتاب اللبناني، ط1985،1، ص205.

[2] الحلمة كورال، ص 31

[3] الحلمة كورال، ص 7

[4] الحلمة كورال، ص 81

[5] الحلمة كورال، ص 7

[6] الحلمة كورال، ص 11

[7] الحلمة كورال، ص 62

[8] الحلمة كورال، ص 64

[9] الحلمة كورال، ص 71

[10] الحلمة كورال، ص 40

[11] الحلمة كورال، ص 79

[12] الحلمة كورال، ص 73-74

[13] الحلمة كورال، ص 75

[14] الحلمة كورال، ص 11

[15] الحلمة كورال، ص 15

[16] خليل المعلمي، رمزية الماء في التراث الشعري العربي، جريدة الثورة 18 يناير 2016.

[17] الحلمة كورال، ص 76

[18] الحلمة كورال، ص 32

[19] اعتدال عثمان، قراءة في أوراق الغرفة للشاعر أمل دنقل ، فصول ، م4، ع1أكتوبر-ديسمبر 1983،ص121.

أهم ما يمز بنية هذه الرواية هو المونولوج غير التقليدي الذي تعودنا عليه في السبعينات. المونولوج هنا مناجاة الأم، هنا يأتي دورها كما أشرنا، صوت الوالدة العراقية فيه نغمة خاصة، معبّر عن سردية أنثوية عراقية، إنه مساهمة كبيرة في عالم تعدد الأصوات في هذه الرواية، يجسد تاريخ الهم العراقي، صوتٌ يتميز بوضوح الألم ونبرة الحزن، كله شجن، نواح، بكاء، سرد جميل جدا. إنها سردية الأم التي ترى الأمور بطريقةٍ أخرى. ص 149 تسأل ابنَها العريس العنّين: "ألا تذكر مسرحيتك الوحيدة". ص 150

وتتداخل "سردية" العروس أو تختلط مع مداخلات أم عبد الرحمن "نظرت الزوجة (يقصد شيرين) إلى التقويم الشهري ...صورة زوجها ببزته العسكرية... العروس شيرين... اعتصمت...ارتدت ثوبا أسودَ". ص 151-150

عند بداية المونولوجات يتداخل صوت والدة الجندي المقتول مع صوت أم المحتضر عبد الرحمن بشكل بارع لكنه يحتاج إلى قارئ متانٍّ، لهذا قد يتساءل عمّن يدور الحديث؟ من هي التي استلمت البرقية؟ فيتضح أنها والدة الجندي صديق شيرين أو "زوجها" المقتول في الجبهة لأن الحدث قديم يتم استذكاره. ص 152

إذن سردية عبد الرحمن بأنه أراد أن يستر شيرين ليس بالضرورة دقيقة، قد تكون هلوسة وتبريرات، مجرد ادّعاء، ليغطي "عجزه" مثلًا!

وإن شيرين ليست عذراء، بل إنها وبحسب رواية عبد الرحمن حبلت من صديقه الجندي القتيل، وهنا قد يتبادر إلى ذهن القارئ سؤال: إنه زوجها فلماذا يجب عليه أن يسترها؟ قد يكون الجواب هو: هذا أسلوب الكاتب في الغموض أو "خلط الأوراق" والتبريرات، لو كان خطيبها فحسب بدون عقد زواج شرعي لأصبحت الحبكة أكثر منطقية!

إنها مشكلة اجتماعية تقليدية كُرّستْ لها العديد من النتاجات الروائية والمسرحيات والأفلام العربية الاستهلاكية.

وقد أجابنا الكاتب على هذا السؤال قائلاً: "موضوع زواجها غير الرسمي كان غامضًا، قالت شيرين ذلك ربما تهربًا من قصة عذريتها، قضية غامضة، المهم هو عنين وهي غير عذراء.. هكذا هو الأمر".

لا سيما أن غموضًا آخرَ يحفز القارئ على طرح السؤال ويتطلب التركيز لفهم الحبكة، سرد جميل ومونولوج متداخلان تشترك فيه عدة شخصيات يبدأ بإيضاح العقدة والأسرار لكنها قد لا تتعدى الادعاءات لتبرير المواقف وحفظ ماء الوجه بالذات بالنسبة لعجز عبد الرحمن وجنين العروس: نقرأ في الرواية: "خرجت أم الجندي من غرفتها تصرخ: ابني ابني" ص 151 بينما تسأل أم عبد الرحمن ابنها العريس العاجز: "لماذا كنت تنظر لأخيك الكبير نظرات ريبة؟". ص 152

مونولوجات واعترافات متداخلة لتبين الحقائق لكنها تزيد الغموض. لاحظ تجسيد مآسي أمهات الجنود العراقيين!

حوار بين الأم وابنها المحتضر، عبد الرحمن يتحدث في مونولوجه عن حياته والحرب كجندي، ويفسر سبب عجزه الحقيقي لإصابته بشظايا وعن شيرين التي أحبها لكنها تحبل من صديق لها، جندي يموت في الجبهة، فيقرر أن يسترها، ويعلّق على "رواية" أخيه الكبير قرأها واختلف معه في أحداثها! سرد رائع، متجدد ومتناسب مع بنية الرواية المتعددة والمتنوعة!

ولا بدّ أن نشير إلى أن أسلوب الكاتب هنا في التمهيد لبداية نهاية الرواية يتميز بمونولوج طويل من ص141 إلى ص 167 يتضمن حواراتٍ جميلةً بين الأم وابنها المريض وطريح الفراش والعروس شيرين ومولودها الرمز والأخ الكبير. وتتضح في هذه السردية الهجينة كما قلنا أهم الحقائق:

العريس المريض يتحدث عن نفسه وعجزه ويتضح انه عاجز ليس بسبب طفولته بل شظايا دخلت قضيبه.

يبدأ المونولوج هنا بين الأم وابنها العريس وهو على فراش الموت: "قل لي أي شيء قل لي عبد الرحمن لم اكن أطلب منك أن تصبح بطلا لكنك بطل .... ألا تذكر مسرحيتك الوحيدة التي كنت تحلم بتمثيلها على المسرح". ص 150

وهنا يتداخل سرد آخر بين الزوجة والأم ينقلنا الكاتب ببراعة إلى شيرين عندما كانت (زوجة الجندي) تتحدث مع والدته أثناء استلامهما برقية وفاته. ص 152 لكن، في هذه الأثناء تواصل أم عبد الرحمن حوارَها مع ابنها ومناجاته قبل أن يرحل عنها، يقول لها: " كنت في بطنك عندما انغرست في صدره (والده) رصاصات عدوه". ص 153

في "نزوة الموت" تحضر أيضا إحدى فرضيات موت الأب بينما كان ابنه البطل جنينًا في بطن امه. ص 153

لماذا تتكرر هذه الواقعة؟ إنها أليغوريا الموت الذي أهلك العراقيين! كأن الموت بطل من أبطال الرواية، أو أحد أعمدتها ورمز الحياة العراقية!

الموت! الموت! إنه الغياب والآلام، ابتلى به العراقيون منذ العهود القديمة وحروبهم الشرسة، يمارس الموت حضورَه هنا ايضاً. ص 154

البرقية والحلم عمودان مهمان تقف عليهما بنية هذه الرواية كما هو الحال في رواية "نزوة الموت"، حيث يقول البطل العائد من فرنسا لينقل رفات أبيه: "الخطيئة ابتدأت منذ اليوم الذي استلمت فيه برقية من أمي". ص 93

أما الزمان فيصوره الكاتب بوضوح من خلال أبطال الرواية الجنود: زوج شيرين الأول المقتول في الجبهة وبرقية الشؤم التي تعلن هذا الخبر المشؤوم، ونعيق الغربان فوقهم، وعريس شيرين الحالي الذي يعاني من عجز جنسي بسبب الحرب، "لا أعتقد بوقوع حرب أخرى بعد هاتين الحربين". ص 100

وإذا أردنا الحديث عن البنية، فلا بد لنا أيضًا من الإشارة إلى أن الكاتب يأخذ بيد القارئ بسلاسة لتبدأ نهاية المأساة، إن صح القول مجازًا فنحن أمام رواية غير تقليدية لا تلتزم بالمقومات المعروفة ولا بالأبعاد الثلاثة.

تدخل على الخط في السرد هنا شخصية عبد الرحمن نفسه، بطريقة رائعة لتتحقق البوليفونيا!

يعاني عبد الرحمن من الحُمّى ثم يموت! ص 148 تنتهي هذه الرواية بطريقة تتناسب مع بنيتها التي اعتمدت في النهاية على حوارات افراد العائلة وذكرياتهم.

تعتمد البنية بالأساس على تطور الأحداث ارتباطا بحياة الجنين وعمره داخل بطن شيرين كل شهر له فصل فهي تتكون من تسعة فصول لكل فصل عنوان يدل على محتواه. نظرة تجديدية في ابتكار بنية محدثة!

يلعب طائر البوم دوره في تطور الحدث وتصاعده بحيث يجعل البنية أكثر حيوية، ويبدأ بلوغ ذروة المضمون (ص 150) بقدوم ساعي البريد والبرقية كما هو الحال في "نزوة الموت" وكما أشرنا سابقًا في مقالنا هذا.

إنه موقف مثرٍ ومهم في بنية الرواية كأنه مشهد فيلم روائي!

"ظهر ساعي البريد ... برقية البرقيات مخيفة دائما مثل نعيب البوم تحمل فأل الشر قرأ اسم زوجها أصبح في قائمة المفقودين... ". ص 151

إنها ليست رواية بحبكة تقليدية، ولهذا تظهر هنا تساؤلات من المتلقي العادي موجهة للكاتب، إنها عصية الفهم على القارئ العادي، وليس هناك ضيرًا، لكن لا بأس من التوضيح أحيانًا بكلمة واحدة قد تنقذ الموقف ولا تُسيء للسرد.

لنلاحظ مرّةً أخرى كيف تتداخل الأصوات والسرديات المتنوعة في هذه الرواية، يترك الجندي المريض المحتضر، وصيتَه إلى أخيه. ص 156

إن الوصية، عمليًا، مخطوط صغير آخر يختلف عما كتبه ويكتبه الراوي الأصلي الذي لم يعد ساردًا عليمًا، يقول: " من حقي أن أسرد قصتي، ومن حق أمي وشيرين أن تسردا قصتهما" ص 156، فيشرح قصتهما، بينما شيرين تقرأ "مخطوطته" عند تعبه بسبب مرضه، ويتضح أنها (شيرين) كانت تحب شخصًا آخرَ غير عبد الرحمن و"حملت منه جنينها ...". ص 159

وهكذا فإن السرد الأخير يحصل فيه بعض "التشويش" والارتدادات بسبب تداخل أربع سرديات مثل:

- سردية الأخ الكبير، السارد الأصلي الفنطازي يستخدم رمزية العناكب والمضاجعة والعلاقة مع شيرين "العنكبوت" وقتلها بالسيف في نهاية الرواية، وقصة عجز عبد الرحمن منذ طفولته.

- سردية عبد الرحمن هي في حقيقة الأمر "وصيته" المكتوبة، يسردَها ويحكيها مؤلفها حيث يصورّ أخطاء مخطوطة أخيه ويعلّق عليها وتحريريا حيث تقرأها شيرين.

- سردية والدة عبد الرحمن وسردية شيرين التي تصلنا على شكل مداخلات.

- أما السرد عن برقية الجندي القتيل! فهو مجرد غموض مقصود من الكاتب يتطلب قراءة متأنية وتفاعل القارئ مع الأفكار بطريقة إبداعية.

هل هي حكاية أو اعتراف عبد الرحمن بأن شيرين حامل من الجندي الميت المقتول في الحرب؟ أم أن الجنين من أخيه؟ هل الجنين (الشبيه) ابن الجندي أم ابن الراوي الأول أخيه (الكبير)؟ غير واضح، وبقيت الامور غير واضحة حتى في آخر صفحة في الرواية. أنظر ص 167

ليس المهم مَن الفاعل بل الأهم الاستفادة من دروس الماضي ونبذ الحروب وتحقيق الاستقرار والحفاظ على أرواح البشر!

نهاية الرواية:

النهاية لوحدها لها معمارها الخاص، تعتمد على مونولوج الأم وحوارها مع الابن الكبير وذكريات عن المرحوم عبد الرحمن. ص 150

طائر البوم عن طفولة عبد الرحمن وخدمته العسكرية، أسلوب رائع، عبد الرحمن العنّين يكتب عن نفسه. ص 155 ويطّلع عليها اخوه الكبير. إذن نحن الآن أمام ساردين عليمين لكل منهما سرديته الخاصة به، فيتحقّقَ التناص وتتداخل هاتان المخطوطتان. ويفاجئنا الكاتب بساردَتين أخريين، تسرد الأم روايتها، والزوجة شيرين لها أيضًا رؤيتها الخاصة بها تعبر عنها في "سرديتها"، أو قسمًا من المخطوطة، فهُما تشتركان فيها

وكأننا نقرأ "مناحةً" عراقية نسائيةً بامتياز!  أنظر الصفحات 149-155

أخيرًا لا بدّ لنا من القول إن بنية نهاية الرواية بدءًا من تمهيدها إلى الذروة تتسم باعترافاتٍ مسهبةٍ بلغة تتداخل فيها الأصوات والحقائق، يساهم القارئ الفطِن في إعادة ترتيبها نتيجة عند تفاعله مع النص أثناء القراءة.

إنه سرد سيمفوني رائع على امتداد عدة صفحات. أنظر 149- 167

إنها سيناريو جدي لفيلم اجتماعي عن مأساة المجتمع العربي: العذرية والعفّة وليلة الدخلة!

تنتهي ذروة النهاية بوصف رائع جدا لولادة شيرين وليدها الجديد، ص 142 وتقدمه الأم بعملية التوليد، قائلةً: "يشبه أباه" ص 143 لكنها تشك بالأخ الكبير، صرخت في وجهه وكأننا أمام مشهد مسرحي أو لقطة سينمائية معبّرة: "أنت"! ص 143

في المقابل يضمحل العريس المريض ويعاني من الحمى والكوابيس ويتحدث عن الموت، وهي موضوعة الكاتب نفسها في "نزوة الموت" عندما يتساءل السارد: "ما شكل الموت" ص 147 تحولت شيرين في الحلم إلى عنكبوت ضخم يخنقه. العنكبوت تمارس مع الذكر مرة واحدة وتخنقه ويموت عبد الرحمن!

لكن المولود العراقي الجديد يكمّل المنظومة الأليغورية في هذه الرواية، فيُجسّدُ "أليغوريا" الحياة بغض النظر عن هوية والده المجهولة، وتبقى الأفكار حيّةً متوهجةً تبعثُ وميضها في أذهان قرائها من الأجيال القادمة التي عليها استخلاص العِبر من مآسي الحرب!

***

الدكتور زهير ياسين شليبه

.......................

1- شاكر نوري. نافذة العنكبوت. المؤسسة العربية للدراسات والنشر، الطبعة الأولى، بيروت 2000

2- زكية خيرهم. نهاية سرّي الخطير. وكالة سفينكس للنشر والتوزيع القاهره 2017

وأنظر دراستنا الموسعة عنها: د. زهير ياسين شليبه. قراءة في رواية " سري الخطير" لزكيه خيرهم. جريدة المثقف. 24 ايار 2023

3- د. زهير ياسين شليبه. غائب طعمه فرمان. دراسة نقديه مقارنة. دار الكنوز الأدبية، بيروت 1996

ومقالنا: قراءة في رواية زينب للدكتور عارف الساعدي. جريدة المثقف. ديسمبر/ كانون الأول 2023

4- أنظر: حوارنا مع الكاتب شاكر نوري. ملحق القبس الثقافي 04 مايو/ أيّار 2024

قراءة رمزية نفسية هيرمينوطيقية في ديوان ماء الياقوت" للشاعر عبد القادر الحصني

في شعر الشاعر عبد القادر الحصني، يتعالق الجسد اللغوي مع الجسد المعنوي في جدل لا ينفصل، حيث تتحوّل القصيدة إلى كائن طاغٍ، تُخضع الشاعر لتقلباتها، وتُنازع فيه وعيه وهويته وقراره. في قصيدة "طاغوت القصيدة"، يتلبّس النص الشاعرَ كما يتلبّس المسّ الروحي، فينشطر كيانه بين نشوة الخمر، وحقيقة الصحو، بين غواية الأنثى وتجلي الوطن، بين اللذة والمأساة، في بنية أسلوبية عالية الإيقاع والتكثيف الرمزي.

- في مجال المنهج الرمزي – القصيدة ككائن متعدّد:

يتّخذ الحصني من الخمر والأنثى والحانة والفرس والأرض رموزاً وجودية تتجاوز معناها المباشر، يقول:

 "إلى السُكر أشكو ما ألاقي من الصحوِ

لأُدني ما أنئي، وأبسط ما أطوي"

الخمر هنا ليست فقط شراباَ، بل هي "القصيدة" ذاتها، وهي الفن، الملاذ، والتطهير. أما "الصحو"، فهو وعي الواقع، مأساته، وشرطه التاريخي القاسي. الشاعر لا يهرب إلى السكر بل "يشكو" من الصحو، لأنه وعيٌ فائض، ووجود لا يُحتمل.

"فتقرأ في كفي تفاصيل ما أنوي

ويركض أطفال جميلون في دمي".

هذه الصورة تكشف بُعداً طفولياً للقصيدة، فهي أيضاً خصوبة، ولادة، وشهوة معرفية وإبداعية.

- في مجال المنهج النفسي – الانشطار بين الهو والأنا:

نلحظ في القصيدة تشظي الذات الشاعرة بين متعة مؤقتة وانهيار دائم، يقول:

 "كذا أنا.. حتى أستفيق مهدماً

على الخمر لا تروي، كما الشعر لا يروي".

*

في هذا السطر تكثيف للغربة الوجودية: الخمر لا تروي، والشعر لا يروي، في إشارة إلى جفاف داخلي عميق لا تملؤه طقوس الكتابة أو طقوس اللذة. النفس الشاعرة ممزقة بين الإشباع الرمزي والعطش الفعلي. يقول:

 "وذئب أحدّ النابَ فيَّ، فصوته

وصوتي خليطٌ، ما يبين إذا يعوي".

صورة "الذئب" هنا رمز للهو الوحشي، للغريزة، وهو يعوي بلسان الشاعر. لا فرق بينهما. الذئب والشاعر متواطئان في العواء. إنها الحالة الفرويدية الخالصة حيث يتصارع الهو مع الأنا.

- المنهج الأسلوبي – هندسة الإيقاع وتراكيب الدهشة:

القصيدة مكتوبة على بحر البسيط، لكنه بسيط متسع، تُنَفَّذ عليه طقوس الدهشة، ويتمدد فيه الحرف إلى أقصى ما يقدر على تحمّله من الصور والانفعالات.

 "وأبتهج أن الشعر مثل الخمرِ إذ

تفيضُ، ولا شيءٌ من الجمر يطفي".

في هذا التركيب، نلحظ جمالية التوازي والاستعارة المتحولة: الخمر = القصيدة = الانفجار = الجمر = العشق. تتدافع التراكيب بمجازاتٍ متوالدة، لكنها لا تفقد وضوحها.

كما أن استخدام الأفعال الحركية المكثفة (“أبتهج”، “أمسح”، “أهصرها”، “أدلّي”) يمنح النص حياة جسدية شديدة، فيصير الجسد كياناً تأويلياً، واللغة امتداداً للعصب والشهوة.

- في مجال المنهج الهيرمينوطيقي – التأويل الوجودي للموقف:

الشاعر في هذه القصيدة لا يسرد تجربة شخصية، بل يطرح موقفاً وجودياً من الشعر، الوطن، والكينونة. يتجلى ذلك في الخطاب الوطني في المقاطع الأخيرة، يقول الحصني:

"وفيٌّ لهذي الأرض أمسح تربها

بجفن قريح، لا يثوب إلى غفْوِ"

كما يقول:

 "وأوصيكم أن لا تلينوا لغاصب

يراودكم عن أرضكم، وهو لا يلوي"

ينتقل النص من المونولوج الحميمي إلى خطاب جماعي، سياسي، ينفتح على التاريخ والراهن، ويعيد تعريف الشعر كفعل مقاومة. الشعر هنا ليس ترفاً بل التزاماً:

 "فما الأرض إن تمنع سوى العرض كله

وحاشا لعرض أن يؤول إلى جزوِ"

- في مجال الثنائيات الكبرى – الجدلية الرمزية بين اللذة والمأساة:

القصيدة محكومة بمنظومة ثنائيات تقابلية:

- السكر × الصحو

- الأنثى × الأرض

- القصيدة × الطاغوت

- اللذة × الانهيار

- الجسد × الروح

- الغناء × الخرس

- البطولة × الانكسار

هذه الثنائيات لا تُفكك بشكل مباشر، بل تتداخل عبر بنية شعرية مشحونة بالرمز والانفعال، ما يمنح القصيدة طابعاً مأساوياً عميقاً، حيث اللذة دائمًا مؤقتة، والشعر دائماً مسكون بفقدان المعنى، يقول:

"طاغوتٌ يُزحزح كلامي عن الذي

أريد من القول السديد إلى اللغو"

القصيدة تعلن تمردها، وتصبح سلطة، تُحرّف المعنى. كأن الشعراء، مثل الأنبياء، يُسقطون في الاختبار حين يواجهون جبروت اللغة.

في الختام: الشاعر ككاهن مكسور. في "طاغوت القصيدة"، يتحول الشاعر الحصني إلى كاهنٍ مكسور، يعاني من نزيف الرؤية، ومن انكسار سلطة الكلمة. يقف على تخوم المجاز والواقع، فيرى في الأنثى وطناَ، وفي الخمرة يقظة، وفي الشعر خيانة أحياناً ونجاة في أحيان أخرى. النص يعيد تشكيل العلاقة بين الشاعر والقصيدة، فيجعل من الأخيرة طاغوتاً... ساحراً وعنيفاً، مغوياً ومُستلباً، طاهِراً ونجِساً في الوقت ذاته.

***

بقلم: عماد خالد رحمة - برلين

........................

طاغوت القصيدة

إلى السُكر أشكو ما ألاقي من الصحوِ

لأُدنـيَ مـا أنـئـي ، وأبسُـطَ مـا أطـوي

*

وتـنـبـو بِجِـرْمي أرضُ بـيـتـي وسقفُه

فـآوي إلى الساقي إذا لاتَ مـا يـؤوي

*

وأقـعـدُ في ركـنٍ مـن الـحان سـادراً

إلى أنْ تدورَ الخمرُ من نحوها نحوي

**

أباشـرها بالـرَّاعش الـعَـذب من يدي

فـتـقـرأ في كـفّي تـفـاصيلَ مـا أنـوي

*

ويـركض أطـفـالٌ جـمـيـلون في دمي

فـتحسِـبُـني خِـلواً، ومـا أنـا بـالـخِـلْـوِ

*

فسبحان من سـوّى الـقـواريـرَ نسـوةً

وسبحان من أغرى الرِّجالَ بما يغوي

*

وأبـدلـنـي بـالـثّـيِّــبِ الـبـكـرَ خـمــرةً

ترقُّ طباعاً .. فهي تشجا على شجوي

*

وتـطـوي همـومي في طـوايا خُـمارها

فـلـلَّـهِ كـم تسـطـيعُ حـواءُ أن تـحـوي!

*

وكـيـف إذا مــرَّت بـفــاضـل روحـهـا

عـليَّ تُـعــدِّيـني السَّـقـامَ إلـى الـبَـروِ!

*

وتمسـحُ من وجهي الغضونَ ، فَـرَيّـقٌ

إهـابي . وعـودي في الشَّبيبة ، لم يذوِ

*

فـلو شِــمـتـني أسـمـو إلـيهـا بـرشـفـةٍ

تـمـصُّ لـذيـذَ الـرَّاحِ من فـمـها الحـلـوِ

*

وأهـصرها هصرَ الضجيـعِ ضـجـيـعَـهُ

فـسِـفْـلٌ إلى سِـفْـلٍ، وعُـلـوٌ إلـى عُـلْـوِ

*

وأبـتـزُّ عنها الـثوبَ خـيـلَّـتـني ضُحـىً

يـفـكُّ ضبـابَ الـفجر عن شجر السَّروِ

*

وخـيَّـلـتـنـي صِنـوَ الـلَّـذاذةِ .. وحـدَهـا

يـحـقُّ لـهـا أن تـدَّعـي أنّـهـا صِنـوي

**

كـذا أنـا .. حـتى أسـتـفـيـقَ مُـهَـدَّمـاً

على الخمر لا تُروي، كما الشِّعر لا يَروي

*

وأعلمُ عـلمَ المجتـوي شـطـرَ نـفـسـهِ

بأن حالُ من يهوى كحال الذي يهوي

*

أطـيـلُ لـبـئـرٍ مـا لـهـا مـن قـرارةٍٍ

حـبـالي، وأُدلـي في غيـابتها دلـوي

*

كـأنَّ فـراغَ الكأس مـثـلُ خـوائـه

خوائي، فها شلوان: شِلوٌ على شِلو

*

وذئـب أحـدَّ الـنـابَ فيَّ، فـصـوتُـه

وصوتي خليطٌ ،مـا يبينُ إذا يعـوي

*

يـزحزح طاغوتٌ كلامي عن الذي

أريـد من القول السَّـديـد إلى اللَّغـو

*

وما ذاك عن ضيق القـوافي، وإنَّما

يـواري مـديحي ما أُكِنُّ من الهجـو

**

يريـدونني أشـدو ؟! أأهـزوءةٌ أنـا

لأصـدحَ في لـيـل الـهـزائـم بالشَّدوِ

*

وأفـرحَ بـالسِّـلم الـذي يـجـتـدونـه

متى كانت الأسلاب ترجع بالجدو؟

*

أأنـسـج من صـلـد الـكلام عـبـاءةً

لأخـلـعـها عـمـداً على زمن رخـو؟

*

وعهدي بشعري الريح خلَّى للاحقٍ ٍ

خـطـاه فـنـونَ المسـتحيـل من العدوِ

**

وفـيٌّ لهـذي الأرض شـعرٌ مَحَـضْتُـه

على عكر الأيام ما اسطعتُ من صفوِ

*

وقـدَّمـتـه فـي أوَّل الـرَّكب حـاديـاً

ونـزَّهـتـه عن أن يكفَّ عن الحدوِ

*

كشأن جـدودٍ أودعـوه صمـيـمَـهمْ

واعلوه حتى أدركوا بـالـغَ الشَّـأوِ

*

أُنّمى إليهم بامرىء القيس شاعراً

أحـلَّ ذؤابـات الـقـصائد في بـهـوِ

*

وعلَّـقني كالبرق في جـذع نخـلـةٍ

يثيرُ غبارَ الطلع في أفْقـها العلوي

*

ومـثـلي فـتـىً حـرٌ تـحـرُّ دمـاءه

خروقٌ تَدَاعى، تستحيلُ على الرَّفو

*

إذا قال قالَ الشعرَ من حُـرِّ قـلـبـه

وطـاولني كالنجم لما حـذا حـذوي

**

وفيٌّ لهذي الأرض أمسـح تربَـها

بجـفـنٍ قريـحٍ، لا يثوب إلى غفـوِ

*

وفـيٌ لشـعـب واحـدٍ مـتَـوحِـدٍّ

كما جسدٍ إذا يألم العضوُ للعضوِ

*

ويـا فرسـاً غـذَّوه لـوزاً وسُـكَّراً

وراضوه من خوض الحروب إلى الرَّهوِ

*

وحـلَّـوه من بَـعد الشـكيـم بخـرزةٍ

يُـجـمِّـع فيها ما تبقَّـى من الـزَّهـوِ

*

تـدلـلتَ فاهـززْ منكَ ذيـلاً ممشّـطـاً

ونـاصيـةً شـقراء تـصلـح لـلـهـوِ

*

ودعْ عنكَ ساحاً تُعثّر الخيلَ بالقنا

فـقد ربّـما تـُرديـك في زمن الكبـو

*

وجـمِّـعْ بخـصيـيـكَ المـآثـر كلَّـها

وشمَّ من الإصطبل رائحة الفَسْوِ

*

فقد حَسَـمَ السُّوَّاسُ أمـرَكَ عندما

رأوا فيك ما يكفي التفـرُّغَ للنزوِ

**

وفيٌّ لهذي الأرض تُـنـبتُ ثـائـراً

وتطوي شهيداً بين أحشائها يثوي

*

وأحني لأطفال الحجارة هامةً

فأنهمُ سـؤرُ الكرامـةِ والـبـأوِ

**

أفـيـقـوا بـنـي أمّـي فإني لخائفٌ

عليكمْ من السِّلم الذي خفتُ مِلغزوِ

*

وأوصيكمُ أن لا تـلـيـنوا لغاصبٍ

يراودكمْ عن أرضكمْ، وهو لا يلوي

*

فما الأرضُ - إن تمنَعْ - سوى العِرْضِ كلِّهِ

وحاشـا لعِرضٍ أن يـؤول إلى جـزوِ

*

أقولُ، وفي صدري من الحبِّ نبعـةٌ

تفيض، وفي صدري من الجمر ما يكوي

*

وأعـلمُ أن الشـعب كـفء لـنـازلٍ

إذا أعوز الأمرُ العصيبُ إلى كُفوِ

*

فهاكمْ ملايين العصافيـر في دمي

تنقِّـر باب اللّيل .. تبحث عن جَـوِّ

 

مقاربة بنيوية-سيكولوجية لمقاطع من قصيدة للشاعر يحيى السماوي

المقدمة: يُعَدُّ الشعر الحديث مختبرًا للتوترات الكبرى بين الذات والوجود، وبين الرغبة والخذلان، وبين الحلم والواقع. لم يعد النص الشعري الحديث حاملاً لمعنى أحاديٍّ أو رسالة مغلقة، بل أصبح فضاءً لتعدد الأصوات والرؤى، ومرآةً لأزمة الإنسان في زمن الاغتراب. من هنا، فإنّ تحليل النصوص الحديثة لا يمكن أن يكتفي بالقراءة الظاهرية، بل يتطلب الغوص في بنياتها العميقة ورصد دينامياتها النفسية والرمزية.

النص الذي بين أيدينا – مقاطع من قصيدة قيد الإنجاز – يقدّم خطابًا شعريًا مفعمًا بالأسئلة، يحاول فيه الشاعر أن يستعيد فردوسه المفقود عبر أسطرة الحلم واستدعاء الذاكرة الحضارية. إنه نصّ مشحون بالصور الحسية والمجازات الوجودية، تتقاطع فيه الثيمات الكبرى: الحب، الغياب، الأمل، الموت الرمزي. ترمي  هذه القراءة إلى  مقاربة هذا النص بواسطة ثلاثية تحليلية: البنية السطحية، البنية العميقة، والبعد السيكولوجي، مع إضاءة على البنية الموسيقية التي تشكّل النسيج الصوتي للنص.

تنطلق القراءة من فرضية أساسية: أن النص يتحرك ضمن جدلية الحلم والاغتراب عبر بنيات متقابلة، تتجسد في الصور، وفي الإيقاع، وفي الحقول المعجمية التي تشتغل على ثنائيات ضدية، مما يجعل النص مشهداً درامياً لصراع داخلي يعيشه الشاعر بين توقه للخلاص وانكساراته المتكررة.

الإطار النظري

1. البنيوية والنص الشعري:

البنيوية، كما بلورها فرديناند دي سوسير، تقوم على مبدأ أن اللغة نظام من العلامات، وأن الدالّ والمدلول لا ينفصلان عن النسق الذي يحكمهما[١]. وقد طبّق رولان بارت هذه الرؤية على النصوص الأدبية، مؤكدًا أنّ النص ليس مجرد حامل لمعنى، بل هو شبكة من العلاقات داخلية، لا تُفهم إلا بواسطة رصد البنية العميقة التي تتحكم في إنتاج الدلالة[٢].

أما غريماس فقد قدّم أداة مهمة لتحليل البنية الدلالية هي المربع السيميائي، الذي يقوم على إبراز العلاقات التضادية والتقابلية بين المفاهيم (الحياة/الموت، الأمل/اليأس)[٣]. سنستعين بهذا المربع في الكشف عن الثنائيات التي تنظم النص المدروس.

2. التحليل النفسي والخيال الشعري:

يرى فرويد أن الإبداع الفني ينهل من اللاوعي، وأن الحلم – مثل الشعر – يقوم على آليات الكبت والتعويض والإزاحة[٤]. أما كارل يونغ فيرى أنّ النصوص العميقة تحرك ما يسميه "الأرشيتيب" أو النماذج البدئية التي تنتمي إلى اللاوعي الجمعي[٥]. في نصنا هذا، سنلاحظ حضور رموز بدئية مثل: الماء، الصحراء، السفينة، المدينة الأسطورية (أوروك)، وهي رموز تحمل دلالات نفسية وثقافية متراكبة.

تحليل البنية السطحية:

1. الحقول المعجمية:

يتوزع المعجم الشعري في النص بين حقلين متقابلين:

حقل الخصوبة والحياة:

«تأتينني في الحلم أمطارًا / فيعشب رملُ صحرائي / ويغسل حزني الممتد»

كلمات مثل: أمطار، يعشب، الأزهار، النخيل، الينابيع تشكّل شبكة دلالية توحي بالبعث والامتلاء.

حقل الموت والفقد:

«ما الذي أبقت لي الأيام من أشجار بستان الهوى غير العقيم من الفسيل؟»

يتقابل هذا المعجم مع مفردات مثل: الصحراء، الحزن الممتد، العقيم، المتاهة، البئر.

2. الصورة الشعرية:

تقوم الصورة على التحويل الدلالي (المرأة → مطر، المطر → حياة)، وهو ما يسميه بارت "الأسطرة الثانية" حيث تتحول العلامة من وظيفتها الطبيعية إلى وظيفة أسطورية[٦]:

«حمامةً تأتينَ تُلبسنِي قميصًا من هديل»

الحمامة هنا ليست مجرد طائر، بل رمز للطهر والسلام، يتحول في المخيال الشعري إلى معادل للخلاص النفسي.

3. المشهدية:

يتميز النص بتكوين مشهدي بصري:

«فيعود طفلاً شيخُ بادية السماوة، خلفه يمشي من الأزهار جيش والسواقي والنخيل»

هنا نجد استحضارًا لأسلوب "التراكب البصري"، حيث تتحول الكلمات إلى لقطات سينمائية، ما يجعل القارئ يعيش انفعال المشهد.

البنية الإيقاعية:

الإيقاع يتراوح بين الانسياب والتوتر:

في مقاطع الحلم:

«لتقوم مملكةُ المحبة والهوى / فيها النساء جميعهن بثينة»

النغمة رخوة، الأصوات السائلة (م، ن، ل) تهيمن، مما يمنح النص نبرة هادئة.

في مقاطع الخيبة

«كيف الوصول إلى المرام إذا السفن يقودها القرصان والمنبوذ والنفر العميل؟»

النغمة حادة، الأصوات الصامتة القاسية (ق، ط، د) تعكس غضبًا داخليًا.

هذا التحول الإيقاعي يجسد ما يسميه ياكبسون بـ"التوازي الإيقاعي" كآلية دلالية تواكب التحول النفسي[٧].

تحليل البنية العميقة:

1. شبكة الثنائيات الضدية

باستعمال المربع السيميائي (غريماس)، يمكن اختزال الصراع في النص إلى ثنائيات:

الحياة مقابل الموت:

«أمطارًا» ↔ «العقيم من الفسيل»

الأمل مقابل اليأس:

«بشارة عذراء» ↔ «فلتشطبيني من كتاب حياتك الوردي»

الأصل مقابل الاغتراب:

«جيلان في أوروك» ↔ «سأفر من أوروك ثانية»

هذه الثنائيات لا تبقى متقابلة فقط، بل تتداخل في حركة جدلية، إذ يتحول الأمل إلى خيبة، والحياة إلى موت رمزي، مما يمنح النص ديناميكية دلالية.

البعد السيكولوجي:

النص يكشف عن ذات مأزومة تمارس آلية التعويض من خلال بناء مملكة وهمية:

«لتقوم مملكةُ المحبة والهوى فيها النساء جميعهن بثينة»

هذه اليوتوبيا تكشف الحاجة إلى طهر مثالي، في مواجهة واقع موبوء (القرصان والمنبوذ والنفر العميل).

كذلك نجد حضور آلية النكوص في الخاتمة:

«فلتشطبيني من كتاب حياتك الوردي… لم يعد في كأس قلبي من نمير النبض غير الأقل من القليل»

هنا يعود الشاعر إلى نقطة العدم، بعد رحلة حلمية لم تُثمر، ما يشي بصدمة وجودية تدفع إلى الانسحاب.

يونغ يفسر استدعاء الرموز (أوروك، السفينة) بكونها محاولات لاستعادة النموذج البدئي للأمان، لكن النص يفشل في تحقيقه، فينقلب الرمز إلى نقيضه: السفينة أداة نجاة تتحول إلى "بحر متاهة".

الخاتمة:

يمكن القول إن النص يمثل بنية حلمية تنهض على تقابلات حادة بين امتلاء الرغبة وفراغ الواقع، بين يوتوبيا العشق وديستوبيا المنفى. البنية السطحية تُخفي خلف زخرف الصور شبكة من التوترات الدلالية التي تكشفها البنية العميقة، فيما يعكس الإيقاع تحولات المزاج النفسي من الأمل إلى الخيبة. سيكولوجيًا، يتبدّى النص كصرخة مكبوتة، يحاول عبرها الشاعر أن يستعيد زمناً طاهراً في عالم ملوّث، لكنه ينتهي إلى خذلان يوسّع دائرة غربته.

بهذا المعنى، لا يكتفي النص بتمثيل تجربة شخصية، بل يفتح على مأزق الوعي العربي الحديث في صراعه مع الخراب والاغتراب، مما يجعله نصًا غنيًا بإمكانات القراءة، وقابلاً لأن يُدرج في خانة الشعر الوجودي الذي يزاوج بين الرؤيا والجرح.

***

رياض عبد الواحد

....................

الإحالات:

فرديناند دي سوسير، محاضرات في علم اللغة العام، ماكغرو-هيل، 1966.

2. رولان بارت، درجة الصفر في الكتابة، دار هيل ووانغ، 1977.

3. ألجيرداس غريماس، الدلالات البنيوية: محاولة في المنهج، جامعة نبراسكا، 1983.

4. سيغموند فرويد، تأويل الأحلام، دار بيسك بوكس، 2010.

5. كارل غوستاف يونغ، الإنسان ورموزه، دار ديل، 1968.

6. رولان بارت، أسطوريات، دار سوي، 1957.

7. رومان ياكبسون، اللسانيات والشعرية، مطبوعات جامعة هارفارد، 1960.

........................

مقاطع من قصيدة طويلة قيد الإنجاز

تـأتـيـنـنــي في الحلم أمطارًا

فـيَـعـشـبُ رمـلُ صـحـرائـي

ويـغـسـلُ حـزنـيَ الـمـمـتـدَّ  مـن أمـسـي

الـى يـومـي الـعـلـيـلْ

//

وحـمـامـةً تـأتـيـنَ

تُـلـبِـسُـنـي قـمـيـصـًا مـن هـديـلْ

//

وبِـشـارةً عـذراءَ عـن

مـفـتـاحِ قُـفـلِ الـمـسـتـحـيـلْ

//

فـيـعـودُ طـفـلاً شـيـخُ بـاديـةِ الـسـمـاوةِ

خـلـفـهُ يـمـشـي مـن الأزهـارِ جـيـشٌ

والـسـواقـي والـنـخـيـلْ

//

يـطـوي الـفـيـافـي

يـقـتـفـي آثـارَ قـيـس بـنِ الـمُـلـوَّحِ

والـسـمـوألِ

والـيـنـابـيـعِ الـتـي ســتُـقـيـمُ غـدرانـًا

لأعـذبِ سـلـسـبـيـلْ

//

لِـتـقـومَ مـمـلـكـةُ الـمـحـبَّـةِ والـهـوى

فـيـهـا الـنـسـاءُ جـمـيـعـهـنَّ :" بثينةٌ "

وجـمـيـعُ حـادٍ فـي مـضـاربِـهـا : " جميلْ "

//

وأنـا وأنـتِ : الشاهدانِ  على قِرانِ

ندى صباح اللوزِ والكَرَزِ الشذيِّ

على فمِ العطشانِ  منذ غيابِ آخرِ نجمةٍ حيرى

إلى شمس الأصيلْ

//

جـيـلانِ فـي أوروكَ فـي رعـبٍ

ومـثـلـهـمـا نـزيـلُ الـغـربـتـيـنِ

وهـا أنـا فـي بـئـرِ حـزنـي

مـنـذ جـيـلْ

//

مُـتـرقِّـبـًا  حـبـلاً مـن الـفـرَحِ الـمُـؤجَّـلِ مـنـذُ

عام تحاصص المتفيقهين الزور ما أبقى لنا من

زادنا ألغازي الدخيلْ

//

كيف الوصول إلى المرامِ

إذا آلسفين يقوده القرصانُ والمنبوذُ

والنفر العميلْ ؟

//

سأفر من " أورك " ثانيةً

وأُلقي بيْ إلى بحر المتاهةِ ..

ما الذي أبقت ليَ الأيامُ

من أشجار بستانِ  الهوى

غيرَ العقيم من الفسيل ؟

//

ما دُمتِ  هيّأتِ السفينةَ والشراعَ لتُبحري

خلفَ المدى

وعزمتِ عن مُقلي الرحيلْ :

//

فلتشطبيني من كتابِ حياتكِ الورديِّ ..

حسبي :

لم يعدْ في كأسِ قلبي من  نميرِ النبضِ

يا نهر الهوى

غيرُ الأقلِّ من القليلْ !

 

في خيبات العاطفة وتراجيديا الأمل المؤجل

تأتي قصيدة "بين ركام التمني" للشاعرة التونسية نعيمة المديوني بوصفها نصاً شعرياً نثرياً مشبعاً بالتوتر العاطفي والرمزية النفسية، حيث تتداخل فيه الحواس، والذاكرة، واللغة مع عناصر الزمن الغائب والانتظار المفتوح على اللايقين. لا تكتب الشاعرة المديوني فقط عن الحب، بل عن انكسار صورة الآخر، وعن العزلة المترسبة في زوايا الحنين. القصيدة تتحوّل إلى اعتراف وجودي، ينطلق من الذات المحبّة المتألمة لتصوغ تجربتها الوجدانية ضمن بناء شعريّ مشحون بالرموز والتأويلات، مما يفسح المجال لمقاربتها من خلال عدة مناهج نقدية متقاطعة.

- ففي مجال البنية الرمزية للنص:

نجد أنّ النص يحفل  بمجموعة من الرموز المفتوحة والدلالات الكثيفة، التي تعمل بمثابة شفرات حسّية لتأويل العالم الشعري الذي تبنيه الشاعرة. من أبرز الرموز:

1. "الطيف"، حيث تقول:

"أنتظر طيفَك"

"هلّا اعترضك طيفُ وعدٍ ما أخلفَ يومًا مواعيده؟".

الطيف هنا ليس مجرّد حضور شبح الغائب، بل هو تمثيل للوعد/الحنين/السراب. الطيف رمز للغياب المقيم، للشخص الذي لا يأتي، لكنه يهيمن على الحضور الداخلي. هو تجلٍّ للخيبة المربوطة بالأمل، كما أنّ الصيغة الاستفهامية تضع المتلقّي في موضع تشاركي تأويلي.

2. "الدالية الوارفة"، تقول:

"وأنا هنا، تحت داليةٍ وارفة، أجمّع أنفاسي الوهنة..."

الدالية ليست فقط مشهداً طبيعياً، بل هي رمز للخصوبة والأمان الزائل، والمفارقة تتجلى حين تكون الشاعرة تحت ظلها، لكنها منهكة. الورف (الفيء) رمز للسكينة، لكنّ النفس “وهنة” مما يدل على تصادم الرمز الخارجي بالداخل النفسي.

3. "رفات الوعود"، تقول:

"وأنا العليلةُ على رُفاتِ الوعود..."

الوعود حين تتحوّل إلى رفات، فإنّ الزمن لم يخذل فقط الذات، بل قتل المعنى. هنا ينتقل النص من العاطفة إلى بعد وجودي فلسفي: كيف يتحوّل الحب إلى ذكرى، والذكرى إلى جثة؟

- في سياق المنهج الأسلوبي وتحليل البنية التعبيرية:

تتميّز القصيدة بـ:

1. التكرار البنائي لجملة "وأنا هنا":

يوجد تكرار أربع مرات لجملة "وأنا هنا"، وهذا التكرار هو تقنية أسلوبية تؤدي وظيفة مركبة:

- تثبيت الهوية المتصدعة في مكانها الزمني والنفسي.

- إبراز حالة "الثبات وسط الانهيار".

- إيقاع داخلي يضبط النغمة الشعورية (قريب من اللازمة الموسيقية).

2. الصياغة الإنشائية التقريرية/الاستفهامية، تقول الشاعرة المديوني:

"فما بالكَ أخلفتَ الموعد؟"

"هل كنتَ متعمّدًا، أم أنساكَ الزمانُ محبّتي؟"

"أتذكرُ يومَ أقسمتَ أن ترعى غربتي؟".

القصيدة تمارس حواراً داخلياً مع غائبٍ مُدان، وهي حوارات مكثّفة بالاستفهام الإنكاري، ما يجعل من النص محكمة عاطفية تُدين الغياب والخيانة والنسيان. الشكل الأسلوبي يتلبّس وظيفة نفسية: تفريغ المشاعر والتثبّت من جرحٍ لم يلتئم.

- في سياق المنظور النفسي: الذات الجريحة والبحث عن التوازن.

من المنظور النفسي، يمكن اعتبار القصيدة سرداً داخلياً للذات المجروحة الباحثة عن المعنى والعدالة العاطفية. يظهر البُعد النفسي في:

الهشاشة الظاهرة في "الأنفاس الوهنة" و"العليلة".

الكوابيس التي تنهش الجسد ، حيث تقول:

"ألا تتركني للكوابيس تنهشُ جلدي"

— تصوير الكوابيس بكونها تنهش الجلد هو تجسيد نفسي رمزي لحالة القلق الليلي، واللاوعي الذي يفضح الكبت العاطفي.

الدمعة الخارجة من "الكبد" ، تقول:

"أن تُهمل دمعةً تدحرجت من كبدي؟"

– في الترميز النفسي، الكبد مصدر العاطفة والغضب. الدمعة هنا تمثل وجعاً لا عين له، بل قلب/كبد ينزف.

- في مجال المنهج الهيرمينوطيقي: تأويل المعنى والغياب الحاضر.

الهيرمينوطيقا تهتم بتفسير المعنى الذي يتجاوز النص الظاهري. وفي هذه القصيدة، تتداخل الأنا الشعرية مع الزمن المؤجّل، فيصير الغياب جوهراً لا مجرد حدث.

الغائب ليس شخصاً، بل رمز للمطلق المفتقد، للعهد المنكسر، للفكرة التي لم تكتمل.

لذلك تسأل الشاعرة نعيم. المديوني:

"فما بالكَ أخلفتَ الموعد؟ هل كنتَ متعمّداً، أم أنساكَ الزمانُ محبّتي؟"

– هذا التساؤل ليس مجرد سؤال عن الخيانة، بل تأويل لخذلان الزمن للعاطفة.

والختام، تقول الشاعرة

"وغيرَ صورةٍ لنا، تبتسمُ على مشارفِ الوعود، ساخرةً."

– نهاية تنضح بسخرية الوعي، ووعي السخرية: حيث تتحوّل الصورة إلى رمز للتاريخ العاطفي المتكسّر، تسخر منه الشاعرة بعد أن فقدت قدرتها على تصديق الوعد.

- في سياق الإيقاع الموسيقي والصورة الشعرية:

1. الإيقاع الداخلي:

ليس في القصيدة وزن تقليدي، لكنها تحافظ على إيقاع داخلي ناتج عن:

- التوازي التركيبي (وأنا هنا…)

- الجمل الفعلية القصيرة

- التكرار الصوتي لبعض الحروف (مثل السين والشين والنون) مما يخلق موسيقى داخلية حزينة.

2. الصور الشعرية:

الصور تتعدى التجميل اللغوي إلى حمل دلالات سيكولوجية وتأويلية، تقول:

"أُشعل قناديلَ الأمل" — صورة النور وسط الظلمة النفسية.

"أن تُهمل دمعةً تدحرجت من كبدي" — استعارة مركبة تستنطق الألم العميق.

"أدندن على العود أغنية أودعتني مواجعها" — الموسيقى هنا ليست راحة بل أداة استحضار للوجع.

في الختام لا يسعني إلا أن أقول إنّ القصيدة كجسد رمزي للخذلان والتوق.

قصيدة  "بين ركام التمنّي" للشاعرة التونسية نعيمة المديوني ليست قصيدة غزل ولا رثاء، بل تجربة وجودية مكتملة الأركان، تكتب فيها الشاعرة جرحها بلغةٍ ذاتية كثيفة، محمّلة بالصور والرموز والموسيقى، ضمن بنية تؤسّس لنصٍّ فيه من التأمل أكثر مما فيه من الحكي، ومن السؤال أكثر مما فيه من الجواب.

تدعونا الشاعرة إلى تأمل خذلان الوعد كخذلانٍ للزمن ذاته، وإلى مساءلة الحب حين يصبح ذكرى ساخرة تبتسم من حافة السراب.

***

عماد خالد رحمة

...................

بين ركام التمني

وأنا هنا، وقد هلّلت الأفراح،

أنتظر طيفَك،

أُشعل قناديلَ الأمل،

أصافح نسماتِ الفجرِ النّديّة،

أهمس، والدّمعُ يجرح المقل:

"هلّا اعترضك طيفُ وعدٍ ما أخلفَ يومًا مواعيده؟"

وأنا هنا، تحت داليةٍ وارفة،

أجمّع أنفاسي الوهنة،

أنظر إلى السّماء،

أُبايع ذكرى لقاء،

عسى تجود بلحظةٍ ماجنة،

لحظةٍ تجمعنا،

تروي عطشي.

وأنا هنا... بين رُكومِ التمنّي،

أتسلّق محراب الهوى،

أتشبّث بحلمٍ مضى،

وآخرَ آتٍ مستبشرًا،

وعدتني، يا قطعةً من فؤادٍ سكَنَهُ النّوى وأضناه الفُراق،

وعدتني ألّا تتركني للكوابيس تنهشُ جلدي،

وعدتني أن تمحوَ دمعتي،

فما بالكَ أخلفتَ الموعد؟

هل كنتَ متعمّدًا، أم أنساكَ الزمانُ محبّتي؟

أتذكرُ يومَ أقسمتَ أن ترعى غربتي؟

كيف لك، يا قطعةً من دمي، أن تنسى القَسَم؟

أن تُهمل دمعةً تدحرجت من كبدي؟

وأنا العليلةُ على رُفاتِ الوعود، أُدندن

على العودِ أُغنيةً

أودعتني مواجعَها،

أوجعتني تقاسيمُها.

وأنا هنا، أقف على أمواجِ الأحلام،

أبحث...

أبحث عن عذرٍ يجعلني أغفر زلّتك،

فما وجدتُ غير الآه تجرح كبريائي،

وغيرَ صورةٍ لنا، تبتسمُ على مشارفِ الوعود،

ساخرةً.

 

في قصيدة الشاعر القدير عبد الستار نور علي

اولًا: مقدمة: تتناول هذه القصيدة، للشاعر القدير عبد الستار نور علي، واحدةً من أبرز التحولات السياسية والاجتماعية في تاريخ العراق الحديث—ثورة الرابع عشر من تموز عام 1958. تُعد هذه الثورة مرحلة فاصلة في مسار البلاد، إذ استطاع الشعب العراقي، بمشاركة فعّالة من الجيش، الإطاحة بالنظام الملكي وإعلان الجمهورية. وقد حمل هذا الحدث في جوهره تطلعات جماهيرية عميقة نحو الحرية والتحرر من الهيمنة بالإضافة إلى تحقيق العدالة الاجتماعية.

ضمن هذا السياق التاريخي، يوظّف الشاعر رمز "تموز" ليصبح تجسيدًا مهيمنًا يعبر عن الثورة والنهوض والتغيير. ويتحول الشهر ذاته إلى شخصية ملحمية فاعلة، تتقدم نحو الوطن رمزًا لبداية جديدة. وتُقدم لحظة الانتصار بلغة احتفائية تجمع بين الأبعاد الشعرية والسياسية، مع استخدام رموز مثل "الكأس" و"النخب"، والتي تعكس حالة الانتشاء الجماهيري بتحقيق الحلم الوطني، ليس فقط كإنجاز عسكري، بل كولادة جديدة لهوية جماعية تنبض بالكرامة.

على الجانب المقابل من هذا المشهد المُشرق، يرسم الشاعر صورة للخيانة والعار مستخدمًا رمزية "الشنّار" والصفات المعبّرة عن الخضوع مثل "الذليل الحافي العاري". هذه الثنائية الضدية تجسد التوتر العميق بين القوى التي انحازت للكفاح الوطني من جهة، والأطراف التي استسلمت للهزيمة من جهة أخرى. وفي هذه المفارقة يبرز صوت الجماهير الثائرة بوصفها المحرك الحقيقي للتحول التاريخي، إذ تصبح الثورة "ملحمة" تتجاوز إطارها السياسي لتترسخ في الذهنية الجماعية للأمة كفعل أخلاقي وشهادة حية على التضحيات.

لذلك، لا ينبغي قراءة القصيدة كاحتفاء عابر بلحظة تاريخية بحد ذاتها. إنها تتجاوز ذلك لتكون إعادة صياغة شعرية للذاكرة الجمعية العراقية وإضاءة عميقة على المفارقات بين عصور الاستبداد وعصور التحرر. في الوقت ذاته يُبرز النص اعتمادًا جليًا على الرمزية والاستعارة والانزياحات الدلالية التي تعكس إدراكًا واعيًا بأن الحرية تُنتزع بالإرادة الشعبية ولا تُمنح بتواطؤ القوى السياسية.

 ثانيا: نص القصيدة

قمْ  املأِ الكأسَ واشربْ نخبَ  أحرارِ

تموزُ   أقبلَ    مزهوَّاً     على   الدارِ

تموزُ    أقبلَ   عيداً    لا   يُصارُ   لهُ

في  حشدِ   ملحمةٍ  في   زهوِ  ثوَّارِ

أمّا      الشَّنارُ     فلا   ثوبٌ    لِيسترَهُ

يبقى الذَّليلَ الوَطيْءَ الحافيَ العاري

ثالثًا تحليل الابيات:

البيت الأول:

قمْ، املأِ الكأسَ واشربْ نخبَ أحرارِ

- الأسلوب الإنشائي يبدأ بفعلَي أمر: "قُمْ" و"املأ"، ما يمنح البيت طابعًا تعبويًا وحركيًا يحفّز القارئ أو المخاطب للمشاركة في لحظة احتفال أو نصر.

- "الكأس" و"النخب": رمزان احتفاليان كلاسيكيان يُستخدمان هنا بصورة مجازية للتعبير عن الانتصار الثوري وليس عن متعة فردية.

- "نخب أحرار": يُحيل إلى تمجيد الثوار والشعب الذين ساهموا في صنع الثورة؛ فالنخب يُشرب لمن يستحق التقدير، وهنا هو تقدير للأبطال الذين حرّروا البلاد من الملكية.

البيت الثاني:

تموزُ أقبلَ مزهوًّا على الدارِ

- "تموز" هنا رمز زمني–ثوري، يُجسّد الثورة العراقية في 14 تموز، ويتحوّل إلى كيان حيّ "أقبلَ"، في تجسيد زمني–شخصي فريد.

- "مزهوًّا": صفة تمجد اللحظة الثورية، فتموز ليس عاديًّا بل يأتي شامخًا، معتدًّا بما تحقق.

- "الدار": ترمز إلى الوطن (العراق)، الذي عاد إليه الزمن الثوري منتصرًا، وكأن الوطن نفسه كان ينتظر هذا التحوّل.

الرمزية:

- البيت بأكمله يُبرز روح الانتصار والعودة، في تجسيد للشهر كحدث حاسم يتحرك داخل المكان (الدار/الوطن)، لا كزمن مجرّد.

البيت الثالث:

تموزُ أقبلَ عيدًا لا يُصارُ لهُ

- تكرار "تموز أقبل" يعزز التركيز على رمزيته التاريخية.

- "عيدًا لا يُصار له": أي أن مجيئه يشبه العيد، بل هو عيدٌ لا يضاهى أو يُعادله عيد آخر.

- فيه تمجيد ضمني للثورة بوصفها مناسبة قومية لا تُنسى.

البيت الرابع:

في حشدِ ملحمةٍ في زهوِ ثوَّارِ

- "حشد ملحمة": تعبير مركّب يدل على أن الثورة لم تكن مجرد لحظة عابرة بل كانت حدثًا جمعيًا ملحميًا، شاركت فيه الجموع وصاغته الدماء.

- "زهو ثوار": وصف للحالة النفسية للثائرين بعد تحقق النصر؛ الزهو هنا ليس غرورًا بل اعتداد مشروع بالتاريخ المنجز.

البلاغة:

- الصورة مشبعة بطاقة حركية، كما لو أن المشهد الثوري لا يزال متوهجًا في أذهان الناس.

- الاقتران بين "الحشد" و"الملحمة" و"الزهو" يعبّر عن وحدة الجماهير واعتزازها بالكرامة التي حققتها.

- البيت الخامس:

أمّا الشَّنّارُ فلا ثوبٌ ليسترَهُ

- "الشنّار": كلمة فصيحة قديمة تعني العار والخزي، تُستخدم هنا لوصف الخونة أو من وقفوا ضد الثورة أو تواطؤوا مع النظام الملكي.

- "فلا ثوب ليسترَه": استعارة تدل على أن خزيهم مكشوف، ولا شيء يستطيع التغطية عليه.

- يُظهر البيت أن الخيانة ليست فقط موقفًا سياسيًا، بل انحدار أخلاقي لا يمكن إخفاؤه.

الرمزية:

-  يستخدم الشاعر صورة العري المجازي ليعبر عن انكشاف الجبن والانحطاط في وجه الحق الثوري.

البيت السادس:

يبقى الذليلَ الوطيءَ الحافيَ العاري

- يستكمل صورة "الشنّار" من البيت السابق، في وصف تفصيلي للمهزوم المنكسر.

- "الذليل – الوطيء – الحافي – العاري": كلها صفات تُحيل إلى الضعف والتجرد من الكرامة، وتشكل صورة مضادة تمامًا لـ"زهو الثوار".

- قد تشير هذه الصورة إلى بقايا النظام الملكي، أو العملاء، أو أولئك الذين اعتادوا الخضوع لسلطة القهر.

البنية الشعرية:

- التكرار البنائي للصفات يخلق إيقاعًا تصاعديًا في تصوير الانحدار الأخلاقي.

- يختم الشاعر بهذه الصورة لإظهار المفارقة بين من يحتفل بكرامة النصر، ومن يجرّ ذل الهزيمة.

خاتمة التحليل الجزئي:

القصيدة ببنيتها المحكمة توزّع المعاني بين طرفين متقابلين: الثوار المكللين بزهو النصر والموقف الأخلاقي، والمهزومين العاريين من الموقف والشرف. ويستخدم الشاعر لغة مشبعة بالرمز، والانزياح الدلالي، والاستعارة لتأكيد أن الثورة ليست فقط تحوّلًا سياسيًا، بل قيمة وجودية تفرق بين من يحتفل بكرامة النصر، ومن يجرّ ذل الهزيمة.

رابعًا: البنية والسيميائيات في قصيدة تموز: تمثيل الثورة والخيانة في إطار شعري رمزي

 تأتي هذه القصيدة في سياق استحضار حدث سياسي مفصلي في التاريخ العراقي الحديث، هو ثورة الرابع عشر من تموز عام 1958، التي أنهت الحكم الملكي وأعلنت قيام الجمهورية، بمشاركة واسعة من الجيش والشعب. وتُجسّد القصيدة لحظة الانتصار هذه من خلال استحضار رمزي مكثف لشهر تموز، الذي يتحوّل من زمن تقويمي إلى شخصية فاعلة ذات حضور ثوري.

تقوم القصيدة على ثنائية دلالية عميقة تُقابل بين النصر والثورة من جهة، والخيانة والانكشاف من جهة أخرى، في بنية شعرية محكمة توظف الاستعارة، والانزياح الدلالي، والرمز، والمقابلة البلاغية.

أولًا: التحليل البنيوي

1. البنية العامة: تتشكل القصيدة من ستة أبيات تنقسم إلى قسمين بنيويين:

1. القسم الأول (الأربعة أبيات الأولى): يحتفي بالثوار وتموز كثورة.

2. القسم الثاني (البيتان الأخيران): يكشف الخونة ويهجوهم.

2. تقوم هذه البنية على التناقض بين الحضور المشرف للثوار والانكشاف المذل للخونة، ما يعكس البنية الأيديولوجية للنص.

3. البنية الزمنية: تدور القصيدة حول زمن حاضر مفعم بالنصر، يتحقق عبر ذكر "تموز" بوصفه حدثًا تاريخيًا لا كزمن تقويمي؛ فقد صار كيانًا فاعلًا "مزهوًّا" يمثل الثورة التي استردّت الوطن.

إذ تكرار عبارة "أقبل تموز" مرتين يؤكد لحظة مجيء الثورة، ويعزز البنية الدائرية–التحولية من زمن الذل إلى زمن العز.

4. البنية الصوتية والإيقاعية: يعتمد النص على إيقاع داخلي يتعزز بتكرار الحروف الصافية مثل (الراء، الألف، الشين)، ما يخلق جرسًا إنشاديًا مؤثرًا.

كما يُستخدم ألف المد في كلمات مثل: "أحرار، الدار، ثوار، العاري"، مما يمنح القصيدة طابعًا إنشاديًا قويًا يوائم الإيقاع مع المعنى التحرري.

5. البنية السردية: بالرغم من طبيعتها الغنائية، تحتضن القصيدة تسلسلًا سرديًا ضمنيًا:

1. النداء والفعل: (قُمْ، املأ، اشرب)

2. وصف مجيء الثورة: (تموز أقبل)

3. تصوير الجماهير: (حشد ملحمة، زهو ثوار)

4. كشف الخيانة: (الشنّار، الذليل الحافي العاري)

6. يعكس هذا التسلسل حركة تحوّل من الفعل الثوري إلى التقييم الأخلاقي للمواقف.رابعًا: الخصائص البلاغية

- الصورة الحركية المشبعة بالطاقة: يُصوِّر الشاعر المشهد الثوري على أنه نابض بالحركة والحيوية، مما يوحي بأن لحظة الانتصار لا تزال متوهجة في أذهان الجماهير. هنا تتحوّل الكلمات إلى لقطات سينمائية تعكس قوة الزخم الثوري.

- اقتران "الحشد" و"الملحمة" و"الزهو": يجمع هذا الاقتران بين ثلاثة مفاهيم مركزية لتأكيد وحدة الجماهير واعتزازها بالكرامة التي حققتها. فـ"الحشد" يشير إلى تظافر الجهود، و"الملحمة" تعكس بطولات الجماعة، و"الزهو" يعبّر عن الفخر المشروع بالانتصار.

ثانيًا: التحليل السيميائي

1. الرموز المركزية:

- تموز: رمز للثورة والبعث الوطني.

- الكأس والنخب: رموز للاحتفال بانتصار جماعي.

- الدار: الوطن المستعاد.

- الشنار: الخيانة والعار السياسي.

- الذليل الحافي العاري: الخونة والعملاء الذين فقدوا الكرامة.

2. دلالات العلامات: - الكأس: تدل في معناها المباشر على وعاء يُستخدم للشرب، لكنها في السياق الشعري ترمز إلى الاحتفال الجماعي بالنصر والتحرر.

- نخب الأحرار: يُقصد به تقديم التقدير، لكنه في العمق يُعبّر عن تمجيد للثوار ودورهم البطولي في صنع الثورة.

- تموز: زمن تقويمي (شهر)، لكنه يتجاوز ذلك ليصبح رمزًا للثورة العراقية في 14 تموز، بوصفه حدثًا تحوليًا ومفصلًا في التاريخ الوطني.

- الدار: تعني المنزل، لكنها ترمز إلى الوطن العراقي الذي عاد إليه الثوار بعد الانتصار.

- الشنّار: تعني العار والخزي في المعجم، لكنها في سياق القصيدة ترمز إلى الخيانة السياسية والجبن الأخلاقي.

- العاري: يُشير ظاهريًا إلى العُري الجسدي، لكنه هنا رمز لانكشاف الخونة وتجردهم من أي غطاء وطني أو أخلاقي.

خامسًا: التحليل الانزياحي والدلالي والاستعارات:

1. الانزياح الدلالي:

- الكأس: انزاح من دلالته الحسية (وعاء للشرب) إلى دلالة رمزية (احتفال بالانتصار)

- تموز: لم يعد مجرد شهر في التقويم، بل صار كيانًا فاعلًا مجسدًا الحدث التاريخي.

- العاري/الحافي: انتقل من وصف جسدي إلى وصف أخلاقي وسياسي يكشف خيانة الخونة.

2. الاستعارات:

- "نخب أحرار": استعارة تتجاوز تقديم المشروبات إلى تمجيد الفعل الثوري وإيصال تقدير الجماعة.

- "تموز أقبل مزهوًّا": تشبيه مجازي يتحول إلى استعارة، حيث يُشبَّه الشهر بالإنسان المنتصر.

- "حشد ملحمة": استعارة مركبة تُضفي على الثورة صفة الملاحم البطولية.

3. وظيفة الانزياح والاستعارة في النص:

- تعميق الدلالة: الانزياحات تجعل القارئ يعيد قراءة العلامات بإدراك أعمق.

- تضخيم الأثر الإيحائي: الاستعارات تخلق صورًا حسية تتحرك في الذهن لتصوير المجد والعار

- بناء تواصل شعوري-سياسي: يسهمان في ربط القارئ تاريخيًا وعاطفيًا بالثورة وأبطالها.

سادسًا: الخاتمة:

تتجلى في هذه القصيدة ملامح شعر الثورة بوصفه سجلًا وجدانيًا وتاريخيًا يخلّد لحظة تحوّل مفصليّة في تاريخ العراق الحديث؛ ثورة الرابع عشر من تموز 1958. فبإحياء شهر تموز كشخصية فاعلة، يحوّل الشاعر الزمن إلى حدثٍ ثوريٍّ ينبض بالانتصار ويستعيد الدار (الوطن) من أيدي القهر.

وتظهر في بنية النص تناغمًا بين الدلالة الشكلية والمضمون الثوري، حيث يتكوّن القسم الأول من أبيات الاحتفاء بالثوار وانبعاث الحرية، في مقابل القسم الثاني الذي يفضح الخونة والشنّار في صورة ذليل عاري لا ستر له. هذا التماثل البنيوي الدلالي يعزّز أثر القصيدة ويوفّر لها قوة بلاغية تتحرك عبر التضاد وثراء الرموز.

وعلى المستوى السيميائي، ترتبط العلامات (الكأس، النخب، الدار، تموز، الشنّار، العاري) بدلالات جمعيّة عميقة تنحو نحو تشكيل ذاكرة وطنية، فتتكثّف فيها معاني الاحتفال الجماعي بالشجاعة والكرامة، وتنكشف خيانات الشرّ عبر صورٍ حسّيةٍ صادمة.

أما الانزياح الدلالي والاستعارات، فقد منحا النصّ مرونة لغوية تُبقي القارئ في دائرة تواصلية غنية، تنقله من المشهد الفردي إلى الملاحم الحشدية، وتضخّم قيمة الفعل التاريخي الثوري بوصفه رمزًا للجماعة وموقفًا أخلاقيًا.

بهذا، لا يمكن اختزال القصيدة في شكلها الشعريّ المجرد، إذ إنها وثيقة ثقافية تحفر في الذاكرة، وتؤكد أن الحرية لا تخضع للزمن وحده، بل تُنتزع بإرادة الشعوب وتمظهراتها الفنية. وقد أثبتت هذه الدراسة أنّ القصيدة تنجح في صياغة خطاب ثوريّ رمزيّ يتجاوز اللحظة التاريخية إلى صيرورةٍ مستمرةٍ في وعي الأمة.

***

سهيل الزهاوي

ملخص تحليلي للقصيدة

تعد "ومضات" نموذجًا مكثفًا لشعر يحيى السماوي، حيث تجسد ثنائية الحب والوجود عبر استعارات جسدية طازجة ورمزية تراثية مُعاد تشكيلها. القصيدة تنتمي لقصيدة النثر العربية، معتمدة على التكثيف والمفارقة، وتمزج بين البراءة والعاطفة الجياشة، وهو ما يُميز تجربة السماوي الشعرية .

الشرح التفصيلي للمقاطع مع التحليل

1. المقطع الأول: الحب كفعل طفولي مقدس

"فمي طفل .. / دُميَّتُهُ شفتاك"

- الشرح: يحوِّل الشاعر فمه إلى "طفل" والمحبة إلى "دمية"، مستخدمًا استعارة تُجسد العلاقة الحميمة كلعبة طفولية بريئة.

- التحليل: هذه الصورة تعكس التبسيط الشعري الذي يميز السماوي، حيث يختزل التعقيد العاطفي في علاقة أبوية (فم/طفل) وجسدية (شفتان/دمية). التوظيف يذكرنا بقصيدته "شاهدة قبر من رخام الكلمات" حيث الجسد يُصبح مادةً للإبداع والألم .

2. المقطع الثاني: الكتابة كفعل جسدي

"فمي قلمٌ .. / لا يُحسن الكتابةَ / إلاّ / في دفترِ شفتيك"

- الشرح: الكتابة هنا مشروطة بالوجود الجسدي للمحبوبة، فـ "دفتر الشفتين" هو حيز الوجود الوحيد للإبداع.

- التحليل: الصورة تكرس الارتباط العضوي بين الجسد والكلمة، وهو ما نجده في ديوان "كتاب الحب/فصل القبلة" للسماوي . التكثيف يُحيل إلى فلسفته: "الإبداع لا ينبثق إلا من جسد الحبيبة-الوطن" .

3. المقطع الثالث: التحول الوجودي عبر النظرة

"لكثرة تحديقي... / سريري بستانا!"

- الشرح: التحديق المستمر في "قميص النوم الأخضر" يُحدث تحولًا سحريًا: العين تُنبت عشبًا، والوسادة تتحول إلى شجرة كرز.

- التحليل: السماوي يستخدم الانزياح الأسطوري (تحول الأشياء عبر الحب) لخلق عالم موازٍ. الأخضر يرمز للخصوبة، والكرز للحياة، في إشارة إلى قدرة الحب على تحويل المنفى إلى جنة .

4. المقطع الرابع: الوطن المجازي

"أنا وطنٌ / أنت عاصمته!"

- الشرح: الذات تُصبح "وطنًا" والعاشقة "عاصمته"، في مفارقة تدمج الحب بالانتماء.

- التحليل: هذه الصورة تُجسد المنفى الداخلي للسماوي، ففي حواره يقول: "العراق وطني ومنفاي في ذات الوقت" . العاصمة هنا مركز للوجود، كما النهر السومري في "نبضات".

5. المقطع الخامس: الثنائية المقدسة (القرب/البعد)

"أيتها البعيدة... / أنتِ مطلعها!"

- شرح: البعد الجسدي ("بُعد الشيطان") يقابله القرب الروحي ("قرب الله").

- تحليل: السماوي يعيد صياغة الرمز الديني لخدمة التجربة الإيروتيكية، كما في "تفاحة آدم" في "نبضات" . القصيدة تُختزل في بيت واحد، كناية عن مركزية المحبوبة في الوجود.

6. المقاطع الأخيرة: الحسية والبراءة

"سأقشِّركِ مثل برتقالة... / لا يأكلُ دُميَتَهُ الوحيدة"

- الشرح: العاشق يعد بعدم الإيذاء ("جنوني لا أنياب له") ويؤكد براءة رغبته ("الطفل لا يأكل دميته").

- التحليل: الجمع بين العنف الرمزي ("قضم"، "أنياب") والطمأنينة ("آمنةً") يعكس تناقض المشاعر الإنسانية. الصورة الأخيرة تُختتم بـ الطفولة الشعرية التي يصفها السماوي: "تحت عباءة كهولتي يختبئ طفل" .

السمات الفنية والموضوعية

1. التكثيف والانزياح:

- كل مقطع يُشكل "ومضة" مستقلة، لكنها ترتبط بشبكة رمزية موحدة (الجسد، الطفولة، الوطن). السماوي يُعرف بـ "اقتصاد اللغة" وفق الناقد عصام شرتح .

- الانزياحات تُكسر المألوف: "العين تُنبت عشبًا"، "السرير يصير بستانًا"، مما يخلق شاعرية مفاجئة.

2. الرمزية المزدوجة:

- الرموز تحمل دلالتيْن: جسدية (الشفتان، القميص) ووجودية (الوطن، المنفى). الناقد حيدر الحمداني يرى أن السماوي "يحول الرموز التراثية لتعبر عن الحب الفردي" .

3. المفارقة والتناقض:

- الجمع بين "البعد/القرب"، "العنف/البراءة"، "المنفى/الوطن". هذه الثنائيات تعكس رؤية السماوي للحب كـ "فردوس يُطهر من خطيئة المنفى" .

4. اللغة والإيقاع:

- اللغة بسيطة لكنها مشحونة بالمجاز، مع إيقاع داخلي يعتمد على التكرار ("فمي... فمي") والتوازي ("بعيدة... قريبة"). السماوي يرفض التزمت الشكلي لكنه يحافظ على موسيقى الشعر .

نقد وتقييم القصيدة

الإيجابيات

- جرأة الصور: تحويل الجسد إلى طفل/قلم/وطن يُعد تجديدًا في الشعر العربي، خاصة في المزج بين الحسية والبراءة .

- التماسك العضوي: رغم انفصال المقاطع، إلا أن شبكة الرموز (الجسد، الطفولة، الكتابة) تُوحد القصيدة، وهو ما يتوافق مع معايير قصيدة النثر حسب رحمن غركان .

- التكثيف المكثف: مثل "أنا وطنٌ / أنت عاصمته!" يختزل علاقة الحب بالوطن في بيتين، وهو ما يعد "نموذجًا مصغرًا" لأسلوب السماوي .

السلبيات المحتملة

- المبالغة في الاستعارات الجسدية: بعض الصور ("سأقشِّركِ مثل برتقالة") قد تُرى كـ "سادية ناعمة"، كما انتقد بعض النقاد قصائد السماوي .

- الانزياح المفرط: تحول "الوسادة إلى شجرة كرز" قد يبدو غامضًا للقارئ غير المتعمق في رمزيته.

السياق في تجربة السماوي

- المنفى والطفولة: القصيدة تعكس هاجس السماوي بالمنفى ("أنا وطن") واللجوء إلى الطفولة كملاذ روحي، كما في "شاهدة قبر..." حيث يقول: "كنت طفلاً حتى على مشارف الستين" .

- الحب كفردوس بديل: في ظل غياب الوطن، يصير جسد الحبيبة فردوسًا، كما في "نبضات" حيث "الفردوس" مكان للطهارة .

الخاتمة: "ومضات" كمرآة لتجربة السماوي

"ومضات" ليست مجرد قصيدة حب، بل هي تأمل وجودي في علاقة الذات بالآخر والوطن. السماوي هنا يواصل مشروعه في "تحويل الألم إلى فن"، كما في قوله الشهير: "سأقيم من تلقاء حزني مهرجانًا للفرح" . القصيدة تثبت أن شعره – كالماء في رمزيته – قادر على خلق الحياة حتى في صحراء الغربة، مُحققًا المعادلة الصعبة: البراءة في العاطفة، والخلود في اللحظة.

***

البرهان حيدر

 

للشاعر الفلسطيني خلدون عماد رحمة.. قراءة أسلوبية، نفسية، رمزية، هيرمينوطيقية

تنبثق قصيدة "لو تقطفيني الآنَ" من رحم التوتر الوجودي، وتكتب ذاتها في مفترق الحواس والفكر، حيث تمتزج الإيروسية بالميتافيزيقا، والرمز بالجسد، واللغة بالصرخة. إنها قصيدة لا تُقرأ بعين واحدة، بل تحتاج إلى منظار تأويلي متعدّد، يدمج الأسلوبي بالنفسي، والرمزي بالهيرمينوطيقي، لأنّ النص يشتبك مع قارئه كما يشتبك العاشق بجسده – دهشةً، ورغبةً، وتمزقاً.

- في مجال التحليل الأسلوبي – وبنية الصوت والصورة: نقرأ افتتاحية صادمة ومدهشة، حيث يقول الشاعر خلدون رحمة:

"لو تقطفيني الآنَ

قلبي أثقلَ الشجرةْ ."

يفتتح الشاعر قصيدته بجملة شرطية تفجيرية "لو تقطفيني الآنَ"، جملةً معلقةً لا تتم، معلقة في الزمن، ومشدودة إلى احتمالية لا تتحقق. هذه التقنية تعكس هشاشة الذات ورغبتها المتقدة في نزع جذورها. أما الجملة الثانية "قلبي أثقلَ الشجرة" فتأتي بمفارقة مدهشة، حيث ينعكس الثقل على القلب الذي يُفترض أن يكون رقيقاً، منساباً ومتدفقاً، في حين تتجسد "الشجرة" كمجاز للأنثى، أو للحياة ذاتها، التي لا تقدر على حمل هذا الثقل العاطفي. من هنا نلحظ التواشج بين الجسد والرمز حين يقول:

"مررتِ بعطرك الشبقيّ في غيبوبتي

ألهبتِ رمزاً خافتاً في معبد الجسد الحزين"

لغة مشبعة بالحسية المكثفة، حيث يتحول "العطر الشبقي" إلى كائن فاعل يخترق الغيبوبة. ليس حضور الأنثى هو المثير، بل طيفها، عطرها، والذي يعيد إحياء الرمز الكامن في جسد الشاعر. الجسد هنا معبد – أي أنه مقدس/مدنس في آن، وتلك هي ثنائية الأسلوب الأساسية في القصيدة: الجسد كمجال للتأويل الوجودي والشعري.

- في مجال التحليل النفسي – الأيروسية والهروب من النقص: نجد طفولة الجسد واشتهاء العدم، يقول:

"دلقتِ حليبكِ الناريّ في إبريق صمتي

فامتلأتُ طفولةً"

إنه انفجار دلالي جسدي/نفسي. يوظف الشاعر خلدون رحمة ثنائية الحليب والنار، لتجسيد التناقض بين العطاء والإحراق. لكن هذا الفيض يؤدي إلى "الامتلاء بالطفولة"، أي العودة إلى أصل الذات، إلى المرحلة النرجسية الأولى التي يسودها الاندماج بين الذات والآخر. ففي هذا المقطع يقول:

"ورأيتُ زهرة شهوةٍ تمشي ببطﺀ نحو أرض العفّةِ المتصحّرةْ"

هنا يظهر اللاشعور الجنسي بصورته المتردّدة، بين رغبة محمومة وعفة مواربة. يمشي النص على حافة التوتر بين الدافع الإيروسي والمحرم الاجتماعي/الديني، فيشبه فرويد حين يتحدث عن الصراع بين "الهو" و"الأنا الأعلى".

- أما في سياق التحليل الرمزي وطبيعة الجسد بوصفه استعارة كونية: نجد المعنى قد عري من خلال تجلي الرمزية الإيروسية، حين يقول:

"هبيني عريكِ السريّ كي ألجَ المعاني من أنوثتها".

العري هنا ليس جسديّاً فقط، بل هو كشف للحقيقة، للحكمة، للمعنى المغيّب. الأنوثة تحولت إلى بوابة المعرفة، كما في بعض الأساطير الغنوصية حيث يتجسّد الكمال المعرفي في الاتحاد بالآخر/الأنثى. والعبارة:

"ألج المعاني من أنوثتها" . ترسخ هذا الارتباط بين الرغبة والمعرفة.

- أما في سياق الحبّ/الموت كحقيقة واحدة فإنه يقول:

"زوّجيني الحبّ حدّ الموتِ

إنّ الموتَ يخجلُ من سؤال المقبرةْ !"

في هذه المفارقة الرهيفة، يقترح الشاعر خلدون عماد رحمة أن الحب المطلق يقود إلى الموت، أو أن الموت هو التجلي الأقصى للحب. لكن الموت هنا لا يرعب، بل يخجل، إذ فقد هيبته أمام عمق العشق. هذا تجريد رمزي يقرّب القصيدة من تخوم التصوف، حيث الفناء هو وسيلة الاتصال بالمطلق.

- في مجال قراءة هيرمينوطيقية – وفي تأويل المعنى المراوغ:

نجد الذات الشاعرة كمشروع تأويلي ، يقول بصراحةِ تامة:

"سأفيقُ حين ينامُ حلم الله في عينيكِ"

الجملة مدهشة في دلالتها اللاهوتية والشعرية. "حلم الله" يشير إلى ذروة الوجود، فحين تنام هذه الذروة في "عينيكِ"، يستيقظ الشاعر. إنه انقلاب في منطق الزمن والمعرفة، وتكثيف لتجربة العشق بوصفه وحياً. وفقًا للهيرمينوطيقا، النص هنا ينقلنا إلى دائرة تأويل مفتوحة، تتجاوز ظاهر اللغة إلى ميتافيزيقا المعنى.

- كذلك الحرب كفعل فكري/شعري، يقول:

"أشعلُ حربَ أفكاري على نهديكِ

أحرقُ وردة الرؤيا وأصرخُ:

كيف تندلعُ القصيدة دون جمرةْ ؟".

هذا المقطع من أكثر الأجزاء غنى وتأويلاً. فـ"نهديكِ" يتحولان إلى ساحة معركة فكرية لا شهوانية، والحرب ليست إلّا صراع المفاهيم والتأويلات داخل الوعي. و"وردة الرؤيا" حين تُحرق، فذلك يعني أن الإلهام نفسه يتعرض للاحتراق كي يولد الشعر. إذاً، القصيدة لا تندلع إلا بعد احتراق داخلي – جمرة داخل الذات.

-  أما في مجال البنية الإيقاعية والصور الشعرية: فإنّحالة الإنزياح والتكثيف تبرز أنّ القصيدة تتحرك بإيقاع داخلي متوتر، يتشكّل من الصور المكثفة والانزياحات اللغوية، حيث يقول:

"دلقتِ حليبكِ الناريّ" – صورة مزدوجة في المعنى والحس.

"زهرة شهوةٍ تمشي" – أنسنة الشهوة وتحويلها إلى كائن.

"الخطيئة قشرة الثمرة" – استعارة لاذعة عن الجذب المحرّم.

هنا نلحظ التكرار الدلالي والدينامية الشعورية عندما يؤكد بقوله:

"اقطفيني... اقطعيني... واغرسيني..."

التكرار هنا ليس زخرفاً بل تصعيدٌ للحالة النفسية. إنه تصعيد شعوري يتوسل التدمير من أجل التكوين. يريد الشاعر أن يُقتلع ليُعاد غرسه. وهذا جوهر كلّ ولادة جديدة.

في الختام:

قصيدة "لو تقطفيني الآنَ قلبي أثقلَ الشجرةْ" للشاعر الفلسطيني خلدون عماد رحمة ليست مجرد نصّ غزلي أو شهواني، بل هي صرخة وجودية مغلفة بوشاح الإيروس والرؤية، تُعلن الحرب على ثنائية الجسد/الروح، وتكسر الحواجز بين المعنى والحس، بين الأنثى والفكرة.

إنها قصيدة تتسلل إلى وعي القارئ عبر اللغة، وتجرّه إلى حدود التأويل والجنون والدهشة. فكلّ بيت فيها هو مقامٌ شعريّ ومعرفيّ، وكل صورةٍ مفتاحٌ لبوابة تأويل لا تنغلق.

***

بقلم: عماد خالد رحمة - برلين

......................

لو تقطفيني الآنَ

قلبي أثقلَ الشجرةْ .

مررتِ بعطرك الشبقيّ في غيبوبتي

ألهبتِ رمزاً خافتاً في معبد الجسد الحزين

عطِشتُ من هولِ الغرابةِ

واختفى جسدي

دلقتِ حليبكِ الناريّ في إبريق صمتي

فامتلأتُ طفولةً

ورأيتُ زهرة شهوةٍ تمشي ببطﺀ نحو أرض العفّةِ المتصحّرةْ

هل أنتِ ميّتةٌ ؟

هبيني عريكِ السريّ كي ألجَ المعاني من أنوثتها

اقتليني

زوّجيني الحبّ حدّ الموتِ

إنّ الموتَ يخجلُ من سؤال المقبرةْ !

سأفيقُ حين ينامُ حلم الله في عينيكِ

أشعلُ حربَ أفكاري على نهديكِ

أحرقُ وردة الرؤيا وأصرخُ:

كيف تندلعُ القصيدة دون جمرةْ ؟

لا تعودي للبدايةِ

حامض طعم الحكايةِ

والخطيئةُ قشرة الثمرةْ .

اقطفيني الآن من جذري

اقطعيني

واغرسيني في حديقة قلبكِ الزرقاﺀَ

كي تتحرّر الفكرةْ .

 

للشاعر العربي السوري د. أسامة حمود

يشار إلى أن الشاعر "أسامة الحمود" من مواليد دير الزور1971، حصل على إجازة في الهندسة الزراعية من جامعة حلب، وعلى درجة الدكتوراه في الهندسة الزراعية من جامعة الفرات، حيث عين عضواً في الهيئة التدريسية في جامعة الفرات. هوعضو اتحاد الكتاب العرب/جمعية الشعر. صدر له خمس مجموعات شعريّة:

1- ضفائر البوح. 2- على أكف الياسمين. 3- قيثارة الصدى.

4- ضوع قصيد وبعض نثار. 5- حديث الياسمين.

حائز على المركز الأول في مسابقة قصيدة الأغنية الوطنيّة السوريّة. وشارك في العديد من المهرجانات الأدبيّة والفعاليات والأنشطة الثقافيّة. عضو مجلس إدارة الاتحاد العربي للثقافة عام 2025.

له قصائد منشورة في صحف ومجلات ومواقع إلكترونية عديدة.

لقد شغلت حرب غزة في تشرين الأول 2023، منذ قيامها حتى اليوم العالم بأسره، إن كان من خلال تلك البطولات التي قدمها مقاتلو غزة الأبطال في مقاومة أعتى جيش في الشرق الوسط (الجيش الذي لا يقهر) من جهة. ثم ما حققته هذه الحرب من جرائم بحق كل أهل غزة دون استثناء في العمر والجنس، هذه الحرب التي بينت للعالم كله أيضاً عنصريّة الصهاينة، وخروج مئات الملايين في دول الغرب وأمريكا ذاتها باحتجاجات تعبر عن سخطها وكرهها للصهاينة وكشف ادعاءاتهم في معاداة الساميّة.

وبالرغم من الشارع العربي ظل صامتاً لأسباب يعرفها الجميع، إلا أن صوت الكتاب والأدباء والفنانين كان الأعلى في الاحتجاج والتعبير عن معاناة أهلنا في غزة، ومن بين هذه الأصوات جاء صوت الشاعر العربي السوري الدكتور "أسامة حمود" في قصيدته (جُندُ اللهِ في غَزَّة).

البنية الدلاليّة للقصيدة:

استطاع الشاعر في هذه القصيدة أن يبين لنا تلك القيم النبيلة التي يتحلى بها معظم فلسطيني أهل غزة بشكل خاص، من خلال تمسكهم بقضيتهم وصبرهم على كل الأوجاع والآلام التي حلت بهم من قبل الصهاينة وهم يدافعون عن أرضهم وكرامتهم، هذا الدفاع الذي يعرفون بأنهم سيقدمون له الكثير من وجودهم بالذات، إن كان على مستوى ما تم من تدمير لمعظم منازلهم وبنية "غزة" الخدميّة، أو على مستوى تقديم الشهداء، أو على مستوى فرض الحصار والتجويع.

إن كل ما جاء في القصيدة من دلالات يشير إلى حالات لا حصر لها من البطولات والتضحيات والصبر على مقاومة الصهاينة، ولكن هم في المقابل كبدوا العدو الصهيوني الكثير على المستوى المادي والبشري والمعنوي. حتى حازوا عند الشاعر أسامة على تسمية (جند الله في غزة).

(للهِ جُنـــدٌ حَيَّـــرُوا وَعيَ العِـــدَا

كالجَيشِ واحِدَهُـم يراهُ تَجَمهَرا)

إن هؤلاء الغزاويين لم يختلف صغيرهم عن كبيرهم في شجاعته وتضحياته، وخاصة هؤلاء الأطفال المعجزة الذين بهروا العالم في صمودهم وصبرهم وشجاعتهم وايمانهم بقضيتهم. حيث يقول فيهم الشاعر:

(والطِّفلُ من تحتِ الرُّكامِ يُخِيفُهُم

فكـــأنَّ طَـــودًا للمــــماتِ تَحَضَّرَا)

*

(اســمٌ على الزَّنــدِ النَّدِيِّ مُخَــطَّطٌ

طُــوبى لِطِفـــــلٍ بالثَّبــــاتِ تَزَنَّرا)

*

(يَرقى بثَـــوبِ العِيدِ تَهـــفُو رُوحُهُ

لِجِنـــانِ خُلدٍ، فاحتَــفى وتَعَطَّــرَا)

نعم إنه شعب المستحيل، الذي تمسك بحبل الله حتى انطبق عليه قول الله عز وجل (وكم من فئة قليلة غلبت فئة كبيرة بإذن الله. وهذا ما ألمح إليه الشاعر بقوله:

(فلِقُـــوَّةِ الضَّعفِ اشــتِقاقٌ مُـذهِلٌ...

لا يَقــبلُ اللُّغـــزُ المَهِيبُ مُفَسِّـــرا.).

أما تلك الأجساد المسجاة في أكفانها، فهي تعبر عن ملاحم بطولات زرعت في عمق يقين كل فلسطيني بأنها ليست إلا سنابل قمح تخضبت باليقين فأثمرت إيماناً بأن القتال من أجل الوطن سيظل بحاجة للتضحيات أو الشهادة حتى يتحقق الانتصار وبالتالي الحريّة وكل ما يرتبط بها من كرامات وعزة. وهنا يقول الشاعر)

: في واحَـــةِ الأكــفانِ ثَمَّ مَلاحِــمٌ...

زَرعٌ تَخَضَّــبَ باليَقِيــنِ فأثــــمَرَا).

(أنَّ الشَّهــــــادةَ مَطلـــعٌ لِحيـــاتنا...

سَنُطِلُّ مِن رَحِـــمِ الظَّـلامِ لِنُبصِرا.)

البنية الفنية للقصيدة، أو القصيدة في الشكل:

الصورة في القصيدة:

يأتي الاهتمام النقدي بدراسة بناء الصورة، من حيث اعتبار الصورة أساس الخلق الفني في القصيدة، وهي التي تعبِّر عن تحولات النص الشعري، وتحمل المواقف الإبداعيّة والفنيّة والفكريّة التي يريد الشاعر تضمينها لنصه الشعري، كما تسهم في فهم تجربة الشاعر الإبداعيّة من خلال قدرة الصورة الشعريّة على بناء الأشكال المجازية التي تنقل رؤية الكاتب للعالم، وتعمل على تحويل الواقع الحسي والمجرد معاً إلى عوالم شعريّة خلاقة.

من هذا المنطلق تأتي دراستنا للصورة الشعريّة في قصيدة (جند الله في غزة) للشاعر الدكتور" أسامة حمود". بقول الشاعر:

وعَلا عَوِيلٌ للدُّيُـــوكِ مُجَـلجِـــلٌ

والخَوفُ في كُلِّ الجِهاتِ تَجَذَّرَا

فالصورة الشعرية المتخيلة هنا، تشير في دلالاتها العميقة إلى حالة الجبن والخوف الذي تلبس الجنود الصهاينة وراح يتجذر وبنتشر في كل أرض فلسطين المحتلة.

ومَضَتْ جَحَافِلُهُــم تَنُـوءُ بِخَيبَةٍ

تَســعى إلى سُبُلِ النَّجاةِ لِتَعبُــرَا

أما في هذه الصورة الحسيّة فقد أرد الشاعر أن يقول بأن الجيش الذي لا يقهر كما روجت له الصهاينة، ها هو يمضي بجحافله وهو ينوء تحت سياط الخيبة والهزيمة أمام جند الله، فرحوا يسعون بكل جهدهم إلى إيجاد سبل للنجاة من نيران من عاهدوا الله على القتال حتى الموت.

غَصَّت ملاجِئُهُم بِفَيضِ خُنُوعِهِم

والغَيظُ في رَسمِ الوُجُوهِ تفجَّـرَا

وفي هذه الصورة الحسيّة استطاع الشاعر أن يصور لنا حالة الرعب والجبن معاً عند الصهاينة حيث دفعتهم صواريخ المقاومة أن يتراكضوا مذعورين مخذولين إلى الملاجئ التي غصت بفيض خنوعهم، حتى أصبحت ملامح الغيظ تتفجر في وجوهم.

من خلال قراءتنا لصور قصيدة (جند الله في غزة)، التخيليّة منها والحسيّة، إن كانت الصورة العامة التي شكلت رقعة مترابطة في بنية شكل القصيدة، أو الصور الجزئيّة كالصور البلاغية من: تشبيه واستعارة وكناية ومجاز، نجد أن تكوين الصورة في النص الشعري جاء مترابطاً ومنسجماً مع الفكرة العامة للقصيدة من جهة، كما جاء عمق الصورة منسجماً مع حركتها وعمق تلوينها المشبع بالانفعال النفسي والعاطفي والوجداني.

لقد ظهرت براعة الشاعر في تجسيم الصورة في القصيدة أيضاً، فالمعاني الخفيّة اللطيفة التي هي من خبايا العقل بدت من خلال الصورة جليّةً، ويمكن رؤيتها أو لمسها من قبل المتلقي حتى يشعر وكأنها أمام عينيه.. نعم لقد أصبحت المفردات المعنويّة التي تفهم بالعقل، مثل: الجبن والخوف والغيظ والخيبة التي ظهرت عند الصهاينة.. أو من بقية الصور التي تشير إلى الشجاعة والبطولة والتضحية التي ظهرت عند المقاومين الفلسطينيين بكل شرائحهم.. وكأنها شيء محسوس.

النغم والايقاع في القصيدة:

بالرغم من أن القصيدة عموديّة المبنى، وهذا يتطلب بالضرورة إيقاعاً يقوم على الوزن والقافية، وهنا جاء الوزن على البحر (الكامل)، بينما جاء حرفا القافية والروي في حالة ارتباط بين (الراء والألف) فالراء هي حرف الروي، وهو الحرف الأساسي الذي تتحدد عليه القصيدة.

إن نظام، الوزن والقافية، والصوت المتشابه، والبنيات المتماثلة في الوحدات المتقابلة في القصيدة كان لكل ذلك دور حيوي في إبراز جمالية النص وتأثيره، مما يخلق إحساسًا بالتوازن والإيقاع. أي خلق إيقاع موسيقي داخلي يشد المتلقي ويساعده على فهم النص الشعري واستيعاب معانيه بشكل أعمق. كما أن الوزن والقافية يعتبران من أهم العناصر التي تميز الشعر عن النثر، وتضفي عليه طابعًا خاصًا يجعله أكثر جاذبية وتأثيرًا.

العاطفة في القصيدة:

العاطفة هي الانفعال النفسي المصاحب للنص، حيث تجلت عاطفة الشاعر "أسامة" في قصيدته بالصدق المشبع بالفخر والاعتزاز برجال الله الذين أثبتوا قوة عقيدتهم وإيمانهم بوطنهم وتحديهم لمغتصبي أرضهم، ولكنها مشبعة أيضاً بالحزن على ما حل بأهل غزة من قتل وتشرد وتدمير... لقد تجلت في عاطفة الشاعر الأبعاد والدوافع الإنسانيّة والقوميّة العميقة، وهي عواطف تشابك بها الكره للعدو الغاصب، والألم لما أصاب أهل غزة من قهر وقتل ودمار، ولكنها حملت أيضاً مشاعر الاعجاب والفخر بما حققوه من انتصارات.

اللغة في القصيدة:

لقد جاءت اللغة في القصيدة سمحةً.. عليها رونق الفصاحة والابتعاد عن الوحشية أو المعجمية وجاءت في تراكيبها منسجمة، ومسبوكة الألفاظ غير متنافرة، هذا إضافة لجزالتها في مواقف القوة والفخر ببطولات أهل غزة، لقد بدت اللفظة الواحدة منسجمة مع بقية أجزاء الكلام، وهذا ما منح اللغة أيضاً سلاستها ونصوعها وإصابة معناها، وهذا ما يؤكد عند المتلقي بأن روعة السبك وبراعة الصياغة سر فن التعبير.

ملاك القول:

تعتبر قصيدة (جند الله في غزة) من أدب الحروب، هذا الأدب الذي يصور لنا ما تخلفه هذه الحروب من مآسي ماديّة على مستوى الدمار الذي يلحق بالإنسان نفسه وبالبيوت وكل وسائل الخدمات، و مآسي معنويّة على المستوى النفسي والأخلاقي والاجتماعي.. الخ. وخاصة إذا كانت الحروب غير متكافئة بين معتدي امتلك كل وسائل القتل والتدمير، وبين شعب آمن يعمل الصهيوني على سلبه أرضه وكرامته وحريته.

وقصيدة (جند الله في غزة) جاءت لتعبر عن حالة عدم التوازن في القوة من حيث العتاد والعتيد، بين صهيوني مستعمر امتلك كل وسائل القوة والدعم الدولي للمارسة عنصريته على شعب أعزل، لا يملك إلا كرامته وإرادة البقاء التي صنع منها قوة معنوية بوسائل قتال بسيطة لمواجهة قوى الشر والعدوان.

لقد جاءت القصيدة لتوصف لنا حالات الصراع الدامي بين عدو مغتصب وشعب مقهور على أمره، فكان الوصف حقيقيّاً وواقعيّا عبر فيه الشاعر بفنيّة عالية إن كان على مستوى الصورة أو اللغة أو العاطفة عن تلك البطولات الأسطوريّة لكل مكونات شعب غزة، كما صور لنا حالة الهزيمة والذل والخنوع التي حلت بالعدو الصهيوني وجيشه الذي لا يقهر.

نحن في الحقيقة أمام شاعر متمكن من حرفته، استطاع ببراعة الفنان المبدع أن ينقلنا عبر قصيدته بكل مكوناتها الابداعية في الشكل والمضمون، إلى أجواء المعركة ليجعلنا نحس ونشعر بكل ما جرى فيها من عزة وكرامة وقوة وإرادة شعب يريد التمسك بأرضه والدفاع عنها ببطولة وبسالة، وبين عدو مغتصب يشعر بأنه ليس صاحب قضية، ففي داخله مهزوز وجبان وخائف، لولا التطور التكنولوجي الذي يمتلكه والذي أعطاه شيئاً من القوة للحفاظ على ماء وجه، بعد أن عرته المقاومة في الشكل والمضمون.

***

د. عدنان عويّد

كاتب وباحث من سوريّة

.................................

جُندُ اللهِ في غَزَّة

اجمَـــع رَمــادَ الرُّوح، آنَ خَلاصُنا

والقَـــفرُ أينَعَ بالدِّما؛ فاخضوضَرا

*

وهُنا لِشــعبِ المُســتحِيلِ فَـرَادَةٌ

ما فَكَّ طلسَـــمَها الزَّمــانُ لِيَجهَرا

*

فلِقُـــوَّةِ الضَّعفِ اشــتِقاقٌ مُـذهِلٌ

لا يَقــبلُ اللُّغـــزُ المَهِيبُ مُفَسِّـــرا

*

في واحَـــةِ الأكــفانِ ثَمَّ مَلاحِــمٌ

زَرعٌ تَخَضَّــبَ باليَقِيــنِ فأثــــمَرَا

*

(وحُبُوبُ سُــنبُلةٍ تموتُ) بأرضِهـا

سَتُثِيلُ في سِــفرِ البُطولةِ أسطُرَا

*

و (ستَملأُ الوادِي سَــنابِلَ) غَضَّــةً

سَـتُعِيدُ للخَصــمِ المَقِيتِ تَصـوُّرا

*

أنَّ الشَّهــــــادةَ مَطلـــعٌ لِحيـــاتنا

سَنُطِلُّ مِن رَحِـــمِ الظَّـلامِ لِنُبصِرا

*

والطِّفلُ من تحتِ الرُّكامِ يُخِيفُهُم

فكـــأنَّ طَـــودًا للمــــماتِ تَحَضَّرَا

*

اســمٌ على الزَّنــدِ النَّدِيِّ مُخَــطَّطٌ

طُــوبى لِطِفـــــلٍ بالثَّبــــاتِ تَزَنَّرا

*

يَرقى بثَـــوبِ العِيدِ تَهـــفُو رُوحُهُ

لِجِنـــانِ خُلدٍ، فاحتَــفى وتَعَطَّــرَا

*

لا تَنصَحُوا بالصَّبــرِ قَومًا جـاوَزُوا

للصَّبرِ سَـــقفَ سَـمائِهِ فاستُصغِرَا

*

ألِمِثلِهِــــم تُســـدَى نَصــائحُ مِثلِنا

أبِمائِهــــا تُغـــوِي الجَــداوِلُ أنهُرَا

*

وهُنا لِوَهــــمِ المُدَّعِيــــن نِهـــايَةٌ

سَهــمٌ على صَدرِ الجِبـالِ تكَـسَّرَا

*

أســطورَةٌ رَسَــــخَتْ بِلُبِّ عُقُولِنا

قد آنَ - تحتَ نِــعالِنا - أن تُقهَـرَا

*

وَهـنٌ على وَهـنٍ، تَكَشَّــفَ للأُلى

ولِذَاكَ بَيتُ العَنكَبُـــوتِ تَبـــعثَرَا

*

وعَلا عَوِيلٌ للدُّيُـــوكِ مُجَـلجِـــلٌ

والخَوفُ في كُلِّ الجِهاتِ تَجَذَّرَا

*

ومَضَتْ جَحَافِلُهُــم تَنُـوءُ بِخَيبَةٍ

تَســعى إلى سُبُلِ النَّجاةِ لِتَعبُــرََا

*

غَصَّت ملاجِئُهُم بِفَيضِ خُنُوعِهِم

والغَيظُ في رَسمِ الوُجُوهِ تفجَّـرَا

*

للهِ جُنـــدٌ حَيَّـــرُوا وَعيَ العِـــدَا

كالجَيشِ واحِدَهُـم يراهُ تَجَمهَرا

*

مـن كُلِّ ناحِيَـــةٍ يُطِلُّ كَفـــارِسٍ

بالعَزمِ يَجتَــرِحُ الحَيـــاةَ لِيُزهِرَا

*

فكأنَّمــا تُهـــدِيهِ - مِلءَ بَرِيقِها -

مِن بَعدِ مَوتٍ رُوحَـــهُ كي يَثأرَا

*

وهناك، حَيثُ اللهُ يُرسِلُ جُنـدَهُ

تأبى جُمُــوعُ المُنتَهَى أن تُدبِـرَا

*

يا غَزَّةَ الصِّيــدِ الكِــــرَامِ تأَهَّبِي

فالنَّصــرُ في ثَوبِ الرُّكامِ تَنكَّرَا

*

سيَهُـــبُّ بُركانًــا يُحَــرِّرُ أرضَنا

وبِلالُ يَهـــرَعُ صَوبَهــــا ليُكَبِّرَا

***

د. أسامة الحمُّود

للشاعرة التونسية أمل صالح.. منهج تحليلي: أسلوبي – نفسي – رمزي – هيرمينوطيقي

في قصيدة "تَصَوَّر...!" تفتح الشاعرة أمل صالح نافذة تأملية على الذات وهي تلامس تخوم النسيان والذاكرة، وتفكك من خلالها جدلية الغياب والحضور، الموت والحياة، من خلال خطاب شعري داخلي تتجلى فيه الأنا المتشظية والباحثة عن معنى لوجودها في ضوء سرد خافت يمر عبر الصور والإيقاع والرمز. تنتمي هذه القصيدة إلى شعر التأمل الوجودي الذاتي، وتحتكم في بنيتها إلى تعددية أسلوبية وتراكيب رمزية كثيفة، ما يتيح قراءتها بعدة مستويات، وهو ما سنسعى إليه من خلال أربعة مداخل تحليلية متشابكة: الأسلوبي، النفسي، الرمزي، والهيرمينوطيقي التأويلي.

المدخل الأسلوبي – البنية الإيقاعية وتكثيف الصورة:

القصيدة تخضع لتشكيل أسلوبي متوازن بين البساطة الظاهرة والعمق الدلالي المضمر، فهي ليست شعر تفعيلة تقليدياً، لكنها تحمل إيقاعاً داخلياً موسيقياً ينبثق من التكرار والتوازي والتنغيم الصوتي الناعم.

يتكرر فعل "تتصوّر" مراراً، مما يشكّل لازمة أسلوبية تنسج فضاءً تكراريًّا وظيفيًّا، وهو تكرار يحمل دلالتين:

1. دعوة للآخر/القارئ إلى المشاركة في الوعي الشعري للذات.

2. محاولة للذات الشعرية لإقناع نفسها بالواقع أو الحلم عبر التخييل المتكرر. تقول الشاعرة أمل صالح:

"هل تتصوَّرُ مِثلي...

أماكنَ كانت مزدحمةً...

وأشياءَ ذاتَ معانٍ مختلفة...؟!"

هذا الاستهلال يُؤسس منذ البداية لعلاقة قائمة على التشظي الحسي والانكسار المعرفي، فالشاعرة تبحث عن مؤازرة شعورية من قارئ مفترض، لكنها في العمق تبحث عن ذاتها، عن صوتها الداخلي الموشوش في زحمة الغياب.

من الناحية الإيقاعية، تستعمل الشاعرة علامات التوقف (...) والتساؤل (!؟) بشكل كثيف، ما يمنح النص توتراً إيقاعياً يشبه التنهيدات، ويعزز من توظيف الصمت كعنصر صوتي ضمن القصيدة، مما يفتح النص على الفراغ الزمني والذهني.

المدخل النفسي – الذات المجروحة والذاكرة المأزومة:

من منظور التحليل النفسي، تتجلى في القصيدة ذات مأزومة تمرّ بحالة من الانسحاب والتفكك الداخلي، ما يشبه المرحلة الفاصلة بين الصدمة وإعادة البناء النفسي. فالقصيدة، في ظاهرها، لا تتحدث فقط عن أماكن أو أشياء، بل عن الانهيار الداخلي للمعنى، تقول:

"الوجوهُ اختفت فجأةً من الذاكرة،

ازدحامٌ كان قد رحل...

هل كان موتًا

ذلك الذي عشته؟

أم بدايةً لحياةٍ...؟!"

هذا التساؤل الكينوني يحمل ثقل تجربة نفسية مريرة، قد تكون فقداناً أو اكتئاباً وجودياً، غير أن اللافت أن الشاعرة أمل صالح لا تمنح أي يقين، بل تترك الباب مفتوحاً على الاحتمالين: الموت كبداية، والحياة كامتداد للموت. إنها إذن تتحدث عن المنطقة الرمادية في الوعي البشري، تلك التي تفصل بين الإدراك والانهيار.

العبارات مثل:

"نسيتُ حتى معنى النسيان"

"أحسستُ باختناقٍ"

"ربما سأعود لنفسي ثانيةً".

تعكس بوضوح مراحل الإنكار ثم الوعي ثم التمني، وهي من مراحل ما بعد الصدمة. فالنص ينمو من حالة الانفصال عن الذات باتجاه رغبة في الترميم النفسي، لكن ذلك مشروط بتدخل "النسيان" كشخصية فاعلة.

المدخل الرمزي – النسيان ككائن، والزمن كخصم:

من أبرز خصائص النص أن الشاعرة أمل صالح تشخص المفاهيم:

النسيان ليس مجرد فعل عقلي، بل كائن حي من لحم ودم، "كان يجب أن يوقفني... أن يحاورني".

الزمن ليس إطاراً محايداً، بل خصم عنيد يتطلب هدنة كي تستعيد الذات تنفسها، تقول:

"يا ليتَ الزمنَ يُعطيني هدنةً..."

الرموز في النص ليست تقليدية بل متحوّلة:

الازدحام رمز للانتماء أو الحياة الاجتماعية التي تلاشت فجأة.

المركب رمز للمسار الجمعي، أو القارب الوجودي الذي غادرته الشاعرة عن وعي.

الوجوه السابحة تشير إلى كثرة العلاقات السطحية، وإلى الغربة في محيط مكتظ لكنه فارغ من المعنى.

كل هذه الرموز تصب في محاولة استرجاع الذات التي غادرت كل شيء لتنجو من كل شيء.

المدخل الهيرمينوطيقي – التأويل الوجودي للنص:

وفقًا للمنهج الهيرمينوطيقي الذي يقرأ النصوص بوصفها حلقات في مسار تأويلي لا نهائي، يمكننا أن نفهم القصيدة كمحاولة لإعادة تفسير الذات في علاقتها بالزمن والآخر والنسيان.

القصيدة لا تطرح حقائق بل أسئلة مفتوحة، وتُركّب دلالتها من خلال المعاني المتولّدة باستمرار. في قولهــا:

"رُبّما كنتُ سأعودُ لنفسي ثانيةً،

وأُصلحُ كلَّ ما مرَّ بي..."

نجد أن الذات لا تبحث عن الحاضر بل عن إمكانية استعادة ما فُقد، كأن القصيدة كلها هي أداة للتخييل العلاجي، أي أن التأمل يصبح وسيلة للشفاء.

الخطاب الموجّه للآخر – الظاهر في "هل تتصور معي" – ليس سوى استبطان للذات، ومحاولة لمحاورة مرآتها، فكل "آخر" هو صورة متخيلة للنفس ذاتها، وبهذا المعنى يمكن أن نقرأ النص كتأويل شعري لحالة "الانقسام الوجودي" ومحاولة رتقه عبر اللغة.

خاتمة:

قصيدة "تَصَوَّر...!" نص شاعري متماسك ينتمي إلى شعر الذات المنكسرة والمتحوّلة، ويكشف عن تجربة شعورية مركّبة تتنقل بين الذاكرة والنسيان، الموت والحياة، الفردانية والانفصال.

بنيته الأسلوبية القائمة على التكرار والصمت، وشحناته النفسية العميقة، والرموز المفتوحة، والمستوى التأويلي الغني، تجعل من هذا النص نموذجاً للشعر الذي يستبطن المعنى بدل أن يصرّح به، ويقود القارئ إلى مجاهل التأمل، لا إلى ضوء المعنى النهائي.

***

بقلم: عماد خالد رحمة - برلين

.......................

تَصَوَّر...!

هل تتصوَّرُ مِثلي...

أماكنَ كانت مزدحمةً...

وأشياءَ ذاتَ معانٍ مختلفة...؟!

هل تتصوَّرُ معي...

الزمنَ في عنفوانِه... يفضي

إلى نَسيمٍ لا رائحةَ له؟

الوجوهُ اختفت فجأةً من الذاكرة،

ازدحامٌ كان قد رحل...

هل كان موتًا

ذلك الذي عشته؟

أم بدايةً لحياةٍ...؟!

*

هل تتصوَّرُ معي

أنني نسيتُ حتى معنى النسيان...؟!

لم يُعاتبني،

لم يتفوَّهْ بكلمة...

لم يقلْ لي: لماذا غادرتَ المركب؟

لماذا غادرتَ الوجوهَ السابحةَ

في عوالمَ مكتظّة؟

لأنني أحسستُ باختناقٍ...

كنتُ سأُجيبُه:

النسيان...

لو كان توقّفَ وحاورني...

رُبّما كنتُ سأعودُ لنفسي ثانيةً،

وأُصلحُ كلَّ ما مرَّ بي...

رُبّما ستعودُ لي الذاكرة...

وأتصوَّر...

يا ليتَ الزمنَ يُعطيني هدنةً...

حتى أتصوَّر...!

***

أمل صالح

المقدمة: من رؤيا يوحنا حين قال: (ورفع ملاك واحدٌ قويٌ حجراً كرحى عظيمة ورماه في البحر قائلاً: هكذا بدفعٍ سترمى بابل المدينة العظيمة ولن توجد فيما بعد، وصوتُ الضاربين بالقيثارة والمغنيين والمزمّرين والنافخين في البوق لن يُسمَع فيك فيما بعد، وكلُّ صانعٍ صناعةٍ لن يوجدَ فيك فيما بعد، ونور سراجٍ لن يضيء فيك فيما بعد ..) إلى (معرض العظام) مرت السجونُ على عيني صوراً متنوعة، صغيرة، مرعبة، مظلمة، وضيقة، أو كبيرة واسعة لا ضوء حياة بها.

السجون بقيود أو دون قيود، او قيود افتراضية، هي موضع محدد لا اجتياز، موضع مقيد بالأصفاد، أو بقرارات فبكل الأحوال ترعاه الآلهة القساة وتحميه وتنفذ أوامر آلهة  صغيرة صاغرة دون سؤال أو دون مشاعر، أو دون طرفة عين أو واعز إنساني، كلاب مطيعة وفيّة، لها مواصفات من الشراسة والقوة و الفتك والتعوّد ما لغيرها، كل هذا تسحبه الكتابة والأفكار المدونة لتظهره للقاريء بكل وضوح وإنارة دون تردد، لا مخفي أمام الكلمة ولا ممنوع ولا تابوات محصنة، واغلبها على صفحاتٍ مسجونة بغلاف زيّنَ بدلالات وعتبات وألوان تبهر الناظر وتجرّه إليها، كما زيّنت السّجون من الخارج بأنواع الطلاء، ووضعت عليها الأبواب التي مصاريعها تشبه أبواب الأساطير، ووقف عليها جنودٌ أو شّرَطةٌ يرتدون أبهى الملابس وألطف الثياب، ولكن ألفاظهم خشنة كما ودَّ الكاتب أن يوضح مقدار خشونتها حيث مثلها بصوت النباح حين تنهر المراجعين، لتعطي للسجن رهبةً ويُزرع الخوفُ، فالقشور الخارجية لا تمت بصلة لما تنطوي عليه الدواخل.

فقد مررتُ بالسجون الحقيقية زائراً ومستدعى ومستودع فيها، ولأغراض التحقيق والملاحقة، والمتابعة، ومررتُ عليها قاريءً من خلال رواتها الذين عاصروها والذين عاشروها والذين عملوا فيها والذين أخذوا وصفها من أفواه تركت صرخاتها ومازالت على جدرانها الصدى وبعض ملاحظات وأقوال وحكم يأس، وللآن تزورهم إلى أسرّتِهم ليلاً لتوقظهم مشاهد الرّعب وصور الدماء وصرخات التعذيب، والأجساد المهشمة، والعيون المفتوحة التي رأت من زارها ولا تستطيع الإغماضة حين غادرتها الروح على أرصفة الاسمنت أو وسط قاعات البرد الذي لا تدفئها كل

مدافيء الحياة. لا أزعم أني قرأت كل ما رُوي ونُثِر ونُظم عن السجون ولكنني تلمست محنة العربي في رواية الشرق المتوسط، وقرأـتُ مجموعة شهداء بلا أكفان واطلعت على ذكريات من منزل الأموات، والكثير من السجون الأخرى حينما انغلقت عيناي وانعكس الضوء على كم من قطرات عالقة اطبقت جفوني ، فأغلق البؤبؤ حين تعثرت على آخر ما قرأت من تقاليد السجون بأنواعها في (كلاب الآلهة).

ففي أحد الأيام أيقنت أن أحشائي تحاول الخروج من جسدي، وأنا اتدلى عكس ما عشت وباتجاه معاكس للحياة، وعلى حد تعبير(نعيم شريف) كالرأس في لوحة (شاغال) عندما علقوني بالمروحة في مديرية أمن ناحية المجد.

ولكنني عشقت سجن الوطن، ولم أؤمن بالرحيل أو الخروج من جدرانه المسفوحة على طول حدوده مع العرب والجوار، حيث عقدت الأمر محبّاً لهذا السجن الكبير وعبر مقولة قلتها (أموت على تراب وطني، أفضل من موتي بجنان الغربة)، لست نادما على سجني فالكثير ممن أحبّوا سجونهم وسجّانيهم، وهناك ظاهرة في علم النفس يوردها في ضوء هذه العلاقة بين الضحية والجلاد، وعملية تعاطف المعتدى عليه مع المعتدي إلى حدود الدفاع عنه، بـ(متلازمة استوكهولم) وعرفوها على أنها ظاهرة تفترض وجود الارتباط وهو استجابة الفرد للصدمة وتحوله إلى ضحية، فالتضامن مع المعتدي هو أحد الطرق للدفاع عن الذات كما هو موضح في (ويكيبيديا متلازمة استوكهولم)، فما بين العقدة السايكلوجية الكبرى هذه ومحبة الوطن الفطرية وما تضمره الأنساق من تلازم عقائدي عشنا نتدافع وندافع ونقاتل في سجن مشرعة أبوابه ومتاح الرحيل للجميع.

***

عيّال الظالمي - العراق/ المثنى

الأم رمز المرأة العراقية:

وقد يكون من المفيد هنا أن نذكر أن الروائي شاكر نوري يصور الأم كعمود هام في العائلة، لا سيما أنها بقيت وحدها بعد اغتيال زوجها، تحمل أعباءها على كتفيها. يقول ابنها الراوي عنها: "...اغتيال أبي، ومنذ ذلك الحين، ترفض الاقتران برجل آخر". ص 37

تريد الأم إنجاح ليلة دخلة ابنها العاجز عبد الرحمن بأي ثمن درءًا للفضيحة بين الناس، "تأمر" "الأخ الكبير": "افعل شيئاً من أجل أخيك" ص 28، لكنه يعلق محبطًا بين نفسه: "دُهشتُ لهذا العرس الذي تحول بين استلامي لبرقية أمي، ورحلة القطار إلى مدينتنا، إلى مأتم جنائزي، دون ميت". ص 29

يُوَفّق الكاتب بتصويرها ونمذَجَتها من خلال دعاءاتها بلغة متناسبة مع مستواها، لكي يُوفّق ابنها العريس في ليلة الدخلة. "متى يفضُّ عبد الرحمن بكارتها؟" ص 30 "الأم تراقبهما من ثقب الجدار" ص 35

رمزية الأب:

لكن الروائي يكرس عمله للأب وأليغوريته ورمزيته ومكانته الخاصة في المجتمع رغم إساءة السلطات له ومحاولة تشويه سمعته، يقول الراوي: "لمحتُ صورة أبي الشمسية... روح أبي ... تذكرته ... يوم اغتياله المشؤوم". ص 28

وهي صورة الأب نفسها في رواية "نزوة الموت"، وقد أكد لي الكاتب شاكر نوري أنه استوحاهما من شخصية والده، لكنه لم يُقتل بل مات موتاً عادياً وهو دفنه بنفسه وحضر عزاءَه.

وسألتُ الكاتب عن سبب اختياره العناكب وماهي رمزيتها فأجابني مشكورًا: "اخترتُ العناكب لأن حياتها غامضة، أنثى العنكبوت دائماً تقتلُ زوجها، الحب فيه قتل. شيرين تلجأ إلى غرفة العناكب لأن ليس لها شخص آخر، العناكب تعطيها الشهوة وعوّضت عن عجز عريسها عبد الرحمن، فتمارس الشهوة باختلاط العناكب على جسدها. ونقرأ في الرواية "هل يصل العهر بالمرأة أن تضاجع العناكب؟". ص 54

يبدو أن الروائي حقًّا شُغلَ بحرب العناكب، يقول الراوي: عنها "العجيب أن أمي حذرتنا من حرب العناكب". ص 56، ويتمتم ساخرًا "ماذا تنفع حروب الأرض إذا كان أخي عاجزًا عن فض بكارة زوجته؟!". ص 62

"هل يمكن أن يعتقد كالآخرين بأن الرجل لا يمتلك سوى شيء واحد هو القضيب؟!" ص 67

يتحدث بجرأة عن "حركة الحيامن" ص 67 ووصف القضيب والعجز الجنسي. ص 124

الأسلوب:

يتميز الأسلوب بالسخرية المبطنة الحاضرة دومًا في اغلب نصوص شاكر نوري، "قالت أمه عنه يوم الخطبة "إنه شاعر ومسرحي! فضحك الجميع" ص 68، "فرقة المدرسة اختارته ليُمثل دور امرأة". ص 68

"في يوم الخطبة لمحت شيرين وجهه المدور الخالي من زغب اللحية والشاربين...". ص 69

النساء يسمونها ام عبد الرحمن لكن الأصول أن تُسمى الأم باسم ابنها الكبير.

وهنا نلاحظ بقاء الراوي في "نافذة العنكبوت" بلا اسم، ينادونه: (الأخ الكبير) فحسب، قد يكون لابتعاده عن العائلة وقلة حضوره، بل غيابه عنها وهو ما نراه في النص، وأيضًا ما اكّده الكاتب لي. لكني أرى الأمر من جانب آخر قد يكون أبعد أو أعمق، فالراوي هنا ليس كما هو الحال في السرديات التقليدية يكون "عليمًا" ملمًّا بكل التفاصيل، وهو واحد منهم، يروي حكاياته عنهم، إلا أنه هنا يتكلم عنهم من بعد كأنه في الضفة الأخرى، يحمل رمزيةً خاصةً: مغترب، ينظر إلى مجتمعه من زاوية أخرى، غير متعالٍ، أو على الأقل يتظاهر بالتواضع لكنه غير مبالٍ لتقاليده القديمة فيشذ عن القاعدة ويتصرف بحرية، يتجاوز حدوده. ولهذا بالذات يُكنّون والدته باسم اخيه الأصغر (أم عبد الرحمن). إنه غائب حاضر، "يخلط" بعض الأمور، لكنه يبقى كبيرًا في نظر الآخرين "الأخ الكبير" بعيدًا عن أفواههم وألسنتهم التي تلوك بالآخرين إلا والده وهو الابن البار الكبير!

طريقة السرد:

يتحول السرد هنا فجأة إلى حالة واقعية خيالية تفاجئ القارئ حيث يتحدث عبد الرحمن عن اعترافاته وعند المتابعة يطلب من شيرين أن تكمل القراءة، فيختلط هنا الكلام المحكي بقراءة النص، فبينما يتحدث (عبد الرحمن) عن نفسه بضمير أنا كراوٍ جديدٍ، سارد ثانٍ، عليمٍ حقًّا بدلًا من أخيه (الكبير)، الذي اخذ مهمة السارد الأول منذ بداية السرد الروائي، لكنه يقول لعروسته بين الفينه والأخرى "أكملي القراءة يا شيرين" ص 159 ، إنها في حقيقة الأمر وصية تركها لهم ليقرأوها فتأخذ شيرين على عاتقها القراءة كإنسان اعتياديٍّ وليست عنكبوتا كما اعتدنا عليها. ص 159

شيرين هنا ليست مجرد عروسة حامل من جندي آخر، بل رمز، صوّرها السارد عنكبوتةً تضاجع العناكب بخيال فنطازي!

تتأسس البنية السردية على قراءة الابن الجندي المحتضر لرواية أخيه السارد "العليم" فنحن هنا أمام بنية تتكون من رواية داخل أخرى تشبه القصص المؤطّرة أو الإطارية" هو الذي فضح سرّي ... لوثته العقلية... دون استشارتي ...". ص 156- 155

***

الدكتور زهير ياسين شليبه

قراءة تحليلية في قصيدة "كيف لهذا التحرّقِ في الترقب" للشاعر سعد الأبطح

في مشهد شعري مكثف يعانق تخوم المعاناة الوجدانية والخذلان العاطفي، يُطلّ الشاعر الفلسطيني سعد الأبطح عبر قصيدته المعنونة "كيف لهذا التحرّقِ في الترقب"، ليبوح بانكسارات القلب، لا من جهة الغواية، بل من جهة التأمل العميق في عطب العاطفة وانهيار المعنى داخل تجربة الحب. القصيدة لا تحتكم إلى المباشرة، بل تتوسل بتراتيل الأسى، وتتوسل بلغة مبطّنة بأحمال رمزية ونفسية وفكرية كثيفة، تجعل من قراءتها عملاً تأويلياً ومساءلة مستمرة لما تحت النص، لا لما يظهر فقط على السطح.

تجمع هذه الدراسة بين أربعة مناهج تحليلية: الأسلوبي الذي يعاين البنية اللغوية والصور، والنفسي الذي ينفذ إلى لاوعي الشاعر الأبطح، والرمزي الذي يحلل الشفرات والدوال المتراكبة، والهرمينوطيقي الذي يمنح النص تأويلاً وجودياً عميقاً.

ففي سياق الغوص في البنية الأسلوبية والصور الشعرية. يفتتح الشاعر الأبطح النص بتكرار استفهامي شجنـي ينهض بوظيفة تفكيك المعنى وتوليد القلق الشعري، يقول:

"كيف لهذا التحرّقِ في الترقب

هذا النشوبُ إثر الملامسات

وهذا الاضطرامُ خلال الإبتسامات".

نحن أمام تكرار بنية "كيف" التي تمارس اشتغالا معرفياً لا يروم الجواب، بل يؤسّس لعجز الفهم، وللذهول أمام الظاهرة الشعورية المسماة حباً. فالتحرّق، النشوب، الاضطرام، كلها أفعال نفسية/جسدية تشي باشتعال داخلي لا يمكن استيعابه بالعقل المحض، بل بالوجدان المرتبك.

يتسم هذا المقطع باستخدام أفعال حسيّة كثيفة ودوال توترية (تحرّق، نشوب، اضطرام)، ما يمنح اللغة إيقاعاً داخلياً متسارعاً يُماثل خفقان القلق، وهو إيقاع نفسي أكثر منه موسيقي، إذ يعكس حالة تصاعدية للعاطفة المشحونة حتى الانفجار.

أما في سياق التحليل النفسي – وهم الحب ولاوعي الخسارة

يصرّح الشاعر دون تردّد قائلاً :

"كيف لكل هذا التأججِ المبهمِ المسمى حباً

والذي أوهمَ النفسَ بلانهائيتها أن ينتهي".

هنا نبلغ لبّ التمويه النفسي للحب ونسغه الداخلي، بوصفه حالة مضلّلة للذات، تجترح لها أوهام الخلود ("بلانهائيتها")، ثم تتهاوى فجأة إلى العدم. من منظور تحليل نفسي، يشتبك هذا المقطع مع مفاهيم كارل يونغ حول الظلّ والإسقاط، إذ يبدو الحب هنا كإسقاط لمثالية الذات على الآخر، وحين ينهار ذلك البناء الإسقاطي، تنهار معه صورة النفس نفسها.

ثم يأتي الانحدار واضحا وصريحاً حين يقول:"ليبقى فقط

هذا الرجاءُ الخافتُ، والغاضبُ تارةً".

الرجاء الخافت هنا ليس أملاً، بل هو فضلة شعورية، أشبه برماد الحريق. الغضب المتقطّع إشارة إلى مرحلة المقاومة الداخلية لفقدان الوهم، حيث يتداخل الحزن مع الرفض، وتُكابد الذات عملية الحداد النفسي لا على شخص، بل على صورة مثالية سقطت.

- في سياق الرمزية والتمثيلات الدلالية. نجد من أبرز الرموز في النص: "القنديل"، يقول الشاعر سعد الأبطح:

"ليت هذا القنديلُ لم يُوقَد أبداً"

القنديل رمز للوعي أو الاكتشاف أو الانتباه العاطفي، و"إيقاده" يعادل يقظة القلب. لكن المفارقة أن الشاعر يتمنى ألا يُضاء هذا القلب أبداً، لأنها إضاءة مدمّرة. يشير هنا إلى رفض المعرفة التي تجلب الألم، كما لو أن الجهل العاطفي نعمة، في مقابل انكشاف القلب الذي قاد إلى الحزن.

"الصقيع – الوحدة – الفراغ"، يقول:

 "فتورَ الحماسِ أبردُ من صقيعِ الوحدة".

الوحدة هنا أقلّ ألماً من الانسحاب العاطفي البارد، الذي يبدو أشبه بانطفاء النفس. يشكّل هذا التدرج الرمزي تراتبية بين ألوان الفقد: من فتور الحماس، إلى الوحدة، إلى الفراغ الكوني الذي "يصير ثقيلاً" إلى أن "يتمزّق". هنا تتجلى مجازات الانهيار الكامل للكينونة، حيث يتلاشى معنى الحب ومعه وجود الذات.

- في مجال التأويل الوجودي (المنهج الهيرمينوطيقي)

تشير القصيدة إلى جدلية الحضور والغياب، النور والعتمة، الامتلاء والفراغ، ضمن بناء هيرمينوطيقي يشي بأن الحب ليس تجربة شعورية عابرة، بل هو حدث وجودي يقلب كينونة الإنسان رأساً على عقب.

البيت الأخير:

"الفراغ الذي يصير ثقيلاً ......

ثقيلاً

إلى

أن

تتمزق".

يأخذ طابع الانهيار الدرامي التدريجي، ويُكتب كأنه تفكك زمني/لغوي متزامن مع التفكك الداخلي. هذا الشكل الأسلوبي (التقطيع البصري والطباعي) يعكس التمزق لا كمجاز فقط، بل كفعل وجودي. إنها لحظة موت رمزي. أشبه بما يسميه هايدغر السقوط في العدم، حين يصبح الإنسان مكشوفاً على لاشيئيته بعد انهيار المعنى.

- الإيقاع والموسيقى الداخلية في قصيدة " كيف لهذا التحرّقِ في الترقب"

من اللافت غياب الوزن التقليدي في القصيدة، مع حضور إيقاع داخلي متوتر، ناتج عن:

التكرار (كيف، ليت، ثقيلاً)

الجناس: "الرجاءُ الخافتُ، والغاضبُ"

الانزياحات اللفظية والعبارات المنكسرة.

كل ذلك يعزز موسيقى الحزن المترجرجة، ويضفي على النص هالة من الشجن المنضبط، كما لو أن الشاعر يُمسك بالحزن كي لا ينفلت، ولكنه يُظهره في صوته اللغوي.

خاتمة: النص بوصفه مرآة للشروخ النفسية العميقة

في هذه القصيدة لا نقرأ تجربة حب، بل نقرأ أصداء التلاشي العاطفي وما يخلّفه من فراغ وجودي. الشاعر الأبطح يمضي من الحب إلى تأمل فقدان الحب، من الوهج إلى العتمة، ومن الرغبة إلى الحداد. لا خطاب في النص سوى خطاب الذات لنفسها، بوصفها الساردة والشاهدة والضحية في آن واحد.

إنها قصيدة تكتب انكسار الكينونة أكثر من انكسار القلب، ويُحسَب للشاعر قدرته على تحويل التجربة الذاتية إلى نص رمزي كثيف، مفتوح على تأويلات فلسفية وعاطفية ونفسية متشابكة.

***

بقلم: عماد خالد رحمة - برلين

........................

نص القصيدة:

كيف لهذا التحرّقِ في الترقب

هذا النشوبُ إثر الملامسات

وهذا الاضطرامُ خلال الإبتسامات

كيف لكل هذا التأججِ المبهمِ المسمى حبا

والذي أوهمَ النفسَ بلانهائيتها أن ينتهي،

 ليبقى فقط

 هذا الرجاءُ الخافتُ، والغاضبُ تارةً: ليت ماكان ظلَّ محاولةً

ليت هذا القنديلُ لم يُوقَد أبداً وبقيتَ متآلفاً وعتمتَكَ بعدما، تعلمت كيف تسيرُ فيها متدبراً مايسلّيكَ ويسعفكْ، أما أن يُضاءَ قلبٌ ثم يخبو رويداً رويداُ لحزنٌ يمسي اليأسُ أمامَهُ مجردَ صداعٍ خفيف، قد أكون كعادتي مخطئا، لكن شموسا كبرى لم تنجو من هكذا مصير،

ولتكتشِفْ: أنّ فتورَ الحماسِ أبردُ من صقيعِ الوحدةِ التي بذاتها أكثرُ رأفةً من خسارة من تحب، ثم الفراغ، الفراغ الذي يصير ثقيلا ......

ثقيلاً

إلى

أن

تتمزق .

***

سعد الأبطح

 

للأديب السوري: منذر فالح الغزالي

 مقدمة: قصةٌ بديعة السرد مشوّقة، موضوعها يحمل عدّة إشكاليات؛ أولها: إشكاليةٌ وجوديّة تكمن في غربة الإنسان في وطنٍ يقمع الحريات، واضطراره للهجرة القسرية إلى منفىً آخر يعيش فيه غربةً حقيقيةً أخرى بحثاً عن تأمين لقمة العيش، وخوفاً من القتل أو السجن التعسّفي، مما يولد عنده، في الحالتين، شعوراً مقلقاً باللاانتماء الوجودي. وتأتي أيضا إشكالية التباعد بين الزوجين، مما يسببّ صراعاتٍ نفسيةً وقلقاً وجودياً من نوعٍ آخر؛ وفي القصة هذه، ضروبٌ وحكايا شيّقةٌ مفصلة عن هذه العلاقات المضطربة الشائكة؛ لذا، وحسب قول سارتر: "على الأديب الملتزم، أن يشعر بمدى مسؤوليته عن كلّ شيء؛ عن الحروب الخاسرة أو الرابحة، عن التمرّد والقمع، كما عليه أن يشعر أنه متواطئٌ مع المضطهدين؛ إن لم يكن الحليف الطبيعي للمضطهدين". وقد تكون هجرة كاتبنا القسرية إلى ألمانيا قد أوحت إليه بكتابة هذه القصة التي تحمل إشكالياتٍ يتكرّر حدوثها في أيامنا الراهنة.

عنوان الدراسة: الصراع النفسي للشخصيات الرئيسية في القصة

-أحمد، هو الشخصية الرئيسية المحورية في القصة، هو ذاك الصحفيّ ذو الفكر والقلم الحر، الذي هاجر من بلده سوريا في زمن الحرب "حاملاً ذاكرة وطنٍ ممزق"، فاضطرّ للرحيل لاجئاً سياسياً إلى ألمانيا وقد أضاع مرةً واحدة: الهوية واللغة والمهنة.  من هنا نشأ لديه قلقٌ وجوديٌّ لمجرّد إحساسه في وطنه بالغربة؛ وهو الصحفيّ الحرّ الذي مُنع من ممارسة حرية التعبير والمعتقد، ولوحِق ولم يجد أمامه من مخرجٍ إلا "الهروب أو الموت"... مضت عليه "شهورٌ قاسية... يقضيها وحيداً"، يتحدّث طويلاً مع زوجته "سمر" عبر الرسائل النصية، ويصرّ عليها أن تغيّر رأيها وتتبعه إلى ألمانيا؛ لكنها في كلّ مرة كانت تعيد نفس الجواب: " لا أستطيع... أمي المريضة، وعملي في الجامعة... كيف يمكنني تركَ كلّ شيء". من هنا أحسّ

بمرارة "تخلّي" أحب الناس إليه في أصعب الأوقات، وازداد إحساسه بالضيق والغربة، وتنازعه إحساسٌ جديدٌ باللاانتماء للمجتمع الغربيّ في ألمانيا، بعد إحساسه بالغربة في الوطن، وصار يحسّ بقلقٍ واضطراب نفسيٍّ، بعد أن فقد استقراره بعيداً عن زوجته التي "تخلت" عنه في أصعب ظرف، وصار توّاقاً إلى ركنٍ دافئٍ، أو صديقٍ أليفٍ يفرّج عنه كربه ووحدته...  وتظهر في تتابع السرد _ الشخصية الرئيسية الثانية، شخصية: إلسا، "الجميلة، معلمة اللغة ذات العينين الرماديتين، والابتسامة الخافتة"؛ وقد كان من الطبيعي جداً، أن ينجذب إليها أحمد، خاصةً بعد أن التقط "إشاراتٍ صغيرة " تدلّ على اهتمامها بوجوده.

تتابع اللقاءات الحميمية، والثقة المتبادلة بين أحمد وإلسا تجاوزت حدود الصداقة بينهما، صار أحمد يتساءل: ترى؟ ما الذي تسعى إليه؟ ولماذا اختارتني أنا؟ ثم بدأت أسئلة أحمد تزداد عن طبيعة هذه العلاقة؛ وتوالت الأيام، فأحسّ كل منهما بأن العلاقة جرّتهما إلى طرح أسئلةٍ جوهريةٍ صحيحةٍ، بدأها أحمد بسؤاله إلسا: "هل الرجل الذي يترك زوجته لأنه أحب امرأة أخرى، يخونها؟". "الخيانة ليست في الحب، الخيانة في التخلّي، في أن تترك شخصا كان يثق بك"، و"الحب الحقيقي لا يبنى على أنقاض علاقة أخرى، إنه يحتاج إلى أرض صلبة، وليس إلى قلب ممزق.".

أكثر ما كان يمض إلسا، ويحدث في نفسها قلقاً هو "تخلّي" زوجها الفجائيّ عنها، بعدما كان يبدي لها كلّ الحبّ والثقة.

وأعود لأحمد، الذي كان يحسّ في أعماق نفسه بالضياع و"الصراع" بين الحب والالتزام، بين الماضي والمستقبل، وبين الواجب والممكن، وكان يعلم أن إلسا تريده أن يحسم "الاختيار" بقولها له: "البقاء في المنتصف هو الخيانة الحقيقية ". إلسا، رغم حبها لأحمد، كان يسكنها "الخوف" من المضيّ قدماً في علاقة حبٍّ جديدة، بعد فشلها في الأولى؛ وكانت تلحّ على أحمد في السؤال: "هل هذا حبٌّ حقيقيٌّ، أم مجرّد هروبٍ من الوحدة؟". ورغم تأكيد أحمد لإلسا بأنّ حبه لها حقيقيٌّ، وأن "وجودك أعاد لي معنىً جميلاً فقدته."، ظلت إلسا "حذرة خائفة. 

وهكذا يتصاعد الصراع في وجدان أحمد ويدفعه لاتخاذ "اختيار" حاسم ينقذه من كلّ هذا الضياع والفوضى، فيخبر زوجته سمر بقرار أخير، خاصةً أنّ سمر كانت لا تزال مصرّةً على البقاء في سوريا، ولها أعذارها الخاصة. قرار أحمد أرسله لسمر وهو "الانفصال الكلي " كي لا "نستمرّ في خداع أنفسنا ". اتخذ القرار بمسؤوليةٍ مقرونةٍ ب"حرية" تامة، ودون أن يحسّ بوجعٍ، أو تأنيب ضمير، بعد اقتناعه الكلي بأن سمر تخلت عنه في أصعب لحظات حياته؛ وأنها أرادت أن تلحق به في ألمانيا لأسباب عديدة أرسلها لإلسا ويقول فيها: "ستأتي لتبرر أنانيتها، كي تظل ممعنة في حصاري، أشعر أنها شريكة في اضطهادي... تأتي أو لا تأتي، هذا خيارها، أما أنا فقد اخترت وحسمت أمري".

- الشخصية الثالثة الأقل حضوراً هي "سمر" زوجة أحمد. وقد ورد ذكرها والحديث عنها أثناء توصيفنا لعلاقة أحمد وإلسا وعبر ذكرٍ لبعض رسائل هاتفية بينها وبين أحمد. وقد وصفها أحمد بأنها أنانية، فضّلت ترقيتها في وظيفتها على اللحاق بزوجها في أصعب أيامه.

وهكذا تنتهي هذه القصة الرائعة، بلا نهايةٍ مؤكَّدة، ودون أن نعرف قرار إلسا الأخير، تاركةً للمتلقي كثيراً من التكهّنات والإسقاطات الواقعية.

يكشف لنا كلّ ما تقدّم ذكره الحالات النفسية، والصراعات في نفوس الشخصيات الرئيسية الأساسية (أحمد وإلسا)، كما يكشف خياراتهما الراقية التي لم تبن على نزوات عشوائية حسية وإنما تشكلت بعقلانية وحرية "اختيار" مبنيةٍ على مسؤوليةٍ مصحوبةٍ بحبٍّ حقيقيٍّ صادق.

ومما لا شكّ فيه أنّ كاتبنا القدير الأستاذ منذر قد أبدع، فنجح أيّما نجاحٍ في توصيف حالات الصراع النفسي، ودوافع "الاختيار" لشخصيات أحمد وإلسا، وسمر، الكاشفة لتموضع الشخصيات الثلاثة في الواقع الاجتماعي والإنساني والحضاري، ووظّف التوصيف للدلالة والإيحاء على فصول علاقة الحب التي تنامت في قلبي أحمد وإلسا، دون الحاجة لسردٍ إخباريٍّ خالٍ من اللغة الأدبية السردية الشيقة.

***

زينب الحسيني

١٠/٧/٢٠٢٥

 

العشق يتشظّى والوجود يتجلى

تمهيد نظري: النص بين الانفلات الدلالي وتجربة الوعي:

تتخذ القصيدة الحديثة من اللغة حقلاً للتجريب المستمر، وفضاءً تتقاطع فيه الميتافيزيقا باليومي، والرمز بالانفعالي، إذ لا يُقدَّم المعنى بوصفه ثابتًا بل بوصفه عرضة للخلخلة والانزياح والتعدد. هنا تتقاطع المدرسة التفكيكية، التي أسسها جاك دريدا، مع المدرسة الظاهراتية (الفينومينولوجيا) عند هوسرل وميرلوبونتي، فكلا المنهجين يشككان في مركزية المعنى المستقر، ويسعيان إلى فهم العالم بواسطة تفتّح اللغة أو الشعور.

ان قصيدة "لنُقِم مملكة القبلة" تمثّل انموذجًا كثيفًا لهذا التشظي المعنوي والتجلّي الحسي، فهي تقترح  قيام "مملكة" رمزية قائمة على الحبّ والجسد والصلاة واللعب الحسي، لكنها تفتت ذاتها من الداخل عبر تناقضاتها البنيوية، وأفعال الوعي العاشق الذي لا يتعامل مع العالم بوصفه موضوعًا بل بوصفه تجربة شعورية.

القراءة التفكيكية — القصيدة ككسر للثنائيات:

يفتتح النص بإعلان سلطوي:

"لـنُـقِـم مملـكـة الـقـبـلـة"

وعلى الرغم من أن الجملة تبدو خطاب حب، فإنها مسرّبة بلغة الدولة والسلطة والإنشاء الجمعي. تتأسس "القبلة" هنا بوصفها مركزًا دينيًا وعاطفيًا وسياسيًا، لكنها ما تلبث أن تُخترق عبر تفاصيل أنثوية يومية:

"مـعـكِ الـمـكـحَـلـة ُ الـبـلّـورُ..

والـتـَّـنـُّـور ُ..

والأرضُ"

تتجاور "المكحلة" و"التنور" و"الأرض" كأدوات بيتية/رمزية تُنزع عن مركزيتها الوظيفية وتُعاد شعريتها. وهذه مفارقة تفكيكية تقوّض مركز "العشق" التقليدي وتحيله إلى نسيج من العلامات المتشظية.

ثم ينقلب الشاعر على "الأنا" المستقرة:

"وأنـا الـمِـرْوَدُ والـكـُـحـلـة ُ والـمـحـراثُ والـنـهـرُ

مـعـي !"

تتشظى الأنا هنا على أدوات أنثوية وذكورية، ما ينفي أي هوية جنسية صلبة. يتحول الشاعر إلى "مرود" و"كحلة"، فيُخترق جسده الرمزي بلذائذ التأنيث، ثم يعود إلى "المحراث" و"النهر" ليستعيد فحولته. هذه المراوحة تخلخل ثنائية الذكر/الأنثى وتكشف أن الهوية هي بناءٌ لغوي أكثر منها جوهرًا وجوديًا.

أما الصلاة، التي تُستدعى عادةً بوصفها ذروة الطقس الديني، فيعيد النص إنتاجها بلغة هزلية فاتنة:

"نـصـلـّـي

كـلـمـا  كـبَّـرَ عـصـفـورٌ

وأمَّـتْ بالأزاهـيـر الـفـراشــاتُ"

تتحول الصلاة إلى لعبة طبيعية، تُقام حين "يكبّر" العصفور، لا المؤذن، وحين تؤم الفراشاتُ الأزهارَ لا الجماعةَ. في هذا المشهد، نعيش ما يُسمّى لعب العلامات، وهو جوهر التفكيك: نزع السلطة عن المعنى ونقله إلى الفوضى الجميلة التي تتكلم بها الطبيعة والطفولة والحواس.

وفي ذروة هذا اللعب، يُصدر الشاعر "فتوى" شعرية:

"كـلُّ عـشـق ٍ طـاهـر ِ الـنـبـض ِ

بـتـولـيّ الـلـظـى  والـمـاء

وجـهٌ مـن وجـوه ِ الـوَرَع ِ !"

وهنا يتم إزاحة مركز الدين التشريعي لصالح وعي حسّي بالعشق. فالعشق يصبح فعل ورع لا لأنه "مباح"، بل لأنه "بتوليّ"، أي بريء من التدنيس لا من الجسد.

القراءة الظاهراتية — العالم كما يتبدّى في العاشق:

في الظاهراتية، كما في فلسفة هوسرل، تُفهم الأشياء بواسطة حضورها في الوعي لا بوصفها موضوعات مستقلة. من هذا المنظور، يُعاد النظر في كل الموجودات في القصيدة لا كأسماء بل كتجليات شعورية.

انظر إلى قوله:

"وما  يـمـلأ أحـداقـي فـلا  تـبـصـرُ إلآكِ..."

يُختصر العالم كله في "وجهها"، فلا "تبصر" العين إلا ما يتجلى في حضورها. هذه لحظة وعي خالص، إذ تُلغى المسافة بين الذات والموضوع، ويصبح الآخر امتدادًا للذات، أو مرآةً لها، بل يتجاوز ذلك ليكون طريقة إدراك العالم برمّته.

وكذلك:

"مـعـكِ الـمـكـحَـلـة ُ الـبـلّـورُ..

والـتـنـورُ..

والأرضُ"

ليست هذه مجرد أدوات، بل أشياء ممتلئة بحضورها، فتُفهم لا من خلال استعمالها، بل بواسطة الإحساس بها عبر الحبيبة، كأن العالم لا يُلمس ولا يُشمّ إلا من خلالها.

أما الزمن، الذي يُفهم عادة كخطٍّ مستقيم في الوعي، فيُعاد تشكيكه عبر انصهار الماضي بالحاضر:

"فـرَحُ الـقـلـبِ جـديـدٌ

وقـديـمٌ  قِـدَمَ الـنـخـل ِ الفراتيِّ

وأحـزان ِ الـمـنـافـي

وَجَعي !"

في هذه الجملة، لا يتبدّى الزمن في خطية كرونولوجية، بل في تراكم إحساس داخلي. الفرح، والحنين، والحزن، كلها لحظات تتداخل في آنٍ شعوريّ واحد، لا يُفهم إلا عبر التجربة المباشرة. وهذا لبّ القراءة الظاهراتية.

الخاتمة: ما بين المعنى والظهور، يولد النص:

تجمع قصيدة "لنُقِم مملكة القبلة" بين الفتنة البنيوية والتجربة الشعورية، فتغدو ساحة لعبٍ للعلامات لدى التفكيكي، وساحة تجلٍّ للوجود لدى الظاهراتي. تفكك القصيدةُ مركزية المعنى، وتنسف الثنائيات، ثم تعيد العالم للذات العاشقة بوصفه سلسلة من الظهورات الحسية والروحية.

هي قصيدة لا تطلب أن تُفهم، بل تطلب أن تُعاش، كما تعاش القبلة، أو الصلاة، أو النهر، أو المكحلة — لا بوصفها أدوات، بل باعتبارها محلاً للوعي العاشق الذي لا يتوقف عن الإدهاش.

***

رياض عبد الواحد

.........................

لـنُـقِـم مملـكـة الـقـبـلـة

مـعـكِ الـمـكـحَـلـة ُ الـبـلّـورُ..

والـتـَّـنـُّـور ُ..

والأرضُ ..

وما  يـمـلأ  أحـداقـي فـلا  تـبـصـرُ إلآك ِ...

ومـا يـقـتـلُ فـي عـيـنـيَّ

وحـشَ الـطـَّـمَـع ِ

//

وأنـا الـمِـرْوَدُ

والـكـُـحـلـة ُ

والـمـحـراثُ

والـنـهـرُ

مـعـي !

//

فـلـنـُقِـم

مـمـلـكـة َ الـقـُـبـلـةِ والـضـحـكـة ِ والـعـشــبِ ..

نـصـلـّـي

كـلـمـا كـبَّـرَ عـصـفـورٌ

وأمَّـتْ بالأزاهـيـر الـفـراشــاتُ ..

ونـُفـتـي:

كـلُّ عـشـق ٍ طـاهـر ِ الـنـبـض ِ

بـتـولـيِّ الـلـظـى والـمـاءِ

وجـهٌ مـن وجـوه ِ الـوَرَع ِ !

//

فـرَحُ الـقـلـبِ جـديـدٌ

وقـديـمٌ قِـدَمَ الـنـخـل ِ الفراتيِّ

وأحـزان ِ الـمـنـافـي

وَجَعي!

***

يحيى السماوي

دراسة بالروسية، بقلم د. اماليا ماكروشينا

أستاذة اللغة العربية وادبها في كلية الدراسات الشرقية بجامعة سانت بطرسبورغ الحكومية

ترجمة د. فالح الحمـراني

***

ظهرت في العقود الأولى من القرن العشرين، عدد من الكاتبات العراقيات ومنهن سلمى بنت عبد الرزاق الملائكة الملقبة بِـأم نزار الملائكة، وفطينة نائب، التي كتبت تحت اسم مستعار هو صدوف العامرية، ومقبولة الحلي أو عفراء، وغيرهن. وتغيرت مكانة الكاتبات في المجتمع بالتزامن مع التحولات السياسية والاقتصادية والاجتماعية الكبرى التي تشهدها البلاد. ودخلت أسماء جديدة الساحة الأدبية العراقية لتصبح من أبرز الكاتبات العربيات. وشهد عام ١٩٣٧ نشر أول قصة قصيرة لكاتبة عراقية وذلك عندما نشرت دلال خليل صفدي ذات الأصول اللبنانية مجموعتها القصصية "أحداث ووقائع". التي رأى العديد من النقاد إن هذه القصص لم تتوافق تمامًا مع مفهوم القصة القصيرة، بل قدمت مقالات بلاغية. وكانت رسالتها الدعوةً إلى مراعاة المعايير الأخلاقية للمجتمع. وبعد حوالي عشر سنوات، وتحديدًا عام ١٩٤٨، نشرت مليحة إسحاق روايتها "عقلي دليلي". يُعد هذا العمل أكثر نضجًا من حيث المحتوى، إذ يتتبع تطور الشخصية الرئيسة على مدى عدة عقود تجدر الإشارة إلى أن الأخلاق ودور المرأة في المجتمع كانا موضوعين مفضلين في الرواية النسوية العربية. كما تناولت الكاتبات اللاحقات هذه المواضيع من زوايا مختلفة في كتاباتهن.

وركزت روايات الخمسينيات والستينيات وما بعدها على موضوع آخر: العلاقات داخل الأسرة التي تنطوي على الخيانة، وكفاح المرأة ضد المعاملة غير العادلة والقسوة والعنف ضدها. وقد سلط الناقد الأدبي عمر طالب الضوء على هذه الخطوط القصصية في أعمال سافرة جميل حافظ، وسميرة المانع وميسلون هادي وعالية ممدوح هادي ولطفية الدليمي.

دخلت لطفية الدليمي عالم القصة العراقية في السبعينيات بنشر مجموعتها "ممر إلى أحزان الرجال"، وتوالت نشر اعمالها بين القصة القصيرة والرواية التي تركت بصماتها على السرد العراقي ومثلت منعطفَا في طريقه. وهي الآن مؤلفة لأكثر من عشرين مجموعة من القصص القصيرة والروايات وخمس مسرحيات والعديد من السيناريوهات وثلاث مجموعات من المقالات. ويركز عمل الكاتبة عادة على حياة المرأة العربية، مع همومها ومشاكلها وأفكارها. فمن بوسعه الكتابة عن هذا أفضل من المرأة العربية نفسها؟ ووصف الناقد فاضل ثامر لطفية الدليمي بأنها مؤسسة نوع واقعي جديد في الأدب.

كما كتبت الدليمي في ادب الرِّحْلات والنقد والشؤون الثقافية ونظرية الرواية...وشكل تناول الواقع العراقي المعاصر الموضوع المركزي الثاني في إبداعات الكاتبة الروائية. يعاني العراق على مدى سنوات طويلة متتالية من الحروب والدمار. وغدت حياة الإنسان/ المواطن في ظل الخوف المستدام على الحياة الشخصية وحياة الأقارب مأساة للمجتمع العراقي المعاصر الذي اضطر الكثير من أبنائه مغادرة وطنهم. وعلى هذا الغرار اضطرت لطفية الدليمي، التي لم ترغب حتى اللحظة الأخير مغادرة موطنها بغداد، بالرغْم إلحاح أقاربها واصدقائها على الهجرة. وأودعت الكاتبة ألمها، وهموم شعب بِرُمَّته في رؤية ثاقبة ومروعة عن الحياة في أثناء الحرب.

وكرست دار المدى ملحقا خاصا عن ابداعاتها واقامت ندوة للاحتفاء بتجربتها الثقافية. تتناول رواية "خسوف برهان الكتبي" للأديبة تعقيدات حياة ومصاعب المثقف في العراق. وتكتب الدليمي بلغة غنية مليئة بالصور والاستعارات، واصفة معاناة شخص اضطر بيع أغلى ما لديه، كتبه. وكانت الكتب تعني كل شيء للشخصية الرئيسة- فهي حياته ذاتها. ورصد النقاد أن الكاتبة تمزج في هذا العمل أنماط أساليب مختلفة. وعلى هذا النحو تُستبدل مقاطع شعرية بصورة غير متوقعة بحوارات عن نهاية العالم، مع أنّ النص يظل في نفس الوقت واقعيا تمامَا. ومن بين الأعمال اللافتة للكاتبة رواية بعنوان "سيدات زحل"، التي صدرت عام 2012. تتكون هذه القصة، المقدمة على شكل مذكرات، من (تسعة) فصول. تم جمع التسجيلات من قبل الصحفية حنان البابلي، التي تنتمي إلى إحدى العائلات العراقية الأكثر شهرة واحترامَا. وتجري احداث الرواية على خلفية الأحداث التي هزت العراق قبل وبعد بعد الغزو الأمريكي للبلاد عام 2003. وتبدأ الكاتبة الرواية بأسئلة، التي تحاول ان تجد ايجادها في جميع أنحاء السرد. ويشبه وصف لطفية للضربات العسكرية الأولى على بغداد لقطات فيلم لإثارة رعب الناس العاديين، وأعيد سردها نيابة عن شهود عيان. ونالت الرواية شهرة واسعة لدرجة أنه أعيد نشرها ثلاث مرات.

ويحظى إنتاج لطفية الدليمي الإبداعي بتقدير كبير من قبل زملائها في القلم. على سبيل المثال، كرست الشاعرة العراقية دنيا ميخائيل التي تعيش حاليا في الولايات المتحدة، إحدى قصائدها بعنوان "ليس أنا... م. " يشبه العمل في الشكل والمحتوى، تهويدة تغنيها الأم لطفل، تعيد القارئ إلى الطفولة. يعتقد النقاد أن تجسيد صورة الأم هو لطفية الدليمي، التي كرست لها الكاتبة قصيدتها.

 ترجمت أعمال الكاتبة إلى لغات أوروبية وآسيوية، وحصلت مجموعتها "الموسيقى الصوفية"، الصادرة عام ١٩٩٤، على جائزة أفضل عمل أدبي في العام نفسه. وللأسف، لم يُنشر غير عمل واحد من اعمال لطفية الدليمي باللغة الروسية. إذ نُشرت لها قصة قصيرة بعنوان "النجاة في أرض الموت" ضمن مجموعة "لؤلؤة الشرق" النثرية العراقية الحديثة الصادرة عام 2015. ويمكن تصنيف القصة المنشورة في المجموعة ضمن النوع الأدبي الإخباري أكثر من كونها عملًا روائيًا. تصف لطفية الدليمي بألم ويأس، بضمير المتكلم، يومها المعتاد في مسقط رأسها بغداد، التي تحولت فجأة إلى ساحة حرب. وغدت الأنشطة الروتينية - كإعداد الفطور، وقراءة كتاب، ومشاهدة التلفاز - رفاهية بعيدة المنال للناس. وبدت كلمات الكاتبة مروعة: "الساعة الثامنة صباحًا هي وقت حديث يومي مع صديقتي الفنانة حنة. في وقت محدد صباحًا ومساءً، نتصل ببعضنا البعض عبر الهاتف لنتأكد من أننا ما زلنا على قيد الحياة... من عادتنا أن نخبر بعضنا البعض بتحركاتنا، كما لو كنا نؤمن أنفسنا من المفاجآت والموت العرضي".

لطفية الدليمي ليست مؤلفة قصص وروايات فحسب، بل أيضًا مسرحيات. ولذلك، مُنحت مسرحيتها "ليالٍ سومرية" جائزة أيضًا، وعلى الرغم من كل الظروف، يستمر الأدب النسائي في العراق في التطور. بدءَا من الشعر التقليدي والقصص القصيرة البسيطة في المحتوى والشكل، توصلت الكاتبات العراقيات إلى أشكال وأنواع جديدة في إبداعهن، بعد أن نجحن في العثور على مواضيع قريبة ومثيرة للاهتمام للقارئ. ووفقا لنقاد الأدب، فإن أدب المرأة العراقية له سمة محددة تميزه إلى حد ما عن آداب الدول العربية الأخرى. يكمن في حقيقة أن أدب المرأة العراقية لم يعارض أبدا أدب الكتاب الذكور، بل على العكس، أكمله، وعلى هذا تشكلت صورة موحدة ومتعددة الأوجه للعالم.

لقصيدة: "مَتاهَةُ النَّفْسِ والعِشْقِ المُعْتَذِر"، للشاعرة سمر اليازجي

تدفعنا الشاعرة سمر اليازجي للدخول إلى جوهر وكنه المعنى والمدلول الشعري عبر مدخل تأويلي عام: "لغة الحيرة وتيه المعنى".

القصيدة موضوع الدراسة تنتمي إلى نمط شعري فائق الكثافة والتعقيد، يجمع بين التموّج العاطفي والتمويه الرمزي، وبين الانكشاف الوجداني والستر التعبيري. إنها قصيدة تنبني على مفارقة جوهرية: الرغبة في البوح الموجع مقابل الحذر من الانكشاف.

في ظاهرها، تبث القصيدة لواعج عاشق، لكنها في جوهرها رؤية تأملية للوجود الداخلي في حالاته المضطربة، عبر استعارات لغوية مفرطة الدقة والامتداد، وتوظيف عالٍ للطاقة الإيحائية في اللغة.

وهذا ما يبيلنا لأن نغوص في أعماق القصيدة لنستبطن بعدها النفسي من منظور الدينامية العاطفية والوسواس القهري العاطفي.

الحراك النفسي الداخلي:

منذ المطلع، تقدّم الشاعرة سمر اليازجي صورةً شعورية محتدمة، تقول:

"شُعوري تُحرِقُ الأنفاسَ نارُهُ

يُغَبِّشُ أوضحَ الرُّؤيا غِمارُهُ"

نحن هنا إزاء شعور يحترق لا في باطن الجسد فحسب، بل في آليات التنفس ذاته؛ أي أنّ الحريق داخلي وخارجي في آن، ما يدلّ على قلق وجودي متجذّر يتجاوز الحزن العاطفي العادي. "يُغبش أوضح الرؤيا" ليس فقط اضطراباً في البصيرة، بل يدلّ على تشوّه إدراكي ناتج عن توتر داخلي، ما يقارب المفهوم النفسي لما يسمى Kognitive Verzerrung وهي تُستخدم في السياقات النفسية للإشارة إلى "التحريفات" أو "التشوهات" في التفكير والإدراك التي تؤدي إلى رؤى غير واقعية أو سلبية تجاه الذات أو العالم ، وعبارة أخرى

"التشوه المعرفي" أو "التحريف المعرفي".

مما يدل على وجود وسواس قهري عاطفي، تقول الشاعرة سمر اليازجي:

"غريبٌ حينَ أَصْدُرُ عنهُ جَهْرًا

وبَيْنَ الكَبْتِ والنَّجوى جَهارُهُ"

هنا تتجلى حالة من التردد بين الكبت والتصريح، بين الرغبة في التفجّر والاحتراس من العواقب، وهي من سمات الشخصية الوسواسية الحسّاسة في بعدها العاطفي. النفس هنا تعيش مأزقًا من التناقض: البوح معناه التعري، والصمت معناه الاختناق.

القراءة الرمزية – العاشق بوصفه استعارة كونية

1. المجاز كمسرح داخلي تقول:

"على شَطِّ المَجازِ يعيشُ قلبٌ

سَفِسطائيَّةُ المعنى مَحارُهُ"

الشط ليس مجرد مكان، بل فضاء هلامي بين برّ اليقين وبحر اللاحقيقة. "سفِسطائية المعنى" هنا ليست قدحًا في الفكر، بل إشارة إلى انعدام اليقين العاطفي، وتشظي الدلالة الوجدانية. القلب، إذ يسكن المجاز، يتحرّك في حدود متقلقلة من الحقيقة والوهم، وهي صورة رمزية لحالة اللايقين في الحب.

2. الموج والجزر، تقول الشاعرة اليازجي:

"إذا ما مَدَّ موجَ العِشقِ لَيلًا

أتى بالجَزرِ، والشَّكوى نَهارُهُ"

هنا تتجلّى ثنائية الانفعال والانكفاء، الرغبة والانكماش، الليل والنهار، وكلّها صور رمزية للمدّ والجزر النفسي في تجربة الحب. الشاعرة هنا تُسقِط الميكانيكا الكونية على الاضطراب الداخلي، في محاولة لردم الهوة بين الذات والكون.

- القراءة التأويلية – من النص إلى الفضاء الأنطولوجي

1. القصيدة كرحلة أنطولوجية:

القصيدة لا تقتصر على وصف علاقة بين عاشق ومعشوق، بل تقدّم رحلةً وجودية في قلب التيه الإنساني. نقرأ مثلاً هذا البيت، تقول:

"تَحَمَّضَ في خَوابي الخوفِ لَمّا

بَدا جهرًا على شَفَتي انتِصارُهُ"

نحن إزاء صورة كيميائية رمزية؛ "تحمّض" تدل على تفاعلات دفينة في وعاء مغلق، والخوابي هنا تمثّل اللاوعي، فيما "شفتي" هي اللسان – موضع البوح واللغة. الانتصار ليس إنجازاً خارجياً، بل القدرة على اختراق الخوف بالكلمة، أو تحويل الخوف إلى نص.

الازدواج الوجودي تقول الشاعرة سمر اليازجي:

"هو السُّبّورةُ الأنقى وأبدو

كطبشورٍ يُخَرمِشُهُ حوارُهُ"

السطران يحمِلان عمقاً رمزياً كثيفاً: الآخر / المعشوق هو السبورة (الصفحة البيضاء، المطلق)، أما المتكلم فهو الطباشير (الزائل، المؤقت). في هذا التمثيل نقرأ صراع الهوية أمام المطلق، وتوق الضعيف لترك أثره على الكائن المثالي، مع الوعي بأنه أثر عابر.

- الزمن الداخلي – انتظار دون أمل . تقول:

"عليهِ السّاعةُ السوداءُ تَدعو

وحيدًا أن يُجلّيها انتِظارُهُ"

في هذا الختام، تتبدّى القصيدة في كليتها كـ زمن مغلق، مسكون بـ"الساعة السوداء" – الزمن المعلّق. لا انتظار لمجيء أحد، بل انتظار لرفع الظلمة، لكشف المصير، لانبلاج الإجابة. وهو ما يتقاطع مع مفاهيم مارتن هايدغر حول القلق الوجودي والزمن كأفق للكينونة.

البنية الإيقاعية – بين الإيقاع والانفعال

تُكتَب القصيدة على بحر الكامل، وهو بحر واسع النبض، يمتاز بالحركة والإيقاع الطربي، لكنّ القصيدة هنا لم تستثمره للغنائية بل حوّلته إلى إيقاع داخلي مأزوم، مليء بالتقطيع، التأرجح، والتوتر.

حتى القوافي جاءت محفوفة بالانزلاق: كلها على "فاعله" المنتهية بهمزة وضمير، ما يوحي بـانغلاق العالم حول ضمير المتكلم والمخاطب، وتكرار الإحالات على الذات.

خاتمة الدراسة: العاشق كمجاز للذات المتشظية:

إنّ قصيدة "مَتاهَة النَّفْسِ والعِشْقِ المُعتذر" ليست مجرد قصيدة حبّ، بل تمثيل شعري لأزمة الذات المُحبّة في عالم لا يمنح اليقين.

هي سيرة وجدانية للقلق، للانتظار، للخيبة المتحضّرة، للحنين المشوّش، وللرغبة في لغة تبرّر العواطف دون الحاجة لبرهان.

القصيدة، في نهاية المطاف، مرآةٌ لذواتنا حين تُحبّ بشراسة، وتخاف بشراسة، ثم تكتب، لا لتشفى، بل لترى نزفها في اللغة، وتحتمله من جديد.

***

بقلم: عماد خالد رحمة – برلين

.............................

مَتاهَةُ النَّفْسِ والعِشْقِ المُعْتَذِر

شُعوري تُحرِقُ الأنفاسَ نارُهُ

يُغَبِّشُ أوضحَ الرُّؤيا غِمارُهُ

عَنيدٌ، لا يُؤرِّقُهُ اعتِبارٌ

بأنَّ مَواجِعَ العُشّاقِ غارُهُ

غريبٌ حينَ أَصْدُرُ عنهُ جَهْرًا

وبَيْنَ الكَبْتِ والنَّجوى جَهارُهُ

على شَطِّ المَجازِ يعيشُ قلبٌ

سَفِسطائيَّةُ المعنى مَحارُهُ

يُغنِّي لُؤلُئيَّ الصوتِ شِعرًا

تَضِنُّ على الفراهيديّ بِحارُهُ

لهُ في كُلِّ بارقةٍ صعودٌ

ليَبلُغَ قُبّةَ الشِّعرى مَدارُهُ

إذا ما مَدَّ موجَ العِشقِ لَيلًا

أتى بالجَزرِ، والشَّكوى نَهارُهُ

أدينُ بسُكّرِ اللُّقيا لكرمٍ

فريدٍ، لا يُحلّيه اختِمارُهُ

ولي من رَقصهِ الباكي قُطوفٌ

أُجمِّعُها إذا حانَ اعتِصارُهُ

تَحَمَّضَ في خَوابي الخوفِ لَمّا

بَدا جهرًا على شَفَتي انتِصارُهُ

وعانقني بحضنٍ سرمديٍّ

ولم يَحفِلْ بماضي البُعدِ ثارُهُ

ولمَّ الشّملَ فوقَ شتاتِ نفسي

يُزيّنُ كُلَّ ما فيها انبهارُهُ

هو السُّبّورةُ الأنقى وأبدو

كطبشورٍ يُخَرمِشُهُ حوارُهُ

هيَ الخَلَواتُ تَملأنا جُروحًا

ليَقطُرَ مِن أظافرِها اسمِرارُهُ

ألا يا مُقلقَ الرّاحاتِ، إني

مُبعثَرةٌ، ويجمعني حِصارُهُ

وأشكوهُ لِقارئةِ الخَبايا

فَتَشتِمُ كلّما لاحَ افتِرارُهُ

عليهِ العِشقُ لم يُرسِلْ ورودًا

تسرْبَلَ في بلاغتها اعتِذارُهُ

عليهِ الشوقُ لم يَكتُبْ جَوابًا

تفرَّدَ في القراطيسِ اصفِرارُهُ

عليهِ الدَّمعُ لم يَمسَحْ برِفقٍ

عُيونًا جلُّ ما فيها غُبارُهُ

عليهِ السّاعةُ السوداءُ تَدعو

وحيدًا أن يُجلّيها انتِظارُهُ

***

سمر اليازجي

 

"يغيب اللاجئون في أوطانهم ليشرقوا في أماكن اغترابهم"..

بهذه العبارة التي وردت في الصفحة 125 من روايتها "شموس الطين" تفسر الروائية ريما آل كلزلي ذاك العنوان الباعث على الخيال والتساؤل الذي اختارته عتبة أولى لعملها، وهي تشرح أكثر حين تكتب: "تلاشت أحزاني أمام إشراقة الأمل والإيجابية الساطعة التي حملوها، فغمرتني مشاعر من الصمت العميق مثل كل مرة أقابل فيها شمسا مشرقة من شموس الطين البشرية الذين قابلتهم في رحلة لجوئي"..

ومبكرا جدا، ومنذ الإهداء الذي يسبق افتتاح الرواية، يبدو الإصرار جليا على الانتصار للاجئين، ويبتعد عن تلك الصورة النمطية لمن أخذتهم بلاد المنافي، أو وجدوا أنفسهم على الرغم منهم في مخيمات لجوء تُوجع الحياة فيها بقدر موازٍ للموت، حيث ترى أن اللاجئ ليس مسحوقا  كما اعتاد كثيرون تصويره، بل كائن يتطلع إلى الحب، وإلى الجمال، فتكتب في مطلع الإهداء:

"إلى:

ـ كل لاجئ ما زال يحفل بالحب والجمال برغم مرارة الحرمان.."

ويقودنا هذا التقدير المبكر لنوغل في رواية كتبت على نحو 200 صفحة من القطع المتوسط، وذهبت إلى تناول فلسفي عميق لقضايا الانتماء، والاغتراب، والوطن، والعزلة، والموت، والحرية، والكرامة، والوعي، حيث حفلت حوارات شخصياتها الرئيسة بالتطرق إلى كل هذه المسائل. كما كُتبت بلغة شاعرية، رجحت فيها كفة ريما الشاعرة على ريما الروائية، حتى خُيّل إليّ أن جمالية بعض العبارات وشاعريتها كانت تقود الروائية خلف الشاعرة التي تفرضها عنوة في الرواية.  

يتمحور الحدث الرئيس للرواية حول مجموعة من الأصدقاء اللاجئين يجتمعون مساء كل أحد في مقهى أنوار الشرق في مدينة الأنوار، ليناقشوا ما سيطرحونه من مواضيع عبر منصة المثقفين في المدينة، يتحدثون عن كونديرا ونيتشه وتوماس هوبز وعن كتب دوستويفسكي، ويقررون أخيرا تحويل الانطلاق من قصة "دكان التوابيت" التي كتبها البطل الرئيس للرواية (عاصي) إلى فيلم توثيقي، ولأجل ذلك يتطوع بعضهم للذهاب إلى مخيم حيث يعيش لاجئون فروا من الحرب، وذلك ليوثقوا أحداث الفيلم بالصوت والصورة، مركزين على أهمية أن يتخذ موضوع الفيلم "هيأته الحقيقية بأبعادها الثلاثة، الأطفال في الداخل، وأولئك الذين في المخيمات، والأطفال في الخارج".

 وعلى خلاف الصورة النمطية للرواية التي تتصاعد نحو بؤرة مركزية لحدث رئيس ثم تنتهي إلى حل، تكتب آل كلزلي روايتها كأنها تقدم لنا معرضا بلوحات بانورامية، وتحمّل شخصياتها التي جعلتها شخصيات مثقفة فيها الكاتب والصحفي وفنانة الرسم والمخرج والفيلسوف رؤيتها حول الوطن، والانتماء، والقراءة، والوعي، والموت، وهي رؤى عميقة حتى تكاد أهمية عمقها تشغلنا عن الاكتراث بالشخصية التي تقولها، ففي الوطن والكرامة تكتب: "الوطن وهم جميل نفقد فيه أجمل لحظات عمرنا وأكثرها حيوية، لندفن في مكان آخر يختلف عنه تماما، مكان لا يشبهه حتى في لون ترابه، مكانا يمنحك كرامة برغم رفضك لوجودك فيه حتى آخر لحظة". ص 17

وفي الاغتراب تكتب: "حينما تشعر أن كل شيء حولك يرفضك، يصبح عقلك أكثر الأشياء اغترابا" ص19

وفي الانتماء تكتب: "الانتماء شعور يتمناه كل الأحرار، وأعلى أنواعه الانتماء لذاتك" ص20

وفي الوعي والحرية تكتب: "إن أشد العذابات قسوة هو امتلاك وعي بلا حرية، فتحيا به كغصن أخضر معلق على طرف غصن آخر يابس من شجرة لم تعد تورق" ص21

وكل مقولة من هذه المقولات تحتاج تأملا وتفكرا للوصول إلى اتخاذ موقف منها، سواء بالتوافق معها أو الاختلاف عليها.

تنطلق الرواية من لقاء يحدث مصادفة في ليلة رأس السنة، لكن الحدث الحالي فيها يتشعب جريا خلف ماضي كل شخصية فيها، ويبين مثل منارة حلم كل منها للمستقبل، وما بين هذه الأزمنة تراوح الكاتبة بذكاء متنقلة في الزمن الروائي دون أن تفقد قدرتها على التحكم بخيوط السرد.

لا تبدو رواية "شموس الطين" من تلك الروايات التي تُقرأ باسترخاء في جلسة واحدة أو اثنتين، بل هي رواية تقودك إلى التفكير في كل تفاصيلها، كأنما تجبرك على القراءة بأناة، وربما تجبرك كذلك على إعادة قراءتها، حتى أن كاتبتها تقودنا بتؤدة خلف التجريب الذي تحاوله في شكل الرواية، فتروي كل شخصية ما مر بها وما تفكر به بطريقتها، ليس بالقول فقط، بل أحيانا حتى بالكتابة، كما يبدو جنوحها إلى التجريب أوضح ما يكون حين تضّمن روايتها حكاية فرعية منبثقة عنها، وهي قصة "دكان التوابيت" التي بدا أنها أرادت من خلالها أن تركز على معنى محدد يتجلى في قولها: "ليست الكتابة عن الموت سوى رحلة بحث في عمق الحياة" ص155.

***

بقلم: محمد تركي الدعفيس

في هذه "الومضات" الشعرية يأخذنا الشاعر في رحلة حسية وروحية عميقة يمزج فيها الغزل العفيف بالحب الصوفي ليخلق نصوصًا مكثفة تفيض بالجمال والدهشة. إنها ليست مجرد أبيات بل هي لحظات إشراق تضيء العلاقة بين العاشق والمعشوقة وتجعل من جسد الحبيبة وروحها كونًا كاملًا للشاعر.

يفتتح الشاعر مجموعته بتشبيهات جريئة وعميقة ف "فمي طفل.. دميتُهُ شفتاك" تعكس البراءة والاعتمادية المطلقة على الحبيبة كمصدر للحياة والبهجة.  يتطور هذا المعنى في الومضة التالية حيث يصبح:

"فمي قلمٌ.. لا يُحسِنُ الكتابةَ إلاّ في دفترِ شفتيك"

 في إشارة إلى أن إلهام الشاعر وإبداعه لا يكتملان إلا بوجود الحبيبة وتفاعله معها. شفتاها هنا ليستا مجرد جزء من الجسد بل هما مفتاح الإبداع ومصدر الإلهام.

تنتقل الومضات إلى تصوير تأثير الحبيبة على عالم الشاعر فبسبب "كثرة تحديقي بقميص نومِكِ الأخضر" تتحول عيناه إلى "عشبٍ" ووسادته إلى "شجرة كرزٍ" وسريره إلى "بستانٍ"

 هنا يصبح جسد الحبيبة ونومها الأخضر مصدرًا لخصوبة العالم المحيط بالشاعر وكأنها تخلق الجمال والنمو من حوله بمجرد وجودها ونظرته إليها. يبلغ الغزل حد التعظيم في قوله: "أنا وطنٌ أنت عاصمته". وهي عبارة تختزل العلاقة في أقصى درجات الانتماء والمركزية الحبيبة ليست مجرد جزء من حياة الشاعر بل هي جوهر وجوده ومركز كيانه.

تتواصل الومضات لتصف الحبيبة المتناقضة: "البعيدة بُعدَ الشيطان عن جسدي.. القريبة قربَ الله من روحي"

هذا التناقض يكشف عن طبيعة الحب الصوفي حيث تتجاوز العلاقة الجسد لتلامس الروحانية المطلقة. حياته كلها تختزل في "قصيدة من بيتٍ واحدٍ أنتِ مطلعها". مما يؤكد أنها نقطة البداية والأساس لكل ما هو جميل وذو معنى في حياته. وتتوالى الصور البديعة التي تمجد الحبيبة:

"ما حاجتي للبساتين وعندي بتلتك؟"

 تعبير عن الاكتفاء المطلق بجمالها الذي يفوق جمال الطبيعة بأكملها.  ثم تأتي الومضة الجريئة والمشبعة بالعشق:

 "سأقشِّركِ مثلَ برتقالة لأحصي مساماتِ جسدك بالقبلات" هنا يمزج الشاعر بين الحسية الشديدة والحب العميق. محوّلًا فعل التقبيل إلى طقس مقدس لإحصاء كل جزء من جسد الحبيبة.

تختتم الومضات بنوع من الطمأنة ولكن بلغة مشبعة بالشوق والرغبة "لا تخافي من جوعي فأنا سأقضمك بهدوء.. جنوني لا أنيابَ له"

 و"لا تخافي فالطفلُ حين يجوعُ: لا يأكلُ دُميَتَهُ الوحيدة!"

هذه الخاتمة تعكس شغف العاشق الذي يصل إلى حد "القضم".  لكنه قضمٌ هادئ ليس فيه عنف بل هو تعبير عن حب امتلاكي رقيق لا يريد إيذاء المحبوبة، تمامًا مثل الطفل الذي يحافظ على دميته الوحيدة لأنه يعلم أنها كنزه الأوحد.

بشكل عام تعكس هذه "الومضات" شعرية مكثفة وتصويرًا مبتكرًا للعلاقة العشقية حيث تتحول الحبيبة إلى مركز الكون ومصدر الإلهام والطمأنينة والجمال المطلق للشاعر.

***

عادل جودة

.........................

الومضات:

فمي طفل ..

دميتُهُ شفتاك  !

//

فمي قلمٌ ..

لا يُحسِنُ الكتابةَ

إلاّ

في دفترِ شفتيك !

//

لكثرة تحديقي

 بقميص نومِكِ الأخضر:

نَبَتَ العشبُ في عينيَّ

ووسادتي غدتْ شجرةَ كرزٍ

وسريري بستانا!

//

أنا وطنٌ 

أنت عاصمته!

//

أيتها البعيدة بُعدَ الشيطان عن جسدي ..

القريبة قربَ الله من روحي:

حياتي قصيدةٌ من بيتٍ واحدٍ

أنتِ مطلعها!

//

 ما حاجتي للبساتين

وعندي بتلتك؟

//

سأقشِّركِ مثلَ برتقالة

لأحصي مساماتِ جسدك بالقبلات!

//

لا تخافي من جوعي

فأنا سأقضمك بهدوء ..

جنوني لا أنيابَ له!

//

أدخلي كوخي آمنةً مطمئنة..

لا تخافي

فالطفلُ حين يجوعُ:

لا يأكلُ دُميَتَهُ الوحيدة!

***

تتسم القصة القصيرة "الرسائل الضائعة" لأحمد ياسو بجمالية مكثفة تتجاوز ظاهر السرد البسيط إلى عمق نفسي وتأويلي ينطوي على أبعاد الهوية، والكتابة، والافتقاد، واستحالة التواصل. تنقل القصة مشهداً ظاهرياً متواضعاً: رجل كتب رسائل لحبيبته، لكنه أضاعها بعد أن ترك معطفه لخادمة، لتؤول الرسائل إلى كاتب شهير استخدمها في فيلم سينمائي دون أن ينسبها لصاحبها الأصلي. لكن خلف هذا الحدث البسيط، تتكشف شبكة معقدة من التوترات النفسية والرمزية.

أولاً: التحليل النفسي

1. الذات الممزقة وميكانيزمات الدفاع

الشخصية الساردة تعيش صراعاً داخلياً حاداً بين الرغبة في البوح والوعي باستحالة الوصول. هذا التوتر يبدو جليّاً في عبارته: "كنت أعرف أنك لن تقرأيها". هنا تظهر آلية الإسقاط النفسي، حيث يُسقِط الراوي شعوره بالعجز والخذلان على الآخر (ماريا)، ثم على الخادمة، فـ"الكاتب السارق". وبدلاً من المواجهة المباشرة مع ذاته، يلجأ إلى إعادة إنتاج المعنى بطريقة دفاعية: "أنا في قمة سعادتي لأنك ستشاهدين نفسك".

بهذا، تتحول الخسارة إلى نوع من التسامي؛ فالراوي لا ينكر الألم، بل يعيد تأويله في صورة إنجاز رمزي: رسائله، التي ضاعت، ستصل إلى الحبيبة عبر وسيط غير مباشر، ولكن على نحو أكثر علانية واحتفاء.

2. مركب النقص والتماهي

من الملفت أن الكاتب الحقيقي للرواية (الراوي) لا يُظهر أي سخط تجاه سارق النص، بل على العكس، يُغدق عليه الامتنان. هذا يشير إلى حالة من التماثل اللاواعي بين الراوي والكاتب الآخر، وكأن السارد يحقق ذاته من خلال الآخر، في نوع من التحايل على الإخفاق الشخصي. هذا التماهي يتجلى في قوله: "قام بإرسال رسائلي إليك في أبهى صورها".

هنا يمكن أن نستحضر مفهوماً من التحليل النفسي هو "التماهي بالنموذج الناجح"، حيث يسعى الفرد إلى تخفيف ألم فشله بالتماهي مع من حقق ما كان يتوق إليه.

ثانياً: القراءة التأويلية الرمزية

1. الرسائل كرمز للبوح المؤجل

الرسائل تمثل هنا اللغة الحميمية، الجسر الذي لم يُكتمل بين الراوي وماريا. ضياعها لا يُقرأ بوصفه حادثاً عرضياً، بل بوصفه علامة رمزية على استحالة التواصل. هي ليست مجرد أوراق مادية، بل تمثل الذات المتشظية، واعترافات لم تجد مستقرّها. حين "تضيع" هذه الرسائل، فإن ما يُفقد فعلياً هو إمكانية الاعتراف و"الحضور في عين الآخر".

2. ماريا كتمثيل للأنثى المتعالية / اللامتحققة

ماريا لا تظهر في القصة كفاعل مباشر، بل تظل محوراً غائباً تُبنى حوله كل الأحداث. هي شبحٌ للحب، وتُمثل "الآخر المستحيل"، الذي لا يقرأ، لا يستجيب، لا يعود. وجودها الغائب يؤسس لثيمة الفقد المؤبد، ويحوّل الرسائل إلى نوع من الكتابة للعدم. هكذا تصبح ماريا رمزاً للحب الذي لا يُطال، وللقارئ الذي لا يقرأ، وللحقيقة التي تتوارى.

3. الكاتب السارق كرمز للسوق الثقافي

في المشهد التأويلي الأوسع، يمكن اعتبار الكاتب الذي يسرق الرسائل ويحوّلها إلى فيلم تجاري رمزاً لـالمؤسسة الثقافية التي تلتهم التجارب الفردية وتعيد إنتاجها بصيغة استهلاكية. هنا يصبح "الفيلم" رمزاً لـاستلاب المعنى وتحويل الألم إلى سلعة. ومع ذلك، لا يرفض الراوي هذا الفعل، بل يحتفي به، وكأنما يعترف بعجز الذات الفردية عن البوح دون وسيط مؤسساتي أو تسويقي.

ثالثاً: الثيمة واللغة والأسلوب.

1. اللغة: العفوية المتقنة.

اللغة في "الرسائل الضائعة" تحتفي بـالبساطة المضلِّلة. ظاهرها سرد عادي، لكن بنيتها مشحونة بالدلالات العاطفية والنفسية، وكأن الكاتب يكتب ما يشبه الواقع، لكنه يقطّره إلى جوهر إنساني كثيف. الأسلوب يراوح بين الحنين والاعتراف والسخرية المُرّة، ويخلق بذلك حالة من التوتر الأسلوبي المنتج.

2. العنوان: مفارقة المعنى

العنوان "الرسائل الضائعة" يحمل إيحاءات فقدٍ وانقطاع، لكنه في الوقت ذاته يؤسس لمفارقة: فهذه الرسائل، رغم ضياعها الظاهري، تجد طريقها إلى وجهتها الأسمى. وكأن الضياع هنا شرطٌ للوصول.

خاتمة: نص عن الانكسار والتحايل الإبداعي عليه

قصة "الرسائل الضائعة" ليست مجرد سرد بسيط عن رسائل فُقدت، بل هي تأمل عميق في شروط الحب، والكتابة، والهوية، والحضور في زمن التشييء الثقافي. ومن خلال منظور التحليل النفسي، يتضح أن الراوي لا يبحث عن ماريا بقدر ما يبحث عن ذاته الضائعة. أما من المنظور التأويلي، فالنص يتجاوز حدوده ليعبر عن عالم ما بعد الحداثة، حيث لا شيء يصل مباشرة، وحيث تُعيد المؤسسات إنتاج المشاعر الفردية بلغة السينما والربح.

وهكذا تتحول القصة إلى بيان وجودي ساخر ومؤلم عن الحاجة إلى التقدير، والبحث عن صوت، حتى ولو في فم الآخر.

***

بقلم: عماد خالد رحمة - برلين

..........................

الرسائل الضائعة

الرسائل التي كنت قد كتبتها إليك ضاعت يا ماريا، لقد نسيتها في معطفي قبل أن أعطيه لتلك السيدة التي تعمل خادمة عند رجل يسكن بالطابق العاشر، عرضت خدماتها أو هكذا ظننت أنها تسدي لي خدمة ما، لكنها أخبرتني بعد ذلك بأنها ستأخذ ملابسي كل اسبوع لتغسلها لقاء بضع دولارات، الحقيقة لم اعترض على الفكرة ووافقت، لأنها ستقوم بالغسيل والكي ايضا.

في ذلك اليوم كنت أضع رسائلك كلها في جيب معطفي، وعندما سألتها أدعت أن جيبي لم يكن به شيئا، حتى ولو سنتا واحدا.

ثم عرفت بعد فترة أن تلك الرسائل التي أخذتها الخادمة، أعطتها إلى سيدها..

ها يا ماريا نسيت أن أخبرك أن سيدها هذا كاتب كبير ممن يطلقون عليهم مسمى الأدباء وقد أخذ الرسائل، وهي بصدد مشروع سينمائي، وبالطبع وضع عليها أسمه، وقد روادتني فكرة أن أكتب إليك مرة أخرى، وسأنسى الرسائل هذه المرة عمدا كي يأخذها، لأن كل الرسائل التي كتبتها كنت اعرف أنك لن تقرأيها.. أنا لم أحزن لأنها سرقت مني، بل على العكس تماما أنا في قمة سعادتي لأنك ستشاهدين نفسك، وتعرفين ما كنت قد كتبته لأجلك، فلقد قدم لي ذلك الرجل خدمة جليله لا يمكن وصفها، ولا يسعني شكره عليها، لأنك ستعرفين مقدار حبي، وعدد الأيام والشهور التي قضيتها وأنا في إنتظارك، لقد فعل ما لا أستطيع القيام به، قام بإرسال رسائلي إليك في أبهى صورها.

اه يا ماريا كدت أنسى أسم الفيلم "أحداث قصة لم تكتب بعد" بنفس عنوان رسائلي التي أخبرتك عنها قبل الرحيل.

***

أحمد حسن ياسو

 

تقدّم نجوى بركات في روايتها الجديدة غيبة مي (دار الآداب، 2025) نصاً سردياً يُقيم في المساحة الفاصلة بين الوجود والعدم، الحياة والذبول، حيث تتجلى "مي"، الشخصية المركزية، بوصفها كائناً محاصراً بالعزلة والصمت وتكرار اليوميات المتشابهة. في طابقها التاسع، تنعزل مي عن العالم، لا تربطها صلات حقيقية بأحد، لا أهل، لا أصدقاء، لا جيران، حتى التوأمان، ابناها المقيمان في الخارج، لا يظهران إلا بوصفهما غياباً مموّلاً، وعلامة على تخلي لا يُداوى.

منذ الصفحات الأولى، تنبني الرواية على مفارقة جوهرية: كيف يُمكن لحياة لا يحدث فيها شيء أن تُروى؟ بل كيف يتحوّل "العدم" اليومي إلى مادة سردية قادرة على استقطاب القارئ؟ هنا تكمن قوة النص الروائي، الذي ينهل من البلادة، من الرتابة، من العزلة، فيبني عبر التفاصيل الصغيرة شبكة من التأملات والانطباعات التي تتعالى عن الحدث، لتجعل من الغياب سردية قائمة بذاتها.

أجساد هامشية وسرديات منفية

لا تقدم مي شكواها إلى أحد، ولا تعلن احتجاجها على وحدتها، رغم أن شيخوختها قد تبرر لها ذلك. بل تختار، في عناد يشبه الترفّع، أن تواصل صمتها. لا تتفاعل مع الناطور يوسف، الذي يجلب لها حاجياتها، إلا بقدر الحاجة، كما لا تمنح شاميلي، العاملة السريلانكية، سوى هامش ضيق من التقدير. القطة التي ظهرت في حياتها ككائن دخيل، بقيت معزولة في الشرفة، بدون اسم، وكأنها استعارة للذات المغتربة التي تُحاكم نفسها بصمت وتُنفي ذاتها عمداً.

يُمكن القول إن الرواية تمارس ما يمكن تسميته بـ"كتابة النفي"، حيث لا يتم السرد من خلال ما هو واقع، بل من خلال ما هو مؤجَّل أو غائب أو مستحيل التحقق. غيبة مي ليست فقط غياب البطلة عن محيطها، بل هي أيضاً غيبة الحاضر عن الماضي، وغيبة الذات عن ذاتها، وغيبة اللغة عن الحوار.

تحوّلات الراوي وانقلاب الزمن

تنقسم الرواية إلى ثلاثة فصول، يمثل كل فصل منها تحوّلاً في المنظور السردي. في الفصل الأول، نحن أمام سرد بضمير الغائب عن مي العجوز، التي تشيخ في صمت، في عزلة مطلقة. لكن مع بداية الفصل الثاني، تنقلب البنية السردية: الراوية صارت مي الشابة، تخاطب نفسها العجوز، تقول: "يا مي..."، كما لو أن الصوت الداخلي استعاد زمناً منسياً، ليبدأ محاكمة الماضي للمستقبل، أو العكس.

يطرح هذا التحول السردي سؤالاً فلسفياً حول علاقة الزمن بالهوية. من هي "مي"؟ هل هي هذه التي نقرأها في حاضر الرواية، العجوز المنسية؟ أم تلك الشابة التي تعيد ترتيب وقائع عمرها الأول؟ ومن يتحدث في النهاية: الذات أم ظلها؟ الواقع أم الذاكرة؟ السرد هنا يتماهى مع آليات الخرف، مع اختلاط الأصوات، ويصوغ لحظة الانهيار الذهني بوصفها لحظة كشف سردي.

في هذا الفصل، تسلط الراوية الضوء على مرحلة الشباب، الحب، البدايات، التمثيل، ولحظات الاكتشاف الأول للذات. تكتب بركات، على لسان بطلتها، تعريفاً لافتاً للتمثيل، بوصفه ليس اندماجاً في شخصية أخرى، بل "احتمالاً من احتمالات الذات في ظروف مختلفة"، وهو قول يتجاوز حقيقته المسرحية إلى ميتافيزيقا الهوية.

بلاغة الختام: موت واعتراف متأخر

في الفصل الثالث والأخير، تنقل الكاتبة السرد إلى يوسف، الناطور، الذي لم يكن له قبلاً سوى دور وظيفي في الرواية. غير أن مي، في فعل تأخيري بالغ الدلالة، تكافئه بجعله شاهداً على أيامها الأخيرة، بل تجعله الصوت الذي يكتب النهاية. حتى القطة، التي ظلت مجهولة ومقصيّة، تُعطى اسماً بعد موتها، في لحظة تسامح سردي، كأنها اعتراف خجول ومتأخر بما تستحقه الكائنات من حضور.

تتحول نهاية الرواية إلى لحظة إشفاق واعتراف معاً، لا على مي فقط، بل على العالم الذي لم يمنحها فرصة حقيقية للانتماء. كل الكائنات التي دارت حولها — القطة، يوسف، شاميلي — كانت موجودة، لكن دون علاقة حقيقية. وحده الغياب هو ما ظل حقيقياً وراسخاً.

في الموازنة الجمالية والفكرية

تتسم غيبة مي بجمالية خاصة لا تقوم على حبكة تقليدية أو تحولات درامية، بل على "اقتصاد السرد"، على اللعب بالزمن، وعلى التكثيف الرمزي للغة. يتقاطع فيها البعد الفلسفي مع الشعري، لتتحول الرواية إلى تأمل طويل في ما تعنيه الوحدة، وما تتركه الشيخوخة من بقايا في الجسد والذاكرة. أسلوب نجوى بركات هنا يلامس حدود النص الشعري في لحظاته الأعلى، حين تترك اللغة تنوب عن الإحساس، وحين يتحوّل السرد إلى نوع من المونولوغ الوجودي.

الرواية بوصفها مرآة للمحو

وصفوة القول: ليست غيبة مي رواية عن امرأة مسنّة فقط، بل هي تأريخ سردي للمحو. محو العلاقات، محو الذاكرة، محو الذات. ومع ذلك، يبقى هذا المحو مكشوفاً تحت الضوء، محفوراً بجماليات اللغة، حيث لا تُروى الحياة إلا من خلال نُسخها الباهتة، ومن خلال عزلة تحوّلت إلى وطن أخير. .

***

حسن لمين - كاتب مغربي

أولا: السيرة الذاتية

علي عبد الله خليفة، مواليد مدينة المحرق بمملكة البحرين في 04 مارس 1944، لعائلة من صيادي اللؤلؤ، تلقى دروسه في البحرين وبجهد ذاتي عكف على تحصيل ثقافة عامة. شاعر وباحث في الثقافة الشعبية، يكتب أشعاره بالفصحى والعامية. نشر أولى قصائده في أوائل الستينات القرن الماضي في البحرين ولبنان، ونشر أول مجموعة شعرية عن دار العلم للملايين ببيروت 1969.

3- مجموعاته الشعرية

- أنين الصواري – مجموعة شعرية بالفصحى

- عطش النخيل – مجموعة شعرية بالعامية

- إضاءة لذاكرة الوطن – مجموعة شعرية بالفصحى

- في وداع السيدة الخضراء – مجموعة شعرية بالفصحى

- يعشب الورق ـ مختارات شعرية

- على قلب واحد – مجموعة شعرية بالعامية

- خمسون عاما من الشعر: الأعمال الشعرية الكاملة

- عصافير المسا – مجموعة شعرية بالعامية

- حورية العاشق – مجموعة شعرية بالفصحى

- لا يتشابه الشجر – مجموعة شعرية بالفصحى

- ديرة بوسع الكون - مجموعة مواويل بالعامية

- تهويدة لنجمة البحر – مجموعة شعرية بالفصحى

ثانيا: الإشكالية

تعد إشكالية هذه الدراسة في الشعر الرمزي والأسطوري للشاعر علي عبدالله خليفة، حيث تناول الشاعر الرمز والأسطورة في بنية قصائده مما أدي إلى الكثير من التأويلات في فهم القارئ للنصوص الشعريّة وأثر ذلك على فهم النص كما يجب.

إن كثرة التأويلات في النصوص الشعريّة للشاعر ساهمت بشكل كبير في إغناء النص وأضاف نوع من الإبداع الفني وساعد على نقل مواقف فكرية وسياسية كما سنرى في الدراسة الحالية.

فقد استخدم الشاعر (علي عبدالله خليفة) أدوات فنية وبلاغية متنوعة لرسم لوحة أدبية قائمة على البناء الفني والشكل والإيقاع والقافية، حيث مزج الشاعر بين لهجته العامية البسيطة ومنح القارئ العادي فرصة لتذوق شعره من خلال أسلوب المواويل الشعرية المنتشرة في أوساط الخليج العربي، أضف إلى ذلك استخدامه للغة الفصحىى لنجد أنفسنا أمام شاعر رمزي وأسطوري، يدفعنا إلى طرح عدة تساؤلات، أبرزها:

1- هل استطاع الشاعر التميز بين الرمز والاسطورة في شعره؟

2- ما أبرز مظاهر الواقعية في شعر علي عبد الله خليفة؟

3- كيف استطاع الشاعر توظيف الرمز في القصيدة؟ وما أبرز تجلياتها الفنية؟

ثالثا: التميّز بين الرمز والأسطورة

يتسم شعر علي عبدالله خليفة بعمق فلسفي يجمع بين الرمز والأسطورة لصياغة رؤى فكرية عميقة تتمثل في أسئلة وجودية تتعلق بالحياة ودور الإنسان فيها، لذلك استخدم الرمز والأساطير للتعبير عن قضايا الهوية والإنتماء من خلال استحضار الموروث الثقافي والتاريخي مما يمنح نصوصه طابعا تأمليا ليترك أثرا فكريا لدى القارئ.

يعد الرمز والأسطورة مصطلحان يستخدمان في الأدب والفكر وكلاهما يعتمدان على الإيحاء والتعبير غير المباشر، فالرمز يستخدم لتكثيف المعنى والإيحاء بأفكار متعددة.

تعدّ (النخلة) من الرموز البارزة في شعر علي عبدالله خليفة، لأنها تحمل دلالات مرتبطة بالبيئة البحرينية والهوية الوطنيّة(1).

و نرى أيضا أنه استخدم رموزا أخرى مستمدة من البيئة الطبيعية (البحر واللؤلؤ)، لتعكس تجارب الإنسان البحريني وتطلعاته.

و نراه في مواطن أخرى من شعره يوظف الأسطورة لإثراء النصوص وإضفاء أبعاد رمزية عميقة(2)، حيث تم تحليل الرمز والواقع والأسطورة في بعض قصائده مع التركيز على كيفية دمج هذه العناصر لتخلق نصوصا شعرية غنية بالمعاني والدلالات التي تعكس تجربته الإنسانية وارتباطه بالبيئة وتراثه الثقافي.

عُرف الشاعر علي عبدالله خليفة بتوظيفه الرمزية في شعره، حيث عبّر عن قضايا إنسانيّة ووطنيّة واجتماعيّة بأسلوب رمزي يفتح المجال للتأويل، ومن أبرز القضايا الرمزيّة في شعره:

1- الغربة والإغتراب

كثيرًا ما استخدم الرموز للتعبير عن شعور الإنسان بالضياع أو الابتعاد عن جذوره، مستخدمًا البحر والسفر كرموز لهذا الشعور.

2- القديم والحديث

عبّر عن هذا الصراع باستخدام رموز كالمراكب التقليدية مقابل السفن الحديثة، أو البحر كدلالة على الماضي العريق مقابل التطور السريع.

3- الحب والإنسانيّة

الحب في شعره يحمل دلالات تتجاوز العاطفة الشخصية إلى مفاهيم أوسع تتعلق بالسلام والتسامح، مستخدمًا رموزًا كالضوء، الفراشات، والعصافير.

4- الوطن والإنتماء

الوطن في شعره ليس مجرد مكان، بل حالة شعورية تتجسد في رموز مثل السفن، الأمواج، واللؤلؤ، في إشارة إلى تاريخ البحرين البحري.

5- المعاناة الإجتماعيّة

تناول قضايا الفقر والظلم عبر رموز مثل العتمة، الأبواب المغلقة، والرياح التي تعصف بالأحلام بأسلوبه الرمزي جعل شعره يحمل أبعادًا فلسفية وتأملية، ما يمنحه عمقًا وجاذبية خاصة.

رابعا: مظاهر الواقعيّة في شعر علي عبدالله خليفة

تتجلى مظاهر الواقعيّة في شعر علي عبدالله خليفة من خلال تناوله لتفاصيل الحياة اليوميّة والبيئة التي يعيش فيها، وهذا يعكس مدى ارتباطه بالبيئة البحرينيّة ووصف المزيد من التجارب والمعاناة التي عايشها الإنسان البحريني، ويظهرذلك جليا في ديوانه الشعري (أنين الصواري: 1969م)، حيث يسلط الشاعر على الجوانب الاجتماعيّة والاقتصاديّة التي تؤثر في حياة المجتمع البحريني، وقد استخدم الرموز المحليّة، مثل (النخلة) التي تحمل دلالات ثقافيّة واجتماعيّة داخل المجتمع البحريني.

ناهيك عن تعلقه الوجداني بالمكان وتفاعله مع البيئة المحيطة به مما يعزز واقعية النصوص ويجعلها أكثر ارتباطا بتجارب القراء، تناول ذلك كله في ديوانه الشعريّ (لا يتشابه الشجر) مثيرا بذلك إلى نضج التجربة التي استطاع الشاعر من خلالها أن يجعل المكان جزءا من ذاته.

و تتجلى المظاهر الواقعيّة في شعر علي عبدالله خليفة عبر تصويره الصادق لتفاصيل الحياة والمكان والرموز الثقافيّة ويبرز هموم مجتمعه بصورة دقيقة(3).

و من هنا فإن مظاهر الواقعيّة في شعريّة يتم من خلال تصويره للحياة اليوميّة والبيئة البحرينيّة المتنوعة من أبرزها:

1- البيئة المحليّة:

ينعكس ذلك بارتباطه بالبيئة حيث يظهر جمال الطبيعة ودفء الروابط الإنسانية، كقوله:(4) يغني النخيل أغنية البحر

والمدى يبسط كفوف الغيم

كي يحتضن أحلام السفن العائدة

2- اللغة البسيطة:

استخدم الشاعرفي قصائدة اللغة القريبة من الناس مما جعله مفهوما ومؤثرا.

3- التعبير عن المشاعر الإنسانية:

تناول الموضوعات التي تعكس تجارب الإنسان اليومية، فقد أظهر الجانب العاطفي، بقوله: (5)

حين احتضنت صورتك

سمعت قلب الورق ينبض

وصارت الحروق شوارع

4- الاهتمام بالتفاصيل:

فقد ركز على التفاصيل الصغيرة التي تضفي عمقا فنيا على قصائده.

و قد جسد الشاعر الصورة الواقعية للوطن الحزين مستخدما الملامح الرمزية للتعبير عن المشكلات المتفاقمة لكن هذه الصورة تضفي على قصائده قراءات مجازية متعددة، مستذكرا تاريخ بلاده كما فعل في سطور (أثار أقدام على الماء) مستذكرا بعضا من الشخصيات التاريخيّة الخالدة في نفوس المجتمع .

و يكتب قصيدة (حزن ليلى: طفول) مبينا الحزن المهيمن على حياة الأطفال الذين غدوا ضحايا القمع في تلك الحقبة الزمنية، ومن هؤلاء المضطهدين من كان معيلا لأسرة كبيرة، وما ليلى وطفول إلا طفلتان فقدتا أباهما في خضم الاستبداد، الذي استشرى في تلك الحقبة أنذاك:

دامع قلب ليلى، وكنت أسرح شعر طفول

وكانت طفول تنادي أباها الذي غيبوه وتمسح

للياسمين البرئ شذا دمعه

خامسا: الرمزيّة في شعر علي عبد الله خليفة: أصناف الرموز وتجليّات الرمزيّة

تقوم هذه الدراسة على تسليط الضوء على أبرز القضايا التي تناولها الشاعر في قصائده الشعريّة، يتجلى ذلك في ديوانه (أنين الصواري: 1969م)، حيث تناول حياة الغواصين الشاقة والحديث عن المظالم التي أكلت حياة الغواصين، وتناولت أيضا انعكاسات الوضع السياسي على المجتمع، وغير ذلك من قضايا محتلفة في دواوينه الشعريّة (في وداع السيدة الخضراء: 1992م – إضاءة لذاكرة الوطن: 1973م).

جاء كل ذلك بإسلوب شعري يتميز بالجماليّة والشفافيّة الشعريّة، حتى بلغ في ديوانه (في وداع السيدة الخضراء) ذروة فنية رائعة، تتميز بقوة الإبداع الناضج والعمق اللغوي للمعاني والظواهر الثابته والمتغيرة في الطرح الفني، مستخدما أحاسيسه الوجدانية للتعبير عن الظواهر المحيطة بمجتمعه.

نلاحظ أن شعر علي عبدالله خليفة يعتمد على الإيحاء والتلميح بدلا من التصريح المباشر، ويلجأ الشاعر إلى هذا الأسلوب لإيصال المشاعر والأفكار بطريقة غير مباشرة، إلى جانب ذلك التركيز على العواطف والإنفعالات الداخلية أكثر من الأحداث الخارجية، لذلك فإن الشعر الرمزي يتجنب الوضوح المباشر مما يجعله نصا مفتوحا لعدة تأويلات شعريّة.(6)

وتعد قصيدة الشاعر (في وداع السيدة الخضراء) من أبرز قصائده التي تحمل الملامح الرمزية، حيث وظف الشاعر الرموز بذكاء ليعبر عن قضايا اجتماعية وانسانية، فالسيدة الخضراء ترمز إلى الوطن أو الأرض أو الطبيعة، حيث يودعها الشاعر وكأنه يودع وطنا أو حالة معينة من الجمال والاستقرار.

ناهيك عن استخدام الشاعر للألوان مثل (الخضراء) الذي يرمز إلى الخصوبة والنماء، لكنه يأتي في سياق (الوداع) مما يعكس الجانب المخزن والشعور المنكسر، وفي معرض حديثه عن (النخلة) التي ترمز إلى القوة والصلابة وأنها تعد رمزا للأصالة والجذور الراسخة في الأرض، تعبيرا عن ارتباطه بوطنه، حيث يقول:

نخلة في الريح جذعها

لا تنحني..... لكن تجيد التمايلا

و نراه في قصيدة (الغريب) والتي تعكس شعوره العميق والوجداني وتجسيد مشاعر الوحدة والإغتراب والحنين وتحاكي مشاعر الغربة والإنفصال عن الوطن والأحباء.

و يعد هذا العمل الأدبي شهادة على ابداع الشاعر ورؤيته الإنسانية العميقة من خلال الوقوف على حياة الإنسان وغربته وذلك بإسلوب عميق يتسم بالجمالية الفنية.

و يظهر استخدام الرمزية في موطن عدة من قصائده كــ (القمر)، وذلك للدلالة على الوحدة والتأمل، حيث يقول:

والقمر المصلوب في أعلى السحاب

يبكي وحيدا بين أنجمه الغريبة

و نرى قي قصيدة (العائد) استخدامه (البحر والريح) كرمزين للحياة والمصير، حيث يمثل (البحر) التغييرات والمجهول بينما تعكس (الريح) التحولات التي لا يستطيع الإنسان التحكم بها، حيث نرى ذلك متجليا بقوله:

والبحر خلفي والريح تصرخ في دمي

والأفق يمتد امتداد تعاستي

و في قصيدة أخرى استخدام الشاعر (اللؤلؤ) في ديوانه الشعري (أنين الصواري: 1969م) حيث عبر عن هموم ومشاكل عمال الغوص على اللؤلؤ مسلطا الضوء على معاناتهم وتضحياتهم، فاللؤلؤ يرمز إلى الأمل المنشود الذي يسعى إليه الغواصون رغم المخاطر والصعوبات، فهو يجسد قيمة التضحية، حيث يقول: (7)

أرضي هناك

والمزارع والسهول

في موطن الأصداف

لقد أراد الشاعر علي عبدالله خليفة أن يسلط الضوء على بعض نقاط الضعف التي حفل بها المجتمع قي حقبة معينة من تاريخه المعاصر.

إن نفس هذا الشاعر يتسم بالطابع الحسي الأصيل، ولغته العربية شفافة تساير جل الأذواق والعقليات، نجده مرة يستخدم الرموز الشعريّة ويتناولها بشكل سطحي مفهوم خال من التأويل فهو يلامس القارئ العادي.

إن سمات الإبداع والجمال يكمن في النصوص التي تناولها الشاعر تدل على مجموعة من السمات الشعريّة، أبرزها: التنوع في التجربة والرؤية الدقيقة والوعي المتفتح على العالم.

سادسا: الخاتمة

يتضح من هذه الدراسة أن الشاعر استخدم الرمزية ببراعة حيث نجد (البحر، الريح، الحياة، والقمر) رموزا تعكس مشاعر (الإغتراب، الصمود، والتحولات) التي يمر بها الإنسان في رحلته عبر الحياة.

و إن استخدام الرمز بهذه الصورة يحمل دلالات لغوية وفكرية متنوعة تتكسب من خلال التجربة الشعريّة وتعميق مفهوم الإيحائية الشعريّة.

إن توظيف الرمز في القصيدة الشعريّة تعد سمة أساسية في شعر علي عبدالله خليفة، فقد وظفه بصورة تعكس ثقافته ومنسجمة مع واقعه الفكري، فقد ساهم بدرجة كبيرة في الإرتقاء بشعره.

لقد مزج الشاعر بين العامية والفصحى في كتاباته،فنراه يقول: (كان ذلك خارج إرادتي تماما ومن تجربة فعلية فإنني لا أملك خيار لغة القصيدة، وإنما هي التي تختار عند التخلق ما تريد).

سابعا: مسرد المصطلحات

1- الرمزية

مذهب أدبي فلسفي، يعبر عن التجارب الأدبية والفلسفية المختلفة بوساطة الرمز أو الإشارة أو التلميح. والرمز معناه الإيحاء، أي التعبير غير المباشر عن الأحوال النفسية المستترة التي لا تقوى اللغة على أدائها، أو لا يُرادُ التعبير عنها مباشرة.

نشأت الرمزية في أواخر القرن التاسع عشر كردّ فعل على الرومانسية والبرناسيّة، واستمرت حتى أوائل القرن العشرين معايشةً البرناسيّة والواقعية والطبيعية، ثم امتدت حتى شملت أمريكا وأوربا، والمذهب الرمزي يتميّز بخصائص عديدة، أهمّها فيما يأتي:

- الوحدة العضوية للنص الأدبي

- الاستلهام من التراث

- الغموض وتعدد المعاني

- الزخم التصويري وتراسل الحواس

2- الاسطورة

هي شكل من أشكال الأدب الرفيع، وهي قصص تقليدية ثابتة نسبيَّا مُصاغة في قالب شعري يساعد على ترتيلها وتداولها شفاهة بين الأجيال، وهي مقدسة، ولا تُشير إلى زمنٍ مُحددٍ بل إلى حقيقة أزليَّة، من خلال حدث جرى، وهي ذات موضوعات شمولية كبرى، مثل: الخلق، والتكوين، وأصول الأشياء، والموت، والعالم الآخر؛ ومحورها الآلهة وأنصاف الآلهة، وللإنسان فيها دور مكمل لا رئيسي.

3- المذهب الواقعي

تُنسَبُ الواقعيةُ للواقعِ المتواجد في الحقيقة والطبيعة، والإنسان، ويتفرّع إلى نوعين:

- الواقع الحقيقي، وهو الواقع الذي إذا أردت وصفَه فسيخرج كصورة فوتوغرافية لما هو عليه، فيكون الوصفُ صادقاً، وموافقاً لما هو موجود.

- الواقع الفنيّ، ويُقصَد به الأدب وهو لا يخرج بشكل كامل عن الواقع الحقيقي، ولا يأخذه بكامله، بل يصفه بأسلوبٍ إبداعيٍ، من خلال الزيادة، والإنقاص، وإعادة التشكيل، بحيث يخرج كعمل يُحاكي الواقعَ الحقيقي، وضمن إطاره.

4- المواويل الشعرية

هي نوع من الشعر الشعبي المغنى، يتميز بالعاطفة القوية والإيقاع الموسيقي الجميل. يُستخدم في الغناء الشعبي، خاصة في العالم العربي، ويُؤدى بأسلوب شجي يعبر عن الحزن أو الفرح أو الشوق.

5- الايحاء الشعري

هو قدرة النص الشعري على استدعاء معانٍ وأحاسيس غير مباشرة تتجاوز المعنى الحرفي للكلمات. يعتمد على الرموز، والاستعارات، والصور الفنية ليترك للقارئ مساحة للتأمل والتفسير.

6- التأويلات الشعرية

هي عمليات تفسير وتحليل المعاني العميقة والرمزية في النص الشعري، حيث يتجاوز القارئ المعنى الظاهري للكلمات ليصل إلى دلالاتها الخفية والمجازية.

***

د. شادي مجلي سكر

.....................

ثامنا: المراجع

أولا: الإنترنت

1- الموقع الرسمي للشاعر علي عبدالله خليفة

ثانيا: المجلات العلمية

1- أعمال الشاعر علي عبدالله خليفة، جريدة الأيام، العدد (13131)

2- كتاب "قراءات في تجربة علي عبد الله خليفة الشعرية" عن أسرة الأدباء والكتاب بالشراكة مع دار تدوين، ضمن سلسلة دراسات في أدب البحرين.

3- كتاب معالم الإبداع والرؤيا في أشعار علي عبدالله خليفة: الصادر عن معهد الشارقة للتراث

ثالثا: الكتب والمراجع

1- الصايغ (وجدان) كتاب باللغة الفرنسية يحمل عنوان: «شعر علي عبد الله خليفة واللؤلؤة والبحر»، ترجمة حميد العربي، في باريس عن منشورات لا رماتان، يقع في 120 صفحة عن سلسلة «مقاربات أدبية».

2- الديوان الشعري: أنين الصواري: 1969 عطش النخيل: 1980

3- يوسف (شحادة): 2008، في عالم علي عبد الله خليفة الشعريّ، دمشق – سوريا.

4- نجم، راشد (2021) صورة النخلة في شعر علي عبدالله خليفة، مملكة البحرين

الهوامش

1- صورة النخلة في شعر علي عبدالله خليفة: الدكتور راشد نجم

2- كتاب ( قراءات في تجربة علي عبدالله خليفة الشعرية: صدر عن أسرة الأدباء والكتاب

3- قراءة نقدية لأعمال الشاعر علي عبدالله خليفة: جريدة الأيام العدد 13131

4- عطش النخيل: 1980 م

5- أنين الصواري: 1972 م

6 - كتاب معالم الإبداع والرؤيا في أشعار علي عبدالله خليفة: الصادر عن معهد الشارقة للتراث

7- كتاب اللؤلؤ والبحر قراءات في شعر علي عبدالله خليفة: وجدان الصائغ

 

كوثرُ الضّااادِ

طلٌّ تروّى منهُ حرفُ الضّادِ

كي تُمزَجَ الأضدادُ بالأضدادِ

منّي استقى العشّاقُ كوثرَ صفوهِ

والحرفُ أجهض خسّة الحسّادِ

من غيمتي أمطرتُ حتّى أنتجتْ

في الكفّ سُنبلتي حبوبَ حصادِي

من غيمتي انهمرت عِذاب مشاعري

وسقيتكم من منبعِ الأجوادِ

فالعشقُ مثلُ الشّعرِ يصطحبان في

صدري سُلافَ النّبضِ للأكبادِ

الشّعرُ يكتبُني ويكتبُ قصّتي

ولسوفَ يُـهدي الذُّخرَ للأحفادِ

منّي تُرفرفُ رايةُ المعنى كمَا

في الأوجِ تعلُو رايةُ الأمجادِ

في حضرةِ الإحساسِ أمنحُ خافقي

لغةً تُرتّلُ أفضلَ الأورادِ

ربّاااهُ هبْ لي من لدُنْكَ هدايةً

فالنّورُ منك يزيدُ لي من زادِي

ربّاااهُ هبْ لي من لدُنْكَ رعايةً

في العيشِ تحرُسُني من الأحقادِ

***

الشّاعرة سميرة الزّغدودي - تونس

تقديم:

درست في القيروان التونسية وتخرجت سنة 1990، أستاذة في التعليم، شاعرة معاصرة من مدينة القيروان، تُوقّع قصائدها بـ"فتاة القيروان"، مما يشير إلى ارتباطها بتراث هذه المدينة التاريخية وإرثها الثقافي. رغم عدم توفر تفاصيل كثيرة عن مسيرتها المهنية والشعرية، إلا أن قصيدتها "كوثرُ الضّااادِ" تكشف عن عمق لغوي واهتمام بالهوية العربية، خاصة عبر رمزية "حرف الضاد" الذي يجسّد خصوصية اللغة العربية. يُستشف من شعرها ميلٌ إلى المزج بين الرومانسية والصوفية، مع تركيز على دور الشعر كحافظ للتراث وناقل للأفكار بين الأجيال.

ملخص القصيدة: رحلة العطاء والهوية

تتخذ القصيدة مساراً تأملياً يجسد "كوثر" (أو الكوثر) كمصدر للإلهام والعطاء. تبدأ باستحضار حرف الضاد كرمز للهوية العربية، ثم تتحول إلى استعارة "الكوثر" (النهر الجاري في الجنة) لتمثيل فيض المشاعر والإبداع. تروي الشاعرة كيف يُخصب عطاؤها الفكري (المُمثل بالغيوم والمطر) إنجازاتها (السنابل والحصاد)، وتؤكد أن العشق والشعر قوتان متلازمتان تُخلّدان تجربتها الإنسانية. تختم القصيدة بدعاء يطلب الحماية من الحقد والهداية الروحية، مؤكدةً دور الشعر كـ"ذخرٍ للأحفاد".

قراءة أدبية

من السطر الأول: كوثرُ الضّااادِ تُقدّم الشاعرة ثنائيةً دلالية بين الكوثر الفيض والضاد الهوية، مُستندةً إلى الإطالة الصوتية "الضّااادِ" لتعظيم الرمز. يظهر هنا تداخل الأنواع الأدبية بين الشعر الصوفي والرومانسي، وهو سمة للأدب العربي الحديث.

في السطر الثاني: طلٌّ تروّى منهُ حرفُ الضّادِ تُبرز الصورة البيانية _حرف الضاد_ ككائن حي يُروى، مما يعكس مفهوم تشعير النثر أو تحويل اللغة إلى كيان حيوي.

السطور 3-4: "كي تُمزَجَ الأضدادُ.../... خسّة الحسّادِ" تُعيد صياغة التناقض البشري (الحب/الحسد) عبر جناس "الأضداد/الحسّاد"، وتستوحي منحىً صوفياً في قبول التناقضات كجزء من الوجود.

السطور 5-8: "من غيمتي.../... للأكبادِ" تُجسّد عملية الإبداع كدورة زراعية (غيم > مطر > سنابل> حصاد)، مستخدمةً استعارة مستفيضة تستدعي فيها أسلوب تحويل الصورة الشعرية إلى عالم ميتافيزيقي.

السطور 9-12: "الشّعرُ يكتبُني.../... أفضلَ الأورادِ" تنقلب العلاقة بين الشاعر والشعر: فالشعر هو الفاعل لا المفعول به، مما يُظهر تأثراً بحداثة الشعر العربي في كسر الثنائيات التقليدية. كما تحوّل القصيدةُ الرايات إلى رموز مزدوجة: راية المعنى (فكريّة) وراية المجد (ماديّة).

السطور الأخيرة (13-16): "ربّاااهُ.../... من الأحقادِ" تحوّل المناجاة الصوفية إلى دعاءٍ وقائي، مع إطالة في "ربّاااهُ" لتضخيم الشعور بالتوسل. هنا تتحول القصيدة من خطاب ذاتي إلى رسالة إنسانية جامعة، تجسد المعاناة البشرية وتأكيد الإيمان كملاذ.

خاتمة: الشعر كوصية خالدة

"كوثرُ الضّااادِ" ليست مجرد قصيدة، بل بيانٌ عن دور الشعر كجسر بين الهوية والإبداع، والتراث والحداثة. تكشف سميرة الزغدودي عن رؤيةٍ تُعيد فيها تعريف "الكوثر" ليس كنهرٍ جارٍ في الجنة فحسب، بل كمشروع إبداعي يُخصّب اللغة ويحميها من "خسة الحسّاد" و"الأحقاد". القصيدة، برموزها المتعددة (الضاد، الكوثر، السنابل)، تثبت أن الأدب العربي الحديث قادر على توظيف التراث في صيغ مبتكرة، مستفيداً من "تداخل الأنواع الأدبية" و"جمالية العلامة السيميائية". وفي الختام، تبقى كلمات الشاعرة وصيةً للذاكرة الجمعية: الشعرُ... لسوفَ يُـهدي الذخرَ للأحفادِ.

***

بهيج حسن مسعود

القسم الأول: تجاوز التابوهات وجرأة الطرح

يهدي الكاتب شاكر نوري روايته إلى أشخاصٍ حقيقيين، عرفهم عن قرب مثل "الطفل عبد الرحمن الباعث الأول والأخير لهذه الرواية والراحلة أم جلال". ص 5

ومع ذلك، وعلى الرغم من أن الروائي يكرّس عملَه هذا لأحداث حقيقية كما أخبرني في لقاءاتنا الشخصية، فهي رواية مستمدّة من الواقع وقد تكون واقعية لكنها غير تقليدية، بل بالعكس تسعى إلى تحقيق أكبر قدر ممكن من الحداثة والفنية. تبدأ الروايةُ صفحاتِها الأولى بسرد سلس جميل يذكرنا بأسلوب الطيب صالح أحيانًا. ص 11 إلى 14

"عند استيقاظ عبد الرحمن بعد ليلة العرس يرى كل مآسي العائلة وبالذات اغتيال أبيه...". ص 14

وبشكل عام، يمكن القول إن هذه الرواية تتميز ببعض الثيمات والمواصفات مثل:

تجاوز التابوهات وجرأة الطرح:

نقرأ في الرواية: "رفع نظره الى السجادة المطرزة والمعلقة على الجدار ... ضوء... أتى من الصحن لينير وجه فارس يطعن حيوانًا وحشيًا، ... رأى صقوراً ... تنقر قضيبه الواهن ... حيامنه المنوية في ‏سبات عميق، بل وأفقدتها طاقتها في فض بكارة زوجته وانتاج ولد شبيه ... لن يولد في مملكة أقامت أمي صرحها، إلا بالمعجزة".  ص 14 "... فخفض رأسه إلى السرير خجلا من زوجته التي كانت غريبة عليه قبل قليل كاشفا لها عن عورته دون ان يفلح بفض بكارتها ... باحثا عن نقطة الدم ... تثبت رجولته وترفع رأسه عاليا بين أمه وزوجته ... وقبيلته".  ص17

قطرة الدم هذه كُرّست لها أعمال إبداعية عربية كثيرة قديمة، لكني قرأتُ روايةَ "نهاية سري الخطير" للكاتبة المغربية زكيه خيرهم، التي تناولت أيضاً هذه "القطرة" وليلة الدخلة ومنديل العذرية إنها حقّاً روايةٌ كبيرةُ بحجمها وموضوعها.2

لكن البطل هنا "بطل عسكري" حقيقي، وبلاده في حالة حرب، جندي في إجازة بعد ليلة العرس بدون أن يفضَّ بكارة عروسته ويعاني من أعراض النكسة والخذلان! وهل هناك أكبر من هذه المأساة؟ كارثة العرس هنا ليست مجرد حدثٍ بسيطٍ، بل أليغوريا، فهو ليس خاصًا به لوحده بل لقبيلته وقومه والعراق الذي كان يعيش حالة تجييش وتسييس يكرّس كل شيء بدون استثناء للحرب، السارد يتحدث عن أخيه "البطل العسكري" : "تذكّرَ ساعة ابتهاجه لرحلته بالقطار بصحبة أمي لتخطب له شيرين ... دخان ممزوج برائحة جثث حيوانات برية" ص 18

يصور الكاتب ليلةَ الدخلة، ويقدّم سردًا متميزًا عن عبد الرحمن وعروسته على لسان حاله، الراوي الأخ الكبير، "إنها المرة الأولى التي نام فيها بعيدا عن أحضان أمي ...". ص 21

ليلة الدخلة والعجز الجنسي، حدث الرواية الرئيس:

تتمحور نافذة العنكبوت على موضوعة ليلة الدخلة والعجز الجنسي، وتتطلب جرأة كبيرة في الطرح، فهي بحد ذاتها "أم" المآسي والمواجع في الثقافات الإنسانية القديمة بما فيها الشرقية إلى وقتنا الحاضر، فكيف يصف الروائي معاناة العريس من العجز الجنسي من عدة جوانب دون أن يصيب الممنوعات الشرقية في صميمها ويتخطّاها؟ إنها بالتأكيد نكبة النكبات بالنسبة للعائلة والقبيلة كلها!

نقرأ في الرواية وصفًا تدريجيا لهذه الحالة التي يعاني منها العريس العنين: "سأحاول في الليلة القادمة" ص 22، وتصويرًا واقعيًّا لحالة العريسين، "العبارة الخبيثة الفظّة التي نطقت بها زوجته في الليلة الفائتة" ص 26، و"محاولة انتحار العريس". ص 27

تكمن الجرأة هنا في إمعان الكاتب وشغفه بتناول موضوعة العجز الجنسي بالسخرية السوداء من صعوبة فض البكارة لدى أفراد القبيلة كما تشير دفاتر النفوس، تهكم فظيع، ص 81 "أحد الأسلاف عاجز"، ص80، كان أيضًا اسمه عبد الرحمن، تناولوا علاجات العجز: يقدم هنا تهكّماً رائعاً عن الجينات وتكرار الأسماء، ص 85 ، ويسرد حكاية "شراب الجن والدبس، مزجته وذوّبت فيه مخ ضبع، وأقسمت لأمي بأنه سيد الأدوية جميعًا للرجل العاجز." ص 85، "شيرين حبلى برياح الخريف" ص 90 وفي النهاية يتساءل متهكّماً بشيء من الازدراء للتقاليد البالية من وجهة نظر الراوي (الأخ المغترب الكبير): "هل فضَّ بكارتَها أم هناك فاعل آخر؟". ص 98

كذلك يتحدث الراوي بوضوح عن سبب العجز: "أي يوم كان يقصده أخي يوم اغتيال أبي يوم ختانه يوم إصابته بشظية الحرب". ص 110

ويقدم في مقطع آخر من الرواية شرحًا ووصفًا دقيقًا لسبب العجز ليؤكّد أليغوريا العجز، الحرب أصابت الذكورة العراقية في مكمنٍ: "شظية دخلت فتحة الإحليل". ص 160

الحديث عن المعتقدات:

 لا بدّ من الإشارة هنا أيضًا إلى جرأة الحديث عن الدين بشكل عام والخالق بالذات، الله في مركز السرد هنا من خلال أحاديث الناس في حواراتهم اليومية: "تصرفات الله الذي آمن به ". ص 125 و"كلما نظر إلى لذته الميتة، أبصر فيها صورة الله...". ص 126 " هل خانه الله ...". ص 127 "هذه حكمة إله نزيه، منصف بين البشر؟". ص 127 و"الوطن المقسم" ص 128 الله في مركز السرد هنا: "أضرحة الأولياء".  ص 129 وأخيرًا نلاحظُ جرأةَ حوار الأم مع الله على الطريقة الشعبية لدى الأمهات عندما يعبّرن عن معاناتهن من مصائبهنّ. أنظر: صفحات 129-130 -137

تتكرر مثل هذه الحالات الإنسانية بالذات في التغيرات المجتمعية الكبيرة مثل الحرب وتأثيراتها والفوضى كما هو الحال عند الروائي الكبير غائب ط. فرمان حيث تسمّيه إحدى بطلاته "ابو خيمة الزرقة"، وصراحة تناول هذه الموضوعة بجرأةٍ وسخريةٍ متميزةٍ في رواية "زينب" للدكتور عارف الساعدي. 3

موضوعة جنس المحارم:

تظهر في السرد تلميحات مثل: "بوادر علاقة بين شيرين وشقيق عريسها ونظرات مغرية... " ص 46 تشبه فكرة سفاح المحارم في رواية الروائيين "الصخب والعنف" لوليم فوكنر، وهروب شيرين، ص 48 لكنها "تعتكف" في غرفة العناكب لتمارسَ طقوسَها ونزواتها، ص 49 ويشبه إلى حد ما أسلوب فؤاد التكرلي في طرح الوقائع والأحداث.  "ما يفرق بيني وبينه نظراته الشرعية ونظراتي المحرمة، لكن شيرين لم تعد كما هي ... وصرخت في وجهنا فجأة: .... إنه ...". ص68

ويقول الراوي أيضًا عن المحارم: "يفصلني عن الخطيئة سوى خيط واه" 92 ونقرأ كذلك " أدركتُ بعد فوات الأوان، بأن جزءًا كبيرًا مني مات أثناء مضاجعتي لها، لا أدرى كيف وجدتُ في نفسي القوة لأقترف هذه الخطيئة، ...أفكر ... بزواجي من شيرين، لأُضفي الشرعية...". ص 92

سنرى فيما بعد أن عبد الرحمن، أخاه الصغير العريس قال في "سرديته" أثناء هذيانه وهو يعاني من الحمى على فراش الموت، إنه تزوجها أيضًا ليسترها. الذكورية وهوس الشرف والعفة والعذرية وقطرة الدم في ليلة الدخلة والقتل والموت هي اهم موضوعات هذه الرواية التي أراد شاكر نوري تعرية واقع المجتمع العراقي وحقيقته من خلال الإفصاح عنها. 

يتساءل الراوي” هل يمكن أن يكون أخي وراء دفع شيرين إلى أحضاني لِفظّي بكارتها؟ ... ربما أني فضضتُ بكارتَها في الحلم". ص 100 رغم أنه يقر صراحة بأنه فضَّ بكارتها! ص 92 هل هو تمويه مقصود؟ أم حالة شرود يعاني منها "الأخ الكبير"، أو أساء فهم رسالة والدته وتصورها تريده أن "ينقذ" الموقف عندما قالت له "افعل شيئًا لأخيك" كونه عاد من فرنسا إلى دياره مشبعًا بفهمٍ معيّن لمدنية الغرب ناسيًا تقاليده العراقية؟ 

أو، إن "صوت الكاتب" الداخلي تدارك الموقف أثناء الكتابة في مشغله؟ كذلك سنعرف فيما بعد من خلال سردية عبد الرحمن نفسه بأنها كانت تحب جنديًا حبلت منه قبل مقتله في الحرب!

إذن إنها ليست عذراء! وهل العذرية هنا رمز آخر اراد الكاتب أن يكرسه لحدث الرواية؟ سؤال قد يوجّهه القارئ إلى الكاتب، الذي أجابنا في لقائنا الشخصي: إنها لم تكن عذراء من "زواجها” غير الرسمي مع صديقها الأول".4 أنظر حوارنا مع الكاتب د. شاكر نوري المنشور في ملحق القبس الثقافي. بتاريخ 04 مايو/ أيّار 2024

وتنقم الوالدة على الأخ الكبير عندما ترى الشبه الكبير بينه وبين الجنين! أنظر تصوير ولادة الجنين. ص 142 وصف رائع للأم على لسان السارد (الاخ الكبير) حيث يقول: "حدجتني بنظرات متفجرة بالخبث والريبة من هذه الولادة العجيبة". ص 142 ويصف الجنين يشبه الاخ الكبير، ص 143

ونلاحظ أن الأم تعنّفه قائلةً: "صه أيها الكلب، يا خائن الأم والأخ، ..."، ما يذكرنا بالموضوعة نفسها في "نزوة الموت" ص 54 حيث تقول الأم لابنها: "أيها الشيطان ابتعد عني". ص 54

وهنا يبرز تساؤل: لكن الأم طلبت بنفسها من ابنها الكبير أن "يساعد" أخيه! والجواب، طبعًا: هي تعني مساعدته وتحفيزه وإرشاده لعمل ذلك، وليس أن يضاجعها بنفسه بدلًا من أخيه! لا بدّ أن الروائي أراد أن يكون الغموض في مثل هذا السرد سيد الموقف!

من المفترض أن يشبه الجنين والدَه الأصلي الجندي المقتول في الحرب وليس "الأخ الكبير"، ولا بدّ أن هذا الخلط يعكس حالة الفوضى والإرباك الذي تعاني منها الشخصيات، بالذات الأم. وإن ما تقوله الأم عن شبه المولود الجديد لعمّه (الأخ الكبير) مجرد انطباع ليس بالضرورة أن يكون صحيحًا!

وذكرَ لي كاتب الرواية شاكر نوري في مراسلاتنا عبر الواتساب وحديث شخصي معه:

"الأم تخيلتْ أن الأخ الكبير ضاجعَ عروسة أخيه، واحتمال ان يكون هو والد الجنين، لا ندري من هو الأب الحقيقي! هل هو حبيبها الأول الجندي المقتول في الجبهة؟ أم الأخ الكبير؟".

إذن فقد أراد الكاتب لهذه الحبكة أن تبقى لغزًا يريد من القارئ ان يتفاعل ويتشوق لمعرفة الحقيقة.

***

الدكتور زهير ياسين شليبه

توطئه: قبل رحيل صديقي الشاعر اللبناني الكبير محمد علي شمس الدين بأقلّ من عشرة أيام هتفت إليه وأخبرته عن عزمي لتأليف كتاب نقدي عن أعماله الشعريّة، فأجاب: هذا يغبطني، ولم أكن أعرف أن المرض كان قد تقدم به إلى ما كان عليه، وفور وفاته – رحمه الله- سارعت لكتابة هذه المقالة، ومن ثم أجلت نشرها حتى إنجاز ما وعدته به، لكن الأحداث تسارعت وثقلت، والآن أرسلها إلى صديقي الباحث والمفكر الكبير ماجد الغرباوي ليكون شاهداً على صدق وعدي إن بقي من العمر ما يكفي.

تجليات الموت والخوف في آثاره الشعريّة:

الشاعر اللبناني محمد علي شمس الدين

ينقش ظلاله الشعريّة ويمضي

مفيد خنسه

لعلّ الشاعر اللبناني الراحل محمد علي شمس الدين من شعراء الطليعة الذين تأثروا بالحداثة الشعريّة التي خط ملامحها الأولى السياب والملائكة والبياتي والحيدري، وقد سطع نجمه الشعري في مطلع السبعينات من القرن الماضي مع كوكبة من الشعراء اللبنانيين، شوقي بزيع، حسن عبدالله، جودت فخر الدين، جوزيف حرب، إلياس لحود،.....، وفي تقديري أن دراسته الجامعيّة للحقوق، ومن ثم اهتمامه بالتاريخ ونيله شهادة دكتوراه دولة فيه، كانت عاملاً أساساً في توظيف الرموز التاريخيّة في أشعاره، وهنا أتوقف عند سمتين أساسيتين في الجزء الأول من آثاره الشعريّة الكاملة، الذي يتضمن سبعة دواوين شعريّة، وهما الموت والخوف، فإذا كان الموت يتجلى في أشعاره كحقيقة حتميّة، فإنه لم يفتأ مجتهداً بالنظر إلى هذه القضيّة الوجوديّة من وجهة نظر فلسفيّة بالعودة  بعد الموت في رحلة الحياة الأزليّة، ليغدو الموت نفسه ظاهرة طبيعيّة مرتبطة بدورة التطور والنمو، أما الخوف فإنه يتجلى في أشعاره لجهة الآني والمؤقت في طور التجربة الذاتيّة  بإطارها الاجتماعي،

تمهيد:

في ديوانه الأول: (قصائد مهرّبة إلى صديقتي آسية) الذي صدر عام 1975 أي عندما كان عمر الشاعر حوالي ثلاثة وثلاثين عاماً، لا نستطيع أن نتحقق بوضوح من ظهور هاتين السمتين، الموت والخوف، لكن حضورهما أكثر ما يتجلى في كل من قصيدتيه، (مرثيّة العاشق) و(ارتعاشات اللحظة الأخيرة). وقد لاقى اهتماماً إعلاميّاً لافتاً، كما أن قصيدة (البحث عن غرناطة) منه قد ترجمت إلى الإسبانيّة، من قبل المستشرق الإسباني بدرو مارتنيز مونتابث، رئيس جامعة (الأوتونوما) في مدريد، ونُشرت في كراس خاص وقد نسبها إلى (الشعر الغرناطي).

استشهاد أول: من قصيدته (موت مطر الصقر) في ديوانه الثاني، (غيم لأحلام الملك المخلوع) 1977،

يقول الشاعر:

(قتلتني عاشقتي/ وأهالت فوق تراب القبر أغانيها/ فاخضر العظمُ وأنبت زنبقةً/ يتفيّأ في تربتها الأمواتُ/ وتحرسها أرواحُ محبيها/ وأتت عاشقتي في الليل تزور القبرَ، فأذهلها/ شبحٌ تحت الصفصاف يناديها/ صرخت من أنت؟/ وحين أشارت للقبر وفاجأها صوتي/ سقطت في صدر مغنيها/ قتلتني عاشقتي/ قتلتني/ وأنا في ظلمة قبري أبكيها).

يمكننا أن نلاحظ أن ملامح التجربة الشعريّة للشاعر محمد علي شمس الدين بدأت تتشكل فعليّاً في هذه المجموعة، وبدأت بذور النزعة التأمليّة الفلسفيّة تنبت في فضاءاته الرحبة وتزهر في حقوله الواسعة، ففي هذا التركيب الشعري يجمع الشاعر بين الحسي والعقلي، وبين الواقعي والمتخيّل،  فالشاعر على الرغم من أن حبيبته قد قتلته من فرط حبه لها، وعلى الرغم من أن المحبوبة قد غنّت فرحاً بهذا القتل، فإن عظمه المدفون في التربة قد اخضوضر ونبتت على قبره زنبقة تظلل تربة الأموات، وتحرسها أرواح من قضوا مثله بحبها، وعندما زارت القبر راعها صوته فسقطت في صدر المغني، والشاعر مازال يبكي في قبره على عاشقته التي قلته.

استشهاد (2): من قصيدة (أغنية للموت) في ديوانه الثالث (أناديك يا مليكي وحبيبي) 1977:

يقول الشاعر:

(هذا النباتُ المعرشُ فوق الجدار/ غرائزهُ/ وهذي الطيور الأليفة: أنثاهُ/ والشمس دائرة في خلايا يديه/ وعند قران الغزالة في البحر/ يبسط كفيه حتى عروق المياه/ ولكنه حين ينهض من نومه باكراً/ تسائله نجمةٌ في الفلاة/ حبيبي/ حبيبي/ هو الموت أم/ نومك الموسميّ الجميل؟).

في المعنى:

لعلّ التساؤل الذي يختم الشاعر فيه تركيبه الشعري يشير إلى المعنى الذي أراد أن يعطيه للموت، وهو النوم الموسمي، حيث يتجلى النوم بمظاهر الطبيعة المتعدّدة، النبات المعرش فوق الجدار، الطيور الأليفة، الشمس التي تمتد خيوطها لتصل إلى كلّ كائن في الوجود، كما لو أنها يد الموت، مظهر غياب الشمس في الماء، ولا بد لنا هنا من ملاحظة هذا التقابل بين البحر والفلاة، وبين النبات والطيور، وبين الغرائز والأنثى، الذي يشير بوضوخ إلى تجليات صور الموت المعنويّة بما يقابله من صور النوم الحسيّة،

استشهاد (3): من قصيدة (حوار الخوف) في ديوانه الرابع (الشوكة البنفسجيّة) 1981:

يقول الشاعر:

( - وماذا تقول الفكرة؟/ - تقول:/ - كان اثنان في حوار./ كان الحوارُ طويلاً طويلاً ولا ينتهي مثل حوار الظلّ والشجرة./ ثم تداخل القولُ واشتبك./ صار الأول يسألُ ويجيب./ والآخرُ يجيب ويجيب. والثالث صامت .... -: ولكنهما اثنان في حوار... من أين أتى الثالث؟/ -: الثالث؟ هه؟ كانْ/ في القوسِ أمام الميزان).

في المعنى:

هذه القصيدة يقدمها الشاعر على صيغة استجواب افتراضي، ويهديها إلى الشاعر الفرنسي المتمرد آرثر رامبو، ويبتدئ الاستجواب بالاستفسار (من أنت؟): فيكون الجواب: (أنا الآخر) .. وحين يسأله، - أتقيم؟،  يجيب: - لا، فيسأله – تمشي؟ فيجيب: في العقرب، وهكذا تتدحرج الأسئلة وتتوالى الأجوبة، حتى نصل إلى فكرة التركيب التي تنتج عن سائلٍ ومجيب، أو مجيب ومجيب، وإذا لا حظنا أن الميزان والعقرب والقوس أبراج متعاقبة من منازل الشمس، يمكننا أن نفهم المعنى المراد وهو أن (الآن) مفتوح على الماضي ومشرفٌ على المستقبل، فإذا كان الآن هو العقرب، فإن الميزان يمشي في العقرب إلى القوس أمام الميزان!!!، وأجد من المفيد أن أذكر قولاً للشاعر الراحل محمد علي شمس الدين خلال لقاء أجراه معه الكاتب محمد ناصر الدين، حين سأله: لمن ينحاز في محكمة يجلد فيها بطاركةُ الشعر المكرسون رامبو؟، " أنحاز إلى رامبو من دون تردد، ..... والسبب أن رامبو هو طفل الشعر النزق الذي لا يكبر، وفي داخلي جزءٌ من هذا النزق".

استشهاد (4): من قصيدة (الموت الخميس المقبل) في ديوانه الخامس طيور إلى الشمس المرّة 1984،

يقول الشاعر:

((كان رأسي ينامْ/ تماماً / حيث مرّ القطار/ يوشوش خطين لا يصلان/ بأسراره/ ويرسل للغائبين/ رسالته الغامضة:/ سلامي عليكم/ وأخبركم أنني/ متّ بعد الرحيل/ وأحيا إذا لوحت في الأصيلْ/ مناديلكم/ فاذكروني/ واعلموا أنني قادمٌ/ (بعد موتي).

وفي هذا التركيب نتبيّن أن الموت هنا يعني الهجرة والغياب، والمعنى كما نلاحظ مجازي.

استشهاد (5): من قصيدته (برق الخائف) في مجموعته الشعريّة (أما آن للرقص أن ينتهي 1988)،

يقول الشاعر:

(يلمع برق الخوف على أكتاف مدينتنا/ يلمع فوق ظهور منازلنا الحدباء/ يلمع برق الخوف على بقع الماء/ لا تسمع فوق الإسفلت سوى خطوة كلب خائف/ لا تبصر فوق الأسلاك المتدلية الأمعاء/ سوى ريشٍ خائف/ أمشي في الشارع وحدي/ لا أبصر غير ثيابٍ خائفة/ تمشي خلفي/ وأخاف/ أتدافع في كلّ جهات الشارع كالملدوغ ويلطمني خوفي/ أتلاشى/ حتى لا تبصرني عينايْ)

أي الخوف يحيط به حتى يكاد يضمحل أو يتلاشى،

أما في ديوانه السابع (أميرال الطيور) 1992، فقد بدأت تتبلور فيه رؤيته الصوفيّة للعالم، من خلال الشعر " كعمق استراتيجي للوجود، وكبرق كاشف له، ... ويضيف: إذا اعتبرنا الشعر على سبيل التمثيل بحراً، فإن قاعه هو التاريخ، وموجه هو الفلسفة، وفضاءه هو المخيّلة، لكن المعرفة على اختلاف وجوهها ... تبقى بمعناها المفهوميّة خارج القصيدة". " إذا أردت فهم العصور الحديثة ألجأ إلى أشعار السياب والماغوط وأدونيس وأنسي الحاج.

***

مفيد خنسة – ناقد وكاتب سوري

 

رواية أمير الذباب أنموذجًا

الأدب مرآة لا تعكس الواقع فحسب، بل تكشف ما يختبئ وراءه من نزعات ودوافع وصراعات نفسية.

ويليام غولدنغ الكاتب البريطاني الحاصل على جائزة نوبل سنة 1983 في روايته الشهيرة أمير الذباب" lord of the flies" الصادرة سنة 1954 يضعنا أمام تجربة إنسانية قاسية: أطفال ينجون من سقوط طائرة، يجدون أنفسهم معزولين على جزيرة مهجورة ويؤسسون مجتمعًا صغيرًا، لكنه سرعان ما ينحدر إلى الفوضى والعنف. تتحول البراءة المزعومة إلى همجية، ويبرز سؤال حارق طالما شغل الفلسفة والعلوم الاجتماعية:

- ما الذي يدفع الإنسان إلى الجريمة؟

- هل هي غريزة أصيلة تستيقظ حين تغيب الضوابط؟ أم نتاج بيئة مفككة وظروف استثنائية؟

في هذا المقال، نحاول قراءة أسباب الجريمة من خلال مرآة الأدب، مستندين إلى أمير الذباب كنموذج يعرّي القشرة الحضارية الرقيقة، ويفضح آليات العنف الكامنة في النفس والجماعة، وذلك من خلال:

- إنهيار النظام والسلطة.

- الخوف الجماعي وصناعة الأسطورة.

- نزعة السيطرة والتلذذ بالقوة.

1- إنهيار النظام والسلطة:

في بداية الرواية يحاول الأطفال بناء مجتمع متماسك يقوم على الديمقراطية والحرية والقانون، ينتخبون رالف قائدا، وتصبح الصّدَفة رمزا للشرعية. في محاولة لضمان الاستقرار والاستمرارية والنجاة. هذا الترتيب يشبه نسخة مصغرة من المجتمع البريطاني الذي جاؤوا منه، حيث القانون والتقاليد يضمنان الاستقرار.

لكن هذا النظام سرعان ما يبدأ بالتصدع؛ فالصدفة، بوصفها رمزًا للسلطة، تفقد هيبتها تدريجيًا كلما اشتد الخوف والجوع، وكلما تزايدت رغبة البعض في نيل القوة المباشرة بدل الانضباط. ومع مرور الوقت، لا يجد رالف ما يفرض به الطاعة سوى التذكير المستمر بقواعد لم تعد تعني شيئًا للجميع. حيت يقول بيأس: "لا أحد يحترم القوانين بعد الآن". هذا الانهيار لم يكن عشوائيًا، فقد تسلسلت أسبابه بوضوح من إهمال المهام الجماعية كإشعال النار وبناء الملاجئ، إلى الانشغال بالصيد والترفيه، ثم الانقسام الصريح بين جماعة رالف الذي يمثل النظام الاجتماعي وجماعة جاك الذي يمثل الوحشية البداية.

في النهاية، لم يعد هناك أي التزام أخلاقي أو اجتماعي، وصار القتل ممكنًا دون ندم. حين تحطمت الصدفة في المشهد الذي قتل فيه بيغي، كانت تلك اللحظة رمزية للغاية: الشرعية ماتت تمامًا، ولم يبق سوى العنف.

يبرهن هذا الانهيار أن النظام الاجتماعي، مهما بدا متماسكًا، قد يكون هشًا جدًا حين لا يستند إلى وعي جماعي ومسؤولية مشتركة، وأن غيابه يفتح الباب لغريزة البقاء العارية التي لا تعترف إلا بالقوة.

2- الخوف الجماعي وصناعة الأسطورة:

في أمير الذباب لا يظهر الشر فجأة، بل يبدأ بهمسات الصغار الخائفين من الوحش المختبئ في الغابة، تنتشر تلك الهمسات لتتحول إلى خوف جماعي، سرعان ما يدركه جاك ويستخدمه لفرض سيطرته على باقي أفراد الجماعة، كونه وحده من يستطيع حمايتهم منه. ففي مقابل رالف الذي تمسك بالعقل والمنطق، اختار جاك أن يضخم الأسطورة ويجعلها حقيقة لا تقبل النقاش. كلما تكرر ذكر الوحش، تعمق الخوف، وكلما زاد الخوف، ازداد اعتماد الأولاد على جاك. هنا ظهر بوضوح كيف يمكن للزعيم أن يصنع عدواً وهمياً ليبرر العنف والطاعة العمياء. "لا أحد يستطيع حمايتكم منه إلا أنا".

تحولت هذه اللعبة النفسية إلى طقوس دموية، حيث صار الصيد، والرقص حول النار، والتلويح بالرماح وسائل لتفريغ الرعب الجماعي وتبرير القسوة. وهكذا، نجح جاك في توجيه خوفهم إلى توحش منظم يخدم غايته في الهيمنة. وحين قتلوا سيمون ظنًا أنه الوحش، لم يعد هناك أي فارق بين الخوف والشر؛ فقد صارا وجهين لعملة واحدة صكها جاك بمهارة. ومع تحطم النظام، تلاشت القدرة على التمييز بين الخطر الحقيقي والوهم، وانفجر العنف بلا ضوابط. هكذا يبرهن وليم غولدنغ أن الشر ليس دائمًا قوة غامضة تولد وحدها، بل هو أحيانًا نتيجة زعيم يستغل خوف الجماعة ليزرع التوحش ويصنع سلطة تقوم على العنف.

3- نزعة السيطرة والتلذذ بالقوة:

منذ بداية الرواية، يظهر جاك كشخصية تتوق للسلطة والهيمنة. لم يكن هدفه البقاء على قيد الحياة مثل الآخرين، بل أراد إثبات تفوقه وتأكيد مكانته قائداً مطاعاً. هذه النزعة للسيطرة بدأت أولاً في صدامه مع رالف حول قيادة الجماعة، ثم أخذت شكلاً أكثر خطورة حين صار العنف وسيلته المفضلة لإظهار القوة.

في البداية، بدا الصيد ضرورةً للبقاء، لكن بالتدريج تحول إلى طقس وحشي يمنحه متعة السيطرة على الحياة والموت. اللحظة التي قتل فيها الخنزير لأول مرة لم تكن مجرد انتصار للصياد، بل كانت لحظة اكتشاف لذة القوة الخام: شهوة التسلط على الكائن الأضعف.

مع تصاعد الأحداث، صار جاك يبني سلطته على إذلال الآخرين وترويعهم. ومع كل مشهد جديد، نلاحظ كيف يغذي التوحش ذاته. العنف يمنحه احترام الجماعة وخضوعهم، والخضوع يغديه بالمزيد من الغرور والقسوة. حيت جاء على لسانه: "لا حاجة للصدفة بعد اليوم. أنا الذي يتكلم". وحين تحطمت الصدفة —رمز القانون والنظام— شعر جاك بنشوة مطلقة. لم يعد هناك من يقيده؛ لم تعد القوانين تعني شيئًا، ولا الرأفة ضرورة. وحتى الصبية الذين ترددوا في البداية صاروا يشاركونه العنف كأنه احتفال جماعي بالقوة.

ذروة هذا التلذذ جاءت حين قاد مطاردة رالف، ليس بدافع الدفاع أو الخوف، بل بدافع الرغبة في محو خصمه وإثبات تفوقه الكامل. "سنجعله يركع… ثم نفعل به ما نشاء".

هكذا تكشف الرواية أن نزعة السيطرة، حين تنفلت من كل وازع أخلاقي، تتحول بسرعة إلى لذة مرعبة في إذلال الآخر وتدميره. وهي نزعة كامنة في النفس البشرية، تنتظر الفرصة المناسبة لتتفجر إذا غاب القانون وخنق الخوف صوت الضمير.

في الختام يمكننا أن نقول إن الرواية تثبت أن الشر ليس أسطورة خيالية تسكن الغابات أو الكوابيس، بل هو طاقة كامنة في النفس البشرية، تنفجر حين يغيب الضابط الأخلاقي ويستبد الخوف بالعقول. في هذه الجزيرة الصغيرة، نشأت منظومة كاملة من العنف: زعيم يتلذذ بالقوة، جماعة تبحث عن الأمان بأي ثمن، وأساطير خرافية تبرر القسوة.

عبر شخصية جاك، يكشف غولدنغ كيف يتحول الخوف إلى أداة سلطة، وكيف تصبح السيطرة متعة في حد ذاتها، لا مجرد وسيلة للبقاء. ومع انكسار النظام وانهيار الرموز التي كانت تحفظ التوازن —الصدفة، الاجتماعات، فكرة الديمقراطية— يتلاشى الخط الفاصل بين البراءة والتوحش.

إنها حكاية تختصر كثيرًا من وجوه التاريخ الإنساني: حين يُسمح للخوف والبحث عن القوة المطلقة أن يقودا الجماعة، تكون النتيجة دائمًا كارثة. وهكذا يطرح الأدب سؤالًا أبديًا لا يفقد راهنيته:

من يحمي الإنسان من شره حين يسقط عنه قناع الحضارة؟

***

فاطمة أيت الحاج

 

عبير عزاوي. كاتبة عربيّة من سورية. مواليد ديرالزور 1972. إجازة في اللغة العربيّة وآدابها. دبلوم تأهيل تربوي في اللغة الانكليزيّة. عملت في مجال التعليم المرحلة الثانوية في مدارس دمشق. عملت مدربة في عدّة ورشات إبداعيّة للفنون السرديّة. حاصلة على عدّة جوائز في فن القصة القصيرة. رئيسة صالون الراية للإبداع، وفريق كن كاتباً، الإبداعي. البدايات كانت من الطفولة والشباب. ثم توقفت لفترة من 2007، لغاية 2020 ثم عودة إلى الوسط الأدبي. قبل التوقف تم الحصول على عدة جوائز منها:

1- جائزة سعد صائب.

2- جائزة اتحاد الكتاب العرب في سورية لعدّة مرات.

3-جائزة منابر ثقافيذة لأفضل قصة في الوطن العربي عن قصة (خبز أمي).

4- وجائزة أفضل قصة قصيرة في الوطن العربي في زمرة الأدب الملكيّة عن قصة راقصة الباليه.

5- جائزة أفضل قصة قصيرة في رابطة بني هلال عن قصة – انتظار.

6- المركز الأول في مجموعة لغتي الخالدة عن قصة – بنت العفريتة.

7- ولديها العديد من المخطوطات القصصية.

8- نشرت قصصها في مجلات عربيّة وسوريّة مثل: الموقف الأدبي والبيان والمعرفة الكويتيّة والوحدة المغربيّة.

قصة الرقص: من المجموعة القصصيّة (الرقص).

البنية الدلاليّة للقصة:

(قد يرقص الطير مذبوحاً من الألم)...نعم هو الرقص الذي لا يعرف طعماً للفرح أو السعادة ... هو الرقص الذي لا يجيده إلا الفقراء أو الذين تركتهم الحياة على هوامشها يبحثون عن ذاتهم دون جدوى.. هو الرقص الذي يجيده من عانوا حالة الفقد في زمن الجوع والقهر والحرمان والظلم والاستبداد وشهوة الدم... هو الرقص الذي تُعزف له طبول الحروب الأهليّة وأنظمة الاستبداد بكل مرجعياتها التقليديّة من طائفيّة وعرقيّة أو أيديولوجيّة، هو الرقص الذي تشتغل عليه الغيبيات والأساطير وتكفير المختلف أو تخوينه. هو الرقص الذي يشتغل عليه أصحاب الأيديولوجيات المغلقة الذين يعتقدون بأنهم وحدهم من يعرف الحقيقة المطلقة دينيّة كانت أو وضعيّة... هذه هي دلالات الرقص في مجموعة (الرقص) للقاصة "عبير عزازي"، ومنها القصة موضوع دراستنا وهي القصة الأولى من هذه المجموعة وعنوانها (الرقص).

البنية السرديّة أو الحكائيّة للقصة:

(أطفأت الحمى طفلتها الصغرى، بعد أن ودعت أبناءها واحدا تلو الآخر، بين قتيل وأسير ومفقود.)

بهذه العبارة المشبعة بطعم الفقد المر، ابتدأت القاصة " عبير" قصتها (الرقص).

فبعد موت آخر ما تبقى لها من زينة الحياة الدنيا (أولادها)، (نثرت على الطرقات خبز الميتين وأهرقت ماء الشجن، وغابت في لجة مرض أقعدها شهوراً). وفي ليلة مقمرة طحنت الحمى جسدها، نهضت من فراش المرض دون وعيها، بعزم غريب جعل أطرافها تتلوى وجسدها يراقص الهواء، ورجلاها تنقران الأرض بخطوات رشيقة.... إن جنون الدم الفائر في عروقها ازداد... أوثقوها في غرفة نائية أقصى الدار، لكنها بقيت تهتز حتى تخلصت من الحبال وخرجت إلى زقاق البيت، ترقص وعيون الجيران تشهق دهشة غير مصدقة لما ترى، فراحت ألسنتهم تلوكها مباشرة دون أن تقدر ما تعاني من فجيعتها، وما وصلت إليه من حالة أقرب إلى الجنون إن لم يكن هو الجنون نفسه... اتخذت في البداية من الأزقة الترابية الفقيرة حيث تسكن مسرحا لرقصها...ثم قادتها قدماها الرشيقتان إلى الشوارع العريضة وسط المدينة... كانوا يسخرون، ويتهكمون منها، وبعضهم راح يقذفها ببقايا طعام أو مناديل قذرة، لكن المرأة بقيت ناصعة الجبين؛ ساهمة النظرة، شاردة اللب، وترقص بلا توقف.

في قمر اليوم الثالث رقصت في وسط الساحة الكبرى للمدينة وحدث أن انضمت لها فتاة طويلة الشعر واسعة العينين ذابلة النظرات أهزلها الحزن وفقد المحبوب... شقت الجمع وخرجت ترقص غير آبهة بأصواتهم الناهرة، ولا بأياديهم الممتدة لمنعها... وفي قمر الليل الرابع ركضت من بين الجمع امرأة ذابلة الخدين، مضمرة البطن وخلفها صغيرات ممزقات الثياب، انضممن جميعا للمرأتين، وأخذن يرقصن بحرارة جعلت الجمع المبهوت يصفق بيديّه ويزفر بحنق.

(مع كل ليل قمر جديد، تنسل امرأة أو اثنتان وتزيد قافلة الراقصات. أما أول رجل انضم لحمى الرقص فكان صيادا أفقده البحر ولديه في درب التهجير. تبعه شابان لهما عيون بلون الشفق، أما آخر المنضمين فكان الناجي الوحيد من الزلزال الكبير).

هكذا راحت جموع الراقصين تتكاثر في كل يوم وهم يجوبون الشوارع الهاجعة.. وفي قمر الليلة السابعة ... سقطت امرأة ميتة وسط الساحة، وعندما اقترب منها الناس عرفوها، كانت المرأة التي بدأت حمى الرقص... ورغم كثرة الراقصين الذين يسقطون صرعى، ظل الحشد يكبر... وشاعت أخبار عن البلاد السعيدة التي يرقص فيها الناس حتى الموت.

نعم هذه هي مأساة سورية التي أحاطت بها الفاجعة من كل مكان.. فتوزع أهلها بين مهجرين في الداخل بعد أن دمرت منازلهم، وبين مهجرين في الخارج بحثاً عن الأمن والاستقرار.. وبن مصاب في عينه أو قطع في ساقه أو ساعده.. .. وبين سجين كلمة أو رأي أو موقف سياسي ضد النظام الحاكم المستبد. كل ذلك في حرب لم ترحم أحدا. قتل فيها الكثير وأخذ المقتول اسم الشهادة إن كان ظالماً أو مظلوما.

عوالم القصة:

من خلال قراءتنا قصة الرقص للأديبة " عبير عزاوي" نجد عوالم القاصة التي تجلت في عملها هذا، ليست بسيطة أو ساذجة، وإنما هي عوالم متشابكة تموج بأفكار مختلفة تحمل ثقافة الكاتبة وفلسفتا في الموت والحياة والسياسة والجنون. وهذا ما يشير في الحقيقة إلى أن القاصة عاشت أو عايشت ظروف القهر والفقد والحرمان والمرض والفقر الذي أحل بمحيطها الاجتماعي.. إن الظروف القاهرة جعلت شخصيات القاصة تحس بالفقد والضياع والغربة وهذا ما أوصلها إلى الجنون بسبب تناقضات المجتمع وصراعاته وفقدان الأمان والاستقرار.

البنية الجماليّة والفنيّة للقصة:

ما يميز القصة القصيرة في الأدب القصصي، هو اختصارها للحدث، أو اعتبارها لحظة مشحونة، لها إيحاءاتها العميقة، واكتفاؤها بعدد قليل من الشخصيات، مثلما لها مكان واحد أو مكانين، ولها زمان محدود، ولغة خاصة مركزة. هدفها في العموم إيصال فكرة معينة، أو إثارة إحساس معين لدى القارئ في وقت قصير.

العتبة السيميائيّة في عنوان القصة:

لم يأت عنوان القصة (الرقص) عبثاً، بل جاء مدروساً وبعناية فائقة. فالرقص هنا ليس هو ذاك الرقص الذي يهتز له البدن طرباً، وتحركه عواطف الإنسان وعقله وحواسه، وأجواء الفرح التي تحيط به. بل هو ذاك الراقص الذي فقد فيه الإنسان كل مشاعره وأحاسيسه الإنسانيّة، بعد أن تعرض هذا الإنسان إلى حالات من القهر والعذاب والظلم والفقر والجوع والتشرد والفقد. هنا تحت ضغط المأساة يفقد الإنسان توازنه العقلي والعاطفي والشعوري والحسي، فتأخذه مأساته إلى حالات من الجنون أو الهستيريا، لقد جاء العنوان ليشي بنوع آخر من الرقص إذن، تتغير فيه طبيعة الحركات الجسيمة التي بدأت تنال جسد وعقل الإنسان عموما وحولت حياة الراقص بكل تفاصيلها إلى جحيم. وهذا ما ينطبق عليه القول الشائع: (يرقص الطير وهو مذبوح من شدّة الألم).

لقد تبدت لنا البساطة في التشكيل الفني للقصة، حيث اعتمدت القاصة على عرض قصتها من خلال السرد القائم على الوصف، بعيداً عن أي حوار أو حتى منولوج داخلي، لقد جاء البناء السري في أسلوب بسيط وألفاظ غنيّة .. وهذا الشكل سهل وممتع لا يقدر عليه إلا الكاتب القدير والمتمرس في الكتابة، ويمتلك قدرات فنيّة تقوم على تجربة فنيّة واسعة في عطاءتها، ووضوح في الرؤية وعمقها، بحيث لم تترك القاصة في قصتها (الرقص) موضوع دراستنا أي حاجز بينها وبين المتلقي.

نعم إن ما ميز القاصة "عبير عزاوي" هنا، هو الوصف الرائع للشخصيات، هذا الوصف الذي حمل في بنيته تحليلاً نفسيّاً واجتماعيّاً، استطاعت التعبير عنه بكل سلاسة وثقة من خلال ألفاظ سهلة وبسيطة مشبعة بانفعالات عاطفيّة نجدها في قولها: (نثرت على الطرقات خبز الميتين وأهرقت ماء الشجن)، وفي (حاولت لجم أعضائها لكنها لم تستكن). و(غير أن جنون الدم الفائر في عروقها ازداد، وتوحشت حمى الرقص في شرايينها).. وبالرغم من أن القاصة "عبير" قد اعتمدت على الوصف إلا أنها لم تسهب أو تستطرد فيه، الأمر الذي جعل العمل في القصة مذهلاً، وهذا ما جعل بناء القصة متماسكاً، والشخصيات مرسومة بدقة، بحيث سيطرت القاصة على أحداث القصة سيطرة تامة.

لقد صاغت القاصة البنية السرديّة للقصة بضمير المتكلم، أو الراوي من الخلف، وهذا ما مكنها من استبطان شخصياتها وتحليلها، والقدرة في الدخول إلى عوالمها الداخليّة والجوانب الخاصة بها. كما في قولها: (حاولت لجم أعضائها لكنها لم تستكن). وفي (غير أن جنون الدم الفائر في عروقها ازداد، وتوحشت حمى الرقص في شرايينها.). و(طحنت الحمى جسدها.. أنهضتها من فراش المرض.. دفعتها بعزم غريب جعل أطرافها تتلوى وجسدها يراقص الهواء).

لم تحوز شخصيات القصة على أي اسم، وهذا ما حولها إلى رموز لها دلالات ارحب وأعمق، قدمتها القاصة للمتلقي كحالات إنسانيّة تتكرر في المجتمع، وخاصة في زمن القهر والعذاب والاستبداد والصراعات الاجتماعية، طائفية كانت أو عرقيّة أو سياسيّة.

لقد أنهت القاصة قصتها نهاية منسجمة مع النسيج العام للقصة، بحيث لم تبدو النهاية مقحمة أو غريبة.. فنهاية الجنون إذا استفحل قد يؤدي إلى الموت والانتشار بأشكال مختلفة وبأجناس وأعمار مختلفة، كما جاء في نهاية القصة.

الصورة في قصة (الرقص):

يأتي الاهتمام النقدي بدراسة بناء الصورة في الأدب بشكل عام، وفي القص الأدبي بشكل خاص، من منطلق أن الصورة أساس الخلق الفني، كونها تحمل المواقف الاجتماعيّة والفنيّة والجماليّة وخلجات الروح الداخليّة للقاص في النص الأدبي. كما وتسهم في فهم تجربة الأديب الإبداعيّة ذاته من خلال قدرة الصورة على بناء الأشكال المجازيّة التي تنقل رؤية الأديب للمتلقي. وتعمل على تحويل الواقع الحسي إلى عوالم إبداعيّة خلاقة.

لنتابع بعض هذه الصور الإبداعيّة التي جادت بها قريحة وخبرة وعمق تجربة القاصة "عبير عزاوي". وهي هنا تتكئ على صور جمعت بين الحسيّة والتخيليّة، لتترك المتلقي في حالة اندهاش من قدرتها على الغوص في أعماق شخوصها. حيث تقول:

(أطفأت الحمى طفلتها الصغرى). و(نثرت على الطرقات خبز الميتين وأهرقت ماء الشجن.). و(غابت في لجة مرض أقعدها شهورا). و(حاولت لجم أعضائها لكنها لم تستكن). أو في قولها: (وعيون الجيران تشهق دهشة). الخ

لقد استطاعت القاصة أن تجعل من صورها التخيليّة داخل قصة (الرقص)أكثر حسيّة وجماليّة، حيث تميزت القصة بحشد التفاصيل الأساسيّة للحدث، ونقل هذه التفاصيل عبر وعي حاذق للقاصة، التي استمدت هذه الصور عبر الحواس أولاً، وعبر التخيل والمجاز ثانياً، مما ساهم في رسم صور بصريّة حققت قدرتها التأثيريّة على المتلقي.

العناية باللغة:

لقد اعتنت القاصة عناية بالغة باللغة التي صيغت بطريقة أقرب إلى الشاعريّة. حيث تجد فيها الكثير من المحسنات البديعيّة، كالترادف، والمقابلة، والتورية، وكثرة الانزياحات اللغويّة، والصور البيانيّة كالتشبيه والاستعارة والكنايّة، كما ظهر لنا كل ذاك التعدد في نوعيّة الجمل التي كانت تنوس بين الخبر والانشاء، هذا إضافة إلى ورود الجمل ذات المعنى الحقيقي والمعنى المجازي، الأمر الذي يجعل المتلقي يشعر بأن مسألة التعامل مع البلاغة عند "عبير عزازي" تأتي بشكل مدروس كحرفة تمتهنها بشكل متعمد، وهذا ما حول الصفة الأدبيّة في القصة من السهل الممتنع، ومن حالة جمالية وفنية، إلى تصنيع متكلف أرهق دلالات المعنى إلى حد ما.. وهذا لا يعيب أسلوب القاصة على أية حال.

لقد جاءت اللغة في عمومها عند القاصة سليمة وفصيحة، استخدمت من قبل القاصة بقدرات تعبيريّة باهرة، وهذا يدل في الحقيقة على الثراء والغنى الفكري من حيث قدرة التعبير وقوة التصوير في آن واحد عند القاصة، كما يدل ذلك على أن القاصة حازت على لغة فنيّة خاصة بها. وهذه القدرة لا تأتي إلا من خلال وعي القاصة أيضاً بقضايا المجتمع بأفراحها وأحزانها، إضافة لعمق تجربتها.

المكان والزمان في القصة:

يعتبر كل من المكان والزمان من العوامل المؤثرة في العمل السردي عموماً، حيث يمكن أن يكونا خلفيّةً للأحداث، أو يكونا عنصرًا مهمًا في تطور القصة وسياقها. ويمكن للمكان أن يكون حقيقيًّا أو خياليًّا، ويمكن للزمان أن يكون ماضيًا أو حاضرًا أو مستقبلًا، وقد يكون المكان معبراً في دلالاته عن طبيعة المأساة الواردة في القصة، فالفقراء وأحياؤهم المتعبة في خدماتها دائما ما تكون الحاضن الرئيس لمآسي الفقراء، حيث تقول: (في بادئ الأمر طافت في الأزقة الترابيّة للأحياء الفقيرة، تتبعها عيون الناس ووشوشاتهم..). بيد أن حالة تصاعد شدّة الجنون وكثرة من أصابهم من أهل المدينة كلها، دفعها ومن جن معها للرقص: (قدماها الرشيقتان لم تتوقفا، بل قادتاها إلى الشوارع العريضة وسط المدينة... وفي قمر اليوم الثالث رقصت في وسط الساحة الكبرى).

أما الزمان فقد ارتبط في المكان وشكل الوجه الآخر للمأساة، إنه زمان تسلط دول الاستبداد وأيديولوجياته ونشر الجوع والقهر والتشرد والدم والجنون، فمع اليوم السابع كانت (قافلة الراقصين تجوب الشوارع الهاجعة كل يوم ثم تقضي الليل في ساحة المدينة، وكل يوم تزيد وفدا جديدا).

الرمز والايحاء في القصة:

لقد اعتمدت القاصة أسلوباً ممتعاً في تصوير الحدث، متكئة كثيراً على استخدام الرمز في تفرعاته الخصبة من إيحاء وإشارة وتلميح، حيث تقول: (أطفأت الحمى طفلتها الصغرى). أي قتلتها. أو في قولها: (وتوحشت حمى الرقص في شرايينها). أي فقدت القدرة على التوازن وبدأت ترقص دون وعي.

لقد اعتمدت القاصة "عبير" على تقطيع الحدث، وكسر الإيقاع وتداخله، بحيث تبدو القصة وكأنها مجموعة من الفقرات الموجزة، غير المسترسلة، ولكنها الموحدة في بنيتها الدلاليّة، قدمتها القاصة لتكشف عن ايحاءات فكريّة وفنية قويّة.

ملاك القول:

إن الكاتب أو الأديب الحقيقي هو الذي يلتزم بالواقع المحيط به، وينحاز لجذوره الاجتماعيّة والطبقيّة وتناقضاتها والعمل على تصويرها وطرح الحلول لها إن أمكن.

أو بتعبير آخر: إن الأديب الحق هو الذي يلتزم بواقعه بالقدر الذي يلتزم فيه بقيمه ومبادئه التي يبشر بها في كتاباته. (فالعناية بالطابع المحلي هي الطريق إلى العالميّة.) فلا سبيل لعالميّة الفن إلا إذا اهتم الأديب وعبر أولاً عن البيئة المحليّة التي عاش فيها. إن هموم الإنسان ومعاناته اليوم قد تختلف في الشكل، إلا انها تتلاقى من حيث الجوهر. والتجارب الأدبية بشكل عام تهدف إلى تحرير الإنسان من غربته وقهره واستلابه وجوعه ومقاومة من يعمل على امتصاص قوته وجهده وسلبه حريته وعقله.

من هذا المنطلق جاءت واقعيّة قصة (الرقص)، لقد سعت القاصة جاهدة إلى تصوير الحياة اليوميّة والأحداث الواقعيّة التي هزت سورية وشعبها خلال خمسة عشر عاماً. حيث ركزت هذه القصة على تصوير الشخصيات والمشاكل والتحديات التي واجهت قسماً كبيراً من المجتمع السوري في معاناته، فالجنون لدى معظم الشعب السوري أصبح ظاهرة تفقع العين... بيوت بمئات الآلاف تهدمت .. مليون قتيل أو شهيد لا فرق، عشرات الآلاف من المعاقين، وملايين من المشردين وعشرات الآلاف من الأرامل واليتامى والمفقودين.. لذلك راح الكل يرقص بهذا الشكل من الجنون أو ذاك، في الوقت الذي تمتلئ فيه المراقص الليليّة من الفاسدين وتجار الدم والوطن، وهم يرقصون فرحا دون مبالاة بمن يرقص من الجوع والقهر والألم والفقد.

***

د. عدنان عويّد:

كاتب وباحث من سوريا.

"بثوبِ صلاتها المطرّز بالدعاء".

صباحُ الحياةِ يا أمي": الحضورُ الغائب والرمزُ الأمومي في مرثية خلدون.

تعالج هذه الدراسة نصاً نثرياً شِعريّ اللغة كتبه الشاعر والناثر خلدون عماد رحمة في رثاء والدته الراحلة انتصار، مقارِبة إياه من زوايا نقدية نفسية وتأويلية ورمزية. يُقرأ النص بوصفه انبثاقاً وجدانياً عميقاً تتجلى فيه صورة الأم لا بصفتها فرداً غائباً، بل حضوراً متعالياً يتجاوز حدود الزمن والواقع. تقترح هذه الورقة أن الأم في النص ليست فقط أمّاً بيولوجية، بل كائناً رمزياً مركّباً يعبّر عن الأصل، والكينونة، والحقيقة المفقودة، والهوية الجذرية. من خلال تحليل الصور الشعرية، والبنية النفسية الرمزية، تسعى الدراسة إلى إظهار كيف يتحوّل الفقد إلى طقس استحضار، وكيف يتحوّل الألم إلى طاقة رمزية كاشفة عن أعماق اللاوعي الفردي والجمعي معاً.

النص الأدبي موضع الدراسة:

بثوبِ صلاتها المطرّز بالدعاء، بضحكتها الدافئة كامتلاءِ الفمِ بالحليب، بمراياها العميقةِ حيثُ أراني بكلِّ أبعادي، بأصابعها إذْ يكون المرمرُ طرياً، بعينيها الخالدتين اللتين تفضيان إلى برزخٍ يفصلني عن العالم، بحكمة صبرها ورهافة حسّها وبراعة حدسها، بلحمها ودمها، بكلِّ ما فيها… دخلتْ غرفتي.

هل أنا حيّ لأصدّق ما أرى؟ دخلتْ عليّ بفرحٍ هادئٍ فتصدّعَ جبلُ حزني، أضاءت غاباتِ عزلتي بنورٍ يشعشع من أقمارِ محيّاها، غطّت المكانَ بحريرِ حنانها، صبّت روحَها في صدري فاندهش الطفلُ الغامض في روحي، خطفتني برائحةِ عطرها السريّ الطالع من مشيتها الملائكيّة.

التبسَ عليّ صحوي، شككتُ بجسدي أتحسّسُه، غرقتُ حواسي ببحر الجنون.

جلستْ أمامي على الكنبى وقالت بصوت الحبّ:

– صباح الخير يا أمّي

صرختُ من جوفي:

– صباحُ الحياةِ يا أمّي

همست:

– أشتهي فنجانَ قهوةٍ من يدكَ

ارتبكتُ جداً حتى احترقت شجرةُ الكلام في حنجرتي، فأوحيتُ لها بلغةِ العينِ الدامعة:

– سأغلي القهوةَ على نارِ قلبي.

وضعتُ الركوة وعدتُ مُسرعاً نحوها… لم أجدها… لم أجدْ إلا ثوبَ صلاتها مُعلّقاً على كتفِ غربتي.

أولاً – القراءة النفسية: الأم كصورة أولى وكمعادل للذات:

يمثّل حضور الأم في النص حالة اندماج سيكولوجي، يُعيد القارئ إلى مفهوم "الأم الكبرى" في علم النفس التحليلي اليونغي،ـ نسبةً إلى كارل غوستاف يونغ ـ والتي تمثل الرحم الأول، والأمان الكلّي، والمصدر الذي لا ينضب للمعنى والاحتواء. هذه الأم ليست فقط واقعية، بل هي المتجلية عبر كل تفصيل شعري وحسي: ثوب الصلاة، الضحكة، المرايا، الأصابع، العينان. إنها تجسيدٌ للحنوّ الكلي.

لكن حضورها أيضاً مشبعٌ بالانفصال، لأن كل عنصر يشي بنهاية أو فقدان، بما في ذلك اللحظة الأخيرة التي لا يُبقي منها سوى "ثوب الصلاة". هذا ما يشير إلى أن الذكرى في النص لا تُستدعى فقط، بل تُعاد كتابتها كواقع بديل عن الحاضر، عبر إعادة تمثيل "زيارة طيفية" للأم.

ثانياً – القراءة الرمزية: الأم كبرولوجيا الحضور والمطلق:

تمثّل الأم في هذا النص معادلاً رمزياً لفكرة "الحق" أو "الوجود الأصلاني". فالموت لم يُلغِ كينونتها، بل منحها حضوراً مطلقاً في عالم الشاعر. تقول الرؤية الرمزية إنّ الحضور لا يتحقّق بوجود الجسد، بل بسطوة المعنى. ولهذا تتكرر في النص صور النور (يشعشع، أقمار، غابات العزلة)، وهي استعارات ترمز إلى الخروج من العتمة إلى الانكشاف.

الأم هنا ليست شخصية فحسب، بل هي مفهوم كليّ للحنان الإلهي والسكينة الوجودية. وهي التي تخرج الشاعر من غربته – "صبّت روحها في صدري" – وهذا ليس فعلاً شعرياً فحسب، بل فعل تخلّق رمزي: "خلق جديد" للذات من خلال استحضار الأم كفكرة مطلقة.

ثالثاً – التأويل الوجودي: الحضور كأفق للحب، والفقد كمعنى للحضور:

عندما تقول الأم: "أشتهي فنجان قهوة من يدك"، تتحوّل هذه الجملة إلى استعارة عميقة لممارسة الحبّ الهادئ والمشاركة الإنسانية الكاملة. إنها لحظة اندماج تتجاوز الزمن، لكنّها أيضاً لحظة انكسار، لأن الواقع لا يفي بالوعد. يفور القلب لا الركوة، ولا تصل القهوة إلى فمها، لأن الغياب أسبق من الغلي.

وفي اللحظة الأخيرة، حين لا تبقى سوى "ثوب الصلاة"، تتكثّف دلالة المفارقة بين ما هو حاضر (الثوب، الذكرى، الحب) وما هو غائب (الذات الأم). وهكذا يصبح النص مرثية وجودية، حيث الذكرى ليست للموتى بل للأحياء الذين يُقتلعون من أمومتهم فجأة.

خاتمة:

إنَّ نص خلدون عماد رحمة لا يُكتب في باب الرثاء فقط، بل في باب الميتافيزيقا الشعرية للغائب، وهو نص يوسّع مفهوم "الحضور" ليتجاوز الجسد إلى الأثر، و"الحنان" ليتحوّل إلى رؤية كونية. وفي هذا المسار، تتحول الأم من شخص إلى بنية دالة، من جسد إلى لغة، ومن ألم إلى نور. لذا فإن "صباح الخير يا أمي"، ليست تحية يومية، بل إعلان ولادة متجددة من رحمٍ يتجاوز الموت.

***

بقلم: عماد خالد رحمة – برلين .

للشاعرة الفلسطينية عفاف عمورة

تُعد قصيدة "تراتيل امرأة... ووطن" نصاً شعرياً مركباً، تتقاطع فيه الذات مع الوطن، الأنثى مع القصيدة، الحلم مع المنفى، في نسيج لغوي تتجاوز فيه الشاعرة الأطر التقليدية لتبني رؤية كونية وجودية. هذا النص يستدعي قراءة نقدية متعددة المناهج تكشف خفاياه الجمالية والدلالية.

ففي مجال المقاربة البنيوية نجد أنّ القصيدة تتوزّع على ستة مقاطع (تراتيل)، تحمل بنية دورانية مغلقة، حيث يتكرّر حضور مفاتيح دلالية مركزية: (الشعر – الوطن – القصيدة – الأنا)، مما يشكل عُقداً شبكية من العلاقات البنيوية. بخاصة وأن البنية الإيقاعية الداخلية وعلى الرغم من غياب الوزن التقليدي، قائمة على التكرار الصوتي والتركيبي،

مثل: "أنا فيك..."، "يا وطني..."، "يا شعر..."، مما يولّد موسيقى نصيّة هادئة تتناسب مع طبيعة التراتيل.

يتقاطع الزمان (الحاضر/الماضي/المطلق) مع المكان (الوطن/الغربة/المنفى) ليشكلا محورين متقابلين داخل النص، يجعلانه مفتوحاً على احتمالات عدة، بينما تحافظ الذات الشاعرة على موقعها كمركز دلالي.

أما في سياق المقاربة التفكيكية ووفق المنهج التفكيكي، نلمس في النص انزياحاً عن المعاني الثابتة: الوطن ليس محدداً جغرافياً، بل حالة وجودية متعالية تقول الشاعرة عفاف عمورة: "وسيبقى في دمي وطن غريب..."

القصيدة تتحوّل إلى كائن حي، يحيا في الذات: "أنا القصيدة..."

الشعر يصبح الخلاص والانعتاق: "الشعر يختار انتصاري في الدجى..."

النص لا يمنح معناه دفعة واحدة، بل يتشظى إلى دلالات متداخلة: الأنوثة، القصيدة، الوطن، الذاكرة، كلها ذوات تتحاور وتتداخل حتى تتقوض الفواصل بينها، لتصبح الذات والآخر، الداخل والخارج، الحلم والواقع، أوجهاً لحقيقةٍ واحدة غير قابلة للحسم.

حتى صياغة المفارقات (كالنقاء/الحلم الضائع، النصر/الذي لم يكتمل) تعزز هذا التعدد الدلالي.

وهذا ما يدفعنا للبحث في المقاربة الأسلوبية لقصيدة ( تراتيل امرأة... ووطن من شعر): القصيدة غنية بالصور البلاغية: الاستعارة: "زمرة دمي عصر الفرادة" – "المحار في محاري سره" – "أنا زهرة لم تُستباح..."

الكناية: "صوتي يتغرغر في القصيدة..."

الرمزية العميقة: البحر، النخيل، الغيم، الحقل، كلها محطات لرحلة الذات.

الإيقاع الداخلي يظهر عبر التنويع التركيبي وتكرار البنى:

"أنا فيك..."، "يا شعر..."، "وطني أنا..."

كما تُشكل الألفاظ الحسية (الضوء، الموج، الحقول، المطر) توليفة جمالية تنقل القارئ من الواقع إلى أفق شعري تأملي.

تتسم اللغة بطابع روحاني صوفي يمزج بين البُعد الشخصي (كأنثى) والقومي (كوطن) في نبرة عالية الشفافية، دون خطابية زائدة.

خاتمة:

قصيدة "تراتيل امرأة... ووطن" نص مفتوح، يعكس أزمة وجودية عميقة للذات الأنثوية الفلسطينية، عبر استدعاء الشعر كخلاص، والوطن كحلم، والقصيدة كملاذ.

البنية المحكمة، الغموض الدلالي، الزخم الأسلوبي، كلها تجعل النص قابلاً لقراءات متجددة، يستعصي على التأويل النهائي، ليبقى شاهداً على تجربة شعرية تنتمي إلى الشعر الحديث بمقوماته الكبرى: الاغتراب، الحنين، المقاومة، الأمل، الحلم.

***

بقلم: عماد خالد رحمة - برلين

.........................

تراتيل امرأة... ووطن من شعر

(1)

سيجعلني الشعرُ الأبيُّ كما أرى

وطناً... يفوقُ حدودَ هذا المُنحدَرْ

*

وطناً له سِرُّ الطفولةِ، ضحكةٌ

نَسجتْ عروقَ الضوءِ... من ماءِ الفَجَرْ

*

أخفيتهُ بين الدفاترِ خاشعاً

كي لا يراهُ العابرون بلا بَصَرْ

*

كي لا يكونَ الشرُّ... أُكسيرَ الهَوى،

أو يصبحَ المعنى طعاماً للمَضَرْ

*

الشعرُ يختارُ انتصاري... في الدُّجى،

ويرتقي بي... فوق أحقادِ البَشَرْ

*

كالعائدين من الحروبِ... تكسَّروا

لكنْ على جبهاتِهم ظلُّ الظَّفَرْ

*

فأنا من النُّسلِ الغريبِ... ندرتي

تتماهتِ الأقدارُ فيها والقدرْ

*

زمْرتُ دمي عصرُ الفُرادةِ... حفنةٌ

من ألفِ قطرةِ روحِ أنثى لم تُثرْ

*

فأنا النقاءُ... وسرُّ حلمٍ ضائعٍ،

أنا القصيدةُ... لا يُقاسُ بي العُمرْ

(2)

يا شعرُ... يا وطنَ المعاني البكرِ... يا

رُوحَ القصيدةِ... يا انعتاقَ المنتَظرْ

*

أصغي لصوتِ البحرِ... ينطقُ في دمي،

فترتجفُ الأطيارُ... ينهضُ في السَّحَرْ

*

كُلُّ الموانيءِ... كلُّ شطآنِ النوى،

تعبرُ بقلبي... حينَ يُشعلُهُ الوَتَرْ

*

كلُّ المرايا الخاشعاتِ بمحرَبي،

تكشفْ وجوديَ من ضياءٍ أو شرَرْ

*

وأمشي على حزني... كأنّي عابِرٌ

حقلَ القصيدةِ... كي أسيرَ بلا عَثَرْ

*

فينحسرُ الموجُ العقيمُ... وتبتدي

جداولُ المعنى... انطلاقاً وانفجَرْ

*

يا كلَّ أزمنةِ الفُتونِ... عبرتني

حتى غدوتُ من الضياءِ بلا أثرْ

(3)

أنا هاهنا... أمضي على وجعي الجميلْ،

أعصي النسيانَ، أُمارسُ خطوَ من غَفَرْ

*

صوتي يتغرغرُ في القصيدةِ... واقفاً

كجدارِ معبدٍ... على وترٍ... وخَفَرْ

*

في هذه الأرضِ البعيدةِ... إنني

أحيا وأُولدُ كلَّ ثانيةٍ... سَكَرْ

*

هذا هو الوقتُ العقيمُ... وجنتُنا،

هذا جَنَينا... في عبورِ المُنتَهَرْ

*

فلنُشعلَ الذكرى قناديلَ النَّجا،

ونقيمَ قدّاسَ المعابرِ... بالسَّحَرْ

*

وألفُ سلامٍ يا قصائدَ عشقي الـ

منفيةَ في زمنِ الخيلاءِ... والقهرْ

(4)

يا وطني المخبوءَ في سرِّ القصيدْ،

يا ظلَّ ذاكرةِ المحارةِ... يا بُعْدْ

*

أنا فيكَ... كالغيماتِ تسري في الدجى،

وتفيضُ من جُرحِ الترابِ... ومن وَجْدْ

*

أنا فيكَ... كالنخلِ المضيءِ... إذا انحنى،

عادَ إلى الشطآنِ ينثرُ ألفَ بُرْدْ

*

يا صمتَ غارٍ كانَ سرَّ الوحيِ... في

حَجَرٍ تكلَّمَ... ثم أزهرَ في الخُلدْ

*

إنّي المحارُ... وفي محاري سِرُّهُ،

والريحُ تسألُني... فأمنحُها العهدْ

*

وطني أنا... وأنا القصيدةُ حينما

أمشي عليهِ... يعانقُ النَّبضُ الجَسدْ

*

وأعودُ طفلاً... طاهراً... متخلِّياً

عن كلِّ شيءٍ... غيرَ ذاكرةِ الخُلدْ

(5)

يا غربتي... كم كنتِ حضنَ احتمالهِ،

يا ضفّةَ التعبِ الجميلِ... بلا أمدْ

*

يا وطنَ الأسماءِ... يا وطنَ النساءْ،

يا عزلةَ الأنثى... التي خُلِقَتْ نُدُدْ

*

أنا لا أضيعُ... فكلُّ خطوي قصيدةٌ

والكونُ قافيةٌ تسيرُ بلا حَدَدْ

*

هذا انعتاقي... لا شقيقَ لهُ سوى

صوتِ الصلاةِ... وموطني الأولِ... الأبَدْ

(6)

أنا فيك يا شعرُ... ما بينَ الحُنا

وطني الذي يختارني... بيتاً وسَدْ

*

لأعودَ في زمني القديمِ... مبللاً

بندى الحقيقةِ... بالمرايا... بالوَعَدْ

*

أنا فكرةُ النصرِ الذي لم يكتملْ،

أنا زهرةٌ... لم تُستباحْ... ولم تَزِدْ

*

أُولدُ من موجِ القصيدةِ... من رؤى،

وأعودُ أغزلُ من صهيلِ الريحِ... غدْ

*

وسيبقى في دمي وطنٌ غريبٌ...

لا يراهُ سوى القصائدِ... واليدْ.

 

(تجليات في روحي)

(كآخر ليلٍ

خلف آخر نجمة

تجليك في روحي التي قد تجلّت

بعيدان حدّ الضوءِ

حدّ انعكاسهِ

قريبان حدّ الظلّ

حد التفلّتِ

أتيت بلا وجهٍ

وغبتُ بلا خطاً

فطيفك دربي

وانتظارك وجهتي

ترددت حتى خلت صوتي تعثري

وخطّ يدي محوي

وخوفي هويتي

ولم أدر ما عيناي حتى استهلتا

بدمعي

ورأسي

وانتباهي

وسمرتي

رأيتك في هذا الدخان

وليس ما أراه

سوى هذا الدخان المشتتِ

وغادرني قبل انطفائي بشمعةٍ

وقبل اختناق الأغنيات بشهقةِ

وعدت مراراً للخيال

ولم أزل أعيد خيالي

مرة بعد مرة

هنالك

-والإنسان يبدو أخف من خطاياهُ-

خالطنا الخطايا فخفّتِ

وأرهقت أنفاساً تدلت بأضلعي إليكِ

كما أرهفتها وتدلّتِ

ضممتك لي

لا أنت عندي ولا أنا

ولا جسدٌ إلاّ شذاك ورعشتي

همست كأن الريح شُدّتْ من المدى

وحطت على أرضٍ

من الرملِ شدّتِ

فما ذرة مني

ولا منك ذرّةٌ

سوى عانقت من بعضنا

كلّ ذرّة

بلا لغةٍ

والوقت محض قصيدةٍ

ولا شفةٍ

لكننا نصف قبلةِ

وبالحسن

شعراً طاعناً في سكوتهِ

وبالقلبِ أعمى طاعناً في التفلّت

حملنا جروح العشقِ

كنتُ الفتى الذي يصابُ

وكنت السهمَ

والمرأة التي ...)

***

تجليات في روح الشاعر السعودي إياد الحكمي

لعله أصعب الكلام ذلك الذي يقال في النهايات، لأنه قد يعني ويحدد حقيقة السلوك، ولعله يوضح الحقائق التي يمكن أن تكون قد بقيت خافية لزمن طويل، القول في النهايات غالباً ما يجيء مختصراً هادفاً دالاً، عندما ندرس في الرياضيات نهاية تابع ما عند أطراف مجالات تعريفه يثيرني القول: إن هذه الدراسة تفيد في معرفة سلوك خطه البياني عند أطراف مجالات التعريف!!، وفي الحياة أيضاً عند نهايات المجالات من الحياة يصبح القول دالاّ على حقيقة السلوك، زمن الوداع والهجرة والرحيل، زمن الفراق والمخالصة والانفصال، قد تعبر عن نهايات مجالات في حياتنا كما أن زمن اللقاء والإقامة والبقاء، وزمن الألفة والحب والارتباط قد تعبر عن بدايات مجالات في حياتنا، فأطراف المجالات تعني البدايات والنهايات وأما في الحياة نعني بالنهايات نهاية المجال وليس بدايته، وهي المقابلات المناظرة لها بالنسبة لما يفترضه نوع التناظر، أما قول الشعر في النهايات يقتضي التوقف والتأمل، وهذا ما سأحاول أن أفعله في دراستي لقصيدة الشاعر السعودي إياد الحكمي (تجليات في روحي) التي تضمنتها مجموعته الشعرية (لا أسميك أيها اليأس وقتاً) الصادرة عن أكاديمية الشعر في أبو ظبي .

الفرع الأول:

يقول الشاعر:

(كآخر ليلٍ

خلف آخر نجمة

تجليك في روحي التي قد تجلّت

بعيدان حدّ الضوءِ

حدّ انعكاسهِ

قريبان حدّ الظلّ

حد التفلّتِ

أتيت بلا وجهٍ

وغبتُ بلا خطاً

فطيفك دربي

وانتظارك وجهتي

ترددت حتى خلت صوتي تعثري

وخطّ يدي محوي

وخوفي هويتي

ولم أدر ما عيناي حتى استهلتا

بدمعي

ورأسي

وانتباهي

وسمرتي

رأيتك في هذا الدخان

وليس ما أراه

سوى هذا الدخان المشتتِ

وغادرني قبل انطفائي بشمعةٍ

وقبل اختناق الأغنيات بشهقةِ

وعدت مراراً للخيال

ولم أزل أعيد خيالي

مرة بعد مرة)

يبين الشاعر في هذا الفرع صورة التجلي للحب وعقدته (كآخر ليلٍ) وشعابه الرئيسة هي: (كآخر ليلٍ / خلف آخر نجمة) و(تجليك في روحي التي قد تجلّت) و(أتيت بلا وجهٍ / وغبتُ بلا خطاً) و(ترددت حتى خلت صوتي تعثري / وخطّ يدي محوي / وخوفي هويتي) و(ولم أدر ما عيناي حتى استهلتا / بدمعي / ورأسي / وانتباهي / وسمرتي) و(رأيتك في هذا الدخان / وليس ما أراه / سوى هذا الدخان المشتتِ) و(وغادرني قبل انطفائي بشمعةٍ / وقبل اختناق الأغنيات بشهقةِ) و(وعدت مراراً للخيال / ولم أزل أعيد خيالي / مرة بعد مرة)، أما شعابه الثانوية فهي: (بعيدان حدّ الضوءِ / حدّ انعكاسهِ) و(قريبان حدّ الظلّ / حد التفلّتِ) و(فطيفك دربي / وانتظارك وجهتي).

في المعنى:

الأسلوب في هذا الفرع يجمع بين الخبري والإنشائي، وفيه يقدم الشاعر ملامح التجلي من حيث الزمان والمكان، فقوله: (كآخر ليلٍ / خلف آخر نجمة / تجليك في روحي التي قد تجلّت) أي في اللحظات الأخيرة من الليل، وبعد أفول آخر نجمة فيه بانت وظهرت في روحه التي أشرقت على نفسه، وقوله: (بعيدان حدّ الضوءِ / حدّ انعكاسهِ / قريبان حدّ الظلّ / حد التفلّتِ) أي فبانت في تجلي روحه كأنهما بعيدان بعد الضوء عن انعكاسه، والبعد هنا لا يعني المسافة بقدر ما يعني التفاوت، أي منفصلان لا تلتقيان من حيث تفاوت الكثافة في التجلي فالضوء المنعكس يكون أكثر شفافية ورقة من الضوء نفسه، ولكنهما يبدوان قريبين قرب ظل الشيء من الشيء ذاته، إنه قولٌ في النهايات التي تقدم الحديث عنها، نهاية ليل، ثم نهاية نور النجم، عند هذا الحد يبين الشاعر صورة التجلي، أولا للروح المحتجبة في النفس، وللمحبوبة المحتجبة في نفسه وروحه، وقوله: (أتيتِ بلا وجهٍ / وغبتِ بلا خطاً / فطيفك دربي / وانتظارك وجهتي) جاءت على غير ما تجيء العاشقات في الوقت الأخير من الليل، لأن مجيئها معنوي، أي تجلت له فرآها لا تحد بوجه آدمي وغابت من غير خطاً فكان حضورها كالطيف اللطيف يسعى إليه ويتوجه إليه حيث تبدو علائمه، وقوله: (ترددت حتى خلت صوتي تعثري / وخطّ يدي محوي / وخوفي هويتي) وهذا حال العاشق الي ينتظر من يهوى! أي في لحظة تجليها بدا في حالة من الحيرة بين الشك واليقين حتى ظن أن صوته لن يقدر على القول، فحاول أن يعبر كتابة حتى خال أن ما يكتبه قد غيب تجليه ولم يبق شيءٌ دال على حضوره سوى الخوف والرهبة في تلك اللحظات العصيبة، وقوله: (ولم أدر ما عيناي حتى استهلتا بدمعي / ورأسي / وانتباهي / وسمرتي) أي في تلك اللحظات ما كان يحس بوجوده الحسي وبعينيه لولا من الدموع التي انهمرت غزيرة من حرارة تلك اللحظات، وقوله: (رأيتك في هذا الدخان / وليس ما أراه / سوى هذا الدخان المشتتِ) أي رآها روية العين في هذا الدخان الذي يملأ الفراغ حتى ظنها معينة فيه، فإذا هي ممتدة إلى نهايات الدخان الذي بدا مشتتاً بعد الكثافة، وقوله: (وغادرني قبل انطفائي بشمعةٍ / وقبل اختناق الأغنيات بشهقةِ) أي وعندما غادره هذا الدخان المشتت قبل انطفاء شمعة تجليه وقبل زوال موسيقا الفرح لأغنيات اللقاء بشهقة واحدة، وقوله: (وعدت مراراً للخيال / ولم أزل أعيد خيالي / مرة بعد مرة) أي قبل الانطفاء وقبل زوال الأغنيات عاد إلى خياله لاستحضار صورة تجليها وما زال يعيد الخيال مرة تلو الأخرى من أجل ذلك.

الصورة والبيان:

يستغرق الشاعر في هذا الفرع  بوصف لحظة التجلي، على غير طرق الشعراء المتصوفين في الكتابة عن مثل هذه اللحظات، ثم يتحدث عن التجلي على ما ينحو نحوه المتصوفون، لكنه يحاول أن يتحرر من المحسوس ويرتقي إلى المعنوي، وهي اللحظات التي يعبر فيها الشاعر عن النهايات وهنا يكون الحديث في المعاني والحقائق، ولا يخلو هذا الفرع من المفردات الصوفية والتعابير الصوفية من دون تصوف، من هنا يكون الحديث عن الصورة البيانية المألوفة ليس ذا أهمية، بقدر ما تكون الأهمية للمعاني والأفكار، إنه أقرب إلى السهل الممتنع، فالجمل والتعابير والتراكيب الشعرية من شدة وضوحها يصعب توضيحها وشرحها لأن قبولها يكون بالحدوس وليس بإقامة الحجة أو الدليل. إنها البلاغة البلاغة !!، فكيف يمكن أن نوضح البلاغة في البلاغة؟!.

الفرع الثاني:

يقول الشاعر:

(هنالك

- والإنسان يبدو أخف من خطاياهُ -

خالطنا الخطايا فخفّتِ

وأرهفتُ أنفاساً تدلت بأضلعي إليكِ

كما أرهفتِها وتدلّتِ

ضممتك لي

لا أنت عندي ولا أنا

ولا جسدٌ إلاّ شذاك ورعشتي

همست كأن الريح شُدّتْ من المدى

وحطت على أرضٍ

من الرملِ شدّتِ

فما ذرة مني

ولا منك ذرّةٌ

سوى عانقت من بعضنا

كلّ ذرّة

بلا لغةٍ

والوقت محض قصيدةٍ

ولا شفةٍ

لكننا نصف قبلةِ

وبالحسن

شعراً طاعناً في سكوتهِ

وبالقلبِ أعمى طاعناً في التفلّت

حملنا جروح العشقِ

كنتُ الفتى الذي يصابُ

وكنت السهمَ

والمرأة التي ...)

يبين الشاعر في هذا الفرع صورة الكيفية للتجلي وعقدته (هنالك) وشعابه الرئيسة والثانويّة لا داعي لذكرها اختصاراً.

في المعنى:

الأسلوب في هذا الفرع خبري وإنشائي، وفيه يتابع الشاعر بيان كيفية التجليات في روحه، فقوله: (هنالك / -والإنسان يبدو أخف من خطاياهُ- / خالطنا الخطايا فخفّتِ) أي في ذلك المكان والزمان للتجلي حيث يكون للإنسان ما سعى، وما قدم لنفسه فيما مضى، يبدو الإنسان بوزنه الحسي أقل بما لا يقاس من ثقل الآثام التي ارتكبها في حياته، فأضاف كل منهما خطاياه إلى خطايا الآخر فبدت أخف ثقلاً عليهما، وقوله: (وأرهفتُ أنفاساً تدلّت بأضلعي إليكِ / كما أرهفتِها وتدلّتِ)، أي جعل أنفاسه التي تملأ صدره الحاني إليها أكثر رقة كأنفاسها التي التي رقّت واستجابت لأنفاسه ودنت واقتربت، وقوله: (ضممتك لي / لا أنت عندي ولا أنا / ولا جسدٌ إلاّ شذاك ورعشتي) أي ضمّها حيث لا شيء سوى أثريهما، عطرها ورعشته قائمتان في النفس من غير جسد، وقوله: (همست كأن الريح شُدّتْ من المدى / وحطت على أرضٍ / من الرملِ شدّتِ) أي كان همسه كالريح التي تهب على أرض رملية فتتخللها وتبعثر حباتها، وقوله: (فما ذرة مني / ولا منك ذرّةٌ / سوى عانقت من بعضنا / كلّ ذرّة) أي كان عناقاً شاملاً كاملاً بينهما، وقوله: (بلا لغةٍ / والوقت محض قصيدةٍ / ولا شفةٍ / لكننا نصف قبلةِ) أي الهمس كان من غير قول، والقبلة كانت من غير شفة لأن كلاً منهما كان في لحظة التجلي، فمثّلا معاً النصف المعنوي من القبلة من دون نصفهما الحسي، وهما في لحظة التجلي الشعري، وقوله: (وبالحسن / شعراً طاعناً في سكوتهِ / وبالقلبِ أعمى طاعناً في التفلّت) أي هناك حيث يكون الشعر ممعناً في الصمت فيما يكون القلب متحرراً من كل قيد، وقوله: (حملنا جروح العشقِ / كنتُ الفتى الذي يصابُ / وكنت السهمَ / والمرأة التي ...) أي تقاسما معاً في تلك اللحظات من التجلي جروح الهوى والعشق المقدس فكان الشاعر الفتى الذى أصيب بينما كانت القصيدة هي السهم والمرأة ترمي فتصيب.

زمن القصيدة:

الزمن في القصيدة يتقلص حتى يغدو برهة زمنية آنية، وهي لحظة التجلي، وهو زمن يتقاطع فيه الزمن الحسي مع الزمن النفسي الداخلي، إنها لحظة تشبه اللحظة الفاصلة بين آخر ليل مظلم، وغياب آخر نجمة فيه حيث تجلت مع تجلي روحه، وزمن القصيدة هو زمن تجلي روح الشاعر مع زمن تجليها، وقد قابل الشاعر بين المرأة المحبوبة وبين القصيدة الشعرية، ثم مازج بينهما من خلال تقاطع الصفات المشتركة، فبقي الجانب الحسي عبر زمن إحداثه ذا تأثير حسي من خلال الصور الشعرية المباشرة، أما الجانب المعنوي فقد كان زمنه مكثفاً إلى الدرجة التي بدا فيه الفعل متخيلاً عبر استخدام المعاني المجازية والصور البيانية، وهذا الزمن هو زمن قابل للتكرار والتبدل والتجدد، لأن قوله: (كآخر ليل) أي آخر أي ليلٍ، ولا أدري لماذا ذكرتني هذه القصيدة بقصة الأعرابية الشهيرة وإنشادها، (لها أنّة عند العشاء وأنة / سحيراً ولولا أنتاها لجنّتِ) على الرغم من اختلاف الموضوع لكن القافية نادرة ومؤثرة. ويبقى زمن القصيدة هو تقاطع أزمنة مكوناتها الحسية والمعنوية.

ضيق العبارة واتساع المعنى:

وهذا قول النفري المتصوف الكبير (كلما اتسعت الرؤيا ضاقت العبارة)، الذي ترك (مخاطباته) كنزاً غنيّاً فريداً في علم القول وفنه، وسأوضح هذا القول الذي ينطبق في مواقع متعددة من هذه القصيدة من خلال المثال التالي:

المثال:

(بعيدان حدّ الضوءِ / حدّ انعكاسهِ / قريبان حدّ الظلّ / حد التفلّتِ)

هذا البيت الشعري يستدعي التوقف والتأمل والتبصر من أجل فهمه من جهة ومن أجل محاولة الاستدلال على الأصول في طريقة وصول الشاعر إليه، وبذلك تتوضح الصورة القريبة للتجلي ومعناه لدى الشاعر، يقول: (بعيدان) أي المتجلي وهو الحبيبة هنا (القصيدة أو المرأة) وإن كنّا قد قدمنا في المعنى لما يظهر لا حقاً في القصيدة، والمُتجلَّى له، وهي روح الشاعر المتجلية أيضاً، فماذا عنى الشاعر بهذا البعد؟ هل عنى المسافة؟ من دون شك: إن البعد مسافة من حيث البعد المكاني، لكن البعد هنا بعد معنوي، وهذا يعني الاختلاف في التجلي على الرغم من الاتفاق في الصفة وهي هنا التجلي، وقوله: (حد الضوء) وذلك من أجل تقريب صورة المعنى إذ ليس للضوء حد،  لكن من أجل أن يبيّن ماذا يعني بالبعد هنا، وقوله: (حد انعكاسه) أي من أجل تقريب المعنى أيضاً،  إذ ليس لانعكاس الضوء حد، والمعنى: إن البعد بين تجليهما معاً كبعد الضوء عن انعكاسه، وهنا نتبين ماذا عنى الشاعر بالبعد: إنه التفاوت في الحضور، إذ من المعلوم أن الضوء المنعكس يكون أكثر شفافية ورقة وكثافة من الضوء نفسه، فهما بعيدان بعد التفاوت في شدة الحضور والتجلي، ولكن الذي يثيرنا ويدفعنا دفعاً للمساءلة هو قوله: (بعيدان) مما يجعلنا نتوهم أن الشاعر قد وقع في تناقض، إذ كيف يمكن يكون شيئان متباعدين من جهة وهما قريبان من بعضيهما من جهة أخرى؟!، حتى نستدرك أن هذا التناقض يكون في المعاني الحقيقية الحسية، أما في لغة الجاز فذلك ممكن وجائز، ولكي تتوضح الصورة فإن الشاعر يعطي صورة قريبة لتمثل الأمر فيقول: (حد الظل) إذ يكون ظل الشيء على هيئة ذلك الشيء من حيث الضوء الوارد إليه ومعلوم أن ظل الشيء ينعدم إذا كانت زاوية ورود الضوء على الشيء معدومة، وحين يميل الضوء في وروده إلى الشيء يميل ظله، وكلما كانت زاوية الورود صغيرة كلما كانت زاوية الانعكاس صغيرة أيضاً ويكون الظل صغيراً، وكلما كانت زاوية الورود كبيرة كان الظل كبيراً حتى ينفلت الظل ويصبح في اللانهاية حين تقترب زاوية الورود من التعامد على الشيء ذاته، وتبقى زاوية انكاس الضوء مساوية لزاوية وروده وعل الرغم من التجاور فيما بينهما فالظل يبتعد ابتعاداً كبيراً، أي متقاربان من حيث التجلي متباعدان من حيث شدة الحضور والتجلي.

التوازن وتمثيل القصيدة:

إن مركز توازن القصيدة الشعرية هو (التجلي)، لأنه يمثل نقطة انطلاقها وبؤرة انبثاقها، ويمكن اعتبار كل عقدة من عقدتيها نقطة توازن بالإضافة إلى النقاط التالية:

أولا: (التفلّت) هي نقطة تقاطع بين الفرعين الأول والثاني فهي نقطة توازن .

ثانياً: (الانعكاس) هي نقطة تقاطع بين الفرعين الأول والثاني فهي نقطة توازن .

فإذا مثلنا مركز توازن القصيدة بدائرة مركزية صغيرة ومثلنا عقدتي الفرعين على محيط دائرة متمركزة مع الدائرة السابقة،  ثم مثلنا نقاط التوازن على محيط دائرة أخرى متمركزة مع الدائرتين السابقتين، ثم مثلنا الفرعين بأشعة منطلقة من المركز إلى عقد الفروع، وبعد ذلك إذا مثلنا الشعاب الرئيسة والفرعية بأشعة منطلقة من كل عقدة من فرعي القصيدة إلى نهايات المسارات لكل فرع، نكون بذلك قد حصلنا على تمثيل دائري للقصيدة، وهذا التمثيل يمكن أن يبين كيف أن القصيدة تميل إلى التوازن. على الرغم من أنها تتكون من فرعين اثنين فقط .

القصيدة الاحتمالية والنص الممكن:

تتألف القصيدة من فرعين ويمكن إعادة ترتيبهما بطريقتين فقط،  أي يمكننا أن نحصل على قصيدتين ناتجتين من إعادة ترتيب الفرعين، وإذا لاحظنا أن الفرع الأول يتكون من تسع شعاب رئيسة فيمكن إعادة ترتيب هذه الشعاب ب(9) عاملي أي ب(362880) طريقة، وفيه ثلاث شعاب ثانوية ويمكننا إعادة ترتيبها بست طرق، وهكذا يمكننا أن نعيد ترتيب الفرعين مع شعاب الفرع الأول ب(725772) طريقة، وإذا أجرينا الطريقة نفسها على الفرع الثاني،  نجد أنه بالإمكان أن نحصل على عدد كبير من القصائد الشعرية التي يمكن أن نحصل عليها من هذه القصيدة، وكل قصيدة منها هي قصيدة افتراضية، لكنها تعتبر نصاً ممكنا ولو نظريّا، أما إذا لاحظنا أن القصيدة تتكون من ستة عشر بيتاً شعرياً فيمكن إعادة ترتيب أبيات القصيدة ب(20922798888000) طريقة، أي هناك العدد نفسه من القصائد التي يمكن أن نحصل عليها بعدد إمكانات إعادة ترتيب الأبيات في هذه القصيدة، وهو رقم كبير جداً كما نلاحظ، وكل قصيدة من هذه القصائد تمثل قصيدة احتمالية، وهي افتراضية من دون شك، والشاعر لا يعترف على أي من القصائد الممكنة، إنما يعترف بالقصيدة التي أشهرها رسماً في مجموعته الشعرية (لا أسميك أيها اليأس وقتاً) على الرغم من أنها تمثل واحدة من هذه القصائد الممكنة.

***

مفيد خنسة - ناقد

رواية موت "إيفان إيليتش" لليو تولستوي

إن فكرة التناهي، لا تتخذ في واقع الأمر، شكلاً واحدا في الآداب الغربية، فالموت الذي يقوم الرعب بتعريته، وتقديمه إلى الناس، هو الجملة الأخيرة التي تقول كل شيء، هو الحجة الصادقة، التي زادها التماهي القائم في الوعي الغربي، بين الفلسفة والدين، رهبة واسعة طاغية، في أوساط التيارات الأدبية، التي تعددت منهاج تأويلها، وفكرها المتمحور حول الحتف نفسه، فالمنية صياغة اطارها المنهجي مكتمل الدائرة عندنا نحن، لأن الوفاة في مجتمعاتنا المسلمة، مرتبطة بديمومة الحياة واستمرارها، فنحن نعجب بالفوت، ونأنس إليه، ونسعى أن يتصل شبابنا به، بعد أن تشدقنا بألفاظ التضحية، والفداء، في بيئاتنا العربية الخاصة، فحقيقة الهلاك التي لا نفكر إلا فيها، ولا نعني إلا بها، يخشاها الغرب، ويتوجس منها، ويعتبرها انجراف إلى نمط من المتاهات العصيبة، يصعب التوفيق بين مقتضياتها، فتأويلات الغرب لفكرة الفناء، لا تمضي على وتيرة متشابهة مثلنا نحن، فالغرب يقر بأن الفناء، تأويل واف لتاريخية الإنسان، ودورة تكوينه الأزلي، و يدرك بأن من المستحيل  تجاهل الربط التلازمي بين الحياة والموت، ويعينه مخزونه العقدي والثقافي، لئلا يمعن في اتجاهات ومشارب شتى، في تعليل تلك الحقيقة الغائبة الحاضرة، التي لا تطرح أي اشكالات نظرية، ترتبط بمباحث البرهان، والتأويل العقلي، فهو إذن يؤمن بهذا الترابط،ولكنه يخضعه لأدبيات التحسين والتقبيح، فالغرب لا يتدبر في كثافة وحميمية هذه الروابط، التي يزخر بها تصورنا الإسلامي لحقيقة الاندثار، لأن آدابه وما اتصل بها من أساطير وفلسفة، نشأت في منظومة بنيوية، سياقها الأيديولوجي الرائج، يقدس الحياة وينفر من الردى.

إلا أن السؤال المطروح هنا بقوة، إلى أي حد، قد أثرت هذه التيارات العاصفة، والمرجعيات الفكرية والفلسفية، التي شكلت حركة التثاقف والوعي الغربي، على "ليو تولستوي-1828-1910" وهو يخط روايته التي نحن بصددها، المرجعيات التي يجوز لنا أن ننظر إليها كعقبات مقيدة، أزرت بكنه الموت حتى في نسقه العقدي، من المؤكد أن رواية" موت قاضي" كما أسماها صاحبها، لم تتحرر من تبعاتها، أو تخرج من ضائقتها، فنحن لا نستطيع أن نتتبع المسار الاجتهادي الحر، لهذه الرواية التي خلت تفاصيلها من المعاظلة والالتواء، لأنها  بتعبير قاطع، مكبلة باشكاليات الأطر والمدلولات، التي تنهض على تصورات مغايرة للالوهية والخلق، فتلك المعاني والمفاهيم البالية، يحتاج الغرب لاعادة صياغة أصولها، وفق مقتضيات عصرنا، وتحولاته المتعاقبة،  ومن الحق أن الرواة، ينبغي أن يصطنعوا كل الوسائل من أجل اقصائها، وتحييدها عن الأعمال الأدبية، فما هي هذه المضامين والسياقات، التي كان من الممكن أن يستحدثها " ليو تولستوي" في مستقبل أيامه، وتعينه أن يمضي في هذه الحياة في غير سأم، أو ملل أو فتور؟؟. لقد اتخذ "ليو تولستوي" هذه الرواية أداة قيمة لابلاغ ما يريد أن يبلغه لقرائه، فرواية موت "إيفان إيليتش" التي تم نشرها لأول مرة عام 1886م

على وجه التحديد، تعبر عن سياقات خارجية، وبنيات اجتماعية، اصطدم بها مؤلف الرواية، وهو يتحدث إلى الكنيسة التي هجر دينها ردحاً من الزمان، ودعاها في صراحة ووضوح، إلى أن ترافقه في أفكاره، أفكاره التي كانت أوسع مجالاً، من الخصائص الصورية التي تؤمن بها كنيسته،  أخذ "ليو" يتحدث إلى وجوه "دولتها"، ويدعوهم في عزم لا يعرف الضعف، وتصميم لا يعرف التردد والفتور،  لأن يجددوا الصلة "بانجيلهم" الذي بات لا يهضمه أو يستسيغه، فتعاليم  كتابهم التي لا يقفون عندها، ولا يفكرون فيها إلا قليلا، تحثهم على نبذ العنف، وبسط السلام، و تحقيق العدل، وهم أنأى الناس عن هذه الخصال، أخذ" تولستوي" ينفق أيامه ناقداً، ساخراً، متندراً على الكنيسة وطابعها الاشكالي المعقد، والكنيسة التي انصرفت عنه، ولم تجبه، استقر في نفسها، أن تسلك معه غداة كل يوم طرقاً جديدة، تكفل لها أن يرعوي ويصمت، فتارة تلقاه رفيقة به، عطوفة عليه، وتارة يجدها نافرة منه، معرضة عنه، ساخطة عليه، فلما أضناها اصراره و تعنته، رمته بفرية الخبل والجنون، لقد كان حقاً نفور "تولستوي" من الكنيسة عاماً شاملاً، يمسه في أشد الأشياء لزوماً له، فطبيعته الإنسانية في مستوياتها المتنوعة، تتدفعها تلك التصرفات الممجوجة، عن الاحجام، والرضوخ، إلى تعاليمها، خاصة بعد أن تجافت عن قيمها الضابطة لسلوكها، واستباحت لنفسها أن تجدد في بنيتها الأصولية الكلاسيكية، بممارسات شاذة، وعسف قضّ مضاجع الأشقياء، هذا الجور  المتعاظم، كثافته المطلقة، يجوز لنا حصرها، في الزام الشرائح الكادحة، التي تجد بالكاد ما يقيم أودها، ويسد رمقها، بأن تقتطع من نفقات حياتها اليومية، لتمدها بالمال، اتخذت الكنيسة التي اعتادت على نهب الثروات، هذا  المنحى الذي لا ينسجم مع رسالتها،  و"ليو" لما رأي كل هذا الحيف والطغيان، لم يخرج أهله من الصمت إلى الكلام، ثار على هذا النظام الطبقي الملتحف بالدين، والقوى الغيبية، وأعلن في سياق محاربته لرهبانها، وقساوستها، وأساقفتها، بأن مبادئهم العقدية والدينية، إضافة لسلوكياتهم الفجة، لا تقنع الناس بأن وضعهم الراهن هو الوضع الأمثل، الذي يجب أن يرضوا به، ويشكروا الرب عليه، هذا شيء، شيء آخر جعل "ليو تولستوي" يوغل في معاداته للكنيسه، وهو احساسه الذي يخامره، بأن الكنيسة لم تجب على أسئلة جوهرية تتعلق بحياته الروحية، وذاته التي تنسجم في جوهرها مع الفلسفة الوجودية، التي تؤمن بأن مدار الغلبة، والقوة هو للنفس، التي يشتد عليها الالحاح، ويكثر حولها الاغراء، وتطوف عليها ألوان الترف، فلسفة تأتلف من الفرد، وتذعن لحقوقه، وتتغاضى عن حقوق  الجماعات، فلسفة طابعها الهلامي، هو اقصاء البعد الروحي، والتجرد من كل اعتقاد يقف حاجزاً، وسداً منيعاً، أمام رغبات الذات، وهي فلسفة من ضمن فلسفات الشك والريبة التي اجتاحت المجتمع الغربي، وعملت على تقويض هيمنة التثليث المسيحي في القرن العشرين، و" ليو" الذي أظهرت الكنيسة عجزها عن رده إلى صوابه، ظلّ يدعوها إلى المرونة والتحاور، بين أطياف مجتمعها، دون تكفير أو اقصاء، ولكن الكنيسة التي أيقنت أن "ليو" الذي يقف أمام "أكسيولوجيتها" موقف الهادم، لم تسلك معه أي طريقة ايجابية، ونحن نعد هذا الصراع الحامي بين "ليو"  والكنيسة، "آلية مهمة" لفهم الملابسات، والارتباطات، التي حولت هذا النزاع، لنبوغ ذاتي أثمر عن ميلاد هذه الرواية، "فتلستوي" الذي كان قلة من الناس، تفكر مثل تفكيره، وتحس مثل احساسه، كان من الطبيعي، بعد أن ركضت قدماه في مضمار تلك الفلسفات الحداثية المموه التي نحته عن عقيدة التثليث، أن يلجأ للأدب حتى يستأصل "قصعة" الاشمئزاز عن نفسه.

ليس بوسعنا إذن أيها السادة، أن نشغل موقفاً مغايراً، ونزعم أن "ليو" كانت غايته من وراء تأليف روايتة القصيرة جداً بين رصيفاتها، هو تسليط الضوء على الطبقة الارستقراطية، وعلى مظاهر ترفها ورفاهيتها، كلا، لم تكن تلك غايته، بل كان الهدف الذي ينشده هو أن يكفكف من غلواء امتعاضه، بعد أن ألجئته الظروف، وما اتجه إليه من فلسفة وأفكار، إلى التفريق بينه وبين الكنيسة، لقد كان كل سطر من هذه الرواية، يصدره عن طبع ساخط، فرواية "موت قاضي" إذا دققنا النظر فيها، لوجدناها في مجملها، ناقمة على الحياة التي تتلاشى بالموت والزوال، وعلى عقائدها التي تضمحل بالعبث والتعصب، وعلى حضارتها التي تندثر بالجهل والمحاباة، وعلى قوانينها التي تنتفي بالتعسف والافتعال، وعلى أخلاقها التي تتمحق بالسرف والشهوات، وعلى صلاتها التي تتداعى بالغلول والآثرة، وبطل الرواية "إيفان إيليتشي" الذي استحال طمعه في ملذات الدنيا، إلى دموع غلاظ، تحدرت على عينيه قبل رحيله، هو الشخصية المحورية التي أخفى خلفها تولستوي" شخصه"، فالقاضي إيفان استقى تصوراته وقوانينه، من عقل" تولستوي" الخالص، فالهدف الذي تسعى الرواية من تحقيقه، هو مقصد الفرد، لتحقيق غاية يفترض وجودها على نحو يقيني، وأن ينتحل هذا الفرد، من الشرائع والقوانين، ما يحقق له هذه الغاية التي رسمها لنفسه، وهو في رحلته لتحقيق تلك الغاية، يجب أن يبعد أي طابع ديني، أو تصور عقلي، أو صيغة أخلاقية، تتعارض مع هذه الغاية، التي اشرئبت إليها نفسه، هذا الترابط العام الذي اشتملت عليه تفصيلات رواية "موت قاضي"، وخصائصها التي حيدت الفضيلة، وآمنت بأن يذهب الطموح إلى أقصى مدى، تتوافق صيغها، وعناصرها، ومسلماتها، مع مبادئ ومثل الفلسفة الوجودية، التي خضع لها عقل "ليو"، وعمل على ابراز ما فيها من "سمو وعظمة"، هذه الدوافع التي أشرنا إليها آنفاً، تقضي قضاءً مبرماً، على الفارق النوعي بينها، وببن فكرة الحريات، التي يجب أن تخضع لنظم الأديان،   والقوانين الأخلاقية، فالحريات التي تقوم على أساس الشعور، وتحقيق النزعات المسلم بها، نستطيع أن نكبح جماحها، بأطر الدين، الذي يعمل على إشباع هذه النزعات، والميول، وفق رؤية واسعة تراعي الضعف البشري، حتى لا تكون سبباً من أسباب العداوة، وسبيلاَ من سبل الفرقة.

 وفكرة الندم التي نعتبرها السمة الطاغية، في محاور رواية موت "إيفان إيليتش" التي تتحدث عن قاضي حاز على نصيب وافر من رجاحة العقل، وسمة الادراك، كانت المملكة الشاملة لغاياته ومراميه، عنوانها هو  التدرج في السلم الوظيفي، حتى يصل إلى مكانة مرموقة، تؤهله لأن يتزوج من فتاة بارعة الحسن، رائعة الجمال، وأن ينجب أطفالاً، ويقتني دوراً يعمل الخدم في تنظيف غرفها، وتشجير ساحاتها، وأن يحظى بمكانة اجتماعية رفيعة، وغيرها من الضروريات، التي لا يستطيع شخصاً يريد أن ينتمي للسلالات الارستقراطية، أن يشيح بناظريه عنها، وقد تحقق له قسطاً وافراً من تلك الأماني، شرع "إيفان" بالخطو إلى الأمام، فاكترى بيتاً، في منطقة تعج بتلك الطبقات المخملية، التي يتخذ الناس حيالها ما يلزم من حيطة واحتراس، وبدأ في تأسيس ذلك المنزل الزاهي الألوان، الفسيح الأركان، ولكنه سقط عند تركيب ستائر منزله، سقطة لم يلقي لها بالاً، أردته فيما بعد، قبل أن يصل إلى حافة تلك المرحلة، التي يتعاظم فيها المرض، ويكثر فيها الكلل، ويصدح فيها الأنين، مرحلة الشيوخة التي تستفحل فيها الأخطار التي تحيط بصاحبها،، مكث إيفان ثلاثة أشهر، يغالب هذا الداء الذي بدأ ينخر في عظامه، وأثر في كليته، التي ضمرت وتقلص حجمها، وأخذ الناس في الكف عن اجلاله وتوقيره، وبات يسمع ضحك أفراد أسرته وابتهاجهم، وهم ينتظرون في نشوة وافتنان، خبر مصرعه، كانت حياته بعد المرض موحشة بما فيه الكفاية، قضاها هو ملقى على فراشه، يستقبل جموع الأطباء، وتقريع زوجته التي أمضى عمره معها في مناكفة مستمرة، على عدم انتظامه في تناول الدواء، لقد فقد "إيفان" معياره القيمي في تلك الأشهر، وتنكرت له كل عائلته عدا ابنه الصغير، وخادمه المخلص، هذه الأشهر القليلة، أخذت تجر وراءها تاريخاً طويلا، تاريخ نشأته، وتطور أشكال حياته، وأخذ الشعور التي يفرض نفسه بشدة عليه، حتى اعتلى منزلة الصدارة عنده، هو الاحساس بالندم، الندم الذي كان أشد وأعمق من علله الحسية، أتاح له التمادي في قدح نفسه وتوبيخها، على العقود التي أنفقها، من أجل مناصب يأمن في حماها، ويستريح في أرجائها، المراكز التي جعلت عقله يتمرس، ويعتاد على نوع من التقييم، كان يجد فيه سعادته، وتدفعه تلك الغبطة، لتقدير أرقى وأرفع، من التعظيم الذي سبقه، ندم" إيفان" على تبديد سنوات عمره، التي أمسى يتكهن  بنهايتها، في تحقيق طموحات، لن تحرره من تلك اللعنة التي نزلت عليه، ظلّ "إيفان" عاجراً عن التخلص من الأذى العميق الذي ألحقه بنفسه، وبقى ممتطياً ظهور جياد الندم طيلة تلك الأيام، وتجلت مواهبه في آخر أيامه، في معاتبة ربه على فداحة هذا البلاء، الذي اصطفاه به، لم يكن "إيفان" موفقاً في إظهار بؤسه لربه، حتى غدا هذا العتاب لا يحتمل، ولا يطاق، ونحن لا نعتقد أن هذا العتاب المرير، سببه هو الوهن العميق، والحسرة الرازحة، والكآبة القعساء، ولكن دوافعه هي تخفيف الوطأة عن الوجدان، لقد كان "إيفان"، في ظل شعوره بالضعف، وتوعكه المتزايد، يحتاج أن ينظر لألمه، بوصفه عقاباً وقصاصاً من ربه، حتى ينتزع من نفسه البشرية، تظاهرات الوجع المريع، أمضى "إيفان" آخر ثلاثة أيام من عمره، في استياء، وندم، وامتهان لذاته، ويقينه الراسخ أنه هالك لا محالة، "وليو تولستوي المتخفي وراء ظلال شخصية "إيفان" جعل نشاطه الذهني في آخر ثلث من هذه الرواية، هو رصد انفعالات النفس، وانكساراتها، ويضاف إلى ذلك، إشاراته التي لم تكن موجزة، أو مقتضبة، تجاه تعاطي عائلته، ومحيطه، عندما تنامى إلى أسماعهم خبر وفاة" إيفان"، فزوجته استنزفت طاقتها الفياضة، في الحصول على جنازة قليلة التكاليف، تواري فيها جثمان زوجها، كما أن وفاة زوجها التي لا تتناقض مع رغبتها، أعاقها عن تحصيل راتبه المجز، فالراتب أوفى من المعاش كما نعلم، لهذا طرحت هذه المسألة، بمزيد من العمق والصراحة، إلى صديقه المقرب، حتى يوضح لها ذريعة، تستطيع بها أن تحصل على معاش وافر، أما من أمضى العمر برفقتهم، فقد أظهرت تداعيات تلقيهم لنبأ وفاته، ثغرة هائلة تحيق بقيم الإنسان، فالحزن على "إيفان" لم يصرفهم عن لعبة الورق التي كانت بأيديهم، ولا الكمد الممض، استطاع أن يطرد تلك الآمال الواعدة، التي طافت بأذهانهم، لاعتلاء منصبه الشاغر.

رواية "موت قاضي" الجانب الموضوعي، والمهيمن عليها، هو المتاعب، والصراعات، التي خاضتها شخصية "إيفان" حتى تحقق مقاصدها، وتبرهن أن القيمة المثلى، التي لا تضاهيها أي قيمة، هي قيمة السعادة التي -في وجهة نظري- يجب أن نعتقها من كل قيد، وحتى تتحقق هذه المشاعر الفياضة، التي يمكن تحويلها إلى قاعدة، توزع البهجة على الآخرين، يجب أن تحلق الروح خارج إطار هذا الجسد.

***

د. الطيب النقر

الثلاثاء: 8/7/2025

قراءة في البنية النفسية والرمزية لقصيدة "قفزة الظل... ونبوءة الأفعى" للشاعر عمار الصالح

مدخل: القصيدة بوصفها تفجّراً داخليّاَ.

تبدو القصيدة "قفزة الظل… ونبوءة الأفعى" عملاً شعريّاً مركّباً، لا يركن إلى السرد الخطيّ، بل ينفجر شعرياً من داخل الذات، كما لو كانت الكتابة هنا ليست أداة تعبير، بل فعل مواجهة، واستحضار لما هو مكبوت ومهجوس به.

فالشاعر عمار الصالح لا يكتب عن "الأفعى" بوصفها كائناً طبيعياً، بل بوصفها قناعاً نفسيّاً، وشيفرة رمزية لكائن يتسلل، يُراوغ، ويفسد البنية الداخلية للطمأنينة. تبدأ القصيدة من مفاجأة وجودية، وتنتهي في نكوص قيمي يعيد ترتيب العلاقة مع الذات والآخر واللغة.

أولًا: البعد النفسي — بين اللاشعور والانكشاف

القصيدة تعبّر عن اضطراب داخلي حادّ، ناتج عن تسلل طيفٍ خادع (ممثلاً بصورة الأنثى/الأفعى)، وهي صورة يونغية بامتياز، تشبه "الأنِيمَا" المخاتلة التي تخرج من لاوعي الرجل لتقلب موازينه، يقول الشاعر عمار الصالح :

"لم أكن هادئاً… لم أنل راحتي"

"قفزاتك الخائنة… أفزعت وردتي"

هذا الانقلاب الحادّ من الحلم إلى الكابوس، من السكينة إلى الرعب، يحاكي لحظة الصدمة النفسية، تلك التي تُحْدِث فجوة بين ما نتوقّعه من العالم، وما يرتدّ إلينا من نواياه المبطّنة.

يتمثل القلق هنا بصورٍ نفسية عميقة:

الكوابيس التي تأتي "في عزّ النهار": انكشاف اللاوعي في وضح الإدراك.

وردة تُفزعها الأفعى: رمز لقتل البراءة، وانتهاك النقاء.

قفزات "دفعة واحدة": الصدمة كفعل لحظي يفوق التمهّل والتحليل.

ثانيًا: البعد الرمزي — الأفعى، التنين، والأقنعة.

رمز الأفعى المرقطة يسيطر على النسيج الدلالي في القصيدة، ويُحمَّل بتأويلات متعدّدة، منها:

_ الخداع والازدواجية: فالأفعى ليست فقط زاحفة، بل متخفّية، "تتسلل"، "تكمن"، "تقفز"، تماماً كما تفعل الأقنعة في المجاز النفسي.

_ الفتنة المدمّرة: تحمل في جسدها غواية، لكنها تفسد ما تلامسه، كما تفسد "الحقول" و"الآتية".

_ التنين المنقرض: رمزٌ يُستدعى للتهكم على ادّعاء القوة أو التفرّد، وفي الوقت ذاته لاستدعاء الأسطورة في قلب الواقع المنكسر.

من اللافت أنّ القصيدة توظّف رموزاَ أسطورية ونفسية بشكل متداخل:

الحقول، الورد، الوادي = رموز للخصب والسلام والأنوثة.

الأفعى، الكوابيس، الخديعة = رموز للفوضى، التهديد، الموت الرمزي.

وبهذا، تدور القصيدة حول الصراع بين رمزين:

الأول رمز الحياة (الوردة/الحقول/الماء)

والثاني رمز الفناء (الأفعى/النار/الفساد).

ثالثاً: البنية الدلالية – القصيدة بوصفها مسرحاً للمواجهة

تنهض القصيدة على بنية دلالية قائمة على الاستدراك والانكشاف:

1. الدهشة/المباغتة: "تُفاجئيني... تتسللين..."

2. التحول/الانقلاب: من وردةٍ إلى أفعى، من هدوء إلى كوابيس.

3. الإدانة/الانفجار: "قفزاتك الخائنة"، "تستفزين الحقول"، "تفسدين الآتية".

تتحرك اللغة في انزياحات شعرية تؤسس لصوت مأزوم، لا يطلب التفسير بل يعيش في نَصّ الخيبة. ويبدو العالَم الخارجي كله مسرحاً لهجوم الأفعى الرمزية، التي لا تهدّد الشاعر فحسب، بل تفسد الزمن القادم (الآتية) والحقول (الخصب) والإناء (الذات).

رابعاً: جدلية الذات والآخر في التكوين الرمزي.

يبدو الآخر في القصيدة أنثى، لكن هذه الأنثى لم تعد تمثل الحب أو الحنين، بل الاختراق المُباغت والانقلاب المفاجئ. إنها:

"تتسلل في زفة الأقنعة" → الغواية المتخفية.

"تكمن خلف الحروف" → المكر المستتر.

"تفسد الآتية" → التخريب البنيوي للزمن.

وهنا، يتحول الآخر إلى قوّة تخريبية، ليست فقط موضوعاً للرغبة، بل مصدراً للتهديد. والذات الشاعرة، رغم تماسكها الخارجي، تبدو هشّة أمام هذا التطفل. وهو ما يجعل القصيدة تنتهي لا بالحسم، بل بالتساؤل والشكّ:

"وهل قفزة... دفعة واحدة... تستطيع أن تفسد الآتية؟"

سؤال بلا إجابة، لكنه يُعلن هزيمة البراءة أمام التسلل الماكر.

خاتمة: الشعر كتقنية للمقاومة

في جوهرها، تقترح قصيدة "قفزة الظل... ونبوءة الأفعى" للشاعر عمار الصالح أنّ اللغة ليست فقط أداة كشف، بل أداة مقاومة. فالشاعر، وإن أصيب بخديعة الصورة المتسللة، لا يسقط في الانهيار، بل يحيل الجرح إلى مجاز، ويحوّل الصدمة إلى صوت.

إننا أمام قصيدة تمارس نقداً وجودياً داخلياً للخيبة، وتحاول إعادة بناء العالم لا من خلال الحنين، بل من خلال تسمية المخاتلة باسمها، وفضح "قفزتها"، وقراءة الزمن عبر رمادها.

كلمة أخيرة

"قفزة الظل… ونبوءة الأفعى" ليست مجرد نص عن الحب أو الخديعة.

إنها عملٌ تأويليٌّ مكثفٌ، يرصد خيانة المعنى، وانهيار البراءة، وتمزّق الداخل تحت وطأة المفاجآت النفسية والرمزية.

قصيدة تكتبُنا، كما نكتبها، وتُفجّر فينا سؤالاًً قديماً متجدّداً:

من أين تأتي الطعنات… ومن يزرع الأفعى في الحقل؟

***

بقلم: عماد خالد رحمة - برلين

......................

قفزةُ الظلّ... ونبوءة الأفعى

بقلم: عمار الصالح

تُفاجئيني، من زحامِ الكَلِمِ،

تأتينَ من غَفواتِ جُرحٍ مُبهمِ

تتسلّلينَ كأنّكِ الأقنـاعُ في

زفّةِ الوجوهِ بلا ملامحِ مُبْرَمِ

تَكْمُنينَ خلفَ الحرفِ، تحفرُ صمتَهُ،

وتقفزينَ إلى الكُؤوسِ من العَدَمِ

لم أَكُ هادئَ، لا ارتَحتُ في سَكَني،

منذُ استَباحتني الكوابيسُ العِظَمِ

في عزِّ ضوءِ النهارِ، بدتْ جُنوناً،

تنهشُ نعمتَ راحتي وتَهُدُّ دَمْ

ما كنتُ شاعرَ لحظةٍ مترفَ الأسى،

لكنني المصلوبُ في وَقْعِ النَّدَمِ

قفزاتُكِ الخائنةْ... يا شهوةً

أفزعتْ وردي، وأوجعتِ الحُلَمِ

يا أفعَةً مَرقّطَةً في سِحرِها،

تَغتالُ من لغتي رحيقَ التُّرْنُمِ

هل تشعلينَ الواديَ المُطفأَ الثرى؟

وتدّعينَ بأنّكِ النّارُ من قِدَمِ؟

هل تستفزينَ الحقولَ، وتُجدِبينَ

شَغَفَ الغمامِ، وتُسْكِتينَ التُّهَمِ؟

قفزةٌ... دفعةٌ من ظِلٍّ مريبْ

أفسدتِ الآتِي، وسرّ المُنْعَمِ

هذي الحقولُ انكفأتْ في حزنِها،

وجداولُ الأشواقِ جفّتْ من ألمِ

تُفاجئيني، كالعواصفِ في الضميرْ،

لكنني... لم أعد أهوى السعيرْ

إني تعلّمتُ النجاةَ من النُّبوءَة،

واخترتُ نسيانَ الخديعةِ في الحريرْ

 

كثيراً ما نقرأ في كتب التراث الأدبي هذه العبارة: وأنشد قصيدته أو أنشد الشاعر شعراً فالإنشاد هو تلاوة الشعر بنبرة خطابية مفخمة، وهو أعم من الإلقاء الذي هو قراءة القصيدة بشكل عربي سليم ونطقها بشكل صحيح مع قدرة الشاعر على توصيل الانفعالات العاطفية....وبعد فقد ورد عن حسان بن ثابت بيته الآتي:

تغنَّ في كل شعرٍ أنتَ قائلهُ / إنَّ الغناءَ لهذا الشعرِ مضمارُ

الشاعر كريم القيسي هو من الشعراء الذين يجيدون إنشاد الشعر وإلقائه وغنائه مقاماً عراقياً أصيلاً... أقول عن الشاعر كريم القيسي أيضاً: إنه أسير الحرب والحب وهذه قراءتي له وعن وقوفه على باب السياب بوصف هذا الباب عنواناً لمجموعته الشعرية.

(1) العنوان بوصفه عتبة: مع أن الشاعر ينظم قصيدة العمود إلا أنه اختار السياب عتبة لديوانه الشعري وجعله باباً لقصائده، أيعني به باب التجديد في الصورة الشعرية أم يعني به باب الحب أم الاثنين معاً؟ فقد حفل الديوان بقصائد أصنفها كالآتي:

قصائد (غزلية / صوفية / وطنية / دينية / مدائنية).

(2) المعجم الشعري: لكل شاعر معجمه الشعري الخاص به، فهو هوية الشاعر، ولاسيما أن الشاعر يمتاح من بيئته، وتراثه، ولغته، ودينه، وتجربته، فضلاً عن ثقافته الذاتية إلخ...  وقد برزت في قصائد الشاعر الألفاظ الآتية:

(ألفاظ الطبيعة / ألفاظ دينية / ألفاظ الخمرة / ألفاظ أجزاء الإنسان / ألفاظ الموت والحياة) وظفها الشاعر بانسجام لخلق المعاني والصور... يقول الناقد حازم القرطاجني (إنَّ المعاني هي الصور الحاصلة في الأذهان عن الأشياء الموجودة في الأعيان) فالشاعر ينقل لنا أحاسيسه بصياغة واقع جديد يحلم به.

(3) التناص عند الشاعر: التناص أو التعالق النصي هو الإفادة من نص آخر مشهور ومتداول لتوظيفه في نص جديد، كأن يكون نصاً قرآنياً أو شعرياً أو مثلاً دارجاً أو رمزاً أسطورياً إلخ... ويسمى أيضاً الاقتباس أو التضمين عند العرب، وقد استعمل الشاعر تناصين في قصائده هما:

تناص الامتصاص: وهو التناص الذي لا ينقل النص السابق حرفياً ولكنه يلمح إليه كما في هذا البيت (من لم يكن في الطوفان معتصما / بمركبي لا نجا ولا عبرا) فالتناص كما هو واضح مع قصة نوح وطوفانه المشهور.

تناص التحوير: وهو التناص الذي يقلب فيه الشاعر النص السابق ويعكسه؛ لكسر الجمود وإثارة الدهشة وتحقيق المفارقة والتساؤلات كما في هذا البيت:

(وقفتُ لا هدهدٌ ينبئني / ولا عفاريتٌ تنقلُ الخبرا) هنا تناص معكوس مع قصة سليمان والهدهد الذي أنبأ سليمان بعرش بلقيس ونقل الأخبار له عن طريق العفاريت لكن الشاعر ليس لديه ذلك ؛ فوقوفه هنا جاء من باب الحيرة والاغتراب لا من باب انتظار الأنباء والأخبار والعرش وقدوم المرأة، كما قدمت بلقيس على سليمان.

إن التناص عند القيسي ليس مجرد حشو لرمز ديني أو تأريخي أو سيري، بل هو عملية امتصاص ابداعي صهره بموهبته ودمجها مع تجربته الشعرية الوجدانية.

(4) شعرية المكان: يحتفي الشاعر بالأمكنة كثيراً، ولاسيما الأمكنة ذات الفضاء الواسع المفتوح، ولعل هذا الاحتفاء عوضه عن الأمكنة المغلقة التي كان فيها (أقفاص الأسر) التي عاش فيها إبان حرب الثمانينيات، وعوضه أيضاً عن صور الخراب والدمار التي رآها عندما كان يعمل مراسلاً حربياً بعد 2003 م... ومن الأمكنة التي ذكرها (بغداد / ديالى / الأنبار / هيت / حديثة / البصرة إلخ كما في هذا البيت:

(قال الذين ادعوا هيتاً حبيبتهم / بأنهم أجملُ العشاق مذ عشقوا / يسَّابقونَ وعشقي اجتازَ أولَهُم / عشرين عاماً وقالوا إنهم سَبقوا).......

***

د. مثنى كاظم صادق

.....................

* باب السياب / مجموعة شعرية / كريم القيسي / الطبعة الأولى 2023/ دار المرايا للطبع والنشر والتوزيع / بغداد / باب المعظم. 

للشاعر عبد الستار نورعلي

الشعر ليس مجرد أداة تعبيرية، بل هو مرآة تعكس الفكر والوجدان الإنساني، ويُعيد تشكيل الواقع من خلال الرموز والصور الشعرية. في قصيدة "العنقاء" للشاعر عبد الستار نورعلي، يتجاوز الشاعر الطرح التقليدي للمرأة، ليقدمها كقوة ديناميكية تمثل جوهر الحياة ومحركها الأساسي. لا تكتفي القصيدة بالاحتفاء بالمرأة، بل تطرح إشكالية علاقتها بالمجتمع، بين الحاجة إليها كمكوّن أساسي للحياة، وبين الممارسات القمعية التي تحدُّ من دورها.

القصيدة تتبنى بُعدًا نضاليًا، حيث تصبح المرأة رمزًا للمقاومة والتجدد، وهو ما يعكسه استدعاء رموز قوية، مثل العنقاء والمطر والخيول، التي تشير إلى صراع حضاري بين الجمود والتغيير. لا يقف الشاعر عند حدود الوصف، بل يدفع القارئ إلى مساءلة القيم الثقافية والاجتماعية المحيطة بالمرأة، مما يجعل النص أكثر من مجرد قصيدة؛ إنه دعوة للتحرر الفكري والإصلاح الاجتماعي.

من خلال هذه القراءة النقدية، سيتم تحليل البنية الرمزية للقصيدة، وتفكيك رؤيتها للمرأة كمفهوم ثقافي واجتماعي، إضافةً إلى استكشاف العلاقة بين الأسطورة والتاريخ والواقع، في تشكيل الخطاب الشعري لمضمون النصّ.

العنوان ودلالته:

عنوان القصيدة "العنقاء" ليس مجرد اختيار عشوائي، بل هو مفتاح تأويلي للنص، حيث يستحضر الطائرَ الأسطوريَّ الذي ينبعث من رماده، ليجسد المرأة ككيان قادر على تجاوز المحن والقيود المجتمعية. هذا الاختيار يعكس رؤية الشاعر للمرأة كرمز للتحوّل والتجدد المستمر، مما يضع القارئ منذ البداية أمام ثنائية الصراع والانبعاث التي تحكم بنية القصيدة.

الثيمة الرئيسة والمضمون:

تتجاوز القصيدة الطرح التقليدي للمرأة كمصدر للحب والعطاء، لتضعها في قلب معركة فكرية واجتماعية ضد التهميش والقمع الثقافي. من خلال استدعاء صور رمزية كالمطر، الحرير، والعصافير الفينيقية، ينسج الشاعر شبكة دلالية معقدة تربط المرأة بالحياة والحرية، مقابل قيود المجتمع التي تحاول كبح هذا الحضور الديناميكي.

المرأة بين الأسطورة والتاريخ:

يعتمد الشاعر على استعادة الرموز التاريخية والأسطورية المرتبطة بالمرأة، لكنه يعيد تأويلها وفق منظور معاصر يتحدى القراءة التقليدية. فحواء لم تعد مجرد رمز للخطيئة، وامرأة العزيز لم تعد مجرد امرأة خاضعة لرغباتها، بل تصبحان تجسيدًا لإرادة المرأة واستقلاليتها، وهو ما يعكس انحياز النص إلى رؤية متحررة من القيود النمطية.

النقد الاجتماعي والتاريخي:

تنحاز القصيدة إلى تفكيك الصورة المزدوجة التي يقدمها المجتمع للمرأة؛ فهي تُحاط بألقاب التقديس مثل "القارورة الرقيقة"، لكنها في الوقت ذاته تُحاصر بقيود تحد من دورها الاجتماعي. هذا التناقض يتم كشفه في مشاهد رمزية مثل الفتاة التي تربي أخاها ليحقق النجاح، بينما تظل هي في الظل، وكأنها مجرد "حائط مصدوع" في نسيج المجتمع، تعبيرًا عن التهميش النسوي.

اللغة والأسلوب:

تتميز القصيدة بالتكثيف الرمزي الذي يمنحها أبعادًا متعددة تتجاوز القراءة المباشرة إلى تأويلات أكثر عمقًا. فـ"العنقاء" ليست مجرد طائر أسطوري، بل تتخذ بعدًا دلاليًا يعكس قدرة المرأة على التجدد والنهوض من رماد القهر. أما "التفاحة"، فهي استدعاء ضمني لحواء، حيث تعيد الشاعرة تأويل هذا الرمز ليصبح دلالة على الإرادة النسوية بدلًا من الخطيئة.

الإيقاع والموسيقى الداخلية:

تعتمد القصيدة على الإيقاع الداخلي الناتج عن التكرار الصوتي والدلالي لبعض المفردات مثل "المثل"، "العنقاء"، "البقاء"، مما يخلق تموجًا موسيقيًا يعزّز الانفعال الشعري. كما أن التوازن بين الجمل الطويلة ذات الطابع السردي والجمل القصيرة الحادة التي تحمل صدمة شعورية، يساهم في دفع القارئ إلى التأمل وإعادة النظر في المعاني المطروحة. هذه التقنية لا تعزز فقط الإيقاع، بل تُحدث تفاعلًا ديناميكيًا بين المتلقي والنص، مما يجعل التجربة القرائية أكثر تأثيرًا وحيوية.

تحليل الأبيات الآتية التي تناولتها من قصيدة "العنقاء" يكشف عن مستوى عميق من الرمزية والتأمل، وهو يضع المرأة في قلب محوري يمثل التغيير والنهوض، مع التركيز على الصعوبات التي تواجهها نتيجة التقاليد أو الفكر السائد. لنلقِ نظرة أكثر تركيزًا على الرسائل المبطنة والاستنتاجات النهائية:

1. بداية القصيدة "المرأة كحلم غامض":

بداية القصيدة تكشف عن رمزية عميقة للمرأة كحلم يتجسد في الخيال، حيث يُصور الشاعر المرأة على أنها حلم بعيد أو غامض لا يمكن إدراكه بالكامل، كما يظهر في قوله:

حين تكون المرأةُ الأحلامْ

تنسدلُ السَّتائرُ الحريرْ،

فلا نرى أبعدَ منْ أنوفِنا.

هنا، تُقدّم المرأة كحلم بعيد، متمنّع عن التحقق، ما يعكس النظرة الاجتماعية التقليدية التي تقتصر فيها رؤية المرأة على جوانب جمالية فقط، دون أن تُدرك أدوارها الحيوية والعملية في المجتمع. تتداخل الستائر الحريرية كرمز يعكس الترف، الرقة، والمثالية، مما يعني أن المجتمع في بعض الأحيان يُحجم عن رؤية الحقيقة كاملة عن المرأة، وتظل مكانتها محجوبة تحت غطاء من الانطباعات السطحية. ويظهر الشاعر أيضًا حالة من الانغلاق الفكري في قوله "فلا نرى أبعدَ منْ أنوفِنا"، مما يرمز إلى النظرة الضيقة التي تعيق فهم دور المرأة الحقيقي في المجتمع.

2. تقدير المرأة كقوة حية ومؤثرة:

في المقطع الثاني، يتحول التصور عن المرأة من مجرد كائن جميل إلى قوة حيّة تُحرّك الوجدان والمجتمع، كما في قوله:

وخافقٌ يضربُ في صدورنا،

فكلّ نبض امرأةٍ هديرْ

والمطر الغزيرْ.

المرأة هنا تظهر كقوة فاعلة، حيث يُرمز إليها بـ "الخافق الذي يضرب في صدورنا"، ما يعكس تأثيرها العميق في نفوس الأفراد. كما يرمز الشاعر إلى طاقتها الحيوية بأنها "هدير" قوي يشبه حركة البحر التي تتجدد باستمرار، بينما يرمز "المطر الغزير" إلى خصوبة وقوة المرأة في بعث الحياة، سواء على مستوى الوجود الفردي أو المجتمعي. هذه الصورة تُظهر المرأة كمصدر للتجديد والإلهام في الواقع.

3. التساؤل حول ردود الفعل تجاه دور المرأة:

أما المقطع الثالث، فيُثير تساؤلاً هامًا حول كيف سيتعامل المجتمع مع تغير دور المرأة: هل سيختار الانفتاح الذهني على قوتها وتقديرها، أم سيقاوم هذا التغيير بالصراع والعنف؟ يتساءل الشاعر:

نفتحُ حينها عقولَنا

أم نسرجُ الخيولْ

والسَّيفَ والرُّمحَ

وصوتَ الحلمِ الغريرْ؟

الرموز في هذا المقطع، مثل "الخيول والسيف والرمح"، تمثل الصراع والتحدي، مما يشير إلى مقاومة البعض للتغيرات التي قد تأتي مع تحرير المرأة. بالمقابل، "صوت الحلم الغرير" يعكس الرغبات والطموحات غير المحققة بعد، مما يعبر عن حالة من التردد الاجتماعي في كيفية التعامل مع هذه التحولات. فبينما يرى البعض في هذا التغيير تهديدًا لقيمهم التقليدية، يراه آخرون فرصة لبلورة واقع جديد.

4. تحولات البدايات، ولادة الأمل والحلم:

في حلمٍ

يُبرعمُ الرَّبيعُ فوقَ صدرِها،

ينتظر اللحظةَ كي يدخلَ في الفؤادْ،

يُعطّرُ الروحَ بدفء روحها،

يقتطفُ العشقَ ويبدأ الحصادْ،

في هذه الأبيات، يظهر الشاعر في إطار إبداعي غني بالصور الرمزية التي تعكس فلسفته الحياتية ونظرته العميقة لدور المرأة في الوجود. يُصوّر الشاعر المرأة كحاضنة للحياة، حيث يُبرعم الربيع فوق صدرها، مما يعكس بداية النماء والتفتح. هذا التصوير لا يقتصر فقط على المعنى البيولوجي للأمومة، بل يتعداه إلى كونها رمزًا للعطاء المتجدد. كما أن "ينتظر اللحظة كي يدخل في الفؤاد" يشير إلى لحظة تحول حاسمة تتداخل فيها الأحاسيس السطحية مع الجوانب الأعمق للروح، مما يعكس التأثير العاطفي العميق للمرأة في الوجود.

في "يُعطّرُ الروحَ بدفء روحها"، يُقدم الشاعر تصورًا للمرأة ككيان روحي يمنح الحياة دِفئًا وإشراقًا، تمامًا كما يترك العطر أثرًا دائمًا. أما "يقتطفُ العشقَ ويبدأ الحصاد"، فيعكس اكتمال الدورة الإنسانية وتحوّل المشاعر إلى تجربة ملموسة، تتوج بالإنجازات التي تفيض بالعطاء. هذه الأبيات تتسم بغنى لغوي ومهارة تصويرية، مما يتيح للقارئ التفاعل مع المعاني المبطنة والتأمل في مسار النمو والازدهار الذي يوصل إلى النضج.

5. الأسطورة وتعدد دلالاتها، تفاحة الخطيئة:

في كتبِ الرِّوايةِ الأولى:

غزالةٌ تسلَّقتْ تفاحةَ البقاءْ،

وانتزعتْ تفاحةً لتقضمَ الغرامَ

واللعنةَ، والدهاءْ،

الاستدعاء للأسطورة التقليدية في قصة "آدم وحواء" عبر التفاحة يضيف بعدًا رمزيًا عميقًا. التفاحة، التي كانت رمزًا للخطيئة والمعرفة المحرمة، تُعيد إنتاج المعاني المتداخلة التي تجمع بين اللذة والعذاب، العشق واللعنة. في هذه القراءة، تظهر "الغزالة" كمخلوق برئ، لكنها تتجاوز البراءة لتصبح رمزًا للتمرد والتحدي على القيود الاجتماعية والأخلاقية. من خلال سعيها وراء التفاحة، تُظهر الغزالة رغبتها في اختبار المحرمات، مما يجعلها تتجسد كرمز للمخاطرة والتجربة التي تحمل في طياتها قدرًا من الهاء

6. جمال يوسف وصراع الرغبات:

امرأةُ العزيزِ راودَتْ فتاها عنْ نفسهِ

في حضرةِ العشقِ، وفي أمّارةِ الرَّغبةِ

في مملكةِ الأهواءْ،

استحضار قصة يوسف وزليخة في هذا المقطع يظهر الصراع بين الرغبة المكبوتة والعشق المُعذِّب. في "مملكة الأهواء"، يتجسد الصراع الداخلي للمرأة التي تتجاوز محظورات المجتمع وتتمرد على القيم التقليدية. "هيتَ لك" تصبح صرخة تحرر ورغبة خارجة عن المألوف. وفي المقابل، يظهر يوسف في هذا السياق أسيرًا لجماله، ما يعكس مأساة مزدوجة: من جهة هو في صراع داخلي مع رغباته، ومن جهة أخرى هو ضحية الجمال الذي يُستخدم كأداة للصراع بين القيم المجتمعية والتوقعات الشخصية.

7. الجمال وجدلية المأساة والمجتمع:

فانفجرتْ دماءُ صالةِ النِّساءْ،

صرخْنَ: هيتَ لكْ!

يا أيُّها الأبدعُ خلقِ اللهِ في البقاءْ

يُصور الشاعر الجمال كعنصر يثير التوتر والصراع في المجتمعات التي تحكمها تقاليد صارمة. جمال يوسف، رغم كونه هدية إلهية، يصبح مصدرًا للمعاناة والصراع بسبب التوقعات الاجتماعية والقيود المفروضة. هذه "التراجيديا" تجعل الجمال، بدلاً من أن يكون سببًا للسعادة، يصبح نقطة اشتباك بين الرغبات الفردية والأعراف المجتمعية، فيُظهر يوسف في هذا السياق كرمز للألم الناتج عن قيود المجتمع.

8. "استدعاء الأسطورة" تفاحة الخطيئة والمصير:

في كتبِ الرِّوايةِ الأولى:

غزالةٌ تسلَّقتْ تفاحةَ البقاءْ،

وانتزعتْ تفاحةً لتقضمَ الغرامَ واللعنةَ، والدهاءْ،

هنا، نجد إشارة ضمنية إلى النصوص المقدسة أو الروايات الأسطورية الأولى التي وضعت الأسس لمفاهيم الحب والخطيئة. "غزالةٌ تسلَّقتْ تفاحةَ البقاء" يرمز إلى البراءة والجمال الذي يتحدى الممنوع، كما في قصة "آدم وحواء". التفاحة في هذا السياق تتجاوز معناها التقليدي لتصبح رمزا لتجربة الإنسان المليئة بالتناقضات، من الحب إلى الخطيئة، من اللذة إلى العقاب.

9. استدعاء قصة يوسف ونساء المدينة:

امرأةُ العزيزِ راودَتْ فتاها عنْ نفسهِ

في حضرةِ العشقِ، وفي أمّارةِ الرَّغبةِ

في مملكةِ الأهواءْ

تُسلّط هذه الأبيات الضوء على قصة يوسف وزليخة من زاوية جديدة. هنا، الجمال يُعَذِّب يوسف، وتحول نساء المدينة إلى رموز للتمرد على التقاليد. في "مملكة الأهواء"، تُستعرض الرغبات المتناقضة، التي تثير الصراع الداخلي والخارجي على حد سواء، فتبرز المرأة في هذا السياق كمحرك للتغيير الذي لا يخلو من المخاطر.

10. انفجرت دماء صالة النساء، صرخن:

هيت لك!

يا أيها الأبدع خلق الله

في البقاء

"انفجرت دماء صالة النساء": يعكس هذا المشهد انبهار نساء المدينة بجمال يوسف الذي يبدو غير قابل للتحقيق، وتظهر الدماء هنا كرمز للقهر والدهشة المتزايدة.

"هيت لك": الصيحة تعبر عن رغبة مكبوتة، لكنها تحمل أيضًا تهديدًا بالخضوع للجمال كقوة خارقة للطبيعة ومصدر لتحديات اجتماعية ودينية.

11. جدلية الجمال والخضوع للمجتمع:

خُلِقتَ في أحسن تقويم

كنتَ لعبة المقدود من دُبُرٍ

وتجريح النساء

"خُلِقتَ في أحسن تقويم": استعارة من آية قرآنية تصف الجمال الذي خلقه الله بشكل مثالي، لكن هذا الجمال يوضع تحت ضغوط المجتمع الحادة التي تقيد حرية صاحبه.

"كنتَ لعبة المقدود من دُبُرٍ": استعارة تعكس غياب السيطرة الذاتية، حيث يُستغل الجمال وتصبح صاحبه مجرد أداة ضمن مؤامرات تُحاك حوله.

"وتجريح النساء": الجمال يصبح مصدرًا آخر للمعاناة، سواء لصاحبه أو لمن يتأثرون به، ما يُبرز التداخل بين النعمة والمعاناة.

12- إنّ ضلعي يتوارى اليوم خلفَ الظَّهرِ

يسقيني بساتينَ الهواء

وأناشيدَ خريرِ الماءِ صوبَ جنةِ البَّهاءْ

"إنّ ضلعي يتوارى اليوم خلفَ الظَّهرِ"هذه العبارة تعكس الشعور بالضعف أو التهميش، فالعلاقة بين الضلع والإنسان تحمل دلالات ثقافية ودينية، وقد يُفهم الضلع هنا كرمز للأنا المتوارية أو الهامشية.

"يسقيني بساتينَ الهواء": تصف هذه الصورة بساتين الهواء التي توحي بالوهم، مما يعكس حالة من التلاشي أو الآمال غير المحققة التي تظل بعيدة عن الواقع.

"وأناشيدَ خريرِ الماءِ صوبَ جنةِ البَّهاءْ": يربط الشاعر الماء كرمز للحياة والطهر بمكان بعيد عن الواقع، ما يوحي بالبعد بين الحال المثالي والواقع القاسي.

13. السَّلسبيلُ هُنَّ،

قيلَ: رفقاً بالقواريرِ، انكسرنا نحنُ،

والقارورةُ الزُّجاجُ في مكانِها

في حانةِ الصَّدرِ،

"السَّلسبيل": يرمز إلى الماء العذب من الجنة، ويُستخدم هنا ليعكس رمز الحياة والنقاء، كما يعبر عن صفات الروح الطاهرة للمرأة.

"قيلَ: رفقًا بالقواريرِ، انكسرنا نحنُ": إعادة توظيف للحديث النبوي عن النساء كالزجاج، مع نقد لحالة الانكسار التي تعانيها المرأة في الواقع، حيث يتحول الجمال إلى مصدر قسوة بدلاً من الحماية.

"والقارورةُ الزُّجاجُ في مكانِها": يظهر التناقض بين المظهر الخارجي المستقر للمرأة وبين الواقع الداخلي المهشم الذي تعيشه.

"في حانةِ الصَّدرِ": ترمز هذه العبارة إلى المكانة العاطفية للمرأة، ولكنها تحمل أيضًا إشارة إلى استهلاك المجتمع لها على الصعيد العاطفي.

"وفي أحسنِ تقويمٍ، وفي أجملِ تنظيمٍ": يعكس هذا الاستدعاء النقدي لتناقض صورة الكمال المثالية مع الواقع الذي يعاني فيه النساء من الانكسار والتهميش.

"وأشهى منْ دمِ الغزالْ": رغم جمالها، المرأة تُعامل كفريسة في مجتمع لا يقدر جوهرها، بل يراها مجرد غاية يتم استغلالها.

من خلال النصّ الآتي أدناه من القصيدة، يقدم الشاعر نقدًا اجتماعيًا يعكس التناقضات العميقة بين الصورة المثالية التي يتم تقديمها للمرأة وبين الواقع المعيش الذي يظل مليئًا بالقهر والانكسار، يقول الشاعر:

أبي وأمي أرضعاني مَثَلاً،

أختي التي ربّتني أحيا مثلاً،

أكملتُ منْ تحت يديها؛

كي تراني مثلاً،

مُدرِّساً صرْتُ،

وصارَ السِّينُ والصَّادُ مثالاً ساطعاً:

مهندساً، محامياً، مُطبِّباً،

أو عاملاً مكافحاً، أو قائداً مثقفاً

أو ناشرَ الهواءِ في الأرجاءْ،

أختي التي ربّتني أحيا مَثَلاً

ظلّتْ جوارَ الحائطِ المصدوعِ تحيا مَثَلاً،

كانتْ تصوغٌ الثوبَ بالخضرةِ، بالماءِ،

بتغريدِ الحمامْ

وحبِّ مَنْ يغزلُ مِنْ غنائهِ حلاوةَ الأحلامْ

ورايةَ السلامْ،

في مرضي

كانتْ هي الضِّمادَ والدَّواءَ والحنانْ.

في الامتحانْ

تجلسُ في فُوّهةِ البابِ وفي لسانِها

زغرودةُ النجاحْ،

في السِّجنِ زارتني

وفي العينين كبرياءْ،

لا تعبٌ مرٌّ ، ولا إعياءْ،

وقلبُها صُلْبٌ منَ الصُّمودْ

والأملِ الموعودْ،

وحينَ لفّوا الحبلَ حولَ الرَّقبةْ

أو فجّروني ارتفعتْ برأسِها، صاحتْ:

سيبقى مَثَلاً ، وخالداً،

مادمْتُ في الأحياءْ،

ما دامتِ العنقاءُ والرَّمادْ والبقاءْ.... هذه الابيات تعكس صورة عميقة عن تأثير العائلة، خاصة الأخت، في تشكيل شخصية الانسان وتحليل النص بشكل مختصر: "أبي وأمي أرضعاني مَثَلاً": يُظهر الشاعر دور والديه في غرس القيم والمبادئ منذ الصغر، بحيث تكون هذه القيم مثل الغذاء الروحي الذي يغذي الشخصية. واستخدام مفردة "مثلاً" يعبر عن أن هذه القيم لم تكن مجرد تعليمات، بل جزءًا أساسيًا من تكوينه الشخصي.

"أختي التي ربّتني أحيا مثلاً": يتناول الشاعر دور الأخت باعتبارها نموذجًا يحتذى به، ويُظهر كيف أن الأخت لعبت دورًا محوريًا في تربيته وتشكيل شخصيته، خاصة في الأوقات التي قد يفتقد فيها الشاعر أحد والديه.

"ظلّتْ جوارَ الحائطِ المصدوعِ تحيا مثلاً": يبرز هنا تماسك الأخت في وجه الصعاب، ويُرمز إلى "الحائط المصدوع" بالصعوبات الاجتماعية، ويُظهر أن الأخت رغم هذه الظروف، كانت رمزًا للصمود والمثابرة.

"كانتْ تصوغٌ الثوبَ بالخضرةِ، بالماءِ، بتغريدِ الحمامْ": يقدم الشاعر صورة فنية للأخت كرمز للعطاء والجمال، حيث كانت تزين الحياة بكل ما هو جميل ومعطاء، مما يعكس تأثيرها الإيجابي على البيئة المحيطة.

"وحبِّ مَنْ يغزلُ مِنْ غنائهِ حلاوةَ الأحلامْ": تعبر هذه العبارة عن القدرة على تحويل الألم والتحديات إلى حلم جميل، فالأخت هنا تمثل الأمل والمثابرة.

"كانت هي الضمادَ والدَّواءَ والحنانْ": في لحظات الأزمة والمرض، تظهر الأخت بمثابة الحماية والرعاية الشاملة، بما في ذلك الجوانب الجسدية والعاطفية.

"في السِّجنِ زارتني وفي العينين كبرياء": يمثل السجن في النص رمزًا للظلم والقهر، بينما زيارة الأخت تمثل الدعم العاطفي والإنساني في أوقات المحن، وتجسد الكبرياء والمثابرة في ظل الصعاب.

"وحينَ لفّوا الحبلَ حولَ الرَّقبةْ": يقدم الشاعر صورة رمزية للإعدام أو القتل في سبيل قضية سامية، ويُظهر كيف أن التضحية لا تمحو الرسالة، بل تجعل منها رمزًا خالدًا.

"سيبقى مَثَلاً وخالداً": تُجسد هذه الجملة فكرة أن النضال والتضحية لا يزولان مع الفناء الجسدي، بل يتحولان إلى إشعاع دائم، بفضل من يحيي ذكرى الشهيد ويروي قصته.

"ما دامتِ العنقاءُ والرَّمادْ والبقاءْ": العنقاء هنا ترمز إلى التجدد والأمل بعد الموت، حيث يتم الربط بين الموت والحياة، مُعبّرًا عن فكرة البقاء والنمو بعد الانكسار.

في المجمل، يعكس الشاعر من خلال هذه الأبيات قيمة العائلة، وخاصة الأخت، في تعزيز القيم الإنسانية والصمود أمام التحديات، مشيرًا إلى أن التضحية والمثابرة تظل خالدة في ذاكرة الأحياء

الاستنتاج النهائي لتحليل القصيدة:

تُقدم قصيدة "العنقاء" للشاعر عبد الستار نورعلي رؤية شعرية شاملة تركز على قيم البطولة والتضحية، حيث يتم إعادة تفسير الألم ليصبح رسالة أمل متجددة. في هذه القصيدة، يُرفض التفكير في الموت كخاتمة نهائية، بل يُعاد تعريفه كبداية جديدة، حيث تذوب الأجساد بينما تظل الأفكار حيّة وخالدة في الوعي الجماعي.

في هذا السياق، تتجاوز المرأة في القصيدة دور المشاهدة السلبية للأحداث لتصبح قوة فاعلة في التاريخ، تحول الأحزان إلى منبع للإلهام وتعكس صلابة الإرادة في مواجهة التحديات. من خلال الرموز الفلسفية العميقة مثل الحبل، الانفجار، العنقاء، والرماد، تتجسد جدلية الفناء والبعث بشكل واضح، ليصبح الموت مدخلًا لعملية الخلود التي تُغذي النضال الجماعي.

لا تقتصر القصيدة على التعبير عن تجربة فردية للفقد، بل تعلو بها لتصبح قضية جماعية تنطلق من الألم الشخصي لتؤكد إرادة الحياة واستمراريتها. من خلال هذا الأسلوب، يتمكن الشاعر من تشكيل نص شعري يعكس المزيج بين الأسطورة، الرمزية الفلسفية، والالتزام بالقضايا الكبرى. وهكذا، تبرز القصيدة في النهاية أن الموت ليس نهاية مسدودة بل بداية جديدة، تتجسد في التضحية التي تُعيد الإنسان إلى حالة من الخلود، حيث يتحول من كائن زائل إلى رمز حي يُلهم الآخرين ويقودهم نحو أفق مشرق.

من خلال هذا السياق، تعيد القصيدة تعريف دور المرأة في إطار غير تقليدي، حيث تبرز كعنصر حيوي في المقاومة والتحمل، مُظهرة أن التضحية ليست مجرد فعل إنساني عابر، بل هي مسار طويل نحو الخلود، حيث يصبح الإنسان رمزًا يُلهِم الآخرين في رحلة النضال المستمرة.

***

سهيل الزهاوي

 

لكفاح الزهاوي

يستعرض المتن الروائي عددًا من المحطات المفصلية في تاريخ العراق خلال حكم حزب البعث، كاشفًا أسلوبه البوليسي في تأسيس دولة القمع والحديد، حيث أُطلقت يد الأجهزة الأمنية لترهيب وترويع المواطنين من خلال حملات اعتقالات اتسمت بالإرهاب، استهدفت بشكل خاص أعضاء الحزب الشيوعي. هذا القمع دفع بالشباب الثوري إلى انتهاج طريق الكفاح المسلح بوصفه سبيلاً للمقاومة والصمود، ما يُبرز أن الوجدان العراقي الحي يرفض الخضوع لآلة البطش البعثية، ويتشبّث بالتحدي والرفض. كما يعكس النص عقلية النظام البعثي الشوفينية والفاشية في استهداف القومية الكردية، سواء عبر حملات التهجير القسري إلى خارج الحدود أو إلى أعماق الصحراء، وصولًا إلى استخدام الأسلحة الكيماوية، كغاز الخردل، في هجمات وحشية. الكفاح المسلح الذي خاضته فرق الأنصار لم يكن طريقًا مفروشًا بالبطولات فحسب، بل واجه معوّقات شديدة، من اشتداد الحملة العسكرية، وتلغيم الجبال والسفوح بربايا الجيش، إلى دعم المرتزقة والجحوش بالسلاح والمال لإخماد حركة الأنصار. كما غذّت السلطات الأمنية الخلافات بين الأحزاب الكردية، مؤديةً إلى اقتتال داخلي بلغ ذروته في مجزرة "بشت آشان"، التي راح ضحيتها عشرات الشباب الثوري، أولئك الذين رفعوا راية الوطن والتحرر فوق كل اعتبار، وسقطوا على أيدي زمر الحقد والعدوان. ورغم أن نضال الأنصار حمل إنجازات مشهودة، إلا أن الرواية لا تغفل عن الإخفاقات، مثل اختراق صفوف الحزب ووحدات الأنصار من قبل وكلاء الأمن، وسوء اختيار قادة الفرق ممن تنقصهم الكفاءة والخبرة. كما يسجّل النص ارتباكًا سياسيًا في تحديد أهداف الكفاح المسلح، وتعقيدًا ناتجًا عن الصراعات الكردية الداخلية، التي غذّتها السلطة المركزية دعمًا لطرفٍ على حساب آخر. لكن، ورغم هذه العوائق الهائلة، فقد أظهر الشباب الثوري صلابة لافتة، متحدّين قسوة الشتاء، والثلوج التي تغلق الطرق، والأهوال الطبيعية، حاملين روح الصمود التي تأبى الانكسار حتى في أقسى الظروف.

1- نضال:

باعتباره الشخصية الساردة، مستخدمًا ضمير المتكلم أو صوت الراوي العليم. حين اعتُقل شقيقه "حاذق"، أدرك أنه الهدف التالي، فشجّعته والدته على الهرب، لينجو بنفسه من المصير ذاته. قرر حينها التوجّه إلى كردستان للالتحاق بشقيقه الآخر "كمال"، الذي كان بدوره قد أفلت من حملة الاعتقالات.  لكي يرتب اتصاله وانضمامه الى صفوف الأنصار .  ويرتب خروجه الآمن من بغداد ( توجّهتُ إلى مكان عملي، وكنت حينها أعمل في مستشفى بعقوبة المركزي، الذي يبعد عن منزلنا ساعة تقريبًا بالسيارة. هناك طلبتُ إجازة لثلاثة أيام، اعتقدت أنها كافية للمغادرة. استعدّيت أنا وأخي قحطان لمغادرة منزلنا في بغداد دون تأخير بعد عودتي من بعقوبة." (ص229) ظلّ هاجس الهرب يُلاحقه، وسط شعور بالارتياب والحذر من نقاط التفتيش المنتشرة على الطريق، وقد شكّ به أحد الجنود بسبب رداءة الخط في دفتر الخدمة. لكن نضال تمالك نفسه وردّ بثقة ساخرة: "جان خطه مو حلو، على أساس يعدله، خطية راد يكحلها... عماها." (ص235) وصل أخيرًا إلى قرية "أحمد آروى"( برفقة مجموعة من الأنصار، ليبدأ فصلاً جديدًا في الحياة الجبلية القاسية المحاصَرة بربايا الجيش والمرتزقة، حيث عانى مع رفاقه شحّ التموين، حتى أنّ بيضتين فقط كانت توزّع على خمسين مقاتلًا! ) (ص248) جلب المياه كان مغامرة محفوفة بالمخاطر، وسط الانحدارات المكشوفة ونيران العدو، حيث تُحمَل المياه في قناني بلاستيكية على ظهور البغال. وقد استخدم نضال خبرته في التمريض لخدمة الأهالي، ما أكسبه احترامهم وتقديرهم. ورغم تهديد المرتزقة، وصعوبة الطبيعة، ظلّ الشباب يتحلّون بروح التحدي، مدركين أن كسر آلة القمع يتطلّب تضحيات، خاصة وأن العدو امتلك أدوات متطوّرة مثل مناظير الرؤية الليلية وقنّاصة يُصيبون أهدافهم من مسافات بعيدة. في مشهد بالغ التعبير، يصف الراوي اجتيازهم للمسالك المغطاة بالثلوج: "كنا حذرين بتأنٍ في خطواتنا، بسبب كثافة الثلوج المتراكمة على طول المسالك الغامضة، وانتشارها بهيئة مخيفة على المنحدرات التي يمكن أن تنهار فجأة. مضينا نقطع شوطاً كبيراً في مسيرتنا نحو القمة حتى وصلنا إليها." (ص296) ختام هذا المقطع يكشف أن الرواية لا تمجّد البطولة فحسب، بل تُجسّد تجربة التشبث بالحياة، في مواجهة آلة بطش متوحشة، وفي حضن طبيعة

2 - حازم:

يظهر "حازم" في الرواية كشخصية نضالية بارزة. خريج كلية الآداب، قسم اللغات، ومتزوج من "سهاد"، شقيقة نضال. يعمل في شركة كبيرة للإنشاءات، ويتمتع بشخصية مرحة ومحبوبة. لكنه، في خلفية حياته الاجتماعية، كان مناضلًا حقيقيًا؛ اعتُقل في انقلاب شباط الأسود 1963، ونُقل إلى سجن "نكرة السلمان" ضمن ما عُرف بـ"قطار الموت". لم يكن مجرد عضو حزبي، بل قائداً ذا خبرة عسكرية، سبق أن خدم كضابط في الجيش، وناشطًا في الحركة الطلابية، مما جعله دائمًا في مرمى المراقبة الأمنية. أُعيد اعتقاله في أواخر السبعينيات، بعد تصاعد الإرهاب في ظل الجبهة الوطنية، حيث أُعدم 31 إنسانًا بتهمة ملفّقة تتعلّق بتنظيم حزبي في صفوف الجيش. يحكي حازم عن تجربة تحقيقه القاسية: ("كانوا يعرفون كل شيء عني، حتى أدق التفاصيل عن حياتي، حركاتي، اجتماعاتي، وحتى ألوان الملابس التي أرتديها. وعندما أنكرت ما ورد في تقريرهم، أعادوني إلى الزنزانة.")  (ص115) ورغم عرض السلطات عليه تولي أي وظيفة يرغب بها، رفض ذلك بإباء، ثم غادر إلى كردستان، ومنها إلى بلغاريا. وفي عام 1982 عاد إلى الوطن والتحق بصفوف الأنصار في جبل قنديل، على سفوح بشت آشان. كلّفه الحزب بمهمة سرية إلى بغداد، لكنه تدارك الموقف سريعًا حين علم أن الأجهزة الأمنية تعرف بوجوده هناك — بسبب تغلغل عناصر الأمن في الحزب — فانسحب فورًا قبل الوقوع في الأسر. مع ذلك، سقط في هجوم مباغت نفذته قوات "أوك" (الاتحاد الوطني الكردستاني) في مجزرة بشت آشان، التي أودت بحياة عشرات الشباب. أُصيب حازم بجراح بعد نفاد عتاده، ومع أنه كان ينزف، أجهزوا عليه بوحشية. لم يكتفوا بإصابته، بل امطروه بالرصاص وهم يصرخون مبتهجين: "- فنرسله إلى الجحيم الآن، ونمزقه ببنادقنا أربًا." (ص273) وهكذا أُعدم وهو ينظر إليهم بعينين تشعّان شموخًا وثباتًا. في لحظة احتضاره، يرسم النص مشهدًا إنسانيًا غارقًا في الرمزية: "يرفع حازم رأسه، فجأة انسكب شعاع من عينيه، فسقط على شاشة الحياة، فارتسمت لوحة كبيرة تظهر عليها سهاد، وأولاده ماجد وعمر، أمام ناظريه مبتسمين، وعلى وجوههم علامات الانتظار. شدّهم الشوق إلى اللقاء ولمّ الشمل... وإذ بابتسامة عريضة تغمر وجهه."

3 - عملية الأنفال:

يرصد النص واحدة من أبشع الجرائم التي ارتكبها النظام البعثي بحقّ الشعب الكردي، متمثلة في الهجوم الكيماوي الذي استهدف قرى عديدة، وخاصة مدينة "حلبجة المنكوبة"، ضمن ما أُطلق عليه اسم "الأنفال" — محاولة يائسة لإضفاء صفة "مقدسة" على جريمة همجية. أسقطت الطائرات صواريخ محمّلة بغاز الخردل، لتسمّم الإنسان والحجر والشجر. لم تقتصر الجريمة على الغاز فحسب، بل توسّعت باستخدام شتى أنواع الأسلحة الفتّاكة، ترافقها عمليات تهجير واسعة. الغاز أثّر في الجهاز التنفسي، وتسبّب في حالات اختناق وعمى وتشوهات جلدية. اضطر الأهالي والأنصار للفرار صوب المناطق البعيدة أو خارج الحدود، وسط ملاحقة المرتزقة والجحوش المدعومين بأسلحة متطورة. "تم استخدام جميع أنواع الأسلحة الفتاكة، بما في ذلك الأسلحة الكيمياوية. وأطلق النظام على جريمته الشنيعة اسم الأنفال، ليُغلف بها طغيانه. شنّ هجومه الهمجي على القرى الكردية الآمنة بعد تهجير سكانها، وقتل من وقع في أَسره... في ذلك الوقت كنا ننتقل من قرية إلى أخرى، بينما الجيش ومرتزقته يتعقّبوننا." (ص308) 4 - العودة بعد الاغتراب:

بعد أن نجا "نضال" من الموت المحقق، غادر إلى "الاتحاد السوفيتي"، وأُدرج في زمالة دراسية نُسب على إثرها إلى "أوكرانيا"، حيث التقى بفتاة أوكرانية وتزوجها رغم اعتراض والدتها. رزق منها طفلين، ثم هاجر إلى إحدى دول أوروبا الغربية، وهناك مكث لسنوات طويلة حتى عاد إلى العراق، مختتمًا غربةً امتدّت لـ"سبعة وعشرين عامًا".

4 - رحلة العودة بعد الاغتراب:

لم تكن أقلّ قسوة من رحلة الغياب. فكل شيء قد تغيّر، حتى الأماكن التي كان يحتفظ بها في ذاكرته بدت له غريبة؛ بيته القديم، الطرقات، التفاصيل التي ظلت حية في وجدانه... أصبحت أشباحًا لا تشبهه. لكن الشوق الذي ظلّ حيًا في أعماقه، كان موجّهًا نحو والدته؛ تلك العاطفة الصافية التي لم تشوّهها السنوات، ولا ابتعد عنها الحنين: "منذ أن تركتُ الوطن، شعرتُ بأن الرحيل سيكون بلا عودة. لكن كان يراودني الأمل دوماً أن أعود يوماً ما، كي ألتقي والدتي التي اشتقتُ إلى حضنها كطفل رضيع... إلى لمسات أصابعها وهي تغرسها بين خصلات شعري، وتربّت على ظهري لتسكّن آلام ضياع السنين. لم يتوقّف قلب أمي عن الخفقان لحظة واحدة، وهاجس الانتظار يصرخ ألماً، معبّراً عن مدى ارتعاشها ويأسها." (ص391)

***

جمعة عبد الله – ناقد ومترجم

 

الشاعر العراقي: عمر عبد الناصر

تتناول هذه الدراسة قصيدة "في روح بغداد" للشاعر العراقي عمر عبد الناصر من خلال ثلاثة محاور تحليلية: الأسلوبي، الرمزي، والنفسي. وترصد كيف تتحول بغداد في النص من مدينة جغرافية إلى كائن شعري أنثوي، وتُستعاد كذاكرة جمعية، وجمالية، وحسية. تتجلى قوة النص في انسيابيته الإيقاعية، وغنائيته، وفي بنائه الرمزي الذي يُماهي بين المرأة والوطن، ويخلق بُعداً نفسياً يعكس مقاومة الفقد والانتماء من خلال الحنين واللغة.

في زمن تعاني فيه المدن العربية من التشظي والتمزق، تأتي القصيدة كفعل وجودي مضاد، حيث تتحول الكلمة إلى وسيلة لترميم الذاكرة واستعادة الهوية. "في روح بغداد" ليست مجرد قصيدة حب، بل هي نص مركّب يعيد تعريف المدينة من خلال العاطفة والرمز. بغداد هنا ليست مكاناً، بل استعارة كبرى للأنثى، للحضارة، ولحالة وجدانية يُعاد استحضارها عبر الكلمات، في محاولة للتغلب على ألم الفقد والاغتراب.

أولاً: البنية الأسلوبية – لغة التكرار والإيقاع الحسي.

تعتمد القصيدة على التكرار الإنشادي كوسيلة لبناء الإيقاع، وهو ما يتجلى في اللازمة المتكررة ،يقول الشاعر عمر عبد الناصر:  "في روح بغداد / هناك أحب أن ألقاك".

هذا البناء يُعطي القصيدة طابعاً إنشادياً يدور في حلقة وجدانية متكررة، ويُعيد تشكيل "الروح" كحيز شعري، غير مادّي، تستعاد فيه كل معاني اللقاء والانتماء. ويتعزز الإيقاع من خلال التوازي التركيبي كما فيةقوله:  "في أغانينا... في أمانينا".

اللغة في النص تتراوح بين الفصحى الرقيقة والعامية المُضمّنة داخل السياق، مما يعكس ثنائية الهوية الصوتية: الرسمية والحميمية.

ثانياً: الرمزية – بغداد كأنثى / المدينة كذاكرة:

تأخذ بغداد شكل الحبيبة. هذا التماهي ليس سطحياً بل ينبع من آلية رمزية متجذرة في الخطاب العربي حيث تتماهى الأنثى بالوطن. يقول الشاعر:

 "في سماركِ المثيرِ اللامنتهي

وفي الوجه الإلهيّ.. البهي".

الوجه البهي، والسمار، ليست صفات أنثوية فحسب، بل استعارات حضارية لمدينة ذات بعد إلهامي. الرموز المحلية (شارع الرشيد، المتنبي، شاي الهيل) تشكل "أيكونوغرافيا" يومية تُعيد تمثيل بغداد بوصفها مركزاً وجدانياً للذاكرة والهوية.

ثالثاً: البنية النفسية – الحنين كآلية دفاعية ضد الفقد.

يوظف النص آليات "التعويض الرمزي" عبر الحب لاستعادة ما فُقد. يختلط صوت العاشق بصوت المواطن، حيث يتحول اللقاء الشخصي إلى لحظة انتماء جماعي، يقول الشاعر عبد الناصر: "كلَّ ما مرّ السلام فينا

كلَّ ما مرّ الزمان فينا".

هذا التكرار ليس فقط جمالياً بل يحمل وظيفة نفسية، حيث يصبح الزمن – عبر التكرار – جزءاً من فعل المقاومة والتشبث بالحضور الداخلي لبغداد. كما أنّ استخدام الأغاني الشعبية والأمثال (مثل "ما أجوزن أنا") يحمل دلالة انتمائية: إنه عناق جماعي للثقافة والهوية من خلال اليومي والمألوف.

الخاتمة:

في قصيدة "في روح بغداد"، للشاعر العراقية عمر عبد الناصر لا يستعيد الشاعر المدينة بوصفها مكاناً، بل بوصفها حالة شعورية مركبة تتجاوز الجغرافيا والتاريخ. تتجلى قوة النص في قدرته على محو المسافات بين الذاتي والوطني، بين الأنثى والمدينة، بين الحب والانتماء. ولعل هذه القصيدة مثال حيّ على كيفية صوغ الذاكرة عبر الفن، وكيف يمكن للشعر أن يكون مرآة لروح شعب بأكمله.

***

بقلم: عماد خالد رحمة - برلين

...........................

في روح بغداد

في روحِ بغداد

هناكَ… أُحبُّ أن ألقاكِ

في ذلكِ الجمالِ الذي...

أصِرُّ أن أراهُ فيكِ دوماً، وفيها

في شارعِ الرشيد

في خطانا التي يُزيِّنُها تلاقينا

في أغانينا... في أمانينا

في روحِ بغداد

هناكَ.. أحبُّ أن ألقاكِ

وأُسلِّمُ عليكِ كلَّ ما ...

مَرّ السلامُ فينا

في روح بغداد

في زحمةِ المقاهي

وضجةِ الساحات

أرى الحياةَ تكتُبُ..

كلَّ ما قيلَ عنه انمحى

وأنا وأنتِ نهيمُ في "المتنبي" *١

و"الدرابينُ"*٢ شهودٌ "بفيِّها" *٣…

وقتَ الضحى

و"شاي الهيل"*٤ قد حانَ موعدهُ

وناظمٌ بصوتهِ صدحا

و"أم العيون السود" معي هنا

وأنا… "ما اجوزن أنا"

"وخدك الگيمر وأنا اتريگ منا" *٥

في روحِ بغداد

تحلو حكايانا

وعراقية، تحلو أغانينا

في روح بغداد

جوٌّ غريبٌ…

ساحرُ الألحان

ودجلةَ بين عينيكِ

يُغازل الشطآن

ويؤنس ليلَ العاشقينا

بغداد… بغداد يا لهذي المدينة!

في روحِ بغداد

في ذلك الوجعِ الذي لا يَنقضي

وفي الجمالِ الذي صِغنا منهُ الذكريات

في لحظةٍ فيها التقوا..

عند ثغري وثغركِ فجأةً دجلةَ والفرات

في سَمارِكِ المثيرِ اللامُنتهي

وفي الوجهِ الإلهيِّ.. البهي

وفي التفاصيلِ المُشبّعاتِ بشمسٍ…

أطفأ نارَها عصيرُ الزَبيب المُعتّق

وفي نُقوشٍ على مَبْنَىً مُنمَّق

هدّهُ الزمانُ والصيفُ والآهات

لكنه ما زال واقفاً يُقاومُ الحرَّ…

ليُثْبِتَ أن بغداد أعرق

بغداد... بغداد يا لهذي المدينة!

في روحِ بغداد

تحلو حكايانا

وعراقيةً، تحلو أغانينا

في روح بغداد

هناك أحب أن ألقاك

وأسلمُ عليكِ كلَّ ما..

مرّ السلامُ فينا

كلَّ ما مرّ الزمانُ فينا

كل ما مرَّ الحنين

وغطى ليالينا...

بغداد... بغداد يا لهذي المدينة!

 

للشاعر يحيى السماوي.. من الظمأ إلى الفاجعة

مقدمة: تُعدّ القصيدة الشعرية اليوم وسيطًا تداوليًّا مكثّفًا، تتفاعل فيه اللغة والسياق والحسّ الجمعي في لحظة جمالية متوترة. وقصيدة "نهري بلا ماءٍ..." تندرج في هذا السياق بوصفها نصًّا شعريًّا ينفتح على أفق الحسين بوصفه حدثًا رمزيًّا مؤسّسًا للوعي العربي والإسلامي، متكئًا على لغة موحية، وبلاغة سردية مكثفة، تحوّل المشهد إلى لحظة صدمة دائمة.

في ضوء النظرية التداولية، سنسعى لتفكيك هذا النص على مستوى المقاصد، والافتراضات المسبقة، وأفعال القول، لنكشف عن المشهد التداولي الذي تبنيه القصيدة عبر مشاهدها الثلاثة المتلاحقة.

تأطير تداولي أولي للنص:

تعتمد القصيدة في بنيتها على التكثيف الرمزي وتفعيل أفعال القول غير المباشرة، فتبدأ بجملة خبرية:

"نهري بلا ماءٍ"

وهي عبارة تؤسس لفعل تداولي قَصديّ يتجاوز ظاهر القول (إخبار عن نهر جاف) إلى فعل تعجّبي أو احتجاجي، يراد منه التنبيه إلى مفارقة أو خلل في نظام الوجود. من هنا تبدأ القصيدة في تفعيل الوظيفة التداولية المعروفة بـ"الإنذارية" أو "التحذيرية"، وهو ما يشيع في النص بأكمله.

التداولية والمجاز الرمزي:

"وأما غابي

فيتيمةُ الأفياءِ والأعنابِ"

يتموضع هذا السطر في الحقل التداولي المتعلق بـفقدان البركة/الحياة/الكرامة. فالنهر الذي كان يفيض أصبح يابسًا، والغابة التي كانت تستظل وتمتلئ بالثمار أصبحت يتيمة، والتعبير عن الغابة بـ"يتيمة الأفياء والأعناب" يحيل إلى انقطاع النعمة وغياب المدد.

من منظور تداولي، ينتمي هذا القول إلى ما يعرف بـ"أفعال التقييم" وهو فعل يقوم به المتكلم في الحكم على الواقع، ومنح المتلقي مفتاحًا معرفيًا للتأويل، عبر صيغة انفعالية تحمل في طيّها حزنًا وخيبة.

لحظة الصدمة التداولية

"قُتِلَ الحسينُ؟

فكيف لا يغدو الضحى

ليلاً..

وشمسُ الصبحِ دون شهابِ؟"

تتموضع هذه المقاطع ضمن نموذج "الاستفهام التقريري الصادم"، والذي يُعد في التداولية من أبرز أساليب أفعال الإقناع، فيعرض الشاعر حقيقة تاريخية (مقتل الحسين) على أنها حدث كونيّ غير قابل للتصديق.

فالسؤال التداولي هنا لا ينتظر جوابًا، بل هو "سؤال تأكيدي" يُراد منه نقل وقع المأساة إلى مستوى كوني يتجاوز حدود الجغرافيا والتاريخ.

وتفعيل الزمن النهاري (الضحى) على أنه يغدو ليلاً، وتحويل شمس الصباح إلى نجم مطفأ، كلّها أفعال لغوية تنقل التوتر من المجال النصي إلى القارئ ذاته، ليشعر بالدهشة والخذلان.

تفعيل أفعال القول الانفعالية – مشهد السماء الباكية:

"لَطمَتْ ملائكةُ السماءِ خدودَها

وبكتْ عليهِ حجارةُ المحرابِ"

هذه الذروة في القصيدة تقود إلى المشهد الأعلى في البنية التداولية: مشهد الحداد الكوني. حين تتجاوز ردة الفعل عالم البشر إلى عالم المفارق (الملائكة) وعالم الجمادات (الحجارة).

الملائكة تلطِم، والحجارة تبكي. إنهما فعلان فائقان لطبيعة الأشياء، يُفعلان لغويًا كنوع من أفعال القول الانفعالية المكثفة:

"لطمتْ" فعل انفعالي بدائي يعبر عن ذروة الحزن.

"بكتْ" فعل إنساني يتجسد في الحجر ليصبح علامة رمزية على اختلال نظام الكون بعد مقتل الحسين.

هذا المشهد يعتمد على ما يسميه التداوليون "فعل التضمين الثقافي" (Presupposition)، إذ يفترض الشاعر معرفة مسبقة لدى المتلقي بثقل حدث كربلاء، ما يجعل المعنى يتشكل بعمق داخل العقل الجمعي.

المقصدية التداولية للنص:

تقوم النظرية التداولية على تحليل نية المتكلم وموقفه من العالم. وهنا، نستطيع أن نرصد المقاصد التالية:

1. الاحتجاج الرمزي: القصيدة لا تحكي مقتل الحسين كحدث، بل كـ"نكبة كونية"، فكل شيء انقلب رأسًا على عقب.

2. التفجير القيمي: يعلن النص عبر التداولية انهيار قيم "العدالة، والنبل، والقداسة"، حين يُقتل الحسين، فينهار العالم معه.

3. إعادة تأويل الزمن: الضحى يغدو ليلًا، أي أن الزمن لا يعود وسيلة انتظام، بل هو في حالة انكسار دائم.

4. نقل الحزن من الواقعة إلى الوجود: لا يُصوّر النص حزن الإنسان، بل حزن الكون كله، وهذه قمة البلاغة التداولية.

البعد النفسي الرمزي في تشكيل الذاكرة الشعرية:

إذا أضفنا إلى التحليل التداولي بُعدًا نفسيًا رمزيًا، اتّضح أن الشاعر لا يُوجّه خطابه فقط إلى العقل الجمعي، بل إلى اللاوعي الجمعي أيضًا، حيث تتشكّل الذاكرة الجُرحية بوصفها هوية مكسورة تعيد إنتاج الحزن بوصفه آلية إدراك ووجود.

فـ"النهر بلا ماء" ليس مجرد صورة عن الظمأ، بل هو تمثيل لأنا متصدعة تبحث عن رموز الحياة في مشهد موت. و"الغابة اليتيمة" هي اللاوعي المُجتث من الأمان الأولي، من ظلّ الأم وخصب الأرض، وكل ذلك يُصاغ بصمت الصدمة.

أما سؤال: "قُتِلَ الحسين؟"، فهو تجلٍّ واضح لما يسميه علماء النفس بـ"إنكار الفاجعة"، حيث لا تصدّق النفس ما حدث، فيأتي السؤال محمّلاً بذهول الإنسان أمام الجريمة، ورفضه النفسي العميق لها، وإن أدركها عقليًا.

وحين "تلطِم الملائكة" و"تبكي الحجارة"، فإن النص يُمارس نوعًا من الإسقاط النفسي، حيث تنفجر الذات الشاعرة من الداخل، لكنها تُحوّل ذلك الانفجار إلى رموز خارجية، لتجعل من الفقد صدمة شاملة.

بهذا المعنى، فإن الشاعر يُعيد تشكيل الحدث الكربلائي لا بوصفه قصة ماضٍ، بل بوصفه كربلة الوعي والوجود واللاوعي. فالقصيدة لا تتذكّر فقط، بل "تُكابد" عبر ذاكرتها، وتُقاسم المتلقي فجيعة مستمرة تتناسل رمزيًا في ذاته وتاريخ أمته.

الخاتمة:

إن قصيدة "نهري بلا ماءٍ..." ليست مجرد خطاب رثائي حسيني، بل هي "فعل لغوي مركّب"، يُستعمل فيه الشعر كوسيط تداولي ونفسي لإعادة سرد مأساة كربلاء بوصفها لحظة انكسار كوني وأخلاقي ووجودي.

النص يفعّل استراتيجيات متعددة: الاستفهام، الاستعارة، قلب الزمن، تأنيث الأشياء، إضافة إلى تفجير الرموز اللاواعية في جسد اللغة، ليعيد بناء المشهد من جديد في ذهن المتلقي.

وحين نقرأ في ضوء التداولية والتحليل النفسي الرمزي، ندرك أن القصيدة لا تبحث عن البكاء فقط، بل تسعى إلى زلزلة البنية الذهنية التي سمحت بقتل الحسين، فتصبح مقامًا لـ"بلاغة الغضب المقدس"، وإدانة للوجود الناقص، وتذكيرًا دائمًا بأن الحقيقة الدامية لا تزال تنزف فينا.

***

رياض عبد الواحد

...........................

نهري بلا ماءٍ  ..

وأمّا غابي

فيتيمةُ الأفياءِ والأعنابِ

//

قُتِلَ الحسينُ ؟

فكيف لا يغدو الضحى

ليلاً ..

وشمسُ الصبحِ دون شهابِ؟

//

لَطمَتْ ملائكةُ السماءِ خدودَها

وبكتْ عليهِ حجارةُ

المحرابِ

//

لَعَنَ الإلهُ القاتلينَ ومَنْ لهم

أمرٌ بِسَلِّ مهنّدٍ

وحرابِ

 

يشكّل الأدب دوراً عميقاً ومؤثراً في صناعة السياسة، ويتجاوز كونه مجرد تعبير فني أو ترفيهي، ليصبح وسيلة فعالة في تشكيل الوعي، وبناء الخطاب السياسي، وحتى تحفيز التغيير الإجتماعي، فهنالك أدوارعدة يلعبها الأدب في هذا السياق، يقف في مقدمتها، تشكيل الوعي الجمعي. فالأدب؛ سواء كان رواية أو قصة قصيرة أو شعراً أو حتى مسرحاً، يمكنه أن يعكس الواقع الاجتماعي والسياسي وينقله بعمق إنساني، مما يساعد على تشكيل وعي الناس الجمعي تجاه قضايا معينة. فمن خلال القصص، وفنون الأدب الأخرى، يعيش القاريء تجارب الآخرين، مما يجعله أكثر فهماً وتعاطفاً، وبالتالي أكثر إستعداداً للإنخراط في القضايا السياسية والاجتماعية.

إن كثيراً من الكتّاب إستخدموا الأدب كمنصة لمواجهة الظلم وكشف الفساد والنفاق السياسي. إذ يمكنه أن يتسلل الى المناطق التي تعجز عنها الصحافة المباشرة للوصول اليها؛ وذلك من خلال الرمز والسخرية واللغة الإبداعية. أيّ بمعنى أنه يشكّل نقداً للسلطة وكشف ما تخفي من أمور الفساد وغيرها.

صناعة الرموز الوطنية

كما أستطاع الأدب أن يصنع رموزاً وطنية وثقافية تكون جزءاً من الهوية السياسية للدولة. فعلى سبيل المثال، شخصيات أو أبطال أدبية مثل (دون كيشوت) في الأدب الإسباني أو (إنكيدو) في الأدب السومري العراقي القديم بملحمة كلكامش، يمكن أن تتحول الى رموز تعبّر عن قيم معينة تتبناها الدولة أو المعارضة للتعبير عن شيء ما. وبذلك فهية من صناعة الأدب. فالأدب أحياناً يؤثر في السياسات بشكل مباشر، حين يتبناه السياسيون كأداة للدعاية أو التعبئة، أو حين يثير ضجة مجتمعية تدفع الحكومات الى إعادة النظر في قراراتها وطبيعة صياغتها، وأحياناً له دور في التأثير بآتخاذ القرار ذاته.

لقد شكل الأدب مصدر إلهام للثورات، فالعديد من الحركات الثورية إستلهمت قوتها من كتابات أدبية قديمة أو معاصرة، سواء من خلال القصائد الثورية أو الروايات التي تعزز قيم الحرية والكرامة والمقاومة، فالأدباء الذين رافقوا الثورة الفرنسية والثورة الروسية أو حركات التحرر العالم العربي والعالم الثالث، كانوا مؤثرين، وشكلوا حافزاً للجماهير، ونضج أفكارها، ومما لا شك فيه، فالأدب يسجل اللحظات السياسية الكبرى، في حفظ التأريخ السياسي، بطرق إنسانية وشخصية أكثر من السرد الرسمي، ويتيح للأجيال القادمة فهماً أعمق لتلك اللحظات. إذ يُعد الأدب مرآة الشعوب ولسان حالها، لكنه يتجاوز في كثير من الأحيان مجرد التوثيق أو التعبير الجمالي، ليغدو قوة فاعلة في صناعة السياسة وتوجيهها. وذلك بما يمتلكه من قدرة على التأثير في العاطفة والعقل معاً، كما يمكن أن يصبح أداة للتمرد، والنهضة، والبناء، والهدم على حد سواء. فالأدب أداة لتشكيل الوعي السياسي، فمن خلال الروايات والقصائد، والمسرحيات، إستطاع الأدب أن يرسّخ قيّماً سياسية كالحرية والعدالة والمساواة وحقوق الإنسان.

 إنّ الكلمة الأدبية لا تكتفي بالشرح، بل تجعل القاريء يعيش التجربة بكل أبعادها النفسية والإنسانية، وهو ما يُحدث تحولاً حقيقياً في المواقف والأفكار. فعلى سبيل المثال لا الحصر، روايات نجيب محفوظ، وخاصة ثلاثيته، لم تكن مجرد حكايات عن أسرة مصرية، بل كانت مرآة دقيقة للتحولات السياسية والاجتماعية في مصر في النصف الأول من القرن العشرين. لقد جعل محفوظ السياسة في كتاباته ملموسة وحيّة في عيون القاريء من خلال شخصياته وسلسلة أحداثه عبرالأجيال.

بين الأدب والسياسة تأريخ مشترك

إن المتابع للعلاقة بين تأريخ الأدب والسياسة، سيجده كان وسيلة لمقاومة القمع وتعرية الإستبداد في ظل الأنظمة الديكتاتورية، فيصبح الأدب غالباً الملجأ الأخير لقول ما لا يُقال. فالشاعر أو الروائي أو الفنان، يلتف على الرقيب بأساليب رمزية وإستعارية، لكنه يصل الى الجمهور بشكل أقوى من الشعارات والخُطب. ومثال على ما تقدم، فأن الكاتب جورج أورويل في روايته (1948) قدّم صورة عن المجتمعات الخاضعة للرقابة الشاملة، وقد تحوّلت الرواية الى تحذير عالمي من مخاطر التلاعب بالوعي والسيطرة على الفكر.

ففي فترات النضال الوطني أو بعد الإستقلال لكثير من الدول والشعوب، لعب الأدب دوراً في بناء (السردية الوطنية) أي القصة التي تروي من نحن، وما مررنا به، ولماذا نستحق السيادة والكرامة. فهو هنا يُسهم في صياغة خطاب سياسي وثقافي تلتف حوله الشعوب. فشاعرالعرب الأكبر محمد مهدي الجواهيري، ومعروف عبدالغني الرصافي وغيرهما، آستخدم الشعر كأداة للمقاومة، وبث الروح الوطنية عند العراقيين، فأصبحت قصائدهما بمثابة بيانات سياسية تعبّر عن الهوية العراقية في مواجهة فترة الحكم الملكي ومن ورائه بريطانيا.

فهو محرك للثورات والتحولات الكبرى، فالكثير من الحركات الثورية لم تكن فقط مسلحة بالسلاح، بل بالكلمة المسلحة. فالقصائد والمقالات والروايات كانت تحفز الشعوب وتغذيها بالإيمان بعدالة قضاياها. وهذا ما حصل في الثورة الفرنسية، إذ كان فولتير وجان جاك روسو، تأثيرهما الفكري الهائل على الشعب الفرنسي، حيث أسست كتاباتهما وآخرين معهم، لمفاهيم (حقوق الإنسان) و(العدالة الاحتماعية) التي شكلت جوهر مطالب الثورة آنذاك.

لقد كان العديد من السياسيين أّن أعتمدوا على الأدب في خطاباتهم وخطبّهم، وبعضهم كان أديباً بالأساس. فالأدب يمنح السياسي أدوات بلاغية وفكرية تجعله أكثر قدرة على التأثير والإقناع. كما أن اللغة الأدبية تساعد في صياغة خطابات سياسية أكثر إنسانية وأقل جموداً. كما كان الرئيس التشيلي الأسبق (بابلوا نيرودا) شاعراً، وفاز بجائزة نوبل، وكان صوته الشعري مصدر إلهام لملايين الفقراء والمظلومين في أمريكا اللاتينية.

الأدب والتأريخ البديل للسياسة

بعكس التأريخ الرسمي، يقدم الأدب صورة أكثر إنسانية وعمقاً للتجربة السياسية. قد تذكر الكتب المدرسية عن حرب أو ثورة، لكنها لا تنقل أثرها على الناس، بينما يستطيع كاتب أدبي أن يجعلك تشعر بما شعر به الضحايا، المنفيون، الثوار، وكذلك المهزومون. فعندما تقرأ رواية عن الحروب (الطريق الى تل المطران) للكاتب العراقي الراحل فؤاد التكرلي، التي تكشف لنا عن أهوال الحرب العراقية الإيرانية بعيون إنسانية مؤلمة، بعيدة عن الشعارات الرسمية، كذلك الحال لو قرأنا رواية الحرب والسلام للروائي الروسي تولستوي، فتجد مدى قوة تأثير الأدب لدى المتلقي.

إذاً، يُمكن القول إن الأدب ليس فقط شاهداً على السياسة، بل فاعل فيها ومشارك في صياغتها. هو الأداة التي تشحذ الوعي، وتفك السلطة، وتعيد تعريف المفاهيم، وتوحد الناس حول قيم ومبادئ، لا تنتهي بآنتهاء الرواية أو القصيد، بل تبدأ منها.

الأدب كجسر بين الثقافات والسياسات المختلفة

ففي عالم تتشابك فيه المصالح السياسية وتتباين فيه الأيديولوجيات، يبقى الأدب واحداً من أنقى وسائل التواصل بين الشعوب. الذي يتجاوز الحواجز اللغوية والسياسية ليكشف عن الإنسان المشترك في كل مكان. وعندما يقرأ القاريء العربي رواية أمريكية تنتقد العنصرية، أو يقرأ الأوربي شعراً منفياً عن القضية الفلسطينية، تحدث لحظة من التفاهم الإنساني والتقارب تتجاوز الدبلوماسية والسياسة.

هذا البعد الإنساني الذي يتيحهُ الأدب هو ما يجعله عنصراً مهماً في (الدبلوماسية الثقافية)، حيث تسهم الروايات والمسرحيات والشعر، كذلك الفنون، في تليين العلاقات بين الدول، وفتح أبواب الحوار غير الرسمي، وبناء صورة إيجابية للشعوب تتجاوز سياسات حكومتها.

إنّ العلاقة بين الأدب والسياسة ليست علاقة تبعية، بل شراكة معقدة ومتشابكة. فكما تستعين السياسة بالأدب لبناء خطاباتها وتجميل صورتها، فإن الأدب يحتفظ لنفسه بحق النقد والرفض والتمرد. الأدب لا يصنع السياسة فقط، بل يضعها تحت المجهر، ويحمّلها مسؤولية الإنسان، ويذكّرها دوماً بأن ما لا تقدر على تغييره القوانين، قد تغيره القصيدة أو الرواية أو الفنون الأخرى بكل أشكالها.

***

د. عصام البرّام

تسطير منهجي: سنمارس على هذا النص الروائي فنّ التأويل داخل مساحة تيماتية معيّنة درءاً لكلّ إسهاب أو تسيّب في المخرجات التحليلية. ونقصد بذلك البحث في الرواية عن ممكنات تشكّل الإنسان داخل منظوريْن: منظور المؤلّف المبادر إلى المعنى. ثم منظور القارئ المعيد لإنتاج المعنى. مستندين في ذلك على مقولة أرسطو (إنّ في كلّ كلامٍ تأويلا، من جهةِ أن اللغة تعريفٌ لأشياءِ الواقع)

و رواية (اولاد الكريان) مساحة تخييلية تعْبُرُ باللغة السردية ممكنات المعنى وفائض المعنى لتُعرّف بواقعٍ يتعيّن في الزمان وفي المكان ويتصدّر فيه الإنسان منازل ومقاماتٍ تفضح صيرورته بحرفي الصاد والسين مساراً وتحوّلاً، أكثر ممّا تمجدها في دغدغاتِ الإخبار الإمتاعي.

و يقوم منهجنا التأويليّ المتواضع على استنطاق منطوقات الرواية وملفوظاتِها داخل ثلاثِ دوائر:

- دائرة العلامة:

و فيها نبحث عن ممكنات وجود مجازية للملفوظات، وهي تحضر داخل العلامة بشقّينِ: واحدٌ صنعهُ المؤلّف وثانٍ يستنطقه القارئُ\المؤوّل في بحثه عن الدلالات، وهذه الأخيرة ليست قطْعية نهائية تحسم مُخرجاتِ العلامة بقدر ما هي تقيمُ في وضعٍ تأجيليّ، كما عبر عن ذلك جاك ديريدا.

فإذا كانت الدلالة الأولى تستمد وجاهتها من المعنى المباشر الذي ارتآه المؤلف، فإن الدلالة الثانية والثالثة وغيرها، منفتحة على الاحتمال، وتتناسل أشكال هذا الاحتمال المتعددة حسب تعدد عدد المؤوّلين.

- دائرة التقاطع:

أن كل نصّ هو حصيلة تقاطع بين ما نفهمه من النص في لحظته الحاضرة وبين جملة المعارف التي نحملها في تراثنا الإنساني والتي تساعدنا على فهم هذا النص، كموؤوّلين للعلامات في غير انقطاع أو قطيعة مع هذا التراث الإنساني، لأننا نحمله في وعينا وفي لاوعينا شئنا أم أبينا.

خذ أي تيمة في الرواية، خذ مثلا موضوعة المقاومة. فإن تمثّلها لدي القارئ لا تقف عند حدود المعنى الذي رسمه لها الروائي في نصّ (اولاد الكريان) المبادر إلى المعنى، وإنما تتداخل معه معارف المتلقي وتمثلاته الخاصة عن مفهوم المقاومة انطلاقا مما ترسّب في ذهنه عنه انطلاقا من زوايا استقباله للمفهوم الذي تتحكم فيه ثقافةٌ مختلفة ومغايرة. فالقارئ المغربي القادم من زمن السبعينات يختلف في تمثله لفعل المقاومة عن قارئ ينتمي للألفية الثانية... وقارئ الرواية القادم من دروب كوبا مثلا سيختلف تمثله للمفهوم عن قارئ قادم من سويسرا ... وهكذا، فإن المشترك المعرفي الإنساني يتحكّم في إنتاج المعنى وبالتالي سيتحكم في عمليات التأويل. مع الإشارة إلى أن عوامل أخرى لا يتسع المقام لحصرها تدخل في توجيه هذه الدائرة.

- دائرة الأسلاك الشائكة:

و تختلف عن الدائرتيْنِ قبلها بحكم ارتباطها بالاحتراز والوقاية أكثر من ارتباطها بالمنهج في صميمية تفعيله. ونقصد بذلك أننا نحتمي بها في عمليات التأويل حتى لا يتسيّب خارج القراءات المعقولة والموضوعية، وحتى لا يتحول فعل القراءة إلى فوضى يلقي فيها أيّ قارئٍ أيَّ تأويل.

و كأننا ونحن نمارس التأويل على الرواية نصنع لأنفسنا سياجا دائريا شائكاً يحذّرنا كلما شطّتْ بنا القراءة خارج مقتضيات السياق والحال والمقام وغيرها. ويمنعنا من السقوط المجاني في ركوب فوضى التأويل ولذة القراءة العابرة خارج منطق القرائن والأدلة.

تمهيد:

تتألف رواية (اولاد الكريان) من أربع وأربعين حكاية تتفاوت في الحجم. منها الشاملة ومنها المركزة، تفادياً لاستعمال مقولات الطول والقصر باعتبارهما مقياسا كمّيّاً لا يفي بأغراض التحليل والمقاربة والتأويل، وباعتبار هذا المعيار قد أصبح متجاوزا في مجال النقد.

و قد سمّينا هذه الأجزاء أو الفصول حكاياتٍ لأن السارد أسند للقوى الفاعلة مهمة الحكي عن ذواتها وعن غيرها، في تشاكلٍ فنّي يؤرجح عمليات الحكي داخل زوايا نظر متعددة ومختلفة، تضع المتلقي في استشكال التلقي الجمالي الذكي الذي يربأُ بالرواية أن تُسلِم ذاتها في مجانية رخيصة لخطية الحكي الباهت.

الحكاياتُ في منظور قراءتنا هي دوائر إنسانية تتشعب أقدارها وقضاياها ومصائرها ومبدؤها ومنتهاها لتنسجم في بؤرة من البؤر الدلالية العميقة أو العقيمة، انسجامَ تسريد لا انسجام موضوع. فكلٌّ يجري في فلكه ولكنه يتاخم أفلاك غيره في غير ذوبان وفي غير امّحاء.

من هذه الدوائر ينبع معين ثرٌّ لأشكالِ الإنسان داخل الرواية. وهنا لا نتحدث عن الشخصيات أو الشخوص أو القوى الفاعلة. فهذه آليات تنتمي لفن التخطيب الروائي التي تفتح مغاليق البناء السردي للقارئ. أما همّنا فهو تتبع تشكّلات الإنسان في رواية (اولاد الكريان) داخل منظور وجود هذا الإنسان في علاقته بذاته وبالآخر، وفي علاقته بالقضايا الاجتماعية والسياسية والثقافية والنفسية، وفي علاقته بالهوية أيضا... إننا نشتغل في هذا السياق على تجليات الإنسان في ضعفه الوجودي الموسوم بالتمزق والتشظي والتيه والضياع والحيرة، دون أن ننفي عن الرواية تغنّيها بإنسان الإرادة والقوة الكامنة في تشكّلات المقاومة، سواء لدى الرجل أم المرأة، مثلَ الحضور القوي للغريب ولمينة الحريزية استشهادا لا حصرا...

مقْوَلَةُ الإنسان*:

1 – الإنسان الضعيف: يمثّله في الرواية، العطار الطاهر والد البتول. وهو بدوره يمثل شريحة اجتماعية واسعة في واقع الرواية وفي واقعنا نحن. وأراني لا أجانب صواباً إذا أقحمتُ هذا النوع في خانةِ الهارب إلى ركن الاستسلام خشية أن يطاله شيءٌ من الأذى. وأراني أيضاً أجده في المقولة العربية العاجزة التي ترفع عقيرتها بشعار (كم حاجة قضيناها بتركها). والتّركُ هنا ليس موقفا مؤسسا على قناعة أو توطينٍ للذات بقدر ما هو سلوك غير مسؤول يركن للدعة والاسترخاء والهروب والاستسلام، في غير حضور وفي غير قرار...

الإنسان في هذه النمطية مصنوع من مادة الخوف المجاني. ( وكان خوفه من البوليس خرافيا. كان داخل سوق راسو بشكل مبالغ فيه، تخيفه كلمة سياسة وكلمة مقاومة. هاجسه الأول أن يأكل رغيفه دون عناء – الرواية ص 11).

و لا أدل على ذلك من أن السارد قد ضاق بهذه الشريحة ذرعا فقال مشمئزّا (داخل سوق راسو بشكل مبالغ فيه). بمعنى أن هناك حدّا مقبولا للخوف قد يلتمس فيه الشارد للمعني بالأمر بعض العذر، زيادةً وإيغالاً في تصوير هذه الشريحة تصويراً واخزا مُدينا وشاجبا.

لا يمثل الطاهر نفسه، في تضييقٍ لأفق الرواية وفي تعقيمٍ لانسرابها داخل نسغِ الكتابة الفنية الناقدة والمنتقدة، بقدر ما يمثّل شريحة اجتماعية سادت قديماً وتسود حاضراً وتعيش في الظل البارد الموبوء برطوبة الوجود؟

تصور الرواية الإنسانَ في هذا المقامِ ضعيفا، وخائفا، وعاجزاً أيضا عن صناعة القرارات والحلول لذاته ولذويه. ولا أدلّ على ذلك من عجزالطاهر عن استيعاب مشكلة ابنته البتول لولا أن تدخّل الغريب وصنع بدله قرارا غيرياً ينقده وماءَ وجهه.

ليست مفرداتُ الضعف والخوف والعجز صفات ملتصقة بفردٍ نكرة في الرواية وفي المجتمع، إنها مقولات وجودية تكاد تطال الجميع بما فيهم البتول ووالدتها والتباع وولد اغضيفة وعلال وعبدالقادر ومسعود وغيرهم. وهي مقولاتٌ وجودية تأخذ أحجاما مختلفة باختلاف طبيعة الإنسان الموصوف في الرواية. وتتفاقم مفرداتها في شخص الطاهر الذي رسمته الرواية في صورتيْن: صورة الطاهرالممثّل للحالة العابرة وصورة الطاهر الكينونة. وهذه الكينونة تخرج من شرنقة المفرد إلى صيغة الجمع لتدين نمطية بشرية اختارت الظل البارد الموبوء برطوبة الوجود عوض المواجهة، على حساب وجودها ووجود المقاومة والتاريخ، وإن كانت المقومة والتاريخ لا يحتاجان إلى مثل هذا الإنسان.

الخلاصة إذن، أن الرواية هنا لا تسجّل في مرآتية عقيمة ضعف الإنسان الذي تنتشله من خبايا الواقع وتلقي به في ردهات الخطاب الروائي. إنها تخييل ماكر يقبض على المعنى، ومنه معنى الضعف البشري، في أتون الإدانة والشجب الصامتيْن.

- اولاد الكريان، رواية لا تسجّل

- اولاد الكريان، رواية لا تمارس أدوار الفوتوغرافيا

- اولاد الكريان، رواية لا تنسخ الواقع بسلبية فنية عقيمة

- إنها رواية تعيد إنتاج الشكل الإنساني\البشري الضعيف في قالب تخييلي يتجاوز التوصيف والإخبار والحكي إلى إفعام الخطاب بأكثر من سؤال. وبالتالي فهي تفتح للمتلقي شهية المساءلة بعيداً جدّاً عن هدفية الإمتاع والمؤانسة.

2 – الإنسان \ الضحية:

ويتعلق الأمر باستخلاص صور الضحية من خلال البتول، الطفلة ذات الأربعة عشر ربيعاً أو خريفاً إن شئنا حقّ التعبير. وهي تمثّل الإنسان الهش الذي:

- تعرّض للاغتصاب

- ديسَ على إنسانيته

- اختزله المجتمع في بؤرة الجسد الجميل

- اختزله المجتمع في بؤرة اللذة فقط

- حرمه المجتمع من حقه في التعلم والتعليم

- رمى به المجتمع في صيرورة لا يريدها ولا تشبهه

- المجتمع يصنع قراراته بدله

- فرض عليه المجتمع وضعاً عائليا بإكراه

- حرمه من الإحساس بعاطفة الأمومة

- حرمه من ممارسة الأمومة

- جعله يعاني مأساة الفقد المبكر في فلذة كبده

- ...

والرواية في هذا المقام لم تقْسُ على الإنسان الضحية بقدر ما فضحت من خلاله شراسة الآخر وجبروته الجاهل وأنانيته المقيته ودونيته المرضية وعقمه الغريب في إنتاج أو تبني القيم الإنسانية.

تأويل الإنسان\ الضحية ليس بالأمر الهيّن في سياق رواية ذكورية بامتياز. إن كلّ ما قيل عن هذا النمط هو تحصيل حاصل، وهو تحويل تراكم الخطاب الروائي في متنه إلى متنٍ آخر يمارس عمليات التصنيف فقط. وهذا ليس مطلوباً في مقاربتنا التي تتغيّى تأويلاً أكبر وأكثر.

من هنا السؤال:

- هل كن في وعي السارد طرح مسألة الجندر؟

- هل يمارس السارد ضغطا حريريا على القارئ للالتفات والالتفاف حول ظاهرة الاغتصاب أو ظاهرة الحرمان من الحق في التعلم؟

- هل يكتفي السارد برصد الواقع المتعيّن في فترة الاستعمار والمقاومة ولوضع المرأة داخل هذا السياق الزمني والحضاري؟

- ألا تكفينا الدراسات الموثِّقة والموثَّقة النازحة من رفوف البحث العلمي لرصد واقع الأنثى بكل الدقة والعلمية الممكنتيْن ؟

- لماذا تأخذ البتول، وهي نموذج الإنسان\الضحية كل هذا الحجم السردي في الرواية؟

- لماذا تمحور الحديث عليها علما بأن الرواية وسمها صاحبها بالإسناد الذكوري (اولاد الكريان)؟

هذه أسئلة وأخرى تتناسل في هذا الاتجاه، تفيدنا أن المسألة لا تتعلق بتوصيفٍ يقدم للقارئ المعلومة عن مسألة الجندر في زمن الاستعمار والمقاومة، وإنما الأمر يتعلق بتخييل روائي يتجاوز الوثيقة والمرجعية العلمية. إنه تصور فنّيّ يروم السفر بذات المتكلم الواصف من رهان الألفية الثانية زمن تأليف الرواية (2024) إلى رهان البناء لعوالم تخييلية ممكنة تتقاطع فيها البتول الماضوية مع البتول الحاضرة وتطرح السؤال التالي: إلى أي حدّ استطاعت البتول اليوم الخروج من الأسر الثقافي؟...

و هكذا نستوعب الدرس جيّدا من السارد وهو يرمي في آذاننا وفي وجداننا أن الضحية أكبر من البتول... فالطاهر ضحية، والأم ضحية والتباع ضحية ومسعود وعلال وغيره ، ضحايا. والإنسان\الضحيةُ في الرواية ينقلب من حالة اجتماعية يمكن رصدها في دراسات علم الاجتماع، وفي غيره من العلوم، إلى حالة إبداعية تدين السياق التاريخي كله، وفيه تنبّه الرواية شرائح المتلقين إلى أبعد من وصف وتوصيف، ومن تخييل... تنبّههم إلى صيرورة استعمارية استغلت معطيات الجهل وافقر آنذاك، وحوّلتها بفعلٍ مبيّت وممنهج من استعمار مسلح إلى استعمار فكري يحلل الخلل في بنيات الإنسان والمجتمع بصورة مركبة أشد التركيب، ومستعصية أشد الاستعصاء على الفهم والاستيعاب والإحاطة والمعالجة.

تأتي الرواية لتفتح للقارئ منافذ أخرى لاستيعاب القضية من وجهة نظر أدبية تخييلية تكشف أوراق الاستعمار وتفضح صيرورته المبيّتة في الفتك بالهوية. وهي منافذ ونوافذ تجعل قراءة التاريخ ممكنة خارج قصدية الاعتبار وحده، كما دأبت الرؤية الخلدونية تفعل ذلك، إلى قصدياتٍ أخرى أكثر ارتباطا بالرؤيا بألف ممدودة ومنفتحة على ثقافة السؤال ثم الإدانة من داخل عوالم الأدب لا من داخل الوثيقة. والفرق بين العالمين لا يحتاج إلى شرح أو تفسير.

3 – الإنسان الشهواني: ندلف إلى هذا النمط من خلال ولد اغضيفة الذي رسمته الرواية جبارا في الحومة لا يُرفض له طلب، وتهابه الساكنة وتشتري رضاه بالأداء والعطايا...

لا تهمنا صورته في الرواية، وتهمنا تداعياتُ حضوره كحمولة إنسانية (بالمفهوم الوجودي لا بالمفهوم القيمي) قابلة لتفجير الكثير من التأويلات.

و هو لا يمثل ذاته فحسب، وإنما يمثل شريحة واسعة في الواقع وفي المتخيل الروائي، ارتضت أو ارتضى لها قدرها أو ارتضى لها السارد ألا تنخرط في الفعل الإيجابي (المقاومة مثلا). وانخرطت في مسالك رخيصة نتيجة ظروف ذاتية وموضوعية لم يبحث فيها السارد ولا القارئ. فهي في حكم المعلوم الرتيب والمألوف. ولد اغضيفة وفي تغييب تامٍّ لاسم الأب، يشي بالوجود الهجين، ووضعية النشاز.

تتمثل شهوانية الإنسان في سياق الرواية داخل ثلاثِ محطات: اثنتان صارختان هما: محطة اغتصاب البتول، ثم محطة اغتصاب مسعود...وثالثة مسكوتٌ عنها هي اغتصاب التباع... وهو الفعل الذي ترسمه سياقات الرواية بنوع من التكتّم والمحافظة تزيد تكتمه ومحافظتَه بلاغة السارد.

الإنسان في هذا السياق الروائي الماكرمُفْرغٌ من أدنى حسى إنساني، وأتساءل إلى أي حد كان بإمكان المغتصب أن يقف عند حدّ ممكن ؟

هذا الفراغ الإنساني مفارقٌ في ذاته ومفارق في غيريته، بدليل أنه تحوّل إلى كائن تصنعه مادة النهم واللاشبع. قال (سأكون أنا البادي. ولن يمسّها غيري. هي لي أنا وحدي من الآن فصاعدا. هل من معترض – الرواية ص 6)

لاحظ معي أيها القارئ منطلق حديث المغتصب وكلامه. إنه التصور الرخيص الذي تبنيه ثقافة الشارع، وفيها يلغي الإنسانُ الإنسانَ ويشيّؤُهُ ويقصي إنسانيته إلى درجة تحويله إلى نكرة تشبه البضاعة (هي لي أنا وحدي) في سردٍ تصويريٍّ يبلغ بالمعنى أقصى حدود القسوة والوخز الدلالي.

و في اتجاهٍ آخر، ومعاكس، يتحول الإنسان إلى كائن مفترس يترصد الضعف أينما كان وينقضّ عليه ليمارس عليه علويته المرضية وقوته الوهمية وشهوانيته المقيتة.

قال الحاكي (ولأنه بضٌّ وجميل أثار شهية ولد اغضيفة، وشهية ولد اغضيفة أمر لا مناص من إرضائه – الرواية ص 19). هذه الشهوانية تيمةٌ تتعقّبها الرواية في محطات أخرى منها شهوانية عبدالقادر وشهوانية الفقيه سي عيسى و...

و أكاد أقول إنها شهوانيات عابرة في مساحة الرواية السردية، ولكنها مرضية مادامت تمارس شبقها على البراءة. تجد هذه الحالة المرضية تعبيرها الروائي المشحون بالقسوة والنهم في قول السارد (صرف الفقيه التلاميذ وأمر البتول بأن تستظهر أمامه حزبا كاملا. " سبّح باسم ربك الأعلى ". استظهرته دون تلكؤ فأبدى إعجابه بها، عانقها، ضمّها إليه بحنان خاص. قبّل وجنتيْها، ثمّ امتصّ شفتيْها الصغيرتيْن من فرحته بنجابة تلميذته. حكت البتول لوالدتها عن فرحة الفقيه بها ولم تخفِ عنها شيئا – الرواية ص 9).

أنظر معي للوصف كيف جمع بين إدانةِ الفعل وبين وخز الفعل، في تصوير فنيّ لا يغلّف الحكاية بزينة البلاغات بقدر ما يًبرّز الفعل في أقصى حالات الهبوط المرضي للإنسان المدّعي فقها أو على أقل تقدير حملاً لكتاب الله في صدره. وكأنني بالقارئ الآن يستدعيه السارد في هذا السياق كي يكون ثالث ثلاثة ليأخذ بعنق الفقية ويوسعه ضربا مبرحا.

4 – الإنسان\ الجسد: نقصد بذلك اشتغال الرواية على تيمة الجسد كخطيئة في سياقٍ محظور تملي ضوابطَه الملةُ والدين والعرف والاجتماع وكل المواضعات.

نرصد هذه التيمة داخل شخص مسعود الملقّب في الحكاية بالمزغوب في إطار لعبة دلالية مفارقة، كما شأن السارد في توليفات علامة اسم البتول في نقيض ما وقع لها.

يقدم السارد شخصية مسعود كائناً جميلا يشبه والدته. وقد قيل عنه إنه كان أجدر به أن يُخلق أنثى.

لا يمثل مسعود ذاته في خلاء العبارة وجفاف الإشارة بقدر ما يمثل شريحة اجتماعية، هي على قلّتها تعاني قديما وحديثا من وضعٍ اعتباريٍّ لا يرحمها، ولا يضعها الموضع المناسب لتمارس حقّها في الوجود السويّ دون مواربة أو خوف أو شعور بالنقص.

و السارد هنا يمارس فعل الحكي أولا لهذه الظاهرة، وثانيا يخبرنا أن الكتابة عن هذه الظاهرة لابد أن تخرج من أقبية التابوهات إلى الاستجابة الثقافية للمستجدات والظواهر الحادثة والحاملة لعلامات النشاز في المجتمع العربي والمغربي خاصة. وحتى لا يقولّني القارئ ما لم أقل فأنا لا أتبنّى خروج الظاهرة إلى العراء والإعلان في سياق الشرعية أو اللاشرعية، فهذا مقام لا أخوض فيه.

و كأن حساسية الموضوع التي شكّلت حرجاً لبعض الكتاب العرب وجدتْ هنا وفي رواية (اولاد الكريان) يراعاً جريئاً فسح لها المجال في جمالية سرديةٍ متميّزة، للتجلّي والتمظهر أو للهمس والصراخ، أو للكشف والبيان. وفي أقل تقدير ممكن فالرواية فسحت للظاهرة مساحة فنيةً للحضور من زاوية القيم، وأقصد بذلك قيمة الحرية.

إن إشكالية علاقة الجسد بمثله إشكالية تأخذ هنا بعدين: واحدٌ واقعي تلفّه طبقاتٌ من التّكتّم والغموض بحكم رقابة الدين والأعراف. وثانٍ تخييلي يمتطي صهوة الشكل الروائي، وينحت طريقه إلى القارئ في تؤدة ملحوظة نظرا لوطأة الموضوع على المتلقي العربي. (ثم اقترب واقترب أكثر. كان يحب عينيه. نظرته كانت تشله. شرع مسعود يداعب مكامن الإثارة في خليله ويضحك. والآخر يردد: كم أحبّ ضحكتك. – الرواية ص 23). إن المتخيّل الروائي في (اولاد الكريان) لا يهمه ما وقع للجسد في صحبة الجسد بقدر ما يهمه الصدق الفني في نقل الواقعة في اتّجاهٍ، سمِّهِ أنت اعتبارا، وأسميه أنا انتقادا، ويسميه ثالثٌ جراةً، ويسميه رابع إخلاصا لنسغ العلاقة بين الواقعي والمتخيل، ويسمّيهِ خامسٌ وسادسٌ وهلم تأويلا، في إطار تحدثنا عنه في المقدمة المنهجية القاضية بترك الدلالة في وضعٍ تأجيلي إنصافاً لكل التأويلات الممكنة.

و تأويلنا للظاهرة لا يشط بعيدا ونحن نقول إن الرواية لا تدين الفعل فحسب، بل وأيضاً وأساساً، تمارس قراءتها للظاهرة داخل نسق نفسي لا ننتبه إليه إلا لماما، هو أن الشعور بالوسامة الذكورية لا ينبغي لأن يكون مدعاةً للخوف والقلق والاستلاب في الهوية الذكورية. وأركز على قراءة الرواية للجانب النفسي لأن مسار الحكي أفشى ما في قلب مسعود الذي تحوّل من كائن مستسلم إلى كائن مشتعل بروح الانتقام وعامر بالغضب.

و الأمر في آخره يكون إدانة لا لسلوك فردي وإنما هو إدانة لظاهرة جمعية موجودة في الواقع، وتدخل الرواية المجال لتقول في المسألة شيئا ممكنا تخييلياً وفنيا...

لا يسعنا في هذا المقام إلا أن نكتفي بهذه الأنماط في تشكل الإنسان داخل الرواية، علما أن المسار طويل ومتشعب، لأن الرواية تتناسل فيها الأشكال وتتداخل وتتشعب. نذكر منها الإنسان التقليدي في شخص والدة البتول وخناثة اللتين تمثلان شريحة المرأة\الشبح التي لا تمارس دورها إلا في العلاقات الاجتماعية التقليدية العادية. ولا تحضر في الرواية كأصوات متميزة وكعلامات لا تنتج الدلالة إلا داخل مقولة القبول والاستسلام للسائد.

 ومنها تشكل الإنسان السلبي والانتهازي الذي يركب الأحداث ليرتقي في السلم الاجتماعي، ونذكر هنا شخصية التباع الذي يمثل هذه الدلالة في حضورٍ روائيٍّ تباينت فيه مواقع التباع من حضور سلبي امتطى فيه المقاومة لاحتلال منصب إداري، إلى حضور إيجابي تمثل خاصة في إنقاد البتول من وضعية الانتظار، ولو بشكل عابر ومؤقت قبل أن يكتشف عجزه البيولوجي الفاتك بوجوده فتكاً صمتت عنه الحكاية، وتركته مفتوحاً في أفق تحريك تأويلات ممكنة...

- خاتمة:

لم نأل جهدا في البحث عن تشكلات الإنسان القوي في رواية (اولاد الكريان) انسجاما مع عنوان المقاربة وأخلاصا لنسغها في البحث المتواضع عن صور لهذا الإنسان في انحداره البشري. علماً أن مبدأ القوة واردٌ بشكل ملفتٍ في الرواية، وأكاد أجزم بأن المؤلّف تبنى رهان القوة في رسم معالم الإنسان داخل منظومة المقاومة عبر شخوص وقوى فاعلة لامس السارد من خلالها كثيرا من القضايا، مثل شخصية الغريب وشخصية رفائيل ومينة الحريزية وغيرهم ممّن حضروا في المتخيل الروائي حضورا ممتدّاً غيّروا من خلاله مسارات الأحداث.

و ارتأينا أن نركز على سمات الضعف لا لترجيحٍ أو مفاضلة بقدر ما الأمر قد تعلّق أساساً باختيار لزاوية نظر ونحن نروم مقاربة رواية في حجم (اولاد الكريان) وهي تتحدّانا بقدرتها الفنية على صناعة التخييل السردي داخل نسق إبداعي رمى يكل الثقل على الذاكرة والتاريخ والإنسان. وفي هذا النزوع رسمت الرواية لوحاتٍ قويّةً لغةً وحكياً وبناءً لإنسان الهامش في منطقة بيضاوية موسومة باسمٍ قدحي في الوجدان الشعبي المغربي الذي ألبسَ مفردة الكريان صبغةَ النقصان والدونية، فيما الأمر عكسٌ ونقيضٌ تمام العكس والنقيض... ذلك أن الكريان مقولةٌ مكانية مشبعةٌ بالزمان والإنسان والثقافة، وهي مقولة حمّالة أوجهٍ كثيرة، ترفل فيها دلالاتُ الثراء الفكري والثقافي والسياسي والشعبي وغيره من أشكال الثراء المعنوي. ولقد أشارت الرواية إلى ذلك في منعطفات متعددة من الحكي نذكر منها على سبيل التمثيل كلّاً من مقولة المقاومة، ومقولة التحول النسقي والوجودي في عقليات الشخوص ومصائرها مثل تحول علال وعبدالقادر من حالات التسكع والتيه إلى كينونة الإبداع والتصالح مع الذات والواقع: علال يتحول إلى مسرحي وعبدالقادر إلى ملاكم وولد اغضيفة إلى كائن ورع ومتصالح...

إن ذكاء السارد كمُنَ في الإشارات البسيطة والتفاصيل الأبسط حيث تقيم الدهشة الروائية الإبداعية، ومثال ذلك إضاءاته المتعلقة بتفاصيل الشموع وقناديل الزيت التي كان يستضيئُ بها أهل الكريان إبّان الاستعمار، وهي الأدوات نفسُها التي استضاء بها في زمن الاستقلال، في إشارة واخزة من السارد إلى أن دار لقمان بقيت على حالها، إدانةً لعمليات التغيير النازحة من قرار الاستقلال والتي لم تطل هذا الفضاء الذي يُشار إليه في كثير من السياقات أنه حيٌّ كان وراء استقلال أمّةٍ بكاملها.

***

بقلم نورالدين حنيف

......................

* المَقْوَلَةُ نشاط ذهني يفيد في تصنيف الأشياء والظواهر انطلاقا من اعتبارالمقولة استراتيجية معرفية أساسية في إدراك المفاهيم

تفضّل فأرسل لي الأستاذ الدكتور قصيّ الشيخ عسكر كتابه المثير للدهشة والجدل الذي يحمل عنوان" روايات وقصص من الخيال العلمي". وصلني هذا الكتاب بتأريخ 20.1.2011 مع كلمة إهداء لا أحلى ولا أبلغ منها حتى أني حسبتها جزءاً من قصص خياله العلمي الكثير السعة والمرونة. قرأتها بتمعن حين وصولها لي فكتبت أو خابرت الدكتور قصي ووجهت له سؤالاً واحداً: هل اختصاصك الفيزياء؟ قال كلاّ، إختصاصي اللغة والأدب العربيين ! لم يزدْ عَجَبي حسبُ إنما وازدادت حيرتي وزاد حَرَجي: ماذا عساني قادراً على الكتابة عن مثل هذا الأدب الذي رأيته ولم أزل أكبر مني ومن كل ما لديَّ من قدرات متواضعة محدودة قصيرة الباع والذراع؟ ماذا سيقول مثلي في مثل الأستاذ الدكتور البصراوي قضي الشيخ عسكر؟

الوقت والفراغ وتكالب العلل (تكسّرت النصالُ على النصالِ / المتنبي) تجمعت فوق رأسي لا حسب قانون التراكمات الكميّة والتحوّلات النوعية ولكن حسب قوانينها الخاصة وفوق وأول الجميع أحكام وقوانين العمر والزمان. أغرتني ـ ولا أقولُ أجبرتني ـ هذه الأحكام والعوامل على تقليب ما في مكتبتي من كتب منوّعة الأغراض والموضوعات وروايات أتاني أغلبها هدايا من أصدقاء ومعارف من كلا الجنسين بل ومن أناس أخيار نبلاء لا سابق معرفة جمعتني بهم. فوجئتُ بكتاب الأستاذ قصي رافعاً رأسه من بين مجاميع هذه الكتب فوسوست لي النفس الأمّارة بالخير والفضول وحب الإستطلاع أنْ أُعيد قراءة ما فيه لعل الزمن ليّن أو ألان صعوبة ما فيه من قصص خيالية لا ولن تقع في الدنيا ذات يوم. الأكثر صعوبة هو إختلاف الموضوعات بشكل بحيث لا يجد القارئ شيئاً أو خيطاً يجمعها أو يجعلها تقف في صف واحد ليقارن ويوازي ويختار الأفضل أو الأكثر إثارة. لذا قررتُ أنْ أمشي في طريق آخر عسى أنْ أحظى ببعض النجاح في محاولاتي لفهم وتحليل وتفسير قصص الأستاذ قصي. أعني أعمل مسحاً عاماً شاملاً لكافة قصص الكتاب من غير تسلسل رقمي لصفحات الكتاب. وأضع أسئلة دقيقة ثم أنتهي بتبني مخطط للنقد أو القراءة فحواه أني أفهم النصوص بعقليتي الخاصة وما فيَّ من قُدرات على التفسير والإستنتاج لا حسبما يريد ويتوقع كاتب النص. قد أقلب النصوص وأحفرها وأُنقّب تحت أديمها وما فوق هذا الأديم لأجد شيئاً يُريحني ويُقنعني وينفع القرّاء الكرام ويفكُّ الكثير أو بعض ما يعتري النصوص من غموض وإشكاليات. إتفقنا؟ إذاً فلأغامر وأرفع قلوع السفينة كملاّح سندبادي غشيم لا علمَ له بعالم الملاحة والإبحار.

في الكتاب 12 قصة ست منها قصيرة جداً وقد أطلق الأستاذ المؤلّف عليها " قصص قصيرة جداً من الخيال العلمي " ليته لم يدرجها في كتابه الطريف هذا... ليته ! شأنها شأن المسكين المغضوب عليه " حنّون " الذي لم يزدْ في الإسلامِ خَردلةً ولا النصارى لهم شغلٌ بحنّونِ. أراها زوائد خاصة وقد وضعها قصّي جميعاً في آخر الكتاب كأنه مثلي مقتنع بأنها زوائد دودية أو زوائد غير دوديّة ... مع احترامي لقرار الدكتور نجل الشيخ عسكر صاحب المعجزات.

كيف أبدأ بل وبِمَ أبدأ؟ إسعفني يا عزيزي قصي. المهمة صعبة وليتك قريباً مني لأسألك وتُجيب ... لأحاورك بحرارة وتُسهب بطرح التفاصيل. ليتك ! طيّب، أسئلتي:

1 ـ ما أهمية ودلالات الأعوام: 1956 .. 1966 ... 1973 ... 1976 ... 1986 وهل في أحدها ما يُشير إلى عام ولادتك؟ أظن أنه عام 1956 فما رأيك بظّني هذا؟ إنه ظن نظيف خالٍ من أي إثم.

2 ـ على أي أساس ومذهب جمعتَ ناساً من ديانات وقوميات وأقطار مختلفة أعني:

/ أمير عربي ...رحلت شقيقته مع عشيق

/ طالب صيني

/ صحافي يهودي من الدنمارك ...مراسل صحيفة غطّى حرب 1973 المصرية الإسرائيلية

/ جندي أمريكي قُتل في حرب فيتنام عام 1966

/ أستاذ جامعي اسمه كارلو لعله أرجنتيني.

بصراحة ... الكلام بيني وبينك: وجدتُ المراسل الصحافي اليهودي الدنماركي " موشي " مُقحماً إقحاماً أفلمْ يكنْ من الأفضل إهماله؟ أراه عديم اللون والرائحة والطعم ! في بعض قصصك ذكرتَ أنها كُتبت في العاصمة الدنماركية كوبنهاكن ! ثمَّ .. هل التقيتَ بأحد هؤلاء ممن ذكرتَ وفي أي بلاد تمَّ ذلك؟

 قصيّ والزمن والضوء واللون

هنا وهنا بالضبط يكمن بيت القصيد وهنا نجد الكاتب في فلسفته الخاصة ـ العامّة حول مبدأ " وَحدة الوجود " وأنَّ الكون وما فيه مكّون من مادة واحدة وإنْ تغيّرت وتفاوتت أشكالها وحالاتها الفيزيائية. قد يكون في صلب فلسفة الدكتور قصي أنَّ الفوتونات الضوئية هي أساس وأصل ومبتدأ مادة الكون وهي وجهة نظر تستحق الكثير من التأمّل. الألوان موجات كهروـ مغناطيسية من نفس طبيعة الضوء ولكنْ ما شأن الزمن بالضوء وهل من علاقة بينهما تربطهما بشكل خاص وطبيعة خاصة؟ على القارئ فك الشفرة بين الزمن والضوء. قرر آينشتاين منذ زمن بعيد أنَّ أكبر سرعة في الكون هي سرعة الضوء (هناك شكوك اليوم حول هذه النظرية). ولكنْ تبقى المعادلة الزمن ـ الضوء قائمة لا أحسب أنَّ الأدب والأدباء قادرون على حلّها لكنهم لا ريبَ قادرون على وضع فرضيات ونسج قصص من بنات الخيال وكل الكشوفات في بداياتها خيال وتهويمات وسياحات فضائية فلكية كأنَّ واضعيها سحرة أو من عالم آخر.

قُلْ (ولا تَقُلْ ..) لنا أستاذ قصي والرحمة لأبيك الشيخ عسكر: ما رأيك في معادلة الزمن ـ الضوء؟ هل درست نظريتي آينشتاين النسبية الخاصة والنسبية العامة؟ يبدو لي أنك فكّرت وما زلت طويلاً في مسألة البعد الرابع الذي دعاه آينشتاين " الزمكان / زمان ـ مكان " ولكن لا متسع للضوء هنا. ذكرَ قصيّ آينشتاين في الصفحة 79 فقال:

(... لحظتها تذكّرَ أنَّ هناك عالماً في القرن العشرين يُدعى آينشتاين تحدّثَ في نظريته النسبية فأشارَ إلى أنَّ الأجسامَ إذا سارت بأعلى من سرعة الضوء تحدّبت مثل الكون المدوّر ودخلت في سرمدية أبدية). لستُ متأكدّاً من مقدار صحة هذا الكلام لكني متأكد من صحة ودقة قول أينشتاين من أنَّ لا من سرعة للمادة المتحركة تفوق سرعة الضوء. وأنَّ الضوء أثناء قطعه لمسافات بعيدة جداً يفقد مساره المستقيم في قطعه للمسافات القصيرة ويتحدّب تحت تأثير تحدّب الفضاء الكوني. إذاً لا من سرعة أكبر من سرعة الضوء وأنَّ الكون مُحدّبٌ وليس مدوّراً . تمام أحدب نوتردام؟ هل حدبتك مدوّرة؟ التحدّب شئ والدائرة شئٌ آخر كما علّمتنا هندسة إقليدس.

كتطبيق حي لمقولة ونظرية وحدة المادة في الوجود (المتصوفة كذلك يقولون بوحدة الوجود) خلط الدكتور قصي نماذج من البشر من أقطار وقوميات وديانات شتى وبذل جهوداً كبيرة في التنقّل بين هؤلاء القوم وخلط أسماءَهم فخالد مرة خالد العربي ومرة أخرى هو الصيني شوان أو الأرجنتيني كارلو أو اليهودي موشي هؤلاء أقوام شتى ولغات مختلفة لكنهم جميعاً في نهاية المطاف بشرٌ من نفس النسيج والخلايا وذات الأعضاء وتؤدي هذه الأعضاء نفس الوظائف ولون دمهم هو هو مهما اختلفت الجلود في ألوانها. قال قصي على الصفحة 35 ما يلي:

(ـ موشي .. بْلْ .. كارل .. خالد ناموا

حين دخل البروفسور الغرفة الخاصّة بالمريض هبّت بوجهه احتجاجات واختلطت أصواتٌ ولغات، كل واحد من هذا الواحد الشاخص أمامه على السرير، يحاول أنْ يثقبَ الزمن ليعرفَ حقيقة الوقت الذي وُلِدَ فيه أو وقتَ حدثٍ عظيم جعله يفقد الوعي. كان كل واحد منهم متأكّداً من فعلته، أما وجوده الحالي فيفسره بأنه محاولة من الطب تغلّبت على الموت، لكن هذا الواحد المتعدد في أكثر من زمان ومكان بدأ صبرُهُ ينفد، وعندما أحسَّ البروفسور بإمكان حدوث فوضى لجأ إلى التنويم المغناطيسي وأوحى بعبقريته في ذلك العلم إلى الثلاثة بالنوم لينفردَ بشوان الصيني وهو آخَرُ مِنْ هذا الواحد الجمع الذي لمّا يكتبْ مذكّراته بعدُ:

ـ هل نحن وحدنا يا شوان؟

يتطلّعُ إليه بعينين سكنتا عند مجال مغناطيسي فبدتا أشبه بالمتجمدتين:

ـ أشعرُ كما لو أني نائم صاحٍ.

ـ أنت الثلاثة نائم، وأنت شوان الواحد صاحٍ).

الزمن نعم الزمن ! كيف يثقبُ أحدنا الزمن؟ هل الزمن جدارُ قابل للثقب بمثقب كهربائي مثلاً " درْلْ " ليرى الماضي فالزمن متصل لا ينقطع وسيأتي يوم يمكننا العلم فيه أنْ نرى مستقبلنا وما سيجري لنا من أحداث فيه وما جرى في سالف الأزمان الغابرة والسحيقة بالقِدم. هنا يحضرني شعر قاله المرحوم عبد الوهاب البياتي حول استمرارية الزمان:

وزورقُ الأبدْ

مضى غداً وعادَ بعدَ غدْ ....

هل يختلط الزمنان الماضي بالمستقبل الآتي (مضى غداً وعاد بعد غد) ! كيف يعود الماضي بعد غد والغد مستقبل لم يأتِ بعدُ؟ تدور على هذا المحور فكرة الدكتور قصي الشيخ عسكر. وحدة مادة الوجود والزمن هو هو يتحرك بثبات لا أولَ له ولا له نهاية. ماضٍ بصمت وحكمة وجلال من الأزل إلى الأبد شأنه شأن هذا الكون غير المتناهي الذي نجهل أصله ومبتدأه والحكمة من وجوده. أسأل: من هو الأول الزمن أم الكون، المادة؟ أنا أقول وأكيد قالها الفيزيائيون قبلي: لا يمكن الفصل بينهما فلا مادة ولا كون من غير زمن ولا زمن من غير المادة. فإذا كانت السرعة هي مقياس حركة المادة المتحركة فالمادة هي مقياس حركة الزمن والزمن بدوره هو وعاء المادة في سكونها وحركتها.

أتعبتنا أخانا العزيز أستاذ قصي وحرّكتنا بعد خمول كالجمود كأنك ربيع وشهر نيسان الشاعر توماس إليوت الذي يقسو على براعم الربيع إذْ يخرجها من أكمامها ومكامنها حيث كانت تنعم بالدفء والراحة والأمان. شكرأ أنك حرّكتنا وأنطقتنا وأنقذتنا لا من شهر نيسان ونحن اليوم فيه ولكن أنقذتنا من جفاف اللسان ومن أحد قوانين نيوتن للحركة (يبقى الجسمُ الساكنُ ساكناً إلاّ إذا حركته قوة خارجية / قانون عزم القصور الذاتي) .... فهل أنت نيوتن الحركة أم إليوت شهر نيسان؟

في قصة " آدم الجديد " وردت أسماء ثلاث نساء هنَّ: بسمة أو نسمة .. فقد ورد هذا الإسم مرة بسمة ومرة نسمة ... وهيلانة صديقة كارل الأرجنتيني ... وديزي صديقة الأمريكي بِلْ. لا صديقات للصيني شوان واليهودي موشي.

قُصيّ والصين

ليس واضحاً تماماً لماذا خصّ الروائي قصي الصين بهذا القْدر من المعلومات السلبية في أغلبها؟ قد يبدو الأمرُ هكذا لمن يقرأ سطوح الصفحات دون الغوص في رموزها وسياقاتها التأريخية وأبعادها السياسية. أنقل مقتطفات كأمثلة على ما قال دكتور قصي عن بلاد الصين:

ـ (أمّي ربّة بيت، أبي عامل مصنع، لم أعرف الخارج قط، صيني معزول عن العالم، ما معنى ما أكونه من التعددية يمكن أنْ يكونَ عن العزلة التي عشتها، أكثر الشعوب نفوساً قوة عظمى، بلد رائع .. صيني، إلاّ أننا معزولون عن العالم، أنا خالد النائم وبِلْ ظهرت أخيراً، أنا نائم لكنني أسمعني، وأرى حلمي من ذاتي الأخرى، لا كتب من الخارج لا جرائد لا مجلات لا إذاعات لا ملابس، إزاء هذا الوضع تمرّدتُ فسقطتُ ... الصفحات 35 ـ 36)

ـ (ومع ذلك لا أودُّ العودة إلى الصين... شوان يستعيد ذكرى التظاهرة الدموية ...الصفحة 41)

ـ (بقيت لديه قضيتان أُضطرَّ بعد تردد تجاهلهما، القضية الأولى تندرجُ ضمن العقبات السياسية، الصين بلدٌ مُغلق مجهول الداخل ... الصفحة 48)

ـ (الأربعاء 2 نوفمبر 1986

المكان: بكّين .. مشفى بكين

هو ثاني يوم أقضيه في الصين .. وهو ثالث يوم لإندلاع مظاهرات معارضة تطالب بالإصلاح .... في هذا اليوم بدأت حكومة الصين تستخدم العنف ...فيما بعد طلب مني الإشراف على حالة جريح دخل في غيبوبة، عرفتُ فيما بعد أنه أحد زعماء الطلبة البارزين وأنَّ إطلاق النار عليه حدث خطأً ... الصفحات 59 ـ 60).

لم يقلْ قصي في الصين وعنها إلاّ ما كان معروفاً عنها كلاّ في حينه وأوانه. لم يتجنَ ولم يتعسفْ ولم يبدِ أي موقف معادٍ لهذا البلد ولا لسواه من بلدان المعمورة.

قصي والألهة الثلاث

إذا اتحد البشر أو وحّدتهم طبيعتهم المادية رغم اختلافهم في دياناتهم وقومياتهم ولغاتهم (أو لُغاهم) وألوان بشراتهم فما يمنع الألهة الفوق بشرية من أنْ تتوحد؟ لا أحدَ يعرف طبيعة مادة الألهة سوى ما قال كلكامش في ملحمته المعروفة " كُتبَ الموت على البشر .. وكتب الخلود للألهة فقط ". هل صحيح هذا الكلام يا أنكيدو المسكين المنكود الذي مرض وفارق الحياة لسبب مجهول ما زال غامضاً؟ كيف خدعتك وأغرتك العاهرة شمخاء أو سمحاء وأخرجتك من عالم الحيوان ووضعتك مع البشر في سومر فاعتلّت صحتك ثم فارقتَ الحياة؟ لا قومية ولا من لغة للألهة يا قصيّ. هم لا يختصمون ولكنْ لهم أتباع معتوهون يتخاصمون ويتقاتلون ويثيرون الحروب ضدَّ بعضهم البعض الآخر. فليتوحد البشرُ ما دام غيرهم قد توحّد فغدت الألهات الثلاث ربّاً واحداً لا شريك له لا يلدُ ولم يولدْ وليس له كِفءٌ في الدنيا. هل قصد الروائي الخيالي ربّات العرب الشهيرات الثلاث اللآ ت والعُزّى ومَناة الثالثة الأخرى؟ وحّدهنَ الدين الجديد ولم يتوحّدن بالتوافق والتشاور وحسب مبدأ المحاصصة. وحّدتهنَّ قوة خارجية لا الضوء ولا الجاذبية ولا الألوان الطيفية الزاهية. قال الروائي في الصفحة 44 ما يلي:

(أظنُ أنَّ ما أمرُّ به شبيه بعصرٍ تفكّكتْ فيه الألهة قبل اندماج بعضهم, لقد تحدّثتْ الأساطيرُ القديمة عن اتحاد ثلاث آلهات في آلهة واحدة. ماذا تقولُ عن آلهة الحب والجنس والحكمة؟). واضح أنَّ الروائي كان يقصد بهذه الألهة الرابعة عشتار سومر وبابل التي رفض كلكامش الزواج منها بل وعنّفها وشتمها ولمزها في عرضها. لماذا تتزوج الألهة طالما أنها لم تلدْ ولم تولدْ؟ ألتمارسَ الجنس المقدّس في المعابد مثل صاحبتنا السيّدة عشتار أم السيد عمّار؟ خيالك جدَّ خصيب يا قصي.

 الضوء .. هاجس الدكتور قصي الأقوى

أفرد الدكتور قصي فصلين كاملين تقريباً لموضوعة الضوء وقدّم تفسيراتٍ وتنظيرات لقدرة الضوء على التأثير على وضع ونفسية الإنسان. الفصلان هما " قصة من عام 2784 " و " مُدُن الضوء ". ما الجديد في هذين الفصلين وما اجتهادات الكاتب بخصوص الضوء وقدراته على التأثير على البشر؟

أولاً أتساءلُ عن الغرض من اختيار زمن لا وجودَ له بعدُ: 2784؟ أفي الأمر خطأ مطبعي كشأن العديد من الأخطاء التي وردت في هذه الرواية؟ أم أنَّ في رأس وقصد الكاتب أمراً آخر لا يعرفه القارئ؟ أم أنه حاصل جمع الرقمين 27 و 84؟ المعنى في قلب الشاعر علماً أننا نتعامل مع روائي وليس مع شاعر.

ما سرُّ تعلّق قصي بالضوء وهو أستاذ لغة وأدب؟ لماذا يُقحمُ نفسه في أمور وموضوعات بعيدة عن اختصاصه الدقيق واهتماماته الأدبية واللغوية؟ ذلكم شأنه وهو مسؤول عنه ولا ريبَ أنه يعرف كيف يدافع عنه وكيف يُبرر.

الآن ... قصي والضوء ... في الصفحة 113 كتب الدكتور أموراً لا أدري هل استقاها من مصدر علمي مُختص أم هي من بنات أفكاره العلمية الخيالية أم من حاصل جمع الإثنين معاً؟ أقول هذا الكلام لأنني أجهل حقيقة الأمر رغم قربي ومعايشتي لعالم الضوء والفوتونات الضوئية والألكترونات وعالم الذرة على وجه العموم دراسة وبحثاً وتدريساً في العديد من الجامعات داخل وخارج العراق بلدي المُحطّم والمخروق والمحتاج للكثير من الضوء فهو في متاهة وعَتمة وفوضى لا ينفع فيها ضوء ومغناطيس ولا ما هو أكبر وأقدر من مجالات الضوء والمغناطيس. ماذا قال الروائي في الصفحة إيّاها 113؟

(... كان يتعاملُ مع الحُلُم وكأنه واقع سوف يحدث فيما بعد. فليس أمامه إلاَ أنْ يثني الضوء ثانيةً من أجل أنْ يتحقق بدقة من الخبر القديم الجديد الذي اكتشفه اُستاذه يومَ ولادته وأوكل إليه مهمّة البحث فيه فيما بعد كي يُدرك من خلال التجربة الضوئية الجديدة أعماق المستقبل ليقرأ حوادثه وهي تمرُّ أمامه بالتفصيل).

من حق الراوي أنْ يقولَ ما يشاء من فنطازيات خيالية ولكنْ الأفضل له وللقارئ أنْ يتثبّتَ من صحة أو معقولية ما يقول وإلاّ فما يقول هو الضلال بعينه وتشويه وتخريب القيم العلمية. كتّاب الخيال العلمي يلتزمون بحقائق العلم وقوانينه المعروفة لا يحيدون عنها قيد أنملة رغم ما يقدمون للقارئ من تخيلات وسياحات وتهويمات خيالية.

ما قال الروائي بعد في الضوء ومشتقات الضوء؟ (... كان هناك اختلاف جوهري بين وجهة نظر نظر يتبناها باحث حديث وأستاذ خبير لا يؤمن أساساً بنظرية الترشيح والتنصيف بل يؤكّدُ دائماً أنَّ الحلم يكونُ واضحاً إذا تعرّضَ فردٌ ما لكمية ضوء طوال اليوم أكثر مما يحتاجه جسمهُ قبل النوم / الصفحة نفسها 113). ما المقصود بالتنصيف؟ قد نفهم ترشيح الضوء أو تفريق موجاته الطيفية ولكن ما معنى تنصيف الضوء؟ ما مصادر الروائي الخيالي؟

أسىتعيرُ ما قال الروائي في الصفحة 115:

(.. أسئلة كثيرة راودت ذهنه ودفعته إلى أنْ يقرأ رسالة السماء من خلال تغيير شكل الضوء فيوحّد بينه وبين شكل الكون على الأقل كي نعرف ما يدورُ حولنا بعد سنوات. وأول ما فعله في تجاربه ثنى الضوء تدريجياً في حلقة تشبه القوس وتسليطه على النائم المستسلم للحلم، تسليط حزمة ضوء مستقيمة على نائم ثم تحديب تلك الحزمة بجزء من المائة مليون.... ).

ما هي رسالة السماء؟ أهي في توحيد الأديان وأصحابها وتابعيها أم في التدخل في شؤون الضوء ومعجزاته التي تنافس ربَّ الأديان وما يرسله هذا الرب من بشر يسمّون أنفسهم أنبياء ورُسُل؟ ثمَّ ... كيف وبأية أجهزة ووسائل يتم ثني الضوء؟

مُدن الضوء

نجد ونرى في هذا الجزء من الرواية العلمية أو علمية الخيال تكرير غير قليل للضوء وتأثيرات الضوء لكنها جميعاً إمّا غير علمية وغير دقيقة وتحتاج إلى مصدرأو دليل أو إلى تأويل علمي معقول يتقبّله عقل القارئ. أقدّم بعض الأمثلة وأطلب من الأستاذ الدكتور تفسير هذه الظاهرات تفسيراً علمياً من التفسيرات التي يعرفها الناس العاديون والعلماء المختصون وغيرهم ممن يعنيهم الأمر، فالخيال العلمي لا يعني الإحتطاب في الظلماء ولا الخبط العشوائي ولا قول الكاتب ما يريد أنْ يقول. قال في الجزء الموسوم ب " مُدن الضوء " وفي الصفحة 137 ما يلي:

(... كانت هناك فكرة واحدة تتبلوّر في ذهن البروفسور " ك " فتنصّبُ على الظلام والنور بصفتهما الحاضنة الأولى للكوابيس الثقيلة. لذلك وجد أنَّ الكوابيس عادت تجثم على صدور مرضاه بعد أنْ أعادَ التجربة ذاتها عليهم في جو معتم لا بصيصَ للنور فيه كما هو الحالُ في البيت الريفي فكانت النتائج مثلما توقّعها تماماً ...

كابوس .. إختناق

عدوانية تجبر النائم على العنف

هستيرية ..)

ماذا نفهم من هذا الكلام؟

الظلام والنور هما حاضنا الكوابيس الأولى ! بعضُ الناس يخافون الظلام ولا يطيقون البقاء فيه فما بال الضوء (النور) وما علاقته بالكوابيس الثقيلة المزعجة؟ وهل الناس في أحلامهم ليسوا هُمْ في يقظتهم أو في القليل فيهم شئ من عالم يقظتهم؟ كيف أنتقل في عالم النوم والأحلام ممن أكون أنا إلى شخص آخر مغاير لا يمتُّ لي بصلة أو يمتُّ ولكن بصلة ضعيفة واهية كخيوط العنكبوت؟ لماذا ينفصل الإنسان الحالم عن نفسه وعمّىا هو فيه؟ كيف يتحوّل ووفق أية آليات " مكانزمات " يتم هذا التحوّل؟ لا يكفي أنْ نعرض أطروحات ومفاهيم غريبة بإسم الخيال بل علينا ربطها بما هو معروف من حقائق علمية وتجارب لا تقبل الشك فيما تعرض من نتائج.

أخيراً إني أُكبر جهود الأستاذ الدكتور قصي الشيخ عسكر فيما كتب من قصص علمية خيالية خاصة وأنه ينتمي في دراساته إلى عالم آخر لا شأنَ له بالأخيلة العلمية . أُكبِرُه وجهوده وأعتذر له عمّا كتبتُ عن روايته الطريفة والمعقّدة التي لم تنلْ ما تستحق من إهتمام وعناية على حدِّ علمي حتى اليوم.

عزيزي الدكتور المتميّز قُصي الشيخ عسكر: إنك معجزة عمّنا الشيخ عسكر .

ملاحظة لا بُدَّ منها: وقعت في هذا الكتاب أخطاء أغلبها مطبعي لديَّ نماذج منها أتمنى أنْ يلتفت الدكتور إليها ويحاول تلافيها في طبعات الرواية القادمة.

 ***

د. عدنان الظاهر

9/4/2016

..........................

* روايات وقصص من الخيال العلمي. د. قصي الشيخ عسكر. الناشر: شمس للنشر والتوزيع. الطبعة الأولى القاهرة 2010 .

 

في المثقف اليوم