قراءات نقدية
فاطمة عبد الله: نبعة التغريب.. تشظيات الذات الأنثوية

بين تفكيك البنية وتأسيس الرؤيا.. قراءة نقدية في نص مرشدة جاويش
“The Spring of Estrangement”: Fragments of the Feminine Self between Structural Deconstruction and Establishing the Vision – A Critical Reading of Morshida Jawish’s Poem
التمهيد التأويلي: في قصيدتها "نبعة التغريب"، لا تكتب الشاعرة مرشدة جاويش نصاً شعرياً تقليدياً، بل تنتج نصاً مفتوحاً يتماهى مع قصيدة النثر الحديثة، التي – وفق توصيف سوزان برنار –
"تتوافق مع العزلة، تكتب من الهامش وتمنح اللا معنى شكلاً بنيوياً ."
إنها قصيدة لا تكتفي بتصوير الغربة بوصفها تجربة خارجية، بل تنقلها إلى مستوى وجودي، حيث تصبح الذات الأنثوية مأخوذة بقلق التمزق والتشتت الإدراكي.
تتجه هذه القراءة إلى مساءلة مستويات النص الجمالية والدلالية، ضمن مقاربة مزدوجة: تفكيكية تقوض الثبات البنيوي، وأنطولوجية تتقصى صيرورة الذات من داخل العزلة والغياب.
بنية القصيدة وغياب المركز: تتأسس البنية الداخلية لقصيدة نبعة التغريب على تفكيك النظام الشعري التقليدي، عبر الانقلاب على مفهومي الخطية الزمنية والمركز الدلالي. لا يحضر الزمن بوصفه امتداداً سردياً، بل كحالة مائعة، غير محكومة بالتتابع أو العلة. منذ مفتتحها تقول الشاعرة:
"أصداء لأورادٍ سقاها العشق..."
وهي جملة تفتقر إلى اكتمال نحوي ودلالي، ما يعكس استراتيجية تأجيل المعنى (différance)، كما نظر لها جاك دريدا حين قال:
"المعنى ليس ثابتاً، بل يتولد عبر الفروق والانزياحات، وكل نص يحمل تناقضه في داخله."
هنا يتعذر الإمساك بمركز دلالي صلب، إذ تمضي القصيدة في تفكيك بنيتها عبر سلاسل من الصور المنفلتة، كقولها:
"الجرح أوسع من ظلال الشمس"
حيث لا تعمل الاستعارة على التوصيل، بل على زعزعة مرجعية المعنى، وخلق فجوة تأويلية. فـ"الجرح" يتجاوز إشراق "الشمس"، في دلالة على ألم تتسع رقعته خارج حدود الفهم أو الإضاءة. هكذا، يتبدّى غياب المركز لا كفقد، بل كبنية جمالية تعكس تهشيم المعنى وتمرد الذات على انتظامه.
الرؤية الوجودية – الذات في مرآة الغربة: تنفتح قصيدة نبعة التغريب على أفق وجودي يتجاوز تمثيلات الغربة بوصفها تباعداً مكانياً، لتغدو الغربة في النص تجربة روحية عميقة، تؤطر الذات داخل دائرة من العجز الإدراكي والانكسار الشعوري. فالشاعرة تكتب الغربة لا كمفارقة مكان، بل كشرط أنطولوجي يتجلى في قولها:
"فالشمس باردة... وغربة روحي الثكلى يلاحقها الوهن..."
هنا تتلاشى دلالات النور والدفء لتحل محلها صورة الانطفاء والانهيار الداخلي. يغدو الإشراق رمزاً ميتاً، وتتحول الرغبة إلى سكون وجودي، يتناغم مع ما يسميه مارتن هايدغر:
"الانكشاف على العدم بوصفه شرطاً لوعي الكائن لوجوده."
في هذا السياق، تظهر الذات الشعرية كمعلقة بين ثنائية الفقد والانبعاث، تصوغ وجعها لا بوصفه معاناة فحسب، بل كحالة إبداعية تنتج رؤية. تقول:
"أنا الوحيدة، أرتقي بالهم موج الغارقين..."
وهي عبارة تنقل الذات من موقع الانكسار إلى مقام التأمل، حيث الألم ليس نقيضاً للحياة، بل أحد شروط تشكلها. هكذا لا تتماهى الشاعرة مع الحزن، بل تعيد تشكيله كأداة لفهم الذات والعالم.
اللغة الرمزية وصراع الإدراك: اللغة في "نبعة التغريب" لغة متوترة، تتأرجح بين الحسي والرمزي، وتبني عوالمها من مفردات الطبيعة والأصوات (النخلة، الصقيع، الناقوس، اليمامة). تتجلى في قولها:
"كيف أراك؟ حين أراك يمامة مذبوحة، بالدم تمسح كل آثام البشر..."
الصورة هنا لا تكتفي بتمثيل الضحية، بل تمنحها وظيفة تطهيرية تعيد للوجود شيئاً من التوازن. وهذا يتقاطع مع ما تراه جوليا كريستيفا في كتاباتها عن الكتابة الأنثوية:
"الكتابة تعبير عن ذات مهددة، تفكك النظام الرمزي وتعيد بناءه من موقع الهامش."
الأنوثة كمنفى ورؤية صوفية: القصيدة تعبر عن ذات أنثوية تغترب عن عالمها، لكنها لا تستسلم. بل تصوغ جمالية الخسارة كطقس تطهيري. تقول:
"ينتظر شمّاعة للعاجزين على الوصول..."
وفي موضع آخر، تستحضر البعد الصوفي:
"رابعة اللقاء يدعو فراشات الترقب..."
هنا تحضر رابعة العدوية كأيقونة صوفية، تعكس بعداً رؤيوياً يعيد تعريف الألم بوصفه طريقاً للوصال.
أفق المقارنة – تشظيات الذات في التجربة الشعرية العالمية:
لا تنفصل تجربة "نبعة التغريب" عن الامتدادات الكونية لثيمات العزلة وتفتت الذات في الشعر النسوي العالمي، حيث تتقاطع مع ما نجده مثلاً في شعر سيلفيا بلاث، التي كتبت عن الانهيار الداخلي كمرآة لتمزقات الوعي الأنثوي الحديث، أو في قصائد إميلي ديكنسون التي تحول العزلة إلى فضاء تأملي حميم. ففي كلا التجربتين، كما في نص الشاعرة مرشدة جاويش، لا تطرح الذات بوصفها كياناً منجزاً، بل ككائن قيد التشكل، يستولد رؤيته من داخل الألم والانفصال. هذا التوازي يبرز كيف تتحول اللغة إلى آلية مقاومة، تكتب الهامش وتعيد بناء الهوية خارج المركزيات السردية والاجتماعية.
وبالتالي يمكن القول أن "نبعة التغريب" ليست نصاً رثائياً للذات بقدر ما هي مشروع شعري يعيد بناءها من داخل الانكسار. فالشاعرة مرشدة جاويش تكتب الغربة كفعل وجودي، يعيد للذات وعيها عبر لغة متوترة، مشبعة بالصور والانزياحات. يتشابك في النص البعد التفكيكي، حيث يتوارى المعنى خلف التشظي والاختلاف، مع البعد الأنطولوجي الذي تسائل فيه الذات وجودها من قلب العزلة. وهكذا، تتجلى القصيدة في نهايتها كتمثيل شعري لـ"الغياب الحي"، حيث لا يكون الغياب نهاية، بل أفقاً مفتوحاً للانبعاث الشعري، ونداءً داخلياً للحياة من تخوم الوجع والوعي
***
قراءة نقدية من إنجاز فاطمة عبدالله