قراءات نقدية

علاء الأديب: تصوير تجربة الفقد والأمل في رواية فرصة ثانية لصباح بشير

دراسة تحليلية سردية

تعدّ الرواية المعاصرة إحدى أبرز الأدوات التعبيرية عن التجربة الإنسانية بمختلف تجلياتها النفسية والاجتماعية، ولا سيما حين تتناول موضوعات الفقد والبحث عن معنى الحياة وسط المآسي.

في هذا السياق، جاءت رواية فرصة ثانية للأديبة صباح بشير، لتقدم معالجة أدبية حساسة لتجربة فقدان الأمومة، وتحولات العلاقات الإنسانية في مواجهة الموت المفاجئ.

تهدف هذه الدراسة إلى تحليل رواية فرصة ثانية من خلال رصد بنيتها السردية، ودراسة الشخصيات، ودلالات الفضاء المكاني، فضلاً عن استكشاف البعد النفسي والرمزي في العمل.

تعتمد الدراسة منهج التحليل النصي المباشر، مع الاستدلال بمقتطفات من الرواية وأرقام صفحاتها، سعيًا لتقديم قراءة نقدية شاملة تُبرز أهم ملامح التجربة السردية للكاتبة، وتُسهم في إغناء المكتبة النقدية بالدراسات المهتمة بالأدب النسوي الفلسطيني المعاصر.

التقديم:

تُعدّ رواية فرصة ثانية للكاتبة الفلسطينية صباح بشير نموذجًا أدبيًا مميزًا في تصوير معاناة الإنسان مع الفقد، والبحث عن معنى جديد للحياة رغم الألم. عبر سرد حميميّ يأتي على لسان الشخصية الراوية “هدى”، تُقدم الكاتبة قصة موت الأم (فاتن) أثناء الولادة، وما يترتب على ذلك من تحولات نفسية واجتماعية في محيطها العائلي.

تهدف هذه الدراسة إلى تحليل بنية الرواية سرديًا وموضوعيًا، مع التركيز على تجربة الحزن، رمزية الأمل، ودلالات الفضاء المكاني واللغوي داخل العمل.

كما تسعى الدراسة إلى إظهار كيف تنتمي هذه الرواية إلى تيار السرد النسوي الفلسطيني الحديث، الذي يبرز التجربة الإنسانية للمرأة في مواجهة الحياة والموت.

أولًا: البنية السردية والزمن:

*تعتمد الرواية بنية سردية خطية متماسكة، تبدأ من لحظة دخول البطلة فاتن إلى المستشفى (ص5)، وتنتهي بتبني الطفلة من قِبل الأسرة ومواصلة الحياة (ص34).

*تتبنى الرواية ضمير المتكلم من خلال شخصية “هدى”، مما يمنح النص طابعًا شخصيًا حميميًا، وينقل مشاعر الشخصيات بصدق كبير.

يتوزع الزمن في الرواية على محورين:

* زمن واقعي يتمثل في أحداث الولادة والوفاة وما بعدها.

*زمن نفسي ينعكس في تأملات هدى حول ماهية الأمومة والموت، كما في قولها: “هل حب الأمهات لأطفالهن يستحق هذه التضحية؟ أم أنها غريزة فطرية بحتة؟” (ص10).

* تتميز بنية الرواية بالتصاعد الدرامي المنظم، حيث تبدأ بأمل الولادة، تمر بذروة الأزمة (تعثر الولادة وموت فاتن)، ثم تهدأ في النهاية مع ولادة طفل يمثل حياة جديدة.

ثانيًا: تحليل الشخوص في الرواية:

1. شخصية فاتن: تمثل فاتن صورة الأمومة المكافحة، التي تحتمل آلامًا جسدية ونفسية شديدة من أجل إنجاب طفلها. تصفها الراوية هدى قائلة:

“دفعتها إرادة الأمومة إلى الأمام، رغم أن الألم كان ينهش عظامها.” (ص7).

فاتن ليست فقط أمًا بيولوجية، بل رمز للتضحية بكل أشكالها.

2. شخصية مصطفى: هو الزوج المفجوع الذي يتنقل بين مشاعر الأمل والصدمة واليأس. يتجلى ألمه الداخلي حينما يقول:

“كيف سأكمل حياتي بدونها؟ كيف سأربي طفلهما بمفردي؟” (ص20).

يمثل مصطفى معاناة الرجل الشرقي الذي يضطر لتحمل مسؤوليات مضاعفة في غياب الشريكة.

3. شخصية هدى: وهي شقيقة فاتن، تتحول إلى “الأم البديلة” بعد وفاة أختها. تقول متعهدة برعاية ابن أختها:

“عاهدتها أن أكون سندًا له، وأن لا أتخلى عنه.” (ص21).

هدى تعبر عن جانب مهم من التضامن الأسري في مجتمعاتنا الشرقية.

ثالثًا: دلالة المكان والفضاء الروائي:

للمكان في الرواية حضور وظيفي شديد الأهمية:

المستشفى: يتحول إلى مسرح للألم والموت بدلًا من أن يكون فضاءً للشفاء. ويتجلى ذلك من وصف الراوية للبيئة الطبية:

“كل شيء أبيض وباهت لا حياة فيه.” (ص15).

المنزل العائلي: يصبح بؤرة للحزن وملاذًا للذكريات بعد فقدان فاتن، كما نقرأ:

“تحول منزل العائلة إلى مأوى للدموع والآهات.” (ص24).

تُظهر الرواية كيف تتغير دلالات المكان تبعًا للحالة النفسية للشخصيات.

رابعًا: اللغة والأسلوب الفني:

تميزت اللغة السردية في فرصة ثانية بالوضوح والعذوبة، مع مسحة شاعرية خفيفة تناسب جو الرواية المفعم بالمشاعر.

اعتمدت الكاتبة تراكيب لغوية مباشرة غير متكلفة، لكنها مزجتها بصور بلاغية معبرة، مثل قولها عن مشاعر القلق:

“غزاني الخوف بسـهامه الحادة وأخذت أرتجف، شعرت أن العالم من حولي يزداد ظلمة.” (ص13).

كذلك كثفت الروائية استخدام الألوان كرموز نفسية، فكان اللون الأبيض –رغم شيوعه للنقاء– رمزًا للموت والجمود في سياق الرواية، كما قالت هدى:

“كل شيء أبيض وباهت لا حياة فيه.” (ص15).

أما الأسلوب الفني فقد مال إلى تفصيل المشاعر الداخلية بتقنيات السرد الداخلي (المونولوج)، مما جعل القارئ يتماهى مع الشخصيات عاطفيًا.

خامسًا: الثيمات والأفكار الرئيسة:

تدور الرواية حول عدة ثيمات محورية، أبرزها:

1. الأمومة والتضحية: تمثل ولادة فاتن القاسية ذروة رمزية للتضحية من أجل استمرارية الحياة. وقد أظهرت الرواية هذه الفكرة عندما قيل:

“دفعتها إرادة الأمومة إلى الأمام، رغم أن الألم كان ينهش عظامها.” (ص7).

2. الموت والفقد: تصور الرواية كيف أن الموت قد يقتحم اللحظات التي يُنتظر فيها ميلاد حياة جديدة. وكان المشهد المأساوي عند إعلان وفاة فاتن شديد التأثير:

“ببالغ الأسف نعلمكم أن فاتن لم تقاوم مضاعفات خطيرة…” (ص17).

3. الأمل واستمرار الحياة: رغم مأساة الفقد، قدمت الرواية صورة إيجابية عبر الطفل “يحيى” الذي سُمّي رمزًا لاستمرارية الأمل:

“اختار مصطفى اسم ‘يحيى’ لمولوده؛ ليحمل معنى الحياة والأمل الذي لا يريد له أن ينطفئ.” (ص26).

سادسًا: الرموز والإيحاءات الفنية: اعتمدت الرواية عدداً من الرموز البسيطة ولكن العميقة الدلالة، منها:

الطفل يحيى: يمثل ولادة الأمل من رحم الحزن، وقد جسدت تسميته رسالة واضحة مرتبطة بفكرة النهوض بعد السقوط (ص26).

اللون الأبيض: رمز موتيّ، بعكس دلالته التقليدية للنقاء، وهو ما عبرت عنه هدى حين وصفت المستشفى:

“كل شيء أبيض وباهت لا حياة فيه.” (ص15).

الأمومة البديلة: رمزية لديمومة العطاء الإنساني رغم قسوة الفقد.

سابعًا: الجانب النفسي في الرواية:

تحاكي الرواية بدقة علمية مراحل الحداد التي صنفها علماء النفس، وهي: الإنكار، الغضب، الاكتئاب، وأخيرًا القبول:

الإنكار: يظهر في مشاعر الصدمة التي أصابت العائلة فور إعلان وفاة فاتن، كما قالت الراوية: “لم أستطع تصديق ما سمعت.” (ص19).

الاكتئاب: مثّل مصطفى نموذجًا حزينًا عميقًا للغرق في الحزن، إذ قالت عنه الراوية: “تحول منزله إلى سجن من الذكريات، كل زاوية فيه تهمس باسمها.” (ص27).

القبول: يتحقق تدريجيًا عبر قبول مصطفى لتربية الطفل والاستعانة بالدعم العائلي.

هذا التحليل النفسي العميق أضفى على الرواية بعدًا إنسانيًا مقنعًا.

ثامنًا: حضور الأمومة كغريزة واختيار اجتماعي:

تطرح الرواية سؤالاً هامًا حول طبيعة الأمومة: هل هي فطرة أم التزام اجتماعي؟

تتجسد الإجابة في موقف هدى التي تحولت إلى أم بديلة مدفوعة بالحب والوفاء، لا بمجرد القرابة البيولوجية.

يتجلى ذلك حين قالت: “عاهدتها أن أكون سندًا له، وأن لا أتخلى عنه، وأن أحبّه كما أحببت أمه.” (ص21).

هنا، يظهر أن الأمومة في الرواية تمتد إلى دوائر الرعاية والمودة، بما يتجاوز الروابط الدموية.

خلاصة البحث:

رواية فرصة ثانية لصباح بشير تقدم تصويرًا واقعيًا وعاطفيًا لتجربة الفقد الإنساني، وتطرح تساؤلات عميقة حول معنى الحياة بعد غياب الأحبة.

عبر بنية سردية متماسكة، ولغة بسيطة غنية بالصور الشعورية، نجحت الكاتبة في ملامسة مشاعر القارئ، وفي التأكيد على أن الحب والأمل قادران على شفاء الجراح العميقة.

تُظهر الرواية أن الإنسان، رغم الألم، يمتلك القدرة على تجاوز المحن، وبناء معانٍ جديدة للحياة، من خلال الإيمان، والتضامن العائلي، والوفاء للماضي.

تحية تقدير لكاتبة استطاعت ان تمخر عباب الزمن بلا توقف او تردد لتصل الى ما وصلت إليه بكل ما في المراة الفلسطينية تحديدا من إصرار وتحد .

وتمنياتي لها ببلوغ ما تصبو إليه من مراتب السمو الأدبي.

***

علاء الأديب/ بغداد

 

في المثقف اليوم