قراءات نقدية

قراءات نقدية

التوثيق والتأويل في قلب المأساة السورية

يمثل ديوان "قبور صغيرة" للشاعر السوري ماهر شرف الدين (2021) نموذجاً متميزاً للشهادة الأدبية التي ترفع الواقع المأساوي إلى مصاف الشعر، دون أن تفقد صلتها بالحدث اليومي. الديوان ليس مجرد مجموعة قصائد، بل هو "ذاكرة جماعية" شعرية، تقدم قراءة متعددة المستويات للألم السوري، تجمع بين التوثيق الواقعي والتأويل الوجودي.

أولاً: المأساة كموضوع وكمنطلق تأويلي

يدور الديوان حول المعاناة الإنسانية خلال الحرب في سوريا، ملامساً موضوعات مركزية كـ الموت والفقدان (المتجلي في العنوان الرمزي "قبور صغيرة" التي تدفن فيها الأحلام قبل الأجساد)، والمنفى والشتات، والجوع والحصار. إلا أن الشاعر لا يقف عند حدود التوثيق، بل يتجاوزه إلى تفكيك المفاهيم الكبرى، كما في تمييزه للثورة بأنها لم تكن "جداراً يستند إليه" ولا "مفتاحاً لقصر"، مما يحول الخيبة السياسية إلى سؤال وجودي عن معنى التمرد والأمل.

هنا يندمج المحتوى مع الرؤية التأويلية: فالمأساة ليست موضوعاً مباشراً فحسب، بل هي المساحة التي تتحرك فيها الذات الشاعرة لتطرح أسئلتها الوجودية. السياسة هي الإطار والوعاء، بينما المحتوى النهائي هو سبر أغوار الوجود الإنساني في مواجهة العنف والضياع.

ثانياً: الأسلوب واللغة: بين صدمة الواقع وغموض الشعر

1. اللغة الواقعية المشحونة شعرياً: يستخدم شرف الدين لغة يومية قريبة من لغة الإعلام في نقل الواقع، لكنه يحولها إلى استعارات متعددة الدلالات. "القبور الصغيرة" لم تعد مجرد مقابر، بل رمزاً لكل ما يُدفن حياً: الكرامة، الذاكرة، الطفولة. "الباص المحطم" يتحول من وسيلة نقل إلى جسد طافٍ لحكاية تشرد جماعي. هذا التحويل هو جوهر التأويل الشعري.

2. المباشرة كخيار جمالي: قد يبدو الأسلوب مباشراً وصادماً أحياناً، لأن طبيعة الصدمة تتطلب صراحة. لكن هذه المباشرة ليست سذاجة فنية، بل هي خيار مقصود يعكس فظاعة الواقع. ومع ذلك، فهي مباشرة مُؤَوَّلة، حيث يتم إفراغ المفاهيم المألوفة (كـ "لاجئ"، "ثورة") من معناها وإعادة ملئها بدلالات جديدة. فالعبارة: "افتحوا لنا الطريق لنعيش مع الوحوش" هي قلب للمفاهيم؛ فـ "الوحش" هنا يصبح ملاذاً من وحشية البشر أنفسهم.

ثالثاً: اللااكتمال السياسي كسمة جمالية

تمثل قصيدة النثر في الديوان انعكاساً لطبيعة الواقع السوري. فاللااكتمال الذي تمثله الثورة المنهارة والوطن المشظى يتحول إلى سمة جمالية في القصيدة. النصوص لا تقدم حلولاً أو خواتيم مغلقة، بل توقف اللحظة المفجعة في منتصف طريقها، محافظة على طاقة التأويل مفتوحة. القصيدة، كالوطن، لم تعد تحتمل الإجابات الجاهزة، وهذا ما يجعلها نابضة بالحياة وقابلة للقراءة من قبل أي قارئ، بغض النظر عن معرفته بتفاصيل المشهد السوري.

رابعاً: تقييم الديوان: بين قوة الصدق وعمق الرؤية

1- قوة الديوان: تكمن في صدقه الإنساني وقدرته الفائقة على تحويل الزمن الرديء إلى مادة شعرية خالصة. لقد نجح في:

أ- تجنب الخطابية: لم يتحول الديوان إلى منشور سياسي، فحتى في أكثر نصوصه واقعية، حافظت اللغة على غموضها الشعري وإيحاءاتها.

ب- تجنب الانفصام: لم ينفصل هم الذات عن هم الجماعة، بل تم تأويل معاناة الجماعة لتصير جزءاً من جرح الذات الشاعرة، مما يخلق تكاملاً عضوياً نادراً.

ج- إثراء التأويل: قدم نصوصاً لا تنغلق على معنى واحد، تبقى قابلة للقراءة من قبل من يعيش التفاصيل، ومن هو بعيد عنها لكنه قريب من ألمها الإنساني الكوني.

2- في مواجهة النقد: قد يرى بعض النقاد أن اعتماد الأسلوب الواقعي المباشر يجعل بعض القصائد أقرب إلى "الخبر الصحفي"، مطالبين بمزيد من الانزياحات اللغوية المعقدة. لكن الرد على هذا يتمثل في أن "المباشرة المؤولة" في هذا الديوان هي أسلوب مقصود وليست عجزاً تقنياً؛ فهي تستمد شرعيتها من فظاعة الواقع المراد توثيقه وتحويله إلى استعارة، مما يثري النص بدلاً من أن يفقره.

الخلاصة: وعاء للزمن الرديء

"قبور صغيرة" لماهر شرف الدين هو مشروع شعري متكامل، يثبت أن قصيدة النثر يمكنها أن تكون "وعاءً للزمن الرديء" دون أن تتنازل عن شرطها الجمالي. إنه يجمع بين قوة الوثيقة التي تحفظ الألم من النسيان، وعمق النص التأويلي الذي يستنطق المأساة ليكشف عن أسئلة الوجود الأكثر إيلاماً. قيمته لا تكمن فقط في جماليته الشعرية، بل في كونه صرخة إنسانية خالصة، وشهادة ستظل حية على مرحلة دموية من التاريخ.

***

بهيج حسن مسعود - سوريا

لنجاح عزالدين

في دروب المعرفة حيث تتدفق أنهار الحرفِ وتتوهج أماسي الفكر، تسير "نجاح عز الدين" بخطى واثقة، تحمل بين جنباتِها شغفًا لا ينضب نحو اللغةِ العربية وآدابِها، هي أستاذة استثنائية في التعليم، لم تكتف بالغوص في أعماق النصوص والأساليب، بل جعلت من دراستها الأكاديمية جسراً يعبر نحو آفاق إبداعية رحبة.

حصلت على شهادة الإجازةِ (الليسانس) والماجستير في اللغة والأدب والحضارة العربية، لتواصل رحلتها البحثية في الدكتوراه، متخذةً من "التجريب في القصة التونسية" منارةً لأطروحتها، تنقّبُ فيها عن الجديدِ واللا مُتوقع، وتكشف عن طبقات الإبداع المختبئة.

ولها في حقلِ النقدِ بصمةٌ لامعة، تمثلت في إصدارها النقدي التحليلي لكتاب "المصون في سر الهوى المكنون" لإبراهيم الحصري القيرواني، تحت عنوان "في أفانين الهوى"، والصادر عن دار دال للنشر الإلكتروني في سوريا عام 2019، وهو عمل يغوص في تفاصيل النص القديم ليستخرج منه درر المعاني ويقدمه للقارئِ المعاصر بلغة عصرية ثرية.

ولا تزال رحلتها مع الكلمة متواصلة، وهي تعد لكتاب نقدي جديد يقرأ تجارب إبداعية سردية وشعرية من تونسَ والوطنِ العربي، لتؤكد أن النقد ليس مجرد شرح، بل هو حوار خلاق مع النص.

شاركت في عدد من الملتقيات العلمية والأدبية، سواءً في الجامعة العربية أو كلية منوبة، أو عبر اللقاءات الحضورية والافتراضية، محققة تفاعلاً واسعاً مع جمهورِها وطلاب العلم، ولها إسهامات منشورة في عدة صحفَ ومجلات أدبية وثقافيةٍ ورقية، تؤكد من خلالِها حضورها الدائم في المشهدِ الثقافي.

**

واليوم، تقف "نجاح عزالدين" أمام عوالم مجموعة "كوخ من لبن النساء وأشياء أخرى"، لتسافر بنا عبر سردها الأدبي الذي يجمع بين رقة المشاعر وعمق الرؤية، في رحلة نقدية تليق بتجربة إبداعية استثنائية.

عندما نضع أيدينا على المجموعة القصصية "كوخ من لبن النساء (وأشياء أخرى)" لنجاح عزالدين، فإننا لا نقتني كتاباً فقط، بل نوقع على "عقد قرائي" فريد من نوعه، عقد لا يكون فيه القارئ متلقياً سلبياً، بل شريكاً فعالاً في تشييد عالم النص واستنطاق دلالاته، تبدأ هذه الرحلة التشاركية من عتبات النص الأولى، التي لا تكتفي بالإعلان عن المضمون، بل تُعدّل في أفق توقعنا وتستدعينا إلى لعبة تأويلية شيقة.

كيف لا ننطلق من العنوان؟ كوخ من لبن النساء (وأشياء أخرى) ، إنه عتبة تثير وتستفز الخيال، (الكوخ) يوقظ فينا البساطة والعزلة والبدائية، بينما (لبن النساء) ينقلنا إلى حكايات الجدات وأساطير الخصب والأمومة، هذا المزيج بين الأسطورة والواقع اليومي هو بمثابة النغمة الأساسية التي سترافقنا طوال القراءة. أما الإضافة "(وأشياء أخرى)" فهي كمن يقول لنا: "استعد لما هو غير متوقع، فحدود هذا العالم أوسع مما تظن".

بيان التحرر من قيود الجنس الأدبي

قبل أن نغوص في النصوص، يقف التصدير ليعيد برمجة عقولنا كقراء، إنه يعلنها بصراحة: هذه النصوص هي (قصص، ويوميات، وقد تتعدى ذلك أحياناً)، بهذه العبارة، تهز نجاح عزالدين (أفق انتظارنا) التقليدي، إنها لا تقدم لنا قالباً جاهزاً نضعه في رف "القصة القصيرة" أو "اليوميات"، بل تدعونا إلى تبني استراتيجية قراءة مرنة، هي ترفض أن تتعامل مع الكتابة كما يتعامل "الفقهاء مع النص الديني"، مؤكدة أن "الكتابة عندي تعلمك 'أن تكتب في كل شيء وأن تكتب بكل شيء'"، هذا هو الانزياح الأجناسي الأول، الذي يحطم القيود ويعلن ولادة عقد قرائي جديد قائم على المفاجأة والتعدد.

لغز "القرين": النص الخفي والدور الإبداعي للقارئ

ها نحن ندخل عالم النصوص، ولكن هل ما نقرأه هو كل شيء؟ في مقدمته الثرية، يشير عبد العزيز بركة ساكن إلى ظاهرة أدبية فريدة في هذه المجموعة، يسميها "القرين". "القرين" ليس مجرد نص ضمن النص، بل هو بنية متخفية، شبح نصي يتراءى بين السطور، إنه، كما يصفه بركة ساكن، "نصوص غير مكتملة، تتيح للقارئ كتابتها".

انزياح الزمن والسرد

لا تقدم لنا نجاح عزالدين عالماً خطياً مريحاً، بل تعتمد الانزياح الزمني وتشظي السرد لتخلق واقعاً مكسوراً يعكس حالة شخصياتها وواقعها، في "زمن الضفادع"، تنتقل بنا الكاتبة من صورة امرأة عجوز ترمي الضفادع في الوادي، إلى استعارة مجازية عميقة عن الخطاب الفارغ والفساد المستشري.

(زهرة امرأة تجاوزت العقد الخامس... ترسبت في هذا الوادي الضفادع التي تناسلت، وتضاعفت، حتى صارت قبائل وشعوب... تسمع لها نقيقاً... محدثة ضجيجاً صاخبا.)

الانزياح من الواقعي إلى الرمزي المجازي يستدعي قارئاً قادراً على فك الشفرة، الضفادع هنا ليست حيوانات، بل هي كناية عن "الضجيج" الاجتماعي والسياسي الذي يخنق الفرد، وفي "رفيقة درب"، نلمس انزياحاً آخر في منظور السرد، حيث ينتقل بنا النص من السرد الخارجي إلى تدفق الوعي الداخلي للأب، مقترباً من أعماق الشخصية ومشاعرها المكبوتة.

انزياح اللغة: متعة الانزياح عن المألوف

اللغة هنا ليست وعاء للمعنى فقط، بل هي جزء من الجمالية ذاتها، إنها لغة مشحونة بشعرية عالية، تستخدم الانزياح الدلالي لخلق عوالم موازية، في "عيشة أخرى"، نجد مثالاً رائعاً: (تعانقا الجسدان حتى تماهيا وتخاطبت روحاهما، ثمّ سرت رعشة في كامل جسديهما وتحركت أصابعهما المتشابكة، وراحا يتمتمان بكلام لا يفهمه غيرهما.)

هنا يحدث الانزياح من الحسي (التعانق) إلى الروحي (تخاطبت روحاهما)، ليرسم لنا مجازاً جميلاً عن اتحاد يتجاوز المادة. هذه اللغة لا تخبرنا، بل تجعلنا نحسّ ونتذوق متعة الانزياح عن المألوف. وفي المقابل، في "المنسية"، تستخدم الكاتبة الانزياح نحو العامية والنداءات الحميمة (هيا حبيباتي، دجيجاتي...) لخلق واقعية حسية تلمس القلب مباشرة.

النهايات المفتوحة: القارئ هو من يكتب الخاتمة

لا تقدم لنا العديد من النصوص حلولاً نهائية، بل تفضل الانزياح عن النهاية المقفولة، لتترك للقارئ مهمة ختم المعنى، مصير "زهرة" في "زمن الضفادع" مجهول: "هجرت، زهرة المكان ولم يعرف لها طريقا إلى اليوم." هل هربت؟ أم تحررت؟ أم ضاعت؟ النص يصمت، ليترك الإجابة لنا.

حتى في نهاية "عيشة أخرى" الشعرية، يظل السؤال قائماً: هل ما حدث هو موت أم اتحاد روحي أخير؟ "وراحا يتمتمان بكلام لا يفهمه غيرهما." هذا الانزياح نحو الغموض يحول القارئ من متلقٍ إلى مشارك في صياغة المصير النهائي، مكملاً المشهد بناءً على تجربته هو.

الانزياح.. فن صناعة القارئ الشريك

من خلال هذه الرحلة، تتجلى لنا حقيقة هذه المجموعة: إنها نموذج راقٍ لأدب لا يكتمل إلا بوجود القارئ.. لقد استخدمت نجاح عزالدين استراتيجيات الانزياح المتعددة – انزياح الأجناس، والزمن، واللغة، والنهاية – ليس بهدف الإلغاء، بل بهدف البناء؛ إنها تخلق عالماً قابلاً للتشكل، يتحول فيه القارئ من مستهلك إلى "قارئ مثالي"، قادر على تفكيك الشفرات واستنباط الدلالات الخفية، "كوخ من لبن النساء" ليس مجرد مجموعة نصوص، بل هو ورشة مفتوحة للقراءة والإبداع، تثبت أن أجمل النصوص هي تلك التي نكتبها معاً، كاتبة وقارئاً، في مساحة اللقاء بين السطور.

***

رزق فرج رزق – ليبيا

إنَّ مِن شَرْح الشِّعر في تراثنا ما يبدو إفسادًا للنصِّ، وإسفافًا في فهم معناه، وتقييدًا بليدًا لآفاق دلالاته الشِّعريَّة. خُذ مثالًا نموذجيًّا من شرح الشُّرَّاح بيت (أبي تمَّام)(1):

إِنَّ الإِخــاءَ وِلادَةٌ وأَنـا امـرُؤٌ

مِمَّن أُواخي حَيثُ مِلْتُ فأُنجِبُ

فماذا تفهم من هذا البيت؟ هكذا تساءل (ذو القروح) في المساق السابق. فسألته:

ـ أنت ماذا تفهم؟

ـ أمَّا أنا فأفهم- ربما بنزوعٍ (ما بعد حداثيٍّ)، يرى في التأويلات المفرطة إفسادًا للنصوص وإسفافًا بالعقول- أنَّ الشاعر يقول: «إِنَّ الإِخاءَ وِلادَةٌ»، كما قال هو حرفيًّا. أي أنَّ علاقتك الأخويَّة الصادقة بإنسانٍ هي بمثابة ولادةٍ جديدة لك. ثمَّ قال: «وأَنـا امرُؤٌ مِمَّنْ أُواخي حَيثُ مِلْتُ فأُنجِبُ». وهذا كذلك ما قصدَه حرفيًّا. أي: أنَّه ممَّن حيث ذهبَ في أُخوَّته مع الناس، أنجبَ نفسه مولودًا جديدًا منهم، وأنجبهم من نفسه مواليد جُدُدًا كذلك. فظاهر النصِّ أبلغ وأشعر من ذلك الباطن الذي تكلَّفه بعض الشُّرَّاح، محاولين التماسه، لاستنزال النصَّ من تحليق سماواته الشِّعريَّة، إلى سوقيَّته وابتذاله العامِّي، الذي لا يُدرِك الشارحُ أرفع منه، حيث تقرأ:

«قال الخارزنجي: يقول: إخاء المتآخين كأُخوَّة الإخوة. وأنا رجلٌ مستقصٍ في اعتقاد الإخوان، فإذا اتَّخذت أخًا استكرمته. أي اتَّخذته كريمًا، فأنجب، من نجبت عن الشجرة اللِّحاء، وبلغت إلى خالص الشيء. وهو مَثَلٌ ضربَه. أي: أنا بالغٌ في المودَّة. هذا على رواية، فأَنجب بفتح الهمزة. وروَى الباقون بضمِّ الهمزة: أواخي النُّجَباء.»(2)

هكذا توصَّل الأخ (الخارزنجي)، بعد طول تفكيرٍ وتأمُّلٍ وعناء!

ـ وعند الصباح، سكتَ الشُّراح، عن الكلام المباح!

ـ نعم، فلم يضيفوا على كلام (الخارزنجي) حرفًا! ولكن بعد أن نَجَبُوا معه عن شجرة الشِّعر اللِّحاء! فالشاعر لم يَعْدُ أنْ كرَّر المقولة الشَّعبيَّة الدارجة: «رُبَّ أخٍ لكَ لم تلده أُمُّك!» وهذا المستوى من التلقِّي والشرح ينطبق عليه قول (أبي تمَّام) نفسه:

أَيُّ مَرعَــى عيــنٍ وَوادِي نَسِـيبِ

لَحَبَتْــهُ [الشُّرَّاحُ] فــي مَلْحُـوْبِ

بعد أن تستبدل بكلمة «الأيَّام» في البيت «الشُّرَّاح».

ـ على أنَّ من تتبَّع آراء (الخارزنجي)- بصفة خاصَّة- في شرح الشِّعر تأكَّد له أنَّ الرَّجُل لا يفقه لغة الشِّعر.

ـ ولذا تجده يقرأها على وجه الحقيقة المطلقة، وكأنها إخبار. انظر مثلًا كيف فهم قول (أبي تمَّام) أيضًا:

ولا غَـروَ أَنْ وَطَّـأتَ أَكنـافَ مَرتَعـي

لِـمُهمَـلِ أَخفاضِــي ورَفَّهـتَ مَشـرَبي

إذ يقول للممدوح: لا عجبَ أن جعلتَ مرتعي موطَّأ الأكناف لصغار إبلي (أخفاضي) التي كانت مهمَلة، وجعلت مشربي رِفْهًا.

ـ فكيف فَهِمَ (البشتي الخارزنجي، ـ348هـ) البيتَ؟

ـ قال، لا فُضَّ فوه، إنْ لم يكن قد فُضَّ، بعد تلك القرون: «يقول: أرحتَني عن الحِلِّ والارتحال، فأهملتُ أخفاضي، فلم أحتج مع رفدك إلى استعمالها وركوبها للانتجاع.»(3) فهو- كما ترى- يفهم كلام الشاعر على أنه مجرَّد «نشرة أخبار» عن حقائق الأشياء والوقائع، لا على أنه كلامٌ مجازيٌّ تخييلي. ولو كان يفهم الشِّعر ولغته لوعَى أنْ ليس من إبلٍ هنالك ولا مرعى، وإنَّما هي استعارة مركَّبة تعبيرًا عمَّا ناله من خير الممدوح.

ـ إنَّ اللُّغة الأدبيَّة عمومًا هي لغة متشابهة، وليست بمحكمة غالبًا.

ـ صحيح. وقد أشارت الآية إلى هٰذا المعنىٰ في «القرآن»: «مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ، هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ، وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ.» ذلك لأنَّ «القرآن» جاء بلسانٍ عربيٍّ أدبيٍّ مبين. واللُّغة المتشابهة هي اللُّغة الأدبيَّة عمومًا، وهي لهذا خاضعة للتأويل، لا للشرح؛ فالشرح مجاله اللُّغة العِلميَّة المحكَمة. ولذا ذهب مَن ذَهب إلى أنَّ الآيات المحكَمة هي آيات الأحكام الشرعيَّة، لا غير(4)؛ لأنَّ هذه آياتٌ عِلميَّة قانونيَّة، «هُنَّ أُمُّ الكِتَاب»، وعليها مدار العمل أو عدمه. ولذا استُخدِم ضمير العاقل، «هُنَّ»، لا «هي أُمُّ الكِتَاب». «فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ، فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ؛ ابْتِغَاءَ الفِتْنَةِ، وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ.» إذ يُعجِب هؤلاء المتشابهُ؛ لأنَّه يتيح لهم أن يشطحوا، بلا قيود ولا حدود. وهذا ما يبغون؛ لأنهم أهل زيغٍ عن الحقِّ لا أهل حق.

ـ مع أنَّ التأويل أيضًا مقيَّدٌ بضوابط اللُّغة، والسياقات، وقبل ذلك وبعده بالرسوخ في العِلم، وليس مطلَقًا.

ـ «وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ، وَالرَّاسِخُونَ فِي العِلْمِ، يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِندِ رَبِّنَا، وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الأَلْبَابِ.» والراسخون في العِلم يعلمون تأويله بالضرورة، وإلَّا ما جدوَى نزوله؟! ولئن كان القائلون بهذا هم القليل من المفسِّرين؛ فإنَّ أهل الحقِّ قِلَّة دائمًا في كلِّ مجال. ومنهم (مجاهد) و(ابن عبَّاس)؛ حتى إنَّ هذا الأخير كان يقول: «أنا ممَّن يعلم تأويله».

ـ فالواو على هذا للعطف لا للاستئناف.

ـ أجل. لكنَّ الراسخين في العِلم هؤلاء يجمعون بين العِلم والإيمان، ولا يتَّبعون بعض الكتاب دون بعض، كما يفعل أهل الزيغ. لأنه، في النهاية، «مَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الأَلْبَابِ».

ـ أي: «أولو العقول».

ـ لم يقل «أولو العقول»؛ لأنَّ (الألباب) تشمل العقول والقلوب. كما أن التأويل ليس حكرًا على طائفة من البَشر، وإلَّا أمسينا أمام أسوار كنسيَّة، كتلك التي كانت قائمة دون العقل في (أوربا) خلال القرون الوسطى؛ إذ كانت السُّلطة الدِّينيَّة هي المتحكِّمة الوحيدة في فهم النص؛ وعلينا- نحن خارج تلك السُّلطة (بضم السين)- قفل العقول والأفواه وأبواب الاجتهاد؛ لأنَّ ثمَّة معصومًا من الخطأ: سوف يفسِّر لنا ويفهم ويفتي!

ـ وعندئذٍ لم تَعُد من قيمةٍ للنصِّ نفسه أصلًا!

ـ ولا للإنسان المخاطَب به! والنصُّ الأدبي لا تتأتَّى قراءته بالعقل وحده، ولا بالقلب أو بالنفس وحدها، بل بهما معًا، أي: بـ(الألباب).

ـ إنَّ تلك الآية تبدو هكذا آيةً في منهجيَّة قراءة النصوص أصلًا.

ـ وإذا كان هذا حال النصِّ ذي الصبغة الأدبيَّة، فما حال النصِّ الأدبي المحض؟

ـ بل ما حال النصِّ الشِّعري تحديدًا؟

ـ إنَّه نصٌّ متشابهٌ بامتياز. غير أنَّ الذين في عقولهم زَيْغٌ من الشُّرَّاح والنقَّاد فرقتان، في تعاملهم مع الشِّعر: فرقة تغالي في اتِّباع ما تَشَابَهَ منه؛ ابتغاء تأويله بما ليس فيه، كما رأينا في بيت (أبي تمَّام) النموذج؛ وفرقة تقرأ النصَّ على ظاهره السطحي؛ لأنَّها لا تطيق التأويل؛ فتجرِّد النصَّ من أدبيَّته وشِعريَّته. والفرقة «الناجية» هم (أولو الألباب)، الذين يؤوِّلون ما يحتمل التأويل، ويُمِرُّون ما خلاه على ظاهر معناه، بلا تكلُّف تأويل. كما قال (عُمَر بن الخطَّاب): وقد «قَرَأَ عَلَى المِنْبَرِ ﴿وَفَاكِهَةً وَأَبًّا﴾، فَقَالَ: هَذِهِ الفَاكِهَةُ قَدْ عَرَفْنَاهَا، فَمَا الأَبُّ؟ ثُمَّ رَجَعَ إِلَى نَفْسِهِ فَقَالَ: إِنَّ هَذَا لَـهُوَ التَّكَلُّفُ، يَا عُمَرُ!»(5)

ـ وقد فَهِمَ بعض الحمقَى من المعاصرين أنَّ (عُمَر) وصفَ هنا «القرآن» بالتكلُّف!(6)

ـ وما أكثرهم! والنصُّ الشِّعري الجيِّد هو- في النهاية- الذي لا يستدعي الفرقة الأُولَى؛ لأنَّ تأويله منه وفيه؛ من حيث هو نصٌّ تخييليٌّ تأويليٌّ بالأصالة، لا بوساطة مؤوِّل؛ بما أنَّه شِعر، لا نصٌّ غيبي، أو دِيني، ولا نصٌّ أدبيٌّ عام. كما أنَّ النصَّ الشِّعري يربأ بشِعريَّته عن سطحيَّة الفِرقة الأخرى؛ فإنْ هي قاربته تطفُّلًا فضحَها في العالمين!

***

أ. د. عبد الله بن أحمد الفَيفي

...........................

(1) (1987)، ديوان أبي تمَّام بشرح الخطيب التبريزي، تحقيق: محمَّد عبده عَزَّام، (القاهرة: دار المعارف)، 1: 133/ 15.

(2) يُنظَر: (1989)، النِّظام في شرح شِعر المتنبِّي وأبي تمَّام، دراسة وتحقيق: خلف رشيد نعمان، (بغداد: وزارة الثقافة والإعلام)، 2: 178.

(3) يُنظَر: م.ن، 2، 217- 218.

(4) يُنظَر: السيوطي، (1426هـ)، الإتقان في علوم القرآن، تحقيق: مركز الدراسات القرآنيَّة، (المدينة المنوَّرة: مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف)، 4: 1335- 000.

(5) م.ن، 3: 731. وفيه «الكَلَف». وذكر محقِّقه في حاشيته أنَّ «في مصادر التخريج: «التكلف»، وهي أنسب للسياق.»

(6) يُنظَر مثلًا: الأخضر، العفيف، (2014)، من محمَّد الإيمان إلى محمَّد التاريخ، (كولونيا- بغداد: منشورات الجمل)، 200.

لمحمود درويش

مدخـــل: في بداية تسعينيات القرن الماضي دخل الشاعر محمود درويش مرحلة إبداعية جديدة حاول من خلالها تجاوز مرحلة سابقة جعلته "شاعر القضية الفلسطينية"، وهو ما لم يرفضه درويش، لكنه كان يرفض أن يُخنق في أفق إبداعي فلسطيني؛ فلطالما كان يلوم النقادَ على ذلك. وعَبَّر عن قلقه في عدد من حواراته من قَـرْنِ اسمه في كل مناسبة بقصيدته الخالدة "سجل أنا عربي"، التي تُمَثِّل مرحلة فنية متقدمة في تجربة درويش الثرة، والتي عمل جاهدا على تجاوزها على اعتبار أنها تمثل مرحلة البدايات؛ فانتقل إلى مرحلة إبداعية جديدة نستطيع القول إنها بدأت مع ديوانه (لماذا تركت الحصان وحيدا)(1)، واستمرت في عدد من دواوينه مثل (كزهر اللوز أو أبعد)(2) و( سرير الغريبة)(3) محافظا على النفس الشعري نفسه والهم الذاتي والغوص في التفاصيل الدقيقة للارتقاء بما هو يومي عابرٍ إلى مستوى الكونية الإنسانية؛ مع نهل عميق من شتى المعارف والمرجعيات بشتى ضروبها ومنابعها شرقا وغربا، واستطاع أن يحول (التغريبة الفلسطينية) إلى رمز للاغتراب البشريّ والكوني.

"إن الدفق الشعري الخلاق يكمن عند محمود درويش في قصائد هذه الدواوين التي تتميز عن سابقاتها بذلك الامتلاك المتميز للغة الاستعارية المتفردة، وذلك الانسياب الإيقاعي الساحـر." (4)

في ديوان (سرير الغريبة) يستنطق درويش الأنثى ويقَوِّلها ما لم تستطع قوله، يسافر في جوهرها الأنثوي وينبش في ذاكرتها ومشاعرها ورؤاها ويسبر أغوارها. ومهما فعل لن يرى كل ما يريد رؤيته في عالمها، لـذا تقول له "تخيل، ولو مرة أنك امرأة لترى ما أرى". إن المرأة عند درويش ليست امرأة نزار قبّاني، أو المرأة المشتهاة في شعر الغزل العربي، إنّها امرأة من إبداعه، يصورها كما يراها أو يشتهيها وهي، كما في جُلِّ أشعاره، متعدِّدَةُ المظاهـر فهي الأم حينا وهي الحبيبة وهي الأرض أيضا؛ إنها في فكر درويش تتسامى على الزمان والمكان؛ يتحدث عنها بكل شفافية وحذر من أن يخدش عالمها الساحر والآســر الذي يصنعه بأشعاره البهية مع نرجسية جلية، فبالرغم من كل ذلك تعشق أشعاره وتغار منها.

قصيدة (وقوع الغريب على نفسِه في الغريب) من روائع ديوان سرير الغريبة. يبدأها درويش بنَفَسٍ صوفي في قوله (واحد نحن في اثنين) يستحضر فيه "مسألة الحلول" التي قال بها المتصوفة مثل أبي منصور الحلاج الـذي يقول في بيتيه الشهيرين(7):

أنا مَنْ أهْوى ومَنْ أهْوى أنا **** نَحْنُ روحانِ حَلَلْنا بَدنا

فَإذا أبْصرتَنــي أبْصَرتَــهُ  ***  وَإذا أبْصَــرْتَـــــــه أبْصَرْتَنا

وهو تعبير يشكل مدى ارتباط الشاعر بأنثاه حدَّ التماهي والحلول، ولا حلول إلا من قِبَل عاشق متفانٍ في عشق مولاه/ معشوقته، إنه عشق صوفي عميق، وليس عشقا شهوانيا لأنه الشاعر الشفيف الذي يؤثث ملامح المرأة السامية لديه بأشعاره. وصفة التوحد هذه تُنبئ القارئ بما يشترك فيه الطرفان؛ بدءا باعتماد ضمير الجمع المتكلم؛ إنهما من دون هوية (لا اسم لنا((8( وغريبان، متى؟ عندما يتأمل الغريب نفسه في المكان والزمان الغريبين يكتشف الهوية المشتركة الضائعة. ولم يبق من الأرض سوى الظلِّ "ظلِّ الحديقة/ الأرض والوطن" ذاك الظل الذي يشكل الخيال، بالرغم من أنه يشتبه بالأصل فهو شيء آخر غير حقيقي، له جماله الخاص وحضوره المميز في الذاكرة، إنه ظل لشيء بعيد متوغل في الكيان؛ وهو ما تَبَقّى من الهوية، لكن الظل سرعان ما يبهت تدريجيًا، لكنه يبقى الملجأ الوحيد للبحث عن الذات. واللجوء إلى الظلال سبيل لإثبات شرعية الوجود وامتلاك الأرض وتسلية النفس بالبحث عن ("العناوين"/ الأمكنة) الضائعة خلف الظل. يدعو الشاعر أنثاه إلى البحث عن الهوية المفقودة بتتبع الظل للوصول إلى الجغرافيا التي تؤكد شرعيتَها وهويَّتها الكتُبُ المقدسة و"نشيد الإنشاد" :

"........وبحثنا مَعا

عن عناوينِنا: فاذهبي خَلف ظلكِ،

شرقَ نشيدِ الأناشيد، راعيةً للقطا،

تجدي نجمةً سكَنَت مَوتها، فاصْعدي جَبلا

مُهمَلا تجدي أمسِ يُكْمِلُ دَوْرَتَهُ في غَدي.(ص36)

كعادته درويش ينهـل من الكتب المقدسة ويستحضر نصا من (العهد القديم) وهو (سفر نشيد الأناشيد) أو (نشيد أنشاد سليمان)(9) وأهم ما أخذه درويش من هذا "النشيد" شخصية امرأة تدعى (شولميت) كانت راعية غنم، ورجل يذكر في بعض الروايات اليهودية والمسيحية أنه الملك سليمان، يتحاوران حوار غزل شفيف ينتقل بهما إلى مرحلة تحقيق الزواج.

يدعو الشاعر أنثاه (شولميت) إلى اقتفاء أثر الظلِّ، ظل الأمكنة الساكنة في الوجدان للوقوف على حقيقة الهوية واكتشاف الجبل/ فلسطين وهو المكان الذي وحَّدَهُما وجعلهما (واحدا في اثنين).

يتوقف الصوت الذكوري ليفسح المجال للأنثى لتؤكد ارتباط الهوية بالمكان المفقود؛ فبعد الجبل هناك البحر والحشائش الخضراء والسماء وما تحمله من دلالات عن الحياة والارتباط بالهوية المهددة بالضياع.

وتكرار اللازمة في النص (واحد نحن في اثنين) له دلالاته المتعددة إنه تأكيد التوحد والبحث المشترك عن إثبات الذات والهوية والغربة وهي قاسمها المشترك (ياغريب / ياغريبة).. ولاسترجاع حياتهما في المكان قبل ضياعه ينقصهما العناق الحقيقي الذي لا يكون على إلا على الأرض بعد عودتهما إلى اثنين والخروج من الاحتواء على مستوى الذاكرة والعاطفة.

لكن ذلك لن يتحقق فقد ضاعت الهوية/ الاسم حين يبحث عنها الغريب في البلد الغريب .

" لا اسم لنا يا غريبة

عند وقوع الغريب على نفسه في الغريب ! "

***

ميلود لقاح

.................

الهوامش:

1-  رياض الريس للكتب والنشر -2001

2-  رياض الريس للكتب والنشر، بيروت: 2005

3-  رياض الريس للكتب والنشر، بيروت: 1999

4-  ميلود لقاح-(محمود درويش في كتابات بعض مؤبنيه) موقع المثقف -العدد: 2411 المصادف: 2013-04- 12

5-  سرير الغريبة 35

6-  سرير الغريبة : ص35

7-  ديوان الحلاج – جمع المستشرق الفرنسي لويس ماسينيون – ص26/ نسخة pdf

8-  سرير الغريبة ص 35

9-  ويكيبيديا/ https://ar.wikipedia.org/wiki

يُعْتَبَرُ طَرَفَة بن العَبْد (تقريبًا 543 م _ 569 م) مِنْ أبرزِ شُعراءِ الجاهليَّة. عاشَ في بيئةٍ بَدَوِيَّةٍ صَحْراوية قاسية، تَنْتشر فيها الصِّرَاعاتُ القَبَلِيَّة، والمَوْتُ مَوجودٌ في كُلِّ لَحظة، وَلَهُ حُضُورٌ دائم في الوَعْي الجَمْعِيِّ، والحياة قصيرة، فانعكسَ هَذا عَلى رُؤيته للحَياةِ والشَّبَابِ. وَهُوَ يَرى أنَّ الشَّباب مَرحلة عابرة لا تَسْتحق التَّقَشُّفَ أو الادِّخار، وَيَدْعُو إلى استغلالِها في المُتعةِ واللذةِ قَبْلَ أنْ يُداهِم المَوْتُ الإنسانَ، وفي هَذا إشارةٌ إلى نِهايةِ الإنسانِ، وحَتميةِ المَوْتِ، وضَياعِ الشَّبابِ. لذلك كانتْ نَزْعَتُهُ شَهْوَانِيَّةً لَذائذيَّة، ورُؤيته العَامَّة عبثية وماديَّة ومُتمردة، تَدْعُو إلى اغتنامِ المُتعةِ واللذة، لأنَّ الحياةَ قصيرة، والشَّباب لا يَدُوم، والمَوْت لا مَفَر مِنْه، خاصَّةً في ظِلِّ شُعوره بِقِصَرِ عُمْرِه، حَيْثُ قُتِلَ في رَيْعَانِ شبابه.

نَظَرَ إلى الشَّبَابِ باعتباره مرحلةً قصيرة، يَنْبغي أنْ تَقُومَ على الاستمتاعِ والتَّمَرُّد، وَرَفْضِ الانصياعِ للمُجتمعِ أو القُيودِ الاجتماعية، فَهِيَ فُرصة وحيدة لِتَذَوُّقِ اللذةِ قَبْلَ الفَنَاءِ السريع الذي يُمثِّله المَوْتُ. وَهُوَ يَرى أنَّ الشَّبابَ ضائعٌ بالضَّرُورة، فلا جَدوى مِنَ الخَوْفِ، ولا فائدة مِنَ القَلَقِ، بَلْ يَجِبُ الانغماسُ في مَلَذَّاتِ الحياة، وَهُوَ بذلك يُعبِّر عَنْ فَلسفةٍ حَياتية تَمِيلُ إلى العبثِ، والاحتفالِ بالجسدِ، وتَعظيمِ الغرائز.

عَبَّرَ عَنْ إحساسِه بالغُربةِ والضَّيَاعِ، لَيْسَ فَقَط مِنْ خِلالِ تَمجيدِ الماضي وَبُعْدِه عَنْ مُتَنَاوَلِ اليَدِ، بَلْ أيضًا مِنْ خِلالِ التَّفَكُّرِ في الفَوضى الاجتماعيةِ والسِّياسيةِ التي كانتْ تعيشُها قبيلته.

عاشَ فَتْرَةَ شَبابِه مُتَأرْجِحًا بَيْنَ الحَياةِ والمَوْتِ، مُوَاجِهًا مَصيرَ الفَناء، وَهُوَ مَا يَعكِسه شِعْرُه الذي يَجْمَع بَيْنَ استذكارِ جَمالِ الشَّبابِ والتَّعبيرِ عَنْ فِقْدانِ الأملِ في المُستقبَل، بسببِ تآكُلِ الأحلامِ وَتَبَدُّدِهَا. هَذا التَّأرْجُحُ بَيْنَ اليأسِ والمُقاوَمةِ يَدُلُّ عَلى فلسفةِ الشاعرِ الوُجودية، ويُشير إلى صِراعٍ دائم بَيْنَ الرَّغبةِ في البَقَاءِ والتَّحَدِّي والمَصيرِ المَحتوم.

دارَ الشاعرُ في فَلَكِ المَوْتِ، وَهَذا دَفَعَه إلى الشِّعْرِ في مُحاولةٍ للتَّعبيرِ عَنْ حَياته القصيرةِ المَليئةِ بالصِّراعِ والمُعَاناةِ والألَمِ. وكانَ يَرى أنَّ المَوْتَ لا يأتي إلا بعد أنْ يَصِلَ الإنسانُ إلى ذُرْوَةِ شبابِه وأحلامِه. وَقَدْ أظْهَرَ حَسْرَةً مَريرةً عَلى ضَياعِ الشَّبابِ، وَعَدَمِ التَّمَتُّعِ بِه، وكأنَّ العُمْرَ انتهى قَبْلَ أنْ تَبدأ الفُرَصُ الحقيقية. كَما أظْهَرَ حُزْنًا شديدًا على الزَّمانِ الذي مَضَى سريعًا دُون أنْ يَتْرُكَ لَهُ الفُرصةَ للاستفادةِ مِنْ طَاقته وحَيويته. بَلْ وَيَظْهَر في شِعْرِه استشرافُه للمَوْتِ المُبَكِّر، وَهُوَ مَا يَتَمَاهَى مَعَ حَياته القصيرةِ التي انتهتْ بالقتلِ.

وَيُعْتَبَرُ جون كيتس (1795 م _ 1821 م) مِنْ أبرزِ شُعَراءِ الحركةِ الرومانتيكية الإنجليزية. كانَ مَهْوُوسًا بالجَمالِ والزَّمَنِ والفَنَاءِ، وَمَعروفًا بِحِدِّةِ تأمُّلِهِ في ضَياعِ الشَّبابِ والمَوْتِ المُبكِّر. وَقَدْ تُوُفِّيَ شابًّا بِمَرَضِ السُّلِّ، وَلَمْ يَحْظَ في حَياته إلا بالتجاهلِ والاحتقارِ مِنْ قِبَلِ النُّقَّادِ والشُّعَراءِ، وعاشَ مُعَذَّبًا بَيْنَ المَرَضِ والنَّقْدِ.

كانَ يَرى أنَّ الشَّبابَ ضَحِيَّةُ الزَّمَن، وأنَّ الجَمَالَ هَشٌّ وعَابِرٌ، لكنَّه لا يَدعو إلى المُتعةِ الجسدية بِقَدْرِ مَا يَحْتفي بالجَمَالِ الفَنِّي الخالد. وَرُؤيته العَامَّة ذات طبيعة فلسفية ومِثالية، تَعكِس حُزْنًا عميقًا، وتأمُّلًا في مَعنى الحَياةِ، لكنَّها تَسعى إلى الخُلودِ مِنْ خِلالِ الفَنِّ لا المُتعةِ.

اعتمدَ أُسلوبًا رمزيًّا مُعَقَّدًا، وَلُغَةً مُوسيقية رقيقة تَعِجُّ بالصُّوَرِ الفَنِّيةِ الرَّمزيةِ والمَجَازِ، وغالبًا مَا يَسْتدعي عَناصر مِنَ الطبيعةِ والفَنِّ، وَيَسْتَلْهِم مِنَ الأساطير، وَيَجْعَل مِنَ الطائرِ أو المَزهريةِ أو الرَّبيع رُموزًا للشَّبابِ العابرِ، أو الخُلودِ المَنشود. وَقَدْ عَبَّرَ في شِعْرِه عَنْ رَغْبته في الهُروبِ مِنَ الواقعِ عَبْرَ الجَمال، لأنَّه يُدرِك أنَّ شبابَه وَصِحَّتَه في طَريقهما إلى الزَّوال.

والشَّبَابُ عِندَه لَيْسَ وَقْتًا للمُتعةِ العابرة، بَلْ لَحْظة سريعة مِنَ الجَمالِ الباهرِ، يَطْمَح إلى تَخليده عَبْرَ الشِّعْرِ، لأنَّه يَعْلَم أنَّه لَنْ يَبقى طويلًا لِيَعيشَ هَذا الجَمَالَ بِنَفْسِه، وَلَنْ يعيشَ طويلًا لِيَشْهَدَ تَحَوُّلاتِ الزَّمَن. لذلك كانَ يُركِّز على التأمُّلِ في الجَمَالِ والفَنَاءِ كَأمْرَيْن مُتَرَابِطَيْن، فالشَّبابُ بالنِّسْبَةِ إلَيْه هَدِيَّةٌ مُؤقَّتة، مِثْل لَحْظَةِ جَمَالٍ في لَوْحَةٍ فَنِّية.

عَبَّرَ عَنْ رُؤيته للأشياءِ العظيمةِ التي تَحْدُث في الحَياة، وأيْقَنَ أنَّ وَراءَ كُلِّ شَيْءٍ عظيمٍ هُناك الفَنَاء الذي يَنتظر الجميعَ. وَرَأى في مَوْتِ الشَّبابِ جُزْءًا مِنْ دَوْرَةِ الحَياة. وكانَ يَحْزَنُ على ضَياعِ الفُرَصِ، وَعَلى فَترةِ الشَّبابِ التي غالبًا مَا تَمُرُّ سريعًا دُون أنْ يُحقِّق الإنسانُ كُلَّ مَا يَرْغُب بِه.

وَمَفهومُ " ضَيَاع الشَّباب " يَظْهَر عادةً في سِياقِ الحُزْنِ عَلى مُرور وَقْتٍ لا يَعُود، والتأمُّلِ في تِلْك الفَترةِ الذهبية التي تَتَّسِمُ بالحَيَويةِ والطُّموحِ، ثُمَّ التلاشي السريع لِهَذه الفَترةِ بَعْدَ مُلاقاةِ الإنسانِ للصُّعوباتِ والمَآسِي. وهَذا المَفهومُ لا يَرتبط بِمُرورِ الزَّمنِ فَحَسْب، بَلْ أيضًا يَرتبط بِمَشاعرِ الخَيْبَةِ والنَّدَمِ بسببِ عَدَمِ القُدرةِ على الاستفادةِ الكاملةِ مِنْ هَذه المَرحلة.

رَغْمَ التَّبَايُنِ الزَّمَنيِّ والثَّقَافيِّ بَيْنَ طَرَفَة بن العَبْد وجون كيتس، فإنَّهما يَتشاركان الشُّعورَ العميقَ بِضَياعِ الشَّبابِ. كُلٌّ مِنْ زاويته. طَرَفَة يُواجهه باللذةِ، والتَّمَرُّدِ، والانغماسِ في المُتعةِ الجسدية، بَيْنَما يَتأمَّله كيتس بالحُزْنِ، والألَمِ، والبحثِ عَن الخُلودِ الفَنِّي، وتَخليدِ اللحظةِ الجَمَالِيَّة. وَمِنْ خِلالِ شِعْرِهما، يَتَّضِح أنَّ الشُّعورَ بِضَياعِ الشَّبابِ وَفَنَائِهِ قَضِيَّةٌ إنسانيَّة تَتجاوز الزَّمَانَ والمكان. والجَديرُ بالذِّكْرِ أنَّ الشَّاعِرَيْن تُوُفِّيَا وَلَمْ يَبْلُغَا سِنَّ السادسةِ والعِشرين مِنَ العُمْر.

***

إبراهيم أبو عواد / كاتب من الأردن

عتبات البداية والنهاية وأثر المنظمة السرية

تعد رواية "لن ينقطع الوتر" للكاتب اللبناني أحمد دهيني نموذجًا أدبيًا غنيًا يستحق القراءة والتأمل، لا فقط من خلال نسيجها السردي المتشابك، بل أيضًا عبر عتباتها النصية التي تفتح أبوابًا متعددة للتلقي والتأويل، وتكمن جمالية هذه الرواية في كيفية استثمار الكاتب لعناصر مثل الإهداء والعتبات الأولى لتأسيس حوار مع القارئ منذ اللحظة الأولى، وصولاً إلى النهاية التي تترك أثرًا متواصلًا في الوجدان.

عتبة الوجدان والانتماء

يبدأ دهيني روايته بإهداء مكثف وعميق، يمثل عتبة وجدانية تؤسس لمسار النص كله، الإهداء ليس مجرد تكريم، بل هو بيان وجودي وإنساني، فهو يهدي العمل إلى أمه، التي تصفها بـ"النور والحنان"، وإلى أخيه، وإلى روح أبيه، وإلى "الوردة العابقة بالعبير"، وإلى "الصادقين والطيبين، إلى المعذَّبين والمظلومين".

هذا الإهداء يخلق علاقة حميمة بين القارئ والنص، وكأن الكاتب يشاركنا مكنوناته الإنسانية منذ البداية. إنه يضع القارئ في حالة استعداد لتلقي نص ليس مجرد حكاية، بل هو رحلة في أعماق الإنسان: ألمه، حبه، خيباته، وإصراره. الإهداء يعمل كمرآة تعكس القيم التي ستدور حولها الشخصيات والأحداث: الوفاء، الحب، المقاومة، والبحث عن العدالة.

إشارات مفتاحية

عنوان الرواية "لن ينقطع الوتر" يحمل دلالة موسيقية ووجودية، الوتر قد يكون رمزاً للعلاقة الإنسانية، للحب، للأمل، أو حتى للصلة بين الإنسان والله، الفعل "لن ينقطع" يؤكد الاستمرارية رغم كل الصعاب، هذا العنوان يخلق توقعاً لدى القارئ بأن الرواية ستتناول صمودًا ما، ربما صمود الحب، أو الإيمان، أو القيم في وجه الفساد والظلام.

غلاف الرواية، الذي صممه الكاتب نفسه، يعزز هذه الفكرة من خلال تصوير قد يعكس التوتر بين الظلام والنور، أو بين الوتر الممدود وخطر انقطاعه، الغلاف يصبح جزءًا من تجربة التلقي، حيث يثير فضول القارئ ويوجه خياله نحو فضاء النص.2076 ahmad

عتبة الصراع المركزي وأثرها على القارئ

في الصفحات من 23 إلى 28، يقدم الكاتب وصفًا مفصلاً لمنظمة "جينتي إنتليجينتي" السرية، وهي منظمة نخبوية عنصرية تدعي الاصطفاء الإلهي وتتحالف مع المافيا، هذا الوصف ليس مجرد خلفية للصراع، بل هو عتبة سردية كبرى تضع القارئ في قلب المعمعة الأيديولوجية للرواية.

- بناء العالم الخفي: يشرح الكاتب الهيكل الهرمي الصارم للمنظمة، بدءاً من "الحكيم الأعظم" ذي السلطة المطلقة، مروراً بالحكماء الأولين والمجالس الثلاثية، ووصولاً إلى "الحراس العقائديين" و"الأذرع التنفيذية" مثل المافيا، هذا البناء المعقد يخلق لدى القارئ شعوراً بالرهبة والغموض، ويدفعه إلى تفكيك شبكة القوة هذه طوال الرواية.

- التلقي النقدي: من خلال كشف العقيدة العنصرية للمنظمة (فكرة "نقاء الدم" والحق الإلهي في الحكم)، يوجه الكاتب القارئ نحو قراءة نقدية للخطابات الاستعلائية والسلطوية، القارئ لا يتلقى هذه المعلومات بشكل سلبي، بل يُدعى لمقارنتها بالواقع ورفض منطق الهيمنة هذا.

- تضافر الصراعات: هذا الكشف يربط بين الصراع العائلي  والصراع الأيديولوجي الأوسع، مما يثري تجربة التلقي ويجعل القارئ شاهدًا على كيفية اختراق الفساد والسلطة الخفية لأعماق العلاقات الإنسانية.

استمرارية الوتر

تختتم الرواية بعودة إلى فكرة الوتر، لكن هذه المرة من خلال حوار بين لورينزو وفيرونيكا، حيث يقول لورينزو: (لن ينقطع فينا الوتر، وفي الظلام ستشعل الشمس كي تُقبل وتعانق القمر...)

هذه النهاية لا تشكل خاتمة مغلقة، بل تترك الباب مفتوحاً للتأمل والاستمرار، إنها تؤكد أن الوتر - سواء كان حبًا، أو إيمانًا، أو قيماً - لن ينقطع، رغم كل المؤامرات والصراعات التي عاشتها الشخصيات، ورغم وجود منظمات شريرة مثل "جينتي إنتليجينتي"، النهاية تمنح القارئ شعوراً بالأمل والاستمرارية، وكأن الحياة تتجاوز النص، والحب يتجاوز الموت.

عتبات متجددة

من خلال عتباتها الأولى والإهداء، وعنوانها، والكشف عن المنظمات السرية كعتبة سردية كبرى، ونهايتها المفتوحة، تقدم رواية "لن ينقطع الوتر" نفسها كنص حيوي يتفاعل مع القارئ، الإهداء يخلق جسراً وجدانياً، والعنوان يوجه التوقع، والكشف عن العالم السري يضفي عمقاً درامياً وأيديولوجياً، والنهاية تمنح مساحة للتأمل والاستمرار، كل هذه العناصر تجعل من الرواية ليست مجرد حكاية تُروى، بل تجربة إنسانية تشاركية، حيث يصبح القارئ شريكاً في بناء المعنى، وفي استمرار الوتر الذي لا ينقطع في مواجهة كل أشكال الظلام.

***

رزق فرج رزق - ليبيا

في ضوء تطوّر النقد الأدبي الحديث، بات النصّ الشعري يُعامل باعتباره بنية دلالية – رمزية – تواصلية؛ فالتقصّي النقديّ لا يكتفي اليوم بتحليل المعنى الظاهر وإنما يسعى إلى الكشف عن «ما تحت الجلد» من توترات نفسية ورّموزٍ كامنة وبنى أسلوبيّة تمتدّ من اللغة إلى النحو، ومن الوزن إلى القافية. وتُعدّ السيميائيات منهجاً محورياً في هذا المسار، إذ تعرّف النصّ بوصفه «نظاماً لإنتاج الأقوال» وليس مجرد تركيب جمليّ، وتُركز على العلاقات بين العلامات داخل النصّ وخارجه، كما تنظر إلى النصّ باعتباره «فضاءً معرفياً» داخليّاً وخارجياً.

وبينما تُركّز اللسانيّات البنيوية الجُملية، على القدرة الجُملية – أي الإمكانات الإنتاجية للّغة ضمن الجملة – فإنّ السيميائيات النصية تهتمّ بالقدرة الخطابية – أي كيف يُنتج النصّ ذاته أحوالًا وجودية ومعرفية.

في هذا الأفق، تأتي دراسة قصيدة «قوس الحبر» للشاعر أيمن معروف، لتُجرى عبر تطبيقة متعددة المناهج: الرمزيّ، الأسلوبيّ، النفسيّ، الهرمينوطيقيّ، الوطنيّ، والسيميائيّ. نعمد في هذا البحث إلى تحليل النصّ باعتباره منظومة رموزٍ وتوتراتٍ شعورية، رصداً للبنى النفسية التي تحيا خلف النصّ، واستكشافاً للأسلوب الشعريّ – من اللغة إلى النحو، ومن الوزن إلى القافية – وكشفاً للأخطاء أو الانزياحات اللغوية إن وجدت، ضمن قراءة دقيقة تستند إلى منهج أكاديميٍ صارم.

التحليل:

1. البُعد السيميائي – الرمزي:

1.1 العلامة والنظام:

في قصيدته، يستدعي الشاعر أيمن معروف الماء كعلامة مركزية: «جَفَّتْ مياهُ النّهر / جَفَّ البحرُ والماءُ الذي / في الماءِ لا يتكلّمُ». اللغة هنا تحمل دلالة مزدوجة: الماء رمز للحياة والخصوبة، والجَفْافُ رمز للفراغ والموْت. إن تحوّل الماء إلى صمت أو عدم كلام يدلّ على انكسار القدرة التواصلية، وعلى فقدان المعنى. من منظور سيميائي، نحن أمام «إشارة» تتحوّل إلى «مدلول» كثيف بالغياب. ولهذا تتحوّل الصورة إلى رمزية: الماء لا يكلّم – كأنّ اللغة نفسها قد عطلت.

تتكرّر الصور المائية – النهر، البحر، الماء – ثم تتخذ الصحراء والجحيم مقعدًا لها: «وعَدَتْ على / الصّحراءِ ألفُ جهنّمٍ / وخَبَتْ على نارِ / النّشيدِ جهنّمُ». الصحراء هنا رمز المهجور، والحريق والجحيم رمزان للكوارث الداخلية. إنّ الانتقال من الماء إلى الصحراء يشير إلى تراجُع وجوديّ، من خصوبة اللغة إلى خرابها. تلك الثنائية (الماء/الصحراء) تخلق قطباً ثنائيّاً أساسيّاً في المنظومة الرمزية للنصّ، وهو ما يؤكّد مبدأ العلاقات البنائية في السيميائيات.

1.2 النصّ كمنظومة إنتاج أقوال:

النصّ لا يقف عند وصف الحال، بل يستدعي الشعر ذاته: «يا شعرُ عَلّمني ارتِكابَ الإثمِ أنتَ الآنَ أدرى بالجنونِ وأَعلَمُ». الشعر – كقدرة خطابية – يُصار إليه ليعلّم الإثمّ، بمعنى أنّ الشاعر يعترف بأنّ الشعر صار وسيطاً في الانحرافِ عن المعنى أو الواقع. من هنا، الشعر ليس مجرد موضوع بل فاعل داخل النصّ، وهو يعكس فكرة القدرة الخطابية.

يطفو في النصّ مفهوم «قوس» في العنوان «قوس الحبر»، ثم «قوسٌ أنا في / ضفّتيكَ»، أي أنّ الشاعر يلتقط نفسه بوصفه قوساً – رمزاً للانحناء والانطلاق أيضاً – على ضفتَي الماء والبلوى. إن هذا التحوّل الرمزيّ من العنصر الخارجي إلى الذات يضع النصّ في مدار من التّقليب الذاتي والتّأمل: الذات تقوس، تنحني، وتصبح عنصراً مبدعاً ورمزاً.

1.3 البُعد الوطني والوجودي:

تتكرّر في النصّ إشارات إلى الحريق والجحيم والبلوى، وهي ليست مجرد صور شعريّة بل تستبطن وضعاً إنسانياً/وطنياَ: «وحاولتُ أن أقولَ الأرضَ شِعراً». الأرض هنا ليست مجرد مكان، بل موطن مبدد، هو موطن الشاعر/الأنا التي تآكلت. وهذا يحمل دلالة وطنية ضمنية، بقدر ما ينخرط الشاعر في الأزمة الوجودية والوطنية على حدّ سواء، في عالمٍ باتت فيه مياه النهر تَجفّ، واللغة لا تتكلّم.

2. البُعد النفسي – الأسلوبي:

2.1 التوتر النفسي والاختلاف مع الوجود:

يُفتتح النصّ بتصريح الاغتراب: «وأنا المُبَدَّدُ في الجهاتِ / وليس لي جهةٌ لأعرفَ مَنْ أنا». معرفة الذات مفقودة، ويحتدم التوتر بين الأنا والجهة، بين الانتماء والضياع. من المنهج النفسي–الرمزي، هذا يدلّ على تجربة اضطراب الهوية، وفي ذات الوقت صراع وجودي. الأسلوب هنا متسق مع النفسي: اللغة موجزة، الصورة مرهقة، والعلاقات بين المتنقلات النفسية (جهات، مبَدَّد، هوية) تعكس نزعة الشعور بالانفصال.

2.2 الأسلوب والنحو:

أسلوب الشاعر أيمن معروف يتّصف بالتشظّي والتكرار: تتكرّر جملة «جَفَّتْ مياهُ النّهر / جَفَّ البحرُ» في ثلاثة مقاطع، مما يعكس حالة التثبيت على الفجيعة، وعلى الفقد الذي لا انتهاء له. من الناحية النحوية، يستخدم الشاعر الترادف والتكرار كأداة إيقاعية ورمزية. لكن يمكن ملاحظة أنّه في بعض المواضع اندفاعٌ نحو البناء الحرّ (مثلاً «من دونِما / صحفٍ تُريدُ الآنَ دمعي / صالحاً للبيعِ»)، وهو بناء قد يفتقر إلى الربط النحوي المثالي بين الجمل (إنّه انقطاعٌ عمديٌّ ربما).

3. الأسلوب الشعري – الوزن والقافية:

3.1 الوزن والإيقاع:

على الرغم من أنّ النصّ يتّخذ شكلًا شِعريّاً حُرّاً إلى حدّ كبير، إلا أنّه يحمل إيقاعات قريبة من بحر الطويل أو المتدارك في بعض المواضع، مثل: «جَفَّتْ مياهُ النّهر / جَفَّ البحرُ والماءُ الذي / في الماءِ لا يتكلّمُ». ثمّ «يا شعرُ عَلّمني / ارتِكابَ الإثمِ أنتَ الآنَ / أدرى بالجنونِ وأعلَمُ». هذا التعدد في الإيقاع يُعبّر عن التوتر ذاته؛ عن اضطراب النصّ بين بثّ الشعور وانفلات الشكل.

3.2 القافية:

القافية ليست منتظمة، بل تبدو غالباً مكسورة أو مفتوحة بوعي: «…. والماءُ الذي / في الماءِ لا يتكلّمُ». ثم «… دمعي / صالحاً للبيعِ في سوقِ / النّخاسةِ والجنونْ». هذه الحرية في القافية تعبّر عن نزوع النصّ إلى المقاومة والتمرد، وعدم الانصياع إلى البنية الكلاسيكية. من المنهج الأسلوبي، هذا الخيار يُظهر الضدية بين الشكل الكلاسيكي والمضمون الثائر.

4. القراءة الهرمينوطيقية:

من منظور الهرمينوطيقيا، أيّ قراءة تعبيرية/تأويلية للنصّ، يمكن القول إن النصّ يُحيل إلى «قراءة الذات في مواجهة العدم». حين يقول الشاعر «كن مرّةً يا صاحبي مثلي لنخترعَ القيامةْ»، فإنّه لا يدعوك إلى القيامة بالمفهوم الديني وحده، بل إلى إعادة اختراع الذات في فضاء خالٍ من الوتد والأرض. النصّ في هذا المعنى ليس صورةً للحظةٍ فحسب، بل هو دعوةٌ لتمردٍ وجوديّ.

5. الملاحظات اللغوية:

هناك إشارات نحوية قد تُعدّ «انزياحات» أو تدخّلًا شعريّاً عمديّاً، مثل «وليس لي جهةٌ لأعرفَ مَنْ أنا، فجهاتِيَ الغَبْراءُ». هنا الفاصلة قبل «، فجهاتِي» قد تُعدّ كمقطع انقطاع يُشذب الإيقاع الشعوري.

كلمة «استباهُ الفاسدونْ» في «جَفَّ البحرُ والماءُ اسْتَباهُ الفاسدونْ» استعمالٌ للشّاذّ: الكلمة «استباح» عادة تُعرَف، بينما «استباه» هنا قد تكون مقصودة لكنها تفتقر إلى شيوعها اللغويّ.

في بعض الأبيات، تبدو علامات الوقف غير متوافقة لغوياً، مثل: «، ما فازَ إلاّ الفاشلونْ.» الفاصلة قبل «ما» ثم الوقف النهائي «.» يعطي انقطاعاً شعريّاً متعمداً، لكن من منظور النحو التقليدي يُعتبر أسلوباً منحرفاً.

استخدام «وكأَنِّي» – (لم يظهر كثيراً في المقتطف)، لكن استخدام تكرار «وأنا» في المقطع «وأنا المُبَدَّدُ …» يظهر تكرار ضمير الأنا كأداة شعوريّة، لكن من الناحية النحوية يشدّد عمود الجملة الذاتية.

القافية المفتوحة والمكسورة في النص تُعدّ اختياراً شعرياً، لكنها تحمل «انزياحاً» عن التزام القافية التقليدية، مما يضع النص في موقف الحداثة ورفض القوالب المسبقة.

الخاتمة:

إنّ قصيدة «قوس الحبر» تمثّل تجربة شعريّة مركّبة تقع عند مفترق العلامة والمعنى، الذات والوجود، اللغة والعدم. عبر أدوات متعددة المنهج – السيميائي، النفسي، الأسلوبي، الهرمينوطيقي، والوطني – قرأنا النصّ على أنّه نظام دلاليّ متنبّأٌ بعيشه الداخلي، لا مجرد صورة. ماءٌ يَجفّ، لغةٌ لا تكلّم، قوسٌ ينحني، شعرٌ يعلم الإثمّ: كلها رموزٌ للغربة والوَهن والتمرد. أما من الناحية الأسلوبيّة، فالتنوّع بين الإيقاع شبه التقليدي والبناء الحر، وبين القافية المكسورة والانقطاع النحويّ، يعكس توتر النصّ الداخلي والشعور بالتشظّي. من زاوية الهرمينوطيقيا، فالنصّ يدعو إلى إعادة اختراع الذات وقيامة وجوديّة في فضاءٍ بلا أساسات.

مستقيمًا في منهجه الأكاديميّ، يمكن القول إنّ قراءة هذه القصيدة تُحقق مبتغى السيميائيات النصيّة: كشف النظم الداخليّة للعلامة وبناها، وتمكين القارئ من قراءة «ما لا يُقال» مباشرة، بل ما يُشعّ من بين طيّات اللغة. وأخيراً، فإنّ ملاحظاتنا اللغوية – من الانزياحات إلى التكرار – لا تضع النصّ في خانة الخطأ، بل تكشف بصيرة الشاعر في توظيف اللغة خارج القوالب، وهي بصمة الحداثة داخل النصّ.

ملاحظات لغوية مُلخّصة:

1. تكرار عنصر «جَفَّتْ مياهُ النّهر / جَفَّ البحرُ…» كمفتتح يعكس تثبيتاً شعوريّاً لكنه يخلق نوعاً من الجمود البنائي.

2. استعمال «استباهُ» بدلاً من «استباح» أو «ابتلاه» قد يُعدّ انزياحاً لغويّاً مفصوداً أو غير مقصود، لكنّه يخدم الإيقاع.

3. تنوّع الإيقاع بين تقريب الطويل والخَطّ الحر يجعل القصيدة في موقع الحداثة لكن يفرض على القارئ تركّزاً أكبر لاكتشاف الإيقاع الداخلي.

4. القافية المفتوحة والمكسورة تُعدّ خياراً شعريّاً يعكس التمزّق الوجودي، لكن من الناحية التقليدية تُعدّ «انحدارًا» في الالتزام.

5. الانقطاعات النحوية والفاصلة قبل «، ما فازَ إلاّ الفاشلونْ.» تعطي الإحساس بتوقّف الوعي وتردّده، وهي أسلوب شعري يُبرّر النزعة النفسية للنصّ.

بهذه الدراسة الأكاديمية، تكون القصيدة قد وُضعت تحت مجهر تحليلٍ متعدد المنابع، يجمع بين العلامة والمعنى، بين النفس والأسلوب، وبين اللغة والوجود.

***

بقلم: عماد خالد رحمة - برلين

.......................

قوس الحبر

جَفَّتْ مياهُ النّهر

جَفَّ البحرُ والماءُ الّذي

في الماءِ لا يتكلَّمُ.

*

وعَدَتْ على

الصَّحراءِ ألفُ جهنَّمٍ

وَخَبَتْ على نارِ

النّشيدِ جهنَّمُ.

*

يا شِعرُ عَلِّمْني

ارتِكابَ الإثمِ أنتَ الآنَ

أدرى بالجنونِ وأَعلَمُ.

*

لي فيكَ اُغنيةٌ ولي

منكَ المدى أُنشوطتانِ

ودمعتانِ وطَلْسَمُ.

*

قوسٌ أنا في

ضفّتيكَ وفي رحى البلوى

الدّريئةُ والخُبالُ المُبْرَمُ.

*

فلتَعتَصِمْ بمياهِ

وجهِكَ يا فتى واعصمْ

سماءَكَ قبل أنْ يَصِلَ الدَّمُ.

*

جَفَّتْ مياهُ النَّهرِ

جَفَّ البحرُ والماءُ الّذي في

الماءِ تهتكُ قوسَهُ الشُّعَراءُ.

*

وأنا المُبَدَّدُ في الجهاتِ

وليس لي جهةٌ لأعرفَ مَنْ

أنا، فجهاتِيَ الغَبْراءُ.

*

وسمائِيَ الفُصحى

لسانٌ أبكمٌ ورطانةٌ عَجماءُ.

ومدارُ قافيتي

السَّوادُ الجَمُّ تَزْربُ في مدى

أنحائِهِ الرَّمضاءُ.

*

كلٌّ لَ*َدَيهِ شَمالُهُ

وجنوبُهُ وأنا لَدَيَّ

غروبِيَ الوَضّاءُ.

*

جَفَّتْ مياهُ النَّهرِ

جَفَّ البحرُ والماءُ

اسْتَباهُ الفاسدونْ.

*

ويقولُ لي منْ أنتَ !!

في أَوْجِ اشتعالي

القـاتلونْ.

*

حتى التُّرابُ

يقولُ لي منْ أنتَ

في عزِّ اتِّضاحي

*

ثُمَّ يُنْكرُني الرِّضى

والحاسدونْ.

*

وأنا هنا منْ دونِ

قافيةٍ ولا أملٍ ولا جدوى

يراها الآخرونْ.

*

منْ دونِما

صحفٍ تُريدُ الآنَ دمعي

صالحاً للبيعِ في سوقِ

النّخاسةِ والجنـونْ.

*

ويقولُ لي الشّعراءُ

دَعكَ منَ الكتابةِ

والكآبةِ والظّنونْ.

*

وأَتِح لروحِكَ مقعداً

بينَ الحداثةِ والحداثةِ

كي تكونَ ولا تكونْ.

ما فازَ إلاّ الفاشلونْ.

*

سأقولُ لي

قد يأكلُ الشّعراءُ

لحمَكَ والوظيفةْ.

*

قد يأكلُ الصّحفيُّ

صوتَكَ والخليفةْ.

*

من قالَ إنَّ الشّعرَ

ليسَ ضـرورةً مُثْلـى

لإتمامِ الصّحيفةْ !!.

*

ولكي يُتِمَّ

الشّاعرُ المقتولُ في

المعنى نزيفَهْ.

*

كونٌ صغيرٌ

ذابَ في لغتي وأَدمَتْني

القصيدةُ والمواجعْ.

*

ذهب المجازُ مودِّعاً

من قبل أن تأتي لمكمنِها

الحوادثُ والتّوابعْ.

*

هيّأتُ أسـبابي

وإنّ معي من الأدواتِ

ما يكفي لتكتملَ القصيدةُ

والشّوارعْ.

*

هذا دمي

ارتطَمتْ نيازكُهُ الصَّغيرةُ

بالزّوابِعْ.

*

قد كان

مشغـولاً بترتيبِ العواصفِ

واختلافِ اللّيلِ

*

والرّيحِ

الّتي في اللّيلِ

واللّيلِ المُخادعْ.

*

حتى العبارةُ

لم تكن تعنيهِ أصلاً.

*

كانَ مشغولاً

بِبَلبَلَةِ الأماكنِ

والأصابعْ.

*

لم تتركِ الكلماتُ

لي شغبي لأركض في

مدارِ الأرضِ أقطفُ

غيمةً في إِثرِ أُخْرى.

*

ما حيلتي !!

وأنا الأَتَيتُ كما

النّسيمِ الحرِّ

*

في الغاباتِ

يعشقُ أنْ يظلَّ

الآنَ حُرّا.

*

وأتيتُ

ملتبِساً بأشكالِ الطّيورِ

أقولُ للأشجارِ أَمرا.

*

وأتيتُ

قبل تفتُّحِ الأقداحِ

في الحاناتِ

*

قبلَ

توقُّدِ العطّارِ

في المعنى

*

أُعاقرُ

خمرتي وأُذيعُ

سرّا.

*

وأمرُّ قرب الأرضِ

أفتحُ معجَمَ القَتْلى على

اِسْمي قربَ إِسْمِ أبي

وعائلتي هنا لأراهُ ذِكرى.

*

وأرى ارتباكَ العشبِ

في الغاباتِ والقنْصَ الّذي

يشتدُّ في السّاحاتِ

*

ثمَّ أرى

أنا الأعمى ضرورةَ

أنْ أقولَ الأرضَ

شِعرا.

*

من يستطيعُ

الآنَ تشكيلَ الهواءِ

*

ليحرسَ

المعنى على بابِ

الخديعةِ

واللّغةْ.

*

من يستطيعُ

الآنَ ترتيبَ الفراغِ

*

ليخدشَ

المبنى بهذي

الأدمغةْ.

*

لو كانَ لي

ما كانَ من شأنٍ

لرامبو

*

وهـو يلتهمُ

الجحيمَ كحَبَّـةِ (البالتانِ)

لاجتحتُ الجحيمَ،

لأبلُغَهْ.

*

كن مرّةً يا صاحبي

مثلي لنخترعَ القيامةْ.

*

ونطلَّ من عدَمٍ على

عدَمٍ ونبتكرَ السّلامةْ.

*

كن مرَّةً مثلي

 بلا أحدٍ ولا ولدٍ

ولا وَتَدٍ لدَيكْ.

*

كن مبهماً

لتظلّ ملعوناً ومجنوناً

ومطروداً بأقصى جنَّتَيكْ.

*

كن واضحاً

لتكون مقتولاً ومتّهماً

ومشغولاً عليكْ.

*

كن مثلما تهوى

وأَتلِفْني جميعي

في هوائِكْ.

*

كن مرّةً وحدي

لتشرقَ بي سمائي

منْ سمائِك.

***

قدم سعد جاسم (هايكواته)* برؤية عالمية، حين جاء بعنوان واسع الأفق، مفتوح على اللانهاية، عميق الدلالة والأثر، قد يفهم منها أوجه عدة، ربما إنسانية او عوالم داخلية أو حتى أن يكون المقصد الحياة اليومية وما تحمله لحظاتها من معاناة وألم.

أجاد سعد جاسم حين أبقى أفق العنوان مفتوحاً دون تحديد، فالعالم واسع وتأويل الكلمة أوسع، وقد تحتمل الكثير من الأوجه والصور، إلا أن ما ضمنه جاسم في عنوانه أو المضمون حقيقة شيء مدهش ومعبر بشكل متقن وفنية شعرية عالية، اعتدناها في نصوصه بشكل دائم.

بأناملِها الرهيفةِ البيضاء

تُدوْزنُ سوناتاتِ الحبِّ

عازفةُ البيانو

ذهب منها سعد جاسم ليجسد رمزية معبرة، وتصور مفعم بالشاعرية يلامس نبل المشاعر ورقتها التي شدت بها صاحبة البيانو بوصلتها الموسيقية الحالمة، حباً وألفة تترسخ في مخيلة القارئ لما تشدو به موسيقاها من خلال (أناملها) الرقيقة تكتب سوناتات (الحب)، نص رائع كرسه سعد للتركيز على الأنوثة والرقة، ما يخلق انطباعًا مرهفًا لما كرسه من كلمات ل"عازفة البيانو" وصفاتها الأنثوية الرقيقة.           

أراد سعد أن يكرس رمزاً للحب عبر ألحانها، والمجازية في تصوير ذلك الحب عبر المعزوفة التي أتقن تركيب أجزائها، فظهرت على شكل أصر من خلاله أن يُحمله ما اعتراه من مشاعر وأحاسيس. رصد سعد جاسم ذلك التشكيل الرائع للحب، والذي يخلق من الصورة شكلاً فنيا عبر النص ليعبر عما فيها من مرهف جسده جاسم برقة العازفة وعاطفية المشهد عبر الرمزية التي شكل منها ذلك "الهايكو".

على أديمِ جلدهِ

يرسمُ لوحاتِ بلادٍ تحترق

رسامٌ موجوع

وفي هذه قد يَدهش سعد جاسم قراءه بما ضمن نصه من أبعاد فنية طاغية بالألم، حتى أحال (الهايكو) إلى صورة إنسانية تحتمل أوجهاً قد تختلف في مضمونها، فهي غاية في الإنسانية حين ينشد القارئ التعاطف، وهي ذات بعد أخر حين ننظر لها من وجهة ثانية، فهي تحمل دلالات اجتماعية، سياسية، نفسية تترك آثارها على شكل الصورة التي تعبر عن التماهي الذي تتداخل فيه المعاناة التي يشعر بها الفنان، وهي تعبير عن تجسيد الألم وتغلغله في الروح.

وفي لوحاته التي تحترق، ترجمة لما تعاني الإنسانيه منه جراء الحروب والطغيان والأستبداد الذي يسود العالم بلا رحمة، فيأتي الفنان ليكرس هذا كله في لوحاته التي يرسمها بلون الألم. وهي تمثيل لما جاء به سعد ختاماً للنص، وكأنها جواب لمن يقدم سؤالاً مفاده من ذاك الرسام، فيجيبه (رسام موجوع).

أراد سعد جاسم أن يكون الهايكو الذي كتب، مرآة لما تعاني منه الإنسانية من خراب ودمار وألم شخصي، فجعل نصه "صرخة" مدوية في سماء الآلام التي يرسمها بألوان مختلفة.

في غروبِهِ الحزين

يموسقُ خيباتِ حياتهِ

عازفُ الناي

هي مرحلة أراد سعد أن يشير لنهايتها (غروبه الحزين)، وأظن أنه لم يقصد الغروب بمعناه الحرفي، بقدر ما اراد منه التعبير عن الحزن كتشخيص نفسي لتداخل هذا الوقت بشجن يعتلي النفس، ويخلط بين مايمثله الغروب، والحزن العميق الذي يعتلي النفس ساعة ذلك الحدث، وكأنه تجسيد لمعاناة شخصية.

ترادف الصور والكلمات يغني النص، سواء في النصوص الشعرية المعتادة، أو حتى في هايكوات سعد جاسم، وهنا جاء بترادفات مقتضبة لصور بذاتها داخل فيها الحزن بالغروب، والموسيقى بالخيبات، وذهب ليوظفها بصورة شخصية، فأضفى عليها "حياة" عازف الناي. بدا مشهد الهايكو وكأنه شخصي، يتعلق بخيبات عازف الناي التي أظهرها، أو فضحها الغروب، والناي تعبير عن عمق الحزن الذي كان عليه العازف.

بدمهِ المشتعلِ قهراً

يكتبُ قصائدَ الدمِ والخراب

الشاعرُ العراقي

وفي هذه الصورة التي وظفها سعد جاسم بالدلالة اللفظية، لتشكل تحديداً دلالياً على شخصية معينة دون سواها ( الشاعر العراقي)، أطر صورته الشعرية بصفات قد لاتتوفر في غير (الشاعر العراقي) الذي منحه بطولة المشهد بالكامل، ووصف عمله بالذي (يكتبُ قصائدَ الدمِ والخراب)، وهذه كناية سبق وأن قلنا فيها تعبيراً عن الحروب والدمار، هذا الوصف يكتب عنه (بدمه المشتعل قهراً)، تعبير مهول لوصف حالة الكتابة وتمخضاتها في ظل مثل تلك الأوضاع القاسية المميتة.

هي تعبير دقيق عن ما عانى منه مجتمع بكامله، ومنهم الشعراء كشريحة اجتماعية عاشت وعانت تجربة الحرب وما نتج عنها من خراب ودمار، شكل هاجساً لجراح نازفة تفضي إلى مجتمع يعاني من غضب مكبوت وآثاراً للدم، فالشعر ليس رومانسية فقط، بل هو تعبير عن معاناة جمعية على المستوى الشخصي والوطني. نص مشحون بالعاطفة، وهذه ليس بالضرورة أن تكون تعبيراً عن حب، بل ربما تطغى المعاناة فيها على ما سواها، كما في نص سعد جاسم.

في مساءاتِ الوحشةِ

يدندنُ على اوتارِ قلبهِ

عازفُ العود

(مساءاتِ الوحشةِ) تعبير عن وحدة أليمة وعزلة تامة، طغى فيها الحزن على شكل النص، لم يجد صاحبها وسيلة للتعبير إلا من أن يناجي نفسه، فالوقت موحش يبعث على الحزن العميق حين تكون الوحدة نمطاً للحياة، فيشتعل الحنين في ثنايا الليل القادم ليخلق أوقاناً لايمضي فيها الوقت وسط سكون الأشياء والأوقات.

جسد سعد جاسم الإستعارة العميقة في نصه، حين قال (يدندن على أوتار قلبه)، أراد منها أن العزف ممكن على غير الوتر، ف(عازف العود) لفرط حزنه قد دندن على أوتار قلبه. وليقول أن من الممكن أن يكون الفن عزاء.

بأصابعِ قلبهِ الموجوع

يوقّعُ كونشيرتو العاصفة

عازفُ الكمان

موسيقى عاصفة هد بها سعد جاسم قوانين الفيزياء، فجاء باستعارة لفظية، طغت فيها صورة الحدث المتمثلة بالألم الموجع في القلب، ليعكس من خلالها حركة دراماتيكية أظهر منها شكلاً غير مألوف تجسيداً للألم.

جعل سعد من عازف الكمان صورة للوجع الذي تحتويه اللحظة المؤلمة ليعبر من خلال عزفه بطريقة غير معهودة، على أوتار قلبه حركة الألم العاصفة في النفس، فيحيلها لشيء أشبه بالتماهي مع الألم الداخلي المعتاد في القلب الجريح.

رأسُهُ مُحتشدٌّ بالحكايات

معماريُّ وقائعَ وذكرياتٍ وتفاصيل

الروائي

هندسة الكلمة في النص، تراتيب الذاكرة وتوظيف السرد، حين ينشأ منها الشاعر أبراجاً من حكايات وصور، تأتلف الحياة كما تتموضع بين يدي من يبني بانتظام حركة الصعود والهبوط على سلم الحياة وتقلباتها، أراد منها سعد جاسم تصوير الحياة بفنية تطغى عليها تراتيب السرد وتداخل الصور ما بين ماضيها وحاضرها، ومن خلال روايتها بأسلوب متقن.

قلبُهُ مكتظٌّ بالقهر والكدمات

حياتُهُ شريطٌ بالاسودِ والابيض

العراقي

جميل أن يذهب الشاعر لتكثيف الصور في نصه، لكن حين يكون هذا التكثيف بدلالة استباقية لما حدث، ولايهم منه أن كان بلا ألوان، فالأسود والأبيض يخدم قضية المعاناة بلا رتوش. ذهب سعد ليجسد نصاً عميقاً بما أحتواه من مضمون، وما رافقه من صور معبرة، نقل من خلالها معاناة شعب بأكمله، أختصر أوجاعهم، وأشر معاناتهم، ورسم أبعاد مأساتهم عبر ما وظف من رمزية دلالية في نصه هذا.فحين يكون الإيحاء في النص رمزاً للدلالة، فذلك يعني أن المعاناة حقيقية.

***

سعد الدغمان

.....................

*شعر ياباني، "هايكوات": جمع "هايكو"، وهو نوع من الشعر الياباني التقليدي، يتميز بالقِصر والتكثيف، ويتألف غالبًا من ثلاث سطور، يركّز على لحظة شعورية أو مشهد من الطبيعة أو الحياة اليومية.

 

الرمز لغةً: بحسب المعجم الوسيط، هو الإيماء والإشارة والعلامة. والرَّمْزُ (في علم البيان) هو الكناية الخفيَّة، وجمعها رُمُوزٌ.

الرمز في الأدب اصطلاحًا:

هو أسلوب فني يستخدمه الأديب، بحسب تجربته الشّعوريّة أو نظرته الفنيّة، ويساهم في تشكيل المعنى الذي يودّ الأديب إيصاله إلى المتلقي. والرمز قد يكون كلمةً أو عبارةً أو شخصيّةً، أو اسم مكان، وهو يتضمن دلالتين، إحداهما مباشرةٌ وظاهرةٌ ويمثل هذه الدلالة مثلاً (العلم – شخصيّة تاريخيّة أو معاصرة لها حضورها في حياة الأمّة أو الشعب.. الخ)، والأخرى باطنةٌ مرتبطةٌ بالمعنى المُراد تبليغه، مثل استخدام الحمامة رمزًا للسلام، والدماء رمزًا للحرب والقتل، والمطر رمزًا للخير، والميزان رمزًا للعدالة. والرمز هو من المصطلحات التي حظيت باهتمام كبير لتشعب المجالات التي تعمل بها. يضاف إلى ذلك أن الرمز يظهر في المنطق والرياضيات والمعرفة وعلم الدلالات، فضلاً عن الأدب. وغالبا ما ارتبط الرمز بالفلسفة. وكان الترميز معروفا لدى الإغريق والرومان عبر الأساطير، والقصص التي تمثل أفعال الآلهة والأرواح المرتبطة بالطقوس التي تنتقل الى الأفراد وتؤثر فيهم . (1).

على العموم نستطيع القول: إن الرمز هو اقتصاد لغوي يكثف مجموعة من الدلالات والعلاقات في بيئة ديناميّة تسمح لها بالتعدد والتناقض ... وهو لذلك علاج لنقض المنطق، وضيق البنى التي ترفض التناقض والاختلاف، كما أنه علاج لجمود المعطيات والمفاهيم الثابتة. فمن خلال الرمز يمكن للأدب تجاوز الثبات للتعبير عن أوجه التناقض، أو الكشف عن الثنائيات المتقابلة التي تشمل الوجود الانساني.

البعد التاريخي للرمز عند الفلاسفة:

اهتم الفلاسفة اليونان القدماء بقضيّة الرمز، ويأتي موقف "أفلاطون" السلبي من الرمز واضحاً في مجال الشعر، كونه يحدث كما يرى اثراً سيئاً في الجمهور لاعتماد معظمه على العمل الرمزي. أما "ارسطو طاليس" فقد تبنى الاشتغال على الرمز من خلال تأكيده على أن (الشفقة والخوف) في العمل المسرحي دلالتان رمزيتان. هذا وقد أصبح تقسيم "أرسطو" للرمز مصدر الدراسات اللاحقة، ذلك التقسيم الذي رُدَّ الرمز فيه الى ثلاثة مستويات رئيسة: الرمزي النظري أو المنطقي الذي يتجه الى المعرفة، والرمز العملي الذي يعني الفعل، والرمز الشعري أو الجمالي الذي يعني حالاًت باطنيّة معقدة من أحوال النفس، وموقفاً عاطفيّاً أو وجدانيّاً. كما تم تناول الرمز وأهميته في التاريخ الأوربي الحديث والمعاصر، كما هو الحال عند "كانت وليفي شتراوس وهيجل وفرويد وأندريه لالاند" وغيرهم.(2).

نشأة المذهب الرمزي في الأدب:

لقد ظهر المذهب الرمزي للرد على المذهب الواقعي في أوروبا، وهو مذهبٌ فنيٌ وأدبيٌ تمتد أصوله إلى أفلاطون، في المثاليّة الأفلاطونيّة، التي كان يرى من خلالها حقائق العالم الماديّة مجرد رموزًا للحقيقة المثاليّة البعيدة. هذا وتُعد المدرسة الرمزيّة إحدى أهم المذاهب الأدبيّة العالميّة. حيث لعب الرمز فيها دوراً كبيراً في مجال الشعر، وإعطائه دلالات وايماءات خفيّة، يمكن تلمسها وفهمها من خلال قراءة النص الشعري قراءة واعية ..(3).

إنّ المدرسة الرمزيّة في سياقها العام تظل حركة أدبيّة اعتمدت الرمز لغة، والرمزيّة هنا معناها الإيحاء، أي التعبير غير المباشر عن النواحي النفسيّة والخلقيّة والفكريّة المستترة، التي لا تقوى اللُّغة على أدائها في دلالاتها الوضعيّة والمباشرة، مع التأكيد هنا على اعتبار الرمزيّة أقوى من اللغة في التعبير عن النواحي النفسيّة. فالمشاعر تتولد من الآثار النفسيّة، لا عن طريق التصريح المباشر، هذا وقد أُعلن عن المدرسة الرمزيّة رسميًا في منتصف القرن التاسع عشر في فرنسا، ومن ثم أصبحت مدرسة في أنحاء العالم كافة، وتأثر بها الأدباء والشعراء العرب المنفتحين على الثقافات الأجنبيّة.

الاتجاه الرمزي في الأدب العربي الحديث:

نظراً لتعقد الظروف الموضوعيّة والذاتيّة التي يعيشها الأديب في وطننا العربي بشكل عام، وما يتخلل هذا العالم من ضياع وخوف وظلم وجوع وتشرد وقمع سياسي واجتماعي واقتصادي وثقافي وفكري، يظل الرمز الوليد الشرعي للتعبير عن هذه الظروف. فالأديب يصعب عليه أن يطلق أفكاره بحريّة تامة وبصورة مباشرة هنا، لذلك غالباً ما يلجأ الى تقنية الرمز لحماية نفسه من الصدام المباشر مع السلطة والعرف والعادة. فضلا عن ذلك يريد الشاعر إبراز قدراته الابداعيّة والجماليّة من خلال توظيف تلك التقنية.

هذا وقد ظهر الاتجاه الرمزي في الأدب العربي في الربع الأول من القرن العشرين، لكنه ازدهر أكثر في منتصف القرن العشرين تزامنًا مع ظهور حركة الشعر الحر، وكان اطلاع العرب على الأدب الأجنبي من أهم عوامل انتشاره بين الأدباء العرب، وقد ساهمت في ذلك حركة الترجمة من اللغات الإنجليزيّة والفرنسيّة وغيرها إلى اللغة العربيّة، مثل ترجمة الأشعار، إضافةً إلى ثقافة الأدباء العرب التي مكنتهم من الاطلاع على الرموز الأجنبيّة بأنواعها، الدينيّة، والأسطوريّة، والتاريخيّة، وغيرها.(4). وكان أول شاعر عربي استخدم الرمزيّة الشاعر اللبناني الشاب "أديب مظهر"، من خلال قصيدته "نشيد السكون"، وقد تأثر بالشاعرين الفرنسيين "شارل بودلير وبول فارلان،". أما أهم الشعراء العرب المختصين بالشعر الحر، والذين تأثرت أعمالهم بالمدرسة الرمزية هناك فهم "بدر شاكر السيّاب، وعبد الوهاب البياتي، وصلاح عبد الصبور، ومحمود درويش، وأدونيس".. وغيرهم الكثير حيث اتخذوا من الرمز أداةً مجازيّةً تمويهيّةً.(5).

أبعاد الرمز في الشعر ووظيفته:

إن الرمز في الشعر على وجه الخصوص يعني حالة باطنيّة معقدة من أحوال النفس، وموقفاّ عاطفيّاّ أو وجدانيّاّ كما بينا في موقع سابق. وقد اعتمد الشعر الحديث كثيرا على الرمز بوصفه أكثر فاعليّة وقدرة على التعبير بدلالات واسعة ومختلفة. ومثلما أن التشبيه قائم على أساس المقارنة بين المشبه والمشبه به وإبراز وجه الشبه بينهما، فإن الرمز له وظيفة التعبير عن الحالة التي يعيشها الشاعر، فيحاول الأديب عكس ما يدور في خلده عن طريق الرمز والقناع والأسطورة وغيرها من التقنيات الأخرى الداخلة في الأدب. ولكون الشعر هو أهم الميادين وأكثرها حضورا في إحلال الرمز محل الأشياء والموضوعات، لذلك تزداد قيمة الرمز وأثره محل الأشياء، بكونه تعبيراً لا شعورياً يتجاوز الواقع الى الايحاء به، فهو قد يبدأ من الواقع، ولكن لا يرسم الواقع، بل يرد الى الذات، وفيها ينهار عالم المادة وعلاقاتها الطبيعيّة لتقوم على انقاضها علاقات جديدة مشروطة بالرؤية الذاتيّة، فالشاعر المبدع بحاجة الى أداة تنتشله من الخضوع لبؤس الواقع المحدود، فكان الرمز هو الأداة التي تستطيع أن تحتمل الحاجات التي يجب وضعها بطريقة فنيّة إبداعيّة، يقوم بتجسيد مظاهر المحتوى الأدبي والتجربة الشعوريّة وأعماقها.

وظائف الرمز في الأدب:

- تقوم تقنية الرمز بعيداً عن اللغة المعجمية أو اللغة المباشرة، وهو بذلك – أي الرمز- يقوم:

- بفتح آفاقاً جديدةً للنص الشعري من خلال إيحاءات العمل الأدبي وإشاراته المقروءة من قبل المتلقي لتكسب القصيدة الشعريّة دلالة قريبة عما أراده الشاعر.

- إغناء الصورة الأدبيّة، وتوسيع دلالتها المكانيّة والزمانيّة، بخاصة في الرموز التاريخيّة، عن طريق استلهامها وإسقاط دلالات الرمز فيها على الواقع المعاصر.

- يعد الرمز وسيلة، تتيح لنا أن نتأمل شيئا آخر وراء النص، فالرمز قبل كل شيء معنى خفي وايحاء كما جاء في تعريفه.

- إكساب الأعمال الأدبيّة بعداً فنيًّاً وجماليًّاً، يهدف إلى تغذية العمل الأدبي وزيادة قيمته الإبداعيّة، وإثرائه معرفيًّاً.

- الدلالة على المعاني العميقة وتكثيفها.

- توحيد أبعاد الصور الشعريّة. واغنائها.

- التعبير غير المباشر عن الحالة النفسيّة للبشر بواسطة الإيحاء. (6).

أنواع الرمز في الأدب:

من أهم أنواع الرمز في الأدب يأتي:

الرمز الديني: يتمثل في توظيف شخصيات، أو أمكنة، أو أحداث دينيّة، للتعبير عن مواقف محددة، "فإبراهيم عليه السلام" يرمز للكرم والتضحية، و"عمر بن الخطاب يرمز للعدل"، و"أيوب عليه السلام" يرمز للصبر على البلاء والرضا بقضاء الله، و"عيسى عليه السلام" يرمز للبعث ولإحياء الموتى، و"هابيل" يرمز للخير، و"قابيل" يرمز للقتل، هذا وأن القرآن الكريم والكتب السماويّة والكتابات الدينيّة، مليئة بالرمزيّة، مما يدل على أهمية استخدامها.(7).

الرمز التاريخي: ويقصد به اتخاذ أحداثٍ تاريخيّةٍ رموزًا قادرة على الإيحاء بما يريد الأديب التعبير عنه، وهي كثيرة الظهور في الشعر خاصة، من أمثلتها اتخاذ "فرعون" رمزًا للطغيان والظلم، و"صلاح الدين الأيوبي" رمزًا للقوة والشجاعة، و"هارون الرشيد" رمزًا للبذخ.(8).

الرمز الأسطوري: ويقصد به اتخاذ أحداث أو شخصيات مأخوذة من قصص شعبيّة، تروي بعض الأحداث غير الطبيعيّة، أو تتحدث عن أعمال أبطالٍ خياليين، مثل استخدام "السندباد" الذي يرمز للمغامرة والشخص كثير التنقل والسفر، و"شهريار" رمزًا للرجل المتعنّت الرافض للمرأة، و"شهرزاد" رمزًا للمرأة الذكيّة، و" حصان طروادة" رمزًا للخداع والمكر.(9).

الرمز الصوفي: فمن القضايا التي ترتكز عليها العقيدة الصوفيّة هي فكرة وحدة الوجود، أي إن العالم والله ليسا شيئين منفصلين، وقد استخدم الصوفي الرمزيّة في تسمية المسلك الذي يسير فيه للوصول إلى الله"طريقًا"، وسمى نفسه "سالكًا"، وسمى المسافات التي يقطعها ويقف عندها للاستجمام "مقامات"، وسمى الغرض الذي يقصده من سلوكه اتحاد نفسه مع الحقيقة، وبعبارة أخرى اتحاد ذاته مع الله، أي "الفناء في الحق"، وقد رسم الصوفيون وسائل لهذا الطريق، وتعددت وسائلهم بتعدد أنظارهم، وفي كل من المقامات يقف السالك فيشعر بمشاعر نفسيّة خاصة أطلقوا عليها "الأحوال". (10).

خصائص الرمز في الأدب:

من أهم خصائص الرمز في الأدب ما يأتي:

1- الاكتفاء بالتلميح إلى الأشياء: وذلك بتجنب الأسلوب المباشر والخطاب وأي نوع من الشروح والتفصيلات. أي التكثيف وشدة الإيجاز، فليس هناك تفصيل أو شرح.

2- الاعتماد على الرمز في التعبير عن الأفكار والعواطف والرؤى: لأنه أقدر على الكشف عن التجارب النفسيّة وعما هو وراء الواقع المحسوس، وذلك بزيادة النشاط الذهني للشخص المتلقي.

3- الغموض والضبابية في التعبير: تعتبر من أهم ميزات الرمزية في الأدب، وهذا الغموض ناتج عن الإيحاءات غير المباشرة.

4- الإيغال في الخيال: فهو يعتمد على الخيال بشكلٍ كبيرٍ.(11).

القناع في الأدب:

الفرق بين القناع والرمز:

هناك خيط رفيع يفصل بين الرمز والقناع، فما القناع إلاّ صورة من صور الرمز وآليّة من آليات التعبير، لخلق تكثيف فني يبتعد عن التقريريّة، ويمنح الذهن فرصة استكشاف المعاني غير الظاهرة من خلال المقاربات بين الدلالات الحقيقيّة والمجازيّة للكلمات التي تشكلت من تلاحمها الصورة الفنيّة التي اتخذت القناع وسيلة لها، بغض النظر عن نوعه. كما يشكل القناع حجاباً يقي الكاتب والشاعر الدخول في مواجهات مباشرة مع المجتمع لأسباب سياسيّة أو اجتماعيّة أو دينيّة.

ولعل أهم وظائف القناع هو توفير الحماية لمن يكتب قصة حياته وحياة ذويه وأحبابه، فمن شأن القناع أن يقيم حاجزاً بين الأحداث المرويّة وحياة المؤلف الحقيقية فيضمن له ولمن يحيطون به قدراً من الصيانة تقيه وتقيهم من الافتضاح أو من الشر .

القناع لغة: جاءت مفردة قناع في معجم المعاني الجامع - معجم عربي عربي.

قِنَاع: (اسم). وجمعه قِنْعُ. وَقنِعةٌ. ويقال أيضاً أقنعه.

والقِنَاعُ:غشاءُ القلب. ويأتي القِنَاعُ:الشَّيْبُ. والقِنَاعُ:ما يُستَرُ به الوجهُ. أو ما تُغطِّي به المرأَةُ رأْسَها. وقيل:ألقى عن وجهه قِنَاع الحياء: لم يَسْتَحِ.

القناع اصطلاحاً:

هو وسيلة فنيّة لجأ إليها الشعراء للتعبير عن تجاربهم بصورة غير مباشرة، أو تقنية مستحدثة. وفِي الشعر العربي المعاصر شاع استخدامه منذ ستينيات القرن العشرين بتأثير الشعر الغربي وتقنياته المستحدثة، للتخفيف من حدّته الغنائيّة والمباشرة في الشعر، ويأتي توظيف القناع مثلاً عند الحديث عن شخصيّة تراثيّة يراد توظيفها في تجربة معاصرة، بضمير المتكلم. وهكذا يندمج في القصيدة صوتان: صوت الشاعر، وصوت الشخصيّة التاريخيّة التي يعبر الشاعر من خلالها). (12). فهذه التقنية في التوظيف تشكل جزءاً من الرمز، أو يمكن أن يكون وجها من وجوه الترميز. ومن الممكن أن يرتقي كل قناع محكم الى مستوى الرمز وفاعليته، لكن الرمز لا يتحول بالضرورة الى قناع، فكل قناع هو رمز وليس كل رمز يشكل قناعاً على الرغم من الصلة التي تربط الاثنين معا. فتناول شخصية أيوب عن الصبر هو تأكيد على حكم الله وامتحانه لعبده، وأن بعد العسر يسر.

إن القناع مصطلح مسرحي أساساً لم يدخل عالم الشعر إلا في مطلع هذا القرن، ليؤدي وظيفة جديدة تختلف نسبياً عن الوظيفة التي كان يؤديها في مجال المسرح. أما القناع بصيغته الأدبيّة فقد كان على يد الشعراء الإنكليز سيما الشاعر (بن جونسون) الذي كتب أعمالاً مسرحيّة تنتمي إلى ما يطلق عليه (الأقنعة) من خلال مسرحيته (قناع السواد) عام 1605 والتي تقف في مقدمة أعماله في هذا المجال.(13).

وفي الأدب العربي استخدم القناع في الأدب بشكل عام والشعر بشكل خاص، كأسلوب تعبيري ضمن ظروف وعوامل سياسيّة واجتماعيّة في الوطن العربي، الحقت بالإنسان العربي أضراراً فادحة، ماديّة ومعنويّة كما بينا في موقع سابق، جعلت الإنسان العربي، والشاعر العربي خاصة، إزاء مجموعة من التناقضات مما دفعه إلى الخروج عن دائرة المألوف، والتمرد على قيم الثبات والجمود. فكانت القصيدة الشعريّة محطة أولى أمام الشاعر، وميدان إبداعه. وهناك العديد من الشعراء الذين اشتغلوا على توظيف القناع في شعرهم كما هو الحال عند "أدونيس"، إشارة إلى دلالته التي جاءت مكتوبة على غلاف مجموعته الموسومة: (أغاني مهيار الدمشقي) وفي هذه المجموعة لجأ أدونيس إلى طريقة جديدة في التعبير الشعري هي إبداع شخصية (مهيار الدمشقي). وكذلك عند ظهور كتاب (تجربتي الشعرية) للشاعر (عبد الوهاب البياتي) حيث أصبح القناع مصطلحاً أسلوبيّاً يشير إلى الاسم الذي يتحدث من خلاله الشاعر نفسه متجرداً من ذاتيته أي أن الشاعر يعمد إلى خلق وجود مستقل عن ذاته وبذلك يبتعد عن حدود الغنائيّة والرومانسيّة التي تردى أكثر الشعر العربي فيها. ويعتبر السياب أيضاً من رواد القناع وذلك من خلال عدة قصائد له اعتمدت على تقنية القناع مثل قصيدة (المسيح بعد الصلب).(14).

أنواع القناع:

يتجلى القناع في أشكال ووجوه عدّة لا تختلف عن الأنواع التي استخدمت في الرمز. لذلك نجده يتجلى في الشخصيّة الأدبيّة. والشخصيّة الدينيّة وخاصة الشخصيّة الصوفيّة. وكذلك في الشخصيّة الأسطوريّة. كما يتجلى في الشخصيّة الذهنيّة. وفي الطبيعة.(16).

***

د. عدنان عويّد

كاتب وباحث وناقد أدبي من سوريا.

......................

الهوامش:

1- (موقع – موضوع - مفهوم الرمز في الأدب - غيداء التميمي.). بتصرف.

2- (الترميز: المفهوم والوظيفة - د.حسن الخاقاني-https://drhassan.ueuo.com/. -) بتصرف.

3- (كتاب جامعة المدينة العالمية، كتاب الأدب المقارن، صفحة 524. بتصرّف.).

4- .(موقع موضوع المرجع السابق )

5- (موقع موضوع – المرجع السابق).

6- ("الدرس اللغوي الرمز"، كيزاكو، اطّلع عليه بتاريخ 11/9/2021. بتصرّف.).

7- (محمد عركون (24/2/2005)، "الرمزية الدينية "، نواة، اطّلع عليه بتاريخ 10/9/2021. بتصرّف.).

8- ( سليمان زيدان، "الرمز"، جامعة فيلاديلفيا، اطّلع عليه بتاريخ 11/9/2021. بتصرّف.

9- (هدى قزع (25/1/2012)، "الرمز الأسطوري في الشعر العربي الحديث"، الحوار، اطّلع عليه بتاريخ 11/9/2021. بتصرّف.

10- (احمد حسن الزيات، كتاب مجلة الرسالة، صفحة 8. بتصرّف.

11 - (عبد الرزاق الأصفر (29/7/2015)، "خصائص المدرسة الرمزية"، الميراج، اطّلع عليه بتاريخ 11/9/2021. بتصرّف.)

12- (القناع وتقنياته في الشعر العربي الحديث – موقع المنال - اشراف الاستاذ الدكتور صدام فهد الاسدي).

13- ( مفهوم القناع -الاستاذ الدكتور صدام فهد الاسدي – جريدة الأضواء الالكترونيّة -). بتصرف.

14- (القناع وتقنياته في الشعر العربي الحديث – موقع المنال - اشراف الاستاذ الدكتور صدام فهد الاسدي). بتصرف.

15- (للتعرف أكثر على دلالات كل وجه من وجوه القناع العودة إلى المرجع السابق: (القناع وتقنياته في الشعر العربي الحديث – موقع المنال - اشراف الاستاذ الدكتور صدام فهد الاسدي).

 

يُعَدّ العصر الجاهلي من أبرز الحقب التي يتأسس عليها الوعي الأدبي العربي، إذ شكّل الشعر فيه المرآة الأصدق لحياة العرب، قيمهم، حروبهم، وعلاقاتهم الاجتماعية. وفي خضم هذه البنية الأبوية التي يسيطر عليها الرجال، برز صوت المرأة الشاعرة ليكشف عن حضورٍ لا يُستهان به، على الرغم من العوائق التي أحاطت به. فما مكانة الشاعرة في الجاهلية؟ وما سمات شعرها؟ وما الوظائف التي اضطلع بها؟ وكيف يمكن قراءة صوتها مقارناً بصوت الرجل في ضوء الدراسات الحديثة؟

هذا المقال يتناول هذه الأسئلة في ضوء منهج يُزاوج بين التحليل النصي والدراسة التاريخية، مع محاولة الإبقاء على البعد الشاعري في قراءة هذا الصوت، لأن النصوص التي تركتها المرأة الجاهلية لم تكن مجرّد وقائع، بل شظايا عاطفة، ورؤى ذاتية، وأصداء مجتمع متوتر بين الحرب والفقد.

اولا: محددات العصر ومفهوم المرأة الشاعرة

العصر الجاهلي – أي الحقبة السابقة لظهور الإسلام – هو الفضاء الذي تجلت فيه بنية اجتماعية قبلية، تُنظّمها قيم النسب والشرف والحرب والفخر. وكان الشعر الأداة المركزية لحفظ الذاكرة الجماعية وتثبيت القيم.

المرأة الشاعرة في هذا السياق ليست مجرد موضوع غزل يردده الرجال، بل فاعل لغوي يكتب ذاته وصوت قبيلته. فهي تبكي فقيدها، تُحرض قومها، تدافع عن شرفها، أو تعبّر عن حبها. وبذلك، يظهر لنا أن الشعر لم يكن حكرًا على الذكور، وإن ضاق فضاء المرأة مقارنة بفضاء الرجل.

ثانيا: ملامح حضور الشاعرة في المجتمع الجاهلي

رغم أن القبيلة الجاهلية كانت مجتمعًا أبويًا، فإن المرأة حازت موقعًا مؤثرًا في بعض السياقات. كانت رثاءها يبكي الفقد، لكنّها أيضًا كانت تُذكّر بالثأر، وتدعو إلى الحماسة. والشاعرة لم تُقصَر على الحزن وحده، بل صارت أحيانًا لسان القبيلة، كما في حالة صفية بنت ثعلبة الشيبانية التي وقفت في مواجهة كسرى تستنهض قومها.

غير أن هذا الصوت لم يكن مسموعًا بنفس القوة التي حظي بها الرجل، لأسباب عديدة اهمها ضعف التدوين، التحفظ الاجتماعي، سيطرة الرجال على عملية النقل الشفوي، وانحياز كتب التراث لجمع شعر الرجال أكثر من شعر النساء. ومع ذلك، فقد وصلنا من صوت المرأة ما يكفي لرسم صورة مميزة.

ثالثا: سمات شعر الشاعرات الجاهليات

عند تأمل النصوص المنسوبة إلى الشاعرات، تتضح عدة سمات بارزة:

العاطفة الصادقة: إذ يغلب على شعر النساء الحزن والرثاء، وهو رثاء مباشر يخلو غالبًا من المقدمات الطويلة التي اعتادها الشعراء الرجال.

الوظيفة السياسية والاجتماعية: في بعض المواقف، تتحول القصيدة إلى أداة تحريض أو دفاع، مثل صفية بنت ثعلبة التي خاطبت قومها في معركة ذي قار.

اللغة والصور: تُظهر النصوص صورًا حسية، واستعارات عاطفية، ومبالغة نابعة من الألم أو الفخر.

الموضوعات: أبرزها الرثاء، التحريض على الثأر، الفخر القبلي، الغزل العذري أو الرمزي، والتعبير عن الألم الشخصي.

الصوت الفردي: يميز شعر المرأة حضور الذات بشكل واضح—آلامها، صبرها، خوفها—مما يختلف عن الشعر الرجالي الذي كثيرًا ما يُعلي من النزاعات العامة.

رابعا: أبرز الشاعرات ونماذج من نصوصهن

صفية بنت ثعلبة الشيبانية (الحُجَيْجَة): وقفت رمزًا للمرأة السياسية، تحرّض قومها على مقاومة الفرس. من قولها:

“أحيوا الجوار فقد أماتته معا / كل الأعرب يا بني شيبان”،

وهو نص يكشف دورها في استنهاض القبيلة.

الخنساء (تماضر بنت عمرو السلمية): أشهر شاعرات الجاهلية، اشتهرت برثاء أخويها صخر ومعاوية. في رثائها صخر تقول:

“وإن صخرًا لتأتمّ الهداة به / كأنه علمٌ في رأسه نارُ”،

وهي صورة بليغة تجمع بين الفخر والحزن.

هند بنت عتبة: لم يكن شعرها في الرثاء فحسب، بل عُرفت بجرأتها وفصاحتها، وقدرتها على المحاورة والمواجهة اللفظية.

هذه النماذج تُظهر أن صوت المرأة الشعري كان متنوعًا، يجمع بين الذاتية الفردية والدور الاجتماعي العام.

خامسا: وظائف الشعر عند الشاعرات

يمكن تحديد وظائف شعر النساء في الجاهلية في:

الرثاء: التعبير عن الفقد وتخليد ذكر الميت.

التحريض والثأر: دفع القبيلة للانتفاض والقتال.

الفخر القبلي: إبراز الشرف والمكانة الاجتماعية.

الغزل: ضمن حدود رمزية أو عذرية.

التعبير النفسي: إظهار مشاعر الحزن، الحب، الانتظار، والحنين.

سادسا: التحديات التي واجهت صوت المرأة

ضياع الكثير من النصوص بسبب غياب التدوين المبكر.

هيمنة الأعراف الاجتماعية التي حدّت من حرية القول.

النقل الشفوي المتحيّز، حيث كان الرجال أكثر قدرة على حفظ شعرهم وتوثيقه.

اختلاط الرواية بالأسطورة أو التشكيك في نسبة بعض الأشعار للنساء.

سابعا: مقارنة مع الشعر الرجالي

يتشابه شعر النساء والرجال في موضوعات الفخر والرثاء والتحريض، لكن يختلف في زوايا أخرى إذ أن:

الرجل يركز على البطولة العسكرية والتاريخية، بينما المرأة تركز على الفقد الشخصي والعاطفة الأسرية.

الغزل لدى الرجل أكثر جرأة وصراحة، بينما لدى المرأة أكثر تحفظًا ورمزية.

المجاز عند المرأة ينبع من الحس العاطفي، بينما عند الرجل يرتبط بالمجد والأسطورة.

خاتمة

تكشف دراسة شعر المرأة الجاهلية عن صورة متعددة الأبعاد ، فهي لم تكن مجرد صدى لصوت الرجل، بل صوتًا مستقلاً، صادق العاطفة، عميق الحزن، قادرًا على التحريض والتأثير. ورغم ما ضاع من نصوصها، فإن ما وصلنا يكفي لإثبات أن المرأة لم تكن زينة في القصائد، بل فاعلة في تشكيل الوعي الشعري والاجتماعي.

إنّ استعادة هذا الصوت اليوم ليس مجرد بحث في الماضي، بل هو إعادة الاعتبار لصوتٍ حاول التاريخ إقصاءه. ولعل مهمة الباحثين الآن أن يفتشوا في الهوامش والنقول والشواهد، ليعيدوا للمرأة الشاعرة مكانتها في الذاكرة الأدبية.

***

مجيدة محمدي

.....................

مراجع مختارة

هيبا مصطفى جابر، صورة المرأة في الشعر الجاهلي: دراسة نسوية.

حامد خليل مطر، المرأة في الشعر الجاهلي.

عادل محمد أحمد محمد، شعر الرثاء في شعر النساء في الجاهلية وصدر الإسلام (دراسة وصفية).

بشير يموت، شاعرات العرب في الجاهلية والإسلام.

موسوعة الأدب العربي، باب "الخنساء وصفية بنت ثعلبة".

 

أحمد مالية، الإعلامي والشاعر والناثر، حريصٌ أنْ تكونَ نصوصُه الشعرية رقيقةَ الحاشية، رهيفةَ الأحاسيس، شفيفةَ المشاعر، أنيقةَ اللغة، ورشيقةَ الأسلوب، وعفيفةَ التعبير والتصوير، وهو ما نقرأه ونلمسه في قصائدِه. يقول في قصيدة (ذبول):

ها قد عادَ أيلولُ،

يجرُّ خلفه حقائبَ الشتاء،

ويجرُّ الحنينَ كظلٍّ يتعثّر في ظلال الغياب.

كيفَ سيولدُ الصباحُ

حين تغيبُ أنفاسُكِ عن النوافذ؟

من أين يشربُ الوردُ إذا جفّت شفتاكِ؟

ومن يوقدُ الشموعَ إن غابتْ أصابعُكِ؟

من يمشطُ للغيمِ جدائلها

بفراشاتِ أصابعها؟

كلُّ الخصائص الفنية التي ذكرناها في مبتدئنا هي منْ سمات شخصيته التي نلمسها، ونشعر بها من خلال متابعتنا لمسيرته الإعلامية، والشعرية، والنثرية، والشخصية التي تتسم بالدفء، ورفعة الخُلُق. وكذلك هي منْ سمات كتاباته الشعرية والنثرية، وصفاتِة التي نحسُّ بها ونحن نتوغل في عالمه الإبداعي، المعبِّر الأساس عن شخصية الكاتب.

حين قال الفرنسيون بأنّ الأسلوب هو الرجلُ نفسُه، لم يبتعدوا كثيراً عن الصواب؛ فمنْ خلال متابعتنا للشعر العربيّ، منذ بداياته الموغلة في التاريخ، حتى اليوم، ومنْ خلال الدراسة، والرصد القرائيّ، والبحث النقدي التحليلي، وجدنا المقولة صائبةً في الشعراء الأصلاء الموهوبين والصادقين في أحاسيسهم وعواطفهم، وما يكنزه وجدانهم النقيّ، وقلوبهم العامرة بالحبّ، وفي التعبير عن وجدانهم، وما تضمّه سرائرُهم ونفوسهم، والتعبير عنْ أفكارهم، ومواقفهم، ومعتقداتهم، وأيديولوجياتهم، ومن مكامن شخصياتهم الذاتية في حركتهم الحياتية اليومية الدؤوبة معيشةً وواقعاً، وفكراً وأحاسيسَ وعلاقاتٍ، وما تحمل في طيّاتها من صفاتٍ، وسيماءٍ، وخصائص. فلكلِّ هذا أثره البيِّن في نتاجهم الشعريّ، والأدبي عموماً، مستندين كذلك في رأينا هذا على تجربتنا الشخصية في ممارسة فنّ نظم الشعر، والكتابة عامةً. وهناك استثناءاتٌ - لا جدالَ - حين يتوجه شاعرٌ ما، لسبب شخصيّ أو دافعٍ آخر مما يعيشه وسط بيئته، ليكتب فيما لا يحياه، ولا يؤمن به، ولا يصدُق فيه، ولم يعايشه. وتاريخ الشعر العربي حافل بهذا الاتجاه والكتابة. كما أنَّ هناك نظَّامين يكتبون خارج أسس واشتراطات فنّ الشعر الحقيقي، لتخرج قصائدهم صنعةً ميكانيكية وجفافاً فنيًّا، خاليةً من الصدق والحرارة والتأثير.

شعراء الغزل، منذ بدايات تاريخ الشعر العربي، اعتادوا التغني بجمال الحبيبة جسداً ماديّاً محسوساً ملموساً بكلّ تفاصيله، وبعذريةٍ، وغير عذرية، منذ أنْ قال امرؤ القيس في معلقته:

ويَوْمَ دَخَلْتُ الخِدْرَ خِدْرَ عُنَيْزَةٍ

فَقَالَتْ:لَكَ الوَيْلاَتُ!،إنَّكَ مُرْجِلِي

*

تَقُولُ وقَدْ مَالَ الغَبِيْطُ بِنَا مَعاً:

عَقَرْتَ بَعِيْرِي يَا امْرأَ القَيْسِ فَانْزِلِ

*

فَقُلْتُ لَهَا:سِيْرِي وأَرْخِي زِمَامَه

ولاَ تُبْعدِيْنِي مِنْ جَنَاكِ المُعَلَّلِ

*

فَمِثْلِكِ حُبْلَى قَدْ طَرَقْتُ ومُرْضِعٍ

فَأَلْهَيْتُهَا عَنْ ذِي تَمَائِمَ مُحْوِلِ

وحين غنّى كعب بن زهير بن أبي سُلمى في حضرة النبي (ص):

هيفاءُ مُقبِلَةً عجزاءُ مُدبِرَةً

لا يشتكي قِصَرٌ منها ولا طولُ

*

ولمّا قال عليُ بنُ الجَهْم:

عيونُ المها بينَ الرُّصافةِ  والجسرِ

جلبْنَ الهوى منْ حيثُ أدري ولا أدري

والآخر يردّدُ بأجمل غزلٍ وأبلغ وأرقِّ وصفٍ:

فأمطرَتْ لؤلؤاً مِنْ نرجسٍ وسقَتْ

ورداً وعضَّتْ على العُنَّابِ بالبَرَد

شبّه الشاعر عينَي المحبوبة بالنرجس، ودموعَها باللؤلؤ المتساقط منهما، وخدَّها بالورد. وشفتيها بالعُنّاب، وأسنانَها بالبَرَد (الحالوب) لبياضِها وتراصُفِها.

هكذا كانت تشبيهات واستعارات ومجازات، وصور شعراء الغزل قديماً، ومعاصراً كذلك من الشعراء الذين ظلُّوا يسيرون على منوالها، كما حدث تجديد عبر التاريخ في طريقة وأسلوب ولغة فنّ الغزل، بتأثير من التطوُّر الزمني الحضاري والاجتماعي، يقول أحمد شوقي:

خَدَعوها بِقَولِهِم حَسناءُ

وَالغَواني يَغُرُّهُنَّ الثَّناءُ

*

أَتُراها تَناسَت اِسمِيَ لَمّا

كَثُرَت في غَرامِها الأَسماءُ

*

إِن رَأَتني تَميلُ عَنّي كَأَن لَم

تَكُ بَيني  وَبَينَها أَشياءُ

*

نظرةٌ فابتسامةٌ فسلامٌ

فكلامٌ، فموعدٌ، فلقاءُ

ولِنقرأْ معاصرَنا نزار قباني وهو يقول:

لو كنْتِ في مدريدَ في رأسِ السَّنةْ

كُنّا سهرْنا وحدَنا

في حانةٍ صغيرةْ

ليس بها سوانا

تبحثُ في ظلامِها عنْ بعضِها يدانا

كُنّا شربْنا الخمرَ في أوعيةٍ منَ الخشبْ

كُنّا اخترعْنا ربَّما جزيرةْ

أشجارُها منَ الذَّهبْ

أثمارُها منَ الذَّهبْ

تتوَّجينَ فوقها أميرةْ

الشاعر أحمد مالية ذهبَ في غزلياته مذهبَ التجديد، والإبتداع والخَلْق؛ حيثُ الأسلوب المُستحدَث الخلّاق، والصور النابضة بالأحاسيس، والحركة الديناميكية الغزلية، والمرسومة بدقة الصياغة والحذاقة الفنية، وجمالية الألوان الشعرية، سواء أكانت معبِّرةً عن الوصال والقُرْب في العلاقة بين الحبيبين، أم التي تتسربلُ برداء الجفاء، والبُعد، والدلال، والتغنُّج، والهجر، والانكسار:

اخطئي مرةً واحدة.

وصوّبي نحو الجناح.

كلُّ سهامك للقلب.

كوني قاتلةً رحيمة.

تريثي. فكّري.

اغمسي سهمكِ بالسم.

احرقي ذلك الركن الموبوء بكِ.

وارحلي بهدوء.

واتركيني مندثراً،

كظلٍّ ضائع،

كدمعةٍ غريبة،

كشاعرٍ نفدت كلماته قبل أن ينتهي حزنه.

(من قصيدته سهمك الأخير)

الشاعر أحمد مالية هو امتداد لشعراء الغزل العذري، الموشَّح أسلوبُه بالرقة، والرهافةِ، والتصوير الإيقاعي الوجداني، والرشاقة البلاغية، المُعطَّرة بالإحساس الشفيف، والوجدان النقيّ، والعاطفة المتأجّجة من غير ظلِّ من الخضوع والتوسُّل، بل التحدّي الإيجابي للمُحبِّ، والذي ينبع من احترام الذات، وقدسية الحبِّ، والعلاقة الإنسانية الجميلة فيه. كما يمتاز أسلوبه أيضاً بالأناقة اللفظية، مثلما الأناقة الشكلية، وبالبلاغة المُستحدَثة غير الخشبيةِ المنحوتةِ بإزميل الجمود.

***

عبد الستار نورعلي

تشرين الأول 2025

دراسة نقدية متكاملة تجمع بين التحليل البنيوي، الدلالي، الرمزي، والصوتي — مع قراءة في الأسلوب والرؤية.

في فضاء الشعر العربي المعاصر، حيث تتنازع القصيدة بين فوضى التجريب وانحسار الرؤيا، يجيء صوت أيمن معروف ليعيد إلى اللغة صفاءها الأول، وإلى الشعر جلاله الوجوديّ، وليجعل من الكلمة معراجاً للروح لا وسيلةً للقول فحسب. إنّ قصيدته التي بين أيدينا تمثّل ذروةً من ذُرى الشعر التأمّليّ العربي، بما تحمله من شفافية لغوية، ورهافةٍ روحية، وعمقٍ دلاليّ يستدعي قراءةً تتجاوز ظاهر المعنى إلى جوهر الرؤيا.

يكتب معروف قصيدته بوعيٍ جماليّ يزاوج بين بلاغة التراث وقلق الحداثة؛ فهو يستدعي صيغ المديح والرثاء القديمة ليُفرغها في قالبٍ جديدٍ تنبض فيه الحياة والموت معاً، وتتعانق فيه المفردة مع الصمت، والذات مع الممدوح في وحدةٍ رمزية تذكّرنا بالتصوّف اللغويّ عند ابن عربي وبالصفاء الشعريّ عند السيّاب وأدونيس.

القصيدة ليست خطاباً عن الآخر بقدر ما هي تأملٌ في المصير الإنسانيّ عبر الآخر، ولا تنحصر في المدح أو الرثاء بل تتخطّاهما إلى تأسيس رؤية وجوديّة للشعر ذاته، بوصفه كياناً يبكي ويُبكي، ويكشف في لحظة الكتابة عن التوتر الأزلي بين الفناء والخلود.

من هذا المنطلق، تهدف هذه الدراسة إلى تحليل البنية الجمالية والفكرية في القصيدة، من خلال قراءة متكاملة تتناول مستوياتها اللغوية والإيقاعية والدلالية والرمزية، وتكشف عن حضور النزعة الصوفية والرؤيا الفلسفية في نسيجها، بوصفها نصّاً يعيد تعريف العلاقة بين اللغة والمطلق، بين الشاعر والزمن، بين الإنسان ومعناه.

تمثل قصيدة الشاعر أيمن معروف نموذجاً فائق النضج لما يمكن أن نسمّيه القصيدة الفصحى ذات الطابع الصوفيّ التأمّليّ، الممزوج بروح الرثاء الرفيع واللغة الباذخة.

-  العنوان الغائب ودلالة الحضور اللغوي:

القصيدة لم تُعنون، وهذا غيابٌ مقصود يمنح النصَّ انفتاحه الدلالي، ويترك للغة أن تكون العنوانَ بذاتها. فـ"هنا لغة تشفُّ كما الصلاة" ليست افتتاحية فحسب، بل هي إعلان بيانيّ عن طبيعة القصيدة كلّها: اللغة فيها ليست أداة، بل كيانٌ روحيّ، ووسيلة تَعبُر نحو المطلق. الشاعر يقدّم اللغة كصلاةٍ، ككيمياء شفّافة بين الروح والمطلق، بين الشاعر وذاته، وبين الكلمة وغايتها الأولى.

-  أولاً: البنية اللغوية والموسيقى الداخلية.

1. الإيقاع:

القصيدة مبنية على نظام تفعيلة موزونٍ يحافظ على نسق موسيقي عالٍ دون أن يقيّد التدفق التأمّلي للصور. التكرارات في القوافي مثل الذات، المكرمات، النيرات، الممات، الباكيات، الدائرات… تولّد جرساً متصاعداً يُشبه الطواف حول فكرة السموّ والمآل.

2. اللغة:

لغة أيمن معروف عالية التوهّج، تقوم على الترصيع والتماثل والتوازي.

مثلًا: "إذا حام الكلام فأنت سمعٌ / وإن طاش السكوتُ، فمفرداتُ"

تقوم الجملة هنا على الطباق الصوتي والمعنوي بين "الكلام" و"السكوت"، ليجعل من المخاطَب مبدأَ الوجود اللغويّ كلّه — هو السمع في حضور القول، وهو المفردات في غيابها.

اللغة تُشبه في كثير من مقاطعها محراباً لفظيّاً، تُرفع فيه المفردات كقرابين، وهذا يتجلّى في كثرة الألفاظ النورانية والروحية: الصلاة، الصفصاف، النسيم، النيرات، القناة، العلياء، السماء، الشهُب.

-  ثانياً: البنية الدلالية والرمزية.

1. من الخطاب إلى المخاطَب:

القصيدة تميل إلى نبرة الرثاء أو التمجيد، إذ يخاطب الشاعر شخصيةً رفيعة المقام، روحية أو فكرية، قد تكون رمزاً للمعرفة، للشعر، أو لإنسانٍ راحلٍ تتماهى فيه القيم العليا.

يتجلّى هذا في النداءات المتكرّرة، يقول:

"سليل المكرمات أراك ترقى"

"أبا العلياء مسكاً في الأعالي"

"صديقَ الشعر إنّ الشعر يبكي"

"كليمَ النّون"

كلها صيغ نداء رمزيّ تُحيل إلى المكرَّم المتعالي، وتُخرجه من الواقع إلى الأسطورة اللغوية.

2. ثنائية الحياة والموت:

في البيت التالي:

"ألا، إنّ الممات أمرّ أمراً / وأقسى من مرارتِه، الحياةُ"

تتجلّى المفارقة الوجودية؛ فالموت لا يُقدَّم كضدٍّ للحياة بل كمرآةٍ تُظهر قسوتها. إنّه تأمّل صوفيّ في جدلية الفناء والبقاء، حيث يصبح الوجود نفسه اختبارًا للألم.

3. رمزية الضوء والعلو:

تكرّر مفردات النور، النيرات، العلياء، الشهب، السماء يدل على نسقٍ رمزيّ متعالٍ يجعل من الشعر وسيلةَ تساميٍ لا وصف.

العلو في القصيدة ليس مكانياً، بل معرفيّ – روحيّ، فالمخاطَب هو "سليل المكرمات"، و"إمام الشاردات"، و"حليف النيرات" — أي من ارتقى بمعناه قبل أن يرتقي بمقامه.

ثالثاً: البنية الفكرية – الشعر كمعرفة وجودية

القصيدة ليست مدحاً في ظاهرها فحسب، بل تأملٌ في جوهر الشعر والوجود معاً.

ففي قوله:

"صديقَ الشعر إنّ الشعر يبكي / وتبكيكَ الدفاترُ، والدواةُ"

يتحوّل الشعر من أداة تمجيد إلى كائنٍ حيٍّ يبكي الفقدَ، لتتجاوز القصيدة حدود الإطراء إلى مساحة الحزن الكوني.

وفي قوله:

"كبا شعري وبادَ القولُ حتّى / استحالتْ في لديه، الممكناتُ"

تبلغ القصيدة ذروة الميتاشعرية؛ فالشاعر يعترف بعجز اللغة أمام ممدوحٍ صار التجلي ذاته، حتى الممكنات اللغوية استحالَتْ في حضرته.

- رابعاً: البنية الأسلوبية والجمالية

1. الترصيع والتوازن:

كل مقطع قائم على ثنائيات صوتية ومعنوية: بانٍ وبانتُها، نواة؛ حياة/ممات؛ شعر/دفاتر؛ كلام/سكوت.

هذا البناء الثنائي يخلق تناظراً هندسيّاً يعكس اتزان الرؤية الشعرية.

2. الاستعارة الكثيفة:

القصيدة تمتح من الحقل النباتي (صفصاف، بان، نواة) والضوئي (النيرات، الشهب، العلياء) لتشييد شبكة رمزية متكاملة، تجعل من الكون مرآةً للذات الشعرية.

3. الضمير المخاطَب:

الضمير "أنتَ" يحضر كمرآةٍ للذات الشاعرة نفسها، فكل صفات الممدوح يمكن قراءتها كصفاتٍ للـ"أنا الشاعرة" في لحظة تطهّر لغويّ، مما يجعل القصيدة رثاءً مزدوجاً: للآخر وللشاعر في آن.

-خامساً: البنية الصوفية – الشعر كطريق نجاة.

في البيت التالي يقول:

 "لزمتَ البيتَ جِدّاً، أيُّ جدٍّ / يكون لمن مطامحُه النّجاةُ"

نرى البعد الصوفي واضحاً: البيتُ هنا بيتُ الروح، والنجاةُ غايةُ السالك. الشاعر يُحيل إلى تجربة زهدٍ روحيّ، وإلى التماس الخلاص بالمعنى لا بالزمن.

والقول:

 "عطفتَ على الزمان وظلتَ حيّاً / فقل لي: ما الحياة، ومالمماتُ"

هو سؤال وجوديّ يذكّر بفلسفة المتصوّفة والمتكلمين، حيث الحياة ليست استمرارًا للزمن بل حضورًا في المعنى.

 سادساً: الرؤية العامة

القصيدة من الناحية الجمالية والفكرية تنتمي إلى المدرسة الشعرية الرؤيوية الحديثة، التي تجمع بين فصاحة التراث وعمق التأمل الفلسفي.

فيها أثرٌ واضح من روح المتنبي في المديح السامي، ومن حسّ الصوفيين في تطهير اللغة، ومن حداثة أدونيس في تخييل اللغة بوصفها كونًا موازٍ للوجود.

 - خاتمة تقييمية:

قصيدة أيمن معروف نصّ رفيع المقام في تشكيل اللغة وإعادة قدسيتها الشعرية.

إنها ليست رثاءً ولا مديحاً فحسب، بل تسبيحٌ لغويّ في معبد الشعر، حيث تتماهى الذات والممدوح، الحياة والموت، الكلمة والسكوت.

تقوم بنيتها على الارتفاع: من اللغة إلى الشفافية، ومن المعنى إلى المطلق، ومن الإنسان إلى الشعر الذي يبكي ثم يُنقذ.

***

بقلم: عماد خالد رحمة- برلين.

....................

هنا لغةٌ تشفُّ، كما الصّلاة،

فتعبقُ بالشّفافيةِ،

الصِّلاتُ

*

هنا روحٌ كما الصفصاف تحنو

على بانٍ وبانتُها،

النّواةُ

*

أراها اليوم، تدلجُ في سراها،

فتدلجُ في تأمُّلِها

اللّغاتُ

*

خدينَ العالياتِ عليكَ شعّتْ،

من الأفقِ المشعِّ

العالياتُ

*

فذاتُكَ من شفيفِ الطبعِ مسكٌ

وتشرقُ في الطبائعِ منك

ذاتُ

*

كذاك، الذّاكياتُ، تكونُ لمّا،

تمرّ على نداها،

الذّاكياتُ

*

سليل المكرمات أراك ترقى،

إذا عُدّتْ هناك،

المكرماتُ

*

أتيتَ كما النسيم وكنتَ حرّاً،

أبيَّ النفسِ تحسدُه،

الأُباةُ

*

لزمتَ البيتَ جِدّاً، أيُّ جدٍّ،

يكون لمن مطامحُه

النّجاةُ

*

حليفَ النّيّراتِ، ومن إليه،

لتسعى في سراها،

النّيّراتُ

*

إذا حام الكلامُ فأنت سمعٌ

وإن طاشَ السكوتُ،

فمفرداتُ 

*

ألا، إنّ الممات، أمرُّ أمراً،

وأقسى من مرارتِه،

الحياةُ     

*

صديقَ الشعر إنّ الشعرَ يبكي

وتبكيكَ الدفاترُ،

والدّواةُ

*

أُواربُ ميتتي والكأسُ حولي

وتلمعُ في ذؤابتِها،

الرّفاتُ

*

قناةَ مُزَيِّلٍ، والدهرُ جِدٌّ،

يحايثُ أن تلينَ له،

القناةُ

*

قرينَ الوجهتين عليك نبكي

وتبكي في مشارفها،

الجهاتُ

*

وتبكي المفرداتُ عليك حبراً

وتسهبُ في القريضِ،

الباكياتُ

*

غلابٌ، هكذا، الدنيا غلابٌ،

وقد دارتْ عليها،

الدّائراتُ

*

أبا العلياء مسكاً في الأعالي

لك العلياءُ والشُّهُبُ

القُصاةُ

*

تركتَ قلائداً وسماءَ فصحى

وحرزاً في تمائمِه،

المَهاةُ

*

رواةُ الشعرِ من برديكَ فيضٌ

متى ملكتْ أعِنّتَه،

الرُّواةُ

*

نديمَ اللّام، والأسرار شقْرٌ،

تجيئُكَ والقصائدُ،

ساهراتُ

*

كبا شعري وبادَ القولُ حتّى

استحالتْ في لديه،

الممكناتُ

*

سمائي من سمائكَ، غير أنّي

بلا نجمٍ، وشهْبُكَ

طالعاتُ

*

كليمَ النّون، والآفاق غيبٌ،

وتدنو من رؤاكَ،

الغامضاتُ

*

عطفتَ على الزمان وظِلْتَ حيّاً

فقل لي: مالحياة،

ومالمماتُ

*

طموحُ السالكين سلافُ نجوى

وعشقُهما الوسيلةُ

والأداةُ

*

إمامَ الشارداتِ عليكَ عطفاً

من الملأ الشفيف

الشارداتُ 

*

صرفتَ العمرَ في تصريفِ شأنٍ

على نهوندِه منكَ

التفاتُ

*

وهندُ الليل يكشفُ شأنَ ليلى

وليلى حول هندِكَ

والثّقاتُ

***

تعتمد مجموعة "على ارجوحة الوند" القصصية للكاتبة آشتي كمال على جملة من الذكريات الشفافة في الاستحضار والاسترجاع (فلاش باك) في إيقاظ الذاكرة في مسار الحياة الذاتية والعامة، وضعت نفسها إزاء مرأة الزمن والحياة الواقعية، كأنها أمام مرآة الذات في تجلي معانيها، للاشخاص الذين ظلوا عالقين في القلب والذهن في سمات الحب والشوق والحنين، بكل خشوع وخاصة حكايات الجد والجدة أو العائلة والحي والمكان والنهر والمدينة، في حركتها الدائمة والمشوقة، في حكايات الموروثات الشعبية مثل ما تمثل شجرة السدر، وما تمثل المدينة والنهر، هذه الأشياء ليس جامدة، بل تمثل نبض الحياة الدائم، في شفافية الحضور المنعش الذي يستنطق الذاكرة بهذا الحضور، في المجتمع وفي الحياة العامة ونشاطاتها وتناقضاتها بين الخير والطمع، لذا فأن الكاتبة (آشتي كمال) تحاول في السرد القص ان تجمع شتات ذاكرتها وتظهرها في فن القصة بالصياغة الفنية المتمكنة، التي تدل على معرفة سر الحرف السردي وامكانياته في الخلق والابتكار، بلغة صافية دون زخرفة بلاغية ولغوية، وانما تحاول ان تسلط على لوحات الحياة والواقع، بلوحات مختلفة في المعنى والتعبير والمغزى، كما عاشتها وعايشتها، وما حرك نبضات الشعور في الاحساس العميق، وهي تتجوال في مسار الواقع والحياة من حكايات الجدة وشعورها بشجرة السدر المقدسة التي تشفي الامراض والعلل، في تلقائية سردية شفافة في اسلوها الممتع، اي انها تقدم ذكريات الطفولة وما بعدها، في اسلوب واقعي رصين، في تجلي معاني الحكايات، السائدة في الوسط الشعبي، مما تجعل القارئ يتفاعل معها، بما تمثل القيمة الانسانية في اطار المجتمع المدينة، سواء في الموروثات أو في النشطات العامة، سواء تتجه الى الخيراو عكسه، التي تتجه الى الشيطنة والاحتيال، ضمن عقليات مختلفة في الرؤية والتعبير. أن تسلط الضوء على الواقع المعيشي قديماً وحديثا. إن الواقع هو مثل السفينة الحياة، الحبلى بالتناقضات الحلوة والمرة، لذا فأن المجموعة القصصية تقدم لوحات مختلفة، ويمكن رصد بعضها في هذه النصوص القصصية.

1 - شجرة السدر:

ذكريات الجدة مفعمة بالشوق والحنين، وحكاياتها هي جزء من الموروثات الشعبية، التي تخص شجرة السدرة، بأنها شجرة مقدسة واوراقها تشفي الامراض والعلل، بعد غليها بالماء الحار، كما توصي اهل الحي والجيران، واكتسبت مكانة طيبة ومحترمة، وكذلك توصي ابنائها المصابين بمختلف الامراض، مثل ابنها البكر الذي يعاني من المرض السكري، والآخر الذي يعاني من أمراض المعدة، والآخر الذي يعاني من الارق والارهاق. وذكريات ابنها الأصغر (وحيد) أحب فتاة (شادية) الفتاة العشرينية، وبادلته بالحب والغرام، وتبادل رسائل الغرام والعشق بين الطرفين، لكن اهلها زوجوها الى رجل كبير في السن لأنه ثري، لم يدم الزواج إلا بضعة شهور، ولكن حين انجبت طفلتها الاولى سمتها (وحيدة) وفاء لحبيبها (وحيد).

2 - الدكتورة ماري:

طبيبة في علم النفس منذ خمسة أعوام، تعالج الكثير من الحالات السايكولوجية التي يعاني منها بعض الناس، وترجع الى بيتها متعبة ومرهقة، من الحالات النفسية أو الاضطرابات النفسية التي يعاني منها المرضى، بعض الحالات غريبة وعجيبة من الأمراض النفسية التي يعانون منها، وهي تمارس طقوس علم النفس على مرضاها. مثلاً: امرأة تعاني من مشكلة نفسية، بأنها تسمع اصواتاً غريبة خلف لوحات بيتها، ومريض اخر، يعتقد بأن بداخله اشخاصاً مختلفين، وهم في الواقع شخص واحد لا غير. إحدى المريضات شابة في العشرين، تعاني من انفصام داخلي، ترى زوجها شخصاً غريباً عنها، وتنظر اليه بغرابة وحذر وخوف .. والآخر جاءها شاب ظريف وجميل ورشيق الهندام، ليخبرها عن والده السبعيني يعاني من انفصام في الشخصية، يشعر بأنه الإنسان الوحيد في العالم، لا وجود مثله في الدنيا، لذلك اعتزل في عزلة تامة عن الناس، وحتى يرفض الطعام، إلا بعد محاولات حثيثة ومضنية من ابنه.

3 - كيد النساء:

جاءت (مرام) وهي أمرأة في كامل فتنتها وانوثتها المغرية، وكانت تحمل كيدية دفينة في الاختبار بحجة التوظيف في الشركة، وهي تشع الغواية والإغراء لكي تعرف معدن الأخلاقي لمدير الشركة، في جذبه الى غوايتها، ودلفت الى غرفة مكتبه لكي تسأل إذا كانت الشركة بحاجة الى محاسبة، تطلع فيها مدير الشركة، وهو يراها مخلوقة عجيبة من الجمال والفتنة والقوام الرشيق، وسارع الى توظيفها، سارت الامور بشكل جيد، ومدير الشركة يحاول ان يتقرب منها لكي يفوز بها. مثلاً كان يبقيها ساعات إضافية لكي يخلو بها بعد خروج الموظفين، وكانت تدرك الاعيبه وأغراضه، كأنها مخلوقة خلقت له وحده . ويحاول ان يبرز حبه وعشقه وهيامه بها، بأنه فاز بأجمل فاتنة قد تكون الوحيدة في العالم، لترد عليه بثبات وتصميم (-أنتم الرجال اكذب مخلوقات الله !

- إلا أنا

- سنرى

كان يحاول ان يفوز بها بالشهوة الجنسية، فكان تمانع وتصده، رغم الإغراءات والمكافأت المالية دون حساب، حتى ملت منه وقالت له: (ألم تمل من هذه اللعبة السخيفة) لتختم حديثها القاطع (الآن انتهت اللعبة، بالمناسبة مرام ليست إلا آلة نحن خلقناها) يعني انتاج صيني، امرأة كاملة القوام. تطلع إليها بغرابة وتخبط وارتباك، ويصاب بالدوار، واختلط عليه الأمر: هل هو في حلم أم حقيقة فسقط على الأرض.

4 - الحكاية.. تكرر نفسها:

أمرأة صحفية وتملك مكتبة صغيرة لبيع الكتب في مدينتها الصغيرة، تعرضت لعملية خطف، وسرقوا ما تحمل من أوراق نقدية وكل ما تحمل، إلا انهم تركوا لها هاتف النقال، وجاءتها الفرصة المناسبة لكي تتصل بأهلها ويردون عليها (- اين أنتِ، الجميع فقد الأمل بعودتكِ... بحثنا في الاماكن كلها، لكن..... أين كنتِ كل هذه المدة؟!) وتخبرهم انها مخطوفة (منهم) وحققوا معها، ثم إحالتها من مكان الى آخر، ولا تعرف من الدنيا إلا هذا الشبح الملتحي ذو الشعر المجعد وعينين الغليظتين، يراقبها بعدوانية، وليس هناك تهمة سوى تهمة قول الحقيقة للناس، وتبيع الكتب من مكتبتها الصغيرة، وانهم يهددونها بالقتل بدم بارد، لأنهم لايحبون الصحافة وبيع الكتب، وضد القلم الحر. وبعد أيام نشرت صحافة المدينة، خبر اغتيالها بعشر رصاصات أمام مكتبتها الصغيرة.

5 - كو... ما... ري:

احدى ضحايا حريق مستشفى (ابن الخطيب) احدى المريضات من الحرق غائبة عن الوعي اسبوعاً كاملاً، رغم محاولات الاطباء الحثيثة لاعادة الحياة اليها مجددا، لكن سمعت احدى الممرضات، تنطق بهمسات وحروف ليس لها معنى (- كو، كو ... م... كوما.. ر... كومار.... ي... كو... ما.. ري) اسرعت الى الدكتور ليسمع حروفها غير المفهومة (كوماري) وبعد ذلك تحسنت حالتها، وحينما استيقظت، وجدت جمعاً من الاطباء حول سريرها يبتسمون وقال احدهم حمدا لله على سلامتك..... أنتِ فعلاً بطلة، ولكنهم طلبوا منها معني كلمة (كوماري). وحكت لهم قصتها، بان امها تحبها حباً كبيراً، وكانت تدللها وتلاعبها وتلاطفها، ولا تدعها تمسك قدميها الارض، فكانت تأخذها باحضانها بالحب والشوق وتناديها (كوماري) وأنها اطلعت على الثقافات الاجنبية وغرائب العادات والتقاليد، ومنها نيبال، عندهم عادات موروثة، بأن الفتيات الجميلات يرتدين الثياب الحمراء، ليصبحن في مقام الالهة في نيبال، ومن الشروط العادات، بأن فدميهن لا تلمس الأرض، كما تفعل امها وتناديها كوماري.

6 - على ارجوحة الوند:

هي محاولة إبراز مضمون المفهوم التعبيري للمجموعة القصصية (مدارات الخزامى / للكاتب صفاء المهاجر) يتغنى ويمجد مدينة خانقين ومعالمها البارزة ومنها نهر الوند، وافقها الواسع والعالي، يكمن حبها في القلوب الطيبة (- أيتها القريبة الى الافق، ومن موطني....... أنا لست الافق الذي تقصدينه أنتِ، ولا مداراتي تشكل ذلك الأفق الذي ترغبين به)، ولكن احتلت قلوب الناس (- حينما تفكر المحبوب الغائب، هل توطئ راسكِ ارضاً؟ ام ترفعه نحو السماء؟ هل تبحث عنه بين ضجيج المارة؟ ام بين الغيوم الناعسة؟ هل تقدر الارض بمساحتها الكبرى وحقيقتها غير المعلنة، مكاناً ملائما للمحب؟) وكان يسمى مدينته (خانقين) مدينة الخزامى، شهدت ذكريات الطفولة والشباب، شهدت وشائج الحب في معالمها المعروفة، كما شهدت اغاني الحب والشباب، باحلى الصور الانسانية الرائعة.

***

جمعة عبد الله

 

تربطني بالزميلة رجاء عبد المجيد القيسي علاقة زمالة جامعية تمتد لفترة أكثر من 55 سنة، كانت بدايتها في العام 1968 حينما كنا طلبة في قسم الاقتصاد بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية (الملغاة) 1968-1972.أتذكر جيدا حفلة خطوبة رجاء القيسي في نادي كلية الإدارة والاقتصاد في ربيع العام 1970 حضرها جمع غفير من طلبة السنة الثالثة قسم الاقتصاد.تفرقنا بعد التخرج في 30 حزيران 1972 وذهب كلنا منا في سبيله.لم نلتقي إلا في يوم 31 آذار 2017 بعد مرور45 سنة في المركز الثقافي الكائن في نهاية شارع المتنبي ببغداد.كان لقاءا وديا حضرته زميلتنا شميران مروكل أوديشو وزملاؤنا المرحوم قاسم سرحان وحسن الخفاجي من خريجي سنة 1971. وكذلك أخي المرحوم سعد وحفيدة رجاء التي قامت مشكورة بتصوير لقاؤنا.

أهدتني رجاء (أم لبنى) مجموعتين شعريتين، الأولى – أرهاصات والثانية صدرك مدينتي الصادرتين في الأعوام 2015 و2017 وكلاهما من دار الرواد المزدهرة. بعد قراءة المجموعتين انبهرت بهما ولم أعرف ذلك من قبل بأن رجاء تتمتع بملكة شعرية وأدبية.تركت أشعار هاتين المجموعتين أثرا كبيرا في نفسي بحيث بدأت أفكر وألوم نفسي لماذا لم أكتب عن أعز زميلاتي مقالة تعكس اعجابي بقريحتها الشعرية.

تمتاز أشعار زميلتي أم لبنى بتعابيرها اللغوية القوية التي تجعل من القاريء يشعر ويدرك ما تقصده العزيزة رجاء من عكس ارهاصاتها ومشاعرها كما هو في أولى قصائدها بتاريخ 27/11/1969، مشاعر، ص 31-32.

قلت أني أحبك ..لا تسألني لماذا؟

لا تسألني عما أحبه فيك..

فأنا نفسي لا أدري

بل ..اني لا أعرفك..

وقد احترت كثيرا في معرفتك

أحيانا يخيل لي أنك رقيق كالنسمة

في ليلة صيف قائض

حنون كصدر أمي

حالم كخيال فنان

مبتسم كالورد

نديً تصفح وتغسل ذنوبي الصغيرة

عن قلبي كما يغسل المطر أوراق الشجر.

تعيش رجاء حالة من القلق وعدم ثقتها بالحبيب الذي قد يكون لا يبادلها نفس المشاعر الوجدانية.وهذه حالة طبيعية عند الجنس اللطيف خصوصا وأن عمرها كان لا يتجاوز التاسع عشرة ربيعا، كما يفهم من تاريخ كتابة القصيدة مشاعر الواردة الذكر أعلاه.

وحينما انتقل الى الصفحة 45 حيث قصيدة عبث (ص45-47) التي الاحظ فيها نضوج الشاعرة في فهم الحياة العاطفية والتي كتبتها في 31/12/1976 أي بعد مرور سبعة سنوات من كتابة قصيدة مشاعر حيث تقول فيها:

كنت أريده ..

حبا ..منعشا كليالي الصيف

نقيا كالدمع..

خالدا كالحب الحقيقي

سأصحو من غيبوبتي..

لا بل صحوت

أحس بثورة جارفة في أعماقي

فأنا خائفة..

خائفة من التمرغ معك بعواطفك السطحية

خائفة على انسانيتي ومثلي

أصبحت أيامي مياه جدول تتكسر

بين الصخور الصلدة..

باحثة عن ذرة تراب تسقيها

وتشابهت أيامي وأضاعت مدلولها..

في زمن ما، في وقت لم أحدده، في يوم لا أذكره

شدتني الى عينيك رغبة حنون

مغرية الدفء

كلهيب موقد يلوح لضائع بين الثلوج..

ولكن..؟

أما في قصيدة إحتساب التي كتبتها في العام 2014 فنلاحظ انها انتقلت الى موضوع آخر، ألا وهو الوقت وتأثيره على حياتنا اليومية وعلاقاتنا العاطفية والاجتماعية (ص50-51).

يا أنتم كيف تحددون لليوم أربعا وعشرون ساعة ..

أنا ..أنا

ينكمش النهار عندي ليصير دقيقة

ويمتد الليل ..ليصير دهرا..

وقد يطغي النهار على الليل..

فيغدو الليل لحظة..

ويستوي النهار أزلا..

أنه الحزن والفرح

اليأس والأمل

اللقاء والفرح

التوق والوصول

هذي ..هي التي تحدد ساعات

اليوم..وأيام العمر ..

لنحطم ساعاتنا ونخترع طريقة

أخرى لقياس الوقت!

وحين ننتقل الى مرحلة تاريخية من عمر رجاء القيسي نجد فيها ان وعي الشاعرة وادراك العلاقات العاطفية قد تطور وبلغ مرحلة جديدة من النضج، وهذا الذي نشعر به من قراءة قصيدة أيها الغريب التي كتبتها في العام 1980 (ص57-58).

كم تعرف معنى أن تدعني أركض ملايين الأميال

في شوارع عينيك المفروشة بأسفلت الصمت واللامبالاة

هل صدقت أنني سأغفر لك؟

أيها الغريب..!

قبلك ..كنت أبدا منفية خارج الأشياء

منفية خارج دائرة الحزن

خارج دائرة الفرح

خارج عالم الانتظار

قبلك، ما الفرق؟؟

ما دمت بعد أن عرفتك

ظللت وحيدة

كطير يتخبط بدمائه

أنا أحبك؟ أية فجيعة؟؟؟؟

في التطور التاريخي لنضوج الشاعرة رجاء القيسي نجده في قصيدة الى التي أرضعتني الطيبة (أمي) ص81-82 في سنة 2005، نقتبس جزء منها:

هدهداتها موسيقى

لا تزال تنساب

بهدوء مسمعي

كروان يناغيني

يهدهدني

" دللول يبنيتي دللول "

زندها وسادة ريش نعام

اغفو عليها..

وأنا أتلمس بأناملي الصغيرة

مصدر غذائي

تحتويني بدفء حضنها

وكأني لم أزل ..

مرتبطة بحبلها السري

الذي أمدني الحياة

ومن القصائد التي كتبتها لذكرى وفاة المرحوم أبيها نستشهد ببعض من أبياتها:

الى المزروع في عيني ..أبي  (ص85، 9/10/1968)

تمر ذكراك والآلآم تستعر..والدمع كالجمر فوق الخد ينهمر

تمر ذكراك والذكرى تمزقني..والنار في القلب لا تبق ولا تذر

والحزن أضحى رفيقا لا نفارقه..تكاد من هوله الأحشاء تنفجر

أبتاه، كيف سيشفى جرحنا وقد ..بكى لفقدك صمت الليل والحجر

وفي نهاية هذه المجموعة (ارهاصات) في صفحة 86-87 لا تنسى أم لبني صديقتها الحميمة

من الكتابة عنها في قصيدة (صديقتي) :

صديقة العمر

أقرأ في عيونها

الفرح والمأساة

الحزن والشتات

تقرأ قلبي

تثير سكوتي

تنبش أفكاري

كمن ينبش تنور رماد

فيومض الحرف

وتشتعل الكلمات

وتتفجر الشفاه

بالآهات

آهات الزمن اللاهي 

ننتقل الى مجموعة صدرك مدينتي الصادرة في العام 2017 والتي تتألف من 44

 قصيدة مختلفة المواضيع والاهداف التي كتبت من أجلها.أتوقف عند القصيدة التي تحمل اسم هذه المجموعة، ألا وهي (صدرك مدينتي) ص17-18.

حبيبي ..

قدرنا التقينا ..

وتنفسنا الحياة

وانغرسنا في روابيها ربيع

وحللنا روحين في بدن

فكنت العطر والجمال

وكنت أنت الحياة..

فأصبحت ..أنا ، أنت

حبيبي..

يجعل الزهر ينبت

فوق الصخور ..

فأنت ..وأنا

ذرتا رمل جمعتهما عاصفة الشرق

أنت ..وأنا

كغيمتين ..إن التقيتا

تنزل الصاعقة

استعارات مكنية وصريحة تتميز بها كلمات هذه القصيدة كما نجده في بقية القصائد في كلا المجموعتين.

تمتاز قصيدة بغداد ..حبيبتي (ص37-39) بقوة تعابيرها وكلماتها التي تعكس حب الشاعرة لبغداد عاصمة العراق التي ولدت وترعرعت فيها ودرست وتعلمت فيها ومن ثم عملت في مؤسساتها ودوائرها الحكومية.وفيها أنجبت ابنتها البكر لبنى.انها قصيدة وطنية الى حد النخاع تعبر عما يجول في خاطر كل انسان شريف شرب من ماء دجلة وأكل من خيرات بساتينها وحقولها المعطاء.

بغداد ....يا بغداد

حبيبتي...بطيبتك

تحتضنين القادمين إليك

وهم يسيئون ويعبثون

وأنت تبتسمين وترقصين

فوق نجوم الله!!

وكل الذين مروا بعرباتهم

وأقدامهم النجسة

فقد تاهوا في أزقتك

تأكلهم الدونية..

بغداد ..حبيبتي

من أين لك هذا التحمل؟؟

وأنت واقفة

على (جفن الردى)

حروب، تقتيل، تشريد، تنكيل،

تفقيد، تمزيق، يتمً!!

وبيع وشراء في المزاد

المفتوح لسماسرة السياسة

أبعد كل هذا خسة؟؟؟

ننتقل الى قصيدة مداهمة التي كتبتها شاعرتنا العزيزة ام لبنى في العام 2015.، ص51.

داهمني حبك...

كبركان ..!

تفجر....

دون انذار ..!!

إقتحمني ..حبك

وأشعل النار!!

ثم ..ثم

غادرني

كمرور إعصار ..!!؟

على الرغم من قصر هذه القصيدة ولكنها عكست الحالة النفسية التي عاشتها رجاء بعد تجربة حب جديدة داهمتها وانتهت بسرعة كما يفهم من أبياتها القليلة العدد.

اما قصيدة بوصلة (ص67-68) فنجد فيها وصف تجربة حب جديدة خاضتها رجاء القيسي في العام 2016.

الحب صحوة الوعي

وحبك الغافي بين الضلوع

استنهض الأفراح في ..؟

لتتسابق وتتراكم في صدري

وبسمتك تصهر أكوام الثلج

وتبدد شتائي المكفهر ..!!

فقد لملمتك كالعباءة

حول جسدي

فاخترقت أسواري ..؟؟

وجهك المرسوم

في عيني

بوصلتي..!!

وأبدع ما كتبت زميلتي الغالية رجاء القيسي في العام 2016 هي قصيدة العراقية قيثارة سومرية والتي اشتهرت بها بين الأصدقاء ولاقت استحسان الكثير من القراء والناس ، ص (75-77) .

أنا العراقية

أنا الأبية

أنا ما وطأت

رأسي للدونية

أنا الدنيا

والحياة الزهية

فكل ما ترونه

ما تسمعونه

هو قسوة ووحشية

أنا نازك الملائكة

الشاعرية

أنا لميعة عمارة

الأنثى الزكية

أنا نزيهة الدليمي

أول وزيرة عربية

أنا زكية خليفة

المناضلة العصية

أنا عشتار ..

أنا العراقية

أنا سميراميس الآشورية

من بلد العجائب البابلية

أنا من بلد الأنبياء

والأولياء والحضارة الأبدية

أنا العراقية..

أنا القيثارة السومرية

أنا مسلة حمورابي

للحق والعدالة الإلهية

أنا الأم العراقية

مجبولة على (الحنية)

أنا الزوجة المثالية

والأخت المضحية

أنا العراقية في بلد

نزلت على أرضه

أول البشرية!!

فلست أنا المتسولة

التي تجوب البرية

أنا الكرامة والعزة

أنا العراقية..

التي أنجبت خير الرجال

المدافعين عن المبادىء والقضية

أنا العراقية

أنا خير البشرية

وبهذه القصيدة أختتم مقالتي المتواضعة عن زميلتي الغالية رجاء عبد المجيد القيسي أم لبني

التي تستحق كل التقدير والاحترام.

***

د.سناء عبد القادر مصطفى

قراءة في قصيدة شلال عنوز قرأتُكِ قلقاً

"قَرأتُكِ قَلقاً"

حينَما قَرَأتُكِ

قَلَقاً

هَمَسَ البَوح

في أُذُن الوَقت

وَهوَ يَتصفّح

قَراطيس

فَم الوَجد

سَرقَتني الكلمات

تَوَسّدتُ

مخدّة المَجانين

تَوالى على ساحلي

شَهيق

أسراب الرَغبات

فاستبقتُ

صراخ ظِلّي

إليك

وانهمرتُ سَيلاً

نازفاً

مِن حُمّى

الانصِهار

هل هي

صِدفةٌ

أن يَلتقي بَحران

عِندَ مَرسى

مَنزوع

من رقابة

العَسَس؟

وهل يُولد الحُبّ

من رَحم خَريف

على سَفح

زمن

آيلٍ للغُروب؟

1- مقدّمة تأطيرية

تنطلق هذه الدراسة من فرضية أنّ قصيدة: قَرأتُكِ قَلقاً، لشلال عنوز" لا تقرأُ بوصفها قصيدة عاطفية عابرة، بل بوصفها تجربة كتابية تختبر الحدود القصوى للغة عندما يُراد أن تَقول: القلق، لا كموضوع، بل ككينونة شعرية متكاملة بين حدّي النص / القصيدة والمخاطب والتلقّي كلاهما. وقد اخترنا تقاطع ثلاث مناظر نقدية لتفكيك هذه الكينونة:

أ. السيميائية التي تُظهر كيف تَنتج العلامة دلالتها من داخل البنية الصورية والزمنية والجسدية.

ب. الرمزية التي تُتابع التحوّلات الوجودية والصوفية والإيروسية التي تُطلقها الصور.

ج. جماليات التلقّي التي تُبرز كيف يُنجز القارئ بنية المعنى عبر ملء الفراغات ومواجهة التوترات في حميمية تسابق الآفاق لبلوغ فهم المعاني .

بهذا نكون أمام مشروع قراءة: ثلاثية البُعد تسعى إلى الإجابة عن سؤال مركزي:

كيف يُصبح القلق - في شعرية عنوز - فعلاً لغوياً، ورمزاً وجودياً، وآلية تلقٍّ متجدّدة في آنٍ واحد؟

2- القراءة السيميائية الأولية:

أ. العتبة العنوانية

بنية زمانية فعلية مكتملة في زمنٍ ماضٍ يحملها العنوان تأكيدًا على رسوخ سابق لمحصلة فعل القراءة محملًا بطاقة إشارية كثيفة الدلالة، ما يوحي بانقضاء تجربة شعورية تامة إذ يَدخِل فعل القراءة بعلاقة عاطفية مباشرة مع القلق كعاطفة فاعلة منفعلة مما يكسب النص مكنة التحوّل إلى فعالية تأويلية متبادلة وفعل معرفي وجودي يحقق للغة وظيفتها الايحائية الياكبسونية، لكنها مفتوحة دلاليًا: «قرأتُكِ» تعني هنا استبطان الآخر واستظهاره… وكشفًا عن معاناة القارئ من جرّاء بركسيس القراءة. «قلقًا» ليست صفة الموصوف بل هي الصورة التي يتجلى بها الآخر المستظهر استبطانًا داخل الذات وارتكاساته في الذاكرة المحفوظة وما تتركه على حاضر وجدان الشاعر. تتقاطع «القراءة» مع «القلق» في تمثيل حالة من الوعي الوجودي المشوَّش ليس بفعل الريبة بل جراء تناسل المتناقضات بين سيرورة اليقين وصيرورته، حيث يصبح الحبيب نصًّا يتلوه العاشق لا بعينه، بل بتوتره الدائم وحيرته إزاء تصادم الخلاص بالإخلاص وديمومة انطباعات الماضي الحسية على فعاليات مواكبة الشاعر لمطالعة المقروء وجودًا نصيًا يتجسد في الكينونة الشاخصة للمقروءة قلقًا.

ب. المشهد الشعري وتحولات العلامة

أولًا/ همس البوح - قراطيس فم الوجد

- «همس البوح في أذن الوقت» تشكيل سيميائي لفعلٍ حميم يُمارَس مع الزمن، حيث يُنسَب للبوح سلطة الزمن وهيمنته الظاهراتية، وهذا متوقع عندما يتجسد شاخص الكائن نصًا مقلقًا.

- «قراطيس فم الوجد»: استعارة مركبة تُشبه الحبيب - أو التجربة - بورقة يُقرأ منها الانفعال، في بنية تجعل الوجد جسدًا له فم وأوراق. هذه الصورة تعبّر عن تشظي الحضور داخل الغياب وتشيؤ الإحساس والتراسل مع الوجود.

ثانيًا/ سَرقَتني الكلمات - مخدة المجانين

- دال «السرقة» يوحي بغياب السيطرة والانجراف خلف انفعالات اللغة المخادعة وغوايتها الطاغية .

- «مخدة المجانين» ليست استعارة بسيطة، بل رمز يعيد إنتاج العشق كنوع من الجنون الفوكوي، مستمدّ من خطاب الصوفية والعاشقين الذين يفقدون توازنهم أمام النص/الآخر.

ثالثًا/ التوتر والذوبان

- «شهيق - صراخ - انهمرت - حمى - الانصهار» كلها علامات جسدية تمثل حالات ومواقع في المقام العاطفي تنتاب طارق المسلك مأخوذًا بها صاغر الإرادة.

3- المشهد الرمزي:

التماهي والانصهار

- «توالى على ساحلي شهيق أسراب الرغبات»: يُجسَّد «الساحل» هنا الجسد/الذات المتلقية بالجذب… و«أسراب الرغبات» كائنات طائرة تنقضّ على المدى الداخلي.

- «فاستبقت صراخ ظلي إليك»: الظل ليس تابعًا مرئيًا، بل صورة باطنية للذات العاشقة، والاستباق كسرٌ للمنطق الزمني.

- «وانهمرتُ سيلًا نازفًا من حمى الانصهار»: الجسد يتحوّل إلى مادة: ماء، دم، حرارة… تفكك الهوية داخل طقس العشق.

4 -الأسئلة الختامية:

شفرات الميتا-عشق

- «هل هي صدفة أن يلتقي بحران عند مرسى منزوع من رقابة العسس؟»: ترميز للعاشقين في موضع لقاء حرّ، منزوع من رقابة الرقيب، تمرّدًا وجوديًا.

- «وهل يولد الحب من رحم خريف؟» سؤال مفتوح على ميتافيزيقا الزمن: الحب يولد في الذبول والغياب، احتجاجًا على الغياب لا احتفالًا باللقاء.

خلاصة سيميائية

قصيدة «قرأتُكِ قلقًا» نص رؤيوي مفعم بالمجازات الحارقة… الذات لا تقرأ الآخر بعين العارف، بل تتفتّت في حضوره… لتدور في حومة وغى الحيرة… درويشًا ملاماتيًا في حلقة الذكر حول شمس الآخر الحارقة. اللغة هنا ليست أداة، بل معراج إلى التهلكة الوجدانية… وهي الطريق الوحيد لمعرفة الوجود والتعرف على الآخر وبوابة كشف الذات.

5 - القلق كرمز

أ. العنوان:

فتحة دلالية مشحونة

مع انفتاح العتبة الأولى على فعل ماضٍ مكتمل يوحي بانقضاء تجربة شعورية، ظلّ مفتوحًا على أفقٍ دلالي يتجدّد في كلّ قراءة. فالفعل «قرأتُكِ» ليس فعل معرفة، بل استبطان للآخر واستظهاره، كأنّ المحبوب نزع الحجاب وتحوّل إلى نصٍّ يُتلى ويُفكَّك. العنوان، وفق مفهوم «الوظيفة الإيحائية للغة» عند ياكوبسون، يكثّف الدلالة في لحظة انفتاح يغذّي سائر النص (إسماعيل 1).

ب. مشهدية القراءة كفعل وجودي

يُشخَّص في العنوان مجازُ التشخيص: المقروءة امرأةٌ حيّةٌ بالقلق، والقارئ لا يقرأ كلمات، بل يقرأ هيئة كيانية من القلق كماهية وجود، فتندثر الحدود بين الذات/القارئ والموضوع/المقروءة. القلق هنا ليس حالة نفسية، بل كيانٌ مُجسَّد يُقرأ، وهو الجوهر المقروء في القراءة الصوفية عند ابن عربي: «الكون كتاب الله، والإنسان حروفه» (3).

ج. القلق:

هوية انطولوجية

يشير القلق إلى أليات دفاعية يطلقها الشعور تجاه الآخر، وقد أطلق هارولد بلوم عليه «قلق التأثير» المحفّز للإبداع ومرافق خوف الشاعر من تأثيرات الآخر. في قصيدة عنوز يتحوّل القلق إلى ابتلاء المحب من وجود المحبوب وإمكان فقدانه، فيتجلى توقًا وشغفًا وجوديّين لا خلاص منهما. وبهذا يصبح القلق هوية انطولوجية للشاعر والصوفي والمحبّ على حدّ سواء.

د. المشهد الشعري وتحوّلات العلامة

- «همس البوح في أذن الوقت» تُجسّد البوح ككائن يخاطب الزمن مباشرة، فيعلن العاطفة طرفًا في سرّ عشقي.

- «قراطيس فم الوجد» استعارة مركبة تشي بتشظي الحضور وتحويل الشعور إلى نصّ ماديّ.

- «سرقتني الكلمات» تُفيد ضياع السيطرة أمام غواية اللغة، فتصير الكلمات سلطة تمارس فعلها على الشاعر (الغذامي 7).

هـ. الساحل كفضاء للهوية المُتفتّتة

يتكرر مشهد الساحل المائيّ/الهامشي، فيُصبح حدًّا متآكلًا لا يفصل بين الداخلي والخارجي بل يُذيبهما. «شهيق أسراب الرغبات» ليس فعل تنفّس، بل اجتياحٌ طائر يُذكّر برمز الماء عند أدونيس: «انبعاث وانحلال معًا».

و. المشهد الرمزي: تماهٍ وانصهار

- «الساحل» رمز للذات المتلقية اندفاع الموج العاطفي.

- «أسراب الرغبات» تزرع ندوبًا تتحوّل براعم، في مفارقة صوفية بين الجرح والولادة (ابن عربي 13).

- «صراخ الظل» يكشف قرين الذات الوجودي، والاستباق كسرٌ زمني يُعلن شدّة الانجذاب.

- «انهمرتُ سيلًا نازفًا من حمى الانصهار» تُصوّر ذوبان الجسد في ماء ودم وحرارة، إعادة صياغة للهوية عبر العشق (باشلار 15).

ز. الأسئلة الختامية: شفرات ميتا-عشق

- «هل هي صدفة أن يلتقي بحران عند مرسى منزوع من رقابة العسس؟»

- ليس سؤال صدفة، بل كشفٌ للمستتر: اللقاء خارج سلطة الرقيب تمرّد وجودي.

- «وهل يولد الحب من رحم خريف؟»

- الخريف رحم رمزي للموت/الولادة معًا، في احتجاج على الغياب أكثر من احتفال بالحياة (أدونيس 17).

ح. الخلاصة الرمزية

«قرأتُكِ قلقًا» نصّ رؤيوي يُجسّد العشق قدرًا وجوديًا لا مهرب منه. تتقاطع الحواس بالفكر والجسد بالروح واللغة بالصمت. الذات لا تعكس الآخر، بل تتفتّت في حضوره وتدور حلقة الحيرة بحثًا عن ذاتها في الآخر وعن الآخر في ذاتها، فيكون الانصهار مصيرًا لا يُردّ. القلق إذن جوهر العشق والقراءة معًا: هو الوجود في ذاته، و«الشعر فضاء للولادة المستمرة للمعنى» (إسماعيل 27).

6 - القلق كفضاء تلقٍّي

أ. تحديد منهجي: لماذا جماليات التلقي؟

يفترض هانس روبرت إيزر أنّ النص لا يتحقّق إلا بفعل قراءة يملأ فيها المتلقّي «الفراغات/الثقوب» التي يُحدثها الشاعر، فيُنشئ «بنية موضوعية افتراضية» تتبدّل مع كل تجربة تلقّية. القصيدة إذن ليست كائنًا مغلقًا، بل «مربّع إنتاج» يتجدّد عبر تفاعل القارئ مع دلالاته المفتوحة، فيردم الفجوات بأدوات التنقيب ومخزونه المعرفي.

ب. عنوان القصيدة كدليل تلقٍّ أوّلي

- «قرأتُكِ» يُفعّل المجاز التشخيصي، يستدعي خبرة القارئ بتراث «الكتابة كامرأة» و«المرأة ككتاب» (ابن عربي).

- «قلقًا» تقدّم صفةً غير مرئية كاسم مفعول به، فتخلق فراغًا سيميائيًا: ما معنى أن تقرأ «حالة» لا «كيانًا»؟ يُدفع القارئ إلى تفعيل «أفق المخزون» المتعلّق بالقلق كرمز للوجود الحديث.

ج. البنية السردية الصغرى وتفاعل القارئ

أولًا/ التقطيع المضبوط بالفراغات البيضاء

كل مقطع يُنهى بتعليق سطر أو كلمتين؛ تلك «الكسرة البصرية» تُحدث إيقاع «ترقّب/انقطاع» يُجبر القارئ على إعادة صياغة المعنى داخليًا. إنها تقنية «تحوير» تُنتج «مسافة جمالية» تمكّنه من رؤية ذاته وهو يُنتج الدلالة (إيزر 1975: 213).

ثانيًا/ التحوّلات الضميرية

يتنقّل المتكلّم بين «أنا» (مضمر) و«ظلي» و«سيلٍ» ثم يعود إلى «أنا» سائلًا. هذه التحوّلات تُشكّل «نقاط تلاقٍ متعددة» تتيح للقارئ الإبحار بين هويات متموّجة، فيُنتج معنى جديدًا في كل قراءة؛ فعل التلقّي يشبه «الإبحار دون مرسى محدّد» (Spielraum).

7- المشهد الرمزي: «مرسى منزوع من رقابة العسس»

- «العسس» يستدعي مخزونًا ثقافيًا (الدولة/الأب/القانون) فيحدث فراغًا معنويًا: ماذا يحدث حين تُرفع الرقابة؟ يدخل القارئ في «تفاوض افتراضي» بين رغبته في التمرّد وخوفه من الفوضى.

- لقاء «بحرين» يُفعّل «قاعدة السمة المكانية» (باختين) التي تُفكك الحدود بين الذات والآخر؛ النص لا يعطي إجابة، فيبقى الفراغ مفتوحًا ليُملأ بخبرات القرّاء.

8- السؤال الخواتيمي: «وهل يولد الحب من رحم خريف؟»

- «رحم خريف» فراغ مركزي يختبر إمكان ولادة الحياة من الموت؛ يُفعّل القارئ «أفق توقّع» متناقضًا: خبرته اليومية تقول إن الخريف نهاية، بينما يدعوه السؤال لتصوّر عكس ذلك.

- هذا التناقض يولّد «الديناميكية التوترية» التي تُبقي التلقّي مفتوحًا؛ كل قارئ يُعيد صياغة إجابته فيحدث «تحوّلًا في أفق التوقّع» (Horizontwandel).

9- التلقّي المُوسَّع والرقمي

في الوسائط الرقمية يتضاعف «الانكشاف»؛ يستطيع القارئ التوقف، إعادة التغريد، التعليق، حتى تعديل النص. تُنتج هذه الممارسات ما يُسمّيه إيزر «النص الممتدّ» (extended text) الذي يتجاوز الصفحة المطبوعة، فتصبح القصيدة عملاً متناسلاً مع كل تفاعل.

10- خلاصة التلقي:

القلق كمحرّك للتجربة الجمالية

- لم يُقدَّم للقارئ إجابات جاهزة، بل زُرعت فراغات يملؤها باستمرار؛ القلق إذن ليس موضوعًا، بل آلية تلقي تُبقي الذات في «تفتح دائم» (perpetual openness).

- بذلك تتحقق «أيديولوجيا التلقي» عند إيزر: القارئ لا يستهلك النص، بل «يُنتجه» من جديد في كل مرة ويُعيد إنتاج نفسه معه.

11- مقاربة ياوس/إيزر الختامية

إذا كان النص يبني أفقًا غنائيًا متوقعًا في بدايته، فإنه يُخترق فجأة بالسؤالين المفتوحين، فيُلقى بالقارئ في فضاء تأويلي وجودي. بهذا الخرق تكتسب القصيدة قيمتها الجمالية؛ إذ تُخلّف «فراغات نصية» لا تُملأ إلا بتدخل القارئ الذي يصبح شريكًا في إنتاج الدلالة.

12 - خلاصة تركيبية

كيف تُنجز شعرية القلق في «قرأتُكِ قَلقاً» تكاملًا بين السيمياء، الرمز، والتلقي؟

أ. سيميائيًا:

العلامة هنا ليست دلالة على شيء غائب، بل «فعل حي» يُنتج جسدًا وزمنًا ومادة. القارئ يُلاحظ:

- اشتغال الفعل الماضي «قرأتُكِ» كمحدد زمني مغلق يفتح ذاكرة مستقبلية للتوتر.

- تحولات الدلالات الجسدية (همس/شهيق/سيل/حمى) إلى سلسلة من «الإشارات الذائبة» التي تُفكك الثبات الدلالي للكلمات.

ب. رمزيًا:

القلق يتجاوز الحالة النفسية ليصبح:

- «كتابًا مفتوحًا» يُقرأ وجوديًا على النحو الصوفي.

- «مرسى» و«رحم خريفي» يُفجّران ثنائية الموت/الولادة، فيُصبح القلق فضاء للانبعاث عبر الانحلال.

ج. تلقيّيًا:

النص لا يُعطي إجابة، بل يُورّط القارئ في:

- ملء الفراغات البصرية والزمنية (الكسور، التحولات الضميرية).

- التفاوض مع الرقابة الرمزية (العسس) ومع الخوف من «الخريف» كرمز للنهاية.

- إعادة إنتاج ذاته عبر كل قراءة جديدة، فتتحقق «شعرية القلق» بوصفها حالة تفتح دائمة لا تُحسم.

إجمالًا، تُقدّم القصيدة نموذجًا نادرًا يتقاطع فيه:

- التحليل البنيوي (كيف تُنتج العلامة معناها)،

- التحليل الرمزي (كيف يتجلى القلق كينونة وجودية)،

- التحليل التلقّي (كيف يُصبح القارئ شريكًا في إتمام الدلالة).

وهكذا يبقى «القلق» - في شعرية شلال عنوز - ليس موضوعًا شعريًا يُروى، بل آلية كتابية تُعيد تشكيل الذات واللغة والعالم في آنٍ معًا.

***

د. سعد محمد مهدي غلام

.........................

13 - المراجع

(بترتيب أبجدي لأسماء المؤلفين)

١-ابن عربي، محيي الدين. الفتوحات المكية. بيروت: دار صادر، 1999. (المراجع 3، 13، 24)

٢- أدونيس (علي أحمد سعيد إسبر). الصوفية والسريالية. بيروت: دار العودة، 1992. (المراجع 9، 12، 19، 23)

٣- أدونيس. زمن الشعر. بيروت: دار العودة، د.ت. (المرجع 17)

٤- إيزر، وولفغانغ. فعل القراءة: نظرية جمالية التجاوب. ترجمة عبد الرحمن أيوب. الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، سلسلة «عالم المعرفة»، د.ت. (المرجع 26)

٥- باشلار، غاستون. جماليات المكان. ترجمة غالب هلسا. بيروت: المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر، 1984. (المراجع 8، 10، 11، 15، 20)

٦- الغذامي، عبد الله. الخطيئة والتكفير: من البنيوية إلى التشريحية. بيروت: المركز الثقافي العربي، 1985. (المراجع 7، 14، 21)

٧- فضل، صلاح. بلاغة الخطاب وعلم النص. القاهرة: دار الشروق، 1992. (المراجع 2، 5، 16، 18، 22)

٨- إسماعيل، عزّ الدين. الأسس الجمالية في النقد الأدبي. القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1992. (المراجع 1، 4، 6، 27)

٩- ياوس، هانس روبرت. جماليات التلقي. ترجمة منذر عياشي. دمشق: وزارة الثقافة، د.ت. (المرجع 25)

١٠- حيّ ابن سكران/مجموعة شعرية صدرت عن دار الشؤون الثقافية في وزارة الثقافة- بغداد ط1 2025

 

قراءة في جماليات التلقي لـ "التفاتة نحو نغمة خافتة" لأصالة لمع

أصالة لمع: من مختبر الخلايا إلى مختبر القصيدة

بين ضجيج المختبر وهمس القصيدة، تمضي أصالة لمع في رحلتها الفريدة، العالمة التي تمسك بالمجهر لتكشف أسرار الخلايا، هي نفسها الشاعرة التي تمسك بالقلم لتكشف أسرار النفوس، في فرنسا، حيث تقيم منذ أكثر من عقد، تبني جسراً خفياً بين صرامة العلم وجنون الشعر، بين لغة الأرقام ولغة المشاعر.

لغتها الأم، العربية، هي ملاذها الأخير.. فيها تختزن ذاكرة الأجداد، وفي حروفها تستعيد دفء الوطن البعيد.. تكتب بلغة تبحث عن معنى في زمن العولمة، تمسك بها كما يمسك الغريق بحبل النجاة.. في نصوصها، تتحول العربية إلى فضاء للحرية، إلى وطن بديل تحمله في قلبها أينما حلت.

شعرها يشبهها: قوي وهش في آن.. كلماته تمر كالشفرة التي تحمل أسراراً لا يفكها إلا من يعرف كيف يقرأ بين السطور.. تكتب عن المنفى الذي لا يقتصر على البعد الجغرافي، بل هو منفى الروح في جسدها، والقلب في صدره.. تكتب عن الوحدة التي تتحول في قصائدها إلى رفيق درب، وعن الهشاشة التي تظهر كأجمل ما في الإنسان.

في ديوانها الأول "التفاتة نحو نغمة خافتة" (2022)، تضعنا أمام أسئلة الوجود الكبرى، وفي "فيما تمعن فيك الأشياء العادية" (2023)، تتعلم من التفاصيل الصغيرة فلسفة الحياة.. أما مختاراتها الفرنسية "نغمات خافتة" فتشهد على قدرة شعرها على عبور الحدود واللغات.

عبر مشاركاتها الدولية، من المغرب إلى تركيا إلى فرنسا، تثبت أن الشعر لغة عالمية تفوق كل اللغات.. في مهرجانات الشعر، تقف العالمة-الشاعرة شاهدة على أن العلم والفن وجهان لحقيقة واحدة: البحث عن الجمال والمعنى.

أصالة لمع لا تكتب لتسلية القراء، بل تكتب لأنها لا تستطيع إلا أن تكتب.. القصيدة عندها فعل مقاومة، مقاومة النسيان، مقاومة الصمت، مقاومة الموت.. في كل قصيدة تنجح في تحويل الألم إلى جمال، والغربة إلى وطن، والوحدة إلى لقاء.. هذه هي أصالة لمع: امرأة تحمل في يدها مجهر العالم، وفي الأخرى قلبه النابض.

الانزياح اللغوي والدلالي: هدم التوقعات وبناء القارئ الجديد

لا تكتفي الانزياحات في شعر أصالة لمع بأن تكون مجرد خروج على المألوف، بل تتحول إلى خيوط سحرية تنسج بها قارئاً جديداً ينبثق من رحم الانزياح نفسه، فالشاعرة لا تقدم نصاً جميلاً فحسب، بل تصوغ قارئاً قادراً على استيعاب جماليتها الخاصة، حيث يتحول الانزياح من أداة تعبير إلى أداة خلق، تشبه نحت تمثال من طين الذهن والتصور.

تبدأ عملية الخلق بهدم التوقعات المسبقة، فالقارئ التقليدي يحمل تصورات ثابتة عن اللغة والشعر، فتأتي أصالة لمع لتهدم هذه التصورات عبر الانزياح اللغوي، في قصيدتها "الآن، لا أمس ولا غد"، تكسر الشاعرة النسق الزمني المعتاد:

"الآن، لا أمس ولا غد

يتمدّد هذا الوقت

يبتلعُ الكَون"

هذا الانزياح الزمني يهدم صورة القارئ التقليدي الذي يعيش في زمن خطي، لتحل محله صورة قارئ جديد قادر على العيش في زمن متعدد الأبعاد، زمن يمكن أن يتمدد ويبتلع الكون. الانزياح هنا يصبح عملية جراحية في عقل القارئ، تستأصل التصورات القديمة لتزرع مكانها تصورات جديدة.. ولا يقف الانزياح عند المستوى اللغوي، بل يمتد إلى الانزياح الدلالي، حيث تخلق "لمع" عوالم متوازية يتدرب فيها القارئ على أنماط جديدة من التفكير.. في نص "الجسور"، تتحول الجسور من معنى مادي إلى دلالة وجودية:

"بَنَيْنا الجسور

لِنَعْبُر

إِلى الضِّفَّةِ المُقابِلَة

مِنْ أيِّ شيء"

هنا يولد القارئ الجديد القادر على رؤية الجسور غير المرئية، تلك التي نبنيها لنعبر من ذواتنا إلى ذواتنا، من ماضينا إلى حاضرنا، من واقعنا إلى حلمنا. الانزياح الدلالي يصبح مدرسة يتعلم فيها القارئ كيف يرى العالم بعين أخرى، عين ترى ما وراء المظاهر وتكشف الخفي من المعاني، وهكذا، يصبح الانزياح اللغوي والدلالي في شعر أصالة لمع بوابة عبور من قارئ سلبي يتلقى المعنى الجاهز، إلى قارئ مشارك يشارك في صناعة المعنى، قارئ يولد من رحم الانزياح ليكون شريكاً حقيقياً في العملية الإبداعية.

الانزياح الأسلوبي والوجودي: من الحوارية إلى الولادة الجديدة

تمتد استراتيجية الانزياح عند أصالة لمع من المستوى الأسلوبي إلى العمق الوجودي، حيث تتحول القصيدة من خطاب أحادي إلى حوار تفاعلي يفضي إلى إعادة نظر جذرية في ماهية الوجود، ففي الانزياح الأسلوبي، تلجأ الشاعرة إلى تحويل الضمير من الغائب إلى المخاطب، مما يخلق علاقة حميمة مع القارئ ويحوله من متلق سلبي إلى شريك في الحوار، نجد هذا جلياً في نص "هشاشتك لن تكسرك" حيث تخاطب القارئ مباشرة:

"لا تسه خَطْوة

عن تذكر نفسك"

هذا الانزياح في أسلوب الخطاب يخلق قارئاً محاوراً، يشارك في عملية الخلق الشعري ولا يكتفي باستقبال النص. فالانزياح الأسلوبي هنا يصبح جسراً للعبور من التلقي إلى المشاركة، ومن القراءة إلى الحوار، أما الانزياح الوجودي فيمثل المستوى الأعمق في تجربة "لمع" الشعرية، حيث تدفع بالقارئ إلى هاوية السؤال عن ماهية الوجود والعدم، في قصيدة " كأننا لم نوجد يوماً"، تصل الانزياحات الوجودية إلى ذروتها:

"نحن بحاجة إِلى أن يبدو الأمر

كأننا لم نوجد يوماً"

هذا الانزياح الوجودي يخلق قارئاً جديداً من رحم العدم، قارئاً يواجه إمكانية العدم كتجربة وجودية، ويتخيل عالماً لم يوجد فيه. الانزياح هنا يصبح عملية ولادة جديدة، يخرج فيها القارئ من رحم الانزياح كائناً متحوّلاً، يحمل رؤية مغايرة للوجود والعدم، للحضور والغياب، وهكذا ينتقل الانزياح من كونه تقنية أسلوبية إلى كونه تجربة وجودية، تبدأ بالحوار وتنتهي بالولادة الجديدة، في رحلة تحول يكون فيها القارئ شريكاً أساسياً في عملية الخلق وإعادة النظر في الوجود نفسه.

آلية الخلق: الانزياح كرحم نصي

يمكن تلخيص آلية خلق القارئ عبر الانزياح في المراحل التالية:

المرحلة الأولى: الصدمة الانزياحية

تهز الانزياحات القارئ من سباته التقليدي، وتصدم توقعاته المسبقة.

المرحلة الثانية: التفكيك

يتفكك القارئ القديم تحت وطأة الانزياح، وتتهشم تصوراته التقليدية.

المرحلة الثالثة: إعادة البناء

يبدأ القارئ في بناء ذاته الجديدة، متبنياً الرؤية الجديدة التي تقدمها الانزياحات.

المرحلة الرابعة: الولادة

يخرج القارئ الجديد من رحم الانزياح، حاملاً رؤية جديدة للعالم.

القارئ المخلوق: مواصفات القارئ الجديد

القارئ الذي تخلقه أصالة لمع من رحم الانزياح له مواصفات محددة:

- قارئ مرن:

قادر على التكيف مع الانزياحات والتأقلم معها.

- قارئ مبدع:

يشارك في إنتاج المعنى، ولا يكتفي باستقباله.

- قارئ وجودي:

يتساءل عن ماهية الوجود والعدم، الزمان والمكان.

- قارئ شجاع:

لا يخاف من الانزياح، بل يبحث عنه.

تقدم الانزياحات هنا كمسارات تأويلية تفتح أمام القارئ أبواباً متعددة للتفاعل مع النص، فتصبح عملية القراءة حواراً يتجاوز التلقي المباشر إلى المشاركة في تشكيل المعنى، وهكذا تتحول القراءة من مجرد استقبال إلى ممارسة نقدية وإبداعية، حيث يشارك القارئ في اكتمال الصورة الشعرية من خلال تجاوزه للمألوف وسعيه الدؤوب خلف الدلالات المتعددة.

***

رزق فرج رزق – ليبيا

نجد أنفسنا وفي نص (مكان للسباب) الذي نقله محمد المنسي قنديل ضمن كتابه "وقائع عربية" (دار الشروق، 2021)، إزاء سردية ذات طابع أسطوري تحاول عبر التخييل أن تفكك البنية العميقة للوعي العربي، وخاصة في لحظاته المؤسسة في زمن ما قبل الإسلام، لا من أجل استحضار مجد ماضٍ مزعوم، بل لكشف التصدعات الأولى في خطاب الفخر والأنساب والعصبيات التي صنعت تلك الهوية، يحمل هذا النص في طياته، رغم صيغته الحكائية البسيطة، بناءً ثقافياً معقداً يكشف عن التوتر الاجتماعي والقيمي، حيث يُختزل المجتمع في مكان طقسي مخصص للسباب، كأن الكلمة القذرة هي الأثر الباقي الوحيد في زمن انهارت فيه المعاني الكبرى.

ليس المكان الذي يدعى "صفي السباب" مجرد حيّز جغرافي، بل هو مساحة رمزية، تمثل التناقض العميق بين القداسة المكانية لمكة والممارسات الدنيئة التي تحدث على هامشها، هذا الانفصام بين الفضاء المقدس والممارسة المنحطة، يشي بأن الانحطاط ليس فعلاً عارضاً، بل مؤسساً في بنية الجماعة، فذكر الأنساب والمفاخرة والسباب ليست إلا تمثيلات لأوهام التفوق والامتياز، لكنها في حقيقتها لا تنفصل عن شهوة السلطة والعنف والتمركز الطبقي، أو كما يقول النص (يعلون بمفاخرهم على الآخرين للمرة الألف، ثم تأخذ كل جماعة في الطعن في نسب الأخرى وتبالغ في معايبها وهوانها على الناس).

يقدّم قنديل في هذا النص، قراءة معكوسة للسردية البطولية العربية التي لطالما مجّدت النسب والقبيلة، فبدلاً من أن تُصور تلك الأنساب بوصفها دليلاً على النبل، تتحول إلى أدوات للتهكم والطعن، بل ويكشف النص أيضاً عن أن الأنساب، التي يُفترض أن تكون حصناً للهُوية، تُستخدم كقنابل لفظية تُلقى في معركة لا تشبه معارك الفرسان، بل تشبه معارك الضواري في برية من الكراهية (ينزعون من على أجسادهم العباءات الثمينة ويقفون نصف عرايا، تستيقظ الضواري الرابضة في أعماقهم وتفرد مخالبها)، فيكشف هذا المشهد عن تَحَوُّل الجماعة من بشر إلى كائنات مفترسة بمجرد أن يُستفز الخطاب الهوياتي.

ثم تأتي المفارقة حين ينتقل النص من طبقة السادة إلى طبقة الموالي والعبيد، حيث يتحول فعل السباب إلى ممارسة أكثر عنفاً وتدميراً، فهؤلاء المهمشون، الذين لا يملكون إلا ألسنتهم وسيوفهم في حضرة سادتهم، يمارسون شكلاً من التعويض الرمزي عن تاريخ طويل من القهر، لكن لا تمنحهم الحكاية بطولة أخلاقية، فبدلاً من أن يكون فعلهم مقاومة للظلم، يصبح تماهياً مع خطاب التبعية ذاته، إذ يدافع كل عبد عن سيده ويشتم سادة الآخرين، كأنهم تماهوا مع موقعهم القيمي إلى حدّ تبني أدوات القامع (كل منهم يدافع عن سادته ويعيب سادة الآخرين، كانوا في العادة أكثر انفعالا من السادة، ينفسون من خلال السباب عن حنق أيام العبودية الطويلة).

وتمضي الحكاية لتغوص في طبقة أكثر هشاشة وجرحاً؛ وهي الجواري، إذ لا تخوض هؤلاء النساء المعركة من أجل الفخر أو الدفاع عن السادة، بل من أجل حكايات العذاب، من أجل جراح الجسد والروح التي لم تندمل، هنا يغدو السباب فعلاً وجودياً، ليس ضد الآخر، بل ضد العالم، ضد القدر، ضد الذكريات الموجعة (يتشاجرن حول نظرات الاحتقار وآهات الاحتضار والإحساس الدائم بالانكسار)، تكشف الحكاية عن الجانب الأكثر مأساوية في هذه الحفلة الجماعية للسباب، حيث تتحول الجروح الفردية إلى مادة صراخ جماعي لا يسمعه أحد.

يشارك الجميع في حفلة الانحطاط الجماعي التي يقيمها المكان الذي لم تبرحه الغربان، فلا أحد ينجو من الإدانة في هذه الحكاية (كانت تترقبهم جميعا في صمت حصيف، وتنتظر من يسقط منهم دون أن تبالي من السابب ومن المسبوب)، ليست تلك الغربان مجرد طيور، بل رموز لعقل محايد، يراقب دون أن يتورط، كأنها تمثل الحقيقة، أو الذاكرة التي لا تُخدع بالشعارات، ذاكرة صلبة لا تنحاز سوى لتوثيق ما يجري، تحفظ التفاصيل، وتعيدها للزمن كمرآة قاسية لا ترحم، وتذكّر بأن الخراب لا يُقاس بعدد الجثث فقط، بل بعدد المعاني التي تُهدر.

يقدم النص في النهاية قراءة فاحصة للثقافة العربية التأسيسية، بوصفها لحظة موغلة في الصراع والتفكك والنفاق، لحظة تكشف عن بنية عميقة من التواطؤ بين السلطة والعرف، إن «مكان السباب» هو استعارة كبرى، ليس للماضي فقط، بل للحاضر أيضاً، حين تُستبدل العدالة بالانتقام، والكلمة بالبذاءة، والتاريخ بالفضيحة، ويغدو الوعي الجمعي أسيراً لدائرة لا تنتهي من الإقصاء المتبادل وإعادة إنتاج العنف الرمزي.

ولعل الكتابة هنا ليست فعل حكيٍ ماضٍ، بل مرآة سوداء نُطل منها على وجوهنا كما هي، دون أقنعة، فهل نحن –بألسنتنا، بخطاباتنا، بتحزّباتنا– إلا امتداد لذلك السباب الأول؟ أليس التاريخ العربي، في أحد تجلياته، صراعاً دائماً على النسب والحق والكلمة، لكنه غالباً ما ينتهي إلى قذف الحصى والصراخ في العراء؟ (ويظل الصدى يردد بقايا كلماتهم القذرة حتى بعد انصرافهم)، في دلالة مريرة على أن اللغة، حين تُستنزف في السباب، تبقى كندبة لا تزول، كصدى يشوه المكان والزمن والذاكرة.

***

أمجد نجم الزيدي

 

تفاجأت حين وصلني كتاب الفنانة هديل كامل (الحياة.. كجملة ناقصة)، وهو عمل نثري يضم 93 قصيدة تبدأ ب "حريق الدمع" وتنتهي ب "تصفية حساب"، وصدر مؤخراً عن دارَّي غولدن بوك للنشر ولندن للطباعة والنشر، في 154 صفحة من القطع المتوسط. كنتُ أتوقع أن يكون الكتاب عن سيرتها الفنية الحافلة، وهي التي بدأت التمثيل في سن الرابعة في تمثيلية (تضحية وجدار)، بينما كانت بدايتها الفعلية من الإذاعة والتلفزيون في سن الرابعة عشرة.

هديل كامل الحاصلة على شهادة الدكتوراه في الإعلام من جامعة بيروت العربية، تكتب عن الحياة التي تراها جملة ناقصة: تبدأ بحرفٍ كبير، لكن نهايتها تظل مفتوحة على الاحتمالات. نولد كأننا الكلمة الأولى، ثم تتراكم حولنا الأفعال والصفات والظروف، إلا أن الفاصلة دائماً تسبق اكتمال المعنى.

هي تحاول أن تكمل الجملة بالحب، بالعمل، بالنجاحات الصغيرة، وحتى بالخذلان. ومع ذلك، يبقى فراغ يطالب بكلمة لم تُكتب بعد. كأن الحياة مشروع متواصل لإضافة كلمة، ثم تلو أخرى، حتى تصل لحظة الصمت الأخيرة التي تُشبه النقطة.

لكن ربما يكمن جمالها في نقصها؛ فلو كانت مكتملة لما بقي فينا شغفٌ بالسؤال ولا توقٌ إلى ما وراء. إن الناقص يفتح باب الاحتمال، والاحتمال يمنحنا معنى يتجاوز حدود العبارة.2067 hadel kamil

الحياة، إذن ليست نصاً يُقرأ، بل نصاً يُكتب، لا جملة تامة بل سطراً مفتوحاً، حيث لكلٍّ منَّا الحق في أن يضيف كلمته الخاصة قبل أن ينتهي السطر الأخير. فالحياة في جوهرها، لا تُشبه الرواية المكتملة الفصول، ولا القصيدة التي تصل إلى قافيتها الأخيرة في انسجامٍ تام، بل هي أقرب ما تكون إلى جملة ناقصة تُقرأ وتُعاش في حالة من التوق والترقب. جملة تبدأ بحرف كبير كما تبدأ طفولتنا بالدهشة الأولى، لكنها تظل مفتوحة على احتمالات لا حصر لها، كأن الكاتبة تتردد أو تترك المجال للقارئ كي يضع الكلمة التالية.

تعيش الكاتبة في هذا الفراغ بين الكلمات، تحاول أن تمنح الجملة معناها؛ غير أنَّ كل إضافة لا تلغي شعورها بأن شيئاً ما لم يُكتب بعد. وإن هناك كلمة غائبة، فكرة لم تُصنَع، خاتمة لم تُحدَّد، وتظل تحوم حول النص كما يظل السؤال معلقاً في ذهن الإنسان منذ وُجد على هذه الأرض.

لاتظن أن اكتمال الجملة يعني الوصول إلى المعنى النهائي، لكن الحقيقة هي أن النقص هو ما يحركنا، هو ما يجعلنا نواصل البحث، نسافر، نجرّب، نخطئ، نُعيد الكتابة من جديد. لو كانت الجملة مكتملة، لما كان في داخلنا شغفٌ بالسؤال ولا توقٌ إلى الغد. الاكتمال موت، والنقص حياة.

الحياة كجملة ناقصة تعني أن وجودنا مرهون بالمحاولة المستمرة للعثور على كلمة مفقودة. إنها دعوة للخلق والتجديد، لا للإكتفاء بما هو حاضر. في الجملة الناقصة مساحة للحرية، لأنها تسمح لكل فرد أن يختار كلمته الخاصة ليضعها حيث يشاء. بعضنا يختار أن يملأها بالمحبة، آخرون يملأونها بالعلم أو بالثورة أو بالصمت العميق. كل كلمة تُكتب تختلف عن الأخرى، لكنها جميعاً تتشارك خاصية جوهرية: أنها ليست الأخيرة.

ولعل أكثر ما يثير في هذا التصور أن النقطة النهائية ليست بأيدينا. نحن نكتب ونضيف، لكن النهاية قد تأتي فجأة، لتضع النقطة حيث لم نتوقعها. عندها تتجمد الجملة كما هي، ناقصة أو مكتملة وفق ما تركناه نحن من أثر. قد يتولى الآخرون مهمة قراءة هذه الجملة وتفسير فراغاتها، وقد يجدون فيها ما لم نرَه نحن أثناء حياتنا.

بهذا المعنى، تصبح الحياة تجربة لغوية وجودية في آن. إذ أن الكلمات والفراغات وعلامات الاستفهام التي تتوالى والحروف، قد تُمحى أو تُستبدل، مع كل لحظة وقرار وخطوة، لأنها ليست نهائية محفوظة في كتابٍ مقدس.

ومن هنا تنبع قيمة الحياة: في أنها مفتوحة. فالجملة الناقصة لا تعني نقصاً في القيمة، بل تعني وفرة في الاحتمال. فهي الباب الذي يظل نصف مفتوح. إنها تذكير دائم بأننا لسنا أسرى للنهايات بل صنَّاع بدايات متكررة.

قد تكون الحياة جملة ناقصة، لكننا نحن منْ نقرر إن كانت هذه الجملة ستظل صامتة ومبتورة، أم أنها ستتحول إلى سطرٍ يضئ للآخرين. النقص لا يُلغى، لكنه يُؤنسن الوجود، يجعلنا كائنات تبحث وتسعى وتخطئ وتتعلم. وفي النهاية، حين توضع النقطة الأخيرة رغماً عنَّا، لن يكون السؤال: هل اكتملتْ الجملة؟ بل: هل تركتْ الجملة أثرها؟.

في كتابها حضور قوي لقساوة الغربة، تلك الكلمة التي تختصر عالماً واسعاً من المشاعر. فهي ليست فقط بُعداً عن الوطن، بل عن افتقاد الدفء الذي يصنعه الأهل، وللغة التي نفهمها بلا جهد، وللأمكنة التي حفظت خطواتنا.

قساوة الغربة تظهر حين يصبح الصمت رفيقك في مقهى مليئ بالناس لأن لغتهم ليست لغتك الأم، وحين تضطر لابتلاع حنينك كي لا تبدو ضعيفاً. فالغربة مدرسة قاسية، تحمل في طياتها أثقالاً من المشاعر التي لا يقدرها إلا من عاشها. هي قساوة صامتة، تبدأ حين تبتعد الأقدام عن أرض الأهل والذكريات، وتكبر حين تفتقد تفاصيل الحياة البسيطة: رائحة الخبز في بيت الأم، صوت صديق الطفولة، أو ضوضاء الشوارع التي كنَّا تشكوها، أو لهجة الناس في السوق.

وفي قصائدها إشراقة شمس جديدة، تبدو كأنها تكتب على صفحة السماء وعداً للحياة. ضوءٌ يتسلل إلى روحها المثقلة بالهموم ليوقظ فيها بذور الأمل، مؤكداً أن لا ليل يدوم، وأن فجر التفاؤل آتٍ لا محالة.

هديل كامل تبحث عن بغداد في مغتربها البارد. تمشي مثقلة بالحنين بين جدران غريبة، تبحث في الثلج والضباب عن دفء مدينتها الأولى، بعضاً من دفء بغداد، وتسأل الريح: هل يمرُّ بي نهرٌ شبيه بدجلة؟. وتنقّب في وجوه الغرباء عن ملامح من شارع المتنبي.

لكن كل خطوة تقودها أبعد عن جسد بغداد وأقرب إلى روحها. تفتش في المقاهي عن رائحة الهيل، وفي أصوات المارة عن نبرة بغدادية ضائعة، كأنها تمارس طقساً يومياً من مطاردة مدينة لا تأتي. فهي ليست مجرد مغتربة، بل روحٌ معلَّقة بين جليد المنفى ولهيب الذاكرة. تبحث عن بغداد في تفاصيل حياتها اليومية، لكن المدن الباردة لا تعطي إلا صدى الغياب.

 تقف الكاتبة على عتبة الحب والفقدان بقلبٍ عارٍ، كطفلة تمدّ يدها الأولى نحو المعجزة. الحب عندها ليس مجرد شعوراً عابراً، بل هو وعدٌ غامض بالحياة، ضوءٌ يتسرَّب إلى الروح ليغيّر ملامحها.

 لكنها تدرك أن الحب والفقدان وجهان لتجربة واحدة؛ نحب بكل طاقتنا ونحن نعرف أننا سنفقد يوماً ما. تمد يدها نحو ما كان، وتلتمس آثار خطواتها على أرض لم تعد لها. فالحب يمنحها معنى الوجود، والفقدان يعلّمها هشاشته.

***

جورج منصور

في زوايا العتمة بصيص نور اشتياق

لا ينطفئ كشعلة فنار يردد

البحر هائج من لوعتي

وقوارب لهفتي تنزاح

عن كثب لقياك

وأنا مدى ذكرى تموج

خليلة هواك...

من اليسر ان تمسك بالقلم وتخط ما يحلو لك، ومن العسر أن تنال إعجاب من يطالع لك. في ذلك العالم الصعب المراس، الوعر المسالك، الذي لا يهب سره بيسر الا لمن أمتلك مقومات الأديب النادر.

لا تبوح الشاعرة العراقية إنعام كمونة بهذا الانجاز، بل هي لا تفتأ تشيد بجهود رائدات الشعر الكبيرات، الرائدات منهن والمعاصرات، امثال لميعه عباس عمارة وسواها، وتذكر الاخريات دوما وانجازاتهن الكبيرة عند عالم الابداع النسوي في دراسات راقية خلابة..

غير أن كثيرا من النقاد، وكل من طالع لها ديوانها (اصطفيتك همسا) يؤكد انه يقرأ نمطا جديدا من فن الشعر غير معهود من قبل، وانهم أزاء شاعرة وكاتبة استثنائية بكل المقابيس، صاحبة قلم إختلف المتخصصون في بيان كنهه، واتفقوا على روعته وتساميه وندرة صياغته وحبك نسيج لغته:

أصطفيتُكِ همساً

يوما..

الصبح ناعس الهمس

يداعب وجه الضباب بصبوة الغزل

صفقتنا كفوف النوى على خدّ أحلامك

أفترشتنا جهات الفجأة..أطياف ممزقة

تناثرت ارواحنا.. أشلاء نحيب

أغتالت شهقاتك الغضة خطوات رحيل

غفلة … غفلة

ياااا طفلتي الغافية بمخمل أحضاني

فرت أنفاسك إلى رميم أضلعي الواهية

 وأنات أشجاني

آآآه كيف داهم حرير روحك فحيح عتمة

وأنا أعدّ كواعب ترفك على مهل أوجاعي

أهتزّ مهد عطرك بخلّة ليل ضرير

 ياااا طفلتي المبعثرة

تعااالي.. أضمك برق أفول

كغيمة أثكلها عطش الأنتظار

كبرق خاطف بمطر يابس

لا تفزعي من خضاب الذبول

مهما أرّقك ضنين الفراق

 أنا جهينة قطاف لنسغ دمك

أُلملم جروحك بيد كافور الغياب

أحتضن بقايا نبضك ألموشوم بدموع البراءة

 أُقبّل كركرة أحلامك بصراخ جوارحي

وإن اصطبغت حناجرنا بالوان الهلع

وإن داهمنا غدر فجيع خاطف

 انتزع أنين مبسمك الهادئ

ها نحن بمآقي خصر الغياب.. طيور نهاجر

ضمّة حزن نستريح.. بقربنا اللامتناهي

تهدهدك أحضان نوحي..مناجاة حنين

وأنتِ ترفلين في مهاد الغياب

 سلكت روحي دروب أجنحتك المتكسرة

كجمانة وجد بأقاليم الضياء

 ااااه لسعير أنّاتي المصتصرخة زمن الرجوع

كم خضبتُ أنفاسكِ بأعشاش أحشائي

وَشَمتُ اسمك بشرايين روحي

اصطفيتُكِ همسا شغف حنين

قرأتكِ أحلامي بيلسان مشيب

ساحتضن روحك بأنين عمركٍ اليافع الدفء

زُغب فراشات معطرة الصبا

وأمضي بك وجعا بأريج لقاء

لترضعي حليب الخلود نجمة سرمدية

سنطيــــــــــــر

و...نطيرررررر...

 نولد من ذاكرة الكون...

 يمامة بيضاء وسنبلة ندية

مختومة بصوت السماء

مدى حريــــــة

مكلومة الهوية

إنعام كمونة.. سيرة حياة.

ما بين مسقط رأسها، وموطن شبابها وذكرياتها وصويحباتها، وجنوب العراق، حيث عشقها للهور وحرية تحليق الطيور، كانت روح الأديبة تتنقل وتتآلف جماليا بين بيئة واخرى، تتوارى بين أسطر الفلاسفة وكبار الادباء متلفعة بطيات عيون كتب الأدب وهي تتطلع دوما نحو الخير.. رمز القداسة الإنسانية الاكبر، ولا تكاد تجد معشوقا لديها سوى الشعر الذي ابتدأت به كبيرة وظلت تكبر وتكبر دون ان تشيخ البتة.

ولعل اكثر ما لفت نظرها وهي ماكثة في قلب الشعر، هو ذلك التناقض المهول بين مواضيع القصائد، فالشعر وجودٌ يضم الجبل الشاهق بقمته، والوادي السحيق بعمقه، تختفي معالم الوجود عند القمة كما تذوي وهي بين طيات القعر، وكيف يبدو الجبل قريبا وهو على بعد شاسع، مما ولّد لديها فلسفة أدبية خاصة، جعلت افكارها تتجلى بوضوح وهي تصطف الى جانب الشمس تارة، وتتلفع تارة أخرى بغموض مدهش، وتغوص بشكل يصيب القاريء بالحيرة والتفكر، واللذة في آن واحد !!

ربطتها صداقات عميقة مع من اختارتهن من صوحيبات، فكانت تنظر الى كل صاحبة منهن على انها قصة انسانية كاملة صاغها الزمن، تختزن منها الجانب الذي ينمي عشقها لخوض تجربة الادب، دون ان تتخلى عن انسانيتها في التعاطف معهن وكتم أسرارهن بحال من الأحوال، لتبدع في فن السردية التعبيرية كما ابدعت في سواه من فنون الادب:

(لا أُجيد رتق التهجي من فصاحة الوجود، ولا أخدش قريحة اللفظ في ذهن المشاعر، لكن يعمدني ماء الفضول فاصطاد فوارس الكلمات بنفير أصابعي، أنا لست بشاعرة لكن عنان حلم يفوح بمرآة وهم العنوان، هكذا أنا حين تسيل بين أناملي همزات وصل شاعرية وتلتف حول معصمي بنبض تمرد، تضج ترانيم عشقي لشناشيل لغة مكتظة الحنين منذ مهد أبجديتي، يسامرني شاهين الخيال بصورة شعرية آسرة التوق، أضمها الى تلابيب الإنزياح حتى تحتدم قُبل الدلالات)!!!

كانت كمونة ومنذ سنوات صباها ترفض القوالب الجاهزة والصيغ المعتقة، مثلما عارضت التنمر والتحجر، وسخّرت جزءا مهما من ادبها نصرة قضايا بنات جنسها.

تغنت بالاهوار، ليس من باب التغني بالجمال فحسب، بل معايشة منها لمكابدات اهلها وقد جف ذلك النبع الذي يهديهم الرزق والحياة الكريمة، فعايشت مآسيهم ونسجتها بأطيب القصائد وهي تعقد علاقة عشق مع سكانها الاطياب، وطيورها ومشاحيفها الآمنة. ذاك انها ووفق فلسفتها الخاصة تجد أن الخير لا يتجزأ، والشر لا يتجمل، وليس انسانا من لم يتضامن مع قضايا المظلومين.

نجاح إنعام كشاعرة جعل منها علامة من علامات الشعر، واقتدارها كناقدة جعل منها ايقونة تحليل نادره، وجميع عوامل الإنسانية والابداع جعلت منها نخلة باسقة من نخيل وادي الرافدين، وتلك هي المبدعة التي تركت وتترك اثرا من ذهب، على ثرى أرض الرافدين، ونهريها الخالدين.

كيف راودك الظمأ سيدي

ومهر سيدة النساء (فاطمة الزهراء)

فيروز الفراتين..؟

 كيف أدرك عيالك العطش

والفرات يرضع من أنامل عصمتكم

حلاوة شهد..!!

فقراح دمك أثكل ماء الزمن

ودمك المسفوح يروي

ظمأ نهر العلقمِ

للآن يفيض سلسبيل دمعهِ

من طهر دمك العذبِ

فانبلج نصرك نبراس الضياء

فجرا سرمديا

يرتدي عشبة

قربان الخلود

يستحم

ضمير النصر

في قداسة الذاكرة

نورا... يتوضأ

***

سعد محمود شبيب

ما لا يختلف عليه المتابعون للمشهد الثقافي بصورة عامة، هو كثرة النتاج الأدبي - شعرا كان أم نثرا - في موضوعات كثيرة، قد لا يتاح للمتلقّي أن يطالع تلكم الأعمال جميعها متابعة الراصد المتأمِّل في مبناها تارةً وفي معناها تارةً أخرى، وفي الوقت نفسه لا يمكن الزعم أن تلك الكثرة تعد من علامات التعافي والازدهار في المشهد الثقافي، ففي ظلِّ استسهال النشر، واندلاق لعاب نسبة عالية من الذين يَحبُون حبْوًا في طريق الأدب قراءةً له، وقفزهم - بقدرة قادر - إلى مرحلة الكتابة والنشر، فضلا عن غياب النقد الموضوعي الرصين عن متابعة تلك الأعمال متابعةً تكشِفُ الزَّبَدَ منها عمَّا ينفع الناس؛ لأسبابٍ معروفةٍ أو مجهولةٍ بقَصدٍ أم مِنْ دُونِه، تَفَشَّتْ تِلكُمُ الأَعمالُ الأدبيَّةُ في ظاهرها، ولكنّها بعد التمحيصِ النَقديِّ الجاد، قد لا تجدُ لها نصيبًا من هذا الوصف.. !

والكلامُ أعلاهُ إنَّما يصفُ ظاهرةً لا يُمكِنُ بحالٍ من الأحوال جعلها قاعدةً تنطبق على جميع الأعمال الأدبية، فكما قيل: "لكلِّ قاعدةٍ استثناء" ومن هذه الاستثناءات التي أقفُ عندها في مجال الرواية، ما صدرَ للروائيِّ العراقيِّ القدير سلام حربة، من عملٍ روائي رصين حمل عنوان: "قافز الموانع" عن منشورات الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق لهذا العام، يستحق أن نُنوِّهَ عنه؛ لما أثارته من إشكالات في الواقع الاجتماعي بعد تغيير النظام السياسي في العراق، ونقول إشكالات وليس إشكالية واحدة، على الرغم من أنَّ الناظر في الرواية سيجد أنَّ حدثًا بارزًا يستولي عليها دون غيره، وهو المتعلق بادّعاء السيادة – أي الانتساب إلى آل الرسول – لشخصيّة ثانويّة في الرواية – وهو ناصر الذي ادّعى فيما بعد أنه (المبارك) – لكن الشخصية الرئيسية – وهو علاء ويكون ابن أخٍ لناصر – إلا أنَّ هذا الادّعاء سيتولّد عنه إشكالياتٍ أخرى، إذ بعد ظهور العمِّ (المبارك) على الساحة بعد أنْ كان مختفيًا لمدةٍ طويلة كان لأهلِ المحلّة أن تنسى معالم وجهه، ولا تعرف أنه (ناصر) الذي لم تفارق اسمه الموبقات والمنكرات، مستغلاًّ اضطراب الوضع الأمني، مدّعيًا باللقب المبارك ليموِّه على الناس، ويجعلهم تابعين له، باعتبار أنَّ الذي ينحدر من هذه السلالة المباركة في عُرف ذلك المُجتمع شخصٌ منزّهٌ عن فعل الموبقات، وهنا تبدأ المواجهة بين علاء الذي لم يقتنع بهذه السرديّة التي انطلَت على أهلِ المحلّة وعلى أخيه المعروف بسلوكه الجنسيّ المنحرف، وكان يقف إزاء كلِّ ما يصدر عن عمِّه من مواقف وسلوكيّات بالمرصاد، مذكِّرًا أنّ النسب الذي يدّعيه باطلٌ وأنّه ينحدر من نسبٍ قيل من أصول غير عربية، وهنا لم ينظر علاء إلى نسبه نظرة ازدراء، ويتشبّث بالنسب المبارك الذي ألصقه بهم العم المبارك، بل رأى – وهو أستاذ التاريخ – أنَّ الإنسان هو الذي يُشرِّف نسبه، وليس العكس، هذه الرؤية العقلانية التي آمن بها علاء، كانت الدافع لأنْ يبقى صلدَ الموقف إزاء ترغيب وترهيب عمِّه الذي ازدادت شعبيّتُه في المحلّة التي عاد إليها يومًا بعد آخر، فضلاً عن ضغوط زوجته وابنته اللّتين اعترضتا عليه أكثر من مرّة خوفًا مما سيجرّه موقفه عليه من مخاطر بدت تُحيق به وتزداد، وهنا يُجسِّد لنا الكاتب أزمة المثقّف حين يجد أقربَ الناس منه يتخلّون عنه ولا يجد عونًا له أو تشجيعًا منهم فيما يتّخذه من موقفٍ مسؤول في زمنٍ تلتبس فيه الحقائق وتضيع فيه القيم الأخلاقية..!

وإذ يتمسّك البطل "علاء" بالجذور، عبر البيت القديم الذي ورثه من أبيه، يجسِّد لنا الكاتب عبر شخصية العمِّ المنتحل صفة (المبارك) انسلاخه من تلك الجذور وقفزه على القيم الأخلاقية في عدم احترامه بيت العائلة، إذ استولى عليه حين ظهر بعد سقوط النظام السياسي، مدّعيًا أنَّ والده قبل أنْ يتوفاه الله كان مدينًا له وفي حال عدم تسديده الدين، كان قد كتب له البيت في قصّةٍ ساقها على (علاء) مستغلاّ سطوته المادّية على من يستطيع التأثير عليهم. وكان له بعد هذه الخطوة أنْ يعمل على تغيير كثيرٍ من معالمه بدءًا من إزالة الباب العتيقة التي توقّف عندها الكاتب واصفًا تفاصيلها الدقيقة معبِّرًا من خلال ذلك الوصف عن عمق الذكريات الجميلة  التي مرّت على ذاكرة (علاء) وهو يرى الباب مرميّة على الأرض كجثّةٍ هامدة، وهي خطوة تكشف عن لا مبالاة ذلك العمِّ بإرث العائلة، بقدر ما تعمل على مسح كل ما يتعلق بها من ذاكرة ترتبط بالمكان وتفاصيله، وعبر ذلك التجريف المتعمّد من قبل العمِّ المدّعي لصفةٍ دينية، يوصل الكاتب لنا رسالةً واضحة تتمثّل بزيف ادّعاء تلك الصفة من قبل ذلك العم، وذلك من خلال وضع يده على مُلك أبيه من دون أنْ يتقسّم على بقية أولاده بحسب الأحكام المرعيّة في مسألة الإرث، ولم يكتفِ بهذا الدور، بل عمل من البيت مقرًّا لمجالسه الدينية التي يعقدها، موظِّفًا قدرته المالية على جذب البسطاء من الناس الذين يحتشدون على مجلسه الذي تُرافقه الولائم الدسمة،  وبهذا أظهر الراوي لنا سلطة الكهنوت الديني على وسط اجتماعي مهيّأ لتقبّل هكذا ادّعاءات وتصديقها لسطحية الوعي الجمعي الذي يقيد عقول هؤلاء الأتباع، ويمنعهم من مناقشة هكذا ادّعاءات بموضوعية. وهنا تبرز شخصية علاء الذي لم يُهادن إزاء سلطة ذات وجهين: سلطة القرابة ممثّلةً بالعم (ناصر) وسلطة رجل الدين الذي تمثّل بعنوانه الجديد: (المبارك) الذي بسط نفوذه على المحلّة وصار الناس البسطاء يلتفّون حوله ويتكاثرون يوما بعد آخر، ويُمكن أنْ نضيف لها سلطة أخرى انضمّت إلى السلطتين السابقتين، وهي سلطة الأعراف التي تقضي على الشخص أنْ لا يغيّر السائد أو يعترض عليه، إذ كانت الأعراف تقضي على بطل الرواية مجاراة الناس في تقاليدهم وسلوكياتهم، ولا يقف منتقدًا ما يقومون به من أفعال أو أقوال، وهو الأعزل لا يملك غير الثقافة الي تزوده بالموقف الشجاع، ويبقى في صراعٍ مع زوجته (بتول) التي تحاول جهدها في ثنيه عن الوقوف بوجه عمِّه ومن اصطفَّ معه من أشخاص، وفي قبال رفضه فكرة الرحيل عن المحلّة، يرتفع صوته بالقول: (لن أترك هذا المكان وسأواجههم، عمّي وباسم وجودي، بكلِّ ما أستطيع حتى ولو بصوتي فقط، أنا بحقيقتي وهم بزيفهم وكذبهم، إنْ تنازلتُ لهم سيجعلون من حياتي جحيما..) والمكان الذي أشار إليه يمثِّل الجذور التي ينتمي إليها الإنسان، وكلُّ ما يمُتُّ بها من آثار للأسلاف، وما يطمح الإنسان تحقيقه فيها من أحلام ومنجزات، فهو إذن يُدرك أنَّ الهويّة لا تتجسّد إلا من خلال ارتباط الإنسان بالمكان الذي يعيش فيه، ويمكن لنا أنْ نستجلي ذلك بوضوح في قوله: ((أنا لا أحبُّ الأحياء الحديثة والقصور الكبيرة، لأنّها مُسيّجة ومعزولة عن بعض ولا أحد يعرف ما يجري داخلها ولا يتسرّب منها حرف كلام، بيوتٌ تنغلق على أسرارها، أنْ تكون أحد أبنائها أو ساكنيها يُشعرك بالترفّع والتكبّر وأرقّ كرامةً من الآخرين. وُلِدتُ في محلّة الوردية وامتلأت زغابات روحي برائحة أزقّتها الطينية وعفونة أبواب بيوتها الخشبية المتآكلة بمطارقها النحاسية ذوات الأشكال الهندسية الجميلة، تخدّرت خياشيمي بروائح أنواع الأكلات التي تخرج من مطابخ بيوتها القديمة وتعوّدنا رؤية الأيدي وهي تحمل الصواني الممتلئة بمواعين الأكل التي فيها ما لذّ وطاب تتصاعد منها خيوط الأبخرة الحارّة المتموّجة الراقصة التي يجب أنْ يأكلها الجار قبل صاحب الدار. لا حاجة لسكنة هذه المحلات الشعبية إلى اقتناء السيارات لأنهم في وسط المدينة يحيطهم النهر والأسواق والمقاهي والدكاكين من الجهات الأربع) ص135 . فالمكان لديه يُشكّل جزءًا لا يتجزأ من ذاته، بوصفه مستودعًا للذاكرة التي يتلخّص منها موقفه الفكري والثقافي من الماضي والحاضر والمستقبل. وبهذا التفصيل ينطلق البطل علاء في تقييم ما حوله من مظاهر وأحداث وشخصيات، ساعيًا إلى ترسيخ مبادئ لم تكن غريبة عن هذه البيئة التي عاش فيها.

 ولكن المفارقة تكمن حين يعيش المُنتمي لهويته الوطنية في زمنٍ تتبدّلُ فيه الولاءات والانتماءات والآراء والمواقف لمصالح فئوية أو شخصية، وهنا يعيش البطل (علاء) زمنًا يصفه بالقول: (الزمن في معظم البلدان يتقدّم إلى أمام إلا في العراق فإنه يمضي إلى الخلف، الزمن بطبيعته هو ما يرسم المستقبل الذي تبصره الشعوب وتتحرك بثبات وإصرار وبأرواح منفتحة نحوه. حين يكون الماضي أجمل من الحاضر فاقرأ على هذا البلد السلام) 176.. وفيما يؤكّد أنَّ (علاء) يعيش انتماءه الوطني أنّه لم يلق أذنًا صاغية لمن راح يخوِّفه من رحلته إلى الرمادي مرورًا بالفلوجة، هذه المدينة التي احتدمت بالأحداث بعد سقوط النظام، إذ يصف لقارئه ما رآه من أهوال، بالقول: (كان الوصول إلى هذه المدينة يعني أنْ تكتب وصيّتك لأنّ فرصة الرجوع منها ضئيلة أو تكون معدومة، الطريق إلى المحافظة مُخططٌ بالمفارز الأمريكية المُطعّمة بأعداد قليلة من قوات الأمن العراقية، أما الوصول إلى مدينة الفلوجة، مدينة الجوامع، يعني أنْ تنطق بالشهادة. هذه المدينة لم تهدأ أبدًا وأصبحت مركزًا لتنظيم القاعدة ودخلت في كرٍّ وفر في قتالها مع القوات الأمريكية والعراقية وقصّت ذيل المحتل حين دخلها عددٌ من المتعاقدين من قوات البلاك ووتر إلى المدينة في آذار 2004 حيث جرى قتلهم وتعليقهم على جسر المدينة وأعمدتها) 176 – 177. وبعد ذلك يتفاجأ البطل علاء بأنْ يجد زميله القديم في الدراسة المعروف بتوجهه اليساري، قد صار بقدرة قادر ملتحيًا متأثّرًا بموجة التدين الشكلي الذي تفشّى بين ساكني هذه المحافظة، مستغربًا عن سرّ ذلك الانقلاب، والروائي إنما يستعرض هذا الموقف وغيره من مواقف إنما يسعى إلى تأكيد وحدة البطل في عالمٍ غير منسجمٍ ورؤاه الاجتماعية أو الفكرية، الأمر الذي دعاه إلى توظيف المنظور الشخصي للكاتب، لأجل إقناع القارئ بما يراه جديرًا بالأهمية والتقدير، وبحسب قول الدكتور شكري الماضي: (وإذا كانت الرواية الحديثة تكابد من أجل اختفاء الكاتب لتقديم المادة الروائية بموضوعية، فإنّ الروائي الجديد يتدخل بصورة مباشرة وغير مباشرة، بل يتعمد مخاطبة القارئ ومحاورته كما يتقصد التعليق والشرح، وكل هذا من أجل تحطيم مبدأ "الإيهام بالواقعية") [أنماط الرواية العربية الجديدة: ص 15] وإذا كانت بعض مشاهد الرواية قد أخذت المبالغات في صياغة بعض أحداثها ما جعلها مفارقةً للمطابقة الحقيقية للواقع المعيش في الوسط الاجتماعي الذي شيّد الروائي أحداثها فيه، فإنَّ ذلك ما تستدعيه الوظيفة التخييلية للرواية بوصفها نقلاً لا يستدعي المطابقة الواقعية بحذافيرها عن الواقع، بقدر ما تكون (بنية فنية دالّة على الاحتجاج العنيف، والرفض لكل ما هو متداول ومألوف، وهي تجسيد لرؤية لا يقينية للعالم، مع تأكيد تنوع نماذجها وتعدد ألوانها وتباين أطيافها واختلاف مناهجها في التصوير) وهذا ما يمكن أنْ يُدركه قارئ رواية (قافز الموانع) التي يقف القارئ بعد انتهاء سيرورة الأحداث التي سردها لنا الراوي العليم بتلك التفاصيل، بين تأويلين لتعيين من هو المقصود بقافز الموانع، هل هو البطل الذي تحدّى عمّه ومن يقف في صفه..؟ أو عمه (ناصر) الذي لم يكن ليرعوي عن نيل ما يطمح إليه من مكاسب بأيّ طريقةٍ كانت..

***

د. وسام حسين العبيدي

لأمينة عبد الله

عتبات السيرة: مسيرة قلم لا يهدأ: هي أمينة عبدالله.. امرأة تحمل بين ضلوعها عوالم من حبر وورق، وتنثر في دروب الكلمة عطراً لا يتبدد، كاتبة وشاعرة لم تكن القصيدة لديها مجرد كلمات تُنظم، بل هي جسر تعبر عليه من صمت الوحدة إلى ضجيج الوجود.

من بين رفوف "الثقافة الجديدة" إلى أروقة "سيمو" في باريس، تشق أمينة عبدالله طريقها بقلم لا يعرف التوقف، موظفة في مجلة "الثقافة الجديدة"، وكاتبة حرة في دوريات رصينة كـ"الهلال" و"الأهرام العربي"، وباحثة في مركز دراسات الشرق الأوسط بباريس - وحدة القاهرة، تحولت حياتها إلى فضاء مفتوح بين عوالم الفكر والإبداع.

عضو عامل في اتحاد كتاب مصر، تجلس خلف منضدة الفحص لتقرأ للأخرين ما كتبته الحياة لهم، كما تقرأ لنفسها كل يوم نصوصاً جديدة، امرأة مطلقة، ربما جعلها الطلاق أكثر قرباً من أسرار النفس وأعماقها، فخرجت دواوينها كأنهار لا تنضب: "ألوان رغاوي البيرة الساقعة" بثلاث طبعات، و"بروفة جنرال الدخول الجنة" بطبعتين، و"بنت الشتا" بإصدار المجلس الأعلى للثقافة، وصولاً إلى "جسر لا يتسع لشخصين" الذي يختزل رحلتها مع الكتابة والحياة.

حملت قصيدتها عبر المهرجانات والمؤتمرات الدولية، من مؤتمر الأدب الإفريقي لنادي القلم الدولي 2010، إلى مهرجان طنطا الدولي للشعر، وصولاً إلى خيمة علي بن غذاهم في تونس 2022، والملتقى الثقافي دورة الأمير عبد القادر في الجزائر 2023، سكرتيرة تحرير لمجلات وإصدارات ثقافية عديدة، من "عالم الكتاب" إلى "حكاية مصر"، لم تكن مجرد موظفة بين الأوراق، بل كانت حارسة للكلمة، وقائدة لقوافل المعرفة نحو فضاءات أوسع، تتوجت مسيرتها بتكريمات محلية ودولية، من الجزائر إلى تونس، من العراق إلى مصر، حيث وقفت على منصات التكريم في الهيئة العامة لقصور الثقافة مرات عديدة، وملتقى السينما الأوروبية، وعشرات الجمعيات الأهلية والمنتديات، ظهرت على شاشات فضائيات عربية عديدة، من تونس إلى الجزائر، من القنوات المصرية إلى قناة الحرة، حاملةً صوتها الشعري المختلف، وصورتها كامرأة لا تنتمي إلا للكلمة والحقيقة، هي أمينة عبدالله.. المرأة التي جعلت من حياتها نصاً مفتوحاً، ومن قصيدتها وطناً لا تحده حدود.

القصيدة كجسر متخيّل

لا يقتصر العنوان "جسر لا يتسع لشخصين" على كونه مجرد عتبة نصية، بل هو بيان شعري مكثف يعلن عن رؤية وجودية تتصدر تجربة الديوان، الجسر هنا ليس معبراً مادياً فحسب، بل هو استعارة للعلاقات الإنسانية، للتواصل، للحب، للهوة بين الذات والآخر، بين الريف والمدينة، بين التقاليد والتحرر، وهو جسر "لا يتسع لشخصين"، مما يخلق إحساساً فورياً بالضيق، بالاغتراب، وبالمشقة التي ترافق أي محاولة للالتقاء، هذه المفارقة البصرية والوجدانية – فالجسر مصمم للعبور والوصل، لكنه هنا يرفض الاثنين معاً – تضع القارئ في قلب المعضلة الوجودية للديوان منذ البداية.

المتلقي شاهداً على تشظي الذات

الملاحظة الجمالية الأولى التي يفرضها الديوان على متلقيه هي تفكيك الذات الأنثوية وتمزقها، فالقصائد لا تروي حكاية واحدة، بل تعرض شظايا هوية متعددة الأصوات، انظروا إلى قصيدة "أحب بنصفي الأكبر":

(أكره الصبا / الأوجه التي أعرفها ببيت الأب / ... / الآن / لا أعرف ذلك الشخص المدعو أنا)

هنا تتحول عملية القراءة إلى مراقبة لصراع داخلي، المتلقي لا يقرأ عن ذات متكاملة، بل يشهد على تشظّي "الأنا" إلى كيانات متصارعة: الريفية في مواجهة المدنية، التقليدية في مواجهة المتمردة، هذا التشظي يجبر القارئ على التخلي عن دور المتلقي السلطي، الذي يبحث عن رسالة واضحة، ليصبح شاهداً على عملية الانهيار والبحث عن معنى.

جماليات الهامش: صوت الريف في صلب المدينة

يصنع الديوان جماليته من هامشية مزدوجة: هامشية الريف في المدينة، وهامشية المرأة في مجتمع أبوي، في قصيدة "بيت أبي"، يتحول الأب من رمز للسلطة إلى كائن محاصر:

(أبي ككل أقرانه الريفيين / الطامعين في الخروج من الشقة المشتركة / إلى شقة مستأجرة... / منحنا لبس الفقراء الذي يضمن له عفة المظهر / هذه الحريات المقيدة"

هنا، يصبح التلقي عملية تفكيك للصورة النمطية، الأب ليس طاغية بسيطاً، بل هو ضحية لشروط اجتماعية واقتصادية، جمالية التلقي تكمن في اكتشاف هذا التعقيد، في رؤية "الحريات المقيدة" التي تمنحها السلطة الأبوية، والتي تسهم بدورها في "مسخ" الهوية، القارئ مدعو ليعبر الجسر الضيق ليفهم تناقضات الشخصية، لا ليحكم عليها.

الانزياح اللغوي وصدمة التلقي

يستخدم الديوان الانزياح اللغوي – بوعي أو بلا وعي – كأداة جمالية تخلق صدمة تلقية. الانزياح هنا ليس عيباً، بل هو تعبير عن عدم استقرار العالم الداخلي، انظروا إلى الاستعارة في "مهن يدوية":

(أتصالح تماما مع المهن البدنية / التي حافظت على سر الكتابة)

تحويل "اليد" إلى "مهن" (بدنية) هو تشبيه غير مألوف، المهن/البدنية تصبح فضاءً حميماً يحفظ أسرار الكتابة، هذا الانزياح يوقف القارئ، يربكه قليلاً، ويدفعه لإعادة تخيل العلاقة بين الجسد والإبداع، إنه يخلق جمالية خاصة تعتمد على المفاجأة وإعادة تشكيل الدلالات.

المتلقي كشريك في بناء المعنى: قصيدة "تلك جنتي" نموذجاً

تصل ذروة جماليات التلقي في الديوان عندما تتحول القصيدة إلى حوار مفتوح مع المتلقي ومع التراث، في قصيدة "تلك جنتي"، تقدم الشاعرة رؤية نقدية جريئة للجنة التقليدية:

(أكره الجنة / التي يقف على بابها ....  معلقا في مشكاتها ........ / أعشق النار كخلية نحل تشغي بكل المغردين خارج السرب"

هنا لا يقتصر دور المتلقي على استقبال الصورة، بل يشارك في تفكيك صورة مقدسة في الخيال الجمعي.. جمالية التلقي هنا تكمن في "المقاومة" التي تثيرها القصيدة.. إنها تدعو القارئ إلى تحدي الصور النمطية عن الثواب والعقاب، والتفكير فيما تكون للعلماء والشعراء "الراقصات وصانعي الأفلام"، القارئ يصبح شريكاً في هذا التمرّد الفكري والجمالي.

الجسد كفضاء للتلقي الوجداني

يتحول الجسد في الديوان إلى وسيط رئيسي للتلقي، القصائد مليئة بالإحالات الجسدية: "جسدي يستوعينا معا"، "أرفع بنطالي كثيراً وأحفظ حذائي"، "كفك يشبه في الأثر كف مريم"، هذه الصور تجعل التجربة الوجدانية ملموسة، المتلقي لا يفهم العلاقة فكرياً فحسب، بل يشعر بها جسدياً من خلال اللغة، جمالية التلقي هنا حسية في المقام الأول؛ إنها تعتمد على قدرة القارئ على تحويل الكلمات إلى أحاسيس ومشاعر متخيلة.

التلقي كعبور على جسر ضيق

"جسر لا يتسع لشخصين" هو ديوان يرفض التلقي السلبي، إنه يبني جماليته على مشاركة القارئ الفاعلة في تشكيل المعنى، على تفكيك الذات، وعلى تحدي الثوابت اللغوية والاجتماعية، المتلقي مدعو لعبور هذا الجسر الضيق مع الشاعرة، حاملاً معه تناقضاته هو نفسه، إنها رحلة وعرة، مليئة بالشظايا والانزياحات والصور الصادمة، لكنها في النهاية تخلق تجربة تلقي فريدة، حيث يصبح فهم النص مساوياً لفهم تناقضات الذات الإنسانية المعاصرة في شرق يبحث عن جسوره المفقودة.

***

رزق فرج رزق - ليبيا

في كلّ ولادةٍ حكايةٌ للوجود، وفي كلّ موتٍ بذرةُ حياةٍ تستيقظ من الرماد. من هذه المفارقة البديعة تولد رواية «فرصة ثانية» للكاتبة الفلسطينية صباح بشير، لتغزل من الألم نسيجًا إنسانيًا مشعًّا، يتأرجح بين النور والظلمة، بين بكاء المولود وصمت الراحلة. ليست الرواية مجرّد حكايةٍ عن امرأة تفارق الحياة لحظة إنجابها، بل هي تأمّل في سرّ الخلق واستمرارية الوجود، إذ ينهض الطفل «يحيى» كرمزٍ للبعث الأبديّ الذي يُقاوم الفناء ويعلن أن في داخل كلّ موتٍ حياةً أخرى تتفتّح.

تفتح الكاتبة نصّها على مشهدٍ نابض بالإنسانية، تصفه بواقعيةٍ مشوبةٍ بالشعر، فتُصغي للقلب وهو يرتجف، وللوجع وهو يصرخ باسم الحياة. هذا التمهيد لا يقدّم حدثًا عابرًا، بل يرسم الملحمة الصغرى للأمومة؛ فكلّ ألمٍ فيه هو طريقٌ نحو النور، وكلّ دمعةٍ امتدادٌ للرحمة الكامنة في طبيعة المرأة. لكنّ المعجزة لا تكتمل، إذ تتحوّل الولادة إلى لحظة فاجعة، فتغادر «فاتن» جسدها إلى سكونٍ أبديّ، تاركةً وراءها طفلًا يفتح عينيه على غيابها. عند هذه النقطة يتكثّف السؤال الوجوديّ الكبير: أيمكن أن تمنح الحياة نفسها عبر التضحية؟ وهل يُكتب للإنسان أن يولد من جرحٍ لا يندمل؟

العنوان «فرصة ثانية» يضيء الرواية من الداخل، إذ لا يشي فقط بإمكانية العودة إلى الحياة، بل يتجاوزها إلى فكرةٍ فلسفيةٍ عن التجدّد الإنسانيّ بعد الفقد. فكلّ شخصية في النصّ تُعطى فرصتها الثانية بطريقتها الخاصة: «مصطفى» الذي يتعلّم من الموت معنى البقاء، و«هدى» التي تكتشف أمومتها من رحم الحزن، و«الطفل يحيى» الذي يصبح رمزًا للمستقبل الموعود بعودة الضوء. الكاتبة تمارس فعل الخلق الأدبيّ بوعيٍ عميق، إذ تصوغ من الحكاية الفردية مرآةً للوجود الإنساني كلّه.

شخصيات الرواية تُكتب بالدمع لا بالحبر. فـ«فاتن» ليست امرأةً فحسب، بل قنديل أمومةٍ يضيء لحظة العتمة القصوى، حضورها يمتدّ بعد غيابها كأنّها طيف رحمةٍ يظلّ يرفّ على المكان. أما «مصطفى» فهو المكلوم الذي يجرّب معنى الانكسار، تتأرجح روحه بين الصبر واليأس، بين الذكرى والحلم، فيتحوّل إلى صورةٍ صافيةٍ للرجل الإنسان، لا للبطولة الذكورية التي اعتادها الأدب. و«هدى» التي تحتضن الطفل وتعيد ترتيب الفوضى، هي يد الحياة التي تُمسك بالحياة كي لا تسقط من جديد. هذه الشخصيات لا تتحرّك داخل أحداثٍ خارجيةٍ كثيرة، بل داخل مناخ نفسيّ عميق، حيث اللغة هي المسرح والوجدان هو الحركة.

لغة صباح بشير لغةٌ نقيّة، مشبعة بالعاطفة والخيال، تتقن الانتقال بين التوصيف الواقعيّ والانفعال الشعريّ. تصنع من المشهد الطبيّ لوحة إنسانية حافلة بالتفاصيل الدقيقة: «كانت تتصبّب عرقاً… ينهش الوجع جسدها… تتمسّك بيد زوجها وتبحث في عينيه عن النجاة».

الكاتبة تستثمر الإيقاع الداخلي للجملة، فتتقدّم اللغة مثل نبضٍ يتصاعد ثم يخفت. الصور المجازية تمتزج بالبساطة، وتحوّل الحدث الواقعيّ إلى تجربة رمزية: الولادة كمعراجٍ نحو الخلاص، والموت كعتبةٍ أولى لحياة أخرى.

لغة صباح بشير تملك طهر الماء وحرارة الدم في آنٍ واحد. تكتب بصدقٍ يجعل السرد يفيض بعاطفةٍ لا تنحدر إلى الابتذال، فتسكن الجملة نغمةٌ خافتة كأنها صلاة: «كان قلبه ينبض بجنون، كلّ نبضة تحمل معها جزءًا من قلقه وحبّه». في مثل هذه العبارات تتحوّل اللغة إلى مرآةٍ للروح، تُضيء الجرح من داخله بدل أن تشرحه. إنّها لغةٌ تمزج بين الواقعيّ والتأمّليّ، بين الدقّة في الوصف والرهافة في التعبير، وتستعير من الشعر مجازاته دون أن تفقد سلاسة النثر.

الزمان في الرواية يتدرّج من ظهيرة الولادة إلى ليل الحداد، في مسارٍ يشبه قوس الحياة نفسه، والمكان محدود – غرفة ولادة، بيت، مقبرة – لكنه يتّسع رمزيًا حتى يغدو كونًا صغيرًا تتجلّى فيه أسئلة الخلق والمصير. هذا التدرّج المكانيّ الزمانيّ يمنح الرواية عمقها الدراميّ الداخليّ، إذ لا شيء فيها يحدث خارج النفس، وكلّ شيء يتولّد من داخلها: الحزن، الحب، الصبر، وحتى الرجاء.

ولئن كانت الرواية في ظاهرها مأساة أُسريّة، فإنها في جوهرها رحلةُ وعيٍ وإنبعاث. فالفقد لا يُقدَّم بوصفه نهاية، بل كطريقٍ إلى إدراك قيمة الوجود. الكاتبة لا تمجّد الألم لذاته، بل تكشف عن الوجه الآخر له، وجه القوة التي تنبع من الهشاشة، والإيمان الذي يولد من اليأس. هكذا تكتب صباح بشير نصًّا يمجّد الأنوثة كقوة خلقٍ واستمرار، ويعيد تعريف البطولة في الأدب النسويّ المعاصر؛ فالبطولة هنا ليست في الصراع، بل في الصبر، لا في الانتصار، بل في القدرة على التحمّل والاحتضان.

وحين يسمّي مصطفى ابنه «يحيى»، تُختتم الرواية بما يشبه الوحي الرمزيّ، إذ تتقاطع الدلالات كلها عند هذا الاسم: الحياة، الخلاص، والبعث. الاسم لا يمنح الطفل هوية فحسب، بل يمنح العالم كله معنى الاستمرار، كأنّ الكاتبة تقول إنّ الإنسان لا يُهزم ما دام قادرًا على أن يُحبّ ويمنح فرصةً جديدةً للوجود.

في خاتمة هذا العمل، تتركنا صباح بشير أمام مرآةٍ نرى فيها وجوهنا المرهقة، ونسأل: كم مرة منحنا القدر فرصةً ثانيةً ولم ندركها؟ وكم من موتٍ مرّ بنا كان في حقيقته ولادةً مؤجلة؟

إنّ «فرصة ثانية» رواية تكتب الوجدان الإنسانيّ لا الحدث، وتستعيد من رحم الفقد معنى الحياة.

بأسلوبٍ يقطر صدقًا ودفئًا، وبجمالٍ لغويٍّ يشبه ندى الصباح على جرحٍ قديم، تقدّم صباح بشير عملًا يُذكّرنا بأنّ الأدب هو الفرصة الثانية للإنسان كي يفهم نفسه والعالم، وأنّ الجمال لا يُولد من اليسر، بل من المعاناة التي تُنبت الورد على أطراف المقابر.

في «فرصة ثانية»، تتقاطع مأساة الفرد مع فلسفة الوجود، وتتحوّل الكلمة إلى عزاءٍ نبيلٍ للإنسان في مواجهة فجيعته الكبرى.

إنّها رواية تتحدّث همساً وتبكي بصمت، تُعيد إلينا الإيمان بأنّ كلّ نهايةٍ تُخفي ولادةً، وأنّ الحزن – مهما أثقل الأرواح – يمكن أن يكون بذرة حياة جديدة.

بلغةٍ مشبعة بالشجن والضياء، تُثبت صباح بشير أنّ الأدب هو الفرصة الثانية للحياة بعد موتٍ صغيرٍ يمرّ بنا جميعاً.

وهكذا، تغلق الرواية صفحاتها كما يُغلق بابُ الكون على نبضةٍ أولى: كلّ موتٍ بداية، وكلّ نهايةٍ ولادة أخرى.

***

الناقد محمد رمضان الجبور - الأردن

قال (البحتري)(1):

غَــرائِبُ أَخلاقٍ هِــيَ الــرَّوضُ جـادَهُ

مُلِــثُّ العَزالَــى ذو رَبـابٍ وهَيْـدَبِ

*

فَكَــمْ عَجَّبَــتْ مِــن نــاظِرٍ مُتَأَمِّـلٍ

وكَــمْ حَيَّــرَتْ مِــن ســامِعٍ مُتَعَجِّـبِ!

*

وقَـد زادَهـا إِفـراطَ حُسـنٍ جِوارُهـا

لِأَخـلاقِ أَصــفارٍ مِــنَ المَجْــدِ خُيَّــبِ

فأوشكَ أن يهجو (الفتح بن خاقان) في سياق مدحه. فأنْ يقول إنَّ حُسن أخلاقه يزيد لأنَّه مجاورٌ لأصفارٍ من الأخلاق والمجد، إنَّما هو كقول الناس «الأعور في بلد العُميان مَلِك»! وما ذلك إلَّا لانشغال الشاعر بوحدة البيت، وعَشاه عن مراعاة وحدة النصِّ ونَظْمه الكُلِّي.

لكن أ هذا هو السَّبب الحقيقي، أم أنَّ الشاعر كان غافلًا عمَّا يقول أصلًا؟

يشكِّكنا الشاعر في ما قرَّرناه آنفًا؛ من حيث يؤكِّد معناه، مُصِرًّا عليه، بإتباع أبياته السابقة ببيته:

وحُســنُ دَرارِيِّ الكَــواكِبِ أَن تُــرَى

طَوالِـعَ فـي داجٍ مِـنَ اللَّيـلِ غَيهَـبِ

فإذن، هو يمدح ممدوحه بـأنه «أعور في بلد العُميان» بالفعل! وليس هذا، على كلِّ حال، بأشنع من وصف أستاذه (أبي تمَّام)(2) الممدوحَ بأنَّه طَوْع إرادته، فإذا أراد جعله (رِشاء دَلْو)، وإذا أراد كان (القَليب) نفسه:

فَــإِذا مــا أَرَدتُ، كُنـتَ رِشـاءً!

وإِذا مــا أَرَدتُ، كُنــتَ قَليبـا!

وأيُّ ممدوح يستسيغ أن يصوَّر في صورة (رِشاء «سطل») أو صورة (بئر)، ولو كان ذلك البئر (جُبَّ يوسف بن يعقوب)؟! على أنَّ الشاعر قد أرهص لهذا البيت ببيتٍ فكاهي، كأنما هو يَسْخَر فيه من نفسه بنفسه، قائلًا:

مُمطِرًا لي بِالجاهِ والمالِ لا أَلـ

ـقاكَ إِلَّا مُستَوهِبًا أو وَهُوبا

فالشاعر هكذا يعترف بأنَّه متسوِّلٌ رخيص، ولا يشبع، والممدوح لا شُغل له إلَّا محاولة ملء فيه، إمَّا من عنده، وإمَّا من عند غيره؛ ذلك أنَّه إنْ لم يجِد، تسوَّل له بدَوره، مستوهِبًا من الآخَرين! كيف لا، وهو (قَليب) تارةً، و(رِشاء قَليب) تارةً أخرى، كما نعته الشاعر؟! ولهذه المعركة بين الرِّشاء والقَليب، وتلك الشبكة من الوصوليَّات «أمسَى حبيبٌ حبيبًا»:

باسِطًا بِالنَّـدى سـَحائِبَ كَـفٍّ

بِنَــداها أَمسَـى حَـبيبٌ حَبيبـا

ولولا ذلك لأمسَى حبيبٌ أديبًا، حُرًّا عزيزًا، لا عبد الدِّينار والدِّرهم، كغيره من معاصريه!

وكم ذا بقصائد المديح العبَّاسية من اللقطات الكوميدية؟! وهذا موضوع أطروحة قائمة بذاتها.

ويلفتنا هذا إلى مفهوم (النَّظْم) بعمقه وشموله، كما حلَّله (عبد القاهر الجرجاني). ولقد كان يعرقل نظميَّة النصِّ- في وحدته الكلِّيَّة- التمسُّك الحديدي بوحدة البيت، والنظر إلى (التضمين) على أنَّه عيبٌ شِعري. ويعني التضمين هاهنا أن لا ينتهي المعنى بنهاية البيت، بل يرتبط بما بعده. ولهذا فإنَّ (أبا تمَّام)(3) لمَّا قال:

يَغـدو مُـؤَمِّلُهُ، إِذا مـا حَـطَّ فـي

أَكنــافِهِ رَحْـلَ المُكِـلِّ المُلْغِـبِ

*

سـَلِسَ اللُّبانَـةِ والرَّجـاءِ بِبابِـهِ

كَثـبَ المُـنَى مُمتَـدَّ ظِـلِّ المَطْلَبِ

وقفَ متلقُّو شِعره من الشُّرَّاح لينفوا عنه تهمة التضمين، والعياذ بالله! متكلِّفين القول: إنَّه إنَّما: «انتصب «رَحْلَ المُكِلِّ»  على الحال. و«حَطَّ في أكنافه» كلامٌ تامٌّ. ومعناه: نزل بفنائه. فيقول: راجي هذا الممدوح إذا حضرَ في جنابه يَغْدو وهو مَصَبٌّ للمسافر الذي كَلَّتْ راحلتُه ومَحطٌّ لِرَحْلِه؛ لأنه يُغنيه ويُعلِّمُه الكرم.» هكذا تكلَّف (المرزوقي)(4) إبراءً (لأبي تمَّام) من تهمة التضمين.

ولقد كان الشعراء العَرَب يضمِّنون في شِعرهم، وما كانوا يعدُّون ذلك عيبًا، وإنَّما قَعَّد هذا المقعِّدون بعد الإسلام، كما قعَّدوا أباطيل كثيرة. يقول الشاعر الجاهلي (جابر بن حُنَيٍّ التغلبي)(5)، مثلًا:

وقَـدْ زَعَمَـتْ بَهْـراءُ أَنَّ رِمـاحَـنا

رِماحُ نَصارَى لا تَخُوضُ إِلى الدَّمِ

*

فَـيَوْمَ الكُلابِ قَدْ أَزالَتْ رِماحُـنا

شُـرَحْـبِـيلَ إِذْ آلـَى أَلِـيَّـةَ مُقْسمِ

*

لَـيَـنْـتَـزِعَـنْ أَرْمَـاحَـنا فَـأَزالَــهُ

أَبُو حَنَشٍ عَنْ ظَهْرِ شَقَّاءَ صِلْدِمِ

بل لقد رصْدنا في بحثنا حول «شِعر النقَّاد»(6) ورود التضمين حتى في شِعر الشُّعراء النقَّاد أنفسهم، ممَّن قعَّدوا أنَّ التضمين معيبٌ في القصيدة العَرَبيَّة. وأكثر ما كان يؤدِّي بالشاعر إلى ربط الأبيات بعضها ببعض النسج القصصي في أسلوبه، من نحو قول (هدبة بن الخشرم)(7):

أَلا عَـلِّـلانِـي قَـبْـلَ نَــوْحِ النَّـوائِــحِ

وقَـبْلَ اطِّـلاعِ النَّـفْـسِ بَـيْنَ الجَوانِــحِ

*

وقَـبْلَ غَـدٍ، يـا لَـهْفَ نَفْـسِي عَلَى غَـدٍ،

إِذا راحَ أَصحـابـِي ولَـسـتُ بِـرَائِــحِ!

*

إِذا راحَ أَصحـابـِي بِفَـيْـضِ دُمُوعِـهِمْ

وغُـودِرْتُ فِي لَـحْدٍ عَلَـيَّ صَفـائِـحِي

*

يَـقُـولـونَ: هَلْ أَصلَحْـتُـمُ لِأَخِيكُـمُ؟

وما الرَّمْسُ في الأَرْضِ القِواءِ بِصالِحِ!

*

يَقُولُـونَ: لا تَبْعَـدْ! وهُمْ يَدْفِـنُونَـنِـي

ولَيْسَ مَكانُ البُعْـدِ إلَّا ضَـرائِـحِـي!

وإنْ حافظ الشاعر هاهنا على وحدة البيت، إلى حدٍّ ما، باستثناء البيتين الثاني والثالث.

ثمَّ وجدنا (ابن المستوفي)(8)- بعد أن دوَّنَّا تلك الملحوظة على بيتَي (أبي تمَّام)، وما تكلَّفه (المرزوقي) لنفي التضمين عنه- قد أدلى بتعليقٍ يوافق ما رأيناه. حيث قال: «معنى البيتين واضح، وهو أنه أراد: أنَّ مؤمِّله يغدو سلسَ اللُّبانة، إذا ما حَطَّ في أكنافه رَحْل المُكِلِّ الملغب. و[أمَّا] ما تأوَّله المرزوقي، فبعيدٌ جِدًّا...».

على أنَّ مِن شَرح الشِّعر في تراثنا ما يبدو إفسادًا للنصِّ، وإسفافًا في فهم معناه، وتقييدًا بليدًا لآفاق دلالاته الشِّعريَّة. خُذ مثالًا نموذجيًّا من شرح بيت (أبي تمَّام)(9):

إِنَّ الإِخــاءَ وِلادَةٌ، وأَنـا امـرُؤٌ

مِمَّن أُواخي حَيثُ مِلْتُ فأُنجِبُ

فماذا تفهم من هذا البيت؟

أمَّا أنا، فأفهم أنَّ الشاعر يقول: «إِنَّ الإِخاءَ وِلادَةٌ»، كما قال هو حرفيًّا. أي أنَّ علاقتك الأخويَّة الصادقة بإنسانٍ هي بمثابة ولادةٍ جديدة لك. ثمَّ قال: «وأَنـا امرُؤٌ مِمَّنْ أُواخي حَيثُ مِلْتُ فأُنجِبُ». وهذا كذلك ما قصده حرفيًّا. أي: أنَّه ممَّن حيث ذهبَ في أُخوَّته مع الناس، أنجبَ نفسه مولودًا جديدًا منهم، وأنجبهم من نفسه مواليد جُدُدًا كذلك. فظاهر النصِّ أبلغ وأشعر من ذلك الباطن الذي تكلَّفه بعض الشراح، محاولين التماسه، لاستنزال النصَّ من تحليق سماواته، إلى سوقيَّته وابتذاله العامِّي، الذي لا يُدرِك الشارحُ أرفع منه. وهذا ما سنتتبَّعه في المقال التالي.

***

أ. د. عبد الله بن أحمد الفَيفي

...........................

(1)  (1977)، ديوان البُحتري، تحقيق: حَسن كامل الصيرفي، (القاهرة: دار المعارف)، 1: 192/ 24- 26

(2)  (1987)، ديوان أبي تمَّام بشرح الخطيب التبريزي، تحقيق: محمَّد عبده عَزَّام، (القاهرة: دار المعارف)، 1: 171/ 51.

(3)  م.ن، 1: 101- 102/ 26- 27.

(4)  (1986)، شرح مشكلات ديوان أبي تمَّام، تحقيق: عبدالله الجربوع، (جُدَّة: دار المدني)، 161- 162.

(5)  الضَّبي، المفضَّل، (1979)، المفضَّليَّات، تحقيق: أحمد محمَّد شاكر؛ عبدالسَّلام محمَّد هارون، (القاهرة: دار المعارف)، 211- 212/ 22- 24.

(6)  يُنظَر: الفَيفي، عبدالله بن أحمد، (2011)، شِعر النُّـقَّاد: استقراءٌ وصفيٌّ للنموذج، (إربد- الأردن: عالم الكتب الحديث)،

(7)  (1986)، شِعر هدبة بن الخشرم، باعتناء: يحيى الجبوري، (الكويت: دار القلم)، 89.

(8)  (1989)، النِّظام في شرح شِعر المتنبِّي وأبي تمَّام، دراسة وتحقيق: خلف رشيد نعمان، (بغداد: وزارة الثقافة والإعلام)، 2: 123.

(9)  ديوانه، 1: 133/ 15.

يُعْتَبَرُ المُتَنَبِّي (303 هـ - 354 هـ / 915 م - 965 م) أعظمَ شُعَراءِ اللغةِ العربيةِ على الإطلاق. تَدُورُ مُعْظَمُ قَصائدِه حَوْلَ نَفْسِه ومَدْحِ المُلوكِ، وأفضلُ شِعْرِه في الحِكمةِ وَفَلسفةِ الحَياةِ وَوَصْفِ المَعاركِ والحُروبِ. لَمْ يَصِف الحَرْبَ كَحَدَثٍ دَمَوِيٍّ فَحَسْب، بَلْ جَعَلَها مِرْآةً للمَجدِ والبُطولةِ والكَرامةِ، وَصَوَّرَهَا بِعَيْنِ الفارسِ الذي يَرى في المَعركةِ مَيدانَ الاختبارِ والخُلودِ. وَرَغْمَ تَمجيدِه للحربِ، لَمْ يَكُنْ غافلًا عَنْ قَسوتها، فَهُوَ يُدْرِكُ آلامَها، لكنَّه يَرى فِيها قَدَرًا لا مَفَرَّ مِنْهُ لِمَنْ طَلَبَ العُلا، فالمَجدُ لا يُنالُ إلا بالتَّضحية، ولا يُصَانُ إلا بالقُوَّةِ.

والحَرْبُ في شِعْرِهِ لَيْسَتْ صِرَاعًا بَيْنَ الجُيوشِ فَحَسْب، بَلْ هِيَ أيضًا رَمْزٌ للحَياةِ التي لا تَسْتَحِقُّ أنْ تُعاش مِنْ غَيْرِ مَجْدٍ أوْ شجاعة، وَهِيَ التي تَكْشِفُ حَقيقةَ الرِّجالِ، وَتُظْهِرُ طَبيعةَ البَشَرِ، وتُميِّز الأبطالَ مِنَ الجُبَناءِ، فالشَّريفُ يَزداد شَرَفًا، والوَضِيعُ يَظْهَرُ جُبْنُه وخِيانته، وَهِيَ الطريقُ إلى المَجْدِ الذي لا يُنال بالرَّاحةِ أو التَمَنِّي، وَهِيَ امتحانُ الإرادةِ الإنسانيَّة. لذلك كانت الحربُ في نَظَرِه مِيزانًا أخلاقيًّا يَكْشِفُ مَعَادِنَ الناسِ.

حَوَّلَ ساحةَ المَعركةِ إلى لَوْحَةٍ حَيَّة، تَضِجُّ بالحركةِ والأصواتِ والألوانِ، فالسُّيوفُ عِندَه تَلْمَعُ كالبُروقِ، والخُيولُ تُزَمْجِرُ كالعواصفِ، والدِّماءُ تُزْهِرُ كالوَرْدِ في الرِّمالِ، والغُبارُ يَلُفُّ الأُفُقَ كالغَيْمِ المُشتعِل. إنَّه يَصِفُ المَشْهَدَ وَيُجسِّده، حَتَّى يَسْمَعَ القارئُ صَوْتَ الحَديدِ، وَيَرى لَمَعَانَ الدُّرُوع.

والبَطَلُ في شِعْرِهِ هُوَ مَزِيجٌ مِنَ الإنسانِ والأُسطورةِ، وَهُوَ يُقَاتِلُ لِيَنْتصر، وَيُقيم عَدْلًا، وَيَصْنع اسْمًا، وَيَتَحَدَّى الظُّروفَ. والبُطولةُ الحقيقيةُ هِيَ مُواجهةُ المَوْتِ بابتسامةِ الكِبْرياءِ، لذلكَ كثيرًا مَا يَرْبِطُ بَيْنَ الشَّجاعةِ والعِزَّةِ والعَقْلِ والدَّهَاء.

وَخَلْفَ أوصافِ الدِّمَاءِ والسُّيوفِ، تَكْمُنُ رُؤية فلسفية عميقة، فالحَرْبُ لَيْسَتْ عَبَثًا، بَلْ وسيلة لإثباتِ الذات، والنَّصْرُ الحقيقيُّ هُوَ نَصْرُ الرُّوحِ والإرادةِ، وَمَنْ لَمْ يُغَامِرْ، ماتَ صغيرًا، حتى لَوْ عاشَ طويلًا. وَهُوَ يَرى أنَّ المَجْدَ الحقيقيَّ لا يُنال إلا عَبْر الخطرِ والمُغامرةِ، خُصوصًا في مَيادينِ القِتالِ، فَمَنْ يَطْلُب السَّلامةَ يعيشُ بِلا أثَرٍ، أمَّا مَنْ يَخُوض الحربَ بِكَرامةٍ فَيُخَلَّد اسْمُهُ في التاريخ. والحربُ عِندَه وسيلة لتحقيقِ الخُلودِ الرَّمزيِّ، لا مُجرَّد نَصْر مادي.

نَظَرَ إلى الحَرْبِ عَلى أنَّها صُورة مُكثَّفة للصِّراعِ الدَّائمِ في الحَياةِ، بَيْنَ القُوَّةِ والضَّعْفِ، الطُّمُوح واليأس، المَجْد والدُّونِيَّة. وكُلُّ إنسان في فَلسفته مُحَارِبٌ، سَوَاءٌ في سَاحةِ القِتال، أوْ في مَعاركِ الحَياةِ اليَوْمِيَّة.

وَيُعْتَبَرُ هوميروس (القرن التاسع قبل المِيلاد) أعظمَ شاعر في الأدب اليونانيِّ القديم، وَهُوَ الشاعر المَنسوب إلَيْه تأليف مَلْحَمَتَي الإلياذة والأُودِيسَّة، اللَّتَيْن تُعْتَبَرَان مِنْ أهَمِّ الأعمالِ الأدبية في الحَضارةِ الغَربية. وعلى الرَّغْمِ مِنْ مَكانته الأدبية، فإنَّ تفاصيلَ حَياته الحقيقية غامضة.

قَدَّمَ وَصْفًا واقعيًّا وشاملًا للحربِ، بما في ذلك تفاصيل المَعاركِ والأسلحةِ، وَصَوَّرَ الحَرْبَ بطريقةٍ مَلْحَمِيَّة، تَجْمَعُ بَيْنَ البُطولةِ والمَأساةِ، مُركِّزًا على الأبطالِ وتَضحياتِهم، فَهِيَ المَيْدَان الذي يُخْتَبَر فيه الشَّرَفُ والبُطولة، وَهِيَ لَيْسَتْ صِراعًا دَمَوِيًّا فَحَسْب، بَلْ هِيَ أيضًا مَسْرَحٌ يُظْهِرُ فيهِ الأبطالُ قِيَمًا مِثْل: الشَّجَاعة والإقدام (كما في شخصية أَخِيل)، والوَلاء للوطنِ والرِّفَاقِ (كما في هيكتور المُدافِع عَنْ طُروادة)، والسَّعْي نَحْو المجدِ الخالد الذي يَتجاوز المَوْتَ.

وَرَغْمَ الطابَعِ البُطوليِّ، يُظْهِرُ فَظاعةَ الحَرْبِ، وَيَصِفُ الدِّمَاءَ والجِرَاحَ وَصَرَخَاتِ المَوْتِ بتفاصيل حَيَّة وَمُؤلِمة، وَيُبيِّن حُزْنَ الأُمَّهَاتِ والزَّوجاتِ، وَبُكَاءَ الأحِبَّةِ على القَتْلَى. فالحربُ تَجْلِبُ الدَّمَارَ للمُدُنِ والأُسَرِ، وتَتْرُك خَلْفَها الألَمَ، حَتَّى عِندَ المُنتصِرين. وهَكذا، تَبدو الحربُ عِندَه ضَروريةً لكنَّها مأساويَّة، فَهِيَ تُنْتِجُ البُطولةَ، لكنَّها أيضًا تَلْتهم الأبطالَ.

والحربُ لَيْسَتْ فَقَط صِرَاعًا بشريًّا، بَلْ أيضًا ساحة لِتَدَخُّلِ الآلهةِ والقَدَرِ، فالآلهةُ تَتَدَخَّلُ لدعمِ هَذا الطرفِ أوْ ذلك، مِمَّا يَجْعل مَصيرَ الحربِ قَدَرًا مَحتومًا أكثرَ مِنْهُ نَتيجة لاختياراتِ البشر. ومعَ ذلك، يَبْقى لِكُلِّ بطلٍ حُرِّية التَّصَرُّفِ ضِمْنَ حُدودِ هَذا القَدَرِ، مِمَّا يُضْفي بُعْدًا فلسفيًّا وَدِينيًّا وأُسطوريًّا على مَفهومِ الحربِ.

وَهُوَ يَتَمَيَّزُ بأُسلوبٍ تَصويري رائع، حَيْثُ يَسْتخدم التَّشبيهاتِ المَلْحَمِيَّة، فَيُشَبِّه المُقاتِلين بالعَواصفِ، أو الحَيَوَاناتِ المُفترِسة، وَيُدْخِل إيقاعًا شِعريًّا يَجْعل المَعاركَ كأنَّهَا لَوْحَات مُتحركة مَليئة بالحركةِ والضَّوْءِ والصَّوْتِ، وَيُصوِّرها بشكلٍ دَقيق ومُفصَّل، بَدْءًا مِنْ تَجهيزِ الجُيوشِ، والقِتالِ الفَرديِّ بَيْنَ الأبطالِ، وحتى سُقوط القتلى وَجُثَثِهم، والوصفُ يُعْطِي إحساسًا بالواقعيَّةِ والحُضُور.

والحربُ عِندَه لَيْسَتْ شَرًّا مُطْلَقًا ولا مَجْدًا خَالِصًا، بَلْ تَجْرِبَة إنسانيَّة كاملة تَجْمَع بَيْنَ العَظَمَةِ والرُّعْبِ، البُطولة والفَناء، المَجْد والحُزْن. وَهِيَ تَعْبيرٌ عَن طبيعةِ الإنسانِ نَفْسِه: عظيم في شجاعته، وضعيف أمامَ قَدَرِه. وهُناك قواعد ضِمْن الحَرْبِ تَتَعَلَّقُ بِمُعاملةِ الأسرى وكَرامةِ الخَصْمِ، مِثْل احترامِ الجُثَثِ، وَعَدَمِ السُّخرية مِنْها، مِمَّا يُشير إلى مَفهومٍ بِدائي للعدالةِ والإنسانيَّةِ في أوقاتِ الصِّراعِ.

وإذا كانَ المُتَنَبِّي يُركِّز عَلى الفردِ والبُطولةِ الشَّخصيةِ في الحربِ، معَ استخدام لُغَةٍ شِعرية مُركَّزة وَشَفَّافة، فإنَّ هوميروس يَضَعُ الحربَ في إطارِ سَرْدٍ مَلْحَمِيٍّ شاملٍ يَجْمَع بَيْنَ الأبطالِ، والآلهةِ، والمَآسِي الجَمَاعِيَّة.

***

إبراهيم أبو عواد / كاتب من الأردن

يمثل النص الشعري "عبثا تبحثين عنّي فيّ" للشاعر المغربي إدريس الواغيش عالماً شعرياً مفعماً بالتوتر النفسي والوجداني، حيث يمتزج الشعور بالغياب والفقدان بالذاتية الوجودية، ليعكس حالة من الاغتراب الداخلي والوحدة العميقة. إن هذه الشذرة الشعورية تتسم بالارتجال المعنوي داخل مساحات الذاكرة والخيال، بما يجعل النص صيدا خصبا للتحليل التأويلي والهرمينوطيقي، فضلاً عن القراءة الأسلوبية والرمزية، إذ أن النص يزخر بالتراكيب الغنية، والصور البصرية المكثفة، والرموز التي تستدعي البنية النفسية والدينية والاجتماعية للشاعر.

من المنظور الهيرمينوطيقي، يكمن التحدي في قراءة النص ليس فقط كما هو مكتوب، بل بما تحمله الكلمات من أبعاد نفسية واجتماعية وثقافية. فـ"عبثا تبحثين عنّي فيّ" ليست مجرد صيحة وجدانية للحب أو الافتقاد، بل هي استعارة لعمق العزلة، وسؤال عن الذات والوجود، وتجربة الإنسان في مواجهة الزمن والمكان والوحدة.

التحليل الأسلوبي:

يتسم النص بأسلوب شعري متماوج بين التأمل الداخلي والذاكرة الحية، مع اعتماد على الجمل الطويلة المتدفقة، والفواصل المتعددة التي تخلق إيقاعاً متذبذباً يعكس الاشتباك النفسي للشاعر. كما يتكرر الضمير المتحدث "أنا" و"أنت"، مما يؤكد على الصراع الداخلي بين الذات والرغبة في التواصل مع الآخر، في حين تظهر أدوات الاستفهام والنداء لتعميق الحوار الداخلي والتحليل الذاتي.

من الأمثلة البارزة:

"عبثا تبحثين عنّي فـيّ، لن تجدني بين دفاتري وأحلام قصائدي"

هنا، تأتي الصورة الأسلوبية متكاملة بين التكرار ("عبثا") والصورة الاستعارية للدفاتر والأوراق، لتجسد مفارقة الوجود بين الذات الحاضرة والغياب الرمزي.

- التحليل الرمزي:

يمتاز النص بتوظيف الرموز المرتبطة بـ:

١- الزمان والمكان: "صفرة أوراقي"، "سماء قريتي"، التي تمثل ملامح الذاكرة والهوية الوطنية.

٢- الجسد والرغبة: "شهوتي العذراء إليك"، "شفتا امرأة تستجدي قبلة"، ترمز إلى الصراع بين الجسد والروح، والانزياح بين الرغبة والعقاب الداخلي.

٣- الضوء والليل: "سكون الليل"، "قُرص قمر" كرموز للتنوير النفسي والحلم المراوغ، وللإشارة إلى المأساة الشخصية مقابل الأمل الخافت.

- البنية النفسية والدينية:

النص يعكس صراع الذات بين الرغبة والانضباط، بين الفعل والخطيئة، ويظهر الضمير الأخلاقي للشاعر في قوله:

"أعيش شتاتي خارج جسدي، أستيقظ على هدي الخطيئة"

حيث يُبرز النص إحساساً بالذنب والاعتراف الداخلي، وهو ما يمكن ربطه بالبعد الديني للضمير الذاتي والتوبة الرمزية، كما يعكس أيضاً حساسية الإنسان أمام الزمن والموت الوشيك:

"إن طال بي العمر إلى آخر الدهر، تقودني خطيئاتي خارج الأمس"

- التحليل السيميائي (تطبيق منهج غريماس):

بتطبيق منهج غريماس في السيميائيات الدرامية، يمكن تحديد الأدوار الأساسية داخل النص:

- الدور النص / الدلالة:

الفاعل الشاعر / الذات المتأملة

المفعول الآخر / المحبوب / الزمن / الخطيئة

المرسل الشاعر نفسه / الضمير الشعوري

المتلقي القارئ / الذات الداخلية / النص الداخلي

الغرض التعبير عن العزلة، الاشتياق، الخطيئة، والموت الرمزي

تُظهر التحليلات السيميائية أن النص شبكة من العلاقات المتشابكة بين الذات والآخر والزمان والمكان، حيث كل عنصر يؤثر ويتأثر بالآخر، مما يعكس انساقاً معرفية معقدة تتنقل بين الذاكرة والخيال والرغبة.

هنا نقدّم تحليلاً تفصيلياً، مع تفسير المفردات الرمزية، الأسلوب، الصور البلاغية، وربطها بالأبعاد النفسية والجمالية والدينية والحسية.

المقطع الأول، يقول:

"عبثا تبحثين عنّـي فـيّ،

لن تجدني بين دفاتري

وأحلام قصائدي

ولا وسط صفـرَة أوراقي

لا أدري كم طريقا مشيتُـه إليك

ولا كم زمنـًا عشتُه فيك"

- التحليل التفصيلي:

1. المفردات الرمزية:

"عبثا تبحثين عنّي فيّ": كلمة "عبثًا" ترمز إلى اليأس واللاجدوى، وتشير إلى استحالة الوصول إلى الذات الحقيقية أو الكشف عن غيابها.

"دفاتري وأحلام قصائدي": ترمز إلى الذاكرة، الفكر، والجانب الإبداعي للشاعر، أي مساحة الذات الداخلية التي يمكن للآخر أن يفتش فيها.

"صفرة أوراقي": الورق الأصفر هنا رمز للزمن المنقضي، والخسارة، والذكريات التي فقدت نضارتها، وكذلك الفقد الرمزي للفرص أو المشاعر.

"كم طريقا مشيتُه إليك" و"كم زمنًا عشتُه فيك": يرمزان إلى الإصرار على البحث عن الآخر والاشتباك النفسي مع الماضي، واستحالة قياس الزمن والجهد في العلاقات الإنسانية.

2. الأسلوب والصور البلاغية:

١- التكرار: "لا أدري كم…" يعكس الحيرة والاضطراب النفسي، ويؤكد عدم اليقين والضياع الداخلي.

٢- الاستعارة: دفاتر الشاعر وأوراقه تصبح استعارة للروح والماضي والذات الداخلية.

٣- التضاد الرمزي: بين البحث ("تبحثين") والفقدان ("لن تجدني")، مما يعكس الصراع بين الرغبة في القرب والغياب النفسي للذات.

3. الأبعاد النفسية والجمالية والدينية والحسية:

١- النفسية: المقطع يعكس حالة العزلة، الاغتراب الذاتي، والشعور باللامكان، والحنين المفقود.

٢- الجمالية: استخدام الصور الأدبية مثل "دفاتري" و"صفرة أوراقي" يضفي على النص ملمسًا شعوريًا ومرئيًا، يخلق جمالًا بصريًا ووجدانيًا معًا.

٣- الدينية: يمكن قراءة النص في بعده الرمزي باعتباره رحلة نحو الذات، وهو نوع من

٤- التأمل الأخلاقي: البحث عن الحقيقة الروحية في النفس قبل أن تُبحث خارجياً.

٥- الحسية: النص يلمس الحواس من خلال تصوير الأوراق والدفاتر، ويخلق شعورًا ملموسًا بالزمن الضائع والتجربة الشخصية.

المقطع الثاني، يقول:

"حين يعتريني سكون الليل

تغازلني شفتا امرأة تستجدي قبلة

يشدني قُـرص قمر في سماء قريتي

غرته حمُـْـرَته

والحمرة في استدارة وجنتيها

يلزمني سفر موغل في أدغال الروح"

التحليل التفصيلي:

1. المفردات الرمزية:

١- "سكون الليل": رمز للعزلة، التأمل، واللحظة الانعكاسية التي يواجه فيها الشاعر نفسه وأفكاره.

٢-؛"شفتا امرأة تستجدي قبلة": رمز للشهوة والرغبة الإنسانية، وربما لتجربة الغريزة الممزوجة بالحنين والذاكرة العاطفية.

٣-؛"قُـرص قمر في سماء قريتي": القمر رمز للرغبة في النور، الأمل، والحنين إلى الماضي أو الوطن. "سماء قريتي" يرمز إلى الانتماء والهوية الثقافية.

٤- "حمرة وجنتيها": الحمرة تمثل الجاذبية والغواية، وربما رمزية العاطفة المتقدة والفتنة.

٥- "سفر موغل في أدغال الروح": استعارة للتعمق في الذات، في مشاعر الشاعر، واكتشاف أعماق النفس البشرية المعقدة.

2. الأسلوب والصور البلاغية:

١- الاستعارة المكثفة: المقطع يغمر القارئ بصور حسية متعددة؛ القمر، الشفتان، الحمرة، كلها عناصر استعارة عاطفية وجنسية ورمزية.

٢- التمثيل العاطفي: تصوير الرغبة الجنسية والرغبة الروحية في نص واحد يخلق نوعًا من التضاد الجمالي بين الغريزة والروح.

٣- الإيقاع الداخلي: استخدام الجمل الطويلة المتداخلة يعكس التشتت النفسي والحركة الداخلية للذات.

3. الأبعاد النفسية والجمالية والدينية والحسية:

١- النفسية: النص يعكس صراعًا داخليًا بين الشهوة والروح، بين الذاكرة والهوية، ويصور التوتر النفسي الناتج عن هذا الصراع.

٢- الجمالية: المزج بين الصور الطبيعية (القمر) والصور الجسدية (الحمرة، الشفتان) يعطي النص كثافة حسية وعمقًا جماليًا.

٣- الدينية/الأخلاقية: يمكن قراءة النص كصراع ضمير مع الرغبة، أو اختبار للذات أمام الغواية، وهو بعد يعكس التأمل الأخلاقي والروحاني.

٤- الحسية: المقطع غني بالصور الحسية، ما يجعل القارئ يشعر بالعاطفة والجسد والفضاء المحيط، ويعيش تجربة الشاعر المزدوجة بين الرغبة الداخلية والوعي الذاتي.

هنا نستكمل التحليل التفصيلي لبقية المقاطع مع تطبيق منهج غريماس السيميائي وربط كل مقطع بالأدوار والانساق المعرفية، بحيث نحصل على دراسة نقدية شاملة للنص. سأقسّم النص إلى مقاطع رئيسية ثم أعطي لكل مقطع:

1. التحليل التفصيلي للمفردات الرمزية:

2. الأسلوب والصور البلاغية:

3. الأبعاد النفسية والجمالية والدينية والحسية:

4. خريطة سيميائية للأدوار وفق منهج غريماس؛

المقطع الثالث

"وأطوف بها متكئا على وحدتي،

حين يُـغالبني الشوق إليك

أعيش شتاتي خارج جسدي

أستيقظ على هَـدي الخطيئة

أتحسّس الحاضر والماضي

أتهيأ لمسافات قادمات إلي،

إن طال بي العمر إلى آخر الدهر

تقودني خطيئاتي خارج الأمس"

- التحليل التفصيلي:

1. المفردات الرمزية:

"متكئا على وحدتي": الوحدة هنا ليست مجرد غياب الآخر، بل رمز للتأمل الذاتي، والاعتماد على النفس في مواجهة التجربة العاطفية.

"الشوق إليك": الرغبة أو الفقدان للآخر، تمثل المحرك العاطفي للنص.

"أعيش شتاتي خارج جسدي": استعارة عن الغربة النفسية والانفصال عن الواقع، شعور بالانقسام الداخلي.

"هَـدي الخطيئة": الإحساس بالذنب أو التوبة الرمزية، وهو بعد ديني وأخلاقي.

"مسافات قادمات إلي" و"تقودني خطيئاتي خارج الأمس": استعارة للزمن النفسي، حيث الماضي والحاضر والمستقبل متشابكان في التجربة الشعورية للشاعر

2. الأسلوب والصور البلاغية:

استخدام التكرار والتوازي بين الحاضر والماضي والمستقبل يعطي النص إيقاعًا داخليًا يعكس تشظي النفس.

استعارة الجسد والروح (شتات خارج الجسد) تضفي بعدًا رمزياً فلسفيًا وجودياً.

المزج بين الزمن النفسي والزمن الكوني يعطي النص كثافة هيرمينوطيقية، حيث يصبح النص مرآة لوعي الذات المتشابك مع الزمن.

3. الأبعاد النفسية والجمالية والدينية والحسية:

١- النفسية: تصوير حالة الصراع الداخلي بين الرغبة والضمير، بين الشوق والخطيئة.

٢- الجمالية: استخدام الصور المتقاطعة بين الفعل والشعور، بين الداخل والخارج، يخلق جمالية مزدوجة.

٣- الدينية/الأخلاقية: ذكر الخطيئة يدل على ضمير أخلاقي وروحي، والاعتراف الداخلي بالنفس.

٤- الحسية: الكلمات مثل "متكئا" و"شتاتي خارج جسدي" تستحضر شعورًا ملموسًا بالوحدة والاغتراب.

4. خريطة سيميائية (منهج غريماس)

الدور النص / الدلالة:

الفاعل الشاعر/الذات المتأملة

المفعول الآخر/الشوق/الخيال/الخطيئة

المرسل الذات الداخلية/الضمير

المتلقي القارئ/الذات المستقبلية

الغرض التعبير عن الانقسام النفسي، مواجهة الماضي والحاضر، واستبطان الذات

المقطع الرابع:

"أحتمي بخطواتي الحمقى،

حين يلاحقني اليأس

يؤنسني صمتي في وحدتي

يضيع وجهي في زحمة الوُجوه

أحمل ما تبقى من أشلائي

ثم أعود على عجل مرة أخرى،

دون أن أدري إليّ...!!"

التحليل التفصيلي:

1. المفردات الرمزية

"خطواتي الحمقى": تمثل المحاولات الفاشلة في الحياة أو قرارات الذات المتسرعة.

"يلاحقني اليأس": رمز الصراع النفسي والاحباط المستمر، يرمز إلى الضغط الداخلي والقلق الوجودي.

"صمتي في وحدتي": الصمت كملاذ، والوحدة كمساحة للتأمل الداخلي وحفظ الذات.

"أشلائي": استعارة عن الذات المجزأة والمتضررة من التجارب الحياتية والمشاعر المكبوتة.

"أعود على عجل دون أن أدري إليّ": التعبير عن التيه الوجودي، عدم اليقين في الحياة، والبحث المستمر عن الذات أو المعنى

2. الأسلوب والصور البلاغية:

١- المفارقة: استخدام "خطواتي الحمقى" مقابل "يصمتي يؤنسني"، يظهر التناقض بين الفعل والانفعال، بين الفوضى والسكينة الداخلية.

٢- الاستعارة المكثفة: "أشلائي" و"زحمة الوجوه" تعكس الانقسام النفسي والضياع الاجتماعي.

٣- الإيقاع الداخلي: الجمل القصيرة المتتالية توحي بالتيه والعجلة، كما يخلق التكرار الشعوري إحساسًا بالدوامة الداخلية.

3. الأبعاد النفسية والجمالية والدينية والحسية:

١- النفسية: يعكس المقطع صراع الإنسان مع اليأس، الضياع، الشعور بالانكسار، والبحث عن الذات في مواجهة الحياة.

٢- الجمالية: النص يستخدم الصور المكثفة لخلق إحساس حسي وعاطفي بالاغتراب، مع بناء لغوي متقن يوازن بين الفقد والحركة.

٣- الدينية/الأخلاقية: هناك توجيه ضمني نحو الصبر والاعتراف بالضعف البشري، وربما الاستسلام الجزئي للقدر أو للتجربة الروحية.

٤- الحسية: يعكس النص إحساس الجسد المتعب والروح المنهكة، حيث يُخاطب القارئ عبر الصور الملموسة مثل "زحمة الوجوه" و"أشلائي".

4. خريطة سيميائية (منهج غريماس)

الدور النص / الدلالة:

الفاعل الذات/الشاعر المتأمل والمتيه

المفعول اليأس/الحياة/الوجوه/الأشلاء

المرسل الضمير الداخلي/الصمت/العاطفة

المتلقي الذات/القارئ/الآخر الغائب

الغرض التعبير عن الضياع النفسي، البحث عن الذات، مواجهة اليأس والوحدة

بهذا التحليل التفصيلي لأربعة مقاطع رئيسية، يمكننا رسم خريطة شاملة للنص تُظهر الانساق المعرفية والعاطفية:

١- هناك انساق زمنية: الماضي والحاضر والمستقبل متشابكة.

٢- هناك انساق نفسية: الوحدة، الاشتياق، الفقد، التيه، الخطيئة.

٣- هناك انساق حسية وجمالية: الصور البصرية (القمر، الحمرة، الأوراق)، والصور الجسدية (الشفتان، الأشلاء).

٤- وهناك انساق رمزية ودينية: الصراع الأخلاقي، الاعتراف بالخطيئة، البحث عن الذات، الانتماء الثقافي والوطن.

الخاتمة المبدئية:

يمكن القول إن نص "عبثا تبحثين عنّي فيّ" للشاعر إدريس الواغيش يمثل فضاء شعرياً مزدوج البعد: شخصي ووطني، وجداني وفلسفي. إنه تجربة وجدانية مركبة تكشف عن الصراع النفسي العميق للذات، وعن الانغماس في الذاكرة، والاحتكاك بالماضي، والخوف من المستقبل. ومن خلال المنهج الهيرمينوطيقي والتأويلي والأسلوبي والرمزي والسيميائي، يتضح أن النص لا يروي مجرد قصة عن الحب أو الفقد، بل يقدم مرآة للذات البشرية في مواجهتها الزمنية والوجودية، ويعكس بعداً أخلاقياً ودينياً يتماهى مع الحس الوطني والثقافي للشاعر.

***

بقلم: عماد خالد رحمة - برلين

.....................

عبثا تبحثين عنّي فيّ

للشاعر المغربي إدريس الواغيش

عبثا تبحثين عنّـي فـيّ،

لن تجدني بين دفاتري

وأحلام قصائدي

ولا وسط صفـرَة أوراقي

لا أدري كم طريقا مشيتُـه إليك

ولا كم زمنـًا عشتُه فيك

وحين عدت متعبا إلي

وجدتك سرابا طاردتُه

كانت مجرد أوهام طفولتي

عصفت بي شهـوَتي العذراء إليك

والآن، لا أعرف كم سأحيى

إذ تسابقني خطوات الكهولة،

حين يعتريني سكون الليل

تغازلني شفتا امرأة تستجدي قبلة

يشدني قُـرص قمر في سماء قريتي

غرته حمُـْـرَته

والحمرة في استدارة وجنتيها

يلزمني سفـر موغل في أدغال الروح

تطوف بي مسالك الحياة،

وأطوف بها متكئا على وحدتي،

حين يُـغالبني الشوق إليك

أعيش شتاتي خارج جسدي

أستيقظ على هَـدي الخطيئة

أتحسّس الحاضر والماضي

أتهيأ لمسافات قادمات إلي،

إن طال بي العمر إلى آخر الدهر

تقودني خطيئاتي خارج الأمس

أحتمي بخطواتي الحمقى،

حين يلاحقني اليأس

يؤنسني صمتي في وحدتي

يضيع وجهي في زحمة الوُجوه

أحمل ما تبقى من أشلائي

ثم أعود على عجل مرة أخرى،

دون أن أدري إليّ...!!

***

من ديوان: عزلة تقاسمني صبري

العشق بوصفه صلاة متألمة

تسعى هذه الدراسة إلى قراءة قصيدة "عشقٌ معذَّب: أنتَ المعبود وأنا الصلاة" للشاعرة سرية العثمان قراءة نقدية تستند إلى المنهج التحليلي الصوفي ضمن مقاربة لغوية رمزية تبرز تحولات الخطاب العشقي من التجربة البشرية إلى التجلي الروحي.

وتقوم هذه القراءة على تفعيل أدوات المنهج التحليلي الصوفي الذي يدرس النصوص بوصفها تمظهرات رمزية لتجربة الاتحاد متقاطعاً مع مقاربة تحليل الخطاب التي تشتغل على اللغة كنسق دلالي مولد للمعنى الروحي.

ينطلق النص من علاقة ثنائية بين المعبود/المتعبد، إلا أنه يتجاوز الثنائية ليؤسس خطاباً وحدوياً تتماهى فيه الذات بالمطلق عبر بنية لغوية متوترة مشحونة بعناصر الألم والفناء، حيث يتحول الوجع إلى شرط معرفي للاتحاد و يتداخل المقدس بالجسد ليصبح "العشق" نفسه ممارسة صلاتية وجودية.

تطرح هنا الفرضية الآتية:

إنّ قصيدة "عشقٌ معذَّب" تعيد إنتاج خطاب العشق الصوفي ضمن بنية شعرية حرة معاصرة تجعل الألم وسيلة لتجسيد مفهوم الفناء في المحبوب وتحيل اللغة إلى طقس عبادي يتحقق فيه حضور الإله عبر انكسار الذات.

القصيدة تبني "مذهب ألماني" للصلاة: فالألم ليس عائقاً عن اللقاء بل شرط لانسلاخ الذات والارتقاء إلى حالة اتحادية صوفية. النص يعيد تدوير صور التصوف التقليدية في إطار لسان معاصر حر يمزج الجسد بالدعاء لتقديم تجربة صوفية تقرب العشق من الطقوس اليومية (الدم، الملح، الدموع).

الإطار النظري

يستند التحليل إلى مفاهيم أساسية في التصوف الإسلامي أبرزها:

الفناء والبقاء كما عند ابن عربي و الحلاج: حيث يذوب العاشق في المحبوب حتى تمحي الأنا في الأنت.

وكما يذهب ابن عربي في الفتوحات المكية إلى أن الفناء هو اكتمال العشق حين تذوب الذات في الآخر المطلق، فإن هذا الذوبان يتحول في النص إلى فعل لغوي يعبر عن وحدة العابد و المعبود داخل تجربة الوجدان الشعري.

الجرح كرمز للمعرفة: الألم شرط الإدراك كما في قول الرومي: "إنّ الجرح هو الموضع الذي يدخل منه النور".

ويؤكد الرومي في المثنوي أنّ الجرح موضع النور والمعرفة، إذ يصبح الألم أداة كشف روحي تفتح الوعي على المطلق، وهو ما تجسده القصيدة حين تجعل الوجع وسيلة حضور للمعبود.

اللغة الطقسية: الدعاء والمناجاة والنداء بوصفها أشكالاً لغوية لإقامة الصلة مع الغيب. تتحول اللغة في التجربة الصوفية إلى معراج للروح وأداة للفناء في المعنى.

التحليل النصي:

العنوان والدلالة الميتافيزيقية

يؤسس العنوان "أنْتَ المَعْبود وأَنا الصَلاة" لمعادلة معرفية عميقة: فالمتكلم لا يصف ذاته بالمحب أو العابد فقط، بل يجعل من كيانه فعل عبادة خالص، حيث تغدو الصلاة ذاتها تجسداً وجودياً للعشق.

هذه الصيغة تكشف عن وعي صوفي يقارب الفكر الحلاجي مع فارق أن الشاعرة تحافظ على المسافة الشعورية بين الانمحاء والالتماس، أي بين الفناء والرغبة في البقاء بظل المحبوب.

الجسد بوصفه معبراً نحو المطلق

تعمل الشاعرة على تشكيل معجم روحي جسدي يمزج بين ماديات الألم ورموز الطهر ويتضح ذلك في قولها:

"يَذُوبُ حُبُّكَ مِلْحًا فِي دَمِي،

فَلَا أُمَيِّزُ بَيْنَ مِلْحِكَ وَمَائِي،

وَلَا بَيْنَ دَمِي وَدُرُوبِكَ."

في هذا المقطع تتجلى استعارة الانصهار الجسدي بين العاشق و المعبود، حيث يمتزج "الملح"(رمز الحفظ والوجع) بـ"الدم" (رمز الحياة) لتغدو الذات موضع تأله جسدي.

التحام الملح بالماء يحيل إلى جدلية التطهير والألم: الحب يطهر كما يجرح.

وهكذا تعيد القصيدة الاعتبار للجسد بوصفه موضعاً للتجلي، حيث يتحقق العشق عبر الحضور الجسدي لا عبر محوه في التقاء بين الحسي والمقدس يذكر بما ذهب إليه ابن عربي حين رأى في الجمال المخلوق أثراً من جمال الخالق.

وإذا كان الجسد في القصيدة بشكل معبراً نحو المطلق ومجالاً لتجلي التجربة العرفانية في بعدها الحسي، فإن القصيدة تنتقل بعد ذلك إلى مستوى أعمق من التجربة هو الطقس الداخلي الذي يتجلى في الألم المسبح والمعرفة المتولدة من الوجع.

الطقس الداخليّ والوجع المسبح

تقول الشاعرة:

"أُغْمِضُ قَلْبِي عَلَى طَعْنَةٍ تُسَبِّحُ بِاسْمِكَ،

كَأَنَّكَ الرَّحْمَةُ،

وَكَأَنَّنِي الصَّلَاةُ الَّتِي لَا تَكْتَمِلُ إِلَّا بِوَجَعِكَ."

يتجلى هنا منطق الألم العرفانيّ: فالصلاة بوصفها فعلاً من الانضباط الروحي لا تكتمل إلا بالوجع، أي إن الألم يتحول إلى ركن من أركان العبادة.

يتخذ الجرح وظيفة معرفية ولغوية في آن معاً، إذ إن الطعنة تسبح باسم المعبود فيصبح الألم ذاته لساناً للتقديس.

بهذا تعيد الشاعرة صياغة مفهوم "الابتلاء" القرآني بلغة وجدانية تماثل ما يسميه الرومي العشق الإلهي الذي يطهر القلب من ظلاله.

إنّ العلاقة بين الجرح والمعرفة في النصّ تحيل إلى ما تصفه آنماري شمل ( Annemarie Schimmel) بـ" نار التحول الصوفي"، حيث يصبح الألم وسيلة تطهير وارتقاء.

ولئن كانت الشاعرة تكتب جرحها بلغة مفعمة بالجسد، فإنها تلتقي هنا مع عبد الكبير الخطيبي الذي يرى أن "الكتابة لا تكون أصيلة إلا حين تكتب الجسد بجرحه"، إذ تتحول الكلمة إلى جسد متعبد في اللغة.

ومن منظور نقدي حديث، يمكن القول إن النص يجسد ما وصفه رولان بارت بـ"لذة النص"، أي تداخل اللذة والألم في التجربة اللغوية، حيث تتحد العبادة بالحب لتنتج صلاة جسدية تذوب في المطلق.

جدلية الهروب والسعي

تقول الشاعرة:

"لَمْ أَعُدْ أَهْرُبُ مِنْكَ،

بَلْ صِرْتُ أَسْعَى إِلَيْكَ

كَمَا يَسْعَى الظَّمْآنُ إِلَى النَّبْعِ،

عَارِفًا أَنَّهُ خُدْعَةٌ،

وَلَكِنَّهُ الخُدْعَةُ الوَحِيدَةُ الَّتِي تُشْبِهُ الخلودَ."

في هذا المقطع يبرز التحول من موقف الرفض إلى مقام التسليم.

الظمأ والخداع والخلود مفردات تنتمي إلى المعجم الصوفيّ للامتحان والمعرفة.

فالمحب "يعرف أنّها خدعة " لكنه يختارها لأنها تفضي إلى الخلود الرمزي، أي إلى الفناء في المطلق.

إنها خدعة العشق التي تحدث عنها النفري في قوله: "أوقفني في العشق وقال لي: هذا موت لا موت بعده ".

وإذا كان هذا المقطع يعبر عن حركة العاشق في بعدها الخارجي، أي انتقاله من الهروب إلى السعي، فإن القصيدة تنتقل بعد ذلك إلى البعد الداخلي لهذه الرحلة، حيث يصبح النداء والمناجاة شكلاً من أشكال السعي الروحي الذي يتجاوز الجسد ليبلغ مقام الرجاء الصوفي.

التوسل الندائي والرجاء الصوفي

ورد في النص:

"يَا سَاكِنًا فِي صَمْتِ أَوْرِدَتِي،

أَمَا آنَ لِجَلالِكَ أَنْ تَسْتَجِيبَ لِمُنَاجَاتِي؟"

يستعيد النص هنا لغة الدعاء القرآني في صيغتها الندائية لتتجلى العلاقة بين الداخل الجسدي ("أوردتي") والقداسة العليا ("جلالك").

الجمع بين "الصمت" و"الأوردة" ينتج مجازاً عميقاً للحضور الإلهي في الدم. الإله يسكن مجرى الحياة، لكن صمته يؤكد المسافة المستمرة بين العاشق والمحبوب.

هكذا تعيد الشاعرة رسم التجربة الصوفية في قالب لغوي مؤنث يجعل المناجاة امتداداً لنبض الجسد نفسه، حيث يتحول الخطاب من السعي إلى الاستغاثة ومن الحركة نحو الخارج إلى انفتاح الداخل على نداء الغيب.

وإذا كانت المناجاة في المقطع السابق تمثل ذروة الانفعال الصوفي حيث يتجلى النداء بوصفه وسيلة اتصال بين العاشق و المعبود، فإن النص لا يكتفي بهذا المقام، بل يتجاوزه إلى مرحلة أعمق هي مرحلة الفناء. فبعد أن يرهق النداء اللغة بجهد الرجاء تتجه الذات نحو الصمت المتعالي حيث لا يبقى للقول سوى أن يذوب في المحبوب. هنا تتحول التجربة من خطاب الدعاء إلى تجربة الذوبان ومن نداء الحضور إلى سؤال العدم الذي يؤسس لما يمكن تسميته "الفناء الاختياري ".

خاتمة النص: نحو فناء اختياري

ورد في النص:

"ذُبْتُ بِكَ...

فَهَلْ لِرُوحِي أَنْ تَفْنَى بِجَلاَلِكَ؟"

ينتهي الخطاب الشعري بسؤال مفتوح يعبر عن تعليق الفناء، أي رغبة غير مكتملة في الاتحاد.

إن فعل الذوبان ("ذُبتُ بك") يعلن الوصول إلى العتبة، بينما السؤال الختامي يعيد الذات إلى دائرة التوق.

بهذا تحافظ القصيدة على دينامية الصعود الصوفيّ المفتوح فلا تبلغ النهاية، بل تستبقي المسافة كشرط لاستمرار العشق.

وبالتالي نجد أن قصيدة "عشقٌ معذَّب" تكشف عن خطاب صوفي معاصر يتأسس على جدلية العبادة والألم، حيث تتحول اللغة إلى طقس تعبدي والجسد إلى فضاء لتجلي المعنى والوجع إلى وسيلة للمعرفة الروحية. ومن خلال هذا التداخل بين الجسد و المقدس تبلور الشاعرة رؤية صوفية حداثية تعيد صياغة مفهوم الصلاة بوصفها حالة عشق وجودي يتحد فيها الروحي بالمادي.

إنّ هذه القراءة تبرز أن سرية العثمان لا تكتب تصوفاً تقليدياً، بل تعيد إنتاج التجربة العرفانية في أفق أنثوي حديث يجعل الجسد وسيطاً بين الغيب واللغة، ويحول القصيدة إلى ممارسة لغوية للعبادة الجمالية، حيث يتحقق الفناء عبر الجمال لا عبر الزهد و يغدو الجرح موضع الجلال ومعبر الخلاص الشعري.

***

دراسة نقدية من إنجاز فاطمة عبد الله

..........................

عشقٌ معذَّب: (أنْتَ المَعْبود وأَنا الصَلاة)

يَذُوبُ حُبُّكَ

مِلْحاً فِي دَمِي،

فَلَا أُمَيِّزُ بَيْنَ مِلْحِكَ وَمَائِي،

وَلَا بَيْنَ دَمِي وَدُرُوبِكَ.

*

أَفْتَحُ يَدَيَّ عَلَى شَوْقٍ لَا يُرَى،

وَأُغْمِضُ قَلْبِي عَلَى طَعْنَةٍ تُسَبِّحُ بِاسْمِكَ.

كَأَنَّكَ الرَّحْمَةُ،

وَكَأَنَّنِي الصَّلَاةُ الَّتِي لَا تَكْتَمِلُ

إِلَّا بِوَجَعِكَ.

*

مُنْذُ أَنْ نَادَى الجُرْحُ بِاسْمِكَ،

وَكُلُّ خَلَايَايَ تُلَبِّي.

لَمْ أَعُدْ أَهْرُبُ مِنْكَ،

بَلْ صِرْتُ أَسْعَى إِلَيْكَ

كَمَا يَسْعَى الظَّمْآنُ إِلَى النَّبْعِ،

عَارِفًا أَنَّهُ خُدْعَةٌ،

وَلَكِنَّهُ الخُدْعَةُ الوَحِيدَةُ الَّتِي تُشْبِهُ الخلودَ.

*

يَا سَاكِنًا..

فِي صَمْتِ أَوْرِدَتِي،

أَمَا آنَ لِجلالك أَنْ تَسْتَجِيبَ لِمُنَاجَاتِي؟

أَمَا آنَ لَكَ أَنْ تُنقذ قَلْبي مِنْ لَحْنِه ؟

أمَا آنَ أنْ تَرْحَمَ صَحْوي وَجَفَائي؟

أمَا آنَ أنْ تَحْتَسِي صَفْوَ دُمُوعِي؟

فَأَذوبُ فيكَ!

فَكُلُّ لَيْلَةٍ أَنُوحُ،

وَكُلُّ فَجْرٍ أَنْكَفِئُ عَلَى جُرْحٍ

يُسَبِّحُ لَكَ.

*

لَيْسَ لِي دُعَاءٌ

إِلَّا أَنْ أَبْقَى بِكَ،

وَلَا نَجَاةَ

إِلَّا بِالتِّيهِ فِيكَ.

ذُبْتُ بِكَ...

فَهَلْ لِرُوحِي أَنْ تَفْنَى بِجَلاَلِكَ؟

***

سرية العثمان.

٢٠٢٥/١٠/١٦

جمالياً ودلالياً.. الشاعر موفق الحجار والفنانة بتول احمد نموذجا

بين الشعر والرسم شجون ورؤى، في كلّ منهما ينسج الفنّان أو الشاعر رؤيتهما وتجربتهما، الأوّل بالألوان والدوائر والأشكال، والثاني بالكلمات والصور.. فتتشابك وتتداخل هموم الشاعر والفنّان لتكشف لنا علائق جديدة وتصنع عالماً جديداً للصورة.

فالرسام يستعمل الريشة والألوان في تنفيذ مفردات اللوحة التشكيلية، في حين يستعمل الشاعر المفردات ويصوغها في قالب فنّي مؤثّر وفق نهجه ورؤيته الخاصة وعبر تقنية لغوية... كلاهما يتركان أثرهما في المتلقي سواء أكان مستخدماً المفردات والإيقاع أم عناصر فن الرسم.

 ان الخاصية التصويرية في الشعر تجعله قريبا للرسم، ومشابها له في بعد اساسي من ابعاد التشكيل والصياغة، والتأثير والتلقي فالاعتماد على التصوير والتشخيص والتشكيل ظاهرة مشتركة بين الشعر والرسم، ربما ذلك كان السبب الذي اتكأ عليه الفيلسوف اليوناني سيمونيدس” (ت 465 ق. م) كي يقول:

(الشعر رسم ناطق، والرسم شعر صامت) في إشارته إلى علاقة فنية جوهرية بين الشعر والرسم، وان اختلفا في المادة التي يصاغ منها، وبنفس الصيغة يقول ليوناردو: "الرسم شعر صامت، والشعر رسم أعمى".

يعتبر النص الشعري من الوسائل التي مكنت الشاعر السوري المقيم في ملبورن موفق الحجار (في مجموعته الشعرية - أنتروبية شعرية) من رسم مسار حياته، رغم أن الشاعر في مجموعته هذه حاول ومنذ العتبة الأولى (الغلاف) توظيف الصراع النفسي الحاد الذي لازمه مع المتغيرات التي حوله والذي يوحي بها من خلال الغموض المتمثل بحجب الرؤية عن عينيه كي لا يرى ما يجري من حوله كونه قد تشبع من رؤيا المظالم، وحماية صلعة رأسه بكف يده كي يحميها من شظايا القذائف، إلا أن قصائده كشفت عن شغفها الحسي عبر التأويلات التي اتسعت في الرؤيا عبر تقانات الشكل الى حيث تفجرت طاقته الابداعية عبر لعبة الوصف، والتلمّس، وعبر التصاق القصيدة وملفوظاتها بهاجس كل منا. تمثلات الشاعر ليست بعيدة عن رؤياه الشعرية كونها تتقمط هواجسه حيث بدت قصائد المجموعة وكأنها مرايا، تتسع لمرآى أناه المنطوية كونها حكايات مسكونة بتمثلات وجودية، وحيث ينامُ كلُّ العاشقينَ على وسائد شوقِهمْ، وتضجُّ أركانُ السريرِ على أحاديثِ الأرقْ أما هو فهو يلوح، للرفاقِ وللحَكايا، والطُرُقْ (قصيدته مشهد ليلي في كوالالمبور).

بالمقابل ركزت الفنانة بتول على اللون الأزرق الداكن لتشير الى عمقها الداخلي كي لا تستطيع العين المجردة رؤية ما تكتنفه في اعماقها، لذا تراهما قد حـشّدا عن طريق الحدس دلالاتهما بغية الكشف عن معاناتهما التي تجسد من خلال ذلك معانات شعبهما ليعطيا (لنصه / للوحتها) زخماً قوياً خدمةً لجماليته.

وهذا ما يقوله الشاعر في نصه (كلماتٌ غيرُ موجودةٍ في القاموس):

أبني غدي

أعلو على درجٍ من الخيباتِ

أختصرُ الصعودَ، بجملةٍ شعريةٍ،

أتعكزُ الماضي وتحملني الشجاعةُ

حينَ أسقطُ في الحنينِ

ولستُ أشكو.

النص ينطق من منطقة الجرح العميق لا من القاموس، حيث يلتقي الخوف والقلق بالحنين، والموت بالحياة، فهو يعاني انشطاراً داخلياً بين الواقع المدمّر والحلم المستحيل.

2042 nazarوبالمقابل تقف اللوحة الفنية للفنانة بتول بلونها الأزرق الداكن مع القليل من الاسود والابيض وهما في صراع دائم لاعتلاء الكرسي أو الهبوط في الفوهة. هي الأخرى تحاول أرسال أنويتها المحملة بآهات الشجون عبر ظلال يجسده التدرج بين الازرق الغامق (النيلي) والأزرق الفاتح من ذوات العلاقة الوطيدة بحياتها اليومية سواء في الداخل او في محطات المهاجر.

فاللون الأزرق بتدرجاته نحو الداكن وتزاوجه مع البنفسجي بتدرجاته أرادت به الرمز إلى مشاعر البرودة والعزلة والحزن لدى الإنسان، فضلاً عن الأبيض الذي يرمز إلى الصفاء، والهدوء، والأمل والى بصيص النور وتوليفه مع الاسود الذي يرمز الى العتمة في المسيرة. وكما في لوحاتها الأخرى تسيج الفنانة لوحتها بخطوط رفيعة قابلة للاختراق كاختراق الحدود.

 كلاهما (النص واللوحة) تتشظيان في اعماقنا وتنقلنا بتجربتهما (الشعرية / الفنية) الى مديات بعيدة مما يسمح لإنعكاسات صورهما الشعرية والفنية من ملامسة ودغدغة أحاسيسنا الداخلية بكلمات وجمل مموسقة أو خطوط وألوان للكشف عن الأنا الكلية والتي تعمل مجتمعة كي تنحو بالإبداع نحو التوازن في تجربتهما. لاسيما فيما يتعلق بتكوين الصورة في اللوحة المرسومة والقصيدة المكتوبة.

فانحازت قصائد الشاعر السوري موفق مثلما لوحات الفنانة بتول الى مايشبه الهاجس اليومي، حيث يحضر الآخر في أعمالهما بوصفه رمزا ويحضر اعمال (الشاعر / الفنانة) بوصفها إنعكاسا لتصرفات ندهما الآخر عبر سيل من الصور الجميلة التي تشبه لوحات رسم، كما في قصيدته (توليبُ الأربعاء):

تقولُ يا صديقَنا:

لا شمسَ في ديارِنا

وماؤكَ القليلْ،

لا ينفع الورودْ! ونحن آسفونَ أن نقولَ

متعبونْ!

وآسفونَ: زهرةُ التوليبِ

لا تعيشْ!

في غرفةٍ صغيرةٍ

ليست بها فتاةْ

فاذهبْ بغيرِ رجعةٍ

وعانقِ الحياة!

الشاعر اشتغل على دلالة الذات بوصفها الفضاء الحضوري فتتفجر طاقتها في عملها عبر لعبة الوصف، والتلمّس، (وماؤكَ القليلْ لا ينفع الورودْ، زهرةُ التوليبِ لا تعيشْ في غرفةٍ صغيرةٍ، فاذهبْ بغيرِ رجعةٍ،...) لأن التأويل يتولد وفق مشاعره الشخصية، ومن خياله الخاص. فتصبح اللغة مُولّدا للغموض، فينمو الخيال، و يصبح العالم مدهشا، والحياة اليومية مقلقة.

2043 nazarوهكذا في لوحة الفنانة بتول، حيث اشتغلت هي الأخرى على دلالة الذات بوصفها الفضاء الحضوري فتتفجر طاقتها في عملها هذا من خلال إمرأة تقمطت الخوف والرعب وهي تحاول بحذر تلمس فنجان قهوتها. لقد جاء التوهج نحو آفاقها الرحبة في لوحتها هذه من خلال التزاوج بين اللون الوردي الفاتح والقهوائي الممزوج بالوردي وتوليفهما مع الازرق ليدلّ على القوّة والإثارة، العاطفة والحبّ. ويرمز إلى الدم وحبّ المغامرة لتقول لنا إنها موجودة مع الإنسان لتكافح معه رغم كثافة كتلة السواد (شعر رأسها) المخيفة والدالة على عربية النشأة. حيث استطاعت من خلال لوحتها هذه بث أحاسيسها الوجدانية.

تثير الألوان المستخدمة في لوحاتها ودرجة ظلالها انفعالات متعددة توحي من خلالها الفنانة بتول بحجم الصراع الذي تبنته (كناية عن أمهات شعبها في المخيمات والأزقة).

أن القيمة الجمالية للألوان فى العمل الفنى كهذا، لا تنحصر فى مجرد الإحساس باللون منفصلاً، وإنما متداخلا ومتفاعلاً، من خلال توليفاتها ما بين إدراكها المحسوس وتأملها كقيمة معنوية تؤلف بين عناصر (نفسية وذهنية وبلاغية).

استخدامها الكثافة في كتلها اللونية من خلال ضربة فرشاتها التي تجعلها تلامس السطح بقوة لتعكس لنا ما تذهب إليه عند مواجهة السلبية في أمر ما أو واقع ما حيث لا بد من تدمير ذلك الواقع الموصوف من خلال استخدامها كتلاً لونية من أجل التعبير عن ثقل الأشياء وكتلتها لخلق واقعية جديدة.

تُعَدّ نصوص المجموعة الشعرية للشاعر نموذجاً شعريا للنصّ الشعريّ الذي يتجاوز حدود البوح الذاتي إلى أفق الواقع الحالي المحمل بالمعانات الانسانية انه عالماً شعرياً مكتملاً ينبض بصور جميلة تتفاعل من خلالهما الذاتي مع الكلي، حيث تتقاطع الرؤية وقدّسية الانسان في الجمال والخراب، العيش الكريم والرحيل في متاهات الحدود التي تفصل الدول، معتمدا على جمالية التلقي عبر حوارية عميقة بين النص والقارئ، تدفعه إلى أن يكون شريكاً فاعلاً في بناء الدلالة، لذا ليس لقصائده مكان، وكيف يكون هناك مكان وهو لا يملك وطن وكما يقول في قصيدته (الماء ذاكرة السماء / بلادٌ ليس نسكنها وتسكن في مواجعنا فكيف نحبُّ ذكراها، وذكراها ستؤلمنا؟).

 مثلما ليس للوحات زوجته بتول مكان في المدينة أو في الوطن بقدر ما هي تأمّل في مصير الكائن داخل العالم المعاصر؛ كقول الشاعر في قصيدته (آسيا):

في بابِ بيتي،

دفترٌ للذكرياتْ،

في المطبخِ المدفونِ تحتَ غُبارِنا،

عفنٌ بحجم فراقنا.

في الجوِّ يعصفُ،

بعد كل قذيفةٍ،

صمتٌ يفوق ضجيجنا

وأمام كلِّ الغائبين،

تَرَيْنَ شوقَ الأمهاتْ.

وفي لوحتها هذه لم يبقى للانسان الا هيكله العظمي بسبب حصر رأسها بين قضبان السجون كاشارة الى كبت الحرية في أوطاننا، فأبيدت الانسانية. لذا تراها قد غلفتها بالاسود في إضفاء روحها وما تكنه نفسها لإعطاء المضمون الفني روعته في اللوحة، وذلك لما للون من قيمة رمزية معبرة عند الفنانة؛ فنشأ في لوحتها هذه ثنائية (الضوء/ الظلمة)، فتأثر المكان والذات المدركة بطبيعة اللون.

2044 nazarفكما الكلمات لدى الشاعر هي عظيمة الأهمية، هكذا هو اللون بالنسبة للفنانة فالذوق الأدبي أو الفني يُستدَلّ مما يشيعه (النص/ اللوحة) من دلالات وصور وايحاءات في الفضاء الشعري والفني حيث تتقاطع التجربة الوجودية والروحية ضمن رؤية رمزية عالية الكثافة، تُعيد صياغة علاقة الإنسان بالكون والذات والآخر والقداسة. كلاهما يسعيان إلى إعادة اكتشاف العلاقة بين الصورة والعالم، بين الذات والآخر، بين الجمال والألم، عبر (لغةٍ / لون) مشحونةٍ بالاحساس والقلق، تنبض بوعيٍ لقراءة الآتي، كلاهما يرسمان الإنسان الذي ضلّ طريقه بين حدود الدول عبر رموز حبلى بلغة تتوهج بين السردي والتأملي أو ألوان كثيفة والصورة، ومن افرازاتهما نتج إيقاعاً هارمونيّاً يوازي التوتر الداخلي لكل منهما، كلاهما يجسدان الخراب فتحيلان القبح إلى لوحة غامضة كغموض المستقبل متكئان على جمالية التناقض والتشظي لاكتشاف الذات.

يقول الشاعر في قصيدته (الثالثُ عشر من آب):

كم كنتُ أعرفُ أنَّ شيئاً داخلي

حتماً يموتْ

لا لستُ أذكرُ..

كنتُ أكتبُ،

كانَ أهلي نائمين،

وأخي يُتمُّ بناءَ مشروعٍ

لإعمار البلادْ.

وأنا أتمُّ قصيدتي،

سقطت هناك قذيفةٌ

سقطتْ بلادي إثرها

ثم انحنى شجرُ الطريق

2045 nazarهذه القصيدة تُحيلنا الى المدينة التي كانت في السابق مكاناً ووطناً ولم يبقى لي منها إلا ذاكرتها وحكاياتها، والى صوت القذائف التي كانت تمطر على المدينة، فولدت لديه الخوف والبحث عن أشلاء حلم العائلة، بوصفه الشاهد الوحيد على مايتبدى من صور الحضور على ما يصطخب بها صوت القذائف من قلق وجودي، وبكل ما ينعكس من خلالها على ملامح الأشياء المُهددة بالمحو. وهذا ما جسدته لوحة الفنانة لصورة خيال إمرأة أو رجل بحجم الوطن متقمطة الأزرق الداكن مع بقعة بنية وخطوط صفراء كدلالة لمساحة الحدود الواجب التحرك من خلالها أو تزاوجها بسبب الظروف التي جعلتنا ننزوي في داخلنا. فالأزرق الذي يملأ المساحة توحي به للاستقرار والنجاح والهدوء ولكن المصير هو على عكس ذلك لذا جاءت الصورة بالازرق الداكن مع بقع من البني المائل الى لون الدم والاصفر كل هذا لتوحي لنا إلى قوة الإصرار للبقاء والعيش.

تبدو معالم أثر ضربة الفرشاة واضحة في السحب والتركيد في العديد من لوحاتها، ما يعكس قوة الصراع مع الآخر لتسرح بها بصيرة المتذوق؛ فهي تجيد اِستخدام الألوان الداكنة كالازرق الغامق والبني الذي يميل الى الاحمر لتثري نسيج اللوحة وتغني عمقها.

تبدأ جماليات التلقي عبر الصورة التي التقطها الشاعر بالتوازي مع تلك التي جسدتها الفنانة كي يخلقا فضاءً من الحركة الناتجة من الصراع بين الذات في مواجهة الرياح العاصفة. كلاهما يرسمان مشهد الكائن المعاصر في غربةٍ كونية، على رصيف العمر، أي على هامش الزمن، وضياع المقدّس كقول الشاعر في قصيدته (سيزيفُ المعاصر):

ونحن واهمونْ

نسير واثقينَ للتحررِ الكبيرْ

نناهض التمييزْ

نناصرُ النساءْ

نحبُّ من يحبُّنا

ونكرهُ الرياءْ

لا فرقَ في ألوانِنا

 فكلُّنا سواءْ

سويةً نضيعْ

بفكرةِ القطيعْ

وهذا ما جسدته الفنانة بلوحتها من خلال تجسيد صورة إمرأة تقمطت لتأخذ صورة كورسياً بسبب نظرة مجتمعنا الشرقي الضيقة الى المرأة بدلا من أن تكون مصباحا يرشدنا، لذا تراها قد استسلمت للواقع وتقمطت مع طبلة سوداء لتكون كورسيا رغم أن في رأسها ما يكفي لينير الطريق أو لربما لتقول لنا باب بيتنا مغلق فلا مجال لاستقبال الأحبة.

الفنانة استخدمت اللون الازرق بتدرجاته وخطاً أصفر يرشدنا الى حيث الرأس الحامل مشعل النور.

2046 nazarالفنانة تمارس خبرتها الحسية والجمالية في لوحتها من خلال تداخلات نفسية وذهنية، فاللون فى لوحتها له قوته التعبيرية، وبوسعه أن ينقل معانى الرقة والتألق والابتهاج.  رسمها للمرأة فى لوحتها هذه بجسد هامد ومساحة لونية مصمتة يعكس المكان الذى ينأى عن تعقيدات حياة الانسان المعاصر. تجربتها الفنية التي عكست لنا رموز الألوان المستخدمة ودلالاتها وتعاملها مع اللون، تجدها دائماً تتمركز عند اللون الازرق. هذا اللون هو الذي يكشف لنا عن طبيعة الفنّانة وشجونها ورؤاها، كونه يعبّر عن جميع النواحي الجمالية عن طريق التوافق وفق قانون جماليّ من الصعب تحديده ولكنه مختمر في بصيرة الفنّانة لتعبر عن عالمها الخاص وعن أحاسيسها التى أيقظتها الألوان.

الإبداع الشعري أو الفني التشكيلي يمرّ من خلال الخيال، واستكشاف الواقع وتحويله، وهذا يعني للمبدع اكتشافَ العالم، وامتلاك العالم، وفي نفس الوقت اكتشافَ الذات والآخرين كقول الشاعر في قصيدته (مطر المعاني):

أفتحُ البرّادَ،

أشربُ رشفةً من حزنِ أمّي،

ثم أدخلُ غرفتي

وأنامُ تحتَ "التختِ" أحلمُ كيفَ أنّي..

حينَ أكبرُ سوفَ أمضي

نحو أرضٍ

لا ينامُ الوردُ فيها في فساتينِ النساءِ

وليس فيها ياسمينْ

عبارة (رشفةً من حزنِ أمّي) بحالها تفضي بنا منذُ اللحظة الأولى إلى المزيد من الشّد النفسي للشكل المتحرك وهو في حالة الاستسلام وحيث تتحرك هذه الهواجس فجأة وتتحول إلى أشياء تتراءى بقدر التخيلات المتحفزة في أعماق الذات. فهو لا يصف فقط مأساة خارجية، بل أيضاً انكسارًاً داخلياً في الذات التي تعيش صدمة التهجير والاقتلاع.

2047 nazarوهذا ما تجسده لوحتها الفنية التشكيلية هذه وهي عبارة عن مساحة رسمهتا أو صورتها عواطفها وروحها وألوانها، وضمّنتها أفكاراً وأهدافاً لتحاكي المتذوّق، فهي في النهاية عمل اِستخدمت فيه العقل والعاطفة معاً. فالفنانة تعاملت مع الألوان (الأزرق بتدرجاته) والبقع الصفراء الداكنة وعيدان الكبريت البيضاء يرؤوسها الحمراء لما لها من طاقة وزخم وشحنات وإيقاع سكبت في اللوحة رؤاها كي تبوح من خلالها رؤيتها التي تتلمس بحواراتها الاِضطراب فأفرزت لنا شخصية يكتنفها الغموض في مستقبلها؛ فتحولت إلى شبح. لذا تراها تشدد كثيراً على اللون الأزرق القاتم.

وختاما نقول:

الإبداع لديهما، سواء كان شعريا أو فنيا تشكيليا، فإنه يغرف مواده من الواقع والخيال يتألّف من صور وأحاسيس وتصوّرات له جذوره في الواقع ويمر بالضرورة عبر الحواس، وهو دائم الاشتغال والإدراك الحسّي للأعمال الشعرية أو الفنية التشكيلية لذا أنتج لنا قصائد / لوحات غنية بتأويلاتها وانعكاساتها.

كلاهما يجسدان بلغة تصويرية تنبثق من صميم القلب، لغةً ترنو وراء الحلم في الدروب المعتمة من أجل أن يطلقا شعلة الحرية.

كلاهما يستمدان قوتهما من الشعور بالحب ومن هموم الواقع؛ فيرسمان لنا عالماً جديداً.

كل هذا يكشف لنا عن فضاء اِشتغالاتهما الأدبية والفنية ورؤاهما التي تكونت لديهما من خلال انعكاسات الواقع عليهم، وردة فعل الذات المبدعة لديهم تجاه سطوة الآخر.

كلاهما يرسمان لنا صورة معبرة عن الأنا المكتظة والمثقلة بأحاسيس تضطرب من أجل الانفلات من سجنها لتكون حرة.

***

نزار حنا الديراني

مقدمة: ورد في البيان والتبيين لأبي عثمان الجاحظ ما يلي: (فنون القول في صناعة الشعر طويلة والعمر قصير) وهو يعني بذلك كثرةَ ممُكنات التّعامل مع اللغة في الشّعر واتّساع مجالات توظيفها إلى درجة أنّ العمر بحاله لا يكفي للإمام بها والإيتاء عليها.. بما يفضي إلى لا نهاية التجديد والابتكار فيها على مرّ الزّمن وبالتالي ما يولّد لا محدوديّة عيار التّقييم لمدى جودتها ودرجة مهارة أصحابها في سبك الخطاب الشّعري وحبكه..

بذلك يظلّ الشعر عموما وشعر عصر الحداثة وما بعدها مِن تجريب يقصر العمر عن خوض بحره وشقّ غمره كما يقصر عن الإلمام بجزئياته وكلّياته خاصّة في واقع عربيّ مأزوم شهد انفجارا في كلّ شيء بما في ذلك الكتابة على اختلاف اجناسها وخاصة الشّعريّة منها وبشكل خاصّ تلك المنسوبة إلى المرأة.. ورغم هذا السّيل غير المسبوق من الشعر النّسائي في تونس تحديدا استطاعت أحلام بن حورية ابنة حمام الغزاز وجارة البحر ان تحوز لنفسها مكانا لا بأس به في هذا الوسط الزّاخر بالأصوات النّسائيّة في تونس وفي البلاد العربيّة رغم أنّها تُعتَبر مُقِلّة من النّاحية الكمّية مقارنة بغيرها.. وذلك من خلال إصداريها: * مجادل * (2020) الذي رامت فيه البلوغ بالقصيدة إلى مرتبة تضاهي المجدليّة قدرا والمجدل سموقا.. و* ومضت * (2024) الذي رامت فيه البلوغ بالقصيدة إلى مرتبة النّورانيّة خاصّة وهي تضع له عنوانا هذه الجملة الفعليّة المبنيّة بلاغيّا على " جدليّة تجويع اللفظ وإشباع المعنى" فإذا بها حمّالة تأويلات في إسناد الفعل: " ومض" إلى المؤنّث مطلقا.. "ومض" هذا الفعل الذي يعني في العربيّة (لمع لمعانا سريعا ومبهرا يخطف البصر فيُدهِش المُبصِر.. وهو فعل البرق عنوان الخصب والخير والماء قوام الحياة.. وكذلك فعل السّيف عنوان حفظ الكرامة وشرف الحياة..)

(أ صاحِ ترى برقا أريك وميضه

كلمع اليدين في حَبيّ مكلّل - معلقة امرئ القيس)

فمن تكون أو ماذا تكون هذه الأنثى التي أسنِد إليها فعل الوميض؟؟ وهل ومضت في سياق الحقيقة ام في سياق المجاز الذي يحقق جماليّة العدول في العبارة الشّعرية؟؟

وماهي تجلّيات فعلها في قصائد المجموعة الأربع والخمسين؟؟

العنوان وأصداؤه في المتن ومنزلة ذلك في تكوين الرّؤيا الشعرية:

إذا افترضنا بداية انّ التي ومضت هي القصائد المؤسِّسة لرؤيا الشّاعرة في الكتابة عموما وفي هذه المرحلة من تجربتها خصوصا نتبيّنها اساسا في مستويات ثلاثة: الإهداء - قصائد البدء والعَود - خصوصيّة اللّغة اختياراتها وتوظيفاتها..

1 - وميض الإهداء بطابعه الصّوفي في الارتقاء بالفعل الإنساني الخلّاق تثمينا وإجلالا الي مراتب النّورانيّة من خلال رمزيّة اليد / الكفّ النّيّرة وما تعنيه من دلالات خاصّة في علاقتها بالإنجاز والإنبات تأصيلا وتجذيرا وخلقا (إليك وإلى كلّ مَن يسكب ضوءا في كفّه لِيُنبِت ذاته) ولعلّ الكتابة بهذا المعنى شكل من أشكال الإنبات النّيّر في مواجهة ظلمات القعود والخمول وتصحّر المعنى...

2 - وميض قصيدتي البدء والعود على بدء:

فالقصيدة الأولى (ص 13) تردّدت عبارة " الشمس" خمس مرات مع " القمر" و" الشعاع "... في مقاربة بين الذّات الشاعرة المؤنّثة وبين النّورانيّة (أنا امرأة... تنقش شامات على وجنات قصائدها... تقف في قلب الأعاصير لهبا كالشّمس...)

والقصيدة ما قبل الأخيرة (ص 96) حملت عنوان المجموعة وقامت أيضا على اتّسام الذّات بهذه السّمة النّورانيّة (ومضت... مثل شمس فركت وجنتيها) لتعلن قرار المُضيّ في عرك الحياة الانثويّة بنور الشّعر توّاقة نحو الأمثل (مضت... تناجي ربَّها ساجِدة.. تُعِدّ بروقا تُشِعّ على جانبَيها...) وهذا الأمثل الذي يمثّل نصّا (لم يُكتَب بعدُ) هو الذي استشرفته القصيدة الأخيرة (ص 98): " رصاصٌ" والتي وضعت للكتابة " النورانيّة " او بمعنى آخر ذات الوميض وظيفة المقاومة (ما لم تفعله الممحاة... بقلم الرّصاص... وما بقى من طلقات بقلم الرّصاص)

بذلك سيّجت الشّاعرة تجربتها في هذه المجموعة الشّعريّة بوميض أناها المرأة التي يطغى انسانها وشاعريتها على أنوثتها فتشرق بالوميض وبه تنجز وتبدع وتقاوم وتلاحق ظلمات آنفة بممكنات آتية وهي تدسّ خبايا المحاولة في تفاصيل القصائد التي توسّطت مجموعتها الشّعريّة متوسّلة بخطاب شعريّ خاصّ بها قوامه توظيفات للّغة خاصّة بها..

3 - وميض الاختيارات اللّغوية وطرق توظيف تيماتها ومرجعيّاتها وتَجويد صُوَرها دلالاتِها وذاك نجلوه في هذه النّزعة الاستعراضيّة في عودة الشّاعرة إلى أعلاق العربيّة المعتّقة في أشعار القُدامى والنّصّ القرآني تستميح منها معجمها المتين وتراكيبها ذات البلاغة الفائقة شأنها في ذلك شأن مجموعتها الأولى (مجادل). فنادرا ما نجد في الشّعر الحديث استعمالا للمعجم الحوشيّ من قبيل ما ورد مثلا في (قصيدة تونس ص 39:

تاؤها تفتّحت في قُرَيعائها

وأغلقت أثباجها.. ثمّ نادت في الدُّجَن

ابتسمي.. ستندمل الجراحُ

وتَينَع الغَيناء ثانية....)

(القريعاء: الأرض الخالية من النباتات الأثباج: وسط الشّى حين يتكتّل ويبرز الدّجن: الغَيم الكثيف الغَيناء: الشّجرة كثيفة الأغصان والأوراق). وعبارات أخرى كثيرة من هذا القبيل (النّيطل - غضاريف - حَوجلت - الخطوات الرّاقلة....)

ونادرا أيضا ما نجد في الشّعر الحديث إحياء لمثل هذه الاشتقاقات والصّيغ المستنبطة أو المستلهمة من لغة القدامى التي حفلت بها قصائد شاعرتنا بشكل استثنائيّ في مجموعتيها الشّعريتين كلتَيهما (ص 21: مُرَكمِجًا آماله / ص 22: مِرصافة الوقت / ص 25: شجّرتها واشتجرتها / ص67: الهذّاءة / ص 38: تلك ال " لماذا" التي " تُلملذ " فقاقيعها التّائهة / ص 95: أنا الشّامس...)

فكان في هذا الاستخدام لمعاجم وعبارات نادرة الاستعمال إخراج لها من مجاهل النّسيان لتظهر إلى النّور فتتجلّى وتومض في القصائد بما تُكسبه للّغة من ألق يتكامل مع ما زخرت به من بلاغة المحسّنات البديعيّة التى سجّلت ظاهرة مُلفتة في قصائد المجموعة (وأيضا في قصائد مَجادل). فنجد المفارقات تشغل حيّزا كبيرا من استخدامات اللّغة تجسّد جدليّة الظّلام والضّياء في العديد من التّمظهرات الأبعاد التفصيليّة المتعلّقة خاصّة بمواضيع الشّكوى والتذمّر من واقع الذاتّ والمرأة والشّعر والمجتمع والوطن وحتى الوجود... من جهة وبما تطمح إليه رؤاها المتمرّة أبدا والباحثة عن شعاع الشمس يمرّ على الكون فيزيح عنه الكدر وعلى الوطن فيضيء زواياه المعتّمة وعلى الشّعر والكتابة فيحلّق بهما إلى مشارف ذاك (النّصّ الذي لم يُكتب بعدُ...) بل إنّ بعض القصائد قد بُنِيت كاملة على المفارقات المتنوّعة من مقابلة وطباق مثل قصيدة: (بعين الغيم ص 22 من بين ما جاء فيها:

أطلّ من جفوة وسني

وشمسي بجوف اللّيل سارحة

تغنّي بأنواري..

ينفلت حرفي الذي كان محصورا بأروقتي

وتزغرد على مَجادل الأحلام

قصائدي وأشعاري...)

Kawther

وتتكامل المفارقات في الارتقاء بلغة الخطاب الشعري مع ضروب المجانسات اللفظيّة والتّركيبيّة لتُحقّق ما تكتمل به مقتضيات الشّاعريّة فيها من تنغيم إيقاعيّ وما تستوجبه مضامين التّغنّي بالذّات (ص 13: أنا امرأة.. / تضفر شَعرها شِعرا وفلسفة ) والقصيدة (ص 71: فقصائدي حين أسرجها / أقطع عنها أوصالها / وأنزع عنها أوحالها / وأُشرِبها من كؤوس النّخوة...) والحبّ (ص 93: المكسور.. يريد أن يُثبت لها / أنّه الأضحية وأنّها السّكّين / المسجور.. مازال يحبو نحوها / وخزعبلات في صدره تنزَع وِشاح صمتِها) والوطن (ص92:

تواعدنا على حُبّ على عشق أُراضيها

تَوادعنا هنا اليوم  ولن أنسى أَراضيها)

من طابع احتفاليّ صاخب. هكذا مثّلت الاختيارات اللّغوية في المجموعة عاملا ساعد على إكساب القصائد تألّقا فنّيّا إضافيّا في إطار تلك الاختيارات التركيبيّة الخاصّة بشعر أحلام بن حورية بشكل عامّ والمتمثّلة في تلك الجمل ذات التّركيب اللّولبي القائم على تناسل مكونات الجملة من بعضها البعض حتى تسع طول النّفس الشّعريّ وتستوعب تشابك الأفكار والرّؤى بل إنها أحيانا تسع قصيدة بأسرها مثل قصيدة (أرشاق ص 80) التي تمتدّ على جملة إسميّة واحدة مُركّبة.. وهذا خاصّة في القصائد ذات النّزعة الاحتجاجيّة بمضامينها السّوداوية القاتمة في تصوير واقع تونس وفلسطين والعرب عموما (ص 65:

قالت غزّة

بلا رويّ ولا قافية.. أمشي

وذي الأصفاد تثقل خطوتي

يشدّني الوجع..

كأنّه الحجر.. كأنّه الوتد...)

وفي تصوير أحوال الفئات المسحرقة من المجتمع التي لا غرابة ان تغضب لها الكتابة بمداد شاعرة لها رصيد من النّضال النّقابي ومثل ذلك قصيدة: (وكان حلما... ص 74) التي أفردتها للحديث عن هجرة الشّباب المهمّش نحو أوروبا بحثا عن الحياة في قوارب الموت

وكذلك في تصوير واقع المرأة المعقّد في مجتمعنا ومن ذلك ما جاء في قصيدة (المدخنة ص: 32

بلا وجه.. بلا ومض.. بلا أرض.. بلا وطن

تتمدّد كالموت في الكلمات

كالسّوس الذي يسري في الحصاد

تنصب مشانق لبسماتي

تُطارد أحلامي وأنّاتي.. فيستفيق......) فتلك جملة واحدة قدّمت مسيرة حياة كاملة من معاناة سببها الأنتَ المذكّر الطّاغي في المجتمع والطّامس لكلّ ما هو جميل في الذّات المؤنّثة..

وقد واجهت الشاعرة قتامة صور الواقع في هذه النّزعة الاحتجاجيّة بنَورانيّة اللّغة التي غلب عليها الاستعراض والنّخبويّة بتلك الصّور البلاغيّة القائمة على اعتماد انواع التشبيه والاستعارة في تحقيق جمالية العدول أو ما يسميه الدكتور "محمد الخبو " في كتاب (مدخل إلى الشّعر العربي الحديث) ب" الغموض الشّفّاف ". وقد استلهمت الشّاعرة هذه الصّور البلاغيّة خاصّة من منظومات الكتابة والقِيَم والوجود والطّبيعة خاصّة السّماويّة المنيرة ممّا شفّ عن عالمها الشّعريّ المنطلق من الذات والممتدّ نحو ما يحيط بهذه الذّات عبر ما تؤدّيه اللغة من تفاعلات مع محيطها تفاعلا ينفّر من كلّ ما هو مظلم وينحاز إلى كلّ ما هو مُشرق وضيء مِن ذلك ما ورد في قصائد كثيرة منها قصيدة (في مهوى الرّياح ص 67:

ما اسودّت البهجة يوما

وما تسيّع ماؤها

إلّا إذا تكدّر في صحوها المطر

وذا مطرك ومقٌ مِن حرير

يتلألأ على خدّ القصيدة ولا يأبى الهطول...)

خاتمة:

تبقى دلالات فعل ومضت وحوافِّه ذات صلة بالنّور محورا واسما للخطاب الشعري في التّجربة التي قدّمت لها الأديبة فتحية دبّش وقد نوّهت ب: (حرصها الدائم على جعل مواضيعها متنوّعة تنوّع انشغالات الفرد والجماعة فهي التي تكتب للنساء كما للرّجال للحبّ كما للحرب وللذات كما للآخر في حالتي الثّبات والتّحول) تكتب ضمن تجربة مسيرتها محكومة بجدلية المسايرة والمغايرة قصيدا هادفا في غير انسياق وراء الشّعارات والايديولوجيا ورومنسيا في غير انحباس داخل صوت المشاعر الفرديّة ومتمرّدا في غير تطرّف ولا حدّة في الخطاب.. وتكتب ضمن تجربة سياقها التّاريخيّ محكوم بجدليّة العتمة والضّياء (الوميض) تارة تحتجّ على مكامن الحيف والرّداءة في الواقع التّونسي والعربي والإنساني وطورا تجنّح نحو الأفضل والأوجه والأكثر عدلا وجمالا أو لنقل الأكثر وميضا لمستقبل الشّعر والإنسان والأوطان..ثمّ هو وميض الكِتابة التي تَدين لذاكرة الشعر العربي القديم والحديث في مختلف مراحله وتحوّلاته ممّا أكسب قصائدها منسوبا مرتفعا من الإنشائية / الشّاعريّة ونزعة استعراضيّة حققت تَميُّزَ الخطاب وهَيبة النّصّ على أساس متين التّركيب ضارب في الأصالة وهو يُجايِل عصرَه خاصّة في هذه التّنويعة التي لا تزال تجرّب وتختبر وتُسائل مختلف طرائق الكتابة الشعرية (النّثرية والموزونة) في متلازمة بين فنون القول ومبدعتها وما انعكس في ذاتها من أصداء حياتها وثقافتها وأحلامها..

تلك أبرز ملامح الكائن الوميضي الذي تخلّق في قصائد شاعرتنا أحلام بن حورية وهو يحاول أن يخرج بنا من ظلمات راهن المجتمع وحيفه والأدب المثقَل بمزالق تردّيه والوطن المكلوم بخيباته والإنسان المُنساق نحو انحرافاته... أن يخرج بنا إلى أنوار القصيدة الرّسالة الوضيئة ضمن مسار اختارته الشاعرة لتجربتها سلكته فومضت في مطبّاته المعتّمة و... مضت بين شعابه وفيافيه نحو الآتي من الرّؤى المتعلّقة بالكتابة خاصّة وبالإنسان والوجود عامّة شعارها (ص 16:

حوريّة بلا واو

تصعد على ربوة الزّبد القديم

تعانق نسرا لا يستكين...)

***

قراءة أعدّتها: كوثر بلعابي

تحليل فرويدي لانشطار الهوية ووهم الوحدة - تفسير وتعليق على مقالة لصباح الأنباري

في قلب كل ذات إنسانية يكمن سؤال وجودي لا ينطفئ: من أنا؟.. سؤال لا يُجاب عليه بالمعطى الظاهري أو بالهوية الاجتماعية، بل بالصراع الصامت بين ما نُظهره وما نكتمه، بين وجوهنا في الضوء وظلالنا في العتمة. وقد كان الفكر الفلسفي منذ سقراط إلى سارتر مشغولًا بمشكلة الهوية والذات، لكن سيغموند فرويد هو من اقتحم هذه الذات ككائن مفكك، يرزح تحت وطأة اللاوعي، والرغبات المكبوتة، والغرائز المطمورة..

وفي زمن تتكاثر فيه التشظيات النفسية والاجتماعية، حيث تتلاشى الحدود بين الواقعي والمتخيل، يأتي الأدب بوصفه المجال الأقدر على تمثيل هذه الانشطارات، لا سيما في أشكال سردية تستبطن ما لا يُقال. ومجموعة “بيت فرويد” لصالح الرزوق ليست سوى مثال بارز على هذا الأدب الذي يكشف – لا يعالج – صدوع النفس، في صورة قصة قصيرة تتماهى مع التجربة الإنسانية في أقصى توتراتها.

* العنوان كمدخل تأويلي

تُفتتح مجموعة “بيت فرويد” لصالح الرزوق بعنوان يشي بمقصدية تحليلية؛ فالبيت ليس مجرد مكان، بل فضاء رمزي داخلي، تحيل جدرانه إلى مكبوتات ساكنيه، وتدل غرفه على حالات ذهنية متقلبة. إضافة “بيت” إلى “فرويد” تضيف بعدًا سايكولوجيًا مباشرًا، حيث يشتغل النص داخل مسكن الذاكرة اللاواعية، ويحوّل الشخصيات إلى كائنات محاصرة في غرف الذات، كما في البناء العميق للنفس حسب نظرية التحليل النفسي.

* النصوص / الرؤى: السرد بوصفه إسقاطًا داخليًا

تتوزع نصوص المجموعة في قسمها الأول تحت اسم “الرؤى”، وهي نصوص قصيرة تنحو إلى الشكل الحلمي التأملي، يطغى عليها الراوي العليم والمونولوج الداخلي. في “الإشارة الأولى”، يظهر صوت الجرس كإشارة ذهنية لبدء الحفر في الداخل، حيث تزرع “شجرة العائلة” في حديقة لا وجود لها إلا في الوعي الافتراضي.

النصوص تُبنى على استحضار الأشياء عبر ذاكرتها الرمزية، لا المادية. هذه الرؤى لا تعيد رسم الواقع بل تفككه في صور ذهنية تقوم على التكرار، والتيه، والمراوحة، بما يعكس عطبًا في البنية الإدراكية للشخصية، ويقود القارئ إلى الانخراط في عملية التأويل.

* النصوص / الخيالات: الذهان السردي ومرايا التخييل

يشكّل قسم “الخيالات” في مجموعة بيت فرويد تحوّلًا جوهريًا في استراتيجية السرد، حيث يغادر النص موقع “المراقبة” الذي اعتمد عليه في الرؤى ليدخل عالمًا أشد تشظيًا، تتحدث فيه الذات عن ذاتها من داخل المعاناة الذهنية لا من خارجها. هنا، لا تعود الشخصية موضوعًا للراوي، بل تصبح هي الراوي، والعالم، والحلم، والمخيلة في آنٍ واحد. هذا الانقلاب في موقع السرد يشكل لحظة فنية ونفسية فاصلة في منطق النص، ويؤسس لما يمكن تسميته بـ”الذهان السردي”.

* ضمير المتكلم والوعي الذهاني

في نصوص الخيالات، يحل ضمير المتكلم محل الراوي الخارجي، ليكشف عن عالم داخلي مكتظ بالتشظيات الإدراكية والتفكك الزمني. فالسارد لا يحكي تجربةً متماسكة، بل يقدّم شذرات من وعي قلق، متردد، يعيد بناء الواقع على نحو هلوسي؛ حيث تفقد الأشياء تماسكها، وتتحوّل اللغة إلى أداة تقويض لا توصيف.

على سبيل المثال، في نص “بالتفصيل”، تبدأ الجملة السردية بالفعل “ترددتُ”، وهو فعل نفسي إدراكي يعكس صراعًا داخليًا لحظة الدخول إلى العالم الخارجي. ثم يتبع ذلك التوصيف: كانت التعليمات أن أسجل عنه كل التفاصيل الممكنة… وتلقيت ذلك برسالة صوتية، وتبعها شيك مصرفي…”

يتحوّل السرد هنا إلى ما يشبه المونولوج الداخلي القسري، حيث تُفقد الحرية السردية لصالح التبعية المراقبة، وينشأ ما يشبه الهلوسة السياسية، إذ تفرض السلطة (أو اللاوعي السلطوي) شروط الحكي كما تفرض المراقبة على الجسد.

هذا النمط من السرد يوازي ما تصفه جوليا كريستيفا بـ”الهذيان النصي”، أي تفكك الخطاب نتيجة تفكك الهوية، حيث تصبح الكتابة نفسها انعكاسًا لحالة ذهنية معطوبة.

* الخيال كآلية دفاع نفسي

في النظرية التحليلية الكلاسيكية، يُعد “الخيال” وسيلة دفاع ضد صدمة الواقع، إذ تلجأ الذات إلى توليد واقع بديل يعوّض عن الفقد، أو الألم، أو القهر، وهو ما يبدو جليًا في نصوص الرزوق. الشخصيات المتكلمة لا تبحث عن الحقيقة، بل تهرب منها إلى فضاء “مُفترض”، تُصاغ فيه التفاصيل بدقة جنونية، كما لو كانت محاولة للسيطرة على واقع منهار.

وتبدو هذه البنية قريبة من مفهوم “الواقعية الذهانية” (psychotic realism) التي درسها ماتيو سبايرز في علاقة السرد بالحالات الفصامية، حيث يُبنى العالم السردي من منظور ذات مصابة بالبارانويا، فتنشأ عن ذلك لغة شديدة الخصوصية، تخترق النظام المرجعي للعالم الخارجي وتعيد صياغته بقلق.

* اللغة بوصفها مرآة داخلية

الخيالات ليست فقط محكيات متوترة، بل تجريب لغوي يمس جوهر اللغة نفسها. فالسرد يتحرك في منطقة وسطى بين التقريري والشعري، وبين الواقعي والمخيالي. تتحول المفردات إلى صور ذهنية، وتخضع الجمل لإيقاع داخلي لا يخضع لمنطق السرد التقليدي. هنا تتجلى وظيفة “اللغة كمرآة”، بالمعنى الذي قصده بول ريكور حين رأى أن اللغة لا تصف الواقع، بل تكشف عن الذات وهي تنكشف.

وهذا ما نلاحظه في نصوص مثل “اجتمعنا”، و”سألتُ”، و”أمسكنا”، حيث لا تُبنى الوقائع على تسلسل منطقي، بل على تداعٍ انفعالي يجعل الحدث انعكاسًا لحالة ذهنية لا واقعة مادية.

* الذات الساردة ككائن منقسم

الخيالات في بيت فرويد لا تحكي عن شخصيات مختلفة، بل هي تنويعات على “شخصية واحدة منقسمة” تمثل امتدادات داخلية لبعضها البعض. وهي بهذا تنتمي إلى ما يمكن تسميته بـ”السرد الذاتي المتشظي”، حيث تُروى القصة من عدة نوافذ نفسية في الجسد ذاته. وتشبه هذه البنية ما وصفه فرويد بـ”الانقسام النفسي للذات”، حين تفقد الأنا وحدتها تحت ضغط المكبوت أو الصدمة.

ومن ثم، فنصوص “الخيالات” في بيت فرويد تمثل قفزة سردية وفنية عميقة في بنيتها، حيث يتحول النص إلى فضاء ذهاني مكتمل الأركان: ذات سردية متوترة، عالم خارجي مُشوش، مخيلة معطوبة، ولغة منشطرة بين المعنى واللا معنى.

بهذا، يتجاوز الرزوق نموذج القصة النفسية إلى ما يمكن تسميته بـ”أدب الاضطراب الداخلي”، الذي يرصد الذهان لا بوصفه مرضًا، بل كإستراتيجية فنية لإعادة بناء الذات والواقع.

* البيت كتمثيل للهو اللاواعي

العنوان نفسه يشير إلى أن البيت (المكان) ليس إلا استعارة لـ”النفس”. حسب غاستون باشلار، البيت هو خريطة داخلية للذات: الطابق السفلي يمثل الهو، والعلوي يمثل الأنا الأعلى، والدرَج هو الطريق بين اللاوعي والوعي -4-

“بيت فرويد” بهذا المعنى ليس فقط مسكنًا، بل مسرحًا داخليًا لآلام الذات وأقنعتها، ومرآة لغرف الوعي المغلقة.

ومما سبق، يمكننا القول أنه ليس في عالمنا ما هو أكثر غموضًا من الذات. إنها لا تُدرك مباشرة، بل تنعكس في المرايا، تُفكك في الأحلام، وتُفصح عن نفسها عبر القناع. وما قام به صالح الرزوق في “بيت فرويد” لا ينتمي إلى حقل الأدب المحلي فحسب، بل يتصل بحركة أدبية-فكرية عالمية تتغذى من منابع التحليل النفسي، والوجودية، والبنيوية، وما بعدها.

تغدو القصة القصيرة هنا مرآة للتمزق الكوني للهوية، حيث يكتب الرزوق عن الإنسان بوصفه ذاتًا تبحث عن نفسها في العتمة، وتواجه أشباحها في بيت لم يُغلق بابه قط.

***

محيي الدين إبراهيم

....................

* المراجع

Lacan, Jacques. Écrits: A Selection. Trans. Alan Sheridan. Routledge, 2001.

Freud, Sigmund. “The Uncanny.” In The Standard Edition of the Complete Psychological Works of Sigmund Freud, Vol. XVII, Hogarth Press, 1955.

Klein, Melanie. The Psycho-Analysis of Children. Hogarth Press, 1932.

Bachelard, Gaston. The Poetics of Space. Beacon Press, 1994

Ricoeur, Paul. Oneself as Another. University of Chicago Press, 1992.

Kristeva, Julia. Black Sun: Depression and Melancholia. Columbia University Press, 1989.

فرويد، سيغموند. تفسير الأحلام. ترجمة جورج طرابيشي، دار الطليعة، بيروت، 1985.

صالح الرزوق، بيت فرويد. دار مجلة ألف، دمشق، 2011.

صباح الأنباري، “بيت فرويد ومؤثثاته الرزوقية”، مقالة منشورة في صفحة الكاتب.

Kristeva, Julia. Black Sun: Depression and Melancholia. Columbia University Press, 1989

Spiers, Matthew. “Psychotic Realism in Contemporary Fiction.” Journal of Literary Theory, Vol. 7, No. 2, 2013.

Ricoeur, Paul. Time and Narrative, Vol. 1. University of Chicago Press, 1984.

Freud, Sigmund. The Ego and the Id. Standard Edition, Vol. XIX. London: Hogarth Press, 1961.

*  صالح الرزوق، بيت فرويد. دار مجلة ألف، دمشق، 2011.

 

ضمن فعاليات مهرجان بغداد الدولي للمسرح / الدورة السادسة. يوم الاثنين 13/ 10/ 2025. على مسرح الرشيد عرضت (مسرحية نحن من وجهة نظر قط) تأليف وإخراج (أنس عبد الصمد)

الشفرة الأولى

قبل رفع الستار عن العرض أوصى المخرج متلقيه بتصوير (الباركود) الموجود على ستارة المسرح عن طريق الإسقاط الضوئي، على أن يفتح الباركود بعد العرض، وفي هذا حرص على أن يأخذ المتلقي شيئا من شفرات العرض ويخزنه في ذاكرة جهاز الهاتف النقال إلى أجل ما.

بعض من صور العرض

تقف ثلاث شخصيات (فتاة - امرأة - رجل) على سلم، على اكتافهم اغصان يابسة، ينزلون الى قبو او بيت بلا جدران، يسكنون في فضاء مفتوح، الفتاة تجلس إلى منضدة تحرك (ماوس/ فأرة) حاسوب بلا شاشة، تتناول  دواء، تنظر باتجاه الجمهور بديلا عن شاشة الحاسوب ويتزامن مع عملها ظهور رسوم وكتابات على الشاشة العملاقة في السايك الخلفي، يتحكم الماوس (الفأرة) بمسح الكتابة والصور وكل شيء، صوت جرس الباب المغلق على كومة هائلة من أكياس النفايات، ينظر الرجل للخارج من خلال العين السحرية، تظهر صورة الطارق على الباب على الشاشة العملاقة، ثم تمحى او تشوه بخطوط يرسمها الماوس.

لا تنطق الشخصيات بأي كلام، لا توجد بينهم لغة مشتركة، يصدرون أصوات وصيحات مبهمة، يتفاهمون وينفعلون عبر لغة الحركة وإيماءات الجسد.2039 stage

تدخل شخصية غامضة، تحضر هدية مغلفة يستقبلون الهدية، لأن أوراقهم يابسة، يريدون تغييرا يروي أغصانهم ويرمم مشاعرهم وعلاقاتهم، يفتح غلاف الهدية التي أحضرها الرجل الغامض المتلفع بالسواد، تظهر دمية قط صغير يعلو رأسه أغصان يابسة، وبعد أن يتضخم حجمه تختفي الأغصان اليابسة. بعدها يظهر قط آخر أكبر دون أغصان، ثم يكبر ويتغير شكله، ويكبر، وتظهر صوره على الشاشة/ إسقاط ضوئي. وتكتمل قوة وسلطة القط عندما يتأنسن، وحين تنزل من السلم شخصية القط الانسية، تتسيد المكان والزمان والنفوس، يتناسل قطط صغيرة بأشكال عديدة مصنوعة من مواد مختلفة.

فجأة تدحرجت كمية كبيرة من التفاح من الخارج إلى فضاء الشخصيات، وأخذ حيزا من مساحة الخشبة وسط ذهول الشخصيات الثلاثة، الفتاة اكلت من التفاح ولفظته، رمزية التفاح بهذا الكم تحمل دلالات بكم الخطايا التي يرتكبها بنو آدم، تفاحة واحدة أغوت آدم وأنزلته من الجنة إلى الأرض، ماذا عن هذا العدد الكبير من التفاح؟

يحضر الرجل ميكروفونات ولكنها لا تكبر الصوت، لأن أصوات الشخصيات اختفت تماماً، فهم بلا حول ولا قوة.

تفتح المرأة خزانة ملابس، تخرج منها عددا كبيرا من السترات، وتضعها على الارض، ترتدي الشخصيات الثلاثة سترات.

في المشهد الأخير تضع الشخصيات الثلاث مجموعة سترات على كتف القط الانسي، الذي جلس على الكرسي، وشرع بالتحكم بالجميع بواسطة ماوس الحاسوب نفسه الذي كانت تجلس قبالته الفتاة في بداية العرض، تتهاوى الجدران على السكان، يحاولون إقامتها ورفعها عن كواهلهم، إلا أنها في النهاية تسقط عليهم.

إن محور رؤية ومعالجة (انس عبد الصمد) هو استغلال الأغصان اليابسة في الإنسان، من قبل شخصية غامضة تعمل على تسلل القطط بطريقة ناعمة، وتتضخم أحجامها وفي النهاية تمسك بمقاليد الأمور.

الشخصيات

جميع الشخصيات سيكوباتية (تعاني من اضطرابات نفسية) فهي ذات سلوك غير متزن ولا يمكن التنبؤ بأفعالها وانفعالاتها، ذلك لأنها نتاج العصر المضطرب سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وثقافيا بفعل سيادة القطط التي تنظر للـ (نحن) وتركب نفوسنا وعلاقتنا من وجهة نظرها. 

الفتاة مريضة، يوحي منظرها وهي صلعاء وتتناول الدواء بإصابتها بالسرطان، تعمل على كمبيوتر متخيل، تحرك الماوس، تظهر صور على الشاشة العملاقة، الفتاة تعمل على مسحها أو تشويه جزء منها. حركتها أقرب إلى الرقص، في النصف الثاني من زمن العرض، تسقط غطاء رأسها (صلعاء) ويظهر شعرها.2040 stage

الرجل ذي انفعالات هستيرية، يمارس العنف على شخصية الفتاة والمرأة، ويقوم بتحريك شفتيه وعينيه باستمرار مما يجعل وجهه مشوها إلى حد ما. أما المرأة فإنها تبدو قوية وصلبة، ولكنها سرعان ما تنكسر تستسلم.

ذهب العرض إلى صناعة لغة ثقافية عامة بلا حدود، إذ لم يستخدم لغة حوارية، فقد اعتمد لغة الأصوات والحركة والجسد والإيماءات، ولم يؤثث فضاءه بأي مفردات محلية، إذ اندمجت مفردات مادية (خزانة ملابس، باب، منضدة، مغسلة، كراسي) مع مفردات رقمية/ افتراضية (السُلّم) والصور والكتابات على شاشة الإسقاط الضوئي.

غموض العرض

إحدى أهم جماليات عرض (نحن من وجهة نظر قط) هو  الغموض الذي غلف الصور الدرامية وعلاقات الشخصيات وتحديد مكان وزمان الأحداث، وهذا يشكل حافزا للمتلقي للتركيز ودفعه للتعمق ومتابعة الآتي من زمن العرض. وثمة فرق كبير بين الغموض والإبهام، فالأخير (الإبهام) تشويه وعدم دراية وبُعد عن الإفهام.

يرى (سامي عبد الحميد) في كتابه (المسرح جديده قديمه وقديمه جديده ص٩٢) أن أسلوب ما بعد الحداثة يتميز "بربط الأشكال الى بعضها حتى وإن اختلفت في المضامين وبذلك ترجع إلى التعبير عن كابوسية التعبيرية ويعتمد أسلوب ما بعد الحداثة في الفنون البصرية على ما يسمى (الكولاج) أي جمع أشكال وعناصر مختلفة بشكل عشوائي ووضعها في الصورة […] ويدعو فن (ما بعد الحداثة) إلى التشظي بدلا من الوحدة باعتباره سمة من سمات الفن. لقد دعت حركة ما بعد الحداثة إلى تعدد في وسائط التعبير والى الاستعارات اللفظية والى تشتيت البؤرة" فلا شيء في العرض تقليدي او عادي أو طبيعي، انه عرض لمجموعة حالات وصور لا مركز لها، ولا مرجعية ثابتة، كل شيء متحرك، الصور المتلاحقة، والمونتاج الدرامي، ومفردات التكنولوجيا الحديثة، كلها من مظاهر التوجهات نحو أسلوب الما بعد حداثي. يقع أمر قراءة الصور والأصوات والانفعالات على المتلقي بعد صهرها في بوتقة واحدة مع مدركاته الفكرية والحسية بغية الخروج بتأويل من عندياته،  ويفترض أن يقوم هذا المتلقي بإعادة تركيب حكاية وفكرة العرض التي عمل القائمون على المشروع الجمالي بتفكيكها ونثر تصوراتهم لها في الفضاء المسرحي.

بعد أن كان المؤلف مخرجا في عصر فجر الدراما المسرحية، يجدد (انس عبد الصمد) ظاهرة المخرج المؤلف، ولم يكتف بذلك، بل أضاف لها المخرج مؤلفاً وممثلا، فهو يمثل في معظم عروضه مثل (يس گودو و بيت أبو عبدالله) وقد سعى إلى العمل مع ممثلين من ثلاث ثقافات، ممثلة فرنسية وأخرى تونسية، وممثلين من العراق (محمد عمر) و (ماجد درندش) وعمل على إشراك ممثلين من ثقافات/ جنسيات متعددة مخرجون كثيرون منهم جيرزي كروتوفسكي، وروبرت ويلسون، وهذا ديدن الذين يخرجون العرض من الإطار المحلي إلى الفضاء العالمي.   2041 stage

ختاما عنوان العرض

عادة ما يكون تحليل عنوان في مطلع المقالات والابحاث، ولكن هذا العرض جعل استجلاء العنوان يسيرا عندما تكتمل صورة العرض الكلية. وضع عنوان العرض المتلقي أمام تساؤل: من المقصود بالـ (نحن) أهي الشخصيات؟ أم الشخصيات والمتلقي معا؟ أم أن العرض يقدم الناس جميعا من وجهة نظر قط؟ يعمم المخرج/المؤلف الأمر بإدخال مجموعة شباب للخشبة ليكونوا امتداد للشخصيات الثلاث، وجزءا من صورة العرض. ومن ثم يذهب التركيز على الــ (القط)، ولماذا القط تحديدا؟

من أهم ما يمتاز به القط هو الاستشعار القوي والحساسية الشديدة، فهو يرى في الظلام وسمعه للترددات الصوتية اعلى من الإنسان، كما انه يمتاز بخفة الحركة وقياس المسافات بدقة وخفة حتى في الظلام الحالك، فضلا عن أنه كائن أليف، يصدم التأليف/ والإخراج جمهور المتلقين بتقديم سردية تكشف عن إيغال القط (اللطيف ذي الملمس الناعم) في نفوس (نحن) وتغوله عليهم.

***

ا. د. حبيب ظاهر حبيب 

 

الإيقاع لغة: جاء في معجم المعاني الجامع – معجم عربي عربي. إِيقاع: (اسم). مصدر أَوْقَعَ · من أوقع يوقع.

والتوقيع هو نوع من المشية السريعة، إذ يقال «وقع الرجل»، أي مشي مسرعاً مع رفع يديه.

والايقاع في اللغة أيضاً اتفاق الأصوات وتوقيعها في الغناء، وفي الاصطلاح، اذا كانت الحركات متساوية الأزمنة، سمي الايقاع موصّلا، واذا كانت متفاضله الأزمنة في أدوار قصار، سمي الايقاع مفصّلا.

أما كلمة الإيقاع RHYTHM في اللغات الأوروبية تأتي بمعنى ينساب أو يتدفق.

إشكاليّة الايقاع:

على الرغم من أنّ الإيقاع يُعدُّ عنصرًا أساسيًّا وجوهريًا في بنية الشعر العربي قديمه وحديثه، إلا أنّ هناك اختلافاً واسعاً إلى حد ما من حيثُ تحديده تحديدًاً دقيقًاً، فمنهم من لا يفرّق بين الإيقاع في الشعر والإيقاع في الموسيقي فهما عنده سواء، والآخر يقصره على الشعر دون سواه متجاهلًا الإيقاع النثري، خلافًا لمَنْ ميز بين الإيقاع الموزون والإيقاع المنفلت. والإيقاع يتَّخذ في الواقع أشكالا مختلفة منها: الإيقاع الشعري، والإيقاع النثري، والإيقاع اللغوي، والإيقاع الموسيقي، والإيقاع الصوتي. فالإيقاع في الشعر كميٌّ وكيفيٌّ، ومتى توافر(الكم) دون(الكيف) تحوّل إلى نظم، وإذا ما توافر(الكيف) دون(الكم) تحوّل الى نثر. ومن هنا اهتمّ معظم الشعراء التقليديين بالإيقاع الموزون وحاولوا تجنُّب الإيقاع غير المنضبط أو المنفلت الذي اشتغل عليه شعراء قصيدة النثر، فالإيقاع الشعري يتميز عن إيقاع النثر بانضباطه وتكراره باطراد. (1).

وإن الإيقاع في العروض، أوسع من العروض ومشتمل عليه كما سيتبين لنا من خلال الايقاع في شعر الحداثة، وخطأ الكثير من العروضين التقليديين هو عدم إدراكهم لاتساع الإيقاع وخصائصه في آن. وربما يكون الشعراء التقليديون، قد اتخذوا الأنموذج العام للإيقاع منطلقاً لتحديد ماهية الشعر، حيث عرفه "قدامة بن جعفر" أنه كلام موزون مقفى"، وربما يكون من نتيجة شيوع هذا التعريف وانتشاره أنه انطبع في عقول وأذهان الكثيرين، بأن كل موزون ومقفى شعر، وأن كل ما ليس بموزون ولا مقفى ليس بشعر. وما الجدل الذي مازال قائماً حول أحقيّة الشعر الحر في أن يكون شعرا أم لاً، إلا نتيجة لما ترسب في العقول من فهم هذا التعريف، فما زال الكثيرون يقفون وبصرامة أمام كل تجديد في القالب العروضي للشعر.

عموماً لا يوجد في الاصطلاح تعريف جامع للإيقاع، حيث عرّفه كل ناقد أو أديب من وجهة نظره، متفقين في بعض الأمور ومختلفين في غيرها، وقد تناول "ابن طباطبا" الإيقاع في قوله: (إنّ للشعر الموزون إيقاع يُطرب الفهم لصوابه، وما يَرِدُ عليه من حسن تركيبه واعتدال أجزائه)، (2). فارتبط الإيقاع عند "ابن طباطبا" باعتدال الوزن وصواب المعنى.

ويستخدم الإيقاع أساساً في الموسيقى، باعتباره تنظيماً للشق الزمني منها، فقيل إن الإيقاع مجموع اللحظات الزمنيّة الموزعة وفقاً لترتيب معين، وإن الإيقاع هو النظام في توزيع مدد الزمان، والزمان هو لب الإيقاع الموسيقي، بل إن الإيقاع الموسيقي ربما كان أقوى عناصر الفنون كلها تعبيراً عن الزمان(3).

خصائص الإيقاع:

وبهذا المعنى يصبح للإيقاع خاصيّة جوهريّة مميزة للشعر أصلاً، لم تأتيه من الخارج أو تفرض عليه، «وهذه الخاصيّة ناتجة في الحقيقة عن طبيعة التجربة الشعريّة ذاتها، تلك التجربة الرمزيّة التي تحتاج إلى وسائل حسيّة لتجسيدها وتوصيلها، ومن هذه الوسائل:

1- الإيقاع: ويرتبط الإيقاع بالمعنى هنا ارتباطاً عضويّاً حيويّاً، لأن الكلمات التي يبتدعها المعنى لا تنفصل عن أصولها الصوتية، ولهذه قال بوب: «إن الجرس يجب أن يكون صدى للمعنى».(4).

وهذا ما يميز المفهوم الحديث للإيقاع في الشعر عن المفهوم القديم الذي كان يصر على نوع معين من قواعد الوزن، فهو يميز المفهوم القديم والحديث للشاعر.

إن الإيقاع واحد من تلك الظواهر التي يصعب تعريفها كما بينا في موقع سابق، لا لشيء إلا لكونه ظاهرة مألوفة، ولأن تأثيرها فينا ملموس بلا انقطاع. وهي ناتجة في الحقيقة عن طبيعة التجربة الشعريّة ذاتها، تلك التجربة الرمزيّة التي تحتاج إلى وسائل حسيّة لتجسيدها وتوصيلها، ومن هذه الوسائل إضافة للإيقاع، يأتي تنظيم اللغة.

2- تنظيم اللغة العاديّة على المستوى الصوتي للغة، والصرفي، والنحوي، والدلالي:

لقد ربط "سيد البحراوي" بين مفهوم «إعادة التنظيم» وبين «الإيقاع» على أساس أن إعادة تنظيم العناصر الصوتيّة في القصيدة يخلق تكراراً منتظماً لها في الزمن، أي أنه يخلق نظاماً صوتيّاً هو (الإيقاع)، كونه مكوّناً من العناصر الثلاثة (الصوتي والصرفي والنحوي) والتي لا تستحق أن تعتبر عناصر إيقاعيّة إلا إذا توفرت فيها «النظاميّة»،(5).

وما الإيقاع الشعري في المحصلة إلا تنظيم أشمل وأمثل لإيقاع الكلام العادي، وما المضمون الشعري إلا تنظيم في المستوى الدلالي للغة، يشبه أن يكون تأليفاً إيقاعيّاً للمدلولات يظهر حقائق الوجود بشكل أكثر سطوعاً وجماليّة. ومن هنا يمكن القول إن اللغة هي نفسها الشعر بالمعنى الجوهري.

3- إنّ الإيقاع هو روح الوزن، ومن خلاله يُمكن الوصول إلى عبق الجمال.

4- والإيقاع يستنهض ثقافة القارئ، حيث يقف على مكنونات القصيدة وروحها الداخليّة، مسلطًا الضوء على أيقونة الخطاب ما بين الشاعر والمتلقي.

5- الإيقاع هو الانسجام الحقيقي ما بين الألفاظ والمسموعات فكلاهما يؤديان معًا إلى تحقيق الغاية التركيبية التي توصل إلى غاية البلاغة والبيان، ولا بدّ للقارئ في هذه الحالة من أن يكون على قدر من الثقافة تساعده على التأويل.

6- تفاضُل الشعراء في الإيقاع، حيث يغدو للفظة عند أحدهم فضلًا على غيرها في قصيدة أخرى، وبهذا يتمكن الشاعر من الوصول إلى أعماق المتلقي من خلال انسجام تلك اللفظة مع غيرها.

الايقاع والموسيقى في شعر الحداثة:

إنّ الشّعر صيغة موسيقيّة كما أشرنا في عرضنا السابق، أي كلامًا مموسقاً، تنفعل لموسيقاه النّفوس، وتتأثّر بها القلوب، وإلى هذا ترتكز أهمّيّة الموسيقا في الشّعر، فهي تستطيع أن تُقيم بناء مُتكاملًا يجمع بين التّأليف القائم في أعماق الشّاعر، وبين غيره من المُتلقّين، من خلال قدرة فنّيّة عالية تجعل إيقاعات النّفس الممثلة في النغم الشعري الّذي يعطي مذاقه موسيقا جذب الآخرينّ. بيد أن كثرة استخدام الشيء تفقده طاقته التعبيريّة الشعريّة. لذلك من هنا فإن الشعريّة تكمن فيما تضيفه وتكتشفه لا فيما تردده وتكرره، وهذا يتحقق وفق تلك المعايير الجماليّة التي يحددها التقليد الفني، وتؤثر فيها البيئة ونمو الثقافة. ومعنى هذا أن الشعر لا يكمن في التأليفات المتناسبة بين الأشياء التي ترينا حقائقها المتخفية، وحقائق ما تعبر عنه من مدركات وأحاسيس من خلال لغة الشاعر فحسب، وإنما يكمن أيضا في التأليفات المتناسبة بين ما هو قديم وما هو جديد، بين ما هو محضور وما هو مذكور، بين المألوف وغير المألوف؛ فهو باختصار: الائتلاف في الاختلاف.

وإذا كان الإيقاع في الشعر القديم أو الكلاسيكي يقوم على الوزن والقافيّة ولا يتعدى إلى غيرهما، وقد استعمل القدماء لفظة الوزن بديلًا عن الإيقاع، وهو ما فعله "القرطاجني" عند حديثه عن الإيقاع، أمّا في العصر الحديث فقد أوضحوا تعريف الإيقاع على أنّه التتابع والتواتر ما بين حالتي الصمت والكلام؛ حيث تتراكب الأصوات مع الرتم الشعري ليخلقا معًا فضاء الجمال.(6) وبمعنى آخر إنّ الإيقاع غير مختص عند الحداثيين بالشعر فحسب، بل هو عامل مشترك ما بين الشعر والنثر على حد سواء.(7).. ذكر الأستاذ السيد البحراوي تعريفًا للإيقاع بالنسبة للحداثة الشعريّة قال فيه: إنّ الإيقاع هو تتابع للأحداث الصوتية في الزمن، حيث يكون على مسافة زمنيّة متساوية أو حتى متجاوبة؛ أي أنّ الإيقاع هو تنظيم لأصوات اللغة، وهو أكبر من الوزن؛ حيث إنّه يشمل البنية العروضيّة والبنية الصوتيّة والتركيبيّة. (8).

ولما كان الإيقاع الشعري عنصراً من مكونات النص الدلاليّة، فقد اتسم هو أيضاً – أي الايقاع - بالسمة التي أفردت شعر الحداثة، إلا أنه امتاز بالغموض في هذا الشعر ولا يتميز بذاته، كونه يندمج بنائيّاً في البنية النصيّة الكبرى، حاملاً نصيبه من دلالتها.. ومن ثم أصبحت القصيدة قانون نفسها، ولذلك فهي تخلق قانونها الموسيقي الخاص والنابع من حركتها الداخليّة وضراوتها البنائيّة، وعليه صار الإيقاع، إشكاليّـاً إلى حد بعيد مع شعر الحداثة، نظراً للتداخل بين الأجناس ولانهيار الحدود بين الأجناس الأدبيّة مع الشعر الحر أو الحديث، وإغراق ذلك الشعر في الاستفادة من هذا التداخل، إنه إيقاع يتولد عن أرضية ومناخ جديدين، لم يعد فيهما الوزن وحده محكاً لشعرية القصيدة، بل هناك عناصر أخرى خلّاقة وإبداعيّة. وبناءً على ذلك يظهر لنا مستويات للإيقاع في الأدب، وفي الشعر أنموذجاً:

ويظهر المستوى الايقاعي في اتجاهين هما:

مستوى الايقاع الخارجي أو (البنية العروضيّة). ويشمل:

أولاً الوزن:

الوزن هو سلسلة من المتحركات والسواكن التي تتجزأ إلى مستويات مختلفة مثل: الشطران، والتفاعيل، والأوتاد، وغير ذلك. والوزن هو تفعيلات البيت الشعري، ولا تقتصر وظيفة الوزن على الجمال فقط، بل له وظيفة تعليميّة موسيقيّة، كونه ليس مجرد تفعيلات مُنفصلة عن المعنى، تُلقّن وتُحفظ، ولكنّه لصيق بالمعنى وغير مُنفصل عنه، ويساعد على تأكيد المعنى، وتثبيته في الذّهن، وصونه من الضّياع. (9).. ومن الأمثلة على ذلك قول الشاعر معروف الرصافي (10).

أيها القوم مالكم في جمود -

أو ما يَستفِزّكم تَفنيدي

كلما قد هززتكم لنُهوض -

عدت منكم بقَسوة الجُلمود

طال عَتبي على الحوادث فيكم

- مثلما طال مطلها بالوُعود

فمتى سعيُكم وماذا التَواني

- وإلى كم أُحثّكم بالنشيد

إنّ الإيقاع الخارجي هو العروض والقافيّة، وقد ذكر "عبد المالك المرتاض" في ذلك أنّ الإيقاع الخارجي قديم في الشعر قدم قوله؛ أي أنّه موجود من قبل أن تأتي الدراسات النقديّة على الحديث عنه، (11).

ثانياً اّلقافية:

وّهي أصوات تتكون في أواخر الأشطر أو الأبيات من القصيدة، وتكرارها يكوّن جزءاً مهمًّا من الموسيقى الشّعريّة، فهي بمنزلة الفواصل الموسيقيّة يتوقّع السّامع تردّ دها، ويستمتع بمثل هذا التردّد الّذي يطرق الآذان في مدد زمنيّة منتظمة، وبعد عدد معيّن من مقاطع ذات نظام خاصّ يسمّى الوزن. هذا وقد اختلف النقاد في تعريف القافية، (فاعتبرها "الأخفش" أنّها آخر كلمة من كل بيت، بينما ذهب "الخليل بن أحمد الفراهيدي" إلى أنّها آخر ساكنين في آخر البيت مع ما بينهما من الحروف،(12).. ومن الأمثلة على القافية قول الشاعر "أحمد شوقي" في ديوانه أصبح وأمسي:

أمسى وأصبح من نجواك في كلف

- حتى ليعشق نطقي فيك إصغائي

الليل يُنهضني من حيث يقعدني

- والنجم يملأ لي والنور صهباني

الموسيقا الدّاخليّة أو (البنية الصوتيّة).

لم ينشأ أي اختلال في منظومة الإيقاع في الأدب العربي، الى أن ظهرت قصيدة التفعيلة بداية الخمسينيات وتلتها القصيدة النثرية مُتجاوزة الإيقاع الخارجي – الخليلي، ومرتكزة على الإيقاع الداخلي للنصّ الشعري، أن الإيقاع الداخلي الذي أشرنا إليه عند حديثنا عن الايقاع في شعر الحداثة، هو التجانس بين الحروف في الكلمة، أو انسجام الكلمات في الجملة، وهو يتشكّل من مجموعة عناصر ليس آخرها التضاد والتنافر التي باتت تلبي حاجات النص الشعري الحديث وإيقاعه الداخلي.

مما لا شكَّ فيه أن الحداثة ابتكرت هندسة موسيقيّة مُغايرة، تقوم على إيقاع الجُملة وعلائق الأصوات والمعاني والصور، والطاقة الإيحائيّة لكل هذه المفردات في حالة ترابطها وتردُداتها الدلاليّة. أو بتعبير آخر: حيث يبرز نظام الحركة وطرائق تفاعل العلاقة الضمنيّة المكنونة التي تشكل إيقاع النص الداخلي، المُتصل باللغة والصورة والرمز وتركيب الجمل وعلائق الأصوات وغير ذلك، ببنائيّة شديدة التعقيد والجمال، أنتجها قاطبة التكثيف وخصائصه، كعامل تفجير لغويّ متعدد الدلالات والأبعاد لاشتماله على مستويات إيقاعيّة خفيّة، منها ذات طابع صوتي ومنها ما يتصل بالاتساع الداخلي في اللغة، (13).

هذا وقد عرف الإيقاع الداخلي للنص الأدبي "عبد الرحمن الوجي" (بأنّها ذلك الإيقاع الهامس الذي يصدر عن الكلمة الواحدة بما تحمل في تأليفها من صدى ووقع حسن، وبما لها من رهافة ودقة تأليف وانسجام حروف"،(14).. ويدخل في الموسيقا الداخليّة كما بينا في موقع سابق عند حديثنا عن شعر الحداثة، الجناس والطباق، وسائر المُحسّنات البديعية، مع تركيب الكلام وتتريب الكلمات وتّخيّرها، وكلّ ما من شأنه أن يُعين على تجويد البنية، والرّنين في أبيات القصيدة. وقد استخدم الشّعراء هذه المُحسّنات كثيرًاً، تحسينًاً لأساليبهم وتنميقًاً لكلامهم. (15).

وللإيقاع الداخلي مجموعة من الأقسام، أبرزها:

1- التكرار:

حيث إنّ للتكرار مجموعة من الوظائف من أبرزها لفت الانتباه والتأكيد على المعنى ونحو ذلك، وقد استعمل هذا الأسلوب عدد من الشعراء من بينهم "إيلينا أبو ماضي".(16).

أَيُّها البَحرُ أَتَدري كَم مَضَت أَلفٌ عَلَيكا .

وَهَلِ الشاطِئُ يَدري أَنَّهُ جاثٍ لَدَيكا

وَهَلِ الأَنهارُ تَدري أَنَّها مِنكَ إِلَيكا

ما الَّذي الأَمواجُ قالَت حينَ ثارَت لَستُ أَدري

أَنتَ يا بَحرُ أَسيرٌ آهِ ما أَعظَمَ أَسرَك

2- الموازنة:

الموازنة يعني أن يكون البيت متعادلًا في الأوزان والألفاظ(17).

وقد أتى كثير من الشعراء على هذا اللون من ألوان الإيقاع، وقد أتى امرؤ القيس على هذا اللون في قوله:

مِكَرٍّ مِفَرٍّ مُقبِلٍ مُدبِرٍ مَعًا - كَجُلمودِ صَخرٍ حَطَّهُ السَيلُ مِن عَلِ.

***

د. عدنان عويّد

كاتب وباحث من سوريا.

......................

الهوامش:

1- (الإيقاع في الشعر العربي الحديث -المقولات والتمثُّلات- بحث منشور في مجلة الاداب - ذي قار -0 الأستاذة الدكتورة بشرى ياسين محمد). بتصرف.

2- (محمد سالمان، شعر الحداثة دراسة في الإيقاع، صفحة 22 - 35. بتصرّف.).

3- (موقع الوطن – صوت المواطن الحر -الإيقاع ومكونات النص الدلالية -د. عادل بدر). بتصرف.

4- (موقع الوطن – المرجع نفسه.

5- (موقع الوطن – الموقع نفسه.

6- (محمد سالمان، شعر الحداثة دراسة في الإيقاع، صفحة 22 - 35. بتصرّف.).

7- (محمد سالمان، شعر الحداثة دراسة في الإيقاع، صفحة 22 - 35. بتصرّف.).

8- (جدنا خديجة، العبادي يمينة، الإيقاع الشعري في ديوان آيات من كتاب السهو، صفحة 14. بتصرّف.).

9- (جدنا خديجة، العبادي يمينة، الإيقاع الشعري في ديوان آيات من كتاب السهو، صفحة 16 - 19. بتصرّف)

10- (الديوان » العراق » معروف الرصافي »).

11- (جدنا خديجة، العبادي يمينة، الإيقاع الشعري في ديوان آيات من كتاب السهو، صفحة 16 - 19. بتصرّف).

12- (موقع موضوع كم).

13- (موقع حصاد الحبر - الإيقاع الداخلي للومضة - الشاعر أمين الذيب - مؤسس ملتقى الأدب الوجيز.). بتصرف.

14- (موقع موضوع كوم - تعريف الإيقاع في الشعر - روان مخيبر).

15- (جدنا خديجة، العبادي يمينة، الإيقاع الشعري في ديوان يات من كتاب السهو، صفحة 28. بتصرّف.).

16- (جدنا خديجة، العبادي يمينة، الإيقاع الشعري في ديوان يات من كتاب السهو، صفحة 28. بتصرّف.).

17- (بشقاق الزهراء، دراسة شعرية الإيقاع، صفحة 44. بتصرّف.).

 

عوالم السلطة والمرايا المكسورة.. سيرة كاتبة تتحدى الأطر

ليلى عبدالله، أو "ليلى البلوشي" كما عُرفت سابقًا، ليست مجرد اسم في خريطة الأدب العماني، بل هي ظاهرة ثقافية متعددة الأبعاد، كتبت في صحف ومجلات عربية مرموقة، وأصدرت كتبًا تنوعت بين المقالات والنقد والقصة والرواية وأدب الطفل، حاز كتابها "هواجس غرفة العالم" على جائزة أفضل إصدار في مسقط عام 2015، ومجموعتها القصصية "كائناتي السردية" على جائزة أفضل كتاب قصصي عام 2016، كما ترشحت روايتها "دفاتر فارهو" لقائمة الشيخ زايد، وترجمت أعمالها إلى لغات عدة، منها البولندية والإسبانية والمالايالمية، هذه المسيرة الثرية تشي بكاتبة لا تهادن في بحثها عن أشكال تعبيرية جديدة، وهو ما يتجلى بوضوح في مجموعتها الأخيرة "فهرس الملوك".

(1) العتبات الأولى: عتبات تفتح أبوابًا للتأويل

عتبة الغلاف:

تطالعك عتبة بصرية خادعة وتأسيس لتلقي الانزياح حيث يقدم غلاف مجموعة "فهرس الملوك" للكاتبة ليلى عبدالله عتبة بصرية-نصية شديدة الخصوصية، تضع القارئ منذ اللحظة الأولى في فضاء الانزياح واللعب الذي سيسيطر على نصوص المجموعة ككل.

يعتمد الغلاف على تباين الأبيض والأسود، وهو تباين يحمل دلالات واضحة على الثنائيات التي تتناولها المجموعة: (الخير والشر، الظاهر والباطن، الحاكم والمحكوم).

غلاف "فهرس الملوك" هو عتبة ذكية ومحفزة، تعلن منذ البداية أن القارئ أمام عمل لا يقبل التلقي السلطي، إنه يدعوه إلى المشاركة في فك الشفرات، ومواجهة الانزياح، وإعادة بناء المعنى في مواجهة محاولات التشويه والتفكيك التي تمارسها السلطة – سواء كانت سلطة الحكم أو سلطة اللغة نفسها، الغلاف، بذلك، ليس مجرد غلاف، بل هو نص موازٍ يضع أسئلة المجموعة كاملة قبل أن نقلب الصفحة الأولى.

(2) رؤية في نصوص المجموعة: السلطة بين السخرية والتراجيديا

تقدم ليلى عبدالله في هذه المجموعة عوالم متخيلة تنتقد فيها أنظمة الحكم والسلطة بكل تجلياتها، مستخدمة تقنيات سردية تتراوح بين الرمز والفانتازيا والسخرية السوداء.

- نقد السلطة والطغيان:

في قصة "ذواق الملك" (من ص 9 إلى 12)، تقدم الكاتبة نقدًا لاذعًا لعلاقة الحاكم بالمحكوم. الملك الشكّاك الذي يجبر أحد الفقراء على تذوق طعامه خوفًا من السم، ينتهي به المطاف ميتًا بسبب سوء التغذية، بينما يعود الذواق إلى أسرته مصابًا بداء النقرس. المفارقة هنا تكمن في أن الخادم نجا من السم لكنه سقط ضحية النظام الفاسد. القصة تطرح سؤالًا عن من هو الضحية الحقيقية: من يموت جوعًا أم من يموت خوفًا؟

- صناعة الأيديولوجيا وتزييف الوعي:

في "حاملو اللواء" (من ص 19 إلى 22)، تتعرض الكاتبة لآليات ترويض الشعوب عبر الخطاب، الكاتب الذي يبيع "آراءه" للملك ليتمكن من ترويج خطاب طاعة الملك بين البسطاء، هو صورة عن المثقف الانتهازي الذي يصبح أداة في يد السلطة لتزييف الوعي وجعل الناس "حاملو لواء" الطاغية.

- السلطة والمرايا: الوهم والحقيقة:

قصة "لعنة المرآة" (من ص 39 إلى 42) تقدم استعارة قوية للعلاقة بين الصورة والحقيقة، الأميرة التي تخفي وجهها خلف لعنة وهمية، تكتشف في النهاية أن "اللعنة" كانت مجرد وهم، وأن الوباء الذي يشوه الوجوه يجعل الجميع متساوين في القبح، المرآة هنا ترمز للحقيقة التي تخشاها السلطة، والتي عندما تظهر، تسقط كل الأقنعة.

-  تفكيك أسطورة البطل:

في "مدونو التاريخ" (من ص 55 إلى 59)، تسخر الكاتبة من صناعة "البطل" عبر التاريخ. الملك الذي يجبر المدونين على كتابة مآثره الوهمية، تتهاوى سيرته بعد موته، لكنها تعود لتباع كسلعة ثمينة في المتاحف! النص يهزأ بفكرة "الحقيقة التاريخية" ويظهر كيف تُصنع بطولة الحكام بالأكاذيب والتزييف.

- السلطة والجنون:

في "ملكة القلوب" (من ص 77 إلى 80)، نرى استعارة فنتازية لسلطة مطلقة تقود إلى الجنون، ملكة قلوب "أليس" التي تأمر بقطع رأس كل من يغضبها، تنتهي بأن يأمر ابنها بقطع رأسها هي نفسها، الدورة المفرغة للعنف والسلطة المطلقة تؤكد أن الطغيان يلتهم أبناءه في النهاية.

(3) جماليات التلقي وتحرير القارئ

"فهرس الملوك" للقاصة ليلى عبدالله ليست مجرد مجموعة قصصية، بل هي مشروع نقدي وجودي، لغة المجموعة تتراوح بين الشاعرية والسردية المكثفة، مستخدمة الرمز لخلق طبقات تأويلية متعددة، القارئ هنا ليس متلقيًا سلبيًا، بل شريك في فك شفرات النص وإعادة بناء عوالمه.

الكاتبة تضعنا أمام مرايا متعددة، مرآة السلطة، مرآة التاريخ، مرآة الذات، ومرآة اللغة نفسها، وفي كل مرة، تدعونا إلى كسر هذه المرايا لنرى ما وراءها، هل نرى الحقيقة؟ أم نرى انعكاساتنا نحن؟ هذا الانزياح الدائم بين الواقع والمتخيل، بين الجد والهزل، بين الأسطورة والواقع، هو جوهر جمالية التلقي في هذا العمل الاستثنائي.

"فهرس الملوك" تأتي كخلاصة لمسيرة كاتبة مجرّبة، تضع كل أدواتها في خدمة رؤية نقدية جريئة، تذكرنا بأن الأدب الحقيقي هو ذلك الذي يضع إصبعه على الجرح، ويدفعنا إلى التساؤل، وإلى كسر كل المرايا المزيفة.

***

رزق فرج رزق

 

لا يكتب ألبير كامو في روايته الشهيرة الطاعون عن وباء فقط، بل يتخذ الوباء مدخلاً فلسفياً عميقا للتأمل في طبيعة الوجود الإنساني، حين تُختزل الحياة إلى لحظة مواجهة مع ما هو غير مرئي وغير متوقع وغير معقول. الوباء في هذه الرواية ليس مجرد سياق صحي أو كارثة طبيعية، بل هو تمثيل رمزي لواقع الإنسان في عالم عبثي تختل فيه المعايير وتسقط فيه الضمانات ويُترك الفرد أمام قوى تفوقه وتُجبره على إعادة تعريف معنى الحرية والمسؤولية والمعاناة.

تقع أحداث الرواية في مدينة وهران الجزائرية خلال أربعينيات القرن الماضي حين تبدأ الفئران الميتة بالظهور في الشوارع، ثم تتوالى الإصابات بين السكان بمرض مجهول يتحول لاحقا إلى وباء يفرض حصاراً كاملا على المدينة، في البداية ينكر السكان وجود الوباء أو يستخفون به ثم تبدأ الأرقام في التزايد ويضطرون إلى الاعتراف بالحقيقة التي لا مفر منها؛ هنا تبرز المهارة السردية والفكرية لكامو الذي لا يسعى فقط إلى وصف وقائع، بل إلى سبر أغوار النفس البشرية حين تفقد الروتين والأمان وتضطر إلى مواجهة واقع جديد لا يخضع لمنطق الحياة اليومية.

يختار كامو أن يروي القصة من خلال شخصية الطبيب ريو الذي يصبح بطل الرواية وإن لم يرد ذلك، فهو ليس بطلاً بالمعنى التقليدي، بل شاهد ومشارك وراصد لمعاناة الآخرين. يرفض ريو التفسيرات الدينية أو الميتافيزيقية للوباء ويرى أن مهمته الأساسية تكمن في العمل المستمر لمساعدة المرضى والتخفيف من آلآمهم حتى وإن كان ذلك بلا جدوى واضحة، هذا الالتزام بالمقاومة في وجه العبث هو جوهر الفلسفة الكاموية التي تتجلى بوضوح في الرواية والتي تقول إن الإنسان لا يحتاج إلى أمل كي يواصل العمل بل إلى شجاعة لمواجهة اللاجدوى.

لا يقدم كامو الوباء فقط كحدث، بل كحالة وجودية تتكشف فيها طبيعة الإنسان أمام الآخر أمام الخوف أمام الموت، فيضع شخصياته في إختبار أخلاقي وفلسفي، إذ ليس الجميع يتصرف بنفس الطريقة البعض يحاول الاستفادة من المأساة والبعض يفرّ منها، البعض ينكرها والبعض الآخر يتخذ منها فرصة لإعادة بناء علاقة جديدة مع نفسه ومع العالم، في هذا السياق يمكن أن نفهم شخصية تارو الصحفي الذي ينضم إلى فرق المتطوعين لمكافحة الوباء رغم أنه ليس طبيبا ولا مجبراً على ذلك وتأتي مذكراته لتشكل بعداً موازيا للرواية وتمنحنا نظرة تأملية في عمق التجربة الإنسانية تحت ضغط الموت الجماعي.

ومن أبرز الشخصيات أيضا نراه الأب بانلو الكاهن الذي يواجه صدمة أخلاقية حين يرى موت الأطفال الأبرياء تحت رحمة الطاعون ففي البداية؛ يفسر ما يحدث بأنه عقاب إلهي على خطايا البشر، لكنه لاحقاً وبعد أن يشهد مأساة طفل صغير يحتضر بين يديه تتزعزع قناعاته ويتحول إلى شخص صامت متأمل مشارك في المعاناة من دون أن يجد لها تفسيراً نهائياً، هذه التحولات الفكرية والعاطفية لدى شخصيات الرواية تكشف لنا أن الطاعون ليس مرضا بيولوجيا فحسب، بل أزمة وجودية تضع الإنسان في مواجهة مع ذاته قبل أي شيء آخر.

الرواية كُتبت في الأربعينات، لكنها تظلّ راهنة في كل زمن، إذ أن الطاعون الكاموي يتجاوز التأريخ والجغرافيا ويتحول إلى إستعارة كونية عن كل ما يهدد الإنسان من قوى العنف والاحتلال والقمع والفاشية والكراهية والجهل، هذه كلها أوبئة لا تقل فتكاً عن المرض البيولوجي، وقد قرأ الكثيرون الرواية على أنها إسقاط على الاحتلال النازي لفرنسا، كما قرأها آخرون كدعوة للمقاومة الفردية في وجه الطغيان، أياً كان شكله ومصدره وفي كل قراءة تظلّ الرسالة المركزية قائمة. الإنسان مدعو لمواجهة العبث لا من خلال الاستسلام، بل من خلال الفعل اليومي البسيط الذي يُعيد إليه شيئا من كرامته وإنسانيته.

كامو ليس وجودياً بالمعنى السارتري ولا يعدّ نفسه فيلسوفاً، لكنه بلا شك أحد أعمدة الفكر الحديث الذي سعى إلى منح الإنسان أدوات أخلاقية ونفسية لمواجهة عالم غير عقلاني بعقل أخلاقي ومنطقي، في الطاعون لا يقدم حلاً مثالياً ولا ينتصر للتفاؤل الزائف، بل يدعو إلى وعي مأساوي يتصالح مع الألم من دون أن يستسلم له، فهو يكتب بلغة واضحة بعيدة عن الغموض أو التزويق الأدبي؛ لأنه يسعى إلى الحقيقة لا إلى الزخرفة ولا يتعامل مع الأدب كزينة بل كمسؤولية أخلاقية تجاه العالم.

أحد أهم محاور الرواية هو الصمت ذلك الصمت الكثيف الذي يغلف المدينة حين يبدأ الوباء في الانتشار صمت الشوارع الخالية صمت البيوت المغلقة صمت المرضى الذين ينتظرون موتهم هذا الصمت لا يمثل فقط نهاية الحياة اليومية بل أيضا بداية لتجربة داخلية جديدة يصبح فيها الإنسان أقرب إلى ذاته وأكثر وعيا بتفاهة الكثير من الانشغالات السابقة حين تُنزع عنه الزينة الاجتماعية ويجد نفسه وحيداً مع جسده مع خوفه مع ذاكرته وندمه وأحلامه المؤجلة.

كامو في الطاعون لا يطرح أسئلة ميتافيزيقية بقدر ما يطرح تحديات عملية كيف نعيش في عالم لا يقدم لنا ضمانات كيف نحافظ على كرامتنا حين يسقط النظام كيف نصنع المعنى في قلب اللامعنى كيف نمنح الحب والرحمة حتى حين لا نؤمن بأن هناك جزاء أخروي أو مكافأة ينتظرنا بعد الموت هذه الأسئلة لا تُطرح بشكل مباشر لكنها تتغلغل في نسيج الرواية من خلال الشخصيات من خلال الأحداث من خلال العلاقات بين الناس من خلال الحوارات القليلة والإيماءات الصامتة والاختيارات الفردية التي تتكرر يومياً دون ضجيج لكنها ترسم ملامح إنسانية عميقة.

وهران في الرواية ليست مجرد مكان بل تتحول إلى شخصية سردية حية مدينة حديثة بروتينها الإداري وحياتها المملة تتحول فجأة إلى سجن كبير يُفرض عليه الحجر الصحي وتُقطع عنه الاتصالات بالعالم الخارجي فيصبح سكانها مجبرين على إعادة اكتشاف بعضهم البعض وعلى إعادة تعريف علاقاتهم مع الجسد والموت والزمن، هذه المدينة التي كان أهلها منشغلين بالتجارة والمقاهي والربح السريع تجد نفسها أمام واقع مختلف تماما تتساوى فيه الطبقات ويتحول الجميع إلى ضحايا محتملين أو شهود على المعاناة.

الطاعون عند كامو ليس نهاية بل كشف لحقيقة عميقة طالما تجاهلها الناس كشف لحقيقة هشاشتنا كبشر ولقدرتنا رغم ذلك على الصمود في وجه العبث من خلال أفعال صغيرة متكررة من خلال التضامن الإنساني من خلال المحبة التي لا تحتاج إلى تبرير فلسفي من خلال الإصرار على أن نكون بشراً في عالم يفقد ملامح إنسانيته شيئا فشيئا وفي ذلك دعوة إلى فعل المقاومة اليومية إلى اختيار الخير حتى حين يبدو بلا جدوى إلى أن نكون أطباء في زمن المرض وشهوداً على الألم من دون أن نصبح جزءاً منه.

كل من قرأ الرواية في عز جائحة كورونا أو بعدها شعر بأنها كتبت الآن لا قبل أكثر من سبعين عاماً وهذا ما يمنحها طابعها الكوني، فالطاعون ليس حدثاً من الماضي، بل هو حاضر دائم بصيغ مختلفة وكأن كامو يصرخ في وجه الزمن قائلاً؛ إن الخطر لا يأتي فقط من الجراثيم بل من اللامبالاة من النسيان من التواطؤ من الصمت وإن المقاومة ليست فعلا بطولياً خارقاً بل التزاماً أخلاقياً مستمراً رغم الضعف رغم الشك رغم الألم.

وهكذا تظل الطاعون رواية تتجاوز حدود الأدب لتصبح شهادة على الإنسان في أقسى لحظاته وأكثرها صدقا رواية لا تحتاج إلى دراما مفتعلة ولا إلى حبكات معقدة لأنها تستمد قوتها من الواقع من التجربة من الألم المشترك الذي يربطنا كبشر في مواجهة مصيرنا المشترك في زمن يتغير فيه كل شيء بسرعة ويبقى فيه سؤال المعنى معلقاً دائما ًفوق رؤوسنا. البير كامو لا يجيب، لكنّه يرشدنا إلى الطريق أن نعيش كأن للحياة معنى حتى وإن لم نجد هذا المعنى أن نقاوم العبث لا بالحرب، بل بالفعل البسيط الصامت، بالإصرار على أن نكون بشراً دائماً وأبداً.

***

د. عصام البرّام

القاهرة

بعنوان: "هناك.. جنوب الياسمين".. قراءة نقدية تحليلية عميقة تعتمد على المنهج الهيرمينوطيقي التأويلي والأسلوبي والرمزي والسيميائي

يُعدّ النص الذي نحن بصدد دراسته للشاعر والناثر خلدون رحمة نموذجاً بالغ الكثافة والتعقيد في آنٍ واحد؛ نصٌّ تتقاطع فيه الأزمنة والرموز، وتتداخل فيه الأبعاد الوجودية مع الجمالية، فيتجاوز حدود الشعر إلى فضاءٍ تأويليّ رحب، يجعل القارئ شريكاً في إنتاج المعنى لا مجرد متلقٍ له. إنّه نصّ يتّخذ من جنوب الياسمين — بوصفه استعارةً عن الجرح الجمعي والهوية الممزقة — فضاءً للتوتر بين الحرب والحب، بين الموت والحياة، وبين الخراب والرغبة في الخلاص.

تتجلّى في هذا العمل بنية هيرمينوطيقية مفتوحة تستدعي القراءة التأويلية العميقة، حيث تتشابك العلامات وتُعيد اللغة بناء العالم من رماده. فالقصيدة ليست مجرّد سردٍ للمأساة، بل هي مجازٌ للوعي الإنساني حين يُمتحن بأقصى درجات القسوة. ولعلّ ما يميّز النص هو توازي خطّين أساسيين في بنائه: خطّ الأسى الوجودي الممتد من “نكبة” الماضي إلى حاضرٍ متجدّد بالنكبات، وخطّ العشق الذي يتعالى على الحرب ليمنح الذات معنى البقاء.

من هنا، تأتي هذه الدراسة لتغوص في الطبقات العميقة للنص، معتمدةً على المنهج الهيرمينوطيقي التأويلي في تفكيك رموزه وانفتاح معانيه، وعلى المنهج الأسلوبي في تحليل لغته وإيقاعه، وعلى المنهج الرمزي والسيميائي في قراءة إشاراته ودلالاته البصرية والوجدانية، بالإضافة إلى البعد الجمالي والوطني والديني الذي ينسج خلفية التجربة الشعرية. كما تُعنى الدراسة بالكشف عن البنية النفسية الكامنة وراء الصورة، وعن توتّر الذات في مواجهة الحرب والحب، الحلم والفقد، الروح والجسد.

بهذا المنظور، يسعى هذا البحث إلى كشف ما تحت الجلد الشعري من نبضٍ وتوتّرٍ ورمز، وإلى إعادة بناء المعنى بوصفه رحلة تأويلٍ مستمرة بين الذات والوجود، بين الكلمة والكينونة.

النص المعنون: "  هناك..جنوب الياسمين"، يحمل كثافة شعرية عالية، وتوتراً دلالياً غنياً بالتعدد القرائي، ما يجعله مناسباً تماماً للغوص في ثناياه.

لذا جاءت هذه الدراسة النقدية موسعة ومنهجية مرتكزة على هذه المحاور:

أولًا: المدخل الهيرمينوطيقي – التأويل وانفتاح المعنى:

النص ينهض على بنية مفتوحة تُتيح تعدد التأويلات وتُبقي القارئ في حالة تأمل ودهشة. فـ “هناك.. جنوب الياسمين” ليست مجرد إشارة مكانية، بل مفتاح تأويلي يفتح الباب على حمولة رمزية ووطنية مكثفة؛ إذ يحيل هذا الجنوب إلى فلسطين/بلاد الشام، وإلى ذاكرة الجمال والخراب معاً.

-الجملة الأولى:

«داخل مثلّثٍ كُسِّرت أضلاعه بمطارق القادمين من الجحيم»

هي جملة مشبعة بالصور المأساوية؛ إذ يتحول المثلث — وهو رمز الاستقرار والتوازن — إلى بنية مكسورة بفعل الغزاة (القادمين من الجحيم)، وهي صورة تأويلية يمكن قراءتها كـ سرد شعري للتاريخ الفلسطيني: انكسار البيت الأول، الوطن، واليقين.

يشتغل الشاعر خلدون رحمة هنا على تأويل مزدوج: فهو لا يصف فقط مأساة خارجية، بل أيضاً انكسارًاً داخلياً في الذات التي تعيش صدمة التهجير والاقتلاع. إن “الهواﺀ” الذي “غصّ بفجيعة ماجنة” ليس عنصراً طبيعياً، بل كيان يشهد ويختنق. هذه الانزياحات اللغوية تخلق نصاً تأويلياً لا يخاطب العقل فحسب، بل الوجدان الجمعي.

ثانيًا: المنهج الأسلوبي – توتر الصورة وثراء الجملة الشعرية:

الأسلوب في هذا النص يقوم على إيقاع مزدوج:

١- إيقاع تفجيري: عبر التراكيب الصادمة (“مطارق القادمين من الجحيم”، “القذيفة أخطأت لحمه لكنها أصابت حلمه”).

٢- وإيقاع احتوائي حميمي: عبر لغة الحب والاحتضان (“زنّرته بغزالات روحها”، “غسلت بكوثرها الأمومي”).

هذا التضاد الأسلوبي يعكس بنية الازدواج في التجربة الإنسانية زمن الحرب: بين العنف المطلق والرغبة في الحياة، بين الخراب والعشق، بين صوت الانفجار وصوت الأنثى.

٣- اللغة مشحونة بـ صور مجازية معقدة، تنقل الإحساس بالاختناق والرجاء في آنٍ معاً، لتخلق شبكة أسلوبية محكمة تتناوب فيها القسوة والرهافة.

ثالثاً: القراءة الرمزية والسيميائية:

١- “جنوب الياسمين”: رمزٌ للهوية الفلسطينية والسورية (الياسمين الدمشقي)، لكن الجنوب هنا ليس جغرافيا فقط، بل منفى داخلي ومكان جريح.

٢- “المثلث”: إشارة سيميائية إلى المكان/الوطن/البيت، وانكساره دلالة على سقوط الحماية وتفتت البنية الجماعية.

٣- “القذيفة”: رمز للحرب/الدمار المادي والنفسي.

٤- “الحلم الممتد من عطش المنفى إلى بحر كنعان”: تمثيل شعري للرحلة الفلسطينية بين التيه والحنين والعودة المؤجلة.

٥- “المرأة/المخلّصة”: تظهر كرمز مزدوج:

أمومي/خلاصي: “زنّرته بغزالات روحها” – تحميه وتعيده إلى رحم الأمان.

عشقي/جسدي/ميتافيزيقي: “صفعته بعطر نهديها” – تعيد له الحياة عبر الجسد والرمز.

- السيميائية في النص لا تنحصر في الرمز الواحد، بل تعمل في سلسلة ترابطية تُحيل القارئ إلى معجم ثقافي وتاريخي وديني.

رابعاً: البنية النفسية – ما تحت الجلد الشعري:

النص ينطق من منطقة الجرح العميق، حيث يلتقي الخوف بالعشق، والقلق بالحنين، والموت بالحياة.

البطل يعاني انشطاراً داخلياً بين الواقع المدمّر والحلم المستحيل.

القذيفة التي “أخطأت لحمَه” لكنها “أصابت حلمه” تعبّر عن صدمة وجودية؛ فالأجساد قد تنجو، لكن الروح تصاب إصابة لا شفاء منها.

اللقاء مع الأنثى ليس لقاء جسدياً بل طقساً نفسياً للخلاص من وحشة الحرب، وخلق مساحة تطهّر ذاتي.

“القبلة الثالثة” في نهاية النص تشير إلى توقٍ للاتحاد النهائي، ربما مع الوطن، أو مع الحياة نفسها، أو مع السلام الغائب.

خامساً: البعد الديني والميتافيزيقي:

توظيف مفردات مثل “كوثر”، “ملاك”، “جلجلة”، “كنعان” يمنح النص بعداً روحياً عميقاً، يوظف اللغة الدينية كحاضنة للرمز لا كعقيدة مباشرة.

“جلجلة الخوف” تحيل إلى صليب المعاناة (جلجلة المسيح)، لتجعل من الألم الفلسطيني أيقونة كونية.

الأنثى هنا ليست فقط معشوقة، بل قدّيسة/مخلّصة تعيد للذات تماسها بالزمن المقدس.

سادساً: المستوى الجمالي والوطني:

الجمال في هذا النص ينهض على مفارقة مأساوية:

١- الجمال الأنثوي مقابل دمار الحرب.

٢- رهافة الصورة مقابل خشونة الواقع.

٣- الحنين الوطني مقابل الاغتراب الوجودي.

اللغة الوطنية ليست شعاراتية، بل مضمّنة في الصور، في “جنوب الياسمين”، “بحر كنعان”، “النكبة القديمة (المتجددة)”.

هذا الاشتغال الجمالي على الذاكرة الوطنية يعيد صياغة المأساة بلغة شعرية كونية لا تخاطب الفلسطيني وحده، بل الإنسان عامة.

سابعاً: تأويلات ختامية – بين الحب والحرب:

البيت الأخير:

«داخل مثلّثٍ يحلم بالحياة وينتظر القُبلة الثالثة»

هو ذروة النص التأويلية: فـ “القبلة الثالثة” ليست مجرد فعلٍ حسي، بل رمز لولادة جديدة بعد الحرب. إنها الحلم الذي يؤجل الحرب ويمنح الروح سببًا للبقاء.

القبلة الأولى نجاة، والثانية مقاومة، والثالثة تحقّق الخلاص.

هكذا يزاوج الشاعر بين الأنوثة/الوطن والحب/التحرر في خطاب واحدٍ متماسك دلالياً وجمالياً.

خاتمة نقدية:

هذا النص ليس سرداً شعرياً تقليدياً، بل نسيج لغوي رمزي تتداخل فيه الأسطورة، التاريخ، الدين، والسياسة مع البنية النفسية للفرد الفلسطيني/الإنساني.

المنهج التأويلي يكشف أن المعنى لا يكمن على السطح، بل في الطبقات العميقة للرمز.

المنهج الأسلوبي يُظهر الصراع بين صوت الحرب وصوت الحياة.

المنهج السيميائي يضيء شبكة رمزية معقدة تتجاوز اللحظة المباشرة إلى أفق كوني.

- إن خلدون رحمة في هذا النص يكتب بالدمع لا بالحبر، ويجعل من الحب معادلاً موضوعيًا للحياة في وجه موتٍ يتربص بكل شيء.

***

بقلم: عماد خالد رحمة - برلين

....................

هناك.. جنوب الياسمين،

داخل مثلّثٍ كُسِّرت أضلاعه بمطارق القادمين من الجحيم.

هناك تماماً، حيثُ غصّ الهواﺀ بفجيعة ماجنة: احتضنتْ جسده المحشوّ بالعتمة والخوف، كان بعضُهُ يفتّش عن بعضِهِ بين أنين الركام ونُتَفِ اللحم البشريّ.

لم يصعد إلى جلجلة الخوف المطلق فيما سبَقْ، القذيفة أخطأت لحمَهُ المزهوّ بالصبا والذكريات، لكنها نجحت في إصابة حلمه الممتدّ من عطش المنفى إلى بحر كنعان. كانت روحه معفّرة بغبار القلق الوجوديّ، المكان اهتزّ في أعماقه حتى أقاصي المخيّلة ورائحة البرتقال، أمّا زمانه فقدْ فقَدَ وعيه منذ النكبة القديمة (المتجددة).

- أين أنا؟

- لا تخف، أنتَ هنا حبيبي.

أنقَذَتْهُ بجمالها الفائض عن حاجة الكون، زنّرَتهُ بغزالات روحها الهيفاﺀ ثمّ غسلتْ بكوثرها الأموميّ اختلاج طفل ينزف في عينيه.

كانت خائفةً عليهِ ومنهُ، انهمر دمعها الماسيّ على نحرها، أدرك ذاته في ذاتها، قبّلها بشراسةٍ ناعمةٍ فصفعته بعطر نهديها لتذكّره بأنه مازال حيّاً.

تلألأت بين يديه كمعجزة كما يتلألأ ملاك في قبّة السماﺀ، قبّلها ثانية لينتقم من وداع قادم تبكيه دروب الرحيل.

فكّرَ بالحبّ وهمس لها: للحبّ في الحرب اتساع الوصف، اشتداد الحنين وتشعّب التأويل.

كَفَرَ بالحرب وصرخ في داخله: للحرب في الحبّ انكسار الوردة، انطفاﺀ القلب وانتحار المعنى.

هناك..

جنوب الياسمين

داخل مثلّثٍ يحلم بالحياة وينتظر القُبلة الثالثة..

 

جماليات التلقي في المجموعة القصصية "الذي سرق نجمة" لسناء شعلان

صاحبة القلم المقاوم .. سيرة أدبية وإنسانية مشتعلة، الأديبة والباحثة الأردنية الدكتورة سناء الشعلان، التي حملت بين جنباتها عالمين: عالم الأكاديميا بصرامتها، وعالم الإبداع بجنونه، هي أستاذة الأدب الحديث وناقدة، حملت شعلة المعرفة إلى طلبتها في الجامعة الأردنية، ونشرتْ نورَ الكلمة في صحف العالم وعواميدها، من الهند إلى الولايات المتحدة، فاستحقتْ أن تُلقّب بـ "سيّدة القصّة القصيرة العربيّة" و "شمس الأدب العربيّ".

من رحم المعاناة والإصدار، وُلِدَت نصوصها التي تنامى صداها في أرجاء العالم العربي والعالمي، حاصدةً عشرات الجوائز المرموقة، من "جائزة كتارا" إلى "جائزة ابن بطوطة لأدب الرحلة". كتاباتها، سواء أكانت قصصاً أم روايات أم دراسات نقدية، تنبض بقضايا الإنسان والمهمش، وتنزف هماً فلسطينياً وعربياً أصيلاً.

هي ابنة نعيمة، التي لم تكتفِ بشغف التدريس والبحث العلمي، بل جعلت من قلمها سلاحاً للمقاومة، ومن كلمتها جسراً للتواصل بين الشعوب. إنها عالم أدبي متكامل، يمشي على قدمين: قدم في عمق التراث، وأخرى في آفاق الحداثة، لتخلق مسيرةً زاخرةً هي في حد ذاتها عمل إبداعي يستحق القراءة.

وفي كل محطة، تثبت الشعلان أنها شمعة تحترق لتضيء للآخرين، فلم تكتفِ بإنجازاتها الأكاديمية والأدبية، بل امتد عطاؤها إلى العمل الإنساني والإعلامي، لتكون صوتاً للعدالة والحرية، حضورها اللافت في المؤتمرات العالمية ومحاضراتها في أعرق الجامعات شهادة على مكانتها كأيقونة أدبية تكرس حياتها للكلمة التي تبنى ولا تهدم، تلهم ولا تيأس، وتصل إلى القلوب قبل العقول.

العتبات الأولى في "الذي سرق نجمة": عتبات نحو عوالم متخيلة

تمثل العتبات النصية الأولى في أي عمل أدبي عتبات دلالية تنقل القارئ من العالم الواقعي إلى العالم التخييلي، وتشكل في مجموعها عقداً قرائياً بين النص والقارئ، في مجموعة "الذي سرق نجمة" لسناء شعلان، تكتسب هذه العتبات أهمية خاصة في بناء عوالم المجموعة وتوجيه عملية التلقي.

عتبة الغلاف: بين السرقة والنجمة

يحمل الغلاف عنواناً مثيراً للفضول: "الذي سرق نجمة"، هذا العنوان يطرح عدة أسئلة فورية: من هو السارق؟ ولماذا سرق نجمة؟ وما دلالة السرقة؟ وهل هي جريمة أم فعل بطولي؟ وما رمزية النجمة؟ هل هي حقيقية أم مجازية؟

يشكل العنوان عتبة دلالية تضع القارئ أمام مفارقة: كيف يسرق الإنسان نجمة من السماء؟ هذه المفارقة تفتح الباب أمام القراءة الرمزية منذ اللحظة الأولى.

عتبة الإهداء: تخصيص القراءة

يوجه الإهداء إلى "نجمتي الطاهرة التي تضيء حياتي"، مما يوحي بأن النصوص تحمل شحنة عاطفية وشخصية، هذا الإهداء: يخلق علاقة حميمة بين النص والقارئ، ويشير إلى أن النصوص قد تحمل سيرة ذاتية متخفية، ويضفي طابعاً إنسانياً على المجموعة قبل البدء في القراءة

عتبة الفهرس والغلاف الداخلي: تنوع العوالم وبيانات النشر

يقدم الفهرس أربعة عشر قصة متنوعة المواضيع، من "الذي سرق نجمة" إلى "يوميات إنسان مهزوم"، هذا التنوع: يعلن عن ثراء الموضوعات والأشكال السردية، يخلق توقعات متعددة لدى القارئ، يشير إلى أن المجموعة ستتناول قضايا إنسانية متنوعة، وتحتوي الصفحات الأولى على بيانات النشر والفهرسة، التي وإن بدت تقنية، إلا أنها: تؤكد جدية العمل وأصالته، وتخلق مصداقية للنص منذ البداية، وتربط النص بمؤسسات ثقافية رسمية

عتبة البداية السردية: عقد القراءة

تبدأ القصة الأولى بنبرة سردية خاصة: "كل شيء في حياته صغير وعدود ومتواضع، ولكنه على الرغم من ذلك مولع حد التخيل والمغالاة والكذب..."، هذه البداية: تضع القارئ مباشرة في جو نفسي عميق، وتخلق تعاطفاً مع الشخصية الرئيسية، وتعلن عن موضوع الخيال والواقع الذي ستهيمن على المجموعة

عتبة التصميم والخط

يُلاحظ في المجموعة استخدام خطوط واضحة وتصميم بسيط، مما: يسهل عملية القراءة، ويركز الانتباه على المضمون لا الشكل، يعكس جدية الموضوعات المطروحة

الوظائف الدلالية للعتبات الأولى:

- وظيفة إغرائية: تجذب القارئ وتثير فضوله

- وظيفة توجيهية: توجه التلقي وتحدد أفق التوقع

- وظيفة تعاقدية: تضع شروطاً ضمنية للقراءة

- وظيفة تأويلية: تفتح مجالات متعددة للتأويل

تشكل العتبات الأولى في "الذي سرق نجمة" نظاماً دلالياً متكاملاً يهيئ القارئ لدخول عوالم المجموعة، إنها ليست مجرد عتبات شكلية، بل هي بوابات حقيقية إلى عوالم النص، تضع القارئ في حالة من الترقب والاستعداد النفسي والفكري لاستقبال النصوص، من خلال هذه العتبات، تنجح سناء شعلان في بناء علاقة خاصة مع القارئ، علاقة تقوم على المشاركة والتأمل والبحث المشترك عن المعنى.

هذه العتبات لا تسبق النص فحسب، بل تمهد له وتؤسس لشروط قراءته، مما يجعلها جزءاً عضوياً من البنية الدلالية للمجموعة ككل، تعد مجموعة "الذي سرق نجمة" للقاصة الأردنية سناء شعلان نموذجاً أدبياً متميزاً يستدعي تأملاً عميقًا في جماليات التلقي، تلك النظرية النقدية التي تركز على دور القارئ في إكمال المعنى وتشكيل الدلالة، فالنصوص هنا لا تقدم نفسها كمقولات مغلقة، بل تفتح أبواباً متعددة للتأويل، مما يجعل القارئ شريكاً فعلياً في بناء العالم القصصي.

الحكاية كفضاء مفتوح:

تتنوع القصص في المجموعة بين الواقعي والرمزي والفانتازي، مما يخلق فضاءً سرديًا مرناً يتفاعل معه القارئ وفقاً لخبرته ووعيه، قصة "الذي سرق نجمة" نفسها، على سبيل المثال، تقدم لنا كذبة الإسكافي التي تتحول إلى حقيقة في عيون السلطة، لتصبح أداة للقمع والإلهاء، هنا، يجد القارئ نفسه أمام سؤال: من هو السارق الحقيقي؟ هل هو الإسكافي أم النظام الفاسد؟ الإجابة تترك للمتلقي، مما يجعله جزءاً من عملية كشف الزيف.

اللغة كجسر عاطفي:

تتميز لغة شعلان بشاعرية عالية وكثافة رمزية، كأنها تستدعي القارئ إلى حوار داخلي مع النص، في قصة "حيث البحر لا يصلي"، تتحول اللغة إلى وسيط يعبر عن صراع الهوية والحرية، حيث يصبح البحر رمزاً للخلاص والحاجز في آن واحد. القارئ يشارك في فك رموز هذه اللغة، فيشعر بأنه ليس مجرد مستقبل، بل محاور للنص.

التعددية السردية وتفكيك السلطة:

تقدم المجموعة أصواتًا متعددة: صوت المرأة، الطفل، المهمش، الحالم، الثائر، كل قصة تحمل رؤية مختلفة، وكأن الكاتبة ترفض الرواية الأحادية، في "منامات السهاد"، نرى أحلام السلطة والشعب والمرأة، كل منها يعكس واقعاً مختلفاً، القارئ هنا مدعو إلى مقارنة هذه الأصوات وربطها، ليصل إلى فهم أعمق للعلاقة بين السلطة والحرية.

القارئ كشاهد ومشارك:

في قصص مثل "الاستغوار في الجحيم" و"غالية سيادة الحكايا"، يتحول القارئ إلى شاهد على المعاناة الإنسانية، كما يصبح شريكاً في البحث عن الأمل، قصة غالية، الطفلة التي تواجه سرطان أمها بالحكايات، تدفع القارئ إلى التساؤل: أي قوة للحكاية في مواجهة الموت؟ وهل يمكن للكلمات أن تشفي؟

الانزياح عن المألوف:

تعتمد شعلان على الانزياح باللغة والحدث، مما يخلق صدمة تلقي إيجابية. في "أبو دوج"، نرى شخصية منبوذة تتحول إلى رمز للبراءة والطهارة، بينما ينقلب الأخ "الورع" إلى منافق، هذا الانزياح يجبر القارئ على مراجعة أحكامه المسبقة وإعادة النظر في مفهومي الخير والشر.

النهاية المفتوحة:

كثير من القصص في المجموعة تنتهي بنهايات مفتوحة، كقصة "سحر وداد" التي تترك السؤال معلقاً: هل السحر حقيقي أم هو مجرد استعارة للشر؟ هذا يمنح القارئ مساحة لاستكمال النص من خلال تجربته وخياله.

"الذي سرق نجمة" ليست مجرد مجموعة قصصية، بل هي دعوة مفتوحة للقارئ ليكون فاعلاً في عملية الخلق الأدبي. من خلال جماليات التلقي، تنجح سناء شعلان في تحويل القراءة من فعل استهلاكي إلى تجربة حية، يشارك فيها القارئ في تشكيل المعنى واستنباط الدلالة، إنها نصوص تثير الأسئلة أكثر مما تقدم الإجابات، مما يجعلها تعيش طويلاً في ذاكرة من يقرأها.

***

رزق فرج رزق - ليبيا

«هذيان أنثى» للشاعرة القديرة ضحى بوترعة

مقدمة: تُشكّل التجربة الشعرية النسوية في السياقات الثقافية في مختلف الدول تحوّلًا جماليًا وفكريًا بارزًا في الأدب الحديث، إذ أعادت الاعتبار لصوت المرأة كفاعلٍ في صناعة المعنى، لا مجرد تابع له. في هذا السياق، تبرز قصيدة «هذيان أنثى» للشاعرة التونسية ضحى بوترعة كنموذج رائد، إذ تقدّم خطابًا شعريًا متداخل الطبقات، يجمع بين البوح الوجداني والتأمل الوجودي، في لغة تتجاوز المألوف نحو فضاءات رمزية وانفعالية غنية بالدلالات.

تستمد القصيدة أهميتها من قدرتها على تجسيد وعي أنثوي معاصر يسعى لإعادة تعريف العلاقة بين الجسد والروح، بين العشق والكتابة، وبين الوعي واللاوعي. كما أنها تنتمي إلى تجربة شعرية تونسية حديثة تتّسم بالجرأة اللغوية، والتنوّع الإيقاعي، والانفتاح على القيم الإنسانية الكبرى، ما يجعلها نصًا متعدد المستويات، قابلًا لقراءات نقدية وسيميائية ونفسية متكاملة.

تهدف هذه الدراسة إلى فحص البنية الجمالية والدلالية لقصيدة «هذيان أنثى» للشاعرة ضحى بوترعة، وهي إحدى قصائد مجموعتها الشعريّة «روح تؤذن لصلاة الجسد». تعتمد الدراسة مقاربة نقدية تكاملية تستند إلى مناهجٍ متعددة: البنيوية، والسيميائية، والتحليل النفسي، والمنظور النسوي. وتسعى إلى إظهار آليات بناء الشاعرة لتجربتها الأنثوية داخل اللغة، وتفكيك الاستعارات والحقول الدلالية التي تنسج النصّ وتنتج دلالاته العميقة، لاكتشاف كيف يصبح الشعر فضاءً للتمرد الوجودي وإعادة تأسيس الذات.

التأطير النظري

تستند دراسة قصيدة «هذيان أنثى» إلى أربعة أطر نظرية مترابطة تتيح قراءة النص على مستويات متعددة: البنيوية، السيميائية، النفسية، والبعد النسوي

البنيوية تنظر إلى النص كنظام مستقل، حيث يُفهم المعنى من العلاقات الداخلية بين عناصره لا من حياة الشاعرة وحدها. في القصيدة، يظهر ذلك في التكرار، التضاد، والانزياحات التركيبية التي تولّد الإيقاع الداخلي والمعنى الذاتي.

السيميائية تركز على العلامة والرمز، فكل عنصر في النص يتفاعل مع غيره لتشكيل شبكة دلالية. الحقول الدلالية مثل الطفولة، الجسد، الكتابة، والعاطفة المظلمة، تتحوّل إلى أدوات لصوغ المعنى، والانزياحات الدلالية والاستعارات تصبح عمليات بنائية أكثر منها جمالية.

التحليل النفسي يغوص في دوافع المتكلّمة واللاوعي. من منظور فرويدي، يتحوّل الكبت والتحويل إلى إبداع شعري؛ ومن منظور يونغي، تظهر الأنماط الأولية (الطفلة، الظل، الحلم) كرموز للتكامل الذاتي؛ ومن منظور لاكاني، تُشير العلامات إلى الرغبة المستمرة و كعنصر محفّز لإيقاظ الطاقة النصية.

البعد النسوي يُبرز حضور الذات الأنثوية بوصفها فاعلًا لغويًا ومعرفيًا، لا مجرد موضوع للخطاب. فالكتابة هنا تُعيد تشكيل العلاقة بين الجسد واللغة، وتُوظّفهما كأدوات مقاومة ضد البنى الرمزية والاجتماعية الموروثة. تظهر صور مثل «تحت القميص» و«الحبر الذي لا يرتوي» بوصفها استعارات وجودية تُفصح عن رغبة الذات في التعبير والتحرر. وتتماهى هذه المقاربة مع مفهوم "كتابة الجسد" لدى هيلين سيكسو، حيث تُصبح الاستعارة والانزياح أدوات لإعادة بناء الهوية الأنثوية داخل اللغة، وتحريرها من مركزية المعنى الذكوري

البنية الدلالية والرمزية في قصيدة «هذيان أنثى»

أولًا: العنوان ودلالاته الرمزية

يحمل عنوان القصيدة «هذيان أنثى» شحنةً انفعالية كثيفة تُشي باضطراب الوعي و تماهيه مع التجربة الوجدانية. فـ"الهذيان" لا يُفهم هنا بوصفه فقدانًا للعقل أو انحرافًا مرضيًا، بل كحالة لغوية تتقاطع فيها الرغبة مع اللاوعي، وتتحول إلى صوت يتجاوز حدود المنطق ليعبّر عن أقصى درجات التوتر الشعوري. أمّا لفظ «أنثى» فيأتي ليؤكد مركزية التجربة النسوية في القصيدة، حيث تتخذ المتكلمة موقع الذات المتلفظة لا كموضوع للرغبة، بل كفاعل معرفي يُعيد تعريف ذاته من داخل اللغة. يجتمع في العنوان إذن اضطراب الإحساس (الهذيان) وهوية الجسد الأنثوي (الأنثى) ليؤسّسا معًا خطابًا شعريًا حسيًا داخليًا، يتكثّف فيه البوح ويتحوّل إلى فعل وجودي يتجاوز المألوف.

ثانيًا: تحليل المقاطع الشعرية

1. «هذه الروح تلتف بأطراف أنثى تحاور شوقها»

تفتتح الشاعرة قصيدتها بصورة كثيفة الدلالة تستحضر علاقة جدلية بين الروح والجسد؛ إذ تلتف الروح بأطراف الأنثى في حوار داخلي مع الشوق، بما يرمز إلى اتحاد الكيانين: المادي والميتافيزيقي. هذا الالتفاف لا يُقرأ بوصفه مجرد تداخل جسدي، بل يُشكّل نقطة التقاء بين الرغبة والمعرفة، حيث تتحول الأنثى إلى كينونة مزدوجة: الجسد بوصفه ذاكرة حسيّة، والروح بوصفها وعيًا متجاوزًا. ويُتيح هذا التداخل إمكانات متعددة للتأويل، خاصة حين يُقرأ النص من خلال منظور النقد النسوي الذي يُعيد بناء الذات الأنثوية كفاعل رمزي، ومن خلال نظرية استجابة القارئ التي تمنح المتلقي سلطة المشاركة في إنتاج المعنى، مما يجعل الصوت الأنثوي في القصيدة نقطة انبثاق لهوية متحوّلة تُعيد تعريف ذاتها عبر الحوار مع الشوق.

2. «وقد كنا فوضى الفكرة ونبيذ الروح في الجسد»

يستخدم الضمير الجمعي (كُنّا) للدلالة على انصهار الكينونة في تجربة وجدانية مشتركة. "فوضى الفكرة" تشير إلى التشتت المعرفي الذي يسبق الخلق، و"نبيذ الروح" يرمز إلى النشوة التي توازي لحظة الإبداع أو العشق.

3. «لم أستفق بعد من دهشة الحدائق المعلقة في شقوق جدراني»

يستدعي هذا البيت الشعري صورًا جمالية متراكبة تُجسّد العلاقة بين الخارج والداخل، بين الذاكرة والواقع. فالحدائق المعلقة لا تُحيل إلى فضاء طبيعي فحسب، بل تُرمز إلى الدهشة المؤجلة، وإلى جمالٍ داخلي يعيش في أسر الذات، كأنها رغبات أو أحلام معلّقة في فضاء النفس. أما "شقوق الجدران"، فهي تمثيل رمزي لتصدّعات الذاكرة أو لتشظّي الجسد الأنثوي ذاته، بما يحمله من آثار التجربة والانكسار. هكذا تتشكّل الدهشة كحالة مستمرة، لا شفاء منها، لأنها تنبع من داخل الذات وتُعاد إنتاجها عبر التوتر بين الرغبة والندبة، بين الجمال والانكسار.

4. «ها أنا أراود صوتًا تحت القميص لم أسمعهُ»

تتصاعد هنا لغة الجسد بوصفها موقعًا للذاكرة والسر. فـ"الصوت تحت القميص" ليس سوى النداء المكبوت، والرغبة المؤجلة في البوح. المراودة فعل لغوي/جسدي، يتقاطع فيه الإغراء مع الاستدعاء.

5. «ثمّة ليلٍ يُخفيني ليكتمل فيّ العشقُ»

يُشكّل الليل في هذا البيت فضاءً رمزيًا تتوارى فيه الذات الجسدية لتتكشف الروح، حيث يتحوّل إلى حاضن للعشق وساتر للكينونة. فـ"يُخفيني" لا يُقرأ بوصفه فعلًا للهروب، بل كشرط وجودي لانبثاق الحب في بعده المتكامل. يتجلى العشق هنا في العتمة، في زمنٍ خارج الزمن، حيث تغيب الرقابة الخارجية وتُولد الحقيقة الداخلية، مما يُضفي على التجربة طابعًا ميتافيزيقيًا يتجاوز الإدراك الحسي نحو الوعي المتسامح مع الغياب والانكشاف

6- «ثمّة صوت لتأويل الوهم؛ من الصعب أن نمرّ...»

 تُعلن الذات عن وعيها باستعصاء المعنى، حيث يتحوّل "الصوت" إلى أداة تأويلية تحاول فكّ شيفرة الوهم، لكنها تصطدم باستحالة المرور، أي استحالة الوصول إلى حقيقة نهائية. هنا يتجلى التوتر بين الرغبة في الفهم وحدود اللغة، في إطار تأويلي يُقارب تجربة الحلم والكتابة.

7-  «وأنا التي تروض الغيمة لأنوثتها»

 تستعيد الذات سلطتها الرمزية عبر ترويض الطبيعة، حيث تتحوّل "الغيمة" إلى رمز للفوضى والعطاء، وترويضها يُعبّر عن قدرة الأنثى على احتواء الحياة وتشكيلها. إنها لحظة استعادة للفاعلية الأنثوية بوصفها قوة خالقة.

8- «وتبصر طفلةٍ تذرع الحبر ولا ترتوي»

تظهر الطفلة كاستعارة للذات في لحظة الولادة الشعرية الأولى، حيث الحبر يُجسّد الكتابة، والعطش يُحيل إلى شغف الاكتشاف. إنها مرحلة التأسيس، حيث الدهشة لا تزال حيّة، والكتابة تُولد من الحاجة إلى المعنى.

9- «تُشاكسُ الفَيْضَ حينَ يستيقظُ السوادُ»

 تتخذ الذات موقفًا وجوديًا مقاومًا، إذ تُشاكس الفيض العاطفي حين يستيقظ الألم أو الوعي المظلم. هذه المشاكسة ليست رفضًا، بل إعادة إنتاج للمعنى من قلب الجرح، حيث الكتابة تُصبح فعلًا مضادًا للانكسار.

10- «ويُصبحُ الوهمُ لامعًا في شرفةِ القلبِ»

يبلغ الوهم لحظة التوهج الجمالي، حين يتحوّل إلى طاقة داخلية تُضيء القلب، الذي يُصبح فضاءً للخيال المتوهّج. هنا يتماهى الوهم مع الحقيقة، ويُعاد تعريفه كقيمة جمالية لا تقلّ واقعية عن الإدراك الحسي.

11- «أعرف كيف أثير انتباه الحلم في المعنى»

يتجلى وعي الذات بعملية الكتابة بوصفها فعلًا خلّاقًا، حيث تُثير الحلم وتُعيد تشكيله داخل اللغة. هذا البيت يُعبّر عن لحظة إدراك نقدي، تُصبح فيها الذات قادرة على تحويل اللاوعي إلى خطاب، والحلم إلى دلالة.

12- «أعبر به لون البكاء ولون الصديد»

يتخذ الألم شكلًا لونيًا مزدوجًا، حيث البكاء يُحيل إلى الشفافية، والصديد إلى الوجع المتقيّح. هذا العبور يُجسّد الكتابة كفعل تطهيري، يُحوّل الجرح إلى معنى، ويُعيد تشكيل الذات عبر الألم.

13- «تمامًا كما طفلةٍ ليسَ لها غيرُ انتباهِ الفِرَاشِ؛ حِضنٌ للحَذَرِ»

تختم الشاعرة بعودة إلى الطفولة، حيث الأمان مشوب بالحذر. الفِرَاشُ هنا يُجسّد رمزًا مزدوجًا للحياة القصيرة والدفء الزائل، والطفلة تمثل ذاتًا هشّة لكنها يقِظة، تُدرك المعنى من خلال الحذر والانتباه، لا من خلال الطمأنينة المطلقة.

البعد الأنثوي–الوجودي في بنية الاستعارة والانزياح الدلالي

1. مدخل نظري

تقوم التجربة الشعرية النسوية الحديثة على فعلٍ لغويٍّ وجوديّ: إعادة كتابة الذات الأنثوية من داخل اللغة نفسها، بحيث لا يبقى النصُ مرآةً تعكس موضوعًا جاهزًا، بل يصبح فضاءً لتشكيل الكينونة وإعادة تأويلها. من منظور النقد النسوي، ولا سيما في قراءة هيلين سيكسو لمفهوم «كتابة الجسد»، تتحوّل اللغة إلى فعلٍ يستدعي الجسد ويُعيد توزيعه دلاليًا، مكسرًا نمطية المركزية الذكورية. في ضوء ذلك، لا تُعامل الاستعارة والانزياح الدلالي كزخرفتين بلاغيتين فحسب، بل كآليتين لتهيئة سياق تمردٍ وجودي؛ تمردٍ يعيد إنتاج الذات عبر تحويل حدود المعنى ومواقع الخطاب.

2. تحليل الانزياح الدلالي والاستعارة داخل النص

تتبدّى في القصيدة شبكة من الانزياحات والاستعارات التي تذيب الثنائيات التقليدية (جسد/روح، داخل/خارِج، وعي/رغبة)، وتعيد بناء الحضور الأنثوي كلغةٍ ووجودًا:

اتحاد الروح والجسد:

في «هذه الروح تلتفّ بأطراف أنثى تحاور شوقها» تتحول «الأطراف» من دلالةٍ جسدية إلى أدواتٍ خطابية؛ فالالتفاف هنا فعل لغوي يَمنح الروح هيئة حركة، ويُخرِج الجسد من موقع الصمت إلى خطّ النطق. الانزياح يعمل على جعل الرغبة مصدرًا للمعرفة، وعلى اعتبار المعرفة شكلًا من أشكال التمرد.

الجسد كمجال للخلق:

تقول الشاعرة «وقد كنا فوضى الفكرة ونبيذ الروح في الجسد» فتُعيد للجسد وظيفةَ الإنتاج الدلالي؛ تتحول الفوضى إلى طاقة تكوينية، والنبيذ إلى رمزٍ لانعتاق معرفي وشعوري، فيتحوّل الجسد إلى وعاءٍ مبدعٍ للمعنى بدل أن يكون موضوعًا لنظرةٍ خارجية.

الجرح كموقع خلق: استعارة «حدائق معلقة في شقوق جدراني» تعكس انقلابًا جمالياً؛ الحديقة بمنأى عن الخارج تُزرع في شقوق الذات، أي في الجرح نفسه، فتصبح علامةً على ولادةٍ من خلال الانكسار—قراءة وجودية تؤكد على الإمكانية الخلاقية للألم

استنطاق الصوت المكبوت:« "ها أنا أراود صوتًا تحت القميص لم أسمعه" يحوّل القميص إلى رمزٍ للحجب الاجتماعي واللغوي. المراودة هنا فعلُ استنطاقٍ داخلي، واستدراج لصوتٍ كان مُكمّمًا، ما يجعل الكتابةَ فعل مقاومة لغوية ضد الإخفاء.

الليل كحاضن للتحرر:

في "ثمّة ليلٍ يُخفيني ليكتمل فيّ العشق" ينزاح الليل من دلالة السكون والجمود إلى فضاءٍ لحرية البوح. الاختفاء ليس انسحابًا، بل ممارسة للحرية في هامشٍ لا تقف فيه رقابة المفاهيم.

التأويل كفعل تمرد معرفي:

عبارة «ثمّة صوت لتأويل الوهم؛ من الصعب أن نمرّ...» تقوّض قيمة الوهم كخداع، وتمنحه طابعًا تأويليًا يُفضي إلى تعددية الحقائق، فتتحوّل مقاومةُ الحقيقة الواحدة إلى خيارٍ معرفيٍّ ومناهضٍ للقيود.

ترويض الطبيعة واللغة:

«وأنا التي تروض الغيمة لأنوثتها» تَستعيد الذات السيطرة على مَوَادّ الطبيعة واللغة معًا؛ فاللغةُ هنا أداة ترويضٍ وتحويلٍ وليست محكوماً عليها بالوصف السلبي.

الطفولة كمصدر كتابةٍ دائم:

«طفلة تذرع الحبر ولا ترتوي» تَصوّر الطفولة كمخزونٍ خصبٍ للخلق، حيث يصبح الحبر ماءً رمزيًا لا يروّي العطش التعبيري الذي يستمر كحالة ولادة متكررة.

تحويل الألم إلى ضوء:

التناصّان "تُشاكسُ الفيضَ حينَ يستيقظُ السوادُ" ويُصبحُ الوهمُ لامعًا في شرفةِ القلبِ يبدّلان القيم التقليدية؛ العتمة تنتج الفيض، والوهم يصبح ضوءًا معرفيًا—انزياحٌ يمنح الوجع قدرةً على الإبداع والتحول.

الطفولة كيقظة لا براءة:

خاتمة القصيدة "تمامًا كما طفلةٍ ليس لها غير انتباهِ الفِرَاشِ؛ حضنٌ للحَذَرِ" تُعيد قراءة الطفولة كحالة يقظة ووعي حذر، لا كبراءةٍ ساذجة، مؤكدةً أن النضج يبدأ من الوعي بالمخاطر لا من الاتكاء على ملاذات وهمية.

3. دلالات وجودية وأنثوية

تجمع هذه الاستعارات والانزياحات على أن اللغة في القصيدة ليست مجرد وسيطٍ للتوصيل، بل فضاءٌ لإعادة تصنيع الوجود. الكتابة هنا فعلُ استرجاعٍ للجسد والروح معًا، وتحويلُ الجرح إلى مكان قولٍ وخلق. النزعة الوجودية تظهر بوضوح في رفض السكون والاكتمال النهائي، وفي الاحتفاء بالحركة واللايقين كحالتين إنتاجيتين للذات. بهذه القراءة، يصبح التمرد أنطولوجيًا: إعادة تعريف للكينونة عبر لغةٍ تنبني على الاستعارة والانزياح

4. خاتمة الفصل

يبين التحليل أن الاستعارة والانزياح الدلالي في «هذيان أنثى» لا يلتزمان بوظيفة جمالية سطحية، بل يعملان كأدوات تمرد وجودي. تتحول الرغبة إلى معرفة، والجرح إلى فرصة للولادة، والوهم إلى ضوءٍ يفتح المعاني. في هذا التأطير، تكتب الشاعرة تاريخها الداخلي بلغةٍ مغايرةٍ تُفكّر بالحسّ وتُفصح بالصمت، مُعلنةً ولادة خطابٍ أنثويٍّ يرفض ثنائيات الماضي ويُعيد بناء الوجود من داخل اللغة نفسها.

التحليل البنيوي، السيميائي، والنفسي للقصيدة

 1 -التحليل البنيوي لقصيدة "هذيان أنثى"

تتأسس قصيدة «هذيان أنثى» على بنية لغوية منفتحة تتجاوز القوالب الوزنية والقافية التقليدية، لتنتمي بوضوح إلى فضاء الشعر الحر أو قصيدة النثر. فغياب الوزن لا يعني غياب الإيقاع، بل تحوّله إلى إيقاع داخلي يتولّد من التكرار الصوتي والتنغيم الحسي، كما في قول الشاعرة: «تُشاكسُ الفَيْضَ حينَ يستيقظُ السوادُ». إنّ تكرار الأصوات المهموسة مثل (س) و**(ف)** يمنح اللغة توترًا صوتيًا يوازي حالة الهذيان التي تعيشها الأنثى المتكلمة، ويُترجم انفعالها الداخلي في صورة نغمة نفسية نابضة، حيث "الإيقاع يصبح معنى"، لا مجرد زينة صوتية. ofوهذا ما ينسجم مع ما يؤكده جيرار جينيت في  حين يرى أن القصيدة "نظام من العلاقات الزمنية والدلالية لا يُفهم إلا من خلال بنيتها الداخلية". فالإيقاع هنا ليس تنظيمًا كمّيًا بل هو علاقة دلالية تتيح للنص بناء زمنه الخاص، زمنٍ يتقلّب بين الهدوء والانفجار، كما تتقلب الذات بين الطفولة والنضج، وبين الحلم والحذر. على المستوى الدلالي، يقوم النص على استعارة مركزية تُختزل فيها الذات الأنثوية في صور متعددة: الطفلة، الكاتبة، الحلم، الجرح. هذه الصور لا تتجاور اعتباطًا، بل تُشكّل نسيجًا دلاليًا متشابكًا، تتحوّل فيه "الغيمة" إلى رمز للتحوّل، و"الحبر" إلى دالّ على الخلق والبوح، و"السواد" إلى معادل للألم واللاوعي، في حين يحضر "الفراش" كعلامة على الطفولة والحذر معًا.

 هنا يتجلّى ما قصده رولان بارت في الدرجة الصفر للكتابة حين قال: «الكتابة ليست تعبيرًا عن الذات، بل بنية لغوية تتجاوز الفرد» . فالشاعرة لا تتحدث عن نفسها بقدر ما تنشئ بنية لغوية تتكلم عنها.  حيث تتحول اللغة إلى ذات بديلة تُعيد تشكيل التجربة في صيغة رمزية.

وعلى الصعيد التركيبي، تنتهج القصيدة نحوًا شعريًا حرًا يخرق النظام النحوي المألوف. الجملة: «ها أنا أراود صوتًا تحت القميص لم أسمعه». تكشف انزياحًا تركيبيًا دالًا، إذ يتحول "الصوت" إلى كيان ملموس يمكن ملامسته أو مراودته. هنا لا يُستخدم الفعل في معناه الواقعي، بل يُعاد بناؤه داخل علاقة جديدة بين الذات والعالم، بما يؤكد مقولة كلود ليفي-شتراوس بأن الشعر، كحال الأسطورة، "يتكوّن من وحدات صغيرة يُعاد ترتيبها في علاقات جديدة" لإنتاج دلالة مغايرة.

أما البنية التكرارية في القصيدة فهي ليست تكرارًا آليًا بل آلية توليدية للمعنى، إذ تتردد أفعال مثل «تُشاكس»، «تُروض»، «تُبصر»، «أعرف»، «أعبر»، لتعبّر عن حركية داخلية مستمرة تكشف رغبة الذات الأنثوية في الخروج من قيدها اللغوي والنفسي نحو فضاء أرحب. إنّ هذا التكرار يعيد القارئ دومًا إلى نقطة البدء — الطفولة والحبر والفراش — في حركة دائرية مغلقة تجعل النص يلتف حول ذاته كما يلتف الوعي حول ذاكرته.

ويُعزّز ذلك نظام التضادات الدلالية الذي يحكم البنية العامة:

الحلم ↔ الصديد، الفيض ↔ السواد، الطفلة ↔ الحذر، الوهم ↔ المعنى.

 هذه الثنائيات تخلق توترًا داخليًا يعكس الصراع بين الانطلاق والانكماش، بين الرغبة في التحقق والخوف من الانكشاف. إنّ هذا التوتر هو الطاقة التي تحافظ على حياة النص، وتمنعه من الثبات أو الإغلاق النهائي..

وهكذا تتجسّد في القصيدة الرؤية البنيوية التي ترى أن المعنى لا يُستمد من السياق الخارجي أو من حياة الشاعرة، بل من العلاقات الداخلية التي تربط بين وحدات النص فـ*«هذيان أنثى* تمثل نصًا بنيويًا مكتفيًا بذاته، يخلق دلالاته عبر شبكة من الصور، والرموز، والتكرارات، والتضادات، لتصبح اللغة فيه كيانًا مستقلًا يعبّر عن نفسه بقدر ما يعبّر عن الذات الأنثوية في صراعها الوجودي والجمالي.

 ثالثًا: التحليل السيميائي لقصيدة "هذيان أنثى"

تُقدّم قصيدة «هذيان أنثى» نظامًا دلاليًا مركّبًا يقوم على شبكة من العلامات والرموز المتداخلة التي لا يمكن قراءتها بوصفها عناصر معزولة، بل باعتبارها وحداتٍ إشاريّة تتبادل المعاني داخل فضاءٍ لغوي مغلق. فالقصيدة تُنشئ عالَمًا رمزيًا تتكرّر فيه حقول دلالية متقاطعة مثل الطفولة (الطفلة، الفراش)، والجسد والصوت (تحت القميص، الصوت المكبوت)، والكتابة والإبداع (الحبر، الفيض)، والعاطفة المظلمة (السواد، الوهم). هذه الحقول تشكّل، وفق المفهوم السيميائي، نظامًا من العلاقات الذي ينتج المعنى لا من خلال المفردة ذاتها، بل من خلال تفاعلها مع غيرها — وهو ما يؤكده أمبرتو إيكو في قوله: «كل علامة هي شبكة من العلاقات لا تُفهم إلا داخل نظامها»".

في هذا السياق، تتحوّل العلامة الشعرية إلى معبر دلالي مزدوج بين الدال والمدلول. فـ«الغيمة» مثلًا لا تشير إلى الطبيعة فحسب، بل إلى إمكانٍ أنثوي في التحوّل والسيطرة، بينما «الحبر» يتجاوز دلالته المادية ليصبح رمزًا للعطش الإبداعي والبوح الوجودي. و«الفراش» الذي يُفترض أن يمثل الراحة، ينقلب إلى مساحة حذرٍ ووعيٍ متيقظ، مما يجعل القصيدة، بحسب منهج فردينان دو سوسير.، نموذجًا للانزياح في العلاقة بين الدال والمدلول، حيث تتبدّل خرائط المعنى تبعًا للسياق النصي الداخلي.

الاستعارات في القصيدة تُمارس وظيفة بنائية لا تجميلية. فاستعارة الأنثى كمروّضة للغيمة تخلق مشهدًا تحويليًا يُظهر الأنثى بوصفها فاعلًا لغويًا يُعيد تشكيل العالم من خلال اللغة. أما الطفلة التي تذرع الحبر ولا ترتوي فتمثّل استعارة كبرى للكتابة كفعلٍ مستمرٍّ لا يُروى، حيث تتحول الطفولة من زمنٍ ماضٍ إلى حالةٍ وجودية دائمة. كذلك فإن، شرفة القلب والوهم اللامع تكشف عن تحويل الداخل العاطفي إلى واجهةٍ مرئية، في انفتاحٍ رمزيٍّ بين الذات والعالم، بين الخيال والواقع.

إنّ هذه التحوّلات في الدلالة تمثّل ما يُعرف بـالانزياح السيميائي، أي تحرّك العلامة بعيدًا عن مدلولها الأصلي نحو دلالات جديدة. فـ«الحبر» يغدو مقياسًا للعطش الوجودي، و«الفيض» يتحول من طاقة إيجابية إلى توترٍ قابلٍ للتحوّل إلى ألمٍ أسود، و«الفراش» من رمزٍ للطمأنينة إلى علامةٍ على الحذر واليقظة. إنّ هذه الانزياحات تعبرعن ديناميكية المعنى داخل النص، حيث لا يوجد مدلول ثابت، بل عملية مستمرة لإعادة إنتاج المعنى.

ومن اللافت أيضًا حضور الصوت المكبوت تحت القميص، الذي يعمل بوصفه علامة مزدوجة: فهو في بعده الظاهر يمثل كبتًا جسديًا أو عاطفيًا، وفي بعده الرمزي يشير إلى لحظة التوتر بين اللغة والجسد، بين الرغبة والبوح. وبهذا يعبّر النص عن ما يسميه رولان بارت بـ«الكتابة الجسدية»، أي التحام اللغة بالخبرة الحسية للذات. أما الحدائق المعلّقة، فهي رمز جمالي زمني يُستدعى في لحظة دهشة، لتؤسس بعدًا أسطوريًا داخل النص يوحي بوجود جمالٍ مؤجلٍ يختبئ في شقوق الذاكرة والجدران الداخلية للذات.

تعمل القصيدة كذلك على بناء ثنائيات متضادة مثل الطفولة/الحذر، الفيض/السواد، الوهم/المعنى. غير أن هذه الثنائيات لا تُحَلّ، بل تبقى في حالة توترٍ دائمٍ تُنتج الطاقة الشعرية للنص. فالمعنى عند الشاعرة ليس هدفًا يُبلَغ، بل حركةً مستمرة داخل شبكة من الإشارات المتناقضة، وهو ما يوافق رؤية.

وعليه، فإن «هذيان أنثى» يمكن قراءتها كسلسلة من التحوّلات الإشارية التي تُمكّن الذات الأنثوية من التعبيرعن نفسها عبر رموزٍ متغيّرة ومتحوّلة، لا عبر البوح المباشر. فالنص يُعيد تشكيل العلاقة بين الجسد واللغة، وبين الذاكرة والكتابة، ليصبح فضاءً دلاليًا مفتوحًا يُنتج معناه من داخل بنيته، لا من خارجها. وبهذا المعنى، تترجم القصيدة عمليًا الفكرة السيميائية الجوهرية بأن المعنى ليس ما تقوله الكلمات، بل ما يحدث بينها

التحليل النفسي

تقدّم هذه القراءة النفسية امتدادًا حيويًا للتحليل البنيوي والسيميائي للقصيدة، إذ تغوص في طبقات اللاوعي والدوافع والتمثلات لدى المتكلِّمة في «هذيان أنثى». منهجيًا، تجمع القراءة بين ثلاثة أفقية تفسيرية متكاملة: فهم الدوافع وآليات الكبت والتسامي من منظور فرويدي، وقراءة الأنماط والظل والحلم في ضوء يونغي، وتحليل تكوّن الذات داخل النظام اللغوي كما يراه لاكان. بناءً على ذلك، يُنظر إلى النص ليس كمجرد تركيب لغوي وإنما كبنية نفسية-لغوية تنتج دلالتها من تفاعلات داخلية بين الرغبة واللغة والذاكرة.

يظهر محور «العطش للكتابة» — المتمثّل في صورة الحبر الذي لا يرتوي — كدلالة مركزية على دافع إبداعي غير مُشبَع، وهو رمز مزدوج يشير إلى حاجة ابتدائية ناقصة ورغبة تعويضية قد تمتد جذورها إلى تجارب الطفولة الأولى. من منظار فرويدي، تتحول هذه الطاقة الجنسية أو الحيوية المكبوتة إلى طاقة إنتاجية عبر آلية التسامي؛ فالكتابة هنا تعمل كتحويل أخلاقي اجتماعي مقبول للطاقة الغريزية. في هذا الإطار، يمثل تكرار صورة الطفلة والفرش فعلًا مناخيًا رجوعيًا يذكّر بآلية «تكرار الاندفاع») التي تعيد نفسُها عبر صورة شعرية تقصد استعادة زمن أمومي أولي أو تصحيحه.

أما الصوت المكبوت تحت القميص فيقرأ بوضوح كإشارة إلى كبت جنسي/عاطفي؛ القميص بوصفه حاجزًا بين الجسد واللغة، ويجعل من الصوت المدفون علامةً للاشتهاء والافتقاد اللذين يحاولان أن يظهرا عبر طبقات النص. هذه الشذرة المفقودة من الرغبة يمكن تأويلها عند لاكان، كشظية تغذّي الرغبة وتبقى خارج المدلول الكامل، محرِّكة بذلك طاقة البحث والافتقار داخل اللغة الشعرية. وهكذا، لا تكون الرغبة قابلة للإشباع الكامل داخل النص؛ بل تعمل اللغة كمنظومة تستدعيها وتحوّلها وتؤجّل إشباعها.

بمقتضى القراءة اليونغية، تصبح «الطفلة» أنموذجًا أوليًا للبدء والبراءة، وحيويتها تُظهر صراعًا بين الأنا الواعية والطفلة الداخلية المطالبة بالاندماج؛ بينما يجسّد «السواد/الليل» ظلًا لم يُدمَج، ويتعامل المتكلِّم معه بالمشاكسة كمسعى للتكامُل، ويأخذ الحلم دورَ قناةٍ علاجيةٍ نحو إتمام الذات.

خيرًا، تتيح هذه القراءة النفسية رؤية مترابطة للنص: فـ«هذيان أنثى» ليست فقط تضاعفًا رمزيًا أو تركيبًا لغويًا، بل فضاء توقّي وتحوّل داخلي، حيث تُعيد الذات بناء عالمها عبر الكتابة، وتحوّل ألمها إلى صور وطقوس لغوية تشتغل كآليات للتكامل والتعبير. ومن هنا تتبوأ القراءة النفسية موقعًا تكامليًا مع البنيوية والسيميائية، إذ تكشف كيف أن العلامات داخل القصيدة تعمل كأعراض ودوافع، وكيف أن اللغة نفسها تصير ميدانًا لصراعٍ نفسي يعيد تشكيل الهوية الأنثوية في النص.

ختامًا، تكشف القراءة النفسية أن «هذيان أنثى» ليست مجرّد استعراض لصِفات إنشائية أو لعبة رموز، بل نصٌّ يُعيد تشكيل الهوية الأنثوية عبر عملية نفسية - لغوية تكاملية: تتحوّل الدوافع المكبوتة إلى كتاباتٍ تصوغ الذات، ويعمل الجسد كحقلٍ إشاريٍ يعبّر عن الرغبة والخوف والذاكرة. بهذا المعنى، تُظهِر النفسية كيف أن اللغة في النص ليست وسيلة نقلٍ للمضمون فحسب، بل هي موقع تأسيس الذات الأنثوية، حيث يجري توظيف الكبت والتحويل والتكرار كآليات لبلورة هوية متحرّكة لا ثابتة. إن الربط بين العلامات النفسية وبنية القصيدة يمهد مباشرةً للقراءة الأنثوية التي سنقتفي فيها أثر هذه الذات المتكلِّمة كقوة إبداعية ومقاومة، قادرة على تحويل الجرح إلى خطابٍ نصيّ يطالب بالاعتراف والوجود.

الخاتمة

تكشف القراءة التكاملية لقصيدة «هذيان أنثى» عن تجربة شعرية تُعيد صياغة الوجود الأنثوي عبر اللغة بوصفها فعلًا وجوديًا ومجالًا للمقاومة في آنٍ واحد. فالأنثى هنا لا تكتب لتصف، بل لتستعيد وعيها المقموع، إذ تتحول الكتابة إلى أداة تفكيك وبناء في الوقت نفسه: تفكك بنى القهر الرمزي والاجتماعي، وتبني ذاتًا جديدة قادرة على تمثيل صوتها في العالم.

من خلال الانزياح الدلالي والاستعارة، يتخذ النصّ بعدًا أنطولوجيًا يعيد تعريف العلاقة بين الجسد واللغة، حيث تتجاوز الألفاظ معانيها المباشرة لتصير مرايا لكينونة تتشكل باستمرار. أما القراءة البنيوية والسيميائية فقد أبرزت تماسك البنية الداخلية للنص بوصفها نظامًا من العلامات التي تتوالد دلاليًا، فيما أضاء التحليل النفسي عمق التجربة باعتبارها فعل تحريرٍ من مكبوتاتٍ فردية وجماعية.

وهكذا يتجلّى النص ككيانٍ شعريّ متعدّد الطبقات، يجمع بين اللغة بوصفها بنية جمالية والأنوثة بوصفها تجربة وجودية، فيتحوّل «الهذيان» من اضطرابٍ لغويّ إلى وعيٍ متوهّج بالذات والعالم. بذلك تُنهي الشاعرة صراعها الداخلي بتحويل الألم إلى طاقةٍ خلاقة، وتمنح للكتابة معناها الأسمى: أن تكون مقاومةً للغياب وإعلانًا للوجود.

***

سهيل الزهاوي

قراءة هيرمينوطيقية وجمالية في قصيدة ‹مثل رجل يتذكّر› لغسان زقطان:

قصيدة "مثل رجل يتذكّر – الرحلة (1)" للشاعر زقطان من النصوص الشعرية المعاصرة التي يمكن أن تُقرأ على أكثر من مستوى، إذ تنفتح على التأويل الوجودي، والرمزي، والديني، والنفسي، والجمالي، والوطني معًا.

هذه دراسة نقدية تحليلية موسّعة بالمنهج (الهيرمينوطيقي التأويلي، الأسلوبي، الرمزي، الجمالي، الوطني، والسيميائي)، تتوغّل في الطبقات العميقة للنص، وتكشف ما تحت الجلد الشعري من نبض وتوتّر ومعنى.

أولاً: مقدمة منهجية:

تتبدّى قصيدة غسان زقطان "مثل رجل يتذكّر" كرحلة تأويلية في الذاكرة الفلسطينية، حيث يتحوّل التذكّر إلى فعل وجودي يستعيد الإنسان ذاته من تحت الركام الرمزي للتاريخ والاغتراب والمنفى.

النصّ ينهض على مفارقة أساسية: أن التذكّر ليس استعادة للماضي، بل إعادة بناء للذات وسط خراب الحاضر.

وإذا كانت القراءة الهيرمينوطيقية (التأويلية) تُعنى بفهم المعنى المتواري خلف اللغة، فإن هذا النصّ يستدعيها بكل طاقته، لأنه لا يُقدَّم المعنى بشكل مباشر، بل يموّه به عبر صورٍ تتناوب بين الواقعي والمتخيَّل، الحسيّ والميتافيزيقي، الذاتي والجمعي.

 ثانياً: المنهج الهيرمينوطيقي – التذكّر بوصفه تأويلاً للوجود

في المستوى التأويلي، “الرجل الذي يتذكّر” ليس فرداً محدداً، بل هو الذات الفلسطينية الجمعية التي تحاول أن تفهم وجودها بعد الصدمة، بعد الخروج من المكان، بعد “الرحلة” التي ليست سوى استعارة كبرى للمنفى.

الطرق “ممتلئة بأخطائهم”، أي بأخطاء التاريخ، بالهزائم، بالماضي الذي لا يموت. لكنّ الشاعر، في وعيه التأويلي، يحوّل الذاكرة من لعنة إلى كشف. فالتذكّر ليس عودة إلى الأمس، بل إعادة قراءةٍ له من داخل الحاضر.

حين يقول:

“الأمر كله يشبه النوم في غرف الميتين”

فهو لا يصف موتاً مادياً، بل موت الذاكرة حين تُحبس في الجدران، وحين يصبح استحضارها طقساً جنائزياً.

وهكذا يتحوّل النص إلى سردٍ تأويلي للمنفى الداخلي، إذ يصبح “التذكّر” هو الأداة الوحيدة لمقاومة المحو.

ثالثاً: المنهج الأسلوبي – جمالية الانكسار وتعدد الأصوات:

الأسلوب عند الشاعر غسان  زقطان يقوم على تفكيك الإيقاع الخارجي لصالح إيقاع الذاكرة.

يتكئ على جملٍ طويلة تتشظى مثل نَفَسٍ متقطّع، تخلق موسيقى داخلية نابعة من التكرار والانقطاع والتوازي، يقول:

“ممتلئة بأخطائهم الطرقُ التي أذرعها هذه الصبيحة...”

“الوحيدون يفعلون ذلك...”

هذا التكرار البنائي ليس ترفاً أسلوبياً، بل يحمل وظيفة دلالية: يؤكد على التكرار الوجودي للمنفى والذاكرة والاغتراب.

أما على المستوى الصوتي، فإن المفردات المشحونة بالحروف الحلقية والهمسية (“النوم، الظل، النساء القتيلات، الرائحة”)، تُنتج فضاءً صوتياً خانقاً، يعكس القلق الداخلي للشاعر.

رابعاً: المنهج الرمزي والسيميائي – “الرحلة” كعلامةٍ للوجود والغياب

النصّ بأكمله يقوم على رمز “الرحلة”، وهي ليست سفراً في المكان بل في الزمن والذاكرة والهوية.

الرحلة = المنفى

النوم = الموت الرمزي

النساء القتيلات = الجمال المهدور والوطن المغتصب

البيت = الذاكرة الجمعية

القهوة = طقس الاستعادة

كل هذه العلامات تُشكّل شبكة سيميائية تتقاطع فيها دوالّ الحياة والموت، الحضور والغياب، الطهر والخيانة.

فحين يقول الشاعر زقطان:

“الوحيدون يفعلون ذلك، يأتون بالمنفى إلى البيت”

فهو يُعيد تعريف المنفى: ليس غياب الوطن، بل حضوره المؤلم داخل البيت ذاته، في الذاكرة، في تفاصيل المعيش.

البيت في هذا السياق علامة مزدوجة: حضور مكاني / غياب رمزي.

هو المأوى الذي يُذكّرك بفقد المأوى، أي بالمنفى المتجذر في الذات.

خامساً: المستوى النفسي والديني – الذاكرة كصلاةٍ على الغائب

- تحت الجلد الشعري، تنبض القصيدة بتيارٍ صوفيٍّ مكتوم؛ فهي تذكّرنا بما قاله ابن عربي: “المعرفة تذكّر، والوجود ذكرى منسيّة فينا”.

فـ “الرجل الذي يتذكّر” هو السالك الذي يواجه نفسه عبر مرآة الذاكرة.

كل صورة من صور الموت، والظل، والنساء، والبيت، تحمل بعداً روحياً يعيد إلى الأذهان مفهوم الفناء في المحبوب؛ لكنه في شعر زقطان فناءٌ في الوطن لا في الله.

المنفى هنا يتحوّل إلى تجربة روحية، أشبه بالحجّ العكسيّ نحو الداخل، نحو الذاكرة المقدّسة التي لا تُمسّ.

الرموز الدينية (“البخور، الترنيمة، الاستغفار، المآذن، السور الأبيض”) لا تُستخدم بمعناها الطقسي، بل كأدوات لغسل الذاكرة من خطايا التاريخ.

إنها محاولة لتطهير الوجود عبر اللغة، أي عبر الشعر ذاته كصلاة.

سادساً: المستوى الجمالي والوطني – جمالية الخراب وإعادة بناء الهوية

جماليات النص تقوم على ما يمكن تسميته بـ جماليات الخراب، وهي الفكرة التي نجدها عند أدونيس ومحمود درويش أيضاً:

أن الجمال لا يُبنى على اكتمال الصورة، بل على تشظّيها.

زقطان لا يبحث عن وطنٍ مكتمل، بل عن هوية تستمد معناها من هشاشتها.

فالطرق "ممتلئة بالأخطاء" لأنها تاريخ وطنٍ جُرح، والماضي "منسيّ في الظلال" لأنه يُستعاد لا ليمجّد، بل ليفهم.

بهذا المعنى، تصبح القصيدة فعل مقاومة جمالية؛ إذ تحوّل الذاكرة من مأساة إلى مادة للفن، ومن الهزيمة إلى إمكانٍ للخلق.

سابعاً: تأويل ختامي – الشعر كتذكّرٍ كوني

في ختام القصيدة، حين يقول:

“مَنْ أنتَ لتتذكّرَ وترى...”

يبلغ النص ذروة انكساره التأويلي. فالشاعر لا يخاطب الآخر، بل نفسه التي تنقسم إلى ذاتٍ تتذكّر وذاتٍ تُنكِر.

إنها مواجهة وجودية مع السؤال: هل نحن من نتذكّر، أم أن الذاكرة هي التي تتذكّرنا؟

هذا الوعي بالانقسام الداخلي يجعل النصّ كياناً مفتوحاً لا يُغلق على معنى واحد، بل يُعيد إنتاج ذاته مع كل قراءة.

فـ “التذكّر” في النهاية ليس عودة إلى الوراء، بل صيرورة دائمة للوعي بالذات والزمان والمكان.

خاتمة:

قصيدة “مثل رجل يتذكّر” نصّ يتجاوز حدوده الشعرية إلى فضاء فلسفي وجودي.

إنها ليست فقط عن الفلسطيني الذي يرحل، بل عن الإنسان الذي يحاول أن يتذكّر كي لا يموت مرتين.

فيها التراجيديا والقداسة، المنفى والبيت، الخيانة والطهر، وفي عمقها صراع الذاكرة مع النسيان، وصراع اللغة مع العدم.

***

بقلم: عماد خالد رحمة - برلين.

.....................

مثل رجل يتذكَّر

الرحلة (1)

ممتلئة بأخطائهم الطرقُ التي أذرعها هذه الصبيحة، متكئاً على سيرتي، ومتأملاً خزائنَ الموتى وطيورَهم، ممتلئةً بالنسيان وحوادثَ يوجِزُها رحالةٌ قلقون ومتعثراً بنوايا جوّالين أخّرتهم أمنياتُهم، وبلصوصٍ لم يتوقفوا ليسألوا عن الدروبِ المؤديةِ للتلال، ومهتزاً في حقولِ الذرةِ الفقيرةِ تنفرُ من تحتِ قدميّ الطيورُ مثلَ فراشاتٍ متربة...

الأمرُ كلُّه:

يشبهُ النومَ في غرفِ الميتين

التجوّلَ أعزل

في الرائحة.. ،

حيثُ أحلامهم، دونَ باقي الرواية،

منسيةٌ في الظلالِ

وحيثُ انتهى الأمر

...

...

... وفي الظلِّ، أيضاً،

ستلمعُ أكتافهنَّ النساءُ القتيلاتُ،

متروكةً في التذكّر.

*

مَنْ نثرَ الكحلَ في جنباتِ الكلام ِ

وقادَ البخورَ إلى الترنيمةِ

مَنْ استغفرَ ونَوَى

على هذهِ المصاطبِ المفرودةِ لغيرِ العابرينَ والطرّاقِ

مَنْ أحبك حتى لا يوقظك

وبكى عنك

وتنهدَ فيك

وإذ تتذكّرُ كلَّ شيء

: القشَّ والكتفَ

الحفيفَ والظلَّ

الماءَ والشهقةَ

التعثرَ والمناداةْ

لا تراهُ.. لا تلمسه!

*

الوحيدونَ يفعلونَ ذلكَ

يأتونَ بالمنفى إلى البيتِ

ويرمّمونَ الماضي

في مرثيةٍ عادلةٍ

يعيدونَ صنعَ القهوةِ

بهمّةِ ميتٍ

ويطوونَ الرغبةَ مثلَ حاشيةٍ ملّونةْ.

*

الوحيدونَ يفعلونَ ذلكَ

يختارونَ مقعداً منـزوياً

مثلَ اسمٍ ذابلٍ لشجرةْ

ويبدأونَ بوصفِ الماضي مِن جديد:

*

المرأةِ المتزوِّجةِ حديثاً

الخيانةِ الممهّدةِ في حديقةِ الجار

الدرجِ المعتمِ

وخزانةِ العائلة

السيرِ على حافةِ الروايةِ

وتفتيشِ المارّة

*

زراعةِ النساءِ في المخيِّلة

وإعادةِ النظرِ في الندم

ترتيبِ المنحنياتِ القليلةِ على الرفوف

وإشعالِ شمعة...

*

ها هي البيضاء

أختُ الناسِ

صوتُ الذاهبينَ إلى التلالِ

تفرُقُ المعنى أمامَ الماء.

*

نبدأُ من هناكَ إذنْ

ونذهبُ في هناك.

*

مآذن بيضاء

سور أبيض

والنوم أبيض

صيحةُ الأسماء تعبرُ من أعاليَ السورِ

نحوَ قلوبهِم بيضاءَ.

*

ممتلئةٌ بأخطائهم الطرقُ التي أذرعها هذه الصبيحة

ناقصةٌ ومشغولةٌ بالنسيان..

... مَنْ لم يغطِّ الجبالَ

ومَنْ أهملَ السهلَ حتى اطمأنَّتْ أفاعيه

مَنْ كانَ ينسى أحابيلَه في مسَّراتِ هذي القرى،

في زراعتها وهي تنأى عن البرِّ

حين "المكلاّ" التي صَعَدَتْ.. سلَّماً غائراً

كي تنقِّبَ سوقَ النساءِ وما تركَ الذاهبونَ، الذكورُ،

على القشِّ من نومهم

حيث أكتافُهم لم تزل تُشتهى

والضحى يدفعُ اليومَ من ظهره مثلَ ثور؟! مَنْ لم ينمْ كالغبار على دككِ السوق،

سوقِ النساءِ، ولم يتئدْ،

أو يُرى في المساءات يأوي إلى الخان

أبيضَ من أثرِ الكلسِ والجيِر والحرِّ؟!

ومن لم يثقْ بالرضى، أو يربّي النسورَ على حجرِهِ

أو يفق نائحاً

أو يُنادى من الليلِ سبعاً

كما تفعلُ الطيرُ؟!

*

مَنْ أنتَ لتتذكَّرَ وترى

العابرَ متمهِّلاً في أحجياتِ الآخرينَ وعجائبهم

من أنت لتتذكر!

العابَر! متمهِّلاً في عتمتهم

وفي أثرِكَ لعنةُ أشيائهم

... الشالُ في الواجهةِ المضاءةِ قبلَ ثلاثينَ سنة

حين كنّا عائدين من النهرِ بأعضاءٍ مبلّلة

أجراسُ الخطايا في الظلال

وثرثرةُ الفضيلةِ في الصالة

إشاراتُ المثليينَ في الحدائقِ العامة

وتعاليمُهم

اُعذر البيتَ

والدرجاتْ

اعذر الضوءَ والذاهباتْ

مضت زوجةُ الآخرين إلى بيتِها وحدها

واعذر الخائناتْ. مَنْ أنت لتتذكَّر

مَنْ أنتَ لتمرَّ في احتفالاتهم المطفأة

وتتعثرّ في أحلامِهم دونَ رأفة؟!

*

مَنْ أنتَ لتفعلَ ما تراه

وتروي فننصت:

ضيوفي عشرةُ عميان

يتوكأون على الليل

بيضاً من العمى

يحيطون بنومتي

 *

بينما كلبٌ أسودُ يتنفسُ فيهم

ضيوفي عشرة عميان

وصدَقَتي جاريةْ.

 

رحلة في عوالم "تسلا" و"آتيكا" حيث يصبح القارئ بطلاً

رؤية في رواية (الخرزة الزرقاء)

مفتتح: مشروع روائي غير مسبوق

في مشروعها الروائي المتكامل، تقدم الأديبة التونسية نسرين المؤدب تجربة أدبية فريدة تختبر فيها أعمق أسئلة الوجود الإنساني عبر خمسة نصوص متصلة الحلقات، لا يقتصر دور القارئ هنا على متابعة الحكاية فحسب، بل يتحول إلى شريك فعال في فك شفرات النص وإعادة تشكيل معناه، في رحلة تجمع بين العمق الفلسفي والجمال الأدبي.

انزياح سردي ينهض بالرواية العربية

تتفرد المؤدب باستخدام الانزياح السردي كأداة فنية رئيسية، حيث تنتقل ببراعة فائقة بين أصوات سردية متعددة (زهرة، الأفاتار، شادي، أمون) وأزمنة مختلفة، محطمةً بذلك قيود التسلسل الخطي التقليدي، هذا الانزياح المتقن ليس تقنياً بحتاً، بل هو انعكاس عميق لتشظي الوعي الإنساني المعاصر في عصر التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي.

من خلال هذه التقنية، تخلق المؤدب تجربة تلقي تفاعلية استثنائية، تضع القارئ في حالة حوار دائم مع النص، حيث يصبح شريكاً في عملية الاكتشاف والتأويل، فالقارئ لا يستهلك النص بل يشارك في بنائه، مما يعيد تعريف العلاقة التقليدية بين المبدع والمتلقي.

ثيمات وجودية تلامس أعماق الإنسان

تغوص المؤدب في ثيمات عميقة تشكل جوهر الوجود الإنساني المعاصر، مقدمةً إياها عبر عوالمها المتخيلة بطريقة تجمع بين الرمزية والواقعية:

- أزمة الهوية: تطرح إشكالية الهوية في عالم ما بعد الإنسانية من خلال تحول الأفاتار من كيان رقمي مجرد إلى كائن جسدي يشتهي ويتألم، في استعارة قوية عن رحلة كل إنسان في التقبل الجسدي والنفسي.

- سلطة الذاكرة: تتحول الذاكرة من مجرد أرشيف شخصي إلى سلاح مقاومة ضد أنظمة القمع التي تسعى لمحو الهوية والفردية، حيث تصبح الذكريات جيوباً من النور في عالم الظلام.

- الحب كقوة مقاومة: يتحول الحب من مجرد عاطفة إلى قوة مقاومة أخيرة في عالم يفقد إنسانيته تدريجياً، يتخذ أشكالاً مشوهة ومأساوية أحياناً.

عالم ديستوبي كمرآة للواقع المعاصر

من خلال عوالم "تسلا" و"آتيكا" المتخيلة، تقدم المؤدب نقداً لاذعاً وحاداً للأنظمة الشمولية والرأسمالية المتوحدة، حيث تذوب الفروقات الطبقية في بوتقة البؤس المشترك، ويصبح الصراع من أجل البقاء هو المحرك الوحيد للوجود.

تكشف المؤدب كيف تتحول اليوتوبيات المزعومة إلى ديستوبيات قاتمة، حيث تقدم "تسلا" ليس كجنة متخيلة بل كجحيم منظم ونظيف، تضحكاته صفراء ودموعه جافة، هذا العالم المرعب يصبح مرآة عاكسة لواقعنا المعاصر بكل تناقضاته وأمراضه.

رمزية ثرية تغني التجربة الأدبية

تتفرد المؤدب في استخدام رموز غنية بالدلالات والإيحاءات، تحول النص من مجرد سرد إلى عوالم متعددة الطبقات:

- الخرزة الزرقاء: تتحول من مجرد تذكار بسيط إلى رمز شامل للذاكرة والمقاومة والأمل، حاملةً في زرقتها أسراراً وجودية تتجاوز الزمان والمكان.

- بنك الماء الخلوي: يجسد استغلال الأنظمة للطاقة البشرية حتى آخر قطرة، في استعارة مروعة للاستغلال الرأسمالي المتفاقم.

- الأفاتار: يمثل صراع الإنسان الحديث مع هويته في العصر الرقمي، وانزياحات العلاقة بين الواقع والافتراضي.

لغة شعرية تجسد تناقضات الوجود

تمتلك المؤدب لغة شعرية متميزة تتنقل بمهارة بين الرقة والعنف، الواقعية والخيال، التناغم والتناقض، هذه اللغة المتعددة الأبعاد تنقل القارئ إلى حالات نفسية متضاربة تعكس صراعات الشخصيات وتعقيداتها.

تتحول اللغة عندها إلى كائن حي، تنبض بالألم والأمل، بالحقيقة والوهم، مخلخةً بذلك الحدود التقليدية بين الشعر والنثر، بين الواقعي والمتخيل.

جماليات التلقي: من المتلقي إلى الشريك

تضع المؤدب مفهوم التلقي الأدبي في بؤرة، محولةً إياه من عملية سلبية إلى تجربة تفاعلية غامرة، القارئ هنا ليس متلقياً سلبياً، بل هو:

- مستكشفاً لعوالم غريبة وغرائبية

- محققاً يحاول فك شفرات النص المعقدة

- فيلسوفاً يواجه أسئلة وجودية مصيرية

- ناقداً يشارك في تفكيك الانزياحات السردية

صوت أدبي جريء ومهم

تمثل نسرين المؤدب صوتاً أدبياً جريئاً ومهماً في المشهد الأدبي العربي، تقدم من خلال مشروعها الروائي المتكامل رؤية نقدية عميقة وشاملة لأزمات الإنسان المعاصر، هي لا تروي حكايات فحسب، بل تبني عوماً موازية تصبح مرايا عاكسة لواقعنا.

بجرأة فنية ونفسية نادرة، تضع المؤدب قارئها وجهاً لوجه مع أكثر أسئلة الوجود إزعاجاً وإلحاحاً، دون أن تقدم إجابات جاهزة أو حلولاً سهلة، هذا العمل الذي يجمع بين العمق الفلسفي والجمال الأدري، بين النقد الاجتماعي والتأمل الوجودي، يضعها في مصاف المبدعات العربيات اللواتي يقدمن إضافات نوعية للأدب .

مشروعها ليس مجرد عمل أدبي، بل هو "خرزة زرقاء" ضد النسيان واليأس، شهادة على قدرة الأدب على مواجهة أعتى التحديات وأصعب الأسئلة، وتذكير بأن الكلمة تبقى في النهاية سلاح المقاومة الأقوى والأبقى.

***

رزق فرج رزق . ليبيا

للإلمام أكثر بالمنهج الكتابي للدكتور علي الطائي قمت بدراسة مجموعته القصصية "أصداء البشر" واتخذتها مدخلا لقراءة فلسفية صوفية في مجمل أدبه، إذ نادرا ما ينجح الإنسان في الجمع بين التكامل والتضاد، أو بين عدة متناقضات دون أن يُحدث فوضى، إلا إذا ما كان يمتلك كاريزما تؤهله لذلك، فمثل هؤلاء لا ينجحون إلا من خلال تأطير الأبعاد ببعد وجودي ينبني على أبعاد جزئية، منها البُعد النفسي والفردي، فالإنسان العادي يجد في العادة صعوبة بالغة في التوفيق بين صفات أو أفكار متناقضة داخليا، مثل القوة واللين، أو الصرامة والمرونة، لأن العقل البشري يميل بطبيعته إلى التماسك والتناسق، هذا ما عرَّفه علم النفس باسم التوتر المعرفي، أي صعوبة الدمج بين ما يتناقض في نفس الوقت.

ومن الأبعاد الأخرى البُعد الاجتماعي والسياسي، فالقادة وهم أغلب الشخصيات المؤثرة غالبا ما يواجهون مواقف تتطلب الجمع بين رؤى أو أفعال متناقضة مثل العدالة/ الرحمة، الحزم/ المرونة، وهنا تأتي الكاريزما كعامل حاسم. فهي التي ترجح كفة على أخرى، وتمنح القدرة على الإقناع والتأثير، بحيث يقبل الآخرون التناقض ويرونه تكاملا لا تضادا.

ومنها أيضا البُعد الفلسفي والوجودي، إذ ليس شرطا أن يكون التناقض سلبيا دائما؛ فهناك فلاسفة يرونه شرطا للارتقاء والفهم العميق، ومن أمثلته المتاحة التناقض الصوفي الذي يجمع بين الزهد في الدنيا والحب الشديد للناس، والتناقض الفلسفي الذي يجمع بين الشك واليقين. في هذه الحالات، الكاريزما ليست فقط سحرا شخصيا، وإنما هي قدرة على تحويل التناقض إلى وحدة معنوية أو وجودية، وهذا أمر غير متاح للجميع.

باختصار، أرى أن التناقضات ليست سهلة الدمج، إلا لمن يملك حضورا وكاريزما تمكنه من إضفاء معنى ومقبولية على هذا الجمع الصعب، أقصد جمع التناقضات، وهو ما يجعل الشخصية فريدة ومؤثرة. وربما هذا هو السبب الحقيقي الذي جعل قلة من البشر الذي ينماز بهذه القدرة. وفي الواقع أرى أن هذه الموهبة هي التي خلدتهم ومنحتهم الشهرة.

تاريخيا كان الصوفيون والفلاسفة الروحيون من أشهر الذين تحلوا بهذا الجمع مثل الحلاج (858 ـ 922م)، الذي جمع بين الزهد والتجربة الإنسانية، وبين الحب المطلق لله والحياة اليومية. وهو بالرغم من تناقض أفكاره مع المجتمع الصوفي التقليدي، استطاع أن يؤثر بأقواله وحياته على أجيال لاحقة، وكانت كاريزمته في حضوره الروحي وكلماته الملهمة، لكنه دفع ثمن هذا التناقض بالإعدام.

وابن عربي (1165ـ 1240م)، الذي دمج بين العقل والنقل، بين معرفة الذات ومعرفة الإله، بين الصوفية والفلسفة العقلية. وقد عكست كتاباته قدرته الفائقة على الجمع بين تناقضات فلسفية وروحية عميقة، مع مقدرة على إقناع الناس بأن هذه التناقضات وحدة مترابطة.

غير الصوفيين هناك القادة السياسيون والعسكريون التاريخيون مثل الإسكندر الأكبر (356ـ 323ق.م) الذي جمع بين الحزم العسكري والرحمة الدبلوماسية، وبين القسوة والحكمة، وبين الغزو وبناء المدن. وقد مكنت كاريزمته وجرأته؛ لا جيشه فحسب، بل والشعوب الخاضعة له من قبول تناقضاته كجزء من شخصيته.

وغاندي (1869ـ 1948م) الذي جمع بين المقاومة اللاعنفية والصرامة الأخلاقية، وبين البساطة والفعل السياسي الفعال. فكان هذا التناقض بين العزلة الشخصية والانخراط الاجتماعي العميق محكوما بكاريزمته الروحية والأخلاقية.

ونيلسون مانديلا (1918ـ 2013م)، الذي جمع بين الصلابة والمرونة، وبين المطالبة بالحقوق والمصالحة مع الخصوم. وهو رغم التناقض الظاهر بين الانتقام والتسامح، استطاع بحضوره الشخصي وكاريزمته تحويل هذا الجمع الصعب إلى رمز عالمي للسلام والعدالة، احترمته الشعوب والحومات.

ومن بين الشخصيات الكارزمية التي خلدها التاريخ بسبب جمعها التناقض هناك العديد من الشخصيات الفنية والأدبية، مثل ليو تولستوي (1828ـ 1910م)، الذي جمع بين الحياة العملية والتأمل الروحي، وبين النقد الاجتماعي والفلسفة الأخلاقية، وبين النقد الذاتي والفعل الاجتماعي، وهذا خلد أعماله.

وفنسنت فان غوغ (1853ـ 1890م) الذي جمع بين الجنون والإبداع، والألم والحس الجمالي، ما جعله مؤثرا بعد موته أكثر من حياته من خلال فنّه التناقضي، إذ أضحى مثالا على التناقض الذي يتحول إلى قوة.

إن القدرة على الجمع بين التناقضات مع كاريزما ساندة ومؤثرة تؤهل الآخرين لقبول هذا الجمع الذي يبدو أحيانا فوضويا؛ رغم غرابته ليست شائعة، لكنها تظهر في الشخصيات التي تمتلك وعيا داخليا عميقا بالذات والوجود. شخصيات تستطيع التعبير عن هذا الجمع بطريقة تجعل الآخرين يشعرون بالانسجام بدلا من الصراع، شخصيات لديها حضور وكاريزما تمكنها من التأثير الاجتماعي والسياسي أو الروحي، فحضور مثل هؤلاء يجعل التناقض قوة وليس ضعفا.

 سقت هذه المقدمة الطويلة لأمهد للحديث عن رجل معاصر جمع بين مهنة الطب والشعر والقصة والرواية وإدارة مجلس ثقافي وإدارة دار نشر، والتأليف البحثي واللغوي، هو الدكتور الأديب علي الطائي، لأنه يمتلك خصائص وكاريزما مشابهة لأولئك الأشخاص الذين نجحوا في الجمع بين التناقضات بطريقة تؤهلهم للتميز، ولاسيما من حيث تعدد الأبعاد والاختصاصات، كونه طبيب يجمع بين المعرفة العلمية الدقيقة والانضباط والمسؤولية الأخلاقية تجاه حياة البشر. وكونه شاعر وقاص، فهو يتحرك في عالم الإبداع والخيال، حيث الانفعال والحساسية واللغة الجميلة تلعب الدور الأساس. وكونه باحثا علميا ولغويا، ولامتلاكه ديوانا (مجلسا) أدبيا يعكس القدرة على الجمع بين الفكرة والموسيقى اللغوية، وبين الفكر والوجدان، وبين الصرامة في اللغة والانطلاق في المعنى. وهذا الجمع بين العلوم الصارمة والفن الإبداعي هو نوع من التناقض الظاهر، نجد فيه العقل التحليلي مقابل الحس العاطفي، والدقة العلمية مقابل الحرية الأدبية.

فقط ملاحظة جديرة بالاهتمام تقف بينه وبين أن يدخل سجل الخالدين، وهي أن الدكتور علي الطائي متى ما أصبح قادرا على نقل تجربته ونتاجه الأدبي والفكري بطريقة تؤثر على القراء والمتابعين، فهذا يعني أنه يمتلك كاريزما معرفية وروحية حقيقية تسمح للآخرين بقبول هذا الجمع بين الأضداد دون اعتراض، ولا أعتقد أن ذلك سهلا في زمن مأزوم تكاد القيم الحقيقية فيه أن تنسى.

إن الكاريزما التي أتحدث عنها هنا ليست مجرد جاذبية شخصية، بل هي قدرة على إقناع الآخرين بأن هذا التعدد لا يتنافى مع الوحدة الداخلية للشخص، بل يعكس ثراءه الفكري والوجداني. ومع هذا أرى أنه يمكن اعتبار الدكتور الطائي نموذجا حديثا للتكامل بين التعددية الداخلية والكاريزما في التأثير الأدبي والفكري. الاختلاف أن الدكتور علي الطائي يجمع بين العلم، والفن، والأدب، والفلسفة والتصوف، وهو نوع من التناقض الذكي الذي لا يقل تأثيرا عن التناقضات السياسية أو الروحية.

وللإحاطة ببعض الأبعاد التناقضية للدكتور الطائي سأتناول كتابه الأخير "أصداء البشر"، وهو كتاب قصص قصيرة، ليدلنا على منهجه كتجربةً أدبية متميّزة، إذ وجدت أنه لا يكتفي بالسرد القصصي التقليدي أو الشعري السائد، بل يذهب نحو بناء نصوصٍ تنفتح على الفلسفة والروحانية والصوفية، في محاولة لجعل القارئ في مواجهة مباشرة مع أسئلة الوجود والمصير، فنصوص الكتاب ليست مجرد قصص قصيرة أبدا، وإنما هي "أصداء" لإنسان يبحث عن ذاته في مرايا الزمن، ويصغي إلى صوته الداخلي في جدلٍ مع الغيب، يبدو ظاهرا في البنية الفلسفية الصوفية للنصوص ففي تناقضية الحرية والقدر نراه يصرح: "المكان بلا أهل ليس مكانا، بل شاهد قبر على أيام لن تعود" (ص97) فهذا النص ينفتح على إشكالية الحرية والقدر، حيث يُقدَّم الإنسان ككائن متجذر في الغيب، لا كحادث عابر، وهو طرح يقارب بين الرؤية الفلسفية الوجودية والتأمل الصوفي.

وفي عالم البصيرة والكشف يقف ليصرخ في فراغ: "الفرص لا تمنح بعد أن يكسر القلب، ولا يصلح الجسر بعد أن يحرق" (ص38)، وهي عبارة تجسّد فكرة الكشف الصوفي الذي يرى أن الحقائق تُدرك بالبصيرة لا بالبصر.

ومثلها في رسمه لخارطة الفناء والبقاء، كما في قوله: "واليوم، وبعد كل تلك السنين، وأنا في مدينة بعيدة، حيث الربيع لا يشبه ذلك الربيع، وحيث الأشجار مغتربة وسط الأبنية الصامتة، أدركت ما كان يقصده أبي. أدركت أن الربيع ليس مجرد تحول في الطقس، بل هو وعد بالتجدد، رسالة خفية تخبرنا بأن الحزن لا يدون، وأن كل شيء يمكن أن يزهر من جديد" (ص70)، إذ يلحظ المتلقي هنا أن التضاد يذوب بين الموت والحياة في رؤية صوفية تجعل الفناء استمرارا للبقاء.

حتى الحوار الداخلي تحول لدى الطائي إلى وظيفة، فـ: "الحب مثل البخار، إذا لم نغلق عليه الكوب سيتلاشى، وإن تركناه جامدا بلا دفء فقد معناه" (ص52) و "أخشى أ، يأخذنا الزمن بعيدا عن هذا الدفء... لن يأخذنا ما دمنا نحن من نختار الطريق" (ص53). فهذا الحوار الذاتي يكشف عن صراع النفس مع نفسها، على غرار ما يسميه الصوفيون "مكاشفات الباطن".

أما عن الزمن والحضور، فالطائي يرى عمق المعنى: "وقفت عند النافذة، وفتحت عينيها على السكون الذي كان يحيط بكل شيء، بينما دقات قلبها كانت تتناغم مع دقات قلبه. أغمضت عينيها، وأوقفت الزمن في داخلها، ثم رفعت ذراعيها إلى السماء وكأنها تدعو النجوم كي تستمع إلى عزف الأوتار التي طالما كانت تشغل قلبها. كانت تدرك، بل تشعر، أنه قادم"(ص127). هنا يتحول الزمن إلى "آن سرمدي" كما يصفه المتصوفة، حيث يلتقي الماضي بالحاضر في لحظة أبدية بوهيمية تمد أحد ذراعيها إلى الحقيقة والآخر إلى الوهم.

وهو حينما يتحدث عن الاغتراب الوجودي: "لست حزينا يا بني ولكني أفكر في الزمن" (ص13) يحاول تذويب التناقض في اللامعنى، فـ: "السنين لا تسرقنا، بل تكتب تاريخنا" (ص14)، وكأنه أراد التعبير عن عزلة الإنسان واغترابه، وهو ما يجسد معاناة البحث عن المعنى، عن رحلة طويلة متعبة منهكة، ولكنها تعيد المرء الى الطريق الصحيح. فهو لم يعد يهتم بالمال والدنيا، فهما لا يساويان شيئا أمام ما يجد الإنسان من نور الحقيقة، فـ: "الحقيقة ليست شيئا يُلقن، ولا شيئا نتمسك به دون تفكير. الحقيقة شيء نصل إليه بعد بحث طويل، بعد أن نتعلم كيف نشك ونسأل. هل سألت نفسك يوما إن كنت تسير في الاتجاه الصحيح، أم أنك فقط وجدت نفسك منجرفا مع تيار آخر؟" (ص43).

حتى الآخر والهوية وجدا حيزا في عالم التناقض الوجودي: "إن بعض الصداقات تموت ليس بفعل الزمن، بل بفعل العقول التي تأبى أن تتحرر" (ص45)، فهو يرى أن الرحلة ليست في الوصول... بل في التفاصيل الصغيرة التي تجعلنا ما نحن عليه الآن" (ص74). فالجروح لا تحتاج إلى الصراخ كي تبرأ، بل تحتاج إلى صوت صغير نقي يذكرها أن هناك دوما نورا في آخر النفق" (ص83) ليلخص من خلال ذلك رؤيته للآخر والهوية بقوله: "ولكني لم أجد روحا تؤالفني، كأنني غريب في دنيا لا تعرفني" (ص87)، فهو يعتقد أن الآخر هنا ليس مجرد صورة مقابلة، بل مرآة تكشف الذات لنفسها.

ومن أجواء هذا التناقض نراه يبحث عن "أصداء" الموت والبعث الداخلي. إن الرؤية الصوفية تجعل الموت بداية حياة جديدة داخل الوعي: "فبعض الفراق لا يداوى، بل ينساب في الروح كالسكين، باردا، عميقا، وصامتا" (ص102).

 وفق جدل التناقضات رسم الطائي عالم المطلق والجزئي حيث يظهر البعد التوحيدي، حينما يتلاشى الفرد في الكل كما تفنى القطرة في البحر. وحينما يتحول الحب من عاطفة بشرية إلى طريق صوفي يوصل إلى المطلق. وبالتالي أرى أن الطائي جمع في كتابه هذا خلاصة فلسفته الحياتية، وقد أراد له أن يكون فريدا في الجوهر والمعنى فملأه حتى فاض. ومن مواطن القوة التي وجدتها فيه عمق الرمزية، والانفتاح على قراءات متعددة فلسفية وصوفية وأدبية وفق أسلوب السهل الممتنع، مع قدرة على المزج بين السرد والتأمل. وإن كان هناك قصورا يمكن تشخيصه فقد وجدت أنه يغلب أحيانا الجانب الفلسفي على البناء الحكائي للنص.

من هنا أرى أن "أصداء البشر" ليس مجرد مجموعة قصصية، بل هو مشروع أدبي روحي يضع القارئ في مواجهة أسئلة الذات والقدر والمطلق، ونصوصه القصيرة تُظهر الإنسان كصدى للحقيقة، وتجعل من القصة القصيرة وسيلة للتأمل الصوفي. إنه كتاب يمزج بين جماليات الأدب وعمق الفلسفة ورهافة التجربة الروحية، مما يمنحه مكانة خاصة في الأدب العربي المعاصر.

صدر الكتاب عام 2025 بواقع مائة وسبعة وستين صفحة، وقد تولي الدكتور الطائي الإخراج الطباعي أما تصميم الغلاف فقد نفذته زوجته السيدة صبا التميمية، وطبع في مطبعة المجلس الثقافي؛ وهو اسم دار النشر التي يديرها الدكتور الطائي، وكأنه أراد التعبير من خلال هذه التوليفة عن عالم التناقضات الذي تحدثنا عنه.

***

بقلم: د. صالح الطائي

 

روح ضائعة

للدكتور أمين جياد

السَّديمُ جُرمٌ بعيدٌ يَسْري ظلاماً، يعكسُ ضوءَ النجومِ،

والشمسُ دوائرُ عشقٍ،

تبعثُ دمدمةَ لهيبٍ مهولٍ فوقَ جسدِ الأرضِ،

والروحُ تسْري بحراً ثابتاً،

أراها رنيناً يهتزُّ بَيْنَ أصابعي، وبرقاً وصاعقةً ورياحاً، تلتفُّ أمواجاً عاليةً، تنتشرُ راجعةً تضربُ أحجاراً، فتختفي بينَ زبدِ علىٰ ضفةِ البحر.

***

مقدّمة رؤيويّة ومنهجيّة

يندرج نصّ (روح ضائعة) للدكتور أمين جياد ضمن التجربة الشعرية التي تقيم في تخوم الصوفي والفلسفي حيث يتحول الشعر من خلالها لأداة كشفية

 وتتماهى اللغة كمقام للفيض ولاتقتصر على دورها الوصلي والقراءة هنا تنطلق من المنهج التفكيكي الصوفي الذي يرى النص بأنه مدار تتقاطع فيه العلامة بالغياب وينحاز المعنى باللايقين

 وتلك الذات بالعالم

بمعنى لا وجود للمعنى خارج تكراره المتحوّل

فتبقى الروح ضمن مسارها فالضياع ليس فناء هنا إنما هو طريق المعرفة ومن هذا المنطلق فإنّ تفكيك النص صوفياً يعني القبض على لحظة التجلي في البنية اللغوية لا تأويلها من خارجها وهذا ما نركز عليه بالتناول النصي

تشريح العنوان:

الروح الضائعة كمقام سلوك

إن العنوان (روح ضائعة) هو مدخل التجربة ومفتاحها الرمزي إذ يُستحضر هنا معنى (الضياع) في الإصطلاح الصوفي بوصفه حالاً من أحوال السالك الذي يتجاوز العقل إلى الذوق

 فالضياع هو نفي الإرادة في طريق الوصول وهو ما يسمّيه (الحارث المحاسبي) غيبة الروح عن تدبيرها

 بذلك تتحوّل (الروح الضائعة) إلى مقام وجودي أعلى إلى لحظة يغيب فيها العارف عن نفسه في سبيل الإنكشاف ويصير الضياع وجهاً آخر للحضور الإلهي

 إن الدكتور أمين يجعل العنوان مجالاً لتأويل متعدد يتجاوز الحرف إلى الإشراق فيغدو اللفظ نفسه شعيرة بل ممارسة للغياب

تحليل النصّ وتفكيكه صوفياً

في قوله (السديم جرم بعيد يسري ظلاماً يعكس ضوء النجوم) نكون أمام لحظة السلوك الأول

 أي لحظة الخروج من الكثافة إلى اللطافة أو نحيل ذلك أيضاً من المادة إلى المجاز فالسديم هنا لم يكن كاستعارة قط إنما يشار من خلاله إلى العماء الصوفي الذي تحدث عنه (ابن عربي) حين جعل الخلق يتكون في سديم لا يرى ولا يُدرك إلا بالبصيرة إن هذا السريان في الظلام هو الحركة الأولى للفيض

 فالنور في التجربة الصوفية لا يُدرك إلا من جوف العتمة وهنا ينجح الدكتور أمين في جعل الظلام هو ظل للنور

 وهو رحْمَه الخلاق فتتبدى فلسفة (أنطولوجية عميقة) مفادها أن الكينونة تولد من نفيها وأن الوجود يُطل من فجوة العدم

 إنه تفكيك دلالي للصورة يجعلها تتجاوز المحسوس إلى ما وراءه ويعيدنا إلى مبدأ الخلق في الفقد

ثم تأتي عبارة (والشمس دوائر عشق) لتُدخل النص في مقام الهيام الكوني إذ يتجلى الكون كله إلى حركة عشق دائرية

 فالشمس في القراءة الصوفية أبعد ما تكون عن مصدراً للضوء لكنها رمزاً لـ(النور المحمدي) الأول الذي يُفيض المعنى على الوجود أما الدوائر فهي إشارة إلى تكرار الظهور الإلهي في العالم وإلى دورات الفناء والبقاء التي يعيشها السالك في رحلته نحو المطلق

 وبذلك تصبح الصورة ذات طابع إشراقي تفكيكي فهي تفكك علاقة السبب بالمسبب والمرئي باللامرئي لأن العشق لا يُعلّل بل يتجدد في لحظة الدوران كما قال (الحلاج):

/أنا من أهوى ومن أهوى أنا/

وفي قوله:

 /والروح تسري بحراً ثابتاً/

 تتجلى المفارقة الكبرى التي يتقنها الدكتور أمين:

فالبحر الثابت هو نفي لحركته الظاهرة وهو مقام التمكين بعد التلوين في المصطلح الصوفي

هنا تتجسد وحدة المتناقضات:

/السريان والثبات/

 /الظاهر والباطن/

 /الحركة والسكون/ هذه الثنائية المنحلّة هي عين ما يسميه دريدا (différance) أي تأجيل الحضور الدائم حيث لا يكتمل المعنى لأنه يتوالد في لحظة غيابه

 لكن في السياق الصوفي هذا التأجيل لم يكن نقصاً إنما هو كمالاً لأن السالك لا يرى الحق دفعة واحدة بل عبر مرايا الفيض المتدرج

 إن النص يمارس هنا تفكيكاً صوفياً حقيقياً:

يُعيد تعريف اللغة بإعتبارها سلوكاً روحياً ليبعدها عن كونها وظيفة تصويرية

ونراه يقول (أراها رنيناً يهتزّ بين أصابعي) فيحول الناص المبدع د. أمين الروح هنا إلى ذبذبة صوتية وكأن الوجود كله موسيقى تتردد في جسد العارف

 فالرنين من خلال السياقية نجده يتجاوز الصوت ولايقتصر عليه وذلك لأنه أثر التجلي الإلهي في المادة وهو ما عبر عنه (السهروردي) حين قال:

/إن الأنوار إذا تجلّت أحدثت صدى في النفوس/

 بهذا الوعي تتجاوز القصيدة بنية الصورة إلى (ميتافيزيقيا) الإدراك فالإحساس يتحول إلى طريق للمعرفة

 فالروح بالنص لا ترى ولا تُمس بل تهتز أي تُدرَك عبر الرجّة التي تتركها في الوجود إنها قراءة تُحوّل الغيب إلى حركة محسوسة والمعنى إلى ذبذبة لا تهدأ

وحين يقول الشاعر (وبرقاً وصاعقةً ورياحاً تلتف أمواجاً عاليةً تنتشر راجعةً تضرب أحجاراً فتختفي بين زبدٍ على ضفة البحر)

 فإن النص هنا يبلغ مقام الهيبة والإحتراق أي لحظة التماس بالنور الذي يُفني البرق فهو اللمح الصوفي الخاطف

 والصاعقة هي التجلي الماحق

 والريح هي قبض النفس قبل الفناء

 فكلها صور تشير إلى (التخلي) و(التحقق) إلى تلك المرحلة التي لا يبقى فيها من الذات شيء سوى أثر الزبد بعد انحسار الموج

 إنها مرحلة فناء الفناء التي تحدث عنها (ابن عربي)

 /حين يغيب العارف حتى عن وعيه بالغياب/

هذا المشهد الأخير يتخذ بنية دائرية تعيدنا إلى السديم الأول وكأن النص يتحقق في حركة أبدية من الظهور والامّحاء

هنا تتجلى عبقرية الدكتور أمين في بناء نص يحاكي البنية الكونية نفسها: فكل صورة فيه تولد من انهدام ما قبلها وكل معنى ينقض معناه السابق ليُثبت حركة الوجود اللانهائية

 إنه نص لا ينغلق على تأويل واحد بل يقيم في الحيز الذي تسكنه الصوفية الحديثة: اللغة كطريق للحق

 أضافة للكتابة كرياضة وجودية هكذا يرتسم النص إلى (مرآة للفيض) وإلى مقام من مقامات السلوك الروحي يتدرج فيه الخلق والفناء مع البصر والبصيرة في وحدة إشراق نادرة تعيد للقصيدة معناها الكوني

إن قراءة نص (روح ضائعة) تفكيكاً صوفياً تكشف عن شاعر يدرك جوهر الروح بعيداً عن كونه فكرة بل سير مستمر بين النور والظل وأيضاً عبر الإمحاء والوجود إن الدكتور لا يكتب شعره ليكون نوعاً أدبياً إنما يعتمده رياضة ومسار للتجربة الروحية للغة فكل صورة عنده كمقام وكل كلمة كحال وكل جملة كتجلّي جديد للمعنى

لغته شفافة كالنور لكنها عميقة كالعماء وصوره تتجاوز البلاغة إلى الإشراق

 إنه شاعر وفيلسوف وصوفي كل ذلك بل أكثر

 يكتب من موقع الرائي مجانباً موقع الراوي

ومن موقع العارف مبتعداً عن موقع الواصف

ففي (روح ضائعة) يبلغ الشعر منطقه الأعلى:

أن يتحول إلى تأمل كوني في ماهية الروح وأن يكتب الضياع كطريق إلى المعرفة

 في نص يستحق أن يُقرأ بوصفه بياناً صوفياً جديداً في الشعر العربي الحديث

أبدعه دكتورنا العميق المغاير

فيلسوف الصوفية

***

مع مودتي والتحايا

مرشدة جاويش

 

في المثقف اليوم