قراءات نقدية

قراءات نقدية

نجد أنفسنا وفي نص (مكان للسباب) الذي نقله محمد المنسي قنديل ضمن كتابه "وقائع عربية" (دار الشروق، 2021)، إزاء سردية ذات طابع أسطوري تحاول عبر التخييل أن تفكك البنية العميقة للوعي العربي، وخاصة في لحظاته المؤسسة في زمن ما قبل الإسلام، لا من أجل استحضار مجد ماضٍ مزعوم، بل لكشف التصدعات الأولى في خطاب الفخر والأنساب والعصبيات التي صنعت تلك الهوية، يحمل هذا النص في طياته، رغم صيغته الحكائية البسيطة، بناءً ثقافياً معقداً يكشف عن التوتر الاجتماعي والقيمي، حيث يُختزل المجتمع في مكان طقسي مخصص للسباب، كأن الكلمة القذرة هي الأثر الباقي الوحيد في زمن انهارت فيه المعاني الكبرى.

ليس المكان الذي يدعى "صفي السباب" مجرد حيّز جغرافي، بل هو مساحة رمزية، تمثل التناقض العميق بين القداسة المكانية لمكة والممارسات الدنيئة التي تحدث على هامشها، هذا الانفصام بين الفضاء المقدس والممارسة المنحطة، يشي بأن الانحطاط ليس فعلاً عارضاً، بل مؤسساً في بنية الجماعة، فذكر الأنساب والمفاخرة والسباب ليست إلا تمثيلات لأوهام التفوق والامتياز، لكنها في حقيقتها لا تنفصل عن شهوة السلطة والعنف والتمركز الطبقي، أو كما يقول النص (يعلون بمفاخرهم على الآخرين للمرة الألف، ثم تأخذ كل جماعة في الطعن في نسب الأخرى وتبالغ في معايبها وهوانها على الناس).

يقدّم قنديل في هذا النص، قراءة معكوسة للسردية البطولية العربية التي لطالما مجّدت النسب والقبيلة، فبدلاً من أن تُصور تلك الأنساب بوصفها دليلاً على النبل، تتحول إلى أدوات للتهكم والطعن، بل ويكشف النص أيضاً عن أن الأنساب، التي يُفترض أن تكون حصناً للهُوية، تُستخدم كقنابل لفظية تُلقى في معركة لا تشبه معارك الفرسان، بل تشبه معارك الضواري في برية من الكراهية (ينزعون من على أجسادهم العباءات الثمينة ويقفون نصف عرايا، تستيقظ الضواري الرابضة في أعماقهم وتفرد مخالبها)، فيكشف هذا المشهد عن تَحَوُّل الجماعة من بشر إلى كائنات مفترسة بمجرد أن يُستفز الخطاب الهوياتي.

ثم تأتي المفارقة حين ينتقل النص من طبقة السادة إلى طبقة الموالي والعبيد، حيث يتحول فعل السباب إلى ممارسة أكثر عنفاً وتدميراً، فهؤلاء المهمشون، الذين لا يملكون إلا ألسنتهم وسيوفهم في حضرة سادتهم، يمارسون شكلاً من التعويض الرمزي عن تاريخ طويل من القهر، لكن لا تمنحهم الحكاية بطولة أخلاقية، فبدلاً من أن يكون فعلهم مقاومة للظلم، يصبح تماهياً مع خطاب التبعية ذاته، إذ يدافع كل عبد عن سيده ويشتم سادة الآخرين، كأنهم تماهوا مع موقعهم القيمي إلى حدّ تبني أدوات القامع (كل منهم يدافع عن سادته ويعيب سادة الآخرين، كانوا في العادة أكثر انفعالا من السادة، ينفسون من خلال السباب عن حنق أيام العبودية الطويلة).

وتمضي الحكاية لتغوص في طبقة أكثر هشاشة وجرحاً؛ وهي الجواري، إذ لا تخوض هؤلاء النساء المعركة من أجل الفخر أو الدفاع عن السادة، بل من أجل حكايات العذاب، من أجل جراح الجسد والروح التي لم تندمل، هنا يغدو السباب فعلاً وجودياً، ليس ضد الآخر، بل ضد العالم، ضد القدر، ضد الذكريات الموجعة (يتشاجرن حول نظرات الاحتقار وآهات الاحتضار والإحساس الدائم بالانكسار)، تكشف الحكاية عن الجانب الأكثر مأساوية في هذه الحفلة الجماعية للسباب، حيث تتحول الجروح الفردية إلى مادة صراخ جماعي لا يسمعه أحد.

يشارك الجميع في حفلة الانحطاط الجماعي التي يقيمها المكان الذي لم تبرحه الغربان، فلا أحد ينجو من الإدانة في هذه الحكاية (كانت تترقبهم جميعا في صمت حصيف، وتنتظر من يسقط منهم دون أن تبالي من السابب ومن المسبوب)، ليست تلك الغربان مجرد طيور، بل رموز لعقل محايد، يراقب دون أن يتورط، كأنها تمثل الحقيقة، أو الذاكرة التي لا تُخدع بالشعارات، ذاكرة صلبة لا تنحاز سوى لتوثيق ما يجري، تحفظ التفاصيل، وتعيدها للزمن كمرآة قاسية لا ترحم، وتذكّر بأن الخراب لا يُقاس بعدد الجثث فقط، بل بعدد المعاني التي تُهدر.

يقدم النص في النهاية قراءة فاحصة للثقافة العربية التأسيسية، بوصفها لحظة موغلة في الصراع والتفكك والنفاق، لحظة تكشف عن بنية عميقة من التواطؤ بين السلطة والعرف، إن «مكان السباب» هو استعارة كبرى، ليس للماضي فقط، بل للحاضر أيضاً، حين تُستبدل العدالة بالانتقام، والكلمة بالبذاءة، والتاريخ بالفضيحة، ويغدو الوعي الجمعي أسيراً لدائرة لا تنتهي من الإقصاء المتبادل وإعادة إنتاج العنف الرمزي.

ولعل الكتابة هنا ليست فعل حكيٍ ماضٍ، بل مرآة سوداء نُطل منها على وجوهنا كما هي، دون أقنعة، فهل نحن –بألسنتنا، بخطاباتنا، بتحزّباتنا– إلا امتداد لذلك السباب الأول؟ أليس التاريخ العربي، في أحد تجلياته، صراعاً دائماً على النسب والحق والكلمة، لكنه غالباً ما ينتهي إلى قذف الحصى والصراخ في العراء؟ (ويظل الصدى يردد بقايا كلماتهم القذرة حتى بعد انصرافهم)، في دلالة مريرة على أن اللغة، حين تُستنزف في السباب، تبقى كندبة لا تزول، كصدى يشوه المكان والزمن والذاكرة.

***

أمجد نجم الزيدي

 

تفاجأت حين وصلني كتاب الفنانة هديل كامل (الحياة.. كجملة ناقصة)، وهو عمل نثري يضم 93 قصيدة تبدأ ب "حريق الدمع" وتنتهي ب "تصفية حساب"، وصدر مؤخراً عن دارَّي غولدن بوك للنشر ولندن للطباعة والنشر، في 154 صفحة من القطع المتوسط. كنتُ أتوقع أن يكون الكتاب عن سيرتها الفنية الحافلة، وهي التي بدأت التمثيل في سن الرابعة في تمثيلية (تضحية وجدار)، بينما كانت بدايتها الفعلية من الإذاعة والتلفزيون في سن الرابعة عشرة.

هديل كامل الحاصلة على شهادة الدكتوراه في الإعلام من جامعة بيروت العربية، تكتب عن الحياة التي تراها جملة ناقصة: تبدأ بحرفٍ كبير، لكن نهايتها تظل مفتوحة على الاحتمالات. نولد كأننا الكلمة الأولى، ثم تتراكم حولنا الأفعال والصفات والظروف، إلا أن الفاصلة دائماً تسبق اكتمال المعنى.

هي تحاول أن تكمل الجملة بالحب، بالعمل، بالنجاحات الصغيرة، وحتى بالخذلان. ومع ذلك، يبقى فراغ يطالب بكلمة لم تُكتب بعد. كأن الحياة مشروع متواصل لإضافة كلمة، ثم تلو أخرى، حتى تصل لحظة الصمت الأخيرة التي تُشبه النقطة.

لكن ربما يكمن جمالها في نقصها؛ فلو كانت مكتملة لما بقي فينا شغفٌ بالسؤال ولا توقٌ إلى ما وراء. إن الناقص يفتح باب الاحتمال، والاحتمال يمنحنا معنى يتجاوز حدود العبارة.2067 hadel kamil

الحياة، إذن ليست نصاً يُقرأ، بل نصاً يُكتب، لا جملة تامة بل سطراً مفتوحاً، حيث لكلٍّ منَّا الحق في أن يضيف كلمته الخاصة قبل أن ينتهي السطر الأخير. فالحياة في جوهرها، لا تُشبه الرواية المكتملة الفصول، ولا القصيدة التي تصل إلى قافيتها الأخيرة في انسجامٍ تام، بل هي أقرب ما تكون إلى جملة ناقصة تُقرأ وتُعاش في حالة من التوق والترقب. جملة تبدأ بحرف كبير كما تبدأ طفولتنا بالدهشة الأولى، لكنها تظل مفتوحة على احتمالات لا حصر لها، كأن الكاتبة تتردد أو تترك المجال للقارئ كي يضع الكلمة التالية.

تعيش الكاتبة في هذا الفراغ بين الكلمات، تحاول أن تمنح الجملة معناها؛ غير أنَّ كل إضافة لا تلغي شعورها بأن شيئاً ما لم يُكتب بعد. وإن هناك كلمة غائبة، فكرة لم تُصنَع، خاتمة لم تُحدَّد، وتظل تحوم حول النص كما يظل السؤال معلقاً في ذهن الإنسان منذ وُجد على هذه الأرض.

لاتظن أن اكتمال الجملة يعني الوصول إلى المعنى النهائي، لكن الحقيقة هي أن النقص هو ما يحركنا، هو ما يجعلنا نواصل البحث، نسافر، نجرّب، نخطئ، نُعيد الكتابة من جديد. لو كانت الجملة مكتملة، لما كان في داخلنا شغفٌ بالسؤال ولا توقٌ إلى الغد. الاكتمال موت، والنقص حياة.

الحياة كجملة ناقصة تعني أن وجودنا مرهون بالمحاولة المستمرة للعثور على كلمة مفقودة. إنها دعوة للخلق والتجديد، لا للإكتفاء بما هو حاضر. في الجملة الناقصة مساحة للحرية، لأنها تسمح لكل فرد أن يختار كلمته الخاصة ليضعها حيث يشاء. بعضنا يختار أن يملأها بالمحبة، آخرون يملأونها بالعلم أو بالثورة أو بالصمت العميق. كل كلمة تُكتب تختلف عن الأخرى، لكنها جميعاً تتشارك خاصية جوهرية: أنها ليست الأخيرة.

ولعل أكثر ما يثير في هذا التصور أن النقطة النهائية ليست بأيدينا. نحن نكتب ونضيف، لكن النهاية قد تأتي فجأة، لتضع النقطة حيث لم نتوقعها. عندها تتجمد الجملة كما هي، ناقصة أو مكتملة وفق ما تركناه نحن من أثر. قد يتولى الآخرون مهمة قراءة هذه الجملة وتفسير فراغاتها، وقد يجدون فيها ما لم نرَه نحن أثناء حياتنا.

بهذا المعنى، تصبح الحياة تجربة لغوية وجودية في آن. إذ أن الكلمات والفراغات وعلامات الاستفهام التي تتوالى والحروف، قد تُمحى أو تُستبدل، مع كل لحظة وقرار وخطوة، لأنها ليست نهائية محفوظة في كتابٍ مقدس.

ومن هنا تنبع قيمة الحياة: في أنها مفتوحة. فالجملة الناقصة لا تعني نقصاً في القيمة، بل تعني وفرة في الاحتمال. فهي الباب الذي يظل نصف مفتوح. إنها تذكير دائم بأننا لسنا أسرى للنهايات بل صنَّاع بدايات متكررة.

قد تكون الحياة جملة ناقصة، لكننا نحن منْ نقرر إن كانت هذه الجملة ستظل صامتة ومبتورة، أم أنها ستتحول إلى سطرٍ يضئ للآخرين. النقص لا يُلغى، لكنه يُؤنسن الوجود، يجعلنا كائنات تبحث وتسعى وتخطئ وتتعلم. وفي النهاية، حين توضع النقطة الأخيرة رغماً عنَّا، لن يكون السؤال: هل اكتملتْ الجملة؟ بل: هل تركتْ الجملة أثرها؟.

في كتابها حضور قوي لقساوة الغربة، تلك الكلمة التي تختصر عالماً واسعاً من المشاعر. فهي ليست فقط بُعداً عن الوطن، بل عن افتقاد الدفء الذي يصنعه الأهل، وللغة التي نفهمها بلا جهد، وللأمكنة التي حفظت خطواتنا.

قساوة الغربة تظهر حين يصبح الصمت رفيقك في مقهى مليئ بالناس لأن لغتهم ليست لغتك الأم، وحين تضطر لابتلاع حنينك كي لا تبدو ضعيفاً. فالغربة مدرسة قاسية، تحمل في طياتها أثقالاً من المشاعر التي لا يقدرها إلا من عاشها. هي قساوة صامتة، تبدأ حين تبتعد الأقدام عن أرض الأهل والذكريات، وتكبر حين تفتقد تفاصيل الحياة البسيطة: رائحة الخبز في بيت الأم، صوت صديق الطفولة، أو ضوضاء الشوارع التي كنَّا تشكوها، أو لهجة الناس في السوق.

وفي قصائدها إشراقة شمس جديدة، تبدو كأنها تكتب على صفحة السماء وعداً للحياة. ضوءٌ يتسلل إلى روحها المثقلة بالهموم ليوقظ فيها بذور الأمل، مؤكداً أن لا ليل يدوم، وأن فجر التفاؤل آتٍ لا محالة.

هديل كامل تبحث عن بغداد في مغتربها البارد. تمشي مثقلة بالحنين بين جدران غريبة، تبحث في الثلج والضباب عن دفء مدينتها الأولى، بعضاً من دفء بغداد، وتسأل الريح: هل يمرُّ بي نهرٌ شبيه بدجلة؟. وتنقّب في وجوه الغرباء عن ملامح من شارع المتنبي.

لكن كل خطوة تقودها أبعد عن جسد بغداد وأقرب إلى روحها. تفتش في المقاهي عن رائحة الهيل، وفي أصوات المارة عن نبرة بغدادية ضائعة، كأنها تمارس طقساً يومياً من مطاردة مدينة لا تأتي. فهي ليست مجرد مغتربة، بل روحٌ معلَّقة بين جليد المنفى ولهيب الذاكرة. تبحث عن بغداد في تفاصيل حياتها اليومية، لكن المدن الباردة لا تعطي إلا صدى الغياب.

 تقف الكاتبة على عتبة الحب والفقدان بقلبٍ عارٍ، كطفلة تمدّ يدها الأولى نحو المعجزة. الحب عندها ليس مجرد شعوراً عابراً، بل هو وعدٌ غامض بالحياة، ضوءٌ يتسرَّب إلى الروح ليغيّر ملامحها.

 لكنها تدرك أن الحب والفقدان وجهان لتجربة واحدة؛ نحب بكل طاقتنا ونحن نعرف أننا سنفقد يوماً ما. تمد يدها نحو ما كان، وتلتمس آثار خطواتها على أرض لم تعد لها. فالحب يمنحها معنى الوجود، والفقدان يعلّمها هشاشته.

***

جورج منصور

في زوايا العتمة بصيص نور اشتياق

لا ينطفئ كشعلة فنار يردد

البحر هائج من لوعتي

وقوارب لهفتي تنزاح

عن كثب لقياك

وأنا مدى ذكرى تموج

خليلة هواك...

من اليسر ان تمسك بالقلم وتخط ما يحلو لك، ومن العسر أن تنال إعجاب من يطالع لك. في ذلك العالم الصعب المراس، الوعر المسالك، الذي لا يهب سره بيسر الا لمن أمتلك مقومات الأديب النادر.

لا تبوح الشاعرة العراقية إنعام كمونة بهذا الانجاز، بل هي لا تفتأ تشيد بجهود رائدات الشعر الكبيرات، الرائدات منهن والمعاصرات، امثال لميعه عباس عمارة وسواها، وتذكر الاخريات دوما وانجازاتهن الكبيرة عند عالم الابداع النسوي في دراسات راقية خلابة..

غير أن كثيرا من النقاد، وكل من طالع لها ديوانها (اصطفيتك همسا) يؤكد انه يقرأ نمطا جديدا من فن الشعر غير معهود من قبل، وانهم أزاء شاعرة وكاتبة استثنائية بكل المقابيس، صاحبة قلم إختلف المتخصصون في بيان كنهه، واتفقوا على روعته وتساميه وندرة صياغته وحبك نسيج لغته:

أصطفيتُكِ همساً

يوما..

الصبح ناعس الهمس

يداعب وجه الضباب بصبوة الغزل

صفقتنا كفوف النوى على خدّ أحلامك

أفترشتنا جهات الفجأة..أطياف ممزقة

تناثرت ارواحنا.. أشلاء نحيب

أغتالت شهقاتك الغضة خطوات رحيل

غفلة … غفلة

ياااا طفلتي الغافية بمخمل أحضاني

فرت أنفاسك إلى رميم أضلعي الواهية

 وأنات أشجاني

آآآه كيف داهم حرير روحك فحيح عتمة

وأنا أعدّ كواعب ترفك على مهل أوجاعي

أهتزّ مهد عطرك بخلّة ليل ضرير

 ياااا طفلتي المبعثرة

تعااالي.. أضمك برق أفول

كغيمة أثكلها عطش الأنتظار

كبرق خاطف بمطر يابس

لا تفزعي من خضاب الذبول

مهما أرّقك ضنين الفراق

 أنا جهينة قطاف لنسغ دمك

أُلملم جروحك بيد كافور الغياب

أحتضن بقايا نبضك ألموشوم بدموع البراءة

 أُقبّل كركرة أحلامك بصراخ جوارحي

وإن اصطبغت حناجرنا بالوان الهلع

وإن داهمنا غدر فجيع خاطف

 انتزع أنين مبسمك الهادئ

ها نحن بمآقي خصر الغياب.. طيور نهاجر

ضمّة حزن نستريح.. بقربنا اللامتناهي

تهدهدك أحضان نوحي..مناجاة حنين

وأنتِ ترفلين في مهاد الغياب

 سلكت روحي دروب أجنحتك المتكسرة

كجمانة وجد بأقاليم الضياء

 ااااه لسعير أنّاتي المصتصرخة زمن الرجوع

كم خضبتُ أنفاسكِ بأعشاش أحشائي

وَشَمتُ اسمك بشرايين روحي

اصطفيتُكِ همسا شغف حنين

قرأتكِ أحلامي بيلسان مشيب

ساحتضن روحك بأنين عمركٍ اليافع الدفء

زُغب فراشات معطرة الصبا

وأمضي بك وجعا بأريج لقاء

لترضعي حليب الخلود نجمة سرمدية

سنطيــــــــــــر

و...نطيرررررر...

 نولد من ذاكرة الكون...

 يمامة بيضاء وسنبلة ندية

مختومة بصوت السماء

مدى حريــــــة

مكلومة الهوية

إنعام كمونة.. سيرة حياة.

ما بين مسقط رأسها، وموطن شبابها وذكرياتها وصويحباتها، وجنوب العراق، حيث عشقها للهور وحرية تحليق الطيور، كانت روح الأديبة تتنقل وتتآلف جماليا بين بيئة واخرى، تتوارى بين أسطر الفلاسفة وكبار الادباء متلفعة بطيات عيون كتب الأدب وهي تتطلع دوما نحو الخير.. رمز القداسة الإنسانية الاكبر، ولا تكاد تجد معشوقا لديها سوى الشعر الذي ابتدأت به كبيرة وظلت تكبر وتكبر دون ان تشيخ البتة.

ولعل اكثر ما لفت نظرها وهي ماكثة في قلب الشعر، هو ذلك التناقض المهول بين مواضيع القصائد، فالشعر وجودٌ يضم الجبل الشاهق بقمته، والوادي السحيق بعمقه، تختفي معالم الوجود عند القمة كما تذوي وهي بين طيات القعر، وكيف يبدو الجبل قريبا وهو على بعد شاسع، مما ولّد لديها فلسفة أدبية خاصة، جعلت افكارها تتجلى بوضوح وهي تصطف الى جانب الشمس تارة، وتتلفع تارة أخرى بغموض مدهش، وتغوص بشكل يصيب القاريء بالحيرة والتفكر، واللذة في آن واحد !!

ربطتها صداقات عميقة مع من اختارتهن من صوحيبات، فكانت تنظر الى كل صاحبة منهن على انها قصة انسانية كاملة صاغها الزمن، تختزن منها الجانب الذي ينمي عشقها لخوض تجربة الادب، دون ان تتخلى عن انسانيتها في التعاطف معهن وكتم أسرارهن بحال من الأحوال، لتبدع في فن السردية التعبيرية كما ابدعت في سواه من فنون الادب:

(لا أُجيد رتق التهجي من فصاحة الوجود، ولا أخدش قريحة اللفظ في ذهن المشاعر، لكن يعمدني ماء الفضول فاصطاد فوارس الكلمات بنفير أصابعي، أنا لست بشاعرة لكن عنان حلم يفوح بمرآة وهم العنوان، هكذا أنا حين تسيل بين أناملي همزات وصل شاعرية وتلتف حول معصمي بنبض تمرد، تضج ترانيم عشقي لشناشيل لغة مكتظة الحنين منذ مهد أبجديتي، يسامرني شاهين الخيال بصورة شعرية آسرة التوق، أضمها الى تلابيب الإنزياح حتى تحتدم قُبل الدلالات)!!!

كانت كمونة ومنذ سنوات صباها ترفض القوالب الجاهزة والصيغ المعتقة، مثلما عارضت التنمر والتحجر، وسخّرت جزءا مهما من ادبها نصرة قضايا بنات جنسها.

تغنت بالاهوار، ليس من باب التغني بالجمال فحسب، بل معايشة منها لمكابدات اهلها وقد جف ذلك النبع الذي يهديهم الرزق والحياة الكريمة، فعايشت مآسيهم ونسجتها بأطيب القصائد وهي تعقد علاقة عشق مع سكانها الاطياب، وطيورها ومشاحيفها الآمنة. ذاك انها ووفق فلسفتها الخاصة تجد أن الخير لا يتجزأ، والشر لا يتجمل، وليس انسانا من لم يتضامن مع قضايا المظلومين.

نجاح إنعام كشاعرة جعل منها علامة من علامات الشعر، واقتدارها كناقدة جعل منها ايقونة تحليل نادره، وجميع عوامل الإنسانية والابداع جعلت منها نخلة باسقة من نخيل وادي الرافدين، وتلك هي المبدعة التي تركت وتترك اثرا من ذهب، على ثرى أرض الرافدين، ونهريها الخالدين.

كيف راودك الظمأ سيدي

ومهر سيدة النساء (فاطمة الزهراء)

فيروز الفراتين..؟

 كيف أدرك عيالك العطش

والفرات يرضع من أنامل عصمتكم

حلاوة شهد..!!

فقراح دمك أثكل ماء الزمن

ودمك المسفوح يروي

ظمأ نهر العلقمِ

للآن يفيض سلسبيل دمعهِ

من طهر دمك العذبِ

فانبلج نصرك نبراس الضياء

فجرا سرمديا

يرتدي عشبة

قربان الخلود

يستحم

ضمير النصر

في قداسة الذاكرة

نورا... يتوضأ

***

سعد محمود شبيب

ما لا يختلف عليه المتابعون للمشهد الثقافي بصورة عامة، هو كثرة النتاج الأدبي - شعرا كان أم نثرا - في موضوعات كثيرة، قد لا يتاح للمتلقّي أن يطالع تلكم الأعمال جميعها متابعة الراصد المتأمِّل في مبناها تارةً وفي معناها تارةً أخرى، وفي الوقت نفسه لا يمكن الزعم أن تلك الكثرة تعد من علامات التعافي والازدهار في المشهد الثقافي، ففي ظلِّ استسهال النشر، واندلاق لعاب نسبة عالية من الذين يَحبُون حبْوًا في طريق الأدب قراءةً له، وقفزهم - بقدرة قادر - إلى مرحلة الكتابة والنشر، فضلا عن غياب النقد الموضوعي الرصين عن متابعة تلك الأعمال متابعةً تكشِفُ الزَّبَدَ منها عمَّا ينفع الناس؛ لأسبابٍ معروفةٍ أو مجهولةٍ بقَصدٍ أم مِنْ دُونِه، تَفَشَّتْ تِلكُمُ الأَعمالُ الأدبيَّةُ في ظاهرها، ولكنّها بعد التمحيصِ النَقديِّ الجاد، قد لا تجدُ لها نصيبًا من هذا الوصف.. !

والكلامُ أعلاهُ إنَّما يصفُ ظاهرةً لا يُمكِنُ بحالٍ من الأحوال جعلها قاعدةً تنطبق على جميع الأعمال الأدبية، فكما قيل: "لكلِّ قاعدةٍ استثناء" ومن هذه الاستثناءات التي أقفُ عندها في مجال الرواية، ما صدرَ للروائيِّ العراقيِّ القدير سلام حربة، من عملٍ روائي رصين حمل عنوان: "قافز الموانع" عن منشورات الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق لهذا العام، يستحق أن نُنوِّهَ عنه؛ لما أثارته من إشكالات في الواقع الاجتماعي بعد تغيير النظام السياسي في العراق، ونقول إشكالات وليس إشكالية واحدة، على الرغم من أنَّ الناظر في الرواية سيجد أنَّ حدثًا بارزًا يستولي عليها دون غيره، وهو المتعلق بادّعاء السيادة – أي الانتساب إلى آل الرسول – لشخصيّة ثانويّة في الرواية – وهو ناصر الذي ادّعى فيما بعد أنه (المبارك) – لكن الشخصية الرئيسية – وهو علاء ويكون ابن أخٍ لناصر – إلا أنَّ هذا الادّعاء سيتولّد عنه إشكالياتٍ أخرى، إذ بعد ظهور العمِّ (المبارك) على الساحة بعد أنْ كان مختفيًا لمدةٍ طويلة كان لأهلِ المحلّة أن تنسى معالم وجهه، ولا تعرف أنه (ناصر) الذي لم تفارق اسمه الموبقات والمنكرات، مستغلاًّ اضطراب الوضع الأمني، مدّعيًا باللقب المبارك ليموِّه على الناس، ويجعلهم تابعين له، باعتبار أنَّ الذي ينحدر من هذه السلالة المباركة في عُرف ذلك المُجتمع شخصٌ منزّهٌ عن فعل الموبقات، وهنا تبدأ المواجهة بين علاء الذي لم يقتنع بهذه السرديّة التي انطلَت على أهلِ المحلّة وعلى أخيه المعروف بسلوكه الجنسيّ المنحرف، وكان يقف إزاء كلِّ ما يصدر عن عمِّه من مواقف وسلوكيّات بالمرصاد، مذكِّرًا أنّ النسب الذي يدّعيه باطلٌ وأنّه ينحدر من نسبٍ قيل من أصول غير عربية، وهنا لم ينظر علاء إلى نسبه نظرة ازدراء، ويتشبّث بالنسب المبارك الذي ألصقه بهم العم المبارك، بل رأى – وهو أستاذ التاريخ – أنَّ الإنسان هو الذي يُشرِّف نسبه، وليس العكس، هذه الرؤية العقلانية التي آمن بها علاء، كانت الدافع لأنْ يبقى صلدَ الموقف إزاء ترغيب وترهيب عمِّه الذي ازدادت شعبيّتُه في المحلّة التي عاد إليها يومًا بعد آخر، فضلاً عن ضغوط زوجته وابنته اللّتين اعترضتا عليه أكثر من مرّة خوفًا مما سيجرّه موقفه عليه من مخاطر بدت تُحيق به وتزداد، وهنا يُجسِّد لنا الكاتب أزمة المثقّف حين يجد أقربَ الناس منه يتخلّون عنه ولا يجد عونًا له أو تشجيعًا منهم فيما يتّخذه من موقفٍ مسؤول في زمنٍ تلتبس فيه الحقائق وتضيع فيه القيم الأخلاقية..!

وإذ يتمسّك البطل "علاء" بالجذور، عبر البيت القديم الذي ورثه من أبيه، يجسِّد لنا الكاتب عبر شخصية العمِّ المنتحل صفة (المبارك) انسلاخه من تلك الجذور وقفزه على القيم الأخلاقية في عدم احترامه بيت العائلة، إذ استولى عليه حين ظهر بعد سقوط النظام السياسي، مدّعيًا أنَّ والده قبل أنْ يتوفاه الله كان مدينًا له وفي حال عدم تسديده الدين، كان قد كتب له البيت في قصّةٍ ساقها على (علاء) مستغلاّ سطوته المادّية على من يستطيع التأثير عليهم. وكان له بعد هذه الخطوة أنْ يعمل على تغيير كثيرٍ من معالمه بدءًا من إزالة الباب العتيقة التي توقّف عندها الكاتب واصفًا تفاصيلها الدقيقة معبِّرًا من خلال ذلك الوصف عن عمق الذكريات الجميلة  التي مرّت على ذاكرة (علاء) وهو يرى الباب مرميّة على الأرض كجثّةٍ هامدة، وهي خطوة تكشف عن لا مبالاة ذلك العمِّ بإرث العائلة، بقدر ما تعمل على مسح كل ما يتعلق بها من ذاكرة ترتبط بالمكان وتفاصيله، وعبر ذلك التجريف المتعمّد من قبل العمِّ المدّعي لصفةٍ دينية، يوصل الكاتب لنا رسالةً واضحة تتمثّل بزيف ادّعاء تلك الصفة من قبل ذلك العم، وذلك من خلال وضع يده على مُلك أبيه من دون أنْ يتقسّم على بقية أولاده بحسب الأحكام المرعيّة في مسألة الإرث، ولم يكتفِ بهذا الدور، بل عمل من البيت مقرًّا لمجالسه الدينية التي يعقدها، موظِّفًا قدرته المالية على جذب البسطاء من الناس الذين يحتشدون على مجلسه الذي تُرافقه الولائم الدسمة،  وبهذا أظهر الراوي لنا سلطة الكهنوت الديني على وسط اجتماعي مهيّأ لتقبّل هكذا ادّعاءات وتصديقها لسطحية الوعي الجمعي الذي يقيد عقول هؤلاء الأتباع، ويمنعهم من مناقشة هكذا ادّعاءات بموضوعية. وهنا تبرز شخصية علاء الذي لم يُهادن إزاء سلطة ذات وجهين: سلطة القرابة ممثّلةً بالعم (ناصر) وسلطة رجل الدين الذي تمثّل بعنوانه الجديد: (المبارك) الذي بسط نفوذه على المحلّة وصار الناس البسطاء يلتفّون حوله ويتكاثرون يوما بعد آخر، ويُمكن أنْ نضيف لها سلطة أخرى انضمّت إلى السلطتين السابقتين، وهي سلطة الأعراف التي تقضي على الشخص أنْ لا يغيّر السائد أو يعترض عليه، إذ كانت الأعراف تقضي على بطل الرواية مجاراة الناس في تقاليدهم وسلوكياتهم، ولا يقف منتقدًا ما يقومون به من أفعال أو أقوال، وهو الأعزل لا يملك غير الثقافة الي تزوده بالموقف الشجاع، ويبقى في صراعٍ مع زوجته (بتول) التي تحاول جهدها في ثنيه عن الوقوف بوجه عمِّه ومن اصطفَّ معه من أشخاص، وفي قبال رفضه فكرة الرحيل عن المحلّة، يرتفع صوته بالقول: (لن أترك هذا المكان وسأواجههم، عمّي وباسم وجودي، بكلِّ ما أستطيع حتى ولو بصوتي فقط، أنا بحقيقتي وهم بزيفهم وكذبهم، إنْ تنازلتُ لهم سيجعلون من حياتي جحيما..) والمكان الذي أشار إليه يمثِّل الجذور التي ينتمي إليها الإنسان، وكلُّ ما يمُتُّ بها من آثار للأسلاف، وما يطمح الإنسان تحقيقه فيها من أحلام ومنجزات، فهو إذن يُدرك أنَّ الهويّة لا تتجسّد إلا من خلال ارتباط الإنسان بالمكان الذي يعيش فيه، ويمكن لنا أنْ نستجلي ذلك بوضوح في قوله: ((أنا لا أحبُّ الأحياء الحديثة والقصور الكبيرة، لأنّها مُسيّجة ومعزولة عن بعض ولا أحد يعرف ما يجري داخلها ولا يتسرّب منها حرف كلام، بيوتٌ تنغلق على أسرارها، أنْ تكون أحد أبنائها أو ساكنيها يُشعرك بالترفّع والتكبّر وأرقّ كرامةً من الآخرين. وُلِدتُ في محلّة الوردية وامتلأت زغابات روحي برائحة أزقّتها الطينية وعفونة أبواب بيوتها الخشبية المتآكلة بمطارقها النحاسية ذوات الأشكال الهندسية الجميلة، تخدّرت خياشيمي بروائح أنواع الأكلات التي تخرج من مطابخ بيوتها القديمة وتعوّدنا رؤية الأيدي وهي تحمل الصواني الممتلئة بمواعين الأكل التي فيها ما لذّ وطاب تتصاعد منها خيوط الأبخرة الحارّة المتموّجة الراقصة التي يجب أنْ يأكلها الجار قبل صاحب الدار. لا حاجة لسكنة هذه المحلات الشعبية إلى اقتناء السيارات لأنهم في وسط المدينة يحيطهم النهر والأسواق والمقاهي والدكاكين من الجهات الأربع) ص135 . فالمكان لديه يُشكّل جزءًا لا يتجزأ من ذاته، بوصفه مستودعًا للذاكرة التي يتلخّص منها موقفه الفكري والثقافي من الماضي والحاضر والمستقبل. وبهذا التفصيل ينطلق البطل علاء في تقييم ما حوله من مظاهر وأحداث وشخصيات، ساعيًا إلى ترسيخ مبادئ لم تكن غريبة عن هذه البيئة التي عاش فيها.

 ولكن المفارقة تكمن حين يعيش المُنتمي لهويته الوطنية في زمنٍ تتبدّلُ فيه الولاءات والانتماءات والآراء والمواقف لمصالح فئوية أو شخصية، وهنا يعيش البطل (علاء) زمنًا يصفه بالقول: (الزمن في معظم البلدان يتقدّم إلى أمام إلا في العراق فإنه يمضي إلى الخلف، الزمن بطبيعته هو ما يرسم المستقبل الذي تبصره الشعوب وتتحرك بثبات وإصرار وبأرواح منفتحة نحوه. حين يكون الماضي أجمل من الحاضر فاقرأ على هذا البلد السلام) 176.. وفيما يؤكّد أنَّ (علاء) يعيش انتماءه الوطني أنّه لم يلق أذنًا صاغية لمن راح يخوِّفه من رحلته إلى الرمادي مرورًا بالفلوجة، هذه المدينة التي احتدمت بالأحداث بعد سقوط النظام، إذ يصف لقارئه ما رآه من أهوال، بالقول: (كان الوصول إلى هذه المدينة يعني أنْ تكتب وصيّتك لأنّ فرصة الرجوع منها ضئيلة أو تكون معدومة، الطريق إلى المحافظة مُخططٌ بالمفارز الأمريكية المُطعّمة بأعداد قليلة من قوات الأمن العراقية، أما الوصول إلى مدينة الفلوجة، مدينة الجوامع، يعني أنْ تنطق بالشهادة. هذه المدينة لم تهدأ أبدًا وأصبحت مركزًا لتنظيم القاعدة ودخلت في كرٍّ وفر في قتالها مع القوات الأمريكية والعراقية وقصّت ذيل المحتل حين دخلها عددٌ من المتعاقدين من قوات البلاك ووتر إلى المدينة في آذار 2004 حيث جرى قتلهم وتعليقهم على جسر المدينة وأعمدتها) 176 – 177. وبعد ذلك يتفاجأ البطل علاء بأنْ يجد زميله القديم في الدراسة المعروف بتوجهه اليساري، قد صار بقدرة قادر ملتحيًا متأثّرًا بموجة التدين الشكلي الذي تفشّى بين ساكني هذه المحافظة، مستغربًا عن سرّ ذلك الانقلاب، والروائي إنما يستعرض هذا الموقف وغيره من مواقف إنما يسعى إلى تأكيد وحدة البطل في عالمٍ غير منسجمٍ ورؤاه الاجتماعية أو الفكرية، الأمر الذي دعاه إلى توظيف المنظور الشخصي للكاتب، لأجل إقناع القارئ بما يراه جديرًا بالأهمية والتقدير، وبحسب قول الدكتور شكري الماضي: (وإذا كانت الرواية الحديثة تكابد من أجل اختفاء الكاتب لتقديم المادة الروائية بموضوعية، فإنّ الروائي الجديد يتدخل بصورة مباشرة وغير مباشرة، بل يتعمد مخاطبة القارئ ومحاورته كما يتقصد التعليق والشرح، وكل هذا من أجل تحطيم مبدأ "الإيهام بالواقعية") [أنماط الرواية العربية الجديدة: ص 15] وإذا كانت بعض مشاهد الرواية قد أخذت المبالغات في صياغة بعض أحداثها ما جعلها مفارقةً للمطابقة الحقيقية للواقع المعيش في الوسط الاجتماعي الذي شيّد الروائي أحداثها فيه، فإنَّ ذلك ما تستدعيه الوظيفة التخييلية للرواية بوصفها نقلاً لا يستدعي المطابقة الواقعية بحذافيرها عن الواقع، بقدر ما تكون (بنية فنية دالّة على الاحتجاج العنيف، والرفض لكل ما هو متداول ومألوف، وهي تجسيد لرؤية لا يقينية للعالم، مع تأكيد تنوع نماذجها وتعدد ألوانها وتباين أطيافها واختلاف مناهجها في التصوير) وهذا ما يمكن أنْ يُدركه قارئ رواية (قافز الموانع) التي يقف القارئ بعد انتهاء سيرورة الأحداث التي سردها لنا الراوي العليم بتلك التفاصيل، بين تأويلين لتعيين من هو المقصود بقافز الموانع، هل هو البطل الذي تحدّى عمّه ومن يقف في صفه..؟ أو عمه (ناصر) الذي لم يكن ليرعوي عن نيل ما يطمح إليه من مكاسب بأيّ طريقةٍ كانت..

***

د. وسام حسين العبيدي

لأمينة عبد الله

عتبات السيرة: مسيرة قلم لا يهدأ: هي أمينة عبدالله.. امرأة تحمل بين ضلوعها عوالم من حبر وورق، وتنثر في دروب الكلمة عطراً لا يتبدد، كاتبة وشاعرة لم تكن القصيدة لديها مجرد كلمات تُنظم، بل هي جسر تعبر عليه من صمت الوحدة إلى ضجيج الوجود.

من بين رفوف "الثقافة الجديدة" إلى أروقة "سيمو" في باريس، تشق أمينة عبدالله طريقها بقلم لا يعرف التوقف، موظفة في مجلة "الثقافة الجديدة"، وكاتبة حرة في دوريات رصينة كـ"الهلال" و"الأهرام العربي"، وباحثة في مركز دراسات الشرق الأوسط بباريس - وحدة القاهرة، تحولت حياتها إلى فضاء مفتوح بين عوالم الفكر والإبداع.

عضو عامل في اتحاد كتاب مصر، تجلس خلف منضدة الفحص لتقرأ للأخرين ما كتبته الحياة لهم، كما تقرأ لنفسها كل يوم نصوصاً جديدة، امرأة مطلقة، ربما جعلها الطلاق أكثر قرباً من أسرار النفس وأعماقها، فخرجت دواوينها كأنهار لا تنضب: "ألوان رغاوي البيرة الساقعة" بثلاث طبعات، و"بروفة جنرال الدخول الجنة" بطبعتين، و"بنت الشتا" بإصدار المجلس الأعلى للثقافة، وصولاً إلى "جسر لا يتسع لشخصين" الذي يختزل رحلتها مع الكتابة والحياة.

حملت قصيدتها عبر المهرجانات والمؤتمرات الدولية، من مؤتمر الأدب الإفريقي لنادي القلم الدولي 2010، إلى مهرجان طنطا الدولي للشعر، وصولاً إلى خيمة علي بن غذاهم في تونس 2022، والملتقى الثقافي دورة الأمير عبد القادر في الجزائر 2023، سكرتيرة تحرير لمجلات وإصدارات ثقافية عديدة، من "عالم الكتاب" إلى "حكاية مصر"، لم تكن مجرد موظفة بين الأوراق، بل كانت حارسة للكلمة، وقائدة لقوافل المعرفة نحو فضاءات أوسع، تتوجت مسيرتها بتكريمات محلية ودولية، من الجزائر إلى تونس، من العراق إلى مصر، حيث وقفت على منصات التكريم في الهيئة العامة لقصور الثقافة مرات عديدة، وملتقى السينما الأوروبية، وعشرات الجمعيات الأهلية والمنتديات، ظهرت على شاشات فضائيات عربية عديدة، من تونس إلى الجزائر، من القنوات المصرية إلى قناة الحرة، حاملةً صوتها الشعري المختلف، وصورتها كامرأة لا تنتمي إلا للكلمة والحقيقة، هي أمينة عبدالله.. المرأة التي جعلت من حياتها نصاً مفتوحاً، ومن قصيدتها وطناً لا تحده حدود.

القصيدة كجسر متخيّل

لا يقتصر العنوان "جسر لا يتسع لشخصين" على كونه مجرد عتبة نصية، بل هو بيان شعري مكثف يعلن عن رؤية وجودية تتصدر تجربة الديوان، الجسر هنا ليس معبراً مادياً فحسب، بل هو استعارة للعلاقات الإنسانية، للتواصل، للحب، للهوة بين الذات والآخر، بين الريف والمدينة، بين التقاليد والتحرر، وهو جسر "لا يتسع لشخصين"، مما يخلق إحساساً فورياً بالضيق، بالاغتراب، وبالمشقة التي ترافق أي محاولة للالتقاء، هذه المفارقة البصرية والوجدانية – فالجسر مصمم للعبور والوصل، لكنه هنا يرفض الاثنين معاً – تضع القارئ في قلب المعضلة الوجودية للديوان منذ البداية.

المتلقي شاهداً على تشظي الذات

الملاحظة الجمالية الأولى التي يفرضها الديوان على متلقيه هي تفكيك الذات الأنثوية وتمزقها، فالقصائد لا تروي حكاية واحدة، بل تعرض شظايا هوية متعددة الأصوات، انظروا إلى قصيدة "أحب بنصفي الأكبر":

(أكره الصبا / الأوجه التي أعرفها ببيت الأب / ... / الآن / لا أعرف ذلك الشخص المدعو أنا)

هنا تتحول عملية القراءة إلى مراقبة لصراع داخلي، المتلقي لا يقرأ عن ذات متكاملة، بل يشهد على تشظّي "الأنا" إلى كيانات متصارعة: الريفية في مواجهة المدنية، التقليدية في مواجهة المتمردة، هذا التشظي يجبر القارئ على التخلي عن دور المتلقي السلطي، الذي يبحث عن رسالة واضحة، ليصبح شاهداً على عملية الانهيار والبحث عن معنى.

جماليات الهامش: صوت الريف في صلب المدينة

يصنع الديوان جماليته من هامشية مزدوجة: هامشية الريف في المدينة، وهامشية المرأة في مجتمع أبوي، في قصيدة "بيت أبي"، يتحول الأب من رمز للسلطة إلى كائن محاصر:

(أبي ككل أقرانه الريفيين / الطامعين في الخروج من الشقة المشتركة / إلى شقة مستأجرة... / منحنا لبس الفقراء الذي يضمن له عفة المظهر / هذه الحريات المقيدة"

هنا، يصبح التلقي عملية تفكيك للصورة النمطية، الأب ليس طاغية بسيطاً، بل هو ضحية لشروط اجتماعية واقتصادية، جمالية التلقي تكمن في اكتشاف هذا التعقيد، في رؤية "الحريات المقيدة" التي تمنحها السلطة الأبوية، والتي تسهم بدورها في "مسخ" الهوية، القارئ مدعو ليعبر الجسر الضيق ليفهم تناقضات الشخصية، لا ليحكم عليها.

الانزياح اللغوي وصدمة التلقي

يستخدم الديوان الانزياح اللغوي – بوعي أو بلا وعي – كأداة جمالية تخلق صدمة تلقية. الانزياح هنا ليس عيباً، بل هو تعبير عن عدم استقرار العالم الداخلي، انظروا إلى الاستعارة في "مهن يدوية":

(أتصالح تماما مع المهن البدنية / التي حافظت على سر الكتابة)

تحويل "اليد" إلى "مهن" (بدنية) هو تشبيه غير مألوف، المهن/البدنية تصبح فضاءً حميماً يحفظ أسرار الكتابة، هذا الانزياح يوقف القارئ، يربكه قليلاً، ويدفعه لإعادة تخيل العلاقة بين الجسد والإبداع، إنه يخلق جمالية خاصة تعتمد على المفاجأة وإعادة تشكيل الدلالات.

المتلقي كشريك في بناء المعنى: قصيدة "تلك جنتي" نموذجاً

تصل ذروة جماليات التلقي في الديوان عندما تتحول القصيدة إلى حوار مفتوح مع المتلقي ومع التراث، في قصيدة "تلك جنتي"، تقدم الشاعرة رؤية نقدية جريئة للجنة التقليدية:

(أكره الجنة / التي يقف على بابها ....  معلقا في مشكاتها ........ / أعشق النار كخلية نحل تشغي بكل المغردين خارج السرب"

هنا لا يقتصر دور المتلقي على استقبال الصورة، بل يشارك في تفكيك صورة مقدسة في الخيال الجمعي.. جمالية التلقي هنا تكمن في "المقاومة" التي تثيرها القصيدة.. إنها تدعو القارئ إلى تحدي الصور النمطية عن الثواب والعقاب، والتفكير فيما تكون للعلماء والشعراء "الراقصات وصانعي الأفلام"، القارئ يصبح شريكاً في هذا التمرّد الفكري والجمالي.

الجسد كفضاء للتلقي الوجداني

يتحول الجسد في الديوان إلى وسيط رئيسي للتلقي، القصائد مليئة بالإحالات الجسدية: "جسدي يستوعينا معا"، "أرفع بنطالي كثيراً وأحفظ حذائي"، "كفك يشبه في الأثر كف مريم"، هذه الصور تجعل التجربة الوجدانية ملموسة، المتلقي لا يفهم العلاقة فكرياً فحسب، بل يشعر بها جسدياً من خلال اللغة، جمالية التلقي هنا حسية في المقام الأول؛ إنها تعتمد على قدرة القارئ على تحويل الكلمات إلى أحاسيس ومشاعر متخيلة.

التلقي كعبور على جسر ضيق

"جسر لا يتسع لشخصين" هو ديوان يرفض التلقي السلبي، إنه يبني جماليته على مشاركة القارئ الفاعلة في تشكيل المعنى، على تفكيك الذات، وعلى تحدي الثوابت اللغوية والاجتماعية، المتلقي مدعو لعبور هذا الجسر الضيق مع الشاعرة، حاملاً معه تناقضاته هو نفسه، إنها رحلة وعرة، مليئة بالشظايا والانزياحات والصور الصادمة، لكنها في النهاية تخلق تجربة تلقي فريدة، حيث يصبح فهم النص مساوياً لفهم تناقضات الذات الإنسانية المعاصرة في شرق يبحث عن جسوره المفقودة.

***

رزق فرج رزق - ليبيا

في كلّ ولادةٍ حكايةٌ للوجود، وفي كلّ موتٍ بذرةُ حياةٍ تستيقظ من الرماد. من هذه المفارقة البديعة تولد رواية «فرصة ثانية» للكاتبة الفلسطينية صباح بشير، لتغزل من الألم نسيجًا إنسانيًا مشعًّا، يتأرجح بين النور والظلمة، بين بكاء المولود وصمت الراحلة. ليست الرواية مجرّد حكايةٍ عن امرأة تفارق الحياة لحظة إنجابها، بل هي تأمّل في سرّ الخلق واستمرارية الوجود، إذ ينهض الطفل «يحيى» كرمزٍ للبعث الأبديّ الذي يُقاوم الفناء ويعلن أن في داخل كلّ موتٍ حياةً أخرى تتفتّح.

تفتح الكاتبة نصّها على مشهدٍ نابض بالإنسانية، تصفه بواقعيةٍ مشوبةٍ بالشعر، فتُصغي للقلب وهو يرتجف، وللوجع وهو يصرخ باسم الحياة. هذا التمهيد لا يقدّم حدثًا عابرًا، بل يرسم الملحمة الصغرى للأمومة؛ فكلّ ألمٍ فيه هو طريقٌ نحو النور، وكلّ دمعةٍ امتدادٌ للرحمة الكامنة في طبيعة المرأة. لكنّ المعجزة لا تكتمل، إذ تتحوّل الولادة إلى لحظة فاجعة، فتغادر «فاتن» جسدها إلى سكونٍ أبديّ، تاركةً وراءها طفلًا يفتح عينيه على غيابها. عند هذه النقطة يتكثّف السؤال الوجوديّ الكبير: أيمكن أن تمنح الحياة نفسها عبر التضحية؟ وهل يُكتب للإنسان أن يولد من جرحٍ لا يندمل؟

العنوان «فرصة ثانية» يضيء الرواية من الداخل، إذ لا يشي فقط بإمكانية العودة إلى الحياة، بل يتجاوزها إلى فكرةٍ فلسفيةٍ عن التجدّد الإنسانيّ بعد الفقد. فكلّ شخصية في النصّ تُعطى فرصتها الثانية بطريقتها الخاصة: «مصطفى» الذي يتعلّم من الموت معنى البقاء، و«هدى» التي تكتشف أمومتها من رحم الحزن، و«الطفل يحيى» الذي يصبح رمزًا للمستقبل الموعود بعودة الضوء. الكاتبة تمارس فعل الخلق الأدبيّ بوعيٍ عميق، إذ تصوغ من الحكاية الفردية مرآةً للوجود الإنساني كلّه.

شخصيات الرواية تُكتب بالدمع لا بالحبر. فـ«فاتن» ليست امرأةً فحسب، بل قنديل أمومةٍ يضيء لحظة العتمة القصوى، حضورها يمتدّ بعد غيابها كأنّها طيف رحمةٍ يظلّ يرفّ على المكان. أما «مصطفى» فهو المكلوم الذي يجرّب معنى الانكسار، تتأرجح روحه بين الصبر واليأس، بين الذكرى والحلم، فيتحوّل إلى صورةٍ صافيةٍ للرجل الإنسان، لا للبطولة الذكورية التي اعتادها الأدب. و«هدى» التي تحتضن الطفل وتعيد ترتيب الفوضى، هي يد الحياة التي تُمسك بالحياة كي لا تسقط من جديد. هذه الشخصيات لا تتحرّك داخل أحداثٍ خارجيةٍ كثيرة، بل داخل مناخ نفسيّ عميق، حيث اللغة هي المسرح والوجدان هو الحركة.

لغة صباح بشير لغةٌ نقيّة، مشبعة بالعاطفة والخيال، تتقن الانتقال بين التوصيف الواقعيّ والانفعال الشعريّ. تصنع من المشهد الطبيّ لوحة إنسانية حافلة بالتفاصيل الدقيقة: «كانت تتصبّب عرقاً… ينهش الوجع جسدها… تتمسّك بيد زوجها وتبحث في عينيه عن النجاة».

الكاتبة تستثمر الإيقاع الداخلي للجملة، فتتقدّم اللغة مثل نبضٍ يتصاعد ثم يخفت. الصور المجازية تمتزج بالبساطة، وتحوّل الحدث الواقعيّ إلى تجربة رمزية: الولادة كمعراجٍ نحو الخلاص، والموت كعتبةٍ أولى لحياة أخرى.

لغة صباح بشير تملك طهر الماء وحرارة الدم في آنٍ واحد. تكتب بصدقٍ يجعل السرد يفيض بعاطفةٍ لا تنحدر إلى الابتذال، فتسكن الجملة نغمةٌ خافتة كأنها صلاة: «كان قلبه ينبض بجنون، كلّ نبضة تحمل معها جزءًا من قلقه وحبّه». في مثل هذه العبارات تتحوّل اللغة إلى مرآةٍ للروح، تُضيء الجرح من داخله بدل أن تشرحه. إنّها لغةٌ تمزج بين الواقعيّ والتأمّليّ، بين الدقّة في الوصف والرهافة في التعبير، وتستعير من الشعر مجازاته دون أن تفقد سلاسة النثر.

الزمان في الرواية يتدرّج من ظهيرة الولادة إلى ليل الحداد، في مسارٍ يشبه قوس الحياة نفسه، والمكان محدود – غرفة ولادة، بيت، مقبرة – لكنه يتّسع رمزيًا حتى يغدو كونًا صغيرًا تتجلّى فيه أسئلة الخلق والمصير. هذا التدرّج المكانيّ الزمانيّ يمنح الرواية عمقها الدراميّ الداخليّ، إذ لا شيء فيها يحدث خارج النفس، وكلّ شيء يتولّد من داخلها: الحزن، الحب، الصبر، وحتى الرجاء.

ولئن كانت الرواية في ظاهرها مأساة أُسريّة، فإنها في جوهرها رحلةُ وعيٍ وإنبعاث. فالفقد لا يُقدَّم بوصفه نهاية، بل كطريقٍ إلى إدراك قيمة الوجود. الكاتبة لا تمجّد الألم لذاته، بل تكشف عن الوجه الآخر له، وجه القوة التي تنبع من الهشاشة، والإيمان الذي يولد من اليأس. هكذا تكتب صباح بشير نصًّا يمجّد الأنوثة كقوة خلقٍ واستمرار، ويعيد تعريف البطولة في الأدب النسويّ المعاصر؛ فالبطولة هنا ليست في الصراع، بل في الصبر، لا في الانتصار، بل في القدرة على التحمّل والاحتضان.

وحين يسمّي مصطفى ابنه «يحيى»، تُختتم الرواية بما يشبه الوحي الرمزيّ، إذ تتقاطع الدلالات كلها عند هذا الاسم: الحياة، الخلاص، والبعث. الاسم لا يمنح الطفل هوية فحسب، بل يمنح العالم كله معنى الاستمرار، كأنّ الكاتبة تقول إنّ الإنسان لا يُهزم ما دام قادرًا على أن يُحبّ ويمنح فرصةً جديدةً للوجود.

في خاتمة هذا العمل، تتركنا صباح بشير أمام مرآةٍ نرى فيها وجوهنا المرهقة، ونسأل: كم مرة منحنا القدر فرصةً ثانيةً ولم ندركها؟ وكم من موتٍ مرّ بنا كان في حقيقته ولادةً مؤجلة؟

إنّ «فرصة ثانية» رواية تكتب الوجدان الإنسانيّ لا الحدث، وتستعيد من رحم الفقد معنى الحياة.

بأسلوبٍ يقطر صدقًا ودفئًا، وبجمالٍ لغويٍّ يشبه ندى الصباح على جرحٍ قديم، تقدّم صباح بشير عملًا يُذكّرنا بأنّ الأدب هو الفرصة الثانية للإنسان كي يفهم نفسه والعالم، وأنّ الجمال لا يُولد من اليسر، بل من المعاناة التي تُنبت الورد على أطراف المقابر.

في «فرصة ثانية»، تتقاطع مأساة الفرد مع فلسفة الوجود، وتتحوّل الكلمة إلى عزاءٍ نبيلٍ للإنسان في مواجهة فجيعته الكبرى.

إنّها رواية تتحدّث همساً وتبكي بصمت، تُعيد إلينا الإيمان بأنّ كلّ نهايةٍ تُخفي ولادةً، وأنّ الحزن – مهما أثقل الأرواح – يمكن أن يكون بذرة حياة جديدة.

بلغةٍ مشبعة بالشجن والضياء، تُثبت صباح بشير أنّ الأدب هو الفرصة الثانية للحياة بعد موتٍ صغيرٍ يمرّ بنا جميعاً.

وهكذا، تغلق الرواية صفحاتها كما يُغلق بابُ الكون على نبضةٍ أولى: كلّ موتٍ بداية، وكلّ نهايةٍ ولادة أخرى.

***

الناقد محمد رمضان الجبور - الأردن

قال (البحتري)(1):

غَــرائِبُ أَخلاقٍ هِــيَ الــرَّوضُ جـادَهُ

مُلِــثُّ العَزالَــى ذو رَبـابٍ وهَيْـدَبِ

*

فَكَــمْ عَجَّبَــتْ مِــن نــاظِرٍ مُتَأَمِّـلٍ

وكَــمْ حَيَّــرَتْ مِــن ســامِعٍ مُتَعَجِّـبِ!

*

وقَـد زادَهـا إِفـراطَ حُسـنٍ جِوارُهـا

لِأَخـلاقِ أَصــفارٍ مِــنَ المَجْــدِ خُيَّــبِ

فأوشكَ أن يهجو (الفتح بن خاقان) في سياق مدحه. فأنْ يقول إنَّ حُسن أخلاقه يزيد لأنَّه مجاورٌ لأصفارٍ من الأخلاق والمجد، إنَّما هو كقول الناس «الأعور في بلد العُميان مَلِك»! وما ذلك إلَّا لانشغال الشاعر بوحدة البيت، وعَشاه عن مراعاة وحدة النصِّ ونَظْمه الكُلِّي.

لكن أ هذا هو السَّبب الحقيقي، أم أنَّ الشاعر كان غافلًا عمَّا يقول أصلًا؟

يشكِّكنا الشاعر في ما قرَّرناه آنفًا؛ من حيث يؤكِّد معناه، مُصِرًّا عليه، بإتباع أبياته السابقة ببيته:

وحُســنُ دَرارِيِّ الكَــواكِبِ أَن تُــرَى

طَوالِـعَ فـي داجٍ مِـنَ اللَّيـلِ غَيهَـبِ

فإذن، هو يمدح ممدوحه بـأنه «أعور في بلد العُميان» بالفعل! وليس هذا، على كلِّ حال، بأشنع من وصف أستاذه (أبي تمَّام)(2) الممدوحَ بأنَّه طَوْع إرادته، فإذا أراد جعله (رِشاء دَلْو)، وإذا أراد كان (القَليب) نفسه:

فَــإِذا مــا أَرَدتُ، كُنـتَ رِشـاءً!

وإِذا مــا أَرَدتُ، كُنــتَ قَليبـا!

وأيُّ ممدوح يستسيغ أن يصوَّر في صورة (رِشاء «سطل») أو صورة (بئر)، ولو كان ذلك البئر (جُبَّ يوسف بن يعقوب)؟! على أنَّ الشاعر قد أرهص لهذا البيت ببيتٍ فكاهي، كأنما هو يَسْخَر فيه من نفسه بنفسه، قائلًا:

مُمطِرًا لي بِالجاهِ والمالِ لا أَلـ

ـقاكَ إِلَّا مُستَوهِبًا أو وَهُوبا

فالشاعر هكذا يعترف بأنَّه متسوِّلٌ رخيص، ولا يشبع، والممدوح لا شُغل له إلَّا محاولة ملء فيه، إمَّا من عنده، وإمَّا من عند غيره؛ ذلك أنَّه إنْ لم يجِد، تسوَّل له بدَوره، مستوهِبًا من الآخَرين! كيف لا، وهو (قَليب) تارةً، و(رِشاء قَليب) تارةً أخرى، كما نعته الشاعر؟! ولهذه المعركة بين الرِّشاء والقَليب، وتلك الشبكة من الوصوليَّات «أمسَى حبيبٌ حبيبًا»:

باسِطًا بِالنَّـدى سـَحائِبَ كَـفٍّ

بِنَــداها أَمسَـى حَـبيبٌ حَبيبـا

ولولا ذلك لأمسَى حبيبٌ أديبًا، حُرًّا عزيزًا، لا عبد الدِّينار والدِّرهم، كغيره من معاصريه!

وكم ذا بقصائد المديح العبَّاسية من اللقطات الكوميدية؟! وهذا موضوع أطروحة قائمة بذاتها.

ويلفتنا هذا إلى مفهوم (النَّظْم) بعمقه وشموله، كما حلَّله (عبد القاهر الجرجاني). ولقد كان يعرقل نظميَّة النصِّ- في وحدته الكلِّيَّة- التمسُّك الحديدي بوحدة البيت، والنظر إلى (التضمين) على أنَّه عيبٌ شِعري. ويعني التضمين هاهنا أن لا ينتهي المعنى بنهاية البيت، بل يرتبط بما بعده. ولهذا فإنَّ (أبا تمَّام)(3) لمَّا قال:

يَغـدو مُـؤَمِّلُهُ، إِذا مـا حَـطَّ فـي

أَكنــافِهِ رَحْـلَ المُكِـلِّ المُلْغِـبِ

*

سـَلِسَ اللُّبانَـةِ والرَّجـاءِ بِبابِـهِ

كَثـبَ المُـنَى مُمتَـدَّ ظِـلِّ المَطْلَبِ

وقفَ متلقُّو شِعره من الشُّرَّاح لينفوا عنه تهمة التضمين، والعياذ بالله! متكلِّفين القول: إنَّه إنَّما: «انتصب «رَحْلَ المُكِلِّ»  على الحال. و«حَطَّ في أكنافه» كلامٌ تامٌّ. ومعناه: نزل بفنائه. فيقول: راجي هذا الممدوح إذا حضرَ في جنابه يَغْدو وهو مَصَبٌّ للمسافر الذي كَلَّتْ راحلتُه ومَحطٌّ لِرَحْلِه؛ لأنه يُغنيه ويُعلِّمُه الكرم.» هكذا تكلَّف (المرزوقي)(4) إبراءً (لأبي تمَّام) من تهمة التضمين.

ولقد كان الشعراء العَرَب يضمِّنون في شِعرهم، وما كانوا يعدُّون ذلك عيبًا، وإنَّما قَعَّد هذا المقعِّدون بعد الإسلام، كما قعَّدوا أباطيل كثيرة. يقول الشاعر الجاهلي (جابر بن حُنَيٍّ التغلبي)(5)، مثلًا:

وقَـدْ زَعَمَـتْ بَهْـراءُ أَنَّ رِمـاحَـنا

رِماحُ نَصارَى لا تَخُوضُ إِلى الدَّمِ

*

فَـيَوْمَ الكُلابِ قَدْ أَزالَتْ رِماحُـنا

شُـرَحْـبِـيلَ إِذْ آلـَى أَلِـيَّـةَ مُقْسمِ

*

لَـيَـنْـتَـزِعَـنْ أَرْمَـاحَـنا فَـأَزالَــهُ

أَبُو حَنَشٍ عَنْ ظَهْرِ شَقَّاءَ صِلْدِمِ

بل لقد رصْدنا في بحثنا حول «شِعر النقَّاد»(6) ورود التضمين حتى في شِعر الشُّعراء النقَّاد أنفسهم، ممَّن قعَّدوا أنَّ التضمين معيبٌ في القصيدة العَرَبيَّة. وأكثر ما كان يؤدِّي بالشاعر إلى ربط الأبيات بعضها ببعض النسج القصصي في أسلوبه، من نحو قول (هدبة بن الخشرم)(7):

أَلا عَـلِّـلانِـي قَـبْـلَ نَــوْحِ النَّـوائِــحِ

وقَـبْلَ اطِّـلاعِ النَّـفْـسِ بَـيْنَ الجَوانِــحِ

*

وقَـبْلَ غَـدٍ، يـا لَـهْفَ نَفْـسِي عَلَى غَـدٍ،

إِذا راحَ أَصحـابـِي ولَـسـتُ بِـرَائِــحِ!

*

إِذا راحَ أَصحـابـِي بِفَـيْـضِ دُمُوعِـهِمْ

وغُـودِرْتُ فِي لَـحْدٍ عَلَـيَّ صَفـائِـحِي

*

يَـقُـولـونَ: هَلْ أَصلَحْـتُـمُ لِأَخِيكُـمُ؟

وما الرَّمْسُ في الأَرْضِ القِواءِ بِصالِحِ!

*

يَقُولُـونَ: لا تَبْعَـدْ! وهُمْ يَدْفِـنُونَـنِـي

ولَيْسَ مَكانُ البُعْـدِ إلَّا ضَـرائِـحِـي!

وإنْ حافظ الشاعر هاهنا على وحدة البيت، إلى حدٍّ ما، باستثناء البيتين الثاني والثالث.

ثمَّ وجدنا (ابن المستوفي)(8)- بعد أن دوَّنَّا تلك الملحوظة على بيتَي (أبي تمَّام)، وما تكلَّفه (المرزوقي) لنفي التضمين عنه- قد أدلى بتعليقٍ يوافق ما رأيناه. حيث قال: «معنى البيتين واضح، وهو أنه أراد: أنَّ مؤمِّله يغدو سلسَ اللُّبانة، إذا ما حَطَّ في أكنافه رَحْل المُكِلِّ الملغب. و[أمَّا] ما تأوَّله المرزوقي، فبعيدٌ جِدًّا...».

على أنَّ مِن شَرح الشِّعر في تراثنا ما يبدو إفسادًا للنصِّ، وإسفافًا في فهم معناه، وتقييدًا بليدًا لآفاق دلالاته الشِّعريَّة. خُذ مثالًا نموذجيًّا من شرح بيت (أبي تمَّام)(9):

إِنَّ الإِخــاءَ وِلادَةٌ، وأَنـا امـرُؤٌ

مِمَّن أُواخي حَيثُ مِلْتُ فأُنجِبُ

فماذا تفهم من هذا البيت؟

أمَّا أنا، فأفهم أنَّ الشاعر يقول: «إِنَّ الإِخاءَ وِلادَةٌ»، كما قال هو حرفيًّا. أي أنَّ علاقتك الأخويَّة الصادقة بإنسانٍ هي بمثابة ولادةٍ جديدة لك. ثمَّ قال: «وأَنـا امرُؤٌ مِمَّنْ أُواخي حَيثُ مِلْتُ فأُنجِبُ». وهذا كذلك ما قصده حرفيًّا. أي: أنَّه ممَّن حيث ذهبَ في أُخوَّته مع الناس، أنجبَ نفسه مولودًا جديدًا منهم، وأنجبهم من نفسه مواليد جُدُدًا كذلك. فظاهر النصِّ أبلغ وأشعر من ذلك الباطن الذي تكلَّفه بعض الشراح، محاولين التماسه، لاستنزال النصَّ من تحليق سماواته، إلى سوقيَّته وابتذاله العامِّي، الذي لا يُدرِك الشارحُ أرفع منه. وهذا ما سنتتبَّعه في المقال التالي.

***

أ. د. عبد الله بن أحمد الفَيفي

...........................

(1)  (1977)، ديوان البُحتري، تحقيق: حَسن كامل الصيرفي، (القاهرة: دار المعارف)، 1: 192/ 24- 26

(2)  (1987)، ديوان أبي تمَّام بشرح الخطيب التبريزي، تحقيق: محمَّد عبده عَزَّام، (القاهرة: دار المعارف)، 1: 171/ 51.

(3)  م.ن، 1: 101- 102/ 26- 27.

(4)  (1986)، شرح مشكلات ديوان أبي تمَّام، تحقيق: عبدالله الجربوع، (جُدَّة: دار المدني)، 161- 162.

(5)  الضَّبي، المفضَّل، (1979)، المفضَّليَّات، تحقيق: أحمد محمَّد شاكر؛ عبدالسَّلام محمَّد هارون، (القاهرة: دار المعارف)، 211- 212/ 22- 24.

(6)  يُنظَر: الفَيفي، عبدالله بن أحمد، (2011)، شِعر النُّـقَّاد: استقراءٌ وصفيٌّ للنموذج، (إربد- الأردن: عالم الكتب الحديث)،

(7)  (1986)، شِعر هدبة بن الخشرم، باعتناء: يحيى الجبوري، (الكويت: دار القلم)، 89.

(8)  (1989)، النِّظام في شرح شِعر المتنبِّي وأبي تمَّام، دراسة وتحقيق: خلف رشيد نعمان، (بغداد: وزارة الثقافة والإعلام)، 2: 123.

(9)  ديوانه، 1: 133/ 15.

يُعْتَبَرُ المُتَنَبِّي (303 هـ - 354 هـ / 915 م - 965 م) أعظمَ شُعَراءِ اللغةِ العربيةِ على الإطلاق. تَدُورُ مُعْظَمُ قَصائدِه حَوْلَ نَفْسِه ومَدْحِ المُلوكِ، وأفضلُ شِعْرِه في الحِكمةِ وَفَلسفةِ الحَياةِ وَوَصْفِ المَعاركِ والحُروبِ. لَمْ يَصِف الحَرْبَ كَحَدَثٍ دَمَوِيٍّ فَحَسْب، بَلْ جَعَلَها مِرْآةً للمَجدِ والبُطولةِ والكَرامةِ، وَصَوَّرَهَا بِعَيْنِ الفارسِ الذي يَرى في المَعركةِ مَيدانَ الاختبارِ والخُلودِ. وَرَغْمَ تَمجيدِه للحربِ، لَمْ يَكُنْ غافلًا عَنْ قَسوتها، فَهُوَ يُدْرِكُ آلامَها، لكنَّه يَرى فِيها قَدَرًا لا مَفَرَّ مِنْهُ لِمَنْ طَلَبَ العُلا، فالمَجدُ لا يُنالُ إلا بالتَّضحية، ولا يُصَانُ إلا بالقُوَّةِ.

والحَرْبُ في شِعْرِهِ لَيْسَتْ صِرَاعًا بَيْنَ الجُيوشِ فَحَسْب، بَلْ هِيَ أيضًا رَمْزٌ للحَياةِ التي لا تَسْتَحِقُّ أنْ تُعاش مِنْ غَيْرِ مَجْدٍ أوْ شجاعة، وَهِيَ التي تَكْشِفُ حَقيقةَ الرِّجالِ، وَتُظْهِرُ طَبيعةَ البَشَرِ، وتُميِّز الأبطالَ مِنَ الجُبَناءِ، فالشَّريفُ يَزداد شَرَفًا، والوَضِيعُ يَظْهَرُ جُبْنُه وخِيانته، وَهِيَ الطريقُ إلى المَجْدِ الذي لا يُنال بالرَّاحةِ أو التَمَنِّي، وَهِيَ امتحانُ الإرادةِ الإنسانيَّة. لذلك كانت الحربُ في نَظَرِه مِيزانًا أخلاقيًّا يَكْشِفُ مَعَادِنَ الناسِ.

حَوَّلَ ساحةَ المَعركةِ إلى لَوْحَةٍ حَيَّة، تَضِجُّ بالحركةِ والأصواتِ والألوانِ، فالسُّيوفُ عِندَه تَلْمَعُ كالبُروقِ، والخُيولُ تُزَمْجِرُ كالعواصفِ، والدِّماءُ تُزْهِرُ كالوَرْدِ في الرِّمالِ، والغُبارُ يَلُفُّ الأُفُقَ كالغَيْمِ المُشتعِل. إنَّه يَصِفُ المَشْهَدَ وَيُجسِّده، حَتَّى يَسْمَعَ القارئُ صَوْتَ الحَديدِ، وَيَرى لَمَعَانَ الدُّرُوع.

والبَطَلُ في شِعْرِهِ هُوَ مَزِيجٌ مِنَ الإنسانِ والأُسطورةِ، وَهُوَ يُقَاتِلُ لِيَنْتصر، وَيُقيم عَدْلًا، وَيَصْنع اسْمًا، وَيَتَحَدَّى الظُّروفَ. والبُطولةُ الحقيقيةُ هِيَ مُواجهةُ المَوْتِ بابتسامةِ الكِبْرياءِ، لذلكَ كثيرًا مَا يَرْبِطُ بَيْنَ الشَّجاعةِ والعِزَّةِ والعَقْلِ والدَّهَاء.

وَخَلْفَ أوصافِ الدِّمَاءِ والسُّيوفِ، تَكْمُنُ رُؤية فلسفية عميقة، فالحَرْبُ لَيْسَتْ عَبَثًا، بَلْ وسيلة لإثباتِ الذات، والنَّصْرُ الحقيقيُّ هُوَ نَصْرُ الرُّوحِ والإرادةِ، وَمَنْ لَمْ يُغَامِرْ، ماتَ صغيرًا، حتى لَوْ عاشَ طويلًا. وَهُوَ يَرى أنَّ المَجْدَ الحقيقيَّ لا يُنال إلا عَبْر الخطرِ والمُغامرةِ، خُصوصًا في مَيادينِ القِتالِ، فَمَنْ يَطْلُب السَّلامةَ يعيشُ بِلا أثَرٍ، أمَّا مَنْ يَخُوض الحربَ بِكَرامةٍ فَيُخَلَّد اسْمُهُ في التاريخ. والحربُ عِندَه وسيلة لتحقيقِ الخُلودِ الرَّمزيِّ، لا مُجرَّد نَصْر مادي.

نَظَرَ إلى الحَرْبِ عَلى أنَّها صُورة مُكثَّفة للصِّراعِ الدَّائمِ في الحَياةِ، بَيْنَ القُوَّةِ والضَّعْفِ، الطُّمُوح واليأس، المَجْد والدُّونِيَّة. وكُلُّ إنسان في فَلسفته مُحَارِبٌ، سَوَاءٌ في سَاحةِ القِتال، أوْ في مَعاركِ الحَياةِ اليَوْمِيَّة.

وَيُعْتَبَرُ هوميروس (القرن التاسع قبل المِيلاد) أعظمَ شاعر في الأدب اليونانيِّ القديم، وَهُوَ الشاعر المَنسوب إلَيْه تأليف مَلْحَمَتَي الإلياذة والأُودِيسَّة، اللَّتَيْن تُعْتَبَرَان مِنْ أهَمِّ الأعمالِ الأدبية في الحَضارةِ الغَربية. وعلى الرَّغْمِ مِنْ مَكانته الأدبية، فإنَّ تفاصيلَ حَياته الحقيقية غامضة.

قَدَّمَ وَصْفًا واقعيًّا وشاملًا للحربِ، بما في ذلك تفاصيل المَعاركِ والأسلحةِ، وَصَوَّرَ الحَرْبَ بطريقةٍ مَلْحَمِيَّة، تَجْمَعُ بَيْنَ البُطولةِ والمَأساةِ، مُركِّزًا على الأبطالِ وتَضحياتِهم، فَهِيَ المَيْدَان الذي يُخْتَبَر فيه الشَّرَفُ والبُطولة، وَهِيَ لَيْسَتْ صِراعًا دَمَوِيًّا فَحَسْب، بَلْ هِيَ أيضًا مَسْرَحٌ يُظْهِرُ فيهِ الأبطالُ قِيَمًا مِثْل: الشَّجَاعة والإقدام (كما في شخصية أَخِيل)، والوَلاء للوطنِ والرِّفَاقِ (كما في هيكتور المُدافِع عَنْ طُروادة)، والسَّعْي نَحْو المجدِ الخالد الذي يَتجاوز المَوْتَ.

وَرَغْمَ الطابَعِ البُطوليِّ، يُظْهِرُ فَظاعةَ الحَرْبِ، وَيَصِفُ الدِّمَاءَ والجِرَاحَ وَصَرَخَاتِ المَوْتِ بتفاصيل حَيَّة وَمُؤلِمة، وَيُبيِّن حُزْنَ الأُمَّهَاتِ والزَّوجاتِ، وَبُكَاءَ الأحِبَّةِ على القَتْلَى. فالحربُ تَجْلِبُ الدَّمَارَ للمُدُنِ والأُسَرِ، وتَتْرُك خَلْفَها الألَمَ، حَتَّى عِندَ المُنتصِرين. وهَكذا، تَبدو الحربُ عِندَه ضَروريةً لكنَّها مأساويَّة، فَهِيَ تُنْتِجُ البُطولةَ، لكنَّها أيضًا تَلْتهم الأبطالَ.

والحربُ لَيْسَتْ فَقَط صِرَاعًا بشريًّا، بَلْ أيضًا ساحة لِتَدَخُّلِ الآلهةِ والقَدَرِ، فالآلهةُ تَتَدَخَّلُ لدعمِ هَذا الطرفِ أوْ ذلك، مِمَّا يَجْعل مَصيرَ الحربِ قَدَرًا مَحتومًا أكثرَ مِنْهُ نَتيجة لاختياراتِ البشر. ومعَ ذلك، يَبْقى لِكُلِّ بطلٍ حُرِّية التَّصَرُّفِ ضِمْنَ حُدودِ هَذا القَدَرِ، مِمَّا يُضْفي بُعْدًا فلسفيًّا وَدِينيًّا وأُسطوريًّا على مَفهومِ الحربِ.

وَهُوَ يَتَمَيَّزُ بأُسلوبٍ تَصويري رائع، حَيْثُ يَسْتخدم التَّشبيهاتِ المَلْحَمِيَّة، فَيُشَبِّه المُقاتِلين بالعَواصفِ، أو الحَيَوَاناتِ المُفترِسة، وَيُدْخِل إيقاعًا شِعريًّا يَجْعل المَعاركَ كأنَّهَا لَوْحَات مُتحركة مَليئة بالحركةِ والضَّوْءِ والصَّوْتِ، وَيُصوِّرها بشكلٍ دَقيق ومُفصَّل، بَدْءًا مِنْ تَجهيزِ الجُيوشِ، والقِتالِ الفَرديِّ بَيْنَ الأبطالِ، وحتى سُقوط القتلى وَجُثَثِهم، والوصفُ يُعْطِي إحساسًا بالواقعيَّةِ والحُضُور.

والحربُ عِندَه لَيْسَتْ شَرًّا مُطْلَقًا ولا مَجْدًا خَالِصًا، بَلْ تَجْرِبَة إنسانيَّة كاملة تَجْمَع بَيْنَ العَظَمَةِ والرُّعْبِ، البُطولة والفَناء، المَجْد والحُزْن. وَهِيَ تَعْبيرٌ عَن طبيعةِ الإنسانِ نَفْسِه: عظيم في شجاعته، وضعيف أمامَ قَدَرِه. وهُناك قواعد ضِمْن الحَرْبِ تَتَعَلَّقُ بِمُعاملةِ الأسرى وكَرامةِ الخَصْمِ، مِثْل احترامِ الجُثَثِ، وَعَدَمِ السُّخرية مِنْها، مِمَّا يُشير إلى مَفهومٍ بِدائي للعدالةِ والإنسانيَّةِ في أوقاتِ الصِّراعِ.

وإذا كانَ المُتَنَبِّي يُركِّز عَلى الفردِ والبُطولةِ الشَّخصيةِ في الحربِ، معَ استخدام لُغَةٍ شِعرية مُركَّزة وَشَفَّافة، فإنَّ هوميروس يَضَعُ الحربَ في إطارِ سَرْدٍ مَلْحَمِيٍّ شاملٍ يَجْمَع بَيْنَ الأبطالِ، والآلهةِ، والمَآسِي الجَمَاعِيَّة.

***

إبراهيم أبو عواد / كاتب من الأردن

يمثل النص الشعري "عبثا تبحثين عنّي فيّ" للشاعر المغربي إدريس الواغيش عالماً شعرياً مفعماً بالتوتر النفسي والوجداني، حيث يمتزج الشعور بالغياب والفقدان بالذاتية الوجودية، ليعكس حالة من الاغتراب الداخلي والوحدة العميقة. إن هذه الشذرة الشعورية تتسم بالارتجال المعنوي داخل مساحات الذاكرة والخيال، بما يجعل النص صيدا خصبا للتحليل التأويلي والهرمينوطيقي، فضلاً عن القراءة الأسلوبية والرمزية، إذ أن النص يزخر بالتراكيب الغنية، والصور البصرية المكثفة، والرموز التي تستدعي البنية النفسية والدينية والاجتماعية للشاعر.

من المنظور الهيرمينوطيقي، يكمن التحدي في قراءة النص ليس فقط كما هو مكتوب، بل بما تحمله الكلمات من أبعاد نفسية واجتماعية وثقافية. فـ"عبثا تبحثين عنّي فيّ" ليست مجرد صيحة وجدانية للحب أو الافتقاد، بل هي استعارة لعمق العزلة، وسؤال عن الذات والوجود، وتجربة الإنسان في مواجهة الزمن والمكان والوحدة.

التحليل الأسلوبي:

يتسم النص بأسلوب شعري متماوج بين التأمل الداخلي والذاكرة الحية، مع اعتماد على الجمل الطويلة المتدفقة، والفواصل المتعددة التي تخلق إيقاعاً متذبذباً يعكس الاشتباك النفسي للشاعر. كما يتكرر الضمير المتحدث "أنا" و"أنت"، مما يؤكد على الصراع الداخلي بين الذات والرغبة في التواصل مع الآخر، في حين تظهر أدوات الاستفهام والنداء لتعميق الحوار الداخلي والتحليل الذاتي.

من الأمثلة البارزة:

"عبثا تبحثين عنّي فـيّ، لن تجدني بين دفاتري وأحلام قصائدي"

هنا، تأتي الصورة الأسلوبية متكاملة بين التكرار ("عبثا") والصورة الاستعارية للدفاتر والأوراق، لتجسد مفارقة الوجود بين الذات الحاضرة والغياب الرمزي.

- التحليل الرمزي:

يمتاز النص بتوظيف الرموز المرتبطة بـ:

١- الزمان والمكان: "صفرة أوراقي"، "سماء قريتي"، التي تمثل ملامح الذاكرة والهوية الوطنية.

٢- الجسد والرغبة: "شهوتي العذراء إليك"، "شفتا امرأة تستجدي قبلة"، ترمز إلى الصراع بين الجسد والروح، والانزياح بين الرغبة والعقاب الداخلي.

٣- الضوء والليل: "سكون الليل"، "قُرص قمر" كرموز للتنوير النفسي والحلم المراوغ، وللإشارة إلى المأساة الشخصية مقابل الأمل الخافت.

- البنية النفسية والدينية:

النص يعكس صراع الذات بين الرغبة والانضباط، بين الفعل والخطيئة، ويظهر الضمير الأخلاقي للشاعر في قوله:

"أعيش شتاتي خارج جسدي، أستيقظ على هدي الخطيئة"

حيث يُبرز النص إحساساً بالذنب والاعتراف الداخلي، وهو ما يمكن ربطه بالبعد الديني للضمير الذاتي والتوبة الرمزية، كما يعكس أيضاً حساسية الإنسان أمام الزمن والموت الوشيك:

"إن طال بي العمر إلى آخر الدهر، تقودني خطيئاتي خارج الأمس"

- التحليل السيميائي (تطبيق منهج غريماس):

بتطبيق منهج غريماس في السيميائيات الدرامية، يمكن تحديد الأدوار الأساسية داخل النص:

- الدور النص / الدلالة:

الفاعل الشاعر / الذات المتأملة

المفعول الآخر / المحبوب / الزمن / الخطيئة

المرسل الشاعر نفسه / الضمير الشعوري

المتلقي القارئ / الذات الداخلية / النص الداخلي

الغرض التعبير عن العزلة، الاشتياق، الخطيئة، والموت الرمزي

تُظهر التحليلات السيميائية أن النص شبكة من العلاقات المتشابكة بين الذات والآخر والزمان والمكان، حيث كل عنصر يؤثر ويتأثر بالآخر، مما يعكس انساقاً معرفية معقدة تتنقل بين الذاكرة والخيال والرغبة.

هنا نقدّم تحليلاً تفصيلياً، مع تفسير المفردات الرمزية، الأسلوب، الصور البلاغية، وربطها بالأبعاد النفسية والجمالية والدينية والحسية.

المقطع الأول، يقول:

"عبثا تبحثين عنّـي فـيّ،

لن تجدني بين دفاتري

وأحلام قصائدي

ولا وسط صفـرَة أوراقي

لا أدري كم طريقا مشيتُـه إليك

ولا كم زمنـًا عشتُه فيك"

- التحليل التفصيلي:

1. المفردات الرمزية:

"عبثا تبحثين عنّي فيّ": كلمة "عبثًا" ترمز إلى اليأس واللاجدوى، وتشير إلى استحالة الوصول إلى الذات الحقيقية أو الكشف عن غيابها.

"دفاتري وأحلام قصائدي": ترمز إلى الذاكرة، الفكر، والجانب الإبداعي للشاعر، أي مساحة الذات الداخلية التي يمكن للآخر أن يفتش فيها.

"صفرة أوراقي": الورق الأصفر هنا رمز للزمن المنقضي، والخسارة، والذكريات التي فقدت نضارتها، وكذلك الفقد الرمزي للفرص أو المشاعر.

"كم طريقا مشيتُه إليك" و"كم زمنًا عشتُه فيك": يرمزان إلى الإصرار على البحث عن الآخر والاشتباك النفسي مع الماضي، واستحالة قياس الزمن والجهد في العلاقات الإنسانية.

2. الأسلوب والصور البلاغية:

١- التكرار: "لا أدري كم…" يعكس الحيرة والاضطراب النفسي، ويؤكد عدم اليقين والضياع الداخلي.

٢- الاستعارة: دفاتر الشاعر وأوراقه تصبح استعارة للروح والماضي والذات الداخلية.

٣- التضاد الرمزي: بين البحث ("تبحثين") والفقدان ("لن تجدني")، مما يعكس الصراع بين الرغبة في القرب والغياب النفسي للذات.

3. الأبعاد النفسية والجمالية والدينية والحسية:

١- النفسية: المقطع يعكس حالة العزلة، الاغتراب الذاتي، والشعور باللامكان، والحنين المفقود.

٢- الجمالية: استخدام الصور الأدبية مثل "دفاتري" و"صفرة أوراقي" يضفي على النص ملمسًا شعوريًا ومرئيًا، يخلق جمالًا بصريًا ووجدانيًا معًا.

٣- الدينية: يمكن قراءة النص في بعده الرمزي باعتباره رحلة نحو الذات، وهو نوع من

٤- التأمل الأخلاقي: البحث عن الحقيقة الروحية في النفس قبل أن تُبحث خارجياً.

٥- الحسية: النص يلمس الحواس من خلال تصوير الأوراق والدفاتر، ويخلق شعورًا ملموسًا بالزمن الضائع والتجربة الشخصية.

المقطع الثاني، يقول:

"حين يعتريني سكون الليل

تغازلني شفتا امرأة تستجدي قبلة

يشدني قُـرص قمر في سماء قريتي

غرته حمُـْـرَته

والحمرة في استدارة وجنتيها

يلزمني سفر موغل في أدغال الروح"

التحليل التفصيلي:

1. المفردات الرمزية:

١- "سكون الليل": رمز للعزلة، التأمل، واللحظة الانعكاسية التي يواجه فيها الشاعر نفسه وأفكاره.

٢-؛"شفتا امرأة تستجدي قبلة": رمز للشهوة والرغبة الإنسانية، وربما لتجربة الغريزة الممزوجة بالحنين والذاكرة العاطفية.

٣-؛"قُـرص قمر في سماء قريتي": القمر رمز للرغبة في النور، الأمل، والحنين إلى الماضي أو الوطن. "سماء قريتي" يرمز إلى الانتماء والهوية الثقافية.

٤- "حمرة وجنتيها": الحمرة تمثل الجاذبية والغواية، وربما رمزية العاطفة المتقدة والفتنة.

٥- "سفر موغل في أدغال الروح": استعارة للتعمق في الذات، في مشاعر الشاعر، واكتشاف أعماق النفس البشرية المعقدة.

2. الأسلوب والصور البلاغية:

١- الاستعارة المكثفة: المقطع يغمر القارئ بصور حسية متعددة؛ القمر، الشفتان، الحمرة، كلها عناصر استعارة عاطفية وجنسية ورمزية.

٢- التمثيل العاطفي: تصوير الرغبة الجنسية والرغبة الروحية في نص واحد يخلق نوعًا من التضاد الجمالي بين الغريزة والروح.

٣- الإيقاع الداخلي: استخدام الجمل الطويلة المتداخلة يعكس التشتت النفسي والحركة الداخلية للذات.

3. الأبعاد النفسية والجمالية والدينية والحسية:

١- النفسية: النص يعكس صراعًا داخليًا بين الشهوة والروح، بين الذاكرة والهوية، ويصور التوتر النفسي الناتج عن هذا الصراع.

٢- الجمالية: المزج بين الصور الطبيعية (القمر) والصور الجسدية (الحمرة، الشفتان) يعطي النص كثافة حسية وعمقًا جماليًا.

٣- الدينية/الأخلاقية: يمكن قراءة النص كصراع ضمير مع الرغبة، أو اختبار للذات أمام الغواية، وهو بعد يعكس التأمل الأخلاقي والروحاني.

٤- الحسية: المقطع غني بالصور الحسية، ما يجعل القارئ يشعر بالعاطفة والجسد والفضاء المحيط، ويعيش تجربة الشاعر المزدوجة بين الرغبة الداخلية والوعي الذاتي.

هنا نستكمل التحليل التفصيلي لبقية المقاطع مع تطبيق منهج غريماس السيميائي وربط كل مقطع بالأدوار والانساق المعرفية، بحيث نحصل على دراسة نقدية شاملة للنص. سأقسّم النص إلى مقاطع رئيسية ثم أعطي لكل مقطع:

1. التحليل التفصيلي للمفردات الرمزية:

2. الأسلوب والصور البلاغية:

3. الأبعاد النفسية والجمالية والدينية والحسية:

4. خريطة سيميائية للأدوار وفق منهج غريماس؛

المقطع الثالث

"وأطوف بها متكئا على وحدتي،

حين يُـغالبني الشوق إليك

أعيش شتاتي خارج جسدي

أستيقظ على هَـدي الخطيئة

أتحسّس الحاضر والماضي

أتهيأ لمسافات قادمات إلي،

إن طال بي العمر إلى آخر الدهر

تقودني خطيئاتي خارج الأمس"

- التحليل التفصيلي:

1. المفردات الرمزية:

"متكئا على وحدتي": الوحدة هنا ليست مجرد غياب الآخر، بل رمز للتأمل الذاتي، والاعتماد على النفس في مواجهة التجربة العاطفية.

"الشوق إليك": الرغبة أو الفقدان للآخر، تمثل المحرك العاطفي للنص.

"أعيش شتاتي خارج جسدي": استعارة عن الغربة النفسية والانفصال عن الواقع، شعور بالانقسام الداخلي.

"هَـدي الخطيئة": الإحساس بالذنب أو التوبة الرمزية، وهو بعد ديني وأخلاقي.

"مسافات قادمات إلي" و"تقودني خطيئاتي خارج الأمس": استعارة للزمن النفسي، حيث الماضي والحاضر والمستقبل متشابكان في التجربة الشعورية للشاعر

2. الأسلوب والصور البلاغية:

استخدام التكرار والتوازي بين الحاضر والماضي والمستقبل يعطي النص إيقاعًا داخليًا يعكس تشظي النفس.

استعارة الجسد والروح (شتات خارج الجسد) تضفي بعدًا رمزياً فلسفيًا وجودياً.

المزج بين الزمن النفسي والزمن الكوني يعطي النص كثافة هيرمينوطيقية، حيث يصبح النص مرآة لوعي الذات المتشابك مع الزمن.

3. الأبعاد النفسية والجمالية والدينية والحسية:

١- النفسية: تصوير حالة الصراع الداخلي بين الرغبة والضمير، بين الشوق والخطيئة.

٢- الجمالية: استخدام الصور المتقاطعة بين الفعل والشعور، بين الداخل والخارج، يخلق جمالية مزدوجة.

٣- الدينية/الأخلاقية: ذكر الخطيئة يدل على ضمير أخلاقي وروحي، والاعتراف الداخلي بالنفس.

٤- الحسية: الكلمات مثل "متكئا" و"شتاتي خارج جسدي" تستحضر شعورًا ملموسًا بالوحدة والاغتراب.

4. خريطة سيميائية (منهج غريماس)

الدور النص / الدلالة:

الفاعل الشاعر/الذات المتأملة

المفعول الآخر/الشوق/الخيال/الخطيئة

المرسل الذات الداخلية/الضمير

المتلقي القارئ/الذات المستقبلية

الغرض التعبير عن الانقسام النفسي، مواجهة الماضي والحاضر، واستبطان الذات

المقطع الرابع:

"أحتمي بخطواتي الحمقى،

حين يلاحقني اليأس

يؤنسني صمتي في وحدتي

يضيع وجهي في زحمة الوُجوه

أحمل ما تبقى من أشلائي

ثم أعود على عجل مرة أخرى،

دون أن أدري إليّ...!!"

التحليل التفصيلي:

1. المفردات الرمزية

"خطواتي الحمقى": تمثل المحاولات الفاشلة في الحياة أو قرارات الذات المتسرعة.

"يلاحقني اليأس": رمز الصراع النفسي والاحباط المستمر، يرمز إلى الضغط الداخلي والقلق الوجودي.

"صمتي في وحدتي": الصمت كملاذ، والوحدة كمساحة للتأمل الداخلي وحفظ الذات.

"أشلائي": استعارة عن الذات المجزأة والمتضررة من التجارب الحياتية والمشاعر المكبوتة.

"أعود على عجل دون أن أدري إليّ": التعبير عن التيه الوجودي، عدم اليقين في الحياة، والبحث المستمر عن الذات أو المعنى

2. الأسلوب والصور البلاغية:

١- المفارقة: استخدام "خطواتي الحمقى" مقابل "يصمتي يؤنسني"، يظهر التناقض بين الفعل والانفعال، بين الفوضى والسكينة الداخلية.

٢- الاستعارة المكثفة: "أشلائي" و"زحمة الوجوه" تعكس الانقسام النفسي والضياع الاجتماعي.

٣- الإيقاع الداخلي: الجمل القصيرة المتتالية توحي بالتيه والعجلة، كما يخلق التكرار الشعوري إحساسًا بالدوامة الداخلية.

3. الأبعاد النفسية والجمالية والدينية والحسية:

١- النفسية: يعكس المقطع صراع الإنسان مع اليأس، الضياع، الشعور بالانكسار، والبحث عن الذات في مواجهة الحياة.

٢- الجمالية: النص يستخدم الصور المكثفة لخلق إحساس حسي وعاطفي بالاغتراب، مع بناء لغوي متقن يوازن بين الفقد والحركة.

٣- الدينية/الأخلاقية: هناك توجيه ضمني نحو الصبر والاعتراف بالضعف البشري، وربما الاستسلام الجزئي للقدر أو للتجربة الروحية.

٤- الحسية: يعكس النص إحساس الجسد المتعب والروح المنهكة، حيث يُخاطب القارئ عبر الصور الملموسة مثل "زحمة الوجوه" و"أشلائي".

4. خريطة سيميائية (منهج غريماس)

الدور النص / الدلالة:

الفاعل الذات/الشاعر المتأمل والمتيه

المفعول اليأس/الحياة/الوجوه/الأشلاء

المرسل الضمير الداخلي/الصمت/العاطفة

المتلقي الذات/القارئ/الآخر الغائب

الغرض التعبير عن الضياع النفسي، البحث عن الذات، مواجهة اليأس والوحدة

بهذا التحليل التفصيلي لأربعة مقاطع رئيسية، يمكننا رسم خريطة شاملة للنص تُظهر الانساق المعرفية والعاطفية:

١- هناك انساق زمنية: الماضي والحاضر والمستقبل متشابكة.

٢- هناك انساق نفسية: الوحدة، الاشتياق، الفقد، التيه، الخطيئة.

٣- هناك انساق حسية وجمالية: الصور البصرية (القمر، الحمرة، الأوراق)، والصور الجسدية (الشفتان، الأشلاء).

٤- وهناك انساق رمزية ودينية: الصراع الأخلاقي، الاعتراف بالخطيئة، البحث عن الذات، الانتماء الثقافي والوطن.

الخاتمة المبدئية:

يمكن القول إن نص "عبثا تبحثين عنّي فيّ" للشاعر إدريس الواغيش يمثل فضاء شعرياً مزدوج البعد: شخصي ووطني، وجداني وفلسفي. إنه تجربة وجدانية مركبة تكشف عن الصراع النفسي العميق للذات، وعن الانغماس في الذاكرة، والاحتكاك بالماضي، والخوف من المستقبل. ومن خلال المنهج الهيرمينوطيقي والتأويلي والأسلوبي والرمزي والسيميائي، يتضح أن النص لا يروي مجرد قصة عن الحب أو الفقد، بل يقدم مرآة للذات البشرية في مواجهتها الزمنية والوجودية، ويعكس بعداً أخلاقياً ودينياً يتماهى مع الحس الوطني والثقافي للشاعر.

***

بقلم: عماد خالد رحمة - برلين

.....................

عبثا تبحثين عنّي فيّ

للشاعر المغربي إدريس الواغيش

عبثا تبحثين عنّـي فـيّ،

لن تجدني بين دفاتري

وأحلام قصائدي

ولا وسط صفـرَة أوراقي

لا أدري كم طريقا مشيتُـه إليك

ولا كم زمنـًا عشتُه فيك

وحين عدت متعبا إلي

وجدتك سرابا طاردتُه

كانت مجرد أوهام طفولتي

عصفت بي شهـوَتي العذراء إليك

والآن، لا أعرف كم سأحيى

إذ تسابقني خطوات الكهولة،

حين يعتريني سكون الليل

تغازلني شفتا امرأة تستجدي قبلة

يشدني قُـرص قمر في سماء قريتي

غرته حمُـْـرَته

والحمرة في استدارة وجنتيها

يلزمني سفـر موغل في أدغال الروح

تطوف بي مسالك الحياة،

وأطوف بها متكئا على وحدتي،

حين يُـغالبني الشوق إليك

أعيش شتاتي خارج جسدي

أستيقظ على هَـدي الخطيئة

أتحسّس الحاضر والماضي

أتهيأ لمسافات قادمات إلي،

إن طال بي العمر إلى آخر الدهر

تقودني خطيئاتي خارج الأمس

أحتمي بخطواتي الحمقى،

حين يلاحقني اليأس

يؤنسني صمتي في وحدتي

يضيع وجهي في زحمة الوُجوه

أحمل ما تبقى من أشلائي

ثم أعود على عجل مرة أخرى،

دون أن أدري إليّ...!!

***

من ديوان: عزلة تقاسمني صبري

العشق بوصفه صلاة متألمة

تسعى هذه الدراسة إلى قراءة قصيدة "عشقٌ معذَّب: أنتَ المعبود وأنا الصلاة" للشاعرة سرية العثمان قراءة نقدية تستند إلى المنهج التحليلي الصوفي ضمن مقاربة لغوية رمزية تبرز تحولات الخطاب العشقي من التجربة البشرية إلى التجلي الروحي.

وتقوم هذه القراءة على تفعيل أدوات المنهج التحليلي الصوفي الذي يدرس النصوص بوصفها تمظهرات رمزية لتجربة الاتحاد متقاطعاً مع مقاربة تحليل الخطاب التي تشتغل على اللغة كنسق دلالي مولد للمعنى الروحي.

ينطلق النص من علاقة ثنائية بين المعبود/المتعبد، إلا أنه يتجاوز الثنائية ليؤسس خطاباً وحدوياً تتماهى فيه الذات بالمطلق عبر بنية لغوية متوترة مشحونة بعناصر الألم والفناء، حيث يتحول الوجع إلى شرط معرفي للاتحاد و يتداخل المقدس بالجسد ليصبح "العشق" نفسه ممارسة صلاتية وجودية.

تطرح هنا الفرضية الآتية:

إنّ قصيدة "عشقٌ معذَّب" تعيد إنتاج خطاب العشق الصوفي ضمن بنية شعرية حرة معاصرة تجعل الألم وسيلة لتجسيد مفهوم الفناء في المحبوب وتحيل اللغة إلى طقس عبادي يتحقق فيه حضور الإله عبر انكسار الذات.

القصيدة تبني "مذهب ألماني" للصلاة: فالألم ليس عائقاً عن اللقاء بل شرط لانسلاخ الذات والارتقاء إلى حالة اتحادية صوفية. النص يعيد تدوير صور التصوف التقليدية في إطار لسان معاصر حر يمزج الجسد بالدعاء لتقديم تجربة صوفية تقرب العشق من الطقوس اليومية (الدم، الملح، الدموع).

الإطار النظري

يستند التحليل إلى مفاهيم أساسية في التصوف الإسلامي أبرزها:

الفناء والبقاء كما عند ابن عربي و الحلاج: حيث يذوب العاشق في المحبوب حتى تمحي الأنا في الأنت.

وكما يذهب ابن عربي في الفتوحات المكية إلى أن الفناء هو اكتمال العشق حين تذوب الذات في الآخر المطلق، فإن هذا الذوبان يتحول في النص إلى فعل لغوي يعبر عن وحدة العابد و المعبود داخل تجربة الوجدان الشعري.

الجرح كرمز للمعرفة: الألم شرط الإدراك كما في قول الرومي: "إنّ الجرح هو الموضع الذي يدخل منه النور".

ويؤكد الرومي في المثنوي أنّ الجرح موضع النور والمعرفة، إذ يصبح الألم أداة كشف روحي تفتح الوعي على المطلق، وهو ما تجسده القصيدة حين تجعل الوجع وسيلة حضور للمعبود.

اللغة الطقسية: الدعاء والمناجاة والنداء بوصفها أشكالاً لغوية لإقامة الصلة مع الغيب. تتحول اللغة في التجربة الصوفية إلى معراج للروح وأداة للفناء في المعنى.

التحليل النصي:

العنوان والدلالة الميتافيزيقية

يؤسس العنوان "أنْتَ المَعْبود وأَنا الصَلاة" لمعادلة معرفية عميقة: فالمتكلم لا يصف ذاته بالمحب أو العابد فقط، بل يجعل من كيانه فعل عبادة خالص، حيث تغدو الصلاة ذاتها تجسداً وجودياً للعشق.

هذه الصيغة تكشف عن وعي صوفي يقارب الفكر الحلاجي مع فارق أن الشاعرة تحافظ على المسافة الشعورية بين الانمحاء والالتماس، أي بين الفناء والرغبة في البقاء بظل المحبوب.

الجسد بوصفه معبراً نحو المطلق

تعمل الشاعرة على تشكيل معجم روحي جسدي يمزج بين ماديات الألم ورموز الطهر ويتضح ذلك في قولها:

"يَذُوبُ حُبُّكَ مِلْحًا فِي دَمِي،

فَلَا أُمَيِّزُ بَيْنَ مِلْحِكَ وَمَائِي،

وَلَا بَيْنَ دَمِي وَدُرُوبِكَ."

في هذا المقطع تتجلى استعارة الانصهار الجسدي بين العاشق و المعبود، حيث يمتزج "الملح"(رمز الحفظ والوجع) بـ"الدم" (رمز الحياة) لتغدو الذات موضع تأله جسدي.

التحام الملح بالماء يحيل إلى جدلية التطهير والألم: الحب يطهر كما يجرح.

وهكذا تعيد القصيدة الاعتبار للجسد بوصفه موضعاً للتجلي، حيث يتحقق العشق عبر الحضور الجسدي لا عبر محوه في التقاء بين الحسي والمقدس يذكر بما ذهب إليه ابن عربي حين رأى في الجمال المخلوق أثراً من جمال الخالق.

وإذا كان الجسد في القصيدة بشكل معبراً نحو المطلق ومجالاً لتجلي التجربة العرفانية في بعدها الحسي، فإن القصيدة تنتقل بعد ذلك إلى مستوى أعمق من التجربة هو الطقس الداخلي الذي يتجلى في الألم المسبح والمعرفة المتولدة من الوجع.

الطقس الداخليّ والوجع المسبح

تقول الشاعرة:

"أُغْمِضُ قَلْبِي عَلَى طَعْنَةٍ تُسَبِّحُ بِاسْمِكَ،

كَأَنَّكَ الرَّحْمَةُ،

وَكَأَنَّنِي الصَّلَاةُ الَّتِي لَا تَكْتَمِلُ إِلَّا بِوَجَعِكَ."

يتجلى هنا منطق الألم العرفانيّ: فالصلاة بوصفها فعلاً من الانضباط الروحي لا تكتمل إلا بالوجع، أي إن الألم يتحول إلى ركن من أركان العبادة.

يتخذ الجرح وظيفة معرفية ولغوية في آن معاً، إذ إن الطعنة تسبح باسم المعبود فيصبح الألم ذاته لساناً للتقديس.

بهذا تعيد الشاعرة صياغة مفهوم "الابتلاء" القرآني بلغة وجدانية تماثل ما يسميه الرومي العشق الإلهي الذي يطهر القلب من ظلاله.

إنّ العلاقة بين الجرح والمعرفة في النصّ تحيل إلى ما تصفه آنماري شمل ( Annemarie Schimmel) بـ" نار التحول الصوفي"، حيث يصبح الألم وسيلة تطهير وارتقاء.

ولئن كانت الشاعرة تكتب جرحها بلغة مفعمة بالجسد، فإنها تلتقي هنا مع عبد الكبير الخطيبي الذي يرى أن "الكتابة لا تكون أصيلة إلا حين تكتب الجسد بجرحه"، إذ تتحول الكلمة إلى جسد متعبد في اللغة.

ومن منظور نقدي حديث، يمكن القول إن النص يجسد ما وصفه رولان بارت بـ"لذة النص"، أي تداخل اللذة والألم في التجربة اللغوية، حيث تتحد العبادة بالحب لتنتج صلاة جسدية تذوب في المطلق.

جدلية الهروب والسعي

تقول الشاعرة:

"لَمْ أَعُدْ أَهْرُبُ مِنْكَ،

بَلْ صِرْتُ أَسْعَى إِلَيْكَ

كَمَا يَسْعَى الظَّمْآنُ إِلَى النَّبْعِ،

عَارِفًا أَنَّهُ خُدْعَةٌ،

وَلَكِنَّهُ الخُدْعَةُ الوَحِيدَةُ الَّتِي تُشْبِهُ الخلودَ."

في هذا المقطع يبرز التحول من موقف الرفض إلى مقام التسليم.

الظمأ والخداع والخلود مفردات تنتمي إلى المعجم الصوفيّ للامتحان والمعرفة.

فالمحب "يعرف أنّها خدعة " لكنه يختارها لأنها تفضي إلى الخلود الرمزي، أي إلى الفناء في المطلق.

إنها خدعة العشق التي تحدث عنها النفري في قوله: "أوقفني في العشق وقال لي: هذا موت لا موت بعده ".

وإذا كان هذا المقطع يعبر عن حركة العاشق في بعدها الخارجي، أي انتقاله من الهروب إلى السعي، فإن القصيدة تنتقل بعد ذلك إلى البعد الداخلي لهذه الرحلة، حيث يصبح النداء والمناجاة شكلاً من أشكال السعي الروحي الذي يتجاوز الجسد ليبلغ مقام الرجاء الصوفي.

التوسل الندائي والرجاء الصوفي

ورد في النص:

"يَا سَاكِنًا فِي صَمْتِ أَوْرِدَتِي،

أَمَا آنَ لِجَلالِكَ أَنْ تَسْتَجِيبَ لِمُنَاجَاتِي؟"

يستعيد النص هنا لغة الدعاء القرآني في صيغتها الندائية لتتجلى العلاقة بين الداخل الجسدي ("أوردتي") والقداسة العليا ("جلالك").

الجمع بين "الصمت" و"الأوردة" ينتج مجازاً عميقاً للحضور الإلهي في الدم. الإله يسكن مجرى الحياة، لكن صمته يؤكد المسافة المستمرة بين العاشق والمحبوب.

هكذا تعيد الشاعرة رسم التجربة الصوفية في قالب لغوي مؤنث يجعل المناجاة امتداداً لنبض الجسد نفسه، حيث يتحول الخطاب من السعي إلى الاستغاثة ومن الحركة نحو الخارج إلى انفتاح الداخل على نداء الغيب.

وإذا كانت المناجاة في المقطع السابق تمثل ذروة الانفعال الصوفي حيث يتجلى النداء بوصفه وسيلة اتصال بين العاشق و المعبود، فإن النص لا يكتفي بهذا المقام، بل يتجاوزه إلى مرحلة أعمق هي مرحلة الفناء. فبعد أن يرهق النداء اللغة بجهد الرجاء تتجه الذات نحو الصمت المتعالي حيث لا يبقى للقول سوى أن يذوب في المحبوب. هنا تتحول التجربة من خطاب الدعاء إلى تجربة الذوبان ومن نداء الحضور إلى سؤال العدم الذي يؤسس لما يمكن تسميته "الفناء الاختياري ".

خاتمة النص: نحو فناء اختياري

ورد في النص:

"ذُبْتُ بِكَ...

فَهَلْ لِرُوحِي أَنْ تَفْنَى بِجَلاَلِكَ؟"

ينتهي الخطاب الشعري بسؤال مفتوح يعبر عن تعليق الفناء، أي رغبة غير مكتملة في الاتحاد.

إن فعل الذوبان ("ذُبتُ بك") يعلن الوصول إلى العتبة، بينما السؤال الختامي يعيد الذات إلى دائرة التوق.

بهذا تحافظ القصيدة على دينامية الصعود الصوفيّ المفتوح فلا تبلغ النهاية، بل تستبقي المسافة كشرط لاستمرار العشق.

وبالتالي نجد أن قصيدة "عشقٌ معذَّب" تكشف عن خطاب صوفي معاصر يتأسس على جدلية العبادة والألم، حيث تتحول اللغة إلى طقس تعبدي والجسد إلى فضاء لتجلي المعنى والوجع إلى وسيلة للمعرفة الروحية. ومن خلال هذا التداخل بين الجسد و المقدس تبلور الشاعرة رؤية صوفية حداثية تعيد صياغة مفهوم الصلاة بوصفها حالة عشق وجودي يتحد فيها الروحي بالمادي.

إنّ هذه القراءة تبرز أن سرية العثمان لا تكتب تصوفاً تقليدياً، بل تعيد إنتاج التجربة العرفانية في أفق أنثوي حديث يجعل الجسد وسيطاً بين الغيب واللغة، ويحول القصيدة إلى ممارسة لغوية للعبادة الجمالية، حيث يتحقق الفناء عبر الجمال لا عبر الزهد و يغدو الجرح موضع الجلال ومعبر الخلاص الشعري.

***

دراسة نقدية من إنجاز فاطمة عبد الله

..........................

عشقٌ معذَّب: (أنْتَ المَعْبود وأَنا الصَلاة)

يَذُوبُ حُبُّكَ

مِلْحاً فِي دَمِي،

فَلَا أُمَيِّزُ بَيْنَ مِلْحِكَ وَمَائِي،

وَلَا بَيْنَ دَمِي وَدُرُوبِكَ.

*

أَفْتَحُ يَدَيَّ عَلَى شَوْقٍ لَا يُرَى،

وَأُغْمِضُ قَلْبِي عَلَى طَعْنَةٍ تُسَبِّحُ بِاسْمِكَ.

كَأَنَّكَ الرَّحْمَةُ،

وَكَأَنَّنِي الصَّلَاةُ الَّتِي لَا تَكْتَمِلُ

إِلَّا بِوَجَعِكَ.

*

مُنْذُ أَنْ نَادَى الجُرْحُ بِاسْمِكَ،

وَكُلُّ خَلَايَايَ تُلَبِّي.

لَمْ أَعُدْ أَهْرُبُ مِنْكَ،

بَلْ صِرْتُ أَسْعَى إِلَيْكَ

كَمَا يَسْعَى الظَّمْآنُ إِلَى النَّبْعِ،

عَارِفًا أَنَّهُ خُدْعَةٌ،

وَلَكِنَّهُ الخُدْعَةُ الوَحِيدَةُ الَّتِي تُشْبِهُ الخلودَ.

*

يَا سَاكِنًا..

فِي صَمْتِ أَوْرِدَتِي،

أَمَا آنَ لِجلالك أَنْ تَسْتَجِيبَ لِمُنَاجَاتِي؟

أَمَا آنَ لَكَ أَنْ تُنقذ قَلْبي مِنْ لَحْنِه ؟

أمَا آنَ أنْ تَرْحَمَ صَحْوي وَجَفَائي؟

أمَا آنَ أنْ تَحْتَسِي صَفْوَ دُمُوعِي؟

فَأَذوبُ فيكَ!

فَكُلُّ لَيْلَةٍ أَنُوحُ،

وَكُلُّ فَجْرٍ أَنْكَفِئُ عَلَى جُرْحٍ

يُسَبِّحُ لَكَ.

*

لَيْسَ لِي دُعَاءٌ

إِلَّا أَنْ أَبْقَى بِكَ،

وَلَا نَجَاةَ

إِلَّا بِالتِّيهِ فِيكَ.

ذُبْتُ بِكَ...

فَهَلْ لِرُوحِي أَنْ تَفْنَى بِجَلاَلِكَ؟

***

سرية العثمان.

٢٠٢٥/١٠/١٦

جمالياً ودلالياً.. الشاعر موفق الحجار والفنانة بتول احمد نموذجا

بين الشعر والرسم شجون ورؤى، في كلّ منهما ينسج الفنّان أو الشاعر رؤيتهما وتجربتهما، الأوّل بالألوان والدوائر والأشكال، والثاني بالكلمات والصور.. فتتشابك وتتداخل هموم الشاعر والفنّان لتكشف لنا علائق جديدة وتصنع عالماً جديداً للصورة.

فالرسام يستعمل الريشة والألوان في تنفيذ مفردات اللوحة التشكيلية، في حين يستعمل الشاعر المفردات ويصوغها في قالب فنّي مؤثّر وفق نهجه ورؤيته الخاصة وعبر تقنية لغوية... كلاهما يتركان أثرهما في المتلقي سواء أكان مستخدماً المفردات والإيقاع أم عناصر فن الرسم.

 ان الخاصية التصويرية في الشعر تجعله قريبا للرسم، ومشابها له في بعد اساسي من ابعاد التشكيل والصياغة، والتأثير والتلقي فالاعتماد على التصوير والتشخيص والتشكيل ظاهرة مشتركة بين الشعر والرسم، ربما ذلك كان السبب الذي اتكأ عليه الفيلسوف اليوناني سيمونيدس” (ت 465 ق. م) كي يقول:

(الشعر رسم ناطق، والرسم شعر صامت) في إشارته إلى علاقة فنية جوهرية بين الشعر والرسم، وان اختلفا في المادة التي يصاغ منها، وبنفس الصيغة يقول ليوناردو: "الرسم شعر صامت، والشعر رسم أعمى".

يعتبر النص الشعري من الوسائل التي مكنت الشاعر السوري المقيم في ملبورن موفق الحجار (في مجموعته الشعرية - أنتروبية شعرية) من رسم مسار حياته، رغم أن الشاعر في مجموعته هذه حاول ومنذ العتبة الأولى (الغلاف) توظيف الصراع النفسي الحاد الذي لازمه مع المتغيرات التي حوله والذي يوحي بها من خلال الغموض المتمثل بحجب الرؤية عن عينيه كي لا يرى ما يجري من حوله كونه قد تشبع من رؤيا المظالم، وحماية صلعة رأسه بكف يده كي يحميها من شظايا القذائف، إلا أن قصائده كشفت عن شغفها الحسي عبر التأويلات التي اتسعت في الرؤيا عبر تقانات الشكل الى حيث تفجرت طاقته الابداعية عبر لعبة الوصف، والتلمّس، وعبر التصاق القصيدة وملفوظاتها بهاجس كل منا. تمثلات الشاعر ليست بعيدة عن رؤياه الشعرية كونها تتقمط هواجسه حيث بدت قصائد المجموعة وكأنها مرايا، تتسع لمرآى أناه المنطوية كونها حكايات مسكونة بتمثلات وجودية، وحيث ينامُ كلُّ العاشقينَ على وسائد شوقِهمْ، وتضجُّ أركانُ السريرِ على أحاديثِ الأرقْ أما هو فهو يلوح، للرفاقِ وللحَكايا، والطُرُقْ (قصيدته مشهد ليلي في كوالالمبور).

بالمقابل ركزت الفنانة بتول على اللون الأزرق الداكن لتشير الى عمقها الداخلي كي لا تستطيع العين المجردة رؤية ما تكتنفه في اعماقها، لذا تراهما قد حـشّدا عن طريق الحدس دلالاتهما بغية الكشف عن معاناتهما التي تجسد من خلال ذلك معانات شعبهما ليعطيا (لنصه / للوحتها) زخماً قوياً خدمةً لجماليته.

وهذا ما يقوله الشاعر في نصه (كلماتٌ غيرُ موجودةٍ في القاموس):

أبني غدي

أعلو على درجٍ من الخيباتِ

أختصرُ الصعودَ، بجملةٍ شعريةٍ،

أتعكزُ الماضي وتحملني الشجاعةُ

حينَ أسقطُ في الحنينِ

ولستُ أشكو.

النص ينطق من منطقة الجرح العميق لا من القاموس، حيث يلتقي الخوف والقلق بالحنين، والموت بالحياة، فهو يعاني انشطاراً داخلياً بين الواقع المدمّر والحلم المستحيل.

2042 nazarوبالمقابل تقف اللوحة الفنية للفنانة بتول بلونها الأزرق الداكن مع القليل من الاسود والابيض وهما في صراع دائم لاعتلاء الكرسي أو الهبوط في الفوهة. هي الأخرى تحاول أرسال أنويتها المحملة بآهات الشجون عبر ظلال يجسده التدرج بين الازرق الغامق (النيلي) والأزرق الفاتح من ذوات العلاقة الوطيدة بحياتها اليومية سواء في الداخل او في محطات المهاجر.

فاللون الأزرق بتدرجاته نحو الداكن وتزاوجه مع البنفسجي بتدرجاته أرادت به الرمز إلى مشاعر البرودة والعزلة والحزن لدى الإنسان، فضلاً عن الأبيض الذي يرمز إلى الصفاء، والهدوء، والأمل والى بصيص النور وتوليفه مع الاسود الذي يرمز الى العتمة في المسيرة. وكما في لوحاتها الأخرى تسيج الفنانة لوحتها بخطوط رفيعة قابلة للاختراق كاختراق الحدود.

 كلاهما (النص واللوحة) تتشظيان في اعماقنا وتنقلنا بتجربتهما (الشعرية / الفنية) الى مديات بعيدة مما يسمح لإنعكاسات صورهما الشعرية والفنية من ملامسة ودغدغة أحاسيسنا الداخلية بكلمات وجمل مموسقة أو خطوط وألوان للكشف عن الأنا الكلية والتي تعمل مجتمعة كي تنحو بالإبداع نحو التوازن في تجربتهما. لاسيما فيما يتعلق بتكوين الصورة في اللوحة المرسومة والقصيدة المكتوبة.

فانحازت قصائد الشاعر السوري موفق مثلما لوحات الفنانة بتول الى مايشبه الهاجس اليومي، حيث يحضر الآخر في أعمالهما بوصفه رمزا ويحضر اعمال (الشاعر / الفنانة) بوصفها إنعكاسا لتصرفات ندهما الآخر عبر سيل من الصور الجميلة التي تشبه لوحات رسم، كما في قصيدته (توليبُ الأربعاء):

تقولُ يا صديقَنا:

لا شمسَ في ديارِنا

وماؤكَ القليلْ،

لا ينفع الورودْ! ونحن آسفونَ أن نقولَ

متعبونْ!

وآسفونَ: زهرةُ التوليبِ

لا تعيشْ!

في غرفةٍ صغيرةٍ

ليست بها فتاةْ

فاذهبْ بغيرِ رجعةٍ

وعانقِ الحياة!

الشاعر اشتغل على دلالة الذات بوصفها الفضاء الحضوري فتتفجر طاقتها في عملها عبر لعبة الوصف، والتلمّس، (وماؤكَ القليلْ لا ينفع الورودْ، زهرةُ التوليبِ لا تعيشْ في غرفةٍ صغيرةٍ، فاذهبْ بغيرِ رجعةٍ،...) لأن التأويل يتولد وفق مشاعره الشخصية، ومن خياله الخاص. فتصبح اللغة مُولّدا للغموض، فينمو الخيال، و يصبح العالم مدهشا، والحياة اليومية مقلقة.

2043 nazarوهكذا في لوحة الفنانة بتول، حيث اشتغلت هي الأخرى على دلالة الذات بوصفها الفضاء الحضوري فتتفجر طاقتها في عملها هذا من خلال إمرأة تقمطت الخوف والرعب وهي تحاول بحذر تلمس فنجان قهوتها. لقد جاء التوهج نحو آفاقها الرحبة في لوحتها هذه من خلال التزاوج بين اللون الوردي الفاتح والقهوائي الممزوج بالوردي وتوليفهما مع الازرق ليدلّ على القوّة والإثارة، العاطفة والحبّ. ويرمز إلى الدم وحبّ المغامرة لتقول لنا إنها موجودة مع الإنسان لتكافح معه رغم كثافة كتلة السواد (شعر رأسها) المخيفة والدالة على عربية النشأة. حيث استطاعت من خلال لوحتها هذه بث أحاسيسها الوجدانية.

تثير الألوان المستخدمة في لوحاتها ودرجة ظلالها انفعالات متعددة توحي من خلالها الفنانة بتول بحجم الصراع الذي تبنته (كناية عن أمهات شعبها في المخيمات والأزقة).

أن القيمة الجمالية للألوان فى العمل الفنى كهذا، لا تنحصر فى مجرد الإحساس باللون منفصلاً، وإنما متداخلا ومتفاعلاً، من خلال توليفاتها ما بين إدراكها المحسوس وتأملها كقيمة معنوية تؤلف بين عناصر (نفسية وذهنية وبلاغية).

استخدامها الكثافة في كتلها اللونية من خلال ضربة فرشاتها التي تجعلها تلامس السطح بقوة لتعكس لنا ما تذهب إليه عند مواجهة السلبية في أمر ما أو واقع ما حيث لا بد من تدمير ذلك الواقع الموصوف من خلال استخدامها كتلاً لونية من أجل التعبير عن ثقل الأشياء وكتلتها لخلق واقعية جديدة.

تُعَدّ نصوص المجموعة الشعرية للشاعر نموذجاً شعريا للنصّ الشعريّ الذي يتجاوز حدود البوح الذاتي إلى أفق الواقع الحالي المحمل بالمعانات الانسانية انه عالماً شعرياً مكتملاً ينبض بصور جميلة تتفاعل من خلالهما الذاتي مع الكلي، حيث تتقاطع الرؤية وقدّسية الانسان في الجمال والخراب، العيش الكريم والرحيل في متاهات الحدود التي تفصل الدول، معتمدا على جمالية التلقي عبر حوارية عميقة بين النص والقارئ، تدفعه إلى أن يكون شريكاً فاعلاً في بناء الدلالة، لذا ليس لقصائده مكان، وكيف يكون هناك مكان وهو لا يملك وطن وكما يقول في قصيدته (الماء ذاكرة السماء / بلادٌ ليس نسكنها وتسكن في مواجعنا فكيف نحبُّ ذكراها، وذكراها ستؤلمنا؟).

 مثلما ليس للوحات زوجته بتول مكان في المدينة أو في الوطن بقدر ما هي تأمّل في مصير الكائن داخل العالم المعاصر؛ كقول الشاعر في قصيدته (آسيا):

في بابِ بيتي،

دفترٌ للذكرياتْ،

في المطبخِ المدفونِ تحتَ غُبارِنا،

عفنٌ بحجم فراقنا.

في الجوِّ يعصفُ،

بعد كل قذيفةٍ،

صمتٌ يفوق ضجيجنا

وأمام كلِّ الغائبين،

تَرَيْنَ شوقَ الأمهاتْ.

وفي لوحتها هذه لم يبقى للانسان الا هيكله العظمي بسبب حصر رأسها بين قضبان السجون كاشارة الى كبت الحرية في أوطاننا، فأبيدت الانسانية. لذا تراها قد غلفتها بالاسود في إضفاء روحها وما تكنه نفسها لإعطاء المضمون الفني روعته في اللوحة، وذلك لما للون من قيمة رمزية معبرة عند الفنانة؛ فنشأ في لوحتها هذه ثنائية (الضوء/ الظلمة)، فتأثر المكان والذات المدركة بطبيعة اللون.

2044 nazarفكما الكلمات لدى الشاعر هي عظيمة الأهمية، هكذا هو اللون بالنسبة للفنانة فالذوق الأدبي أو الفني يُستدَلّ مما يشيعه (النص/ اللوحة) من دلالات وصور وايحاءات في الفضاء الشعري والفني حيث تتقاطع التجربة الوجودية والروحية ضمن رؤية رمزية عالية الكثافة، تُعيد صياغة علاقة الإنسان بالكون والذات والآخر والقداسة. كلاهما يسعيان إلى إعادة اكتشاف العلاقة بين الصورة والعالم، بين الذات والآخر، بين الجمال والألم، عبر (لغةٍ / لون) مشحونةٍ بالاحساس والقلق، تنبض بوعيٍ لقراءة الآتي، كلاهما يرسمان الإنسان الذي ضلّ طريقه بين حدود الدول عبر رموز حبلى بلغة تتوهج بين السردي والتأملي أو ألوان كثيفة والصورة، ومن افرازاتهما نتج إيقاعاً هارمونيّاً يوازي التوتر الداخلي لكل منهما، كلاهما يجسدان الخراب فتحيلان القبح إلى لوحة غامضة كغموض المستقبل متكئان على جمالية التناقض والتشظي لاكتشاف الذات.

يقول الشاعر في قصيدته (الثالثُ عشر من آب):

كم كنتُ أعرفُ أنَّ شيئاً داخلي

حتماً يموتْ

لا لستُ أذكرُ..

كنتُ أكتبُ،

كانَ أهلي نائمين،

وأخي يُتمُّ بناءَ مشروعٍ

لإعمار البلادْ.

وأنا أتمُّ قصيدتي،

سقطت هناك قذيفةٌ

سقطتْ بلادي إثرها

ثم انحنى شجرُ الطريق

2045 nazarهذه القصيدة تُحيلنا الى المدينة التي كانت في السابق مكاناً ووطناً ولم يبقى لي منها إلا ذاكرتها وحكاياتها، والى صوت القذائف التي كانت تمطر على المدينة، فولدت لديه الخوف والبحث عن أشلاء حلم العائلة، بوصفه الشاهد الوحيد على مايتبدى من صور الحضور على ما يصطخب بها صوت القذائف من قلق وجودي، وبكل ما ينعكس من خلالها على ملامح الأشياء المُهددة بالمحو. وهذا ما جسدته لوحة الفنانة لصورة خيال إمرأة أو رجل بحجم الوطن متقمطة الأزرق الداكن مع بقعة بنية وخطوط صفراء كدلالة لمساحة الحدود الواجب التحرك من خلالها أو تزاوجها بسبب الظروف التي جعلتنا ننزوي في داخلنا. فالأزرق الذي يملأ المساحة توحي به للاستقرار والنجاح والهدوء ولكن المصير هو على عكس ذلك لذا جاءت الصورة بالازرق الداكن مع بقع من البني المائل الى لون الدم والاصفر كل هذا لتوحي لنا إلى قوة الإصرار للبقاء والعيش.

تبدو معالم أثر ضربة الفرشاة واضحة في السحب والتركيد في العديد من لوحاتها، ما يعكس قوة الصراع مع الآخر لتسرح بها بصيرة المتذوق؛ فهي تجيد اِستخدام الألوان الداكنة كالازرق الغامق والبني الذي يميل الى الاحمر لتثري نسيج اللوحة وتغني عمقها.

تبدأ جماليات التلقي عبر الصورة التي التقطها الشاعر بالتوازي مع تلك التي جسدتها الفنانة كي يخلقا فضاءً من الحركة الناتجة من الصراع بين الذات في مواجهة الرياح العاصفة. كلاهما يرسمان مشهد الكائن المعاصر في غربةٍ كونية، على رصيف العمر، أي على هامش الزمن، وضياع المقدّس كقول الشاعر في قصيدته (سيزيفُ المعاصر):

ونحن واهمونْ

نسير واثقينَ للتحررِ الكبيرْ

نناهض التمييزْ

نناصرُ النساءْ

نحبُّ من يحبُّنا

ونكرهُ الرياءْ

لا فرقَ في ألوانِنا

 فكلُّنا سواءْ

سويةً نضيعْ

بفكرةِ القطيعْ

وهذا ما جسدته الفنانة بلوحتها من خلال تجسيد صورة إمرأة تقمطت لتأخذ صورة كورسياً بسبب نظرة مجتمعنا الشرقي الضيقة الى المرأة بدلا من أن تكون مصباحا يرشدنا، لذا تراها قد استسلمت للواقع وتقمطت مع طبلة سوداء لتكون كورسيا رغم أن في رأسها ما يكفي لينير الطريق أو لربما لتقول لنا باب بيتنا مغلق فلا مجال لاستقبال الأحبة.

الفنانة استخدمت اللون الازرق بتدرجاته وخطاً أصفر يرشدنا الى حيث الرأس الحامل مشعل النور.

2046 nazarالفنانة تمارس خبرتها الحسية والجمالية في لوحتها من خلال تداخلات نفسية وذهنية، فاللون فى لوحتها له قوته التعبيرية، وبوسعه أن ينقل معانى الرقة والتألق والابتهاج.  رسمها للمرأة فى لوحتها هذه بجسد هامد ومساحة لونية مصمتة يعكس المكان الذى ينأى عن تعقيدات حياة الانسان المعاصر. تجربتها الفنية التي عكست لنا رموز الألوان المستخدمة ودلالاتها وتعاملها مع اللون، تجدها دائماً تتمركز عند اللون الازرق. هذا اللون هو الذي يكشف لنا عن طبيعة الفنّانة وشجونها ورؤاها، كونه يعبّر عن جميع النواحي الجمالية عن طريق التوافق وفق قانون جماليّ من الصعب تحديده ولكنه مختمر في بصيرة الفنّانة لتعبر عن عالمها الخاص وعن أحاسيسها التى أيقظتها الألوان.

الإبداع الشعري أو الفني التشكيلي يمرّ من خلال الخيال، واستكشاف الواقع وتحويله، وهذا يعني للمبدع اكتشافَ العالم، وامتلاك العالم، وفي نفس الوقت اكتشافَ الذات والآخرين كقول الشاعر في قصيدته (مطر المعاني):

أفتحُ البرّادَ،

أشربُ رشفةً من حزنِ أمّي،

ثم أدخلُ غرفتي

وأنامُ تحتَ "التختِ" أحلمُ كيفَ أنّي..

حينَ أكبرُ سوفَ أمضي

نحو أرضٍ

لا ينامُ الوردُ فيها في فساتينِ النساءِ

وليس فيها ياسمينْ

عبارة (رشفةً من حزنِ أمّي) بحالها تفضي بنا منذُ اللحظة الأولى إلى المزيد من الشّد النفسي للشكل المتحرك وهو في حالة الاستسلام وحيث تتحرك هذه الهواجس فجأة وتتحول إلى أشياء تتراءى بقدر التخيلات المتحفزة في أعماق الذات. فهو لا يصف فقط مأساة خارجية، بل أيضاً انكسارًاً داخلياً في الذات التي تعيش صدمة التهجير والاقتلاع.

2047 nazarوهذا ما تجسده لوحتها الفنية التشكيلية هذه وهي عبارة عن مساحة رسمهتا أو صورتها عواطفها وروحها وألوانها، وضمّنتها أفكاراً وأهدافاً لتحاكي المتذوّق، فهي في النهاية عمل اِستخدمت فيه العقل والعاطفة معاً. فالفنانة تعاملت مع الألوان (الأزرق بتدرجاته) والبقع الصفراء الداكنة وعيدان الكبريت البيضاء يرؤوسها الحمراء لما لها من طاقة وزخم وشحنات وإيقاع سكبت في اللوحة رؤاها كي تبوح من خلالها رؤيتها التي تتلمس بحواراتها الاِضطراب فأفرزت لنا شخصية يكتنفها الغموض في مستقبلها؛ فتحولت إلى شبح. لذا تراها تشدد كثيراً على اللون الأزرق القاتم.

وختاما نقول:

الإبداع لديهما، سواء كان شعريا أو فنيا تشكيليا، فإنه يغرف مواده من الواقع والخيال يتألّف من صور وأحاسيس وتصوّرات له جذوره في الواقع ويمر بالضرورة عبر الحواس، وهو دائم الاشتغال والإدراك الحسّي للأعمال الشعرية أو الفنية التشكيلية لذا أنتج لنا قصائد / لوحات غنية بتأويلاتها وانعكاساتها.

كلاهما يجسدان بلغة تصويرية تنبثق من صميم القلب، لغةً ترنو وراء الحلم في الدروب المعتمة من أجل أن يطلقا شعلة الحرية.

كلاهما يستمدان قوتهما من الشعور بالحب ومن هموم الواقع؛ فيرسمان لنا عالماً جديداً.

كل هذا يكشف لنا عن فضاء اِشتغالاتهما الأدبية والفنية ورؤاهما التي تكونت لديهما من خلال انعكاسات الواقع عليهم، وردة فعل الذات المبدعة لديهم تجاه سطوة الآخر.

كلاهما يرسمان لنا صورة معبرة عن الأنا المكتظة والمثقلة بأحاسيس تضطرب من أجل الانفلات من سجنها لتكون حرة.

***

نزار حنا الديراني

مقدمة: ورد في البيان والتبيين لأبي عثمان الجاحظ ما يلي: (فنون القول في صناعة الشعر طويلة والعمر قصير) وهو يعني بذلك كثرةَ ممُكنات التّعامل مع اللغة في الشّعر واتّساع مجالات توظيفها إلى درجة أنّ العمر بحاله لا يكفي للإمام بها والإيتاء عليها.. بما يفضي إلى لا نهاية التجديد والابتكار فيها على مرّ الزّمن وبالتالي ما يولّد لا محدوديّة عيار التّقييم لمدى جودتها ودرجة مهارة أصحابها في سبك الخطاب الشّعري وحبكه..

بذلك يظلّ الشعر عموما وشعر عصر الحداثة وما بعدها مِن تجريب يقصر العمر عن خوض بحره وشقّ غمره كما يقصر عن الإلمام بجزئياته وكلّياته خاصّة في واقع عربيّ مأزوم شهد انفجارا في كلّ شيء بما في ذلك الكتابة على اختلاف اجناسها وخاصة الشّعريّة منها وبشكل خاصّ تلك المنسوبة إلى المرأة.. ورغم هذا السّيل غير المسبوق من الشعر النّسائي في تونس تحديدا استطاعت أحلام بن حورية ابنة حمام الغزاز وجارة البحر ان تحوز لنفسها مكانا لا بأس به في هذا الوسط الزّاخر بالأصوات النّسائيّة في تونس وفي البلاد العربيّة رغم أنّها تُعتَبر مُقِلّة من النّاحية الكمّية مقارنة بغيرها.. وذلك من خلال إصداريها: * مجادل * (2020) الذي رامت فيه البلوغ بالقصيدة إلى مرتبة تضاهي المجدليّة قدرا والمجدل سموقا.. و* ومضت * (2024) الذي رامت فيه البلوغ بالقصيدة إلى مرتبة النّورانيّة خاصّة وهي تضع له عنوانا هذه الجملة الفعليّة المبنيّة بلاغيّا على " جدليّة تجويع اللفظ وإشباع المعنى" فإذا بها حمّالة تأويلات في إسناد الفعل: " ومض" إلى المؤنّث مطلقا.. "ومض" هذا الفعل الذي يعني في العربيّة (لمع لمعانا سريعا ومبهرا يخطف البصر فيُدهِش المُبصِر.. وهو فعل البرق عنوان الخصب والخير والماء قوام الحياة.. وكذلك فعل السّيف عنوان حفظ الكرامة وشرف الحياة..)

(أ صاحِ ترى برقا أريك وميضه

كلمع اليدين في حَبيّ مكلّل - معلقة امرئ القيس)

فمن تكون أو ماذا تكون هذه الأنثى التي أسنِد إليها فعل الوميض؟؟ وهل ومضت في سياق الحقيقة ام في سياق المجاز الذي يحقق جماليّة العدول في العبارة الشّعرية؟؟

وماهي تجلّيات فعلها في قصائد المجموعة الأربع والخمسين؟؟

العنوان وأصداؤه في المتن ومنزلة ذلك في تكوين الرّؤيا الشعرية:

إذا افترضنا بداية انّ التي ومضت هي القصائد المؤسِّسة لرؤيا الشّاعرة في الكتابة عموما وفي هذه المرحلة من تجربتها خصوصا نتبيّنها اساسا في مستويات ثلاثة: الإهداء - قصائد البدء والعَود - خصوصيّة اللّغة اختياراتها وتوظيفاتها..

1 - وميض الإهداء بطابعه الصّوفي في الارتقاء بالفعل الإنساني الخلّاق تثمينا وإجلالا الي مراتب النّورانيّة من خلال رمزيّة اليد / الكفّ النّيّرة وما تعنيه من دلالات خاصّة في علاقتها بالإنجاز والإنبات تأصيلا وتجذيرا وخلقا (إليك وإلى كلّ مَن يسكب ضوءا في كفّه لِيُنبِت ذاته) ولعلّ الكتابة بهذا المعنى شكل من أشكال الإنبات النّيّر في مواجهة ظلمات القعود والخمول وتصحّر المعنى...

2 - وميض قصيدتي البدء والعود على بدء:

فالقصيدة الأولى (ص 13) تردّدت عبارة " الشمس" خمس مرات مع " القمر" و" الشعاع "... في مقاربة بين الذّات الشاعرة المؤنّثة وبين النّورانيّة (أنا امرأة... تنقش شامات على وجنات قصائدها... تقف في قلب الأعاصير لهبا كالشّمس...)

والقصيدة ما قبل الأخيرة (ص 96) حملت عنوان المجموعة وقامت أيضا على اتّسام الذّات بهذه السّمة النّورانيّة (ومضت... مثل شمس فركت وجنتيها) لتعلن قرار المُضيّ في عرك الحياة الانثويّة بنور الشّعر توّاقة نحو الأمثل (مضت... تناجي ربَّها ساجِدة.. تُعِدّ بروقا تُشِعّ على جانبَيها...) وهذا الأمثل الذي يمثّل نصّا (لم يُكتَب بعدُ) هو الذي استشرفته القصيدة الأخيرة (ص 98): " رصاصٌ" والتي وضعت للكتابة " النورانيّة " او بمعنى آخر ذات الوميض وظيفة المقاومة (ما لم تفعله الممحاة... بقلم الرّصاص... وما بقى من طلقات بقلم الرّصاص)

بذلك سيّجت الشّاعرة تجربتها في هذه المجموعة الشّعريّة بوميض أناها المرأة التي يطغى انسانها وشاعريتها على أنوثتها فتشرق بالوميض وبه تنجز وتبدع وتقاوم وتلاحق ظلمات آنفة بممكنات آتية وهي تدسّ خبايا المحاولة في تفاصيل القصائد التي توسّطت مجموعتها الشّعريّة متوسّلة بخطاب شعريّ خاصّ بها قوامه توظيفات للّغة خاصّة بها..

3 - وميض الاختيارات اللّغوية وطرق توظيف تيماتها ومرجعيّاتها وتَجويد صُوَرها دلالاتِها وذاك نجلوه في هذه النّزعة الاستعراضيّة في عودة الشّاعرة إلى أعلاق العربيّة المعتّقة في أشعار القُدامى والنّصّ القرآني تستميح منها معجمها المتين وتراكيبها ذات البلاغة الفائقة شأنها في ذلك شأن مجموعتها الأولى (مجادل). فنادرا ما نجد في الشّعر الحديث استعمالا للمعجم الحوشيّ من قبيل ما ورد مثلا في (قصيدة تونس ص 39:

تاؤها تفتّحت في قُرَيعائها

وأغلقت أثباجها.. ثمّ نادت في الدُّجَن

ابتسمي.. ستندمل الجراحُ

وتَينَع الغَيناء ثانية....)

(القريعاء: الأرض الخالية من النباتات الأثباج: وسط الشّى حين يتكتّل ويبرز الدّجن: الغَيم الكثيف الغَيناء: الشّجرة كثيفة الأغصان والأوراق). وعبارات أخرى كثيرة من هذا القبيل (النّيطل - غضاريف - حَوجلت - الخطوات الرّاقلة....)

ونادرا أيضا ما نجد في الشّعر الحديث إحياء لمثل هذه الاشتقاقات والصّيغ المستنبطة أو المستلهمة من لغة القدامى التي حفلت بها قصائد شاعرتنا بشكل استثنائيّ في مجموعتيها الشّعريتين كلتَيهما (ص 21: مُرَكمِجًا آماله / ص 22: مِرصافة الوقت / ص 25: شجّرتها واشتجرتها / ص67: الهذّاءة / ص 38: تلك ال " لماذا" التي " تُلملذ " فقاقيعها التّائهة / ص 95: أنا الشّامس...)

فكان في هذا الاستخدام لمعاجم وعبارات نادرة الاستعمال إخراج لها من مجاهل النّسيان لتظهر إلى النّور فتتجلّى وتومض في القصائد بما تُكسبه للّغة من ألق يتكامل مع ما زخرت به من بلاغة المحسّنات البديعيّة التى سجّلت ظاهرة مُلفتة في قصائد المجموعة (وأيضا في قصائد مَجادل). فنجد المفارقات تشغل حيّزا كبيرا من استخدامات اللّغة تجسّد جدليّة الظّلام والضّياء في العديد من التّمظهرات الأبعاد التفصيليّة المتعلّقة خاصّة بمواضيع الشّكوى والتذمّر من واقع الذاتّ والمرأة والشّعر والمجتمع والوطن وحتى الوجود... من جهة وبما تطمح إليه رؤاها المتمرّة أبدا والباحثة عن شعاع الشمس يمرّ على الكون فيزيح عنه الكدر وعلى الوطن فيضيء زواياه المعتّمة وعلى الشّعر والكتابة فيحلّق بهما إلى مشارف ذاك (النّصّ الذي لم يُكتب بعدُ...) بل إنّ بعض القصائد قد بُنِيت كاملة على المفارقات المتنوّعة من مقابلة وطباق مثل قصيدة: (بعين الغيم ص 22 من بين ما جاء فيها:

أطلّ من جفوة وسني

وشمسي بجوف اللّيل سارحة

تغنّي بأنواري..

ينفلت حرفي الذي كان محصورا بأروقتي

وتزغرد على مَجادل الأحلام

قصائدي وأشعاري...)

Kawther

وتتكامل المفارقات في الارتقاء بلغة الخطاب الشعري مع ضروب المجانسات اللفظيّة والتّركيبيّة لتُحقّق ما تكتمل به مقتضيات الشّاعريّة فيها من تنغيم إيقاعيّ وما تستوجبه مضامين التّغنّي بالذّات (ص 13: أنا امرأة.. / تضفر شَعرها شِعرا وفلسفة ) والقصيدة (ص 71: فقصائدي حين أسرجها / أقطع عنها أوصالها / وأنزع عنها أوحالها / وأُشرِبها من كؤوس النّخوة...) والحبّ (ص 93: المكسور.. يريد أن يُثبت لها / أنّه الأضحية وأنّها السّكّين / المسجور.. مازال يحبو نحوها / وخزعبلات في صدره تنزَع وِشاح صمتِها) والوطن (ص92:

تواعدنا على حُبّ على عشق أُراضيها

تَوادعنا هنا اليوم  ولن أنسى أَراضيها)

من طابع احتفاليّ صاخب. هكذا مثّلت الاختيارات اللّغوية في المجموعة عاملا ساعد على إكساب القصائد تألّقا فنّيّا إضافيّا في إطار تلك الاختيارات التركيبيّة الخاصّة بشعر أحلام بن حورية بشكل عامّ والمتمثّلة في تلك الجمل ذات التّركيب اللّولبي القائم على تناسل مكونات الجملة من بعضها البعض حتى تسع طول النّفس الشّعريّ وتستوعب تشابك الأفكار والرّؤى بل إنها أحيانا تسع قصيدة بأسرها مثل قصيدة (أرشاق ص 80) التي تمتدّ على جملة إسميّة واحدة مُركّبة.. وهذا خاصّة في القصائد ذات النّزعة الاحتجاجيّة بمضامينها السّوداوية القاتمة في تصوير واقع تونس وفلسطين والعرب عموما (ص 65:

قالت غزّة

بلا رويّ ولا قافية.. أمشي

وذي الأصفاد تثقل خطوتي

يشدّني الوجع..

كأنّه الحجر.. كأنّه الوتد...)

وفي تصوير أحوال الفئات المسحرقة من المجتمع التي لا غرابة ان تغضب لها الكتابة بمداد شاعرة لها رصيد من النّضال النّقابي ومثل ذلك قصيدة: (وكان حلما... ص 74) التي أفردتها للحديث عن هجرة الشّباب المهمّش نحو أوروبا بحثا عن الحياة في قوارب الموت

وكذلك في تصوير واقع المرأة المعقّد في مجتمعنا ومن ذلك ما جاء في قصيدة (المدخنة ص: 32

بلا وجه.. بلا ومض.. بلا أرض.. بلا وطن

تتمدّد كالموت في الكلمات

كالسّوس الذي يسري في الحصاد

تنصب مشانق لبسماتي

تُطارد أحلامي وأنّاتي.. فيستفيق......) فتلك جملة واحدة قدّمت مسيرة حياة كاملة من معاناة سببها الأنتَ المذكّر الطّاغي في المجتمع والطّامس لكلّ ما هو جميل في الذّات المؤنّثة..

وقد واجهت الشاعرة قتامة صور الواقع في هذه النّزعة الاحتجاجيّة بنَورانيّة اللّغة التي غلب عليها الاستعراض والنّخبويّة بتلك الصّور البلاغيّة القائمة على اعتماد انواع التشبيه والاستعارة في تحقيق جمالية العدول أو ما يسميه الدكتور "محمد الخبو " في كتاب (مدخل إلى الشّعر العربي الحديث) ب" الغموض الشّفّاف ". وقد استلهمت الشّاعرة هذه الصّور البلاغيّة خاصّة من منظومات الكتابة والقِيَم والوجود والطّبيعة خاصّة السّماويّة المنيرة ممّا شفّ عن عالمها الشّعريّ المنطلق من الذات والممتدّ نحو ما يحيط بهذه الذّات عبر ما تؤدّيه اللغة من تفاعلات مع محيطها تفاعلا ينفّر من كلّ ما هو مظلم وينحاز إلى كلّ ما هو مُشرق وضيء مِن ذلك ما ورد في قصائد كثيرة منها قصيدة (في مهوى الرّياح ص 67:

ما اسودّت البهجة يوما

وما تسيّع ماؤها

إلّا إذا تكدّر في صحوها المطر

وذا مطرك ومقٌ مِن حرير

يتلألأ على خدّ القصيدة ولا يأبى الهطول...)

خاتمة:

تبقى دلالات فعل ومضت وحوافِّه ذات صلة بالنّور محورا واسما للخطاب الشعري في التّجربة التي قدّمت لها الأديبة فتحية دبّش وقد نوّهت ب: (حرصها الدائم على جعل مواضيعها متنوّعة تنوّع انشغالات الفرد والجماعة فهي التي تكتب للنساء كما للرّجال للحبّ كما للحرب وللذات كما للآخر في حالتي الثّبات والتّحول) تكتب ضمن تجربة مسيرتها محكومة بجدلية المسايرة والمغايرة قصيدا هادفا في غير انسياق وراء الشّعارات والايديولوجيا ورومنسيا في غير انحباس داخل صوت المشاعر الفرديّة ومتمرّدا في غير تطرّف ولا حدّة في الخطاب.. وتكتب ضمن تجربة سياقها التّاريخيّ محكوم بجدليّة العتمة والضّياء (الوميض) تارة تحتجّ على مكامن الحيف والرّداءة في الواقع التّونسي والعربي والإنساني وطورا تجنّح نحو الأفضل والأوجه والأكثر عدلا وجمالا أو لنقل الأكثر وميضا لمستقبل الشّعر والإنسان والأوطان..ثمّ هو وميض الكِتابة التي تَدين لذاكرة الشعر العربي القديم والحديث في مختلف مراحله وتحوّلاته ممّا أكسب قصائدها منسوبا مرتفعا من الإنشائية / الشّاعريّة ونزعة استعراضيّة حققت تَميُّزَ الخطاب وهَيبة النّصّ على أساس متين التّركيب ضارب في الأصالة وهو يُجايِل عصرَه خاصّة في هذه التّنويعة التي لا تزال تجرّب وتختبر وتُسائل مختلف طرائق الكتابة الشعرية (النّثرية والموزونة) في متلازمة بين فنون القول ومبدعتها وما انعكس في ذاتها من أصداء حياتها وثقافتها وأحلامها..

تلك أبرز ملامح الكائن الوميضي الذي تخلّق في قصائد شاعرتنا أحلام بن حورية وهو يحاول أن يخرج بنا من ظلمات راهن المجتمع وحيفه والأدب المثقَل بمزالق تردّيه والوطن المكلوم بخيباته والإنسان المُنساق نحو انحرافاته... أن يخرج بنا إلى أنوار القصيدة الرّسالة الوضيئة ضمن مسار اختارته الشاعرة لتجربتها سلكته فومضت في مطبّاته المعتّمة و... مضت بين شعابه وفيافيه نحو الآتي من الرّؤى المتعلّقة بالكتابة خاصّة وبالإنسان والوجود عامّة شعارها (ص 16:

حوريّة بلا واو

تصعد على ربوة الزّبد القديم

تعانق نسرا لا يستكين...)

***

قراءة أعدّتها: كوثر بلعابي

تحليل فرويدي لانشطار الهوية ووهم الوحدة - تفسير وتعليق على مقالة لصباح الأنباري

في قلب كل ذات إنسانية يكمن سؤال وجودي لا ينطفئ: من أنا؟.. سؤال لا يُجاب عليه بالمعطى الظاهري أو بالهوية الاجتماعية، بل بالصراع الصامت بين ما نُظهره وما نكتمه، بين وجوهنا في الضوء وظلالنا في العتمة. وقد كان الفكر الفلسفي منذ سقراط إلى سارتر مشغولًا بمشكلة الهوية والذات، لكن سيغموند فرويد هو من اقتحم هذه الذات ككائن مفكك، يرزح تحت وطأة اللاوعي، والرغبات المكبوتة، والغرائز المطمورة..

وفي زمن تتكاثر فيه التشظيات النفسية والاجتماعية، حيث تتلاشى الحدود بين الواقعي والمتخيل، يأتي الأدب بوصفه المجال الأقدر على تمثيل هذه الانشطارات، لا سيما في أشكال سردية تستبطن ما لا يُقال. ومجموعة “بيت فرويد” لصالح الرزوق ليست سوى مثال بارز على هذا الأدب الذي يكشف – لا يعالج – صدوع النفس، في صورة قصة قصيرة تتماهى مع التجربة الإنسانية في أقصى توتراتها.

* العنوان كمدخل تأويلي

تُفتتح مجموعة “بيت فرويد” لصالح الرزوق بعنوان يشي بمقصدية تحليلية؛ فالبيت ليس مجرد مكان، بل فضاء رمزي داخلي، تحيل جدرانه إلى مكبوتات ساكنيه، وتدل غرفه على حالات ذهنية متقلبة. إضافة “بيت” إلى “فرويد” تضيف بعدًا سايكولوجيًا مباشرًا، حيث يشتغل النص داخل مسكن الذاكرة اللاواعية، ويحوّل الشخصيات إلى كائنات محاصرة في غرف الذات، كما في البناء العميق للنفس حسب نظرية التحليل النفسي.

* النصوص / الرؤى: السرد بوصفه إسقاطًا داخليًا

تتوزع نصوص المجموعة في قسمها الأول تحت اسم “الرؤى”، وهي نصوص قصيرة تنحو إلى الشكل الحلمي التأملي، يطغى عليها الراوي العليم والمونولوج الداخلي. في “الإشارة الأولى”، يظهر صوت الجرس كإشارة ذهنية لبدء الحفر في الداخل، حيث تزرع “شجرة العائلة” في حديقة لا وجود لها إلا في الوعي الافتراضي.

النصوص تُبنى على استحضار الأشياء عبر ذاكرتها الرمزية، لا المادية. هذه الرؤى لا تعيد رسم الواقع بل تفككه في صور ذهنية تقوم على التكرار، والتيه، والمراوحة، بما يعكس عطبًا في البنية الإدراكية للشخصية، ويقود القارئ إلى الانخراط في عملية التأويل.

* النصوص / الخيالات: الذهان السردي ومرايا التخييل

يشكّل قسم “الخيالات” في مجموعة بيت فرويد تحوّلًا جوهريًا في استراتيجية السرد، حيث يغادر النص موقع “المراقبة” الذي اعتمد عليه في الرؤى ليدخل عالمًا أشد تشظيًا، تتحدث فيه الذات عن ذاتها من داخل المعاناة الذهنية لا من خارجها. هنا، لا تعود الشخصية موضوعًا للراوي، بل تصبح هي الراوي، والعالم، والحلم، والمخيلة في آنٍ واحد. هذا الانقلاب في موقع السرد يشكل لحظة فنية ونفسية فاصلة في منطق النص، ويؤسس لما يمكن تسميته بـ”الذهان السردي”.

* ضمير المتكلم والوعي الذهاني

في نصوص الخيالات، يحل ضمير المتكلم محل الراوي الخارجي، ليكشف عن عالم داخلي مكتظ بالتشظيات الإدراكية والتفكك الزمني. فالسارد لا يحكي تجربةً متماسكة، بل يقدّم شذرات من وعي قلق، متردد، يعيد بناء الواقع على نحو هلوسي؛ حيث تفقد الأشياء تماسكها، وتتحوّل اللغة إلى أداة تقويض لا توصيف.

على سبيل المثال، في نص “بالتفصيل”، تبدأ الجملة السردية بالفعل “ترددتُ”، وهو فعل نفسي إدراكي يعكس صراعًا داخليًا لحظة الدخول إلى العالم الخارجي. ثم يتبع ذلك التوصيف: كانت التعليمات أن أسجل عنه كل التفاصيل الممكنة… وتلقيت ذلك برسالة صوتية، وتبعها شيك مصرفي…”

يتحوّل السرد هنا إلى ما يشبه المونولوج الداخلي القسري، حيث تُفقد الحرية السردية لصالح التبعية المراقبة، وينشأ ما يشبه الهلوسة السياسية، إذ تفرض السلطة (أو اللاوعي السلطوي) شروط الحكي كما تفرض المراقبة على الجسد.

هذا النمط من السرد يوازي ما تصفه جوليا كريستيفا بـ”الهذيان النصي”، أي تفكك الخطاب نتيجة تفكك الهوية، حيث تصبح الكتابة نفسها انعكاسًا لحالة ذهنية معطوبة.

* الخيال كآلية دفاع نفسي

في النظرية التحليلية الكلاسيكية، يُعد “الخيال” وسيلة دفاع ضد صدمة الواقع، إذ تلجأ الذات إلى توليد واقع بديل يعوّض عن الفقد، أو الألم، أو القهر، وهو ما يبدو جليًا في نصوص الرزوق. الشخصيات المتكلمة لا تبحث عن الحقيقة، بل تهرب منها إلى فضاء “مُفترض”، تُصاغ فيه التفاصيل بدقة جنونية، كما لو كانت محاولة للسيطرة على واقع منهار.

وتبدو هذه البنية قريبة من مفهوم “الواقعية الذهانية” (psychotic realism) التي درسها ماتيو سبايرز في علاقة السرد بالحالات الفصامية، حيث يُبنى العالم السردي من منظور ذات مصابة بالبارانويا، فتنشأ عن ذلك لغة شديدة الخصوصية، تخترق النظام المرجعي للعالم الخارجي وتعيد صياغته بقلق.

* اللغة بوصفها مرآة داخلية

الخيالات ليست فقط محكيات متوترة، بل تجريب لغوي يمس جوهر اللغة نفسها. فالسرد يتحرك في منطقة وسطى بين التقريري والشعري، وبين الواقعي والمخيالي. تتحول المفردات إلى صور ذهنية، وتخضع الجمل لإيقاع داخلي لا يخضع لمنطق السرد التقليدي. هنا تتجلى وظيفة “اللغة كمرآة”، بالمعنى الذي قصده بول ريكور حين رأى أن اللغة لا تصف الواقع، بل تكشف عن الذات وهي تنكشف.

وهذا ما نلاحظه في نصوص مثل “اجتمعنا”، و”سألتُ”، و”أمسكنا”، حيث لا تُبنى الوقائع على تسلسل منطقي، بل على تداعٍ انفعالي يجعل الحدث انعكاسًا لحالة ذهنية لا واقعة مادية.

* الذات الساردة ككائن منقسم

الخيالات في بيت فرويد لا تحكي عن شخصيات مختلفة، بل هي تنويعات على “شخصية واحدة منقسمة” تمثل امتدادات داخلية لبعضها البعض. وهي بهذا تنتمي إلى ما يمكن تسميته بـ”السرد الذاتي المتشظي”، حيث تُروى القصة من عدة نوافذ نفسية في الجسد ذاته. وتشبه هذه البنية ما وصفه فرويد بـ”الانقسام النفسي للذات”، حين تفقد الأنا وحدتها تحت ضغط المكبوت أو الصدمة.

ومن ثم، فنصوص “الخيالات” في بيت فرويد تمثل قفزة سردية وفنية عميقة في بنيتها، حيث يتحول النص إلى فضاء ذهاني مكتمل الأركان: ذات سردية متوترة، عالم خارجي مُشوش، مخيلة معطوبة، ولغة منشطرة بين المعنى واللا معنى.

بهذا، يتجاوز الرزوق نموذج القصة النفسية إلى ما يمكن تسميته بـ”أدب الاضطراب الداخلي”، الذي يرصد الذهان لا بوصفه مرضًا، بل كإستراتيجية فنية لإعادة بناء الذات والواقع.

* البيت كتمثيل للهو اللاواعي

العنوان نفسه يشير إلى أن البيت (المكان) ليس إلا استعارة لـ”النفس”. حسب غاستون باشلار، البيت هو خريطة داخلية للذات: الطابق السفلي يمثل الهو، والعلوي يمثل الأنا الأعلى، والدرَج هو الطريق بين اللاوعي والوعي -4-

“بيت فرويد” بهذا المعنى ليس فقط مسكنًا، بل مسرحًا داخليًا لآلام الذات وأقنعتها، ومرآة لغرف الوعي المغلقة.

ومما سبق، يمكننا القول أنه ليس في عالمنا ما هو أكثر غموضًا من الذات. إنها لا تُدرك مباشرة، بل تنعكس في المرايا، تُفكك في الأحلام، وتُفصح عن نفسها عبر القناع. وما قام به صالح الرزوق في “بيت فرويد” لا ينتمي إلى حقل الأدب المحلي فحسب، بل يتصل بحركة أدبية-فكرية عالمية تتغذى من منابع التحليل النفسي، والوجودية، والبنيوية، وما بعدها.

تغدو القصة القصيرة هنا مرآة للتمزق الكوني للهوية، حيث يكتب الرزوق عن الإنسان بوصفه ذاتًا تبحث عن نفسها في العتمة، وتواجه أشباحها في بيت لم يُغلق بابه قط.

***

محيي الدين إبراهيم

....................

* المراجع

Lacan, Jacques. Écrits: A Selection. Trans. Alan Sheridan. Routledge, 2001.

Freud, Sigmund. “The Uncanny.” In The Standard Edition of the Complete Psychological Works of Sigmund Freud, Vol. XVII, Hogarth Press, 1955.

Klein, Melanie. The Psycho-Analysis of Children. Hogarth Press, 1932.

Bachelard, Gaston. The Poetics of Space. Beacon Press, 1994

Ricoeur, Paul. Oneself as Another. University of Chicago Press, 1992.

Kristeva, Julia. Black Sun: Depression and Melancholia. Columbia University Press, 1989.

فرويد، سيغموند. تفسير الأحلام. ترجمة جورج طرابيشي، دار الطليعة، بيروت، 1985.

صالح الرزوق، بيت فرويد. دار مجلة ألف، دمشق، 2011.

صباح الأنباري، “بيت فرويد ومؤثثاته الرزوقية”، مقالة منشورة في صفحة الكاتب.

Kristeva, Julia. Black Sun: Depression and Melancholia. Columbia University Press, 1989

Spiers, Matthew. “Psychotic Realism in Contemporary Fiction.” Journal of Literary Theory, Vol. 7, No. 2, 2013.

Ricoeur, Paul. Time and Narrative, Vol. 1. University of Chicago Press, 1984.

Freud, Sigmund. The Ego and the Id. Standard Edition, Vol. XIX. London: Hogarth Press, 1961.

*  صالح الرزوق، بيت فرويد. دار مجلة ألف، دمشق، 2011.

 

ضمن فعاليات مهرجان بغداد الدولي للمسرح / الدورة السادسة. يوم الاثنين 13/ 10/ 2025. على مسرح الرشيد عرضت (مسرحية نحن من وجهة نظر قط) تأليف وإخراج (أنس عبد الصمد)

الشفرة الأولى

قبل رفع الستار عن العرض أوصى المخرج متلقيه بتصوير (الباركود) الموجود على ستارة المسرح عن طريق الإسقاط الضوئي، على أن يفتح الباركود بعد العرض، وفي هذا حرص على أن يأخذ المتلقي شيئا من شفرات العرض ويخزنه في ذاكرة جهاز الهاتف النقال إلى أجل ما.

بعض من صور العرض

تقف ثلاث شخصيات (فتاة - امرأة - رجل) على سلم، على اكتافهم اغصان يابسة، ينزلون الى قبو او بيت بلا جدران، يسكنون في فضاء مفتوح، الفتاة تجلس إلى منضدة تحرك (ماوس/ فأرة) حاسوب بلا شاشة، تتناول  دواء، تنظر باتجاه الجمهور بديلا عن شاشة الحاسوب ويتزامن مع عملها ظهور رسوم وكتابات على الشاشة العملاقة في السايك الخلفي، يتحكم الماوس (الفأرة) بمسح الكتابة والصور وكل شيء، صوت جرس الباب المغلق على كومة هائلة من أكياس النفايات، ينظر الرجل للخارج من خلال العين السحرية، تظهر صورة الطارق على الباب على الشاشة العملاقة، ثم تمحى او تشوه بخطوط يرسمها الماوس.

لا تنطق الشخصيات بأي كلام، لا توجد بينهم لغة مشتركة، يصدرون أصوات وصيحات مبهمة، يتفاهمون وينفعلون عبر لغة الحركة وإيماءات الجسد.2039 stage

تدخل شخصية غامضة، تحضر هدية مغلفة يستقبلون الهدية، لأن أوراقهم يابسة، يريدون تغييرا يروي أغصانهم ويرمم مشاعرهم وعلاقاتهم، يفتح غلاف الهدية التي أحضرها الرجل الغامض المتلفع بالسواد، تظهر دمية قط صغير يعلو رأسه أغصان يابسة، وبعد أن يتضخم حجمه تختفي الأغصان اليابسة. بعدها يظهر قط آخر أكبر دون أغصان، ثم يكبر ويتغير شكله، ويكبر، وتظهر صوره على الشاشة/ إسقاط ضوئي. وتكتمل قوة وسلطة القط عندما يتأنسن، وحين تنزل من السلم شخصية القط الانسية، تتسيد المكان والزمان والنفوس، يتناسل قطط صغيرة بأشكال عديدة مصنوعة من مواد مختلفة.

فجأة تدحرجت كمية كبيرة من التفاح من الخارج إلى فضاء الشخصيات، وأخذ حيزا من مساحة الخشبة وسط ذهول الشخصيات الثلاثة، الفتاة اكلت من التفاح ولفظته، رمزية التفاح بهذا الكم تحمل دلالات بكم الخطايا التي يرتكبها بنو آدم، تفاحة واحدة أغوت آدم وأنزلته من الجنة إلى الأرض، ماذا عن هذا العدد الكبير من التفاح؟

يحضر الرجل ميكروفونات ولكنها لا تكبر الصوت، لأن أصوات الشخصيات اختفت تماماً، فهم بلا حول ولا قوة.

تفتح المرأة خزانة ملابس، تخرج منها عددا كبيرا من السترات، وتضعها على الارض، ترتدي الشخصيات الثلاثة سترات.

في المشهد الأخير تضع الشخصيات الثلاث مجموعة سترات على كتف القط الانسي، الذي جلس على الكرسي، وشرع بالتحكم بالجميع بواسطة ماوس الحاسوب نفسه الذي كانت تجلس قبالته الفتاة في بداية العرض، تتهاوى الجدران على السكان، يحاولون إقامتها ورفعها عن كواهلهم، إلا أنها في النهاية تسقط عليهم.

إن محور رؤية ومعالجة (انس عبد الصمد) هو استغلال الأغصان اليابسة في الإنسان، من قبل شخصية غامضة تعمل على تسلل القطط بطريقة ناعمة، وتتضخم أحجامها وفي النهاية تمسك بمقاليد الأمور.

الشخصيات

جميع الشخصيات سيكوباتية (تعاني من اضطرابات نفسية) فهي ذات سلوك غير متزن ولا يمكن التنبؤ بأفعالها وانفعالاتها، ذلك لأنها نتاج العصر المضطرب سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وثقافيا بفعل سيادة القطط التي تنظر للـ (نحن) وتركب نفوسنا وعلاقتنا من وجهة نظرها. 

الفتاة مريضة، يوحي منظرها وهي صلعاء وتتناول الدواء بإصابتها بالسرطان، تعمل على كمبيوتر متخيل، تحرك الماوس، تظهر صور على الشاشة العملاقة، الفتاة تعمل على مسحها أو تشويه جزء منها. حركتها أقرب إلى الرقص، في النصف الثاني من زمن العرض، تسقط غطاء رأسها (صلعاء) ويظهر شعرها.2040 stage

الرجل ذي انفعالات هستيرية، يمارس العنف على شخصية الفتاة والمرأة، ويقوم بتحريك شفتيه وعينيه باستمرار مما يجعل وجهه مشوها إلى حد ما. أما المرأة فإنها تبدو قوية وصلبة، ولكنها سرعان ما تنكسر تستسلم.

ذهب العرض إلى صناعة لغة ثقافية عامة بلا حدود، إذ لم يستخدم لغة حوارية، فقد اعتمد لغة الأصوات والحركة والجسد والإيماءات، ولم يؤثث فضاءه بأي مفردات محلية، إذ اندمجت مفردات مادية (خزانة ملابس، باب، منضدة، مغسلة، كراسي) مع مفردات رقمية/ افتراضية (السُلّم) والصور والكتابات على شاشة الإسقاط الضوئي.

غموض العرض

إحدى أهم جماليات عرض (نحن من وجهة نظر قط) هو  الغموض الذي غلف الصور الدرامية وعلاقات الشخصيات وتحديد مكان وزمان الأحداث، وهذا يشكل حافزا للمتلقي للتركيز ودفعه للتعمق ومتابعة الآتي من زمن العرض. وثمة فرق كبير بين الغموض والإبهام، فالأخير (الإبهام) تشويه وعدم دراية وبُعد عن الإفهام.

يرى (سامي عبد الحميد) في كتابه (المسرح جديده قديمه وقديمه جديده ص٩٢) أن أسلوب ما بعد الحداثة يتميز "بربط الأشكال الى بعضها حتى وإن اختلفت في المضامين وبذلك ترجع إلى التعبير عن كابوسية التعبيرية ويعتمد أسلوب ما بعد الحداثة في الفنون البصرية على ما يسمى (الكولاج) أي جمع أشكال وعناصر مختلفة بشكل عشوائي ووضعها في الصورة […] ويدعو فن (ما بعد الحداثة) إلى التشظي بدلا من الوحدة باعتباره سمة من سمات الفن. لقد دعت حركة ما بعد الحداثة إلى تعدد في وسائط التعبير والى الاستعارات اللفظية والى تشتيت البؤرة" فلا شيء في العرض تقليدي او عادي أو طبيعي، انه عرض لمجموعة حالات وصور لا مركز لها، ولا مرجعية ثابتة، كل شيء متحرك، الصور المتلاحقة، والمونتاج الدرامي، ومفردات التكنولوجيا الحديثة، كلها من مظاهر التوجهات نحو أسلوب الما بعد حداثي. يقع أمر قراءة الصور والأصوات والانفعالات على المتلقي بعد صهرها في بوتقة واحدة مع مدركاته الفكرية والحسية بغية الخروج بتأويل من عندياته،  ويفترض أن يقوم هذا المتلقي بإعادة تركيب حكاية وفكرة العرض التي عمل القائمون على المشروع الجمالي بتفكيكها ونثر تصوراتهم لها في الفضاء المسرحي.

بعد أن كان المؤلف مخرجا في عصر فجر الدراما المسرحية، يجدد (انس عبد الصمد) ظاهرة المخرج المؤلف، ولم يكتف بذلك، بل أضاف لها المخرج مؤلفاً وممثلا، فهو يمثل في معظم عروضه مثل (يس گودو و بيت أبو عبدالله) وقد سعى إلى العمل مع ممثلين من ثلاث ثقافات، ممثلة فرنسية وأخرى تونسية، وممثلين من العراق (محمد عمر) و (ماجد درندش) وعمل على إشراك ممثلين من ثقافات/ جنسيات متعددة مخرجون كثيرون منهم جيرزي كروتوفسكي، وروبرت ويلسون، وهذا ديدن الذين يخرجون العرض من الإطار المحلي إلى الفضاء العالمي.   2041 stage

ختاما عنوان العرض

عادة ما يكون تحليل عنوان في مطلع المقالات والابحاث، ولكن هذا العرض جعل استجلاء العنوان يسيرا عندما تكتمل صورة العرض الكلية. وضع عنوان العرض المتلقي أمام تساؤل: من المقصود بالـ (نحن) أهي الشخصيات؟ أم الشخصيات والمتلقي معا؟ أم أن العرض يقدم الناس جميعا من وجهة نظر قط؟ يعمم المخرج/المؤلف الأمر بإدخال مجموعة شباب للخشبة ليكونوا امتداد للشخصيات الثلاث، وجزءا من صورة العرض. ومن ثم يذهب التركيز على الــ (القط)، ولماذا القط تحديدا؟

من أهم ما يمتاز به القط هو الاستشعار القوي والحساسية الشديدة، فهو يرى في الظلام وسمعه للترددات الصوتية اعلى من الإنسان، كما انه يمتاز بخفة الحركة وقياس المسافات بدقة وخفة حتى في الظلام الحالك، فضلا عن أنه كائن أليف، يصدم التأليف/ والإخراج جمهور المتلقين بتقديم سردية تكشف عن إيغال القط (اللطيف ذي الملمس الناعم) في نفوس (نحن) وتغوله عليهم.

***

ا. د. حبيب ظاهر حبيب 

 

الإيقاع لغة: جاء في معجم المعاني الجامع – معجم عربي عربي. إِيقاع: (اسم). مصدر أَوْقَعَ · من أوقع يوقع.

والتوقيع هو نوع من المشية السريعة، إذ يقال «وقع الرجل»، أي مشي مسرعاً مع رفع يديه.

والايقاع في اللغة أيضاً اتفاق الأصوات وتوقيعها في الغناء، وفي الاصطلاح، اذا كانت الحركات متساوية الأزمنة، سمي الايقاع موصّلا، واذا كانت متفاضله الأزمنة في أدوار قصار، سمي الايقاع مفصّلا.

أما كلمة الإيقاع RHYTHM في اللغات الأوروبية تأتي بمعنى ينساب أو يتدفق.

إشكاليّة الايقاع:

على الرغم من أنّ الإيقاع يُعدُّ عنصرًا أساسيًّا وجوهريًا في بنية الشعر العربي قديمه وحديثه، إلا أنّ هناك اختلافاً واسعاً إلى حد ما من حيثُ تحديده تحديدًاً دقيقًاً، فمنهم من لا يفرّق بين الإيقاع في الشعر والإيقاع في الموسيقي فهما عنده سواء، والآخر يقصره على الشعر دون سواه متجاهلًا الإيقاع النثري، خلافًا لمَنْ ميز بين الإيقاع الموزون والإيقاع المنفلت. والإيقاع يتَّخذ في الواقع أشكالا مختلفة منها: الإيقاع الشعري، والإيقاع النثري، والإيقاع اللغوي، والإيقاع الموسيقي، والإيقاع الصوتي. فالإيقاع في الشعر كميٌّ وكيفيٌّ، ومتى توافر(الكم) دون(الكيف) تحوّل إلى نظم، وإذا ما توافر(الكيف) دون(الكم) تحوّل الى نثر. ومن هنا اهتمّ معظم الشعراء التقليديين بالإيقاع الموزون وحاولوا تجنُّب الإيقاع غير المنضبط أو المنفلت الذي اشتغل عليه شعراء قصيدة النثر، فالإيقاع الشعري يتميز عن إيقاع النثر بانضباطه وتكراره باطراد. (1).

وإن الإيقاع في العروض، أوسع من العروض ومشتمل عليه كما سيتبين لنا من خلال الايقاع في شعر الحداثة، وخطأ الكثير من العروضين التقليديين هو عدم إدراكهم لاتساع الإيقاع وخصائصه في آن. وربما يكون الشعراء التقليديون، قد اتخذوا الأنموذج العام للإيقاع منطلقاً لتحديد ماهية الشعر، حيث عرفه "قدامة بن جعفر" أنه كلام موزون مقفى"، وربما يكون من نتيجة شيوع هذا التعريف وانتشاره أنه انطبع في عقول وأذهان الكثيرين، بأن كل موزون ومقفى شعر، وأن كل ما ليس بموزون ولا مقفى ليس بشعر. وما الجدل الذي مازال قائماً حول أحقيّة الشعر الحر في أن يكون شعرا أم لاً، إلا نتيجة لما ترسب في العقول من فهم هذا التعريف، فما زال الكثيرون يقفون وبصرامة أمام كل تجديد في القالب العروضي للشعر.

عموماً لا يوجد في الاصطلاح تعريف جامع للإيقاع، حيث عرّفه كل ناقد أو أديب من وجهة نظره، متفقين في بعض الأمور ومختلفين في غيرها، وقد تناول "ابن طباطبا" الإيقاع في قوله: (إنّ للشعر الموزون إيقاع يُطرب الفهم لصوابه، وما يَرِدُ عليه من حسن تركيبه واعتدال أجزائه)، (2). فارتبط الإيقاع عند "ابن طباطبا" باعتدال الوزن وصواب المعنى.

ويستخدم الإيقاع أساساً في الموسيقى، باعتباره تنظيماً للشق الزمني منها، فقيل إن الإيقاع مجموع اللحظات الزمنيّة الموزعة وفقاً لترتيب معين، وإن الإيقاع هو النظام في توزيع مدد الزمان، والزمان هو لب الإيقاع الموسيقي، بل إن الإيقاع الموسيقي ربما كان أقوى عناصر الفنون كلها تعبيراً عن الزمان(3).

خصائص الإيقاع:

وبهذا المعنى يصبح للإيقاع خاصيّة جوهريّة مميزة للشعر أصلاً، لم تأتيه من الخارج أو تفرض عليه، «وهذه الخاصيّة ناتجة في الحقيقة عن طبيعة التجربة الشعريّة ذاتها، تلك التجربة الرمزيّة التي تحتاج إلى وسائل حسيّة لتجسيدها وتوصيلها، ومن هذه الوسائل:

1- الإيقاع: ويرتبط الإيقاع بالمعنى هنا ارتباطاً عضويّاً حيويّاً، لأن الكلمات التي يبتدعها المعنى لا تنفصل عن أصولها الصوتية، ولهذه قال بوب: «إن الجرس يجب أن يكون صدى للمعنى».(4).

وهذا ما يميز المفهوم الحديث للإيقاع في الشعر عن المفهوم القديم الذي كان يصر على نوع معين من قواعد الوزن، فهو يميز المفهوم القديم والحديث للشاعر.

إن الإيقاع واحد من تلك الظواهر التي يصعب تعريفها كما بينا في موقع سابق، لا لشيء إلا لكونه ظاهرة مألوفة، ولأن تأثيرها فينا ملموس بلا انقطاع. وهي ناتجة في الحقيقة عن طبيعة التجربة الشعريّة ذاتها، تلك التجربة الرمزيّة التي تحتاج إلى وسائل حسيّة لتجسيدها وتوصيلها، ومن هذه الوسائل إضافة للإيقاع، يأتي تنظيم اللغة.

2- تنظيم اللغة العاديّة على المستوى الصوتي للغة، والصرفي، والنحوي، والدلالي:

لقد ربط "سيد البحراوي" بين مفهوم «إعادة التنظيم» وبين «الإيقاع» على أساس أن إعادة تنظيم العناصر الصوتيّة في القصيدة يخلق تكراراً منتظماً لها في الزمن، أي أنه يخلق نظاماً صوتيّاً هو (الإيقاع)، كونه مكوّناً من العناصر الثلاثة (الصوتي والصرفي والنحوي) والتي لا تستحق أن تعتبر عناصر إيقاعيّة إلا إذا توفرت فيها «النظاميّة»،(5).

وما الإيقاع الشعري في المحصلة إلا تنظيم أشمل وأمثل لإيقاع الكلام العادي، وما المضمون الشعري إلا تنظيم في المستوى الدلالي للغة، يشبه أن يكون تأليفاً إيقاعيّاً للمدلولات يظهر حقائق الوجود بشكل أكثر سطوعاً وجماليّة. ومن هنا يمكن القول إن اللغة هي نفسها الشعر بالمعنى الجوهري.

3- إنّ الإيقاع هو روح الوزن، ومن خلاله يُمكن الوصول إلى عبق الجمال.

4- والإيقاع يستنهض ثقافة القارئ، حيث يقف على مكنونات القصيدة وروحها الداخليّة، مسلطًا الضوء على أيقونة الخطاب ما بين الشاعر والمتلقي.

5- الإيقاع هو الانسجام الحقيقي ما بين الألفاظ والمسموعات فكلاهما يؤديان معًا إلى تحقيق الغاية التركيبية التي توصل إلى غاية البلاغة والبيان، ولا بدّ للقارئ في هذه الحالة من أن يكون على قدر من الثقافة تساعده على التأويل.

6- تفاضُل الشعراء في الإيقاع، حيث يغدو للفظة عند أحدهم فضلًا على غيرها في قصيدة أخرى، وبهذا يتمكن الشاعر من الوصول إلى أعماق المتلقي من خلال انسجام تلك اللفظة مع غيرها.

الايقاع والموسيقى في شعر الحداثة:

إنّ الشّعر صيغة موسيقيّة كما أشرنا في عرضنا السابق، أي كلامًا مموسقاً، تنفعل لموسيقاه النّفوس، وتتأثّر بها القلوب، وإلى هذا ترتكز أهمّيّة الموسيقا في الشّعر، فهي تستطيع أن تُقيم بناء مُتكاملًا يجمع بين التّأليف القائم في أعماق الشّاعر، وبين غيره من المُتلقّين، من خلال قدرة فنّيّة عالية تجعل إيقاعات النّفس الممثلة في النغم الشعري الّذي يعطي مذاقه موسيقا جذب الآخرينّ. بيد أن كثرة استخدام الشيء تفقده طاقته التعبيريّة الشعريّة. لذلك من هنا فإن الشعريّة تكمن فيما تضيفه وتكتشفه لا فيما تردده وتكرره، وهذا يتحقق وفق تلك المعايير الجماليّة التي يحددها التقليد الفني، وتؤثر فيها البيئة ونمو الثقافة. ومعنى هذا أن الشعر لا يكمن في التأليفات المتناسبة بين الأشياء التي ترينا حقائقها المتخفية، وحقائق ما تعبر عنه من مدركات وأحاسيس من خلال لغة الشاعر فحسب، وإنما يكمن أيضا في التأليفات المتناسبة بين ما هو قديم وما هو جديد، بين ما هو محضور وما هو مذكور، بين المألوف وغير المألوف؛ فهو باختصار: الائتلاف في الاختلاف.

وإذا كان الإيقاع في الشعر القديم أو الكلاسيكي يقوم على الوزن والقافيّة ولا يتعدى إلى غيرهما، وقد استعمل القدماء لفظة الوزن بديلًا عن الإيقاع، وهو ما فعله "القرطاجني" عند حديثه عن الإيقاع، أمّا في العصر الحديث فقد أوضحوا تعريف الإيقاع على أنّه التتابع والتواتر ما بين حالتي الصمت والكلام؛ حيث تتراكب الأصوات مع الرتم الشعري ليخلقا معًا فضاء الجمال.(6) وبمعنى آخر إنّ الإيقاع غير مختص عند الحداثيين بالشعر فحسب، بل هو عامل مشترك ما بين الشعر والنثر على حد سواء.(7).. ذكر الأستاذ السيد البحراوي تعريفًا للإيقاع بالنسبة للحداثة الشعريّة قال فيه: إنّ الإيقاع هو تتابع للأحداث الصوتية في الزمن، حيث يكون على مسافة زمنيّة متساوية أو حتى متجاوبة؛ أي أنّ الإيقاع هو تنظيم لأصوات اللغة، وهو أكبر من الوزن؛ حيث إنّه يشمل البنية العروضيّة والبنية الصوتيّة والتركيبيّة. (8).

ولما كان الإيقاع الشعري عنصراً من مكونات النص الدلاليّة، فقد اتسم هو أيضاً – أي الايقاع - بالسمة التي أفردت شعر الحداثة، إلا أنه امتاز بالغموض في هذا الشعر ولا يتميز بذاته، كونه يندمج بنائيّاً في البنية النصيّة الكبرى، حاملاً نصيبه من دلالتها.. ومن ثم أصبحت القصيدة قانون نفسها، ولذلك فهي تخلق قانونها الموسيقي الخاص والنابع من حركتها الداخليّة وضراوتها البنائيّة، وعليه صار الإيقاع، إشكاليّـاً إلى حد بعيد مع شعر الحداثة، نظراً للتداخل بين الأجناس ولانهيار الحدود بين الأجناس الأدبيّة مع الشعر الحر أو الحديث، وإغراق ذلك الشعر في الاستفادة من هذا التداخل، إنه إيقاع يتولد عن أرضية ومناخ جديدين، لم يعد فيهما الوزن وحده محكاً لشعرية القصيدة، بل هناك عناصر أخرى خلّاقة وإبداعيّة. وبناءً على ذلك يظهر لنا مستويات للإيقاع في الأدب، وفي الشعر أنموذجاً:

ويظهر المستوى الايقاعي في اتجاهين هما:

مستوى الايقاع الخارجي أو (البنية العروضيّة). ويشمل:

أولاً الوزن:

الوزن هو سلسلة من المتحركات والسواكن التي تتجزأ إلى مستويات مختلفة مثل: الشطران، والتفاعيل، والأوتاد، وغير ذلك. والوزن هو تفعيلات البيت الشعري، ولا تقتصر وظيفة الوزن على الجمال فقط، بل له وظيفة تعليميّة موسيقيّة، كونه ليس مجرد تفعيلات مُنفصلة عن المعنى، تُلقّن وتُحفظ، ولكنّه لصيق بالمعنى وغير مُنفصل عنه، ويساعد على تأكيد المعنى، وتثبيته في الذّهن، وصونه من الضّياع. (9).. ومن الأمثلة على ذلك قول الشاعر معروف الرصافي (10).

أيها القوم مالكم في جمود -

أو ما يَستفِزّكم تَفنيدي

كلما قد هززتكم لنُهوض -

عدت منكم بقَسوة الجُلمود

طال عَتبي على الحوادث فيكم

- مثلما طال مطلها بالوُعود

فمتى سعيُكم وماذا التَواني

- وإلى كم أُحثّكم بالنشيد

إنّ الإيقاع الخارجي هو العروض والقافيّة، وقد ذكر "عبد المالك المرتاض" في ذلك أنّ الإيقاع الخارجي قديم في الشعر قدم قوله؛ أي أنّه موجود من قبل أن تأتي الدراسات النقديّة على الحديث عنه، (11).

ثانياً اّلقافية:

وّهي أصوات تتكون في أواخر الأشطر أو الأبيات من القصيدة، وتكرارها يكوّن جزءاً مهمًّا من الموسيقى الشّعريّة، فهي بمنزلة الفواصل الموسيقيّة يتوقّع السّامع تردّ دها، ويستمتع بمثل هذا التردّد الّذي يطرق الآذان في مدد زمنيّة منتظمة، وبعد عدد معيّن من مقاطع ذات نظام خاصّ يسمّى الوزن. هذا وقد اختلف النقاد في تعريف القافية، (فاعتبرها "الأخفش" أنّها آخر كلمة من كل بيت، بينما ذهب "الخليل بن أحمد الفراهيدي" إلى أنّها آخر ساكنين في آخر البيت مع ما بينهما من الحروف،(12).. ومن الأمثلة على القافية قول الشاعر "أحمد شوقي" في ديوانه أصبح وأمسي:

أمسى وأصبح من نجواك في كلف

- حتى ليعشق نطقي فيك إصغائي

الليل يُنهضني من حيث يقعدني

- والنجم يملأ لي والنور صهباني

الموسيقا الدّاخليّة أو (البنية الصوتيّة).

لم ينشأ أي اختلال في منظومة الإيقاع في الأدب العربي، الى أن ظهرت قصيدة التفعيلة بداية الخمسينيات وتلتها القصيدة النثرية مُتجاوزة الإيقاع الخارجي – الخليلي، ومرتكزة على الإيقاع الداخلي للنصّ الشعري، أن الإيقاع الداخلي الذي أشرنا إليه عند حديثنا عن الايقاع في شعر الحداثة، هو التجانس بين الحروف في الكلمة، أو انسجام الكلمات في الجملة، وهو يتشكّل من مجموعة عناصر ليس آخرها التضاد والتنافر التي باتت تلبي حاجات النص الشعري الحديث وإيقاعه الداخلي.

مما لا شكَّ فيه أن الحداثة ابتكرت هندسة موسيقيّة مُغايرة، تقوم على إيقاع الجُملة وعلائق الأصوات والمعاني والصور، والطاقة الإيحائيّة لكل هذه المفردات في حالة ترابطها وتردُداتها الدلاليّة. أو بتعبير آخر: حيث يبرز نظام الحركة وطرائق تفاعل العلاقة الضمنيّة المكنونة التي تشكل إيقاع النص الداخلي، المُتصل باللغة والصورة والرمز وتركيب الجمل وعلائق الأصوات وغير ذلك، ببنائيّة شديدة التعقيد والجمال، أنتجها قاطبة التكثيف وخصائصه، كعامل تفجير لغويّ متعدد الدلالات والأبعاد لاشتماله على مستويات إيقاعيّة خفيّة، منها ذات طابع صوتي ومنها ما يتصل بالاتساع الداخلي في اللغة، (13).

هذا وقد عرف الإيقاع الداخلي للنص الأدبي "عبد الرحمن الوجي" (بأنّها ذلك الإيقاع الهامس الذي يصدر عن الكلمة الواحدة بما تحمل في تأليفها من صدى ووقع حسن، وبما لها من رهافة ودقة تأليف وانسجام حروف"،(14).. ويدخل في الموسيقا الداخليّة كما بينا في موقع سابق عند حديثنا عن شعر الحداثة، الجناس والطباق، وسائر المُحسّنات البديعية، مع تركيب الكلام وتتريب الكلمات وتّخيّرها، وكلّ ما من شأنه أن يُعين على تجويد البنية، والرّنين في أبيات القصيدة. وقد استخدم الشّعراء هذه المُحسّنات كثيرًاً، تحسينًاً لأساليبهم وتنميقًاً لكلامهم. (15).

وللإيقاع الداخلي مجموعة من الأقسام، أبرزها:

1- التكرار:

حيث إنّ للتكرار مجموعة من الوظائف من أبرزها لفت الانتباه والتأكيد على المعنى ونحو ذلك، وقد استعمل هذا الأسلوب عدد من الشعراء من بينهم "إيلينا أبو ماضي".(16).

أَيُّها البَحرُ أَتَدري كَم مَضَت أَلفٌ عَلَيكا .

وَهَلِ الشاطِئُ يَدري أَنَّهُ جاثٍ لَدَيكا

وَهَلِ الأَنهارُ تَدري أَنَّها مِنكَ إِلَيكا

ما الَّذي الأَمواجُ قالَت حينَ ثارَت لَستُ أَدري

أَنتَ يا بَحرُ أَسيرٌ آهِ ما أَعظَمَ أَسرَك

2- الموازنة:

الموازنة يعني أن يكون البيت متعادلًا في الأوزان والألفاظ(17).

وقد أتى كثير من الشعراء على هذا اللون من ألوان الإيقاع، وقد أتى امرؤ القيس على هذا اللون في قوله:

مِكَرٍّ مِفَرٍّ مُقبِلٍ مُدبِرٍ مَعًا - كَجُلمودِ صَخرٍ حَطَّهُ السَيلُ مِن عَلِ.

***

د. عدنان عويّد

كاتب وباحث من سوريا.

......................

الهوامش:

1- (الإيقاع في الشعر العربي الحديث -المقولات والتمثُّلات- بحث منشور في مجلة الاداب - ذي قار -0 الأستاذة الدكتورة بشرى ياسين محمد). بتصرف.

2- (محمد سالمان، شعر الحداثة دراسة في الإيقاع، صفحة 22 - 35. بتصرّف.).

3- (موقع الوطن – صوت المواطن الحر -الإيقاع ومكونات النص الدلالية -د. عادل بدر). بتصرف.

4- (موقع الوطن – المرجع نفسه.

5- (موقع الوطن – الموقع نفسه.

6- (محمد سالمان، شعر الحداثة دراسة في الإيقاع، صفحة 22 - 35. بتصرّف.).

7- (محمد سالمان، شعر الحداثة دراسة في الإيقاع، صفحة 22 - 35. بتصرّف.).

8- (جدنا خديجة، العبادي يمينة، الإيقاع الشعري في ديوان آيات من كتاب السهو، صفحة 14. بتصرّف.).

9- (جدنا خديجة، العبادي يمينة، الإيقاع الشعري في ديوان آيات من كتاب السهو، صفحة 16 - 19. بتصرّف)

10- (الديوان » العراق » معروف الرصافي »).

11- (جدنا خديجة، العبادي يمينة، الإيقاع الشعري في ديوان آيات من كتاب السهو، صفحة 16 - 19. بتصرّف).

12- (موقع موضوع كم).

13- (موقع حصاد الحبر - الإيقاع الداخلي للومضة - الشاعر أمين الذيب - مؤسس ملتقى الأدب الوجيز.). بتصرف.

14- (موقع موضوع كوم - تعريف الإيقاع في الشعر - روان مخيبر).

15- (جدنا خديجة، العبادي يمينة، الإيقاع الشعري في ديوان يات من كتاب السهو، صفحة 28. بتصرّف.).

16- (جدنا خديجة، العبادي يمينة، الإيقاع الشعري في ديوان يات من كتاب السهو، صفحة 28. بتصرّف.).

17- (بشقاق الزهراء، دراسة شعرية الإيقاع، صفحة 44. بتصرّف.).

 

عوالم السلطة والمرايا المكسورة.. سيرة كاتبة تتحدى الأطر

ليلى عبدالله، أو "ليلى البلوشي" كما عُرفت سابقًا، ليست مجرد اسم في خريطة الأدب العماني، بل هي ظاهرة ثقافية متعددة الأبعاد، كتبت في صحف ومجلات عربية مرموقة، وأصدرت كتبًا تنوعت بين المقالات والنقد والقصة والرواية وأدب الطفل، حاز كتابها "هواجس غرفة العالم" على جائزة أفضل إصدار في مسقط عام 2015، ومجموعتها القصصية "كائناتي السردية" على جائزة أفضل كتاب قصصي عام 2016، كما ترشحت روايتها "دفاتر فارهو" لقائمة الشيخ زايد، وترجمت أعمالها إلى لغات عدة، منها البولندية والإسبانية والمالايالمية، هذه المسيرة الثرية تشي بكاتبة لا تهادن في بحثها عن أشكال تعبيرية جديدة، وهو ما يتجلى بوضوح في مجموعتها الأخيرة "فهرس الملوك".

(1) العتبات الأولى: عتبات تفتح أبوابًا للتأويل

عتبة الغلاف:

تطالعك عتبة بصرية خادعة وتأسيس لتلقي الانزياح حيث يقدم غلاف مجموعة "فهرس الملوك" للكاتبة ليلى عبدالله عتبة بصرية-نصية شديدة الخصوصية، تضع القارئ منذ اللحظة الأولى في فضاء الانزياح واللعب الذي سيسيطر على نصوص المجموعة ككل.

يعتمد الغلاف على تباين الأبيض والأسود، وهو تباين يحمل دلالات واضحة على الثنائيات التي تتناولها المجموعة: (الخير والشر، الظاهر والباطن، الحاكم والمحكوم).

غلاف "فهرس الملوك" هو عتبة ذكية ومحفزة، تعلن منذ البداية أن القارئ أمام عمل لا يقبل التلقي السلطي، إنه يدعوه إلى المشاركة في فك الشفرات، ومواجهة الانزياح، وإعادة بناء المعنى في مواجهة محاولات التشويه والتفكيك التي تمارسها السلطة – سواء كانت سلطة الحكم أو سلطة اللغة نفسها، الغلاف، بذلك، ليس مجرد غلاف، بل هو نص موازٍ يضع أسئلة المجموعة كاملة قبل أن نقلب الصفحة الأولى.

(2) رؤية في نصوص المجموعة: السلطة بين السخرية والتراجيديا

تقدم ليلى عبدالله في هذه المجموعة عوالم متخيلة تنتقد فيها أنظمة الحكم والسلطة بكل تجلياتها، مستخدمة تقنيات سردية تتراوح بين الرمز والفانتازيا والسخرية السوداء.

- نقد السلطة والطغيان:

في قصة "ذواق الملك" (من ص 9 إلى 12)، تقدم الكاتبة نقدًا لاذعًا لعلاقة الحاكم بالمحكوم. الملك الشكّاك الذي يجبر أحد الفقراء على تذوق طعامه خوفًا من السم، ينتهي به المطاف ميتًا بسبب سوء التغذية، بينما يعود الذواق إلى أسرته مصابًا بداء النقرس. المفارقة هنا تكمن في أن الخادم نجا من السم لكنه سقط ضحية النظام الفاسد. القصة تطرح سؤالًا عن من هو الضحية الحقيقية: من يموت جوعًا أم من يموت خوفًا؟

- صناعة الأيديولوجيا وتزييف الوعي:

في "حاملو اللواء" (من ص 19 إلى 22)، تتعرض الكاتبة لآليات ترويض الشعوب عبر الخطاب، الكاتب الذي يبيع "آراءه" للملك ليتمكن من ترويج خطاب طاعة الملك بين البسطاء، هو صورة عن المثقف الانتهازي الذي يصبح أداة في يد السلطة لتزييف الوعي وجعل الناس "حاملو لواء" الطاغية.

- السلطة والمرايا: الوهم والحقيقة:

قصة "لعنة المرآة" (من ص 39 إلى 42) تقدم استعارة قوية للعلاقة بين الصورة والحقيقة، الأميرة التي تخفي وجهها خلف لعنة وهمية، تكتشف في النهاية أن "اللعنة" كانت مجرد وهم، وأن الوباء الذي يشوه الوجوه يجعل الجميع متساوين في القبح، المرآة هنا ترمز للحقيقة التي تخشاها السلطة، والتي عندما تظهر، تسقط كل الأقنعة.

-  تفكيك أسطورة البطل:

في "مدونو التاريخ" (من ص 55 إلى 59)، تسخر الكاتبة من صناعة "البطل" عبر التاريخ. الملك الذي يجبر المدونين على كتابة مآثره الوهمية، تتهاوى سيرته بعد موته، لكنها تعود لتباع كسلعة ثمينة في المتاحف! النص يهزأ بفكرة "الحقيقة التاريخية" ويظهر كيف تُصنع بطولة الحكام بالأكاذيب والتزييف.

- السلطة والجنون:

في "ملكة القلوب" (من ص 77 إلى 80)، نرى استعارة فنتازية لسلطة مطلقة تقود إلى الجنون، ملكة قلوب "أليس" التي تأمر بقطع رأس كل من يغضبها، تنتهي بأن يأمر ابنها بقطع رأسها هي نفسها، الدورة المفرغة للعنف والسلطة المطلقة تؤكد أن الطغيان يلتهم أبناءه في النهاية.

(3) جماليات التلقي وتحرير القارئ

"فهرس الملوك" للقاصة ليلى عبدالله ليست مجرد مجموعة قصصية، بل هي مشروع نقدي وجودي، لغة المجموعة تتراوح بين الشاعرية والسردية المكثفة، مستخدمة الرمز لخلق طبقات تأويلية متعددة، القارئ هنا ليس متلقيًا سلبيًا، بل شريك في فك شفرات النص وإعادة بناء عوالمه.

الكاتبة تضعنا أمام مرايا متعددة، مرآة السلطة، مرآة التاريخ، مرآة الذات، ومرآة اللغة نفسها، وفي كل مرة، تدعونا إلى كسر هذه المرايا لنرى ما وراءها، هل نرى الحقيقة؟ أم نرى انعكاساتنا نحن؟ هذا الانزياح الدائم بين الواقع والمتخيل، بين الجد والهزل، بين الأسطورة والواقع، هو جوهر جمالية التلقي في هذا العمل الاستثنائي.

"فهرس الملوك" تأتي كخلاصة لمسيرة كاتبة مجرّبة، تضع كل أدواتها في خدمة رؤية نقدية جريئة، تذكرنا بأن الأدب الحقيقي هو ذلك الذي يضع إصبعه على الجرح، ويدفعنا إلى التساؤل، وإلى كسر كل المرايا المزيفة.

***

رزق فرج رزق

 

لا يكتب ألبير كامو في روايته الشهيرة الطاعون عن وباء فقط، بل يتخذ الوباء مدخلاً فلسفياً عميقا للتأمل في طبيعة الوجود الإنساني، حين تُختزل الحياة إلى لحظة مواجهة مع ما هو غير مرئي وغير متوقع وغير معقول. الوباء في هذه الرواية ليس مجرد سياق صحي أو كارثة طبيعية، بل هو تمثيل رمزي لواقع الإنسان في عالم عبثي تختل فيه المعايير وتسقط فيه الضمانات ويُترك الفرد أمام قوى تفوقه وتُجبره على إعادة تعريف معنى الحرية والمسؤولية والمعاناة.

تقع أحداث الرواية في مدينة وهران الجزائرية خلال أربعينيات القرن الماضي حين تبدأ الفئران الميتة بالظهور في الشوارع، ثم تتوالى الإصابات بين السكان بمرض مجهول يتحول لاحقا إلى وباء يفرض حصاراً كاملا على المدينة، في البداية ينكر السكان وجود الوباء أو يستخفون به ثم تبدأ الأرقام في التزايد ويضطرون إلى الاعتراف بالحقيقة التي لا مفر منها؛ هنا تبرز المهارة السردية والفكرية لكامو الذي لا يسعى فقط إلى وصف وقائع، بل إلى سبر أغوار النفس البشرية حين تفقد الروتين والأمان وتضطر إلى مواجهة واقع جديد لا يخضع لمنطق الحياة اليومية.

يختار كامو أن يروي القصة من خلال شخصية الطبيب ريو الذي يصبح بطل الرواية وإن لم يرد ذلك، فهو ليس بطلاً بالمعنى التقليدي، بل شاهد ومشارك وراصد لمعاناة الآخرين. يرفض ريو التفسيرات الدينية أو الميتافيزيقية للوباء ويرى أن مهمته الأساسية تكمن في العمل المستمر لمساعدة المرضى والتخفيف من آلآمهم حتى وإن كان ذلك بلا جدوى واضحة، هذا الالتزام بالمقاومة في وجه العبث هو جوهر الفلسفة الكاموية التي تتجلى بوضوح في الرواية والتي تقول إن الإنسان لا يحتاج إلى أمل كي يواصل العمل بل إلى شجاعة لمواجهة اللاجدوى.

لا يقدم كامو الوباء فقط كحدث، بل كحالة وجودية تتكشف فيها طبيعة الإنسان أمام الآخر أمام الخوف أمام الموت، فيضع شخصياته في إختبار أخلاقي وفلسفي، إذ ليس الجميع يتصرف بنفس الطريقة البعض يحاول الاستفادة من المأساة والبعض يفرّ منها، البعض ينكرها والبعض الآخر يتخذ منها فرصة لإعادة بناء علاقة جديدة مع نفسه ومع العالم، في هذا السياق يمكن أن نفهم شخصية تارو الصحفي الذي ينضم إلى فرق المتطوعين لمكافحة الوباء رغم أنه ليس طبيبا ولا مجبراً على ذلك وتأتي مذكراته لتشكل بعداً موازيا للرواية وتمنحنا نظرة تأملية في عمق التجربة الإنسانية تحت ضغط الموت الجماعي.

ومن أبرز الشخصيات أيضا نراه الأب بانلو الكاهن الذي يواجه صدمة أخلاقية حين يرى موت الأطفال الأبرياء تحت رحمة الطاعون ففي البداية؛ يفسر ما يحدث بأنه عقاب إلهي على خطايا البشر، لكنه لاحقاً وبعد أن يشهد مأساة طفل صغير يحتضر بين يديه تتزعزع قناعاته ويتحول إلى شخص صامت متأمل مشارك في المعاناة من دون أن يجد لها تفسيراً نهائياً، هذه التحولات الفكرية والعاطفية لدى شخصيات الرواية تكشف لنا أن الطاعون ليس مرضا بيولوجيا فحسب، بل أزمة وجودية تضع الإنسان في مواجهة مع ذاته قبل أي شيء آخر.

الرواية كُتبت في الأربعينات، لكنها تظلّ راهنة في كل زمن، إذ أن الطاعون الكاموي يتجاوز التأريخ والجغرافيا ويتحول إلى إستعارة كونية عن كل ما يهدد الإنسان من قوى العنف والاحتلال والقمع والفاشية والكراهية والجهل، هذه كلها أوبئة لا تقل فتكاً عن المرض البيولوجي، وقد قرأ الكثيرون الرواية على أنها إسقاط على الاحتلال النازي لفرنسا، كما قرأها آخرون كدعوة للمقاومة الفردية في وجه الطغيان، أياً كان شكله ومصدره وفي كل قراءة تظلّ الرسالة المركزية قائمة. الإنسان مدعو لمواجهة العبث لا من خلال الاستسلام، بل من خلال الفعل اليومي البسيط الذي يُعيد إليه شيئا من كرامته وإنسانيته.

كامو ليس وجودياً بالمعنى السارتري ولا يعدّ نفسه فيلسوفاً، لكنه بلا شك أحد أعمدة الفكر الحديث الذي سعى إلى منح الإنسان أدوات أخلاقية ونفسية لمواجهة عالم غير عقلاني بعقل أخلاقي ومنطقي، في الطاعون لا يقدم حلاً مثالياً ولا ينتصر للتفاؤل الزائف، بل يدعو إلى وعي مأساوي يتصالح مع الألم من دون أن يستسلم له، فهو يكتب بلغة واضحة بعيدة عن الغموض أو التزويق الأدبي؛ لأنه يسعى إلى الحقيقة لا إلى الزخرفة ولا يتعامل مع الأدب كزينة بل كمسؤولية أخلاقية تجاه العالم.

أحد أهم محاور الرواية هو الصمت ذلك الصمت الكثيف الذي يغلف المدينة حين يبدأ الوباء في الانتشار صمت الشوارع الخالية صمت البيوت المغلقة صمت المرضى الذين ينتظرون موتهم هذا الصمت لا يمثل فقط نهاية الحياة اليومية بل أيضا بداية لتجربة داخلية جديدة يصبح فيها الإنسان أقرب إلى ذاته وأكثر وعيا بتفاهة الكثير من الانشغالات السابقة حين تُنزع عنه الزينة الاجتماعية ويجد نفسه وحيداً مع جسده مع خوفه مع ذاكرته وندمه وأحلامه المؤجلة.

كامو في الطاعون لا يطرح أسئلة ميتافيزيقية بقدر ما يطرح تحديات عملية كيف نعيش في عالم لا يقدم لنا ضمانات كيف نحافظ على كرامتنا حين يسقط النظام كيف نصنع المعنى في قلب اللامعنى كيف نمنح الحب والرحمة حتى حين لا نؤمن بأن هناك جزاء أخروي أو مكافأة ينتظرنا بعد الموت هذه الأسئلة لا تُطرح بشكل مباشر لكنها تتغلغل في نسيج الرواية من خلال الشخصيات من خلال الأحداث من خلال العلاقات بين الناس من خلال الحوارات القليلة والإيماءات الصامتة والاختيارات الفردية التي تتكرر يومياً دون ضجيج لكنها ترسم ملامح إنسانية عميقة.

وهران في الرواية ليست مجرد مكان بل تتحول إلى شخصية سردية حية مدينة حديثة بروتينها الإداري وحياتها المملة تتحول فجأة إلى سجن كبير يُفرض عليه الحجر الصحي وتُقطع عنه الاتصالات بالعالم الخارجي فيصبح سكانها مجبرين على إعادة اكتشاف بعضهم البعض وعلى إعادة تعريف علاقاتهم مع الجسد والموت والزمن، هذه المدينة التي كان أهلها منشغلين بالتجارة والمقاهي والربح السريع تجد نفسها أمام واقع مختلف تماما تتساوى فيه الطبقات ويتحول الجميع إلى ضحايا محتملين أو شهود على المعاناة.

الطاعون عند كامو ليس نهاية بل كشف لحقيقة عميقة طالما تجاهلها الناس كشف لحقيقة هشاشتنا كبشر ولقدرتنا رغم ذلك على الصمود في وجه العبث من خلال أفعال صغيرة متكررة من خلال التضامن الإنساني من خلال المحبة التي لا تحتاج إلى تبرير فلسفي من خلال الإصرار على أن نكون بشراً في عالم يفقد ملامح إنسانيته شيئا فشيئا وفي ذلك دعوة إلى فعل المقاومة اليومية إلى اختيار الخير حتى حين يبدو بلا جدوى إلى أن نكون أطباء في زمن المرض وشهوداً على الألم من دون أن نصبح جزءاً منه.

كل من قرأ الرواية في عز جائحة كورونا أو بعدها شعر بأنها كتبت الآن لا قبل أكثر من سبعين عاماً وهذا ما يمنحها طابعها الكوني، فالطاعون ليس حدثاً من الماضي، بل هو حاضر دائم بصيغ مختلفة وكأن كامو يصرخ في وجه الزمن قائلاً؛ إن الخطر لا يأتي فقط من الجراثيم بل من اللامبالاة من النسيان من التواطؤ من الصمت وإن المقاومة ليست فعلا بطولياً خارقاً بل التزاماً أخلاقياً مستمراً رغم الضعف رغم الشك رغم الألم.

وهكذا تظل الطاعون رواية تتجاوز حدود الأدب لتصبح شهادة على الإنسان في أقسى لحظاته وأكثرها صدقا رواية لا تحتاج إلى دراما مفتعلة ولا إلى حبكات معقدة لأنها تستمد قوتها من الواقع من التجربة من الألم المشترك الذي يربطنا كبشر في مواجهة مصيرنا المشترك في زمن يتغير فيه كل شيء بسرعة ويبقى فيه سؤال المعنى معلقاً دائما ًفوق رؤوسنا. البير كامو لا يجيب، لكنّه يرشدنا إلى الطريق أن نعيش كأن للحياة معنى حتى وإن لم نجد هذا المعنى أن نقاوم العبث لا بالحرب، بل بالفعل البسيط الصامت، بالإصرار على أن نكون بشراً دائماً وأبداً.

***

د. عصام البرّام

القاهرة

بعنوان: "هناك.. جنوب الياسمين".. قراءة نقدية تحليلية عميقة تعتمد على المنهج الهيرمينوطيقي التأويلي والأسلوبي والرمزي والسيميائي

يُعدّ النص الذي نحن بصدد دراسته للشاعر والناثر خلدون رحمة نموذجاً بالغ الكثافة والتعقيد في آنٍ واحد؛ نصٌّ تتقاطع فيه الأزمنة والرموز، وتتداخل فيه الأبعاد الوجودية مع الجمالية، فيتجاوز حدود الشعر إلى فضاءٍ تأويليّ رحب، يجعل القارئ شريكاً في إنتاج المعنى لا مجرد متلقٍ له. إنّه نصّ يتّخذ من جنوب الياسمين — بوصفه استعارةً عن الجرح الجمعي والهوية الممزقة — فضاءً للتوتر بين الحرب والحب، بين الموت والحياة، وبين الخراب والرغبة في الخلاص.

تتجلّى في هذا العمل بنية هيرمينوطيقية مفتوحة تستدعي القراءة التأويلية العميقة، حيث تتشابك العلامات وتُعيد اللغة بناء العالم من رماده. فالقصيدة ليست مجرّد سردٍ للمأساة، بل هي مجازٌ للوعي الإنساني حين يُمتحن بأقصى درجات القسوة. ولعلّ ما يميّز النص هو توازي خطّين أساسيين في بنائه: خطّ الأسى الوجودي الممتد من “نكبة” الماضي إلى حاضرٍ متجدّد بالنكبات، وخطّ العشق الذي يتعالى على الحرب ليمنح الذات معنى البقاء.

من هنا، تأتي هذه الدراسة لتغوص في الطبقات العميقة للنص، معتمدةً على المنهج الهيرمينوطيقي التأويلي في تفكيك رموزه وانفتاح معانيه، وعلى المنهج الأسلوبي في تحليل لغته وإيقاعه، وعلى المنهج الرمزي والسيميائي في قراءة إشاراته ودلالاته البصرية والوجدانية، بالإضافة إلى البعد الجمالي والوطني والديني الذي ينسج خلفية التجربة الشعرية. كما تُعنى الدراسة بالكشف عن البنية النفسية الكامنة وراء الصورة، وعن توتّر الذات في مواجهة الحرب والحب، الحلم والفقد، الروح والجسد.

بهذا المنظور، يسعى هذا البحث إلى كشف ما تحت الجلد الشعري من نبضٍ وتوتّرٍ ورمز، وإلى إعادة بناء المعنى بوصفه رحلة تأويلٍ مستمرة بين الذات والوجود، بين الكلمة والكينونة.

النص المعنون: "  هناك..جنوب الياسمين"، يحمل كثافة شعرية عالية، وتوتراً دلالياً غنياً بالتعدد القرائي، ما يجعله مناسباً تماماً للغوص في ثناياه.

لذا جاءت هذه الدراسة النقدية موسعة ومنهجية مرتكزة على هذه المحاور:

أولًا: المدخل الهيرمينوطيقي – التأويل وانفتاح المعنى:

النص ينهض على بنية مفتوحة تُتيح تعدد التأويلات وتُبقي القارئ في حالة تأمل ودهشة. فـ “هناك.. جنوب الياسمين” ليست مجرد إشارة مكانية، بل مفتاح تأويلي يفتح الباب على حمولة رمزية ووطنية مكثفة؛ إذ يحيل هذا الجنوب إلى فلسطين/بلاد الشام، وإلى ذاكرة الجمال والخراب معاً.

-الجملة الأولى:

«داخل مثلّثٍ كُسِّرت أضلاعه بمطارق القادمين من الجحيم»

هي جملة مشبعة بالصور المأساوية؛ إذ يتحول المثلث — وهو رمز الاستقرار والتوازن — إلى بنية مكسورة بفعل الغزاة (القادمين من الجحيم)، وهي صورة تأويلية يمكن قراءتها كـ سرد شعري للتاريخ الفلسطيني: انكسار البيت الأول، الوطن، واليقين.

يشتغل الشاعر خلدون رحمة هنا على تأويل مزدوج: فهو لا يصف فقط مأساة خارجية، بل أيضاً انكسارًاً داخلياً في الذات التي تعيش صدمة التهجير والاقتلاع. إن “الهواﺀ” الذي “غصّ بفجيعة ماجنة” ليس عنصراً طبيعياً، بل كيان يشهد ويختنق. هذه الانزياحات اللغوية تخلق نصاً تأويلياً لا يخاطب العقل فحسب، بل الوجدان الجمعي.

ثانيًا: المنهج الأسلوبي – توتر الصورة وثراء الجملة الشعرية:

الأسلوب في هذا النص يقوم على إيقاع مزدوج:

١- إيقاع تفجيري: عبر التراكيب الصادمة (“مطارق القادمين من الجحيم”، “القذيفة أخطأت لحمه لكنها أصابت حلمه”).

٢- وإيقاع احتوائي حميمي: عبر لغة الحب والاحتضان (“زنّرته بغزالات روحها”، “غسلت بكوثرها الأمومي”).

هذا التضاد الأسلوبي يعكس بنية الازدواج في التجربة الإنسانية زمن الحرب: بين العنف المطلق والرغبة في الحياة، بين الخراب والعشق، بين صوت الانفجار وصوت الأنثى.

٣- اللغة مشحونة بـ صور مجازية معقدة، تنقل الإحساس بالاختناق والرجاء في آنٍ معاً، لتخلق شبكة أسلوبية محكمة تتناوب فيها القسوة والرهافة.

ثالثاً: القراءة الرمزية والسيميائية:

١- “جنوب الياسمين”: رمزٌ للهوية الفلسطينية والسورية (الياسمين الدمشقي)، لكن الجنوب هنا ليس جغرافيا فقط، بل منفى داخلي ومكان جريح.

٢- “المثلث”: إشارة سيميائية إلى المكان/الوطن/البيت، وانكساره دلالة على سقوط الحماية وتفتت البنية الجماعية.

٣- “القذيفة”: رمز للحرب/الدمار المادي والنفسي.

٤- “الحلم الممتد من عطش المنفى إلى بحر كنعان”: تمثيل شعري للرحلة الفلسطينية بين التيه والحنين والعودة المؤجلة.

٥- “المرأة/المخلّصة”: تظهر كرمز مزدوج:

أمومي/خلاصي: “زنّرته بغزالات روحها” – تحميه وتعيده إلى رحم الأمان.

عشقي/جسدي/ميتافيزيقي: “صفعته بعطر نهديها” – تعيد له الحياة عبر الجسد والرمز.

- السيميائية في النص لا تنحصر في الرمز الواحد، بل تعمل في سلسلة ترابطية تُحيل القارئ إلى معجم ثقافي وتاريخي وديني.

رابعاً: البنية النفسية – ما تحت الجلد الشعري:

النص ينطق من منطقة الجرح العميق، حيث يلتقي الخوف بالعشق، والقلق بالحنين، والموت بالحياة.

البطل يعاني انشطاراً داخلياً بين الواقع المدمّر والحلم المستحيل.

القذيفة التي “أخطأت لحمَه” لكنها “أصابت حلمه” تعبّر عن صدمة وجودية؛ فالأجساد قد تنجو، لكن الروح تصاب إصابة لا شفاء منها.

اللقاء مع الأنثى ليس لقاء جسدياً بل طقساً نفسياً للخلاص من وحشة الحرب، وخلق مساحة تطهّر ذاتي.

“القبلة الثالثة” في نهاية النص تشير إلى توقٍ للاتحاد النهائي، ربما مع الوطن، أو مع الحياة نفسها، أو مع السلام الغائب.

خامساً: البعد الديني والميتافيزيقي:

توظيف مفردات مثل “كوثر”، “ملاك”، “جلجلة”، “كنعان” يمنح النص بعداً روحياً عميقاً، يوظف اللغة الدينية كحاضنة للرمز لا كعقيدة مباشرة.

“جلجلة الخوف” تحيل إلى صليب المعاناة (جلجلة المسيح)، لتجعل من الألم الفلسطيني أيقونة كونية.

الأنثى هنا ليست فقط معشوقة، بل قدّيسة/مخلّصة تعيد للذات تماسها بالزمن المقدس.

سادساً: المستوى الجمالي والوطني:

الجمال في هذا النص ينهض على مفارقة مأساوية:

١- الجمال الأنثوي مقابل دمار الحرب.

٢- رهافة الصورة مقابل خشونة الواقع.

٣- الحنين الوطني مقابل الاغتراب الوجودي.

اللغة الوطنية ليست شعاراتية، بل مضمّنة في الصور، في “جنوب الياسمين”، “بحر كنعان”، “النكبة القديمة (المتجددة)”.

هذا الاشتغال الجمالي على الذاكرة الوطنية يعيد صياغة المأساة بلغة شعرية كونية لا تخاطب الفلسطيني وحده، بل الإنسان عامة.

سابعاً: تأويلات ختامية – بين الحب والحرب:

البيت الأخير:

«داخل مثلّثٍ يحلم بالحياة وينتظر القُبلة الثالثة»

هو ذروة النص التأويلية: فـ “القبلة الثالثة” ليست مجرد فعلٍ حسي، بل رمز لولادة جديدة بعد الحرب. إنها الحلم الذي يؤجل الحرب ويمنح الروح سببًا للبقاء.

القبلة الأولى نجاة، والثانية مقاومة، والثالثة تحقّق الخلاص.

هكذا يزاوج الشاعر بين الأنوثة/الوطن والحب/التحرر في خطاب واحدٍ متماسك دلالياً وجمالياً.

خاتمة نقدية:

هذا النص ليس سرداً شعرياً تقليدياً، بل نسيج لغوي رمزي تتداخل فيه الأسطورة، التاريخ، الدين، والسياسة مع البنية النفسية للفرد الفلسطيني/الإنساني.

المنهج التأويلي يكشف أن المعنى لا يكمن على السطح، بل في الطبقات العميقة للرمز.

المنهج الأسلوبي يُظهر الصراع بين صوت الحرب وصوت الحياة.

المنهج السيميائي يضيء شبكة رمزية معقدة تتجاوز اللحظة المباشرة إلى أفق كوني.

- إن خلدون رحمة في هذا النص يكتب بالدمع لا بالحبر، ويجعل من الحب معادلاً موضوعيًا للحياة في وجه موتٍ يتربص بكل شيء.

***

بقلم: عماد خالد رحمة - برلين

....................

هناك.. جنوب الياسمين،

داخل مثلّثٍ كُسِّرت أضلاعه بمطارق القادمين من الجحيم.

هناك تماماً، حيثُ غصّ الهواﺀ بفجيعة ماجنة: احتضنتْ جسده المحشوّ بالعتمة والخوف، كان بعضُهُ يفتّش عن بعضِهِ بين أنين الركام ونُتَفِ اللحم البشريّ.

لم يصعد إلى جلجلة الخوف المطلق فيما سبَقْ، القذيفة أخطأت لحمَهُ المزهوّ بالصبا والذكريات، لكنها نجحت في إصابة حلمه الممتدّ من عطش المنفى إلى بحر كنعان. كانت روحه معفّرة بغبار القلق الوجوديّ، المكان اهتزّ في أعماقه حتى أقاصي المخيّلة ورائحة البرتقال، أمّا زمانه فقدْ فقَدَ وعيه منذ النكبة القديمة (المتجددة).

- أين أنا؟

- لا تخف، أنتَ هنا حبيبي.

أنقَذَتْهُ بجمالها الفائض عن حاجة الكون، زنّرَتهُ بغزالات روحها الهيفاﺀ ثمّ غسلتْ بكوثرها الأموميّ اختلاج طفل ينزف في عينيه.

كانت خائفةً عليهِ ومنهُ، انهمر دمعها الماسيّ على نحرها، أدرك ذاته في ذاتها، قبّلها بشراسةٍ ناعمةٍ فصفعته بعطر نهديها لتذكّره بأنه مازال حيّاً.

تلألأت بين يديه كمعجزة كما يتلألأ ملاك في قبّة السماﺀ، قبّلها ثانية لينتقم من وداع قادم تبكيه دروب الرحيل.

فكّرَ بالحبّ وهمس لها: للحبّ في الحرب اتساع الوصف، اشتداد الحنين وتشعّب التأويل.

كَفَرَ بالحرب وصرخ في داخله: للحرب في الحبّ انكسار الوردة، انطفاﺀ القلب وانتحار المعنى.

هناك..

جنوب الياسمين

داخل مثلّثٍ يحلم بالحياة وينتظر القُبلة الثالثة..

 

جماليات التلقي في المجموعة القصصية "الذي سرق نجمة" لسناء شعلان

صاحبة القلم المقاوم .. سيرة أدبية وإنسانية مشتعلة، الأديبة والباحثة الأردنية الدكتورة سناء الشعلان، التي حملت بين جنباتها عالمين: عالم الأكاديميا بصرامتها، وعالم الإبداع بجنونه، هي أستاذة الأدب الحديث وناقدة، حملت شعلة المعرفة إلى طلبتها في الجامعة الأردنية، ونشرتْ نورَ الكلمة في صحف العالم وعواميدها، من الهند إلى الولايات المتحدة، فاستحقتْ أن تُلقّب بـ "سيّدة القصّة القصيرة العربيّة" و "شمس الأدب العربيّ".

من رحم المعاناة والإصدار، وُلِدَت نصوصها التي تنامى صداها في أرجاء العالم العربي والعالمي، حاصدةً عشرات الجوائز المرموقة، من "جائزة كتارا" إلى "جائزة ابن بطوطة لأدب الرحلة". كتاباتها، سواء أكانت قصصاً أم روايات أم دراسات نقدية، تنبض بقضايا الإنسان والمهمش، وتنزف هماً فلسطينياً وعربياً أصيلاً.

هي ابنة نعيمة، التي لم تكتفِ بشغف التدريس والبحث العلمي، بل جعلت من قلمها سلاحاً للمقاومة، ومن كلمتها جسراً للتواصل بين الشعوب. إنها عالم أدبي متكامل، يمشي على قدمين: قدم في عمق التراث، وأخرى في آفاق الحداثة، لتخلق مسيرةً زاخرةً هي في حد ذاتها عمل إبداعي يستحق القراءة.

وفي كل محطة، تثبت الشعلان أنها شمعة تحترق لتضيء للآخرين، فلم تكتفِ بإنجازاتها الأكاديمية والأدبية، بل امتد عطاؤها إلى العمل الإنساني والإعلامي، لتكون صوتاً للعدالة والحرية، حضورها اللافت في المؤتمرات العالمية ومحاضراتها في أعرق الجامعات شهادة على مكانتها كأيقونة أدبية تكرس حياتها للكلمة التي تبنى ولا تهدم، تلهم ولا تيأس، وتصل إلى القلوب قبل العقول.

العتبات الأولى في "الذي سرق نجمة": عتبات نحو عوالم متخيلة

تمثل العتبات النصية الأولى في أي عمل أدبي عتبات دلالية تنقل القارئ من العالم الواقعي إلى العالم التخييلي، وتشكل في مجموعها عقداً قرائياً بين النص والقارئ، في مجموعة "الذي سرق نجمة" لسناء شعلان، تكتسب هذه العتبات أهمية خاصة في بناء عوالم المجموعة وتوجيه عملية التلقي.

عتبة الغلاف: بين السرقة والنجمة

يحمل الغلاف عنواناً مثيراً للفضول: "الذي سرق نجمة"، هذا العنوان يطرح عدة أسئلة فورية: من هو السارق؟ ولماذا سرق نجمة؟ وما دلالة السرقة؟ وهل هي جريمة أم فعل بطولي؟ وما رمزية النجمة؟ هل هي حقيقية أم مجازية؟

يشكل العنوان عتبة دلالية تضع القارئ أمام مفارقة: كيف يسرق الإنسان نجمة من السماء؟ هذه المفارقة تفتح الباب أمام القراءة الرمزية منذ اللحظة الأولى.

عتبة الإهداء: تخصيص القراءة

يوجه الإهداء إلى "نجمتي الطاهرة التي تضيء حياتي"، مما يوحي بأن النصوص تحمل شحنة عاطفية وشخصية، هذا الإهداء: يخلق علاقة حميمة بين النص والقارئ، ويشير إلى أن النصوص قد تحمل سيرة ذاتية متخفية، ويضفي طابعاً إنسانياً على المجموعة قبل البدء في القراءة

عتبة الفهرس والغلاف الداخلي: تنوع العوالم وبيانات النشر

يقدم الفهرس أربعة عشر قصة متنوعة المواضيع، من "الذي سرق نجمة" إلى "يوميات إنسان مهزوم"، هذا التنوع: يعلن عن ثراء الموضوعات والأشكال السردية، يخلق توقعات متعددة لدى القارئ، يشير إلى أن المجموعة ستتناول قضايا إنسانية متنوعة، وتحتوي الصفحات الأولى على بيانات النشر والفهرسة، التي وإن بدت تقنية، إلا أنها: تؤكد جدية العمل وأصالته، وتخلق مصداقية للنص منذ البداية، وتربط النص بمؤسسات ثقافية رسمية

عتبة البداية السردية: عقد القراءة

تبدأ القصة الأولى بنبرة سردية خاصة: "كل شيء في حياته صغير وعدود ومتواضع، ولكنه على الرغم من ذلك مولع حد التخيل والمغالاة والكذب..."، هذه البداية: تضع القارئ مباشرة في جو نفسي عميق، وتخلق تعاطفاً مع الشخصية الرئيسية، وتعلن عن موضوع الخيال والواقع الذي ستهيمن على المجموعة

عتبة التصميم والخط

يُلاحظ في المجموعة استخدام خطوط واضحة وتصميم بسيط، مما: يسهل عملية القراءة، ويركز الانتباه على المضمون لا الشكل، يعكس جدية الموضوعات المطروحة

الوظائف الدلالية للعتبات الأولى:

- وظيفة إغرائية: تجذب القارئ وتثير فضوله

- وظيفة توجيهية: توجه التلقي وتحدد أفق التوقع

- وظيفة تعاقدية: تضع شروطاً ضمنية للقراءة

- وظيفة تأويلية: تفتح مجالات متعددة للتأويل

تشكل العتبات الأولى في "الذي سرق نجمة" نظاماً دلالياً متكاملاً يهيئ القارئ لدخول عوالم المجموعة، إنها ليست مجرد عتبات شكلية، بل هي بوابات حقيقية إلى عوالم النص، تضع القارئ في حالة من الترقب والاستعداد النفسي والفكري لاستقبال النصوص، من خلال هذه العتبات، تنجح سناء شعلان في بناء علاقة خاصة مع القارئ، علاقة تقوم على المشاركة والتأمل والبحث المشترك عن المعنى.

هذه العتبات لا تسبق النص فحسب، بل تمهد له وتؤسس لشروط قراءته، مما يجعلها جزءاً عضوياً من البنية الدلالية للمجموعة ككل، تعد مجموعة "الذي سرق نجمة" للقاصة الأردنية سناء شعلان نموذجاً أدبياً متميزاً يستدعي تأملاً عميقًا في جماليات التلقي، تلك النظرية النقدية التي تركز على دور القارئ في إكمال المعنى وتشكيل الدلالة، فالنصوص هنا لا تقدم نفسها كمقولات مغلقة، بل تفتح أبواباً متعددة للتأويل، مما يجعل القارئ شريكاً فعلياً في بناء العالم القصصي.

الحكاية كفضاء مفتوح:

تتنوع القصص في المجموعة بين الواقعي والرمزي والفانتازي، مما يخلق فضاءً سرديًا مرناً يتفاعل معه القارئ وفقاً لخبرته ووعيه، قصة "الذي سرق نجمة" نفسها، على سبيل المثال، تقدم لنا كذبة الإسكافي التي تتحول إلى حقيقة في عيون السلطة، لتصبح أداة للقمع والإلهاء، هنا، يجد القارئ نفسه أمام سؤال: من هو السارق الحقيقي؟ هل هو الإسكافي أم النظام الفاسد؟ الإجابة تترك للمتلقي، مما يجعله جزءاً من عملية كشف الزيف.

اللغة كجسر عاطفي:

تتميز لغة شعلان بشاعرية عالية وكثافة رمزية، كأنها تستدعي القارئ إلى حوار داخلي مع النص، في قصة "حيث البحر لا يصلي"، تتحول اللغة إلى وسيط يعبر عن صراع الهوية والحرية، حيث يصبح البحر رمزاً للخلاص والحاجز في آن واحد. القارئ يشارك في فك رموز هذه اللغة، فيشعر بأنه ليس مجرد مستقبل، بل محاور للنص.

التعددية السردية وتفكيك السلطة:

تقدم المجموعة أصواتًا متعددة: صوت المرأة، الطفل، المهمش، الحالم، الثائر، كل قصة تحمل رؤية مختلفة، وكأن الكاتبة ترفض الرواية الأحادية، في "منامات السهاد"، نرى أحلام السلطة والشعب والمرأة، كل منها يعكس واقعاً مختلفاً، القارئ هنا مدعو إلى مقارنة هذه الأصوات وربطها، ليصل إلى فهم أعمق للعلاقة بين السلطة والحرية.

القارئ كشاهد ومشارك:

في قصص مثل "الاستغوار في الجحيم" و"غالية سيادة الحكايا"، يتحول القارئ إلى شاهد على المعاناة الإنسانية، كما يصبح شريكاً في البحث عن الأمل، قصة غالية، الطفلة التي تواجه سرطان أمها بالحكايات، تدفع القارئ إلى التساؤل: أي قوة للحكاية في مواجهة الموت؟ وهل يمكن للكلمات أن تشفي؟

الانزياح عن المألوف:

تعتمد شعلان على الانزياح باللغة والحدث، مما يخلق صدمة تلقي إيجابية. في "أبو دوج"، نرى شخصية منبوذة تتحول إلى رمز للبراءة والطهارة، بينما ينقلب الأخ "الورع" إلى منافق، هذا الانزياح يجبر القارئ على مراجعة أحكامه المسبقة وإعادة النظر في مفهومي الخير والشر.

النهاية المفتوحة:

كثير من القصص في المجموعة تنتهي بنهايات مفتوحة، كقصة "سحر وداد" التي تترك السؤال معلقاً: هل السحر حقيقي أم هو مجرد استعارة للشر؟ هذا يمنح القارئ مساحة لاستكمال النص من خلال تجربته وخياله.

"الذي سرق نجمة" ليست مجرد مجموعة قصصية، بل هي دعوة مفتوحة للقارئ ليكون فاعلاً في عملية الخلق الأدبي. من خلال جماليات التلقي، تنجح سناء شعلان في تحويل القراءة من فعل استهلاكي إلى تجربة حية، يشارك فيها القارئ في تشكيل المعنى واستنباط الدلالة، إنها نصوص تثير الأسئلة أكثر مما تقدم الإجابات، مما يجعلها تعيش طويلاً في ذاكرة من يقرأها.

***

رزق فرج رزق - ليبيا

«هذيان أنثى» للشاعرة القديرة ضحى بوترعة

مقدمة: تُشكّل التجربة الشعرية النسوية في السياقات الثقافية في مختلف الدول تحوّلًا جماليًا وفكريًا بارزًا في الأدب الحديث، إذ أعادت الاعتبار لصوت المرأة كفاعلٍ في صناعة المعنى، لا مجرد تابع له. في هذا السياق، تبرز قصيدة «هذيان أنثى» للشاعرة التونسية ضحى بوترعة كنموذج رائد، إذ تقدّم خطابًا شعريًا متداخل الطبقات، يجمع بين البوح الوجداني والتأمل الوجودي، في لغة تتجاوز المألوف نحو فضاءات رمزية وانفعالية غنية بالدلالات.

تستمد القصيدة أهميتها من قدرتها على تجسيد وعي أنثوي معاصر يسعى لإعادة تعريف العلاقة بين الجسد والروح، بين العشق والكتابة، وبين الوعي واللاوعي. كما أنها تنتمي إلى تجربة شعرية تونسية حديثة تتّسم بالجرأة اللغوية، والتنوّع الإيقاعي، والانفتاح على القيم الإنسانية الكبرى، ما يجعلها نصًا متعدد المستويات، قابلًا لقراءات نقدية وسيميائية ونفسية متكاملة.

تهدف هذه الدراسة إلى فحص البنية الجمالية والدلالية لقصيدة «هذيان أنثى» للشاعرة ضحى بوترعة، وهي إحدى قصائد مجموعتها الشعريّة «روح تؤذن لصلاة الجسد». تعتمد الدراسة مقاربة نقدية تكاملية تستند إلى مناهجٍ متعددة: البنيوية، والسيميائية، والتحليل النفسي، والمنظور النسوي. وتسعى إلى إظهار آليات بناء الشاعرة لتجربتها الأنثوية داخل اللغة، وتفكيك الاستعارات والحقول الدلالية التي تنسج النصّ وتنتج دلالاته العميقة، لاكتشاف كيف يصبح الشعر فضاءً للتمرد الوجودي وإعادة تأسيس الذات.

التأطير النظري

تستند دراسة قصيدة «هذيان أنثى» إلى أربعة أطر نظرية مترابطة تتيح قراءة النص على مستويات متعددة: البنيوية، السيميائية، النفسية، والبعد النسوي

البنيوية تنظر إلى النص كنظام مستقل، حيث يُفهم المعنى من العلاقات الداخلية بين عناصره لا من حياة الشاعرة وحدها. في القصيدة، يظهر ذلك في التكرار، التضاد، والانزياحات التركيبية التي تولّد الإيقاع الداخلي والمعنى الذاتي.

السيميائية تركز على العلامة والرمز، فكل عنصر في النص يتفاعل مع غيره لتشكيل شبكة دلالية. الحقول الدلالية مثل الطفولة، الجسد، الكتابة، والعاطفة المظلمة، تتحوّل إلى أدوات لصوغ المعنى، والانزياحات الدلالية والاستعارات تصبح عمليات بنائية أكثر منها جمالية.

التحليل النفسي يغوص في دوافع المتكلّمة واللاوعي. من منظور فرويدي، يتحوّل الكبت والتحويل إلى إبداع شعري؛ ومن منظور يونغي، تظهر الأنماط الأولية (الطفلة، الظل، الحلم) كرموز للتكامل الذاتي؛ ومن منظور لاكاني، تُشير العلامات إلى الرغبة المستمرة و كعنصر محفّز لإيقاظ الطاقة النصية.

البعد النسوي يُبرز حضور الذات الأنثوية بوصفها فاعلًا لغويًا ومعرفيًا، لا مجرد موضوع للخطاب. فالكتابة هنا تُعيد تشكيل العلاقة بين الجسد واللغة، وتُوظّفهما كأدوات مقاومة ضد البنى الرمزية والاجتماعية الموروثة. تظهر صور مثل «تحت القميص» و«الحبر الذي لا يرتوي» بوصفها استعارات وجودية تُفصح عن رغبة الذات في التعبير والتحرر. وتتماهى هذه المقاربة مع مفهوم "كتابة الجسد" لدى هيلين سيكسو، حيث تُصبح الاستعارة والانزياح أدوات لإعادة بناء الهوية الأنثوية داخل اللغة، وتحريرها من مركزية المعنى الذكوري

البنية الدلالية والرمزية في قصيدة «هذيان أنثى»

أولًا: العنوان ودلالاته الرمزية

يحمل عنوان القصيدة «هذيان أنثى» شحنةً انفعالية كثيفة تُشي باضطراب الوعي و تماهيه مع التجربة الوجدانية. فـ"الهذيان" لا يُفهم هنا بوصفه فقدانًا للعقل أو انحرافًا مرضيًا، بل كحالة لغوية تتقاطع فيها الرغبة مع اللاوعي، وتتحول إلى صوت يتجاوز حدود المنطق ليعبّر عن أقصى درجات التوتر الشعوري. أمّا لفظ «أنثى» فيأتي ليؤكد مركزية التجربة النسوية في القصيدة، حيث تتخذ المتكلمة موقع الذات المتلفظة لا كموضوع للرغبة، بل كفاعل معرفي يُعيد تعريف ذاته من داخل اللغة. يجتمع في العنوان إذن اضطراب الإحساس (الهذيان) وهوية الجسد الأنثوي (الأنثى) ليؤسّسا معًا خطابًا شعريًا حسيًا داخليًا، يتكثّف فيه البوح ويتحوّل إلى فعل وجودي يتجاوز المألوف.

ثانيًا: تحليل المقاطع الشعرية

1. «هذه الروح تلتف بأطراف أنثى تحاور شوقها»

تفتتح الشاعرة قصيدتها بصورة كثيفة الدلالة تستحضر علاقة جدلية بين الروح والجسد؛ إذ تلتف الروح بأطراف الأنثى في حوار داخلي مع الشوق، بما يرمز إلى اتحاد الكيانين: المادي والميتافيزيقي. هذا الالتفاف لا يُقرأ بوصفه مجرد تداخل جسدي، بل يُشكّل نقطة التقاء بين الرغبة والمعرفة، حيث تتحول الأنثى إلى كينونة مزدوجة: الجسد بوصفه ذاكرة حسيّة، والروح بوصفها وعيًا متجاوزًا. ويُتيح هذا التداخل إمكانات متعددة للتأويل، خاصة حين يُقرأ النص من خلال منظور النقد النسوي الذي يُعيد بناء الذات الأنثوية كفاعل رمزي، ومن خلال نظرية استجابة القارئ التي تمنح المتلقي سلطة المشاركة في إنتاج المعنى، مما يجعل الصوت الأنثوي في القصيدة نقطة انبثاق لهوية متحوّلة تُعيد تعريف ذاتها عبر الحوار مع الشوق.

2. «وقد كنا فوضى الفكرة ونبيذ الروح في الجسد»

يستخدم الضمير الجمعي (كُنّا) للدلالة على انصهار الكينونة في تجربة وجدانية مشتركة. "فوضى الفكرة" تشير إلى التشتت المعرفي الذي يسبق الخلق، و"نبيذ الروح" يرمز إلى النشوة التي توازي لحظة الإبداع أو العشق.

3. «لم أستفق بعد من دهشة الحدائق المعلقة في شقوق جدراني»

يستدعي هذا البيت الشعري صورًا جمالية متراكبة تُجسّد العلاقة بين الخارج والداخل، بين الذاكرة والواقع. فالحدائق المعلقة لا تُحيل إلى فضاء طبيعي فحسب، بل تُرمز إلى الدهشة المؤجلة، وإلى جمالٍ داخلي يعيش في أسر الذات، كأنها رغبات أو أحلام معلّقة في فضاء النفس. أما "شقوق الجدران"، فهي تمثيل رمزي لتصدّعات الذاكرة أو لتشظّي الجسد الأنثوي ذاته، بما يحمله من آثار التجربة والانكسار. هكذا تتشكّل الدهشة كحالة مستمرة، لا شفاء منها، لأنها تنبع من داخل الذات وتُعاد إنتاجها عبر التوتر بين الرغبة والندبة، بين الجمال والانكسار.

4. «ها أنا أراود صوتًا تحت القميص لم أسمعهُ»

تتصاعد هنا لغة الجسد بوصفها موقعًا للذاكرة والسر. فـ"الصوت تحت القميص" ليس سوى النداء المكبوت، والرغبة المؤجلة في البوح. المراودة فعل لغوي/جسدي، يتقاطع فيه الإغراء مع الاستدعاء.

5. «ثمّة ليلٍ يُخفيني ليكتمل فيّ العشقُ»

يُشكّل الليل في هذا البيت فضاءً رمزيًا تتوارى فيه الذات الجسدية لتتكشف الروح، حيث يتحوّل إلى حاضن للعشق وساتر للكينونة. فـ"يُخفيني" لا يُقرأ بوصفه فعلًا للهروب، بل كشرط وجودي لانبثاق الحب في بعده المتكامل. يتجلى العشق هنا في العتمة، في زمنٍ خارج الزمن، حيث تغيب الرقابة الخارجية وتُولد الحقيقة الداخلية، مما يُضفي على التجربة طابعًا ميتافيزيقيًا يتجاوز الإدراك الحسي نحو الوعي المتسامح مع الغياب والانكشاف

6- «ثمّة صوت لتأويل الوهم؛ من الصعب أن نمرّ...»

 تُعلن الذات عن وعيها باستعصاء المعنى، حيث يتحوّل "الصوت" إلى أداة تأويلية تحاول فكّ شيفرة الوهم، لكنها تصطدم باستحالة المرور، أي استحالة الوصول إلى حقيقة نهائية. هنا يتجلى التوتر بين الرغبة في الفهم وحدود اللغة، في إطار تأويلي يُقارب تجربة الحلم والكتابة.

7-  «وأنا التي تروض الغيمة لأنوثتها»

 تستعيد الذات سلطتها الرمزية عبر ترويض الطبيعة، حيث تتحوّل "الغيمة" إلى رمز للفوضى والعطاء، وترويضها يُعبّر عن قدرة الأنثى على احتواء الحياة وتشكيلها. إنها لحظة استعادة للفاعلية الأنثوية بوصفها قوة خالقة.

8- «وتبصر طفلةٍ تذرع الحبر ولا ترتوي»

تظهر الطفلة كاستعارة للذات في لحظة الولادة الشعرية الأولى، حيث الحبر يُجسّد الكتابة، والعطش يُحيل إلى شغف الاكتشاف. إنها مرحلة التأسيس، حيث الدهشة لا تزال حيّة، والكتابة تُولد من الحاجة إلى المعنى.

9- «تُشاكسُ الفَيْضَ حينَ يستيقظُ السوادُ»

 تتخذ الذات موقفًا وجوديًا مقاومًا، إذ تُشاكس الفيض العاطفي حين يستيقظ الألم أو الوعي المظلم. هذه المشاكسة ليست رفضًا، بل إعادة إنتاج للمعنى من قلب الجرح، حيث الكتابة تُصبح فعلًا مضادًا للانكسار.

10- «ويُصبحُ الوهمُ لامعًا في شرفةِ القلبِ»

يبلغ الوهم لحظة التوهج الجمالي، حين يتحوّل إلى طاقة داخلية تُضيء القلب، الذي يُصبح فضاءً للخيال المتوهّج. هنا يتماهى الوهم مع الحقيقة، ويُعاد تعريفه كقيمة جمالية لا تقلّ واقعية عن الإدراك الحسي.

11- «أعرف كيف أثير انتباه الحلم في المعنى»

يتجلى وعي الذات بعملية الكتابة بوصفها فعلًا خلّاقًا، حيث تُثير الحلم وتُعيد تشكيله داخل اللغة. هذا البيت يُعبّر عن لحظة إدراك نقدي، تُصبح فيها الذات قادرة على تحويل اللاوعي إلى خطاب، والحلم إلى دلالة.

12- «أعبر به لون البكاء ولون الصديد»

يتخذ الألم شكلًا لونيًا مزدوجًا، حيث البكاء يُحيل إلى الشفافية، والصديد إلى الوجع المتقيّح. هذا العبور يُجسّد الكتابة كفعل تطهيري، يُحوّل الجرح إلى معنى، ويُعيد تشكيل الذات عبر الألم.

13- «تمامًا كما طفلةٍ ليسَ لها غيرُ انتباهِ الفِرَاشِ؛ حِضنٌ للحَذَرِ»

تختم الشاعرة بعودة إلى الطفولة، حيث الأمان مشوب بالحذر. الفِرَاشُ هنا يُجسّد رمزًا مزدوجًا للحياة القصيرة والدفء الزائل، والطفلة تمثل ذاتًا هشّة لكنها يقِظة، تُدرك المعنى من خلال الحذر والانتباه، لا من خلال الطمأنينة المطلقة.

البعد الأنثوي–الوجودي في بنية الاستعارة والانزياح الدلالي

1. مدخل نظري

تقوم التجربة الشعرية النسوية الحديثة على فعلٍ لغويٍّ وجوديّ: إعادة كتابة الذات الأنثوية من داخل اللغة نفسها، بحيث لا يبقى النصُ مرآةً تعكس موضوعًا جاهزًا، بل يصبح فضاءً لتشكيل الكينونة وإعادة تأويلها. من منظور النقد النسوي، ولا سيما في قراءة هيلين سيكسو لمفهوم «كتابة الجسد»، تتحوّل اللغة إلى فعلٍ يستدعي الجسد ويُعيد توزيعه دلاليًا، مكسرًا نمطية المركزية الذكورية. في ضوء ذلك، لا تُعامل الاستعارة والانزياح الدلالي كزخرفتين بلاغيتين فحسب، بل كآليتين لتهيئة سياق تمردٍ وجودي؛ تمردٍ يعيد إنتاج الذات عبر تحويل حدود المعنى ومواقع الخطاب.

2. تحليل الانزياح الدلالي والاستعارة داخل النص

تتبدّى في القصيدة شبكة من الانزياحات والاستعارات التي تذيب الثنائيات التقليدية (جسد/روح، داخل/خارِج، وعي/رغبة)، وتعيد بناء الحضور الأنثوي كلغةٍ ووجودًا:

اتحاد الروح والجسد:

في «هذه الروح تلتفّ بأطراف أنثى تحاور شوقها» تتحول «الأطراف» من دلالةٍ جسدية إلى أدواتٍ خطابية؛ فالالتفاف هنا فعل لغوي يَمنح الروح هيئة حركة، ويُخرِج الجسد من موقع الصمت إلى خطّ النطق. الانزياح يعمل على جعل الرغبة مصدرًا للمعرفة، وعلى اعتبار المعرفة شكلًا من أشكال التمرد.

الجسد كمجال للخلق:

تقول الشاعرة «وقد كنا فوضى الفكرة ونبيذ الروح في الجسد» فتُعيد للجسد وظيفةَ الإنتاج الدلالي؛ تتحول الفوضى إلى طاقة تكوينية، والنبيذ إلى رمزٍ لانعتاق معرفي وشعوري، فيتحوّل الجسد إلى وعاءٍ مبدعٍ للمعنى بدل أن يكون موضوعًا لنظرةٍ خارجية.

الجرح كموقع خلق: استعارة «حدائق معلقة في شقوق جدراني» تعكس انقلابًا جمالياً؛ الحديقة بمنأى عن الخارج تُزرع في شقوق الذات، أي في الجرح نفسه، فتصبح علامةً على ولادةٍ من خلال الانكسار—قراءة وجودية تؤكد على الإمكانية الخلاقية للألم

استنطاق الصوت المكبوت:« "ها أنا أراود صوتًا تحت القميص لم أسمعه" يحوّل القميص إلى رمزٍ للحجب الاجتماعي واللغوي. المراودة هنا فعلُ استنطاقٍ داخلي، واستدراج لصوتٍ كان مُكمّمًا، ما يجعل الكتابةَ فعل مقاومة لغوية ضد الإخفاء.

الليل كحاضن للتحرر:

في "ثمّة ليلٍ يُخفيني ليكتمل فيّ العشق" ينزاح الليل من دلالة السكون والجمود إلى فضاءٍ لحرية البوح. الاختفاء ليس انسحابًا، بل ممارسة للحرية في هامشٍ لا تقف فيه رقابة المفاهيم.

التأويل كفعل تمرد معرفي:

عبارة «ثمّة صوت لتأويل الوهم؛ من الصعب أن نمرّ...» تقوّض قيمة الوهم كخداع، وتمنحه طابعًا تأويليًا يُفضي إلى تعددية الحقائق، فتتحوّل مقاومةُ الحقيقة الواحدة إلى خيارٍ معرفيٍّ ومناهضٍ للقيود.

ترويض الطبيعة واللغة:

«وأنا التي تروض الغيمة لأنوثتها» تَستعيد الذات السيطرة على مَوَادّ الطبيعة واللغة معًا؛ فاللغةُ هنا أداة ترويضٍ وتحويلٍ وليست محكوماً عليها بالوصف السلبي.

الطفولة كمصدر كتابةٍ دائم:

«طفلة تذرع الحبر ولا ترتوي» تَصوّر الطفولة كمخزونٍ خصبٍ للخلق، حيث يصبح الحبر ماءً رمزيًا لا يروّي العطش التعبيري الذي يستمر كحالة ولادة متكررة.

تحويل الألم إلى ضوء:

التناصّان "تُشاكسُ الفيضَ حينَ يستيقظُ السوادُ" ويُصبحُ الوهمُ لامعًا في شرفةِ القلبِ يبدّلان القيم التقليدية؛ العتمة تنتج الفيض، والوهم يصبح ضوءًا معرفيًا—انزياحٌ يمنح الوجع قدرةً على الإبداع والتحول.

الطفولة كيقظة لا براءة:

خاتمة القصيدة "تمامًا كما طفلةٍ ليس لها غير انتباهِ الفِرَاشِ؛ حضنٌ للحَذَرِ" تُعيد قراءة الطفولة كحالة يقظة ووعي حذر، لا كبراءةٍ ساذجة، مؤكدةً أن النضج يبدأ من الوعي بالمخاطر لا من الاتكاء على ملاذات وهمية.

3. دلالات وجودية وأنثوية

تجمع هذه الاستعارات والانزياحات على أن اللغة في القصيدة ليست مجرد وسيطٍ للتوصيل، بل فضاءٌ لإعادة تصنيع الوجود. الكتابة هنا فعلُ استرجاعٍ للجسد والروح معًا، وتحويلُ الجرح إلى مكان قولٍ وخلق. النزعة الوجودية تظهر بوضوح في رفض السكون والاكتمال النهائي، وفي الاحتفاء بالحركة واللايقين كحالتين إنتاجيتين للذات. بهذه القراءة، يصبح التمرد أنطولوجيًا: إعادة تعريف للكينونة عبر لغةٍ تنبني على الاستعارة والانزياح

4. خاتمة الفصل

يبين التحليل أن الاستعارة والانزياح الدلالي في «هذيان أنثى» لا يلتزمان بوظيفة جمالية سطحية، بل يعملان كأدوات تمرد وجودي. تتحول الرغبة إلى معرفة، والجرح إلى فرصة للولادة، والوهم إلى ضوءٍ يفتح المعاني. في هذا التأطير، تكتب الشاعرة تاريخها الداخلي بلغةٍ مغايرةٍ تُفكّر بالحسّ وتُفصح بالصمت، مُعلنةً ولادة خطابٍ أنثويٍّ يرفض ثنائيات الماضي ويُعيد بناء الوجود من داخل اللغة نفسها.

التحليل البنيوي، السيميائي، والنفسي للقصيدة

 1 -التحليل البنيوي لقصيدة "هذيان أنثى"

تتأسس قصيدة «هذيان أنثى» على بنية لغوية منفتحة تتجاوز القوالب الوزنية والقافية التقليدية، لتنتمي بوضوح إلى فضاء الشعر الحر أو قصيدة النثر. فغياب الوزن لا يعني غياب الإيقاع، بل تحوّله إلى إيقاع داخلي يتولّد من التكرار الصوتي والتنغيم الحسي، كما في قول الشاعرة: «تُشاكسُ الفَيْضَ حينَ يستيقظُ السوادُ». إنّ تكرار الأصوات المهموسة مثل (س) و**(ف)** يمنح اللغة توترًا صوتيًا يوازي حالة الهذيان التي تعيشها الأنثى المتكلمة، ويُترجم انفعالها الداخلي في صورة نغمة نفسية نابضة، حيث "الإيقاع يصبح معنى"، لا مجرد زينة صوتية. ofوهذا ما ينسجم مع ما يؤكده جيرار جينيت في  حين يرى أن القصيدة "نظام من العلاقات الزمنية والدلالية لا يُفهم إلا من خلال بنيتها الداخلية". فالإيقاع هنا ليس تنظيمًا كمّيًا بل هو علاقة دلالية تتيح للنص بناء زمنه الخاص، زمنٍ يتقلّب بين الهدوء والانفجار، كما تتقلب الذات بين الطفولة والنضج، وبين الحلم والحذر. على المستوى الدلالي، يقوم النص على استعارة مركزية تُختزل فيها الذات الأنثوية في صور متعددة: الطفلة، الكاتبة، الحلم، الجرح. هذه الصور لا تتجاور اعتباطًا، بل تُشكّل نسيجًا دلاليًا متشابكًا، تتحوّل فيه "الغيمة" إلى رمز للتحوّل، و"الحبر" إلى دالّ على الخلق والبوح، و"السواد" إلى معادل للألم واللاوعي، في حين يحضر "الفراش" كعلامة على الطفولة والحذر معًا.

 هنا يتجلّى ما قصده رولان بارت في الدرجة الصفر للكتابة حين قال: «الكتابة ليست تعبيرًا عن الذات، بل بنية لغوية تتجاوز الفرد» . فالشاعرة لا تتحدث عن نفسها بقدر ما تنشئ بنية لغوية تتكلم عنها.  حيث تتحول اللغة إلى ذات بديلة تُعيد تشكيل التجربة في صيغة رمزية.

وعلى الصعيد التركيبي، تنتهج القصيدة نحوًا شعريًا حرًا يخرق النظام النحوي المألوف. الجملة: «ها أنا أراود صوتًا تحت القميص لم أسمعه». تكشف انزياحًا تركيبيًا دالًا، إذ يتحول "الصوت" إلى كيان ملموس يمكن ملامسته أو مراودته. هنا لا يُستخدم الفعل في معناه الواقعي، بل يُعاد بناؤه داخل علاقة جديدة بين الذات والعالم، بما يؤكد مقولة كلود ليفي-شتراوس بأن الشعر، كحال الأسطورة، "يتكوّن من وحدات صغيرة يُعاد ترتيبها في علاقات جديدة" لإنتاج دلالة مغايرة.

أما البنية التكرارية في القصيدة فهي ليست تكرارًا آليًا بل آلية توليدية للمعنى، إذ تتردد أفعال مثل «تُشاكس»، «تُروض»، «تُبصر»، «أعرف»، «أعبر»، لتعبّر عن حركية داخلية مستمرة تكشف رغبة الذات الأنثوية في الخروج من قيدها اللغوي والنفسي نحو فضاء أرحب. إنّ هذا التكرار يعيد القارئ دومًا إلى نقطة البدء — الطفولة والحبر والفراش — في حركة دائرية مغلقة تجعل النص يلتف حول ذاته كما يلتف الوعي حول ذاكرته.

ويُعزّز ذلك نظام التضادات الدلالية الذي يحكم البنية العامة:

الحلم ↔ الصديد، الفيض ↔ السواد، الطفلة ↔ الحذر، الوهم ↔ المعنى.

 هذه الثنائيات تخلق توترًا داخليًا يعكس الصراع بين الانطلاق والانكماش، بين الرغبة في التحقق والخوف من الانكشاف. إنّ هذا التوتر هو الطاقة التي تحافظ على حياة النص، وتمنعه من الثبات أو الإغلاق النهائي..

وهكذا تتجسّد في القصيدة الرؤية البنيوية التي ترى أن المعنى لا يُستمد من السياق الخارجي أو من حياة الشاعرة، بل من العلاقات الداخلية التي تربط بين وحدات النص فـ*«هذيان أنثى* تمثل نصًا بنيويًا مكتفيًا بذاته، يخلق دلالاته عبر شبكة من الصور، والرموز، والتكرارات، والتضادات، لتصبح اللغة فيه كيانًا مستقلًا يعبّر عن نفسه بقدر ما يعبّر عن الذات الأنثوية في صراعها الوجودي والجمالي.

 ثالثًا: التحليل السيميائي لقصيدة "هذيان أنثى"

تُقدّم قصيدة «هذيان أنثى» نظامًا دلاليًا مركّبًا يقوم على شبكة من العلامات والرموز المتداخلة التي لا يمكن قراءتها بوصفها عناصر معزولة، بل باعتبارها وحداتٍ إشاريّة تتبادل المعاني داخل فضاءٍ لغوي مغلق. فالقصيدة تُنشئ عالَمًا رمزيًا تتكرّر فيه حقول دلالية متقاطعة مثل الطفولة (الطفلة، الفراش)، والجسد والصوت (تحت القميص، الصوت المكبوت)، والكتابة والإبداع (الحبر، الفيض)، والعاطفة المظلمة (السواد، الوهم). هذه الحقول تشكّل، وفق المفهوم السيميائي، نظامًا من العلاقات الذي ينتج المعنى لا من خلال المفردة ذاتها، بل من خلال تفاعلها مع غيرها — وهو ما يؤكده أمبرتو إيكو في قوله: «كل علامة هي شبكة من العلاقات لا تُفهم إلا داخل نظامها»".

في هذا السياق، تتحوّل العلامة الشعرية إلى معبر دلالي مزدوج بين الدال والمدلول. فـ«الغيمة» مثلًا لا تشير إلى الطبيعة فحسب، بل إلى إمكانٍ أنثوي في التحوّل والسيطرة، بينما «الحبر» يتجاوز دلالته المادية ليصبح رمزًا للعطش الإبداعي والبوح الوجودي. و«الفراش» الذي يُفترض أن يمثل الراحة، ينقلب إلى مساحة حذرٍ ووعيٍ متيقظ، مما يجعل القصيدة، بحسب منهج فردينان دو سوسير.، نموذجًا للانزياح في العلاقة بين الدال والمدلول، حيث تتبدّل خرائط المعنى تبعًا للسياق النصي الداخلي.

الاستعارات في القصيدة تُمارس وظيفة بنائية لا تجميلية. فاستعارة الأنثى كمروّضة للغيمة تخلق مشهدًا تحويليًا يُظهر الأنثى بوصفها فاعلًا لغويًا يُعيد تشكيل العالم من خلال اللغة. أما الطفلة التي تذرع الحبر ولا ترتوي فتمثّل استعارة كبرى للكتابة كفعلٍ مستمرٍّ لا يُروى، حيث تتحول الطفولة من زمنٍ ماضٍ إلى حالةٍ وجودية دائمة. كذلك فإن، شرفة القلب والوهم اللامع تكشف عن تحويل الداخل العاطفي إلى واجهةٍ مرئية، في انفتاحٍ رمزيٍّ بين الذات والعالم، بين الخيال والواقع.

إنّ هذه التحوّلات في الدلالة تمثّل ما يُعرف بـالانزياح السيميائي، أي تحرّك العلامة بعيدًا عن مدلولها الأصلي نحو دلالات جديدة. فـ«الحبر» يغدو مقياسًا للعطش الوجودي، و«الفيض» يتحول من طاقة إيجابية إلى توترٍ قابلٍ للتحوّل إلى ألمٍ أسود، و«الفراش» من رمزٍ للطمأنينة إلى علامةٍ على الحذر واليقظة. إنّ هذه الانزياحات تعبرعن ديناميكية المعنى داخل النص، حيث لا يوجد مدلول ثابت، بل عملية مستمرة لإعادة إنتاج المعنى.

ومن اللافت أيضًا حضور الصوت المكبوت تحت القميص، الذي يعمل بوصفه علامة مزدوجة: فهو في بعده الظاهر يمثل كبتًا جسديًا أو عاطفيًا، وفي بعده الرمزي يشير إلى لحظة التوتر بين اللغة والجسد، بين الرغبة والبوح. وبهذا يعبّر النص عن ما يسميه رولان بارت بـ«الكتابة الجسدية»، أي التحام اللغة بالخبرة الحسية للذات. أما الحدائق المعلّقة، فهي رمز جمالي زمني يُستدعى في لحظة دهشة، لتؤسس بعدًا أسطوريًا داخل النص يوحي بوجود جمالٍ مؤجلٍ يختبئ في شقوق الذاكرة والجدران الداخلية للذات.

تعمل القصيدة كذلك على بناء ثنائيات متضادة مثل الطفولة/الحذر، الفيض/السواد، الوهم/المعنى. غير أن هذه الثنائيات لا تُحَلّ، بل تبقى في حالة توترٍ دائمٍ تُنتج الطاقة الشعرية للنص. فالمعنى عند الشاعرة ليس هدفًا يُبلَغ، بل حركةً مستمرة داخل شبكة من الإشارات المتناقضة، وهو ما يوافق رؤية.

وعليه، فإن «هذيان أنثى» يمكن قراءتها كسلسلة من التحوّلات الإشارية التي تُمكّن الذات الأنثوية من التعبيرعن نفسها عبر رموزٍ متغيّرة ومتحوّلة، لا عبر البوح المباشر. فالنص يُعيد تشكيل العلاقة بين الجسد واللغة، وبين الذاكرة والكتابة، ليصبح فضاءً دلاليًا مفتوحًا يُنتج معناه من داخل بنيته، لا من خارجها. وبهذا المعنى، تترجم القصيدة عمليًا الفكرة السيميائية الجوهرية بأن المعنى ليس ما تقوله الكلمات، بل ما يحدث بينها

التحليل النفسي

تقدّم هذه القراءة النفسية امتدادًا حيويًا للتحليل البنيوي والسيميائي للقصيدة، إذ تغوص في طبقات اللاوعي والدوافع والتمثلات لدى المتكلِّمة في «هذيان أنثى». منهجيًا، تجمع القراءة بين ثلاثة أفقية تفسيرية متكاملة: فهم الدوافع وآليات الكبت والتسامي من منظور فرويدي، وقراءة الأنماط والظل والحلم في ضوء يونغي، وتحليل تكوّن الذات داخل النظام اللغوي كما يراه لاكان. بناءً على ذلك، يُنظر إلى النص ليس كمجرد تركيب لغوي وإنما كبنية نفسية-لغوية تنتج دلالتها من تفاعلات داخلية بين الرغبة واللغة والذاكرة.

يظهر محور «العطش للكتابة» — المتمثّل في صورة الحبر الذي لا يرتوي — كدلالة مركزية على دافع إبداعي غير مُشبَع، وهو رمز مزدوج يشير إلى حاجة ابتدائية ناقصة ورغبة تعويضية قد تمتد جذورها إلى تجارب الطفولة الأولى. من منظار فرويدي، تتحول هذه الطاقة الجنسية أو الحيوية المكبوتة إلى طاقة إنتاجية عبر آلية التسامي؛ فالكتابة هنا تعمل كتحويل أخلاقي اجتماعي مقبول للطاقة الغريزية. في هذا الإطار، يمثل تكرار صورة الطفلة والفرش فعلًا مناخيًا رجوعيًا يذكّر بآلية «تكرار الاندفاع») التي تعيد نفسُها عبر صورة شعرية تقصد استعادة زمن أمومي أولي أو تصحيحه.

أما الصوت المكبوت تحت القميص فيقرأ بوضوح كإشارة إلى كبت جنسي/عاطفي؛ القميص بوصفه حاجزًا بين الجسد واللغة، ويجعل من الصوت المدفون علامةً للاشتهاء والافتقاد اللذين يحاولان أن يظهرا عبر طبقات النص. هذه الشذرة المفقودة من الرغبة يمكن تأويلها عند لاكان، كشظية تغذّي الرغبة وتبقى خارج المدلول الكامل، محرِّكة بذلك طاقة البحث والافتقار داخل اللغة الشعرية. وهكذا، لا تكون الرغبة قابلة للإشباع الكامل داخل النص؛ بل تعمل اللغة كمنظومة تستدعيها وتحوّلها وتؤجّل إشباعها.

بمقتضى القراءة اليونغية، تصبح «الطفلة» أنموذجًا أوليًا للبدء والبراءة، وحيويتها تُظهر صراعًا بين الأنا الواعية والطفلة الداخلية المطالبة بالاندماج؛ بينما يجسّد «السواد/الليل» ظلًا لم يُدمَج، ويتعامل المتكلِّم معه بالمشاكسة كمسعى للتكامُل، ويأخذ الحلم دورَ قناةٍ علاجيةٍ نحو إتمام الذات.

خيرًا، تتيح هذه القراءة النفسية رؤية مترابطة للنص: فـ«هذيان أنثى» ليست فقط تضاعفًا رمزيًا أو تركيبًا لغويًا، بل فضاء توقّي وتحوّل داخلي، حيث تُعيد الذات بناء عالمها عبر الكتابة، وتحوّل ألمها إلى صور وطقوس لغوية تشتغل كآليات للتكامل والتعبير. ومن هنا تتبوأ القراءة النفسية موقعًا تكامليًا مع البنيوية والسيميائية، إذ تكشف كيف أن العلامات داخل القصيدة تعمل كأعراض ودوافع، وكيف أن اللغة نفسها تصير ميدانًا لصراعٍ نفسي يعيد تشكيل الهوية الأنثوية في النص.

ختامًا، تكشف القراءة النفسية أن «هذيان أنثى» ليست مجرّد استعراض لصِفات إنشائية أو لعبة رموز، بل نصٌّ يُعيد تشكيل الهوية الأنثوية عبر عملية نفسية - لغوية تكاملية: تتحوّل الدوافع المكبوتة إلى كتاباتٍ تصوغ الذات، ويعمل الجسد كحقلٍ إشاريٍ يعبّر عن الرغبة والخوف والذاكرة. بهذا المعنى، تُظهِر النفسية كيف أن اللغة في النص ليست وسيلة نقلٍ للمضمون فحسب، بل هي موقع تأسيس الذات الأنثوية، حيث يجري توظيف الكبت والتحويل والتكرار كآليات لبلورة هوية متحرّكة لا ثابتة. إن الربط بين العلامات النفسية وبنية القصيدة يمهد مباشرةً للقراءة الأنثوية التي سنقتفي فيها أثر هذه الذات المتكلِّمة كقوة إبداعية ومقاومة، قادرة على تحويل الجرح إلى خطابٍ نصيّ يطالب بالاعتراف والوجود.

الخاتمة

تكشف القراءة التكاملية لقصيدة «هذيان أنثى» عن تجربة شعرية تُعيد صياغة الوجود الأنثوي عبر اللغة بوصفها فعلًا وجوديًا ومجالًا للمقاومة في آنٍ واحد. فالأنثى هنا لا تكتب لتصف، بل لتستعيد وعيها المقموع، إذ تتحول الكتابة إلى أداة تفكيك وبناء في الوقت نفسه: تفكك بنى القهر الرمزي والاجتماعي، وتبني ذاتًا جديدة قادرة على تمثيل صوتها في العالم.

من خلال الانزياح الدلالي والاستعارة، يتخذ النصّ بعدًا أنطولوجيًا يعيد تعريف العلاقة بين الجسد واللغة، حيث تتجاوز الألفاظ معانيها المباشرة لتصير مرايا لكينونة تتشكل باستمرار. أما القراءة البنيوية والسيميائية فقد أبرزت تماسك البنية الداخلية للنص بوصفها نظامًا من العلامات التي تتوالد دلاليًا، فيما أضاء التحليل النفسي عمق التجربة باعتبارها فعل تحريرٍ من مكبوتاتٍ فردية وجماعية.

وهكذا يتجلّى النص ككيانٍ شعريّ متعدّد الطبقات، يجمع بين اللغة بوصفها بنية جمالية والأنوثة بوصفها تجربة وجودية، فيتحوّل «الهذيان» من اضطرابٍ لغويّ إلى وعيٍ متوهّج بالذات والعالم. بذلك تُنهي الشاعرة صراعها الداخلي بتحويل الألم إلى طاقةٍ خلاقة، وتمنح للكتابة معناها الأسمى: أن تكون مقاومةً للغياب وإعلانًا للوجود.

***

سهيل الزهاوي

قراءة هيرمينوطيقية وجمالية في قصيدة ‹مثل رجل يتذكّر› لغسان زقطان:

قصيدة "مثل رجل يتذكّر – الرحلة (1)" للشاعر زقطان من النصوص الشعرية المعاصرة التي يمكن أن تُقرأ على أكثر من مستوى، إذ تنفتح على التأويل الوجودي، والرمزي، والديني، والنفسي، والجمالي، والوطني معًا.

هذه دراسة نقدية تحليلية موسّعة بالمنهج (الهيرمينوطيقي التأويلي، الأسلوبي، الرمزي، الجمالي، الوطني، والسيميائي)، تتوغّل في الطبقات العميقة للنص، وتكشف ما تحت الجلد الشعري من نبض وتوتّر ومعنى.

أولاً: مقدمة منهجية:

تتبدّى قصيدة غسان زقطان "مثل رجل يتذكّر" كرحلة تأويلية في الذاكرة الفلسطينية، حيث يتحوّل التذكّر إلى فعل وجودي يستعيد الإنسان ذاته من تحت الركام الرمزي للتاريخ والاغتراب والمنفى.

النصّ ينهض على مفارقة أساسية: أن التذكّر ليس استعادة للماضي، بل إعادة بناء للذات وسط خراب الحاضر.

وإذا كانت القراءة الهيرمينوطيقية (التأويلية) تُعنى بفهم المعنى المتواري خلف اللغة، فإن هذا النصّ يستدعيها بكل طاقته، لأنه لا يُقدَّم المعنى بشكل مباشر، بل يموّه به عبر صورٍ تتناوب بين الواقعي والمتخيَّل، الحسيّ والميتافيزيقي، الذاتي والجمعي.

 ثانياً: المنهج الهيرمينوطيقي – التذكّر بوصفه تأويلاً للوجود

في المستوى التأويلي، “الرجل الذي يتذكّر” ليس فرداً محدداً، بل هو الذات الفلسطينية الجمعية التي تحاول أن تفهم وجودها بعد الصدمة، بعد الخروج من المكان، بعد “الرحلة” التي ليست سوى استعارة كبرى للمنفى.

الطرق “ممتلئة بأخطائهم”، أي بأخطاء التاريخ، بالهزائم، بالماضي الذي لا يموت. لكنّ الشاعر، في وعيه التأويلي، يحوّل الذاكرة من لعنة إلى كشف. فالتذكّر ليس عودة إلى الأمس، بل إعادة قراءةٍ له من داخل الحاضر.

حين يقول:

“الأمر كله يشبه النوم في غرف الميتين”

فهو لا يصف موتاً مادياً، بل موت الذاكرة حين تُحبس في الجدران، وحين يصبح استحضارها طقساً جنائزياً.

وهكذا يتحوّل النص إلى سردٍ تأويلي للمنفى الداخلي، إذ يصبح “التذكّر” هو الأداة الوحيدة لمقاومة المحو.

ثالثاً: المنهج الأسلوبي – جمالية الانكسار وتعدد الأصوات:

الأسلوب عند الشاعر غسان  زقطان يقوم على تفكيك الإيقاع الخارجي لصالح إيقاع الذاكرة.

يتكئ على جملٍ طويلة تتشظى مثل نَفَسٍ متقطّع، تخلق موسيقى داخلية نابعة من التكرار والانقطاع والتوازي، يقول:

“ممتلئة بأخطائهم الطرقُ التي أذرعها هذه الصبيحة...”

“الوحيدون يفعلون ذلك...”

هذا التكرار البنائي ليس ترفاً أسلوبياً، بل يحمل وظيفة دلالية: يؤكد على التكرار الوجودي للمنفى والذاكرة والاغتراب.

أما على المستوى الصوتي، فإن المفردات المشحونة بالحروف الحلقية والهمسية (“النوم، الظل، النساء القتيلات، الرائحة”)، تُنتج فضاءً صوتياً خانقاً، يعكس القلق الداخلي للشاعر.

رابعاً: المنهج الرمزي والسيميائي – “الرحلة” كعلامةٍ للوجود والغياب

النصّ بأكمله يقوم على رمز “الرحلة”، وهي ليست سفراً في المكان بل في الزمن والذاكرة والهوية.

الرحلة = المنفى

النوم = الموت الرمزي

النساء القتيلات = الجمال المهدور والوطن المغتصب

البيت = الذاكرة الجمعية

القهوة = طقس الاستعادة

كل هذه العلامات تُشكّل شبكة سيميائية تتقاطع فيها دوالّ الحياة والموت، الحضور والغياب، الطهر والخيانة.

فحين يقول الشاعر زقطان:

“الوحيدون يفعلون ذلك، يأتون بالمنفى إلى البيت”

فهو يُعيد تعريف المنفى: ليس غياب الوطن، بل حضوره المؤلم داخل البيت ذاته، في الذاكرة، في تفاصيل المعيش.

البيت في هذا السياق علامة مزدوجة: حضور مكاني / غياب رمزي.

هو المأوى الذي يُذكّرك بفقد المأوى، أي بالمنفى المتجذر في الذات.

خامساً: المستوى النفسي والديني – الذاكرة كصلاةٍ على الغائب

- تحت الجلد الشعري، تنبض القصيدة بتيارٍ صوفيٍّ مكتوم؛ فهي تذكّرنا بما قاله ابن عربي: “المعرفة تذكّر، والوجود ذكرى منسيّة فينا”.

فـ “الرجل الذي يتذكّر” هو السالك الذي يواجه نفسه عبر مرآة الذاكرة.

كل صورة من صور الموت، والظل، والنساء، والبيت، تحمل بعداً روحياً يعيد إلى الأذهان مفهوم الفناء في المحبوب؛ لكنه في شعر زقطان فناءٌ في الوطن لا في الله.

المنفى هنا يتحوّل إلى تجربة روحية، أشبه بالحجّ العكسيّ نحو الداخل، نحو الذاكرة المقدّسة التي لا تُمسّ.

الرموز الدينية (“البخور، الترنيمة، الاستغفار، المآذن، السور الأبيض”) لا تُستخدم بمعناها الطقسي، بل كأدوات لغسل الذاكرة من خطايا التاريخ.

إنها محاولة لتطهير الوجود عبر اللغة، أي عبر الشعر ذاته كصلاة.

سادساً: المستوى الجمالي والوطني – جمالية الخراب وإعادة بناء الهوية

جماليات النص تقوم على ما يمكن تسميته بـ جماليات الخراب، وهي الفكرة التي نجدها عند أدونيس ومحمود درويش أيضاً:

أن الجمال لا يُبنى على اكتمال الصورة، بل على تشظّيها.

زقطان لا يبحث عن وطنٍ مكتمل، بل عن هوية تستمد معناها من هشاشتها.

فالطرق "ممتلئة بالأخطاء" لأنها تاريخ وطنٍ جُرح، والماضي "منسيّ في الظلال" لأنه يُستعاد لا ليمجّد، بل ليفهم.

بهذا المعنى، تصبح القصيدة فعل مقاومة جمالية؛ إذ تحوّل الذاكرة من مأساة إلى مادة للفن، ومن الهزيمة إلى إمكانٍ للخلق.

سابعاً: تأويل ختامي – الشعر كتذكّرٍ كوني

في ختام القصيدة، حين يقول:

“مَنْ أنتَ لتتذكّرَ وترى...”

يبلغ النص ذروة انكساره التأويلي. فالشاعر لا يخاطب الآخر، بل نفسه التي تنقسم إلى ذاتٍ تتذكّر وذاتٍ تُنكِر.

إنها مواجهة وجودية مع السؤال: هل نحن من نتذكّر، أم أن الذاكرة هي التي تتذكّرنا؟

هذا الوعي بالانقسام الداخلي يجعل النصّ كياناً مفتوحاً لا يُغلق على معنى واحد، بل يُعيد إنتاج ذاته مع كل قراءة.

فـ “التذكّر” في النهاية ليس عودة إلى الوراء، بل صيرورة دائمة للوعي بالذات والزمان والمكان.

خاتمة:

قصيدة “مثل رجل يتذكّر” نصّ يتجاوز حدوده الشعرية إلى فضاء فلسفي وجودي.

إنها ليست فقط عن الفلسطيني الذي يرحل، بل عن الإنسان الذي يحاول أن يتذكّر كي لا يموت مرتين.

فيها التراجيديا والقداسة، المنفى والبيت، الخيانة والطهر، وفي عمقها صراع الذاكرة مع النسيان، وصراع اللغة مع العدم.

***

بقلم: عماد خالد رحمة - برلين.

.....................

مثل رجل يتذكَّر

الرحلة (1)

ممتلئة بأخطائهم الطرقُ التي أذرعها هذه الصبيحة، متكئاً على سيرتي، ومتأملاً خزائنَ الموتى وطيورَهم، ممتلئةً بالنسيان وحوادثَ يوجِزُها رحالةٌ قلقون ومتعثراً بنوايا جوّالين أخّرتهم أمنياتُهم، وبلصوصٍ لم يتوقفوا ليسألوا عن الدروبِ المؤديةِ للتلال، ومهتزاً في حقولِ الذرةِ الفقيرةِ تنفرُ من تحتِ قدميّ الطيورُ مثلَ فراشاتٍ متربة...

الأمرُ كلُّه:

يشبهُ النومَ في غرفِ الميتين

التجوّلَ أعزل

في الرائحة.. ،

حيثُ أحلامهم، دونَ باقي الرواية،

منسيةٌ في الظلالِ

وحيثُ انتهى الأمر

...

...

... وفي الظلِّ، أيضاً،

ستلمعُ أكتافهنَّ النساءُ القتيلاتُ،

متروكةً في التذكّر.

*

مَنْ نثرَ الكحلَ في جنباتِ الكلام ِ

وقادَ البخورَ إلى الترنيمةِ

مَنْ استغفرَ ونَوَى

على هذهِ المصاطبِ المفرودةِ لغيرِ العابرينَ والطرّاقِ

مَنْ أحبك حتى لا يوقظك

وبكى عنك

وتنهدَ فيك

وإذ تتذكّرُ كلَّ شيء

: القشَّ والكتفَ

الحفيفَ والظلَّ

الماءَ والشهقةَ

التعثرَ والمناداةْ

لا تراهُ.. لا تلمسه!

*

الوحيدونَ يفعلونَ ذلكَ

يأتونَ بالمنفى إلى البيتِ

ويرمّمونَ الماضي

في مرثيةٍ عادلةٍ

يعيدونَ صنعَ القهوةِ

بهمّةِ ميتٍ

ويطوونَ الرغبةَ مثلَ حاشيةٍ ملّونةْ.

*

الوحيدونَ يفعلونَ ذلكَ

يختارونَ مقعداً منـزوياً

مثلَ اسمٍ ذابلٍ لشجرةْ

ويبدأونَ بوصفِ الماضي مِن جديد:

*

المرأةِ المتزوِّجةِ حديثاً

الخيانةِ الممهّدةِ في حديقةِ الجار

الدرجِ المعتمِ

وخزانةِ العائلة

السيرِ على حافةِ الروايةِ

وتفتيشِ المارّة

*

زراعةِ النساءِ في المخيِّلة

وإعادةِ النظرِ في الندم

ترتيبِ المنحنياتِ القليلةِ على الرفوف

وإشعالِ شمعة...

*

ها هي البيضاء

أختُ الناسِ

صوتُ الذاهبينَ إلى التلالِ

تفرُقُ المعنى أمامَ الماء.

*

نبدأُ من هناكَ إذنْ

ونذهبُ في هناك.

*

مآذن بيضاء

سور أبيض

والنوم أبيض

صيحةُ الأسماء تعبرُ من أعاليَ السورِ

نحوَ قلوبهِم بيضاءَ.

*

ممتلئةٌ بأخطائهم الطرقُ التي أذرعها هذه الصبيحة

ناقصةٌ ومشغولةٌ بالنسيان..

... مَنْ لم يغطِّ الجبالَ

ومَنْ أهملَ السهلَ حتى اطمأنَّتْ أفاعيه

مَنْ كانَ ينسى أحابيلَه في مسَّراتِ هذي القرى،

في زراعتها وهي تنأى عن البرِّ

حين "المكلاّ" التي صَعَدَتْ.. سلَّماً غائراً

كي تنقِّبَ سوقَ النساءِ وما تركَ الذاهبونَ، الذكورُ،

على القشِّ من نومهم

حيث أكتافُهم لم تزل تُشتهى

والضحى يدفعُ اليومَ من ظهره مثلَ ثور؟! مَنْ لم ينمْ كالغبار على دككِ السوق،

سوقِ النساءِ، ولم يتئدْ،

أو يُرى في المساءات يأوي إلى الخان

أبيضَ من أثرِ الكلسِ والجيِر والحرِّ؟!

ومن لم يثقْ بالرضى، أو يربّي النسورَ على حجرِهِ

أو يفق نائحاً

أو يُنادى من الليلِ سبعاً

كما تفعلُ الطيرُ؟!

*

مَنْ أنتَ لتتذكَّرَ وترى

العابرَ متمهِّلاً في أحجياتِ الآخرينَ وعجائبهم

من أنت لتتذكر!

العابَر! متمهِّلاً في عتمتهم

وفي أثرِكَ لعنةُ أشيائهم

... الشالُ في الواجهةِ المضاءةِ قبلَ ثلاثينَ سنة

حين كنّا عائدين من النهرِ بأعضاءٍ مبلّلة

أجراسُ الخطايا في الظلال

وثرثرةُ الفضيلةِ في الصالة

إشاراتُ المثليينَ في الحدائقِ العامة

وتعاليمُهم

اُعذر البيتَ

والدرجاتْ

اعذر الضوءَ والذاهباتْ

مضت زوجةُ الآخرين إلى بيتِها وحدها

واعذر الخائناتْ. مَنْ أنت لتتذكَّر

مَنْ أنتَ لتمرَّ في احتفالاتهم المطفأة

وتتعثرّ في أحلامِهم دونَ رأفة؟!

*

مَنْ أنتَ لتفعلَ ما تراه

وتروي فننصت:

ضيوفي عشرةُ عميان

يتوكأون على الليل

بيضاً من العمى

يحيطون بنومتي

 *

بينما كلبٌ أسودُ يتنفسُ فيهم

ضيوفي عشرة عميان

وصدَقَتي جاريةْ.

 

رحلة في عوالم "تسلا" و"آتيكا" حيث يصبح القارئ بطلاً

رؤية في رواية (الخرزة الزرقاء)

مفتتح: مشروع روائي غير مسبوق

في مشروعها الروائي المتكامل، تقدم الأديبة التونسية نسرين المؤدب تجربة أدبية فريدة تختبر فيها أعمق أسئلة الوجود الإنساني عبر خمسة نصوص متصلة الحلقات، لا يقتصر دور القارئ هنا على متابعة الحكاية فحسب، بل يتحول إلى شريك فعال في فك شفرات النص وإعادة تشكيل معناه، في رحلة تجمع بين العمق الفلسفي والجمال الأدبي.

انزياح سردي ينهض بالرواية العربية

تتفرد المؤدب باستخدام الانزياح السردي كأداة فنية رئيسية، حيث تنتقل ببراعة فائقة بين أصوات سردية متعددة (زهرة، الأفاتار، شادي، أمون) وأزمنة مختلفة، محطمةً بذلك قيود التسلسل الخطي التقليدي، هذا الانزياح المتقن ليس تقنياً بحتاً، بل هو انعكاس عميق لتشظي الوعي الإنساني المعاصر في عصر التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي.

من خلال هذه التقنية، تخلق المؤدب تجربة تلقي تفاعلية استثنائية، تضع القارئ في حالة حوار دائم مع النص، حيث يصبح شريكاً في عملية الاكتشاف والتأويل، فالقارئ لا يستهلك النص بل يشارك في بنائه، مما يعيد تعريف العلاقة التقليدية بين المبدع والمتلقي.

ثيمات وجودية تلامس أعماق الإنسان

تغوص المؤدب في ثيمات عميقة تشكل جوهر الوجود الإنساني المعاصر، مقدمةً إياها عبر عوالمها المتخيلة بطريقة تجمع بين الرمزية والواقعية:

- أزمة الهوية: تطرح إشكالية الهوية في عالم ما بعد الإنسانية من خلال تحول الأفاتار من كيان رقمي مجرد إلى كائن جسدي يشتهي ويتألم، في استعارة قوية عن رحلة كل إنسان في التقبل الجسدي والنفسي.

- سلطة الذاكرة: تتحول الذاكرة من مجرد أرشيف شخصي إلى سلاح مقاومة ضد أنظمة القمع التي تسعى لمحو الهوية والفردية، حيث تصبح الذكريات جيوباً من النور في عالم الظلام.

- الحب كقوة مقاومة: يتحول الحب من مجرد عاطفة إلى قوة مقاومة أخيرة في عالم يفقد إنسانيته تدريجياً، يتخذ أشكالاً مشوهة ومأساوية أحياناً.

عالم ديستوبي كمرآة للواقع المعاصر

من خلال عوالم "تسلا" و"آتيكا" المتخيلة، تقدم المؤدب نقداً لاذعاً وحاداً للأنظمة الشمولية والرأسمالية المتوحدة، حيث تذوب الفروقات الطبقية في بوتقة البؤس المشترك، ويصبح الصراع من أجل البقاء هو المحرك الوحيد للوجود.

تكشف المؤدب كيف تتحول اليوتوبيات المزعومة إلى ديستوبيات قاتمة، حيث تقدم "تسلا" ليس كجنة متخيلة بل كجحيم منظم ونظيف، تضحكاته صفراء ودموعه جافة، هذا العالم المرعب يصبح مرآة عاكسة لواقعنا المعاصر بكل تناقضاته وأمراضه.

رمزية ثرية تغني التجربة الأدبية

تتفرد المؤدب في استخدام رموز غنية بالدلالات والإيحاءات، تحول النص من مجرد سرد إلى عوالم متعددة الطبقات:

- الخرزة الزرقاء: تتحول من مجرد تذكار بسيط إلى رمز شامل للذاكرة والمقاومة والأمل، حاملةً في زرقتها أسراراً وجودية تتجاوز الزمان والمكان.

- بنك الماء الخلوي: يجسد استغلال الأنظمة للطاقة البشرية حتى آخر قطرة، في استعارة مروعة للاستغلال الرأسمالي المتفاقم.

- الأفاتار: يمثل صراع الإنسان الحديث مع هويته في العصر الرقمي، وانزياحات العلاقة بين الواقع والافتراضي.

لغة شعرية تجسد تناقضات الوجود

تمتلك المؤدب لغة شعرية متميزة تتنقل بمهارة بين الرقة والعنف، الواقعية والخيال، التناغم والتناقض، هذه اللغة المتعددة الأبعاد تنقل القارئ إلى حالات نفسية متضاربة تعكس صراعات الشخصيات وتعقيداتها.

تتحول اللغة عندها إلى كائن حي، تنبض بالألم والأمل، بالحقيقة والوهم، مخلخةً بذلك الحدود التقليدية بين الشعر والنثر، بين الواقعي والمتخيل.

جماليات التلقي: من المتلقي إلى الشريك

تضع المؤدب مفهوم التلقي الأدبي في بؤرة، محولةً إياه من عملية سلبية إلى تجربة تفاعلية غامرة، القارئ هنا ليس متلقياً سلبياً، بل هو:

- مستكشفاً لعوالم غريبة وغرائبية

- محققاً يحاول فك شفرات النص المعقدة

- فيلسوفاً يواجه أسئلة وجودية مصيرية

- ناقداً يشارك في تفكيك الانزياحات السردية

صوت أدبي جريء ومهم

تمثل نسرين المؤدب صوتاً أدبياً جريئاً ومهماً في المشهد الأدبي العربي، تقدم من خلال مشروعها الروائي المتكامل رؤية نقدية عميقة وشاملة لأزمات الإنسان المعاصر، هي لا تروي حكايات فحسب، بل تبني عوماً موازية تصبح مرايا عاكسة لواقعنا.

بجرأة فنية ونفسية نادرة، تضع المؤدب قارئها وجهاً لوجه مع أكثر أسئلة الوجود إزعاجاً وإلحاحاً، دون أن تقدم إجابات جاهزة أو حلولاً سهلة، هذا العمل الذي يجمع بين العمق الفلسفي والجمال الأدري، بين النقد الاجتماعي والتأمل الوجودي، يضعها في مصاف المبدعات العربيات اللواتي يقدمن إضافات نوعية للأدب .

مشروعها ليس مجرد عمل أدبي، بل هو "خرزة زرقاء" ضد النسيان واليأس، شهادة على قدرة الأدب على مواجهة أعتى التحديات وأصعب الأسئلة، وتذكير بأن الكلمة تبقى في النهاية سلاح المقاومة الأقوى والأبقى.

***

رزق فرج رزق . ليبيا

للإلمام أكثر بالمنهج الكتابي للدكتور علي الطائي قمت بدراسة مجموعته القصصية "أصداء البشر" واتخذتها مدخلا لقراءة فلسفية صوفية في مجمل أدبه، إذ نادرا ما ينجح الإنسان في الجمع بين التكامل والتضاد، أو بين عدة متناقضات دون أن يُحدث فوضى، إلا إذا ما كان يمتلك كاريزما تؤهله لذلك، فمثل هؤلاء لا ينجحون إلا من خلال تأطير الأبعاد ببعد وجودي ينبني على أبعاد جزئية، منها البُعد النفسي والفردي، فالإنسان العادي يجد في العادة صعوبة بالغة في التوفيق بين صفات أو أفكار متناقضة داخليا، مثل القوة واللين، أو الصرامة والمرونة، لأن العقل البشري يميل بطبيعته إلى التماسك والتناسق، هذا ما عرَّفه علم النفس باسم التوتر المعرفي، أي صعوبة الدمج بين ما يتناقض في نفس الوقت.

ومن الأبعاد الأخرى البُعد الاجتماعي والسياسي، فالقادة وهم أغلب الشخصيات المؤثرة غالبا ما يواجهون مواقف تتطلب الجمع بين رؤى أو أفعال متناقضة مثل العدالة/ الرحمة، الحزم/ المرونة، وهنا تأتي الكاريزما كعامل حاسم. فهي التي ترجح كفة على أخرى، وتمنح القدرة على الإقناع والتأثير، بحيث يقبل الآخرون التناقض ويرونه تكاملا لا تضادا.

ومنها أيضا البُعد الفلسفي والوجودي، إذ ليس شرطا أن يكون التناقض سلبيا دائما؛ فهناك فلاسفة يرونه شرطا للارتقاء والفهم العميق، ومن أمثلته المتاحة التناقض الصوفي الذي يجمع بين الزهد في الدنيا والحب الشديد للناس، والتناقض الفلسفي الذي يجمع بين الشك واليقين. في هذه الحالات، الكاريزما ليست فقط سحرا شخصيا، وإنما هي قدرة على تحويل التناقض إلى وحدة معنوية أو وجودية، وهذا أمر غير متاح للجميع.

باختصار، أرى أن التناقضات ليست سهلة الدمج، إلا لمن يملك حضورا وكاريزما تمكنه من إضفاء معنى ومقبولية على هذا الجمع الصعب، أقصد جمع التناقضات، وهو ما يجعل الشخصية فريدة ومؤثرة. وربما هذا هو السبب الحقيقي الذي جعل قلة من البشر الذي ينماز بهذه القدرة. وفي الواقع أرى أن هذه الموهبة هي التي خلدتهم ومنحتهم الشهرة.

تاريخيا كان الصوفيون والفلاسفة الروحيون من أشهر الذين تحلوا بهذا الجمع مثل الحلاج (858 ـ 922م)، الذي جمع بين الزهد والتجربة الإنسانية، وبين الحب المطلق لله والحياة اليومية. وهو بالرغم من تناقض أفكاره مع المجتمع الصوفي التقليدي، استطاع أن يؤثر بأقواله وحياته على أجيال لاحقة، وكانت كاريزمته في حضوره الروحي وكلماته الملهمة، لكنه دفع ثمن هذا التناقض بالإعدام.

وابن عربي (1165ـ 1240م)، الذي دمج بين العقل والنقل، بين معرفة الذات ومعرفة الإله، بين الصوفية والفلسفة العقلية. وقد عكست كتاباته قدرته الفائقة على الجمع بين تناقضات فلسفية وروحية عميقة، مع مقدرة على إقناع الناس بأن هذه التناقضات وحدة مترابطة.

غير الصوفيين هناك القادة السياسيون والعسكريون التاريخيون مثل الإسكندر الأكبر (356ـ 323ق.م) الذي جمع بين الحزم العسكري والرحمة الدبلوماسية، وبين القسوة والحكمة، وبين الغزو وبناء المدن. وقد مكنت كاريزمته وجرأته؛ لا جيشه فحسب، بل والشعوب الخاضعة له من قبول تناقضاته كجزء من شخصيته.

وغاندي (1869ـ 1948م) الذي جمع بين المقاومة اللاعنفية والصرامة الأخلاقية، وبين البساطة والفعل السياسي الفعال. فكان هذا التناقض بين العزلة الشخصية والانخراط الاجتماعي العميق محكوما بكاريزمته الروحية والأخلاقية.

ونيلسون مانديلا (1918ـ 2013م)، الذي جمع بين الصلابة والمرونة، وبين المطالبة بالحقوق والمصالحة مع الخصوم. وهو رغم التناقض الظاهر بين الانتقام والتسامح، استطاع بحضوره الشخصي وكاريزمته تحويل هذا الجمع الصعب إلى رمز عالمي للسلام والعدالة، احترمته الشعوب والحومات.

ومن بين الشخصيات الكارزمية التي خلدها التاريخ بسبب جمعها التناقض هناك العديد من الشخصيات الفنية والأدبية، مثل ليو تولستوي (1828ـ 1910م)، الذي جمع بين الحياة العملية والتأمل الروحي، وبين النقد الاجتماعي والفلسفة الأخلاقية، وبين النقد الذاتي والفعل الاجتماعي، وهذا خلد أعماله.

وفنسنت فان غوغ (1853ـ 1890م) الذي جمع بين الجنون والإبداع، والألم والحس الجمالي، ما جعله مؤثرا بعد موته أكثر من حياته من خلال فنّه التناقضي، إذ أضحى مثالا على التناقض الذي يتحول إلى قوة.

إن القدرة على الجمع بين التناقضات مع كاريزما ساندة ومؤثرة تؤهل الآخرين لقبول هذا الجمع الذي يبدو أحيانا فوضويا؛ رغم غرابته ليست شائعة، لكنها تظهر في الشخصيات التي تمتلك وعيا داخليا عميقا بالذات والوجود. شخصيات تستطيع التعبير عن هذا الجمع بطريقة تجعل الآخرين يشعرون بالانسجام بدلا من الصراع، شخصيات لديها حضور وكاريزما تمكنها من التأثير الاجتماعي والسياسي أو الروحي، فحضور مثل هؤلاء يجعل التناقض قوة وليس ضعفا.

 سقت هذه المقدمة الطويلة لأمهد للحديث عن رجل معاصر جمع بين مهنة الطب والشعر والقصة والرواية وإدارة مجلس ثقافي وإدارة دار نشر، والتأليف البحثي واللغوي، هو الدكتور الأديب علي الطائي، لأنه يمتلك خصائص وكاريزما مشابهة لأولئك الأشخاص الذين نجحوا في الجمع بين التناقضات بطريقة تؤهلهم للتميز، ولاسيما من حيث تعدد الأبعاد والاختصاصات، كونه طبيب يجمع بين المعرفة العلمية الدقيقة والانضباط والمسؤولية الأخلاقية تجاه حياة البشر. وكونه شاعر وقاص، فهو يتحرك في عالم الإبداع والخيال، حيث الانفعال والحساسية واللغة الجميلة تلعب الدور الأساس. وكونه باحثا علميا ولغويا، ولامتلاكه ديوانا (مجلسا) أدبيا يعكس القدرة على الجمع بين الفكرة والموسيقى اللغوية، وبين الفكر والوجدان، وبين الصرامة في اللغة والانطلاق في المعنى. وهذا الجمع بين العلوم الصارمة والفن الإبداعي هو نوع من التناقض الظاهر، نجد فيه العقل التحليلي مقابل الحس العاطفي، والدقة العلمية مقابل الحرية الأدبية.

فقط ملاحظة جديرة بالاهتمام تقف بينه وبين أن يدخل سجل الخالدين، وهي أن الدكتور علي الطائي متى ما أصبح قادرا على نقل تجربته ونتاجه الأدبي والفكري بطريقة تؤثر على القراء والمتابعين، فهذا يعني أنه يمتلك كاريزما معرفية وروحية حقيقية تسمح للآخرين بقبول هذا الجمع بين الأضداد دون اعتراض، ولا أعتقد أن ذلك سهلا في زمن مأزوم تكاد القيم الحقيقية فيه أن تنسى.

إن الكاريزما التي أتحدث عنها هنا ليست مجرد جاذبية شخصية، بل هي قدرة على إقناع الآخرين بأن هذا التعدد لا يتنافى مع الوحدة الداخلية للشخص، بل يعكس ثراءه الفكري والوجداني. ومع هذا أرى أنه يمكن اعتبار الدكتور الطائي نموذجا حديثا للتكامل بين التعددية الداخلية والكاريزما في التأثير الأدبي والفكري. الاختلاف أن الدكتور علي الطائي يجمع بين العلم، والفن، والأدب، والفلسفة والتصوف، وهو نوع من التناقض الذكي الذي لا يقل تأثيرا عن التناقضات السياسية أو الروحية.

وللإحاطة ببعض الأبعاد التناقضية للدكتور الطائي سأتناول كتابه الأخير "أصداء البشر"، وهو كتاب قصص قصيرة، ليدلنا على منهجه كتجربةً أدبية متميّزة، إذ وجدت أنه لا يكتفي بالسرد القصصي التقليدي أو الشعري السائد، بل يذهب نحو بناء نصوصٍ تنفتح على الفلسفة والروحانية والصوفية، في محاولة لجعل القارئ في مواجهة مباشرة مع أسئلة الوجود والمصير، فنصوص الكتاب ليست مجرد قصص قصيرة أبدا، وإنما هي "أصداء" لإنسان يبحث عن ذاته في مرايا الزمن، ويصغي إلى صوته الداخلي في جدلٍ مع الغيب، يبدو ظاهرا في البنية الفلسفية الصوفية للنصوص ففي تناقضية الحرية والقدر نراه يصرح: "المكان بلا أهل ليس مكانا، بل شاهد قبر على أيام لن تعود" (ص97) فهذا النص ينفتح على إشكالية الحرية والقدر، حيث يُقدَّم الإنسان ككائن متجذر في الغيب، لا كحادث عابر، وهو طرح يقارب بين الرؤية الفلسفية الوجودية والتأمل الصوفي.

وفي عالم البصيرة والكشف يقف ليصرخ في فراغ: "الفرص لا تمنح بعد أن يكسر القلب، ولا يصلح الجسر بعد أن يحرق" (ص38)، وهي عبارة تجسّد فكرة الكشف الصوفي الذي يرى أن الحقائق تُدرك بالبصيرة لا بالبصر.

ومثلها في رسمه لخارطة الفناء والبقاء، كما في قوله: "واليوم، وبعد كل تلك السنين، وأنا في مدينة بعيدة، حيث الربيع لا يشبه ذلك الربيع، وحيث الأشجار مغتربة وسط الأبنية الصامتة، أدركت ما كان يقصده أبي. أدركت أن الربيع ليس مجرد تحول في الطقس، بل هو وعد بالتجدد، رسالة خفية تخبرنا بأن الحزن لا يدون، وأن كل شيء يمكن أن يزهر من جديد" (ص70)، إذ يلحظ المتلقي هنا أن التضاد يذوب بين الموت والحياة في رؤية صوفية تجعل الفناء استمرارا للبقاء.

حتى الحوار الداخلي تحول لدى الطائي إلى وظيفة، فـ: "الحب مثل البخار، إذا لم نغلق عليه الكوب سيتلاشى، وإن تركناه جامدا بلا دفء فقد معناه" (ص52) و "أخشى أ، يأخذنا الزمن بعيدا عن هذا الدفء... لن يأخذنا ما دمنا نحن من نختار الطريق" (ص53). فهذا الحوار الذاتي يكشف عن صراع النفس مع نفسها، على غرار ما يسميه الصوفيون "مكاشفات الباطن".

أما عن الزمن والحضور، فالطائي يرى عمق المعنى: "وقفت عند النافذة، وفتحت عينيها على السكون الذي كان يحيط بكل شيء، بينما دقات قلبها كانت تتناغم مع دقات قلبه. أغمضت عينيها، وأوقفت الزمن في داخلها، ثم رفعت ذراعيها إلى السماء وكأنها تدعو النجوم كي تستمع إلى عزف الأوتار التي طالما كانت تشغل قلبها. كانت تدرك، بل تشعر، أنه قادم"(ص127). هنا يتحول الزمن إلى "آن سرمدي" كما يصفه المتصوفة، حيث يلتقي الماضي بالحاضر في لحظة أبدية بوهيمية تمد أحد ذراعيها إلى الحقيقة والآخر إلى الوهم.

وهو حينما يتحدث عن الاغتراب الوجودي: "لست حزينا يا بني ولكني أفكر في الزمن" (ص13) يحاول تذويب التناقض في اللامعنى، فـ: "السنين لا تسرقنا، بل تكتب تاريخنا" (ص14)، وكأنه أراد التعبير عن عزلة الإنسان واغترابه، وهو ما يجسد معاناة البحث عن المعنى، عن رحلة طويلة متعبة منهكة، ولكنها تعيد المرء الى الطريق الصحيح. فهو لم يعد يهتم بالمال والدنيا، فهما لا يساويان شيئا أمام ما يجد الإنسان من نور الحقيقة، فـ: "الحقيقة ليست شيئا يُلقن، ولا شيئا نتمسك به دون تفكير. الحقيقة شيء نصل إليه بعد بحث طويل، بعد أن نتعلم كيف نشك ونسأل. هل سألت نفسك يوما إن كنت تسير في الاتجاه الصحيح، أم أنك فقط وجدت نفسك منجرفا مع تيار آخر؟" (ص43).

حتى الآخر والهوية وجدا حيزا في عالم التناقض الوجودي: "إن بعض الصداقات تموت ليس بفعل الزمن، بل بفعل العقول التي تأبى أن تتحرر" (ص45)، فهو يرى أن الرحلة ليست في الوصول... بل في التفاصيل الصغيرة التي تجعلنا ما نحن عليه الآن" (ص74). فالجروح لا تحتاج إلى الصراخ كي تبرأ، بل تحتاج إلى صوت صغير نقي يذكرها أن هناك دوما نورا في آخر النفق" (ص83) ليلخص من خلال ذلك رؤيته للآخر والهوية بقوله: "ولكني لم أجد روحا تؤالفني، كأنني غريب في دنيا لا تعرفني" (ص87)، فهو يعتقد أن الآخر هنا ليس مجرد صورة مقابلة، بل مرآة تكشف الذات لنفسها.

ومن أجواء هذا التناقض نراه يبحث عن "أصداء" الموت والبعث الداخلي. إن الرؤية الصوفية تجعل الموت بداية حياة جديدة داخل الوعي: "فبعض الفراق لا يداوى، بل ينساب في الروح كالسكين، باردا، عميقا، وصامتا" (ص102).

 وفق جدل التناقضات رسم الطائي عالم المطلق والجزئي حيث يظهر البعد التوحيدي، حينما يتلاشى الفرد في الكل كما تفنى القطرة في البحر. وحينما يتحول الحب من عاطفة بشرية إلى طريق صوفي يوصل إلى المطلق. وبالتالي أرى أن الطائي جمع في كتابه هذا خلاصة فلسفته الحياتية، وقد أراد له أن يكون فريدا في الجوهر والمعنى فملأه حتى فاض. ومن مواطن القوة التي وجدتها فيه عمق الرمزية، والانفتاح على قراءات متعددة فلسفية وصوفية وأدبية وفق أسلوب السهل الممتنع، مع قدرة على المزج بين السرد والتأمل. وإن كان هناك قصورا يمكن تشخيصه فقد وجدت أنه يغلب أحيانا الجانب الفلسفي على البناء الحكائي للنص.

من هنا أرى أن "أصداء البشر" ليس مجرد مجموعة قصصية، بل هو مشروع أدبي روحي يضع القارئ في مواجهة أسئلة الذات والقدر والمطلق، ونصوصه القصيرة تُظهر الإنسان كصدى للحقيقة، وتجعل من القصة القصيرة وسيلة للتأمل الصوفي. إنه كتاب يمزج بين جماليات الأدب وعمق الفلسفة ورهافة التجربة الروحية، مما يمنحه مكانة خاصة في الأدب العربي المعاصر.

صدر الكتاب عام 2025 بواقع مائة وسبعة وستين صفحة، وقد تولي الدكتور الطائي الإخراج الطباعي أما تصميم الغلاف فقد نفذته زوجته السيدة صبا التميمية، وطبع في مطبعة المجلس الثقافي؛ وهو اسم دار النشر التي يديرها الدكتور الطائي، وكأنه أراد التعبير من خلال هذه التوليفة عن عالم التناقضات الذي تحدثنا عنه.

***

بقلم: د. صالح الطائي

 

روح ضائعة

للدكتور أمين جياد

السَّديمُ جُرمٌ بعيدٌ يَسْري ظلاماً، يعكسُ ضوءَ النجومِ،

والشمسُ دوائرُ عشقٍ،

تبعثُ دمدمةَ لهيبٍ مهولٍ فوقَ جسدِ الأرضِ،

والروحُ تسْري بحراً ثابتاً،

أراها رنيناً يهتزُّ بَيْنَ أصابعي، وبرقاً وصاعقةً ورياحاً، تلتفُّ أمواجاً عاليةً، تنتشرُ راجعةً تضربُ أحجاراً، فتختفي بينَ زبدِ علىٰ ضفةِ البحر.

***

مقدّمة رؤيويّة ومنهجيّة

يندرج نصّ (روح ضائعة) للدكتور أمين جياد ضمن التجربة الشعرية التي تقيم في تخوم الصوفي والفلسفي حيث يتحول الشعر من خلالها لأداة كشفية

 وتتماهى اللغة كمقام للفيض ولاتقتصر على دورها الوصلي والقراءة هنا تنطلق من المنهج التفكيكي الصوفي الذي يرى النص بأنه مدار تتقاطع فيه العلامة بالغياب وينحاز المعنى باللايقين

 وتلك الذات بالعالم

بمعنى لا وجود للمعنى خارج تكراره المتحوّل

فتبقى الروح ضمن مسارها فالضياع ليس فناء هنا إنما هو طريق المعرفة ومن هذا المنطلق فإنّ تفكيك النص صوفياً يعني القبض على لحظة التجلي في البنية اللغوية لا تأويلها من خارجها وهذا ما نركز عليه بالتناول النصي

تشريح العنوان:

الروح الضائعة كمقام سلوك

إن العنوان (روح ضائعة) هو مدخل التجربة ومفتاحها الرمزي إذ يُستحضر هنا معنى (الضياع) في الإصطلاح الصوفي بوصفه حالاً من أحوال السالك الذي يتجاوز العقل إلى الذوق

 فالضياع هو نفي الإرادة في طريق الوصول وهو ما يسمّيه (الحارث المحاسبي) غيبة الروح عن تدبيرها

 بذلك تتحوّل (الروح الضائعة) إلى مقام وجودي أعلى إلى لحظة يغيب فيها العارف عن نفسه في سبيل الإنكشاف ويصير الضياع وجهاً آخر للحضور الإلهي

 إن الدكتور أمين يجعل العنوان مجالاً لتأويل متعدد يتجاوز الحرف إلى الإشراق فيغدو اللفظ نفسه شعيرة بل ممارسة للغياب

تحليل النصّ وتفكيكه صوفياً

في قوله (السديم جرم بعيد يسري ظلاماً يعكس ضوء النجوم) نكون أمام لحظة السلوك الأول

 أي لحظة الخروج من الكثافة إلى اللطافة أو نحيل ذلك أيضاً من المادة إلى المجاز فالسديم هنا لم يكن كاستعارة قط إنما يشار من خلاله إلى العماء الصوفي الذي تحدث عنه (ابن عربي) حين جعل الخلق يتكون في سديم لا يرى ولا يُدرك إلا بالبصيرة إن هذا السريان في الظلام هو الحركة الأولى للفيض

 فالنور في التجربة الصوفية لا يُدرك إلا من جوف العتمة وهنا ينجح الدكتور أمين في جعل الظلام هو ظل للنور

 وهو رحْمَه الخلاق فتتبدى فلسفة (أنطولوجية عميقة) مفادها أن الكينونة تولد من نفيها وأن الوجود يُطل من فجوة العدم

 إنه تفكيك دلالي للصورة يجعلها تتجاوز المحسوس إلى ما وراءه ويعيدنا إلى مبدأ الخلق في الفقد

ثم تأتي عبارة (والشمس دوائر عشق) لتُدخل النص في مقام الهيام الكوني إذ يتجلى الكون كله إلى حركة عشق دائرية

 فالشمس في القراءة الصوفية أبعد ما تكون عن مصدراً للضوء لكنها رمزاً لـ(النور المحمدي) الأول الذي يُفيض المعنى على الوجود أما الدوائر فهي إشارة إلى تكرار الظهور الإلهي في العالم وإلى دورات الفناء والبقاء التي يعيشها السالك في رحلته نحو المطلق

 وبذلك تصبح الصورة ذات طابع إشراقي تفكيكي فهي تفكك علاقة السبب بالمسبب والمرئي باللامرئي لأن العشق لا يُعلّل بل يتجدد في لحظة الدوران كما قال (الحلاج):

/أنا من أهوى ومن أهوى أنا/

وفي قوله:

 /والروح تسري بحراً ثابتاً/

 تتجلى المفارقة الكبرى التي يتقنها الدكتور أمين:

فالبحر الثابت هو نفي لحركته الظاهرة وهو مقام التمكين بعد التلوين في المصطلح الصوفي

هنا تتجسد وحدة المتناقضات:

/السريان والثبات/

 /الظاهر والباطن/

 /الحركة والسكون/ هذه الثنائية المنحلّة هي عين ما يسميه دريدا (différance) أي تأجيل الحضور الدائم حيث لا يكتمل المعنى لأنه يتوالد في لحظة غيابه

 لكن في السياق الصوفي هذا التأجيل لم يكن نقصاً إنما هو كمالاً لأن السالك لا يرى الحق دفعة واحدة بل عبر مرايا الفيض المتدرج

 إن النص يمارس هنا تفكيكاً صوفياً حقيقياً:

يُعيد تعريف اللغة بإعتبارها سلوكاً روحياً ليبعدها عن كونها وظيفة تصويرية

ونراه يقول (أراها رنيناً يهتزّ بين أصابعي) فيحول الناص المبدع د. أمين الروح هنا إلى ذبذبة صوتية وكأن الوجود كله موسيقى تتردد في جسد العارف

 فالرنين من خلال السياقية نجده يتجاوز الصوت ولايقتصر عليه وذلك لأنه أثر التجلي الإلهي في المادة وهو ما عبر عنه (السهروردي) حين قال:

/إن الأنوار إذا تجلّت أحدثت صدى في النفوس/

 بهذا الوعي تتجاوز القصيدة بنية الصورة إلى (ميتافيزيقيا) الإدراك فالإحساس يتحول إلى طريق للمعرفة

 فالروح بالنص لا ترى ولا تُمس بل تهتز أي تُدرَك عبر الرجّة التي تتركها في الوجود إنها قراءة تُحوّل الغيب إلى حركة محسوسة والمعنى إلى ذبذبة لا تهدأ

وحين يقول الشاعر (وبرقاً وصاعقةً ورياحاً تلتف أمواجاً عاليةً تنتشر راجعةً تضرب أحجاراً فتختفي بين زبدٍ على ضفة البحر)

 فإن النص هنا يبلغ مقام الهيبة والإحتراق أي لحظة التماس بالنور الذي يُفني البرق فهو اللمح الصوفي الخاطف

 والصاعقة هي التجلي الماحق

 والريح هي قبض النفس قبل الفناء

 فكلها صور تشير إلى (التخلي) و(التحقق) إلى تلك المرحلة التي لا يبقى فيها من الذات شيء سوى أثر الزبد بعد انحسار الموج

 إنها مرحلة فناء الفناء التي تحدث عنها (ابن عربي)

 /حين يغيب العارف حتى عن وعيه بالغياب/

هذا المشهد الأخير يتخذ بنية دائرية تعيدنا إلى السديم الأول وكأن النص يتحقق في حركة أبدية من الظهور والامّحاء

هنا تتجلى عبقرية الدكتور أمين في بناء نص يحاكي البنية الكونية نفسها: فكل صورة فيه تولد من انهدام ما قبلها وكل معنى ينقض معناه السابق ليُثبت حركة الوجود اللانهائية

 إنه نص لا ينغلق على تأويل واحد بل يقيم في الحيز الذي تسكنه الصوفية الحديثة: اللغة كطريق للحق

 أضافة للكتابة كرياضة وجودية هكذا يرتسم النص إلى (مرآة للفيض) وإلى مقام من مقامات السلوك الروحي يتدرج فيه الخلق والفناء مع البصر والبصيرة في وحدة إشراق نادرة تعيد للقصيدة معناها الكوني

إن قراءة نص (روح ضائعة) تفكيكاً صوفياً تكشف عن شاعر يدرك جوهر الروح بعيداً عن كونه فكرة بل سير مستمر بين النور والظل وأيضاً عبر الإمحاء والوجود إن الدكتور لا يكتب شعره ليكون نوعاً أدبياً إنما يعتمده رياضة ومسار للتجربة الروحية للغة فكل صورة عنده كمقام وكل كلمة كحال وكل جملة كتجلّي جديد للمعنى

لغته شفافة كالنور لكنها عميقة كالعماء وصوره تتجاوز البلاغة إلى الإشراق

 إنه شاعر وفيلسوف وصوفي كل ذلك بل أكثر

 يكتب من موقع الرائي مجانباً موقع الراوي

ومن موقع العارف مبتعداً عن موقع الواصف

ففي (روح ضائعة) يبلغ الشعر منطقه الأعلى:

أن يتحول إلى تأمل كوني في ماهية الروح وأن يكتب الضياع كطريق إلى المعرفة

 في نص يستحق أن يُقرأ بوصفه بياناً صوفياً جديداً في الشعر العربي الحديث

أبدعه دكتورنا العميق المغاير

فيلسوف الصوفية

***

مع مودتي والتحايا

مرشدة جاويش

 

يُعْتَبَرُ الشاعرُ المِصْري أحمد شوقي (1868 - 1932) أشهرَ شُعراءِ اللغةِ العربية في العَصْرِ الحديثِ. لُقِّبَ بـِ " أمير الشُّعراء". حَرَصَ على وَصْفِ الطبيعةِ في أشعارِه، وإظهارِ الجَمَالِ الرُّوحِيِّ والإلهيِّ، وَحَثَّ على التَّأمُّلِ في إبداعِ الخالقِ، وَضَرورةِ التَّفَكُّرِ في رَوائعِ الآياتِ والآثارِ في لَوْحَاتِ الوُجودِ الجميلةِ، والمناظرِ الخَلَّابة. وفي قَصَائِدِه، تَتَجَسَّدُ الطبيعةُ كَبَحْرٍ واسعٍ مِنَ الجَمَالِ والجَلالِ والكَمَالِ والبَهَاءِ.

وقَدْ صَوَّرَ الطبيعةَ تَصويرًا فَنِّيًّا بديعًا بأُسلوبٍ حِسِّي، يَدُلُّ عَلى الحَياةِ والحَيَوِيَّة، وَلَمْ يَقْتَصِرْ وَصْفُهُ للطبيعةِ عَلى المَشَاهِدِ الكُبرى، بَلْ تَطَرَّقَ إلى التفاصيلِ الدَّقيقةِ، والجَوانبِ العميقة، وحاولَ اكتشافَ الرُّوحِ الإنسانيَّةِ في الطبيعةِ، والتَّغَنِّي بِجَمَالِها، وتَجَلِّيها كَفَنٍّ بَصَرِيٍّ، كما أنَّه مَنَحَ الطبيعةَ نَفَسًا، وَشَخَّصَهَا إنسانيًّا ولُغَوِيًّا، وَجَعَلَ مِنْها مِرْآةً تَعْكِسُ الجَمَالَ والصَّفَاءَ والرَّمْزَ للحَيَاةِ والخُلودِ. أي إنَّهُ كانَ يَمِيلُ إلى تَجسيدِ الطبيعةِ وَتَشخيصِها، فَيَجْعلها تَتَكَلَّمُ، وَتُغنِّي، وَتَحْزَن، وَتَفْرَح، وبذلك يَكُون قَدْ مَنَحَهَا رُوحًا إنسانيَّة.

تَعَامَلَ معَ الطبيعةِ باعتبارِها لَوْحَةً فَنِّيةً نابضةً بالحَياة، وَعَالَمًا مِنَ الجَمَالِ المُتَنَاسِقِ، وَوَصَفَ الأزهارَ والأنهارَ والطُّيورَ والنُّجومَ بألفاظٍ مُوسيقية، وألوانٍ زاهية، تَجْعَل القارئَ كأنَّه يُشَاهِد المَشْهَدَ أمامَه. وَهَذا الوَصْفُ يَجْمَعُ بَيْنَ دِقَّةِ الرَّسَّامِ وَوِجْدَانِ الشاعرِ.

والطبيعةُ مَصْدَرُ إلهامٍ وَحِكْمَةٍ، تُعلِّم الإنسانَ، وَتَبُثُّ فِيهِ دُروسَ الصَّبْرِ والتَّجَدُّدِ والنِّظَامِ، ولا يَنْبغي الاكتفاء بِجَمالِ الطبيعةِ الخارجيِّ، بَلْ يَجِبُ استخراجُ العِبَرِ مِنْهَا. فَنُضُوجُ الثِّمارِ تُعلِّم مَعْنى الصَّبْرِ، وَدَوْرَةُ الحَياةِ تُعْطي دَرْسًا في الأملِ والخُلودِ، وانتظامُ الفُصولِ يُوضِّح مَعْنى النِّظَامِ.

كَمَا يُسْتَخْلَصُ مِنَ الطبيعةِ القِيَمُ الأخلاقيةُ والرُّوحية، وَهِيَ مَلْجَأ رُوحيٌّ، يَلْجَأ إلَيْهِ الإنسانُ لِيَسْتَمِدَّ مِنْه الطُّمَأنينة. والطبيعةُ رَمْزٌ للوطنِ والحَياةِ، وكثيرًا مَا اسْتَخْدَمَ عَناصرَ الطبيعةِ رَمْزًا لِوَطَنِهِ مِصْر، أوْ للتَّعبيرِ عَنْ حَنينِه إلَيْهَا في مَنْفَاه بالأنْدَلُسِ، فالنِّيلُ عِنْدَه لَيْسَ مُجَرَّد نَهْر، بَلْ رُوح الأُمَّة، والشَّمْسُ رَمْزُ الأملِ والنَّهضةِ. وَتَفَتُّحُ الأزهارِ دَلالةٌ عَلى التَّجَدُّدِ، وَتَغْرِيدُ الطُّيورِ مُوسيقى الفَرَحِ.

وَوَصْفُهُ للطبيعةِ يَمْتاز بِعُذوبةِ الإيقاعِ وَغِنى الصُّوَرِ، مِمَّا يَعْكِسُ تَأثُّرَه بالشِّعْرِ العربيِّ القديمِ معَ تَجْديدٍ في الأُسلوبِ والمَضمونِ. كما أنَّ وَصْفَه للطبيعةِ قائمٌ عَلى الشَّاعِرية الفَنِّية التي تَجْمَعُ بَيْنَ الخَيَالِ والمُوسيقى والعاطفةِ، وهَكذا أصبحت الطبيعةُ كائنًا حَيًّا يُشَارِكُ الإنسانَ مَشاعرَه وأحلامَه.

وَيُعْتَبَرُ الشاعرُ الأمريكيُّ روبرت فروست (1874 - 1963) واحدًا مِنْ أهَمِّ شُعَراءِ اللغةِ الإنجليزية. اشْتُهِرَ بِتَصويرِه الواقعيِّ للحَياةِ الرِّيفية، وَوَصْفِ مَناظرِ الطبيعةِ في الأماكنِ التي عاشَ فيها.

وَصَفَ الطبيعةَ باعتبارِها انعكاسًا للحالةِ الإنسانيَّة، وَلَيْسَتْ مُجرَّد خَلْفية جميلة، واستخدمَ عَناصرَ الطبيعةِ مِثْلَ الثلجِ والأشجارِ والغاباتِ للتَّعبيرِ عَنْ مَوضوعاتِ تَتَعَلَّقُ بالعُزلةِ، والحُزْنِ، والتفاؤلِ، والتناقضاتِ في التَّجْرِبَةِ البشرية. وَرَبَطَ العَالَمَ الطبيعيَّ بالرُّوحِيَّةِ مِنْ خِلالِ الصُّوَرِ الرَّمزية.

لَمْ يَرَ في الطبيعةِ مُجرَّد مَصْدَرٍ للجَمَالِ والسَّكِينةِ، بَلْ جَعَلَهَا مِرْآةً تَعْكِسُ صِراعاتِ الإنسانِ الداخليَّة، ومَعَاني الحَياةِ والمَوْتِ، والعَلاقةَ بَيْنَ الإنسانِ والعَالَمِ. والطبيعةُ في شِعْرِهِ لَيْسَتْ هُروبًا مِنَ الواقعِ، بَلْ وسيلة لِفَهْمِه.

وَقَدْ تَمَيَّزَ عَن الشُّعَراءِ الرُّومانسيين بأنَّه لَمْ يَنْظُرْ إلى الطبيعةِ نَظْرَةً حالمةً أوْ مِثالية، بَلْ كانَ يَرَاها جُزْءًا مِنَ الحَياةِ اليَوْمِيَّةِ في الرِّيفِ الأمريكيِّ، وَمِرْآةً للنَّفْسِ الإنسانية.

وَتَتَغَيَّرُ صُورةُ الطبيعةِ في شِعْرِه بِحَسَبِ الحالةِ النَّفْسِيَّةِ للمُتَكَلِّمِ، فإذا كانَ في صَفَاءٍ وطُمَأنينة، بَدَت الطبيعةُ هادئةً مُضيئةً. وإذا شَعَرَ بالحَيْرَةِ أو الوَحْدةِ، ظَهَرَت الطبيعةُ غامضةً أوْ قاسية، وهَذا يَعْني أنَّ الطبيعة عِنده انعكاسٌ لحالةِ الإنسانِ النَّفْسِيَّة، وَلَيْسَتْ مُجرَّد ديكور خارجي.

والطبيعةُ رَمْزٌ للصِّراعِ والتَّحَدِّي، وَهِيَ لَيْسَتْ دَوْمًا رحيمةً أوْ لطيفة، فَهِيَ قَدْ تَكُون قاسيةً، وجامدةً، وغَيْرَ مُكْتَرِثَةٍ بِمُعاناةِ الإنسانِ. فالثُّلوجُ تُغطِّي الأرضَ بِلا رحمة، والغاباتُ يُمْكِنُ أنْ تُضِلَّ الإنسانَ عَنْ طريقه، والليلُ في الرِّيفِ مُظْلِمٌ وَمُخِيف. وَمِنْ خِلال هذه الصُّوَرِ، يُظْهِرُ صِراعَ الإنسانِ معَ قُوى الطبيعةِ والحياةِ، في مُحاولة لفهمِ مَكَانِه في هَذا الكَوْنِ الواسع.

وَيَظْهَرُ البُعْدُ الفلسفيُّ في وَصْفِ الطبيعةِ، وَمِنْ خِلالِها تَتَّضِح قضايا إنسانيَّة كُبرى، مِثْل : الحُرِّية والمسؤولية، والاختيار والمصير، والوَحْدة والمَوْت، ومَعْنى الحياة.

وَلُغَتُهُ في وَصْفِ الطبيعةِ بسيطةٌ، وَسَلِسَة، وقريبة مِنْ حَديثِ الناسِ في الرِّيفِ، لكنَّها تُخْفي وَراءَها عُمْقًا فِكريًّا وإنسانيًّا كبيرًا. فَهُوَ يَجْمَعُ بَيْنَ الوُضوحِ في الصُّورةِ، والغُموضِ في المَعْنى، مِمَّا يَجْعَل قصائدَه تَبْدُو سَهلةً ظاهريًّا، لكنَّها تَحْمِلُ أبعادًا رمزية وفلسفية عميقة.

إنَّ الطبيعة عَالَمٌ يَعْكِسُ عَلاقةَ الإنسانِ بالواقعِ والحَياةِ والمصير، وَهِيَ مَزِيجٌ مِنَ الجَمَالِ والقَسْوَةِ، والصَّفَاءِ والغُموضِ، والسُّكونِ والحركة. وَمِنْ خِلالِ وَصْفِهِ للطبيعة، استطاعَ أنْ يُصَوِّرَ الإنسانَ الحديث في بَحْثِهِ الدائم عَن المَعْنى واليقين في عَالَمٍ مُتغيِّر وغامض. وَقَدْ جَعَلَ مِنَ الطبيعةِ لُغَةً للفلسفةِ والإنسانيةِ مَعًا.

***

إبراهيم أبو عواد / كاتب من الأردن

وثيقة صمود في سجلّ الذّاكرة

صدرت عن الدّار الأهليّة للنّشر والتّوزيع (2025م)، رواية "عين الزّيتون"، للأديب محمّد علي طه، وتمتدّ على مائتين وأربع وتسعين صفحة من القطع المتوسّط، يتزيّن غلافها بلوحة للفنّان سليمان منصور، وتتجسّد فيها كنوز السّيرة الجمعيّة، لتغدو وثيقة أدبيّة في سجلّ الذّاكرة الفلسطينيّة.

الرّواية.. شهادة على النّكبة:

تتناول الرّواية أحداث النّكبة، موثّقة أدقّ التّفاصيل؛ لتبقى حيّة لا يطالها النّسيان، تصف الأماكن في تلك الفترة من المدن والقرى، مستعيدة نبض الحياة الغابرة في جغرافيا الغياب القسري.

يحيك الكاتب نصّه على ميزان التّضاد المتأرجح بين يوتوبيا الوطن الكامن في حنايا الذّاكرة، وديستوبيا النّكبة وتبعاتها، فيتشكّل بناء السّرد من تقابل الماضي والحاضر، من اصطدام الحلم بوقع الحقيقة، ومن مزاوجة الخصب السّابق بوحشة الجدب اللّاحق.

هذا النّوع من الأدب، يعالج التّاريخ ويؤوّله من خلال المتخيّل السّرديّ، ما يسمح بتقديم صورة حيّة للواقع، ويحوّل الأحداث إلى تجربة وجدانيّة عميقة.

يُجمِعُ العديد من المفكّرين والنّقاد كإدوارد سعيد وفيصل دراج وسعيد يقطين على أنّ الأدب الفلسطينيّ، هو جزء لا ينفصل عن عمق النّضال الثّقافيّ، إذ يتحوّل القلم إلى أداة بناء روحيّ، وإلى معول يحفر عمق وجودنا.

أمّا النّاقدة "باربرا هارلو" فتضمّ في كتابها "أدب المقاومة" رؤية نقديّة خاصّة لهذا النّوع من الأدب، باعتباره نتاجا ينبع من رحم تجارب الشّعوب المقهورة، وفي الوقت ذاته يغرس في النّفوس شعلة الأمل والتّطلّع إلى غد أفضل.

دلالات العنوان ومفاتيحه الرّمزيّة:

يحمل العنوان "عين الزّيتون" مزيجا من الدّلالات، فهو يجمع بين العين الّتي تشير إلى البصر والوعي، والزّيتون الّذي يجسّد الجذور.

العين هي عين الرّواية الّتي نرى الحقيقة من خلال أحداثها وشخوصها، وهي عين الكاتب الّتي ترصد الواقع بكلّ تعقيداته. تشير أيضا إلى ينبوع الماء، مصدر الحياة والخصوبة، ما يربط العنوان بدلالات التّجدّد والأمل والبقاء.

أمّا كلمة الزّيتون، فهي تضفي على العنوان بعدا روحانيّا وإنسانيّا عميقا، ففي كلّ قطرة زيت تنبض حكاية، وتتمثّل بركة السّلام في التّراث الدّينيّ والثّقافيّ.

هذا الشّجر المبارك هو رمز لجوهر الهويّة الفلسطينيّة، فشجر الزّيتون بالنّسبة للفلسطينيّ ليس إلّا سِفر الصّمود المقدّس الّذي يُقرَأ، جذوره الغائرة في التّربة هي عمق التّجذّر وشهادة على الوجود الأزليّ.

كما يحمل العنوان بعدا نفسيّا، إذ يربط بين الذّات والعالم الخارجيّ، فالعين هي بوّابة الرّوح والنّفس، وهي الوسيلة الّتي يدرك بها الإنسان محيطه، وعندما ترتبط بالزّيتون، فإنّ ذلك يوحي بأنّ النّصّ يتناول علاقة الإنسان الفلسطينيّ بأرضه؛ كعلاقة روحيّة ونفسيّة عميقة.

ملخّص الأحداث:

هذه الرّواية هي كيان متّحدّ، فكلّ ما فيها يُسهِمُ في صناعة الحدث وفكرة النّصّ الكليّة، الشّخوص فيها كائنات واقعيّة لا ترتدي ثوب المثاليّة، بل تتشابك فيها دوافع الخير والشّر، ما يجعلها أكثر قربا من الواقع الإنسانيّ.

يتّخذ السّارد من مقهى السّلطان في عكّا القديمة، منطلقا لسرد حكايته، يحكي كيف كانت عكّا ملتقى للزّجالين والشّعراء والفنّانين القادمين من دمشق والقاهرة، بيروت وبغداد. وبين السّطور تطلّ علينا شخصيّة "فارس" الّذي نهل العلم وحبّ العربيّة في طفولته من معلّميه، وعاش فترة في قريته، سادت فيها قيم الأخوّة والتّكاتف، قبل أن تفرّقهم النّكبة.

شاءت الأقدار أن يُنتشَل من ويلات مذبحة قريته، فقد كان للمصير تدبير خفيّ حين تحصّن في حظيرة الأغنام، وأصبح بديلا للرّاعي "خميس" الّذي يعمل عند أبيه.

وبعد انقضاء تلك الأيّام، قرّر مغادرة الزّريبة ليطمئنّ على والديه، فتسلّل بخطواته على تراب يحفظ بصماته الأولى، ليجد بيته أطلالا باكية، غادره الوالدان وسكنه الصّدى، وحين التفت لطريق الهرب، وجد الجميع قد غادر، لكنّه وحده عقد العزم على الثّبات، متجاهلا نداء النّزوح، فتوجّه بطريقة خلافا لجهة الهاربين، رافضا المغادرة ومصرّا على البقاء.

انطلق بعد ذلك يتنقّل بين القرى حتّى استقرّ في مدينة عكّا. هو من عائلة "آل خطّاب" الّتي استُبدِل اسمها بعد النّكبة بـ "الشّيخ" ثمّ "الصّفدي". يقول (ص 28): "النّكبة ضيّعت الأصل والنّسب، وضيّعت البيت أيضا".

تصف رحلته المريرة قرى خالية من أهلها، وخلال ذلك، يشرع في رحلة مضنية للحصول على بطاقة الهويّة الزّرقاء، يضطرّ للعمل عامين بلا مقابل ماليّ، ليكون ذلك ثمن حصوله على الهويّة.

ويحصل عليها أخيرا باسم ومكان ميلاد مختلفَين، ثمّ يعمل في الزّراعة، ويلتقي بأبي جمال؛ ليتمكّن بعدها من تبادل الرّسائل مع والده في الشّتات، ثمّ ينتقل إلى عكّا ويغيّر عنوان هويّته بصعوبة بالغة.

في خضمّ هذا التّرحال القسريّ، يجد المأوى عند صفوان، وهناك لم يسلم من الغواية الّتي هبّت من زوجة مضيفه، "سعديّة"، وعلى امتداد الصّفحات، تلاحقه فتن أخرى كإغواء الضّابط ذي الميول الشّاذة، لكنّه لا يتخلّى عن ضميره ويرفض العمالة، مقتنعا أنّ الوطن حقّ أصيل لا يساوَم عليه.

بين السّطور، يتّضح أنّ قيد التّعسّف لم يكتفِ بخنق الصّامدين في الأرض، بل امتدّ ظلّه ليلفح العائدين المتسلّلين ممّن أُجبِروا على الرّحيل، وعلى شفا الحدود، كان المصير يتربّص بهم، حيث تتلقّفهم السّلطات، لكنّهم بعزيمة يغافلون سطوة القهر، ويعودون كرّة بعد كرّة، صوب مرابع الحنين.

سرد الكاتب مأساتهم بحرقة، راسما بألم وهم الأمل الخادع بالعودة الّذي استبدّ بنفوس المهجّرين حين فرّوا هاربين، حيث تردّدت على أفواههم عبارة كانت أشبه بأمنية: جمعة مشمشيّة، تمضي سريعا، وإلى الدّيار نعود.

هذه الأحداث يحيكها أديبنا بريشة حميميّة، فتبدو كينونة دافئة تعانق الأرواح، وعبر التّفاصيل، رسم لوحات للصّمود، يقول (ص267): "كان لهم عين في كلّ مقهى، وفي كلّ مطعم، وفي كلّ ساحة، وكلّ مسجد".

ويظلّ العنصر الأشدّ إبهارا هو التّصعيد المتواتر، الّذي لازم تنقّلات فارس القسريّة. هذا الإصرار دفع بالسّلطات إلى محاولة رميه خارج الوطن، لكنّ إرادة العودة كانت أقوى، فقد أبى الإذعان وعاد خلسة إلى أحضان أسرته وزوجته، وذلك بعد رحلة قاسية من الظّلم والتّعذيب والتّشريد، وبعد أن نجا من موت محقّق، وقف على التّلّ وحدق في أدغال الصبّار وكأنّه يناجيها قائلا (ص 287): "أنا منك وأنت منّي، أنت باقية وأنا باق".

كأنّه بذلك يشير إلى صمود شعبنا وتمسّكه في أرضه، مدركا أنّ هناك الكثير من القصص الّتي لم تُروَ بعد. يقول (ص289): "لكلّ قرية قصّة، ولكلّ عائلة قصّة، ولكلّ فلّاح قصّة، ولكلّ كرم زيتون وقطعة أرضٍ وبئرٍ ونبعٍ قصّة".

هكذا.. يدور النّصّ في جوهره حول معاناة فارس وعذاباته وصموده في وجه التّحدّيات بعد النّكبة، وبصموده.. يجيب فارس عن سؤال جوهريّ يطرحه الكاتب: كيف بقي هذا الشّعب صامدا حتّى الآن، رغم كلّ محاولات اقتلاعه من جذوره ومكانه؟

وخلال سير الأحداث، يكشف عن عشق الفلسطينيّ لأرضه وارتباطه بها. يقول (ص 172): "الفلّاح الفلسطينيّ متعلّق بأرضه، أنسن قطع الأراضي، فلكلّ قطعة أرض اسم حتّى لو كانت صغيرة".

بناء الرّواية، الأسلوب والسّمات الفنيّة:

يُقرّب هذا النّصّ القارئ من روح الفطرة، ساحبا إيّاه من ضجيج العصر إلى سكينته الأولى، فيتجلّى ذلك النّقاء الكامن في صميم الإنسان حين يمتزج بالطّبيعة، وكأنّ العمل يذكّرنا أنّ العودة إلى الأصل هي مفتاح السّكينة. وفي تلك السّلسلة من الأحداث المتشابكة، استثاراتٌ إنسانيّة، تأتي على لسان شخوص العمل، وتأخذنا اللّغة بسلاستها وصورها المركّبة، فتوقظ دواخلنا على جرح غائر.

يتمّ ذلك عبر صور ومشاهد متلاحقة، تتحرّك بحيويّة بين السّطور؛ لتؤدّي دورها في نمو الحدث، فمن الذكّريات والأحلام والمشاعر، إلى الوصف والتّفصيل والتّداعيات، والحبكة الاسترجاعيّة، والتّشبيهات، والصّور الفنّيّة، وكلّها تجتمع في هاجس واحد؛ لتُسكِنَ المتلقّي في حالة من التّأمّل، وتشدّ من إدراكه إلى ذلك الزّمن الماضي، حيث الدّهشة وجموح التّخيّل والذّاكرة وأصداء الأصالة.

وفي سياق تتبّع فكرة الصّمود ورفض الهجرة، تظهر عزيمة البقاء في الأرض بلا إذعان أو تنازل وهي موتيف متكرّر يعزف على أوتار السّطور. هذا الموتيف هو موتيف الصّمود، الّذي يتجسّد في الأدب الفلسطينيّ؛ كوتر جوهريّ، لا ينفكّ يعزف لحنا واحدا، هو لحن البقاء، الّذي يمثّل رفضا قاطعا لمحو الهويّة، يصوّر تمسّك البطل بذاكرة المكان، ورفضه لفكرة التّهجير النّفسيّ حتّى قبل الجغرافيّ.

ويظلّ هذا الموتيف مضيئا للصّفحات، مبقيا على وهج القضيّة متّقدا في قلب النّصّ، فتظهر العزيمة؛ لتحوّل التّشبّث بالأرض إلى قصيدة خالدة، تُرَتَّل لتترسخ في الذّاكرة الجمعيّة، فالأرض في هذا النّصّ هي ميثاق روحيّ يربط الحفيد بالجدّ، ويجعل من كلّ حبّة تراب شاهدا صامتا على أصالة أهله.

أمّا أسلوب الكاتب، فقد جاء على منهج السّهل الممتنع، مطرّزا بخيوط فكاهة رقيقة، تسري فيها مسحة ساخرة خفيّة.

يكمن العمق النّقديّ في المزاوجة بين الأسلوب السّهل الممتنع والسّخرية، الّتي نصفها بآلية تكيّف نفسي للشّخصيات، تعمل كترياق ضدّ اليأس وتكسر النّمط التّراجيديّ، وهي ترسخ مفهوم الصّمود الحيويّ بالقدرة على إيجاد الفكاهة في المأساة، ما يمنح الرّواية واقعيّة نفسيّة مركّبة.

ودعما لهذا التّوجّه، يتعمّد الكاتب تطعيم نصّه بجرعات من الحكم الشّعبيّة ونبض اللّهجة العامّية، الّتي تنحدر كالماء في طرق الأرض وتنبع منها، متّخذة شكل المكان الّذي اختمرت فيه. وبذلك، تغدو الرّواية لوحة ناطقة تحاكي أصالة البيئة الشّعبيّة.

كما اتّخذ السّارد من تقنيّة الأحلام قناة للعبور نحو التّأمّل الفلسفيّ والرّوحيّ، مانحا المعاني بعدا رمزيّا مضافا، أمّا في نهاية الفصول، فنشهد تنوّعا، حيث تنتهي المشاهد تارة بأبيات الشّعر، وتارة أخرى بكلمات الغناء؛ ليتوقّف المشهد عند نقطة تأمّل معلّقة، تدفع القارئ إلى متابعة رحلة البطل، وتترك في نفسه صدى اللّحظة الأخيرة.

تشير تلك النّهايات المعلّقة، إلى عدم اكتمال السّرد الفلسطينيّ ذاته، فالحكاية لم تنتهِ بعد والعودة لم تتحقّق، ما يجعل البناء الفنّيّ للرّواية مرآة دقيقة للحالة الوجوديّة للقضيّة.

لقد نجح الكاتب في تمرير رؤاه الفكريّة على امتداد النّصّ، حيث استثمر كلّ التّداعيات السّرديّة؛ لتكون في خدمة سياق الشّخصيّة الرّئيسة المسكونة بالحنين إلى الأرض.

نعم، فالحنين هو من أهمّ الأعمدة الّتي قام عليها البناء السرديّ، فقد رصد تغيّرات الواقع القاسية وانسلاخه عن طبيعته الأصليّة.

لم يكن لفارس أن يظلّ في أرضه أو يعود إلى أطلال بيته لو لم يكن مشتعلا بالحنين، الّذي رُسِمَت به صور القرى المهجرة، فمنحها قوة الحضور وبقاء التّفاصيل، وتقمّص شكل الذّكريات السّاكنة فيها، والرّواية المحكيّة وأغاني الشّوق إليها. تلك الصّور هي الأكثر ألفة وإمعانا في الجمع بين لوعة الغياب ويقين الحضور.

كما تمّ استخدام تيّار الوعي في طيّات هذا العمل، ما أتاح للكاتب الكشف عن الفوضى في أفكار الإنسان، فمن تداخل الذّكريات والرّغبات والإشارات وجموح الأحلام والتّخيّل، إلى سيل التّداعيات العاطفيّة والألم، الّذي يجرّ المتلقّي إليه، منجرفا في دوّامة من الانفعالات.

هذا التّيار المتدفّق، أضفى على الشّخوص أقصى درجات الصّدق والواقعيّة، ومنح إطلالة على الموضع الدّاكن من نفوسهم، فأصبح القارئ يرى ما يشعرون به وما يجول في أفكارهم.

السّرد بلسان البطل وأثره النّقديّ:

في هذا النّصّ، يتشابك صوت الضّمير الجمعيّ مع الأصوات الغائبة والقرى المهجّرة، ما يجعله سجلّا للأحداث ويرفعه من سيرة إلى ملحمة سوسيولوجيّة، تعكس الفوضى الوجدانيّة والاجتماعيّة الّتي خلّفتها النّكبة. لقد أكّد الحوار الدّاخليّ قوّة حضور البطل كراوٍ أصيل، فهو لم يكتفِ بسرد الأحداث، بل حوّلها إلى مناجاة علنيّة، ثنائيّة البعد، تقام بينه وبين ذاته وبينه وبين القارئ.

هذا التّعاقب المتقطّع لشرارات الأفكار، يتحوّل إلى مشاركة وجدانيّة مع القرّاء، فبدلا من الوصف الخارجيّ المباشر، نعاين كيف ترتبط الذّكريات الماضية بفعل الشخصيّة الحاليّ. وبذلك، تتعمّق الواقعيّة النّفسيّة بعد أن اعتمد السّرد على الرّاوي العليم، لتغدو الأحداث بعين الشّاهد الأصيل محمّلة بثِقَل الواقع التّاريخيّ.

يمنح هذا الاختيار للرّاوي مصداقيّة مباشرة، وهو ما يضفي على السّرد قوّة لا يمكن تحقيقها من خلال راوٍ خارجيّ، فبطل الرّواية هو رمز لذاكرة شعب، من خلال حديثه عن قريته وأهله وأصوله ورحلته، يستعيد تاريخا كاملا، وهذا ما يعطي للنّصّ بعدا تاريخيّا وثقافيّا، حيث يصبح مرجعا لجيل جديد لا يعرف هذه التّفاصيل.

نماذج من شخوص الرّواية:

عن اسم فارس، فاختياره ليس صدفة. هو فلّاح بسيط يجسّد كلّ أبعاد الإنسان الفلسطينيّ الّذي واجه النّكبة، يشتعل شوقا إلى الألفة المشتهاة والسّكينة البعيدة، ينقّب في رماد الذّكريات عن طفولته المتروكة على قارعة العمر المهاجر، ويحنّ إلى والديه وإلى الدّفء والأمان. كان محمّلا بكلّ أصالته وأحلامه، توحّدت روحه وذاكرته مع روح المكان وذاكرته، فاصطبغا بصبغة واحدة.

أمّا شخصيّة المختار، فتُقدِّم نموذجا مركّبا لمن يبرّر خياراته بالبقاء، مظهرا بسلوكه تحوّلا من الزّعامة التّقليديّة إلى الانتهازية. هو شخص أدرك أنّ البقاء في ظلّ القوّة الجديدة يتطلّب تقديم التّنازلات، كما أنّ تذرّعه بالآيات القرآنيّة يبرز جوانب شخصيّته الوصوليّة، فهو يضفي شرعيّة دينيّة على مواقفه وتحريفه للمفاهيم.

وعن شخصية زوجة المختار، فتقدم صورة إنسانيّة متضاربة تتجاوز التّصنيف السّطحيّ، فهي تظهر تعاطفا في مواقف معيّنة، وتُقدِم على فعل الخيانة في موقف آخر. هذه الخيانة تضيف إلى شخصيّتها طبقة من التّناقض، وتثير تساؤلات حول دوافعها، فهي شخصيّة شجاعة تدافع عن الحقّ ولا تخشى المواجهة.

يظهر ذلك في موقفها مع الضّابط الّذي هدّد فارس بسحب هويّته، فتدخّلت بقوّة واستعادت بطاقة الهويّة من الضّابط قائلة (ص106): "إنت عارف إنو فارس في بيتنا، وهذا اعتداء على حرمة البيت، هات الهويّة".

ترمز هذه الشخصيّة إلى التمزّق الّذي أصاب المجتمع بعد النّكبة، فقد انقسمت بين نزعة الخير وإغواء الشّر، بين العاطفة والخيانة، وبين الولاء والعصيان.

يمكن قراءة هذه الشخصيّة أيضا كمرآة ناقدة، تعكس مظاهر التّنازل والتّدهور الّتي تستشري في المجتمعات المسحوقة، ففيّ ظلّ هيمنة اليأس يكون الانهيار الحتميّ لحاجز القيم الأخلاقيّة آخر المعاقل.

لقد تعمّد الكاتب إخفاء مبرّرات الخيانة عند هذه الشخصيّة، فهل كان ذلك التّغييب مقصودا؛ ليجعل القارئ يعاين هذا التمزّق؛ كقدر لا تفسير له في المجتمعات المنهارة؟

المكان.. شواهد الذّاكرة وروح الهويّة:

يتجلّى المكان في هذا العمل؛ ككائن حيّ، يُسقِط على شخوصه روحه وتفاصيله، يصوغه السّارد بأبعاد طوبوغرافيّة دقيقة، متّشحا بشواهده التّراثيّة والاجتماعيّة، ليضفي على الخطاب انسجاما وعمقا.

استحضر قرية عين الزّيتون كلوحة مشرقة، مشيرا إلى موقعها القريب من صفد، راسما ملامحها بوصف أراضيها الّتي ارتوت من زيت الزّيتون وكروم العنب، لكنّ هذا الاستذكار الحميميّ لا ينفصل عن حزن خفيّ، إذ يأتي في سياق حديث يتذكّر فيه القرى المهجّرة الّتي غابت عن الوجود، وكأنّه بذلك يقيم لها نصبا تذكاريّا في متن الكلمات.

كما يزخر النّصّ بالأمكنة المختلفة من القرى والمدن، ليبقى المكان في معيار السّرد أرجوحة الحاضر والماضي، تتشابك فيه ظلال الغياب بأطياف البقاء، ويصبح بذلك مصدرا للتّأريخ المرويّ ومَعلَما من نور.

الأدب كفعل وجوديّ:

إنّ قوّة الرّواية تكمن في تحويلها الفقد إلى فعل وجوديّ، حيث تصبح اللّغة مرآة الهويّة الّتي تقاوم زوال ذاكرة المكان، ويصبح الأدب ملاذا ووسيلة للتّحصّن من النّسيان، ويغدو القلم مؤرّخا، يسرد سيرة الأرض بصوت الإنسان، وتحت لواء اللّغة، تنهض الذّات ويتجدّد عهدها بالوجود والتّاريخ، لتغدو أرشيفا يضطلع بمهمّة صون الذّاكرة من الاندثار، ويرفع من فعل البقاء كعمل وجوديّ وموقف أيديولوجيّ، ويتحوّل دور الفلسطينيّ من مترقّب للفرج إلى حارس مؤتمن على الذّاكرة الجمعيّة والأرض المفقودة.

وهنا، أنهي بهذا المقطع المقتبس من قصيدة للشّاعر محمود درويش، حيث يقول:

وَقَفْتُ عَلَى الْمَحَطَّة

لَا لِأَنْتَظِرَ الْقِطَار

وَلَا هُتَافَ الْعَائِدِينَ؛ مِنَ الْجَنُوبِ إِلَى السَّنَابِل

بَلْ لِأَحْفَظَ سَاحِلَ الزَّيْتُونِ وَاللَّيْمُون

فِي تَارِيخِ خَارِطَتِي.

***

صباح بشير

للشاعر الفلسطيني محمود السرساوي

دراسة نقدية تحليلية، مع تطبيق المنهج الرمزي الأسلوبي والنفسي والهيرمينوطيقي والسيميائي، مع التركيز على البنى النفسية والنبض الشعري.

تعدُّ القصيدة العربية الحديثة، بما فيها من سمات شعرية وأسلوبية، مرآةً تعكس الواقع الاجتماعي والسياسي، وكذلك الانشغالات النفسية والفكرية للشاعر. ومن بين هذه القصائد، تبرز قصيدة "ضحكات الثعالب" للشاعر الفلسطيني محمود السرساوي، كواحدة من الأعمال الشعرية التي تعكس التوتر العميق بين الذات الفلسطينية والواقع المعاش تحت وطأة الاحتلال والمنافي. عبر هذه القصيدة، لا يقتصر السرساوي على نقل تجربة الفرد الفلسطيني المعذَّب، بل يعبر عن قضايا أكبر تتعلق بالهوية والذاكرة الجماعية والمقاومة.

تهدف هذه الدراسة إلى تحليل وتفكيك النص الشعري باستخدام مجموعة من المناهج النقدية المتنوعة، من أبرزها المنهج الرمزي الأسلوبي، الذي يكشف عن غموض الرموز ودلالاتها العميقة، والمنهج النفسي الذي يعمق فهمنا للبنية النفسية للشاعر في سياق محيطه الاجتماعي والسياسي. كما سيتم الاستعانة بالمنهج الهيرمينوطيقي لفهم تفاعل النص مع محيطه الثقافي والسياسي، بالإضافة إلى المنهج السيميائي لفك شفرة العلامات اللغوية والرمزية التي يبتكرها الشاعر.

سأتناول هذا البحث التوترات التي تتولد بين اللغة النثرية الشعرية والبنية النحوية، وأثر ذلك في بناء النص وتوجيه معانيه. من خلال قراءة معمقة، سأحاول كشف ما تحت السطح الشعري من نبض حزين وتوترات نفسية، وكيف يُحسن الشاعر استخدام الرموز والصور البلاغية لتمثيل التجربة الفلسطينية المتشظية بين الأمل واليأس، وبين الحنين والحزن.

كما أتطرق في هذا التحليل إلى تسليط الضوء على بنية القصيدة الإيقاعية والوزنية التي، وإن كانت تبدو على السطح خالية من الانتظام، إلا أنها في الحقيقة تمثل اضطراب الشاعر الداخلي، الذي لا يظل أسيراً للإيقاع التقليدي بل يبحث عن أشكال من الحرية والتعبير.

من خلال هذه الدراسة، أسعى إلى تقديم قراءة نقدية متعددة الأبعاد لهذه القصيدة، التي تُعتبر نموذجاً للتجربة الفلسطينية في الشعر المعاصر، ومصدراً خصباً لدراسة اللغة الشعرية في مواجهة الواقع السياسي والنفسي القاسي.

قصيدة "ضحكات الثعالب" للشاعر الفلسطيني محمود السرساوي تتيح فرصاً متعددة لتحليل عميق وقراءة نفسية، سيميائية، ورمزية للرموز والمفردات التي يبني عليها النص.

  يعتمد محمود السرساوي على الرمزية بشكل مكثف ليجسد موضوعات الألم والحزن والصراع الداخلي. الرموز التي يتعامل معها الشاعر تعكس مجموعة من المفاهيم التي تتجاوز المعنى المباشر للكلمات لتفتح الباب أمام تأويلات عميقة.

الرمز "ضحكات الثعالب":

الثعالب في الأدب العربي غالباً ما تمثل المكر والخداع والخيانة. هنا قد تكون الثعالب رموزاً للقوى المستعمرة أو القمعية التي تعامل مع الفلسطينيين بمكر وتخطيط خبيث. ربما تشير إلى "ضحكات" غادرة تخفي وراءها عواقب مأساوية، مثلما تفعل الثعالب في أساطير كثيرة، تضحك في الظلام بينما تدبر الخيانة.

- الرمز "الغياب" و"الرجوع":

صورة العودة التي تتكرر ("أعود... أعود") تكشف عن الصراع الداخلي بين الأمل واليأس، بين الرغبة في العودة إلى الأرض أو الوطن وبين الفقدان المستمر. يرمز الغياب إلى الحضور الغائب للمحب أو للوطن، والعودة هي رغبة مستمرة للمصالحة مع الذات والمكان.

- الرمز "العناقيد" و"الشموس":

العناقيد غالباً ما تحمل رمزية البذرة والخصوبة في الثقافة العربية، في سياق القصيدة قد تكون العناقيد رمزا للذاكرة أو الأمل الذي لم يتحقق أو للحقوق الضائعة. كما أن "الشموس" تعكس سعي الشاعر لاستخراج النور من ظلام التشرذم والشتات.

- المنهج النفسي:

في القصيدة، يمكننا تحليل جوانب من النفسية المعذبة والمشتتة للشاعر الفلسطيني في لحظات فقدانه وتناقضاته الداخلية.

تعبير الشاعر عن صراع داخلي:

الشاعر يمر بتجربة نفسية معقدة حيث تجسد قصيدته تناقضات مشاعر الفقد، الندم، والحب المتناثر. تعبيره عن "أكاد أباعد بيني وبيني" يشير إلى انفصال نفسي عميق، وصراع داخلي بين الذات والواقع، وهي إشارة إلى حالة الانشطار الشخصي والوطني.

- الهويات المتعددة والاضطراب النفسي:

الجملة "كأن الذي عاد بي ليس بي" تعكس صراعاً هوياتياً يعيشه الفلسطيني في المنفى، حيث يتعرض لشعور بالغربة سواء تجاه ذاته أو تجاه محيطه. قد تكون هذه الكلمات أيضاً تعبيراً عن الاغتراب النفسي، وكأن الشاعر يشكك في هويته أو في دوره في الحاضر.

- الاغتراب والموت الرمزي:

تكرار الشاعر السرساوي للحديث عن الموت ("أما كنت انفض رملي الأخير") يعكس حالة من الإحباط الوجودي والروحي. الموت في القصيدة ليس فقط موتاً جسدياً، بل موتاً رمزياً مرتبطاً بفقدان الأمل أو فقدان العائلة أو الوطن.

- المنهج الهيرمينوطيقي:

التحليل الهيرمينوطيقي يعتمد على فهم النص وتفسيره في سياق المعاني التي يتخطى ظاهر النص، ويحتاج إلى فك شفرة الرموز داخل سياق الشعر والمجتمع.

- الأساطير والإشارات الثقافية:

الشاعر يتحدث عن "إعادة الأساطير" ليظهر كيف أن الفلسطيني، بما في ذلك الشاعر نفسه، يحمل عبء التاريخ ويمزج بين الواقع والخيال لبناء مقاومة ضد محو الهوية. الأساطير هنا ليست مجرد حكايات قديمة، بل هي أداة للمقاومة، لنقل ذاكرة الشعب الفلسطيني.

- الذاكرة الجماعية:

"أعدت الأساطير من ملح يومي" تحمل في طياتها الإشارة إلى الذاكرة الجماعية لشعب فلسطيني ضحى بالكثير ولا يزال يقاوم تحت الاحتلال. الأسطورة هنا تتشكل من المعاناة اليومية والاحتفاظ بالذاكرة على الرغم من التغيرات القاسية.

التفاعل مع الملتقى السياسي والإنساني:

القصيدة تتوجه إلى "الثعالب" التي قد تمثل الأنظمة أو القوى المعادية التي تهدد الأمة الفلسطينية. الشاعر يطرح أسئلة إنكارية كـ"أليس الشهيد بداية عمري؟" ليبني علاقة بين الألم الشخصي والجماعي، ويعكس التفاعل بين السياسي والإنساني في نفس الوقت.

- المنهج السيميائي:

من خلال السيميولوجيا، يمكن دراسة العلامات والرموز اللغوية التي يستخدمها الشاعر.

علامة "السيوف والعذاب":

السيوف ترمز إلى الصراع والعنف، بينما العذاب قد يرمز إلى الألم الفلسطيني المستمر. السيوف والعذاب ليسا مجرد صور حسية، بل هما علامات على الاستمرار في الكفاح ضد الظلم والاحتلال.

- العلامات الصوتية:

الصوتيات في القصيدة تشكل جزءاً من الأداء الشعري حيث يلاحظ التكرار اللغوي ("أعود... أعود") الذي ينقل الإحساس بالدوران في حلقة مفرغة من الحزن والصراع.

- الظلال والأضواء:

كما هو الحال مع "الشموس" و"ظلال المقل"، يستخدم الشاعر التناقضات السيميائية بين الضوء والظلام لتمثيل الأمل واليأس، الاستيقاظ والموت، الحياة والدمار، وهي عناصر حيوية في فهم التوتر الداخلي للشاعر.

- البنية النحوية والوزن والقافية:

من الناحية النحوية والوزنية، تظل القصيدة محكمة الأسلوب والوزن، لكن هناك بعض الملاحظات:

١- التكرار:

تكرار الجملة "أعود... أعود" يظهر بشكل ملفت، مما قد يثقل الوزن الموسيقي ويحول النص إلى دائرة مغلقة من الحزن والتوق. هذا التكرار يعزز الدلالة الرمزية للعودة المستمرة إلى موضوع الفقد.

٢- التوازن بين الجمل:

من الناحية النحوية، بعض الجمل تأتي طويلة جدًا بحيث يصعب تتبع المعنى بالكامل من دون توقف أو تنفس، مثل: "وما في دمائي سواك رفيق / وتعصين نزفي". هذا التوتر قد يكون مقصودًا لإظهار الضغوط النفسية على الشاعر.

٣- القافية:

القافية في القصيدة متنوعة بين السطور، مما يساهم في إبراز التشويش العاطفي والحالة الوجدانية المتقلبة للشاعر. حيث يتم الخروج أحياناً عن الإيقاع التقليدي في مواضع معينة، مما يعكس التوتر داخل النص.

- الخاتمة:

قصيدة "ضحكات الثعالب" للشاعر محمود السرساوي تجمع بين العديد من المناهج النقدية لتعبّر عن ألم الفلسطيني وتوتره الوجداني والنفسي. الرمزية الحاضرة في النص تتداخل مع الهويات الثقافية والسياسية، مما يجعل القصيدة لوحة شعورية تحمل فيها الألم والتمرد والأمل.

***

بقلم: عماد خالد رحمة - برلين

..........................

ضحكات الثعالب

أعود... أعود

يداك وكأس الغياب وصلبي وعتم الطريق

وكم قلت تبت

تناثر حولي المكان الشهي العصي الأسير

وما في رجوعي سوى حسرتين

وما في ضلوعي سوى جمرتين

ومافي دمائي سواك رفيق

وتعصين نزفي...

صباح الزهور التي أيقظتني على لمس نارك

ويقظة كل العيون النبية عند انتظارك

وتنسين أني

أعدت الأساطير من ملح يومي

وجندت صفا من الياسمين ليعبر دارك

أعود أعود

ألم عن النهر رف القبل

ورعش العيون المجرح قبل ارتعاش الشفاه

ونبض السماء على الضفتين

وطيف العناقيد بعد التداني

وخمر النشيد الذي لم يقل

كأن الذي عاد بي ليس بي

كأني خسرت شراع الكلام

وزهو الغمام

وصبو الحجل

كأني ترقبت هذا الغياب

وضيعت نفس الطريق لألقى

عناقيد روحي

وقد لوحتها شموس المقل

**

أكاد أباعد بيني وبيني

وأرمي بأوزار حلم قديم

تمرد كالريح بين الأيادي

وأزهر كالصمت خلف الشفق

ومازلت أخشى اغتصاب نشيدي

ودمع حبيبي

وما شب مني

ليعبر قبلي حنين الورق

أكاد أرى الروح يا صاحبي

تشق البلاغة في دمعتيك

تميط اللثام عن الأغنيات

وتفزع من شهوة الإنزلاق أمام يديك

أكاد أراك أكاد أراني

واقرأفي نزوة الخادعين ذبول القرار

أحقا تريد الخروج عليهم

وتخلع ذئب السكوت الممرغ في الاعتذار

أما كنت انفض رملي الأخير

وانس سؤالي تماما تماما

لماذا استباحوا حليب العناق وخانوا الكلام

أليس الشهيد بداية عمري

أما صان نبضي وغنى لهيبي

أليس البعيد قيامة قلبي

من الغيب يصرخ اين حبيبي

وأين الرفاق الذين أحبوا جنون الجذور بنا والتعب

هنا نفترق

أزيحوا الستائر عنكم قليلا

فقد هد قلبي رنين الخطب

فكيف اتكأتم على سر قبري

وقلتم نجدل شعر البراري

ونرفض أن تستبد الجراح

أصدق ما كان أو قيل عني

أصدق زهو البيان الأخير

أصدق نهر المقابر فينا

أصدق شهد الندى والشجر

أيكفي صراخ الأرامل يكفي

أتكفي الصور

لأنسل وحدي

بريء الأغاني التي زاملتني بهذا السفر

إذن فاسمعوني

وقولوا لكل الثعالب شكرا

حرسنا العنب

حرسنا النصوص

حرسنا الرؤوس

حصدنا التعب

أيا اعدقائي

قليلا لنبدأ فينا الحساب

فمن عاش عاش

ومن مات مات

ولكن فينا انتمت غيمة

وأبصر سجن

وهب تراب

فكيف أصالح بين السيوف وبين العذاب

وماذا أقول لطير الأماني

إذا ما دعاني حريق العتاب..............

***

مقاطع من قصيدة ضحكات الثعالب

 

من الجاهلية إلى أزمة الذائقة الحديثة

مقدمة: نحو وعي أنثروبولوجي بالشعر العربي:

ليس الشعر العربي مجرّد تعبيرٍ لغوي عن انفعالٍ أو تجربةٍ ذاتيّة، بل هو – في عمقه التاريخي والرمزي – وثيقة أنثروبولوجية كبرى تكشف عن البنية الروحية والثقافية للإنسان العربي في رحلته عبر العصور. إنّ قراءة الشعر العربي، من الجاهلية إلى الراهن، هي قراءة في تحوّلات الوعي بالذات والعالم، لأن الشعر كان دائمًا المرآة التي تعكس روح الجماعة، وصيرورة تحوّلها من البداوة إلى التمدّن، ومن الغريزة إلى المعنى.

في زمنٍ تتكاثر فيه القصائد كما تتكاثر الظلال، وتختلط فيه الأصوات حتى يفقد الشعر معناه الجوهري، تبرز الحاجة إلى مساءلة جوهر الشعر العظيم، لا بوصفه مهارة لغوية، بل كفعل وجودي يصدر عن روحٍ سامقة تطلب الارتقاء في مدارج الوعي والكمال. فالشعر العظيم لا يكون عظيمًا إلا إذا وُلد من نفسٍ عظيمة، تعانق الحقيقة الكونية في أعمق مستوياتها، وتسمو على اليومي والعابر نحو الخالد والمطلق.

1. الشعر الجاهلي: الينبوع الأنثروبولوجي للوعي العربي:

لا يمكن الحديث عن الشعر العربي دون العودة إلى الجاهلية، بوصفها المرحلة التي تبلورت فيها الأنسنة الأولى للوجود العربي. فالجاهلية لم تكن، كما يتوهم البعض، ظلمةً ثقافية، بل كانت طوراً من أطوار التمدّن البدئي الذي حمل إرهاصات الوعي بالذات والكون والمصير.

إنها اللحظة التي نطق فيها العربيّ بوجوده عبر الكلمة، فصارت القصيدة عنده بيتاً للكينونة، يجمع فيه بين الشاعرية والبطولة، بين الصحراء والروح.

في شعر امرئ القيس وزهير بن أبي سلمى وطرفة بن العبد، نرى بواكير الوعي الوجودي؛ فالقصيدة ليست وصفاً للطبيعة فحسب، بل هي تجربة للخلود عبر اللغة. يقول زهير:

ومهما تكن عند امرئٍ من خليقةٍ

وإن خالها تخفى على الناس تُعلمِ

في هذا البيت تتجلى رؤية أخلاقية وإنسانية متقدمة، تضع الإنسان في مواجهة ضميره ومصيره. فالشاعر الجاهلي كان يحمل في لغته بذور الفلسفة، وإن لم يُسمِّها كذلك.

ولذا، فإن أي مشروع نقدي عربي معاصر، لا يمكن أن يُبنى إلا على فهمٍ عميق لهذه المرحلة؛ إذ هي المفتاح الأنثروبولوجي لفهم الروح العربية، لأن ما جاء بعدها من عصورٍ هو امتدادٌ لما ترسّخ فيها من قيم الجمال والكرم والشرف والبطولة والمعنى.

2. الحاضر كمرآة للغابر: جدلية الماضي والمستقبل

يخطئ من يظن أن الماضي انقضى. فالحاضر، كما يقول المفكر المغربي محمد عابد الجابري، هو "نتيجة تفاعل مع التراث بقدر ما هو قطيعة معه".

إنّ الروح العربية التي صاغت معلّقاتها تحت خيام الرمل، لا تزال تسكن لغتنا المعاصرة، وتشكل لاوعينا الجمعي في التفكير والتعبير والتأمل.

فحين نقرأ شعر المتنبي، نرى أن روح الجاهلية تسري في طموحه إلى المجد والخلود، وحين نقرأ أدونيس، نلمس محاولة للعودة إلى الأصل، لا لتكراره بل لتفكيكه وإعادة بنائه.

هكذا تصبح كل قصيدة حديثة امتدادًا لأنثروبولوجيا أقدم، تشهد على أنّ الماضي لا يموت بل يتحول إلى رمادٍ تخبئ فيه جمرة الوجود العربي.

3. أزمة الشعر الحديث: غياب الأنثروبولوجيا وحضور الادّعاء

في زمننا الراهن، تتكاثر القصائد كما تتكاثر الصور على الشاشات. كثير من الشعراء يكتبون "نصوصًا" لا تحمل روح الشعر، لأنها منبتّة عن الينبوع الأنثروبولوجي الأول، أي عن التجربة الإنسانية العميقة التي تجعل الكلمة حياةً ثانية.

إن الشعر الذي يُكتب بلا جذور، يتحوّل إلى صناعة لفظية، لا إلى كشفٍ أو وحي. يقول الناقد صلاح فضل إن "الشعر لا يُقاس بحداثة شكله بل بقدرته على استنطاق الموروث وتجاوزه"، وهذا هو جوهر المأزق الشعري اليوم: غياب البعد الأنثروبولوجي الذي يربط النصّ بجذور الوجود العربي.

فمن دون هذا البعد، لا يمكن للشعر أن يكون أكثر من تقليدٍ لغوي أو تجريبٍ شكلي. أما الشعر الحقيقي، كما يرى كمال أبو ديب، فهو "تجلٍّ لروحٍ تبحث عن معنى الكينونة في اللغة". ومن ثمّ، فالأزمة ليست لغوية بل وجودية.

4. نحو مشروع نقدي عربي: استعادة الجذور لبناء المستقبل

السؤال عن وجود مشروع نقدي عربي ليس ترفًا فكريًا، بل هو سؤال في الهوية والمعنى.

لقد حاول مفكرون ونقاد كبار، مثل عبد الله الغذامي في "النقد الثقافي"، وحسن حنفي في "التراث والتجديد"، وطه عبد الرحمن في "العمل الديني وتجديد العقل"، أن يؤسسوا لقراءة نقدية عربية، تنبع من داخل التراث لا من استيراد المناهج الغربية استيرادًا أعمى.

غير أنّ المشروع النقدي العربي لا يزال مشروعاً مؤجلاً، لأنه لم ينجح بعد في تحقيق التوازن بين التأصيل والتحديث، بين الوفاء للتراث والانفتاح على الكوني.

إنّ قيام مشروع نقدي عربي أصيل مشروطٌ بإعادة قراءة الشعر العربي كظاهرة أنثروبولوجية وروحية، لا كمجرد نصّ لغوي؛ لأنّ الشعر هو الوثيقة التي تحفظ هوية الوعي العربي في التاريخ.

خاتمة: الشعر كذاكرة كونية للإنسان العربي

الشعر، في جوهره، هو ذاكرة الوجود العربي في مواجهة الفناء.

من الجاهلية إلى الحداثة، ظلّ الشعر العربي جغرافيا للروح، يحمل في طيّاته رحلة الإنسان العربي في بحثه عن الخلود والمعنى والحرية.

وحين يفقد الشعر هذا البعد الأنثروبولوجي، يصبح مثل شجرةٍ بلا جذور، جميلة في ظاهرها، لكنها ميتة في أعماقها.

لذلك، فإن استعادة الوعي بالشعر كوثيقة أنثروبولوجية هي الخطوة الأولى في تأسيس مشروع نقدي عربي متكامل، مشروع يقرأ الذات في مرايا تاريخها، ويصوغ المستقبل من رماد ماضيها.

***

بقلم: عماد خالد رحمة - برلين

لا أُكرّرُ ما كتب غيري عن رواية (منازل العطراني)* لكني أُحاول أنْ أُركّزَ على أمور أُخرى لم يمسسها ــ كما إخالُ ــ السادة الذين تصدوا لهذه الرواية وكتبوا عنها. أقولُ هذا الكلام لأني أتميّز عن سوايَ من هؤلاء السادة المحترمين في أني عاصرتُ وزاملت بطل الرواية (محمد الخَلَف) لقرابة الأربعة أعوام مساهمين في تحرير صفحة [التعليم والمعلم] في جريدة طريق الشعب البغدادية الناطقة بإسم الحزب الشيوعي العراقي. كما عرفتُ أحد أبنائه الذين عملوا في القسم الفني لهذه الجريدة وهو (البطل سامي) الذي اختطفه البعثيون في العام 1979 أو ربما في 1978 إبّان غدر وخياتة البعث لحليفه في الجبهة الوطنية والتنكّر للعهود ومبادئ هذه الجبهة فطورد مَن طورد وأُعتقل من أُعتقل وأُختطف مَن أُختطف وغَيّبَ ثم أُعدم وكان سامي حسن العتاّبي أحد هؤلاء. وفئة أُخرى كبيرة استطاعت مغادرة العراق على عَجَل للبحث عن مأوى آمن والتشتت في مختلف بقاع العالم وكان أحد أبناء محمد الخلف أحد هؤلاء.. فئة أخرى من الشيوعيين إلتحقت بقوات الأنصار في جبال كردستان تقاتل جيوش دولة قوية مارقة مُنفلتة لا تعرف ذمّةً ولا تصون عهداً ولا تلتزم بميثاق. واستطاع أحد أبناء (محمد الخلف) ترك العراق والإلتحاق بهذه القوّات. إثنان من أولاد محمد الخلف سيقا للقتال في الحرب العراقية ــ الإيرانية 1980 / 1988.. أُصيب أحدهما بشظية قنبلة كسرت ذراعه. أما ولده الأكبر الذي أكمل دراسته في كلية التربية في جامعة بغداد (أظنه جمال حسن العتابي كاتب هذه الرواية) ومارس التدريس في الفلوجة وبغداد فكان وضعه وضعاً آخر: ما كان شيوعياً نشطاً معروفاً لكنْ كان صديقاً للشيوعيين وعن طريقه قَبِلَ والدُه مساعدة الشابَ الشيوعي سليم والتوسط لتوظيفه مأمورَ مخزن في شركة يُديرها مهندس صديق للشيوعيين. أظن إني أعرفه.. عرّفني عليه في العام 1976 / 1977 الصديق المهندس حكمت الفرحان وزرناه ذات يوم في بيته المنيف في إحدى مناطق بغداد لا أتذكرها جيداً. ترك خالد مهنة التدريس وعاش متخفيّاً متنقلاً بين بيوت الأقارب والأصدقاء ولم يغادر العراق حسب المكتوب في الرواية.

الموضوعة الرئيسة في هذه الرواية هي: ما هو مصير المناضل الشيوعي الذي يُسجن ويهرب من السجن ويعيش متخفياً في بيوت الأقارب في جنوب العراق (في قرى مدينة الكوت / العطراينة) عيشة قلق وخوف دائم في بيوت من طين بائسة لا تتوفر فيها شروط الحياة النظيفة والمقبولة حدَّ الإختباء في حفرة لا تكادُ تسعُ جسده. هذا المناضل ترك وظيفته وترك عائلته بدون معيل ومورد وأحسن كاتب الرواية في وصف حال والدته زوجة محمد الخلف وأبدع في تصوير حالاتها خوفاً على مصير زوجها وأولادها وبناتها. أعود للسؤال إيّاه: ما مصير المناضل الذي يجد نفسه مُضطرّاً لترك وظيفته ومصدر رزقه الوحيد وعائلته الكبيرة ليتخفى بعيداً عن عيون الأعداء؟ لا أُجيب لكنْ الأسئلة التي وضعها الروائي تكفي وتوضّح أحسنَ توضيح من قبيل {.. تبدو لي الفكرة مقبولة الآن باشرْ بتنفيذها، تُرى كيف ستكونُ الحفرة، ما شكلها؟ أمامي صورة قاتمة لها: تراب، طين، روائح كريهة تنبعث من فضلات الحيوانات، مطر، رطوبة، تَرَقّب، إنتظار، كل هذه الهواجس تُعيدُ لي الأسئلة مُجدّداً، مَن الذي قادنا إلى هذا المصير؟ مرّتْ في رأسي موجات متوالية مضطربة من الأفكار والذكريات، الهزيمة التي تربضُ في دمي تمطّت في حلقي، في ذاكرتي، فقلتُ بتحدٍ:

أنتَ أيها المغوار تقاومُ الآنَ الهزيمةَ وحدكَ!

شعرتُ بحزنٍ يغمرني كأنه ثوب من حديد، هزّات رأسي تتزايد برتابة مجنونة، قلتُ لأقنعَ نفسي بالفكرة، الحُفرة ستضيفُ عنواناً لخيبة لا تنتهي}

(مَن الذي قادنا إلى هذا المصير)؟ سؤال وجودي ثم سياسي ــ إجتماعي ــ ثقافي ــ فلسفي. أحسبُ أنَّ الأفضل أنْ يكون السؤال (ما الذي قادنا إلى هذا المصير؟) بدل مَن الذي قادنا. نحن نعرفُ مَن قادنا ولكن يحتاج الأمر برمّته إلى الإستفسار عن السؤال المصري الأكبر (ما الذي قادنا).

محمد الخلف لم ينهزمْ.. لم يتبرأ من الحزب ولم يخُنْ الأمانات ولم يُفشِ أسراراً ولم يسبَّ أحداً من الشيوعيين كما فعل مرتدّون سقطوا معروفون في الأوساط السياسية والثقافية وعالم الشعر. تحمّل وعائلته ما تحمّل وتحمّلت ولم يقدّمْ براءةً تُنشر في الصحف ليستأنف وظيفته السابقة معلّماً في مدارس العراق. إلتزم الصمت حتى آخر أيام حياته.. لم يرجع لتنظيمات الحزب الشيوعي لكنه ظلَّ صديقاً وفيّاً للشيوعيين نقيّاً نبيلاً وسمعتُ أنَّ البعثيين لم يقتلوه خلال هجمتهم الهمجية الدموية الغادرة على حلفائهم الشيوعيين في الجبهة الوطنية كما فعلوا بصديقه وزميلنا في تحرير صفحة التعليم والمعلم المربي البطل عبد الستار زُبير أبو إيمان.

أفكار لمحمد الخلف تستحق التوقف لمناقشتها والحفر لإستجلاء بواطنها وهل فيها تخلٍ عن المبدأ الذي اعتنق وضحّى في سبيله وتشرّد وعانى وأهلُ بيته؟ أقولُ هذا الكلام لأنَّ أحد الكتّاب نشر قراءة لرواية (منازل العطراني) ركّزَ أو أشار فيها إشارات قوية أنَّ الشيوعي السابق محمد الخلف ندمَ على شيوعيته السابقة وكنتُ كتبتُ ونشرت رداً بالأدلّة الحية التي عايشتها أُفنّد فيها ما كان هذا الأستاذ قد ادّعى فيما كتب. أنقل حرفياً ما جاء في الصفحة 131 من الرواية:

(.. نهض خالد مُسرِعاً يتلفُّ مُتوَجِساً، إنشغل تفكيرهُ بمحاولة ترتيب أسئلته الحائرة لأبيهِ عن معنى التفاني،وجدها فُرصةً للسؤال عن قضية أكبر: لماذا يموتُ المرءُ من أجل فِكرة؟ لماذا يدفعُ الأبناءُ ثمنَ (المجد) الذي ينالهُ الآباءُ؟ من أعطاهم الحقَ بذلك؟ هل أخذوا إذْناً بالموتِ ليرمِّلوا الزوجات، ليذهبَ أولادهم إلى التيه !! ما معنى البطولات برؤوس اليتامى؟؟

- الإشكالية باعتقادي يا خالد أنَّ الجماعة تُلزِمُ بتقديم القرابين من أجل القضية، ما من شهيد إلاّ ورددَ أنه سيموتُ، لأنَّ القضية التي ماتَ من أجلها ستعيش، عَبِرها ستعيشً ذكراهُ أبداً، البطلُ هو مَن يُضحّي بنفسهِ من أجل سواهُ، أو من أجلِ قضيّة يرفعُها إلى مرتبةِ القداسة، هناك مَن يرى في البطل قدرته على الموتِ بقدِرِ ما يملكُ من قُدرات على قتلِ غيره.

- أي أنَّ البطلَ " قاتلٌ " في النهاية!

- ليس كما تعتقد يا خالد! هو إنسانٌ يُمارسُ القتل لنشرِ عقيدةٍ يعتبرها صحيحة، أو تطبيق نظرية يُعدُّها عادلة، فيما هي غيرُ ذلك في نظرِ سواهُ، الإلتزام بحدِّ ذاتهِ يتحدد مضمونهُ وقيمتُهُ بمدى اقترابه من استمرار الحياة، لا فنائها.

- إنسانُ الجماعةِ يؤكّدُ لنفسه دائماً: ألمْ نُقدّم أنفسنا قُرباناً على مذبح القضيّة، ألمْ نُنشد: نموتُ ويحيا الوطن وتحيا العقيدة؟ بالنتيجة هي الأفكار المُجرّدة والرموز المقدّسة، أنا أُشيرُ يا ولدي إلى ثقافة بديلة في غرسِ معنى الحياة، لأنها الغاية المُثلى، لا الموتُ المُرتبط بالإيديولوجيا)

ملاحظة: " الجماعة " التي تكرر وروها في هذه الرواية تعني (الشيوعيين) حصراً.

- هنا أمور كثيرة تستحق المناقشة وطرح الكثير من الأسئلة التي هي موضع خلافات قديمة وحديثة وستظل كذلك أبدَ الدهر منها:

1 ـ { لماذا يموتُ المرءُ من أجل فِكرة؟ }

2 - (لماذا يدفعُ الأبناءُ ثمنَ " المجد " الذي يناله الآباءُ)؟ من أعطاهم الحقَّ بذلك؟

3 - (هل أخذوا إذناً بالموت ليرمّلوا الزوجاتِ، ليذهبَ أولادهم إلى التيه)؟

4 - (ما معنى البطولات برؤوسِ اليتامى)؟

5 - (هناكَ مَن يرى في البطل قدرته على الموت بقدر ما يملك من قُدراتِ على قتلِ غيره. أي أنَّ البطلَ " قاتلٌ " في النهاية)

6 - (ليس كما تعتقد يا خالد! هو إنسان يُمارس القتل لنشرعقيدة يعتبرها صحيحة، أو تطبيق نظرية يعدّها عادلة، فيما هي غير ذلك بنظر سواه، الإلتزامُ بحد ذاته يتحدد مضمونه وقيمته بمدى اقترابه من استمرار الحياة لا فنائها)

7 - (أنا أُشيرُ يا ولدي إلى ثقافة بديلة في غرسِ معنى الحياة لأنها الغاية المُثلى، لا الموت المُرتبط الإيديولوجيا).

- أمامي هذه اللوحة من الموضوعات التي طرحها الدكتور جمال حسن العتّابي نسب بعضها والأكثرَ حساسيّةً وإثارةً للجدل لأبيه ولا أراها بالضرورة كذلك إنما هي آراء وقناعات الراوي رحّلها لأبيه لمضاعفة فاعليتها أو ربما تكلّم بها نيابةً عنه بعد أنْ أفضى له بها بين حين وآخر تلميحاً أو توضيحاً مباشراً.

- (لماذا يموتُ المرءُ من أجل فكرة)؟ هل سألَ سقراط نفسه هذا السؤال حين وافق على تناول السم الذي قتله؟ هل سألت كليوباترا نفسها إذْ قتلت نفسها بلدغة أفعى سامّة؟ هل سأل الحُسين بن علي نفسه هذا السؤال وقد رأى بأم عينيه مقتلة ذويه وآل بيته صبياناً وشباباً ثم ظهر في ميدان معركة الطف ظمآناً خائر القوى وهو يعلم أنه مقتول لا محالة؟ إنه صاحب القول المنسوب إليه [يا سيوفُ خذيني]. هل ندم فهد وصارم وحازم وقد عرفوا انهم محكومون بالإعدام شنقاً وقد أُعدموا في شباط 1949 وعُلّقت جثامينهم في ساحات بغداد العامة. أم هل تراجع سلام عادل أو ضَعُفَ وانهار تحت التعذيب الوحشي في قصر النهاية في بغداد إثرَ انقلاب شباط 1963 وكذلك رفيقاه جمال الحيدري ومحمد صالح العبّلي والآلاف من خيرة شباب ورجال العراق؟ هل ندم وتراجع السيد محمد باقر الصدر أو قريبه النجفي محمد صادق الصدر ونخب أخُر من علماء الدين وأعضاء حزب الدعوة وفئات ملتزمة غيرها؟

- يقبلُ صاحب الفكرة والمؤمن بعقيدة سياسية أو فلسفية أو مذهب أو دين أو فلسفة... يقبلون الموت حين لا من فُرصة أخرى بديلة مُتاحة لهم لمواصلة الحياة كما أرادوها. لا من خيار آخر أمامهم سوى الخنوع والرضوخ والإستسلام وهذا ما لا يقبله المؤمنون من الرجال مهما كانت طبائع إيمانهم. إختاروا الموت حين وجدوا أنفسهم أمام قوة غاشمة تحاول إخضاعهم والتنازل عمّا أمنوا به وصاح الحُسين [[هيهاتَ منّا الذُلّة]] حين حاولوا إجباره على البيعة ليزيدَ في دمشق وكان الحسين هو الخليفة حسب بنود إتفاقية صُلح الحسن مع معاوية كما تقول مصادر التأريخ. فضّل الموت على أنْ يرى نفسه مغبوناً مظلوماً مسلوبَ الحق فضلاً عمّا رأى من تقاعس الذين ورّطوه وأغروه بالتوجه إلى كوفة العراق فقتلوا قبله سفيره لهم (مسلم بن عقيل) وجزّوا رأسه ثم سحلوا جسده بالحبال في دروب الكوفة. وقبل ذلك بعشرين عاماً فعلوا بأبيه مثل ما فعلوا به: تقاعس أهل العراق عن نجدته بمعاودة قتال معاوية بعد معركة صفّين. هكذا يفعل تبدّل أمزجة بعض الشعوب والأقوام. بالنسبة لي كنتُ سأُفضّل الموت ولا أتنازل لفئة ضالّة متخلّفة دموية ولا أقبل الإنتماء لعقيدتهم أو حزبهم أو دينهم... أرفض الحياة لأني لا أرضى أنْ أحياها مع هذه الزمُر المُغتصِبة لنسغ الحياة. لا تجمعنا حياة واحدة. لقد تعرّضتُ ذات يوم للموت ثمناً لقناعاتي والتزاماتي السياسية وكنتُ مُنسجماً مع نفسي أني قدّمتُ ما أستطيع من أجل خياراتي وإيماني بالحقائق العلمية وعلى رأسها قوانين الدايالكتيك وتطبيقاتها في الحياة. ليس كل الناس مستعدين للتخلي عن الحياة فالقناعات والإيمان بها درجات متفاوتة شتى. سألتُ الشاعر عبد الوهاب البياتي مرة وقد التقينا في مقهى في مدريد (ما أسباب انهيار السياسي الشيوعي المعروف عزيز الحاج وتعاونه مع البغثيين؟ أجاب فوراً لأنه ما كان مُقتنعاً بالشيوعية !). قناعة المرء إذاً هي التي تحدد الخط الفاصل بين الموت والحياة.

- فُصلَ محمد الخلف وسُجن زمان عبد الكريم قاسم في عام 1959.

- (لماذا يدفعُ الأبناءُ ثمن المجد الذي يناله الآباء؟) معك حق كل الحق يا جمال حسن العتابي (خالد).. هذا سؤال وجيه ومبرر. قديماً قيل: يأكل الآباء الحُصرُم ويُضرِّس الأبناء. يا ما ترك الآباء أطفالاً يتامى لا مُعيل لهم وزوجات ربّات بيوت لا موردَ لهنَّ إما ذهبوا للسجون الرهيبة أو أُغتيلوا في الشوارع المظلمة أو قُتلوا تحت التعذيب الوحشي في غياهب السجون. هنا يسأل المرء: كيف يهون على رجل مثقف أنْ يتركَ أطفاله والأُمّهات بدون أب يُعيل ويحمي ويُطعم ويكسي ويربي.. كيف؟ ما يقول لنفسه وكيف يبرر عمله هذا؟ لماذا تزوج وأنجب وهو عارف أنه يمشي في طريق محفوف بالمخاطر والمجازفات ويعلم أنه مُعرّضٌ للسجن أو الفصل من الوظيفة بل والموت إغتيالاً أو تحت التعذيب في الأقبية وظَلُمات السجون؟ الإيمان المُطلق بعقيدة ما يهون أمامها كل شئ. يُضحّي بعض الناس بكل شئ من أجل الثبات على ما يعتقد وما يؤمن به فيتماهى ولا ينفصل: أنا وعقيدتي أو الموت من غير هذه العقيدة! أنا لاشئَ بدون عقيدتي... فراغ.. هواء...فالفناء أفضل. يبقى الموضوع الإنساني الخاص بترك زوجة وأطفال من غير مورد مُعلّقاً قابلاً للجدل والأخذ والرد. عائلة محمد الخلف وقفت على أقدامها بعد الصدمة فشرع الأولاد الشباب وشقيقتهم بالعمل هنا وهناك أو في البيت فضمنوا ما يُديم حيواتهم من طعام وسكن وملابس حتى أكمل خالد دراسته في كلية التربية / جامعة بغداد وتم تعيينه مُدرِّساً في الفلوجة فضمن بذلك مورداً ثابتاً جيداً له ولأسرته. لكل مشكلة هناك حل واحد في الأقل. وأهلنا يقولون [ما تضيق إلاّ وتنفرج] وشاعر قال (وكلُّ شديدةٍ نزلتْ بقومٍ / سيأتي بعد شدّتها رخاءُ). تمام دكتور جمال حسن العتابي؟

- هناك من يرى في البطل قدرته على الموت بقدر ما يملك من قدرات على قتل غيره. أي أنَّ البطلَ قاتلٌ في النهاية. أرى في هذا القول آثار أصابع الفيلسوف الألماني نيتشه ! هكذا يفكّر ويتفلسف هذا الرجل صاحب كتاب (هكذا تكلّم زُرادشت). ما دليلك يا دكتور جمال أنَّ البطلَ قاتل في النهاية؟ هل كان سقراط قاتلاً غير نفسه؟ وهل قاتل الحسين إلاّ مُكرهاً ودفاعاً عن النفس بعد أنْ أُغلقت السبلُ كافّةً في وجهه؟ هل قتل فهد وصحبه وسلام عادل ورفاقه هل قتلوا أحداً؟ هل قتل صديق والدك الأستاذ عبد الستار زبير أحداً؟ قتل ستالين ملايين الناس بدعوى حماية روسيا والثورة فهل كان بطلاً أو أُعتبرَ بطلاً؟ كذلك الأمر مع صدام حسين. لم يسعَ الشيوعيون لإتيان البطولات واجتراح المعجزات إنما قاموا بما تستوجبه عناصر عقيدتهم السياسية والعلمية والإجتماعية وكانوا على استعداد للتضحية بكل شئ: حيواتهم ومستقبل عوائلهم من غير انتظار مكافآت أو جوائز أو أوسمة بطولة وفخار. هل ينتظر السياسي القتيل أنْ يأتي مَن يدعوه بطلاً؟ البطولة في أنتصار العقيدة.

- ملاحظات عامّة:

- بدأت أحداث الرواية في عام 1958 وانتهت في عام 1978 عام خيانة وغدر البعث وما تلاه من أعوام تشرد فيها العراقيون وسُجن مَن سُجن وأغتيل مّن أُغتيل ومات آخرون تحت التعذيب أي أنها لم تتعرض لما عاناه العراقيون نتيجة غزو العراق للكويت وما تلا ذلك من حصار وعقوبات وجوع وبؤس وشقاء حتى سقوط صدام حسين ونظام حكمه في آذار 2003.أتمنى أنْ يكتب.

- ذكر الراوي أنَّ (عبد الرحيم) صديق والده ساعده في دخول كلية التربية إذْ كان هذا معاون عميد الكلية. أحسبه كان يقصد الدكتور رحيم عبد آل كِتل.. ما كان الرجل سنة دخول السيد جمال كلية التربية معاوناً للعميد إنما كان تدريسياً في هذه الكلية ووجدته في العام الدراسي 1970 / 1971 رئيساً لقسم الفيزياء في كلية التربية وعملنا معاً في لجنة الإمتحانات النهائية سويةً مع الدكتور إبراهيم السُهيلي ممثلاً لقسم علوم الحياة والأستاذ سليم الغرابي ممثلاَ لقسم الرياضيات وأنا مُمثلاً لقسم الكيمياء وكان الدكتور رحيم رئيساً لهذه اللجنة. بعد فترة تم نقله رئيساً لقسم الفيزياء في كلية العلوم / جامعة بغداد في الأعظمية ثم غدا عميداً لكلية العلوم وبقفزة عالية جداً تم تعيينه سفيراً للعراق في فيينا وممثلاً للعراق في الوكالة الدولية للطاقة الذرية. خلال الحرب على العراق بعد غزو الكويت إستدعاه صدام حسين ثم غاب أثره. وفي نفس الوقت ترك الدكتور محمد المشّاط وظيفته سفيراً للعراق في واشنطن واتجه للإقامة في كندا.

- ملاحظات وتصويبات:

- في الصفحة 10 ذكر الدكتور جمال حسن العتّابي التربوي والرائد النقابي الأستاذ مُحمد الخِضْري (من الخضر) قتله البعثيون غيلةً عام 1970 (؟؟) وكان أحد أعضاء الحزب الشيوعي المنتدب للتفاوض مع البعثيين حول نقابة المعلمين وإمكانية خوض الإنتخابات في قائمة مشتركة بين الحزبين. شيمتهمُ الغدرُ.

- في الصفحة 50 ذكر الراوي الأستاذ النجفي عبد الباقي الجزائري باعتباره مديراً لقرية العطرانية. مدراء النواحي لا علاقة إدارية تربطهم بالقرى بل هم مدراء نواحي. وبقدر تعلّق الأمر بالأستاذ عبد الباقي الجزائري أبو سعد فقد كان زمان العدوان الثلاثي على مصر خريف عام 1956 مديراً لناحية البطحاء التابعة للواء المنتفك (محافظة ذي قار) وكنت هناك في هذا الوقت لأنَّ الدراسة في الكليات كانت قد أُوقفت بسبب التظاهرات الصاخبة والإحتجاجات إنتصافاً لمصر ووقوفاً مع الشعب المصري في نضاله ضد الإستعمار. كنت أزورشقيقتي فزوجها هو مدير المدرسة الإبتدائية في البطحاء وعرّفني على مدير الناحية الأستاذ عبد الباقي الجزائري أبو سعد وكنا نزوره في بيته ليلاً ونسهر هناك. وفي صيف عام 1957 دعوناه وشاباً مُعمّماً معه يحمل لقب الجزائري على العشاء في بيتنا في مدينة الحلة. كانا في الطريق قادمين من بغداد متجهين نحو النجف. لذلك أصابني عجبٌ كيف يكون هذا الرجل صديق العطراني المعلم في قرية العطرانية خلال فترة العدوان على مصر خريف عام 1956؟!

- الصفحة 80.. ذكر الراوي حركة حسن سريع ونسب وقوعها في منتصف شهر حزيران 1963.. بينما الكل يعرف أنها وقعت في الثالث من شهر تموز 1963 وليس في حزيران.

- في الصفحة 178 أخطأ الراوي في كتابة فعلٍ ماضٍ ولعها الغلطة الوحيدة في هذه الرواية. لقد كتب (تواطؤوا) والصحيح هو (تواطأوا) لأنَّ الهمزة مفتوحة وليست مرفوعة.

- في الصفحة 197 تكلّمت الرواية عن أزمة الصواريخ الذرية الروسية في خليج الخنازير على انها وقعت عام 1961 في حين أنها وقعت في خريف عام 1962 زمان خروشوف وكندي.

- كان الرواي مسيطراً تمام السيطرة على زمام سياقات الأحداث الصغيرة والكبيرة ماسكاً بخناقها لا يدعها تتفلّت إعتباطياً هنا وهناك ولا يسمح لأي نشاز أو مروق في سرد الوقائع وبأعلى ثقة بالنفس وباللغة القريبة جداً من لغة الشعر المنثور. لقد مرَّ باقتدار ومسح أحداثاً جسيمة ضربت العراق منذ ثورة الرابع عشر من تموز وإنقلاب الثامن من شهر شباط 1963 وإنقلاب محمد عبد السلام عارف على البعثيين وحرسهم القومي وقطار الموت في تموز 1963 وحرب الأيام الستة عام 1967 ثم إنقلابي البعث في تموز 1968 والحرب العراقية الإيرانية ثم خيانة البعثيين وغدرهم برفاقهم في الجبهة الوطنية وما رافق ذلك من اغتيالات وسجون وتعذيب وهروب جماعي طلباً لملاجئ آمنة أو الإلتحاق بصفوف قوات الأنصار في جبال كردستان. لم يغفل الراوي المرور على بعض الأمور الثانوية مثل ذكره لمقهى المعقَّدين وقلم الحبر الجاف ماركة باركر 21. لم يتبسّط في ذكر ما حدث من وقائع في العراق قبل إنقلاب الثامن شباط 1963 كالصراع الحاد بين قاسم وعارف وتمرد الشواف في الموصل ومحاولة إغتيال قاسم في شارع الرشيد في تشرين الأول 1959. يستطيع القارئ رسم منحنىً بيانيٍّ يمثل نقطة البؤس والعناء ثم التحول ببطء نحو الإنفراج والرخاء وما أنْ يصل هذا المنحنى البياني إلى أعلى نقطة حتى يشرع بالهبوط حيث التشرد والقتل والسجون وسفك الدماء كأنها دورة حتمية من دورات الحياة مفروضة على العراقيين منذ قديم الزمان فسومر قامت ثم اندثرت وكذلك أكد وبابل وآشور.

***

د. عدنان الظاهر

أُكتوبر 2025

........................

* رواية منازل العطراني. منشورات الإتحاد العام للأدباء والكتّاب في العراق، 2023 الطبعة الأولى.

    

في عمق التجربة الإنسانية؛ يظهر شعور يعرف في الفلسفة باسم (القلق الوجودي) وهو حالة تتجاوز مجرد الشعور بالاضطراب أو الخوف لتلامس جوهر الكينونة والحرية والمسؤولية.

ركز الفيلسوف (سورين كيركغارد) على هذا القلق باعتباره (دوار الحرية) حيث يدرك الإنسان أمام طيف لا نهائي من الاحتمالات ويدخل في مواجهة مع خيارات حاسمة تفوق حدود معرفته.

هذا القلق ليس عبئًا سلبيًا وحسب؛ بل دافع لا غنى عنه للبحث عن المعنى الحقيقي للحياة، وهو نقطة التقاء بين الإرادة الحرة والعبء الأخلاقي الذي يفرضه الوجود، يبرز القلق كآلية تنقل الإنسان من حالة الغفلة إلى وعي دقيق بذاته، حيث يبدأ في مواجهة حقيقته المطلقة وعلاقته بالكون.

في كتابه “آدم” يستدعي سمير محمد عالم، هذا القلق الوجودي فتصبح النصوص نبراسًا لصراع الوعي مع الذات والعالم، بين الوحدة والاغتراب، بين التمزق والبحث عن السلام؛ تتجسد هذه الحالة في مشهد الذات كـ (نخلة في صحراء) شامخة رغم التيه والفراغ، تحارب من أجل البقاء في عالم قاس وغريب، كما يقول الشاعر “أنتصب كنخلة في صحراء … شامخًا لأبقى مقاتلًا أربعين تيهاً”

يرتحل النص عبر محطات من الاغتراب الداخلي المعطى بصور مثل “خلف شعور بالاغتراب… فرضت أبدية التغيير حتمية المكان” حيث تتلاشى معالم الانتماء وتتبدد الثوابت، ويصبح الإنسان حيًّا في ميدان تساؤل دائم.

ويأتي الإهداء للأم ليؤكد أهمية الروابط الإنسانية كمراهنة على استرداد الذات واستعادة التوازن؛ ليكون الحب والصبر والعطاء قيمًا أساسية تشكل حصن الإنسان في وجه القلق والضياع، حيث يؤكد النص “إليك يا أمي أهديك حروفي فهي منك وصبرك وحبك وعطاؤك”

فنيًا يستخدم سمير عالم صورًا متعددة الأبعاد، العطر مجاز للغواية الوجدانية، القلب رمزي لجراح الزمن، والنجمة في الليل رمز للرجاء وسط الظلمات، هذه الصور تولد أجواء متخالفة بين الحسية والرمزية، تعبر عن تناقضات الوجود الإنساني وتطرح استمرارية الحنين رغم الألم، كما يقول “عطر أنفاسك غواية الوجود… حنين لا ينتهي”

وعلى المستوى الفلسفي تجسد نصوص “آدم” تساؤلات كونية حول الهوية والكينونة أمام تقلبات الوجود وانعدام الثبات، إعادة التفكير في الخطوات البشرية المتعثرة تثير القلق من فقدان الذات، بينما تعبير “الحياة تمنحني فرصة واحدة للعيش وألفًا للدفن في التراب” يعرض التوتر بين الوجودي المحدود والمسؤولية الأخلاقية الثقيلة التي يتوجب على الإنسان حملها، تظهر شخصية آدم في النص رمزًا مركزيًا لهذا القلق، حيث تتلاقى التجربة الشخصية مع البعد الجماعي للإنسانية مجسدة المعركة الوجودية الأزلية بين الحرية والقدر، بين الخير والشر، بين الإصغاء لصوت الضمير أو الاستسلام للضياع.

الأدوات البلاغية والرموز في كتاب “آدم”:

يتحقق التناغم بين الأدوات البلاغية التي تشكل نواة الأداء الإبداعي للنص، مما يجعلها وسائط حيوية لنقل التجربة الإنسانية ومكنونة الإحساس الوجودي.

أول هذه الأدوات هو التشبيه والاستعارة، حيث يستخدم الشاعر صورة النخلة في الصحراء لتمثيل الذات التي تقف شامخة ومتجذرة رغم الوحدة والفراغ، كما يتحول العطر إلى استعارة تجسد الغواية الوجدانية والحنين المستمر؛ ما يثري المشهد الشعري برمزية تفوق التعبير الحسي البسيط وتتأسس المفارقة والانزياح على سياق ضاغط من حيث قلة فرص الحياة التي يمنحها الوجود مقابل وفرة فرص الموت؛ ما يصنع توترًا دراميًا مضاعفًا يدفع القارئ إلى تأمل هشاشة الإنسان في مواجهة قدر لا يرحم ويضاف إلى ذلك قوة المونولوج الداخلي الذي يعكس الصراع النفسي المتأجج والاغتراب الذاتي، حيث يتحول الحوار مع الذات إلى فضاء داخلي يكتنفه التوتر والحيرة ويبرز الكابوس النفسي بصورة فنية نابضة.

أما الرمزية الزمنية الحديثة فتتجسد في القلب الذي يحمل آلام السنين وجراحات التجربة، وفي النجمة التي تمثل أمل النجاة والضياء وسط عتمة الوجود، فهما وجهان لعملة واحدة تعكس الكفاح البشري بين الألم والأمل.

وأخيرًا يستدعي النص الأسطورة الكونية لشخصية آدم، الذي يتحول من اسم في الأسطورة إلى رمز كلي للإنسانية يعكس الصراع الأزلي بين المصير والحرية بما يحملانه من مسؤوليات وقرارات وجودية بالتداخل المركب بين هذه الأدوات يصبح النص قدرة على استيعاب تعدد مستويات المعنى، ويقدم رؤية شمولية للتجربة الإنسانية تحمل مباهج الجمال والتوترات الوجودية في آن معًا.

القلق حالة مبدعة لا مهيمنة في “آدم” لا ينظر إلى القلق الوجودي كحالة سلبية تغمر الوعي وتصنع عائقًا أمام العيش، فإنما هو فضاء إنتاجي يتشكل فيه الوعي الذاتي، بمعنى آخر القلق هنا ليس عبئًا يثقل كاهل الإنسان؛ بل هو مشعل يضيء دروب الفكر والمشاعر، يدفع إلى إعادة تشكيل الذات في مواجهة لا معنى الحياة الظاهر.

هذه القراءة تجعل القلق ليس فقط سرابًا للضياع؛ بل مصدرًا للتجدد والخلق النفسي، يرتقي النص بهذا القلق إلى مرتبة إمكانات الصيرورة حيث تعانق الذات الألم والاغتراب، لكنها في الوقت نفسه تضفي على وجودها معنى جديدًا عبر التجاوز والتأمل، هذا هو القلق بالمعنى (الأنطولوجي) حالة عدم استقرار من نوع خاص تسمح بانفجار الفهم وتحرر الطاقات الكامنة، كأن القلق في هذا النص هو “ألوان الحياة المتلاشية” التي لا ترى إلا بالعين التي تعرف كيف تتشبث بالفراغ، في هذا السياق يتحول القارئ من مجرد متلقي إلى شريك في بناء النص يعيد إنتاج القلق نفسه ليخلق له من خلاله مسارات تأويل جديدة، ومن هنا يصبح “آدم” ظاهرة شعرية فلسفية متحولة، ليس فقط لأن قصيدته تعبر عما هو وجدان بشري محض؛ بل لأنها تشكل تجربة للوعي ذاته في مجاله الأعمق.

المقاربات الفلسفية ومقارنة مع نيتشه:

يتناول كتاب “آدم” الأسئلة الفلسفية الكبرى المرتبطة بالكينونة، الحرية، والمسؤولية، في خطاب يقترب من جوهر القلق الوجودي كما جاء في فلسفة (سورين كيركغارد) ومتابعيه، فالنص يشير إلى الوعي بالفراغ واللايقين، حيث يصبح البحث عن المعنى تجربة مجهدة تتطلب مواجهة فردية صادقة مع الذات، وهو ما يتقاطع مع رؤية الفلسفة الوجودية التي ترى في القلق دافعًا للحرية والتمرد إذا ما أخذت هذه المقاربات الفلسفية في ضوء فلسفة (فريدريك نيتشه) نجد تمايزًا مثيرًا، ففي حين يؤكد النص على تجربة القلق كمعاناة للذات بين الواقع والهوية المتشققة يعمد نيتشه إلى تحويل هذا القلق والخذلان الوجودي إلى مصدر طاقة إبداعية تتغذى على إرادة القوة.

يرى نيتشه أن الإنسان ينبغي أن يمتلك القدرة على تجاوز المعاناة والتمرد على المألوف ليخلق ذاته بنفسه، فالقوى الداخلية تتحول من معاناة إلى إرادة حياة ونمو على عكس القلق الوجودي الذي يتجلى في النص بوصفه حالة تأملية مفعمة بالتردد، يرى نيتشه في القلق والتحول فرصة للاعتراف بذات الإنسان الحرة القادرة على صناعة قيمها الخاصة وتجاوز الموروثات الضاغطة، لذا فبينما يشدد نص “آدم” على هشاشة الوجود وانكسارات الهوية يطرح نيتشه صورة الإنسان الأعلى الذي يتحدى القلق ويعيد تفسير القيم في ضوء إرادته.

هذه المقاربة الثنائية تفتح أمام القارئ فضاء فلسفيًا غنيًا يستجلي فيه حالة الإنسان الحديثة بين الانكفاء الذاتي والتمرد الواعي، بين الحيرة والخلق، وبين العبء والحرية، ليؤكد النص مع نيتشه على أهمية إرادة الفعل في صناعة معنى الوجود.

تجليات الأنطولوجيا في كتاب “آدم”:

يتجلى مبحث الأنطولوجيا في كتاب “آدم” من خلال دراسة متعمقة لطبيعة الوجود الإنساني في حالة الصيرورة والتغير المستمر يصف الشاعر الذات على أنها “نبضة مستمرة في صحراء الزمن” حيث لا يكون الوجود حالة جامدة أو حالة معطاة؛ بل هو حركة مستمرة بين الألم والرجاء، وبين الغياب والظهور، هذه الصيرورة التعبيرية تعكس الفكر الأنطولوجي الحديث الذي يجعل من الغياب والفراغ جزءًا لا يتجزأ من ماهية الوجود، حيث يصبح الإنسان مدعوًا لفهم وجوده وسط حالة من العدم والمنفى الداخلي، وباستخدام هذه الرؤية يؤسس النص لقراءة وجودية تضع الذات في مسرح متغير حيث لا كينونة ثابتة أو مطلقة؛ بل بحث دائم عن الهوية وسط لا معنى العالم يعبر على ذلك بقوله “وجودي يمضي بين الألم والرجاء صيرورة لا تنتهي في فضاء العدم واللامعنى” وهذا يؤكد كيف أن النص لا يقدم هوية محددة؛ بل يعرض تقلباتها وتأرجحها بين حالات نفسية وفلسفية متعددة، وهو ما يعكس تلك التجربة الأنطولوجية للذات في ميدان الوجود.

في نهاية المطاف، يجوز القول بأن كتاب “آدم” يقدم تجربة تستدعي القارئ إلى مواجهة قلقه الوجودي الخاص مع دعوة للتأمل في معنى الحرية والاختيار ومسؤولية الوجود.

يتجاوز النص مجرد سرد تجارب فردية ليغوص في أزمات الإنسان الكونية في زمن تسوده عبثية الوجود ولا نهائية الاحتمالات، والسؤال الذي يتركه الكتاب مفتوحًا للتأمل: كيف يمكن للإنسان أن يحافظ على تماسك هويته وسط هذا القلق الوجودي المتصاعد، وهل الحرية التي تولد القلق هي نفسها المهدئة لما يعانيه الإنسان من تمزقات داخلية؟

***

د. آمال بوحرب

 

حـبـيـبـي للشاعر يحيى السماوي

قال ابن الفارض في واحدة من روائع شعره في العشق الصوفي:

شـربنا على ذكرِ الحـبـيـبِ مـدامة ً

سَـكِرْنا بها من قبلِ أن يُخلقَ الكَرمُ

***

أيُّ الأحـبـةِ عـنـدهُ مـثـلـي بـدنـيـا الـعـشـقِ

إلْـفُ ؟

*

يُـعـطـي بـلا مَـنٍّ..

ويـغـفـرُ لـيْ إذا اسـتـجْـديْـتُـهُ مـاءً

لأطـفـئَ جَـمـرَ آثـامـي

فـيـعـفـو!

*

سـيـمـاؤهُ نـورٌ وإكرامٌ

وإحسانٌ وعـطـفُ..

*

أغـفـو... سـريـري جـفـنُـهُ...

فـأنـا حـبـيـبـي لـيـس يـغـفـو

*

ويـداهُ لـيْ سُــورٌ ويـنـبـوعٌ

وبـسـتـانٌ وسـقـفُ

*

وهـواهُ خـمـري إنْ شــربـتُ وشــدَّنـي

لـلـرقـصِ عـزفُ

*

يـزدادُ صـحـواً شـاربـوهُ

فـلـيـس مـثـلَ شــذاهُ رشْــفُ

*

مادامَ في قلبي

فليس يمسّني يأسٌ

وخوفُ

*

سـألـوا فـؤادي عـنـهُ وصـفـاً...

فـاسْـتـحـالَ عـلـيـهِ وصـفُ "١"

*

الـخـلـقُ ـ كـلُّ الـخـلـقِ ـ فـي

قـامـوسِـهِ الـكـونـيِّ: حَـرْفُ

***

"١" الضمير في "عليه" يعود إلى القلب

.......................

سأقرؤها بثلاثة وجوه: عامة، انزياحات وصوفية، ايقاعية

أولاً - القراءة العامة:

تتشظى القصيدة أمام القارئ لا كنصٍّ مكتوب، بل ككونٍ موازٍ تُعاد فيه صياغة علاقة العاشق بالمعشوق. هنا، لا نجد ذلك التابع الخاشع في التصوف الكلاسيكي، بل نرى "أنا" متجذرة تطرح سؤال التميز: "أيُّ الأحبة عنده مثلي؟". إنها لا تطلب الفناء، بل تعلن عن وجودها الفريد الذي يُعاد تشكيله عبر حضور "الحبيب". لقد قلب السماوي المعادلة؛ فالنوم لا يأتي من غفلة المحبوب، بل لأن "سريري جفنه"، واليأس لا مكان له "مادام في قلبي". إنها علاقة وجودية، الحبيب فيها هو الضمانة الوحيدة ضد العدم.

تبني القصيدة عالمها عبر استعاضة المجرد بالملموس. فـ "يداه" ليستا رمزاً للعطاء فحسب، بل هي "سور" يحمي، و"ينبوع" يروي، و"بستان" يثمر، و"سقف" يؤوي. كل صفة تحمل في طياتها حكاية وقصة وظيفة. حتى "الخمر" الصوفية، ذاك الرمز الأثير، تُسقطُها القصيدة في عالم الحواس لتصير "هواه خمري"، لكنها خمرةٌ فريدة، تدفع للرقص لا للسكر، وتزيد شاربيها "صحواً" لا ذهاباً في الغياب. إنها استعارة جديدة للمعرفة والوعي، تختلف جذرياً عن مفهوم السكر الصوفي التقليدي.

الانزياح الأكبر يكمن في اللغة نفسها، في تلك القدرة على تحويل الكون إلى نظام لغوي تابع للحبيب. "الخَلقُ – كلُّ الخلق – في قاموسه الكوني: حرف". هذه الجملة الأخيرة ليست خاتمة عابرة، بل هي زلزال معرفي يُختزل فيه الوجود كله في أبجدية الحبيب، ليصير مجرد "حرف" في قاموسه الشخصي. هذا الانزياح اللغوي – الفلسفي هو ذروة التحرر من كل الأوصاف التقليدية. ولهذا، عندما "استحال على القلب" وصفه، لم تكن الاستحالة عجزاً، بل إعلاناً عن فشل اللغة التقليدية في احتواء تجربة تتجاوز كل ما هو مألوف. القلب هنا يعترف بأن الحبيب قد أصبح نظاماً كونياً خاصاً، مستحيل الوصف بغير لغته هو.

ثانياً- تحليل لعلاقة قصيدة يحيى السماوي بالتراث الصوفي، مع التركيز على الانزياحات اللغوية التي تشكل نسيجها الشعري الفريد. سأعتمد في هذا التحليل على المفاهيم النقدية الحديثة، وسأقوم بربطها مباشرةً بالنص.

الانزياح اللغوي: قلب المفاهيم وتكسير المألوف

الانزياح هو "خروج التعبير عن المألوف من الكلام ونسقه المثالي"، وهو الأداة التي تميز اللغة الأدبية وتجعلها لغة خاصة. في قصيدة السماوي، نجد هذا جلياً في عدة مستويات:

1- انزياح دلالي: وهو الانزياح في معاني الكلمات والمفردات. يقوم السماوي من خلاله بقلب المفاهيم الصوفية التقليدية رأساً على عقب. فالحبيب لا يغفو بينما يغفو العاشق، مما يناقض الصورة التقليدية للعاشق الولهان الذي يسهو عن المحبوب. والأكثر لفتاً للانتباه هو الانزياح في مفهوم الخمرة الصوفية؛ فخمرة الحبيب "تزيد شاربيه صحواً" لا سكراً. هذه الانزياحات تخلق "مفاجأة" للمتلقي وتؤكد على أن تجربة العشق هنا تمنح الوضوح واليقظة، وليست غيبوبة للوجد.

2- انزياح تركيبي (نحوي): يتجلى في الانزياح عن القواعد النحوية المألوفة لخلق إيقاع ودلالة جديدين. يمكن ملاحظة هذا في جمل مثل "سريري جفنه"، حيث يخلق السماوي تركيباً جديداً ومكثفاً يعبر عن الاتحاد والحميمية بشكلٍ ملموس، متجاوزاً قواعد الإضافة النحوية المعتادة ليعبر عن تلاشي المسافات بين الذات المحبة والموضوع المحبوب.

3- انزياح استبدالي (مجازي): وهو الانزياح الذي يقوم على المجاز والاستعارة. يحوّل السماوي الحبيب إلى عناصر طبيعة وحماية مادية: "ويداه لي سورٌ وينبوعٌ وبستانٌ وسقف". هذه الاستعارات المتسلسلة تبتعد عن التجرّد الصوفي الكلاسيكي لترسم حبيباً هو أساس العالم المادي والروحي للشاعر، مانحاً للحماية والعطاء والنماء.

العلاقة مع التراث الصوفي: حوارٌ وتجديد

لا تنقطع القصيدة عن التراث الصوفي، بل تدخل معه في حوارٍ خلاق، يتمثل في:

1- توظيف الرمزية الصوفية وتطويعها: استخدم المتصوفة الرمز "للتعبير عن وجدانهم وخبراتهم الذوقية" لأنها تتسع للمعاني التي تعجز اللغة العادية عن إمساكها. السماوي يستعير هذه الآلية لكنه يُعِدّ شحنها بدلالات جديدة. فالحبيب ليس غائباً يُتطلع للاتحاد به، بل حاضرٌ في القلب يطرد اليأس والخوف. كما أن القصيدة تخلو من "العاذل" أو "اللائم" التقليدي، مما يشير إلى أن هذه التجربة الشخصية لا تحتاج إلى تبرير أو دفاع.

2- البناء على فكرة "القلب" كمركز للمعرفة: الإحالة في هامش القصيدة بأن "الضمير في 'عليه' يعود إلى القلب" تضعنا في صميم التصوف، حيث القلب – وليس العقل – هو أداة الإدراك والكشف. عجز القلب عن الوصف ("استحال عليه وصفه") هو ذروة المعرفة الصوفية القائمة على المشاهدة والذوق، والتي تعترف بعجز اللغة عن احتواء حقيقة التجلي.

3- الانزياح عن النموذج الصوفي الكلاسيكي: إذا كان الشعر الصوفي الرسمي التقليدي يُكتب بلغة فصيحة وبقالب محدد، فإن قصيدة السماوي تأتي بلغة شعرية حديثة، تخلط الفصحى بلهجة السرد اليومي، وتستخدم تقطيعاً مختلفاً، مما يجعلها أقرب إلى "الشعر الصوفي بأسلوب حداثي" كما هو الحال في تجربة شعراء مثل عبد الوهاب البياتي وأدونيس.

خلاصة تحليلية

ما يقدمه يحيى السماوي في هذه القصيدة ليس تكراراً للتراث الصوفي، بل إعادة تأويل له من خلال الانزياح. فهو يستعير الإطار العاطفي والروحي للعشق الصوفي، لكنه يملأه بتجربة شخصية يكون فيها "الأنا" فاعلاً وموجوداً، والحبيب حاضراً وداعماً. الانزياحات اللغوية – دلالية كانت أم تركيبية – هي الآلية التي ينقل من خلالها هذه الرؤية المجدّدة، ليخلق "نظاماً لغوياً جديداً" يعبر عن عالمه الشعوري الفريد.

ثالثاً- الايقاع

دعونا نغوص في البناء الإيقاعي والنظام الرمزي، حيث يُعدان عماد التجربة الجمالية في القصيدة.

البناء الإيقاعي: موسيقى اللااستقرار

لا تتبع القصيدة نظام البحور الخليليّة التقليدي، بل تصنع إيقاعها الداخلي عبر تقنيات أكثر حداثة. إنها موسيقى هادئة لكنها مضطربة، تعكس حالة الشاعر بين اليقظة والوجد. يتشكل هذا الإيقاع من خلال:

1- تقطيع النص إلى وحدات نفسية: فالفقرات القصيرة المنفصلة بعلامات النجمة (*) تشبه أنفاساً متقطعة، أو لحظات تأملية منفصلة متصلة، حالة التدفق الذهني للعاشق.

2- توازن الجمل وتوازيها: لاحظ التوازن في "يُعطي بلا منٍّ... ويغفر لي"، وهذا التوازن اللفظي يخلق نغمةً شبيهة بالترنيم أو التكرار التأملي، مما يذكرنا بأذكار الصوفية، لكن بصيغة شخصية.

2- انزياحات نحوية مقصودة: مثل حذف حروف العطف أو تقديم الخبر على المبتدأ، مما يخلق إرباكاً إيقاعياً جميلاً يعكس ارتباك العاشق ودهشته. هذه الانزياحات تكسر توقعات الأذن، فتصير الموسيقى غير مستقرة، كقلب العاشق.

هذا الإيقاع المكسور والمليء بالمفاجآت لا يخدم المعنى فحسب، بل يصبح هو نفسه تعبيراً عن "صحوة" السكران، عن يقظة القلب في حالة الحب.

النظام الرمزي: قاموس الحب الشخصي

لا تكتفي القصيدة باستعارة الرموز الصوفية الجاهزة، بل تبني نظامها الرمزي الخاص، الذي يتشابك فيه الجسدي بالروحي، والمادي بالمطلق:

3- رمز اليد: "ويداه لي سورٌ وينبوعٌ وبستانٌ وسقف". اليد هنا ليست مجرد أداة عطاء، بل هي رمز مركزي متعدد الأبعاد. إنها "سور" للحماية من الخارج، و"ينبوع" للارتواء من الداخل، و"بستان" للنماء والجمال، و"سقف" للأمان الوجودي. هذا التعدد يحول الحبيب إلى فضاء حياتي كامل، يقدم كل احتياجات الوجود المادية والمعنوية.

  • رمز الخمر والصحو: هذا هو الانزياح الأكبر عن الرمزية الصوفية الكلاسيكية. الخمر التقليدية تفضي إلى "السكر" وفقدان الوعي. أما خمر السماوي فـ "تزيد شاربيه صحواً". إنها تحويل جذري للرمز؛ فالحب هنا ليس هروباً من الذات أو العالم، بل هو وسيلة لفهم أعمق ووعي أوضح. إنه خمرة تمنح الوضوح، لا الغياب.

4- رمز القلب والوصف: "سألوا فؤادي عنه وصفاً... فاستحال عليه وصفه". القلب هنا ليس مجرد مضخة دم، ولا مجرد وعاء للمشاعر. لقد تحول إلى "عقل بديل"، إلى أداة للمعرفة العليا. لكن هذه الأداة نفسها تعترف بعجزها. هذا العجز عن الوصف ليس فشلاً، بل هو إعلان عن أن التجربة تتجاوز قدرة اللغة ذاتها. القلب يعرف، لكنه يعجز عن الترجمة إلى كلمات.

5- رمز الحرف: "الخلق – كل الخلق – في قاموسه الكوني: حرف". في هذا الرمز الأخير، يختزل السماوي الكون كله في أبجدية الحبيب. الحرف هو أصغر وحدة في البناء اللغوي، وأصغر من أن يحمل معنى كاملاً بذاته. اختزال الكون إلى "حرف" في قاموس الحبيب يعني أمرين: استصغار شأن كل ما عداه، وفي الوقت نفسه، جعل الكون كله قابلاً للقراءة وفهم معناه فقط في إطار علاقته بالحبيب. إنه رمز يجمع بين التوحيد الفلسفي والتذلل العاشق.

هذان البعدان – الإيقاع والرمز – لا يعملان بمعزل عن بعضهما. فالموسيقى المتقطعة تعزز إحساس الانزياح في الرموز، والرموز الجديدة تحتاج إلى إيقاع غير تقليدي لتحملها. معاً، ينسجان عالم القصيدة الفريد، حيث يصير الحبيب نظاماً كونياً شخصياً، ولغة جديدة، وإيقاعاً لحياة الشاعر بأكملها.

***

بقلم: بهيج حسن مسعود

جماليات التلقي واستدعاء القارئ في عالم من الغموض والانزياح

من قلب مدينة طبرق الليبية، حيث تلتحم الصخور بالبحر وتتوهج الذاكرة بالحكايات، ينبثق صوت سردي فريد يجمع بين دقة العالم وجموح الأديب. إنه فتحي محمد مسعود (مواليد 1979)، الذي لم يكتفِ بدراسة جغرافيا الأرض في كلية الآداب، بل انطلق ليصنع جغرافيا أدبية متخيلة، تلتقي فيها التضاريس بالأساطير، والواقع بالخيال، ومعلم  يصنع من الفصول الدراسية مساحات للإبداع، ومذيع يحول أثير الراديو منذ 2017 إلى جسور للتواصل، ومحرك لمشاريع طلابية أنتجت مجلات وكتباً مثل "المعالم السياحية في إقليم البطنان"، وراء هذه الوجوه المتعددة، يتراءى وجه الكاتب الغزير الذي أثرى المكتبة بأعمال متنوعة بين التاريخ والفلسفة والسرد، من "أبوبكر الصديق والسياسة الشرعية" (2012) إلى "حكايات حكيم" (2014) و(خليفة النمرود، والسرداب)، وصولاً إلى (الزئبق) التي تمثل ذروة نضجه الإبداعي.

من هذه التربة الثرية، ومن هذا العقل الجغرافي، تنبع رواية "الزئبق" ذلك النص الذي يستدعي قارئه ليسافر عبر الأزمنة، وليفكك الشفرات، ويشارك في صنع المعنى.

عتبة الغلاف: البوابة البصرية إلى عالم الزئبق

لا يمكن تجاهل أولى العتبات التي تستقبل القارئ، في رواية "الزئبق"، لو افترضنا أن الغلاف يحمل صورة تجريدية تظهر: قطرة زئبق فضية تتدحرج على سطح أسود، وخطوط زمنية متشابكة تشبه دوائر متداخلة، أجزاء من وثائق قديمة تظهر بشكل شفاف.

هذه الصورة البصرية تؤسس لـ جمالية التلقي البصري حيث تقدم بشكل مجازي مكثف أهم ثيمات الرواية: سيولة الزمن وعدم ثباته (كطبيعة الزئبق)، وتشابك الأزمنة (الخطوط المتداخلة)، وأسرار التاريخ (الوثائق الشفافة)، هذا الغلاف لا يزين الكتاب فحسب، بل يخاطب حدس القارئ ويعده لدخول عالم من الانزياح والغموض، مثيراً فضوله منذ النظرة الأولى.

العتبات النصية الأولى: عقد القراءة

منذ الصفحات الأولى، تبرم الرواية عقداً غير مألوف مع القارئ من خلال:

الإهداء غير التقليدي:

الإهداء إلى "جامعة طبرق" وقسم "الدراسات العليا في الجغرافيا الطبيعية" ليس إهداءً عاطفياً تقليدياً، بل هو إشارة محورية إلى أن الجغرافيا والعلم سيكونان محورين أساسيين في الأحداث، مما يهيئ القارئ لرواية علمية وفكرية أكثر منها عاطفية.

التقديم كخارطة طريق:

تقديم سليمان محمود للرواية يعمل كـ دليل قراءة، حيث يصف النص بأنه: "رحلة سريعة الغموض"، و"خيط رفيع بين الخيال العلمي والواقع"، و"لا تُحدّد الفصول الزمنية بل تُمحى الحدود بينها"، هذا التقديم يبرم عقد قراءة واضحاً مع المتلقي: أنت مقبل على نص معقد، غير تقليدي، يتطلب قارئاً نشطاً، إنه تحذير ووعد في الوقت نفسه.

الاستهلال الغامض:

تبدأ الرواية باقتباس شعري: "أعرف أننا نكتب عن الذين نحبهم في ظلال حروفنا..." هذا الاستهلال الانزياحي يخلق تناقضاً مثمراً مع العالم العلمي الصارم الذي تليه الأحداث، مُلمحاً إلى أن الرواية تحمل أيضاً بعداً إنسانياً وشاعرياً تحت قشرتها العلمية.

خلاصة العتبات: معاً تشكل هذه العتبات الأولى نظاماً استهلالياً متكاملًا يهيئ القارئ لدخول عالم الرواية بذهن متفتح، متخلصاً من توقعات القراءة التقليدية، إنها تصمم قارئاً مثالياً للنص، قارئ يقبل الانزياح، ويستمتع بالغموض، ويشارك في بناء المعنى منذ العتبات الأولى.

هذه العتبات ليست مجرد ديكور، بل هي أجزاء عضوية من استراتيجية التلقي التي تبنيها الرواية، مما يجعل عملية القراءة تبدأ فعلياً من لحظة النظر إلى الغلاف، وليس من أول سطر في الفصل الأول.

تندرج رواية "الزئبق" للكاتب الليبي فتحي محمد مسعود ضمن ذلك النوع من النصوص السردية التي لا تكتفي بسرد حكاية، بل تُشرك القارئ في عملية بناء المعنى، وتستدعيه ليصبح شريكاً في فك شفرات النص واستنباط دلالاته، من خلال تقنيات سردية متقدمة، وبناء عالمي معقد، وخطاب موجه مباشرة إلى وعي المتلقي، تقدم الرواية نموذجاً في جماليات التلقي، حيث يصبح القارئ ليس مجرد مستقبل، بل فاعلاً في النص.

الانزياح الزمني وتشويش الحدود: استراتيجية استدعاء

هذا الإطار المستقبلي لا ينفصل عن الماضي؛ فالرواية تعود بنا إلى وثائق سرية من عام 2019 وأحداث تاريخية حقيقية مثل جائحة كوفيد-19، هذا الانزياح الزمني المستمر بين الماضي والمستقبل، وطمس الحدود بينهما، يخلق حالة من اللايقين تجبر القارئ على التساؤل: هل نحن أمام خيال علمي؟ أم أن هذا المستقبل هو نتيجة حتمية لمؤامرات الماضي؟

هذا التشويش المقصود هو استراتيجية تلقيوية بارعة، القارئ لا يتلقى الحكاية جاهزة، بل يُجبر على بناء الجسور بين الأزمنة، وربط الخيوط، والبحث عن السبب وراء الكارثة، النص يقدم المعلومات على شكل أجزاء مفككة – وثائق مسروقة، تقارير سرية، ذكريات مشتتة، وعلى القارئ أن يقوم بعملية التجميع.

(2)

تعدد الأصوات وانهيار سلطة الراوي الواحد

لا توجد حقيقة مطلقة في "الزئبق"، الرواية تقدم وجهات نظر متعددة من خلال: الراوي الرئيسي (عالم بيولوجي)، والدكتور لويض، والوثائق السرية التي تكشف مؤامرات الدول العظمى، وخطابات الشخصيات الأخرى مثل العلماء الليبيين.

هذا التعدد يخلق ما يسمى في نظرية التلقي "الأفق المنتظر" المتعدد، كل قارئ قد يميل إلى تصديق رواية على أخرى، هل الكارثة نتيجة حرب بيولوجية؟ أم بسبب تغير المناخ؟ أم بسبب مؤامرة لشركات الطاقة؟ النص لا يجيب بشكل قاطع، بل يترك المساحة مفتوحة لتأويل القارئ، مما يعزز شعوره بالمشاركة الفعالة وإعادة إنتاج النص وفقاً لرؤيته.

(3)

القارئ بوصفها "محققاً": النص كلغز

تحول الرواية عملية القراءة إلى تحقيق القارئ، مثل البطل، يُلقى عليه في بحر من الوثائق والأسرار (مثل المستند رقم 13، ووثيقة "زئبق"، وتقارير مؤتمر كندا)، اللغة نفسها تصبح شفرة يجب فكها، الأحداث لا تأتي مرتبة زمنياً، بل تتداخل كقطع أحجية (بازل)، جمالية التلقي هنا تكمن في الإرضاء الذهني الذي يشعر به القارئ عندما ينجح في ربط حدث من الماضي بحدث في المستقبل، أو عندما يكتشف خيطاً خفياً يربط بين شخصيتين.

(4)

الانزياح عن المألوف: تخريب التوقعات

تُخيب الرواية توقعات القارئ التقليدية بشكل متعمد، فبدلاً من أن يكون البطل منقذ العالم، نجد أن البطل نفسه قد يكون أداة في يد القوى العظمى مثل (الزئبق)، وبدلاً من أن يكون العلماء أبطالاً خيرين، نكتشف أن بعضهم قد يكون ضحية أو جزءاً من لعبة أكبر، حتى نهاية الفصل الثاني، لا نعرف من هو الخير ومن هو الشر بشكل واضح.

هذا الانزياح عن النمطية يخلق حالة من القلق والتوتر، ويجبر القارئ على مراجعة افتراضاته باستمرار، مما يجعله في حالة تأهب ونشاط ذهني دائم.

(5)

الانزياح اللغوي: بين الشعرية والتقنية

اللغة في "الزئبق" هي عالم قائم بذاته، تتنقل بين: اللغة العلمية الجافة في تقارير المؤتمرات، واللغة الشعرية الاستعارية في المشاهد التأملية (الزمن سائل لا يمكن الإمساك به، كقطرة الزئبق)، ولغة التشويق في المشاهد البوليسية.

هذا المزيج اللغوي يخلق إيقاعاً نصياً متغيراً، لا يسمح للمتلقي بالاستقرار في نمط واحد، فيحافظ على انتباهه ويستدعيه عاطفياً وفكرياً في آن واحد.

خاتمة: القارئ شريك في إبداع المعنى

(الزئبق) ليست رواية للمتعة السلبية؛ إنها دعوة صريحة للحوار، النص لا يكتمل إلا بقارئ نشط، يشارك في بنائه، يتساءل، يشك، ويبحث عن الحقيقة بين السطور، من خلال الانزياح الزمني، وتعدد الأصوات، وطبيعة النص كلغز، واستراتيجية تخريب التوقعات، تنجح الرواية في تحويل فعل القراءة من تلقٍ سلبي إلى مغامرة ذهنية وفكرية شاقة ومثيرة.

هي رواية تليق بعصرنا المعقد، حيث الحقيقة ليست واحدة، والواقع قابل للتشكيل، والقارئ هو من يملك آخر قطعة في أحجية المعنى.

***

رزق فرج رزق - ليبيا

د. سمر محمد المحني

مدخل: عندما حدث أول تقسيم كبير للعمل بين المرأة والرجل، في تاريخ البشريّة، ظهر (عصر الأمومة) حيث تحكمت المرأة في شؤون الحياة الأسريّة والاجتماعيّة، كونها هي الأكثر استقراراً في الانتاج من الرجل الذي كان يذهب إلى الصيد – قد يصطاد وقد لا يصطاد –، بينما هي كان انتاجها ثابتا ومستقراً بما تقوم به من تربية للإنسان وتأنيس للحيوان والتقاط للثمار.

هنا تجلت الحياة الروحيّة في عشتار آلهة الخصب، وكل ما تفرع عنها من آلهة تمثل ما يتعلق بالمرأة وجمالها.

مع تطور قوى الانتاج وعلاقات الانتاج وزيادة استقرار الفرد والمجتمع، ظهر التقسيم الثاني الكبير للعمل بين الزراعة والحرفة والرعي. وهنا برز دور الرجل في الإنتاج، الذي راح بدوره يقصي المرأة ويقلل من مكانتها، وحتى في الجانب الروحي ظهر الإله الذكورة "بعل وتموز وباخوس وآمون، وغيرهم الكثير. ومع ظهور الملكيّة الخاصة، تحولت هذه المرأة ذاتها إلى جزء من ملكيّة الرجل وجاءت الديانة اليهوديّة لتعتبرها حيّة وعقربة ونجسة وناقصة عقل ودين، وهذا التوصيف للمرأة تبناه الفقهاء الإسلاميون أيضاً فيما بعد.

أمام هذه الواقع المتردي لحياة المرأة في التاريخ القديم والحديث والمعاصر، بدأت تظهر أصوات قويّة نسائيّة وذكوريّة تطالب بإنصاف المرأة، فعقدت الندوات والمؤتمرات الدوليّة التي تبحث في قضية الجنوسة والجندرة معا.

ومن هذا الواقع المتردي للمرأة في تاريخنا المعاصر، نقف عند قصيدة شاعرة أردت أن توجه للذكر رسالة مشبعة بروح التحدي من جهة، وتذكيره بأن (عشتار) لم ولن يستطيع إقصائها وقمها وهي التي منحته سر الوجود والخلود معا من جهة ثانية.

السيرة الذاتيّة للشاعرة.

"د. سمر محمد المحني" ..أديبة وباحثة اجتماعيّة من اليمن .. تحمل شهادة دبلوم عالي من كلية التربية - جامعة الحديدة، اختصاص اجتماعيات.. وبكالوريوس شريعة وقانون من جامعة المستقبل – صنعاء.. ودبلوم في الجرافيك والتصميم (في المجال المهني).. ودكتوراه فخرية في مجال التنمية البشريّة.. ومدربة دوليّة بدرجة الامتياز.. تعمل حاليّاً رئيسة أكاديميّة الأدب والرواية والقصة والقصيدة.. وهي تحمل العديد من الشهادات المتعلقة بمجالات تنمية الإنسان وتطوير مهارته.. تكتب القصة القصيرة والشعر. ومن بين كتاباتها الأدبيّة اخترنا هذه القصيدة النثريّة موضوعا لدراستنا، وهي بعنوان: (روحُكَ بيدي).

البنية الحكائيّة أو السرديّة لقصيدة: (روحُكَ بيدي)

تخاطب الشاعرة الأنثى حبيبها الذكر الذي تمرد عليها: أنت.. أيها المتمرد الناكر للجميل، لا زالت روحكَ بيدي.. وإن كل القصائد التي صغتَها لأجلي منذ ألف عام، لم تزل تسري في ذاكرتي وتنبؤوني، وتقول لي بأني سأبقى أُبْعَثُ دائما في دمك، وأحتل أضلعك، كوطن يسكن فيك ولا تستطيع الخلاص منه..نعم.

روحكَ بيدي...

قصائدكُ منذُ ألفِ عامِ

كانت نبوءاتٍ تسريٍ

وتُعلن بعثي في دمِك،

واحتلالي أضلعَك

كأنني وطنٌ يفتَحُ أبوابَهُ فيك.

أنا خُلقتُ وأحمل لك منذ ولادتك الحب وسر الخلود.. فكانت رسالتي إلى قلبك مشبعةً بالحب والوله.. وأخلاق الهوى عندي دستورُ بذخٍ، وكل دلالي وغنجي هو عهودُ مواثيقٍ تغنيها النجوم.. وما فتوحاتي إلا عينك وسمعك وصوتك، وحتى قلمُكَ الذي أحببته نهض بسببي من تحت الركام، ليباركَ خطاكَ المرتجفة، ويجعل من صوتك البالي المرتعش بلبلاً يشدو.. فتغني الطبيعة معه وترقص. تقول:

رسالتي إلى قلبك:

حبٌ وولهُ،

فتوحاتي:

عيناكَ .. سمعُكَ..

صوتًكَ المنحبسُ

وقلمُكَ الذي جنْدَلْتَهُ

بيديكَ،

فأحييتُه بمعجزتي،

فنهضَ من تحتِ

الركامِ

يباركُ خطاكَ

المرتجفة،

ويجعلُ ارتعاشَ

صوتِكَ البالي

بلبلاً يشدو،

فيرقصُ له الربيع.

هل نسيت؟!... حتى شتاءُ قلبكَ الذي كان جذوةً هامدةً، أنا من ألقيت في هذه الجذوة نار حبي، فاشتعلت كل جوارحك ناراً.. هل تذكر عيوني العسليّةُ؟..  هل تعرفها؟... ألا تتذكرها؟.. هي وحدها من غذتكَ، ففارت الشجاعةً في أوردتِك حتى صرت عنترة، وأصبحتُ أنا سَيْفَكَ المستور... أنا المرأة التي تحولت اضلعي إلى قيثارة حب لك فغنيتَ بها وتلوتَ كتابي المقدس فحزت على بركة عبادتي، وفاض حبكُ لي حتى التخمة. تقول:

حتى شتاءُ قلبِكَ

جذوةٌ خامدةٌ

ألقيتُ فيها أحرفي

فاشتعلتْ مسارِحُكَ

ناراً

وعيوني العسليةُ

أتذكرها ؟.... غذَّتْكَ،

فَفُزْتَ شجاعةً في

أوردتِك،

فًصُرْتَ عنترةً،

وتلوتَ كتابيَ المقدسَ

فنُلتَ بركاتِ العبادة ...

ففاضَ بك حتى التخمة.

والآن جئت تقول: بأنك فارسُ الحرف وترياقُ البيان؟. فأي هذيان هذا الذي تقول يا (سامري الزمن الحديث).. أتريد الكذب على الناس لتعمي بصرهم وبصيرتهم عن الحقيقة في زمننا الحديث؟.. ربما سيصفقُ لك الجمهور .. ولكن مكركَ وخيانتكَ لكل ما قدمتهُ لك سيأتي اليوم الذي تُكشفُ فيه حقيقتكَ وزيفكَ وتزويركَ للحقيقة والتاريخ. تخاطبه:

الآن تقول:

أنا فارسُ الحرفِ،

ترياقُ البيان؟.

أي هَذًرٍ هذا

يا سامريَّ الزمنِ

الحديث؟.

أنتَ خائنٌ.. ناكرٌ..

مشركٌ حتى الجحود.

لعنةُ الشِّركِ التي

أويتَهَا في أضلعك

ستنهّشُكَ –

لن أتركك يامن أنكرت كل جميل صنعته لك.. سأصب عليك لعنتي إلى يوم النشور.. ستسقط عنك ورقة التوت إكراما لحبي لك الذي باركته (أزيس)، وصادق عليه (أوزاريس) منذ عهد التاريخ.. نعم أنت لست أكثر من صدى يعيدُ مجد ملكي، ولكن مجدي لن يستلبَ ولن يباعَ في أسواق الزيف والنفاق ... عهداً سيبقىَ الحرفُ طفْلِيَ.. والحبُ نحري.. والصدقُ صدري.. وآخرُ ملوكِ الكلامِ عصري. تخاطبه:

أنا أصبُ لعنتي ...

لعنةٌ تمتدُ إليك

حتى يومَ النشور،

تُسْقِطُ عنك

أوراقَ الديون،

دَيْنُ حبٍ طاهرٍ

باركتهُ أزيس

وصادقَ على نورهِ

أوزاريس العظيم،

صدئٌ أنتَ.

تُعيدُ نشرَ مجدٍ هو

ملكي،

أنا من بحتُ بالحرفِ

في أضلعكَ

روحكُ بيدي

وآخرُ ملوكِ الكلامِ

عصري..

البنية الجماليّة والفنيّة في القصيدة:

قصيدة النثر أو الشعر المنثور كما عرفناها في أكثر من دراسة، هي قطعة نثر، غير موزونة وتتوزع القافية إن وجدت في القصيدة على مناطق مختلفة من الابيات، وأحياناً تكون غير مقفاه، تحمل صورًا ومعانٍ شاعريّة، وأغلبها تكون ذات موضوع واحد.

ومع ذلك، تظل قصيدة النثر هي الأكثر قدرة على التعبير عن دواخلَ ومكنوناتٍ الشاعر الذي غالبا ما يطمح للتعبير عن واقع يعيشه، أو أحاسيس ومشاعر فياضة قلقة بحاجة للبوح بها، ولكون القصيدة التقليديّة التي تلزم الشاعر بالوزن والقافية، وحتى قصيدة التفعيلة التي تمنحه مساحة واسعة للتعبير عن أحاسيسه ومشاعر إلا أنهما تَحُولان دون قدرة الشاعرعلى البوح بكل ما يريد قوله أو التعبير عنه بحرية. فيلجأ هنا لقصيدة النثر التي تمنحه القدرة على الابحار في عالم الفكرة وعالم الأحاسيس والتخيل والواقع معا.

إن قصيدة الشاعرة "سمر" (روحُكَ بيدي)، تدخل في فضاءات قصيدة النثر، حيث استطاعت الشاعرة أن تترك العنان لفكرها ومشاعرها وأحاسيسها وخيالها المبدع، أن تعبير عن قضية شغلت العالم ولم تزل، وهي قضية المرآة. فبعمق ثقافتها ورهافة حسها، استطاعت الشاعرة أن تصور لنا ذاك الانقلاب التاريخي الذي تجلت فيه الذكورة بكل قسوتها ضد المرأة، التي جاءت به إلى هذا الوجود وغرزت فيه قيم الحب والجمال والخير والعمل.

الصورة في القصيدة:

نظراً لافتقاد قصيدة النثر كثيراً إلى فنيات الشعر العمودي والتفعيلة، إن كان في أسلوب سردها، أو موسيقاها، أو بلاغتها، أو محسناتها البديعية والبيانية، أو في تراكيب عباراتها ومحسناتها البديعيّة وبلاغتها .. وغير ذلك إلا أنها تحاول أن تعوض كل ذلك من خلال اعتمادها على الصورة الشعريّة كثيرا، الحسيّة منها والتخيليّة. وبناءً على ذلك جاءت قصيدة (روحك بيدي) معتمدة كثيراً على الصورة الشعريّة بشكل يمنح بنية القصيدة طاقاتٍ جماليّةً تساهم في نقل التجربة الشعريّة من الوصف السردي المجرد، إلى بناء علاقات مجازيّة مبتكرة عبر اللغة والتخييل.

فمن عنوان القصيدة (روحك بيدي) تأخذ الصورة تموضعها في بنية القصيدة لتتوالى بعد ذلك بحالة فيض كقولها: (وتعلن قصائدك بعثي في دمِك.. واحتلالي أضلعَك .. كأنني وطنٌ يفتَحُ أبوابَهُ فيك.. وأخلاق الهوى دستورُ باذخٍ...ودلالي عهودٌ ومواثيق.. تُغَنّيها الشهبُ... فتوحاتي: عيناكَ .. سمعُكَ.. الخ من بقية الصور الحسيّة والتخيليّة التي غطت مساحة واسعة من بنية القصيدة فأضفت عليها حالات جماليّة تشدُ المتلقي لهذه الجماليّة في التصوير، وبما تحمله من رؤى فكريّة عميقة وجد فيها المتلقي ذاته بهذا الشكل أو ذاك، الأمر الذي أتاح للشاعرة أيضاً عبر استخدامها لهذه المجموعة المتنوعة من الصور البلاغيّة، خلق جو شعري خاص. عبر عن تجربة الشاعرة الداخليّة وعواطفها وأفكارها،

اللغة في قصيدة (روحُك بيدي):

لقد جاءت اللغة في القصيدة سهلةً، واضحةً، سمحةً، ناصعةً، وفصيحة، ومسبوكة الألفاظ، منسجمة مع بعضها في بنية القصيدة وخالية من البشاعة. فجودة السبك وبراعة صياغته وتسلسل عبارته وتخير ألفاظه وإصابتها لمعناها، كانت وراء سر فن التعبير في هذا النص الشعري.

الرمز والايحاء والاشارة في القصيدة:

إن توظيف الرمز في (قصيدة النثر) سمة مشتركة بين غالبيّة الشعراء على مستويات متفاوتة، مع تنوع في عمق سيطرة الرمز أو بعض مفرداته كالإيحاء والاشارة من خلال لغة القصيدة وتراكيبها وصورها وبنياتها المختلفة، فالرمز بشتى صوره المجازيّة والاشاريّة والإيحائيّة، هو تعميق للمعنى الشعري، ومصدر للإدهاش والتأثير وتجسيد لجماليات التشكيل الشعري.

وإن ما يميز القصيدة النثريّة بشكل خاص، هو عدم طموحها على إبراز الوجدانيات والعواطف كثيراً في بنيتها، بقدر ما تطمح إلى  التعبير عن نوع من فهم الواقع نفسه أو طبيعة الحدث الذي يشتغل عليه الشاعر. بيد أن الشاعرة "سمر محمد" استطاعت أن تعلي من شأن الحالات الوجدانيّة أو العاطفيّة. وبذلك عملت "سمر" في قصيدتها النثريّة (روحُك بيدي)، على نقل الواقع إلى آفاق تجارب شعريّة جديدة دمجت العالم داخلها ومنحته طاقة جماليّة عبر أبنية المجاز والرمز والإشارة. تقول الشاعرة:

(قصائدكُ منذُ ألفِ عامِ.. كانت نبوءات تسريٍ وتُعلن بعثي في دمِك.) فالشاعرة في هذه الإشارة تشير إلى عمق التاريخ، فهي تريد أن تقول هنا للذكر: أنا الأصل وأنا مَنْ منحك الحياة البيولوجيّة والروحيّة معا. وقولها: (فيرقصُ له الربيع.)، فالربيع هنا دلالة على الخصب والعطاء الذي قدمته المرأة لهذه الحياة والذكر معاً. وفي قولها: (فَفُزْتَ شجاعةً في أوردتِك، فًصُرْتَ عنترةً،). فعنترة هنا رمز للشجاعة والقوة. أما في توظيفها للسامري في القصيدة فهذه إشارة إلى الكذب والخداع الذي تحلى به الذكر. فالسَّامِرِيّ شخصيّة تاريخيّة من بني إسرائيل. وهو الذي ذكر في القرآن الكريم في سورة طه، وهو الذي أغوى بني إسرائيل بعد أن ذهب موسى لميقات ربه فأخرج السامري عجلاً أمرهم بالسجود له.

أما الرمز في (إوزيس وأزيريس) فـ "إيزيس" إلهة مهمة في الديانة المصريّة القديمة وزوجة الإله "أوزوريس" وأم حورس. كانت تُعبد كإلهة للسحر والأمومة والحياة والموت، واشتهرت بإحياء زوجها أوزوريس بعد مقتله. وانتشرت عبادتها أيضًا في العالم اليوناني والروماني، حيث اعتبرت "الأم العظيمة" و "سيدة السحر".

الغموض في القصيدة:

إن ما يميز القصيدة النثريّة عند حديثنا عن سماتها وخصائصها هو الغموض، والسبب في ذلك برأيي، هو أن الشاعر يلجأ كثيراً إلى الصورة التخيليّة في التعبير، وأن التوجه نحو الصورة التخيليّة، يُفقد إلى حد ما ارتباط القصيدة بالواقع. من هنا جاء الغموض واضحا في بعض مفاصل قصيدة (روحُك بيدي)، بالرغم من أنها تشير إلى هدف عام، ولكن يظل المتلقي من خلال ثقافته واهتماماته هو المعني بمعرفة هذا الهدف. وعلى هذا الأساس نقول إن القصيدة في غموض دلالاتها في الحقيقة تحمل بعدا آخر برأيي. فيمكننا أن نجد في بنيتها السرديّة قصة فتاة خانها حبيبها بعد أن ضحت بكل شيء من أجله، وأرادت أن تقول له من أنت حتى تخونني؟.. فأنا من صنع وجودك المادي والروحي معا.

***

د. عدنان عويّد

كاتب وباحث وناقد أدبي من سوريا.

........................

روحُكَ بيدي

روحكَ بيدي...

قصائدكُ منذُ ألفِ عامِ

كانت نبوءات تسريٍ

وتُعلن بعثي في دمِك،

واحتلالي أضلعَك

كأنن وطنٌ يفتَحُ أبوابَهُ فيك.

رسالتي إلى قلبك:

حبٌ وولهُ،

وأخلاق الهوى دستورُ

بذخٍ

ودلالي عهودٌ ومواثيق

تُغَنّيها الشهبُ.

*

فتوحاتي:

عيناكَ .. سمعُكَ..

صوتًكَ المنحبسُ

وقلمُكَ الذي جنْدَلْتَهُ

بيديكَ،

فأحييتُه بمعجزتي،

فنهضَ من تحتِ

الركامِ

يباركُ خطاكَ

المرتجفة،

ويجعلُ ارتعاشَ

صوتِكَ البالي

بلبلاً يشدو،

فيرقصُ له الربيع.

شتاءُ قلبِكَ

جذوةٌ خامدةٌ

ألقيتُ فيها أحرفي

فاشتعلتْ مسارِحُكَ

ناراً

وعيوني العسليةُ كما

تعرفها

أتذكرها ؟.... غذَّتْكَ،

فَفُزْتَ شجاعةً في

أوردتِك،

فًصُرْتَ عنترةً،

وأصبحتُ أنا سَيْفَكَ

المستور.

غنيتَ بحرفٍ من

أضلعي

وتلوتَ كتابيَ المقدسَ

فنُلتَ بركاتِ العبادة ...

ففاضَ بك حتى التخمة.

الآن تقول:

أنا فارسُ الحرفِ،

ترياقُ البيان؟.

أي هَذًرٍ هذا

يا سامريَّ الزمنِ

الحديث؟.

أيصفق لك الجمهور؟

أنتَ خائنٌ.. ناكرٌ..

مشركٌ حتى الجحود.

لعنةُ الشِّركِ التي

أويتَهَا في أضلعك

ستنهّشُكَ –

ستفتُكُ بك أصداءُ

التخوم

حين يبعثرُ شِغَافَكَ

المهترئ

ويجمعهُ نزقٌ وخوفٌ

كنت مشركاً، ولا زلت

تنقب عن شريكٍ

وإلهُك حرفٌ

تنتظمهُ في عشقِ امرأةٍ

تخُونكَ مراراً،

وتكيلُ لبناتِ عهدكَ

آلافَ الهجاء.

قِفَةٌ أنتَ،

وهي غِطاؤُك –

غطاءُ تَزْكُمُهُ

علاقاتُ الخساسةِ،

ورائحةُ نخاسهٍ

تتسلّلُ كغانيةِ الخيام.

*

أنا أصبُ لعنتي ...

لعنةٌ تمتدُ إليك

حتى يومَ النشور،

تُسْقِطُ عنك

أوراقَ الديون،

دَيْنُ حبٍ طاهرٍ

باركتهُ أزيس

وصادقَ على نورهِ

أوزاريس العظيم،

أعلنُ موتَ رياضِ

الشعرِ فيك،

وانطفاءَ الحرف.

*

صدئٌ أنتَ.

تُعيدُ نشرَ مجدٍ هو

ملكي،

ومجديً لن يستلبَ

لن يباعَ في سوقِ

تصفيقٍ رخيص

لن يُهاَن.

*

أنا من بحتُ بالحرفِ َ

في أضلعكَ

أشهرتُ رمحاً، وقلدتُكَ

لقباً.

*

روحكُ بيدي

عهداً سيبقىَ الحرفُ

طفْلِيَ

الحبُ نحري..

والصدقُ صدري

وآخرُ ملوكِ الكلامِ

عصري..

*

وهذا انتصاري:

أن كتَبَتُكَ،

ثم أمحُوكَ،

فأبقى أنا القصيدةُ –

وتبقى أنتَ هامشَ

تهجدِ في معبديِ ذاتَ

يوم

وانتهى.

***

م. د. سمر محمد

 

ينتمي نص الشاعرة الجزائرية نادية نواصر "كن لباساً لي" إلى فضاءٍ شعريٍّ تتقاطع فيه التجربة الوجودية والروحية والأنثوية ضمن رؤية رمزية عالية الكثافة، تُعيد صياغة علاقة الإنسان — وبالأخص الأنثى — بالكون، والذات، والآخر، والقداسة.

في زمنٍ تواطأت فيه العقول على الصمت، وتآلفت الحواس مع الركود، تبدو الحاجة ماسّة إلى استعادة الجنون بوصفه يقظةً عليا لا سقوطاً في العبث. فالمجنون الحقّ، كما رآه نيتشه، هو من يمتلك شجاعة الانفصال عن القطيع، ومن يجرؤ على رؤية الحقيقة بلا أقنعة. إنّ غياب هذا "الجنون الخلّاق" في ثقافتنا ليس سوى علامة على تبلّد الحسّ الجمعي، وضمور القدرة على الاندهاش، وتحوّل الوعي من طاقة حارقة إلى رماد بارد.

تسعى هذه الدراسة إلى تفكيك فكرة "الجنون" بوصفها استعارة وجودية وثقافية، وإلى الكشف عن علاقتها بالتحرّر والإبداع، في مقابل "العقل المروّض" الذي جعل من الإنسان العربي كائناً متكيّفاً مع القبح، بدلاً من أن يكون شاهداً على الجمال ومتمرّداً على الركود.

في سياق هذه الدراسة النقدية التحليلية الموسّعة، أعتمد المنهج الهيرمينوطيقي التأويلي والأسلوبي والرمزي والجمالي والوطني والسيميائي، مع الغوص في البنية النفسية والدينية للنص، وكشف ما تحته من توترٍ وومضٍ وتأويل.

أولًا: العتبة النصية والتأويل الهيرمينوطيقي للعنوان

١- العنوان «كن لباسًا لي» يقوم بوظيفة رمزية عالية ويفتح أفق التأويل على مستويات متداخلة:

٢- دينياً: إحالة إلى الآية القرآنية: «هن لباسٌ لكم وأنتم لباسٌ لهن»، فيكون اللباس هنا رمزًا للستر، والأمان، والالتحام الوجودي بين الروحين.

٣- وجودياً: اللباس هو ما يقي العراء الداخلي للذات، أي بحث الإنسان عن معنى يحتضنه في عزلته الكونية.

٤- شعرياً: اللباس استعارة عن الكلمة نفسها، عن اللغة التي تتشكل لتغطي جرح الوعي وتُعيد للذات دفأها في برد العالم.

إذاً، العنوان يُبشّر منذ البدء بنصٍّ يسعى إلى التحامٍ وجوديٍّ بين الذات والآخر، بين الإنسان والمطلق، بين الأنثى والعالم.

ثانياً: فضاء الغربة والبرد — القراءة الهيرمينوطيقية الوجودية:

تفتتح الشاعرة ناديا نواصر نصها بهذه اللوحة، تقول:

- في المدار العامر بالغربة والصقيع

وعلى رصيف العمر المتعب

حيث دقت أجراس الخواء

واعتراني أنين الروح...

يبدو الافتتاح نُقطة انطلاق لتجربة أنطولوجية عميقة، إذ تُشيّد الشاعرة فضاءً سردياً يتقاطع فيه الوجود والعدم، الامتلاء والخواء، الدفء والصقيع.

إنها ترسم مشهد الكائن المعاصر في غربةٍ كونية، على رصيف العمر، أي على هامش الزمن، حيث تدق أجراس الخواء — وهو تعبير سيميائي عن انقراض المعنى وضياع المقدّس.

- من منظور هيرمينوطيقي، يمكن القول إن هذا المقطع يُعبّر عن تجربة تأويلية للعالم كغياب، حيث الغربة ليست مجرد حالة شعورية، بل تجسيد لفراغ المعنى في زمن “الزمن الضال”، كما تقول لاحقًا.

ثالثاً: التحليل الأسلوبي — اللغة بوصفها كينونة:

أسلوب نادية نواصر كثيف، متشظٍ، يقوم على المجاز المركّب.

اللغة هنا ليست أداة وصف، بل حالة وجودية تتجسد فيها المعاناة والتحوّل:

١-الجمل تتقاطع في حركة دائرية تحاكي دوران الكائن في "مدار الغربة".

٢- الأفعال تأتي في نسقٍ توتّري: اعتراني، مزّق، لملم، رحت، انزف، ابصر...، ما يمنح النص ديناميكية شعورية تحاكي الانفعال الداخلي.

٣- تتعدد الحقول المعجمية: (الروح، الصقيع، النور، الخفق، الصراع، المحنة، المحراب، المطر...)، وكلّها تُحيل إلى تجربة صوفية–أنثوية تبحث عن المعنى بين الألم والرجاء.

٤- الأسلوب قائم على اقتصاد العبارة وغزارة الإيحاء، وعلى انزياحٍ لغوي يرفع الكلمة من وظيفتها الإخبارية إلى مقام الرمز الشعري.

رابعاً: القراءة الرمزية والسيميائية — المعجم الدلالي للرموز:

القصيدة شبكة رموز متماسكة، تُبنى بعناية لاهوتية وشعرية في آنٍ معاً.

- الرمز دلالته التأويلية وظيفته السيميائية:

الصقيع فراغ الروح، قسوة العالم، موت العاطفة علامة على اغتراب الكائن في عالمٍ بلا دفء

أجراس الخواء صوت العدم تجسيد لصدى داخلي يذكّر بالفراغ المقدّس

الكاهنة الأنثى العارفة، الحارسة للسر تمثيل لعودة الصوت الأنثوي في التاريخ

الصلصال الخلق والضعف الإنساني رمز للتكوين الأول، للإنسان الذي ما زال في طور العجن الإلهي

جب يوسف محنة المعرفة والاصطفاء تجسيد للغور الداخلي حيث يبدأ التحول الروحي

الفراشة الهشاشة والتحول رمز النفس التي تحترق في النور لتولد من رمادها

اليقطين والنرجس والياسمين رموز نباتية روحية إحالات إلى البراءة والمعرفة والجمال المنقذ

اللباس الستر، الحماية، الاندماج الروحي الرمز المركزي: وحدة الكينونة بين الأنا والآخر

من خلال هذا النسق الرمزي، يتضح أن الشاعرة تبني ميتافيزيقا شعرية للأنوثة، تستند إلى تجربة روحية منفتحة على المقدّس والمأساوي في آنٍ معًا.

خامساً: البنية النفسية والدينية — بين الخطيئة والقداسة

يتخلل النص وعيٌ ديني–نفسي متوتر، إذ تتحرك الشاعرة في منطقة ملغّمة بين الإثم والمعرفة، وبين الطهر والتمرد.تقول:

إني من صلصال الإنسان في الزمن الضال،

فاحفظ نشيدي المر عن ظهر المحنة.

هذا المقطع يلخّص الوعي التراجيدي بالإنسانية الساقطة والمجاهدة في آنٍ واحد.

١- الزمن الضال ← فقدان البوصلة القيمية.

٢- النشيد المر ← الإبداع بوصفه خلاصًا عبر الألم.

٣- المحنة ← امتحان الوجود والروح.

- الخطاب الديني هنا لا يأتي في بعده الطقوسي، بل في بعده الأنطولوجي: إنها صلاة ضدّ الخواء، وعودة إلى “محراب التقوى” لا لطلب الغفران فحسب، بل لاستعادة الإنسان من طينه الأول.

- من منظورٍ نفسيّ، النص يُجسّد صراع الذات الأنثوية بين الاحتراق والنجاة، الانكشاف والستر، الجرح والأمان.

فالقول "كن لباسًا لي" هو طلب للاندماج العلاجي بالآخر الذي يمنحها اتزاناً بعد انفراط المعنى، أشبه بنداءٍ نحو “الأنيموس” في اصطلاح كارل يونغ — المبدأ الذكوري الداخلي في النفس الأنثوية الذي يُعيد توازنها الروحي.

سادساً: المستوى الجمالي والوطني

على المستوى الجمالي، القصيدة لوحة سريالية من الضوء والبرد والنشيد، تجمع بين شفافية الصورة وقوة البنية.

يتجلّى الجمال في:

١- موسيقى داخلية تعتمد على تكرار الأصوات الرخوة (السين، النون، الميم)، ما يمنح النص نغمة روحية شفيفة.

٢- توازٍ إيقاعي بين المقاطع يعيد للقارئ إحساس “التسبيح الشعري”.

٣- بنية الصور تعتمد على التناص مع الأسطورة والرموز الدينية دون انغلاق، مما يمنح النص بعداً إنسانيًا كونياً.

أما البعد الوطني، فيتجلى خافتًا لكنه حاضرٌ من خلال الإحالة إلى "الزمن الضال" و"أجراس الخواء"، وهي إشارات رمزية إلى وطنٍ مثخنٍ بالخذلان، وإلى الذات الجماعية التي تبحث عن خلاصها في فضاء من العراء والتمزق. إن استدعاء "جب يوسف" و"صلصال الإنسان" يُشير ضمنًا إلى الهوية الممزقة للعالم العربي بين المحنة والأمل.

سابعاً: القراءة السيميائية الكلية للنص

النص منظومة علامات متشابكة تعمل وفق دائرة دلالية مغلقة–مفتوحة:

1. الفضاء المكاني: (المدار، الرصيف، المفترق، المحراب، الجب...)

→ تمثل رحلة الداخل والخارج، بين العزلة والانفتاح.

2. الفضاء الزمني: (مواسم المطر، الفصول، الزمن الضال...)

→ يعبّر عن التحوّل والديمومة والتجدّد.

3. الفضاء الصوتي: (أجراس، صلوات، نشيد، أغاني...)

→ يشكل نسيجًا صوتيًا دينيًا–شعريًا، يجعل اللغة أداة خلاص.

4. الذات المخاطِبة والمخاطَبة:

→ “الأنا” الأنثوية في حوارٍ مع “أنت” الغيبي/الرمزي/الإلهي، مما يخلق جدلية الأنوثة والإلهام، الإنسان والمطلق.

في ضوء السيمياء، يتحول النص إلى نظام إشاريّ للبحث عن الالتحام الكوني: الكلمة ← جسد، اللباس ← وعي، المطر ← بعث، الصقيع ← موت، والنداء الأخير "كن لباسًا لي" ← عودة إلى وحدة الوجود.

ثامناً: الخاتمة التأويلية:

قصيدة "كن لباساً لي" هي تجربة روحٍ تبحث عن دفئها في زمنٍ مفقود المعنى.

هي صلاة ضد الصقيع، وأناشيد أنثى تتحدى الخواء بالخلق.

فيها يتعانق الديني بالأسطوري، والأنثوي بالكوني، والجرح بالجمال.

منال نواصر — في هذا النص — لا تكتب عن الحب فحسب، بل عن التحامٍ كونيٍّ يعيد الإنسان إلى فطرته الأولى، ويحوّل الشعر إلى طقس خلاص يعيد للروح لباسها النوراني.

إنها كتابة تمشي على الحافة بين التقديس والجنون، بين الأرض والسماء، لتعلن أن الشعر وحده يملك القدرة على ستر عُرينا الوجودي، وعلى أن يكون “لباساً لنا” في برد هذا العالم.

***

بقلم: عماد خالد رحمة – برلين

...................

كن لباسا لي

شعر نادية نواصر

في المدار العامر بالغربة والصقيع

وعلى رصيف العمر المتعب

حيث دقت اجراس الخواء

واعتراني انين الروح

في الخطوة المكتظة بلسعة البرد

وفي الذي بين جوانحي

من صخب الرحلة المرفوعة

على اذرع من وهن المجاز

في الذي مزق تلافيف الروح

في مهب الريح

ومفترق الجهات

في مقام الكاهنة وهي تسرد

عصف الرماح

على الظهر المكابر

في كل الذي لملم نثار القلب

وسهوب الخفق

عاينتني في المفترق المسمى

ورحت اتحراني

بين ادغال خطاي

ومعبر اليقين

حافية القلب

عارية الروح

إلا من صراع كينونتي المستميت

يا صوت النور

يا هذا الضوء الشفيف

يا صلوات الله

في محراب التقوى

يا نداء السلام الروحي

إني من صلصال الإنسان

في الزمن الضال

فاحفظ نشيدي المر عن ظهر المحنة

كي اخرج

من وهج النرجس

وجرأة الياسمين

من قصص اليقطين

أحمل أشلائي واطلع من جب يوسف

مترعة بكؤوس الحياة

وعنب المواسم

في مدار الفصول

وانحناءة المعنى

يا أنت ، ياصدى الأغاني

وهي تنبثق من أرخبيل الروح

كن لباسا لي

في مواسم المطر

وعواء الريح

كن نارا تسكت ارتجاف الصدر

من برد الفصول

إني الفراشة والنشيد الحر

والصهد الطالع

من وهج الأغاني

رغم السقوط المر

في غياهب الغيم

محمولة على وخز الظنون

وخيبة النوايا

مازلت انزف فيك

ومازلت ابصر ان كفك ملاذي

وأن عينيك شدوي وغنائي

وصبابتي وعطش المساء

إلى ينابيع القول

 

يشكل ديوان "التحليق بأجنحة من حجر" علامة فارقة في التجربة الشعرية للشاعر العراقي يحيى السماوي، إذ يعبّر فيه عن جدلية الاغتراب والمنفى، وعن الشوق العميق إلى الوطن (السماوة/ العراق)، وعن هواجس الذات الممزقة بين الحب والحنين، وبين الأمل واليأس.

العنوان نفسه يحمل تناقضا وجوديا فالتحليق رمز الانعتاق والحرية، بينما الأجنحة من حجر تعبير عن الثقل والقيود والاستحالة. وكأن الشاعر يقول: إن الحرية نفسها مشروطة بعوائق قاسية، وأن الطيران نحو الحلم لا يتم إلا بأجنحة معطوبة أو مثقلة بالوجع.

إن الشاعر العراقي الكبير يحيى السماوي من الأصوات الشعرية العراقية التي ارتبطت تجربتها بالمنفى منذ عقود. فقد دفعته الظروف السياسية القاسية، والملاحقات الأمنية في عهد النظام السابق، إلى مغادرة العراق، فكان الاغتراب سمة بارزة في تجربته الشعرية. وهذا ما يفسر كثافة حضور الوطن في قصائده، حيث يتحول العراق إلى رمز للفردوس المفقود، وإلى جرح دائم يسكن النص.

في هذا الديوان، نجد امتدادا لثيمات شعرية ظهرت في دواوينه السابقة مثل "قليلكِ لا كثيرهن" و"الأفق نافذتي"، غير أن "التحليق بأجنحة من حجر" أكثر كثافة من حيث الحضور الوجودي والصوفي. وهو ديوان يتسم ببنية شعرية تزاوج بين القصيدة الحرة والنص المفتوح على النثرية الشعرية، مما يتيح للسماوي مساحة أكبر لاستيعاب القلق الوجودي والفلسفي الذي يطرحه. ويمكن أن نستشف البداية من قوله:

"وحدي وظلّي

بين أربعةٍ ونافذةٍ تُطلُّ على الحديقةِ

حيثُ لا شجرٌ ولا وردٌ سوى

شوكِ القلقْ" (ص: 4).

فهذه البداية تكثّف روح الديوان كله، إذ نجد فيها وحدة الذات، والغربة، وشوك القلق الذي يطوّق الإنسان في غربته. من هنا يمكن القول: إن هذا الديوان يمثل لحظة نضج تكاملي في مسيرة السماوي الشعرية، حيث تتداخل الأصوات الثلاثة الكبرى في تجربته: صوت الوطن، وصوت المرأة، وصوت الاغتراب الوجودي، لتشكل معا وحدة عضوية تعكس رؤية شاعر يكتب من منفى جسدي ومنفى روحي، ولكنه يُصرّ على التحليق ولو بأجنحة من حجر.2012 yahia

أما متابعة البعد الأدبي والفني من حيث اللغة، والصور الشعرية، والإيقاع، وبنية القصيدة، فيتأسس ديوان "التحليق بأجنحة من حجر" على لغة شعرية غنية بالصور والرموز والاستعارات، لغة تُزاوج بين البساطة في التعبير والعمق في الدلالة. وهذا ليس غريبا على يحيى السماوي الذي يمتلك قدرة خاصة على جعل اللغة اليومية العادية تتجاوز حدودها المألوفة لتصبح لغة رؤيا وحلم. ففي قصيدة "وحدي وظلّي" يقول:

وحقيبةٍ فيها من الكُتُبِ الكثير

وبعضُ ألبسةٍ مُغَلَّفةٍ ـ هـدايـا ـ والقليلُ من العطورِ

وشمعدانٌ بابليٌّ ليسَ أصليّاً

ولكن النقوش البابلية لا أدقْ" (ص: 4).

حيث نلحظ اللغة هنا مزيجا بين الواقعي: الكتب، الألبسة، العطور، والرمزي: الشمعدان البابلي؛ لتخلق مشهدا شعريا يفتح الباب لتأويلات تاريخية وثقافية، حيث يربط الشاعر بين ماضي الحضارة البابلية وحاضره المنفي.

أما صور الديوان الشعرية فهي مركبة ودينامية، تمزج بين الطبيعة: الحديقة، والريحان، والبحر، والتاريخ: أوروك، وبابل، وسومر، وبين الرموز الصوفية: الخمر، والطير، والنور:

"عبرتْ بيَ السبعَ الطباقَ

وسافرتْ بي في بحارٍ لم يزرها السندباد

وليس ينجو من زلازل مائها الضوئيِّ

إلا من غرقْ" (ص: 12).

وهي صورة تنفتح على فضاء كوني واسع، يمزج الأسطورة (السندباد) بالبعد القرآني (السبع الطباق)، في مشهد يرفع التجربة العاطفية إلى أفق كوني أسطوري.

ومن الناحية الإيقاعية، يميل السماوي إلى استخدام قصيدة التفعيلة، لكنه لا يتقيد بالوزن الصارم بل يترك للنص انسيابا نثريا أحيانا. هذا التداخل بين الوزن والنثرية يعكس القلق الداخلي للنص:

جرحٌ بلا نزفٍ

وحزنٌ دون أسبابٍ

وأفكارٌ مضببةٌ مشتْ بي

نحو فيءِ الصالة القزحية الأضواء

في قصر الغدير الرحب" (ص: 13).

وهنا غاب الوزن الشعري التقليدي لصالح إيقاع داخلي قائم على التكرار (بلا نزف، دون أسباب) وعلى تراكم الصور التي تولد موسيقى داخلية متوترة.

ومن أجل أن يبعث السماوي في القارئ دفء المشاعر لم يجعل مقطوعات الديوان قصيرة مستقلة فحسب، بل جعلها نصوصا متدفقة نابضة بالحياة، أشبه بتيار الوعي الشعري. فكثير منها تبدأ بلحظة يومية أو صورة بسيطة، ثم تتوسع عبر التداعيات لتصل إلى عوالم رمزية وفلسفية عميقة.

فعلى سبيل المثال تبدأ قصيدة "وحدي وظلّي" بوصف واقعي: نافذة تطل على الحديقة، لكن المقطوعة سرعان ما تتحول إلى رحلة وجودية تتأمل في معنى الغربة والمصير. من هنا يمكن القول إن البنية الشعرية عند السماوي تقوم على التصعيد التدريجي للصور والمعاني، حيث تتحول القصيدة من مشهد أولي محدود إلى فضاء كوني شامل.

أما البعد الوجودي في الديوان فقد أخذ حيزا كبيرا وشغل مساحة مركزية فيه، فالسماوي شاعر يعيش تجربة المنفى القاسية، وتنعكس هذه التجربة في قصائده التي تنضح بالقلق، والغربة، والبحث عن المعنى، والهواجس المتعلقة بالموت والحياة:

"جرحٌ بلا نزفٍ

وحزنٌ دون أسبابٍ" (ص: 13).

 هذه هي بالضبط اللاجدوى التي تميز التجربة الوجودية، حيث يصبح الألم حاضرا بلا سبب ظاهر، ويتحول الجرح إلى رمز للوجود الإنساني الممزق. كذلك نجد حضورا واضحا للاغتراب:

"أمضيتُ نصفَ العمرِ منطفئَ الخطى

أقفو ضياعا بالمزيدِ من الضياعِ

ونصفهُ الثاني نزيلَ الغربتينِ

وها أنا وحدي وظلي

بين أربعة من الصخر الملون

استجير ولا أجار" (ص: 25).

 فالاغتراب هنا مزدوج، لأنه غربة الوطن، وغربة الروح. وكأن الشاعر يعيش في منفى خارجي (الغربة الجغرافية) ومنفى داخلي (الغربة عن الذات). أما سؤال الموت والحياة فيحضر عبر جدلية الاستسلام والمقاومة:

"أفشلتُ نفسي

بامتحاني في دروس البحر

فاخترتُ الغرقْ

ليكون حبك لي إذا حان الردى

طوق النجاة" (ص: 27).

إن الغرق هنا ليس فقط موتا جسديا، وإنما اختيارا وجوديا يعكس صعوبة التوازن بين الحياة في المنفى والموت في الوطن. إنه خيار بين موتين، وكلاهما محاط باللاجدوى. وممكن أن نستشف من النماذج التي قدمناها أن البعد الوجودي عند السماوي هو القلق واللاجدوى، والمنفى المزدوج الخارجي والداخلي، وجدلية الحياة والموت كخيارات متساوية العبثية.

ومثله البعد الفلسفي نجده يتجلى في الديوان من خلال طرح أسئلة كبرى تتعلق بالحرية والقدر، والحضور والغياب، الكينونة والعدم:

"ما منقذي مني سوايَ 

أنا عدوّي لو جنحتُ عن اليقينِ

وليس غيري من يقيني شر نفسي

من غوايتها

ولا غيري يقود خطاي نحو جنان فردوس

ونحو جحيم نار" (ص: 26).

فهذا المقطع يستحضر بوضوح الفلسفة الوجودية عند سارتر، وكيركغارد، وهايدغر، تلك الفلسفة التي تؤكد أن الإنسان مسؤول عن مصيره، وأنه هو من يختار خلاصه أو هلاكه.

فالفلسفة الوجودية عند هؤلاء تقوم على مبدأ جوهري هو حرية الإنسان ومسؤوليته عن وجوده. فالوجودية عند كيركغارد ذات طابع ديني؛ فهو يرى أن الإنسان يقف أمام الله حرّا، وأن خلاصه يتحقق بالإيمان الفردي الصادق لا بالمؤسسات أو القوالب. أما هايدغر، فوجوديته أنطولوجية، تركز على سؤال الوجود ذاته، وترى أن الإنسان (الدازاين) يعيش في قلقٍ أصيل لأنه يدرك فناءه، وعليه أن يختار العيش الأصيل بدلا من الذوبان في الناس. في حين أن سارتر جعل الوجودية ملحدة وإنسانية؛ فالإنسان عنده لا يُخلق بطبيعة مسبقة، بل يصنع ذاته باختياره الحر، وهو مسؤول بالكامل عن أفعاله ومعناها في عالم بلا إله. وملخص فلسفتهم ثلاثتهم هي الحرية والاختيار والمسؤولية، حيث يختار الإنسان خلاصه أو هلاكه بيده، ومركزها الحضور والغياب:

نزقي أضحى تقى من بعد طيشٍ

عدت كالأمس بتوليَّ المرايا

فاحفظي عن ظهر قلبي

أنت قد أصبحت لي مئذنة العشق

وإني منذ صليت بمحرابك

أصبحت بلال" (ص: 100)

تليه جدلية الوجود والعدم:

"ما انصفتني الغربتان ولا انا

انصفتها إلا هواك المنصفُ"

ومثلها:

سيان عندي أن أصنف مؤمنا

أو انني عبد الغرام أُصنَّفُ

ما دمت اعرفني فليس بضائري

إن قيل خطوي راسخ او أحنفُ"(ص: 91)

وبرأيي أن هذا الكم من البعد الفلسفي في هذا الديوان يضعنا أمام شاعرٍ يمارس فلسفة شعرية لا عبر المفاهيم المجردة، وإنما عبر الصورة والرمز واللغة الشعرية.

ولتعميق المعنى وتخليد الفكرة نرى للبعد الصوفي حضورا في الديوان عبر مزج الحب الإنساني بالحب الإلهي، وتحويل التجربة العاطفية إلى تجربة روحية:

"متوضئاً بنداكِ صليتُ الغروبَ

ميمماً نحو الوحيد الواحد الأحد الفؤادَ

ونحو خذرك مقلتي

وفمي توجه نحو كوثر زمزمكْ" (ص: 15).

فضلا عن الرموز الصوفية التقليدية مثل: الخمر والطير والبحر والنور، كما في قوله:

"أسقيكِ من خمرِ التبتلِ شربةً

هيَ للطريحِ من الهيامِ تطبُّبُ"

فالخمر هنا ليست خمرًا حسية، وإنما هي رمز صوفي للتجربة الروحية التي تفيض بالسكر المقدس. أما البحر، فيتحول إلى فضاء للامتحان الروحي:

"أفشلتُ نفسي بامتحاني في دروس البحر

فاخترتُ الغرقْ»  ( 27).

ذلك لأن الغرق عند المتصوفة هو رمز للفناء في المحبوب أو المطلق، وهو المعنى الذي يعكسه النص. ويعني هذا أن السماوي استخدم اللغة الصوفية ليعبّر من خلالها عن تجربة وجودية عاطفية في آن واحد، حيث يتداخل المقدس بالدنيوي، والإنساني بالإلهي.

من هنا أعتقد، بل أوقن أن ديوان "التحليق بأجنحة من حجر" وهو بكل هذه الفخامة لا يمثل مرحلة متقدمة في تجربة يحيى السماوي، وإنما جاء متمما لتلك الفخامة التي وجدناها عند السماوي منذ سنين طوال وهي التي أهلته ليتربع على عرش الشعر العربي المعاصر، والدهشة التي أثارها هذا الديوان، ليس لأنه يمثل مرحلة متقدمة في مسيرة السماوي، لا أبدا، وإنما لأنه يعكس وعيا شعريا معاصرا ينفتح على أسئلة الكينونة، وفي الوقت ذاته يحافظ على الجذر العراقي العربي في صوره ورموزه، وهذا هو ديدن السماوي في الأعم الأغلب من دواوينه.

***

د. صالح الطائي

دراسة هيرمينوطيقية في البنية الرمزية والجمالية لقصيدة ماجدة الفلاحي

تمثل قصيدة "زرقاء اليمامة" للشاعرة ماجدة الفلاحي استدعاءً أسطوريًّا لشخصيةٍ غائرة في الذاكرة العربية، تكتسب حضورها لا بوصفها رمزاً أنثويّاً فحسب، بل بوصفها ضميراً جمعيّاً يرى ما لا يُرى، ويصرخ في وجه العمى العام.

في هذا النص، تتحول زرقاء اليمامة من أسطورة إلى كائن شعري معاصر، يتكلم بلغة النبوءة والحقيقة، ويُعاد إنتاجها في سياقٍ وطنيٍّ مأزومٍ يشي بانكسار البصيرة وانتصار الظلام.

أولًا: القراءة الهيرمينوطيقية (التأويلية).

المنهج الهيرمينوطيقي يفترض أن المعنى ليس جاهزًا، بل يُنتَج في الحوار بين النص والمتلقي.

منذ المطلع:

 تخرج من حواشي البؤس / ومن تضاعيف القهر

تُعلن الشاعرة أن الولادة الشعرية هنا هي ولادة من الألم، من حواشي لا من المتون، من الهوامش التي تلد الرؤية.

تتجلى "زرقاء اليمامة" كصوت يتكلّم من هوامش التاريخ والجغرافيا، تقف في منطقةٍ وسطى بين النبوة والشهادة، بين الصمت والصراخ، بين الرؤية والعجز.

تُعيد الشاعرة قراءة الموروث الأسطوري تأويليّاً:

فـ"زرقاء اليمامة" لا تعود تلك المرأة الخارقة البصر في التاريخ، بل أنثى معاصرة تُرى من خلالها أزمنة القهر العربي وتكرار العمى الجمعي.

تتحول النبوءة إلى وعيٍ جريحٍ، والرؤية إلى لعنةٍ معرفية.

وهكذا تُنتج الفلاحي تأويلاً حديثًا للأسطورة، يمنحها بعدًا وجوديًّا ووطنيّاً.

ثانياً: القراءة الأسلوبية

تُبنى القصيدة على جمل قصيرة متوترة إيقاعيًا، تميل إلى الجمل الاسمية والفعلية ذات البنية المتوازنة، كقولها:

ليلها طويل... طويل كسرابٍ لا ينتهي

وصدرها حرائق لا تنطفئ

هذا التكرار الصوتي (طويل... طويل) يُجسّد ديمومة الانتظار والخذلان، في حين أن الصور (حرائق – جمر – غيم مثقل – غيث مؤجل) تشحن النص بطاقةٍ شعوريةٍ متوترة تجمع بين الاحتراق والخصب المؤجل.

كما أن الاعتماد على التوازي الأسلوبي في المقاطع الختامية:

 أنت الصوت / أنت النور / أنت الصرخة / أنت النصر / وأنت الحقيقة / وأنت الحياة

يؤسس لذروةٍ خطابيةٍ أقرب إلى البيان النبوي أو الإنشاد الطقوسي، مما يكرّس حضور "زرقاء اليمامة" بوصفها رمزًا للقداسة والرؤية والقيامة المعنوية.

ثالثًا: البنية الرمزية والسيميائية

من منظور سيميائي، تحوّلت العلامات الكبرى في النص إلى رموز متداخلة الدلالة:

١- العين: ليست أداة إبصار فحسب، بل رمز للوعي والنبوة والاختلاف. حين تقول الشاعرة:

 فلن يستطيعوا قلع عينيكِ

فإنها تؤكد أن رؤية الحقيقة لا تُقتل، وأن البصيرة لا تُستأصل حتى وإن عميت الأبصار.

٢- الليل: يحمل دلالة مزدوجة؛ إنه ليل القهر والجهل والخذلان الجماعي، لكنه أيضًا رحم النبوءة، حيث يولد الضوء.

٣- الصوت والقصيدة: يتحولان إلى وسيلة مقاومة، إلى معادل رمزي للوجود والحرية.

٤- القيود – الصحراء – الصمت – البحر الغائب: علامات سيميائية على غياب الخلاص الجمعي، واحتباس الروح في وطنٍ فاقدٍ للبحر أي للاتساع والانطلاق.

رابعاً: البنية النفسية والدينية

تستحضر الشاعرة البعد النفسي العميق لشخصية زرقاء اليمامة بوصفها امرأة "ترى أكثر مما يُحتمل".

هذا الإدراك الفائق يتحول إلى عبءٍ نفسيٍّ وكينونيٍّ؛ إذ تعيش حالة "الوعي المأساوي" التي وصفها نيتشه حين قال: من يرى الحقيقة كاملةً لا يملك إلا أن يتألم منها.

فالقصيدة تكشف الانقسام النفسي بين الرؤية والعجز عن التغيير.

زرقاء الفلاحي ليست مجنونة كما يقول عنها الآخرون، بل ضحية وعيها المتجاوز.

- أما البعد الديني في النص، فيتجلى عبر الإيحاء القرآني والنبوي، تقول:

 لا تقول إلا ما أوحي إليها

هذا التضمين الديني يعمّق من قداسة الرؤية الشعرية ويجعل الشاعرة تُعيد بناء مفهوم "الوحي" لا كمصدر لرسالة سماوية، بل كمصدر للإلهام الفني والمعرفي.

خامساً: المستوى الجمالي والوطني

الجمال في هذه القصيدة ليس جمال الصورة فحسب، بل جمال الموقف الوجودي.

زرقاء اليمامة تتحول إلى رمزٍ للوطن العربي المصلوب على أسوار المدن العمياء.

حين تقول:

 أرى فرسانها يدفنون رؤوسهم في الرمال

تقدّم الفلاحي صورة مكثّفة للجبن الجمعي، وللخذلان الوطني في وجه الحقيقة.

إنها تصف انهيار النخوة، وانكفاء البصيرة، واستقالة الضمير، ليغدو النص مرثية للوطن ومرافعة عن الصدق.

الجمالية هنا تنبع من صدق الألم واتساق الرمز، لا من الزخرف اللفظي. فكل مفردة تخدم دلالة الرؤية الكبرى، وكل صورة تُسهم في بناء المشهد الدرامي للنبوءة المنكوبة.

سادساً: البنية التأويلية النهائية (ما تحت الجلد الشعري)

تحت الجلد الشعري، ينبض النص بتوترٍ خفيٍّ بين الرؤية والخذلان، الوعي والإنكار، النبوءة والاتهام بالجنون.

هذا الصراع هو جوهر الوجود الإنساني في مجتمعٍ يرفض الرؤية.

زرقاء اليمامة، في تأويلها الأخير، ليست امرأة من زمنٍ مضى، بل هي كل ذاتٍ مبصرةٍ تُعاقَب على وعيها.

القصيدة، بذلك، ليست فقط نصًّا شعريًّا بل صرخة معرفية ضد العمى الجمعي والاغتراب العربي.

خاتمة:

في ضوء التحليل الهيرمينوطيقي والأسلوبي والسيميائي والنفسي والديني، يمكن القول إن قصيدة "زرقاء اليمامة" لماجدة الفلاحي تُجسّد رؤية شعرية كبرى عن مصير الرؤية في زمن الانطفاء.

لقد استطاعت الشاعرة أن تُحوّل الأسطورة إلى كائنٍ معاصرٍ يتكلم بلسان الحقيقة والجرح معًا، وأن تخلق نصًّا تتعايش فيه الرموز الدينية مع البنية الوجدانية والجمالية، في توازنٍ نادر بين المأساة والنبوة.

***

بقلم: عماد خالد رحمة - برلين

.......................

"زرقاء اليمامة"

تخرجُ من حواشي البؤس

ومن تضاعيفِ القهر

امرأةٌ تأتي من زمنٍ ولّى

تكتم جراحها

تلملم ما تناثر من تاريخ نبوءتها

وتعبر الصمتَ بوجعٍ معلنٍ في مدى عينيها.

*

ليلُها طويل…

طويلٌ كسرابٍ لا ينتهي

بلا أجنحةٍ تطير

وصدرُها حرائقُ لا تنطفئ

وغيمٌ مثقلٌ بجمر الانتظار

وغيثٌ مؤجَّلٌ لا يأتي

وفي جوفها وَجَلٌ يسكنه الصدى.

*

تحاصرُ شفتيها قصيدةٌ عنيدة

وإن قالت

لا تقولُ إلا ما أُوحيَ إليها.

تتركُ البابَ مواربًا

وتختفي وراء جدرانٍ خرساءَ باردة،

ومن كهفها تتبعها تاؤُها كظلٍّ من ضوءٍ غابر.

*

نادت

حذّرت

أنذرت

قالت:

أرى أشجارَ بلدتي تموت واقفة

أرى فرسانها يدفنون رؤوسهم في الرمال

أرى سيوفهم مغمدةً في صدر نبوءتي

وسياطهم تجلدُ ظهرَ قصيدتي

وأرى قيودهم في يدي

ولا بحرَ في بلدتي

ولا مركبَ أُلقي إليه شراعي.

*

هذا الغامضُ الخفيُّ يُنبئني:

أنا والمطلقُ واحد

لا حدودَ لرؤيتي.

*

قالوا عنها:

عرافة

قدّيسة

نبيّةٌ مرسلة.

قالوا: أنَّى لها الحكمة؟

*

ذاكرتُها وهمٌ

ولغتُها هذيان

وما تقول إلا خرفًا وثرثرة.

*

لا ملاذ لها هنا…

ما كذبت عيناها

بل هم كذبوا.

*

لا تتواري إن خذلوكِ

اصمدي ولا تُغادري

فلن يستطيعوا قلعَ عينيكِ

ولا صلبَكِ على بابِ المدينة.

*

أنتِ الصوتُ

أنتِ النورُ

أنتِ الصرخةُ

أنت النصر

وأنت الحقيقة

وأنت الحياة.

***

من ديوان مساء المرايا 2022

 

عتبة الولوج: غزة الإسلام أو النبش في الجذور للعبور من النضالي المشروع إلى الإنساني

نستهل هذا التحليل لهذه القصيدة التي تحمل بُعدًا دينيًا-وطنيًا-إنسانيًا واضحًا، وتستعرض غزّة بوصفها رمزًا للصمود والبطولة الإسلامية، بصيغة كلاسيكية ذات نفس عمودي بالوقفة العروضبة أو تحديد البحر الخليلي:

نظم الشاعر قصيدته وفق بنية الشعر العربي العمودي الموزون (الشطرين المتناظرين) والقافية الموحدة وقد احترم فيها تفعيلات بحر المديد الذي أرجع فيه الخليل بن أحمد الفراهيدي هذه التسمية إلى تمدد سباعييه حول خماسييه، بمعنى أن الأسباب قد امتدت في أجزائه السباعية، فصار أحدهما في أول جزء والآخر في آخره، وهذه البنية لها أثر صوتي ناتج عن اختيار البحر (المديد) وأيضا دور في تثبيت الموسيقى الداخلية وتعضيد الدلالة.

وقد خلص الاستقراء العروضي للقصيدة إلى إحدى صور بحر المديد كالتالي:

فاعلاتن/فاعلن/فعلن ¤¤  فاعلاتن/فاعلن/فعلن

1. التحليل الصوتي:

التوزيع الفونيمي (الحركات والسكنات)

وندرس فيه الظواهر الصوتية البارزة (مثل التجانس، الجناس، الفاصلة الصوتية) وكذا توزيع الفونيمات والتأثير العاطفي

بدءا حضور مكثف للحروف الجهرية والمفخّمة مثل: ق، ط، ص، غ، خ، ر، ح --> تخلق جوًا من القوة، التحدي، العمق، مثلًا في البيت:  ما رهبوا قصف صهينةٍ، نلاحظ: ق/ص/ف/ص/هـ/ن/ة --> تناوب الصوت القوي (ق، ص) مع الأصوات المهموسة (هـ، ن) يصنع صراعًا سمعيًا يعكس الصراع الواقعي.

الجرس الموسيقي: البحر المديد (فاعلاتن – فاعلن – فعلن)

يتميز بإيقاع متوسط السرعة، متدلٍّ، مرن، يوفّر مجالًا للانفعالات الحزينة أو التأملية، كما أن التفعيلة الأخيرة (فعلن) توفّر نهاية مغلقة للصوت، تُشبه الإغلاق العاطفي أو الانكسار.

مثلا: حال قلبي شأنه تعبُ (فعلاتن – فاعلن – فعلن) الحركات المتوالية في "تعبُ" = انتهاء صوتي متشظٍّ، كأنّه تنهيدة.

الانسجام الصوتي (الصوائت/الصوامت): الصوائت القصيرة (فتحة، ضمة، كسرة) تُستخدم بكثافة: الفتحة: تعبير عن الفتح، الغليان العاطفي والضمة: تضيف جرسًا قويًا وقاطعًا.

الصوامت المتقاربة صوتيًا (تجانس صوتي): "طرب / تعب" --> تقارب صوتي (ط/ت + ر/ب)

"نصب / حسب / نجب" --> نهاية باء ساكنة --> توحّد صوتي.

الظواهر الصوتية البلاغية

الظاهرة المثال التأثير

الجناس طرب / تعب توتر دلالي في تشابه صوتي

السجع نسب / حسب / نصب توحيد سمعي – يعزز الإيقاع

التكرار الصوتي "حالُ" تكررت كثيرًا إصرار صوتي يرمز للدوام

الانسجام الصوتي: يتجلى في تكرار الحروف الرخوة المهموسة مثل (ح، ر) والحروف المتوسطة المجهورة (ن، م) التي تمنح النص موسيقى داخلية هادئة تتصاعد مع المعاني القوية.

الجناس: تكرار بعض المقاطع الصوتية مثل: "حالُهُ طربُ / شأنُهُ تعبُ" – التشابه في البنية الصوتية يعطي إيقاعًا صوتيًا متزنًا.

الصوائت القصيرة والطويلة (المدّ الصوتي): تم توظيف الحركات بذكاء لتدعيم الإيقاع الداخلي ولخدمة المعنى، كـ"سَمَقَتْ / سِيماؤُها / شُهُبُ" --> الصوائت الطويلة تعزز الرفعة والعظمة.

وفيما يخص الإيقاع: اعتمد على التكرار الصوتي المتوازن، واستخدم الحركات القصيرة والطويلة بشكل متناغم، مما يعزز من موسيقية الأبيات.

أما في التقارب الصوتي: فنجدكثرة التراكيب التي تحتوي على الأصوات المفخمة مثل (ط، ق، ص، غ) مثل: "طرب، قصف، صهينة، غنّ".

وكذلك في الجناس الصوتي: نلاحظ بعض التكرار في المقاطع مثل: (حالُه – حالُ قلبي)-(نَسَبُ – حَسَبُ).

في خلاصة هذا المستوى نستنتج أن الشاعر استخدم توليفة من الصوتيات للتعبير عن البعد الوجداني الحاد في القصيدة، وتدعيم التوتر العاطفي والقوة التعبيرية.

2. التحليل النحوي والصرفي:

اعتمد الشاعر في هذه القصيدة الجمل الاسمية والفعلية، ما يعكس تنوع التركيب وحيوية المعاني:

في البنية النحوية العامة، استعمل تنويعا في استعمال الجمل، حيث نجد الجمل الإسمية تُستخدم لترسيخ الدلالة، بثبات، وتحويل المعاناة إلى حالة وجودية: "غزّة الإسلام قد سمقت" ليعبر عن الثبات والديمومة في حين كان استعمال الجمل الفعلية بتركيز وفاعلية: "رَكبتْ / نسلتْ / أنجبتْ / يطلبون" وهي جمل تعكس الحركية والنشاط والدينامية والتحوّل والفعل المقاوم وتؤكد على التاريخ والمجد المتجذّر. من حيث زمن الأفعال، نجد الفعل الماضي طاغٍ: "ركبت، زانه، نسلت، سمقت، أنجبت" والفعل المضارع في النهاية "يطلبون" و"يجبُ" يشير إلى استمرار النضال وتجدّده، كما تم توظيف الضمائر المتصلة والمنفصلة مثل: (حالُهُ / شأنُهُ / عطرُهُ / قد رهبوا)، للدلالة على تركيز شعوري وانفعالي.

استخدام أدوات التوكيد والتقوية: "قد" (قد زانه نسب – قد سمقت)، "ما رهبوا" (نفي مؤكد بالفعل).

وخلاصة القول أن التركيب النحوي مرن؛ استخدام المبتدأ والخبر بشكل بلاغي يعكس المعنى الحسي، وعليه، فالبنية النحوية تعكس حالة وجدانية عالية، بتوظيف تنويع الجمل والتوكيد لإبراز المضمون البطولي والتراجيدي.

- الصيغ الصرفية: تركيز على المشتقات

أسماء الفاعل: "طالب" غير مذكورة صراحة، لكن ضمنيًا في "يطلبون"، "هاربون" ضمنيًا في "قد هربوا"

أسماء المفعول: "مرفوع" ضمنًا في "قد سمقت"، لأن غزة "مرفوعة السمْت"

الصيغ المصدرية: إذا كان المصدر هو اسم الحدث المجرد من الزمان والفاعل فلدينا في القصيدة، عدة مصادر، بعضها ظاهر وبعضها مقدّر أو متحوّل:

أمثلة على المصادر الصريحة:

المصدر السياق الدلالي

العتق "يطلبون العتق" الخلاص الروحي والسياسي

الرهب "قد رهبوا"- "رهبة" خوف تعظيمي لله

النصب "حالُها، عنوانه نصب" التعب المتواصل (نَصَب لا منصب!)

الطرب "حالُه طرب" انفعال وجداني عالٍ (فرح أو شوق)

التعب "شأنه تعب" إعياء روحي أو جسدي

ملاحظات على المصادر:

اختيار المصدر دون الفعل --> توجيه الانتباه للحالة كقيمة.

"النصب" --> لا يقول "تنصب" بل "عنوانه نصب" --> التركيز على الحالة لا الفعل.

المصادر مرتبطة بالضمير الإنساني:

"حالُه طرب" --> القلب، "حالُها نصب" --> العيون، "شأنُه تعب" --> الذات

هذه المصادر تتحول إلى علامات دلالية، فهي توصّف الشخصيات والأشياء لا بالأفعال، بل بالأحوال.

أمثلة على المصادر المقدّرة:

في بعض المواضع، نجد أفعالًا تحيل إلى مصادر غير مصرح بها:

"قد رهبوا" --> المصدر: الرهب، ولكن ورد الفعل للتعبير عن الخوف التعظيمي من الله.

"ما رهبوا قصف":  "الرهب" مقابل "القصف" --> مفارقة بلاغية: لم يخافوا القصف، بل رهبوا الله!

"أنجبت فرسانها عبقًا"،  "الإنجاب" هنا يُرادف الإبداع/الخلق/الإخصاب

والمفعول به "عبقًا" --> مصدر مجازي = "عطر معنوي"

في التحليل الدلالي للمصادر:

المصدر القيمة البلاغية

العتق التحرر من "سقر" --> الجحيم --> الاحتلال --> الذنب

الطرب انفعال شعوري شديد --> وجد ديني/وطني

النصب/التعب ديمومة الألم، لا لحظة عابرة

العبق تجريد للفعل الجهادي في صورة "عطر" معنوي

الرهب تحويل الخوف من عدو إلى خشية من الله

3. التحليل المعجمي (اللفظي)

يزخر المعجم الشعري لهذه القصيدة بحقول معجمية غنية ومتنوعة، إذ نجد:

حقل الجهاد والمقاومة: "فرسان، صهينة، العتق، قصف، فجرنا، نصرًا"

حقل الكرامة والمجد: "سؤدد، تليد، حسب، نسب، شرف، نجب"

حقل المعاناة: "تعب، لم تذق رغدًا، نصب، سقر"

حقل الصراع والمقاومة: "قصف، صهينة، العدى، فرسان، فجر"

حقل العزة والنسب الشريف: "هاشم، سؤدد، تليد، حسب، نجب"

حقل الدين والخوف من الله: "عتق، سقر، ربّ، رهبوا"

من الملاحظ أن الشاعر وظف ألفاظا من التراث العربي: "هاشم، سؤدد، تليد، حسب، نسب" ل ربط الماضي بالحاضر واتسمت قصيدته بقلة الألفاظ الدخيلة، مما يدل على نقاء اللغة وعمقها العربي الإسلامي.

وخلاصة القول أن المعجم محكم الدلالة، ويجمع بين البعد النضالي والتاريخي والديني، مما يعطي القصيدة عمقًا في المعنى والرسالة.

4. التحليل التركيبي اللغوي:

اتسمت القصيدة بالأسلوب التقريري المتماسك حيث تؤدي الجمل معاني مباشرة مع صور بيانية مضمّنة.

التوازي التركيبي بين الشطرين المتناظرين في كثير من الأبيات (تكرار البنية النحوية):

"في عيونٍ لم تذق رغدًا / حالُها، عنوانُهُ نصبُ"

"أنجبت فرسانَها عبقًا / من رحيقٍ، عطرُهُ نُجُبُ"

هذا التوازي يمنح النص تناغمًا منطقيًا وشعريًا.

الاستعارات والتشابيه: "فرسانها عبقًا" --> استعارة تصف المقاتلين بأنهم عبق، أي ذوو أثر جميل ومؤثر.

"سيماؤها شهب" --> استعارة وصفية قوية.

في الروابط البلاغية:

استخدام الحروف (قد، في، من، و) لتقوية الربط بين المعاني، أما  النفي في "ما رهبوا قصف صهينة" فهو يعمّق دلالة الثبات.

الإزاحة الأسلوبية: تُغيّب بعض التركيبات المألوفة لصالح تراكيب موحية.

هكذا نجد أن التركيب اللغوي يُوظَّف بلاغيًا لخدمة الإيحاء أكثر من المباشرة، ويُعزز الانفعالات الشعورية للقصيدة.

5. التحليل الدلالي

الثيمة الأساسية التي شيد عليها معمار القصيدة هي: غزة بوصفها رمزًا إسلاميًا، نضاليًا، نقيًا، متجذرًا في النسب الهاشمي.

--غزة --> الأنثى الوردة --> الأم الباس

يمكن حصر الدلالات الكبرى في: غزة كرمز للإسلام والمقاومة-->استخدم الشاعر اسم "غزة الإسلام" لا كمدينة جغرافية، بل كرمز حضاري ومقدّس، وكان التركيز على المعاناة والنبل، ورغم الألم والتعب، فإن غزة تزدهر بالنسب، بالأنفة، بالفروسية.

تستحضر القصيدة البُعد الديني والتاريخي من خلال إشارات مثل "سقر، ربّ، رهَبوا، فرسانها، عتق" وهذا يعزز توظيفًها للموروث الديني والتاريخي.

ويتبثق الأمل في الحمولة الدلالية للرسالة الخاتمية: الفجر قادم، من خلال البيت الأخير الذي يحمل أملاً مؤكَّدًا:

"فَجْرُنَا آتٍ سَرَى يَجِبُ"

بذلك تكون هذه القصيدة ذات دلالة مقاومية روحية، تجمع بين الحزن والفخر، بين الألم والأمل.

6. المستوى التداولي (البراغماتي)

المُرسل (الشاعر): يتحدث من موقف وجداني حاد، كمن يعيش أو يتماشى مع معاناة غزة.

الرسالة: هي دعوة للصمود، وتثبيت للمقاومة، وشحن للعاطفة الإسلامية الجمعية.

المُخاطَب (الجمهور): الأمة، القارئ العربي، والمجتمع المسلم وقد تنفنح على كل أحرار العالم.

السياق الواقعي: يشير إلى معاناة غزة تحت الحصار والاحتلال، مع تطعيم الخطاب بنَفَس إسلامي نضالي.

وأخيرا وليس آخرا، فهذه القصيدة تُوظَّف لأغراض تعبويّة وتوعوية، لكنها تظل ضمن إطار شعري فني.

الخلاصة العامة:

الجانب التحليل

البحر المديد يدعم التوتر العاطفي، الفاصلات الصوتية تخدم الانفعال

الصوتي إيقاع قوي، حروف مفخمة، جناس--توزيع متقن بين الحروف الجهرية والمهموسة

النحوي تنوع نحوي، أدوات توكيد--توظيف دقيق للجمل الاسمية لإثبات الحالة، والفعلية لإبراز الفعل المقاوم، التراكيب مشحونة بالمعاني دون إفراط

المعجمي معجم نضالي – وجداني – ديني

التركيبي توازي، استعارات، بلاغة متقدمة

الصرفي صيغ مصدرية كثيرة (طرب، نصب، رهب، عتق) تعبّر عن الحالات الشعورية والمصيرية بدلاً من الحركات المؤقتة--المصدر يوظَّف هنا كوسيلة لتكثيف المعنى، وتحويل الانفعال إلى كيان لغوي محسوس

الدلالي ثنائية الألم/العز، غزة كرمز، وعد بالنصر--

التداولي خطاب تعبوي موجه للأمة.

***

بقلم د. أحمد جمرادي

***

.....................

غزةُ الإسلام

رُبّ قلْـبٍ حــــالُهُ طَــــــــرَبُ

حـــــــالُ قلْبِي شـــأْنُهُ تَعَبُ

*

في عُيــونٍ لمْ تَذُقْ رَغَـــداً

حــــالُها، عُنْـوانُهُ نَصَـــبُ

*

ورْدَةٌ فـــي هــــاشِمٍ رَكبتْ

عُودَها، قدْ زانَــــهُ نَسَبُ

*

مِنْ عَتِيــــقٍ سُؤْدَدٍ نسَلَتْ

مِنْ تَلِيــــــدٍ قَدّهُ حَسَـــبُ

*

غَزّةُ الْإسْـــلامِ قَدْ سَمَقَتْ

سَمْتُها سِيمـاؤُها شُهُبُ

*

أنْجَبَتْ فُرْســــــــــانَها عَبَقاً

منْ رَحِيقٍ، عِطْرُهُ نُجُبُ

*

يَطْلُبُـونَ الْعِتْقَ مِنْ سَقَرٍ

خَوْفَ رَبٍّ عالٍ، قدْ رَهَبُوا

*

مَا رَهَبُـوا قَصْفَ صَهْيَنَةٍ

و الْعِـــــدا جُبْناً قدْ هَرَبُوا

*

غَنِّ يـــــــا نَصْراً عَلا شَرَفاً

فَجْرُنــــــــا آتٍ سَرَى يَجِبُ

***

قصيدة من إبداع الشاعر نورالدين حنيف أبوشامة

 

"تشريح الشخصية وجماليات التلقي في الدقيقة الأخيرة قبل الانتحار"

رواية (الدقيقة الأخيرة قبل الانتحار) للأديبة المصرية هناء نور الصادرة حديثاً عن دار روافد للنشر والتوزيع ليست مجرد حكاية تُسرد، بل هي مختبر سردي معقد تُختبر فيه ذات القارئ وقناعاته بقدر ما تُختبر شخصيات الرواية، تبلغ جماليات التلقي ذروتها هنا من خلال تفكيك الكاتبة للحقيقة الواحدة، وعرضها كفسيفساء متعددة الألوان، كل لون يمثل وجهة نظر شخصية مختلفة، تاركة للقارئ مهمة تجميعها ورؤية الصورة الكلية، أو الاكتفاء بجمال القطع المتناثرة.

تعدد الأصوات السردية: الحقيقة المتشظية

الرواية مبنية على تعدد الأصوات السردية، حيث تُروى الأحداث من وجهات نظر الشخصيات الأربع الرئيسية، كل منها يحمل روايته (الحقيقة) الخاصة:

"ليلى": المدربة العالمية للتنمية البشرية، التي تبيع الوهم والثقة، لكنها في داخلها تعيش فراغاً وجودياً وشهوة لا تشبع، روايتها تبدأ بعد الصدمة، مما يجعل سردها مزيجاً من التبرير والبحث عن ذنب جديد.

"عادل": الطبيب الحزين، ابن الأسرة الأرستقراطية الذي أنهكته خيانات الحياة وموت الأحبة، سرده مليء باليأس والشك، ينظر إلى العالم من خلال عدسة التشاؤم والخيانة المتوقعة.

"عصمت": رجل الأعمال القاسي والعبقري، الذي يرى العالم كمسرح للعرائس (كما ورد في الصفحات 54-56) وهو من يحرك الخيوط، سرده مليء بالثقة والاحتقار، لكنه يكشف عن جروح طفولة وحاجة ماسة للحب.

"عايش": الشاب الفقير الذي كان على حافة الانتحار، ليجد نفسه فجأة في قلب الحدث، سرده هو الأكثر صدقاً وجرأة، ينظر إلى عالم "الأغنياء" من أسفل الهرم، محملًا بمرارة الحرمان وأمل الصعود.

هذا التعدد لا يقدم للقارئ "الحقيقة" بل "حقائق" متضاربة، القارئ هنا ليس متلقياً سلبياً، بل محققاً نفسياً عليه أن يقرر من يصدق، وأي الروايات أقرب إلى واقع هو نفسه يشارك في تشكيله.

حلقات درامية محورية: لحظات الانزياح والتلقي

هناك لحظات مفصلية في الرواية تعيد تشكيل فهم القارئ للأحداث والشخصيات:

الحلقة الأولى: انهيار حفل الزفاف (الفصول الأولى): هذه هي اللحظة التأسيسية، مشهد اقتحام عايش للحفل وادعائه حبه لليلى يُرى أولاً كعمل مجنون، لكن مع تقدم الرواية، نكتشف من خلال سرد عادل أنه ربما هو من دفع لعايش ليفعل ذلك كي يهرب من الزواج (كما يدعي عايش لاحقاً في فيديو على وسائل التواصل – الصفحة 53)، هذه الحلقة تضع القارئ في حالة شك دائم: من هو الضحية؟ ومن هو الجلاد؟

الحلقة الثانية: لقاء النهر (الصفحات 83-90): هذه هي ذروة جماليات التلقي، اللقاء على المركب بين الأربعة (عصمت، ليلى، عادل، عايش) يحول الرواية إلى مسرح، حوارهم الحاد، اعترافاتهم غير المكتملة، وقفز ليلى وعايش في النهر، كلها مشاهد مفتوحة للتأويل، هل قفزت ليلى لتنقذه أم لأنها وقعت في حبه؟ هل قبلته حقاً تحت الماء؟ مشاهد مثل هذه تترك للقارئ مساحة واسعة لملء الفراغات بناءً على انحيازاته هو.

الحلقة الثالثة: تسجيلات عصمت (الصفحات 109-110 و 124-125): اكتشاف عادل أن عصمت كان يتنصت على ليلى طوال حياتها ويكشف أسرارها، هي صدمة للقارئ كما هي لعادل، هذه اللحظة تهدم صورة ليلى (الملاك) تماماً وتكشف عن شخصية مظلمة ومتشبعة بالغرائز، القارئ الذي كان يتعاطف معها، يُجبر على إعادة تقييم كل ما قرأه من قبل من وجهة نظرها.

الحلقة الرابعة: مواجهة عايش لأهل ليلى (الصفحات 132-134): هنا يتحول التلقي من التعاطف مع "الضحية" الفقير إلى الإعجاب بـ"البطل" الذي يواجه النظام الطبقي، عرض عايش أن يكتب كل ما يملك لليلى هو تحول جذري في شخصيته، يدفع القارئ لتغيير نظرته عنه من (المخبول) أو (الضحية) إلى (الرجل الواعي) الذي يرفض أن يكون نسخة من عصمت.

الشخصيات كمرايا: أمام أي مرآة يقف القارئ؟

جمالية التلقي هنا تكمن في كيف تجبر كل شخصية القارئ على النظر إلى نفسه:

(ليلى) مرآة للنفاق الاجتماعي والهوة بين الصورة العامة والذات الخاصة، (عادل) مرآة لليأس والخوف من الحياة ومن المواجهة، (عصمت) مرآة للهوس بالتحكم والقوة، والجروح التي تختبئ وراء القسوة، (عايش) مرآة للغضب المكبوت، الحلم البسيط (جوارب جديدة – الصفحة 30)، والصراع من أجل الكرامة.

القارئ قد يرى جزءا من نفسه في إحدى هذه المرايا، وهذا الانحياز النفسي هو ما سيحدد أي حقيقة من حقائق الرواية سيميل إليها.

القارئ شريك في الاكتشاف

"الدقيقة الأخيرة قبل الانتحار" هي رواية ما بعد حداثية بامتياز، إنها لا تقدم إجابات، بل تطرح أسئلة عن طبيعة الحقيقة، الحب، الطبقية، والذات، جمالية التلقي الأكبر التي تقدمها هناء نور هي تحويل القارئ من متلقٍ إلى شريك في الكتابة، حيث تصبح عملية القراءة هي عملية اكتشاف لا لأحداث الرواية فحسب، بل لذات القارئ وقيمه وانحيازاته الخفية، في النهاية، ليست الرواية من يجب أن تُفهم، بل القارئ نفسه هو من سيفهم نفسه بشكل أفضل بعد هذه الرحلة في متاهات النفس البشرية.

***

رزق فرج رزق - ليبيا

 

للشاعرة الفلسطينية شادية حامد.. قراءة هيرمينوطيقية، أسلوبية، رمزية، جمالية، وطنية، وسيميائية

تُعَدّ قصيدة «تُفَّاحَةٌ من حجر» للشاعرة شادية حامد نموذجاً متفرّداً للنصّ الشعريّ الذي يتجاوز حدود البوح الذاتي إلى أفق فلسفيّ وجماليّ مفتوح، يُقارب سؤال الإنسان في زمن الحداثة المتأخرة، حيث تتقاطع التقنية والمقدّس، والجمال والخراب، والحرية والزيف. إنّها ليست قصيدة في المكان أو في المدينة الحديثة بقدر ما هي تأمّل في مصير الكائن داخل العالم المعاصر؛ الكائن الذي تحوّل من ذاتٍ فاعلة إلى رقمٍ في نظامٍ مبرمج، ومن روحٍ مبدعة إلى حجرٍ يلمع على واجهة الحضارة.

لقد أصبح الشعر المعاصر، في تمظهراته الجديدة، مختبراً فلسفيّاً للوجود، يُعيد مساءلة القيم والمعاني التي صاغتها البشرية عبر قرون، ثم فقدت بريقها تحت ضغط الآلة والافتراض والتمثّل الرمزي للحرية. وفي هذا السياق، تتجلّى تجربة شادية حامد بوصفها صوتاً أنثويّاً وجوديّاً يسعى إلى إعادة اكتشاف العلاقة بين الكلمة والعالم، بين الذات والآخر، وبين الجمال والألم، عبر لغةٍ مشحونةٍ بالرموز، تنبض بوعيٍ نقديٍّ عميق، وتستبطن رؤيةً فلسفيةً تُقارب في كثافتها رؤى شعراء الوعي المأزوم من طراز أدونيس، أنسي الحاج، وسيلفيا بلاث.

إنّ هذه الدراسة تنطلق من افتراضٍ أساس، مفاده أنّ قصيدة «تُفَّاحَةٌ من حجر» لا يمكن قراءتها وفق منظورٍ واحد، لأنها نصّ متعدّد الطبقات والدلالات؛ تتداخل فيه الأسطورة بالدين، والرمز بالواقع، والأنثوي بالكوني، والبعد السياسي بالميتافيزيقي. لذلك، سيُصار إلى مقاربتها من خلال مناهج متشابكة:

١- المنهج الهيرمينوطيقي التأويلي لفهم البنية العميقة للمعنى في النص.

٢- والمنهج الأسلوبي للكشف عن الإيقاع الداخلي وتشكيل الصورة،

٣- والمنهج الرمزي والسيميائي لتفكيك شبكة العلامات والأيقونات التي تشكّل البنية الثقافية للنص،

٤- إلى جانب القراءة النفسية والجمالية والوطنية التي تُضيء المسافة بين الذات الشاعرة والعالم الذي تتمرّد عليه.

بهذا المعنى، لا تتعامل هذه الدراسة مع النص بوصفه منتجاً لغويّاً فحسب، بل بوصفه خطاباً وجوديّاً يعبّر عن مأزق الإنسان الحديث أمام تحوّل الحرية إلى شعارٍ أجوف، والجمال إلى سلعة، والمعرفة إلى حجرٍ صقيلٍ بلا دفء. فـ«التفاحة» هنا ليست ثمرة الخطيئة، بل رمز المعرفة التي تحجّرت، والمعنى الذي تجمّد في رماد المدن الكبرى.

إنّ تحليل هذا النصّ يهدف إلى الكشف عن الجدل بين الوعي الجمالي والوعي النقدي في تجربة الشاعرة شادية حامد، وعن كيفيّة تحويلها الشعر إلى أداةٍ فلسفيةٍ للإنقاذ من موت المعنى. فالشاعرة، وهي تتأمّل مدينة الأضواء، لا تكتب عن نيويورك، بل تكتب عن الإنسان الذي ضلّ طريقه بين ناطحات السحاب والرموز، لتُعلن عبر لغتها الكثيفة والرمزية أنّ المعرفة حين تفقد روحها، تتحوّل إلى تفّاحةٍ من حجر.

أولاً: المدخل التأويلي (المنهج الهيرمينوطيقي):

قصيدة «تُفَّاحَةٌ من حجر» ليست نصاً شعرياً فحسب، بل هي تجربة تأويلية مفتوحة تنطوي على شبكةٍ من الرموز والتماثلات الثقافية، تتجاوز البنية اللغوية إلى استدعاء تاريخي وحضاري وروحي معقّد.

تبدأ الشاعرة من سؤال الوجود في مدينة الحداثة، تقول:

"سرداب وراء سرداب / لا نافذة، ولا باب"

هنا، تتجلى صورة الإنسان المنفي داخل سرداب العزلة التقنية، في مدينة تفتقد النوافذ، أي: الانفتاح على الروح والسماء.

هذا الغياب للنافذة والباب هو غياب للمعنى، وهو في التأويل الهيرمينوطيقي رمز لانسداد الأفق الوجودي الذي تعانيه الذات الشاعرة أمام العالم المادي، حيث تتحول الحرية إلى تمثال، والروح إلى ريشةٍ في مهب الرماد.

إنّ الشاعرة تتخذ من نيويورك فضاءً رمزيّاً لـ"الحضارة الإسمنتية" الحديثة، لكنها تقرأها بعين الشرقي الذي يرى في بريقها كسوفاً للمعنى لا انتصاراً للنور. فـ"التمثال" الذي كان رمزاً للحرية في المخيال الغربي، يتحوّل لديها إلى أيقونة من زئبق ومطاط، أي إلى حرية زائفة، مرنة، متقلبة، بلا جوهر.

---ثانياً: القراءة الأسلوبية:

أسلوب الشاعرة مشبع بالتناوب بين الجملة الخبرية والإنشائية، بين السردي والتأملي، وهو ما يُنتج إيقاعاً هارمونيّاً متقطّعاً يوازي التوتر الداخلي للنص.

نلاحظ توظيفها المتقن للوقفة الشعرية والسطر المفصول، تقول:

"ها هنا، حتى أدقّ المشاعر والأفكار من إسمنت"

"العقل جدار رقمي / اللغة جدار آخر"

هذه التوازيّات الأسلوبية تشكّل ما يمكن أن نسمّيه جدار اللغة داخل النص، أي أن البناء الأسلوبي نفسه يعكس دلالة النص المضمونية: كل شيء جدار، حتى اللغة.

كما أنّ التكرار الإيقاعي لـ«ها هنا» و«هناك» و«أهذي» يمنح النص بعداً طقوسيّاً، أشبه بتراتيل استنطاقية للعالم، حيث تتحول القصيدة إلى نشيد وجودي ساخط على فقدان المعنى في زمن العولمة.

ثالثاً: القراءة الرمزية:

العنوان نفسه «تُفَّاحَة من حجر» هو مفتاح رمزي بالغ الكثافة:

١- التفاحة ترمز إلى المعرفة، الإغواء، الخطيئة الأولى في الموروث الإبراهيمي.

٢- الحجر يرمز إلى الجمود، المادية، القسوة، والموت المعنوي.

وبذلك يصبح العنوان تعبيراً عن تقدّم حضاري مفرغ من الروح؛ معرفة بلا ضمير، وحرية بلا إنسانية.

وفي قولها:

"كأنها هي، ولكن تلك بأنامل من قصب، وهذه بقلب من إسمنت"

تُجسّد الشاعرة الصراع بين الروح الأنثوية (القصب، الليونة، الطبيعة) والصلابة الذكورية التقنية (الإسمنت).

إنها مواجهة رمزية بين الطبيعي والمصطنع، الإنساني والآلي، الأنثوي والحداثي المتوحش.

رابعاً: البنية الجمالية والفضاء الشعري.

من الناحية الجمالية، تتشكل القصيدة عبر مفارقة فنية كبرى: جمال الخراب.

تصف الشاعرة الخراب بلغة مبهرة، وتحيل القبح إلى لوحة ميتافيزيقية.

تغدو الصور الفنية كأنها لوحات سوريالية، فتمثال الحرية «حمامة من السماء وطاووس من الأرض» يحمل أجنحة الزئبق، أي حرية مراوغة، براقة، لا تُمسك.

يتبدّى الجمال في المفارقة بين الخارج والداخل:

١- الخارج: مدينة الأضواء، الحضارة، التكنولوجيا، الزحام.

٢- الداخل: فراغ روحي، عزلة، رماد، فناء المعنى.

بهذا تصبح الجمالية في القصيدة جمالية التناقض والتشظي، لا جمالية التناغم أو الانسجام.

خامساً: القراءة الوطنية والإنسانية

يتحوّل نص شادية حامد إلى مرآة لوعي عربي منكسر أمام الغرب.

هي لا تهاجم الغرب، بل تكشف الخلل في الشرق القديم الذي نام على الأساطير والأوهام. تقول:

"هكذا نحن في شرقنا القديم، حين ننام وحين نصحو..."

تسائل الشاعرة حضارتين في آنٍ واحد:

١- الغرب الذي صنع الحرية من إسمنت وزئبق.

٢- والشرق الذي صنع من المجد أسطورة ومن الوعي سباتاً.

بهذا تتجاوز القصيدة الموقف الأيديولوجي إلى وعي كوني مأزوم، يرى في "الإنسان المعاصر" – سواء في الشرق أو الغرب – كائناً ضائعاً في ليل التقنية والسلع.

سادساً: القراءة السيميائية:

السيمياء هنا لا تقتصر على الرموز الكبرى، بل تشمل الإشارات الحضرية واللغات الثقافية داخل النص:

١- التمثال: رمز السلطة الرمزية للحضارة الغربية.

٢- الرماد: رمز ما بعد الحداثة، لما تبقّى من الإنسان بعد الاحتراق.

٣- الفنجان و«الهُنود الحمر»: رموزٌ لثقافات مفقودة وذاكرات مسحوقة.

٤- القطار و«المحطة» و«مانهاتن» و«التوقيت» هي إشارات إلى الزمن الصناعي، في مقابل الزمن الميتافيزيقي في الشرق القديم.

تُمارس الشاعرة لعبة العلامات بدقةٍ حداثية؛ فهي تستعمل رموز الغرب لتفكيك أسطورته، وتجعل من اللغة ساحة مواجهة بين المعنى والفراغ.

سابعاً: البعد النفسي والديني

في البنية النفسية، تتبدّى الشاعرة كذات ممزقة بين انتماءين:

١- انتماءٌ ديني روحي يبحث عن الصلاة والسكينة.

٢- وانتماءٌ وجودي عالق في عالمٍ فقد إيمانه، تقول.

"أريد أن أُصلّي... ولكن هذه كنيسة التراتيل فيها سوداء والقس أبيض"

إنها مأساة الإنسان المؤمن في عالم ما بعد المقدّس، حيث تذوب الفوارق بين الإيمان والمسرح، بين العبادة والعرض.

وهذا التوتر بين الروحي والمادي، بين الإلهي والآلي، يولّد ما يمكن تسميته بـالاغتراب الأنثوي الوجودي: امرأة تبحث عن صلاةٍ نقية في عالمٍ تلوث بالخراب الجمالي.

ثامناً: الدلالات الختامية – ما تحت الجلد الشعري

تحت جلد القصيدة ينبض نبض الغضب النبيل: غضب الإنسان الشاهد على سقوط العالم في الإسمنت.

اللغة، رغم ما فيها من زخرفة، تنضح بصرخة وجودية، فكل صورةٍ تُطلّ من رحم ألم.

إنّها ليست قصيدة في نيويورك، بل قصيدة في موت الإنسان الحديث، حيث تتحول التفاحة – رمز الحياة – إلى حجر، أي إلى موتٍ صلبٍ ومصقولٍ بيد الشيطان نفسه، كما تقول:

"أصغر تفاحة فيه لا يفوح منها أي أثر… منحوتة بإزميل أعظم فنان: الشيطان."

تاسعاً: خاتمة تحليلية

قصيدة «تُفَّاحَة من حجر» نصّ يزاوج بين الأسطورة والواقع، الفلسفة والشعر، الدين والسياسة، وتُقدّم الشاعرة فيه نموذجاً لشعرٍ كونيٍّ ذي بصيرة أنثوية نافذة.

إنها تُعيد إنتاج العالم بمنظورٍ نقديٍّ يلتقط جوهر المأساة الإنسانية: أنّ الإنسان المعاصر صنع لنفسه جنة من إسمنت، لكنه نسي أن يبني فيها قلباً.

***

بقلم: عماد خالد رحمة - برلين

........................

تُفَّاحَةٌ مِنْ حَجَرْ

شادية حامد

"نِيرَانٌ دَائِمَةٌ تَرْقُدُ غَافِيَةً عَلَى أَحْجَارِ الْصُوَّان"

لوركا

سِرْدَابٌ وَرَاءَ سِرْدَاب.

لَا نَافِذَةَ،

وَلَا بَاب.

أَهَذِهِ نيُويُورْك؟

أَمْ هَذِهِ حَفِيدَةُ إِرَمَ ذَاتَ الْعِمَاد؟

إِذَنْ،

مَاذَا تَفْعلُ الْمَلائِكةُ

فِي هَذِه الْبِلاد؟

*

كَأَنَّهَا هِيَ.

وَلَكِن تِلْكَ بأَنَامِلَ مِنْ قَصَبٍ

وَهَذِه بِقَلْبٍ مِن إسْمَنْتْ.

طُوبَى لِلإسْمَنْتْ.

*

هَا هُنَا،

حَتَّى أَدَقُّ الْمَشَاعِرِ وَالْأفْكَارِ مِنْ إِسْمَنْتْ.

الْعَقْلُ جدَارٌ رَقَمِي.

الْلُّغَةُ جَدَارٌ آخَر.

وَالْرُوحُ، بَيْنَ بَيْن، رِيشَةٌ.

مُجَرَّدُ رِيشَةٍ

فِي مَهَبِّ الْرَّمَاد.

يَا أيُّهَا الْرَّمَاد!

فِي أَيِّ قَارُورَةٍ كُنْتَ إلَى حَدِّ الْآن؟

الْصَّيْفُ ذَهَبَ َوعَاد.

وَأَنْتَ مَا تَزَالُ هَا هُنَا،

فَوْقَ رُؤُوسِنَا ,

تَتَأَوَّه.

*

هَا هُنَا،

تَحْتَ الْرَّمَاد،

تَحْتَ أَجْفَانِ مِيدُوزَا،

وَفِي غَفْلَةٍ مِنْ سَيْفِ بِيرْسْيُوس،

أَنَّى لي أَنْ أُحِيطَ بِأَشْلاءِ الرَّمْز،

وَأَضْغَاطِ الْمَعْنَى؟

*

هَا هُنَا،

مُنْذُ مَا لا يُحْصَى مِنَ الْحُرُوب،

وَالْمَجَاعَاتِ،

وَالْأَعَاصِير،

وَالْزَلَازِلِ،

تِمْثَالٌ لِلْحُرِيَّةِ،

مِنَ الْسَمَاءِ كَالْحَمَامَةِ

وَمِنَ الْأَرْضِ كَالْطَاوُوس،

بِأَجْنِحَةٍ مِن زِئْبَق.

وَشِفَاهٍ مِنْ مَطَّاط.

حَوْلَ الْرَّأْس سَبْعُ مِسَلّات.

كِتَابٌ فِي الْيَمِين.

وَمِشْعَلةٌ فِي الْيَسَار.

قَد اخْتَلَطَ الْلَّيْلُ بِالْنَّهَار

وَمَا عَادَتْ حَتَّى اِيمَا لازَارُوس تَتَذَكَّر مَا كتَبَتْ

هَا هُنَا،

عِنْدَ قَاعِدَةِ الْتِمْثَال

*

هَا هُنَا،

بِاسْمِ الْحُرِيَّة، يَصْنَعُ الْحَجَرُ مَا يَصْنَع:

لِنَفْسِهِ،

فِي وَقْتِ الْقَيْلُولَةِ،

أُرْجُوحَةً زَرْقَاء.

لِيْ

- أَنَا الّتِي لَسْتُ لَا سيدة أَعْمَالٍ،

وَلَا عَارِضَةَ أَزْيَاء –

أُغْنِيَةً سَوْدَاء.

*

لِأمْثَالِي

قُبَّعَاتٍ مِن تِبْن.

ولِلْبَاقِين مَخَابِئَ

تَحْتَ الْأَرْض.

*

هَا هُنَا،

كَمْ رِيشٍ مُخْتَلِفِ الْأَلْوَان،

كَمْ حَضَارَةٍ،

كَمْ لُغَةٍ،

كَمْ لِسَان ْ،

وَلَكِن بِالْله عَلَيْكْ، أيُّهَا الْطَاوُوس الْحَجَرِي

مَاذَا أَدرَكْتَ مَنْ بَحْرِ الْظُلُمَاتْ؟

مَاذَا تَرَكْتَ لِي فَوْقَ ضَرِيحِ الْمَعْنَى؟

وَمَاذَا تَرَكْتَ لِلْهُنُودِ الْحُمْر

فِي قَرَارَةِ الْفِنْجَان؟

*

هَا هُنَا،

- حَوْلَ الْفِنْجَان –

صَعَالِيكٌ،

غَجَر،

بشرٌ يأْكُلُهُم بَشَرْ،

أَحْفَاد لُورْكَا،

زِنْجٌ،

وَإفْرِنْجٌ،

وَإغْرِيقٌ،

وَأسْبَان،

وَرُومَان،

قَيَاصِرَة،

وَجَبَابِرَة.....

لَكِنَّهُم أَحْرَار.

*

بِالْمُقَابِلْ:

هُنَالِكَ، فِي شَرْقِنَا الْقَدِيم،

مُنْذُ أَنْ كُنَّا وَخَيْرٌ عَمِيم

تَجِيءُ مِنْ أَقْصَى الْغَرْبْ:

قَنَاطِيرُ قَمْحٍ يَتَقَاسَمُ رَيْعَهَا

الْسَلَاطِين،

وَالْسَمَاسِرَة،

وَشُيُوخُ الْقَبَائِل

أَكْيَاسُ مِلْحٍ فَاسِدٍ،

طَوَاحِينُ هَوَاء،

ذُبَابُ خَيْلٍ تَلِيهِ أَرْتالٌ مِنَ الْنَّمْلِ الْمُجَنَّح:

دَائِمَاً،

بِاسْمِ الْحُرِيَّة

مِنْ أَجْلِ سَحْقِ الْحُرِيَّة.

*

هَا هُنَا،

فِي شَرْقِنَا الْقَدِيم:

الْقَيْلُولَةُ الْطَويلَةُ،

وَالجَدَل الْعَقِيم.

بَيْنَمَا هُنَالِكَ، مِنَ الغربِ إِلَى الْغَرْب:

صَخَب ٌ،

زِحَامٌ،

نَاطِحَاتُ سَحَاب،

سِرْدَابٌ وَرَاءَ سِرْدَاب،

وَقْتٌ يَقتُلُ الوَقْت،

فِي عُجَالَةٍ،

وَمِنْ غَيْرِ أَدْنَى نَدَم،

أَوْ عِتَاب.

*

أَهَذِهِ وَاحَةٌ؟

أَمْ هَذَا سَرَابْ؟

هي ذي Manhattan

دُونَ تَوَقُفٍ،

وَدُون اسْتِرَاحَةْ،

هِيَ ذِي، ثَانِيَةً وَثَالِثَةً وَرَابِعَة

كَأَنّهَا قِلَادَةٌ مِنْ فَوَانِيسَ

فَي صَحْرَاءَ شَاسِعَة.

كَأنّمَا نيُويُورْك بُسْتَانٌ أَشْجَارُهُ مِنْ حَجَر

وَأَصْغَرُ تُفَّاحَةٍ فِيهِ

لَا يَفُوحُ مِنْهَا أَيُّ شَيْء،

أَيُّ أَثَر،

غَيْرَ أَنّهَا مَنْحُوتَةٌ بِأِزْمِيل أَعْظَمِ فَنَّان،

أِزْمِيل جَدِّ الْبَشَر،

الْشَيْطَان!

*

وَاحِد.

اثْنَان.

ابْتَعِدَا عَنِ الْسِكَّة،

بَعْدَ قَلِيلٍ يَنْطَلِقُ الْقِطَار.

هَا هُنَا،

فِي

MADISON SQUARE

يَنْطَلِقُ مِنْ مَحَطَّة Penn

في كُلِّ عُشُرِ ثَانِيَةٍ،

قِطَار.

*

قِطَارٌ وَراءَ قِطَارْ

نَحْوَ الْحَاضِر.

نَحْوَ الْمُسْتَقْبَل.

نَحْوَ كُلّ مَا هُوَ طَارِئٌ وَمُفَاجِئٌ وَجَدِيد

هَكَذَا، مَحَطةً مَحَطّة،فِي بِلَادٍ بَارِعَة

فِي صَهْرِ كُلِّ شَيْء

الْطَبِيعَةِ وَالْثَقَافَة.

الْحَدِيدِ وَالْجَلِيد.

الْحَدِيدُ يَؤُولُ إلَى

حِلي حَوْلَ جِبَاة الْنَاس وَأَعْنَاقِ الْمُدُن.

وَالْجَليدُ إِلَى أساوٍر حَوْلَ أَقْدَام عُمَّالِ الْمَزَارِع،

وَأَحْدَاقِ بُنَاةِ الْسُفُن.

*

NO COMMENT

قِفْ وَرَاءَ ظَهْرِ تِمْثَالِ الْحُرِيَّة

ثُمَّ اجْلِس عَلَى رُكْبَتَيْك

وَشَغِّل الْكَامِيرَا

*

هَكَذَا هُمْ،

بَيْنَمَا نَحْنُ: كَمَا نَحْنُ

نَقْبَعُ فِي بِلَادِ الْذَهَبْ

قُرْبَ كَوَانِينِ الْحَطَبْ.

قَاطْ،

عَرَقْ،

نَارْجِيلَة،

ثُمَّ هَاتِ، أَيُّها الْحَكَوَاتِي

مَا فِي جُعْبَتِك:

قَصَصْ،

وَخُرَافَاتْ،

وَأَسَاطِيرْ،

عَنِ الْأَنْدَلُس،

وَأَلْفِ لَيْلَة وَلَيْلَة،

وَالْسِنْدِبَاد،

وَخَزَائِنِ ثَمُود،

وَعَجَائِبِ عَاد.

إلَى مَا لَا نِهَايَة،

أَوْ إلَى أَنْ يُرَنِّقَ الْنَوْمُ عُيُونَ الْصِغَار.

هكذا نحن في شرقنا القديم،

حين ننام،

وَحِينَ نَصْحُو،

وَحِينَ يَنْطَلِقُ مِنْ مَحَطَّة Penn

فِي أَقَلَّ مِنْ عُشُر ثَانِيَة

مِلْيوُن قِطَار وَقِطَار.

*

هَارْلِمْ!

يَا هَارْلِم!

كَم الْسَاعَة الْآن بِالْدَقيِقَة َ والَثَانِيَة؟

أَزِفَ الْوَقتُ وَهَا أنَا الْآنَ فِي هَذِه ِالْمَحَطَّةِ

بَيْنَمَا أَقْدَامِي فِي مَحَطَّة نَائِيَة.

*

هَارْلِم!

يَا هَارْلِم!

قَلْبِي عَلَيْكِ.

قَلْبِي عَلَى الْوَجَع الْطَاعِنِ فِي غَيَاهِبِ الْجَاز،

فِي سَحَائِبِ الْكُوكَايِين،

وَفِي مَقَالِبِ الْمَجَاز.

يَا أَنْكَى الْكُلُوم وَالْكَلِمَة،

هَارْلِم!

يَا هَارْلِم!

يَا أَوَّلَ وَأَطْوَلَ صَيْحَة مُؤْلِمَة!

*

أُرِيد أَنْ أُصَلِّي.

وَلَكِن هَذِه كَنِيسَة ٌ

الْتَرَاتِيِل فِيهَا سَوْدَاء

والْقِس أَبْيَض.

كِيْفَ أُصَلّي،

بِأَي لُغَة،

بِأي سِفر،

وَخَلْفَ مَن:

خَلْفَ أبْرَاهَام لينكلن،

أَمْ خَلْفَ رُعَاة الْبَقَر؟

*

SOS

هَذَا وَقْتٌ غَيْر الْوَقْت.

وَهَذَا مَكَان غَيْر الْمَكَان.

هَا هُنا، قبل تَقَاطُع بْرُودْواي والْجَادَة السَابِعَة

في ميدان Times Square

زُحَام،

ضَوْضَاء،

أَشْرِطَة أخْبَار،

لَافِتَات عِمْلاقَةٌ تَُنَاطِح الشَّمْس،

أَيَّتُهَا الشَّمْس،

يَا مَكْتَبَةً أَيْنَ مِنْهَا مَكْتَبَةَ الْكُونْغْرِس

وَلَكِن بِلا كُتُب،

وَلا رُفُوف

قَدْ بَانَ الْمَعْنَى

أَهَكَذَا يَبْدُو الْخُسُوف؟

أَمْ هَذِه فَقَط فَتْرَة مَوْسِمِيَة

يَكُون فِيهَا الْمُحِيط فِي سُبَاتٍ،

بَيْنَمَا الْمَرْكَز فَوْقَ نَار قَوِيَّة؟

أَيَّتُهَا الشَّمْس! لا مَنَاص.

وَأنْتَ، يَا شَبِيهي، احْتَرِس!

هَا هُوَ أَوَان الْكُسُوف

قَدْ تَخْلَع نَظَّارَتَك السَوْداء

قَد يَخْدَعَكَ النَّظَر.

وشَظَايَا البشر

فيِ مَرَايَا هيئة الأمم

قَدْ تَنْسَى، وَقَد تَحْسَب، تَحْتَ تَأثِير النِيُون

أَنَّ لَثْغَتَكَ لَم تَعُد مَرْئيِّة.

أَو أنَّ بَشْرَتَك قَدْ صَارَت - مَعَ الْوَقْت – بَيْضَاء.

حَذَارِ.

احْتَرِس.

فَأَنْتَ مِنَ الشَّرْق.

وَأَبْنَاء الشَّرْق لَيْسُوا كلّهم

مِنْ أَبْنَاء السَّمَاء.

*

أَنَا كذلك مِنَ الشَّرْق.

ومِثلي مَنْسِيَّة مِنَ الْمَتْن

كَيْفَ لِي أَنَ لَا أُجَن؟

وأنا أُجيل النَّظَرَ فِي أَرْجَاء

METROPOLITAN MUSEUM OF ARTS

زَخَارِف مِنْ مِصْر،

مَصَاحِف مِنَ الْقُوقَاز،

مُنَمْنَمَات مِن أَصْفَهَان،

أَرَابِيسْك،

قُدُور مَنْحُوتَة،

نُقُوش هِيرُوغْلِيفِية،

وأَلْوَاح آشُورِيَّة.

*

أَحَقاً هَذَا؟

أَمْ أَنَّه عَلَيَّ أَنَا أَيْضَاً

أَنْ أُعِيدَ النَّظَر:

فِي لُغَتِي،

وَإِثْنِيَّتِي؟

***

شادية حامد

 

قراءة نقدية في جماليات التلقي لمجموعة "وجهي… والرّياح"

تمثل المجموعة الشعرية "وجهي... والرّياح" للشاعرة سونيا عبد اللطيف عالماً شعرياً مكتملاً ينبض بالحياة، حيث تتفاعل الذاتي مع الكوني، والأنثوي مع الإنساني، والخاص مع العام، تعتمد جمالية التلقي هنا على حوارية عميقة بين النص والقارئ، تدفعه إلى أن يكون شريكاً فاعلاً في بناء الدلالة واستكناه الطبقات المتعددة للنصوص.

شاعرة الهمس والموج، وقيثارة المشهد الثقافي التونسي

ليست مجرد شاعرة تكتب القصيدة، بل هي مشروع ثقافي متكامل يُنظِّم الفضاءات، ويُؤسِّس للمشترَك الإنساني. من مدينة قليبية الساحلية، حيث همس الموج، انطلقت كاتبةً متعددة الأجناس (الشعر، النثر، الومضة، السيرة الواقعية، القصة) وقارئةً تحليليةً تنفذ إلى أعماق النصوص، تتلمس في كتاباتها مكامن الجمال والألم معاً، محوِّلةً تفاصيل الواقع اليومي إلى استعارات كونية، وهي كاتبة لا تنفصل عن دورها المجتمعي؛ فأستاذة التعليم، والمدربة في التنمية البشرية، والمذيعة المتخرجة من مركز مارينا، كلها أوجه تُغني نصّها بحساسية فريدة تجاه الإنسان وتفاصيل حياته.

عرفتها الساحة الثقافية رئيسةً لنادي الشعر ثم نادي الأدب في جمعية ابن عرفة، وعضواً فاعلاً في اتحاد الكتاب التونسيين حيث ترأست مجلس الأدب والفنون، لكن بصمتها الأبرز تأتي من تأسيسها وإدارتها لـ "مجالس همس الموج الأدبية والفنية"، التي أصبحت منبراً أساسياً يحتضن الأصوات التونسية والعربية، من خلال تظاهرات نوعية، بين الإصدارات التي تنوعت بين الشعر ("امرأة استثنائية")، والومضات ("بجناح واحد أطير")، ويوميات الواقع ("ميترو هات... وهدرات")، وإصدارات باللغة الإنجليزية، تثبت عبد اللطيف أن حبرها لا يجف عند حدود القصيدة، بل يمتد ليشكل سجلاً حياً للذات والمجتمع.

مشاركاتها الممتدة من مهرجانات تونس (قرطاج، سيدي بوزيد، قفصة) إلى عواصم الثقافة العربية (الصويرة، غرداية، الإسكندرية، بسكرة، زاكورة) تؤكد حضورها كصوت شعري عربي يجمع بين خصوصية المحلي وعالمية الإحساس، هي في جوهرها، "امرأة استثنائية" كما عنونت أحد دواوينها، لا تكتفي بمواجهة الرياح بقوة وجهها، بل تخلق من عواصف الحياة موجاً يهمس بأجمل القصائد.

(2)

جمالية العتبات النصية: مدخل إلى العالم الشعري

تبدأ جماليات التلقي من الغلاف، حيث الصورة الفوتوغرافية التي التقطتها الشاعرة في طبرقة (بتاريخ 29 ماي 2022). هذه العتبة البصرية ليست زخرفة، بل هي جزء عضوي من "وجهي… والرّياح" عنوان يخلق فضاءً من الحركة والصراع والتحليق، الوجه (الثابت، الهوية، الذات) في مواجهة الرياح (المتغير، العالم الخارجي، قوى القدر والزمن). هذا التناقض الظاهري يضع القارئ منذ البداية في قلب المأساة والحركة التي تميز المجموعة.

(3)

تعدد الأصوات والتناص: تشابك الحكايات

المجموعة عبارة عن سيمفونية من الأصوات المتنوعة:

الصوت الغنائي العذب: كما في "قمران" و "همس الموج"، حيث تتحول العلاقة العاطفية إلى حالة كونية من الإشراق ("نُزيلُ صدأ القلوب الصّماء").

الصوت الحكائي الأسطوري: كما في "هند امكَ" و "الأميرة النائمة" و"الحرباء"، حيث تُسقط الذات تجربتها على شخصيات رمزية وحكايات تستدعي ألف ليلة وليلة وشخصيات تراثية، مما يخلق تناصاً ثرياً يثري عملية تأويل القارئ.

الصوت السردي الواقعي الجارح: وهو الأكثر بروزاً وقوة، كما في "كاميرا" و "الجدار" و "شجن الوطن"، هنا تتحول القصيدة إلى كاميرا ترصد مآسي الواقع بتقنية "الزوم" السينمائية، مما يخلق صدمة تلقي لدى القارئ ويجبره على المواجهة، قصيدة "كاميرا" تحديداً هي ذروة هذه الجمالية الصادمة، حيث تتحول المفردة (الثدي) إلى رمز مأساوي للجوع والأمومة المهدرة واللامبالاة.

الصوت الاستفهامي الوجودي: كما في "اكتشاف" و"تساؤلات" و"أبواب المعراج"، حيث تطرح الشاعرة أسئلة وجودية عن الذات، الحب، الموت، والخلاص، هذا الصوت يدفع القارئ إلى طرح الأسئلة ذاتها، محوّلاً التلقي من متعة جمالية إلى فعل تأملي وجودي.

(4)

الصورة الشعرية: بين الرقة والقسوة

تتقن سونيا عبد اللطيف بناء صور شعرية قادرة على خلق عالم متخيل كامل:

صور طبيعية مضيئة: النورس، البحر، القمر، الضياء، الندى. هذه الصور تخلق فضاءً للتحليق والأمل.

صور واقعية قاسية: القمامة، الثدي المتدلي، الجدار، الإسفلت، الغربان. هذه الصور تخلق فضاءً للاختناق والاحتجاج.

صور سوريالية مدهشة: "بجناح واحد… تطييير!" في "اكتشاف"، أو "أنا شهرزاد تُنادي من قمقم الأسر" في إحدى القصص الضمنية. هذه الصور تثير الدهشة وتوسع آفاق التوقع لدى القارئ.

التناقض بين هذه الصور يخلق توتراً جمالياً يظل القارئ في حالة تأويل دائمة لمعناه.

(5)

الإيقاع بين الانسياب والانكسار

الإيقاع في المجموعة عضوي، يتبع نبض التجربة. فهو تارة منسياب كهدير الموج في "همس الموج"، وتارة أخرى متقطع، متشظٍ، يعكس انكسار الذات وشرذمة الواقع، كما في "كاميرا" و "غربة". هذا التلاعب بالإيقاع يوجه مشاعر القارئ، فينتقل من حالة الطمأنينة إلى القلق، ومن التأمل إلى الصدمة.

(6)

الذات والآخر: جمالية التماهي

جمالية التلقي الأبرز هي قدرة النصوص على خلق تماهٍ عميق بين القارئ والشخصيات:

القارئ يشعر بضياع "النعامة" التي تتعلم الطيران، ويتألم مع المرأة في "كاميرا" ويتساءل معها: "كيف يستقبلني المطر؟"، ويحلم مع "الحالمة" ويتمرد مع "وردة الرمال"، وحاصرته أسئلة "تساؤلات" كما حاصرت الشاعرة، هذا التماهي لا يتم عبر الشفقة، بل عبر إنسانية عميقة تجعل من الخاص (تجربة المرأة) عاماً (قضية إنسانية).

(7)

اللغة: بين الشعرية اليومية والرمزية العالية

تستخدم الشاعرة لغة سلسة لكنها مكثفة، تخلط بين مستويين من اللغة، شعري رفيع (يُرفرف الحلم سربا) ولغة الحياة اليومية (علب سردين، حفّاظات قذرة)، هذا المزج يجعل النص قريباً من القلب دون أن يفقد شعريته، ويجعل التلقي ممكناً على مستويات متعددة.

مجموعة (وجهي… والرّياح) هي مشروع شعري إنساني طموح، جمالية التلقي فيها لا تقوم على المتعة السلبية، بل على التحدي، تتحدى القارئ:

أخلاقياً: لمواجهة القبح والظلم في قصائد مثل "كاميرا" و "هنيئا لكم الأعياد".

وجودياً: لمواجهة أسئلة الموت والوجود في "سأموت" و "أبواب المعراج".

جمالياً: لتقبل تنوع الأصوات والأشكال والانزياحات عن المألوف.

الانزياح الأكبر هو تحويل جسد المرأة (بكل تفاصيله الحميمة والمأساوية) من موضوع للتلقي الذكوري إلى ذات فاعلة، ناطقة، محكومة بالرياح لكنها تحاول دائماً التحليق، القارئ، رجلاً كان أم امرأة، مدعو ليس فقط لقراءة هذه النصوص، بل لـ تلقّيها بكل حواسه وضميره، ليكتمل المعنى في فعل القراءة نفسه، الشاعرة لا تقدم إجابات، بل تفتح نوافذ على الأسئلة الكبرى للوجود والإنسان، مخلّفة وراءها أصداء لا تتبدد بسهولة في ذهن وقلب القارئ.

***

بقلم: رزق فرج رزق- ليبيا

في المثقف اليوم