قراءات نقدية

قراءات نقدية

المتن الروائي باحداثه البارزة لا يؤخذ بأنه سرد تقليدي في الشأن الفن الروائي، بأنه يتحدث عن طفلين بينهما فرق شاسع، اولهما تقرضه الفاقة والفقر والبؤس والحرمان الكلي، بينما الاخر يسبح في بحر المال ثراء الفاحش يلعب بالمال والصرف الباذخ. الاول يحلم باشياء بسيطة جداً، قميص أو بنطال جديد،أو حذاء بدلاً من حذائه المطاطي وهو منحة من مدرسته، والآخر ينعم بالملابس الجديدة والهندام الراقي، رغم انهما اولاد عم من والدين شقيقين، احدهما فقير جداً، يكدح بعرق جبينه طوال النهار، ولم يوفر ابسط الاشياء الى عائلته، والى أمه المريضة، والآخر يلعب بدنيا المال ويسبح بنعيمها بالثراء الفاحش، دون جهد وعرق جبين، القطيعة الكاملة في الصلة بين الاخوين، كأنهما غريبان من رحم واحد، صياغة السرد وتتدفق احدثه تسرد بالضمير المتكلم أو ما يعرف الروائي العليم، يسرد الاحداث منذ كان طفلاً فقيراً، حتى شبابه طالب في المدرسة الاعدادية، عن مسلسل حياته وعائلته وصلته القوية بابن عمه (سمير) كأنه الملاذ من فاقته المزرية، وحاجته القوية أن يكمل حاجاته البسيطة من خلال وشائج هذه العلاقة، رغم تحذيرات الأب الصارمة، بأن يقطع الصلة تماماً وينسى بأن هناك عم وابن عم. الشخصية المحورية الطفل الصغير، ليس بأنه فقط يسرد حياته الفقيرة، بل يسرد حالة البلاد بعد الحصار الاقتصادي الدولي، الذي خنق العراق من الوريد الى الوريد، بعد حرب الخليج المدمرة عام 1991 وهلكت العراق بالفاقة الاقتصادية وشظف العيش الصعب والقاسي، ايام النظام الديكتاتوري. لذلك المتن الروائي وحبكته الفنية، تطرح ثلاثة محاور أساسية بأبعادها الفكرية والرؤية التعبيرية و بالدلالة الرمزية العميقة، بأن ترسم لوحات كاملة لهذه المحاور الثلاث وابعادها وتأثيرات على كل جوانب ميادين الحياة العامة والخاصة، ويمكن تلخيصها بالآتي:

1 - السيرة الحياتية:

يسرد حالة عائلته الفقيرة، وصراع الاب المضني في توفير ادنى شروط الحياة البائسة، حتى حرمان من الكهرباء في انقطاعها لساعات طويلة في عز قيظ الصيف الساخن الى درجة الغليان، ويحرم طفله في تلبية مطالبه البسيطة، مما يترك الحزن والدموع بالخيبة المحبطة، بينما ابن عمه (سمير) يلعب بالمال بتصرفاته الرعناء وسلوكه الأحمق، في السخرية والاستهزاء بأبن عمه الفقيرة، في إهانته بالسخرية والتهكم عليه أمام الأطفال، مرة اعطائه علبة حلوى فرح بها، ولكن حين فتحها وجد في داخلها قاذورات وأوساخ، تجرع الاهانة والسخرية، وظل متعلقاً به، كالغريق الذي يتعلق في قشة للانقاذ، يتحسر بحزن حين يجد (سمير) يغيير افخر الملابس الجديدة بين فترة واخرى، بينما هو محروم منها كلياً، مرة ذهب الى بيت عمه (عايد ) ابو (سمير) اندهش من براعة الفيلا وجمالها الخلاب، بمساحة كبيرة مسيجة بالحديد وبالحديقة الكبيرة كأنها بستان الاشجار والزهور، المرصعة بالحجر الملون، بينما هو يعيش في غرفة صغيرة واحدة، هي كل شيء، مطبخ وحمام وغرفة النوم، ينطرحون على أرضها، أبيه وأمه وجدته المريضة، فقد شعر بهالة بيت عمه الكبير (شعرت بأن هذا المكان، بدأ أنه مأخوذ من حلم، لاينتمي لعالمي،وأنني لن اكون يوماً جزءاً منه، منْ يدري؟ ربما أجمل ما رأيته على الإطلاق، ليس فقط في الواقع، بل حتى في احلامي التي احلق فيها، مع فراشات الاماني، صوب بيت جميل فيه ارجوحة طائرة، أو كبسولة ملونة بالازرق والاحمر، كتلك التي أراها في لعبة دكتور ماريو) ص15، عمه (عايد) لم يعره أية اهمية، كأنه غريب لا يعرفه، وزوجته استقبلته بنظرات الريبة والتوجس، تحسر على حياته البائسة بالحرمان، رغم أن أمه تلح على أبيه في محاولات إقناعه، أن يشكو حاله البائس الى شقيقه، لكنه يرد بصرامة قاطعة، وترد متذمرة (أي عمل هذا الذي يقضي فيه الرجل يومه كاملاً، ولا يجني منه إلا ما يكفي لشراء بضع قطع من البسكويت وقنية حليب؟ لماذا لا تخبر اخاك عايد ليساعدك على الأقل في مداواة أمكما؟

ساد الصمت لوهلة بدت طويلة، ثم اجابها بصوت حاسم:

- مستحيل أطلب ذلك...أنسيتي يا فاطمة؟) ص 23. وهذه أول مرة يسمع عن عمه (ابو سمير) يتردد على لسان أمه وأبيه، ولا يعرف سبب رفض أبوه القاطع لاقتراح أمه،لذلك يخلق في عقله جملة من التساؤلات المبهمة، لماذا هذه الهوة والقطيعة بين الأخوين؟ ولماذا احد الأخوان في فاقة الفقر والآخر في الثراء وحياة النعيم؟ وفي المدرسة الاعدادية تعرف على صديق آخر اسمه (علي) يعرف بالمشاكسة والشيطنة وروح المغامرات والمجازفات. وأصبحوا الثلاثة في سلوكهم الصبياني المراهق، تعلم التدخين والمغامرات المجنونة. وعرض عليه (علي) السفر الى مدينة النجف الأشرف، وهو يدرك ان ابيه يتحاشى ذكر مدينته النجف، التي عاش فيها في الثمانيات وتركها بالرحيل الى بغداد لسبب مجهول، حتى بموت جدته التي يحبها حباً عارماً لانها تواسيه بالحكايات الجميلة، لم يأخذه معه إلى مدينة النجف الاشرف، ذهب وحده ودفنها في مقبرة السلام، ورجع على عجل، ولكن بعد موت أمه كانت صدمة هزت كيانه، فكانت العمود والسند القوي، كانت تتستر على حماقاته بالغياب طوال اليوم حتى آخر الليل عن البيت، وحتى سرقاته مصروف البيت لم تصارح ابيه، لانها تدرك سيكون العقاب صارماً وقاسياً، بموت أمه شعر بالوحشة والعزلة والضياع والفراغ الكبير، لذلك استغل زيارته الى النجف مع صديقه (علي) فقد أخبره هذا بأن جده يملك أرشيف المدينة وتاريخ الأسر، وهذه فرصة سانحة لمعرفة تاريخ أسرته الغامض والمبهم. لا بد ان يعرف السر الحقيقي.

2 - كشف السر:

توجه الى مدينة النجف الاشرف، ليعرف لماذا ابيه يتحاشى ذكر اسمها، وحتى تاريخ عائلته، وكذلك ان يعرف الشيء الغربيب، بان ابيه وشقيقه من البشرة السمراء قصيري القامة، بينما (سمير) أبيض البشرة أشقر الشعر وذو عينين خضراوتين وطويل القامة، وحتى (أم سمير) من البشرة السمراء حنطية لكن بعد وصوله الى النجف لم يحالفه الحظ في رؤية جد (علي) لكن استقبله بكل ترحاب عم (علي) وبات ليلته في البيت، وفي الليل لفت نظره وجود صندوق خشبي، أثار فضوله، وعندما فتحه وجد في داخله مجموعة كبيرة من الأوراق والمذكرات والوثائق الرسمية من مديرية أمن النجف، عندما استولوا المنتفضين عام 1991 على المدينة وهروب رجال الامن، خوفاً من بطش الناس، قضى الليل يفتش في الأوراق والوثائق وخاصة مستندات مديرية امن النجف، جمعها ورجع الى بيته ليطلع عليها بهدوء وسكينة، وبالفعل اطلع عليه وإصابته الصدمة التي هزت كيانه، لم يستوعبها في وهلة الالاولى، لكن بدأ يفهمها بعد الاطلاع عليها باعصاب مضبوطة دون انفعال، عرف لماذا أبيه يتحاشى ذكر مدينته وتاريخ عائلته؟، ولماذا عمه (عايد) يرفل بالنعيم والمال الوفير، من خلال هذه المستندات الرسمية الصادرة من مديرية امن النجف، بأن عمه كان وكيل أمن في مديرية امن النجف، وعرف وزوجته عاقر لا تنجب اطفال، وإن عمه استغل عدم وجود احد في العائلة الثرية سوى امرأة مسنة، فقام عمه بقتل الجدة وسرق الذهب والمجوهرات، وقبل ايام قام في اعتقال والدين الطفل وتركوا الجدة وحدها، يعني عمه دبر مخطط سرقة البيت وقتل الجدة وخطف الطفل الرضيع، وجد بمواصفاته تنطبق كلياً على مواصفات (سمير) أنذاك كان رضيعاً عمره ثلاثة شهور، وضاعت اخبار اعتقال الام والاب، ربما اعدامهما بذريعة معارضة النظام، وتحدثت احدى الوثائق عن خطف طفلهم بعمر ثلاث شهور وذكر تفاصيل الموصفات تنطبق على (سمير) (شد انتابهي ذكر حادثة غريبة في احدى الوثاق، اختفاء طفل رضيع وسرقة صندوق من الحلي والمجوهرات، والعثورعلى جدته الوحيدة مقتولة برصاصة مستقرة في قلبها، بقيت الجثة مهملة ثلاثة ايام) ص105، ووثيقة اخرى تقول (أن الرضيع ابن لزوجين اعتقلتهما مديرية أمن النجف عام 1985 قبل ايام من مقتل العجوز التي هي أم الزوج، والاغرب من ذلك أن الطفل ذي الاشهر الثلاثة) ووثيقة اخرى تضع عمه في مرصاد الجريمة (اكتشف للتو أنه يخص عمي، اي هذا الرمز يخص زوجته..... ولكنها عاقر إذن هذا يعني أنه رمزها، وانها لا يمكنها الإنجاب) ص120، وأوضحت الصورة لديه (الآن فقط..اتضح سر ذلك النعيم الذي نٌعم به ! إنها مجوهرات وقلائد تلك العجوز المسكينة ! لقد استغل وحدتها، استفرد بها بعد اعتقال ابنها وزوجته، وارتكب جريمته النكراء، ثم أخذ الطفل هدية لزوجته العاقر) ص121. وأدرك ان هو وسمير مساكين، وإن الرفاه والبذخ على حساب قتل واعدام عائلته جميعاً، اما هو فقد تجرع مرارة الفقر والعوز. ولكنه تشرف بحب شديد بخصال ابيه رغم قسوته، لانه عاش بشرف عرق جبينه، ورفض جريمة شقيقه مما سبب بالقطيعة الكاملة بينهما، لذلك شعر بالحب والاعتزاز بابيه انه طيب برفض جريمة شقيقه (عايد)، وفي جلسة سكر مع (سمير) شب الخلاف والنزاع والشتائم بينهما. مما صرخ به بغضب: (- اخرس ! أنا اعرف حقيقتك،أنت لست ابن عمي، وما المال والعز الذي تتباهى به سوى اموال اهلك الحقيقين، الذي قتلهم عمي منذ زمن) ص147. مما اشتاط غضباً (سمير) ولم يضبط أعصابه المتوترة جداً، أخرج مسدسه ودوت رصاصة تخترق جسده. أصبح مريضاً بالكرسي المتحرك، لا يستطيع الوقوف، اما سمير دبر له عمه طريق الهروب بعيداً عن اذرع العدالة.

3 - الرؤية الفكرية والدلالات الرمزية:

السرد الروائي في أحداثه المختلفة تشير الى اصابع الاتهام الى ان اصحاب المال الحرام، مطعونين في سيرتهم ونزاهتهم الاخلاقية، بل منخورة بالف ثقب وثقب، بطريقة كسبهم المال جاءت بطرق شيطنية احتيالية، بل بطرق إجرامية بعض الأحيان، والفرق الشاسع بين الرجل الشريف، والرجل الحرامي الفاسد، وتذكر صورة أبيه تنهال على ذهنه (الذي لم انعم بحبه رغم وجوده، الذي ظننته جلاداً، لكنه لم يكن سوى ضحية لعمي عايد وأمثاله من الوصوليين، الذين لا مبدأ لهم سوى المال والسلطة أيا كان ثمنها) ص146. بكل تأكيد تاريخهم لا يخلو من التهم والجرائم والاحتيال، وإذا كان النظام الساقط اطلق العنان الى رجال الامن أو وكلاء الامن، ان يعبثوا في مصير البلاد والعباد، والتغيير الذي جاء الى العراق، لم يكن إلا فرحة مؤقتة (فرحتنا لم تدم طويلاً بتغيير نظام الحكم السياسي) ص30. بأن رجال الأمن غيروا جلودهم من جلد البعث الى الجلد الإسلامي كالافعى الحرباء، في اسلوب المخادعة والتضليل مصبوغة في حلو الكلام، ولكن (خلف تلك الوجوه وحوشاً، وإن حسن منطقهم لا يختلف عما يكمن وراء لعق العسل المسموم، أما تحت قصورهم الفارهة، وربما حتى تحت جوامعهم المهيبة، فتقبع أقبية وطوابير مظلمة لا يعرف فيها الليل من النهار، لهم جنود من شياطين الإنس يعملون كما عملت شياطين الجن لسليمان) ص32، ومثال عمه (عايد) من وكيل الأمن الى مسؤول سياسي كبير يجيد حبك الخيوط وقطعها متى شاء، إذ بعد التغيير ضعه الامريكان في منصب كبير في الدولة ليس مثالاً منفرداً بل اصبحت ظاهرة عامة، والتغيير الذي جاء بعد سقوط النظام جلب الخراب، فقد تدهورت حالة البلاد بالإرهاب والتفجيرات اليومية، في النهار والليل، حتى اصبحت الحياة ومخيفة ومرعبة. وأصبح بيت عمه (عايد) مزار لرجال الدولة والسياسيين، لكي يتنعمون ببركاته، ولا يمكن اتخاذ أي قرار رسمي للدولة، إلا بموافقته.

***

جمعة عبد الله

قرأت باهتمام رواية الكاتبة السيدة سعاد الراعي التي جاءت بعنوان (بين غربتين) والصادرة عن دار نشر أريس في ألمانيا. وقد أعادتني هذه الرواية لعالم النقد الذي كان لزاما عليّ أن أتجاهله  شأنه شأن مواضيع أخرى كاللغة والبحث الأكاديمي، لكنني هذه المرّة أجدني مدفوعا للكتابة عن  العمل الأوّل للسيدة  الراعي  لأنّ للمرأة الأديبة فضلا عليّ فأوّل عمل لي نشرته سيدة أديبة وأنا في بدايتي الأدبية هي السيدة عالية ممدوح، وهناك السيدة قمر كيلاني والسيدة غادة السمان والسيدة الدكتورة الجزائريّة فتيحة عاشوري التي خصصت جزءا واسعا من أطروحتها في الدكتوراه لروايتي آدم الجديد هذا فضلا عن رسالتيّ ماجستير في جامعتي البصرة وآل البيت في الأردن أدّتهما سيدتان. إذن الكتابة عن عمل سعاد الراعي الروائي هو من باب ردّ الجميل!. لكنني لن أنحاز وسأكون موضوعيا من دون مجاملة أو تجاوز على الحقّ النقديّ.

كيف أصنّف رواية بين غربتين؟

يمكن أن أقول إن العمل هو توافق وتوازٍ واندماج بين  السيرة والمذكّرات، والسرد، توافق ثلاثي أدخل العمل ضمن الرواية ولم يخرجها من فن المذكرات والسّرد، ويبدو أن الكاتبة لعبت لعبتها بذكاء فلم تروِ الأحداث بضمير الأنا بل لجأت إلى الضمير الغائب في الوقت نفسه لم تتحدّث عن كلّ سيرتها الذاتية بل روت لنا بعضا منها بضمير الغائب، ومعها بالموازاة والاندماج تحدّثت بحكم الضرورة عن مقتطفات من سيرة الحزب الشيوعي العراقيّ وسيرة آخرين وأخريات مثل الفتاة التي أحبت شابا متزوجا وحدث بسبب العلاقة بينهما حمل...أو بعض من سيرة والدها، وزوجها قبل اقترانه بها، ليكون مجموع السير الموجزة تلك عملا يتضافر جميعة ليتداخل في سيرة البطلة عندئذ يدخل بصفته الكليّة في العمل الروائي ليصبح سردا أكثر مما هو سيرة.

وإذا أردت أن أقارن عمل السيدة الراعي بعمل آخر فإنني لن أجد أفضل من رواية الاسبانيّة (دولورس إيباروري) التي حملت عنوان (لن يمروا) حيث تحدّثت فيها عن سيرتها خلال الحرب  الأهليّة الإسبانية وكانت تفضح فيها أو تنقد هفوات الشيوعيين الإسبان مع كون الكاتبة شيوعيّة كبيرة، غير أن الراعي لم تنتقد أو تبين أخطاء حزب بل كانت تشير بمرارة إلى أخطاء أفراد وقد تركت لنا نحن القراء فرصة النقد والتعجب فأيّ قارئ يطالع الرّواية يمكن أن يستنكر عمل الحزب الشيوعي إرسال زوج الكاتبة إلى كردستان ليقاتل وهو أب لطفل في الوقت نفسه يشكو من داء الشقيقة! نعم الكاتبة لم تستنكر أو تفضح بل وهبت مساحة واسعة للقرّاء أن يستنكروا ويستهجنوا!

أو يتعاطفوا معها...

هذا مثل واضح وما دمنا بصدد المقارنة بين (لن يمروا) و(بين غربتين) فالأجدر أن نشير إلى مسألة الدين : في بداية رواية (لن يمروا) هاجمت الكاتبة الإسبانية (دوروس إيباروري) الدين والراهبات  مثلما هاجمت الحزب الاشتراكي وكلّ من يختلف معها في الرأي، وقد لفت نظري أن السيدة الراعي تطرقت إلى موضوع الدين في روايتها بشكل واضح وصريح إذ نقلت الجانب الإيجابي في الدين حيث تحدثت عن  امرأة شيوعية تقسم بالله العلي العظيم، وعن أبيها الذي يأخذهم لزيارة الحسين واهتمامه بعاشوراء والتغني بمجد الحسين وكتابته الشعر الذي يخص ثورة الحسين ويهاجم السلطة. إذ لم تر الكاتبة في الدين معممين يسرقون الناس ويكذبون إنّما رأت فيه نقاء وسموا وتطهيرا للنفس، وهو الموروث الذي حملناه في نفوسنا من آبائنا الطيبين وأمّهاتنا الصابرات.

ولا أدري لماذا حين قرأت الرواية تذكّرت مذكّرات الرئيس المصري الراحل (محمد أنوار السادات) (وطني حياتي) التي قرأتها في الدنمارك قبل أكثر من ثلاثين عاما وأدهشني فيها الكذب الواضح السادات يقول إنّه تعلّم اللغة الألمانيّة في السجن وعندما زار ألمانيا كان يتحدّث الألمانية أفضل من بعض الألمان، وذكرت المؤلفة بكل تواضع أنّها دخلت بلغاريا وهي لا تعرف اللغة!!

ففي مسألة الصدق والكذب تتجلّى شخصيّة السادات الانتهازيّة حيث انضمّ إلى حركة الضباط الأحرار وهو لا يؤمن بالوحدة العربيّة ولا التأميم ولا تحرير فلسطين وعندما حكم ألغى كلّ منجزات الثورة المصريّة أمّا الذي أعجبني في رواية بين غربتين فهو إن الكاتبة كانت صريحة صادقة في تعاملها مع الأحداث لا تكذب ولا تغالط وتؤمن ومازالت تؤمن بفكرة اعتنقتها من دون أن ترسم حول نفسها هالة من المبالغة والتزوير.

بعيدا عن الوقفات السابقة التي يمكن أن تكون مدخلا لفهم الأفكار الرئيسية فإننا نستطيع عن أن نسلّط الضوء على محاور مهمّة مثل المكان والشّخصيّة.

قضيّة المكان:

تطالعنا أربعة أمكنة مهمّة في رواية بين غربتين هي النجف وبغداد وبلغاريا واليمن الجنوبيّ.

النجف:

هو المكان الأساس الذي ولدت فيه الروائيّة والنجف يمثل قيمة حضاريّة وروحية وثقافية عالية، له هيبة في نفس البطلة، وعلى الرغم من أنها تعتنق الفكر الشيوعي الذي يؤمن بأقدمية الوجود نرى الكاتبة تبرز مكانة النجف في كون الشيوعيين أنفسهم مثل أبيها الشاعر العامل ينطلقون من مأساة الحسين فيندفعون في المواكب والمناسبات الدينية ليحاربوا السلطة الظالمة. إنّ المكان الديني نفسه زرع قيمه الدينية والثقافية في روح الروائية فلم تنظر إليه نظرة سلبية قط.

بغداد:

يمكن أن نعدها مدينة العمل والدراسة ايضًا، فإذا كانت النجف مدينة العلم والثقافة والدراسة فاختيار بغداد للإقامة من قبل والديها جاء لعاملين أساسيين هما العمل والدراسة، استنادًا الى تطبيق الفكر الماركسي من لا يعمل لا يأكل، وإكمال الدراسة هو امتداد للنجف أي في بغداد تلاقح النظريّ بالعمليّ لكن مع ذلك قد تكون النجف مكانا غير آمن، كما في مشهد اعتقال الأب أو مطاردة القريب سلام عادل..

 حين بدأت تعمل وتدرس مساء، كادت تتعرض للاغتصاب أو الاعتداء حين عادت ذات ليلة من الجامعة فداهمتها في الشارع المظلم شلّة من الشباب العبثيين. في بغداد العاصمة انتُهِك الأمان المألوف والصفاء الروحي والدعة.

اليمن

قد تكون اليمن الجنوبي ملاذا آمنا في الظّاهر أمّا الواقع فيوحي بمعنى آخر. فبعد وصولهم تم توزيعهم لاعتبارات المحسوبية المتعلقة بمدى قربهم وتملقهم لمسؤولي المنظمة الحزبية.. فالبعض أبقي للعمل في العاصمة، والبعض الاخر، وكانت هي وزوجها منهم، تم ارسالهم الى مناطق بعيدة عن العاصمة. كما عملت المنظمة على تكليف زوج الكاتبة للانضمام لقوات الحزب الشيوعيّ في كردستان والذي قتل هناك. لقد صوّرت الكاتبة المشهد بأحاسيس صادقة وتركت للقارئ الحريّة في أن يلوم المتسبب في المأساة؟ (تذكرني اليمن الجنوبي بقصة قصيرة كتبها قاص عراقي ونشرها في مجلّة الاغتراب الأدبي التي أصدرها الدكتور صلاح نيازي في لندن) وهو عن عسكريّ عراقي يراقب يمنيًا يستدرج شابة عراقية لفخ. والجنرال العراقي اللاجئ يرسم الخطط ويأمر جنوده بالتقدم لإنقاذ الفتاة لكنّ الوقت لا يسعفه)

بلغاريا:

الكاتبة هي وزوجها وطفلها انتزعوا انتزاعا بقرار من منظمة الحزب الشيوعي العراقي من بلغاريا أرض الأمان الأولى التي على ما يبدو كانت تؤوي اللاجئين الشيوعيين في فنادق مثلما تفعل بريطانيا لم يكونوا منعزلين بل يسكن معهم بعض البلغار مع ذلك تشعر الكاتبة بصفتها لاجئة أن لا ديمومة في هذا المكان بعد أن تغامر وتترك بغداد هربا من البطش تجد كلّ شيء باردا وغريبا عنها لا تقصد البلغار بل العراقيين أنفسهم. الفندق أو القلعة التي تحميها تشعرها باليأس ثمّ تأتي رياح ناعمة تقتلعها منها، فتحدث مأساة مصرع زوجها لتعود ثانية إلى بلغاريا بنفسية أخرى ومسؤولية كبيرة هي تربية طفلها اليتيم.

البطلة والشخصيات الثانوية:

المتمعن في شخصية البطلة التي تحدثت عنها الساردة بضمير الغائب(هي) يجد أن كلّ الصفات تنطبق على كاتبة الرواية، فالمؤلفة  لم تختر الضمير هي من باب التواضع بل من باب التشويق  ورسم مساحة أوسع للشخصيات الأخرى، إنّ أولى صفات البطلة هي الثقافة وقد اكتسبتها من بيئة البيت والأقارب بيئة النجف الدينية الثقافية الواسعة فالمجتمع الذي يحيط بالبطلة منفتح ومنغلق في الوقت نفسه، ومن خلال ثقافة البطلة  نكتشف الصفة الثانية ألا وهي الصبر والقدرة على استيعاب الصّدمة، والتحمل ولنا أمثلة كثيرة في هذا الشّأن منها تحملها الصدمة حين تعبت وغامرت وخاطرت بنفسها  واكتشفت فيما بعد أنّ زوجها لم يكلف نفسه لاستقبالها في المطار، وتجاوزت عن إهانة المسؤول الحزبي لها حين دخلت عليهما هو وزوجها في المطبخ، وتمثلت قدرة التجاهل عندها أمام حماها شقيق زوجها الذي زارهما فتحدث بألغاز واضحة قبيحة عن الابن والأم وتفضيل عائلة أخيه على عائلة الزوجة! وتجلّت قدرة التحمّل عند البطلة يوم علمت باستشهاد زوجها في كردستان لتطلب من رفيقاتها أن يخرجن فتحتضن ابنها الصغير بإشارة إلى أنّها أصبحت المسؤولة الوحيدة عن المستقبل، ولا أظنّ بطلة الرواية ضعفت قطّ أمام أي تهديد أو استفزاز ولا تراجعت عن مواقفها حقّا إنّها كانت تشعر بغربة عن الرفاق المحيطين بها والرفيقات فهي في واد وهم في واد آخر ولا مجال أماها سوى أن تغضّ الطرف أو تتجاهل ما تراه غير مناسب وغير واقعي ولا تصطدم مباشرة ولا تنفعل.

ولعلنا نجد في الرواية نساء قوّيات النفوذ والشّخصيّة مثل الأم، أم البطلة، التي حالت دون مداهمة الشرطة لمنزلهم، مصرة على تفتيشهم قبل السماح لهم بالدخول إلى درجة أن الضابط المسؤول أبدى إعجابه بشجاعتها.. في حين نجد نساء سلبيات مثل صديقة البطلة التي تعشق عاملا متزوّجا وتمنحه نفسها باندفاع بعيد عن التخطيط.

البطل

البطل هو الزوج، شخصيّة سلبية إلى أبعد الحدود، مريض، بارد لا تحرِّكه  الأحداث يتغاضى عن أيّة إهانة تخص زوجته سواء من الرفاق أم من أهله، ومن يتتبع شخصيّته يجد أنّه لا يختلف عن الروبوت، يتحرك بأحاسيس باردة لا يعارض ولا يناقش ولا ينفعل وليس بحاجة إلى أن يتفاعل، يطلب من زوجته الرقص مع مدير المعهد وهو يعلم انها يجب ان ترعى طفلها دون ان يفكر هو في مراقصها، وعلى الرغم من مرضه -الشقيقة- إلا أنّه ينصاع  للأمر الحزبي فيذهب للقتال في كردستان، والظواهر السلبية التي رافقت البطل ليست جديدة عليه بسبب هجرته إلى بلغاريا إنّها عميقة الجذور أبرزها يوم طلبت منه زوجته أن يرافقها ليلا بعد أن تعود من الجامعة حتى يخفّ قلقها وخوفها من وحشة الطريق والمشاكسات التي تتعرض لها ومما يثير الدهشة أنّه رفض العرض حتى بعد حادث الاعتداء وتدخل سائق شاحنة لإنقاذ الزوجة، فهل أرادت الكاتبة أن تقول إنّه عديم الغيرة مع العلم أن قبوله القتال في كردستان ومصرعه يثبتان أنّه غير جبان على الأقل.

ونميل إلى الظنّ أنّ سلبية البطل زوج الكاتبة تختلف من حيث الجوهر مع سلبية بعض الشخصيات ومنها شخصية العم الذي يفرّق بين ابناء زوجته الأولى وأبناء أخيه المتوفى فيأمرهم بالعمل ليسدّوا رمقهم، وتختلف عن شخصيّة الشّاب الطائش شقيق الفتاة منتهكة العرض الذي يحمل سكينا يهدد بها وفي الأخير يحضر لاستلام الجنين المتوفّى بعد إجهاض أخته ليدفنه. هاتان الشّخصيتان لم تؤد بهما السلبيّة إلى أن يصبحا إنسانين آليين أما مشكلة البطل الحقيقية ففي كونه تحوّل من حيث يدري أو لا يدري إلى آلة _روبوت_ وكأنّه واقع تحت تأثير تنويم مغناطيسي لا يرغب في أن يصحوَ منه.

بالمقابل نجد هناك شخصيّات ثانوية تفاعلت بإيجاب مع مجتمعها، وأبرزها شخصيّة قريب البطلة سكرتير اللجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي سلام عادل. لقد تحدثت عنه المؤلفة بوصف جميل وأوردت بعضا من سيرته المذهلة ونشاطه ومقدرته على التخفي، بشكل ينال إعجاب القاري، وكذلك شخصيّة الأب الذي ينظم الشعر الحسيني وينتقد السلطة ولا يتراجع عن موقفة.

هذا مجمل ما أردت أن أوضحه بشأن رواية بين غربتين، وهي رواية جمعت بين السيرة والمذكرات والسرد الروائي، في تركيبة جعلتها تندرج ضمن الرواية كتبتها المؤلفة السيدة سعاد الراعي بأسلوب رشيق رصين لم تسقط فيه بالمباشرة حيث نقلت بعضا من سيرتها ووازنتها ببعض من سيرة الحزب الشيوعي العراقي، وسيرة حياة سلام عادل ومجموعة من الرفاق ولم تغفل بعض المذكرات، فاندمجت تلك الألوان الخصبة المتحركة ببوتقة واحدة يمكن أن نطلق عليها وصف (رواية)، وهو وصف تستحقه بلا شكّ.

***

قصي الشيخ عسكر

قراءة تمزج بين الهيرمينوطيقيّة التأويليّة، والتحليل الأسلوبي، والرمزي

من الجدير بالذكر ان قصيدة (الحجازي) للشاعر السوداني محمد عبد الباري تفرض غلينا أن نلقي عليها إضاءة للبُنى النفسيّة (التحليل الأركيتيبيّ/اليونغيّ) التي تتحرّك تحت نصّ كتب بلغةِ باذخة “الحجازيّ” لمحمد عبد الباري.

- تمهيد: أطروحة القراءة:

تتمحور القصيدة حول “أنا” شعرية تتخلّق في فضاء كونيّ دينيّ ـ أسطوريّ، تُجرِّبُ الهبوطَ والصعود، الدورانَ والانشقاق، لتصوغ لنفسها مقامًا بين اللغة والوجود، وبين التاريخ والقداسة. “الحجازيّ” هنا ليس وصفاً جغرافياً بل اسماً لرحلة: من ماء البدء إلى نار القرابين، ومن “يثرب البدايات” إلى “غرناطة وبخارى”؛ أي من أصل النبوّة إلى أطراف الحضارة. الأطروحة: يبني الشاعر ذاتًا كونيةً بتقنية “التديّن الشعري” التي تُزاوج بين تناصٍّ كتابيّ (توراتي/إنجيلي/قرآني) ورؤيا يونغيّة للأركيتايب (البطل، الهادي، الجبل، الكأس، الدوران)، فيما تتولّى اللغة ـ بوصفها “وجوداً ” ـ القيام بوظيفة الخلق ثانياً.

أولًا: منهج القراءة:

1. هيرمينوطيقا المعنى المتولِّد: نفهم الأقسام الثلاثة للقصيدة بوصفها دوراتٍ في “دائرة الفهم”حول ماكتبه الفيلسوف الألماني (هانز جورج غادامير): سؤالٌ كونيّ، جوابٌ أسطوريّ/دينيّ، ثم ارتدادٌ وجوديّ على شروط المعنى والحرّية.

2. أسلوبيّات الأداء: رصد البنية الإيقاعيّة/القافية، الحقول المعجميّة (العناصر الأربعة، الزمن الكوني، أسماء القداسة)، والتوازي التركيبي.

3. الرمز والأركيتايب: تحليل عناصر الماء/التراب/النار/الهواء (باشلار)، ورموز الكأس والجبل والدوران و”حارس الفتوحات”، مع استراتيجيات “التشاكل” بين التجربة الفردية والذاكرة الجمعية.

4. نفس-رمزي (يونغ/ريكور): الأنا الأسطوريّة، الاستعارة الحيّة كمولّد للهوية.

ثانياً: المعمار العام للنص:

القصيدة مؤلَّفة من ثلاثة مقاطع تفصلها علامتا ***. لكلّ مقطع وظيفة:

- المقطع الأول: كوسموغونيا شعرية (سرد خلقٍ شخصيّ)، يقول:

 “كنتُ ماءً… قبل أن تصبح البحار بحارا”

تظهر الأنا قبل الكون المتعيّن: ماء/دوار/هبوط/جبل/برق/كأس. هذه جميعًا “سلالم للظهور”. يتقدّم المشهد عبر أفعال صيرورة (تجذّرتُ، قمتُ، جرّبتُ، دُرتُ)، وصولًا إلى:

“وتدرجتُ في المصابيح حتى رشحتني لكي أكون النهارا”

وهو إعلانُ اصطفاء عرفانيّ (تحوّل إلى ضياء).

- المقطع الثاني: كتابة القداسة في جسد التاريخ.يقول عبد الباري:

 “يومَ تاب (اللاويّ)… في (العشاء الأخيرِ)… ثم دوّيتُ في الحجاز”

التناصّ الكتابيّ (اللاوي/العشاء الأخير) يلتقي بالنبوّيّ الإسلاميّ (الحجاز/يثرب). تُعاد كتابة الجغرافيا الروحية بوصفها انتشارًا للروح:

“منكِ يا يثربَ البدايات حتى غربِ غرناطةٍ وشرقِ بخارى”

فتُصبح الأنا “قنطرة” بين أصولٍ وأطراف، بين وحيٍ وتاريخ حضاري.

المقطع الثالث: ميثاق الحرّية والكشف:

تتحوّل الأنا إلى مشرّعٍ لشروط الحبّ/المعرفة والحرّية عبر سلسلة نفي شرطية “لستَ… لستِ…”. إنّه “قانون الكشف” الذي يرفض الوصال الناقص، يقول:

 “لستِ حريّتي إذا لم تكوني ضدّ أن تألفَ النجومُ المدارا”

إنها حرّية تُقاوم الألفة الكسولة للمدار.

ثالثاً: تحليل هيرمينوطيقي مفصّل:

1) سؤال الأصل: الماء/الهبوط/الجبل

- الماء: بداية الوجود وعمق اللاوعي (“كنتُ ماءً”). عند باشلار، الماء أصلُ الأحلام ونبع المخيّلة؛ وهنا هو “دوّار” يسبق نظام البحار.

- الهبوط، يقول:

 “يوم أهبطتُ لم يلح لي طريقٌ فتجذّرتُ في مكاني انتظارا”

هبوطٌ بلا دليل يفضي إلى تجذّر: تأويلياً، يشتغل الانتظار بوصفه صورةً مُؤسِّسةٍ للمعنى (الانتظار شرطُ الوحي).

- الجبل، يقول:

 “للجبال أشارا… قلتُ فلأرتفع إليها غموضًا وصلاةً وحكمةً”

الجبل أركيتيب “العلوّ المعرفي”، والمفارقة أنّ الارتفاع يتمّ عبر “غموض وصلاة”؛ أي طريق باطنيّ لا برهانيّ.

- 2) الدوران وحارس الفتوحات: ابتلاء الشكل الكوني:

- الدوران، يقول:

 “كم على الطين أن يدور إذا ما شاء أن يمسك المياه جرارا؟”

سؤال حارس الفتوحات يعرّف قانون الوجود: على الطين أن يتقن شكلَه (الجرّة) ليحفظ الماء. مجازًا: على الإنسان أن يجد هيئةً رمزية تحفظ المعنى.

- الحارس: أركيتيب “الشيخ/المُرشد” الذي يقدّم لغزًا تربويًا؛ والحلّ يأتي بالفعل، يقول الشاعر محمد عبد الباري:

 “درتُ حتى لم يبق في الأرض شيءٌ يشتهي أن يكون إلا ودارا”

تتخلّق كونيّة الأنا بالدوران الشامل (سعيٌ صوفيّ لإحاطة الوجود).

- 3) التجلّي: من المصابيح إلى النهار

- الضوء يتدرّج (مصابيح ← نهار): تسلّق رمزي من المعرفة الجزئيّة إلى الكشف الكلّي. هنا يعملُ قانون “الاستعارة الحيّة” (ريكور): النور لا يُخبر فحسب، بل يُنجز وجودًا لغويًا جديدًا للذات.

- 4) كتابة القداسة عبر التناصّ:

(اللاويّ/العشاء الأخير): استدعاء التوراتي/الإنجيلي يُشيّد جسرًا مع الإسلاميّ (الحجاز/يثرب). هذا توحيدٌ سرديٌّ للأديان تحت لاهوت شعريّ تُديره “أنا” متضخّمة كونياً، يقول:

 “إنني الأوّل… السلالات كلّها فيّ… ولدتُ مرارًا”

الولادات المتكرّرة هنا تناسخٌ مجازيّ لا ميتافيزيقيّ: إعادةُ ميلاد المعنى في أزمنة متعددة.

- 5) الجغرافيا الروحية: من يثرب إلى بخارى/غرناطة:

- خطٌّ روحيّ يربط مهد الإسلام بعتبات التصوّف والفقه (بخارى)، وذاكرة الأندلس (غرناطة). إنها خرائط للروح تُوسّع الحجاز إلى كوسمولوجيا.

- 6) اللغة كوجود، يقول:

 “لغتي كانت الوجود تمامًا استدارت حيث الوجود استدارا”

اللغة لا تصف الوجود بل تلتفّ معه؛ لذلك تفيض الصورة: “لم أقل مرة هو الغيم إلّا فتحت نفسها السماء انهمارا”. الاستعارة هنا فاعلة: الكلمة تُحدث أثرًا كونياً.

- 7) الحجارة السود… جداراً:

 “ورأيتُ الحجارة السود وافى بعضُها البعضَ ثم قامت جدارا”

صورة تشي بالحرم/الحجر الأسود أو الكعبة بإيحاء شديد التحفّظ؛ التجمّع الحجريّ ينهض جدارًا من قداسةٍ مشتركة، أي إن المعنى جمعيةُ حجارة لا حجرٌ واحد.

- 8) ميثاق الحرية والنفي الشرطيّ:

- القسم الثالث سلسلةُ شر

***

بقلم: عماد خالد رحمة - برلين

أدَبُ الرُّعْبِ هُوَ نَوْعٌ أدبيٌّ يَهْدِفُ بواسطة مَجموعة مِنَ الأحداثِ المُتشابِكةِ والمَواضيعِ المُثيرةِ وَالمُفَاجآتِ الصَّادمةِ، إلى إثارةِ مَشاعرِ الخَوْفِ والرَّهْبَةِ لَدَى القارئِ مِنْ خِلال قِصَص عَن الأشباحِ، أوْ مَصَّاصِي الدِّمَاءِ، أو الكائناتِ الغريبة، أو العناصر الخارقة للطبيعة، أو القُوى الشِّريرة، أو الأحداث العنيفة المُرَوِّعَة، أو الشَّخصيات الشَّاذَّة.

وأدبُ الرُّعْبِ مُرتبطٌ بالنَّوَاحي النَّفْسِيَّةِ في الإنسانِ، لذلك يَعْتمد على التَّشويقِ والغُموضِ، لجعلِ القارئِ في حالةِ قَلَقٍ دائمٍ، وَتَرَقُّبٍ لِمَا سَيَحْدُث. كما أنَّه يَستكشف الجوانبَ المُظْلِمَةَ في النَّفْسِ البشرية، مِثْل : الشَّر، والفَسَاد، والخَوْف مِنَ المَجهول، ويَتلاعب بِمَشاعرِ القارئِ وأحاسيسِه، حَيْثُ تَتِمُّ إثارتُه عاطفيًّا بتوظيفِ الأحداثِ المُشَوِّقَةِ والمُرْعِبَةِ في القِصَّة، ويُركِّز عَلى إثارةِ الخَوْفِ وَبَثِّ الرُّعْبِ عَنْ طَريقِ استكشافِ العُقَدِ والمُشكلاتِ النَّفْسِيَّةِ للشَّخصياتِ، مِثْل: الجُنون، والقَلَق، والاكتئاب، والوَسْوَاس، كما يُركِّز عَلى الخَوْفِ مِنَ الكائناتِ غَيْرِ البشرية والأمورِ الغامضةِ التي تتَجاوز فَهْمَ الإنسانِ ضِمْن أجواء مُظْلِمَة وأماكن مَهْجُورة.

إنَّ البُنية النَّفْسِيَّة في أدَبِ الرُّعْبِ تَقُومُ عَلى حقيقة مُفَادها أنَّ شُعورَ الخَوْفِ مِنَ المَجهولِ رَاسِخٌ في الإنسانِ فِطْرِيًّا، وَمُتَجَذِّرٌ فِيه غَريزيًّا، وثابتٌ في عَقْلِه وتَفْكيرِه وأعماقِه. وهَذا الخَوْفُ قَدْ يَدْفعه إلى التَّعَلُّقِ بالأوهامِ والخَيَالاتِ وَالحِرْصِ عَلى مَعرفةِ الغَيْبِ، وَالغَريقُ يَتَعَلَّقُ بِقَشَّةٍ.

وَأدَبُ الرُّعْبِ فَقَدَ هُوِيَّتَه معَ مُرورِ الزَّمَنِ، وَتَحَوَّلَ مِنْ إشاعةِ أجواءِ الخَوْفِ والتَّوَتُّرِ خِلال الأحداث التي يُواجهها أبطالُ أيِّ عَمَلٍ، إلى الاعتمادِ عَلى المَشاهدِ العنيفة، مِنْ قَتْلٍ، واختطافٍ، وَتعذيبٍ، وإراقةِ دِمَاء، واغتصابٍ بطريقة وَحْشِيَّة، وَتَنْكِيلٍ بالجُثَثِ، وغَيْر ذلك.

وَقَدْ عَزَّزَ هَذا التَّحَوُّلَ الناشرون الطامحون إلى تحقيق أعلى المَبيعات، وَجَنْيِ الأموالِ الطائلة، وَصُنَّاعُ السِّينما المُتَخَصِّصُون في أفلامِ الرُّعْبِ، والذينَ يَسْتَغِلُّونَ الإضاءةَ الغريبةَ، والمُؤثِّراتِ الصَّوتية غَيْر الطبيعية والمُبَالَغ فِيها، لإثارةِ الخَوْفِ والفَزَعِ عِندَ المُشَاهِدِين. والسِّينما تَجْعَلُ المُستحيلَ يَحْدُثُ أمامَ عُيونِنا، وَهِيَ قادرةٌ على تَحويلِ الكَلامِ والحِوَارِ إلى خَيَالاتٍ بَصَرِيَّة، وَتَقْدِيمِها بشكلٍ مُثير للاهتمام، لِتَحقيقِ المُتعةِ أوْ تَكريسِ الخَوْفِ.

يُعْتَبَر الكاتبُ الأمريكيُّ ستيفن كينغ (وُلِدَ 1947) أعظم رِوائي في مجالِ أدَبِ الرُّعْبِ في التاريخِ عَلى الإطلاقِ. يُلَقَّبُ بـِ " مَلِك الرُّعْب "، وَهُوَ الكاتبُ الذي مَلَأَ السِّينما رُعْبًا. وَقَدْ وُصِفَ بأنَّه " الأيقونة الأدبية الحَيَّة الأُولَى للرُّعْبِ، والكاتب الذي كانَ لَهُ دَوْرٌ في تَشكيلِ كَوابيسِنا ".

اشْتُهِرَ برواياتِه التي تَتَمَيَّزُ بإثارةِ الرُّعْبِ، والتَّشويقِ العميق.وأصبحَ عَلَامَةً فارقةً في هَذا النَّوْعِ الأدبيِّ، حَيْثُ جَذَبَ مَلايين القُرَّاء إلى عَوالمِه المُخِيفة.

أوَّل قصة قصيرة باعها كينغ لإحدى المجلات، كانت " الأرض الزُّجاجية " في عام 1967، لكنَّ أول رواية كتبها كانت " كاري "، والتي تَتَحَدَّث عَنْ فَتاة غريبة الأطوار تَمتلك قُدرةً عَلى تَحريك الأجسام عَنْ بُعْد. وكان يكتب هذه الرواية كوسيلة لقتل وقت الفراغ لَدَيْه، ولكنْ حِينَ عَرَضَها على إحدى دُور النشر في ربيع 1973 قامت الدار بنشرها على الفَوْر، وأمام آراء النُّقَّاد المُنبهرة بهذه الرواية، عَرَضَ عَلَيْه مُديرُ تحرير الدار تَرْكَ مِهنته في الجامعة كَمُدَرِّس، والتَّفَرُّغَ للكِتابة تمامًا.

بَدَأت الصُّعُوباتُ في مُطاردة كينغ، إذ اضْطُرَّ للانتقال بعائلته إلى جنوب " مين " (وِلاية تَقَع في أقصى شَمال مَنطقة نيوإنغلاند في شَمال شرق الولايات المُتَّحدة)، بَعْدَ أنْ أُصِيبتْ والدتُه بالسَّرَطَان، وظَلَّ يَرْاعاها طِيلة النهار، بَيْنَما كان يَقْضِي الليلَ في غُرفة صغيرة في جراج المَنزل، يكتب روايته الثانية التي أسْمَاها " العودة الثانية" قَبْل أنْ يُقَرِّر تغييرَ اسْمِها إلى" حشد سالم "، وفيها يَحْكي عَنْ قَرية مِنْ مَصَّاصي الدِّمَاءِ يَقُوم بزيارتها رَجُلٌ وَطِفْلُه الوحيد. وحين انتهت الرِّوايةُ تُوُفِّيَتْ والدتُه، فعاد كينغ ينتقل بعائلته، وعادَ لِتَفَرُّغِه التام للكتابة، لِينتهيَ في أوائل 1975 مِنْ رِوَايَتَي " الصُّمود "، و " مَنطقة المَوْت ". أخذتْ رِواياتُ كينغ تتلاحق بِغَزارة غَيْرِ مَسبوقة،  وَهِيَ رِوايات مِنَ القَطْعِ الكبير، ولا يَقِلُّ عَدَدُ صَفَحَاتِ الرِّواية عن 700 صفحة.

كتب كينغ رواية " البريق " (1980) والتي تَتَحَدَّث عن كاتب مجنون يَقْضِي الشِّتَاءَ مَعَ عائلته في فندق مهجور، ثُمَّ رِواية " كريستين " التي تتحدث عن سيارة مَسْكُونة، ثُمَّ بَدَأ في جَمْعِ قِصَصِه القصيرة لِيُنشرها في مجموعات قصصية مِنْ أشهرها " وردية الليل "، ثُمَّ " أربع دقائق بعد مُنتصَف الليل ". وَتَجَاوَزَتْ مَبيعاتُ كُتُبِه حَوْلَ العَالَمِ أكثرَ مِنْ 350 مَلْيُون نُسْخَة، وَتُرْجِمَتْ إلى جَمِيعِ اللغاتِ الحَيَّةِ.

وَقِصَصُ كينغ تَتَضَمَّن شخصيات غَيْر مُتَمَيِّزة، كعائلاتِ الطَّبَقَةِ الوُسطى، أوْ أطفال، أوْ في الكثير مِنَ الأحيان مُؤلِّفين. شَخصياتُ قِصَصِهِ مُنخرِطة في الحَياة اليومية، لَكِنَّ مُؤثِّرات وَتَدَخُّلات فَوْقَ طبيعية وظُروف غَيْر عاديَّة، تَقُوم بِتَحويلِ مَسَارِ حَيَاتِهِم، وَتَشْكِيلِ أحداثِ القِصَّةِ الدِّرَامِيَّة.

***

إبراهيم أبو عواد / كاتب من الأردن

يحيى السماوي

تُعدّ الومضة الشعرية فضاءً مكثّفًا تجمع بين الإيحاء والتكثيف، حيث تمتزج الأبعاد النفسية والوجدانية مع الأفقين الفلسفي والوطني، ضمن بنية نصية متماسكة وثراء سيميائي متقن. في نصوص الشاعر الكبير يحيى السماوي، يصبح الألم علامة وجودية تتخطى حدود الإحساس الفردي لتُظهر روحًا نابضة بالحياة، عميقة الالتصاق بالعالم المحيط بها. من رحم هذا الألم، يتولد العشق بوصفه قيمة أزلية مقاومة للفناء، تتجاوز حدود زوال الجسد وافتقاد العاشق والمعشوق.

أما من الناحية النصية، فتتجلى براعة السماوي في بناء نص تصاعدي يعتمد على آليات الانزياح الدلالي والرمزية الدقيقة، حيث تتداخل تأملات حول معنى الحياة والموت مع القيم الوطنية والانتماء والذاكرة الجماعية. من هنا، يتحول الوجدان الفردي إلى انعكاس لحالة جمعية مشتركة، بينما تصبح البنية السيميائية أداة فعالة لفك رموز النص واستيعاب أعماقه.

بهذه الطريقة يفتح النص الباب أمام قراءات متعددة وتأويلات متنوعة تنبثق من تكامل الأبعاد البنيوية والسيميائية والنفسية والفلسفية والوطنية فيه، مما يُضفي عليه طاقة دلالية قوية وقدرة على تجاوز زمنه الآني نحو أفق إنساني أوسع وأشمل.

نص الومضة

أنـا أتـألَّـم؟

إذنْ:

أنـا حـيٌّ أُرزق ..

*

مـسـاكـيـنُ الـمـوتـى

فـهـم لا يـتـألـمـون!

*

يموتُ العاشقُ والمعشوقُ

ويبقى العشق ..

تفسير الأبيات

1- أنا أتألّم؟ إذن: أنا حيٌّ أُرزق..

الألم هنا ليس مجرد تجربة جسدية، بل علامة على استمرار الحياة والقدرة على التفاعل. في البعد الوطني، يعني ذلك أن الإحساس بجراح الوطن دليل على الانتماء النابض، فالذي يتألم من أجل وطنه يثبت أنه ما زال حاضرًا في صفوف الأحياء الفاعلين.

2- مساكينُ الموتى فهم لا يتألمون!

تبدو كلمة مساكين للوهلة الأولى شفقة ظاهرية، لكنها تنطوي على مفارقة: الموتى حُرموا من الإحساس، وبالتالي من المشاركة في قضايا الوطن. ويمكن أن يُقصد بالموتى هنا من فقدوا الإحساس الوطني رغم بقائهم أحياء، أو الذين رحلوا بعد أن أدوا رسالتهم. في الحالتين، يتحوّل الألم إلى امتياز للأحياء، لأنه يثبت بقاء النبض والرسالة.

3- يموت العاشقُ والمعشوقُ ويبقى العشق

يصل النص إلى ذروته في تثبيت فكرة الخلود: العاشق (المناضل) قد يموت، والمعشوق (الوطن) قد يتعرض للتشويه أو الاحتلال، لكن العشق ذاته — أي الحب الوطني — يظل خالدًا، يتوارثه الناس جيلاً بعد جيل. هكذا يصبح العشق قيمة أبدية تتجاوز حدود الأجساد والزمن..

المقاربة الفلسفية بين الومضة وفلسفة سارتر

تلتقي ومضة يحيى السماوي مع الفلسفة الوجودية عند سارتر في عدد من المحاور الجوهرية، مع بقاء خصوصية الرؤية الشعرية واضحة:

1- الألم والحياة

- في النص كما في الفلسفة السارترية، يُعدّ الألم علامة على الوجود الواعي وقدرة الإنسان على التفاعل مع ذاته والعالم.

- الألم عند السماوي يتجاوز الإحساس الفردي ليصبح دليلاً على حياة الانتماء الوطني وفاعليته.

2- الموت وانقطاع المعنى

- كلاهما يرى أن الموت يمثل توقف الفاعلية الإنسانية وانطفاء القدرة على المشاركة في صياغة المعنى.

- في النص، يُطرح الموت كحالة فقدان الإحساس، سواء بيولوجيًا أو معنويًا (فقدان الحس الوطني).

3- الخلود والمعنى بعد الموت

- يمنح الشاعر للعشق الوطني بعدًا خالدًا، إذ يبقى الحب للوطن حيًا ما دام هناك أحياء يتألمون ويحملون الرسالة.

- عند سارتر، استمرار الإنسان بعد موته مشروط بالأثر والمشروع الذي يتركه في العالم أو في وعي الآخرين، من دون افتراض خلود مطلق.

الفرق الجوهري

- الخلود في النص قيمة وجدانية جمعية مرتبطة بالأحياء وبالهوية الوطنية.

- أما في فلسفة سارتر، فهو مفهوم فردي يرتبط بامتداد الأثر في الآخرين، وليس بخلود عاطفي أو قيمي خارج إطار الزمن.

الربط بين النص والمنهجية التكاملية

تكشف القراءة التحليلية أنّ النص الشعري لا يُقارب على مستوى واحد، بل تتداخل فيه الأبعاد البنيوية، السيميائية، والنفسية، والرمزية–الوطنية، مما يجعل المنهجية التكاملية الأداة الأكثر فاعلية لفهمه.

1- البنية التصاعدية للمعنى

- يبدأ من تثبيت قيمة الحياة عبر الألم.

- يمرّ بالمفارقة مع الموت.

- ينتهي إلى الخلود الرمزي للعشق.

تعزّز هذه البنية العلاقات البنيوية (السببية والاستنتاجية) والإيقاع الداخلي الموحّد.

2- التحليل السيميائي

- المؤشّرات: الألم/غياب الألم لتحديد موقع الذات من الوجود.

- الأيقونات: العاشق/المعشوق بتمثيل إنساني عام.

- الرموز: الألم، الموت، العشق كجسور نحو المعنى الفلسفي–الوطني.

3- المستوى النفسي

يتحوّل الألم إلى وعي وجودي، والموت إلى صورة للانقطاع، والعشق إلى طاقة وجدانية قادرة على تجاوز الفناء، مما يعكس دينامية بين الشعور الفردي والانتماء الجمعي.

4. البعد الرمزي–الوطني

يتحوّل العشق إلى حب الوطن الذي يستمر في الذاكرة الجمعية رغم رحيل الأفراد، فتظل الراية مرفوعة.

5. الخلاصة

تُبرز المنهجية التكاملية قدرتها على توحيد البنية الشكلية والدلالية الرمزية، والمعنى النفسي والبعد الفلسفي–الوطني، لتقدّم فهمًا أشمل وأعمق للنص.

الانزياحات الدلالية والاستعارات

يعتمد النص على انزياحات دلالية تُعيد تشكيل شبكة القيم، إذ يُستبدل المعنى الشائع للألم — بوصفه معاناة — بمعنى وجودي يؤكّد حيوية الذات. ويُعاد تعريف الموت، لا كفناء بيولوجي، بل كغياب للإحساس، فيما يغادر العشق دلالته الغزلية ليصبح قيمة رمزية ذات بعد وطني خالد. وتتكامل هذه الانزياحات مع استعارات بنيوية؛ فالعاشق والمعشوق يتحوّلان إلى أيقونات تمثّل كل مَن قدّم ذاته في سبيل قيمة كبرى، والعشق إلى استعارة كبرى للوطن في وعي جمعي يتجاوز الأفراد.

الخاتمة

بُنيت القراءة وفق المنهجية التكاملية على تحليل النص الشعري، موضوع الدراسة، بوصفه هيكلاً مركباً تتداخل فيه المستويات البنيوية، السيميائية، الدلالية، النفسية، والرمزية ذات الطابع الوطني. وقد أفضى هذا التداخل إلى إعادة صياغة التجربة الفردية للألم والعشق ضمن أفق فلسفي وإنساني شامل. تُظهر البنية النصية نظاماً منطقياً تصعيدياً يمزج بين تثبيت قيمة الحياة عبر الألم، ومقارنة جدلية مع الموت، وصولاً إلى تأطير العشق في سياق خلود قيمي.

كما أسفر التحليل السيميائي عن الكشف عن العلاقات المعقدة للعلامات التي تؤسس بنية المعنى في النص، فيما أوضح الانزياح الدلالي واستخدام الاستعارات آليات انتقال المفاهيم من مستوياتها التقليدية إلى أفق رمزي جديد يمنحها دلالات مستحدثة. على الصعيد النفسي، برز النص كوسيط لتحويل معاني الألم إلى رؤية وجودية تتسم بالتأمل، وتجلي الموت كانقطاع شعوري يحمل دلالات عميقة، بينما يتخذ العشق شكل طاقة وجدانية تتخطى حدود الذات الفردية لتشمل الجماعة ككل، مما يعزز البعد الوطني ويحجز له مكاناً ملموساً في المخيال الجمعي

***

سهيل الزهاوي

 

رواية الصائل للكاتب الأردني محمد سرسك صدرت العام 2024 عن دار الفينيق للنشر والتوزيع. يقدم لنا الكاتب من خلالها إطلالة على مرحلة تاريخية معينة بدءاً من أواخر القرن الثامن عشر(1880 تقريبًا) ولغاية العام 1921 بداية الانتداب –أو الإستعمار- البريطاني على فلسطين والذي شهد بدايات عمليات التغلغل الصهيوني اليهودي إليها.

بدهاء وحنكة يتغلغل اليهودي ابو اسحق متنكرا بهئية البائع المتجول إلى إحدى القرى الفلسطينية بعد أن استطاع إقناع أهلها بأن وجوده في خيمته لا ضرر منه، فأصبح اسمه مألوفًا في القرية، فالنّساء يجْذِبُهنَّ ما عنده من أقمشة وزينة وعطور، والرّجال وجدوا فيه مُتنَفسَّا لهم في المَساءاتِ القرويّة الطَّويلة خاصة بعد أن جذبتهم حكاياه التي كان يقصّها عليهم .لدرجة أصبح أهلُ القرية معتادينَ على وجوده في شوارعهم وبين بيوتهم.(10)

لاحقًـا تباينت أراء أهل القرية حول قدوم ابو إسحق إليها، وتوزعت وجهات نظرهم ما بين متوجس من قدومه ومطمئن له. هذا التوجس حمل رايته المدرس في القرية الأستاذ عماد الذي لمْ يكُنْ يروق له ما يسمعه حوْل أخبار أبي إسحاق أو حكاياته الكثيرة، ولمْ يكُنْ مرتاحًا لإقامته في الجِوار ولِسهْرات السَمَر التي يُقيمها.(15). وكيف استطاع أن يكسَب ثقة الرّجال دون تكبّدهم عَناء السُّؤال عنْه، مَن هو؟ وماذا يريد؟(17).

بالمقابل لم يكنْ المختارُ قلِقا، ولم تفلحْ تساؤلأت عماد في إثارة مخاوفه، فالمختار مقتنع تمامًا بأنّ الرجل لابدَّ أنّه راحل لكونه تاجر. فلا داعي للتفكيرِ كثيرًا في هذه الأمور، "نعم لقد طالت إقامتُه قليلاً، لكنْ سيأتي يومٌ ويكملُ طريقه، وترجِع الأمور إلى ما كانت عليه، فلا داعيَ للقلق".(18). وفي موضع آخر عندما حاول عطية تنبيه المختار إلى عمليات النقش والرسومات التي يقوم بها رجال ابو إسحق قلل المختار من هذه الهواجس وكانت ردة فعله "ما لنا وله، خلينا بحالنا أحسن".

تبين الرواية كيف أن اليهودي –الصهيوني ابو إسحق بعد ان كسب ثقة أهل القرية بدأ بتنفيذ مخططه وتدخله في شؤون القرية من نافذة الضيق الاقتصادي الذي بدأت علاماته تقض مضاجع المختار وأهل قريته، هذا التدخل ظاهره الإدعاء بمساعدة الفلاحين وتزويدهم بتراكتور زراعي أما باطنه فهو الإستيطان وامتلاك الاراضي بعد إغراق أصحابها بالديون وعجزهم عن الوفاء بالتزاماتهم. نتيجة استدانتهم المال بفوائد مرتفعة فقد اضطر المختار لكي يسدد الضرائب للسلطنة العثمانية أن يلجأ لأبي إسحق ويستدين منه مبلغ مئتي ليرة عثمانية، لكن سند الدين كتب بثلاثمئة ليرة وبفترة سداد ثلاث سنوات(89).

كما تبرز الرواية السعيّ الدائم لليهود للتخلص من عقدتهم التاريخية وهي عدم وجود أرض لهم لذا نراهم لا يتورعون عن تزوير التاريخ لا بل محاولة خلق تاريخ وهمي لهم كما في محاولة أبا إسحق الإدعاء بأن الضريح الموجود في القرية قد يكون لأحد أنبيائهم منذ آلاف السنين، (95)، ويطلب أن يخصص له يومًا واحدًا فقط في السنة ليزور الضريح هو ورجاله وممارسة عبادتهم، كما تذكر الرواية كيف كان اليهود يستميتون في إختلاق أدلة وهمية تثبت أحقيتهم بهذه الأرض من خلال عمليات الحفر والتنقيب التي قاموا بها للعثور ولو على إشارة بسيطة تثبت دعواهم.ولم يتورع ابو إسحق عن الطلب من الأهالي: "أعطوني قطعة صغيرة من الأر ض، حتّى أقُيم لي بيتًا صغيرًا".

ايضا تشير الرواية إلى تصميم المستوطن الصهيوني على طمس كل ما يؤكد هوية هذه الأرض العربية واقتلاع كل الجذور التي تدل على عراقتها حتى لو اضطر إلى إقتلاع الشجرة المباركة في القرية، بطلبه من عطية ان يسكب محلول سام حول جذعها لإتلافها "سأعطيك سمادًا خاصا لها حتى تظل نضرة ويانعة لكن هذا السماد بالذات لا تستعمله إلا في الأيام الممطرة عندما تكون الأرض مبتلة" (149).

يبدو ان زرع العملاء والإستفادة من دناءتهم من دعائم السياسة الصهيونية وقد ظهرت في استمالة أبي إسحق للخادم عطيّة وهو مجهول النسب، وأوكل إليه مهمة التجسس واطلاعه على كل شاردة ووارد في القرية، وقد راق هذا الأمر لعطيّة الذي يقول: "لست صبيًّا عند المختار، لا أحد يمُنّ عليّ بعد اليوم، وسأجلس مع الرجال كواحد منهم وليس خادمًا لهم، وسأنفذ ما يطلبه مني ابو إسحق بسرية تامة وسأخبره بأسماء جميع عائلات القرية، وأفرادها ووجهائها، وأراضي كل عائلة فيها، ومواشيهم ومحاصيلهم، وكذلك مداخل القرية ومخارجها.

لأجل تنفيذ مخططاتهم تشير الرواية الى تلك المجامع اليهودية التي كان اليهود يعقدونها سواء في القدس الغربية او في المدن الأوروبية مثل فرنكفورت ولندن وغيرها، وتكشف عن بعض ما كان يدور في تلك المجالس التي كانت بإشراف

إثني عشر صهيونيا، "كانوا قد قدموا من مختلف أنحاء العالم.

وفي لمحة عن تلك المجالس والمواضيع التي تبحث أشارت الرواية إلى ذاك الإجتماع الذي عقد في القدس الغربية حيث اجتمع هناك اثنا عشر شخصًا: يهوذا، شمعون، روبين، لاوي، ساخر، زبولون، جوزيف، بنيامين (أبواسحق)، دان، نفتالي، كاذا، أشار.(47). وكان شعارهم التوراتي "(كل مكان تطؤه أخامص أرجلكم لكم أعطيته) هكذا قال الرب" (57). واللافت ان اليهود دائما ما يغلفون دعواهم بالرجوع للتوارة او التفاسير الدينية، وعن تعلقهم وتقديسهم للرقم 12 تورد الرواية بعض ما جاء من حوار بينهم:

لاوي: ها نحن اثنا عشر رجلاً.

نفتالي: أبراج السماء اثنا عشر برجًا، نحن أبناء السماء،

ساخر: عدد الشهور اثنا عشر شهرًا، نحن أسياد الزمن.

جوزيف: إنه رقمنا المقدس حتى البنك الفدرالي الأمريكي ولد باثني عشر فرعًا.(183). ليبدؤا بعدها باستعراض ما تم انجازه من إنشاء ما يقارب أربعين مستعمرة زراعية وسكنية في فلسطين حتى الآن، كان أولها (بتاح تكفا). أيضا برز لديهم الإصرار على جذب جميع اليهود وإغرائهم للقدوم سواء من المنطقة العربية أو اوروبا (61). بعد أن استعرض بنيامين (ابو إسحق) لخرائط المناطق المهجورة والأراضي البور والمناطق الساحلية والداخلية غير المشغولة. قائلاّ:"يجب شراء ما هو مملوك بقدر ما نستطيع، أما ما هو غير مملوك فسيكون لنا في نهاية المطاف".

لقد أبرزت الرواية كيف ان اليهود إستطاعوا التحكم بالحركة المالية والإقتصادية في اوروبا وغيرها من مدن العالم عن طريق ولوجهم عالم المال والصيرفة والبنوك والقروض والتمويل. لكون اوروبا كانت تحظر على اليهودي التملك فلجأ معظمهم إلى الوساطات المالية. وعن السيطرة المالية يقول يهوذا: نحن من يمسك المال دائمًا وهو ضروري في كل الأحوال في السلم والحرب، إنه عِجلنا الذهبي منذ الخروج وحتى الآن، ونحن ننتظر الحرب كي نعرف أين نطلقه.(67).كما تحدثت الرواية عن النظرة الأوروبية التي كانت سائدة تجاه اليهود فيصف اليهودي "دان" تلك النظرة بالقول: "لقد أطلقوا علينا الكثير من الصفات، مرة يهودي البورصة، ومرة هذه المدينة مليئة بالذباب واليهود، ويؤكد زميله يهوذا هذا بالقول: نعم بالنسبة إليهم نحن إما تجار أو مرابين".

لقد كشفت الرواية عن تقاطع مصالح ألأوروبيين واليهود وإن إختلفت اهدافهم بعد أن أصبح اليهود يشكلون عبئا على دول اوروبا وفي هذا يقول اليهودي ساخر: إ"نهم لا يريدون رؤيتنا بينهم، فلنرجع قليلاً بالتاريخ، كم مرة تم اتهامنا بالدم وتسميم الآبار، كم مرة سمعنا أن الخلاص هو تنصرنا، كم بلد فرض علينا الجيتوات".

هذه المصلحة الأوروبية والرغبة في التخلص من اليهود إلتقت مع رغبة اليهود أنفسهم للتخلص من عقدتهم التاريخية وهي البحث عن وطن قومي لهم، وفي هذا يقول يهوذا: سنطرق كل الأبواب، توجهنا أيضًا إلى روسيا القيصرية، وحصلنا عن طريق وزير داخليتها بأن تبذل جهودها ومساعيها لدى تركيا؛ لتسهيل دخول أبناء شعبنا إلى فلسطين وتوطينهم فيها. وفي هذا المجال تبرزالرواية محاولات اليهود ومكائدهم لإجبارالسلطنة العثمانية على منحهم التسهيلات اللازمة لدخول فلسطين :" «بناء على حديثي مع السلطان عبد الحميد، فإنه لا يمكن الإستفادة من تركيا إلا إذا تغيرت حالتها السياسية، أو عن طريق الزجّ بها في حروب تُهزم فيها أو مشكلات دولية أو بالطريقتين معًا وفي آن واحد.» هذا ما كتبه هرتزل بعد محاولاته مع الدولة العثمانية من أجل السماح لليهود بالقدوم إلى فلسطين أو منحهم أية صفة على أرضها.(62).

في محور من محاور الرواية فقد تطرقت إلى الأوضاع المتردية التي بدأت تعصف بالسلطنة العثمانية وبداية الصراعات الداخلية فيها حيث لم يعد السلطان هو السلطة الوحيدة، وبروز قوى داخلية أخرى، مثل حزب الاتحاد والترقي وانضمام عددًا لا بأس به من الجيش إلى هذا الحزب بشكل سرّي، واستطاع الوصول لسدة الحكم والتي كانت من أولى سياسته ان عمد إلى فرض اللغة التركية كلغة رسمية، في محاولة منه لتتريك البلاد العربية، وكردة فعل على تلك المحاولة بدأت تتشكل جماعات وأحزاب فظهرت كل من جمعية الإخاء العربي، والمنتدى العربي، والعربية الفتاة، وجمعية بيروت الإصلاحية وجمعية الجامعة العربية في القاهرة والجمعية القحطانية وارتفعت الأصوات التي تنادي بالمساواة بين القوميات.

انطلاقا من الوضع المتأرجح للسلطنة العثمانية أصبح الأوروبيون يسيطرون على التجارة الخارجية فيها، ويحظرونها على أبناء الدولة، بحجة سداد الديون، بعد أن فرضت الدولة الدائنة وجود بعثة مالية دائمة للإشراف على الأوضاع الاقتصادية وذلك ضمانًا لديونها، وحرمان التجار من القيام بالتجارة الخارجية.

وتُذكر الرواية بالممارسات القمعية والعنصرية التي مارسها الأتراك خاصة ما اعتمده جمال باشا من سياسة معادية للعرب، واعتقاله للكثير من دعاة اللامركزية والقومية العربية، واستحداث مجلس عسكري في مدينة عالية اللبنانية لتعذيب المنتمين للجمعيات العربية وقمعه للصحافة والصحفيين في حين سمح بإصدار صحيفة «صوت العثمانية» في فلسطين التي كانت تعبر عن لسان حال اليهود باللغة العربية .ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد بل أصبح الجنود يبطشون بالناس وينكلون بهم، ويصادرون المحاصيل، مما أدى إلى انتشار الجوع والفقر والذي كانت ذروته المجاعة التي حصلت في لبنان، وبشكل أقل عانى منها أهل فلسطين وسوريا والأردن.

على المقلب الفلسطيني تبرز الرواية تعلق الفلسطيني بأرضه وعدم التفريط بها أو التنازل عنها للغريب في إشارة شيخ القرية الذي قال : إن الأرض لا تذهب إلاّ لمن يرِث، ونحن نتوارثها من مئات السنين وكلنا يعرف الآخر، لم نسمح طيلة حياتنا بأن يدخل بيننا دخيل ويستملك أرضا من أراضينا، لو فتحنا هذا الباب يومًا فقد نصبح غرباء في قريتنا يومًا ما.(31). وبهدف الإستقصاء عن نوايا اليهود المبيتة كانت جولة عماد مع صديقه (حسن) في كل أنحاء فلسطين للتحري عن الهجرة اليهودية ووجدا أنّ اليهود ينتشرون في أنحاء فلسطين المختلفة، بل ويقيمون مستعمرات زراعية أو مستوطنات وكل واحدة منها كان فيها كنيس ومدرسة دينية، وإدارة مشتركة ونظام حراسة جماعي. . كانت كثيرة مثل ميكيفا إسرائيل، بتاح تيكفا، ريسون ليتسيون، زخرون يعقوب، روض يبنا.

وتختتم الرواية بالإشارة إلى وعد بلفور وتداعياته فقد استقبله اليهود في كل الأنحاء بالفرح والإحتفال، وأطلقوا عليه اسم الميثاق أو البراءة. وبدأت بذرة المقاومة والمواجهات تظهران للعلن بين العرب واليهود - والإنكليز من خلفهم- كما حصل عند اجتماع المحتفلين اليهود عند باب الخليل وقيام العديد من وجهاء المدينة العربية بإلقاء الخطب الحماسية المندّدة بالإحتلال البريطاني والمشروع الصهيوني والانتداب، ومن ضمن المتحدثين كان أمين الحسيني وعارف العارف وآخرون، وأثناء ذلك قام مجموعة من الشباب اليهود بالتهجم على بعض الحاضرين، فردّ عليهم الفلسطينيون بقوة، وهاجموهم فأطلقت القوات البريطانية النار لحماية اليهود، وسدّت باب الخليل، وأنذرت الفلسطينيين لمغادرة المكان وإلا سوف يتعرضون لإطلاق النار. ومنذ ذلك الوقت والفلسطيني يحمل صليبه ويسير على درب الجلجلة.

ختامًا رواية الصائل تكمن أهميتها في كونها تؤرخ لفترة زمنية تكاد تكون مهملة لدى الكثير من الكُتاب ومنسيّة أيضا لدى العديد من القراء. لقد اعادتنا هذه الرواية الى بداية البدايات حيث التقت مصالح المستعمر مع أطماع المُحتّل وكانت الضحيّة ولا تزال فلسطين.

***

عفيف قاووق – لبنان

للشاعر منصور الفلاحي

تمهيد: السؤال المركزي الذي ينبغي أن نطرحه في كل مقاربة نقدية لعمل أدبي سواء أكان شعراً أم نثرا، وفي أيّ جنس أدبي إبداعي هو: هل قدّم هذا العمل الفني قيمة مضافة للساحة الثقافية المحلية والإقليمية والكونية أيضا؟

و في سياق هذا المبحث الخاص بديوان (ترانيم الصدى) نطرح السؤال نفسه في خصوصية نوعيّة ونقول: هل أضاف الشاعر في ديوانه جديداً للحساسية الشعرية المغربية المعاصرة؟ وهل أضاء بعض متاهاتها في أزمنة الحداثة الشعرية؟ وهل ساهم في الذائقة الفنية المرتبطة بالشعر عامة، وبقصيدة النثر خاصة؟

و الإجابة عن مثل هذه الأسئلة لا ينبغي أن نحشرها في دوائر المستحيل، أو في خانات اللاممكن، أو في سديم الطوباوات الحالمة بقدر ما هي أسئلة مشروعة تتمتع بكامل المصداقية المتأتية من الصدق الفني الذي أسس لمثل هذه الأعمال الإبداعية.

وخير الجواب أن نقول إن أثر أيّ ديوان، أو أي رواية، أو أي عمل فني مغموس في مداد الجودة والفرادة، هو شبيهٌ بأثر الفراشة الذي تُحْدِثه في محيطها الأكبر والّذي لا يدعو إلى الالتفات اعتباراً لحجمها المتقزم أمام جبروت هذا المحيط. والأمر مجرد استعارة لجسد الفراشة للتعبير عن التأثير المتأتي من أصغر وَحَدَةٍ متناهيةٍ في الصغر، تمارسه على وحدَة أخرى متناهية في الكبر.

و مثال ذلك قطعة الدومينو الأولى التي بسقوطها تتسبب في سقوط منظومة الدومينوهات الأخرى ولو كانت تشكل بناءً كليًّا ينهار بفعل حركةٍ بسيطة جدا وفي غاية البساطة.

و مثله مقتل ولي عهد النمسا الّذي أدى إلى اشتعال الحرب العالمية الأولى. والأمثلة لا حصر لها في هذا المساق. يكفينا أن نقول من خلاله أن ديوان (ترانيم الصدى) فراشة. أوهو حجرٌ صغير، نرمي به على صفحة النهر الراكد، فيتغير وجه النهر. والساحة الثقافية الفنية المغربية هي ذلكم النهر.

أولاً: مدخل منهجي

قرأت ديوان (ترانيم الصدى) فأسعفني بالمنهج، على اعتبار أن النص أحيانا كثيرة يفرض خطة تناوله وتداوله وطريقة السبر لأغواره. وهي خطة بسيطة تقوم على ثلاثية التفكيك للعلامة، وقراءة العلامة ثم تأويل العلامة. وحرصنا أن تدخل هذه الثلاثية ضمن مدخليْن:

- مدخل يدرس العلامة في بنائها المزدوج، ونقصد بذلك بناء المفردة المعجمية في ذاتِها، ثم بناء المفردة التناسلية التوالدية في تداعياتِها. مثال ذلك: مفردة البحر في الديوان هي علامة معجمية، تحيل على ذاتها كفضاء مائي وواسع ومالح و... وتحيل على تداعياتها مثل مفردات الموج، الشطآن، الزبد، الغوص ... وهكذا. إن التعامل المنهجي مع هذين البناءيْن يُثرِي القراءة والتأويل.

- مدخل اعتبار النسق المعرفي المشترك بين المبدع والناقد والمتلقي، في دائرة كبرى هي تقاطع المعارف الثلاثة. وهذا شقٌّ منهجي يتعامل مع النص لا في ثباته السكوني المغلق على ثقافة المبدع وحدها بقدر ما ينفتح على هيرمينوطيقا تأويلية لمعارف الشاعر داخل دائرة التراث الإنساني العام، والذي يحضر في المتون الشعرية شئنا أم أبينا.

نستفيد من هذا أن التداعيات المرتبطة بالعلامة خارج ماهيتها الذاتية هي في عمق التحليل تأسيسٌ لموجوداتٍ مجازيةٍ ممكنة تصنعها الذات المتكلمة وتؤوّلها الذات القارئة وتقدّمها في صيغة دلالة.

فإذا وضع الشاعر منصور مفردة البحر كعلامة ذاتية تدل على وجودها المعجمي، فإنه في توجّهٍ دلاليٍّ يلقي بظلال تداعياتها أيضاً. فالبحر في سياق معيّن هو معادل موضوعي للذات المترنّحة بين مدّ الأمل وجزر الألم. وهكذا، فهذا التخريج تأويلٌ يفضي إلى بناء دلالة معينة نؤطّرها في المعادل الموضوعي الذي يمكننا من قراءة العلاقة بين البحر والذات الشاعرة، في اجتهاد لا يدّعي امتلاكا لحقيقة البحر أو لحقيقة الذات المتكلمة.

ثانياً: قراءة في الديوان

(ترانيم الصدى)1، ديوان شعري يتألف من أربع وأربعين قصيدة. هي في الأصل أربع وأربعون ترنيمة. تحاور الصدى في أكثر من منبر.

منبر الغياب – منبر الرثاء – منبر الفضيلة – منبر الحرب والكرامة – منبر الغيث – منبر العشق – منبر الموعظة والاعتبار – منبر الطبيعة ومنابر أخى لا يستقيم المقام لعدّها وإحصائها احتراما لأفق القارئ في اجتناء ما تبقى من منابر من خلال اجتهاده الخاص.

و نقول هنا، إن الشاعر منصور لم يفلت في منابره الناقدة صغيرا ولا كبيرا، حتى منبر الطرافة الهادفة والنكتة الواخزة. في مثل قصيدته الموسومة بـ (هل أتاك حديث الشمقمق؟). ص 90

أطّر الشاعر هذا الزخم في خيط فني ناظم هو خيط عشق الجمال في فيزيائه وفي روحانيته. في معناه وفي فائض معناه. في أبعاده الواقعية وفي أبعاده الدلالية الرامية إلى فعل الترميز البنّاء...

1 – قراءة في الإيقاع

الإيقاع في منظور الشاعر منصور الفلاحي اجتهاد موسيقي لا يمتح مصداقيته من مرجعية خليلية ماضوية. فهو لا ينتج نصًّا شعريا موزونا ينتمي إلى التقليد الإيقاعي القديم. وإنما يبدع قصيدة في مجال إيقاعي حداثي يصنع لذاته قوالبه الموسيقية الخاصة والمعتمدة بالدرجة الأولى على:

* وحدة الروي والقافية: يمارس الشاعر منصور هذه الوحدة الايقاعية داخل اختيارين. الأول يتعلق بوحدة الروي في المقطع ( وقد حضر في 34 قصيدة). وهو السائد. والثاني يرتبط بوحدة روي القصيدة، وهو النادر (10 قصائد). ومثاله القصيدة رقم 1، (أأصبحنا ظلال أحلامهم؟)

و في التوظيفيْنِ معاً يتجلى اجتهاد الشاعر منصور في إخراج الشعر من مرتبة الخطاب اليومي إلى مراتب شعرية الخطاب عبر مجموعة من الآليات وأولها آلية الإيقاع.

ولم يعتمد في هذه المهمة الفنية على المرجعية الخليلية لا تنقيصا أو تبخيسا، وإنما اختياراً لمرجعية ذاتية تمتح مادّتها المعرفية من أذن الشاعر ومن تمثلاته الخاصة لفن الإيقاع. وكأنه في كل (الترانيم) يسعى إلى بناء القصيدة المموسقة والمشروطة بفعل الغناء والشدو.

* إيقاع التناغم الدلالي

ليس من الضرورة أن تكون حركة النص أو الديوان جارية على وتيرة واحدة. وإنما الجميل في هذه الترانيم أن الشاعر منصور عرض نصوصه الشعرية داخل منعطفات دلالية متنوعة. هي في عمق التأويل اهتزازات تنشأ عن خصوصيات مقطعية تدل على أن الشاعر اشتغل في تدبيج ترانيمه في أزمنة مختلفة وأمكنة متعددة.

زمن التأليف عدد القصائد

2015 2

2016 4

2017 5

2018 3

2019 2

2020 7

2021 7

2022 6

2023 8

مكان التأليف عدد القصائد

سوق الاربعاء 2

أكادير 31

مراكش 2

مولاي بوسلهام 2

الرباط 1

قصيدتان بدون تحديد زمن التأليف

و ست قصائد بدون تحديد للمكان

هذا الانتقال في زمن التأليف وأمكنته يسهم في تغيير حركية الديوان وينوّع في طبيعة الأثر في المتلقي. ويسلط بعض الضوء على طبيعة الاعتمال وظروفه وشروط إنتاج القصيدة فيه.

و بخصوص مفهوم التناغم الدلالي فقد عبرت عنه الناقدة (خالدة سعيد) بقولها: " هو جزء من الإيقاع. وهو عنصر يتعلق بتوالي الموضوعات على نسق معيّن بموجب حركة نفسية معينة" 2

نأخذ على سبيل المثال موضوعة الأهل والأسرة والموت والفراق في الديوان.

- القصيدة 2 --- بعضٌ منّي --- ص 16

- القصيدة 31 --- سلام عليكم --- ص 76

- القصيدة 32 --- أيّ طعم للعيد --- ص 77

و هي قصائد مشبعة بتقنية التناغم الدلالي، وإطلالة خفيفة على متونها تشرح المفهوم وتقرّبه دون عناء.

إن إدراك هذا الايقاع يكون في معظم الحالات فرديا لا جماعيا، ويكون خاضعا في معظم الحالات لشرط التأويل الأول الذي قلنا فيه بوجود الدلالة في وضعٍ تأجيليٍّ لا يدّعي الإطلاق والقطعية والتعميم. ذلك أن الأخيلة تختلف وهي دائما منفتحة على أكثر من تصوّر وأكثر من تمثّل ...

* إيقاع التقابل

تُعدّ التقابلات من عُرى المعنى وأواصره. لها أثرها ووقعها في النفس نظرا لما فيها من توازٍ تُنتجه المجاورة على نحو من التقابل بين مفهوم وآخر، بين حالة وضدّها. في إطار تباينٍ شعريٍّ يُغني إمكانيات الشاعر الإبداعية ويفتحها على مزيدٍ من البناء والخلق الشعري.

و في هذا المنحى ركز الشاعر منصور على العناصر الشعورية والنفسية ليعبر عن الصراع والاضطراب الذي يغزو المجتمع المعاصر، مستغلا بذلك مظاهر التناقض في الحياة والوجود والكون.

من هنا خصوصية الأداء الشعري المنصوري الخارج من ربقة التضاد اللغوي الجاهز قاموسيًا إلى أفق التحليق بالتضاد والتقابل في سديم الإبداع لاجتناء أكثر من دلالة تشرَح وتُشرّح المعنى وفائضه.

و الأمثلة هنا غزيرة، نذكر منها:

ص 15 – (غادروا – عادوا )

(قولوا لهم صبحاً كنّا فأمسيْنا)

ص 21 – (قد يأتي الذي انتظرناه

أو قد لا يأتي وكالعادة)

ص 24 – وهبتك الجسد والروح

و أفضت بالسر والبوح)

ص 25 – (أنا الظاهر المستتر بلا صوت)

ص 31 – ها هنا ظلم

و صفح ولوم)

ص 33 – (حمم وبركان

بردا وسلاما)

...

و يكاد الديوان في كله وجله ينطق بهذا الإيقاع التقابلي الذي لا نستطيع محاصرته إحصاءًا وإجمالا. وتفيدنا هذه التقابلات أمريْن:

هي تؤطر سمعنا داخل صيرورة موسيقية تقابلية لا تهتم بالبذخ السمعي المؤثّث للأذن العربية الملتقطة لعناصر الجمال بقدر ما تذهب بها مذاهب التغيير في الحساسية الموسيقية المغموسة في عمق الدلالات والأبعاد؟

هي تؤطر نفسياتنا في استقبال تناقضات الوجود والماحول والحياة، وتدفعنا بملمسٍ حريريٍّ إلى تبنّي موقف معيّن لا نحدّده ولكن نقدر على تصنيفه داخل إطار عشق الجمال.

هي تؤطر الدلالات البعيدة لرؤيا الشاعر ولرؤانا في توجّهٍ لا يستهلك بل يعيد إنتاج التقابلات داخل بحر التأويل الممكن.

* إيقاع التوازي

التوازي هو التشابه القائم على تماثل بنيوي في بيت شعري أو في مجموعة أبيات شعرية. وعادة ما يكون التشابه بين المتوازيينِ باعتبارهما طرفين متعادلين في الأهمية من حيث المضمون والدلالة، ومتماثلين من حيث الشكل في التسلسل والترتيب.

و منه:

أ – التوازي الصوتي: مثل ما جاء في الديوان (مفاخ، مباخر) – (قؤول، صؤول) ...

ب – التوازي التركيبي: وبتعلق بالتوازي بين وحدتين دلاليتين، ومثله في الديوان: (أنا المهاجرالسابح في الوقت – أنا المنتظر بين طوابير الموت)...

د – التوازي الدلالي: وهو التماثل بين وحدتين دلاليتين في محور واحد. ومثله في الديوان ( يا ريح أي زئير- يا ريح أي أنين)...

إن فعالية الإيقاع في ترانيم الصدى لا تقف عند حدود النص في تشكله وانسجامه الصوري. وإنما تتعداه إلى الإحالة على دلالات البنية الشعرية سواء تعلقت بتوصيف الواقع في تناقضاته أو تعلقت بالسباحة في المخيال الشعري بديلا عن تعفّنات هذا الواقع.

الإيقاع هنا ليس حليةً تلبسها الترانيم

الإيقاع هنا حتمية صوتية شعرية وجودية.

* تداعيات العتبة

و قد أحسن الشاعر منصور وهو يدمج هذا التراكم في عنوان جامع مانع ومعبر ومحاصر لأقانيم البوح حصارا حريريا ناعما وواخزا في نفس الآن.

و هو عنوان موسوم في وعي الشاعر بعبارة غير بريئة. ونقول ذلك لأن الشاعر هنا لا يتحدث من مساحة الإمتاع والمؤانسة الشعرية المدغدغة لعواطف المتلقي. إنه كائن ورّط ذاته في مفهوم الجمال السائل والمتسائل والواضع لكثيرٍ من البداهات موضع السؤال. من هنا نقول بلا براءة صوغ العنوان. لأن المسألة لا تتعلق بعرض الترانيم للاستمتاع وإنما بوضعها رهن إشارة المتلقي لمساءلتها في توجهاتها الكاشفة عن أسرار هذا الصدى الذي أُسندت إليه الترانيم. فكيف نستوعب الصدى وهو مجرد رجعٍ للصوت؟ وكيف يتحول الصدى من حالة فيزيائية إلى حالة كاشفة في عمق الدلالة الوجودية عن تجليات هذه الذات المتكلمة والمخاطَبة في نفس الآن؟

و الترانيم جمع ترنيمة، وترنم المغني يعني رجّع الصوت وتغنّى به في تطريب وتحنان. وأما الصدى فله معنيان الأول يرتبط بالعطش الشديد، والثاني وهو ما يرومه الشاعر ويتعلق برجع الصوت يرده جسمٌ عاكس كالجبل أو المغارة أو الفضاء الواسع. وحتى الصدى بمفهوم العطش قد يجد مصداقيته الدلالية في الديوان بحكم عطش الشاعر وقصائده وترانيمه لقيم الجمال والحق والخير في محيط تنكر لهذه القيم.

و هي القيم التي باتت منعدمة أو تكاد في سياق وجودٍ عار من القيم.

و أما الصدى بمفهوم رجع الصوت فأولى وأجدر، بحكم ارتباطه في التركيب بالترنيمة. ويكون التجانس التركيبي والدلالي في العتبة أجدر وأولى بالتبنّي من أي تخريج آخر. فكلاهما خارج من حقل الصوت.

فلمَ أسند الشاعر الترانيم إلأى الصدى ولم يسندها للواقع؟ لأن مساق طرح السؤال هو حقنا في الاستفهام كقراء نحمل همّ التأويل. والجواب (في نسبيته – أن الصدى ليس حقيقة بقدر ما هو وهم حقيقة، والدليل تبخّر الصوت في الفضاء. وهو تبخّرٌ لا يترك لنا إلا فسحة قصيرة من الاستمتاع برجعه وهو يسير في اتجاه قدر التلاشي، فنكون في وضع المستمتع بوهم الصوت لا بالصوت ذاته في وجوده الفيزيائي والحقيقي. ولا يكون الأمر حينها إلا لعبا يفسح أمامنا مزيدا من الرغبة في تركيم حالات الصراخ برجعه الجميل وهو يدغدغ فينا أسماعنا وبعض دواخلنا.

من هنا مكر الشاعر منصور على اعتبار أن عنوانه (ترانيم الصدى) ليس بريئا كما أسلفنا. إنه يدين الترانيم كما يشجب الأغنيات والقصائد التي لا يتجاوز أثرها حدود الرجع والترديد الجميل الحامل لدلالة الترف والترفيه والإمتاع فقط. وكأن الشاعر يدعونا إلى تجاوز القصائد التي تقف عند حدود الجمال القشوري إلى معانقة القصائد التي لا تتبخر في السديم الواهم بقدر ما تكون نداءاتٍ متجذرة في الواقع وملتصقة به والعاملة في دأَبٍ مستمر على تغييره أو التحسيس بضرورة تغييره في أضعف الإيمان.

هكذا فالعنوان فاضح في أول التجلي لغائية الديوان، ولرسالة الديوان، ولهدفيته البعيدة والمتجاوزة لفعل الشبه والتكرار في ساحات الإبداع.

من هنا يحق لنا طرح السؤال التالي:

لِمَ قال الشاعر (ترانيم الصدى) ولم يقل (صدى الترانيم)؟ قد يبدو الأمر جانبيا وهامشيا بغير قيمة مضافة، أو قد يبدو متشابها ولا حاجة لطرحه... إن جمالية العبارة في ترانيم الصدى هي أشد وقعا بلاغيا على المتلقي من تقديم ملفوظة (الصدى) في التعبير. لأن الإدانة في العبارة الثانية تكون كالتالي:

الإدانة --- الترانيم --- الإنسان

الإدانة --- الصدى --- الطبيعة

والطبيعة بريئة، وأما العامل الموضوع في قفص الاتهام فهو الإنسان الذي صنع الترانيم خارج الواقع. ولم يضعها في الموعد الثقافي كي تمارس أدوارها في عمليات التغيير. من هنا أثر الفراشة في الترانيم السابقة للصدى في التركيب.

* في اجتراح الدلالة

وهذا باب إذا فتحناه فلا مكنة لنا بإغلاقه أو إيصاده نظر لزخم الدسم الفني فيه. وسنختار منه ما يلي إيثارا للاختزال والإيجاز.

أ – دلالة تكسير التوقع: أو أفق انتظارات المتلقي. فمن الشعراء من تقرؤه من عنوان ديوانه، ومنهم من لا يسلمك مقاليد دلالاته إلا بعد لأيٍ وتقصٍّ وبحثٍ وتنقيب. والأجدر فيهم من يعطيك انطباعا بالسهل الشعري فإذا هو متمنّع وممتنع حتى يشحذ القارئ مباضعه لممارسة عمليات التشريح للخطاب الشعري في متونه.

قال الشاعر منصور في كثير مما قال:

مات بعض من بعضي

و بعضٌ من بعضِ بعضي ص 18

و فيه فائدتان: واحدة دلالية تنوع في الخطاب وتحترم المتلقي الذكي وتحشره في عمليات إنتاج المعنى... والثانية صوتية تلعب لعبة التكرار في فونيمات الضاد والعين والباء... وفي كلا الحالتين يكسر الشاعر أفق انتظار المتلقي ويحوّل مجرى التفاعل فيه إلى مجارٍ أجرى من مجريات نهر القول.

ب – مقولة التوتّر: بوعيٍ فني من الشاعر يصنع مسافة توتر على حد تعبير الناقد (كمال أبوديب) بين مقولة الأحلام وبين مقولة الطي.

قال الشاعر:

و تلك الأحلام طواها الزمن

مجهضة بلا سترٍ بلا كفن ... ص 25

فهذه الأخيرة تستدعي مفعولا متشيئاً قابلا لفعل الطي، فكيف تُطوى الأحلام؟ بل كيف يمارس الزمن هذا الفعل المادي والحسي على غير ممكن يتسم بالتجريد والزئبقية؟

فالأحلام مصنوعة من مادة التخيل، والطي فعل حسي، فكيف يلتقيان؟

من هنا عبقرية الشاعر وهو يفتح المجال أمام اللاممكنات لتتحول إلى ممكنات، في رحم الإبداع الشعري القائم على فعل التخييل المجنّح. ذاك أن سياق الورود والتداول يتغير. فقولنا بالطي الواقع على الأحلام مستحيل في سياق الحقيقة، ولكنه ممكن جدا في سياق الخيال. والشعر هو الباب الواسع لاستقبال العبارة في جنوحها المحلق كيفما كان تحليقها ومهما شطّت في هذا التحليق الهيولى.

* خاتمة:

الديوان كتلة من الهمس في أذن الوعي الذاتي والإنساني. خطاب جمالي لمعانقة فن القيمة قبل اندحارها وهزيمتها في مجال الإبداع، وقبل انسحاقها وتلاشيها في مجال الوجود.

و الشاعر منصور الفلاحي يتغيّى في هذا الديوان إدانةَ الآخر في تخليه عن عشق الجمال عبر تخليه عن القضايا الحاسمة في وجوده.

فهو لا يقدم لنا ديوانا مكتظا بالكلمات والمفردات المعزولة والمغرّبة بقدر ما يقم لنا صرخة حريرية تدعو إلى اعتناق مذهب التفاؤل بالآخر والإيمان به في عشق القيم.

و الشاعر يمارس العتاب واللوم في غير تجريح، وينتقد الماحول في تشريح راقٍ وواعٍ بحجم الخسارة والهزيمة الذاتية والغيرية، داخل رؤيا فنية ووجودية تقيم عالما جديدا على أنقاض واقع مرفوض.

***

بقلم نورالدين حنيف أبوشامة

..................

إحالات:

1 – منصور الفلاحي، ترانيم الصدى، ديوان شعر، مطبعة وراقة بلال، فاس، المغرب، الطبعة الأولى 2024

2 – خالدة سعيد، حركية الإبداع، دار الفكر للطباعة والتوزيع، بيروت، 1986، ص 108

للشاعر الفراتي "علي عبد الجاسم"

الشاعر- علي عبد الجاسم – شاعر من سوريا - مواليد محافظة ديرالزور 1965- يحمل أهلية تعليم – مارس مهنة التعليم – كتب الشعر منذ 2001- وأول مجموعة شعرية صدرت له عام – 2007.شارك في العديد من المهرجانات الأدبيّة في سوريا – منها مهرجان نبض الفرات ومهرجان صمود الفرات. فاز في المركز الثالث في مسابقة الشاعر الفراتي – عام – 2010.

صدر للشاعر:

1- ديوان شعر: ألق العيون.

2- ديوان شعر – بين ظلال الحروف.

3- ديوان شعر – الآن يا بردى.

4- ديوان شعر – النداء الأخير.

5- ديوان شعر – ندى الحروف. صدر 2024. عن دار بعل – سورية. وقد اخترنا منه قصيدة (يا زمناً أعيانا)، وهي موضوع دراستنا النقديّة.

العتبة السيمائيّة لعنوان القصيدة (يا زمناً أعيانا):

يشير عنوان القصيدة إلى نداء يتضمن دلالات العتاب، يخاطب به الشاعر الزمن، وهو هنا زمن القهر والعذاب والجوع والاستلاب والتشيىء والغربة والظلم، الذي مر به الشاعر بشكل خاص، والكثير من الشعب السوري بشكل عام. حيث فاقمت الأزمة السورية معاناة الناس فالخوف والدم والدمار والتشرد والضياع، أصبحت مفردات الحياة في سورية منذ 2011.

البنية السرديّة أو الحكائيّة للقصيدة:

يقول الشاعر مخاطباً مأساته، قائلاً: إن قلبي أصبح مأسوراً للخوف، وهذا ما جعل خفقانه ودقاته المتسارعة تعيش حالة اللوعة والتساؤل المرير، ترى كيف سنخرج من هذا الألم الذي خيم في داخل كل منا، هذا الألم الذي بدأنا نشعر بطول مدته وقسوته، وكأنه امتداد لقهرنا التاريخي المشبع بالأحزان الذي عرفناه منذ آلاف السنين... لقد أصبحنا نحلم أن نتجاوز ذاك القهر والعذاب والحزن، لعلنا نصل أخيراً إلى مساحات من الفرح نشتاق لرونقها ونتلهف لعيشها.

موعودٌ قلبي بالخَفًقانِ

إلى حدِّ اللّوعةِ،

كيف سنخرجُ من ألمٍ عرشَ فينا؟

يمتدُ إلى ألفينِ من الأحزانْ...

سَفَراً نحو مساحاتٍ

نشتاقُ لرونقها،

يعود الشاعر "علي الجاسم" يتساءل عن عمق المأساة وبركانها الذي لم يخمد بعد من ثورته. ترى كيف سنهرب من عمق سجن أوهامنا؟، كيف نعرف معنى الفرح والسعادة والاستقرار؟، ونعرف سر تلك المعاناة التي دخلنا عالمها المظلم، وتسربت في نسيج أرواحنا المتعبة؟... ثم يعود ليتساءل وهاجس أمل الخلاص يدور في فلك مخيلته، ترى هل تمر بنا أمطار الفرح كي تغسل كل ما علق في قلوبنا من معاناة؟.

كيف سنهربُ من عمقِ الأوهامِ

لنعلمَ أسرارَ الفرحِ؟.

وتلك الألوانُ القاتمةُ

انسربت في أوتار الروح المتعبةِ

أتمطُرنا أنغامُ الألقِ

بأوجِ عروجِ القلبِ؟

إلا أن الشاعر المكلوم في قلبه وأحاسيسه، يعرف بأن ما يحلم به هي أحلام يقظة مشبعة بالأمنيات...هي عنده ليست أكثر من أمنيات تداعب مخيلته بما تحمل من رغبات الخلاص. حيث يقول:

خيالٌ في الصحوِ يداعبنَا

في وقتٍ نظريَّ

لا ينفكُ يدغدغُ أوقاتَ الروعةِ،

يتفجرُ حساً في أسرارِ ليالينا،

ولكن أحلام اليقظة عند الشاعر، مشبعة بالأمل وكأنه يراها أمامه الآن، فيناجي روحه المتعبة: لقد حان (الآن) شروق الافصاح.. وها نحن ننتظر الفرح القادم لا محال، ننتظر الفرح الذي سيلهمنا معنى المحبة والألفة، بعد أن مزقتنا صراعاتنا بكل مرجعياتها التقليديّة.. لقد آن الأوان أن تزهر أرواحنا التي يبس الشوق فيها فتوقفت نبضاتها.. ها هي ساعة الخلاص من المأساة قد اقتربت، فتعالوا كي نرفد كلنا نهر أحلام مستقبلنا ومستقبل أولادنا والأجيال القادمة بمحبتنا لبعضنا، لعلنا نَخْلَصُ من خيباتنا وما حملته لنا من عذابات تلك السنين الطويلة .

حانَ الآن شروقُ الإفصاحِ،

وننتظرُ الفرحَ القادمِ

يلهمنا خيطَ تآلُفنا،

فيدورُ الماءُ في الأرواحِ

يبسَ الشوقُ بخافقها،

يا أملاً يقتربُ الآن،

تعال لترفدَ نهرَ الأحلامِ،

فتنأى أفكارُ الخيبةْ.

البنية الفكريّة للقصيدة:

إن القصيدة تحمل هم شاعر تعرض وطنة لمأساة سياسيّة، فجرها نظام شمولي استبدادي، حارب شعبه وحال بينهم وبين حريتهم في مشاركتهم بأمور دنياهم، فكانت ردود الأفعال ضد هذا النظام قاسية، ولدت الكثير من المعاناة لأبناء الشعب على كافة المستويات، وخاصة تفجير المرجعيات التقليديّة وتعميم الفقر والجوع والظلم والتشرد، وتركت الشعب فريسة لسفلة المجتمع الذين أصبحوا سادة القوم وأصحاب القرار فيه.

البنية الفنيّة والجماليّة للقصيدة:

الصورة في القصيدة:

لقد شكلت الصورة عنصرًا بارزًا ومهمًّا في هذا النص الشعري، إذ لجأ الأديب إلى تغليف أفكار النص وتثبيتها في نفس وذهنيّة المتلقي بالصور إلى جانب المعنى، وهذا ما أيقظ العواطف، في لغتها التصويريّة. لقد كان الشاعر أكثر قدرة على التعبير في بوحه من التقرير. وبالتالي كلما كان الأدب تعبيريًّا كانت الصور هي التي تتشكل في ذهن القارئ. أما حين يكون الأدب تقريريًّا، فإن الأفكار والرؤى أو المواقف الذهنية تطغى على الصور.

لقد جاءت الصورة عند الشاعر "علي عبد الجاسم" جزئيّة ومباشرة ومشبعة بمفردات البلاغة من تشبيه واستعارة وكناية ومجاز منها: (وتلك الألوانُ القاتمةُ انسربت في أوتار الروح المتعبةِ)...( أتمطُرنا أنغامُ الألقِ بأوجِ عروجِ القلبِ؟.).. (خيالٌ في الصحوِ يداعبنَا.)..(وننتظرُ الفرحَ القادمِ يلهمنا خيطَ تآلُفنا، فيدورُ الماءُ في الأرواحِ.)......

إن الشاعر استطاع أن يجعل من تراسل صور قصيدته حكاية أو اقصوصة حزن وألم وترجي وأمل في الخلاص من معاناة لم يعد يعرف نهايتها.. لقد أَلَفَتْ هذه الصور الجزئيّة مع بعضها نسيجاً حيّاً من الدلالات المتكاملة والمترابطة ليس مع بعضها فحسب، بل ومع مكونات وخلجات الشاعر النفسيّة والحسيّة والفكريّة أيضاً لتصبح في الغالب صوراً جديدةً من نسج جديد، يتراءى فيها عالم الشاعر الداخلي وارتباطه بعالمه الخارجي الذي تدفقت عواطفه وأحاسيسه نحوه دون حساب من أجل الارتقاء بوطنه وشعبه المتعبين.

هذا وقد تماها الخيال في قصيدة الشاعر بالصورة والمجاز. فالخيال المعتمد على أساليب البيان من استعارة ومجاز وتشبيه، يفسِّر مدى ارتباط هذا الخيال بعواطف المتلقي والتأثير فيها من جهة، وبأسباب تجلي هذا الجمال وقدرته على إبراز المعاني في القصيدة وتوضيحها من جهة ثانية.. وبالتالي مدى قرب هذا الجمال ذاته وسرعة إدراكه من قبل المتلقي من جهة ثالثة.

الايقاع الموسيقي في القصيدة:

لقد اشتغل الشاعر "علي عبد الجاسم" في قصيدته على تفعيلة (فعلن)، وهي من مفردات البحر (المتدارك) وهو من بحور الشعر العربي الهامة، ويتميز بخفته وسرعته. حيث أتاح للشاعر إمكانيّة التعبير بأسلوب جديد ومختلف عما هو مألوف. فاختياره لتفعيلة (فعلن) جعل الرتم الموسيقي هنا مطابقاً في الواقع لمضمون بنية القصيدة رغم أن تعبير أو مفردات الحزن والألم قد غطت مساحة واسعة من متن القصيدة: (اللوعة.. الألم .. الأحزان.. نهرب .. الأوهام .. المتعبة). ولكن في المقابل نجد فسحة الأمل في الخلاص تدغدغ عواطف الشاعر لينتقل إلى مفردات مشبعة بالفرح مثل: (شروقُ الإفصاحِ.. الفرج.. أنغام الألق.. فيدورُ الماءُ في الأرواحِ.. يا أملاً يقتربُ الآن.. تعال لترفدَ نهرَ الأحلامِ.. فتنأى أفكارُ الخيبةْ.) إن حالة التقابل هذه بين الحزن والألم، أعطى القصيدة جماليّةً ورهافةً أثرت بالمتلقي. إلا أن الشاعر استطاع برأيي أن يعتمد بحرفيّة على الصوت في تحقيق الإيقاع، فالصوت جًسًدُ الشّعر، وبه يقوم المعنى. إن المادة الصوتيّة في السياق اللغوي هي عبارة عن الأصوات المتميّزة من تعاقب الرنات المختلفة للحركات والإيقاع والشدّة وطول الأصوات وتجانس الأصوات المتحرّكة والسّاكنة ونعومتها، وغير ذلك، ممّا يثري الإيقاع ويغنيه. كما اعتمد الشاعر أيضاً على الصورة كثيراً في قصيدته بوصفها مطلباً يُفضي إلى موسيقى جديدة نغمتها مشاعره وانفعالاته المرتبطة بالموقف (بالألم ورغبة الخلاص) الذي أدى إلى إعطاء قيمة أكبر للإيقاع النفسي وللنسق الكلامي من صورة الوزن العروضي للبيت الشعري.

إن الشاعر بالصوت والصورة والمحسنات البيانية، أمن في أبيات قصيدته موسيقى داخليّة جميلة جداً يتساوق بناؤها مع تجربته الشعريّة.

العاطفة في القصيدة:

العاطفة هي الانفعال النفسي والوجداني المصاحب للنص، وفي القصيدة نلمس بشكل واضح الانفعال الهادئً الايجابي المشبع بالإنسانيّة والأمل والتفاؤل. كما نلمس في القصيدة جانباً مضمرا يحمل هماً وطنياً إلى جانب الهم الإنساني العام.. أما دوافع عاطفة الشاعر فهي ما تعرض له وطنه وشعبه من ظلم وقهر ومعاناة خلال الأزمة التي استنزفت الكثير من مقومات الدولة والشعب منذ 2011 حتى اليوم. نعم.. هي عاطفة جياشة، تحمل هماً فرديّا في مضمونها إلا أنه هم عام، هم وطن في دلالاته.

لغة القصيدة:

لقد توشحت لغة القصيدة بالسماحة والسهولة والترابط والسبك والعذوبه والنعومة والرقة والشفافيّة. والأهم أنها كانت لفة فصيحة بسيطة في الظاهر، وهذا ما يجعل المتلقي يشعر بأنها لغته هو التي يحمل فيها آماله وطموحاته ومعاناته، بيد أنها ليست لغة تقريريّة. إن حسن اللفظ في القصيدة حقق إلى جانب كل سماتها التي أشرنا إليها، رنتها الموسيقية الهادئة في الأذن أيضاً، فكانت اللفظة الواحدة منسجمة مع بقية أجزاء الكلام، وهنا يكمن سر غرابة السبك وبراعة الصياغة وفن التعبير.

أخيراً نقول:

لقد كنا أمام قصيدة لشاعر، امتلك أدوات حرفته تماماً، واستطاع عبرها أن ينقلنا إلى مساحة كبيرة من الأمل والتفاؤل والمعرفة معاً.. ففي الأمل رحنا نجد أن هناك أصواتاً حرّةً في عالمنا الإنساني والوطني على وجه الخصوص، أخذت تقول بإمكانية هذا الأمل أن يزرع عندنا التفاؤل لخلق عالم أفضل. لا شك أن تمسكنا بالحب هو طريق لتجاوز معوقات هذا الواقع المرير المشبع بالقهر والظلم والفقر والجوع والغربة والدم. يقول الشاعر "علي عبد الجاسم" في الأمل القادم المشبع بالفرح:

وننتظرُ الفرحَ القادمِ

يلهمنا خيطَ تآلُفنا،

فيدورُ الماءُ في الأرواحِ

يبسَ الشوقُ بخافقها،

يا أملاً يقتربُ الآن،

تعال لترفدَ نهرَ الأحلامِ،

فتنأى أفكارُ الخيبةْ.

***

د. عدنان عويّد

كاتب وباحث وناقد أدبي من سوريا.

.......................

يا زمناً أعيانا

للشاعر "علي عبد الجاسم"

موعودٌ قلبي بالخَفًقانِ

إلى حدِّ اللّوعةِ،

كيف سنخرجُ من ألمٍ عرشَ فينا؟

يمتدُ إلى ألفينِ من الأحزانْ...

سَفَراً نحو مساحاتٍ

نشتاقُ لرونقها،

كيف سنهربُ من عمقِ الأوهامِ

لنعلمَ أسرارَ الفرحِ؟.

وتلك الألوانُ القاتمةُ

انسربت في أوتار الروح المتعبةِ

أتمطُرنا أنغامُ الألقِ

بأوجِ عروجِ القلبِ؟

خيالٌ في الصحوِ يداعبنَا

في وقتٍ نظريَّ

لا ينفكُ يدغدغُ أوقاتَ الروعةِ،

يتفجرُ حساً في أسرارِ ليالينا،

حانَ الآن شروقُ الإفصاحِ،

وننتظرُ الفرحَ القادمِ

يلهمنا خيطَ تآلُفنا،

فيدورُ الماءُ في الأرواحِ

يبسَ الشوقُ بخافقها،

يا أملاً يقتربُ الآن،

تعال لترفدَ نهرَ الأحلامِ،

فتنأى أفكارُ الخيبةْ.

"وكر السلمان" لشلال عنوز

تُقدم رواية "وكر السلمان" للكاتب العراقي شلال عنوز (2020) نفسها كنموذج فائق الأهمية في أدب الحروب العربي الحديث. فهي لا تكتفي بتصوير ويلات المعارك، بل تغوص بجرأة نادرة في العواقب النفسية والوجودية التي تخلفها الحرب على الروح الإنسانية. عبر بناء سردي محكم وشخصيات مركبة، تتحول الرواية إلى مشرحة أدبية تكشف كيف يمكن للعنف المنظم (الحرب) أن يفكك هوية الإنسان ويحوله من ضحية إلى جلاد، في مسار تراجيدي يعكس عبثية الصراعات ودمويتها. هذه الدراسة تهدف إلى تحليل آليات أدب الحروب وتجلياتها في الرواية، بدءًا من عتباتها النصية وصولًا إلى خاتمتها العدمية، مع التركيز على الأسلوب الفني وسيكولوجية البنية السردية والرمزية العميقة.

عتبات النص: تحليل سيميائي لغلاف رواية "وكر السلمان": حين تتحدث الصورة عن الخراب الداخلي

يعتبر غلاف الكتاب عتبة النص الأولى، وبوابة القارئ إلى عالمه. وفي غلاف رواية "وكر السلمان"، نجد تكويناً بصرياً ونصيا متكاملاً، لا يكتفي بتقديم معلومات عن العمل، بل يغمر المتلقي في الجو النفسي المشحون والمأساوي للرواية قبل قراءة السطر الأول.

1. اللوحة الفنية: مرآة الروح المعطوبة

تهيمن على الغلاف لوحة فنية تنتمي إلى المدرسة التعبيرية أو التجريدية، حيث لا تهدف إلى محاكاة الواقع بقدر ما تهدف إلى تجسيد الشعور الداخلي والصراع النفسي.

* الشخصية المحورية (العنصر البؤري):

يتوسط اللوحة شخص يسير، مرسوم بلون أصفر فاقع يميل إلى الأخضر الليموني1. هذا اللون غير طبيعي ومزعج بصرياً، مما يحقق عدة دلالات رمزية:

- العزلة والاغتراب: اللون الصارخ يفصل الشخصية تمامًا عن محيطها اللوني القاتم، مما يرمز إلى عزلة البطل (نعمان) واغترابه عن مجتمعه وعن ذاته السابقة.

- المرض والفساد: اللون الأصفر الشاحب غالباً ما يرتبط بالمرض والعلل النفسية والجسدية. وهو ما يتطابق مع النص الخلفي للغلاف الذي يصف البلاء بأنه "ورم سرطاني"2. الشخصية هي تجسيد لهذا الورم الخبيث الذي خلفته الحرب.

- فقدان الهوية: ملامح الشخصية غير واضحة تمامًا، وهيئتها تبدو مضطربة ومموهة، كأنها في طور التلاشي أو الذوبان في محيطها3. هذا يعكس تفكك هوية البطل وفقدانه لذاته الإنسانية.

* البيئة المحيطة (الخلفية):

الخلفية عبارة عن تكوين من خطوط عمودية بألوان ترابية وخريفية (أخضر داكن، بني، رمادي)، مع بقع حمراء متناثرة. هذه الخلفية تبدو كغابة كثيفة ومشوشة أو حقل من القصب المتشابك.

- متاهة العقل: هذه الغابة الكثيفة ليست مكانًا جغرافيًا، بل هي رمز مباشر لعقل البطل المزدحم بالذكريات المؤلمة والصدمات. إنها متاهة نفسية ضل فيها طريقه ولا يستطيع الخروج منها.

- بيئة الوكر: تتناغم هذه البيئة الوحشية مع عنوان الرواية "الوكر". فالغابة مكان بدائي ومنعزل، وهو ما يتناسب مع طبيعة المكان الذي يمارس فيه البطل جرائمه.

- رمزية اللون الأحمر: البقع الحمراء المتناثرة بشكل خفي في الخلفية هي تلميح واضح ومباشر للدماء والعنف الذي يسود عالم الرواية.

2. العناصر النصية: تكريس للمأساة

تتكامل النصوص المكتوبة مع اللوحة الفنية لتعزيز الرسالة وتوجيه القارئ.

* العنوان ("وكر السلمان"):

كُتب العنوان بخط بارز ولون أحمر قانٍ. اختيار اللون الأحمر للعنوان هو اختيار رمزي بامتياز، فهو لون الدم والخطر والعنف، ويؤكد بشكل مباشر على الطبيعة الدموية للأحداث التي ستتكشف داخل هذا "الوكر".

* النص الخلفي (Blurb):

يقدم النص المكتوب على ظهر الغلاف مفتاحًا تأويليًا صريحًا للوحة وللرواية ككل. فهو يصف بطل الرواية (دون تسميته) بأنه ليس مجرمًا عاديًا، بل هو "البلاء المدمر الذي ورثته الحرب" و"الورم السرطاني الذي نما من ردمها المشؤوم". هذه الكلمات تؤكد أن الشخصية الصفراء في اللوحة ليست شريرة بالفطرة، بل هي ضحية تحولت إلى وحش، وأن الغابة المحيطة به هي "ردم" الحرب الذي نما فيه هذا الورم. النص يكمل الصورة في شرح دقيق لسيكولوجية البطل الذي "يقتص ممن لم تطلها نارها".

3. التكوين العام والخلاصة

ينجح غلاف رواية "وكر السلمان" في خلق تكوين متكامل ومؤثر. هناك انسجام تام بين الصورة والنص، حيث تشرح الكلمات ما ترمز إليه اللوحة، وتجسد اللوحة ما تصفه الكلمات. الغلاف يوحي بالضياع، الألم، العزلة، والجنون، وهو يقدم وعدًا للقارئ بأنه مقبل على رحلة نفسية عميقة ومظلمة في خراب الروح الذي تخلفه الحروب. إنه غلاف لا يبيع قصة بقدر ما يبيع حالة شعورية، وينجح في إثارة فضول القارئ المهتم بالأدب الجاد والعميق.

بوصلة العنوان والإهداء

* العنوان - "وكر السلمان": العنوان مركب إضافي مكثف بالدلالات. فكلمة

"الوكر" تُحيل مباشرة إلى عالم حيواني بدائي، مكان منعزل ومظلم للافتراس، وهو ما يعكس بدقة حالة البطل النفسية وتحوله إلى كائن تحركه غرائز التدمير. أما

"السلمان"، فهي لا تشير فقط إلى قضاء صحراوي معزول، بل تستدعي في الذاكرة العراقية سجن "نقرة السلمان" الشهير، مكان النفي والعقاب. بهذا الربط، يكتسب "الوكر" بعدًا رمزيًا مزدوجًا: فهو سجن نعمان النفسي، ومكان منفاه عن عالم الإنسانية.

* الإهداء - ميثاق مع الضحايا: يأتي الإهداء كبيان صريح يضع الرواية في صف المناهضين للحرب، حيث يهديها الكاتب "إلى ضحايا الحرب، رجالاً، نساء وأطفالاً... إلى الذين تناثرت أشلاؤهم وأحلامهم معاً" ، ويؤكد أنها "شاهدة على دموية الحرب وآثارها". هذا الميثاق يطلب من القارئ ألا يقرأ الأحداث كقصة جريمة، بل كأثر مباشر وكارثي لـ "حماقات مشعليها".

تحليل الشخصيات: نماذج إنسانية تحت مطرقة الصدمة

* نعمان (البطل التراجيدي): هو محور الرواية وتجسيد لأطروحتها. شخصيته مبنية على انشطار حاد بين ماضيه كطالب قانون وشاعر ومحب، وحاضره كقاتل دموي6. المحرك الأساسي لهذا التحول هو

الجرح الرمزي الذي أصابه في الحرب، والذي لم يكن مجرد إعاقة جسدية، بل اغتيال لرجولته وهويته. جرائمه تتبع طقسًا مرضيًا؛ حيث يستدرج ضحاياه إلى وكره ليروي لهم مأساته ويكشف عن جرحه قبل قتلهم8.

* سناء (الفردوس المفقود): خطيبة نعمان، ورغم غيابها في حاضر الرواية، إلا أنها تُمثل كل ما هو نقي وجميل من عالم ما قبل الحرب: الحب، الأمل، والمستقبل. كانت طالبة قانون ذكية وشاعرة. قتل نعمان لها، والذي نكتشفه لاحقًا، كان جريمته التأسيسية التي قتل بها آخر بقايا الخير في نفسه.

* الضحايا (ناظم ومهند): هم مرايا الماضي التي يحطمها نعمان.

ناظم يمثل الصداقة والوفاء، وقتله هو ذروة الخيانة.

مهند يمثل الطموح والحياة الأسرية، وقتله هو تدمير لصورة المستقبل الذي حُرم منه نعمان.

* رحمة (صوت العدالة): صديقة سناء التي أصبحت قاضية تحقيق، تُمثل النظام والقانون والعالم السوي الذي انفصل عنه نعمان. هي الخطر الخارجي الذي يهدد بكشفه، والمواجهة الخاطفة بينهما في الأسواق المركزية من أكثر مشاهد الرواية توترًا.

الحبكة وبنية الأحداث: مسار السقوط الحتمي

تعتمد الرواية على حبكة نفسية دائرية، حيث يكون الصراع الأهم داخليًا والنمط الإجرامي متكررًا.

* البنية المتشظية: عبر الاستخدام المكثف للاسترجاع الفني (الفلاش باك)، تتشظى بنية السرد بين الماضي والحاضر. هذا التناوب الحاد بين ذكريات بغداد المشرقة وجرائم الوكر المظلمة يعكس بدقة عقل نعمان المكسور.

* تصاعد الأحداث: يتصاعد التوتر مع كل جريمة، ومع كل كشف جديد عن الماضي. الذروة ليست حدثًا واحدًا، بل هي لحظة مزدوجة:

داخلية عند الكشف الكامل عن جريمة قتل سناء، وخارجية عند وصول الشرطة ومحاصرة الوكر.

الرمزية في الرواية: تجليات اللاوعي في عالم محطم

تتجاوز الرواية السرد الواقعي لتنسج شبكة من الرموز العميقة التي تمنح النص أبعادًا دلالية ونفسية إضافية.

* الوكر (النفق): هو الرمز المركزي المهيمن. إنه ليس مجرد مكان، بل هو تجسيد مادي لعقل نعمان الباطن، ومقبرة لماضيه، ومسرح لتفريغ عدوانيته. وصفه الدائم بـ "الروائح النتنة" و"القذارة" و"الظلام" يجعله انعكاسًا مباشرًا للتعفن الأخلاقي والنفسي الذي أصاب البطل. وتحوله لوحش نهم للانتقام والدم ،كما إنه يمثل تراجع الإنسان إلى حالة بدائية وحيوانية، حيث تُمارس الجريمة في عزلة تامة عن أعين المجتمع والقانون.

* الجرح الجسدي: إصابة نعمان في الحرب هي أكثر من مجرد عاهة جسدية؛ إنها رمز للإخصاء النفسي والوجودي. عندما يكشف عن "سوأته المشوهة" لضحاياه قبل قتلهم، فهو لا يكشف عن جرح في الجسد، بل عن جرح أعمق في هويته ورجولته وكرامته. هذا الجرح هو المُبرر المريض الذي يسوقه لنفسه ولضحاياه، وهو المحرك الذي حول ضعفه إلى وحشية لا يمكن السيطرة عليها.

* القط الأسود: يظهر هذا الكائن كرمز معقد وغامض. هو ليس مجرد حيوان أليف، بل هو شاهد صامت يمتلك وعيًا فطريًا بالشر. في كل مرة، يحاول تحذير الضحايا ومنعهم من دخول الوكر. يمكن تأويله كـ:

- بقايا ضمير نعمان: جزء من روحه لم يمت بالكامل، انفصل عنه وتجسد في هذا الكائن الذي يحاول التكفير عن جرائمه عبثًا.

- رمز للطبيعة النقية: يمثل الفطرة السليمة التي لم تلوثها وحشية الحرب، على عكس نعمان الذي تم "شيطنة فطرته".

- نذير شؤم: لونه الأسود وسلوكه الغريب يضفي على السرد جوًا من الغيبية، وكأنه رسول من عالم آخر يشهد على المأساة.

* فعل القتل كطقس لتدمير الذات: كل جريمة يرتكبها نعمان هي فعل رمزي لتدمير جزء من ماضيه. ضحاياه ليسوا أعداء، بل هم أصدقاؤه وخطيبته، أي أنهم يمثلون أجمل ما في حياته قبل الحرب: الصداقة، الطموح، والحب. بقتلهم، هو لا يمحوهم من الحاضر فحسب، بل يقتل ذكراهم الجميلة في داخله، في محاولة يائسة لمحو ألمه عبر محو مصدر الذكرى.

الأسلوب واللغة الشعرية: جماليات السرد في مواجهة الوحشية

* لغة الواقعية القاسية: عند وصف أحداث الحاضر – مشاهد القتل وأجواء الوكر – يستخدم الكاتب لغة مباشرة وحادة، تركز على التفاصيل المقززة.

* اللغة الشعرية والمونولوج الداخلي: على النقيض، عندما يغوص السرد في ذكريات نعمان أو مونولوجاته الداخلية، ترتقي اللغة إلى مستوى شعري. هذا الأسلوب يكشف عن الصراع الداخلي، كما في تساؤله: "ما هذه البراكين التي تتفجر في أعماقي، غلاً وحقداً وحريقاً؟".

* الشعر كرمز للبراءة المفقودة: توظيف قصائد كاملة داخل النسيج السردي، كتبها نعمان وسناء، يصبح شاهدًا على ما كان يمكن أن يكون، ويجعل من جريمة قتل نعمان لسناء، الشاعرة والحبيبة، اغتيالًا للجمال ذاته.

سيكولوجية البنية السردية: حين يصبح السرد مرآةً للعقل المحطم

* الزمن المتشظي كعرض من أعراض الصدمة: لا تتبع الرواية تسلسلاً زمنيًا خطيًا، بل تنتقل بشكل فجائي ومضطرب بين الحاضر والماضي. هذا التشظي الزمني هو محاكاة دقيقة لاضطراب ما بعد الصدمة (PTSD)، حيث لا يعود الماضي ذكرى مستقرة، بل يصبح حاضرًا اقتحاميًا ومؤلمًا.

* هيمنة المونولوج الداخلي: جزء كبير من السرد يُروى عبر صوت نعمان الداخلي، مما يضع القارئ مباشرة داخل عقله المريض، ويجعله شريكًا في معاناته وصراعه.

* "الوكر" كفضاء نفسي: البنية السردية تربط بشكل وثيق بين المكان الخارجي والحالة الداخلية. "الوكر" ليس مجرد مسرح للجريمة، بل هو امتداد مادي لنفسية نعمان المتعفنة

النهاية: الانفجار كفعل عدمي ونهاية منطق الحرب

* تسلسل الأحداث النهائية: بعد تجميع الأدلة، تكتشف السلطات "الوكر" بمساعدة رمزية من القطة السوداء. عند اقتحام المكان، يعثرون على اعترافات نعمان الكاملة 32، وقبل أن يتمكنوا من القبض عليه، ينفجر المكان بعبوة ناسفة كان قد أعدها مسبقًا، مما يؤدي إلى مقتل اثنين من رجال الشرطة وتدمير الوكر بالكامل.

* الدلالات العميقة للخاتمة:

- رفض العدالة المجتمعية: يرفض نعمان أن يخضع لمنظومة العدالة، وينفذ حكمه الخاص بنفسه.

- الخاتمة كفعل حربي أخير: الانفجار ليس مجرد انتحار، بل هو آخر عملية عسكرية يقوم بها، مؤكدًا أن العنف الذي تعلمه هو لغته الوحيدة.

- انتصار الفوضى والعدمية: لا تنتهي الرواية باستعادة النظام، بل بانتصار الفوضى التي ابتلعت القاتل ومطارديه.

- محو الأثر وإفناء الذاكرة: بتدمير الوكر، يسعى نعمان رمزيًا إلى محو جريمته من الوجود، مختارًا "الإفناء" بدلاً من الموت.

ومجمل القول: إنَّ "وكر السلمان" رواية عميقة ومرعبة في آن واحد. إنها عمل أدبي محكم يذهب أبعد من إدانة الحرب ليصل إلى تشريح دقيق للآثار النفسية التي تتركها في النفوس. من خلال لغة فنية متقنة، وبنية سردية تعكس سيكولوجية العقل المحطم، يثبت شلال عنوز أن الجحيم الحقيقي ليس في ساحات القتال، بل في "الوكر" المظلم الذي تبنيه الحرب داخل روح الإنسان.

***

د. نجلاء نصير

دكتوراه الفلسفة في الآداب تخصص الدراسات الأدبية والنقدية من كلية الآداب جامعة الإسكندرية

نص الشاعر يونس توفيق، حضور السيدة البابلية، ينتمي إلى الشعر المعاصر بطابعه الحلمي والمتخيل، حيث ينسج الشاعر رؤيته لمملكة العاطفة والجسد والذاكرة في فضاء شعري غني بالصور والرموز، متماهياً مع التجربة الإنسانية في الحب والفقد والحنين إلى الذكريات المتوارثة. يمثل النص رحلة شعورية متواصلة تبدأ من واحة الذاكرة، لتصل إلى أعماق العشق والمواجهة الذاتية مع الألم والغربة، مروراً بالخيال والأسطورة.

في افتتاح النص، يقدم الشاعر الذاكرة المهجورة كفضاء انطلاق لحضور المرأة، موحياً بأن الخيال والعاطفة يولدان من هذا الفضاء:

من واحةِ ذاكرتي المهجورةِ

تولدُ سيدة الأقمارِ الخضر

وتُشرقُ مُزهرةً في أحلامي.

تتسم الصورة الشعرية بالتركيب الحلمي، حيث تتخذ المرأة، أو السيدة البابلية، هيئة رمزية: هي القمر، هي الزهرة، هي القوة التي تهب الحياة إلى أحلام الشاعر. هذه البداية تكشف عن اهتمام الشاعر بالمقدس في الحب والجمال، إذ تتحول المرأة إلى رمز يتخطى حدود الزمن والمكان.

يتواصل النص مع جسدية المرأة وحضورها القوي، حيث يمتزج الحب بالرغبة والطقوس، فتتضح قوة التأثير الشعوري والوجداني:

تتماسكُ كالغيم المتأججِ،

تبرقُ في جسدي

تمتدُّ سريعا

حتى آخرَ رعشةَ حُبٍّ:

تقطرُ في غاباتِ وجودي

ثمّ تُعاودني كالحمّى.

يُلاحظ أن التركيب الشعوري يعتمد على الحركة المتسلسلة: امتداد، تقطر، تعاود. هذا الأسلوب يعكس التفاعل النفسي والجسدي للشاعر مع حضور الآخر، ويحوّل النص إلى فضاء طقسي تتداخل فيه الرغبة بالمعرفة الذاتية.

تستمر المرأة في النص ككائن حي، له تأثير مباشر على إدراك الشاعر وحواسه، ما يجعل النص يحمل جماليات صوتية ومرئية متزامنة:

أنصتُ مشـدوها:

أتَحسَّسُها تتَحرّك،

تجرحُ جلدي بالعطرِ المتصاعدِ

من لهَبِ العينين

وتخرقُ رأسي بالنغمِ الشرقيِّ،

وبالشِّعرِ المهووس بإيقاعِ الحركات

وأنفاس الكلمات.

ينسج النغم والإيقاع تجربة حسية متكاملة، حيث تتداخل العين، الجلد، الرأس، الشعر والحركة لتوليد شعور شعوري عميق. يحول الشاعر الحب والرغبة إلى طقس شعري شامل يجمع بين الجسد والروح واللغة.

النص لا يغفل البعد الأسطوري والتاريخي، حيث يذكر البخور والمعابد البابلية، في مشهد يعكس امتزاج العشق بالذاكرة الجماعية:

في المدخلِ

صارت نَحتاً محفوراً

بأنين عذاباتِ الزّمنِ الممزّقِ،

صارت قُرباناً يَتحوّرُ

تحتَ بخورِ معابدَ بابلَ

والصّلَوات...

هنا تتحول التجربة الفردية إلى تجربة تاريخية-أسطورية، إذ تمتزج العاطفة بالبعد الحضاري والثقافي، لتصبح المرأة حضوراً روحياً يعكس تلاحم الزمن الشخصي مع التاريخ الكبير.

الشاعر يواصل بناء طقوس العشق، مستخدماً استعارات الجسد والمسك والعناق المحموم، لتضفي بعداً شعورياً وطقسياً كثيفاً:

كالمِسكِ يموعُ الخَصرِ

ويلتَهِبُ الجسدُ العاري

في طَلسمِ كلِّ عناقٍ محمومٍ.

ألقاني أسكنها،

أتملّكُ لونَ صِباها

مُنتحلا شكل المعشوقِ

وسيف العاشق.

يتجلّى هنا التناوب بين التملك والانصهار، حيث يتماهى العاشق مع المحبوب، ويرتقي النص إلى طقس شعوري مكثف، تصنعه لغة غنية بالصور الجسدية والرمزية، تعكس الاحتراق الداخلي والولادة المتجددة في الحب.

المرأة في النص تتحرك بحرية وتخرج عن نطاق السيطرة، ما يعكس الخيبة والفقد، كما يظهر في المشاهد التالية:

من عالمِ غيبتِها تأتي:

تتمطّى كالطيرِ المعتوقِ؛

تغنّي،

ترقُصُ حولَ النّارِ:

كأسرابٍ من مَرجانٍ ورديّ

تلمعُ

ثمّ تعاودُ رحلتها.

تكرار الحركة بين الهروب والعودة يضفي ديناميكية مستمرة على النص، ويخلق توتراً شعورياً بين الرغبة في التملك والاستسلام للغياب.

في المقاطع الأخيرة، يتحول النص إلى تجربة العزلة والغربة، حيث يمتزج الحب باللوعة والحنين، ليبرز البعد المأساوي للشاعر:

مجنونا أبحثُ عنها في آلامِ العشّاقِ

وأركضُ بينَ غياهِبِ أوجاعي،

أتحرّقُ تحتَ صقيعِ الغربةِ

في طرقِ الليلِ المهجورةِ،

أصرخُ ثورة حبّي في قلبِ الفجرِ الغافي،

أبكي سـنوات الوحدةِ،

والتّرحال.

يتجلّى التناقض بين الاقتراب والهروب، بين التعلق والانصراف، ويبرز حضور الحب كقوة تمزّق الروح والجسد. الغزالة الرمزية تمثل شغفاً لا يمكن الإمساك به، فيما يظل الشاعر في مواجهة الوحدة والصمت، جامعاً بين الألم والجمال في تجربة شعورية مكثفة تعكس قدرة النص على تحريك العاطفة والمخيلة:

حبّي كالريحِ يمزّق صدري

مثل البحرِ ينازعُ فيَّ

وينخرُ روحي حتى العَظمَ...

أضيعُ وحيداً في غاباتِ الخوف،

وأسرحُ خلفَ غزالَةَ عشقي

أمنحها أسرار وجودي

والدمعَ المتفتّح في أحشائي...

أتقرّبُ منها مرتعشا،

أتلمّسُ وجنتها،

شفتَيها...

تضحكُ،

تهرُبُ،

ثمَّ تغيبُ وراءَ سهول الصمت...

بهذه الطريقة، يظهر يونس توفيق في حضور السيدة البابلية مهارة فائقة في تحويل تجربة الحب والشوق إلى لوحة شعرية متكاملة، تجمع بين الإحساس الحسي والعاطفي، وبين رمزية العشق والألم، لتقدم نصاً حياً، نابضاً بالوجد، ومفتوحاً على قراءات متعددة الأبعاد بين الحب والفقد والوجود.

يمكن القول إن النص متماسك من حيث البنية والرمزية، إذ تبدأ الرحلة من الذاكرة الفردية، تتوسع عبر الحب والرغبة والجسد، وتمتد إلى المقدس والأسطورة التاريخية، ثم تنتهي بتجربة الوحدة والغربة، في تركيب شعري يشبه طقساً شعورياً متكاملاً. حضور السيدة البابلية نص مؤثر للغاية، غني بالصور السيميائية والرمزية، مبدع في استخدام اللغة لتحويل الحب والمعاناة إلى تجربة شعورية وجمالية، ويعكس حساسية الشاعر العالية تجاه الزمن والذاكرة والوجود الفردي، مؤكداً مكانة المرأة كحاضرة أسطورية في عالمه الشعري.

السيرة المختصرة للشاعر

يونس توفيق (يونس صديق الحمداني) شاعر وروائي وناقد وأكاديمي عراقي، وُلد في الموصل عام 1957 ويقيم في إيطاليا. تخرج من جامعة تورينو عام 1986 وحصل على الماجستير في الآداب.

أصدر عدة روايات مهمة منها "الغريبة"، "مدينة إرم"، و"اللاجئ"، بالإضافة إلى أعمال شعرية مثل "حضور السيدة البابلية" و"القمر بين اليدين"، ودراسات لغوية وتاريخية مثل "السلام عليكم" و"إسلام".

نال جوائز أدبية مرموقة في العراق وإيطاليا، ويكتب في صحف إيطالية كبرى. يرأس المركز الثقافي العربي-الإيطالي "دار الحكمة"، ويُدرّس الأدب العربي في جامعة جنوة منذ 1999. كما ساهم بترجمة ونشر التراث العربي الكلاسيكي إلى الإيطالية، مقدمًا أعمال الجاحظ والغزالي وابن عربي وجبران خليل جبران.

***

بولص آدم

رواية "خَوَاء" للأديب الشاعر راضي علوش صدرت سنة 2023 عن دار ناريمان للنشر، رواية تنتمي بحق إلى الأدب الواقعي، لما تناولته من قضايا واقعنا الخلافية وإشكاليات لا تزال مثارة في مجتمعنا اللبناني. تميزت باسلوب سردي رشيق لا يخلو من ومضات شعريّة، فضلاً عن حوارات مقتضبة بين شخوصها لتبيان الرؤى والتباينات التي لا تخفى على أحد في مجتمعنا.

لقد وفق الكاتب باختيار كلمة "خَوَاء" عنوانا لروايته، كوننا في الحقيقة نعيش ونلمس هذا الخواء في أكثر من مفصل ومحطة من محطات حياتنا السياسيّة والاجتماعيّة.

إنه الخواء بعينه لافتقادنا لحراك سياسي مجتمعي فاعل ومؤثر للتخلص من حالة الركود التي تحاصرنا.

إنه الخواء، لا بل الإحباط بكل ما للكمة من معنى، من خلال حواجز المحسوبيات والمحاصصة التي تقطع الطريق على أصحاب الكفاءة والضمائر الحيّة لتفسح المجال أمام الأزلام وكتبة التقارير.

إنه الخواء الثقافي الذي بموجبه، وخوفًا من الملاحقة او تلفيق التُهم، اعتكف الكثيرمن المثقفين عن ممارسة دورهم في بث حركة الوعي لدى الجمهور، ومن لم يعتكف منهم تحول إلى بوق من أبواق القوى النافذة.

إنّه الخواء الناتج عن غياب القيم الإنسانيّة والأخلاقيّة .

بالعودة إلى الرواية فإنها تطرقت إلى عدة قضايا منها: الفساد الإداري المستشري، الخلل في النظام التربوي، نظام الأحوال الشخصية، وصولا إلى النظام السياسي والخلل الذي يعتريه.

بإشارات ذات دلالة أظهرت الرواية كيف أنّ الفساد واللجوء إلى تقديم الرشاوى أصبحا بمثابة ثقافة يعتنقها أصحاب المصالح لتمرير صفقاتهم، والتغطية على ارتكاباتهم. وهذا ما لجأ إليه المتمول عاطف في زيارته المفاجئة للموظف ماجد ومبادرته بالقول: "عربون صداقتي ستجده في هذا المغلف، ولا تعتبر ذلك رشوة بل إكرامية مقابل أن تغض النظر عن بعض المخالفات التي أوردتها في تقريرك الرقابي".

كذلك تلفت الرواية إلى تلك الفوضى الإدارية التي تعصف بالإدارة العامة، والخلل في الموازين وتقدم المحسوبيات على الكفاءة بعد أن "أصبح الفيصل الأساس في ذلك ما يحظى به الموظف من قربةٍ لدى هذا الزعيم السياسيّ أو ذاك. لقد استحالت الإدارة إلى مجموعة مزارع على رأس كل منها وزير يرعاها، ويحميها من التابعين لخصومه السياسييّن" (9).

يعيد الكاتب التذكير بالخلل البنيوي للنظام السياسيّ اللبناني وللمكاسب التي حققها أمراء الحرب على حساب الوطن واستثمارهم النفعي لاتفاق الطائف الذي حوّلهم من أمراء حرب إلى أمراء طوائف، "إن البنية السياسية التي أرساها اتّفاق الطائف لا تعدو كونها شركة أسسها فرقاء الحرب الأهليّة الذين اتفقوا على تقاسم الحصص والمغانم (116).

هي شركة بكل ما للكلمة من معنى امتدت أذرعها لتطال القطاع التربوي الرسمي وتعمل على تهميشه وتهشيمه لصالح مؤسساتها التربوية الخاصة. ومن أبرز ضحايا هذه السياسة ما لحق بالجامعة اللبنانية التي يفترض ان تكون جامعة لكل أبناء الوطن وموحدة لهم، لكن الشره الذي سيطر على السياسيين المتنفذين أدى إلى أن "وضعت اليد على كليّة الحقوق بالتلازم مع المحاصصة في السيطرة على كليّات الجامعة اللبنانيّة من قبل الأطراف السياسيّة. فتحولت هذه الكلّيات إلى محميّات حزبيّة طائفية ومذهبيّة" (124).

تشير الرواية إلى تراجع دور المدرسة الرسميّة لحساب المدارس الخاصة ذات الطابع الطائفي والمذهبي، والتي تمارس استغلال المواطن وابتزازه بأبشع الطرق عن طريق الزيادات المتكررة في الأقساط المدرسية غير عابئة بأحوال الأهلين وأوضاعهم المعيشية (44). وهنا نسأل مع الكاتب، "لماذا تمسك المدرسة الخاصّة بزمام التعليم في الوقت الذي تُهمَّش فيه المدرسة الرسمية التي ينبغي أن تكون لها الصدارة باعتبارها المدرسة الوطنية الجامعة لكل أبناء الوطن".(45).

يعيد الكاتب التذكير باختلاف النظرة إلى القضايا الكبرى، والتي بدأت منذ تواجد المقاومة الفلسطينية على ارضنا وانقسام اللبنانيين في ما بينهم، وهذا ما قالته "جنان" في حوارها مع ماجد: "أنتم فتحتم الأبواب لإسرائيل، وأوجدتم لها الذرائع والمبرّرات لتقوم بإعتداءاتها. لقد ساندتم الفلسطينيين في التسلّيح وفي القيام بعمليات عسكريّة". وعلى الرغم من تأييدنا للحق الفلسطيني فإنّ هذا لا يسوغ لنا التنكّر لحقّنا في الحفاظ على أرضنا ومقدراتنا. فالسلاح الفلسطيني لا يجدي نفعا خارج فلسطين، كما انه هو السبب في حدوث إشكالية كبرى ذات طابع أمني وسياسيّ ووطنيّ عام، إذ يشكل عامل انقسام بين اللبنانيين بين مؤيد ومُعارض" (27). دون ان تنسى جنان التذكير بالمقولة الرائجة لدى قسم كبير من اللبنانيين وهي "ما أسرعنا في مناصرة قضايا الآخرين دون المرور بالوطن اللبناني والاهتمام بمشكلاته وقضاياه" (28).

فيما يشبه النقد للحياة السياسيّة في لبنان يُلخص ماجد قراءته لها بالقول: "لا أظن أنّ اللبنانيين قادرون على بناء دولة فعليّة في ظل خلل في بنانا السياسية والاجتماعيّة، فلكل فريق من الأفرقاء معاييره الخاصة (52). أيضا هناك فرق شاسع بين التسوية والميثاق. التسوية لا ترقى إلى مستوى الميثاق إلّا إذا وحّدت بين أبناء الوطن في إطار جامع يلغي الفوارق القائمة بينهم (68).

كان للحملات الانتخابية والخطابات التحريضية المعتمدة فيها مساحة لا بأس بها، حيث إن خطاب كل مرشح من المرشحين يتوجه إلى طائفة بعينها أو إلى منطقة بعينها، وهذا يدل على غياب الخطاب الوطني الجامع.(60). وبدلا من ان تكون الانتخابات من أهم وسائل العمل الديمقراطي، إلّا انها للأسف تحولت إلى لعبة يمارسها الكبار في سبيل السيطرة والتحكّم والاستغلال. ولم يفت الكاتب الإشارة إلى ضرورة العمل على تعديل قانون سن الإنتخاب فليس من باب العدل أن من يبلغ الثامنة عشرة من العمر ويتمتع بالأهلية القانونية ألا يمنح حق الانتخاب (140).

في موضع آخر تتطرق الرواية إلى مسالة قوانين الأحوال الشخصية والزواج المختلط. فبعد ان نشأت علاقة حب بين ماجد المسلم وصديقته المسيحية جنان وتصميمهما على الزواج الذي قوبل برفض تام من أهلها وإجبارها على من آخر السفر معه إلى بلاد الاغتراب، في حين كان الرفض من قبل أهله اقل وطأة، وإن أحتمل في طياته تحذيراً من فشل مثل تلك العلاقة. تقول ام ماجد لابنها: "اللي بياخذ من غير ملتو بموت بعلتو" (31). وتقدم الرواية حلاًّ لهذه المعضلة يكمن في اعتماد العلمنة التي تفصل بين الدين والدولة، وهي البوّابة العريضة التي يدخل منها المواطنون جميعهم إلى رحاب الدولة المدنيّة الجامعة"(89). فليس من سبيل سوى التمرد على القوانين الظالمة البالية التي تتعارض مع قوانين الإنسان الطبيعية. فالفكر الحر الذي ينبغي أن نحظى به يدفعنا في اتجاه مغاير للاتّجاه الذي يحرص الأهل على سلوكه (38).

وفي ما يشبه الدعوة من قبل الكاتب للمنتديات الثقافية المنتشرة بكثرة في وطننا إلى أن تقوم بدورها الحقيقي والمنتج في سبيل الوصول إلى التغيير المبتغى في الوطن، يؤكّد الكاتب الدور الذي يؤدّيه الفكر والأدب، والذي لا يمكن إغفاله، في التمهيد لأي تغيير مُرتجى شريطة معرفة كيفية توظيفه، وهذا ما حصل في الثورة الفرنسيّة وغيرها من الثورات.

ولكون الكاتب جنوبيّ الهوى والانتماء، فإنّه لا يزال يؤمن بانّ في الخيارات الصعبة لا بد من تغليب خيار المقاومة الذي يشكل وجه الحريّة المتوهّج (119). ولهذا كانت نصيحته لصديقته جنان بأن تستثمر في الجنوب وتساهم في تنميته، وفاءً لأرض تستحق النماء واستشرافّا للمستقبل. منتقدا في الوقت عينه ما نلحظه من مظاهر البناء والعمران في المناطق المختلفة، لأنها لا تملأ ذاك الخواء، ولأنها لا تستند إلى رؤية سليمة وأسس متينة (75).

ختاما لقد قدّم لنا الأستاذ راضي علوش رواية تحفز القارئ على التمعن في ما هو قائم، وفي ما يجب أن يكون، كي لا ينتهي بنا الأمر مثلما انتهى بماجد الذي لم يحظَ بالترقية التي يستحقها بعد ان حرمها منه المتسلقون والمتزلفون، ليكون قراره الاستقالة والهجرة، وليعمل في خدمة جنان، راعياً لمصلحتها في بلاد الاغتراب.

***

عفيف قاووق – لبنان

 

تعد رواية "الهدية الأخيرة" ثامن روايات الزنجباري "عبد الرزاق قرنح" صاحب نوبل لسنة 2021، وهي تتخذ هجرة عباس الزنجباري إلى بريطانيا موضوعا لها، وهو شخصية تمتلئ حياته السابقة بأسرار حاولت التملص منها، لكنا تطفو على السطح مرة أخرى بسبب إصابته بسكتة دماغية مفاجئة. حاول عباس في آخر أيامه التصالح مع ماضيه من خلال روايته لتلك النقط السوداء فيه لزوجته مريم مجهولة الأصل. فهل سيستطيع عباس التصالح مع ماضيه الذي طارده لعقود من الزمن؟ وهل ستعرف مريم جواب السؤال "من أنا؟"  الذي رافقها مدة طويلة؟

إضافة إلى هذا تناقش الرواية اهتمامات الجيل الثاني من المهاجرين واللاجئين من خلال شخصيتي "هناء" "وجمال"، اللذان يحاولان الانصهار في مجتمع ليس بمجتمعهما لكنهما وجدا فيه أنفسهما قسرا، فهل سيتقبلهما هذا المجتمع رغم اختلافهما؟ أم أن نظرة الاستعلاء والدونية سترافقهما رغم نهاية الاستعمار الأوروبي لإفريقيا؟

تضعنا الرواية أمام سؤال جوهري تكرره الشخصيات ضمنا هو: من أنا؟ هل أنا إفريقي؟ هل أنا هارب؟ هل أنا بريطاني؟ وإذا لم أكن كل ما سبق فمن أنا؟ سنحاول من خلال هذه المراجعة الغوص أكثر بين ثنايا الرواية، من خلال تسليط الضوء على أهم المواضيع التي ناقشتها الرواية ضمنا وتصريحا، ومنها الذاكرة والهوية، والانتماء والمنفى، والعلاقات العائلية المتوترة، والصمت والصراعات النفسية.

1- تجليات الهوية والذاكرة في الرواية.

يؤدي الموت الوشيك بعباس إلى مكاشفة ذاته بالأسرار التي كان يخفيها تحت طبقات من التجاهل والصرامة، لكن تأتي لحظة انقشاع الغشاوة في محاولة أخيرة منه لإصلاح الشرخ الذي حدث بينه وبين عائلته، خاصة ابنته هناء. إنه يحاول، في لحظاته الأخيرة، التصالح مع ماضيه الذي هجر فيه زوجة وابنا ظنا منه أنه ليس من صلبه فقط لأنه أتى قبل موعده بأشهر، وظنا منه أنه وقع ضحية مؤامرة من طرف أخته وأنسابه، غير أن الشك ظل يراوده لمدة تناهز أربعين عاما، لذا يبدأ في تذكر طفولته وأسباب هجرته، وأحداث مؤلمة من الماضي، ما يضطره لمواجهة ذاته القديمة ليفرضها على جهل عائلته بهذه الأحداث.

إن هذا القرار الحتمي في النهاية، هو كالهدية الأخيرة التي يقدمها لذاته وعائلته، وهو بمثابة الإرث الروحي الذي يتركه لهم، وكأنه يصالح ذاته على ما ارتكبه من هجر في حق زوجة وابن لم يعرف مصيرهما بعد الهروب، وكأنه يصالح عائلته على كتمانه هذا السر وغيره من الذكريات عن أصوله وأصولهم. إن عباس يحاول ترميم تيهه بمكاشفة عائلته بما أخفاه عنهم فهو يقول: "عندما تركت ذلك المكان لم أدرِ هَوْلَ ما تركت ورائي. أينما هِمْتُ على وجهي أو عشت بعد ذلك لم يتوقع مني شيء. كنت رجلًا بلا مسؤولية، بلا هدف. لا شيء مطلوب مني. كنت أرغب في شرح ذلك لكما، وكيف فقدت ذلك المكان وفي الوقت نفسه فقدت مكاني في العالم. ذلك ما يعنيه هذا التيه. ذلك ما يعنيه أن يكون المرء غريباً في أرض أناس آخرين. كنت أرغب في التحدث إليكما عن ذلك، أما الآن فقد مضى وقت طويل جدا من دون أن أجد طريقة للحديث عن هذه الأشياء. كنتما سترغبان في معرفة أكثر من ذلك، ولم أعرف كيف يمكنني إخباركما بما هو أكثر من ذلك" (ص 151).

أما ذاكرة مريم فإنها تنبع فقط من العائلات التي تبنتها وعاشت معها (خاصة عائلة فيجي وفيروز)، وذلك بعد أن تخلت عنها أمها أمام باب المستشفى، إلا أنها في النهاية تقرر تتبع خيط واهٍ من أجل الحصول على أجوبة حول أصلها، لكن هذه الأجوبة تفتح أبوابا شاسعة على أسئلة أخرى وتنتهي الرواية دون أن تقد لنا ولا لمريم ما يشفي الغليل حول أصلها وانتمائها وهويتها، وكأنها تجسد تلك الهوية المفقودة الناتجة عن فقدان الأهل، في خضم نزوحات قسرية إثر القلاقل السياسية والحروب التي لا تنتهي ولن تنتهي إلا بفناء البشرية.

يمثل عباس ومريم التناقض الداخلي الذي يحدثه فقدان الهوية في نفسية المهاجرين؛ فعباس لا يريد الانتماء لا إلى زنجبار موطنه الأصلي، ولا إلى بريطانيا بلده المضيف، ويجد ذاته ممزقة ومتشظية بين هذا وذاك، بين ماض يهرب منه ومستقبل يأبى القبول به. أما مريم فتجهل أصولها، وتفتقد لهوية تستند عليها في مواجهة آلة البطش الثقافي فهي "هكذا كانت طوال حياتها دائما ما يرضيها القليل، دائما ما تفعل الأنسب، وقد فات الأوان الآن على ارتكاب الحماقة والمجازفة. لم تكن تملك ذلك الضرب من القوة" (ص 15)، لذلك لم تملك الجرأة لتسأل فيروز عن أصلها ولا لتبدل حياتها، الجرأة الوحيدة التي واتتها هي هروبها مع عباس حينما تعرضت لمحاولة اغتصاب من طرف ابن أخت فيجي. ومع هذه الأسرار التي يحاولان كتمانها معا، يعيشان زواجا "غريبا" يكتنفه الكثير من الصمت والغموض مما يؤثر على علاقتهما، إذ إن الهوية الفردية المنغلقة لكل منهما أترث على الهوية الأسرية وأثرت أكثر على الانسجام داخل الأسرة، وهو الأمر الذي تولد عنه ضعف الروابط العاطفية بين أفراد الأسرة، فهناء "التي تحولت إلى آنا على نحو كامل، لا تكاد تتكلم عن اختلافها بالطريقة نفسها بدلًا ذلك، أصبح اختلافها تزويقا لبريطانيتها" (ص 50)، وجمال يشعران أنهما لا يعرفان والدهما معرفة جيدة، مما يخلق هوة عاطفية بينهما -رغم وجود التواصل الجسدي- لا تمتلئ إلا بالسرد والتواصل بعد فوات الأوان وموت عباس.

2- المنفى الوجودي والانتماء الهوياتي

تتناول الرواية ثنائية الانتماء والمنفى بوصفها إحدى القضايا المحورية في أدب الهجرة وما بعد الاستعمار. ومن خلال شخصية عباس، يكشف قرنح عن الأثر النفسي والوجداني للمنفى القسري، وكيف يعيد تشكيل مفهوم الانتماء، لا سيما حين ينقطع الإنسان عن تاريخه وهويته الأصلية. يشكّل الانتماء والمنفى في هذه الرواية خلفية سردية وعنصرًا وجوديًا يتفاعل مع الشخصيات ويحكم خياراتها، مما يجعل الرواية نموذجًا فنيًا لتحليل تمزقات الهوية العائلية والفردية في المنفى.

إن المنفى الذي اختاره عباس هو منفى طوعي، إذ لم يفرض عليه بسبب حرب أو صراع سياسي، ولكن كان هروبا من مؤامرة حيكت ضده، أو هو هروب من مسؤولية لم يستطع تقلدها كما يجب. ولهذا لم يكن يستقر في مكان معين، خاصة وأنه كان يشتغل بحارا. غير أن هذا الوضع تغير مع تعرفه على مريم الفتاة المتبناة التي لا تعرف أصلها، وكأن عباس وجد شبيهه وما كان يتوف إليه من هروبه. إن مريم تعمل كالمرساة في حياة عباس الفوضوية التائهة، فهي من كبلت تنقلاته وأسفاره، وجعلته يجد المأوى الذي طالما تاق إليه، ومع ولادة هناء وجمال، زادت من تشبته بهذا الانتماء الجديد، إلا أنه ظل انتماءً هشا لأنه يقتات على الأسرار المكتومة والصفحات البيضاء في حياة عباس ومريم، كما سبق وذكرنا.

أما بالنسبة لأبناء الجيل الثاني من المهاجرين، الذين وجدوا أنفسهم في وطن ليس لهم، ومع ذلك فهم يحاولون الانتماء إليه قسرا، فإن المنفى يشكل لهم حالة من الانفصام الهوياتي؛ ذلك أن جمال وهناء لا ينتميان إلى وطن أبيهم عباس ولا ينتميان إلى الوطن الذي ولدا فيه. تمثل هناء تيار التمرد؛ إذ تغير اسمها إلى آنا لكي تنصهر في الثقافة البريطانية بشكل كلي، وقد نبع هذا التمرد من عدم امتلاكها مرجعية واضحة عن الأب الذي كان دائما يتهرب من الجواب عن أصوله، رغم محاصرتها له مرارا وتكرارا. أما جمال فهو يمثل الحياد الموضوعي خاصة أنه يحاول فهم المنفى والانتماء الهوياتي من خلال أطروحة الدكتوراة التي اشتغل عليها، لذلك نجد أن الحيز المخصص له في الرواية ضعيف نوعا ما مقارنة مع باقي الشخصيات الرئيسية، وهذا يدل على أن الحياد لا يخدم قضية المنفى التي يعاني منها المهاجرون الأفارقة في الديار الأوروبية.

لكن يعود الانتماء والتصالح مع الأصول إلى مجراه، حين يبدأ عباس ومريم بسرد قصصهما، حيث تبدأ عملية تفكيك الصمت ومواجهة الأخطاء، ومحاولة لإعادة وصل ما انقطع بين الماضي والحاضر. إن "الهدية الأخيرة" التي يمنحانها لابنيهما، هي الذاكرة، الحقيقة، والهوية التي حجباها عنهما طويلاً. وهكذا يتحوّل الاعتراف إلى فعل لاستعادة الانتماء، ليس فقط للذات، بل للعائلة أيضًا.

3-  العلاقات العائلية المتوترة بين الصمت والاعتراف

يعد الصمت المحور الأساسي الذي تتفرع منه أزمة العلاقات بين أفراد العائلة، لا يروي عباس لزوجته مريم ولا لأبنائه آنا وجمال شيئًا عن ماضيه في زنجبار، لا عن طفولته، ولا عن هجرته، ولا عن أسرته الأولى. يتخذ الصمت طابعًا دفاعيًا في البداية، لكنه سرعان ما يتحوّل إلى عبء جماعي؛ فغياب السرد المشترك بين أفراد العائلة يحول الحياة العائلية إلى سلسلة من الافتراضات والظنون والشكوك، ويخلق مسافة عاطفية بين الأفراد. هنا يتجلى الصمت لا باعتباره خيارا فرديا، بل باعتباره فعلا مؤذٍيا يفتّت بنية التواصل الأسري. إن الهوية العائلية تبنى عبر الذاكرة المشتركة والسرد المتداول، لكن في الهدية الأخيرة، لا يوجد سرد مؤسس يجمع العائلة حول تاريخ أو أصل أو قصة، فعباس يخفي أصله وهويته، ومريم تجهل أصولها ولا تريد تذكر محاولة اغتصابها. وهو ما أثر عليهما وجعلهما يشعران أن كل واحد منهما مرتبط بشخص غريب. أما آنا وجمال فهما يعيشان حالة من الضياع الهوياتي، لأنهما لا يعرفان شيئًا عن بلدهما الأصلي، ولا يشعران بانتماء كامل إلى بريطانيا، والنتيجة أزمة وجودية مزدوجة: أزمة هوية شخصية، وأزمة انتماء داخل الأسرة.

يؤدي ما سبق إلى مواجهات مباشرة في بعض الأحيان، خاصة بين عباس وآنا التي سئمت العيش وسط الأسرار والانتماء إلى الهوية الدخيلة، وهذا ما دفعها إلى مغادرة بيت العائلة مبكرا، وتغيير اسمها من هناء إلى آنا، وتجربة علاقات غرامية متعددة. كل هذه الأفعال التي قامت بها تشير إلى توثر العلاقة بينها وبين أسرتها، وكرهها لكونها من اللاجئين الأفارقة.

رغم نهاية الرواية بالتصالح مع الهوية والماضي، إلا أنها لا تقدم أجوبة تشفي الغليل، فقد ظل مصير الزوجة والابن المتخلى عنهما في زنجبار مجهولا، كما أن أصل مريم لم يتضح كثيرا، فرغم اقترابها من معرفة هوية عائلتها البيولوجية إلا أن أسماءهم ومصيرهم ظل مجهولا أيضا. وهو ما يفضي في النهاية إلى فتح المصراع على تأويلات عدة حول مصير الشخصيات الرئيسية والعلاقات بينها بعد موت عباس خاصة.

4- الإرث الثقافي والاستعمار

تندرج رواية "الهدية الأخيرة" ضمن مشروع عبد الرزاق قرنح الروائي الذي يعاين آثار الاستعمار والهجرة والمنفى على الفرد والمجتمع. وتطرح الرواية، بشكل غير مباشر، سؤال الإرث الثقافي في ظل ما بعد التجربة الاستعمارية، مركزةً على الصراع بين الهوية الأصلية ومقتضيات الاندماج في مجتمع غربي. فالبطل لا يعيش فقط اغترابًا مكانيًا، بل يعيش اغترابًا ثقافيًا ناجمًا عن قطيعة مزدوجة؛ قطيعة مع ماضيه الشخصي، وقطيعة مع التاريخ الثقافي الجماعي الذي ينتمي إليه.

تُبرز الرواية كيف أن الهويات الثقافية الأصلية تُقمع في سياق الهجرة إلى المجتمعات الغربية. ينتمي عباس إلى زنجبار، ذات الإرث الثقافي المتعدد والمنفتح على الهند والساحل الشرقي لإفريقيا والعالم العربي، لكنه حين يصل إلى بريطانيا يختار الصمت وعدم الحديث عن ماضيه. وهنا نلمح "التهجين الثقافي" (Cultural Hybridity) الذي لا يتحقق إلا عبر اعتراف الذات بتاريخها وسرديتها. لكن عباس، تحت ضغط التجربة الاستعمارية ووصمة الانتماء إلى العالم الثالث، يختار الكتمان، ما يؤدي إلى شرخ في علاقته مع زوجته وأبنائه. أما العائلة ككل فإنها تتعرض لتجربة "المواطنة المنقوصة"، ويُنظر إلى أفرادها باعتبارهم مهاجرين لا مواطنين، وهو ما يتوافق مع مفهوم "التمثيل الاستعماري" (Colonial Representation) الذي يُقصي الآخر ويضعه في موقع التابع، هذا الانقسام ينعكس على الأبناء الذين ينشؤون في مجتمع لا يمنحهم اعترافًا كاملاً، ويمنعهم في الوقت نفسه من العودة إلى أصل لا يعرفونه.

يعاني كل من آنا وجمال من ضياع الهوية لأن الأب لم ينقل إليهما ثقافته، بل تركهما في فراغ بيني، أو في "الموقع الثالث" (Third Space)، أي ذلك الحيز بين الثقافتين، حيث يُنتج الفرد ذاتًا هجينة، لكنها غير مستقرة وبدون جذور واضحة. يعاني جمال من القلق الوجودي، ويشعر بالانفصال عن ذاته ويمارس سياسة الحياد فيما يخص اغترابه داخل مجتمع لن يتقبله، أما آنا فتبدو حائرة بين تصورها لذاتها باعتبارها امرأة بريطانية من جهة، وشعورها بالخسارة العاطفية نتيجة لغياب الوالد عن سردية حياتها من جهة أخرى. إن غياب الإرث الثقافي المحكي يجعل الأبناء يعانون من انفصام في الهوية، لا يمكن تجاوزه إلا عبر استرجاع ذلك الموروث من خلال الحكي والاعتراف المتأخر؛ حيث يبدأ عباس في نهاية الرواية بسرد ماضيه، ويمثل هذا السرد استعادة رمزية للإرث الثقافي، ومواجهة متأخرة مع تاريخ الاستعمار. فالسرد يصبح وسيلة لتحرير الذات، وإعادة نسج الروابط مع العائلة، وكأن الرواية تقول إن المقاومة الثقافية لا تتطلب عنفًا بل صدقًا واعترافًا بالهوية والتاريخ.

وهكذا تكشف رواية "الهدية الأخيرة" كيف أن الاستعمار لا ينتهي بانسحاب القوة المحتلة، بل يستمر في أشياء أخرى؛ في النفوس، وفي اللغة، وفي العلاقات العائلية، وحتى في الإرث الثقافي حين يُهمَل أو يُكبت، ويتحول إلى عبء وصمت يعوق تشكل الهوية. تقترح الرواية أن الاعتراف بالتاريخ الشخصي والجماعي هو السبيل الوحيد لمقاومة آثار الاستعمار، ولتحقيق توازن نفسي وعائلي داخل العالم ما بعد الكولونيالي. ففي هذه الرواية يقيم قرنح سردًا هادئًا وعميقًا عن ألم المنفى، وصراع الهوية، وشظايا الذاكرة والهوية، وهي في الآن ذاته دعوة إلى الاعتراف بالماضي، والتصالح مع الذات والجذور، معتبرا إياه شرطًا ضروريًا لتجاوز التفكك العائلي والضياع الثقافي في زمن ما بعد الاستعمار. إن ما تهديه إلينا الرواية ليس فقط قصة شخصية، بل مرآة لعالم مليء بالمهاجرين الذين يكتشفون أنهم بحاجة إلى ما هو أكثر من وطن بديل: بحاجة إلى قصةٍ تُروى، وهويةٍ يُعترف بها. إنها الهدية الأخيرة في نعش الهروب من الماضي، إنها دعوة صريحة لتقبل المصير.

***

محمد واحي - كلية الآداب والعلوم الإنسانية، جامعة محمد الخامس، الرباط.

....................

* عبد الرزاق قرنح، الهدية الأخيرة، دار أثر، 2024.

في نصه الشعري "مدينة تتنفس بخبز غائب"، نُشر في صحيفة المثقف بتاريخ 17 آب/أغسطس 2025، يقدم الشاعر مروان ياسين الدليمي رؤية حية ومعبرة عن الجوع والتجويع، ليس كحاجة جسدية فحسب، بل كقوة مؤثرة على الروح والوعي، وصراع مستمر بين الوحشية والصمود. يكتب الدليمي من تجربة مباشرة عاشها في مدينة الموصل، حيث شهد سنوات الحصار والمعاناة، ما يمنحه مصداقية فريدة في نقل الألم الإنساني ومعايشة الكوارث، قبل أن يحولها إلى شعر يحمل أبعادًا سياسية، رمزية، وإنسانية في آن واحد.

الجوع في الأدب؟ غالبًا ما صُوّر كقوة مدمرة، كحالة تجرد الإنسان من كرامته وحرية إرادته. تجارب تاريخية مثل المجاعات التي فرضها النظام الستاليني في أوكرانيا (الهولودومور) أو حصار ستالينغراد على يد النازيين، أو حتى المجاعات التي عاشت فيها القرى والمُدن المعترضة في العالم. خلال صراعات مختلفة، توضح كيف يمكن للتجويع أن يصبح أداة لإخضاع الشعوب وكسر مقاومتها. وهنا يتقاطع الشاعر مع رؤية المفكرة هانا أرندت، التي ترى أن التجويع ليس فقط لإضعاف الجسد، بل لإذلال الروح وكسر إرادة البشر: "التجويع هو أداة لإخضاع البشر، ليس فقط لإضعاف أجسادهم، بل لإخضاع أرواحهم".

لكن مروان يذهب أبعد من البعد السياسي للتجويع، ليمنح الجوع بعدًا إنسانيًا وشاعريًا، حيث يصبح حيًا، يتنقل في الشوارع مثل حيوان شفاف، يعزف على وتر خفي، ويترك أثره على الأرصفة والأحياء المُدمرة. في هذه الصورة، يتحول الجوع من مجرد أداة لإخضاع الناس إلى كائن حيّ يراقب المدينة وسكانها، وهو تصوير أدبي يعكس إدراك الشاعر العميق لمعاناة البشر من الداخل، كما لو أن المدينة نفسها تعيش هذا الغياب وتتنفسه، فتتحول غزة إلى كائن حي قادر على الصمود رغم الظلام والجوع، وهو ما يتجلى في عبارة "غزة، مدينة تتنفس بخبز غائب".

الرمزية في النص واضحة: السماء التي تتحول إلى "عين زرقاء مملوءة بالحجارة" لا تراقب المدينة فحسب، بل تشهد على ألمها وصمودها، صامتة لكنها حاضرة. هذه الصور، واللغة الغنية بالحواس، مثل "تلعق الأرصفة الباردة" أو "تضع الشمس في يدها"، تمنح القارئ إحساسًا حيًا بالجوع والمعاناة، وتجعل المدينة والإنسان جزءًا من شبكة متكاملة من الرموز والشعرية. المفارقات التي يخلقها النص بين الحياة والموت، بين الضحك والخراب، بين الغيمة التي تسقي الوردة والأرض التي ترفع رأسها وسط الركام، تضيف بعدًا فلسفيًا عميقًا، يطرح سؤالًا وجوديًا عن قدرة الإنسان على صنع الأمل وسط الفقدان والحرمان.

الأسلوب الشعري عند الدليمي يعتمد على الإيقاع المتقطع والفواصل القصيرة، مع تكرار الكلمات والمقاطع، مما يخلق إحساسًا بالمراقبة والتأمل الشخصي. كما يبرز النص قدرة الإنسان على الصمود، فقد يصف الجوع بأنه أقوى من السلاح، لكنه لا يستطيع أن يسرق الأغنية أو الابتسامة أو الإرادة. هنا يتحول الجوع من مجرد أداة للقهر إلى رمز مزدوج: قوة مدمرة، ومرآة لصمود الإنسان وإبداعه.

تجربة الشاعر الشخصية تضيف قوة إضافية للنص؛ فالدليمي لم يكتب عن الجوع من مسافة آمنة، بل عاش سنوات الحصار في الموصل والعراق، وكان شاهداً على صدمات الحرب والتجويع اليومي. هذا الواقع المباشر أعطى نصه عمقًا وجدانيًا لمجرد أن يحكي عن غزة، مدينة تتعرض للحصار والمعاناة، حيث يصبح الكتابة فعلًا إنسانيًا يتجاوز الإبلاغ ليصبح شهادة على الصمود والحياة وسط القسوة.

في الختام، ينجح نص "مدينة تتنفس بخبز غائب" في تقديم الجوع والتجويع ككائن حي يمتد أثره على الروح والمدينة، ويجمع بين الشعرية، والرمزية، والبعد السياسي، والإنساني. النص يجعل من تجربة الفرد والمجتمع نافذة لفهم أعمق لمعنى الصمود وسط الوحشية، ويجعل من الكلمات مساحة للحياة والابتسامة والأمل، رغم الغياب الدائم للخبز، وكأن المدينة نفسها تصرخ في وجدان القارئ عن حقوق الإنسان وكرامته، وتعلن أن الحياة، مهما اشتدت الوحشية، قادرة على أن تستمر.

***

بولص آدم

..................

للاطلاع على قصيدة: مروان ياسين الدليمي: مدينةٌ تتنفس بخبزٍ غائب

https://almothaqaf.org/nesos/982907

فيديريكو غارسيا لوركا شاعر إسباني متميز قتله الحرس الأسود الفاشي عام 1936 وهو في الثامنة والثلاثين من عمره في غرناطة آوائل الحرب الأهلية (1936 – 1939) التي قاد الثورة المضادة فيها الجنرال فرانكو إذ نجح في عبور مضيق جبل طارق من جهة المغرب يقود أربع فرق عسكرية وكان يقول لديَّ هناك داخل إسبانيا طابور خامس. من فرانكو جاء هذا المصطلح الذي أصبح شهيراً في عالمي السياسة والحرب. كان لوركا محسوباً على اليسار السياسي وكان معادياً للدكتاتورية. أشهر أعماله مسرحية " عُرُس الدم ". تميّز بطريقة جديدة في كتابة الشعر تمتزج فيها رمزية وسوريالية شعراء عشرينيات القرن الماضي الفرنسيين المعروفين مع أسلوب كتابة الحكايات التراثية الشعبية الأندلسية. كما كان له هوى خاصاً بتراث وأغاني غجر الأندلس.

كتب عن لوركا ثلاثة من الشعراء العرب المعاصرين وهم حسب أقدمية تواريخ كتابتهم لقصائدهم الشاعر العراقي المرحوم بدر شاكر السياب والمرحوم عبد الوهاب البياتي (عراقي) وأخيراً الشاعر الفلسطيني محمود درويش. ينتمي هؤلاء الشعراء الثلاثة من حيث الشكل (الظاهر) إلى مدرسة كتابة الشعر بأسلوب التفعيلة أو ما يسمى بالشعر الحر حاملين طبائع ما يحمل هذا الشكل من حسنات وعورات قسمةً مشتركة فيما بينهم جميعاً. لكنهم يمثلون ثلاث مدارس متباينة في أساليب التعبير عن المضمون (الباطن). إذ لكل منهم عالمه الخاص وروحه المتميز وثقافته الشخصية وعمق (غاطس) شاعريته ثم قوة المحفز والدافع للكتابة حول هذا الموضوع.

لم يكتب الشاعر السوري أدونيس عن لوركا أبداً، أولم أجد في ما لديَّ من مجموعاته الشعرية شيئاً من ذلك. كذلك لم يكتب نزار قباني رغم أنه كتب شعراً كثيراً حول نساء الأندلس وغرناطة والحمراء ومدريد وآخر أمير حكم غرناطة.

ما الذي أغرى هؤلاء الشعراء في أنْ يكتبوا مراثيَ أو سواها في أو عن هذا الشاعر الإسباني؟ ما الذي يجمعه بهم أو يجمعهم به؟ ما هي أوجه الشبه أو القواسم المشتركة فيما بينهم سواء من حيث السيرة الذاتية أو المنهج السياسي أو أساليب وتقنيات كتابة أشعارهم؟ أسئلة كثيرة مُعقدة سأحاول أن أجد لها حلولاً او أجوبةً مناسبة بدراسة ثم تحليل وإستقراء أشعار هؤلاء الشعراء الثلاثة لعلني أُوّفقُ في بلوغ ما أصبو ويصبو القاريء إليه.

بدر شاكر السياب

(ديوان بدر شاكر السياب/ دار العودة، بيروت 1971)

غارسيا لوركا

كتب السياب قصيدة " غارسيا لوركا " ونشرها ربما لأول مرة في ديوانه " أُنشودة المطر " فجاءت كأنها مرآة تعكس أجواء عالم المطر السيابي الرمزي. نقرأ فيها المطر وما يرافق المطر من طوفان ثم الأشرعة وزوارق الأنهار والمغامر المكتشف كولومبس يمخر العباب. ثم نجد أنفسنا وجهاً لوجه أمام تشنجات وتوتر أعصاب السياب الشديد حين يلتحم مع ظواهر الطبيعة القاسية إلتحاماً كما يلتحم المعدن بالمعدن في كل سطر من أسطر القصيدة العشرين. لكأنما يجبر الطبيعة أن تشاركه عالمه الشعري ستاراً مباشراً مرةً يفهمه القاريء بيسرٍ، أو رمزاً أو صورةً معقدة تضطر القاريء أن يعمل فكره وأن يقلّب الأمر وأن يجد التأويلات المناسبة التي قد لا تُرضي الشاعر. القاريء شيء والشاعر شيء آخر. لماذا يلتجيء السياب إلى ظواهر الطبيعة الكونية الشرسة والعنيفة؟ هل يجد فيها متنفساً وتعويضاً عما يعاني في داخله من ضعف وخوف ومرض ووهن؟ لقد وظّفَ التنور والنار والجحيم والفوران والطوفان والشرر واللظى والقدح والمُدية (مُدى) والحجر والفعل مزّق واللون الأحمر ثم الدم (النجيع). ثلاث عشرة مفردة تدل على العنف والقسوة والتحدي إستخدمها السياب في هذه القصيدة القصيرة.

خلافاً للبياتي ودرويش،لم يذكر السياب في قصيدته إسم لوركا. كما أنه لم يذكر غرناطة ولا مدريد ولا إسبانيا. بلى، ذكر إسم العَلَم كولومبس فقط في معرض مقارنة شراع سفينته مع شراع زورق طفل في نهر. لنقرأ مع السياب:

في قلبه تنورْ

النارُ فيه تُطعمُ الجياعْ

والماءُ من جحيمهِ يفورْ:

طوفانهُ يُطهّرُ الأرضَ من الشرورْ

ومقلتاهُ تنسجانِ من لظىً شراعْ

تجمعان من مغازل المطرْ

خيوطه، ومن عيونٍ تقدحُ الشررْ

ومن ثُديِّ الأمهاتِ ساعةَ الرضاعْ

ومن مُدىً تسيلُ منها لذّةُ الثمرْ

ومن مُدىً للقابلاتِ تقطعُ السُرَرْ

ومن مُدى الغُزاةِ وهي تمضغُ الشعاعْ

شراعهَ النديَّ كالقمرْ

شراعهَ القويَّ كالحجرْ

شراعهَ السريعَ مثلَ لمحةِ البصرْ

شراعهَ الأخضرَ كالربيعْ

الأحمرَ الخضيبَ من نجيعْ

كأنه زورقُ طفلٍ مزّقَ الكتابْ

يملأُ مما فيهِ بالزوارق النهَرْ

كأنه شراعُ كولمبسَ في العُبابْ

كأنه القدرْ.

لوركا إذن وحسب رؤية السياب كالمسيح يطعم من جسده الجياع خبزاً (والخبز الذي أنا أُعطي هو جسدي الذي أبذله من أجل حياة العالم. من يأكل جسدي ويشربُ دمي فله حياة أبدية وأنا أُقيمه في اليوم الآخر. إنجيل يوحنا/ 51- 54). قلبه تنور أو فرن عصري لشواء الخبز. في قلب الشاعر القتيل نارٌ وفيه جحيم كجحيم الشاعر الإيطالي دانتي يفور منه الماء طوفاناً كطوفان نوح. جمع السياب الضدين في لوركا: النار والماء. النار تطعم جياع البشر خبزاً والطوفان يطهر نفوسهم من الشرور. حتى الآن كلام الشاعر واضح ليس فيه أي تعقيد. بعد ذلك مباشرةً يأتي التعقيد وإدغام الأفكار والمعاني والتقديم والتأخير فيسرح الشاعر مع شتى الخواطر والفكر. عيون لوركا تنسج شراعاً من لظى. وتجمع خيوط هذا الشراع من قطرات المطر المتساقط ومن … ومن… بحيث أنَّ السياب يتيه ويجعلنا معه نتيه في سياحة غير منضبطة ويسرح في تجوال يجمع فيه أحوالاً لا رابط بينها يربطها. كيف يجمع الشاعر خيوط شراع من أثداء الأمهات الرواضع ومن سكاكين قطع الفاكهة ومشارط القابلات لقطع الحبل السري ومن مُدى الغزاة التي تمضغ الشعاع؟

بعد هذا التطواف الذي يشبه كثيراً سياحة الماشي في نومه ينتبه الشاعر فيصحو متذكراً عيون لوركا التي تنسج شراعاً. وحين يؤوب إلى موضوع الشراع يسوح كرّةً أخرى فيسرف قليلاً في وصف هذا الشراع العجيب، فهو ندي كالقمر وقوي كالحجر وسريع مثل لمح البصر، مرة أخضر كالربيع وأخرى أحمرَ من نجيع. وحين يحس الشاعر بالضنى بعد كل ما بذل من طاقة ومن جهد وبعد أن تتقطع أنفاسه اللاهثة في صدره العليل المُتعب يغير الجو ويبدّل ذبذبة فيضه الروحي فينتقل إلى عالم الطفولة واللهو مع زوارق الورق تطفو على سطوح الماء الذي لا يفارق أشعاره. ثم يجرّه ماءُ النهر بوعي أو بدونه إلى عالم الماء الأكبر: عُباب البحار ومخاطر الخوض في هذا العالم.

هل جمع لوركا فيه كل هذه المتناقضات؟ لا أحد يعرف الجواب. كان يحب المسرح والغجر وكان طبعُ غريزته الجنسية منحرفاً وكان ثوريا لكنه لم يحمل السلاح دفاعاً عن الجمهورية الديمقراطية ضد كتائب فرانكو. كيف جمع السيّابُ النارَ والطوفانَ والشررَ وسكاكين الغزاة مع حليب رضاعة الأطفال ولذة الفاكهة ونداوة القمر وخضرة الربيع وزوارق الطفولة البريئة؟ جمع كل هذه الأضداد في عشرين سطراً. هذا هو السياب الشاعر – الإنسان كما هو بعالميه الباطن والظاهر، القبيح والجميل، المتدني والنبيل السامي، العنيف والهاديء المسالم. لم تترك هذه القصيدة في نفسي إنطباعاً يقول إنَّ السياب (يتشبّهُ) بلوركا أو يسقطه على نفسه أو إنه يتمنى أن يموت يوماً كما مات لوركا شهيداً يسارياً مناضلاً من أجل الحرية. كان لوركا إنساناً عادياً وشاعراً مرموقاً وما كان مسيحاً ولا كان إلهاً يُطعمُ البشرَ خبزاً ويطهرهم من آثامهم وأن عيونه تجبلُ من حليب الأمهات خيوطاً تنسجها شراعاً ندياً قوياً سريعاً أخضرَ لزوارق الأطفال الورقية ثم لشراع سفينة كولومبوس. قد نفهم فكرة الشراع رمزاً وعلماً لقيادة جماهير الناس نحو هدف محدد، أو رمزاً لحرية نشر قلوع السفن والإبحار في عرض المياه المجهولة تحدياً للأقدار وسعياً لإكتشاف المجهول. هو مرة هكذا، لكنه سرعان ما ينكص ويرتد مُغيّراً طبيعته فيتحول إلى مجرد شراع لسفائن الطفولة الورقية حيث لا مغامرة في مجهول ولا محاولات إكتشاف قارات جديدة.

ما الذي حمل السياب على أن يكتب هذه القصيدة؟ ربما لأنه وجد قبله من بين الشعراء الإنجليز على وجه الخصوص من كتب في هذا الموضوع. الإبداع وعشق الحرية ثم الشهادة، تلكم أمور تغري الشعراء في أن يخوضوا في لججها.

القصيدة، في نظري، مبالغات كاريكاتورية وتراكيب وبُنى فكرية هندسها الشاعر تجريداً وفذلكات لفظية طنّانة محكمة الرصف والصف وصور تم تحميضها وطبعها في رأس السياب لا في أعماق روحه. لم أجد فيها شيئاً من (روح) السياب التي خصّها به الناقد فوزي كريم وتكلّم عنها مطوّلاً وبإسهاب وطول نفس يُحسد عليه. (ثياب الإمبراطور/ دار المدى للثقافة والنشر. دمشق 2000)

عبد الوهاب البياتي

(ديوان عبد الوهاب البياتي/ المجلد الثاني، دار العودة، بيروت الطبعة الرابعة 1990)

مراثي لوركا

هذا هو عنوان قصيدة البياتي في لوركا، وهي تتألف من ستة مقاطع شغلت ست صفحات من الديوان. كالسياب، يتخذ البياتي في نظمه إيقاع التفعيلة ويُسكّن آواخر السطور ويُضطرُ أحياناً إلى إسقاط بعض الحروف حتى يحافظ على نغمة الإيقاع. جرى البياتي هنا مجرى عادته الطاغية على أغلب شعره حيث درجَ على أن يمزج فيه الحقيقة بخيال الخرافات والأساطير وحكايا جداتنا وهن يسامرن الأطفال قبل ساعة النوم. وهو في شعره لا يسرف ولا يغالي في الإتكاء على ظواهر الطبيعة أو التورط في إستغلال تداعيات ومدلولات هذه الظواهر. لكنه من الجانب الآخر يُفرِط في ذكر أسماء الأعلام والمدن والبلدان التي زارها أو قرأ عنها. كما أنه لا يجد حرجاً في تكرير بعض مفردات الشتيمة والسباب المُقذع مثل العوران والخصيان والمخانيث وما إلى ذلك. إنه كالمتنبي هجّاء ممتاز.

كالسيّاب، لم يذكر البياتي في قصيدته إسم لوركا لكنه ذكر إسبانيا مرةً واحدةً وذكر غرناطة ثلاث مرات، علماً أنه كتب قصيدتين أُخريين الأولى بإسم " الموت في غرناطة " في حين حملت الثانية عنوان " النور يأتي من غرناطة ". ذكر في الأولى أسماء عائشة وشهيد كربلاء الحسين بن علي والعذراء ثم لوركا الذي قال عنه (وصاح في غرناطةٍ معلّمُ الصبيان… لوركا يموتُ، ماتْ… أعدمه الفاشستُ في الليلِ على الفراتْ)... الأمر الذي لم يقله عنه في مراثيه. في هذه القصيدة رسم البياتي وهيأَ المناخ المناسب لنهر الفرات أن يكون مناسبةً ومكاناً للجمع بين الحسين ولوركا. سقطا شهيدين على ضفاف هذا النهر !! أما في القصيدة الثانية فقد ذكر غار حِراء ودار وحيداً حول الله ثم ذكر غرناطة وقصر الحمراء دون أن يذكر إسم لوركا.

إذالم يتطرق السياب في قصيدته إلى ذكر الحيوان وعالم الحيوان فإنَّ البياتي ذكر أسماء عشرة من الحيوانات هي الثور والأيّل والخنزير والنسر والدود والجواد والخيول والعنقاء والفيران والببغاء والزواحف. كما أنه قارب عالم المرأة فذكرها بأجمل النعوت من قبيل:

المليكة والأم والغادة والأميرة وعشيقة السلطان ثم الإسم الأثير لديه " عائشة "، عائشة عمر الخيام.

أستطيع أن أُسمّي المقطع الأول الذي شغل أقل من صفحة " مقطع الموت "… فقد ذكر البياتي الموتَ أربع مرات، علماً أنه يتكون من ثلاثة عشر سطراً فقط. وإنه لرقمٌ مشؤوم!

وبالمناسبة… تتردد كلمات الموت والنور والنار بكثرة في أشعار البياتي، وتلك ظاهرة تستحق المتابعة والدراسة. ماذا عسانا واجدين في مقطع الموت إنْ قمنا بسياحةٍ خلال سطوره؟

(يبقرُ بطنَ الأيّل الخنزيرْ

يموتُ " أنكيدو " على السريرْ

مبتئساً حزينْ

كما تموتُ دودةٌ في الطينْ)

*

(لن تجدَ الضوءَ ولا الحياةْ

فهذه الطبيعةُ الحسناءْ

قدّرت الموتَ على البشرْ

وإستأثرت بالشعلة الحيّةِ في تعاقب الفصولْ

ماذا لموتي آهِ يا مليكتي أقولْ؟)

الخنزير يقتل حيواناً مسالماً جميلاً (إعتداء)، ويموت أنكيدو، صديقُ ونِدُّ جلجامش في الملحمة السومرية الشهيرة، موتاً سريرياً كما يقول الأطباء. البياتي يضعنا في أجواء هذه الملحمة الأسطورية مستعيراً جملة كاملة منها (قدّرت الموت على البشر) كما جاءت محفورةً في ألواح الطين أو في الصخر في مدينة أُوروك (الوركاء) جنوب العراق. قالت صاحبة الحانة " سيدوري " الساكنة عند ساحل البحر لجلجامش:

(إلى أين تسعى يا جلجامش

إنَّ الحياة التي تبغي لن تجد

حينما خلقت الآلهةُ العظامُ البشرَ

قدّرت الموتَ على البشرية

وإستأثرت هي بالحياة).

(طه باقر/ ملحمة جلجامش، الصفحة 142. دار المدى للثقافة والنشر. بيروت 2001).

أنكيدو هذا قتل قبل موته مع صديقه جلجامش الثور السماوي الذي طلبته عشتار من أبيها " آنو " كي يقتل جلجامش ويهلكه لأنه أهانها وثلم شرفها.

إلتفاتة بارعة إذ سيعود البياتي لنوع آخر من الثيران، ثيران المصارعة الإسبانية ما دام الكلام عن شاعر إسباني قتيل، ومصير ثيران المصارعة ليس إلاّ القتل كما هو معروف، إمّا قاتلٌ أو مقتولٌ. الثور السماوي قتله ملك جبّار غاشم. كذلك لوركا قتله جنرال دكتاتور فاشي قاد إنقلاباً أسودَ أغرق إسبانيا بالدماء. أنكيدو وجلجامش قتلا حيواناً مرسلاً من السماء وفرانكو قتل إنساناً شاعراً قريباً من السماء. أليس الشعراء أنبياءً؟

نعمْ، إنها كذلك لإلتفاتة شديدة البراعة. أراد البياتي أن يقول – كما قد أحسب – أن مصارعة الثيران عادة أو هواية أو رياضة أو جبلّة قديمة مارسها الإنسان في سومر جنوبي العراق قبل خمسة آلاف عام. إذا لم يقتل الإنسانُ أخاه الإنسانَ (قابيلُ قتل أخاه هابيل) فلا بأس أو لا مندوحة من قتل حيوان بريء. المهم هو سفح الدم والغرام العنيف برؤية منظر هذا الدم المسفوح. كان الكنعانيون وبعض الشعوب الأخرى في فلسطين يذبحون أطفالهم البكور تقدمةً لآلهتم فتعلّم إبراهيم الخليل منهم وحذا حذوهم حين أقام بجوارهم فعزم على ذبح ولده (إسماعيل أو إسحق) غير أن الرب قدّم له كبشاً بديلاً عن إبنه… كما تقول التوراة وحسبما ورد في القرآن الكريم (فلمّا بلغَ معه السعيَ قال يا بُنيَّ إني أرى في المنامِ أني أذبحُكَ فأنظرْ ماذا ترى قال يا أبتِ اْفعلْ ما تؤمرُ بهِ ستجدُني إنْ شاءَ اللهُ من الصابرينْ. فلمّا أسلما وتلّهُ للجبينْ. ونادينا أنْ يا إبراهيمُ. قد صدّقتَ الرؤيا إنّا كذلكَ نَجزي المُحسنينْ. إنَّ هذا لهوَ البلاءُ المُبينْ. وفدّيناهُ بذِبحٍ عظيمْ. سورة الصافّات / الآيات 102 – 107).

يخصص البياتي المقطع الثاني للكلام عن مدينة غرناطة، مسقط رأس لوركا. يُشير إليها دون أن يسميها:

(مدينةٌ مسحورةْ

قامت على نهرٍ من الفضةِ والليمونْ

لا يولدُ الإنسانُ في أبوابها الألف ولا يموتْ

يحيطها سورٌ من الذهبْ

تحرسها من الرياحِ غابةُ الزيتونْ

*

صحتُ على أبوابها الألف ولكنَّ النُعاسْ عَقَدَ الأجفانْ

وأغرقَ المدينةَ المسحورةْ

بالدمِ والدخانْ).

في هذا المقطع تختلط المدائن في لوحات البياتي (وهذا دأبه أبداً) فقرطبة لوركا تغدو أُوروك، المدينة التي قضى أنكيدو فيها نحبه. وما دمنا في أُوروك فما المانع من أن يستعير الشاعر شيئاً من أجواء ملحمة جلجامش إياها؟ قال البياتي عن المدينة المسحورة:

(رأيتها والدودْ

يأكلُ وجهي وضريحي عَفِنٌ مسدودْ

قلتُ لأمّي الأرض: هل أعودْ؟

فضحكتْ ونفّضتْ عني رداء الدودْ)

هذا الدود الذي ذكره البياتي مرتين هو الدود الذي تجمّد على وجه أنكيدو بعد أن قضى نحبه. نقرأ على الصفحة 141 من الملحمة خطاب جلجامش عن أنكيدو:

(إنه أنكيدو صاحبي وخلّي الذي أحببته حبّاً جمّاً

لقد إنتهى إلى ما يصيرُ إليه البشرُ جميعاً

فبكيتهُ في المساءِ وفي النهارِ

ندبتهُ ستةَ أيامٍ وسبعَ ليالٍ

مُعللاً نفسي بأنه سيقومُ من كَثرةِ بكائي ونواحي

وإمتنعتُ عن تسليمهِ إلى القبرِ

أبقيتهُ ستةَ أيامٍ وسبعَ ليالٍ حتى تجمّدَ الدودُ على وجههِ).

ظلّ البياتي يحلم بعودة الأندلس إلى العرب فعاد أو أعاد في عالم الأحلام نفسه إلى المدينة المسحورة قرطبة (عُدتُ إليها يافعاً مبهورْ ، أعدو على ظهرِ جوادي الأخضرِ الخشب). لكنه حين أشرف على أبوابها وجدها غارقةً بالدم ودخان الحرائق.

لا أعرف متى كتب البياتي هذه القصيدة (وهي جزء من ديوان " الموت في الحياة ")، فالمدن والأسماء والشخصيات التأريخية تختلط في عوالمه ورؤاه الشعرية، أعني أنه ربما قصد بالجملة الشعرية الأخيرة (وأغرق المدينة المسحورة بالدم والدخان) مدينة عربية أخرى: بغداد الإنقلابات والتقلّبات أو بيروت الحروب الأهلية أو القاهرة أثناء حرب الأيام الستة في عام 1967 أو ربما سواها من المدن العربية. أفضل مثَلٍ على هذا التخليط الناجح أجده في إسراف البياتي في خلط إسم وشخصية عائشة وجعله يتنقل بين الحِقب والتواريخ والعصور والأزمنة ثم النساء. فمرّةً هي عشتار البابلية أو السومرية ومرة هي سمير أميس الآشورية أو ليلى ومرّةً أخرى هي واحدة من النساء اللواتي إلتقاهن في موسكو أو سواها من العواصم (في موسكو يفضّل إسم لارا وقد ورد مِراراً في أشعاره)، وقد تكون إحدى زوجات الفرعون خوفو، لكنها أولاً وآخراً ليست إلاّ عائشة عمرالخيام، زوجته أو حبيبته. في فكر البياتي فلسفة مؤداها أنّ المرأة هي حواء ثم هي إبنة حواء. والمرأة هي هي وإنْ بدّلت إسمها وتبدلت أدوارها في الحياة سواء أكانت كليوباترا المصرية أو الإمبراطورة

الروسية كاترينا أو الملكة البريطانية فيكتوريا أو إمرأة عاملة بسيطة…مهمتها الأساسية إعادة دورة الحياة بالإنجاب. إبنة الطبيعة تعيد الطبيعة البشرية بإستمرار، تلعب وتعيد دور الأم. ثم إذا كانت الأرض أمّاً فلِمَ لا تكون المدينة (أوروك أو قرطبة) أُمّاً؟ وقد قالها البياتي صريحةً (قلتُ لأمي الأرض: هل أعود؟). لقد فسّر مفسرو القرآن الكريم لفظة الأم التي وردت في الآية (ومن خفّت موازينه فأمهُ هاوية) بأنها تعني الأرض.

في المقطع الثالث تتحول غرناطة المدينة المسحورة إلى (غادة مضواع)، إلى سيدة فاتنة جميلة تلبس أقراط الأذنين وتتجمل وتتعطر (بماء ورد النار وقطرات مطر الأسحار). مدينة خيالية أو خرافية أو أُسطورية فهي مجازاً طيّارة ورقية يلهو بها الأطفال ترتفع في الفضاء مشدودة بخيط من نور، أي أنَّ الرب حاميها من ضعف آخر أُمرائها الشاب أبي عبد الله الصغير. غرناطة البراءة هذه كانت تتوقع أن تأتيها كتائب الحرس الأسود لتغرقها بدماء لوركا وغير لوركا من بقية أبنائها المدافعين عنها:

(تُشيرُ في خوفٍ إلى كثبانها السوداءْ

فمن هناك الأخوةُ الأعداءْ

جاؤوا على ظهرِ خيولِ الموتْ

وأغرقوا بالدمِ هذا البيتْ).

في المقطع الرابع ينسى البياتي غرناطة المدينة المسحورة فينصرف مأخوذاً إلى وصف واحدٍ من مشاهد مصارعة الثيران المعروفة في إسبانيا. لقد سبق وأن مهّد الشاعر لذلك في المقطع الأول، فلقد ذكر أنكيدو قاتل الثور السماوي. في هذا المقطع نرى أنكيدو لا جسداً بارداً طريح فراش الموت بل إنساناً معدّاً إعداداً جيداً لمصارعة الثيران. لكن مع فارق جدَّ كبير: يطعن الفارسُ غريمَه البهيمة طعنةً غير قتّالة، لكنه هو، الفارس أنكيدو، من يخسر المبارزة في نهاية المطاف إذ يسقط قتيلاً مضرجاً بدمائه الساخنة. الثور يخور جريحاً في الساحة وسط تهريج جمهور المتفرجين. هل سقط الثور كالفارس المصارع قتيلاً؟ السطر الأخير في هذا المقطع لا يفصح عن ذلك صراحةً (والثورُ في الساحةِ مطعوناً بأعلى صوتهِ

يخور). فالفعل يخور قد يعني الخوَر (تخورقواه فيسقط على الأرض حيّاً لكنْ منهوك القوى أو أن يسقط ميتاً) وقد يعني الخُوار (خوار الثور، مثل عواء الكلب ومواء القطط…). في وسط هذا المقطع نقرأ (فمانِ أحمرانِ فاغرانْ) وهي إشارة واضحة تدل على سقوط كلٍّ من الفارس والثور الخصم قتلى.

هل يجوز لي أن أُطلق على هذا المقطع إسم (مشهد مصارعة الثيران)؟ وهل يجوز لي أنْ أقترح حذف هذا المقطع من مجمل القصيدة المكرّسة أصلاً للشاعر الفذ لوركا؟ أُرجّحُ بقاء المقطع كما هو، فلوركا إبن إسبانيا وإسبانيا أرض مصارعة الثيران العنيفة التي تسيل فيها دماء الثيران أو الفرسان أو كليهما أحياناً. أراد البياتي أن يقولَ إن بلداً كهذا وإن أرضاً كهذه وإنَّ شعباً كهذا مُهيأةٌ بطبيعتها لوقوع كارثة إنقلاب الردة الدموية التي وقعت عام 1936 وكان من أبرز ضحاياها الشاعر فيديريكو غارسيا لوركا. اللوحة تمثّلُ خلفيةً ممتازة وتمهيداً لما وقع وكان البياتي بحق بارعاً في رسم صور مشهد مصارعة الثيران. يُخيل لي أن البياتي أفاد كثيراً من رسوم لوحة الرسّام الإسباني بيكاسو الشهيرة (غيورنيكا) التي خلّد فيها بالأسود والأبيض مأساة مدينة غيورنيكا التي دمرتها الطائرات الألمانية خلال الحرب الأهلية إياها التي أشعل فرانكو فتيل حرائقها. لقد أعان بذلك هتلر قرينه الجنرال فرانكو. في هذه اللوحة يقف ببرود ثور كبير مثل ثيران المصارعة كأنه خرج لتوّهِ منتصراً

وسط وضعٍ متوتر مشحون بأجواء الموت والخراب والدمار. سيف مكسور وأصابع مقطوعة ورؤوس مشوّهة وأم تحمل طفلاً تبحث عن الأمل والخلاص في بصيص من ضوءِ مصباحٍ معلّق فوق الرؤوس. هل هذا الثور البارد الأعصاب هو الجنرال الدموي فرانكو بعينه؟ الثور الذي فاز بمعركة الصراع وخرج منتصراً على شعب بأكمله بعد أن أغرقه بالدماء والموت والحرائق. أين مكان الشاعر لوركا في هذه اللوحة؟ أين لوركا صاحب مسرحية (عُرُس الدم)؟

نقرأ بعضاً مما جاء في مقطع مصارعة الثيران:

(ثورٌ من الحريرِ والقطيفة السوداءْ

يخورُ في الساحةِ والفارسُ لا يراهْ

قرناهُ في الهواءْ

يطاردانِ نجمةَ المساءْ

ويطعنان الفارسَ المسحورْ

ها هو ذا بسيفهِ المكسورْ

مُضرّجٌ بدمهِ في النورْ

فمانِ أحمرانِ فاغرانْ

شقائقُ النعمانْ

على سفوحِ جبلِ الخرافةْ

دمٌ على صفصافةْ

-    أيتها النافورةُ الحمراءْ

أسواقُ مدريدَ بلا حنّاءْ

فضمّخي يدَ التي أُحبها بهذه الدماءْ

يا صيحةَ المهرّجِ، الجمهورْ

ها هو ذا يموتْ

والثورُ في الساحةِ مطعوناً بأعلى صوتهِ يخورْ).

وبعد، ماذا عسانا واجدين في المقطعين الأخيرين الخامس والسادس؟ لا شيءَ يستحق الذكر… تقريباً. في الخامس إعادة لبعض ما جاء في المقطع الثالث: غرناطة الطفولة السعيدة أو الخضراء ثم الطيارة وخيط النور الذي يهتزُّ في السماء. خلاف ذلك فقد أقحم البياتي أموراً إقحاماً مصطنعاً لا لشيء إلاّ لتغيير الأجواء وتمتين نص المقطع (الخامس) وتحسين طعمه بإضافة بعض التوابل وتجميل صورته بالأصباغ والألوان إذ حوّلَ المدينة المسحورة غرناطة، الطيّارة التي سقطت في خنادق الأعداء، إلى جارية تباع في أسواق النخاسة لكنها الآن تحمل الأسم الأثير لديه: عائشة، ثم طائر العنقاء الذي يقوم حيّاً من رماده. ثم ينتقل إلى وطنه العراق (بابل) فيذكر أميرةً أسيرة فيه لعلها عشتار أو سمير أميس، الأميرة التي جاءوا بها من المدن الجبلية في الشمال وإبتنوا لها جنائن بابل المُعلّقة.

لقد خالف مطلع هذا المقطع منطق سياق القص في المقاطع السابقة حيث رأينا لوركا ميتاً كما أنكيدو، ورأيناه فارساً يصارع ثوراً فيسقط أمامه قتيلاً فكيف يعود إلى الحياة مقاتلاً حتى الموت من شارع لشارع ليزرع الأوغادُ الخناجرَ في جسمه لتسقط غرناطة بعيد ذلك مباشرةً؟ أهي أُسطورة طائر العنقاء الذي ذكره في هذا المقطع؟ يبقى الشاعر في لوركا ويبقى لوركا الشاعر حيّاً متجدداً أبداً والشهداء لا يموتون بل يبقون أحياءً يُرزقون؟

إذا كرر البياتي في المقطع الخامس بعض ما جاء في المقطع الثالث من هذه القصيدة فلماذ أعاد في قصيدة (ديك الجن) ثلاثة أبيات سبق وأن قالها في المقطع الأول من مراثي

لوركا؟ أعني قوله حرفياً:

(فهذه الطبيعةُ الحسناءْ

قدّرت الموتَ على البشرْ

واستأثرتْ بالشعلةِ الحيةِ في تعاقب الفصولْ).

إذا قتل الشاعر ديك الجن حبيبته وأحرق جثتها في ساعة سكرٍ وجبل من رمادها كأساً لشرابه فإن لوركا ما كان حبيباً ولا كان أثيراً لدى قاتله فرانكو كما هو معلوم. لم يُحرقْ جثمانُه ولا أحدَ يعرف أين تمَّ دفن جسده وتحت أية تربةٍ في غرناطة. إذن لا سبيلَ للمقارنة أو المقابلة بين الواقعتين. قصيدة (ديك الجن) جاءت في الديوان بعد مراثي لوركا مباشرةً.

مرّةً أخرى، نواجه فلسفة البياتي وإيمانه القوي الراسخ أنَّ بعض مظاهر الطبيعة ووقائع الحياة تتكرر بهذا الشكل أو بذاك. النتيجة واحدة وإنْ تعددت وتنوّعت الوسائل والتفصيلات. فكما أنَّ عائشة تبقى عائشة، المرأة حواء وإبنة حواء بصرف النظر عمّا تقوم به من أدوار. كذلك الموت، يبقى موتاً مهما تعددت سبل تنفيذه، سواء جاء نتيجة طعنة سيف أو خنجر أو جاء نتيجةً لطعنةٍ بقرن خنزيرٍ أو ثور أو بإطلاقة حرسٍ فاشيٍّ أسود أو بشظية قنبلة مدفع أو برصاصة عدو في إحدى جبهات القتال أو أن يموتَ الإنسانُ حتف أنفه في بيته على سرير نومه أو على سرير أحد المستشفيات. وعليه فإنّ الموت هو سرير واحد يضطجع عليه مناصفةً كلٌّ من لوركا القتيل وعشيقة ديك الجن القتيلة.

أفلم يقل شاعر مجهول:

ومن لم يمتْ بالسيفِ مات بغيرهِ

تعددت الأسبابُ والموتُ واحدُ

وقال أبو الطيب المتنبي:

فطعمُ الموتِ في أمرٍ حقيرٍ

كطعمِ الموتِ في أمرٍ عظيمِ

يتكلم البياتي في المقطع الأخير وهو السادس عن المدن التي أخلفت المدينة المسحورة غرناطة. إنه يضع المدن الأكثر سوءاً في مقابل المدن الأكثر نقاءً وجمالاً. فمدريد أضحت عاصمة الديكتاتور فرانكو بعد أن سقطت مدينة النور غرناطة. مدريد التي إنبطحت أمام جحافل الفاشيست أصبحت مدينة (الضرورة) التي تقرض الفئرانُ فيها الرجال الذين يتشوهون ويتلوثون لا محالةَ في أوساخ مثل هذه المدن وبما أتى به الطوفان من أعراف

وتقاليد لا تمتُّ بصلةٍ لأعراف وتقاليد مدينة النور المسحورة. لقد قابل المدينة الرأسمالية الجديدة مدريد برمزٍ لمدينة وحضارةٍ كانت تسير في الطريق لبناء الإشتراكية، وكان لوركا محسوباً على اليسار الإشتراكي.

في هذا المقطع يتلمس المرء خيوطاً ضعيفة متأثرة بما كتب الشاعر الإنجليزي توماس إليوت في قصيدته الشهيرة (الأرض الخراب) The Waste Land.

محمود درويش

(ديوان محمود درويش/ دار العودة، بيروت، الطبعة الثالثة 1971)

لوركا

لوركا هو عنوان قصيدة محمود درويش، كلمة واحدة فقط، كلمة بسيطة. القصيدة تنتشرُ على أربع صفحات صغيرة (نفس قياس صفحات ديوان السياب) جعل الشعر فيها على شكل رباعيات ذكر فيها مدريد مرتين ولوركا ثلاث مرات وكذا ذكر إسبانيا ثلاث مرّاتٍ. وكسابقيه الشاعرين إلتزم درويش إيقاع التفعيلة ودرج مثلهما على الوقوف على القوافي وآواخر الأبيات أو السطور إلاّ فيما ندر من الحالات.

هل ظلمتُ الرجل إذ وضعته في صف واحدٍ وعلى منصّة واحدة من حيث الإرتفاع عن مستوى الأرض مع السياب والبياتي لأقارن بين ما قال هو وما قال الشاعران الآخران حول موضوع واحد؟ الجواب كلاّ. الغريب – وما أكثر الغرائب في الحياة – إني كنت قبل أن أدرس قصيدتي السياب والبياتي شديدَ الإعجاب بقصيدة محمود درويش. نعم، وبقيتُ كذلك بعد أن فرغت من دراسة هاتين القصيدتين. وجدته يتخذ لنفسه في هذه القصيدة مكاناً لائقاً في ذات الحافلة التي يستقلها مع السياب والبياتي. ولكي نتفهم قصيدته جيداً علينا أن نفهم أنَّ ظروفه وتكوينه وثقافته تختلف بشكل جوهري عن ظروف وتكوين وثقافة الشاعرين الآخرين. ما كان عليلاً ومنبوذاً ومحُارباً في رزقه ولقمة أطفاله وقبيح الصورة كالسياب الذي كان أشدهم معاناة وأكثرهم بؤساً في حياته القصيرة. ولا كان فقيراً مُدقِعاً شديد التلوّن السياسي كالبياتي الذي ذاق الحالين في حياته الطويلة: المُرَّ في موسكو والحلو في القاهرة ومدريد وعمّان ثم دمشق حيث يرقد جثمانه تحت ثراها.

لقد رأى كلٌ منهم شيئاً من لوركا في نفسه أو رأى شيئاً من نفسه في لوركا. ثلاثتهم شعراء إنخرطوا بهذا الشكل أو ذاك في العمل السياسي وتحمّلوا جرّاء ذلك ما تحمّلوا من فصل من الوظائف وتشرّدٍ وحرمان ومنافٍ. لكن يظلُ درويش متميزاً بأمور كثيرة أخرى تباعد ما بينه وبينهما. فهو ربيب حيفا المُترف وشاعر فلسطين المبرِّز ومدلل الشعراء العرب والنخبة العربية المثقفة، وهوالمناضل الثابت من أجل فلسطين سياسةً وعقيدةً. لم ينقلبْ ولم يتلون ولم يتغير كما فعل صاحباه. عانى ما عانى في بيروت بعد الإجتياح الإسرائيلي للبنان. ثم أصبح بعد ذلك أحد الوجوه البارزة في منظمة التحرير الفلسطينية وسفيراً لفلسطين في باريس. كل هذه العوامل مجتمعةً تجعله مختلفاً عن صاحبيه في أسلوب التعامل مع موضوع تراجيدي معقد كموضوع مصرع لوركا. لا يقل عن ذلك أهميةً موضوع المرأة في أشعاره. فبيئته المنفتحة في حيفا وصداقاته المنوعة مع الجنس الناعم ثم إقامته الطويلة في بيروت ثم سفارته في باريس عاصمة الثورات والعطور والجمال والمتاحف والزهور والأناقة والترف الحضاري … كل هذه العوامل جعلت الشاعر دونما أدنى ريب مخلوقاً آخر يختلف جذرياً عن السياب الذي كان يشكو أبداً من الحرمان الجنسي وحين تزوج قرينته أم غيلان لم يعرف إمرأة أخرى سواها. وكذلك كان الأمر مع عبد الوهاب البياتي، فقد قضّى أعوام شبابه الباكر وأعوام الدراسة في دار المعلمين العالية دون أن يعرف طعم الحب أو الصداقة مع الجنس الآخر. في شعره نجد إشاراتٍ كثيرة عن الحب لكنها مجرد نظم وتلفيق (وشطحات صوفية) وبقايا أماني سنيِّ المراهقة. وحين إقترن بإبنة عمه أم علي لم يعرف إمرأةً سواها على الإطلاق. أردتُ أن أقول إنَّ روح وتربة وطينة محمود درويش ونشأته وبيئاته الرقيقة والناعمة والأرستقراطية أحياناً أعدّته لأن يكون شاعر رومانس وفتنة وجمال وغزل متميزاً ومتفوقاً على صاحبيه. هل من عجب حين نجد الشاعر يمزج هذه الأجواء المخملية بألفاظ العنف والخروج عن (الأتيكيت) الدبلوماسي الذي تعلّمه فيما بعد فأتقنه في باريس سفيراً لبلده فلسطين؟ نقرأ في قصيدته ألفاظاً مثل الدم والزلزال والإعصار والرياح والزئير وتطاير أحجار الشوارع والنظر الشزْر والأسياف والجرح والإعدام. عاش وعايش درويش كارثة إحتلال فلسطين ومحنة شعبه تحت الإحتلال والتفرقة والتعسف. ترك أو أُجبرَ على ترك وطنه ليجد نفسه بعد ذلك في بيروت محاطاً بالدماء والخراب والقصف العشوائي والموت اليومي أثناء الإجتياح الإسرائيلي عام 1982. هل كان الشاعر يتنبأ بما سيقع في لبنان ساعات كتابته لهذه القصيدة فأفرغ فيها تفاصيل نبؤته وإختلط فيها الماضي الجميل العريق بالمستقبل المظلم الأسود حيناً والأحمر دماً أحيانا؟ هذا ما حصل. نقرأ أغلبَ ما جاء في قصيدة " لوركا " لمحمود درويش:

(عفوَ زهرِ الدم يا لوركا وشمسٌ في يديكْ

وصليبٌ يرتدي نارَ قصيدةْ

أجملُ الفرسانِ في الليلِ يحجّون إليكْ

بشهيدٍ وشهيدةْ.

هكذا الشاعرُ زلزالٌ وإعصارُ مياهْ

ورياحٌ إنْ زأرْ

يهمسُ الشارع للشارعِ قد مرّت خطاهْ

فتطايرْ يا حجرْ.

هكذا الشاعرُ موسيقى وترتيلُ صلاهْ

ونسيمٌ إنْ هَمَسْ

يأخذُ الحسناءَ في لينِ إلهْ

وله الأقمارُ عُشٌّ إنْ جلسْ.

لم تزلْ إسبانيا أتعسَ أمِّ

أرخت الشعرَ على أكتافها

وعلى أغصانِ زيتونِ المساءِ المدلهمِّ

علّقتْ أسيافها.

عازفُ الجيتارِ في الليلِ يطوفُ الطُرُقاتْ

ويغني في الخفاءْ

وبإشعاركَ يا لوركا يلمُّ الصَدَقاتْ

من عيون البؤساءْ.

العيون السودُ في إسبانيا تنظرُ شَزّراً

وحديث الحبِ أبكمْ

يحفرُ الشاعرُ في كفيهِ قبراً

إنْ تكلّمْ.

نسيَ النسيانُ أنْ يمشي على ضوءِ دمكْ

فاكتستْ بالدمِّ بسماتُ القمرْ

أنبلُ الأسيافِ… حرفٌ من فمكْ

عن أناشيد الغجرْ

أجملُ البلدانِ إسبانيا، ولوركا يا صبايا

أجملُ الفتيانِ فيها

يا مغني النار وزّعْ للملايين شظايا

إننا من عابديها.

القصيدة واضحة تفصح بتواضع جمٍّ عن مضامينها. إنها خالية من بُنى السياب الفكرية المعقدة والتجريد والتضمين والتقديم والتأخير وشراع كولومبس. ولا نجد فيها إستطرادات البياتي وخلطه الأوراق المحكم وتهويماته الصوفية وإفراطه في الرمز والرجوع إلىالتأريخ القديم سائحاً وبحاراً ممتازاً. ليس فيها أنكيدو وعشتار وعائشة وأميرات بابل وصور مصارعة الثيران وقائمة الحيوانات الطويلة. لا شيءَ من ذلك فيها. إنها أُغنية تصدح بالنغم والإيقاعات التي تدخل النفس بسهولة وعفوية. يتكلم عن شاعر قتيل من خلال أجواء دينية مسيحية " الصليب " والتراتيل ثم يذكر الإله والموسيقى والحج والشهادة والصلاة والأقمار. أجواء وطقوس كنسية معروفة في البلدان المسيحية وكان لوركا مسيحياً في إسبانيا الكاثوليكية. لقد قاد فرانكو إنقلاب الردة الأسود بدعوى إنقاذ المسيحية الكاثوليكية من الإلحاد. ثم لا ينسى درويش وقد ذكر الموسيقى والتراتيل أن يذكر آلة العزف الإسبانية المشهورة " الجيتار" والغجر الذين يستخدمون هذه الآلة في غنائهم المرافق لرقصة " الفلامنكو " الأندلسية ذائعة الصيت. ثم تعود عروق محمود بالضرب على أوتار روحه وطبيعته الرومانسية فيذكر أجمل الفرسان والقمر – العُش والحسناء وحديث الحب وأجمل الفتيان وعطر زهر البرتقال. لم نجد هذه الأجواء الفارهة في قصيدة السياب لكن قد نجد القليل القليل جداً جداً منها في قصيدة البياتي.

أحسبُ أنَّ المحاكمة الأكثر عدلاً هي في مقارنة هذه القصيدة بالذات مع أشعار نزار قباني التي قالها عن إسبانيا والأندلس وغرناطة وقصر الحمراء وهي كثيرة في دواوين نزار. ليس لدي شك في أنَّ درويش قد درس جيداً وإستوعب أشعار نزار هذه وتمثلها وهضمها فتأثر بها عميقاً قبل أن يجلس ليكتب قصيدة " لوركا ". الرجل لا ينكر تأثره بباقي الشعراء، وتلكم فضيلة يُحمد عليها.

***

د. عدنان الظاهر

شباط (فبراير) 2004

يفتح نوافذ الوعي الجمعي للمصريين

لا تزال الأيام تمضي، متسارعة كالريح، تذرو الذكريات خلفها كأوراق الخريف اليابسة، حتى ليخيل إليك أن الحياة الرقمية قد طمست معالم الماضي، وألغت ذلك الصوت الهادئ الذي كان يخترق الأعماق، فيوقظ فيها ما غفا من المشاعر والأحاسيس. ولكن ها هي بعض الروايات تأتي كالنسيم العليل، رقيقة السبك، متينة البناء، لتذكرنا بأن للإصغاء لذة لا يعرفها إلا من توقف ذات مساء ليسمع صوتًا قديمًا يتردد في أذنيه، فيملأ عليه وجدانه حنينًا وشجى.

ومن بين هذه الروايات، تطل علينا "مجانين أم كلثوم" للكاتب شريف صالح، كأنها نغمة عذبة تنساب من الماضي لتستقر في الحاضر، فتجعل من صوت أم كلثوم كيانًا وجوديًا يحمل في طياته وجدان أمة بأسرها. إنها سرد لأحداث أو سيرة لفنانة تغوص في تلك الطبقات الخفية من الوعي الجمعي، حيث تصبح الأغنية زمانًا لا ينضب، ومساحة يتأمل فيها الإنسان حبه وهويته وانكساراته، وكأن كل استماع جديد هو ولادة أخرى للأغنية ذاتها.

تنتقل بنا الرواية بين الماضي والحاضر، بين صالات الأمس الذهبية وشاشات اليوم الباردة، فترسم بخيوط من نور خريطة عاطفية تمتد عبر الأجيال، وتؤكد أن الفن الأصيل لا يشيخ، بل يتحول إلى لغة يفهمها الكبير قبل الصغير، ويحفظها الجديد كما حفظها القديم. وهكذا، تصبح "مجانين أم كلثوم" أكثر من عمل روائي؛ إنها مرآة تعكس جزءًا من الفن جسر بين زمنين

ما أن تمسك بالرواية بين يديك، حتى يخيل إليك أن الصفحات تنبض بالحياة، وكأن بين السطور صوتًا خافتًا يهمس في أذنك، صوتًا تعرفه قبل أن تعرفه، تحمله في أعماقك كأنه نداء قديم يبحث عنك منذ زمن. إنه صوت أم كلثوم كما يتردد في أعماقك، حين تكون وحدك مع نفسك، فتتحول الأغنيات إلى طقوس، والكلمات إلى أسرار وجودية.

في هذه الرواية، تتحول الست إلى ماء يروي ظمأ العطشى إلى زمن مضى، زمن كان فيه الفن نقاء والكلام عذوبة. ينسج شريف صالح حكايته بخيوط من نور، فيجعل من الأسطورة مرآة يرى فيها القارئ وجهه الخفي، وكأن الكاتب يقول لنا: "ما أسهل الحديث عن أم كلثوم، ولكن ما أصعب أن ترى نفسك في صوتها!"

وهكذا، تصبح أم كلثوم جسرًا بين زمنين: بين صالات الخمسينيات الفاخرة، حيث كان الجمهور يصفق بحرارة كأنه يودع روحه بين يديها، وبين شقة صغيرة في العصر الرقمي، حيث يجلس شاب وحيد يبحث عن معنى في أغنية قديمة تلمع على شاشة هاتفه.

التفاصيل استعارات للوجود

يحول صالح التفاصيل إلى استعارات وجودية، فيجعل من كل أغنية عالَمًا قائمًا بذاته. فبطء "سلوا قلبي" يصبح درسًا في الصبر على جراح الحب، وارتجال العود في "أنت عمري" يشبه تموج بحيرة تلامس شواطئ الروح. حتى همسات الجمهور بين الإعجاب والحنين تصبح حوارًا داخليًا: "أتراك تذكر؟ أتراك تنسى؟

وهكذا، تتحول النوستالجيا في الرواية إلى جرعات متدفقة من الذكريات، تختلف من قارئ إلى آخر، بحسب ما يحمله كل منا في قلبه من حنين إلى زمن مضى.

الواقع والأسطورة

يرسم الكاتب بالكلمات لوحات تخلط الواقع بالأسطورة، فيجعل من لحظة استماع البطل إلى "غريب على باب الرجاء" مشهدًا لرجل يقف على حافة شارع مظلم، بينما تتساقط النوتات الموسيقية على جبينه كندى الصباح. أما الجمهور في هذه الرواية فإنه شريك في الخلق. فوجوه الماضي في قاعات الحفلات، بأناقتها التي تتحدى الزمن، تواجه شابًا معاصرًا يكتب تعليقًا على اليوتيوب بلغة لا يتقنها، لكن دموعه تترجم كل اللغات.

الصوفية والتجليات

ثمة لمحة صوفية في الرواية، تستحضر روح ابن عربي والرومي، حيث يبحث العاشق عن حبيبه في صدى الصوت، عابرًا الأزمنة والغرف. فالفناء هنا ذوبان في اللحظة الفنية التي تعيد تشكيل العالم. مع "ليلي ونهاري"، يتبدد الزمن الخطي، ويصبح حلقة تدور فيها الأفراح والأتراح.

وتسير الرواية على إيقاع التداعي الحر، فكل مقطع غنائي يفتتح فصلًا جديدًا، ويحدد نبض السرد. ففي "أوقات الليل" مع "سهران لوحدي"، تروى حكاية السهر، حيث تتشابك ليالي البطل في القاهرة المعاصرة مع ليالي الملحنين القدامى في شارع محمد علي.

الحنين قوة للبقاء

الحنين هنا محاولة لاستعارة قوة الماضي لمواجهة حاضر هش. فحين يستعيد البطل ذكرياته مع "هذه ليلتي"، فإنه يبحث عن ذاته المسروقة. بينما الجمهور الذي يتابع الحفلات عبر الشاشات، وسط ضجيج العصر الرقمي، يعيد صياغة أم كلثوم كحصن ضد انهيار الزمن.

أتدري ما الذي يفعله الحنين الحقيقي؟ لا يكتفي بأن يجعلك تبكي على زمن مضى، بل يمنحك عينين جديدتين لترى الحاضر. هكذا تأخذك رواية "مجانين أم كلثوم" بين يديها بلطف، فتسير بك في دهاليز الزمن كما تسير بك أم كلثوم في "ألف ليلة وليلة"، خطوة خطوة، حتى تصل بك إلى تلك اللحظة التي تكتشف فيها أنك لست مجرد مستمع، بل جزء من الأغنية ذاتها.

تكتب الرواية عنا نحن من خلال أم كلثوم . كأن شريف صالح أمسك بمرآة مكسورة، كل قطعة منها تعكس وجهاً مختلفاً: هنا رجل في الخمسينيات يسمع "الأطلال" فتشبك أصابعه بقوة كأنه يمسك بذكرياته من التطاير، وهناك فتاة في العشرين تبحث عن معنى في "أنت عمري" بين زحام المترو الحديث.

الحب.. أغنية

أجمل ما في الرواية أنها لا تتعامل مع الأغاني كتحف في متحف، بل كأشجار حية تنمو فينا. حين يسمع العاشق "حيرت قلبي معاك"، لا يقول "يا جميلة هذه الأغنية"، بل يقول "كيف عرفت ما بداخلي؟". وفي مشهد يقطع القلب، تقف زوجة أمام سرير زوجها المريض، تهمس بكلمات "دليلي احتار" وكأنها تمسك بيديه لتعبر بهما آخر الجسر. هنا تصبح الكلمات دواءً، والصوت حناناً لم يعد موجوداً إلا في الأغاني القديمة.

تختم الرواية بمشهد يلخص كل شيء: رجل عجوز يجلس وحيداً في غرفة مظلمة، يشغل "ليلة حب" على جراموفون قديم، فتنفتح النوافذ فجأة بدخان السجائر وضحكات الأصدقاء الذين رحلوا منذ عقود.

الرواية تحكي عن ذلك الجزء فينا الذي يرفض أن يموت. وكما تقول الست في "أغار عليك": "اللي راح مش راح.. واللي جاي لسه جاي". الذات العربية، حيث تلتقي الذاكرة بالموسيقى، فيصير الحنين شكلًا من أشكال البقاء.

في النهاية، تتركنا الرواية أمام سؤال أبدي: "هل انتهت أم كلثوم؟" المشهد الأخير، في مقهى قديم، حيث تتسرب أغنية "حيرت قلبي معاك" من مذياع صدئ، يعيدنا إلى البداية، لكن بحكمة أعمق. فالحب، كأغاني الست، دائرة لا تنتهي؛ كلما اكتشفنا سرًا، ولد آخر.

وهكذا، تبقى أم كلثوم، كما رسمها شريف صالح، كائنًا سائلاً يسري في شرايين الذاكرة، كأنين دائم يربط الماضي بالمستقبل.

***

د. عبد السلام فاروق

من العلامة إلى المعنى ومن الرمز إلى الشعر

منذ أن بدأ الإنسان ينقش على جدران الكهوف رسوماته الأولى، وهو يسعى إلى جعل العلامة امتداداً لوجوده وتعبيراً عن عوالمه الداخلية والخارجية. فالعلامة لم تكن أبداً محايدة، بل هي إشارة مشبعة بالمعنى، جسدت منذ البدء رغبة الإنسان في التواصل مع الماورائيات، وفي التعبير عن سرّ الوجود. ومن هنا يمكن أن نفهم كيف تدرج مفهوم السيمياء من دلالاته الروحية والميتافيزيقية في الثقافات القديمة إلى أن صار اليوم علمًا يُعرف باسم السيميولوجيا أو السيميائيات، أي علم العلامات الذي يبحث في أنساق الرموز ودلالاتها في اللغة والفن والأدب.

أولًا: في معنى السيمياء والسيميولوجيا

السيمياء في الأصل العربي تدل على العلامة؛ ورد في القرآن الكريم: "سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ" (الفتح: 29)، أي أثر ظاهر هو علامة على معنى باطن. بهذا المعنى، السيمياء هي علم العلامات والدوالّ التي تتوسط بين الغائب والحاضر، بين الظاهر والباطن، بين اللغة والوجود.

ومع انتقال المفهوم إلى الفكر الغربي، تشكل مصطلح sémiologie عند فردينان دو سوسير وsémiotique عند تشارلز ساندرس بيرس، ليصبحا معًا أساس ما يعرف اليوم بـ علم العلامات.

- سوسير نظر إلى العلامة على أنها اتحاد بين الدال (signifiant) والمدلول (signifié).

- أما بيرس فقد وسّع المفهوم فجعل العلامة ثلاثية البنية: العلامة، الموضوع، المؤوِّل.

هكذا، لم تعد السيميولوجيا مقصورة على دراسة الرموز الدينية أو الطقوس، بل أصبحت أداة تحليلية لفهم كل أشكال التواصل، وفي مقدمتها الأدب.

ثانياً: السيميولوجيا والأدب – العلامة كلغة جمالية

الأدب بطبيعته خطاب رمزي، لا يقدَّم بلغة مباشرة، بل بلغة مشحونة بالصور والاستعارات والإشارات. ومن هنا يصبح الأدب، كما يقول رولان بارت، "نسقًا من العلامات" يمكن تحليله مثل أي نظام لغوي.

- الرواية تقوم على شبكة من الرموز والشخصيات التي تؤدي وظيفة علاماتية.

- المسرح يزاوج بين العلامات اللغوية والبصرية (الحركة، الإضاءة، الملابس).

- الشعر هو التجلي الأرقى للعلامة، حيث تتحول الكلمة إلى رمز مضاعف يفتح فضاءات لانهائية للتأويل.

وبذلك يمكن القول إن الأدب ليس مجرد نص لغوي، بل هو نسيج من العلامات التي لا تُفهم إلا عبر سيميولوجيا التأويل.

ثالثًا: الشعر بوصفه مختبر العلامات:

إذا كان الأدب عامة حقلًا رحبًا للعلامات، فإن الشعر هو أكثرها تكثيفًا وثراءً سيميولوجيًا.

في الشعر، تتحول الكلمة من مجرد دال إلى أيقونة، تحمل أثرًا موسيقيًا وصورة ذهنية ورمزًا ثقافيًا في آن واحد.

الشعر، كما رأى هايدغر، هو "لغة الوجود"، أي اللغة التي تكشف حقيقة الوجود عبر رمزيتها الكثيفة.

- عند بودلير و"شعراء الرمزية"، كانت القصيدة معملًا للعلامات، حيث تتحول الأشياء اليومية إلى رموز روحية (الزهور، الليل، الطيور...).

- أما عند أدونيس في الشعر العربي الحديث، فالقصيدة هي تفجير للعلامة التقليدية وإعادة شحنها بدلالات جديدة تتجاوز القاموس الموروث.

من هنا، يمكن اعتبار الشعر "السيمياء الحديثة"، حيث لا يُقرأ على مستوى المعنى الظاهر فقط، بل يُفكك بوصفه بنية علاماتية متعددة المستويات.

رابعاً: السيميولوجيا كمنهج نقدي في الأدب والشعر

- النقد الأدبي الحديث استفاد من السيميولوجيا لقراءة النصوص:

- رولان بارت تحدث عن "موت المؤلف" ليحرر العلامة من نوايا صاحبها، معتبرًا النص شبكة علاماتية تنتج المعنى في كل قراءة.

- يوليا كريستيفا ربطت بين السيميولوجيا والتحليل النفسي، فرأت في النص فضاءً للتناص حيث تتداخل العلامات من نصوص مختلفة.

- أمبرتو إيكو اعتبر النص "آلة سيميائية مفتوحة"، لا تُستنفَد دلالاته، بل يظل يولّد معاني جديدة مع كل قارئ.

وهكذا، صار المنهج السيميولوجي أداة لكشف عمق البنى الرمزية للنصوص، خاصة الشعر الذي يتطلب قراءة تتجاوز المباشر إلى استنطاق العلامات الكامنة.

خامسًا: الشعر العربي والسيميولوجيا – بين التراث والحداثة

- الشعر العربي القديم كان زاخرًا بالعلامات:

- في المعلقات، نجد علامات الصحراء (الأطلال، الديار، الإبل) التي لا تحيل فقط إلى الطبيعة، بل إلى قيم البداوة والذاكرة الجمعية.

- في الشعر الصوفي (ابن عربي، الحلاج)، تتحول اللغة إلى سيمياء روحية، حيث الخمر والورد والمرأة رموز لحقيقة ميتافيزيقية.

- أما الشعر الحديث (السياب، درويش، أدونيس)، فقد جعل من العلامة مجالًا للتجريب والتفجير، حيث تتعدد الرموز (المطر، الوطن، البحر، المرأة) لتصبح نصوصًا مفتوحة على التأويل السيميولوجي.

خاتمة

يتضح أن السيميولوجيا ليست علمًا منفصلًا عن الأدب، بل هي عدسة كاشفة تسمح لنا بقراءة النصوص في أفقها الرمزي والتأويلي. فالأدب عموماً، والشعر خصوصاً، هو مختبر حيّ للعلامات، تتقاطع فيه اللغة مع الثقافة، والمعنى مع الرمز، والدال مع المدلول. وكما يقول أمبرتو إيكو: "العالم كتاب مفتوح للقراءة"، فإن الشعر هو الصفحات الأكثر كثافة وإشراقًا في هذا الكتاب، حيث تتحول العلامة إلى فنّ ومعنى، واللغة إلى أفق جمالي وفلسفي يلامس جوهر الإنسان.

***

بقلم: عماد خالد رحمة - برلين

والعنوان مقطع شعري للشاعر المبدع خالد الحسن ولعل وصفه لنفسه بملك التناقض تعبيراً عن حيازته الكبرى في مجاميعه الشعرية على التناقضات الإبداعية أقول: الإبداعية لا الحياتية طبعاً، وربما يتساءل المتلقي عن معنى التناقض الشعري لأجيب بالآتي: (التناقض في الشعر يعني: استعمالَ عبارات وأفكار متناقضة لإنشاء تأثير فني أو نفسي أو لغوي وقد يكون الكلام متناقضاً في ظاهره لكنه يحمل بهذا التناقض معنى عميقاً ....) ولعلي أقول: كلما كان الشاعر متناقضاً في شعره، جاء شعره مؤثراً ... وأطرح هنا السؤال الآتي: هل يشترط في الشاعر أن يكون شعره متناقضاً؟ فأجيب جواباً شخصياً: نعم؛ وذلك لأن ثمة تقنيات يوظفها الشعراء تصبُ في هذا التناقض وهذه التقنيات منها: التناقض اللفظي وهو الجمع بين كلمتين متناقضتين في المعنى مثل قول الشاعر:

عادَ الصليبُ إلى المآذنِ حالماً

والديرُ صاغَ به الهلالُ مشاعرَه

لا فرقَ كلُ الأنبياءِ تعاقبوا

كي لا نرى روحَ الحياةِ مهاجرة

إذ يوظفُ الشاعرُ الصليبَ مع المآذنِ والديرِ مع الهلال؛ ليعلل هذا التناقضَ باتجاه التعايش بين الأديان؛ وعدم هجرة أبنائه منه ..... فالتناقض هنا جاء ليعزز الهوية الوطنية الكبرى ... أما التناقض المعنوي؛ فقد جاء عند الشاعر في التشبيه والاستعارة كقوله في إحدى تشبيهاته:

هذا أنا ملكُ التناقض

هذا أنا كالريح تصفع كفها وجه السفينة

أو مثل غصنٍ عاش عمراً كي يكون هو الطبيعة

هذا أنا كسكون ليلٍ دامسٍ جرحَ الرياح

فيعتد الشاعر بنفسه ويفخر بها من خلال توظيف اسم الإشارة هذا الذي يفصح عن الإشارة للمفرد القريب يسنده الضمير أنا الدال على الذات الذي يرتبط عضوياً مع الذات الفاعلة والمنتجة للفعل (صفع / جرح) وقد كرر الشاعر (هذا أنا) مؤكداً لذاته وما أنتجته من أفعال أخرى في النص الشعري ... والتناقض جاء استعارياً أيضاً عنده كما في قوله:

وخصرك النايُ

أبكي إن دنوتُ له

وأستحيلُ تراباً مرةً أخرى

إذ يستعير الشاعر من الناي رشاقته وخفته ونعومته وجمال موسيقاه ليسبغه على خصرها الذي سيجعله مادة الخلق الأولى للإنسان (التراب) عند الاقتراب منه ...

وجاء التناقض في الفكرة ولاسيما في ثيمة الموت كما في قوله:

أمات العراقُ؟

فكيفَ وأنت فتاهُ الذي

إذا قائلةٌ مَن فتاهُ

بظلك يُزهرُ بوحُ الحياةِ

فكيفَ يموتُ

عراقُكَ ــــــ يا أبتِ ــــــ لم يمت في الفراش

ولكنه كان يوماً شهيداً ...

فالاستفهام عن موت العراق جاء إنكاريا بالهمزة والاستفهام الإنكاري (يستعمل لإنكار أمر ما أو استهجانه، وليس للحصول على إجابة وهو سؤال يُطرح للتعبير عن عدم القبول أو الاستياء من شيء ما) وهنا يستاء الشاعر لمن سأله: أمات العراق؟ فتكون الإجابة باستفهام مجازي يخرج إلى معنى التعجب (فكيف وأنت فتاهُ ؟) لكن الشاعر هنا يأتي بالتناقض ليفرق لأبيه بين موت وموت؛ فموتُ الفراش يختلف عن موت الشهادة ....

وجاء التناقض في المفارقة لإثارة الدهشة والاهتمام والـتأمل بتوظيف الشاعر اللغة الصوفية في الكثير من نصوصه كما في قوله:

ترنح الليلُ في كأسٍ من الصبحِ

ولملمَ العمرَ من مِسودة اللوحِ

فالمفارقة هنا أن الليل قد ترنح بكأس الصباح ... والعكس هو المألوف؛ لأن الصباح مبعث النشاط والحيوية؛ مما أضفى عمقاً وتعقيداً جميلاً لهذه الصورة المشهدية المدهشة التي هي صورة صوفية بامتياز .... وكذلك قوله:

لم أقتبس نجمةً

إلا لتكتبيني جديلةً ضوءٍ بين الملحِ والجرحِ

فالاستثناء المفرغ جاء توكيداً بالحصر أو القصر على أن سبب اقتباسه للنجمة لاستعمال حبرها الضوئي الأبيض كحدٍ فاصلٍ بين الملح والجرح ... كي لا يلتقي الألم (الجرح) مع المؤلم (الملح) ....

ومن التناقضات التي حفلت بها قصائد الشاعر هو خلق صور شعرية يتماهى فيها الخيال مع الواقع بلغة سهلة سلسة تبعث على الدهشة كقوله:

سقط الكمانُ على الملحنِ

فاستفاقت أغنياتُ الراحلين

فالصورة وإن كانت صورة واضحة وغير مركبة؛ لكنَّ فيها عمقاً تأملياً جميلاً ....

يصف الشاعر لغته الشعرية بأنها غيبية ... وكلمة الغيب في اللغة العربية تشير إلى (كل ما هو مخفي أو غير مرئي عن الحواس أو العقل البشري، وهو مفهوم مهم في الإسلام يشمل ما لا يمكن إدراكه أو معرفتَه إلا عن طريق الله وبشكل عام يمكن أن يشيرَ الغيبُ إلى أيِّ شيءٍ غيرِ مرئي أو غير معلوم للبعض، حتى لو كان معلوماً للآخرين.) .... فقد وظف لغته الغيبية هذه في التناقض عن طريق التناص كقوله:

غيبية لغتي

وحزن قصيدتي روحٌ لمعراج الكلام

سترتقي صوب المجاز

فتعبر الكلمات

فقد صهر الشاعر المجاز مع الحقيقة عن طريق التناص مع قصة الإسراء والمعراج المعروفة بعروج شعره إلى ملكوت المجاز راكبة صهوة براق الكلمات ....

وللشاعر نصوص حكمية وظف التناقض فيها بامتياز فجاءت حكمته رائعة كما في قوله: فلا تمكث كثيراً في التمني / فبعض الأمنيات تفيض حزنا

والتناقض هنا أن الأمنيات يفترض أن تفيض فرحاً؛ فالأمنية لدى أي إنسان هي شيء مفرح ومبهج إن تحققت وإن لم تتحقق ...... كما حفل شعر الشاعر المبدع خالد الحسن بحواريات مشتقات القول (قال / قلت / قالت) وحواريات التساؤل (توظيف أدوات الاستفهام) ... ضمن التناقض الظاهري الذي أنتج معنى جديداً غير مألوف كما في قوله:

كم عمر عينيك؟

لا أدري

وهل أدري؟

لكن أحبهما في العسرِ واليسرِ

وختامها مسك بقول الكاتب الكولومبي خوان غابريال: الكاتب الحقيقي ليس من يجيدُ وصفَ المطر بل الكاتبُ الحقيقي من يجيدُ بعثَ الإحساسِ فيك بأنّك مبتلٌ بالمطر.

***

د. مثنى كاظم صادق

من بنية الكلمة إلى تجليات المعنى اللساني الفلسفي الصوفي

ليست اللغة مجرد أداة للتواصل أو حاملاً للمعنى، بل هي كما قال هايدغر: بيت الوجود. وإذا كانت اللغة بيتاً، فإن المورفولوجيا – علم بنية الكلمة – هي هندسة هذا البيت، أعمدته وأبوابه ونوافذه. فالمورفولوجيا لا تكتفي بدراسة الجذور والزوائد واللواحق، بل تفتح أمامنا أفقاً فلسفياً عميقاً: كيف تتحوّل الكلمة من مجرد أصوات إلى تجلّيات للمعنى، وكيف تعكس في بنيتها مسار الفكر الإنساني وتوقه إلى الكمال؟

- المورفولوجيا والفكر: بين اللساني والفلسفي

يرى نعوم تشومسكي أن اللغة تكشف عن بنية عميقة في العقل البشري، أي عن قواعد فطرية تسكن الذهن قبل أن تُنطق. أما المورفولوجيا فهي الحقل الذي يتجلّى فيه هذا العمق: الجذور تتوزّع في قوالب وأوزان، فتنتج كلمات تعبّر عن الفعل والانفعال، عن الفاعل والمفعول، عن الزمن والحركة. وهكذا فإن الاشتقاق ليس مجرد لعبة لغوية، بل هو منطق وجودي يُعلّم العقل كيف يرى العالم من خلال أنماط اللغة.

وفي العربية مثلاً، يكشف الجذر الثلاثي (ك-ت-ب) عن ثراء دلالي هائل: كتاب، كاتب، مكتوب، مكتبة، كتابة. إننا هنا أمام شجرة صرفية جذورها ثابتة في التربة، لكن أغصانها تتشعّب في اتجاهات شتى. وهذا التناسُل الصرفي يذكّرنا بفكرة أفلاطون عن "المُثل"؛ فالجذر هو المثال الأصلي، والكلمات المتولدة منه هي الصور التي تشعّ من هذا المثال في العالم المحسوس.

- المورفولوجيا والشعر: الكلمة ككائن حيّ:

-  يؤكد رومان ياكوبسون أن الشعر هو انحراف اللغة عن وظيفتها التواصلية. والمورفولوجيا هي التربة التي ينبت منها هذا الانحراف. فالشاعر لا يتعامل مع الكلمات كوحدات جاهزة، بل يستحضر طاقتها الاشتقاقية ليولّد منها معاني جديدة.

حين يقول شاعر صوفي "مكتوب"، فهو لا يقصد فقط ما كُتب على الورق، بل يستدعي قَدَراً غيبياً مكتوباً في اللوح المحفوظ. وهنا تتحوّل البنية الصرفية إلى رمز كوني.

-  أدونيس يذهب أبعد حين يرى أن الكلمة في الشعر ليست علامة، بل كوكب يتفتّح في الليل. والمورفولوجيا، في هذا المنظور، ليست علماً ميكانيكياً، بل بستان روحي تنمو فيه الكلمات كزهور تفتح أبواب المعنى على اتساعها.

المورفولوجيا والتصوف: الكلمة سالكة إلى أصلها:

-  في التصوف، كل شيء رحلة من الكثرة إلى الوحدة، ومن الظاهر إلى الباطن. كذلك المورفولوجيا: الجذر فيها هو الأصل، والأوزان والاشتقاقات هي التجليات.

الحلاج يقول:

 أنا من أهوى ومن أهوى أنا

نحن روحان حللنا بدنا.

الجذر (هـ و ى) يبيّن أن "أهوى" و"هوى" و"هوًى" تنتمي جميعاً إلى أصل واحد، رغم اختلاف الصيغ. وهذا التباين الصرفي لا يلغي الوحدة، بل يثبتها: فالتفرّع عن الجذر هو تجلٍّ لكثرةٍ تعود في النهاية إلى جوهر واحد. وهو عين ما يقوله الحلاج في تجربة الاتحاد العشقي مع الله.

-  ما جلال الدين الرومي فيقول:

 ألقِ نفسك كما تُلقي الزهرةُ عطرَها

فالعطرُ عودتها إلى أصلها النقي

الجذر (ز هـ ر) الذي يتولّد منه "زهرة"، "إزهار"، "زهور"، يكشف أن كل شكل صرفي ما هو إلا عودة إلى معنى الإشراق والبهاء. التصريف هنا صورة لغوية لفعل العودة الصوفي: من التعدد إلى الأصل، من المظهر إلى الجوهر.

-  ويأتي ابن عربي ليجمع بين الكثرة والوحدة:

 لقد صار قلبي قابلاً كلَّ صورةٍ

فمرعى لغزلانٍ وديرٌ لرهبانِ

كلمة "صورة" نفسها تحيل إلى التعدد الصرفي: صور، تصوير، مصوّر. لكن كل هذه الأشكال تعود إلى جذر واحد (ص و ر). هكذا يُفهم البيت صوفياً ولسانياً معاً: القلب مثل الجذر الصرفي، يتشعّب في صور كثيرة لكنه يظل واحداً في جوهره.

- المورفولوجيا كذكر لغوي:

من هنا، تبدو المورفولوجيا أكثر من علم لغوي: إنها سلوك روحي للكلمة. الجذر هو الحقّ الثابت، والاشتقاق هو التجلي المتغيّر، والوزن هو الإيقاع الذي ينظّم الرحلة بين الأصل والصورة. كل كلمة، إذاً، سالكة إلى معناها الأسمى، مثل روحٍ تعود إلى معشوقها الأزلي.

وهكذا يمكن القول إن علم الصرف نفسه ضربٌ من الذِّكر: نحن حين ندرس تحوّلات الكلمة، نعيد تلاوة أسمائها كما يتلو الصوفي أسماء الله، في انخطافٍ بين الحروف والنور. وبذلك تلتقي المورفولوجيا بالتصوف لتقدّم لنا رؤية فريدة: أن الكلمة ليست مجرد صوت أو معنى، بل كائن حيّ في رحلة عشق نحو أصلها الأزلي.

***

بقلم: عماد خالد رحمة - برلين

الخَيَالُ التاريخيُّ هُوَ نَوْعٌ أدبيٌّ تَجْري أحداثُه في بيئةٍ مَا تَقَعُ في المَاضِي ضِمْن ظُروفِها الاجتماعية، وخَصائصِها الحقيقية، مَعَ الحِرْصِ عَلى بِناء عَالَمٍ تاريخيٍّ يُمْكِن تَصديقُه، والاهتمامِ بالسِّيَاقاتِ الثقافية، وكَيفيةِ تَفَاعُلِ الشَّخصياتِ مَعَ عَناصرِ الزَّمَانِ والمكان، ومُرَاعَاةِ العاداتِ والتقاليدِ والبُنى الاجتماعية والمَلابس وطبيعة الكلام المَوجودة في ذلك الزمنِ البعيد.

والأعمالُ الأدبية ذات الصِّبْغَة التاريخية يَنْبغي أنَّ تَعتمد عَلى التَّحليلِ النَّفْسِيِّ لِكَينونةِ الإنسانِ ومَشاعرِه، وَتَقْدِيمِ التاريخِ مِنْ مَنظور الناسِ العاديين الذينَ يَتَحَرَّكُون في الواقع ضِمْن سِياقِ الأحداثِ اليومية، مَعَ ضَرورةِ اختيارِ العالميَّة والإنسانيَّة المُشْتَرَكَة.

والرِّوايةُ التاريخيةُ لَيْسَتْ تاريخًا، وإنَّما هِيَ مَنظومة مِنَ الأفكارِ والمَشاعرِ بأُسلوبٍ فَنِّي وجَمَاليٍّ تَتناول جوانبَ الحَيَاةِ والفِكْرِ الإنسانيِّ في المَاضِي، مِنْ أجْلِ رَبْطِ القُرَّاءِ المُعَاصِرِين بالتَّجَارِبِ المُعَاشَةِ في تِلْك الفَترةِ الزَّمنيةِ التي مَضَتْ وانقَضَتْ، وَمَرَّتْ عَلَيها سَنَوَات طويلة.

والرِّوائيُّ لَيْسَ مُؤرِّخًا، وإنَّما هُوَ صانعٌ للأحداثِ المُتَصَوَّرَةِ وَالوَقائعِ المُتَخَيَّلَةِ ضِمْن نَسَقٍ أدبيٍّ يُعيدُ تَكوينَ الزَّمَانِ وَبِنَاءَ المَكَانِ، وَيُفَسِّرُ العَلاقاتِ الإنسانية بَيْنَ الشَّخصيات، ولا شَكَّ أنَّ هَذه العَلاقاتِ تَتَأثَّر بالأحداثِ التاريخية، ولكنْ يَنْبغي التَّركيز عَلى المَشاعر الإنسانية المُشْتَرَكَة العابرةِ للحُدُودِ التاريخيةِ والجُغرافية، والكاسرةِ لِكُلِّ القوالب الجاهزة.

إنَّ الخَيَالَ التاريخيَّ هُوَ أدَبٌ مُسْتَوْحى مِنَ التاريخِ، وَلَيْسَ إعادةَ سَرْدٍ للأحداثِ التاريخية، والهَدَفُ لَيْسَ نَقْلَ التفاصيلِ بشكلٍ مُتَسَلْسِل، وإنَّما ابتكارُ شَخصياتٍ تَأثَّرَتْ بالتاريخِ، والعملُ على تَحليلِ أفكارِها، واستنباطِ مَشاعرِها، وإظهارِ أحلامِها، وتَفْكِيكِ ذِكرياتِها، وتَفْسيرِ صِرَاعَاتِها. والتاريخُ لَيْسَ إلا إطارًا جامعًا لِكُلِّ هَذه العَناصرِ والتَّراكيبِ. وَمَهْمَا كانَ التاريخُ مُثيرًا للاهتمامِ، وَمُغْرِيًا بالبَحْثِ، فإنَّ الرِّواية التاريخية هي قِصَّة تَدُور أحداثُها في التاريخ، وَلَيْسَتْ قِصَّةً عَن التاريخ.

والبَحْثُ المُستمر عَن العَوالمِ الغامضةِ والمُشَوِّقَة، يَقُود أحداثَ الرِّوايةِ التاريخية إلى تَحديدِ الفَترةِ الزمنية التي تَتَنَاولها، لأنَّ طبيعة الأفكار تُحدِّد إطارَها الزَّمنيَّ، وطبيعة الشَّخصيات تُحدِّد إطارَها المَكَانيَّ. وهُنا تَبْرُزُ أدواتُ الخَيَالِ التاريخيِّ الذي يَقُوم على ضَبْطِ التفاصيلِ، والسَّيطرةِ عَلَيْهَا، مِنْ أجْلِ جَعْلِ السَّرْدِ الرِّوائيِّ سَلِسًا وَحَيَوِيًّا وقابلًا للتَّصديقِ. وهَذا لا يَتَأتَّى إلا بتصميمِ مَشَاهِد رِوائية مُتماسِكة تَشتمل عَلى حِوَارات مُؤثِّرة، وصِرَاعات بَيْنَ الأضداد، وُصولًا إلى ذِرْوَةِ العملِ.

وَالمَشْهَدُ هُوَ حَجَرُ الأساسِ في الرِّواية، لأنَّه عَالَمٌ مُصَغَّر، يُلخِّص التناقضاتِ الحياتية، وَيَخْتزِل المَشاعرَ الإنسانية المُخْتَلِطَة، مِمَّا يَجْعَل أحداثَ الرِّوايةِ أكثرَ ارتباطًا بالواقعِ، وَتَبْدُو الشَّخصياتُ كأشخاصٍ حقيقيين مِنْ لَحْمٍ وَدَم، يَتَشَابَهُون مَعَ القارئِ، مَهْمَا كانت الاختلافات الثقافية.

إنَّ رِوائيَّ الخَيَالِ التاريخيِّ والمُؤرِّخَ يَعْمَلان عَلى إيصالِ الحقيقةِ، ولكنَّ الفَرْقَ بَيْنَهما هُوَ أنَّ الرِّوائيَّ يَعْتمد عَلى الحُرِّيةِ الإبداعية الفَنِّيةِ التي تَقُومُ عَلى حَرَكَةِ الشَّخصياتِ ومَشاعرِها وصِرَاعاتِها، أمَّا المُؤرِّخ فَيَعْتَمِد عَلى البَحْثِ المَنهجيِّ المُتواصِل للأحداثِ الماضيةِ المُتَعَلِّقَةِ بالبشرية عَبْرَ الزمن. والرِّوائيُّ يُحلِّل الأحلامَ والذكرياتِ والتأمُّلات، والمُؤرِّخُ يُحَلِّل المَصادرَ التاريخية، وَيُفَسِّر الأحداثَ كَمَا وَقَعَتْ عَلى الأرضِ، وَلَيْسَ كَمَا يَتَخَيَّلها أوْ يَتَمَنَّاها. والرِّوائيُّ يَخترع تاريخًا جديدًا، لأنَّ الأدبَ انقلابٌ عَلى الواقعِ، وَصِناعةٌ لواقعٍ جديد، والمُؤرِّخُ يُحلِّل الأحداثَ التاريخية القائمة المُستمرة، لأنَّ التاريخَ دِراسة المَاضِي كَمَا هُوَ مَوصوف في الوثائقِ المَكتوبة.

يُعْتَبَرُ الأديب الإسكتلندي والتر سكوت (1771 - 1832) مُؤسِّسَ الرِّوايةِ التاريخية. في عام 1814، وَضَعَ رِوايته الأُولَى " ويفرلي "، وعالجتْ مَرحلةَ مِنْ مراحل التَّمَرُّد اليعقوبي عام 1745 في التاريخ الإسكتلندي، ولاقتْ نجاحًا فَوْرِيًّا كبيرًا. وَقَدْ نَشَرَها تَحْتَ اسْمٍ مُستعار، وَهُوَ مَا دَأبَ عليه بعد ذلك، فَعُرِفَ بـِ " المجهول العظيم " إلى أن اضْطَرَّهُ إفلاسُه للكشف عَنْ هُوِيَّته عام 1827.

ظَلَّ سكوت في السَّنَوَاتِ الخَمْسِ عَشْرَة التالية، يُصْدِرُ رِوايةً إثرَ أُخْرَى، تَتناول الحَياةَ في إسكتلندا في القَرْنَيْن السابع عَشَر والثامن عَشَر.ثُمَّ مَا لَبِثَ أنْ وَسَّعَ مَسْرَحَ رِواياته زمانًا ومكانًا،فكتب " إيفانهو " (1819)، وهي أشهر رواياته على الإطلاق. وقد اشْتُهِرَ وعُرِفَ بفضل هذه الرِّواية التاريخية الحديثة، وأُطْلِق عليه " أبو الرِّواية الحديثة ". وفي نَفْسِ العام مُنِحَ سكوت لقب سير. وفي عام 1822، حِينَ زارَ المَلِكُ جورج الرابع إسكتلندا، كان سكوت عُضْوًا في لجنة الاستقبال، وحِينَ تَعَرَّفَ إلَيْهِ المَلِكُ أُعْجِبَ بِه كثيرًا.

يُعَدُّ سكوت واحدًا مِنْ أَهَمِّ مُبْدِعي الرِّواية التاريخية في الأدب الإنجليزي. وَمُعْظَمُ الذين خاضوا كِتابةَ الرِّواية التاريخية بَعْدَه، إنَّمَا اهْتَدَوْا بأساليبه، وساروا على خُطاه. وبذلك، يَكُون أحدَ كِبار الرِّوائيين في العَالَمِ في هذا المَجالِ. ويَعْتبره الكثيرون أَحَدَ أهَم أدباء الحركة الإبداعية الرُّومانسية في الأدب الأوروبيِّ.

وَقَدْ عَاصَرَ سكوت حُروبَ نابليون، واهتمَّ بالبحث في شؤون الآثارِ والتُّرَاثِ. وَشُغِفَ مُنذ طُفولته بالقصصِ والتُّرَاثِ الشَّفَهِيِّ الذي يَرْويه الكِبَارُ في عائلته حول إسكتلندا، مِمَّا أمَدَّه بالكثير مِنَ المادة التاريخية التي استخدمها في كِتاباته فِيما بَعْد.

***

إبراهيم أبو عواد / كاتب من الأردن

بالرغم من أن الشكل الطاغي على القصة والرواية في الوقت الحالي هي قصص الخيال العلمي والفنتازيا، إلا أن الأمر لا يخلو من وجود كتاب معاصرين قادرين على إعادتنا إلى زمن القصص الكلاسيكية ذات الطابع الواقعي والرتم الهادئ، وهو العنوان الذي اختاره المؤلف لمجموعته القصصية، خاصة أن أغلب أحداثها وشخصياتها ينتمون إلى بدايات ومنتصف القرن العشرين.

منذ أيام كنت أتصفح موقع الكتب الشهير (فولة بوك) ووقع اختياري على هذه المجموعة القصصية لقراءتها.

(كلاسيكيات) مجموعة قصصية للكاتب سمير عالم، صادرة عن دار رقمنة الكتاب العربي-  ستوكهولم 2023، تمثل إسهاماً أدبياً متميزاً في القصة القصيرة العربية، حيث ينسج الكاتب نصوصاً شاعرية وإنسانية تتناول التجارب الفردية في سياقات اجتماعية ونفسية متنوعة، عمل أدبي يقدم قصصاً قصيرة تتسم بالعمق الإنساني والشاعرية.

تضم المجموعة عشرة قصص، تقع في 162 صفحة، ونظراً لصعوبة تناولها كلها بالنقد والتحليل، اخترت خمسة قصص منها كنموذج، والقصص الخمسة المختارة للتحليل هي: (دمى لا تبتسم) و(دوفا) و(أحلام الصراصير) و(المحطة الأخيرة) و(راديو)

قراءة نقدية تفصيلية لكل قصة:

قراءة نقدية لقصة (دمى لا تبتسم)

تُعد القصة نصاً أدبياً ينتمي إلى الواقعية الاجتماعية، حيث يرصد تفاصيل الحياة اليومية في مدينة مكتظة بالتناقضات الإنسانية.

من خلال عاطف (الشخصية الرئيسية) والمتسولة وابنتها، تقدم القصة تأملاً عميقاً في قضايا الفقر، الكرامة، والإنسانية، مع نهاية مأساوية تترك أثراً عاطفياً قوياً.

1- الموضوعات والثيمات:

- الفقر والكرامة: القصة تسلط الضوء على حياة المتسولين، ممثلين في السيدة وابنتها، وكيف يدفع الفقر الإنسان إلى التضحية بكرامته من أجل البقاء.

- الإنسانية واللامبالاة: القصة تنتقد لامبالاة المجتمع تجاه الفقراء.

- التكرار والرتابة: القصة تبدأ بوصف المدينة كمكان تتكرر فيه الأحداث كعقارب الساعة.

هذه الرتابة تعكس حياة عاطف العاطل عن العمل، وحياة المتسولة المحاصرة بالفقر، مما يبرز شعوراً بالعجز عن تغيير الواقع.

2- الشخصيات:

- عاطف: شاب عاطل عن العمل، يعيش صراعاً داخلياً بين التعاطف والأنانية، هو شخصية مراقبة، يتأمل العالم من حوله دون أن يتفاعل بشكل مباشر معه إلا من خلال أفكاره.

- المتسولة: شخصية مجهولة الهوية، تمثل الفقراء المهمشين، ملامحها الباردة، الشاحبة، الجافة، تعكس تأثير الفقر على كرامتها وإنسانيتها.

- الطفلة: تمثل البراءة وسط البؤس، ودميتها المبتسمة - رغم حالتها الرثة- تتناقض مع ملامحها الجامدة، مما يعزز المأساوية.

- شخصيات ثانوية: مثل بائع التفاح، الرجل العجوز، وصاحب السيارة الرياضية، يضيفون أبعاداً للواقع الاجتماعي.

3- الأسلوب السردي:

- اللغة الواقعية مع لمسات تأملية: اللغة تجمع بين الوصف الواقعي والتأملات الفلسفية، هذا الجمع يعزز من عمق النص.

- المنظور السردي: القصة تُروى من منظور الغائب، لكنها تركز على أفكار ومشاعر عاطف، مما يجعله العدسة التي يرى القارئ من خلالها العالم.

- البنية: القصة تتبع تسلسلاً زمنياً خطياً، بدءاً من صباح عاطف وانتهاءً بالحادث المأساوي، هذا التسلسل يعكس التحول من الرتابة إلى الصدمة، مما يعزز التأثير العاطفي للنهاية.

4- الرمزية:

- الدمية المبتسمة: ترمز إلى التناقض بين البراءة والمعاناة، والدمية رغم حالتها الرثة، تبتسم بينما الطفلة لا تستطيع.

- الوردة الصفراء: تمثل الأمل والجمال الذي يتردد عاطف في تقديمه.

- السيارة الرياضية: ترمز الطبقية وإلى الاستهتار واللامبالاة الاجتماعية، ولونها الأزرق قد يحمل إشارة إلى من يسمون بأصحاب الدماء الزرقاء.

- الفلسات: ترمز إلى الكرامة المهدورة والأحلام المتناثرة.

- الدماء على القميص الأحمر: استعادة القميص للونه الأحمر بالدماء ترمز إلى الموت كوسيلة لاستعادة (الحياة) أو الكرامة بشكل مأساوي.

5- السياق:

- السياق الاجتماعي: القصة تعكس واقع المدن الكبرى حيث الفقر واللامبالاة يتعايشان، المتسولة وابنتها يمثلان المهمشين الذين يتم تجاهلهم من قبل المجتمع.

- السياق النفسي: عاطف، كشخص عاطل عن العمل، يعكس الإحباط الذي يعانيه الشباب في مواجهة الظروف الاقتصادية.

- السياق الثقافي: المساومة بين بائع التفاح والمشتري تعكس عادة ثقافية شائعة، لكن القصة توسعها لتصبح رمزاً للمساومة على القيم الإنسانية والأحلام.

6- نقد أدبي:

- من منظور الواقعية الاجتماعية: القصة تنتقد المجتمع الذي يتجاهل الفقراء ويتسبب في معاناتهم، الحادث النهائي يعكس القسوة الناتجة عن هذه اللامبالاة.

- من منظور النقد الإنساني: القصة تؤكد على قيمة التعاطف والعطاء.

- من منظور النسوية: المتسولة كأم، تمثل صورة المرأة المضحية التي تضع احتياجات طفلتها فوق احتياجاتها.

7- التقييم:

(دمى لا تبتسم) قصة قوية، تجمع بين الواقعية والرمزية لتقديم نقد اجتماعي لاذع، أسلوبها البسيط والمباشر يجعلها قريبة من القارئ، بينما نهايتها المأساوية تترك أثراً عاطفياً عميقاً.

نقطة قوتها تكمن في تصوير التناقضات الإنسانية (التعاطف مقابل الأنانية، الفقر مقابل الرفاهية) ومع ذلك، قد يرى البعض أن تركيز القصة على المأساة يقلل من إبراز حلول محتملة أو أمل ممكن.

8- خاتمة: القصة رحلة تأملية في قلب مدينة مكتظة بالبؤس واللامبالاة، حيث تبرز الدمية المبتسمة كرمز للتناقض بين البراءة والمعاناة، ومن خلال عاطف والمتسولة، تقدم القصة دعوة للتفكير في قيمتنا الإنسانية ومسؤوليتنا تجاه الآخرين.

قراءة نقدية لقصة (دوفا)

(دوفا) قصة ترصد الآثار النفسية والاجتماعية للحرب العالمية الثانية من خلال تجربة عائلة ألمانية.

من خلال (هاينز ودوفا) تقدم القصة صورة إنسانية لمعاناة الأفراد العاديين الذين يدفعون ثمن الحروب التي لا يتحكمون فيها.

1- الموضوعات والثيمات:

- الفراق والخسارة: القصة تركز على ألم الفراق بين زوجين وتتوج هذه الخسارة بموت الزوج.

- الإنسانية في مواجهة الحرب: هاينز يتساءل عن معنى الحرب التي يُجبر على خوضها، مما يبرز التناقض بين الإنسانية الفردية والوحشية الجماعية للحرب.

السيدة العجوز، التي فقدت أبناءها وحفيدها، تجسد هذا الصراع بقولها: "يقتل ويستمر بالقتل"

- الطفولة والبراءة: (أدولف) الطفل البريء، يمثل نقيض الحرب، وعدم إدراكه للواقع المأساوي يزيد من تأثير القصة العاطفي.

2- الشخصيات:

- هاينز براون: جندي ألماني يُجبر على التجنيد، يمثل الفرد العادي المحاصر بقرارات أكبر منه.

- دوفا: زوجة (هاينز) تجسد للمرأة التي تحمل عبء الانتظار والخوف.

- أدولف: الطفل البريء الذي يضفي بُعداً عاطفياً على القصة، سلوكه المرح وجهله بالحرب يجعلانه رمزاً للأمل المفقود.

- السيدة العجوز: تمثل ذاكرة الحرب الجماعية، فقدانها لأبنائها وحفيدها يجعلها رمزاً للألم المستمر، بينما سخريتها من الأوسمة تعكس رفضها لتبريرات الحرب.

3- الأسلوب السردي:

- اللغة العاطفية والواقعية: اللغة تجمع بين الوصف الواقعي والصور العاطفية هذا الجمع يعزز التأثير العاطفي.

- المنظور السردي: الراوي العليم يركز على مشاعر (هاينز ودوفا) مع لمحات عن أفكار شخصيات أخرى مثل السيدة العجوز، هذا المنظور يتيح للقارئ فهم الآثار النفسية للحرب.

- البنية: القصة تتبع تسلسلاً زمنياً من ليلة الوداع إلى موت (هاينز) وحتى اقتراب الحرب من القرية.

النهاية مفتوحة، حيث صوت القذائف ينذر بمأساة جديدة، مما يعزز الشعور باليأس.

4- الرمزية:

- القطار: يرمز إلى القوة التي تنتزع الأفراد من جذورهم، اهتزاز الأشجار التي تنبت بجانب السكة الحديد وتساقط أوراقها؛ يعكس تدمير الحرب للحياة.

- الأوسمة: ترمز إلى السخرية من التضحيات الإنسانية.

- الصورة العائلية: تمثل الأمل والحنين، واستلام (دوفا) لها يجسدان الرابط العاطفي الذي تحطمه الحرب.

- أدولف وسلاحه الخشبي: يرمز إلى البراءة التي تتحول إلى عنف بتأثير الحرب، لعبه بالسلاح ينذر بتكرار دورة العنف في الأجيال القادمة.

5- السياق:

- السياق التاريخي: القصة تدور في عام 1943، خلال الحرب العالمية الثانية، مع إشارات إلى معارك الجبهة الغربية وإنزال النورماندي (1944) هذا السياق يعزز واقعية القصة.

- السياق الاجتماعي: القصة تعكس معاناة العائلات الألمانية التي دفع أبناؤها ثمن الحرب.

- السياق النفسي: الخوف والقلق يهيمنان على (دوفا وهاينز) مما يعكس التوتر النفسي الناتج عن الحرب.

السيدة العجوز تجسد الصدمة المتراكمة من الخسائر المتكررة.

6- نقد أدبي:

- من منظور الواقعية الحربية: القصة تصور الحرب كقوة مدمرة لا تميز بين الأفراد، ووصف الخنادق والرسائل يعزز الواقعية.

- من منظور النسوية: (دوفا) تمثل المرأة القوية التي تواجه الحرب بصمود، لكن انهيارها يبرز هشاشتها العاطفية.

السيدة العجوز تكمل هذه الصورة كرمز للمرأة التي تحملت خسائر الحروب عبر أجيال.

- من منظور الوجودية: (هاينز) يتساءل عن معنى وجوده في الحرب، مما يعكس الصراع الوجودي بين الفرد والقوى الخارجية التي تسيطر على مصيره.

7- التقييم: (دوفا) قصة مؤثرة تجمع بين الواقعية والرمزية لتصور بشاعة الحرب من منظور إنساني.

قوتها تكمن في تصوير العلاقات العاطفية (هاينز ودوفا، السيدة العجوز وحفيدها) كضحايا للحرب.

النهاية المفتوحة، مع صوت القذائف، تعزز الشعور باليأس والتهديد المستمر.

اللغة العاطفية والصور البصرية تجعل النص تجربة أدبية غنية.

8- خاتمة: (دوفا) رحلة عاطفية وفلسفية في قلب الحرب، حيث تبرز الشخصيات كضحايا لقرارات لم يصنعوها، ومن خلال (دوفا وهاينز) تقدم القصة نقداً للحرب وتأثيرها على الأفراد والعائلات.

قراءة نقدية لقصة (أحلام الصراصير)

قصة غنية بالتأملات الفلسفية والنفسية، حيث تستكشف موضوعات الوحدة، الأرق، والبحث عن المعنى في حياة روتينية.

من خلال شخصية ممدوح، تقدم القصة صورة شاعرية لصراع الإنسان الداخلي، ممزوجة برمزية الكائنات الصغيرة (الصراصير والحمام) التي تعكس أحلام الإنسان وهواجسه.

1- الموضوعات والثيمات:

- الوحدة والأرق: ممدوح يعاني من الأرق الذي يجسد وحدته النفسية.

الليل الذي كان يوماً مصدر سكون بالنسبة له؛ أصبح مسرحاً لصراعاته الداخلية.

- البحث عن المعنى: ممدوح، في سن الأربعين، يتساءل عن قيمة حياته وأحلامه الضائعة، تأملاته حول الصراصير والحمام تعكس رغبته في فهم الحب والعلاقات، وهي محاولة لإيجاد معنى في وجوده الرتيب.

- الحب والتواصل: القصة تقارن بين الحب عند الكائنات البسيطة (الصراصير والحمام) والحب عند البشر، بينما يُصور الحب عند الكائنات كشيء نقي وبسيط، فإن الحب البشري معقد بالأنانية والخيبات.

- الصراع بين الإنسانية والوحشية: مشهد قتل ممدوح للصرصور يكشف عن تناقضاته الداخلية، شعوره بالشفقة بعد القتل يعكس صراعه بين الغريزة العدوانية والتعاطف، مما يبرز الجانب الإنساني المعقد.

2- الشخصيات:

- ممدوح: شخصية رئيسية معقدة، يعاني من الأرق والوحدة.

في الأربعين من عمره، يبدو محاصراً بخيبات الماضي وقلق الحاضر، تأملاته الفلسفية حول الصراصير والحمام تجعله شخصية حالمة، لكن تردده وعجزه عن تغيير واقعه يجعلانه رمزاً للإنسان المعاصر المحاصر بالروتين.

- الصرصور العاشق: يمثل رمزاً للأمل والمثابرة.

- الصرصور في الحمام: يرمز إلى الكائنات المهمشة التي يُنظر إليها بازدراء.

- الحمام: يرمز إلى الحب النقي والسكون، ظهوره في النهاية يمنح ممدوح لحظة سلام، مما يساعده على النوم أخيراً.

3- الأسلوب السردي:

- اللغة الشاعرية والتأملية: القصة مكتوبة بلغة غنية بالصور الشعرية، مثل وصف الصرصور بـ: "عازف الليل العاشق" هذه اللغة تعزز من الأجواء الحالمة والفلسفية.

- المنظور السردي: الراوي العليم يركز على أفكار ممدوح وهواجسه، مما يتيح للقارئ الغوص في عقله المضطرب.

- البنية: القصة تتبع ليلة واحدة في حياة ممدوح، مع تداعيات أفكاره التي تنتقل من الواقع إلى الخيال.

النهاية الحالمة تضيف بُعداً رمزياً يختتم القصة بنبرة مأساوية.

4- الرمزية:

- الصرصور العاشق: يرمز إلى الأمل والمثابرة في الحب، ألحان الصرصور تعكس رغبة الكائنات في التواصل والحب، بغض النظر عن بساطتها.

- الصرصور في الحمام: يمثل الكائنات المهمشة التي يُنظر إليها بدونية.

- السيجارة: ترمز إلى العلاقة المدمرة بين ممدوح ونفسه، وكما أنه يستنزف السيجارة، فإنها تستنزف صحته، في علاقة "سادية" تعكس صراعه الداخلي كما وصفها الكاتب.

- الحمام: يرمز إلى الحب النقي والسكون الذي يفتقده ممدوح، ظهوره في النهاية يمنح إحساساً بالأمل.

- الكمان في الحلم: يرمز إلى محاولة ممدوح للتعبير عن نفسه.

5- السياق:

- السياق النفسي: القصة تعكس حالة نفسية لشخص في منتصف العمر يعاني من الأرق والوحدة، ممدوح يمثل الإنسان المعاصر الذي يشعر بالفراغ رغم بساطة حياته.

- السياق الاجتماعي: الوسادة المهجورة تشير إلى فقدان العلاقات الشخصية (ربما خسارة عاطفية) مما يعزز عزلة ممدوح وشعوره بالحاجة إلى رفقة.

6- نقد أدبي:

- من منظور الوجودية: القصة تتناول الصراع الوجودي لممدوح في البحث عن معنى حياته، تأملاته حول الصراصير والحمام تعكس محاولته لفهم وجوده وعلاقته بالآخرين.

- من منظور النقد النفسي: الأرق والهواجس تعكس صراع ممدوح مع عقله الباطن، الحلم الأخير يمثل تعبيراً عن رغبته المكبوتة في التواصل.

- من منظور ما بعد الحداثة: القصة تلعب على الحدود بين الواقع والخيال، حيث تنتقل أفكار ممدوح من الواقع إلى تأملات خيالية عن الحب والجمال.

7- التقييم:

(أحلام الصراصير) نص عميق يجمع بين الشاعرية والفلسفة ليصور معاناة الإنسان المعاصر، قوتها تكمن في قدرتها على تحويل الكائنات البسيطة إلى رموز للأمل والحب، بينما تعكس ضعف ممدوح كإنسان.

النهاية الحالمة تضيف بُعداً مأساوياً، لكنها قد تبدو مفتوحة أكثر من اللازم.

اللغة الشاعرية والصور البصرية تجعل النص تجربة غنية، لكنها قد تكون كثيفة بالنسبة لبعض القراء.

8- خاتمة: القصة دعوة للتأمل في الوحدة والأحلام الضائعة، حيث يصبح الصرصور العاشق رمزاً للأمل الذي يفتقده ممدوح، ومن خلال أسلوبها الشاعري ورمزيتها العميقة، تقدم القصة صورة مؤثرة عن الصراع الإنساني.

قراءة نقدية لقصة (المحطة الأخيرة)

قصة تحمل طابعاً تأملياً وعاطفياً، تتناول رحلة ليلى إلى قرية نائية، حيث تواجه تحولاً داخلياً من الاستياء إلى التصالح مع البيئة الجديدة.

القصة تجمع بين الواقعية والرمزية، مستحضرة أجواء السبعينيات بأناقتها وتفاصيلها البسيطة.

1- الموضوعات والثيمات:

- الانتقال من المدينة إلى الريف: القصة تصور صراع ليلى النفسي والثقافي وهي تنتقل من العاصمة المتحضرة إلى قرية نائية، مما يعكس صدام الحداثة مع البساطة الريفية.

- البحث عن الانتماء: رحلة ليلى تمثل بحثاً عن مكانها في عالم جديد، بينما استياؤها الأولي يتحول تدريجياً إلى تقبل بفضل تفاعلها مع العم محمود ومسعود.

- الحرية والطبيعة: القصة تؤكد على قيمة الحياة الريفية البسيطة، حيث يشيد العم محمود ومسعود بحرية الريف مقابل قيود المدينة.

- الحنين والذكريات: قصة العم محمود مع نعيمة تستحضر الحنين إلى الحب النقي والحياة البسيطة، مما يؤثر على نظرة ليلى للقرية.

- التحول الداخلي: ليلى تنتقل من الشعور بالوحدة والاستياء إلى لحظات من الأمل والألفة، خاصة عند تفاعلها مع الطبيعة.

2- الشخصيات:

- ليلى: معلمة شابة من العاصمة، تمثل الفرد الحديث الذي يواجه صعوبة التأقلم مع البيئة الريفية.

استياؤها الأولي يعكس غربتها، لكن تفاعلها مع الطبيعة ومسعود يكشف عن انفتاحها التدريجي.

- العم محمود: رجل حكيم يجسد الحكمة الريفية والدفء الإنساني، ودوره كمضيف يساعد ليلى على الشعور بالأمان.

- مسعود: مدير المدرسة والمعلم الوحيد، يمثل جيلاً شاباً متمسكاً بالحياة الريفية، اهتمامه بليلى وحديثه عن الحرية يمهدان لعلاقة محتملة.

3- الأسلوب السردي:

- اللغة التصويرية: اللغة غنية بالأوصاف الحسية (مثل صوت الرياح، رائحة الصنوبر، نقرات المطر) مما يعزز الأجواء الخريفية والبيئة الريفية.

- المنظور السردي: الراوي العليم يركز على مشاعر ليلى وتفاعلها مع المكان والشخصيات، مع لمحات عن أفكار العم محمود ومسعود.

- البنية: القصة تدور في ليلة واحدة، مع تسلسل زمني يبدأ من وصول ليلى إلى المحطة وينتهي ببزوغ الصباح، مما يعكس تحولها النفسي من الوحدة إلى الأمل.

4- الرمزية:

- المحطة: ترمز إلى نقطة انتقال في حياة ليلى.

- المطر: يرمز إلى التحديات والعواطف المكبوتة، وتوقفه يعكس هدوءاً داخلياً يصاحب تحول ليلى.

- المصباح: يرمز إلى الأمل الضعيف وسط الظلام، وضوء المصباح الذي يحمله العم محمود يعكس دوره كمرشد.

- الحصان: يرمز إلى الألفة والطبيعة.

- النجوم: تمثل الجمال والحرية التي تكتشفها ليلى في الريف، مقابل سماء العاصمة الغائبة خلف الأضواء.

- البيض: يرمز إلى الحياة الجديدة والخصوبة، مشيراً إلى بداية جديدة لليلى في القرية.

- الغليون: يرمز إلى الحكمة والتأمل، حيث يستخدمه العم محمود أثناء سرد قصته.

5- السياق:

- السياق الثقافي: القصة تستحضر أجواء السبعينيات من خلال وصف ملابس ليلى (تنورة طويلة، بوت) والبساطة الريفية.

- السياق النفسي: ليلى تعاني من الغربة والخوف من المجهول، لكن تفاعلها مع العم محمود ومسعود يساعدها على الشعور بالانتماء.

- السياق الاجتماعي: القصة تعكس الفجوة بين المدينة (الحداثة) والريف (البساطة) مع نقد لقيود الحياة الحضرية.

6- نقد أدبي:

- من منظور الواقعية: القصة تصور بصدق صراع ليلى النفسي مع بيئتها الجديدة، مع تفاصيل واقعية.

- من منظور الرومانسية: سرد العم محمود عن حبه لنعيمة وتفاعل ليلى مع الطبيعة يعكسان نزعة رومانسية تُمجد الحب والحرية.

- من منظور ما بعد الحداثة: القصة تقدم تناقضاً بين العاصمة (النظام) والريف (الفوضى الجميلة) مع تركيز على العشوائية (النجوم، الأعشاب)

7- التقييم: (المحطة الأخيرة) نص غني يصور رحلة تحول داخلي بأسلوب شاعري وواقعي، قوته تكمن في الرمزية وتصوير التباين بين المدينة والريف.

النهاية المفتوحة، مع إشارة إلى علاقة محتملة بين ليلى ومسعود، تضيف أملاً دون حسم، ومع ذلك، قد يرى البعض أن تركيز القصة على الأجواء يقلل من تطور الحبكة.

اللغة التصويرية وقصة العم محمود تجعلان النص تجربة أدبية ممتعة.

8- خاتمة: (المحطة الأخيرة) دعوة لتقبل التغيير واكتشاف الجمال في البساطة، ليلى تمثل الفرد الذي يواجه المجهول، بينما العم محمود ومسعود يجسدان الحكمة والأمل.

قراءة نقدية لقصة (راديو)

(راديو) قصة غنية بالعواطف والرمزية، تتناول موضوعات عميقة مثل الوجود، التواصل، والأمل في مواجهة المرض والموت.

من خلال شخصية نهال، تقدم القصة تأملات فلسفية وإنسانية حول الحياة، معتمدة على أسلوب سردي شاعري وصور بصرية مكثفة.

1- الموضوعات والثيمات: تدور القصة حول عدة موضوعات مترابطة:

- التواصل والوجود: نهال، تتوق إلى أن تُسمع وأن يُدرك العالم وجودها، وجهاز (الراديو) الخاص بها يصبح جسراً يربطها بالعالم الخارجي.

عندما تكتب رسائلها إلى البرنامج الإذاعي، تصبح الكتابة وسيلة لتأكيد وجودها.

- الأمل واليأس: على الرغم من مرضها، تجد نهال في الكتابة وفي (الراديو) أملاً يمنحها معنى.

- الزمن والتغيير: النافذة التي تجلس عندها نهال ترمز إلى مراقبة الزمن والحياة المتغيرة.

- العزلة والارتباط: نهال تعيش عزلة جسدية وعاطفية، لكنها تتوق إلى الارتباط بالعالم من خلال (الراديو) هذا التناقض بين العزلة والرغبة في التواصل يجعلها شخصية معقدة ومؤثرة.

2- الشخصيات:

- نهال (سيدة المساء): نهال هي الشخصية المركزية، وهي امرأة حساسة ومرهفة الحس، تعيش حياة بسيطة، لكن روحها قوية ومليئة بالشغف للتعبير عن نفسها.

تتطور شخصيتها من مراقبة صامتة إلى صوت يسمعه العالم، مما يعكس تحولها من السلبية إلى الفعل.

اختيارها للاسم المستعار (سيدة المساء) يعزز من غموضها ويمنحها هوية أسطورية.

- ميشيل نظيم (المذيع): يمثل المذيع صوت العالم الخارجي.

صوته الدافئ والعذب يكون الدافع لتحرر نهال من صمتها.

- شخصيات ثانوية: مثل الأب وابنه، والعابرون، يتم تقديمهم كرموز للحياة اليومية التي تراقبها نهال، هذه الشخصيات لا تتفاعل مباشرة مع نهال، لكنها تعزز إحساسها بالعالم الخارجي.

3- الأسلوب السردي:

- اللغة الشاعرية: القصة مكتوبة بأسلوب شاعري غني بالصور البصرية والاستعارات.

على سبيل المثال، وصف الغيوم بأنها: "هاربة، متمردة، ثائرة" يعكس رغبة نهال الداخلية في الحرية، واللغة تحمل طابعاً تأملياً يعكس الحالة النفسية لنهال.

- المنظور السردي: القصة تُروى من منظور الغائب (الراوي العليم) مما يتيح للقارئ الغوص في أفكار نهال ومشاعرها، مع مراقبة العالم الخارجي من خلال عينيها.

4- الرمزية:

- الراديو: يرمز إلى جسر التواصل بين نهال والعالم، حيث يمنح نهال إحساساً بالانتماء رغم عزلتها.

- النافذة: ترمز إلى حدود نهال بين عالمها الداخلي والعالم الخارجي، ومن خلال النافذة، تراقب الحياة دون أن تكون جزءاً منها مباشرة، مما يعكس عزلتها وشوقها للانخراط فيها.

- العطر: يرمز إلى هوية نهال وأنوثتها، رشة العطر على الرسائل هي بمثابة توقيعها الشخصي.

- سيدة المساء: هذا اللقب يحمل دلالات الغموض والرومانسية.

5- السياق:

- السياق التاريخي: القصة مؤرخة بـ 11 أكتوبر 1960، مما يضعها في سياق زمني يتميز بانتشار الراديو كوسيلة تواصل جماهيرية، كما أن مرض السل كان شائعاً في تلك الفترة، مما يعزز واقعية القصة.

- السياق الثقافي: القصة تعكس تجربة إنسانية عابرة للثقافات، لكنها تحمل طابعاً عربياً من خلال اللغة الشاعرية والتأملات العميقة.

6- نقد أدبي:

- من منظور النقد النسوي: يمكن قراءة القصة كتعبير عن صوت المرأة المكبوت، نهال رغم مرضها وعزلتها، تجد في الكتابة وسيلة لتحرير ذاتها وتأكيد وجودها.

- من منظور ما بعد الحداثة: القصة تتلاعب بالحدود بين الواقع والخيال.

نهال تخلق هوية خيالية (سيدة المساء) تتجاوز قيود جسدها المريض، مما يعكس فكرة تعدد الهويات والبحث عن المعنى في عالم مجزأ.

7- التقييم: قصة (راديو) نص مؤثر يجمع بين العمق الفلسفي والجمال الأدبي، أسلوبها الشاعري يجعلها قريبة من القلب، بينما موضوعاتها العالمية تجعلها قابلة للتأويل من زوايا متعددة.

نقطة قوتها تكمن في قدرتها على تصوير الصراع الإنساني بين العزلة والتواصل، بين الحياة والموت، من خلال شخصية نهال المعقدة.

ومع ذلك، قد يرى البعض أن النبرة المأساوية في النهاية مكثفة للغاية، مما قد يطغى على الأمل الذي تحاول القصة إيصاله.

8- خاتمة: (راديو) من خلال نهال، تقدم القصة تأملاً في معنى الوجود والرغبة في ترك أثر.

الراديو، النافذة، والعطر، رموز قوية تعزز من عمق النص، مما يجعله تجربة أدبية غنية تستحق القراءة والتأمل.

قراءة نقدية شاملة:

1)قصة (دمى لا تبتسم): القصة قوية في رمزيتها، لكنها قد تفتقر إلى الحركة الدرامية مقارنة بـ (المحطة الأخيرة)

ونجد أن الشخصيات البشرية لا تتطور بشكل كبير، بل تخدم الرمزية.

هذا التركيز على الرمز بدلاً من الشخصيات يذكرنا بأسلوب الكاتب الروسي (أنطون تشيخوف) في قصصه القصيرة.

القصة تتناول فقدان البراءة في مواجهة القسوة الاجتماعية، مع إشارات إلى الفقر والصراع الطبقي.

هذه الموضوعات تشبه ما نجده في أعمال (تشيخوف) مثل (فانيا) حيث يركز على الخيبات الإنسانية.

ومع ذلك، قد يشعر القارئ بنقص الحركة الدرامية، حيث تعتمد القصة على التأثير العاطفي بدلاً من التصاعد السردي.

2)قصة (دوفا): البنية خطية مع ذروة مأساوية (فقدان هاينز)

الأسلوب شاعري مع وصف دقيق للطبيعة والحرب، والقصة مؤثرة بسبب مأساتها، لكنها قد تكون مكثفة عاطفياً مقارنة بـ بقصة (راديو)

استخدام الرسائل كتقنية سردية يعزز العمق العاطفي، حيث تصبح الرسائل نصاً داخل النص.

القصة تعكس تأثير الحرب على العلاقات الإنسانية، مع إبراز قوة المرأة في مواجهة التحديات، هذا الموضوع يتقاطع مع أعمال الكاتبة الأمريكية (إديث وارتون) في (إيثان فروم)

(دوفا) تبرز قدرة سمير عالم على خلق شخصيات نسائية قوية، حيث تتحمل دوفا وحدتها بصبر.

التركيز على الطبيعة كخلفية يعكس تأثير الرومانسية في أسلوب الكاتب، مع لمسة واقعية.

3)قصة (أحلام الصراصير): الأسلوب بطيء وشاعري، مع تركيز على التفاصيل اليومية، ولا يوجد تطور كبير؛ بل تأملات داخلية.

القصة عميقة فلسفياً لكنها تفتقر إلى الحركة مقارنة بـ بـ (المحطة الأخيرة)

وهي تعكس صراع الفرد مع الملل والاغتراب، مشابهة لأعمال (ألبير كامو) مثل (الغريب)

كما أن القصة تبين تأثر سمير عالم بالوجودية، حيث يعاني ممدوح من عبثية الحياة دون أن يجد مخرجاً.

الرمزية غنية، لكن الإيقاع البطيء وغياب الأحداث قد يحد من جاذبيتها للقارئ العام.

التركيز على الحوار الداخلي يبرز مهارة الكاتب في تصوير النفس البشرية، لكنه يجعل القصة أقرب إلى التأمل الفلسفي من السرد الدرامي.

4)قصة (المحطة الأخيرة): البنية خطية مع إيقاع يتسارع مع الحوارات، والأسلوب شاعري مع وصف حسي للطبيعة.

القصة دافئة ومتوازنة، مع تفاعل قوي بين الشخصيات، لكن النهاية قد تكون متوقعة.

استخدام الحوارات يعزز التفاعل بين الشخصيات، بينما الوصف الطبيعي يخلق أجواء غامرة، ومن جانب آخر القصة تفاؤلية، مع إبراز قيمة البساطة الريفية.

هذا الموضوع يتقاطع مع أعمال الكاتب البريطاني (توماس هاردي) في (بعيداً عن الجموع الهائجة)

والقصة تبرز قدرة الكاتب على خلق أجواء دافئة تجمع بين الواقعية والشاعرية.

ونجد أن الحوارات بين ليلى والعم محمود تضيف عمقاً إنسانياً، خاصة في قصته عن نعيمة، ومع ذلك، النهاية المتفائلة قد تبدو متوقعة، مما يقلل من التوتر الدرامي مقارنة بـ (دوفا)

5)قصة (راديو): البنية خطية مع ذروة مأساوية (كشف المرض) الأسلوب شاعري للغاية، مع وصف دقيق للمشاعر، المذيع (ميشيل نظيم) وظيفي، لكنه يعزز التواصل، والإيقاع يتسارع مع اقتراب النهاية.

القصة مؤثرة وشاعرية، لكن التأملات الطويلة قد تبطئ الإيقاع، وأسلوب الكاتب شاعري للغاية، مع وصف دقيق للمشاعر (مثل كتابة الرسالة)

استخدام الرسائل كتقنية سردية يشبه (دوفا) لكن هنا الجمهور مجهول، مما يضفي طابعاً عالمياً.

القصة تجمع بين الأمل والمأساة، مع إبراز قوة الكلمة كوسيلة للخلود، هذا الموضوع يذكرنا بأعمال الكاتبة البرازيلية (كلاريس لسبكتور) في (سعادة سرية)

(راديو) هي واحدة من أقوى قصص المجموعة بسبب شاعريتها وتركيزها على قوة الكلمة.

نهال تمثل الفرد الذي يسعى لتأكيد وجوده في عالم غريب، وهو ما يعكس رؤية الكاتب الفلسفية.

الرسالة الأخيرة تحمل توازناً بين المأساة والأمل، لكن التأملات الطويلة في البداية قد تبطئ الإيقاع.

التركيز على العزلة والتواصل يبرز تأثر الكاتب بالوجودية والإنسانية.

تقييم أسلوب سمير عالم:

- اللغة والأسلوب: أسلوب سمير عالم شاعري بامتياز، يعتمد على الوصف الحسي الدقيق للطبيعة والمشاعر الإنسانية، إلى جانب أن لغته فصيحة وغنية بالصور البلاغية.

يميل إلى التأملات الفلسفية والشاعرية، مع تركيز على التفاصيل اليومية التي تعكس الصراعات الداخلية، هذا الأسلوب يجعل قصصه غامرة عاطفياً، لكنه قد يبطئ الإيقاع في بعض الأحيان، كما في (أحلام الصراصير)

- البنية والإيقاع السردي: القصص تعتمد على بنية خطية غالباً، مع تركيز على لحظات انتقالية، مثل: وصول ليلى في (المحطة الأخيرة) أو كتابة نهال في (راديو)

إيقاع القصص يميل إلى البطء، خاصة في القصص التأملية مثل (أحلام الصراصير) و(راديو) ومع ذلك، يتسارع الإيقاع في لحظات الذروة، كما في نهاية (دوفا) أو (راديو)

هذا التوازن يعكس مهارة الكاتب في التحكم بالتوتر، لكنه قد يُشعر القارئ بالملل في الأجزاء الوصفية.

- الرمزية: الكاتب سمير عالم، يبرع في استخدام الرموز (الدمية، الراديو) لتعكس الحالات النفسية والاجتماعية، رمزيته طبيعية وإنسانية، مما يجعلها قريبة من القارئ.

- العاطفة والإنسانية: قصص سمير عالم تتسم بالدفء الإنساني، حتى في المآسي، ويركز على الأمل والصمود، مما يجعل أسلوبه متفائلاً نسبياً مقارنة بكتاب مثل (إرنست همينغوي) وعلى عكس كتاب مثل (كافكا) يركزون على العبثية، فقصص عالم تقدم رؤية متفائلة، كما في تحول ليلى أو قبول نهال لمصيرها.

- التركيز على التفاصيل الحسية: نجده يبرع في تحويل التفاصيل اليومية إلى رموز، هذا التركيز يعكس تأثره بالواقعية، مع لمسة شاعرية تجعله قريباً من الواقعية السحرية.

- الحوارات: الحوارات في قصص عالم محدودة لكنها مؤثرة، وبالعموم، الحوارات تخدم الشخصيات والموضوع.

- الواقعية الشاعرية: يركز على الحياة اليومية، لكنه يضيف طبقة شاعرية من خلال الرمزية والوصف الحسي، هذا المزيج يقربه من كتاب مثل (غابرييل غارسيا ماركيز) لكنه أقل ميلاً إلى الخيال.

- الوجودية: موضوعات الوحدة والبحث عن الوجود تعكس تأثراً بوجودية (كامو، وسارتر) لكن عالم يبتعد عن العبثية ويقدم رؤية إنسانية متفائلة.

- الرومانسية: التركيز على الطبيعة (المطر، الغيوم) والمشاعر الإنسانية يعكس تأثراً بالرومانسية، خاصة في (المحطة الأخيرة) و(راديو) لكن عالم يمزج هذا مع الواقعية، على عكس الرومانسية الخالصة.

- السياق الثقافي العربي: قصص عالم تعكس السياق العربي من خلال الصراع بين القديم والجديد، والتركيز على الهامشيين هذا يقرب أسلوبه من نجيب محفوظ في (زقاق المدق) حيث يركز على الأفراد في سياق اجتماعي.

- المدرسة الفكرية والأدبية التي ينتمي إليها سمير عالم: من خلال قراءتي؛ يمكنني القول بأن سمير عالم، ينتمي إلى المدرسة (الواقعية الشاعرية) وهي مزيج من الواقعية التي تركز على الحياة اليومية والصراعات الإنسانية، والشاعرية التي تضفي طابعاً تأملياً ورمزياً على النصوص.

هذه المدرسة تتقاطع مع الواقعية السحرية في بعض جوانبها (مثل التركيز على العناصر الطبيعية كرموز) لكنها أقل خيالية وأكثر ارتباطاً بالواقع الاجتماعي.

تأثره بالأدب العربي الحديث واضح، خاصة في طريقة تناوله للصراع بين القديم والجديد، مثل ليلى في (المحطة الأخيرة)

كما أن تركيزه على الوحدة والوجود يقربه من الوجودية، لكنه يبتعد عن العبثية الصريحة التي نجدها عند (كافكا)

وأجد أن قصصه العاطفية والإنسانية، مثل: دوفا وراديو، لها جاذبية عالمية، خاصة إذا تمت ترجمتها تسويقها كجزء من الأدب العربي الحديث.

-  الخلاصة: مجموعة (كلاسيكيات) للكاتب سمير عالم هي عمل أدبي يعكس حساسية شاعرية وإنسانية، مع تركيز على الوحدة، التكيف، والتعبير عن الذات في سياقات اجتماعية متنوعة.

أسلوبه الواقعي الشاعري يجمع بين الوصف الحسي والرمزية، مما يجعله قريباً من كتاب مثل ماركيز وجبران، لكنه يحتفظ بطابع عربي مميز يذكرنا بنجيب محفوظ.

قصصه تتسم بالدفء والأمل - حتى في مآسيها-  مما يجعلها جذابة للقارئ الباحث عن العمق العاطفي.

على الرغم من بعض الإطالة في التأملات ومحدودية تطور الشخصيات الثانوية، إلا أن سمير عالم يقدم رؤية فلسفية تجمع بين الوجودية والإنسانية، مع حساسية ثقافية تعكس السياق العربي، والمجموعة تمثل تجربة أدبية غنية ومؤثرة، تجعلها جديرة بالقراءة والدراسة، وتشكل إسهاماً قيماً في الأدب العربي.

***

 د. ماجدة إسماعيل

تمثّل السيميولوجيا ـ في أصل تكوينها الفلسفي ـ بحثاً في جوهر العلامة، كما صاغ ملامحها الأولى أفلاطون في جدلياته حول المحاكاة، ثم جاء أرسطو ليُحكِم بنيتها النظرية عبر ربط العلامة بالخطاب والبرهان. غير أنّ التبلور المفهومي الحاسم وقع في أعقاب المناظرة الشهيرة، قرابة عام 300 ق.م في أثينا، بين الفلاسفة الرواقيين والفلاسفة الأبيقوريين، حيث تمّ ترسيخ التصور الثلاثي للعلاقة العلاماتية: الدال (signifiant)، والمدلول (signifié)، والوظيفة القصدية التي تربط الأول بالثاني في سياق تواصلي.

وفي العصر الحديث، استعاد منظّرون كبار، مثل أندريه مارتينيه، برييطو (Prieto)، وجورج مونان (Mounin)، جوهر هذا المبحث، مؤكدين أنّ العلامة لا تُختزل في بعدها اللساني، بل تمتد لتشمل أنماطاً غير لغوية: كعلامات المرور، والرموز الأيقونية، والإشارات الطقسية، لتشكل جميعها نسيجاً من الرموز المتداخلة التي تُسهم في إنتاج المعنى.

- المربع السيميائي: من التضاد إلى التوليد الدلالي:

اعتمد غريماس (A.J. Greimas) في مشروعه السيميائي على ما يُعرف بـ المربع السيميائي، وهو الأداة المنطقية التي تُفكّك البنية العميقة للخطاب، عبر كشف علاقات التضاد (contradiction)، والتقابل (contrariety)، والتضمين (implication). بهذا المعنى، فإنّ النص الشعري ليس مجرد رصف من الكلمات، بل هو شبكة من التوترات الدلالية التي تتحرك وفق نسق عقلي وجمالي معقد، يشتغل على ثنائية الحضور/الغياب، والامتلاء/النقصان، والحياة/الموت.

- سيميولوجيا الشعر: البنية والوظيفة:

حين تنتقل السيميولوجيا إلى ميدان الشعر، فإنها تواجه خطاباً يتجاوز وظيفته الإبلاغية المباشرة ليصير فعلَ خلقٍ جمالي يُعيد تشكيل العالم. فالشعر ـ كما يرى بول فاليري ـ «لغة في لغة»، أي أنه يقيم داخل النظام اللساني لكنه يخلخل قوانينه من الداخل، لينشئ نظاماً فرعياً تُهيمن عليه الإيحاءات والانزياحات.

وهنا تبرز ضرورة التحليل على مستويات متعددة:

- المستوى الصرفي: حيث تُدرس بنية الكلمة وتحولاتها الإيقاعية.

- المستوى الصوتي: الذي يكشف عن الدور الموسيقي للأصوات، بما يحمله من رمزية باطنية.

- المستوى الدلالي: حيث تُستقصى الحقول المعجمية والتشابكات الرمزية.

- المستوى التركيبي: في شقيه النحوي (ترتيب الجملة) والتناصي (حضور نصوص أخرى داخل النص).

- المستوى البلاغي: بما يتضمنه من استعارات وكنايات وصور شعرية.

- الشعر كمنظومة علاماتية:

يرى رولان بارت أن النص الشعري هو «نسيج من الاقتباسات»، وأن كل علامة فيه تنفتح على علامات أخرى، مما يجعل القراءة السيميولوجية فعلَ تنقيب لاكتشاف الدلالات الكامنة خلف ظاهر الكلام. كما أن جاك دريدا يذهب أبعد حين يؤكد أن العلامة «لا تحضر أبدًا حضورًا كاملًا»، إذ يظل المعنى مؤجَّلًا دومًا (différance)، وهذا التأجيل هو ما يمنح الشعر طاقته الإيحائية التي لا تنضب.

- الوظيفة الجمالية للعلامة الشعرية.

في سيميولوجيا الشعر، لا تُفهم العلامة إلا بوصفها حدثًا جماليًا، أي أنها لا تُحيل على شيء خارجها فقط، بل تبني عالَمها الذاتي. فالبيت الشعري قد يوحي بالحب، أو الموت، أو الوطن، لكنه في الآن ذاته يخلق حبّه الخاص، وموتَه الخاص، ووطنَه الخاص، عبر تشكيلات صوتية وصورية ولغوية فريدة. وهذا ما يجعل الشعر، بحسب هايدغر، «إقامة الإنسان في العالم على نحو شعري».

- الشعر بين الحرية والدلالة:

يُمارس الشعر حريته عبر كسر النمط المألوف للغة، لكنه في الوقت ذاته يظل منضبطًا بضرورات التشكيل الجمالي. فكل خروج عن القاعدة في الشعر، إنما هو خروج محسوب يخضع لقوانين داخلية يفرضها النص نفسه. وهنا تتضح أهمية المقاربة السيميولوجية في كشف التوازن الدقيق بين الفوضى المبدعة والنظام الخفي.

- خاتمة

إنّ سيميولوجيا الشعر ليست مجرد منهج نقدي، بل هي أفق فكري وجمالي يتيح لنا قراءة النصوص بوصفها عوالم من العلامات المتداخلة. هي دعوة إلى الغوص في أعماق الكلمة، لا لاستخراج معناها المباشر فحسب، بل لتلمّس اهتزازاتها وظلالها وإيحاءاتها. فالشعر، في نهاية المطاف، هو لغة تتجاوز ذاتها، وعلامة تبحث عن علاماتها، وصوت يسعى إلى الإنصات إلى صمته الداخلي.

تطبيق سيميولوجي على مقطع شعري.

لنأخذ بيتًا للشاعر أبي الطيب المتنبي:

 إذا غامرتَ في شرفٍ مرومِ **فلا تقنعْ بمـا دونَ النجومِ

1. المستوى الصرفي

الفعل "غامرت" يشي بالفعل الإرادي المقرون بالمخاطرة، وهو اختيار صرفي يحوّل المعنى من مجرّد طلب إلى فعل وجودي.

- كلمة "النجوم" جاءت جمعًا، بما يحيل على الكثرة والامتداد، لا على نجمٍ واحد، فيتسع فضاء الطموح.

2. المستوى الصوتي:

التكرار الصوتي لحرف الميم في "مروم" و"النجوم" يخلق انسجامًا موسيقيًا يوحي بالعلو والامتداد.

- المدود الطويلة (غامرت، مروم، النجوم) تمنح البيت انفتاحاً إيقاعياً يناسب دلالته.

3. المستوى الدلالي:

"الشرف المروم" علامة على القيمة المثالية التي تُطلب رغم صعوبتها.

- "النجوم" علامة رمزية على أقصى الغايات، وهي هنا تُجسّد السمو والعلو الميتافيزيقي.

4. المستوى التركيبي.

الجملة الشرطية ("إذا... فلا") تخلق علاقة سببية دلالية: الطموح إلى المجد يقترن برفض القبول بالقليل.

- البنية الثنائية (غامرت/لا تقنع) تقيم تضادًا بنائيًا يزيد التوتر الدلالي.

5. المستوى البلاغي والتناصي

استعارة النجوم غنية الحضور في التراث الشعري العربي، لكنها هنا جاءت ضمن سياق فلسفة المتنبي عن الذات البطولية.

البيت يشتغل على تضاد ضمني بين الأرض/السماء، بين الممكن والمستحيل، ليحيل في النهاية إلى دعوة وجودية للارتقاء.

بهذا التحليل نرى كيف تعمل سيميولوجيا الشعر على تفكيك البنية الشعرية إلى طبقات من العلامات، كلٌّ منها يسهم في إنتاج المعنى الكلي. فالمتنبي لم يكتب دعوة مباشرة للطموح، بل نسج منظومة علاماتية تتضافر فيها الأصوات، والصيغ الصرفية، والرموز الثقافية، لتنتج نصًا مفتوحًا على التأويل.

***

بقلم: عماد خالد رحمة - برلين

في مديح الفضائل الإنسانية في شعر الكستي البيروتي:

أولاً: المدخل الهيرمينوطيقي – سياق القول وفلسفته.

القصيدة تنفتح على بيت مفتاحي يمثل أطروحة الشاعر:

 "أخو الفطانة لا تغنيه فطنته

ما لم تقدمه للعلياء همته"

هنا يضع الكستي البيروتي معادلة قيمية تفضي إلى أن الذكاء وحده لا يكفي ما لم يقترن بالهمّة العالية والعمل الدؤوب. هذا المبدأ يعكس خلفية فكرية قريبة من فلسفة الأخلاق العملية عند أرسطو، حيث الفضيلة ليست في الملكة فقط، بل في الفعل الذي يحقق الغاية.

في السياق التاريخي، تعكس هذه الرؤية المناخ الاجتماعي العثماني المتأخر في بيروت، حيث كانت القيم الأرستقراطية (الشرف، النسب، الذكاء) تتعرض لاختبار أمام قيم الكفاءة والاجتهاد. ومن خلال هذا الوعي، يدعو الشاعر إلى تجاوز التعويل على الحظ أو المظاهر، نحو العمل المثمر، كما في قوله:

"لكن أرى السعي منه في مناكبها

حقاً عليه وإن طالت مشقته"

ثانياً: التحليل الأسلوبي – اللغة والبنية الإيقاعية

القصيدة موزونة، وهو الذي يمنح النص نَفَساً خطابياً متدفقاً، يسمح للشاعر بالجمع بين النبرة الوعظية والاحتفائية. ويظهر في النص استخدام مكثف للأضداد والمقابلات، مثل:

"أسود القلب" مقابل "بياض اللون".

"العسر" مقابل "اليسر".

"القوي" مقابل "العاجز".

هذا التوتر الدلالي يخلق ديناميكية فكرية، ويعكس وعي الشاعر بأن الحقيقة الأخلاقية لا تتجلى إلا من خلال المقارنة بين القيم ونقائضها.

كما أن المعجم الشعري يتحرك بين مجالين:

1. مجال القيم الإنسانية: الفطانة، الهمّة، المعرفة، الوفاء، المروءة.

2. مجال الرموز الطبيعية والكونية: الشمس، النجوم، الليث، البرق.

هذا المزج يضفي على النص بعدًا رمزيًا، إذ تصبح الظواهر الكونية استعارات للقيم البشرية (الشمس رمز النور الفكري، الليث رمز القوة، البرق رمز الحدة واللمعان).

ثالثاً: التحليل الرمزي – البنى الدلالية العميقة

القصيدة تتحرك من فكرة عامة (الفضائل لا تكتمل إلا بالفعل) إلى تجسيد حي لهذه الفضائل في شخص ممدوح محدد. الممدوح هنا يصبح "الرمز الحي" للقيم التي دعا إليها الشاعر في المطلع.

الفطانة + الهمّة: الممدوح ليس فقط ذكياً، بل طموحاً فاعلاً.

المروءة + الوفاء: تكرار الدعوة لمصاحبة "الحر مكثار الوفاء" يؤكد مركزية الوفاء كفضيلة اجتماعية.

الصفاء الداخلي: قوله عن الممدوح "مبارك الوجه صافي القلب" يجعل الصفاء رمزاً للوحدة بين الظاهر والباطن، وهي قيمة صوفية في عمقها.

رابعاً: البنية النفسية للشاعر – صورة الذات في النص

الشاعر في هذا النص ليس مجرّد مادح؛ بل هو مربٍ أخلاقي، يوجّه خطابه أولاً إلى القارئ/المستمع، ثم يجسد المثال في شخص الممدوح. هذه الحركة تكشف عن بنية نفسية قائمة على:

1. نزعة تعليمية: رغبة في ترسيخ قيم السعي، الوفاء، النبل.

2. نزعة مثالية: البحث عن نموذج بشري يجمع الفضائل النظرية والعملية.

3. نزعة اعترافية: حين يقول "أحسنت نية قصدي بالأخاء له" يصرّح بدوره العاطفي والأخلاقي في العلاقة مع الممدوح، مما يمنح النص بعدًا شخصياً.

خامساً: التكامل بين الفكرة والشخصية الممدوحة

القصيدة تُبنى بنيوياً على منطق "المقدمة الأخلاقية" ثم "التجسيد الشخصي"، وهذا النمط شائع في مدائح الحكماء والشعراء الوعاظ. الممدوح، في نظر الشاعر، هو تجسيد لمعاني:

- العقل النيّر: "منوَّر الفكر في ليل المشاكل"

- التوازن النفسي: "في حالة العسر لم يخطر بفكرته غمّ"

الاستقرار الاجتماعي: "من معشرٍ هم كنوز الدهر"

سادساً: الخاتمة التأويلية

في ضوء المنهج الهيرمينوطيقي، يمكن القول إن هذه القصيدة لا تُقرأ فقط كنص مدحي، بل كخطاب قيمي موجّه إلى مجتمع يواجه تحديات تآكل القيم أمام اعتبارات النسب أو الحظ أو المظهر. الممدوح هنا هو "الرمز التأويلي" الذي يمنح النص وحدته الداخلية، ويجعل القيم المجرّدة قابلة للتصوّر والتطبيق.

وبالمنهج الأسلوبي، يظهر أن التكرار والطباق والمجاز الطبيعي أدوات لبناء شبكة من المعاني المتوازنة بين الجمالية والمضمون. أما المنهج الرمزي، فيكشف أن الشاعر لا يستخدم الأسد والبرق والشمس لمحض الزخرفة، بل لترسيخ صورة الفضائل الإنسانية كقوى طبيعية لا تزول.

***

بقلم: عماد خالد رحمة - برلين

..........................

نص القصيدة:

أخو الفطانة لا تغنيه فطنته

ما لم تقدمه للعلياء همته

ومن ترفع قدراً دون معرفةٍ

تبرأت منهُ في دنياه رفعته

وأسود القلب لم تحمد مآثره

ولو زهت ببياض اللون عمته

والحظ في الناس رزق ساقه قدرٌ

منهُ لكل امرء تأتيه قسمته

لكن ارى السعي منه في مناكبها

حقاً عليه وان طالت مشقته

وان من قال قد تأتي الأمور بلا

سعي وفيما ادعى كانت ادلته

كم عاجزٍ طال باع والقويُّ غدا

قصير باعٍ ولم تنفعهُ قوَّته

والليث أمسى على ما فيهِ من شرسٍ

مع البعوضة لا تخفى قضيته

قلنا له نادرُ الأشياء ليس لهُ

حكمٌ يرى عند من زانتهُ حكمته

وانما نحن بالأمر الذي ظهرت

اسبابهُ وجرت في الناس كثرته

فاجنح إلى ما له اهل النهى جنحت

تكن فتى اعربت عنه فتوته

واسلك طريقاً بها تلقى النجاح ولا

تصحب من الناس من تؤذيك صحبته

ولازم الحر مكثار الوفاء ودع

عنك الدنيَّ الذي قلت مرؤته

وان مدحت فكن للمدح منتقداً

بمن تباهي النجومَ الزهرَ مدحته

مثل الحسين الذي جأت مقاصده

بكل خير وقد طابت سريرته

مولى روت عنه أبناء العلا خبرا

وحدثت عن صفات الروض سيرته

حسن الثناء له في ذاته شغفٌ

لولا معانيه لم تظهر مزيته

مبارك الوجه صافي القلب قد عجنت

بالحلم والجود والانصاف طينته

صفا به الوقت عزا واصطفاه لنا

وكيف لا نصطفيه وهو صفوته

حسوده من علاه لم يصب غرضا

ولم تكن اخطأته قط نعمته

من لا يقر بما حازت مناقبه

من الكمال فقد زاغت بصيرته

منوَّرُ الفكر في ليل المشاكل قد

فاقت على الشمس أشراقاً أشعته

في حالة العسر لم يخطر بفكرته

غمٌّ وفي اليسر لا تبدو مسرته

فهو الشفوق الذي نفنى الهموم به

وهو الصديق الذي تبقى مودته

سميره في نعيم لا يرى نكداً

ولا تحط عن الاقران حرمته

من معشرٍ هم كنوز الدهر وهوبهم

فريدة العقد تلقاه وزينته

فيا له اللَه من شهم له شرف

قد أشرقت في سماء العصر طلعته

من مشرق الشمس قد سارت لمغربها

مقرونةً بتحايا الحمد شهرته

ذو منطق لا أرى دراً يقاس به

ومظهر زانت الأيام بهجته

لو يسمع البرق ما يحكى لقلت له

من أين أنت إذا لاحت اسرته

احسنت نية قصدي بالاخاء له

إذ كان أشرف من ترجى أُخوته

فأوصلتني لما أرجوه من أمل

ونية المرء في الدنيا مطيته

سواه يحوي المنى بالحظ وهو حوت

بالعلم رتبةَ ازمير فضيلته

هنأته وهناء الأكرمين غنىً

بها ولي منه ما ترضاه شيمته

وصيغة المدح قد نادى مجوهرها

يا سعد ارخ وفت بالمجد رتبته"

 

للأديبة التونسية فاطمة محمود سعد الله.. قراءة في خطاب سردي ما بعد حداثي

"الجندر ليس ما نحن عليه، بل ما نفعله مراراً وتكراراً " بهذه العبارة المفصلية من جوديث بتلر في Gender Trouble، تنكشف هشاشة التصور الجوهراني للهوية الجندرية، وتظهر الذات بوصفها أدائية لغوية، قابلة للتشكل والتفكك. ومن هذا الأفق النظري، تُقرأ رواية «حورية والوحش» لا كسرد ذاتي فحسب، بل كنص يحفر في البنى العميقة للذات الأنثوية، ويفكك التمثيلات المستقرة للجسد، والهوية، والرغبة ضمن خطاب روائي ما بعد حداثي تتقاطع فيه اللغة مع الجندر، والصدمة مع المقاومة...

تنتمي الرواية إلى جنس السيرة الذاتية النسائية، لكنها تتجاوز الطابع التقريري إلى تفكيك البنى الخطابية التي صاغت الأنثى كتمثيل رمزي داخل ثقافة ذكورية. وتسائل الرواية ثبات الهوية في ظل وعي متحول بالذات واللغة، حيث تتحول الكتابة إلى فعل مقاومة سردية ضد التشييء والتواطؤ الرمزي. بناءً على ذلك، تطرح هذه الدراسة سؤالاً محورياّ: كيف تعيد الرواية بناء تمثيلات الجسد والهوية الجندرية؟ لا بوصفها خطاباً عن المعاناة، بل كبنية رمزية تقاوم التشييء، وتفكك فاعلية الذكر بوصفها مرجعية ثابتة...

وانطلاقاً من هذا التصور، تعتمد هذه القراءة مقاربة مركبة تنفتح على:

- النقد التفكيكي، لتعريه ثنائيات المعنى وكشف لا استقراريته،

- والتحليل النفسي اللاكاني، الذي ينظر إلى الذات بوصفها بنية لغوية تتأسس عبر الانقسام والاختلاف.

- والنقد النسوي ما بعد البنيوي كما تبلور في طروحات بتلر وراويل كونيل، حيث يفهم الجندر كأداء قسري يمكن فضحه أو إعادة صياغته.

هذه المناهج لا توظف كمقولات جاهزة، بل كعدسات تأويلية تحاور الرواية وتفكك طبقاتها. وتنبثق من ذلك مجموعة من الأسئلة التحليلية: كيف يتموضع الجسد الأنثوي كحقل للمعنى لا كمجال للتشييء ؟ كيف تفكك الرواية الهوية الجندرية بوصفها بناءً هجيناً يعبره القلق والتوتر والرمز؟ وما الدور الذي يلعبه المرض والموت الرمزي في إنتاج وعي نسوي بديل؟ وكيف تسهم اللغة الشعرية والتناصات الصوفية في تشكيل خطاب ذاتي متشظّ يعيد تعريف الذات في مواجهة مؤسسات القمع الرمزي؟

بهذه الرؤية، تقارب «حورية والوحش» لا بوصفها حكاية عن الحب أو الألم، بل كخطاب سردي متداخل الطبقات، يكتب الذات الأنثوية وهي تتشكل داخل تماس دائم بين الغياب والحضور، وبين المقاومة والانكسار، وبين الجسد بوصفه أثراً ؟ لغوياً، والهوية بوصفها فعلاً تأويلياً لا يكتمل ....وبهذا التأسيس المفهومي، يغدو الانتقال إلى الفصل الأول ضرورة تأويلية، حيث تبدأ البنية السردية في تجسيد تلك التوترات الرمزية بين الأثر والهوية، وبين الغياب كقيمة سردية والحضور كإمكانية تأويل.

الجسد كأثر، والهوية كتمازج رمزي

يفتتح الفصل الأول، الموسوم بـ"في حقل الذكريات"، البنية الرمزية للرواية، بوصفه تمهيداً سردياً يتقاطع فيه الحسي والذهني، الواقعي واللاواعي، عبر ثنائية مركزية تتمثل في شخصيتي عمر وحورية. فمنذ العنوان، يقدم الحقل بوصفه فضاءً دلالياً مشبعاً: ليس مجرد مكان زراعي، بل مسرحاً للنبش في الذاكرة، حيث يتقاطع الزمان (الذكريات) بالمكان (الحقل)، لتنكشف تشققات الهوية الذكورية وتصدعاتها في مواجهة حضور أنثوي رمزي.

تتأسّس هذه البنية على تقابل رمزي جوهري:

عمر: العقلاني / الواقعي / الذكوري

حورية: الحلمي / اللاواعي / الأنثوي

غير أن هذا التقابل لا ينتج ثباتاً سردياً، بل يفجر توتراً داخلياً يعرّي هشاشة الذات الذكورية، التي تبدو مترددة بين منطق السيطرة ورغبة الانجذاب. ففي ضوء التحليل النفسي (اللاكاني)، يمكن النظر إلى حورية بوصفها تجل للرغبة المكبوتة في لاوعي عمر، لا ككائن واقعي بالضرورة. فهي لا تحضر كموضوع حب تقليدي، بل كمرآة تعيد له تمزقات ذاته، وتجسد انكشاف الذكورة حين تواجه حدود تمثيلها.

تنهض هذه الثنائية على استعارات متشابكة، منها:

المشروع الزراعي: هل هو رمز للخصوبة، أم تعويض عن فشل وجودي؟

حورية: هل هي كائن حي، أم تمظهر شبحي لرغبة مشتهاة؟

كل هذه الأسئلة تفرغ العلاقة من بعدها العاطفي لصالح قراءة رمزية تعري البنية الذكورية في لحظة ارتباكها، حين تدرك أن الآخر الأنثوي لم يعد موضوعاً سلبياً، بل قوة رمزية تقوض استقرارها وتظهر تصدعها.

ضمن هذا السياق، يقارب اللقاء بين عمر وحورية كـفعل انكشافي لا عاطفي، يكشف عن تفكك الهوية الذكورية في مواجهة الآخر الأنثوي لا بوصفه موضوعاً للرغبة، بل ككيان دلالي يخلخل موقع الفاعل الذكوري ويعيد توزيع السلطة الرمزية داخل النص.

الذات الأنثوية بين التصدع والتأمل

يعيد الفصل الثاني، "خطان متوازيان"، رسم ملامح الهويات النسائية في مجتمع آخذ في التحول، حيث تتوسط حورية فضاءً تأملياً يعري تناقضات القيم السائدة. من خلال سرد غير خطي يتكئ على تناص صوفي وبصري، تقوض الرواية الثنائيات المتجذرة (مثل ذكر/أنثى، أصالة/تحرر)، وتعيد تشكيل الذات الأنثوية بوصفها كائناً رمزياً متشظياً ومنفتحاً على المعنى.

يتكامل هذا الفصل مع سابقه في إنتاج خطاب تفكيكي، يتجاوز الطرح النفسي إلى مساءلة الهوية بوصفها بنية لغوية وتاريخية، ويحول السرد إلى مرآة للذاكرة الجماعية النسوية. إذ لا تسعى الرواية إلى الخلاص، بل تكشف تفكك الذات الفردية والنسوية ضمن زمن التحولات، حيث تتحوّل اللغة من وسيلة تواصل إلى أداة تفكيك وتأمل وجودي.،

ينتقل السرد في الفصل الثالث (في الحمام الشعبي) من الواقع الخارجي إلى تمثيل الجسد الأنثوي كفضاء رمزي للمقاومة والقلق. الحمام الشعبي يتحول من طقس يومي إلى لحظة مكاشفة، تعري هشاشة الذات، وتكشف عن قلق لا شعوري تمثله "الكتلة" بوصفها انبثاقاً نفسانياً مكبوتاً عبر منظور نسوي، يعاد للجسد موقع الفعل والوعي، لا الخضوع، وتصبح الكتابة وسيلة مقاومة وتمكين.

أما الفصل الرابع (غيمة تمطر في الذاكرة)، فيرسم سردية الحنين والانتماء، حيث يتحول المطر إلى محفز رمزي للذاكرة العاطفية والوطنية، وتغدو العلاقة مع "عمر" تمثيلاً حباً ووطناً وهوية. يستدعي النص فلسفة "زوربا" كمجاز للحرية والرقص، ضمن سرد شاعري تتداخل فيه الأزمنة والتجارب.

كلا الفصلين الثالث والرابع يقدمان صورة المرأة ككائن متوتر بين الهشاشة والقوة، بين الجسد والروح، بين الحب والانتماء، ويجعلان من الذات الأنثوية مشروعاً تأويلياً مفتوحاً يقاوم النسيان ويعيد تعريف العلاقة بالزمن والوجود.

الجسد في مواجهة الانهيار – تمثيل الهاجس الوجودي في السرد النسوي

في الفصل الخامس (حورية)، تبلغ الرواية ذروة التحول من التمثيل الرمزي للجسد الأنثوي إلى سردية وجودية تنهض على التصدع والقلق. يتحوّل المرض من كيان بيولوجي إلى مجاز للانهيار النفسي والمعرفي، ويغدو "الوحش" تعبيراً عن اللايقين والفراغ الكامن خلف مظهر التماسك.

الجسد، الذي شكّل في الفصول السابقة فضاءً للحلم والتأمل، يتبدى هنا كـ"نص مأزوم" يحمل آثار الانهيار الداخلي. كما تصف جوليا كريستيفا في حديثها عن الجسد في الأدب النسوي:

"الجسد الأنثوي ليس موضوعاً للتمثيل، بل مجال للانكسار اللغوي والانفجار الدلالي"

اللغة السردية تتخلى عن انتظامها، وتنفتح على مجاز شعري يغرق في التناصات الصوفية والطبيعية (القمر، البحر، المرآة)، بما يعكس تشظي الذات وتفكك مرجعية الزمن. في موازاة ذلك، يعاد تشكيل الذكورة لا كسلطة، بل كحضور مرافق، يشكل توازناً هشاً مع ذات أنثوية تتأرجح بين الخوف والرغبة في النجاة.

اذا الفصل الخامس بيان سردي عن القلق المعاصر للأنثى، حيث يصبح الجسد موقعاً للتوتر بين الحياة والموت، بين الصمت والكلام، وتتجلى الكتابة بوصفها مقاومة رمزية لانهيار الكينونة.

الجسد المهدّد والهوية في مرآة الألم.

يتخذ السرد في الفصلين، الفصل السادس (في قاعة الانتظار) والفصل السابع (بين القبول والرفض) منحى تصعيدياً على مستوى التوتر الوجودي، إذ يتحول الجسد الأنثوي من فضاء رمزي للبوح والتمرد إلى نقطة انهيار تواجه فيها الذات أسئلة الحياة والموت، والمكانة الاجتماعية في لحظة العجز.

المرض كزلزال وجودي

يروى السرطان لا كحدث بيولوجي، بل كشرخ كينوني يعيد صياغة علاقة البطلة بجسدها وبالعالم. يصبح اسم "ناجية" تجسيداً مريراً للمفارقة:

"تكرر النداء ثلاث مرات دون أن يكون لناجية حضور أو صوت".

وفي مشهد يعكس الانهيار الداخلي، تقول الساردة:

"وقع هذا الخبر من نفس حورية وقع صاعقة سقطت على سقف هش".

الذات المريضة – من الإنكار إلى الرفض الوجودي

تسلك حورية مساراً نفسياً متأرجحاً بين الإنكار والخوف، يتجلّى في رفضها للخضوع للعلاج الكيمياوي، باعتباره تمطيطاً للألم لا خلاصاً منه:

"لن أستسلم... ما الذي يجبرني على تجرع العذاب قطرة قطرة؟"

بهذا تعيد الكاتبة تعريف النجاة لا كاستمرار فيزيولوجي، بل كحفاظ على الكرامة والاختيار.

اللغة السردية – المشاعر في هيئة صور

تصاغ التجربة المرضية من خلال لغة شعرية استعارية تعكس الداخل المهتز للبطلة:

"هطل من عينيها سيل بلل فيها كل شيء"،

"فراغ المقعد الذي تحول فجأة إلى كهف".

هذه الصور تحول الألم إلى بنية سردية داخلية، يتماهى فيها المكان مع الشعور.

الجسد والخذلان – مقاربة نسوية

تكشف الرواية عن هشاشة البنية الاجتماعية في التعامل مع المرأة المريضة، حيث تتحول الرعاية إلى عبء، والأنوثة إلى عبء مضاعف. تقول سلمى:

"زوجها استكثر عليها بضعة أشهر من الرعاية... صار يطلب منها أن تنام في مكان آخر لأن أنينها يزعجه".

وبالتالي في هذين الفصلين السادس والسابع، لا تصف الرواية المرض فقط، بل تفكك الثقافة المحيطة به، وتعيد طرح الجسد الأنثوي بوصفه موقعاً لتقاطع الألم الشخصي بالعنف الرمزي. كما تعبر الكاتبة عن تمثيل أنثوي حداثي يعترف بالضعف لا بوصفه هزيمة، بل شكلاً من المقاومة الهادئة. وبهذا المعنى، تتحقق مقولة إيلين شووالتر:

"الكتابة النسوية ليست فقط عن المرأة، بل عن التجربة المعاشة للجسد والهوية في وجه البُنى القمعية."

من التمزّق النفسي إلى الوعي النسوي

تمثل الفصول من الثامن إلى العاشر تصعيداً دلالياً ونقطة انعطاف في السرد، حيث تنتقل حورية من الذروة النفسية للانهيار إلى استعادة رمزية للذات، ثم إلى انكشاف تراجيدي لمأساة نسوية تتجاوز التجربة الفردية.

ففي الفصل الثامن "الهروب"، يتحوّل الطريق إلى مرآة لانفجار داخلي، فتسقط البطلة أزمتها النفسية على الطبيعة من خلال تقنية الإسقاط، ويتجسّد الوحش بوصفه حالة ذهانية داخلية:

"يكبر ذاك الشبح ويطول... ويتمدد داخلها حتى يهيأ لها أن شرايينها تنتفخ وتنفجر".

هنا، تقود المرأة سيارتها في لحظة هيجان، وكأنها تقود وعيها نحو الاصطدام بالحقيقة، قبل أن يعيدها الواقع الذكوري إلى موقع الخضوع، لا بالاحتواء بل بالصدمة.

أما في الفصل التاسع "الفراولة"، فتحضر الطبيعة كرمز للخصوبة والشفاء، وتصبح الزراعة فعلاً تحررياً يعيد للبطلة سلطتها الجسدية والمعنوية:

"كانت ترى حبات الفراولة تتخفى بين الأوراق... كعذراء تتستر من عيون المتحرشين".

يتحول الجسد هنا من مصدر ألم إلى طاقة إنتاجية، تنخرط فيها البطلة ضمن مشروع نسوي جماعي يكسر عزلة المعاناة.

اما في الفصل العاشر (في المأتم)، تبلغ الرواية ذروتها التراجيدية من خلال استعادة حكاية "ناجية"، التي تمثل فقداً مزدوجاً: بيولوجياً واجتماعياً، تقول الرواية:

"نجت ناجية جنيناً لأن رحم والدتها كان لها حضناّ حافظاً... ولكنها لم تنج من المرض شابة".

ينكشف المجتمع كقوة قمعية تتواطأ ضد المرأة في لحظة هشاشتها، عبر الإهمال، الفقر، والخذلان العاطفي.

تتكامل هذه الفصول في صياغة خطاب نسوي نقدي، تتحول فيه المرأة من موقع الألم الخاص إلى صوت جمعي يعرّي بنية القهر. وكما ترى جوليا كريستيفا، فإن "الكتابة الأنثوية ليست فقط استعادة للجسد، بل إعادة تشكيل للغة ذاتها"، وهو ما تحققه الرواية بتكسير الخطية، وتكثيف الرموز، وتحويل الألم إلى أداة كشف معرفي ونقدي.

الألم كوعي نسوي

يشكّل الفصلان الحادي عشر "هندة.. والمحطة الأخيرة" والفصل الثاني عشر "جلسة الشيميو الأولى" منعطفاً سردياً كثيفاً في رواية حورية والوحش، حيث تقدم ثنائية وجودية تتمثل في موت "هندة" وبداية علاج "حورية"، ضمن مقاربة تجمع بين الاجتماعي والرمزي.

ثنائية الحياة والموت

يجسد موت هندة مأساة نسوية صامتة، تختزل تقاطع المرض مع العزلة والفقر، حيث تتكرر العبارة:

"وماتت هندة..." لتؤكد فداحة الخسارة، وتحول الموت إلى رمز طبقي – نسوي، يعكس التهميش المجتمعي للمرأة المريضة.

بالمقابل، تشكل تجربة العلاج لدى حورية انتقالاً من الإنكار إلى الاعتراف، ومن الانهيار إلى بداية التحدي، يتجلى في العبارة: "حورية في هذه اللحظة ليست هي... وهذا الجسد لا تعرفه."

البنية السردية والرمزية

يعتمد السرد على ضمير الغائب الداخلي، محملاً بلغة شعرية ومجازات جسدية (كالاحتراق، الفراغ، والماء)، تعمّق من أثر الألم. يتحول الجسد إلى ساحة صراع بين البقاء والانطفاء، بينما يقرأ العلاج كـ"طقس عبور" نحو استعادة الذات.

الدلالة النسوية

تمثل "هندة" المرأة المهملة التي تموت في الظل، رمزاً لـ"الصامتات"، بينما تظهر "حورية" كصوت يقاوم لا بالانتصار الجسدي بل بالاعتراف بالهشاشة. بذلك، تنقل الرواية خطابها النسوي من التنديد المباشر إلى تفكيك ثقافة الصمت والقهر.

كما تشير الناقدة إلين شووالتر: "الكتابة النسوية ليست مجرد رواية عن النساء، بل تفكيك للغة التي حجبت تجاربهن."

اي الفصلان يقدمان سردية معقدة عن الجسد المهدد، حيث يتقاطع الألم الفردي مع نقد اجتماعي حاد، ويتحول المرض من حدث بيولوجي إلى تجربة وجودية تكتب بلغة مقاومة، جمالية وحميمية في آن.

بين الحلم والوعي – تعدد تمثلات الأنوثة

يشكّل الفصل الثالث عشر "مملكة الحور" والرابع عشر"خير زاد" بنية سردية مزدوجة تبرز تحول الرواية من التلقي العاطفي إلى الوعي النقدي. تجسد "حورية" كرمز يوتوبي للأنوثة الحالمة، ذات حضور طيفي يتماهى مع الجمال والعاطفة في فضاء شبه صوفي، كما في مشاهد الطائرة والغيوم التي تحاكي الهروب من الواقع. بالمقابل، تقدم "خير زاد" صورة المرأة الواعية، الناقدة، ذات الموقف الثابت، التي تكشف هشاشة التصورات الثقافية السائدة عن الجسد والهوية.

"كانت حورية تسبح في خيالها، أما خير زاد فكانت تغرز قدميها في الأرض كجذع نخلة".

تكشف العلاقة بين الشخصيتين عن توتر سردي دال: الأولى تميل إلى الحلم والرغبة، والثانية تنزع نحو الحقيقة والموقف. هذا التباين لا يطرح كتناقض بل كتكامل سردي، يفكك من خلاله النص الصور النمطية للمرأة، ويعيد تشكيلها عبر ازدواجية الحلم/الوعي، والضعف/القوة.

وبالتالي يسهم هذان الفصلان في توسيع الأفق الجندري للرواية، حيث لا تختزل الأنثى في دور واحد، بل تكتب ككائن متعدد، يعيش توتراته ويصوغ وعيه داخل عالم لا يخلو من الأسطرة والصدمة معاً...

الشعر، البحر، والجسد – كتابة الذات في أفق التحول

يقوم الفصل الخامس عشر (بين الشعر والبحر) على جدلية رمزية بين البحر والشعر، حيث يشكل المكان (سيدي بوسعيد) فضاءً علاجياً تتقاطع فيه الجغرافيا مع الذاكرة والروح. تتجمع الشخصيات النسوية الثلاث (حورية، خير زاد، ريحانة) في مشهد مشبع بالدلالة الجمالية والحميمية، وتتحول الطبيعة (البحر، مشموم الياسمين، القهوة العالية) إلى وسائط استعادية تربط الذات بذاتها.

يستثمر السرد تقنيات الأداء المشهدي، ويعيد عبر سيميائية الجسد صياغة معنى الأنوثة: فتساقط شعر حورية يقابله تضامن شعري وجسدي من صديقتيها، يجسد تفكيكاً رمزياً لمعيارية الجمال ويؤسس لأنوثة بديلة قائمة على الوعي والمشاركة الوجدانية.

"لن نتركك وحدك... من اليوم كلنا بلا شعر، لكن بكرامة كاملة."

في لحظة شعرية داخل النص، تستعيد البطلة صوتها عبر القصيدة، ويتحول الشعر إلى ممارسة تطهيرية ومقاومة داخلية. ويكشف الحوار مع ريحانة عن توتر بين الإبداع والتمركز حول الذات، مما يعكس تفاوتاً في درجات النضج بين الوعي الأدبي والنفسي.

ينتهي الفصل بحركة دائرية من النشوة إلى الحزن، في استدعاء رمزي لهشاشة النفس أمام المرض، حيث لا يلغي البحر الألم، بل يحتويه ضمن أفق كوني أوسع.

يمثل هذا الفصل ذروة رمزية في الرواية، يركب فيه النص عناصر الجسد، والذاكرة، والطبيعة، والشعر ضمن سردية نسوية شفائية تتجاوز التوثيق، نحو مساءلة عميقة لمفهوم الحياة داخل تجربة الألم.

الهوية المتصدعة والمرآة القاسية

يندرج الفصلان السادس عشر (انا . لست أنا) والسابع عشر (الحلم) في مسار السردية النفسية الرمزية للرواية، ويعكسان ذروة التمزق الوجودي الذي تعيشه "حورية" على تخوم المرض، بين تهشيم الهوية الجسدية وتجربة الموت الرمزي.

ففي الفصل السادس عشر، "أنا. لست أنا"، تتجلى حالة التنافر الذاتي في صورة امرأة لا تتعرف على جسدها. تشكل المرآة هنا استعارة للانكشاف العاري، حيث يتصدع تصور الذات أمام تساقط الشعر وتغيّر الملامح. تتكرر ثنائية (أنا/لست أنا) كعلامة على تشظي الهوية، والاغتراب عن الجسد كمسكن مألوف. السرد يوظف خطاباً داخلياً شجياً، تتحول فيه المرآة من أداة تأمل إلى شاهد على الاندثار.

الرنين المغناطيسي كطقس عبور ميتافيزيقي

أما الفصل السابع عشر، "الحلم"، فيتجاوز عتبة المرض الجسدي إلى تجربة موت رمزي، تستحضر عبر تصوير الرنين المغناطيسي. يتحول هذا الجهاز إلى فضاء قبر رمزي، تمتزج فيه الأصوات، والضوء الأزرق، والكوابيس، باستدعاءات دينية (الكفن، نكير ومنكر)، لتكوين مشهد حلمي ثقيل بالرموز. يفتح الحلم هنا مساحة للاوعي، حيث تتداخل الحياة بالفناء، والرغبة بالخلاص.

الشعرية الرمزية والتكثيف التأويلي

يعتمد السرد في كلا الفصلين على لغة عالية الشحنة الرمزية، تتخللها صور حسية (الطين، الغيوم، الدلو المثقوب، ظل الذات) تستدعي بعداً تأملياً . الخطاب الديني يحضر كتناص مع الرهبة، لا الخلاص، في توظيف يعمق من أثر الوجود على حافة العدم.

حيوية الرغبة في النجاة

ورغم تصاعد الرموز الموتية، تظل البطلة مدفوعة برغبة دفينة في الحياة: التشبّث بالأدعية، توق الشفاه للهواء، وحنين غامض إلى الآخر. هنا يتبلور الصراع بين الرغبة في الرحيل، ونداء الحياة الذي لا يخبو كلياً...

يقدم الفصلان لوحة داخلية مكتظة بالتوتر، حيث تكتب تجربة المرض لا كحدث بيولوجي، بل كتحول وجودي يعيد صياغة العلاقة بين الجسد، الوعي، والكون. عبر تكثيف سردي وشعري، ترتفع الرواية من البوح الفردي إلى تأمل إنساني في هشاشة الكينونة.

يندرج الفصل الثامن عشر "الحج إلى القبور" والفصل التاسع عشر "استئصال الثدي" ضمن سردية نسوية تستبطن الألم بوصفه تجربة وجودية وجندرية. إذ تتحول زيارة قبر الأم إلى طقس حميمي يستدعى فيه الحنين والأمان، في مقابل غرفة العمليات التي تجسد تهديداً لهوية "حورية" الجسدية والرمزية.

استئصال الثدي يتجاوز بعده الطبي، ليُكتب كفقد وجودي، يكشف عن تقاطعات السلطة الجسدية، الاجتماعية، والذاتية. فالجسد الأنثوي يعاد تموضعه كحقل مقاومة، تواجه فيه البطلة معايير الأنوثة النمطية وتعيد بناء وعيها بذاتها.

يعتمد السرد على مونولوج داخلي وتكثيف بلاغي (المفارقة، المجاز)، حيث تتجاور المقبرة والمقهى، الألم والتسطح، في مفارقات تظهر تناقض التجربة الإنسانية.

يمثل هذين الفصلين ذروة التحول في وعي البطلة، وتعيد من خلالها الرواية مساءلة العلاقة بين الجسد والهوية، عبر كتابة تحفر في العمق النفسي للمرأة المريضة/المقاوِمة.

الحب والقمع: بين العاطفة والسلطة

يتأسس التحليل في هذا القسم على تقاطع العاطفة والقمع كما يتجليان في الفصلين: العشرين ("الحب") والحادي والعشرين ("الاعتقال") من رواية حورية والوحش. يشكل هذان الفصلان لحظة سردية مفصلية، تنكشف فيها الهوة الحادة بين ذروة الوجد العاطفي والانتهاك المؤسساتي، ما يكشف عن وعي نقدي يزاوج بين الحميمي والسياسي.

في الفصل العشرين، يقدم الحب كخبرة تطهيرية تعيد تشكيل الذات وتقاوم آثار التمزق الجسدي والنفسي. تتداخل الرموز البلاغية (اليمامتان، زهرة الأوركيد، تمثال الشمع) لتنتج خطاباً رمزياً حسياً يماثل بين التجربة العاطفية والتجلي الصوفي، حيث تستعاد الأنثى كمركز للانبعاث، ويعاد للرجل موقعه كفاعل معنوي، ضمن علاقة تحاكي توازناً كونياً مفترضاً ...

في المقابل، يقدم الفصل الحادي والعشرون خطاباً مناقضاً يتسم بكثافة توثيقية وواقعية، من خلال تجربة الاعتقال العبثي التي يتعرض لها "معز". يفكك النص آليات العنف المؤسساتي، حيث يختزل الجسد إلى موضوع للاستجواب والتشييء، ويجرم الفكر لمجرد انتمائه إلى الحلم. يتحول السرد هنا إلى فضاء بوليسي يعكس هشاشة الحريات الفردية أمام منظومة قمعية لا تعترف لا بالحب ولا بالفكر.

ينتج هذا التوازي بنية سردية ثنائية:

الفصل العشرون: فضاء للحضور، التعافي، والعاطفة المستعادة؛

الفصل الحادي والعشرون: فضاء للفقد، التشييء، والانتهاك الرمزي للجسد والمعنى.

بهذا البناء، تبلور الرواية موقفاً أخلاقياً حاداً يرى في الحب طاقة خلاصية، وفي القمع تهديداً جوهرياً للكرامة الإنسانية. وتعيد مساءلة إمكانات الأمان العاطفي في غياب العدالة، مؤكدة أن الذات لا تصان بالمشاعر وحدها، بل بالضمانات القانونية التي تحمي الجسد والكرامة.

تحولات الصداقة والمنافسة الثقافية

ينبني الفصل الثاني والعشرين على دراسة دقيقة لتحولات العلاقة بين "حورية" و"ريحانة"، حيث تنتقل من إطار تضامني أنثوي إلى علاقة تنافسية مشبعة بالتوتر والغيرة المقنعة. تقدّم "ريحانة" في هذا الفصل بوصفها نموذجاً لصورة "الصديقة-الخصم" (Frenemy)، وهي علاقة مشروطة تتراوح بين المساندة الظاهرية والرغبة الخفية في الإقصاء.

يوظف السرد آليات تحليل نفسي ناعم لتفكيك هذه العلاقة، كاشفاً أن طموح ريحانة المهني والثقافي لا يستند إلى منجز ذاتي متين، بل إلى محاولة ملء فراغ غياب حورية، وإعادة تشكيل المجال الرمزي وفق نزعة فردية مفرطة.

العنوان "الريحان ينقلب شوكاً " ليس مجازياً فحسب، بل دال على انهيار قيم التآزر والوفاء تحت ضغط الأنا المتضخمة. تعيد الرواية بذلك طرح سؤال مشروع الشرعية داخل الحقل الثقافي: هل يكتسب عبر الاجتهاد والاعتراف المتبادل؟ أم عبر الاستحواذ الظرفي الذي ينهار أمام اختبار الجمهور؟

ثنائية الألم والانبعاث بين الفردي والجمعي

ينخرط الفصلان الثالث والعشرين (اليد الواحدة .. قد تصفق) والفصل الرابع والعشرين (اي معجزة ستنجيك يا كبدي) من الرواية في معالجة سردية متقاطعة لثنائية الألم الجسدي والظلم الاجتماعي، من خلال تجربتين متوازيتين: استئصال الثدي لدى "حورية" واعتقال "معز" ظلماً...

في الفصل الثالث والعشرين، يتحول جسد المرأة المبتور إلى فضاء لإعادة بناء الذات ضمن رؤية نسوية مقاومة، حيث يقدم الألم لا كمأساة بيولوجية، بل كبنية رمزية تستولد المعنى. يعاد تشكيل مفهوم الأنوثة خارج معايير الجمال التقليدية، ليغدو "النهد الواحد" علامة على الاستمرار، والكتابة فعلاً للشفاء والتجاوز.

أما في الفصل الرابع والعشرين، فتستعاد صورة المجتمع القامع من خلال مأساة الطالب المعتقل، حيث يقدم "عمر" كأب ممزق، وكمواطن عاجز أمام عدالة مختلة. يمثل الإفراج عن "معز" لحظة "تفريج" سردية تعيد ترميم العلاقة بين الخاص والعام، بين الذاتي والسياسي.

تكشف الرواية، من خلال التوازي البنائي بين الحدثين، عن قدرة الإنسان – والمرأة تحديداً على الانبعاث من رماد الجراح، عبر التضامن، الوعي، واستعادة الصوت السردي. ويظهر الجسد، كما المؤسسة، كساحة صراع رمزي، تنتهي فيه المحنة بانفتاح على أفق أكثر إنسانية وعدالة.

من الجرح الفردي إلى الفعل الجماعي

ينتقل السرد في الفصلين الخامس والعشرين (العودة) والسادس والعشرين (ميلاد ودادية مرضى السرطان) من مرحلة التلقي السلبي للألم إلى لحظة تحول وجودي تنبع من عمق التجربة النسوية مع الجسد والمجتمع. تتجلى عودة "حورية" إلى فضاء "الركن النير" بوصفها فعلاً استعادياّ، يتجاوز الشفاء الجسدي نحو إعادة بناء الذات عبر الثقافة والمشاركة، في ما يمكن وصفه بـ"السرد الشفائي" (healing narrative) الذي يؤطر الجرح باعتباره نقطة انطلاق، لا مجرد نهاية مأساوية.

يطرح هنا فهماً ما بعد حداثي لوظيفة الأدب، لا كحقل نخبوي مغلق، بل كأداة للتعبير الجماعي والتضامن الاجتماعي. يظهر ذلك في تأسيس "الودادية"، التي تمثل انتقالًا من الذات المتألمة إلى الآخر/الجماعة، في مقاربة تستند إلى مبدأ "التمكين عبر التجربة" كما في أدبيات السرد الذاتي النسوي. تتوزع الأدوار بين المثقفين والناشطين، في حراك سردي يدمج الرمزي بالميداني.

كما يسجل تطور لافت في العلاقات النسوية داخل الرواية، حيث تتحول علاقات التوتر السابقة بين "حورية"، "خير زاد"، و"ريحانة" إلى تحالف تضامني يعلي من قيمة العمل المشترك، مكرساّ نموذجاً نسوياً بديلاً يتجاوز ثنائية التنافس والانكسار إلى التكافل والبناء…

الكتابة كخلاص صوفي

يتّسم الفصل الأخير (الورقة الأخيرة .. لن تسقط) بطابع رؤيوي رمزي يبتعد عن السرد التقريري ليقترب من الكتابة الصوفية ذات النزوع الحلولي، حيث تتماهى البطلة مع رمز "الشجرة"، بما تحمله من دلالات كونية: الجذور، الثبات، والخصب. هذه التماهيات تتناغم مع مفهوم "الحلول" كما يستثمر في التصوف الإسلامي،لا سيما عند ابن عربي حيث تذوب الذات الفردية في الكينونة الكونية، ويغدو الجسد بوابة للسمو لا للخذلان.

تتحقق ثنائية الحضور/الغياب، وهي ثنائية مركزية في أدبيات المقاومة الرمزية، لتطرح سؤالاً حول معنى الخلود في الذاكرة الجمعية، لا في الجسد الفاني. إذ بينما تسعى "حورية" إلى الانصهار مع الطبيعة، يحاول "عمر" الإمساك بحضورها المحسوس، في صراع تأويلي حول الحب والزوال.

تتسع الوظيفة الشعرية للغة في هذا الفصل، حيث تتحول الاستعارات والمجازات إلى أدوات تأويلية تعيد بناء الواقع لا تمثيله، ويغدو الجمال الأنثوي معادلاً رمزياً للحياة المستمرة رغم الفقد....

تشكل هذه الفصول الثلاثة الأخيرة ذروة سردية تتحول فيها الأنثى من كيان هشّ إلى ذات خلاقة، ومن الفردية المتألمة إلى التضامن الجماعي. كما تعيد الرواية تأطير الجسد بوصفه موقعاً للمعنى لا للمأساة، وتكرس الأدب كفعل مقاومة واستمرار، لا مجرد تمثيل للحظات الانكسار...

الموقع الجمالي والنظري للرواية في السياق النسوي العربي

يتبلور البعد التحويلي لرواية حورية والوحش بجلاء حين تقرأ في أفق المقارنة مع نصوص سردية أعادت كتابة الحكاية الخرافية ذاتها، كما في رواية Beauty: A Retelling of the Story of Beauty and the Beast لروبن ماكنلي، التي تمنح البطلة صوتاً داخلياً وتعيد موضعتها كذات فاعلة داخل منظومة أبوية متزعزعة. غير أن حورية والوحش لا تكتفي بإعادة توزيع الأدوار أو تفكيك ثنائيات الحكاية الأصلية، بل تنفتح على توتر خلاق بين الامتثال والمقاومة، بين الوفاء للتقاليد والانزياح عنها، ما ينتج سرداً ذا كثافة رمزية عالية، يتجاوز الإطار الخرافي ليؤسس لفضاء سردي تشظي تتقاطع فيه الأسئلة الوجودية مع البنى الجندرية، وتستثمر فيه أدوات التفكيك والنقد النسوي دون الوقوع في الحسم الأيديولوجي أو التنميط الخطابي.

بهذه الكيفية، تساهم الرواية في إثراء السرد النسوي العربي بوصفها مشروعاً كتابياً يزعزع مركزية المعنى ويعيد إنتاج الذات الأنثوية في صيرورة لغوية غير مكتملة، حيث الجندر لا يقدم كجوهر، بل كأداء تتقاطع فيه اللغة مع الجسد واللاوعي. وإذا كانت رواية "الباب المفتوح" للكاتبة لطيفة الزيات تموضع الذات الأنثوية داخل خطاب تحرري اجتماعي صريح، فإن حورية والوحش تنقل تلك الذات إلى تخوم التفكك واللايقين، حيث تتحول الهوية إلى سؤال مفتوح لا يبتغي الاستقرار بل المراوغة. وفي مقابل المنفى الجسدي والصمت الحاد الذي يوسم أدب هدى بركات، تستعيد هذه الرواية الجسد بوصفه أثراً لغوياً قابلاً للانتهاك والكتابة في آن، بينما تتجاوز البعد الإيروتيكي الطاغي في سرديات أحلام مستغانمي إلى أفق شعري وجودي يتوسل الغواية لا من أجل المتعة، بل بغية كشف الندبة وتأويل اللامرئي .

هكذا تتجلى حورية والوحش لا كمجرد إعادة كتابة نسوية، بل كخطاب سردي معقد، يعيد مساءلة تمثيلات الجسد، ويقوض سرديات الهيمنة، ويقترح تموضعاً جديداً للأنوثة في المتخيل السردي العربي.

بهذا المعنى، تشكل حورية والوحش إسهاماً نوعياً في إعادة تشكيل السرد النسوي العربي من الداخل، ليس عبر تقديم صورة بديلة للمرأة أو استبدال ثنائية الهيمنة/الخضوع بثنائية معكوسة، بل من خلال تفكيك بنية التمثيل ذاتها، وكشف أن كل صورة هي نتاج لغوي هش، وأن الذات الأنثوية لا تمنح سلفاً، بل تتشكل وتتفكك داخل فضاء الكتابة بوصفها أثراً دالاً لا جوهراً مكتملاً . فالرواية تشتغل على تخوم اللغة والجسد، الرغبة والصمت، لتؤسس خطاباً سردياً يتجاوز التقريرية النسوية إلى أفق تأويلي مقلق، تنصهر فيه الأدائية الجندرية مع الهشاشة الوجودية، وتعاد فيه مساءلة الذات بوصفها فعلاً تأويلياً لا يكتمل.

***

دراسة نقدية من إنجاز فاطمة عبد الله

للشاعرة (تنسيم حومد سلطان)

تنسيم حومد سلطان، مواليد 1988، من سوريا – حلب، مارست مهنة التعلم منذ 14 عاماً ولم تزل على رأس عملها، شاركت في ما يقارب 100أمسية أدبيّة في حلب، حائزة على المركز الثاني في مسابقة اتحاد الكتاب العرب لشعر التفعيلة عن قصيدة "نزاريّة"، لها صوتها الأنثوي الخاص، تشتغل على التيار الوجودي المادي، في عالمها الأدبي.

 لقد اخترت من قصائدها العديدة، قصيدة (تفاصيلُ حب أسمر)، وهي قصيدة تدخل في عالم التيار (الوجودي المادي)، (1). وهو تيار قليل من اشتغل عليه في عالم الشعر والقصة والرواية والفلسفة في عالمنا العربي. ومن أهم الأدباء العرب الذين اشتغلوا على التيار الوجودي هو "عبد الرحمن بدوي"، حيث يُعد من رواد الفلسفة الوجوديّة في العالم العربي. كما أن هناك أدباء آخرون تأثروا بالفكر الوجودي وتضمنت بعض كتاباتهم مفردات من هذا التيار الذي يعتبر (الحريّة) منطلقاً للوجود الإنساني، مثل نجيب محفوظ ومحمود المسعدي.

البنية السرديّة للقصيدة:

 (الشعراء يتبعهم الغاوون... في كل وادٍ يهيمون، ويقولون ما لا يفعلون).. فكيف يكون حال الشاعر إذا هام في عالم الحب والعشق والشوق والرغبة في اللقاء؟!. نعم، هم الشعراء إذا ما حظر شيطان الشعر، تفجرت عندهم منابع العطاء الابداعي، وغالباً ما يغيب العقل عندما يكون البوح عن الحب والرغبة في لقاء الحبيب، لتحظر العاطفة بكل قوتها وجنونها، وتفجر الخوالج النفسيّة والروحيّة للشاعر فيها.. لا تحدّها حدود أو يحول دون تجليها ستار، وبالتالي ستتحطم ستائر المضمر والمحرم والمسكوت عنه.

 هذا هو حال الشاعرة "تنسيم حومد سلطان" التي هام الشوق ببطلة قصيدتها، فراحت في بوحها الوجودي النزعة، تسردُ كيف استطاع اللقاء مع الحبيب أن يطفئ كل نيران الشهوة روحاً وجسداً، وكأنها فنانة تشكيليّة ترسم لوحة عشق تعرف كل تفصيل تشكيلها وحركاتها، ومزج أو نسج ألوانها الساطعة منها والداكنة، الحارة منها والباردة، حيث تنقلك عقلاً وعاطفةً عبر هذه اللوحة، إلى مشهد سينمائي حسي تعيش معه حرارة اللقاء وعمق وتفاصيل مفرداته.  القصيدة جريئة في بوحها، وبالتالي هذا يتطلب منا التعامل مع كل بنيتها بشفافيّة ومصداقيّة عاليتين.

 تبدأ الشاعرة بوحها في كلمة (قرأت)، والقراءة هنا معرفة وحريّة معاً، وأعمق أنواع القراءة هي التي تقرأ سيمياء أو دلالات المفردات أو الأصوات والصور، إضافة إلى الوجه وتعابيره، وما تخنزن هذه السيماء من رغبة أو شوق أو حزن أو فرح... فكيف تكون دلالات هذه القراءة إذا كانت في موال شاعرة تجيد البوح والتعبير عن خوالج روحها ورغبات جسدها، أو في صوت أنثى هامها الشوق، فدعتها أنوثتها المشبعة برغبة اللقاء المحرّم، وقد جعل منها الشوق والرغبة طفلة تتلوى مثل داليةٍ، نالها عطش الروح والجسد، وهي بحاجة لمن يروي عطشها، فوجدت هناك في لقاء حبيها (الخطر- المحرم)، بقعة ضوء تحقق رغبتها العارمة في قطف أنفاس عشيقها.

قرأتُ وجهك في موالِ شاعرةٍ

في صوت أنثى دعاها المنبرُ الوعرُ

في طفلةٍ تتلوى مثل داليةٍ

في كل بقعةِ ضوءِ خانها المطرُ

بيني وجلدكَ أنفاسٌ سأقطُفها

على جناح براقٍ أسمه الخطرُ

 تناجي حبيبها، الذي تعتقد أنه خلق لها، منذ بدء الكون، وعبر كل أزمنته السحيقة، حيث كانت الأشواق له تتشكل عندها حتى اختمرت، ومع اختمارها ضاعت كل قدرات مفردات اللغة في التعبير عن عمق وحرارة وصف حبيبها.. بل إن عمق شوقها له جعلها ترى في عينيه الحقول كلها قد ازدهرت بالخصب.

كأني منك بدءُ الكون َأزمنةٌ

سحيقةٌ في مدى الأشواقَ تختمرُ،

أحتارُ في لغتي، أرنو ولا لغةٌ

تجيدُ وصفك ... لا يعلو لها خبرُ

مددت ظلكَ في عينيّ فانبجستْ

كلَ الحقولِ، رؤىً بالخصب تزدهرُ

 عندما تم اللقاء أخيراً بينها وبين حبيبها الذي خلق لها، أصبح جسمها بين يديّه أغنيةَ شوقٍ وعشقٍ تجاوز المألوف في تأثيره، فلم يعزف لها وتر من قبل، فراحت تحرك كوامن الروح والجسد عندها معاً لعذوبتها... هنا عند اللقاء لم تحرجها أنوثتها من دعوة ثغره لتقبيلها وسقيها عطش الروح والجسد الذين استسلما أخيرا لعالم الشهوة والرغبة العارمة.

 وصار جسمي على كفيك أغنيةً

تدور في البالِ

غنى لحنَها وترُ

دعوتُ ثغركَ في لقيايَ

من عطشٍ

فاستسلمَ الجسمُ

وانحازتْ له النذرُ

 مع العناق والتحام الجسدين، راحت أنوثتها تئن وتصرخ من طغيان ثورة الجسد، فعاشت عالم الرغبة والشهوة بكل (معاجمها).. وهنا تشبه العاشقة نفسها بمريم العذراء، ولكن النخلة غير النخلة، والثمر غير الثمر.. فتحت شجرة عاشقة (تنسيم)، استيقظ الشرر، ولم يعد الخوف له حضوره فكل شيء أصبح مباحاً، فهذا الثغر الذي عانت شفتاه عطشُ الروح والجسد، عاد ليرتوي من وصل اللقاء، حتى أصبح هذا الوصل كأنه الوحي وأنات الشهوة عندهما السور.

أنوثة صرخت، تسري مَعاجِمها

كأنهرٍ سبعٍة من حولها سدرُ

وأشعلتْ مريمُ العذراءُ

ضِحْكَتَها

مِن تحتِ نخلتَها

واستيقظَ الشررُ

تهزَّ رمحاً إلى التِنِّين،

تصرعهُ

وتفتحُ الثغرَ، عُد للماءِ يا نهرُ

على الشِّفاهِ دعاه الوصلُ

نلفظُهُ

كأنهُ الوحيُ أو أنَّاتنا

 السورُ

 مع لقاء الشفاه، بدأت تشعر عاشقة (تنسيم) بأن أسراب أنفاس حبيبها، راحت تتهاوى على عنقها، فاستفزت دمها، وأخذت قبلاته على جيدها تشعل نيران جسدها، بينما أكفه التي راحت تداعب تضاريس جسدها، أخذت تعتصر خمر كل تلك التضاريس، في الوقت الذي أفاض لقاء الجسدين ينابيع الماء من مسامات جسديهما كأنه غيمة عشق هطلت مطراً يروي عطش الروح والجسد معا. أما نهديها اللتان فاضت بهما النشوة العارمة، فقد انتصبتا بهمس وحفيف النشوة وتباعد ما بينهما كأنه بوابة قد أزاحت كل كبت وعطش تلك السنين العجاف... في ذروة نشوة اللقاء، تهمس عاشقة (تنسيم) لعشيقها عند ارتعاشة الروح والجسد:

أسرابُ أنفاسِه تهوي على عُنقي

فتستفزُ دمي، والنارُ تنتشرُ

فالجيدُ مني صلاةُ الضوءِ

إذْ طلعت،

وفي رُبا كفهِ الأعنابُ

 تُعْتَصرُ

والماءُ من نَبعه يطفو على جَسدي

والغيمُ من قبضَتي يروي

ويَنحدرُ

كأن نهديَ باب الزيحِ

مفتتحٌ

بهمسِ أنثى يناغي بوحَهَا السَّحرُ

أنا الحَريقُ وأنتَ الماءُ

مُعجزتي

ينشقُ – إذا ما اقتربنا-

 ذلك القمرُ.

البنية الفنيّة للقصيدة:

 يقال: (أكذب الشعر أعذبه)، وأنا أقول: إن أجرأ الشعر أصدقه، خاصة إذا كان الشعر يتعلق بعواف الإنسان ومشاعره وأحاسيسه، وهذا الصدق تجلى واضحاً في قصيدة "تنسيم حومد سلطان" (تفاصيل حب أسمر)، لما امتازت به الشاعرة من جرأة في التعبير عن عمق عواطفها، في هذه القصيدة دون خوف أو وجل.

 إن التجربة الشعريّة في جوهرها تقوم على الفرادة الذاتية، التي تتيح للشاعر أن يقول: أريد أن أبدع شيئا لم يبدعه أحد غيري، الأمر الذي يجعل هذه التجربة تتماهى أو تتداخل بكل عناصرها في عمليّة الخلق الشعري الابداعي الى درجة يصعب فيها على الناقد أن يخرج من دائرة هذا الإبداع، لذلك هو يسعى جاهداً أن يحدد ماهيّة هذه العمليّة الابداعيّة من خلال فكرة العمل الابداعي ذاته، وما استبطن هذا العمل من عاطفة، ووعي، وخيال، ووهم وواقع، وذاكرة، وحرية.

أولاً اّلصّورة اّلشّعريّة في القصيدة:

 تعتبر الصّورة الشّعريّة من أهمّ المرتكزات والرّوافد الفكريّة والجماليّة الّتي تثري الدلالة، وتغني المعنى في النّصّ . ومالا شكّ فيه أنها من أهمّ الوسائل التّعبيريّة، الّتي تفوق اللّغة التّعبيريّة المباشرة، إذ تمثّل مواقف الشّاعر الذّاتيّة.

 فالصورة الشعريّة بتعبير آخر، تحتل أهميّهً كبيرةً في تشكيل البناء العام للعمل الأدبي، على اعتبار أن العمل الأدبي أو النص بعمومه، هو صورة يقوم الكاتب أو الأديب في تجسيدها شعراً أو نثراً. فهي تعبر أيضاً عن جماليّة البناء الفني في فضاءات الإبداع. وهي التي يقوم عليها العمل الأدبي بشكل عام والشعري منه بشكل خاص، لذا هي لا تعبر فقط عن إحساس وعاطفة الأديب أو المبدع فحسب، بل تعبر أيضاً عن حقائق وصور من واقع الإنسان عموماً، والأهم أنها تعبر عن تجارب الشاعر وخلجاته ومكوناته التي يكشف عنها بطريقه بالغه الدقة والروعة بعد أن رسمها بحواسه، وعبر عنها بعاطفته المشحونة بالإحساس. وهذا ما يجعل المتلقي لهذه الصورة أن يعيش التجربة مع الشاعر فيتفاعل معه ويفهم تجربته ويحس بها.

 نعم.. إن الصورة في سياقها العام، هي تركيب لغوي يُمكّن الشاعر من تصوير معنى عقلي وعاطفي، أو واقعي أو مجازي متخيل، فالصورة الشعريّة غالباً ما تكون متخيلة، بيد أن الشاعر المبدع يستطيع أن يشكل من دلالات الصورة المتخيلة، واقعا حسيّاً يشعر به المتلقي أو يحس بوجوده، ويتمتع بجماليّة الصورة، وينفعل معها عبر التجسيد والتجريد والمشابهة.

 وكل هذه الفنيات المتمثلة في الصورة ودورها، استطاعت الشاعرة" تنسيم" أن تجسدها في قصيدتها التي استطاعت حقيقة عبر صورها بكل تجلياتها المتخيلة والحسيّة منها، أن تنقل المتلقي إلى عوالم الروح والجسد واللهفة والشهوة التي تجلت في قصيدة (تفاصيل حب أسمر).

 (مددت ظلكَ في عينيّ فانبجستْ كلَ الحقولِ، رؤىً بالخصب تزدهرُ.. أنوثة صرخت، تسري مَعاجِمها كأنهرٍ سبعٍة من حولها سدرُ.. أسرابُ أنفاسِهِ تهوي على عُنقي فتستفزُ دمي، والنارُ تنتشرُ.. فالجيدُ مني صلاةُ الضوءِ إذْ طلعت، وفي رُبا كفهِ الأعنابُ تُعْتَصرُ.. ).

 هكذا نجد "تنسيم" ترسم بالصورة كل ما تحس أو أحست به في لقاء الحبيب، لقد استطاعت أن تجعل المتلقي يتابع ليس ما تبوح به أو تصفه من عواطف ومشاعر وأحاسيس في حالة اللقاء، فحسب، بل نقلته إلى العيش مع كل أحاسيسها وعواطفها وحركاتها وسكناتها وأنينها وكأنه جزء من مشهد اللقاء ذاته.

 لقد امتازت الصورة الشعريّة عند الشاعرة "تنسيم" بالتطابق بين المتخيل والواقع، فصدق الصورة لا يحققه المتخيل وحده وإنما مدى قدرتها على مطابقة الواقع، بحيث شكلت كل الصور في بنيه القصيدة انسجاماً تاما بين أفكار القصيدة وتلازماً مع مشاعر وأحاسيس الشاعرة. كما امتازت أخيراً بالشعور والحيويّة، فحيويّة الصورة في القصيدة استطاعت أن تنقل المتلقي إلى عالم حدثها ليشارك الحدث وكأنه جزء منه.

اللغة في القصيدة والمحسنات البديعية والبيانيّة:

 تمثل اللغة آليّة استراتيجيّة هامة في البناء الشعري فهي كما يقول أحد النقاد (هي السفينة التي تنقل الشاعر والمتلقي معاً إلى آفاق المجهول، من أجل الكشف عن الرؤى الهاربة في المتاهات السريّة البعيدة،) وهذا ما يدفع المتلقي إذا كانت اللغة واضحة وشفافة إلى عيش عالم القصيدة والتفاعل معها.

 لقد استطاعت الشاعرة " تنسيم" أن تكسر في لغتها منطق العلاقات المألوفة، وتنحرف عن المألوف في بحثها الدائم عن الخلود والتجدد، وهذا ما وجدنا في قصيدة (تفاصيل حب أسمر). ولأن اللغة هي ماء القصيدة وتربتها الخصبة، فقد عملت الشاعرة على صياغة لغة جديدة حيويّة بسيطة في نسيجها ونظام مفرداتها وصورها وحيويتها وعلاقتها بأحاسيس الشاعرة ومخيلتها ورؤاها.

 أما على مستوى المحسنات البديعة والبيانيّة في القصيدة، فالقصيدة تراكمت فيه الانزياحات، والاستعارة، والكناية، والتشبيه، إضافة إلى ارتفاع نسبة الكثافة في التّخييل، والترابط في نسيج النص، فكل ذلك خلق درجة عالية من الانسجام في بنية القصيدة وعالمها الفكري والدلالي. مع تأكيدنا دائما بأن الإكثار من الانزياحات والتشبيه والاستعارة والكناية وغيرها من مفردات علم البيان في بنية أي نص، يحول كل ذلك إلى حرفة عند الشاعر في صياغة نصه، في الوقت الذي هي فيه حالة جماليّة تضفي على النص رونقاً وموسيقى هادئة تحرك إحساس المتلقي وخلجات نفسه. وهذا ما تحقق فعلاً في بنية قصدية (تفاصيل حب أسمر).

التعبير والعبور عند الشاعرة:

"التّعبير" و"العبور":

 إذا كان (التّعبير) في الشعر يتمّ في يقظة الحواسّ، نتيجة لاستحضار الموجودات بهذه الحواس ذاتها، فإن (العبور) يتمّ بالرؤيا المجرّدة والتخيل، من هنا فـ (التّعبير) يقتضي يقظة الحواس، وعند غياب هذه اليقظة، يتمّ (العبور) عبر التّخيُّل والرّؤيا المجرّدة، وهذا العبور تجسد في بنية القصيدة كلها، فمعظم الصور التي تراكمت في النص كانت متخيلة، إلا أن طبيعة حدث القصيدة وقدرة الشاعرة وإبداعها، تحول هذا المتخيل إلى تجسيد حسي كأنه مشهد سينمائي كما بينا في موقف سابق.

المستوى الايقاعي في القصيدة:

 إنّ الشّعر صيغة موسيقيّة، فليس الشّعر في الحقيقة إلّا كلامًا مموسقاً، تنفعل لموسيقاه النّفوس، وتتأثّر به القلوب. وإلى هذا ترتكز أهمّيّة الموسيقا في الشّعر، فهي تستطيع أن تُقيم بناءً مُتكاملًاً يجمع بين التّأليف القائم في أعماق أحاسيس الشّاعر، وبين غيره من المُتلقّين، في قدرة فنّيّة تجعل إيقاعات النّفس تجذب الآخرين، بواسطة هذا النّغم الشّعريّ.

 ويظهر المستوى الايقاعي في اتجاهين هما:

المستوى الخارجي ويشمل الوزن:

 أي بحور الشعر وأوزانها التي يستخدمها الشعراء. وهو – أي المستوى الخارجي - عنصر مهم من عناصر القصيدة، ولا يمكن فصلُه عن سواه من مُكوّناتها، وليس الوزن مُجرّد تفعيلات مُنفصلة عن المعنى، تُلقّن وتُحفظ، ولكنّه لصيق بالمعنى وغير مُنفصل عنه، ويساعد على تأكيد المعنى، وتثبيته في الذّهن، وصونه من الضّياع. وإضافة إلى الوزن تأتي القافية: وّهي أصوات تتكون في أواخر الأشطر أو الأبيات من القصيدة، تكوّن عبر تكرارها في مدّد زمنيّة منتظمة رتماً موسيقيّاً خاصاً في القصيدة.

أما المستوى الداخلي للموسيقى:

 ويدخل فيها المحسنات البديعيّة والبيانيّة كالجناس والطباق، وسائر المُحسّنات البديعية، مع تركيب الكلام وتتريب الكلمات وتّخيّرها، وكلّ ما من شأنه أن يُعين على تجويد البنية، والرّنين في أبيات القصيدة.

 إن كل هذه الفواعل الموسيقيّة في القصيدة استطاعت الشاعرة "تنسيم حومد سلطان" أن تحققها في قصيدتها (تفاصيل حب أسمر). فاختيارها للبحر "البسيط" الذي يمتاز بانسيابيّة وزنه، إضافة لجماليّة تفعيلاته الموسيقيّة الفريدة "مستفعلن فاعلن مستفعلن فعلن"إذ تمنحه إيقاعاً منتظماً ومرناً. وبعداً جماليّاً، حيث يتناسب هذا البحر مع مختلف الأغراض الشعريّة، وخاصة الغزل والوصف والحماسة والرثاء، مما يجعله خياراً شائعاً بين الشعراء. أما القافية فقد اتكأت القصيدة على حرف (الراء)، ويتميز هذا الحرف بأهميّة جماليّة كبيرة أيضاً، فهو يضفي على القصيدة إيقاعاً مميزاً وتأثيراً صوتيّاً لافتاً. ويُعتبر، حرف الراء من الحروف الجهوريّة، أي التي تتميز بصوت قوي وواضح، وتكراره في القافية يولد إيقاعاً تردديّاً يتماهى مع المعنى الذي يعبر عنه الشاعر.

 أما على مستوى الرتم الموسيقي الداخلي، فقد جاءت القصيدة مشبعة بالمحسنات البيانيّة،إن كان على مستوى التشبيه والكناية والاستعارة، أو على مستوى تركيب الكلام وتتريب الكلمات وتّخيّرها، أو على مستوى "النسيب" الذي تجلى في القصيدة بكثرة الأدلة مشيراً إلى التهالك في الصبابة، والافراط في الوجد واللوعة والتصابي والرقة. وكلّ ما من شأنه أن يُعين على تجويد البنية، والرّنين في أبيات القصيدة.

قرأتُ وجهك في موالِ شاعرةٍ

في صوت أنثى دعاها المنبرُ الوعرُ

في طفلةٍ تتلوى مثل داليةٍ

في كل بقعةِ ضوءِ خانها المطرُ

بيني وجلدكَ أنفاسٌ سأقطُفها

على جناح براقٍ أسمه الخطرُ.

***

د. عدنان عويّد

كاتب وباحث وناقد أدبي من سوريا

......................

 1- الفلسفة الوجوديّة الماديّة: تيار فلسفي يميل في جوهره إلى الحريّة التامة، غير المشروطة بأيّة مسؤوليّة، أو أيّة قيود في التفكير والممارسة. وهي تؤكد على تفرد الإنسان، كونه صاحب تفكير حرٍ وإرادةٍ حرّة واختيارٍ لا يحتاج إلى موجه. وبالتالي على الإنسان في المذهب أو التيار الوجودي، أن يتخلص من كل موروث عقدي، أو أخلاقي يؤثر على رغباته وطموحاته الذاتيّة، كي يمارس حياته بحريّة مطلقة دون أي قيد. والوجوديّة تعني من اتجاه آخر، أن وجود الإنسان الفرد يسبق ماهيته الإنسانيّة كمجموع أو ككتلة اجتماعيّة مهما كانت مرجعياتها دينيّة أو عرقيّة أو سياسيّة.. الخ، فماهية الكائن الفرد هي ما يحققه فعلاً عن طريق وجوده، ولهذا هو يوجد أولاً، ثم تتحدد ما هيته ابتداء من وجوده. ولكن هذا التأكيد في الوجوديّة ليس أكثر من دعوة خادعة، كي يجد الإنسان نفسه أو يؤكد وجوده. ولكي يجد أو يؤكد الإنسان نفسه في الفهم الوجودي، عليه أن يتحلل من القيم، وينطلق لتحقيق رغباته وشهواته بلا قيد. وعلى هذا الأساس، يبدأ فهم معنى الوجود عبر الدخول بالتجربة الوجوديّة الفرديّة الداخليّة القائمة على التخيل والأحاسيس الداخليّة المشبعة بعواطف ورغبات بحت ذاتيّه، لذلك فالفرد الوجودي يقوم بمعايشة الواقع وجدانيّا أكثر من معايشته عقليّا، ومن خلال هذه المعايشة مع الواقع للذات المقهورة والمشيئة والمستلبة أصلاً، يبرز عنده اكتشاف المعاني الأساسيّة في الوجود الإنساني، وهي معانٍ تمثل: العدم، والفناء، والموت، والخطيئة، واليأس، والعبثية، والعنف، ثم القلق الوجودي. إنها بتعبير آخر، فلسفة العدم.

راجع دراستنا (الفلسفة الوجودية. د. عدنان عويّد) على العديد من المواقع الالكترونية. مثل: موقع تللسقف – صحيفة الثورة السوريّة – صحيفة المثقف – وساحة التحرير.. وغيرها.

.........................

(تفاصيلُ حب أسمر)

تنسيم حومد سلطان

قرأتُ وجهك في موالِ شاعرةٍ

في صوت أنثى دعاها المنبرُ الوعرُ

في طفلةٍ تتلوى مثل داليةٍ

في كل بقعةِ ضوءِ خانها المطرُ

بيني وجلدكَ أنفاسٌ سأقطُفها

على جناح براقٍ أسمه الخطرُ

كأني منك بدءُ الكون َأزمنةٌ

سحيقةٌ في مدى الأشواقَ تختمرُ،

أحتارُ في لغتي، أرنو ولا لغةٌ

تجيدُ وصفك ... لا يعلو لها خبرُ

مددت ظلكَ في عينيّ فانبجستْ

كلَ الحقولِ، رؤىً بالخصب تزدهرُ

وصار جسمي على كفيك أغنيةً

تدور في البالِ

غنى لحنَها وترُ

دعوتُ ثغركَ في لقيايَ

من عطشٍ

فاستسلمَ الجسمُ

وانحازتْ له النذرُ

أنوثة صرخت، تسري مَعاجِمها

كأنهرٍ سبعٍة من حولها سدرُ

وأشعلتْ مريمُ العذراءُ

ضِحْكَتَها

مِن تحتِ نخلتَها

واستيقظَ الشررُ

تهزَّ رمحاً إلى التِنِّين،

تصرعهُ

وتفتحُ الثغرَ، عُد للماءِ يا نهرُ

على الشِّفاهِ دعاه الوصلُ

نلفظُهُ

كأنهُ الوحيُ أو أنَّاتنا

 السورُ

 أسرابُ أنفاسِه تهوي على عُنقي

فتستفزُ دمي، والنارُ تنتشرُ

فالجيدُ مني صلاةُ الضوءِ

إذْ طلعت،

وفي رُبا كفهِ الأعنابُ

 تُعْتَصرُ

والماءُ من نَبعه يطفو على جَسدي

والغيمُ من قبضَتي يروي

ويَنحدرُ

كأن نهديَ باب الزيحِ

مفتتحٌ

بهمسِ أنثى يناغي بوحَهَا السَّحرُ

أنا الحَريقُ وأنتَ الماءُ

مُعجزتي

ينشقُ – إذا ما اقتربنا-

 ذلك القمرُ.

***

القصيدة على البحر البسيط

يمثل محمود درويش حالة استثنائية في تاريخ الشعر المعاصر، ويعد كقامة شعرية متفردة نموذجاً مباشراً لخصوصية القصيدة التي سرعان ما تتحول إلى مزاجاً عاماً لمريدي الشعر بصفة خاصة وللثائرين والعاشقين والرافضين لنظمهم السياسية الطاغية بصفة عامة، لذا فإن متعة تناول سيرة وأشعار محمود درويش تتأتى من رصد حالته الشعرية وتجربته داخل القصيدة التي يصر أن يكون فيها حاضراً بغير غيابٍ، وربطها بواقع تجعل القارئ يعيش يومياته المتأرجحة بين الثورة والعشق والرفض واسترجاع ذكرياته.

وتفرد درويش لم يتحقق من تفرد حالته التاريخية بوصفه مواطناً فلسطينياً يعاني وشعبه من الطغيان الصهيوني فحسب، بل إن حالة التفرد تلك تحققت من خلال لغة رمزية مسكونة بالدلالات التي لا تنقضي، فالقصيدة الدرويشية تشبه بالرسم الجرافيتي الذي يعبر عن حالة راهنة تستدعي المشاركة والتعاطف معها وهذا سر من أسرار تفرد قصيدته، بجانب أن محمود درويش كان حريصاً على أن يجعل كل حالات الغياب حضوراً مشهوداً ليس مستحيلاً، ومن ثم يستطيع القارئ والمتابع لنصه أن يكون حضوره القرائي موجوداً بالقصيدة بغير ملل أو كلل.

الوُجُوْهُ تَتَعَدَّدُ:

وليس بغريب أن تتعدد وجوه محمود درويش الشعرية إذا ما رجعنا إلى بدايات التكوين مروراً بمراحل تقعيد وتكريس القصيدة لديه، فالبدايات عند محمود درويش تبرهن على هذا التعدد ومزية التنوع في قصيدته التي تجعله شاعراً مرغوباً لدى قارئه بتعدد وتنوع حالاته ووجوهه هو أيضاً. فبين بدايات شبيهة بالنص الشعري عند نزار قباني وبدر شاكر السياب مروراً بالنصوص المباشرة لعبد الوهاب البياتي وأدونيس حينما كان غير مضلل بنصه المغاير لطبيعة اللغة، انتهاء بصور شعرية ترصد حالات ومقامات كشعر أحمد أبي الطيب المتنبي، نجد محمود درويش يصنع لنفسه كرسياً في ديوان الشعر العربي حتى يكاد بعض النقاد المتأخرين يصفونه بأنه الوريث الشرعي للقصيدة العربية من أجل حفاظه على تنوع الشعر واختلاف أغراضه والتمسك برصانة قواعده مع السماح لبعض التجاوز الشعري الذي يضمن للقصيدة معاصرتها ومطابقتها لمقتضى الحال كما يزعم البلاغيون القدماء.

وهذه الوراثة الشعرية الشرعية لمحمود درويش هي التي مكنته من أن يمتلك خصوصية الشهادة الشعرية للتاريخ المعاصر، فإذا كنا قد نذهب بالرأي بأن أدونيس هو المالك الحصري للقصيدة في تنوعاتها الفلسفية المعاصرة، فإن محمود درويش بحق هو مؤرخ الواقع الإنساني شعرياً، لأنه بإيجاز استطاع رسم خارطة شعرية ممتدة ترصد حالات متباينة مثل تباين المناخات والطقس فيمكنك أن تلتمس واقعك الاجتماعي أو السياسي أو الشخصي من خلال التماس تلك الحالة من القصيدة نفسها.

الثَّوْرَةُ حُضُوْرٌ عَبْرَ الشِّعْرِ:

لم يكن غريباً التحاف الثوار بدول الربيع العربي مصر وتونس وليبيا وأخيرا سورياً بديوان محمود درويش، ولم تكن تلك الصور والمشاهدات التي رأينا من إلقاء شعري لبعض قصائده التحريضية على الأنظمة السياسية الفاسدة إلا توثيقاً تاريخياً لهؤلاء الثوار على نزاهة ونقاء قضيتهم الثورية، بل يمكننا الزعم بأن قصائد محمود درويش التحريضية الثورية وإن كانت فلسطينية الرائحة والتوجه إلا أنها كانت باعثاً قوياً لفورة الثائرين وشحذ عزائمهم باعتبار أن الثورات العربية في بدايتها كانت ياسميناً تارة وبيضاءَ تارة أخرى وهي بذلك تشبه القصيدة الدرويشية التي يمثل فيها العطر واللون ملمحين رئيسيين فيها.

(نم، يا حبيبي، ساعة

حتى يعود الروم، حتى نطرد الحراس عن أسوار قلعتنا

وتنكســــــر الصــــــواري

كي نصفق لاغتصاب نسائنا في شارع الشرف التجاري

نم يا حبيبي ساعة حتى نموت

هي ساعة للانهيار

هي ساعة لوضوحنا

هي ساعة لغموض ميلاد النهار

كم كنت وحــــدك، يا ابن أمّي

يا ابن أكثر من أب

كم كنت وحـــــدكْ)

ويعود الشاعر التحريضي بوجهه المباشر غير المقنع ليحرض على الثورة وإن كانت القصيدة كما أوضحنا تحمل رائحة وطعم ولون التراب الفلسطيني لكن ما فلسطين إلا صورة رمزية لشتى البقاع العربية التي تمارس عليها الأنظمة العربية السياسية كل صنوف وفنون الفساد والطغيان السياسي غير المشروط:

(وضعوا على فمه السلاسل

ربطوا يديه بصخرة الموتى،

و قالوا: أنت قاتل

أخذوا طعامه والملابس والبيارق

ورموه في زنزانة الموتى،

وقالوا: أنت سارق

طردوه من كل المرافيء

أخذوا حبيبته الصغيرة،

ثم قالوا: أنت لاجيء

يا دامي العينين والكفين

إن الليل زائل

لا غرفة التوقيف باقية

ولا زرد السلاسل

نيرون مات، ولم تمت روما

بعينيها تقاتل

وحبوب سنبلة تجف

ستملأ الوادي سنابل)

وإذا أردت أن تكتشف ماهية الثورة ودلالتها ودور محمود درويش التحريضي عليها فعلى القارئ دوماً أن يتجه إلى مواضعة (الولادة) لغة واصطلاحاً شعرياً درويشياً داخل ديوانه، فلفظة الولادة التي يصر محمود درويش على استخدامها الحصري لها هي معادل موضوعي لمفهوم الثورة والخروج الشرعي على الحكم السياسي غير الشرعي، والولادة داخل القصيدة تحمل دلالات متعددة كتعدد وجوه محمود درويش الشعرية نفسها، فهي تشير إلى ثورة آتية، أو رمزاً تاريخياً يحمل استشرافاً مؤقتاً للمستقبل:

(كانت أشجار التين

وأبوك..

و كوخ الطين

و عيون الفلاحين

تبكي في تشرين!

- المولود صبي

ثالثهم..

و الثدي شحيح

و الريح

ذرت أوراق التين!

حزنت قارئة الرمل

وروت لي،

همسا،

هذا الغضن حزين!

- يا أمي

جاوزت العشرين

فدعي الهمّ، ونامي!

إن قصفت عاصفة

في تشرين..

ثالثهم..

فجذور التين

راسخة في الصخر.. وفي الطين

تعطيك غصونا أخرى..

و غصون!)...

دَرْوِيْشُ ولَذَّةُ الحَكْيِ:

عندما تتعانق الطبيعة متمثلة في الأرض وأنهارها المطلة على النوافذ العربية المسكونة بالحيرة والقلق وتوجس انتظار الغائب، تظهر قامة الشاعر الفلسطيني المبدع محمود درويش الذي تزامنت ذكرى وفاته قبل الشهر المنصرم. والشاعر الفلسطيني محمود درويش الذي رحل عن دنيانا وهو يحلم بوطن فلسطيني على أرض عربية، غادر الحياة وفارقها بعد صمت طويل من الحكام العرب تجاه قضية وطنه، وسقوط بعض الأنظمة العربية وقت تهاوي سياساتها تجاه النخبة والقصيدة، وبعد انحسار مستدام للنخوة العربية التي لا نجدها إلا في مدرجات كرة القدم. ومشروع القصيدة عند محمود درويش في مجمله الذي تحتفي هذه السطور القليلة بشعره يمكن أن نرصده في ملامح متمايزة ومحددة، أهمها ملمح الحرية، فكل من يقترب نحو شعر محمود درويش يدرك حقيقة الحرية التي حرص عليها وعلى نشرها بين المواطن العربي وإخوته وعشيرته. بالإضافة إلى ملمح آخر مهم في المشروع الشعري لدى محمود درويش هو الإنسانية، لذا من الأحرى على أولئك الذين تعاملوا مع شعره من منظور نقدي مجرد أن يتخلوا عن الأسس النقدية الجامدة ويعلوا القيم الإنسانية من جانب الحكمة الشعرية "وداوني بالتي كانت هي الداء".

لذا فالرائي للمشروع الشعري العام له والخاص لدرويش يستطيع استقراء حالة العناق بين الإنسان ومفردات الطبيعة لاسيما المسكونة بالحركة وإن كانت من كنهها السكون والجمود كالتراب والحصى والضلوع والأرصفة الصامتة، إلا أنها تتسق مع عناصر أكثر حرية وحركة كالعصافير والشجر: ينظم درويش:

" أسمي التراب امتداً لروحي

أسمي يدي رصيف الجروح

أسمي الحصى أجنحة

أسمي العصافير لوزاً وتين

أسمي ضلوعي شجر

وأستل من تينة الصدر غصناً".

ولعل درويش في قصيدته المتفردة " فكر بغيرك " ، يحاول أن يرسم لوحة تضامنية تجسد مشاعر المواطن العربي تجاه أخيه المفترش الأرض دونما غطاء، بل هو يسعى إلى أن يعري واقعاً ممتقعاً يمارس فيه المواطن البعيد عن سطوة الاحتلال كل أنواع رفاهية العيش، وهنا لا يكتف محمود درويش بدور المحرض فقط، بل يثير حفيظة ذلك المواطن تجاه ما يعانيه الفلسطيني المغتصبة حقوقه وأرضه وعرضه، بل وربما أحلامه أيضاً.

" وأنتَ تُعِد فطورك، فكر بغيركَ

لا تَنْسَ قوتَ الحمام

وأنتَ تخوضُ حروبكَ، فكر بغيركَ

لا تنس مَنْ يطلبون السلام

وأنتَ تسدد فاتورةَ الماء، فكر بغيركَ

مَنْ يرضَعُون الغمام

وأنتَ تعودُ إلى البيت، بيتكَ، فكر بغيركَ

لا تنس شعب الخيامْ

وأنت تنام وتُحصي الكواكبَ، فكر بغيركَ

ثمّةَ مَنْ لم يجد حيّزاً للمنام

وأنت تحرّر نفسك بالاستعارات، فكر بغيركَ

مَنْ فقدوا حقهم في الكلام

وأنت تفكر بالآخرين البعيدين، فكر بنفسك

قُلْ: ليتني شمعةُ في الظلام".

فها هو ذا الشاعر المحرض دوماً يدغدغ مشاعر المواطن العربي المنعم بالرفاهية بعيداً عن أصوات القنابل والرصاص وفوهات البنادق، ويحرضه أن يشارك مواطنه الفلسطيني همومه ويتقاسم معه قدراً من المعاناة اليومية، لا أن يكتفي بترديد التعاطف والمشاركة الوجدانية فقط، والقصيدة رغم قصرها إلا أنها اختزلت الحقوق الرئيسة التي يحلم بها المواطن الفلسطيني مثل حقوق الطعام، والشراب، والبيت، بل يتجاوز محمود درويش خطوط قصيدته لينبه على ما امتلكته الأمة العربية من جماليات لغوية كالاستعارات والتشبيهات والكناية والمجاز المرسل والفصل والوصل، وكل الأبواب البلاغية التي امتلأت بها المؤلفات العربية، ورغم ذلك فإن الطفل والرجل والمرأة والشيخ بالأراضي الفلسطينية المحتلة قد فقدوا جميعاً حقهم في الكلام.

ويظل محمود درويش مرتبطا بالفكر القومي، ترتفع معه فنيا ومعنوياً مضامين قصائده، كما تنخفض معه أيضاً، فهو مؤشر واضح وصادق لإيجابيات وسلبيات المرحلة، فهو يندد بالظلم الواقع على المواطن العربي في بلاده العربية، ونجده يرثي بغداد والعراق حينما تتحول إلى أراض غريبة مستهجنة، تعاني قمع الاغتراب والتنوع الديني والعرقي الذي يمزقها ويفتتها أشلاء متناثرة يصعب تجميعها في نسيج واحد. وهو في هذا العناق الأيديولوجي بالفكر القومي نجده مصراً على التواجد الفعال لعناصر الطبيعة من خلال مفردات بعينها كالنسر مثلاً:

" أنا آت إلى ظل عينيك آت

مثل نسر يبيعون ريش جناحه

ويبيعون نار جراحه

بقناع.. وباعوا الوطن

بعصا يكسرون بها كلمات المغني

وقالوا: اذبحوا واذبحوا..

ثم قالوا: هي الحرب كر وفر".

ثم نجده تارة أخرى مشيراً إلى خطر الحكم الباطش الذي يكون الفرد مسوقاً لا إرادة له، مشيراً إلى تلازم هذا البطش والانتكاسات القومية والوطنية، هذا التلازم يجعله مضطراً لاستخدام آليات لغوية (مفردات وتراكيب) تشير إلى سطوة القيد ومحاولة الفكاك منهن ولعل قصيدته المشهورة " الأرض " هي خير نموذج للتأكيد على الملمح القومي والوطني بمؤشراته في مشروعه الشعري.

" هذا اخضرار المدى واحمرار الحجارة

هذا نشيدي

وهذا خروج المسيح من الجرح والريح

أخضر مثل النبات يغطي مساميره وقيودي

وهذا نشيدي

وهذا صعود الفتى العربي إلى الحلم والقدس ".

أنَا أرْفُضُ.. إذاً أنا مَوْجُودٌ:

ولعل السمة الأكثر وضوحاً وتميزاً في قصيدة محمود درويش هي سمة الرفض، والرفض عنده رفض سياسي سرعان ما يستطيع تطويعه داخل النص ليصبح رفضاً اجتماعياً لكل ما هو مغتصب غير مكتسب بفعل التجربة ومحك المحاولة والخطأ، وتراه مجتهداً في تمزيق عباءة الانكسارات العربية. لذا فإن قصيدة محمود درويش لم تجئ تعبيراً عن رفض الهزيمة العربية في يونيو 1967 فحسب، ولكن جاءت أيضاً تعبيراً عن رفض الاحتلال الإسرائيلي منذ بدايته وكشفاً لوجه جديد لم يعرفه العرب والعالم، عن أشكال المقاومة العربية داخل أسوار السجون الإسرائيلية.

وتمتاز القصيدة الدرويشية بسمة البعد عن اليأس والهزيمة، فهي قصيدة دائماً ما تشع بالأمل في الانتصار المحتوم، وربما تأتي هذه المزية من أن شاعرنا ينطلق من موقع النضال الحقيقي والعملي ضد الاحتلال، حيث القصيدة التي تفضح جرائم الاحتلال، وتكشف دونما حماقة عن بشاعة ما يتعرض له الناس تحت الحكم الإسرائيلي، ولعل محمود درويش امتاز عن شعراء جيله في أنه لم يسجل موقفاً، ولم يكتف بالإدانة والشجب السلبي، ولكنه يثير فعلاً، إنه يحرض على المقاومة، بل وقصيدته نفسها تعتبر منشوراً سرياً يفرض على المواطن العربي تنفيذ ما جاء به من أوامر وتعليمات، لذا فالقصيدة محرضة، وصاحبها محرض على المقاومة، وإن شئت فقل إن محمود درويش يطلق رصاصة تحت اسم القصيدة. 

(" أنا الأرض..

يا أيها الذاهبون إلى حبة القمح في مهدها

احرثوا جسدي!

أيها الذاهبون إلى جبل النار

مروا على جسدي

أيها الذاهبون إلى صخرة القدس

مروا على جسدي

أيها العابرون على جسدي

لن تمروا

أنا الأرض في جسد

لن تمروا

أنا الأرض في صحوها

لن تمروا... " ).

الغَائِبُ حِينَمَا يَصيْرُ أكْثَرَ حُضورَاً:

قد لا يجد المرء حيرة وهو يعتزم قراراً بالحديث عن محمود درويش، لأنه بغير وعي سيتجه طواعية نحو قصيدته المطولة " جدارية " والتي زين بها عباءة الشعر العربي منذ المهلهل بن أبي ربيعة مروراً بالقامات الشعرية الكبيرة في تراثنا الشعري، فالجدارية باختصار دقيق تعد دليل التشغيل لمشروع درويش الشعري، وسيرة ذاتية للشاعر نفسه تركها لنا بعد رحيله كي نستبين شعره ومشروع قصيدته.فلقد نظم محمود درويش جداريته وكأنه يعلن بيانه الختامي، رغم أنه أعقبها بقصائد ودواوين أخرى، لكنه أراد أن يكون ما تمنى أن يريده في الماضي ؛ فكرةً، وطائراً، وشاعراً، وكرمة، ولغةً. ووصف أبجديته التي عاشها شاعراً ملأ الدنيا وشغل الناس، فكان غريباً، ورسولاً ورسالة ً، وحواراً للحالمين، وسماوياً، وغياباً، وطريداً.

(" سأصير يوماً طائراً، وأسل من عدمي

وجودي. كلما احترق الجناحان

اقتربت من الحقيقة، وانبعثت من

الرماد. أنا حوار الحالمين ".

ويقول في جداريته:

" سأصير يوماً شاعراً،

والماء رهن بصيرتي. لغتي مجاز

للمجاز، فلا أقول ولا أشير

إلى مكان. فالمكان خطيئتي وذريعتي " ).

فالجدارية وثيقة مهمة لتأريخ القصيدة عند محمود درويش فهو يسعى بها لأن يكون حاضراً طيلة الوقت بين قرائه، ولأن يكون شديد الثقة لديهم حينما يهرعون لديوانه بعد موته وهذا ما تحقق بالفعل لأنه لا يرصد حالته الإنسانية فحسب، بل يكرس للصوت الإنساني العام الذي يأمل بقدر ما يعاني، ويحلم بالقدر الذي يحرم فيه من كل مظان الحياة الكريمة من حرية وعدالة ووجود كريم.

وفي الوقت الذي يسعى فيه محمود درويش إلى تأسيس شخصي له داخل تاريخ القصيدة العربية لم يكن يعلم أنه يحتفل بغيابه أولاً، وبجدلية العلاقة المطردة بين الموت والحياة:

(وكُلُّ شيء أَبيضُ،

البحرُ المُعَلَّقُ فوق سقف غمامةٍ

بيضاءَ. والَّلا شيء أَبيضُ في

سماء المُطْلَق البيضاءِ. كُنْتُ، ولم

أَكُنْ. فأنا وحيدٌ في نواحي هذه

الأَبديَّة البيضاء. جئتُ قُبَيْل ميعادي

فلم يَظْهَرْ ملاكٌ واحدٌ ليقول لي:

ماذا فعلتَ، هناك، في الدنيا؟

ولم أَسمع هُتَافَ الطيِّبينَ، ولا

أَنينَ الخاطئينَ، أَنا وحيدٌ في البياض،

أَنا وحيدُ … )

والجدارية تمثل في مجملها خطاباً إلى الموت بدلالته الفلسفية لا بالصورة الجسدية، وهو يصر على أن يجعل لهذا الرحيل شعرية خاصة تدلل على الحضور من خلال استحضار الكائنات اللغوية التي تؤرخ سراً وعلانية لهذا الحضور الذي يستسلم طواعية لاحتفالية الموت باعتباره يقيناً لا لغط في موعده:

(سأَصيرُ يوماً فكرةً. لا سَيْفَ يحملُها

إلى الأرضِ اليبابِ، ولا كتابَ …

كأنَّها مَطَرٌ على جَبَلٍ تَصَدَّعَ من

تَفَتُّح عُشْبَةٍ،

لا القُوَّةُ انتصرتْ

ولا العَدْلُ الشريدُ)

ونص "جدارية" هو النص الشعري الذي سمح لمحمود درويش أن ينتقل من خانة الشاعر الوطني القومي إلى خانة أكبر مساحة ودلالة وأهمية حيث صار شاعراً إنسانياً يخاطب حتفه الأخير وهو يستعرض حياة سريعة لم تلوثها عوارض الحياة وحركاتها وسكناتها، وهو في طريقه إلى الوصول لمقام الشاعر الإنساني يجتهد لأن يدلل على إنسانيته المعرضة دوماً لجدل الحياة:

(سأَصير يوماً كرمةً،

فَلْيَعْتَصِرني الصيفُ منذ الآن،

وليشربْ نبيذي العابرون على

ثُرَيَّات المكان السُكَّريِّ!

أَنا الرسالةُ والرسولُ

أَنا العناوينُ الصغيرةُ والبريدُ)...

وأكاد أظن أن محمود درويش بأسئلته التي لا تؤمن بالصدفة واللحظية لم يسع لأن يضع إجابات شافية لها فترك لنا عناء البحث عن تلك المهمة مستلهمين نصه الشعري ومسترشدين بقاموسه الشعري ذي الدلالات المتعددة لصياغة إجابات من شأنها أن تفتح باباً جديداً لأسئلة لا تنتهي:

(هل أَنا هُوَ؟

هل أُؤدِّي جَيِّداً دَوْرِي من الفصل

الأخيرِ؟

وهل قرأتُ المسرحيَّةَ قبل هذا العرض،

أَم فُرِضَتْ عليَّ؟

وهل أَنا هُوَ من يؤدِّي الدَّوْرَ

أَمْ أَنَّ الضحيَّة غَيَّرتْ أَقوالها

لتعيش ما بعد الحداثة، بعدما

انْحَرَفَ المؤلّفُ عن سياق النصِّ

وانصرَفَ المُمَثّلُ والشهودُ؟ ).

***

د. بليغ حمدي إسماعيل

أستاذ المناهج وطرق تدريس اللغة العربية بكلية التربية جامعة المنيا

عن دار السرد في بغداد صدر لجمال الهنداوي مجموعة، تتكون من ثماني قصص، جاءت بعنوان "حب وحمص وثالثهما نيتشة".

تصدرت الكتاب مقدمتان.

الأولى لكريم شوقي حسن، وورد فيها أن حكايات الهنداوي تدور في أرجاء المدينة، وتتابع وجوه شخصياتها الطيبة والعفيفة.

والثانية لقصي الشيخ عسكر، وبدوره يؤكد أن للقصص عين كاميرا لكنها مدعومة بعاطفة القارئ ووجدان الكاتب، بمعنى أنها حكايات تتداخل فيها حياة جميع شرائح المجتمع، حتى أنها تبدو أقرب لشهادة عن أحياء المدينة وسكانها ومعاناتهم.

من الناحية الفنية يمكن إدراج كل القصص في مجال أو فضاء حزام الخمسينات الذي حمل هموم الناس، وكان مرحلة انتقالية على مستويين.

في التفكير انتقل من معاناة جيل الهزيمة إلى جيل الاستقلال، ولذلك كانت الموضوعات بمعظم الأوقات مغمسة بالدم ثم بالعرق، أو بمشاكل التحرير ثم مشاكل البناء. وفي الحالتين لم يكن يخلو أي مشروع أدبي من أحزان وفجائع وصدمات تنم عن وعي شقي وخسارة مهينة.

وفي أساليب التعبير كان محطة استراحة تفصل بين حداثتين، الرومنسية التي انقلبت على تقاليد الكلاسيكية الجديدة، وعلى ما بعد الواقعية - وهو الاتجاه المعروف في النقد الأدبي باسم الحداثة. وغني عن الذكر أنها حداثة تتكون من أطياف موزعة على قوس عريض من التأويل والتعبير.  ولعب هذا التوسيط دور جسر متحرك ساعد على تبديل إدراكنا لمعنى الذات، من مجرد قلب مكلوم وحزين إلى تجربة فردية داخل مجتمع ممزق ومضطرب. ويمكن متابعة هذا التواطؤ بين الأضداد في قصة "دليفري"، وهي عن أم تبتاع الطعام من عامل توصيل لأنه يذكرها بابنها المفقود. وكذلك في قصة "العطر"، وتدور حول صداقة بين بائعين في حي شعبي، وتنتهي بوفاة أحدهما. وأخيرا في قصة "زواج مصلحة"، وهي شهادة عن تحول العقد الاجتماعي إلى سياسة مكيافيلية، الهدف منها المصالح فقط. ولا يهم أن الزوجين امرأة ورجل، فكلاهما وجهان لورقة واحدة، وهما بتعبير رولان بارت، في دراسته عن بناء القصة، مجرد نمط. أو تكرار لحالة يسميها باسم "ذات الشخص". بمعنى أن المرأة والرجل لا يعبران عن طبيعتهما البيولوجية ولا عن الدور النوعي - أو الوظيفة المناطة بهما و لكن عن وعي كل منهما لموضعه في الحياة.

وإذا ابتعدنا قليلا عن الفهم السطحي لعذاب هذه الشخصيات، ولدورهم الاجتماعي، يمكن أن نلاحظ أنهم جزء لا يتجزأ من التفسير الفرويدي لقصة العائلة. فالشخصيات كلها من عائلة واحدة هي بسطاء وفقراء الناس، وجميعهم لا يستعملون عقولهم للخلاص من الأزمة ولكن قلوبهم. ولذلك يبدو أنهم كالجندي الأعزل، ولا خيار ولا حل أمامهم غير الاستسلام. وهم مستعدون لإقفال أبواب عقولهم. بتعبير آخر إلغاء متاعب التفكير، والاستسلام للقدر الأعمى والقاسي والذي لا يرحم أحدا.

ويمكن تصنيف كل هذه الشخصيات في ثلاث فئات - إذا دمجنا تحليل بارت مع تفسيرات فرويد.

أول فئة هي عن أمهات وأبناء. ومن الواضح أنها علاقة أنماط. فالابن هو أي شاب أو يافع، والأم هي كل امرأة عجوز سبق لها أن تكفلت بإرضاع وتغذية طفل. بمعنى أن الأبناء لا يعرفون أمهاتهم بالضرورة. وهذا هو حال قصة "دليفري". فعامل التوصيل، نائب الابن، ومبعوث من طرفه، ويذكرني كثيرا بصابر بطل "الطريق" لنجيب محفوظ والذي يعرف أمه ولا يوجد لديه أي فكرة عن والده، ويقوده هذا الحضور والغياب لحالة شك واضطراب وجودي ينتهي بسفك الدم كالعادة. ولكن يتمسك الهنداوي بالنظافة، ولا يلوث يديه بالدم. ويتحقق ذلك بخطوتين بمنتهى الأهمية إذا نظرنا إلى لغة الأعماق. أولا لا يوجد ولوج في القصة، فالشاب يراوح عند أعتاب الباب، ويلغي أي شبهة بالسفاح وزنى المحارم. وتقتصر الوظيفة على مبدأ التغذية الراجعة - وتسليمها رزم الطعام الجاهز. ويساعد على إتمام المهمة، بدون قتل أو سفاح، غياب الأب، السبب الأول في رهاب الخصاء.

ثاني فئة هي عن الأخوة. وفي حالة قصة "العطر" عن أخوين فقط. ولكن الأم هنا هي مثيل للأب أو ند له، ولذلك لا يوجد جريمة أوديبية ولا أي صدام بين الآباء والأبناء. يضاف لذلك أن الأخوين توائم. فهما متشابهان بالعمر والمهنة. وكذلك بالمكان والفترة الزمنية. ولا أتوقع في هذه الظروف نشوء عقدة تلصص تتطور إلى غيرة وحسد. ويحل محلها علاقة تكافل أو اتفاق شفوي على توزيع المهام.

ولنزع وربما تبريد فتيل الأزمة يخطف الموت الأم في قصة "دليفري"، والأخ التوأم في قصة "العطر". ويهيئنا للتعايش مع جو يخيم عليه الأسى وواجب العزاء. وذلك في إطار من ألوان رمادية وسوداء - ويرمز له في قصة "بجاه أبي الجوادين" بعباءة المرأة وطياتها. ولا أستطيع أن لا أرى أي صلة بين شبح الموت العابر في قصة "الغريب" لكامو - حينما يضع ميرسو إشارة حداد سوداء على ياقته، والمصير المحتوم في قصص جمال الهنداوي، والتي تبدأ بفكرة عامة عن وجود ناقص وغامض، وتنتهي بموت زؤام وصامت. وهذه إحدى أهم وسائط الإعراب عن العدمية عند العرب وعدم انسجامهم مع قوانين الأب ومرحلته. ولا تبتعد الروايات العسكرية التي صورت حروب الإنقاذ - عند العجيلي ثم حروب النكسة عند عبد النبي حجازي - عن هذا الهم الدفين. فالعجيلي يهرب من تبعات الخسارة إلى السياحة، وللتجول في أرجاء أوروبا حيث يخترع لنفسه آباء مهاجرين أو تاريخا قديما دالت دولته، وجمراته لم تنطفئ بعد (انظر قصص "قناديل إشبيلية"). وينقل حجازي المعركة إلى مكاتب تدور فيها المراوح، وإلى إثبات فحولته بضرب الزوجات وإقامة علاقة مع النساء الجميلات. وأخيرا بإلقاء الطرائف وشرب الكحول، وكلها أدوات لإلغاء الوعي المشؤوم، وإفساح المجال للشعور الباطن والغرائز. وأعتقد أنه أسلوب من أساليب النقد الذاتي لدرجة التجريح.

ثالث وآخر فئة عن نساء ورجال، أو أزواج وزوجات. ولكن في ظل هدنة مكيافيلية ومشبوهة، وتمثلها قصة "زواج مصلحة". وهي هدنة تجارية تعبر عن حركة إصلاح نفعي، مثل الاتفاقيات التي تعقدها أحزاب متنافرة لكن يجمعها حب التسلط، وأشبه ذلك بمؤسسة الجبهات الوطنية - والتقدمية في بعض البلدان. ومع أنه لا تتوافر أركان التشبيه، و بالأخص أن القصص بعيدة عن السياسة، لكن هذا لا يمنع أنها تنقل رسالة لخطاب اغترابي يفاقم من الإحساس بالمنطقة الرمادية التي نسقط في حفرتها. وتلمس قصة "حب وحمص وثالثهما نيتشة" هذه المشكلة حينما يقرر بائع الحمص أن يبدل مهنته إلى بائع كتب مع أنه لا يقرأ ولا يكتب، وذلك للاستحواذ على قلب صبية يرغب بها. ومن حسن الحظ أنه ترك النهاية معلقة، وهذه أهم نقطة في جميع القصص. فهي أشبه ببدايات تبحث عن نهاية مناسبة لشخصياتها. وهذا البحث المضني هو لب وجوهر موضوع كامل المجموعة.

***

د. صالح الرزوق – أديب وناقد ومترجم

 

لجمال الهنداوي

هذه النصوص القصصية اعتبرها مختلفة عن المعتاد والسائد التقليدي، تدخلنا في حوارات وتساؤلات في الصياغة الفنية، وتركيبة الحبكة السردية، بمعنى انها جدلية في عدة مقومات، في الصياغة الفنية، وبناء الرؤية التعبيرية والفكرية، في المعنى والمغزى والرمز الدال، الذي يشع في الجوهر والمضمون الدال، رغم انها واقعية الاتجاه ومن قلب الواقع المعيشي للشرائح الاجتماعية الفقيرة، التي تكافح بعناد واصرار في الصراع الحياتي، لكن تجد نفسها غارقة في المعاناة والظلم والحرمان، لم تستسلم بل تظل تكافح بعرق جبينها بالمكابرة والكبرياء، رغم الاحباط والخذلان، الذي يصيبها، لتجد نفسها في موقع صعب، في نيل الطموح في معمعة الصراع الحياتي، وابطالها اناس بسطاء يملكون الكرامة ولا يتخلون عنها، مهما كانت صخرة سيزيف على اكتافهم، أنسانيون بحق، هذا جوهر الرؤية الفكرية ورمزيتها الدالة، شرائح انسانية اكثر من الشرائح الاجتماعية اخرى، مكافحون بلا كلل، رغم غصة الالم والوجع في دهاليز الحياة الصعبة والمعقدة، وتحاول ان تخلق البسمة من بئر الاحزان، لانها تملك احاسيس انسانية في طيبتها الشعبية، يشعر القارئ بتعاطف شديد ومؤثر تجاه هذه الشخصيات في النصوص القصصية، واعتقد هذا ما يسعى اليه الاستاذ (جمال الهنداوي) وهو يسلط الضوء الكاشف عليها، ويدخل في عمق المشاعر الداخلية، وهو يقدم نماذج حية من الواقع المجتمع، التي تملك الكثير من حكايات المعاناة، شخصيات تحاول جاهدة ان تجد مكاناً تحت الشمس في قلوبهم النظيفة، في تعاملهم الصريح بدون مراوغة، ومن هذا المنطلق الفكري، ينبغي تقديمهم بشكل مختلف، وهنا تكمن قدرة وبراعة الاستاذ (جمال الهنداوي) في تقديمهم بشكل مختلف، في بناء القصة، التي تعتمد على اسس ثلاثة: البداية. العقدة او الصراع. النهاية او الحل. نجد في هذه المجموعة القصصية، تبدأ بالصراع وتنتهي بالصراع الدراماتيكي، أما النهاية أوالحل، فإنه معدوم وغائب، يترك النصوص بدون نهايات أو حلول، يتوخى الكاتب من ذلك ضرب عصفورين بحجر واحد، الناحية الأولى. ان يترك النهايات لتأويل القارئ ومدى شغفه وتفهمه لهذه النماذج الشعبية المكافحة، في صراعها مع الحياة والزمن، رغم الانكسار الحياتي، والناحية الثانية. ان يتركها عائمة في بحر الحياة لا حول ولا قوة لها، لأنها تجد نفسها غارقة بصعوبة العوم الى شاطئ السلامة، كأن الزمن يعمل ضدها بكل قوة. رغم انها غارقة في ازمة الصراع، تظل مكابرة بكرامتها وإنسانيتها الطيبة، او مثل ما يقول المثل الشعبي (تحمل قنبورتها وتمشي)..... لنسلط الضوء على بعضها بإيجاز شديد:

× قصة: العطر:

بائع العطر البسيط والشعبي في قلبه الابيض (ابو خضير) يبيع العطور في سوق شعبي في محل صغير، كل صباح في ابتسامة تعلو في ملامحه، يرحب بالزبائن لكنه يميز خصائل الناس في أخلاقهم وسلوكهم، مثل ما يميز أنواع العطور، تراه حلو المزاج مع الناس الطيبين مثل صديقه الحميم (أبو فراس) الذي يعود به الى الى سنوات العمر الماضية وذكرياتها، مثل العطور لها خيط من الماضي، يرتب عطوره حسب الحاجات الناس، ولكن بعد وفاة صديقه الحميم (ابو فراس) حزن عليه بالوجع والأسى، حتى شعر ان الحياة جدبت، مثل العطور التي فقدت روائح عبيرها، وأصبحت روائحها كئيبة لا تطاق، فهجر العطور والسوق.

× قصة: حب.. وحمص.. وثالثهما نيتشه:

الشاب العشريني (جليل) بائع الحمص بالعربة، يعتني في بضاعته ونظافة الكؤوس و ويعتني في ترتيبها، فهي مصدر رزقه، يحاول إرضاء الزبائن بالنظافة والديكور اللائق، وهو يتحمل مشقة الشمس، وقد اختار افضل مكان قرب بوابة كلية الآداب (- الجامعة مكان محترم وآمن... والرزق وفير) كل صباح تطل عليه فتاة جامعية تماثله في عمره، يخفق قلبه بتسارع ضرباته شوقاً ومحبة، ويحاول ان يرضيها بكأس الحمص، يحاول يجذب اهتمامها وهي تشتري كأس الحمص، تغيبت بعضة أيام، قلق عليها، ولكن عندما أطلت في احدى الصباحات، انفرجت اساريره فرحاُ، لاحظ التعب في عينيها، وحاول ان يستفسر بخجل وارتباك فقالت له (- امتحان الفلسفة ارهقني جداً، ولكن انتهى والحمد لله) ثم أردفت (- بالضبط.... أكثر ما اتعبني هو نيتشه وهيغل، هذان الفيلسوفان يعقدان أي شيء في الحياة) ليقول لها انه سمع باسم نيتشه مرة في الانترنت، وذهب الى شارع المتنبي يفتش عن كتاب مبسط عن نيتشه، فوجده، لكنه وجد صعوبة في فهمه، رغم أنه قرأه أكثر من مرة، واخذت الفتاة الجامعية تتقطع في مجيئها حتى اتعبه الصبر، لأن الحب كان من طرف واحد، لكن دفعه الفضول إلى قراءة الكتب وشغف بحبها، لتعوض عن حبه الخائب، حتى فتح مكتبة صغيرة، وكسب الوعي والإدراك من اطلاعه على الكتب، بدلاً عن الحب الخائب.

× قصة: بجاه أبي الجوادين:

امرأة فقيرة تعيش على الرزق ما تدره ماكينة الخياطة، منصبة طوال اليوم على القماش الاسود العباءات النسائية، وتنظر الى كوام القماش والعباءات غير المنجزة كل صباح، أحبت (أحمد) وكان كل آمالها ان ينتهي الحب بالزواج، ليقف الى جانبها في حياة مشتركة في الحب والوفاء، لكن حبيبها خذلها بعدم قبول الزواج من طرف عدم قبول أمه لها، وتزوج ابنة عمه، مما تجرعت كأس الخيبة والخذلان، وبعد فترة طويلة طلبها في لقاء بموعد في الكافيتريا التي شهدت لقاءات حبهما في السابق، ترددت في قبول الدعوة، رغم ان حبيبها السابق اعلمها بعزمه الزواج منها بعدما طلق زوجته، ذهبت إلى الإمام أبي الجوادين، ليعينها على ترددها وارتباكها، لا سيما وان جرح القلب مازال ينزف من الاحباط، توجهت الى موعد اللقاء، وعرض عليها الزواج لتقول له (- متأكد انك تستطيع ان تقنع أمك ؟ كما لو كانت لا تحبني) ثم أردفت (- هل تذكر عندما كنت بحاجتك في ذلك اليوم..... وانت اختفيت بلا كلمة وداع) ثم أردفت وهي تحاول ان تضبط اعصابها (- كل شيء ممكن ان يرمم..... إلا الخذلان) وغادرت المكان.

× قصة: دليفري:

عامل توصيل طلبيات الطعام إلى البيوت (عبدالله) أحد الايام تأخر كثيراً في توصيل الطلبية بسبب البحث عن عنوان البيت صاحب الطلبية، واخيراً وجده، وحين طرق الباب خرجت امرأة مسنة (ام علي) اعتذر عن التأخير كثيراً، فاجاب المرأة (- لا يا ولدي.. إن مجيئك

في هذا الليل يعد فضلاً منك. هل أسمك علي

- لا يا خاله.. أنا عبدالله

-عاشت الاسامي، ياولدي)

ويعرف عنها بأنها تعيش في البيت وحدها، تقتلها الوحدة والعزلة عن الناس، ابنها (علي) مات، وابنتها ذهبت ضحية انفجار ارهابي، ولديها ولدان آخران، أحدهما في استراليا والآخر في المانيا، وهي تصر في البقاء في بيتها ترفض الرحيل عنه، وتكررت طلبياتها من نفس الطعام، وتصر على إيصال الطلبيات (عبدالله) وعقد تعارف حميم بين الطرفين، مثل الام والابن، ولاحظ ان طلبيات تكفي لاكثر من شخص، وكان غايتها ان ترى (عبدالله) التي تصر تناديه باسم ابنها المتوفي (علي)، فاضطر ان يجلب من بيته كل يوم الطعام اليها، وفي احد الايام لم تكن المرأة المسنة في بيتها، واستفسر من الجيران عن سبب الغياب، فقالوا له. نقلت إلى المستشفى في حالة خطيرة، فتش عنها ولم يعثر عليها، فاحس بمرارة الحزن والجزع.

× قصة: خيوط القلب

ام مهدي: امرأة فقيرة من الوسط الشعبي، تعيش في رزقها بما تدر عليها ماكينة الخياطة القديمة، تخيط (الدشاديش) الى الاطفال في الحي الفقير، ابنها الصغير (مهدي) طلب منها ان تخيط له دشداشة العيد مثل الاطفال الآخرين، ولكن لسوء الحظ تعطلت ماكينة الخياطة، واصرت بعزم ان تلبي طلبية ابنها،فخاطت الثوب الابرة، ومرات تنغرس الإبرة في اصابعها حتى تورمت، وانجزتها صبيحة العيد، ورسمت فوق الجيب وردة من الخيوط الملونة، فكنت دشداشة (مهدي) متميزة عن دشاديش اطفال الحي، لكي تدخل الفرحة في قلب ابنها، رغم تورم اصابعها والتعب والمعاناة.

× قصة: الميت الحي

في ظهيرة الصيف عام 2003 يوم مختلف في تاريخ العراق خرج السجناء وأصبحوا احراراً من كوة الزنازين. وكل منهم يحمل مأساة ظالمة ومؤلمة، احدهم اعتقل وعذب في مديرية الأمن، باعتباره مناهضا للنظام، ظل في زنزانة السجن أكثر من 13 عاماً دون محاكمة ولا محامي، بسبب اقتناء كتاب ممنوع، بوشاية من رفاق المنطقة، خرج في يوم السقوط بعدما اختفى رجال الأمن، ليجد سائق التاكسي (أبو سليم) امامه، وطلب منه ان يطوف به في مناطق بغداد شوقاُ وحنيناً للغياب الطويل، وتنتهي رحلته الطويلة في منطقته (الدورة)، بسرد حكايته إلى سائق التاكسي (أبو سليم) الذي تعاطف معه كثيراً لحالته المزرية، والعقاب المجحف الذي تجرع سمومه، وقال بأنه ايضاً اعتقل بوشاية بسبب اقتنى كتاب الأغاني، ولكن حالفه الحظ بوجد محقق مثقف، واعتبر الكتاب ليس عدواً للنظام، فاطلق سراحه، وتخلص من ورطة السجن طويل الأمد ليقول (- يقال أن الدولة التي تخاف من الكتاب، تكون مصنوعة من الورق) وحينما وصل الى منطقته (الدورة) الى بيته القديم، وعرف بالفاجعة التي أصابت اهله، والده مات، وامه ايضاً ماتت حزناً عليه، والبيت بيع من قبل الورثة. كانت الصدمة كبيرة بفاجعتها ليقول بحسرة الحزن، بأنه أصبح غريباً، لا بيت، لا وطن، لم يبق له سوى ان يسكن في المقبرة، بالقرب من قبر أمه وأبيه، شعر بالحزن المؤلم، بأنه اصبح غريباً، وليس له سوى التوجه الى المقبرة.

***

جمعة عبد الله

 

للشاعر المصري أحمد بخيت.. في ضوء المنهج الرمزي، الأسلوبي، النفسي، الهيرمينوطيقي

تُعدّ قصيدة «الليالي الأربع» للشاعر المصري أحمد بخيت نصّاً شعريّاً مركَّب البنية والدلالة، يزاوج بين البوح الغنائي والتأمل الوجودي في صورة عشقٍ متجاوز لحدود التجربة الفردية إلى آفاق الرمز والأسطورة. عبر نسيج لغويّ متوهج بالإيقاع الداخلي، وصورٍ تستدعي الماء والليل والطيران والعيون بوصفها مكوّنات لخطاب الحبّ والفقد، ينحت الشاعر عالماً تتجاور فيه الصوفية والشهوانية، واليقين والشكّ، في وحدة توترٍ إبداعية. ولأن القصيدة تنفتح على طبقاتٍ متعددة من المعنى، فإنّ مقاربتها تستدعي تضافر المنهج الرمزي للكشف عن بنيتها الإيحائية، والمنهج الأسلوبي لرصد خصائصها التعبيرية، والمنهج النفسي لاستجلاء أبعادها اللاواعية، إضافة إلى القراءة الهيرمينوطيقية التي تفكك العلاقة بين أفق النص وأفق القارئ، بما يسمح ببلوغ فهم أعمق لجدلية الحبّ والشعر في خطاب أحمد بخيت.

١. مقدِّمة تأطيرية ومناهج العمل:

أقترح هنا قراءة مركَّبة تجمع بين: (أ) التحليل الرمزي (دلالة الصور والأنساق الرمزية)، (ب) المنهج الأسلوبي (أدوات اللغة، بنية الخطاب، الإيقاع الحرّ)، (ج) القراءة النفسية (دلالات الرغبة، النقص، السُّلطات اللاواعية)، و(د) الهيرمينوطيقا التأويلية (آفاق القراءة، أفق المؤلِّف / القارئ، وطبقات المعنى). سأعتمد اشتقاقَ المعنى من داخل النص بالأساس، مع توطين كثير من الاقتباسات النصّية لإثبات الأحكام التفسيرية.

٢. البنية السردية والصوتية: الخطاب كغناء متقطّع

القصيدة لا تبدو نصّاً سردياً متكاملاً تقليدياً بقدر ما هي «خطابُ اشتياقٍ» مُجزَّأ إلى لحظاتِ انفجارٍ لغويّة. تكرار النداء «يا لَيلَى» كـتُحضينٍ صوتيّ يُنَظِّم الحرَكَة العاطفية ويؤطّر فصولَ النّص («بغيرِ الماءِ / يا لَيلَى» — «إذنْ / مِنْ أينَ يأتي الحزنُ / يا لَيلَى؟»). هذا النداء المتكرّر يعمل كمرساةٍ رمزية: هو اسمُ المحبوب/الأنثى، ومكانُ تلاقي النبرة الغنائية مع ثيمةِ السؤال والافتقاد.

- الأسلوبُ عامّي– شعريّ في آنٍ واحد: جُمَل قصيرة مكسّرة («يموتُ / جمالُ ألفِ طريقْ»)، تعابير طويلة موجزة («أُحِبُّكِ... / لم يغِبْ منِّي / سوى وجهِ الفتى العابرْ»)، وانقطاع/استئناف مفاهيمي بواسطة النقاط والحروف الاستئنافية («أحبُّكِ...»، «فليُسمُّوا الحبَّ / وَهْمًا، / كذْبةً، / إغراءْ»). هذه التقطيعات الأسلوبية تزيد من إحساس التلهّف والافتقاد والارتعاش الصوتي.

- إيقاع القصيدة حرٌّ لا يتقيد بقافية موحّدة؛ لكنها تحتفظ بتكراراتٍ صوتية (تجاورات حروفية: ل، ر، ش) وتكرارات معنوية (الحبّ، الحزن، الطيران، الماء، العيون) تُنتج موسيقى داخلية أقرب إلى النَشيد/الترنيم منها إلى البيت العمودي.

٣. رموز مركزية ودلالاتها المتقاطعة

- الماء:

الماء يظهر كرمز للحياة والملء والهوية: «بغيرِ الماءِ / يا لَيلَى / تشيخُ طفولةُ الإبريقْ». هنا الماء ليس فقط عنصرًا مادياُ بل شرطٌ للوجود الشعريّ والوجداني: من دونه «تشيخ طفولة الإبريق» — الإبريق كشكلٍ للحياة المنزلية للهوى يصبح عجوزاً بلا ماء. في موضع آخر: «أفي مقدورِ هذا الماءِ / إلاّ أنْ يكونَ / الماءْ؟» — سؤال فلسفي رمزي: هل الكائنُ (الماء) يملك إلا ذاته؟ أم هل العشق يطلب من الشيء أن يكون «أكثر من ذاته»؟ الماء رمز النقص والوفرة في آن.

الليل / ليلَى

الاسم «ليلى» ليس مجرد اسمٍ أنثوي؛ هو شخصية رمزية تقترن بالليل (ليلى/ليل): «نجمةُ السُّلوانِ / حين لمحتُها.. / غَارتْ». الليل هنا حاضنٌ للغموض، للغواية، للمساءات الشعرية، وهو كذلك «أيقونة الأسرار» («فيا أيقونةَ الأسرارِ / في الأشعارِ / يا لَيلَى»). النداء المتكرر يجعل ليلَى محوراً أنثروبولوجيًا — أنثىٌ، رمزُ الغيرية، بل «الأنثى-العمل الفني» التي يُنسب إليها فعلُ الخلق والشكل.

الطيران / الأجنحة / الطائر

ثيمة الطيران تتكرر («أجنِحَتِي / يجفُّ بريشِها / التحليقْ»؛ «لأنَّ السِّرَّ / في الطيرانِ / لا في الريشِ / والطائرْ») لتبيّن الفرق بين الوسيلة والغاية: ليس الريش وحده ما يجعل الطائر يطير بل فعل الطيران نفسه، رمزٌ للحرية/الروح. يفصح الشاعرُ عن وعي نقديّ للوسائل (الريش) مقابل الفعل (الطيران)، وكأن الحبّ هو فعلُ الوجود لا امتلاك الأداة.

العيون / الكحل / الوعد:

العيون عند الشاعر رمز للمرآة والعبور: «هي امرأةٌ... تضيءُ غيابُها صوتي! / سوى امرأةٍ / بِسُكَّرِها / أُحلِّي / قهوةَ الموتِ!» و«عيونُكِ / يا سمَا عينَيَّ / صحوُ الشوقِ في الناياتْ». العين هنا تضيء وتغوي وتصبح «مكانًا» للفداء والغواية.

- الموسيقى والشعر كقوة خلاقة/خلاصية:

الشاعر يحوّل المحبوبة إلى «موسيقا» ويعلن أن الشعر هو الصيغة الخلاصية: «أنا غيرُ موسيقا / تليقُ بِسِحْرِ رَقْصَتِها»؛ «سأعزِفُ فيكِ / موسيقا السماءِ». الشعر عنده فعلُ عبادةٍ وجهاد: يبارك ويصيح ويؤطر وجوده. في موضعٍ أخطر، الشاعر يواجه السؤال الديني-الجمالي: «فَمَنْ سيسبِّحُ الرحمنَ / بالأشعارِ / في الجَنَّةْ!» — أي: مَن سيحافظُ على قيمة الشعر في حال تنكر الشاعر لذاته الشعرية؟

٤. ملاحظة أسلوبية: التكرار، النفي، والتضادّ:

- التكرار المنظّم («أحبُّكِ...») يعمل كمرثيةٍ دائمة. النفي والتساؤل («لماذا...؟»، «أفي مقدور...؟»، «إذنْ / مِنْ أينَ يأتي الحزنُ يا لَيلَى؟») يخلق بنية استجواب داخليّة تشير إلى أزمة وعي؛ فالشاعر يسأل ليتجاوز، لكنه في السؤال يعيد إنتاج الافتقاد.التضادّ أو الأزواج الثنائية تلعب دورًا بنائيًا: ماء/يابس، طيران/ريش، حب/شكّ، حزن/سُلوان، إنسان/إنسان (سؤال أخلاقي وجودي: «لماذا ليسَ في الإنسانِ / ما يكفي منَ الإنسانْ!؟»). هذه الأزواج تنشئ حركةَ متناظرة داخل النصّ: توتّرٌ دائري يدور حول مركز الحبّ/الافتقاد.

٥. قراءة نفسية: الرغبة، النقص، والأنيمة

من منظورٍ نفسيّ (نقضي على التبسيط ونعتمد استعارات نفسية معقّدة):

الأنيمة والأنثى كمَثَلٍ نفسي.

ليلى في النصّ تمثّل الأنيمة — صورة الأنثى الداخليّة التي تُكملُ الذكر. العلاقة إذًا ليست علاقةُ جسد فقط بل علاقةُ تعبيرٍ وجوديّ: «حين أحبُّ / سيدةً / أحوِّلها لموسيقا!» هذا تحويلٌ نفسانيّ: تعظيمُ الأنا للذات الأنثوية داخليًا.

الرغبة واللاّك — قراءة لاكانية.

- تظهر بنيةُ النقص بوضوح: «بغيرِ الماءِ...»؛ «لم يعثرْ على امرأةٍ / يضيءُ غيابُها صوتي!»؛ «لماذا من يقينِ الحبّ نَقطِفُ وحْدَنا الشّكَّا!» في القراءة اللاكانية، الشاعر يواجه «اللاّك» — نقصانٌ لا يملأهُ أي موضوع. الحبّ يصبح سعيًا لشيءٍ لا يمكن الوصول إليه، فالنداء الدائم لـ«ليلى» ليس استدعاءً لموضوعٍ موجود بل للفراغ المرجوّ أن يُملأ.

- الاندفاع الجنسي/الروحاني والتصوّف.

القصيدة تُجمع بين لغةٍ شهوانية وصوفية: «أنا الصوفيُّ / والشَّهوانُ / عَشَّاقًا / ومعشُوقا» — ازدواجيةٌ نفسية تعبّر عن أنشودة التوحيد والغواية في آن، حيث تتحول المحبوبة إلى مُستودَع للقداسة والشهوة معًا. هذه الثنائية تُظهر استعصاءَ الحلّ: الحبّ لا يُفلح لأنّه يضمّ إلى جوهره نقيضَه.

٦. الهيرمينوطيقا: آفاق التأويل وقرائن القراءة

القصيدة تُنتج عدة آفاقٍ تأويلية:

1. أفق المؤلف: إنْ افترضنا أن الشاعر يقدّم تجاربًا ذاتية، فالقصيدة إعلانُ حبٍّ واعترافُ عجزٍ أمام العشق الذي يشيخ اللغة والوقت. لكن لا ينبغي ملازمة هذا الافتراض؛ النصّ مستقل ويستدعي قراءاتٍ متعدّدة.

2. أفق القارئ: القارئ يأتي بشيفراته (ثقافية، دينية، رمزية)؛ لذا تتفتّح معاني جديدة. النبرة الصوفية قد تُستقبل لدى قارئٍ متدين بوصفها تقربًا إيمانيًا، ولدى قارئٍ عصري بوصفها تجسيدًا للحنين الوجودي.

3. التوتر بين النصّ والمرجع: تكرارُ الأسماء (ليلى، خال، النيل) يبني شبكة إشارات تربط بين دلالات محلية (الثقافة العربية/المصرية) والأرشيف الشعري (ليلى كشخصيةٍ أسطورية في الشعر العربي). الهيرمينوطيقا تتطلّب هنا اعتبارَ الخلفية الثقافية دون تسليمها كدليلٍ قاطع: النصّ يعيد صياغة الأسطورة لا مجرد استنساخها.

٧. قراءة تفصيلية مقاطع على مقاطع (عينات تحليلية):

- افتتاحية: «بغيرِ الماءِ / يا لَيلَى / تشيخُ طفولةُ الإبريقْ»

- افتتاحيةٌ مُحكمة: تبدأ بغيابِ شرطٍ (الماء) فيصبح الإبريق ـ هنا رمزُ الاحتواء والسر الذي يُسقى به الشغف ـ مُهترئًا، وبذلك يقدم الشاعرُ الحبّ غير المشبع كعائق أمام تجديد الطفولة والبراءة.

- مفصل: «لأنَّ السِّرَّ / في الطيرانِ / لا في الريشِ / والطائرْ»

- تصريحٌ فلسفيّ بصيغةٍ شعريّة: يقترحُ الشاعرُ أن الفعل/النية أهم من الظاهر. في سياق الحبّ، قد يعني هذا أن العشق كفعل وجودي مهمّ أكثر من سمات المحبوبة أو أدوات الإغواء.

- استدعاءات دينية/أخلاقية: «فَمَنْ سيسبِّحُ الرحمنَ / بالأشعارِِ / في الجَنَّةْ!»

تتحول توصيفات الحبّ إلى سؤال أخلاقي -وروحي: الشاعر يخشى أن يفقد الشعر دوره التعبّدي، وأن تتنازل الإبداعية عن وظيفتها الروحية إن لم يعترف الشاعرُ بقيمته.

- خاتمة لحنية: «بياضٌ قاتلٌ / وَرَقِي / وقافيتي»

- خاتمة تحيل إلى انكسار اللغة/القافية نفسها: «قوافيتي» هنا ليست منقذة؛ ربما الموت الشعري يلوح بسبب كثرة الشوق أو بسبب استنفاد الوسائل.

٨. النتائج الاستنتاجية (خلاصات تحليلية)

1. القصيدة نصّ مركزيّ في منظومة الحنين والافتقاد: كل رمزٍ (الماء، الليل، العيون، الموسيقى) يدوّم معنى النقص وإمكان الخلاص من خلال الفعل الشعري ذاته.

2. الشاعر يضع الشعر في منزلة الفعل الخلاّق والعبادة؛ الشعر ليس تسجيلًا بل ممارسة وجودية: «أنا الموعودُ... / ما هُوَ كائنٌ».

3. اللغة الأسلوبية: التقطيع، التكرار، الاستفهام، والنداء تعمل معًا لتوليد موسيقى داخلية تُقارب الطقوس أكثر من كونها سردًا خطيًا.

4. ازدواجية دينية/شهوانية تشكّل بنية نفسية عميقة: المحبوبة تُقدَّس وتُشيَّطُ في آنٍ واحد، والذات تسعى إلى التوحيد والتنفيس عبر الحبّ والشعر.

5. الهيرمينوطيقا تُبيّن أن النصّ يحتمل قراءات متعدِّدة: دينية، اجتماعية، نفسية، وجمالية؛ وكل قراءة تضيف بعدًا دون أن تُجهِد النصّ إلى معنى وحيد.

٩. اقتراحات لمشروعات بحثية لاحقة

- دراسة مقارنة بين استخدام رمز «الماء» في هذه القصيدة ونصوص عربية/مصرية معاصرة لتحديد خصوصية تكوينية عند أحمد بخيت (نقاش نمطي/دلالي).

- تحليل أسلوبي مقارن بين نمط النداء (يا...) في هذه القصيدة ونماذج من الشعر العربي الحديث (الموسيقى الداخلية، التكرار، الوظيفة الدلالية).

- قراءة نفسية معمَّقة بمناهج لاكان/فرويد/يونغ، مع استخدام منهج السرد الذاتي للشاعر إن وُجدت سيرته أو مقابلاته (طبعاً مع توخي الحذر من التوظيف الحيوي المباشر).

١٠. خاتمة موجزة

«الليالي الأربع» قصيدةٌ تحتفي بالافتقاد وتبيِّن الشعر كمسعى للخلاص والاعتراف. عبر صورٍ مركّبة (الماء، الطيران، العيون، الموسيقى) وبنيةٍ أسلوبيةٍ متقطعةٍ وغنائية، يصوغ أحمد بخيت نصًا يوجّه سؤال الوجود: كيف نعبرُ عن نقصنا؟ وكيف يُمكن للشعر أن يكون طائرًا يطير رغم جفاف الريش؟ القصيدة تقترح أن الجواب يكمن في الفعل الشعري نفسه — في الطيران لا في الريش.

***

بقلم: عماد خالد رحمة - برلين

.......................

قصيدة الليالي الأربع

بغيرِ الماءِ

يا لَيلَى

تشيخُ طفولةُ الإبريقْ

بغيرِ خُطاكِ أنتِ

معي

يموتُ

جمالُ ألفِ طريقْ

بغيرِ سَمَاكِ

أجنِحَتِي

يجفُّ بريشِها

التحليقْ

أحبُّكِ...

لم يغِبْ منِّي

سوى وجهِ الفتى العابرْ

سيُكْمِلُ

كبرياءُ الشِّعْرِ

مَا لمْ يُكمِلِ الشاعرْ

لأنَّ السِّرَّ

في الطيرانِ

لا في الريشِ

والطائرْ

أحبُّكِ...

فليُسمُّوا الحبَّ

وهْمًا،

كذْبةً،

إغراءْ

أفي مقدورِ هذا الماءِ

إلاّ أنْ يكونَ

الماءْ؟

إذا امتلأ الزمانُ

بنا

تلاشَتْ

فِتنةُ الأسماءْ

أحبُّكِ...

نجمةُ السُّلوانِ

حين لمحتُها..

غَارتْ

ولستُ أعاتِبُ السِّكِّينَ

فى ضِلعِي

الذي اختارتْ

فلا أحدٌ

يردُّ الخطوَ

للقَدَمِ التي سارتْ!

إذنْ

مِنْ أينَ يأتي الحزنُ

يا لَيلَى؟

إذنْ

من أين؟

وأنتِ غزالةٌ بيضاءُ

تمرَحُ في

سَوادِ العينْ

على جَمْرٍ مشيتُ إليكِ

قلْبًا حافيَ القدمينْ!

لماذا

مِنْ يَقينِ الحُبِّ

نَقطِفُ وحْدَنا الشّكَّا!

ومِنْ بستانهِ

الممتدِّ

نحصدُ وحْدَنا الشَّوْكا!

ونبحَثُ فيهِ

عن ركنٍ

يُسمَّى

حائطَ المبكَى؟!

لماذا لم نجدْ

في الحزنِ ما يكفي

منَ السِّلوانْ!؟

لماذا لم نجدْ

في الحبِّ ما يكفي

منَ الغُفرانْ!؟

لماذا ليسَ في الإنسانِ

ما يكفي منَ الإنسانْ!؟

لماذا كلُّ أسئلتي

وأنتِ هُنا

وأنتِ هُناكْ

غنائي الفَذُّ

يا لَيلَى

هديةُ طائرِ الأشواكْ

وماذا

قد يَضِيرُ الشمسَ

إنْ هُمْ

أغلقوا الشُّبّاكْ؟!

يقولُ لَكِ الغَيَارَى

مِنْكِ:

إنّ غناءَهُ

فتنةْ

إذا أنا تبُتُ

عن شِعْري

ولم أتقبَّلِ المِنَّةْ

فَمَنْ سيسبِّحُ الرحمنَ

بالأشعارِِ

في الجَنَّةْ!

وكيفَ أتوبُ

والعصفورُ

لم يُفطَمْ

عن الشجرِ؟

ولم يحفَظْ كتابُ الليلِ

غيرَ قصائدِ القمرِ؟

سأعزِفُ فيكِ

موسيقا السماءِ

فباركي

وَتَرِي!

أعوذُ

بوَجْهِ مَنْ خَلَقَ الجمالَ

فكانَ

كيفَ يشاءْ

وزانَ الأرضَ

بالأزهارِ،

والأطفالِ،

والشهداءْ

أيُبدِعُ كلَّ هذا الشِّعْرِ

ثم يخاصمُ الشعراءْ؟!

أكادُ أضيءُ

يقتلُني ويحُيِيني

بِكِ

العِرْفانْ

يصافِحُنِي الذي سيكونُ

ما هُوَ كائنٌ

ما كانْ

سَكِرْتُ بما...

سَكِرْتُ وما...

سكِرتُ...

فقبِّليني

الآنْ!

أنا نَخْلُ الجنوبِ

الصعبُ

هُزِّي الجذعَ واكتشفي

بجذرٍ راسخٍ

في الأرضِ

يحتضنُ السَما

سَعَفي

للَيلَى

أن تعانقَني

عناقَ اللامِ للألِفِ!

أنا الصوفيُّ

والشَّهوانُ

عَشَّاقًا

ومعشُوقا

أسيرُ

بقلبِ قِدِّيسٍ

وإن حسِبُوهُ

زنديقا

وحين أحبُّ

سيدةً

أحوِّلها لموسيقا!

ولَيلَى

نجْمةٌ ما الليلُ بعدُ

وما غرورُ الشمسْ؟

إذا أغمضتُ

أُبصِرُها

وأشرَبُ ضوءَها

بِاللَّمْسْ

وإن ضحِكَتْ

رأيتُ غَدِي

يكفِّرُ عن ذنوبِ الأمسْ

ولَيلَى

سِدرَتِي في الوَجْدِ

مِيعادي مع الأشواقْ

وإصغائي

لصوتِ اللهِ

حينَ يضيءُ

في الأعماقْ!

عروسٌ هذه الدنيا

وكُحْلُ عيونِها

العُشّاقْ!

ذهبتُ

إلى براري الحُبِّ

قبْلَ ترهُّلِ الوقتِ

فلم أعثرْ

على امرأةٍ

يضيءُ غيابُها صوتي!

سوى امرأةٍ

بِسُكَّرِها

أُحلِّي

قهوةَ الموتِ!

هي امرأةٌ

تخصُّ الرُّوحَ

لا بَدْءٌ لِقِصَّتِها

وما مِنْ منتهىً

في العشقِ

عُمْري

بعضُ حِصَّتِها!

وما أنا غيرُ موسيقا

تليقُ بِسِحْرِ رَقْصَتِها

ذهبتُ إلى أنوثتِها

صبيًّا طاعنًا في الحبّ

أُدَنْدِنُ باسمِها مطرًا

فَأُزْهِرُ

في السنينِ الجَدْبْ

أنا الموعودُ،

أسمرُها،

المبشَّرُ باسْمِها

في الغَيْبْ!

أَشُمُّ جمالَها بِيَدِي

وأُبصِرُهُ بآذاني

وأسمعُهُ بأحداقي

أقبِّلُهُ بأجفاني

وأقرأُ فيهِ

توارتي،

وإنجيلي،

وقرآني!

قديمًا

قبلَ تربيةِ الأفاعي

تحتَ سقفِ القلبْ

وقبْلَ

الناسُ

منفى الناسِ

والدنيا

غنيمةُ حربْ

أتى ولدٌ

إلى الدنيا

تُظَلِّلُهُ

غمامةُ حُبّ!

أنا الولدُ الذي ابْتَكَرَ البِحَارَ

مُضَيِّعًا شَطَّهْ

تَمَنّى قهوةَ الأنثى

فكانت

شَهوةَ القِطَّة

أترجِمُ

مِلْحَ هذا الدمعِ

أمواجًا

من الغِبْطَةْ!

أنا هو

ذلكَ الولدُ القديمُ

الأسمرُ اللثْغَةْ

يُضَمَّدُ رُوحَهُ

شِعرًا

ويَنْفُثُ ساخرًا

تَبْغَهْ

وحَوْلَ القلبِ دائرةٌ

تُحَدِّدُ

مَوْضِعَ اللدغَةْ

أنا المجنونُ يا لَيلَى

شهيدُ الحُلْمِ

والأشواقْ

بِحُبِّكِ

أُسْكِرُ الدنيا

وباسْمكِ

أملأُ الآفاقْ!

على آثار أقدامي

يَسيرُ العشقُ

والعُشّاقْ!

عبَرْتُ متاهةَ الماضي

وما جَمَّلتُ أخطائي

وسرتُ

على صِراطِ الحزنِ

محفوفًا بأعدائي

وجئتُكِ

خالصًا للحُبِّ

مِنْ أَلِفِي

إلى يائي!

فيا ثأري مِنَ الأحزانِ

يا بابي

على الملكوتْ

بنقصٍ في الضلوعِ

وقفتُ

مُتّهَمًا

بوَرْقَةِ توتْ

أَضُمُّكِ

فليكُنْ سَفَرٌ

على عطشٍ

وقِلَّةِ قوتْ!

أُحِبُّكِ في الزمانِ يَجيءُ

لا في الوقتِ

وَهْوَ يفوتْ

أحبُّكِ في الجمالِ يُضيءُ

أطفالاً

وحِضْنَ بيوتْ

أحبُّكِ...

لحظةٌ تكفي الفتى ليعيشَ

لا ليموتْ!

أنا أدعوكِ

معجزتي

فَمَن سمّاكِ

أحزاني؟!

عشقتُكِ

من ضجيج خُطاي

حتى

صمتِ أجفاني

ولم أحلمْ

بعابرةٍ

أقبِّلُها

وتنساني!

معي

زُوّادةُ التَّحنانِ

في ناي الرعاةِ

السُّمْرْ

معي أسطورتي

في العشقِ

أنتِ

ونارُ هذا الشِّعْرْ

ولي

كالدّيكِ حَنْجَرَةٌ

مَهَمَّتُها

ابتكارُ الفَجْرْ

أتيتِ

فَشَفّني صَحْوٌ

حكَيتِ

فمسَّني سُكْرُ

تنهَّدَ في دمي وَرْدٌ

وغرَّدَ في فمي

شِعرُ

وحفَّتْنِي ملائكةٌ

وسالَ على يدي

نَهْرُ

هما عيناك

يا وَعْدَ السَّما

للأرضِ

مِنْ أزلِ

أسافرُ منذ ميلادي

ولم أرجعْ ولم أصلِ

لغيرِ عيون لَيلَى الكحلُ

لَيلَى كُحْلُها غَزَلي!

فيا أيقونةَ الأسرارِ

في الأشعارِ

يا لَيلَى

ويا الأندَى

ويا الأشجَى

ويا الأحلَى

ويا الأغلَى

أحلِّقُ

في أعالي الشِّعْرِ

واسمُكِ دائمًا

أعلَى!

أغارُ

على اسمِكِ الضوئيِّ

يا وقّادةَ الإغراءْ

أغارُ

على أناقتهِ النبيلةِ

من فَمِ الغرباءْ

فيخفقُ قَلْبِيَ:

اكْتُبْها

وضَعْ ما شئتَ

من أسماءْ

عيونُكِ

يا سمَا عينَيَّ

صحوُ الشوقِ في الناياتْ

حضارةُ آخرِ الدنيا

بكارةُ أوّلِ الغاباتْ

عيونٌ

تصطفي رَجُلاً

فضيحةُ قلبهِ

الكلماتْ!

هنا

في المَقعدِ الخالي

مِنَ الجمهورِ

كلَّ مساءْ

ستجلِسُ

أجملُ امرأةٍ،

لتسمعَ

أجملَ الشعراءْ

وتنثُرَ

عطرَها الأبديَّ

في قمصانِهِ البيضاءْ!

تقول لأختِها:

انتظري

نحدِّثْهُ على عَجَلِ

أأطلُبُ رَقْمَ هاتفهِ؟

أكاد أموتُ

من خَجَلي

قفي لا تملئي

عينيكِ منه

إنّهُ رَجُلِي!

وبُحَّتُهَا

انسكابُ المِسْك

حين تقولُ:

يا أحمدْ

نبيذُ أناملٍ خَمْسٍ

تُمسِّدُ شَعرِيَ الأجْعَدْ

تَنَهُّدُ مُوْجَعٍ في النايِ

رَفَّةُ طَائرٍ

مُجْهَدْ!

تقولُ لنفسِها:

نَزِقٌ وقاسٍ

ساحرٌ وبعيدْ

لماذا صوتُهُ النيلِيُّ

يسكنُ فيَّ

كلَّ وريدْ؟!

أَحقًّا

أنَّ رائحتي تذكِّرُهُ

بكعْكِ العيدْ؟!

أُحِبُّكِ...

كيفَ حالُ الخالِ

يا ليلاي

مِنْ بَعْدِي؟

أتغفو شَهْقَةُ الإغراءِ

فوقَ الشاطئ الوَرْدِي

وعندي

كُلُّ هذا الليلِ

كيفَ أُضيئُهُ وحدي؟!

مساءُ الشجو

يا خالَ الجميلة

ما تركتَ خَلِي

غنائي كلُّهُ

سَفَرٌ إليكَ

قصائدي

قُبَلي

يقولُ الخال:

يا مجنونُ!

قبِّلْني

على مَهَلِ!

متى ألقاكِ

يا ليلايَ

إنَّ دَمِي

يخاصمُني

ورُوحي

لا تسيرُ معي

وقلبي لا يكلّمُني

وصوتي

ليسَ يؤنسُني

وصمتي

ليس يُلهِمني!

متى ألقاكِ؟

إنَّ الشِّعْرَ

أوجعُ ما يكونُ

الآنْ

ولا قاموسَ للأشواقِ

لا إيقاعَ للتَّحْنانْ

بياضٌ قاتلٌ

وَرَقِي

وقافيتي

قراءة في “لغاية في نفس سادن المئذنة” ليحيى السماوي

يأتي نص “لغاية في نفس سادن المئذنة” للشاعر العراقي الكبير يحيى السماوي، من مجموعته “أنقذتِني مني”، ليكشف عن قدرة الشاعر الفذة على الجمع بين المقدس والمدنس، وبين لعب الطفولة ونيران العشق الناضج، في لوحة شعرية تتقاطع فيها الروح مع الجسد، والبراءة مع المكر، والصوت الطقسي للمئذنة مع همس الوسادة.

بين الطفولة والمئذنة… مفارقة البدايات والنهايات

يفتتح السماوي نصه بصورة الطفولة التي لم تزل تسكن قلب العاشقين رغم “شيخوخة الزمان”. لعبة “الشرطي واللص”، و”الأميرة في بلاد الجن”، و”الطفل العصي على الفطام” تضع القارئ في مناخ براءة ظاهري، سرعان ما يتحوّل إلى خلفية لعاطفة ناضجة مشبعة بالمشاكسة والغواية.

المقدّس والمدنّس في تمازج فني

عنوان النص وحده يفتح باب التأويل: سادن المئذنة هو الحارس الروحي، رمز الطهارة والنقاء الطقسي، بينما جسد النص ينبض بصور الحواس والرغبة والفتنة. السماوي هنا يضع المقدّس والمدنّس في حوار إبداعي، ليرينا أن الحب الحق لا يكتمل إلا إذا احتضن الأضداد.

صور حسية مشبعة بالألوان والروائح

النص ثري بالصور الحسية: “ورد الياسمين”، “التوت الخضيب”، “ندى القرنفل”، “البردة الخضراء”، “قميص النوم”، و”السواحل التي تبايعني سندبادًا”. هذه الصور تتجاوز دورها الجمالي إلى بناء عالم شعوري ملموس، بحيث يشعر القارئ أنه يتذوق ويرى ويشم ويتلمس المشهد.

درامية العتاب والمصالحة

في حركة مسرحية متقنة، يتدرج النص من الخصام إلى البكاء، ومن اشتعال الحرائق إلى الاستغاثة، ثم إلى الضحك والخضوع لموسيقى الصفح. هذه الدرامية الوجدانية تجسد علاقة إنسانية حقيقية، حيث التوتر جزء من تثبيت أركان الحب.

النار والتطهير

رمزية النار في النص تتجاوز الطهي والدفء، فهي نار التطهير والتحرر من “ذنوب لذاذة العشق الحرام”. السماوي يوظف هذه النار كرمز للحياة والرغبة، وكتقاطع أسطوري بين الخلق والفناء، بين الخبز كقوت الجسد والنار كقوت الروح.

إيقاع غني ولغة متدفقة

يستند النص إلى إيقاع داخلي نابض، يتبدل بين انسياب الحلم وعصف الموج، مدعوم بتكرارات وصور متولدة. اللغة هنا ليست وسيلة لنقل المعنى فقط، بل فضاء لتوليد المعنى من جديد في كل قراءة.

خاتمة

في “لغاية في نفس سادن المئذنة”، يقدّم يحيى السماوي نصًا يقيم في المسافة المضيئة بين المئذنة وسرير الحبيبة، بين الطهر والفتنة، بين النداء الطقسي والهمس الشخصي. إنه نص يذكّرنا بأن الشعر العظيم هو ذاك الذي يتسع لكل الأضداد، ويجعل منها لغة للحياة.

***

بقلم: رانية مرجية

للشاعر المغربي (ادريس زايدي)

تمهيد: سنتناول مفهوم الانسجام تظهيرا لا تنظيرا، باعتباره منظومة حركية تتجاوز حدود النص، وتفكّر في الخطاب، مفترضين وجود متلقٍّ فعّال وقادر على ممارسة التأويل. (فليس هناك نص منسجم في ذاته ونص غير منسجم في ذاته بعيدا عن المتلقي). كما سنتناول هذا المفهوم في تقابل مع مفهوم آخر، هو الاتساق، لا برصد آلياته في التركيب، ولكن باستثمار نتائجه الحاضرة والتي لا نكلف نفسنا في تقصّيها. إنها موجودة وظاهرة في متون الديوان.

وإذا كان الاتساق مجموعة من الروابط النحوية والمعجمية والإحالات ووسائل الربط والاستبدال والحذف و… والتي تجعل النص متماسكا، بحيث يكون دور المحلل هو البحث عن هذه الظواهر ليعثر عليها، فإن الانسجام لا نبحث عنه لنعثر عليه في الخطاب الشعري، وإنما نبنيه ونشيده عبر آليات التأويل المشروطة بحدود منهجية تحاصره حتى لا يشط بعيدا عن ممكنات هذا الخطاب.

قراءة في الديوان:

يمثل ديوان “أسأتُ لي” للشاعر المغربي “ادريس زايدي” حساسية شعرية موغلة في التراث والحداثة معا، إذ اختارت هذه الحساسية الشعرية لذاتها أن تمارس حضورها في سياق ثقافي متوتّر على مستوى التجنيس الأدبي. ونحن في هذا المقام لا يهمنا هذا الصراع، بقدر ما يهمنا وضع الديوان في سياقه العام، وهو السياق الذي يوجّه القراءة النقدية انطلاقا من استحضار التصورات النظرية للشعر التقليدي وللشعر الحداثي معاً، لأن الشاعر (ادريس زايدي) يعي تمام الوعي هذا التوتر، وبالتالي فهو قد صاغ ديوانه في هذا الأفق بانيا أنساقه اللغوية على النمط القديم فيما أنساقه الأبعادية تمارس حضورا حداثيا قويّا.

نشتغل في هذا الديوان على استثمار آليات الانسجام للظفر بمجموعة من النتائج نعتبرها عصارة عمليات التأويل الممكن والمشروط:

1 – آلية التجنيس:

ونقصد به انسجام التجنيس، وفيه يمارس الديوان على القارئ شيئا من المكر المشروع، على مستوى جدل القديم والجديد، بحيث يقحم الشاعرُ القارئَ في لُججِ القصيدة العمودية في إطار عقد ضمني مع المتلقي، يبني فيه الشاعر هوية الجنس الأدبي داخل النسق القديم، وهو النسق الذي يؤطر وجدان المتلقي وذهنيته وسمعه وكل جوارحه وهو يتأرجح داخل إيقاع صوتي يرسله بين الصدر والعجز، وداخل البيان الذي يلقي به في تاريخ ماضوي يعبق بصور امرئ القيس والمتنبي وغيرهما …

لكن، سرعان ما يكسر الشاعر هذا العقد، ويلقي بالقارئ في أتون قصيدة النثر حيث (مقام الإساءة) بشخصيتها المغايرة تمام المغايرة لهيكل القصيد الذي أطّر وجدانه قبل ذلك، بشكل لا يمس في هوية الخطاب الشعري في شيء، ولا يخدش في انسجام الرؤية الفنية للذات المتكلمة في شيء.

هكذا يتحول إيقاع المتلقي الوجداني من التاريخ إلى الحداثة. ومع أن الشاعر لم يصنع جسورا ملفوظة للعبور بالمتلقي إلى هذه الضفة المغايرة، إلا أن القارئ سرعان ما يستوعب الحدث، وينسجم هو أيضا مع النثيرة في غير تعثّر. لماذا؟ لأن نسق البناء الشعري والصوغ اللغوي واحد، والهيكل مغاير ومختلف، في صياغة شعرية قادرة على استدعاء المتلقي إلى عمق الرؤيا، بألف ممدودة تفيد الـتحرر والانطلاق في ملكوت الشعر سواء أكان تشطيراً أم تسطيرا.

ما التأويلات الممكنة التي تثوي خلف ذهنية المتكلم؟ يتحدّث الشاعر في مقام الإساءة حديثاً يمتزج فيه الأثر الصوفي مع شعرية الحكي (أسأتُ لي ولي أسأتُ وساء حال ما رأيتُ حين ألقتْ جمرةً في الماء كنتُ بين حرٍّ في البهاء شارداً. وحينها اقتربتُ أسفل المقامِ، ثمّ قادني دخانٌ أزرق إلى موجه … تنتهي هذه النثيرة بشذرة عمودية من بيتين في انسجام متني قويّ).

نقول في غير جزْمٍ ولا حسم:

إن الشاعر لا يؤمن بحدود الشعر، ويؤمن بوحدة الشعر

تتجاور في نسق الشاعر الذهني كلٌّ من القصيدة العربية الأم، والقصيدة النثيرة في تواصل زئبقي وتفاعل هيولاني.

الشاعر يتعالى على صراع الأنواع وصراع الوصايات الشعرية.

هوية العمل الشعري لا تكمن في شكله فقط، وتكمن أيضا وأساسا في مقدار ما ينطوي عليه من خصائص ” الشعرية”.

2 – التغريض:

يعتمد مبدأ التغريض في منظومة الانسجام على استناد المتلقي لتيمة النص أو الخطاب من أجل تكوين تأويل معيّن، ولو كان تأويلا أولياً . والتيمة هي بداية قولٍ ما، وهي قد تكون عنوانا، وقد تكون جملة البداية، ولها تأثير على تأويل المتلقي.

لننظر، عابرين، في عتبة العنوان دون ادّعاء رصده كليّاً وشمولياً.

تتصدر عبارة (أسأتُ لي) غلاف العنوان، وتعلن عن قامتها الفارهة وهي تُشهر في وجه المتلقي ورقة انحرافٍ في القول، على اعتبار أن الإساءة هنا فعلٌ موجّه إلى الغير في مألوف التعبير والتداول. وعوضَ أن يسير ذهننا في اتجاه (أسأتَ لي) بفتح حرف التاء، انحرف بنا الشاعر إلى (أسأتُ لي) بضمّ حرف التاء، لينقل ميدان التوتّر من علاقة الذات بالآخر، إلى علاقة الذات بالذات. هنا تمارس عبارة (أسأتُ لي) جدلية الخفاء والتجلي، فهي تختفي في متون القصيدة العمودية، وعددها ستّ وأربعون قصيدة، لتتجلّى في نثيرة واحدة هي (مقام الإساءة) الصفحة 11:

تتجلى العبارة (أسأتُ لي) واضحة البنية: فعل وفاعل ومفعول به شبه جملة، إضافة إلى التوكيد عبر تكرار المحتوى وداخل بينة قولية أكثر دقة عبر بلاغة التقديم والتأخير في قول الشاعر مُرْدفاً (ولي أسأتُ) … ينضاف إلى هذا تكرار صوت السين الصفيري (أسأتُ – أسأتَ – ساءَ) لينسجم هذا الفراغ المخرجي مع فراغ الدلالة التي تتملص عن القبض، لتصبح الإساءة إلى الذات هي إدانة الذات على اقترافها للجمال الشعري. وهي إدانة مفارِقة تشي بالعكس في غير تصريح.

ما يؤكد ذلك هو سياق المقام في قول الشاعر في النثيرة – ساء حال ما رأيتُ – كنتُ شاردا – أسفل المقام – تلعثمت خطاي – ودّعتُ المقام لمن يعلو الجبل) وهي إشارات غير عابرة تفيدنا تقابلا بين ذاتين، واحدة كبيرة بمؤشر لسني هو (الجبل) وثانية متواضعة هي الذات المتكلمة المتنازلة عن موقعها للممكن في الشاعر من باب القيمة. وهذا الممكن في الشاعر مستضمرٌ في قناعة، مفادُها أن الشعر الجيد لم يُقْتَرَفْ بعدُ، وأن الشاعر الجيّد لم يولد بعد.

هكذا يتلاءم الخطاب الشعري في باب التغريض في نسق ذهني يقول: إن الخطاب الشعري الجيد لا تبنيه هياكل التجنيس بقدر ما تبنيه وحدة الرؤيا. وأن هذا الاقتراف الجمالي الموسوم بالقصيدة العمودية هو إساءة ماكرة للذات، وعامرة بالإدهاش الشعري وصائرة إلى امتدادات لا حدود لها في نسغ الشعرية العربية. أنظر ديباجة الديوان، ص 5، الفقرة الثانية (وحتى لا تكون القصيدة العمودية مثار جدال لا يجدي، فالانصراف إلى أسئلة علاقة الشعر براهنيته، أقوى من سؤال القديم والجديد …).

3 – التطابق الذاتي:

في القصيدة الموسومة ب (هوى شاعر) يرسل الشاعر (ادريس زايدي) البيت الأول أرسالاً حكيما:

ما سيّد الشعر إلا شاعــــــر عبرا

زمّ القوافي ونالَ العشق فانشطرا

ص 14 من الديوان

وتبدو فيه الذات المتكلمة مالكة لرؤية خاصة لفن النظم والقريض، ويتناسب توظيفه لأداة (ما) النافية مع الإثبات، في صوغٍ بياني يضمر دلالة معينة، نقترحها عبر مفهوم المقولات، كالتالي:

المقولة الكبرى: الشاعر السيد

المقولات الصغرى: عابر، متمكن، عاشق، متشظٍّ

نعتبر الصوغ الأول سياقا عاما على الإطلاق، لكن البيت الثاني:

يبدي مخاصمتي كالريح يعزفني

وكنتُ بين أناي الهمس إذ بطرا

ص 14 من الديوان

يتيح لنا ملامسة التطابق الذاتي كمحور محقق لمفهوم الانسجام النصي عبر تأويل الظاهر إلى نسق مضمر هو:

الشاعر بالمفهوم العام: سيد عابر متمكن عاشق متشظّ، والشاعر بالمفهوم الخاص: مخاصم متحرر عازف هامس … والعلاقة هي التطابق الذاتي دلالةً لا شكلاً. إن تتبعنا لمسار القصيدة في كلها وجلها يفيدنا هذا التطابق بين الذات المطلقة في الشعر على مستوى التسطير النظري، وبين الذات المتكلمة في الشعر على مستوى الممارسة.

نتابع القصيدة في مكرها المنساب وانسيابها الماكر، ندرك حرص الشاعر على رسم معالم الشاعر رسما قصديا يروم من خلاله بثّ رسالة إلى هذه الساحة الثقافية والفنية التي تعجّ بالغثّ والسمين في مجال تعاطي القريض:

يتجلى الشاعر في القصيدة على الصورة التالية:

الشاعر: (يسكن بين اللحن) حضور الموسيقى والإيقاع الخليلي

الشاعر: (يمشي بشط المرايا) حضور مكوّن التخييل

الشاعر (يرسم الحذر) حضور اليقظة في مفهوميها، الحالم (الشاعر) والعالم (الناقد)

الشاعر (القطف شقّ يدي) شرط الشقاء في الإبداع، قال الفرزدق (إن خلع ضرس أهون عليّ من قول بيت شعر).

4 – علاقة التضمن والملكية:

ننطلق من القصيدة (عزف جاهلي) ص 43، لرصد علاقة الجزء بالكل، المفضية إلى مقولة الملكية، يقول الشاعر في مطلعها:

نثرتُ مشيبي عابرا سبحة العرى

وقد سامني ما الجـــــاهلي تدثّرا

وقفتُ على الدّار التي رسَمَتْ لنا

خدود الأثـــــافي بعد هجر تنكرا

هي علاقة تؤسس لجدل الذات (ضمير المتكل) مع الدّار (ضمير الغيبة). وفي هذا الإطار تتناسل وحدة (الدّار) اللسنية عبر العلاقات التالية:

الأثافي – القفر – الحمالة – الطلل – القطا – الأشطان – هند – مهند – أسماء – امرؤ القيس – الشنفرى – الناقة – الخيمة …

وتتناسل تبعا لذلك محاورات الذات:

الذات الحنين حيث التوق إلى الزمن الجاهلي لا في حضوره الفيزيائي المرتبط بمقولة التحقيب والحيز وإنما في حضوره كامتداد لمفهوم الإبداع الأصيل العابر لمقولة الزمن.

الذات الإنسان حيث الراهن المستشرف لإبداعٍ يمارس دوره في ترسيخ مفهوم القيمة.

الذات الأنثى حيث تتجلى صورة المرأة العربية محاطة بذاكرة جميلة من الأشياء، لا تؤسس لهويتها ولكن تمارس وخزا جميلا لاستحضارها كنسق وجودي لا يمكن تغييبه في مجال الإبداع.

هذه العلاقات في تعددها الشكلي يحكمها مبدآن:

مبدأ العضوية وفيه يمدّ الشاعر المعاصر رجلاً في التراث وأخرى في الراهن.

مبدأ الملكية وفيه يتكلم الشاعر من مساحة الامتلاك لهذا الماضي بكل تفاصيله. وهو امتلاك يتجاوز حيازة الأشياء إلى حيازة المفاهيم، ومنها مفهوم الشعر الذي لا يمكن تصوره خارج التصور الفني القديم.

تفيدنا علاقة التضمن والملكية في تحديد توقعاتنا نحن المتلقين، حول البنيات الدلالية للخطاب الشعري في ديوان ” اسأتُ لي”. إن سرد المعطيات المرتبطة بالأثافي والناقة وهند وما جاورها … يعدّ انثيالاً يغرف من القديم، وهو في انطباعنا الأول يبدو غير مقبول وغير منسجم مع عالم الشاعر المعاصر والمرتبط بواقع غير الذي نقرؤه في القصيدة وفي الديوان. نعتبر هذا نوعا من تشعب الدلالة السائرة في اتجاه الانسجام عن طريق مبدأ العضوية والملكية الذي فسّر لنا طبيعة هذا التفاعل بين القديم والمعاصر.

5 – إطار المَقْوَلَة:

وفي هذا السياق يبدو الشاعر الإنسان معاصرا، متقلبا في الماحول، الموسوم بالراهنية، يعيش راهنه وفق شروط يمليها هذا الراهن، يتفاعل معه وفق محدداته المعاصرة المشروطة… هذا الانثيال المعرفي يضعنا أمام قائمة من المفردات ذات الطبيعة (الجاهلية) المعزولة عن سياق الذات المتكلمة، انطلاقا من استحضارنا للحالة العادية والمفترضة التي تبني نسقنا الذهني مركّباً مَقْوَلَة المكوّن المركزي (الشاعر):

الشاعر: + إنسان + معاصر + حداثي + يمتلك سيارة لا ناقة + يطهو آليا لا على الاثافي + في وجوده امرأة ليست بالضرورة هند أو أسماء …

إن مؤشر الانسجام الأول نستفيده من مفهوم الاتساق عبر آلية الضمير المتكلم: نثرتُ – خاتلتُ – قال صحبِي… والضمير هنا لا يقف عند حدود الإحالة على فاعل ومنفعل، فحسب، وإنما وأيضا يمارس نوعا من الإطار، كمفهوم نميز فيه معرفتنا للعوالم المفترضة. والضمير هنا في إحالاته، يتحول إلى إطار معرفي يفيدنا في تمثل الأنساق الذهنية من قبيل:

القصيدة، بؤرة في الصوغ الشعري القديم

القصيدة، تجسيد ذكي لحضور المخيال العربي

القصيدة، مجال خصب لتداخل الذوات وتداخل الأزمنة وتداخل النصوص.

من هنا تقودنا إجراءات المقْوَلَة للذات إلى نتائج ترتبط بشرعية العوالم الممكنة في الديوان، عالم الماضوية الشعري أو الشعرية الماضوية، وعالم الراهن والواقع… وهي في ظاهرها تشعبات ضاغطة، سرعان ما تنسجم دلاليا عبر التخريجات أعلاه.

من هنا، نستنج أن الشاعر “ادريس زايدي” يتكلم من مساحة الوجود الكلي المندمج العابر للأزمنة والذي لا يعترف بالمسافات الحدود. وهو الاستنتاج الذي يقودنا إلى رؤية الشاعر الفنية القاضية باحتضان كل الموجودات في الإبداع.

6 – الأنساق الذهنية:

نعتبر النسق منظومة مضمرة من الدلالات الموغِلة في الخطاب، لا يصنعها مبدع المتن الشعري أو أيّ متن لغوي آخر. وإنما تصنعها الثقافة. وهو نسق يتوارى خلف مورفولوجيا الكلام في ظاهر اللفظ والمعنى. وفي هذا السياق نحاول أن نقرأ ديوان (أسأتُ لي) في أفق استدعاء أشكال هذه الأنساق الممكنة حسب تأويلنا المتواضع:

نسق الاستمتاع: نستثمر في هذا النسق حضور مكون الخمرة، في الديوان، نعالجه ضمن تصوّر تحكمه الكثافة الاستعارية المخترقَة باستعارات جزئية متعددة. وهذا يجعلنا نعتبر الديوان مؤوَّلَةً كبرى تسهم في تشييد المعنى وبنائه بناء منفتحا ومفتوحا على مجالات واسعة من التأويلات.

قال الشاعر في قصيدة (فتحٌ أخيرٌ ص 9) من الديوان:

وخُذ عناقيد الضياء ومـــا بدا \ فأنت إلى عرشِ الغواية تقترب

وفي قصيدة (مقام الجناح ص 10) قال:

هو ذا نشيد الشعر يسكب سحره \ بدمٍ تمطّى للسقـــــاية يحتفي

شُرب السخيّ على المكارم جوفه \ يختار ضيف الكأسِ دون تكلّف

تتبدّى الخمرة هنا لا سائلا مرتبطا بحالات الانتشاء وفيزياء اللذة العابرة، بقدر ما تبدّت كونا قائما بذاته، مشروحا في عنف الوجود المتلبس بدلالات التعالي (الضياء – السحر – العرش) والغواية (الدم – السقوط) مما يلقي بنا في التخريجة التالية: الخمرة مجال ارتقاء، لا مجال ارتداد وانتكاس.

إننا لا نمارس ليّاً لأعناق الاستعارات من سياقاتها الخاصة، لتخدم دلالات جاهزة في أذهاننا، وإنما نستدعي الملفوظات في مساحة من التحليل والتأويل المشروطين، للظفر بالممكن من المضمر في الخطاب. إن الشاعر (ادريس زايدي) لا يتغنى بالخمرة باعتبارها مادة سائلة ناقلة للذات من حالة سويّة إلى حالة مترنّحة، بقدر ما يوفر لمكون الخمرة زمناً شعريا موسوما بالرؤيا الماضوية مندمجا في نسغ الحداثة وأزمنتها:

الخمرة: + رياح + سحر + سقاية + احتفاء + نور + شعاع + ضياء + عرش + غواية …

يتحقق التشاكل في مكون الخمرة مع الإنسان اعتمادا على التفاعل بين مقومات جوهرية في الإنسان ومقومات جوهرية في الطبيعة، (نور، شعاع، ضياء، رياح) يوحدهما الإيجاب المتحقق في الإنسان اعتمادا على سياق القول الشعري.

يتمثل الشاعر مقولة الخمرة تمثلا استباقيا حيث يربطها بالقيمة (شربُ السخيّ على المكارم – يختار ضيف الكأس دون تكلّف)… هكذا تتجلى الخمرة في ذهنية الذات المتكلمة زمناً روحيا هو أقرب إلى الصوغ الصوفي منه إلى الصوغ التقليدي الواصف.

غير أن ارتباط مكون الخمرة بالزمن الروحي وبالقيمة في منظور الشاعر، يدعمه حضور الحياة وضدّها، مما يعكس خلفية المتكلم ومواقفه الوجودية. ومادام الشاعر يتبنى حُسنيَيْ الزمن والقيمة فإنه زكاهما باختيار مقوّم آخر هو المرأة:

قال الشاعر في قصيدة (ودّعتُ أسحارها ص 26):

خُذ هاتِ كأسك مسجوراً بأجنة \ تقول قارئة الكفّين ويْح سر

كذاك مجنونها يسري وتحذفه \ حذف سطور الهوى خانت لظى الجمر

فاشتدّ حال المنافي بين أضلعنا \ ولألأَ الخدّ من برقٍ ومن مطر

من هنا تشييد المعنى في اتجاه التقابل المنسجم بين الخمرة والحياة، من جهة، والخمرة والمرأة من جهة ثانية، حيث لا تكون الكأس الأداة، مفهومة إلّا بين يدي هذه الموسومة في السياق الشعري بقارئة الكف. والقراءة هنا نفهمها تأويلاً تقدّمه المرأة للشارب وهي ترسم له معالم بعض مستقبله، والمستقبل لا يكون – طبعاً – إلا حياة.

ب – نسق الاعتبار: في نسق الاعتبار يغيب ويتوارى ويضعف ضمير المتكلم، بخلاف ما سبق. وتحضر بدلَ الضمير إحالاتٌ دالّة على متعيّن في التركيب ومتعيّن في الدلالة.

في قصيدة (هديلُ الرّيف ص 114) يتدرّج الشاعر في الكشف عن تيمة الموضوع:

الطيف طاف بريف الأهل وامتنعا \ بين الأسود سما الربّان وارتفعا

أوهى الكريم بين بأجدير الهوان ضُحى \ والفارس الشهم فوق الخيل قد رتعا

عبد الكريم ودير الحرب منحبس \ كالنور يألفه من بيتُه التمعا

يذكر الطيفَ (التجريد) ثم يذكر الكريم (التوصيف) ويذكر أخيرا عبد الكريم (الشخصنة)… هكذا ينتقل بنا الشاعر من التجريد إلى التوصيف إلى التصريح. إذن ما مسوّغ هذه الخطة في التدبيج؟ يبدو الأمر متعلقا بتشعب الموضوعات فيما الأمر يتعلق بتيمة واحدة هي الريف مشخّصا في علم من أعلامه الذين مارسوا حضورا نوعيا على تاريخ المنطقة.

في هذا النسق الموسوم بالاعتبار يحضر التاريخ والوطن انثيالاً في ثنائية غير قابلة للتجزيء والفصل… (قاد المغاربة في الأوطان، بيت المغاربِ والأرياف – انّ الخسار بأنوال – فكان جمع بني الأرياف…) وهما، أي التاريخ والوطن لا يستدعيهما سياق الإضمار على مستوى السرد، سرد الأحداث للتوثيق، ولا على مستوى التغني بالوطن في رومانسية إنشائية عابرة، وإنما يستدعيهما قصد الاعتبار من اللحظة الماضوية (التاريخ) والراهنة (الوطن) الممتدين في نسغ المتكلم وفي نسغ المجتمع الذي ينخرط فيه ثقافةً مشتركة. وفي هذا النزوع المشترك تحتمي الذات بالزمن المرجعي، مشخصاً في زمن الريف وأبطاله، ومصوغاً في قالب يوهيمري، تتخذ فيه الشخوص هالاتٍ من الضوء قصد الاعتبار من حركيتهم الماضوية. من هنا يتم وصف هذا الزمن بالأسطوري (الأسود، الفارس، فوق الخيل، عبد الكريم كالنور، على الجبال، صاغ المثاني…). ويمثل هذا الزمن بؤرة التأويل ومنطلقا له، سواء للاعتبار من أحداث الماضي أو للاعتبار في أحداث الراهن الذي يمثل طرفاً ثانياً التشعّب التيماتي السائر في اتجاه الانسجام انطلاقا من النظر الى الزمن المتشعب بين اللحظة الموجِّهة بكسر حرف الجيم، أي التاريخ الريف، واللحظة الموجَّهة بفتح حرف الجيم أي الحاضر الوطن.

وهو النسق المبتوت في قصائد أخرى مثل القصيدة (مخايل الربيع ص18) حيث يتوارى ضمير المتكلم ليحضر ضمير الغيبة باعتباره “أنا جمعياً”:

سمعتُ الكنانة عاجت بوردٍ \ وبالشام أمسى الخطيب منيعا

حيث تتسع دائرة الاعتبار من الزمن المرجعي المحيل على بؤرة الوطن الخاص، إلى الزمن المرجعي المحيل على بؤرة الوطن العام.

ج – نسق الكتابة: في هذا الإضمار يمكن لنا أن نؤول انزياحاتٍ من قبيل (سيد الشعر، زمّ القوافي، كالريح يعزفني… ص 14) وغيرها بتأويلات تبحث في عمق وعي الذات المتكلمة لاستنباط مفهوم الكتابة والكتابة الشعرية لديها. وفيها، أي تأويلاتنا، يبدو الشاعر ممسكا بهذا التصور الفني لفعل الكتابة. فالشاعر هو ذاك المتكلم العابر الذي يقول كلمته ويمشي، متحكما في القوافي مالكا لناصية القريض، عاشقا لفن القول، منشطرا ومتشظيا لا مألوفا نمطياً، مخاصما ودائما في توتّر موجب مع الماحول، شبيها بالريح في انعتاقها، عازفا حاملا لموسيقى ذاتية، عامرا بالخيال، يقظاً، مكابداً، متعاليا تعالي استلهام لا تعالي طبقة… في هذا المنحى تتبدى لنا الكتابة الشعرية مزيجا من الأصالة (زمّ القوافي) والمعاصرة (التشظي والانشطار) في تصور فني يعطينا فكرة عن الصراع الأدبي بين القصيدة العمودية وقصيدة النثر، ومما يؤكد مخرجنا هذا تسطير الشاعر ادريس زايدي في مقدمة ديوانه بيانا بليغا عن مفهوم الكتابة الشعرية وموقفه من هذا الصراع (وما القصائد والمطولات بإيقاعاتها إلا وجه من وجوه الشعرية العربية الثابتة الجوهر في منجزنا الشعري العربي ص 5).

خلاصة: حاولنا في جهد متواضع أن نقرأ ديوان (أسأتُ لي) للشاعر ادريس زايدي قراءة تبحث في آليات انسجام الخطاب الشعري، وتحققنا من مجموعة من النتائج عبر تأويلاتنا الممكنة دون شطط في التخريج، وانتهينا إلى أن الديوان تحكمه شعريةُ فن القول الممتدة خارج التجنيس وخارج تقديس هذا التجنيس، بحيث وهي المدثّرة في عباءات التقليد، لا التقليدانية، تحاول أن تمتص كل أشكال الحداثة عبر مرونة الصوغ الانزياحي وعبر معاينة التيمات المتعددة البادئة بالذات والمنتهية بالآخر مشخصا في كثير من القضايا أهمها قضايا الوطن والتاريخ والراهن… وقد ركزنا في اشتغالنا هذا على آليات مثل التجنيس المنسجم، والتغريض والتطابق الذاتي وعلاقة التضمن والملكية واستضمار أنساق الاستمتاع والاعتبار والكتابة.

***

بقلم: نورالدين حنيف أبوشامة

...........................

* المرجع: ادريس زايدي - ديوان (أسأت لي) الصادر عن مطبعة وراقة بلال سنة 2018.)

لدى الشاعر إدريس جمّاع

أبدأ بتحية موجزة عن الشاعر ثم أقدّم قراءة تفصيلية للنصّ، تليها مقترح إطار تطبيقي يمكن تعميمه على نصّين آخرين من شعره (سأذكر أمثلة نصّية مع تبرير اختياري استنادًا إلى مصادر عن الشاعر).(السيميائي/الرمزيّ)، المنهج الأسلوبي/اللغوي، المنهج النفسي.

تمهيد موجز عن الشاعر وسياق نصوص الشاعر السوداني إدريس محمد جمّاع:

إدريس محمد جمّاع (1922–1980) شاعر سوداني معاصر ذائع الصيت في المجتمع السوداني، اتّسم شعره باللّسان الشفاف والوجدانية المفرطة، وقد عُرف بأنه صاحب مجموعة شعرية مجمعة ونصوص لاقت تداولاً وغناءً وحكايات شعبية حول ظروف كتابتها. ظهرت في سيرته أحداث نفسية وصحية أثّرت في مسار إنتاجه الشعري، ما يجعل قراءة نصوصه من منظورات نفسية وهيرمينوطيقية أمراً مثمراً.

- قراءة أول نصّ: نظرة إجمالية:

النصّ الأول يقوم على منعرجات عاطفية عالية: مزيج من الحنوّ، الغزل العارف، التمجيد الجمالي، والاندفاع النفسي الذي يلامس حدود الاضطراب (أو حالة وعي متشظّية). الصور تترنّح بين الفضاء السماوي والفاعلية النفسية (انكسار، استرجاع، استعصاء بالبعد). الإيقاع الخطابي يتراوح بين الهمس والكلام المفجوع ثم الصراخي أحياناً ("واستعصمت بالبُعد عنا")، وفي مقاطع أخرى يظهر تفخيم وصياغة بلاغية كلاسيكية (تورية، طباق، تشبيه ضمني).

وهذا يدفعنا لأن نحلّل النصّ من كلِّ منظورٍ بشكل مُنسّق: أولاً الأسلوبي/اللغوي، ثم الرمزي، ثم النفسي، ثم قراءة هيرمينوطيقية شاملة تربطه بسيرة الشاعر وإمكانات المعنى.

1 — المنهج الأسلوبي / اللغوي:

1. النسق الصوتي والإيقاعي.

توظيف تكرارات داخلية (مثلاً: تكرار الحرف «س/ص/ع» في أماكن مشدّدة) يخلق نغمة اشتياقٍ وصرامة.

تباين الجُمل الطويلة (متعثّرة أحياناً) مع مقاطعٍ قصيرةٍ تقطع الإيقاع وتدخِل حالة تشظّي نفسية (مثال: “أعلى الجِمال تَغارُ مِنّـا” مقارنةً بـ “أنتِ السماءٌ بدأتْ لنا”).

2. المستوى البلاغي

كثير من الاستعارات المباشرة: القراءة تقوم على تحويلات جعلت الأحاسيس أجساماً ("أعلا الجِمال تغار منا" — جمال كنشاطٍ فاعل أو غيْرة كقوّة).

الطباق والتضادّ (الروح/القدر، البعد/الاستعصام) يُستخدمان لإبراز الصراع الداخلي.

3. اللغة والصياغة.

لغةٍ بسيطةٍ ظاهرياً لكنها محمّلة بالانثناءات الدلالية؛ تفضّل المباشرة الوجدانية على التعقيد التصوريّ.

توظيف الضمائر (أنتِ/أنا/نحن) يخلق ديناميكية علاقية؛ الضمير المخاطَب "أنت" يتوسّط المشهد كنقطة محورية يُنحو إليها كل معنى.

4. التركيب السردي.

النص لا يتّبع خطّاً سرديّاً تقليدياً بل هو موجة انفعالية: افتتاحية (مديح/تقريظ) → تعميق حالة الفقد/البُعد → صور قتالية (السيف) → خاتمة تعاود الحديث بصيغة تأمّلية أو استنطاقٍ جماعي (“ثم قالوا…”).

- الاستنتاج الأسلوبي: الشاعر إدريس محمد جمّاع يوظّف لغةٍ قريبة من الفصحى المحكية المشبعة بالصور، فيعمل تقابل الصوت والإيقاع مع البنية الدلالية لخلق تجربة وجدانية مباشرة لكنها مركّبة.

2 - المنهج الرمزي / السيميائي.

أقوم هنا بفك رموز المفردات والصور الكبرى في النص وربطها بمخزون دلالي ثقافي وإنساني.

1. السماء / الأعلى / الجِمال

- السماء: رمزٌ مألوف للعلو، المالاها، الحاجة إلى الفوران الروحي، وأيضاً للبعد/الغياب. دعوة الشاعر للمخاطبة "أنتِ السماء" تُحول الحبيبة إلى سماءٍ متعالية — رمز متناقض: هي حاضرة ككيانٍ لكنه بعيدة.

"أعلى الجِمال تغار مِنّـا": الجمل (أو الجِمال هنا قد تعني: "أعلا الجمال") كشخصنة للجمال الذي يحسّ بالغيرة — رمز للاعتراف بقوة الحب/الجمال الإنساني على الكون ذاته.

2. البعد والاستعصام

البُعد هنا لا يقرّ كظرف مكاني فقط بل كقوّةٍ تعصي على المخاطَب إمكانية الاقتراب؛ استعصام البُعد يُرمز لعائق داخلي (حاجز نفسي أو مرضي أو غياب أخلاقي/اجتماعي) يحول دون التلاقح.

3. السيف

- السيف كلاسيكياً رمز للقوّة، لكن الشطر "والسّيف في الغمد لا تُخشى مضاربه" يقدّم تناقضاً: سلاح كامن، قوة مقبلة لكنها غير منظورة؛ وربما تُشير إلى عنفٍ مكبوت في الشخصية أو في المجتمع؛ أو إلى قدرة العين (“وسيف عينيك”) على التأثير أقوى من السيف الماديّ. تحويل العين إلى سيف (استعارة متحركة) يربط بين البصر والرغبة القاتلة/المغيرة.

4. القصّة/التصرّف الجماعي في النهاية:

“ثم قالوا ... ثم قالوا اتركوه” — تكرار الأفعال الجماعية يعطي انطباعاً عن حكمٍ اجتماعيّ/طبيعي على حالة الشاعر: إما تحيّز أو رفض، إدانة أو استسلام. يمكن قراءة هذا الرمز كدلالة على المجتمع الذي لا يفهم الجنون/الحب المطلق ويقرر إبعاده.

- الاستنتاج الرمزي: النص مبني على رموز تقليدية (سماء، سيف، جمال) لكنها تُستخدم بشكل يحوّل الحضور العاطفي إلى صراع بين الحرارة الداخلية وقسوة الواقع/البعد، ويحوّل العين إلى أداة قادرة على الجرح أو الفتك — تصوير يربط الحب بالتهديد والجنون.

3 - المنهج النفسي (قراءة عميقة داخلية):

هنا نقرَؤُه كنصّ يعبّر عن نفسية مُشخّصة/ممزقة، ويمكن الاستفادة من مفاهيم من التحليل النفسي (لا فرويدية بالضرورة بل قراءات وجودية).

1. الاندفاع العاطفي كعلامة اضطراب:

الجمل العامّة في النص: تعدّد التناقضات، القفز بين الصور الكبيرة والحسيّة (السماء مقابل السيف)، ووجود أحكامٍ خارجية ("ثم قالوا")، يُشير إلى وعي مشتّت أو تحولات مزاجية قوية. هذا يتوافق مع سردات عن مرض الشاعر في نهاية حياته—حيث تُذكر له اضطرابات وعي.

2. التحويل، والتحوّل الجنسي/الجمالي:

الشاعر يحوّل ألم العجز أو الوحدة إلى نشوة جمالية؛ الحب/السمَاء يصبحان متنفساً/مُخدّراً من الألم النفسي.

3. العين كغريزة/قوة كاشفة، يقول:

"وسيف عينيك" ترمز لما يلجمه النظر من طاقة إثارة وتدمير في آنٍ واحد؛ العين هنا ليست مجرد حاسة بل فعل نفسي (نظرةٌ تُذهب العقل). هذا يتلاءم مع روايات شعبية حول افتتان الشاعر بعيون ممرضة أو امرأة ساعدت في تدهوره النفسي (حكايات راجت حول حياته).

4. الانعزال والاغتراب، يقول إدريس جمّاع:

"واستعصمت بالبُعد" و"ثم قالوا اتركوه" يعطي انطباع التهميش الاجتماعي والاغتراب الذي قد يسهم في تطويع الهذيان أو الشعر كملجأ.

الاستنتاج النفسي: النص ليس مجرد نشيد غزل، بل هو كشف لنفسية مهاجمة للذات وللآخر، حيث يتحوّل الحب إلى فيضان يحطم توازن الفاعل النفسي. قراءة نفسية تربط النص بتاريخ الشاعر الصحي تفتح أبواباً لتفسير إبداعيّ يصبح الشعر فيه علاجاً واعتلالاً في آن.

4 - القراءة الهيرمينوطيقية (تأويل شامل وربطه بالسياق):

الهيرمينوطيقيا تهدف لقراءة النص كحلقة ضمن سلسلة معانٍ: النص، المؤلف، القرّاء، والسياق التاريخي/الاجتماعي.

1. النص كمرآة للسيرة محسوبة):

بما أن الشاعر معروف بمعاناته النفسية في سنواته الأخيرة وبقصص افتتانه وحالات طبية، فإن كثيراً من قراءات الصور (العين التي تُذهب العقل، الاستعصاء بالبعد، الأحكام الاجتماعية) يمكنُ أن تُقرَأ كإشارات هيرمينوطيقية إلى مصير الشاعر وحكم المجتمع/العائلة على حالته. مع ذلك، على القارئ أن يحذر من الإفراط في التقريرية البيوغرافية: النص كيانٌ مستقل له دلالاته.

2. نصّية الحب والجنون كثيمة مركزية:

ثيمة الحب الذي "يذهب العقل" تظهر في الثقافة العربية (أغاني، نصوص)، لكن هنا تتحوّل إلى حالة وجودية فيها تداخل بين الجمال/الهوى والتهديد/الجنون. هذا يعطي النص طابعاً كلاسيكياً وحداثياً في آن: كلاسيكي في الرموز، وحداثيّ في التشظّي النفسي والوعي الذاتي.

3. السياق الثقافي والاجتماعي:

المجتمع (العائلة/الناس) يظهر كجهة تقرر: "ثم قالوا... اتركوه"، ما يفرض قراءة اجتماعية انتقادية: كيف يتعامل المجتمع مع العبقرية والانفعال؟ هل هو ردّ فعل دفاعي ضد اللامألوف؟ الهيرمينوطيقيا تدعو لعرض النص في مواجهة هذا السؤال.

4. افتتاحيات للنصوص الأخرى:

إذا أردنا أن نضع النص في سلسلة مع قصائد أخرى لإدريس جمّاع (مثل "في ربيع الحب" أو "اللحظات الخالدة" — عناوين معروفة/منقولة في مراجع عن ديوانه)، فسنجد تكرار ثيمات العشق، الجمال، الوحدة، والانزلاق النفسي.

- الاستنتاج الهيرمينوطيقي: النص يعلن عن تجربة إنسانية مركّبة — حب وجمال يقابلهما إساءة فهم/رفض اجتماعي، وهو ما يفسّر تردّد السيرة والميثولوجيا المحيطة بالشاعر بعد موته.

5 — مخارج نقدية وتوصيات بحثية لدراسة البنية النقدية التحليلية، يمكن تعميمها على ثلاثة نصوص — النصّ المرسل + نصّين آخرين من شعر إدريس جمّاع،  وقراءة أسلوبية مفصّلة للنصّ الأول الذي انتهجنا فيه تحليل مفردات، إيقاع، ترتيب جمل، بلاغة، علاقات الضمائر.وتتبعنا قراءة رمزية، وفهرسة الرموز الكبرى (السماء، العين/السيف، الجمال، البعد) وربطها بمصادر ثقافية عربية/سودانية.

إضافةإلى قراءة نفسية واستخدام نظريات نفسية (تحويل، انفعال، اضطراب ذهانيّ/حدّية) لتفسير آليات التعبير في النص وربطها بحياة الشاعر (مع ملاحظة حدود المنهج البيوغرافي).

- أما في سياق هيرمينوطيقيا وسياق النص واللقى الاجتماعي، الأسطورة حول الشاعر، وعدد من المقاربات النقدية المقارنة (مثلاً مقارنة مع شعراء سودانيين معاصرين أو مدرسة التجريب الشعري العربي). ودراسة مقارنة بين ثلاث نصوص من شيوعها في مصادر ودواوين إدريس محمد جمّاع:

"في ربيع الحب" (أو نصّ بعنوان مشابه في مجموعته) — لقراءة إشراقات الحب والربيع.

الجدير بالذكر أن للشاعر إدريس جمّاع ديوان بعنوان :"اللحظات الخالدة/اللحظات الأخيرة" (عنوان المجموعة/قصيدة مرجعية) — لقراءة موضوعات الختام والذاكرة والجنون.

لكل نصّ من النصّين: نطبق نفس المصفوفة: أسلوبي → رمزي → نفسي → هيرمينوطيقيّ، ثم نخرج بمقارنة تكشف التحولات الموضعية في المرثية، الحب، والعلاقة بالمجتمع. وهنا أعرض مثالين تطبيقيين مختصرين من التحليل التفصيلي لمقتطفين في نصّ الشاعر إدريس جمّاع

1. المقطع:

"أعلى الجِمال تَغارُ مِنّـا

ماذا علينا إذ نظرنا"

-أسلوبياً: تركيب تكراري يثبّت الفاعل (الجِمال/الجمال) ويحوّله إلى فاعل غيور — عملية تجميل توحي بعظمة النفس العاشقة.

- رمزياً: الغيرة هنا صفة الجمال ذاته؛ الشاعر يرفع حبه إلى مرتبة تنازع الجمال الكوني.

-نفسياً: وتعكس حالة تضخم نفسي (إجراء مشابه لعرض النرجسية العاشقة).

2. المقطع:

"وسيف عينيك في الحالَتَيْنِ بتّـار"

- قراءة: استعارة مركّبة (العين → سيف؛ السيف → بتّار/قاطع). تحوّل البصر إلى فعل مدمر/فاعل، ما يعكس الخطر المتأصل في النظرة العاشقة، وربما دليلًا على فقدان السيطرة الذي يصفه الشاعر.

***

بقلم: عماد خالد رحمة - برلين

.....................

النص الأول للشاعر إدريس جمّاع:

ﺃﻋَﻠﻰ ﺍﻟﺠﻤﺎﻝ ﺗﻐﺎﺭُ ﻣِﻨّﺎ

ﻣﺎﺫﺍ ﻋﻠﻴﻨﺎ ﺇﺫْ ﻧﻈﺮﻧﺎ

ﻫﻲَ ﻧﻈﺮﺓٌ ﺗُﻨﺴِﻲ ﺍﻟﻮَﻗﺎﺭَ

ﻭﺗُﺴﻌِﺪ ﺍﻟﺮّﻭﺡَ ﺍﻟﻤُﻌﻧَّﻰ

ﺩﻧﻴﺎﻱ ﺃﻧﺕِ ﻭﻓﺮﺣﺘﻲ

ﻭﻣُﻧَﻰ ﺍﻟﻔﺆﺍﺩِ ﺇﺫﺍ ﺗَﻤﻧَّﻰ

أﻧﺕِ ﺍﻟﺴﻤﺎﺀُ ﺑَﺪَﺕ ﻟﻨﺍ

ﻭﺍﺳﺘﻌﺼﻤﺖ ﺑﺎﻟﺒُﻌﺪِ ﻋﻧَّﺎ

النص الثاني:

ﻭﺍﻟﺴﻴﻒ ﻓﻲ ﺍﻟﻐﻤﺪِ ﻻ ﺗُﺨﺷَﻰ ﻣﻀﺎﺭﺑُﻪ

ﻭﺳﻴﻒُ ﻋﻴﻨﻴﻚِ ﻓﻲ ﺍلحالتين ﺑﺘّﺎﺭ

النص الثالث:

إﻥ ﺣﻈﻲ ﻛﺪٓﻗﻴﻖٍ ﻓﻮﻕٓ ﺷﻮﻙٍ ﻧﺜﺮﻭه

ﺛﻢ ﻗﺎﻟﻮﺍ ﻟِﺤُﻔﺎﺓٍ ﻳﻮﻡَ ﺭﻳﺢٍ ﺍﺟﻤﻌﻮﻩ

ﻋَﻈِﻢ ﺍﻷﻣﺮُ ﻋﻠﻴﻬﻢ ﺛﻢ ﻗﺎﻟﻮﺍ ﺍﺗﺮﻛﻮﻩ

ﺇﻥ ﻣﻦ ﺃﺷﻘﺎﻩُ ﺭﺑﻲ ﻛﻴﻒ ﺃﻧﺘﻢ ﺗُﺴﻌﺪﻭه...

قراءة في نص "وطنٌ يبيع ملامحي" للشاعر الدكتور حامد عبد الضبياني

يعتقد الفلاسفة الوجوديون على مدى فترة طويلة مثل “ألبير كامو” و”جان بول سارتر” أن الغربة الوجودية إحدى أعمق أزمات الإنسان الحديث إذ يعيش الفرد في واقع متسارع ومضطرب تتهاوى فيه اليقينيات الروحية والفكرية فيجد نفسه ممزقًا بين توقه للمعنى وصمت العالم من حوله ويولد هذا الشعور غالبًا من فقدان الانتماء أو من إدراك هشاشة الوجود وعبثيته فيستمر الإنسان في ممارسة حياته وسط الآخرين منخرطًا في تفاصيلها اليومية لكنه يؤدي أفعاله بشكل آلي ويحمل داخله فراغًا صامتًا وانفصالًا عن الذات فلا يجد في بيئته أو في علاقاته ما يمنحه ارتباطًا حقيقيًا أو إحساسًا راسخًا بالانتماء في عالم يزدحم بالرصاص أكثر من الأغاني وحيث تذبل الملامح قبل أن يكتمل الحلم يطل نص “وطنٌ يبيع ملامحي” للشاعر والأديب الكاتب الدكتور حامد الضبياني كوثيقة وجدانية مفتوحة على الخراب ليس بكاءً على الأطلال، ولا حنينًا إلى زمن مضى ولكنه شهادة شعرية على عصر عربي مكسور تتقاطع فيه الغربة الوجودية مع الخرائط الممزقة ليصبح الوطن فكرة مؤجلة والإنسان ظلًا يبحث عن جسده.

الغربة الوجودية

١ - الغربة الوجودية الذات في رماد الغيم

“رماد غيم كان يحلم أن يكون مطرًا” هنا تبدأ الحكاية بحلم يولد ميتًا الظل الوحيد على جدران المقابر هو صورة مكثفة لذات فقدت مرآتها حيث يغدو الأمل مؤجلًا في ليل مغلق هذه ليست غربة جغرافية بل عزلة داخلية شبيهة بما وصفه “كامو” و”هايدغر” مواجهة مباشرة مع عبث العالم وغياب المعنى فالمرأة التي “تمشي على ،رمل القصائد حافية القلب” كانت توقظ في الشاعر شهوة الطيران لكنها تسقط فجأة كضحية حرب لم تُعلن الحب هنا ليس مجرد علاقة شخصية بل رمز لقيم الجمال والدفء التي تنهار تحت ضغط الصراع كما حدث مع “نزار قباني” حين تحوّل شعره من الغزل إلى المراثي السياسية.

سؤال الهوية في شوارع محفّرة

“من أنا” سؤال يتعثر في طرقات العراق الممزقة وينام في زوايا الوطن كجثة عاشق إنه سؤال وجودي يتجاوز الشخصي ليصبح جماعيًا تمامًا كما في أسطورة سيزيف عبث في التكرار لكن مع وعي يرفض الاستسلام لتتنقل الكاميرا الشعرية في النص بين مدن عربية محطمة لتسرد جغرافيا الألم بمرارة مكثفة في سوريا تتحول حلب التي كانت تضج بالضحك والحياة إلى جدران قاتمة تمضغ الأطفال وتلفظهم على خرائب الزمن ،صورة تختزل مأساة الحرب التي أدمت الطفولة وأفقدت الحياة رونقها وفي لبنان ينبعث نواح الأرز كرمز للذاكرة الوطنية التي تتألم فيما ترتدي بيروت جراحها كعباءة ملك مذبوح كناية عن سقوط المجد والحضارة تحت وطأة النزاعات التي حوّلت المدينة إلى مشهد من الدمار والوجع أما اليمن فتُصوّر بسعادة طفلة مكسورة كمرآة تحطمت تحت أقدام البنادق في مشهد بصري قوي يعكس كيف انهارت البسمة والبراءة وسط دوامة القتل والغياب هذه الخريطة الشعرية ليست مجرد توثيق جغرافي بل هي مرآة مكسورة تنعكس فيها شظايا الفقد والألم حيث تحمل كل قطعة من هذه الأرض المنهكة ،وجهًا خاصًا للدمار الذي أصاب الشعوب وأوقف الزمن في لحظة مأساوية يمكن الاستشهاد في هذا السياق بشعر “نازك الملائكة” التي جسدت في قصائدها مأساة الحرب والدمار في الوطن العربي وكذلك بالأدب السوري المعاصر الذي وثق النزاع من منظور إنساني عميق مثل أعمال “محمد الماغوط” التي استخدمت الرمزية لتصوير المآسي الجماعية.

انهيار القيم

تعكس هذه الصورة الصادمة في القصيدة “أمهات يبعن أولادهن مقابل رغيف ورجال يخلعون الوطن كقميص متسخ” عمق المأساة التي لم تعد تقتصر على الخراب الجغرافي أو السياسي بل تتغلغل في نسيج الروابط الاجتماعية والأخلاقية التي تُشكّل جوهر الانتماء الإنساني هنا يتحول الوطن من كيان جامع يحفظ كرامة أفراده وهويتهم إلى مسرح لانهيار القيم حيث يختفي التضامن ،ويتبدد الشعور بالمسؤولية تجاه الآخر الأمهات اللاتي يبعن أولادهن لا يرمزن فقط إلى الفقر المدقع بل إلى قمة اليأس التي تدفع الإنسان إلى التفريط في أغلى ما يملك مقابل بقاء مادي هش بالمقابل الرجال الذين يخلعون الوطن “كقميص متسخ” يعكسون حالة الخذلان واللامبالاة وإسقاط الهوية الوطنية كعبء ثقيل لا يحتمل هذه العبارة تختزل الانفصال التام بين الفرد والوطن فتبدو المواطنة هنا صراعًا فرديًا بائسًا يخلو من التضامن والمعنى ويغرق في وحشة الغربة النفسية والاجتماعية من منظور فلسفي يمكن قراءة هذه الصورة في ضوء أفكار “سارتر” حول الخيانة والاختيار الحرّ حيث يصبح التخلّي عن الوطن رمزًا للانفصال الوجودي ،عن الذات وتجسيدًا لاضطراب الروابط الإنسانية في زمن الانهيار بذلك لا تعبر العبارة فقط عن مأساة سياسية واجتماعية بل عن أزمة وجودية شاملة تعصف بالعلاقات والهوية في عالم مكسور.

البنية الفنية وديناميكية الإيقاع

القصيدة تتكون من مقاطع مترابطة عبر لازمة “حين تنام القصيدة” التي تعمل كمحور إيقاعي ودلالي هذه اللازمة ليست مجرد تكرار بل هي نقطة انطلاق لتحولات النص حيث تنتقل القصيدة من حالة السكون (النوم) إلى اليقظة والتجدد الإيقاع الداخلي يتسم بالسلاسة والتدفق مستندًا إلى تناغم الأصوات (مثل الجناس والتكرار الصوتي) وتوزيع الصور الشعرية التي تخلق إحساسًا بالحركة الدائرية كما لو أن النص يحاكي دورة الحياة والموت ديناميكية الإيقاع تتجلى في التوازن بين التدفق الحلمي والتوقفات التأملية على سبيل المثال عبارات مثل “حلمًا ريًا ضيًا” تحمل إيقاعًا موسيقيًا يعزز الإحساس بالانسيابية، بينما عبارات مثل “تراتيل صمت” تخلق لحظات توقف تأملي يدعو المتلقي إلى التفكر في الصمت كجزء من الإبداع هذا التناوب يعكس حالة نفسية متأرجحة بين النشوة الإبداعية والتأمل العميق.

المضمون والدلالات الرمزية

أ- الوجود والعدم

مفهوم “نوم القصيدة” يمكن قراءته كنموذج للسكون الإبداعي أو انقطاع الوحي لكنه يتجاوز ذلك ليصبح استعارة للانتقال بين الوجود والعدم الشاعر يستخدم الموت كفعل إرادي (“أموت على صدرها”) ليؤكد قدرته على التجدد من خلال القصيدة هذا يعكس رؤية صوفية ترى في الموت بوابة للحياة كما في الأبيات التي تصف بعث القوافي هذا التحول يحمل بعدًا نفسيًا حيث يعبر عن صراع الشاعر مع الفراغ الإبداعي وانتصاره عليه عبر اللغة

ب. الحب تجربة صوفية ونفسية

المحبوبة في القصيدة ليست مجرد كيان بشري بل رمز للإلهام أو القصيدة ذاتها هذا التماهي بين المحبوبة والقصيدة يخلق توترًا نفسيًا بين الرغبة الحسية والتوق الروحي عبارة “أموت على صدرها” تجمع بين الحسية (الصدر) والروحانية (الموت كتضحية) مما يعكس حالة نفسية معقدة يعيشها الشاعر الشوق إلى الاتحاد بالمطلق (القصيدة/المحبوبة) والخوف من فقدان الذات في هذا الاتحاد هذا البعد النفسي يجعل القصيدة تجربة داخلية تعبر عن صراع الشاعر مع ذاته ومع اللغة.

ج. اللغة أداة خلق وخلاص

اللغة في القصيدة ليست مجرد وسيلة تعبير بل كيان حي يتفاعل مع الشاعر عبارة “زعمت احتدام الحروف ولادة مجدًا” تشير إلى اللغة كقوة خلاقة قادرة على إعادة صياغة الواقع هذا الاحتدام يعكس حالة نفسية من التوتر الإبداعي حيث يصارع الشاعر الحروف ليولد منها معنى جديد الصمت الذي يظهر في “تراتيل صمت” يصبح جزءًا من اللغة مما يعزز فكرة أن الصمت نفسه لغة تحمل دلالات عميقة

د. السدرة والرؤية الكونية

رمز “سدرة المشتهى” يحيل إلى التجربة الصوفية الإسلامية حيث تمثل السدرة نقطة الاتصال بين الإنساني والإلهي في القصيدة تصبح السدرة رمزًا للخلاص الروحي والإبداعي الشاعر يعزف “تراتيل صمت” المحبوبة مما يوحي بأن الصمت ليس فراغًا بل حالة تأملية تؤدي إلى الوحي هذا البعد يمنح القصيدة طابعًا كونيًا حيث تصبح القصيدة صلاةً ووسيلةً للتسامي.

الصور الشعرية واللغة

الصور الشعرية في القصيدة متعددة الطبقات تجمع بين الحسية والروحية على سبيل المثال “أموت على صدرها”: صورة حسية تحول القصيدة إلى جسد محبوب لكنها تحمل دلالة روحية تعبر عن التضحية من أجل الإبداع “لشعرِ لتولدَ من مقلتيكِ صلاةَ نبيٍّا”: المقلتان تصبحان مصدرًا للوحي والقصيدة تتحول إلى فعل مقدس مما يعزز الطابع الصوفي “شرود الغزالة في لاوعي وعي الكلام”: هذه الصورة تجمع بين الرقة (الغزالة) والفلسفة (لاوعي الوعي) معبرة عن حالة الشاعر المتأرجحة بين الحلم والواقع اللغة تتسم بالمرونة والموسيقية مستخدمة أدوات مثل الجناس (“موتي المرتجى” و”موتكِ المشتهى”) والتكرار الصوتي.

العزلة النهائية

شاعر على “شرفة مرضه” يكتب قصيدة ذابلة الحبيبة غائبة والانتظار كمحطة قطار نسيها الزمن هنا تلتقي الغربة الجسدية والوجدانية في مشهد هادئ لكنه خانق في مشهد العزلة النهائية يقف الشاعر على “شرفة مرضه” كرمز لحالة الانكفاء والانفصال عن العالم حيث يتحول المرض إلى مساحة استعصائية تلتقي فيها الغربة الجسدية بالوجدانية في آن واحد القصيدة التي يكتبها “ذابلة” ليست مجرد كلمات بل انعكاسٌ لصحة متداعية لروح تنحني تحت وطأة الضعف والاحتضار وكأنها آخر نبضٍ يتلاشى بصمت غياب الحبيبة هنا لا يقتصر على فقدان الشخص الحبيب بل يتعداه إلى فقدان الأمل والدفء العاطفي الذي يحرّك الحياة فتتحول “أنفاس الربيع في شتاء القصف” إلى صورة مكثفة عن تضاد الحياة والموت الحضور والغياب أما الانتظار فهو كمحطة قطار “نسيها الزمن” يعبر عن حالة من التجمّد والجمود انتظار بلا وعد أو خلاص حيث تتلاشى الزمنية وتصبح اللحظة أبدية في فراغها مما يعزز شعور الوحدة المطلقة التي يرزح تحتها الشاعر ويجعل من العزلة ليست فقط حالة جسدية بل مصير وجودي لا مفر منه هذه العزلة تحيلنا إلى مفاهيم الوجودية التي تركز على الفقدان والعدم وعلى الصراع الداخلي بين الذات وحقيقة الوجود كما هو واضح في أعمال “سارتر” و”كامو” حيث الإنسان يواجه ذاته في لحظة انكشاف مطلقة بلا حيلة إلا التمرد الصامت على

البعد النفسي في نص «وطنٌ يبيع ملامحي»

يتمحور حول حالة الانفصال العميق بين الذات وواقعها حيث يعكس النص أزمة الهوية والاغتراب الداخلي يستعمل الشاعر صورًا مكثفة ومجازات تترجم صراعات نفسية معقدة مثل “رماد غيمٍ كان يحلم أن يكون مطرًا” والتي تعبّر عن الحلم المفقود والذات المحاصرة بين الألم والأمل المؤجّل تتكرر عبارة “أنا؟” لتجسد نداءات النفس المتألمة الباحثة عن ذاتها وسط ضياع الوطن فتُشعر القارئ بحالة القلق والتوتر النفسي المستمر هذا التكرار الإيقاعي يعمل كنبض داخلي يبرز اضطراب الذات ويعكس شعور الانفصال والغربة الوجودية التي يعيشها الفرد حيث تنكسر الروابط مع المحيط ومع الذات ويصبح الإنسان أسيرًا لحالة من الفراغ العاطفي والوجداني

الديناميكية، و تتجلى في حركة النص بين الأمكنة العراق سوريا لبنان اليمن كل انتقال يفتح مشهدًا جديدًا من الخراب وكأن الشاعر يجول بكاميرا شعرية عبر خرائط الألم يربطها بخيط داخلي من التوتر المستمر عبر التضاد المطر والرماد الضحكة والموت الإيقاع يتصاعد ثم ينكسر محاكيًا موجات الصدمة والانكسار.

البعد الفكري

يتجاوز النص المأساة الذاتية إلى أفق وجودي وسياسي حيث يرى “ألبير كامو” أن الإنسان يعيش في عالم عبثي يبحث فيه عن معنى لكنه يواجه فراغًا وجوديًا يجعل منه كائنًا ممزقًا بين الحاجة للمعنى وصمت الكون وكما يقول “جان بول سارتر” الإنسان محكوم عليه بالحرية لكنه يجد نفسه في حالة من الاغتراب عندما يفتقد القدرة على صنع معنى حقيقي في عالم متغير ومليء بالخذلان فالخذلان الجمعي في النص يجعل الناس يخلعون انتماءاتهم كما يخلعون قميصًا متسخًا في تعبير عن فقدان الثقة بالوطن والذات يستدعي النص رموز الشعر العربي ك”البدر شاكر السياب” و”نزار قباني” و”أبو القاسم الشابي” الذين عبروا عن الحلم والرغبة في التغيير لكن “الشابي” يؤكد في قوله إذا الشعب يومًا أراد الحياة فلا بد أن يستجيب القدر إلا أن النص يذكّرنا بأن القصيدة وحدها لا تغير التاريخ دون فعل حقيقي

البانوراما الوحدانية

وطن يبيع ملامحي ليس نصًا شعريًا عاديًا بل بانوراما وجدانية عميقة تجسد انهيار الذات وتفكك الجغرافيا في آن معًا من خلال صور ومجازات مشحونة بالكثافة العاطفية مثل رماد غيم كان يحلم أن يكون مطرًا ينقل النص تجربة الغربة الداخلية والحلم المجهض فيما يتكرر سؤال أنا كنبض قلق يعكس رحلة البحث عن الهوية في فضاء متشظ ومراوغ.

الخلاصة الفلسفية

النص يدمج الحلم بالخذلان والذات بالوطن ليصوغ بيانًا شعريًا ضد التلاشي كما أشار “سارتر” إلى أن التمرد هو رد فعل الإنسان على العبث والإرادة في استمرار الصراع رغم العدم هي إرادة الحياة ذاتها فالذات المنكسرة في النص ليست فقط ضحية بل مقاومة وجودية متجددة صرخة تنبع من أعماق الغربة لتعبر عن تحدٍّ للنسيان والهزيمة وتعلن أن النجاة تكون في الصراع المستمر للحفاظ على الذاكرة والهوية حتى في قلب الخراب وبهذا التحليل يجوز القول إن الشعر قد ارتقى إلى مجالات الفلسفة بطرحه لقضايا عميقة ووجودية إذ يمكن اعتبار الشعر وسيلة فكرية حسية تعبّر عن التجربة الإنسانية بطرق تجريدية ورمزيات تحمل معاني فلسفية عميقة الشعر لا يقتصر على التعبير عن المشاعر فحسب بل يتناول أسئلة الوجود والذات والهوية والعبث والمعنى ما يجعله قريبًا من الفلسفة في السعي لفهم الإنسان والعالم كما أشار الفيلسوف “بول ريكور” إلى أن “الشعر والفلسفة يتشابهان في البحث عن المعنى لكن الشعر يفعله عبر الصور والإيقاعات والفلسفة عبر المفاهيم المنطقية” لذلك يمكن القول إن الشعر يُعدّ شكلًا من أشكال الفلسفة الحسّية التي تُقدّم رؤى إنسانية عميقة خصوصًا حين يتناول نصوصًا مثل «وطنٌ يبيع ملامحي» التي تطرح أزمة الاغتراب والهوية والخراب فتكون صرخة وجدانية وفكرية في آن واحد .

***

د. آمال بوحرب - ناقدة وباحثة

........................

وطنٌ يبيعُ ملامحي

بقلم: حامد الصبياني

***

رمادُ غيمٍ كان يحلم أن يكون مطرًا

أنا الذي لا ظلَّ لي

إلّا على جدران مقابرَ أُغلِقت في الليل

بالأمل المؤجَّل...

كنتُ أحبُّها —

تلك التي تمشي على رمل القصائد

حافيةَ القلبِ

تُوقظ في دمي شهوة الطيران

فإذا بها

ضحيّةَ حربٍ لم تُعلن بعد.

من أنا؟

سؤالٌ يتعثّر في شوارع العراق المحفَّرة،

تأكله أقدامُ الصمت

ويغفو في زوايا الوطن كجثةِ عاشق.

أين سوريا؟

أين زُرقةُ حلبَ حين كانت تضحكُ؟

أين درعا، والقصير، والحمص الذي لم يعد يُطهى؟

جدرانها تمضغُ أطفالًا

وتبصقهم على خرائب الوقت.

وفي لبنان،

ينوحُ أرزُ الجبل

على نهدِ أُغنيةٍ محترقة،

بيروت تُلبس جراحها كعباءةِ ملكٍ مذبوح.

اليمن؟

كان يضحك كطفلٍ ببراءةِ القهوة

فصار يبكي بسواد البنادق،

تكسّرتْ "سعادته"

كمرآةٍ دهسها الغياب.

وفي كلِّ البلاد —

أُمهاتٌ يبعنَ أولادهنَّ

مقابل رغيفٍ…

ورجالٌ يخلعون الوطنَ

كقميصٍ مُتَّسخٍ بالخذلان.

أنا؟

مَنْ أنا؟

غريبٌ في لغتي

مكسورُ اللغةِ،

يكتبُ من شرفةِ مرضه

على ورقِ المغادرة.

صحّتي؟

قصيدةٌ ذابلة

كُتبت على ضوءِ سِرْجٍ خافت

ينهار كلما حاولتُ الوقوف.

حبيبتي؟

ذاهبةٌ كأنفاسِ الربيع في شتاء القصف،

بقاياها بين دفاترِ الموتى،

ضحكتها سقطت في وادٍ

لا يعرف طريقَ الرجوع.

أنتظر...

كمحطةِ قطارٍ نسيها الزمن،

لا قطارَ يأتي،

ولا مسافرَ يعيد لي اسمي القديم.

أنا؟

بكاءُ السيّاب في موجِ البصرة

أنا؟

قُبلةُ نزارٍ ضاعت في رصاصٍ أعمى

أنا؟

صرخةُ الشابيّ حين ضاقت به بلاده،

وأقسمَ أن يغيّرها…

لكنَّ القصائد وحدها لا تغيّر التاريخ.

أنا؟

غريقٌ يكتب وصيّته في هواءٍ بلا نافذة.

أنا آخرُ شهقةٍ في صدرِ هذا الوطن،

آخرُ أغنيةٍ

لم تجدْ من يسمعها.

***

 

من سيمفونيّة الحب (10)

حسب (المنهج الرمزي الأسلوبي، النفسي، والهيرمينوطيقي)

***

- أولاً: مدخل إلى النص:

يأتي هذا المقطع من مشروع شعري أوسع هو سيمفونية الحب، حيث يتشابك الحسي بالعاطفي، ويختلط المادي بالأسطوري. النص أمامنا ليس غزلياً تقليدياً، بل هو مشهدية شعرية ذات طبقات: حبّ أنثوي، وحنين مكاني (الشام)، وإيحاءات تاريخية ومقاومية، ضمن نسيج لغوي مفعم بالرمز والانزياح.

- ثانياً: التحليل الرمزي الأسلوبي.

1. الحقول الرمزية.

المكان الزراعي/الطبيعي: (زيق البصل، الموج، النخل، العسل، الحدائق، الصنوبر، البيارة)

هذه الصور تحيل إلى الأرض بوصفها رحماً للحياة، وإلى علاقة المرأة بالمكان كتجسيد للأمومة والخصب.

- الجسد الأنثوي: يوظّف الشاعر الرموز الجسدية (الخصر، الأثداء، الصدر) ليس بوصفها غاية حسية، بل كجغرافيا رمزية للحب والوطن معاً.

الحيوانات/الطيور: (الحجل، القبّرة، النمل)

رموز متصلة بالبرية والحرية والعمل الدؤوب، وفي الوقت ذاته ذات دلالات إيحائية في التراث الشعبي.

- الأدوات الحربية: (السيف، السيّاف، الرماح).

تشير إلى حضور القوة والصراع، وارتباط الحب بالحماية والمواجهة.

- الثمار: (العسل، التفاح)

ترمز إلى الحلاوة والرغبة والحياة المتجددة.

2. الأسلوب:

- التقطيع المشهدي: النص مكتوب على هيئة لقطات متلاحقة، كل منها يقدّم صورة مكتملة.

- الانزياح اللغوي: (نهر القبل، ملك يحمي معاليق العسل، رمّاح فوق العين) تحوّل المعنى من الحسي المباشر إلى المجازي المركّب.

- التكرار البنائي: بدء النص وانتهاؤه بـ"تلك الجميلة" يخلق إطاراً دائرياً، كما في مقاطع السيمفونية الموسيقية التي تعود إلى اللحن الأساسي.

- التركيب النحوي المقطّع: علامات التعجب وكسر الجمل تمنح النص إيقاعاً متوتّراً، يناسب مزيج الشغف والحنين.

- ثالثاً: التحليل النفسي:

النص يكشف عن ثلاث طبقات نفسية:

1. الطبقة الإيروسية: الجمال الأنثوي حاضر بوصفه باعثاً للحياة وملهماً للحركة، لكنه ليس نزوة، بل حاجة وجودية.

2. الطبقة الوجدانية/النوستالجية: الحنين إلى الشام يتداخل مع صورة الحبيبة، فيتماهى الوطن مع الجسد الأنثوي.

3. الطبقة الصراعية: حضور السيف والرماح والسيّاف يوحي بأن الحب والوطن كلاهما في حالة تهديد، وأن الدفاع عنهما واجب عاطفي ووجودي.

على مستوى فرويدي، يمكن قراءة الصور الأنثوية بوصفها العودة إلى الأم الأولى، حيث الأرض والمرأة متّحدتان في صورة الحاضنة والمانحة. أما على مستوى (يونغي) , نسبة إلى - كارل غوستاف يونغ - ، فالمرأة هنا هي "الأنيما" في أقصى تجلياتها الرمزية، الممزوجة بطاقة الخصوبة والموت معًا.

- رابعاً: القراءة الهيرمينوطيقية (التأويلية):

- المستوى الظاهر: مشهد حبيبي متنوع الصور، يمزج الطبيعة بالجسد الأنثوي، مع إشارات للمكان الشامي.

- المستوى الرمزي العميق: الأنثى تمثل الشام، والجسد يمثل تضاريس الوطن، والثمار والحيوانات تمثل خيراته، فيما الأدوات الحربية تمثل التهديدات التي تستدعي الحماية.

- الزمن الشعري: ليس لحظة آنية، بل زمن دائري؛ الماضي والحاضر يتداخلان، والبيارة الأولى (الأرض المقدسة) تمتد إلى بيارة النمل القصيّ (رمز العمل والمثابرة حتى في المنفى).

- السؤال الختامي: "هل تأتي؟ لنغرس ما تبقى من أناشيد الأمل؟" هو نداء مزدوج: للحبيبة أن تعود، وللشام أن تنهض، وللأمل أن يُزرع مجدداً.

- خامساً: البنية الجدلية في النص:

النص يتحرك على محاور ثلاثية:

- المحور الأول: الحب/الوطن: تماهي الحبيبة مع الوطن يجعل العاطفة الشخصية ذات بعد جمعي.

المحور الثاني : الخصب/التهديد: الطبيعة المورقة تقابلها أدوات الحرب والدمار.

- المحور الثالث: الحنين/الرجاء: الحنين إلى الماضي يقابله دعوة لزراعة الأمل في المستقبل.

-سادساً: الخلاصة النقدية:

من سيمفونية الحب (10) نص متعدّد الأصوات والدلالات، يستخدم الرموز الزراعية والجسدية والطبيعية والعسكرية في نسيج واحد، ليجعل من المرأة تجسيداً للأرض والوطن والحلم. الأسلوب يعتمد على المشهدية المتقطعة، والصور الكثيفة، والإيقاع المتوتر. من منظور نفسي، النص يعبّر عن وحدة الحب والوطن كحاجة وجودية، ومن منظور هيرمينوطيقي، هو خطاب مقاوم يرفض الانفصال بين الحسي والمعنوي، بين الخاص والعام.

الجدول التحليلي هذا يربط بين الرموز والصور في نص الشاعر السوري مفيد خنسة «من سيمفونية الحب» (10) ودلالاتها في المستويات الثلاثة: الرمزي، النفسي، والهيرمينوطيقي.

الرمز / الصورة الشعرية الدلالة الرمزية الدلالة النفسية الدلالة الهيرمينوطيقية (التأويلية)

زيق البصل رمز للجذور البسيطة والخصب الأرضي حنين إلى الأصل والارتباط بالمكان الأم الوطن في بساطته الأولى قبل التشويه

الموج / نهر القبل فيض العاطفة والاندفاع الحسي الرغبة في الاتحاد والذوبان في الآخر الحب كقوة جارفة تربط الحبيب بالوطن

النخل / العسل رمز العطاء والحلاوة المستمدة من الجهد الإشباع الروحي والحسي معاً الثمر الطيب الناتج عن الصبر والمثابرة

ورد الحدائق المتساقط انطفاء الجمال وذبوله خيبة وفقدان براءة الحب أو الوطن زوال الخصوبة تحت وطأة الحرب أو الغياب

أثداء النساء رمز الخصوبة والحياة الحاجة إلى الحماية والحضن الأرض الأم التي تمنح الحياة وتتعرض للانتهاك

السيف / السيّاف / الرماح القوة والصراع والتهديد القلق والخوف من الفقد ضرورة الدفاع عن الحب/الوطن

التفاح المتدحرج سقوط الكمال والجمال فقدان ما هو ثمين انكسار الحلم أو انحرافه عن مساره

القبرة / الحجل الحرية والبرية والجمال الرشيق توق إلى الانطلاق والتحليق الأمل المرهون بالتحرر من القيد

البيارة / النمل الأرض والعمل الدؤوب المثابرة والاستمرارية رغم الصعاب وحدة العمل الإنساني الجماعي

الشام الحضن التاريخي والثقافي ملاذ نفسي ووجداني الرمز الأسمى للوطن والحب والهوية

هنا يصبح من السهل رؤية أن النص يعمل على مزج الرموز الحسية بالطبيعية والمكانية لخلق خطاب شعري مركّب، حيث تتداخل دلالات الجسد مع دلالات الأرض، ويتحوّل الحنين العاطفي إلى دعوة نهوض جماعية.

***

بقلم: عماد خالد رحمة – برلين

....................

من سيمفونيّة الحب (10)

بقلم مفيد خنسة

***

تلك الجميلةُ،

تنحني،

كي تنزعَ الأعشابَ عن زيقِ البصلْ،

والحلوة البيضاءُ،

ترمي صدرَها في الموجِ،

كي يرتدّ عن شطآنه،

نهرُ القبلْ،

والنخلُ متخّذاً من الوداي العيقِ،

الضخرَ في أجوافه،

ملكاً، لكي يحمي معاليق العسلْ

ما بالُه ورد الحدائقِ،

خلفَ منحدراتِ أثداء النساء تساقطت أوراقهُ

وتهدّمت شرفاتُ أشجارِ الصنوبرِ،

في الأسرّة،

والمساءُ الحلوُ في ثغرِ البريئة قد ذبُلْ

والنملُ،

ما بالُ الشمال يسيرُ منتصبَ النشيدِِ على قيصي؟!

والممراتُ القديمةُ بين حيطاني،

وهذا القشّ بين مفاصلي،

والدربُ، هذا الدرب من بيّارة الأقصى إلى بيارة النمل القصيّ

قد اكتملْ

وتشيرُ لي،

والخصرُ،!!

-ليتَ الشعرُ يُسعفني-

فأكتبَ ما أرى،

وتميلُ،

-ليت الفقريتركني-

لأقرأُ،

ما يقولُ:،

وساعدان،

وكوكبٌ،

والسيفُ!!،

تحت السيفِ، سيّافٌ

وفوق العين !!

رمّاح،

ورأس الحرة الحسناء عن تفاح من تهوى تدحرجَ وانفصلْ

لي فيكمُ قلبي،

وذاكرتي،

ونبضُ دمي،

وبعضُ مدامعي الحرى أيا أهل الجبلْ،

لي نوحُ قبّرةٍ،

وزفرةُ جدولٍ،

وهديلُ نائحةٍ،

على الأغصانِ، لي كشحُ الحجلْ

تلك الجميلةُ،

في ربوع الشامِ هل تأتي؟

لنغرس ما تبقى من أناشيد الأملْ؟!!!.

 

"نظرة حائرة" للشاعرة زينب غسان البياتي

يبرز مفهوم الحنين فِي الفلسفة، والشعر أكثر من مجرد شوق إِلىٰ الماضي فهو تجربة وجودية تعكس انقسام الذات بين الحاضر المؤلم، والماضي المثالي فلسفيا يربط هيدغر الحنين بالوجود فِي العالم حيث يصبح الشوق إِلىٰ الأصل محاولة لاستعادة الذات الأصيلة، أما فِي الشعر فيتحول الحنين إِلىٰ لغة حسية تنسج من الذاكرة،  والفقدان كما عند درويش الذِي يرىٰ فِي الحنين جرحا ينبض بالهوية، وهٰكذا يصبح الحنين فِي نظرة حائرة لزينب غسان البياتي جسر يربط الفلسفة بالشعر إذ يتجسد كعطر منسي يذكر الذات بصباح فيروز، وبغداد لكنه يحمل مرارة الخيبة، ويفتح الباب لصراع وجودي عميق.

نص قصيدة نظرة حائرة لزينب غسان البياتي:

أَنا تلك النظرة الّتِي تحيا فِي بؤبؤ بصرك الأعمىٰ

يلملم الخجل خدها،

ثُمّ غنىٰ لها دمع الورد عند أوّل خيبة فِي الصباح،

ياله من حب ماكر تسلل إِلىٰ جسد حائر،

كقهوة قصيدة تشتهي الغروب،

فِي غفوة القلب هناك حيث الانتظارات المملة،

أُغنية تهوىٰ صباح فيروز،

وَ صباح بغداد،

جادلت نعاس الفجر ليغازلها

اختباء الصباح بين دموعها،

حكاية ضائعة بين وسادة

قطعت وتين الحب،

يتوسل بصمته

ثُمّ ينادي إِلىٰ ذاته..

***

يطفو الحنين فِي هٰذا النص كعطر منسي تذروه الريح فينشد فِي أغان خجلىٰ، ويعانق خيبة الصباح إنّه ليس مجرد اشتياق للماضي بل جرح نابض يحمل رموز زمن ذهبي مفقود صباح فيروز، وصباح بغداد هذان الرمزان رسمًا جغرافيا لروحية تمثل الحلم العربي المشرق الّذِي تحول إِلىٰ قهوة قصيدة تشتهي الغروب حنين مركب يتشابك فيه دفء الذكرىٰ مع مرارة الفقدان كدمع الورد الّذِي يغني عَلىٰ أطلال الأمل، ويتحول الحنين إِلىٰ مدخل ؛ لفهم القصيدة حيث يتجسد كخيط يربط الذات الشاعرة بماضيها، ويلقي بظلاله عَلىٰ حيرتها الوجودية كما يعكس التساؤل الفلسفي عن الذات فِي مواجهة الفقدان.

دلالة العنوان:

العنوان نظرة حائرة يختزل جوهر الذات الشاعرة ليس كحالة عابرة بل ككينونة دائمة، والنظرة هي الأنثىٰ / الذات الّتِي تحيا فِي بؤبؤ بصر أعمىٰ عالقة فِي تيه بين الخجل يلملم الخجل خدها، والخيبة دمع الورد عند أوّل خيبة، والحب فِي القصيدة قوة ماكرة تتسلل إِلىٰ جسد حائر فتجعل الذات تنقسم عَلىٰ نفسها فِي صراع بين التوق إِلىٰ التحرر، والاستسلام للقدر، ويتجاوز هٰذا الموضوع العاطفة ؛ ليصبح استعارة للصراع الوجودي بين الإرادة، والاستلاب حيث تتساءل هل هي حرة أم أسيرة حب ماكر يتحكم بها كما يشير سارتر إِلىٰ التوتر بين الحرية، والاغتراب.

البنية، والزمن الدائري:

تعتمد القصيدة بنية متقطعة من مقاطع قصيرة تشبه ومضات الوعي فِي غفوة القلب هٰذه البنية لا تسرد قصة خطية فحسب، وإنما تخلق زمنًا دائريًا يعكس حبس الذات فِي حلقة مفرغة من التوقعات (الانتظارات المملة، والخيبة، والحنين)، التكرار الدائري للأزمنة (الصباح، الفجر، الليل، الغروب)، يعزز إحساس التكرار العقيم بينما الانزياحات النحوية مثل: ثُمّ غنىٰ لها دمع الورد، والإيجاز الشديد كقهوة قصيدة تعكس تشظي الذات، وانزياح المنطق تحت وطأة العاطفة، وهٰكذا تجعل القارئ يعيش تجربة الحيرة مع الشاعرة كما لو كان عالقًا فِي دوامة نفسية لا نهائية.

الصور الشعرية:

تتألق القصيدة بصور شعرية مكثفة تجمع بين الحسية، والتناقض فمثلًا صورة (غنىٰ لها دمع الورد عند أوّل خيبة فِي الصباح) تجسد التناقض بين جمال الورد رمز الحب، ودمعه رمز الألم، وبين الصباح رمز الأمل، والخيبة الّتِي تستقبله، الغناء هنا ليس فرحًا، ولكنه رثاء يحول الجمال إِلىٰ ألم، وفِي صورة (كقهوة قصيدة تشتهي الغروب) تذوب القهوة مرارة، ودفء فِي القصيدة التعبير الجمالي لكنها تشتهي الغروب النهاية، والسكون فتعبر عن رغبة الذات المتألمة فِي الخلاص، أما صورة (ياله من حب ماكر تسلل إِلىٰ جسد حائر) فتجسد الحب ككائن خادع يستلب الجسد الضعيف، بينما (أَنا تلك النظرة الّتِي تحيا فِي بؤبؤ بصرك الأعمىٰ) تقدم تناقضًا مدهشا الرؤية الوعي تعيش فِي عمىٰ وجودي، أو عاطفي مما يعمق إحساس الذات بالضياع كما يصف كيركغور القلق كمواجهة للعدم.

ذروة القصيدة:

تصل القصيدة إِلىٰ ذروتها فِي صورة (جادلت نعاس الفجر ليغازلها اختباء الصباح بين دموعها)، والفعل جادلت يحمل صراعًا عقيمًا محاولة واعية لليقظة ضد نعاس الفجر رمز الخمول، والنسيان الهدف الظاهري ليغازلها هو اختباء الصباح بين دموعها، ورفض الظهور، ولوذ بالدموع مما يحول الغزل إِلىٰ محاولة فاشلة لإثارة الأمل فتختزل هٰذه الصورة مأساة الذات جهد يائس لكسر حلقة الحيرة ينتهي بتأكيد الخيبة فتصبح قلب القصيدة النابض بالألم، والتناقض.

إيقاع القصيدة:

يبدأ الإيقاع بخمول غفوة القلب، وانتظارات مملة ثُمّ يثور لحظيا بحنين أُغنية تهوىٰ صباح فيروز لينكسر عَلىٰ صخرة خيبة الصباح، ودمع الورد، ثُمّ يرتفع الإيقاع إِلىٰ ذروة الصراع فِي جادلت نعاس الفجر ليهبط أخيرًا إِلىٰ يأس اختباء الصباح بين دموعها هٰذا التذبذب يعكس حالة الحيرة الدائمة حيث تتأرجح الذات بين الأمل، والخيبة فِي حلقة لا نهائية.

حوار الضمائر:

تتجلىٰ ديناميكية القصيدة فِي حوار الضمائر أَنا تلك النظرة تتحدث إِلىٰ جسد حائر، وبصر أعمىٰ مما يخلق توترًا دراميًا داخليًا فالأنا الوعي الحب الهوية تحاول تأكيد وجودها بينما الجسد، والبصر يمثلان الجانب الضعيف الخاضع للاستلاب، وهٰكذا يجبر هٰذا الحوار القارئ علىٰ المشاركة فِي تفكيك الصراع داخل الذات المنقسمة مما يضفي طابعًا تفاعليًا عَلىٰ النص.

السياق الثقافي:

ترتبط القصيدة بالسياق الثقافي العربي عبر رموز مثل: صباح فيروز، وصباح بغداد اللذين يمثلان زمنًا ذهبيًا مفقودًا، وحضارة عربيّة مجروحة فهذه الرموز ليست زخرفا، وإنما جروح نازفة فِي جسد النص تعكس فقدان الهوية الثقافية، أما القهوة كطقس عربي جماعي، فتتحول إِلىٰ استعارة لانعزال الذات، ومرارتها فِي قهوة قصيدة تشتهي الغروب مما يربط الأزمة الشخصية بالأزمة الثقافية الأوسع كما يشير إدوارد سعيد إِلىٰ فقدان الهوية فِي المنفىٰ.

الأسئلة الوجودية:

تطرح القصيدة أسئلة وجودية عميقة فالنظرة الّتِي تحيا فِي بصر أعمىٰ تعكس العمىٰ الوجودي حيث تسعىٰ الذات للمعنىٰ رغم فقدان اليقين محاولة مجادلة نعاس الفجر تمثل تمردًا عَلىٰ العبث لكن فشلها فِي اختباء الصباح يؤكد سيطرة الخيبة، وفِي الوقت ذاته تتناول القصيدة قضية الهوية، والاستلاب، فالذات هي حكاية ضائعة بين وسادة تسأل عما إذا كانت تملك إرادتها، أم هي أسيرة حب ماكر يستلبها.

لغة القصيدة:

تتميز لغة القصيدة بتكثيفها الشديد حيث تحمل كُلّ كلمة ماكر حائر أعمىٰ دلالات عميقة فالانزياحات مثل: دمع الورد يغني، والتجسيد الحب الماكر الصباح يختبئ تحول المشاعر المجردة إِلىٰ كائنات فاعلة مما يضفي طابعًا دراميًا، وأسطوريا، أما الإيقاع المتقطع فيعكس الاضطراب الداخلي بينما غياب الروابط أحيانا يعزز إحساس التفكك.

الحنين جسر الذاكرة، والهوية:

لعل الحنين فِي هٰذه القصيدة لا يقتصر عَلىٰ اشتياق عابر للماضي بل هو تجربة وجودية تعكس انقسام الذات بين حاضر مؤلم، وماضي مثالي يذكرنا ذٰلك بفلسفة هيدغر الّتِي تربط الحنين بالوجود فِي العالم حيث يصبح الشوق لاستعادة الذات الأصيلة محاولة لإحياء وجود غائب، وفِي الشعر يتحول الحنين إِلىٰ لغة حسية تنسج بين الذاكرة، والفقدان كما عند محمود درويش الّذِي يرىٰ فِي الحنين جرحًا ينبض بهوية الذات تظهر فِي القصيدة رموز صباح فيروز، وبغداد كجغرافيا روحية تمثل الحلم العربي المشرق، وهو الحنين المركب الّذِي يجمع دفء الذكرىٰ مع مرارة الفقدان مدخلًا لفهم الصراع الوجودي الّذِي تعانيه الذات.

الصراع الديناميكي:

يتجلىٰ هٰذا الصراع  فِي الحوار الداخلي بين عناصر الذات المختلفة الّتِي تمثل توترات متناقضة، ومستمرّة:

1- الصراع بين " أَنا " تلك النظرة الواعية، والذات الحائرة:

تتحدث أَنا بصفتها الوعي المحاول تأكيد وجوده، ومعناه فِي مواجهة الجسد الحائر، والبصر الأعمىٰ اللذين يمثلان جانبًا من الذات الضعيف، والخاضع للاستلاب هٰذا الحوار الداخلي يعكس حالة انقسام الذات بين الإرادة فِي الفهم، والتحرر، وقوة الاستلاب الّتِي تسلبها القدرة عَلىٰ الرؤية، والمعنىٰ.

2- الصراع بين الأمل، والخيبة:

تتنقل القصيدة بين لحظات الأمل، والحنين مثل: أُغنية تهوىٰ صباح فيروز، والخيبة المؤلمة كدمع الورد عند أوّل خيبة فِي الصباح، واختباء الصباح بين دموعها هٰذا التذبذب الزمني، والمشاعري يخلق ديناميكية متجددة تعبّر عن حالة الحيرة، وعدم الاستقرار الوجودي.

3- الصراع بين الإرادة، والقدر:

الحب فِي القصيدة يصوَّر كحب ماكر يتسلل إِلىٰ جسد حائر مما يجعل الذات فِي صراع بين الرغبة فِي التحرر من هٰذا الحب الماكر، والقبول بالاستسلام له، وهو استعارة للصراع الوجودي بين الإرادة الحرة، والاستلاب الّذِي يعانيه الإنسان

لعل من خلال دراستي لهذه الأبعاد مجتمعة يشكل صراعًا ديناميكيًا داخليًا ينبض فِي بنية النص، ويمنح القصيدة توترها الدرامي العميق فِي هٰذا الصراع يمكن الإشارة إِلىٰ فلسفة سارتر الّتِي تحدثت عن الذات المنقسمة، والّتِي تعيش فِي حالة انقسام بين الوجود لذاته، والوجود للآخر، وهو صراع مشابه هنا حيث تحاول الذات تأكيد وجودها رغم كُلّ أشكال الاستلاب.

الخاتمة مرآة الوجود:

تغدو قصيدة نبض فضاء مفتوحا يتجاوز حدود النص ليصبح مرآة لأسئلة الإنسان الكبرىٰ إذ تنبض كُلّ كلمة فيها بقلق الوجود، ورغبة الخلاص، وتعيد للقارئ وعيه بحضوره الهش أمام تيارات الزمن، والشعور فيتحول النص إِلىٰ تجربة وجودية متكاملة لا تقف عند حدود الإحساس الجمالي بل تمتد لتلامس البعد الفلسفي العميق فِي جدلية الحياة، والموت، والغياب، والحضور فتغدو القصيدة فِي النهاية فعلا تحرريا يوقظ فينا نبض السؤال، ويدفعنا إِلىٰ إعادة صياغة علاقتنا بالعالم من جديد.

***

د. آمال بوحرب - باحثة، وناقدة

........................

نظرة حائرة

في غفوةِ القلب

هناك حيث الانتظارات المملة

أُنثىٰ يلملمُ الخجلُ خدَها،

وَ تنشرُ مع الرّيحِ أَغاني العطر المنسية..

ثُمَّ غنىٰ لها دمع الوردِ

عند أَولِ خيبةٍ في الصباح،

وَ في الليل...

حكايةٌ ضائعةٌ بين وسادةٍ

قطّعَتْ وتينَ الحبِ..

ثُمَّ جعلت مني

أُغنيةً تهوىٰ صباحَ فيروز

وصباحَ بغداد

كقهوة قصيدةٍ تشتهي الغروب.

ياله من حبٍ ماكر

تسلل إِلىٰ جسدٍ حائر

يتوسل بصمتِه.. ثُمَّ ينادي

إِلىٰ ذاتهِ قائلًا

أَنا تلك النظرة التي تحيا

في بؤبؤ بصرك الأَعمىٰ

جادلتْ نعاسَ الفجرِ

ليغازلَها اختباءُ الصباحِ

بينَ دموعِها.

***

زينب غسان البياتي.

٢٠٢٤/٧/٢٧

 

تُعْتَبَر الكاتبة الكندية أليس مونرو (1931 _ 2024) سَيِّدَةَ القِصَّةِ القَصيرة بِلا مُنَازِعٍ، وأوَّلَ مُؤلِّفة للقِصَصِ القصيرة تَحْصُل على جائزة نوبل للآداب (2013)، وأوَّلَ كندية تَفُوز بِهَا، كَمَا أنَّها فازتْ بجائزة البوكر (2009). تُلَقَّبُ بـِ " تشيخوف الغرب " نِسْبَةً إلى الكاتبِ الروسي أنطون تشيخوف (1860 _ 1904) أعظم كاتب قِصَّة قصيرة في التاريخ، وَنَظَرًا لِمَا تَتَّسِمُ بِهِ كِتاباتُها مِنْ حِسٍّ إنسانيٍّ، وَنَظْرَةٍ إلى أعماقِ النَّفْسِ، فَهِيَ تُوَثِّقُ التَّجْرِبَةَ البشرية بكثيرٍ مِنَ التسامحِ في تَصويرِها لِتَعقيداتِ الحياةِ والعَلاقاتِ، وأيضًا بسبب قُدرتها على استعراضِ مُكَوِّنَاتِ الحَياةِ في المَناطقِ الريفية، عَلى صَفَحَاتٍ مَحدودة، لِتَخْتَزِلَ فِيها كثيرًا مِنَ المَعَاني والأفكارِ والصُّوَرِ عَن الحَياةِ والناسِ، وَتَدْمُجُهَا جَميعًا بِأُسلوبٍ أنيق، في قِصَّة قصيرة مَليئة بتفاصيل مُتناغِمة.

تَتَحَدَّثُ مُعْظَمُ قِصَصِها عَن الحُبِّ والصِّراعِ والحَياةِ في الريفِ، وَتَتَضَمَّنُ نُصُوصُها وَصْفًا مُتَدَاخِلًا لأحداثٍ يَومية، لكنَّها تُبْرِزُ القَضَايا الوُجودية. وَتُوصَفُ مونرو بأنَّها بارعةٌ في التَّعبيرِ في بِضْع صَفَحَاتٍ قصيرة عَنْ كُلِّ التَّعقيدِ المَلْحَمِيِّ للرِّواية. وَتَتَمَيَّزُ كِتاباتُها ببساطةِ الأُسلوبِ وَعُمْقِ المَضمونِ، والكَشْفِ عَن تناقضاتِ الحَيَاةِ، والجَمْعِ بَيْنَ السُّخريةِ والجِدِّيةِ في آنٍ مَعًا.

وقالت الأكاديميَّةُ السويدية: " مونرو تَتَمَيَّزُ بِمَهارة في صِياغة الأُقْصُوصَةِ التي تُطَعِّمُها بأُسلوبٍ واضح وواقعيَّةٍ نَفْسِيَّة ". وتابعتْ تَقُول: " إنَّ قِصَصَها بِمُعظمها تَدُور في مُدُنٍ صغيرة، حَيْثُ غالبًا مَا يُؤَدِّي نِضَالُ الناسِ مِنْ أجْلِ حَياةٍ كَريمة إلى مَشَاكِل في العَلاقاتِ، وَحُدُوثِ نِزَاعاتٍ أخلاقية، وَهِيَ مَسألة تَعُود جُذورُها إلى الاختلافاتِ بَيْنَ الأجيال، أو التناقضِ الذي يَعْتَري مَشاريعَ الحَيَاةِ ".

ظَلَّتْ مونرو عَلى يَقينٍ مِنْ أنَّ القِصَّة القصيرة لَيْسَتْ أقَلَّ شأنًا مِنَ الرِّوايةِ، لَذلك حَرَصَتْ عَلى كِتابةِ القِصَصِ بعاطفةٍ مُفْعَمَةٍ بالصِّدْقِ والتَّحْليلِ النَّفْسِيِّ، معَ الاعتمادِ عَلى الحَبْكَةِ الجَيِّدةِ، وَعُمْقِ التفاصيل. والأبطالُ في قِصَصِ مونرو فَتَيَاتٌ وَسَيِّدَاتٌ يَعِشْنَ حَيَاةً تَبْدُو عاديَّةً، لَكِنَّهُنَّ يُصَارِعْنَ مِحَنًا مُؤلمة، كالتَّحَرُّشِ، أو الزَّوَاجِ المَأسَاوِيِّ، أو مَشاعرِ الحُبِّ المَقموعة، أوْ مَتَاعِبِ الشَّيْخُوخة.

كانتْ مونرو مِنْ أوائلِ مَن ابتكرَ تِقْنيةَ السَّرْدِ غَيْرِ الخَطِّي، والذي يَقْفِز فيه الساردُ بَيْنَ الحاضرِ والماضي والمُستقبَلِ. وهَذا الأُسلوبُ الأدبي لا يَعْتَمِد على التَّسَلْسُلِ الزَّمَنِيِّ للأحداثِ، بَلْ يَعْتَمِد عَلى الاسترجاعاتِ الزَّمنية، أو الوَمَضَاتِ المُستقبلية، أوْ سَرْدِ قِصَص مُتَعَدِّدَة في وَقْتٍ واحد.

تَدُورُ أحداثُ العَدِيدِ مِنْ قِصَصِ مونرو في مُقاطعة هورون، أونتاريو. وَيُعَدُّ التركيزُ الإقليميُّ القويُّ أحدَ سِمَات أدبِها. وعِندما سُئِلَتْ بَعْدَ فَوْزِها بجائزة نوبل: " ما الذي يُمْكِنُ أنْ يَكُونَ مُثِيرًا للاهتمامِ في وَصْفِ الحَيَاةِ في بَلْدة كَندية صغيرة ؟ "، أجابتْ: " يَكْفِي أنْ تَكُونَ هُناك ". وَيُقَارِنُ الكثيرون بيئات بَلْدتها الصغيرة بِمَناطقِ جَنُوبِ أمريكا الرِّيفيِّ، غالبًا مَا تُوَاجِهُ شخصياتُها عاداتٍ وتقاليد راسخة.

نُشِرَتْ أوَّلُ أُطروحة دُكتوراة حَوْلَ أعمالِ مونرو عام 1972. وفي عام 1984، نُشِرَ مُجَلَّد ضَخْم يَجْمَع الأوراقَ البحثية المُقَدَّمَة في أوَّلِ مُؤتمر لجامعة واترلو حَوْلَ أعمالِها، بِعُنوان: " فَن أليس مونرو: قَوْل مَا لا يُقَال ". وَفي عَامَي 2003 و2004، نَشَرَتْ مجلةُ " الرِّسالة المَفتوحة" الكندية، وَهِيَ مُرَاجَعَة فَصْلِيَّة للكتابةِ والمَصَادِرِ، أرْبَعَ عَشْرَة مُسَاهَمَة حَوْلَ أعمالِ مونرو.

أحدثتْ أعمالُ مونرو ثَورةً في عَالَمِ القِصَّة القصيرة، لا سِيَّمَا في مَيْلِها إلى التَّقَدُّمِ والتراجعِ في الزَّمَن، وَدَمْجِها لِدَوراتٍ قصصية قصيرة، أظهرتْ فِيها بَرَاعَةً سَرْدِيَّةً. وقِيل: " إنَّ قِصَصَها تُجسِّد أكثرَ مِمَّا تُعْلِن، وَتَكْشِف أكثرَ مِمَّا تَسْتَعْرِض ".

رَغْمَ النجاحِ الذي حَقَّقَتْهُ مونرو، وَحَصْدِها مَجموعة مِنَ الجوائز الأدبية العالميَّة خِلال أكثر مِنْ أربعة عُقود، لَمْ يَكُنْ حُضُورُها صَاخِبًا، بَلْ آثَرَتْ حَيَاةَ الكِتمانِ، والبُعْدَ عَن الأضواءِ، عَلى غِرَارِ شخصياتِ قِصَصِها، وَمُعْظَمُها مِنَ النِّسَاءِ اللواتي لَمْ تَكُنْ في نُصُوصِها تُركِّز عَلى جَمَالِهِنَّ الجَسَدِيِّ إطلاقًا.

وَقَدْ رَوَتْ في حَديثٍ صَحَفِيٍّ أنَّها كانتْ تَحْلُمُ مُنْذُ أنْ كانتْ مُرَاهِقَةً في مُنْتَصَفِ أربعينياتِ القَرْنِ العِشرين بأنْ تُصْبح كاتبةً، " لكنَّ الإعلان عَن هَذا النَّوع مِنَ الأُمُورِ لَمْ يَكُنْ مُمْكِنًا في ذلك الزمن. لَمْ يَكُنْ مِنَ المُسْتَحَبِّ أنْ يَلْفِتَ المَرْءُ الانتباهَ. رُبَّما كانَ للأمر عَلاقة بِكَوْني كندية، أوْ بِكَوْني امرأة، وَرُبَّمَا بِكِلَيْهِمَا ".

في عَالَمِ مونرو، تتألَّقُ شخصياتٌ لا تَعْكِسُ أيَّةَ حِنْكَة. تَظْهَرُ أمامَ أعْيُنِنا وكأنَّنا الْتَقَيْنَا بِها صُدفةً في السُّوقِ. أفرادٌ عَادِيُّون يأخذون بأسبابِ حَياةٍ مَحدودة مُهَمَّشَة، لِتَمثيلِ البشرية بِأسْرِهَا بِلُغَةٍ تَتَرَاوَحُ بَيْنَ المَكْبُوحِ والصَّرِيحِ.

وَقَدْ تَمَيَّزَتْ الكاتبةُ بِقُدرتها على نَسْجِ قِصَص مُعَقَّدَة ذات عُمْق فِكري وعاطفي، باستخدامِ لُغَة بسيطة وواقعية، والتركيزِ عَلى تفاصيلِ الحَياةِ اليوميةِ في المُجتمعاتِ الصغيرة، والكَشْفِ مِنْ خِلالِها عَنْ جوانب عميقة مِنَ الطبيعةِ البشريةِ والعَلاقاتِ الإنسانية. وَقِصَصُها تَتْرُكُ أثَرًا عميقًا في نُفُوسِ القُرَّاءِ، وتَدْعُوهُم إلى التأمُّلِ في قَضايا الحَيَاةِ والوُجودِ بطريقةٍ جديدة ومُختلفة.

***

إبراهيم أبو عواد / كاتب من الأردن

كثيرا ما يكتب الشعر والنقد والدراسات الشعرية هذه الأيام، بغض النظر عن رفضك أو أعجابك بهذه المحاولات، لكن نادرا ما نقرأ کتابا أو مقالا يتناول حيثيات الشعر ويتحدث عن ألف باء کتابته، لأن الذي يستطيع القيام بهذا الأمر هم الشعراء- النقاد، كـ (تي أس أليوت)(١)  وطه حسين ومحمد اقبال وغيرهم علی مر العصور وعلی سبيل المثال لا الحصر، ولكن ليس بوسع  كل النقاد خوض هذا الغمار، وليس هذا تقليلا من شأنهم، بل لأن الشعراء- النقاد يعيشون تلك اللحظات الشعرية ويمرون بحلوها ومرها وهم أقرب الی نبض الشعر من غيرهم، لذا هم أدری من غيرهم فيما يدور في جنباتهم منذ اتيان الالهام وحين ولادة الشعر من أعماق النفس الی ان يری النور  بنشره في الكتب أو الصحف الادبية والمنصات الاجتماعية، ويمكن للشاعر الحفيص ذو عين نقدية أن يحيط بتلك الحيثيات ويدونها لغيره من باب الاخذ بدروسها والاستفادة من خبراته الشخصية، وبعد انتاج العمل الشعري يمتلك القراء هذا الشعر، يتقاسمون ويتشاركون الشاعر في جوانبه الابداعية، يلتذون به ويطيرون معه في سماء الاخيلة الشعرية  للوصول الی المبتغی الابداعي بالتمعن وتخيل الصور المجازية والغاية القصوی من النظم بالتعمق في معانيه وشعابه، وكما يقول القرطاجني في (منهاج البلغاء وسراج الادباء):" النظم صناعة آلتها الطبع. والطبع هو استكمال للنفس  في فهم أسرار الكلام، والبصيرة بالمذاهب والاغراض التي من شأن الكلام الشعري أن ينحی به نحوها؛ فاذا أحاطت بذلك علما قويت علی صوغ الكلام بحسبه عملا، وكان النفود في مقاصد النظم وأغراضه وحسن التصرف في مذاهبه وأنحائه انما يكونان بقوة فكرية واهتداءات خاطرية،/ تفاوت فيها أفكار الشعراء".(٢)

علی العموم؛ نادرا ما نجد هنا وهناك من يتحدثون عن حيثيات كتابة الشعر وفنونها العديدة، ربما يرجع السبب الی أهمية الموضوع في صنعة الشعر والذي يخص الشعراء دون غيرهم، والشعر يعتبر فنا أدبيا لغويا بحيث تختلف لغته عن الاستخدام اليومي، وقد قال الجاحظ في (البيان والتبيين): "شعر الرجل قطعة من كلامه، وظنه قطعة من علمه، واختياره قطعة من عقله. وقال ابن التوأم: الروح عماد البدن، والعلم عماد الروح، والبيان عماد العلم"(٣).

فاذا اتفقنا جدلا بأن العمل الشعري الثري والمبدع هو توظيف خصائص المادة الأولية للغة، بشقيها الظاهري والمعنوي أي: الالفاظ والمعاني، فأن لهذا الصرح الانساني الخالد حاجيات أساسية تستوجب توفرها في أي قصيدة شعرية كي تكتمل مراحل بناءها وتجتاز طورها وتصبح نموذجا أمثل للأدب المنتج ونعطيها جزءا من وقتنا ونسميها عملا ونتاجا أدبيا معتبرا، بدءا بالموهبة ومرورا بالآليات المستخدمة بالعناية والوعي الی الاختيار الأمثل للموضوع واجتياز حواجز الثيمة الحية والأفكار المتجددة المبدعة، والا سنعيد أنفسنا والآخرين من أسلافنا مقلدا ودون تقديم أي منجز يذكر أو اضافة جديدة علی ما أبدعوه من أبدعوا قبلنا...

لا يخفی علی الدارس لفنون الشعر بشقيه الشكلي والمضمون، بأن كتابة   الشعر هي موهبة قبل الرغبة، وليس للشعر أي جنسية تذكر أو انتماء ضيق الأبعاد، بل انه ينتمي الی الانسانية في المقام الاول، فهناك من السلف من اقتصروا وعرفوا الشعر بالوزن والقافية فقط، ولكن وحسب النظريات الحديثة ليس الوزن والقافية الا رداءا موسمية يلبسه النص الشعري لغرض انجاز بعض تحسينات جمالية، لكن البنية الاساسية والخفية في الشعر هو الجزء الذي يتبقی منه بعد ترجمته الی لغات أخری، حيث نلاحظ بأن الشعر سرعان ما يفقد الوزن والقافية في اللغة الثانية مع الترجمة، لذا هنالك من رأوا غلوا بأن الشعر غير قابل للترجمة، لكنه بأعتباره عملا انسانيا ذات مضمون روحي يتقاسمه الجميع علی وجه الخليقة،  وبطبيعته يطرق أبواب وجدان الجميع، يخاطب القلب والعقل قبل أن يكون مصطلحات لغوية، فهو أقرب من الكل ودون الاستثناء.

تكتب سوزان برنار في هذا الصدد عن قصيدة النثر  كيف تمرد علی السائد وفي النتيجة لم تخرج عن دائرة الشعر بأخضاعها لقوانين أخری مماثلة لكن في ثوب العصرنة، شكلا ولغة : "والمٶكد أن قصيدة النثر تنطوي علی مبدأ فوضی وهدام، اذ نشأت من التمرد علی قوانين الوزن والعروض، واحيانا علی القواعد العادية للغة. لكن كل تمرد علی القوانين الموجودة مجبر-  فيما لو أراد تقديم عمل أدبي قابل للأستمرار-  علی أن يحل محل هذه القوانين قوانين أخری، خشية الوصول الی ما هو غير عضوي وفاقد للشكل. وهي -  في الواقع-  ضرورة  خاصة بالشعر".(٤)

هنالك جوانب مهمة ورکائز قوية يبنی عليها أي عمل شعري بغض النظر عن انتمائه الی أي مدرسة شعرية، لكننا قلما درسنا وقرأنا هذه المرتكزات؛ هنالك تفاصيل دقيقة تختزل نفسها في عمل شعري لا يلاحظها الا من يقرأ بأمعان ويتابع بتدبر، خاصة ان معظم النتاجات الادبية في وقتنا الحاضر يفتقد الی الاكتراث بە من قبل طبقة النخبة ينظر اليها ويحكم عليها بشكلها الظاهري کوحدة واحدة دون التفكيك والتشكيل والتجزئة، لكنها في الأصل هي قطعة فنية يمكن لأي حرف من حروفها أن تنقلب موازين المعنی. فهناك من الشعراء من يحرص على تحسين مهاراته اللغوية في النصوص، وما يتطلبه ذلك من نحو وصرف وإملاء ونحو ذلك، لكن نصه في الأخير لا يٶدي دوره، ولا يحدث أي رجفة أو اهتياج في النفس وبناء علیه لا نتأثر به ولا يهزنا من الاعماق كي نعتني بە ونحفظه ونتعاطی معه.

بما لاشك فيه ان هنالك ترابط وثيق بين الکلمة والفكر لصياغة المعنی، فالمعنی ليس لوحده تتحرك داخل نص ما بمعزل عن الکلمات، فهما وجهان لعملة واحدة، يستحسن الشاعر المجيد استعمالها وايجاد الترابط بين مجمل الكلمات والمعنی العام للنص وهذا ليس الا وليد الفكرة، فكل عمل أدبي دون الفكرة يكون شيئا مجوفا أو ربما ينظر اليه لا أكثر من زخرفة أو نسيج ذو ايقاع معين، فالانتقاء واختيار الدال المناسب واستعماله  في موقعه الجغرافي الصحيح في النص  ليس الا استجابة لمتطلبات الفكرة وخدمة لها. بل يوءكد ويعتبر ابن طباطبا ان أول مراحل ابداع شعري ما هو تجول الفكرة في الخاطر، اذ ان الفكرة هو المعنی والغرض الموحد للقصيدة، بل أبعد من ذلك يری البعض الآخرون ان الأفكار هي التي تقوم بتشكيل القصيدة وصياغته ومن ثم يتخذ ويشكل اسلوبا معينا. وهنالك من ذهب أبعد من ذلك حينما قالوا بأن التفنن هو الذي يبتكرُ الأفكارَ ويُخفيها في الوقت نفسِه. لهذا ينحاز الشاعر والناقد الانجليزي شيللي الی الانسجام في الفکر أكثر من اخضاعه لنظام شكلي معين حيث يكتب في (دفاعا عن الشعر): "انطلاقا من وجهة نظر فلسفية دقيقة، لا يمكن التقسيم الشعبي الی نثر وشعر. فليس من الضروري أبدا أن يخضع الشاعر لغته لنظام معين من الأشکال التقليدية، وذلك بشرط أن يراعي الانسجام في فكره".(٥)

اذن ايجاد فكرة مناسبة لنص شعري هو أول مرحلة انجاز العمل الانتاجي، وجدير بالذكر ان كل ماتقع تحت أصناف المعاني  مثلما ذكره الجاحظ في (البيان والتبيين) يتحكم بها الفكرة ويوظفها في موقع صحيح في جغرافيا النص متماشيا مع النواة الاولی والفكرة العامة والتشعبات المقطعية : "جميع اصناف الدلالات علی المعاني من لفظ وغير لفظ، خمسة أشياء لا تنقص ولا تزيد، أولها اللفظ ثم الاشارة، ثم العقد، ثم الخط، ثم الحال التي تسمی نصبة، والنصبة هي الحالة الدالة، التي تقوم مقام تلك الأصناف، ولا تقصر عن تلك الدلالات... والاشارة واللفظ شريكان، ونعم العون هي له، ونعم الترجمان هي عنه، وما أكثر ما تنوب عن اللفظ".(٦)

من الجانب الآخر هنالك من يعتبرون أن الفكرة هي مرادف للألهام، وهي بمثابة النواة في النباتات والثمار، لا يمكن الغنی عنها، فعلی سبيل المثال نری من الشعراء المجيدين ينقصهم هذا العنصر لأدامة صنعتهم وهم بأمس الحاجة اليه، فلربما يكون هذا أحد المٶثرات السلبية والعوامل الفعالة للتثبط والعزوف عن كتابة الشعر لفترة ما، لغاية استعادة المادة الخامة والطاقة المعنوية اللازمة لأيجاد ولم الأفكار ونضجها من جديد كي تنفجر منها قصيدة متجددة مبتكرة، يمكن لهذه الافكار أن تأتي من العناصر الحياتية اليومية، كالعلاقات والاحداث والاسفار والمشاهدات، سواء أكان المٶثر صغيرا أم كبيرا، قريبا أم بعيدا.. ثم تتحول الی فكرة لنص ما، مع التشكل في أساليب شعرية عن طريق استخدام ادوات شعرية مناسبة لتَّشكيل نص ما: من تنظيمِ وتریيب الألفاظِ والمفردات والمقاطع والاستعانة بعلوم البلاغة من التشبيه والمجاز والاستعارة والرموز وصور من الخيال واستكمال التكوين الشعري مجتمعة بعناصرها الأربع حسب تصانيف بعض النقاد: (المضمون، البناء، المعجم، الصور الشعرية) ولكي نتميزه عن الأصناف الأدبية الأخری.

لقد أوضحنا مما سبق شيئا من أهمية ايجاد وولادة الفكرة المناسبة لأي نص في داخل نفس الشاعر. ثم تأتي الدور علی الثيمة فهي لا تقل أهمية من الأول، فهي ليس الموضوع بعينه ولا ينحصر دوره في كلمة واحدة أو عنوان النص فقط، بل كل ما يتعلق بالمعاني الرئيسية والفرعية تنصف تحت عنصر الثيمة، وهي مبنية علی قواعد الفكرة، مستندا ظهرها الی تقنيات الكتابة الفعالة. فهناك من يصف الثيمة بمكانة القلب للجسد، وقد عرفت بأنها "عبارة عن صورة أو كائن أو فكرة يتم استخدامها لبيان سمات النص، فهي تعتبر الإطار الأساسي الذي يضيف عمقا وصدى إلى الأعمال الأدبية، أنها المنظار الذي يستطيع بواسطته القارئ تفسير النص"(٧).

أما ناقدتنا المتمكنة نادية هنداوي فهي تطرقت الی هذا البحث ووصفت الثيمة من وجهة نظرها وصفا دقيقا وشبهتها بالمحيط وأما الموضوع فهو کالبحر وأما الفكرة فهي القارب. أي ان الثيمة أشمل وأكبر من الموضوع، فاذا انحصر الموضوع في كلمة أو تعبير واحد، فان الثيمة تستوعب كل المتعلقات الفرعية للمعاني واحالاتها فيما تنطويها المقاطع النصية قاطبة، وهي كما يقول رولاند ب. توبياس: "نظام توجيه يعمل بالقصور الذاتي لخدمتك".(٨)

مع ذكر ما سلفناه، لا يقتصر النص الجاد والناجح علی هذين العنصرين فحسب، بل يبحث الشاعر عن تقنيات متميزة لصياغة الفكرة والثيمة لأيصال مبتغاه واكتمال انجازه الشعري بتميز ونجاح.

تتضمّن التِّقنيَّات الشِّعريَّة المُختلفة عاملا مهما لأضفاء الطابع الجمالي علی النصوص الشعرية بأنواعها الثلاث: الشعر العمودي  وشعر التفعيلة أو قصيدة النثر، وهي مجموعة أدوات كالـ:  التّكثيف، التّشكيل، الرموز، التعابير، التناص، الاستلهام، المجاز والتشبيه والاستعارة والخيال وغيرها. بحيث تبرز هنا دور اللغة واستخداماتها البلاغية وما تحتويها من فنونها لصياغة النص بما ينسجم مع ما اختاره الشاعر مسبقا ورسم خريطته في مخيلته، ثم ينجرف في شكل سيل جار يأخذ مجراه  من منبعه الخام داخل النفس الی مصبه ثم البدأ بمرحلة المراجعة والتصحيح والحذف والاضافة قبل النشر.

كما يزيد البعض الصدق علی هذه التقنيات كعامل مساعد لتقوية ثيمة النص متماشيا مع اختيار موضوع الشعر اختيارا أمثل، حيث يعتبر هذا الأمر في غاية الأهميّة؛ لأنّه هو الذي يُشعل الحِس الداخلي في الشاعر، لذا يجب الحرص على اختيار الموضوع بعناية، بأن يُعبر عن الشاعر نفسه أو يكون قريبا من عالمه ورٶاه ومبادئه وقناعاته الذاتية، هنا يبرز أداء الشاعر، سليقته وقريحته الشعرية وتلاعبه الفني  للثيمة المتجددة المبتكرة التي اختارها وترابطه بخيط غير مرئي بالمتلقي، فمثلًا لا يُمكن لرجل غني كتابة قصيدة عن معاناة الفقراء مثلما يكتبها رجل فقير، كما لا يُمكن لرجل غير محب كتابة قصيدة غزل أو حب مثلما يكتبها رجل عاشق.(٩)

يقول  القرطاجني حول منازل الشعراء من المعاني: "فمراتب الشعراء فيما يلمون بە من المعاني اذن أربعة: اختراع واستحقاق وشرکة وسرقة، فالاختراع هو الغاية في الاستحسان، والاستحقاق تال لە، والشركة منها ما يساوي الآخر فيه الأول فهذا لا عيب فيه،  ومنها ما ينحط فيه الآخر عن الأول فهذا معيب، والسرقة كلها معيبة وان كان بعضها أشد قبحا من بعض"و "ان المعاني منها ما يقصد أن تكون في غاية من البيان علی ما تقدم، ومنها ما يقصد أن تكون في غاية من الاغماض، ومنها ما يقصد أن يقع فيه بعض غموض، ومنها ما يقصد أن يبان من جهة وأن يغمض من جهة"(١٠)

ختاما لا يسعني الا ان أذكر ما ذكرتها سوزان برنار عن أسباب مركزية دور رامبو في تأريخ حقبة ماقبل السوريالية الی يومنا هذا  لأنه كان أول من أكد –بقوة-  علی علاقة الضرورة بين الصيغة الشعرية الجديدة وهذا البحث عن المجهول، الذي يجعل من القصيدة الحديثة محاولة ميتافيزيكية، أكثر من كونها شكلا فنيا.(١١) فلا ننسی الطبع السائد في الحقبة الجاهيلية من الشعر العربي عندما ربطوا الألهام الشعري بعوامل غير مرئية كالجن أو ما يسميه البعض بشيطان الشعر، لكنه في الأخير ان الشعر هو أقرب نوع أدبي من روح الانسان، لا دخل له لا بالشيطان ولا الجن، اذ تعتبر الجوانب الغيبية في الانسان بكينونتها الثلاث(النفس، الفكر، الروح) المصدر الحقيقي لنبع الشعر الصافي، وهذا هو حال الشاعر الماهر المجيد الذي سيصقله بتجاربه النظرية المعمقة في علوم الشعر واللغة وبتجاربه الحياتية العملية.

***

سوران محمد - شاعر ومترجم وناقد

................................

المراجع:

The Use of Poetry and Use of Criticism، T.S. Eliot،1986 by Harvard University Press١-

٢- القرطاجني، أبي الحسن حازم، (منهاج البلغاء وسراج الادباء)، تحقيق: ابن خوجة، محمد الحبيب. الطبعة الثالثة، دار العربي الاسلامي، السنة ١٩٨٦، بيروت. ص١٩٢

٣- أبي عثمان عمرو بن بحر بن محبوب، الجاحظ (البيان والتبيين)، تحقيق السندوبي، حسن، دار أحياء العلوم،

ص٣١- ٣٢.

٤- برنار، سوزان (قصيدة النثر من بودلير حتی الوقت الراهن)، ترجمة: صادق، راوية، دار شرقيات للنشر والتوزيع، السنة ٢٠٠٠، الجزء الاول ص ٣٤

٥- المصدر السابق ص ٢٩

٦- مصدر رقم ٣/ ص ٣٢- ٣٣

٧- مفهوم الثيمة في النص الأدبي، عباس، عبد الكريم حمزة (الناقد)

iraqpalm.com/ar/article/- Theme

٨- هنداوي، نادية، «الثيمة» تلك البوصلة الخفية

hindawi.org/books/41862715/12

٩-  منصور، حسن عبد الرازق، الشعر والعقل-  منهج للفهم، دار أمواج للطباعة والنشر والتوزيع،٢٠١٤، ص١٠٣.

١٠- مصدر رقم ٢، الصفحة١٧٧، ١٩٨.

١١- مصدر رقم ٤، ص ٣٤.

تراجيديا محرقةُ المعنى وقيامةُ الدم.. قراءة فلسفية في بنية الفجيعة / الاديب والشاعر يحيى السماوي

(١) القراءة النقدية الاولى: الطفُّ.. ميتافيزيقيا المنازلة الكبرى:

 في هذه القراءة النقدية المركبة سأحاول أن أغوص في اعماق الجرح المفتوح، واحلل كربلاء الطف لا كحدثٍ تاريخي، بل كـ ميتافيزيقيا المنازلة الكبرى، حيث الاصطفاف لم يكن بين سيوف ودروع، بل بين النور والعدم، بين الإنسان والوحش، بين الله والفراغ.

 اذن، لنقترب، لكن بحذرٍ شديد.. فكربلاء ليست نصًا يُقرأ، بل نارٌ تُكوى بها الروح، وصوتٌ لا يزال ينادي:

 “ أما من ناصرٍ ينصرني؟ "

 لذلك لم تكن كربلاء أرضًا فحسب، بل كانت المِحكّ الأخير لإنسانية الحسين وصدقه لمبادىء دينه الحنيف.

 رأيت في الطفِّ، الحسين (ع) لم يكن رجلًا وحيداً خرج لطلب الإصلاح …بل كان الكون نفسه يُعيد تعريف ذاته، وكانت القيم تتعرّى أمامه لتظهر على حقيقتها:

 مَن الذي بقي مع الله؟

 ومَن الذي باع دينه بدرهمٍ ؟

 أو من باع دينه بخوفٍ أو بحقدٍ دفين؟

 أيّ وجعٍ أعمق من أن ترى وليدًا يُذبح على صدر أبيه، لا لذنبٍ جناه، بل لأن السيف خاف من بكاء الطهر؟

 أيّ مأساةٍ أفجع من أن تُسبى بنات النبي، والناس يهلّلون في الأسواق؟

 كشاهدنا في الطف، لم تكن هناك رايتان، بل ميزان: ميزان الدم والمعنى.!

 لذلك لم تكن في الطف مناطق رمادية أما أبيض وهو الفوز العظيم وأما أسود وهو عار التاريخ الى يوم الدين.

 ما وقف الحسين وحيدًا، ليشرب من كأس الفناء، إلا لكي لا تموت الكرامة ولا يضيع الدين، فقدم أطفاله واولاده واخوته واصحابه قرابين، كي لا يُذبح الضمير في مهده، ويعيش الطغيان.

 إن ما حدث في الطف لم يكن “معركةً” فقط، بل كان “انقلابًا كونيًا” سقطت فيه الأقنعة، وارتقى فيه الحسين من جسدٍ إلى فكرة، ومن دمٍ إلى خلود.

 ولذلك وثق المؤرخون ان كربلاء لم تكن حدثًا في التاريخ فحسب، بل هي لحظة انثيالات وجودية تتكرّر كقدر، وتستحيل رمزًا للتراجيديا الإنسانية في أقصى تمثّلاتها الأخلاقية والميتافيزيقية.

 من هذا الأفق نلج إلى قراءة النصوص الحسينية لا كأدب رثائي، بل كأدب فلسفي يعيد تشكيل العلاقة بين الإنسان، والألم، والحق، والمطلق.

 في هذه القراءة، نقرأ تراجيديا الفجيعة الحسينية بوصفها محرقةً للمعنى بمعناه الأخلاقي في مواجهة العبث، وقيامةً للدم بوصفه المعادل الرمزي لثورة الوعي الأخلاقي والروحي.

أولاً: من الرثاء إلى الفلسفة..

تحوّل النصّ الحسيني:

 يمثّل الشعر الحسيني منذ بداياته، خصوصًا في العراق، امتدادًا لفكر الثورة الماورائي، حيث يتقاطع فيه:

 المأساوي بالديني، والتاريخي بالميتافيزيقي، والواقعي بالرمزي.

 وفي قلب هذا التحوّل، يتحوّل الرثاء من بكاء إلى احتجاج جمالي، ومن دمعة إلى بنية إدراكية للمعنى.

 الشاعر يحيى السماوي هنا لا يرثي ميتًا، بل يستحضر القضية بوصفها مرآةً للوجود الإنساني المأزوم.

 في قصائد الطفّ الحديثة، ومنها قصيدة (شكوى حسينيٍّ تأبّد حزنه)، للشاعر الكبير يحيى السماوي نشهد استدعاءً فلسفيًا للحسين بوصفه صورة الحق الكامل، لكنه أيضًا صورة الإنسان في أقصى تجلياته.

ثانيًا: تراجيديا محرقةُ المعنى:

فلسفة المعنى في الطف:

 حين يواجه الإنسان فجيعة تُجهض كل قوانين العدل، فإن السؤال لا يكون عن الحدث، بل عن “معنى الحدث”. الطفّ بهذا المعنى هو سؤال الإنسان الأزلي:

 هل للحقّ جدوى في عالم تحكمه السيوف؟

 وهل يستحقّ المعنى أن يُذبح لأجل أن يبقى؟

 في الطفّ، أُحرِق المعنى مرّتين:

 مرّة عندما خُذل الحسين،

 ومرّة حين قُتل وهو وحده يصلي

لضمير الكون.

لكن هذا الحرق ليس موتًا، بل هو نفيٌ للزيف. فالمعنى لا يولد إلا من النار. من هنا، تتحوّل الفجيعة إلى محرقة كاشفة، لا للمظلومية فحسب، بل لهشاشة النظام الأخلاقي الذي يسكت عن الجريمة.

ثالثًا: قيامة الدم حين يصير الجسد لغةً أبدية

فلسفة الدم كرمز للثورة الوجودية:

 في الأدبيات الدينية، الدم رمز للتضحية، لكنه في الفاجعة الحسينية تحوّل إلى خطاب فلسفي قائم بذاته. فالدم الحسيني لا ينزف عبثًا، بل يعلن عن قيامة المعنى.  إن كل قطرة دم في كربلاء هي “بيان ثوري” على صمت الضمير الإنساني، ولذلك فهي لا تجف، ولا تنسى.  من هنا، يصبح الدم في شعر الطفّ علامة على الحياة لا على الموت، وعلى الحضور لا على الفناء. هو حضورٌ أبدي في ضمير اللغة والتاريخ.

رابعًا: تراجيديا الاختيار..

فلسفة القرار في مواجهة الحتم

 يُنظر إلى كربلاء أحيانًا بوصفها فاجعة مفروضة، لكن الشاعر الحسيني السماوي يرى فيها قرارًا وجوديًا – ميتافيزيقيًا.  فالحسين لم يُسق إلى المعركة، بل اختارها. وهذه الفكرة تضعنا أمام جوهر التراجيديا:  أن تكون قادرًا على النجاة، ومع ذلك تختار الهلاك، فقط لأنك لا تحتمل الحياة دون معنى.  وهنا تتقاطع الفلسفة الوجودية مع الطفّ. الحسين يشبه سقراط، لكن أكثر منه قربًا للسماء. ويشبه بروميثيوس، لكن دون أن يسرق النار، بل يصير هو النار.

خامسًا: تراجيديا الجمال حين يكون الألم شعرًا

في شعر الطفّ، لا نقرأ بكاءً فقط، بل جمالًا غريبًا متعالياً، يقدّس الألم لا بوصفه عجزًا، بل بوصفه شكلاً ساميًا من أشكال البقاء. الألم هنا ليس عاطفة، بل بنيةٌ شعرية وفلسفية تنقذ الإنسان من تفاهة الحياة.

 إن النصّ الحسيني يعيد تعريف مفاهيم: القوة، الصبر، الجمال، الوفاء، البطولة، الموت على حق.  وهكذا، فإن تراجيديا الحسين ليست عن القتل، بل عن البقاء، ليست عن القبر، بل عن القيامة.

خاتمة:

 “الطفّ” هو المأساة التي صنعت حضارةً أخلاقية. كل قطرة من دم الحسين كانت نبيًّا صغيرًا،  وكل دمعة هي يقظة جديدة في ضمير العالم.  من هنا فإن التراجيديا الحسينية ليست مجرد موتٍ جميل، بل قيامة مستمرة للمعنى في وجه العالم المتوحش.

 لقد اختار الحسين أن يكون هو اللغة حين خرست الكلمات، وأن يكون هو النور حين عميت البصائر، أن يكون هو المعنى حين صار العالم خواءً.  وها نحن، بعد ألف عام، لا نزال نحبو في رُكبه… شاعرين… أو حزانى… أو مندهشين.

(٢) القراءة النقدية الثانية: تراجيديا محرقةُ المعنى وقيامةُ الدم.. قراءة في البنية الفلسفية والرمزية

واقعة كربلاء ليست مجرد حادثة تاريخية ولا معركة بين فريقين، بل هي حدث أنطولوجي يتجاوز الزمان والمكان، ينطوي على أبعاد ميتافيزيقية ورمزية ووجودية تعيد صياغة العلاقة بين الإنسان والمقدّس، بين الدم والحق، بين الموت والحياة.  في “الطف” لا نقرأ التاريخ فقط، بل نقرأ سؤال الإنسان عن جوهره، عن قيمه، عن حدود صموده حين تكون العدالة ذبيحة، والإيمان محاصرًا بالسيوف.

أولاً: الطف كحدث ميتافيزيقي

1. تحوّل المأساة إلى رمز كوني

الطفُّ ليس مجرد ساحة حرب، بل هو محراب تجلّت فيه العدالة الإلهية عبر الدم الطاهر، حيث تصبح المنازلة بين الحسين ويزيد صراعًا بين:

- النور والظلام

- الحق والباطل

- الخلود والزوال

 هنا يتجاوز الإنسان جسده ليصبح فكرة، ويتحوّل الاستشهاد إلى معراج وجودي.

2. كسر نواميس الواقع:

في كربلاء، لا تسير الأشياء وفق نواميس الواقع، بل وفق جدلية القداسة والامتحان. الحسين يسير إلى الموت طواعية، لا هربًا منه، بل ليُميت موت المعنى، ويحيي قيمة الرفض الأبدي للظلم.

ثانيًا: الوعي الحسيني كفعل حرية

1. الحسين و”القرار الحر”

الحسين لم يُجبر على القتال، بل اتخذ قراره بوعي كامل، رغم إدراكه النتيجة المأساوية. هنا تتجلى الفلسفة الوجودية في أبهى صورها: “ما خرجتُ أشِرًا ولا بطرًا، بل لطلب الإصلاح في أمة جدّي”.  في هذا الموقف يعلن الحسين أن الإنسان لا يُعرّف بما يحدث له، بل بما يختاره عن وعيٍ وإيمان.

2. ثنائية (الذات – المطلق)

يذوب الحسين في المطلق الإلهي حتى يصير فعله امتدادًا للمشيئة العليا، وتصبح المعركة عبورًا نحو التوحّد مع المعنى، لا نصرًا دنيويًا.

ثالثًا: أبطال كربلاء كرموز فلسفية

العبّاس – الفروسية المطلقة

يمثّل العبّاس الفارس الذي لا يقاتل ليَقتُل بل ليَمنع القتل. هو رمز للفداء الخالص، حيث يبلغ ذروة العطش ليمنح الماء لغيره.

زينب – فلسفة الصبر والصوت المقاوم

بعد المذبحة، تتجلى زينب كضمير ناطق للتراجيديا، فتتحوّل من أنثى في منفى الألم إلى فيلسوفة وجودية تحاكم القتلة وتؤرّخ للحقيقة.

رابعًا: ميتافيزيقيا الدم وقيامة المعنى

الدم كقيمة وجودية:

الدم في كربلاء لا يُراق عبثًا، بل يتحوّل إلى لغة صوفية، يُكتب بها التاريخ المقدّس، ويُرسم بها وجه الحريّة.

القيامة الرمزية

كل سنة تعود كربلاء لا لأنها لم تنتهِ، بل لأنها تحوّلت إلى رمز خالد: كل أرض كربلاء، وكل يوم عاشوراء. هنا تصبح الذكرى مقاومة دائمة ضد كل طاغية.

خامسًا: التراجيديا الفلسفية:

واقعة الطف لا تُختزل بالحزن بل تتجاوزه إلى تراجيديا فلسفية ينتصر فيها الموت الشريف على الحياة الذليلة. بهذا تصبح المأساة حسينية لأنها تُوقظ المعنى فينا، وتُعيد تعريف مفردات البطولة والكرامة.

خاتمة: كربلاء ليست ذكرى نحييها، بل فلسفة نعيشها. وهي منازلة بين الوجود والعدم، بين الروح والسلطة، بين المعنى والفراغ.  الحسين لم يمت، لأنه لم يكن جسدًا فقط، بل كان حقيقة تمشي على الأرض، و”الحق لا يُهزم حتى لو انكسر الجسد”.  وحدهُ الحسين، كان يعرف أن الطريق إلى كربلاء ليس ممهدًا بالنصر، بل مفروشٌ بجثث الأحباب، وصرخات الأطفال، وعطش الرُضّع، وغصة النساء.  لكنه سار… لأنه كان يعلم أن المعنى لا يُكتب إلا بالدم، وأن القيم لا تُبنى إلا على رماد الأجساد الطاهرة.  في الطفّ، لم تكن المعركة بين جيشين، بل بين السماء وكل ما هو دونها.  كان الحسين لا يقاتل فقط سيوف الطغيان، بل ينازل الفراغ الأخلاقي الذي اجتاح أمة كانت يومًا تهتف: “نحن أنصار محمد !.  وها هي اليوم الطف تسحق قلب ابن محمد. الطفُّ ليست مأساة فقط، إنها سؤالٌ مفتوح على الزمن.  كربلاء ليست جرحًا قديمًا يُبكى، بل جرحٌ حيّ يُفتح كل يوم، في صمتنا عن الظلم، في سكوتنا عن الذل، في كل مرة نضعف فيها أمام القهر.  الحسين لم يمت، لأنه قرر أن يموت ليحيا. وها نحن، بعد أكثر من ألف عام، ما زلنا نبكي…لا لأن الحسين مات، بل لأننا لم نعد نملك شجاعة الحسين، ولا يقين الحسين، ولا حب الحسين للحق.

فيا دم الحسين خذنا إليك لعلنا نغتسل منك، ونولد من جديد.

شكر وامتنان للشاعر الكبير يحيى السماوي أيها الشاعر النبيل… في زمنٍ أضحت فيه الكلمات باردةً كالحجارة، بعثتَ من وهج الولاء قصيدةً حسينية دافئة، ناحت فيها الروح قبل الحروف، واستصرخت الوجدان قبل الأوزان.

أشكرك جزيل الشكر على هذا النزف الطاهر، الذي لا يُكتب بالحبر، بل بالدمع، ولا يُلقى على الورق بل يُسجّل في الضمير. لقد أعدت للحرف قدسيته، وللرثاء طهره، وللثورة معناها النبيل. قصيدتك ليست نصاً يُقرأ، بل طقس ولاء يُمارس، ومحراب عشق يُصلى فيه. دمتَ منارة من منارات الأدب الحسيني الرفيع، وراية مرفوعة في سماء الحق والجمال. دمت بهذا الألق الجميل.

***

الناقد الدكتور عبد الكريم الحلو

...................

للاطلاع على القصيدة

يحيى السماوي: شـكـوى حُـسـيـنـيٍّ تـأبَّـد حـزنـه

للشاعر زياد كامل السامرائي

يحاول الشاعر ان يرسم خطاً شعرياً خاصاً به، وبلغة تخاطب القارئ شعورياً في إحساسها العميق، بما يملك من قدرات شعرية متمكنة من الصياغة والرؤية الفكرية والتعبيرية الدالة، يتوغل في مخيلته الشعرية كي يخلق حالة التساؤل والتأمل، ليفتح المدارك الذهنية لدى القارئ بالتأمل، ليدرك حجم الصراعات الحياتية والوجودية، ومعضلاتها وتناقضاتها القائمة، التي تتحرك بين الوجع والحلم، في الواقع محبط ومخيب، الذي لا ينتج سوى الهزائم والانكسارات النفسية، في عالم مضطرب ومشوش في هشاشته، بين المحسوس واللامحسوس، في زمن يغوص في اليأس والحزن والتخبط، كأنه يدور في حلقة مفرغة بالدوران، مما تؤثر على خلجات النفس التي تجد نفسها محاصرة من كل الجهات، هذه الارهاصات لا تترك فسحة من الحلم، وعلى هذا المنوال يعزف او يضرب على وترها الحساس، في براعة تشكيل الصور الشعرية الباذخة في المعنى، والقادرة على الاثارة في تحفيز القارئ، ان يفتش عن هذه المعضلات بالقراءة العميقة المتأنية، ان يرصد تفاعلاتها الذاتية والموضوعية، حتى يرصد مساحات الوهن والخلل في منصات الحياة والوجود المتشابكة، في الفعل ودراماتيكية الحركة، وتحاول ان تجد مخرجاً لها من عنق الزجاجة، لذلك نجد عناوين نصوص القصائد صادمة غير مألوفة، على سبيل المثال في ذكر بعض العناوين المجموعة الشعرية (عمر بعيد عن المرمى): أقيم في ورقة. حلم لم يزدهر. قراءة لعش الحمامة. ثماني عقود شمعة واحدة. لجوء غويا الى الوثبة. عمر بعيد عن المرمى. نهر نحيل جنرال أعمى. مدن بلهاء. ذو الساق الواحدة. ساعي الدموع يطرق مرتين.... وغيرها من العناوين التي تثير حواس وذهن القارئ بشكل مرهف. لكي يؤكد بأن الإحباط في سيكولوجية النفس تحمل مشروعية في القلق والهواجس، بأن عالم الخارجي يؤثر على العالم الداخلي أو الذاتي، يحاول محاورة القارئ شعورياً للخروج من هذا العالم المتشابك، لكن لاشيء يترك مسحة من الفرح، سوى الالم والاحزان، هكذا يرسم لوحاته الشعرية في براعة الوصف والتصوير، لكي يوضح بأن العمر بعيداً عن الهدف ولا يمكن الوصول إليه في اصابة المرمى، انها في حالة دوران، كأن لا جديد تحت الشمس، يعني مشاعر الذات تقع في مثلث من الحزن واليأس والالم، العمر يتجرع المراثي في محطات العمر.

× قصيدة الدوران:

أنحتفل بسنة جديدة

ونحن وجها لوجه في دمي !

نفتح بها قلبينا الواحد

لنغازل نجمتينِ

لا يمسّهما جُرح

ولا يتعبُ من دوراننا فجرا

يذوب في شفتينِ

لانّا شربنا من شطآن العيون

مراثي وأغنيات.

العمر بلغ سن الرشد، ولم يمرعليه طيف ينعش العمر بالتماهي بحضوره، كأن الحياة جدبت لا يمر عليها المطر، مثل الروح التي لم تجد حلم يزدهر وينمو، بل ان حلمها لا يزدهر، سوى في المعاناة تنمو وتكبر، والحلم لا يمر سوى في مخيلته كشاعر.

× قصيدة: حلم لا يزدهر:

بلغتُ "سن الرشد"

ولم يأسرني أي حُلْم

الا كشاعرٍ..

لكني أتسائل: كيف خرج ذلك الحُلْم

من حَنجرة الكلمات

ولم يُزهر !

× الأم حاضرة في قصائد المجموعة الشعرية، كما هي حاضرة في القلب، وان الخالق اعطاءها منزلة عظيمة،خلق الجنة تحت اقدامهن، لذا فأن النص الشعري من قصيدة (ثمانية عقود... شمعة واحدة) موجهة الى كل امهاتنا جميعاً الى الام العراقية بالذات، التي تحملت اطنان من الوجع والالم، لكنها ظلت مكابرة في قلبها الحنون الى فلذات كبدها، لهذا يهدي القصيدة الى الام بمناسبة اليوم العالمي للمرأة، ينحني العمر كله، بل تنحني النخيل تحت اقدامها.

ذلك المحراب الذي أضاء صلاتنا في ظلام الأبديّة..

روّى أفاريز القلب المتورَّد بخفقاتٍ منها ولها، فقد نحيا سنوات نناجيها وقد لا نحيا دونها.

ترتجف الكلمات والجُمل، حاسرات البصر، حائرة على باب وصفكِ ولو بــ "خُصلة" واحدة منكِ.

لكني أكتبُ لكِ ارتباكي و أنا في لجّة الأرض وأحشاء المصير..

لا عذر أقدّمُه اليكِ اليومَ.. انْ هي الجنّة تحتَ أقدامكِ خاشعة راكعة مُستبشرة، منذ القيامة الأولى لشهيق القلب. فما بالها الحياة تستغرقنا، تلفّنا بعبائتها السوداء دونكِ.

قصيدة: لجوء (غويا) الى الوثبة

قصيدة مستوحاة من لوحة (الثالث من مايو 1808. للرسام الإسباني الشهير فرانشيسكو دي غويا، أثناء الاحتلال الفرنسي بقيادة نابليون لإسبانيا وكيف جسدت تلك اللوحة براعة وتراجيديا شجاعة المقاومة عند الإسبان)، يسحبها لطقوس العراقية الى سوح النضال وسط بغداد، اشتعلت فيها الاحتجاجات ومظاهر الرفض للسلطة والأحزاب المتسلطة، التي فجرت انتفاضات الشعب، سواء في ساحة الوثبة، او في ساحة التحرير في انتفاضة تشرين عام 2019، والتي جابهتها الحكومة بالقتل والقمع والاختطاف والتخوين، رمزية اللوحة، بتقابل جيشين في المواجهة الحادة والدموية، الأول مسلح بالرصاص وآلة الموت وقنابل الدخان، والثاني مسلح بصوت الكلام (نريد وطن).

تاهتْ خطى الأرصفة كما خُطاك

منذ شتمتْ رئتاكَ عواصف الدخان

لحظة دُثّرتْ فرشاة الألوان أحلامنا

لغة خالقها على جسد من بلور

*

لتُعلنَ قيامة، لا قاتل فيها ولا مقتول

سوى لوحة باهضة تجثو فيها ثورة

يقرأ منها الزائرون فواجعهم.

قصيدة: عمر بعيد عن المرمى

وهي تحمل عنوان المجموعة الشعرية، تحمل إيحاء ورمز بليغ المعنى والدلالة، مشحونة بصدق الاحساس في الشعور الداخلي لمحطات العمر، تركض وراء الوهم والسراب، بعيداً عن المرمى أو الهدف، في عناقيد العمر لم يمر عليها سوى فصل الخريف في الصراع الوجودي، كأنها تلعب مع الزمن لعبة (الغميضة).

أنْ تحزن، وأنتَ تعُدّ القُبلات والمُدن

لا يكفي..

لأنكَ ترى من باب ذاكرتك المعطّلة

حقولا من اليأس و البكاء

وهي تشرب قصيدة عطشى

حتى آخر جذورها المحمومة

لحياةٍ ملعونة

*

موسم الهجرة الى الوهمِ

تَركَ آثارنا في البحرِ

لكنّ الحوت لنْ تعثر علينا

كُنا في السماء

نُجرّب لعبة "الغمّيضة" مع الدّب الأكبر.

× قصيدة: النص المخروم لمقتل خمبابا:

النص الشعري يحتاج الى قراءة وتأمل عميق تفكير في مسألة قتل خمبابا آله الشر على يد جلجامش وانكيدو، تحمل عدة تأويلات وتساؤلات: هل قتل الشر فعلاً ؟ هل هو يحمل دلالة قتل القديم من أجل ان يبعث الجديد من موت القديم ؟ أم ان مسألة القتل بدوافع اللهو والعبث ؟ هذه التساؤلات تفتح آفاق الاسطورة القديمة في إعادة صياغتها ومفهومها المعنى في الدلالة والإيحاء والرمز، ينبغي فهمها على ضوء واقعنا الراهن، في الصراع بين القديم والحديث.

أكتب هذا...

أنا العاجز في الأسطورة عن ذرف المراثي

لعلّ الخمرة التي تركتُها على شفاه عشتار

ينكشف منها الموج والشراع

ليتأرجح عاليا مركبي

قبل أنْ يسبح موتي في الآفاق.

*

ها أنا أتقبّل بين أيديكم الموت

كما يتقبّل الطائر الهواء

وجهان بسياجين من حديد

يلتقيان بمن سيموت

وأنا بمن سيولد

***

جمعة عبد الله

 

قراءة في البنية الرمزية والشعرية

تغدو القصيدة المعاصرة، في لحظات الانهيار الجمعي، مساحة لاستعادة الأسئلة الكبرى حول الهوية والقدر والمقدّس، عبر لغة تُقاوم المحو وتُعيد تشكيل الوعي. في هذا السياق، تبرز قصيدة "أقنعة المكائد" للشاعر طارق الحلفي بوصفها نصًا شعريًا ذا بنية رمزية كثيفة، يتقاطع فيها الذاتي بالجمعي، والميتافيزيقي بالسياسي، حيث تتحوّل التجربة الشعرية إلى مرآة تعكس تشظي الذاكرة وتكرار التاريخ بوصفه مأساة لا تنفكّ تعيد إنتاج ذاتها.

تسعى هذه القراءة إلى مقاربة القصيدة من منظور شامل، يكشف عن طاقتها الرمزية، وأبنيتها الجمالية، وخطابها الفكري والوجودي، إضافة إلى إسقاطاتها الاجتماعية والسياسية والدينية، مع إبراز مواطن القوة البلاغية فيها.

* في البنية الجمالية والتوتر الإيقاعي

تتوسّل القصيدة بنيةً لغوية متوترة، مشحونة بالصور والإنزياحات، قائمة على تراكيب مشهدية تتكئ على التكرار والتوازي والإيقاع الداخلي، ما يمنحها طابعًا طقوسيًا ونبوئيًا. يُلاحَظ منذ المطلع:

"وبِلادٍ أيقظتها دَوْرَةُ المَوتِ

وَكُثْبانُ الغِيَابِ"

أن اللغة تستدعي فضاءً رماديًا، زمنًا معطّلاً، ومكانًا مثقلاً بفقد المعنى. هذه الافتتاحية تُرسي أُسس الرؤية الشعرية القائمة على استدعاء الموت لا بوصفه نهاية بل كـ "دورة" دائمة، تُنتج الغياب وتعيده، وكأنّ التاريخ يتحرك في فلكٍ مغلق من العنف والتكرار، كما ان التشظي الإيقاعي في الجمل الشعرية يُعبّر عن انكسار داخلي، ويخدم الدلالة، ويعكس تهشّم الوعي الجمعي الذي تتحدّث عنه القصيدة بوضوح.

* الرمز الديني بوصفه أداة للمساءلة لا للتبرير

تتداخل في القصيدة إشارات دينية متعددة، تُطرح لا كمسلّمات عقائدية، بل كمفاهيم قابلة للتأويل تُخضع للمساءلة. يبرز ذلك في قوله:

"حينَما طَوّقها اللهُ بِملهاةِ الحُروبِ

فذَبَحنا بِاِسمِهِ أهلنا دُونَ لُهاثٍ"

هذا المقطع يُعيد إنتاج خطاب القتل المقدّس بلغة صادمة، حيث يُستحضر اسم الإله في سياق التبرير للذبح، في نقد ضمني لانتهاك القداسة وتوظيف الدين لتبرير الدماء. إنه توظيف شعري للمقدّس بوصفه ساحة تأويل مشروعة، تُفتَح فيها الأسئلة لا لتُغلق.

وتتجلّى المفارقة في صورٍ رمزية أخرى:

"مِهْرَجانًا لِمَسيحٍ كبّلتهُ الفاجعات،

او إزارًا لِشَفِيعٍ تَرتَجيهِ المعجزات"

في هذا التشكيل الشعري، تُستعار شخصية المسيح، لا بوصفه مخلِّصًا لاهوتيا، بل كرمز فادح النبل، ضحية أخرى تضاف الى سلسلة لا تنتهي من المصلوبين، أولئك المكبَّلين بالفواجع، في مشهد يتكرر في تراجيديا إنسانية، لا بخلاص موعود. اما الشفيع الذي".. ترتجيه المعجزات"، فهو ليس سوى المخلص المنتظر او المنقذ الغائب الذي تعلق عليه الآمال في زمن عز فيه الفرج.

* الرؤية السياسية والاجتماعية ـ من مركز الفعل إلى هوامش العبودية

تكشف القصيدة تحوّل الذات الجماعية من موقع "المرجِع" إلى موقع "العبودية"، بلغة تفضح التقهقر والانهيار:

"مَرْجِعًا كَنَّا وَأصْبَحْنا عبيدًا لِلجنودِ القَتَلَةْ

مَرْجِعًا كَنَّا وَأصْبَحْنا خُطامًا في مَزادِ السَّفَلَةْ"

يُظهر هذا التحول قطيعة رمزية مع التاريخ المجيد، ويتحول الفاعل الجمعي إلى مفعول به ضمن ديناميكية محو الوعي والكرامة. يتكرر مفهوم "القدر" كقوة ضاغطة تحكم وتُقصي وتُسقط:

"قَدرًا.. يَطرُدُنَا بَعْضُ رجالٍ

قَدرًا.. يَحْكُمُنا نِصْفُ رِجالٍ"

القصيدة تُحمِّل الواقع السياسي مسؤولية الانهيار، من خلال التلاعب بمفاهيم الرجولة، والسيادة، والشرعية، وتُسقط عنها أقنعتها لتُظهر هشاشتها.

* جدلية الرماد والقيامة ـ انتظار المعنى خلف ميعاد المعاد

يستمر النص في اشتقاق تأويلات رمزية من المفردات الدينية ("التيمم"، "الصلاة"، "الرحمة"، "الميعاد")، ولكنه يعيد توظيفها خارج سياقاتها الطقسية، لتكون إشارات إلى عجز الخلاص وتأجيل المعنى:

"فاسْتَكانَتْ خامَةُ المَعنى رَجاءَ الاِخْتِباءِ

خَلف مِيعادِ المَعادِ"

إنها صورة ميتافيزيقية للمعنى وقد استتر، وتحوّل إلى رجاء مؤجل، إلى قيامة محتجبة، ما يُضفي على النص بُعدًا فلسفيًا/ وجوديًا، يُعبّر عن ضياع البوصلة في زمن الانهيار المعنوي.

* إسقاطات معاصرة ـ التاريخ كأقنعة متكرّرة

تنبني القصيدة على ما يمكن وصفه بـ "فلسفة الأقنعة"، حيث تتكرّر المآسي بأوجه جديدة، ولكن الجوهر واحد:

"دَوْرَة اخرى سَتَأْتي

بِمَرَايا الأقنِعةْ"

إنه تكرار قاتل، لا يحمل أملاً في التجديد، بل في المراوغة، و "فيَض الصليل" هو تعبير عن انفجار عنفٍ مسلّح، فُرض قسرًا في مجتمعات تُدار بالمكيدة لا بالعدالة.

يُسقط النص هذه البنية الدائرية على الواقع العراقي بخصوصيته، والعربي بعموميته المتقاربة، بما يعانيانه في "مزاد السفلة"، و "خُطام العبودية"، حيث تُباع القيم، ويُدفن الأمل في رماد الخراب، وتُزيَّف المآسي باسم الاحتفالات.

* مقارنة مع نماذج من الشعر العالمي ـ في المأساة ووحدة الوجع

يتقاطع صوت القصيدة العربية في "أقنعة المكائد" مع أصوات شعراء عالميين عبّروا عن الألم الجمعي والحروب والدمار الأخلاقي، بأساليب شعرية كثيفة الرمزية، مثل:

1. باول تسيلان الشاعر الالماني في قصيدة "أنشودة الموت"

واحد من أبرز شعراء ما بعد المحرقة، كتب تسيلان شعرًا يفيض بالتجربة الجماعية للموت، ويُعيد تفكيك اللغة ذاتها بوصفها أداة للخلاص والموت معًا. في قصيدته "أنشودة الموت"، يقول:

"الحليب الأسود للفجر، نحن نشربه مساءً

 نشربه ظهرًا وصباحًا، نشربه ليلًا

 نشربه، نشربه"

تسيلان، كما شاعر "أقنعة المكائد" طارق الحلفي يوظف التكرار الطقسي لتكريس فكرة الدائرة العبثية، ويربط الموت بالمقدّس عبر صورة "الحليب الأسود"، تمامًا كما يربط شاعرنا الصلاة بـ "الرماد"، والوضوء بـ "حصاد الدم"، وهو ما يمنح النص العربي بعدًا كونيًا مشتركًا في مأساوية التجربة البشرية.

2.  ت. س. إليوت ـ الشاعر الانكليزي في "الأرض الخراب"

في رائعته الشهيرة، يرسم إليوت لوحة ما بعد الحرب، حيث الرماد يحل محل المعنى، والقيامة مؤجلة، والإنسان يعيش في "أرض خراب". يقول:

"أبريل أقسى الشهور

 يخرج الليلك من أرض الموت"

إن ثنائية القيامة/ الدمار عند إليوت تُقابل تمامًا ثنائية "الرحمة من رحم الرماد" في "أقنعة المكائد" كلا الشاعرين يستدعي الميثولوجيا والدين، ولكن لا كوسائل خلاص، بل كأدوات تفكيك للمأساة.

3. فيسوافا شيمبورسكا في"نهاية وبدء"

في قصيدتها "نهاية وبدء" تتحدث الشاعرة البولندية الحائزة على نوبل عما بعد الحرب، عن اللحظة التي يعود فيها الناس للحياة، بينما تبقى المعاني مستترة:

"بعد كل حرب

يجب أن يقوم أحدهم بترتيب الأمور

نوعٌ من النظام

لا يحدث من تلقاء نفسه"

وهو ما يقابل قول الشاعر في "أقنعة المكائد":

"فاسْتَكانَتْ خامَةُ المَعنى رَجاءَ الاِخْتِباءِ

خَلف مِيعادِ المَعادِ"

كلاهما يعبّر عن قصور المعنى، وانهيار البُنى القيمية، وحاجة ما بعد الدمار إلى من يُرمّم الخراب الوجودي.

4.  ناظم حكمت ـ "قصيدة عن طفل ميت في الحرب"

ناظم، المناضل التركي، يُسقط في شعره الحروب على جسد الطفل، الانسان العادي، لا السياسي. يقول:

"كان يملك يدين صغيرتين،

 كان يستطيع أن يلعب بهما،

 أن يكتب بهما..

 لكنه مات"

يتقاطع هذا الحس الإنساني، البسيط والموجع، مع روح "أقنعة المكائد" التي تُدين تكرار المجازر باسم القيم أو الإيمان، وتُسقط الحروب على الجسد الجمعي والبراءة.

يتبين أن قصيدة "أقنعة المكائد"، وإن كانت من رحم تجربة عربية، فإنها تتناغم في خطابها الرمزي والإنساني مع تجارب شعرية عالمية كبرى، ما يجعلها قابلة للانفتاح على النقد المقارن.

 لقد استطاع الشاعر أن يوظف الحس التنبّئي والألم الجماعي بأسلوب بلاغي يُقارب كبار الشعراء العالميين في التعبير عن لحظة السقوط، وتكرار المجازر، وغربة الإنسان في مدارات الخراب. وأن يوظّف أدواته البلاغية والفكرية لبناء نصٍ يُوازي بين الشعر والنبوءة، بين المرثية والصلاة، بين الدم والقيامة، ليمنح المتلقي تجربة شعرية مغايرة، تُلامس الألم، وتوقظ السؤال، وتدعو إلى التحرّر من "الأقنعة" قبل أن تُعاد "الدورة" مرة أخرى... كما يُحذّر النص في كل مقطعٍ تقريبًا.

***

سعاد الراعي

2025.08.04

........................

"اقنعة المكائد"

وبِلادٍ أيقظتها دَوْرَةُ المَوتِ

وَكُثْبانُ الغِيَابِ

قد دَخَلناها نُعيدُ الذِّكرياتِ

قَد دَخَلناها ومِن بابِ الحَرائِقْ

حينَما طَوّقها اللهُ بِملهاةِ الحُروبِ

فذَبَحنا بِاِسمِهِ أهلنا دُونَ لُهاثٍ

وتَوَضَّأْنا حَصادَ الدَّمِ في كُلّ تَأَنٍّ

وتيَمَّمنا ضُحى قَبلَ الصَّلاةِ

كي نُداني تَرَفَ الرَّحْمَةِ مِن رَحْمِ الرَّمادِ

قَبْلَ أنْ يَرْتَطِمَ الضَّوءُ بِأَهْدابِ الصَّباحِ

وَيَفزّ المَيْتون.

**

دَوْرَةٌ أخرى سَتَأْتي

بِطَواحينِ المَكائِدْ

دَوْرَة اخرى

يُعادُ المَشْهَدُ المترع بالموتى

ومِن دُونَ ارتيابْ

دَوْرَة اخرى سَتَأْتي

بِمَرَايا الأقنِعةْ

فَنُعاني قَدرًا سُلطانهُ فَيضُ الصّليل

قَدرًا.. يُرْهَنُ ارضًا لِضَياعٍ أَبَدي

قَدرًا.. يَطرُدُنَا بَعْضُ رجالٍ

قَدرًا.. يَحْكُمُنا نِصْفُ رِجالٍ

قَدرًا.. يَهرِبُ مِن بُرْجِ القِيامَةْ

حامِلًا أسماءَنا طَعنةُ عُريٍّ

لصَهيلِ الحَلباتِ

كي نُسَمّي كُلّ إيماءَة يَأْسٍ،

مِهْرَجانًا لِمَسيحٍ كبّلتهُ الفاجعات،

او إزارًا لِشَفِيعٍ تَرتَجيهِ المعجزات.

**

مَرْجِعًا كَنَّا وَأصْبَحْنا عبيدًا لِلجنودِ القَتَلَةْ

مَرْجِعًا كَنَّا وَأصْبَحْنا خُطامًا في مَزادِ السَّفَلَةْ

مَرْجِعًا كَنَّا وَاِصْبَحْنا هَبابًا

بَعثرتهُ الرّيحُ في فَوْضى مَكِيدَةْ

مَرْجِعًا كَنَّا وَاِصْبَحْنا ظِلالًا لأفولِ الأصدِقاءِ

نَنْقلُ القَوْلَ بِصَمْتٍ وَنُغَنّي بِضَميرِ الغَائِبينَ

فاسْتَكانَتْ خامَةُ المَعنى رَجاءَ الاِخْتِباءِ

خَلف مِيعادِ المَعادِ

**

كُلمّا رَفّ على البُعْدِ جَناحٌ

اسقَطتهُ الطائِرات

**

طارق الحلفي

(غرفة تحت المياه.. لفؤاد ميرزا)

“نصوص مختارة وقصص قصيرة جدًا” هكذا أراد الكاتب فؤاد ميرزا تقديم نصوصه، دون إخضاع أغلبها لجنس أدبي محدد، كي يضع القارئ منذ البداية أمام عتبات سرد يجنح إلى أكثر من منحى، ومثل هذه النصوص تفسح المجال للكاتب كي يرسم لوحة مركبة تتضمن الكثير من التجارب والمواقف التي عاشها وعايشها على مدى عقود، خاصةً وأن تواريخ تلك النصوص جاءت متفرقة ما بين حقبة السبعينات والثمانينات والتسعينات… الأمر الذي يجعلنا نتعرف أكثر على الكاتب ورؤاه والمفارقات التي واجهها داخل الوطن وخارجه، لا سيما وأنه أمضى سنوات طويلة من الاغتراب في بلاد مختلفة كي يتفاعل مع ثقافاتها وأجواء عوالمها، ويضيف تلك السنوات المرتحلة ما بين محطة اغتراب وأخرى إلى مخزون ذكرياته المحَملة بإرهاصات الحياة اليومية التي عاشها في مدينته خلال عهود سياسية متباينة كان لها بالغ الأثر على صياغة هوية المجتمع العراقي المعروف بتعدد إنتماءاته الدينية والمذهبية والقومية، بالإضافة إلى تنوع توجهاته الفكرية، وتناقضها أحيانًا، لذا نلاحظ دومًا أن ذاكرة المبدع العراقي تكون أشبه ببنوراما تتمادى حدودها مرحلةً عمرية تلو أخرى، كما أن لكل كاتب رؤاه وتركيبته الشخصية التي صقلتها الكثير من الأحداث، المرتبطة غالبًا بالاضطرابات والتغيرات السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي شهدتها البلاد عبر عقود، والكاتب هنا ينتمي إلى الطائفة “الفيلية” عريقة التاريخ، رغم ذلك عانى أبناؤها الكثير من الظلم، شأن الكثير من الطوائف الأخرى، الأمر الذي جعله يعي معنى الاغتراب منذ سنٍ مبكرة، رغم ذلك نجده يرفض الانغلاق والتعصب، فمن يتأمل نصوصه يدرك مدى انفتاحها الاجتماعي والثقافي، ولو من خلال أبسط اللمسات التي تضفي إلى تلك النصوص تفاصيل ذات سِمة بغدادية خالصة، تستمد خصوصيتها من منطقة باب الشيخ، إحدى مناطق بغداد القديمة. تمثل ذلك جليًا في أكثر من نص تضمن شيئًا من السيرة الذاتية للطفل والصبي الذي كان وهو يتأمل أبسط مفردات الحياة اليومية ويعرف كيفيفة توظيفها ضمن السياق السردي بعد ذلك في كل نص يكتبه، يجسد من خلاله جسرًا حضاريًا وثقافيًا يخترق كل مدينة يقطنها، في إيطاليا أو أمريكا او غيرها من الدول البعيدة عن مدينته التي تظل مدللة المبدع العراقي بشكلٍ عام، فنحن مهما أبحرنا في بلاد الغربة وخضنا من تجارب عصيبة نجد أن بغداد تمتلك سرًا غامضًا يشدنا إليها أكثر فأكثر، مهما نالها من جنون العهود السياسية المتعاقبة، مثل الحبيبة الأولى التي تظل تتحكم بكل انفعلالتنا وكتاباتنا وحواراتنا.

بهذه الصورة نشعر أن مدينة الكاتب ظلت تخفق في بواطن النصوص، حتى وإن كتبها في روما أو نابولي أو نيويورك أو أي مدينة أخرى، ضمن نوستالجيا خاصة صارت من السمات المميزة للأدب العراقي، متأثرة بالتراث الحضاري لأرض الرافدين، كما لو أن جلجامش غرس فينا حيرته وبحثه الدائم عن سر الخلود، رغم كل ما يعاني الكاتب العراقي من شتات واضطراب ونوازع خوف وشعور بالظلم والتهميش، أو واجه من مخاطر الاعتقال لمجرد الانتماء لهذه الطائفة أو تلك، أو بسبب انضمامه إلى حزب محظور.

كل تلك المفارقات الحياتية يمكن أن نتلمس بصماتها في ثنايا النصوص لدى بحثها في فضاء الذاكرة المختزنة للكثير من الخيبات والانكسارات، وأيضًا الأحلام المتمردة على الواقع، رغم الإشارات المتكررة للطائفة “الفيلية” كي ينقل شيئًا من معاناتها على مر العقود والأنظمة، مؤكدًا رفضه لأي نوع من التهميش أو الظلم، ومن ناحيةٍ أخرى تمسكه بهويته العراقية، رغم أنه أمضى جل سنوات عمره بين محطات الاغتراب، ومثل هذه الإشكالية يواجهها الكثير

من المبدعين العراقيين الذين اعتادوا اللجوء إلى المنافي، حيث يأخذ عليهم البعض انهم صاروا لا يعرفون عن بلادهم شيئًا وبالتالي لا يستطيعون التعبير عن مواجعها بصورة صحيحة وعميقة تستطيع أن تجسد الواقع الاجتماعي سريع التغير، خاصة بعد الاحتلال الذي مضى عليه عمرًا، نشأ خلاله جيل مغترب بدّوره عما الفناه من قبل في مدينةٍ انهكتها الحروب وسنوات الحصار.

تكتسب نصوص الكاتب فؤاد ميرزا تميزها الذي حمل عبق بغداد بشوارعها وأزقتها وساحاتها وطقوس عوائلها اليومية، مهما بدت عليه من بساطة يمكن أن تضيف جوًا من السعادة الحميمة، رغم كل ما يواجهه أفرادها من أعباء حياتية متزايدة من عقدٍ لآخر.

رغم تلك الظروف العصيبة التي خبرها الإنسان العراقي تبقى في الذاكرة فسحة من الأمل، فرصة للحب، لمغازلة عينيّ الحبيبة والشارع والحي والمدينة، كما يبقى للطفولة فضاء رحب من البراءة والعفوية، سافرت مع الكاتب وظلت زاد ترحاله الطويل كي يشعر بمحن المظلومين والمهمشين هناك وهناك، حتى بدت الذاكرة مثل خارطة تتجاوز خطوط الطول والعرض، تمزج ما بين رؤى الشرق والغرب، وترفض تحجيم (الأنا) ضمن بقعة جغرافية محددة، دون أن يفقد السرد شيئًا من خصوصيته، وهذا ما نجده في الكثير من نصوص الكتاب العراقيين، لذا حظيت بوهجها الخاص وتميزها الذي فرض حضوره القوي عربيًا وعالميًا، متجاوزة حدود الزمان والمكان وكل قيد يسعى للنيل من الهوية العراقية تحت أي مسمى.

***

بقلم: القاص والناقد أحمد غانم عبد الجليل

في المثقف اليوم