قراءات نقدية

قراءات نقدية

للأديب القاص محمد باقي محمد

الأديب "محمد باقي محمد" خريج جامعة دمشق - كلية الآداب قسم الجغرافيا - دبلوم التأهيل التربوي، يعمل حاليّاً مدرساً في اختصاصه - عضو اتحاد الكتاب العرب - جمعية القصة والرواية منذ عام 1989- عضو في المكتب الفرعي لاتحاد الكتاب العرب في مدينة الحسكة.

نشر الأعمال التالية:

- أغنية منتهية بالرصاص -قصص - 1986

- عن اختفاء العامل يونس –قصص - 1988

- الطوفان - قصص - 1991

- فوضى الفصول – رواية - 1997

- للقندريس البرّي.. مجموعة قصصيّة . ومنها القصة موضوع دراستنا.

له قيد الإعداد، مجموعة قصصية بعنوان: (هواجس شخصيّة).

ينشر في الدوريات العربيّة والمحليّة. ترجمت متفرقات من أعماله إلى البلغاريّة والروسيّة والكرديّة.

البنية السرديّة أو الحكائيّة للقصة:

تعالج القصة قضيّة من قضايا السجناء السياسيين في عالمنا العربي، وهي من القضايا التي تعبر ليس عن استبداد السلطات الحاكمة وقهرها لشعوبها ومحاصرة حريّة الرأي فحسب، بل تعالج أيضاً كيف يعامل الإنسان المختلف سياسيّاً في سجون هذه السلطات المستبدة.

"سليم"، ناشط سياسي، ينتمي لأحد التنظيمات السياسيّة المحضورة في البلاد، التي لا يجيد أعضاؤها التهريج والتصفيق للنظام السياسي الحاكم، وخاصة لقائده الملهم ... يلاحق لفترة زمنيّة، لكن رفاقه يؤمنون له ملجأً بعيداً عن أعين المخابرات والمخبرين خارج مدينته لفترة من الزمن.. وهو في ملجئه، تصله عن طريق أصدقائه بأن والدته مريضة وهي على فراش الموت.. يقرر ترك مخبئه والذهاب إلى مدينته حيث يسكن أهله وزجته وابنته الطفلة التي تركها بعد ثلاثة أشهر من ولادتها... قبل وصوله منزل أهله يقبض عليه ويقاد إلى السجن ليحكم عليه بالأعمال الشاقة المؤبدة.

هناك في غرف التعذيب، والغرف المنفردة، يصف لنا " سليم" كيف تتم عمليات التعذيب للسجناء.. ومن عاش حياة السجن السياسي ليس كمن سمع عنه!.

يقول القاص "محمد باقي محمد": في السجن تغيب كل القيم الإنسانيّة.. فوسائل التعذيب وأدواتها تدخل في عالم آخر من الإجرام المشرعن، وتكون أكثر قسوة وشدّة على الذين يتمسكون بمبادئهم وبأسرار تنظيمهم ولا يفشون منها شيئاً، وهذا ما كان عليه حال " سليم" الذي (صمد في وجه جلاّديه، فلم يفلح الإطار المطّاطيّ، ولا الكرسي الألماني، ولا المنع من النوم ولا الكهرباء التي تلامس مناطق الجسد الحساسة أو المنع من شرب الماء، ولا تعليق الجسد بكلاب يكون فيه الرأس إلى الأسفل والقدمين إلى الأعلى. ولا استخدام الدولاب وتناوب العصي و(القرابيج) على القدمين وكل تضاريس الجسد دون رحمة أو شفقه... ولا... ولا.... للنيل من إرادته، إذ لم تصدر عنه حتى النأمة، فمنعوا عنه أي اتصال بالخارج، وعجز عن معرفة ما حلّ بزوجته الشابّة، أو بابنته ذات الأشهر الثلاثة، أو بأهله، لأنّ سنوات التخفّي كانت قد جبّت رؤيتهم عنه!.

في السجن السياسي تتعدد أصناف وأساليب التعذيب - التي يتفتق عنها الذهن البشريّ في وجوه وأجساد السجناء ... فالتعذيب كما يقول "سليم": يظلّ مبذولاً كالهواء على مدار الساعة، ليطال كل تفاصيل الجسد دون رحمة. ثمّ إنّ السجّانين سيعمدون إلى إحياء طقوس حفلهم الغريب، كما لو كانوا يحتفلون بمناسبة شخصيّة، لقد أعدّوا لكلّ شيء، - مُذ تكهّنوا باقتراب موعده - راحوا يجتهدون في إعداد عصي وسياط مختلفة في أطوالها وسماكاتها، وسط مظاهر احتفاليّة يشوبها صخب يُتناغم وحبورهم اللافت، لقد طالهم السجن في إنسانيّتهم فشوّهها، إنّهم يستمرؤون تعذيب المساجين كما لو كانوا يحقّقون إنجازاً يُسجّل لهم.

ولكن من الذي يشرعن حقّ احتجاز إنسان من قبل آخر مثله؟! الحقّ.. وما هو الحق؟! من الذي يحوز التخويل بإثباته؟! ومن المُخوّل بنفيه؟! ثمّ أين الصواب فيما تقدّم من الخطأ؟! بل ما هو الصواب، وما هو الخطأ؟! كيف يتحدّد هذا من ذاك؟! ومن هو الحكم المجاز بالفصل بينهما؟!. أسئلة الحق واختراقه كثيرة تطرح في سجون الأنظمة المستبدة في عالمنا العربي ولا جواب.

في باحة السجن الضيقة.. تجمع السجناء يتهامسون حول قضيّة انتشرت كالنار في الهشيم عند السجناء. بأن هناك مقابلة تمت بين السجين "سليم" وفتاة، وقد أعطته صورة لفتاة. رغم ضحالة هذه المسألة، إلا أن السجن بكل عذاباته وما حققه من حرمان للسجناء ومنه الحرمان الجنسي، جعل من قضيّة الفتاة والصورة موقفاً شغل بال وعقل وعواطف السجناء لمعرفة الصورة ولمن تكون.

كان السجناء قد لاحقوا "سليم" في الباحة طويلاً، مدفوعين بتوق عارم لمعرفة صورة أنثى.. أيّ أنثى.!، فيما وقف بعضهم مدهوشاً يتأملون، "سليم" متسائلين عن السبب، لقد حاول أن يتخلّص منهم، إلاّ إنّ محاولاته أخفقت، كانت الباحة ضيّقة، ولم يكُ ثمّة منافذ للهرب، لهذا سرعان ما أمسكوا به، وألقوه على الأرض، لينتزعوا منه الصورة، فتشبّث بها بكلّ ما فيه من قوّة، ولكن ما الذي يستطيعه فرد أعزل في مُواجهة جمع أهوج؟! وعندما انتزعوها، وقرأوا ما كُتب على ظهرها، وقفوا في مُنتصف المسافة ملجومين بالذهول، وأسقط في أيديهم، إذ لم يعد التراجع مُتاحاً، ثمّ إنّ الندم ما عاد يُجدي، ولا الاعتذار، فكيف يعبّرون عن أسفهم وأساهم؟! أيّ كلام يمكن أن يُساق في مقام كهذا؟! على هذا طأطأوا رؤوسهم، وتناؤوا على تعثر وخجل بخطوات مُرتبكة، تماماً كما صورة سينمائيّة أبطئت حركتها، هل تمنّوا أن تغور بهم الأرض حين قرأوا الكلمات على ظهر الصورة؟! كانت ابنة "سليم قد كتبت لأبيها " أبتي.. لقد اشتقت إليك كثيراً؟! " ووثقت كلماتها في الأسفل بـ " ابنتك المحبّة بثينة "!.

البنية الفكريّة للقصة:

كانت ولم تزل دول عالمنا الثالث تُحكم بالحديد والنار، من قبل قوى سياسيّة لم تفكر يوما بمصالح شعوبها، بقدر ما تفكر بمصالحها، حتى عندما تهتم إلى حد ما بمصالح هذه الشعوب، فيأتي هذا الاهتمام من منطلق شعبوي، وليس من منطلق قانوني ومؤسساتي يقوم على فكرة أن الشعب هو المصدر الأساس للسلطة، وليست اَلْغُلْبَةُ والوراثة والتدليس السياسي وشراء الأصوات والاعتماد على الفاسدين والمفسدين في الوطن، وبالتالي فالشعب هو من يأتي بهذا الحاكم أو ذاك بإرادته، وهو من يختار نظام حكمه ودستوره وطبيعة نظامه البرلماني وفقاً لمصالحه.

تحت مظلة هذه الأنظمة الشموليّة الاستبداديّة، فمعظم أنظمة الدولة وسياساتها الداخليّة والخارجيّة يشرع لها وفقاً لمصالح الحاكم المستبد، فهو من يحدد مفردات الدستور، وصيغ الديمقراطيّة والعلمانيّة، والمتاجرة بها، وهو من يختار فريقه السياسي والاقتصادي والثقافي والاعلامي، وأي خروج عن ما يخطط له الحاكم بأمر الله، يعتبر انتهاكا لقيم الوطن والمواطن، وهنا يأتي الجيش والقوى الأمنيّة لتعيد رسم ملامح الطريق الصحيح لمن تسول له نفسه الخروج عن عالم " القندريس البريّ".

البنية الفنيّة والجماليّة للقصة:

عنوان القصة:

لم يأت عنوان القصة (للقندريس البري) عبثاً، بل جاء مدروساً وبعناية فائقة. "فالقندريس البري" هو نوع من النباتات الشوكيّة التي تعيش في الصحراء، وتفتقد إلى العناية من قبل الإنسان، ورغم أن في ثمرها ما يشفي الإنسان من بعض امراضه، إلا أن الشوك المحيط بها أفقدها حضورها لدى الإنسان، وهذا ما ينطبق على حياة الإنسان السجين السياسي الذي وضع في سجن مليء بالعذاب (الشوك)، حتى فقد دوره ومكانته الاجتماعيّة، رغم إنسانيته.

الشكل الفني القصصي:

إن القاص المتمكن من حرفته، يمهد للحدث ويهيئ الجو له بسلاسة وتنسيق، يستجيب مع المواقف بشكل يثير الشوق ويجذب القارئ لمعرفة النهاية. وهذا ما تم في القصة منذ بدايتها فبراعة القاص " محمد عبد الباقي محمد" تجلت في تصوير أو وصف حالة ارتباك المساجين النفسيّة والجسديّة عندما راحوا يتداولون بصمت وحذر مسألة الصورة التي وصلت إلى سليم، ثم انتقاله إلى كيفيّة القبض على سليم وما تلقاه من عذاب في السجن وأساليب التعذيب والسجانين، وصولاً إلى كشف سر الصورة، وما حل بالمساجين الذين جعلهم الحرمان الجنسي يبذلون طاقة جهدهم لمعرفة صاحبة الصورة. لم تكن نهاية القصة مفاجئة، بل كانت منسجمة مع نسيج القصة ولا تبدو مقحمة وغريبة.

يمتاز تشكيل القصة بالبساطة، حيث اعتمد القاص في سرده الحكاية على الأسلوب الوصفي، ووضوح اللغة وغنى دلالاتها، وسهولتا، وهذا يشير إلى أن الكاتب قدير ومتمرس في الكتابة ويمتلك قدرات فنيّة تجلت من خلال تجربته الطويلة في الكتابة. لقد كان وصف الشخصيات في القصة رائعاً، يحمل تحليلاً نفسيّاً واجتماعيّاً وأخلاقيّاً صيغت بألفاظ سهلة لكنها مشحونة بمفردات القهر والعذاب والشوق والحنين.

إن القصة بعمومه تفتقد إلى الحوار، وحتى عندما وجد الحوار في القصة بين المساجين حول الصورة التي وصلت السجين "سليم" كان يجري بحالة الهمس بينهم، وكأنهم يتحدثون عن أسرار لها خصوصيتها الأخلاقيّة والقيمّة.

إن فقدان الحوار ساهم في إبراز دور القاص من الخلف، أو ضمير المتكلم، وهو دور العارف بكل خفايا نفوس أبطال القصة، وما جرى لها داخل السجن، لقد كان يتحدث عن معاناتهم وقهرهم وعذاباتهم، وهذا ما جعل القصة تمتاز بوضوح الرؤية وسلاستها وبساطة عرض أحداثها، وبالتالي غياب الحاجز بين الكاتب والمتلقي. لقد كان بناء القصة متماسكاً، والشخصيات رغم بساطتها، إلا أنها أدت وظيفتها التي رسمها لها القاص في القصة.

الشخصيات في القصة:

تدخل قصة "للقندريس" البري" في مضمار القصة الاجتماعيّة/ والسياسيّة، لذلك استطاعت أن تقدم شخوصاً تشبه شخوص الواقع المعيش في ظروف أي سجن سياسي، يسهل التعرف عليها. أي إن القاص قدم في قصته شخوصاً هامدة ساكنة خائفة مسلوبة الإرادة والتفكير وحتى الكلام. وإن تكلمت فهي تتكلم بصمت يشوبه الخوف، وهذا ما جعل الوصف في أحداث القصة مسيطراً تماماً على متن أو بنبة القصة.

لقد استطاع القاص "محمد باقي محمد" في الحقيقة، أن يقوم بتصوير شخصياته تصويراً عقلانيّا خارج نطاق الفانتازيا أو الخيال، فهو قاص مبدع ذو خبرة وثقافة عالية، ويمتلك القدرة على التصوير الدقيق كفنان قدير يمتلك أدواته الفنيّة والثقافيّة والخبرة الطويلة مع الحياة، مكنته من فهم النفس الإنسانيّة داخل سجون القهر والتعذيب، ومعرفة أسرارها وكوامن قوتها وضعفها.

ميزات القص وأسلوب القاص:

يمتاز القاص بحسه الفني الرقيق، وذوقه المثقف، ورهافة اللفظ، وبراعة تصوير المواقف التي تكشف عن أبعاد الشخصيات التي يرسمها بدقة، ويبرز أبعادها الاجتماعيّة والنفسيّة والخلقيّة، ويكشف عما تعانيه من صراع مع نفسها، أو مع الآخرين، ولأن هذه الشخصيات، مقهورة ومضطهدة، إلا أن ما تحمله من مبادئ وقيم سياسيّة، يجعلها رغم ما تتعرض له من عذاب، قد ينال الجسد إلا أن الروح تظل فيها جذوة الأمل بالخلاص الفردي والجماعي تسعر في نفوسهم وهذا ما يساعدهم في الانتصار على أزماتهم والخروج في نهاية المطاف منتصرين على ضعفهم، وهذه أقوى الانتصارات على النفس وعلى الآخرين.

إن الشخصيات التي قام بتوصيفها القاص "محمد باقي"، كلها هامشية تقريباً عدا شخصيّة السجين "سليم" الذي سلط عليه الكاتب الضوء منذ القبض عليه حتى زيارة ابنته له وإشكاليّة الصورة التي وقعت بينه وبين السجناء، إن القصة في مجملها تقوم على وصف أدوات التعذيب في السجن، ووصف البعد النفسي والأخلاقي للسجانين الذين أفقدتهم مهنتهم حسهم الإنساني، حتى تحولوا إلى شبه وحوش بشريّة في أمكنة ضيقة محكمة الإغلاق يمارس فيها قهر وظلم الإنسان، بسبب انتمائه السياسي الذي يختلف عن البعد السياسي الحاكم. إن غياب الحوار داخل القصة، أفقد القصة معرفة بعدها الفكري والاجتماعي والسياسي للسجناء، لذلك ظلت أحداث القصة تدور حول السجن والتعذيب ومبدئية بعض السجناء في الحفاظ على أسرار تنظيمهم رغم ما يتعرضون له من عذاب، وتدور أيضاً حول الحرمان الذي يعانيه السجين ومنه الحرمان الجنسي.

***

د. عدنان عويّد

كاتب وباحث وناقد من سوريا.

قراءة في انزياحات اللغة وقلق الهوية في نص "حينَ تُصْبِح الخَيبة وجهاً آخر للفجر" للأديب ثامر الخفاجي.

تنتمي هذه القراءة إلى أفق نقدي يرى النص الأدبي بوصفه كياناً مفتوحاً لا يقاس بمنطقه الداخلي فقط بل بقدرته على توليد المعنى وخلخلته في آن. وكما يقول رولان بارت:

"النص هو نسيج من اقتباسات من ألف مصدر ومصدر... هو فضاء متعدد الأصوات، لا ينتج المعنى بل يطلقه."

انطلاقاً من هذا التصور، نتعامل مع النص المدروس لا بوصفه حاملاً لمعنى ثابت بل كفعل لغوي يتشظى عبر الذات والزمان والدلالة ويعيد إنتاج علاقات الإنسان بالخيبة والانكسار والضياع من داخل اللغة نفسها.

العنوان:

"حين تصبح الخيبة وجهاً آخر للفجر"

العنوان يلعب دوراً تأسيسياً في بناء المعنى، فهو يُقارب بين زمن النهوض (الفجر) وحالة الانكسار (الخيبة) في مفارقة تولد التوتر الدلالي الذي يشحن النص لاحقاً. هذه الازدواجية تعكس رؤية حداثية للعالم حيث التناقضات تتعايش وتنتج وعياً شقياً لا يؤمن بالثنائيات المطلقة.

البنية النصية والدلالية:

النص يتخذ شكل مونولوج داخلي تأملي تحكمه بنية تشظ لغوي وسردي في آن، تتقاطع فيه الذات مع الزمان والمكان لتخلق فضاءً تعبيرياً مركباً. لا يعنى النص بسرد خطي أو حبكة واضحة بل يؤسس لمعنى متحول يتكون عبر التكرار والاستبطان والانزياحات المجازية الكثيفة.

تقول الذات: "لم أعُد أفرّق بين وجوه الأمس وأقنعة الغد، كأنَّ الزمان قد اختلط في شراييني"

هذا التصور الذاتي للزمن، الممزق والمندغم يتجاوز البعد الكرونولوجي ويقترب من ما يعرف بالـtemps psychologique حيث التجربة الذاتية تفرض إيقاعها الخاص وهو ما يعيد تشكيل الخيبة كحالة مستمرة لا ترتبط بزمن خارجي محدد..

الذات المتكلمة مأزومة ومشروخة تمارس نقداً داخلياً صارماً. هي ذات ما بعد حداثية بامتياز تتشكك في المسلمات وتشتبك مع الواقع عبر اللغة لا عبر الفعل.

الحضور القوي لفكرة التكرار (الخيبة، التيه، النافذة، الانكسار) يوظف لا كأداة بلاغية فقط، بل كآلية وجودية تفضح عقم التكرار نفسه وتستحضر أثر "الدوائر المغلقة" التي تلتهم الحلم واليقين معاً..

اللغة والانزياح الأسلوبي:

تقوم اللغة في هذا النص بدور يتجاوز النقل أو التصوير فهي تمارس تفكيكاً معرفياً وجمالياً للواقع عبر ما يمكن تسميته بـالانزياح الأسلوبي والانحراف عن المألوف التعبيري. وهذا ما يجعل النص أقرب إلى لغة الشعر الحر الحديثة منه إلى النثر التقليدي.

تمتلئ التراكيب بتوتر دلالي وتشظ لغوي في المعنى كما في قول الكاتب:

"الزمان قد اختلط في شراييني" و"بما لم يقل، وبما قيل خطأً، وبما تم السكوت عنه"، وهي أمثلة تبرز ميلاً نحو "اللغة التي تُخفي أكثر مما تُفصح"، حيث يصبح المعنى إمكاناً مفتوحاً لا حقيقة مغلقة وهو من سمات الكتابة الحداثية.

كثافة المجاز تساهم في زعزعة العلاقات الثابتة بين الدال والمدلول. الأشياء تفقد هويتها الثابتة وتعاد صياغتها دلالياً وهو ما يلتقي مع مفهوم "تفجير اللغة" عند رولان بارت وبول ريكور حيث اللغة لا تشير إلى العالم بل تصنعه.

وفي هذا السياق، نواجه مشهداً لغوياً بالغ الدقة في قوله:

"أحاول أن أُمسك بخيط النور المترنّح بين جفون الصباح، لكن يدي مُثقلةٌ بما لم يُقال"،

هنا، تتحول صورة الأمل (النور) إلى خيط هش لا يمسك والذات المثقلة بالصمت والعجز تعجزها اللغة عن الإمساك بالنجاة.

إننا أمام لغة تعبر بالغياب لا بالحضور تمارس التورية والتأجيل مما يجسد ما أشار إليه بارت حول "تفكيك المعنى داخل النص"، حيث القول لا يكشف بل يعقد والمعنى ليس جاهزاً بل مؤجلاّ على الدوام.

البُعد الفلسفي والوجودي:

يحمل النص بعداً وجودياً عميقاً يتجلى في تشظي الذات وانهيار المعنى والتماهي بين الضياع واليقين.

العبارة الختامية:

"ليس كل من تاه ضاع، فبعض الضياع هو الطريق"

وهي عبارة تمثل نواة فلسفية تعيد تأويل المفاهيم من داخلها. هذا الانقلاب في المعنى هو ممارسة حداثية بامتياز تزعزع الثنائية السائدة (ضياع/هداية)، وتعلي من تجربة الذات في مواجهة الوجود الغامض القلق كما في نصوص كامو أو سارتر.

التناص والمرجعيات الثقافية:

يتكئ النص على شبكة تناصية متعددة المستويات تضمر خلفها مرجعيات روحية وفكرية وحداثية تسهم في إنتاج المعنى لا عبر الكشف بل عبر التداخل والاختلاف انسجاماً مع تصور جوليا كريستيفا للتناص بوصفه "تشابك نصوص لا يقرأ أي نص بمعزل عنها".

التناص الصوفي

يحضر التناص الصوفي ضمنياً من خلال استعارة "الضياع كطريق"، وهو نمط من التفكير الروحي الذي يرى في التيه سبيلاً للمعرفة والانكشاف لا للسقوط. هذه الدلالة تظهر جلياً في عبارة:

"ليس كل من تاه ضاع، فبعض الضياع هو الطريق"

وهو تصور قريب من فكر ابن عربي والنفري حيث الضياع لا يناقض الهداية بل يفضي إلى نوع من التجلي الداخلي.

المرجعية الوجودية

يتناص النص مع الفكر الوجودي الحديث، لا سيما في تمثلاته للقلق وعبثية الزمن وانهيار المعنى. يظهر هذا في مساءلة الذات وانكشاف هشاشتها الداخلية، كما في تساؤل الكاتب:

"من قال إن الانكسار لا يُرى إلا حين ننظر في أعيننا دون أن نرمش؟"

وهي عبارة تمثل لحظة وعي وجودي حاد، تلامس جوهر الذات في لحظات التخلي والتأمل حيث يصبح الانكسار غير مرئي إلا للذات التي تجرؤ على مواجهة نفسها دون مراوغة. هنا، تلتقي اللغة مع قلق الوجود في أقصى درجات الصدق والتجريد وتستدعى فلسفة سارتر وكيركغارد ونيتشه، ممن نظروا إلى الذات بوصفها كينونة متفككة واللغة بوصفها أداة قاصرة عن الإمساك بجوهر العالم أو النجاة منه..

جمالية العبث

أما من حيث الشكل والبنية الزمنية، فثمة تقاطعات مع جمالية العبث عند ألبير كامو وصامويل بيكيت خصوصاً في دوران الزمن حول الخسارة وتكرار الانتظار وضياع اليقين. فالنص لا يتطور نحو حل بل يدور في حلقة من اللااكتمال والتأجيل الوجودي حيث "المرآة لا تعكس الذات، والصلاة تضيع"، وهي صور تناظر حالة العبث في نصوص "في انتظار غودو" و"أسطورة سيزيف".

التوظيف العام للتناص

هذه التناصات لا تستدعى كزينة معرفية بل تدمج عضوياً في بناء المعنى وتسهم في خلق نص هجين تتداخل فيه مرجعيات الهوية والشك والانخطاف الروحي، ما يجسد حداثة النص لا عبر "حداثة الشكل" فقط بل عبر تفكيك المرجع وتحويره داخل بنيته.

بالتالي يمكن تصنيف النص ضمن الكتابة الحداثية الواعية بذاتها، حيث لا ينتج المعنى بوصفه حصيلة نهائية بل يفعل قلقاً معرفياً وشعورياً يهدف إلى تفكيك الطمأنينة واستبدالها بـ"اللايقين المنتج".

تتأسس بنيته على شروخ الذات وارتباك اللغة فيتجاوز دور التعبير إلى فعل تأويلي يسائل الأنا والعالم في آن.

النص ينجح في تفكيك البنية المغلقة للمعنى عبر لغة تتأرجح بين الشاعرية المجازية العالية والتأمل الفلسفي المجرد مما يمنحه كثافة رمزية ويفتحه على قراءات تأويلية متعددة وفق منظور القارئ وسياق التلقي.

بذلك يندرج النص ضمن الكتابة الحداثية التي لا تسعى إلى تثبيت المعنى أو إنتاجه كحصيلة نهائية بل تفتحه بوصفه فعلاً تأويلياً دائم الحركة، يتشكل في كل قراءة ويظل عصياً على الاختزال...

***

***

قراءة نقدية من إنجاز فاطمة عبد الله

..........................

حينَ تُصْبِح الخَيبة وجهًا آخر للفجر"

لن أُخَبِّئَ هَفَواتي في دَهالِيزِ ظُلْمَةٍ، قد تَتَغَيَّرُ سِحْنَتُها عِندَما يَحينُ بُزوغُ الفَجْر، وهو يَحْمِلُ صَحائِفَ خَيْبَتِنا لِيَوْمٍ جَديدٍ تَأَسَّرَتْ فيه أَحْلامُنا العَصِيَّةُ، الَّتي لَم نَبْرَحْ نُغازِلُها كُلَّ يَومٍ بِبَقايا دُعاءٍ نَسِيَهُ أَحَدُهُم عِندَ صَلاةِ الفَجْر.

لَم أَكُنْ على اطِّلاعٍ بِتَفاصيلِ حِكايةِ يَومٍ أَلْعَنُ فيهِ خَفايا ما تُضْمِرُهُ لَنا السّاعاتُ، وأحاديثُ قَومٍ يَنُوءُونَ بِأَحْمالِ أَوْزارِ ماضٍ كَبَّلَهُم بِتُرَّهاتِ أَمْجادٍ مَصْلُوبَةِ الهُوِيَّةِ، الَّتي لَم تَصْلُحْ سِوى لِعُبُورِ نِقاطِ التَّفْتيشِ الوَهْمِيَّةِ في حاضِرٍ يُحاوِلُ فَكَّ أَسْرِ أَوْهامٍ لَم نُحْسِنِ الظَّنَّ بِها.

وأنا، في غمرة هذا التيه المُقيم، لم أعُد أفرّق بين وجوه الأمس وأقنعة الغد، كأنَّ الزمان قد اختلط في شراييني، أو كأنَّ لحظاته تُعيد نسج ذات الخيبة بألوانٍ باهتةٍ تختلف في شكلها، لكنها تَصْدُقُ في مرارتها.

كثيرًا ما كنتُ أبحث عن نافذة، لا تُطلّ على الخراب. نافذة لا تمرّ بها رياح الذكريات، ولا تنعكس على زجاجها ملامح من نسيناهم عمدًا، ثم فوجئنا بهم يعودون، يسكنون زوايا الكلام، وحنجرة الصمت.

أحاول أن أُمسك بخيط النور المترنّح بين جفون الصباح، لكن يدي مُثقلةٌ بما لم يُقال، وبما قِيل خطأً، وبما تمّ السكوت عنه حين كان الكلام ضرورةً لا ترفًا.

من علّمني أن أُجمّل السقوط بالكلمات؟

من قال إن الانكسار لا يُرى إلا حين ننظر في أعيننا دون أن نرمش؟

"ليس كل من تاهَ ضاع، فبعض الضياع هو الطريق."

من قريته "أرَاكَاتَاكَا" المغمُورة بسكّانها الأصليّين إلى "مَاكُوندُو" المشهُورة بغُزاتها الوافدين

وُلد غابرييل غارسيا ماركيز فى قرية «أراكاتاكا» فى السادس من مارس 1927. كانت هذه القرية التي رأى فيها النور منسيّةً مغمورة بمنطقة الكارايب الكولومبي، وقد تحوّلت فى روايته الشهيرة «مائة سنة من العزلة» إلى حاضرة مشهورة تحمل اسم «ماكوندُو»، هذا المكان الذي تتعايش وتتآخىَ وتتعانق فيه الحقيقة والخيال والأسطورة والتاريخ . فتح «غابو» ــ كما يسمّيه أصدقاؤه ــ بهذه الرواية البابَ على مصراعيه لإبداعاته الأدبية التي جـاءت فى قـوالبَ جديدة مستحدثة، وأساليبَ روائية مبتكرة، حيث اعتُبِربعد نشرها من أكبر أقطاب كتّاب الرواية فى موجة ما يُعرف بـ (الواقعية السّحرية) فى الآداب الأمريكية اللاّتينية التي حقّقت شهرة واسعة منذ اوائل الستيّنيات من القرن المنصرم فى مختلف أنحاء المعمور.

 هذه الرّواية رحلة إبداعية قادته لمعانقة نوبل

آخر كتاب نُشر عن ماركيز قيد حياته كان يحمل عنوان «غابو.. صحافيّاً»، وقبله بقليل كان قد صدر كتاب آخر عنه تحت عنوان «غابو.. رسائل وذكريات» لصديقه الحميم بيلينيُو أبوليّو ميندُوسا (أنظر مقالي بالقدس العربي حول هذا الكتاب، عدد7356 في 12 فبراير/شباط 2013). يقول الناقد الإسباني «خوَان كرُوث» عن هذا الكتاب :" إعتبُر هذا الكتاب عند صدوره فى طبعة خاصّة كنزاً ثميناً فى عالم الخلق والإبداع الصّحفي والأدبي على حدّ سواء، فبعد أن تمّ توزيعه بالمجّان، أصبح يباع اليوم بثمن باهظ، لذا فإنّ الصّحافيين الذين أمكنهم الحصول على النسخ القديمة منه قد أخفوها فى مكان مأمون لهذه الغاية، فالأمر يتعلق بصاحب رواية «مائة سنة من العزلة» التي بيع منها منذ صدورها عام 1967 إلى اليوم الملايين من النّسخ والتي تُرجمت إلى 37 لغة بما فيها لغة الضاد".

تُعتبر «مائة عام من العزلة» من أشهر روايات ماركيز على الإطلاق، التي توّج بها رحلته الإبداعية بجائزة نوبل فى الآداب عام 1982، كُتبت هذه الرواية خلال إقامة ماركيز فى «المكسيك» ونُشرت فى «بونس أيرس» بالأرجنتين، ولم يكن ماركيز يتجاوز عمره آنذاك التاسعة والعشرين. كان المشرف عن دار النشر الأولى التي أُرْسِلتْ إليها هذه الرواية قد نصح ماركيز بالتخلّي عن الكتابة وهجرها وليبحث له عن عمل آخر، إلاّ أنّ أوّلَ نقد بنّاء فطن لأهمية الرواية غداة صدورها كان للناقد المكسيكي «إيمانويل كاربايو» عام 1967، فقد ذهب إلى القول منبهراً : «إنّه وجد نفسَه أمامَ واحدةٍ من أعظم الرّوايات فى القرن العشرين». غادر ماركيز قريته أراكاتاكا عام 1930، إلاّ أنّه ظلّ وفيّاً لها وللذكريات التي عاشها فيها فى صباه وفى شرخ شبابه، حيث حمل معه مختلف العادات والتقاليد وحتى طريقة إرتداء الأقمصة المُزركشة ذات الألوان البيضاء الناصعة التي يوثر سكان منطقة الكاريبي على ارتدائها ويطلقون عليها إسم (Guayabera)، لذا كان غابو يبدو غريباً عندما وصل إلى بوغوتا وكان سكان العاصمة الكولومبية ينظرون اليه باستغراب، وذات مرّة سقط ثلج غزير على المدينة العملاقة فصار يجري، ويقفز وهو يغني ويدندن غيرَ آبهٍ بالناس الذين تجمهروا حوله وهم ينظرون إليه فى شدوه إذ لم يكن قد رأى الثلج من قبل فى قريته الصغيرة المغمورة التي أصبح يعرفها الملايين من الناس فى مختلف أرجاء المعمور باسم «ماكوندو» فى روايته .

المغتربون العرب فى مائة سنة من العزلة

تتعرّض هذه الرواية الذائعة الصّيت للمغتربين العرب الأوائل الذين استقرّوا واستوطنوا قرية «أراكاتاكا» ، كما يتعرّض ماركيز للمهن التي كانوا يزاولونها، مثل التجارة كباعة متجوّلين، وكان يطلق عليهم ماركيز اسم «الأتراك»، وهو مصطلح غير دقيق، إذ كان الناس يطلقون عليهم هذا الإسم لأنّهم عند وصولهم إلى كولومبيا كانوا يحملون جوازات سفر مسلّمة لهم من قِبل الدولة العليّة العثمانية، فنجد فى الرّواية غير قليل من العادات والتقاليد العربية، فالشارع الذي يُشارإليه بـ «شارع الأتراك» فى الرواية، سيصبح فضاء فسيحاً سرعان ما سيعرف تحوّلات كبرى سيكون لها تأثير بليغ على معظم سكان أراكاتاكا أو «ماكوندو» التي يقول عنها ماركيز إنّها "سرعان ما تحوّلت من ضيعة صغيرة مغمورة إلى قرية نشيطة مشهورة ذات دكاكين،وأسواق، وأوراش للصّناعات التقليدية، كما أصبحت طريقاً تجارياً منذ وصول العرب الأوائل إليها، الذين تعاطوا فى البداية التجارة والمقايضة، وأحدثوا تنظيماً إجتماعياً، وحياة ثقافية، حيث حملوا معهم «ألف ليلة وليلة» وحكاياتها العجيبة وخيالها المجنّح". ويرى بعض النقاد أنّ وصول المهاجرين إلي هذه القرية وإنتشار التجارة فيها قد يكون رمزاً واضحاً لوصول الإسبان إلى العالم الجديد.

 و عليه فإننا بعد قراءة متأنيّة لمائة سنة من العزلة لا عجب إن وجدنا فى هذا العمل الروائي الضخم كلمات عربية كثيرة، منها على سبيل المثال وليس الحصر :المسجد، السّوسن، القطن، العقرب، الضّيعة، الجلباب، الكافور، المخزن، الكحول، الزيت، القطران، المِسك، السّوط، الزّهر، الياسمين، الخزامىَ، السّاقية، البِِركة، اللقّاط، الزّعفران، الزناتي ــ نسبة إلى قبيلة زناته الأمازيغية المغربية، التي كان أهلها مشهورين بالفروسية وركوب الخيل- حيث إستقرّت هذه الكلمة فى الإسبانية بمعنى الفارس خلال الوجود العربي والامازيغي فى شيه الجزيرة الإيببيرية، وسواها الكثير من الكلمات الأخرى.

الفردوس المأمول

أهمّ ما يتبادر إلى ذهن قارئ رواية «مائة عام من العزلة» هو عدم تتابع وتسلسل أحداثها التاريخية، إلاّ أنّ هذه الخاصيّة بدلاً من أن تصبح عنصراً سلبياً يُنقص من قيمة الرواية يجعلها تكتسب بعض المميّزات التي أهّلتهأ لتحتلّ مكانتها المعروفة، ذلك بواسطة سبل قد تبدو للوهلة الأولى غير منطقية، إذ أنّ الرواية بدلاً من أن تتّجه نحو المستقبل فإنها تسير فى إتجاه معاكس للتاريخ بهدف الغوْص فى الماضي واكتشافه، الذي أسهمت العزلة فى تنقيته وتجليته بعد أن كاد يكون مجهولاً، إلاّ أن هذا الماضي يظلّ جديداً بالنسبة للقارئ كصحيفة اليوم التي بين يديه، إذ فيه يعثر ماركيز على ما كان يبحث عنه منذ 1955 عندما أصدر قصّته «تساقط الأوراق»، فكأنه يلتقي مع رجال يعيشون فى الخيال، وهو نوع من البناء إنطلاقاً من الهدم والقهر والقسوة والمعاناة. رجال وعالم يقفون فى الرّصيف المقابل للمعتقدات والعادات والأعراف الإجتماعية، وأخيراً عالم المخدّرات أو المهلوسات التي قد تجعل الحياة ممكنة ومستمرّة فى مجتمع مّا، كما هو الحال فى «الكولونيل ليس لديه من يكاتبه»، وفى «الساعة النحسة»، فقد كان من المستحيل على الكاتب أن يجمع بين التاريخ والشخصيات. إلاّ أنه أمكنه أن يجد فى قرية «ماكوندو» (أراكاتاكا) رجالاً وطرائقَ عيش تربطهم بعوالم سابقة لوجودهم، فى الوقت الذي تتحوّل فيه هذه الشخصيات إلى أناس أنانييّن، لا تهمّهم سوى المصالح المادية الآنية. فقرية ماكوندو ــ الفردوس الأرضي المأمول ــ هي الفرصة المناسبة المتاحة للإنسان ليحقق أمانيه. فى هذا الفردوس لا يمكن لخصوم الرجال استغلال الفرص لإفساد السعادة التي ينعمون فيها، ذلك أنّ (ماكوندو) التي توازي فكرة أمريكا، حيث أمكن للوافدين عليها من الأوربييّن منذ 1492 تعزيز مواقعهم ومراكزهم فيها، حيث استقدموا معهم عنصر الاستمتاع بالحياة ، وبالمقابل زرْع بذور الشرّ والكراهية والجشع والتدمير، كلّ ذلك سيترك القرية شبيهة بخلاء متحجّر، وذلك بالضبط ما أوحى للرّوائي المكسيكي «كارلوس فوينتيس» عندما قرأ مائة عام من العزلة بأن يصفها بأنّها : «كتاب أمريكا اللاتينية»، وهو نفس ما كان قد ذهب اليه كذلك الناقد « إمانويل كاربايو» عندما قال عنها إنها بمثـابة «كتاب مقدّس» فى وصاياه أو عهوده القديمة والجديدة الذي يحكي لنا فيها ماركيز تاريخَ شعب مختار فى قرية ماكوندو منذ البداية إلى حلول الكارثة، أي منذ أن وطئ هذه الأرض الغرباءُ الوافدون الذين جعلوا من هذه الضّيعة قرية أسطورية حتى اللحظة التي يلتهم فيها النمل آخرَ وليدٍ من آخر رجال هذه السلالة.

بين ملكيادس ونوسترادامُوس

هذه الرواية تبدو للقارئ كأنها تلخّص تاريخ أمريكا اللاتينية منذ الإكتشاف إلى الوقت الرّاهن. مع إشارات إلى بعض عهودها الغابرة، فضلاً عن تكهّنات واستقراءات تلهب الخيال حول العصر الوسيط، وعصر النهضة أوعصر الأضواء وهنا يجعلنا مركيز نلتقي بإحدى الشخصيات الغريبة الأطوار، وهي «ملكيادس» العالم الكيماوي فى العصر الوسيط، ويعترف لنا أنه إستوحى هذه الشخصية من قارئ الطالع والمتنبّئ وصاحب الإستقراءات المستقبلية في رباعيّاته الشهيرة الفرنسي «ميشيل دي نوسترداموس» وهو كذلك رجل النهضة المدافع عن حقوق الإنسان فى القرن الثامن عشر، ربما لذلك نجده يموت مرّتين، ويُحتمل أن يُولد من جديد ليدلنا ويرشدنا كيف ستجد «ماكوندو» (أي أمريكا اللاتينية) منفذاً أو ملاذاً أومهرباً من الموت الذي يحكم به عليها ظاهرياً مركيز فى نهاية الرّواية، إلاّ أنّ هذه النهاية تتصادف بشكل يثير للإنتباه مع البداية، فمائة سنة من العزلة تبتدئ بتقديم ماكوندو كأرض بور تدعو الرّجال فى المنطقة لإستيطانها، وتنتهي كذلك كما بدأت بدعوة جديدة للمهاجرين الجدد الذين سوف ينزلون إليها لأسباب عدّة من الجبال لاستيطان القرية ومنحها قوانين أكثر عدالة وأقلّ فساداً. كما أنّ «ملكيادس» يمكن له أن يموت، وأن يولد لأنه يقطن فى القارة الأمريكية، حتى وإن كانت تجرى فى شراينه الدماء الأجنبية، وهولا يميّز الحدود الفاصلة بين الحياة والموت فى هذه المنطقة/أمريكا التي لا يموت شئ فيها موتاً تامّاً أو نهائيّاً، كما أنّه لا يولد أيُّ شئٍ فيها بالتمام أوالكمال.

عوالم ماركيز

لم يكن عمر ماركيز يتجاوز 19 سنة عندما كتب أوّلَ قصة له ونشرها بعد ثماني سنوات وهي «تساقط الأوراق»، صدرت فى بوغوتا عام 1955، ثم تلتها رواية «الكولونيل ليس لديه من يكاتبه»، التي أنهى كتابتها عندما انتقل للعمل كمراسل صحافي من باريس عام 1957. ثم نشر «ساعة النحس»، التي حصل بها على أوّل جائزة أدبية عام 1961، وفى عام 1967 ظهرت «مائة عام من العزلة»، التي تعدّ من أعظم الرّوايات التي عرفتها اللغة الإسبانية فى القرن الفارط. ويشير «كاربايو» أنّ ماركيز قدّم للرواية الإسبانوأمريكية ما قدّمه فوكنر للرّواية الأمريكية، ويغدو الصّمتُ فى بعض أعماله أصواتاً مدويّة مثلما هو الشّأن فى مئة عام من العزلة، التي هي سرد لتاريخ شعب بأكمله. حتى أن «كاربايو» بعد إعادته قراءة ما كان قد كتبه فى نقده الأوّل لهذه الرواية عند صدورها، كان عليه أن يتنبّه إلى أنّ التنبّؤات أو قراءة الغيب فى الأدب يمكن أن ينأى بنا عن الصّواب. فقد توقّع الناقد فى عرضه الأوّل البعيد زماناً ومكاناً أنّ ماركيز مثل رولفو وسواهما من الذين بعد كتابتهم لعملٍ جيّد قد يلوذون بالصّمت، ولكنّ شيئاً من هذا لم يحدث، فقد إستمرّ فى الكتابة إلى آخر أيام عمره. ويشير كاربايو أنّه مع ذلك ليس متيقنّاً إذا ما كان ماركيز قد كتب بالفعل أعمالاً جيّدة فى مستوى مائة عام من العزلة، وهو يرى أنّ أعماله التي جاءت بعدها تشكّل نوعاً من الحنين نحو عالم ضائع لا يمكن استرجاعه. فماركيز الذي جاء بعد عزلة استمرّت (مائة سنة) ظلّ بالفعل صاحب أسلوب قويّ ومميّز. وهناك روايتان فقط بعد مئة سنة من العزلة وهما «يوميّات موت معلن» و«الحبّ فى زمن الكوليرا» يمكن وصفهما بأنّهما عملان رائعان، وأقلّ منهما «الكولونيل ليس ليه من يكاتبه»، هذه الأعمال فى سيرة أيّ روائي آخرأقلّ موهبة من ماركيز تستحقّ الإهتمام والإعجاب، أمّا عند ماركيز فهي أعمال يمكن قراءتهما بمتعة، ولكن ليس بالمتعة نفسها التي يجدها القارئ عند قراءته لـ «مائة عام من العزلة»، والتي قال عنها الشاعر التشيلي الكبير بابلو نيرودا .. إنها من أعظم الرّوايات التي كُتبت فى اللغة الإسبانية بعد «دون كيخوته» لسيرفانتيس.

إحدى عشرة سنة مرّت على رحيل الرّوائي الكولومبي ذائع الصّيت غابرييل غارسّيا مركيز، حيث حلت ذكراه في فى السابع عشر من شهر أبريل الفارط، إذ بعد احتفاله بعيد ميلاده السّابع والثمانين في نفس هذا التاريخ من عام 2014، غيّب الحِمَام أحدَ أكبر الرّوائيين فى القرن العشرين.

***

د. محمّد محمّد الخطّابي

كاتب وباحث ومترجم من المغرب

للشاعر نورالدين قاسمي

مولود جديد ينضاف إلى خزانة الشاعر المغربي " نورالدين قاسمي " ديوانه الشعري " أحلام على شاطئ الصمت "، هذا العنوان يحمل دلالات عميقة يمكن تحليلها سيميائيا على النحو التالي:

* "أحلام" تشير إلى عالم الخيال والرؤى، وقد ترمز إلى أمال، وتطلعات الشاعر، أو الشخصية الشعرية.

* "على شاطئ الصمت" يشير إلى مكان هادئ ومستقر، لكن الصمت هنا يمكن أن يرمز إلى الاكتئاب، أو الحزن / أو حتى التأمل العميق.

ومن خلال الجمع بين هذين العنصرين، يمكن أن نفهم العنوان على أنه:

* تعبير عن رغبة الشاعر في الهروب من صخب الحياة إلى عالم من الهدوء والتأمل، حيث يمكنه أن يحلم ويتأمل في آلامه وطموحاته.

* أو قد يكون تعبيرا عن حالة من الاكتئاب أو الحزن، حيث يجد الشاعر نفسه على شاطئ الصمت، يحلم بعالم أفضل أو بتحقيق آماله.

من منظور سيميوطيقي يمكن أن نرى العنوان كرمز يحمل دلالات متعددة، ويمكن أن يُفهم بطرق مختلفة حسب السياق والقراءة الشخصية. العنوان يثير فضول القارئ ويدفعه إلى البحث عن المعاني في هذا النص الشعري الطويل.

تتصدر الديوان قصيدة: " لمن أكتب ؟ " التي يعيش فيها الشاعر غربة بين قومه الذين انشغلوا بما لا يشغله هو، ولم يكن ديدنهم، ديدن أترابه، ومن أخذ عنهم وأعجب بهم، وشكلوا نموذج الحياة الذي ارتضاه ، فأصبح " عاري الملامح " وحائر المدى، لا يدري متى يفرح ؟ فيسائل الكلمة ما جدواها وما قيمتها؛ فقد غاب مشتروها، شغلتهم الشاشات، والشبكات العنكبوتية، فضيعهم الفضاء الأزرق الافتراضي. تركهم وتيههم

ليعطي لكلماته جدوى ووزنا بما يتوق إليه من ثورة من أجل السلام.

رسمت كلماتي بغصن زيتون أخضر،

غمسته في دمي الأحمر،

وسكبته على الورق...

غصن الزيتون يرمز إلى السلام والطبيعة والجمال. واللون الأخضر يدل على الحياة والنمو والأمل. إذ يمكن أن نفهم أن الشاعر يرسم كلماته بعناصر طبيعية وجميلة، مما يوحي بالرقة والجمال في التعبير الشعري.

" غمسته في دمي الأحمر "

- الدم الأحمر يرمز إلى العاطفة والحياة والشغف. يمكن إذن أن نفهم أن الشاعر يسكب عاطفته وكلماته على الورق، مما يوحي بالحرية والانطلاق في التعبير الشعري. من خلال هذه الأسطر الشعرية نفهم أن الشاعر يعبر عن نفسه بصدق وعاطفة، مستخدما عناصر الطبيعة والجمال ليرسم كلماته. كما يمكن أن نفهم أن الشاعر يمتلك رؤية عميقة وصادقة لذاته وللعالم من حوله. فهو يسكب كلماته على الورق، مما يوحي بالحرية والانطلاق في التعبير الشعري. لكن الإحساس بالتيه، وحرقة السؤال، الذي تحترق فيه توجساته ونواياه. العالم بالنسبة له " دروب داجية " يتجرع فيها كأس الإحباط؛ فهو غريب مهمش، رغم أرقامه وعناوينه، التي تختزل وجوده وكيانه؛ بل كيان كل الناس في مدينة التهميش. والصخب التي تاه فيها الشاعر مفتشا عن ذاته؛ فلا يجد إلا الغواية والضياع الذي يسكن حياة الوجوه الكالحة. يحاول الشاعر أن ينفلت ويهرب إلى قريته النائية، بل يريد أن يتحدى مدينة التهميش والإقصاء لكن ينتهي به المطاف إلى الشرود، والهموم، ولا يستسلم.

يزيد من هم الشاعر فقد القدس، وانصرام زمن السلم والوئام، وتولي الشعراء الدبر فالكلمات اختنقت، والنوايا جفت... والأمة ضاعت، نخرتها الأسقام وفرقتها الأحقاد والنحل، صرنا كالخرفان والبقر والأنعام... بفعل الجهل والتخلف. نجد الشاعر يطرق موضوعاته بلغة مباشرة واضحة لا تكلف فيها، ولا حنوط بلاغية تخفي الحقيقة. وحين تكون لغة الشاعر مباشرة وواضحة، يمكن أن نستشف الحالات النفسية والسيكولوجية، والأبعاد السيميوطيقية التالية:

* الصدق والصراحة، فقد يشير استخدام اللغة المباشرة إلى أن الشاعر يرغب في التعبير عن مشاعره وأفكاره بصدق وصراحة، دون تكلف أو تزييف. كما يدل الوضوح على القوة والثقة في التعبيرعن نفسه، ويرغب في نقل رسالته بشكل واضح ومباشر، مما يضفي على نصوصه الشعرية واقعية، سبيل التواصل الفعال وبالتالي التأثير القوي والمباشر على القارئ؛ فتحدث الاستجابة ورد فعل.

هكذا يستعرض الشاعر آلام الأمة وخوالج الذات: فهذه غزة وما عاشته من ويلات، وتقتيل في قصيدة " صيحة " ويبدو أن صرخة قرى غزة المناضلة الأبية التي يتحدث عنها الشاعر في " صيحة " لا يقصد الحالية؛ لأن القصيدة كتبت بتاريخ

04/08/ 2018، والمأساة الأخيرة كانت في 2024/ 2025.

ولعل قصيدة " صرخة صامتة " التي كتبت بتاريخ 18/06 / 2024 هي من تولت رسم عويل الأطفال وجوعهم، وهول الردى وأنين الأطفال ,

وتلك قصيدة " صدمة " التي تحكي حلم العاطفي بغادة جميلة فتانة، التي لم ينل منها إلا حلما ورديا جميلا، ووهما بعد أن علًّق على وجودها الأماني والآمال في الوصال.

والأخرى " حورية على شاطئ الصمت " تستحضر معشوقة الإنس، حورية، عروس البحار التي كان الشاعر يبحر بلا سفن ن ولا مراكب من أجل الظفر بها، لكنه لم ينل منها إلا خيط دخان " أحلام شيدت "، " على شاطئ الصمت ".

إن البعد الدلالي والسيكولوجي لهذا الحضور القوي للخيال في تجربة الشاعر نورالدين قاسمي، يمكن إيعازها إلى قدرة الشاعر على الإبداع والتجديد، وإنشاء عوالم جديدة ومبتكرة، كما أن الخيال يعتبر وسيلة تعبر عن العواطف بشكل أكثر عمقا وتعقيدا؛ إذ يحدد رؤية فلسفية عميقة للعالم والحياة، حيث يرغب الشاعر في استكشاف الأفكار والمفاهيم بشكل مبتكر.

كما يدل هذا الجنوح نحو الخيال على الهروب من الواقع، والضغوط اليومية، وخلق عالم أكثر جمالا وسعادة، بالإضافة إلى هذا فهو تعبير عن اللاوعي والرغبات والمخاوف الداخلية. وهو مع هذا بحث عن الذات والهوية، واكتشاف الأفكار والمشاعرالداخلية. إذ من خلال استخدام الخيال في الشعر، يمكن أن يخلق الشاعر عوالم جديدة ومبتكرة، وينقل رسالته بشكل أكثر عمقا وتأثيرا. وهذا ما نلاحظه من خلال جملة من الصور البلاغية، والحوارات الداخلية في القصائد التي تحاول أن تبوح بمكنونات الشاعر وخوالجه التي تتميز بالاحباط والانهزام أمام صعوبة الواقع المعيش والتحديات التي يواجه بها الإنسان.

لا يمكن القول إن الانكسار هو الحاضر الوحيد والأوحد في نصوص الشاعر، لأن قصائد أخرى مثل: " عشق وانتماء " يتحول الشاعر إلى طفل مزهو بانتمائه وانتصاره، بل إعجابه بالصحراء، ونغمها، وكثبانها ورمالها الذهبية ن وكرمها الأصيل فهي:

" هبة ربانية

سالبة للعقل

يلثم الموج

أحلام الرمل

في حضرة

شامخات النخل "

فالشاعر قاسمي كثيرا ما يفاجئ قرئه بالجديد، اللامتداول؛ بصورة أو تصور كما في قصيدة؛ " أحلى قصيدة "

{... }

" أيا قصيدة...

لم تنظم بعد. "

وهو بهذا يصعب قراءة قصائده بشكل أفقي يمر، ويلامس مجموعة من القصائد، بل يحسن بالدارس الوقوف على كل نص شعري؛ وقد يمكن له أن يجمع بين بعض النصوص المتشابهة ليس إلا. بل على القارئ أن لا يغيب عد ذهنه قدرة الشاعر توليد الدلالات؛ لأنه وإن تشابهت أحيانا، بعض النصوص فإن القدرة على الإبداع والتوليد الدلالي والتصويري، مثل ما في النص الشعري " المرآة " يحتم على المتلقي أن يعد عدته لاكتشاف ما يتوصل إليه الشاعر ولا يراه.

***

بقلم: د. عبد الحق السالكي

08 / 06 / 2025

 

قراءة رمزية - نفسية في قصيدة الشاعر الفلسطيني خلدون عماد رحمة.

في قصيدة "لو تقطفيني الآن قلبي أثقل الشجرة"، يُبحر الشاعر خلدون عماد رحمة في مساحةٍ شائكة من العاطفة الملتبسة، والرغبة المكبوتة، والتوق إلى المعنى المتجاوز للجسد. هي قصيدة تتوسّل الشعر لتفجّر الأسئلة الوجودية، وتخلط بين الطهر والخطيئة، بين الطفولة والاشتهاء، بين الموت والحياة، ضمن بنية دلالية رمزية تُسائل اللغة كما تُسائل الذات.

أولاً: الأسلوب الشاعري بين التوتر والإيحاء.

يحمل النص نَفَساً لغويّاً متوتراً، يُزاوج بين الانسياب الشعري والاندفاع الخطابي:

يقول الشاعر خلدون رحمة: «لو تقطفيني الآنَ / قلبي أثقلَ الشجرةْ».

افتتاحية مشبعة بالتوتر الوجودي: "القطف" هنا فعل مزدوج بين الرغبة في الانفصال والتحرر من عبء الحياة (القلب الثقيل) وبين دعوة للاندماج في الآخر (المُخاطَبة). القلب أثقل من الشجرة، إذن هو لا يحتمل وجوده، بل يعاني في فيزيائية شعورية غامضة؛ القلب بوصفه مركز الكينونة، أصبح عبئاً وجودياً.

تكرار ضمير المخاطب المؤنث يعمّق من الجاذبية الأسلوبية للنص، ويكشف عن حالة تماهٍ شعوري بين الذكورة المستسلمة والأنوثة المشتهاة، لا بوصفها جسداً فقط، بل معنى مضمراً يُفتِّت الحدود بين العاطفة والميتافيزيقا.

ثانياً: البنية الرمزية: من الجسد إلى "معبد الجسد".

القصيدة مشبعة بالرموز ذات الطابع الإيروتيكي الممزوج بالغموض الصوفي يقول: «مررتِ بعطرك الشبقيّ في غيبوبتي / ألهبتِ رمزاً خافتاً في معبد الجسد الحزين».

هنا تتحوّل الأنثى إلى كائن رمزي يتجاوز الواقعة الحسية إلى استدعاء بُنية مقدّسة. العطر الشبقي لا يُثير فحسب، بل "يُلهب رمزاً " في معبد الجسد، أي أنّ الجسد نفسه يتحوّل إلى فضاء طقوسي، مزارٍ للحزن والشهوة معاً. هذا التزاوج بين الألم واللذة يعكس بنية يونغية للنفس: حيث "الأنيموس" الذكوري ينجذب لأنثى داخلية تُعيد تشكيل الرغبة بوصفها بحثاً عن المعنى لا عن المتعة.

ثالثاً: البنية النفسية: التمزّق بين الطفولة والرغبة.

نلحظ في هذا المقطع تصعيداً مثيراً في الحسية الشعرية يقول الشاعر رحمة: «دلقتِ حليبكِ الناريّ في إبريق صمتي / فامتلأتُ طفولةً».

في قلب المفارقة، يُولد التناقض: "الحليب الناري"؛ رمز أمومي ملتهب، يوحي بالاحتواء والاشتعال معاً. "إبريق الصمت" كناية عن النفس المغلقة، الممتنعة عن القول، وعن تفجّر المعنى. و"الامتلاء بالطفولة" هنا ليس عودة إلى البراءة، بل تشكّل جديد للذات، ولربما تراجع إلى مستوى نفسي مبكّر كآلية دفاع نفسي أمام صدمة الشهوة.

رابعاً: الرمزية والتحرر: الجسد كحقل للمعنى.

القصيدة تتضمّن مفارقات رمزية توحي بتحوّل الجسد من موضوع للرغبة إلى وسيلة لفهم "المعاني" يقول: «هبيني عريكِ السريّ كي ألجَ المعاني من أنوثتها»، «زوّجيني الحبّ حدّ الموتِ / إنّ الموتَ يخجلُ من سؤال المقبرةْ !».

العري هنا ليس فاضحاً، بل سريّاً – أي أنه عري يُفصح عن الداخل، عن الحقيقة الباطنية. الأنثى تتحوّل إلى بوابة للمعنى، لا مجرد موضوع للرغبة. هو تحوّل من "شهوة الجسد" إلى "شهوة المعرفة". الموت لا يُخيف، بل يُستدعى بوصفه ذروة للاتحاد العاطفي والمعرفي: حب يصل إلى حد الإلغاء الكلّي للذات.

خامساً: الهجوم على اللغة:

القصيدة كجمرة وجودية: «أشعلُ حربَ أفكاري على نهديكِ / أحرقُ وردة الرؤيا وأصرخُ: / كيف تندلعُ القصيدة دون جمرةْ؟».

الشاعر خلدون رحمة هنا يتمرّد على اللغة، يحاول أن يكتب من موقع الجمر، من الألم الذي لا يحتمل التأجيل. الرؤية تُحترق كي تولد الكلمة. إنها استعارة واضحة عن الكتابة بوصفها محنة، وعن الجسد بوصفه ميداناً للكتابة نفسها. النهد لا يُشتهى فقط، بل يُهاجَم بالأفكار، أي أنّ القصيدة تتحوّل إلى مساحة صراع لا بين جسدين، بل بين فكر وشهوة، بين رؤيا ونار.

سادساً: الثمرة المسمومة: الخطيئة والمعنى.

يقول الشاعر خلدون رحمة: «لا تعودي للبدايةِ / حامض طعم الحكايةِ / والخطيئةُ قشرة الثمرةْ .».

يتّضح هنا تمثّلٌ واضح لفكرة السقوط، أقرب إلى سردية الخطيئة الأولى. الأنثى/الثمرة تُشير إلى التجربة التي لا يمكن العودة منها بريئاً. الخطاب يُفرغ الحكاية من سذاجتها، ويحوّلها إلى ماضي "حامض الطعم"، فتجربة الشاعر لم تعد طفولة، بل نضج معرفي مؤلم.

سابعاً: الخاتمة: التحوّل الجذري والفكرة المتحرّرة.

يقول: «اقطفيني الآن من جذري / اقطعيني / واغرسيني في حديقة قلبكِ الزرقاﺀَ / كي تتحرّر الفكرةْ .».

في ختام النص، يتحوّل "القطف" إلى طقس خلاص: لا بوصفه نهاية، بل انبثاقاً جديداً. الذات تطلب أن تُقتلع من جذورها – أي من ماضيها، ذاكرتها، وجودها السابق – لتُغرس في أرض الآخر. الفكرة لا تتحرر إلا عبر هذا الاقتلاع، عبر الاحتكاك الجذري بين (الأنا) و(الآخر)، بين المعلوم والمجهول.

خاتمة:

تُعبّر قصيدة خلدون عماد رحمة عن حوار داخليّ عميق بين الغريزة والمعنى، بين العاطفة والفكر، بين الرغبة والمعرفة. تستبطن رموزها في جسد اللغة، وتحوّل الجسد إلى لغة. قصيدة متوترة، مشحونة بالأسئلة لا بالإجابات، تُلهم قارئها لا باكتشاف الحقيقة، بل بالحيرة الخصبة، بالتوتر الخلّاق، بالتأويل المستمر. إنها ليست قصيدة عن الحب أو الجسد، بل عن إمكانية التحرر من المعنى ذاته كي يُولد المعنى.

***

,بقلم: عماد خالد رحمة - برلين

..........................

نص القصيدة:

لو تقطفيني الآنَ

قلبي أثقلَ الشجرةْ .

مررتِ بعطرك الشبقيّ في غيبوبتي

ألهبتِ رمزاً خافتاً في معبد الجسد الحزين

عطِشتُ من هولِ الغرابةِ

واختفى جسدي

دلقتِ حليبكِ الناريّ في إبريق صمتي

فامتلأتُ طفولةً

ورأيتُ زهرة شهوةٍ تمشي ببطﺀ نحو أرض العفّةِ المتصحّرةْ

هل أنتِ ميّتةٌ ؟

هبيني عريكِ السريّ كي ألجَ المعاني من أنوثتها

اقتليني

زوّجيني الحبّ حدّ الموتِ

إنّ الموتَ يخجلُ من سؤال المقبرةْ !

سأفيقُ حين ينامُ حلم الله في عينيكِ

أشعلُ حربَ أفكاري على نهديكِ

أحرقُ وردة الرؤيا وأصرخُ:

كيف تندلعُ القصيدة دون جمرةْ ؟

لا تعودي للبدايةِ

حامض طعم الحكايةِ

والخطيئةُ قشرة الثمرةْ .

اقطفيني الآن من جذري

اقطعيني

واغرسيني في حديقة قلبكِ الزرقاﺀَ

كي تتحرّر الفكرةْ .

***

اعتبر ألبير كامو الذي نفسه تلميذاً لدوستويفسكي وحول روايته الأثيرة لديه "الشيطان" الى مسرحية واقتبس العديد من افكاره. وكان يكرر أن تاثير عبقرية الكاتب الروسي تجاوز حدود بلده منذ زمن طويل ولم تفقد قوة تأثيره. وصرح كامو قبيل وفاته في أواخر خمسينيات القرن الماضي: "الآن نعرف أن أبطال دوستويفسكي ليسوا غرباء أو عبثيين. نحن نشبههم، نحن كم طينة واحدة. وإذا كانت "الشياطين" رواية نبوئيًة، فذلك ليس فقط لأن شخوصها كانوا قبلنا عدميين، بل لأنهم يُظهرون على المسرح أرواحًا ممزقة وميتة، عاجزة عن الحب وتعاني، لهذا فهي متعطشة للإيمان لكنها لا تملكه. واليوم، غمر هؤلاء الابطال مجتمعنا، وعالمنا الروحي".

وإذا كانت ثمة تشخصيات مشتركة بين دستويفسكي وكامو بصدد القضايا الوجودية للانسان ومحنه وتطلعاته للخلاص من وجوده الملتبس، فان الاديبين/ المفكرين يختلفان لحد التناقض في سبل الخروج من الازمات الانسانية. وترصد الناقدة الروسية آلّلا لاتيننا في دراستها "دستويفسكي والوجودية" التشابه الماثل للعيان بين شخصيتي رواية دستويفسكي الجريمة والعقاب راسكولنيكوف والغريب لكامو ميرسو اللذين تورطا بارتكاب جريمة قتل مجانية، رغم اختلاف مقاربات الأديبين منهما. وتمضي بالقول: وعموما أن ماتيف إبداعات دوستويفسكي تغلغل على نطاق واسع في أعمال الأدب الوجودي. علاوة على ذلك، يُعتقد أن أفكار الكاتب الروسي الكبير تركت انعكاساتها بمختلف الأشكال على الفلسفة الوجودية نفسها.

لقد ارتبطت حياة كامو الادبية والفكرية على مدى ربع قرن (1935-1960)، ارتباطًا وثيقًا باعمال دوستويفسكي. ولم تظل أهمية  انتاجات الكاتب الروسي جامدة في ذهن كامو. فقد مرت بتطورمعقد، ارتبط بأحداث العصر والحياة الروحية للكاتب نفسه.

بدأ كامو بالتعرف على أعمال دوستويفسكي عندما كان في العشرين من عمره، حينما كان يدرس في الجامعة بالجزائر. وسرعان ما أصبح مهتمًا بها، ولعب دور إيفان كارامازوف على خشبة المسرح. وصرح كامو عن دوره كإيفان: "لقد لعبته، ربما، بشكل سيئ، لكن بدا لي أنني فهمته تمامًا".  واستذكر في عام ١٩٥٥، في حديث إذاعي بعنوان " من أجل دوستويفسكي"، قائلاً: "تعرفت على أعمال دوستويفسكي وأنا في العشرين من عمري، ولا تزال الصدمة التي شعرتُ بها عند ذلك اللقاء حيةً في وجداني حتى اليوم، بأي عد عشرين عاما.ً في البداية، اعجبني إن دوستويفسكي كشف لي الطبيعة البشرية، كشفها بكل معنى الكلمة، لأنه يُعلّمنا ما قد عرفناه نحن، بيد أننا نرفض الاعتراف به. علاوةً على ذلك، فقد دارى إحدى نقاط ضعفي الذي تمثل بشغفي بالوضوح من اجل الوضوح. ولكن مع تفاقم مأساة عصرنا، سرعان ما احببت في دوستويفسكي، ذلك الاديب الذي فهم وصوَّرَ مصيرنا التاريخي بعمقٍ بالغ" .

ولم يخفِ كامو اهتمامه بأعمال دوستويفسكي. وقد ردد هذا في أغلب أعماله. ويذكر مراراً إن أعمالاً مثل "الإخوة كارامازوف"، و"الشياطين"، و"مذكرات من الاعماق"، و"مذكرات كاتب" (وخاصة مقال "الحْكم")، و"الجريمة والعقاب". إن أعمال دوستويفسكي أثارت من دون شك اهتمام كامو من الناحية النفسية، وذلك بفضل التصوير الحي لمشاعر الشخصيات التي أدركت عبثية الحياة؛ ومن منظور ميتافيزيقي   فيما يتعلق بقضايا الحياة والموت والأخلاق والحرية.

ويركز كامو، مثل دوستويفسكي، على دراسة الإنسان ككائن. فكامو من الفلاسفة الوجودين، رغم نفيه انتماؤه لهم، اللذن ركزوا اهتمامهم على الإنسان وتجربته الحياتية. وكتب في عام 1943: "ينبغي الاتفاق على أن العالم غير قابل للمعرفة ودراسة لغز الإنسان". وينطبق الأمر نفسه على دوستويفسكي. فقد حدد، وهو في الثامنة عشرة من عمره، أثناء دراسته في كلية الهندسة بسانت بطرسبرغ، هدفه واهتمامه الرئيسي طوال حياته وأعماله اللاحقة: "الإنسان لغز! يجب حله". وكتب الفيلسوف  الوجودي/ الديني الروسي نيكولاي برديايف عن دوستويفسكي: "يفتح دوستويفسكي عوالم جديدة. هذه العوالم في حالة حركة متسارعة. ومن خلال هذه العوالم وحركتها، تتكشف مصائر الإنسان". وسوف يركز هذا العمل، بدوره، أيضاً على القضايا الأساسية المتعلقة بالوجود الإنساني.

ورصد البحاثة تشابه واضح عند دراسة مقاربات الاديبين/  المفكرين لمشاكل العبث، والانتحار، والدين، والعدمية، والتمرد: وتأكدت هذه التشابهات في المقالات الفلسفية والأعمال الفنية للاديبين. ومن المهم أن نلاحظ أن دراسة فلسفة دوستويفسكي وكامو من هذا المنظور اتاحت بالتوصل إلى فهم أعمق لهما،

من خلال رواياته "الشياطين"، و"الإخوة كارامازوف" ومقالته "الحْكم"،  لقد طرح دوستويفسكي الأسئلة التي حفزت لاحقا تفكير كامو. إن وصف دوستويفسكي للعبث الذي تتسم به بعض شخصياته، أثر بلا ريب بصورة كبيرة على فهم ألبير كامو للعبث. علاوة على ذلك، فإن استنتاج كامو في اسطورة سيزيف  بأن إدراك العبث لا يؤدي بالضرورة إلى الانتحار تطوير لحوارات كيريلوف في " الشيطان، ومقالة "الحْكم". وعلى الأرجح أن هذه الحجج لم تكن لتظهر على الإطلاق لو لم يكن الاديب / الفيلسوف الفرنسي مطلعاً ومستوعبا لأعمال دوستويفسكي. علاوة على ذلك، نجد تأثير دوستويفسكي في موقف كامو تجاه الدين، رغم أن النتيجة النهائية مختلفة بصورة لافتة، إذ توصل دستويفسكي إلى الخلاص بالإيمان، في حين لم يقبل كامو الخالق مطلقا. إن هذا الرفض كان متأثرا إلى حد كبير بالمنطق الذي وضعه دوستويفسكي على لسان إيفان كارامازوف. وأما بالنسبة لمشكلة التمرد، فإن صياغة فهمها أيضاً تمرعبر تفكير دوستويفسكي. عندما تعرض كامو للعديد من أفكار دوستويفسكي، كان إما يوافق عليها أو يرد عليها بالنقد - لكنه لم يظل غير مبالٍ أبدًا حيالها. الحوار مع دوستويفسكي هو سمة مميزة ثابتة لأعمال كامو - سواء المقالات الفلسفية أو الروايات والمسرحيات والمقالات والخطب وما إلى ذلك. لقد حفز إبداع المفكر الروسي إلى حد كبير وحدد تشكيل فلسفة كامو.

***

د. فالح الحمراني

 

في ديوانه الجديد "الصباح رباح"، الصادر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب في ٢٠٢٤، يواصل الشاعر إبراهيم محمد ابراهيم رحلته، التي بدأها في أعمال سابقة، في البحث عن ذاته، الضائعة في عالم عبثي يخلو من المعنى. وفي هذا السياق، يأتي هذا الديوان ليعكس علاقات الشاعر المأزومة، مع النفس، ومع الآخرين، ومع العالم.

يتأكد ذلك منذ الإهداء الذي يتصدر صفحات الديوان:

"عمرو ناجي

أنت النقاء الذي تمنيته....."

وعمرو ناجي هو صديقه الصدوق، الشاعر الموهوب الذي هجر الشعر لأسباب غير معروفة حتى الآن! ربما لأنه لم يعش المعاناة نفسها التي عاشها إبراهيم، وربما لأنه خشي أن يتورط مع شيطان الشعر في أعمال منافية لقناعاته، خاصة أن العالم المارق الذي نحيا فيه لم يعد في حاجة إلى فاوست جديد.

إن شاعرنا يبحث عن البراءة في الناس والعالم، أمنيته التي لم تتحقق، بعد أن جرفه التيار، ولم يعد يملك خيار الرجوع. فالعلاقة هنا مع الذات بالرغم من كونها تتحدث عن الآخر، وترى فيه حلمها الضائع!

وفي عبارة تالية، معبّرة، يكتب ابراهيم:

"اسمح لي أيها السوط أن أتألم..."

يعبّر الشاعر هنا عن علاقة مأزومة مع العالم. فعندما يستدعي السوط، أداة تعذيبه، ويطلب منه أن يسمح له بأن يتألم، في مفارقة صارخة، إنما يستدعي العالم كله بأشيائه وسلطاته وجلّادينه، في محاولة يائسة لاكتساب ميزة التعبير عن الألم!

ولا يخفى أن قصيدة الشاعر هي صرخته، وأداته الوحيدة للتعبير عن آلامه. لذلك لا يمكننا أن نفهم هذه العبارة إلا باعتبارها نوعا من الاستئذان، أو الاعتذار الخفي المسبق لما سوف يقدمه من قصائد في الديوان ربما تجرح الجلاد، أو  تثير حفيظة صاحب السلطة الذي يدير العالم بنحو كارثي، دون أن يعبأ بالضحايا!

 وفي عبارة استهلالية أخرى يقول:

"العتبة محروم كلّت كفاه الطرق

فخر صريعا تحت الباب..."

وبالرغم من أن العتبة هي شيء من أشياء العالم، غير أن أنسنة الشاعر لهذا الشيء ومنحه خاصية الشعور بالحرمان، والإحساس بالألم، يجعلنا نفهم العبارة بنحو رمزي يشير إلى الشاعر الذي تعب كثيرا في رحلة الحياة، ثم انهار أخيرا بعد أن تجمدت أحلامه وسُدت أمامه أبواب الأمل!

فهل أنهار الشاعر فعلا، وفقد كل قدرة على الفعل؟

في روايته السابقة "موت مواطن شريف" كان الشاعر فاعلا بقوة، لكن في اتجاه التشفي والانتقام، وكانت كلمته هي أداته للثأر ممن تسببوا في قهره ومعاناته، حتى أننا عبّرنا في دراسة سابقة عن هذا الموقف الوجودي الفريد بأنه نوع من "الانتقام الجمالي". فهل أستمر شاعرنا في مسلسل الانتقام في هذا الديوان أم نجح في التصالح مع العالم الذي غدر به ذات مرة؟ للإجابة عن هذا التساؤل ينبغي علينا التطرق لعلاقته ليس بالعالم فحسب، ولكن بالذات والآخرين كذلك.

علاقة الذات بنفسها:

علاقة الذات الشاعرة بنفسها لا تأتي عند شاعرنا إلا في شكل من أشكال التقمص الوجداني الذي يعتمد في حضوره على التماهي مع أشياء العالم، بالرغم من التنافر الظاهري بين الأنا ومفردات العالم. يتضح ذلك من قصيدته القصيرة "وحيد"، عندما يقول:

"وحيد...

كرغيف يابس،

كعود ثقاب مبتل،

كعانس تحل ضفائرها قبيل مطلع الفجر،

كقطة دهسها باص ببطء..

كإله لا ينفض الفأس عن رقبته بين آلهة متناثرة،

كإبراهيم!"(ص١٠).

فالشاعر يضع ذاته على نفس مستوى الموجودات التي فقدت معناها وجدواها في الحياة، لأنها فقدت هويتها، وباتت محض تجليات شائهة للوجود. يجد إبراهيم نفسه هناك منعكسا دائما فوق مرايا العدم، بدءا من الرغيف اليابس وعود الثقاب المبتل حتى الآلهة الحجرية التي حطمها النبي ابراهيم وعجزت عن الدفاع عن نفسها!

لا يدّعي إبراهيم النبوة أو الألوهية ولا يبشر بعالم يوتوبي جديد، لكنه يحيا كناسك في محراب الشعر، ولا يجد لذته إلا في وحدته، التي جعلها قاسما مشتركا لكل كائن تمرد على هويته وصار شيئا آخر.

في قصيدة "حيلة" يكشف إبراهيم عن كينونته الحقيقية بوصفه ساحرا عصاته الكلمة، يهش بها على أحلامه ونزواته دون أن يكون له فيها مآرب أخرى! فيقول:

"حين يجرفني الحنين إلى الذين ماتوا

أعيد لعبة قديمة

أتنكر مثلا على هيئة سلة مهملات

على درج متسخ

لم أمتلئ بأكياس سوداء كما توقعت

تمر سنوات وأظل سلة فارغة مائلة على حائط صدئ

تسكنني الآن قطة نحيلة

لم يشعر الجيران برائحتها التي فاحت

قبل أن تزحف لتصير عتبة مكسورة"(ص١٤).

فما زالت الذات الشاعرة تلعب أدوارا أخرى عدا أن تكون نفسها، أو قل إنها لا تجد نفسها إلا في التماهي مع كينونات أخرى تحيا وجودا عبثيا. وتظل الحيلة الفنية هي أداة الشاعر السحرية للدخول في عوالم مختلفة، والتنكر خلف أقنعة لا تشبهه على الحقيقة، لكن تمنحه القدرة على تأمل العالم، ورصد تفاصيل مأساة الحياة عن قرب.

غير أن الملاحظ أن الشاعر يضع نفسه دائما في حالة من التوحد مع الشيئي والإلهي دون الإنساني، فيقول في موضع من قصيدة "Application  ":

"أنا كائن قديم،

كأنه بيت وُضع في خطة إزالة"(ص١٨).

ويقول في موضع آخر من القصيدة نفسها:

"وأتضاءل في النهار

كإله سابق يذوب في حقل من غياب"(ص١٨)

ويذكرنا هذا التوحد بين الشيئي والإلهي بوضعية الإنسان عند نيتشة بوصفه "وتر مشدود بين الحيوان والإنسان الأعلى" ، أي الإنسان العادي الذي يتفوق على الحيوان، لكنه لا يصل إلى مرتبة السوبرمان. وإبراهيم لا يحلم بهذا التفوق الميتافيزيقي الخارق للطبيعة، حتى عندما يتوحد مع الإلهي، لكنه فقط يلقي ضوءا كاشفا على كل ما هو عبثي في الحياة، لأن الإنسان عند شاعرنا ضائع في زحمة من اللاجدوى واللامعنى. لذلك لا يذكر نفسه كإنسان إلا مقترنا بالهزال والضعف والانسحاق، وفي هذا المعنى يقول:

"المؤهل

إنسان سابق بتقدير هزيل جدا

العنوان

جسد مهجور آيل للسقوط..."(ص١٧).

علاقة الأنا بالآخر:

لا يميل إبراهيم، بطبعه، إلى التفلسف ولا يحرص على أن يضمّن  قصائده قضايا ميتافيزيقية أو معان كبرى، لذلك يغيب التساؤل الفلسفي عن تجربته الشعرية، لكن يحضر تساؤل إنساني، ذو مسحة عاطفية، من نوع خاص. تساؤل يحاول الشاعر أن يخترق به وعي الآخر المختبئ خلف تفاصيل يومية كثيفة. يتبدى ذلك في قصيدة "زينب" التي جعل منها ابراهيم موضوعا لتأمله وتأويله، بحيث يطرح السؤال ويقدم الإجابة في آن!

فعلاقة الشاعر بزينب محددة مسبقا، في خياله على الأقل، والتساؤل لا يبدو سوى خدعة فنية، أو مناسبة لتفسير وقائع تبدو في غير حاجة إلى تفسير، فيقول:

"ما الذي في البال يا زينب؟

سوى عتمة تتسكع على مرمى حجر

هواجس ترتدي جلبابا مسترخيا

وثقب يلهث في قميص من صداع

كأنه نبي

احتمى بشجرة

أو منشار لا ينثني لتوسلات الرداء"(ص٢٠).

ويتساءل في موضع آخر من القصيدة:

"ما الذي تقصدينه حين تركت ظلك مبللا بالخوف على مقعد الحديقة

الحديقة التي انكمشت كبصقة عامل القمامة

وهو يفض مظاهرة الياسمين

ولا يعترف بعقد عرفي بين الشجر وحطاب أكل فأسه

فصار جسرا لا يصل لشيء"(ص٢١).

التساؤل عند الشاعر في علاقته بالآخر الأنثوي، لا يصل إلى يقين، والإجابة لا تشفي الغليل، لذلك يستمر في التساؤل إلى ما لا نهاية بالرغم من سطحية التجربة التي لا تجاوز روتين الحياة اليومي، والتي من شأنها أن تطفئ جذوة الدهشة الملغزة، حتى أن التساؤل نفسه يتحول إلى مسلك روتيني يكرر نفسه دون رغبة في الإجابة! فيقول في خاتمة القصيدة:

"يا زينب

ما الذي في البال وأنت تلفين المدى كسجادة

وتعلقين السماء على حائط مائل

ثم تغسلين المواعين وأنت تغنين؟

ما الذي كان في البال يا زينب..."(ص٢٣).

التساؤل حول الآخر، لدى الشاعر، لا يعني حضور الآخر بالرغم من استخدام ضمير المخاطب، لأن إبراهيم لا يتحدث إلا إلى نفسه في غيبة الآخر وحضور العالم، الذي هو مجموعة الآثار التي تركها الغائب كشفرة سرية وجب على شاعرنا أن يحلها. والحق أنه يجيد فك هذا اللون من الشفرات، لأنها تمس ألغازا تتعلق بعلاقته بالعالم، وتجربته الخاصة في الحياة.

لذلك يمكنك أن تعثر في قصائد إبراهيم على مزيج مدهش من عناصر الكون، ومن طبقات الوجود. ففيها يختلط الأرضي بالسماوي والإنساني بالملائكي بالإلهي، والاجتماعي بالفردي بالسياسي. كل ذلك في سياق ذات مشتعلة بالرغبة والأسى، لا تملك إزاء أحلامها المجهضة واحباطاتها المتتالية سوى سلاح السخرية المريرة الذي تشهره في وجه الظلم الطاغي والمصير المحتوم.

تمتلئ قصيدة "الحزينة" بالكثير من الصور التي تعبّر عن هذه المعاني، خاصة في سطورها الأولى التي يقول فيها الشاعر:

"ما الذي تريده الحزينة هذا المساء؟

سحابة Brand 

أو مقلدة في علبة من قطيفة؟

إلها خجولا يقدم الشاي على صينية نظفها للتو؟

شاعرا على هيئة إسورة بمول تجاري؟

أخبريني أولا عن صداع يشبه رأسك

حين اتخذ شكل طيور تجوب المدينة في وردية ليل

تلون ريشها بلون الثورات والرتب العسكرية

وعن منديلك الذي يشبه المساء"(ص٥٠).

والغياب هو كلمة السر في علاقة الشاعر بالآخر، لأنه فيما يبدو، لا يملك شجاعة المواجهة، أو ربما صار اللقاء ترفا بات زاهدا فيه. يتأكد ذلك من فكرة الغياب المركب، أو المزدوج الذي عبّر عنه إبراهيم بصورة شعرية مدهشة، تذكرنا بغيابات محمود درويش، عندما كتب في ختام قصيدة "سكرات جثة قديمة":

"أحببت أن أغيب عشرين عاما عن "مقهى البستان"

كي أفاجئك هذه الليلة بغيابي أيضا

غيابي الذي ينتصب أمامك على كرسي وحيد

لماذا لم تأت

كي تلاحظ هذا الغياب"(ص٥٦).

وكما يغيب الآخر في تفاصيل الحياة اليومية الصغيرة، مسجلا حضورا مجازيا على مستوى اللغة، يغيب أيضا عن الوجود كلية في وقائع غامضة من الموت الملغز. الموت الذي يتشبث بنمط من الحياة الخادعة التي تراوغ وعيا غافلا، يأبى إلا أن يعيش الأكذوبة، فيمارس طقسا أبديا من التهكم الفاضح على أحوال العالم. يتضح ذلك في قصيدة "الإباحي" القصيرة، فنقرأ:

"يصعد وحده

تسبقه كائناته التي لا يراها

ولا تراه

كائناته التي تقلده حين يسعل

أو يحفر على "الدرابزين" كلمة إباحية

أمام شقة جارته

جارته التي لا تفتح أبدا

كلما دق الباب بعد الواحدة صباحا

وحين اكتشف فجأة أنها ماتت منذ سبعة عشر عاما

رسم بجوار كلماته البذيئة

نهدين

وقمرا مشتعلا..."(ص٥٨).

ونعثر على نفس خبرة الفقد، المنطوية على شكل آخر من أشكال الاحتجاج الفاضح في قصيدة "صورة" التي تجسد حالة العالم بعد رحيل الأب. الأب الذي يمثل معضلة وجودية في حياة الشاعر، فيذكره في أكثر من قصيده، ويبقى منه على مسافة تخلو من التعاطف، غير أنه هنا، ربما للمرة الأولى، يتوحد معه ويجعل منه أداة للثأر المعنوي من العالم الذي لم يحفل به يوما أو بأبيه، فيقول:

"أنا ابنه الوحيد

ألملم ظله بعد أن أنفض عنه أحذية العابرين

أدسه في دولابه مع أوراق ميلادي

وبرواز بشريطة سوداء جانبية

وصليب مستعمل

أفك الآن سرواله الذي يرتديني

كي أبول خلف شجرة

يخدش حياء النهار الذي أعطاني ظهره هكذا..."(ص ص٦٣-٦٤).

 وفي جدلية مدهشة تذكرنا برائعة نيكول كيدمان السينمائية "الآخرون"The Others   يدخلنا الشاعر في لعبة تبادل الأدوار بين الأموات والأحياء، بحيث يصير الحضور غيابا والغياب حضورا. فالأحباب الذين ظننا  أنهم رحلوا عن دنيانا وحاولنا الاتصال بهم دون جدوى هم الأحياء على الحقيقة، ونحن الموتى الذين لا نرد على رسائلهم!

ولا يخفى الإسقاط العدمي الذي يجلبه الشاعر للوعي، بحيث تذوب الحدود بين الحياة والموت، ما من شأنه أن يربك الحواس، ويفقد الشاعر فرحته باكتشاف حياة الآخرين أمام حزنه المؤرق حين اكتشاف موت الأنا! نلمح ذلك في قصيدة "وفاء" عندما نقرأ السطور التالية:

"الأحياء الذين رحلوا..

لن أمحو ارقامهم من هاتفي

عسى أن ينسوا أنهم ماتوا حين أرن عليهم

يرسلون رسالة سريعة:

(نحن مشغولون مع أصدقاء

لهم نفس صورنا)

فنتأكد أننا الذين ماتوا

وأنهم أبقوا على أرقامنا

عسى أن نقرأ رسائلهم اللحوحة

التي لا نرد عليه أبدا..."(ص٦٠).

وفي كل الأحوال، نجد أننا إزاء أنانية من نوع خاص  فالشاعر لا يحفل بالآخرين قدر احتفاله بذاته المنكفأة على نفسها، ولا يستدعيهم إلا باعتبارهم وسائل مساعدة لإعادة اكتشاف معاناة الأنا في ظل علاقات شائهة، وتجارب لم تضف للذات كثيرا قدر ما أخذت منها.

علاقة الأنا بالعالم:

العالم عند الشاعر ليس هو الكون الفسيح، لكن عالم الحياة اليومية الذي يعج بالتفاصيل الصغيرة. إنه يقترب كثيرا من أشياء العالم، ومن خلال رؤية مجهرية ينجح في رصد الكثير من التحولات المتشابكة والعلاقات الدقيقة التي لا تلتقطها النظرة العابرة. والعلاقة بين الأنا والعالم تأتي على مستويين، أحدهما معرفي والآخر وجودي، الأول يقف فيه الشاعر على مسافة من الأشياء والآخر يدخل فيه في علاقة مع الأشياء تصل إلى حد التوحد!

يتبدى المستوى المعرفي في الكثير من القصائد، منها قصيدة "فضول" التي يراقب فيها الشاعر حياة الجيران عبر نافذته المقابلة، فنقرأ:

"أقف على أطراف أصابعي

كي أعرف نوع الفاكهة المهملة

على مائدة من خشب تآكل

تحت مفرش أبيض باهت"(ص١١).

وهي معرفة تأتي بدافع من فضول الشاعر بالرغم من أنه يصف الجيران الذين يتلصص عليهم بالفضوليين. غير أنه يصفهم بذلك كنوع من التهكم، لأنهم بالرغم من كونهم كذلك منعهم روتينهم اليومي العتيق من رؤيته وهو يسقط من نافذته المقابلة لهم. إننا أمام معادل شعري لبصرية هيتشكوك في فيلم "النافذة الخلفية" التي تستدعي بدورها فكرة التلصص عند سارتر، وهي فكرة يمكن أن تكون مفتاحا تأويليا لفهم علاقة الشاعر بالعالم، فيقول:

"جيراننا الفضوليون

الذين لم يكلفوا أنفسهم ليعرفوا مصدر الضوضاء

حين سقط جسدي من نافذة مقابلة

لا يلملمون حكايات معادة من براويز معلقة على حائط

متوجة بشرائط مائلة سوداء(ص١١).

تتبدى فكرة التلصص بنحو واضح في قصيدة "مشهد جانبي لسفارة أجنبية" عندما يرقب الشاعر تفاصيل صغيرة لأشياء زائلة ومغامرات ليلية لا يلحظها أحد، فنقرأ:

"نشيد منسي

تردده الأشجار آخر الليل

حين يتكئ إليها شرطي

أنهكه الوقوف أمام السفارة

دخان يعانق ضوءا خافتا

يتشبث بزجاج نافذة خجلى

حين هم الشرطي بقضاء حاجته

أمام السور"(ص١٢).

وفي قصيدة "أشياء صغيرة" تسري روح آلان روب جرييه الوصفية الخالصة، التي تكتفي بوصف الأشياء كما تتبدى في الواقع دون أن تمنحها فرصة البوح بأي مكنون يمكن أن تحمله في باطنها. يفعل إبراهيم الأمر نفسه حين يرقب تفاصيل حياته المتناهية في الصغر بنحو ينزع عنها أي معنى أو دلالة يمكن أن تثير دهشة القارئ أو تستفز فيه شيئا من التأمل أو التفكير، لكنها، بالرغم من ذلك تنبئ عن أن شيئا ما خفيا في سبيله إلى الظهور، ميلاد جديد، أو إبداع شحيح يحرك شيئا من السكون، فيكتب:

"أنين صرصور الليل

إيقاعات هبوط وصعود على درج قابع تحت إحداثيات الفجر

بقعة شاي على ورقة بيضاء

وقلم ملفوف بشريط لاصق أبيض

تنعس احتمالات على حافة المائدة

في انتظار أشياء صغيرة"(ص١٥).

تتحول لعبة الاحتمالات إلى سردية كبرى في قصيدة "ورقة مكرمشة"، عندما ينطلق الشاعر من تفصيلة صغيرة، ورقة مكرمشة في جيب جاكت، ليقص علينا أساطير يومية ضبابية من وحي خيال يعيش اللحظات الهاربة دون يقين ثابت عدا السخرية من كل شيء.

وبهذا المعنى لا يتورط إبراهيم في العالم ولا يتعرف عليه من بعد كعادته، لكنه فقط يسعد باللعب معه على وتر الاحتمالات، فيقول عن الورقة المكرمشة:

"ربما كان جوابا غراميا لابنة صديقة أمي

أو ربما لصديقة أمي نفسها

ربما استقالة لم تجرؤ أن ترسلها لمدير

تشبهه قللٌ من الجبس في بلكونات المدارس

ربما تقمصت الورقة منديلا ورقيا

مسحت به أنفي في لحظة "إتيكيت" نادرة

ومبتكرة

كان سيشمئز منها موكيت ولية الأمر البدينة

وهي تضع صينية الشاي"(ص ص٣٤).

على المستوى الوجودي يدخل الشاعر في علاقة مباشرة مع العالم، وتكون هذه العلاقة على أشكال عدة. ففي قصيدة "كوب شاي" يتوحد الشاعر مع كوب شاي على مستوى الشعور. فبالرغم من أن كوب الشاي جماد لا يحس، إلا أنه نجح في أن يبث فيه الحياة والأسى الذي يشعر به، فكلاهما يعاني على طريقته وكلاهما يحيا تجربة وجودية أعمق مما يبدو على السطح، وهنا تتبدى براعة شاعرنا في المزج بين الذات وأشياء العالم عندما يكتب بإيجاز يختصر عالم الشعور كله:

"كان كوب الشاي صامتا

وشاردا

ربما بعد محاولة يائسة أن يستفزني للبوح

كان عليه أن يدرك إنني لست أقل منه حسرة

رغم ما به من سكر

إلا أنه مثلي

يشعر بمرارة الأشياء..."(ص٥٧).

بنفس المنطق يقرأ الشاعر تفاصيل حجرة العائلة، التي تحيا في وحدة، وتعاني جدلية أبدية بين صباح عاجز يجلس على كرسي متحرك وليل جبان يختبئ، كفأرة مذعورة، تحت طاولة طعام هجرتها العائلة. إنها حياة الشاعر نفسه موزعة بين تفاصيل مشهد سيريالي، أو لوحة ما بعد حداثية تتصدرها طبيعة صامتة لا تملك جرأة الشاعر على البوح عندما يقول:

"صباح على كرسي متحرك

ينتظر ليلا يدفعه خطوتين

فيما يتربص الليل تحت طاولة عائلةٍ

كي يفر كفأرة مذعورة خطفت قطعة خبز يابسةٍ

 أنا تلك الطاولة

وأنا العائلة التي اختُزلت في شخص وحيد

وحياتي تلك اليابسة التي سقطت

أسفل الكرسي..."(الصباح رباح، ص٦٥).

وفي كل الأحوال، يمضي الديوان على الوتيرة نفسها التي غلفت الأعمال الأخرى لشاعرنا، بحيث جاء معبّرا عن أزمة الأنا مع الآخر، ومع العالم. تلك الأزمة النفسية ذات الطابع الوجودي، التي فجّرت السخرية، كقنبلة موقوتة، في وجه العبث الذي يأبى إلا أن يجعل من إبراهيم ضحية مسلوبة الإرادة!

لكنه لم يكن هكذا دائما، فقد نجح في تحويل قصائده إلى سهام حادة تصيب العالم المتحجر في مقتل. لم يكن إبراهيم سوى نسخة معاصرة من الكونت دي مونت كريستو أو أمير الانتقام الذي كان يبث الرعب في أوصال ضحاياه قبل أن يكشف لهم عن وجهه المخيف.

إن شاعرنا، الذي يعمل بالتدريس، لا يكتب بدافع من الرغبة في تقديم دروس في الحب أو الشعر أو البلاغة، لكن في إماطة اللثام عن الوجه القبيح للعالم. ولعل أقوى ما في انتقامه هو سخريته، وأقوي ما في سخريته هدوءه الذي يشبه الموت!

***

د. ماهر عبد المحسن

النص الثقافي في الشعر العراقي المعاصر (4)

تعتبر الأسرة أهم خلية يتكون منها جسم المجتمع البشري إذا صلحت صلح المجتمع كله، وإذا فسدت فسد المجتمع كله، في كنفها يتعلم النوع الإنساني أفضل أخلاقه، تتوحد الاسرة بأبنائها في ظل المقومات الربانية من سكن القلب واطمئنان النفس وراحة الضمير حيث تضفي على أبنائها خصائصها ووظيفتها، عندما بدأت بقراءة مجموعة (عن الشط واهله) وهذه العلاقة الوثيقة بين الماء الحياة في شط الشامية ومجتمعها الذي نمى كأشجارها على جرفيه منذ أن تكونت القرى قرب الماء، وجدت الشاعر بدأها بوالد المدينة السابقة ليحيي المدينة الحالية وهذا الوالد الروحي يحمل مكانة اجتماعية ودينية مؤثرة في علم دراسة الإنسان، أنه (السيد صاحب الشرع والد الشامية) بهذا العنوان الكبير، أرى مقدار احترام المدينة وولاءها وطاعتها، فهو القاضي في نزاعاتها، والحامي عن حقوقها، والطبيب لمرضاها في شتى الأمور، والراعي لأزقتها كمدينة ينثر الامان والطمأنينة بين أبنائها عملاً وتصرفاً، وفيصل الكلمة المطاعة، فيصفه:

سيفرُح المعصوموَن

أن ابنَـُهم المضيءَ

كان أباً كريماً لمدينة عظيمة

أَو ليس الذي يركب جواَد الحسين حسينا

أوَ ليس الذي

يـُقطُّر ابناءَهُ شهداءً حسيناَ

أَو ليس الذي تعشُقهُ الشوارعُ

وتقبِّلُ يَدهُ الحارات حسين؟

فللغة الخطاب التسائلي وقوعه ضمن التشبيه، وهي نتيجة لما يحدث في حياة هذا الرجل الذي يأخذ مكانته من نسبه الممتد بشجرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، منها يجد المساحة للتشبيه بين أب الشامية وجدِّه الحسين عليه السلام، ذلك الثائر الذي يقوم أبناء الطائفة وأشياع والده في تخليد ذكرى معركة استشهاده في كل عام منذ ألف واربعمائة عام، كدأب عقائدي لا ينقطع، ويقوم هذا الأب بتمثيل دور المجاهد العظيم أبا الأحرار فيزداد مكانة لأنه أولى من كل الشخصيات بتأدية دور الحسين الشهيد عليه السلام، فيكسب بذلك تعاطف ومحبة الناس في مدينته الصغيرة التي يؤمها يوميا في منهجه التفقدي لها، وهو أيضا المضحي بأولاده الشهداء الثلاث على يد جلاوزة النظام السابق، كما يذكرهم النص ففي هذه السردية السائلة كمياه النهر لتأريخ السيد الشرع، ينقل لنا الشاعر معنى الاحترام المتبادل والمحبة المتبادلة بين المدينة ووالدها، وكما يقول جان مايسون: (لا يدفع ثمن الحب إلّا الحب)، وهناك والدة للمدينة في حكاية احترام وتقدير وحنان طاغي لهذه الوالدة العصية على النسيان، فهي تحضر في ذاكرة المدينة أم الشامية (أم ديوان) أم الجميع حيث عقمت المدينة وحكومتها أن تلد مشفى لنسائها، فكانت الولادات على يد هذه الأم التي اخرجت الكثير إلى النور:

توبخين التي يعسُر طلُقها

فتبتسُم

ابتسامةَ الرضا

ويهدُر الأمل

مع مفردات الدعاء،

مؤخراتنا الصغيرةُ

تحتملُ ضربات كفيك

لنصرَخ أوَل مرة

ويستمُر صراخنا

الى أن نعوَد

الى بطن أكبر

أستشف على أنها القابلة الوحيدة في المدينة، فهي التي ولدوا اغلب أبناء الشامية على يديها، وهي التي توبخ المعسرات كي يطْلقْنا أولادهن وتضربهم كي يصرخوا حتى يعودوا امواتاً بعد عمر مَنَّ به الخالق جلَّ في علاه ليسلموا إلى (عم المدينة) ودفانها الذي يواريهم الثرى وأثر مفرداته وتوصياته بهؤلاء الشباب غداة الحروب ونهايات الحياة المختلفة، فهو الحاني على الشباب حين يستشهدوا والمتأثر لرحيلهم المبكر، فيدعوا حفاري القبور الرأفة بهم وتوسيع قبورهم بقولٍ حنيناً مؤلم النبرة، شفيق المنتقى من المفردات.

فهذه الوالدة (أم ديوان) أخرجتهم من لجة الظلمة ذات لحظات مفرحة ومؤلمة وقت لا كهرباء ولا مستشفيات ولا طبيبات مختصات يساعدن الأمهات في لحظات الإنجاب سواها، ولها آراء وحِكَم وأقوال في تأريخ المدينة ذات عصر كانت لها آذان تسمع وألسن تردد مقولاتها،  بعضها تهكمية تنال وتطال الحكومة التي لم تكن يوما راضية عن تصرفاتها وعن رجالاتها الذين لا يملكون مكانة اجتماعية في تأريخ المدينة، وهي ترى انهم لا يستحقون الحظوة والأمر والتحكم والسيطرة على مدينة حرَّة حكمت بالمحبة والصدق والأمانة وصلة الرحم والاحترام بين رجالها، فتقول باللهجة الشعبية:

قولتَك المشهورةَ

(يا حيف الهدانات تحكم مذاريب)

فتضحك الشوارعُ

التي اعتادت

رؤياك مسرعة.

وما تعني الجملة بأن الحكم تحول من الرجال أصحاب الحظوة والصدارة في مجتمع الشامية (المذاريب) إلى منهم دون الرجال، من المتسكعين والفارغين والمتهتكين العاجزين (الهدانات)، وهنا يؤيدك الجميع، لأن أنسنة المكان يدل على المجتمع الذي يعيش ويمر على هذه الشوارع، فالعيون اعتادت عليك وانت تسرعين لنجدة الأمهات عند الولادة وتركبين خلف ولدك على دراجته دون وجل أو خجل، فأنت يد المساعدة وطيف من الرحمة والسعد للبيوت بزيادة أعداد الفقراء التي تعدو على شوارع المدينة.

مجمل قول أرسطو في الشعر "على أنه أي الشعر أوفر حظّاً من الفلسفة وأسمى مقاماً من التأريخ "، فهو تعبير عن الحياة الإنسانية غير المجردة وكما هي على طبيعتها وبهذا أنتقل إلى مجموعة (حكايات الولد الخرافي) للشاعر (محمد السويدي) أبن مدينة الشرقاط، أجد أن نصوصه عن الأب الروحي ماثلة كما هو الأب عند معن، وعلى الرغم من أن الشرقاط في شمال الوطن والشامية في منتصف الوطن ألا أن آباء المدن في العراق هم هم، والعوائل العراقية تتشابه وأولادها يتشابهون وربما العرب بفوارق قليلة  يقول ابن خلدون: (العائلة هي عماد أي مجتمع، وهي الأساس الثابت والمتين الذي تبنى عليه الأمم والحضارات؛ فالأسرة هي حجر الزاوية، وقد جعل مؤسس علم الاجتماع ابن خلدون للأسرة دورا محوريا في بناء الدولة، فهي من وجهة نظره الأساس الذي تبنى عليه العصبية، والعصبية بمعناها الواسع هي أساس الدولة) ففي قصيدة (حكاية الشيخ وهب): وهو عبدالله الوهب، يروي الشاعر لصغار المدينة عن هذا الأب الروحي واصفاً اياه:

في بلادٍ قريبة يا صغاري

عاش شيخ وحوله أبناءُ

سار في هذه الأزقة وعظاً

وعليه عمامةٌ خضراءُ

إذاً هذا الوهب الذي وهبته الدنيا لمدينة الشرقاط كان واعضاً يحمل الخير في جنباته يرعى الجميع، ويقدم النصيحة، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويحمل قدسية تختلف عن السيد الشرع بعض الشيء ويشبهه بشيء وهي العمامة الخضراء، وبما ان هذا اللون الذي يدل على الحياة والنماء وجمال الأرض فقد التصق دينيا بانه راية سلام وطمأنينة ففي الوسط والجنوب يدل على صلة النسب بآل محمد عليهم أفضل الصلاة والتسليم، وفي المناطق الشمالية والشرقية يدل على الخلق الديني الرفيع الذي يجلُّه عامةُ المجتمع باعتباره دلالة على عمامة آل رسول الله صلى عليه

وآله وسلم، فيقول الشاعر:

كان يعطي الطيور وقتاً

لتمضي بأمانٍ

فقيل عنه السماءُ

هؤلاء الطيور ليسوا طعاماً

لحروبٍ فكلهم أصدقاءُ

إن تغب دجلة يطمئن القرويين

سوف يأتي الماءُ

فهنا عرّفَ ان دور عبدالله زراعة الأمل في قلوب الصغار بمراعاة الطيور سواءً كان يقصد الشاعر بكلمة طيور الشباب او الطيور على انهم ليسوا طعاما للحروب وأنهم احبة واصدقاء مهما اختلفوا في ألوانهم وأشكالهم للحفاظ على الوحدة الوطنية، وان الحياة لابد ان تسير وفق منظور الوطن للجميع، وان ماء الحياة يقدم من شتى المنافذ قد يكون من السماء غيثا، ولا يهم ان عملت الأيادي الخبيثة على قطعه في دجلة الخير، او قطعه بزراعة الفتن بين الشعب، فالماء سر الحياة والحياة لا تتوقف عند منعطف من الشر، وخاصة أن الشاعر عانى من الطائفية حين أفشتها أيادي الكفر بين العراقيين، فهذا الأب الروحي للمدينة قادر على تربية أولاده الصغار في العمر أو العقول بالوعظ والنصيحة والحكمة لكي يكبروا ويحملوا القيم الكبرى للانسانية.

محمد الشاعر يختلف عن معن الشاعر في نصوصه الثقافية، فمحمد يتحدث وينتج عن لسانه، عن لغة خطاب مباشرة منه، ومعن يمتاح من معين تراثي، وحين ينقل محمد خطاب عن أمٍّ تخاطبه هو، ليكون الراوي العليم (مما حكته لي أمّي) كان متأثراً جداً وقلقاً جداً، ما يراه يسكنه داخلياً ويقظ مضجع تطلعاته، هو لا يفكر في تأريخ مدينته ولا يتعامل مع ماضٍ، بل مع حاضر يراه مهشماً وإن مضت أيامه عن وقت قريب، وما يأتي رجاءٌ، لا أقول تمني، حين يضمّن غداً الغيبية، هذا ما يرجوه وليس الضمان في تحقق الحدث، ربما يستشف من قراءة عن أمس، لأن الزمان كما يقال يعيد نفسه:

نم يا صغيري نامت اليقظاتُ

وتدثرت بغلافها الصفحاتُ

هذه الهدهدة في مهد الحياة بصوت الأم القادم من التراث العراقي بأغنية الطفولة الماثلة في ذاكرة جميع الشعب (دل اللول، يا الولد يبني) هنا هو الأم، هو الذي يخاطب قلبه، أو عقله لكي يجعله يهدأ، المستقبل لله، ما عليك سوى ان تدع ما ليس لك طاقة على صنعه لخالقه، فما قرأته وعلمته أو تعلمته إتركه الآن فتلك الصفحات من الحياة أغلقت أبواب غلافها واصبحت من التأريخ، وستأتي صفحات لتِدَوَّن وهكذا، إنه خطاب نفسي قانط، ولكن لا حيلة، فعليه أن يثق بأن (ما بين طرفة عينٍ وانتباهتها يغير الله من حالٍ إلى حالِ) يقول:

لا تقصص الأحلام

قد تبتزنا حربٌ عجوز قادها الأموات

هذه هي (الحرب العجوز) القلق الدائم، فالحروب منذ ان ولدت على يد أبني آدم، وهي تكبر ولا تشيخ، لا تُنهَك بل تتجدد مع الأجيال بولادات أكثرها معسرة فتكون حلا لليائسين، وقدرا للراحلين، ونكاية للحالمين، الذين لا يريدون دار العناء، فطلب النوم قصير، وربما غفوة دون استيقاض مع حرب فتية، يشعلها من يرحل قبل أن تكمل أسبابها، ويموت قبل أن تحل أوزارها، وهنا يبدأ بقص حكاية الأم ووصاياها وتحذيره من أن يبوح ويخبر الصبيان بأحلامه، وكيف أنه فقد الحبيبة وفقد الأمل المتمثل بالشمس، لا تبوح بحبك الذي ذهب للرهبان فما عليك بُدٍّ من الاعتراف بعشقك ولا صلاة، فالأم عند (محمد السويدي) مبتدعة بكل ما تحمل من صور النصح والإرشاد، هي فكرية من صنعه، شخصية مبتكرة متواجدة في عقله الباطن، قد تكون المدينة، وقد تكون الحلم، وقد تكون الصراع الذي يهيمن عليه من جراء تعرضه وأهله ومدينته للحروب ومنها الطائفية وغول الدولة الإسلامية المفتعل، لتحطيم العراق وأحلام أبنائه، لهذا ينشد أن يكبر هو وبلاده لا فرق بينهم لكي يتجاوزوا المحنة من أجل الغد المنشود، فلسان حاله ما قاله جاك ريف ر: 0 كلنا نموت، الملك من الضجر والحمار من الجوع وأنا من الحب) وحصل التجاوز ومازال الغد واقفا خلف العارضة، فتبقى الأماني المستعصية فينشد لغدٍ:

فغداً ستكبر يا بُني

وحينما تغدو كبيراً تكبرُ الكلمات

ويمتلك (محمد السويدي) عمّاً للمدينة وهو (الشيخ مرعي) هذا العم على عكس عم (معن غالب) فذاك دافن للاجساد المثقوبة، والمنتهية الصلاحية في الحياة، والمنهي للتطلعات حيث الغياب الأبدي، وهذا الذي اخذ حكايته من والده، (حكى لي والدي عن ملّا مرعي) هذا العم  مخضر الخطى، يصاحب الخير والنماء، كذاك اسمه يوافق الرعاة والعشب والرعية، فهو الصائن المصون، والمحمي، ويخبره بأن له بالمدينة طيور تلتقيه على ألسنة الفروع وأغصان الشوارع فيها:

ففي شرقاطه كانت طيورٌ

هنالك تلتقيه بكل فرع

تطمئنه على سير الأغاني

وتدرس عنده احكام شرع

متحضر متنور هذا المُلَّا، يطمئن على المتناقضات، تارك الخلق للخالق، بمدينته تنوع فكري ما بين الذين يطمئنونه على أن الأغاني لم تكن مقعدة، وهي تسير لمحبيها، ولكنها وفق المنشأ الصحي لها لأن هذه الطيور النقية الفتية تدرس وتطلع على الشرع، وتأخذ أكيد وتطبق ما يجيزه وما ينهى عنه، وهذا العم يدرأ الحرب بالحياة التي يتصورها الشاعر على أنها أغنية، لأن الحرب لا نفع من قيامها.

***

عيّال الظالمي

من "خبز أمي" إلى "قضبان الضلوع": قراءة رمزية في ومضة شعرية "إلى شقيقة القلب الشاعرة دلال جويد " للشاعر يحيى السماوي

المقدمة: تمثل الومضة الشعرية الموسومة بـ"إلى شقيقة القلب الشاعرة دلال جويد" للشاعر القدير يحيى السماوي نموذجًا فنيًا مكثفًا في التعبير الأدبي، إذ تجمع بين التكثيف اللفظي والعمق الوجداني من جهة، والرمزية المنبثقة من تفاصيل الحياة اليومية من جهة أخرى. تهدف هذه الدراسة إلى مقاربة النص من خلال تحليل مستوياته الدلالية والتركيبية، مع التركيز على البُعد الحسي والرمزي للعلامات الشعرية التي تتجاوز أطرها المادية لتؤسس لقيم ثقافية واجتماعية تنبع من التجربة الفردية ولكنها تنفتح على الذاكرة الجمعية.

ينطلق البحث من تفكيك البنية اللغوية للقصيدة وتراكيبها المركبة التي تُظهر تداخل الأزمنة وتقاطعاتها بين الماضي والحاضر، بما يعكس حالة وجدانية مركّبة تؤسس لتوتر بين الانتماء من جهة، والحنين إلى الحرية النفسية من جهة أخرى. كما يسعى إلى الكشف عن دينامية التحول الدلالي الذي تخضع له صور مألوفة مثل "خبز أمي" و"عرق جبين أبي"، حيث تتحول إلى رموز تتجاوز دلالتها المباشرة، لتغدو حوامل لهوية ثقافية ووجدانية ترتبط بالحنين والانتماء.

كذلك، يسلط البحث الضوء على الأبعاد الدلالية لصور مثل "زنزانة القلب" و"قضبان الضلوع"، في سياق الصراع الداخلي بين الرغبة في التمسك العاطفي والاحتفاظ بالآخر، مقابل الحاجة إلى التحرر. ويتم ذلك من خلال توظيف منهج نقدي متعدد الأدوات، يستند إلى السيميائيات (كما تتجلى في أطروحات رولان بارت وتشارلز ساندرز بيرس)، بالإضافة إلى أدوات النقد البنيوي، من أجل إبراز الكيفية التي يعيد فيها النص صياغة العلاقة الإنسانية بما يتجاوز التصنيفات الغزلية التقليدية، نحو أفق وجداني وفكري يتأسس على مبدأ الأخوّة والذاكرة والهوية.1564 yahia

ومضة

" الى شقيقة القلب الشاعرة دلال جويد "

أيتها العذبةُ كخبزِ أمّي

النقيةُ كعَرَقِ جبينِ أبي:

أنا لستُ طفلاً..

وأنتِ لستِ دميةً..

فلماذا أطبقتُ أجفاني عليكِ

خشيةَ أن يخطفكِ مني أطفالُ الحارة!

*

إهٍ ..

ليتَ أمي

لم تغفُ إغفاءتها الأخيرةَ بعدُ

لأسألها

إنْ كانت قد أرضَعتكِ من لبَنِ روحها

وقَمَّطَتكِ بشماغِ أبي

تمامًا كما أرضعتني وقمَّطتني

قبل خمسٍ وسبعين دورةِ شمس!

*

هَبي أنكِ ستستطيعين الهَرَبَ

من زنزانةِ قلبي..

ولكن:

من أين لكِ القدرةُ

على اجتيازِ قضبانِ ضلوعي؟

الإطار التاريخي والسياقي

يعد يحيى السماوي من أبرز الشعراء الذين جسّدوا روح التجدُّد في الشعر العربي المعاصر، إذ نجح في توظيف الرموز من الحياة اليومية ليتحول النص إلى مساحة تأملية تتجاوز حدود الزمن. في عصر شهد تغيرات اجتماعية وثقافية جذرية، كانت الومضة الشعرية وسيلة للتعبير عن حالات وجدانية عميقة بأسلوب مختزل دون الإخلال بدقة المشاعر والتعارض بين القوى الداخلية والخارجية. ينطوي النص على إشارات زمنية واضحة مثل "قبل خمسٍ وسبعين دورة شمس"، مما يربط بين التجربة الشخصية وتاريخًا موروثًا من الذكريات الاجتماعية والثقافية.

المادة النصية والرموز الحسية

يتسم النص بالغنى الدلالي وتعدّد الطبقات الرمزية، حيث تتحول المفردات اليومية إلى علامات تحمل أكثر من معنى في ضوء السياق الثقافي والنفسي:

رموز العائلة والحنان:

- "خبز أمي": يتجاوز المعنى المباشر للطعام ليحيل إلى رمز أيقوني حسب تصنيف بيرس، دالًا على الحنان والحماية والانتماء العائلي.

- "عرق جبين أبي": يرمز إلى الكدّ والكرامة، ويظهر كمؤشر يدل على البعد القيمي للعمل في الثقافة الشعبية.

رموز الانتماء والذاكرة الثقافية:

- "شماغ أبي" و"لبن روحها": تنتمي هذه الرموز إلى البعد الثقافي الاجتماعي، إذ يحمل "الشماغ" بُعدًا تراثيًّا عربيًّا يُستدعى كدال على الجذور والهوية، بينما "لبن روحها" يُستعار مجازيًا ليغدو رمزًا غذائيًا وجدانيًا.

- انتقال الشاعرة إلى مؤسسة "الرضاعة" يحوّل العلاقة البيولوجية إلى ارتباط وجداني ثقافي عميق يتجاوز المألوف.

رموز القيد والتحرر:

- "زنزانة القلب" و"قضبان الضلوع": تُبرز هذه الاستعارات البُعد الرمزي للقلب بوصفه فضاءً داخليًّا يحتجز العاطفة والذكريات، ما يعكس تداخلاً بين الجسد والنفس. وتندرج هذه الرموز ضمن "الانزياح الدلالي"، كما يعرّفه رولان بارت بأنه تحوير في الوظيفة الأصلية للعلامة يؤدي إلى بروز معنى مغاير ناتج عن التفاعل بين الدال والمدلول في سياق خاص.

التحليل السيميائي والرمزي

يستند هذا التحليل إلى أدوات سيميائية كما صاغها رولان بارت وتشارلز ساندرز بيرس. يرى بارت أن النص بنية مفتوحة، تتعدد دلالاتها بحسب السياق، ويظهر هذا في اشتغال السماوي على رموز مألوفة يُعيد تشكيلها. أما بيرس فيُقسّم العلامة إلى:

الأيقونة: تشبه مدلولها (كخبز الأم كرمز للدفء).

المؤشر: يرتبط بعلاقة سببية (كعرق الجبين كرمز للكدح).

الرمز: يعتمد على العُرف (كالشماغ كرمز للهوية والانتماء

تفكيك التراكيب اللغوية:

توظيف السماوي للتداخل بين الجمل الخبرية والإنشائية يمنح النص طابعًا دراميًّا مشحونًا بالعاطفة. في العبارة:

"فلماذا أطبقتُ أجفاني عليكِ خشيةَ أن يخطفكِ مني أطفالُ الحارة!"

يتكثف الإحساس بالخوف والانتماء من خلال التوازي بين الحماية والرغبة في الاحتواء، ويظهر المؤشر هنا في "أطفال الحارة" كعنصر بيئي اجتماعي يهدد الألفة..

الانزياح الدلالي والشعوري:

في قول الشاعر:

" "هَبي أنكِ ستستطيعين الهَرَبَ من زنزانةِ قلبي، ولكن: من أين لكِ القدرةُ على اجتيازِ قضبانِ ضلوعي؟"

يتحول الجسد إلى حقل دلالي مغلق يعكس القيود الذاتية، ما يشير إلى صراع داخلي بين منح الحرية والتمسك بالمحبوبة، وهو ما يتقاطع مع أطروحة بارت حول "التوتر الدلالي" الذي ينشأ من تعدد المعاني في بنية نصية واحدة.

الرموز البلاغيّة والشّكل الأسلوبي

التشبيه التمثيليّ (مَرَضِيّ ومجزّي)

"كخبز أمي" و"كعرق جبين أبي": تشبيهات تربط العلاقة بالألفة والحنان العائلي.

- مفارقة في سياق الشعر الغزلي التقليدي، حيث تُستبدل صور الجمال بصور تُجسّد الحميمية والكدح.

النفي الاستنكاريّ

"أنا لستُ طفلاً … وأنتِ لستِ دميةً": تأكيد على الجدية العاطفية واستبعاد اللعب اللفظي أو السطحي.

التكرار والإيقاع الداخليّ

"قمَّطَتكِ … قبل خمس وسبعين دورة شمس": تكرار الجذر "قمّط" يخلق إيقاعًا داخليًا يعمّق الدلالة العاطفية والزمنية.

الاستفهام الاستنكاريّ

"فلماذا أطبقتُ أجفاني عليكِ…": يُحوّل السؤال إلى استبطان وجداني، يكشف عن صراع داخلي بالوعي واللاوعي.

الاستعارة التراجيديّة

يتناول الشاعر الشماغ في سياق استعارة مجازية ذات طابع تراجيدي، حيث يستحضر صورته لتأكيد الأبعاد الوجدانية المرتبطة بالحماية والدفء. فالشماغ، تمامًا كما يلتف الحنين حول تفاصيل الذاكرة، يتحول هنا إلى رمز متكامل يجسد دفء الأبوة، وسياج العائلة، ووشاح الهوية الذي يحفظ ملامح الذاكرة. وهكذا، يتجاوز التصوير الشعري فكرة الشماغ كقطعة ملبس عادية ليمنحه أبعادًا رمزية عاطفية تعزز الشعور بالانتماء والارتباط. في هذا السياق، يصبح الشماغ إشارة إلى الماضي العائلي وامتداده العميق في الوجدان، محققًا تواصلاً دائمًا مع جذور الشعور الإنساني.

العلاقة بين النص والذاكرة:

ينقل النص العلاقة بين الذات والذاكرة الجمعية، حيث يصبح الماضي حيًّا من خلال "قبل خمسٍ وسبعين دورة شمس"، وهو ما يحوّل الزمن إلى علامة ثقافية واجتماعية، تربط بين الحنين الفردي والانتماء الجماعي.

المقارنة مع تيارات شعرية أخرى

يمكن وضع الومضة ضمن تيار الشعر الحر المعاصر، الذي يعتمد الرموز اليومية كأدوات تعبيرية عن الوجود الذاتي والهوية. تتقاطع تجربة السماوي مع تجارب شعراء آخرين (كأدونيس ومحمود درويش) في توظيف الرموز الثقافية اليومية، غير أن خصوصيته تكمن في تفكيك التصنيفات التقليدية للشعر الغزلي، واستبدالها برؤية وجدانية أخوية

خلاصة

يُظهر هذا التحليل كيف تتحوّل الومضة الشعرية "إلى شقيقة القلب الشاعرة" إلى نصّ متعدد الأبعاد الرمزية والدلالية، يوظف آليات السيميائيات والانزياح بذكاء فني. في ضوء تصورات رولان بارت عن انفتاح النص وتعدد طبقاته، ونموذج بيرس الثلاثي للعلامة، يمكن قراءة النص بوصفه خطابًا إنسانيًّا يؤسس لعلاقة وجدانية عميقة تتجاوز التصنيفات الغزلية، وتعكس صراعًا داخليًّا حول الهوية، الانتماء، والحنين.""

الخاتمة

تُشكّل ومضة “إلى شقيقة القلب الشاعرة” نموذجًا شعريًا معاصرًا يعكس صراعًا وجدانيًا عميقًا؛ إذ تتجلى هذه الومضة في تراكيب لغوية مركّبة ورموز متداخلة تتجاوز إطار الحب الرومانسي التقليدي لتصل إلى أبعاد أخوية وفكرية تستند إلى الذاكرة والهوية المشتركة. فقد تحوّلت رموز “خبز أمي” و“عرق جبين أبي” إلى علامات ثقافية تنضج فيها قيم الحنان والانتماء، بينما يستخدم الشاعر استعارات مثل “زنزانة القلب” و“قضبان الضلوع” للتعبير عن مآزق الاحتجاز الداخلي والرغبة في الانعتاق.

تكشف هذه الدراسة أن الشاعر يحيى السماوي، من خلال براعته اللغوية وموهبته الدلالية، قد أعاد تعريف طبيعة العلاقة الوجدانية بوصفها وحدة حسية وفكرية تمتدّ عبر الزمن والمكان. ومن خلال استحضار الرموز الحياتية اليومية وإعادة توظيفها في سياق شعري، يفتح النص أمام القارئ آفاقًا جديدة لفهم إمكانات الشعر الحر وأبعاده الثقافية والنفسية.

وبذلك، تسهم هذه القراءة النقدية في توسيع حدود التعبير الشعري المعاصر، وتطرح إشكالات حول طبيعة الحرية والانتماء في سياق تداخل الأحضان الثقافية والقيود النفسية، مصوّغة إطارًا تحليليًا يربط بين اللغة والذاكرة والذات الإبداعية.

***

سهيلا الزهاوي – أديب وناقد

.....................

1.  بارت، رولان. مبادئ في علم الأدلة. ترجمة: رشيد باها. الدار البيضاء: دار توبقال٢٠٠٧ 

2.  بيرس، تشارلز ساندرز. كتابات مختارة في السيميائيات والمنطق. ترجمة: حميد لشهب. الرباط: دار الأمان،٢٠١٣.

في هذه القصيدة الكثيفة بالشحنات الرمزية والدلالية، يتداخل الحسي بالميتافيزيقي، والوجداني بالوجودي، حيث تُستثار الأسئلة الكينونية الكبرى من خلال مشهد شعري حميمي مكثّف. سنعمد في هذه الدراسة إلى قراءة النص من زوايا أسلوبية ونفسية ورمزية وهيرمينوطيقية، للكشف عن الطبقات العميقة التي تحتشد خلف ظاهر اللغة.

ففي مجال البنية الأسلوبية والصور الشعرية نجد أن الشاعر الأبطح قد قال في مطلع قصيدته: "كنتُ سألتُكِ: في حديقةٍ من شجر الشوح، أنسيرُ نحن أم نطيرْ؟".

ينبني المشهد على سؤال يُعلن بدء التيه، في تداخل ما بين الحسي (الحديقة، الشوح) والرمزي (الطيران/السير)، لتبدأ عملية تفكيك الإحداثي المكاني والزماني، التي سيهيمن عليها التخييل الشعري. هذا الأسلوب الاستفهامي يمنح النص نبرة قلق وجودي وشك تأملي.

استخدام الشاعر الأبطح لصيغة الحوار بين (الأنا) و (الأنثى) يعمّق هذا الانزياح الأسلوبي، حيث تتحوّل القصيدة إلى فضاء بين صوتين: صوت ال(ذات) الباحثة عن يقين، وصوت الـ(أنوثة) التي تجيب بالتيه والتدفق، يقول: "قلتِ: إننا نتدفق، وأننا في بلدٍ خفيضْ... دعنا ننجرفُ".

هذا التدفق الرمزي يشير إلى الذوبان في آخر، في أنثى، في مصير مشترك. الأفعال: "نتدفق"، "ننجرف"، تخلق شعرياً انعداماً للثبات، وموسيقياً انسياباً إيقاعياً متناسباً مع المعنى.

في سياق التحليل النفسي والرمزية الإيروسية. تحضر الـ(أنوثة) بوصفها (ذاتاً) كلية، كأنها الكون المصغّر، أو الأنطولوجيا الأخرى التي توازي الكينونة الذكورية. فالمرأة هنا ليست فقط موضوع الحب، بل هي الوعي واللاوعي، الجغرافيا والزمن، يقول الشاعر سعد الأبطح:

 "قلتِ: بعد حربٍ وقبل حربْ، لكنك الآن معي ولسانُكَ في فمي".

في مشهد التوحد هذا تتلاشى الحدود بين ال(أنا) وال(آخر)، في تقاطع شهواني–روحي يمثّل ذروة الإيروسية الشعرية. فـ"لسانك في فمي" يتجاوز الحسّي إلى التداخل الكلّي في الذوات، وكأن الذات الأخرى صارت موطناً بديلاً.

أمّا الإشارة إلى "فرجكِ رائحةَ بحرٍ وطعمَ الندى عليه مالح"، فهي تكثيف جريء لتشابك الرغبة بالعنصر الطبيعي (الماء، الملح، الندى)، مما يضفي على الجسد بعداً كونياً، تتجلى فيه الإيروسية لا بوصفها انفعالاً جسدياً بل طاقة كونية.

من ناحية المنهج الرمزي والهيرمينوطيقي (التأويلي) يحاول الشاعر الأبطح أن يسحبنا إلى كل مشهد في القصيدة باعتباره قابل للقراءة الرمزية، بل يبدو كأن النص بني على مستويات متعدّدة من المعنى. فعلى سبيل المثال:

 "تفتحين باباً سرياً فننسابُ خلفَ غيابِكِ، في مدينةٍ مهددةٍ بالإختفاء"

يمكن تأويل هذه العبارة كرمز لفقدٍ داخلي (نفسي أو روحي)، أو كتأويل لهروب الذات من وعيها المقهور إلى منطقة اللاوعي المهدّدة بالتلاشي ("مدينة مهددة بالاختفاء"). ثم تأتي الإشارة إلى "قمرٍ واحدٍ فوقنا"، و"واحد هو فوق نيرانِ قبائل الماساي والعرب"، في استعارة مكثفة لتوحيد المتناقضات: الحب والحرب، ال(ذات) وال(آخر)، الإفريقي والعربي، في ضوء قمر واحد، هو رمز الوحدة الكونية في وجه التشظي القبلي.

قصيدة الشاعر الأبطح تشحنك بالموسيقى والإيقاع الداخلي. حيث تتوزع القصيدة على جمل شعرية نثرية ذات نَفَس إيقاعي داخلي يتشكّل من التكرار الصوتي والتموجات النحوية والصرفية. ففي قوله:

 "عيناك سريرنا: تغمضيهما فينفتحُ الحلمُ، تفتحيهما فتنثني ركبُ الخيولْ."

يتداخل الإيقاع مع الصورة الشعرية، فـ"تنثني ركب الخيول" يوقظ في المتلقي مشهداً ديناميكياً منسجماً مع فعل الفتح والإغلاق، كأنّ العينين جهاز تحكم في الميتافيزيقا.

كما أنّ التكرار التناوبي للأسئلة والإجابات يمنح النص بُنية إيقاعية أشبه بـالـ"دويو" الموسيقي، حيث تتماوج الأصوات بين ال(ذكر) و(الأنثى) في لحن وجودي– شهواني.

في الختام، يسحبنا النص بطريقةٍ شبه سرية نحو فلسفة الجسد بوصفه أفقاُ شعرياً.

إن قصيدة سعد الأبطح ليست فقط نصًاً شعرياً بل هي تأمل وجودي في معنى الألفة، الهوية، والغياب. يتقاطع فيها النفسي بالرمزي، والجسدي بالروحي، ليولد نص مفتوح على تأويلات لا نهائية. الجسد هنا ليس جسداً، بل نصًّاً يُقرأ، ويُشمّ، ويُسمَع.

إنه جسدٌ يعبُر، يشتهي، ينسى، ويحلم، في حوارية شعرية يتعذّر اختزالها في قراءة أحادية.

بهذا تكون القصيدة تجسيداً شعرياً لما يُمكن تسميته: المخيلة الإيروسية الكونية، حيث يتجاوز الحب منطقه الفردي إلى أفقٍ يتاخم الفلسفي والكشف الجمالي في آن.

***

بقلم: عماد خالد رحمة - برلين

...................

نص القصيدة:

كنتُ سألتُكِ: في حديقةٍ من شجر الشوح، أنسيرُ نحن أم نطيرْ، قلتِ: إننا نتدفق، وأننا في بلدٍ خفيضْ، فاترك

قلبي وامسك يدي، ودعنا ننجرفُ.....

حسناً، وفي أي زمنٍ نحنُ؟،

قلتِ: بعد حربٍ وقبل حربْ، لكنك الأن معي ولسانُكَ في فمي

قلتُ: بربكِ هوناً، لألتقط نفسا وأميزَ الحدَ بينكِ وصورتي عنكِ.

 آخر الحديقةِ والمساء، تفتحين باباً سرياً فننسابُ خلفَ غيابِكِ، في مدينةٍ مهددةٍ بالإختفاء...، فبأمكِ مهلا، فأنا

مسافر ٌ إلى وحدتي غدا

قلتِ: انظر لصاحبنا،من تسميه بخفةٍ حجراً كبيراً، فإن صدّقتَ أنه قمرٌ واحدٌ فوقنا، صدّقتَ أنَّا واحدٌ مع بعضنا، وواحدٌ هو فوق نيرانِ قبائل الماساي والعربْ. صدقتِ... حتى أن لفرجِكِ رائحةَ بحرٍ وطعمَ الندى عليه مالح.

وعيني ؟

عيناك سريرنا:

تغمضيهما فينفتحُ الحلمُ، تفتحيهما فتنثني ركبُ الخيولْ.

وصوتي؟

- يعذبني نمشٌ غير واضحٍ فوق الخدود -

وصوووتي ؟

آه، صوتكِ شكلُ روحِكِ،

ويُجفلني حين تنهرينَ به شرودي و كيف تحزين ببحَّته أعناقَ الوعول.

أخرج من رأسك وتعال إلى حلمتيّ يافتى، فلقد خرجنا طويلاً في إثرِكَ، وقلنا حسبنا معكَ، قُصرَ ليلِنا وفوزنا بالصدى والزبد.

آخرُ الليل في آخرِ ليليةٍ سَمِعَ قلبُكِ ما أفكرُ به، ففاحَ عطرُك منعا لسوء الفهم، أنا فقط كنت أنوي تغطية جمرَكِ برمادي، لينام قبل ذهابي، فهبَ الهوى من كل صوب.

 

تمهيد: تتناول هذه الورقة قصة "خيوط غيمة" للكاتبة الأردنية ميسون حنا، بالتحليل النقدي المرتكز على تفكيك بنيتها الرمزية واستجلاء أبعادها الوجودية. وتُسلّط القراءة الضوء على ثنائية الحلم والانتماء، مبرزة كيف توظف الكاتبة عناصر الطبيعة والرمز لتأطير تجربة الطائر/الذات في رحلة الصعود والسقوط والعودة.

الطائر بوصفه استعارة للذات الحالمة

يظهر الطائر منذ البداية بوصفه كائنًا يتجاوز الواقع المادي ويحدّق في المطلق، كما في قول الساردة:

"نظر إلى الأعلى، رأى الغيوم تنشر خيوطها البيضاء على صفحة السماء."

تتولد هنا نزعة تأملية، يعززها الفعل الحواري الداخلي:

"فكر مع نفسه، وقال: ربما أصعد بدوري وأمتطي أحد تلك الخيوط الغيمية..."

هذا المشهد التأسيسي يحيل إلى الرغبة في التمرد على الجاذبية الأرضية، والسعي إلى عوالم متخيلة تتجاوز الواقع. وهو ما يمثل رمزًا للذات الحالمة التي تطلب الانفلات من المألوف نحو المطلق.

الحلم الهش واليقظة القاسية

تتبدد أوهام الحلم حين يرتطم الطائر بـ"صخرة بيضاء"، ويُصدم بتحلل خيط الغيم:

"توقف الخيط السائر ليرتطم بصخرة بيضاء. اهتز الطير وترنح وأوشك على السقوط..."

يُحيل هذا المشهد إلى يقظة مؤلمة، تُجبر الذات على مغادرة الحلم المجاني، والعودة إلى التعلق بالممكن الواقعي، ولو كان محفوفًا بالتعب والتيه:

"اضطر الطائر للاعتماد على نفسه ليحلق بدوره بين الغيوم المتفككة، وقال في سره، لن يطول الأمر..."

تُجسد هذه اللحظة انفصالًا رمزيًا بين الحلم بوصفه هروبًا، والواقع بوصفه تجربة وعيٍ بالألم والتحدي.

العش المثالي: فردوس ناقص بلا اعتراف

يبلغ الطائر ضالته الجمالية حين يهبط على "هضبة بيضاء" وينسج عشه من "قطن مندوف". وترد العبارة التالية كإعلانٍ عن الفرح المتوهج:

"جلس مبتهجًا بعشه الجميل الذي لا يوجد له مثيل على الأرض."

لكن الانبهار لا يلبث أن ينقلب إلى شعور بالعدم، إذ لا طيور ولا حياة من حوله:

"ولكن أين الطيور لترى العش بأم عينيها؟ ومن نظرات افتتانها سيكتمل جمال العش."

إن الاعتراف الخارجي هو ما يضفي المعنى على الجمال، وهو ما يغيب في هذا الفضاء العلوي المعزول، فتظهر الحاجة العميقة إلى الجماعة. عندها يتخذ الطائر قرارًا مفاجئًا:

"نظر إلى العش بانبهار، خبى بريق عينيه فجأة ثم انقض عليه ومزقه وترك نفسه ينزلق."

العودة إلى الجماعة: الحنين والانتماء

تتحول العودة إلى الأرض من فعل هروب إلى فعل وعي وانتماء:

"حينها ستتألب الطيور حوله لتستطلع سبب غيابه... وسيقول للطيور إن الاشتياق أعاده إليهم."

هنا ينتصر الانتماء على التميز، ويستعيد الطائر مكانه وسط السرب. لكنه لا يتخلى تمامًا عن الحلم، بل يؤنسنه ويجعله قابلًا للتأمل لا للامتلاك:

"نظر إلى النجمة المتألقة التي حلم باصطيادها، نظر إليها وابتسم ورمى بنفسه وسط سرب الطيور."

إن النجمة/الحلم لم تُصطد، لكنها بقيت حية في النظرة والذكرى، في حين أصبح الطائر أكثر اكتمالًا بالحنين والجماعة.

الأسلوب واللغة: كتابة شعرية بحمولة رمزية

تنهض القصة على لغة تصويرية شاعرية تنحت صورًا نابضة بالحياة، وتُفعّل المجاز دون ابتذال. فاختيار الكلمات مثل "خيوط غيمة"، "قطن مندوف"، "هضبة بيضاء"، "صخرة بيضاء"، يمنح النص تواترًا لونيًا رمزيًا (البياض) يرمز للنقاء والبراءة وربما الفقد.

كما أن الاعتماد على السرد بضمير الغائب يخلق مسافة تأملية، تتيح للقارئ التماهي مع الطائر دون أن يُختزل في شخصية واقعية.

ختاما

تقدّم ميسون حنا في "خيوط غيمة" تجربة سردية شفيفة وعميقة، تُزاوج بين الرؤية الحلمية والانكسار الواقعي، لتقترح من خلالها أن المعنى لا يُولد من الانفصال عن الجماعة، بل من الانخراط الوجداني فيها. وتنجح القصة، من خلال بنائها الرمزي، في إعادة صياغة أسئلة الإنسان المعاصر حول التميز، والجمال، والانتماء، والحلم، في لغة أنيقة ومتقشفة تنتمي إلى تقاليد القص الشعري المكثف.

***

حسن لمين - كاتب مغربي

............................

* قصة "خيوط غيمة" لميسون حنا منشورة على منصة مجلة "ديوان العرب. يوم 08 يونيو 2025

ان الرواية حين تتمثل التاريخ كما هو اشهارا؛ تكون رواية تاريخية، ولا تكون رواية تاريخية صرفه؛ حين تتمثل التاريخ تمثيلا تفاعليا؛ اشهارا للمعادل الموضوعي لهذا التاريخ، او ذلك التاريخ . تكون رواية تاريخية عندما تعكس حرفيا التاريخ او بدرجة كبيرة تقترب من وقائع التاريخ، لكن حين تتمثل التاريخ تمثيلا خلاقا ومبدعا حينها تكون قد قامت او انتجت حفريات عميقة في عوامل وعناصر مكونات هذا التاريخ؛ لتستظهره على حقيقته، وعلى غير ما كان موجود منه في بطون كتب التاريخ. احيانا في بعض الروايات، وهي روايات نادرة في حدود علمي واطلاعي ومعرفتي؛ تلك التي تعزز كل هذه الروايات بروايات اخرى موازية للرواية المتمثلة تفاعليا وابداعيا وخلاقا؛ لوقائع التاريخ؛ برواية واحدة في روايتين، اي التي لاتعكسه حرفيا، بل انها تقول حقيقته كما كان وصار واقعا على الارض تتناقله الاجيال جيل تلو جيل من خلال كتب التاريخ. هذه الرواية الموازية وهي تتصدى للواقع ليس كما هو كائن في لحظته او في زمانه، إنما اساس كينونة هذا الواقع وسيرورته بكل مولداته المسكوت عنها. رواية سألقاكِ هناك للرواية المصرية رشا سمير؛ هي رواية في روايتين؛ واحدة رواية تعالج الحاضر او هي تتصدى روائيا لهذه الحاضر. واخرى رواية تاريخية موازية تعزز محتوى وافكار الرواية التي تعالج الحاضر؛ في عملية استنهاض الغاطس من عوامل وعناصر الاحداث في الماضي البعيد عن اللحظة الحاضرة، بعدة قرون؛ في قراءة الحاضر فكريا ودلاليا. الروايتان في رواية واحدة؛ فيهما شحنة افكار ودلالات واشارات واضحة على ان الواقع الذي تتصدى له رواية الحاضر ما هو الا الوليد الشرعي للرواية التاريخية الموازية لرواية الحاضر. في عملية جريئة جدا، كما انها اي الروائية قد ابتدعت او اجترحت روائيا طريقة ازعم انها جديدة وغير مطروقة روائيا في حدود اطلاعي ومعرفتي في معالجة التاريخ الايراني من بداية القرن الحادي عشر الميلادي حتى اللحظة التاريخية الايرانية الاسلامية الحاضرة مع الفارق الكبير، أو الاختلاف الكامل تماما؛ في مبنيات الايديولوجية الدينية بين اللحظتين.".. وآلموت ليست اسطورة.. انها حقيقة واقعة.. انها قلعة قديمة جدا بناها ملك من ملوك الديلم القديم عام 840م وجددها احد الحكام العلويين.. " تبدأ الرواية التاريخية زمنيا في عام 1112وهو العام الذي حدث فيه تمرد او تغير في الدولة الفاطمية في مصر. لينشق من الدولة الفاطمية حسن الصباح والذي كان وكما قالت لنا او كما سرد لنا الراوي هنا وهو احد ضحايا حسن الصباح، أو السيد العظيم، في قلعة آلموت الواقعة في منطقة جبلية وعرة جدا، كما انها تتمتع بطبيعة خلابة." .. لأن ابن الصباح كان من الذين يرون ان الأمامة يجب ان تنتقل بعد هلاك المستنصر بالله الى ابنه الاكبر نزار،وكان الأفضل الجمالي قد نصب الابن الاصغر وأطلق عليه لقب المستعلي، ولذلك انقسم الإسماعيلية الى مستعلية ونزارية،.. وبسبب هذا الخلاف مع الافضل الجمالي سجنه ثم طرده من مصر على متن مركب للإفرنج الى شمال افريقيا، لكن المركب غرق ونجا مولانا فنقلوه الى سوريا،بقي فيها فترة وجيزة ثم تركها ورحل الى بغداد،ومنها عاد الى اصفهان، يحمل روح نشر الدعوة الجديدة، وهي الدعوة الإسماعلية النزارية.. " ان الراوي يحيى هنا هو الشخصية المحورية فيها. في الفصل الاول من الرواية التاريخية؛ يروي يحيى؛ كيف ان ابيه، وضعهما هو واخيه في القافلة الذاهبة الى قلعة آلموت. ينتهي هذا الفصل باستقرار يحيى هو واخيه في هذه القلعة ليكون احد الفدائيين او احد جنود السيد العظيم. في الفصل الذي يليه؛ تظهر لنا رواية الحاضر المعيش، شخصية نيلوفر؛ وهي الشخصية المحورية في رواية الحاضر، وهي من تتولى السرد، او هي الراوي للأحداث. الملفت هنا ان الشخصيتين اللتان يفترض بهما ان تتوليا السرد من دون تدخل الكاتبة؛ الا ان الكاتبة كانت تظهر تدخلها الضمني بصورة واضحة في السرد في الذي يخص الروي المحمل بالأفكار والاشارات والدلالات؛ مما ادى الى ان تظهر الشخصيتان غير حيويتين، تعوزهما القدرة والقوة على مواجهة الواقع وفهم هذا الواقع فهما ذاتيا. ان تدخل الكاتبة ولو بصورة ما او بدرجة ما غير مباشرة في مكان وفي مكان اخر يكاد يكون تدخلها مباشر مع انه غير مباشر؛ هذا التدخل الضمني جعل من الشخصيتين، شخصيتين غير مستقلتين عن رؤى الكاتبة في تصديهما لواقعهما؛ بل ان هذه الرؤى وهذه الافكار والعلامات تبرز للقاريء بوضوح انها افكار وعلامات الكاتبة. يحيى الذي يذهب الى قلعة آلموت حتى يعثر على حبيبته فرح ناز هناك، لكنه وقد وصل الى هناك قد اصيب بخيبة آمل، فلم يعثر عليها في السنوات الاولى له في القلعة. يكتشف ان القلعة عبارة عملية غش وخداع ليس له مثيلا في كل مار مر عليه في حياته. اخيرا، وبعد غسيل الدماغ الذي قام به اعوان السيد العظيم، حسن الصباح، وبفعل وتأثيرا بالقراءات الذي اخذ يقوم بقراءتها؛ صار اخيرا مقتنع بما جاء به المولى العظيم، الصباح. في التوازي، في رواية الحاضر؛ تعاني نيلوفر من ظلم الاب، ليس هي وحدها، بل معها امها. في هذا الوقت تتفجر الثورة الايرانية، ويفر الشاه او يهرب. ليقام نظام الجمهورية الاسلامية في ايران. تطرح الرواية الاوضاع الاجتماعية والاقتصادية في ايران ابان التغيير الثوري في ايران، وكيفية تحكم المال في كل العلاقات الاجتماعية في ايران سواء الحاضر الثوري الاسلامي، او الماضي البهلوي. كما انها تسلط الضوء على شبكة اقتصادية (البازار)، مشتبكة مصلحيا مع رجال الدين في تخادم نفعي تبادلي؛ يغير مصائر الافراد وكل حياتهم. نيلو فر الشخصية الرئيسية في الرواية هي من تتلوى السرد، اي هي الراوية لكل حياتها وحياة مجاوريها من الاب والام والزوج، والسيدة ايران التي تلعب دور المنقذ لها. تروي نيلوفر كيف انها وهي صبية كانت معجبة بعروس شيراز. فقد كانت تتمنى ان تكون هي العروس، وهي احلام صبية يافعة لم تبلغ الرشد بعد، او انها بلغته توا. تفجأ ذات ليلة بعرض ابوها لها بالزواج من احد التجار، تجار البازار. توافق على الفور وهي تظن انها لسوف تكون عروس شيراز التي حلمت ان تكونها، على الرغم من معارضة الام لهذا الزواج لكنها في النهاية وتحت ضغط زوجها، اب نيلوفر؛ توافق بعد ان تعرضت للضرب المبرح ولأيام عدة وليالي متوالية. تكتشف الام ان هذا الزواج ما هو الا عبارة عن مقايضة بين الاب، وزوج نيلو فر اي الذي اصبح زوجها لاحقا. يتزوج الاب من قريبة زوج نيلو فر؛ مقابل فتح باب التجارة له، اي للاب؛ من قبل والد الزوجة الجديدة للاب، والذي هو قريب لزوج نيلوفر. هذه المقايضة تعكس تشابك العلاقة بين السياسة والاقتصاد والاجتماع في المجتمع الايراني؛ كما سوف نرى لاحقا في هذه القراءة لهذه الرواية. نيلوفر تصاب بالصدمة في اول ليلة لها مع زوجها وهي لم تغادر بعد ملاعب الصبا او الاصح ملاعب الطفولة بعد؛ فقد عاملها زوجها بكل خشونة وهي يمتطيها، ولم يقل لها حتى ولو كلمة واحدة تفتح لها؛ باب حياتها بنعومة. فقد بكت في تلك الليلة بكاءا مرا. لتكتشف لاحقا بعد سنوات من انه لا يعتبرها انسانه لها حقوقها عليه، بل كان يعتبرها مجرد جسد يلبي كل رغباته، اضافة الى انها يجب ان تمنحه ولدا ذكرا يورثه ماله، والا فأنه لسوف يطلقها ويتزوج بأخرى غيرها تعطي له، ما هي عجزت عنه. تستمر هذه التراجيديا المؤلمة والموجعة جدا، الى حد؛ ان نيلوفر تضيق بها الحياة كل الحياة على ما فيها من سعة ورحابة. لكنها في نهاية تنجب طفلا اسمته هي وليس زوجها؛ يحيى. تتعلق به حد العشق. إنما الاحداث تترى عليها تباعا، وهي احداث كلها مؤلمة لها، وتسلب منها كل انسانيتها حتى انها في لحظات تمنت ان تموت وتتخلص من حياتها هذه. لكنها، او ان وجود يحيى في حياتها على الرغم مما في حياتها من وجع وحرمان وقسوة من الزوج لا يمكن لها ان تطيقها او تتحملها، لكنها تتحملها، بقوة وصلابة ساعدها في كل هذا؛ هو وجود يحيى في حياتها. في الفصول التالية او في الفصلين التاليين؛ تبدأ الكاتبة في سرد الرواية التاريخية، ويكون السارد هنا، أو من يتولى الروي الشخصية الرئيسية فيها، وهو يحيى. لكن الكاتبة كما في رواية الحاضر؛ لا تترك كليا الروي لشخصية الراوي المشارك في الاحداث التي هو اساسها ومحورها، بل انها تتدخل في اكثر من مكان او حدث او محطة من السرد، مع ان الروي يظل للراوي، الشخصية المركزية لكن الشرح للمعاناة والمأساة، وابعادهما الاقتصادية والسياسية والاجتماعية وتداعيتهما؛ على ما في هذا من اشارات وعلامات وثيمات؛ هي من الكاتبة الروائية؛ لوجود الفراغ الواسع بين الحدث وعقلية الشخصية المركزية، الغارقة عضويا، في اتون هذا الحدث او هذه الاحداث.. يكلف يحيى بعمل فدائي هو الاول له منذ وجوده في القلعة. يفرح وينتشي، لأنه اخيرا؛ حظي بثقة السيد العظيم، حسن الصباح. عندما يقتل والي الدولة العباسية في شيراز في باحة المسجد الكبير، بعد ان انتهى الوالي من خطبته الدينية. لكن عيون القتيل وهو ينظر إليه حين سقط على سجاد المسجد مضرجا بدمائه؛ تطارده في الليل والنهار. إنما الهبة التي وعد بها من اعوان المولى؛ جعلت هذه النظرة تتراجع وتختفي، ليس الى الابد، إنما لأيام. يُنقل بطريقة مخادعة لامثيل لها الى جنة السيد العظيم؛ حيث هناك يلتقي بحوريات جنة المولى، حسن الصباح. عندما يُعودوا به، بعملية خداع اخرى الى الحياة، بعد ان زار جنة الزعيم الذي خوله الله جل جلالة؛ بفتح باب الجنة لمريديه الخلص؛ يصبح مقتنعا تماما بزعامة الزعيم، وبجميع اقوال الزعيم.".. هل أترك آلموت؟ هذا المكان الذي كان بعيدا عني رغم سكني فيه.. وبعد ان رايت جنة الله فيه فاصبح جزءا من نفسي.. كيف أرحل وأترك الفردوس؟" في الفصول التالية؛ يستمر الروي على لسان الراوي، يحي مركز الرواية التاريخية. يكلف يحي مرة أخرى من السيد العظيم، الذي كان قد ألتقى به، عندما نجح في تنفيذ العملية الفدائية الاولى، بواسطة اعوان الزعيم وبالتحديد الساعد الايمن للمولى؛ وهو قاجري؛ بعملية فدائية جديدة. هذه المرة في عاصمة الدنيا كلها، ومحجة مريدي المعرفة والعلم من كل ارجاء الدولة العباسية. ينجح فيها ويعود الى آلموت وفي داخله يحلم بانه لسوف يعثر على حبيبته التي جاء الى القلعة من اجلها او من اجل العثور عليها. لكنه حين ذهبوا به الى جنة الصباح كما ذهبوا به في المرة الأولى؛ يبصرها هي مع احد الفدائيين؛ يقفز فرحا إليها. هنا يتم كشف كل عمليات الخداع التي قاموا بها ولازالوا يقومون بها ازلام المولى العظيم؛ عن طريق ما افضت به إليه حبيبته فرح ناز. فرح ناز لم تأت طوعا لقد تم اختطافها هي وأخريات تم اختطفاهن قبلها. لاستخدامهن كحوريات في جنة الصباح. قلعة آلموت من يدخل إليها ليس في امكانه الخروج منها الا ميتا. فهي محاطة بعدد هائل من الذئاب المدربة على أكل البشر. انهم، ازلام الصباح يقدمون الى الفدائيين الذين حظوا بثقة القائد شرابا مخدرا، من ثم يتم نقلهم الى هنا. يصاب يحي بالصدمة. يتذكر عزم اخاه على مغادرة القلعة ليلا. لم ينم تلك الليل. ظل صاحيا. رأى بعينيه؛ الطريقة التي يتم فيها نقلهم الى المكان الذي جاءوا منه، في القلعة؛ حين اوهمهم بانه كان قد شرب الشراب المخدر. كان حين وصل، فريسة للقلق والخوف والاضطراب والألم الذي اخذ يوجعه قلبه خوفا على مصير اخيه.".. بعد ضغط وإلحاح مني، أقر أميد انه تعرف على شاب اصبح صديقا له، فتفهم صديقه الجديد اسباب ضيقه وقرر ان يساعده في الهروب من آلموت، مقابل شرط واحد، هو ألا يسأله عن الطريق الذي سيسلكانه، ألايفصح لإحد عن أسمه." لم يستمر على هذا الوضع المؤلم سوى نهار واحد. في الليل وضعوا بين يديه قميص اخيه المضرج بالدم. في الليالي والنهاريات التاليات؛ استمر يتفكر في الطريقة التي بها يخرج من هذا الموت. في تزامن الروي في رواية الروايتين في الزمن الروائي لهما، على الرغم من الفاصلة الزمنية بينهما؛ لعدة قرون، لكن أنساقها تتوالد من رحم التاريخ البعيد؛ لتهيمن على الواقع المعيش في رواية الحاضر. نيلوفر مع ابنتها فاطمة الرضيعة؛ تهيم على وجهها في ظلام ليل ايران والمطر الذي تساقط مدرارا في تلك الليلة التي طردها من بيته زوجها، وحيدة تماما، أو وحيدتان هي وابنتها فاطمة. يحيى ابنها مات قبل اشهر بسبب قسوة زوجها." اخرجا من هنا.. هيا.. اغربي عن وجهي.. خذي ابنة الحرام التي تدعين انها ابنتي.. الى حيث لا اراك مرة اخرى.. " تتآمل قصاصة الورقة التي وضعتها مدبرة منزل زوجها في كف يدها مع رزمة من التومانات. في بيت قريبة المدبرة الذي وصلت إليه في اليوم التالي. في هذا البيت، في اصفهان؛ تتعرض الى ذل الحاجة والجوع وقسوة الحياة. في الأخير تجبرها ظروفها، والبيئة الاجتماعية الى وجدت نفسها فيها على الرغم منها؛على ممارسة الدعارة." لقد اخذني حديثهن الى عام اخر، عالم لم اتوقع وجوده ولا اتوقع ان اكون جزءا منه.. .. واخذني الفضول للمزيد من الاستفسار: إذن ما الفرق بين السيغيه والدعارة؟.. اسمعي يا نيلوفر.. الفارق ان الابناء المولودين من هذه الزيجة يتمتعون نظريا بنفس المكانة والحقوق التي يتمتع بها إخوتهم من الزيجات الدائمة.. وهنا تكمن فرادة هذا الزواج عن الدعارة كما تقولين." في النهاية يجيء لها الحل؛ تحمله رسالة السيدة ايران، التي رعتها هي وامها حين كانت امها تخدم في بيت السيدة ايران، زوجها من اكبر تجار البازار في ايران. رسالة السيدة ايران؛ هي توريث او الاشراف على مزرعة لقريبة السيدة ايران، بعد موت الأولى. في هذا التزامن الروائي في رواية الروايتين؛ يحيى لم يطل به الانتظار في ايجاد مخرج له من هذا الموت. يرسله مع احد اعوان السيد العظيم، في فتح قلعة اخرى في اصفهان؛ لنشر دعوة القائد في اصفهان لزيادة عدد الذين يؤمنون بهذه الدعوة. يأتيه الفرج من القدر وإرادة الله؛ فقد ابلغوهما هو ورفيقه المسؤول عنه، وعن القلعة الجديدة؛ بموت القائد. في ذات الوقت يتم تدمير قلعة آلموت من قبل السلاجقة. تنتقل نيلوفر للعيش في المزرعة او البستان الواسع والمترامي الاطراف حسب وصية قريبة السيدة ايران. تعثر نيلوفر على باب تحيط به الاشجار ولا احد يقترب منه. كانت تروم كشف كنه هذا الباب، الا ان ابنة البستاني حذرته من الاقتراب منه. هذه الابنة ربطتها علاقة متينة وقوية مع نيلوفر. تقول لها في كل الذي تقوله لها؛ ان المرأة الايرانية يجب ان تتحرر. تطرح لها ذات مرة؛ ان هناك مظاهرة لسوف تنطلق غدا في ميدان المدينة؛ لمطالبة السلطات؛ بالاعتراف بحقوق المرأة. يتم فض التظاهرة بالقوة. تنجو نيلوفر بأعجوبة من ألقاء القبض عليها، بمساعدة احد الرجال من الذي شاركوا في التظاهرة دعما لحقوق المرأة. في الايام التالية؛ ظل الباب شغلها الشاغل. تستعين بالعاملين في المزرعة او البستان مع البستاني؛ في فتح هذا الباب. في اعماق الارض؛ كان هناك تحت الارض؛ قلعة، او اشبه ما تكون بالقلعة الصغيرة، في زاوية منها هناك غرفة صغيرة. تعثر في الغرفة على دفتر مذكرات او يوميات كتبت باللغة الفارسية القديمة. تحل ألغازها او تقرأ ما كتب فيها بمساعدة احد العاملين في المزرعة والذي يتقن تماما اللغة الفارسية القديمة. يظهر اسم يحيى على جدران الغرفة الصغيرة، التي اعتزل العالم فيها الى ان مات فيها تاركا يومياته.. التي دون فيها ما اوردته الرواية التاريخية الموازية لرواية الحاضر.. في الصفحة الاولى من اليوميات، يكتب يحيى التالي"أنا يحيى ما زلت أبحث عن ذاتي وسط حطام معركة لم اختر ان اقتحمها.. أنا يحيى.. رجل احب امرأة وسار في سرابها، فاخذته الى دخان احترق بناره.. أنا يحيى.. رجل ما زال امامه العمر ليروي قصته.. أنا يحيى. وهذه قصتي.. ربما تجدينها أنت ياعمري في يوم ما وتقرأينها بقلب لم يمهله القدر ليبقى معك للابد.. يقيني انني سألقاك هناك." .

الرواية من اصدارات الدار المصرية اللبنانية

تقع الراوية في 467من القطع المتوسط

***

مزهر جبر الساعدي

 

في البداية أتقدم بموفور الشكر والامتنان للأديب الأريب السي محمد محضار على هذا التشريف، والثقة التي وضعها في شخصي المتواضع، وأجدني بحالة حرج وتهيب كبيرة لأن أصعب شيء هو كتابة مقدمة لديوان شعري، لأن الشعر من الأجناس الأدبية التي تقدم نفسها للقارئ من دون وسائط، فنبضه مستوحى من أعماق ذات الشاعر، وإيقاعه من صدق المشاعر، ورهافة الاحاسيس، والشاعر وحده المتحكم بزمام النص وأجوائه ومضمونه، وهو وحده الكفيل بتفسير نصوصه وتأويلها.

الأديب الشاعر السي محمد محضار مبدع أخذ من كل شيء بطرف، مما أكسبه تجربة أدبية عميقة تجسدت في العديد من أعماله الابداعية المنشورة، فهو كاتب قصة قصيرة، وشاعر، وكاتب مقالات سياسية واجتماعية وبورتريهات، وناشط جمعوي، وله مشاركات فاعلة في مختلف المحافل الأدبية والثقافية الوطنية، دخل عالم النشر منذ يفاعته، ونشر في كافة الصحف والمجلات الوطنية، والعربية على امتداد خريطة الوطن العربي

عرف السي محمد محضار بإحساسه الوطني، ودفاعه عن هموم المواطنين، وانحيازه لمعاناة ومكابدات الطبقات الشعبية المسحوقة تحت وطأة الجور والاستبداد والظلم، وجشع البورجوازية الجنينية والكمبرادور العالمي الذي يتحكم في مصير وقوت الشعب، فانعكس ذلك المناخ بغشاوته القاتمة على كتاباته الابداعية، يسقط عليها تصوراته، يلونها برفضه، وأشجانه، وأحاسيسه مما منحها نوعا من العمق والصدق

ولعل الديوان الذي بين أيدينا يقدم لنا نموذجا حقيقيا من خلال باقة من النصوص الشعرية الطاعنة في الحزن، المكتنزة بتلاوين الغدر، المفعمة بالمرارة، والأوجاع والانكسارات والهزائم المبطنة، والمحملة بأنواع المناجاة، والذكريات والحنين لحياة (تشبه ابتسامة على شفة عذراء)، لهذا نجد أن تيمة الغدر والخذلان والإحباط سمة من سمات الحياة، وصفة ملازمة لكل النصوص، فكبوات القدر غدر، والكذب غدر، والخيانة غدر، وجور الوطن غدر، والحلم المطمور غدر، والفجر الكاذب غدر، وتحولات السلوكيات البشرية غدر، والتيه والفرح المنفلت غدر، ووجع السنين، والضياع، والوطن الذي يبيعنا الاوهام غدر، وفقد الأحباب غدر، إنه الغدر تحت مختلف تلاوينه التي لا يجدي معها الاعتذار والمبررات، وليس بغريب أن نلاحظ بان الشعراء هم الاكثر حزنا وأسى وكمدا بين سائر المخلوقات، لأنهم يتحملون جحيم الآخرين، ويتعذبون بلظى حبهم وجلدهم في نفس الآن، "لأن كل ما نكتبه هو ترجمة" بحسب تعريف جاك دريدا

هذه التيمة ذات الحمولة الفلسفية المتسمة بالحربائية والتحول الفجائي هي ما يشكل الجو العام لهذا العمل الابداعي المخفور بهيبة الشعر، هذا الشعري الحرون الذي يمكن تعريفه بأنه نظم مموسق لصورة مكتوبة، تتحد خلاله اللغة والصور الشعرية لخلق نسق جمالي، يتفنن الشاعر في سبكه في قالب فني، يعبر عنها الفيلسوف الشهير مارتن هايدغر بقوله: "لا يتحدث الشاعر حول القصيدة ولا ..عنها. إنه يكتب"   

هكذا يتسلح الشاعر محمد محضار بثقافة موسوعية وشمولية تتناسق في سياقاتها مع إيقاعات ورتابة وعسف الحياة.. وتتقاطع في دلالاتها مع فضائل وروح الكتابة الإبداعية التي يتحلى بها، والكفيلة بتشكيل عالمه الشعري الخاص، وبهذا المعنى أيضا يظل النص الشعري لديه مختبرا لشتى المعارف، ومشتلا للتجريب والرؤى باختلاف تطلعاتها.. وليس غريبا في شيء أيضا وأيضا ما دام السياق شعرا أن نردد مع الشاعر الألماني نوفاليس: «الشعر هو الدين الأصيل للإنسانية». انه حالة ملتبسة بين توجه تصويري جمالي تتجاوز الوصف العرضي، والتغلغل في وجدان المتلقي، ف (الشعراء اقوى نقاد الواقع) بحسب تعبير ديريك والكوت، ولا غرابة في ان نجد بأن الأديب السي محمد محضار إنسان مهووس بالحرف وبهموم الوطن، عرف بغيرته ووطنيته المفرطة، استمد نسغها من نشأته بمدينة من أغنى مناطق المغرب، حوله فقر اهاليها وصراعها الطبقي الى شاعر مرهف الإحساس يكتب بحبر الالم والحزن وغصة في الفؤاد

هذا الارتباط بالمدينة الأم والمنطقة والوطن، وهذا الإحساس العميق والمؤلم بفقدان الأم والاب والشقيق، خلق لدى الأديب السي محمد محضار حسا قويا بالألم، وأكسب نصوصه عمقا وصدقا، يجد القارئ صداها في عدة محطات من الديوان

أوقفني السي محمد محضار على الملحق الذي خصه لشقيقه المغفور له الشرقي محضار الذي تخرمته يد المنون وهو في أوج عطائه الابداعي، وعمره الغض، فرددت مع أبي العلاء:

إن حزنا في ساعة الموت / أضعاف سرور في ساعة الميلاد

وقد جسد مكابداته في قصيدة (عريس الألم)، إحساس بالغبن تضاعفت حدته مع أشكال الاهمال والتناسي واللامبالاة التي يتعرض لها المبدع بالعالم العربي

الشرقي محضار مبدع قضى ضحية غربتين، بين المنفى القسري في المهجر، والاغتراب الجسدي في الوطن الأم، مزيج من الاحساس بالضياع والتشظي، والألينة الروحية، وهي لعمري أشد وطأة وعنفا، لأن التعلق بالوطن، والاحساس بالإهمال والتناسي الاقصاء فيه أشدّ مرارة، عكستها النصوص المرفقة في الملحق، خاصة قصيدة (النورس الحزين)، بما تحمله من دلالات واضحة عن حالات التيه، وأحوال الضياع، وتحولات الروح رصدها السي محمد محضار عبر بحثه الأحفوري في إبداعات ومسار شقيقه الراحل الشرقي محضار، وخفرها بشغاف القلب، لان الشعر والإبداع عموما لا منفى له مهما شطت الديار، وتغربت الأرواح، ومهما طوحت في أرض الله. وقد كتب فيودور دوستويفسكي في رسالة مؤرخة في 22 ديسمبر 1856 إلى أخيه قائلا: (كن واثقاً أن إسمي في الأدب لن يضيع)، وحده يبقى (فقد الاحبة فقد) كما قال الإمام علي بن أبي طالب .

***

الناقد والأديب: المهدي ناقوس

 

المجنونة، قصة قصيرة، بل هي (أقصوصة) للقاصة البحرينيّة فاطمة النهام، بطلتها الفتاة (بركة)، وهي طفلة غير مرغوب ولا مرحَب لها، منذ ولادتها في أسرة شرقيّة، مازالت تسكن جوانحها عادات جاهليّة قديمة ومذمومة، تنم عن رفض الأنثى، لدرجة كراهية ولادتها، ومقت وجودها. وهي قصة (أقصوصة) اجتماعيّة، يجري حدثها في زمكان (مكان وزمان) شرقيّ، عربيّ، تدير دواليبه ثقافة مهترئة، رثّة، وتوجّهه اللاعقلانيّة، باسم العادات والتقاليد الميّتة والمُميتة....

لقد وسمها والدها بـ (المجنونة)، وحاول بشتى السبل حذفها من النسيج الاجتماعي، فقد حاول وأصرّ على منعها من ممارسة فطرتها الاجتماعية، بحجة أنّها مختلة ومتخلّفة عقليا حسب الطبيب الهندي، ومثيرة للمشاكل لأطفال الحي (اقبعي في مكانك.. ستسببين لنا المشاكل) (هذا هو رزقي في الحياة.. إنّها مجنونة).

(بركة) الطفلة البريئة المحاصَرة من المحيط الأسري، المتمثل في أبيها، حيث كان المفروض أن تجد في كنفه الحنان والمودة والرعاية والكفالة، ومن الوسط الاجتماعي المتمثل في أترابها من أطفال الجيران والحيّ، حيث المفروض أن تجد الصداقة والمحبة وتنعم باللعب والترفيه. (أمي..لماذا لا يلعب معي أولاد الجيران؟) (لماذا يرفضون اللعب معي؟ لماذا يبتعدون عني حينما أقترب منهم؟

تعكس أقصوصة (المجنونة) للقاصة فاطمة النهام صورة المجتمع الشرقي، الصحراوي، الريفي، الأمي، المحكوم بثقافة الاستعلاء الذكوري على الأنوثة، والذي مازال يمقت الأنثى عند ولادتها. ويعبر وجودها في الأسرة مجلبة للعار والفضيحة، وينعتها بكلّ الصفات السلبيّة من أجل إلغاء ماهية وجودها وكيانها، كالجنون والنقصان في العقل والدين. وهو اعتقاد ساد عند بعض القبائل العربية ما قبل الإسلام في جزيرة العرب، وفي غيرها من القبائل البدائيّة. ولولا القرآن الكريم الذي وثّق تلك الظاهرة الشنيعة، المتمثّلة في وأد الأنثى أو قتلها للتخلّص منها، ومن عارها كما كانوا يزعمون، لاعتبرنا ذلك من مخرجات الأساطير والترّهات والخرافات. قال تعالى في سورة النحل الآيتان : 58 و59 (وإذا بُشّر أحدهم بالأنثى ظلّ وجهه مسودّا وهو كظيم. يتوارى من القوم من سوء ما بُشّر به أيمسكه على هون أم يدسّه في التراب ألا ساء ما يحكمون).

إنّ إقدام الفتاة (بركة) بطلة أقصوصة (المجنونة)، على إشعال الحريق الذي التهم كل شيء حول القرية، يوحي برغبة بركة في الانتقام لتغيير الوضع، والتخلّص من واقع معيش، مزر ومسودّ يحتقر الأنثى، ويمارس ضدّها كلّ ألوان الاحتقار والإذلال والعدميّة والإلغاء. إنّ سلوكها ذاك – وإن بدا عنيفا – يشفي غليلها، ويخمد غضبها، ويثلج غيظها. إنّه ثورة المستضعف، حين لا يجد آذانا صاغية لآلامه ومعاناته، ولون من ألوان التعبير عن المشاعر المكتومة والمقموعة في خضم واقع قاس. (كانت تشعر برغبة في إضرام النار بالأشجار تماما كما فعل والدها)، لكنّ نار والدها لم تكن لتطهير الأنفس والعقول من الفوقيّة الذكوريّة وشوائبها، بل أصابها سعال من أثر دخانها (سعلت بشدّة بفعل الدخان الكثيف). وهي صورة لتكريس تراكم معاناتها النفسيّة وعذاباتها الاجتماعية.

(اشتعلت النيران بسرعة البرق وبدأت تنتشر لتغطي الزرع والحقل وكل شيء) (اختبأت بركة خلق احدى الصخور الكبيرة، وهي تتأمل المشهد بعينين متّسعتين وابتسامة بريئة). لقد حاول أهل القرية إطفاء تلك النيران وإخمادها، (بكل ما أوتوا من قوة، ولكن دون جدوى).

فعلا، كانت نهاية القصة، كارثيّة بالنسبة لأهل القرية) المجتمع المتخلّف والظالم، سعيدة بالنسبة لبطلة القصة (بركة).

فالنيران (الحريق) ترمز إلى الطهارة، أي تطهير القرية (المجتمع) من مخلّفات الجاهلية. وكأنّي بالبطلة، قد وجدت أن الكيّ هو آخر العلاج والتداوي من الداء، وهو أحسن سبيل إلى تطهير المجتمع. فإذا كان الحريق الذي التهم كلّ ما حول القرية، نقمة و كارثة وجريمة وفعل شنيع في نظر أهل القرية، فهو في عرف (بركة) نعمة وخلاص وانبعاث جديد قادم....

وكان اختباء بطلة القصة (بركة) خلف تلك الصخور الكبيرة، وهي (تتأمل المشهد بعينين متسعتين وابتسامة بريئة) بمثابة الإجهاز على الدونيّة التي عوملت بها من لدن أبيها والمجتمع، ومحاولة الخلاص من مأساة الأنثى في مجتمع شرقيّ غارق في مستنقع العادات الزائفة وأوحال الجهل المميت.

و المتأمّل، لأقصوصة (المجنونة) للقاصة البحرينية فاطمة النهام، يستخلص العناصر التاليّة:

1 – التزام القاصة بالمذهب الواقعي، فالقصة تعبّر بصدق عن واقع محلّي وقومي معيش، يعكس أزمة العلاقة بين الذكورة، كرمز للفوقيّة والقوة والاستبداد والتسلّط والظلم، والأنوثة، كرمز للدونيّة والضعف والصبر.

2- استغلال عنصر الرمز ؛ (النار، اللهب، الصراخ، الأشجار، الزرع والحقل، الصخور الكبيرة، ابتسامة بريئة) لإعطاء الحدث القصصي بعدا دراميّا متأزّما وحلاّ يتماهى مع البعد النفسي المأساوي للبطلة، وسعيها إلى التخلّص من واقعها المعيش، وإصرارها على التغيير الدرامي، ولو كان بشكل عنيف. وكأنّ إفلاس التغيير السلمي،سبب الرئيس فشل الحوار الديمقراطي والمنظومة التعليميّة والتربويّة والدينيّة داخل الأسرة والمجتمع، في تغيير الذهنيّة الذكوريّة المتخلّفة.

3 – خلاص الأنثى الشرقيّة من قيود وأغلال التقاليد والأساطير المُميتة، بيدها، لا بيد الذكر. والأمر يحتاج إلى مجاهدة و صبر ووعي وعزم. فالعلاقة بين الذكورة والأنوثة مبنيّة على التكامل والتراحم والتوادد، لا على القوّة والقهر والاستعباد.

4 – تميّز أسلوب القاصة فاطمة النهام بالبساطة السرديّة والوضوح، وهذا ما يجب أن يميّز المعمار السردي، دون الإغراق في المجازات والرموز الغامضة.

وفي الأخير، وجب التنويه، بقدرة القاصة فاطمة النهام، على التحكّم في سيرورة الحدث القصصي، وهذا دليل على امتلاكها موهبة القصّ وملكتها.

***

بقلم: الناقد علي فضيل العربي – الجزائر

 

تحدثت رواية عراقية لكاتب نجفي قبل ثلاثة أرباع القرن عن عراق الأحزان واللطم والفساد والزيف والفوضى الاجتماعية في قرى الجن والخرافة! هل قرأتم رواية "في قرى الجِن" للكاتب والمؤرخ العراقي الراحل جعفر الخليلي والصادرة سنة 1948 حسب البعض، فيما يقول آخرون إن الجزء الأول منها صدر سنة 1945 والثاني سنة 1948، أما الكاتب اللبناني والقيادي الشيوعي السابق كريم مروة الذي كان قد تعرف على مؤلفها جعفر الخليلي في بيت قريبه وابن عمه وزميله في الدراسة في حوزات النجف الدينية، المفكر الشهيد حسين مروة فيقول إن الكتاب عبارة عن سلسلة قصص ومقالات جمعها المؤلف في رواية؟

خلال إعدادي وكتابتي للدراسة التأريخية التحليلية حول الأصول القومية للشاعر الجواهري تطرقت الى رواية أشار إليها صديق للكاتب العراقي الراحل جعفر الخليلي وفيما بعد ظهر أن الرواية لخليلي آخر هو عبد الغني ابن أخ جعفر اسمها "سلام يا غريب" ثم علمت أن رواية الخليلي العم صدرت قبل ثلاثة أرباع القرن في النجف. حاولت الحصول على نسخة رقمية منها على النت فلم أفلح. وسألت أصدقاء عن إمكانية الحصول عليها في شارع المكتبات ببغداد - شارع المتنبي- فقالوا إنَّ ذلك أقرب الى المحال لقِدَم الرواية!

ما دفعني للاهتمام بهذه الرواية هو ما قرأته من نقود مهمة عنها ومن هذه النقود والإشارات إلى مضمونها المهم:

* كتب عنها الناقد حميد الحريزي الاتي: "رواية قرى الجن هي نموذج للرمزية في كتابة الرواية العراقية حيث قال الدكتور جميل سعيد (خير مثال لهذا الأسلوب–الرمزية- هو "في قرى الجن" لجعفر الخليل الذي استعاد أجواء (ألف ليلة وليلة) و(العقل في محنته) لذنون أيوب و(أفول وشروق) لخالد الدرة).

* وقد افتتح الخليلي روايته بمقدمة رائعة بإهدائها إلى مدينته مدينة النجف الأشرف، كونها تمثل روح الناس الطيبين المتنورين الطامحين بالحرية والتحضر والتقدم لمدينتهم ولبلدهم عموماً حيث يقول: "إلى المدينة الزاهرة التي كان لها الفضل في تنشئة حملة الأفكار الحرة. إلى المدينة التي أخرجت عشرات الشعراء الذين دعوا للمحبة والرفاه والحرية، فكان لها في تاريخ الفضيلة سهم كبير.. إلى مدينة النجف القاحلة الجرداء أِلا من الحس والعطف، أهدي كتابي هذا كصدى لروح الطيبين من أبنائها الذين يسعون لخير المجموع ويحبون لغيرهم ما يحبون لأنفسهم؛ قرى الجن."

كما أنَّ الخليلي - يقول الحريزي - يؤشر إلى أنَّ الرأسمال الأكبر للمدينة هو حملها راية الحرية والتقدم لصالح المجموع، فهي لا تعدو أنْ تكون مدينة جرداء قحلاء، فخرها أنَّها تحتضن ضريح الأمام علي، وهو القائل (أحب لأخيك ما تحب لنفسك، وأكره له ما تكره لها)، وهذه هي من أسمى وأنبل الصفات الإنسانية التي يصبو إليها الخليلي ومن رافقه.

* في الرواية، يطلب الغرباوي من صديقه الساعي أنْ ينقله إلى مملكة الجن فلم يعد يطيق الحياة على الأرض قائلاً لصديقه (إنّي راض بأنْ أكون حماراً ولا أكون أنساناً بهذا العيش وهذه الدنيا) ص126. فيودع أمه وقد حمله الجني إلى مملكة الجن بعد أنْ استطاع أنْ يحصل له الساعي على الموافقة للعيش في مملكة الجن. ينبهر الغرباوي بما شاهده في مملكة الجن اللباس، الجمال، الزينة ومعالم الترف الكبير الذي يعيشه سكان مملكة الجن.

* كلف بكتابة مقالات توضح حياة الناس على الأرض ممارساتهم وأساليب تعاملهم وطبيعة حكمهم... وقد عدّ مخالفاً في بعض مقالاته وخرق القوانين الجنية، فعوقب بتحويله إلى نملة من قبل مجلس قضاة الجن ليتعلم على طبيعة العمل الجمعي التضامني، ثم تم مسخه إلى كلب، غرّقه في بحر الدبس، ومن ثم العودة إلى بيت الشيخ غفران.. يصف في مقالاته حالة الحزن والإدمان عليه في الدنيا حيث يصفه ببلاد الأحزان "بلد الأحزان هذا هو البلد الذي يتعمد أيجاد كل وسائل الحزن والألم والشقاء لنفسه ليحزن ويشقى بمجرد أنْ يموت واحد منه- ص150- حاحوحا يبو"

"قوما سلوتهم في عزائهم وتفريحهم في مصيبتهم، ولذتهم في شقائهم - ص158".

"لقد سرت العادة من النساء إلى الرجال فلجأ قسم من هؤلاء إلى اللطم ولم يعد يأنس بغير أخبار الأموات وإقامة الأحزان وعقد المجالس- ص160"

"أحزر أية مدينة غناؤها العويل ونشيدها النشيج وموسيقاها دق الصدور ومسارح روايتها وتسلياتها اللطم وأدبها كله أو جله رثاء" - ص160".

ويعلق الحريزي بالسؤال التالي: كم تبدو هذه التوصيفات جريئة في ذلك الزمان في أواسط القرن العشرين؟

وعن الاستهتار بالقوانين وتفشي الرشوة والفساد في مملكة الإنسان على الأرض كتب الخليلي: "صدقوني إنَّ المخالفة للقوانين العامة والاستهتار بالنواميس الاجتماعية والرشوة بجميع أنواعها وصورها قد بلغت يومها بتلك الزاوية من الدنيا مبلغاً لم يطق معها إنسان أنْ يبول بدون رشوة فكيف به إذا أراد أنْ يبيع وانْ يشتري وأنْ ينقل المتاع من جهة إلى أخرى وأن يبني ويؤسس إلى غير ذلك من مقتضيات الحياة. ص168".

ترى أي قدرة تعبيرية رؤياوية أخاذة ولا تكاد تصدق كان يتمتع الكاتب العراقي الراحل جعفر الخليلي، ولعلنا لا نبتعد كثيرا عنها لو أننا ضاعفنا شحنة البؤس والأحزان واللطم وكمية الفساد والنفاق والرشى وما إلى ذلك التي نشهدها في أيامنا هذه بعد أصبح سادة قرى الجن القدماء هم سادة حاضرنا الملموس في قرى الفساد وتخبيل العقول بالخرافة والتضليل والتبعية!

وعن فقدان المقاييس ومن مقالة لناقد آخر هو عبد الله الميلي أقتبس هذه الفقرة فائقة الأهمية: "وجاء في المقال الثالث الذي حمل عنوان "فقدان المقاييس" إدانة أيضا لشرائح من المجتمع منهم: متظاهرون، وجهاء، شعراء، كُتّاب، صحافيون، موظفون، علماء دين، فنانون، طلاب، ...الخ. هذه أوضاع جرّ إليها فقدان المقاييس، وفقدان المقاييس إنما هو نتيجة الفوضى الاجتماعية وانعدام التوجيه، وفقدان الوعي  الموحد العام، وخمود الحس، وخمول الأفكار، فلو كانت هنالك مسؤولية لكن هنالك تعليم وتوجيه وتثقيف تبوخ معه ألوان الصور الكاذبة فتغيب عن العيون هذه الأمثلة المفضوحة ..» ص173.

فيما كتب عنها الباحث الأمريكي جون توماس هامل في رسالة الدكتوراه عن جعفر الخليلي: "استهوت رواية "في قرى الجن" كاتب هذه السطور، ونالت إعجابه، فالرمز فيها ليس ذا بعد واحد وليس مجرد وسيلة للتهرب، ولا تمثيلاً للاشيء غير ملاذ للمؤلف. لقد نجح الخليلي في التوصل إلى بعد أدبي على وجه الدقة والضبط لأن بمستطاعه أن يستشف داخل الإنسان وجه البطل المرتقب".

تساؤل أخير، سبق أن طرحه أحد نقاد الرواية هو عبد الله الميلي، ألا يعتبر الخليلي بروايته هذه رائدا من رواد الواقعية السحرية التي شاعت وانتشرت في الروايات الاتينية في ثمانينات القرن الماضي وكان علمها الأبرز غارثيا ماركيز؟

***

علاء اللامي

..........................

* رابط يحيل إلى مقالة الحريزي:

https://www.almothaqaf.com/readings-5/940029

* رابط يحيل إلى مقالة عبد الله الميلي فأدناه رابط يحيل إليها:

https://www.albayan.ae/paths/2009-02-21-1.407694

 

إنَّ الهُوِيَّةَ في العملِ الأدبيِّ تَتَشَكَّل مِنَ الأحلامِ الفَردية، والطُّمُوحاتِ الجَماعية، والتَّجَارِبِ الشَّخصية، والإفرازاتِ الثقافيةِ، والعواملِ النَّفْسِيَّة، مِمَّا يُؤَدِّي إلى وَضْعِ العَملِ الأدبيِّ في أقْصَى مَدَاه، وإعادةِ إنتاجِ السُّلطة المَعرفية مِنْ مَنظورٍ اجتماعيٍّ قادر على اكتشافِ دَوافع الشَّخصيات، ودَلالةِ الألفاظ، والأُطُرِ المَرجعية للمَعَاني والصُّوَرِ الفَنِّية.

والهُوِيَّةُ لَيْسَتْ بُنْيَةً ثابتةً، أوْ نَسِيجًا خَطِّيًّا، وإنَّما هِيَ شَبَكَة مُعَقَّدَة مِنَ السُّلوكياتِ والمَشاعرِ وأنماطِ التَّفكير، وأساليبِ التَّعبيرِ. وهَذا يَنعكس بشكلٍ واضح على اللغةِ، باعتبارها الحاضنة الاجتماعية للأفكارِ، والرَّافعة الثقافية للشَّخصيات.

والعَمَلُ الأدبيُّ هُوَ أفضلُ تَعبيرٍ عَن الهُوِيَّة بِكُلِّ تَفَاصِيلِهَا الحَيَوِيَّة، وَتَعْقِيدَاتِهَا الاجتماعيَّة، وتَجَلِّيَاتِهَا المَعنويَّة، وتَفْسِيرَاتِهَا المَادِيَّة. وفي وَاقِعِ الأمْرِ، إنَّ الهُوِيَّةَ هُوِيَّاتٌ كثيرة ومُتَعَدِّدَة، تَرْتَدِي أقنعةً كَثيرةً وَفْقَ طَبيعةِ الذِّكْرَيَاتِ، ومَاهِيَّةِ الرَّغَبَاتِ، وحَقيقةِ الأفكارِ.

وَمِنَ الكُتَّابِ الذينَ اهْتَمُّوا بِمَسألةِ الهُوِيَّة، الرِّوائيُّ اللبناني الفرنسي أمين معلوف (وُلِدَ في بيروت 1949، وانتقلَ نهاية السَّبْعينيات إلى فرنسا). في كِتابه (الهُوِيَّات القاتلة / 1998 )، وهو مَجموعة مَقالات صَحَفِيَّة، تَحليلٌ اجتماعيٌّ وتاريخيٌّ لِمَفهومِ الهُوِيَّة الفَرْدِيَّة والجَمَاعِيَّة، والأهواءِ التي تُثيرها، وانحرافاتِها القاتلة، وكَيفيةِ تَحَوُّلِ بَعْضِ الجَمَاعَاتِ المُتعايشة مَعًا إلى مُتعادية تَعتمد على العُنْفِ والإقصاءِ. والكِتَابُ يَطْرَحُ أسئلةً عديدة : لماذا لا يَستطيع هؤلاء الناسُ تَقَبُّلَ انتماءاتهم المُتعددة ؟، لماذا يُجْبَرُونَ باستمرار على اختيار أحَدِهَا؟. يُحَاوِلُ مَعلوف الإجابةَ عَنْ هَذا السُّؤالِ: " بسبب عادات التفكير والتعبير المُتجذرة فِينا جميعًا، وبسبب المفهوم الضَّيِّق، والإقصائيِّ، والمُتَعَصِّب، والتَّبسيطي، الذي يَختزِل كُلَّ هُوِيَّةٍ إلى انتماء واحد ".

ويَعتبر مَعلوف أنَّ العَوْلَمَة إذا كانتْ تَهْدِف إلى دَعْم حضارة مُهَيْمِنَة (غَرْبية)، فإنَّها سَتَقُود البشريةَ إلى مَصيرِها المَحتوم، لذلك يَجِبُ ضَمَانُ ألا يَشْعُر أحَدٌ بالإقصاءِ مِنَ الحَضارةِ الإنسانية المُشتركة، وأن يَتَمَكَّنَ كُلُّ فَرْدٍ مِنْ إيجادِ لُغَةِ هُوِيته الشَّخصية، وَرُمُوز ثَقَافَتِه الخَاصَّة، وأنْ يَتَمَاهَى _ وَلَوْ قَلِيلًا_ مَعَ مَا يَرَاه ناشئًا في العَالَمِ مِنْ حَوْلِه، بَدَلًا مِنَ البَحْثِ عَنْ شرعية الحاضر المُؤلِم في الماضي المِثَالي. في الوَقْتِ نَفْسِه، يَنْبغي أن يَقُوم الفَرْدُ بِتَضمين مَا يَعْتبره هُوِيَّتَه عُنْصَرًا جَدِيدًا، وهَذا العُنْصُرُ سَيَزْداد أهميةً في القَرْنِ الحادي والعِشرين، وَهُوَ : الشُّعُور بالانتماء إلى المُغامرة الإنسانية بِمَفهومها الكُلِّي الشامل.

وبِمَا أنَّ الهُوِيَّة مُتَعَدِّدَة ومُتَشَظِّيَة، فلا بُدَّ أن يَشْعُرَ البَعْضُ بِالضَّيَاعِ، وأنَّهُ في مَتاهةٍ اجتماعية، وهَذا مَا تُمثِّله أعمالُ الرِّوائي الفرنسي باتريك موديانو. وُلِدَ عام 1945، مِنْ أبٍ يهوديٍّ إيطاليٍّ وأُمٍّ بلجيكية. وَقَدْ نشأ موديانو بَيْنَ غِياب أبيه عنه وبين أسفار أُمِّه المُتعددة، ولَمْ يَتمكن من إتمام دراسته الثانوية إلا بِعَوْنٍ مِنَ الحكومة.

تَتَمَحْوَرُ كُتُبُه حَوْلَ البحث عن الأشخاص المفقودين والهاربين، وأُولئك الذين يَخْتَفُون، والمَحرومين من أوراق ثُبوتية، وأصحاب الهُوِيَّات المَسروقة. وَجَمَعَ في أعمالِه الرِّوائية بَيْنَ مَسْألَتَيْن بارزتَيْن: البَحْث عَن الهُوِيَّة، والبَحْث عَن الذات مقرونة بقضية عَصْرية، وهي الشُّعُورُ الإنسانيُّ الفَرْدِيُّ بِضَعْفِ الإنسان.

حَصَلَ موديانو على جائزة نوبل للآداب عام 2014، حيث أعلنت الأكاديمية السويدية في بيان لها أن موديانو كُرِّمَ " بفضل فَنِّ الذاكرة الذي عَالَجَ مِنْ خِلالِه المَصائرَ الإنسانية الأكثر عِصْيَانًا على الفهم، وكَشَفَ عَالَمَ الاحتلالِ ".

تَخُوضُ رِواياتُ موديانو في لُغْزِ الهُوِيَّة، ومُحاولة تَتَبُّع الأدلة على وجودها من خلال آثار الماضي، كما أنَّه هَاجَمَ فَترةَ الاضطرابِ وَالفَوْضَى أثناء الاحتلال النازيِّ لفرنسا، وَهُوَ يَسْعَى جاهدًا إلى بِنَاءِ عَمَلٍ سَرْدِيٍّ مُتجانِس، والاعتناءِ بالتفاصيلِ الدَّقيقةِ والأشياءِ الصَّغيرة، التي هِيَ في النِّهَاية جُزْء مِنْ ذات الكاتب، كما أنَّه يكتب باستمرار عن مدينة باريس، واصفًا تَطَوُّر شوارعها وعاداتها وشعبها.

إنَّ موديانو يُمثِّل دِقَّةَ الذاكرةِ، ومَفهومَ الهُوِيَّةِ المُعَقَّد، حَيْثُ يَتَّضِح الشَّغَفُ بالماضي، والبَحْثُ عَن الذكريات، وتفاصيل الحياة القاسية في المُدن الخالية من المشاعر والأحاسيس. وَرَغْمَ كُلِّ هَذه المَعَاني ذات الزَّخْمِ الفِكري، تَمتاز روايات موديانو بالهُدوءِ والتَّقَلُّبِ والرَّحْمَة.

وتَتَرَكَّز رِواياتُهُ مُنْذُ بَدْءِ مَشروعه الكِتابيِّ في نهاية السِّتينيات عَلى طُفولته الصَّعبة، التي نَتَجَتْ عَنْ تَرْبيته في كَنَفِ وَالِدَيْنِ لَمْ يَعْتَنِيَا بِه، ونَشْأته في ظِلِّ تداعيات الحرب العالميَّة الثانية، مِمَّا جَعَلَ النُّقَّادَ يُجْمِعُونَ عَلى أنَّه أفضلُ مَنْ كَتَبَ عَن هذه الفَترةِ الحالكةِ في تاريخ فرنسا، وعَن الأُبُوَّةِ المَفقودةِ، والهُوِيَّةِ الضائعة، والذاكرةِ المُتَشَظِّيَة، وانكسارِ المَعْنَى في الفِعْلِ الاجتماعيِّ.

وكِتَابَاتُهُ انعكاسٌ للمَشَاعرِ المَحفورةِ في أعماقِ نَفْسِه، حَيْثُ الشُّعُور بالضَّيَاعِ، والافتتان بِالتَّجْرِبَةِ الإنسانيَّةِ للحَرْبِ العالميَّةِ الثانية، والهَوَس بالمَاضِي هُوِيَّةً وذاكرةً وسُلْطَةً، والبَحْث عَن الأملِ في ظِلِّ تداعيات الأحداث المأساوية على مَصائر الأشخاص العاديين.

***

إبراهيم أبو عواد / كاتب من الأردن

بين الهبة والسُّلطَة

مقدمة: فبدأ الشاعر في قصيدة *إنما الدنيا لمن وهبا* من رؤية تتسم بالبعد الوطني المشبع بروح التأمل والنقد، حيث مزج بين حنين عميق إلى عراقٍ مضيء بقيم الكرم والبطولة وبين واقع مأزوم يشهد تمزقًا بسبب فسادٍ سياسي واجتماعي مستشرٍ. لا يقتصر النص على استدعاء الماضي الزاخر بمعاني الكرامة والشموخ، بل يتحول إلى منصة لممارسة احتجاج شعري صارخ ضد حكومة أفسدت المبادئ وأسكنت مفهوم الديمقراطية وراء ستار من الزيف الذي يكرّس الهيمنة ويبرر الخداع.

تتجلى هنا ثنائية الزمن بين حقبة تاريخية كان فيها العراق رمزًا للقيم الإنسانية النبيلة، وواقع معاصر تسيطر عليه السلطوية والفوضى السياسية. وتتصادم في القصيدة رؤيتان متناقضتان: أولاهما نموذج يعلي من خطاب المصالح الآنية والأنانية على حساب العدالة، وثانيهما خطاب شعري يعرّي تلك المصالح المزيفة ويكشف أبعادها المضللة.

تتبلور أهمية هذه الدراسة حول تحليل البنية الشعرية في القصيدة على ثلاثة محاور رئيسية:

1. البنية النصية: تعنى بكيفية توظيف الشاعر للغة وقوة الصورة الشعرية لتشييد خطاب نقدي يحمل حمولة فكرية غنية.

2. البنية الموضوعاتية: تركز على مفاهيم مثل الاغتراب، الانتماء، وقيم البطولة التي تؤسس لرؤية تعبر عن معاناة متجذرة في تجربة عراقية تجمع بين وعود الماضي المؤجلة وكوابيس الحاضر القاسي.

3. البعد السياسي الاجتماعي: يسعى النص لتصوير الحكام كرموز للفساد الذين شوّهوا معنى الديمقراطية، مغتصبين مفهوم الهبة المشروعة لصالح ممارسات قائمة على النهب المقنع باسم الولاءات السياسية والمصلحية.

في إطار هذه المحاور، تظهر القصيدة كمحاولة لإعادة تشكيل مفاهيم أساسية مثل الحياة، الكرامة، والهوية. وبهذه الطريقة تتحول الكلمة الشعرية إلى أداة نقد ومقاومة واستنهاض للإرادة الجماعية، باندفاعٍ يعكس يقينًا راسخًا بإمكانية بعث عراق جديد قادر على استعادة مجده التليد.

التحليل الشامل للأبيات

العنوان: "إنّما الدنيا لِمن وَهَبا" – مفارقة لاهبة

يحمل عنوان القصيدة "إنّما الدنيا لِمن وهبَ" دلالة بلاغية ومفارقة فكرية ذات طابع نقدي، تنبثق من تحوير واعٍ للمثل الشائع "الدنيا لمن غلب"، وذلك عبر استبدال "الغلبة" بالإيثار. هذا التحوير لا يكتفي بإعادة صياغة اللفظ، بل يُعيد توجيه المعنى نحو قراءة أخلاقية-سياسية تعيد مساءلة مفاهيم السلطة والشرعية.

يشتغل العنوان كآلية تفكيكية تنتقد الخطابات السائدة التي تُبرّر التسلط والنهب باسم الغلبة أو القوة، ليطرح بديلاً قيميًا يتمثل في "الهِبة"، وهي هنا تُفهم لا بوصفها فعل كرم، بل كآلية رمزية تشير إلى منح السلطة والثروات بغير استحقاق، تحت غطاء ديني أو طائفي. ومن هذا المنطلق، يُضمر العنوان سخرية مريرة من الواقع السياسي العراقي، حيث تُوزّع الامتيازات وفقًا للولاء لا للكفاءة أو العدالة.

ومن منظور سيميائي، فإن "الهِبة" تصبح أداةً لتعرية التناقض بين الخطاب القيمي المعلن والممارسات الواقعية، ما يجعل العنوان مفتاحًا دلاليًا لفهم بنية القصيدة بوصفها نصًا احتجاجيًا. إنه ينهض بوظيفة تأويلية تكشف عن أزمة مشروعية تحكم الواقع، وتعيد مساءلة العلاقة بين اللغة والسلطة، بين المبدأ والتطبيق.

1. لحظة الاكتشاف والوعي المنكسر

"لمّـا رأيت الـذي يجري بموطننا

خلوتُ وحدي لأني أعرفُ السببا"

عندما نتمعن في قول الشاعر "لمّا رأيت الذي يجري بموطننا"، نجد أنفسنا أمام لحظة وعي عميق تحمل في طياتها إدراكًا مؤلمًا لحال الوطن. ذلك الوطن الذي ارتبط في الأذهان بالأمان والكرامة، أصبح اليوم حِملاً ثقيلاً يتصارع مع تناقضاته. ومن منطلق أن الحب الحقيقي يستلزم فهمًا ووعيًا شاملاً، فإن الشاعر لا يلجأ إلى الهروب من هذا الواقع المرير، بل يعمد إلى مواجهته من خلال اختيار العزلة والتأمل. إذ يدرك أن التعمق في "معرفة السبب" هو مسؤولية جوهرية تُفرض على من يرتبط بالوطن بشعور الحب والانتماء. في هذا السياق، تصبح العزلة موقفًا تأمليًا يتجاوز حدود الانكفاء ليشكل محاولة واعية لإعادة صياغة العلاقة المتصدعة مع الوطن وإعادة ترميمها على أسس أكثر صلابة و استيعابا

2. شخصنةُ المأساة وانقلابُ القيم

"الزيـفُ في وطـني يـسْودُّ متسعـا

والمـوتُ صارَ أخانا والدمـوعُ أبا"

في هذين البيتين الشعريين، يعكس الشاعر تصويرًا مكثفًا لحالة التفكك القيمي والتراجع الأخلاقي الذي يعصف بالوطن، ويتحول فيه إلى فضاء مشوه تغلب عليه مظاهر الزيف والموت. يُستخدم الفعل "يسودّ" ليس فقط لوصف الانتشار الواسع للزيف، بل ليعبر أيضًا عن حالة انطفاء النور الرمزي للمبادئ الأخلاقية وضياع البصيرة العامة. يشير مفهوم "التوسع" إلى استشراء الكذب وزيادة تأثيره في جلّ تفاصيل الحياة اليومية.

تصل الصورة الشعرية إلى قمة تجليها في توظيفها لما يمكن اعتباره إعادة تعريف للأسرة الرمزية؛ حيث يصبح الموت بمثابة "الأخ"، والدموع تمثل "الأب". هذه ليست مجرد استعارة بلاغية تقليدية، وإنما تعيد صياغة مفهوم العلاقة الإنسانية ضمن وطن يعاني من الاضطراب والتفكك. إن هذا الانقلاب الدلالي يجعل الموت جزءًا حميميًا من هوية المواطن، والدمع وصيًا دائمًا عليه، في إشارة إلى حالة من الشقاء المستدام التي أصبحت السمة المميزة للوجود اليومي.

تشير هذه الصورة المركبة إلى أن المأساة في هذا السياق تجاوزت كونها حدثًا عابرًا لتصبح كيانًا أصيلًا ودائمًا ضمن بنية الحياة العامة. وبذلك، يتحول الشقاء إلى عنصر جوهري في الانتماء الوطني، ما يرمز إلى واقع تتراكم فيه الخسارات وتتوارث فيه الهزائم، مما يشي بمستقبل غارق في بؤس متجذر وفقد مستمر يتغلغل في عمق الذاكرة الوطنية.

3. تضحية الحب وامتناع المتع السطحية

"أذوقُ مـن حصرم الآلام ألذعهُ

وغـيرنا يـتـشهّـى الخـمرَ والعنبا"

في البيتين الشعريين، يُبرز الشاعر مفهوم "المذاق" كإشارة رمزية تعكس قيمة الحب الوطني. فذكره لـ "ذوق حصرم الآلام" يُظهر كيف يصبح الألم شهيًّا، حيث يعزز ارتباطه بوطنه ويعبر عن شغفه بالتضحية. بالمقابل، يترك الآخرون هذا الالتزام الوطني وراء ظهورهم ويسعون نحو متع سطحية مصوّرة في "الخمر والعنب"، وهو ما يعكس انعدام الجدية في شعورهم بالانتماء.

المفارقة العاطفية

يقدم الشاعر هنا تناقضًا عاطفيًا فريدًا؛ فبدلاً من رفض الألم، يحتفي به كطعم محبب. هذا التحول يعكس رؤية بأن التضحية والصمود في مواجهة الانكسار هما التجسيد الحقيقي للحب الأصيل. بل إن الألم يصبح دلالة وشهادة على الوفاء للوطن.

الاستعارة المزدوجة

يرتكز التعبير الأول على "حصرم الآلام"، أي تلك اللحظة التي يصل فيها الألم قمّته، ولكنه يُعاد تشكيله ليُصبح لذة تتجاوز ملذات دنيوية فارغة ومزيفة. هذا التصوير يصور الألم كرمز خالد للتضحية ويمنح القصيدة بُعدًا اجتماعيًا عبر الموازنة بين معنى الألم واللذة.

الدلالة السياسة المستترة

من خلال انتقاده لأولئك الذين "يتشهّون الخمر والعنب"، يوجه الشاعر رسالة لاذعة تستهدف الطبقة الحاكمة أو الفئات المنشغلة بالمتع العابرة على حساب معاناة شعبها. تلك الفئات، بدل التضامن والسعي للتغيير، تتهاوى أمام رغباتها السطحية، في مرحلة تتطلب تضحيات وحراكًا حقيقيًا وفعّالًا.

4. التيه في فضاء الوطن المتغيّر

في البيتين الشعريين المذكورين، يُوظِّف الشاعر استعارة التشبيه لتجسيد حالة الضياع الداخلي التي تسود في وطن تغيّرت ملامحه المألوفة. فالشاعر يصوّر نفسه كـ"الضائع الوسنان"، الذي يتيه مترنّحًا بلا هدى، حيث يتحول هذا الشعور إلى تجربة شخصية تمثّل انقطاعاً عن الهوية الجمعية والمسارات الراسخة التي كانت تشكل جزءًا من إدراكه لوطنه. أما "البلد" في النص فلا يعود مكان الأمان والاستقرار، بل يصبح فضاءً غامضًا يغمره الالتباس والمشاعر القاتمة.

1. الضياع كحالة نفسية ومعاناة متجذرة

يُشير التشبيه الضمني إلى أن الشاعر يعاني من أزمة انتماء، حيث لم يعد يشعر بوجود رابط ثابت بين ذاته ووطنه. الوطن، الذي كان يمثل بوصلة معنوية، فقد هذا الدور ليصبح مساحة غريبة تشكّل عودة الشاعر إليها محطة للتشتت الجغرافي والنفسي، مما يجعل الحركة داخله مفتقرة إلى الهدف والأمل.

2.  اندثار الهوية كمصدر للألم

تجسد "الحيرة المكتئبة" انعكاسًا لواقع الوطن الذي افتقد القيم والمعاني التي كانت سابقًا تجسدها. هذا التحوّل العميق يضع الشاعر في حالة من الاغتراب الداخلي، حيث يشعر بفقدان إدراكه للمعاني التي كان الوطن يعبر عنها. وتنبع هذه الأزمة من عدم قدرة الشاعر على استيعاب تحولات الواقع الوطني، وهو واقع أضحى سبباً في تحول بيئته، التي كان يُفترض أن تكون ملاذاً معنويًا، إلى مساحة تفتقر للهوية والروح.

5. تمزق الذات وتمزق الوطن

"تـمـزّق القـلبُ أشـلاءً مبـعْــثرةً

العـظمُ هيظ ولحمي قـد غـدا إرَبا"

1. استعارة التمزّق كبنية رمزية:

يفتح الشاعر عبر تمزّق القلب والجسد مساحةً للتعبير عن انهيار الذات، لكن هذا الانهيار لا يُفهم بمعناه الفردي فحسب، بل يتجاوزه إلى تمزق الوطن ذاته. فالقلب رمز للانتماء والهوية، وعندما يُبعثر، فإن المعنى يتجاوز حدود الجسد ليعكس تفتت الكيان الوطني، وكأن الشاعر يحمل الوطن داخله، ويتكسّر معه.

3. الجسد كرمز للفاجعة الجمعية:

في "العظم هيظ" و"اللحم إرَبًا"، تتجسد الكارثة بلغة جسدية، توصل الألم ليس بوصفه شعورًا عابرًا، بل واقعًا متجسدًا في بنية الذات المهشّمة. الجسد هنا لم يعد كيانًا موحدًا، بل كومة من الأشلاء، تمامًا كما الوطن الموزع بين طوائف وأحقاد وتصدعات تاريخية.

4. ترابط الذات بالوطن – الجرح كهوية:

يحوّل الشاعر التجربة الشخصية إلى تجربة جمعية. فالألم الذي يشعر به في قلبه ولحمه هو نفسه الألم الذي تعانيه البلاد في كل مفصل من مفاصلها. هذه العلاقة التبادلية تعيد صياغة مفاهيم الهوية والانتماء، بحيث يغدو التمزّق هو نفسه الذاكرة، ويصبح الجرح سردية الوطن.

5. المعنى الدلالي الرمزي:

تكمن براعة الشاعر في تحويل تجربة التمزّق من كونها حالة ضعف إلى لحظة وعي. فإدراك الألم هو أولى خطوات المقاومة. لا حضور هنا للبطولة التقليدية، بل هناك بطولة الوعي، والاعتراف بالتمزّق كشرط ضروري لاستعادة الكلّ المتفتت.

6. رمز الحب وذكريات الدفء.

"ماذا أحدِّث يا بغدادُ عن ولَهي

أضحى الحبيبُ رمادا والهوى خشَبا"

1. مخاطبة بغداد واستحضار الأمجاد الحضارية

حين يخاطب الشاعر “بغداد” لا يقصد فقط دمشق العواطف في مرحلةٍ معاصرةٍ مضطربةٍ؛ بل يُرمز هنا إلى المدينة التي تأسست فوق أعمدة حضارات وادي الرافدين: سومر، أكد، بابل، آشور. فالتعبير “ماذا أحدِّث يا بغدادُ عن ولَهي” ينقل القارئ إلى فكرتين متوازيتين:

-  المخاطب الشخصيّ (بغداد بصفتها حبيبة الشاعر) من المنظر الوجداني للحاضر، حيث صار الحبُّ هشًّا.

-  الرمز الحضاري (بغداد كرمزٍ لكلّ العراق القديم) الذي كان منارةً للعلم والفنون والقيم الإنسانية منذ آلاف السنين.

2. العجز عن نطق الحقيقة المرّة

الفعل “ماذا أحدِّث” ينبئ عن عجزٍ لغويٍّ وهذا عجزٌ وجداني؛ إذ لم يبقَ في ذاكرتـه من كلماتٍ ترقى لتسمِّي حجم الألم وانكسار العلاقة بوطنٍ حكمته سلطة فاشية لاحقة. فاللجوء إلى النداء الشاعريّ يحمل في طيّاته تأكيدًا على أن المشهد الحالي لا يُقاس بأيّ حالٍ بأمجاد تلك الحضارات التي جعلت العراق مهدًا للثقافة الإنسانية.

3. “الحبيبُ رمادًا”: دلالة رمزية على انطفاء أمجاد الماضي

-  رمزية “رماد” هنا تتجاوز مسألة الفناء الشخصيّ فحسب؛ إذ تعني أنّ “الحبيب” الذي هو “بغداد” لم يعد يحتفظ بحيوية ذلك التراث السومري–البابلي–الآشوري، بل بات ركامًا من الآثار التي نُهبت وتآكلت في زمن الاستبداد.

-  يُحيل هذا التصوير إلى إخماد روح المدينة التي كانت سابقًا حاملةً لشعلة المعرفة والحرية، قبل أن يسيطر عليها قهرٌ سياسيٌّ دمويّ.

4. “الهوى خشبًا”: تجمّد العلاقات وغياب الدفء

-  خشب الهوى يشير إلى صلابةٍ جامدةٍ، تعكس جمودًا عاطفيًّا واجتماعيًّا. فالمدينة أو الوطن لم تعد تفيض بمدارات الرحمة أو التضامن أمثالما كان في تقاليد أجدادٍ زرعوا أولى حبات العدالة في دساستهم.

-  هذه الصورة تحدّد حالة الانكماش الروحي التي عادت معها معانٍ الحبّ والولاء إلى مجرد كلامٍ جافٍّ لا حياة فيه.

5. التفكيك السياسي وتشظّي الذاكرة

من البديهي أنّ أيّ استحضارٍ للماضي الحاضر في نفسه لا يمكن أن يسمح بإعادة تمجيد عصرٍ استبدادي؛ بل يسلِّط الضوء على أنه إذا كنا نفتقدُ اليوم “جذوةَ الحضارة” التي كانت تصهر القيم تحت “سماءٍ عراقية” واسعة، فلأننا مررنا بفترة حكمٍ فاشيٍّ، أطفأ نسمات الحرية وبثّ في البلدِ زيفًا من يدٍ واحدة.

بهذا المعنى، يصبح “رماد الحبيب” استعارةً مركّبة:

-  للمدينة التاريخية التي فقدت بعض بريقها الحضاري تحت وطأة القمع.

-  حتى للأفراد الذين صدّرت السلطة قسوةً جعلت من انتمائهم إلى الوطن جرحًا لا يُشفى.

7.انقسام الحضور والفقدان الثقافي:

"أرنو على طللِ الأجدادِ منكسِرا

يحوطني الحشدُ لكنْ لاأرى العرَبا"

في هذين البيتين، يستحضر الشاعر أطلال الأجداد كرمزٍ للتاريخ العريق والإرث الثقافي:

1.  الحنين إلى الماضي المجيد

يشير الفعل “أرنو” إلى شوقٍ عميقٍ واشتياقٍ لتلك اللحظات التي كانت فيها “أطلال الأجداد” تمثّل مكانًا للكرامة والهوية. إنّها استعارةٌ للماضي الحضاري الثريّ الذي تتهاوى الآن أنقاضه، مما يُعمّق الشعور بالانكسار (كلمة “منكسِرا”) بلوعة فقدان تلك المجد السابق.

2.  التناقض بين العدد والجوهر

تحيط بهُ “الحَشد” من كل جانب، وهو رمزٌ للحضور الكثيف على مستوى السكان أو الخطاب الشعبي، لكنّ الشاعر لا يرى “العَرَبا” الحقيقيين، أي الأشخاص الذين يحملون الهوية الأصيلة والقيم التراثية. هذا التناقض يعكس فقدان المعاني الصافية تحت غطاء الكثرة الشكلي، إذ إنّ الأعداد لم تعد تعكس أصالةً أو جوهرًا، بل مجرّد مظهرٍ فارغٍ من العمق.

3.  الغربة الثقافية وفقدان الأصالة

السماءُ ملبّاةٌ بالناس، لكنّ الشاعر يشعر بالوحدة الثقافية، لأنه لا يجد من جديدٍ فيهم من يتماهى مع روح “الأجداد” الأصيلة. هنا تظهر استعارة نقدية تنقلنا من الإعجاب الأوّلي بالأحِباء التاريخيين إلى الحسرة على البيئة التي أضاعتها التحولات، فباتت “الحشود” مجرد أرقامٍ بلا مضمونٍ ولا صلةٍ حقيقية بالتراث.

8. انتحار المواطن بين ثقل المبادئ وجحيم الواقع.

"وكيف أحملُ جمْراً في كفوفِ يدي

مثل التي وُصفتْ: حمّالةً حطبا"

في هذين البيتين، يستلهم الشاعر من صورةٍ دينية عميقة للتعبير عن ثقل المعاناة الفردية والجماعية:

1.  التصوير الاستعاري للمأساة

يستوقفنا تصوير “حمل الجمرة” في كفّ اليد، الذي ينحو إلى تصوير العبء النفسي المزدوج: الاحتراق الداخلي والألم المستمر. ويُقابل هذا الثقلُ “حمّالة الحطب”، في إيحاءٍ إلى جهدٍ مميت يجعل المواطنوعاءً ينصهر فيه كرامته ومبادئه.

2.  الدلالة الرمزية للمسؤولية الوطنية

تمثّل “جمرة الوطن” ثمنًا مُرهَقًا يدفعه المواطن الشريف؛ حيث يتحمّل حرارة الحق في وسط تآكلٍ قيَمِيّ. أما “حمّالة الحطب” فتُمثل أيادي الفساد التي تُلقي بالوطن على كفّ الفقراء، فتلتهم كرامتهم بأيدٍ عابرة لا تؤمن بجوهر الالتزام.

3.  موقف احتجاجي وأفق أمني

تكشف هذه الاستعارة عن احتجاجٍ صامتٍ للمواطن الأصلي، الذي لا يجد حوله إلا رماد القيم وهو يلهث خلف لحظة وعيٍ جديدة؛ إذ لا خلاص إلاّ بتحمّل من يبقى على العهد، وإن آلمهم حملُ الوطن في زمنٍ تفشى فيه الانحلال.

9.التجسيد الديني للفساد السياسي – قراءة سيميائية في صورة إبليس:

"نحن ابتُلينا بإبليسٍ وزمرتهِ

أشاعَ فينا الأسى والفقرَ والجربا"

في هذين البيتين، يستحضر الشاعر صورة "إبليس" بوصفه تمثيلًا أعلى للشرّ المطلق، ليمنح الواقع السياسي بعدًا كونيًا يخرج عن دائرة الخطأ البشري العابر، ويدخل في نطاق الخراب المُمَنهج والمدبّر.

1.  الشيطنة الرمزية للسلطة:

2.  يشكل تشبيه الحاكم بـ "إبليس" اشتغالًا رمزيًا يُضفي على منظومة الحكم طابعًا لاهوتيًا، يحوّلها من منظومة فاسدة إلى قوة شرّ خارقة، متصلة بجذور الأسطورة والدين، مما يعمّق البعد الأخلاقي للرفض.

3.  ثلاثية الخراب: الأسى – الفقر – الجرب:

يجمع الشاعر بين أبعاد ثلاثة لانهيار الدولة:

الأسى: دلالة على الانكسار المعنوي وفقدان الأمل.

الفقر: مؤشّر لتهاوي البنية الاقتصادية وغياب العدالة التوزيعية.

الجرب: استعارة قاسية توحي بانهيار الصحة العامة، كعلامة مَرئية لتفشي القهر والتهميش.

4.  البنية الاحتجاجية للخطاب:

يتخذ البيت طابعًا إدانيًا واضحًا؛ فالسلطة لم تُتهم فقط بالفشل، بل وُصفت بأنها "ابتلاء"، أي عذاب قدَريّ، مما يعبّر عن ذروة السخط الشعبي وفقدان أي أمل بالإصلاح من داخل البنية الحاكمة نفسها.

10. مبالغة كونية لتجسيد شمولية الفساد وانسداد الأفق:

"ضاقَ الفضاءُ بهم من فرطِ لوثتهم

وأطفأوا الشمسَ والأقمارَ والشهبا"

في هذين البيتين، يعمد الشاعر إلى تصعيد بلاغيّ ذي بُعد كوني، يصوّر فيه الفساد كقوة ملوّثة لا تكتفي بإفساد الواقع الأرضي، بل تتعدّاه لتخنق الفضاء وتُطفئ مصادر النور الكوني.

1.  التوسيع الكوني للكارثة:

إن ضيق الفضاء من "لوثتهم" تعبير مجازي يضخّم صورة الفساد ليجعلها متجاوزة للحدود الجغرافية والسياسية، متّسعة حتى لتشوّه العالم بأسره. وهذا الاتساع البلاغي لا يهدف للمبالغة فقط، بل يُوظَّف لتكثيف الإدانة الأخلاقية للسلطة الفاسدة.

2.  الرمزية النجمية لانطفاء الأمل:

تمثل "الشمس والأقمار والشهب" عناصر الهداية والنور والاستمرارية في المخيال الرمزي. إطفاؤها لا يشير فقط إلى نهاية دورة كونية، بل إلى انعدام الأمل وضياع البوصلة الوطنية والأخلاقية.

3.  الرؤية الاستشرافية ونبرة التحذير:

تتحوّل هذه الصورة إلى نوع من النبوءة الشعرية السوداء، حيث يُعلِن الشاعر انهيار النظام القيمي والكوني برمّته إن استمرّ الفساد بلا مقاومة. وهو بذلك لا يصف الواقع فحسب، بل يدفع باتجاه استعادة "الوعي الوطني" كضرورة قصوى لإنقاذ ما تبقّى

11. خيبة الأمل في العلاقات الاجتماعية:

"ما ضرّني جمرةٌ تجثو على جسدي

بل شاقني صحبةٌ صاروا لها لهبًا"

يعمد الشاعر هنا إلى تصوير الألم النفسي على أنه أبلغ من الألم الجسدي عبر استعارةٍ حراريةٍ مركزة: فالجمرة، وإن كانت تحرق الجسد، لا تُذكي في النفس غضبًا أو وجعًا بمقدار ما تُنذره الصحبة المتحوّلة إلى “لهبٍ” يُلحق الأذى بالروح. تُجسّد هذه الصورةُ شعورًا عميقًا بخيبة الأمل في العلاقات الاجتماعية، إذ يتحوّل المحيط القريب، المفترض فيه سُند الدعاء والبناء، إلى عدوٍ يحرق الانتماء وينسف الثقة. وبالتالي، لا يعود الألم مجرد تجربةٍ حسية، بل يصبح انعكاسًا لمأساةٍ نفسيةٍ تكشف عن خذلانٍ إنسانيٍ متغلغل، "يشير هذا التصوير إلى مدى عمق الانكسار حين ينبع الألم من جانب بعض الصحبة المقربين.

12. عمق التصوير في الفعل

"أين النجوم التي كانت تلاحقنا

تحدو الزمان إلى الأمجاد والحقبا؟"

في هذين البيتين، يتجاوز الشاعر دور السؤال البلاغي النمطي، ليكشف عن غياب الرموز الباعثة للأمل. فـ"النجوم" ليست هنا مجرد أجرام سماوية، بل تمثل قيمًا ومثُلًا عليا — أو القادة والأحلام — الذين كانوا يقودون الدرب نحو العزة والمستقبل الواعد.

يكمن عمق التصوير في اختيار الفعل "تحدو"، من الفعل “حدا” بمعنى السير بخطى ثابتة وانتقال سريع. هذا الفعل لا ينطوي على سكونٍ سلبي، بل يحمل في طياته إيقاعًا حركيًا ونفَسًا تقدميًا، كما لو أن كل نجمة كانت “تدفُع” الزمن إلى الأمام نحو أمجادٍ وحقبٍ مضيئة.

بإسناد هذا الفعل إلى الزمن، يحول الشاعر تلك “النجوم” إلى عناصر فاعلة في التاريخ، لا مجرد مشاهد خلفية. وعندما يسأل: “أين هي الآن؟”، يوجّه سؤالًا عن انقطاع هذا النبض الحضاري وغياب دور هؤلاء النجوم في إضاءة المسار.

بهذا التصوير البلاغي، يتحوّل الضياع من مفهومٍ فكريٍّ عام إلى حالة وجدانية تعكس انعدام القِيَم القادرة على دفع الزمن نحو الأمل، ويعبر عن الحيرة أمام تحول الزمن نفسه من محركٍ للنهضة إلى آلةٍ لطمس الأماني.

13. أرضٌ تجذب الجميع:

"أين العراق الذي ناخ الجميع له

وأنبت الطّهْرَ والأطهار والنجبا؟"

يتجاوز الشاعر في هذين البيتين البعد الفردي ليستدعي مفهوم الوطن باعتباره فضاءً جامعًا له جاذبية أخلاقية وتاريخية. فـ"العراق" يُصوَّر هنا ليس مجرد كيانية جغرافية، بل هو هوية وطنية أصيلة تقوم على ميراث حضاري ثري، قادرٌ على إنضاج "الطّهر" و"الأطهار" و"النجبا" — رموزٌ للقيم النبيلة والصفاء والريادة.

ومع ذلك، تكشف صيغة الاستفهام "أين العراق؟" عن حالة من الانكسار الجمعي؛ إذ باتت عقلية الناس لم تعد تتمثل هذا المثال الحضاري المتجذر، ما يشير إلى أن مرحلةً ثقافيةً وجمعيةً كانت قائمة قد انتهت، وأن امتدادَها لم يعد متحققًا في الواقع الحالي المُشوَّه.

من ثم، يُصبح السؤال البلاغي توجيهًا نقديًّا ينير على غياب المشاريع القادرة على إعادة إحياء التوازن بين الإرث القيمي والصرامة الأخلاقية من جهة، وبين ممارسات الواقع من جهة أخرى، ليؤكد أن حالة الاستفهام هنا هي بمثابة إنذارٍ بأن الرواية الوطنية العريقة لم تعد حاضرةً في فكر الجماعة

14. العطر المتبدد: شذرات من مجد ضائع

"رشَّ الحضارات عطرا وافرا ثملا

تضوّعَ المجدُ منه حيثما سكبا"

يُوظّف الشاعر صورة العبق الحضاري ليُعبر عن ازدهار الماضي، فالتراث يُشبَّه بالعطر المسكوب الثمل، المنتشر حيثما انسكب. العطر هنا ليس فقط دالًا على الجمال، بل على الفاعلية الحضارية والتأثير العالمي. وقد جاءت لفظة "تضوّع" لتشير إلى الامتداد الزماني والمكاني لذلك المجد. غير أن انسكابه "حيثما سكبا" يحمل دلالة ضمنية على تبعثر القيم الحضارية، وكأنها لم تعد تستقر في مكان ثابت، بل صارت شذرات لا تجمعها بنية.

15. رمزٌ مضى... وبقي العطاء

"قاد الريادة في الأصقاع منفردا

وأجزلَ الكرمَ المعطاءَ ما وهبا"

في هذا البيت الشعري، يستدعي الشاعر صورة القائد التاريخي الذي لم يكن مجرد شخصية حاكمة، بل مثالًا للريادة والعطاء الذي يتجاوز الحدود الجغرافية الضيقة. تعبير "الأصقاع" هنا لا يشير إلى أبعاد المكان المادية فقط، بل يحمل في طياته دلالات اتساع التأثير والامتداد. أما وصف "منفردًا" فيبرز تفرد الدور وتميز التجربة، مما يمنح الشخصية الموصوفة بُعدًا استثنائيًا.

البيت الشعري يخفي بين سطوره رثاءً لشخصية وطنية بارزة تحولت بفعل غيابها إلى رمز خالد. هذه الشخصية لا تكاد تُعرّف كفرد بعينه، بل هي انعكاس لهوية عراقية جماعية ارتبطت بالعطاء والتضحية. ويأتي الفعل "وهبا" في نهاية البيت ليضفي على مفهوم الكرم بُعد النبل الفطري، حيث يتم العطاء بلا مقابل، في إشارة إلى سمو القيمة الإنسانية التي تتخطى أي مردود مادي أو اعتراف.

يمكن قراءة هذا البيت في سياق التاريخ العراقي بوصفه تكريمًا لأولئك الذين قدموا أنفسهم في سبيل الشعب وتركوا خلفهم إرثًا معنويًا عظيمًا. هؤلاء القادة لم يسعوا لامتلاك القصور أو جمع الثروات، بل خطّوا نماذج أخلاقية مستوحاة منها الدروس حين تختل المعايير وتغيب القيم.

16."قوى الشعب الخيّرة تنهض من بين الركام"

"دارُ المهابةِ بغدادُ الندى أبَدا

تزيحُ أجنحةَ الظلماءِ والحجبا"

يستدعي الشاعر صورة بغداد بكل عظمتها وكرمها الأصيل، لتكون رمزًا للوطن العريق الذي يحتضن العدالة والمعرفة. إن وصفها بـ"دار المهابة" لا يعد مجرد توصيف، بل يشير إلى مكان يتجاوز الجغرافيا ليكون بمثابة قوة رمزية تستطيع إحداث تأثير تاريخي وتغيير جذري. الاستعارة المستخدمة في عبارة "تزيح أجنحة الظلماء والحجبا" تعبر عن قدرة بغداد، بمعنى الوطن، على تبديد الظلام، سواء كان ذلك يتمثل في الجهل أو القمع أو الفساد، وكأنها شمس ترفع ستائر الليل عن وعي الشعب. في هذا الوصف، تظهر بغداد ليس كضحية فحسب، بل ككيان فاعل و نهضوي يمتلك في جوهره إمكانيات التغيير. هناك تلميح ضمني في هذا النص إلى أن القوى الخيّرة الكامنة في الشعب، كما حدث عبر تاريخ العراق العريق، قادرة على النهوض من بين الركام وتفكيك الحجب التي تراكمت حول الحقيقة والعدالة.

17. بغدادُ منبعُ العطاء والرحمة

"وتفرش الأرض عشب الخير من يدها

ليستريحَ بها من كان قد تعبا"

يصور الشاعر بغدادَ ككيانٍ رحيمٍ يغدقُ الخيرات على الجميع. إنّ “عشب الخير” الذي تُفرشه المدينة ليس مجرّد نباتٍ طبيعيٍّ، بل رمزٌ للعطاء اللامحدود، يستمدُّ قوته من “يد بغداد” الحاضنة التي تعبّت من وطأة التاريخ القاسي. ينتقل الوصف هنا من الألم الشخصيّ إلى تعبيرٍ وطنيٍّ، فتغدو بغدادُ ملاذًا للمُنهكين وأولئك الذين انهكهم الصراع، وكأنّها أمٌّ عادت لتضمّ أبناءها بعد طول غربة. بهذا، تتجلّى المدينةُ كقيمةٍ وجوديةٍ متجدّدةٍ تسهم في تخفيف جراح التاريخ وإعادة بناء الإنسان المُنهك.

18. الحنين والألم الوطني:

بغدادُ دمعة أيامي ولوعتها

وفي ثراها أرى الحلاّج قد صلبا

يتحول اسم "بغداد" في هذا المقطع إلى رمز للألم والتضحية، حيث يصفها الشاعر بأنها "دمعة أيامي"، معبّرًا عن حزن عميق يمتد عبر الأجيال.

ذكر الحلاج كرمز روحي

يربط القول "في ثراها أرى الحلاج قد صُلبا" بين معاناة المدينة ومعاناة عقلية وروحية متمثلة في مصير الحلاج، الذي يعتبر رمزًا للشجاعة الصوفية والسعي وراء الحقيقة. يأتي تصوير "الصلب" هنا ليس فقط كقمع جسدي، بل أيضًا كقمع فكري وروحي، يعبر عن التضحية من أجل الاستقامة والحقيقة.

دلالة الحرمان الروحي والفكري

يجمع الدمج بين بغداد والحلاج بين بعدين:

الأرضي: حيث أصبحت أرض بغداد علامة على الموت والامتهان (صلب الحلاج).

الرمزي: إذ يشير القيم التي يمثلها الحلاج إلى أن المدينة تعاني ليس فقط من فقدان الأمن، بل من فقدان حرية الفكر والروح.

أثر الصدمة في النفس الجماعية

تحولت القصيدة إلى صورة تجسد حنين المدينة لعصر لم تتخل سلطاته عن قيم الكرم والعرفان. إلا أن صورة الصلب الروحي للحلاج في ترابها تدلل على أن بغداد فقدت حتى القدرة على احتضان أفكار الصدق والروحانية، مما أبرز تساؤلات صارخة حول مصير الهوية الوطنية في ظل قسوة الزمن.

19. الألم العميق والخسارة الحقيقية.

"دموعُ يعقوبَ تجري في مرابعنا

دماءُ يوسفَ ما كانت دماً كذبا"

فيستعير الشاعر صورًا قرآنية مكثفة للدلالة على الألم العميق والفقدان الحقيقي. دموع يعقوب ودم يوسف تُحيل إلى ألم الفقد الصادق، في مقابل خطابٍ معاصر قد يشكك في صدق هذا الألم. بهذا، يصبح الماضي النقيّ مرآةً لواقع ملوّث بالكذب والتشويه، وهو ما يعزز ثيمة الانفصال بين القيم الأصيلة والانهيارات الحديثة.

20. الانغماس في نشوة الوطن: خمرة الروح كذروة شعورية

25."يا خمرةَ الروحِ والريحانِ تُسكرني

فأنهلُ الزقَّ حتى ألعقَ الحببا"

في هذا المقطع، يبلغ الشاعر ذروة وجدانية تتجلى في استعارة "خمرة الروح والريحان"، حيث تنصهر المشاعر الذاتية في رمزية مشبعة بالدلالات الصوفية. غير أن الخمرة هنا لا تُفهم ضمن إطارها الرومانسي أو الجسدي، بل تُستعاد بوصفها رمزًا للتجلي الروحي والانتماء الحميم إلى الوطن.

فالنداء الموجّه إلى "خمرة الروح" يشير إلى سعي داخلي نحو التحرر من وطأة الواقع، وانجذاب إلى لحظة صفاء يتجلّى فيها الوطن كمصدر للسكينة، تمامًا كما تُسكر الخمرة العارف الصوفي في حضرة المعنى الأعلى. أما فعل "أنهل الزقّ حتى ألعق الحببا"، فيعبّر عن حالة من التوق العميق إلى الامتلاء الروحي، حيث تتجاوز العلاقة مع الوطن حدود العقل والمنطق إلى مستويات من الشوق المُطلق والالتحام الوجودي.

ويأتي هذا التصعيد الشعوري في موقع استراتيجي داخل بنية النص، لا باعتباره خاتمة، بل كمحور دلالي ينقل القصيدة من مدارات التأمل العقلي والوجداني إلى أفق روحي أوسع، تتعزز فيه صورة الوطن لا كحيز خارجي فقط، بل كـ"معبود معنوي" تسعى الذات للذوبان فيه.

هكذا تتجلى في هذا البيت بذور الانزياح الصوفي الذي سيتواصل لاحقًا، مشكّلًا منعطفًا في النسق الشعري، وممهّدًا لتحولات لغوية وروحية تُكمل تجربة الشاعر في بحثه عن الطمأنينة والانتماء النقي.

21. المدخل الموسيقي: تشكُّل الوجدان عبر المقامات

تشدو المقاماتُ في أفيائنا نغَما

كرْداً ، بياتاً ،نهاونْدا، وثم صَبا

يفتتح الشاعر بلغة موسيقية ذات دلالات ثقافية عريقة، تربط بين الصوت الروحي والمخيال الشعبي. هذه الموسيقى لا تُفهم فقط كزخرفة جمالية، بل كصوتٍ ينبض في الجغرافيا العراقية، يحمل معها الحنين إلى الانسجام والتناغم المفقود. ولكن في ظل هيمنة القوى الطائفية، يبدو هذا الغناء وكأنه صدى لحلم جماعي مُجهض، يتناغم ظاهريًا، لكنه مشروخ داخليًا.

22. تفكيك مقولات العالم الأرضي: نقد السائد الأخلاقي

أكاد أربأُ من قولٍ حوى سفَها

يقضي بأنّ الدنى تأتي لمن غلبا

يتخذ الشاعر موقفًا واضحًا من الخطابات المهيمنة التي تبرر الهيمنة والقهر بمبدأ "الغلبة"، وهو هنا لا ينتقد منطق القوة كقوة فحسب، بل ينتقد شرعنتها باسم الدين أو القدر. فهذا "القول السفيه" قد يمثل خطابًا دينيًا أو سياسيًا سطحيًا يُبرّر الاستئثار بالسلطة باسم التفويض الإلهي أو إرادة الغالب، وهو منطق يُسهم في ترسيخ الفساد واللامساواة.

23. ثروات الشعب أصبحت أداة منظمة للاستيلاء والنهب

وفي السماواتِ أذكارٌ وأدعيةٌ

تقول لي إنما الدنيا لِمن وهَبا

هنا يبلغ التهكم ذروته: فـ"الهِبة" التي تُقدّم في السماء كفعل روحي ــ تتحول على الأرض إلى آلية للنهب. يُوظف الشاعر خطابًا دينيًا مألوفًا ("الأذكار والأدعية")، لكنه يُعيد توجيهه باتجاه نقدي، إذ تبدو تلك الأذكار كأنها تُبرّر توزيع السلطة والثروات على أساس الولاء الطائفي لا على أساس الكفاءة أو العدالة. هكذا، تنقلب "الهبة" من رمز للعطاء النبيل إلى أداة للتمييز الطبقي والطائفي.

24. وهم السعادة: التباين بين مشاعر الطرب والحزن

لكنما السعْدُ لا يبقى إلى أمَدٍ

ففي الحنايا بكاءٌ لامسَ الطرَبا

يكشف هذا البيت عن المفارقة بين البهجة الظاهرية ــ ربما التي تمثلها طبقات النخبة المستفيدة من الفساد ــ والحزن الجوهري الذي يسكن الداخل. "الطرَب" هنا ليس فقط موسيقيًا، بل هو رمز للزيف والتخدير السياسي، في حين أن "البكاء في الحنايا" يمثل صوت الفقراء والمهمشين، الذين يُقصَون عن "الهبة".

25. عطشٍ روحيٍّ لا يُروى إلا بالصفاء الحقيقي،

وفي الجوانحِ قلبٌ هدّهُ ظمأٌ

لا يرتضي الماء إلاّ زمزماً عذِبا

يختتم المقطع بصورة رمزية تمثل التوق إلى نقاءٍ روحي ووطنيّ لا يتحقق إلا بعد التحرر من فساد القوى المهيمنة. "الظمأ" هو ظمأ العدالة، لا يُروى إلا بـ"زمزم" نقي ــ وهو إشارة إلى طُهرٍ ديني حقيقي، لا إلى ما يُنتَحل من قداسة في الخطابات الطائفية. بهذا المعنى، يصبح البيت رفضًا ضمنيًا لأي "ماءٍ ملوّث" بالفساد، مهما ادّعى الطهارة

26. المنفى الذي كان أكثر وطنًا من الوطن

"وفي المنافي حبيبٌ أنَّ مبتعداً

وترقص الروحُ جذلى كلما قربا"

في هذه الأبيات، يُقدّم الشاعر صورة مفارِقة: المنفى، على قسوته، يحمل بعض الدفء، وربما بعض الوفاء. فالوطن هنا يصبح كـ"حبيبٍ" بعيد، لا يُطفئ الشوق لكنه يُبقيه حيًا. الاقتراب منه (حتى ولو عبر الذاكرة أو المناجاة) يمنح الروح لحظة بهجة. بيد أن هذا "الحبيب" لم يعد كما كان، وقد بدأ في التحوّل من حالة وجدانية مشعّة إلى كيان فقد أصالته بسبب اغتصابه.

27. رحلة العودة التي لم تحقق الاستقرار

"كأننا في رحيل دائمٍ أبدا

يبقى فتانا يعيش العمر مغتربا"

البيت يُكثّف تيمة الاغتراب الداخلي. لم يكن المنفى الحقيقي خارج الوطن فحسب، بل داخله أيضًا. فحتى بعد العودة، لا يجد الشاعر في الوطن مستقرًا، بل يعيش شعورًا دائمًا بالتيه، وكأن الوطن لم يعد مكانًا للاحتضان، بل صار امتدادًا للمنفى، أو أسوأ منه: منفى ملوّث بالخذلان.

28. ضياع الهوية في وطنٍ مغتصب

"لا مستقر له في أرضه وطرا

يضيع كالتائهِ الولهان مضطربا"

هذا البيت يُعبّر عن أقسى صور الغربة: أن تكون داخل الوطن، ولكن بلا مكان. الغربة لم تعد جغرافية، بل تحوّلت إلى فقدان الهوية والانتماء في وطن مسلوب الإرادة. الشاعر هنا يتقمص مشهد "الولهان" – الإنسان المتعلق عاطفيًا بمكان أو شخص، لكنه لا يستطيع أن يجد فيه راحة أو استقرارًا، لأنه بات مكانًا لا يُشبهه، ولا يعترف به.

29. الاضطراب الناجم عن الأعاصير السياسية والاجتماعية

"يا لَلأعاصير تعرونا وترعدنا

وتأخذ الصبرَ منا غيلةً نهَبا"

الأعاصير هنا ليست مجرد استعارة طبيعية، بل تُشير إلى الاضطرابات التي تعصف بالمجتمع والوطن: تقلبات الحكم، صعود قوى طائفية، وفساد ممنهج يسرق حتى صبر الناس. فالكارثة ليست في الظروف، بل في أنها تحدث "غيلة" – أي خيانةً وغدرًا، بما يؤكد أن الخطر يأتي من الداخل، من أهل الوطن أنفسهم، ممن تحوّلوا إلى وكلاء للنهب باسم الدين والطائفة.

30. العودة إلى الطفولة كملاذ داخلي

"تؤرجح الريحُ أحلامي وتحملني

إلى الطفولةِ أُملي سوحَها لعِبا"

أمام هذا الخراب، لم يجد الشاعر سوى أن ينكفئ على ذاته وذكرياته. الطفولة، بكل ما فيها من براءة ولعب وأمل، تبدو كآخر ما تبقّى من وطنٍ صافٍ ونقيّ. العودة إليها لا تمثّل حنينًا فحسب، بل بحثًا عن ملجأ أخير، عن نسخة من الوطن لم تلوّثها السلطة والطائفية والنهب.

31. استحضار لذّات الحياة في غروبها

"وتستبيحُ هزيعَ العمْرِ، آخرَهُ

تذيقني الشهْدَ والأطيابَ والرطَبا"

يبدأ الشاعر من لحظة ضياع الزمن الأخير، حيث "هزيع العمر" يشير إلى الأواخر الباهتة من الحياة، لكنه لا يستسلم، إذ تستولي عليه ذكرى الوطن (أو الحبيبة/الحياة) وتغمره بلذّات رمزية: الشهد، الأطياب، والرطَب. هذه المفردات لا تعكس فقط النعومة والطعم الحلو، بل تشير أيضًا إلى أصالة النخيل، رمز الأرض والانتماء. وكأن الشاعر يقول: رغم ما مضى من وجع، ما زال للوطن طعمٌ لا يُنسى.

الدلالة: الوطن هنا ليس مكانًا فقط، بل مصدر دائم للعطاء حتى في لحظات الأفول. الحلاوة باقية رغم مرارة الزمن.

32. تقلبات الحب كما الريح المتقلبة

"لكنها الريحُ مهوى حبِّها قلِقٌ

ترى رضاءً وحيناً تلمحُ الغضبا"

يواصل الشاعر تصوير وطنه أو معشوقته عبر استعارة "الريح"، التي تُمثّل حالتها النفسية، حيث يتأرجح الحب بين الرضا والغضب، الهدوء والعصف. إنها صورة لحالة وطن لا يستقر، وحبٍّ لا يُطمأن إليه.

الدلالة: يجسد البيت تناقض الوطن المتعب، الذي يهبّ أحيانًا كنسمة، وأحيانًا كعاصفة، وكأنّه لا يملك قرار عاطفته ولا مصيره.

33. إعادة تعريف البطولة والقيادة

"لا للدماء ولا للسيف يحكمنا

إنّ البطولة فيمن يُحْكمُ العصبا"

هنا يتحول الخطاب من الوجداني إلى السياسي-الأخلاقي؛ فيرفض الشاعر ثقافة الدم والعنف، ويؤسس لفكرة قيادة تقوم على الحكمة والتماسك لا القمع. "العَصَبا" رمزٌ للجماعة المتمسكة، والتاريخ الحيّ.

الدلالة: البطولة الحقيقية لا تنبع من السيوف، بل من القدرة على إدارة التناقضات وتحريك الوعي الجمعي بروح مسؤولة.

34. ضرورة استئصال الفساد

"دع العقاربَ تحبو في خرائبها

لكنْ عليكَ بأنْ تستأصلَ الذنَبا"

يوظف الشاعر استعارة "العقارب" لتصوير الفاسدين والضالين، الذين يتغذون على الخراب. لكنه لا يدعو للمواجهة المباشرة، بل للتطهير العميق، لـ"استئصال الذنب" لا ملاحقة العرض.

الدلالة: هذا البيت دعوة إصلاحية ذكية؛ فهو لا يضيع الجهد في مطاردة التفاهة، بل يشير إلى العلاج الجذري من الداخل.

35. إرهاقٌ نفسيٌّ وبلوغُ حافةِ الانكسار

"ملّ الكلامُ وغامَ الحزنُ في كبدي

حتى يئستُ، مللتُ اللومَ والعتبا"

في هذين البيتين، يصل الشاعر إلى ذروةٍ وجدانية تتجلّى في انهيارٍ داخليّ يناهز القَدْر النهائي للتعب النفسي. يظهر التعبير “ملّ الكلام” دلالة واضحة على استنفاد اللغة وقدرتها على البوح، حيث باتت الكلماتُ مجرّد أصواتٍ لا توازي ثقل الألم. أما “غمُّ الحزن في الكبدي”، فإنّه استعارةٌ تحيل القلبَ الموعود تقليديًّا بشؤون العاطفة إلى “الكبد”، بصفته مَقرَّ الألم الجمعية والعائلي في التراث الشعري العربي، ما يعمّق إدراكنا لجِسامة المخاض النفسي.

يتابع الشاعرُ “حتى يئستُ، مللتُ اللومَ والعتبا” ليؤكد أنّ فعلَ اللوم والعتب لم يعد يُنقذُه، بل كان سببًا في تجدد جراحه دون بلوغ حلٍّ. هنا، لا يعني اليأسُ التخلّي عن الأمل أو الإيمان كليًّا، بل يشير إلى مرحلةٍ قصوى من الإعياء تقتضي تجنُّب تكرار الاتكال على اللوم كوسيلةٍ للتنفيس. إنّ هذه الصياغة الأكاديمية تُبرز أن الشاعرَ لم يختر الانهيار الكامل، بل أعلن استنفاد أدوات الشكوى وانتقل إلى وضعٍ يُفترَض أن يفسح المجال أمام العمل الجذري أو التأمل البنّاء في سبيل استعادة الثقة والكرامة.

أولاً: البنية النصيّة في قصيدة "إنما الدنيا لمن وهبا"

الانزياح الدلالي والانفعالي والرموز البلاغية:

تتحرك القصيدة على عدة مستويات من الانزياح الدلالي والانفعالي، حيث لا تكتفي بمخاطبة الحس العاطفي، بل تُعيد ترتيب العلاقة بين اللغة والواقع، بين ما يُقال وما يُقصد. فالشاعر يُعيد صياغة واقعٍ ممزقٍ تحت غطاءٍ من الشعر الرصين، عبر أدوات بلاغية دقيقة تسخر من الخطابات الدينية والسياسية المهيمنة.

-  زمنيًا، يقارن الشاعر بين ماضٍ مشرقٍ يرمز إلى قيم البطولة والكرم، وبين حاضرٍ مهزوم يتسم بالفوضى واستلاب القيم.

-   دينيًا، تتحول الرموز المقدسة إلى أدوات للنهب والتسلط، ويكشف العنوان نفسه "إنّما الدنيا لِمن وَهَبا" عن انزياح ساخر من خطاب الورع الزائف الذي يمنح الامتيازات باسم الدين.

-  عاطفيًا، تتجلى اللوعة من خلال تحول مفردات الحب إلى مفردات موت وذبول: فـ"الحبيب رماد" و"الهوى خشب"، مما يعكس تصحرًا وجدانيًا يطال الفرد والوطن معًا

-  لغويًا، تتحوّل اللغة من أداة وصفٍ إلى أداة مقاومة ونقد داخلي، تعري الزيف السياسي والديني، وتنقل الألم الجمعي بلغة فردية مكثفة.

في امتداد هذا البناء، يوظف الشاعر عددًا من الرموز البلاغية التي تعمق المضمون السياسي والوجداني:

-  الموت كأخ والدموع كأب: تجسيد للمأساة بوصفها جزءًا من النسب العراقي، وكأن الحزن صار قدرًا وراثيًا.

-  بغداد ككائن حيّ: رمز للاستمرارية رغم الخراب، مدينة "تنزف" لكنها "تضيء"، ما يعكس تمسكًا بالأمل في جوهرها التاريخي.

-  الجمرة في كفّ اليد: استعارة قوية للمسؤولية الأخلاقية تجاه الوطن، حيث تُحتضن المعاناة بوصفها شرفًا لا يُلقى جانبًا.

هذه الانزياحات والرموز تُنتج بعدًا شعريًا مركبًا: احتجاجيًا ووجدانيًا، يعكس وعيًا نقديًا يتجاوز الأسى الفردي نحو خطابٍ   اجتماعي وسياسي صريح.

ثانيًا: البنية الموضوعاتية:

في توازٍ مع البنية البلاغية، تتسم البنية الموضوعاتية للقصيدة بثنائية حادة بين الحنين والخذلان، الانتماء والاغتراب، حيث يبدو الوطن كمساحة متناقضة، كان في الذاكرة موطنًا للمجد، وأصبح اليوم كيانًا مغتربًا مسلوب الهوية.

-  المنفى لا ينتهي بعودة الشاعر إلى الوطن؛ بل يتحول الوطن ذاته إلى منفى داخلي.

-  يتهم الشاعر قوى دينية طائفية وأجنبية ـ وعلى رأسها إيران ـ بأنها هيمنت على القرار السياسي وساهمت في تفكيك الهوية الوطنية.

-  يخرج النص بذلك من إطار الرثاء التقليدي ليدخل في بنية احتجاج صريحة، تُحمّل السلطة مسؤولية نفي المواطن عن تاريخه وجذوره، و تفضح استغلال المقدس لتبرير الهيمنة.

البعد الرمزي والديني:

أما البعد الرمزي والديني فيظهر في استثمار القصيدة لرموز ذات تأثير صوفي وديني، ليس لتعزيز قيمة المقدّس، بل بغرض تفكيك عمليات استغلاله. تلك الهبات الإلهية تحولت في النص إلى منح سلطوية زائفة تُفرغ الدين من قيمته الإنسانية وتجعل منه وسيلةً للتسلط والهيمنة. يتجلى هذا التناقض في استخدام البلاغة بشكل حاذق، حيث يُستخدم العنوان كنافذة لقراءة العلاقة بين الديني والسياسي، لتتحول ثروات البلاد من رمز للعطاء إلى أداة للسلب والنفوذ.

الوظيفة الخطابية:

من زاوية الوظيفة الخطابية، تمضي القصيدة بعيداً عن كونها مجرد مرثية عاطفية، لتمارس دوراً استنهاضياً يعيد تقييم الواقع. إنها أكثر من مجرد صرخة ألم، بل هي دعوة للمجتمع إلى رفض الهبوط والتحلل، مستعيدة رموزاً من التراث العراقي البطولي بغرض مواجهة التشويه الذي أصاب الهوية وتجديد الارتباط بها.

الخاتمة الدلالية للقصيدة

تنتهي القصيدة بما يمكن أن يُوصف بدلالة سوداوية تكشف عمق الخراب المنتشر في كافة المستويات: السياسية منها والروحية والعقلية وحتى في الخيال الجمعي. ورغم هذا الجو الكئيب، لا تخلو النصوص من بصيص أمل خفي يشير إلى إمكانية استعادة صورة الوطن النقية عبر مقاومة رمزية مستمرة تسعى لتجاوز حالة الانكسار.

البُعد السياسي والاجتماعي في القصيدة

البعد السياسي والاجتماعي يظهر بوضوح في قصيدة "إنما الدنيا لمن وهبا"، حيث يقدم الشاعر صرخة نقدية تعبّر عن تحول العراق من رمز للمجد والكرامة إلى ساحة تفككت فيها القيم، وأصبح الفساد ومصالحه هو المحرك الرئيسي. تبدأ القصيدة باستدعاء أمجاد الماضي العظيم، ليس بغرض استجلاب الحنين فقط، بل لتسليط الضوء على التحولات الجذرية التي طالت الهوية الوطنية، حينما تحولت أدوات الخطاب الديني والسياسي إلى غطاء لمؤامرات قائمة على التواطؤ والاستبداد. هذه المؤامرات أفضت إلى تحالفات ظلامية، يمثّلها الشاعر برمز "إبليس وزمرته"، التي بسطت سيطرتها على المجتمع

على الصعيد الاجتماعي، ترسم الأبيات مشهدًا لواقعٍ هشّ تتضارب فيه معاناة الفقر والجوع مع حياة مترفة مغموسة في الفراغ واللهو العبثي. الوطن، كما يصوره الشاعر، بات فضاءً للتنافر، حيث يعاني البعض تحت وطأة البحث عن لقمة العيش، بينما آخرون يستغلون النفوذ في تعزيز مواقعهم. وبين الألم الفردي والوعي الجمعي، تتحول القصيدة إلى نداء عاجل لإعادة تعريف الوطنية على أسس تقوم على العدالة الاجتماعية والقيم الأخلاقية، بعيدًا عن الولاءات الضيقة والخطابات الطائفية.

بهذا الطرح، لا تكتفي القصيدة بكونها مجرد رثاء تقليدي للماضي، بل تقدم منهجًا احتجاجيًا يدعو إلى استرداد الوطنية الحقيقية، باعتبارها إحياءً للقيم النبيلة وإعادة بناء الثقة التي لطالما شكلت العمود الفقري لتاريخ العراق المشرق.

خاتمة

في ضوء التحليل السيميائي والقراءة البنيوية-السياقية، تتجلى قصيدة "إنما الدنيا لمن وهبا" كعمل شعري احتجاجي يعمق الوعي الوطني ويكشف عن أبعاده المتشابكة. ترتكز الدراسة على محاور أساسية تمثل نواة قراءة مركبة:

التفكيك السياسي:

تُظهر الأبيات الشعرية مدى انتشار الخداع والفساد في المجال العام، حيث تقدم رؤية نقدية لكيف تحولت فكرة المشروع الوطني إلى حلبة لصراعات طبقية وطائفية. يتمكن الشاعر من فضح آليات السيطرة والاستحواذ على السلطة التي شوهت معاني العدالة والنزاهة.

البعد البلاغي:

يعتمد النص الأدبي على مجموعة من الأدوات البلاغية الحية مثل التشخيص (الموت أخ، والدموع أب) والمفارقات (حلاوة مرة في حصرم الآلام)، إذ تتحول هذه الأساليب الإبداعية إلى وسيلة تعبير مركزة، تجعل الوطن في النص يبدو كحبيب متألم، مستحضرةً أعمق مشاعر الفقد عبر لغة تجمع بين البساطة والقوة التأثيرية.

الانزياح الانفعالي:

يرتكز العمل الشعري على مفارقة زمنية بين مجد حضاري سابق وانهيار حاد في الحاضر. يسعى الشاعر إلى دمج تجربة الرحلة المكانية مع المشاعر الداخلية عبر أسلوب سردي يجمع بين "شعر السير" و"شعر الغناء الحزين"، مما يضفي على النص بُعدًا وجدانيًا يمزج الألم الفردي بالحس الجماعي.

من خلال هذه المفاهيم، تتخطى القصيدة حدود توثيق التراجع الوطني لتصبح نموذجًا شعريًا يسعى للتغيير الجذري. لا يقتصر دور النص على الرصد، بل يقدم دعوة صريحة لتفكيك بنى السلطة التقليدية وإحياء القيم الثقافية والحضارية، مما يذكر القارئ بقوة الكلمة الشعرية كأداة لإعادة تشكيل الوعي الجمعي

في الختام، تفتح هذه الدراسة أفقًا جديدًا للتساؤل النقدي:

كيف يمكن للغة الشعر أن تسهم في بلورة مشروع وطني جديد يتجاوز أزمات الماضي، ويخلق توازنًا مرنًا بين البناء الثقافي والاعتزاز بالانتماء؟

***

سهيل الزهاوي – أديب وناقد

 

للشاعرة "رنا محمود الفتيان" أنموذجاً

إن قصيدة النثر أو الشعر المنثور هي قطعة نثر، غير موزونة، وتأتي القافية فيها في مناطق مختلفة من الابيات وأحياناً تكون غير مقفاه، تحمل صورًا ومعانٍ شاعريّة، أغلبها يشكل موضوعاً واحداً.

ويمكننا القول أيضاً إنّ قصيدة النثر، هي ذلك الشكل الفنيّ الذي يسعى إلى التخلّص من قيود نظام العروض في الشعر العربيّ، والتحرّر من الالتزام بالقواعد الموروثة من القصائد التقليديّة، وبناءً على ذلك، فقد عرفّها بعض الأدباء بأنّها عبارة عن نصّ تهجيني يمتاز بانفتاحه على الشعر والسرد والنثر الفني، ويتسم بافتقاره للبنية الصوتيّة ذات التنظيم، إلا أنّ له إيقاعاً داخليّاً منفرداً بعدم انتظامه.

لقد ظهر مصطلح ما يُسمّى بقصيدة النثر، في عام 1954م،  وتزامن ذلك مع صدور المجموعة الشعريّة للشاعر الفلسطيني "توفيق صايغ" تحت مسمّى "ثلاثون قصيدة"، وكان روّاد هذه الحركة هم أربعة عشر شاعراً من أبرزهم" محمد الماغوط، وأنسي الحاج، وأدونيس، وتوفيق الصايغ" الذين أصدروا مجلة "شعر".

إلا أن مصطلح قصيدة النثر، راح يتبلور أكثر عام 1960م، وعرف بأنه جنس فني جيء به لاستكشاف القيم الشعريّة الموجودة في لغة النثر، ولغايات إيجاد مناخ مناسب للتعبير عن التجارب والمعاناة التي يواجهها الشاعر، حيث يلجأ إلى تضمين قصيدته صوراً شعريّة عريضة تتسم بالكثافة والشفافيّة معاً، وتكمن أهميتها في حرصها على تعويض انعدام الوزني الموجود في القصائد التقليديّة بالصور والايحاء والاشارة.

ومن أهم خصائص قصيدة النثر، 1- خلوّها من الوزن والقافية. 2- وتحررّها من الأنماط التفكيريّة، وما يرتبط بها من قوانين وأحكام. 3- أي أنّها تكتب وفقاً للفكر الخاص بالشاعر. 4- هذا ويسود السكون نهايات الجمل والسطور والمقاطع في قصيدة النثر5- وبالتالي إمكانية قراءة مفردات القصيدة الداخليّة دون الالتزام بالحركات، أي تعميم السكون على كامل القصيدة. 6- كما يتجلى الغموض في القصيدة وصعوبة الفهم والتفسير بشكل مطلق. وبالتالي هي مفتوحة الدلالات أمام المتلقي، لذلك وصفت بإسفنجيّة البناء والتركيب.

بين يدينا الآن قصيدة نثر للشاعرة " رنا محمود الفتيان" بعنوان (قليلون جداً).

ورنا محمود شاعرة اهتمت في كل دواوينها بقصيدة النثر، وهي روائية وفنانة تشكيليّة وكاتبة مسرحيّة، من سورية، عضو اتحاد الفنانين، مواليد دمشق، تقيم حاليّاً في اللاذقيّة.

صدر لها: عدد من المجموعات  الشعريّة" نثر" بعنوان:

1-  /صرخة أنثى/.

2- / الأرض بعض ظلي/.

3- / سر نبوأتي/

4- / حين ترسمني القصيدة/ .

5- / الروناليزا/.

6- / ما بعد السر/..

7- رواية : / سقوط الجمرة الأخيرة/.

8- مسرحيّة مونودراما قيد الطباعة/، وأجري معها عشرات اللقاءات  والحوارات في سورية والعالم العربي.

البنية الدلاليّة للقصيدة:

إن ما يميز قصيدة النثر في الشعر الحديث، هو أن الشاعر الحداثي يمارس حريته في القول - كما أشرنا عند حديثنا في المدخل - بعيدًا عن أي سلطة خارجيّة تُملي عليه طريقة الكتابة والتعبير، سواء كانت سلطة المجتمع أو الدين أو اللغة أو التراث، لتخرج لنا تجارب ملهمة عبر التجريب الشعري الذي يصنع هويّة جديدة للشعر، حيث تصبح القصيدة مفتوحة على كل الاحتمالات، ومن ثم يصبح الشعر مفتوحًا للمتلقي على التأويل والتفسير والقراءة.

وبناء على ذلك جاءت قصيدة "قليلون جداً" للشاعرة "رنا محمود" مفتوحةً في دلالاتها، رغم أنها تعالج قضيّة اجتماعيّة على درجة عالية من الأهميّة، وهي معاناة الشعب السوري بسبب الحرب الداخليّة والحصار الذين فرضا عليه خلال سنوات طويلة.

سنين طويلة من القهر والحزن والعذاب مر بها الوطن وأهله في سورية، حتى أصبحت معاناتهم سيرة حياة، لم تعد تلق عند من يعرفها ذاك الاهتمام والتعاطف، إلا عند نفر قليل ممن ظلت قلوبهم وعقولهم مشبعة بالهم الوطني والإنساني، وهذا ما شكّل موقف عتابٍ عند الشاعرة اتجاه لتلك الكثرة من الناس غير المبالين باللهم الإنساني ... نعم قليلون هم الذين يستطيعون الوقوف ولو قليلاً ليعرفوا من نحن؟.. وما هي أسباب جروحنا النازفة؟.. وتلك الدمعة الحرّة الراعشة في العين؟.. أو تلك النبضة الموجعة في القلب؟... تقول الشاعرة "رنا"

قليلون جداً...

أولئك الذين يستطيعون

التوغل

إلى أدغال أرواحنا

يقفون على حقيقة

من نكون؟.

ربما يمرون

من تلك الدمعة الراعشة

في العين

والنبضة الموجعة

في القلب.

من يستطيع الوقوف

على آهاتنا

في ذروة جمرها وحرقة

شهدها النازف في

أعماقنا ؟.

لقد أصبح  حرف الشاعرة "رنا"  جرحاً يسيل دموعاً، ودماءً حارة... أصبح حرف الشاعرة جرحاً تحول إلى وطن، لم تعد حتى طيوره ترغب العيش فيه، وقررت الهجرة بعيداً، شأنها شأن الأيائل التي قررت هي أيضاً الفرار إلى قمم الجبال هرباً من الموت والقتل على الهويّة. تقول "رنا" :

حرفي هو ذا الجرح

الذي يسيل دموعاً

ودماءً حارة

ليصبح وطن الطيور

المهاجرة

والأيائل المنتشرة على

الهضاب.

من يستطيع الوقوف

على آهاتنا

في ذروة جمرها وحرقة

شهدها النازف في

أعماقنا ؟.

قليلون جداً

من يستطيعون النظر

إلى أوجاعنا الحارقة....

نعم قليلون هم أولئك الذين وقفوا معنا في مأساتنا ولم يسقطوا في الجهالة واللامبالاة لما أصابنا. ولهؤلاء تمنح الشاعرة صورتها لكل من شعر بمأساتها.. وها هي قصيدتها الجارحة تهب رنيمها .. مفاتنها، التي تكشفت من شدّة الألم لكل عصفور رفرف بجناحيه فرحاً بأغنيتها الحزينة أو أناشيد نزفها العنيد الذي تحول إلى جسر من الأحزان يقطعه العابرون ليصلوا إلى ضفة الفرح عاشقين صاعدين إلى الحياة. حيث تقول:

أمنح صوتي كل طير

عابر في دمي

هذي أنا

جسر من الأحزان

يقطعه العابرون ليصلوا

إلى ضفة الفرح

عاشقين

صاعدين

إلى الحياة.

البنية الفنيّة في القصيدة:

الصورة في النص الشعري:

بما أن القصيدة النثريّة تنفر من القوالب الشعريّة المحفوظة والمتكررة في الشعر التقليدي، لذلك اعتمدت كثيراً على الصورة الشعريّة بشكل يمنح الأشياءَ طاقاتٍ جماليةً تساهم في نقل التجربة الشعريّة من الوصف السردي المجرد، إلى بناء علاقات مجازية مبتكرة عبر اللغة والتخييل. فالصورة الشعريّة في قصيدة النثر تلعب دورًاً أساسيًّاً في تكوين المعنى والبعد الجمالي في القصيدة، حيث تعتمد قصيدة النثر على الصور الشعريّة المتخيلة لخلق إيحاءات وتأثيرات معينة. ففي قصيدة النثر، تعتمد الصورة الشعريّة على السمات الشعريّة الدلاليّة وليست الصوتيّة، مما يتيح للشاعر استخدام مجموعة متنوعة من الصور البلاغيّة لخلق جو شعري خاص. كما أن الصورة الشعريّة هي التي تعبر عن تجربة الشاعر الداخليّة وعواطفه وأفكاره، مما يتيح للقارئ فهمًا أعمق لموضوع القصيدة، ويشارك في تجربة الشاعر بشكل مباشر، وهذا ما يخلق رابطةً بين الشاعر والقارئ. تقول رنا:

(أولئك الذين يستطيعون التوغل إلى أدغال أرواحنا).. (ربما يمرون من تلك الدمعة الراعشة في العين). (من يستطيع الوقوف على آهاتنا في ذروة جمرها وحرقة شهدها النازف في  أعماقنا). (حرفي هو ذا الجرح  الذي يسيل دموعاً ودماءً حارة).

إن المتابع للخطاب السردي في القصيدة، يجد أن القصيدة في معظمها قد اتكأت على الصورة بكل أشكالها الحسيّة منها والتخيليّة من جهة، أو في نسيجها البلاغي القائم على التشبيه والاستعارة والكناية والانزياحات اللغويّة، والتعبير المجازي من جهة ثانية.

اللغة في القصيدة:

لقد جاءت اللغة في القصيدة سهلةً، واضحةً، سمحةً، ناصعةً، وفصيحة، ومسبوكة الألفاظ، منسجمة مع بعضها في بنية القصيدة وخالية من البشاعة. فجودة السبك وبراعة صياغته وتسلسل عبارته وتخير ألفاظه وإصابتها لمعناها، كانت وراء سر فن التعبير في هذا النص الشعري.

التكرار في الشعر:

إن ورود التكرار في النص عند الشاعر يشير إلى محتوى معين يريد إظهاره والتأكيد عليه. فهو الحاح على فكرة هامة من النص الشعري يعني بها الشاعر أكثر من عنايته بسواها، وهو بذلك ذو دلالة نفسيّة قيمة، كما يعد التكرار أحد العوامل التي ترتبط بالقدرة على الفهم، فالفهم يكون أسرع في حالة استخدام التكرار وخاصة في القصيدة الحديثة، والتكرار هو أحد مفردات الإيقاع بجميع صوره، قد نجده بالقافيّة، أو في تكرا الحرف أو الكلمة أو العبارة أو الصورة، وله دور جمالي في النص مثل كل الأساليب البلاغيّة الأخرى، بشرط أن يأتي التكرار في مكانه داخل بنية النص، كما هو الحال في قصيدة" قليلون جداً)

(قليلون جداً... أولئك الذين يستطيعون التوغل إلى أدغال أرواحنا ويقفون على حقيقة من نكون؟.).( قليلون جداً من يستطيعون النظر إلى أوجاعنا الحارقة.). (قليلون جداً من وقفوا على شجر الورد ولم يسقطوا في الظلال....). هذا مع تكرا الكثير من المفردات التي تعبر عن الألم والقهر مثل ( جمرها – النزف – النازف – الجرح – دموعاً – ودماءً – المهاجرة – الجارحة – نزفي.. الأحزان ... الخ .).

ففي تكرا عبارة قليلون جداً، تحاول الشاعرة "رنا" التأكيد على غياب حس المسؤوليّة والإنسانيّة عند الكثير من الذين يشاهدون مسرحيّة قهر وظلم الشعب السوري. أما في تكرار المفردات التي تحمل دلالات القهر والظلم والدم والجراح.. فتريد الشاعرة التأكيد على عمق المشهد الدموي الذي يعيشه هذا الشعب أيضاً.

الرمز والايحاء والاشارة في القصيدة:

إن توظيف الرمز في القصيدة الحديثة سمة مشتركة بين غالبية الشعراء على مستويات متفاوتة، مع تنوع عمق سيطرة الرمز والايحاء على لغة القصيدة الحديثة وتراكيبها وصورها وبنياتها المختلفة، فالرمز بشتى صوره المجازيّة والبلاغيّة والإيحائيّة هو تعميق للمعنى الشعري، ومصدر للإدهاش والتأثير وتجسيد لجماليات التشكيل الشعري.

إن ما يميز القصيدة النثريّة بشكل خاص، هو اعتمادها على الرمز والاشارة وأبنية المجاز. فهي لا تطمح كثيرا على إبراز الوجدانيات والعواطف كثيراً في بنيتها، بقدر ما تطمح إلى   التعبير عن نوع من فهم الواقع نفسه. دون إعلاء حالات جدانيّة أو عاطفيّة أو غنائيّة صاخبة. وبذلك عملت الشعريّة في قصيدة النثر على نقل الواقع إلى آفاق تجارب شعريّة جديدة دمجت العالم داخلها ومنحته طاقة جماليّة عبر أبنية المجاز والرمز والإشارة. فالرمز بشتى صوره المجازيّة والبلاغيّة والإيحائيّة يهدف إلى تعميق المعنى الشعري، وجعله مصدراً للإدهاش والتأثير وتجسيد لجماليات التشكيل الشعري ذاته.. تقول الشاعرة "رنا محمود":

(قليلون جداً...أولئك الذين يستطيعون التوغل إلى أدغال أرواحنا ويقفون على حقيقة من نكون؟.).. فهنا نجد ايحاءً يريد القول بأن أكثر الناس لم يعودوا يهتموا بمأساتنا. (من يستطيع الوقوف

على آهاتنا في ذروة جمرها وحرقة شهدها النازف في أعماقنا)... هنا إشارة إيحائية تريد القول: لقد عجز الكثير ممن يتابع مأساتنا أن يقف إلى جانبنا ويساعدنا للخروج منها... (حرفي هو ذا الجرح  الذي يسيل دموعاً ودماءً حارة ليصبح وطن الطيور  المهاجرة)..

فحرف الشاعرة "رنا محمود" هنا (رمز) يشير إلى أن بلادي التي تعتبر مهد الحرف، ها هم أهلها يتركون البلد ويهاجرون في أصقاع العالم هرباً من الموت والتخلف والجهل...( هذي أنا جسر من الأحزان يقطعه العابرون ليصلوا إلى ضفة الفرح عاشقين صاعدين إلى الحياة.).. ها هنا إشارة مجازيّة تريد الشاعرة أن تقول من خلالها بأن الحزن بكل عمقه لا بد أن ينتهي ويتحول أخيراً إلى جسر يقطعه العابرون المتعبون، ليصلوا إلى ضفة الفرح أخيرا بعد كل ما لاقوه من عناء ومعاناة، وليمارسوا حبهم وعشقهم وهم يضعون أمامهم بناء حياة جديدة خالية من القهر والحروب والجوع والهجرة.

الغموض في القصيدة:

إن ما يميز القصيدة النثريّة هو الغموض، والسبب في ذلك برأيي، هو أن الشاعر يلجأ كثيراً إلى الصورة التخيليّة في التعبير وهذا ما يمنح القصيدة إيقاعاً داخليّاً يعوضها عن الوزن والقافية، وأن التوجه نحو الصورة يوقع الشاعر بالاعتماد على المجاز والتخيل، وهذا التوجه يُفقد كثيراً ارتباط القصيدة بالواقع. من هنا جاء الغموض واضحا في قصيدة "قليلون جداً". إن بنية القصيدة كما بينا عند حيثنا عن الصورة الشعريّة جاءت مشبعة بالصور الحسيّة منها والمجازيّة، وكأن القصيدة لوحة من فن الكولاج، وهو الفن الذي لا يهتم بترابط مكونات اللوحة، بقدر ما يقوم بلصق صور إلى جانب بعضها ليجعل المتلقي يلهث وراء دلالات اللوحة، بالرغم من أنها تشير إلى هدف عام، ولكن يظل المتلقي من خلال ثقافته واهتماماته هو المعني بمعرفة هذا الهدف.

تقول الشاعرة:

إمنح رنيمك

لكل عين

كانت تريق دمعها

على عتبات روحك

ولكل من احتمل نارك

وأنا أغني موالي الحزين

بين شلال دمي

وانطلاق العصافير منه.

هنا يكمن الغموض من تداخل المعاني ولصقها ببعض ولا أقول ترابطها. لقد اختلطت دلالات العين التي تريق دعها... مع عتبات الروح ... واحتمال النار ... وغناء الموال... وشلال الدم.. وانطلاق العصافير.

***

د. عدنان عويّد - كاتب وباحث وناقد من سوريا

.............................

قليلون جداً / رنا محمود

قليلون جداً...

أولئك الذين يستطيعون

التوغل

إلى أدغال أرواحنا

يقفون على حقيقة

من نكون؟.

ربما يمرون

من تلك الدمعة الراعشة

في العين

والنبضة الموجعة

في العقل؟.

من يستطيع الوقوف

على آهاتنا

في ذروة جمرها وحرقة

شهدها النازف في

أعماقنا

قليلون جداً

من يستطيعون النظر

إلى أوجاعنا الحارقة....

حرفي هو ذا الجرح

الذي يسيل دموعاً

ودماءً حارة

ليصبح وطن الطيور

المهاجرة

والأيائل المنتشرة على

الهضاب

قليلون جداً

من وقفوا على شجر

الورد

ولم يسقطوا في الظلال....

إنني اليوم.

أمنح صوتي كل طير

عابر في دمي

فها هي قصيدتي الجارحة

تهب مفاتنها

لكل عصفور

رفرف بجناحيه

فرحا بأغنيتي

بأناشيد نزفي العنيد

إمنح رنيمك

لكل عين

كانت تريق دمعها

على عتبات روحك

ولكل من احتمل نارك

وأنا أغني موالي الحزين

بين شلال دمي

وانطلاق العصافير منه

هذي أنا

جسر من الأحزان

يقطعه العابرون ليصلوا

إلى ضفة الفرح

عاشقين

صاعدين

إلى الحياة.

روناليزا.

جذور ورمال، وحكاية قبيلة عبر الأجيال

يستخدم الأديب قاسم توفيق خيوط سرد محكمة؛ لينسج عالم روايته "أولاد جلوة"، الصّادرة عن "الآن ناشرون وموزّعون"، في مئة وواحدة وثمانين صفحة من القطع المتوسّط.

في رحاب هذا المقال، سنبحر معا في أعماق رواية "أولاد جلوة"، محلّلين خباياها ودلالاتها المتشابكة، نتجوّل بين صفحاتها؛ لنستكشف كيف تتجذّر الحكايات في ثرى التّاريخ، وتتجسّد مآسي الأجيال في سطور نابضة، نتأمّل في تقاطعات الأصوات الّتي تشكّل النسيج الرّوائيّ، وتبرز عمق الفكر وسمو القلم في مقاربة القضايا الإنسانيّة.

يستهلّ السّارد هذا العمل بنبرة حزينة مؤثّرة، في رسالة خطّها رجل يترقّب الموت قتلا، ثأرا من قبيلته المسمّاة بالهذّاعيّين، وذلك لقتلهم فردا من قبيلة "الجوازيّة" الّتي تسعى للانتقام بإجلائهم عن ديارهم وقتل رجالهم.

كان ذلك في الخامس من تمّوز عام ألفين وخمسة، معلنا ذلك الرّجل بوعي حاضر لما يحيط به، وعلى الرّغم من ذلك، لم يعد هاجس الخوف يأسره؛ ليجد نفسه متحرّرا من قيود الهلع وسلطان الفزع، متفكّرا في إنجاز فعل يليق بمقام رجل يودّع الحياة، فكتب في الصّفحة التّاسعة: "َلا سبيل لقتل الوقت لحين أن أقتل سوى الكتابة.. امتطيت مخيّلتي وجبت عوالمي إلى أن وقفت بها عند يومي الأخير".

ينتقل بالحديث إلى صديق افتراضيّ عثر عليه صدفة على "فيسبوك"، مدوّنا في مقدّمة صفحته هذه العبارة (ص7): "الكتابة محاولة لمواجهة العالم، عندما تتهاوى الأرواح في جحيم العبث".

أثارت هذه العبارة اهتمامه فكتب لهذا الصّديق الافتراضيّ(ص7): " لفتني منشور لك عن جدوى الكتابة، استوقفتني كلماتك وأنا المتعجّل، فقرّرت أن أكتب لك هذه الرّسالة، وأرسل معها روايتي الأولى والأخيرة، كتبتها قبل زمن ولم أحظ بناشر لها، لذلك.. تركتها وبقيت أنتظر وأنا آمل أن تصل ولو لقارئ واحد، حتّى يشاركني عزلتي".

ثمّ قرّر أن يكتب رسالة أخرى إلى حبيبته، وهي من قبيلة "الجوازيّة"، مسطّرا كلماته بعمق مشاعره.. فكتب (ص180): "كيف فاتنا أن نتذكّر أنّ العشق في شرقنا جريمة؟ حزين يا حبيبتي حدّ الموت، أكتب لك وأنا أعرف أنّه لا سبيل يوصلني إليك.. حسمت أمري ولم أطأطئ رأسي.. وليكن ما يكون".

التّصنيف النّقديّ:

هي رواية اجتماعيّة ذات خلفيّة تاريخيّة، فجوهرها الأساسيّ يكمن في استكشاف الدّيناميكيّات الاجتماعيّة والعلاقات الإنسانيّة والقضايا المجتمعيّة الّتي كانت سائدة في وقت ما. أمّا الأحداث التّاريخيّة فتلعب دور الخلفيّة أو السّياق الّذي تتفاعل ضمنه الشّخوص وتتطوّر الأحداث، إذ تنطلق بنا في غمار رحلة استطلاعيّة، تستجلي بدايات حقبة زمنيّة، تمتدّ جذورها من القرن الثّامن عشر الميلاديّ، وتتشابك فروعها حتّى مشارف القرن العشرين.

إنّها برهة تاريخيّة سمتها البارزة، إهمال أحاط بأرجاء المنطقة العربيّة وأكنافها، فأفضى ذلك إلى بزوغ الهيمنة القبليّة. وفي ثنايا السّرد، يغوص الكاتب في تحليل سمات تلك الحقبة وتفاعلاتها مع صيرورة الأحداث الاجتماعيّة والسّياسية المحيطة بالمكان الرّوائيّ، وهو الصّحراء الأردنيّة.

وبفضل مزجها الفنّيّ بين الأبعاد الاجتماعيّة والتّاريخيّة، تقدّم الرّواية تحليلا عميقا، فأحداثها التّاريخيّة ليست خلفيّة جامدة، بل هي نسيج حيّ تتكشّف من خلاله ظروف البادية بكلّ تعقيداتها، وهنا.. يتجاوز السّرد تسجيل الوقائع؛ ليغوص في تشريح الصّراعات بين الفرد والمجتمع في سياق زمنيّ ومكانيّ محدّد.

يتيح هذا التّداخل استقراء التّحوّلات المجتمعيّة، ويجسّد رؤية فنّيّة تعلي من شأن التّفاعل بين شخوص العمل وقضاياهم، فهذه الرّواية، هي جذور ورمال وحكاية قبيلة عبر الأجيال، إنّها سيرة للذّاكرة الجمعيّة، تحكي عن أرض تفاعلت معها الأقدام، وعن فكر يعيش في رأس العربيّ مهما صعدَ في مدارج الحداثة، ففي كلّ حرف نُحِتَ في جسد السّرد، تنبض أرواح عاشت ومضت، تعكس وجوهنا المتعدّدة وتظهر تجاعيد الزّمان على صفحات الأيّام.

العنوان.. مأساة اجتماعيّة وتداعيات النّفيّ القسريّ:

يكشف العنوان "أولاد جلوة" عن إشارة بالغة الدّلالة إلى ظاهرة اجتماعيّة قديمة، طالما استوطنت رحاب الدّيار العربيّة، وارتبطت ارتباطا وثيقا بجرائم القتل، حيث تجبر عائلة الجاني على مغادرة موطنها قسرا، اتّقاء من الثّأر المستعر في أفئدة أهل الضّحيّة.

كلمة "أولاد" بصيغة الجمع، تؤكّد أنّ الجلوة ليست حدثا فرديّا، بل تطال مصير أجيال. وإذ يحمل العنوان بعدا تاريخيّا واجتماعيّا، يذكّر بتقاليد قبليّة وتبعات فعل فرديّ يطال عائلات ويمتدّ لزمن، ويثير تساؤلات عن مصير الأبناء وحياتهم في المنفى القسريّ، وتأثير التّجربة على هويّتهم وانتمائهم، وظروفهم وتحدّيات حياتهم الجديدة.

يمكن قراءة العنوان أيضا؛ كرمز لانتماء مفقود وهويّة مهتزّة، يحمل أصحابها وصمة الجلوة، ويجدون صعوبة في الاندماج أو الحفاظ على صلاتهم بالماضي.

من هنا، فالعنوان موفّق وبليغ، يحمل شحنة عاطفيّة قويّة، ويشير بوضوح لقضية الرّواية، ويدعو للتعمّق في حكاية أولاد تلك الجلوة، وتداعياتها على حياتهم ومجتمعاتهم.

يذهب "باختين" إلى أنّ العلاقة بين الزّمان والمكان، تتجلّى بصورة مباشرة في صياغة مفهوم الشّخصيّة الرّوائيّة، الّتي تقوم في جوهرها على بعدين متضافرين، أحدهما مكانيّ والآخر زمانيّ، وبما أنّ هذه العناصر أساسيّة لاكتمال العمل، فقد غدا التّرابط والتّأثير المتبادل بينها ضرورة ملحّة.

مع ذلك، يتباين تجسيد المكان عن تجسيد الزّمن؛ ففي هذا العمل تقوم بينهما علاقة قطبيّة متنافرة، لما يعتريهما من تناقض؛ فالمكان ينشد الثّبات في الحاضر ويأبى التّغيير، بينما ينفر الزّمن من الجمود ويسعى الى التّجدّد.

يرسم لنا الكاتب صورة لذلك المكان، فيكتب عن مدينة "تعريس"، (ص21): "وكأنّها تكره أن تتبدّل، وتخاف من التّغيير".

يظهر هذا التّناقض في رسوخ النّزعة القبليّة في أعماق النّفس العربيّة، على الرّغم من تقادم العصر والزّمن ومرورهما، بل وحتّى بعد أن يكتسي المرء بحلّة المدنيّة، فالنّزعة القبليّة بجذورها الضّاربة في أعماق تكوينه، تستمرّ متأصّلة راسخة عصيّة على المحو، وإن تزيّن الظّاهر وتهذّب السّلوك، وكأنّها طيف يسكن اللّاوعيّ الجمعيّ، أو بصمة وراثيّة تتوارثها الأجيال.

سيرة قبيلة عربيّة:

تتشابك خيوط الأحداث منذ البواكير الأولى لنشأة مدينة "تعريس"، الّتي أرسى دعائمها زعيم قبليّ بدويّ، عرف ببطشه في الغزوات، وهو "محسد الأوّل"، وذلك في منتصف القرن التّاسع عشر.

كانت تلك الحقبة شاهدة على تحوّلات جذريّة اجتاحت المدينة، لاسيما مع وصول المستعمر الأوروبيّ عقب أفول الحكم العثمانيّ، مما جعل "تعريس" أول مدينة تقصف جوّا في مستهلّ العقد الثّاني من القرن العشرين.

يتتبّع السّرد تاريخ هذه البقعة، مشيرا إلى أنّها كانت المستقرّ الأوّل للشّيخ "محسد" الّذي تولّى قيادة القبيلة، وقضى هو وعشيرته حياة ترحال وتنقّل وبداوة، إلى أن قرّر الاستيطان في تلك البقعة الهادئة، واستمرّوا على هذا الحال حتّى وافاه الأجل، وظلّت عشيرته من بعده تكابد وحشة البداوة وشظف العيش.

لكن.. ما خفي على العيان أن "مليكة، أم هذّاع" آخر نساء الشّيخ محسد، هي من أوحت إليه بفكرة الاستقرار.

لقد كانت معشوقته ومن أكثر نسائه فتنة ودلالا، يستشيرها في جلّ الأمور فتستغلّه وتحكم سيطرتها عليه وعلى قبيلته، حتّى أنّ ولدها "هذّاع" لم يفرض عليه والده، ما كان يفرضه على إخوته الذّكور من تعلّم الرّماية وصهوة الخيل وضراوة القتال، مع ذلك.. فقد نشأ فارسا مغوارا.

هكذا.. وفي كنف العشيرة مارست مليكة؛ بحكم مكانتها الخاصّة من الشّيخ نفوذا خفيّا على قراراته. ظهر ذلك التّأثير السّلبيّ في اتّخاذ قرارات مجحفة بحقّ أفراد آخرين؛ كأولاده، أو على حساب وحدة العشيرة.

يقول الرّاوي (ص33): "الحقيقة الّتي لم يعرفها أحد، أن مليكة آخر زوجات الشّيخ، هي من صنعت تاريخ القبيلة".

المرأة والفكر الذّكوريّ:

تجسّد شخصيّة "مليكة" نموذجا لافتا للمرأة الّتي تستبطن منظومة ذكوريّة متصلّبة، وتعيد إنتاجها بوعي أو بدونه، موظّفة إيّاها لتعزيز نفوذها الذّاتيّ، وتحقيق مآرب شخصيّة على حساب تماسك مجتمعها وسلامته.

هذه الظّاهرة، وإن تجلّت في سياق البيئة البدويّة الّتي تدور فيها الأحداث، إلا أنّها تتجاوز حدود البادية؛ لتطلّ برأسها في مختلف أرجاء المجتمعات العربيّة، وإن تفاوتت حدّتها وتجليّاتها، ففي كلّ مكان قد نصادف من يستخدمنّ ذات الأدوات والأساليب الّتي تكرّس الهيمنة الذّكوريّة التّقليديّة لخدمة مصالحهنّ الخاصّة، ملحقات بذلك ضررا بالتّوازن الاجتماعيّ وتطوّر الوعيّ الجمعيّ.

يفضي هذا السّلوك إلى تأكلٍ خفيّ للنّسيج الاجتماعيّ، فبدلا من أن تكون المرأة قوّة دافعة للتّغيير والارتقاء، تتحوّل إلى عقبة في طريق التحرّر الفكريّ والمجتمعيّ.

هذا التّكريس للأنظمة البالية، حتّى لو كان بدافع شخصيّ، يعزّز من دورة القمع، مما يبقي المجتمعات أسيرة لأنماط سلوكيّة تقليديّة، تعيق تقدّمها وتُضعِف من قدرتها على مواجهة تحدّيات العصر.

بشكل عامّ، هي خسارة مزدوجة؛ للمرأة الّتي تفقد بوصلة دورها الحقيقيّ، وللمجتمع الّذي يُحرَم من إسهامات نسائه الخلّاقة في بناء مستقبل أكثر إنصافا وتقدّما.

صراع القبيلة والزّمن، سيرة تتجاوز الأفراد:

يتناول النّصّ مسار تحوّل النّفوذ من سلف إلى خلف، والوهن والتّشتت اللّذين يعتريان بنيان الحكم في القبيلة، ثمّ الانحدار المتدرّج الّذي يلمّ بها مع داء الثّأر، ويستعرض لوحات مفزعة لتلك الجلّوات المدويّة، وما يقترن بها من تهجير وتدمير مروّع للمنازل وحرق للدّيار بلا هوادة لأهل القاتل، وإزهاق للأرواح الزّكيّة الّتي لم ترتكب إثما، سوى انتمائها لرابطة الدّم والقرابة.

كما يتتبّع العمل سيرة رجل تقلّب بين شخصيّتين متعاقبتيّن، "محسدا" و "وقّاصا"، عبر حقبتين زمنيّتين، مشيرا بذلك إلى عمق الجذر القبليّ في صميم العربيّ، رسوخا يستعصي على تقادم العصور وارتقاء الحضارة؛ ليؤكّد على دوام ذلك المخزون الفكريّ؛ كطبع يوجّه الإدراك والفعل، ملامسا صراع الفرد مع سلطان الماضي.

إنّ شخصيّات "محسد الأوّل والثّاني"، "وقّاص"، "هذّاع"، "هجين" "مليكة"، و "رئبال".. وغيرهم، تتجسّد في سيرورة تاريخيّة متكرّرة الحلقات، حيث تبقى سلطة القبيلة بأشكالها المتنوّعة حاضرة، وإن تبدّلت الأسماء والوجوه، وهذا ما يكسو العمل بعدا رمزيّا يسمو فوق الحكاية الفرديّة؛ ليطاوع قضايا أشمل، تتعلّق بطبيعة مجتمعاتنا وموروثاتها الثّقافيّة والاجتماعيّة والفكريّة.

في الحقيقة، عندما يتصدّى الرّوائيّ لسيرة جمعيّة كحال "أولاد جلوة"، فإنّه يُقدِم على مغامرة سرديّة شائكة، تمثّل تحدّيا، فقد يقع العمل في فخ التّعميم، مضحيّا بخصوصيّة التّجربة الفرديّة الّتي تشكّل نسيج السّيرة الجمعيّة، لكن قاسم توفيق، أغلق كلّ منفذ كان يمكن أن يردي إلى ذلك، فقد حاك خيوط حكايات الأفراد بمهارة ضمن النّسيج العريض للقصّة الجمعيّة، محافظا على خصوصيّة كلّ روح، دون إمعان في التّفاصيل الزّائدة على حساب الخطّ السّرديّ الجامع.

يكتب (ص8): "ما سوف تقرؤه هو مسار حياة قصيرة وتاريخها على طولها، ليست سيرتي وحسب، إنّها سيرتك أيضا.. ألست عربيّا مثلي؟"

تقاطع الأصوات وتجاوز الزّمن:

يمزج هذا النّص السّرديّ بين صوتين، هما الرّاوي المطلق والشّاهد المتورّط في الأحداث، وهذا ما يضفي على المتن الرّوائيّ بعدا بنائيّا خاصّا، اذ يمتلك الرّاوي الأوّل وهو السّارد العليم، معرفة بالمجريات وبواطنها الخفيّة، ليطلعنا على ما غاب عنّا وما لم تدركه حواسّنا، مقدّما لنا رؤية للمجريات ودوافع الشّخصيات، بينما يمنح حضور الرّاوي الشّاهد للأحداث مسحة شخصيّة، لتقتصر نظرته على أفقه الذّاتيّ وتصوّراته، ليضفي بذلك على العمل نسيجا متكامل الأركان، وقد أسند النّص شهادة النّهاية إلى شخصيّة تنتمي الى العصر الرّاهن، الأمر الّذي يعدّ ابداعا يكسر التّتابع الزّمنيّ للأحداث، ويعيد تشكيل تصوّر المتلقّي للنّهاية، ويؤكّد على استمرار تأثير الماضي وامتداد جذوره في الواقع المعيش. وللدّلالات عمق، فإقحام هذه الشّخصيّة المعاصرة، هو إيماءة لفكرة رسوخ أثر الماضي في الحاضر مهما بلغ رقيَّه.

تظهير الرّواية، أغوار الذّات:

إنّ الماضي بتراثه الفكريّ، يظلّ حاضرا بقوّة في تكوين الوعي والسّلوك. من هذا المنطلق، خطّ الكاتب هذه الكلمات في الصّفحة السّادسة وعلى غلاف روايته الخلفيّ؛ ليشير بإيجاز إلى الفكرة المحوريّة الّتي تنساب في عروق السّرد، فكتب:

"وجودنا يا سيّدي شيء يشبه رمال الصّحراء، نراه عظيما عندما تسفّه الرّيح وتبعثره، نحسب أنّه يمضي إلى عوالم بعيدة، لا نقدر بما ملكنا من إبصار على إدراكه، لكنّه في الحقيقة لا يبرح موضعه. نحن البشر كحبّات الرّمل، متشابهون حدّ التّوحد، ذرّات متناهية الصّغر، تسفّنا الرّياح وتذرونا، فنوهم أنفسنا أنّنا نتحرّك، لكنّنا في الحقيقة ثابتون في مطارحنا".

يطالعنا هذا المقتطف برؤية وجوديّة، تتّسم بالأسى والتّأمّل في طبيعة الوجود الانسانيّ ومصيره، فيه تشبيه محكم يقرن وجودنا الهشّ برمال الصّحراء، تلك الكتلة الشّاسعة الّتي تبدو في عين النّاظر عظيمة، لكنّها سرعان ما تتلاشى وتتذرّى أمام عبث الرّيح العاتية.

هذا التّصوير يضع الإنسان في موضع الكائن الضّعيف، الّذي تكتنفه قوىً أكبر منه، تحرّكه وتبعثره دون حول منه ولا قوّة.

يعمّق هذا النّصّ الشعور بالعجز من خلال الإشارة إلى وهم الحركة الّذي نختبره في حياتنا، فنحن نتخيّل أنّنا نسير نحو عوالم بعيدة ومختلفة، لكنّ هذا التّصور، يصطدم بحقيقة ثابتة مفادها أنّنا لا نغادر مواضعنا الّتي قُدّرت لنا.

هذا القصور في الإدراك البشريّ، وعدم القدرة على استيعاب حقيقة الثّبات، يشير إلى محدوديّة وعينا.

يرسّخ النّصّ هذا المعنى عبر تشبيه ثانٍ أكثر مباشرة، فيقارننا بحبّات الرّمل المتناهية الصّغر، المتشابهة حدّ التّطابق.

هذا التّصوير الجماعيّ يلغي الفرديّة، ويذيب الذّوات في كتلة واحدة عرضة لعبث الرّياح، الّتي تسفّنا وتذرونا، وهي قوى الحياة والقدر، الّتي تحرّكنا وفق مشيئتها، بينما نوهم أنفسنا بحريّة الاختيار والتّحرّك المستقلّ.

يحمل هذا المقطع نبرة فلسفيّة وجوديّة قاتمة، تستبطن شعورا عميقا بالعبثيّة والضآلة أمام جبروت القوى الكونيّة او الاجتماعيّة أو التّاريخيّة.

العديد من الأدباء نهجوا في أعمالهم نهجا فلسفيّا وجوديا، مضمرين شعورا عميقا بالعبث والضآلة أمام قسوة الكون، من أبرز هؤلاء مثلا: "جون بول سارتر"، "ألبير كامو"، و"كافكا"، وغيرهم ممّن أثروا الأدب الوجوديّ والعبثيّ بنظرتهم حول وضع الإنسان في هذا العالم.

عيون على الصّحراء والبادية:

لقد أولى ثلّة من الباحثين اهتماما بالصّحراء مسجّلين بذلك إرثا معرفيّا يعين على فهم هذه الثّقافة مثل: "إمريس بيترز" الّذي درس أصول الإنسان وأغنى المكتبة برؤى معمّقة حول المجتمعات البدويّة.

برز أيضا رحّالة ومستشرقون تجشّموا صعاب التّرحال، تاركين لنا مدوّنات قيّمة عن نمط حياة البدو وعاداتهم وتقاليدهم من أمثال: "تشارلز دوتي" الّذي وثّق تجربته المعيشيّة في شمال الجزيرة العربيّة، وكذلك "فرَيا ستارك" الّتي استكشفت مناطق بدويّة متنوّعة في الشّرق الأوسط، وقدّمت وصفا حيّا لثقافتهم.

إنّ التّعمّق في هذه الكتابات يمكّن القارئ من استيعاب العادات والقيم البدويّة، واستكشاف الصّور النّمطيّة الّتي قد تكون سائدة حولهم. وبذلك، تصبح هذه الأعمال نافذة تطلّ على عالم الرّواية بعين أكثر فهما وعمقا.

التّاريخ ليس حقيقة مطلقة:

يشير السّرد إلى تحويل نسب الفضل في ازدهار المدينة وتطوّرها إلى هذّاع الابن بدلا من محسد الأب، حيث شهدت فترة حكم هذّاع إدخال التّعليم والهيكلة الإدارية، غير أنّ السّيَر الشّفويّة والمكتوبة، الّتي تمثّل الحقيقة لتأسيس تاريخ القبيلة، لا تشير الى الدّور المحوريّ للمرأة في تأسيس القبيلة، والمدينة الّتي عرفت الازدهار ثمّ الانهيار. وعلى الرّغم من أنّ السِّيَر تعدّ المصدر الأساسيّ للوصول إلى الأحداث التّاريخيّة، إلّا أنّها تتجاهل الإشارة إلى بصمات "مليكة" في البناء، حتّى لو فاقت بدهائها وإسهاماتها من حولها.

هذا الإغفال لا يقتصر على شخصيّة واحدة، بل هو تجسيد لنمط تاريخيّ أوسع، حيث غالبا ما يتمّ تهميش أدوار النّساء الفاعلة في السّرديّات الرّسميّة، ليُطمَس بذلك جزء أساسيّ من الحقيقة التّاريخيّة، ويفقد القارئ فهما شاملا لتعقيدات الماضي وتأثيراته.

من هنا، يعرب الكاتب عن رؤيته للتّاريخ (ص155) قائلا: "التّاريخ المتداول يفتقر للمصداقيّة في كلّ جوانبه، يحتاج للمزيد من البحث والدّراسة، وفوق ذلك للجرّأة في معاينته".

يشرح ذلك حقيقة راسخة لا مراء فيها، وهي أنّ صفحات التّاريخ الّتي تصلنا عبر غبار السّنين، ليست دائما مرآة صافية تعكس الماضي بصدق وأمانة، وغالبا ما تكتب بأقلام الأقوياء أو المنتصرين، الّذين يسعون لتخليد أمجادهم وتبرير أفعالهم، مشوّهين الحقائق أو متجاهلين أصوات الضّعفاء والمنهزمين، وقد تصلنا مبتورة، تحمل فقط ما ارتآه الكاتب أو السّلطة الحاكمة، بينما تطمس جوانب أخرى ضروريّة لفهم الصّورة الكاملة.

كما أنّ التّفسيرات اللّاحقة للأحداث التّاريخيّة، تخضع لأيديولوجيّات فكريّة وأجندات سياسيّة ومصالح مختلفة، ممّا يزيد من احتماليّة وصول التّاريخ إلينا ناقصا أو مشوّها أو خاطئا، ليصبح الماضي حقلا للصّراع والتّأويل المستمرّ.

خلاصة الرّواية:

وبعد.. فخلاصة الرّواية بأسرها هو ذلك الأنين المتصاعد من ثنايا السّطور، الّذي يعرّي جذور البلاء المتأصّل في نسيج المجتمع، حيث تتوارث الأجيال أثقال الماضي وأوهامه العتيقة، فتستمرّ في سيرها مثقلة بتركة من تقاليد وأعراف قد عفا عليها الزّمن، وتظلّ أصداء صراعات الأمس ترنّ في حاضرها، معيقة انطلاقها نحو مستقبل اكثر تحرّرا وإشراقا، وكأنّها سلسلة خفيّة تكبّل الخطى، وتعيد إنتاج ذات الأخطاء والعبر غير المستفاد منها؛ ليبقى الوعي مرتهنا بظلّ ماضٍ يأبى أن يزول، وفي لحظة تجلّ مرّة، يكشف السّارد عن عقم التّغيير ورسوخ الجمود بقوله (ص6):

"لا شيء في حياتنا قد تغيّر منذ تلك الأيّام، إذ لا يزال يحكمنا هذا الجدّ حتّى اليوم". وأختم هنا القول بما أجمله الشّاعر نزار قبّاني، موجزا في شعر بليغ:

خلاصة القضيّة

توجز في عبارة

لقد لبسنا قشرة الحضارة

والرّوح جاهليّة.

***

صباح بشير – أديبة وناقدة

النص الثقافي في الشعر العراقي المعاصر (3)

1- النص الثقافي الشعبي: الحكاية الشعبية كما في موقع ( www.marefa.org) هي نوع من أنواع الحكايات التي تقوم على الخيال وبناء الأحداث و الشخصيات فيها بعيدا عن الواقعية، لكنني في النصوص الثقافية الشعرية أجدها واقعية، نقلت لغاية التعريف بخلق أو نصيحة أو مدح واقع إنساني مفقود ومؤثر، ويكون أسلوبها مفهومًا وواضحًا وهي مأخوذة من السّرد الشفويّ عن طريق شاعرٍ موجود ومعروف، أما الحكايات تنقل إمّا عن طريق الآباء أو حكّاء معين وتدور أحداثها على أساس القِدَم ولمرحلة سالفة في الدهر، فقد كانت الحكايات تروى في الزمن الغابر الذي امتاز بظلامه التنويري، وخاصة في ليل القرى، ألّفها الشعب لغايات متعددة منها للهو كتعويض عمّا يوجد الآن من وسائل متطورة وألعاب تخص الأطفال فقد كانت سلاح الجَّدَّات وغاية المحبة لهذا الصندوق الحكائي الجميل، والذي يزرع المحبة لإيقونة الحديث الشيق، فقد عَلَقت بأذهاننا الحكاية الهادفة والمشوقة، منها ما أخذها المؤلفون لتُضمَّن في مناهج الدراسة الأولية، أما اليوم وقد صيغت ضمن المتن الشعري فقد نسجت ليست للمتعة ولا لتعويض فقد اسميتها بـ (النص الثقافي) فبعضها لبعث القيم التي زحفت عليها الحضارة الغربية المتجددة وفق منظورها التجاري العالمي، أو للتحفيز وشحذ الهمم للتغني بماضي الأجداد لرؤية أن الأجيال الحالية بدأت بفقدان هِوية العروبة ونهوض التهجين المعرفي والأخلاقي، كل الحكايات السالفة بُنيت جيدًا، بالإعتماد على الشخصيات في الحكايات الخيالية والأسطورية كعملاق أو بطل خارق أو رجل يتصف بالقيم الإجتماعية العليا، أمّا في المتن الشعري استنهاض لهذه الثلة من الشخصيات لبعثها قيمياً وافشاءها بين المجتمع وخاصة المتعلم والمثقف، ومنها عالجت أمور مهمة في المجتمع كالصراع بين الفقير والغني، والمتعلم والجاهل، وأما مَهَمَة الشعراء تتنوع منها للفخر بهذه الشخصيات وعملها الانساني والديني لبناء منظومة اجتماعية قيمية، أمّا لغة هذه القصص احتوت على السجع والجناس والطباق، في الشعر قد تأتي في ثناياها مسجّعة ولكنها ليست صفة، ففي أغلب النصوص الثقافية غير موجودة،  هناك حكايات تتوالد بحكايات متفرعة داخل حكاية واحدة كألف ليلة وليلة، في تعاملي مع النص النثري الشعري والقصيدة العمودية لم أجد قص أو حكي شعري متعدد، إنّما ناقشت مهام وأعمال لرجال في مجتمعنا المعاصر من الجنسين الذكر والأنثى، بأغلب الحكايات ألِّفتْ للأطفال، وفي الشعر ألفت لأجيال وللآباء والأدباء وخاصة أن الكتب الشعري قليلة التداول اجتماعياً، فعند اطلاعي على مجموعة الشاعر معن غالب سباح والمعنونة (عن الشط وأهله) أجدها متوالية  نصوص ثقافية في مدينته الآن، بقيم قرية زراعية سابقة، ومن نهل الاسترجاع الذاكراتي الشفاهي الذي نقله الآباء عن الأجداد أصبح من تراث مدينته التي أرخ لشخصياتها بنصوص ثقافية  شعبية شعرية لم تصل إلى الأجيال اللاحقة في العصر الحديث، ومنها لم يصل لعصر الكهرباء في المنطقة، وهذه العِبَر الشعرية تشكل تأريخ المدينة الحالية (الشامية) حيث كانت مدينة الرز المشهور برائحته والمسمى (العنبر) وهو ما يشبه ذلك الحوت الذي يمخر البحار والذي يقتله الإنسان للحصول على المادة التي في جمجمته ليصنع عطر (العنبر) الزكي، كذلك تكالبت النفوس وأماتوا العنبر فيها، كما تكالب الصيادون على قتل الحوت الوديع هناك، ومازالت تحمل أسمه (مدينة العنبر).

***

عيّال الظالمي

 

قبل الخوض في تلابيب ديوان شاعرنا الأريب أتهومي عبد الله  بغداديات : نصوص ولوحات لابد من التذكير بأن الرّجل جامع مانع فقد جمع بين العديد من الحسنات فهو شاعر وفنان، وأستاذ باحث في علم الاجتماع حصل على  الباكالوريا سنة 1979م بمدينة بغداد العراقية ثم يمم وجهه نحو الديار الفرنسية حيث تابع دراسته بجامعة بيكاردي حيث حصل على الميتريز سنة 1985م ثم دبلوم الدراسات العليا 1989م في علم الاجتماع، ثم عاد بعد حرب الخليج الثانية التي تركت في نفسه شيئا من حتى، عاد ليشتغل متصرفا بمقاطعة عين الشق، ثم يؤسس أسرة صغيرة ويندمج من جديد في الحياة العامة لمدينته الأم الدار البيضاء التي أطلق بها صرخته الأولى بدرب السلطان الحي التاريخي الذي يعتبر مشتلا للفنانين والشعراء والمبدعين على اختلاف مشاربهم.

وعودا على بدء نعود لِعتبة الدّيوان ومَتنه، يحتوي فهرس ديوان بغداديات: نصوص ولوحات الصادر عن جامعة المبدعين المغاربة سنة 2020م إهداءً وقراءتين لكل من الناقد المصري سيد جمعة " الإلياذة البغدادية"، والناقد المغربي لحسن أيت بها : "بغداديات"، ثم مقدمة للكتاب خطها الأديب الفلسطيني مصطفى البدوي، وست قصائد هي على التوالي:

1) رياح الطوز

2) سقط القناع

3) شعارات سقطت

4) من نيسان إلى النّسيان

5) في الطريق مطر

6) مشت الإبل حين اكتمل القمر

وفي تناسق جمالي يتسم بفسيفساء راقية تجمع بين الحرف الأخاد وسحر الفن التشكيلي من خلال توظيف الشاعر لتسعة عشر لوحة فنية لعدد من المبدعين مرافقة لمقاطع نصوصه، وقد توفق الشاعر في الربط بين بوح الذات الشاعرة والتجليات المعبر عنها بتلاقح الألوان وتمازجها المؤثر الناقل لشدة الوجع المتنامي والمنتشر بشكل رهيب بين أبناء الشعب العراقي وهو يواجه العدوان الغادر الذي شنته القوى الإمبريالية الرافضة لكل توجه وتوق للتحرر من وصاية الغرب ونواميسه المبنية على التسلط والفتك.

عَتبَةُ الديوان

  أعطى علم السيميولوجيا أهمية كبرى للعنوان إذ اعتبره أساسيا في مقاربة النص الأدبي، وبوابة لِدخول أغوار النص، واستنطاقه.

واعتبره شولز:"خالق النص الأدبي ومانحه "الهوية  عَرَّفَ "جيرارجينيت”، العتبة العُنوانيّة بقوله: إنها «نُقطة ذهاب وإيّاب إلى النَّص» أيْ إشارات دالّة ورامزة تفتح مغاليق النَّص وتكشف عن غموضه!! وعرّفها بقوله: إنّها «علامات دلاليّة تشرّع أبواب النصّ أمام المتلقّي للولوج إلى أعماقه» أي إنّها مداخل قِرائِية لكي نصل إلى أعماق النَّص إنّ العنوان وإن كان حَمّال أَوجه لا يكون صادقا دائما، فالعناوين مُخاتلة وربما صادمة.

تأمل عنوان الديوان: "بغداديات: نصوص ولوحات" يحيلنا على حاضرة العراق بغداد مدينة "الرشيد" التاريخية التي تعرضت للهجوم الوحشي للمغول سنة 1258م الذي أدى إلى سقوط  بغداد وانهيار الخلافة العباسية، وتدمير معالم الحضارة الإسلامية، وتكرر الهجوم الغاشم لجيوش الحلفاء عليها تباعا خلال سنة 1990م ثم سنة 2003م،  عند التدقيق في العتبة نلاحظ أن الشاعر استعمل كلمة بغداديات في إشارة إلى أشياء تتعلق بالعاصمة العراقية، أَتْبعَها بنقطتين رأسيتين للتوضيح والتعداد طبعا توضيح أن الأمر يتعلق بنصوص ولوحات، الشاعر كان موفقا في اختيار عنوان ديوانه لأن الولوج إلى متنه يفضي بنا لاكتشاف نصوص ملتهبة لما تضج به من إشارات ذات حمولة ناقدة لواقع عربي متردي، وتكالب غير مبرر لقوى عظمى على شعب كل ذنبه أنه رفض التعسف والاعتداء والاحتلال.

يقول الشاعر عبد الله أتهومي:

فوق الجسر، حديد مجنزر

عليه

وقف

من فوقه، فوهة مدفع

نحو طوابق فندق فلسطين، وجه

 منه للعالم رسل

خبر

وصور

ومقولة الحرب الشهيرة

علوج ثم علوج

كانت الطلقة

في الطابق الرابع عشر مقذوف استقر

خراب وقع

فصحفي سقط

ومعه القلم

وآلة التصوير كُسرت

إنه الحدث بامتياز

اسكات الصحيفة

بالصورة والصوت

حرية تعبير أسكت

قدسية حذفت

هذا المقطع مقتطف من نص سقط القناع الذي تُذيّله لوحة للفنان العراقي محمود شبر، يكشف عن وجع عميق ينتاب الذات الشاعرة  وترسم ملامح صورة دامية، لجرم مشهود استهدف فندق فلسطين بمقذوف غدر كانت الغاية منه إسكات صوت الصحافة واستباحة مداد القلم الحر، وقد لجأ الشاعر في قصيدته من خلال   الصور الشعرية، إلى المجاز المُتحرر من سلطة النظم الإيقاعية بإحالة المعنى ليكون بديلاً عن الإيقاع الخارجي الذي يميز القصائد القديمة ذات الوزن والقافية، وطبعا هذا يتكرر عبر أغلب النصوص الشعرية التي يتضمنها الديوان، والنظر إلى هذه الصور الشعرية من بعيد، يجعلنا أمام  صور شعرية مبتكرة والصور في قصائد ديوان " بغداديات: نصوص ولوحات" ليست صوراً بسيطة بل هي صورٌ مركبة تحتاج للتسلح بأدوات نقدية تسمح بتفكيك دلالاتها ، والمعنى في شعر عبد الله أتهومي مفتوح على المدى ويحتمل العديد من القراءات. لقد استطاع الشاعر التعبير عمّا يختلج بداخله بواسطة الصور البليغة والمتنوعة التي نجدها ضمن متن الديوان ، إن إمساك الشاعر باللحظة وتجلياتها في الفضاء وتجسيدها، يعطي القارئ فرصا متتالية لاقتحام عالمه ومشاركته مغامرته الشعرية المبنية على تراكم معرفي وتجارب حياتية ثرية، فسنوات الغربة التي توزعت بين بغداد وفرنسا ودراسته الأكاديمية لعلم الاجتماع، كان لها أثر بليغ ومؤثر في مساره الإبداعي. 

من المتعارف عليه أن الصورة الشعرية هي تركيب لغوي لتصوير معنى عقلي وعاطفي متخيل لوجود علاقة بين شيئين، وهي تبنى بأساليب متعددة من أهمها: المشابهة والتجسيد والتشخيص والتجريد، ويقال عن الصورة الشعرية أنها رسم قوامه الكلمات، والقصيدة نص قوامه الصور، واِرتباط الشعر بالصورة ارتباط وجودي.. فعندما يوجد الشعر تتبدى الصورة تلقائيا.

إن سبر أغوار نصوص عبد الله أتهومي يجعلنا نكتشف أنه اشتغل على تطوير الصور الشعرية داخل النص حيث جعلها تتحرك وتُثريه، فداخل هذه الصور الشعرية نجد توظيفها للتضاد والمقابلة لرصد تلك الحركة داخل النص وكذا المقابلة لخلق الجمال، ومنح المتلقي فرصا متعددة للتأويل والاستمتاع بتوهج هذه الصور ورفع درجة الوعي لديه بقيمة الكتابة الشعرية، وهناك نماذج متعددة.. ونقتطف من ديون شاعرنا هذا المقطع :

في بياض بَديع عبور

بين ضفتي بحر أبيض

في تلاقي زهر

بين رفاق في فجر

في استقبال فياض

حتى فاض

من ابتسامة سعيدة

في ثبات ثائرة

لعلي تحية

برفاقية بهية

في تلألأ حمرة نجمة

في كاسيط هدية

عن عبد الله روى

التاريخ يحكم

ومن طبعه أن يحكم

ما رضي بالظلم

وفي الأخير يحكم

لمنح الشعب العدل

وسلم 

في هذا المقطع اِسْتعادة لمرحلة من تاريخ المغرب خلال سنوات السبعينيات من القرن الماضي حيث كان يسود توتر سياسي، كان من نتائجه حملات قمع ضد التيار اليساري بمختلف توجهاته، ونستطيع أن نجد صدى لاسم سعيدة المنبهي التي لفظت أنفاسها بعد خوضها لإضراب عن الطعام سنة 1977،والشاعر المرحوم عبد الله الودّان الزجال الذي انتشرت أغانيه بمدرجات الكليات خلال تلك الفترة التاريخية، في محتوى هذه المقطع المُقتطع من قصيدة مشت الإبل حين اكتمل البدر. 

   إن ديوان بغداديات: نصوص ولوحات، يَتَّسم   بِشعرية  قوية تُضفي تدفّقا عاطفيا على قصائده يُسهم في ثراء الإبداع الشعري الصادر عن ذات شاعرة متمرسة وعاشت في أجواء شعرية واستعداد طبيعي لقول الشعر، ويمكن القول أن" الشعريّة ليست تاريخ الشعر ولا تاريخ الشعراء… والشعريّة ليست فن الشعر لأن فنّ الشعر يقبل القسمة على أجناس وأغراض… والشّعرية ليست الشّعر ولا نظريّة الشّعر… إن الشعريّة في ذاتها هي ما يجعل الشّعر شعرًا، وما يُسبِغ على حيّز الشّعر صفة الشّعر، ولعلّها جوهره المطلق، إنّ الشعريّة ” محاولة لوضع نظريّة عامة ومجرَّدة ومحايِثة للأدب بوصفه فنًّا لفظيًا، إنّما يستنبط القوانين التي يتوجه الخطاب اللغوي بموجبها وجهة أدبيّة، فهي إذًا تشخيص قوانين الأدبيّة في أي خطاب لغوي، وبصرف النظر عن اختلاف اللغات"  .

إلى جانب شعرية النصوص وزخم الصور الشعرية، وتعدد الانزياحات، يفاجئنا الشاعر بخطاب شعري يتقاطع مع خطاب معرفي على مستوى البنية والرؤية  حيث يَعزف على رؤية كُلّية، تتجاوز الجزئيات والفرعيات ، لنقرأ الجغرافيا على ضوء التاريخ، والتاريخ من خلال معطيات الجغرافيا، وقد احتوتهما شاعرية فذة،

ويمكنني المجازفة بالـقول على أن ديوان الشاعر عبد الله أتهومي ينتمي إلى فئة (الديوان القصيدة)، أو (القصيدة الديوان)، بمعنى أن الديوان كله وحدة متصلة، متنوعةٌ الزوايا، متكاملة الأبعاد، يتحكم فيها خيط رابط يمكن ملامسته على مستوى اللغة والمفاهيم، وأسُوقُ على سبيل المثال لا الحَصر هذا المقطع الذي يقول فيه الشاعر:

قُرب طشقند قِببٌ بديعة

من تلألأ زليج مزخرف في زرقة

قرب ذهبية من رمال ساعة

معلقة

تحت ظل الرمانة

على قيثارة

طفلة أعزوفة

حب وسلام

مشت الإبل حين اكتمل البدر

في السند والهند

ملاقاة نشئت

للحياة مدّت 

مساقاة تمدّدت

في بلاد الهملايا كل الديانات اجتمعت

بثوب غاندي تلحفت

في طريق التحرر مشت

بشوق، حياة تطورت

في اكتفاء من جوع نجحت

ببعث نهج غاندي ترسخت

عصر الاستعمار قد ولّى

مشت الإبل حين اكتمل البدر

بين حقول الأرز المحروقة مشت

في جري من فرع 

  خاتمة:

 الشاعر والباحث في علم الاجتماع عبد الله أتهومي  من الأصوات الشعرية التي تتمتع بقدرة على تنويع مستويات خطابها الشعري بشكل يتقاطع مع خطابات أدبية وفنية أخرى تدفع نحو تنوع وثراء جمالي يشوبه نوع من الغموض الفني المقصود الهادف إلى فتح باب التأويل أمام القارئ للمشاركة في عملية تشكيل النص وبناء معماره، كما أن لغتها مُوحية تتكئ على التكثيف والايجاز، وتبتعد عن المباشرة، وتبقى الملاحظة الجلية التي قد يلمسها القارئ المدقق، المدرك لما بين السطور هي تلك النزعة التحررية التي ترتكز على الماضي اليساري للشاعر والتي تجعله يندمج بشكل جلي في القضايا القومية للوطن العربي والقضايا الانسانية بكل بقاع الدنيا، دون أن ننسى تفاعله الكبير مع تيار التغيير الذي كانت تقوده أحزاب اليسار خلال سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي .

***

محمد محضار     

الدار البيضاء 01يونيو 2025م

حدَّثنا (ذو القُروح) في المساق السابق، في سياق مناقشته لما أورده شُرَّاح شِعر (أبي الطَّيِّب المتنبِّي) في بيته:

يَتَلَوَّنُ الخِرِّيتُ مِن خَوفِ التَّوَى

فـيـها كَـمـا يَـتَـلَـوَّنُ الحِـرْبـاءُ

عن أنَّ القدماء والمحدثين كثيرًا ما يخلطون بين (الحِرباء) وغيره من الزواحف، فيعدُّونها جميعًا حرابيًا! ومن هذا الزعم أن الحِرباء: ذَكَر (أُمِّ حُبَيْن). والواقع أنهما دُوَيبتان مختلفتان، وليست إحداهما ذَكرًا للأخرى أو أُنثى لها. غير أنَّ من إشكالات كُتب التراث أنْ تجد بعضها ينقل عن بعض، منذ القرن الأول والثاني للهجرة وصولًا إلى العصر الحديث، دون أن يكلِّف أحدٌ نفسه بالمناقشة أو النقد أو السؤال، فضلًا عن تحرِّي الصواب، إلَّا نادرًا، والنادر لا حكم له؛ إيمانًا راسخًا لا يكاد يتزعزع بأن ما جاء عن السَّلَف هو الحقُّ والعِلم المطلق، وما عداه لا ينبغي أن يُلتفت إليه! فيؤول الأمر إلى ما يمكن أن أصفه بـ(العِلم الروائي) لا أكثر، يكرِّر بعضه أغلاط بعض. وليس، في الغالب، بذاك العِلم التحقيقي، أو نتاج البحث الميداني، أو المعرفة الواقعيَّة البيئيَّة.  ومن هذا ما جاء في كتب اللُّغة ومعجماتها- وفيه تكرار ما تقدَّم ممَّا يبدو أوهامًا متناقلة- أنَّ الحِرْبَاء: ذَكَر أُمِّ حُبَيْن! وأنه حيوان أو دُوَيْبَّة نحو العظاية أو أكبر تَستقبل الشَّمْس، وقيل: تُقابلها برأسها كأَنَّها تُحَاربها، وتدور معها كيف دارت! وتتلوَّن ألوانًا بحَرِّ الشَّمس! قالوا: والأُنثى: الحِرباءة.(1)

ـ هذا يعني، إذن، أنَّ أُنثى الحِرباء: الحِرباءة، لا أُمّ حُبَيْن!

ـ هٰذا بُعدك! سيتكرَّر في روايات كتب التراث القول: إنَاثُ الحَرَابِيِّ يُقَال لهَا أُمَّهات حُبَيْن، الواحِدَة: أُمُّ حُبَيْن. قالوا: وهي قذِرة لا يأكلها العَرَب البَتَّة.(2)

ـ ربما نظروا هنا إلى حكاية ذلك الأعرابي الذي قال، لمَّا سُئل عمَّا يأكل هو وقومه: «نأكل كلَّ ما دَبَّ ودَرَجَ إلَّا أُمَّ حُبَيْن!» فقال السامع: «لتَهنأ أُمَّ حُبَيْن العافية!»

ـ ربما، غير أنَّ العَرَب لا تأكل، في ما نعلم، (سامَّ أَبْرَص) أيضًا ونحوه من العظاء، كـ(الوَحَر). فلا يُفهم من حكاية الأعرابي أنَّ (أُمَّ حُبَيْن) و(الحِرباء) مخلوق واحد؛ فالعَرَب لا تأكل كثيرًا من الزواحف.

ـ بل في ذلك التعبير عن أكل العَرَب كلَّ ما دَبَّ ودَرَجَ مبالغة، يُلمَح فيها اصطناعٌ شُعوبيٌّ لتحقير الأعراب.

ـ تلك، إذن، معلومةٌ متداولةٌ لدَى القدماء، إلَّا أنَّنا نتوقف عن التسليم بأنَّ (أُمَّ حُبَيْن)- واسمها العلمي في بعض المراجع: Agamodon- هي نفسها (الحِرباءة)، وإنَّما أُمُّ حُبَيْن: (الوَحَرَة)، أُنثى زاحف آخَر يُسمَّى: (الوَحَر). وكذا نقل (الدَّميري)(3)، وهو- كالآخرين من سابقيه ولاحقيه- إنَّما ينقل عن هذا وذاك، وقد يرجِّح، بلا معرفةٍ بيئيَّة: «قال ابن قتيبة: أُمُّ حُبَيْن تستقبل الشمس، وتدور معها كيف دارت، وهذه صِفة الحِرباء. وقال في «المرصَّع»:  اختُلِفَ في أُمِّ حُبَيْن، فقيل:  هي ضَرْبٌ من العظاء، وقيل: أعرض منها، وقيل: هي أُنثى الحرابي، يتحاماها الأعراب فلا يأكلونها لنتنها. انتهى. وما ذكره ابن قتيبة من كون أُمِّ حُبَيْنٍ ضَرْبًا من العظاء، فيه نظر؛ فإنَّ العظاء نوعٌ من الوَزَغ، كما ذكره أهل اللُّغة. ويقال لها حُبَيْنَة، معرَّفة بلا ألف ولام، تقع على الواحد والجمع، وقد تُجمع على أُمِّ حُبَيْنات، وأُمَّهات حُبَيْن، وأُمَّات حُبَيْن، ولم تَرِد إلَّا مصغَّرة. وفي حديث عُقبة، رحمه الله: «أتمُّوا صَلاتكم، ولا تُصَلُّوا صَلاة أُمِّ حُبَيْن!» وفسَّروه بأنها إذا مشت تُطأطئ رأسَها كثيرًا وترفعه، لعِظَم بطنها، فهي تقع على رأسها وتقوم. فشبَّه بها صَلاتهم في السجود.» قلتُ: هذا كلام متخيَّل؛ فأُمُّ حُبَيْن لا «تُطأطئ رأسها كثيرًا، وترفعه لعظم بطنها، فهي تقع على رأسها وتقوم»، كما زعم، بل هي تَظَلُّ- بين زحفةٍ وأخرى من دورانها في المكان الذي تكون فيه- تُنْغِض رأسها، كمَن يركع ويسجد في صَلاته. كأنها تستطلع بذلك ما هي مُقدِمة عليه توجُّسًا، كما تفعل الحِرباء بأرجلها خلال خطواتها. وفي هذا الحديث النبوي «أتمُّوا صَلاتكم، ولا تُصَلُّوا صَلاة أُمِّ حُبَيْن!» ما يكشف عمَّا يُقصَد عند العَرَب بأُمِّ حُبَيْن؛ وهو (الوَحَرة)، التي يُسَمَّى ذَكَرُها في (جبال فَيفاء):(العِمامي). ويظهر أنَّ الوَحَر - بأُنثاه وذكَره- يُسمِّيه العَرَب: (أُمَّ حُبَيْن)، أو (العَضْرَفُوْط). ويمتاز العِمامي بلونه الأزرق، ولا سيما الرأس، وربما ضربَ لونه نحو الخُضرة؛ فهو قد يتلوَّن بعض الشيء. ولعلَّ هذا سبب الخلط بينه وبين الحرابي، عند بعض واصفيهما ممَّن ذكرنا. والعِماميُّ أكبر حجمًا من أُنثاه. ولا أدري لماذا سمَّوه بهذا الاسم؟ ربما لأنه ذو رأس كبير نسبيًّا، ولونه أزرق، فكأنه ذو عمامة. ويجمعونه على: عَمَعَّيْمَة. ومن طريقة هذا الزاحف في الحركة- كما جاء في الحديث النبوي- أنه يرفع رأسه ويخفضه مرتين أو ثلاث، ثمَّ يتحرك، وهكذا. فكان الناس يزعمون أنه بذلك يُصَلِّي راكعًا ساجدًا. وهذا النوع من العظاء يكثر في جبال جنوب الجزيرة العَرَبيَّة بخاصَّة، فلم أره في سِواها. وإنْ كنتَ تجد أنَّ نوعًا منه معروف في (سَيناء). ويُذكَر أنَّ اسم هٰذا النوع السينائي علميًّا: Adramitana. والوَحَر- على الأرجح- هو ما جاءت الإشارة إليه في الحديث النبوي. وأنثاه هي أُمُّ حُبَيْن، كما نعرفها. وما زال التراث الشَّعبي يصف حركات هٰذا الزاحف بأنها صَلاةٌ وركوعٌ وسجود! والنصُّ الحديثيُّ دليل على ما نقول- بعيدًا عن قيل وقال- وهو أنَّ أُمَّ حُبَيْن ليست بأُنثى الحرابي، كما زعم الزاعمون، ممَّن لا يعرفون لا أُمَّ حُبَيْن ولا غيرها، ولا صِلَة لهم ببيئة الجزيرة العَرَبيَّة برمَّتها! وإنْ كانت هذه الزواحف جميعًا من فصيلة واحدة، في النهاية.

ـ عفا الله عنك، هل كان (الحِرباء) و(أُمُّ حَبَيْن) يستأهلان منَّا كلَّ هذا التفصيل؟

ـ نعم، ما دامت معرفتهما ينبني عليها فهم الشِّعر والنثر في تراثنا العَرَبي. وتلك من أغلاط الناس لتبعيَّتهم ما أَلْفَوا عليه آباءهم وكتبهم.  أمَّا ما وردَ في كتاب (ابن المستوفي) من أنَّ الحِرباء «أكبر من العضاة شيئًا»، فلعلَّه خطأ مطبعي، وقد أشرنا إلى كثرة أخطاء طبعة هذا الكتاب. والصواب: العظاء، جمع: عظاءة بالظاء، أو عِظاية. وهي على خِلْقة (سامِّ أَبْرَص)، أو (الوَزَغ)، لكنَّها أكبر حجمًا.

ـ وماذا بِشْرحٍ مِنَ المُضْحِكاتِ/ ولكنَّهُ ضَحِكٌ كالبُكا!

ـ ماذا تقصد؟

ـ أقصد أنك استغربت جهلهم بـ(الحِرباء) و(أُمِّ حُبَيْن)، وهم قد جهلوا (الكَرْكَدَن)!

ـ كيف؟

ـ انظر إلى ما قالوه في شرح بيت (المتنبِّي):

وشِعرٍ مَدَحتُ بِـهِ الكَرْكَـدَنَّ

بَيْـنَ القَريـضِ وبَيْـنَ الرُّقَـى

«قال الواحدي هو دابَّة له قَرْنٌ في رأسه، وقالوا هو الحمار الهندي! وقال ثعلب: هو دابَّة عظيمة تحمل الفيل على قرنها. وبعض الفُرس يزعم أنه طائر! والذي ذكرَه ابن الأعرابي: أنَّ الكَرْكَدَن شيءٌ أعظم من الفِيل له قَرْن، ويكون في البحر، أو على شاطئه.»(3)

ـ أطرف ما قالوه: أنَّ الكَرْكَدَن طائر! أين منهم (سلفادور دالي)؟!

ـ يبدو أنَّ (سلفادور دالي) هذا قد خلط بين (الكَرْكَدَن) و(الكركي)! وهو طائرٌ بالفعل، لعلَّ اسمه مشتقٌّ من صوته. أمَّا الكَرْكَدَن ، فذلك الحيوان الأفريقي الضخم، الذي قد يُطلَق عليه: (وحيد القَرْن)، أو (الخِرْتِيْت). وإنَّما وصف (المتنبِّي) (كافورًا) بـ« الكَرْكَدَن» كوصف السُّوقة اليوم مَن كان ضخمَ الجثَّة من الناس بـ« الخِرْتِيْت».

ـ لو أعفَى قصيدته هذه ممَّا ختمها به من البذاءة السوقيَّة، لكانت من أجود شِعره وأجمله.

ـ هو نفسه كان ينبو ذوقه أحيانًا عن بعض أبياته؛ فكان يأمر رواته بعدم كتابته. شاهد هذا أنَّ (عليَّ بن حمزة، ـ375هـ)، صاحب كتاب «التنبيهات على أغلاط الرواة»، كان يقول: «أنشدني في هذه القصيدة بيتًا، وأمرني أنْ لا أكتبه، فلم أكتبه في نسخةٍ من نسخه، وهو: ...».(5) لكنَّهم كتبوه من بَعده وشرحوه أيضًا!

ـ على أنه قد كان يهجو (كافورًا) في قصائد مدحه أيضًا. حتى بيته الذي يُضرَب مثلًا في التملُّق والتذلَّل:

أَبـا المِسْـكِ هَل في الكَأسِ فَضلٌ أَنالُهُ

فَــإنِّـي أُغَنِّــي مُنـذُ حِيــنٍ وتَشــرَبُ

إنَّما هو هجاء. فلك أن تتخيَّل حال المخاطَب، بنَهَمه ولُؤمه: الشاعر «يُغنِّي منذ حينٍ، وهو يَشرب»! واستفهام الشاعر استفهام تهكُّمي إنكاري؛ ليقول إنَّ (كافورًا) لا يُبقي ولا يذر فضلًا، حتى في كأسه! وليس الشِّعر والغناء من همِّه في شيء، بل همُّه في الأكل والشراب، كالدواب! ثمَّ يُعرِّض بخِلقة (الخِرْتِيْت) هذا، قائلًا:

وَهَبـْـتَ عَلــى مِقــدارِ كَفَّـىْ زَمانِنـا

ونَفسيْ عَلـى مِقــدارِ كَفَّيـكَ تَطلُـبُ

فلا شكَّ أنَّ كَفَّي (كافور) عَبْلتان، بوصفه رجلًا خِرْتِيْتًا، لكنَّ عطاءهما ضاوٍ ضامر، كزمانه النَّحْس، في عَينَي (أبي الطَّيِّب)!

ـ يا لـ(أبي طَيِّبٍ) مع (أبي مِسْكٍ) في زمانٍ لا رائحة له!

بدَهْـرٍ ناسُهُ نــاسٌ صــِغارٌ

وإِنْ كانَت لَهُمْ جُثَثٌ ضِخامُ!

[وللحديث بقية].

***

أ. د. عبد الله بن أحمد الفَيفي

...............................

(1) (2) يُنظَر: الزَّبيدي، تاج العروس، (حرب).

(3) (2005)، حياة الحيوان الكُبرَى، تحقيق: إبراهيم صالح، (دمشق: دار البشائر)، 2: 203- 204.

(4) ابن المستوفي، (1989)، النِّظام في شرح شِعر المتنبِّي وأبي تمَّام، دراسة وتحقيق: خلف رشيد نعمان، (بغداد: وزارة الثقافة والإعلام)، 1: 471.

(5)  م.ن، 1: 474.

التمهيد: عند قراءة الموروث السردي، وصياغته شعرياً نحن نتحدث في تراث غيري عمّا موجود في الوقت الحالي، فالنص الثقافي هو حديث في غائب، له مميزات الحكاية مع جماليات واشتراطات  القصيدة الشعرية في المبنى والمعنى، لهذا تكون له اختيار لغوي معين، ووضع جمالي معين، وابراز قيمة نوعية لهذا النوع الشعري من الأدب، فهو ينمو تحت قبة الثقافة العامة، ومرتبط ارتباطاً وثيقاً بالذاكرة، والخيال والسقف الزمني المنوع لكي تعطى صيغ تأويلية وخطاب مُوجّه، ففي عصر توقف الرسالات المهمة التي يضطلع بها الشعراء، جنح بعض الشعراء إلى إيجاد مثل هذ النوع من الشعر، بطرق لم يكن بها الشاعر على وعي تام بنوعية النص، بل هو ينقل حالة مُرْضِية في وقت مضى مهما كان عدد سنين مرورها، وفق مقدرات الشاعر وموهبته واسلوبه على مختلف أنواع الشعر من (العمودي أو التفعيلة أو النثر)، وعملية ظهور وكثرة الشعر النثري، أو ما يشبه الشعر النثري لعدم الالتزام بأسس هذا النوع من الشعر، وتكالب رواد كتابة هذا النوع ابتدعوا أنواع من النصوص أطلقوا على بعضها بالقصيدة النثرية السردية، وهي نوع من شعرية الحكاية، لم تكن القصيدة التي تحتوي الحكاية وليدة اليوم، فقد أخرج لنا التراث الشعري العربي والعالمي من بين ما احتفظ به من شعر عدة قصائد حكائية، فيقول كلينث بروكس: (إن كل قصيدة هي دراما صغيرة) تقوم على صوت يحاور نفسه أو أَنَا تحاور العالم، والحكاية الشعرية كما وجدتها: أقصوصة شعرية وعلى العموم، بسيطة العناصر الفنية الشعرية، لا تنتهي بمفاجأة، وتعتبر ضمن الشعر القصصي أو السرد الشعري، تختار الحكاية الشعرية رمزاً، كحكايات أمير الشعراء أحمد شوقي وهو رائد الحكاية الشعرية، ولهذا إرتأيت ان يكون هذا النوع من الشعر الموجه في الظاهر والمضمر أن يكون تحت مسمى (النص الثقافي) لأنه يقدم الثقافة العامة أكثر مما يقدم الشعرية، ويعتمد الصلاح وبعث القيم أكثر مما يقدم الجمال الشعري، ودائما يكون النص الشعري الثقافي سهل التركيب والبناء واستعمال محسنات لفظية قريبة من فهم العامة والكتابة لها، لإبراز ما يضطلع به الشاعر.

أما أقدم ما وصل الينا من الشعر الذي سمي بالملاحم وهو قصائد طويلة تقص لنا حكايات وصراعات يتشعب بها نوع القص والملاحم الشعرية حسب ما أرى هي روايات من حكايات خرافية واسطورية، يجمعها وحدة موضوع هو التمجيد ببطل يمتلك من المواصفات ما ليس للبشر وجميعها شعرية، كملحمة كلكامش مثلاً.

واذا طوعنا تعريف الحكاية الذي أوردته الكاتبة (أحلام بكري) في موقع سطور:" قصّة بسيطة يمتزجُ فيها الواقع بالخيال، وأهمّ العناصر في أنواع الحكاية جميعها هو التّشويق والإثارة، والحكاية هي أساس للقصة وتستخدم التشويق والإثارة كسلاح يشدّ المستمع إليها، حيث يترقّب نهاية الحدث أو خاتمة القصة بفارغ الصبر، والحكاية ترتبط بزمان محدد مع توالي الأحداث فيها، وهي على بساطتها وقلّة تعقيدها تبقى النواة والأساس لجميع معالم الكتابات المعقدة كالرواية وغيرها "، فأنني سأقول: (بان النص الثقافي وليد الاختلاف بين الواقع المعاش وبين واقعٍ عشناه وتباين في القيم والعادات وتبني عقائد وفق اشتراطات متنوعة من الوعي  وأفق معرفي وذوقي، واستحضار لموروث وفق آليات فنية وكتابية محددة ضمن قوالب الشعر المعروفة)، ولابد من دراسة أكاديمية معمقة لهذا النص وتوضيح لمساحته التي ينتج بها ومهمة هذا النوع من الكتابة ومهامه التي يضطلع بها لكي يؤسس لهكذا نوع كتابي ابداعي في الشعر العراقي المعاصر، ومن أهم مرتكزات المساحة الممنوحة له وعملية تكوينه، ما يلي:-

1-  يُنتج النص الثقافي باعتماد ذائقة الشاعر ومقدار ثقافته .

2-  يمتح النص الثقافي أهميته من أهمية الموروث الشفاهي أو المواضيع المطروحة أمام المشاهد أو الأعمال الجمالية فنية أو ابداعية أو سلوكية على السواء ومدى بقائها في الذاكرة العراقية.

3-  يشتمل على المواقف والأفكار واللوحات الإنسانية العميقة على الرغم من أنها تُرى بسيطة.

4-  يدخل في كل أنواع الشعر أما رمزاً أو فكرةً او تصريحاً، ينمو إلى حكايةٍ موجزة مُشذَّبة بقوالب شعرية، ويتوسع نصيَّاً ونوعياً في النصوص النثرية أو القصيدة النثرية الشعرية.

5-  ربط النص الثقافي بالنصوص المهمة، حيث يكون ظلاً أو نبعاً جديداً لها كالنصوص المتعالية والنموذجية.

6-  منتخبات النصوص الثقافية تبرز على مساحة الأدب من حيث الحاجة فهي لا تعمل لو كتبت من أجل الجمال الشعري، بل لأجل بناء الثقافة، أي الإبتعاد عن التَّرَفية الكتابية.

7-  يعتمد في غالبية النصوص الثقافية إعادة إنتاج الدرس الأدبي التراثي لإيقاض الوعي الجمعي ومضاهاته بالتحولات الواقعية والحفاظ عليه.

8-  البحث في الهوّية المجتمعية والتأريخية والجمالية وأحيانا الأسطورية، لإبراز علاقة المُنتِج ببيئته سواء كان الراوي الأول الأقدم أو الكاتب الحالي ضمن المباحث المعاصرة.

9-  إبراز التناقضات في الحياة الإنسانية وغربة الشاعر في مجتمعه، والنوازع الوجودية ومدى تأثيرها في الثقافة العامة.

10-        يعتبر النص الثقافي تدوين سيرة لسِفر أو رحلة تتحول من خلاله النصوص الشفاهية إلى نصوص تدوينية مكتوبة ومعادلة بواقع اختلف على مرحلة انتاجها.

11-        لا يحدد النص الثقافي بالمحلية لأنه نص شامل قد يحتوي على التجارب والأعمال الفطرية لشعوب أخرى من البشرية،  وإبراز الخبرة وإعلاء الأصلي من المقامات، وتوضيح الغازي، وفهم العالمي وتطويع النص الشفاهي الذي زيد أو نقص عبر تنقله وفق قالب شعري.

12-        يناط بمَهَمَّة توسيع الوعي والأدراك في شتى مناحي الذهنية والتحكم الجسدي والكشف عمّا أصبح اليوم الغرائبي من المسلمات في النهج العام، وتنمية الغرائز المفيدة في الصور الإنسانية المتعددة.

13-        تجميل النص الأصلي وتطويره وتقريبه من القارئ على الرغم من أن قُرّاءَ الشعر في العصر الحالي هم النخبة.

14-        يغلب على النص الثقافي العاطفة عند المشتغلين وإظهار القيم العليا بدلالة الجغرافيا.

15-        يطغى على النصوص الثقافية التفاعلات النفسية للشاعر في الحالات المفروضة المحيطة ولما لها من تأثير ما يفرزه كالخوف والتوتر وانفلات التعامل أو سطحيته، أو ظهور الجرأة على المقدس أو الانسلاخ عن القيم والأعراف والتقاليد.

16-        كمية القناعة التي يحتويها النص الثقافي  المنقولة إلى القارئ أو المستمع يفرضها الإحاطة التامة بالنص الأصلي بالتكامل والإسلوب الفني ومقدار موائمة نوع الشعر مع المنقول أو المطروح كنوع.

17-        فضاءات النص الثقافي في العراق خالية من الفضاءات الواسعة في العصر الحالي أي خالية من الفسحة الجمالية المكانية في ذهن الشاعر، أي محددة بأسيجة وجدران، نظرا لابتعاده عن البحار والمحيطات، فيتأثر المنتجُ نفسياً ببلوغ الغاية لأن صوره عصية على الذهنية المحلية أو تندرج تحت الخيالي إن وردت هذه المساحات، فما زال النص الثقافي حبيس الكتب وهي جدران ورقية، فعملية نقل تجارب من الشفاهي إلى المدون أو الكتابي إدخالها في سجن آخر، فالنص الثقافي يحتاج إلى فضاءات واسعة ليُمَكِّنه من بلوغ التأثير.

18-        النص الأصلي سواءً كان إبداعياً أو جمالياً أو فنياً كالأعمال الفنية جميعها والتي تكون ضمن العمل الفطري والنادر ويثير الخيال وينعش الروح نحو القيم العليا لإسناد الحاجة لهكذا نماذج لا يخلو من المنفعة الشخصية المادية والعامة وتطوير الثقافة:

الناس للناس من بدوٍ ومن حضرٍ    كلٌّ لكلٍّ وإن لم شعروا خدمُ

وفي عملي هذا قد اخترت شاعرين عراقيين لهما موقع بين شعراء العراق تبنوا هذا النوع من الشعر، فيعتبر (معن غالب سباح) صوت مدينته ألا وهي مدينة الشامية التابعة لمحافظة القادسية، والذي ارتاد منابر الأدب والسياسة كوالده رحمه الله، لذا فهو يشكل علامة بارزة في تأريخ المدينة وسيد منابر العراق كعرِّيف في مختلف المهرجانات وزيارات القادة في العصر الحالي، عصر ما بعد سقوط حزب البعث، فهو المبتكر للمفردات التي يستجلبها من تاريخ المدن وحواضر الأمة العربية والشعب العراقي في مختلف مدنه، وهو مقدم البرامج الدينية والثقافية في مختلف القنوات الفضائية ورائد وقامة من قامات المكتبة الأدبية المختصة والتي حملت على عاتقها تقديم الثقافة العامة في كل المجالات والتعامل العادل والمنصف لكل مبدع بقيادة مؤسسها الشاعر الدكتور (مهند مصطفى جمال الدين) لهذا سوف أحزم حقائب رحلتي مع مجموعته (عن الشط وأهله) وهناك الشاعر الشاب (محمد السويدي) من مدينة الشرقاط التابعة إلى محافظة صلاح الدين ومجموعته (حكايات الولد الخرافي)  والتي كتبها على النوع العمودي من الشعر وعلى أصول البحور الفراهيدية، وهو من الشعراء الذين لهم حضور جمالي وقد أخبرني بأنه تبنى ما اسماه بالحكاية الشعرية، لكي يختص بهذا الجانب أو النوع من الشعر العراقي، وأعتقد جازماً بأن الشعر العراقي اليوم وهم سادة القصيد المجدد بالعصر الحديث من بين أبناء العروبة، أصبحوا يتشابهون كثيراً فيما ينتجون من الشعر، في محافلهم الشعرية، لذلك فهو يبحث عن تفرد ربما ليرتبط شعريا بهذا النوع من الجنس الشعري، ولكنني من خلال مناقشاتي حول ما ينتجه الكُتّاب وما يتحدث عنه الأكاديميون كالناقد البروفيسور عزيز الموسوي وأسئلتي له ورغبةً منه على أن ينتج جنس كتابي سوف يُنَظّر له في قابل الأيام كما يقول، حيث سألته ما الفرق بين النص الثقافي، والنص النموذجي والنص المتعالي، وأنا أعرف الكثير عمّا أبان لي، أردت معرفة هل هناك من تداول لمصطلح (النص الثقافي) فوجدت بأنه يريد أن ينتج جنس ثقافي خاص به، ولكنه لا يملك الوقت لأمور صعبة في حياته ومهامه التي يتحملها ومسؤولياته، اتجاه عمله وطلبته وعائلته، لهذا أخذت على عاتقي أن يكون النص الثقافي هو ما يخلف الحكاية في الشعر، وارجو من الله التوفيق وأن يلهمني حسن التعامل مع رجُلي الشامية والشرقاط عبر عصور تكونهما الاجتماعي وتنوعه.

***

عيال الظالمي

.........................

(كتاب غير مطبوع في حلقات)

 

صدر للشاعر المغربي رضوان بن شيكر ديوانه الأول "مرافئ التيهان"، الطبعة الأولى- عام 2019- دار فضاءات للنشر والتوزيع- المركز الرئيسي -عمان-، تأخر هذا المولود الأول كثيراً، ورقياً، بالنظر لقيمة الشاعر رضوان، وعمله الدؤوب مع الحروف، والكلمات، ومع ذلك فالكتابة الإبداعية شغلت رضوان في كل وقت، والشاعر- حسب رأيه- لا يصنعه طبعُ ديوان أو عدة دواوين بقدر ما يضعه على السكة ذلك الألق الشعري المتسربل في نصٍ واحد، أومتعدد.

عُش النورس

الشاعر رضوان ابن مدينة الناظور، وُلد وترعرع بين دروبها وضواحيها، ويجري حبُّها في كيانه مجرى الدم في العروق، يفرح لانتصاراتها، ويتألم لانكساراتها أيضاً، أصوله وأجداده من بني شيكر، بلدة المجاهدين والصالحين والمبدعين. أفرد للناظور، في ديوانه، قصائدَ عديدة، منها قصيدة جميلة أسماها " بقلب ثقيل وبلا مزاج" ص /35/، يقول في مقطع شعري مؤثر عن الناظور فيها، معبراً عن حالة من الحالات الإنسانية والنفسية بالخصوص:

" ليس في الناظور مُتسع للأحلام،

قالت إحداهن ذات تقاطع

وهي تعبر الشارع الطويل

مسرعة الخطو،

بقلب ثقيل وبلا مزاج

/ .../ "

تبدو الناظور، في هذا النص، قاتمة، وفق المعنى الذي يريده الشاعر، وغير قابلة للعيش بسبب عدم توفر مجموعة من الشروط الضرورية والأساسية للعيش فيها، والمتوفرة في أغلب المدن الأخرى، فنحن ننتقد، وأحياناً بشدة، الجهات المسؤولة غيرةً منا على هذه المدينة العزيزة، والغالية منذ الأزل والمتوجة بسحر وجمالية بحر مارتشيكا.

أيكون تائها، في مدينة تائهة، أتكون الناظورُ الكسيحة، المفتقرة لمشاريعَ، وبنية تحتية، وبدون سينما ولا حديقة، ولا مسرح إحدى هذه المرافئ الموغلة في التيهان؟

سيقربنا الديوان "مرافئ التيهان"، من رضوان، ذلك الشاعر الولهان، ونكتشف ما في داخله من "ريف" أصيل يخزنه في ذاته، معبراً لنا وله، عن كينونة يترسب في عمقها قدرٌ غير يسير من الوهج "الرومانسي"، والحب "القيسي" لأرضه، وبلدته المنسيّة الناظور حيث تترعرع، كيف أراد أن يكون، طائراً شحروراً، ويحلق، بالطموح والتحدي، شاعراً أثيراً، سِمتُه نصرة الجمال، بالشعر، والضرب في الأرض، عبر تَرحال سندبادي لنُشدان "مرافئ التيهان" بحثاً عن اللؤلؤة المفقودة في الطبيعة، ولدى "الإنسان".

كيف اهتدى رضوان لــ "مرافئ التيهان "؛ هذا العنوان الجميل يشعرني، أنا القاريْ العاشق لشعره، بأنه سفينة، وُجِد ليكون فوقها قبطاناً، تمخر عباب البحر بحثاً عن مرافئ عجيبة يغلفها تيهان.. أسر لي قائلا في حوارٍ لي معه:

" أنا دائم العلاقة بالطبيعة وعندي عشق كبير بالجبال والوديان والبحار والشواطئ وأبحث دائماً عن التَّجوال والسفر الى المناطق الطبيعية، وأجدني مشدوداً إلى سحرها.. قصيدتي هي سفينتي، وما دمت أدير دفتها فأنا قبطان أمخر عباب مرافئ حياتي ".

النورس التائه

رضوان، كما يشي ديوانه، "تائه" في مرافئَ شتى، وشاعر فارس، يمتطي فرسه، لا يكاد ينزل أبداً، يتحرك كقطع الشطرنج من مرفأ لآخر، لا يترجل هذا الفارس أبداً، يوقع "تيـهانه" كلما حل بمكان، ترى عما يبحث؟ وعن أي مرفأ ينشد، ما سماته؟ وهل محطته الأخيرة ستقنعه، إذا ترجل، وهذا مستحيل، ببعض الاستقرار، على الأقل، بحيث يضع فيه عصا تسياره في النهاية؟

"التيه" تيمة غالبة على نصوص الديوان " مرافئ التيهان"، غيرُ خافٍ ذلك حتى في بعض عناوين الديوان: "في المطار" ص/ 15/، "أقف خارج حقائبي" ص / 97/، و "في الشاون ضاع مني ظلي" ص / 91/، و"ضفاف قصية" ص/51 /... ينثر الشاعر رضوان، في هذه القصائد، وغيرها كثير، مفرداتٍ من بطن التيه نحو: المطار- السفن- الحقائب- الطريق- الرصيف- التَرحال... أيهرب من شيء ما هذا الرجل التائه؟

التيه هو " المكتوب على شاعرنا"، يمشي ملكاً بين قصائدها، ويقف " خارج حقائبها" حسب تعبيره،

ولولا هذا التيهان، يقر الشاعر رضوان، ما استطاع كتابة سطر واحد من الإبداع الشعري، هذا "اللاستقرار" هو الذي يذكي في أوصاله شرارةَ الإبداع في دواخله ويستفز غرائز الكتابة لديه، في قلق وجودي آسر، ولنقل، مطمأنين، بأنه قصبة فارغة من الداخل دون هذا التيهان، وبقلق وجودي يتغذى شعره، ومَلء هذه القصبة الفارغة ضرورة لازبة مع جرعة من الذروة الإبداعية لإيقاظ الحواس مع "فلاشات" الحياة.

القلق الوجودي الذي يسكن المبدع رضوان هو الذي يحفزه على الترحال والسفر، لا يهرب من شيء تحديداً، يقول لي هامساً:

"من حين لآخر، أنسى نفسي وأضيع في إحدى المدن التي لا أعرفها فأمشي في اتجاهات مختلفة، لأسبر أغوار ذاتي، وهذا هو التيه الذي تتحدث عنه وقد يكون أحياناً أخرى نوعاً من الاغتراب والضياع الذي يعيشه كل منا في محيطه أو مجتمعه والعوالم المفروضة عليه. "

فراخ النورس

يتكون الديوان "مرافئ التيهان" من (23) قصيدة، متوسطة الطول، عدَدُ "الجمل الشعرية" في أطول قصيدة منها هو (41) جملة: (ضفاف قصية) ص/51/، وأقصرها (19) جملة (بلقيس الثانية) ص/ 61 /... والقصائد، في كل الديوان، رغم هذا النفَس القصير، زخمة وسمينة المعنى والمبنى، وطليقة الخيال، و"الشحنة" الدلالية فيها مركونة في مفاصلها بعناية شديدة، وبين "كيْف" سامي الدلالة، و" كمّ" قصير يبني رضوانُ معالمَ قصائده، بدقة، في هندسة أنيقة، وديباجة لافتة بين هذين العالمين.

الشاعر، حين يحس بـأنه عطل من أي إضافة، ببساطة لأنه يكون قد وفّى كل ما يريد قوله معبراً عن الفكرة من كل جوانبها، لا يهمه تمطيط النص، بقدر تكثيفه رغم "الهزال "، والأهم هو أن يفلح النص في طرح مجموعة من التساؤلات الذاتية والموضوعية، التي عايشها.

رضوان شاعر مثقف، مولع بالأدب الفرنسي، ويتحدث كأحد أبناء موليير، ولهذا صلة وتأثير واضحان، في بعض قصائد الديوان، من الشاعر آرثر رامبو/ الشاعر المشاء.. وكذلك من غيره من شعراء فرنسا الذين أصابوا هوىً في نفسية رضوان الشعرية.. يقول عن هذا التأثير:

"أكتب وأقرأ كثيراً بالفرنسية وعندي علاقة وطيدة بهذه الثقافة وترجمت العديد من النصوص الإبداعية من هذه اللغة إلى العربية، وأعشق الشعر الفرنسي وخاصة شعراء المدرسة السوريالية: لويس أراغون؛ بول إيلوار؛ اندري بروتون... "

ولعل هذا ما يستدعي قارئاً خاصاً لشعر رضوان، مؤكداً ما يلي "أكتب بلغة شعرية غير عادية، فيها الكثير من الانزياحات اللغوية التي تضع القارئ أمام عدة تأويلات وإيحاءات، والنص الشعري يميز نفسه بالخروج عن المألوف كما هو معروف بعيداً عن التقريرية التي تنعدم فيها نسبة التأويل ويضع القارئ أمام دلالة واحدة رغم اختلاف مستويات القراء وتنوع مشاربهم الثقافية".

الشاعر رضوان مولع بالتراث الإنساني والأساطير، ولذلك تجد الكثير من نصوصه تعكس هذا الولع، يستحضرها باستمرار من أجل إضفاء الجمالية على النص، وكذلك من أجل مساءلة هذا التراث أحياناً.

التراث في " "مرافئ التيهان " عش دافئ يغنيه باستحضار الشخصيات التاريخية والأسطورية {الفنيق، الأندلس، غرناطة، بلقيس، طارق بن زياد، البئر التي تحيل على قصة سيدنا يوسف، رالابويا...} يوظفها، جمالياً، من أجل التماهي مع بعض الحالات والحكايات واستحضارها لتوظيفها.

النورس الرياضي

الأرقام في ديوان "مرافئ التيهان" حاضرة، وبقوة؛ وعموماً، بعض الأرقام، في الأدب، وفي السينما، حظيت باهتمام كبير، نحو، مثالاً لا حصراً، رقم 13 في السينما (الجمعة 13 Vendredi13-)، الغرفة رقم/101 /في رواية جورج أورويل، "1984"..

لنقرأ مقطعاً من قصيدة " لا يشفى بالنسيان أحدٌ" ص /105/:

"قبل أن أرتمي عميقاً

في أزقة الصيف المتشابهة،

المحفوفة بالصدى،

الغارقة في وحل أصوات

الباعة المتجولين،

المكتظة بقسمات الغرباء

الفارّين من جحيم الضجر.

أدلف إلى الغرفة رقم 15،

أطيل النظر في المرآة

كأني أراني أول مرة،

أكتب رسالة طويلة جداً."

فكان سؤالي عن الغرفة رقم {15}.. ما سرها، ولماذا تحديداً هذا الرقم؟

يبرر رضوان ذلك بقوله: "عندما أسافر أطلب الحجز دائماً في الغرفة رقم 15 في الفنادق التي أنزل فيها، وهو رقم أتفاءل به وأعشقه لأسباب ذاتية محضة، ولا علاقة لذلك بالسياسية أو بأي حدث خارجي آخر.

الطائر النورس

للشاعر رضوان علاقة خاصة مع الطيور، أفرد لها قصائد جميلة، وللنورس، عنده، عشق خاص؛ أبيات رائقة عن العصافير نقرأها في قصائد كثيرة من الديوان، وتحصد النوارس حصة الأسد فيها.

نقرأ في قصيدة " على غير العادة" ص /14/:

سأتكئ على هذا الخراب

/.../

لأصنع من غيمة تائهة

في سماء خيباتي

ظلا لأشجار العنفوان

/.../

أو مرفأ ترسو إليه نوارسي

العائدة من إبحارات التعب"

ونقرأ أبضاً في " بقايا جموح" ص /46/:

" يا أيتها النوارس العابرة

في وجع الصباح والمساء.

هل لك أن تهـبي للفنيق

صياح الرياح

أو تقلديه صوت الأنبياء"

وكذلك نقرأ مقطعاً جميلا عن "النوارس" في قصيدة " بلقيس الثانية" ص /63/و/64/.. هذا فضلاً عن كلام شاعري جميل عن "الحَمام" في قصيدة " أقف خارج حقائبي" ص /101/، وعن " طائر أسطوري "في قصيدة" لا يُشفى بالنسيان أحد" ص /107/...وفي قصيدة "البرزخ الذي بيننا" ص /83/، وفي قصيدة " في الشاون ضاع مني ظلي" ص/94/...

أسجل إعجابي بكل هذه القصائد، المطرزة بعقيق " العصافير"، والنورس واسطة عقدها..

هل الطيور هنا مناسبة لتيمة " التيهان" الطاغية في الديوان"؟.. ثم لماذا النوارس تحديداً؟" ما الذي يميزها عن طيور أخرى تغنى بها في ديوانه، يجيبني قائلا:

"النورس طائر دائم الحضور في الموانئ وعلى الشواطئ وعلى السفن وهو ملتصق وملازم لعالم البحر والترحال والتيه. وهو، في نفس الوقت، طائر جميل، ويعيش بقرب البحارة والملاحين، وكثيراً ما تجد البعض منها على سفينة تبحر إلى منطقة بعيدة. عندما أتملى النوارس تجتاحني عواصف من الحنين وأحياناً حالات من الكآبة والسوداوية وأنا أراها تشيع البحارة في رحلة الصيد المحفوفة بالخطر غالباً، أو وهي تحتفل بعودتهم الى الميناء سالمين غانمين، النورس طائر له سطوة عليّ وأجده غريباً وغامضاً، قريباً وبعيداً في نفس الوقت".

النورس يحلق في سماء الطبيعة

يحتفي الشاعر رضوان بالطبيعة بشكل مبهر، وديوانه في "مرافئ التيهان" ممهور بها؛ يتغنى في نصوصه، بالطبيعة، مستحضراً عوالمها (الفصول- الشتاء- القطف -السحاب- العاصفة-البحر- ظلال- عباب- نجمة...)، يقولون " كثير الشعر ألهمته الطبيعة ".. لذا لا غرو أن تُلهمه الطبيعة وتشغف قلبه، ويبحث فيها عن القضايا التي يطرحها؛ علاقته بالطبيعة وطيدة، وعشقه لها كبير، مُعجب هو بالجبال والوديان والبحار والشواطئ، يحمله ذلك للتجوال والسفر إلى مناطق الطبيعية حيث تفتح له سحرها آفاقاً واسعة للتأمل والاستشراف بفعل تناقضاتها المتأرجحة بين السكون، والجموح، والقوة والهوان.

النورس بين القصة والقصيدة

ظاهرة استرعت انتباهي وأنا أستمتع بقصائد " المرافئ"، بدتْ لي بعض النصوص عبارة عن قصص قصيرة، " في المطار"، ص/15/، و"ليل غرناطة السرمدي "ص /15/، و "امرأة خارج الفصول" ص /39/، و"ضفاف قصية" ص /53/.. الشاعر رضوان فيها حكّاء ماهر.. يحرص فيها على الزمكان، والبطل والحدث، والعقدة والتنوير...هو تداخل بين القص ونظم الشعر مطلوب لخلق جنس أدبي واحد هو النص الشعري، لذا لا يخلو نص في الديوان دون لمسة من مقومات الكتابة القصصية كالوصف والحكي.

النورس وضربة المعلم

يقول في قصيدة " اثنان" ص /49 / {أعتبرها مليحة الديوان}:

"واحد تسكنه المسافات

المتدفقة

في أروقة المدى،

وانسيابات الأشياء المضمرة

في طراوة الذهول،

يحمل خيباته واحتضاراته

قيثارة للفلوات

/.../

وآخر فقد نسغ الحياة

فأضرم ظمأ السنين

في أوداجه ثمّ استكان،

في انتظار موت هادئ

وترانيم جنازة سائرة".

"الأول تسكنه المسافات، والآخر/ الثاني فَقَد نسغ الحياة"، أيهما رضوان هنا؟ الأول؟ أم الثاني؟، وإذا افترضنا وجودَ ثالث، ألا يكون ترياقاً لهذا التيه بين المشّاء / الأول، والميّت/ الثاني؟ ألا يُلِح الأول والثاني في طلب الثالث؟ أليس الشاعر رضوان، هو هذا الثالث مثلا، ومن يدري، ربما، هو امتداد لكل الأرقام المتبقية...؟ لاحظوا معي أيضاً - وهذه "ضربة معلم" أسجلها للشاعر رضوان - استعمالاته للفعل في هذا المقطع.. مع "الأول" يوظف المضارع "تسكنه"، ومع "الثاني" يختار الماضي "فَقَــد".. واحد متحرك، والثاني ثابت. عالمان متناقضان.. فما الرسالة التي يبغي رضوان إيصالها؟

يقول شارحاً:

"كل واحد منا يعيش هذا التناقض أو هذه المفارقة، هذا الصراع الدائم والأزلي في ذاته بين الجموح والاستكانة والاستقرار أو التيهان. هذه الأشياء هي التي تجعل الواحد منا مختلفاً ومتميزاً عن الآخر، وليس نسخة منه. أنا الأول والثاني وربما الثالث وإن شئت أنا إلى مالا نهاية، أنا هذا المتعدد وهذا المتشظي في العوالم. فهذه الجدلية هي المكون الأساسي لهذا الكائن التائه الذي يبحر من وإلى مرافئ التيهان"

النورس اللغوي والموسيقي

{ات} حرفٌ صوتي سيميولوجي، يرفرف في "مرافئ التيهان"، كطائر السنونو، فوق كل القصائد بدون استثناء، تَفتتنُ به النصوص حد التماهي في {الشرفات- الشهوات-الغجريات- المتاهات- الراقصات-النهايات-الرقصات- الرغبات-الخيبات- المفازات- المسافات- الاحتمالات- الخسارات- الصباحات-الفلوات- النداءات-القبلات- الهمسات- النايات-الكلمات- الحكايات- القطارات- المساءات- المتاهات- اللذات-الأصوات-البدايات-الجهات-الأغنيات- الغيمات...}، يصل العدد منه لـِ/44 /صوتاً، اثنان منها ( الشهوات – المسافات ) مُكرر كثيراً ؛صدى هذا الصوت يتكرر في آخر السطر/ البيت الشعري كنوتة موسيقية. في سيمفونية رائعة.

لنقرأ مثلا قصيدة " أصداء تأبى الأفول" ص /117/

"لدي الآن ما يكفي

من الخطوات

لألتفت فأراني

لا ألوي على شيء

أثني المسافات

أغالب فيك البعد

بالنبيذ والأغنيات".

وفي قصيدة" في الشاون ضاع مني ظلي" ص /94/:

" والليل يسري بنا

يستدرجنا على منابع اللذات

ولنا كل هذا السكون،

ثم طفقنا نقطف الشهوات

/.../

وعطر جسدها الناصع

يلفني من كل الجهات"

هذا الصوت "روِيّ" مُتوج في نصوص كثيرة كما قلت، ولا تخلو قصيدة إلا صدح به الشاعر، يتكرر في قصائد كثيرة، فيمنحنا، بانسيابية عجيبة، إيقاعاً داخلياً، وخارجياً.. ولعله راهن عليه في موسيقى النصوص، ليسحرَ به القراء.

يعلق قائلاً:

"صراحة أنا أوظف الكلمات والجمل والاستعارات والمجازات التي تليق باللحظة الشعرية التي أكون فيها أثناء الكتابة، ولا أختار كلمات معينة لإثارة انتباه القارئ مثلا أو إبهاره. أنا اكتب لذاتي أولا، ولذلك لا أضع في حسباني، أثناء الفعل الإبداعي، قارئاً معيناً.. وهذا هو الطقس الوحيد الذي أحرص عليه وألتزم به أثناء الكتابة وأحاول إفراغ كل الشحنات الشعرية واللغوية في النص.."

بالإضافة إلى الصوت الموسيقي نقف على صور شعرية جميلة جداً رسمها باحترافية في "مرافئ التيهان".. لنقرأ مثلا في قصيدة "ضفاف قصية" ص /53/ و/54/":

"وهذه النايات البعيدة

تأتيني كأجراس كنائس

تدق في مهب الرحيل

سمفونية هذا الغروب

الذي لا يشبهني،

الملتصق بعُنقي

كأنما خِيط بجلدي."

السؤال هو:" ما هو الشكل الذي اتخذه في الديوان، وتحديداً في رسم "صور شعرية" أخاذة، أهو التقليد والتجديد، أم الترميز، أم أنه رسم أبعاد هذه الصور ودلالاتها على الثوابت البلاغية من تشبيه، واستعارة، وكناية، ومجاز؟

وبشكل خاص ينحاز رضوان بن شيكر في صوره الشعرية إلى استعمال الكثير من الاستعارات والمجازات والانزياحات اللغوية، وهي مكونات تتناسب بشكل جيد مع طريقته في الكتابة، فالشعرية المعاصرة هي كتابة بأكثر من دال، وهي انفجارات متتالية، في اللغة وفي الإيقاع، وفي الزواج الذي يحدث بين البياض والسواد.

يقول:"... عندما أكتب لا أراهن على هذه الأبعاد أو أضع في حسباني هذه التصورات، أنا اقوم فقط بالتقاط الصور والفلاشات وأضعها في السياق الشعري مع بعض التقليم والتشذيب."

أما عن اللغة فيستعمل في "مرافئ التيهان"، بحرص شديد، ألفاظاً وعباراتٍ مُتداولة، ومستهلكة، ولكنه يجعلها، بضربة معلم، تتسربل-انسياباً- في سياق بياني، متحكم فيه، من خلال اللغة وإمكانيتها في الدلالة، والتركيب، والإيقاع... كذلك يُلحف التركيب على مستوى الجملة، معطفَ الانزياح باستمالة لغة الإيحاء، والمجاز، والرمز ...كيف تهتدي لوسائل التعبير في الديوان بهذا الشكل البديع؟

العبارات والألفاظ في الديوان تنتقل من المستوى العادي المستهلك إلى المستوى الشعري الإبداعي الخلاق والخارج عن المألوف، وأعتقد أن هذا الفعل من وظائف الشعر المعاصر مع استعمال لغة شعرية عميقة إضافة إلى توظيف التراث، وهذا ما يضفي جمالية، ويهب للنص الشعري الحديث سمة التميز مقارنة مع النصوص التقليدية الغارقة في الاجترار والابتذال سواء في الثيمات أو الشكل ...وهذا ما يجعل الشاعر ينحاز، بشكل كبير، إلى الكتابة الإبداعية الحداثية لما لها من تأثير ووقع على القارئ من خلال العوالم التي تقدمها له.

يقول رضوان: "الشعر المعاصر ثورة في التعبير والتغيير وهو قبل كل شيء انفعال وتجربة. وقد أثبت عصرنته من خلال ما يتميز به شكلا ومضموناً، فالمعاني عميقة واللغة إيحائية فيها الكثير من التلميح والايماء .فالشعر لم يعد شعر مناسبات ومهرجانات أو مجرد أدب يطالع للترفيه والتسلية."، والشاعر يلجأ إلى الغموض جنوحاً عن التقليد، والسذاجة والبساطة، لذا يقوم بتكثيف الصور الخيالية و اقتحام المشاعر والانفعالات حيث يتلون النص بضبابية غموضية، فاتساع الأبعاد الثقافية وعمقها في عصرنا وتشبع الشعر الحداثي بها من ناحية ثم لجوء الشاعر الحديث الى تقصي ما وراء الواقع، ساعياً إلى استكشاف الجانب الآخر من العالم والنفاذ إلى صميم الأشياء وجوهرها، والانفتاح على عالم الأساطير غموضه وغرابته، من ناحية ثانية، ثم استخدام لغة شعرية جديدة لم تتعودها ذائقة القارئ كل هذا أضفى على الشعر الحديث غياباً دلالياً وتشتتاً في المفهوم، جعل من النص الشعري الحديث أحياناً لغزاً مغلقاً يقف أمامه القارئ العام، بل الناقد المتخصص حائراً وتائهاً.

وأنا أميل إلى الغموض أكثر في كتاباتي الشعرية ولا أحب الوضوح الفاضح الذي لا يترك مجالا لطرح الأسئلة واستقراء التجارب، سواء في الحياة العادية أو في الكتابة، وهي ميزة وليست تهمة وليس في متناول أي كان أن يقدم للقارئ نصاً شعرياً يتسم بالغموض والجمالية في نفس الوقت. فالشعر نقيض البساطة الساذجة والمستهلك من الكلام واللغة، الشعر أعمق وأبعد من ذلك بسنوات ضوئية.

" مرافئ التيهان" أم الديوان النورس

" مرافئ التيهان" عنوان جذاب، لا أنكر، لكني لوقُدر لي أن أختار عنواناً آخر غير هذا "لرسوتُ" دون تردد على " الديوان النورس" ؛ في ص /59/ من ديوانه نقرأ:

" نورس واحد لا يكفي"

نيابة عن كل عشاق حرفك، نطمع في دواوين أخرى، ونوارس مغردة.

ننتظر أن تحلق عالياً، ونقر أ جديدك.

دام لك التحليق شاعري؛ يطيب لي أن أهدي القراء هذه القصيدة من الديوان:

" في الشاون ضاع مني ظلي"

" ضاع مني ظلي

في الشاون تحت ضوء

خافت،

أسفل منحدر يطل

على الهاوية،

كنا اثنان

ثالثنا الرذاذ

المتساقط كمعزوفة أندلسية

تبث بدون توقف،

وعلى صدري تتماوج أنفاسها

كسفن تقاوم الغرق،

والليل يسري بنا

ملتهب الحواس

يستدرجنا إلى منابع اللذات

قالت للسماء نجومها

ولنا كل هذا السكون،

ثم طفقنا نقطف الشهوات

من أشجارها

ونسرق العصافير

من أعشاشها،

وفستانها الأحمر القاني

يعصف بتلابيب قميصي

كهبوب شديد،

وعطر جسدها الناصع

الشفاف

كشهد مصفى

يلفني من كل الجهات

كحنين جارف.

هناك في الشاون

ضاع مني ظلي

متسكعاً بين الأزقة الزرقاء

وفشلت في تعقب أثره،

أغلب الظن أنه

ليس وحيداً

ولن يعود أبداً"

***

ميمون حرش

........................

ملحوظة: المقال مستمد من حوار طويل لي مع الشاعر رضوان بنشيكر، منشور في كتابي "هؤلاء أسعدوا القراء-حوارات العرين " إصدار 2021.

 

تشريح الزمن الشاهدي وآليات الموصوف الصوري

توطئة: تتمازج آليات البناء السردي في مجمل تصورات وتشكلات الأهمية الوظائفية في قصة (القلعة) للقاص محمود جنداري، بما يوفر للقراءة والتلقي ذلك التماسك في عمليتي (السياق ــ الوظيفة) لذا أصبحت جوهر عملية القص في موضوعة القصة القصيرة موضع بحثنا، وكأنها عملية ل (تشريح الزمن) عبر ذلك المحور الشاهدي من حسية المكان السياقي الموغل في محكي رؤية ذلك السارد الذي غدا ينقل لنا مؤثثات النص، كما لو أنه ذلك الناقل الحكواتي لصور وهيئات ومواضع مكونات وشخوص وتواريخ وغبار مداخل تلك المدينة المرجعية. وعلى هذا النحو صرنا نعاين عملية المسرود الذاتي لأهم جزيئيات حكاية القلعة ومجموع تشاكلاتها المرجعية في الحكي الذي أخذ لنفسه ذلك النوع من المسرود العرضي غالبا، مما جعل تمفصلات سياق النص منكفئة على حدود وثيقة موغلة في الهيئة السياقية دون ذلك الولوج التمثيلي لفحوى مستلزمات العاملية الذاتية في وظيفة الحكي المسرود عرضا.

ــ الاسقاطية الفضائية في حكاية الشاهد العاملي

1ــ البنية الزمكانية:

إذا عاينا من جهتنا نحو تلك الأبنية الزماكانية لحدود مسمى (القلعة) لوجدنا ثمة مؤطرات خاصة للمادة المحكية، إذ ألفيناها موسومة بذلك المجسد الزمكاني وبتواريخ ومسميات واستدلالات فقدت بعض من أدوارها المشكلة للمعنى المستقل في مسعى الوظيفة التخييلية. لذا يطول وصف وعرض رحلة السارد الصوري، وهو يجتهد في توفير أقصى الدلالات الثبوتية للزمن المرجعي لذلك المبنى التاريخي النابض بحركة القلق والاغتراب الزمني الفاصل بين مرجعية الحوادث الواقعة في أوليات الطبيعة التاريخية للصرح الحجري (القلعة ؟؟) وبين ذلك السارد الذي يحاول أن يحفز قابليته التخييلية في أضفاء حركة ولمسة وجودية جديدة إلى أولئك الندل والخدم والأسود السبعة وأبوابها المغلقة منذ تمنع الغبار والأتربة عن الكشف عن ملامح الهيئات داخل حواضن القلعة: (فتح الندل أبوابها في وقت مبكر من بعد ظهر يوم الخميس، فأندفع هواء ساخن حار مسعور مفاجىء.اندفع يصخب ودخل الحانة من كل أبوابها فأزاح أغطية الموائد المرمرية الآخذة في التشقق والتلف. ومن الحانة أنطلق الهواء في المدينة يجوب شوارعها محدثا ضجة عنيفة تراجعت مع الظلال داخل أزقتها بعد أختناقها بالهواء الساخن الذي يوحي وكأنه منبعث من جحيم مشتعل. / ص24 ــ مختارات من القصة العراقية الحديثة) ومن خلال تصعيد سياق عنف الزمن الميثولوجي الخارج من بواطن حصون القلعة يتولد الزمن النفسي السارد في دخيلاء العوالم الهيكلية لأرواح الندل داخل الحانة القلعوية، حيث تتسيد تلك الرياح الساخنة كفضاء محمل بروائح وآثار الأسرار والتواريخ والأسلحة والتماثيل التي تحتفظ بها حصون القلعة منذ ربع قرن. إنها أي ـ القلعة ـ مغامرة زمكانية مؤسطرة من قبل مستوى الشكل والمضمون المصائري للوقائع الميثولوجية المدونة فوق أدراج خزانات الملفات والمخطوطات القديمة، أنها إذن ملفوظا لسانيا ـ حكائيا فحسب من وجهة تبئيرات السارد الصوري الذي غدا يؤثث فراغات الزمن الحضوري بالصور والرموز والهيئات المحنطة للندل والأسود والأجساد الخاصة بالجنود فوق مقاعد وأرائك الحانة.

2ــ المنظور اللازمني في رؤية السارد الدمجي:

في وضع آخر، يدمج السارد مستحضرات وجوده اللازمني داخل محددات زمكانية غير منتهية من بناء القلعة: (لم يمض وقت طويل حتى وجدت نفسي أدخل الحانة من بوابتها الأمامية. لا أحد يعرف أين البوابة الأمامية. ليس لدي وقت للانتظار أكثر من هذا، لقد أغلقت منذ ربع قرن وكنت آخر من خرج منها. / ص24) كما يتم الادماج بين زمن السارد مضافا إلى زمن سياق (ربع قرن ؟؟) بأسلوب يكشف لنا بأن الصيغة الظرفية للحال الساردي، لا تفصل لنا بين مروية وقائع الزمن القلعوي وزمن الحاضر الوصفي للسارد: فهل الصوت الساردي هو مرآة مونولوجية تعكس حقيقة الانتماء لذلك الزمن القلعوي ؟ أم أن الصوت السردي في سياق تبئير خطاب ميثولوجي مؤثث بروح حكاية المكان ؟ الجواب إن لغة السارد العليم في النص تشف عن تحقق هوية (السارد الصوري ؟) الذي يتكفل بجمع شيفرات عملية إنتاج المكان ضمن مشخصات تتحرك كدمى متخيلة تضفي على ذاتها طابعا يكاد أن يكون تناصيا إذا شئنا قول هذا أو ما يمنح هوية السرد دينامية تشريحية خاصة في قراءة وتوظيف الزمكانية (المافوق ـ الواقع).

3ــ التشخيص الحكائي: انشطارات آفاق التخييل

لعلنا بعد اطلاعنا على بعض من الوحدات السابقة واللاحقة من الأجزاء النصية، أصبحنا نتوخى دقة المقاربة في مكونات المواضع الخاصة في مسار الصوغ للسارد الحكائي وانعراجاته عبر عوالم امتدادات التذكر والتخيل والاستيهام: (منذ ربع قرن وأنا أتوهم بل أمني نفسي بأن أكون أول الداخلين إليها عند إعادة فتحها، أحاول أن أكون متواجدا مع الندل الأوائل: ميخائيل، وبطليموس، والحمزاوي، ومع الرواد القدامى الأصدقاء: جرجيس، وإبراهيم، ويافث، مع الشيوخ الكبار والأسطوات المهرة في حفر الأقبية وتلسين القبور والمجاري والنقاشون ونقارو المرمر ــ وأحاول أن أكون أكثرهم إلتصاقا بالحانة، مكانا وبشرا، ومسافة الزمن تتوثب عبرها أفكار متوحشة تحاول أن تنطلق خارج معتقلاتها. /ص25) لعل العلامة الوحيدة التي تثبت بكون السارد أداة افتراضية شاخصة بحجر الأساس المفترق بين زمنيين مختلفين، هوذلك الأمر الذي جعل من الفضاء الآنوي له (منشطرا داخليا) أو أنه محاطا في الحد الأدنى بين خطابين (الماقبل ــ المابعد ؟) وصولا إلى قواسم مشتركة بين ماهية الزمكانية الموظفة في كلا الزمنين. وربما نسأل بعبارات موجزة: هل أن السارد ينتمي إلى أحاسيس ذلك المبنى القلعوي كعلامة تتماثل من خلالها جميع وسائط الإمكانية المرجعية في محتوى الحكاية ؟ أم ترى أن السارد راح يدمج فردانية المكان بخلاصات تقاربية من زمنه الاختلافي فغدا بذلك ــ ساردا صوريا ــ يفترض تحفيز العلامات المكانية بحجر من اختلاف الأزمنة ؟ لعل الجواب في أغلب الأحيان هو ما يقودنا إلى تفحص (المتتاليات) السيرورية للزمنين فكلاهما يشكلان بذاتهما حالة من حالات (الأركيولوجيا الاسترجاعية ؟) في الزمن وصولا إلى لحظة من لحظات الطبيعة المكانية والذاتية المسكونة بهاجس الاستبعاد اللازمني أو اللامكاني، أي أن القاص جنداري اراد من وراء عيش سارده المشارك الفات رؤية جديدة بين (الأصل ــ الإظهار ــ التعارض ــ الافتراض) حتى تكون العلاقة بين الزمنين بمعنى رؤية حول تشريح الزمن المنظور وتأسيس نواته من خلال مفترقات شاهدية في دائرة ضوء (الراوي الصوري) الذي يسعى إلى خلق حالات مسرودة عرضا وذاتا لأجل تضمين الحضور بالأفعال المنفية في خطاب سرديات صورية بانورامية تمنح للأشياء خواصية الاستراتيجية الاسطورية وعلاماتها المؤشرة في بنية المسرود كعلاقة رؤية وعلامة وإيحاء.

ــ أسطرة الموصوف وأسطورة الواصف الإمكاني

قد تكون (أسطرة الموصوف ــ الأنا الواصفة) هي السمة الأكثر تحديثا في مراحل نمو الرواية والقصة والقصيدة والفنون الجميلة، خصوصا ونحن ندرس قصة من قصص مجموعة (مصطبة الإلهة) للقاص محمود جنداري الذي أفتتن بوظائف تحفيز المكان السياقي تركيزا ومعالجة وتشكيلا. أردت أن أقول أن ما يهمنا في حيز قصة (القلعة) هو أنضواءها تحت يافطة الأدب المرجعي المؤسطر في الوسائط والانطباع والعلامة والتخييل، لذا فإن المعيار الأوحد في هذا النص القصصي هو (تشريح الزمن) بوسائط مؤسطرة تفصل وتدمج تخوم المكان المرجعي داخل مواقع واصفة بمجريات الأداة الإمكانية. فالموقع المكاني والزمني في هيئة مسرود السارد، غدا مسجلا عبر جهات (مفهوم الراوي = الجهة = مسافة الصور المتخيلة) فالسارد في وسائط النص هو الأداة الواصفة للعوالم الزمكانية للقلعة، وقد تتغير مجريات مدار حكي السارد إلى مستويات معادلة تتمثل من خلالها وسائطية (الإطار اللازمكاني) بصيغة جهات زمنية ومكانية غير متموقعة في مفاصل سياق السرد. ولكن الأبرز من كل هذا، هو ما لاحظناه في كون المتكلم الوحيد في القصة ليس بطبيعته ممن ينتمي إلى المسافة الواصلة بالهيئة الزمكانية للقلعة، إنما هو الحاكي والشاهد والواصف الذي بات متخيلا في اللانتماء لجهات زمنية بكافة عوالمها الموقعية الواضحة والدالة: (كنت أشعر أنني تآلفت بصورة نهائية مع ندلها وظلامها المتربص في الزوايا البعيدة، ورائحتها الآتية عبر تيارات الهواء العنيفة الداخلة والخارجة من أعماق قبو مظلم رطب ملحق بنهايتها. / ص25).

ــ تعليق القراءة:

يحق لنا الجزم بأن نقول أن قصة (القلعة) للقاص الكبير محمود جنداري، هي من النصوص التي أنحصرت بالأساس على عملية إنتاج حساسية الزمكانية المتعلقة ضمن دائرة المتن المرجعي أو السياقي، لذا فإن طبيعة التعامل مع هذا النوع من الموضوعة يتطلب من القاص توظيف ساردا صوريا  ينخرط في استجلاء مادة الحكي في ممارسة حدوثية تكتسب بأنباء النص على وفق أشكال مكانية لها كل التباين في القصد والإيحاء ولها كل المقصدية الحيادية في الانفصال والوصال مع تمظهرات صيغ إبداعية تتعامل مع متواليات الزمن الغابر والحجر الفاتر وكأنهما الاستجابة الأرسالية الرابطة في كفاءة الأداة والعامل والخصوصية المنتجة والمؤولة لمعنى الحدود الممكنة للنص المكثف اعتمادا والموسع اختزالا عبر خاصيات الاضفائية الجمالية لأجل لخلق تجربة الأداة المائزة أثرا وتأثيرا في إنتاج آليات المعنى المفترض.

***

حيدر عبد الرضا – كاتب وناقد

قراءة أسلوبية – نفسية - رمزية في القصيدة الحُلُمية للشاعر والناثر خلدون عماد رحمة.

ينتمي النص الشعري "كنتَ نائماً، تجهلُ ساعةَ يقظتكَ" للشاعر والناثر الفلسطيني خلدون عماد رحمة إلى ما يمكن أن نطلق عليه "الشعر الحُلُمي" أو "الشعر النبوي الباطني"، إذ يتقاطع فيه الحلم مع اللاوعي، والرؤيا مع الانخطاف الوجودي. النص لا يُسلّم مفاتيحه بسهولة، بل يستدرج القارئ إلى طبقات من التأويل والتجربة الذاتية، عبر بنية لغوية غائمة، محمّلة بالرموز والدلالات النفسية العميقة.

فقد استطاع الشاعر أن يسحبنا من خلال منهجه الأسلوبي لينكد لنا أنّ الشعر كلغة للحضور والغائب معاً. فاتجه الشاعر من خلال لغة الظلال أن يفتتح نصّه بجملةٍ ذات توتر وجودي يقول:

"كنتَ نائماً، تجهلُ ساعةَ يقظتكَ".

هنا، نلحظ استعمال الأفعال بصيغة الماضي، والضمير "كنتَ" كاستدعاء لحالة انفصال بين الذات والوعي. إنها لغة تنتمي إلى حقل الحلم، حيث "الزمن" لا يُقاس، واليقظة ليست حدثاً زمنياً بل تجربة وجودية.

الأسلوب هنا يمزج بين الخبر والتجريد، بين التقريري والغنائي. فالجملة التالية:

"جسمكَ خفيف كالظلّ"

تحوّل الجسد إلى صورة متلاشية، غير محسوسة، تكاد تكون استعارية للروح ذاتها. بهذا، يتلاشى الجسد الواقعي ليحلّ محلّه الكيان الإدراكي الحالم.

إنّ كثافة المشهد وضبابية الإدراك ومن خلال الأسلوب الذي ينتهجه الشاعر يقوم على توليد التوتر بين الوصف الحسي والمجرد، كما في قوله:

"تعوم على محيطات فراغ كلّيّ".

العبارة تحقّق ازدواجاً دلالياً: البحر (رمز العمق) مقابل الفراغ (رمز العدم)، ما يولد مجازاً عن حالة التيه الكياني.

هنا أيضاً لا يمكننا إغفال المنهج النفسي – الحلم كصدى لللاوعي الجمعي والذاتي.

فقد كان الحلم بوصفه إعادة تمثيل . حيث يشي النص ببنية حلمية مكتملة – بدءاً من النوم، مروراً بالرؤى الغائمة، إلى مشهدية غامضة يكتنفها الضباب. إنّنا هنا أمام "بنية حلمية كلاسيكية" على غرار ما يتحدث عنه علماء النفس كونها رغبة لاواعية تبحث عن تأويل بصري- رمزي.

هنا تكون الأيادي لامرئية وهي في ذروات الغموض يقول: "كلّما أحسستَ بدغدغةِ الصحو قذفتكَ أيادٍ لا مرئية نحو ذروات غامضة.".

هذه الأيادي تمثل القوَى اللاواعية التي ترفض الاستيقاظ الكامل، كأنّ الذات تحاول بلوغ الوعي، لكن هناك قوة خفية تدفعها إلى الارتكاس.

في ضوء مفاهيم علماء النفس الجمعي، حيث يمكن قراءة هذه "الأيادي" بوصفها "ظلّ الأنا"، القوى النفسية الكامنة التي تمنع تحقيق التوازن النفسي .

في محاولة استقصاء البنية الرمزية التي تبدأ من اللون إلى الفضاء إلى الصوت. نجد أنّ الفضاء الرمزي حاضر بقوة، يقول الشاعر خلدون رحمة: "لا حدّ لهذا الفضاﺀ، لا شكل ولا زمن".

الفضاء هنا ليس توصيفاً مكانياً، بل تمثيلاً رمزياً للحالة الذهنية: العدم، أو ما بعد الوجود، أو ربما ما قبل الولادة الكيانية الثانية.

وهنا يتجلى اللون الأسود الكحلي وبياض الباطن يقول: "كان أسوداً مائلاً إلى الكحليّ... لأنك شعرتَ ببياضٍ يسكنُ باطنه".

هذه الصورة المركبة تشير إلى ازدواجية الرمزية:

الأسود: غموض، موت، لاوعي.

الكحلي: حدّ رمزي بين الظلمة والنور.

البياض في الباطن: أمل داخلي، نور خفي، إمكان الوعي.

إنها صورة مركّبة من الأضداد، تشير إلى تحوّل داخلي وشيك، حيث الظلام يحتوي بداخله نوراً يتململ.

أما الصوت المتكلّم من داخل العتمة فيتمظهر بقوله: "سمعته يهمس من داخله مُتململاً: حجاب العتمة يتآكل من حولي."

الصوت هنا ليس صوت كائن محدد، بل صوت النفس من داخلها، وربما "الذات العليا"، التي تحاول الخروج من شرنقة الجهل أو الغفلة أو التيه.

 الحِكمة الوجودية تفرض نفسها بقوة من خلال (اللذة، اللوعة، المعنى)، يقول:

"متعِبةٌ هذه الرؤى التي لا تُفصحُ عن مُبتغاها، لكنها عميقة... إنها لوعة جديرة باكتشافِ الحكمةِ والمعنى..."

الذات في النص لا تسعى وراء متعة معرفية فحسب، بل تخوض "لوعة" – واللوعة، في السياق الصوفي، مرادف للحب والاحتراق في المعنى. إنها تجربة وجودية-معرفية تُعيد تشكيل علاقة الذات بالعالم: ليست المعرفة هدفاً، بل نتيجة للتيه، للغموض، للبحث في العتمة عن ضوء المعنى.

نجد في هذا النص المتخم بالدهشة، استجواب حالة النسيان كخاتمة مفتوحة للنص.

"والنسيان." كلمة مفردة، في نهاية النص، كأنها تسدل الستار على كل شيء.

هل النسيان خلاص؟

هل هو آلية دفاع؟

أم هو حجاب آخر؟

هنا، يُمكننا العودة إلى المفهوم الفلسفي لهايدغر حول "نسيان الكينونة" – حيث الإنسان يعيش دون أن يعي معنى وجوده.

ربما الشاعر خلدون يشير هنا  إلى أنّ الرؤيا مهما كانت عميقة، تنتهي غالباً بـ"نسيانها"، وأن الحياة تواصل انسيابها رغم كل محاولات الفهم.

خاتمة:

نص "كنتَ نائماً، تجهلُ ساعةَ يقظتكَ" هو نص تحويلي، يُدخل القارئ في بنية حلمية-فلسفية، تتشابك فيها الصور والرموز والمشاهد الحسية مع مستويات من اللاوعي الفردي والجمعي.

إنه نص لا يُفسَّر، بل يُعاش.

نصٌّ لا يبحث عن إجابة، بل يُذكّرك بالسؤال الأساسي: هل أنت نائم؟ وإن كنت مستيقظًا... هل تجهل ساعة يقظتك؟

***

بقلم: عماد خالد رحمة - برلين

...................

النص:.....

كنتَ نائماً، تجهلُ ساعةَ يقظتكَ، عيناكَ مُجهَدَتان وجسمكَ خفيف كالظلّ، لا تستطيع احتواﺀ ذاتك وأنت تعوم على محيطات فراغ كلّيّ، كلّما أحسستَ بدغدغةِ الصحو قذفتكَ أيادٍ لا مرئية نحو ذروات غامضة .

لا حدّ لهذا الفضاﺀ، لا شكل ولا زمن، كم كنتَ تحاولُ التحديق بكلّ ما أوتيتَ من كهرباﺀ الحواس والبصيرة لاكتشاف شيﺀ ما، لكنّ ضباباً كثيفاً تسلل إلى نومكَ وغطى المشاهد بحجابٍ سميك .

تكاثفَ الضبابُ أكثرَ، لكنكَ رأيت، رأيتَ شيئاً ما يحاول البزوغ من الخفاﺀ، لم تكُ قادراً على إدراكِ ماهيّته ومراميه، كان أسوداً مائلاً إلى الكحليّ، لمْ تخفْ منه، لأنك شعرتَ ببياضٍ يسكنُ باطنه، وسمعْتهُ يهمس من داخله مُتململًا: حجاب العتمة يتآكل من حولي .

متعِبةٌ هذه الرؤى التي لا تُفصحُ عن مُبتغاها، لكنها عميقة على أيّ حال، تدخِلكَ في لذّةٍ لا حدود لطاقة نشوتها، إنها لوعة جديرة باكتشافِ الحكمةِ والمعنى  والنسيان .

 

دراسة في رواية (الشبيه) لجوزيف ساراماغو، الفصل الثالث ــ المبحث (3)

توطئة: في سياق تداولنا لجملة فصول ووحدات رواية (الشبيه) لاحظنا بأن لمفاهيم (الحاضر ــ الماضي ــ المستقبل) ثمة عمومية وتخصيصية في الإحالة نحو حركة الأفعال التلفظية في علاقات زمنية وفضائية ذا تركيبات مرتبطة وآفاق متتاليات استعادية في الزمن والتاريخ الذاتي والموضوعي المتشكلان بمقطعات للستباقات والاستعادات التي تحكمهما هواجس السارد العليم بوصفه الصيغة اللانهائية من الدال إلى المدلول المعلن والضمني في البناء الروائي.

ــ الميتافكشن وتمفصلات الصوت الترابطي.

نظرا لحجم وأهمية تقانات (الميتافكشن) في وحدات المبثوث السردي في رواية (الشبيه) عاينا جملة تحقق الشخصيات التخييلية في إتجاه الإحالات والإشارات الذائبة في جمل الفواعل اللغوية والأفعالية كي تتصرف ضمن أفعال التبادل مع الواقع. إذ إننا نلاحظ من جهة ما بأن جميع الأدوار والعوامل الموظفة في السرد تتصل اتصالا مشكلا بين (أفعال الكلام = جهة الإحالة) ومهما تكن وجهة الرواية في المتخيل، فإنها لا تتعدى الكشف بين علاقة المتخيل بالواقع وصولا إلى الهوية التواصلية بمحورية الشخوص ووضعها الخطابي في معطى عوالم الملفوظ.

1ــ العامل الشخوصي وإمكانيات التمثيل الأدواري:

ربما تطل علينا في مباحث دراستنا إلى رواية (الشبيه) بعض من تقلبات الشخصية أفونسو خصوصا وإن منظور التماثل بات واقعا مرجحا بينه وبين ذلك الممثل في شرائط الأفلام ومن الواضح إن إرهاصات ذلك التشابه محكوما بماهية ضاغطة على وتيرة خيارات الشخصية أفونسو باللقاء  به والبحث عنه والخوف من رؤية ذلك الشبيه الملغز في الآن نفسه. ومن هذا المنطلق صار من الضرورة القصوى على أفونسو في أقتناء كافة الأقراص المبرمجة التي كانت تدمج عليها جميع مواد أفلام ذلك الشبيه: (ها هو الآن قبالته مستخدم محل الفيديو، ذلك الذي وجد أن من المضحك أن يكون أسم أحد الزبائن تيرتوليانو أفونس، والذي بعد إنهاء العملية التجارية سيكون أكثر من سبب كاف ليفكر في التلازم بين ندرة الأسم وغرابة تصرف حامله. / ص53 الرواية) ترتبط عضوية الشخصية أفونسو المتنافرة وحدود مظهرها وسلوكها ونعتها في مجال حالة سياقية مغرقة في الإلحاق بالطابع المادي والمعنوي لها داخل حيز ردود عكسية سلبية لدى الناظر لها. فهو في كنيته الأسمية (تيرتولياتو ماكسيمو أفونس ؟) يشكل بذاته علامة كلاسيكية الوقع والتوقع، ناهيك على كونه مدرسا لمادة التاريخ، فبذلك تتوارد إلى السامع عنه ردودا إشكالية مبعثها أن هذه الشخصية ببساطة لا تمتلك أدنى درجة من درجات الأهلية الحداثوية قطعا. لعل جوزيف ساراماغو عادة ما يستخدم في رواياته مسميات مغرقة في غيابها الحضوري. كما الحال مع شخصية أفونسو إذ تنمو وتتصاعد ضمن أثرها الأخلاقي والوجودي والذي بات يؤكد ضيق هويتها التفاعلية. وعلى هذا النحو نكتشف بأن شخصيات ساراماغو هي كينونات غائبة لأنها علامات وإحالات وسائطية في الوضع والموضوعة والذات، ولأنها معيبة في نظر الآخر المجتمعي، وذلك لكونها تشكل بذاتها علاقة تأويلية في الصلة الملموسة واللاملموسة في الغاية الدلالية. وإذا نظرنا على مدار حياة الشخصية في الأحداث الروائية، وجدناها كمحاولة (ميتاعلامية ؟) في الوصول إلى ذاتية وموضوعية ممكنة في الكيفية الميتالغوية الخارجة عن حدود واقعيتها إلى مجال وضعية وقائعية مفرطة في الاستطراد ووقفات وتداخلات صوت السارد عن صيغة البناء السردي. فالسارد بلغة تحويلة نجده يطيل الاستطراد حول حالة تفرعية تتعلق بجملة سياق وحداتي ما، ولكنه يعود مجددا إلى موضع حالة الساردي ضمن ملاءمة مرتبطة بكل سياق لفعل الإحالة والانعطافية الخاصة في الأسباب التي جعلته ينعطف عن سياق الفعل السردي المعاين: (بعبارة أخرى، بينما كانت الإشارة الرئيسية تبدو متسامحة بشكل واضح، وتقول، ما فات قد مات، فإن الإشارة الثانوية، بحذر، تدقق الأمر: ـ نعم ؟، ولكن ليس تماما. / ص51 الرواية) بهذا المثال من الوحدات يفترض بالقارىء أن لا يضيع الخيوط بطريقة غير متتبعة لأسلوب ساراماغو في الاستطراد والأنعطاف، ذلك لأن حسابات المقابلة والمناظرة بين الوحدات تحكمها مواصفات حدوثية مترابطة في الأتصال والامتداد الضمني، فيما تتقدم الأوضاع السردية كمؤشرات معينة عبر حالات الشخوص ومناسبات حضورها الأدواري.

ــ ما وراء كواليس التوقعات وتعدد أدوار الشبيه

1 ــ البنية الحوارية: سياقات خطية داخل المتن السطوري:

لعلنا نقول هنا بادىء ذي بدء: ما الذي أنفرد به جوزيف ساراماغو في مسارات رواية (الشبيه) هل لكون الأبعاد السردية بدت كعبارة عن تراكيب متوترة من الشد الذروي والميلودرامي في مواضع متون الحوارات التي يطلقها تارة السارد العليم وتارة تبدو مبثوثة في محاور منضدة من تكبير حجوم العبارات والجمل طباعيا ؟. لعل ما ينفرد به جوزيف ساراماغو في مجمل رواياته وخصوصا روايته (الشبيه) موضع مباحثنا، هو الأداء في بؤرة الإيحاءات النفسية والحسية والخطابية الموغلة بالتمويه والمعادلات الاحتمالية في الانموذج الوقائعي المتمثل في الصوغ السردي النوعي. نعم أن آليات رواية (الشبيه) مثقلة بالآفاق الدرامية والأوصاف التواترية وكأنها بلاغة من النوع (الظاهر ـ الخفي) إنها بلاغة توالدية من النوع الذي يجعل من طبيعة السرد كإمكانية خاصة في علاقات تماثل وتقارب مع تحولات الأفعال إلى منتج فني يحكم الواقعي بالإشكال التخييلي. إذ تتبين للقارىء مدى الجهد الجهيد الذي بذله الشخصية أفونسو لأجل الوصول إلى هوية ذلك الممثل، مما جعله يفكر بطلب جميع الأفلام الخاصة التي تنتجها شركة الإنتاج: (فكرتي، حتى نبدأ، قال المستخدم، قد عاد من دهشته الأولى، ستكون هي أن نطلب من الشركة المنتجة لائحة بعناوين كل الأفلام: ــ نعم ربما، أجابه تيرتوليانو ماكسيمو أفونسو ؟. / ص55 الرواية) لعل المعاين لمستوى إيقاع الزمن في البنية الحوارية الواقعة ما بين الشخصية أفونسو وذلك المستخدم قد لا يتصور مطلقا بأن هناك مادة حوارية حقيقية، بل إنها أصوات متداخلة مع بعضها البعض يقوم السارد العليم في فرزها بتوظيف خواطري غريب، غير إن فترة لاحقة من الأحداث نكتشف بأن ما كان أقرب للحوار ما هو إلا مفهوم التلفظ لدى السارد العليم نفسه، ولكن الغريب أن ما يقع من محاورة بين الطرفين تأخذ لذاتها بنية ظرفية خاصة في دعم تنقلات المتحاورين الحدثية. لذا نقول أن مظهر الشواهد التي تشغل بعض الفقرات كأنها مجرد معالم تصورية لطرف الشخصية الأولى ــ أفونسو ــ لذا بدت غير عليها وكأنها حوارية بعيدة عن الزمن الفيزيائي لوجودها الخطي والمشخص في زمن الأحداث. قلنا سابقا بأن تجليات الميتافكشن من المنظور الخارجي والداخلي من السرد، وهذا بدوره ما راح يكشف أهمية أن تكون معطيات أصوات الشخوص المتحاورة مظهرا من مظاهر (الصيغة ــ الصوت = وجهة نظر = السارد العليم) كما الحال في مثل هذه الفقرات من السرد نفسه: (بالنسبة للسارد، أو الراوي، على فرضية أنه سيتم لا محالة تفضيل شخصية تحظى بقبول أكاديمي، فإن أصعب شيء، بعد بلوغ هذه المرحلة، قد يكون هو كتابة مسار أستاذ التاريخ عبر المدينة. / ص57 الرواية) ويتكرر المحنى ذاته في أغلب أقسام الفصول الروائية لدرجة وصول الأمر إلى الحد الذي يجعلنا نشعر بأن السارد العليم هو اللسان المركزي في جميع أفعال وأحداث الرواية.

2ــ استطرادات زمن الحبكة وإنفصال آليات السرد

لعل القيمة الدلالية في مستويات النص الروائي ما يشكل لنا اشتغالية حاضرة ومنقطعة في مساحة السرد الروائي، فهناك ثمة ما هو مبثوث من خلال علاقات العوامل والعناصر، كما وبالمقابل هناك ما هو يشكل في حضوره الفجائي انعطافة غير ممهدة تماما. أقول أن عملية ظهور الشخصية ماريا داباش الفجائي في قلب الأحداث كان بمثابة الإقرار بأن الشخصية أفونسو فاقدا للذاكرة تماما، ولكن مع مرور الوقت نستدرك العكس من ذلك، فالشخصية مع مهام جمع الأفلام لذلك الممثل الشبيه، راح يتعامل مع ظهور هذه السيدة المباغت وكأنها حالة طبيعية: (أخرج أشرطة الفيديو ورتبها حسب تاريخ الإنتاج، من أقدمها ــ الشفرة الملعونة ــ الذي يسبق بسنتين الشريط الذي شاهده ــ الإلحاح هو سر النجاح ــ إلى آخر فلم ــ آلهة الخشبة ــ الصادر في السنة الماضية. أما الأفلام الأربعة المتبقية، وفق نفس الترتيب، فهي ــ مسافر من دون تذكرة ــ، ــ الموت يهاجم عند الفجر ــ، ــ دق ناقوس الإنذار مرتين ــ وــ اتصل بي في يوم آخر ــ. حركة رد فعل غير إرادية، ناتجة عن هذا العنوان الأخير، جعلته يلتفت نحو هاتفه الخاص. / ص59 الرواية) من المرجح أن تكون آليات الدلائل غير موثقة أو موثوقة أحيانا خصوصا وإن نسيج الذاكرة الحكائية في الرواية لا يمكن لها الاحتكام على ظهور دالة فعلية في النص بمجرد ظهور التفاتة تصادفية مع عنوان أحدى الأفلام، لذا يتبين من هنا بأن ساراماغو لم يحسن ربط وقائع أحداثه بالأسباب والوسائط الأكثر تبئيرا في مسار علاقات مادته الحكائية , ولا بذلك الشكل الذي جعل منه يجمع كل هذه الأقراص الفلمية لشخصه من أجل الوصول إلى ذلك الممثل. كان من الأنسب على ساراماغو أن يختزل السبل في بناء أحداثه الروائية، لا أن يسلك الاستطرادية سبيلا من شأنه أحيانا أن يفقد المادة السردية تماسكها البنائي والأسلوبي والدلالي والفني. صحيح أن الرواية ضمن طابعها العنواني قدمت لنا موضوعة متفردة عندما يلتقي الشبيهان ولكل منهما يأخذ بثأره من الآخر بقضاء ليلة مع زوجة الآخر وماريا داباش ــ هيلينا)و مع موت انطونيو والشبيه لأفونسو مع ماريا خطيبة أفونسو بعد ذلك الشجار الذي حدث داخل سيارة انطونيو بعد معرفة ماريا داباش بأن الذي مارس الجماع معها في تلك الليلة، ما هو إلا رجلا آخر وليس أفونسو مدرس مادة التاريخ الذي أحببته من كل أعماقها، على حين غرة أصرت هيلينا الزوجة التي واجهت مصيرا مظلما بعد تعرفها على أفونسو الذي قضى معها هو الآخر ليلة حمراء مارس الجنس فيها بكل ممكناته معها، وبعد إخباره لها بموت زوجها، أصرت عليه أن يبقى هو أنطونيو والذي مات هو أفونسو وليس انطونيو الشبيه الآخر.. وهكذا تتواصل الحكاية وحتى الختام بمشهدية رائعة تكشف لنا عن مدى اختلافية المتباينات إذ إنها من الإمكان أن تتكرر في علاقة توأمية جديدة: (جرت مراسم دفن أنطونيو كلارو وبعد ثلاثة أيام. كانت هيلينا وأم تيرتوليانو ماكسيمو أفونسو قد ذهبتا لتلعبا دوريهما، واحدة تبكي أبنا ليس أبنها، والأخرى تتظاهر بأنها لم تكن تعرف المرحوم. كان تيرتوليانو ماكسيمو أفونسو قد بقي في البيت، يقرأ كتاب حضارات بلاد الرافدين، الفصل المتعلق بالأرآميين. رن الهاتف. دون أن يفكر في أنه يمكن أن يكون واحدة من أقاربه أو أخوته الجدد، رفع أفونسو السماعة وقال: ألو ؟ في الجهة الأخرى من الخط صاح صوت مطابق لصوته: وأخيرا ؟. أرتعش أفونسو، في نفس ذلك الكرسي لا بد أن أنطونيو كلارو كان جالسا ليلة أتصل به. الآن، سوف يتكرر الحديث، لأن الزمن ندم وعاد إلى الوراء. / ص349 الرواية).

ــ تعليق القراءة:

ربما الأفعال التخييلية في حبكة الرواية أرادت أن تقابلها مقولة أفونسو منذ فقرات أولى من الرواية بأن علينا دراسة التاريخ من الحاضر إلى الماضي، لذا أراد ساراماغو إعادة الأحداث انطلاقا من لحظة حاضرية انتقالا نحو إعادة انتاج الصورة المضمونية مع شخصية جديدة من حكاية التوأمين، لذا فهي الغواية بالتردد والتدرج والافتعال لأجل خلق حكاية ذا أحداث تحمل أفعالا من الغواية التفارقية. إذن ليس في زمن دلالات الانتعاش الموضوعي في رواية (الشبيه) سوى إختلاف في زمن الحكاية وسردية المفترض في الأدوار ومحاقبة زمن الغواية الجمالية.

***

حيدر عبد الرضا – كاتب وناقد

للكاتبة ولام العطار

الحروب تخلق عالم من الأهوال والكوراث، وتدمر الانسان والحياة، وأول ضحاياها هو الحب، تجعله يعيش أزمة نفسية وسيكولوجية خانقة، وتقود مصيره الى المجهول، تجعل الحياة على محرقة الانتظار الصعب، يتجرع الشعور مرارة الآهات بالسؤال الصعب: متى تنتهي هذه الحرب اللعينة التي جعلت الحياة موحشة وجافة؟، والحروب يعني هلاك الانس والحجر والشجر، جفاف كل ماهو جميل في الحياة، أي تدمير للوجود الانساني، وتطلق عنان الوحشية والعبث في المقام الأول. ومنذ القدم الحضارات القديمة، اهتمت بهذه الناحية وسلطت الضوء عليها، الحضارة السومرية من خلال ملحمة كلكامش ورحلته الطويلة بحثاً عن عشبة الخلود، او عشبة الحب، وحكايات عشتار وخطف الموت حبيبها تموز ونزولها الى العالم السفلي بحثاً عن حبيبها تموز، والحضارة الاغريقية من خلال ملحمة الالياذة في حرب طروادة التي دامت عشر سنوات وانتهت بخدعة الحصان الخشبي، لكنها دمرت الحياة والبشر، ودمرت حب هيلين وباريس، وملحمة أوديسا و عودة اوديسيوس الى حبيبته،هذه العودة استغرقت عشر اعوام اخرى من اهوال والصعاب والانتظار الصعب في لقاء الحبيبة، لذا فأن الادب الحربي يحتل مكانا هاماً في الحياة والأدب الواقعي، لانه يرسم مرآة الحياة في التكلفة الباهظة في التبعيات الحرب المدمرة على الانسان والحياة والحب. وهذه الرواية (انتظرني.. ريثما أجدني) يأخذنا المتن الروائي بسرد الاحداث بلغة شيقة وشفافة، في رؤيتها الفكرية والفلسفية، يكشف عن أفكارها الواقعية، التي تدعو الى التأمل والتفكير، وتسلط الضوء على التكلفة الباهظة للحرب على الحياة والحب على الوجود بصورة عامة، من خلال فتاة عاشقة (سكينة) غارقة في رومانسية الحب الجميل الزاهي بالاحلام والامنيات، طرزت خيوطه الحريرية بين قلبين (سكينة ونوفل الناجي) استغرق عشرة أعوام من الانتظار، ولكن الحرب خطفت الحبيب وكان من ضحايا محرقة الموت ولم يعد، وتركها تعيش في جلباب تلك الاحلام والاماني ولم تستطع التخلي عنها، رغم الحزن والجزع والدموع، لان حبيبها المغدور، رسم لها هالة الحب بهالة جميلة مثل شجرة الأزهار الزاهية، تستنشق عطرها كل يوم، وكل لحظة من حياتها، فكيف تنسى هذا العالم عالم الأحلام الجميلة، وتنتقل إلى عالم الموت (- علمتني كيف اغازل الحب... اكتشفت وأنا أرافق الموت إني احوج ما اكون الى لحظة صفاء، آجعل روحي تعايش حبها، وإلا جفت وماتت)، انها لم تقتنع بموت حبيبها، بأنها خسرت حياتها وحبها، وذهبت احلام الحب مع الريح، لم تقتنع بالفاجعة النفسية التي اصابتها، والتي لا يمكن تضميدها من الجروح النازفة. وكانت تأمل ان تنتهي الحرب لتبدأ مع عشيقها حياة جديدة مكللة باكاليل الحب، فكانت تنتظر بفارغ الصبر نهاية لمحرقة الموت وتقول حبيبها (نوفل الناجي):

- الى متى نظل ننتظر؟

قال وهو يأخذ بيديها التي أحسستها خشنة، دافئة:

- لا ادري يا سكينة... لا أدري متى تنتهي هذه الحرب.

وتلتف بعباءة الصبر الصعب في الانتظار، الذي يغلي بهواجسه في داخل اعماقها، رغم تحذيرات أمها في إشفاقاها الحزين على ابنتها المكلومة :

- خائفة من أن لا يوصلكِ هذا الدرب الى شيء

- لا يا أمي... نحن لا ننتظر سوى نهاية الحرب.

- يا له من انتظار عقيم... لا اظن انها تنتهي قبل نهاية أعمارنا.

وجدت هذه الفتاة العاشقة (سكينة) نفسها في موقف صعب، وقلبها وعقلها يعيشان مع حبيبها المغدور (نوفل)، ولا تصدق نفسها انها خسرت حبيبها وحبها، لا تصدق عشرة أعوام من عمر الحب، ذهبت هدراً أدراج الرياح، وترك رياح الوعة وفاجعة، كل كيانها يرفض شطب مرحلة الحب واحلامه، انها في حالة يرثى لها من الحزن والحسرة والارتباك وتتساءل هل (صارت اعمارنا معجونة بالسواد، وافراحنا مجرد حزن أبدي) كيف الخلاص من هذا المأزق الصعب، كيف تقتنع بالوداع الفراق ؟، بأنها خسرت حبيبها الذي لا يعود، هذا يجعلها في حيرة واضطراب وحالة من الاختناق من هذه الفاجعة السوداء، جعلتها تدمن النظر الى الطرقات، وتتفترس بالوجوه وخاصة الوجوه ذوي الملابس الكاكية في الم وجزع وتقول في قهر (- عودوا ارجوكم كيلا يحس احدهم بعدكم بالحزن) لعل الزمن ينفذ ولا ينقذها من فاجعتها، بل يزيد ويعمق الشرخ، وهي غير قادرة ان تنزع جلباب الاحزان، ويقف الأب بقوة في انتشالها من الواقع الاليم والحزين، ان ينقذ ابنته من بئر الاحزان، ويشد عزيمتها ويقوي عزمها وإرادتها، ويحاول ان يقنعها بما حصل وما جرى من فاجعة حزينة، وهو يدرك عمق المحنة (وكم من الرجال ذهبوا دونما عودة.. تركوا خلفهم احلاما ومحطات من الآمال...امهات وزوجات وحبيبات لست وحدك من سلبتها الحرب احلامها منكِ، مئات يملأ صراخهن الازقة والطرقات.. إن أردت معرفة حقيقة ما فعلته الحرب فاذهبي الى ايما مقبرة لتعرفي اننا كائنات صنعتنا الاحزان..) لكنها تتكور على نفسها على ذكريات الحب واحلامها، وليس لها القدرة على التكيف مع الواقع الجديد المؤلم، وليس لها القدرة على اتخاذ القرار، والبحث عن منفذ للخلاص، وتقول بجزع وانكسار بمحنة عويصة في التخبط النفسي (كيف اشعر ان عذابي يكبر في اعماقي، ولم يبق للسنوات التي أضعتها بين ازقة الانتظار معي مادمت أعرف منذ اللحظة التي اوصلتني الحرب بها الى ضياعه، أنني لا بد ان اصل الى غير نتيجة الضياع... لا بد لسكينة الثانية ان تبحث عن احلام لتزرعها وتثمر فرحاً بمحو احزانها... لكنني اصطدم بما لا اعرف من المخاوف) لذلك تتخذ قرار بدافع وتشجيع من ابيها وامها، ان تجرب رحلة طواف الغربة في عدة بلدان بشكل شرعي او لا شرعي منها (الاردن وفرنسا) عسى ان تتخلص من مأزق أزمتها النفسية بهذا الطواف الكبير بين البلدان حتى تجد محطة الاستقرار، عسى ان تخلق منها (سكينة) آخرى وتشعر بالارتياح النفسي، وتنقلها الى عالم اخر، يجبرها ان ينزع منها جلباب الاحزان والدموع والحسرة، ولكن هذا الطواف لا يفلح في انقاذها، بل عمق أزمتها في الاغتراب الروحي اكثر بالخيبة والضياع، أو ان الغربة عجزت في تضميد جراحها، ويدرك الأب ذلك، بانها تركض خلف السراب ولا ينتهي بشيء جدي، ويقول لها بحنو الاب العطوف (- ان اردت عدنا من حيث جئنا ؟) ولا مجال للانتظار، كما فشلت عشتار بعودة تموز من العالم السفلي اليها، تيقنت ان لا مخرج من محنتها وانما جعلها الطواف في بلدان الغربة، هو الركض وراء السراب (لن توصلها ايامها الى غير دروب حائره ومتاهات أكثر حيرة، عالم مجنون، صاخب بالموت..... لكنها لم تشعر بالانتماء اليه، عالم حاول تدمير نوثتها فجاءت لتدافع عن بقايا المرأة التي تكمن في أعماقها) لتوسي قدرها المكتوب عليها.

***

جمعة عبد الله – كاتب وناقد

 

تتدفّق الرواية بسيل من الأحداث المترابطة مع بعضها في نسق سردي مميز بسلاسته وبساطته وتكامله، ولغة بسيطة قريبة من القارئ ومناسبة للأحداث ومجريات العمل، الذي جاء منذ الصفحة الأولى صادمًا بحادثة موت وفجيعة فقدٍ مربكة، ألقت بظلالها وتركت أثرها الشديد على العائلة، وعلى حياة الصغير اليتيم يحيى، الذي منذ لحظة ولادته صار يتيمًا بلا أم ترعاه وتربيه، ويكبر بين يديها، وتهتم بتفاصيله، وترضعه، وتربي فيه الأمل حتى يبلغ أشدّه. فشاءت الأقدار أن يكبر على هذا المصير الذي صرخ في وجهه منذ اللحظة الأولى التي خرج بها إلى الحياة، تلك الحياة التي بينها وبين الموت مبضع جرَّاح، وإرادة الله التي لا راد لها.

تتحرك الأحداث في الرواية بسلاسة وواقعية، وبترابط تام في سياق متتابع، وهذا يجعل القارئ يمسك بالكتاب من دون رغبة في تركه، مشدودًا لأحداث من واقع الحياة، واقعنا، فلا فرق بين واقع الناس على اختلاف أقدارهم وأماكنهم، وفي التفاصيل ما يجعل الرواية واقعية، أو حتى يمكن القول: شديدة الواقعية في دقة الوصف والسرد والأحداث، ورسم الأمكنة والمسافات. ولأنها بنت الواقع، فشخصياتها تتشابه وترتسم بصورة قريبة من القارئ، فلا تشعر بغربة في فهم مجرياتها، ولا تحتاج جهدًا لتدخل إليها وتدخل إليك.

فرصة ثانية، رواية الكاتبة صباح بشير، الصادرة عن دار الشامل للنشر والتوزيع، تسلط الضوء على نوازع داخلية تسكن الإنسان بعد حوادث الفقد والموت، وتقلبات الشخص النفسية والاضطرابات التي تعصف بالشخص على المستوى النفسي والعائلي، والمحيط الاجتماعي. ضغوط الحياة، ومواجهة المصائر، ومكامن الحب والتردد. صراعات نفسية، وجلد الذات التي تنهرها الذكريات، والحنين إلى فصل الماضي، واضطرار القرارات الصعبة، وخطوات نحو المجهول القلق الذي يخشاه كل من يفكر بعمق في محاولة استشراف المستقبل، ومحاولة رسم غد آمن، هادئ، ومكتمل، وتجليات الاستحواذ على الحاضر بكل ما فيه من اضطراب وتردد. وما يرافق كل ذلك من أحداث كانت كخيط خفيف الظل، يمسك القارئ به من دون عناء، ويواصل قراءة الحكاية بفضول وتشويق، لمعرفة النهايات لأبطال يتحركون في مضمار واحد، مختلفين قليلًا في الصفات، متشابهين ربما في الاضطرابات والصدمات، ومحكومين بالأمل.

فرصة ثانية، محاولة لكشف اللثام عن بعض ظروف الواقع، عن النصف المجهول في حياة البعض، النصف الناقص الذي لا يراه الكثيرون، النصف الذي لا يحضر دائمًا، وهي تجريب لتفكيك عقد كثيرة في الحياة، وأمراض تنتقل وتتوارثها الأنفس من لوثة وثنيات المجتمعات التي تحبو على رصيف الاحتمالات والتردد، والفرضيات المجتزأة المبينة على الاعتقاد المتراكم من حكايات الوهم ومرويات الأولين.

فرصة ثانية تسلط الضوء على فكرة التضحية، وهي فكرة رائجة في العقود الماضية، إلا أنها في سنوات الحاضر باتت قليلة، وهنا الكاتبة لا تتخذها من جدلية الصح والخطأ والحكم عليها من زوايا النجاح والفشل، بل إلى مساحات أخرى، بدون أحكام مسبقة، لتتركها لواقع الأيام، ومصائرها في لعبة الأقدار، والقدرة دومًا على الانبعاث والتجديد، والفرص الأكثر ودًا ودفئًا وجمالًا.

بقي أن أقول لكم أن صباح بشير في روايتها فرصة ثانية حاورت النفس البشرية بهذا العمل في كل تجلياتها، وكشفت عنها أغطية الرجفة، ولامستها في كل حالاتها، ولم تتصنع أبطالها بل أخذتهم على طبيعتهم في صور حقيقية، فكانوا أبناء الواقع غير المتصنع، وقد سلطت الضوء على قضايا يعيشها المجتمع، من خلف الستائر، فكشفت اللثام عن بعض المسكوت عنه، وعمدت على استخدام أسلوب التنوير، الذي يمنح السرد الرؤيا والحكمة والعقلانية ويخدم مضمون العمل وتكامله.

***

بهاء رحّال

 

النص الثقافي: حقيقة الأمر كنت أعتقد بأني أول من انتبه لهذا المصطلح، فعند سماع هكذا جملة أو مصطلح في اللغة العربية، وخاصة الكتابة في حقل الأدب، تبرز عدة تساؤلات من أين أتى هذا المصطلح، وكيف أطلق، وماهي مرتكزاته، ولماذا أُطلق؟ ولكنني بعد بحث في وسيلة (الكوكل) وجدت سعيد يقطين قد تصدى لهذا المصطلح في الجانب السردي، يقول: (يقصد بـ«النص الثقافي» النص الجامع الذي يمثل الذاكرة الثقافية لشعب أو أمة، ويظل يشكل أساس تراثها الذي تعول عليه في تكوين الأجيال. إنه يشكل «الخلفية النصية» التي تتأسس عليها كل النصوص المستقبلية. وليس النص الجامع، بذلك، سوى مجموع النصوص التي تعتبر «الأصول» التي ينهل منها المنتمون إلى ثقافة ما، ويستمدون منها القيم الفنية والمعرفية التي تمثل الهِوية الثقافية المشتركة في شموليتها).

ولكنني أريد ان أكيفه كنص خاص للنصوص الشعرية  التي تهتم بالذاكرة الثقافية للشعوب، فهناك عدة أنواع من الكتابة الإبداعية الشعرية، ومن هذه الأنواع الاهتمام ببعث التراث القيمي للمجتمع سواء كان على مستوى الوطن وما يحمل من مآثر وتراث  شعبي، أو خروج ظاهرة تهديم في قيم وأسس المبادئ التي نشأ عليها الآباء وتحمل من الأصالة والحفاظ على الهوية العربية والعراقية والمناطقية من أن تذهب بمهب ريح التطور الماحي من رؤوس الأبناء الذين سيكونون مستقبلاً آباء، لكي تقطع صلة التواصل بين الأعراف والقيم والمبادئ الأصيلة الجيدة التي تبني الشخصية العراقية تحديدا، [فيقول بول ريكون: (هناك علم ينطلق من المعنى الظاهر للوصول إلى المعنى الباطن والمكنون) وهو ما يحاول بعض الآباء والشعراء نقله ظاهريا لينقلوا ما يحمل الباطن من الإرث الأصيل] والقيم  المستوردة عبر الغزو التكنلوجي من تقطيع أواصر اللحمة العائلية، وقيم الإسلام من برٍّ وصلة رحم، وتوادد وتراحم، وتغليب مصلحة العام على الخاص، والحفاظ على القومية العربية بصفاتها المتوارثة والمنتقلة عبر الدم والتعامل العملي والروحي عبر حقب من الدهر، لهذا وجدت أن عددا من الشعراء ذهبوا لبعث التراث الذي عاشوه أو رُويَ لهم شفاهياً من الأجداد عبر مجالس أو آباء كوصايا للحفاظ على هذا التراث القيمي للشخصية العراقية المتفردة في الكثير من العادات النبيلة المتوارثة، كالكرم والشجاعة والحمية أو ما تسمى (الغيرة العراقية) والتي يدافع أبناء العراق عنها ضد أي باطل أو ظلم والوقوف بوجه المعتدي أو المخرب وأحيانا تصل إلى العراك، دون أن تكون له مصلحة خاصة فيما يفعل، يورد سعيد يقطين عددا من كتب التراث السردية "كتب ابن خلدون في أواسط القرن الثامن: «وسمعنا من شيوخنا في مجالس التعليم أن أصول هذا الفن وأركانه أربعة دواوين وهي: « أدب الكاتب» لابن قتيبة، وكتاب «الكامل» للمبرد، وكتاب «البيان والتبيين» للجاحظ، وكتاب «النوادر» لأبي علي القالي البغدادي، وما سوى هذه الأربعة فتبع لها وفروع عنها». وأضاف كتاب «الأغاني» للأصبهاني باعتباره ديوانا خامسا."

فالنص الثقافي أريده في الشعر ومن وجهة نظري والذي اقتنعتُ بها يقع ضمن المساحة التي تعتني بالتقابل بين أعمال وأعمال، أو حالة وحالة شاذة، أو بين تراث مهني دثر، وبين تجديد نوعي أكثر تطور وأكثر إفسادا من أجل الركون إلى الراحة التي تؤدي إلى الكسل وإنهاء طموح العمل والجد والاجتهاد وفق منشأ المصدر في عصرنا الحالي، فإذا ما صحت نظرتي لهذا الميزان القيمي في شتى أنواعه ماذا يحتاج الشاعر لكي يكتب به، ولكي يتحول من السرد إلى الشعر، ليكون سرد ثقافي لما ذكره الكبير سعيد يقطين ونص ثقافي للشعر بكل انواعه؟

أولا: الإختيار الصحيح للمادة المنتقاة، والخامة المستعملة في النص والتي يتبنى الشاعر من خلالها الهدف المبتغى من النص،  فقد تكون هذه الخامة شخص من المجتمع إضطلع بمَهَمَّة حياتية اجتماعية وسلوك حسِن، أو مهنة هي حاجة ماسة للمجتمع الذي يعيش به، ومن خلال تعامله وإقرار قيميٍّ  في التعامل اليومي لهذا الفرد مع أبناء منطقته أو مدينته، من التسامح والمحبة واثبات أن الدين المعاملة، مما يجعل صفته محمودة بين الناس وعلامة فارقة عن باقي أبناء جلدته الذين يعيش معهم، وقطب قيمي مهما كان بسيطاً، كأن يكون نجارا أو حدادا أو حتى عامل نظافة، أو حارس أو شخصية من وجهاء المنطقة والمدينة وقائم على إثبات تلك القيم والإصول والوقوف بوجه موجات انتهاكها والشذوذ عن مجرى هذه القيم المتوارثة عبر العصور.

ثانيا: المكان سيكون المكان متنوع أمّا مكاناً معيناً في منطقة ما من العراق، كأن تكون قرية أو مدينة مذكورة باسمها وتحمل هذه الصفة بحيث ترافقها لأزمان غير محددة في القِدَم، وأصبحت سمة أهالي هذه المدينة أو المحافظة أو مكانا عائما يتصل بمكانة الراوي الذي أخذ منه الشاعر ما أراد توظيفه في نصه، لكي يضفي شرعية الحادثة أو الموعظة سواءً أكانت ظاهرة كقول ضمن نص شعري أو مستنبطة منه، بمشاركة القارئ الذي سيسقط ما احتوى النص على ما يحيطه.

ثالثاً: الزمان، من العوامل الأساسية أن يكون الزمن الركن المهم في المقارنة، لأن المُنشِيء لا يتحدث عن حالة آنية بل حالة مناقضة توجد لمثلها حالة قديمة أو تراثية قد تهدمت، وربما يندرج النص الثقافي تحت غرض الفخر لما تمتلك قبيلته أو منطقته أو مدينته أو وطنه وأفراده من قيم عُليا وانزاح الناس عنها عبر تحول زمني، وهناك مَنْ لم يهزموا من خلال الثبات والمكافحة والمجاهدة، لكل الموجات الجامحة التي غزتهم، او مقدار الفعل الزمني بعمل أو مهنة او عادة كانت دارجة في المجتمع وقد ذهبت اليوم أدراج الرياح، أو شخصيات كانت تعمل ليل نهار من أجل الصالح العام وتعتبر عملها من الثوابت وتخلّى عن وجود أمثالهم اليوم، أو شذوذ فعلي اليوم مستهجن سابقا ومستهجن قيميا وعرفيا ودينيا وأصبح من البداهة عمله اليوم دون وازع بحجة أن الزمن الماضي عفى عليه القِدَم، وأن الوقت الحالي بكل طغيانه الجارف القادم عبر وسائل التواصل والمخالطة مع الشعوب الأخرى يُعَد تخلفاً.

رابعا: الغاية، لكل عمل ابداعي دوافع ونوازع ومَهَمَّة لابد منها، دعت المبدع لإنتاج ذلك المُنشأ من النصوص، وبما أن النص الثقافي يكتب لغاية فقد تكون إصلاح خلل خلقي ساد في الشارع القيمي للمجتمع، أو نصيحة يراها الباعث هم بحاجة إليها إمّا للتذكير أو للوعظ، أو لإيقاظ الضمائر، أو للفخر بتفرد أبناء مجتمعه فيها، كإجارة المظلوم وحماية الدخيل، ومقارعة الظلم الحكومي التعسفي سواء أكان وطني ظالم أو دخيل خارجي بكل أنواعه، أو الكرم والصفات الإخلاقية الحميدة التي يتمتع بها الماضون عمّا مَن إنهار منها بين الأجيال الحديثة العهد بالحياة، أو حالة وطنية عامة حققت في زمن ما وظهرت اليوم حالة معاكسة لها على كافة الأصعدة، أو شرح من متعلم عليم ببواطن الأمور لبث ثقافة حسنة في المجتمع كأن تكون جمالية أو معرفية أو علمية خافية عن الناس، لهذا أرى أن هناك عدة كُتّاب يحملون هذه الصفة وتعتبر الميزة الحقيقية لهؤلاء الأشخاص على مساحة التواصل الكتابي النوعي بين الخلق، لهذا حينما أردت الكتابة عن مجموعتين شعريتين لشاعرين عراقيين إمتاحوا من اليَّم القيمي للمجتمع العراقي المتنوع بالطوائف والمتشابه جداً بما يحملون من صفات ومبادئ، وجدت بأني بحاجة لإفراد الشعر عن السرد، ولكي لا أجمع بين السرد والشعر في عنوان واحد أن يكون للشعر نصه الخاص، وقد يقول القارئ لم تأتي بجديد، فمثلاً يحمل لنا التراث الشعري عدة اسماء من الشعراء، وظَّفوا ما تقول أو ما تتحدث عنه، تحت مسمى سردي آخر، فأقول ولما لا يكون للشعر مسمى غير مسحوب من السرد، كالحكاية والملحمة والقصة والمسرحية الشعرية؟

المهم أني اكتب بهذا المصطلح وممكن ان يطور وفق منظور أكاديمي علمي أو يدرج ضمن محاولات التغيير الكتابي غير الناجحة وخاصة أن هناك أصوات تعتمد كلياً على التفنيد وربط التجديد بما معمول به في مجتمعات أخرى، وهناك من يدعي بأنه له، وأنا على كل حال ومع كل ما يقال، اتعامل معه وفق رؤيتي وثقافتي ومقدار ما أعتقده لمصلحة الجمع ولا شيء سوى الجمع والله الموفق.

***

عيال الظالمي

.........................

(كتاب غير مطبوع) في حلقات

تُمثِّل صُورةُ البَحْرِ في السَّرْدِ الرِّوائيِّ قِيمةً مَركزيةً شديدةَ الأهميةِ، وتُشكِّل رَمزيةُ البَحْرِ في الخِطَابِ الأدبيِّ مَاهِيَّةً فِكريةً بالغةَ الدَّلالة، حَيْثُ يَتِمُّ نَقْلُ البَحْرِ مِن جُغْرافيا المَكَانِ إلى جُغْرافيا النَّصِّ، وَمِنْ التاريخِ المَادِيِّ للظواهرِ الطبيعيةِ إلى التاريخِ المَعنويِّ للظواهرِ الثقافية.

ويُعْتَبَر الرِّوائيُّ السوري حَنَّا مِينة (1924 اللاذقية _ 2018 دِمَشْق) مِنْ أهَمِّ الكُتَّاب الذينَ كَتبوا عَن البَحْرِ في الأدبِ العربيِّ، ويُعَدُّ أديبَ البَحْرِ بامتياز. يَقُول في ذلك: " البَحْرُ كانَ دائمًا مَصْدَرَ إلهامي، حَتَّى إنَّ مُعْظَم أعمالي مُبَلَّلَة بِمِياه مَوْجِهِ الصاخب، وأسأل: هَلْ قَصَدْتُ ذلك مُتَعَمِّدًا؟، في الجَوابِ أقول: في البَدْءِ لَمْ أقْصِدْ شيئًا، لَحْمِي سَمَكُ البَحْرِ، دَمِي مَاؤُهُ المالح، صِرَاعي مَعَ القُرُوشِ كانَ صِرَاعَ حَيَاةٍ، أمَّا العواصف فَقَدْ نُقِشَتْ وَشْمًا عَلى جِلْدِي، إذا نَادَوْا: يا بَحْرُ !، أجبتُ أنا، البَحْرُ أنا، فيه وُلِدْتُ، وفيه أرغبُ أنْ أمُوت... تَعْرِفُونَ مَعنى أن يَكُونَ المَرْءُ بَحَّارًا؟ ".

إنَّ البَحْرَ في روايات حَنَّا مِينة يُجسِّد الخَلاصَ للفَرْدِ المُنعزِل، والتَّحَرُّرَ مِنْ قانونِ اليابسةِ، والحَنِينَ إلى آفاقٍ لانهائية، واكتشافَ الأحلامِ البعيدةِ التي لَمْ يَصِلْ إلَيْهَا أحَد. وهَكذا يُصبح أدبُ البَحْرِ مِنْ خِلالِ الرِّواياتِ مَنظومةً مِنَ التَّفَاصيلِ والصِّرَاعاتِ والدَّلالاتِ والرُّمُوزِ، حَيْثُ تَنْصَهِرُ بَرَاءَةُ الطُّفولةِ وَطَهَارَةُ المَكَانِ وَبَكَارَةُ الحُلْمِ في بَوْتَقَةٍ وُجودية واحدة.

وقَد استفادَ حَنَّا مِينة مِنْ البَحْرِ في تَشكيل عوالم حالمة، وصِناعةِ شخصيات مُتناقضة، وابتكارِ حَيَوَاتٍ قائمة بذاتها، تَشتمِل على أبعادِ الوَجَعِ الإنسانيِّ، وأسبابِ الصِّراعِ الاجتماعيِّ، ودَلالاتِ مُعَانَاةِ الطَّبَقَاتِ المَسحوقةِ.

إنَّ الفَتْرَةَ التي قَضَاهَا حَنَّا مِينة في البَحْرِ، وَبَيْنَ الصَّيَّادين والبَحَّارَةِ، انعكستْ في البُنى التَّركيبية لأعماله الروائية، حَيْثُ نَقَلَ مِنْ خِلالِهَا تفاصيلَ الحَياةِ البحرية، ومُشكلاتها، وصُعوباتها، والتَّحَدِّيَات التي تُوَاجِه البَحَّارَة، والأخطار التي تُحْدِق بِهِمْ، والكِفَاح المَرِير ضِد قَسْوَةِ الطبيعةِ، وَرَهْبَةِ البَحْرِ، وَضُغوطاتِ الحَيَاةِ.

ولا شَكَّ أنَّ الزَّمَانَ والمَكَانَ يتقاطعان في جَسَدِ البَحْرِ والتَّجَارِبِ الحَيَاتِيَّة اليَومية للبَحَّارَةِ الذينَ يُخَاطِرُونَ بحياتهم مِنْ أجْلِ تَوفيرِ لُقْمَةِ العَيْشِ الكريمةِ لعائلاتهم. وكُلُّ رِحْلَةٍ في البَحْرِ هِيَ رِحْلَةٌ في أعْمَاقِ البَحَّارَةِ وَذَوَاتِهِمْ وأحلامِهِمْ وذِكْرياتهم. وكُلُّ بَحَّارٍ يُعيد اكتشافَ مَاضِيه وتَرْمِيمَ حَاضِرِه في قَلْبِ البَحْرِ بَحْثًا عَنْ مُسْتَقْبَلٍ مُشْرِق، ومُغَامَرَةٍ بَنَّاءَةٍ وَمُثْرِيَة.

وفي الأدبِ العالميِّ يَظْهَرُ البَحْرُ بِكُلِّ عُنفوانِه ورمزيته، ويَبْرُز اسمُ الروائيِّ الأمريكيِّ إرنست همنغواي (1899_ 1961) صاحب رواية (العجوز والبحر/ 1952) التي قامَ بتأليفها في هافانا عاصمة كُوبا. وقَدْ حازَ همنغواي بفضلِ هذه الرِّواية على جائزةِ بوليتزر عن فئة الأعمال الخيالية (1953)، وَجائزةِ نوبل للآداب (1954)، " لأُستاذيته في فَنِّ الرواية الحديثة، ولقوةِ أُسلوبه، كما يظهر ذلك بوضوح في قصته الأخيرة     (العجوز والبحر) "، كما جاءَ في تقرير لجنة نوبل.

تُصوِّر الروايةُ الصِّراعَ بَيْنَ الإنسانِ وقُوى الطبيعة، وجَسَّدَه في بطلها العجوز (سانتياغو) معَ أسماكِ القِرْشِ المُتَوَحِّشَة والسَّمكةِ الكبيرة الجَبَّارة في البَحْرِ، وتَتميَّز الرِّوايةُ بِخِبرات واقعية بِعَالَمِ البَحْرِ، وَتُظْهِر قُوَّةَ الإنسانِ وتَصميمَه وَعَزْمَه عَلى نَيْلِ أهدافِه، والوُصول إلى مَا يَصْبُو إلَيْه، وإمكانية انتصاره على قُوى الشَّرِّ والطبيعةِ، وَفْقًا لِمَقُولةِ همنغواي الشهيرة: " الإنسانُ يُمكِن هَزيمته، لكنْ لا يُمكِن قَهْرُه ".

إنَّ البَحْرَ مُسْتَوْدَعٌ للحِكَاياتِ الشَّعبيةِ، والأساطيرِ المَوروثةِ، وَالعَواطفِ الإنسانية المُعقَّدة، وعَناصرِ الشَّخصياتِ التي تُكَافِح للحُصُولِ عَلى مَوْقِع عَلى خَريطةِ المُجتمع، وتُعَاني للحُصولِ عَلى مَكَانٍ تَحْتَ الشمس. وإذا كانَ الشُّعُورُ الإنسانيُّ هُوَ النُّقطةَ المُشتركة بَيْنَ الأزمنةِ المُختلفة، فَإنَّ مُطَارَدَةَ الحُلْمِ هُوَ العَامِلُ المُشترك بَيْنَ الظواهرِ الطبيعيةِ والظواهرِ الثقافية.

والبَحْرُ يُمثِّل الانطلاقَ نَحْوَ فَضاءات مَفتوحة، ويُجسِّد الانعتاقَ مِنْ قَسوةِ النِّظامِ الاستهلاكيِّ الماديِّ في المُجتمع، حَيْثُ يَتِمُّ تَقْديس العاداتِ والتقاليدِ أكثر مِنْ إنسانيةِ الإنسانِ. والبَحْرُ يُعيد بِناءَ الإنسانِ مِنْ جَديدٍ، ككائنٍ حُرٍّ ومُتَحَرِّرٍ مِنَ الاغترابِ والاستلابِ، وهَكذا يُصبح حُضُورُ البَحْرِ في السَّرْدِ الروائيِّ تَعْوِيضًا عَن غِيَابِ الإنسانِ في ضُغوطاتِ الحَياةِ، وإفرازاتِ الأحداثِ اليوميةِ. وأيضًا يُصبحُ وُجُودُ البَحْرِ في الخِطَابِ الأدبيِّ استمرارًا للفِعْلِ الاجتماعيِّ والفاعليَّةِ الجُغرافية، لَيْسَ عَلى مُستوى الحُدودِ والمَساحاتِ فَحَسْب، بَلْ أيضًا عَلى مُستوى المَعَاني والكلماتِ، وبالتالي يَصِيرُ البَحْرُ أبجديةً جديدةً تُوَازِن بَيْنَ مَشاعرِ الشَّخصياتِ وَوَعْيِ المُجتمعات.

والبَحْرُ في السَّرْدِ الروائيِّ يَحْمِلُ مَعنى الوِلادةِ الجَديدةِ للكَلامِ عَن طَريقِ المَاءِ، حَيْثُ تَغتسِل فِيهِ عناصرُ اللغةِ، وَتَتَدَفَّقُ كَمَا تَتَدَفَّقُ الأمواجُ. والماءُ سِرُّ الوُجودِ وأصْلُ الحَياةِ والإبداعِ، وهذا يُشير إلى أهميةِ المَاءِ كَعاملٍ أساسيٍّ في الحَياةِ، وكَأداةٍ للإبداعِ في الرَّمزيةِ اللغويةِ، والسَّرْدِ الروائيِّ، والخِطَابِ الأدبيِّ. والمَاءُ أساسُ كُلِّ شَيْءٍ حَيٍّ، ويُعْتَبَر مَنْبَعًا للإلهامِ والتَّنَوُّعِ، ويُسَاهِم في تاريخِ الوُجودِ، والحَضاراتِ الإنسانيةِ، والابتكاراتِ المَعنويةِ والمادية.

***

إبراهيم أبو عواد / كاتب من الأردن

لم يكن طريق الأدب والخَلْق والإبداع دائماً مفروشاً بالورود والأزهاروالزّرابي المبثوثة، بل إنّ غيرَ قليلٍ من المُبدعين الكبار من أدباء وشعراء وكتّاب ورسّامين وموسيقييّن، وسواهم عاشوا حياة الشظف وعانوا من مظاهرالفقر والخصاصة، وتجرّعوا كؤوس الحنظل، والمرارة، والعلقم، وحاق بهم الفشلُ في حياتهم في مختلف جوانبها، في الحبّ والزواج والعمل، والصحّة النفسيّة والبدنيّة، وفي مجالات كتاباتهم وإبداعاتهم كذلك.

أنطولوجيا الشّعراء المُنتحرين

كثير من هؤلاء المبدعين الذين صادفهم سوءُ الطالع في حياتهم، وقادتهم ظروف العيش إلى ضرب عرضَ الحائط نعمةَ الحياة التي وهبها الله لهم، فارتمى بعضُهم في أحضان التّهلُكة، وزجّ آخرون بأنفسهم في هوّات التّيه، ومتاهات الجنون و ودهاليز الضلال مُعجِّلين بخَلاصهم المحتوم. مصير هؤلاء الشّعراء يبعث على الشّفقة والأسى والأسف. هناك كتاب للأديب الإسباني "خوسّيه لويس غاييّرو" تحت عنوان «أنطولوجيا الشّعراء المُنتحرين» أو المُحبَطين ترجم فيه للعديد من هؤلاء الكتّاب والشّعراء الذين ناف عددُهم المُرعب على الخمسين شاعراً وكاتباً وأديباً. عزاء القارئ أنّ هؤلاء (المبدعين) المارقين الذين يضمّهم هذا الكتاب بين دفّتيه ينتمون برمّتهم لبقاع وأصقاع ومناطق جغرافية نائية عن عالمنا ومحيطنا.

تقول الشّاعرة والناقدة اللبنانية جمانة حدّاد صاحبة أنطولوجيا كبرى شبيهة بكتاب غايّيرو، عن هذا الكاتب ضمن حوار كان قد أجراه معها إيلي الحاج لـ "دروب": " هذه الأنطولوجيا هي الوحيدة التي تعالج ثيمة الانتحار، على حدّ علمي، لكنّها تعاني ثغرات كثيرة، منها أن غاييّرو أحصى فقط 53 شاعراً منتحراً، وقد انطلق في إحصائه من سنة 1770، وهو لم يركّز على حقبةٍ زمنية محدّدة في القصائد، ما ضعضع الاختيارات، وجعل بينها تنافراً مزعجاً؛ وأن نصف أسمائه من شعراء اللغة الاسبانية (إسبانيا والقارة اللاتينية)؛ وأنه تغاضى عن أسماء شعرية مهمّة ومعروفة، ما كان ليكون من الصّعب عليه حصدها وضمّها، من أمثال تور أولفن، وتوفا ديلفسون وأميليا روسيللي وآنا كريستينا سيزار…الخ؛ وكما أنه لم يكلّف نفسه عناءَ البحث عن أيّ شاعر عربي منتحر".

يقول الكاتب الأرجنتيني الراحل الذائع الصّيت خورخي لويس بورخيس، في قصيدة له تحت عنوان «الانتحار»: " لن يبقى هناك أيّ نجم في الليل… لن يبقى هناك ليل… سأموت ومعي مجموع… هذا الكون الذي لا يطاق… سأمحُو الأهرامات الأوسمة… القارات والوجوه…سأمحو تراكم الماضي… سأحيل التاريخَ غباراً، والغبارَ غباراً…سأرى آخر شمس شارقة… سأسمع العصفور الأخير… سأوصي العدم إلى لا أحد".

ومعروف أنّ بورخيس لم ينتحر، ولكنّ الفكرة المشؤومة لابدّ أنّها راودته، ودغدغت شياطينَ شعره وأدبه، لقد واصل الحياة بإمعان،وصبر، وعناد، متحديّاً ومتحمّلاً عاهةَ العمىَ التي أصابته خلال رحلة عمره المعنّى إلى أن جاوز الثمانين بسنين، وسئم معها تكاليف الحياة، كما أنّها لابدّ أحوجتْ سمعَه إلى تُرجمان!

في كتاب "خوسّيه لويس غاييّرو" الرّهيب والمُريب، نجد قصصاً وحكاياتٍ ونبذاً عن حياة كلّ واحدٍ من هؤلاء المبدعين المنكودي الطالع، صفحات هذا الكتاب ترتجفُ لقراءتها القلوب، وتقشعرّ لها الأبدان. يشير الناقد الاسباني "كارلوس أثانجو" في هذا القبيل إلى أنه بالفعل: «ليس في مقدورنا إيجاد أيّ تفسير أو تبرير لهذا المروق الفكري، والنفسي، والجنوح العقلي لهؤلاء، والطامة الكبرى أنّ بعض هؤلاء الشّعراء انساقوا نحو الانتحار بواسطة الإلهام الإبداعي ذاته عندهم. وقد اقتصر بحث المؤلّف في هذا الكتاب بالفعل -كما ذهبت الشاعرة جمانة حداد- على إدراج الشّعراء الغربييّن من أوروبييّن،وأمريكييّن. وهذه بعض النماذج من هؤلاء المارقين، مع إطلالات عن حياتهم، وإبداعاتهم، وعذاباتهم ومعاناتهم:

نِيرْفالْ.. أبوالسُّوريالييّن

"جيرار لابروني دي نيرفال" (1808 ـ 1855): كان من أكبر الشّعراء الرومانسيّين الفرنسيّين، زار سورية، ولبنان، ومصر، وشمالَ أفريقيا، ويؤكّد أندريه بريتون في بيانه السّوريالي الشهيرعام 1924 أنّ نيرفال كان أوّلَ من استعمل مصطلح السّوريالية في مقدّمة كتابه «بنات النار» (1854). كان قد شرع في ترجمة «فاوست» لجوهان فون جوته، الذي تحمّس لهذا العمل لدرجة أنه سلّمه المخطوط الأصلي باللغة الألمانية لهذا الكتاب. وعندما بلغ 26 سنة من عمره ورث ثلاثين ألف فرنك فرنسيّ ذهبيّ. وكان يكتب باسمٍ مستعار وهو نيرفال. أقنعه بلديُّه ومعاصرُه الكاتب الفرنسي "أونوري دي بلزاك" بإنشاء مجلة بهذا المبلغ، إلاّ أنه بعد مرور سنة واحدة، كان قد أفلس. وعندما بلغ الواحدة والثلاثين من عمره، لم يعد لديه مسكن يأوي إليه، فى رواية يُقال أنّ (جيرار دو نيرفال) انتحر شنقا في 26 يناير 1855، جرت عملية الانتحار في درب عطن مغمور بباريس يدعى vieille lanterne. كان الشاعر حينها في السادسة والاربعين من عمره. ويقال كذلك فى رواية أخرى أنه في عام 1855 اكتشف سكّير متشرّد عربيد في أحد أزقّة باريس جسدَه مُسجىً على الأرض، مُغطّى بالثلوج. يُخبرنا خورخي لويس بورخيس أنّه لم يعرف السعادة في حياته، كان يتذكّر، في حالة ضيقه النفسي، واستحضاره لوالدته، قصيدة نيرفال ( le malheureux ) أي التّعيس التي يقول فيها متذكّراً أمّه بأنّ ( آخر نجماتي ماتت). من أعمال نيرفال: «رحلة إلى الشّرق» (1854)، «بنات النار» (1854)، «أوريليا» أو حلم الحياة (1855)

النوم الأبديّ

"ألفونسينا ستورني" (1892 ـ 1938) عادت ألفونسينا ستورني من سويسرا إلى بلدها الأرجنتين بعد أن كانت أسرتها قد هاجرت من هذا البلد الأمريكي اللاتيني إلى سويسرا. وبعد وفاة والدها، اشتغلت في مصنع للنسيج، كما اشتغلت نادلة، ثم ممثّلة، ثم أصبحت بعد ذلك أستاذة في مدرسة اللغات الحيّة عام 1935 في بوينس أيريس، كان هَوَسُها البحث عن المساواة بين الرّجل والمرأة، ومنذ 1916 نشرت أوّل دواوينها الشعرية، وأصبحت امرأة مشهورة تقرأ الشّعر في الأحياء الفقيرة في بلدها الأرجنتين،على غرارالشاعر التشيلي نيكانور بارّا. كان شِعْرُها حزيناً مؤثّراً يعانق الآلام والخوف، ويطفح بالمشاعر الفيّاّضة. وبعد عودتها من رحلتها الثانية لأوروبّا اكتشف الأطباء أنها كانت مريضة بالسرطان، وذات مساء من شهر أكتوبر من عام 1938 خرجت من منزلها وضاعت في غياهب المحيط الهادر ببحر الفضّة في الأرجنتين. بعد أن تركت قصيدة مكتوبة بلون أحمر على ورق أزرق تحت عنوان «سأخلد للنوم الأبدي». من أعمالها «قلق غصن الورد» (1916)، «السّنة الحلوة» (1918) «الكسل.. (1920).

مارينا تسفيتيفا: معاناة لا تنتهي

 يعتقد النقاد أنّ الشاعرة الروسية مارينا تسفيتيفا (1892- 1941) كانت ضحيّة عصرها، كانت حياتها سلسلة من المعاناة الدائمة، والعذاب المتواصل وقد صادفها سوء الحظ،والطالع العاثر حيث قادها كل ذلك إلى الانتحار، بعد أن جاوزت سنّ الأربعين بقليل، كانت تنتمي لأسرة ميسورة بورجوازية راقية، ولقد ألحقت الثورة الروسية أضراراً جسيمة بها وبعائلتها، بعد أن صادرت السلطات الرّوسية ثروات زوجها الذي كان يعمل في الجيش الرّوسي، ثم اختفى فجأة بشكل مؤقت، وماتت ابنتها أمامها تتضوّر جوعاً لأنه لم تعد لديها أطعمة تقدّمها لها. وفي عام 1922، تلتقي من جديد مع زوجها ثم تتّجه نحو براغ ثم إلى باريس، حيث تقيم لمدّة أربعة عشر عاماً. وبعد قراءتها نصّا لبلادمير ماياكوفسكي اقتنعت أنّ مكانها الحقيقي هو روسيا، حيث انتقلت عائلتها قبلها إلى هناك عام 1937 في انتظار أن تلتحق بها، وبعد سنتين من وصولها إلى بلدها، اكتشفت مارينا تسفيتيفا أنّ ابنتها تمّ إدخالها إلى أحد معاقل التعذيب، وأنّ زوجها تمّ إعدامه. فاتّجهت 1941 نحو قرية إتبورجا حيث انتحرت شنقاً.

سأمٌ كلُّها تكاليف الحياة..!

سيزاري بافيزي (1908 ـ 1950) كتب الشاعر الإيطالي بافيزي ذات يوم يقول: «سيأتي الموت وسوف ينتزع عينيك»، إلاّ أنّ الموت لم يسعَ إليه، بل هو الذي سعى إلى الحِمَام سعياً حثيثاً بتاريخ 26 أغسطس عام 1950، حيث ابتلع 16 علبة كاملة من الحبوب المنوّمة. أصبح بافيزي يتيماً في سنّ مبكرة، وهو لمَّا يتجاوز بَعْدُ الستّ سنوات من عمره، وعندما بلغ التاسعة عشرة كان قد طفق يعبّر عن ملله وسأمه من الحياة وتعبه منها على طريقة أبطال بلديّه الروائي الايطالي ألبرتو مورافيا، حيث كان يسمّي نفسه «أستاذ في فنّ عدم الاستمتاع بالحياة»! وبعد أن حصل على دكتوراه من تورين عمل في دار النشر إيناودي، وفي عام 1935 حكم عليه بثلاث سنوات سجناً نافذة لتدخله في حياة خليلته السّابقة «تين» وخطيبها الذي كان من مسيّري الحزب الشيوعي الإيطالي، وبعد خروجه من السّجن اكتشف أنّ حبيبته «ذات الصّوت الملائكي الحُلو» هجرته إلى الأبد وتزوّجت غيرَه. وبعد عام 1941 طفق في نشر الرّوايات الواحدة تلو الأخرى. وعلى الرّغم من النجاح الواسع والباهر الذي حققه، فإنّ ذلك لم يكن سبباً كافياً لاستعادة توازنه النفسي، وبعد بضع سنوات وضع حدّاً لحياته.

الحُبُّ يُعرّي تعاسَتَنا

غابرييل فرّاتير (1922 -1972): ينتمي هذا الشاعر لجيل الخمسينات، وهو يُعتبر من أكبر الشّعراء الاسبان الكطلانيين المعاصرين. وصفه نقادُه بأنه كان شديدَ الذكاء والفطنة، إلاّ أنه كان عاثر الحظ، سيّئ الطّالع، قليل المال، كان في غرفة أحد الفنادق، وقد ترك رسالة يقول فيها «الواحد منّا لا يجعل حداً لحياته بسبب حبّ امرأة، بل إنّه يموت وحسب، لأنّ أيّ حبّ يؤرقنا، ويفضح بؤسَنا، ويعرّي تعاستَنا وخذلانَنا، ويجعلنا نغوص في هوّة العدم السحيق ». كان باحثاً مجيداً، وناقداً فذاً، ومترجماً حاذقاً لأرنست همنغواي، وسيزاري بافيزي، كان غابرييل فرّاتير قد حدّد نهاية لحياته في الخمسين من عمره، وقبل استيفاء الأجل، ربط كيساً من البلاستيك حول رأسه.

لعنة الدّفاتر الصّفراء..

 الشاعر الاسباني بيدرُو كاسارييغو (1955 ـ 1993): كان يقول: «لو أُطلق يوماً اسمي على أحد شوارع مدريد فإنّه سيكون ولا شكّ شارعاً بارداً» إلاّ أن أشعاره لم تكن كذلك، بل كانت تحفل بالدفء والحرارة والقوّة والعنفوان، كان يكتب أشعاره وكأنها روايات متشابكة متسلسلة مترابطة، تكوّن في النهاية قصّة محكمة متراصّة شعراً. من أعماله: «الحياة ضجَر»، وغنيّة عن التعريف في الأدب الاسباني المعاصر دفاتره الشهيرة«الصفراء والحمراء والزرقاء والخضراء». كان رسّاماً بارعاً كذلك، وقد خلّف لنا رسومات في جودة متناهية. وفي عام 1993 ولدت ابنته الوحيدة خولييتا التي أهداها إحدى قصصه. إلاّ أنه بعد يومين من نشر هذا الكتاب وضع حدّاً لحياته في ظروف غامضة.

حشت جيوبَ مِعطفها بالحِجَارة

البريطانية الشهيرة فيرجينا وولف (1882-1941) كتبت إلى زوجها قبيل أن تحشو جيوبَ معطفها بالحجارة وتلقي بنفسها في نهر قريب من منزلها تقول: «أشعر بأنني أكاد أفقد عقلي، أظنّ أنّنا لا يمكننا أن نتحمّل مرّة أخرى تلك اللحظات الرّهيبة، لقد بدأت أسمع أصواتاً، ولم أعد أستطيع التركيز، لقد وهبتني كل السّعادة الممكنة، حتى جاء هذا المرضُ اللّعين، وبدّد سعادتنا وأحالها إلى جحيم لا يطاق، لم يعد في مقدوري مواجهته، أو مصارعته، بدوني أعرف أنّك تستطيع أن تعمل كذلك، سوف تفعل، إنّني على يقين من ذلك، لقد أصبحتُ عاجزة حتى عن الكتابة كما ترى، كما أنّنى لم أعد أستطيع القراءة، لقد كنتَ صبوراً وطيّباً معى إلى أبعد حدود، لقد فقدت كلَّ شئ إلاّ طيبوبتك، لا أريد أن أجعل حياتك جحيماً أكثرَ ممّا أنت فيه بسببي، لم يكن هناك شخصان سعيديْن في هذه الدّنيا مثلما كنّا نحن الاثنين".

بُذور الإحباط و السّوداوية

يتساءل الناقد "غارسيا بوسادا": هل يحمل الادب الحديث في طيّاته بذور السوداوية والإحباط والشرّ إلى هذه الدرجة؟ على الرّغم من أنّ هذا الأدب موسومٌ بآثار الطلائعيين الذين يعتبرون هم بدورهم أبناء شرعييّن للشّعر الرومانسي الحالم، فضلاً عن أنه داخل الأدب فإنّ الشّعر بالذات يُعتبر أرقى ضروب الفنون جميعاً وأرقّها وأرقاها. يشير صاحب الكتاب أنه وضع هذا المؤلَّف تكريماً للفشل مع اعتبارات أخرى، ويكفي أن نذكر هنا أنّ صاحب رواية «الغريب» الفرنسي ألبير كامو علّق ذات يوم على ذلك فأشار إلى أنّ هذا النّوع من الفشل غالباً ما يُقترن بالطموحات الكبرى التي يستحيل تحقيقها.

إنّ الشّاعر عندما يبحث عن التوازن النفسي،والعقلي في الحقائق الحياتية، وفي مواطن ومناهل الخلق والإبداع الفنيّ التي تناغي ضميرَه، فإنّ ذلك يشبه التعلّق أو التشبّث بكتلة خشب، أو بكومة قشّة في لحظة الغرق، إنّ «جوته» في بعض شطحاته الفكرية أنقذه أبطالُ أعماله من الدّمار، فالرّواية الرّومانسية ظهرت تحت شعار الحبّ القاتل، واقترنت بأعمق معاني الصّبابة والوله والهيام والجوى. كلّ هؤلاء هم ضحايا تفكيرهم المنحرف وحُكمهم على الحقائق والواقع والأشياء فكانت حياتهم عذاباً مقيماً، وبينهم وبين الموت والحياة خيط رفيع. إنّ الرّموز التي تطفح بها أشعارُهم والمِزاج السّّوداوي الذي يطبعهم يزيدنا حيرةً وقلقاً وذهولاً، ويرسم نصبَ أعيننا علامات استفهام ضخمة بشأنهم. لا نجد أجوبة كافية، وموفية، وشافية لها.

***

د. محمّد محمّد الخطّابي

كاتب، وباحث ومترجم من المغرب، عضو الأكاديمية الإسبانية الأمريكية للآداب والعلوم بوغوطا كولومبيا.

 

"للشاعرة د. مرشدة جاويش

The Fragmentation of the Self and the Ambiguity of Vision in the Poem "A Withdrawal Behind the Vision’s Back" by Dr. Murshidah Jawish 

تنطلق هذه القراءة من مقاربة تفكيكية تأويلية تستند إلى مفاهيم جاك دريدا حول الاختلاف والتأجيل، وتستنير برؤية بول دي مان حول انفصال القول عن المعنى في الشعر الحداثي.

يندرج نص "نأي في قفا الرؤيا" ضمن تيار الشعرية الحداثية المتشظية، وهي شعرية تتأسس على تقويض البنية المرجعية للذات، وانزلاق الدلالة الأحادية. ما يجعل النص أشبه بمرآة معتمة تعكس ذاتاً مأزومة، متصدعة، وعاجزة عن بلوغ يقينها الداخلي. هذا التيه الوجودي ليس مجرد خيار جمالي، بل هو استراتيجية فكرية تعبر عن انسحاب المعنى وانهيار المرجعيات الكبرى، كما تؤكده نظريات ما بعد الحداثة.

فالقصيدة تتبدى كخطاب داخلي مأزوم يعيد إنتاج ذاته عبر تموجات متكررة من التساؤل والشك، ما يجعلها نموذجاً لانفجار المعنى وتفتته. هذا الخطاب، الذي لا يطمح إلى إنتاج معنى مغلق أو رسالة واضحة، كما يرى ميشيل فوكو في أركيولوجيا المعرفة، فإن خطاب الذات الحديثة يتأسس على الفراغ لا الامتلاء. أي الذات التي "تتكلم في الفراغ"، وتحاول الإمساك بكيانها عبر اللغة، لكنها لا تجد سوى مرايا مشروخة تعيد إليها أشكالاً من التبعثر.

من هنا، فإن النص يتبنى بنية الأسئلة الأنطولوجية المفتوحة التي لا تروم الفهم بقدر ما تعمق تفتت الهوية، على نحو يحول القصيدة إلى فضاء سردي شعري يتقاطع فيه البعد الذاتي مع التفكيك اللغوي والمعرفي. فلا ذات متماسكة يمكن الإمساك بها، ولا رؤية مكتملة يمكن الاتكاء عليها، بل محاولات مستمرة للهروب من الفراغ نحو فراغ آخر. هذا التوتر بين الذات والرؤيا هو ما يمنح النص عمقه الحداثي، ويضعه في قلب أزمة المعنى التي تعانيها القصيدة الحديثة.

الذات والغياب في أفق التفكيك

تمثل القصيدة تجربة وجودية عميقة تنبثق من ذات تمخر غمار العدم بحثاً عن يقين مفقود، لكنها لا تجد سوى تشظيات لغوية، ومرجعيات متآكلة. فليست الذات في هذا النص كياناً ثابتاً أو مركزاً معرفياً، بل هي أثر لغوي، تظهر في انكسارات الوعي وتهويمات الذاكرة. وهي بهذا تتطابق مع مفهوم "الذات المؤجلة" عند جاك دريدا، إذ تتشكل الهوية بوصفها عملية لا نهائية من التأجيل، لا تدرك إلا عبر الاختلاف والانزلاق.

نقرأ في أحد مقاطع القصيدة:

"أُسائِلُكَ:

هَلْ كُنْتَ ظِلًّا تَسَلَّلَ مِن سُدَّةِ الماءِ؟

أَمْ وَهْماً أَخْفَقَ في رَسْمِ خارِطَةِ الجُذورِ؟"

هذا التساؤل لا يبحث عن إجابة بل يؤكد العجز عن الوصول إليها. فالذات لا تستجلي حقيقتها بل تتساءل عن كونها وهماً أو ظلاً، ما يجعلها كائناً لغوياً مشتبكاً مع ذاته، مهدداً بالانمحاء. ومن اللافت أن أدوات الاستفهام هنا لا تنتج معرفة، بل تعمّق الهوة، ما يعكس انزلاق النص من وظيفة التقرير إلى وظيفة التشظي.

كما أن استخدام مفردات مثل "ظلّ"، "سدة الماء"، "وهم"، "خارطة الجذور"، يكرس هذا النزوع نحو اللايقين الأنطولوجي، ويحول الذات إلى طيف زائل في مرايا اللغة. بهذا المعنى، فإن انهيار تصور الذات لا يتم عبر سياق نفسي أو سردي فقط، بل يتجلى بوصفه تفكيكاً معرفياً يؤكد هشاشة الوعي الإنساني، وانكساره أمام رهانات المعنى.

إن الرؤيا هنا ليست نبوءة أو استبصاراً، بل تمثل العجز ذاته. فـ"قفا الرؤيا" عنواناً دالاً يحيل إلى موقع خلفي، معتم، لا يطل على أفق، بل يلامس ما بعد الرؤيا، أي غيابها. وبهذا التوصيف، تتحول القصيدة إلى ميتافيزيقا للغياب، لا بوصفه لحظة عارضة، بل كجوهر ملازم للكينونة الشعرية.

انزياح اللغة وتكثيف الصور: شعرية التفكيك وجماليات التشظي

تشكل اللغة في قصيدة "نأيٌ في قفا الرؤيا" البنية الحاملة لرؤية شعرية قائمة على الانزياح الجذري من مألوفية التعبير إلى مناطق التوتر الدلالي والتراكب الرمزي. فالنص لا يسعى إلى الإبلاغ أو التوصيل، بل يطمح إلى إنتاج أثر جمالي قائم على التفكيك و الإرباك، وذلك عبر آليات أسلوبية تتضمن الانزياح، والتكثيف، وتعدد الطبقات الدلالية للصورة الشعرية.

في هذا السياق، تمارس الشاعرة اشتغالاً مكثفاً على الصورة الشعرية بوصفها تجلياً لتوتر الذات وانفصالها عن الواقع والمعنى. لنأخذ المثال التالي:

"كَفُتاتِ نُجومٍ عَرَفَتْ طَريقَ السُّقوطِ

دُونَ أَنْ تُلَوِّحَ لِسَماءٍ تَغافَلَتْ عنها"

هذه الصورة الشعرية المركبة تقلب النسق الرمزي التقليدي رأساً على عقب. فالنجوم، التي ارتبطت في الذاكرة الثقافية بالهداية والنور والأمل، تتحول إلى "فتات"، أي بقايا مادية منهارة، فيما تغدو "السماء" – رمز العلو والحضور الإلهي أو المطلق – كياناً متغافلاً، غائب الاستجابة. هذه التحولات تندرج ضمن ما يمكن تسميته بالتقويض الرمزي، حيث يتم قلب التمثلات الثابتة لصالح دلالة مفتوحة، سلبية، ومتوترة.

وتأتي هذه الصورة بوصفها نموذجاً لما يسميه رولان بارت بـ"الكتابة الدرجية" (writing degree zero)، حيث لا يعود النص أداة لقول فكرة ما، بل يصير ذاته موضوعاً للقول، مما يؤدي إلى تعليق المرجعية الخارجية للغة، وتحويل النص إلى فضاء ذاتي خالص. إن هذا التعليق للدلالة المستقرة، وهذا الانتقال من "المرآة" إلى "المتاهة"، يعكس تأثير النظريات ما بعد البنيوية، ولا سيما مفاهيم جاك دريدا حول تأجيل المعنى واختلافه (différance)، إذ تصبح الصورة الشعرية تجسيداً ملموساً لانزلاق الدال عن المدلول.

من جهة أخرى، فإن الانزياح اللغوي يتجلى ليس فقط على مستوى الصورة بل في بناء الجملة الشعرية ذاتها، التي تنكسر على نحو شعري بعيد عن السياق التركيبي المألوف، مما يخلق حالة من الانفصال الإيقاعي والدلالي تسهم في بناء ما يمكن تسميته بـ جمالية التشظي. في هذا الإطار، تتحول القصيدة إلى بنية مفتوحة تقاوم التفسير الأحادي وتدعو إلى تأويل تعددي يقوم على استكشاف الفجوات والفراغات أكثر من تتبع المعاني المغلقة.

وباستخدام هذا الأسلوب، توظف الشاعرة استراتيجية الغموض البناء، لا بوصفه تعمية بل كأداة للكشف عن أزمات الذات والكينونة واللغة. فالغموض هنا لا يعني الغلق، بل يعني التوتر بين التمثل والانفلات، بين الدال والمدلول، بين الذات وظلالها المتكاثرة.

وعليه، يمكن القول إن القصيدة، عبر انزياحاتها اللغوية وصورها المركبة، لا تكتفي بتفكيك العالم بل تعيد تشكيله ككابوس جمالي متشظ، حيث المعنى لا يمنح، بل يطارد في مرايا اللغة المنكسرة. إن هذه الممارسة الشعرية تنتمي بوضوح إلى أفق القصيدة الحداثية المتأخرة التي تتكئ على الرؤيا المضادة واللغة النقيضية لتوليد شعرية التبعثر واللايقين .

تتحول القصيدة إلى بنية مفتوحة تقاوم التفسير الأحادي وتدعو إلى تأويل تعددي يقوم على استكشاف الفجوات والفراغات أكثر من تتبع المعاني المغلقة.

كما يتواشج البعد الدلالي مع الإيقاع الداخلي للنص، الذي يعتمد على التكرار والانكسار العروضي لإنتاج حالة من التوتر الموسيقي المكمل لحالة التشظي، مما يعزز الإحساس بالانفصال والانهيار الداخلي للذات.

التناص وانفتاح النص على مرجعيات متعددة

ينفتح النص على شبكة من التناصات الرمزية والثقافية التي تغني معناه وتعمق هشاشته في الوقت ذاته:

تناص قرآني/صوفي:

عبارة "سُدّة الماء" توحي بتناص مع رمزية الماء الصوفية كمرآة للروح وتستدعي صورة يوسف في الجب...

قول الشاعرة : "استعد وهْمَك من جُبّ الكشف" يعكس تناصاً مع مفهوم الكشف الصوفي لكنه يوظف بشكل معكوس للكشف عن الخواء لا الحقيقة.

تناص شعري حداثي:

تتقاطع عبارات مثل "مرآة وهم لا يُبصر" و"نور خذلك" مع شعر أدونيس ومحمود درويش حيث الرؤيا تتحول إلى خيانة أو عجز...

كما أن فكرة "الركض نحو النور" المحبط تستدعي أصداء من قصيدة "أنشودة المطر" للسياب، لكن بإعادة تفكيك دلالتها..

تناص أسطوري/كوني:

سقوط النجوم دون وداع السماء يحيل إلى أسطورة إيكاروس الذي خانته أجنحته وارتطم بالفراغ لكن دون الاعتراف من السماء أو الخلاص...

بهذا، يتجلى التناص في القصيدة ليس كإحالة معرفية بل كاستراتيجية تفكيك مرجعي للرموز الكبرى التي طالما شكلت الوعي الجمعي ...

اقتبس قول  لبول دي مان:

"ما تقوله القصيدة ليس ما تعنيه، وما تعنيه لا يمكن قوله."

القصيدة بوصفها اختباراً للتيه

تمثل قصيدة "نأيٌ في قفا الرؤيا" نموذجاً شعرياً متقدماً لجماليات ما بعد الحداثة، حيث تنسحب المعاني من مركزيتها التقليدية لتتوزع بين ظلال الدال واحتمالات التأويل. فالحضور يتحول إلى أثر لغوي هش، والمعنى يغدو ظناً مهدداً بالانهيار، والرؤيا تتبدى كاحتمال مراوغ يتوارى كلما اقتربنا منه.

تقوم الشاعرة د. مرشدة جاويش بتفكيك البنية المعرفية والرمزية لكل من الذات والعالم، لتنتج خطاباً شعرياً قائماً على التوتر، واللايقين، والانفتاح التأويلي. لا تقدم القصيدة يقيناً، بل تخضع القارئ لاختبار جمالي ومعرفي يتطلب مساءلة مستمرة، وتأويلاً متعدد المسارات. ويغدو التلقي، تبعاً لذلك، فعلاً شاقاً للقبض على المعنى في فضاء لغوي مشبع بما يمكن تسميته بـ"العنف الصامت"، حيث اللغة متماسكة لكنها مشروخة من الداخل، توحي أكثر مما تصرح، وتراوغ الكشف في كل مستوى من مستوياتها البنيوية والدلالية.

وعليه، فإن "نأيٌ في قفا الرؤيا" ليست قصيدة عن الغياب فحسب، بل هي ممارسة شعرية حية للتيه كاستراتيجية وجودية وشعرية وتأويلية معاً..

وبهذا، تضع د. مرشدة جاويش قصيدتها ضمن امتداد واضح لحساسيات القصيدة العربية الحديثة التي نحت نحو الغموض البناء وتفكك اليقين، كما نجد في أعمال أدونيس ومعين بسيسو وسعدي يوسف…

***

د. فاطمة عبد الله

......................

نَأْيٌ في قَفا الرُّؤيا

يَتَنَفَّسُكَ النِّسيانُ مِن شَقِّهِ الأَعلى

ويَذرُفُكَ سِرّاً على قارِعَةِ الاحْتِمالِ

كَأنَّكَ نُقْطَةٌ في حافَّةِ التَّكْوينِ

أو نَسْمَةٌ عَلِقَتْ

بِثَوْبِ مَلَكٍ خانَهُ البَياضُ

أُسائِلُكَ:

هَلْ كُنْتَ ظِلًّا تَسَلَّلَ مِن سُدَّةِ الماءِ؟

أَمْ وَهْماً

أَخْفَقَ في رَسْمِ خارِطَةِ الجُذورِ؟

تَغورُ عُروقُكَ في مِلْحِ صَمْتي

ويَتَدَلَّى سُهادُكَ مِن أَعْمِدَةِ اللّازَمَنِ

كَفُتاتِ نُجومٍ عَرَفَتْ طَريقَ السُّقوطِ

دُونَ أَنْ تُلَوِّحَ لِسَماءٍ تَغافَلَتْ عنها

وَكُلُّ تَأويلٍ يُصَفِّي رُؤاكَ

يَعودُ إِليكَ غَريباً أَعْمى

يُصَفِّرُ في فَجْوَةِ الظَّنِّ

كُلُّ ما كنتَ

أو تَوَهَّمْتَ أَنَّكَ كنتَ

فصَرتَ نُقْطَةً داكِنَةً

في مِرْآةِ وَهْمٍ لا يُبْصِرُ

يا أَنتَ

أيُّ عُزْلَةٍ أَوْرَثَتْكَ هذا التَّشَظِّي؟

أيُّ مَدىً نَحَتَكَ صَمْتاً على صَمْتٍ

حَتّى تَوَهَّمْتَ أَنَّكَ تَسْكُنُكَ؟

كَمْ مَرَّ طَيْفُكَ في نُسُجِ الرُّؤى

وَما اسْتَبانَ مِنْهُ سِوى صَهْدِ التَّيْهِ!

كَمْ رَكَضْتَ نَحوَ نُورٍ خَذَلَكَ

تَستَجْدِي الرُّؤيا من كَفِّ خَواءٍ يَتَضَخَّمُ

انْهَضْ

واسْتَعِدْ وَهْمَكَ

مِن جُبِّ الكَشْفِ

واقْطَعْ خُطاكَ الأَخيرةَ

في لُجَّةِ النُّورِ الّذي يُكَذِّبُكَ

فَها أَنا

أَكْشِفُ حافَّةَ جَحيمٍ

يَبْتَلِعُ سُؤَالَكَ

دُونَ أَنْ يُجيبَ

ولَمْ أَعُدْ أَذكُرُك

إِلّا كَمَنْ مَرَّ في مِلْحِ جُرحي

ولَمْ يَتَّسِعْ لي

***

مرشدة جاويش

ورقة التوت

يحيى السماوي

أنا ليس لي أخوة

والطريقُ يخلو من بئرٍ وذئاب

كنتُ عارياً إلاّ من ورقةِ التوت

فمَن الذي قتلني

وأتى إليكَ بقميصي الملطّخ بدمي يا أبي؟

***

النص الشعري نوع من المعادل الحياتي للانسان الذي تأخذه اللحظة صوب التلاشي.. انه عملية تكثيف وخلق من خلال ارتطامه بالواقع.. لتحقيق التوافق بين الوجود الانساني والحلم الذي يولد وسطه..

وباستحضار النص الشعري (سؤال غير عفوي).. لمنتجه الشاعر يحيى السماوي.. الذي نسجه على بناء فني يحتضن حكاية الزمن (قصة يوسف واخوته) التي لا تنتهي مع قدرة على منح الصورة الشعرية بعدها الحقيقي.. اضافة الى اعتماده تقنية التناص الذي ظهر في الشعر المعاصر بحكم الترجمة وتأثيرها على المنتج والنتاج الادبي.. لانه يكشف عن ثقافة شمولية كما في نص الشاعر السماوي الذي يتخذ من سورة يوسف ثيمة متمثلة في (اخوة يوسف والبئر والذئب) التي شكلت جسد النص وفضائه.. فضلا عن اضفائه قيمة فنية ودلالية وإبداعية على عوالم النص ألتي تقوم بتوضيح فكرة محركة للذاكرة واثراء معنى وخلق صورة شعرية تمتاز باستطالتها ووقوعها في اسر السردية الشعرية.. المحققة للتكنيك الشعري الذي يعتمد التكثيف والايجاز والاختزال الجملي والضربة الاسلوبية المفاجئة في نهاية النص.. فضلا عن اعتماده تقنيات فنية واسلوبية كالاستفهام الذي من خلاله يجسد المنتج معاناته وتجاربه الشعورية من خلال التساؤلات الاستفهامية التي تعد وسيلة من وسائل اتساع المعنى وإثرائه وتنويع الأفكار والصور والمواقف وكل هذا يكشف عن عمق تجربة المنتج، وبراعته في التعبير عما أحس وأدرك خلال مسيرته الشعرية...

أنا ليس لي أخوة

والطريقُ يخلو من بئرٍ وذئاب

كنتُ عارياً إلاّ من ورقةِ التوت

فمَن الذي قتلني

وأتى إليكَ بقميصي الملطّخ بدمي يا أبي؟

فالشاعر يمزج العاطفة والطبيعة بالواقع.. كي يحقق ربطه بين الوجد والوجود والكلمة.. ومن ثم توحده والطبيعة ونقلها من حالة استاتيكية سلبية مستقرة الى موقف انساني باسلوب فني حي بدينامية التفاعل والتجاوب مع الوجود الانساني..

وبذا قدم المنتج (الشاعر) نصا تداخلت مكوناته واللحظة المخترقة للثابت والمتجاوزه لعوالمه.. كون الابداع تجاوز وتخطي.. مع اتكائه على المضامين اليومية باحداثها ولغتها واسلوبها القائم على التناص الذي يكتنز دلالتين مترابطتين: الدّلالة الأولى جماليّة تمنح النص توهّجًا وعمقًا وخصبًا وانفتاحًا على الكثير من الاحتمالات والرّؤى... والدّلالة الثانية هي المنفة الفكرية التي تدفع المستهلك (المتلقي) لقراءة النّص والغوص في مكوناته المشهدية الملائمة لكل زمان ومكان وبعث الحــياة فيها عــبر العــلائق القائمة على التّـــلاقي أو التّــعارض أوالتكثيف او التوسع... كي ينقل تجربة صادقة مؤثرة بحسها الانساني الواقعي...

***

علوان السلمان – ناقد عراقي

الشاعر المهندس "ناظم عبد الجبار العلوش" من مواليد "دير الزور" عام 1962، عضو اتحاد الكتّاب العرب – جمعية الشعر. حاصل على شهادة الهندسة الإلكترونية من جامعة "حلب". وله أربع مجموعات شعرية، هي: "رحلة العمر"، "أغنيات للحب"، "احتراقات"، "حبة هيل"، وهو إعلامي شغل منصب مدير المركز الإذاعي والتلفزيوني في "دير الزور" لعدّة سنوات. بدأ الكتابة الشعريّة في نهايات عام 1970، وأخذ ينشر في الصحف والمجلات السوريّة والعربيّة عام 1982، وشارك في مهرجانات شعريّة، وحاز على عدّة جوائز. هو شقيق الشاعر الراحل "جمال علوش" الذي تأثر به كثيراً.

يكتب الشاعر "ناظم علوش" الشعر العمودي وشعر التفعيلة والشعر الشعبي الفراتي، وله نبضات نثريّة، ويكتب المقال الصحفي، وله تجارب في القصة القصيرة.

يقول عنه الشاعر "أبو بكر عزت" :  كثيرا ما تناول الشاعر " ناظم علوش" في أشعاره الهمّ الوطني والاجتماعي، إضافة إلى الغزل وقضايا أخرى كثيرة. كتب للأنثى والفرات كثيراً، وارتبط عشقهما بقصائده، ثم تنامى هذا الحب ليصل إلى مرحلة حب الوطن، الحب الذي عاشه في أوجاعه وخيباته ونكساته، فأصبح أبجديّةً له أستمد منها تلك الشحنة، التي أفرغها في قصائده لتسيل نزفاً على صفحات الكتابة التي لم تهدأ منذ عرف وطنه العربي من المحيط إلى الخليج.. لقد كتب في مختلف أصناف الشعر، إلا أنه أميل إلى شعر التفعيلة والشعر العمودي، مع عدم التنكر للنثر والشعر الشعبي.

البنية الدلاليّة للقصيدة:

جاءت سيمائيّة عنوان القصيدة "هذيان" ليس رمزاً لمن أسكره خمر العنب، بل جاء الهذيان في قصيدته رمزاً لمن اتعبهم قهر الواقع وظلمه واستبداده، ففقدوا ملكة الإدراك حتى تلاشت قدراتهم على قول الحقيقة لِمَا أصاب الوطن، الذي تحول نتيجة الخوف من ظلم المستبد الحاكم إلى رمز أيضاً جسده الشاعر في امرأة وجد في عينيها المتعبتين مساحة كبيرة من السكر أو غياب الوعي تأخذه لبلاده التي يحلم أهلها بالخبز والمعبر، بعد أن أحاط بهم الحصار من كل الجهات حصار الظلم والجوع والاستبداد، وحصار أعداء العقل والحرية واحترام المختلف. يقول:

أثمل

حين أصادف في عينيك

مساحة سُكْرٍ

تأخذني

لبلاد تحلم بالخبز وبالمعبرْ

يخاطب الشاعر وطنه المتعب.. هذا الوطن الذي جسده كما قلنا رمزاً في امرأة أصبحت شفاهها مثقلةً وعاجزةً عن الكلام من قهر الواقع ومعاناة أهله ومستبديه، ورغم كل هذا القهر يظل الوطن عند أهله حباً وعشقا كما يقول الشاعر. إن هذا المواطن الذي أثمله أو أسكره واقعه المرير في وطنه، لم ينس هذا الوطن الذي سكن في دفاتر ذاكرته وأصبح جزءاً من كينونته. يقول:

أثمل

حين تصير شفاهك

مُثقلةً بلهيب السكّرْ

وأعلّم أجوائي

كيف يطير السكران

على نسمة عشقٍ

في وطنٍ يسكن في دفترْ

نعم.. إن شاعرنا رغم ما يعانيه من حسرة وألم على معاناة وطنه الصغير سوريا، والكبير عالمه العربي الذي شكلت فلسطين هاجسا عنده وعند كل شرفاء هذه الأمّة، إلا أنه لم يزل يحلم بأمل الخلاص وحصول أهل فلسطين على حقوقهم وحريتهم، فالورد الذي شكّل يوماً أملاً عند الشاعر، يكاد يتحوّل عنده إلى خرافة بعد أن غاب عطره، وغابت معه أحاسيس من يقود البلاد بأوطانهم وشعوبهم، ولكن رغم ما ينال أهل فلسطين من قتل وتدمير وتشريد وتجويع، يظل هناك أمل يَحْمِلُ الشاعر لربيع آخر خارج المحسوس.. ربيع صوفي عانق روحه الهائمة في فضاءات حب الوطن رغم جراحاته حيث يقول:

أثمل

والورد خرافةُ أشعاري

يحملني لربيع صوفيّ النظرةِ

أعشقه

رغم خريف العمر

وقحط بنادقنا

رغم تساقط أزهار اللوز

على أرض (فلسطين)

يعود الشاعر المتعب في واقعه وهواجسه وأحلامه ليخاطب وطنه بصيغة المرأة.. وقد أثقله ما يعانيه وتعانيه بلاده من قهر حتى تحولت مسيرة حياته في هذا الوطن إلى مسيرة جنون، فراح يرسمه رغم هذه المسيرة المشبعة بالجنون، لوحات عشق تظهر فيها مفردات حياته، ويرى دروباً من الأمل ستطرقه خطا عشاق هذا الوطن، وهو أمر ليس مستحيلاً عند الشاعر، حيث يقول:

أثمل يا امرأة

من عمر جنوني

وأصبّ الخمر

كم يرسم لوحة عشقٍ

تتلون أشيائي

في حضرة هيبتها

وأرى كيف يجيء الدرب

على وقع خطانا

ليس غريباً هذا الدرب

مع وجود مساحة من الأمل والتفاؤل بمستقبل أفضل، إلا أن ما يراه في وضع أطفال وطنه الذين فرض عليهم من يحكم هذا الوطن عيش القهر والجوع والاستبداد، فيحزنه حالهم بعد أن زرع مستبدو الوطن في نفوسهم وعقولهم الحزن وغيبوا الفرح. لقد سرقوا أفراحهم ورموها فوق طرقات وطنهم التي لم تعد طرقات.. فوق طرقات وطن لم يعد حكامه يهمهم إن عاش عشاقه أو ماتوا. يقول:

ويحملني القدح الخامس

لبلادٍ

علمت الأطفال الدمع

قبيل البسمات

لبلادٍ

سرقت فرحتنا

ورمتها فوق الطرقاتْ

لبلادِ

لا فرق لديها

إن عاش العاشقُ..

أو ماتْ.

البعد الاجتماعي في النص:

إنّ الأديب الحقيقي الملتزم بواقعه الاجتماعي، شاعراً كان أو قاصاً أو روائيّاً، لا يفصل الحالة الأدبيّة التي يشتغل عليها عن الحالة الاجتماعيّة التي تحيط به أو ينشط داخلها، لما بينهما من ترابط عضوي، وتشابك يصل إلى حدّ التماهي، إنّ الأديب الواقعي يظل جزءاً لا يتجزّأ عن محيطه ممثلاً في أسرته ومجتمعه وأمته ووطنه، فهو في كينونته ظاهرة اجتماعيّة بامتياز، تنطلق من المجتمع لتصبّ فيه، وهو أيضاً جزء من تراث هذه الأمّة في مرحلة اجتماعيّة معيّنة عبر التاريخ، أي هو جزء من ماضيها ومؤسس بالضرورة لمستقبلها أيضاً..هو الطاقة الابداعيّة التي تعكس حال المجتمع في تحوّلاته المستمرّة، وبناءً على كل ذلك هو صورة المجتمع. فليس دوره مقتصراً على تصوير الواقع وقضاياه فحسب، بل عليه أيضاً أن يعمل على تنميته وتطويره من خلال إظهار عوامل تخلفه ورسم الحلول لتجاوز معوقات هذا التخلف.

الصورة في النص الشعري:

تظل اللغة في نحوها وبلاغتها ومحسناتها البديعيّة، كالترادف، والطباق، والمقابلة، والتقديم والتأخير، والتورية، وكثرة الانزياحات اللغويّة، والصور البيانيّة كالتشبيه والاستعارة والكنايّة، وتراكيب جملها، أداةً للتصوير الأدبي في الشعر. والشعر من الفنون الجميلة، له غاية جماليّة وفكريّة هي التأثير في المتلقي. والشاعر يصل لهذه الغاية عند جعل اللغة التي يستخدمها أكثر تأثيراً من خلال استخدامه للمفردات اللغويّة بطريقة خاصة، تختلف عن الاستخدام العادي أو المعياري لها في حالة التداول اليومي المباشر بين الأفراد والجماعات. إن الشعر فن ينتهي إلى غايته الجماليّة والتوصيلية عن طريق اللغة التي يشكل منها الشاعر عالمه الشعري. فالشعر كما يقول أحد النقاد هو (تفكير بالصور). أي إن الصورة هي أساس بناء الشعر.

إن الشاعر بوساطة التصوير الشعري، يقوم بعمليّة التخطي والتجاوز للمعني الإدراكي المباشر للأشياء، أي هو يقوم بإلغاء العلاقة الأصليّة الحقيقيّة الموجودة بين الدال والمدلول، محاولاً خلق علاقة جديدة بصور ذهنيّة، رغم أنها متخيلة ولكنها علاقة تظل مرتبطة في الواقع، فلا شيء يفرخ مجرداً حتى الوهم.

لقد استطاع الشاعر "ناظم علوش"، أن يصور واقعه الاجتماعي عبر صور ذات حمولة فكريّة وعاطفيّة أو وجدانيّة عالية، استطاع أن يجسد المعنى المتخيل في نصه كمصور فوتوغرافي، امتازت صوره بالوضوح أمام المتلقي الذي راح يتمتع بجماليّة هذه الصورة التي اعتمد فيها الشاعر التجسيد أو التشخيص والتجريد والمشابهة. يقول:

(أثمل.. حين أصادف في عينيك مساحة سُكْرٍ..).. (أثمل.. والورد خرافةُ أشعاري.. يحملني لربيع صوفيّ النظرةِ).. (أثمل.. يا امرأة من عمر جنوني.. وأصبّ الخمر كمن يرسم لوحة عشقٍ في وطنٍ يسكن في دفترْ).. (وأرى كيف يجيء الدرب على وقع خطانا).. (لبلاد سرقت فرحتنا.. ورمتها فوق الطرقاتْ).

هكذا نرى أن الصورة الشعرية بكل دلالاتها في هذا النص، لم يأت بها الشاعر " ناظم علوش" للتزيين والزخرفة اللفظيّة، وإنما جاءت تعبيراً أصيلاً أملته ظروف وطنه المأساة التي تركت آثارها على حالته النفسيّة والشعوريّة معاً، لذلك كانت الصور حاملاً أميناً لمشاعر الشاعر وتُرجماناً لنفسه الشاعرة، وترجمةً لصدق أحاسيسه وعواطفه.

اللغة في القصيدة:

لقد جاءت اللغة في القصيدة سهلةً، واضحةً، سمحةً، ناصعةً، وفصيحة، ومسبوكة الألفاظ، منسجمة مع بعضها في بنية القصيدة وخالية من البشاعة. فجودة السبك وبراعة صياغته وتسلسل عبارته وتخير ألفاظه وإصابتها لمعناها، كانت وراء سر فن التعبير في هذا النص الشعري. هكذا تتجلى رهافة وجمالية لغة الشاعر "ناظم" في قوله:

(أثمل.. حين أصادف في عينيك مساحة سُكْرٍ.. تأخذني لبلاد تحلم بالخبز وبالمعبرْ.) أو في قوله: ( والورد خرافةُ أشعاري.. يحملني لربيع صوفيّ النظرةِ.. أعشقه رغم خريف العمر.). وفي قوله:

(لبلادِ لا فرق لديها إن عاش العاشقُ.. أو ماتْ.).

التكرار في القصيدة:

التكرار في الشعر:

إن ورود التكرار في النص عند الشاعر يشير إلى محتوى معين يريد إظهاره والتأكيد عليه. فهو الحاح على فكرة هامة من النص الشعري يعني بها الشاعر أكثر من عنايته بسواها، وهو بذلك ذو دلالة نفسيّة قيمة، كما يعد التكرار أحد العوامل التي ترتبط بالقدرة على الفهم؛ فالفهم يكون أسرع في حالة استخدام التكرار وخاصة في القصيدة الحديثة، والتكرار هو أحد مفردات الإيقاع بجميع صوره، قد نجده بالقافية، أو في تكرا الحرف أو اللفظ أو العبارة أو الصورة، وله دور جمالي في النص مثل كل الأساليب البلاغية الأخرى، بشرط أن يأتي التكرار في مكانه داخل النص.

لقد تكرر في النص الشعري "هذيان" تكرار لفظة (أَثْمَلُ). هذه اللفظة التي تحمل دلالات غياب الوعي، وهي هنا لا تعبر عن حالة سكر سببه الخمر كما أشرنا سابقا، وإنما حالة فرضتها كثرة المصائب وشدّتها على الشاعر لِمَا رآه من أهوالٍ حلت بشعبه ووطنه. وكذا الحال في تكرار لفظة (الْسُكْرُ). (حين أصادف في عينيك مساحة سُكْرٍ تأخذني لبلاد تحلم بالخبز وبالمعبرْ). أو في قوله: (حين تصير شفاهك مُثقلةً بلهيب السكّرْ.. وأعلّم أجوائي.. كيف يطير السكران على نسمة عشقٍ.. في وطنٍ يسكن في دفترْ).

فمفردتا (السكر والثمل) جاءتا عند الشاعر هنا تعبيراً للتأكيد عن تعب وطنه وشعبه الذين فقدا قدرتهما على تأمين الخبز أو الهروب من مجازر المستبد. أو للتعبير عن الصمت الذي حل بشفاه الوطن وأهله بسبب كثرة مآسيهم، ومع كل ذلك يظل الوطن عند أهله حتى لو شُرّدوا، حاضرا في ضمائرهم وعشقهم، كمذكرات سجلت في دفتر كي لا تغيب عن الروح والعقل معاً.

إن استخدام مفردتي "الْثَمِلُ" و "الْسُكْرُ" جاءت في القصيدة أيضاً كشكل من أشكال القناع، إن للقناع معنىً خفيّاً وايحاءً، يحاول الشاعر عكس ما يدور في خلده عن طريق تقنيع ما يريد البوح به. وفي الشعر العربي الحديث بشكل عام، يعتبر القناع الوليد الشرعي لظروف القمع السياسي والاجتماعي والثقافي والفكري، فالشاعر غير قادر تحت مظلة القوى المستبدة القول بأن هذه القوى المستبدة هي من أتعبت الإنسان وأفقدته وعييه وأحاسيسه من شدّة القهر والظلم والجوع، فعبر عن حالة فقدان الوعي هذا، بقناع "الْثَمِلُ" و "الْسُكْرُ".  فنتيجة لعجز الشاعر عن إطلاق أفكاره بحريّة تامة وبصورة مباشرة بسبب خوف الشاعر من سطوة الحاكم المستبد، دفعته الى توظيف القناع. وهذه التقنية نجدها أيضاً عند تكلمه عن خذلان الحكام العرب لنصرة فلسطين بقول: (رغم خريف العمر.. وقحط بنادقنا..رغم تساقط أزهار اللوز على أرض "فلسطين".. أثمل يا امرأة).

الموسيقى في القصيدة:

رغم وجود فرق بسيط بين وزن القصيدة المتعلق بعروضها وقافيتها، وهو ما يسمى بالموسيقى الخارجية، وبين الايقاع في القصيدة الذي يسمى بالموسيقى الداخليّة، التي تتجلى في ذلك التناغم الداخلي الحاصل من النبر أو الصوت الداخلي للنص الناجم عن الحالة النفسية والشعورية وحتى الحالة الفيزيولوجيّة للشاعر التي تتطابق وتتناغم الحروف والكلمات وتنسجم مع الوحدة الموسيقيّة العامة، ومع تأكيدنا على هذا الفرق بين موسيقى الخارج والداخل، إلا أن الشاعر الحديث المتمكن من حرفته يستطيع أن يلغي تلك الفروقات الطفيفة ليجعل من موسيقى قصيدته رتماً واحداً متجانساً في مكوناته.

إن الشعر الحديث والمعاصر، القائم على التفعيلة، وتناغم الحروف، وبراعة اختيار الكلمات وتراكيبها وصورها، والترابط ما بين المعنى والمبنى، يأتي الصوت أخيرا يحمل أهميّة كبيرة في التأثير على المتلقي، وهذا ما تجلى في قصيدة الشاعر ناظم علوش" (الهذيان). حيث تجلت موسيقى النص في تفعيلته (فعل) من البحر المتدارك مع تناغم الحروف، وبراعة اختيار الكلمات وتراكيبها وصورها، والترابط ما بين المعنى والمبنى. يقول:

(حين أصادف في عينيك.. مساحة سُكْرٍ.. تأخذني.. لبلاد تحلم بالخبز وبالمعبرْ).

أو في بوح رتمه الحزين:

(لبلادٍ.. علمت الأطفال الدمع.. قبيل البسمات.. لبلاد.. سرقت فرحتنا.. ورمتها فوق الطرقاتْ.. لبلادِ.. لا فرق لديها إن عاش العاشقُ..أو ماتْ.).

***

د. عدنان عويّد

كاتب وباحث وناقد من سوريا.

.................

هذيان / ناظم علوش

أثمل

حين أصادف في عينيك

مساحة سُكْرٍ

تأخذني

لبلاد تحلم بالخبز وبالمعبرْ

أثمل

حين تصير شفاهك

مُثقلةً بلهيب السكّرْ

وأعلّم أجوائي

كيف يطير السكران

على نسمة عشقٍ

في وطنٍ يسكن في دفترْ

أثمل

والورد خرافةُ أشعاري

يحملني لربيع صوفيّ النظرةِ

أعشقه

رغم خريف العمر

وقحط بنادقنا

رغم تساقط أزهار اللوز

على أرض (فلسطين)

أثمل يا امرأة

من عمر جنوني

وأصبّ الخمر

كم يرسم لوحة عشقٍ

تتلون أشيائي

في حضرة هيبتها

وأرى كيف يجيء الدرب

على وقع خطانا

ليس غريباً هذا الدرب

ويحملني القدح الخامس

لبلادٍ

علمت الأطفال الدمع

قبيل البسمات

لبلادٍ

سرقت فرحتنا

ورمتها فوق الطرقاتْ

لبلادِ

لا فرق لديها

إن عاش العاشقُ..

أو ماتْ.

قراءة نقدية في قصيدة (يا شعر مالي عن هواك بديل)، للشاعرة الفلسطينية مقبولة عبد الحليم.

في مسار الشعر الإنساني، تقف القصيدة التي تبدأ بـ"يا شعر مالي عن هواك بديل" كنموذج للانغماس العميق في وعي الذات، وحوارها مع الجرح المتألم والمبنى العاطفي المرهف. هذا النص لا يحمل فقط كلمات، بل هو رحلة روحانية في دفق من الوجدان الملتبس بين الأمل والخوف، بين التعبير عن العشق والتساؤل عن قيمته في عالم مضطرب. تذوب الحروف هنا في سائل من العاطفة، حيث لا تكون القصيدة مجرد تسلسل لغوي أو سردي، بل هي صورة مرآوية للذات في لحظة صراعها مع الصمت والفقد.

مع توظيفها للغة بليغة تتمازج فيها الصور البلاغية والتكثيف الرمزي، تعيد الشاعرة تشكيل العلاقة بين الذات والعالم، وبين الحب والفقد. فالقصيدة لا تروي قصة عشق، بل تتناغم مع قلق الوجود، محملة في طياتها تساؤلات فلسفية عن الكينونة، والزمن، واللامكان. في هذا السياق، يشكل "الحرف" ليس مجرد وسيلة نقل، بل هو الأساس الذي تتنفس من خلاله الروح، وتغذيه، حتى يصبح هو نفسه شاهداً على رحلة الوجود المتعثر بين الحزن والرجاء.

تدعونا هذه القصيدة إلى العودة إلى اللحظة الأولى التي يتحقق فيها الوجود من خلال الإحساس بالانتماء إلى الحرف والكلمة. هي دعوة لتأمل تلك العلاقة العضوية بين الإنسان ولغته، تلك التي قد تتوه في خضم الحياة اليومية، لكن يبقى الشعر هو المنفذ الأكثر صفاءً لفهم الوجود بكل تعقيداته.

كما يمثل النص الذي بين أيدينا تجسيداً حيّاً للحوار الداخلي بين الشاعرة مقبولة وحرفها الشعري، حيث يتبلور العشق الأبدي للكلمة باعتبارها ملاذاً وجدانياً ومتنفسًا روحيًا. يظهر الشاعر هنا وهو يمارس طقس المصالحة مع ذاته الشعرية، متنقلًا بين أتون المواجع وأمل الانبعاث، بلغة مشحونة بالعاطفة وملتزمة بميزان الإيقاع وجمال التصوير.

فمن ناحية البنية الموضوعية نجد أنّ هذه القصيدة تقوم على ثنائية أساسية: الفقد والحنين، التقهقر والانبعاث. الشاعرة تسائل نفسها عن تبدل الإحساس، متسائلةً عن ذبول النبض الشعري الذي كان يوماً ما فياضاً. هذا التأمل في أزمة الكتابة وذبول الإلهام، جعل النص مشدوداً بين قطبي اليأس والأمل. أما اللغة والصور البلاغية فقد اتسمت في النص برهافة حسية وعذوبة صوتية. اعتمدت الشاعرة مقبولة صوراً حية مثل: "جودي شعوراً حلّقي وتألقّي"، "كوني الندى والزهر"، حيث نجد أن المجاز اللغوي قد حضر بقوة، من خلال تشخيص الحرف، واستعارة الطبيعة (الندى، الزهر، الشهد) لإيصال الانفعال الداخلي.

تنتمي هذه الصور إلى إرث بلاغي كلاسيكي، لكنها جاءت منسوجة بخيط وجداني صادق، مما أنقذها من الوقوع في التكلف. حافظت القصيدة على إيقاع بحري موزون (قريب من البحر الكامل)، مع التزام نسبي بالقافية الموحدة، مما عزز الانسجام الموسيقي. غير أن القصيدة لم تكتفِ بالإيقاع الظاهري، بل غذّته بموسيقى داخلية نابعة من تكرار الحروف الموحية (مثل السين واللام)، والتي تعكس انسياب العاطفة الحزينة وتوترها الدفين.

في هذا السياق لا يمككنا إغفال ما كشفته القصيدة عن رؤية فلسفية للوجود الشعري، إذ يصبح الشعر هنا كينونة قائمة بذاتها، لا مجرد وسيلة للتعبير. هو الوطن الذي يحتضن الروح، والمرفأ الأخير في زمن الصمت الثقيل، كما صورته الشاعرة مقبولة عبد الحليم:

"لكنه الصمت المقيت وأهله / صوت الصدى في الخافقين ثقيل"

ومن هنا يحضر الوجود الشعري كجوهر، لا كظاهرة عابرة.

من الواضح أنّ الأسلوب يغلب عليه الطابع الإنشائي (نداء، أمر، استفهام)، وهو ما ينسجم مع الجو العاطفي المتوتر للنص. فهناك شوق مُلِّح، رغبة في استعادة لحظة الصفاء الشعري، مع إدراك مأساوي لصعوبة ذلك. وهذا الانفعال الأصيل يحمي النص من السقوط في سطحية التعبير.

بمنهج أقرب إلى النزعة الرومانتيكية، ينجح الشاعر في إعادة تأسيس العلاقة الوجودية بين الذات والحرف. هناك وفاءٌ نادر للحرف باعتباره صورة أخرى للنفس، ورفضٌ صامت للانصياع للصمت أو القنوط.

على المستوى الجمالي، تمكن النص من المحافظة على توازن دقيق بين العفوية والإحكام، بين الانسياب العاطفي والإيقاع البنائي. ولعل هذه القصيدة تذكرنا بما قاله الفيلسوف الألماني مارتن هايدغر عن "اللغة" بوصفها "منزل الوجود"، فالشاعرة هنا تحتمي في بيتها اللغوي من برد العالم وقسوته. كما تُحاكي القصيدة روح الرومانسيين أمثال ووردزورث، الذين رأوا في الشعر استجابة طبيعية لعواطف متأججة عبر لغة موزونة.

الخاتمة:

تمثل قصيدة (يا شعر مالي عن هواك بديل) للشاعر مقبولة عبد الحليم مثالاً على ما يمكن تسميته "الوجد الشعري المأزوم"، حيث تتحرك الشاعرة في مساحة فاصلة بين حلم الكتابة وكابوس الفناء الروحي. ومن خلال إيقاع متماسك، وصور متدفقة، ينجح في استبقاء حرارة الانفعال رغم ظلال الصمت المخيم.

ومع ذلك، تظل الحاجة قائمة إلى توسيع مساحة الابتكار البلاغي، وتكثيف المشاهد الشعرية، بما يعزز من فرادة التجربة ويجنب القصيدة الوقوع في التقريرية العاطفية.

***

بقلم: عماد خالد رحمة ـ برلين.

......................

يا شعر مالي عن هواك بديل

يا شعر مالي عن هواك بديلُ

والحرف يسري  في دمي ويقول

*

هل قد تصحّر فيكِ إحساس طغى

قد كان مثل الشهد حين يسيل

*

جودي شعورًا حلّقي وتألقي

رغم المواجع يَعْدُك التعليل

*

مهما ابتعدت وكنت أنت قصيّة

فأنا رفيفك للوصال عجول

*

قد كان نبضك بالقصيدة مولعًا

ماذا جرى كي يعتريه ذبول !!

*

أنا قد رأيت الدمع منك مواسيًا

وطنًا وآهًا في نِداك تطول

*

لكنه الصمت المقيت وأهله

صوت الصدى في الخافقين ثقيل

*

ظلي على عشق التراب وأفرطي

واملي الدنا أملًا وليس يزول

*

كوني الندى والزهر حيث تولهت

فيه الجنائن والشذا مسدول

*

أوجاع فكرك طببيها دلّلي

روحًا عرفتُ وعشقها التدليل

*

رغم المواجع لن تغادر لحظة

فيها نحلّـق للسما ونجول

*

سحرًا جنونًا  يعترينا  يحتفي

فينا تعالي فالجنون جميل

*

فحضنته ناغيته حتى انتشى

وقصيدة صرنا وساد ذهول

*

يا حرف أنت المشتهى والمنتهى

فلقد عشقتك وانتهى التأويل

***

الشاعرة مقبولة عبد الحليم

 

(أوقفني وقال لي إن عبدتني لأجل شيء أشركت بي. وقال لي كلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة. وقال لي العبارة ستر فكيف ما ندبت إليه. وقال لي إذا لم أسووصفك وقلبك إلا على رؤيتي فما تصنع بالمسألة، أتسألني أن أسفر وقد أسفرت أم تسألني أن أحتجب فإلى من تفيض....)

محمد بن عبد الجبار بن الحسن النفري، المواقف والمخاطبات؛ دار الكتب العلمية بيروت،1417 هـ ــ 1997 م.

***

اعتبر فيلسوف الكينونة مارتن هايدغر اللغة مسكن الوجود، والعالم مقرّ سكن الإنسان بما هو كينونة (Da-sein) ملقاة في معتركه (،هذا العالم) وهي لا تفتأ تعيش تجربة الوجود في العالم (être dans le monde). فالعالم حسب هذه القراءة انبجاس وانفراج، في حين تظلّ الأرض هي العتمة والظُلمة التي تحتاج دوما إلى الاستنارة والإظهار؛ ولعل اللغة هي التي تقوم بهذه الاستنارة بالكشف والإظهار للعالم فيها.[1] بصدد هذه المسألة، ذهب هايدغر أبعد ممّا فعل فيتغنشتاين، حيث عمد إلى ترسيخ استقلالية الوجود، في حركيته انكشافه وانحجابه، عن أيّة علاقة تمثّلية مع اللغة.[2] فكيف سيعيد هذا الأخير مشكلة علاقة اللغة بالعالم إلى أرضيتها الأصلية: أرضية الشعر؟

يتحقق الشعر عندما ينادي الشاعر أشياء العالم للظهور، فينضم الكلام عنها ليجعلها تحضر في قصيده. إنّ الشاعر إذ ينادي على هذه الأشياء، إنما يصغي إليها من حيث كونه لا يتكلم إلاّ بمقدار ما يصغي إلى نداء الوجود (يقول: يتكلم الإنسان بقدار ما يجيب عن الكلام. والإجابة هي الإصغاء. فالإصغاء يحدث حين يتحقّق الصمت).

إنّ الاصغاء يحتاج إلى صمت يسبق فعل المناداة والمناشدة، بذلك لا يقول الشاعر كلامه في القصيد إلا وهو يرتحل جيئة ذهابا بين صمت اصغائي وتكلّم انشادي. هذا ما يسمى في عرف هايدغر لغة الوجود التي هي اصغاء وانشاد. وهذه التأرجح التبادلي لا يتحقق إلاّ في تلك القصائد الشعرية التي تتميز بإصغاء جيد للوجود حضور قوي لصداه، بحيث نستطيع دوما نحن القراء قراءتها وانشادها حتى بدون حاجة إلى ذكر اسم كاتبها.

فإذن، يوجد لدى فيلسوف الكينونة ألف سبب وسبب لجعل الشعر لغة الوجود. ذلك أنّ مقام الشعر، هو أصلا مقام اصغاء، يسبق قول القصيد، لا بل يشرطه. والكلام بوصفه قصيدة، لا يكون شعرا إلاّ متى كان صاحبه قادرا على أن يملي قولا فريدا يسميه: "القصيدة"؛ بحيث إنّ هذا القول هو ما سيظل وسيبقى دوما شعرا طالما هو فريد من نوعه، لأنّه قول لا يقول كلّ مرّة سوى القول ذاته (يقول: كل نص شعري يتكلم انطلاقا من هذا القول الشعري الفريد، ولا يقول ـ في كل مرة ـ سوى هذا القول).

ما يحدث في القصيد شيء عجيب متى تؤمّل من هذا الاعتبار الاشاري الذي يقرأ به هايدغر ماهية الشعر. ولعل هذا ما يدعونا إلى طرح السؤال مرّة أخرى: وهذه القصيدة التي يتحدث عنها هايدغر، ترى ما هي على التحقيق؟

في نص لهايدغر حول "الكلام في القول الشعري" يتحدث عن القاء الشعر، ويقول: "إنّ شاعرا عظيما لا يكون كذلك إلاّ بما يلقيه من قول شعري فريد". (la parole dans l’élément du poème, pp41.42)

بماذا يلقي الشاعر العظيم حسب هذا المنظور؟ يلقي بالفرادة في القول. تميز كبار الشعراء يكمن في اجتراحهم لمسالك ولدروب جديدة في أقوالهم الشعرية. يتفنن الشاعر الكبير في اظهار فرادة قوله الشعري، واخص فرادة يمكن أن تميز قولا شعريا كبيرا هي أن يقول كلّ شيء دفعة واحدة (البلاغ). غير أنّ كل بلاغ يحتاج إلى بيان وتبيين، وعندما يصل هذا البلاغ إلى أوج بيانه يصبح إظهارا للحال والأحوال، وهنا ـ حسب هايدغرـ تفعل اللغة أفاعلها بصاحب القول، فتقحم فكره في حوار شديد الانفعال مع القصيد الشعري، وكون قوله حوارا بين الفكر والقول الشعري.

ينقلنا هايدغر عبر قراءته هذه لشعر تراكل وهولدرلن إلى تلك التخوم التي يلتقي فيها الشعر العظيم مع الفكر الأصيل. يجعل هذا اللقاء بين الفكر والشعر الكلام حوارا ومراوحة بين البيان البليغ للقصيد والتفكير الأصيل. اللغة هنا، بما هي مسكن الوجود، إنّما هي المقام الذي ينبغي أن يهتدي الناس إلى الإقامة فيه (يقول: "يبتغي الحوار بين الفكر والشعر استثارة الكلام وانطاقه حتى يتعلم الفانون كيف يهتدون إلى الإقامة في الكلام من جديد).

مقام الشعر إذن يعود إلى هذا الحوار بين الفكر والقصيد، مادام حوار الفكر الصادق مع القول الشعري لا يمكن أن ينتمي إلى غير الشعر إلاّ إذا كان تفكيرا غير أصيل. يطبق هايدغر هذه الفرضية على قراءة مقاطع شعرية لتراكل وهولدرلن، فيخرج منها بحقيقة مثيرة بخصوص كنه الشعر: لا يمكن أن يوصف الشعر Dichtung بأنّه موضوع قصدي، إذ لا يتولد عن أيّ فعل يمنح المعنى. ولعل بورخيس قريب من توصيف هذا الأمر حين تحدث عن لغز الشعر. وهذا اللغز هو ما يكشف هايدغر عن كنه، حين اعتبر الشعر شيئا نتلقاه فقط ولا نتعلمه، وهو بذلك صدى روح غير بشرية تسري في كلام الشعراء.

قد تعتري الصدمة النقاد، الذين يبحثون عن التفسيرات المجازية لأساليب الشعراء الملغزة، عندما يسمعون بأنّ الشاعر نفسه ليس صاحب قوله الشعري. ففي هذه الحالة، لم تعد أهمية الشعر تعزى إلى الفعالية الإنسانية، بل إلى شيء غريب، يقصد به هايدغر حركة الانجذاب، أو تلك "النشوة التي يكابد فيها الوعي استعمال الكلمات على غير مقتضى أصول الكلام المعتاد (التعسف المجازي)".[3]

أينما كان الشعر، ثمة الكينونة. فنشيد الشاعر إصغاء أصيل لهذه الكينونة. ولطالما كلام الشعر لا يأتي إلاّ خلال صمت هذا الإصغاءً، فالشعر بذلك هو الأكثر قدرة على التقاط نداء الوجود الذي سيفصح عن ذاته، رغم هذه العرضة الدائمة لانحجابه عن مدى الرؤية كل مرة، ليحمل الإنسان موته فيها والبدء من جديد.

إن الشعر بوصفه هذه «القدرة الجوهرية لإقامة الكينونة في اللغة» هو ما يعني لدى الشاعر هُولدرلِن إنّ «الإنسان يسكن العالم على نحو شعري». فالعبور الشعري للكينونة خلال نضم الكلام يتم عبر اللغة بصفتها العنصر الدائم للإنسان في العالم. «اللغة هي مستقر الكينونة»، وحضور الكينونة لا يتمظهر إلا في القصيد، لأن فعل القول الأصلي هو الشعر. هكذا يفسر سؤال هُولدرلِن «لماذا الشعراء في زمن الضيق؟» كلّ شيء بخصوص هذه الحاجة الدائمة إلى الشعر؛ والضرورة الفلسفية هي التي تفرض على الشعراء في مثل هذا الزمن، «زمن الضيق»، أن يقولوا "جوهر الشعر". فالشعر يظهر ما ظلّ خفيا في اللغة العادية، وما اقتصر الناس على استعماله للكلام: أي العبور عبر القصيد إلى العالم. بالنسبة لـ«هيدغر» كل شعر يقول جوهره، وفي نفس الوقت الجوهر الكشّاف للغة، أي "القصيدة الأصلية"، أو هذا الحشد الصامت للكائن.[4]

تُبرز القصيدة قوّتها وقدرتها على إظهار الأشياء بالكشف عنها في العالم؛ إنها لا تفعل غير أن تنير العالم أو تسمح بذلك على الأقل، وهذه الخاصية هي ما يمنحها سماكة الأرض وقوّة التأسيس. إنّ الشعر، كما يقول «هيدغر»، هو "اللغة الأصلية" للشعب، أي الفنّ الذي يروي ما تكون اللغة قد أوصلته في صمت تراكمها وتكاثرها الأوّلي إلى المنفتح. وهذا الشعر هو التسمية التأسيسية للكائن ولجوهر كلّ الأشياء (وهو ليس قولا تعسّفيا) التي ستنكشف فيما بعد. إنّه ما يجعل اللغة قادرة على تحقيق (عندما تكون الكلمة الشعرية لغتها الإشارية المسموعة) إقامة الإنسان في العالم على نحو شاعري، عندما تصبح العبارة إشارة رحبة واسعة لا تضيق.

يفتح القصيد الآفاق الرحبة للإقامة في الأرض تحت رعاية السماء، مما يعطي اللغة الأهمية البالغة في إظهار ما يختفي ويتحجّب في هذا الوجود.[5] فأن نسمي الأشياء بإنشاد الشعر يعني، حسب «هيدغر»، أن ندع هذه الأشياء توجد؛ وهي القدرة التي نُسيت تماما من قبل اللغة الأداتية. فأن يُظهر الشعرُ الأشياء كما لو أنّها أعيدت إلى فجر ولادتها، أو كما لو أنّنا "نراها للمرة الأولى"، هو ما يؤكّد قوته على الكشف والإظهار. وهذه القدرة ليست تتم بفضل خيال الشاعر، بل تنتسب إلى الكشف الذي استكملته اللغة قبل ذلك في صمت. وهنا ما على الشاعر سوى أن يكتفي بأن يقول ما تقوله اللغة بصوت خافت.

على هذا الأساس يمكن تفسير الاهتمام القليل الذي يوليه «هيدغر» لذاتية الشاعر الذي يعظّم حقيقة أرض وحقيقة عالم، بدلا من تجربته. فليس الشاعر هو من يستعمل اللغة، بل اللغة هي من تستعمل الشاعر لتستنفد مهماتها بنجاح. فليس الشعر موسيقى اللغة فقط، أو قدرتها على الكشف فحسب، وإنّما حقيقته تكمن أيضا في الصور التي يولّها بطريقته الاشارية. فالصورة الشعرية ليست نسخة منحطة للواقع، ولا علاقة تماثلية فيها بين المحسوس والمعقول، ولا تخصيصا تجريبيا لرسم خيالي أنتجته ذاتية استعلائية.

إنّ الصورة الشعرية مجرّد طريقة في إيضاح العالم وإنارته، بحيث تمكّننا من رؤية شيء ما بداخله. إنّها تّظهر العالم الذي نعيش بداخله، أي عالمنا اليومي الذي تسعفنا في التواجد فيه؛ وهي إذ تسمح بذلك، تظهره لنا بطريقة خاصّة. إنّها تكشف اللامرئي فيه، أي لغز الحضور في قلب المرئي الأشد بساطة والأكثر وضوحا. إنّها، بالأحرى، تخفي ما يتلخّص من العالم العادي المعتاد لنا، فتكون تضمينات لا مرئية للغريب في مظهر المألوف. لكن ما هو هذا الغريب؟ هل هو قضية الفكر الأساسية حقّا؟

يعني عند «هيدغر» انسحاب الكائن المقدّس من عالمنا المعاصر؛ وهو ما يتخذ معنى انسحاب الإله. فالصورة الشعرية، هنا، تعرض الغرابة فجأة ولا تفسّر شيئا، بل وليس من طبيعتها أن تفسّر. هنا يلجأ «هيدغر» مرّة أخرى إلى شاعره الشهير «هولدرلين»، خاصّة في كلامه عن اللغة الشعرية والمقدّس الإله المتواري؛ معتبرا الشعراء، من هذا الطراز، هم رعاة الوجود وحماته الذين يقدرون على قوله شعرا. وهذا هو معنى قول «هولدرلين»: "ما يبقى يؤسّسه الشعراء".

إنّ الشعر لا يؤسّس فقط الوجود، ولكن يؤسّس التاريخ أيضا. فاللغة الشعرية بما هي فضاء رحب، ستكون هي الإقامة الجليلة الجديرة باستقبال هذا اللغز المحيّر والغريب الذي استعصى على طُرقنا المعتادة في استعمال اللغة.[6] فوحدها لغة الشاعر يتأتى عبرها قول ما يكشف عنه هذا الغريب. إنّ الشاعر، باعتباره هذه الكينونة التي يصدح الوجود شعرا عبره، هو الراعي الذي يقول ما يظهر من انكشاف الوجود وتجلّيه في العالم. فليس هناك شعرٌ، إذاً، كما ليس هناك فكر، دون هذه العلاقة الوطيدة التي يحققها الشاعر ويرعاها بين اللغة والوجود.

تكمن مهمّة الشاعر، حسب هذا المنظور، في أن يسائل المقدّس ويطالب به، لا أن يدّعي نبوة معيّنة ووعد بخلاص ما. إنّه الكائن الذي بمكنته أن يعبّر فقط عن شقاء معيّن، شقاء عصره، لا شقاء حياته الخاصّة. لذا، فلغة الشعرية مقدّسة بالمعنى الذي يفيد كونها نوعا من تجلّي المقدّس في كلامه من حيث كون انفعالاته ناجعة وليست هروبا من نوع سيكولوجي. إنّ حزن الشاعر ومنفاه وتمرّده وعذابه أو فرحه، كلّ هذه الإحساسات إنّما تهبط إلى أعماق عصره لتتغذّى من ينابيعه.

اللغة، ها هنا، أكبر من أن تكون أداة تعبير ونقل للمعلومة عن العالم فقط، بل هي تدفّق جديد لتاريخ الكينونة. إنّها ليست تصويرية ولا تخيلية، بل إشارية وصوفية. وتأكيدا لدور اللغة في انجاز هذا التفكير لمهمّته بخصوص الأسئلة الأساسية للفكر، اعتبر «هيدغر»، في معرض حديثه الشاعر جورج تراكل (George Trakl) أنّه لو أمكننا الاستماع اليه وهو يلقي إحدى أروع قصائده بنفسه، فإنّنا سنصغي إليه بكل طواعية وهو ينشدها، متخلّين عن أية رغبة في إدراكها بوضوح مباشر.[7]

فالبيّن مما سبق أنّ الشعر هو ما يضطلع بمهمة التفكير في الوجود، وإذ يسمح بذلك فإنّ هذه المهمة لا يحققها سوى الشعراء الكبار الذين ينيرون الوجود ويظهرونه على حقيقته بكل أصالة شعرية. لذلك لن يكون مهما عدد الذين يفهمون شعر الشعراء، بالقدر الذي يهم نوعيتهم وأصالة تفكيرهم وقدرتهم على الإصغاء لنشيد الشعر وهو يلقى على مسامعهم؛ فإلى هؤلاء الذين يولون الشعر أهميته القصوى التي يستحقها كان ينتمي الفيلسوف مارتن هايدغر.[8]

***

كتبه الحسين أخدوش / المغرب

.......................

[1] يستعمل هيدغر "الأرض" ولا يقصد بها الطبيعة التي خضعت للآلية الحسابية والموضعة التقنية والعلمية خاصّة في العصور الحديثة؛ حيث تم إفراغها من أسرارها حتى صارت مجالا لسيادة الإنسان الحديث. فالطبيعة قد أفشت جميع أسرارها، بينما الأرض بقية غامضة نوعا ما، لا تظهر إلاّ لتنسحب من جديد؛ فهي اللاانكشاف واللاتحجّب الذي يستعصي بطبيعته على أيّ انكشاف.  أنظر بهذا الخصوص:

Heidegger (M): Le principe de raison ; éd Gallimard, Paris, 1962, p.237.

[2] - Heidegger (M) : En guise de contribution à la grammaire et à l’étymologie du mot « être » ; Introduction en la métaphysique (chap. 2), tr et commenté par Pascal David; éd du Seuil, Paris, p.67.

[3] تيموثي كلارك، المعتمد الأدبي في التفكيك: هايدغر، بلانشو، دريدا؛ ترجمة حسام نايل، مراجعة محم بريري، ط 1، (المركز القومي للترجمة: القاهرة، 2011)، ص 99,

[4] - Heidegger (M) : Acheminement vers la parole; tr Jean Beaufret, éd  Gallimard, Paris, 1976, p.63.

[5] تقع قناعة فكرية في صلب تفكير هيدغر مفادها أنّ حقيقة الوجود لا تمنح نفسها لإرادة الهيمنة لدى الإنسان. فلئن كان الموجود معرّض دوما للاستغلال، فإنّ الإنسان بحكم إصراره على أن يبقى قوة مهيمنة لا يتوانى عن تعريض نفسه للإنهاك كما يحدث الآن في العصر الراهن. وعلى خلاف ذلك، يلزم الإنسان أن يتحول عن النمط الحديث للكينونة إلى نمط مختلف جديد يستطيع فيها، باعتباره راعيا للوجود، أن يتعلّم كيف يقيم بجوار الكينونة. يتسم مفهومه للإقامة هذه بطابع روحاني، لأنّه عندما تتعرض هذه "الإقامة الروحية في الوجود" للتصحّر غالبا ما نكون أمام ما يسمّيه هيدغر في كتابه مدخل إلى الميتافيزيقا ب"الانحطاط الروحي للأرض" الذي يسم عصرنا الراهن باعتباره عصر اكتمال التقنية بما هي ميتافيزيقا.  أنظر بهذا الخصوص:

-  Heidegger (M): Introduction à la métaphysique; traduction par Gilbert Kahn, éd Gallimard, Paris, 1967, p.68.

[6] لقد أعلى هيدغر من شأن الشعر معتبرا الفن في أرقى صوره شعر؛ ولأنّ الفن يهيّئا لانكشاف الحقيقة، حقيقة الوجود، فإنّ المهمة الأساسية للفن الشعري تتمثّل في صياغة الحقيقة شعريا. تكشف الحقيقة عن نفسها شعريا، وهذا ما يجعلها قصيدة (Poème)، واللغة ذاتها هي القصيدة الأصل، حيث يأتي الشعر تاليا لها ليعيد ما تقوله.  والأرض هو أساس الفنّ ومأواه ومستقرّه، وهذه الأرض نفسها هي اللغة باعتبارها مأوى الوجود؛ والشعر بما هو، فنّ أصيل، يحاول تأسيس عالم هو بمثابة إنارة للأرض التي هي اللغة الأصلية، فغاية الشعر هنا أن يحاول حمل الوجود على الظهور إلى حيّز الظهور والانكشاف رغم استعصائه وتواريه الدائم. أنظر بهذا الخصوص:

Heidegger (M): Chemins qui ne mènent nulle part; éd Gallimard, Paris, 1987, p.28-29.

[7]  - Heidegger (M): Question 4; nrf, éd Gallimard, 1976, p.50.

[8] مارتن هيدغر، التقنية، الحقيقة، الوجود؛ ترجمة محمد سبيلا وعبد الهادي مفتاح، نشرة المركز الثقافي العربي، ط الأولى، بيروت / الدار البيضاء، 1995، ص 38.

 

زعم (ذو القُروح) في مساقه السابق أنَّه كان للمناكفة بين شرَّاح شِعر (أبي الطَّيِّب المتنبِّي) دَورها في اختلافهم في شرح شِعره؛ وذلك للمغالبة، وإظهار التفوُّق، وأنَّ الشارح الآخَر لا يُقبَل منه في شرح البيت صَرْفٌ ولا عَدْل، كما يقال. فسألته:

ـ ماذا تقصد بالصَّرْف والعَدْل؟

ـ لقد أكثر اللُّغويُّون في تفسير هذا التعبير العَرَبي( )، مع أنَّ معناه يبدو مجازًا واضحًا؛ يشير إلى عدم قبول أيِّ مقابل، لا صَرْفًا ماليًّا للقِيمة، ولا عَدْلًا مِثْليًّا عينيًّا، على سبيل المقايضة. وكثيرًا ما يُعقِّد هؤلاء الأعاجم المسائل الواضحات حتى تستحيل إلى مستغلقات، وكأنها بلغةٍ غير العَرَبيَّة.

ـ لكن ما شأن العَرَب بالصَّرْف بمعناه المالي؟

ـ ما أكثر ما نبالغ في تصوُّر تخلُّف العَرَب قبل الإسلام وعُزلتهم عن شؤون الحضارة! على أنَّ من شواهد النُّحاة، قول الشاعر:

تَنْفِي يداها الحَصَى في كُلِّ هاجرةٍ

نَفْيَ الدَّراهيمِ تنقادُ الصياريفِ

وقال (أَوس بن حَجَر):

وما عَدَلَتْ نَفْسِي بِنَفْسِكَ سَيِّدًا

سَمِعْتُ بِهِ بَيْنَ الدَّرَاهِمِ والأَدَمْ

قيل معناه: بين (العِراق) و(اليَمَن)؛ لأنَّ مبايعاتهم في العِراق بالدَّراهم، وفي اليَمَن بالمقايضة. وقال (أُحَيحَة بن الجُلاح):

فما هِبْرِزِيٌّ مِن دَنانيرِ أَيْلَةٍ

بِأَيْـدِي الوُشاةِ ناصِعٌ يَتَأَكَّلُ

ـ أخرجتنا عن الموضوع قبل أن ندخل فيه!

ـ لا تسأل كي لا نخرج! كنتُ أقول: إنَّ (المتنبِّي) ما ينفكُّ يتلاعب بممدوحيه وشُرَّاح شِعره معًا. ومن ذٰلك ما تقِف عليه في قصيدته يهنِّئ، ظاهرًا، (كافورًا الإخشيدي)، مستهِلًّا بقوله:

إِنَّما التَّهنِئاتُ لِلأَكفاءِ

ولِـمَنْ يَدَّني مِنَ البُعَداءِ

فيصافح كافورًا بهذا المطلع الهجائي، قائلًا: إنه ليس بكُفء للتهنئة أصلًا؛ فإنَّما التهنئات للأكفاء! ومع ذلك، مكثَ بعض الشُّرَّاح هنا ليخرِّجوا هذا البيت، زاعمين أنه إنَّما قصدَ نفسه، وأنَّه ليس بكُفءٍ لكافور ليهنِّئه. على الرغم من قوله: «التَّهنِئاتُ لِلأكفاء»، وليس «من الأكفاء». ثمَّ أعقب هذا بأبياتٍ فيها بعض التمويه. عاودَ بعدها الكرَّة في هجاءٍ صريح:

وبِمِسْكٍ يُكْنَى بِهِ لَيسَ بِالمِسـْ

ـكِ ولَكِنَّـهُ أَريجُ الثَّـناءِ

فكُنية كافور بأبي المِسْك لا جدوى منها، لأنه لا مِسْك له، وإنَّما ثناء الشاعر هو الجدير بأن يكون مِسْكًا لمن لا مِسْك له. مُتْبِعًا ذلك بأبياتٍ تبدو صريحةً في سخريته وتهكُّمه:

تَفضحُ الشَّمسَ كُلَّما ذَرَّتِ الشَّمـ

ــسُ بِشَمْسٍ مُـنـيرَةٍ سَـوداءِ

مَن لِبِيْضِ المُـلوكِ أَن تُـبْدِلَ اللَـو

نَ بِلَـونِ الأُسـتاذِ وَالسَّحـناءِ

يـا رَجـاءَ العُـيونِ في كُـلِّ أَرضٍ

لَـم يَكُن غَيرَ أَن أَراكَ رَجائي!

هكذا كان صنيع (أبي الطَّيِّب). ولا عجب، وإنَّما العجب من صنيع الشُّرَّاح؛ لما يفتعلونه من معانٍ من تلقاء أنفسهم، وإنْ ابتعدت عن منطوق الخِطاب الشِّعري.

ـ أهذا كلُّ ما هنالك؟

ـ لا، بل هناك بعض الضَّلالات الدلاليَّة، البيئيَّة بصفةٍ خاصَّة.

ـ مثل ماذا؟

ـ انظر مثلًا إلى ما كان يورده (ابن المستوفي) من معلومات، كغيره من القدماء، تحتاج إلى تدقيق عِلمي. من هذا ما ورد في شرح بيت (المتنبِّي):

يَتَلَوَّنُ الخِرِّيتُ مِن خَوفِ التَّوَى

فـيـها كَـمـا يَـتَـلَـوَّنُ الحِـرْبـاءُ

قالوا في شروحهم: «الخِرِّيت: الدَّليل. والتَّوَى: الهلاك. والحِرباء: دُويبة تستقبل الشمس فتدور معها حيث دارت، وهو ذكَر أُمِّ حُبَيْن، أكبر من العضاة [كذا! والصواب: العظاية] شيئًا.»(2) هكذا قالوا.

ـ (ابن المستوفي) أم (ابن المستوفى)؟ بالياء أم بالألف المقصورة؟

ـ (ابن المستوفي) بالياء المنقوطة، لا بالألف المقصورة، كما يُكتَب عادةً في الطبعات المِصْريَّة: (ابن المستوفى)، دأبَ المطابع المِصْريَّة التي لا تنقط الياء كسائر العَرَب. وهذا ما جعل الإذاعيَّ المِصْريَّ المعروف بإذاعة الرياض (عبدالملك عبدالرحيم، رحمه الله) في تسجيله الصوتي لـ«ديوان أبي تمَّام» بشرح (الخطيب التبريزي)- على موقع «يوتيوب»، ولعلَّ ذلك التسجيل كان لـ(مكتبة الرياض الناطقة)- يُرَدِّد اسمه على أنه (ابن المستوفَى)!

ـ ولولا شهرة الشاعر والشارح لربما قرأ العنوان أيضًا هكذا: «ديوان أبَى تمَّام بشرح الخطيب التبريزَى»! وهو معذور- قراءةً حرفيَّةً- لأنَّ الياءات مطبوعة أمامه ألفات؛ بهذا الرسم بلا إعجام! لكن عُد بنا إلى ما كنَّا فيه!

ـ ليسمح لنا (ابن المستوفي) ورفقاؤه من شُرَّاح شِعر (المتنبِّي) بالمداخلة، لا مناكفة هاهنا، كما انتقدنا ذلك لدَى بعضهم أحيانًا، ولكن لاستدراكٍ في ما ورد في شرح البيت. ذلك أنَّنا نعرف في بيئاتنا الريفيَّة ما أشار إليه الشاعر في البيت. وقد كان التأمُّل في أحوال البيئة ومخلوقاتها شُغل الأطفال الشاغل قديمًا، يعرفون عنها كما يعرف الأطفال اليوم عن الألعاب الإلكترونيَّة. ولذا يبدو أنَّ وصف الشُّراح فيه ما فيه.

ـ ماذا فيه؟

ـ  أوَّلًا، التصور العامُّ أنَّ الحِرباء- الذي يُعرف عِلميًّا باسم Chamaeleo Calyptratus- يتلوَّن بحسب المحيط الذي يكون فيه؛ فإنْ كان على غُصنٍ أخضر صار لونه أخضر، وإنْ أصبح على جذع شجرة ذي لون بُنِّي، استحال إلى لون بُنِّي، وهكذا، هو تصوُّر من الناحية العلميَّة غير دقيق، فتلوُّنه غير خاضع للون البيئة المحيطة، بل لعوامل فيسيولجيَّة خاصَّة به. وقد أشار المتنبِّي مع التلوُّن إلى «خَوف التَّوَى». وهو ما لم يلحظه الشُّرَّاح. ذلك أنَّ الناس- كما في (جبال فَيْفاء)- يضربون بالحِرباء المثَل في الخوف والتوجُّس؛ لطريقته في الحركة، حين يمدُّ رِجله الأمامية مرارًا قبل أن يُمسِك بغُصن من فروع النَّبت أو الشَّجَر، وهكذا في خطواته التالية. وربما زعموا أنَّه إنَّما يفعل ذلك خوفًا من أن يخسف الله به الأرض، وذلك هو سبب تردُّده وبُطئه في السَّير، إلَّا أنَّنا لم نحفظ عنهم قِصَّة محتملة حول ذلك. والعَرَب تضرب بالحِرباء المَثَل في الرَّجُل الحازم؛ قالوا: لأَنَّ الحِرْبَاء لا تُفارق رجله الغُصْنَ الأوَّلَ حتى تَثْبُتَ على الغُصْن الآخَر، من نحو ما وصفنا أعلاه. وقد وصف (ابن ظَفَر الصِّقِلِّي، ـ565هـ)(3) الحِرْباء- خلال سرده حكاية (عبدالملك بن مروان) مع وزرائه، إذ تمرَّد عليه (عمرو بن سعيد العاص)، في غضون الحملة على (عبدالله بن الزُّبير)- فقال أحد الوزراء: «وددتُ والله أني كنت حِرباء على عودٍ من أعواد تهامة، حتى تنقضي هذه الفِتَن.»  ولا يبدو في تمنِّي القائل: «وددتُ أني كنتُ حِرْباء على عُود...»، إلَّا لما أشرنا إليه من تصوُّرٍ شَعبيِّ أنَّ الحِرباء إنَّما يتوخَّى الحذَر، ولا يُُقْدِم على خطوة حتى يحسب حسابها في أناةٍ وتردُّد! غير أنَّ الصِّقِلِّيَّ بدَوره يشير إلى وصف الحرباء المتوارث، كما وقع في مثل ما وقع فيه شراح بيت أبي الطَّيب، من الزعم أنه يدور مع الشمس. ولعلَّ هذا يتعلَّق بنوع من الحرابي؛ ذلك أننا لا نعرف عن هذه الدُّوَيبة أنها تدور مع الشمس حيث دارت، كما زعموا، وإنَّما هذا معروف في بعض النباتات، كذلك النبات الذي يُسمى (عبَّاد الشمس)، أو (دوَّار الشمس). على أنَّ من أسماء الحِرباء في بعض بيئات (الخليج العَرَبي): محارب الشمس. وقد يكون ما وصفوا ملحوظًا في حرابي الصحراء خاصَّة.

[وللحديث بقية].

***

أ. د. عبد الله بن أحمد الفَيفي

..................................

(1)  يُنظر مثلًا: الزَّبيدي، تاج العروس، (صرف).

(2) (1989)، النِّظام في شرح شِعر المتنبِّي وأبي تمَّام، دراسة وتحقيق: خلف رشيد نعمان، (بغداد: وزارة الثقافة والإعلام)، 1: 399.

(3) (1999)، السُّلوانيَّات: سُلوان المطاع في عدوان الأتباع، تحقيق: أيمن عبدالجبَّار البحيري، (القاهرة: الآفاق العَرَبيَّة)، 29.

ويُلحظ أنَّ المحقِّق ذكر في ترجمة (الصِّقلِّي) أنَّ اسمه «عبدالله بن محمَّد»، (تُنظَر: ص9)، مخالفًا ما ورد على الغلاف، من أنه: «أبو عبدالله محمَّد»!  والصواب أنه: كما جاء في المخطوط، (تُنظَر: ص10): محمَّد بن أبي محمَّد بن ظفر.  وإنَّما قال المؤلِّف: «قال الفقير إلى الله الغني به محمَّد بن أبي محمَّد بن ظفر المَكِّي...»، فسمَّاه المحقِّق: «عبدالله بن محمَّد...»! وهو: «أبو عبدالله محمَّد بن أبي محمَّد عبدالله بن محمَّد بن ظَفَر الصِّقلِّي.» وكذا ذكر محقِّق كتابه أنَّ وفاته «570هـ»، وعلى الغلاف كتب تاريخ الوفاة «568هـ»! والأرجح ما ذكرناها. (وتُنظَر ترجمته في: جمهرة أشعار الصِّقليِّين: تحقيق ودراسة، أسامة اختيار، (بيروت: دار المقتبس، 2016)،  198- 209).

 

دِراسَةٌ نَقديَّةٌ في سَرديَّاتِ الوَجع والمُفارَقةِ القِصصيَّةِ

تَقديـمٌ: لا شكَّ أنَّ اللُّغة التعبيرية للكاتب في جنس التسريد القصصي أو أي جنسٍ أدبي آخر على الرغم من كونها مهمَّةُ جدَّاً في صيانة معمارية النصِّ الأدبي وبلاغته الأُسلوبية من حيث بنية الشكل والمضمون والمُعجم، بيدَ أنَّها لم تكن كافية العمل ما لم تلك اللُّغة الفنيَّة قادرةً على أداء وظائفها البنائية والتركيبية، ومهيمنةً على موحياتها الدلاليَّة والمعنويَّة القريبة والبعيدة بإتقانٍ فريدٍ وعالٍ.

والتي من خلالها يجوس القارئ أو المتلقِّي أرض هذه السردية القصصية ويتمكَّن من جَني ثمار حراثتها وبذارها فكريَّاً ودلاليَّاً؛ ليعيش أجواء ومناخات تلك اللَّحظات الروحية الهاربة التي أنتجها مضمون النصِّ الأدبي على شكل حكاياتٍ وأفكارٍ وقصصٍ سرديةٍ مُتجدِّدةٍ ومتواليةٍ تركت آثارها النفسية المُذهلة وانطباعاتها الكليَّة الراسخة، وأظهرت إسقاطاتها الواقعية المُتراتبة على ذهنية القارئ الواعي، وهيمنت فنيَّاً وجمالياً على مَساقط ظلِّه الفكريَّة المُتعدِّدة، واستحوذت على مِساحاتٍ لونيةٍ واسعةٍ من لَدُنِ اهتماماته الذاتية والفكرية ووعيه بتجلِّيات الخطاب السردي الموجه إليه.

إنَّ هذه الفيوضات الّلُّغوية التي أفرزها جماليات القراءة الصحيحة وآليات التلقِّي المعرفي الحديث هي ما تشي به قصص مدوَّنة (خيانةُ الناَّطورِ) للكاتبِ والباحث والأديب والقاصِّ العراقي المثابر لطيف عبد سالم. والِّذي اتَّخذ من أفياء اللُّغة السرديَّة وظلالها المعرفية أداةً فنيةً طيِّعةً في التمكُّن من أدواته التعبيرية القصصية كمبدعٍ واعدٍ بالجمالِ أحكم قبضه الفنيَّة من خلالها على عناصر القصَّة الأساسية، وأركانها الفنيًّة المهمَّة، والتي تمثَّلت في (الشَّخصيَّات الفواعلية، والحِبكة التي هي سلسلة الأحداث الفعليَّة الثابتة والمُتحركة للصراع، ووحدتا البنية المكانيَّة والزمانيَّة الملتصقتان معاً، وعنصر الصراع، مركز الإثارة الحسيَّة والنفسيَّة الذي يولِّد التشويق القصصي والمتعة النفسيَّة).

أمَّا لُغةُ القَصِّ الحكائي وفاعليةُ الأُسلوب التعبيري اللَّذين هما من أدوات الكاتب الثانويَّة، فضلاً عن مجموعة الرموز والإيحاءات والدلالات والعلامات السِّيميائيَّة، ووجهات نظر الكاتب، وأدوار الشَّخصيَّات الرئيسة، والنهايات القصصيَّة، والتي عادةً ما تكون مُغلقةً أو مفتوحة أو موضوعيةً أو إدهاشيةً فجائيةً صَادمةً لأفقِ توقُّع القارئ بحسب مقال النصِّ ومقامه الثيمي، فإنَّ هذه العناصر جميعها تسهمُ إسهاماً كبيراً وفاعلاً ومكيناً في صُنع وتخليقِ الوحدة الموضوعية لآليات فاعلية الخطاب السردي القصصي.

وهي على الرغم من كونها تُشكلُ عناصرَ وأركاناً ثانويةً في العمل القصصي، بيدَ أنَّها في حقيقة الأمر لها أثرها الفنِّي الكبيرالفاعل في تعضيد البناء القصصي وتوحيد تكامله الفنِّي الصحيح.

العَتبةُ العُنوانيةُ لِلمدوَّنةِ القَصصيَّةِ:

تُمثِّل دالة العنوان في مقاربة حدِّه التعريفي القريب الموجز مفتاحَ مفاتيحِ الدخول (الماستر) إلى بوابة النصِّ الموازي السرديِّة، وتُعدُّ العنونة شاخصها المضيء الأوحد في توجيه بوصلة الدليل أو ومكنوناتها العميقة، وتَقفي آثارها ورموزها البعيدة؛ للكشفِ عن لُقاها الفكريَّة ومكامنها الجوهرية الثمينة. فلا يمكن أن يكون هناك نصٌّ موازٍ قائمٌ بذاته التعبيريَّة من غير أن تكونَ له بالمقابل عتبةٌ عنوانيةٌ قارةٌ تُفصح عن أثر مجاهيله ومرموزاته ومُوحياته الجماليَّة والفنيَّة القريبة منها والبعيدة.

وعلى وفق ما هو مثبتٌ من عتبة المدوَّنة العنوانية الرئيسة (خيانةُ النَاطورِ) يمكن أنْ نقول، لا خيانةٌ يمكنُ أنْ تَحدثَ على أرض فضاء الواقع ما لم يكنْ لها ناطورٌ مسؤولٌ عنها وعن فعلتها الحدثية الشائنة. ولا يصحُّ أبداً ،اْنْ نقولَ ناطوراً ما لم يكن ذلك الناطور مُؤتمناً بحقٍّ عن نطارته، والمحافظة على حقوق رعيته التي أُنيطت له مهمَّة حراسة بوابتها، وإلا فَلنُردِّدَ مُنشدينَ ما أباحَ به أبو تمَّام في توصيفه الرثائي: (كَذَا فَليَجلَّ الخَطبُ وَليَفدحِ الأمرُ فَليسَ لِعينٍ لَمْ يَفضْ مَاؤُها عُذرُ)

وحينَ نُجيل النظرَ مليَّاً في لوحة العنوان الرئيس والعام لمدوَّنة (خيانةُ الناطورِ)، لا بُدَّ وأنْ نستقرئ ونفهم بتدبرٍ واعٍ مضامينه الدلالية ونفكِّكَ شفراته اللُّغوية ومقصدياته المعنوية؛ لنقفَ بتؤدةٍ مُطمئنين عمن هو (الناطورُ) المعيَّن بهذا المعن الدلالي الظاهر والمُضمر الخَفيّ نسقياً وثقافَّياً؟ فلو ذهبنا إلى تجلِّيات المعنى الدلالي القريب لِدالةِ (النَّاطورُ) لاتضحَ لنا أنَّها تعني (الحارسَ) الذي ارتبط فعله الحركي والسكوني الثابت بمهمًّة النطارة اللَّيلية أو الحراسة المكانية التي صارت بعهدته أمنياً. فهوَ أقرب ما يكون شبيهاً بما يُسمَّى في لهجتنا المحليَّة (البَاصوَانِي)أو الحارس اللِّيلي.

في حين أنَّ موحيات المعنى اللُّغوي الدلالي البعيد لمفردة (النَّاطورِ) تعطينا أكثر من معنىً ودلالةٍ توصيفيةٍ دقيقةٍ وجديدةٍ، فالناطور وفقَ ذلك المعنى الآخر البعيد هُوَ العَينُ الحارسة الساهرة التي لا تنامُ، وهو حائط الصدِّ المحافظُ، وهو المسؤول عن حقوق الناس ورعايتها، وهو أيضاً الأمين والمؤتمن، والراعي لحقِّ رعيته، تذكيراً بحديث الرسول الأكرم (ص) القائل: (ألَا كُلكُم رَاعٍ وَكُلكُم مَسؤولٌ عَنْ رَعِيتِهِ). فالرجل راع لأُسرته، والقائد راعٍ لشعبه وأُمَّته، والمعلِّم راعٍ لطُلابه، والأديبُ المبدع راعٍ لأدبه وقرَّائِه، والطبيب راعٍ لمَرضَاه، والأمُّ أسريَّاً راعيةٌ لأبنائها وبناتها.

أمَّا معنى دالة (الخيانةُ)، فهي بالتأكيد الفعل الإنساني السلبي الشائن المَعيب مُطلقاً الذي ترفضه كُلُّ الأعراف والعادات الاجتماعية، ولا تقرُّه سُننُ الدين والشرائع السماويَّة والأرضيَّة المُوحدة. ولا يمكن أن تأتلف دلالة (الخيانةُ) وتتوحدن مع دلالة (الناطور)إنسانياً وفكريَّاً وأخلاقيَّاً وعرفيَّاً أبداً.

فالناطور، إذنْ كلمة لا يمكن أنْ يُختزَلُ معناها اللُّغوي ويختصُّ بمعنى دلالي واحدٍ فقط، أو يقصرها عليه ويُحيِّد عملَها الفعلي تعسفاً. نعم الناطور هو الحارس؛ ولكنَّه حارس من نوعٍ آخر، الحارسُ لأمرٍ مُهمٍّ ما جَللٍّ؛ لذلك يمكن أنْ نعده في مقاربات اللُّغة الحاكم والمسؤول والقائد والإمام والسادن والراهب والحِبرَ. وهو سفينة الصدق والنجاة، ومرفأُ بَرِّ الوصول، وشاطئ الأمن والأمان، وهو ميزان الحقِّ والعدل الذي لا يبخسُ أشياءَه، وهوَ المسؤول عن أشيائه في السراء والضراء، وفي السر والعَلنِ دوماً. فهذا هو المعنى الدلالي البعيد الذي أراده الكاتب (القاصُ) وتوخاه وتقنَعَ به أمام أنظار ومرأى قرَّائه في معماريَّة عنوانه العام لمجموعة (خِيانةُ النَّاطور).

وقد أشار الكاتب إلى تلك التوريات الدلالية، والانزياحات اللُّغوية المتعدَّدة الأصل لمعنى كلمة (الناطورُ) في مستهل توطئته الكتابية الموجزة لهذه التسمية العنوانية القريبة من حياة الناس في مدوُّنته (خيانةُ الناطورِ)، إذ أفصح قائلاً: " ُربَّما يَكونُ بَاعثَاً علَى تَحريكِ الفُضولِ لَدَى المُتلقِّي، ودَافعَاً إلَى السُّؤالِ عَنْ دِلالاتِهِ، فَضلَاً عَمَّنْ هُوَ المَعنِي بِهذَا المَعنَى؟" (خيانةُ الناطورِ، ص7). وختم الكاتب خلاصة ما أراد إيصاله بمجموعته القصصية هذه بالقول: "إذ إنَّ الإخلالَ بِأصولِ أيِّ مَسؤوليَّةٍ ومُخالفةَ قَواعدِها النَّاطقةَ يُعدُّ خِيانةً". (خِيانةُ الناطورِ، ص 9)، وقد تكون خيانة كبرى لا تُغتفرُ.

وعلى وفق تلك التعدُّدية المعنوية فإنَّ العتبة العنوانيةالرئيسة (خيانةُ الناطورِ)قد أدَّت جميع وظائفها العملية الأربع بإقناعٍ وتمكُنٍ. تلك الوظائف التي أكَّدها الناقد الفرنسي جيرار جينيت في كتاب عتباته العنوانية المتعدِّدة (مِنَ النّصِّ إلى المَناصِّ)،لأيِّ منتوجٍ، شعرياً أكان جنسه أمْ سرديَّاً نثرياً؟ ولابدَّ من الإشارة إلى أنَّ (خيانة الناطور) عتبةٌ لقصَّةٍ فرعيَّةٍ اُخيترتْ لتكونَ عنواناً عامَّاً للمُدونة. ويَحصل هذا الاختيارُ كثيراً من باب إطلاق الجزءِ على الكُلِّ لاعتباراتٍ فنيٍّة وجَماليَّةٍ وموضوعيةٍ.

أمَّا العنوانات الفرعية أو الثانوية لعتبات النصِّ الموازي لمدوَّنة (خيانةُ النّاطورِ)، فقد انمازت بلاغتها اللُّغوية بقصرها وجمال اقتصادها اللغوي المكثَّف تركيباً ودلالةً. وقد تناصفت من حيثُ عددها الكمي مع بعضها في بنائها التركيبي النحوي وتوازنت في توصيفها الأُسلوبي بين العنوانات الموضوعية المُباشرة، والَّتي مثَّلتها القصصُ الست: (مواءمةٌ، والمجهولُ، واستلابٌ، والمواجهةٌ، وصرخةٌ، والمَأزقُ)، ونظيراتها العنوانات الفنيَّة الأخرى التي تمثَّلت بالقصص الست: (وأدُ حُلمٍ، وخيانةُ النَاطورِ، وقلبٌ استوطنهُ الأملُ، وضَياعُ الذَاتِ، ونُتوءٌ فِي شَغافِ القلبِ، وجُرحٌ نازفٌ).

أمَّا عتبات نصِّ هذا الكتاب الأخرى فيقف في مقدمتها الإهداء الذي تصدَّرَ مُستهل مدوَّنته لهذا المجموعة القصصيَّة، وقد حرصَ الكاتب لطيف عبد سالم على أنْ يكون إهداؤه الشخصي جَمعياً عامَّاً لا ذاتياً ضيِّقاً فَصدَّره ُإلى أبناء الجامعة الإنسانية التي تُمثل الإنسان المُكابد الآخر من سَواد الناس المكافحينَ إذ قال: "إلَى النُّفوسِ الَّتي تَتوَارى بِأوجاعِها خَلفَ رُكامِ الأيَامِ". (خِيانةُ النَّاطورِ، ص 5).

تعدُّ مجموعة (خيانة الناطور) من المجاميع القصصيَّة القليلة النظائر من التي احتوت على عتبة توطئة تقديمية تُمهِّد الدخول إلى توضيح إشكاليات العنوان العامِ وتَحسمُ تداعياته الدلاليَّة الكثيرة، وتقف على تعدُّدِ آفاق مرجعياته الموضوعية، وأنساقه الثقافية العامَّة والخاصَّة والظاهرة الجليَّة والمُضمرَة الخفيَّة التي كشفت جوانبه الفنيَّة والجماليَّة. مُؤكِّداً في الوقت ذاته على قِول أبي الطيِّب المُتنبِّي في توصيفِ نواطيرَ مِصرَ التي تراوحت معانيها بين حراسِها (النَواطيرِ) وثعالبِها من اللُّصوص وبينَ سادتها وأشرافها: (نَامتْ نَواطيرُ مِصرَ عَنْ ثِعالبِهَا فَقدْ بَشمَنَ وَمَا تَفنَى العَناقيدُ).

تَأثيثُ المُدوَّنةِ القِصصيَّةِ موضوعيَّاً:

القارئ النابه الذي يتتبع بعين نقدية واعية متئدةٍ الهندسةَ المعماريَّةَ والفكريَّةَ لخريطة تأثيث

مدوَّنة (خيانةُ الناطورِ) القصصية، الصادرة بطبعتها الأولى عام 2020م عن مكتبة فضاءات للفنِّ والطباعة والنشر ببغداد، سيلفتُ نظره الفكري أنَّ هذه المجموعة على الرُّغم من صغر حجمها الكمي العددي البالغ اثنتي عشرة قصةً أو نصَّاً سرديَّاً، وبِمساحةٍ وَقيةٍ تَجاوزت الثمانين صفحةً ومن القطع الكتابي فوق المتوسط، فإنها انمازت بسعة كيفها النوعي والموضوعي والدلالي المكين الذي يمنحها درجة التميُّز والتفرُّد القرائي المحبَّب لدى القارئ العادي والقارئ الناقد الحاذق على الرغم من كونها المجموعة القصصية الأولى في سلسلة تعدُّد كتابات الكاتب لطيف سالم المتنوِّعة.

وقد تراوحت مِساحات هذه المجموعة القصصية النَّفسِيَّةِ بين القصص القصيرة والمتوسِّطة والطويلة نوعاً ما، والتي لا يشعر معها القارئ بأيِّ ضَجرٍ أو إملالٍ في قراءتها؛ كونها كٌتُبَتْ بلغةٍ تحشيدٍ سردية مكثفةٍ أنيقةٍ وماتعةٍ، واقتصاد لغويٍّ موجز واعٍ، وبمهارةٍ فنيةٍ احترافيةٍ سَلِسةِ الحَبكِ والسَّبكِ اللُّغوي والدلالي المعنوي بعيداً عن كلِّ أشكال التعقيد اللفظي والغموض المعنوي والإطالة والإطناب،ولا أثر للترهُّل فيها ذلك الذي لا يُحفزُّ القارئ إلَّا على التواصل معها دون الفكاك عنها.

لقد استنَدَ الكاتب والقاصُّ لطيف عبد سالم في تأثيث وبناء مدوَّنته القصصيَّة إلى مجموعةٍ ثرَّةٍ من الأنساق والمراجع الثَّقافيَّة، والموضوعات الفكريَّة اللَّافتة للذهنِ، والِّتي اختارها بعنايةٍ فائقةٍ واهتمامٍ كبيرٍ من تَمظهرات صراع الواقع الحياتي المجتمعي المَديني والرِّيفِي المَعيش لِهُويَّةِ الذات الفردية وعلاقتها الازدواجية الإنسانيَّة المُتوحدنة جِدَاً معَ الذات الأخرى الفرديَّة الجمعية المشتركة.

ومن أمثلة ذلك الصراع قصة (ضياعُ الذاتِ)التي يتحدَّث فيها عن بطلها القادم من أعماق الريف بحثاً عن فرصة عملٍ تُعوُّضهُ عن شعوره الذاتي بالضياع "فِي فَجرِ مُعتَم مُلَبَّدٍ بِالغُيومِ خَرجَ كَعادتِهِ بَاحثَاً عَنْ رِزقهِ. فَرَشَ إزارَ حَظهِ عَلَى رَصيفِ (مَسطَرِ العَمَّالةِ)،جَلسَ طَويلَاً،أَخذَ مِنهُ البَردُ مَأخذَاً، شَارَكَ بَعضَ العُمَّالِ فِي إشعالِ النَّارِ بَحثَاً عَنِ الشُّعُورِ بِالدفءِ، ظَلَّ يَترقَّبُ مِنْ دُونَ جَدوَى، أرهقَهُ الاِنتظارُ بَعدَ أنْ يَأسَ مِنَ الحُصولِ عَلَى فُرصةِ عَملٍ فِي ذَلكَ اليَومِ، أحسَّ بِحاجةٍ مَاسَّةٍ لِلراحةِ، فَلمْ يَجدْ مَكانَاً لِيستريحَ بِهِ أفضلَ مِنَ مُقهَى (العُمَّال) المُطلَّةِ عَلَى المَسْطَرِ". (خِيانةُ النَّاطور، ص 47).

وقد هَيمنتْ تجلِّيات صراع ثنائية المقدَّس والمدنَّس الواقعية السرديَّة بظلالها السحرية والجديدة على تشكَّلات بنية هذه المجموعة القصصية، وعلى إيقاع حمولاتها الفكرية ومخرجاتها الحدثية والموضوعية الفاعلة. والتي كانت تمثِّل مناطق إشعاعٍ بارزةٍ وفناراتٍ ضوئيةً لافتةً في الإبداع والابتداع الفنِّي لا يمكن تجاوزها في خانة الميتا سرد الحداثوي العراقي المُعصرن نوعاً وكمَّاً.

واعتمد القاص لطيف سالم كثيراً في مُعجمه السَّردي والقصصي على إشكاليات وأزمات الواقع العراقي الحداثوي على وجه الخصوص، وعلى وقع تداعياته الحياتية الساخنة. فكانت مواجعه وخيباته وانكساراته ونكوصاته التخاذلية المتكرِّرة تمثِّلُ بحقٍّ مظاهر ديستوبيا فوضى هذا الواقع الشرير والمدنَّس الحياتي لِهُويةُ الآخر في خطِّ علاقته الجدليَّة والإشكالية المباشرة وفي تشاكله التضادي والحدِّي مع يوتوبيا مدينة المقدَّس الإنساني الذي ينشد صفاتِ المحبَّة والفضيلة، ويسعى إلى الوئام في ظلٍّ مجتمع فاضلٍ يسوده السلام والأمان؛ لذلك كان النهج الواقعي نواة بيت حكايات المدونة السردية (خيانة الناطورٍ) التي منحها الكاتب جُلَّ اهتماماته ووضعها نَصبَ عينهِ السَّرديَّة:

"الحَربُ سَلبتنِي اِبنِي فِي مُقتَبِل عُمرِهِ، وَاليومَ أظنُّ أنَّ خُيُولَ المَوتِ تَزحفُ صَوبَ مَنْ سَلَبَتْ قُلوبَ العَائلةِ، وَأسَرتْ أرواحَهُم بِضحكاتِهَا وَبَراءةِ حَركَاتِهَا، وَقَلبِي لَمْ يُسعَدْ بِهَا بَعدَ. وَلَمْ يَقطعْ عَليهِ صَمتِهِ وَهوَ يَحتضنُهَا سِوَى صَوتِ كَابحِ السَّيَّارةِ، وَإِشعارِ صَاحبِهَا إيَّاهُ بُوصولِ المُستشفَى". (خِيانةُ الناطورِ، ص62، 63). هذا الفقدُ الحزين الظالم هو ما كشفت عنه قصَّة (نُتوءٌ فِي شِغافِ القَلبِ).

لم تكن أفكار الواقع وحكايات صراعه المتجدِّدة هي المُهيمن الثيمي الصوري الأوحد الذي فرض سطوته السرديَّة وفاعليته السحرية الحكائية على وحدات مجموعة (خيانةُ الناطورِ) الفكرية والموضوعية فحسب، وإنَّما كانت لتمظهرات التراث أو الموروث الشعبي العراقي والتاريخي الحديث الحصَّةُ الأهمُّ والأسمى في إنتاج هذه المدوَّنة. ومن نماذج التراث الشعبي العراقي الجيِّدة التي تصوُّر مشاهد الصراع القائم بين الإقطاع الجائر والفلَّاح المسالم قصة (استلابُ) الحقوق منه:

"لَمْ يَجدْ بُداً مِنْ اللُّجوءِ إلَى التَّوسُّلِ وَهوَ يُقسِمُ بِأغلظِ الأَيمَانِ بَينَ يَديهِ، أنَّهُ لَا يَقصدُ أيَّ شَيءٍ فِيهِ مَساسٌ بِمنزلَةِ الشَّيخِ أو سُركَالِهِ، إلَّا أنَّ مَا تَوَالَى مِنْ مَحاولاتهِ قَصَدَ اِستعطافَ السُّركالِ لَمْ تُجدِ نَفعَاً أمامَ قَسوتِهِ الَتيِ تُميِّزهُ عَنْ غَيرهِ، حَيثُ أعمَتْ نَشوةُ السُّلطةِ والشَّهوةِ فِي إذلالِ الرِّجالِ بَصيرتِه، لَمْ يَتوانَ عَنْ مُمارسةِ مَا عُرِفَ بِهِ مٍنْ عُنجهيةٍ، فَشرَعَ بإهانتهِ وَشتَمِهِ عَلَى مَرأى وَمَسمعٍ مِنْ جِيرانِهِ الَّذينَ أثارَهُم الفُضولُ وَدَفعَهُم لِلتَوافدِ، إلّى جَانبِ زَوجتِه الَّتي لَمْ تَبَسْ بِبِنتِ شَفةٍ، ثُمَّ أمَرَهُ بصوتٍ عَالٍ قَائِلَاً: - تَحرَّكْ أمَامِي.. تَحرَّكْ أمِامِي..-يَا كَلبُ..". (خِيانةُ النَاطورِ، ص 24، 25).

وقد أبدع الكاتب والقاص لطيف عبد سالم في تخليق وإنتاج لوحات التمثيل القصصي الحكائي والدرامي لشخصيات التراث العراقي الشعبي وإظهار رموزه الحاكمة والمحكومة بمختلف أشكاله ومسمياته الزمانية والمكانية وخاصةً في زمن حكم شيوخ سلطة الاستلاب القبلي الإقطاعي وسطوته القبلية الجائرة على الذات الإنسانية الفلاحية التي تمثل السواد الأعظم من عامَّة الناس.

وقد رسم الكاتب في خبايا مدوَّنته (خيانةُ الناطورٍ) -وفي تلافيف قصَّته بالذات (وأدُ حلمٍ) - رسم بحيادية واتقانٍ موضوعي صوراً وحشيةً حزينةً ومؤلمةً جدَّاً وعديدةً عن دكتاتورية وظلم واستبداد وتجاوزات ذلك الواقع الزمكاني الجائر والمهيمن للذات الإنسانية. وقد أسهمت مفاهيم ومصطلحات ذلك الواقع مثل، (السّركالُ والمَحفُوظُ والحَاشيَّة) كرموز وأصوات ناشزة وطاغية في تجسيد أدوار الشخصيَّات الرئيسة والثانوية وإظهارها بالصورة الإيموجية المرئية والحركية الدراميَّة البشعة التي تناسبها في تمثيل واتقانِ فاعلية واقعة الحدث الحكائية السردية التي جاء فصالها على قياسها:

"ذَاكرتُهُ الحُبلَى بِنشيجِ الأيامِ تَسرَحُ بِفضاءٍ فَسيحٍ، فِي غَمرةِ تَواردِ خَواطرهِ المَشحونةٍ بِصورِ ظُلمِ الإقطاعِ وَجَورِ جَحيمهِ، أغمضَ عَينيهِ طَمَعَاً فِي إغفاءَةٍ قَصيرةٍ، َاستَسلَمَ لِلنومِ سَريعَاً، اِلتبسَ عَليهِ الحُلُمُ بِغيرهِ بَعدَ أنْ أيقظتهُ رَفَسَةٌ مَسمومةٌ تَزَامَنَ فِعلُ وقُوعِهَا عَلَى خَاصرتِهِ مَعَ نَشازِ أصواتِ ثُلَّةٍ مِنَ الرِّجالِ: أيُّهذَا الشَّقيُّ..المَحَفُوظُ أَمَرَ بِجلائِكَ بَعيدَاً عَنِ القَريةِ!" (خِيانةُ النَاطورِ، ص 15).

لقد كان القاصُّ لطيف أميناً في نقل الأحداث الواقعية والغرائبية والمخيالية بقداستها ودناستها إلى القارئ، وجعله يتعاطف مع وقع تلك الأحداث ويتصوَّرها شكليَّاً وذهنياً، خاصةً وأنها تمثِّل مرحلةً مهمَّةً من مراحل تاريخ العراق السياسي والاجتماعي الحديث، وأحداثه الخفية التي تتستَّر الآيدلوجيا عليها بقناعها الدفين الذي لا يمكن فكُّ شفراته بسهولةٍ؛ الأمر الذي دفعه للوقوف عندها مليَّاً. فَفي ذات السياق يوثِّق القاصُّ للحياة الأُسريَّة في قصَّة (صرخةٌ) وصراع الزوجة الطاهرة النقية مع زوجها بمحاربة أشكال الرذيلة التي يمتهنا ويمارسها سلوكاً عدائياً دنيئاً بحقِّها الوجودي:

"اِستبعادَهُ مَحاولةَ لُجوءِ زَوجتهِ لِاعتمادِ خَيارَ التَّمرُّدِ، شَجعَهُ عَلَى المُضِي فِي غَيهِ، فَلَمْ يَكنْ فِي تَفكيرهِ مَا يُوحِي بِغيرِ مَا اِعتَادَ عَليهِ فِي كُلِّ يَومٍ، لَكنْ ألَمَ جُرحِهَا الغَائرِ فِي أيامِهَا، جَعلَهَا تُلَمْلِمُ بَقايَا إنسانِيتِهَا الضَائعةِ وَتَستعِدُّ لِدفعِ ثَمنِ دُخولِ مَعتَرَكِ رَفضِ خَيبتِهَا، فَلمْ تُعطِهِ ذَاتَ فَجرٍ فُرصةَ التَّلَذُذِ بِأذلالِهَا، إذْ اِعترتْهَا رَعشَةُ غَضَبٍ عِندَ عَودتِهِ إلَى مَنزلِهِ، سُرعانَ مَا أدخلتهَا فِي مُواجَهَةٍ مَعَ مَنْ طَحَنَ إنسانيتَهَا بِرَحَى غُرورِهِ". (خِيانةُ النَاطورِ، ص 56).

من هنا تُشكِّلُ مُهيمنات الواقع الحياتي ، وتجلِّيات الموروث الشعبي التراثي والثقافي المعرفي والإنطلوجي والسوسيو ثقافي للمجتمع العراقي نقطةَ الصراع المفصليَّة وبؤرة الأحداث الإشكالية الدائرة بين جدلية (المُقدَّسِ والمدَّنسِ)،والحياة والموت، والخير والشرِّ، والوجود واللَّاوجود أو العدم (أكون أو لا أكون) أشبهُ بما يجسده المشهد الهاملتي الكبير لشكسبير في رواية مسرحيته الشهيرة.

أكون مؤتمناً وراعياً مسؤولاً أو خائناً خذولاً غيرَ مسؤولٍ، فلَا أكون إلَّا عوناً ونصيراً للرَّعية لا مغتصباً لحقوق إنسانها، ولا أكون إلَّا أهلاً للعهد والوفاء، وليس نصيراً للذُّل والاستبداد والخيانة التي لا تغيب عنه الشمس ولا تُحجب بغربالِ الزمن القميء. وتأتي قصة (خيانةُ الناطورِ) التي اُختيرت إن تكونَ عنواناً عامَّاً للمجموعة القصصية في مقدَّمة هذا المقدَّس العلمي الذي تعرَّض لخيانة الانتهاك الدنيء في سرقة جهد باحثٍ أكاديمي رفيع من قبل سطوة الآخر الجاهل المسؤول:

"مَا الخَطبُ يَا صَديقِي؟ قاَلَهَا وَهَبَّ مُسرِعَا إلَّى صَديقهِ الَّذي لَمْ يُكلِّفُ نَفسَهُ الكَلامَ، إذْ سَلَّمَهُ رِسالةَ مَاجستيرٍ، وَهوَ يُشيرُ بِطرفِ إصبِعِهِ إلَى عُنوَانهِ، فُوجِئَ مِثلَ صَاحبِهِ بِالعنوانِ الَّذي كَلَّفَهُ اِختيارَهُ لِدراستِهِ قَبلِ سَنواتٍ أياماً ولياليَ طَويلةً، هَولَ الصَدمَةِ وَعُنفِهَا لَمْ يَفقدُهُ الشُّعورَ بِضرورةِ التَّيقنِ أكثرَ، بَدَأَ يَتَصَفَّحَ الكِتَابَ المَطبوعَ بِشكلٍ أنيقٍ، لَمِ يَجدْ شيئا قَدْ تَغيَّرَ مِنْ دِراستِهِ غَيرَ اِستبدالِ اِسمِ المَسؤولِ بِالباحثِ!". (خِيانةُ النَّاطورِ، ص 41، 42).

أُسلوبيةُ الكَاتبِ القَصصيَّةِ:

بوجهات نظرهِ التعدُّدية المتواضعة وبأسلوبيته الفنيَّة استنطق لطيف عبد سالم أصوت شخصياته ورموزه القصصيَّة الفاعلة على أرض الواقع وتمثيلها دراميَّاً، واستحضر بتلقائيةٍ عفويةٍ مُحنكةٍ ديمومةَ الصراع لفكري الإنساني الوجودي المجتمعي القائم بينها من خلال تَنامي سير فِعليَّاته الحدثية المرتبطة بالوحدات الزمانية والمكانية. واهتم بالتأكيد على تلاحم نسيج الوحدة الموضوعية للخطاب النصِّي وديمومتها الترابطية مع الوحدة العضوية الكبرى للخطاب السردي العام،والإمساك بتلابيب أذيالها في ترجمة الخطاب دون المساس بوحدة عناصره الأساسية أو الخروج عنها فنيَّاً.

وقد عمد الكاتب في أسلوبية فنِّه التعبيريَّة إلى أنْ تكون جميع نصوصه السردية الاثني عشر نصَّاً واقعيةً صرفةً تستمدُّ نسغها الروحي الجوهري، وتنفسَها الرِئَوِي النقيِّ، وتشكُّلَها الحكائي الفنِّي المتنامي من أرضية ومحيط الواقع الحالي، ومن تفاصيل الحياة اليومية المعيشية للإنسان، ومن مرجعيات التراث الحداثوي ومصادر ثقافته النوعية المؤثِّرة، ومن خزائن الموروث الشعبي العراقي التأصيلي الضارب في العمق الريفي والمديني أطناباً من عقود الزمن والتاريخ.

فتنوَّعت أفكار موضوعاته الكتابية التي خصَّ بها الإنسان الذي هو المعادل للحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والفكرية والثقافية. تلك التعدُّديَّة التي تمثَّل مناطق التبئير المُكثَّف في الوطن العراقي الكبير بمختلف اتجاهاته وطوائفه ومسمياته المذهبية والإثنية والوجودية. ولنقرأ في هذا الخصوص مشهداً ختامياً من قصة (المواجهةُ) التي يشعر فيها البطل في ظل التقاليد وثقل العادات والموروثات الاجتماعية بهزيمته النكراء وَوَهَنهِ وتخاذله الشخصي عن مواجهة قاتل أبيه عمداً:

"ذَاتَ يَومٍ أَسَرَّهُ أحدُهُم عَنْ بَعضِ جَوانبِ فَجيعتهِ قَائلَاً: - كُلُّ تَرْكَةِ وَالدِكَ هُوَ الصِّريفةُ الَّتي تَسكنها، أبوكَ شَيَّدَهَا بِالتَّرجِي وَالاستعطَافِ، وَلَا تَملُكُ مِنهَا سِوَى الطِّينِ. لَمْ يَكترِثْ لِمَا طَرَقَ سَمعَهُ وَلَمْ يَحدْ عَمَّا عَزَمَ عَليهِ، حَدَّثَ نَفسَهً قِائِلَاً: - قَدْ يِكونُ مُخادِعَاً كَمَا قَالتْ وَالدتِي[...] إذْ شَعرَ بِهزيمتِهِ وَهوَ يَتجرَّعُ رياحَ الخَيبةِ، حِينَ أقرَّ بِوهَنهِ أمامَ سَطوةِ قَاتلِ أبيهِ عَمدَاً، فَالنكدُ الَّذي أحرَقَ رُوحَهُ فِي المَاضِي، سَوفَ يُحرقُهَا بِلَا رَيبٍ فِي المُستقبلِ!". (خيانةُ الناطورِ، ص32، 33).

لقد كتب لطيف عبد سالم تسريداته القصصيَّة عن شخوصه ورموزه الصوتية بلغة الحضور أو الغياب للمواءمة بين الذات الأنويَّة والآخر، وللأحلام الموءودة والشعور بالاغتراب النفسي، ووثَّقَ للمصير الإنساني المجهول، ولثقافة استلاب الحاكم الجائر في بخس حقوق الناس. ورسمَ في الوقت نفسه لوحاتٍ قصصيةً رائعةَ الجمال ومدهشةً! للمواجهة بين طرفي الصراع المُختلفينِ، وشخَّصَ أنساقَ خيانةِ الناطورِ المؤتمن على حياة الناس من خلال سوداوية هذا الصراع الدامي بالوجع .

واتشحت بعض قصصه بالأمل الذي يستوطن القلوب المتألمة، وعن ضياعِ الذَّاتِ الإنسانية المُحطَّمة، وسماع صدى صرختها المدويَّة، وكَتبَ عن النتوءات العارضة التي تَصيب شِغاف القلب المَكلومةِ، وختمَ سرديَّاته الحكائية بما يَتعرَّض له الإنسان من مأزقٍ وظلمٍ لا فكاكَ عنه، وجروحٍ نازفةٍ لا بُدَّ منها كونه إنساناً مجتمعيَّاً تَحيق بمحيط تجربته الحياتية ما دام يعيش حيَّاً على أرض وبساط الواقع.

تقنيةُ الخَواتيمِ والبداياتِ القصصيَّةِ:

أمَّا بخصوص فنية التعبير الأسلوبية للبدايات والنهايات، كيف ابتدأت قصص الكاتب؟ وكيف انتهت في مجوعته (خيانةُ الناطورِ). فقد انتهى القاص لطيف عبد سالم في مركز اشتغالاته إلى أن تكون المقاربة التوافقية إحدى وسائله الأسلوبية للموازنة بين بداياته ونهاياته القصصيَّة تارةَ، وتارةً أخرى تكون أسلوبية الانزياح وانحرافاته البلاغية الجديدة سبيلاًموحِّداً لحسن تخلُّصاته الموضوعية النهائيَّة، وتارةً ثالثةً لا سبيل لخواتيمه السردية إلَّا المفارقة الإدهاشيَّة والفجائيَّة الصادمة التوقُّع.

لقد ارتأى الكاتب لطيف عبد سالم فكريَّاً أنْ تكون جميع مطالع مُقدِّماته أو مستهلات حكاياته القصصية مقدِّماتٍ افتتاحيةً خبريةً توصيفيةً لا إنشائيةً عن شخصياته الرئيسة، وحرص أنْ تكون مفاتيحُ تقديمِ لُغتها الطلليَّة لغةً زمانيةً ماتعةً وشائقةً مُحبَّبةً تستهوي قراءتُها المُتلقِّي وتجذبه نفسياً إلى الانجرار مع وقع حكايتها الموضوعية وجماليات موحيات توصيفها الرمزي المُتراتب نسقيَّاً. ولنقف متأملين كيف بدأ القاص لطيف مقدمة قصته التراثية (استلابٌ)؟وكيفَ يُخبرُ عن حركة بطلها زمانياً ومكانياً. "لَا يَعودُ إلَى مَنزلهِ إلَّا مَعَ غُروبِ الشَّمسِ، وَقَدْ غَدَا مِنْ فَرطِ تَعبِ النَّهارِ مَنهوكَ القِوَى، فَاعتَادَ أنْ يَنامَ مُبكِّرَاً فِي أغلبِ الأيامِ، وَيَستيقظَ مَعَ غَبشةِ الفَجرِ". (خِيانةُ النَّاطورِ، ص23).

وفي الوقت ذاته عكف القاصُّ جديَّاً على أن تكون هندسة نهاياته أو خواتيمه القصصية نهاياتٍ متنوعةً التخلُّص ومتعدِّدة الأفكار والرؤى ، وليست على شاكلةٍ أسلوبيةٍ نمطيةٍ واحدةٍ مملةٍ تأتي رتيبةً. وتأتي (النهايات الموضوعية)أولى خواتيم هذا التنوُّع وتمثِّله قصص خمس وهي: (المَجهولُ، والمُواجهةُ، وضَياعُ الذَّاتِ، وصَرخةٌ، وجُرحٌ نَازفٌ). التي تخبر نهايتها الموضوعية بحركة بطلها الرئيس، "ِانطلَقَ هَائِمَاً عَلَى وَجهِهِ وَهوَ يَحمِلُ جُرحَاً غَائِراً دَامياً مُؤلمَاً، أًبلغُ أثرَاً وَأعمقُ ألمَاً فيِ النَّفسِ مِمَّا تَركتهُ مَشارِطُ الأطبَاءِ مِنْ نُدُوبٍ فِي جِسمِهِ النَّحيلِ". (خِيانةُ النَاطورِ، ص 76).:

في حين يأتي النوع الثاني ما يُسمَّى نهاياتِ المُفارقةِ القَصديَّةِ الصَادمةِ بإثارتها، ويمثِّلُها أربع قصص هي: (مواءمةٌ، واستلابٌ، وخِيانةٌ الناطورٍ، وًنُتوءُ في شَغافِ القَلبِ). فلنقرأ ما تعرَّضَ له الباحث العلمي من إجحافٍ بحقِّ ملكيته العلمية التي اُغتصبتْ منه."بَدأَ بِتصفُحِ الكِتابِ المَطبوعِ بِشكلٍ أنيقٍ، لَمْ يًجدْ شًيئاً قَدْ تَغيَّرَ مِنَ دِراستِهِ غَيرَ اِستبدالِ اِسمِ المَسؤولِ بِالباحثِ". (خيانةُ الناطورِ، ص 42). أما في قصة (مواءمةٌ)، فلنستمع إلى ما قاله بطلها الأمّيُّ من مفارقة في خاتمتها المثيرة الأثر. "قَالتْ لَهُ والذُعرُ بَائنٌ فِي نَظراتِها: - كَيفَ تَكتُبُ رِسالةً، وأنتَ لَا تَقرأُ وَتَكتُبُ؟ أشارَ بِيدهِ قَائِلَا: -وَمَا الضَيرُ فِي ذَلكَ ؟ماَدامَ هُوَ أيضَاً لَا يُجيدُ الِقراءةَ والكِتاَبةُ!". (خِيانةُ النَّاطورِ، ص 12) .

ويأتي النوع الثالث وهو النهايات الفجائية المُدهشة، ويمثِّله القِصتانِ، (وأدُ حُلمٍ، والمَأزقُ)، "حَمَلَ القُرويُّ العَجوزَ عَلَى ظَهرِهِ وَسَارَ بِهَا صُحبةَ شُرطيٍّ فِي شَارعِ مَركزِ النَاحيةِ الرَّئيسِ الَّذي يَنتهِي عِندَ السُّوقِ المَسقوفِ، كَانَ فِي قَرارَةِ نَفسِهِ يَأملُ أنْ يَرَاهَا أحدٌ مِنْ عَائلتِهَا أو مِنْ مَعارِفهَا وَيُخَلِّصُهُ مِنْ عَناءِ حَملِها. طُوالَ الطَّريقِ، كُلَّما شَاهدَ القُرويُّ شَاخصَاً أمامَهُ، أوْ بِمُحاذاتهِ، أوْ قَريبَاً مِنهُ، صَرخَ بِه: -اِفتحِ الطَّريقَ ، تَنحَّى جَانبَاً، وَإلَّا سَتصبَحُ اِبنَهَا!". (خِيانةُ النَاطورِ، ص 70).

أمَّا النوع الرابع والأخير فهو ما يُسمَّى بالنهايات أو الخواتيم المفتوحة، ويمثِّلهُ تطبيقياً وإجرائيَّاً قصَّة (قَلبٌ استوطنهُ الأملُ)، وتشترك معها في هذا السياق قصَّة (ضَياعُ الذاتِ) التي ورد ذكرها مع قصص النهايات الموضوعية لخيانة الناطور."نَعَمٌ يَا بُنَيَ قَبلَ أنْ التحِفَ الثَرَى أحلمُ بِوطَنٍ أجملَ! استحوذَ الذِّهولُ عَلَى الفَتَى، تَسمَّرَ فِي مَكانهِ، بَاتَ يَشعرُ بِالألم فِي رَأسِهِ وَهوَ يَنظرُ مَبهوتَاً إلَى العَربَة المُتهالكَةِ، وَهيَ تَبتَعدُ عَنْ الزُقاقِ رُويداً رُويداً نَحوَ فَضاءٍ مَجهُولٍ". (خيانةُ النَاطورِ، ص345) .

فهذه التعدُّدية والتنوَّع النهائي في اختيار خواتيم القصص والحكايات دليل على وعي الكاتب وتمكُّنه من أدواته القصصيّة في اختيار وتوظيف النهايات التي تُناسب الشخصية الفواعلية التي قامت بتمثِّل الحدث السردي تمثيلاً حقيقيَّاً.فضلاً عن أنَّ التعددية تمنح النصَّ السردي قبولاً معرفياً وثقافياً إنسانياً مُحبَّباً في كسر أفق جدار الواقع الحياتي المألوف وتحطيم رِتِمِهِ الإيقاعي الثابت. وكما في هذا السياق،"أغلقت البَابَ، اِحتضنَتْ اِبنَهَا، اِمتدَّ بَصرَهَا إلَى الأفُق حيث شروق الشمس، ضحكت بكل جوارحها وهي تشعر بنسائم الصباح لأول مرة في حياتها. (خِيانةُ النَّاطورِ، ص 57).

بِنيةُ المَكانِ القِصصيَّةُ:

يعدُّ المكان وبنيته التعدديَّة من أكثر عناصر السرد القصصيَّة الأساسيَّة التصاقاً بالحدث واهتماماً به، وارتباطاً بحركة الفواعل (الشخصيات) وتنقلاتها السريعة. فالمكان يُجِّد بنية الحدث الفعلية ويمنحها صفة التَفرُّد والاستقلاليَّة وخاصَّية التغيُّر. وفي الوقت نفسه يُحدِّدُ المكان هُوية الشخصيات الفاعلة، ويؤكِّد صلة انتمائها الوجودي في العمل الأدبي أمام أنظار قارئه ومتلقيه الواعي.

لذلك فإنَّ المكان المُحدَّد بزمن معيَّنٍ ما، يكشف عن خبايا العمل السردي وعمق تلافيفه النسقية الظاهرة والمضمرة، ويُلقي بالضوء على أهمِّ مناطقه الجوهرية التي من خلالها يستمتع القارئ بمثاباته ويتواصل مع أحداثه إلى آخر منطقة من مناطقه الحدثية المتساوقة. فلا حدث يحدث من غير مكان يؤصِّله،ولا شخصيَّات يظهر تواصلها إلَّا مع البنية المكانية التي توثق معالمه التاريخية.

وتأتي أهمية المكان الزمكانية من أهمية الحدث، فلا يمكن أنْ نصف مكاناً بالأهمية والسمو ما لم يكن الصراع الحدثي كبيراً وأصيلاً ومضيئاً. لذلكَ فإنَّ المكان عند الكاتب لطيف عبد سالم يأخذ مكانته الدلالية الاعتبارية والفنيَّة الواسعة في وقع مصفوفاته القصصية لمجموعة (خيانة الناطور).

وقد يكون المكان عنده فضاءً فكريَّاً ذهنيَّاً ومعنويَّاً ليس له حيز أو فراغ أو حدود تحدَّه في فضاء النصِّ السردي. وهو المنظور القليل الذي يشغل تفكير شخصياته في مِساحة هذه المدونة ويَهبُها صفة التواصل الحواري والحكائي مع المتلقِّي. وهذا ما سيكشفه وعي القاري النابه الحاذق أو ألمعية (الناقد) في اشتغالات اشتباكه وتصدِّيه لبنية العمل القصصي السردي المكين. وأنَّ النماذج القصصية التي يمكن أنْ تكون المثال الأوفى الجيّد للبنية المكانية المعنوية الذهنية تكمن في القصص الثلاث الأتية: (قَلبٌ استوطنهٌ الأملُ)، و (نَتوءٌ في شِغافِ القَلبِ)، و (جَرحٌ نَازفٌ):

"اِختلطَ الألمُ بِالأملِ، فَاعتدنَا عَلَى الحُزنِ، حَتَّى أصبحَ جُزءاً مِنْ عَوالمِنَا، إلَّا أنَّ الحُلمَ لَا يَزالُ يَلهثُ مَا بَينَنَا. ذُهِلَ الفَتى، زَاتْ حَيرتُهُ، لَمْ يَعد قَادرَاً عَلَى إدراكِ مَا يَبطنُ الرَّجلُ فِي خَبايا أقوَالهِ، فَرجاهُ طَالباً تَوضيحَ مَقاصدِ عِباراتِهِ...". (خيانة الناطور، ص 45) فالألم والأمل والحزن مكانها القلب.

أمَّا الحيز الأكبر الثاني الذي شغلَ تفكير القاص لطيف عبد سالم، فهو البنية المكانية التي لها تمثيل ماديٌّ وجوديٌّ على سطح الأرض في الفضاء النَّصّي السَّردي. وهذا ما انمازت به بنية المكان التعددية في أغلب قصص المجموعة الاثنتي عشرة قصةً. لذلك وظَّف الكاتب مجموعة كبيرة من المثابات المكانية في طيَّات قصصه، بدأً من أصغر وحدةٍ مكانيةٍ إلى أكبر وحدةٍ مكانية تسمو بفاعلية الحدث السردي وتظهر تناميه الحثيث.

فجاءت اشتغالاته المكانية منصبَّةً بالدرجة الأولى على المثابات والأمكنة التي لها الأثر الكبير والفاعل في حياة الإنسان وفي ترسيخ وجوده الاجتماعي. فهذا الاهتمام الكبير بالتقانات المكانية دفعه إلى استحضار وذكر الكثير من الأمكنة التي وردت متجليةً في طيَّات قصصه، فوظف، (البيتَ والأسرةَ والدارَ والمَنزلَ والمُضيفَ والصِّريفةَ والطُولَةَ والشارعَ والزقاق والمَقهى ومجالسَ الخمرَ ومكانَ العملَ والمدينةَ والقريةَ والنَاحيةَ ومكاتبَ الكُتبِ بالمتنبِّي ومِراكزِ العملِ ومَراكزَ البُحوثِ العلميةِ ومَراكزَ الشُّرطةِ وسَطح الدَارِ وقَاعةَ الطَواري والمَشافيَ ومَتاجرَ بغدادَ التِّجاريةِ)،وغيرها من مقاربات تلك الأمكنة والمثابات والمعالم العمرانيةومجاوراتها اللغوية والدلالية في بيت مشغله:

"ارتَدَى ثِيابَهُ، تَأنَقَ وَتَعطَّرَ، هَمَّ بِالخُروجِ؛ لإمضاءِ لَيلتِهِ كَالعادةِ فِي اِرتيادِ مَجالسِ الخَمرِ، مَا إنْ وَضعَ يَدَهُ عَلَى مَقبضِ البَابِ، حَتَّى نَادتهُ زَوجتهُ بِنبرةٍ يَشوبُها الحُزنُ قَائِلةً: اِبنكَ يُعانِي مِنَ الحُمَى مُنذُ ثَلاثةِ أيامٍ! رَدَّ صَارِخاً: - ومَنْ أخبرَكَ أنَّني طَبيبٌ؟! أشاحَتْ وجَهَهَا دُونَهُ قَبلَ أنْ يُطلقَ ضِحكةً عَاليَةً وَيُغادرُ المَنزلَ". (خيانةُ النَاطورِ، ص 55). فَتمثُّلات المكانية واضحة في قصته (صرخةٌ).

والمكان عند لطيف عبد سالم لا يقف عند حدود المدينة المُتحضِّرة وزحام مثاباتها الضوئيَّة المُبهرة، فقد تجاوزت المكانية لديه حدود المَدى المكاني، فتوغل في وجعه السردي بقصصه وحكاياته إلى عالم الريف وإلى فضاء وحداته الزمكانية التي فضحت وكشفت الكثير من تجليات الصراع الوجودي والألم العراقي الذي تعرض له الإنسان ابن الريف ونواته الفواعلية.

وقد ظهرت آثار هذه المكانية الضاربة في العمق من خلال المفارقات القصصيَّة الصادمة السوداء التي عَبَّرت عنها شخصيات قصصه وأصواته الداعية إلى التحرر من العبودية ونبذل أشكال الذل وممارسات الاسترقاق البشري. والتي هي جزء كبير من آيدلوجيَّة الكاتب وفلسفته.

وقد عزفَ القاص لطيف عبد سالم سرديَّاً في أسلوبية لغة موسيقاه المُعجميَّة القصصيَّة على أوتار ذلك الوجع المرير الأسود فأطرب وأبكى، وأمات متلقيه وأحيا، ذلك الوجع الإنساني الكبير الذي كشفت عنه فضاءات قصصه الواقعية بوضوح تامٍ وتجرُّد ونكران ذاتٍ صوبَ القارئ اللبيب:

"رِحلتهُ الَّتِي بَدأهَا فَجرَاً وَهوَ يَنتقلُ مِنْ قَريةٍ إلَى قَريةٍ أُخرَى، لَمْ تُسفرْ عَنْ أيِّ نَتيجةٍ تَشفِي غَليلَهُ فَكَمَا كَانَ يَأملُ، الشَّمسُ فِي طَريقِهَا إلَى المَغيبِ وَقَدْ وَصلَ قَريةً نَائيةً، لَا مَعرفةَ لَهُ فِيهَا بِقريبٍ أو صديقٍ، وَلَا يَتذكَّرُ أنَّهُ زًارَهَا أو مَرَّ بِهَا فِي وَقتٍ سَابقٍ، تَوقَّفَ عَنِ السَّيرِ فِي أطرافِ المَدينةِ بِمُحاذَاةِ جَدولٍ صَغيرٍ، ارخَى قَدميهِ مِنَ السَّرجِ، نَزَلَ مِنَ عَلَى ظَهرِ فَرسِهِ؛ لِيَتركَ لَهَا فُرصةَ الحَصُولِ عَلَى حَاجتِهَا مِنَ المَاءِ". (خِيانةُ النَاطورِ، ص 17). هكذا ينتقل القاصُّ من مكان لأخر، من المدينة إلى القرية، ومن القرية إلى الريف الواسع الأمكنة وعوالم الطبيعة الثابتة والمتحركة.

إنَّ جدلية الخفاء والتجلي السردي لصراع المقدس والمدنس والمفارقة الإدهاشية الصادمة السوداء في ثنائيات المواجهة المحتدمة بين الخير والشر والحياة والموت والوجود والعدم التي استأثرت كثيراً باهتمام الكاتب وتخليقه الإبداعي والفني الإنتاجي تؤكد لنا بصدقٍ أنَّ تجربة القاصِّ والكاتب لطيف عبد سالم الإجرائية الثريَّة في مدونته القصصية (خِيانة ُالناطورِ) يمكن أنْ نعدَها إضافة نوعيةً ومعرفية نافعةً وماتعةً إلى مكتبة سرديات القصة العراقية القصيرة؛ كونها تلقى احترامَ ومقبوليةَ رِضَا القارئ واستحسانه الذوقي والمَعرفي في آليَّات القراءة وجمالياتِ التلقِّي.

***

د. جبَّار ماجد البهادليّ - ناقدٌ وكاتبٌ عِراقيّ

قراءة في قصيدة " معالمُ السِرِّ الأبهى" للشاعر مصطفى علي

من لجج التجربة الشعرية الفريدة للشاعر مصطفى علي، نستلهم من معينه العرفاني الصوفي الذي يغوص في أغوار النفس الإنسانية، ليكشف عن تجليات الروح في رحلتها الأبدية نحو المطلق.

اسعى هنا الى التمعن في هذه القصيدة الشعرية التي توحد نسيجيها الوجداني والفلسفي، راسمةً ملامح "السر الأبهى" الذي يكمن في جوهر الوجود، ويتجلى في مرآة اللغة الشعرية المكثفة..

لقد اعتمدت في تحليلاتي هذه منهجًا نقديًا يزاوج بين الأدوات الأدبية والفنية والفلسفية، ساعيًا إلى تفكيك البنى الجمالية والدلالية لما ورد فيها، واستكشاف أبعادها النفسية والوجودية. فكل مقطع شعري هنا هو بمثابة نافذة تُفتح على عالم من الرموز والإنزياحات، حيث تتراقص الكلمات على إيقاع الشوق والحنين، وتتجسد المعاني في صور باهرة تتحدى المألوف.

ان الخيط الناظم الذي يجمع هذه المقاطع هو رحلة الإنسان الروحية، بكل ما تحمله من عطش وجودي، وصراع بين الشك واليقين، وتوق إلى الفناء في حضرة الجمال المطلق. من "إيقاد فوانيس القوافي" في دم الشاعر، مرورًا بـ "خصام سمادير الرؤى"، و"السفر السماوي على أجياد عاصفة المنايا"، وصولًا إلى "معانقة أثر الحقيقة المتواري كالظلال"، تتكشف أمامنا دروب هذه الرحلة الشاقة والمضيئة في آن.

اهدف من وراء ذلك إلى تقديم صورة متكاملة ومنسجمة لهذه التجربة الشعرية الثرية، لا بوصفها شذرات متناثرة، بل كأجزاء من مشروع نقدي أوسع، يسعى إلى استجلاء القيم الجمالية والفكرية في الشعر العربي المعاصر ذي النزعة الصوفية والوجودية.

إنها دعوة، في الوقت ذاته، للقارئ كي يشارك في هذا السفر النقدي، متأملاً كيف يمكن للكلمات أن تتحول إلى "بيارق للغيوب"، وكيف يمكن للسراب أن يصير "ينبوعًا يتفجر من ينابيع الخيال".

بالعنوان: يحمل في طياته دعوة للتأمل والبحث عن المعنى العميق للحياة والوجود. انه عنوان فلسفي قبل كل شيء، يدعو إلى عدم الاكتفاء بالسطح، وإلى البحث عن العلامات التي تدل على سر الحياة الأبهى، سر الجمال، سر الوجود.

العنوان يجمع بين الفلسفة الوجودية، والمعرفة التأملية، والبعد الصوفي، ليقدم لنا رؤية شاملة عن الإنسان الباحث عن الحقيقة، والذي لا يكتفي بما هو ظاهر، بل يسعى إلى ما هو مخفي.. إلى السر الأبهى.. والذي يشير إلى نوع من السر الذي يتجاوز المعنى المباشر للكتمان أو الخفاء؛ فكلمة “الأبهى” تعني الأكثر جمالاً وبهاءً، ما يجعل السر هنا ليس مجرد أمر مخفي، بل هو سر مضيء، سر يتجلى فيه الجمال الإلهي أو الوجودي، أو ربما سر الحياة والروح.  والذي سنبحث عنه في مفاصل القصيدة.. علنا نصله...

1. القوافي وصقيع اليومي: الثورة على الجمود

أوْقدْ فوانيسَ القوافي في دمي

واهجرْ صقيعَ العابرِ اليوميِّ طقساً

موحشاً كجليدِ أوهامِ الجِدالْ

*

نداء مشحون بالعاطفة والرمز:

"أوقد فوانيسَ القوافي في دمي"

في هذه الصورة الباهرة، تتحول القوافي إلى فوانيس، نورًا داخليًا يشتعل في دم الشاعر.. في إشارة إلى الإبداع المنبثق من أعماق الألم والوعي.. انه إنزياح دلالي مدهش: فلا القوافي توقد عادةً، ولا الدم يُضيء.. خرق للمألوف، يجعل الشعر ذاته فعلًا من أفعال الإشراق الداخلي.

ثم وبإنزياح آخر يقول:

"واهجرْ صقيعَ العابرِ اليوميِّ طقساً"

هنا يرسم رفضًا للابتذال والروتين، فاليومي العابر مجمَّد، كالصقيع، بلا دفء ولا معنى.. إذن، الدعوة إلى الثورة على المعتاد، والبحث عن وهج الحياة الحقيقي عبر الإبداع والشعر. ليبلغ التصوير ذروته:

"موحشاً كجليدِ أوهامِ الجِدالْ"

حيث يربط الجدال العقيم، الذي لا يلد إلا الوهم، بالجليد الموحش، فكل صراعٍ لغويٍ أو جدلي بلا جوهر، إنما يُنتج برودة وخواء وعدم.

يبني الشاعر صورًا مبتكرة، يتجاوز بها حدود التعبير التقليدي، موظفًا المجاز والاستعارة بلغة مشبعة بالإيقاع الداخلي.

النص يحتج على الابتذال والجمود، ويدعو إلى إشعال جذوة الإبداع والمعنى وسط ركام اليومي العابر.

انه القلق الوجودي الذي يحاصر المبدع، الذي يؤكد الحاجة إلى تحطيم السكون الاجتماعي المفرغ من الدفء.. يكشف النص، وعبر رمزيته، عن حالة الركود التي تصيب المجتمعات حين تستبدل الفعل الحقيقي بالجدال العقيم.

مقطع صغير، لكنه صرخة إبداعٍ ضد خريف الروح، وثورة على موات العادة.. انه إشعالٌ لفتائل القصيدة في ليل الصقيع الإنساني، حيث يبقى الشاعر وحده، حاملًا فوانيسه ليضيء عتمة الحياة التي خانتها الكلمات اليومية.

2. خصام الاوهام وجمر السؤال: في وعي الألم..

خاصمْ سَماديرَ الرؤى

واشعلْ بقلبي موقِداً يكوي

فُؤادَكَ أو فؤادي مثلما

يكوي النُهى جمرُ السؤال

*

مواصلة الثورة بمواصلة النضال:

"خاصمْ سَماديرَ الرؤى"

في إنزياح دلالي لافت، إذ يجعل الرؤى كائناتٍ يمكن خصامها، والسَمادير ـ وهي الأوهام والأطياف ـ تتحول هنا إلى خصوم، في استعارة توحي بصراع الذات مع أحلامها المراوغة.

معمّقًا المشهد بالطلب الحارق:

"واشعلْ بقلبي موقِداً ..."

فالإشعال هنا لا يكتفي بإضاءة داخلية، بل يحترق، ليلامس فؤاد الآخر أو فؤاد الشاعر نفسه، مؤكداً وحدة الألم بين الذوات.

وتتجلى الذروة في:

"مثلما يكوي النُهى جمرُ السؤال"

حيث يتحول العقل المفكر (النهى) إلى ضحيةٍ لجمر الأسئلة، في مشهدٍ فلسفيٍّ بالغ الإبداع، يحفر في أعماق الحيرة والبحث الإنساني.

مقطع يشعل المجاز حتى لهيب الحيرة.. يصوغ من الألم معرفةً، ومن خصام الرؤى يقظةً، حتى يصير السؤال نارًا تضيء طريق العارف في عتمة التيه.

المقطع الشعري هنا يأتي كثيفًا ومشحونًا، مبحرًا في أعمق طبقات الوعي الإنساني، حيث ينهض الشاعر بنداء وجودي حارق: "خاصمْ" هذه الأطياف المرتبكة بين حلم ووهم، التي تصبح خصمًا يستحق المقاومة، مما يعكس دعوة لتمرّد العقل الإنساني على الإغواءات العاطفية المضللة. إنها صورة باذخة الدلالة؛ حيث يتحول اللاوعي إلى غابة يجب الخروج منها بوعي مشبوب.. املا في ان يتحول القلب إلى ميدان اشتعال داخلي.. احتراق لا يستهلك صاحبه بل ينيره.. حريق معرفي يحفّز الذات على تجاوز التكلس الروحي.

يصل التصعيد الرمزي ذروته عند: "مثلما يكوي النُهى جمرُ السؤال"، في مشهدٍ يُغري بالتأمل؛ فالعقل، الذي يفترض فيه البرودة والاتزان، يكويه السؤال، ليكشف أن البحث عن الحقيقة ليس برودًا بل معاناة ملتهبة.

هنا، تتداخل نار القلب مع جمر الفكر، ليرسم الشاعر لوحة معرفية عن الألم بوصفه بوابة الوعي، وعن خصام الأوهام كشرط ضروري لولادة النور الداخلي، في قصيدة تتقد بالحيرة وتستنير بالتمرد على العتمة.

3. الخلود في الفناء: ذوبان الذات في المثال..

أيّانَ بلْ كيفَ المولّهُ يَمّحي

حتى فناءِ الذاتِ في عِشْقِ المثالْ؟

انه سؤال وجودي مشحون بالشجن ذلك الذي يطلقه الشاعر بقوله: "أيّانَ بلْ كيفَ المولّهُ يَمّحي".. في إنزياح لغوي ودلالي باهر، يجعل العاشق المتيم معادلًا للخلود، فلا زمانٌ (أيّان) ولا كيفيةٌ تستطيع محو العاشق المولّه. هنا تتجسد استحالة الفناء العاطفي إلا بفناء الذات الكاملة.

ثم يعمق الصورة بإجابه فلسفية مدهشة ومفاجئة:

"حتى فناءِ الذاتِ في عِشْقِ المثالْ" انها لحظة، يتحول العشق فيها إلى مثالية مطلقة لا تكتمل إلا بفناء الأنا الفردية، في تصوير بلاغي يتجاوز العشق الغريزي إلى العشق الروحي الصوفي.

اذن فهو يمدنا بشعلة وجدانية تتوهج بأسئلة الكينونة والحب، حيث يُصبح العاشق نارًا لا تخمد إلا إذا ذابت الذات في المثال الأعلى.. وليجعل من القصيدة مرآة لحريق الإنسان الباحث عن المطلق.

الشاعر يتعامل هنا مع الحب بوصفه فعلاً فلسفيًا مطلقًا، وليس مجرد انفعال عاطفي. في "أيّان بل كيف" حيث يتحول الزمان والمكان إلى أطرٍ عاجزةٍ عن احتواء العاشق، مما يشير إلى تجاوز الحب للأبعاد الوجودية.

أما صورة "فناء الذات" فتمثل أرقى مراحل العشق الصوفي حيث تتلاشى الأنانية الفردية في حضرة المثال.. هكذا يتماهى النص مع تجارب كبار العارفين أمثال الحلاج وابن عربي وسواهما، حيث يكون العشق سبيل الخلاص والذوبان الكوني.

في هذا المقطع تتخذ القصيدة بُعدًا وجوديًا ثريًا، يمزج بين حرارة القلب ونور الفكرة، وينحت الجمال من لهب العشق السرمدي.

4. الغيبوبة والانجذاب: البحث عن المطلق..

ويغيبُ مندهشاً ومجذوباً

لِطيفِ الغامضِ المخفيّ

سكراناً بألغازِ القريحةِ والخيالْ

ينطلق الشاعر هنا من صورة وجدانية آسرة:

"ويغيبُ مندهشاً ومجذوباً"

انه تصوّر الغياب لا كفعلٍ حسي بل كحالة انخطافٍ روحي، حيث تتلاقى الدهشة بالانجذاب. الجمع بين "مندهش" و"مجذوب" يرسم رحلةً إلى غيبوبة الوعي بفعل الجمال المطلق. ثم يتماهى مع الغيب:

"لِطَيفِ الغامضِ المخفيّ"

ليُحيل الغياب إلى تَتبع طيفٍ خفي، مما يعمّق الغموض ويكثف المعنى الصوفيّ للبحث عن المطلق. لتبلغ الذروة:

"سكراناً بألغازِ القريحةِ والخيالْ"

حيث يتحول السكر من حالةٍ حسية إلى انتشاء معرفي، نابع من ألغاز الإبداع، وليرتقي بالوجدان إلى مقام السُكر العقلي.

مؤكدًا سُكْر المعرفة ودهشة الكشف.. حيث يتوه العاشق بين عتمات الخيال، حاملاً قنديل القريحة صوب الغائب الأبدي.

انه تعامل مع الغياب بوصفه فعلاً من أفعال الاستنارة. "الطيف الغامض المخفي" وهو في الان ذاته، رمزًا للعالم الداخلي الغائر الذي لا يُكشف إلا لمن يسكر بسؤال الإبداع. السكر هنا لا يُفسد العقل، بل يوقظه على ألغاز الخلق.

كما يمزج بين المتعة والارتباك، بين اللذة العقلية والانخطاف الروحي، مما يخلق نصًا مزدوج الطبقات: سردي في ظاهره، صوفي في جوهره.. فيُحيل القارئ إلى تجربة السُكر بمعناه الأسمى: التوحُّد مع غموض الوجود.

انه فتحًا أفقًا تأويليًا أوسع، نظرت إلى الغياب والسُكر بوصفهما مجازات عن السعي الإنساني نحو الحقيقة الماورائية.

بهذا التوليف، تتضح ثنائية ما أراد الشاعر: إبداع لغوي أخّاذ وتجربة فلسفية مشبعة بجماليات الحيرة والانخطاف الروحي.

5. بين الحنين والظمأ: رحلة في تخوم الوجود..

قلبي يُحدّثني بأنّهما معاً

ظَمَأٌ وُجوديٌّ بأعماقِ الورى

وَحَنينُهم أبَداً لِفُراتِ ماءِ الروحِ

في قلبِ الرِمالْ

*

بمخاطبة الوجدان:

"قلبي يُحدّثني بأنّهما معاً"،

يحمّل القلب قدرة النُطق والحوار، مما يضفي على العاطفة عمقًا معرفيًا، ويؤسس لجسرٍ بين الذات ومكنونها الخفي. ثم يكمل بصورة شعرية مدهشة:

"ظَمَأٌ وُجوديٌّ بأعماقِ الورى"،

مؤكدًا أن العطش هنا ليس حسّيًا بل وجودي، عطشٌ للمعنى وللمطلق يضرب بجذوره في أعماق الإنسانية كلها، في إشارة فلسفية راقية يعززها بصورة باهرة:

"وَحَنينُهم أبداً لِفُراتِ ماءِ الروحِ"،

إذ يصوّر الروح نهرًا جاريًا (فراتًا) يسعى إليه الورى بظمئهم السرمدي، لينسكب المعنى صافيًا فوق رمال العدم.

يصوغ الشاعر هنا ملحمة عطش الإنسان للروح، حيث يتحول الفؤاد إلى رسولٍ بين صحراء الحياة وينابيع الخلود. حيث يستبطن الشاعر جدلية العطش والحنين كجوهر للوجود الإنساني.

* فـ الظَمأ الوجودي هو استعارة عن الحيرة الأنطولوجية: بحث دائم عن الحقيقة، عن "فرات الروح" الذي قد لا يُبلَغ إلا بالحنين الأبدي.

* بينما الماء، رمز الحياة، لا يسكب في الأجساد بل في الأرواح، مما يشي بحس صوفي عميق حيث تتماهى الذات في نهر المطلق.

بهذا، يتجاوز النص الشعري كونه تصويرًا وجدانيًا ليصبح تأملاً فلسفيًا في حقيقة الوجود الإنساني الظمآن إلى معناه الخالد.

6. جياد الريح، سفر الغيب: وجودية في العبور الشعري..

سَفَرٌ سَماويٌّ على أجْيادِ عاصِفةِ

المَنايا والرؤى

وعلى جِيادِ الريحِ صاهِلةَ الخُطى

للغيبِ والمجهولِ

والسِرِّ المُحالْ

انفجار مجازي أخّاذ:

"سفرٌ سماويٌّ على أجْيادِ عاصفةِ المنايا والرؤى"،

في إنزياح دلالي مزدوج، حيث يُزَوِّج الموت بالحلم، ويجعل العاصفة مطيةً في سفرٍ يتجاوز حدود الأرض. هنا تتماهى الفناءات مع البشارات، ويصبح الإنسان فارسًا بين الرؤى والمنايا. ثم يضاعف الشاعر الإيقاع التصويري:

"وعلى جيادِ الريحِ صاهلةَ الخُطى

للغيب والمجهول والسِرِّ المُحال"،

فجياد الريح، ذات الطبيعة الهوجاء، تصهل بخطى قادمة من الغيب، مواصلة السير نحو المطلق والمستحيل.

إنها معانقة المطلق بجموح الخيال، فالشاعر يمتطي رياح الموت والرؤيا معًا، قاصدًا سديم الغيب، حاملاً توق الإنسان الأزلي إلى الماوراء.. انه تجسيد للرحلة الوجودية الكبرى:

* السفر السماوي لا يُقصد به التنقل المادي، بل التحليق الوجودي بين حقائق الفناء وأحلام الخلود.

* المنايا والرؤى توأمان في طريق الإنسان نحو كشف الحقيقة الكبرى، والجياد الصاهلة رمزٌ للجموح الداخلي نحو المجهول.

* الغيب والمحال في النهاية ليسا نهاية، بل بداية أخرى لا تدرك إلا بنشوة الفناء المتجاوز للأطر المحدودة للعقل البشري.

هكذا يتعانق النص مع الميثولوجيا الصوفية والأساطير الكبرى عن السفر نحو السر الأبدي.

7. أرجوحة الأقدار: بين وعد الخلود وعاصفة الزوال..

أُرْجوحةٌ سَكرى تَدلّتْ من عُرى أقدارِنا

ما بينَ وَعْدٍ دائمٍ في سَرْمَدٍ

وَحَصادِ قَشٍّ زائلٍ

عَصَفتْ بهِ سُحُبُ النهايةِ والزَوالْ

*

اختصار للتوتر الأبدي بين المصير والاختيار

"أُرْجوحةٌ سَكرى تَدلّتْ من عُرى أقدارِنا".

الأرجوحة، رمز الطفولة والفرح، تغدو هنا متهالكة وثملة، مشدودة إلى حبال القدر الواهية، في استعارة تنطوي على قلق وجودي عميق. تلحقها توسعة للمشهد:

"ما بينَ وَعْدٍ دائمٍ في سرمدٍ وحصادِ قَشٍّ زائلٍ"،

في تباين حاد بين الخلود الموعود وهشاشة المكاسب الدنيوية، حينؤ تحترق الأحلام كما تحترق سنابل القش مع أول عاصفة. متوجًا ببناء درامي اخاذ..:

"عصفت به سحب النهاية والزوال"،

فالنهاية ليست هدوءًا بل عاصفة مدمرة، تهدم كل بناء هشّ أنشأه الإنسان فوق رمال الغرور.. انها رقصة المصير الإنساني فوق حبال الفناء، حيث تترنح الآمال بين وعد السرمد وخيبة الزوال.

هذا التعامل مع فكرة القدر بوصفه لعبة عبثية لا تخلو من الإغواء والوهم يمنحنا لحظة تأمل في:

* الأرجوحة السكرى رمز للحياة المتأرجحة بين الإيمان بالمطلق والانخداع بالمحسوس الزائل.

* الوعود السرمدية التي تمثل الأمل الوجودي، بينما حصاد القش رمز للمكاسب الزائلة التي يعصف بها الموت/ النهاية، حسب الرؤية، وهي ليست خاتمة هادئة، بل إعصار يُسقط الأقنعة ويعرّي المصائر.

وبهذا العمق نجد ان النص يُماثل في عمقه نصوص الوجوديين الكبار، حيث الإنسان معلق بين حرية جارحة وقدرٍ لا يرحم.

8. الاحتراق في مجامر التجلّي: في إشراقات الشعر..

أرواحُنا فَرْطَ التَواجُدِ

أطْلقتْ أسمائَهُ

مُتَجَلّياً ومُعانِقاً

أشواقَ من فازوا بِقُرْبٍ أو وِصالْ

*

انفتاح لأفق الروح على اتساعه:

"أرواحُنا فَرْطَ التَواجُدِ أطلقتْ أسمائَهُ"

في صورة باهرة، تتماهى الأرواح مع الوجود حتى تتجاوز ذواتها، لتطلق الأسماء كإشارات كونية نحو الحبيب المتجلي.. هذا الانزياح الدلالي يحوّل الذات إلى طاقة متجددة من الحضور. ثم يكمل:

"مُتَجَلّياً وَمُعانِقاً أشواقَ من فازوا بقُربٍ أو وِصالْ"

في انسيابٍ مدهش، يحوّل الشوق إلى مادة حسية تُعانق المتجلي، في مشهدٍ روحي.. إنساني مكثف، يلامس قمة التوق إلى المطلق. ان هذه المفاصل الإبداعية، تجسّد عطش الوجود إلى الانصهار في نور الحضور.

انه تجاوز لحدود الزمان والمكان عبر مفهوم "فرط التواجد"، وهو إحساس فائق بالحضور يتماهى مع فكرة الحلول العرفاني. الأرواح هنا ليست مجرد كينونات معزولة، بل أمواج من التجلّي تذوب في النور الإلهي.

التجلي والمعانقة يتحولان إلى رمز فلسفي لرغبة الكائن في تذويب الفواصل بين الذات والآخر، بين المحدود والمطلق. في نسيج القصيدة، لا يتحدث الشاعر عن لقاءٍ أرضي، بل عن لحظة اتحاد كونية حيث تصبح الأشواق لغة كونية تترجم شغف الوجود..

هكذا، تتحول التجربة الشعرية إلى لحظة إشراق عرفاني، تتلاشى فيها حدود اللغة، فلا يبقى سوى العناق الروحي بين الأرواح والنور.

الشاعر مصطفى يسكب رؤياه اشراقة في كأس العارفين؛ ليجعل من الكلمات سلالمَ نحو الضياء، ومن الأشواق قناديلَ تُنير درب العشاق التائهين في مجاهل الفقد والحنين.

9. نبوءة الأمل المشتعل: في جمرات القصيدة..

ما كانَ مُطْلَقُها سِوى

أمَلٍ تَفَتّقّ من لظى أشواقِها

وَطَريقةٍ سِحريّةٍ للسائرينَ على الطريقِ

يسوقُهم ضمأُ البرايا للكمالْ

*

ينسج الشاعر رؤيا كونية دقيقة:

"ما كانَ مُطْلَقُها سِوى

أملٍ تفتّق من لظى أشواقِها"

في صورةٍ مدهشةٍ، يتحول الأمل إلى برعمٍ متفجّر من لظى الأشواق، حيث الانزياح الدلالي يحوّل الألم إلى ولادة، والانتظار إلى اشتعال خلاق. ويواصل الإبداع بقوله:

"وطريقةٍ سحريةٍ للسائرينَ على الطريقِ

يسوقُهم ضمأُ البرايا للكمالْ"

في تناغم باهر، تصبح المسيرة الإنسانية نحو الكمال طقسًا صوفيًا يحفّه العطش الأبدي للمعنى.. خلق لهالة رمزية بين الحب، والطريق، توطئة للاكتمال، كأنها مرآة لجوع الإنسان الأزلي إلى المطلق.

الشاعر يتموضع هنا في فلسفة وجودية عميقة، حين يتحدث عن الأمل المتفتق من لظى الشوق، والذي لا ينبع من ترف، بل من وجعٍ متأصل.

ان الطريق السحري يشير إلى الرحلة الوجودية التي يقوم بها الكائن البشري، مدفوعًا بظمأ لا يرويه إلا الاقتراب من الكمال.

الشاعر هنا ينسج تجربة صوفية بامتياز، حيث تتحول الحياة إلى عبور نحو المطلق، والسير إلى غاية لا تتحقق بالكامل، لكنها تمنح المعنى لاستمرارية المسير. إنها قصيدة تحرق الذات بحنينها كي تصنع نورها.

ينبع المقطع من رماد الأشواق، ليُشعل فينا عطش البحث عن الجمال المطلق، محولًا الكلمات إلى مرايا تعكس رحلة الإنسان الأبدية بين جمر الشوق وواحات الأمل.

10. بيارق الغيوب: سفر المعنى في فضاء القصيدة..

لِيَعودَ من فَلَكِ الغيوبِ بيارِقاً

تقفو نِداءَ الحقِّ في سوحِ النِزالْ

يستحضر الشاعر صورة مذهلة حين يقول:

"لِيَعودَ من فَلَكِ الغيوبِ بيارِقاً"

هنا، تتجاوز العودة معناها الحسي لتصبح ارتحالًا ميتافيزيقيًا من الغياب إلى الحضور، في انزياح دلالي يصور الروح وهي تنتزع المعنى من أقاليم المجهول. ثم يربط ذلك بنداء القيم السامية:

"تقفو نداءَ الحقِّ في سوحِ النِزالْ"

حيث تتجسد الحقائق على هيئة بيارق شامخة، تسير خلف نداء الحق في ميادين الصراع، مشعلًا الحلم بالتغيير والنهوض. يبهرنا هذا المقطع بروعته حين يدمج بين الأمل، والالتزام، والفداء في أنشودة خالدة ضد النسيان.

انها جدلية الغياب والحضور؛ حيث تغدو الغيوب مهودًا للمعنى، والحقائق الراسخة لا تخرج إلا من أعماق الغموض.

الفلك هنا رمز للقدر، والبيارق تمثّل الانتصار الأخلاقي في ساحة وجودٍ مشتبك. وفي هذه الرحلة، يستدعي الشاعر فكرة النضال ضد العبث، حيث تكون المعركة في السوح ليست بالسيف فقط، بل بمعاني الروح المتوهجة بالحق.

إنه نشيد المقاتل الذي يرفض السكون في حظيرة النسيان، ويشعل راياته باسم الحق والكرامة.

بهذه الصورة، يصنع الشاعر مجرّة من الوعود، ويبعث من رماد الغيوب بيارقًا للأمل، ليؤكد أن المعنى الحقيقي لا يُولد إلا من صراعٍ مشبعٍ بالحق والنقاء.

11. رحلة الأرواح: إشراق السرى نحو فجور الخلود..

هِيَ رحْلةُ العُشّاقِ في الأسفارِ

ما طالَ السُرى

لِيَضوعَ في الارواحِ فجراً سَرْمَديّاً

ذو الجَلالْ

*

بنصاعةٍ صوفية يقول:

"هِيَ رحْلةُ العُشّاقِ في الأسفارِ"

في صورة مدهشة، تتحول الأسفار من تنقّلٍ مادي إلى عبورٍ روحيّ، حيث العشاق هنا هم السائرون على طريق الحقيقة المطلقة. ثم يتابع انزياحه الخلاق:

"ما طالَ السُرى

لِيَضوعَ في الأرواح فجراً سرمدياً

ذو الجلالْ"

فالسُرى لا ينتهي بالإنهاك، بل يفضي إلى إشراق داخلي خالد، فجراً أبدياً من الجلال والنور. هنا ينسج الشعر من رحلة التعب.. إشراق الخلود، وتحول من الألم.. طقسًا للانبثاق الروحي المتعالي.

نصير هنا أمام رحلة عارفين لا مسافرين. الأسفار ليست حركةً بين المدن، بل عبورٌ بين المقامات الروحية.

فالفجر السرمدي هو صورة فلسفية مكثفة: لا يشير إلى الفجر التقليدي، بل إلى ولادة دائمة للمعرفة والوجد.

اما في بُعده الاجتماعي، فهو يحتفي ببطولة العاشق الباحث عن المعنى، رغم قسوة السرى وطول الطريق.. في رفض لكل ما هو ساكنٌ وخامل.. هكذا يغدو السُرى فعل تحررٍ داخلي، رحلة باتجاه الله او المطلق، باتجاه الذات المستنيرة.

إنه سفرُ الأرواح نحو فجور لا يغيب، إشراق يتحدى الزمن والعدم، حيث الجلال يغمر الخطوات المكلومة بنور السرمدية.

12. اسفار العشق وسهام الروح: تيه العاطفة الإنسانية..

لا تسألِ العُشّاقَ عن أسْفارِهمْ

وأسألْ سِهامَ الروحِ كم طاشتْ

وكم نَفَرَ الغزالْ

*

إنزياح بلاغي مدهش، حين يطلب:

"لا تسألِ العشاق عن أسفارهم"

مُحوِّلًا السفر هنا إلى رمز للرحلة الروحية والعاطفية معًا، لا مجرد انتقال مكاني. الأسفار.. معادل شعري للهجرة الوجدانية المجهولة، حيث تفقد الأسئلة جدواها أمام اتساع التجربة العاطفية. ثم يوجه النص بوصلة الحواس إلى العمق الحقيقي:

"واسألْ سهامَ الروحِ كم طاشتْ"

في تجسيد بليغ للروح كقوسٍ متوتّر، يطلق سهام الشغف، لكنها كثيرًا ما تخطئ أهدافها، في إشارة إلى خيبات العشق وعدم يقينيته. وتأتي الصورة الأخيرة لتعميق المشهد:

"وكم نفرَ الغزالْ"

فيها استعارة حركية مدهشة؛ فالغزال رمز للروح الهاربة من قبضة الحب، مرتبكة بين الانجذاب والفرار. انه فيض من حرارة المشاعر المتوثبة، وصورٍ تكتنز بالمعنى، حيث تصبح الرحلة العاطفية هروبًا مستمرًا، والروح ميدانًا لسهام تتناسل بين الأمل والانكسار.

بالرغم من اعتماد النص على البساطة الظاهرية فانه يمتلك عمقًا داخليًا مثيرًا للتأمل، من خلال ما تصنعه الموسيقى عبر التوازن بين الفعل والجواب (لا تسأل/ واسأل). الإيقاع الداخلي نابض بتوترات الوجد، والمجازات تنفتح على عوالم متعددة دون ادعاء.

الشاعر يطرح هنا فكرة عجز المعرفة الإنسانية عن احتواء التجربة العاطفية.. فالحب هنا لا يُدرك بالسؤال العقلي بل يُعاش بالحدس والألم واشتعال الروح.. فالأسفار الداخلية أعقد من أن تُروى، والروح تضيع سهامها كما تضيع الحقائق أمام الفيض العاطفي.

13. خطى العشق على قارعة التلاشي: تيه القلب في تلابيب الجمال..

وإسألْ خُطى القيّافِ إن طال السُرى

كم ذابَ عشقاً حَدَّ قارعةِ التلاشي

في تلابيبِ الجمالْ

*

طلب استهلالي وبديع وبليغ:

"واسألْ خُطى القيّافِ إن طال السُرى"

حيث يحوّل الخُطى إلى شاهدة حية على رحلة العشق البعيدة الغور، والدليل على ذلك هو ما يمكن ان يجيبه والقيّاف.. ذياك الذي قفي اثار طول السرى.. حتى كاد ان يغدو مرآةً للضياع العاطفي الطويل. ثم ينتقل إلى تصوير مذهل للذوبان الوجداني:

"كم ذابَ عشقاً حَدَّ قارعةِ التلاشي"

إنها صورة شاعرية مدهشة حيث يتقاطع العشق مع الموت التدريجي، وتبلغ العاطفة أقصى ذروتها حتى قارعة التلاشي.. تكمن روعة التعبير في مزجه بين متناقضين: "قارعة" و"التلاشي"، فالقارعة تُوحي بالدهشة والهول والصدمة، وكأنها طرقٌ عنيفٌ على أبواب القلب(اذا اخذناها من قرع يقرع)، أما التلاشي فيشير إلى الذوبان التدريجي والتبخر الهادئ للذات. وفي هذا التناقض تكمن عبقرية الصورة، إذ يتحول سكون التلاشي إلى صخبٍ داخلي، والفناء الصامت إلى قرعٍ هائلٍ يزلزل أركان الوجود.

أما دلالة "قارعة التلاشي" فتتجاوز معنى "طول السرى" أو الدرب الطويل، لتصل إلى مفهوم أكثر عمقًا وتأثيرًا.. إنها القيامة الصغرى التي تحل بالعاشق، والفاجعة المهيبة التي تُفني كيانه. هي لحظة الانكشاف الكامل أمام حقيقة العشق، حيث يقف الإنسان مذهولًا على حافة الزوال، يرتعد من هول ما يبصر، ويتلذذ بألم الفناء في ذات الوقت.

ويُتوَّج المشهد:

"في تلابيبِ الجمالْ"

فالجمال هنا ليس مظهريًا فقط، بل قيدٌ والتباسٌ أبدي، تتشبث به الروح حتى الاحتراق. نص مشحون بجماليات الذوبان، حيث الحب رحلة أبدية ينمحي فيها الكائن في حضرة الجمال، وتذوب الخطى في صمت السرمدي. كما ويتدفق بإيقاع رقيق ومنساب، مع استخدام كلمات ذات وقع تصويري عالٍ مثل: القيّاف، السرى، التلاشي، التلابيب. هذه المفردات تخلق نسيجًا صوتيًا يمزج بين الرقة والحزن. إضافة الى ذلك يقارب النص مأزق الوجود العاطفي: فالعشق ليس بلوغًا للآخر، بل رحلة احتراق ذاتي في دروب الجمال المستحيل. الحب هنا يلتبس مع الفناء، والسؤال لا يطلب جوابًا بل يحاكي ضياع الأثر وسط التيه الأبدي.

14. سراب القلب وجمر الغرام: في انكسارات العشق الشعري..

فَلَكم تَعلّلَ عاشقٌ بِسَرابِ قلبِ

البيدِ يَحْسَبُ موجَهُ

فَرْطَ الغرامِ وَجَمْرِهِ

ماءاً زُلالْ

في هذا المشهد الشعري الباهر، يقول الشاعر:

"فَلَكم تَعلّلَ عاشقٌ بِسَرابِ قلبِ البيدِ"

ينزاح المعنى منذ الوهلة الأولى، إذ يُرى القلب وقد تحول إلى صحراء قاحلة، بينما السَّرابُ .. الوهم المتلألئ الكاذب.. يغدو وعدًا كاذبًا بالنجاة العاطفية، فتتجسد العاطفة في بعدها الخادع. ويتابع:

"يَحْسَبُ موجَهُ فَرْطَ الغرامِ وَجَمْرِهِ ماءاً زُلالْ"

في قلب هذا التصوير، تتماهى الحواس: فالعطش إلى الحب يُرى سرابًا مائيًا، والموج ليس ماءً بل احتدام الغرام والاحتراق. إنها مفارقة مؤلمة ترسم ضياع الإنسان في متاهة رجاءاته الخادعة.

انه رصد لوهم العشق بوجهه الخادع، المفرط بالغرام والمتوسل ان لا يكون السراب الا ماء زلال.. وهو امر محال.. مرجحًا الحاجة الإنسانية إلى التعلّل بالأحلام المستحيلة، املًا بالخلاص والسكينة.

انه تأمل في ميتافيزيقا الرغبة: فالعاشق يطارد صورةً لا وجود لها إلا بوصفها وهمًا داخليًا، كما يطارد الإنسان في حياته الكمال الذي لا يُدرك. الجمر والزلال، الغرام والماء، البيد والسراب.. كلها تناقضات تُلخّص المعركة الوجودية بين الأمل وخيانة الواقع. فالموج ليس رحمة بل احتراق، والماء ليس ارتواءً بل خيبة مستدامة. بهذا يصبح المقطع مرآة فلسفية تعكس سخرية المصير الإنساني.

15. سراب الخيال وبراكين الممكن: في قدرة الوهم على صناعة الحقيقة..

لا تحْسَبنّ سرابَهُ وَهْماً إذا

ما صارَ يُنْبوعاً

تفجّرَ من ينابيعِ الخيالْ

يجيبنا هنا استدراكًا عما عاناه في المقطع السابق

"لا تحسبنّ سرابَهُ وَهْماً إذا / ما صارَ ينبوعاً تفجّرَ من ينابيعِ الخيالْ"

بإنزياح دلالي مدهش، يرفع السراب من رمزية الوهم إلى إمكانية التحوّل الخلّاق. هنا يتجاوز التصوير الشعري التقليدي، فـ"السراب"، بدلاً من كونه خداعًا محضًا، يتحول إلى ينبوع حقيقي، شريطة أن يتم النظر إليه عبر نوافذ الخيال الخلّاق. إنها صورة شعرية باهرة، تستنهض فينا فكرة أن الوهم أحيانًا هو البذرة الأولى لكل حقيقة ممكنة، وبهذا يُعيد النص الاعتبار للخيال، لا كفرار من الواقع بل كقوة خفية لصناعة الوجود الجديد. على المستوى النفسي والاجتماعي، يوقظ النص الأمل في تجاوز حدود المألوف، وعلى المستوى السياسي، يشي برفض الانحناء أمام مظاهر الهزيمة الظاهرة، والتمسك بأحلام لا تموت. ان هذه الأبيات تحتفي بقدرة الروح الإنسانية على تحويل السراب إلى أنهار، حين يؤمن الخيال بسلطانه، فتتخلق العوالم لا من الماء، بل من إصرار الرؤية.. انه توطيد للعلاقة العميقة بين التجريد والخلق. انه التحوّل: أي أن ما يُظنّ وهماً، قد يكون فقط طورًا أوليًا لحقيقةٍ لم تكتمل. في هذا المعنى، يحوّل الشاعر الخيال من عالم المراوغة إلى مختبر للإمكانيات. السراب ليس خداعًا، بل هو "نواة الإمكان" حين يحلّق الوعي فوق إسار الواقع البارد.

16. ظلال السرّ وهتك الحجاب: في جدلية الحقيقة والمطاردة الشعرية..

فإذا الحقيقةُ أظهرتْ أنوارَها

للعارِفينَ بِسرِّها

هَتَكوا الحِجابَ وعانقوا

أثَراً تراءى كالظِلالْ

ويواصل مستبطنًا الواقع:

"فإذا الحقيقةُ أظهرتْ أنوارَها / للعارِفينَ بِسرِّها"

في هذه الصورة الشعرية الباهرة، تظهر الحقيقة ككائن نورانيٍّ يكشف عن جوهره فقط لمن بلغ سرّ المعرفة. الإنزياح هنا يحوّل الحقيقة من فكرة ذهنية إلى كيان مشعّ حيّ، يتطلب استنارةً داخليةً للوصول إليه. ويواصل قائلاً:

"هَتَكوا الحِجابَ وعانقوا / أثَراً تراءى كالظِلالْ"

العارفون لا يكتفون بالرؤية، بل يهتكون الحجاب، في دلالة رمزية على كسر الحواجز بين الظاهر والباطن. لكن المفارقة المدهشة أن ما يعانقونه ليس الحقيقة المطلقة، بل أثرها الظلّي، ما يعمّق فلسفة الغياب الدائم للحقيقة الكاملة. يتجلى النص بانزياحات دلالية تخترق السائد، أما نفسيًا اوفلسفيًا، فهو تصوير مدهش لعطش الإنسان السرمدي لمعرفة تظل تتوارى خلف ستائر الظنون. انه تجسيد للرحلة الأبدية للإنسان نحو نور الحقيقة، رحلة لا تنتهي إلا بمعانقة الظلال، حيث يظل السرّ معلقًا فوق قلوب العارفين كنجمة لا تُطال. يشتغل هذا المقطع على التوازن بين الرؤيا والضياع؛ فالعارفون، رغم هتك الحجب، لا يلامسون إلا أطياف المعنى. هنا يطرح الشاعر رؤية للمعرفة بوصفها فعلًا لا نهائيًا من الكشف والاشتياق، فالسرّ لا يُمتلك، بل يُلاحق في انعكاساته، كما أن الظلّ يظل دومًا بعيدًا عن اليد.

17.  خيول الشك وخرائط الضلال: في جدلية التيه الروحي..

يا أيُّها الضلّيلُ حَسْبُكَ مُسْرِجاً

خيلَ الشكوكِ العادياتِ ضوابِحاً

والمورياتِ على يقينِ الروحِ

قدْحاً أو بَريقاً في متاهاتِ الضلال

*

بخطاب تحذيري قوي بقول:

"يا أيُّها الضلّيلُ حَسْبُكَ مُسْرِجاً

خيلَ الشكوكِ العادياتِ ضوابِحاً"

في صورة شعرية مدهشة، ينزاح العقل المشكك عن مجاله، ليغدو فارسًا جامحًا، يُسرّج الخيول التي لا تجري إلا في ميادين الشك. هذه الخيول العاديات الضوابح تلهث خلف سراب التيه، دون أن تصل إلى يقين. ثم يقول:

"والمورياتِ على يقينِ الروحِ / قدحاً أو بَريقاً في متاهاتِ الضلالْ"

يصوّر هنا تصادم الشك باليقين: فالشك يحاول قدح شراراته فوق يقين الروح، لكنه لا يولد إلا وهجًا عابرًا أو ومضة ضياع داخل متاهات الضلال.

الإنزياح هنا يكمن في قلب الأدوار: إذ يصير الشك قنّاصًا، يهاجم أرض الروح، ولكن عبثًا.

يجسّد النص مواجهة شرسة بين الثبات الداخلي وعواصف الفكر المرتاب، أما نفسيًا وسياسيًا، فهو تعبير عن الاضطراب الذي يعيشه الإنسان حين يفقد بوصلة الإيمان بالحقائق الكبرى.

هذا المقطع يُقيم معركة بين العقل المأزوم والروح الواثقة، حيث يخسر الشك، رغم ضجيجه، أمام صمت اليقين الذي لا تُطفئه أعاصير الضلال.

يوظف الشاعر آلية التصعيد الإيقاعي والدرامي من خلال صورة الخيول العاديات، ما يضفي حركية داخلية على النص. يطرح جدلية الشك واليقين: هل الشك علامة حياة أم ضرب من الهلاك؟ يظهر هنا أن الشك الذي لا يهتدي، لا ينجب معرفة، بل ينتج تيهًا دائمًا.

النص، بهذا العمق، يتحول إلى درس تأملي عن طبيعة الحقيقة والهشاشة الوجودية أمام غواية الظن والوهم. 

ان التناص القرآني في هذا المقطع بين وواضح ولن اخوض به

18. رحلة النصال المكسورة: سفر التجربة والوعي الشعري..

سفري طويلٌ ليْتَ راحلتي وَعَتْ

أنّ التجاربَ رحلةٌ نحو البواطنِ والجوى

فيها تَكسّرت النِصالُ على النِصالْ

*

يفتتح الشاعر المقطع قائلاً:

"سفري طويلٌ ليْتَ راحلتي وَعَتْ"

في ايحاء شعري توكيدي وعميق، يستعير السفر بوصفه مجازًا للحياة ومسيرتها الداخلية، حيث يحلم بأن تعي الراحلة ثقل الرحلة وقسوتها. الانزياح هنا دلالي بالغ: إذ تتحول الراحلة/ البهيمة إلى كائن عاقل منتظر للفهم. ويتابع الشاعر بإضاءة فلسفية:

"أنّ التجاربَ رحلةٌ نحو البواطنِ والجوى"

ليُصوّر التجربة الإنسانية كغوص مستمر نحو الداخل، نحو الجوى، وهو الغمّ العميق، في ملمح نفسي واجتماعي يرصد نضوج الإنسان عبر الانكسارات. وتبلغ الصورة ذروتها في:

"فيها تَكسّرت النِصالُ على النِصالْ"

مشهد بهيج للألم المتكرر؛ فالنصال لا تتكسر على الصخر، بل على نصال أخرى، مما يخلق مجازًا مدهشًا عن قسوة الحياة، وصراع الإرادات، وانكسار الآمال فوق خيبات أخرى.. وهو تضمين لبيت من قصيدة المتنبي التي مطلعها (نعد المشرفية والعوالي/ وتقتلنا المنون بلا قتال)

فالشاعر يعيد تعريف السفر العرفاني بوصفه انكسارًا متكررًا، ورحلة شاقة صوب معرفة الذات عبر معارك لا تُحسم الا بتكسر النصول على بعضها.

انه يستثمر الكثافة التصويرية والبناء التراكمي للجملة الشعرية، فيغدو النص مشهدًا حيًّا لحركة الوعي في معترك الوجود. كما ويطرح رؤية وجودية للمعاناة:

أن النضج لا يتحقق إلا بالارتحال إلى مواطن الألم، حيث لا انتصار إلا بوعي التكرار المرير للمراس والامتحان، ولا نهوض إلا فوق أنقاض التجربة. بذلك يغدو الألم ذاته دربًا لا مفر منه في تشكيل الكينونة.

19. رهائن المسير الخفي: في معاناة الطريق والجهل البصيري..

هل أدْركتْ كُنْهَ المسيرِ رَواحلي

هيهاتَ لو عرفت إذن

ما كانَ أدركها الهُزالْ؟

يقول الشاعر:

"هل أدركتْ كُنْهَ المسيرِ رَواحلي"

في استهلال مشبع بالأسى العميق، يتساءل الشاعر عن وعي الرواحِل.. وهي استعارة للذات أو القوة الداخلية.. بجوهر الرحلة، أي المسيرة الوجودية المضنية. الإنزياح هنا بالغ الذكاء، إذ تسند الإدراك للراحلة (البهيمة العجماء)، كأنها كيانٌ يعي ويتألم. ثم يواصل:

"هيهاتَ لو عرفت إذن / ما كانَ أدركها الهُزالْ"

بإنسيابية مدهشة، ينتقل إلى تظهير المأساة: لو أدركت الرواحِل حجم التحديات، لما نخرها الهزال!. تتجلى هنا صورة نفسية واجتماعية باهرة: التعب لا يأتي فقط من الطريق، بل من الجهل بحجم الرحلة، ومن الآمال العمياء. عليه نرى ان النص.. ببنيته وأبعاده.. يرسم الضعف الإنساني حين يسير في دروب الوجود دون بوصلة، حتى تتآكله خيبات الطريق دون وعي.

الشاعر يلخص هنا تراجيديا الإنسان السائر في العتمة: أن الجهل بكُنه المسير هو بداية الإنهاك، وأن المعرفة وحدها هي التي تؤجل الهزال، أو ترفعه.

الصور الشعرية تتوهج بدفق شعوري عميق.. فالرواحِل ليست فقط أدوات سفر، بل رموز للروح المسافرة في متاهة الحياة.

ان جدلية الإدراك والمعاناة التي تطرح هنا: أن هي الا البصيرة التي تقي الروح من التهالك العبثي، فيما يؤدي العمى الوجودي إلى الذبول قبل الأوان.

إنها مرثية خفية للذات البشرية السائرة نحو مصيرها، بين وعي مأساوي أو هلاك غير مُدرك.

20. رحلة الضوال: في أشواق الإنسان وسراب المصير..

هِيَ رحلةٌ أبَديّةٌ

أشواقُها كَدموعها لا تنتهي

حتى تلاقي الروحُ ما تَعِدُ الضّوالْ

يقول الشاعر:

"هِيَ رحلةٌ أبَديّةٌ"

من الوهلة الأولى، يصوغ الشاعر جملة قصيرة لكنها مشبعة بالمعنى.. فالحياة ـ أو الوجود ذاته ـ يُصاغ كـ"رحلة" لا تعرف النهاية.. إنه انزياح بلاغي يجعل من الزمن المجهول قافلة دائمة. ويواصل:

"أشواقُها كَدموعها لا تنتهي"

في هذه الصورة الباهرة، يوازي بين الأشواق والدموع: كلاهما تيارٌ جارٍ، لا يعرف السكون. الانزياح هنا أن الشوق والدَّمع يصبحان جوهر هذه الرحلة الأبدية، وقوامها العاطفي المؤلم. ليختم بقوله:

"حتى تلاقي الروحُ ما تَعِدُ الضّوالْ"

صورة مدهشة للروح كمسافرة تلهث خلف الضوالٍ "جمع ضالة"، وعودٍ ضائعة أو أحلامٍ مفقودة، تكمل انكسارات الرحلة.

انها تلك الحياةً الإنسانية المحكومة بالبحث الدائم والافتقاد الدائم، في تشريح نفسي.. وجودي لاهث وعميق.

الشاعر ينسج سيمفونية حزينة لمسيرة الإنسان، حيث الأشواق والدموع تتقاطعان في طريق مفتوح نحو وعدٍ لا يُمسك، بل يظل يحوم في ضباب الأبد.

هذا النص يتميز بكثافة رمزية عالية، يعمل فيها الشاعر على المزاوجة بين حركة الروح المستمرة وبين سراب الأمل.

إضافة الى ما يتجلى فيه، كمرآة صافية لفكرة العبث الوجودي: أن كل بحث روحي في الحياة، هو بحث عن ضوالٍ لا تكتمل أبدًا، مما يجعل من الحياة نفسها وعدًا مؤجلًا.

وهكذا يخلق الشاعر عبر رشاقة الكلمات حزنًا ميتافيزيقيًا ناعمًا يتسلل إلى وجدان القارئ دون استئذان.

نختم لنقول:

ان العنوان يحمل في طياته دعوة للتأمل والبحث عن المعنى العميق للحياة والوجود. انه عنوان فلسفي قبل كل شيء، يدعو إلى عدم الاكتفاء بالسطح، وإلى البحث عن العلامات التي تدل على سر الحياة الأبهى، سر الجمال، سر الوجود.

العنوان يجمع بين الفلسفة الوجودية، والمعرفة التأملية، والبعد الصوفي، ليقدم لنا رؤية شاملة عن الإنسان الباحث عن الحقيقة، والذي لا يكتفي بما هو ظاهر، بل يسعى إلى ما هو مخفي، إلى السر الأبهى.

**

طارق الحلفي – شاعر وناقد / ألمانيا

.........................

رابط القصيدة

https://www.almothaqaf.com/nesos/980992

في المثقف اليوم