قراءات نقدية

قراءات نقدية

الصيغة الفنية والتعبيرية الدالة، ترسم أبعاد متشعبة من اللوحة العراقية من عهد البعث الحزب والثورة، في أدق التفاصيل اليومية، من تلك المرحلة المظلمة والسيئة، في نهج الارهاب والقمع ومطاردة المواطنين الذين لم ينتموا الى حزب البعث، بل هم في الضفة المعارضة السياسية، سواء كانت اسلامية وغير اسلامية، فكلهم تحت مجهر المراقبة والترصد والاقتناص من جلاوزة الحزب في تقاريرهم الكيدية، لزجهم في الاعتقال والسجن، وربما يتطور الأمر إلى اكثر فداحة الى الموت بإحدى الطريقتين الوحشيتين، الرمي في احواض التيزاب، أو الى ماكنة الثرم، هذا ما دأب عليه البعث في الحكم في نهج البطش والتنكيل بالارهاب السياسي للمعارضين، وكذلك للناس الابرياء، في مبدأ ان لم تكن معي فأنت ضدي لا تستحق الحياة، نظام غير إنساني، بل الصفة الوحشية قليلة بحقه، مكونات الحدث السردي، تدور حول مجموعة من الشباب إلاسلاميين من حزب الدعوة، اتباع الشهيد محمد باقر الصدر، كانت الحياة آنذاك قاسية في المعاناة لا تثمر الجمال والحب، بل تزرع الموت والحرب، من أجل تصريف أزماته الداخلية، اطلاق العنان الى جلاوزة الحزب في المراقبة المشددة والصارمة، مما خلق شرخاً كبيراً بين نظام الحكم وعموم الشعب، لذلك انتهج سياسة شوفينية صرفة مع شريحة عراقية اصيلة، عراقية الاصل والنسب عن اب وجد، وهم الكورد الفيلية،، في نهب ممتلكاتهم ووقمع انسايتهم وتسفيرهم الى الحدود الايرانية، بحجة واهية بأنهم من التبعية الايرانية، هكذا وبكل بساطة جردهم من حق المواطنة، وسلب حقوقهم الانسانية في رميهم عند الحدود بطريقة بشعة، هذا ما حصل فعلاً ايام البعث، وليس من نسيج الخيال، قصص مأساوية واقعية تفتت الحجر والحديد لعمق المآسي والاهوال التي حصلت، اضافة الى هذه الطامة الكبرى في تشتيت ابناء الوطن، قام بشن حرب ضروس عبثية ضد ايران، هذه الوقائع الحقيقية من النظام الوحشي حدثت فعلاً، صيغت الحبكة الفنية في اسلوب واقعي رصيينن، لتثبيت هذه الدلائل لتي تجرم الحزب والثورة بجرائم كبرى ضد الانسانية، وباللغة السردية المتمكنة في تقنياتها في التناول والطرح والاقناع، وهي تتابع سيرة الشخصية المحورية الساردة (حسين) شاب يدرس صباحاً في الجامعة، ويشتغل مساءاً قاطع تذاكر في المستشفى، وما وقعت علية من اهوال في حياته كادت ان تؤدي به الى المجهول، أو في زنازين السجون من جلاوزة البعث الحزبين في تقاريرهم الكيدية، تلك الغيوم الملبدة بسواد البعث المظلمة، كان الموطن يرزح تحت رحمتها بالخوف والرعب اليومي المتواصل، اي وضع النظام في اسلوبه الهمجي الانسان، في دائرة ضيقة مسدودة الابواب، وعلى المواطن ان يختار الموت في ارساله الى محرقة الحرب، أو الموت في الداخل بين العسف والظلم، فلا مكان للحياة والاحلام والامنيات والحب، صياغة الاحداث في السرد، اعتمدت على تصعيد الاحداث في ديناميكية متصاعدة الى قمة المعاناة، احداث متلاحقة لا تترك القارى ان يتنفس الصعداء، في نيرانها المتصاعدة، والشيء المبدع والمتمكن، لم يغوص الكاتب الروائي في التنظيرات الفكرية والفلسفية، وانما يترك القارئ ان يكتشفها في ابعادها، ويستنتج الحقيقية الواقعية منها، والمتن الروائي استغل تناص الاسطورة الدينية في الحزن العراقي المقيم منذ ولادة الانسان العراقي، في جريمة قابيل ودماء هابيل، حين ولد الحزن والفواجع والاهوال منذ ذلك الحين، كأنها اصبحت حليب العراقي في الرضاعة، حيث استهل الاهداء بما يلي: الى حلمي الوردي / ذلك الحلم الذي اجهز عليه معتوه / شهر في وجهي سيف الفراق / الى ليالي الفقد الاليمة / اليها... اهدي كلماتي.

- لماذا سياسة التهجير الانتقامية ضد الكورد الفيلية؟؟

حقيقة بوادر هذا العداء يرجع إلى اسباب تاريخية من مراحل الصراع السياسي وتداعياته، فبعد انقلاب البعث عام 1963،، وقفت المناطق بغداد سكنة الكورد الفيلية، وخاصة شارع الكفاح، في مقاومة الانقلابيين في المجابهة المسلحة، فظلت هذه المناطق عصية وخارج سيطرة الانقلابين لمدة اسبوعين، بروح التحدي والمقاومة من الغرائز الطبيعية لهذه الشريحة العراقية الاصيلة نسباً وانتماءاً الى تربة الوطن العراق، تاريخهم مكلل بكسر رؤوس الطغاة على مختلف العصور، فزرع البعث في نهجه وعقليته روح العداء والانتقام منهم، وعند مجيئه ثانية الى الحكم، نفذ وعده الانتقامي من هذه الشريحة العراقية الاصيلة الكورد الفيليين، في تهجرهم وتسفيرهم الى الحدود الايرانية بحجة التبعية الايرانية، بعدما سلب اموالهم وممتلكاتهم ونزعهم من أرض الوطن قسوة واجحافاً، في معاملة وحشية، تفتقد الى ابسط الحقوق الانسانية، لتغتال حياتهم و احلامهم وامانيهم تحت خيمة الوطن. أن يتجرعوا كأس الحنظل بالأهوال والمصائب.

- سيرة الحدث السردي:

استيقظ (حسين) السارد الحدث السردي، او ما يطلق عليه ضمير المتكلم، أو الصوت الواحد (مونو فونيه) مرعوباً في الصباح الباكر من حلم مرعوباً أفزعه، وحينما ذهب الى شيخ الجامع، قال له: بأن الأحلام في الفجر تعتبر رؤيا ترسم الخطوط العامة لحياتك المستقبلية، وفي هذه الرؤيا كانت هناك تذاكر سفر ملونة، فهو اختار تذكرة السفر الحمراء، بلا عودة أو رجعة. كان يدرس في الجامعة وفي المساء يعمل في المستشفى قاطع تذاكر، لكي يساعد أهله في الحياة المعيشية، يتعرض على الدوام لمضايقات جلاوزة البعث، في الإيقاع به في تقارير كيدية، وكان تحت مجهر المراقبة الامنية، لانه لم ينتمي الى حزب البعث، ومتهماً بتوجهه الإسلامي، ويلتقي مع اصدقاء متهمين الى حزب الدعوة والى المرجع الاسلامي محمد باقر الصدر، احب (زينب) شقيقة صديقه (عباس) وتطورت علاقة الحب الصادقة بين الجانبين الى عقد الزوج، كأن السعادة فتحت ابوابها بهذا الزواج الميمون، لكن لم يعرف العواقب التالية، وفي احدى الايام رغبت زوجته (زينب) لزيارة اهلها واوصلها وذهب الى عمله، وحين رجع في المساء، كان له القدر بالمرصاد، فعرف أن زوجته هجرت مع عائلتها إلى الحدود بحجة التبعية الايرانية، لم يتحمل الصدمة شلت كيانه وادخلته في دهاليز الحزن والوجع (للحظات اخذت أدور في البيت كالثور الهائج، وانا افكر في كل ماجرى وما يجري،على الفور أوقدت الشموع في جميع أركان البيت اعلاناً للحداد)، وبعد اسبوع اصابته فادحة اخرى بوفاة أمه، وبعد التخرج من الجامعة جند الى محرقة الحرب الى جبهات القتال، كأن الصدمات تأتي تباعاً بدون توقف (لا غرابة تضاهي غربة رجل ابتعد عن القافلة المسافر معها، في وسط الصحراء، وظل به السبل كي يعود الى قافلته)، كانت اهوال خنادق القتال مرعبة ومخيفة، لم تتوقف الصواريخ التي تنهال على الخنادق، وتحولها الى ملاجئ محطمة، تنبعث منها بروائح غريبة بالاجساد البشرية المشوية بنار الصواريخ المتساقطة عليها، اين المفر والخلاص؟ ترك الخنادق يتعرض للنار من القطعات الخلفية بالإعدام مع تهمة الخيانة والجبن، يعني الموت أمامكم وخلفكم، وما انتم إلا وقود وحطب لادامة طاحونة الحرب، وفي هجوم صاعق وقع في الأسر، اعتبر هذا الاسر يمكن أن يقربه الى زوجته في الوصول إليها، مهما كانت المخاطر والمجازفات، فكان يتحين الفرص للهروب من معسكر الأسر، وعدة مرات تظاهر بالمرض ويرسل الى المستشفى، ويرجعونه ثانية الى معسكر الأسر، وفكر بطريقة أكثر خطورة، هو حقن جلده بالنفط الابيض، وبالفعل جازف ونقلته سيارة الإسعاف الى المستشفى، وهناك ابتسم له الحظ، صادف زيارة رجل دين لبناني يتفقد المرضى في المستشفى، واطلع على حالته المأساوية، فاصر رجل الدين أن يطلق سراحه من الأسر والمستشفى، فكان له ذلك، وبدأت رحلة البحث عن زوجته (زينب) في طهران سأل الكثير من العراقيين المتواجدين، وقالوا له: ان شقيقها (عباس) يأتي كل خميس للصلاة في الحسينية، داعبه الفرح بأنه أصبح قاب قوسين أو ادنى من حبيبته (أغداً ألقاك يا لهف فؤادي من غدي... أغدا ألقاك يا لشوقي بانتظار الموعد) وبالفعل وجد الدليل الذي يعرف بيت عائلة زوجته (زينب) وعند باب البيت، داهمته شتى افكار بين الفرح والحزن، وكأن زمن الوصول الى المشتهى طال، وجاءت لحظات اللقاء الموعود (لحظات كاد قلبي ان يسقط أمامي، أخذت أطرق الباب وماهي إلا لحظات حتى انفتحت. وبانفتاحها شعرت كأن آلام السنين قد انمحت من سموات حياتي) استقبله صديقه (عباس) بالدموع والاحضان، وهو متشوق على جمرة النار لرؤية زوجته (زينب) شلت كيانه حين علم بأنها توفيت حزناً عليه، لم تتحمل فواجع الفراق عليه، فماتت بالحسرة والقهر، وجال بصره في غرفة زوجته، وجد طفلاً نائماً يشبهه في طفولته تماماً، فقال له عباس (انه ابنك سجاد) كأنه ثمرة الحب والعشق بولادة (سجاد) بأن الحياة لا تموت بل تحيا من الالم والوجع.

***

جمعة عبد الله

 

ازدواجية الفني والوجع الإنساني

أو حين يحاصرنا الرحيل

«تريث قليلا أيها الموت.. إنني أكتب»

***

مفتتح..

عند منعطفات السرد، ونحن نجوب دروب رواية «الحق في الرحيل» للكاتبة والشاعرة فاتحة مرشيد ، يترصدنا الألم والرحيل ويدفع بنا إلى الانخراط في مسار الحكي الذي يقف في المنطقة البينية بين الحق والاختيار المؤلم، والذي يأخذ بأيدينا، رغماً عنّا، وجنبا إلى جنب الألم والضياع والتيه، الألم الذي ينفتح على الجرح الإنساني ليقف به حائرا ضعيفا تائها لا يدري أمام «الحق» ما هو فاعل، وأي الطرق يسلك مع غلبة الحب، ناظرا حائراً، أي الأسئلة التي تشقّ القلب ستفتح له بابا نحو الجواب، الجواب الذي ينفلت ويزيد درجة الألم.

على حافة الكتابة..

وحدها الكتابة، جرح مفتوحٌ على الوجع، وصرخة تترنّح بين الكبت والإفصاح، تأخذ منا، لتسير بنا إلى اكتشاف مجاهل الذات ومواطن القبح والجمال فينا، وقسوة الألم وتيه الاختيار وسلطة الحب،

وحدها الكتابة، على حافة الألم، تأخذ منا، لتسير بنا إلى المجهول الثاوي فينا ترغمه على الظهور حين نحاول بكل الجهد أن نخبّئَه فيطفو على الكلمات حبا أو كرها، وجعا أو فرحا، ليولد المعنى مُلعزاً مرة منبلِجاً مرات، يجر وراءه أسرار الكلام وفتنة الكلمات.

وحدها الكتابة، تأخذ منا، لتسير بنا في منعطفات الذات والواقع والفضاءات وئيدة تتجاذبها ازدواجية الفني والألم، اللذة والوجع، الحياة والموت، الضحك والبكاء.

"أدركت الآن، في قرارة نفسي، بأن الحب هو السلاح الوحيد ضد الموت، لأنه الوحيد الذي يستمر بعده" .

وحدها الكتابة، تأخذ منا ثمن لذة القراءة حين نشارك أبطالها الألم والرحيل، والموت، فهي لم تُكتب بالكلمات ولكنها انكتبت بالألم والسفر والرحيل لتضع القارئ أمام المصير الذي يتكبَّده الشخوص للوعي به وللمشاركة في اتخاذ أقسى القرارات الإنسانية، «لم تعد الكتابة اختيارا، أصبحت هواء يملأ الفضاء.." .

ازدواجية الفني والألم..

«الحق في الرحيل»، نص ينفتح على الألم ويسير مساوقا للوجع الإنساني والهجرة والرحيل والموت، والحق اختيار، مطلب في طياته إلحاح وإصرار، والرحيل يأتي في أحايين كثيرة بعد لحظات اليأس والضعف كنهاية.

عبر مراحل الرواية يظل «الحق» مُعلقا متأرجحا بين الإقدام والتراجع، والتذكر والنسيان، ليفتح للرواية مجالا للأحداث أن تتوالى وتتواشج رغم أنف أبطالها الذين وجدوا في حكاياتهم عزاء لتذليل ألم الهجرة والرحيل ويظهر الحق في الرحيل في الفصل الأخير من الرواية قويا مؤلما صادما فاتحا ذراع الألم «لإسلان» أن تذوب فيه و«لفؤاد الزموري» أن ينشطر بين الصدمة والحب والنداء المؤلم هادما ما بنته الأحلام وشيده الحب.

الرحيل، منذ صيحة الخروج/الولادة إلى الموت والإنسان يعيش رحيلا دائما، لا ينقطع، رحيل كأنه السفر بين الحياة والموت، تتقلّبه المواجع والأفراح وتتجاذبه المسافات قرُبت أو بعُدت لتجعل منه كائنا يستوطنه الألم والرحيل؛ والرحيل، مفرد بصيغة الجمع، حالات تتعدد صوره: رحيل بالذاكرة إلى ما انسحب على ذاكرة النسيان، رحيل بالبكاء والألم حين نشيع عزيزا، رحيل يومي جريا وراء لقمة العيش، ورحيل آخر المطاف حين نسند الرأس على حجر بارد أصم داخل حفرة مخيفة وباردة.

قد نرحل في أضعف لحظاتنا وأصدقها ولا نترك أثرا، وقد يكون الرحيل صمتا وهروبا، وقد يكون انهزاما أو بحثا عن حياة في ظل مسار لا يعرف الاستقرار. هل نحمل حقائبنا حين نرحل؟ هل نحمل ذواتنا وأفكارنا وعشقنا؟ أم حين نرحل نحمل آلامنا وقسوة الحياة؟

الرحيل ينسحب بين سطور النص كأفعى تجيد فخ التَّختُّل، مرة هادئا ومرة قويا ومرات مؤلما ينشر الوجع وبشاعة الحياة، كما ينشر الألم والتوسل والبكاء والضحك، حين يكون الرحيل لحظة حكيٍ لأصدقاء جمعتهم الغربة في مكان ما. في زمن ما.

الموت في «الحق في الرحيل» ليس لغزا، إنه وعيٌ بالألم حين يُسفر عن وجهه منذ أولى عتباته إلى الفصل الرابع والأخير من الرواية، والذي يجعل من الموت/الرحيل حقا تطالب به «إسلان» وبإلحاح.

الرواية جعلت من تيمة الرحيل مبتدأ ومنتهى، داخل دائرة تتسع وتضيق، تقترب وتبتعد لتُحكم خناقها على شخوصها الذين حكمت عليهم بالسفر والهجرة والاجتثاث والموت، لتعمق إحساسهم بالألم حين يقفون على حافته منكسرين أو منتصرين، يحاصرهم الألم عند منعطفات الحكي كما يحاصرنا، كقارئين، نتأرجح بين فضاءات النص، لندن، أزمور، أكادير، اليابان، التي رغم تباعدها يؤلف بينها الألم والرحيل.

الهجرة بداية الرحيل/الرواية، 30 سنة هجرة، والهجرة هجرات متعددة، والرحيل غالبا ما يأتي في صيغة الجمع، يلتصق بالقارئ وكأنه ظله ويسافر به على امتداد النص، فالنفي والكتابة بأسماء الآخرين، وموت الصغير «موسى» و «يامنة»، وسفر «إسلان» عبر العالم، وموت الشاف «هيروكي»، كلها مؤشرات تؤكد تيمة الهجرة والرحيل سواء عبر الحلم أو السفر أو الموت أو الكتابة، أليست الكتابة حلم وسفر وموت؟

السفر كما الكتابة، عبور مسكون بالغياب، ومتاهة تأخذ منك الجهد والعرق لتسير بك وأنت تكتشف ذاتك والآخر وتتكشّفُ لك أعماق ودهاليز الذوات التي تؤسس خطوات الرواية والتي كُتب عليها السير مرغمة نحو الألم والفرح تفصح عنه الكلمات المخضَّبة بالبوح والحكي الممزوج بالألم والحب والحيرة.

لعل في بعض الرحيل فرج وراحة كالرحيل إلى أعماق الذاكرة، إلى المجهول لاستحضار ماض ينفلت من بين دروب التيه والسنين (ربيعة رمز للسفر البعيد والمنفلت) تاركا أثرا عميقا لا يمحوه السفر أو إعادة الحياة عبر الحكي خلال جلسات البوح والسمر. غير أن السفر الأخير جاء قويا، صادما في الفصل الأخير من الرواية، جاء ملازما للحق كمفارقة موجعة تُوقف الزمن ليبحر «فؤاد» داخل دوامة لا ترحم، لا تترك له الخيار.

هل الحق/الاختيار صادم إلى هذا الحد؟

الحق في الرحيل، حق يُصادر أو يُلبّى؟ وكلاهما، المصادرة والتلبية، مُرٌّ يحتاج لكثير من التوقف والتفكير والنقاش والخصام، والألم. موقف صعب هذا الذي وُضع فيه «فؤاد»، يأكل دواخله ويدفعه إلى الاختيار الصعب عبر لغة رصينة هادئة محفزة تدفع القارئ إلى الانخراط في الألم الذي يستشعره حين وقف أكثر من مرة أمام «إسلان» ينظر إلى ملامح وجهها الهادئة، متسائلا، منهزما، متوسلا، هل لها الحق في الرحيل؟

هذا الفصل من الرواية يُجبر القارئ على الوقوف لطرح السؤال والنظر في لفظة «الحق»، معناها ومغزاها، عمقها وظاهرها، ومتى يؤخذ بالقوة ومتى يُعطى لنا دون طلب؟ والحق يُؤخذ ولا يُعطى، ليظل الرحيل حقّاً معلقا فاتحا للسؤال الكبير المقلق والمحرج والمؤلم الذي طرحته الكاتبة بذكاء، عبر منافذ تطل على الألم والجرح وكثير من التردد.

فهل لنا الحق في الرحيل؟

نقطة ضوء..

في خضم الرحيل والألم، وعبر امتداد النص الذي يسافر بنا ليُقربنا من وجع دفين أو حب هارب أو سؤال يتمنع جوابه عن الجلاء، ينكسر الوجع وتمَّحي الغربة والألم، ولو إلى حين، حين يبزغ كالأمل، بين اللحظة واللحظة، وجه طفل يبعث الدفء والحياة في مسار الرواية، فالطفولة نقيض الألم والرحيل، رغم أنها بداية الرحيل، إلا أنها إشارة إلى أن الرحيل لا تكتمل دائرته إلا لتنفرج عن وجه صبوح ضاحك لطفل يملأ الوجود دفئا يُنسينا الرحيل وقسوة الغربة، وصعوبة الاختيار.

***

عبد الهادي عبد المطلب

الدار البيضاء/المغرب

 

يعتبر عبد الرحيم التدلاوي من الكتاب المغاربة الذين لم يوفهم النقد الأدبي حقهم من الاعتبارية الواجبة لقلم فذ غزير الإنتاج، حقق تراكما إبداعيا خاصة في الجنس الأدبي المسمى القصة القصيرة جدا والذي أصبح العديد من المتهافتين على كتابة القصة القصيرة جدا، يستسهلون أمر كتابتها، ويخوضون في بحر لا يعرفون حدود قراره، والنتيجة أن ما ينشرونه لا يرقى إلى المستوى المطلوب، ولا يعدو أن يكون عبارة عن خواطر هي أقرب للإنشاءات، وقد ساعد على شيوع هذه الظاهرة غير الصحية، سهولة النشر عبر وسائل التواصل الاجتماعي، والمواقع الالكترونية.

عبد الرحيم التدلاوي استطاع أن يُشَكّل الاستثناء إلى جانب مجموعة قليلة من كتاب هذا الجنس الأدبي، على امتداد عقدين من الزمن، ويغني المكتبة المغربية بالعديد من العناوين التي نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر: كأنه حدث، نمارق، سفك الحروف، رنين الانكسار، المشهد الأخير، شفاه الورد، الحافة، هذا دون أن ننسى مساهماته النقدية القيمة لكتابات العديد من المبدعين المغاربة والعرب على السواء، أكانت شعرا أم نثرا.

وقد اخترت مجموعته " سفك الحروف " كنموذج قيم، يستحق المقاربة والقراءة بتؤدة وبُعد نظر.

تقع مجموعة سفك الحروف في حوالي 53صفحة، وتتضمن 91نصا قصصيا، أغلب النصوص تصنّف في خانة القصر، تتميز بالحركية والدينامية واللغة الشعرية الشاسعة المعنى.

 قبل الولوج إلى متن المجموعة القصصية، لا بد من المرور عبر عتبة أو عتبات هذه المجموعة، والغلاف هو أول ما يجذب انتباهنا في هذه العتبات، لون الغلاف بنفسجي باهت (أرجواني) وهو لون يدل على الحنين إلى الماضي، ويوحي بالهدوء والسكينة، تتوسط هذا الغلاف لوحة فنية تمثل آنيتين بلون نحاسي تُدلق الحروف من إحداهما إلى الأخرى في مشهد سريالي، وإن كانت أغلب الحروف قد احتضنتها الآنية المستقبلة فإن هناك حروفا أخرى قد سقطت على الرمال مما يوحي بأن المشهد يرتبط بالصحراء وله علاقة بالجزيرة العربية التي ولدت بين أحضانها الحروف العربية وتطورت بصيغتها الحالية، إذا انتقلنا من الغلاف إلى العنوان: "سفك الحروف" سَفْكُ مصدر لفعل سفك بمعنى أراق وصبّ

وأسال، فنحن نقول: سفكُ الدماء، ونقول أيضا سفك المياه، وكل السوائل . ولكن الأكيد أن مصدر سفْك ارتبط في أغلب الأحيان بالدّماء يقول تعالى:

 "مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ"، لكنها أيضا تعني أيضًا نشر الكلام وإسالته، ويقال "سَفَكَ الكلامَ" بمعنى نشره، وهذا ما رمى إليه الكاتب حين جمع بين مصدر سَفْكُ ولفظ الحروف، فالغاية إذن جلية أن سي عبد الرحيم يهدف لنشر الحروف بصيغته الخاصة، وإعراب العنوان يحتمل وجهين، فيمكن إعراب سفكُ خبرا مرفوعا لمبتدأ محذوف وهو مضاف، الحروف مضاف إليه منصوب، كما يمكن إعرابه مبتدأ مرفوعا وهو مضاف، الحروف مضاف إليه.

إذا تجاوزنا العتبة إلى متن المجموعة، فسنكتشف نصوصا في شكل مكثف ومختزل بقدر كبير تُحَمِّلُ البِنية الاستعارية والتركيبية بتداعيات توحي منذ الوهلة الأولى بالغموض والابهام للقارئ العادي، مما يطرح إشكالية تحتاج لمزيد من الجهد لتفكيك شيفراتها، وفهم المعنى الذي يرومه الكاتب ويسعى إلى تحقيقه من خلال اعتماد فنية الانزياح واللجوء لتقنية التكثيف والإيجاز مع مراعاة استعمال خاصية التلميح، والاقتضاب، والتجريب، بشكل يتوافق مع دواخل القاص الذي يقول القليل، رغم أن بداخله الكثير، جاء في قصة رحى الصفحة36:

 أحدثه عن الطعام فينتفي جوعه. أرسم له مائدة عامرة فيشعر بالشبع. أعرض أمامه حسناء فاتنة تقضم التفاح بشهية فينام سريعا ليحلم بالتفاحتين.

في هذا النص نلمس التداخل بين الصورة السردية والصورة التشكيلية بحيث تكمل إحداهما الأخرى فكلمة" أرسم" ذات الحمولة الفنية تحمل أيضا طابع الايحاء الذي يلجأ إليه الراوي لدفع شخصية "النص" إلى الشعور بالشبع، أما جملة "أعرض أمامه حسناء..." فكانت كافية لتحريك الطاقة النفسية(الليبدو) لنفس الشخصية، ودفعها إلى اللجوء للحلم طمعا في الإشباع الجنسي. نلاحظ هنا بأن الكاتب قام بإفساح المجال للمتلقي لاستكناه المعنى والمشاركة في بناء النص.

القاص عبد الرحيم التدلاوي لجأ أيضا لاستعمال تقنيتي: الايجاز بالحذف والقصر، والحذف أسلوب يتم فيه حذف كلمة أو جملة أو أكثر، ولكن يظل المعنى واضحًا لوجود قرينة (دليل) تشير إلى المحذوف أما القصر.

- فهو أسلوب لا يعتمد على الحذف، بل على تضمين معانٍ كثيرة في ألفاظ قليلة، جاء في قصة تمثال الصفحة40:

تجمد كليا كجندي يحرس قصرا إلى أن مرّت...

لحظتها اشتعل كشمعة ثم ذاب.

في هذا النص استعمل الكاتب نقط الحذف الثلاث، في إشارة منه إلى الفضاء المحذوف، ولدفع القارئ إلى اللجوء للتخييل لملء الفراغ، فالشخص الذي تجمد كليا كجندي يحرس قصرا إلى أن مرت، لم يحدد الكاتب من هي أو ما هي التي مرّت؟ أهي حبيبة حلوة المبسم، أم سيارة فخمة؟ باب التأويل إذن مفتوح والمتلقي بإمكانه ملء الفراغ بالشكل الذي يراه مناسبا، لجوء الكاتب للحذف في هذا النص، غايته كانت هي التكثيف والاختزال، والابتعاد عن الحشو والاستطراد.

إذا أخدنا الجزء الثاني من هذا النص، سنلاحظ أن القاص استعمل تقنية القصر فهو يقول: لحظتها اشتعل كشمعة ثم ذاب، ففعل الاشتعال والذوبان هو محاولة من الكاتب لتوريط القارئ في التأويل وتوسيع المعنى فالاشتعال يكون مثلا غضبا أو قلقا، أما الذوبان فيكون حزنا وألما، تبقى الملاحظة أن هذا الجزء من النص هوجملة قريبة جداً من الاستعارة التصريحية القائمة على تمثيل حالة الشخص بحالة الشمعة التي تشتعل وتذوب، حيث صرح ببعض لوازم المشبه به (الشمعة) وحذف المشبه (الذات المتحدثة )كما أنه يمكن اعتبارها استعارة تمثيلية، أي تشبيه حالة بحالة.

من أهم الخصائص التي تنبني عليها القصة القصيرة جدا المفارقة وهي تعني لجوء القاص إلى إبراز تناقض ما (تعارض ما، تقاطب ما) بين المنظومات الموضوعية، أو البنى الفنية التي تشكل النص، سعيا إلى تعميق الإحساس بالظاهرة التي يتبنها القاص

وثمة مجالان أساسيان، تجول المفارقة فيهما هما مجالا الشكل الفني والموضوع، إذ يمكن للقاص أن يسعى في داخل أحدهما أو في كليهما، من أجل الكشف عن الحوامل الممكنة للثنائيات الضدية التي يرتضيها شكلا للتعبير عن مكنوناته

ومن يتأمل نصوص عبد الرحيم سيكتشف أن الكاتب يشتغل في العديد من نصوصه على موضوع المفارقات والتناقضات، التي تضج بها حياة الناس، ويعيشونها في مسارهم الحياتي، عبر وضعيات مختلفة ومتباينة، وهذا ما تعكسه الصور السردية لتلك النصوص، التي تتميز بالثنائيات المتقابلة، لخلق مفارقة مؤثرة تصنع الإدهاش لدى المتلقي، وهذا يعتبره عدد من النقاد عنصرا داعما لجمالية القصة القصيرة جدا، وسنحاول في هذه القراءة إبراز قوة جمالية نصوص عبد الرحيم التدلاوي من خلال اعتمادنا نماذج مختارة منها تتضمن المفارقة والإدهاش.

في نص نداء ص 41، وفحواه:

أخفت المفتاح في صدرها، ودعته بغنج إلى البحث عنه..

كانت دعوة لحفلة عشاء..

ولم يكن جارا جائعا.

 قراءة هذه القصة تبين بجلاء، أن الكاتب توفّق في استعمال تقنية المفارقة إلى أبعد حدّ، لأن الصورة التي رسمها للمتلقي تنبني على المتناقضات، وهي في أخر الأمر حمالة أوجه. فالجارة أخفت المفتاح في صدرها، ودعوة الجار للبحث عنه هو نوع من المراودة المبطنة عن النفس، ودعوة حفلة العشاء هي أيضا دعوة مجازية لممارسة الحب، لكن المفارقة أن الجار لم يكن جائعا، وهذا يعني أنه إما عنينا أو لم يجد في الجارة الصفات التي تُرضي غرائزه ورغباته.

ومن النصوص العميقة التي نلمس فيها بوضوح حضور المفارقة الموسومة بتناقض جلي، وتضاد بَيّن، خلال حالتين مختلفتين: "حياة/موت". نص:إصرار ص43

 بذراعيه القويتين يضرب الموج ويضربه..

يخترق الموج ويخترقه..

وبإصرار من يريد الفوز يتجاوز التيار؛ وحين يبلغ خط الوصول يقف متعجبا من خلو المكان إلا من شجرة عظيمة تتدلى من فرعها القوي ميدالية؛ يطوق بها عنقه ويتدلى يصير عنقود عنب يقتسم الناس حباته فيتوهمون البطولة.

في هذا النص لجأ الكاتب إلى استعمال انزياحات دلالية وتركيبية، لتحقيق الانتقال من المعنى المألوف إلى معنى مغاير قد يكون مجازيا أو استبداليا، وذلك في محاولة منه اختراق قواعد اللغة المعتادة لتحقيق متعة جمالية وتوهج قوي يرضي ذائقة القارئ، متوسلا بالاستعارة والتشبيه والمجاز، وذلك للخروج من قوالب المباشرة، ودفع المتلقي إلى استخدام آلية التأويل وفهم النص بقناعاته الخاصة.

من الانزياحات البارزة في نص إصرار نسوق على سبيل المثال لا الحصر:

"بذراعيه القويتين يضرب الموج ويضربه" فعل الضرب استعمله الكاتب للدلالة على قوة التيار ومصارعة شخصية النص للموج.

"يخترق الموج ويخترقه" فعل اخترق لغة يعني النفاذ إلى الشيء وبطل النص يخترق الموج ولكن الموج في نفس الوقت يخترقه، تكرار الفعل يعني الاستمرار ودوام الحدث والصراع.

 "يطوق بها عنقه ويتدلى يصير عنقود عنب يقتسم الناس حباته فيتوهمون البطولة"

قفلة النص كانت قوية وتتضمن مفارقة ساخرة فالميدالية التي ستطوق عنق البطل أنشوطة حبل، ستنهي حياته، وتجعله حديثا وهميا متداولا بين الناس.

من العناصر التي تتكئ عليها القصة القصيرة جدا في بنائها السردي، يبرز عنصرا الزمن والمكان، إلا أنه لا يتم التركيز على الاهتمام بالتفاصيل كالرواية والقصة، ولكن الاهتمام يكون بحدث معين في زمن محدد ومكان أو مجموعة الأمكنة المحدودة، ذلك لأن القصة القصيرة جدا تتميز بقصر الحجم، وتعتمد على التكثيف والاختزال، و الايجاز المقصود، مما يحتم على القاص الالتزام باحترام مساحة السرد المتاحة له.

إن زمنية القصة تحتم علينا التوقف عند مكانيتها، فهما لا ينفصلان أبد،

فبالقدر الذي نجد في القصة مؤشرات زمنية غير ملموسة، نُوَاجَهُ بالاقترابات المادية الملموسة للمكان، وهذا يخلق للقصة توازنها الوجودي.

فإلى أي حد وظف عبد الرحيم التدلاوي هذين المكونين في مجموعته القصصية سفك الحروف.

في نص عاشق من زمن العطالة ص 19 الذي يقول:

أراه يرتشف الانتظار في مقهى الوقت،

رشفة

رشفة

إلى آخر الحب.

أراها تنسحب من فنجان خيبته.

حاول الكاتب في هذا النص أن يربط بين البعد الزمني والمكاني، بشكل يعكس من خلاله حجم الخيبة التي تصاحب بطل القصة، هناك ربط سببي بين الانتظار باعتباره حالة زمانية ومقهى "الوقت" باعتباره حالة مكانية، وفي هذا تداخل بين المكونين نلمسه في الرشفة التي تلي الرشفة حتى آخر الحب والنتيجة هي " انسحابها" من فنجان خيبته وفي ذلك إشارة قوية إلى أن انتظاره انتهى إلى الفشل والخيبة.

وكخلاصة تتميز نصوص مجموعة سفك الحروف بتنوع وثراء جمالي، يشوبه نوع من الغموض الفني المقصود، الهادف إلى فتح باب التأويل أمام القارئ للمشاركة في عملية تشكيل النص وبناء معماره، كما أن لغته شعرية، تتكئ على التكثيف والايجاز، وتبتعد عن الوصف والمباشرة، ولم تخلو بعض نصوصه من الترميز والتناص، سعيا لتوسيع المعنى وتجويع اللفظ بأسلوب بلاغي قوي اعتمد المفارقة بشقيها التصريحي والتلميحي، بشكل منح المجموعة جمالية وقوة تأثير على القارئ.

وقد تحكم الكاتب في مكوني الزمن والمكان، وخلق توازنا بينهما في رسم المسار السردي، وتطور الأحداث، بما يخدم جمالية وفنية القصة القصيرة جدا.

***

محمد محضار

 5دجنبر 2025م

 

للشاعرة التونسية آمال جبارة

تأتي قصيدتا «مرآة» و «خارج الوقت» للشاعرة التونسية آمال جبارة بوصفهما نصّين ينهضان على توتّرٍ داخلي بالغ الكثافة، يجمع بين الذاكرة بوصفها حمولةً وجودية، والزمن بوصفه سؤالاً مفتوحاً على المصير الإنساني. هذان النصّان لا يقدّمان تجربة فردية فحسب، بل يتيحان مجالاً واسعاً لقراءة هيرمينوطيقية وتأويلية تتجاوز البنية اللغوية إلى طبقاتٍ أعمق: الأنثروبولوجي، النفسي، الوطني، والميتافيزيقي.

فالمرآة في النص الأول ليست سطحاً عاكساً، بل بوابة عبورٍ إلى خزائن الذاكرة الجمعية، حيث يتحوّل «الوجه» إلى تاريخٍ يمشي داخل الذات. بينما الزمن في النص الثاني يتفكّك ويتعرّى من سلطته، فتعيش الشاعرة «خارج الوقت»، مكتفية بملء الفراغ بروحها، ومؤسِّسة خطاباً شعرياً يقلب علاقة الإنسان بالساعة، وبالوجود نفسه.

تبحث هذه الدراسة في الطبقات العميقة للنصين: مستويات اللغة، البنية الإيقاعية، الرموز الوجودية والوطنية، الأنساق المعرفية، البنى النفسية والدينية، إضافةً إلى التحليل السيميائي بمنهج غريماس لاستنباط منطق العلاقات بين الفاعلين داخل النص. كما تقارب الدراسة التجربتين من زاوية تاريخية-وطنية ونفسية-جمالية، مع إجراء مقارنة بين تجربة الذاكرة في «مرآة» وتجربة الزمن الخالي من السلطان في «خارج الوقت»، للكشف عن الهوية الشعرية المتخفية بين السطور، وعن نبض الذات وهي تواجه مراياها وغيابها في آن واحد.

1. مقدّمة منهجية سريعة:

نقْرأ النصَّين بوصفهما مجالات دلالية تَنشأ فيها «الهوية» عبر الذاكرة والغياب والزمن. المنهج الهرمينوطيقي يفكّ الشفرة النصية عبر دائرة الفهم–التأويل: المعنى ليس محجوزاً للنص وحده أو للقارئ وحده، بل ثمرُ مدَوَّرتهما. سنحوّل النصَّين إلى «أعمالٍ قادرة على الاستدعاء» لنسبر ما تحت الجلد الشعري: نبضات فقد، خطاب ديني/ وجودي، ومشروعية وطنية/ أسرية.

2. القراءة الهرمينوطيقية-التأويلية:

بؤرة السؤال: لمَ لا تعكس المرآةُ الوجهَ، بل الذاكرة؟ هنا المرآة تتحوّل إلى «آلتِ استدعاء»؛ ليست مرآةَ مظهرٍ بل مرآةُ تاريخٍ.

١ - دورِ السرد/ الاستدعاء: كل صورة (الجد، الجدة، الأب، الأم) تعمل كـ«حالةِ ذاكرة» تُكسب الذات امتدادًا خارج الحاضر. المعنى يتكوّن بتداخل الزمان الشخصي (طفولة الأب، آخر نفس للجدة) والزمكانية الجماعية (قيمة الذاكرة كحاجز ضدّ الغياب).

٢- الدلالة الوجودية: النص يشكّك في الحدّ الفاصل بين الحضور والغياب؛ الذات هنا ليست كيانا مستقلا بل «مرآة ذاكرة»—نتيجة تأويل ريكويري عن الهوية بوصفها سرداً.

3. الدراسة الأسلوبية (لغة، إيقاع، صور):

١- اللغة: جُمَل قصيرة نسبياً، صور مركّزة (خيط من خيوط الفجر، تخلع أساورها). اقتصار العبارة يعطي مكثّفًا دلاليًّا ويقارب قواميس الشعر الحديث.

٢- الإيقاع: انقطاعي/ تأملي؛ فقراءات الإيقاع تظهر تباينًا بين لحظات سكون (النظر إلى المرآة) ولحظات حركة (يمشي وحيدًا). هذا التباين يولّد توترًا داخليًا—وهو ما يمنح النصّ نبرةً موسيقية قائمة على فجوات المعنى لا على الوزن التقليدي.

٣- الصور الشعرية: تستند إلى استعارات حسّية بسيطة لكنها عميقة: «خيط الفجر» (رقة بدايات الزمن)، «أساور تُخلع» (فعل التحرّر/ الخسارة)، «شجرة رمان» (ثمر/ استمرارية/ أنوثة). الصور تعمل كمفاصل دلالية تربط العائلة بالأرض والذاكرة.

٤- التكرار والامتناع: التكرار الدلالي لـ«لم أرني/ عندما نظرت إلى المرآة لم أرني» يُثبّت موضوع الفقد والاغتراب الذاتي. الامتناع عن تسمية مباشرة للزمن/ المكان يوسّع أفق التعميم.

4. دراسة سيميائية (منهج غريماس: المحاور والأدوار)

نطبّق نموذج الغريماس: نحدّد الفاعل/ المرسل/ المتلقي/ الهدف/ المساعد/ المعارض داخل النص.

١- المرآة (الظاهر): المرسل؟ أم المرآة كمرسل/ مُحَفِّز لاستدعاء الذاكرة.

٢- الذات/ الناظر (المتلقي/ المطلوب): المتلقي الذي يطلب معرفة النفس ويواجه عدم التطابق.

٣- الذاكرة العائلية (الموضوع/ الهدف): ما يُسعى إليه—فهم الذات عبر الذاكرة.

٤- الصور (الجدّ، الجدة، الأب، الأم) (الفاعلون/ المساعدون): يقومون بدور الوسيط، كل صورة تقدم جزءًا من «الكينونة» الموضوعية.

٥- الغياب/ النسيان (المعارِض): العدوّ الذي يسعى النص لأن يسدّه—المرآة تعكس ذاكرة تصدّ الغياب.

٦- بصيغ مبسطة: (المبادر/ الساعي): الذات/ الناظر (المرغوب): صورة ذات مكتملة/ معرفة الذات.

٧- (المرسل): المرآة/ الحدث المشغّل (المتلقي النهائي): القارئ والنفس.

٨-: ذاكرة الأجداد، شجرة الرمان (رمز الاستمرارية)، الأساور (رمز الانتماء/ الاعتزاز).

٩- الغياب، النسيان، المنزل المفقود.

هذا التوزيع يوضح أن النص ليس مجرد انعكاسٍ داخلي بل عملية سعي مستمرة نحو استرداد الذات من خلال شبكة علاقات زمانية-عائلية.

5. دروس سيميائية إضافية: العلامات والرموز

١- المرآة: ليست مجرد سطح؛ هي جهاز تشظّي الهوية/ أداة الهرمينوطيقا الذاتية. في اللغويات السيميائية تمثل مؤشرًا على «حضور-غياب»، آلة تفكيك للزمن.

٢- خيط الفجر: بداية، أمل رقيق؛ لُغة الزمن البدئي.

٣- أساور الجدة: علامات انتماء، طقوسية، والحركة في خلعها تشي بتحرر أو تهادن للموت. أيضاً رمز للجسد المؤنث والذاكرة المادية.

٤- معصم نابض: تهديد بالاستبدال—الغياب الذي يتحول إلى حياة (منعكسًا على استمرارية الأجيال).

٥- اقتلعنا النسيان من قلبه: فعل عنيف لتعطيل الانقطاع؛ استعادة الذاكرة بالعنف الإنساني.

٦- شجرة الرمان: تقليدًا رمز للخصب، الوطن، والأنثى؛ زرعها الأم فعل استثمار في المستقبل/ ظلّ للصبر—صورة وطنية-أنثوية.

٧- ذاكرة تصد الغياب: خاتمة مفصلية: الذاكرة كحاجز واقٍ ضدّ الفناء.

6. القراءة النفسية-التحليلية:

١- عوالم الحزن والافتقاد: النص محكوم بعقدة فقد تُظهرها صور الأجداد والأب الملاحق لطفولته. عملية النظر إلى المرآة تفصح عن عدم التعرف على الذات؛ هذا يشبه مفهوم جاك لاكان الذي يركز على أن اللاشعور يتشكل كبنية لغوية، وأن اللغة هي أساس اللاشعور. هذا المفهوم يعبر عن «مرحلة المرآة» . ١- المرآة تكشف الهوية المشتتة، ولكن هنا الناظر يرى ذوات الآخرين بدل صورته، كأن مرحلة الكينونة تُبنى عبر الآخرين.

٢- الفقد كقوةِ تعريف: الأب الذي «اقتلعنا النسيان من قلبه» يحمل علامة جرح يبدأ في الأخذ/ الاسترداد—حالة نفسية بين الانفعال والاستسلام.

٣- الأم كبديل للأرض: زرع شجرة الرمان كرمز لتحوّل الأرض إلى أمّ/ مكان تعزية—يمتد أنشطار الشخصية نحو الأرض كغرابة علاجية (Winnicott: المكان الانتقالي).

٤- اللاوعي الجمعي: الصور العائلية تعمل كـ«تمثلات» جماعية تحافظ على السرد الأسري، وفق رؤى يونغ عن اللاوعي الجمعي.

7. الدراسة الوطنية-التاريخية (قراءة تونسية/ شمال-مغاربية):

١- الرمزية الوطنية: رغم عدم ذكر حدث سياسي محدد، النص يتحرك في مجال الذاكرة الجماعية: البيت المفقود، شجرة الرمان، الأجداد والآباء—عناصر تشكّل سرداً وطنياً ضمنيّاً عن فقدان الأماكن/ الأمان، وهو ما يتوافق مع تجارب المجتمع العربي/ المغاربي في مآسي الذاكرة (حروب، نزوح، تغيير مدني).

٢- شجرة الرمان: رمز شائع في الذاكرة المغاربية (الخصب، الهوية، الاستمرارية)، وقد تُقرأ كدلالة على الوطن الذي تُغرس فيه الأجيال.

٣- الغياب كختم للتاريخ: «منزل لم يعد موجوداً» يعكس تلاشي الأماكن/ الذاكرة المكانية بفعل التاريخ (هجرة، تدمير، تحديث قسري). هنا يمكن استحضار أفكار فرينان وبانوفيسكي عن الذاكرة التاريخية والرموز الوطنية.

٤- قراءة ثورية/ شهداء: إذا ربطنا النص بسياق ثوري (تونس/ الجزائر)، يصبح النسيان والغياب استدعاءً للشهداء والذاكرة الجماعية؛ المرآة تستدعي الأجداد كإحياء للذاكرة الوطنية.

8. التطابق مع آراء فلاسفة/ نظريات نقدية:

١- هايدغر (الوجود والزمن): نصّ «مرآة» يقرأ الوجود كديمومة عبر الزمن؛ الذات تُعرّف عبر تاريخها—وهي فكرة هايدغرية عن الانفتاح نحو الماضي والوجود-في-الزمن.

٢- جادامر/ ريكور (الهرمينوطيقا): دائرة الفهم والتأويل ظاهرة في النصّ: المعنى يتكوّن بتفاعل الذات مع المرآة/ التقاليد.

٣- لاكان (مرآة المرحلة): غياب الوجه مقابل ظهور الآخرين في المرآة يوافق فكرة الانكسار المرآتي والهوية المبنية عبر الآخر.

٤- أوغستين/ بودريار (الذاكرة والرمزية): البعد التشكيلي للذاكرة والرموز—المرآة كتمثيل للذاكرة التي تقلّب الحضور والغياب.

٥- فرانز فانون (الوعي الوطني/ الهوية): قراءة النص وطنياً تستفيد من فكر فانون حول الصدمة التاريخية وبناء الوعي الجماعي بعد العنف الاستعماري.

9. تفسير بعض المفردات الجوهرية:

١- المرآة: أداة استدعاء، صراع الهوية، واجهة زمنية (حاضر/ ماضٍ).

٢- خيط الفجر: بداية زمنية هشة؛ أمل رقيق.

٣- أساور: تملّك/ انتماء/ تقليد أنثوي؛ خلعها فعل فصل روحي من الجسد.

٤- معصم نابض: تهديد بالعودة للحياة/ محاكاة للذاكرة الحيّة—أو رغبة في تحويل الغياب إلى حضور جسدي.

٥- اقتلعنا النسيان: فعل عنيف ينزع الحالة السلبية (نسيان) بالقوة، أي استعادة الإرادة التاريخية.

٦- شجرة رمان: إناء خصوبة/ تاريخ/ استمرارية؛ زرعها فعل مقاوم للحضور.

10. مقارنة بين «مرآة» و«خارج الوقت» (أربعة مستويات)

أ. المستوى الانفعالي:

مرآة: حزن عائلي نسبيًا—حنين قابل للعودة من خلال الذاكرة.

خارج الوقت: انفعال أكثر شطحًا/ روحانيًا؛ الامتلاء بالفراغ يخلق طاقة عطوفة على الآخرين (توزيع الاسم على البؤساء).

ب. المستوى التخييلي-الصور:

مرآة: صور نسبية، عائلية، حسية ومكانية (منزل، معصم، شجرة).

خارج الوقت: صور زمنية مجردة (الفراغ، الدقائق، الساعة) وصور سلوكية (توزيع الاسم، توقيت الساعة كرمز للحرية).

ج. المستوى العضوي (الجسم/ الروح):

مرآة: الجسد حاضر بشكل متقطع (معصم، أساور)، الجسد يعكس تاريخ العائلة.

خارج الوقت: الجسد يتراجع لصالح حضور روحي/ زمني؛ «أعيش خارج الوقت» إعلان عن انفصال الجسم عن زمن السوق/ العمل.

د. المستوى اللغوي:

مرآة: لغة تصويرية مكثفة، تكرار نغمي («لم أرني»).

خارج الوقت: لغة تأملية تجري في فضاء المفاهيم، فيها تكرار فعّال («لا أنظر إلى الساعة أبداً»).

خلاصة المقارنة: كلا النصّين يسعيان إلى تحرير الذات من محاولات الزمن/ النسيان لاحتواء الهوية. «مرآة» تفعل ذلك عبر الذاكرة العائلية الملموسة، بينما «خارج الوقت» تختار الفراغ كموقع تحرّر وإعادة توزيع الاسم/ الذات.

11. ما تحت الجلد: نبض، توتر، رمز

النبض: نزعة مقاومة للغياب—الذاكرة كنبض مضادّ للفناء.

التوتر: بين الحاضر المفقود والذاكرة المستدعاة؛ بين الفرد والأسرة/ الوطن.

الرمز المركزي: المرآة كقلب النص: ليست انعكاساً بصرياً بل استدعاء ذاتيّ يُعيد ترتيب علاقة الفرد بماضيه وبأرضه.

12. مسارات بحثية وتوسعات:

1. تتبع التمثلات المكانية (البيت، الشجرة، المنزل المفقود) في ديوان الشاعرة آمال جبارة لتوضيح البنية الوجودية للمكان.

2. مقارنة بين نصوص مغاربية تفترض غياب الزمن والذاكرة كموضوع مركزي (تونس، الجزائر، المغرب).

3. تحليل سيميائي معمّق وفق جداول غريماس التفصيلية لإظهار تحوّلات الفاعل/ المفعول عبر النصوص المتعددة.

4. مراجعة نفسية باستخدام لاكان ويونغ على مستوى تفكيك صورة المرآة والرموز الأنثوية.

5. مقابلة مع الشاعرة آمال جبارة

من خلال قراءة ديوانها ونصوص أخرى تمكنت من استجلاء نية النصّ وعلاقة السيرة الذاتية بالرمز.

13. خاتمة:

«مرآة» و«خارج الوقت» نصّان يشتغلان على أزمة الهوية في زمن التفكّك: الأول عبر العائلة والذاكرة المادية، والثاني عبر الفراغ الزمني كمساحة تحرّر. المنهج الهيرمينوطيقي يكشف أن المعنى يتكوّن في اللقاء بين القارئ والنص، وأن الرموز (المرآة، الشجرة، الساعة) تعمل كجسور بين الفرد والجماعة، بين الحزن والمقاومة. قراءة سيميائية بغريماس تثبت أن النصوص ليست محادثات ذاتية فحسب، بل آليات استعادية تعمل على استرداد الذات من التاريخ والغياب.

***

بقلم: عماد خالد رحمة - برلين

..........................

الشاعرة التونسية آمال جبارة

خارج الوقت

لا أنظر إلى الساعة أبدا

أعيش خارج الوقت

وأعرف أن الفراغ ممتلئ بي

لا شأن لي بدقة الدقائق

ولا بسعي الساعات الدؤوب

ولا يعنيني أمسي الذي هو حاضرك.

ولا غدي الذي هو أمسك

يعنيني الفراغ الذي يجر أناملي

نحو عزف...

اعرف أنه يملأ مكانا ما في هذا العالم

لا أنظر إلى الساعة أبدا .

أعيش خارج الوقت

أوزع اسمي على البؤساء

يتقاسمونه على حافة المطلق

وأمضي خفيفة في تمام التاسعة ليلا وتسع دقائق

بتوقيت ساعة رجلي المشاءة دائما في الفراغ

نص قصيدة مرآة:

نظرت إلى المرآة و لم أرني

رأيت جدي يتوكأ على خيط من خيوط الفجر الأولى

يوم قلبي

ويبتسم إلى الله

رأيت جدتي في آخر نفس لها تخلع أساورها من يدها .

تحاول أن تخبئها

خوفا من أن يحيلها الغياب إلى معصم نابض

لم أر وجهي

رأيت أبي وقد اقتلعنا النسيان من قلبه كما تقتلع الورود

يمشي وحيدا في يوم قائظ

باتجاه منزل لم يعد موجودا

كان يلاحق طفولته البعيدة جدا ولا يصل

رأيت أمي تغرس شجرة رمان

وتمكث بجانبها منتظرة أن تكبر وتمنحها ظلاً يليق بصبرها

عندما نظرت إلى المرآة لم أرني

رأيت ذاكرة تصد الغياب

 

منال شاكر شاعرة سوريّة قال عنها الناقد "يحيى يوسف هلال" بأنها تنتمي إلى جيل الكلمة الحرة، وتكتب بأسلوب نثري شاعري، يمزج بين الحنين والرمز.. تبرز في كتاباتها قضايا الوطن والفقد والحب والحنين للأهل والأرض.. تنشر نصوصها في منصات الكترونيّة عربيّة، وتحضى بتفاعل واسع من القراء لما تحمله من صدق وجداني. اخترنا من بين قصائدها هذه القصيدة (نظل على العهد)، كي نسلط الضوء النقدي عليها خدمة لجهود الشباب الأدبيّة التي لم تحوز بعد على فرصة الحضور الأدبي.

تحاول الشاعرة "منال الشاكر" في هذا النص الشعري تسليط الضوء على دور المال في تغيير أحول الناس، وإظهار تقلبات من امتلكه الأخلاقيّة والقيميّة عموما اتجاه الفقراء من أبناء المجتمع. فهي تقول عنهم:

عندما يكون أصحاب المال في وضع مشبع بالسرور، فهم لا يعترفون بأحد غيرهم، وكل ما عداهم هم أناس لا أصل لهم ولا نسب. أما في حالة ضرائهم فلن ننال منهم سوى العتب والظلم وكل ما ينال من كرامتنا من تلك القلوب السوداء التي لا تعرف قيمة للإنسانية..

المال كما تقول الشاعرة يغير أحوال الناس في شكلهم ومضمونهم، والأهم في موقفهم من الفقراء، حيث يجحدون حقوقهم، أو يرفضون العون والمساعدة لمن يحتاجها حتى للأقربين منهم، فعندما يطلب منهم المساعدة ينسحبون وكأن أمر أقربائهم لا يعنيهم شيئاً. نقول الشاعرة " منال الشاكر" عنهم:

في سرائهم لا أهل ولا نسب..

وفي ضرائهم نلنا سواد القلب والعتب.

تبدو الوجوه إذا المال استقر بها..

وحين يجحد حق المرء تنسحب.

كم من قريب إذا ناديته جفلاً..

كأنه ما عرفنا لا ولا احتسب.

إن الناس في أيام الخير تراهم أخوة متحابون طالما أن لا يحتاج أي منهم للآخر. ولكنهم في الأزمات وشقاء العمر ينكرون بعضهم بعضا.. وهنا تظهر على الساحة الاجتماعيّة تلك النفوس الكريمة التي ترفض الذل للآخرين. فهم كما تقول الشاعرة يبقون على عهدهم ولن يطلبوا مكافأة أو مساعدة من أحد، فعزت نفوسهم تأبى عليهم أن يباعوا ويشتروا بالمال. وهم صابرون على بلواهم ويدركون أن المحن التي يمرون بها هي عابرة، ومع تجاوزها ستعلي عزة النفس مقامهم.

فالناس في فرح الأيام أخوة ود..

لكنهم في شقاء العمر قد شطبوا.

نبقى على العهد لا نرجوا مكافأة...

فالعز في النفس لا يُشرى ولا يُهب.

فالصبر على الناس إن الصبر مرتبة..

تعلي المقام وإن جاروا وإن كذبوا.

فالحياة عند الشاعرة تجربة علينا أن نتعلم من مآسيها وكيف نقاوم كل الشرور من أجل كرامتنا. فهي تقول: نحن نجرب الناس في كل حال من أحوال الحياة بسرائها وضرائها، وفي تجربتنا سنعرف تلك القلوب المشبعة بالإنسانيّة، أو التي أفقدت سلطة المال تلك الإنسانيّة. وبالتالي نعرف عدونا من صديقنا، نعرف من هم الذين كانوا يتوددون لنا أيام خيرنا وحافظوا على هذا الوداد، ومن هم الذي أنكره وقلبوا لنا ظهر المجن في محنتا.. نعم تقول الشاعرة "منال" مؤكدة بأن كرام النفوس سيظلون في رقي أخلاقهم وقيمهم ومكانتهم الاجتماعيّة، فهم على قناعة بأنه لن يكون هناك من يذلهم لا خلق كان أو نسب. تقول:

نجربهم في كل حال.. فإذا بعض القلوب لنا..

وبعض القلوب قد شطبوا.

فلا خير في ود يذوب إذا اشتكينا..

ولا في يد تمد ثم تنسحب.

لكننا نرقى نحفظ عهدنا..

فما خاننا خلق، ولا ذلنا نسب.

البنية الفكريّة للقصيدة:

إنّ الأديب الحقيقي الملتزم بواقعه الاجتماعي، شاعراً كان أو قاصاً أو روائيّاً، لا يفصل الحالة الأدبيّة التي يشتغل عليها عن الحالة الاجتماعيّة التي تحيط به أو ينشط داخلها، لما بينهما من ترابط عضوي، وتشابك يصل إلى حدّ التماهي، إنّ الأديب الواقعي يظل جزءاً لا يتجزّأ عن محيطه ممثلاً في أسرته ومجتمعه وأمته ووطنه، فهو في كينونته ظاهرة اجتماعيّة بامتياز، وهو الطاقة الابداعيّة التي تعكس حال المجتمع في تحوّلاته المستمرّة، وبناءً على كل ذلك هو صورة المجتمع. فليس دوره مقتصراً على تصوير الواقع وقضاياه فحسب، بل عليه أيضاً أن يعمل على تنميته وتطويره من خلال إظهار عوامل تخلفه ورسم الحلول لتجاوز معوقات هذا التخلف.

لقد سعت الشاعرة "منال شاكر" في جهدها هنا أن تكشف عورات المجتمع بما يحمل من بنى طبقية متفاوتة، وما تساهم به عمليّة التفاوت هذه، من خلق قيم وسلوكيات وعادات وتقاليد ورؤى للواقع في مجمل حالات تحولاته وتبدلاته، والأهم ما هي انعكاسات هذه التحولات على البنية النفسيّة والأخلاقيّة في بعدها الطبقي على الفرد والمجتمع، وقد أشارت القصيدة فعلاً على انعكاسات هذه التحولات كما تبين معنا من خلال عرضنا للبنية الحكائيّة أو السريّة للقصيدة.

البنية الجماليّة والفنيّة للقصيدة:

الصورة في النص الشعري

تظل اللغة في نحوها وبلاغتها ومحسناتها البديعيّة، كالترادف، والطباق، والمقابلة، والتقديم والتأخير، والتورية، وكثرة الانزياحات اللغويّة، والصور البيانيّة كالتشبيه والاستعارة والكنايّة، وتراكيب جملها، أداةً للتصوير الأدبي في الشعر. والشعر من الفنون الجميلة، له غاية جماليّة وفكريّة هي التأثير في المتلقي. والشاعر يصل لهذه الغاية عند جعل اللغة التي يستخدمها أكثر تأثيراً على المتلقي من خلال استخدامه للمفردات اللغويّة بطريقة خاصة، تختلف عن الاستخدام العادي أو المعياري لها في حالة التداول اليومي المباشر بين الأفراد والجماعات. إن الشعر فن ينتهي إلى غايته الجماليّة والتوصيليّة عن طريق اللغة التي يشكل منها الشاعر عالمه الشعري. فالشعر كما يقول أحد النقاد هو (تفكير بالصور). أي إن الصورة هي أساس بناء الشعر.

لقد استطاعت الشاعرة "منال الشاكر"، أن تصور واقعة الاجتماعي عبر صور ذات حمولة فكريّة وعاطفيّة أو وجدانيّة عالية.. لقد استطاع أن تجسد المعنى المتخيل في نصها كمصور فوتوغرافي، امتازت صورها بالوضوح أمام المتلقي الذي راح يتمتع بجماليّة هذه الصورة التي اعتمدت فيها الشاعرة التجسيد أو التشخيص والتجريد والمشابهة. تقول:

(في سرائهم لا أهل ولا نسب..).. (وفي ضرائهم نلنا سواد القلب والعتب.).. (تبدو الوجوه إذا المال استقر بها..). (فلا خير في ود يذوب إذا اشتكينا..).

هكذا نرى أن الصورة الشعرية بكل دلالاتها في هذا النص، لم تأتي بها الشاعرة " منال شاكر" للتزيين والزخرفة اللفظيّة، وإنما جاءت تعبيراً أصيلاً أملته ظروف التفاوت الطبقي والمأسي التي يتركها هذا التفاوت من آثار على حالة الفرد النفسيّة والشعوريّة معاً، لذلك كانت الصور حاملاً أميناً لمشاعر الشاعرة وتُرجماناً لنفسها، وترجمةً لصدق أحاسيسها وعواطفها.

اللغة في القصيدة:

لقد جاءت اللغة في القصيدة سهلةً، واضحةً، سمحةً، ناصعةً، وفصيحة، ومسبوكة الألفاظ، منسجمة مع بعضها في بنية القصيدة وخالية من البشاعة. فجودة السبك وبراعة صياغته وتسلسل عبارته وتخير ألفاظه وإصابتها لمعناها، كانت وراء سر فن التعبير في هذا النص الشعري.

الموسيقى في قصيدة "نبقى على العهد":

رغم وجود فرق بسيط بين وزن القصيدة المتعلق بعروضها وقافيتها، وهو ما يسمى بالموسيقى الخارجية، وبين الايقاع في القصيدة الذي يسمى بالموسيقى الداخليّة، التي تتجلى في ذلك التناغم الداخلي الحاصل من النبر أو الصوت الداخلي للنص الناجم عن الحالة النفسيّة والشعوريّة وحتى الحالة الفيزيولوجيّة للشاعر التي تتطابق وتتناغم الحروف والكلمات وتنسجم مع الوحدة الموسيقيّة العامة، ومع تأكيدنا على هذا الفرق بين موسيقى الخارج والداخل.

لقد قامت قصيدة الشاعرة منال شاكر على البحر (البسيط،) وقد تجلى فيها تناغم الحروف، وبراعة اختيار الكلمات وتراكيبها وصورها، والترابط ما بين المعنى والمبنى، ليأتي الصوت أخيرا يحمل أهميّة كبيرة في التأثير على المتلقي، وهذا ما تجلى في قصيدة " (لنبقى على العهد). حيث تجلت موسيقى النص في تفعيلات البحر البسيط مع تناغم القافية في حرفي (الألف والباء) مع براعة اختيار الكلمات وتراكيبها وصورها، والترابط ما بين المعنى والمبنى. تقول:

في سرائهم لا أهل ولا نسب.. وفي ضرائهم نلنا سواد القلب والعتب...تبدو الوجوه إذا المال استقر بها.. وحين يجحد حق المرء تنسحب...كم من قريب إذا ناديته جفلاً..إلخ).

لقد استطاعت القصيدة في المحصلة، أن تعبر عن دواخلَ ومكنوناتٍ الشاعرة التي غالبا ما طمحت للتعبير عن واقع تعيشه، أو عن أحاسيس ومشاعر فياضة قلقة بحاجة للبوح بها، ولكون القصيدة التقليديّة تلزم الشاعر بالوزن والقافية، على حساب الفكرة، إلا الشاعرة استطاعت أن تحوز على الفكرة في قصيدتها وتربط بين المعنى والمبنى في بنيتها السريّة، وتجعل المتلقي يعيش حالة من التفاعل الايجابي معها كون القصيدة لا مست معاناة الكثير ممن يعاني من التفاوت الطبقي.

هناه بعض الكسور في الوزن، ولكن ما يصفح للشاعرة هو قدرتها الرائعة على تصوير قضية اجتماعية شغلت عقل معظم المفكرين والفلاسفة والحكماء عبر التاريخ.

***

د. عدنان عويّد

كاتب وباحث وناقد أدبي من سوريا

...........................

منال شاكر

نبقى على العهد

في سرائهم لا أهل ولا نسب..

وفي ضرائهم نلنا سواد القلب والعتب.

تبدو الوجوه إذا المال استقر بها..

وحين يجحد حق المرء تنسحب.

كم من قريب إذا ناديته جفلاً..

كأنه ما عرفنا لا ولا احتسب.

فالناس في فرح الأيام أخوة ود..

لكنهم في شقاء العمر قد شطبوا.

نبقى على العهد لا نرجو مكافأة...

فالعز في النفس لا يُشرى ولا يُهب.

فاصبر على الناس إن الصبر مرتبة..

تعلي المقام وإن جاروا وإن كذبوا.

نجربهم في كل حال.. فإذا بعض القلوب لنا..

وبعض القلوب قد شطبوا.

فلا خير في ود يذوب إذا اشتكينا..

ولا يد تُمد ثم تنسحب.

لكننا نرقى لنحفظ عهدنا..

فما خاننا خلق، ولا ذلنا نسب.

 

قراءات نقدية

مقدمة: هل صحيح أن تحليل أي عمل شعري يُفرغ سحره؟ أم أنه شيء نسبي يتغير بتغير طبيعة القصائد نفسها ومفاهيمنا وانطباعاتنا المتنوعة؟ على سبيل المثال، القصائد الغنية ومتماسكة البنى ومتنوعة الأبعاد لا تنغلق أبدًا على تفسير واحد، ولن تنتهي وجودها عند التعمق في ابعادها الدلالية والفنية والجمالية لمرة واحدة، وفي الحصيلة ووفقًا لمستوى فهم كل قارئ وشغفه ومستوى استمتاعه، يقرأ ويتأمل ويتلذذ من النصوص الابداعية.

هنا نتحدث عن ترجمة نص (الشارع) للشاعر المكسيكي الشهير أوكتافيوباث الذي ترجم إلى معظم لغات العالم الحية ودون فقدان قيمته الشعرية، وذلك بالطبع لتميزه. لأن الشعر الأصيل لا تزول قيمته بالترجمات العدة، لأنه غني بالافكار والصور والجمال الداخلي حتى ولو كانت لغته غير عجيبة في الالفاظ وليست غريبة في المعنی أو معقدة ووحشية في الاسلوب. وبذلك الصياغة اللغوية تبقى على المترجم في اللغة الثانية التي يقوم بترجمته اليها، لأن المصطلحات مثل الثياب والترجمة هنا تشبه تبديل الثياب، فالعبر بالجوهر ولو ان الصياغة اللغوية تكون لها الباع في تزين مداخل النصوص.

فعلى سبيل المثال عندما ترجم شعر الشاعر الكبير الجواهري لحبيبته (أنيت) في باريس والتي كتبت لها قصائد في ديوانه، قالت هذا ليس شعرا! مع انه الشاعر العربي الكبير، لكن تذهب المعطيات اللغوية ولا يبقى بعد الترجمة الا الفكرة والايقاع الداخلي للمفردات والمعان، الخالية من الغنى اللغوي، فهي تساءلت مترددا: ليس فيها ما يدل على أن صاحب هذه النصوص هو الشاعر العربي الأكبر.

وقد أشار الجرجاني في مٶلفاته الی هذه النقطة، حيث أن الالفاظ ليست في ذاتها مقصدا وشيئا تذكر، بل انها خادمة للمعان، وتظهر دورها في التركيب حيث يأتي دور وأهمية النظم. وبالأخص في زماننا المتسارع وقد تغيرت فيه وتيرة الامور وأصبح العالم قرية صغيرة وان معطيات العصر أثرت على الاذواق، مع ان البعض يرى ان زمن الوزن والقافية قد ولى، بغض النظر عن انهما يقيدان التخييل وحرية صياغة المضمون. لكن مع كل هذا سيبقى موروثا خالدا وسيستلهم الشعراء دوما من نبعها الصافي الاصيل.

سيرة الشاعر:

وُلد أوكتافيو باث عام ١٩١٤ في المكسيك لأب محامٍ وسياسي وأم من جنوب اسبانيا حيث تشجعه على تحقيق طموحاته الادبية، رغم انها كانت أمية.

كتب ديوانه الشعري الأول عام ١٩٣٣ في التاسعة عشرة من عمره، بعنوان "القمر الوحشي". ساند الجمهوريين ضد الفاشيين خلال الحرب الأهلية الإسبانية. سافر إلى الولايات المتحدة عام ١٩٤٣. وعاش في باريس من عام ١٩٤٥ إلى عام ١٩٥١، حيث التقى بسارتر وكامو وبريتون وغيرهم من الكُتّاب المشهورين. عمل دبلوماسيًا في أوائل الخمسينيات، مُثريًا تجاربه في آسيا والشرق، بما في ذلك اليابان والهند، حيث تعرّف على البوذية في عام ١٩٦٨، فالى جانب كونه شاعرا فقد كتب أيضا العديد من الدراسات النقدية والتأريخية والمقالات السياسية، تقاعد من العمل الدبلوماسي كرد فعل ضد قمع التظاهرات الطلابية بعنف. قضى الشاعر معظم حياته في المكسيك مع زوجته الرسام مير خوسيه. حاز على العديد من الجوائز الدولية في الشعر، بما في تلك جائزة نوبل للآداب عام ١٩٩٠. قبل أن توافيه المنية في ١٩نيسان ١٩٩٨.

باث يمشي على شارع العبث:

قصيدة باث هي نصٌّ مفتوح، ويرتبط ارتباطًا مباشرًا بفلسفة حياة البشرية. وجدتُ العديد من التحليلات المختلفة في بحثي لهذا النص وأنا أدون خيوط الفكرة وأراقب حركة الذات المكلومة في الأسطر مع تطلعات ورؤى وأسلوب الشاعرية.

خلال الخوض في هذا النص المفتوح يمكن أن نحصل على تفاسير عدة، في البدء نرى شارعًا هادئًا. صحيح إنه استعمل كرمز، ثم نستنبط بأن الذات المخاطبة قد قضت على الحياة بطريقة دراماتيكية، لا تعرف فيها بالضبط ما تريد تحقيقه. في لحظات ينحدر فيها النص في عتمات التيه ثم يحقق نفس التكرار الممل حيث يجد المخاطب نفسه في الماضي. ينظر إلى نفسه كما لو أن لا أحدا يراه، هل هذا هو الشعور بالدونية كما هي سائد في العالم الثالث والانسان ليس له الأولوية؟ لكنه يكافح مرارا وتكرارا أن يُرى أكثر من ذاته، أن يُساعده الظروف بأن يكون شخصًا أفضل مما كان عليه، ويسترد مكانته التي يليق به. هذه هي الرسالة الانسانية الخالدة للشعر.

اذا لاحظنا حركة الذات التائهة في السطرين الثالث والرابع، سنستنتج بأن باث لا يعرف ما يريده في هذه الحياة، ولذلك يُواصل مسيرته دون ملل وكلل.

في حين نرى في السطر الخامس: شخص خلفه يصطدم بالصخور ويغادر؛ هل هذا الشخص هو نفسه في الماضي؟ حيث يرمز الى استمرارية التسلق بمنحدرات واجتياز مطبات مسار الحياة.

عمومًا يستخدم باث في هذا النص استعارات ضمنية لرسم معظلته بعدم العثور على الذات أو افتقارها إلى الوجود المطلوب والمنظور كما يجب أن يكون.

(أمشي في الظلمة)

بما ان الظلمة هي كناية متعددة الاستعمال، يمكن أن يكون هنا في حال الشاعر أدأة لخلق الظروف السائدة التي وجد فيها الشاعر نفسه، وهويلمح في السطر الاعلى إلى عتمة حياة الوحدة والعزلة، حيث لا يرى شيئا في مكانه الصحيح، وهو يقضي معظم أوقاته متفرغا للتأمل والوحدة آملا وباحثا لمن يمتلأ فراغاته.

(إذا أتمهّل، يتمهّل)

في السطرين السادس والسابع: التكرار يعني لا هدفًا مُحددًا في الحسبان.

الإنسان مسؤول عن خياراته في الحياة، وعليه أن يترك أثرًا فيها. إن استمرارية الذهاب وعدم معرفة إلى أين يتجه، يُثير سؤالًا فلسفيًا للقارئ، مع ان معظم الناس يتعاطون مع الحياة حسب تداعيات ومتطلباتهم اليومية، لكن الشاعر هنا يخرج عن المألوف ويبحث عن أغلى ما يتفكر بە الشخص البسيط، فهو لا يرضى ولا يكتفي بأشباع غرائزه البشرية بل يتطلع الى اكبر من هذا بحثا عن تحقيق وجوده الايجابي والمعنوي وبحثه عن الآخر المشابه له خارجا من منافذ الذات المكلومة الى حياة ذات آفاق أوسع . كما ان اهتزازات الأقدام في الصعود والهبوط هنا هي مؤشر الى ما يواجهه الإنسان في درب الحياة، فلا وقوف عن المضي قدمًا، لكن هذا لا يُعطيه السيرورة وتقديرًا أو أطارا زمنيا مستقبليا لمعالجة قضية عدم وضوح الرؤية والملاذ.

يستمر كاريزما النص على هذا المنوال، ولا يرى سبيلًا للتغيير ومحاولة اتخاذ خطوات مختلفة. لذلك، عندما ينظر إلى نفسه، يجد نفسه في الماضي، وكأن هذا التخلف والعبأ السياسي قدر مكتوب للأجيال ويستحيل عليه تغييره.

ينظر أحد هواة الشعر من زاوية أخرى الى هذا النص ويكتب:

كتب باث هذا النص عام ١٩٦٣. حيث كانت حياته مُظلمة تمامًا ومحاطة باليأس، فلا يرى هنا نورًا، لأنه في الظلام ولا يرى حتى خطواته، والبعض يٶول هذا بنوع من التشاؤم، لكنە في الحقيقة لا يعتبر الا نظرة ثاقبة وواقعيية لما آل ويٶول اليه الأمور والمعطيات.

أخيرًا، أود أن أدعو وأشجع محبي الشعر الجاد إلى محاولة قراءة هذا النص من منظور فهمهم المتنوع الثري، لا كما أراه أنا أو غيري، فالقارئ المعاصر هو المنتج المكمل بعد اكتمال الشاعر من انتاج النص، وستبقى جميع القراءات السابقة مجرد آراء، وغنى النص هنا يستوجب قراءات جديدة ومتنوعة. وهذه هي سمة من سمات النص الثري، قد يٶدي الى ولادة استنباطات متعاكسة تماما حسب زاوية رٶية المتلقي وسليقته وتجاربه.

نستطيع القول بإن هذا النص ليس سهلا ولا هجينا، بل يتجاوز حدود الزمان والمكان، ويضمن بذلك مكوثه الخالد عند قراء الشعر الحقيقيين، بمعنى أن الشاعر لم يحصر حدود شعره في زمن أو بلد أو شخص معين. يمكن للشارع أن يوجد في أي مكان وزمان ويمكن أن يحتوي على مدلولات متنوعة، ويمكن للناس أن يسيروا عليه بطرق مختلفة ويدونوا عليه أيامهم وذكرياتهم وتجاربهم. لكن هنا الشارع فارغ من المارة، ويجد الشاعر نفسه فيه وحيدا– وهو يعيد الكرة ويمر عليه مرارًا وتكرارًا دون جدوی.

ومن النقاط المهمة التي لم أرها مذكورة سلفا، هي عدم الاحاطة بمغادرة منطقة الشارع، إما لأسباب خارجية كالمنع أو الغياب، أو لأسباب داخلية كالعجز أو عدم الرضا والاستسلام للقدر، فلا يخرج الشارع عن أطرنة المكان، وليس ذلك راجع الى ضيق أفق الرؤى ، بل هذا ما يقصده الشاعر عمدا في ارسال رسالته الشعرية، وهي ثيمة تهم الكل ولكننا نتفرع عندما يأتي الدور على فك مدلولات الشارع من منظورنا المتفاوتة.

هنا بأسلوب فريد ومختلف، يقسم الشاعر نفسه إلى تاريخين، أو شخصين؛ ماضٍ مظلم، وحاضر متكرر، فلا يخوض في الحديث عن المستقبل. نعم هذه هي الحقيقة والواقعية، فمن الصعب لشاعر ذو خبرة جمة أن ينخدع بأمل غير موجود في الواقع. إن دمه مكسيكي، لذا في عام ١٩٧١ ورغم كل المشاكل التي كان يعلم أنه سيواجهها هناك، قرر بالعودة إلى المكسيك بعد اغتراب طويل، حيث قام فيها بمراجعة وجوده الانساني والشعري.

وهذا التحليل يقودنا إلى شكل المعنى العام للنص، الذي يمكن تأويله بطرق مختلفة وأشكال ورسوم بيانية كما يلي:2180 soranكما يتسنى للناقد البنوي أن يرسم الشكل العام للمعنى في هذه القصيدة على شكل المعادلة التالية:

(الامل) محاولة--> (عدم الحصول على شيء)---> العودة إلى البدء (اليأس)

تجدر الإشارة هنا إلى نقطة مهمة حول ظلمة الشارع؛ أن الظلام الذي خيّم على الشارع ليس ماديًا، بل روحيًا، لأن الشاعر يرى فيه، كما يقول (حيث أتعقَّبُ رجلاً يتعثَّر وينهض)

في مقابلة مع ألفريد ماك آدم في نيويورك عام ١٩٩١، أشار الشاعر إلى فترة نفيه خارج المكسيك من عام ١٩٥٩ إلى عام ١٩٧١، التي قادته إلى كتابة هذه القصيدة. يقول الشاعر في المقابلة: "خلال رحلتي الثانية إلى الهند، بين عامي ١٩٦٢ و١٩٦٨، قرأتُ الكثير من النصوص الدينية والفلسفية. لقد أثرت فيّ الحركة الطلابية عام ١٩٦٨، وشعرتُ بطريقة ما، أن آمال وأهداف شبابي قد وُلدت من جديد. في الثاني من أكتوبر ١٩٦٨، قررت الدولة استخدام القمع الوحشي ضد المتظاهرين الطلاب. شعرتُ أنه لا ينبغي لي بعد الآن خدمة مثل هذه الحكومة، فانسحبتُ من العمل الدبلوماسي.

يظهر هذا الخطاب آفاق الشاعر الفكرية الواسعة وتوجهه التقدمي، مع أنّه شارك إلى جانب بابلو نيرودا في الثورة الإسبانية ضد الفاشيين.

***

سوران محمد

........................

الشارع

شارع طويل وهادئ.

أمشي في الظلمة وأتعثّر وأقَع

ثم أنهض، فأدوس بأقدام عمياء

أحجاراً صمَّاءَ وأوراقاً يابسة

يدوسها أيضاً شخصٌ ما خلفي:

إذا أتمهّل، يتمهّل؛

إذا أركض، يركض. أستدير: لا أحد.

كلُّ شيء مُعتم وبلا مخرج.

أخذت أدور وأدور طوال هذه الزوايا

المفضية دوماً إلى الشارع

حيث لا أحد ينتظرني أو يتبعني،

حيث أتعقَّبُ رجلاً يتعثَّر وينهض

وما إن يراني، حتى يقول: لا أحد.

***

المراجع:

مجلة باريس النقدية Paris Review. 1

Poemhunter, Octavio paz.2

المنار الثقافية الدولية، الشارع للشاعر أوكتافيو باث،عبدالقادر الجنابي .3

Wikipedia.4

تُقدّم قصيدة «امرأةٌ من نور الجزائر» نموذجًا غنيًّا للتعبير الشعري الذي يزاوج بين الخطاب الوطني والحنين الأنثوي، ويحول تجربة المرأة إلى رمزٍ مركزيّ في بناء الذاكرة الوطنية. تنطوي القصيدة على طبقات دلالية متعددة تتلاقى فيها اللغة والبلاغة مع البنية التاريخية والثقافية والعاطفية لتنتج خطابًا يجمع بين التكريم والاحتفاء والنشيد. تليها هنا قراءة نقدية منظمة وفق المحاور التسعة المطلوبة، مع الاستئناس بأمثلة نصية.

أولاً - الأسس اللغوية والبلاغية:

1. سلامة اللغة وبنية الأسلوب

اللغة في النص سليمة نحوياً ومتماسكة تركيبياً، لكنها شعريّة في حرية تركيبها وانزياحاتها التصويرية. يعتمد الخطاب أسلوب الجملة الإخبارية والمقطعية التماسّية، مع تكرار الجمل الانشائية في مواضع التوكيد. البنية تفضّل الاختزال المكثّف على التفصيل السردي، ما يمنح النص قوة دلالية وإيقاعًا خطابيًا مناسبًا للنشيد.

2. فصاحة اللفظ ووجاهة التعبير:

اختيار الألفاظ يميل إلى المبالغة المكرّسة (زهرة، صبرٌ مسكوبٌ في ذهب، صدرُ قارة للشهداء)، فيخدم وظيفة التمجيد. ثمة توازن عامّ بين اللفظ والمعنى: الألفاظ القوية تتوافق مع المشهد التاريخي والوجداني الموضوعي للنص. تُستخدم ألفاظ التراث (حفيدة الأمير، جميلة بوحيرد) كحججٍ منطقية وجمالية لإضفاء شرعية تاريخية.

3. الإيقاع والمعمار الصوتي:

النص مكتوب بنثرٍ شعريٍ خطابي لكنه يحافظ على موسيقى داخلية عبر:

١- التكرار الاستعادي: «يا امرأةَ الجزائر…»، «يا…»، «أنتِ…»؛

٢- التوازي البنيوي: «ابنةُ المناضل، أختُ الشهيد، أمُّ الأسير، زوجةُ الجريح»؛

٣- الترانيم الحروفية: تردد الحروف الشمسية والهمسية يعطي وقعًا مناسبًا للخطاب الاحتفالي.

القافية ليست تقليدية، لكن الإيقاع العام يصلح للإلقاء المسرحي والخَطابي.

ثانيًا - الأسس الجمالية والفنية:

1. البنية الفنية للنص:

البنية تقرأ كنصّ سيريّ/وصفيّ يتمحور حول شخصية محورية (المرأة) وتستعمل إطرًا تاريخية ورمزية. النص يجمع بين الحديث عن الدور الفردي والوظيفة الجماعية؛ يمتاز بتركيب مركزي: تقديم - تصعيد - تتويج/ختام. الزمن شعريّ متحوّل: زمن تاريخي (الذاكرة والثورة) يتداخل مع زمن حاضرٍ نابض.

2. الرؤية الفنية:

الرؤية فخرية-حنينية: ترى المرأة مؤسِّسًا معاشيًا وروحيًا للوطن. هناك انسجام واضح بين الشكل (النثر الشعري المكثف) والمضمون (التمجيد والذاكرة)؛ فالأسلوب الإيجازي يناسب البُعد الأسطوري الذي تمنحه الشاعرة للأنثى.

3. الطابع الإبداعي والانزياح الجمالي:

القصيدة تنتج دهشة عبر مزج الصور المتناقضة: «زهرة في قلب الصخر»، «صدر قارة للشهداء»، وبتوظيف السرد الجزئي (الأسيرة، الشهيد، الجريح). الانزياح هنا ليس مجرّد تجنّي لفظي بل عملية تشكّل رؤيوية تُعيد تركيب الواقع الشعوري.

ثالثًا - الأسس الفكرية والفلسفية:

1. الموقف الفكري للنص.

النص يحمل موقفًا تأويليًا للمرأة كشكل من أشكال الكينونة الوطنية: السؤال عن الحرية، التضحية، والمسؤولية الأخلاقية يتقاطع مع مشروع التذكّر والتحرير. ثمة إيمانٍ بالقوة الفاعلة للأنثى كقيمة أخلاقية وبناء حضاري.

2. الأفق المعرفي:

النص ينسج علائق مع المرجعيات التاريخية (الأمير عبد القادر، جميلة بوحيرد، بن مهيدي، فاطمة نسومر) ومع الذاكرة الثورية، وفي الوقت نفسه يستفيد من صور معرفية حداثية (المواطنة، ثقافة الفعل، عقلية المقاومة) ما يجعله معبرًا عن لقاء التراث بالحداثة.

3. البنية العميقة للمعنى (الهيرمينوطيقا)؛

القصيدة تُفضي إلى بنية معجمية رمزية تُعيد تعريف المرأة كـ«لغة الوطن»؛ قراءة هيرمينوطيقية تكشف طبقات: السطح (التمجيد)، الأوسط (الدور الاجتماعي الأسري والوطني)، والعمق (الأنثى كمبدأٍ خلّاق ومردّ إلى أصل تاريخي ومعنوي).

رابعاً - الأسس التاريخية والثقافية:

1. سياق النص:

القصيدة تستند إلى ذاكرة الاستعمار والمقاومة الجزائرية، وتُكتب في سياق احتفاليّ أو تأمّليّ بمآثر التحرر، ما يمنحها وظيفة تأريخية-تذكيرية.

2. تطوّر النوع الأدبي:

تقع القصيدة ضمن تيار النثر الشعري الوطني المعاصر الذي يمزج بين السرد والخطاب الشعري؛ تمثّل استمرارية لتقاليد النشيد الوطني والقصيدة الملحمية المصغّرة، مع إيقاع حداثيّ.

3. ارتباط النص بالتراث:

الاستدعاءات التاريخية والأسطورية (الأمير، جميلة…) تربط النص بالتراث المقاوم، بينما الصور الطقسية والدينية (الدعاء، الفجر) تكرّس تواصلاً بين الوعي الشعبي والتراث الرمزي.

خامساً - الأسس النفسية:

1. البنية الشعورية:

تسيطر على النص مشاعر الفخر، الحنين، الحزن الخفي، والفخر التكريمي؛ ثمة توازن بين العاطفة الفردية والوجدان الجمعي.

2. تحليل الشخصية:

المرأة هنا ليست شخصية منفردة بل تجريد لأدوار متعددة: ابنة، أخت، أم، زوجة - وهذا يمنحها تعقيدًا نفسياً ومآزقيًا: الحزن على الفقد، القوة عند المواجهة، الصبر كمناعة.

3. النبرة النفسية:

النبرة تجمع الحزم بالحنان: حنين محافظ، قوة لا تهدأ، وصوت احتجاجٍ متيقّن.

سادساً - الأسس الاجتماعية والسوسيولوجية:

1. علاقة النص بالواقع الاجتماعي:

القصيدة تعكس مشروعًا اجتماعيًا يقدّر دور المرأة في إعادة بناء المجتمع، وتستدعي قضايا الهوية والكرامة والطبقات (الكادح، المجهد).

2. الخطاب الاجتماعي داخل النص:

النص يندد ضمنًا بالاحتقار أو التقصير تجاه المرأة ويطالب باعتراف اجتماعي وتاريخي بمساهمتها.

3. الكاتب كفاعل اجتماعي:

الشاعرة تؤدي دورَ المثقف/المؤرّخ العاطفي: تذكّر، تؤرّخ، تحيّي، وتؤسّس خطابًا هجريًا للنهوض.

سابعاً - الأسس السيميائية:

1. العلامات والرموز؛

الزهرة، الصخر، النخلة، الفجر، الخبز، السلال - كلها علامات ذات دلالة مزدوجة: شخصية ووطنية. المرأة رمز للحياة والذاكرة والجيش الأخلاقي.

2. شبكات الدلالات:

تتبدّى ثنائية متكررة: حياة/موت، صبر/انتصار، خصوصي/عام، حضور/غياب. هذه الشبكات تُسهم في قراءة متعددة المستويات.

3. النظام الرمزي العام:

النظام يقدّم المرأة كخزان رمزيّ للتاريخ والكرامة ومركزًا لبناء المستقبل.

ثامناً - الأسس المنهجية:

1. الصرامة المنهجية:

هذه القراءة اعتمدت مقاربة متعددة المسالك: لسانية-أسلوبية، سيميائية، تاريخية-رمزية ونفسية، مع مراعاة التماسك والتحفّظ على التأويلات غير المدعومة نصيًا.

2. التوثيق العلمي:

الاستشهاد بالنص مقتبس ومؤطَّر؛ وإشارات الشخصيات التاريخية توضح التأطير المرجعي. في دراسة مطولة يمكن إضافة مراجع تاريخية وأدبية عن الذاكرة الجزائرية ودور المرأة.

3. الموضوعية النقدية؛

التحليل يلتزم النص ومناعه الداخلي دون الانجراف إلى التمجيد غير المدعوم أو التجريح.

تاسعاً - الأسس الإنسانية والجمالية العليا:

1. قيم الحرية والجمال:

القصيدة تحتفي بالحرية وتؤسّس لجمالية جديدة ترى في التضحية والمقاومة مصدرًا للجمال الأخلاقي والوجداني.

2. الانفتاح على التأويلات؛

النص مفتوح لقراءات تاريخية، نسوية، سيميائية وحتى سياسية، ما يجعله غنياً بالامكانية التأويلية.

3. البعد الإنساني الشامل:

تمرّ القصيدة من الخاص (دور المرأة في الأسرة) إلى العام (بناء الوطن)، فتلامس وجدانًا واسعًا وتستشعر قيمة الانسان وكرامته في سياق تحرري.

خاتمة

تجسّد قصيدة «امرأةٌ من نور الجزائر» عملًا شعريًا ذا وظيفة تأريخية ومجتمعية وجمالية في آن. تحوّل المرأة فيها إلى سُلّة رموزٍ تذكرنا بأنّ البناء الوطني لم يكن إلا فعلًا مشتركًا لصانعات الحياة وصانعات النصر. لغويًا وبلاغيًا، تؤدي القصيدة مهمتها ببلاغة مكثّفة وإيقاع خطابي مناسب؛ فلسفيًا وإنسانيًا، تضع المرأة في مركز السؤال عن الحرية والكرامة؛ ثقافيًا وتاريخيًا، تؤسس وصياغةً لخطاب الذاكرة. تبقى إمكانات الدراسة أوسع: يمكن توظيف مناهج نسوية مقارنة، أو سوسيولوجية تاريخية، أو تحليل خطابي لإخراج مزيد من طبقات المعنى ودلالاتها الاجتماعية والسياسية.

***

بقلم: عماد خالد رحمة - برلين

...........................

امرأةٌ من نور الجزائر

ناديا نواصر

على جذور الوعي، في مفارق الصحو الأولى، نهضتِ أنتِ-يا امرأةً من لهب الثورة-شامخةً كآيةٍ واثقة، سامقةَ الهمة، تفيضين حضورًا يضاهي كبرياء الأرض حين تستعيد روحها. مددتِ للروح معابر يقينها، وللوطن دربَه نحو انتصاره الذي صُنع من عظام الرجال ومن صبر النساء.

*

يا امرأةَ الجزائر…

يا زهرةً نبتت في قلب الصخر، لا يثنيها بردٌ ولا تكسرها ريح؛ يا جمالًا يستيقظ من طهارة الروح، لا من بهر الزينة. أنتِ التي مشتِ على دروب القهر بقدمين من صبرٍ مسكوبٍ في ذهب، وحملتِ الحياة كما تحمل الجبالُ أسرارها. لم تنحني جبهتكِ إلا في سجدةٍ تعيد ترتيب الكون في صدرك، وتسكب على الدنيا ضوءًا يشبهك.

*

فيكِ تجتمع رقةُ الندى واحتدامُ الحطب حين يشتعل؛ فيك حياءٌ يخجل منه الفجر، وقوةٌ تقول للّيل: لن تهزمني. في يمناك خبز الأسرة، وفي يسراك قلب الوطن، وفي صدركِ أصوات أبناءٍ تربّوا على شرفٍ لا يُشترى، بل يولد من دعائك ودموعكِ الصامتة.

*

يا امرأةً حميتِ الدار من برد، وحميتِ الوطن من ضياع؛ وقفتِ كالنخلة، لا يكسركِ ثقلُ السنين ولا تُطفئكِ أبواب الظلم المغلقة. فيكِ من الجمال ما يُورق الصحراء، ومن الرفق ما يلين الحجر، ومن العفة ما يجعل الملائكة تبارك خطاكِ، ومن الصبر ما يبني وطنًا على كتفيكِ وحدك.

منذ أول دعاءٍ بين يدي الفجر كنتِ: حارسة البيت، صانعة الرجال، أمّ الأجيال، ونبض الجزائر الذي لا يخبو.

*

يا حفيدة الأمير عبد القادر…

يا من تحملين في نبضك دمَّ جميلة بوحيرد، وفي صبرك سكونَ العربي بن مهيدي، وفي غضبكِ صليلَ فاطمة نسومر. يا ابنة مناضلٍ، وأخت شهيدٍ، وأم أسيرٍ لم ينكسر، وزوجة جريحٍ ينهض على نورك، ويا أختًا حملت رحيل الأحبة كمن يحمل وطنًا كاملًا في صدره.

*

يا امرأةً زُيّنت بثقافتها ورجاحة عقلها، فكانت مدرسةً تُخرّج الوعي قبل الأبناء.

يا سيّدةً حين انتصرت الجزائر، رأى الناس في عينيك زهو بلدٍ نهض من رماده، ورأى الوطن فيك وجهه حين يستردّ حريته.

*

من رحم الأنثى الحرة مددتِ للعيش الكريم معابر الحياة، وكتبتِ بدم الروح ملحمة الجزائر على صخر التاريخ. نحَتِّ الثورة، صارعتِ الريح، واعتليتِ منابر الشرفاء، ورافقتِ الشهداء إلى وهج النصر.

*

كنتِ ماءَ المقهورين حين يظمأون، وسماءَ الثورة حين تجوع الأرض.

كنتِ رغيف السنابل، ونبض السنين العجاف، وكتف الكادحين المتعبين.

رفعتِ الوطن بذراعين من شمس، وفي علياء نضالك تعلّمت الجزائر أبجديتها الأولى… أبجدية الفتح.

*

من تربةٍ طاهرة بزغ دهشك، وامتلأت سلال الزمن عنبًا ونرجسًا ويقطينًا.

أكنتِ الوهج الحاسم؟ أم الولادة الكبرى للتاريخ؟

يوم تلاقح الوعي وعاد المخاض، أشرقت الفتوحات.

*

ومن حنجرتكِ خرج موكبُ الذين يحملون نشيد الثورة، ليقوم شجر الحرية… مزهوًّا، لا يُقهر.

***

تأتي قصيدة «أوراقُ الليل» للشاعر أحمد يوسف داود بوصفها نصّاً ينهض على لغة مفعمة بالتوتر الوجودي، ويستثمر طاقة البلاغة الحديثة في تفكيك عتمة الإنسان ومعنى وجوده داخل عالم مهدّد بالسواد واللاجدوى. فهي قصيدة تتجاوز حدود القول الشعري إلى فعل تأويلي يشتبك فيه الصوت الداخلي مع مصائر الذات والجماعة، وتتداخل فيه الحكاية بالأسطورة، واللغة بالجرح، والليل بالقدر.

وتستهدف هذه الدراسة الكشف عن البنية المعقّدة للنص عبر محاور لغوية وجمالية وفلسفية ونفسية وسيميائية، تُضيء طبقات المعنى، وتلاحق شبكة الرموز، وتفحص الإيقاع والمعمار الفني، وتقرأ علاقة الذات بالعالم ضمن أفق اجتماعي وثقافي أوسع.

والغاية من ذلك ليست شرح القصيدة فحسب، بل الوقوف على آلياتها في إنتاج الدهشة والأسئلة، وفي تحويل التجربة الإنسانية إلى خطاب شعريّ تتقاطع فيه العتمة مع بحثٍ دائم عن نورٍ مؤجّل.

أولاً: الأسس اللغوية والبلاغية:

1. سلامة اللغة وبنية الأسلوب

يبني الشاعر نصّه وفق لغة مشبعة بالتكثيف الدلالي، تنزاح عن مباشرة الخطاب نحو فضاء مجازي كثيف. الجمل الشعرية تتوزّع على شكل مقاطع تنبض بتوتر داخلي، يُعتمد فيها على تراكيب تُجاور بين البساطة الظاهرة والعمق الرمزي.

من ذلك قوله:

«نحن يا صاحبي نتأرجح في الموت كي لا نموت بلا غاية.»

التركيب هنا ينطوي على مفارقة وجودية تُحدث زلزلة دلالية، حيث يصبح الموت حركةً تحمي من موت آخر، بما يعبّر عن صراع الكينونة.

الانزياح اللغوي حاضر بقوة، مثل:

«هذي السماء البسيطة عالقةٌ في يد الليل»

وهو انزياح يجمع بين التجسيد والإيحاء الكوني.

صياغة الشاعر سليمة نحويّاً، لكنها تتجاوز القواعد نحو فضاء شعريّ يسمح للغة بأن تحتشد بالرمز دون أن تفقد إيقاعها أو ترابطها.

2. فصاحة اللفظ ووجاهة التعبير

يختار الشاعر ألفاظاً مشحوذة الوقع: السواد، المقصلة، الجذوة، هباء، زبد، أطلال…

وهذه الألفاظ تُعطي النص طابعاً مأسوياً ووجودياً. العلاقة بين اللفظ والمعنى محكمة، فاللغة تتلاءم مع موضوع القصيدة: الحيرة، الموت، الفقد، القلق، وضياع المعنى.

الصور التعبيرية لا تتصيّد الغرابة، بل تخدم الموضوع؛ يظهر ذلك في قوله:

«من يجرجر أرواحنا في دم الأسئلة؟»

حيث يتجسّد السؤال كجرحٍ سائل، في علاقة متقاربة بين المعنى والتعبير.

3. الإيقاع والمعمار الصوتي:

على الرغم من أنّ النص مكتوب بأسلوب حرّ، إلا أنّ الموسيقى الداخلية واضحة:

١- التكرار: يا صاحبي، ليس الكلام المباح كثيراً، لنا ما لنا.

الجرس الصوتي الناتج عن اختيار حروف الصفير والهمس (س، ش، خ)، وهي تتلاءم مع أفق الليل والسواد.

٢- القافية الجزئية تظهر أحياناً: المائدة/الخامدة، الأسئلة/المقصلة، الجلجلة/المقبلة، بما يخلق تموّجاً إيقاعياً دون التزام صارم ببحر أو وزن.

ثانياً: الأسس الجمالية والفنية

1. البنية الفنية للنص:

القصيدة تنبني على معمارٍ سرديّ خفيف، يظهر في الحوار بين الشاعر و«الصاحب». السرد يتداخل مع التأمل، ومع البنية الشعرية المشحونة بالصور.

الزمن هو زمن الليل، لكنّه يمتد ليصبح زمناً وجودياً، يُشير إلى ضياع المعنى وتصدّع اليقين.

الشخصية الرئيسة هي الذات الشاعرة، لكن «الصاحب» يؤدي وظيفة المرآة والآخر الحميم الذي يتيح انكشافاً داخلياً.

2. الرؤية الفنية:

تقوم رؤية الشاعر على أن العالم محكوم بظلامٍ كثيف يجعل الكلام نفسه فعلاً محفوفاً بالخطر.

رؤية تشاؤمية—وجودية، لكنها ليست استسلامية، لأنها تُصرّ على سؤال الحقيقة:

«كيف إذاً يتفتح ورد الحقيقة فينا؟»

الشكل الشعري ينسجم مع هذا المضمون، فالأسلوب المقطّع، المتوتر، يرافق رؤية عالم مأزوم.

3. الطابع الإبداعي والانزياح الجمالي:

التجديد يظهر في القدرة على تحويل التجربة الفردية إلى خطاب كوني، عبر انزياحات تخترق العادة، مثل:

«الأرض تفاحة من هباء»

وهي صورة تجمع بين الامتلاء والفراغ في آن واحد.

ثالثاً: الأسس الفكرية والفلسفية

1. الموقف الفكري للنص:

القصيدة تنتمي إلى فضاء الوجودية المتشائمة: سؤال الموت، الغاية، المصير.

النصّ يرفض الكلمات السهلة:

«الكلام الأليف هزيمة روح»

وهذه عبارة تلخص رؤية نقدية للعالم وللخطاب السائد.

2. الأفق المعرفي:

يميل الشاعر إلى أسطرة اللغة عبر استدعاء «شهرزاد» و«السندباد» و«الجلجلة»، ما يعكس تمازجاً بين التراث العربي والروحي المسيحي والرموز الأسطورية.

3. البنية العميقة للمعنى (هيرمينوطيقا):

النصّ يخفي خلف سطحه خطاباً عن العجز الوجودي للإنسان المعاصر أمام قدرٍ غامض.

الليل رمز شامل: للغموض، الموت، القلق، انهيار القيم.

والصاحب رمز للإنسان المفكر الذي يبحث عن معنى وسط الانهيار.

رابعاً: الأسس التاريخية والثقافية

1. سياق النص:

تُحيل القصيدة إلى زمن عربي مأزوم، حيث السواد يخيّم على الأوطان، والأقدار تتحوّل إلى «زبد» و«خراب».

السياق التاريخي يُفهم باعتباره لحظة سقوط كبرى.

2. تطوّر النوع الأدبي:

القصيدة تقع داخل المسار المعاصر للشعر الحرّ، وتتميّز بمزج السرد بالشعر والاستعارة الكثيفة، بما يوازي تجربة القصيدة الحديثة الما بعد حداثية.

3. ارتباط النص بالتراث:

استدعاء الرموز: شهرزاد، السندباد، الجلجلة، المقصلة… يربط القصيدة بموروثات عربية وعالمية.

خامساً: الأسس النفسية

1. تحليل البنية الشعورية:

المشاعر السائدة: القلق، الفقد، اليأس، الحيرة، الخوف الوجودي.

الشاعر يكتب من منطقة مفاصل داخلية مهزوزة.

2. تحليل الشخصية (سردياً)

الذات الشاعرة شخصية متأرجحة، ممزقة بين القيود والبحث عن الضوء.

«الصاحب» هو الامتداد النفسي للذات، وليس شخصاً حقيقياً.

3. النبرة النفسية:

نبرة قاتمة، تنضح بالألم:

«لنا أفق من حداد.. وفاكهة من رماد.»

سادساً: الأسس الاجتماعية والسوسيولوجية

1. علاقة النص بالواقع الاجتماعي:

النص يعبّر عن مأزق عربي جماعي:

الخراب، الخوف، فقدان الأمل، غياب الحرية.

هو نصّ يصرخ من داخل مجتمع مأزوم.

2. الخطاب الاجتماعي:

القصيدة تطرح نقداً لثقافة القمع والصمت والخضوع.

3. الكاتب كفاعل اجتماعي.

الشاعر يكتب بوصفه شاهداً على انهيار عالمٍ كامل، وصوته يحمل حسّ الاحتجاج.

سابعاً: الأسس السيميائية.

1. تحليل العلامات والرموز.

١- الليل: الغموض، القدر، الموت.

٢- السواد: الحقيقة المأساوية للوجود.

٣- المقصلة: السلطة والقمع.

٤- الجلجلة: التضحية والفداء.

٥- الأسئلة: الدم، الجرح، البحث.

2. شبكات الدلالات:

الحياة/الموت — النور/الظلام — الأمل/العدم.

كلها تتصارع داخل النص.

3. النظام الرمزي:

الأشياء تتحوّل إلى علامات كبرى:

الأرض → تفاحة من هباء

الليل → سلطة عليا

الكلام → مخاطرة وجودية

ثامناً: الأسس المنهجية

1. الصرامة المنهجية:

التحليل يلتزم المفاهيم: أسلوبية، سيميائية، نفسية، تأويلية.

2. التوثيق العلمي:

الاقتباسات مأخوذة بدقة من النص ومفسّرة في سياقها.

3. الموضوعية النقدية

التحليل يتعامل مع النصّ لا مع سيرة الشاعر.

تاسعاً: الأسس الإنسانية والجمالية العليا.

1. قيم الحرية والجمال:

النص يصرخ من أجل حرية الروح ضدّ سواد القدر.

جمالية النص تنبع من صدقه وتجريده.

2. الانفتاح على التأويلات:

القصيدة قابلة لقراءات لغوية، رمزية، فلسفية، نفسية.

3. البعد الإنساني الشامل:

النص يعالج تجربة إنسانية كونية:

خوف الإنسان من مجهول الوجود، ومن عبثية القدر.

خاتمة:

تغدو «أوراق الليل» نصّاً يتجاوز حدود الشعر إلى فضاء فلسفي واسع، يُعيد تشكيل أسئلة الإنسان الأولى:

ما المصير؟ ما الحرية؟ كيف نصل إلى الحقيقة وسط الظلام؟

وتتبدّى قيمة القصيدة في قدرتها على تحويل التجربة الفردية إلى خطاب إنساني شامل، يكتب السواد من الداخل، ويعيد ترتيب الألم ليصبح مادةً جمالية عميقة، وصرخةً وجودية لا تنطفئ.

***

بقلم: عماد خالد رحمة - برلين

.........................

(أوراقُ اللَّيلْ)

قُلْ مراثيَّكَ الآنَ..

ليس الكلامُ المُباحُ كثيراً..

وليس لنا أنْ تُضيءَ الحِكاياتُ

في لَيلِ أقدارِنا..

أوتُخَبئَ آلامَ أسرارِنا..

حسبَما زَوّقتْ شَهرَزادْ!.

*

نحنُ ياصاحبي نتأرْجحُ في المَوتِ

كي لا نَموتَ بلا غايةٍ..

والكلامُ الأليفُ هَزيمةُ روحٍ..

فكُن واثِقاً إنْ نَطقْتَ

فليسَ لنا أن نُجازِفَ كالسِّندِبادِ!ِ..

كأنّا وُلِدنا لنُقتَلَ..

كيف إذاً يتفَتّحُ وَردُ الحَقيقةِ فينا

إذا لم يَكن حَولَنا غيرُ هذا السَّوادْ؟!.

*

لاتَهُزَّ غُصونَ الكَلامِ كثيراً..

أتعرِفُ أيُّ الثِّمارِ

سيسقُطُ مُرّاً على المائدَةْ؟!.

*

نحنُ تلكَ البقايا التي في يَدِ الخَوفِ

أقدارُنا زَبدٌ وخرابٌ..

فكيفَ لنا أنْ نُعابثَ أشلاءَنا

ونقولَ: (سنولِجُ فيها حياةً)؟!..

أتُوقَدُ نارٌ منَ الجَذوَةِ الخامدَةْ؟!.

*

من  يُجَرجِرُ أرواحَنا الآن ياصاحِبي

في دَمِ الأسئلةْ؟!.

*

مَن يُعِدُّ لها كلّما بَرَقتْ

شَفرَةَ المَقصَلةْ؟!.

*

إنّها صَرخَةٌ في مَتاهَةِ وَقتٍ غريبٍ

فهَيّئْ فُؤادَكَ للدَّمعِ..

هذي مَدينةُ قلبٍ بأطلالِها بينَ مَوتٍ

ومَوتٍ..

وكانتْ بِكِلمةِ عِشقٍ تذوبُ!.

*

فعلى أيِّ أُغنِيَةٍ تُسنِدُ الآنَ حُزنَكَ؟!..

هذي السّماءُ البَسيطةُ عالِقَةٌ في يدِ الليلِ..

والأرضُ تُفّاحةٌ من هَباءٍ..

على أيِّ ريحٍ ستنشُرُ ذاك الشِّراعَ القديمَ

وتَزعُمُ بحراً..

وميناءَ حُرّيّةٍ..

ونوارسَ بيضاً تُزقزقُ لاهِيةً؟!..

ثمّ تَزعُمُ أنّ الذي غادَرَ الرُّوحَ

في غَفْلَةٍ قد يؤوبُ؟!.

*

آهِ ياصاحِبي، تاجُ شَوكٍ لنا

ما اشتَهَيناهُ يوماً..

ودَربٌ إلى الجُلجُلةْ!.

*

ولَنا وَجعُ الشَّوقِ ياصاحِبي

للّذي لايكونُ..

لَنا أُفقٌ من حِدادٍ..

وفاكِهةٌ من رَمادٍ..

لَنا ما لَنا من سَوادٍ

لنَكتُبَ أحزانَ أيّامنا المُقبِلةْ!.

***

 

المقدمة: تتناول هذه الدراسة مقارنة فنية نقدية بين مجلتين تحملان الاسم ذاته "أبولو"، إحداهما روسية ذات طابع أدبي نقدي، والأخرى مصرية ذات طابع شعري رومانسي. تنبع أهمية هذه المقارنة من كون كلتا المجلتين تمثلان لحظة تحول في المشهد الأدبي في بلديهما، وتعكسان رؤى مختلفة حول وظيفة الأدب ودور النقد في تشكيل الوعي الجمالي والثقافي. كما تهدف الدراسة إلى إبراز التفاعل بين الفكر الجمالي والنقدي في كل تجربة، وتوضيح أثر كل منهما في تطور الأدب الحديث في بيئته الخاصة، مع توثيق وتحليل النصوص والمقالات المنشورة في كل مجلة ضمن سياقها التاريخي والثقافي.

إشكالية البحث:

هل تعد مجلة أبولو المصرية هي أولى مجلة أدبية تحمل هذا الاسم أدبيا في العالم كما هو مشهور في العالم العربي؟

اشتهر عند كثير من الأدباء في العالم العربي أن جماعة ابولو المصرية هي التي استعارت اسم أبولو من اليونانية ووضعوه اسما على الجماعة الأدبية الجديدة، ولما أصدرها المجلة سموها باسم أبولو أيضا.

هذا المشهور في المصادر العربية في تاريخ الأدب الحديث.

وبناء عليه،فكأن ابولو المصرية هي أول من استعار الاسم لمجلة فنية أدبية، غير أن الباحث وجد أو نيكولاي غوميلوف سبق الجماعة بسنوات في تسمية مجلته باسم ابولو، كما سيأتي لاحقا.

أهمية إجراء دراسة فنية نقدية مقارنة بين مجلة أبولو الروسية الأدبية النقدية ومجلة أبولو المصرية الشعرية

تكتسب الدراسة الفنية النقدية المقارنة بين مجلة أبولو الروسية الأدبية النقدية ومجلة أبولو المصرية الشعرية أهمية علمية وثقافية كبيرة، لما تحمله من أبعاد فكرية وجمالية تتجاوز حدود الزمان والمكان، وتفتح آفاقًا جديدة لفهم التفاعل الأدبي بين الشرق والغرب. ويمكن تلخيص أهمية هذه الدراسة في النقاط الآتية:

إبراز التفاعل الحضاري والأدبي بين الثقافتين الروسية والعربية

المقارنة بين المجلتين تكشف عن مدى تأثر كل منهما بالتحولات الفكرية والأدبية في بيئتها، وتوضح كيف عبّرت كل حركة عن رؤيتها للحداثة، والإنسان، والفن، في سياقين ثقافيين مختلفين.

تحديد ملامح التجديد في الخطاب الأدبي والنقدي

مجلة أبولو المصرية (1932–1934) مثّلت ثورة شعرية رومانسية في الأدب العربي، بينما كانت أبولو الروسية (القرن العشرون المبكر) منبرًا للنقد الأدبي والفني الطليعي. المقارنة بينهما تساعد على فهم كيف تجلّت مفاهيم التجديد، الذات، والخيال في كل تجربة.

تحليل البنية الفنية والاتجاهات الجمالية

الدراسة المقارنة تتيح تحليل الأساليب الفنية، والمناهج النقدية، واللغة الجمالية التي اعتمدتها كل مجلة، مما يثري البحث في تطور النقد الأدبي والشعري في الثقافتين.

إثراء الدراسات المقارنة في الأدب العالمي

هذا النوع من الدراسات يسهم في توسيع مجال الأدب المقارن، ويعزز الحوار بين المدارس الأدبية المختلفة، ويكشف عن نقاط الالتقاء والاختلاف في الرؤية الفنية والإنسانية.

تسليط الضوء على دور المجلات الأدبية في تشكيل الوعي الثقافي

كلتا المجلتين كانتا منابر فكرية مؤثرة في زمنهما، أسهمتا في توجيه الذوق الأدبي وصياغة الاتجاهات النقدية، مما يجعل دراستهما معًا مدخلًا لفهم دور المجلات في صناعة النهضة الأدبية.

إعادة قراءة التراث الأدبي في ضوء المقارنة

المقارنة تفتح المجال لإعادة تقييم الإرث الأدبي والنقدي لكل من المدرستين، وتساعد على استكشاف أوجه الإبداع والتجريب التي قد تكون غابت عن الدراسات الأحادية.

بهذا، تمثل الدراسة المقارنة بين مجلتي أبولو الروسية والمصرية جسرًا معرفيًا بين ثقافتين، وتُعدّ خطوة مهمة نحو بناء رؤية نقدية عالمية تتجاوز الحدود اللغوية والجغرافية، وتؤكد وحدة الإبداع الإنساني في تنوعه.

أهداف الدراسة

الكشف عن الخلفيات الفكرية والجمالية التي أسست لكل من المجلتين.

تحليل البنية الفنية والنقدية في كل مجلة.

دراسة أثر كل مجلة في تطور الحركة الأدبية في بيئتها.

المقارنة بين المنهج النقدي في أبولو الروسية والمنهج الشعري في أبولو المصرية.

إبراز أوجه التشابه والاختلاف في الرؤية الجمالية والرسالة الثقافية لكل منهما.

تقديم توصيات ومقترحات لتطوير الدراسات المقارنة بين التجارب الأدبية العربية والعالمية.

منهج الدراسة

تعتمد الدراسة على المنهج المقارن التحليلي، من خلال:

تحليل النصوص المنشورة في المجلتين.

دراسة المقالات النقدية والبيانات التأسيسية.

تتبع السياق التاريخي والثقافي لكل مجلة.

المقارنة بين الاتجاهات الفنية والنقدية والجمالية.

توثيق الإحالات إلى المصادر الأصلية والمراجع النقدية ذات الصلة، مثل دراسات الأدب الروسي الحديث (بختين، 1981؛ لوتمن، 1990) ودراسات الشعر العربي الحديث (شوقي ضيف، 1983؛ إحسان عباس، 1992).

المحور الأول: الإطار التاريخي والثقافي

1. أبولو الروسية

نشأت مجلة أبولو الروسية في سياق التحولات الفكرية والأدبية في روسيا ما بعد الثورة البلشفية (1917)، حيث شهدت البلاد حراكًا ثقافيًا واسعًا سعى إلى إعادة تعريف دور الأدب في المجتمع. اتسمت المجلة بطابع نقدي فلسفي، ركز على تحليل النصوص الأدبية من منظور اجتماعي وجمالي، وضمت نخبة من النقاد والمفكرين مثل ألكسندر بلوك، وأندريه بيلي، وفلاديمير لوسيف، الذين سعوا إلى تأسيس رؤية جديدة للأدب الروسي الحديث تقوم على التفاعل بين الفكر والفن.

(انظر: Terras, Victor. A History of Russian Literature, 1991)

2. أبولو المصرية

تأسست مجلة أبولو المصرية عام 1932 على يد الشاعر أحمد زكي أبو شادي، في ظل حركة التجديد الشعري في مصر. مثلت منبرًا للرومانسية العربية الحديثة، ودعت إلى التحرر من قيود التقليد الشعري. احتضنت شعراء من مختلف الأقطار العربية مثل إبراهيم ناجي، وعلي محمود طه، وأبي القاسم الشابي، وأسهمت في بلورة الحس الجمالي الحديث في الشعر العربي، فكانت صوتًا للتجديد والحرية الفنية في مواجهة الجمود الكلاسيكي.

(انظر: أبو شادي، البيان الأبولي الأول، 1932؛ شوقي ضيف، الفن ومذاهبه في الشعر العربي، 1983)

المحور الثاني: البنية الفنية والنقدية

1. في أبولو الروسية

اعتمدت المجلة على المقال النقدي التحليلي، والمراجعات الأدبية، والدراسات النظرية. ركزت على العلاقة بين الأدب والمجتمع، والأدب والفكر الفلسفي، واتسمت لغتها بالصرامة الأكاديمية والعمق المفاهيمي. كانت ساحة لتجريب المناهج النقدية الحديثة، مثل البنيوية المبكرة والتحليل النفسي للأدب، كما تأثرت بأفكار الشكلانيين الروس مثل رومان ياكوبسون وفيكتور شكلوفسكي.

(انظر: Shklovsky, Theory of Prose, 1925)

2. في أبولو المصرية

غلب على المجلة الطابع الإبداعي الشعري، مع مقالات نقدية ذات نزعة وجدانية. اهتمت بالخيال والعاطفة والرمز والموسيقى الشعرية. شكلت مدرسة فنية قائمة على الجمال والتعبير الذاتي، واحتفت بالذات الشاعرة بوصفها محور التجربة الجمالية. كما قدمت نقدًا أدبيًا ذا طابع وجداني، يهدف إلى تذوق الجمال أكثر من تحليله علميًا.

(انظر: إحسان عباس، اتجاهات الشعر العربي المعاصر، 1992)

المحور الثالث: الرؤية الجمالية والفكرية

1. أبولو الروسية

نظرت إلى الأدب بوصفه أداة لفهم الإنسان والمجتمع، وتبنت رؤية نقدية عقلانية تمزج بين الجمال والفكر. سعت إلى تأسيس نقد أدبي علمي يوازن بين الشكل والمضمون، ويعتمد على التحليل المنهجي للنصوص. كانت ترى أن الأدب مرآة للواقع، لكنه في الوقت ذاته وسيلة لتجاوزه نحو وعي أعمق بالوجود الإنساني.

(انظر: Bakhtin, The Dialogic Imagination, 1981)

2. أبولو المصرية

نظرت إلى الشعر كوسيلة للتعبير عن الذات والوجدان، وتبنت رؤية جمالية مثالية تمجد العاطفة والخيال. ركزت على التجربة الفردية والبحث عن الجمال المطلق، معتبرة أن الشعر رسالة روحية تسعى إلى السمو بالإنسان نحو المثال الأعلى. وقد انعكست هذه الرؤية في قصائد إبراهيم ناجي وأبي القاسم الشابي، حيث تماهى الشعر مع الحلم والحرية والبحث عن المطلق الجمالي.

المحور الرابع: الدراسة المقارنة بين المجلتين:

دراسة مقارنة بين النصوص الأدبية المنشورة في مجلتي أبولو الروسية والمصرية

تُعد مجلة أبولو المصرية (1932–1934) من أبرز المنابر الأدبية التي أسهمت في تجديد الشعر العربي الحديث، إذ أسسها الشاعر أحمد زكي أبو شادي لتكون صوتًا لحركة التجديد الرومانسي في الأدب العربي. أما مجلة أبولو الروسية (Аполлон)، فقد صدرت في سانت بطرسبورغ بين عامي 1909 و1917، وكانت من أهم المجلات الأدبية التي مثّلت التيار الرمزي في الأدب الروسي، واحتضنت كبار الشعراء والنقاد مثل ألكسندر بلوك وميخائيل كوزمين وأندريه بيلي.

يحمل اسم "أبولو" في كلتا المجلتين دلالة رمزية على النور والفن والإلهام، مما يعكس تطلع الأدباء في كل من روسيا ومصر إلى تجاوز المألوف نحو آفاق جمالية وروحية جديدة.

أولًا: الخلفية الفكرية والجمالية

نشأت أبولو الروسية في سياق ثقافي متأثر بالرمزية الأوروبية، حيث كان الأدب الروسي يبحث عن الروح والمعنى الماورائي في مواجهة المادية والاضطراب السياسي الذي سبق الثورة البلشفية. وقد عبّر ألكسندر بلوك عن هذا التوجه في قصيدته «الغراب» حين قال:

أما أبولو المصرية فقد ظهرت في مرحلة النهضة الأدبية العربية، متأثرة بالرومانسية الغربية، لكنها سعت إلى مواءمة الحس الجمالي الغربي مع الروح الشرقية والعربية. وقد عبّر أحمد زكي أبو شادي عن هذا التوجه في قصيدته «الطائر الحائر».

ثانيًا: الموضوعات الأدبية

في أبولو الروسية، تركزت النصوص على الروح، الغموض، الجمال المثالي، والبحث عن المطلق، وغلب عليها الطابع الفلسفي والتأمل الوجودي. كتب ميخائيل كوزمين في إحدى قصائده المنشورة في المجلة:

أما أبولو المصرية فقد تناولت الوجدان، الحنين، الطبيعة، الحب، والاغتراب الروحي، مع نزعة إنسانية واضحة تميل إلى التعبير عن الذات والعاطفة. يقول إبراهيم ناجي في قصيدته «العودة»:

ثالثًا: اللغة والأسلوب

اللغة في أبولو الروسية تميل إلى الرمزية الكثيفة، والإيحاء، والتجريد، مع استخدام الصور الغامضة والرموز الميتافيزيقية. يظهر ذلك في شعر أندريه بيلي الذي كتب:

أما اللغة في أبولو المصرية فهي أكثر شفافية وعاطفية، تمزج بين الموسيقى اللفظية والخيال الرومانسي، وتجنح إلى البساطة التعبيرية رغم عمق المعنى. كما يقول علي محمود طه في قصيدته «المساء»

رابعًا: البنية الشعرية والفنية

اعتمد الشعر الروسي في أبولو على الإيقاع الداخلي والرمز، مبتعدًا عن الشكل التقليدي، ومقتربًا من الشعر الحر في بعض التجارب المبكرة. وقد دعا كوزمين إلى "تحرير القصيدة من قيود الوزن لتصبح موسيقى الروح" (أبولو الروسية، العدد 9، 1914).

أما الشعر العربي في أبولو المصرية فظل محافظًا على الوزن والقافية، لكنه جدد في الصورة والمعنى، ومهّد لظهور الشعر الحر لاحقًا. وقد كتب أبو شادي في افتتاحية المجلة:

خامسًا: الدور الثقافي والتأثير

أسهمت أبولو الروسية في ترسيخ الرمزية الروسية، وكانت جسرًا بين الأدب الروسي والاتجاهات الأوروبية الحديثة، إذ نشرت ترجمات لأعمال بودلير ومالارميه، مما عمّق التفاعل بين الرمزية الفرنسية والروح الروسية.

أما أبولو المصرية فقد مثّلت نقطة تحول في الشعر العربي الحديث، ومهدت لظهور مدرسة الديوان ومدرسة المهجر، وأسهمت في بلورة الحس الفردي في الشعر العربي، كما أثّرت في شعراء لاحقين مثل نازك الملائكة وبدر شاكر السياب.

تُظهر المقارنة بين المجلتين أن كليهما حمل اسم "أبولو" رمزًا للجمال والفن والنور، وأنهما مثّلتا في بيئتيهما حركتين تجديديتين تسعيان إلى تجاوز التقليد نحو التعبير عن الذات والروح. غير أن أبولو الروسية كانت أكثر فلسفية وتجريدًا، بينما أبولو المصرية كانت أكثر وجدانية وإنسانية، مما يعكس اختلاف السياقين الثقافي والحضاري بين روسيا ومصر في مطلع القرن العشرين.

لقد التقت المجلتان في سعيهما إلى جعل الشعر وسيلة للسمو الروحي، وإن اختلفت لغتهما ورؤاهما، فكانتا معًا شاهدتين على أن الفن، في جوهره، بحثٌ دائم عن النور الذي لا يُطفأ.

 المقارنة التحليلية بين المنهجين

1. المنهج النقدي في أبولو الروسية

يقوم على التحليل العلمي للنصوص الأدبية.

يعتمد على أدوات فلسفية وسوسيولوجية.

يربط الأدب بالبنية الاجتماعية والفكرية.

يسعى إلى تأسيس نظرية نقدية متكاملة للأدب الروسي الحديث.

2. المنهج الشعري في أبولو المصرية

يقوم على التجربة الذاتية والوجدان الفردي.

يركز على الصورة الشعرية والموسيقى الداخلية.

يربط الشعر بالخيال والروح والجمال.

يسعى إلى تحرير الشعر من القوالب التقليدية.

3. نقاط الالتقاء والاختلاف

الالتقاء: كلا المجلتين تمثلان ثورة على السائد الأدبي في بيئتهما، وتسعيان إلى تجديد الخطاب الجمالي.

الاختلاف: أبولو الروسية نقدية عقلانية تحليلية، بينما أبولو المصرية وجدانية مثالية. الأولى تنطلق من الفكر نحو الجمال، والثانية من الجمال نحو الفكر.

النتائج العلمية والتوصيات

النتائج العلمية

أثبتت الدراسة أن مجلة أبولو الروسية أسهمت في تأسيس النقد الأدبي العلمي في روسيا الحديثة، وربطت الأدب بالتحليل الفلسفي والاجتماعي.

كشفت الدراسة أن مجلة أبولو المصرية كانت منطلقًا للحركة الرومانسية العربية، وأسهمت في تجديد اللغة الشعرية وتحرير الخيال العربي.

أظهرت المقارنة أن التفاعل بين الفكر والجمال يختلف باختلاف السياق الثقافي؛ ففي روسيا ارتبط النقد بالتحليل العقلي، بينما في مصر ارتبط الشعر بالوجدان والعاطفة.

بينت الدراسة أن كلا التجربتين تمثلان نموذجين متكاملين لفهم الأدب بوصفه ظاهرة إنسانية تتجاوز الحدود الجغرافية والثقافية.

أكدت النتائج أن الدراسات المقارنة بين الأدب العربي والعالمي تفتح آفاقًا جديدة لفهم التفاعل الحضاري والجمالي بين الثقافات.

التوصيات

تشجيع الدراسات المقارنة بين المجلات الأدبية العربية والعالمية.

توثيق التراث النقدي العربي وربطه بالتحولات الفكرية العالمية.

إدماج مناهج النقد المقارن في الدراسات الجامعية للأدب.

إعادة نشر وتحقيق أعداد مجلة أبولو المصرية والروسية لتيسير البحث الأكاديمي فيها.

تطوير منهج نقدي عربي حديث يستفيد من التجارب العالمية دون أن يفقد خصوصيته الثقافية.

***

د. خليل حمد الأزهري 

..........................

المراجع

أبو شادي، أحمد زكي. البيان الأبولي الأول. القاهرة، 1932.

إحسان عباس. اتجاهات الشعر العربي المعاصر. بيروت، 1992.

بختين، ميخائيل. الخيال الحواري. موسكو، 1981.

شوقي ضيف. الفن ومذاهبه في الشعر العربي. القاهرة، 1983.

Shklovsky, Viktor. Theory of Prose. Moscow, 1925.

Terras, Victor. A History of Russian Literature. Yale University Press, 1991.

Lotman, Yuri. The Structure of the Artistic Text. Moscow, 1990.

 

يحيل عنوان المجموعة الشعرية (عند منتصف الهذيان)(1) للشاعر علي اللبيب، إلى بنية ظرفية مكانية، تنفتح على نقطة التقسيم بين طرفين متساويين وهو المنتصف، والهذيان هو اضطراب يصيب الوعي؛ لأسباب كامنة في النفس، ويسبب الخروج عن المنطق والمألوف.. والعنوان ببنيته الظرفية هذه بوصفه فضاءً، وبنيةً قائمةً تعتلي هذه القصائد لتشتبك معها وتقتنص اللحظة الشعرية المناسبة غير المرئية بل المحسوسة.. (إن حبك يُوَلِّدُ في داخلي الكآبة / فلا تضجري / ولا تهربي / فأخيراً قد عرفتُ / أن حبك قد علمني الكتابة) فحضور الآخر طاغٍ في النص المؤكد بحرف التوكيد(إنَّ) ضمن تقنية التوازي الشعري المكرر (إن حبك يُوَلِّدُ في داخلي الكآبة / إن حبك قد علمني الكتابة) وقد ورد الجناس غير التام (الكآبة / الكتابة) كطفلين توأمين لهذا الحب.. ويقف الشاعر عن المنتصف لهذيانات حبه كي يحقق التوازن بين المألوف وغير المألوف إذ إن نقطة المنتصف دائماً توحي بالوسطية والاتزان في عالم شفاف كعالم الحب، وما يعتريه من هواجس قلق وشغف وخوف (أنا خائفة يا صديقي / ليس من الضياع / بل ما بعد ضياعي / الصمت يحرق أحلامي / الصبر يحرق أيامي / كما يحترق الدمع) فالضمير الذاتي للمتكلم (أنا) يؤكد خصوصية هذه الخوف، بل من الاستلاب الذي يكمن ما بعد الضياع، يشتغل الشاعر على الصورة الفنية بتوظيف استعاري جميل؛ إذا جعل من الصمت والصبر مادتي للإحراق حرق الأحلام والأيام..

وبهذا خلق نوعاً من التأثيرية الذهنية اليائسة.. فالإنسان المحروق الأحلام والأيام هو إنسان محطم وضائع.. يرسم لنا الشاعر حبيبته من خلال التشبيه والثنائيات الضدية (الطباق) كي يعطينا شدة الوله والوجد الصوفي (حبيبتي كالبحرِ في أفعالها / فمرةً معي ومرةً ضدي / ومرةً تضحكُ ومرةً تبكي / لكنني أحبها) فالشاعر بين مد وجزر معها وفي حالة حيرة من عدم استقرار حالتها معه.. فهو في حالة تأرجح معها وعلى الرغم من ذلك (لكنني أحبها) وتجدر الإشارة هنا أن توظيف حرف الاستدراك (لكن)

يؤكد استقراره على حبها على الرغم من حالة عدم استقرارها معه؛ وإن الأداة لكن كما هو معروف تفيد الاستدراك وإثبات حكم مخالف لما قبلها..

استعمل الشاعر كما أسلفنا في نصوصه الشعرية صوراً حسيةً ومعنويةً ورمزية وتناصية ومن الصور الرمزية التي تتجه صوب التصوف وخصوصية التجربة الشعرية عنده وتعطي شدة الإيحاء لعالمه الشفاف وإشراقه الروحي قوله (أتأملُ عينيك / فتطول رحلتي) فالجملة فيها طاقة تعبيرية كبيرة، فالـتأمل فعل يلازم طول الرحلة، لكن لا يهم طول الرحلة وعدم نهايتها، أمام العينين الجميلتين !!.. فهو هائم في متاهة هذيانه حتى لو كانت الرحلة طويلة.. أما التناص فقد جاء يعزف على أوتار الروح وبوحها (ووجهٌ مثلُ روما / كل الوجوه تؤدي إليهِ / سلامٌ من الله عليهِ) فالتناص واضح مع المثل المشهور كل الطرق تؤدي إلى روما.. فالوجه في الشعر هو هوية الإنسان التي تعكس مشاعره وجماله ومرآة للشخصية والروح فهو وسيلة للتواصل البصري والقلبي غير اللفظي.. فالشاعر في حالة بهجة وفرح لهذا الوجه الجميل، فهو يثني عليه ويدعو له بالسلامة.. الشاعر علي اللبيب لا يرهق قارئه بطول النص، فهو يجيد استعمال نبرة الكلمة وموسيقى الجملة

***

د. مثنى كاظم صادق

.........................

(1) عند منتصف الهذيان، نصوص شعرية، علي اللبيب، مؤسسة ثائر العصامي ط1 ـــــــــ 2016م. 

 

تحتفي قصة «سعلةُ أبٍ غائب» للكاتب والقاص الفلسطيني زياد خداش بلغةٍ رقيقةٍ ولحظةٍ بسيطةٍ ظاهرياً لتفتح أمام القارئ أفقاً واسعاً من الدلالات: الاغتراب، الذاكرة، الحضور/الغياب، ووزن الحنين في الوعى اليومي. تبدو السعلة كَعَلَمٍ صِغيرٍ يحمل طيفاً من الحضور المفقود، وكرمزٍ يجسّد علاقة الأجيال بالموت والغياب وبالآباء بوصفهم غياباً يحفر حركات الجسد واليوميات. تسعى هذه الدراسة إلى تفكيك بناء النص وظلاله الجمالية والفكرية والنفسية والاجتماعية وفق محاور نقدية منهجية، وربطه بإمكاناته الدلالية والمعرفية.

أولاً: الأسس اللغوية والبلاغية:

1. سلامة اللغة وبنية الأسلوب

اللغة في النص مشحونة ببساطةٍ قابلةٍ للاشتغال: جمل قصيرة، تواتر سردي متوازن، واستخدام طفيفٍ للانزياحات البلاغية التي لا تجهد القارئ بل تقوده نحو عمق الشعور. تركيب الجمل يميل إلى التكرار الدالّ (مثل «لا لا، مش هاي عمو») الذي يستدعي الموسيقى الكلامية ويجعل من العبارة طقساً صوتيّاً ذا معانٍ. يعمد الراوي إلى السرد الحافّ بالملاحظة اليومية بدلاً من استرسالٍ فلسفي؛ هذا الأسلوب يعزّز واقعية المشهد ويجعل انفعال المتلقي أقرب.

2. فصاحة اللفظ وملاءمته للموضوع:

الاختيار اللفظي بسيط ووافٍ: «سعلة»، «الطفلة الضرير»، «المدرسة»، «العمو» — كلمات شائعة تشتغل بتكثيف دلالي. هذا التناسب بين اللفظ والموضوع يمنح السرد قدرة على حمل تأويلات معتمدة على التداول العامي (الخطاب الشعبي/اليومي) مما يرسّخ مصداقيته الاجتماعية ويمنحه طابعاً إنسانياً دافئاً.

3. الإيقاع والمعمار الصوتي:

الإيقاع الداخلي للنص ينبني على تكرار جمل قصيرة وعبارات توقيفية (التقطعات، الاسترجاع المتكرر للمقطع «بدّي زي الأولى»)، ما يمنح السرد نغمة إيقاعية تشبه الهتاف أو النشيد الباطن. الصوتٌ السردي يقفز بين التذكّر والحدث الحاضر، فيخلق موسيقى داخلية تعتمد على صدى الكلام المتبادل بين الراوي والطفلة ومونولوجه الداخلي.

ثانيًا: الأسس الجمالية والفنية.

1. البنية الفنية للنص:

الهيكل السردي بسيط لكنه محكم: مشاهد متقطعة (اللقاء الأول، اللقاؤ اللاحق، سجال السعال في الصف)، وسرد يمتدّ عبر زمنين: زمن الحاضر والزمن التذكاري. الشخصيّة السردية ليست موضع تحليلٍ طويل؛ بل تُعرض انفعالاته وانشغالاته البسيطة المتولّدة عن حدثٍ صغير يتحوّل إلى مشتركٍ ذهني. التوتر الدرامي يتولد من تضادّ رغبة الطفلة في سعال «الراحل» ورغبة الراوي المقيمة في محاكاة ذلك، فتصير السعلة محور فعل وابتلاء.

2. الرؤية الفنية:

يبني خداش نصّه من منظار متسامع مع التفاصيل الصغيرة، مطموسٍ عن البلاغة الرنانة، معتمداً على «اللمح» لا «الشرح». هذه الرؤية تجعل من الحدث اليومي منفذاً لأفكار أوسع عن الوجود والذاكرة والغياب. الحوار السردي والعبارات المتكررة تعمل كآلية لتكثيف المعنى بدلًا من التوجيه المباشر.

3. الطابع الإبداعي والانزياح الجمالي:

الانزياح الجمالي في قصة زياد خداش يكمن في منح «السعلة»، وهي فعل جسدي تلقائي، صفةُ علامةٍ تاريخية ومعرفية. هذا النقل الاستعاري يعيد تشكيل الرمز: من عطية جسدية إلى مفتاح ذاكرة، ومن سلوك عابر إلى مرجعٍ للهوية. قدرة النص على صناعة الدهشة تنبع من إبقاءه على بساطة السرد مع ضخّ أوهام دلالة واسعة تحت سطح الكلمات.

ثالثًا: الأسس الفكرية والفلسفية:

1. الموقف الفكري للنص:

قصة «سعلة أبٍ غائب» تطرح سؤالًا وجودياً هشّاً: كيف يعالج الإنسان غياب من أحبه؟ وكيف تستحضر الذاكرة غياباً متلبّساً بأفعالٍ صغيرة؟ النص لا يقدم إجابات، بل يقيم حالةً معرفية حيث يصبح الحاضر معرضاً لتمثّلات الماضي التي تخترق الفعل اليومي.

2. الأفق المعرفي والمرجعيات:

يمكن القراءة ضمن سياق أدب الذاكرة والغياب في السرد الفلسطيني والعربي عموماً، حيث تصبح الأشياء الصغيرة مماثلاتٍ لندوبٍ تاريخية. النص يشترك مع تقاليد الذاكرة الأدبية في إضاءة تفاصيل يومية لتجسيد غياب أكبر؛ لكنه يلفّها بلغة حميمية لا تصعد إلى الخطاب السياسي المباشر.

3. هيرمينوطيقا النص:

السعلة هنا علامة متعددة الطبقات: تذكّر، شوق، عبء، وأحيانًا محاكاة فاشلة. بطبقاتها المتراكبة، تكشف عن شبكة من المعاني التي تتقاطع مع أزمات الهوية والذاكرة الفردية والجماعية، وتدعو إلى قراءات تأويلية تراعي التداخل بين الجسد والرمز.

رابعًا: الأسس التاريخية والثقافية:

النص يستند إلى بيئة يومية محددة: مدرسة، شارع، صوت طفل. إن انتماء الكاتب إلى فضاءٍ فلسطيني يضفي احتمالًا لقراءة السرد كقراءة عن غياب الأب (أو الرموز الأبوية) في سياق تاريخي واسع: الهجرة، الاحتلال، الحرب أو التشرّد. لكن النص يحرص على الاحتفاظ بعموميته الإنسانية، فلا يربط السعال مباشرة بموقف تاريخي محدد بل يجعله علامة على الحضور/الغياب العام.

خامسًا: الأسس النفسية:

1. البنية الشعورية:

النص يمسك بملامح الشعور الخفي: قليلٌ من الحزن، الكثير من الحيرة والحنين. إحساس الراوي بالقصور (محاولة السعال التي لا تشبه «الأصل») يعكس شعورًا بالعجز أمام تجارب الآخرين وبقيمة «التقليد» كوسيلة لاستعادة حضور مفقود.

2. تحليل الشخصية السردية:

الراوي يبدو شخصية متأملة، متأثرة، وربما مذنبة أو مشتتة. تفاعله مع الطفلة يكشف عن رغبة في ملء فراغٍ أو إثبات حضور. الطفلة بوصفها «الضريرة» تتحول إلى مرآةٍ «بريئة» لغياب الأب، ولغة طلبها «بدّي زي الأولى» توحي برغبة في استعادة ذاكرة عاطفية لا تحتمل الردّ الوظيفي.

3. النبرة النفسية:

تسودها الحسرة والحنين، مع مسحة من المضحك/المحرج في محاولات الراوي السخيفة لاجتذاب «صدى السعال»، ما يخفف وطأة النص ويمنحه إنسانية متألمة.

سادسًا: الأسس الاجتماعية والسوسيولوجية

النص يرصد تداخل الأدوار الاجتماعية (الشارع، المدرسة، المارة) مع المظاهر الفردية. حضور الطفلة في الفضاء العام كجسد يطالب «الاعتراف» بحقائق عائلية (صدى الأب الغائب) يفضح مدى تداخل الفردي والاجتماعي: الألم الخاص يصبح مطلبًا عامًا، والذكريات تصبح امتدادًا لعلاقات اجتماعية مبتورة أو مشتتة.

سابعًا: الأسس السيميائية

الرموز الأساسية: «السعلة» (علامة-مفتاح)، «الطفلة الضرير» (براءة، رؤية داخلية للغياب)، «المدرسة» (مكان التعلم/التواصل مع المجتمع)، وعبارة «بدّي زي الأولى» كلفظ طقسي يحيل إلى صورة مفقودة. تحليل هذه العلامات يبيّن أن النص يبني نظاماً رمزياً يربط الجسد بالذاكرة، الصوت بالهوية، والنداء بالاستدعاء.

ثامناً: الأسس المنهجية

يمكن تطبيق مناهج متعدّدة على القصة: منهج هيرمينوطيقي للكشف عن طبقات الدلالة، منهج سيميائي لتحليل العلامات، ومنهج نفساني لفهم دوافع الراوي. الدراسة هنا اعتمدت مقاربة تكاملية تضع النص في تقاطعات لغوية ونفسية وثقافية؛ ومن المنهجية المقترحة التزام الصرامة النصية وعدم القفز إلى استنتاجات تاريخية غير مفسّرة.

تاسعاً: الأسس الإنسانية والجمالية العليا

قيمة النص تكمن في قدرته على تحويل فعل يومي بسيط إلى منظومة دلالية إنسانية عامة: عنف الطفل في طلبه لسعال الأب الغائب ليس مجرد لفتة طفولية، بل نداء لإعادة ترتيب وجود، ونجاح النص في فتح مساحة واسعة من التعاطف يجعله عملًا إنسانياً بامتياز: يحضّ القارئ على التفكير في طرق الذاكرة الحيّة وكيف تتجسد في الأصوات والأجساد.

خاتمة:

تُعدّ «سعلةُ أبٍ غائب» نموذجًا مكثّفًا لقصة قصيرة تنجو من بساطتها الظاهرة بفضل قدرة الكاتب زياد خداش على نسج دلالات عميقة من حدث عابر. حيث يمكنني اقتراح التالي:

1. قراءة مقارنة مع نصوص تتناول الغياب الأبوي في السرد الفلسطيني والعربي لاستخراج مشترك سماتيّ ودلاليّ.

2. توظيف تحليل سيميائي معزّز بمقابلات ميدانية إن أمكن، لفهم كيف يتشكل معنى «الصوت» في الذاكرة الشعبية الفلسطينية.

3. دراسة أثر البساطة اللغوية في تكثيف المعنى: كيف يسمح التقشف اللفظي بامتداد الدلالة.

4. بحث في الوظيفة الأخلاقية للنصوص القصيرة التي تحول لحظات يومية إلى فسحات تأملية في الوجود.

تنجح قصة زياد خداش إذًا في أن تجعل من «سعلة» ما يشبه تاريخًا مختزلًا: ذاكرةٌ صغيرة، لكنها كافية لتخلق زلزالًا داخليًا يحرك مسارات الألفة والغربة داخل النفس. وهذه هي حرفة القاصّ الحقيقي: أن يرى في الأجزاء الصغيرة خريطةً للعالم، وأن يجعل القارئ يقف عند نقطة واحدة طويلاً لعلّه يرى ما لم يره قبلها.

***

بقلم: عماد خالد رحمة - برلين

..........................

زياد خداش: سعلةُ أبٍ غائب

"البنت الصغيرة جدّاً، البنت الضريرة، تهمُّ بدخول مدرستها، بطيئة، مبتسمة. أمشي أنا باتّجاه مدرستي، وحين حاذيتها، صدرت عنّي سعلة سريعة وعنيفة، سمعتها تقول بصوت صغير: “ياه، كم تشبه هذه السعلة سعلة المرحوم أبي، أرجوك، اسعل مرّةً أخرى يا عمو”.

ابتسمت، حاولت أن أعيدها، لكنني لم أنجح؛ فالسعال ليس فعلاً إراديّاً كما نعرف، افتعلتُ سعلة سريعة، لكنها رفضتها قائلةً: “لا لا لا، مش هاي يا عمو، بدّي زي الأولى، أرجوك زي الأولى”.

مشت باتّجاهي وهي تنظر إليَّ محاولةً توقّع اتّجاه وجهي، اعتذرت منها بارتباك، ومشيت. صرت كلّما تهيّأت لسعال حقيقي في أيّ مكان، أتذكّر ملاكي الضرير وأتحسّر؛ لأنني لستُ أمامَها.

في صباح آخر، رأيتها تخطو باتّجاه بوّابة مدرستها ببطءٍ جريحٍ وناعم، بطء مليء بالنداءات، بطء يمسك بيد ابتسامةٍ غريبة، فحواها اعتذارات للشارع؛ لأنها مشت عليه، وللمارة؛ لأنها شوّشت طريقهم، ولسائقي السيارات؛ لأنها أبطأت حركتهم، وللهواء؛ لأنها قضمت منه جرعتين أو ثلاثاً، وللوجود؛ لأنها شقّت فيه حيّزاً لأنفاسها وحضورها الجسدي.

مرّةً داهمتني في الصف نوبة سعال شديدة، ركضتُ بسرعة باتّجاه مدرستها، وهناك أمام مدرّسيها وزملائها نزفتُ كلّ مقدرتي الطبيعية وغير الطبيعية على السعال. وكانت الدنيا كلّها تصرخ في أذني: لا لا، مش هاي، مش هاي عمو، لا لا، مش هاي عمو، مش هاي، بدّي زي الأولى. بدّي زي الأولى."

 

أستهل مقالتي هذه بكلمات اهداء الدكتور جمال العتابي التي كتبها في النسخة التي أرسلها لي من العراق مع أخيه وصديقي صفاء العتابي: " عزيزي سناء، أخيرا ستدخل منازلنا لأنك واحد منا. محبتي. التوقيع جمال في 3/11/2025 ". وأود أن أضيف أن المرحوم والدي عبد القادر مصطفى الموصلي حينما عمل في الفترة الزمنية 1936-1956 في ديوان عشائر لواء المنتفك التابع الى متصرفية لواء المنتفك، كان قد زار بحكم عمله معظم هذه المناطق الواردة الذكر في رواية منازل العطراني والتقى بأهاليها وشيوخها مثل الشيخ بدرآل رميض. أتذكر ذلك من أحاديث المرحوم والدي في جلسات سمر العائلة في بيتنا في محلة السراي بمدينة الناصرية في خمسينيات وستينيات القرن الماضي.

تعتبر رواية منازل العطراني من كتب السير الذاتية التي تستحق الوقوف عندها والكتابة عنها لأنها تعكس سيرة ذاتية لعائلة مناضلة نذرت نفسها للنضال الوطني وقدمت شهيدا منها لمستقبل العراق. ونظرا لأهمية هذه الرواية التي انعكست في عدد الأشخاص اللذين قرأوها وكتبت عنها الصحافة العراقية قام الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق بإعادة طباعتها مرة ثانية وهذا واضح من العبارة الموجودة على الغلاف (الطبعة الثانية). والشيء الطريف في هذه الرواية أن الكاتب لم يذكر تواريخ تسلسل الأحداث التي يمر بها بطل الرواية وعائلته وبقية شخوصها اللذين هم أقارب وأصدقاء محمد الخلف أبو خالد. القارىء اللبيب يفهم ذلك بسهولة وخصوصا اذا كان القارىء عراقياً.

أن ارتباط الانسان بالمكان مسألة تاريخية موجودة منذ قديم الزمان وما قيام الحضارات العالمية وأولها سومر التي قامت في لكش وأور و أوريدو إلا دليل تاريخي على ذلك. ولهذا نرى أن محمد الخلف سوف يلجأ الى مسقط رأسه، منطقته القديمة للاختباء فيها، ألا وهي العطرانية التي ولد وترعرع فيها وقام بتدريس تلاميذ المدرسة الوحيدة في المنطقة.

- " أين المسار؟ بعد أن بت ليلتك في بيت أحد أصحابك المعلمين في الكوت، أصبحت طليقا الآن، قالها محمد الخلف بحيرة وذهول، مازلت في ملابس السجن!!" (ص5). بمثل هذه الكلمات يبدأ الدكتور جمال العتابي أبو فرات روايته منازل العطراني لسجين هرب من السجن والتجأ الى بيت أحد أصدقائه القدامى الذين عمل معهم في سلك التدريس في احدى المدارس في جنوب العراق.

يفهم من التسلسل التاريخي لأحداث الرواية بأن محمد الخلف هو الشخص الرئيس ومحور الأحداث التي تدور حولها الرواية، هو معلم سابق نشط سياسيا ولديه عائلة كبيرة تتكون من زوجة (ربة بيت) وعشرة أبناء (ص17).

أرسل محمد الخلف رسالة الى أهله في بغداد بيد نوار من مكان اختبائه في العطرانية. "مضى نوار الى العاصمة مسرعا، من دون أن ينتظر أحدا يودعه من العائلة، سوى محمد الخلف يلاحقه بنظراته حتى توارى"(ص 32).

ما أن وصل نوار مرأب ساحة الأمين في مركز بغداد (وهو مرآب مشهور منذ خمسينيات القرن العشرين كونه موقفا لسيارات نقل الركاب الكبيرة بين الناصرية وبغداد) حتى صار يسأل المارة عن المظلة التي وصفها له محمد الخلف. كان محمد الخلف قد رسم له مسالك الطريق من ساحة الأمين الى الكاظمية ثم الى مدينة الحرية في الشارع المقصود، في أول مظلة وقوف لباص المصلحة في زقاق كذا المقابل لها، البيت العاشر على اليسار"(ص 36).

وبعد جهد جهيد تمكن نوار أبو عباس من العثور على بيت محمد الخلف أبو خالد الذي يتكون من ثلاثة غرف، تشغل عائلة الخلف غرفتين، أما الغرفة الثالثة فكانت مستأجرة لحسنة وزوجها السائق الكهل مزبان الذي يقضي معظم ساعات اليوم في العمل المرهق(ص37).

قام نوار بتهدئة زهرة زوجة محمد الخلف من روعها وخوفها إذ قال لها :" لا تخافي، هو بخير! كررها لمرات، اهدئي قليلا، على مهلك محمد طيب وموجود، أقسم لك بالسيد أبو الماش" (ص 39).

بعد أستمع الجميع لرسالة رب الاسرة وشرح نوار كيفية هروب أبو خالد من سجن الكوت طلب شايا ًساخنا ليرتاح من عناء السفر والبحث عن بيت محمد الخلف.

شرحت زهرة أم خالد كيف استطاعت الاسرة تدبير أمورها المعيشية بعد اعتقال رب الأسرة. انقطع خالد عن الدراسة وبقي في البيت خوفاً من الاعتقال، محسنة انصرفت للخياطة ليل نهار بأجور توفر بعض احتياجات العائلة اليومية كما قام عامر منذ الصباح الباكر يبيع الصمون في الأزقة على دراجته الهوائية. أما عادل وهو الأصغر في العائلة فقام ببيع السمسمية (ص40).

بعد الحديث بإسهاب عن وضع العائلة المادي وتقليص المصروفات الشهرية والاقتصاد بنفقات المعيشة وذلك بالاكتفاء بما هو متيسر من المواد الغذائية في المنزل والتقشف في احتياجات المعيشة. قال نوار: " أختي زهرة، رتبي حالك للسفر غدا ً أو بعد غد الى العطرانية بسرية تامة وحذر، محسنة بنت شاطرة قادرة على تدبير شؤون البيت بغيابك، لا أريد أن اتأخر عن محمد أكثر من هذا، صار معلوم!" (ص41).

في اليوم التالي توجهت ام خالد وخالد والبنت الرضيعة ليلى الى مرآب السيارات المتوجهة الى الجنوب (كراج النهضة) على الرغم من هطول المطر. الوضع السياسي في البلد صعب والاعدامات مستمرة و " هستيريا الحاكم العسكري لا تتوقف، الاعدامات لا تحتاج مصادقة رئاسة الجمهورية، نهج تعسفي شرعته وتوارثته حكومات الانقلابات، العهد الجمهوري يدشن سجله بمجزرة، وتتواصل تصفيات الخصوم والمعارضين ورفاق الأمس، الحناجر بحت من ترديد شعارات الثأر (ثار... ثار.. حديد ونار)، أساليب لم تكتف بالموت، يتبعها سد نوافذ الحياة بالفصل أو العزل عن الوظيفة " (44). يفهم من النص بأنه وصف واقعي تاريخي لأحداث دموية مرت بالعراق في العام 1963 بعد انقلاب شباط الأسود.

في رواية منازل العطراني وصف جميل ورائع لأجواء الجنوب العراقي وخاصة المناطق المحيطة بنهر الغراف منذ بدايته بعد سدة الكوت حتى مدينة الدواية والعطرانية التي هي جوهر هذه الرواية الشيًقة. يتمتع أبو فرات بملكة أدبية على مستوى عال من الدقة حيث يوجد وصف دقيق لمناخ ومزاج سكان منطقة العطرانية التي تحتل وتشمل جزء كبير من الر واية.

كان لقاءا حميميا بين محمد الخلف وعائلته بعد فراق طويل، انهمرت دموع زهرة زوجة محمد الخلف، ضمها محمد الى صدرة وطبع قبلة على جبينها ومسح بأصابعه حبات دموعها وساد جو من الهدوء حين اجتمعت العائلتين (عائلة محمد الخلف وعائلة نوار) وتحسس أبو خالد نشوة اليقظة العذبة التي افتقدها منذ زمن طويل(ص46).

يعتبر راديو الترانسستور الذي حصل عليه من أحد أقاربه مصدر الوحيد والمهم الذي يعرف بواسطته أخبار العالم والعراق خاصة طالما هو حبيس الكوخ الذي يسكن فيه. فهو" ينام ما تبقى من ساعات الليل، فأخبار الراديو لا تجلب له السعادة بل تعمق كآبته "(ص87).

لم يهمل جمال العتابي أن يعكس في روايته العلاقات الإنسانية بين الزوج وزوجته في خضم ظروف الاختباء من عيون رجال ووكلاء الأمن في مكان اختبائه في العطرانية على ضفاف نهر الغراف. وهذا ما نقتبسه من الهمس الليلي في ظلام دامس بين محمد الخلف وزهرة:

" بلغ صوت تنفسها أذنه في ذلك الظلام.

- نعم زهرة..

ألقت نفسها بجانبه لتسأله:

- لم أطفأت الضوء؟

- لأفكر!

- تلقفت شفاهه بقبلة طويلة والظلام يحيط وجهها من كل جانب، وعيونه مغمضة،

ضمته بين ذراعيها واستقرت ملتصقة به، ومازالت تحيط رقبته بقبلاتها تدفن وجهها فيه، وهو يحملق في فضاء الكوخ انحسر ثوبها الى الأعلى بإغراء وقبلته بعنف، لكن محمد أزاحها برفق ونهض، مد يده ليشعل شمعة فغمر المكان ضوء خفيف شاحب، نظر من خلاله لوجهها، كانت لمحة من شجن تفيض منه، وخصلة من الشعر المجعًد تسقط على جبهتها.

- هل أزعجتك؟

- كلا!

- لكن الحزن يطفو فوق عينيك؟!

اقترب منها فضمها بحنان إلى صدره قبًل رأسها، مال زال الحزن يملأ وجهها البريء.

- تأخرت كثيرا، لأذهب الآن.

- من الأفضل أن تبقي معي هذه الليلة، أرجوك!

- لن يتسع فراشك لنا!

- سأمد لك بساطا آخر بجانبي.

توسًدت يده وهي تتأمل وجهه، ثم أطفأ ضوء الشمعة "(ص 87-88).

بعد اعتقال طويل لمدة سنتين تقريباً، أفرجت السلطة عن خالد في شهر تشريني بارد بعض الشىء. الحي الذي تسكن فيه اسرة محمد الخلف شبه فارغ، يضم بيوتا أشبه بأكواخ تقع في الطرف الغربي من الحي. تعجب أخوة خالد الصغار حينما دخل البيت وهو يحمل فراشا على كتفه وصرة ثيابه تحت ابطه لأنهم نسوا شكله وتغيرت ملامح وجهه (ص95).

كان لقاءا حميميا بين الاخوة وحينها سأل خالد محسنة عن أمه، جاوبه عامر بأن أمهم تعمل في معمل النسيج وستعود بعد ساعة من الان. أوصتهم الام بأن يقفلوا الباب ولا يخرجون من البيت.

عادت الأم بعد الظهر الى البيت وبعد العناق واللقاء الذي صاحبه بكاء الام زهرة وخالد ولم تصدق الام عودة خالد إليهم سالما. قال خالد لأمه وهم حول مائدة الطعام بأنها منذ الآن غير مسموح لها بالعمل في مصنع النسيج ويكفي ما تحملت هذه الام المكافحة والصبورة على مقابلة الشدائد وتحمل العذاب(ص97).

تمكن محمد الخلف من الوصول الى بغداد بعد أن قام ابنه خالد وجابر ابن اخته بتصويره وعمل هوية مزورة بصورة الملابس القروية التي تمكن بواسطتها من عبور نقاط التفتيش المنتشرة على الطرق البرية وخصوصا بين بغداد والكوت(ص108). ويتذكر أبو خالد لحظات توديع نوار وبقية الاهل والأصدقاء اللذين قاموا بإوائه لعدة شهور في العطرانية.

" امض في طريقك امض، ها انت في المدينة تركت وراءك الريف، الحفرة، العطرانية، عواء الكلاب الهرمة، هاجمتك الشيخوخة مبكرا، استوطنت الأمراض في جسدك، كان دجلة يصطخب ويفور كأنه بحر متلاطم الأمواج، عن أيما هدف تبحث الان، الغزاة دخلوا بيوتنا وأفكارنا، لقد لازمني التعب، كيف أواجه أهلي بهذه الحال؟. خفق قلبي بعنف، اجتاحتني الرهبة ثم الفرح حين توقفت السيارة، في مدخل الزقاق، مشيناه خطوة خطوة، صار علي أن أسأل عن ً الهدوء في انتظار دخول الدار بيتنا، تراجع عني حميد متصنعا الهدوء في انتظار دخول الدار معا " (ص115).

بهذه الكلمات والجمل تبدأ مرحلة جديدة من حياة محمد الخلف في بغداد مع عائلته التي التم شملها مرة أخرى بعد مرور سنين طويلة من الفرقة والغربة في مدن العراق المختلفة والاختباء في ريف الجنوب العراقي وفي متون وعلى ضفاف نهر الغراف الخالد.

كان لقاء الأب بعائلته حميميا وبعد أن سلم على خالد وهدية وأمل وعامر وعادل، توجه الى زوجته زهرة وجرى بينهما الحديث التالي:

"هل كنت وفية على العهد يا محمد؟ كن صريحا تزاحمت الكلمات في فمه، كل كلمة تحاول أن تصرخ أعلى من الاخرى، قال لها: - وفية فقط..؟! أنت أكثر من ذلك، أشجع نساء العالم أنت صبورة ومكافحة بشكل لا مثيل له فقد أثقلتك الجراح، تعلمت على يديك الدرس دعيني أقبل جبينك، أطيل هجوعي أمام يدك بمحرابك القدسي المهيب أصليِ لك صلاة ابتهال، ألتمس السماء أن تهبك ِ الصحة والقوة، تركتك وحدك كنت واقفة بثبات يشحب في عينيك القمر، قلت لها بحنان ممزوج بالمرارة: ليتني أرد َين لك ما في عنقي من دين لك"(ص128).

تمكن خالد من اكمال الإعدادية وبمعدل جيد يؤهله للقبول في كلية التربية وليصبح طالبا جامعيا. عمت فرحة كبيرة في بيت محمد الخلف مع زغاريد قوية ملأت البيت من أم خالد.

مرت السنين بسرعة وتغيرت الأحداث في خضم البحث عن عمل يناسب محمد الخلف، ولكن كيف وهو الملاحق أمنيا وسياسيا. عمل بضعة أيام في صبغ الدور والبيوت السكنية ولكن بعد تعرضه لحادث سير وهو يسوق دراجته الهوائية أقعدته البيت لعدة أيام. اشترى خالد له من سوق السراي ببغداد لوازم وعدة الرسم من فرشات وألوان وأوراق ليرسم كما كان سابقا أيام عمله في التدريس وحتى كان يحنط الحيوانات والفراشات وقتذاك.

قام محمد الخلف بعرض لوحاته في مركز الفنون في الكرادة لبيع الاعمال الفنية عسى ان تلقى لوحاته القبول في سوق بيع الأعمال الفنية التشكيلية (ص147) ويحصل على دخل متواضع يساهم في تغطية مصاريف الحياة اليومية للعائلة الكثيرة العدد من الأولاد والبنات.

" كان خالد يمسح العرق عن جبينه، حين دخل المنزل مسرعا وقف أمام أبيه : - منذ الصباح كنت في غاية الفرح والسعادة حين أخبرني صديقي ً سليم، أن عليك الاستعداد بعد غد للالتحاق بعملك الجديد، أمينا َ للمخزن في شركة رست عليها مقاولة بناء منشآت معمل الزجاج في الرمادي " (ص163).

" تذكر أن عليك مراجعة المركز الصحي للحصول على شهادة التطعيم ضد الكوليرا. كان البلد في حالة مواجهة مع أزمات سياسية واقتصادية، ً في ً عاليا وصحية كذلك، إذ شهدت أجهزته الصحية استنفارا التصدي لوباء الكوليرا الذي اجتاح البالد، ينصرف الناس صباح كل يوم إلى الوقوف طوابير طويلة أمام المراكز الصحية انتظارا للتطعيم، غير آبهين بالصراع على السلطة بين العسكر والمدنيين في ظل حكومة ضعيفة " (ص164).

سأل محمد الخلف ولده خالد:

" - أية وصايا لي من سليم؟

- معلومات تتعلق بمهامك في المشروع، مرتبك الشهري وأخرى عن موقع العمل القريب من ناظم الورار المتفرع من نهر الفرات، المشروع يضم عددا من المغضوب عليهم مهندسين، فنيين من المفصولين والمعتقلين سابقا من جماعتك، مدير الشركة رجل نبيل اختار فريق العمل من صنفه لينتشلهم من البطالة، أنا متأكد أنك سترتاح معهم كما هي فسحة تنقلك الى أجواء أخرى بعيدا عن العاصمة وزحامها، وعيون الرقابة مع أن الحذر مطلوب هناك " (ص166). عقد أبو خالد علاقات صداقة جيدة مع بعض الموظفين في العمل ومنهم أبو طه العسكري المفصول من وظيفته (ص168).

كان وقع خبر استشهاد خيون أخ أبو خالد له تأثير كبير على نفسيته حتى أن أم خالد انتقدت خالد على اخبار والده بالحدث الجلل ولكن خالد قال لأمه، أن الخبر نشر في وسائل الاعلام المختلفة في داخل العراق وخارجه كما تحركت قطعات الجيش والشرطة الى مكان الحادث.

أتذكر ذلك جيدا وكانت الأخبار تصلنا الى بغداد في ربيع العام 1967من أصدقائنا في مدينة الناصرية التي كانت طريقا لقوات الجيش القادمة من بغداد. كما نسجت الكثير من القصص عن بطولة الثوار في منطقة أهوار الغموكة في قضاء الجبايش التابع الى لواء الناصرية آنذاك. وقد أصدر المناضل عقيل حبش الذي ساهم مع الشهيد خالد أحمد زكي في التنظيم وفي المعارك كتابه الموسوم : نشيد الموت – شهادة حية من لهيب المعركة الصادر في العام 2018 من قبل دار ورًاقون في البصرة.

" أين يكمن الخطأ ؟ يجاوب طه على السؤال:- بصراحة أقول يا محمد، أن تجربتنا سلسلة من الأخطاء المترادفة، بتقديري أن الصيغة الأبلغ للسؤال هي: من المسؤول؟ كلنا يعرف أسرار نجاح المرء في قدرته على تحمل المسؤولية، من السهل تجاوزها لكن لن نستطيع أن نتفادى النتائج المترتبة على الفشل، تأكد أن الاعتراف بالخطأ سيوفر آلاف العلاجات، وقيمة المراجعة إذا ما صدرت عن ضمير صادق، انها تنصف أولا جيلا من رجال الثقافة الانسانية المنفتحة " (ص172).

بعد التخرج من الجامعة نسب خالد للعمل في الفلوجه وصديقه سليم في ديالى. ذهب خالد الى البيت ليزف لهم خبر التعيين. قال خالد لأمه:" خذيني أليك، أعطني كفيك أقبلهما. جاوبته أمه:

- الله يزيل همًك ولدي، ويفرحك دائماً " (ص183.

" بعد ان تغير الوضع السياسي في العراق منذ شهر تموز العام 1968 أصبح بمقدور محمد الخلف إكمال معاملات العفو بعد نشر القرار في الجريدة الرسمية، ومراجعة وزارة المعارف لغرض الاسراع في عودته للوظيفة معلما في احدى المدارس "(ص187).

اقترح محمد الخلف أن ينتقلوا الى دار سكنية أوسع وأحدث ولاقت الفكرة استحسان جميع أفراد العائلة. قال لهم أرجو أن تتكفلوا مهمة البحث عن بيت يقع في منطقة جيدة، ريثما يعود من العطرانية بعد أن يحضروا مراسيم الفاتحة على روح أخيه خيون (ص188).

بعد انتظار دام بضعة أشهر " ألقى محمد الخلف نظرة سريعة على الجريدة التي نشرت قرارات أسماء العائدين إلى الوظيفة بعد إسقاط محكومياتهم، وهو يرتشف شاي الصباح، غمر الأسرة فرح رفرف فوق الوجوه، شرع الزوار يتدفقون طيلة النهارعلى البيت لتهنئة أم خالد من دون ضجيج "(ص205).

التحق أبو خالد بعمله الجديد في احدى المدارس الابتدائية حيق يقوم بتعليم الأطفال القراءة والكتابة. وفي وقت الفراغ يذهب للتمشي في المتنزه مساءا. شعر بأنه اكتسب حياة جديدة لا مكان فيها للخوف وحتى الموت. يرفع رأسه ببطء ليرى سليم أمامه ينتظر منه السماح بالجلوس جنبه. شكره في البداية على تشغيله أيام المحنة، جابه سليم بأن الجماعة هم اللذين تفضلوا عليه بالعمل في مشروع بناء مصنع الزجاج في الرمادي. والذي قام الاتحاد السوفيتي ببنائه وتشغيله وهو أحد مشاريع الاتفاقية الاقتصادية بين العراق والاتحاد السوفيتي التي وقًعت في العام 1959. (حينما كنت طالبا في السنة الرابعة والأخيرة من قسم الاقتصاد بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية قمنا بزيارة لهذا المصنع في ربيع العام 1972).

عرض عليه سليم بالعودة الى الجماعة! وحدد له موعد لإعطاء رأيه بعد ثلاثة أيام. يصاب محمد الخلف بذهول كبير ولم يتمالك نفسه وتذكر أيام السجن والتعذيب. وبعد لقاءه بسليم في المقهى بعد ثلاثة أيام اعتذر عن العودة الى التنظيم لأنه في حالة صحية ونفسية لا تؤهله بالعمل مرة أخرى في العمل الحزبي. افترق الاثنين على أمل أن يستمرا في علاقة جيدة بعضهما لبعض وحيث قال محمد الخلف لسليم : أعدك أني سأكون حريصا َ جدا على صداقتي بك وفيا لها. ابتسم في وجهي، غمرني بوجوده، وربت على كتفي.. أخذت يديه بين يدي وانسحبت بهدوء وقد جلًل المكان صمت مؤثر." (ص209).

لم يوفق عادل في السفر الى خارج العراق، إذ قامت شرطة الحدود باحتجازه لمدة من الزمن ومن ثم أطلق سراحه بعد ان دار بينه وبين الضابط الحديث التالي:

"- أنت ممنوع من السفر، لست وحدك إنما كل أفراد عائلتك

- هل بإمكاني معرفة السبب ؟ -

- لا تسأل أسئلة سخيفة! تسكت وكفى!

- هل أنا معتقل؟ أرجو أن توضح لي حضرة الضابط؟ أنا لم ّ أرتكب جناية أو جنحة، هل قراءة الكتب جريمة أستحق عليها المنع من السفر ؟ -

- ستعود بأول قطار نازل إلى الموصل، عفونا عنك لأنك لا تنتمي لتنظيم معاد لـ“الثورة“! والا كان الطمر في انتظارك " (ص214).

" التحق عامر وضياء بالعمل في القسم الفني شريكان لشقيقهما خالد في الميدان نفسه، يراقب ويتابع جاحهما في المهام الموكولة لهما، إلا أن الدهشة كانت تتملكه حين يتساءل عن أسرار الابداع التي تفجرت لدى عامر على وجه الخصوص بوقت مبكر: نحن الاخوة جميعا اكتسبنا تجربة العمل خبرة وتميزا، من دون دراسة نظرية في معهد أو كلية تؤهلنا لمنافسة ذوي الاختصاص، زملاؤنا في العمل يصفوننا أننا خريجو ( مدرسة محمد الخلف) الامر مختلف لدى عامر بيننا، يبدو أن في عروقه يسري دم ينبض بالفتوة والشباب تقوده الاحلام لعالم جديد، تستقبله الصحافة فتفتح له أفقها الفسيح، يحتضن العالم في ورق ماكيت جريدة أو مجلة "(ص216).

في احدى الامسيات وبعد أن انتهوا من العمل في جريدة الحزب انطلقا كالعادة لقضاء سهرة في احد الأماكن، قال ضياء لعامر - ما أقدمت عليه السلطة لم يعد يحتاج إلى دليل، مهاجمة بناية الجريدة وضعت الجميع أمام خيار صعب، أما الاستسلام أو الهرب.

مرت الأيام والسنين وبعد نشبت الحرب العراقية-الإيرانية 1980-1988 التي لا ناقة لنا فيها ولا جمل وسميت بالحرب العبثية من قبل الشعب العراقي، التحق عادل ولبيد بجبهات القتل بعد شمول مواليدهما بالخدمة العسكرية.

قال محمد الخلف، حربهم ليست لنا ناقة في رحاها ولا جمل، أية حرب والبلد غارق بالأسى والجنون؟ لماذا تتجه هذه البلاد نحو الكارثة؟ لماذا يعاقب أهلها بهذه الدرجة من القسوة؟ لماذا يغتني الغرباء من حروبها الخاسرة؟ كأن قدرنا أن ننشد طوال حياتنا: ”يا أهلاً بالمعارك! “ (ص221). كما كان يغني المطرب المصري المرحوم عبد الحليم حافظ.

بلغ عدد ضحايا الحرب من الجانب العراقي نصف مليون والجرحى حوالي المليون من المدنيين والعسكريين. أنا أسميتها بحرب البسوس. ( وقعت هذه الحرب بين قبليتي من قبائل العرب حيث وقعت بين قبيلة تغلب بن وائل وبعض حلفائها ضد بني شيبان من قبيلة بكر بن وائل. كما يرجع تسميتها بهذا الاسم نسبة إلى امرأة كانت تدعى بالبسوس بنت منقذ التميمي حيث اشتهرت بالبؤس والشؤم، حتى صار الكل يقول شؤم البؤس),

" في إحدى الاجازات عاد عادل جريحا إصابته بليغة بسبب شظية كسرت ساعده الأيسر، إثر هروبه من الدبابة المحترقة التي يقودها هو، خلت الغرفة من الاولاد عدا أمه وأخته ليلى، استعاد محمد الخلف شيئا ً من هدوئه لسماع قصة ابنه الجريح الذي يضمر في داخله سعادة غامضة، بسبب تمتعه بإجازة طويلة من المستشفى " (ص229).

" كانت أمه قريبة منه تستمع إليه، لم تصدق عيناها أولا لكنها نهضت فجأة وعانقته بحرارة، جلست جنبه على الأرض، فجأة ّ تعكر مزاج عادل حين بدأت تتذكر ولديها: ضياء وعامر، ثم سألته :

- هل لديك أخبار من أخيك لبيد ؟ -

- نعم، لبيد أفضل مني بكثير، لا يواجه الخطر بشكل مباشر، وحدته العسكرية بعيدة عن جبهات القتال الساخنة "(230).

- هل نحتاج إلى ساعة أخرى ننتظر؟ أرجو أن تسأل هذا الكائن الجالس خلف مكتبه.

وجه محمد الخلف السؤال لابنه خالد بعد نفاد صبره في الانتظار.

- لا ضرورة للسؤال أبتي ! كان يهمس في أذنه، هذه أساليبهم الدنيئة التي اعتادوا عليها في تحطيم أعصاب مراجعيهم، سنمكث وقتا أطول، وربما يؤجلون الموعد إلى مساء الغد، علينا أن نتقبل الحال ونصبر (ص237).

هذا هو حال مراجعات دوائر الأمن والمخابرات ليس في العراق فقط وانما في معظم دول العالم وخصوصا في دول العالم الثالث، وهو الاستهانة وعدم احترام المراجعين.

اسمع محمد: ابنك عامر واحد من مجموعة مخربة في البلاد تهدد الأمن، هو أحد عناصر التنظيم السري المتآمر على النظام، كنا لهم بالمرصاد، أحيلوا إلى محكمة ( الثورة) وقررت الحكم عليهم بالإعدام شنقا، ونفذ الحكم، مفهوم!! إياك أن تسألني متى وأين الجثة؟ المتآمرون لا قبور لهم!! راجع الدائرة بعد عدة أيام لاستلام شهادة الوفاة، أحذرك! بلا عزاء، بلا صراخ وكفى (ص238).

بعد معرفة الخبر اليقين عن مصير عامر المأساوي وكيف سيخبرون العائلة بذلك وخصوصا الام وزوحته؟؟!! جرى مداولة الأمر بين محمد الخلف وابنه خالد.

- كيف نتصرف يا ولدي؟ اسعفني حالا بجواب يهدىء من حيرتي ولوعتي.

- ندع التبليغ سرا بيننا نحن الاثنين، نحفظه في صدورنا، كي لا يتسرب إلى الأهل وزوجته، باعتقادي أن شيوع الخبر سيخلق لنا متاعب كثيرة، هل توافقني على هذا الرأي ؟

- لا رأي عندي، ا فعل ما تراه مناسبا (239).

توجها الى بيت أسد صديق خالد وذلك لتخفيف أثر الخبر الصادم وإعادة ترتيب أفكارهم، ولكن محمد الخلف ذهب الى البيت. بادرته زوجته بالسؤال عن أخبار عامر، جاوبها علينا الانتظار. قال لها اسمحي أن أستريح (ص240).

الكائنات يكذبون، الا يتقنون شيئا ّ محمد الخلف يخاطب (مي) زوجة عامر التي دخلت دوامة السؤال والمراجعات : - أنا غير مقتنعة بمراجعاتكم، لدي شك بإإلجابات حول مصير ً في الوصول إلى الحقيقة، لقد زوجي ! لذا اخترت ما أراه مناسبا ّ تعبت يا عم، مرت أعوام وأعوام من دون جدوى! (ص242).

لم تقتنع مي زوجة عامر بجواب أبو زوجها وقررت مراجعة دائرة الأمن بنفسها.

تلقت مي ورقة تبليغ من مسؤول الأمن الذي قال لها بأنهم بلغوا والده بقرار الحكم والذي هو الإعدام. وتم تنفيذه. وقام بتسليمها نسخة من قرار الحكم (ص243).

هل من خبر جديد يا خالد؟ أراك تتمتم مع نفسك.

- لا جديد! إنما تنقل الاخبار أن الحكومة قررت إخلاء السجون تماما،ً والعفو عن كل المحكومين والسجناء، والمحكومين با لإعدام، والهاربين، والسجناء العرب، وإطلاق سراحهم (ص252), وأفاد مسؤولو السجون أن كل من يشملهم العفو سيغادر السجن خلال 48 ساعة.

- طيب، سأنتظر 48 ساعة !! بدءا من يوم صدور العفو. (ص252).

تركت أم خالد الباب الخارجي مفتوحا، ومنعت صلاح أن يوقف سيارته في الممر الموازي لحديقة البيت حتى يمكنها أن ترى الداخل والخارج من البيت. مضى يوم واحد وهي مثل تنتظر قدوم عامر. فكرت أن يكون عامر قد ذاكرته وأصابه النسيان.  قام أبو خالد بطمأنتها

ولا يوجد داع للقلق. هرب الاب الى الصالة وهو ينتحب. كانت وصيتها أن تحتضن عامر برخامة واحدة لشاهد قبرها.

"انقضت الـ 48 ساعة، لم يأت عامر، أوصدت الباب حين أدركت ضياع الأمل، أغلقت جفونها قبل الصلاة وهي ممتلئة بالدموع، َلم يطلع عليها الفجر"* (ص253).

بغداد: منشورات الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق، 2023.

الطبعة الأولى2023.

رقم الإيداع (1406) في دار الكتب والوثائق ببغداد لسنة 2023.

ISBN:978-9922-677-93-4

***

دكتور سناء عبد القادر مصطفى الموصلي

 

ناقشنا في المساق السابق بعض المزاعم التي أدلَى بها صاحب كتاب «الصاحبي في فقه اللُّغة»، (أبو الحسين أحمد بن فارس بن زكريا القزويني الرازي، ـ395هـ= 1004م)(1)، الذاهبة إلى أنَّ اللُّغة الإنسانيَّة توقيفيَّة، محتجًّا بإجماع العلماء على ذلك. فسألتُ مولانا (ذا القُروح):

ـ عن أي لغةٍ يتحدَّث؟

ـ هو يتحدَّث عن لُغة العَرَب وحدها، وكأنْ ليست في الكون لُغة سِواها. وكأنَّها هي اللُّغة التوقيفيَّة الوحيدة. والتوقيفيُّ منها: ما عاصر نزول «القرآن» فقط، لا ما قبله ولا ما بعده من لُغة العَرَب أنفسهم!

ـ كأنَّما (ابن فارس) هذا لا يُعمِل عقله، كما ينبغي أن يُعمِله أقلُّ الناس عقلًا وفكرًا وثقافة. ومع هذا يُعَدُّ إمامًا في اللُّغة! وهذا برهان ثقافةٍ تُصَنِّم أحبارها ورهبانها، ولو كانوا لا يعقِلون شيئًا ولا يهتدون!

 ـ والخطُّ توقيفيُّ لديه كذلك!(2) وهو يخصُّ هنا كذلك الخطَّ العَرَبي، دون سِواه.

ـ والنحو العَرَبي؟

ـ لم يقل إنَّه توقيفي، لحُسن الحظ، لكنَّه بزعمه كان معروفًا لدَى العَرَب في الجاهليَّة، فلا فضل لـ(أبي الأسود الدؤلي)، ولا لغيره ممَّن تلاه من النُّحاة، سِوَى في التذكير بعِلم النحو العَرَبي الجاهلي!(3)

ـ وعِلم العَروض؟

ـ لم يقل إنَّه توقيفي، لحُسن الحظ أيضًا، لكنَّه كذلك زعمَ أنْ لا فضل لـ(الخليل بن أحمد) في وضعه؛ فقد كان يعرفه العَرَب قبل الإسلام، لكنَّهم لم يدوِّنوه!(4) بالرغم من أنَّ الخطَّ العربيَّ توقيفيٌّ معروفٌ منذ آدم، أي قبل أن يوجَد العَرَب أصلًا!

ـ ظلماتٌ فارسيَّةٌ بعضها فوق بعض!

ـ ومن ثَمَّ لا زيادة لمستزيد من عِلم، ولا جديد تحت الشمس، ولا إبداع للإنسان، بل هو يعلم كلَّ شيء منذ آدم. إلى غير هذه من التوقيفيَّات، التي هي في حقيقتها محض توقُّف في ذهنٍ منطفئٍ لـ(ابن فارس) نفسه. بل هو- إنْ أردتَ الحقَّ الذي لا جمجمة فيه ولا غمغمة- اعتقادٌ مانويٌّ(5)، سُوِّق في تراثنا على أنَّه وجهة نظرٍ تأويليَّةٍ لتفسير الآية: «وعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا». وكان يمكن القول إنَّ «الأسماء» هنا لا تعني  «الأسماء» في مقابل «الأفعال»، حسب التصنيف الاصطلاحي النحوي، الذي إنَّما وُجِد في مرحلةٍ لاحقة، ولكن بمعنى «العلامات» الإشاريَّة إلى الأشياء، أو ما يُسمَّى في عصرنا (السيمائيَّة).  من حيث إنَّ كلمة «اسم» في العَرَبيَّة أصل معناها: «وَسْم»، أي: علامة. وقد تطرَّق إلى هذا ابن فارس(6) نفسه، ولكن دون رأيٍ مستقلٍّ أصيل، بل هو مقلِّد مردِّد. فقال في «باب القول على الاسم من أيِّ شيء أُخذ؟»: «قال قوم: الأسماء سِماتٌ دالَّة عَلَى المُسَميَّات، ليُعرَف بِهَا خطاب المخاطب.» وهذا ما نراه نحن وقلناه. ثمَّ أردفَ: «وهذا الكلام محتمِل وجهين: أحدهما أن يكون الاسم سِمَة كالعلامة والسِّيماء. والآخَر أن يقال: إنه مشتق من (السِّمَة).» هكذا قال. و(العلامة)، و(السَّيماء)، و(السِّمَة) شيءٌ واحد، فالوجه في الأمر وجهٌ واحدٌ لا وجهان؟! ولذا كنَّا قد اقترحنا في بعض بحوثنا مصطلح «السِّيْمَوِيَّة أو عِلم السِّيْمات»، بديلًا عَرَبيًّا لمصطلح «سيميولوجيا Semiology»، أو «عِلم العلامات»، ونحوهما من المصطلحات المستعملة في الترجمات العَرَبيَّة؛ لأنَّ «السِّيْمَوِيَّة» مطابقٌ عَرَبيٌّ أصيلٌ لمصطلح «سيميولوجيا»- ذي الأصل الإغريقيِّ Semion- مبنًى ومعنًى.  فـ«السِّيْمَوِيَّة» مأخوذةٌ من «سِيْمَة»، كما اتُّخِذت: «بِنْيَوِيَّة» من «بِنْيَة»، و«السِّيْمات»: جمع «سِيْمَة» أو «سِيْمَا» أو «سُوْمَة»، بمعنى علامةٍ أو «سِمَة». وقد استُخدِمت الكلمة في «القُرآن» بدِلالاتها المختلفة على أنواع العلامات، لكنَّه يُشار بها إلى تلك العلامات ذات الدلالة الفارقة. وهنا تكمن ميزةٌ أخرى لمصطلح (سيما) عن غيره، كـ(علامة)، و(إشارة)، اللَّذين يُعجِبان العَرَب والمعرِّبين اليوم. مثل قوله تعالى: «زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ، مِنَ النِّسَاءِ، والبَنِينَ، والقَنَاطِيرِ المُقَنطَرَةِ، مِنَ الذَّهَبِ، والفِضَّةِ، والخَيْلِ المُسَوَّمَةِ». وقوله: «لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِن طِينٍ، مُسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ». وقال: «وعَلَى الأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ». كما قال: «سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ». (ويُنظَر في دلالة هذه المادَّة اللغويَّة، مثلًا: ابن منظور، لسان العَرَب، (سوم)).  حتى إنَّ عوامَّ (مِصْر) ما زالوا يقولون، مثلًا: «بين فُلان وفُلان سِيْم مُعَيَّن»، أي إشارة أو شِفرة. والمصطلح بصيغته هذه يستقلُّ أيضًا عن إلباس المصطلحات العَرَبيَّة المستعملة الأخرى، في بعض الدراسات التطبيقيَّة، مثل: «السِّيميائيَّة Semiotic».  من حيث إنَّ «السِّيميا/ السِّمياء» تُشير في تراثنا إلى ضروبٍ من الطلسمات والأعمال السِّحريَّة، تحدَّث عنها (أحمد بن علي البوني، -622هـ)، في الفصل السَّابع والثَّلاثين من كتابه «شمس المعارف الكُبرَى».  وقال (القرافي، أحمد بن إدريس الصنهاجي، -684هـ= 1285م)(7): «السِّحر: اسم جِنسٍ لثلاثة أنواع: النوع الأوَّل: السِّيمياء، وهو عبارة عمَّا يركَّب من خواصَّ أرضيَّة...».  وهو ما لا علاقة لموضوعنا به!

ـ ما هذا الاستطراد؟ لنعُد إلى (ابن فارس)!

ـ (ابن فارس) سبب هذه الإشكالات. لأنه جاءك عارضًا رمحه، وهو يقول: «فإن أراد القائل أنها سِمات عَلَى الوجه الأوَّل فصحيح، وإن كَانَ أراد الوجه الثاني، فحدَّثني أبو محمد سَلْم بن الحسن البغدادي قال: سمعتُ أبا إسحاق إبراهيم بن السَّري الزَّجَّاج يقول: معنى قولنا »اسم» مشتقٌّ من »السُّمُوِّ«، والسُّمُوُّ الرِّفعة. فالأصل فِيهِ »سِمْوٌ« عَلَى وزن حِمْل، وجمعه »أسماء«، مثل قولك: قِنو وأقناء. وإنَّما جُعِل الاسم تنويهًا ودلالة على المعنى؛ لأنَّ المعنى تَحْتَ الاسم. ومن قال: إنَّ اسمًا مأخوذ من »وَسَمْتُ« فهو غلط؛ لأنَّه لَوْ كَانَ كذا، لكان تصغيره »وُسَيْمٌ«، كما أنَّ تصغير عِدَّة وصِلَة: وُعَيْدَة ووُصَيْلَة.»(8)

ـ ما يهمُّنا من هذا أنَّ أصل معنى (الاسم): «وَسْم»، أي: علامة. وقد ذكر (ابن فارس) أعلاه: أنَّه إنْ أراد القائل أنَّ الأسماء (سِمات)- عَلَى الوجه الأول، وهو أن يكون الاسم سِمَة كالعلامة والسِّيماء- فصحيح.

ـ نعم. أمَّا خلاف البصريِّين والكوفيِّين في الاشتقاق وغيره، فما أفسد اللُّغة والنحو أكثر منه. ذلك أنَّ الكوفيِّين قد ذهبوا إلى أنَّ الاسم مشتقٌّ من الوَسْم، وهو العلامة، وهو ما نراه ونفهمه ونذهب إليه، وأمَّا البصريُّون، فأبعدوا الشُّقَّة، محلِّقين في السماء، زاعمين أنَّه مشتقٌّ من السُّمُوِّ والعُلُوِّ! وجاؤوا بمَذْقٍ من الحُجج، هل رأيت الذئب قط؟!(9)

ـ لم أره، لكنِّي أتخيَّله! وهذا مبحثٌ آخر يطول. وما كان يعنينا هنا هو معنى (الاسم)، وأنه (وَسْم)، شاء من شاء وأبى من أبى! وأمَّا اشتقاق اللفظ، فليتشقَّق البصريُّون والكوفيُّون في خلافاتهم التي لا تنتهي كيف شاءا!

ـ والاسم الوَسْم ذو دلالة خاصَّة، وسِجلٍّ تاريخي، وإنْ أتَى على الناس حين من الدَّهر لم يعُد فيه للاسم معنى معلوم.

ـ ماذا تقصد؟

ـ خذ، على سبيل المثال، من أسماء النِّساء اسمًا كاسم (العَنُود). هذا الاسم الجميل، الذي لا نعرف تاريخ استعماله، ولا عهد لنا به في أسماء النِّساء في التراث العَرَبي. وهذا عجيب، مع ارتباطه الصميم بمعانٍ متعدِّدة وبديعة من اللِّسان العَرَبي والبيئة العَرَبيَّة. على حين يُعَدُّ اليوم من الأسماء النجديَّة القليلة الاستعمال نِسبيًّا، قياسًا إلى أسماء أخرى، بعضها هجين أو حتى غير عَرَبي. وأغلب الناس يفهمون هذا الاسم على أنه مشتقٌّ من العِناد. وقد يكون له من ذلك نصيب. غير أنَّ سِجِلَّه يُنبئنا، مثلًا: أنَّ العَرَب تقول: عَنَدَت النَّاقةُ: أي رَعَتْ وَحْدَها، وأَنِفَتْ أن تَرْعَى مع غيرها، تَطْلُبُ خِيَارَ المَرْتَع، وبعضُ الإبل يَرْتَعُ ما وجدَ. وفي حديثٍ منسوبٍ لـ(عُمَر بن الخطَّاب) يَصِف سياسته: «إنِّي أَنْهَرُ اللَّفُوتَ، وأَضُمُّ العَنُودَ.» قيل في شرحه: العَنُود من الإبل: الذي لا يُخالِطُ سِواه ولا يزال مِنْفَرِدًا. فأراد: مَن خرجَ عن الجماعة أَعَدْتُه. وقيل: العَنُودُ: المُتَقَدِّمةُ من الإبل فِي السَّيْر لنشاطها وقُوَّتها. ومن المجاز أيضًا: (سحابةٌ عَنُود) ، أي: كثيرة المَطَر، لا تكاد تُقْلِع، جَمْعُها: عُنُد. وقِدْحٌ عَنُودٌ: يَخْرُجُ وحدَه فائِزًا على غير جِهة سائر القِداح. وعَقَبَة عَنُود: صَعْبَةُ المُرْتَقَى.(10) وكلُّها معانٍ دالَّة على ما يُحِبُّ العَرَبيُّ من صفات المرأة.

ـ فلو قلنا، إذن: إنَّ من اقترح (العَنود) اسمًا للمرأة كان عالمًا سيمائيًّا نحريرًا- فطرةً أو اكتسابًا- ما كنَّا مبالغين.

ـ صحيح. وهذا معنى: الاسم الوَسْم، وسجلِّه الدِّلالي- عَلِمَه من عَلِمَه وجَهِلَه من جَهِلَه- لا بمعنى السُّمُوِّ، كما تكلَّف المتكلِّفون.

***

أ. د. عبد الله بن أحمد الفَيفي

..............................

(1)  يُنظَر: (د.ت)، تحقيق: السيد أحمد صقر، (القاهرة: عيسى البابي الحلبي وشركاه)، 6- 00.

(2)  يُنظَر: م.ن، 10- 11.

(3)  يُنظَر: م.ن، 11- 13.

(4)  يُنظَر: م.ن، 13- 14.

(5)  وكأنَّ (ابن فارس) هذا كان ينحدر عن عقيدة (مانويَّة)، وإنْ أَسْلَمَها، كانت ترى أنَّ الإنسان هو ابنٌ حنونٌ للخالق، من منطلَق الثالوث المانوي المقدَّس: الأب، وأُمُّ الحياة، وابنهما، أي الإنسان. ومن ثمَّ فلا حاجة للإنسان إلى أن يتعلَّم أو يتطوَّر، فكلُّ ما لديه توقيفيٌّ لَدُنِّيٌّ، منذ بدء الخلق. ولكَم تسرَّبت إلى تراثنا العبَّاسي من هذه الأفكار الدِّينيَّة الفارسيَّة، وأُلبِست لنا عباءات إسلاميَّة! غير أنَّ العقل- غير المعلَّب- يظلُّ يكشفها، نابيًا عن هرطقاتها، مهما لُبِّست بتأويلات وتأوَّلات، تستثمر النصوص لتحميلها ما لا تحتمل من القراءات. ومن جهة أخرى، فإن فِكرة (التوقيفيَّة) كانت تنطلق أيضًا ممَّا وردَ في (الكتاب المقدَّس- العهد القديم، سِفر التكوين، الإصحاح الثَّاني، 19): «وكُلُّ مَا دَعَا بِهِ آدَمُ ذَاتَ نَفْسٍ حَيَّةٍ فَهُوَ اسْمُهَا...»، من الإسرائيليَّات التي انتقلتْ إلى الإسلام، وبها فُسِّرت آية تعليم آدم الأسماء كلَّها في «القُرآن». مع أن عبارة «سِفر التكوين» تنسب تسمية الأشياء إلى (آدم)، لا إلى (الله).

(6) ابن فارس، الصاحبي، 99. 

(7)  (2007)، كتاب الفُروق: أنوار البُروق في أنواء الفُروق، تحقيق: مركز الدِّراسات الفقهيَّة والاقتصاديَّة: محمَّد أحمد سرَّاج وعلي جمعة محمَّد، (القاهرة: دار السلام) ، 4: 1288.

(8)  ابن فارس، الصاحبي، 99- 100.

(9)  يُنظَر: ابن الأنباري، (2002)، الإنصاف في مسائل الخلاف بين البَصْريِّين والكُوفيِّين، تحقيق: جودة مبروك محمَّد مبروك؛ مراجعة: رمضان عبدالتواب، (القاهرة: مكتبة الخانجي)، 1: 4- 12.

(10)  يُنظَر مثلًا: الأزهري، تهذيب اللُّغة؛ ابن منظور، لسان العَرَب؛ الزبيدي، تاج العروس، (عند). 

قصيدةُ «سلام منا لمن أحبونا» لعبد الرحمن بوطيب قصيدةٌ تشعّ بحميميةٍ شفافة، وتؤسس لخطابٍ يزجّ بين التذكر والوداع والأمل. تنتمي إلى خطابٍ شاعريّ معاصر يتعامل مع الفقد والذاكرة والوجدان الجمعي بطريقةٍ تُحافظ على بساطةِ الصورة مع ثراءٍ دلالي. سأعرج في هذه الدراسة على المحاور التي طرحتها — اللغوية والبلاغية، الجمالية والفنية، الفكرية والفلسفية، التاريخية والثقافية، النفسية، الاجتماعية والسوسيولوجية، السيميائية، المنهجية، والأخلاقية/الإنسانية — محاوِلاً الجمع بين قراءة مقطعية وتحليل منهجي.

1. الأسس اللغوية والبلاغية:

1.1 سلامة اللغة وبنية الأسلوب.

اللغة في القصيدة سليمة من معايير النحو والصياغة العامة، وتعتمد أسلوباً شبه نثريٍّ ــــ شِعريّ (نثرية شعريّة) يسمح بتراكم الصور. تراكيب مثل «يسقوننا من رحيقِ عيونهم شلالاتِ أريجِ خزامى» تظهر تحكماً تركيبياً يسمح بتكديس الصور دون أن يفقد المعنى تماسكه. ثمة ميل إلى الجملة الموسومة بالاسترسال والحشو الإيقاعي (أسلوب أو تراكيب جامعة) يساهم في تواتر الانفعال.

في سياق كهذا بمكنني تسجيل بعض النقاط:

وجود استعارات مركبة («رحيق عيونهم شلالات أريج خزامى») يتطلب قراءة بطيئة لفكّ مركبات الصورة.

تظهر بعض الانزياحات اللغوية المقصودة لإنتاج وقع صوتيّ ودلالي (مثلاً «يرتمي كُحْلِيَّ همسٍ من رضيعٍ يشوي ظهرَ صقيعِ صعيد») — انزياح في تركيب الصورة يخلق توتراً دلالياً متعمَّداً.

1.2 فصاحة اللفظ ووجاهة التعبير:

اللفظ فصيح وخالٍ من التعابير الركيكة. اختيار الكلمات يوازن بين البساطة والثراء الاستعاري؛ مثل «زرافات» و«جلمود» و«أطلس» — مفردات تفتح مساحة جغرافية وثقافية. التناسب بين اللفظ والمعنى جيدٌ؛ الكلمات تخدم الصور والمشاعر ولا تبدو وظيفيةً فحسب.

نقاط ملاحظة:

ثمة وفعٌ بين المحلية (مثلاً «أطلس») والعمومية (مثل «سلام») يوسّع أفق القراءة ويجعل النص ذا بعدين: شخصي وجماعي.

الملاءمةُ بين اللغة والموضوع محفوظة: لغة مؤنَّثة بالحنان أحياناً، حادةً أحياناً حين يتحدث النص عن «صرخة» أو «جمر».

1.3 الانزياحات البلاغية والجمالية:

القصيدة توظف بلاغات تقليدية: تكرار «سلام»، توازيات، تشبيهات واستعارات، ضبطاً إيقاعياً. الانزياحات ترجع غالباً إلى تركيب صورٍ غير متوقعة (مثل «رضيعٍ يشوي ظهرَ صقيعِ صعيد») — وهي انزياحات إنتاجية تولّد الدهشة.

2. الإيقاع والمعمار الصوتي:

2.1 الوزن والقافية والجرس:

القصيدة أقرب إلى النثر الشعري من حيث الوزن؛ لا التزمت بقافية تقليدية ثابتة لكنها تعتمد تكرار كلمات وعبارات (الـ«سلام»، «ناموا»، «لنا لقاء») لتأمين إيقاع إنشاديّ. التكرار يعمل كقافية داخلية/موسيقية بديلة عن التفعيلة التقليدية.

2.2 الموسيقى الداخلية والتكرار:

تكرار «سلام» متعدد الوظائف: وقف تأملي، نداء، توديع، تأكيد. الإيقاع يترنح بين سطورٍ قصيرة وطويلة؛ السطور القصيرة (مثل «سلام») تمنح القارئ فسحـة تنفّس إيقاعي، وتزيد من وقع العبارة التالية. التراكيب الصوتية العامودية (تكرار الحروف الساكنة/الصوامت) تخلق جرساً محلياً — كلمات مثل «زرافات ووحدانا» تولّد جرساً بصرياً وصوتياً معاً.

3. البنية الفنية للنص والرؤية الفنية:

3.1 البنية السردية والزمن:

القصيدة تحمل بنيتين متداخلتين: بنية النداء/التحية («سلام لنا/سلام لهم») وبنية الرواية/الاستدعاء (صور من رحيل، رثاء خفي، مشاهد يومية). الزمن هنا مؤطر بين: حاضر الوداع، وماضي الذكرى، ومستقبل اللقاء («لنا لقاء / سلام / ما هو بعيد») — زمن دائري يُبقي على أمل ضمن ظلّ الفقد.

3.2 المنظور الفني:

الراوي في القصيدة ينحو إلى منصبِ المتحدّث الجمعي/الضميري الذي يودّع ويبارك ويفتكِر في دورات الذاكرة. ثمة انسجام واضح بين الشكل (صور متقطعة وتكرار) والمضمون (تتابع الوداع والحنين).

3.3 الطابع الإبداعي والانزياح الجمالي:

يقع الإبداع في المزج بين البساطة اللفظية والثقافة التصويرية الكثيفة. الانزياح الجمالي يظهر في صورٍ غير معتادة (مثل «يرتمي كُحْلِيَّ همسٍ من رضيعٍ يشوي ظهرَ صقيعِ صعيد») — وهي صور تضيف بعداً تجريدياً وغريباً يخرق المألوف ويستدعي قراءات متعددة.

4. الأسس الفكرية والفلسفية؛

4.1 الموقف الفكري: الأسئلة الوجودية والأخلاقية.

القصيدة تطرح موقفاً أخلاقياً وإنسانياً: تكريم المحبّين، تسجيل الفضل، الإقرار بالغياب/الرحيل، والحفاظ على وعد اللقاء. تساؤلات وجودية عن معنى البقاء بعد من أحبّونا وعن واجب الشكر والذاكرة.

4.2 الأفق المعرفي والمرجعيات:

نلمس أثر المرجعيات الجغرافية (جبال الأطلس)، والتراثية (صراخ/ملاحم) في تشييد دالّات النص. كما تلتقي القصيدة مع الحداثة في طريقة البناء (نثرية، تركيبات مبتكرة، لعب صوتي)، فتُؤطّر نصاً يربط المحلي والعالمي.

4.3 البنية العميقة للمعنى (الهيرمينوطيقا):

متوالية «سلام» تعمل كمفتاح تأويلي: سلام كتحية، كوداع، كدعاء، وكعلامة على استمرار العلاقة بعد الفقد. النص يبثّ دلالات عدة: الاعتراف بالجميل، توثيق الألم، ترسيخ الأمل. الطبقات المضمرة تشمل: التضحية (من أحبونا يسقوننا)، الألم المؤسط (سجوننا/أمٍّ ثكلى)، والاحتفاء بالمقاومة الرمزية («نقشوا على جلمود صخر...صرخة أطلس»).

5. الأسس التاريخية والثقافية:

5.1 سياق النص واللحظة التاريخية:

القصيدة تستحضر حالاتٍ عامة من الفقد والمعاناة (صور السجون، الأمّ الثكلى، صراخ الأطلس) التي يمكن ربطها بسياقات اجتماعية وسياسية — لكن النص لا يحدد حدثاً تاريخياً بعينه، لذا يبقى تأويله مرناً بين الذاتي والجماعي.

5.2 تطوّر النوع الأدبي وموقع القصيدة:

تندرج القصيدة ضمن السرد الشعري المعاصر/النثر الشعري الذي يستند إلى تراكيبٍ سردية ويستعمل صوراً مكثفة بدل الالتزام بالشكل العمودي التقليدي. توازيات بين الشعر الاجتماعي والوجداني تضع النص في مسار التجريب الشعري العربي الحديث.

5.3 ارتباط بالتراث:

الاستدعاء لمفردات مثل «أطلس» و«جلمود صخر» و«حنّاء» يربط النص بالتراث الإقليمي والأسطوري (جبل الأطلس كمكان حاشد بالرمزية). كما أن «التراتيل» والنداءات (السلام) تواصِل تقاليد الخطاب الشعري العربي الديني/الوطني.

6. الأسس النفسية:

6.1 البنية الشعورية:

النبرة الشعورية مركبـة: حزن رقيق، امتنان عميق، أمل مرشّح، وحنين مؤثّر. القصيدة تحيل على الشعور الجماعي بالوداع والاعتراف، كما تكشف عن مكبوتات الذات (غضب مخبوء يتحوّل إلى سلام تأبيني).

6.2 تحليل الشخصية السردي:

لا توجد «شخصيات» متعدّدة في قالب روائي واضح؛ لكن النص يقدّم «فاعلين» صورياً: المحبون، الراوي، الأمّ الثكلى، الطفل، السجناء. كلّ فاعل يحمل دافعاً: العطاء (المحبون)، الاحتضان (الأمّ)، الصرخة (أطلس)، والانتظار (الراوي).

6.3 النبرة النفسية:

النبرة أغلبها تأملية وتباكيّة مع مسحة تسليمٍ واحتفاءٍ، ينتقل القارئ بين الدهشة والتنهد والطمأنة (النهاية تُفضي إلى «لنا لقاء / سلام / ما هو بعيد»).

7. الأسس الاجتماعية والسوسيولوجية:

7.1 علاقة النص بالواقع الاجتماعي.

القصيدة تصدر خطاباً اجتماعياً أخلاقياً؛ تذكر الفئات المُغيَّبة: الأمّ الثكلى، المسجونون، الجموع التي تسهر النهار. النص يلتقط صوراً لشرائح اجتماعية متألمة ويمنحها فضاءً إنسانياً يمدّهم بالتحية والاعتراف.

7.2 الخطاب الاجتماعي داخل النص:

يوجد نقد ضمني للظروف التي أفرزت هذه المشاهد (سجون، ثكالى، صقيع)، لكنه نقد تمت صياغته بلغة الرحمة والاحتفاء، لا بلغة المواجهة الصريحة. هذا الأسلوب يسمح بفتح مساحة للتعاطف بدل الاستقطاب.

7.3 الكاتب كفاعل اجتماعي:

الشاعر هنا يتصرف كراوٍ مؤدلج أخلاقياً — يحيي الذاكرة، يرفع راية الشكر، ويعيد بناء تواصل إنساني. دوره نقدي/إصلاحي في نمط التذكير والاحتفاء بالإنسان البسيط.

8. الأسس السيميائية:

8.1 قراءة العلامات والرموز:

السلام/سلام: رمز للتواصل، للمباركة، وللدلالة على استمرارية العلاقة بعد الفراق.

الزرافات: قد تشير إلى الرحيل بطريقةٍ رشيقة ومهجوسة بالوحدة.

الأطلس/جلمود الصخر/حنّاء: رموز للثبات، للتاريخ، والاحتفاء بالهوية الثقافية.

الأمّ الثكلى: رمز الفقد والبراءة والضحية.

8.2 شبكات الدلالات الثنائية:

النص يشكل ثنائيات واضحة: حياة/موت، حضور/غياب، فرح/حزن، دفء/صقيع. هذه الثنائيات تُبنى على توازيات ومقابلات تُغني قراءة النص.

8.3 النظام الرمزي العام:

الرموز تختلط بين المحلي والإنساني العام؛ النظام الرمزي يميل إلى إظهار مقاومة إنسانية حميدة عبر النقش والتكرار والاحتفاء.

9. الأسس المنهجية؛

9.1 الصرامة المنهجية:

التحليل المقترح هنا يركب بين مقاربات: الأسلوبي (تحليل اللغة والصوت)، الهيرمينوطيقي (طبقات الدلالة)، السوسيولوجي (العلاقة بالمجتمع)، والنفسي (النبرة والدوافع). هذا المزج يضمن قراءة متعددة المستويات دون التفريط بوضوح كلّ خطوة.

9.2 التوثيق العلمي. اسمح لنفسي أن أؤكد أننيىقرأت للشاعر المغربي عبد الرحمن بوطيب العديد من النصوص الشعرية لذا لدي رغبة شديدة فيى قادم الأيام أن أقوم بوضع مقارنات نصية مع أعمال الشاعر الأخرى (التي سمح لي الوقت للاطلاع عليها) ومع نصوص معاصرة تتعامل مع موضوع الوداع والذاكرة، والاستعانة بمراجع حول النثر الشعري والمقاربة السيميائية والهيرمينوطيقا أمثال : سعيد الغانمي – “جدل الأجناس الأدبية”. يناقش الحدود بين الشعر والنثر وتحولات الأجناس الحديثة، بما فيها قصيدة النثر.

عبد العزيز حمودة – “المرايا المحدّبة” و“المرايا المقعّرة”

يتناول قضايا الحداثة الشعرية ومنها تحوّلات البنية الشعرية للنصوص النثرية.

يوسف سامي اليوسف – “في الشعرية والشعر  الجاهلي”

يقدّم تنظيراً عربياً مهماً عن الشعرية وعناصرها، ويمكن تطبيقه على النثر الشعري.

عبد القادر الجنابي – “بيانات ضد قصيدة النثر”

من أهم المراجع العربية التي تتناول قصيدة النثر (دفاعاً ونقداً).

أدونيس – “زمن الشعر” و“مقدمة للشعر العربي”

يؤسس لقراءة حداثية للشعر والنثر الشعري.

ومراجع غربية أمثال:

(جادّة: غادامر، بول ريكور، رولان بارت).

9.3 الموضوعية النقدية:

الحفاظ على التركيز على النص (لا على السيرة) مهم؛ إلا أنّ الإحالات السياقية تظل مفيدة إذا دعمتها مصادر موثوقة. ينبغي تمييز الاستنتاجات القائمة على النص عن الافتراضات البيوغرافية.

10. الأسس الإنسانية والجمالية العليا:

10.1 قيم الحرية والجمال؛

القصيدة تُجسد احتفاءً بالإنسان والكرامة: تمنح التحية والعرفان لمن أحبّوا، وتؤمن بأن الجمال قادر على الاحتفاء بالآلام. العمل الشعري هنا هو فعل إنساني توثيقي يكرّم البسيط.

10.2 الانفتاح على التأويل:

النص مولّدٌ للقراءات: يمكن أن يُقرأ كقصيدة اجتماعية، كمرثية جماعية، كنشيد حبّ للإنسان؛ هذا الانفتاح علامة جودة شعرية.

10.3 البعد الإنساني الشامل:

القدرة على لمس الوجدان العام واضحة: صور الأمّ، الصبي، السجين، تجعل من النص مرآةً لوجدان بشري شامل، لا مقتصر على خصوصية محلية فقط.

توصيات نقدية تطبيقية:

من وجهة نظري أجد أنّ قصيدة «سلام منا لمن أحبونا» للشاعر عبد الرحمن بوطيب نصٌ غنيٌّ متعدد الطبقات: لغوياً محكم، إيقاعياً معتمداً على التكرار والجرس الداخلي، وجمالياُ مولّداً للدهشة عبر انزياحات تصويرية. أفكارها إنسانية واضحة، وتستثمر الرمز المحلي لترسيخ تجربة عامة.

كما يمكنني القيام:

1. إجراء قراءة مقارنة مع نصوص عن الفقد والوداع في الشعر المغربي الحديث لتحديد خصوصية بوطيب.

2. تحليل موسيقي صوتي مفصل (استكشاف تكرارات حروفية، تكرار السكون/الحركة) باستخدام أمثلة مقتطفة قصيرة من النص.

3. توسيع البُعد التاريخي عبر رصد أيّ أحداث محلية قد تكون حكّمت صور القصيدة (إن وُجدت مصادر).

4. إضافة مراجع منهجية: كتب في الهيرمينوطيقا (غادامر/ريكور)، السيميائيات (بورديو؟ رولان بارت)، ودراسات في النثر الشعري العربي.

***

بقلم: عماد خالد رحمة - برلين

...............................

سلام منا لمن أحبونا

سلام لهم يسقوننا من رحيقِ عيونهم شلالاتِ أريجِ خزامى ومحبةً بمزيد

سلام عليهم يحملون بين رموش عيونهم قلوبنا وقد تمزق منها وتين ووريد

سلام بينهم يسهرون النهار لا ينامون ليلا يرتمي كُحْلِيَّ همسٍ من رضيعٍ يشوي ظهرَ صقيعِ صعيد

سلام

سلام

يرحلون زرافات ووحدانا

يرسمون على جدران سجوننا بسمةَ أمٍّ ثكلى في حضن طفل وليد

ينقشون على جلمودِ صخرٍ بِحِنّاء جمرٍ صرخةَ أطلس يحبل بيوم عيد بعيد

سلام

سلام

هي الأيام تداولنا على جبينِ مرايا وجوهٍ قمحيةٍ نظراتٍ وزفيرا في تصعيد

سلام

سلام

ما نحن بعدهم اليوم أمس غدا إلا في انتظار قديمِ وعدٍ ورجعِ موالٍ وترديد

سلام عليكم

ناموا

لنا لقاء

سلام

ما هو بعيد

***

عبد الرحمن بوطيب - المغرب

 

ماذا تقول الدكتورة رانيا فاروق الغاوي عن تجربة نضال القاسم والهندسة الشعرية؟ تكتب الدكتورة رانية الغاوي في مقدمة كتاب (الهندسة الشعرية دراسات نقدية في شعر نضال القاسم، دار عصور للنشر والتوزيع 2023 ) عن تجربة الشاعر نضال القاسم وإبداعه الشعري المبني على مغامرة الفكرة والمعنى مستعرضة لمحات هامة عن مسيرة الشاعر وتجربته الأدبية، حيث جاءت مقدمة الكتاب تحت عنوان (ما يشبه المقدمة جماليات اللغة والمعنى) والتي تطرقت فيها الدكتورة رانية الغاوي لبدايات الشاعر وتميزه وموهبته الإبداعية حيث تناولت الجانب الموضوعي في مسيرة الشاعر ونبّهت لقدرته على حفظ التوازن الصعب بين إرضاء قراءه ومتابعيه والحفاظ على قوة القصيدة وجودتها الشعرية حيث قالت (... إذ أن الشعر فن نخبوي ويتطلب من الشاعر الاختيار بين تصفيق الجمهور التقليدي وبين القصيدة بأفقها المتجدد، لكن نضال القاسم اختار القصيدة والجمهور في آن واحد ... ص 8) وضمن هذه المعادلة الصعبة نهض الشاعر بمهمة تطوير قصيدته وصياغة مشروعه الشعري في اتجاه صاعد نحو المزيد من الشاعرية والابداع متسلحا بمخزون ثقافي يحتوي على كثير من أناشيد مرحلة الطفولة والقصائد المدرسية والأهازيج الدينية حيث تشير الدكتورة الغاوي ومن خلال متابعتها القريبة لتجربة الشاعر ومساراته الإبداعية انه اعتمد في تطوير موهبته على مزيد ومزيد من القراءات التي تحققت له من خلال مكتبة المدرسة والمكتبة العامة والكثير من الدواوين الشعرية التي كانت تقع بين يديه من خلال معارفه وأصدقائه وأساتذته وهي إشارة قوية  بأن الموهبة التي يمتلكها القاسم قد صُقلت ووجهت بجهده الشخصي الحثيث وسعيه الدائم للاستزادة في المعرفة والحصول على الجديد في الشعر والأدب والابداع وهي رحلة تحدّ للواقع الخاص والعام نجح من خلالها الشاعر في إثبات جدارته الشعرية وحجز مكانه المميز بين أقرانه من الشعراء على الساحة الأردنية والعربية، وتؤكد الدكتورة الغاوي وهي تدرج في كتابها كثيرا من الدراسات النقدية والأكاديمية والانطباعية التي تناولت تجربة القاسم الإبداعية بأنه يستحق هذا الاهتمام المميز وهذه الدراسات النقدية التي احتفلت بإبداعه ومنتجه الشعري وذلك لكونه استطاع أن يُشكّل تجربة خاصة به تقترب من الجمهور وتستلهم الإبداع والجديد والمغامرة (... فلا تشعر وأنت تقرأ قصيدة من قصائده في أي موضوع كان، بأنه يتكلف الصياغة أو التقاط المعنى وإنما تراه ينساق مع سجيته مسترسلا كالنهر الذي يجري في واد منبسط شديد الاستواء أو كأنه يكتب أو بمعنى آخر ينقل شعره من ألواح مرسومة أمامه بوضوح خال من التعقيد والغموض ولولا أنه كذلك ما انبرى ألى الدخول إلى عالمه الشعري الزاخر بالإنجازات المرموقة نفر من خيرة مثقفي الوطن العربي المشهود لهم بالأصالة والتجربة والخبرة الأكاديمية المتخصصة في ميادين الشعر ونقده .. ص 10) وفي هذه المقدمة المميزة لهذا الكتاب الذي تناول تجربة القاسم من عدة جوانب تشدد الدكتورة رانية الغاوي على نجاح القاسم في التدرج الفني بقصيدته وصولا لرسم مشهدية شعرية تعتمد الصورة الشعرية وتصل للقارئ بسلاسة وسهولة بعيدا عن تعقيدات الشّكل الفني أو نوع القصيدة أو تصنيفها بما يعني انه ابتعد عن القولبة الفنية الاعتيادية وارتقى بقصيدته نحو مزيد من عالم الخيال والتحليق والتجديد رغم طابع الحزن الذي ظهر كثيرا في قصائده الشعرية المختلفة ولكنه حزن عام يصور تجربة إنسانية عامة وليس بحالة انطوائية فردية لقد استطاعت الدكتورة الغاوي ان تلامس كثيرا من المفاصل الشعرية في تجربة القاسم وأن تشيد بقصيدته من خلال كلماتها النقدية التي حملت كثيرا من عبارات الاعجاب والإشادة (... ويعتبر الشاعر نضال القاسم من أشهر شعراء الأردن ويتمتع بمكانة أدبية مرموقة فهو شاعر عربي مقروء، وهو ناقد موهوب صاحب عبارة سهلة بليغة تمتاز بخفة الروح وعذوبة اللفظ ... ص 10) وبعد تقديمها الرائع لهذا الكتاب النقدي المميز تؤكد الناقدة انها تهدف من خلال جمع هذه الدراسات في كتاب واحد إلى تتبع تجربة الشاعر ورصد كافة جوانب تحولاتها الشعرية وإلقاء الضوء على مزيد من الآراء والأفكار التي تناولت أشعار القاسم بالدراسة والنقد حيث تقول (.. ان هذه الدراسات تجمع بين الوحدة والتنوع والإتلاف والاختلاف مما يجعلها قابلة للتلقّي والتأويل، لذا فقد جاءت موزعة بين دراسات نقدية تأويلية، وأخرى انطباعية تأثرية، وثالثة علمية أكاديمية ... ص 13) وتعاملت الدكتورة مع هذه الدراسات النقدية بحرفية بالغة ومهنية عالية حيث حرصت على المحافظة على نصوص هذه الدراسات كما وردت مع قليل من التعامل الجدي بما تتطلبه مقتضيات جمعها وتحريرها وإعادة نشرها وتضيف الغاوي في وصف جميل ودقيق عن هذه الدراسات (... إنها دراسات فريدة ذات خصوصية تجريبية تقوم على التداعي والانفتاح الدلالي والجمالي بين الفنون والأنواع والأصوات الممتدة من المعارف والذاكرة الجمعية .. ص 13) وتشير الدكتورة بذكاء نقدي أن العديد من هذه الدراسات قد كتبت بأقلام الشعراء مما يجعل منها محاولة إبداعية لكتابة أخرى للنص الشعري ويجعلها أكثر ملامسة للحظات الإبداعية وأكثر قدرة على توضيح مرامي وأهداف وعواطف الشاعر ولا تغفل الدكتورة الغاوي عن ذكر فائدة هذه الدراسات في إثراء الحركة النقدية وفي كونها ضرورة أدبية للمبدع والقاري (.. مما يتيح مساحة أرحب للقارئ ويهيئ له أفقا أوسع بدلالات متعددة ومرايا تعكس ملامح النص وتشي بأسراره .. ص 14)2169 nidal

تقول الدكتورة رانيا الغاوي عن المشاعر الإنسانية في تجربة نضال القاسم الشعرية (... يختزن في تجربته الشفافة التجربة الإنسانية في خصوصيتها وعموميتها) في إشارة هامة لوضوح البعد الإنساني في أشعار نضال القاسم، ففي دراسة للدكتور خليل الرفوع بعنوان (دورة الأحزان في الفصول الأربعة لنضال القاسم ) يتناول الناقد بدراية وحنكة أدبية مميزة علاقة تناوب الفصول واختلاف مظاهرها وتأثير ذلك على دورة الحياة الطبيعية للإنسان والتي تناولها الشاعر في ديوان (أحزان الفصول الأربعة) حيث يؤكد الدكتور الرفوع ان شاعرنا قد نجح في ربط هذه الدورة السنوية بحالات الانسان المختلفة منذ الولادة (فصل شتاء) ثم الشباب (فصل الربيع) ثم الكهولة (فصل الصيف) وصولا للنهاية حيث الموت (فصل الخريف) حيث يقول الناقد ان هذه التحولات والحلات الإنسانية تتضمن مختلف المشاعر الإنسانية من حزن وتوتر وقلق وخوف (.. أحزان الفصول الأربعة ديوان شعر للشاعر نضال القاسم، وهو المجموعة السادسة من فنه الشعري، يتضمن مجموعة من القصائد تنداح في مضامينها لتصور رؤى فنية تستند إلى مخيال تثاقفي واع مصادره التاريخ بتناقضاته وتوتر الذات والقلق الواقعي بكلّ أحزانه ومآسيه وهزائمه، يمثل الديوان صرخة تراجيدية وجودية لشاعر يحلم بوطن يشبه وجه أبيه وبجمال يتولد يسرا من القبح وبخيط أبيض سحرا من عتمة الظلمات .... ص 99) وفي دراسة الدكتورة الناقدة ليندا عبيد (صورة المرأة في ديوان نضال القاسم الكتابة على الماء والطين) تؤكد ان المرأة تحضر في معظم قصائد المجموعة وان صورتها واضحة في شعر القاسم بمدلولاتها المختلفة والمتنوعة ( ان المرأة عند القاسم ليست مجرد شكل أو جسد وليست أيضا مضمونا خاويا دون جسد إنما هي تطلّ من هذا التمازج الرفيع الذي يعدّ انعكاسا لتجربة الشاعر الذي يريد أن يقولها وأن يشكل صورتها ليرسم ذاته ودواخله وليبوح بنفسه ضمن واقع متعذّر لا يمنح مساحة حرة للبوح فيظل مختنقا ولا ينعتق مما يوجعه ويثقل صدره ... ص 199) وتظهر المرأة عند الشاعر في صورة وطن يعوض غياب المكان وملاذا يتطلع اليه الشاعر بحنين وشوق لا ينتهي بعيدا عن الموت والدم والدمار فهي تعبير عن التوق للحياة للسلام والخصب والغواية والحب والهدوء في عالم مزدحم بالخراب والحروب والألم (.. وتغيب صورة الأم في مجموعة القاسم وتطل بدلا منها المرأة الملاذ بوصفها رحما ووطنا وصورة مثالية للمرأة المعشوقة بفعل تشظيات وانشراخات نفسية مثيرة خلقتها أزمة الاغتراب ... ص 214) وحول الاحلام الانسانية المختلفة وتداعياتها تتناول دراسة الدكتورة نهال مهيدات جانبا مهما من الخصائص التي يمتاز بها شعر القاسم حيث رمزية اختيار العنوان ورمزية الماء والطين ففي دراستها تحت عنوان (ماء متأمل في انعكاسته في ديوان الكتابة على الماء والطين لنضال القاسم) تقول الناقدة (.. الكتابة على الماء والطين هو عنوان يجمع أشكال الحياة التي يجذبها الموت فالماء هذا السائل الكوني يقدم رمز حياة خاصة يجذبها موت خاص ...ص 279)

 ومن الملامح الإنسانية المتعددة في شعر القاسم صورة الاب برمزيته العالية وكونه القدوة الأولى والسند الحامي والمعلم الأول حيث تناولت الناقدة الدكتورة هدى جمال هذا الجانب في دراستها (تمثلات الاب في ديوان أحزان الفصول الأربعة) حيث تقول (... إن العلاقة العاطفية والوجدانية والفكرية التي جمعت الشاعر مع أبيه حاضرة وبقوة في مفردات النص وبين السطور وخلف أخيلة الصور وإذا ما تقصينا آثار المفردات لوجدناها تقودنا إلى باعث ومحرك شعرية شاعرنا الذي كان معلمه الأول وقدوته الأمثل ومؤجج ثوراته وملاذ مخاوفه في هذا الزمان الصعب انه صديقه النبيل وظله في خيال التائهين من يجيد التحدث عن كل شيء انه ابونضال ... ص 303)

تقول الدكتورة رانية الغاوي (.. ارتبط اسم نضال القاسم بالقضايا الوطنية) ومن هذه الزاوية النقدية الهامة تناول كثير من النقاد في دراساتهم الوانب الوطنية والقومية في تجربة نضال القاسم ففي دراسة للدكتورة أماني حاتم بسيسو بعنوان (الكتابة على الماء والطين لنضال القاسم روح الثورة والتحدي) تكتب عن روح التحدي في أشعار نضال القاسم وعن الإصرار الممزوج بالثورة الذي يغلف جملته الشعرية القوية (... فمي عاجز أن يقول الحقيقة يكبله الاضطهاد والسجن والتعذيب!فيتحداها كلّها! سأكتب حتى لو على الماء! حتى ولو لم تسخّر لي أداة الكتابة أو وسيلة نشر تسمع الجميع صوتي!! فأنا إن لم أكتب أموت! وبموت المثقف صاحب الرأي الحر الجريء .. يموت الحق وتُزيّف الحقيقة .. ص 24)

وتتحدث بسيسو في قراءتها لديوان (الكتابة على الماء والطين) عن الأحزان والآلام التي حفزت روح التحدي والمقاومة عند جيل كامل من الأطفال مما أفرز جيلا متمردا (أطفال الحجارة) وسيلته الوحيدة في مواجهة واقع مليء بالبؤس والتشرذم والضياع هي الحجارة، ويتابع النقاد في دراساتهم ارهاصات الحالة الوطنية والقومية عند القاسم فها هو الناقد الدكتور أنور الشعر يكتب في دراسته المعنونة (ثنائية الوطن والمنفى في شعر نضال القاسم) عن رؤية الشاعر للوطن والمنفى في المجموعات الشعرية (تماثيل عرجاء ومدينة الرماد والكتابة على الماء والطين وأحزان الفصول الأربعة) حيث يقول (... فقدم الشاعر صورة مركبة لشيء ساكن وهو الوطن الأسير في وسط حشد من الأشياء المتحركة : الجواد، الخريف، الصيف، والربيع، والخيول، والجنود، فنرى عالما يمور بالحركة والتغيير ما عدا الوطن، وكأنه جسم ثابت مستقر في مكانه بسبب القيد والأسر ... ص 42) ويسترسل الناقد الدكتور أنور الشعر في وصف صورة الهم الوطني في تجربة القاسم متتبعا المفردات المتلاحقة الدالة على القوة والثورة والمقاومة والتي يستخدمها الشاعر ببراعة واقتدار كما ويستحضر القاسم صور البطولة من التاريخ كخالد بن الوليد وصلاح الدين الايوبي في مواجهة الحاضر المليء بالضعف والانقسام والتردي (.. وأخيرا يوصلنا الشاعر إلى رؤيته وهي أن الوطن معادل للحياة ومن ثم فإن فقدان الوطن معادل للموت ..... ص 64)  ولقد تناول القاص والروائي صبحي فحماوي الجانب الوطني من خلال دراسته المعمقة لديوان أحزان الفصول الأربعة ( أشعار نضال القاسم تبث أحزان الفصول الأربعة ص 121) حيث تتطرق الأديب فحماوي لفكرة المقاومة ضد الاحتلال والسعي للحرية وقسوة الغربة ومعاناة السجن والقضبان ولفكرة البطولة التي مثلها الشاعر في شخصية الشهيد عمر القاسم (مانديلا فلسطين) حيث يقول الكاتب فحماوي (... الحديث حول جراحات وطن يحمله نضال القاسم على كتفيه ويدور فيه مثل حلزونة تحمل قوقعتها على ظهرها وتدور .. هكذا هو يدور .. من طوكيو إلى بيجن إلى إيطاليا فالبرازيل وغيرها من البلدان التي زارها ... ص 126) ولقد تناول الشاعر عبدالكريم أبو الشيح ثنائية المنفى والوطن عند القاسم من خلال دراسته (النفي والاغتراب في ديوان تماثل عرجاء للشاعر نضال القاسم ص 163) حيث تتمحور فكرة الوطن وحضوره القوي في معظم قصائد الديوان من خلال الإحساس العالي بقسوة المنفى والابتعاد عن جمال الوطن وعاطفته القوية الراسخة في الذاكرة من خلال تراث يفيض بالذكريات والحنين ومن الملامح الوطنية التي تظهر في قصائد القاسم تمسك الشاعر بالمكان البيت رمزا للوطن السليب كما ظهر جليا في دراسة للناقد للدكتور نايف العجلوني بعنوان (جماليات المكان في ديوان أحزان الفصول الأربعة لنضال القاسم ص 263) حيث يتذكر الشاعر بحنين طاغ جمال البيت الأول واجوائه الريفية الجميلة وتمثل صورة البيت تراثا مليئا بالطفولة والحب والحنين حيث بين الاب والام والوطن والطفولة (...وتظل صورة البيت القديم بدلالاتها الذاتية والقومية تلحّ على الشاعر في قصيدة الخيل والليل والتي تتداعى فيها صور الأب بما هو رمز للجذر التراثي وخيل المتنبي وليله كما تتداعى صور القمح والبرتقال والبحر والرعاة والعطور والظلال والألوان وألحان الميجنا والعتابا واغاني الأم الفلكلورية القديمة ... ص 265)

تقول الدكتورة رانية الغاوي حول أسلوب الشاعر نضال القاسم في استحضار قصيدته (... الشعر عنده هو الشعر في أيّ شكل وفي أيّ بنية) وتناولت العديد من الدراسات النقدية اسلوبية الشاعر الفنية وانطلاقه بحرية وثقة من عالم قصيدة التفعيلة نحو عالم النثر دون تعثر او إخفاق ففي دراسة للدكتورة دلال عنبتاوي بعنوان (ظاهرة التكرار في ديوان الكتابة على الماء والطين لنضال القاسم) تتناول الناقدة أسباب وملامح ونتائج تكرار الألفاظ او الجمل او الأحرف (أحرف الجر) او الأدوات (أدوات النداء) او أسماء الإشارة ودلالة ذلك معنويا وأدبيا ونفسيا وتفسر كيف استطاع الشاعر توظيف هذه الظاهرة بما يخدم الفكرة والقصيدة (... في الحقيقة إن الحديث عن توظيف التكرار في هذا الديوان يطول كثيرا لأن الشاعر وظّفه توظيفا جميلا للتعبير عن مكنونات ذاته وخفاياها وما تجليه ذاك بأشكال عدة إلا تعبير عن حالة من حالات التعلّق بالأشياء التي يعانيها المبدع حين يصعب عليه امتلاك أشيائه التي يحبها فيلجأ إلى تكريسها وخلقها بشكل مضاعف ولعل إحدى الطرق هي تكرارها حتى ترسخ عنده وتصبح علامة فارقة في تجربته وعند المتلقي ليظل لها حضورها المتميز ... ص 108) وحول ظاهرة التكرار عند نضال القاسم يكتب أيضا الناقد الدكتور نضال الشمالي دراسته تحت عنوان (في فصول نضال القاسم الأربعة كيف يكون التكرار تميمة ؟ ص 273)  اما الناقد د سلطان الخضور فقد تناول موضوع الانسنة في أشعار القاسم وقدرته الفائقة على إضفاء صفات إنسانية على الأشياء وسبغها بطبيعة بشرية من خلال الأحاسيس والمشاعر والصفات والاشكال حيث ظهر ذلك في دراسته المعنونة (الأنسنة في ديوان تماثيل عرجاء للشاعر نضال القاسم .. ص 109) بينما تناول الناقد سليم النجار في دراسته المعنونة (الكتابة على الماء والطين لنضال القاسم مجنون الماء ..ص 117) قدرة الشاعر على تجاوز الأطر العادية وخلق عالم مواز بقوانينه وعاداته وطباعه المختلفة فيما يمثل انتقادا ورفضا صارخا لعديد من المظاهر الاجتماعية العادية حيث يقول النجار في بداية دراسته (... تحاول هذه القراءة أن تبرهن على أن الالتزام الشعري يتمثل في نشوزه عما اُجتمع عليه من تصنيفات وقوالب ورؤى جاهزة وتوضح أن الخطاب الشعري فن إنساني يتحدى ما استقر في الأذهان من صور ويتميز عن سواه من الخطابات بسعة مجال تأويله كما أن الشعر يتحدى الخطاب الاجتماعي السائد .... ص 117) ويتناول الشاعر الناقد عبدالرحيم جداية الأسلوب الشعري للشاعر القاسم بكثير من التفصيل والتعمق والابداع حيث يحاول في دراسته (البناء والتركيب الشعري في ديوان أحزان الفصول الأربعة للشاعر نضال القاسم .. ص 135) ان يقترب كثيرا من الأسلوبية الخاصة للشاعر ومحاولة تفكيكها للوصول للطريقة التي يعرض الشاعر فيها أفكاره وأحاسيسه وعواطفه من خلال دراسة خاصية البناء والتركيب والاضافة والحذف وإطلاق الأسماء وتقابل الحضور والغياب والثنائيات المتقابلة وقدرته على التحليق بعيدا عن قيود التفعيلة والأطر الكلاسيكية الشعرية حيث يقول جداية عن البناء الشعري في قصيدة القاسم (... هذا البناء الشعري المحكوم بالتكثيف وقصر النص الشعري لكن اللغة هي الركيزة الأبرز في بناء قصيدته التي تحفل بقاموس واسع يحمل المتداول وينوع في الالفاظ والمفردات ... ص 135) ويصور الناقد الدكتور عماد الضمور أسلوب الشاعر من خلال تركيزه على قدرة الشاعر على خلق صور مشهدية تقترب من الحكاية وتنبثق عنها حيث يقول الضمور (.. يصدر الشاعر في قصائده عن ملكة مركبة تجمع بين القصص والدراما والتصوير مما بمكن المتلقي من رصد لوحات شعرية مليئة بالحركة والحياة والفكر إضافة إلى الفن الذي تتجلى من خلاله تجربة نضال القاسم الشعرية ... ص 170) ويواصل الضمور في دراسته المعنونة (صراع الأصوات في ديوان احزان الفصول الأربعة للشاعر نضال القاسم) دراسة الأصوات المتعددة التي استخدمها الشاعر مثل الصوت التراثي وصوت الرفض والتمرد وصوت الشاعر وصوت الأب كما وتطرقت الدكتورة ماجدة صلاح لقدرة الشاعر على خلق مشهدية تمثيلية باستخدام النص الشعري وذلك في دراسة حملت عنوان (المشهدية الشعرية في أحزان الفصول الأربعة ص 217) حيث تناولت استخدام الشاعر لتقنية اللقطة السينمائية لتجسيد فكرة القصيدة بالحركة والمشهدية والصورة والحوار واستحضار رموز عربية وتاريخية وإسلامية وحشد العديد من أسماء المدن والمقاهي والأماكن (... ويبقى الشاعر نضال القاسم من الشعراء الذين يسيرون نحو التجديد والتجريب مطلقا لشعره العنان للتحليق والابتكار بلا قيود تحد من دفقاته الشعرية التي تنبع من شعوره الداخلي ورؤيته للحياة والواقع ... ص 223) ولعل دراسة الشاعر غسان تهتموني (أنساق القصيدة تماثل عرجاء لنضال القاسم ص 189) تتناول جانبا مهما من قصيدة القاسم من حيث قدرته على بناء نص محكم باستخدام كثير من الأساليب الشعرية المختلفة كالتكرار والتعمق في تفاصي النفس البشرية واحزانها وآمالها اما الناقد والروائي الدكتور محمد القواسمة فيشير في دراسته (حضور النثر في كلام الليل والنهار لنضال القاسم ص 257) الى ان النثر كان حاضرا في كثير من قصائد المجموعات بدرجات متفاوته حيث كان طاغيا في بعضها وفي البعض الآخر لامسها ملامسة خفيفة ويمكننا هنا ان نشير بكل وضوح للدراسة المطولة للدكتورة ماجدة صلاح (تداخل الاجناس الأدبية في شعر نضال القاسم ديوان كلام الليل والنهار أنموذجا ... ص 225) حيث تقول الناقدة ( استطاع القاسم وباقتدار توظيف بعض تقنيات الدراما المسرحية والقصة والسينما في شعره توظيفا عمّق تجربته وأثرى شاعريته ورفع مستوى التأثير ... ص 249)

وفي الختام نؤكد ان هذا الكتاب النقدي يعتبر إضافة نوعية للمكتبة النقدية الأردنية ويدل على جهد مشكور للناقدة الدكتورة رانية الغاوي والتي استطاعت إلقاء الضوء على العديد من الجوانب الهامة في تجربة الشاعر المبدع نضال القاسم.

***

د. عمر الخـواجا

عندما يتغلغل الحزن عميقاً في زوايا الدار، يأنس الإنسان إليه طوعاً، ويستكين إلى وقعه اليومي الآسر، فيغدو الوقت مجرد فسحة للتوقعات المبهمة واحلام اليقظة، بل ويتجرد من سمته التقادمية قبل أن يتحول إلى غول ينهش الحنايا ببطئ أليم، محرقاً الأضلاع، فاقداً الإحساس بالموجودات. إلاً أن المأساة آنذاك تكون قد تجاوزت مساحة البيت إلى خارج الذات، الى فضاء الوطن الواسع، فيضج بالوجع والانتظار الممل، وترى شفاه الناس المتيبسة من حوله تتمتم بالصلوات والرجاء المتطلع إلى منحة ربانية يعيد للزمن رتابته، وهدوءه، وأمانه المفتقد !

ليس من الضروري الاستعانة بفخامة الكلمات المنتقاة والجمل القصيرة الفضفاضة، فلقد كان دستويفسكي مسرفاً في توظيف الكلمات البسيطة في الظاهر، لكنه كان يحقق في سياق السرد بُنيةً لغوية متماسكة في التداخل والتعقيد، ويجعل الأشياء العادية مرئية وموحية وصادمة تمهيداً لتثبيت تجربةٍ مذهلة تضج بالمشاعر والحزن والأسى، وهكذا يحذو الشعر الحديث بل والادب عموماً حذوه أو على مثيله، ويشكل الشاعر عبدالحميد صافي العاني نموذجاً لهذا التوصيف، فقد بدا واضحاً في نصوصه المتأخرة بأن العاطفة والود والتغزل بالحبيبة لم تعد تشكل محاور نصوصه المجروحة.

لا شك ان الحزن في حياة العاني طارئ وجديد، وأضحى يمور بين نصوصه الشعرية نتيجة إختفاء نجله الكبير بعد إنتزاعه عنوةً من قبل مجاميع مسلحة ربما بسبب إسمه أو كنيته أو اللهجة التي يتكلم بها أو لأي سبب لا يبرر قساوة الفعل، فأشعلت بذلك نارا متقدة لا تخبو في الأفئدة ولا تلين في أروقة الدار الموجوعة فظل الوالد كما كان والد يوسف ينتظر منذ سنوات من ينقذ فلذة كبده من غياهب الجب المجهول بل ومن يجلب له خبراً يريح النفس:

اشتعلت بك.

كما يشتعل حجر في بئر قديم.

لا ماء فيه ولا نجاة.

أنت الغائب

وقميصك الريح.

إرسله فيصير العمى شجرة تثمر عيوناً جديدة.

أنا الذي فقد وجهه في المرايا

وأنا الذي ينتظر ظلك

على حافة لغة لا تُقشر.

يوسف لم يأت.

وكرد فعل طبيعي أصبح العاني يدرك بأن المعضلة ليست شخصية، وأن هناك اسباباً موضوعية تتصل بالوطن وما تعج به من أحداثٍ مؤلمة ومشكلات ذاتية، ثم أن الحدث لم يضحى فريداً بل تجلى في ظاهرةٍ تعصف بكيان الآف المكلومين حوله وهي دون أدنى ريب تنتظر بديلا ً يمنح الناس الأمان المفتقد:

لا تُناديني بوطنٍ

إن كان سقفه من خوف،

وأرضه من رماد،

وأطفاله يولدون

وفي أفواههم كمامات الصمت.

أنا لستُ ابنَ الحدود المرسومة بالدم،

ولا ابنَ النشيد المعلّب في الصباح،

أنا ابنُ الشوارع المكسورة،

والأحلام المهاجرة،

والعصافير التي ترفض

أن تغني في قفص.

لن أرفع الراية إلا إذا كانت

من قماش الحقيقة،

ولن أصفق إلا لريحٍ

تقتلع العروش

وتزرع مكانها حقولاً من العدالة.

من المؤلم حقاً أن يشعر المرء بالغربة في وطنه بعد المجريات التي هدّت كيانه واستقرار اسرته واشاعت الغموض في الآت من الزمن القاتل فغدت الموجودات ادوات رعب وتحسب وحذر، فيتلفت حوله بغرابة هل هذا هو الوطن كما عرفه منذ ولادته ؟ وصدق أبو حيان التوحيدي حين قال: (أغرب الغرباء من صار غريباً في وطنه ) فيضطر أن ينضم الى سرب المغادرين ويحمل حقيبته باحثاً عن ملجأ بعيد. وهذا ما إختاره العاني، لكن البديل لن يكون وطناً ابداً:

في المطارات،

كنا نطيرُ بلا أجنحة،

وتُفتَّشُ أرواحُنا كما تُفتَّشُ الجيوب،

ثم نُختمُ بختمٍ بارد،

كأننا طرودٌ فقدت عنوانَها.

كنتُ أرى الحقائبَ تتثاءبُ

وتحلمُ بمسافةٍ أخرى،

وأرى وجوهاً لا أعرفها

تسقطُ من عيونها خرائطُ صغيرة

لا تشيرُ إلى أحد.

الغربةُ؟

هي أن تضعَ رأسكَ على كتفِ مدينة،

فتديرُ وجهَها إلى الجهةِ الأخرى !!

في الغربة قد يميل الشاعر الى توثيق معاناته ولوعته وإنتظاره المرهق بل وربما يحن الى تلك اللغة الوارفة التي بَصَمت حروفه زمنا طويلاً، إلا أنه يعدل عن ذلك ويبقى يحفظ لتلك الأرض الممهورة بعرق جبين الأجداد الود ويتحاشى أن يخلف ورائه ما يشير الى جحود الحاضر ونكران الأحفاد:

كتبتُ لها رسالةً

بلون الدم،

ووضعتها في خوذة جندي مجهول.

قالوا لي:

"الحبّ في زمن البنادق خيانة."

فمزّقتُ الرسالة

وأكلت الورقة…

لئلا يقرأها التاريخ.

هناك في تلك الارض البعيدة يضج نشيد الوطن بالذكريات والحنين والتلاقي، وهناك الناس يتخطون مسرعين يتجاهلون كمَد الغريب واللهيب المتوهج في روحه، فيشعر العاني بأثقال العزلة والتفرد ويلم وجعه الكسير بإنتظار القادم الذي يأتي ولا يأت:

الناسُ يَمْضون كأنَّكَ رِيحٌ عابرة،

لا يَسألون عن جُرحٍ يَنزفُ فيكَ،

ولا يَلتفتون لِعمْقِ السُّكوتِ في روحِكَ.

عِشْ لِنَفْسِكَ…

فأقرب الوجوهِ إليك قد يَرحلُ بلا سبب،

وأصدق القلوبِ قد يَغدو غريبا بين ليلةٍ وأُخرى،

ولا يبقى معكَ آخر الليل

إلّا صوتُكَ… يَسندُ وجعكَ.

لقد حرص العاني بادواته الشعرية التي اتسمت لغتها بالقصدية والبساطة ان يحيل نبضات قلبه الموجوع الى رؤية مبصرة تتجاوز ذاته الى مأساة مجتمع يتعايش مع جراحه وهو لا يزال في النفق الطويل.

***

محمد حسين الداغستاني

المقدمة: يُعدّ الشعر العربي الإفريقي أحد أبرز المظاهر الأدبية التي عبّرت عن التفاعل الحضاري والثقافي بين العروبة والإفريقية، إذ شكّل فضاءً فنياً وإنسانياً لتجسيد قضايا المجتمع وتطلعاته نحو التحرر والعدالة والكرامة. وقد مثّل هذا الشعر مرآةً صادقةً لواقع الإنسان الإفريقي العربي، بما يحمله من صراعات الهوية، وتحديات التنمية، ومطالب الإصلاح الاجتماعي والسياسي.

يهدف هذا البحث إلى دراسة حضور القضايا الاجتماعية في الشعر العربي الإفريقي، وتحليل كيفية توظيف الشعراء للغة الشعر في التعبير عن هموم مجتمعاتهم، مع إبراز الخصائص الفنية والفكرية التي ميّزت هذه التجربة عن غيرها من التجارب الشعرية العربية. كما يسعى إلى الكشف عن الدور الذي اضطلع به الشعر في تشكيل الوعي الجمعي، وإسهامه في بناء خطاب ثقافي مقاوم للتهميش والتبعية.

إشكالية البحث

كيف عبّر الشعر العربي الإفريقي عن قضايا المجتمع؟ وما الخصائص الفنية والفكرية التي ميّزت هذا التعبير عن غيره من التجارب الشعرية العربية؟

فرضيات البحث

الشعر العربي الإفريقي يمثل صوتاً اجتماعياً يعكس الواقع المحلي والإنساني.

القضايا الاجتماعية في هذا الشعر تتنوع بين الحرية، والهوية، والعدالة، والتعليم، ومكانة المرأة.

اللغة الشعرية الإفريقية العربية تمتاز بخصوصية نابعة من التفاعل بين الثقافة العربية والإفريقية.

الشعر العربي الإفريقي يسهم في بناء وعي جماعي مقاوم للهيمنة الثقافية والسياسية.

أهداف البحث

تحليل أبرز القضايا الاجتماعية في الشعر العربي الإفريقي.

إبراز الخصائص الفنية التي استخدمها الشعراء للتعبير عن هذه القضايا.

دراسة العلاقة بين الشعر والمجتمع في السياق الإفريقي العربي.

توثيق نماذج شعرية تمثل هذا الاتجاه الأدبي والاجتماعي.

الكشف عن البعد الإنساني في التجربة الشعرية الإفريقية العربية.

منهج البحث

يعتمد البحث على المنهج التحليلي الوصفي، من خلال تحليل النصوص الشعرية الإفريقية العربية وربطها بسياقاتها الاجتماعية والثقافية والتاريخية. كما يستعين بالمنهج المقارن عند الحاجة لمقارنة التجارب الشعرية الإفريقية بنظيراتها في المشرق والمغرب العربيين، بهدف إبراز الخصوصية الفنية والفكرية للشعر الإفريقي العربي.

المحور الأول: الإطار النظري

تعريف الشعر العربي الإفريقي

هو الشعر المكتوب بالعربية في البلدان الإفريقية جنوب الصحراء وشمالها، والذي يجمع بين الموروث العربي والإفريقي في اللغة والرمز والخيال. ويُعدّ امتداداً للأدب العربي في بعده الإنساني، مع خصوصية نابعة من البيئة الإفريقية الغنية بالتنوع الثقافي واللغوي.

نشأة الشعر العربي في إفريقيا وتطوره

بدأ الشعر العربي في إفريقيا مع انتشار الإسلام واللغة العربية، فكان في بداياته شعراً دينياً وتعليمياً، ثم تطور ليعبّر عن قضايا المجتمع والسياسة والهوية. ومع حركات التحرر الوطني في القرن العشرين، تحوّل الشعر إلى منبر للمقاومة والتعبير عن الذات الإفريقية الحرة.

العلاقة بين الأدب والمجتمع في الفكر النقدي العربي والإفريقي

يرى النقاد أن الأدب مرآة المجتمع، وأن الشعر بوجه خاص يُعدّ وسيلة للتعبير عن التحولات الاجتماعية والسياسية. وقد أكد عبد الله الطيب في كتابه المرشد إلى فهم أشعار العرب (دار الفكر، 1985، ص 45) على أن الشعر العربي ظلّ مرتبطاً بالوجدان الجمعي، وهو ما ينطبق على التجربة الإفريقية العربية التي جعلت من الشعر أداة للتعبير عن الوعي الجمعي والهوية المشتركة.

المحور الثاني: القضايا الاجتماعية في الشعر العربي الإفريقي

قضية الحرية والتحرر من الاستعمار

تناول الشعراء الإفريقيون العرب موضوع الحرية بوصفها جوهر الوجود الإنساني، فكانت قصائدهم صرخة ضد الاستعمار والظلم. وقد جسّد محمد الفيتوري في أغاني إفريقيا (دار العودة، بيروت، 1969، ص 22) روح المقاومة الإفريقية، حيث جعل من الحرية رمزاً للكرامة الإنسانية، ومن النضال طريقاً للتحرر من القهر السياسي والاجتماعي.

ومن الشواهد الدالة على ذلك قوله في إحدى قصائده التي تمجّد نضال القارة الإفريقية ضد الاستعمار، حيث تتجلى صورة الإنسان الإفريقي المقهور الذي ينهض من رماده ليعلن ميلاد الحرية. كما عبّر الشاعر السنغالي عبد الله بن ياسين في ديوانه صوت الطبول البعيدة عن رفضه للقيود الاستعمارية، مصوراً الحرية كطائر يحلّق فوق أرضٍ عطشى تنتظر المطر.

قضية الهوية والانتماء

عبّر الشعراء عن صراع الهوية بين العروبة والإفريقية، وسعوا إلى صياغة هوية جامعة تتجاوز الانقسام الثقافي. فالشاعر الإفريقي العربي يرى نفسه امتداداً لحضارتين متكاملتين، لا متعارضتين. وقد عبّر أحمدو بن عبد القادر في ديوان الشاعر الإفريقي (نواكشوط، 1998، ص 67) عن هذا الوعي المزدوج الذي يجمع بين الانتماء العربي والروح الإفريقية الأصيلة، حيث تتجلى في شعره رموز الصحراء العربية إلى جانب الغابات الإفريقية، في تزاوج فني يعكس وحدة الوجدان.

ومن الشواهد الشعرية التي تجسد هذا التداخل قوله في إحدى قصائده التي يستحضر فيها جذوره العربية والإفريقية معاً، فيصور ذاته جسراً بين ضفتي التاريخ والثقافة. كما نجد لدى الشاعر التشادي أحمد عبد القادر في قصيدته أنا ابن النيل والصحراء تصويراً بديعاً للهوية المزدوجة التي تتغذى من نهرين: نهر العروبة ونهر إفريقيا.

قضية العدالة الاجتماعية

ركّز الشعراء على معاناة الفقراء والمهمشين، ودعوا إلى المساواة والعدالة في توزيع الثروة والفرص. فالشعر هنا يتحول إلى صوت الضمير الجمعي، كما أشار محمد مفتاح في الشعر والمجتمع (الدار البيضاء، 2001، ص 103)، حيث يصبح النص الشعري وسيلة لفضح الظلم الاجتماعي.

ومن الشواهد البارزة في هذا السياق قصائد الشاعر السوداني التجاني يوسف بشير، الذي صوّر في شعره معاناة الطبقات الكادحة، ودعا إلى العدالة بوصفها قيمة إنسانية عليا. كما نجد لدى الشاعر الموريتاني الشيخ ولد بلعمش في ديوانه مراثي الطين صوراً مؤثرة للفقر والحرمان، حيث تتحول الأرض إلى رمز للإنسان المقهور الذي ينتظر عدالة السماء.

قضية التعليم وبناء الوعي

احتفى الشعراء بالتعليم باعتباره وسيلة للتحرر من الجهل والتبعية، وعدّوه سلاحاً في مواجهة التخلف. ففي قصائد الشاعر النيجيري محمد الأمين، تتكرر الدعوة إلى العلم بوصفه طريقاً للنهوض بالمجتمع الإفريقي العربي. ومن الشواهد قوله في إحدى قصائده التي تمجد القلم والمعرفة باعتبارهما نوراً يبدد ظلمات الجهل. كما عبّر الشاعر الغيني عبد الرحمن باه في ديوانه أغصان المعرفة عن التعليم كقيمة روحية واجتماعية، تربط بين الماضي المجيد والمستقبل المشرق.

قضية المرأة ومكانتها في المجتمع

لم تغب المرأة عن التجربة الشعرية الإفريقية العربية، إذ تناولها الشعراء بوصفها رمزاً للحياة والخصب والنضال. فقد صوّر محمد الفيتوري المرأة الإفريقية في قصائده كأمٍّ مناضلة تحمل عبء الأمة، بينما عبّر الشاعر الموريتاني أحمدو ولد عبد القادر عن المرأة بوصفها شريكة في بناء المجتمع، لا مجرد تابع له. ومن الشواهد الشعرية التي تجسد هذا الوعي قوله في إحدى قصائده التي يصف فيها المرأة بأنها "وجه الوطن حين يبتسم"، في إشارة إلى دورها في صناعة الأمل.

الخاتمة

يتضح من خلال هذه القراءة أن الشعر العربي الإفريقي لم يكن مجرد تعبير جمالي، بل كان فعلاً اجتماعياً وثقافياً يسعى إلى التغيير. فقد عبّر الشعراء عن قضايا الحرية والهوية والعدالة والتعليم والمرأة بلغةٍ مشبعة بالرمز والإيحاء، مستلهمين من بيئتهم الإفريقية روح المقاومة ومن تراثهم العربي عمق البيان. وهكذا شكّل الشعر العربي الإفريقي جسراً بين الثقافتين، ومجالاً لتجسيد الوعي الجمعي في مواجهة التهميش والاستلاب، مما جعله أحد أبرز الأصوات الأدبية في مسيرة النهضة الإفريقية العربية الحديثة.

***

خليل  حمد

تأتي هذه الدراسة لتقرأ قصيدة «آه» للشاعر الدكتور محمود جمعة بوصفها نصّاً ينهض من عمق الجرح الإنساني، ويحوّل الأنين اليومي إلى خطابٍ يحمل ملامح المعرفة وحرارة الإحساس معاً. فليست «آه» هنا مجرّد صيحة ألم، بل هي مفتاحٌ دلاليّ يفتح باباً واسعاً على التجربة الوجودية للشاعر، حيث تتداخل البنية اللغوية مع الصورة الرمزية، ويتحوّل الوجع إلى لغة، وتصبح اللغة نفسها طريقاً إلى كشف ما يستتر خلف الكلمات من توترٍ نفسي وتحوّلات شعورية. وتستهدف هذه الدراسة الكشف عن البنية الأسلوبية التي شيّد بها الشاعر عالمه الداخلي، وتحليل صوره واستعاراته، واستقصاء الرموز التي تشكّل النسيج العميق للنص، وفق منهج يزاوج بين القراءة اللغوية، والتحليل الأسلوبي، والمقاربة الرمزية التأويلية.

الدراسة النقدية اللغوية–الأسلوبية–الرمزية:

أولاً: القراءة الموضوعية العامة

تقوم القصيدة على مركزية الآه بوصفها حرفَ صوتٍ قبل أن تكون كلمة؛

إنّها البوّابة التي يدخل منها الشاعر إلى فضاء الألم، فيحوّل الأنين إلى خطاب، والوجع إلى معنى، والحزن إلى شكل من أشكال المعرفة.

يتحرّك النص بين ثلاثة مستويات وجودية:

1. الحزن بوصفه تجربة كونية (ليل، غيم، مطر).

2. القلب بوصفه مركز الهشاشة الإنسانية.

3. الدرب بوصفه استعارة الوجود كلّه.

ثانياً: الدراسة اللغوية

1. المفردة وبنية الاشتقاق.

تتكئ اللغة على مفردات ذات حمولة وجدانية عالية: (ليل، جرح، صمت، نافذة، ريح، غيم، حزن، قلب، حجر، ماء، وجع، درب، تعب…).

يقوم الشاعر على التضاد الصوتي والدلالي: الحجر/الماء – الصمت/الحزن – الظل/الحياة الأخرى.

كثافة الأفعال المضارعة تمنح النص حركة مستمرة نحو الداخل (ينام، يسأل، يطوي، يمشي).

2. التركيب:

الميل الواضح إلى الجمل القصيرة المكثفة مثل:

«ليس ظلاً، بل حياةٌ أخرى»

«يحبّ أكثر مما ينبغي»

وهذا يمنح النص إيقاعاً نفسياً متقطعاً يعكس طبيعة الوجع.

استخدام النفي المتكرر (ليس، لم يجد، ليت) يعزز النبرة الوجودية للبناء.

ثالثاً: الدراسة الأسلوبية

1. الموسيقى الداخلية:

تعتمد القصيدة على الإيقاع الهادئ، المرتكز على التوازي والترجيع الصوتي لكلمة «آه» التي تعود في مطلع كل مقطع.

هذا الترجيع يُشكّل بديلاً عن القافية الثقيلة، ليصبح الوجع نفسه هو الإيقاع.

2. الصورة الشعرية:

الصورة متّسمة بخصائص أسلوب الشاعر الدكتور محمود جمعة:

البساطة المصحوبة بالعمق

الاستعارة الحيّة القريبة من الحسّ

مثل:

«الحزن نافذة انكسرت في الريح»

صورة تجمع بين المشهدية والتشخيص  والتجسيد، وتحوّل الحزن إلى كيان ينكسر ويسأل ويبحث.

3. الانزياح:

يمارس الشاعر انزياحاً دلالياً حينما يقول:

«الوجع الذي ينام على كتفي ليس ظلاً، بل حياة أخرى»

وهنا يتجاوز الوجع حدّ الشعور ليصبح حياةً كاملة، وهو انزياح يرفع التجربة إلى مستوى الوجود.

رابعاً: الدراسة الرمزية:

1. الرمز الكوني؛

الليل: رمز الامتلاء بالأسئلة والخوف والضيق الوجودي.

الغيم/المطر: رمز التحوّل والتطهّر وعودة الحياة، لكنه هنا مرتبط بالعطش الداخلي، مما يخلق مفارقة مؤلمة.

2. رمز القلب؛

القلب في شعر محمود جمعة ليس مركزاً للعاطفة فقط، بل مختبرٌ للتجربة الإنسانية.

قوله:

«يحبّ أكثر مما ينبغي، ويخسر أكثر مما يُحتمل»

يحمل بنية رمزية مفادها:

أنّ فائض الحبّ يولّد فائضاً من الخسارات — وهي ثنائية تتكرر في معظم تجاربه الشعرية.

3. الدرب:

الدرب رمز "الغاية" و"القدر" معاً.

وقوله:

«لو أنّ الدرب يعرف كم مشيت إليه»

يفتح باباً للتأويل الهيرمينوطيقي:

فالدرب هنا ليس مساراً مادياً، بل معنىً مُؤجَّل، يتمنّى الشاعر لو أنه يدرك حجم الجهد المبذول في الوصول إليه.

خاتمة نقدية:

تمثّل قصيدة «آه» نموذجاً لروح الشاعر محمود جمعة الشعرية:

بساطةٌ شكلية تقود إلى عمقٍ وجودي، لغةٌ واضحة تنفتح على فضاءٍ تأويلي واسع، ورمزٌ ينهض من اليوميّ ليبلغ مستوى الكونيّ.

في النص تتجلّى ثلاث قضايا جوهرية:

1. الألم بوصفه معرفة.

2. القلب بوصفه مسرح الكائن الإنساني.

3. الدرب بوصفه قدراً يتشكّل من داخل التجربة لا من خارجها.

النص ينسج علاقة بين الوجع والفهم؛ فلا يعود الأنين مجرّد انكسار، بل يتحوّل إلى صوتٍ يعلن أنّ الروح لا تزال حية.

انتهت هذه القراءة إلى أنّ قصيدة «آه» تمثّل نموذجاً جماليّاً يختزل روح شعر محمود جمعة، حيث يصبح الألم مادةً للمعرفة، ويغدو القلب مختبراً للوجود الإنساني بكل هشاشته وأسئلته. لقد أظهر النص قدرة واضحة على تحويل البساطة اللغوية إلى طاقة دلالية كثيفة، وعلى صوغ مشهدية رمزية تنقل القارئ من حدود التجربة الفردية إلى أفقٍ إنساني أعمّ. كما بيّنت الدراسة أنّ الشاعر يوظّف الإيقاع الداخلي، وتوازي الجمل، والانزياحات الدلالية، ليؤسّس قصيدة قريبة من الوجدان، عميقة في تأويلها، وممتلئة بما يسمّيه النقد الحديث «حرارة المعنى». وبذلك تُبرِز القصيدة قيمة الشعر حين يُضيء العتمة، ويمنح الوجع شكلاً قابلاً للفهم، ويحوّل «الآه» من صرخة إلى لغةٍ تُسهم في قراءة الذات والعالم معاً.

***

بقلم: عماد خالد رحمة - برلين

..........................

آهِ…

ما أضيقَ الليلَ حينَ يطوي خطاهُ على صدري،

وما أوسعَ الجرحَ إن لم يجدْ في قلبي سوى صمتهِ.

*

آهِ…

كم يشبهُ الحزنُ نافذةً انكسرتْ في الريح،

تسألُ الغيمَ عن اسمه،

وتسألُ المطرَ عمّن يبلّلُ هذا العطشَ المتراكمَ في الروح.

*

آهِ…

يا ليتَ قلبي تعلّم من الحجرِ قسوته،

ومن الماءِ سيلانه،

لكنّه منذ خُلِقَ…

يحبُّ أكثرَ مما ينبغي،

ويخسرُ أكثرَ مما يُحتمل.

*

آهِ…

هذا الوجعُ الذي ينامُ على كتفي

ليس ظلاً،

بل حياةٌ أخرى

أحملها على ظهري دون أن أفهمَ نهايتها.

*

آهِ…

لو أنّ الدربَ يعرفُ كم مشيتُ إليه،

لجلسَ لحظةً في الطريق

يصافحُ تعبي،

ويعتذرُ عن كلّ هذا البُعد.

"ورّاقة الجزائر" بعنوان «مات مظفر يا سادة»

تفتتح نادية نواصر قصيدتها بعنوانٍ مباشرٍ واستدعاءٍ علنيّ: «مات مظفر يا سادة» — عنوانٌ لا يكتفي بالخبر، بل يشي بالخطاب والتحريض والتأبين. النصّ يتحوّل سريعاً من حالة تأبين فردي إلى خطاب جماعي/سياسي؛ من ذاكرة شخصية إلى ذاكرة أمة. في هذه القصيدة تتداخل صور الحرب والوجع والوفاء مع لَغةٍ تنبش في تراكيبها موروث البلاغة والحكيّ الشعبي، فتنتج قصيدةً تفعّل وظيفة الشعر بوصفه ذاكرةً نقدية وموشّحاً أخلاقياً وسياسياً.

أولاً: الأسس اللغوية والبلاغية:

1. سلامة اللغة وبنية الأسلوب (تحليل التراكيب، الدقة اللغوية، الانزياحات، جمال الصياغة).

النصّ يتأرجح بين فصحى محكمة ودخيلِاتٍ لهجوية ومجازاتٍ مبتكرة. هذا التماوج يُولّد صوتاً شعرياً «مركّباً» يتعايش فيه الرسمي والشفوي:

١- التراكيب: الاتجاه نحو الجملة الخبرية/الإنشائية القصيرة («على حجر من نار توسدت خيبات الأمة يا مظفر») يمنح البيت طاقةً صادمةً منذ الافتتاح. هناك توظيف فعّال للتركيب الاسمي في مواضع، وللجمل الاستفهامية (أمثال: «اكان حزنك ينكر هندسة الجرح؟») التي تعمل على إيقاف القارئ واستدعاء التفكير.

٢- الدقة اللغوية والانزياحات: الشاعرة تختار مفردات قوية: «توسدت»، «صهد»، «الرفض»، «القيمة اللامنتهية»؛ ومن جهة أخرى تبتدع أو تستدعي أشكالًا تركيبية عامية («شاقوليا»، «كانحراف») أو إملائية غريبة في النقل التي قد تكون محاكاةً للّفظة أو إشارة إلى تشظّي الصوت/الذاكرة. هذه الانزياحات هي طاقة إبداعية؛ لكنها تتطلّب ضبطاً برمجياً في النص المطبوع (قضايا الإملاء والوقف).

٣- جمال الصياغة: وجود تراكيب مثل «الذاكرة الحبلى بالمعاني والاضداد والمرادفات والمتناقضات» يُظهر قدرة على تركيبٍ بلاغي قويٍّ يمزج العناصر وصياغة موسعة تكثّف الفكرة في صورة واحدة.

2. فصاحة اللفظ ووجاهة التعبير (التوازن بين اللفظ والمعنى، وملاءمة اللغة للموضوع).

١- الملاءمة: الأسماء المستعملة (مظفر النواب) تحمل ثقلًا معرفيًا وسياسيًا، فالفصحى القاطعة تلائم مقام التأبين والاحتجاج معًا. استخدام أحكام نحوية واضحة يخدم وضوح المقصود.

٢- التوازن لفظًا/معنى: غالبًا ما تُحقّق الشاعرة استثمارًا فعّالًا للاسم والفعْل: الفعل «مات» في العنوان هو دافع المعنى، والحشو البلاغي في المتن يوسّع التأويلات المعنوية. النص ينجح في أن لا يغرق في زخارف لغوية تُضعف المعنى؛ بل يمعن فيه.

3. الإيقاع والمعمار الصوتي (الوزن، القافية، الجرس، الموسيقى الداخلية، والتكرار)

١- إيقاع حرّ وداخلي: القصيدة أقرب إلى الشعر الحر، حيث يغيب الوزن التقليدي ولكن هناك إيقاعات داخلية تنتج عن تكرار أصوات معينة وسكونات درامية («مات مظفر يا سادة» يكرر الصَوت المَفْرُوق ويصنع وقعًا صادمًا).

٢- الجرس الصوتي: تكرار الحروف الشّاكية (ث، ص، ش، ق) يعطي النص حدةً صوتية مكافئة لحدة المعنى: وعي/صَهد/صمت/صُدْمة.

٣- التكرار: تكرار عبارات استنطاقية واستفهامية يعمل كرنة إيقاعية تستحثّ القارئ على التوقف والتأمل.

ثانيًا: الأسس الجمالية والفنية

1. البنية الفنية للنص (السرد، الزمن، الشخصيات، المعمار الشعري)

١- بنية تكثيفية/تركيبية: النصّ لا يتبع سردًا خطيًا؛ بل ينتقل بين ذاكرةٍ استدعائية وتصريحٍ مباشرٍ واستنطاقٍ هجائي. الحركة الشعورية تنطلق من صورة التأبين إلى سلسلة تساؤلات ومخاطبات («يا مظفر»/«يا سيد العارفين»/«يا سادة»).

٢- الزمن: النص يشتغل بثنائية زمنية: الحاضر الصادم (الخبر: مات) وزمن الذاكرة/المواجهة (أسئلة عن الممارسة والثورة والخيانة). هذا التداخل الزمني يعمل على اشتغال القصيدة كوثيقة تاريخية وفعل شعري في الوقت نفسه.

٣- لشخصيات: يتشكل داخل النصّ مشهد درامي: «مظفر» كشخصية أيقونية، الشاعرة (المتكلمة) شاهدةً وندًّا، و«السادة» كفئة نخبوية أو مخاطب/طائفة. هناك أيضًا «الرفاق» و«الذاكرة» كشخوص رمزية.

2. الرؤية الفنية (منظور الشاعرة للعالم، والانسجام بين الشكل والمضمون)

الرؤية هنا ملتزمة: الشعر ليس تجمّلًا بل فعل شهادة وسياسة. ثيمةُ «الوجع/الثورة/الخيانة» تقود الرؤية، والشكل القصيدي الحاد يخدم الصرخة. الانسجام واضح: لغة تصدّية متناسقة مع مضمون تأبينٍ متّهمٍ.

3. الطابع الإبداعي والانزياح الجمالي (الدهشة والتجديد)

١- الدهشة: يأتي من الدمج بين خطاب التأبين وخطاب المحاسبة: عكس التوقير التقليدي لتأبينٍ مُقدّس، هنا هناك مساءلة: «هل عضتك الذكريات؟ هل تساقط الوريد أشلاء من جراء الوعي؟» — صورةٌ مدهشة تربط بين الجرح النفسي والوعي السياسي.

٢- التجديد: استخدام صور طبية/جسدية («الوريد أشلاء») جنبًا إلى جنب مع مفردات الثورة والرمز الوطني يمنح القصيدة انزياحات جمالية فرّاقة.

ثالثاً: الأسس الفكرية والفلسفية:

1. الموقف الفكري للنص (الأسئلة الوجودية والأخلاقية).

١- الأسئلة المركزية: ما قيمة الكلمة في زمن الخيانة؟ كيف تولد القصيدة في خضمّ الوعي المكبل؟ ما معنى الوفاء للشعر؟ هل الوعي يُلدّ الحرية أم يسجنها؟

٢- القصيدة تقف موقفًا أخلاقيًا: لا تكتفي بالنعي بل تحاكم حال الأمة والمجتمع والثوريين أنفسهم.

2. الأفق المعرفي (المرجعيات الفكرية والتراثية والحداثية)

النص يستحضر «الرافدين» و«الثورة» و«الهوان» و«الخبز والملح» — مراجع تاريخية وإنسانية معروفة في ذاكرة النضال العربي. كما أنّ ثيمةُ «الوعي» و«الهُوْنة» تنتمي إلى أفق نقدي حداثي يربط بين الفلسفة السياسية وتجربة المثقف.

3. البنية العميقة للمعنى (الهيرمينوطيقا):

قراءة هيرمنيوطيقية تكشف أن موت «مظفر» يتحوّل لرمز؛ ليس مجرد وفاة إنسان بل موت صوتٍ مقاوم وفقدان قدرة على الحديث الصادق. القصيدة تقرأ الحدث كمحطة في مأساة استنزاف القيم، وتفتح باباً للتأويلات: هل يموت الشاعر فعلاً أم تموت المبادئ التي حملها؟

رابعاً: الأسس التاريخية والثقافية:

1. سياق النص (اللحظة التاريخية والبيئة الثقافية)

العنوان والمرجع إلى مظفر النواب (رمز شعر عربي معاصر عُرف بصراحته) يضع القصيدة في سياق الذاكرة السياسية (الجدل حول صوت المعارضة، القمع، فقدان الرموز). القصيدة قراءة تأبينية في زمن يُناسب المحاسبة والحنين.

2. تطور النوع الأدبي (موقع النص ضمن الشعر السياسي)

تقف القصيدة على خط الشعر الاحتجاجي/التأبيني الحديث؛ هي امتداد لتقليد يمتزج بين الشعر النقدي العربي ونصوص النعي السياسية. تنتمي إلى تيّار يكتب الذاكرة كأداة مقاومة.

3. ارتباط النص بالتراث:

توظيف أساليب البلاغة (نداء، سؤال بلاغي، تجسيم) يربط بين التراث البلاغي العربي وحداثة المضمون. كما تستدعِي الصورُ الشعبية والاجتماعية سياقًا ثقافيًا معبّرًا عن جذور القارئ.

خامساً: الأسس النفسية:

1. تحليل البنية الشعورية (الانفعالات، اللاوعي):

النص محمّل بانفعالاتٍ متقلّبة: صدمة/حزن/سخط/سؤال/هذيان. هناك لَحمة نفسية تشير إلى أن الفقد هنا مؤلم لأنه فقد معنى؛ أي أن الألم شخصي وجماعي معًا.

اللاوعي الشعري يظهر في صور متقطعة كالكوابيس («حجر من نار»، «الوريد أشلاء») التي تعكس اضطرابًا داخليًا تجاه تكرار الوجع التاريخي.

2. تحليل الشخصية سردياً (دوافع وتطورات)

الشخصية المحورية (الندّ المتكلم) تتحوّل من شهيدة متألمة إلى واعظةً متهمة. إنّها شخصية تجمع بين الحزن والنقد، وتصبح وسيطًا لنداء أخلاقي.

3. النبرة النفسية للنص (القلق، الحنين، الاحتجاج)

النبرة مركبة: تجمع حزن التأبين مع لهجة الاتهام/الاحتجاج. هذا المزج يخلق طاقة نفسية عالية تفرض على القارئ إحساسًا بالإلحاح.

سادساً: الأسس الاجتماعية والسوسيولوجية

1. علاقة النص بالواقع الاجتماعي (الهوية، الطبقات، الهامش)

القصيدة تنتقد حالة اجتماعية ثقافية: نخبٌ صامتة، خيانة رموز، افتقادُ محتويات العدالة. كما تضع أمام الجمهور تساؤلاً عن مسؤوليته تجاه الأصوات الحرة.

2. الخطاب الاجتماعي داخل النص (السلطة، الأخلاق، الأعراف):

مخاطبة «يا سادة» ليست فقط توجيهًا لمن في السلطة وإنما لكل من يتسامى عن مسؤولية الذاكرة. النص يفضح ازدواجية الأخلاق ويطالب بالصدق والانتصاف.

3. الكاتب/الكاتبة كفاعل اجتماعي.

نادية نواصر "ورّاقة الجزائر" تصير هنا فاعلًا نقدياً: لا تكتب للشعر وحده، بل تمارس دور مُنَذّرٍ وموثّقٍ ومثقفٍ مواطن.

سابعاً: الأسس السيميائية:

1. تحليل العلامات والرموز:

النار/الحجر/الوريد/الخبز والملح/الرافدين: كل رمز يشحذ دلالات متعددة: النار (التحرّك/الإحراق/النقاء)، الحجر (الصلابة/الصمت/الجمود)، الوريد (الحياة/الجسدية/الجرح)، الخبز والملح (الوفاء/الأساس المعيشي)، الرافدين (حضارة، هوية).

الاسم (مظفر النواب) رمز مركزي يحيل إلى صوتٍ وموقفٍ تاريخي.

2. شبكات الدلالات (التقابلات)

حياة/موت، صوت/صمت، وفاء/خيانة، وعي/قمع. هذه المقابلات تُغني مستوى التأويل وتمنح النص إمكانية قراءة متعددة الطبقات.

3. النظام الرمزي العام للنص (الألوان، الفضاءات، الأشياء)

الفضاءات: ساحة، جدار الرفض، تلال الثورة — تدل على مسرح سياسي.

الأشياء: الميكروفون أو القلم (مؤشرات ضمنية) تستحضر وظيفة الكلمة.

ثامناً: الأسس المنهجية (الصرامة العلمية).

البحث في منهج هرمنيوطيقا نقدية + نقد اجتماعي/سياسي + قراءة بلاغية لغوية.

التوثيق: استلزم البحث حفظ نص القصيدة بنسخة موثقة، ومقارنة مع نصوص مظفر النواب، ومراجع حول الشعر السياسي الجزائري والعربي.

الموضوعية: وتمييز ما يقوله النص صراحةً وما أضيفه كناقد كاستنتاج؛ الالتزام بالأدلّة النصّية شرط أساسي.

تاسعاً: الأسس الإنسانية والجمالية العليا

1. قيم الحرية والجمال:

القصيدة تعمل كنداء إنساني لقيمة الكلمة والكرامة؛ هي احتفاء بالجمال الأخلاقي للمتحدّث/المتحدّاة من شاعر يكافح النسيان.

2. الانفتاح على التأويلات

نصّ مثل هذا مولّد لقراءات: تأبينية، تاريخية، نفسية، سياسية؛ لذلك يظلّ إنجازها ليس اختزالًا بل تفسيرًا متعدد المستويات.

3. البعد الإنساني الشامل:

في نهاية المطاف، القصيدة تلامس البعد الوجودي: موت فردٍ يفضي إلى سؤال عن مصير الأمة وقيمها؛ وهو سؤال إنساني ينتمي لكل زمان.

خاتمة:

1. قصيدة «مات مظفر يا سادة» تعمل على مستوى مزدوج: تأبين شخصي/رمزي ومساءلة مجتمعية/سياسية؛ لذلك فهي نصّ التقاء بين الوجدان والسياسي.

2. اللغة في القصيدة ناجحة في جمع الفصحى والقوة البلاغية مع لمسات عامية وانزياحات إبداعية؛ هذا يجعلها قادرة على مخاطبة جمهور واسع وبناء وقعٍ صوتيٍّ قوي.

3. التناوب بين الصدمة والنقد والحنين يخلق طاقة شعرية عالية تجعل القصيدة فاعلة كخطاب ذاكرة ومضة اتهامية.

4. القصيدة تستدعي مرجعيات تاريخية وثقافية وتشارك في تقليد الشعر السياسي الاحتجاجي، لكنها تضيف صوتًا نسويًا/شاعريًا مميَّزًا في المشهد.

 عملية للتطوير:

1. تحقق نصّي: الحصول على نسخة موثّقة من الديوان مع تدقيق إملائي/نحوي (لملاحظة الانزياحات كـ«شاقوليا»).

2. مقارنة نصّية: دراسة مقابلة بين قصيدة ناديا نواصر ونصوص مظفر النواب لقراءة الحواريات/الردود أو الاستدعاءات.

3. توسيع مرجعي: استدعاء مراجع عن الشعر السياسي العربي، دراسات هرمنيوطيقا، ومراجع سوسيولوجية عن دور المثقف في المجتمع الجزائري.

4. مقابلات/حقول: إذا أمكن، قراءة المزيد من نصوص الشاعرة ناديا نواصر " ورّاقة الجزائر"، أو قراءات نقدية لها، لاستجلاء قصدها وصوتها.

 وتقديم نقد تطبيقي: إجراء تحليل بلاغي مصوَّر (جداول للكنايات، الاستعارات، التكرارات الصوتية) وتحليل سيميائي بصري للصور المتكررة.

***

بقلم: عماد خالد رحمة - برلين

.....................

من ديواني مات مظفر يا سادة

بقلم: نادية نواصر

رقم: 8

على حجر من نار توسدت خيبات الأمة يا مظفر

كابدت صهد المرحلة

واحتميت بجدار الرفض

وهو يعلو إلى حد قيمتك اللامنتهية

اكان حزنك ينكر هندسة الجرح

وشكل انينه؟

شاقوليا كان ام مخروطيا، ام كان على شكل الشبه المنحرف

كانحراف مبادىء عروبتنا، يا مظفر الفحل..

كنت تقول حياة هذه الامة وهي تنتزع من مخالب الهوان

كي تصرخ (أن الجوع ابو الكفار)...

وانت مارست الجوع وآمنت بالحجر الجائع للأورام والاوشام التاريخية

ايها الثوري الذي لا يشفى من ثورته

هل عضتك الذكريات من جهة القلب

وتساقط الوريد أشلاء من جراء الوعي؟

وان (زمانك أمير العقاب) كما غنت حكمتك على تلال الثورة

ماكان الصمت مشتهاك، ولكنه كان طنين الوجع

في الذاكرة الحبلى بالمعاني والاضداد والمرادفات والمتناقضات في هذا الوجود المغلف بالغمام

في حنين النار

قلت: كيف للنار أن تحمي النار؟

يا حامي الرافدين كيف تولد القصيدة حين بنتابها مخاض الوعي؟

وكيف يجيء الوعي مكبلا بسلاسل الغدر

على شرف الرفاق الذين وفرنا لهم الماء والخبز والملح

هذا زمن الخيانة بصدق

قل لي اذن يا سيد العارفين

والتأويل....؟!

 

توطئة: يُعدّ الأدب فضاءً معرفيًا وثقافيًا يتجاوز حدود الجماليّات التقليدية، إذ يمنح الأديب قدرة على التعبير عن ذاته وفي الوقت نفسه قراءة العالم وتأويله. فالنص الأدبي ليس بنية لغوية فحسب، بل هو نتاج علاقة معقدة بين الكاتب وخبرته الداخلية، وبين المجتمع بقضاياه وأسئلته. وفي هذا الإطار تبرز جدليّة الانغماس والتخارج بوصفها مدخلًا نقديًا لفهم كيفية تشكّل النص الأدبي من تفاعل مستمر بين البعد الذاتي والبعد الموضوعي.

إن دراسة هذه الحركة المتوترة بين الداخل والخارج تكشف أنّ الإبداع لا يتحقّق إلا عبر موازنة دقيقة بين التماهي مع التجربة الشخصية من جهة، واتخاذ مسافة نقدية تسمح للنص بأن يكتسب استقلاله وفاعليته بوصفه خطابًا ثقافيًا من جهة أخرى.

أولًا: الانغماس في النص

الانغماس هو لحظة التوحّد بين الأديب وعملية الكتابة، حين تصبح الكتابة جزءًا من الذات، وتمتد التجربة الفردية لتشكّل نواة الخطاب الأدبي.

- التعبير الشخصي المكثّف

في هذه المرحلة يتماهى الأديب مع النص تمامًا، فيغدو النص ترجمة لانفعالاته ورؤيته للعالم. وقد مثّلت روايات دوستويفسكي مثالًا واضحًا للكتابة المنغمسة في العالم الداخلي، إذ تنعكس صراعاته الوجودية والروحية في تفاصيل السرد والشخصيات.

- اللغة بوصفها مرآة نفسية

تتحوّل اللغة في لحظة الانغماس إلى وسيط نفسي، لا إلى أداة تقنية. فهي ناقلة للقلق، والذاكرة، والهواجس، والرؤى، بما يجعلها مرآة شفافة للذات الكاتبة. وقد أشار نقّاد عرب مثل عبد الفتاح كيليطو وجابر عصفور إلى الدور التوليدي للغة في تشكيل الوعي الأدبي.

- الحياة مادة للنص

تتواشج التجربة الحياتية مع الخيال لتشكّل مادة النص. فالأديب يعيد إنتاج الواقع عبر منظور فردي، فلا تكون الكتابة استنساخًا للواقع بل إعادة تشكيل جمالية له.

ثانيًا: التخارج عن النص

التخارج هو اللحظة التي ينظر فيها الأديب إلى النص باعتباره خطابًا مستقلاً، لا امتدادًا مباشرًا للذات، ما يسمح له بقراءة العالم من زاوية أشمل.

- التجريد الفكري

يتجاوز الأديب ذاته ليقدّم رؤى فلسفية أو وجودية أو اجتماعية أعمق. وهذا ما نجده في كتابات كافكا، حيث تتحوّل الأحداث إلى رموز كونية تُعالج علاقة الإنسان بالسلطة، والوجود، والمصير.

- المسافة النقدية

التخارج يتيح للكاتب مراقبة نصه بوعي نقدي، فيفككه ويعيد صياغته من منظور القارئ. هذا ما وصفه النقاد العرب بمفهوم "وعي الكتابة"، وهو القدرة على النظر للنص بوصفه «منتجًا ثقافيًا».

- الالتزام الاجتماعي

حين يكتب الأديب نصًا يتجاوز تجربته الشخصية ليعبّر عن قضايا عامة، يُصبح التخارج شكلًا من أشكال المسؤولية الأخلاقية. تتجلى هذه المرحلة مثلاً في كتابات نجيب محفوظ التي تُعبّر عن المجتمع المصري عبر مستويات رمزية وسوسيولوجية واضحة.

ثالثًا: جدليّة الانغماس والتخارج

لا يمكن للأديب أن يظل في أحد القطبين دون أن يفقد النص أحد أهم مصادر قوته. فالإبداع يتحقق عبر تفاعل دائم بينهما.

- النص كمرآة مزدوجة

يعكس النص ذات الكاتب كما يعكس العالم. وهذا ما سماه النقّاد «ازدواجية الرؤية»، حيث تتداخل التجربة الفردية مع البُنى الثقافية والاجتماعية.

- الحركة بين الذات والموضوع

قد يبدأ النص من تجربة شخصية، لكنه ينتهي إلى معنى كوني. ويتجلى هذا المزج في روايات ماركيز، حيث تنفتح الذاكرة الفردية على الذاكرة الجماعية والحكائية.

- الإبداع كتفاعل دينامي

الإبداع ليس حالة استقرار بل حركة مستمرة بين الانغماس والتخارج، بين الذات والآخر، بين الفردي والجماعي، وهو ما يمنح الأدب حداثته ومرونته.

رابعًا: انعكاسات الجدلية على القارئ

- النص بين الخصوصية والعمومية

يمتلك النص الذي ينجح في تحقيق التوازن بين القطبين قدرة على إثارة الأسئلة لدى القارئ، لأنه يحمل بصمة الكاتب دون أن يغلق أفق القراءة.

- تفاعل القارئ مع النص

النص الذاتي الخالص قد يُربك القارئ، بينما النص الموضوعي الخالص قد يفتقر إلى الدفء. أما النص الذي يزاوج بينهما فيمنح القارئ مساحة للتأمل والاندماج الوجداني.

- النص كفضاء للحوار

حين يبلغ النص توازنه، يصبح أرضية مشتركة بين الكاتب والقارئ، فيتحول الأدب إلى عملية تفاوض دلالي بين الذات والآخر.

خامسًا: أمثلة من الأدب العربي

- طه حسين

تجسّد «الأيام» نموذجًا للتوازن بين حميمية التجربة الذاتية ودلالتها الثقافية العامة، حيث تحولت السيرة الذاتية إلى وثيقة اجتماعية.

- غسان كنفاني

يمتزج في نصوصه الهمّ الفلسطيني العام مع الحساسية الفردية، فيظهر التخارج عبر الالتزام السياسي، بينما يظهر الانغماس في الأسلوب والشاعرية.

- محمود درويش

أوصل درويش الذاتي إلى الكوني؛ إذ انطلقت تجربته من الوجدان الفردي لكنها تحوّلت إلى خطاب إنساني شامل.

خاتمة

إن جدلية الانغماس والتخارج تمنح النص الأدبي عمقه وطاقته على التأويل. فهي التي تجعل الأدب قادرًا على التعبير عن الذات وفي الوقت نفسه على مساءلة العالم. ومن خلال هذا التفاعل الخلّاق بين الداخل والخارج، بين الفرد والجماعة، يظل الأدب أداة استكشاف للجوهر الإنساني، ومساحة للتفكير في قضايا الوجود والثقافة والمجتمع.

***

مجيدة محمدي

.......................

المراجع:

جابر عصفور، زمن الرواية، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1999.

صلاح فضل، نظرية البنائية في النقد الأدبي، دار الشروق، القاهرة، 1985.

عبد الفتاح كيليطو، الغائب: دراسة في المقامة، دار توبقال، الدار البيضاء، 1987.

ميخائيل باختين، خطاب الرواية، ترجمة فخري خضر، وزارة الثقافة السورية، دمشق، 1990.

رولان بارت، لذة النص، ترجمة رشيد بازي، دار توبقال، الدار البيضاء، 1990.

بول ريكور، الزمان والسرد، ترجمة سعيد الغانمي، المركز الثقافي العربي، بيروت–الدار البيضاء، 1999.

نجيب محفوظ، في حضرة النص (دراسات نقدية عنه)، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 2006.

محمد برادة، الذات في الرواية العربية، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، 1991.

 

قداسة القرب والطهر في الشعر الصوفي المعاصر.. قصيدة كأنك مريم للشاعرة التونسية السالمي هادية

- سيمائية السواد وطقوس الطهارة في روح القصيدة

حين تمتزجُ القداسةُ بالطهارةِ في النفسِ الهادئة، التي تُدرك أنَّ ربَّها على قُربٍ يَرى ويَنظر ويَسمع، وتعي هي أنّ قربَه نعمةٌ لا تُحصى، كلُّها قداسة… ما أجمل المرأ، وما أجمله من سياقٍ حين يَتهاوى الغريقُ في وسط الطهارة، تلك هي النفسُ يأتيها خبيرُها فتتّعظ، وتتملّك الصراحةَ والحقيقة.

الشاعرة السالمي هادية توغّلت بنا في القُرب، وبنتْ من سياقها الروحاني لحظةَ بوحٍ في سماءٍ صوفيةٍ غارقةٍ في البحثّ داخل أرخَبيلٍ مُقدَّس، فزرعتْ توبةً ضافيةً في قلوبنا.

- سيمائيةُ السواد وطُهرُ البياض

أغرقتِ الحمامةُ بالعطر الأسود كالمسك، لتُعبّر عن كآبةٍ بشريةٍ غطاها السواد. وفي مُوغِل القدم كانت الكآبةُ كاللّيلِ المُدلهم، لها صولاتٌ في الفزع والضياع، وتلك لحظاتٌ يعيشها الكائنُ القنوطُ حين تُربكه الطوارئُ طيلةَ حينٍ من الدهر، رغم وجود البصيص كنوافذ مُشرعة، وروائح القديد المنتصبة على المناضد، ولمّا يكون الذبابُ محلَّ العقد، تُزهر الكآبةُ في ظهورها غير نادمةٍ على ما يفعله العباد. الليل يستطيل، والتوبة مفتوحةٌ في خلجاته، والناس يعبثون، والحمامةُ تريد أن تخرج من النوافذ المشرعة، العطريةُ هنا جميلةٌ في استعاراتها ومحسّناتها البديعية التي اختارتْها الشاعرةُ بحكمةٍ تُشبه هندسةً مُروَّضةً من الواقع، ولا سيّما حين يلوذ البابُ قَسْريًا على هوى ورقِ التوت.

السياقُ لفتةٌ رائعةٌ لا يعيها إلا متمرّسٌ وشاعر، وانجذابٌ إلى رومانسية الشكل، وأكله نباتي… فما أروع التوت حين يُنافس لونَ الرمّان. وما الرمان؟! ما فرّقتْ بينهما إلا هوًى لونيّ من مدوّنةٍ لونيّة لا تريد أن تنزوِي في مكانٍ ضيّق عند الشاعر، مما يفسحُ المجال لتوليد تناصٍّ وشكلانية لمدوّنة اللون المعطّر، تأمّلْ قولَها، واربطْ ثنايا ما قلتُ، تأتيك اللمحةُ إلى جمال البوح وعجائبية اللون:

معطَّرةٌ بالسّواد

أكُفُّ الحمامِ وأجنُحُها.

وموغلةٌ في القتامةِ

أيدي الضباعِ وأعيُنُها.

وهذي النوافذُ

أترعَها ورقُ الليلِ والوجلُ.

وهذي المناضدُ

نضّتْ قرابينها،

وبين المجامرِ

ألقتْ عناوينَها.

تداعى الذبابُ إليها

يلوكُ غبارَ الفتاتِ على جمرِها.

عليها هوى ورقِ التوتِ لمّا ذوى.**

  • بياضُ الطهر في قصص الأنبياء**

أمسكتِ الشاعرةُ الموهوبةُ بمَعدنٍ دينيٍّ تاريخيٍّ قصصي، وأسقطتْ وقعَ الوقوعِ على شخوصٍ طاهرةٍ كمريم وزكريّا، لتبني سياقَ القُرب باستعمال أداة التشبيه "الكاف" التي فتحتْ قصصَ الطهر، وفَسّرتْ ألمَ مريم الذي لم تَمنعْها طهارتُها من الإحساس به، هو ألمٌ فِطريّ في الكائن، من عدلِ الله تعالى. رمتْ داخل الحِصن البريء عدلًا إلهيًا يصفُ الألمَ الذي تُعانيه المرأةُ من مخاض الولادة، أو ألم الحرقة على الذرية… هي آلامٌ أوصلتها الشاعرةُ بأسلوب المحاكاة إلى عين يقين القارئ، يقينٌ غيرُ منفصلٍ عن الطهر الفضيل، واستحضرتِ الشاعرةُ "كعبَ أخيل": أمٌّ غمستْه في بركةٍ مقدّسة، لكنها أمسكتْ بكعب رجليه، فصار الضعفُ موضعَ الألم، وصار ألمُ الضعف من أعظم الآلام، كلُّ أنثى لها مَسامُّ ضعفٍ إذا انطلقتْ منها لتُبعدها اكتستْ بالعظمة. هنا نقيس المخيالَ الشعريّ عند الشاعرة الهادي… انظرْ قولَها مرّة أخرى، واكتشفْ بنفسك ضعفَ الأنثى وانطلاقتها من جديد. ولم تمنع الوقاوق والعناكب من الانتباه لكشف مواطن الضعف.

معطّرةٌ بالسوادِ

أكفُّ الحمامِ وأجنحُها.

وموغلةٌ في الخواءِ

مآقي السماءِ وأضلعُها.

وكعبُ "أخيل"

بها تتلهّى الوقاوقُ والعنكبُ.

وأنتِ هنا

يتجرّعُ وجهُكِ

زرقةَ بدرٍ ينامُ على القرفِ.

خرجتْ من الضعف، ولو لم تهُزّ بجذع النخلة لما تساقط الرُّطب، ولما تقوّتْ… ففازتْ بالقرب، وكلّمتْ العناكبَ صغيرَها الذي أرسل السلامَ وبشّر أمَّه بميلادٍ جديد، وبرِّ والدته.

فكانت الهيمنةُ الثقافيةُ الدينيةُ موعدًا لتغليب طهارةِ الموضوع المتداول. ما تبقّى هو توليدٌ لمأساةِ الإحساس بالضعف، وفرحةٌ بالتشبّث باليقين… بالقرب تتبدّد الأشياء، وتنمحي من الأرض كانقراض برج هامان، ومعه الأسباب.

**كأنّكِ مريمُ

تكتبُ شوقَ النخيلِ بطهرِ اليدِ،

وتغرسُ في الطينِ

مُضغةَ حرفٍ

ينِزُّ ضياءً على الخزفِ…

وتسألُ عن زكريّا نخلتَها،

وتسألُ عنه جداولَ

يمتشقُ العنكبوتُ منابعَها.

كأنّكِ أختٌ لهارونَ

تنأى بغصّتها.

ترتّبُ أنفاسُها جُمَلَ النصِّ

في المُقَلِ.

وينضو بأجراسِها

صدأُ النَّضدِ.

ومن خَطوِها

يتدفّقُ ماءُ الأساطير

في النُّجُدِ…**

- المقومات الدينية والاسطورية في قصيدة كأنك مريم

كانت الشاعرةُ ذكيّةً في استعمال المقوّم القرآني والمقوّم الأسطوري، ومزجتهما دون مغالاة، لتُبرهن أن الشاعرة هادية السالمي قدّمت منعطفًا وصفيًا قوامُه امرأةٌ شدّتها أسطورةُ أخيل، ووضّحتْ فيها ضعفَ المرأة ولو بلغتْ مقامَ قدّيسةٍ كمريم عنوانًا لقصيدتها، اعتبارًا لما تقوم به المرأة من مقاومةٍ أسطورية للخروج من الكآبة، جسّدت الشاعرةُ عدّة أدوات منها:

– قداسةُ الصورة:

قطعتْ صورةَ المرأة كقدّيسة أو أمّ أخيل، وهي نظرةٌ تقابلية بين صيغتين استمرّتا في متتالياتٍ سينمائيةٍ جعلت القارئ يشعر أنه يشاهد فيلمًا عن صراع الأسطورة والقداسة، وقد وضعتْ في ذلك متتاليات: الجمر، الخواء، الخزف…

– الترابط النصي:

اعتمدت الشاعرةُ في بوحها المعطّر على التكرار المتجانس "معطّرة بالسواد"، واستشهدت قرآنيًا، مما جعل قراءة النص مستحبّة حتى لمن لا يميلون إلى قصيدة النثر، أقحمت رمزيّاتٍ كثيرة في بنية خطابها: مريم البتول، الألم، زكريا، الطهر، الذباب، الخواء، الماء، بدر، ماء الأساطير…

وكان توفيقها بارزًا في الأسلوب التركيبي الجميل الذي لم يُغَيّب الوضعَ العام الذي تحياه الأنثى، بقولها:"الطُّهرُ لا يُكافَأ بل يُستنزَف".

أ. د. حمام محمد من الجزائر

..........................

كأنّكِ مريم

معطّرَةٌ بالسّواد

أكُفُّ الحمام وأجنُحُها.

و مُوغِلةٌ في القتامةِ

أيْدي الضِّباعِ وأعيُنُها.

و هذي النّوافذُ

أتْرعَها وَرَقُ اللّيلِ والْوَجَلُ.

و هذي المناضدُ

نَضَّتْ قَرَابِينَها،

و بين الْمَجامِرِ

ألْقَتْ عناوينها.

تَداعَى الذّبابُ إليها

يَلُوكُ غُبارَ الْفُتاتِ على جمْرِها.

عليها هَوَى وَرَقُ التُّوتِ لمّا ذَوَى.

**

مُعَطَّرَةٌ بالسَّوادِ

أكُفُّ الْحَمامِ وأَجْنُحُها.

و مُوغِلةٌ في الْخَواءِ

مَآقي السّماءِ وأَضْلُعُها.

و كَعْبُ " أَخِيلَ "

بها تَتَلَهّى الْوَقَاوِقُ والْعَنْكَبُ.

*

و أنتِ هنا

يتَجَرَّعُ وجهُكِ

زرقَةَ بَدْرٍ ينامُ على الْقَرَفِ.

كأنّكِ مريمُ

تكتُبُ شوْقَ النَّخِيلِ بِطُهْرِ الْيَدِ ،

و تغرِسُ في الطّينِ

مُضْغَةَ حَرْفٍ

يَنِزُّ ضياءً على الْخَزَفِ…

و تسألُ عن زكرِيَّاءَ نخلَتَها،

و تسألُ عنه جداولَ

يَمْتَشِقُ الْعنكبُوتُ منابِعَها.

*

كأنّكِ أختٌ لِهارونَ

تَنْأَى بِغُصَّتِها.

تُرَتِّبُ أنْفاسُها جُمَلَ النَّصِّ

في الْمُقَلِ.

و يَنْضُو بأَجْراسِها

صَدَأُ النَّضَدِ.

و مِنْ خَطْوِها

يتدَفَّقُ ماءُ الأساطير

في النُّجُدِ…

***

بقلمي: هادية السالمي دجبي - تونس

 

يقدّم نصّ «القلب أنثى» للشاعر والناثر خلدون عماد رحمة بنية لغوية مركّبة تتجلّى فيها الشعرية السردية بوصفها طقساً جماليّاً يندمج فيه العاطفي بالميتافيزيقي، والحسّي بالرمزي، والباطن بالظاهر. إنّه نصّ لا يُقرأ من سطحه، لأن بنيته الخطابية مشبعة بالاستعارات الكونية، وبقع النور والعتمة، والتوتر الوجداني الذي يجعل العلامة اللغوية تتجاوز وظيفتها المرجعية نحو وظيفة أنطولوجية تكشف عن تهافت الجسد وتجلّي الروح في لحظات الحب، والانخطاف، والانكسار.

ومن منظور الهرمينوطيقا التأويلية، يمكن القول إنّ النص ينهض على شبكة من الرموز والدلالات المفتوحة التي تستدعي قارئاً متورّطاً في إنتاج المعنى؛ فالحب هنا ليس تجربة انفعالية بل هو أفق وجودي، يشبه ما تحدّث عنه بعض التقاد عن «قفزة الروح في محنة الشغف»، وما أشار إليه البعض الآخر من النقاد حين أكدوا  أنّ الرمز يفجّر التأويل ولا يكتفي بالإحالة.

أمّا من منظور الأسلوبية، فالنص يشتغل على لغة فائقة الحساسية، تتوزّع فيها الحقول الدلالية بين الطيران والماء والانخطاف والسقوط. وهذا التوتّر الحركي يشكّل إيقاعاً داخلياً يحرّك الصور الشعرية ويكثّف جرسها، فيتحوّل القارئ من مجرّد متلقٍّ إلى مشارك في الانفعال. أما الجملة الشعرية فيه فتتراوح بين امتدادٍ انسيابيّ يحاكي تدفّق الماء، وبين انقطاع مباغت يماثل سقوط الحبيبة/الآلهة، وهو قطعٌ يذكّر بالأسلوب الحدّي عند عند النقاد الغربيين حيث تتحوّل اللغة إلى موقع صدمة.

وفي التحليل الرمزي والديني والنفسي، يظهر النص بوصفه سرداً روحياً لعلاقة متعالية: الحبيبة ليست امرأة، بل «إلهة الجمال»، والراوي ليس عاشقاً بل «متصوّف» يعيش تجربة الحلول والانخطاف. العلاقة بينهما تأخذ هيئة «العشق الصوفي» الذي وصفه ابن عربي والحلاج: الفناء في الآخر، وانصهار الوعي بالجنون، والبحث عن الخلاص عبر الجسد والدمع والماء. لذلك لا يكون سقوط الحبيبة حادثة جسدية فحسب، بل رمزاً لسقوط المعنى نفسه، وامّحاء الصورة المقدّسة، وانكسار وهم الخلود العاطفي.

وتتيح السيميائيات الغريماسية قراءة النص باعتباره بنية فاعلية تتوزّع على محاور أدوار متشابكة:

١- الفاعل: العاشق السارد.

٢- المفعول: الحبيبة/الآلهة بوصفها موضوع رغبة ومعنى.

٣- المرسِل: الحاجة الوجودية للعشق والانخطاف، أي الدافع الروحي الداخلي.

٤- المرسَل إليه: الذات الباحثة عن الخلاص أو التجلّي.

٥- المساعد: الماء، الجسد، الضوء، الطيران، اللغة.

٦- المعطِّل: السقوط، الفقد، الغياب، النزيف.

هكذا يتكشّف النص عن صراع وجودي عميق بين الرغبة في إدامة المعنى، وبين انهيار الصورة المقدّسة، لينتهي العاشق إلى اكتشاف أن «القلب أنثى»، أي أن جوهر التجربة الوجودية قائم على الهشاشة، الخصب، القابلية للانكسار، والقدرة على الولادة المستمرة. وهو معنى يقترب من رؤية نيتشه عن «الهشاشة الخلّاقة»، ومن نظرية بيرغسون في الإحساس بوصفه اندفاعاً حيوياً لا يكتمل إلا بالتجلّي والتفتّح.

وعلى المستوى الجمالي والوطني والأنثروبولوجي، يقدّم النص صورة عن الإنسان العربي في توتّره بين قداسة العاطفة وعبء الواقع؛ بين الرغبة في التحليق وبين السقوط في الطين. فالنهر رمزٌ للانبعاث والحداثة، وفي الوقت ذاته رمزٌ للجرح المفتوح الذي يصطبغ بـ«الدم الكرزي»، أي بدم القلب ذاته، لتغدو الجغرافيا مرآة الوجدان.

هذه الدراسة ستسعى إلى:

1. تفكيك البنى الرمزية والدلالية.

2. تحليل اللغة والأسلوب والصورة.

3. تفسير المفردات ذات العمق النفسي والديني.

4. تطبيق منهج غريماس لاستخراج المحاور الفاعلة.

5. قراءة النص في ضوء آراء الفلاسفة والمتصوّفة.

6. الكشف عن الأنساق المعرفية التي يبنيها النص: النسق العشقي، النسق الصوفي، النسق الوجودي، والنسق الجمالي.

خاتمة:

يتبدّى نصّ خلدون عماد رحمة «القلب أنثى» في ضوء تحليلنا المتعدّد المناهج بوصفه تجربةً شعرية وجودية تتجاوز حدود القول العاطفي إلى أفق معرفي وجمالي بالغ التعقيد، حيث تنصهر الأزمنة الداخلية للذات مع جغرافيا العشق، ويتحوّل الجسد إلى موضع تأويل، واللغة إلى كيان يتنفّس ويتوتّر وينكسر. لقد كشف التحليل الهيرمينوطيقي أنّ النص لا يُقرأ إلا كطبقات متراكبة؛ فكل جملة تخفي معنى، وكل صورة تفتح باباً للقراءة، وكل رمز يشكّل مرآة لأعماقٍ لم تُقل.

أما التحليل الأسلوبي والرمزي فأبرز أن الشاعر يكتب بلغةٍ محمّلة بالنبض والتوتّر، لغة تتأرجح بين صفاء الماء وعنف السقوط، بين نشوة الالتحام ورعب الفقد، محقّقاً ما يشبه «موسيقى داخلية» تتنقّل بين الرقة والتوحّش. وبيّن المنهج السيميائي—وخاصة مخطط غريماس—أن النص يقوم على بنية فاعلية تتصارع فيها الرغبة والغياب، الحضور والانطفاء، ليغدو العاشق فاعلاً يبحث عن معنى يهرب منه كلما اقترب، وتغدو الحبيبة موضوعاً تخلقه اللغة ويتلاشى في واقع الفقد.

وعلى المستوى النفسي والديني، تكشف هذه التجربة عن مسارٍ صوفيّ يتقدّم بالعاشق نحو تخوم الفناء، حيث تتبدّل الحبيبة من كيان محسوس إلى رمز كوني، ومن امرأة إلى «آلهة الجمال»؛ وبذلك ينفتح النص على الإرث العرفاني العربي، وعلى رؤى الحلاج وابن عربي في العشق بوصفه طريقاً للخلاص. كما يقدّم النص في عمقه رؤية فلسفية تتقاطع مع نيتشه وكيركغارد وباشلار: فالحب هنا ليس حالة وجدانية فحسب، بل تجربة وجودية تُبنى بالجرح، وتكتمل بالسقوط، وتُتوَّج بإدراك هشاشة القلب وخصوبته في آن.

لقد أظهر النص أن القلب أنثى ليس خاتمةً بل افتتاحية؛ فهو إعلان عن أن جوهر الإنسان — في الحب كما في الوجود — قائم على القابلية للعطاء والجرح معاً، على الاتساع والارتباك، على الرغبة في الخلود في حضن اللحظة، وعلى الوعي بأن كل جمالٍ مهدّد بالسقوط. بهذا تتجلّى القصيدة بوصفها بحثاً عن معنى لا يستقر، وسرداً لجمال يولد من صدمة، وحقيقة تتجسّد حين يتدفّق الدم الكرزيّ على ضفاف النهر، فيغدو النهر مرآةً لقلبٍ ينزف، وقلبٌ ينزف مرآةً للكون كله.

وهكذا، يمكن القول إن «القلب أنثى» نصٌّ يبرق في حدوده الجمالية والرمزية بما يكفي ليمنح القارئ أكثر من قراءة، وأكثر من تأويل، وأكثر من جرح جميل يظلّ يلمع في الذاكرة كلّما انفتحت القصيدة على سؤالها الوجودي الأكبر:

أين يبدأ القلب؟ وأين يسقط؟ وأين—في النهاية—يعثر على ذاته؟

***

بقلم: عماد خالد رحمة - برلين

...................

بخفّة طائرَينِ أزرقَينِ كنّا نلوّنُ وحشةَ

الشاعر والناثر خلدون عماد رحمة

بخفّة طائرَينِ أزرقَينِ كنّا نلوّنُ وحشةَ الطرقات. قلتُ لكِ وخمرُ الحبور يطفح على قلبي: اقتربي منّي أكثرَ لأجعل روحي قميصاً لعريِ هذا الكون، ابتسمتِ بنعومةٍ باهرةٍ وهمستِ فيّ: ما أعمقَ أسرارنا وما أخلدَ عناقنا الطويل عند حافة النهر.

أتأخذني حبيبي إلى النهر لأعمّدَ قلبي بدمع عينيك، أم لأكتشفَ سرّ أنوثتي بين تدفّق الماﺀ وعطش الشهوة في منفى يديك ؟..

أضع يدي بهدوﺀٍ على قوسِ خصرها، أبتكرُ كلاماً غامضَ التكوين والتجلّي: يا حبيبتي أنتِ آلهتي التي أعبُدُ، حُبّكِ ديني وديدني وبرزخ نشوري وفنائي، أنتِ التباسُ الجمال بالرؤيا وانصهارُ الوعي بالجنون واغترابُ الروح بالجسدْ.

كنتُ أتصوّفُ بهالة روحها وأشطحُ، كنتُ أتعشّقُ بسماﺀات عينيها الكونيّتين حدّ التبخّر والفناﺀ.

فجأةً وبلا أيّ مقدمةٍ.. سَقَطَتْ على الأرض، سَقَطَتْ آلهة الجمال حبيبتي بكامل أنوثتها، سقطت كما تسقطُ غزالة عطشى في فخاخ السراب، لا أصدّق ما أرى: وجهها المرمريّ الشفّاف ارتطمَ بحافّة الرصيف، شيﺀ ما انكسرَ والدّمُ الكرزيّ يتدفّق من أنفها الصغير كتدفّق النهر، فستانها السماويّ تعفّر بالغبار وتمزّق من صرخة ذهولي، يا إلهي، كل ارتباك الكون دبّ في كياني كأني مفخخ بأطنانٍ من البارود.

حملتها بجنونٍ وركضتُ، ركضتُ بلا وعيٍ مثل ظبيٍ فتيّ يسابق الشعاع في براري البعيد،ركضتُ بها إلى ما لستُ أعرفُ وكأنّ الجهاتَ تموّهت بالجهاتِ، بعد مسافةِ خوفٍ وتعبٍ وهذيانٍ وجدْتُنِي عند حافة النهر وحيداً، لم تكُ بين يديّ،

لم أجد حبيبتيَ المغمى عليها بين يديّ

لم أجد سوى قلبي بين يديّ

قلبي الذي ينزفُ دماً كرزياً ويصبغ النهر بالأحمر.

حينها آمنتُ أنّ القلبَ أنثى.

القلبُ أنثى...

 

كان جوزيف برودسكي أحد أكثر الأصوات الأدبية تفرداً في القرن العشرين، شاعرًا ومفكرًا روسيًا حمل في كلماته ثقل المنفى وبهاء اللغة في آن واحد. وُلد في لينينغراد عام 1940، وعاش طفولة مثقلة بظلال الحرب والحصار، قبل أن يُطارد من قبل السلطات السوفييتية بتهمة (الكسل الاجتماعي) بسبب رفضه الانخراط في أدب الدولة الموجه، وهو ما قاده إلى النفي والمنفى، ليجد نفسه شاعرًا يبحث عن وطن داخل اللغة ذاتها. حين حصل برودسكي على جائزة نوبل في الأدب عام 1987، لم يكن ذلك اعترافًا بموهبته فحسب، بل كان احتفاءً بقدرة الكلمة على تجاوز الحدود الأيديولوجية والجغرافية، وتحولها إلى وطن بديل للإنسان المنفي.

اللغة عند برودسكي ليست أداة للتعبير، بل كيان روحي قائم بذاته، وهي مركز التجربة الجمالية والفكرية التي تحرك نصوصه. في شعره كما في مقالاته ونصوصه النثرية، تتجلى قدرة مذهلة على الجمع بين الدقة العقلية والتوهج العاطفي، بين التأمل الفلسفي واللمسة الإنسانية الحميمية. يستخدم الاستعارة بوصفها وسيلة لاستنطاق المعنى المستتر خلف اليومي، فتتحول الأشياء البسيطة إلى رموز تحمل دلالات الوجود والزمن والموت. إن البلاغة في أعماله ليست زينة لغوية، بل وسيلة تفكير، طريقة لإعادة تشكيل العالم وفق منطق الجمال.

أما من الناحية النفسية، فإن نصوص برودسكي تنبض بشعور عميق بالوحدة الوجودية، لكنها ليست وحدة اليأس، بل وحدة الإدراك، حيث يواجه الفرد ذاته والعالم بوعي قاسٍ وصافٍ. في شخصياته ورؤاه نلمح أثر المنفى الداخلي، ذلك الشعور الذي يتجاوز الجغرافيا ليصبح حالة روحية يعيشها كل إنسان حين يكتشف هشاشته أمام الزمن وسلطته. إنه كاتب يعيش بين لغتين، بين ثقافتين، بين وطن فقده ووطن يصنعه بالكلمات، وهذه الثنائية كانت وقود تجربته الأدبية ومصدر توترها الدرامي.

الدراما في أعمال برودسكي لا تأتي من الأحداث، بل من الصراع الداخلي بين الذاكرة والنسيان، بين الحنين والحرية، بين ما يُقال وما يُحجب. إن حضور الزمن في نصوصه يحمل طابعًا مأساويًا، إذ يتعامل معه بوصفه قوة لا يمكن الفكاك منها، لكنها في الوقت ذاته مصدر الوعي والكتابة. هذا الوعي الزمني هو ما جعل شعره مزيجًا من الفلسفة والرثاء والتأمل الجمالي، فكل قصيدة لديه تبدو كحوار بين الحاضر والماضي، بين الكلمة والعدم.

في كتاباته الأخرى، خصوصًا في مقالاته باللغة الإنجليزية بعد هجرته إلى الولايات المتحدة، اتخذ أسلوبًا يجمع بين الرصانة الفكرية والروح الشعرية. لغته هناك أكثر اتزانًا لكنها لا تخلو من ذلك الوميض الروسي الحزين الذي ميز بداياته. كان يرى في الأدب ملاذًا من الهمجية، وفي الجمال مقاومةً للزمن، وفي اللغة خلاصًا من النسيان. لقد استطاع برودسكي أن يجعل من تجربته الخاصة مرآة للتجربة الإنسانية جمعاء، وأن يكتب عن المنفى وكأنه يكتب عن مصير الإنسان الحديث، الباحث عن معنى في عالم متغير بلا يقين.

وهكذا، فإن جوزيف برودسكي لم يكن مجرد شاعر نال نوبل، بل كان عقلًا إنسانيًا حاول أن يفهم العالم عبر اللغة، وأن يواجه القسوة بالجمال، وأن يحوّل المنفى إلى فضاءٍ للإبداع والتأمل. لقد ترك وراءه إرثًا أدبيًا يذكّرنا بأن الكلمة حين تُكتب بصدق تصبح بيتًا، وأن الكتابة، في النهاية، هي الشكل الأسمى للحرية.

كان جوزيف برودسكي في جوهر تجربته الأدبية فنانًا جدليًا، لا بمعنى أنه أثار الصراع مع السلطة فحسب، بل لأنه جعل من الأدب نفسه ساحةً للتساؤل المستمر حول الحقيقة والجمال والمعنى. في كتاباته، تتشابك الأبعاد الفنية مع الأبعاد الفلسفية، فيغدو الشكل عنده امتدادًا للفكر، والبنية اللغوية انعكاسًا لرؤيته الوجودية. كان يميل إلى بناء نصوصه على الإيقاع الداخلي أكثر من الحدث الخارجي، فالفن عنده ليس حكايةً تُروى، بل حالة تأمل تُعاش. لذلك تتصف أعماله بنَفَسٍ موسيقيٍّ عميق، يمتد من اختياره للكلمة إلى توازن الجملة، ومن حركة الصورة إلى توتر الصمت بين الأسطر، كأن اللغة عنده آلة موسيقية تُستدرج منها نغمة الحياة والغياب في آنٍ واحد.

أما الأبعاد الجدلية في كتاباته فتكمن في صراعه الدائم مع مفاهيم الانتماء والهوية والحرية. لقد كان برودسكي يعيش تناقضًا جوهريًا بين كونه ابن الثقافة الروسية العظيمة، وناقدًا شرسًا للقيود التي فرضها النظام السوفييتي على روح الإنسان والمبدع. هذا التناقض انعكس في كتاباته التي لم تكتف بمساءلة السلطة السياسية، بل تجاوزت ذلك إلى مساءلة السلطة الفكرية ذاتها، إذ كان يرى أن الإنسان الحقيقي لا يمكن أن ينتمي إلا إلى اللغة والفكر، وأن الوطن الحقيقي هو الوعي لا الجغرافيا. ولهذا كان من الطبيعي أن تتحول أعماله إلى فضاء للحوار الجدلي بين الفرد والعالم، بين الصوت الداخلي وصخب الواقع.

أما أبطاله الأدبيون فهم في الغالب شخصيات هامشية، تقف على تخوم الحياة، لكنها تمتلك ثراءً داخليًا يجعلها أكثر وعيًا من الآخرين. هم أفراد لا يسعون إلى البطولة بالمعنى التقليدي، بل إلى النجاة بالمعنى الوجودي. فيهم نلمح ظلال المنفيين والشعراء والمفكرين الذين يعيشون داخل الصمت أكثر مما يعيشون في الضوء. شخصياته ليست مصنوعة من ملامح اجتماعية محددة، بل من حالات نفسية وفكرية متوترة، تتأرجح بين الحنين والتمرّد، بين الرغبة في الانتماء والخوف من الذوبان في الجماعة. وهنا يكمن البعد الإنساني العميق في أدبه: إن بطله هو الإنسان المجرد من كل حماية، الباحث عن معنى في عالمٍ يغدو فيه الوعي عبئًا والحقيقة جرحًا مفتوحًا.

وعند مقارنته بالرواد الكبار في الأدب الروسي مثل ديستوفسكي وتولستوي ومكسيم غوركي، يمكن القول إن برودسكي ورث عنهم العمق الروحي والاهتمام بالإنسان، لكنه اختلف عنهم في أدواته الفنية وموقفه من الواقع. فبينما غاص ديستوفسكي في أعماق النفس البشرية عبر الصراع الأخلاقي والديني، ووجّه تولستوي نظره إلى الإنسان في صراعه مع المجتمع والطبيعة، وركّز غوركي على الإنسان المكافح في وجه الظلم الاجتماعي، فإن برودسكي جعل الصراع الداخلي أكثر تجريدًا، وأكثر تعلقًا بالوعي واللغة والزمان. إن أبطاله لا يواجهون الآخرين، بل يواجهون فكرة الزمن ذاتها، ويقاومون الزوال عبر الكلمة. في حين كانت روايات ديستوفسكي وتولستوي تشبه مرايا كبرى للمجتمع الروسي، فإن عالم برودسكي يبدو كمرآة داخلية تعكس روح الفرد المنعزل وهو يسعى إلى فهم نفسه والعالم بالكلمة وحدها.

لقد كان برودسكي بمثابة حلقة حديثة في السلسلة الطويلة للأدب الروسي، لكنه مثّل انعطافة نحو الذات، نحو الشعر كأفق فلسفي واللغة كقدرٍ وجودي. جمع بين حسّ الفنان وقلق الفيلسوف، وكتب نصوصًا لا تنتمي إلى زمن محدد بقدر ما تنتمي إلى فكرة الإنسان الأبدي الباحث عن معنى وجوده. وبهذا المعنى يمكن القول إن برودسكي أعاد تعريف البطولة الأدبية في الأدب الروسي، حين جعلها لا تقوم على الفعل الخارجي، بل على الوعي الداخلي، ولا تتجسد في مواجهة العالم، بل في مقاومة العدم بالكلمة.

إنّ الحديث عن جوزيف برودسكي، لا يمكن النظر إليه مجرد شاعر أو كاتب نال جائزة نوبل، بل كظاهرة فكرية وجمالية متكاملة جسّدت تحولات الأدب الروسي في القرن العشرين، وفتحت أمامه أفقًا جديدًا يتجاوز حدود الشكل والمضمون نحو الوعي الوجودي والحرية الفردية. لقد كان برودسكي نموذجًا للكاتب الذي يعيش على تخوم الثقافات، بين شرقٍ يورث الحنين وأخلاق المعاناة، وغربٍ يفتح أمامه أفق الحرية الفكرية والتجريب الفني. هذا التوتر بين الانتماء والاغتراب شكّل صلب رؤيته للكتابة، وجعل من تجربته مرآةً للإنسان المعاصر، الذي يعيش ممزقًا بين ذاكرةٍ لا يستطيع نسيانها وحاضرٍ لا يستطيع الانتماء إليه بالكامل.

ما يميز برودسكي حقًا هو قدرته على تحويل التجربة الفردية إلى لغة كونية. في نصوصه تتجسد الذاكرة كقوة خالقة، والزمن ككائن متحرك يتداخل مع الوعي في نسيج شعري متقن. كانت نظرته إلى الأدب تقوم على أن الكلمة ليست وسيلة للبوح فقط، بل فعل مقاومة ضد الفناء. وهو في ذلك يستعيد تقاليد الأدب الروسي العميقة في اهتمامها بالإنسان، لكنه يفعل ذلك بطريقة مغايرة تمامًا؛ إذ يجعل من اللغة ذاتها بطلاً مأساويًا وجماليًا في آنٍ واحد. فبينما كان ديستوفسكي يبحث عن خلاص الروح في صراعها مع الخطيئة، وتولستوي عن الانسجام الأخلاقي بين الإنسان والطبيعة، وغوركي عن الكرامة الإنسانية وسط القهر الاجتماعي، فإن برودسكي يبحث عن الخلاص في الجمال، عن الحقيقة في نغمة اللغة، وعن الإيمان في وعي الشاعر بأن اللغة قادرة على أن تهزم العدم.

في هذه الرؤية الجمالية تكمن فلسفته الكبرى: أن الفن هو المجال الوحيد الذي يتيح للإنسان أن يتجاوز محدوديته، وأن يعيش في الزمن دون أن يُبتلع به. ولذلك كانت قصائده ونصوصه النثرية أقرب إلى حوارات فلسفية مع الذات، يتجاور فيها الجمال مع الألم، والحنين مع الوعي القاسي بالزوال. كان يؤمن أن الشعر، حين يُكتب بصدق، لا يعبّر عن الذات فقط، بل عن الوجود نفسه، وأن الشاعر، بقدر ما يتألم، بقدر ما يقترب من جوهر الحقيقة.

لقد استطاع برودسكي أن يمنح الأدب الروسي بعدًا جديدًا، إذ لم يعد الكاتب عنده نبيًا اجتماعيًا أو مصلحًا أخلاقيًا كما في التقاليد الكلاسيكية، بل مفكرًا في اللغة، ومؤمنًا بقدرتها على إعادة خلق العالم. لقد أعاد تعريف وظيفة الكاتب، وجعل من الشعر خطابًا فكريًا لا يقل عمقًا عن الفلسفة، ومن النثر مساحة تأمل تتجاوز الوصف إلى الإدراك. إنه شاعر المنفى الذي حوّل الغياب إلى مادة للفكر، والمأساة إلى شكل من أشكال الجمال.

وربما في هذا تكمن القيمة الحقيقية لإرثه الأدبي: أنه أثبت أن الكتابة ليست ملاذًا للهروب من الواقع، بل وسيلة لمواجهته بأدوات أعمق من السياسة والفكر، أدوات اللغة والخيال والذاكرة. لقد كتب برودسكي عن الإنسان لا بوصفه ضحية التاريخ، بل بوصفه كائنًا قادرًا على تجاوز التاريخ عبر الجمال. لذلك تبقى تجربته شهادة على أن الكلمة، حين تُكتب بصفاء وصدق، تستطيع أن تمنح المنفى معنى، وأن تجعل من العزلة شكلاً من أشكال الحرية، وأن تُبقي للإنسان مكانًا في العالم، مهما ضاقت به الأرض والسماء.

***

د. عصام البرّام

لجمال الهنداوي.. الملحوظ الوقائعي يؤول إلى الهواجس الفاعلة

توطئة: تتجاذب النصوص القصصية وتتسامى في مجموعة (حب.. وحمص.. وثالثهما نيتشه) للقاص الصديق جمال الهنداوي، فتتعالق وتعدد ملحوظات الوقائع ضمن تنصيصات محولة من الماهية النصية إلى حواريات وفضاءات هواجسية تتمازج في جملة الخطاب الواقعي وتتكاثف في أهم مكونات دلالات الوظائف والأبعاد الجمالية التفاعلية. وينهض مثال هذا التفاعل النصي بين أقاصيص المجموعة ضمن حدود خارجية تتداخل من خلالها آليات القص المحكي توصيفا أسلوبيا في التنوع ولذة الإمتزاج والتداخل في عينات تتوسل مستويات متجلية من وحدات الزمن والمكان واللغة الواصفة لآفاق فضاءات محدثة وقصية تفرضها تحصيلات نمو الدلالات التواصلية في مجالات صفاتية وذاتية من شجن الوقائع في النص والنصوص.

ــ حدود تداخل النصوص وسياقية وحدة المعنى المتبلور

تنفتح قصص مجموعة (حب.. وحمص.. وثالثهما نيتشه) على خطابات من النوع الذي يجيز وحدة المحتوى في تقلب المظاهر الصوغية نحو محكي وجهة النظر وذاتية السارد وحضور المؤلف ضمن خلفية التفاعل والتنوع بين مكونات الحكاية وحضور الخطاب في أشد لحظات بروز الملامح الإنتاجية في مشخصات النصوص.

1ــ رائحة العطر وقرائن الظروف الفردية:

تعتمد قصة (العطر) على خطاب رصد التفصيلات الشكلية إذ تنفتح الصور والمظاهر المقطعية على حكاية مشفوعة بمقتربات دلالية في الأجزاء والواصلات والتصريحات والإيحاء والتلميح: (ككل صباح، وضع علبته الكارتونية التي تحوي قناني صغيرة جدا من العطر على الطاولة، وأخذ يرصها بشكل يتيح للزبائن قراءة الملصقات التي تشير إلى أسماء العلامات الشهيرة ــ أراد جاره أن يشاكسه أكثر استدار لردوده اللاذعة ــ: تمنيت فقط أن أعرف ما الذي يفعله أبو فراس ليحتل كل هذه المكانة في قلبك ص16) إن القارئ لقصة (العطر) لربما يعاين تراجع مستوى الفكرة رغم جمالية المنظور البنائي للحكاية. فالقاص هنداوي وضع صيغة الخطاب ضمن دوال تجربة عابرة لا تستحق منه ضمها لتكون تجربة قصة قصيرة متكاملة، ناهيك عن حجم ومقدار الطابع المحلي الواقعي في النص ما راح يجعل النص وكأنه مسرح للأعراس. أي إن الحبكة القصصية لدى موضوعة القصة بدت وكأنها تختلق ذلك المصير الذي يواجه أبا خضير بالكثير من حالات الرؤية اللامؤثرة. فالقصة القصيرة لا تتطلب كل هذه الأهمية في انتقاء المصائر بقدر ما تتطلب الشروع بتأثيث النص بأكمل المحفزات الحقيقية في نجاح المشروع القصصي.

2ــ التمثيل والتخييل والمحاكاة في الحب والحمص:

في الواقع إن فعل القراءة لقصة (حب.. وحمص.. وثالثهما نيتشه) وعلى ما أظن إنها أجمل قصص المجموعة على ما يبدو عليه أمرها في الفكرة والموضوعة وكيفية توظيف العناصر السردية بمجمل ألوان الإثارة والحنكة والشجن في مكونات الوقائع النصية: (وحدها عربة الحمص المسلوق، تقف صامتة على الرصيف عند زاوية باب كلية الآداب، في ظل الشمس الخجول والهواء المشبع بأصوات العصافير ورائحة الندى. / ص27) القاص هنداوي كان دقيقا في رسم الحدود الفاصلة بين الإحساس بالأشياء ومنطقة الأفعال والوقائع السردية، لذا وجدنا بطل القصة يشق لذاته ذلك النوع من التقادم بتضاعيف مظاهر حسية فاعلة جعلت من معيار الحب نقطة الانطلاق نحو الملامح الشخصانية المركزة والتي غدا عندها الماضي كصورة توشك على الذوبان والزوال. إن قصة (حب.. وحمص.. وثالثهما نيتشه) ما هي إلا جملة تفصيلات في مستوى الوعي النفسي ومشاعر الإحباط وكل القدرة القدرة على مواصلة الحياة بأعلى علامات الصورة البطولية الآسرة إما قصة (بجاه أبي الجوادين) وقصة (دليفري) وقصة (خيوط القلب) فهن من القصص التي أخذت لذاتها من اليومي الواقعي مجالا سايكولوجيا يكشف عن أزمة الشخوص والشخصية كما وتتكرر في كل قصة من هذه القصص الصورة التحفيزية من مجموعة مشاعر وأحاسيس تصب في ذات المدلول الواحد من الحوادث والتفصيلات القاهرة. أما الحال في قصة (على باب ردهة الطوارئ) فلربما يواجهنا ذلك النوع الانسيابي الذي تكالبت عليه الظروف القاهرة من كل جانب وجهة مما دفعته الأقدار ليكون لصا عند بوابة ردهة الطوارئ: (رحمك الله يا أبو كمال كأنك قد زرعتني في هذا المكان ورحلت، همسها لنفسه وهو يتذكر هذا الحديث عندما كان بنظر بعين الصقر إلى مدخل الحالات الطارئة في مستشفى ـ الشفاء ـ بعد سنوات من هذا الحديث. / ص91) على هذا النحو واجهتنا قصص مجموعة (جمال الهنداوي) وكأنها جملة معالم ومكونات حياة حقيقية تؤطرها حركة الزمان الذي ستجري فيه الأحداث، وتتبين مسافة منظورها المتماهي بين البطل والسارد، هذا التماهي الذي أنتج مجموعة من التصورات والرؤية السردية المخصوصة.

ـ تلقائية السرد وبؤرة الفاعلية المكانية

تشكل تمفصلات (البؤرة المكانية) عاملا موصولا في أفضية إنتاج حساسية القص، بيد أن القابلية التلقائية في إجرائية الموصوف السردي، أخذت تتلاءم مع تجليات البؤرة المكانية ما غدا يشكل دورا بالغ الأهمية في فضاءات قصة (دليفري) وقصة (خيوط القلب) وقصة (على باب ردهة الطوارئ) خلوصا نحو ممكنات كيفية خاصة في دوافع الحياة التلقائية في تجربة سرد الأبنية القصصية لدى تجربة القاص: (بطبعه، لم يكن عجولا، ولا يسرف في استباق طريدته. ص92 / نظرت أم مهدي إلى أصابعها المتورمة، وإلى الماكنة التي مازالت صامتة في الزاوية. / ص87) لاشك أن التوليد السردي في مساق الوحدات بدا شروعا في حيز الطبيعة التلقائية التي لا يتكلفها القاص افتعالا، بل هي ممارسة من شأنها تشخيص نوايا الأحوال المشهدية بكافة كوامنها اللحظوية المعاشة الأكثر إيغالا في الأشكال النفسية الداخلة والظاهرة. وبطريقة ما تجرجرنا أجواء موضوعة قصة  (حب.. وحمص.. وثالثهما نيتشه) إلى ذات الوضعية من المشاهدة التي أختص بها المكان انطلاقا من حالات تفاعلية بين (بؤرة المكان = تلقائية السرد) بما يجعلنا نستحضر تلك الوحدات من عينات النص: (لم يكن يعرف الكثير عن شارع المتنبي، سوى ما سمعه من أحد الزبائن يوما عن إن الشارع هو ــ جنة القراء ــ الذين لا يملكون ثمن الكتب.. حين وصل إلى البيت، وضع الكتاب تحت وسادته، كمن يخبأ شيئا ثمينا. واكتشف أن هناك خيطا ما يربطه بالكلمات. ص34. ص35).

ــ تعليق القراءة:

على هذا النحو واجهتنا قصص مجموعة (حب.. وحمص.. وثالثهما نيتشه) كأنها حالات ترابطية من ذات الموضوعة والخطاب.. النصوص تتدفق ضمن مناطق دلالية تسمو بالسرد التلقائي والبؤرة المكانية التي تلتصق بذلك الواقع المأزوم من اللحظة والزمن والمكان والمصير.. ببساطة إنها نصوص (الملحوظة الوقائعية) التي راحت تؤول نحو هواجس شخوصية فاعلة ومنفعلة. وفي الختام نقول إن تجربة الصديق الأستاذ جمال الهنداوي في نصوصه موضع بحثنا رغم بعض المؤشرات المحلية المفرطة في موضوعتها، ناهيك عن اللغة السردية التي تتطلب من القاص عدة تجاوزات لما يشغلها من التركيبات العابرة، فهي رغم وجود هذا وذاك تحتفظ لذاتها دلالات ذات سمات إنسانية قاهرة، بالإضافة إلى وجود ذلك المسار الجميل في المؤثرات السردية المواكبة للغة المكان والزمان وروح القص.

***

حيدر عبد الرضا

للشاعرة نادية نواصر "ورّاقة الجزائر"

استطاعت الشاعرة الجزائرية ناديا نواصر ان تكتب القصيدة كطقس وطنيّ يتجاوز حدود الشعر. فهي تحضر قصيدة "صلاة في محراب الثورة" بوصفها نصاً طقوسياً قبل أن تكون نصاً شعرياً؛ طقساً تتداخل فيه اللغة بالروح، والذاكرة بالوجدان، والدين بالوطن. فالشاعرة لا تكتب شعراً وطنياً تقليدياً، بل تؤسس محراباً لغوياً تقف فيه مستقبلةً الماضي، مستنطقةً الحاضر، ومرسلةً نبوءةً للمستقبل.

هذه القصيدة ليست خطاباً وطنياً مباشراً، وإنما هي هذيانٌ جميلٌ تتكثف فيه الدلالات والرموز، وتلتقي فيه مستويات التعبير: الانفعالي، التخييلي، العضوي، النَفسي، الأسلوبي، السيميائي، والديني. لذلك فهي قابلة لقراءات متعددة، وفيها إمكانات هيرمينوطيقية كبيرة تسمح بتأويل لا ينتهي.

لقد جعلت الشاعرة نواصر " ورّاقة الجزائر" من الوطن معشوقاً، وأباً، وابناً، وطيفاً، وجرحاً، وقبلةً؛ أي جعلته كياناً وجودياً كاملاً، ما يعيدنا إلى رؤية العالم بوصفه "شبكة انتماء"، وإلى رؤية الحرية بوصفها "السكن في الذات من خلال الآخر". فالجزائر هنا ليست أرضاً فحسب، بل كيانٌ يحرس الشاعرة أكثر مما تحرسه.

أولاً: القراءة الهيرمينوطيقية – الوطن كمعنى يتجاوز لفظه:

القراءة التأويلية تكشف أن الشاعرة لا تقدّم الوطن كموضوع خارجي، بل كـ نصّ داخلي مقيم في الوجدان. من هنا ينبثق معنى الصلاة؛ فالصلاة في اللغة العربية أصلها "الصِّلة"، أي الارتباط. والارتباط هنا ليس عاطفياً فقط، بل وجودياً–قدرياً.

حين تقول:

“إليك يا وطني ابتهالاتي وصيحاتي”

فإنها تعيدنا إلى مفهوم "الابتهال" بوصفه خطاباً موجهاً إلى المطلق، ما يعني أن الوطن يصبح معادلاً للقدسي. وهذا يفتح الباب أمام تأويل ديني–وجودي: الوطن هنا محراب والمعركة صلاة، والشهداء أولياء، والذاكرة كتاب لا يسقط.

القصيدة تتحرك على محور مزدوج:

1. محور الذوات: الشاعرة ← الوطن

2. محور المقدّس: الثورة ← الشهادة ← التاريخ.

وفوق ذلك، لا تتعامل الشاعرة مع الوطن باعتباره كياناً جامداً، بل باعتباره كائناً جريحاً يحتاج إلى حماية، تقول:

“كي أخفيك يا غالي من الأحقاد والزلات والمنكر”

هنا يتحول الوطن إلى طفولة مهددة، والكاتبة تصبح أمّاً له. وفي مواضع أخرى، الوطن أبٌ يحمي، وعاشقٌ يحنّ، وابنٌ يُفتدى. هذه التحولات الرمزية تدلّ على أن الوطن في القصيدة تجربة شعورية معقّدة أكثر من كونه انتماءً سياسياً.

ثانياً: التحليل الأسلوبي – اللغة كأداة مقاومة:

تشتغل الشاعرة على لغة متوترة، حارّة، مشدودة، تُنتج شحنة انفعالية عالية.

لذلك يحضر الأسلوب على مستويين:

1. مستوى الإيقاع الداخلي:

يُبنى النص على:

- تكرار الضمائر: (أنا، إليك، يا وطني).

- تكرار الأفعال: (أعلنت، صليت، دعوت، سخّرت).

- توظيف بنى النداء: (يا وطني، يا غالي، يا بعضي، يا نصفي).

هذا التكرار ليس زخرفة، بل استراتيجية نفسية لإعادة تثبيت الانتماء كلحظة مستمرة، مما يمنح النص طابعاً أقرب للإنشاد الطقسي منه للخطاب الشعري.

2. مستوى الصورة الشعرية

الصورة هنا ليست وصفية بل مجازية–أسطورية:

١- الوطن = شجرة عنب وفلين وصندل.

٢- الشاعرة = سيف أبابيل.

٣- التاريخ = جميلات يعانقن الروح

٤- الوطن = وشم على جدران الأوردة.

هذه الصور تُدخل النص في فضاء أسطوري، حيث تتداخل الطبيعة بالدين بالتاريخ. إن “سيف الأبابيل” وحده يكشف عن تصعيد رمزي يستحضر القوة الإلهية في مواجهة الأعداء، مما يجعل الشاعرة “فاعلًا قدرياً” في بنية النص.

ثالثاً: التحليل السيميائي – الوطن كعلامة كبرى

في المنهج السيميائي، لا نقرأ الكلمات بل العلامات. وهنا نَعثر على منظومة رمزية كثيفة. وأبرز الدوال المركزية:

1. الوطن: يظهر في النص كعلامة مركّبة تجمع بين:

١- الأمومة

٢- الأنوثة

٣- الشهادة

٤-الحماية

٥- الابتلاء

٦- المجد

٧- الجرح

2. الشهادة: دالٌّ طقسيّ يرتبط بالفداء والقداسة والذاكرة الجماعية.

3. الريح / النزاعات / الخيانات:

دوالّ سلبية ترمز للقوى المدمّرة.

4. الصلاة / الركعات / الابتهال:

علامات دينية تصبغ الحرب بطابع القداسة.

5. الإيتام / الثكالى / الأجداد:

شبكة اجتماعية–تاريخية تحوّل الوطن إلى جسد حيّ يتكوّن من معاناة الجماعة.

بهذه المنظومة تُصبح القصيدة نصاً هويةً لا نصاً شعرياً.

رابعاً: تطبيق منهج غريماس – مربع الأدوار ومحاور الفعل

يُظهر النص بنية سيميائية واضحة، ويمكن تطبيق نموذج غريماس كما يلي:

١- الفاعل:

الشاعرة، بصفتها “أنا وطنية” تبحث عن تثبيت الوطن وحمايته.

٢- الموضوع:

حفظ الوطن من “الزلات، الخيانات، النزاعات، الوهن”.

٣- المرسل:

الذاكرة الوطنية – الثورة – الشهداء – التاريخ.

٤- المرسل إليه:

الجيل الجديد، المجتمع، الذات الشاعرة أيضاً.

٥- المساعد:

الإيمان، الثورة، الدموع العسيرة، الأجداد، ابن باديس، ابن مهيدي، الأمير عبد القادر.

٦- المعطِّل:

الأعداء، الخونة، النزاعات، الريح، الخيانات، المبدّدون للشعب.

بهذا يتحول النص إلى دراما وطنية كاملة البنية، فيها صراع وتوتر وتطهير (كاثارسيس)، ما يجعل القصيدة أقرب إلى عمل مسرحي داخلي يعيش داخل الشاعرة لا خارجه.

خامساً: التحليل النفسي – الوطن كجسد بديل عن الأم

في ضوء التحليل النفسي، يمكن القول إن الشاعرة تبني علاقة مع الوطن تقوم على:

1. الاندماج:

تقول:

“ويا بعضي ويا نصفي ويا كلي ويا أني”

وهذا يعكس حالة انصهار نفسي، حيث "الأنا" تذوب في "الوطن" حتى تختفي الثنائية.

2. التعويض:

الوطن يظهر كبديل عن الأم، خصوصاً مع حضور الرموز الأنثوية:

“سنابلكِ، الشهيدات، جميلات التاريخ”.

3. الفقد والجرح:

ثمة ألمٌ دفين يظهر في:

“ذبحوا من النسغ ربيع ورداتي”

ما يشير إلى صدمة جماعية تحملها الأجيال.

4. الشعور بالتهديد:

الإلحاح في حماية الوطن يدل على خوف داخلي من خسارته، وهو خوف تاريخي مبرر في الوعي الجزائري.

سادساً: التحليل الديني – الثورة بوصفها صلاة

المستوى الديني يتفاعل بقوة:

“صلاة”، “محراب”، “ركعات”، “دعوت الله”، “سيف الأبابيل”.

الثورة تتحول إلى عبادة، والشهادة إلى طهارة، والوطن إلى قبلة.

هذا يجعل القصيدة نصاً "إيمانياً وطنياً" لا ينفصل فيه الدين عن الأرض. وفي هذا كصدى

لفكرة بول ريكور عن "الرمز الذي يعطي للفكر أن يفكر"، فالرموز الدينية هنا تنقل المعنى الوطني إلى مستوى روحي.

سابعاً: التحليل الفلسفي – الوطن كوجود

يمكن قراءة القصيدة فلسفياً على عدة مستويات:

1. الوجود–في–العالم (هايدغر):

الوطن هو المجال الذي تتكشف فيه الذات، لذلك تقول الشاعرة:

“أنا المسكون بالوطن”.

2. الجسد الجماعي (ميرلو-بونتي):

الوطن يصبح امتداداً لجسد الشاعرة:

“يا وشما على جدران أوردة”.

3. الحرية والالتزام:

الثورة هنا ليست خياراً، بل التزاماً وجودياً، تقول:

“أنا إن غبت فقد سخرت أحفادي”.

4. الذاكرة والسلطة:

الشاعرة تقاوم عبر الذاكرة سلطة النسيان، وتحول القصيدة إلى آلية مقاومة معرفية.

ثامناً: القراءة الوطنية–التاريخية:

لا يمكن عزل القصيدة عن سياقها الجزائري:

ذكر الشهداء والزعماء.

استحضار الأمير عبد القادر كرمز تأسيسي.

استدعاء الثورة التحريرية، والبطولات النسائية.

حضور مفردات الذاكرة الوطنية: "الشهيدات، الثكالى، الأيتام".

القصيدة تنتمي إلى ما يسمى "شعر الذاكرة"، وتعيد إنتاج الوطن كمساحة مشتركة بين الماضي والحاضر، بين الثورة الكبرى وثورات اليوم.

خاتمة: القصيدة بوصفها مقصداً جمالياً وهوياتياً

تقدّم نادية نواصر " وراقة الجزائر" في "صلاة في محراب الثورة" عملاً شعرياً متعدّد الطبقات، يشتغل على اللغة بوصفها وطنًا آخر، وعلى الرموز بوصفها أوشاماً في الوعي الجماعي، وعلى التاريخ بوصفه روحاً تقيم في القصيدة.

لقد صنعت نصاً:

ذا بُعد هيرمينوطيقي تأويلي

- غنيّ بالصور

-:مشحون بالعاطفة الوطنية

- متخم بالرموز

- قائم على عمق نفسي

- مشغول ببنية سيميائية محكمة

- ومؤسس على رؤية فلسفية للانتماء.

ولذلك، فهذه القصيدة ليست مجرّد مدح للوطن، بل استعادة لروح الثورة الجزائرية في قالب جمالي، يجعل من الشعر صلاة، ومن الذاكرة مضاءً، ومن اللغة سلاحاً لا يصدأ.

إنها قصيدة تُصلّي، وتثور، وتغضب، وتحبّ، وتبكي…

ولكنها قبل كل شيء:

قصيدة لا تزال تقاتل من أجل أن يظل الوطن خطّاً أحمرَ لا يُمسّ.

***

بقلم: عماد خالد رحمة - برلين

......................

صلاة في محراب الثورة

شعر نادية نواصر

الإهداء: إليك يا دزاير الغالية

بلادي خط احمر

الى وطني ابتهالاتي

وصيحاتي

وأغنية من الصندل

واشجار من الفلين والعنب

وحب يثمر يكبر

وقلب من صقيع الفرو

كي اخفيك ياغالي

من الاحقاد والزلات والمنكر

ومن برد الشتاءات

ومن عصف الخيانات

ومن كل الذي قد يأتي

مطعونا

على كف النزاعات

اليك يا حبيب الروح نبضاتي

وشهقاتي

انا ان مت في العشق

فلا تقصص على الاعداء آهاتي

الى الشهداء

والزعماء

والايتام

والثكلى

انا اهديت ورداتي

وسخرت إلى النكبات أناتي

اذا ما الريح هزتك

انا اعلنت ثوراتي

وحرضت

عسير الدمع

ان يسقي جميع جميع ممراتي

الى الشهداء ياغالي

تحايانا

وفي محراب ثورتنا

انا صليت ركعاتي

دعوت الله ياحبا

عزى روحي

وعانقني

بتاريج الجميلات

انا المسكون بالوطن

ويا احلى ابتلاءاتي

انا المفتون بالامجاد والاجداد

وعبد القادر يشهد

وقد نادى غداة الصحو

ايا وطني

من الحب انا اترعت كاساتي

انا ان غبت يا ارض البطولات

فقد سخرت احفاذي

مساء الخير يا وطني

صباح الخير ياوطني

سلام حينما تزدهر

سنابلك

على ارض الشهيدات

سلام حين ما نقسم

باقوال المريدين

وأقوال المريدات

ايا تاريخنا الزاخر

بأعراس البطولات

سلام حين ما غضبي

يصب كل لاءاتي

على من بددوا شعبي

ومن ذبحوا

من النسغ

ربيع كل ورداتي

وهم من فرقوا عمدا

حبيباتي

وهم سرقوا مع الغبش

صباحاتي

الى عينيك يا وطني

ارتحالاتي

وأن ساقوك للوهن

ففي كفي  وفي عزمي

انا سيف الابابيل

وصيحات الجميلا ت

سلام حين تسكنني

وتملؤني وتشغلني

وتحملني الى احلى المقولات

ايا وشما

على جدران اوردتي

ويا بعضي ويا نصفي ويا كلي

ويا اني...

وإني من حرائرك

ومن اغلى السليلات

تطرَّق المساق الماضي إلى أنَّ من نَظْم الشِّعر هوسًا مَرَضيًّا لدَى بعض الشُّعراء بنظم القوافي، يُفسِد بناء القصيد، ويَضيع معه المعنى. وضربنا مثلًا على (هوسيَّة النَّظم، وتضييع المعانى) بقصيدة (أحمد شوقي)، تحت عنوان «في الانقلاب العثماني وسقوط السُّلطان عبد الحميد».(1) وأُشيرَ إلى بعض قوافيه المجتلَبة لتكثير النَّظْم، مثل (الغدير)، و(النذور) وغيرهما، وكأنَّه قد ألزم نفسه بأن يستغلَّ كلَّ الكلمات الرائيَّة في اللِّسان العربي! قلت لـ(ذي القُروح):

ـ ولا تنس كلمة (الحبور).

ـ حتى لقد جعل الأميرات التركيَّات يلبسن الحِبَر اليمانيَّة! وهو ما اضطرَّه إلى جمعها على (حُبور). فقال:

صَــبَغَ السَّــوادُ حَــبيرَهُنَّ

وكــانَ مِـن يَقَـقِ الحُـبُـورِ

ـ لِـمَ لا؟ فالشِّعر لديه تصيُّد الكلمات التي تصلح أن تكون قوافي.

ـ بل لا حاجة للتصيُّد، فقد أُعِدَّت له بها معجمات جاهزة بالقوافي. ولقد أشكل البيت على شارحه (أحمد محمَّد الحوفي)، ولم يستسغه؛ فالحُبور: السُّرور. قال: ولكن «يظهر أنَّ شوقي أراد جمع كلمة حَبِرة، وهي ثوب من قطن أوكتَّان مخطَّط، كان يُصنَع باليَمَن... لكن جمع هذه الكلمة حِبَر... وحَبرات»، وليس (حُبور). ثمَّ ستجد الشاعر يقول عن (عبد الحميد):

ونَـــراهُ عِنـــدَ مُصــابِهِ

أَولـَـى بِبــاكٍ أَو عَــذيرِ

ونَصـــونُـهُ ونُجِلُّـــــهُ

بَيــنَ الشَّـماتَـةِ والنَّكيـرِ

كَم سَبَّحوا لَكَ في الرَّوا

حِ وأَلَّهوكَ لَدَى البُكـورِ

ورَأَيتَهُم لَـكَ سُــجَّـدًا

كَسُجودِ موسى في الحُضورِ

خَفَضوا الـرُّؤوسَ ووَتَّـروا

بِالــذُلِّ أَقــواسَ الظُّهـورِ

ـ البيتان الأوَّلان لا يضيفان إلى معناه شيئًا، غير قافيتَي راءٍ مجتلبتَين.

ـ أمَّا الأبيات الثلاثة التي بعدهما، ففي غاية الغرابة!  أهو يصف (عبد الحميد) أم يصف (الحميد) نفسه، سبحانه وتعالى؟!

ـ ذاك خِمار القوافي، الذي كان يأخذ (أحمد شوقي) إلى أن يقول كلامًا لا معنى له؛ لكي يأتي هنا بقوافٍ رائيَّة مردوفة بالياء أو الواو، فلا يترك كلمة في العَرَبيَّة بتلك البِنية إلَّا استعملها كيفما اتَّفَق، وتلك غاية الشِّعريَّة عنده!

ـ ثمَّ يضيف:

وغَضـــِبتَ كالمَنصـــورِ أو

هـارونَ فـي خـالي العُصورِ

ضَـــنُّوا بِضـــائِعِ حَقِّهِــمْ

وضَنَـنتَ بِالـدُّنـيا الـغَـرورِ

هَلَّا احتَفَظــتَ بِــهِ احتِفـا

ظَ مُـرَحِّــبٍ فَــرِحٍ قَريــرِ

هُـوَ حِليَـةُ المَلِـكِ الرَشيـ

ـدِ وعِصْمَـةُ المَلِكِ الغَريـرِ

وبِــهِ يُـبـارِكُ فـي المَمـا

لِكِ والمُلـوكِ عَلى الدُّهـورِ

ـ ما معنى هذا الكلام؟

ـ وماذا يمكن للقارئ أن يفهم منه؟ وما مرجع الضمير في قوله: «احتفظتَ به»؟ أيعني احتفظتَ بـ«ضائع حقِّهم»؟! وكيف يكون ذلك «حلية الملك الرشيد»، و«به يبارك في الممالك والملوك على الدُّهور»؟

ـ هذيان عارٍ عن المعنى؟

ـ أو قل: إنَّ معناه في بطن الشاعر! لا لعمق مراميه، ولا لبُعد مجازاته، ولا لغموض موضوعه، ولكن لأنَّ الرجل مهووس بالألفاظ دون المعاني، مجنون بالقوافي والبديع، ولا يعنيه بعدئذٍ بناء القصيدة ومعناها. ولذا تخطَّى الشارحُ هذه الأبيات دون أن يشرحها، أو يتوقَّف عندها. لأن ليس فيها من شيءٍ ليُشرح، ولا شيء ليتوقَّف عنده.(2)

-2-

ـ هذا، إذن، مثال نموذجي على مقدار ما تجنيه القوافي والهوس بها، حتى على أمير الشُّعراء، كما لُقِّب من محبِّيه وأمثاله في الوعي الشِّعري، كأنَّ الشِّعر لا يعدو طبلًا وزمرًا وجعجعة فارغة، بحيث يستحيل النصُّ إلى مهارات لفظيَّة، لا علاقة لها لا بطبيعة الشِّعر ولا بوظيفته. وإذا كان هذا شأن أمير الشُّعراء، فكيف بغَفير الشُّعراء؟! لكن دعنا، يا (ذا القُروح)، من نظميَّة (شوقي باشا)، وعُد بنا إلى نظميَّة اللُّغة لدَى (عبد القاهر الجرجاني).

ـ لقد كانت غاية (الجرجانيِّ) في «دلائل الإعجاز» البحث في ما يجعل لنَظْم الكلام بلاغيَّته وإعجازه، ممَّا يعود لديه إلى الصُّورة والتركيب، لا إلى اللَّفظ المفرد.  وإلَّا ففي كلامه ما يدلُّ على رأيه في اعتباطيَّة العلاقة بين الدالِّ والمدلول، وأنَّها ليست باعتباطيَّةٍ مطلَقة.  ذلك حينما يقول، عن «قضيَّة اللَّفظ عند المعتزلة وبيان فسادها»: «ومن المعلوم أنْ لا معنى لهذه العبارات وسائر ما يَجْري مَجراها [أي الوصف بالفصاحة والبلاغة]، ممَّا يُفْرَد فيه اللَّفظُ بالنَّعت والصِّفة، ويُنْسَب فيه الفضلُ والمَزِيَّة إليه دون المعنى، غَيْرُ وصفِ الكلام بحُسْنِ الدِّلالة وتمامِها فيما له كانت دِلالة، ثمَّ تَبَرُّجها في صورةٍ هي أبهى وأزينُ وآنَقُ وأعجبُ وأحقُّ بأنْ تستولي على هَوَى النَّفْس… ولا جهةَ لاستعمال هذه الخصال غيرُ أنْ تَأتِـي المعنى من الجهة التي هي أصحُّ لتأديته، وتَختار له اللَّفظ الذي هو أخصُّ به وأكشفُ عنه وأتمُّ له، وأحرَى بأن يُكسِبه نُبْلًا، ويُظهِر فيه مَزِيَّة.»(3) على أنَّ مفهوم (الاعتباطيَّة) قد ظلَّ في العصر الحديث محلَّ قلقٍ لدَى (السِّيْمَوِيِّين)؛ ولذا سعَى (بياجيه)(4) إلى تسويغ الاعتباطيَّة بإشارته إلى تقسيم (دي سوسير) إيَّاها إلى ما سمَّاه «اعتباطيَّة نِسْبيَّة  Relatively Arbitrary» و«اعتباطيَّة جذريَّة Radically Arbitrary».  مثلما حاول (بارث)(5) الاستدراك على دي سوسير بتعلُّقه بفِكرة التواطئيَّة الذهنيَّة لدَى أبناء اللُّغة، التي لا مجال لاعتباطيَّةٍ فيها، وإنَّما الاعتباطيَّة تقع في علاقة الإشارة بمرجعيَّتها العَينيَّة.

ـ وهنا هل يمكن أن نتخطَّى تلك النظريَّات الخنفشاريَّة، أو قل: غير العِلميَّة بطبيعة حالها، ولا القائمة على دليلٍ عقليٍّ أو نقلي.

ـ كأني بك تشير إلى مزاعم كتلك التي أدلى بها صاحب كتاب «الصاحبي في فقه اللُّغة»، (أبو الحسين أحمد بن فارس بن زكريا القزويني الرازي، ـ395هـ= 1004م)(6)، الذاهبة إلى غير رجعة- وفي ثِقَةٍ عجيبة، لم يرزقها من أرباب الخرافات والأساطير من أحد- إلى أنَّ اللُّغة الإنسانيَّة توقيفيَّة؟(7) وهو يخصُّ هنا اللُّغة العَرَبيَّة. حيث قال: «والدليل على صحَّة ما نذهب إليه إجماع العلماء على الاحتجاج بلُغة القوم فيما يختلفون فيه أو يتَّفقون عليه. ثمَّ احتجاجهم بأشعارهم. ولو كانت اللُّغة مواضعة واصطلاحًا لم يكن أولئك في الاحتجاج بهم بأولى منَّا في الاحتجاج بنا، لو احتججنا على لُغة اليوم، ولا فَرْق.»

ـ ويا له من دليلٍ دامغ، وحُجَّة بالغة!

ـ إنَّه يحتجُّ، أوَّلًا، بإجماع العلماء! وما زال هذا ديدن قطعان الاتباعيِّين، في كلِّ زمانٍ ومكان، وفي كلِّ ملَّةٍ وتخصَّص، ممَّن يقدِّسون البَشَر، ويحتقرون عقولهم، إنْ وُجِدت. وأولئك هم الذين جاء وصفهم في «القرآن»: «ذَلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ؛ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَبْلُ، قَاتَلَهُمُ الله، أَنَّى يُؤْفَكُونَ؟! اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ الله.» والذين كفروا من العَرَب هم المحتجُّون بمثل هذا الموروث: «قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا! أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ؟!»

ـ أمَّا احتجاجه على توقيفيَّة اللُّغة باحتجاج العلماء بلُغة العَرَب وأشعارهم، فأشدُّ غرابة.

ـ وهو حُجَّةٌ عليه لا له، لو كان يفكِّر تفكيرًا مستقيمًا. لأنَّه بهذا قد بَقَرَ زعمه السابق، مُقِرًّا أنَّ اللُّغة لا تبقى على حال. والذين احتجُّوا بلُغة العَرَب قبل الإسلام وبأشعارهم لم يفعلوا ذلك لأنَّ لُغة العَرَب مقدَّسة أو توقيفيَّة، وإنَّما لأنَّ «القرآن» نزل في ذلك العصر الذي يحتجُّون بلُغة أهله وبأشعارهم. فلمَّا رأوا فساد اللُّغة قد اعتور أهالي العصر، امتنعوا عن الاحتجاج بلُغته الفاسدة بتقديرهم. وهذا أكبر دليل على أنَّ اللُّغة ليست بتوقيفيَّة، بل هي كائن ٌحيٌّ يتطوَّر ويتغيَّر، سلبًا أو إيجابًا، وإلَّا لثبتت على حالٍ واحدة.

***

أ. د. عبد الله بن أحمد الفَيفي

................................

(1)  (1988)، الشَّوقيَّات: الأعمال الشِّعريَّة الكاملة، (بيروت: دار العودة)، 1: 119. 

(2)  يُنظَر: (1979)، ديوان شوقي، بتوثيق وتبويب وشرح وتعقيب: أحمد محمَّد الحوفي، (القاهرة: نهضة مصر)، 341-347.

(3)  الجرجاني، عبدالقاهر،(1984)، دلائل الإعجاز، قرأه وعلَّق عليه: أبو فهر محمود محمَّد شاكر، (القاهرة: مكتبة الخانجي)، 43.

(4) Piaget, Jean, (1971), Structuralism, Translated and edited by CHANINAH MASCHLER, (First published in Great Britain), p.78.

(5) See: (March 1977), Elements of Semiology, Translated from French Language by Annette Lavers and Colin Smith, (New York: Hill Wang), p.50- 51.

(6)  يُنظَر: (د.ت)، تحقيق: السيد أحمد صقر، (القاهرة: عيسى البابي الحلبي وشركاه)، 6- 00.

(7)   وإذا كانت هذه الفِكرة قد جاءت وليدةَ عصرٍ سادَ فيه فِكرٌ يَنسِب كلَّ شيءٍ تقريبًا إلى الغَيب، فإنَّ فِكرة (الاعتباطيَّة) قد جاءت وليدةَ عصرٍ سادَ فيه فِكرٌ يَنسِب الأشياء في الطبيعة غالبًا إلى الصُّدفة المحضة، والعبثيَّة، واعتباطيَّة العلاقات. وفي كلا الاتِّجاهَين غُلُوٌّ، تُكذِّبه القرائن العِلميَّة. أضف إلى هذا أنَّ الاعتباطيَّة- المنسوبة إلى (دي سوسير، -1913) «اعتباطًا»؛ من حيث إنَّه لم يؤلِّف بنفسه الكتاب المنسوب إليه أصلًا، بل كان محاضرات، جمعها تلميذان من تلاميذه ونشراها بعد وفاته بثلاث سنوات، 1916- إنَّما تنبني على تحليل اللُّغات الأوربيَّة، الغالبة عليها الطبيعة اللَّصقيَّة والاصطلاحيَّة التركيبيَّة. ثمَّ جاءنا اللغويُّون العَرَب الاتِّباعيُّون، فآمنوا بتلك الآراء، وأمَّنوا عليها كالعادة، غير مميِّزين بين لغتهم العَرَبيَّة- ذات التاريخ الشَّفويِّ الموغل في القِدَم، وذات الطبيعة النوعيَّة- وبين تلك اللُّغات التي انبثقت عنها النظريَّة الاعتباطيَّة في الغرب أساسًا. حتى إنَّك لتجد معظم شواهد الاحتجاج لدَى العَرَب تكاد لا تعدو ترديد شواهد الدراسات الغربيَّة نفسها، من الإنجليزيَّة أو الفرنسيَّة!

لا يمكن قراءة نصّ الشاعرة المغربية هناء ميكو بعنوان: «فلاسفة معذَّبون» قراءة متعجلة. بل يمكن قراءة هذا النص بعينٍ تأملية تطبيقية تجمع بين المنهج الهيرمينوطيقي التأويلي، التحليل الأسلوبي والرمزي، والسيميائيات (نموذج غريماس)، مع فتح أبواب التعاطي إلى البنى النفسية والدينية والفلسفية. الهدف من ذلك استخراج بنية الدلالة العميقة للنص، وكشف عمليات التحويل الدلالي، وتحديد المحاور السردية والوظائف الفاعلية، ومقارنة النص على أربعة مستويات: المستوى الانفعالي، التخييلي، العضوي، واللغوي - ثم ربط ملامح النص بآراء فلاسفة ومناهج نقدية مناسبة.

1 - قراءة هيرمينوطيقية (دلالات الظاهر والباطن):

النصّ يعمل كأفق سؤال أخلاقي/وجودي: يبدأ بمشهدٍ طبيعيٍ يتوق إلى التأمّل، ثم يتحوّل إلى مزيدٍ من الأسئلة النَّاشدة: «ما ذنبها؟» تكرّار السؤال يولّد حلقة تأويلية مركزية - ليست فقط عن «الطفولة» كحالة، بل عن العلاقة الأخلاقية للمجتمع بذاته. الهيرمينوطيقيا، أفق فهم الشاعرة هناء ميكو يلتقي بأفق القارئ عبر «الأسئلة» كجسر: النص يدعوك لإعادة قراءتك للعالم الاجتماعي، ويحوّل النصّ من وصف إلى موعظة نقدية ومحفّز أخلاقي.

2 - التحليل الأسلوبي:

1. الأسلوب الصوتي والآليّات البلاغية: تكرار الأسئلة والنداءات («أَيُّها الإنسان؟») يعطي النص طابعاً خطابيّاً استدعائياً/دعائياً. التكرار هو استراتيجية للتثبيت العاطفي والبلاغي.

2. الاستعارات والصور: صور قوية وبسيطة - «صفار بيضها»، «الليمون في حلاوته»، «السوسة في أحشائها» - تعمل كمحاور تصويرية تجسّد الطفولة بوصفها شيء هشّ قابل للانتهاك. تشبيه الطفولة بالليمون «معصورة» يقدم حضوراً حسيًا/طعمياً يقرّب القارئ من ألم الضحية.

3. الخطاب المباشر والوعظي: الاستخدام المتكرر لأدوات الخطاب المباشر (نداءات، أسئلة بلاغية) يضع الشاعرة هناء ميكو في مقام المُعلّم/المُنادي - وظيفة دعائية اجتماعية وأخلاقية واضحة.

4. التركيب النحوي: جمل قصيرة متقطعة في فقراتٍ تارة وطويلة راوية في فقراتٍ أخرى ــ إيقاع يتذبذب بين الحزن والاندهاش والغضب.

3 - التحليل الرمزي:

١- الطفولة: رمز للبراءة والطبيعة الإنسانية الفطرية، لكنّها هنا أيضاً «مخيّبة» أو «مُمَسَّخَة» بفعل المجتمع.

٢- الصفار/البيضة: رمز الميلاد، الإمكانات، الفعل القابل للحماية؛ وضعها عائماً في صفارها يوحي بالهشاشة قبل التكاثر.

٣- الليمون/المعصورة: رمز للاستغلال الاقتصادي والاجتماعي - الطفل كمورد يُستنزف.

٤- السوسة: رمز للعطب الداخلي/الفساد الاجتماعي الذي يتآكل من الداخل.

٥- الملائكة: رمز للمثالية والبراءة، واستدعاء عاطفي يدعو للرحمة.

4 - سيميائيات غريماس (نموذج الأكتانتيال أي المعنى الفاعل:

أطبق هنا النموذج بصيغة مبسطة:

١- الفاعل: «الطفولة» / الأطفال (الموضوع الفاعل في محور الانشغال النصي).

٢- الهدف: الكرامة، الحماية، الطفولة الطبيعية (ما يُراد استعادته).

٣- المرسل: النصّ/الشاعرة (بوصفها مرسِلًا للنداء الأخلاقي) أو «الضمير الاجتماعي» المفترض.

٤- المتلقي: المجتمع/الإنسان المتهم أو القارئ العام (المعنِيُّ بإصغاء النداء).

٥- المعين: المدرسة، الأسرة، الحنان، الوعي، المؤسسات الإنسانية.

٦- المعاكس: تجّار الرذيلة، سماسرة الجريمة، الحرب، القسوة الاجتماعية، الجهل.

٧- منظومة الأدوار تولّد حبكة مبسطة: المرسل (الشاعرة) يدعو المتلقي/المجتمع للقيام بدور المعين لاستعادة الهدف (كرامة الطفولة) ومواجهة المعارضين (الاستغلال).

5 - الأنساق المعرفية (إطارات القراءة):

النص يشتغل بأربع أنساق معرفية متداخلة:

1. الأخلاقي/الاعتقادي: تساؤلات الوجدان والضمير.

2. الاجتماعي/السياسي: استدعاء مفردات «تجار الرذيلة» و«الميز العنصري» و«فلسطين» - نص ذو بعد نقدي اجتماعي ووطني.

3. النفسي/الإنساني: صورُ الاغتصاب الوجداني والحرمان والعجز عن الحماية.

4. الخيالي/الشعري: استعارات وصور تُحافظ على بعد الشعرية وتجعل اللغة جسرًا بين العقل والعاطفة.

6 - مطابقة مع إراء فلاسفة ومراجع نقدية:

١- إمانويل ليفيناس: فكرة النداء الأخلاقي المستمر للوجه/الآخر تجد صدى في الأسئلة المتكررة «ما ذنبها؟» - نصّ يطالب بالمسؤولية الأخلاقية تجاه الضعيف.

٢- جان جاك روسو: نظرية الخير الطبيعي للإنسان والفساد الاجتماعي قد تُقرأ هنا: الطفولة كخير فطري «محرومة من الطبيعة الأم».

٣- سيغموند فرويد/نظرية الصدمة: استغلال الطفولة يؤدي إلى صدمات نفسية تُقوّض البناء النفسي؛ النص يلمّح إلى هذا العطب.

٤- دونالد وينيكوت ( Winnicott ): فكرة الـ«holding» والحاجة لمساحة احتضان نفسية - غياب الاحتواء يؤدي إلى تشظٍ للذات.

٥- ماري فرانسيس بيترسون/أو بوكاتشيو؟ (اختيارات نقدية معاصرة): يمكن توظيف نظرية العدالة الاجتماعية/سياسات الطفولة في تأطير نقدي.

٦- غادامير/هيرمينوطيقا: أهمية الأفق التفاهمي بين النص والقارئ؛ الشاعرة تترك «فراغًا» لتأويل القارئ، ما يجعل الفهم حلقة تفاعلية.

7 - مقارنة المستويات الأربعة للنص:

1. المستوى الانفعالي (العاطفي):

الطرح يحفّز حزناً وغضباً وذعراً أخلاقياً؛ الأسئلة البلاغية تثير الاستهجان والشفقة. النص يهدف إلى تفعيل الضمير الجماعي.

2. المستوى التخييلي (الصور/الخيال):

صور مركزة وبسيطة تخلق قواعد تخييلية قوية: البيضة، الليمون، الملائكة. الخيال هنا وظيفته ضبط الشعور وإعطاء اسمٍ مرئي للانتهاك.

3. المستوى العضوي (الجسدي/الحسي)

أفعال مؤلمة (تُقتل، تُعذب، تُعصَر) وصور حسية (طعم الليمون، صفار البيض) تُفعّل الشعور الجسدي بالألم والاستنزاف.

4. المستوى اللغوي:

لغة واضحة أقرب إلى الخطاب العمومي/الوعظي مع لحظات شعرية؛ إيقاعات متقطعة، تكرار، صياغات استفهامية، نداءات ثانية (أيها الإنسان) - كلها أدوات لغوية لترك أثر أخلاقي مباشر.

الأخطاء اللغوية والنحوية أو الملاحظات:

1. الجملة:

"طبيعةٌ تنتظر من يتأملها ويندهش لها وبها."

ملاحظة: كلمة "لها وبها" زائدة بعض الشيء، يمكن الاقتصار على "ويندهش لها" أو "ويندهش بها".

2. الجملة:

"أسئلةٌ فطرية محرومةٌ من الطبيعة الأم"

الصواب النحوي: "محرومة من" صحيحة، لكن يمكن إضافة حرف التعريف للتماسك الأسلوبي: "محرومةٌ من حماية الطبيعة الأم" لجعل الجملة أكثر وضوحاً.

3. الجملة:

"ما ذنب يُراعِ ليلِها المضيء حتى ينطفئ، وبذرةِ نبتتِها المتفتقة حتى تذبل في أوج عنفوانها؟"

ملاحظة: تركيب "بذرةِ نبتتِها المتفتقة" غير سلس قليلاً. الأفضل: "وبذرتها المتفتحة حتى تذبل في أوج عنفوانها؟"

كذلك "يُراعِ" يمكن أن تكون "ليلها يُراعى" لتصبح أكثر سلاسة.

4. الجملة:

"قصيدةُ أملٍ عشّشت السوسةُ في أحشائها، خاطرةٌ عذبة لم تعد الابتسامة على محيّاها."

ملاحظة: تركيب الجملة غير متساوٍ من حيث المعنى؛ يمكن تعديلها:

"قصيدة أملٍ عششت فيها السوسة، وخاطرة عذبة لم تعد الابتسامة على محياها."

5. الجملة:

"نراهم عند إشارات المرور، يمسحون أوساخ العقول المتحجّرة من سائقي السيارات وهم في عمر الورد."

ملاحظة: تركيب "أوساخ العقول المتحجّرة من سائقي السيارات" طويل ومعقد، يمكن تبسيطه:

"يمسحون أوساخ سائقي السيارات المتحجّرة وهم في عمر الورد."

6. الجملة:

"ما من مبررٍ معقولٍ للأفراد أو المجتمعات التي تجعل الإنسان يؤذي الأطفال، إلا المرض النفسي أو العقلي أو الإجرام، كما هو الحال في فلسطين، وكل البلدان التي تنهش لحمها الحروب والميز العنصري."

ملاحظة: تركيب الجملة طويل ومعقد، يمكن تقسيمه لتسهيل القراءة:

"لا يوجد مبرر معقول يجعل الإنسان يؤذي الأطفال إلا المرض النفسي أو العقلي أو الإجرام. هذا ما نراه في فلسطين، وفي كل البلدان التي تنهشها الحروب والتمييز العنصري."

7. الجملة الأخيرة:

"للإجابة على كل هذه التساؤلات، فلنربط الاتصال بالطفل في ذواتنا."

سليمة نحويًا، لكنها يمكن تحسين أسلوبها لتكون أكثر قوة:

"وللإجابة على هذه التساؤلات، لنجعل الطفل في داخلنا رفيقًا ومرشدًا."

ملاحظات أسلوبية:

النص غني بالصور المجازية، لكنه أحياناً يطغى عليه تعدد الصفات الطويلة، مما يجعل بعض الجمل ثقيلة على القارئ. يمكن تفكيك بعض الجمل الطويلة إلى جملتين لتخفيف الوزن الأسلوبي.

هناك تكرار لفظة "أيها الإنسان" عدة مرات، يمكن الاستعاضة عن بعضها بمرادفات مثل "أيها العاقل" أو "أيها الساهر" لتجنب التكرار الممل.

استخدام علامات الترقيم جيد، لكن في بعض المواضع يمكن إضافة فواصل خفيفة داخل الجمل الطويلة لتسهيل القراءة.

النص ممتاز من ناحية إيصال الفكرة العاطفية والإنسانية، ويظهر التوتر الشعوري بوضوح.

8 - استنتاجات مختصرة:

«فلاسفة معذَّبون» للشاعرة المغربية هناء ميكو نصّ يحوّل الطفولة إلى محور أخلاقي وشعري في آنٍ واحد؛ يوظف لغة مباشرة وصوراً سحرية بسيطة لخلق استدعاء وجداني.

السيمياء "الغريماسية" تُظهر بنية واضحة: طفولة كفاعل-مبتغى، مجتمع كمتلقٍ/مُذنِب، وعناصر مساعدة ومعارضة محدّدة.

الربط بالفلسفة الأخلاقية (ليفيناس، روسو) والنظريات النفسية (فرويد، وينيكوت) يعمّق قراءة النص ويمنحه بعدًا تطبيقياً ممكناً في دراسات الطفولة والعدالة الاجتماعية.

***

بقلم: عماد خالد رحمة - برلين

..................

فلاسفة معذَّبون

بقلم: هناء ميكو

طبيعةٌ تنتظر من يتأملها ويندهش لها وبها.

أسئلةٌ فطرية محرومةٌ من الطبيعة الأم، براءةٌ أُجهضت وهي لا تزال عائمةً في صفار بيضها، تتألم، تتسوّل، تتوسّل، وتُقتل للأسف.

*

ما ذنبها؟

ما ذنب يُراعِ ليلِها المضيء حتى ينطفئ، وبذرةِ نبتتِها المتفتقة حتى تذبل في أوج عنفوانها؟

ما ذنبها؟

*

إنها الطفولة المهملة، يا سادة، دون حماية.

قصةُ حلمٍ قصيرة، مهضومةُ الكيان، في أزقة الشوارع.

متشرّدة،

أشبهُ بالليمون في حلاوته، غير أنها معصورةٌ دون وجه حق.

قصيدةُ أملٍ عشّشت السوسةُ في أحشائها، خاطرةٌ عذبة لم تعد الابتسامة على محيّاها.

*

طفولةٌ مستغلّة من طرف تجّار الرذيلة وسماسرة الجريمة،

مُسَلَّطةٌ لاستعطاف ذوي القلوب البريئة والجيوب الآمنة.

*

فهل من وعي، أيها الإنسان؟

هل من إدراك؟

هل من رأفة؟

هل من رحمة، أيها الإنسان؟

*

إنهم ملائكة، فلذات أكبادنا، وتلاميذنا، وأجمل مخلوقات المجتمع وألطفها.

يدخلون الفرح والسعادة إلى القلوب بابتسامةٍ تذيب الحجر وتفتح الورود.

*

لِمَ نسمح بتشرّدهم وحرمانهم من أبسط حقوق الكرامة كأطفال؟

نراهم عرضةً للاستغلال، يعملون في البيوت كخادمات،

يتعرّضن للتحرش المستمر وهم في مقتبل العمر،

ويُتّخذون مطيّة لجلب عطف الناس بغية التسوّل وربح المزيد من المال بجشع.

*

نراهم عند إشارات المرور، يمسحون أوساخ العقول المتحجّرة من سائقي السيارات وهم في عمر الورد.

نحن والحياة عليهم.

مكانهم الطبيعي المدرسة، وفضاءات اللعب، والرياضة، والإبداع بالفن. أليس كذلك، أيتها الأم؟ أيها الأب؟ أيها الأخ الكبير؟ أيتها الأخت الكبرى؟

*

أين تبخّرت قلوبكم الجاحدة التي دفعتكم إلى هذه الأفعال الشنيعة؟

لا أُعمّم، بالطبع.

*

أين هو الاحتواء؟

ما من مبررٍ معقولٍ للأفراد أو المجتمعات التي تجعل الإنسان يؤذي الأطفال،

إلا المرض النفسي أو العقلي أو الإجرام، كما هو الحال في فلسطين، وكل البلدان التي تنهش لحمها الحروب والميز العنصري.

*

يحتاج الطفل إلى الكثير من الرعاية، والحنان، والحب، وأيضًا إلى ثقةٍ عميقة بقدراته،

لينطلق بجناحي اليراع المشعّ، كونه رجل المستقبل.

*

ترى، أين أحلام أطفال العالم؟

هل أخرسنا أصواتهم إلى الأبد؟

أم حوّلناها إلى معزوفاتٍ نشازٍ نسمعها بذبذبات المنافق وأشباح الإنسان، وحنو المعتدي الغاشم؟

*

ما مصير أصحاب الأسئلة الساذجة المشروعة في ظل زمن "الإنسان الوحش"؟

أين غاب الاندهاش العميق في ظل الاختلاف؟

*

للإجابة على كل هذه التساؤلات،

فلنربط الاتصال بالطفل في ذواتنا.

 

بعنوان: «جرحٌ فاخر»

تتّسم قصيدة «جرحٌ فاخر» بحميميّة اشتغلت عليها لغة الشاعرة الجزائرية الدكتورة آمنة حزمون طبيبة المخ والأعصاب، بين نبرة اعترافية وشحنة تأمّلية تجعل النصّ مساحةً للتناوب بين الألم والبهجة، بين الاندفاع الحسي والوعي التأمّلي. من منظور هيرمينوطيقي–تأويلي، تقرأ القصيدة بوصفها حلقةً من محاولات القراءة والكتابة التي تخاطب القارئ داخليّاً وتستدعِي تاريخَ الأنا والهوية. سأوظف هنا مناهج هيرمينوطيقية، أسلوبية، سيميائية (بما في ذلك نموذج غريماس الفعّال)، نفسية ودينية، علاوة على قراءة جمالية ووطنية، لنكشف ما تحمله القصيدة من طبقاتٍ تحت الجلد الشعري: نبضٌ، توتر، رمز.

1. القراءة الهيرمينوطيقية التأويلية:

١- القصيدة كحالة تفسيرية: المتكلم/المتكلّم عنها يتخذ موقفَ الاعتراف والنداء، أو خطاب الذات المتألّم/المتيم. القراءة الهيرمينوطيقية تنطلق من فكرة أن النصّ ليس مجرد رسالة بل أفق تأويل مفتوح: المتكلّم يبدأ بـ «لا تموت الجراحُ إن جراحي/باقياتٌ» — جرح متواصل لا يزول لأنه متجذر في وجوده. الشعور بالاستمرارية (بقاء الجراح) يقترن بليل طويل، وهو زمنٌ رمزي للاختبار والحنين.

٢- الأسئلة التفسيرية التي يطرحها النص: ما هو مصدر الجرح؟ هل هو الحب أم العزلة أم فقدان الربيع (الطبيعي/الوجداني)؟ تردّ القصيدة بإجاباتٍ نصفية: هناك «تفاصيلك» تكشف الهوى، و«انتمائي لأفق روحك لغز»، و«غارق قلبي الحزين ببحرٍ موجه الحب» — أفقُ الحب هنا يمثل غايةً وغموضًا في آنٍ معا.

٣- الهرمية التأويلية: من «الجراح» إلى «الهوى» إلى «الانتماء» ثم إلى «النداء/الاستنجاد» (انتشلني يا جميلا) — حركةٌ من الألم إلى الرجاء، ومن الصمت إلى الطلب. كما أن قصيدة ذات طبيعة حوارية مع الذات والآخر، وتحتضن عناصر البلاغة والنداء الديني (ليلة القدر) وتوظيف صورٍ وطنيّة/طبيعية (الربيع، الحقول).

2. تحليل سيميائي (بونييت" غطاء" - جميل- /غريماس كموجه):

2.1 العلامات والأقطاب السيميائية:

تشتغل القصيدة بشبكة من دالات دلالية متضادة ومتضمنة:

١- الحضور/الغياب: «غابت عن الربيع الحقولُ» مقابل «عيونك فجرا يوقظ الشمس».

٢- الجرح/الفخامة: العنوان «جرح فاخر» اتحاد مفارقي (سلبية الجرح مع صفة الفخر/الفخامة).

٣-النور/الظلمة: «الليالي تزول» مقابل «أبصروا النجمَ يرتديه الأفول».

هذه الثنائيات تخلق حقلًا دلالياً مركّباً؛ العلامات ليست معزولة بل تعمل داخل شبكة نصّية تُنتج معاني مختلفة بحسب تموضعها.

2.2 تطبيق نموذج غريماس أي النموذج الفعلي:

نحو استخراج محاور الأدوار داخل القصيدة — نعيد قراءة نصّ غريماس عبر تحديد: المرسل، المادة/الهدف، الفاعل/المطلوب منه، المتلقّي، المساعدون، والخصوم/المعادون.

١-  (المخاطَب الفاعل المطلوب): «القلب/الذات المتكلِّمَة» — هوية الــ«أنا» الشاعرية التي تسعى إلى الخلاص/الانعتاق (التحرّر من الجرح أو بلوغ المحبوب).

٢- الموضوع،  (الهدف): الانتصال بالخلاص/الانعتاق عبر الحب — يمكن صياغته: «النجاة العاطفية/الالتصاق المتبادل».

٣- (المرسل الذي يمثّل الطلب/الدافع): النصّ يقدم أكثر من مرسل؛ أقوى قراءاتنا تشير إلى «قوة الحب/الهوى» كمرسل داخلي: الحب يُرسل رغبة الخلاص («مدّ لي كفهُ فقلتُ: انتشلني»). كذلك الطبيعة/السما «هكذا قالت السما والفصولُ» قد تعمل كمرسلٍ يبرر الانتماء.

٤-  (المتلقي): «المحبوب/الجميلا» أو حتى القُراء المتلقون الذين يشاركون المضمر العاطفي؛ ولكن على مستوى العمل السرديّ المتلقي الأساسي هو الذات التي تُستبدَل حالتها بالالتصاق/النجاة.

٥-  (المساعدون): رموز الطبيعة (الشمس، الفصول، البحر) كقوى تُعين الرغبة؛ أيضًا «التجلي دليلُ» كعامل مساعد يعطي دافعًا للرجاء.

٦- (المعاندون/المعترضون): «العيون/الناس/الحُرّاس الاجتماعيون» الذين «حرضوا ثوبي الشفيفَ وقالوا/أسبليهِ فقد تجنُّ العقول» — هذا صوت معادي يحيط بالمحب ويعمل مانعًا اجتماعياً. كذلك «الأفول» و«الغياب» كقوى معرّضة للموانع.

- خريطة غريماسية (مكتوبة):

١-  الهوى/الطبيعة (مرجع قيمي ودافع).

٢-  «أنا» المتكلّم (الساعي).

٣-  الانتصال/النجاة بالحب (المرغوب فيه)

٤- المتكلّم نفسه (تحويل ذاتي) أو الحبيب (كمن يحقق الهدف)

٥-  التجليات الطبيعية (الشمس، البحر، الفصول)، الرمل الديني (ليلة القدر كعلامة مساعدة معنوية)

٦-  المجتمع/العيون/الفضول/الأفول

هذا التطبيق يكشف أن النصّ يسير كحكاية رغبة: رغبة الخلاص عبر الآخر، مضادةٌ بصخب المجتمع والأقدار.

3. المستوى الأسلوبي والصوتي والنحوي:

3.1 الصوت والوزن والإيقاع:

القصيدة تستثمر تكرار الأصوات لنحت حالةٍ موسيقية داخلية: تكرار السين والشين (صبرٍ/صِدقٍ)، تكرار الحركات القصيرة والطويلة يخلق انزياحاً إيقاعياً يقارب غمرة النبض. وجود الأبيات القصيرة والطويلة يشي بتوتر موزون: إذ تخترق جملٌ مطوَّلة لحظات انتقال عاطفي ثم تقطّعها شظايا أقصر لتأكيد نبضة أو استهلال.

3.2 اللساني-الصرفي:

١- الأفعال الماضية والمضارع: تزاوج بين الزمنين ليُمحى الخط الزمني ويجعل التجربة حالًا مستمرة (لا تموت، فاضحاتُ، غارقٌ). هذا المزج يحمّل النص توترًا بين ما هو ممتدّ (جراح باقية) وما هو فوري (انتشلني).

٢- المفردات المركّبة والصور المبتكرة: «جرح فاخر» — اتحاد صفةٍ مع دلالةٍ سلبية ينتجُ جملةً معجميةً جديدةً تثير التناقض والفضول.

3.3 البنية التركيبية والبلاغية

القصيدة توظف التكرار الندائي («يا شقيقي ويا رفيق احتراقي»)، والصور الاستعارة («قمراً من ذهول»، «غيمةً تلوح بروحي») والكناية الدينية («ليلة القدر والزمان») لتكوين بلاغةٍ تأملية. كما أن التنقل بين خطاب الاعتراف والخطاب التأملي يخلق ديناميكية نصّية: من النداء إلى السرد إلى الملاحظة المجتمعية.

4. البنى النفسية والدينية:

4.1 البنية النفسية.

الذات في حالة انقسام: رغبة ملحّة في الالتصاق وبراءة الاعتراف مقابل خوف اجتماعي وإحباط. النفس هنا مجروحة لكنها متعالية — «فاخر» — مما يشير إلى فخر بالجراح كدليل عاطفي/وجودي. هناك أيضًا ملامح الشغف الرومانسي المتجاوز: «غارق قلبي الحزين ببحرٍ موجه الحب» — البحر رمز للشمولية واللانهائية: حبّ لا يقاس، حب يغمر السكون.

يظهر التماهي والاعتماد والتبعية على الآخر "أنتِ" كقوّة مسيطرة، مع شعورٍ بالترقّب والخوف من الخيانة: «فهل يخون الجميل؟» — شكّ زاويته الوجدانية، لكنه مع ذلك يطلب النجاة من الآخر.

4.2 البُعد الديني والروحاني:

توظيف «ليلة القدر» و«السما» و«التجلي» يعطي النص بعداً قدسيّاً: الحب ليس مجرد شعور بشري بل تجربة وجودية تشبه الخبرة الروحية. «ليلة القدر والزمان.. فضولُ!» — ربطٌ بين الزمن المقدّس والفضول البشري عن المعنى، وفي ذلك إشارة إلى أن الحب عملٌ تعبديّ ربما، أو اختبار. التجلي كـ«دليل» يمنح السرد شرعيةً روحيةً للنداء: الاعتماد على قوة عليا أو لحظة استنارة.

5. المقارنة على مستويات متعددة:

5.1 المستوى الانفعالي.

القصيدة عالية الشحنة الانفعالية: الحزن، الشوق، الرجاء، الغضب الخافت. النبرة تتراوح بين الاحتراق والالتجاء: «ذبت مثلي... فما ترى أو تقول؟» — انفعالٌ داخلي يُخوّن القدرة على الكلام ويعطي الأولوية للشعور. الانفعال مُعَبَّر عنه بصورٍ قوية (بحر، نار، جرح) وينعكس في بنية الجملة والنداءات.

5.2 المستوى التخييلي (الخيالي/الصور).

الخيال في القصيدة غنيّ ومتحرّك: القمر، البحر، الشمس، الغيم، النجوم، ليلة القدر — كلّها عناصر تخلق فضاء بصريًا واسعًا. التخيل هنا ليس تجريديًا فحسب، بل يعمل بوصفه آلية لإضفاء قيمة معنوية على الحب. هناك تخيل تأملي (التجلي، السماء) وتخيل حسي (أصابع تعزف عري اللحظة).

5.3 المستوى العضوي (الجسدي/الحسي):

الجسد حاضر بقوة: «كل خلية في جسدك وروحك» و«أصابع تعزف» و«التصاق/احتراقي» — لغة حسية تؤطّر العلاقة الجنسية/العاطفية. العضوية تُستخدم لتأكيد الواقعية العاطفية: الحب ليس فقط فكرة، بل تجربة جسدية/عضوية تحتلّ الوعي.

5.4 المستوى اللغوي:

اللغة في القصيدة محكمة ومتعددة الطبقات: تجمع بين لفظٍ بليغٍ، استعارةٍ مجازية، ونداءٍ مباشر. استعمال كلماتٍ مفردة ذات حمولة دلالية كثيفة («شفيف»، «فضولُ»، «أفْق روحك لغزٌ») يُضفي على النص عمقًا لغويًا. كذلك اللّعب التصويري بين الكلمات يقود إلى جمالياتٍ صوتية ودلالية.

6. تفسير بعض المفردات والعبارات المحورية:

«جرحٌ فاخر»: عنوان مركزي يحمل مفارقة؛ الجرح عاطفة مؤلمة، لكنه هنا مكلّل بالفخامة — إشارة إلى فخر الذات بجراحها كدليل على عشقٍ نبيل أو تجربة وجودية مميزة.

«شفيفَ» (ثوب شفيف): الشفاف الرقيق ــ دلالة على هشاشة المعاناة أو رقة المشاعر التي يمكن للناس أن يجرّدوها ويهينوها.

«ليلة القدر والزمان.. فضولُ!»: قدْح العبارة يضع الزمن المقدّس في موقف الفضول الإنساني؛ الزمن المقدّس هنا مقترن بالسرّ والفضول، ما يجعل الحب تجربةً ذات قداسة لكنها أيضاً موضع سؤال.

«التجلي دليلُ»: التجلي هنا ليس فقط بمعناه الديني بل كعلامة إجلالية لحدوث لحظة انكشاف أو وعي تجعل الطلب (انتشلني) مشروعًا ومبررًا.

«أبصروا النجمَ يرتديه الأفولُ»: صورةٌ معكوسة تبين أن الآخرين يرون العكس: عندما يغيب النور عن الذات، يلبسه الأفول؛ أي أن رؤية الآخر مشوّهة أو محدودة.

7. الأنساق المعرفية (المرجعية الثقافية والوطنية):

القصيدة تعمل ضمن شبكة معرفية تجمع بين الرمز الديني (ليلة القدر)، والصور الطبيعية المحلية (الربيع، الحقول)، والعواطف الشخصية. وجود إشاراتٍ إلى الفصول والطبيعة يضع النصّ ضمن سياقٍ إيكولوجي–ثقافي يعرفه القارئ العربي، بينما اللوحة الدينية تمنح النصَّ بعدًا تراثيًا/وجوديًا. هذا المزيج يجعل النصّ ذا «وطنية ضمنية» — ليست وطنية سياسياً بل ثقافياً: استحضار الطبيعة والطقوس المشتركة.

8. اقتراحات منهجية لتوسيع الدراسة:

1. مقارنة نصّية: قارن «جرحٌ فاخر» بنصوص أخرى للشاعرة ذاتها أو بنصوص جزائرية معاصرة تتناول نفس الثيمات (الجرح، الهوى، المقدس).

2. تطبيق غريماس تفصيليًا: بناء مخططات فعلانية تفصيلية لكل مقطع لتتبع تبدّل الأدوار.

3. تحليل صوتي معمّق: جردٍ لأنماط القوافـي/الجناس/التكرار الصوتي وربطه بالأثر الانفعالي.

4. دراسة نفسية-رمزية: توظيف نظريات التعلّق والاشتياق والبحث في نظرية التعلق لقراءة بنية الاعتمادية في النص.

5. مقاربة ترجميّة: اختبار كيفية انتقال هذه الطبقات الدلالية إلى لغة أخرى—أين يفقد النصّ من رائحته الأصلية وأين يحتفظ بها.

الخاتمة:

قصيدة «جرحٌ فاخر» عمل شعري غنيُّ الطبقات: تجمع بين الاعتراف والنداء، بين الرمز والدين، بين العضويّ والخياليّ. من خلال مقاربة هيرمينوطيقية وأسلوبيّة وسيميائية (بتفعيل نموذج غريماس) نقرأ نصًّا يُظهر أن الجرح هنا ليس عيبًا يُخفى، بل علامة شرفٍ وجودي تُعلن عن عمق الرغبة والهوى والقداسة الممكنة في تجربة الحبّ. إنّ القصيدة تدعونا إلى إعادة التفكير في علاقة الذات بالآخر، وفي كيف تُصاغ الجراح لتصير فخامةً تليق بوجودٍ ينشد الانتصال والنجاة.

***

بقلم: عماد خالد رحمة - برلين

...........................

جرحٌ فاخر

لا تموتُ الجراحُ إن جراحي

باقياتٌ وإنّ ليلي طويلُ

*

وانعكاسي على جبين المرايا

ظلُّ شمسٍ

وأنكرته السهولُ

*

وتفاصيلك التي لستُ أبدي

فاضحاتُ الهوى

وصبري قليلُ!

والعصافير سيدي لا تغنّي

منذ غابت عن الربيع الحقولُ!

لست أهوى سوى عيونك فجرا

يوقظ الشمسَ

والليالي تزول!

*

وانتمائي لأفْق روحك لغزٌ

هكذا قالت السما والفصولُ !

غارقٌ قلبي الحزين ببحرٍ

موجه الحبُّ...

والتجلي دليلُ

مدّ لي كفهُ

فقلتُ: انتشلني

يا جميلا فهل يخون الجميل؟

*

حرضوا ثوبيَ الشفيفَ وقالوا

أسبليهِ فقد تجنُّ العقولُ

*

لم يروا غيمةً تلوح بروحي

أبصروا النجمَ يرتديه الأفولُ

خبؤوني من العيون كأنّي

ليلة القدر والزمان.. فضولُ!

*

يا شقيقي ويا رفيق احتراقي

ذبت مثلي...

فما ترى أو تقول؟

والمصابيح لا تعزي كفيفا

شارد الروح مقلتاه هطولُ..

٢٠٢٤

د.آمنة حزمون

 

نحو تأصيل نظرية ما بعد نصّيّة في قراءة الخطاب الأدبي

لم يعد سؤال النصّ، في الفكر الأدبي المعاصر، سؤالاً عن كيان لغوي معزول أو بنية منضبطة تستمد شرعيتها من انسجامها الداخلي فحسب، بل أصبح سؤالاً عن الكيفيات التي تُنتِج من خلالها اللغة أثرَها في المتلقي، وعن الآليات التي يتحوّل عبرها الخطاب من مجرد كلام مكتوب إلى نصّ حيّ. ومع التحوّلات الجمالية والمعرفية التي عرفها الأدب خلال النصف الثاني من القرن العشرين، وارتقاء النظرية الأدبية إلى مستوى مساءلة الثوابت، ظهرت مفارقات نقدية جديدة تسعى إلى إعادة تعريف ماهية النصّ. من أبرز هذه المفارقات: نصّية اللانصّ ولانصّية النص؛ وهما مفهومان يُعيدان تحديد المسافة بين النصّ وما يجاوره، ويبرزان الديناميّة الدقيقة التي تربط بين الشكل والمضمون، بين الظاهر والخفيّ، وبين بنية الخطاب وطاقته على إنتاج الدلالة.

لا تقتصر أهمية هذين المفهومين على كونهما صياغتين متقابلتين؛ بل يفتحان الباب لقراءة معمقة للحداثة الأدبية وللبنى الما بعد–نصّيّة، حيث تتخلخل الحدود، ويصبح النصّ فضاءً متحركًا يتشكّل باستمرار وفق شروط التأويل والاستقبال.

أولاً: مفهوم نصّيّة اللانصّ.. حين تتحول الفوضى إلى بنية

يحيل مفهوم نصّية اللانصّ إلى قدرة الخطاب الذي يتعمّد خرق القواعد النصّية التقليدية على أن يتحوّل، رغم ذلك، إلى نص مكتمل من حيث الأثر والمعنى. ففي مقابل النص الخطيّ، الملتزم بالحبكة والمقولات السردية، تبرز نصوص تتفلت من التسلسل، وتفكّك اللغة، وتكسر التجنيس الأدبي، وتشتغل على الشذرات، والمقاطع، واليوميات، والكتابة الحرة، لكنّها تُنتج، عبر هذه الفوضى المنظمة، بنية دلالية ليست أقل قوة من النصوص المحكومة بنظام.

1. جمالية التشظّي

تكمن قوة نصّية اللانصّ في أنّ التشظّي ذاته يصبح عنصرًا بنائيًا. إن غياب الترتيب ليس نقصًا، بل استراتيجية جمالية، وخلخلة النظام ليست خروجًا عليه بقدر ما هي إعادة صياغة لحدوده. هنا تتحول الفوضى إلى آلية نصيّة، واللانظام إلى شكل بديل من التنظيم، في سياق تتداخل فيه الأزمنة والرؤى والطبقات السردية.

2. تفكيك سلطة الشكل

يعمل هذا المفهوم على إسقاط قداسة الشكل، وتحرير الكتابة من النماذج الموروثة. فالنصّ، في هذه الرؤية، لا يكون نصًّا لأنه منضبط، بل لأنه فعّال. الناقص، المنقطع، المشطور، قد يكون أكثر نصّيّة من المكتمل، لأنه يخلق توتراً دلالياً، ويستفزّ القارئ، ويستدعي مشاركته في بناء المعنى.

3. أمثلة وتمثيلات

يمكن ملاحظة هذا النمط في العديد من الكتابات المعاصرة:

- نصوص ما بعد الحداثة الغربية (بورخيس، كاليطو، بارت)،

- اليوميات الممزّقة والنصوص الهاجسية،

- الروايات التي تحوّل الذاكرة والهلوسة واللاضروريات إلى مكونات نصية.

هذه النصوص لا تُنتج نصّيّتها من الانضباط، بل من الانتهاك: انتهاك التسلسل، انتهاك المنطق، انتهاك القالب.

ثانياً: مفهوم لانصّيّة النص… اكتمال يخفي العطب

إذا كانت نصّيّة اللانصّ تمثّل الوجه الجمالي للانفلات، فإن لانصّيّة النص هي الوجه الكامن خلف اكتمال مخادع. هنا نجد نصوصًا تتوفر على جميع العناصر الشكلية: بنية سردية، شخصيات، زمن، لغة محكمة، تقسيم واضح للفصول… لكنّه، مع ذلك، يظل نصًّا بلا نصّيّة، لأنّه عاجز عن إنتاج المعنى أو إثارة الأسئلة أو منح القارئ خبرة جمالية تتجاوز ظاهر الترتيب.

1. الامتلاء الوهمي

النصّ الذي يسقط في لا نصّيّته هو نص يغرق في اكتماله، ويكتفي بالتقعيد المسبق، وينساق وراء حبكة نمطية، أو يكرر خطابات مستهلكة، أو يركّب الشخصيات تركيبًا سطحيًا لا عمق فيه. إنّه نصّ يجري وفق آلية ميكانيكية، لكنه يفتقر إلى الروح.

2. الشكل بوصفه قناعًا

في هذا السياق، يتحول الشكل إلى قناع، وإلى تمويه يخفي غياب الرؤية الفكرية والعمق الإنساني. فالاكتمال الشكلي ليس قيمة في ذاته ما لم يُضِف إلى التجربة القرائية أفقًا جديدًا. والنصّ الذي يُنتج نفسه عبر الوصفة الجاهزة، مهما بدا متينًا، يظل نصًّا بلا نصّيّة.

3. انهيار الدلالة رغم انتظام البناء

لا نصّيّة النص ليست فوضى، بل انعدام الأثر داخل النظام. إنه نصّ ينتظم ليمارس الفراغ، ويكتمل ليخفي العطب، ويُتقن هندسته ليُبطل روحه.

ثالثاً: المسافة بين المفهومين.. فضاء القراءة المابعد – نصّيّة

ليست العلاقة بين المفهومين علاقة تضاد صارم، بل علاقة توتر خصب يفتح مجالًا لقراءة أعمق للخطاب الأدبي. فالنصوص الأكثر حداثة هي التي تتحرك داخل هذا المجال الوسيط: نصوص تمتلك بعض سمات اللانصّ، لكنها لا تقع في الفوضى غير المنتِجة، ونصوص تمتلك بعض سمات النص الكامل لكنها تتجاوز انغلاقه.

1. النص ككائن دينامي

أصبح النص في نظرية ما بعد البنيوية كائنًا متحركًا:

- يتشكّل،

- يتفكّك،

- ويتحوّل بحسب طرائق التلقي،

لا بحسب الترتيب الذي يخططه المؤلف.

اللانصّ قد يتحوّل نصًّا بمجرد أن يمنح القارئ أداة للتأويل، والنصّ قد يفقد نصّيّته إذا انعدم أثره.

2. القارئ بوصفه شرطًا للنصّية

تلعب نظرية التلقي دورًا جوهريًا هنا. فالنصّية ليست خاصية داخلية فقط، بل نتيجة تفاعل بين النصّ والقارئ.

- نصّ مفكك قد يصبح نصًّا عظيمًا إذا أحسن القارئ تأويله،

- ونصّ مكتمل قد ينهار إذا بقي مغلقًا دون جدوى.

3. بين النظام والفوضى

يُعيد هذا التوتر صياغة الحدود بين النظام والفوضى:

- فثمة فوضى خلاقة تُنتج النصّ،

- وثمة نظام عقيم يلغيه.

رابعاً: نحو نظرية مابعد – نصّيّة

تكشف دراسة هذين المفهومين عن ضرورة تجاوز التصنيفات التقليدية للنصوص. فالعصر الأدبي الراهن، بمختلف تجاربه وتجريبياته، يتطلّب نظرية نقدية جديدة تُدرك أنّ النصّ ليس بنية مغلقة، بل مجالًا مفتوحًا للتجريب والتأويل.

1. النص بوصفه إمكانًا

النصّ ليس ما هو مكتوب على الصفحة، بل ما يمكن أن يكونه.

إنه إمكان، احتمال، أفق يتشكّل في القراءة.

2. الكتابة باعتبارها مجازفة

الكتابة، وفق هذه الرؤية، ليست إنتاجًا لمنتج نهائي، بل مغامرة مفتوحة على احتمالات التشكيل.

فالكاتب الذي يتقن الفوضى أكثر من النظام قد يخلق نصًّا يفيض بالمعنى.

والكاتب الذي يتقن النظام دون روح قد ينتج عملاً متماسكًا لكنه ميت.

3. إعادة تأويل مفهوم “النص”

إن نصّيّة اللانصّ ولانصّيّة النص ليستا سوى تجليات للتحول الأكبر:

النص أصبح سؤالًا، والكتابة أصبحت تجربة حدّية، والمعنى لم يعد معطى بل عملية إنتاج مستمرة.

إن مقاربة مفهومي نصّيّة اللانصّ ولانصّيّة النص تكشف بجلاء عن التحوّلات التي مست طبيعة الكتابة في الأدب المعاصر. لم يعد النص يُقاس ببنيته وحدها، بل بقدرته على توليد الدلالة، وبمستوى التوتر الإبداعي الذي يخلقه بين نظام الشكل وفوضى المحتمل. وبين الفوضى التي تتنظّم من الداخل، والنظام الذي ينهار من الداخل أيضًا، تتشكّل خرائط جديدة للقراءة النقدية، تجعل النصّ فضاء مفتوحًا لصناعة المعنى، لا كيانًا مغلقًا محكومًا بمعايير الأمس.

وهكذا، فإن النصّ لا يكتمل إلا حين يتجاوز نفسه، ولا يفقد نصّيّته إلا حين يكتفي بذاته. وفي هذا الجدل المستمر تتأسس جماليات الكتابة الحديثة، ويتجدد الأدب بوصفه فعلاً معرفيًا وجماليًا لا يتوقف عن إعادة إنتاج شروط وجوده.

***

حسن لمين - كاتب مغربي

أقربُ ما يمكن قوله عن سيد أحمد علي بلال أنّه كاتبٌ ينتمي إلى “الهامش المضيء”.. ذلك الهامش الذي لا يطلب الاعتراف، لكنه يُنتج أدبًا يعلّمك أن العالم يبدأ من التفاصيل الصغيرة.. من حجرٍ على ضفة النيل.. من سكةٍ تفضي إلى الميناء.. من صمتٍ يسبق الكلمة.

كلما حاولتُ الكتابة عنه، شعرت بأنني لا أقرأه بل أستعيده.. كأن نصوصه ليست مادّةً للقراءة، بل آثارٌ لرحلةٍ بدأت في قرية حزيمة وتواصلت بين أمواج بورتسودان. هناك، في التماسّ بين التراب والملح، يتشكّل هذا الصوت الذي لا يجد مكانه في خانةٍ جاهزة.

 شاعرٌ يحمل النهر في نبرته، وساردٌ يشرّح اللحظة كأنها لُقية أثر، ومترجمٌ يختبر حدود اللغة ويجعلها أكثر قدرة على الاحتمال.. هكذا بدا لي أوّل مرة عندما عرفت كتاباته؛ وحين قرأت له للمرّة الأولى شعرت بأنني أمام كاتبٍ يختبر الحافة.. ثمّ اكتملت الرؤية عبر تلك المحادثات الهاتفية الطويلة التي كنتُ أتحاور فيها مع محمد خلف ـ بثقله الفلسفي وشغفه بالحفر في المعنى ـ وعادل القصاص، ذلك السارد الذي يعرف أين يضع إصبعه على نبض الحكاية..

هناك، في تقاطع أصواتنا عن الموضوعات المختلفة، أخذ نصّ بلال شكله الأكثر وضوحًا.. والأكثر غموضًا معًا. عندها فقط شعرت أنّ بلال يُكتب مرتين: مرة على الورق، ومرة في وعينا الجمعي. ومع طول النقاش، بدا بلال كأنه يخرج من النص ليجلس قربنا.. يناقشنا في ما لم نجرؤ على تسميته، كأن الكتابة ذاتها تُعيد تشكيل حضور الكاتب في الوعي، وتجعل القراءة حدثًا يتجاوز الورق إلى تلك المنطقة التي يُولد فيها المعنى من احتكاك ثلاث ذواتٍ تبحث ـ كلٌّ بطريقته ـ عن جوهر النص.

كاتبٌ لا تُشغله الزينة بقدر ما تشغله القدرة على الإصغاء لما تقوله الأشياء حين تصمت. هكذا اقتربتُ منه أوّل مرة: شاعرًا يلتقط ارتجافة الوجود، وكاتب مذكّراتٍ يعرف أن الذاكرة ليست وعاءً بل طريقة نظر، ومترجمًا يفتح للعربية نافذةً على ما وراءها..

ومنذ قراءتي الأولى له، أدركت أنّه ليس شاعرًا فقط، بل كائنًا يقيس المسافة بين القلب والعالم، ويحوّل كلّ خطوةٍ في الذاكرة إلى جملةٍ تتنفس..

في “عنابر ديم التيجاني” لا يضع المؤلفُ سيرته على الطاولة كما تُوضع وثيقةٌ للمراجعة، بل يترك للمكان أن يكتب نفسه بنفسه. الحيّ العمالي في الميناء يتحوّل إلى معملٍ للوعي: أجسادٌ تعود برائحة الملح والزيت، أسماء عمّالٍ تشبه إيقاع خطاهم، غرفٌ ضيّقة لكنّها “تتّسع بما يفيض عن العيش من معنى”. هذا النص ليس نوستالجيا تبرّج الماضي، بل نقدٌ حميمي للماضي وهو يتلبّس الحاضر. فالذاكرة هنا ليست أرشيفًا للصور؛ إنها حقلُ صراعٍ على الدلالة، على من يملك الحق في تسمية الأشياء: “أكان ذلك بيتًا أم عنبرًا؟.. أكانت طفولةً أم ورديةً إضافية في المصنع؟”.

في هذا الكتاب يلتقي المنظور الاجتماعي بالمنظور الجمالي دون أن يتكلّف التنظير: المكان يُعاد ترتيبه بصبرِ رسّامٍ يعرف أن الضوء يأتي متأخرًا لكنه يأتي.

ولأنني أؤمن، على طريقة غرامشي، بأن “لكل إنسانٍ وظيفةٌ فكرية وإن لم يُدركها بعد”، أقرأ بلالًا بوصفه أحد تمثّلات “المثقف العملي” الذي لم يكتفِ ببلاغة الأسلوب، بل اختبر اللغة في ورشة الواقع. نصوصه لا تُزخرف الفقر بل تُعرّيه.. لا تُغنّي للبحر بل تلتقط “المِلح” على وجوه العائدين. هنالك في “عنابر ديم التيجاني” اقتصادٌ سردي يلامس القسوة من غير ادّعاء البطولة؛ جملٌ قصيرة، لقطاتٌ مكثّفة، وحوارٌ خفيض مع طبقاتٍ من الصمت. هذه كتابةٌ تعرف أن التاريخ ليس سيرة الزعماء فقط، بل “سيرةُ الممرّ اليومي إلى لقمة العيش”.

أما “وقع الغطاء عنّي” فهو كتابُ الجملة التي لا تتصالح بسهولة، كتابُ الشعر حين يختبر النثر، والنثر حين “يطلب وزنه الخاص”. هناك، تتجاور ثنائيات الميلاد والفناء، السيولة والجفاف، النور والعتمة.. لا باعتبارها استعارةً تهرب من الجسد إلى الفراغ بل كـ”بنيةٍ إدراكية” تقترح على القارئ أن يرى العالم بما يتخلّف عنه من ظلّ.

أرى أن هذا الديوان كتب على إيقاع “تلعثمٍ مقصود”: الكلمات تتقدّم خطوةً وتتراجع خطوتين، كأنّ الشاعر يحفر في طبقات اللغة ليُبرز ما تراكم فيها من كثافة ما يراكمه اليوميّ على العين. “القصيدة”، هنا، ليست طبقةٌ لغوية لا تتورّط في ما تحتها؛ إنها طريقةُ نظر. وكم أحببتُ ذلك الوميض الذي يخرج من احتكاك المفردة بالمكان: ماءُ الشمال النيلي وهو يعلّمنا رياضة الانتماء، طينُ القرية وهو يوقّع باسمه على أجسادنا، الشارعُ وهو يتحوّل إلى جملةٍ اعتراضية في الوعي.

ولأن الشعر، كما يلمّح إرنست بلوخ، “وعدٌ بما لم يكتمل بعد”، فإن قصائد بلال لا تُعيد إنتاج اليأس الرومانسي، بل تضع اليأس في مواجهة سؤال العمل.. ليس عنده ترف التعالي اللغوي على جراح الجماعة؛ لغته تقطع المسافة بين الخاص والعام بلا ارتباك، كأنها تقول: “ما لم يفكّر فيه الناس بصوتٍ عالٍ، ينبغي للقصيدة أن تجرّبه”. هنا يظهر أثرُ التكوين البصري في الكتابة: توزيعُ البياض، إدارةُ الصمت، لقطاتٌ تشتغل مثل مونتاجٍ هادئ.. تلاشي مشهد، دخول آخر. حتى الاستعارة عنده “تتلفّت” أكثر ممّا تتباهى، تُشير بدل أن تُقرّر، وتترك للمشهد أن يقول نصفه الأخير.

وليس من باب المصادفة أن يظهر وجهُ بلال الآخر في الترجمة. حين ترجم “تصوّف: منقذو الآلهة” لنيكوس كازانتزاكيس، بدا لي أنه لا ينقل نصًّا من لغةٍ إلى أخرى، بل يعبر “حاجز الروح” إلى منطقةٍ ثالثة.. منطقةٌ يُختبَر فيها معنى أن تستعيد العربيةُ حسّها بأن تكون بيتًا يفتح نوافذه على المتوسط. الترجمة هنا ليست وظيفةً تقنية؛ إنها “اختبارٌ وجودي” للغة كما يقول فالتر بنجامين في روح فكرته.. استمرارٌ لحياة النص في لسانٍ آخر. كأن بلال وهو يمشي مع كازانتزاكيس على حافة المعنى، يستعيد ما فُقِد من شجاعة السؤال في العربية الحديثة: “هل يمكن للإنسان أن يخلُص إذا خلّص اللغة؟.. وهل يمكن للغة أن تخلُص إذا خلُص الإنسان؟”. هنا أسمع صوته لا صوت المؤلف المُترجم عنه: صوتُ سودانيٍّ جرّب المنفى واحتفظ بالمعجم الحارّ للجذور.

ولستُ أخفي نزوعي إلى قراءة بلال مرآةً لجيلٍ سودانيٍّ كاملٍ تعلّم القسوة في المدرسة الخطأ. ذلك الجيل المتشظّي بين المنفى والمكان، بين أثينا ونيقوسيا ولندن من جهة، وبين حزيمة وبورتسودان من جهةٍ أخرى؛ جيلٌ يكتب وهو يحدّق في التقويم السياسي، يترجِم وهو يقيس المسافة بين “هويةٍ تضيق” و”عالمٍ يتّسع”. أشعر أحيانًا أن بلالًا يعالج في تجربته العصبيّةَ المرهفة لهويةٍ تحت القصف.. هو لا يعلن ذلك، لكنه يتركه في هوامش الجمل: صمتٌ أطول من اللازم، تردّدٌ محسوب، ميلٌ إلى “المجاز العِملي” أكثر من الاستعارة المفخّمة. هناك لغةٌ نُسجت لتُرى لا لتُصفّق. وهذه إحدى فضائله الكبرى.

 هل أُغالِي حين أقول إن “عنابر ديم التيجاني” عملٌ يُدرَّس في السرد الاجتماعي العربي؟.. ربما. لكنني أرى أنه نصٌّ يذكّرنا بأن كتابة الناس عن الناس فعلٌ سياسي حتى حين يتظاهر بالحياد. يكفي أن تلتقط اسم عاملٍ بورتسوداني وتُعيد له نسبَه في اللغة؛ يكفي أن تفصل بين “الوظيفة” و”الإنسان” لتفكّك عُقدةً كاملة في اقتصاد المعنى. هنا تقترب الكتابة من النقد الماركسي لأدلجة اليومي: لا لرفع شعارات، بل لإظهار كيف تصنع البنيةُ الفوقية أشكالَ إدراكنا للحياة. بلال يفعل هذا بكياسة شاعرٍ لا يحب الخطب.. يترك الفكرة تمشي على قدمين، تمرّ، تلمحها، فتتبعها.

ومع ذلك، لا يُخضِع بلالُ النصَّ لصرامة الأطروحة؛ يخلّصه دائمًا بجرعةِ حنانٍ غير معلَنة. “نبرة اعترافٍ” تتسرّب بين السطور: اعترافٌ بحكايةٍ شخصيةٍ لكنها قابلةٌ لأن تكون حكاية الجميع. أحيانًا يقول كأنه يحدّث عابرًا أمام الميناء: “لا أريد أن أتذكّر.. لكنّ المكان يصرّ”. وأحيانًا يعترف بحذر: “لم أكُن شاعرًا.. كنتُ صبيًّا أتعلّم كيف أرى”. هذه العبارات الصغيرة هي التي تحوّل السيرة إلى “حياةٍ قابلةٍ للمشاركة”، وتُعيد للنصّ فضيلته الأولى: الأصالة بلا ادّعاء.

أمّا حين يُمسك الشعر بتقنياته البصرية، فإن مشاهد بلال تبدو ـ حرفيًا ـ قابلةً للّوحة والسينما. زاويةُ رؤيةٍ منخفضة تلاحق صعود العمال على السلّم المعدني.. كتفٌ تبتلّ بعرقٍ يشبه المطر.. ضحكةٌ تُقطع بالموج.. لقطةُ يدٍ تقلب رغيفًا على صاجٍ مُسخّن، وأخرى تبحث في جيب معطفٍ عن تذكرةِ عبورٍ قديمة. هذه “الحِرَفية الهادئة” في صوغ اللقطة تمنح السرد إيقاعًا بصريًا بلا ضجيج. وأحسب أن هذا السبب بالذات هو ما يجعل “وقع الغطاء عني” أكثر من مجموعة نصوص: إنه مختبرٌ لتدريب الحدقة على الإصغاء.

 في الخلفية، تتردّد أسئلةٌ لا تُجاب مرّةً واحدة. ماذا تفعل الترجمةُ بالهوية؟ هل تفتح اللغةُ نافذةً أم تستبدل بابًا بباب؟.. وما مصير الشاعر حين يقضي عمره بين معجمين: معجم الطفولة ومعجم العالم؟ هنا يتسرّب صوت فاروفاكيس ـ لا كسلطةٍ فكرية بل كرفيق حِجاج ـ حين يقول بطريقةٍ ما إن “المعرفة ليست منفصلة عن علاقات الإنتاج.. بل منسوجةٌ فيها”. أقرأ بلالًا على هذا الضوء: شاعرًا ومترجمًا وصاحب مذكّراتٍ يختبر كيف نعيش في اللغة بينما نعمل ونُجرّب ونهاجر ونعود. إنّه يذكّرنا بأن الثقافة ليست “ترفًا إضافيًا”، بل جزءٌ من منظومة العيش نفسها؛ ومع كلّ ضربةٍ تتوارى.. تظهر شرارةُ الفهم.

كأنّ مشروعه كله يقف عند هذه الجملة: “أريد لغةً تَصْدُقُني حين أكذب عليها”. لذلك يتخفّف من الزينة وينحاز إلى ما يسميه بلوخ “الدفء الأنطولوجي” للأمل.. ذلك الأمل الذي لا يجهل فداحة الواقع لكنه يراهن على إمكانٍ يظلّ مفتوحًا. لا يكتب بلال ليُحسّن العالم؛ يكتب ليجعله مرئيًا. وهذا، في زمن يلتهم فيه الضجيجُ أعصاب الكلمات، أعظم ما يمكن للأدب أن يفعله.

أعرف أن بعض النقاد سيطلبون “سيرةً رسمية” وتواريخَ مفصّلةً وصورًا.. لكنّني أفضّل، هنا، أن أترك الأثر يقودني. ما يهمّني هو هذا “الجوّ الجمالي” الذي يربط بين الشعر والمكان والترجمة: ثلاثيّةٌ تصنع صوتًا لا يشبه سواه. شاعرٌ يُعيد إلى العربية قدرتها على التواضع الوقور، وساردٌ يدرّبنا على سماع الغرف وهي تتنفّس، ومترجمٌ يؤمن بأن الكلمات لا تعيش مرّةً واحدة. ذلك كلّه يجعل سيد أحمد علي بلال أكثر من اسمٍ في فهرس؛ يجعله تجربةً اعتقاديّة في الأدب.. تجربةً تقول بلا تردّد: “ما لم نُنقذه في اللغة، سيضيع منّا في الحياة”.

ولعلّ أجمل ما في هذا المشروع أنّه لا يطلب اعترافًا، بل يُولّد اعترافًا مضادًا في القارئ. أكتبُ عنه الآن وأشعر أنني أكتب عن نفسي وعن جيلٍ بأكمله.. جيلٍ صار الخروجُ من البيت فيه فعلًا يوميًا، وصارت العودةُ إليه فنًّا عسيرًا. لهذا أقول: كأن بلال يكتب من المكان الذي كنتُ أحلم به.. من تلك العتبة التي تفصل بين “أنا” و”نحن”، بين “السيرة” و”المشهد”، بين “القصيدة” و”الممرّ”. هناك، في المنطقة الرمادية التي تتطلّب شجاعة النظر لا براعةَ القول، يتقدّم صوته بهدوءٍ وثقةٍ ومضاء. وهناك، أيضًا، سنُدرك ـ إذا أصغينا بما يكفي ـ أن الماء لم يكن يومًا عنصرًا طبيعيًا فقط.. بل “لغةٌ ثانية” تعلّمنا كيف نُمسك بالعالم، وكيف يفلت منّا، وكيف نواصل الكتابة.. كي لا يضيع.

***

إبراهيم برسي

دراسة هيرمينوطيقية - سيميائية في شعر ناديا نواصر (ورّاقة الجزائر)

يمثّل الشعر الجزائري المعاصر فضاءً حيّاً وقلقاً في آن، تتجاذبه أسئلة الكينونة والهوية واللغة في سياق الانكسارات الوطنية والإنسانية التي شهدتها المنطقة العربية. وفي هذا الإطار تأتي تجربة الشاعرة ناديا نواصر، الملقّبة بـ ورّاقة الجزائر، لتقدّم صوتاً يتوغّل في الجرح الجمعي، ويعيد تفكيك العلاقة بين الإنسان والتاريخ والمعنى.

قصيدة «فتنة التاريخ» ليست مجرد بناء لغوي، بل هي معمار رؤيوي يتشابك فيه:

١- الصوفي بالوجودي.

٢- الأسطوري بالتاريخي.

٣- المنفى بالذاكرة.

٤- الذات بالروح الجمعية.

تنهض القصيدة على توتّر لغوي ودلالي يتجاور فيه القدري واليومي، ويغدو السؤال محوراً مركزياً يشطر العالم إلى معنى ولا معنى، إلى وجود يُكتب في الهامش، وإلى مقاومة تتشكّل على صهيل القصيدة.

أكتب هذه الدراسة لأكشف عمّا تحت الجلد الشعري من:

١- نبض وتوتّر ورموز.

٢- حركة دلالية تتجاوز ظاهر العبارة.

٣- طاقات تأويلية تنتج طبقات متعددة للقراءة.

٤- سرد شعري يؤرّخ لما يتجاوز حدود التاريخ المدون.

وسوف تنبني الدراسة على تكامل المناهج:

١- الهيرمينوطيقيا التأويلية لفك شفرات المعنى العميق.

٢- الأسلوبيّة لتحليل الانزياحات وطرائق التعبير.

٣- الرمزية لاستجلاء البنى المجازية الدافعة لمحمولات النص.

٤- السيميائيات ومنهج غريماس لاستخراج محاور الأدوار وقوى الصراع

٥- المستويات الجمالية واللغوية والانفعالية والتخييلية.

بهدف إبراز كيف يتحول النص إلى حقل مقاومة لغوي وفلسفي يسائل التاريخ ويعيد تشكيل أفق المعنى الإنساني.

ثانياً: تحليل هيرمينوطيقي تأويلي:

تقوم القصيدة على مفهوم «الفتنة» لا بوصفها غواية جمالية فقط بل:

١- فتنة التاريخ حين يخون الذاكرة.

٢- فتنة المعنى حين ينزلق إلى اللاجدوى.

٣- فتنة الوجود حين يصبح المنفى قدراً.

اللغة ليست أداة توصيفية، بل فاعل في إنتاج العالم. فالقصيدة تصعد من اللحن إلى الحكمة، ومن الأسطورة إلى الوعي.

المعنى هنا متردّد كما ورد في النص:

 «للراهن المتردد على فلسفة المعنى»

وهذا التردد هو بوصلة القراءة التأويلية:

معنى يبحث عن نفسه عبر تأويل لا ينتهي.

ثالثاً: تحليل أسلوبي:

أبرز الظواهر الأسلوبية:

1. الشعرنة الكونية

 «الأغاني القادمة من هندسة الكون.

2. تأنيث اللغة وديننتهاتقول وراقة الجزائر ناديا نواصر:

 «وكأن اللغة أنثى تمشط صباح ظفيراتها»

3. الصورة المركّبة والمتعدّدة الطبقات، تقول:

«السنابل حديث العشيات الندية»

4. تكرار الثنائيات الضدية:

(وجود/غياب — معنى/لا معنى — حرية/قهر).

اللغة هنا تتوتّر بين الانسياب والغموض، بين الوضوح والانزياح.

رابعاً: التحليل الرمزي:

الرمز دلالته المحتملة:

السنابل الحياة، الخصوبة، المستقبل

نهر الحكمة المعرفة التطهيرية

سيزيف العذاب الأبدي والمقاومة

الريح الاغتراب والهوية المراوغة

الوردة المذبوحة اغتيال الجمال بالواقع.

الرمز ليس حلية، بل محرّك دلالي يفتح النص على أفق وجودي عميق.

خامساً: التحليل النفسي–الوجودي

النص يفصح عن:

١- قلق المصير (نكون أو لا نكون).

٢- إحساس الجمع بالخذلان والغياب.

٣- نزوع صوفي نحو الخلاص الروحي.

٤- اغتراب وجودي أمام تاريخ عقيم.

الذات الشعرية هنا ممزقة بين:

الانتماء إلى الوطن / والبحث عن وطن داخلي // الهويّة الجمعية / والفردانية الحارقة

سادساً: التحليل السيميائي وفق منهج غريماس:

نستخرج البنية السردية الخفية:

محاور الأدوار في النص:

الدور السيميائي التمثيل داخل القصيدة:

١- المرسل التاريخ/الذاكرة/الجرح

المرسل إليه الذات الجمعية/الإنسان

الفاعل القصيدة – اللغة – المقاومة

الموضوع المعنى – الهوية – الخلاص

المساعد الحكمة – الأسطورة – الصبر

المانع الخذلان – القهر – اللاجدوى

٢- الصراع السيميائي هو جوهر القصيدة:

المعنى ⇽⇿ العبث

الهوية ⇽⇿ التيه.

سابعاً: مستويات التحليل النصي:

- المستوى أبرز ملامحه:

١- الانفعالي التوتر الوجداني الدائم بين الأمل والانكسار

٢- التخيّلي صور كثيفة تُحيل على ذاكرة رمزية وأساطير

٣- العضوي صور الجسد: اللحن/القلب/الرغبة → دلالة الحياة

اللغوي انزياحات تركيبية – جمل اسمية ذات ثِقل دلالي.

ثامناً: التحليل البلاغي والنحوي

١- بلاغياً:

استعارات متلاحقة، تشخيص مكثف، مزاوجة بين الحسي والمجرّد

٢- نحوياً:

سيادة الجملة الاسمية → ثبات الوجود في مواجهة التبدد

استخدام فعل المضارع → استمرارية القلق والمقاومة

تاسعاً: مقارنة دلالية ضمن الأنساق المعرفية للنص:

- نسق التاريخ نسق الأسطورة نسق الوجود.

- ذاكرة الخيبات سيزيف / الفتنة سؤال «نكون أو لا نكون»

- سرد الألم الجمعي الوردة المذبوحة رحلة بحث عن معنى.

- النص يرفض أن يكون وصفاً للحاضر… بل إعادة كتابة للتاريخ على صهوة الشعر.

الخاتمة:

تكشف قصيدة «فتنة التاريخ» لورّاقة الجزائر الشاعرة ناديا نواصر عن رؤية شعرية تمارس النقد الوجودي للتاريخ، وتعيد مساءلة الحقيقة من موقع الجرح، وتحوّل الشعر إلى فضاء مقاومة رمزية يستعيد إنسانية الإنسان المهدّدة.

لقد أظهر التحليل بأن القصيدة:

١- تنحت ذاتها كترويج فلسفي جمالي.

٢- تنحاز للحياة رغم وطأة الخذلان.

٣- توظّف الأسطورة والتصوّف لإضاءة العتمات.

٤- تبني بنية صراع دلالي بين معنى يتولّد و لا معنى يتوحش.

وهكذا يتحوّل الشعر إلى ما يشبه مانيفستو روحي

يعلن أن عندما تقول:

"الإنسان ليس ابن التاريخ فقط… بل ابن مقاومته للتاريخ".

هذه الدراسة لا تُغلق النص، بل تفتح احتمالات قراءة جديدة،

فالنص العميق — كما التاريخ نفسه —فتنة لا تنتهي.

***

بقلم: عماد خالد رحمة - برلين

........................

نص: فتنة التاريخ

شعر: نادية نواصر

 الاغاني القادمة من هندسة الكون

 تكابد احتباس اللحن في مضيق اللغة

وكأن اللغة أنثى تمشط صباح ظفيراتها

الشعر الأشقر يمضي الى فتنة التاريخ

بإيماءة المتصوف يلقي عصاه في نهر الحكمة

الوافدون إلى صخب المساءات يتهجون تقاسيم النهارات

للراهن المتردد على فلسفة المعنى

للسنابل حديث العشيات الندية

وهي تعجن طين الرؤيا لتشكل ما انبلج عن فجر الاغاني الشفيفة

الراحلون على ممرات الجمر

كتبوا رسائل خيباتهم واستووا في صفوف الغياب

عند أول هزيع للخذلان

والوافدون إلى صخب السؤال يتهجون قطار العمر

في ممرات الحلم المؤجل

وعلى صهيل القصيدة يرتبون اوراق الرفض

لابسين عباءة الوقت وجبة القهر المبين

أيتها الطلاسم المتشكلة في رغوة البحث

الممزوجة بكيمياء الريح الهاربة إلى اللامعنى

كيف توغل كينونة الاشياء في اللاجدوى

ويظهر التاويل على شفاه الوردة المذبوحة بسكين الرغبة

الهندية الحمراء التي هيأت الارض لعاشقها

دست تحت وسادة الليل المفتون بآخر نجمة

كراسة الأساطير المنسية على صخر المحنة

واردت دانتيل الريح الصاخبة عند أول موسم للقطاف

نكون او لا نكون هي خطانا المكللة بالصندل والريحان والصبار

هل يأتي الخفق على شكل ضربة شمس؟

وهو يمشي إلى تفاصيل السؤال

ميراج خيول الجريئة باتجاه سيزيف الذي عشق صخرته

إذ اتماهى في تعب التدحرج

وهو يعيد نشيد الروح إلى الصدر المفتون بغوايات العراء

النازحون إلى فداحة اليقطين

ياتون على شكل الجرحى حين يناسبهم انين الروح

باحثين عن منفاهم الجميل في وطن بلا بحر، بلا مدن، بلا كل شيء

لا هوية للريح، لا طعم ولا لون، ولا رائحة، غير شكل الاوراق المتساقطة على جسد الطين

والطيور المحلقة خارج السرب تقول تفردها عند امتزاج الأبيض بالاسود

يا مرايا الوقت الجحود كيف نمضي إلى صفوة العمر

في ظل الذي غالط المعنى، وغافل النسيان

 

قراءة تتقصّى تشكّلات الواقع في الخطاب الرّوائي

تصدير: يكون الأدب واقعيّا متى أعاد إنتاج الواقع سيميائيّا برؤيا فنّيّة خاصّة ومختلفة.

تقديم: قامت الواقعيّة كمفهوم أدبيّ عامّ على مبدأ تعامُل الأدب مع الواقع بطرق ومن زوايا نظر عديدة؛ بما أنّ كلّ أثر أدبيّ مهما كان نوعه هو بالضّرورة سليل أديمه الحضاريّ والاجتماعيّ وخاصّة في فنّ الرّواية الذي بات الأكثر استقطابا للأدباء والقرّاء كليهما باعتبار ما ينعكس فيه من أصداء الواقع حتّى قيل: (إنّ الرّواية هي الشّكل الأدبي الأقوى والتّعبير الأنسب عن الواقع... فلا توجد رواية مهما كانت طبيعتها تاريخيّة أو خياليّة أو رمزيّة... خالية من آثار الواقع - محمّد الخبو - " مداخل إلى قصصيّة المعنى") فمابالنا بالرّواية الواقعيّة التى عرفت مسيرة متطوّرة مع التّحوّلات التّاريخيّة والعلميّة والنّظريات الفلسفيّة في العالم والتي انضمّت إليها الرّواية العربيّة في مرحلة متأخّرة عن الأدب الغربي بشكل جعل لها ملامحها المرتبطة بالواقع العربي وبالهويّة الثّقافيّة العربيّة رغم انصياعها النّسبيّ والمتفاوت إلى الأصول العامّة للواقعيّة الغربيّة على الأقل في مستوى البُنى الفنّيّة للخطاب السّردي. ومن البديهيّ أن يكون للواقع العربيّ وما شهده من تغيّرات وما شمله من تناقضات واهتزازات أثرُه في تطوّر الرّواية العربيْة عامة والتّونسيّة خاصّة والتي كان لتيّار الحداثة فكريّا والالتزام فنّيّا تأثيره العميق والواضح على شكلها ومضامينها؛ تأثيرا انسحب على الإبداعات الرّوائيّة النّسائيّة بدورها. وقد سجّل العقدان الثامن والتّاسع من القرن العشرين تزايدَ انخراط المرأة في الحياة الأدبيّة ليس بدافع منافسة الرّجُل وتجاوز دونيتها إنّما لإثبات وجودها الإنسانيّ وإبراز قدرتها على الإنجاز والإبداع حيث طفقت بالفعل تفرض وجودَها في كتابة الرّواية بمقوّمات التيّار الأدبي السائد آنذاك في سياق مرحلة انتقاليّة بين الواقعيّة النّقديّة (التي تزامنت مع مرحلة الالتزام في الشّعر وبروز جماعة الطّليعة) وبين بدايات التّوجّه نحو تّيّار التّجريب بحثا عن مُمكِنات كتابة جديدة. ولمعت خلال تلك المرحلة أسماء كاتبات سجّلن الإضافة البارزة والحقيقة بالتّنويه إلى المدوّنة الأدبيّة التّونسيّة وربّما حتّى العربيّة أذكر من بينهنّ مثلا: صاحبة الإسم المستعار زكيّة عبد القادر في رواية " آمنة " 1983 عروسيّة النّالوتي في رواية " مراتيج " 1985 وعلياء التّابعي في " زهرة الصّبّار " 1985 (بغضّ النّظر عن تاريخ إصدارها: أفريل 2003). وهي روايات تعاقدت مع الواقع بشواهده وروافده بطرق متباينة في فترة تاريخيّة ساخنة عاشتها البلاد التّونسيّة على وقع أحداث خطيرة من الصّراعات السّياسيّة والإيديولوجيّة بين نظام الحكم والمعارضة النّقابيّة واليساريّة خاصّة وبين القوى اليساريّة والقوى اليمينية التي سرعان ما انتشرت وتغلغلت في المجتمع منذ نشأتها مع منتصف السّبعينيات. من هنا كان اختيار رواية " زهرة الصّبّار " التي كُتِبت بقلمٍ وظّف شواهدَ ذاك الواقع وروافدَه برؤيا نسائيّة يساريّة في منتهى الثّوريّة منطلقا في تناول موضوع الرّواية الواقعيّة النّسائيّة في تونس.

وأعني بالشواهد تلك السّمات والدّلائل التي استمدّها الخطاب السّردي من الواقع التّونسي في مرحلة تاريخيّة حدّدتها علياء التّابعي كفضاء ومادّة لروايتها.

وأعني بالرّوافد جملة المرجعيّات الثّقافيّة والمعرفيّة التي صحبت ذلك الواقع وحدّدت هويته وساهمت في تكوين الرؤيا السّرديّة للرّواية على مدى الوعي بقضاياه ومشاكله.

فكيف أنشأت علياء التّابعي من هته السّمات والمرجعيّات مُنجَزا روائيا استطاع أن يكون؟؟

 شواهد الواقع التونسي في رواية "زهرة الصَّبّار":

تمتدّ هذه الرّواية الصّادرة عن دار الجنوب للنّشر - تونس - ضمن سلسلة عيون المعاصرة على 140 صفحة وعلى تسعة فصول متفاوتة من حيث الكم متفرّقةٌ، ترتيبُها العدديّ على غير نظام زمنيّ او مشهديّ جليّ، قدّمها الدّكتور هشام الرّيفي في 20 صفحة. لم تخلُ واجهتُها / عَتباتُها مِن شواهد سواء في مستوى العنوان الذي يحيل على الغطاء النّباتي والعلامة المميّزة لجبال الشّمال الغربي ذاك العماد الرّفيع لتونس الدّاخل؛ مُتّكأ تونس السّاحل. أو في مستوى تسجيل المؤلّفة في عقب الرّواية لتواريخ تأليفها ومراجعتها (ص 170: تمّت... تونس 84 - 1985... روجِعَت في المنستير 1987 / 1989) أو على مستوى التّنبيه الذي صحب الإهداء المُترع بالعرفان للأساتذة، والمؤلّفة منهم وتعرف مقدار فضلهم على البلاد والعباد، (ص 29) التنبيه المراوغ يروم تنصّل الرّواية من شواهد الواقع فيعمّق توريطها فيه بأحداثها وشخصيّاتها: (تنبيه: كلّ شخصيّات الرّواية ووقائعها خياليّة وكلّ تشابه بينها وبين أشخاص حقيقيين محض صدفة لا دخل للكاتبة فيه) وهذا يغلُب على القارئ عدم تصديقِه في حقيقة الأمر بعد إتمام القراءة.

قام البناء الدّرامي للرّواية (أو هيكل الأعمال على حدّ تسمية النّاقد الصّادق قسومة) على لقاء عاديّ في ظاهره بين امرأة سمّتها المؤلّفة " رجاء " ورجُل سمّته " أحمد " جمعتهما قصّة حبّ مقبورة رغم عمقها. كان لقاء مراجعة ومحاسبة أكثر منه لقاء عتاب بين حبيبين شطّت بهما النّوى طيلة أكثر من خمس سنوات: حدث وحيد ذاتيّ استغرق ليلة واحدة تناسلت منه أحداث عقد كامل من الزّمن بين منتصف سبعينيّات القرن العشرين ومنتصف ثمانينيّاته تداخل فيها الذّاتيّ والموضوعيّ في حركة سرد لا تقوم على منطق ناظم لهذه الأحداث بقدر ما تقوم على استدعائها حسب ظهور الشّخصيات. فاستوعب اللّقاءُ تاريخَ مرحلة سياسيّة واجتماعيّة وثقافيْة بأسرها. أجادت المؤلّفةُ، في الإلمام بها، إستخدامَ الوسائل الرّوائيّة الحديثة من تنويع لأصوات السّارد وزوايا نظره، ولأشكال توظيف الحوار الدّائر بين الحبيبين أثناء لقائهما، وخاصّة تنويع استخدامات تقنيتَيْ الاستبطان والتّذكّر (flash bac) بشكل مكّن من وضع الشخصيّات في محيطها الواقعيّ وجعلها تخبر عن ملامحها وتركيبتها وعلاقاتها من حيث هي نماذج من مكوّنات المجتمع التّونسيّ ونخبته المثقّفة.

هذا اللّقاء الحدث الذي تنفرط منه أزمنةُ الرّواية وشخصيّاتُها وأحداثُها ومشاهدُها لتنتظم فيه وتعود إليه في بناء دائريّ مغلق كما السّجن الكبير المحدق بالوطن ومَن فيه؛ استغرق من زمن النّصّ (زمن الحبكة) ليلة واحدة، كما ذكرتُ سلفا، بدأت بعد عودة أحمد من باريس مصطحبا ابنه من زوجته الفرنسيّة (آن) إلى أرض الوطن وبعد الوصول إلى منزل شقيقته بالمرسى حيث ترك ابنه في رعايتها ليتّجه مع بداية اللّيل إلى باب الخضراء حيث تُقيم " رجاء " واستمرّ إلى أن (ص 169: أذّن عبد الباسط للفجر وتحرّكت ستائر غرفة رجاء بنسائم الفجر الاطمئنان) فترة زمنيّة كانت كافية قياسا إلى سعة خيال المؤلّفة لاستدعاء زمن تونسيّ مُتعدّد (من عصر عليسة وحنّبعل إلى عصر الأغالبة ثمّ عصر البايات والإستعمار الفرنسي ومعارك التّحرير الوطني وعصر الاستبداد والحكم الفردي وما ترتّب عنه من معارك)، وزمن عربي تعاورته الخيبات، وزمن عالمي ممتدّ من الثّورات (الاتّحاد السوفييتي والصّين) إلى الحروب النزاعات (كوبا جنوب أفريقيا) إلّا انّ الزّمن الموضوعي السّائد والبارز والمتداخل مع الزّمن النّفسي للشّخصيات وتحديدا شخصّة " رجاء " في الرّواية هو بالأساس زمن اليسار في تونس؛ زمن ما بعد أزمة "حركة آفاق / perspectives " التي احتدّت ملاحقةُ السُّلطةِ لعناصرها بسبب مُشاركتِها في تنظيم التّحرّكات في عقب هزيمة حزيران / جوان 1967 إلى أن تلاشى وجودها في 1975. هو زمن حكاية " رجاء " مع اليسار التّونسي مع حبيبها " أحمد " الذي تركها وهي في أمسّ الحاجة إليه وفرّ إلى باريس دون سابق إنذار ومع زوجها " عادل " صديقه الذي أحاطها برعايته وأخلص لها وهو يعلم أنّ قلبها ليس له. وزمن حكاية تونس الوطن مع عشّاق الدّاخل الذين كانوا (ص 118 119: يساريين في واقع يمينيّ يريدون إخضاعه لمعادلات صيغت في الاتّحاد السّوفييتي أوالصّين...) وزُناة الخارج الذين (ص 34: خادنتهم ورقصت لهم ولم تُقلع عن آفة التّبرّج لهم...). حكاية تونس التي توالت عليها التّواريخُ الحالكة (ص 143: جانفي الأسود وخميسه الدّامي 1978.. ص 163 وخريف 1981 الذي زوّرت فيه الانتخابات الرّئاسيّة…).

هكذا حضر الزّمن في تعدّده واقعيّا متظافرا يؤرّخ لما منعته حُجُب التّاريخ الرّسميّ في تونس والعالم بطريقة السّرد الأدبي وليس بطريقة التّوثيق العلمي في كتابة روائيّة تنبش في التّفاصيل المغمورة تنفض عنها غبار النسيان وتسائلها عن حقيقة الذي كان. سنلاحظ أنّ ملامحها بدأت تتبلور أكثر مع روايات القرن 21 مع العديد من الأدباء

شّخصيّات الرّواية بدورها تحمل في أحوالها وأقوالها وأفعالها والفضاء المكاني الذي تتحرّك فيه شواهدَ هذا الواقع: " فرجاء" التي قدّرت لها المؤلفة وزر دور بطولة الرّواية بما يعنيه من صراعات وجدانيّة ووجوديّة واجتماعيّة باعتبارها امرأة مثقّفة في مجتمعنا الذّكوري ويساريّة ثوريٍة في بلد يحكمه الاستبداد. وشاءت لها أن تكون نَبتَة صبّار لم يستطع أن يُزهر ونُزِعَ عنه شَوكُه رغم توقها للإزهار تعيش (ص 91: الصّراع المرير مع كلّ سلطة عمياء وأوّلها سلطة الأب). شابّة تونسيّة من العاصمة استفادت مع جيلها من البنات من سياسة التّعليم العمومي الحداثيّة والملزمة قانونا بتعليم البنات والأولاد على قدم المساواة شأنها شأن المؤلّفة وتخرّجت أستاذة مثل المؤلّفة أيضا من كلّية الآداب بتونس. ولمّا عُيّنت للتّدريس بمنطقة ريفيّة جبليّة (مكثر من ولاية سليانة) ينبُت فيها الصّبّار ليُزهر ويُثمر وجدت نفسها تُقيم مع باحثة أوروبيّة في علم الآثار جاءت إلى بلادنا في مهمّة "علميّة " وجها لوجه، ممّا أثار في داخلها وبعمق مسألة الهويّة بمختلف أبعادها (ص 128: فإذا البلاد أوسع من مدينة وإذا تضاريسها تروي تاريخا عريقا ضاربا في القِدم... واحتدّت بداخلي أزمة الهويّة) ووجدت نفسها تدافع بشراسة عن فلسطين في وجه تلميذ صرّح بأن قضيّة فلسطين تهمّ الفلسطينيين وحدهم وبأنّ مشاكل تونس أولى باهتمامنا. وقد أصابها ما أسمته (ص 157: داء النّفور من الجزء الأوروبي في المدينة وأضربت عن دخوله وبدأت تتسكّع في الأحياء العتيقة). فكانت مجسّدة لأزمة التّضارب بين الوعي بحركة التاريخ ودور المثقّف وبين إكراهات الواقع المحاصر بسلطة الحكم الفردي والسّجون التي تفتح أبوابها لابتلاع الشباب المناضل والتي ذكرتها المؤلّفة بأسماءها جميعا تقريبا (برج الرّومي - رجين معتوق - السّجن المدني - سجن المرناقيّة...) على لسان الشخصيّات كشواهد على ضريبة الاصطفاف ضدّ السّلطة التّي سدّدها أمثال أحمد (حبيب رجاء اليساري المعتدل الذي دفعه شرخُ الإحباط إلى الهجرة نحو فرنسا ليبني مستقبله الفرديّ بنجاح هناك دون أن يلتفت إلى ما يحصل للبلاد ولا لرجاء بعده) أو عادل ابن قفصة المناجم (زوج رجاء الذي حاول الّتخفيف من وطأة تخلّي أحمد عنها.. اليساري الذي تشبّث بالإيديولوجيا بقدر تشبّعه بها فدفع أسنانه وحياة شقيقه سامي تحت التّعذيب في السجن ثمنا لذلك) وفي مختلف هذه المتناقضات الجزئيّة والكلّيّة حشرت المؤلّفة رجاء لتقيّم من خلالها طبيعة تعامل الفكر اليساري مع الواقع التّونسي وكأنّها تسلّط الضّوء وبطريقتها الرّوائيّة علي أسباب فشله بشقّيه المعتدل والمتطرّف (ص 106 بين رجُلين خسرتُ حياتي كلّها رجُلِ مجنون سكنه الدّمار ورجُل راهن حتّى النّهاية على انقلاب الموازين. كِلاكما أحمق.... بين غبيّين وقفتُ غبيٍّ ظنّ نفسه مشطورا فقامر على الجانب المظلم لأنّه يعطيه وهم القوة، وغبيٍّ كلّف نفسه عناء تغيير العالم فصلبوه والحال أنّ الأرض كلّها كانت في متناوله ولكنّه بصق على الحلول السّهلة)

وبين هذه الوقائع والأزمات والانكسارات كانت شخصية رجاء في حدّ ذاتها بمثابة شاهد من الواقع الاجتماعي يرمز إلى البلاد التونسيّة في انهياراتها وانزلاقاتها واهتزازاتها.. في انشطارها وحيرتها بين الشمال والجنوب والمدينة والبحر والحبّ والسّياسة وأيضا في بحثها قُدُما عن البعث والخلاص وفجر جديد ليس خلوا من هويتها الرّوحانيّة (فجر يؤذّن فيه "عبد الباسط عبد الصّمد" ويزهر فيه الصّبّار ويثمر) وهذا ما تحيل عليه رمزيّة الإسم في حدّ ذاتها (رجاء) فضلا عن رمزيّة الأماكن التي اجتمعت في الرّواية بكلّ تفاصيلها وأسمائها كما هي في الواقع (قرطاج، المرسى، حي الخضراء، نوتر دام، لافاييت، دار الثقافة ابن رشيق ،البلماريوم، سوسة، قفصة مكثر...) بتنوّع مشاهدها ومعمارها وتضاريسها وشواهد تاريخها حتى لكأنّ أدوات السّرد تضع القارئ أمام جغرافيا تونس من وجهة نظر أدبيّة ليدركها بشكل مختلف.

 روافد الواقع التّونسي في رواية " زهرة الصّبّار":

بما أنّ الرّواية هي عمل لغويّ بالأساس، يختار مبدعُها في العادة لغةَ مُنجَزه وفق رسالته الأدبيّة وما يتناسب مع مكوّنات السّرد فيها ووفق السّياق الثّقافي والاجتماعي الذي تنتمي إليه. واللّغة في هذه الرّواية جاءت لتتناسب مع انتماء المؤلّفة إلى سلك التعليم وإلى فئة مثقّفي اليسار التّونسي الذين استلهمت منهم شخصيات روايتها لذلك جعلتهم يتكلّمون عربيّة فصيحة تجمع بين البلاغة وسلاسة الإبلاغ في الغالب وكأنّها بذلك تعمل على تجذير عملها الأدبيّ في أديمه الحضاريّ، من جهة وتثبت من جهة ثانية أن لا تعارض بين اللّغة العربيّة حين نُجِيد استخدامَها وبين الكتابة الواقعيّة التي قد لا تستوجب أصلا استعمال اللّهجة العامّيّة. فأنشات عالمها الروائيّ وأفكارها ورؤاها التي ألبستها للشّخصيات المجسّدة لها من تلك اللّغة الفصحى الميسّرة في رقيّ وطعّمتها في بعض الوضعيات الانفعاليّة التي ألمّت بالشّخصيّات باللّهجة التّونسيّة المكحيّة ومختلف أبجدياتها حتى السّوقيّةمنها والدّخيلة (الفرنسيّة بالأساس). بل ونجدها وبشكل طريف وعلى غير المعتاد تعمد إلى وضع هامش لشرح مفردات اللّهجة المحكيّة كلّ حين والحال أنّ مثل هذه الهوامش توضع في العادة لشرح مفردات اللّغة الفصحى خاصّة إذا كانت من الحوشيّ. (ص 80: التكعرير: لوك الكلام / التجلطيم: القول الجارح / التكمبين: الدّسّ والإيقاع والكيد / البونية: قبضة اليد كناية عن منطق القوّة...) فإذا بنا أمام رافد واقعي يضع اللّغة الفصحى والمحكيّة كلتيهما على محكّ الاستعمال المتلازم المتكامل في المجتمع مخالفة لما يروّج له بعض الأدباء من أنّ كتابة الواقع تكون (أعمق وقعا ابلغ أداء إذا كانت بلغة عامّة النّاس). وهذا نهج أدبيّ اعتبره الأستاذ " محمود طرشونة " من قبيل (تطبيق وجهة النّظر التّجريبيّة) وكذلك هو موقف ثقافيّ ليس غريبا عن علياء التّابعي التي جعلت شخصية رجاء وهي تخاطب أحمد أوتسترجع محادثاتها مع عادل أو مع صديقتها هدى تضع (ص 70: التّوحيدي في مواجهة مع " مونتاني "، ثورة يولية 1952 في مواجهة ثورة أكتوبر 1917 ، وأشعار الشّابّي والبيروني في مواجهة اشعار " اليوت " و"ماوتسي تونغ " أغاني صليحة وعبد الحليم حافظ وأمّ كلثوم في مواجهة أغاني " ميريام ماكيبا " و" ليو فيري" ) وفي مواضع أخرى تضع (ص 146: مقولات ابن رشد والطّبري في مواجهة نظريات " فوكو " و" بارت " و" شتراوس") وكذلك مقولات النّفّري الطّاهر بن عاشور في مواجهة مقولات ماركس ولينين معلنة أنّها (ص 145: راجعت أخطاءها النّظريّة والعلميّة وأنّه يجب الآن الحفر في الواقع بعيدا عن مقولات ماركس ولينين وتقرير خروتشاف...) بذلك نقلت المؤلّفة جملة الرّوافد الثّقافيّة المتنوّعة تنوّعا ممتدّا عبر الزّمان (القديمة والمعاصرة) وعبر المكان (العربيّة التّونسيّة والأجنبيّة) التي تفاعلت في طبع شخصيّة التّونسيين عموما بشيء من الازدواجيّة الثّقافيّة حتى في طريقة عيشهم اليوميّة، والتي أثّرت حتما في تشكيلِ وعيِ المثقفين وفكرِهم وتبعا لذلك في قراءتِهم لواقِعِهم وتحديدِ مواقفهم إزاءَه بمن فيهم المؤلّفة التى وظّفت رصيدها المعرفيَّ والثقافيَّ في مُنجَزِها الرّوائيِّ توظيفا يسمح بإدراجه ضمن المنحى التّجريبي. هذا المنحى الذي يتّضح أكثر من خلال عملِها على استنطاقِ ما زخرت بِهِ فصولُ الرّواية من روافدَ ومرجعيات ومساءلتها بحثا عن مُمكِنات تصحيح المسار (ص 110: الآن عرفتَ وعليك تصحيحُ المسار) في الحياة والعمل وإعادة هيكلة اليسار ليستطع تجاوز فشله إذ كان (ص 120: تربة مهيّئة لنموّ الهزيمة) لذلك لم يخل الخطاب على امتداد فصول الرّواية من طرح الأسئلة المستفزّة والمُحفّزة منها ما تعلّق بقيم المجتمع (ص 61: هل تعنينا عُذريّة الرّحم أم عُذريّة القلب؟) ومنها ما تعلّق بقيَم الوجود (ص 62: فلتبحث معي عن المعنى... المعنى؟؟ وهل وجدته انت؟؟) وكذلك (ص 113: هل يلومني على استقلاليتي أم ألومه على رزمة المسلّمات والبديهيات التي يحملها فوق ظهره؟) ومنها ما تعلّق بالابستيمولوجيا أيضا (ص 146: أنا أجهل نفسي، فكيف أعرف غيري؟) وكذلك ( ص 92: لماذا نحنّ إلى الخطإ من جديد ولا نتعلّم شيئا ولا نفهم أنّنا بلا مجد حقيقيّ؟؟) أسئلة رغم أنّها تبدو عامّة إلّا أنّها تخلّلت تفاصيل الواقع في الرّواية لتحمل المتلقّي على التوقّف عن (التّربيت المنافق على كتف التّاريخ المزيّف التّوقّف عند جلد الذّات) ولتَحمِله على التّفكير في الحلول والبدائل..

هكذا جاءت الرّواية مرتبطة بسياقها التّاريخي الجغرافي كما جاءت ايضا مرتبطة بسياقها الحضاريّ قائمة على رؤيا إبداعيّة لا تروم التّسجيل بقدر ما تروم المراجعة والتّحليل من أجل التّمكّن من النّقد الذّاتي نقدا بنّاءً وتصحيح المسار كما صرخت المؤلّفة على لسان رجاء (ص 62: والانبعاث من جديد مثل طائر الفينيق ينبعث من رماده).

 خاتمة:

بدا الواقع بشواهده وروافده في هذه الرّواية (وروايات أخرى متزامنة معها) محمولا وحاملا في آن واحد. فهو محمول كمشاهد وأحداث وشخصيّات ومحطّات تاريخيّة... مثّلت المادّة التي أنشئ منها الخطاب الرّوائي. وهو حامل لجملة الرّموز والمواقف التي جسّدت الرّؤيا الإبداعيّة بل الإيديولوجيّة لعلياء التّابعي كشاهدة على خيبة امل وطنية في مرحلة من تاريخ تونس، وكشاهدة أيضا على مرحلة أدبيّة كانت وراء بلوغ الرّوائيّة تونس مستوى يّعتدّبه به.

حتّى لكأنها وهي تكتب زهرة الصّبّار على هذا المنحى التّجريبي، كانت تكتب العالم الدّاخلي للمثقفين من جيلها بما في ذلك عالمها الدّاخليّ بِلُغتِها وثقافتِها ومواقفها ومشاعرها الشّخصيّةِ. فلم تجعل روايتَها بمثابةِ سجلّ للوضع السّياسيّ والإجتماعي في تونس ولا بمثابة سجلّ لليسار التّونسي وفهرسةِ مكتبته فقط ، بقدر ما جعلتها واعزا للمراجعة والنّقد الذّاتي مدفوعة " برجاء " وقف النّزيف المترتّب عن الصّراع بين السّلطة والمعارضة وبين قوى اليمين وقوى اليسار، والذّهاب نحو تضميد الجراح برؤيا جديدة قوامها أنّ الوطن بجميع أرجائه برّه وبحره أريافِه ومدنِه يبقى وطن الجميع مهما اختلف أبناؤه وتقطّعت بهم السّبل ، كي لا يظلّوا على مَرّ التّاريخ يتحسّرون (ص 147 على حياة ذهبت قبل أن تُعطي ثمار الهزّات المُرّة، قبل أن يُزهر الصّبّار...).

 ***

بقلم: كوثر بلعابي

.......................

المصادر:

1 - رواية " زهرة الصّبّار" لعلياء التّابعي عن دار الجنوب للنّشر - تونس - ضمن سلسلة عيون المعاصرة

2 - رواية " مراتيج " لعروسية النّالوتي عن دار الجنوب للنّشر - تونس - ضمن سلسلة عيون المعاصرة

 المراجع:

1 - كتاب " طرائق تحليل القصّة " للصادق قسومة عن دار الجنوب ضمن سلسلة مفاتيح

2 - كتاب " مباحث في الأدب التّونسي المعاصر" لمحمود طرشونة " عن المطابع الموحّدة بالشرقيّة - تونس - 1989

3 - كتاب " عروسيّة النّالوتي المهاجرة إلى أعماق الذّات" منشورات منتدى الفكر التّنويري التّونسي ضمن سلسلة أعلام الثّقافة التّونسيّة..

4 - مقال" الهوية في الرّواية النّسائيّة التّونسيّة: زهرة الصّبّار لعلياء التّابعي مثالا " مجلّة الحياة الثقافيّة العدد 213 الصّادر في ماي 2010.

1 ـ شَغَفُ السُّؤَالِ وَرَهَانَاتُ الإجَابَةِ: سُئِلَ الصَّحابيّ الجَليلُ عبد الله بن عبَّاس (رضي الله عنهما) يَومًا: بأنَّىَ أصَبْتَ هذا العِلم؟ فأجاب بقولِهِ البليغِ " بِلسَانٍ سئولٍ وقَلبٍ عَقُولٍ "، أي أنَّ السُّؤالَ دومًا هو مفتاح المعرفةِ المُخلص الذي لا يخطئ الطَّريق، وهو البوَّابةُ السِّحريَّةُ التي يمكن من خلالها التقاطُ واقتناصُ كُنْه الأشياءِ وتفاصيلها المختبئةِ عن الأنظارِ وربما عن الألبابِ أيضاً، ويظلُّ السؤالُ في عُرْفِ النُّصوصِ الفلسفيَّة واللغويَّةِ هو الحَرَاك المُدهش لحالاتِ السُّكونِ المعرفيَّةِ وهو أشبه بأصوات وهتاف الثَّائرين وقريب التَّشبيه بفوران البراكِين المحمومة لما يتضمنه السؤالُ من تسارعٍ ذهنيٍّ بحثًا عن إجابةٍ شافيَةٍ.

ولعلَّ المُؤَسِّسَ الاجتماعيَّ العَربيَّ ابن خلدون لم يتنبَّه وهو يسطِّر مُقدمَته الخالدة الذِّكر إلى خَصيصةٍ رئيسةٍ تميز العقل العربي وليست الثَّقافةَ العَربيَّة فحسب، وهي هوس الإنسانِ العربيِّ وشغفه بالسُّؤالِ كنَمطٍ ثقافيٍّ متميزٍ، هذا الشَّغف الذي شغَل العَربيَّ جعله دائم الولوع بإلقاء أسئلتِه محاكِمًا تراثه لاسيما الشَّعبي حتى استحالتْ حَكاياه الشَّعبيَّة التي أسهم هو دونما قصدٍ في تأطيرها إلى جزءٍ أصيلٍ من عقيدته الاجتماعيَّة التي تتحكم في سلوكِه الفرديِّ والاجتماعيِّ على السَّواء بنسب تكاد تكون مُتساوية، وربما ثراء التُّراثِ الاستفهاميِّ الذي يدور في فَلَكِ الحكايةِ والتي عبر عنها العربي القديم بقصصه وحكاياه ونوادره وطرائفه المرتبطة بواقعه وماضيه هو الذي دفع هذا المواطنُ العربيُّ ولا يزال يدفعه إلى أخذه ـ أسئلة التُّراثِ ـ أساسا راسخًا متينًا لثقافته التي تتحكم في دوافعه واتجاهاته ومن ثم استجاباته الاجتماعيَّة.

والرَّسولُ الكريمُ مُحَمَّد (ص) قد استخدمَ السؤالَ قبل إلقاءِ الحديثِ؛ بغرض تهيئةِ الأذهانِ إلى ما سيلقى عليها، ولقد تعددت الأحاديث التي بدأت بأدواتِ الاستفهام مثل: ألا أحدثكم، ألا تسمعون، أترى بكم سبقك أصحابك؟هل شعرت أن الله؟ ألا أدلكم؟.وقد اتبع الرسول (ص) المناقشة والحوار كأسلوب تربوي قوي الأثر وأكثرها نفعاً، فاعتمد على الخبرة المباشرة في أغلب مواقف التعليم، كما أنه أحسن استغلال حاجاتِ المسلمين للاستفهامِ والسؤالِ عن أمور الدين.

وإذا تدبرنا صور الحوار والمناقشة في القرآن الكريم والسنة النبوية لاستطعنا استقراءَ الأيديولوجية الإسلامية لهما، فالحوار والمناقشة بطول القرآن الكريم وعرض السنة النبوية تتضمنا التفاعلِ والمشاركةِ، ويقوم فيها المناقش / السائل بدور رئيس في منظومة التحاور مع الآخر / الآخرين، وهذا الدور يتوقف عليه نجاح هذه المنظومةِ أو فشلها في تحقيقِ الهدفِ المرجو من تلك المناقشةِ.

وتظهر ملامحُ هذه الأيديولوجيَّة أيضاً في انتقال المعرفةِ من شخصٍ لآخر، حتى تصبح المعرفةُ (الخبرة) مشاعاً بينهما. ويؤدي هذا التواصل إلى تفاهم مشترك بين هذين الشخصين أو أكثر. وهذا التواصل والتفاعل بين أطراف المناقشة يحققان تقدماً في نقل المعلومات والأفكار والمفاهيم، والذي يساعد بالضرورةِ على فهم حقيقة إيمانية أو سنة كونية أو تحقيق الاستسلام للعقيدة الربانية الصَّحِيحة. كُلُّ مَا سَبق يُؤكد حَقِقة مَفادها أن السؤال وأشكال وأنماط استخدامه هو انتصار المعرفة عن طريق تقرير إجابة شافية واجبة له.

2 ـ الفَارِسُ القَدِيْمُ.. فَرَسُ الحَدَاثَةِ الدَائِم:

يمكن أن تتناولَ قصيدة شاعرٍ ما عن طريق التَّناصِ النقديِّ السَّابق، وذلك من خلال الاعتماد على منظورٍ نقديٍّ معينٍ أو رؤى وطروحات نقديَّة متقدمةٍ عن التناولِ الرَّاهن للشَّاعر والقصيدة، وهذا في الغالب أمر بدهي قد لا يحتاج إلى تنظير أو سرد طويل، لكن هذه القاعدة بالضرورة لا تصلح تطبيقا على شاعرنا صلاح عبد الصبور، فهو وقصيدته لا يصلحان أبدا للتناول من معطيات سابقة عليهما؛ لا من حياة الشاعر كعرف النقاد الأوائل الذين اعتادوا أن يربطوا ويدمجوا الشاعر بالنص كوجهين متماثلين لعملة واحدة وهم بذلك أفسدوا النص في تناوله أحيانا، ومارسوا فعل الإقصاء على الشاعر بتقييد حياته داخل نص لغوي أحيانا أخرى، ولا يمكن تناول قصيدة صلاح عبد الصبور من خلال التأريخ الأدبي الذي جعل نصه قاصرا على حقبة تاريخية معينة عُرفت بقصيدة التفعيلة أو حركة الشعر الحر أو القصيدة الجديدة، فكل هذا محاولات قمعية تمارس كرها على الشاعر والنص والقارئ على السواء.

لكن صلاح عبد الصبور كونه شاعر الأسئلة المدهشة لا يمكن تناول نصوصه الشعرية إلا باعتبارها إحداثيات لغوية وفكرية تأبى تقييد الإجابة والاستجابة عنها، وترفض رفضا واضحاً أن تكون الإجابة عن التساؤلات المتضمنة داخل مشروعه الشعري نهائية وقطعية لا يمكن تجاوزها، لذا فمن الأحرى عند تناول شعر الفارس القديم صلاح عبد الصبور صاحب ديوان (أحلام الفارس القديم) التعامل مع نص دون إشارات مرجعية نقدية سابقة لأن هذا سيخل بفعل التلقي المدهش.

وربما تبدو مشكلة وتظهر للناقد الذي سيتعمد تناول نصوص صلاح عبد الصبور من خلال طروحات سابقيه لاسيما وإن كانوا من أساطين وأباطرة النقد لذلك فهو أحرى بالاستخدام النقدي السابق، هذه المشكلة تتلخص في كون نصوص صلاح عبد الصبور تمثل أيقونة لغوية أقرب إلى جماليات المقاومة، بمعنى أنك من الصعب تنبؤ ما سيطرحه الفارس القديم في نصه استنادا لطرح شعري سابق، فصلاح عبد الصبور يمثل ومعه الشعراء أمل دنقل وأدونيس ومحمد علي شمس الدين وقاسم حداد ومحمد عفيفي مطر حركات احتجاجية ضد ممارسات النقد القمعي الذي يسعى جاهدا بغيل كلل أن يقمع النص في زوايا محددة لا يمكن رؤيته إلا من خلال عدساتها المحدبة والمقعرة والمستوية.

لكن من يملك اللغة احتجاجاً والصورة الشعرية سؤالاً حائرا وقلقا ومدهشا من الصعب اقتناص قصيدته والتعامل معها على أنها مجرد سرد أو حكي لغوي لفظي يحمل مضمونا يمكن فك شفرته تاريخيا أو اجتماعيا، وهذا التوصيف ينطبق تمام الوصف وكماله على شاعرنا الفارس القديم صلاح عبد الصبور والذي دوما يراهن على نصه بتيمة لغوية وقصدٍ شعري أشبه بالصدر والعجز في الشعر العمودي التقليدي لكن هذه المرة من خلال تشكيل لغوي فكري يبدأ بالتقرير وينتهي بدهشة السؤال، تماما مثلما يصنع الشاعر الاستثنائي (أدونيس) الذي يبدأ نصه بعبارات وجمل شعرية تقريرية تجعلك تطمئن للنص وصاحبه والطريق الوثير الذي تمشي فيه، حتى يباغتك بسؤال يجعلك مجبرا بين أمرين؛ إما أن تقفز طوعا ومستسلما داخل النص لتكون جزءً أصيلا منه ومن تشكيله اللغوي، او أن تضطر إلى التخلي المطلق عن إرهاصات التكوين النقدي القديم لديك.

ومن جُمْلَةِ هَذه الإحداثيات الشعرية التي تم تجسيدها في بدايات تقريرية ثم طرح سؤال مباغت يستدعي القلق والدهشة، يقول صلاح عبد الصبور:

 " لكنها قديمة معروفة لهيبها دموع

 معذرة يا صحبتي، قلبي حزين

 من أين أتي بالكلام الفرح؟ ".

وأيضا يقول:

 " الله وحده الذي يعلم ما غاية هذا الوله المؤرق

 يعلم هل تدركنا السعاده

 أم الشقاء والندم؟

وكيف توضعُ النهايةُ المعاده

الموتُ أو نوازع السأمْ؟ ".

3 ـ غوَايَةُ النَّصِّ:

ثمة علامات يمكنك أن تقتنصها وأنت تتناول نص صلاح عبد الصبور تتمثل بغير استطراد في غواية النص؛ بمعنى أن الشَّاعر على الدوام قد يدفعك إلى الاستسلام بتقرير حالاته النفسية تماما مثلما جاء في قصيدته الافتتاحية لديوان (أحلام الفارس القديم) بعنوان (أغنية للشتاء) التي يقول فيها:

" أموت... لا يعرفني أحد

أموت لا يبكي أحد

وقد يقال بين صحبي ـ في مجامع المسامره

مجلسه كان هنا، وقد عبر

فيمن عبر

يرحمه الله

ينبئني شتاء هذا العام أن ما ظننته..

شفايَ كان سمِّي

وأن هذا الشعر حين هزني أسقطني

ولست أدري منذ كم من السنين قد جُحت

لكنني من يومها ينزف رأسي ".

وبينما يبدو القارئ مستسلماً للحالة الوجدانية الأكثر حزنا في النص، يضطر لأن يكون إيجابيا إزاء تلك الحالة ليس فقط عن طريق التضامن النفسي مع الشاعر وحالته، إنما عن طريق البحث عن طرائق وسبل للخروج من تلك الحالة السلبية التقريرية حتمية النهاية، والغواية التي يصنعها النص هي وعي شديد من الشاعر لأنه يدفع القارئ دفعا لمجاوزة حد القراءة وتخوم التلقي المعتاد إلى مساحات من التخطي لدور القارئ التقليدي الذي يجد نفسه صوب الفعل الشعري محاولا أن يضع نهايات أخرى أو يواطن الشاعر في محنته يقول صلاح عبد الصبور:

" الليلُ ثوبُنا، خباؤنا

رُتْبَتُنا، شارَتُنا، التي بها يعرفُنا أصحابُنا

لا يعرف الليل سوى من فقد النهار

هذا شعارنا

لا تبكنا يا أيها المستمع السعيد

فنحن مزهوُّون بانهزامنا ".

وبنفس الغواية التي يصنعها صلاح عبد الصبور في نصه الشعري، ينجح تمام النجاح وفلاحه في عرض لحظات إنسانية أكثر عمقاً، مستخدماً في ذلك كافة مستويات التَّتابع النَّصِّي، الذي يمكن توصيفه على سبيل الاجتهاد لا التقعيد النقدي النهائي بأنه نص قلق على الدوام. فهو يقدم مشهداً يبدو برمته حزين الوصف والملامح يمكنك كقارئ أن تكمل بقية المشهد ورغم ذلك يجعلك أكثر قلقا عن طريق صور شعرية متتابعة وسريعة تجوبها ألفاظ ومساحات لغوية مغايرة لجو النص العام. يقول صلاح عبد الصبور في قصيدة (أغنية إلى الله):

" حزني ثقيلٌ فادحٌ هذا المساء

كأنه عذابُ مصفدين في السعير

حزين غريب الأبوين

لأنه تكوَّن ابن لحظةٍ مفاجئة

ما مخضته بطن

أراه فجأةً إذا يمتد وسط ضحكتي

مكتمل الخِلقةِ

موفورَ البدن

كأنه استيقظ من تحت الركام

بعد سباتٍ في الدهور ".

ونفس الفعل الشعري الذي مارسه صلاح عبد الصبور، يحاول إعادة إنتاجه مرات أخرى وهو بذلك يدشن وحده اللغة فعلا انقلابيا لا مجرد ألفاظ متراصة بغير دلالة، وهذا الفعل الشعري الانقلابي من بالغ الصعوبة أن يقبل لعبة رهانات تحديد الزمن أو وقت القصيدة، لأنه نص في المطلق، وتعامل قصدي مع الحدث والحالة الشعرية لا مع وقتها المنقضي، لذلك هذا الملمح الشعري يؤكد لما تم ذكره من قبل بأنه من الصعب تأريخ الشاعر من خلال قصيدته ولا يمكن توثيق التطور الشعري لشاعر مثل صلاح عبد الصبور بدأ كما انتهى لا من حيث التطور على مستوى الاستعمال اللغوي للمفردات أو من خلال الصورة الشعرية إنما من حيث البدء بالعبارات والجمل الشعرية التقريرية انتهاء بطرح الأسئلة المثيرة لأسئلة أخرى. يقول صلاح عبد الصبور في قصيدته (أغنية من فيينا):

" ثم نزلنا للطريق واجمين

لما دخلنا في مواكب البشر

المسرعين الخطو نحو الخبز والمئونة

المسرعين الخطو نحو الموت

في جبهة الطريق، انفلتت ذراعها

في نصفه، تباعدت، فرّقنا مستعجلٌ يشد طفلته

في آخر الطريق تُقْتُ ـ ما استطعت ـ لو رأيتْ

ما لونُ عينيها؟

وحين شارفنا ذرى الميدان غمغَمت بدون صوت

كأنها تسألني... من أنتْ؟ ".

4 ـ فِي قَصِيْدَتِنَا.. لَيْلٌ:

على غرار رواية إحسان عبد القدوس الرائعة (في بيتنا رجل) والتي تم تقديمها على شاشة السينما في ستينيات القرن الماضي بصورة تعادل إبهار الحدث الروائي نفسه يمثل الليل حدثا مهما داخل النص الشعري عند صلاح عبد الصبور، وهو ليل ليس بالضرورة ليل ينتمي لخريطة النظريات النقدية التقليدية وإن كانت صورة الليل تماثل الصور الشعرية التقليدية التي توحي بالعزلة والضيق الداخلي واتساع الزمن والحزن الكئيب، إلا أن نظرية المحاكاة الشعرية وتركيب الصور بطريقة أقرب إلى المشاكلة بعيدة تماما عن صورة الليل في نصوص الفارس القديم صلاح عبد الصبور.

وصورة الليل في نصوص صلاح عبد الصبور هي تدفق يفيض بدلالات مصاحبة لطبيعة الطقس الزمني ولتلقائية المشاعر القوية التي يسرها الشاعر فنجده يصَوِّبُ اللغة تجاه الليل بمفردات مصاحبة مثل: وأن كل ليلة باردة تزيده بعدا / الليل سكرنا وكأسنا / الله لا يحرمني الليل ولا مرارته / في ركني الليلي في المقهى الذي تضيئه مصابح حزينة / ثم تساقط المساء فوقنا / في آخر المساء شعشعت سحابة بنور / وهكذا مات المساء.

5 ـ يَبْدُو عَاشِقًا:

تربط معظم النظريات النقدية المتقدمة والمتأخرة زمنيا النص الشعري بعالمه الخارجي، أي قصة الشاعر وإحداثياته الشخصية المتواترة ومحيطه الاجتماعي، والناقد في ضوء ذلك يشبه الشرطي أو رجل المباحث السري الذي يتتبع الجاني في خفية من اقتناص تفاصيل تزيح الستار عن سر أو غموض، وهكذا يصنع الناقد في ضوء الإحالات الخارجية للنص الشعري، فيحاول إيجاد علاقة تماثل بين النص وصاحبه رغم أن الشاعر ـ أي شَاعر ـ هو صوت استثنائي قد ينفصل تمام الانفصال عن تفاصيله الاعتيادية ومكوناته الاجتماعية وهو ينظم قصيدته ويبدعها مما يجعل مهمة الناقد البوليسي صعبة وهو يتتبع شاعره لاصطياد حكما نقديا عن النَّصِّ.

ورغم أن تأطير نصوص الفارس القديم صلاح عبد الصبور جعلته بحكم النقاد حبيس الطرح القومي والتيار الإنساني المهموم بقضايا مجتمعه إلا أن غلبة الجانب الإنساني جعلته يبوح بسر العاشق بملامح قد لا تكون متماثلة بالشاعر التقليدي العاشق، لكننا مضطرون قبوله عاشقا استثنائيا بسطوة نصوصه غير المسكوت عنها، والتي تبوح بأسرار العشق والعاشق بطريقة معاصرة، ويمكن إعلان لحظة القبض على صلاح عبد الصبور عاشقا من خلال الجمل الشعرية التي تخللت نصوصه ومنها ما يقول في قصيدته (الحب في هذا الزمان):

" اليوم.. يا عجائب الزمان !

قد يلتقي في الحب عاشقان

من قبل أن يبتسما

ذكرت أننا كعاشقين عصريين

يا رفيقتي

ذقنا الذي ذقناه

من قبل أن نشتهيه

ورغم علمنا بأن ما ننسجه ملاءًة لفرشنا

تنقضه أنامل الصباح ".

وفي قصيدة (أغلى من العيون) يضيئ صلاح عبد الصبور مساحات واسعة من حالات الحب البسيطة وفيها مكاشفة لغوية سهلة بغير تعقيد أو استطراد يدفع القارئ للملل التدريجي، ففي الوقت الذي يصطنع أي شاعر حالة الحب داخل قصيدته فنجده يصب لعناته ويوجه براكينه الثائرة في صدر قارئه ويبالغ في رصد وتحليل مشاهداته على حالته تلك، نرى صلاح عبد الصبور بسيطا جدا في سرده الشعري حتى يظن القارئ أنه يقدم تعويذة قصيرة عن الحب بغير أبطال أو معارك وهمية أو قصص أسطورية، وتحديدا في قصيدة (أغلى من العيون) نلمح تمازجا قويا بين لغة القصيدة وحكايتها وبين لغتنا المعاصرة التي نستخدمها في حديثنا اليومي المعتاد أو في حديثنا بالهاتف، وكأن صلاح عبد الصبور في مشروعه الشعري الذي بدأه بديوان (الناس في بلادي) كان على وعي شديد بلغة المواطن العصرية التي تخلو من الغرابة والوحشة، لذا لجأ صلاح عبد الصبور في قصيدته إلى لغة مباشرة ومفردات معاصرة شديدة الصلة بواقعه بجانب حرصه على غنائية الجمل الشعرية، يقول صلاح عبد الصبور:

" عيناك عشّي الأخير

أرقد فيهما، ولا أطير

هدبهما وثير

خيرهما وفير

وعندما حط جناح قلبي النزق

بينهما، عرفت أنني أدركت

نهاية المسير ".

ويقول في المقطع الثاني من نفس القصيدة مستخدما سلاحه الاستفهامي الذي يبدأ بعبارة تمثل صدر الكلام ثم استفسار أو تساؤل يجسد عجز البيت الشعري:

" من أين نبع رائق يفيض حبنا

يغمرنا سعادة كأننا طفلان

لم نعرف التجوال في هذا الزمان

أي نسيم ناعم هذا الحنان

وأي كأس حلوة تلك التي نذوقها

حين تطل من عيوننا قلوبنا المجنحة

تبحث في الأحداق عن طعامها ومائها

ثم تنام في أمان ".

وصلاح عبد الصبور حينما ينظم الحب شعرا فهو لا يقتصر عند حد الوصف والتوصيف، بل يتجاوز هذا الشرح الاعتيادي إلى تقمص دور الناصح الأمين، وهنا لا يستطيع عبد الصبور أن يتخلى عن دوره الاجتماعي أو الطابع القومي الذي طغى على شعر هذه المرحلة الشعرية التي يمثلها هو بجانب شاعر الرفض أمل دنقل، فهو عاشق غير مبتذل، وشاعر يؤمن ويقدر دوره الاجتماعي في التنوير والتبصير، نجده يقول:

" يطيب لي في آخر المساء أن أقول كلمتين

شفاعة أرفعها إليك يا سيدة النساء

الحب يا حبيبتي أغلى من العيون

صونيه في عينيكِ

واحفظيه

الحب يا حبيبتي مليكنا الحنون

كوني له مطيعة سميعة

الحب يا حبيبتي هدية الحياة لي، ولك

لمتعبين حائرين في السنين

الحب يا حبيبتي فردوسنا الأمين

حين تؤود ظهرنا الرياح

وتنتهي لشاطئ المنون ".

6 ـ أقْنِعَةُ صَلاح عَبْد الصَّبُورِ الشَّعْرِيَّة:

اتفق كثير من النقاد والمنظرين للفكر العربي المعاصر أن نصوص الصوفية وأخبارهم وحكاياهم هي المصدر الرئيس لشعر التفعيلة وأجازوا بأن النص الصوفي هو الذي شكل قصيدة النثر الحديثة، مستندين في ذلك إلى علامات متشابهة بين النصين / الصوفي والشعري، من تلك الملامح والعلامات الأقنعة المستعارة أو اللغة المجازية التي لا تكشف عن معنى محدد يبصره الرائي بسهولة ويسر، ومنها اللغة الرمزية التي يتكبد القارئ فهم دلالاتها الضمنية، وأيضا استخدام التساؤل الاستفهامي بصورة توحي بإقرار الإجابة بغير تفكير أو الاختيار من بدائل، وصلاح عبد الصبور يكاد يكون قريب الشبه بين شاعرين أجادا في استخدام الأقنعة الشعرية في نصوصهما؛ أمل دنقل وأدونيس، والفارس القديم وإن كان استخدم أقنعة شخصية مثل لوركا وبودلير وغيرهما، إلا أن الوقوف النقدي الإجباري سيكون عند قصيدتي (مذكرات الملك عجيب بن الخصيب) و (مذكرات الصوفي بشر الحافي) لما يمثلان من إشارتين تراثيتين يمكن توصيفهما بالإحالة المؤثرة والفاعلة.

وأظن أن وقوفي الإجباري عند حافة القصيديتين قد جعلني أؤكد أن استلهام صلاح عبد الصبور لرموز تراثية هو إحالة رمزية من الذاتي إلى العام، وشهادة لعصر مشهود ولإحداثيات استشرافية قد تقع في المستقبل، ففي قصيدة (مذكرات الملك عجيب بن الخصيب) نرى صلاح عبد الصبور يقدم نقدا لمجتمعه من خلال الارتكان إلى صورة تراثية، ونظرا لطبيعة صلاح عبد الصبور البعيدة تمام البعد عن المواجهات السياسية أو الفكرية التي تحمل قدرا بعيدا من المشاحنة والعراك غير الإيجابي فالتجأ إلى شخصية الملك عجيب بن الخصيب ليقدم من خلاله نظرته لعصره مستعينا في ذلك بأحد أدوات المتصوفة وهو الالتفات بالخطاب بين الأنا والآخر، وعلى حين يبدو صلاح عبد الصبور في مجمل نصوصه رقيقا في بداياتها إلا أن تلك القصيدة الطويلة نسبيا يبدو أكثر مكاشفة وحدة بغير مقدمات، ويسعى كأمل دنقل وأحمد عبد المعطي حجازي في قصائدهما الغاضبة في جلد المجتمع وفكره ورفض سطوة المدينة وأضوائها، يقول في المطع الأول من القصيدة:

" لم آخذ الملك بحد السيف، بل ورثته

عن جدي السابع والعشرين (إن كان الزنا

 لم يتخلل في جذورنا

لكنني أشبهه في صورة أبدعها رسامه

رسامُه... كان عشيقَ الملكة).

وهو يسعى في رسم ملامح مجتمعه الذي ضج بالمنافقين ومدعي المعرفة والثقافة ووصول الكثير من المنتفعين إلى أصحاب السلطة وصناعة القرار على حساب أهل العلم والثقافة الحقيقيين، ورغم الإحالة التاريخية داخل نصه إلا أنه يعكس استشرافاً لغد آخر يعقب النص الشعري ذاته ويكشف فساداً قائماً وآخر يجيئ، وربما سبب نجاح القصيدة المعاصرة تحديدا جيل صلاح عبد الصبور أنها تناولت العصر ومعطياته ولم تغرورق في الأطر الذهنية المبهمة والتي حصرت قصيدة النثر نفسها في فلك التضييق الذهني المحض الذي دفع القارئ إلى العزوف عن شكل ومضمون هذا النمط الشعري، وفي قصيدة (مذكرات الملك عجيب بن الخصيب) يراهن عبد الصبور في نصه إلى مجاوزة الدهشة إلى المعرفة، والتلميح إلى التصريح، ويقامر على تقرير القارئ وموافقته لأحداث ومشاهدات القصيدة مما يدفع القارئ أن يتضامن مع النص والقصة الشعرية، يقول عبد الصبور:

" قصر أبي في غابة التنين

يضج بالمنافقين والمعلمين والمؤدبين

من بينهم مؤدبي الأمين (جورجياس)

وكان لوطيا مسيحيا

ورغم تعاليمه قد عرفت النساء

إماء أبي كن حين يجن المساء

يجئن إليَّ يلاعبنني ويضاجعنني

ويفضحن لي ما يسرُّ أبي

إليهم، حين تثور الدماء، وتهمد ظمأى

فيسحب ثوبه

وحين يطيب له كاهنوه، فتبتل رغبته بالرذاذ

ويحمد ربه ".

ومزية شاعر الزمن الجريح صلاح عبد الصبور أنه أحد رواد المسرح الشعري ولعل رائعته (مأساة الحلاج) خير دليل على ريادته لهذا الفن الأدبي، وهذه المزية هي التي دفعته لأن يكون أوبراليا في نصه بعنى أنه لا يكتفي بصوته الشعري، بل يتجاوز الذاتية إلى خلق مساحة من الفضفضة أو البوح الجماعي عن طريق اصطناع أصوات شعرية أخرى تعبر النص وتتخلله من أجل مشاركة القارئ في ارتداء قناع شعري يجسد صوته أو حالته، وهذا ما أراده حقا صلاح عبد الصبور في المقطع الخامس من القصيدة إذ تعددت الأصوات الشعرية المصاحبة لموت الملك، وتلك الأصوات هي معادل موضوعي لفصائل وطوائف المجتمع التي تختلف في رؤاه صوب المشهد الواحد، يقول عبد الصبور:

" صوت حيران:

هناء محا ذاك العزاء المقدما

صوت فرحان:

فما عبس المحزون حتى تبسما

صوت ريان:

فأنتَ هلالٌ أزهر اللون مشرقُ

صوت أسيان:

وكان أبوك البدر يلمع في السما

صوت غضبان:

وأنت كليث الغاب همك همه

صوت بالدمعة نديان:

وكان المليك الراحل اليوم قشعما ".

ولجوء صلاح عبد الصبور إلى التاريخ والقصص الشعبي ليس هروبا إلى تاريخ ميت، أو النزوح بمنأى عن المعارك المباشرة وجها لوجه بقصد ما يريد أن يجعل القارئ المثقف أكثر وعيا وإدراكاً لواقعه ومجتمعه والحالات الطارئة التي تعتريه من وقت إلى آخر وهو أحد أدوار المثقف الأخلاقي أي الذي يلتزم بقضايا مجتمعه حتى وإن كانت الصياغة الشعرية غير مباشرة، وهذا اللجوء أشبه بكتابات صادق جلال العظم الفكرية حينما كان يلجأ إلى التاريخ ليس هروبا لكن لكشف البنى الإيديولوجية والثقافية للمجتمع تحديدا في كتبه (النقد الذاتي بعد الهزيمة)، و (ذهنية التحريم)، و(نقد الفكر الديني) أو حتى في كتابه (في الحب والحب العذري) وهو إحياء للتراث عن طريق ربطه بأحداث حية مشهودة وبقضايا ومشكلات يحياها المواطن المصري بخاصة والعربي بصفة عامة، وربما كلاهما / عبد الصبور والعظم كانا يريدان إعادة النظر على السواء في التراث والواقع المجتمعي القائم آنذاك. يقول صلاح عبد الصبور:

" لو قلت كل ما تسره الظنون

لقلتمو مجنون

الملك مجنون

لكنني أبحث عن يقين

في مجلس الصبح أنا تاج وصولجان

تقطيب عينين وبسمتانْ

أو بسمة تعقبها تقطيبتانْ

وعلى كل حال

لها أوانْ

لكنني في مخدعي إنسانْ ".

7 ـ تَغْرِيْدَاتُ صَلاحِ عبدِ الصَّبُورِ.. مُمْكِنَاتُ المُسْتَقْبَلِ:

والقصيدة الثانية التي تجبرنا للوقوف عند حدودها هي قصيدة (مذكرات الصوفي بشر الحافي) وهي عن الصوفي أبي نصر بشر بن الحارث، ودوما يعتقد النقاد المتأخرون أن اقتناص الشعر أو القاص صورة الماضي هو جمود الحاضر وتيبس مفاصله، لكن النظريات النقدية المعاصرة لا ترى الأمر كذلك، بل هي تصر على الدور الكاشف للتراث في إماطة اللثام وإزاحة الغموض عن واقع المجتمع الراهن، وقد يلتمس الشاعر في ماضيه علامات وإشارات يمكن من خلالها البوح بنقد عقلاني وموضوعي لمجتمعه، وهذا تماما ما صنعه صلاح عبد الصبور في قصيدته، فهو اعتبر أن عنايته بالصوفي بشر الحافي هو عناية بمجتمع قائم والكشف عن ممكنات المستقبل الآتي، لذلك فبدايات القصيدة تبدو قصيرة وسريعه تماثل مجتمع عربي متسارع، يقول صلاح عبد الصبور:

" حين فقدنا الرضا

بما يريد القضا

لم تنزل الأمطار

لم تورق الأشجار

لم تلمع الأثمار

حين فقدنا الرضا

حين فقدنا الضحكا

تفجرت عيوننا.. بكا ".

ولا أريد أن أبالغ في أن صلاح عبد الصبور يكاد يعبر زمنه التاريخي في ابتداع شبكة التواصل الاجتماعي (تويتر) بتغريداته الشعرية القصيرة جدا والتي تجسدت في قصيدته (مذكرات الصوفي بشر الحافي)، حيث نلمح جملا شعرية قصيرة رغم بساطتها اللغوية إلا أنك تقف أمامها لتسبر أغوار معانيها، لاسيما وأنها تتمثل في صورة أمرية وكأنها نصائح أو توجيهات ينبغي الالتزام بها، يقول صلاح عبد الصبور:

" احرص ألا تسمع

احرص ألا تنظر

احرص ألا تلمس

احرص ألا تتكلم

قف...!

قف...!

وتعلق في حبل الصمت المبرم

ينبوع القول عميق

لكن الكف صغيرة

من بين الوسطى والسبابة والإبهام

يتسرب في الرمل... كلام ".

خاتمة:

إن الحديث عن المنجز الشعري عند صلاح عبد الصبور طويل لاسيما وأنه شاعر لا يمكن اقتناصه بأحكام نقدية سابقة، وبات من الصعب إحالة نصوصه الشعرية إلى سيرته الذاتية التي قصدنا بوعي إلى عدم تناولها بدعوى أن الشاعر دوما في غياب، أما النص فهو شديد الحضور وهو ما استدعى قراءة معاصرة لنصوص شاعر متميز وهو نفسه لم يسع في نصوصه الشعرية إلى إضفاء عقدة التخمة والأنا في الحديث عنه، بل كان دوما صوتا لغيره، وتجاوز الصوت الآخر إلى حضور أصوات أخرى متباينة في قصيدته، وربما جاءت القراءة المعاصرة نتيجة منطقية لشاعر شكل ثورة في الشعر هو وصاحبه أحمد عبد المعطي حجازي بقصيدة التفعيلة التي رفضها آنذاك المفكر المصري عباس محمود العقاد، فجاءت اللغة بسيطة كوجوه الناس، وأتت الصور الشعرية سريعة وأكثر تسارعاً لتتزامن وعصر القصيدة.

***

د. بليغ حمدي إسماعيل

أستاذ المناهج وطرق تدريس اللغة العربية

كلية التربية جامعة المنيا

يتضمن ديوان "على شرفة التمني" للشاعرة السورية نبيلة علي متوج العديد من عناصر الإبداع الشعري بمسوحات جمالية ومجازية تبوئها قيمة فنية ودلالية ترقى بها لمستوى رفيع لما تزخر به من سمات التغيير والتجديد، بحيث ارتكزت جل نصوصه على مقومات الشعر الأساسية من إيقاع، ومجاز فضلا عن موضوعات اندغمت في منظومة المدونة الشعرية وأضفت عليها عمقا في التعبير، وسعة وتنويعا في المعاني والدلالات.

فعلى مستوى الإيقاع، الذي تعددت استعمالاته وتنوعت، من َروِيّ انتهت به مقاطعها كما في نص " أصعب قصيدة " التي تنتهي أواخرها بحرف النون: " وأنا بكتب قصايد من زمان.. / أنت الأمان.. / وعبير وإيمان ../ أيمن كمان.. " ص12، والياء في قولها: " ليتك تأتي.. / تكسر قيود حرفي.. " ص14، وفي نص " دموع الليل " حيث تضفي الفاء المنونة، والقافية المشكلة من الياء والتاء: " يا من سكنتني، / وجعا أليفا / بردا شفيفا / همهمة حكاية.. / ليس لها نهاية ! " ص80، على المقاطع نبرة موسيقية منفتحة ومنسابة. بالإضافة إلى التشبيه كعنصر بلاغي ورد بصيغ متنوعة ارتبط فيها بأداة الكاف: " حيث تتقافز الهواجس ككائنات خرافية " ص7، وفي: " تولد وتكبر / كعرائش العنب " ص 45، ومجردا منها كما في: " فأنا النجمة العالية المتألقة بين أحضان المساء" ص 46، إلا أن الملفت في الديوان هو غزارة الصور الشعرية، وما تحفل به من مظاهر جمالية، وأبعاد دلالية، مثل ما ورد في " قصيدة عذراء ": " وكل ارتجافة دم / تكتب سطورا في سِفْر الغياب " ص 7، وهي صورة تستدعي عمقا في الرؤية، وسعة في أدوات الاستقراء لفك رمزية أبعادها، واستشراف امتدادات معانيها ؛ حيث تتكفل ارتجافة دم بتدوين سطور في كتاب الغياب، وما تحمله ارتجافة الدم من دلالات ومعاني، مع استعارة فعل الكتابة لهذه الارتجافة التي ترسم كلماتها في سجل الغياب، وفي قصيدة " أول همس " حيث نقرأ: " شرب الليل ثمالة عتمته / من حزني / أزرعك على شرفاتي / براعم حب " ص10، فالليل يرتوي من سواد حلكته التي تعتعها سُكْر، والتي عب من خمرتها الليل، وما ينتجه الحزن من براعم حب تزرعها الشاعرة على شرفاتها، وهي صورة مركبة تؤلف بين متناقضات (حزن وبراعم حب). ونثر الحقول ألحانا، في تصوير لحقول يتم توزيعها على شكل ألحان تنتشر في خضم صمت عبر عطر الغروب، مما ُيوَلِّد أسئلة يجللها العجب والغرابة إذ كيف تغدو الحقول ألحانا؟ وكيف للغروب أن يتضوع عطرا وشذى ينتشر في ملحمة الصمت؟ صور ما تفتأ تتوالى: " عسي أن يكبر حلمي.. / طفلا على صدر أم تاقت لضمه.. / بعد عقم ! " ص15، في تصوير للحلم الذي ُيْرجى أن يتطور كطفل نما وكبر على صدر أم رزقت به بعد عقم مما ضاعف من شوقها لضمه إليها بحب وشغف ولهفة، وتصوير للوحشة وهي تنسل من ثقوب الظلام: " تسللت الوحشة من ثقوب الظلام " ص 17، وما يحمله من معاني متعددة الأبعاد بوصف دال ومعبر يجعل للظلام منافذ / ثقوب َتعْبُر منها الوحشة لمعانقة رحاب الأنس والألفة. وصور أخرى أكثرا اختزالا ك: " تأبطت أحزاني / أخفيتها " ص 19، في تصوير للاحتفاظ بالأحزان وإخفائها وهو ما يدل، بشكل أو بآخر، على القدرة على المقاومة، وتَحَمُّل ثِقْل الهموم و وِزْرها ورفض الاستسلام لحالات الضعف الناتجة عن أفعال ومواقف حبلى بمظاهر جور ناتج عن خلل يسود ويحكم علاقات الأفراد داخل مجتمع متعدد الأعطاب والأوصاب ، أو في تعليق الأحلام على مشجب الصباح: " وأن أعلق أحلامي / على مشجب الصباح " ص 27،  فالصباح كزمن يشهد انطلاقة يوم جديد تتوق فيه النفوس لتحقيق ما تحمله، وما تحلم به من أمنيات وآمال. وإلى جانب فيض الصور التي تزخر بها قصائد الديوان، والتي تتميز بطابع الاختلاف والتفرد وردت تعابير متنوعة تنحو نفس المنحى وتنسج على نفس المنوال منها ما طغى عليها الطابع الرومانسي: " وأمامي أسراب من السنونو / مهاجرة إلى مطالع الفجر " ص37، وكذلك في قولها: " وعالمي ملون / بالفرح والفراشات " ص 38، وأيضا: " كنت أعرف أن قلبك حديقة غناء / وموطن الفراشات والجمال " ص 46، وكلها تعابير تتآلف وتجتمع لتشكيل صور ومشاهد رومانسية تمتح من معجم يتشكل من عناصر الطبيعة ومكوناتها مثل الطيور (سنونو)، وحشرات جميلة (فراشات)، وتنتقل لوصف يحمل نفس الطابع في التغني بجمال المرأة: " يا امراة مغناجا / يحبس الأنفاس دلالها / َتتَنَقَّل برشاقة فراشة / على أكمام الزهور.. " ص42، في نوع حركاتها (المغناج)، وما يطبعها من رشاقة وخفة ك (فراشة تنتقل بين الزهور) مع استيحاء ينهل من عناصر الطبيعة: " أرسم لها الكلمات / بلون الدفلى / وشقائق النعمان../ رياض بنفسج يغمرني شذاها " ص 43، كالشجر(شجر الدفلى)، وأزهار(بنفسج) وما تعبق به من طيب عطر وشذى. كما أن هناك تعابير مختلفة من حيث الصيغة والدلالة مثل: " أتنفسك حياة " ص 19، وفي قول الشاعرة: " أرتب ما تبعثر مني " ص 29، فكيف يمكن تنفس شخص حياة آخر؟ وترتيب ما تبعثر من الذات، وإظهار النوائب وهو مشرئبة متطلعة: " تشرئب النوائب " ص 35، وتسريج الرؤى التي تصير لها خيولا تمتطي صهوتها: " أسرج لها خيول رؤاي " ص 35، وتتحول القصيدة إلى كتابة الشاعر: " أراك فيها / أجمل قصيدة.. / ما انفكت تكتبني ! " ص40، وكلها تعابير تنأى عن الأساليب النمطية المعهودة بما تجترحه من ِصَيغ ومعاني مختلفة ومنزاحة. ويمكن الإشارة كذلك إلى موضوع الإبداع داخل نصوص المجموعة والصادر عن رؤية تكشف عما يحيط به من معاناة ومكابدة شبيهة بالمخاض كما يتجلي في قولها: " أيتها القصيدة.. / َتعَسَّر المخاض " ص22، وما تحظى به، أي القصيدة، من تعهد ورعاية بعد مخاض الولادة: " ضممتك لجناحي / كي يكبر زغب ريشك / وتحلقي " ص22، في تشبيهها بطائر صغير يكبر، وينمو زغب ريشه، وهو في حضن أمه وحمايتها، إلى أن يصير قادرا على التحليق والطيران. إبداع من خاصياته وميزاته التحرر من كل أنواع الأسر والقيود بحثا عن أجواء تتيح له حرية الخلق والتعبير: " حروفي خصبة / بذرة حياة / تأبى القيد أو الخنوع " ص 24، كما نلاحظ بروز عنصر التآلف في الجمع بين أطراف متناقضة ومتباينة كما في نص " قصيدة عذراء " حيث نقرأ: " وفي عمق هذا المعبد / القلبي، تتآخى الأصوات المتناقضة، آذان ومزامير " ص7، حيث تلتقي الأديان عبر تجاذب ينبذ كل تنافر صادر عن خلفيات تطفح بأنواع الحقد والغل والكراهية. كما كان للغناء والطرب حضور بين دفتي الديوان من خلال صوت " فيروز " الذي يتسرب إلى النفوس والأذهان وما يشيعه فيها من غبطة تبدد ما تراكم فيها من رواسب هم وكدر: " مع صوت " فيروز" الشجي / يملأ دقائق صباحي" ص 29. وعنصر المكان الذي تجسد في " دمشق " التي استحوذت على مشاعر الشاعرة، وسيطرت على كيانها فغدت مصدر إلهام، ومنبع حب وشوق: " دمشق / أزرعك في دفاتري حقول حب / وفي قلبي نبضات حنين../ أسافر في هواك بعيدا " ص33.

ف " نوافذ على شرفة التمني " ديوان شعري زاوج بين عناصر الإبداع الإيقاعية والبلاغية عبر رؤية كرست الاختلاف، وأسست لإوالياته بما رسمته من أشكال تعبيرية تجسدت في نصوص تهدف إلى إرساء لبنات تجربة شعرية تروم التغيير والتجديد.

عبد النبي بزاز ـ المغرب

.....................

ــ على شرفة التمني (شعر) نبيلة علي متوج، سوريا 2025.

بعنوان "معراجُ الفتنة"

تجيء قصيدة «معراجُ الفتنة» بوصفها مساحةً يتقاطع فيها الوجدُ الحميم مع التوتر الروحي، ويتجاور فيها الجسد مع الرمز، فتبدو — في ظاهرها — نصّاً غزلياً متّقداً، لكنها — في جوهرها — بنيةٌ دلالية مركّبة تتوسّل لغةً متوّهجة لتقول ما يتجاوز حدود الغرام العابر. إنها نصّ لا يُقرأ بعيون العاشق وحده، بل بعين الناقد الذي يُحسن الإصغاء إلى ما يتوارى خلف اللفظة، وإلى ما يتسرّب عبر الصمت بين السطور.

تتعالق في هذا النص مستوياتٌ متعدّدة من المعنى، بحيث تستدعي قراءاتٍ مختلفة: قراءة هيرمينوطيقية تكشف خريطة المقاصد والهوامش الخفيّة، وقراءة أسلوبية تُفكّك الموسيقى الداخلية والتوتّر الإيقاعي، وقراءة رمزية تستنطق الحقول الاستعارية التي تصنع المنظور الروحي للنص، إضافةً إلى مقاربة سيميائية تستعين بنموذج غريماس لتتبّع ديناميّة الفعل وصراع الفواعل، فضلاً عن مستويات نفسيّة ودينيّة ووطنية تعطي القصيدة امتدادها التأويلي المفتوح.

تتقدّم ناديا نواصر هنا بجرأة لغوية تُجاور المقدّس بالغريزة، وتخترق الفضاء العاطفي ببلاغة مُرهِقة في جمالها، حتى يتحوّل العشق إلى معراج، والفتنة إلى امتحان يختبر حدود الذات وهي تتأرجح بين الهبوط والصعود. إنّ هذا النص، بما يملكه من حرارة وصهد، يضع القارئ أمام تجربة تتجاوز الحبّ بوصفه انفعالاً، لتجعل منه مساراً وجودياً تتداخل فيه المعرفة والرغبة والطقس.

ومن هنا؛ تأتي هذه الدراسة لتعيد تفكيك هذا المعمار اللغوي والدلالي، ولتفتح أفقاً نقدياً يستوعب تعدّد الطبقات التي يقوم عليها النص: من اشتعالات الصباح الأولى، إلى صعود الروح في معارج الفتنة، إلى ذلك السؤال العميق الذي يبقى مُعلّقاً:

هل المعراج خلاص، أم بوّابة أخرى للاحتراق؟

بهذه الأسئلة، يبدأ البحث… وبها أيضاً يظلّ النص مفتوحاً على احتمالاته.

١. تمهيدٌ منهجيّ:

أتعامل مع القصيدة كنصٍّ ديناميكي: ليس محض تعبيرٍ عن حالةٍ وجدانية فحسب، بل منظومةُ معاني تُنتَج وتُعادُ إنتاجها داخل علاقةٍ تفاعليّة بين المخاطَب/المخاطِب/الزمن/المكان/الرمز. المنهج متعددُ الأوجه: هيرمينوطيقا تؤوّلية لالتقاط المقاصد والآفاق الدلاليّة، تحليل أسلوبي لبيان أدوات الخطاب والبناء الصوتي، قراءة رمزيّة لاستجلاء المستويات الاستعاريّة، سيمياء تطبيقية عبر نموذج غريماس لاستخراج أدوار الفعل، مع تدخّل لقراءات نفسيّة ودينيّة لبيان جذور الإيحائيّات. أختم بمقارنة نصّيّة رباعيّة المستويات.

٢. العنوان: «معراجُ الفتنة» — دلالة مركّبة

١- معراج: صورة صعودٍ روحي، رحلةُ انتقالٍ من مستوى إلى آخر (مستعار من المعراج النبوي: رحلة ترتقي بالروح).

٢- الفتنة: إغراء، امتحان، هزّة تخلخل الاستقرار؛ قد تكون جسديّة أو معنوية أو سياسية.

٣- التركيب يفصح عن توترٍ مركزي: صعودٌ مُرضٍ لكنه خطير، لقاء بلاغي بين التقدّس والتحرّش، بين الخلاص والاختبار. العنوان يوحي بأن اللقاء/العشق هو مسار ترتقي فيه الروح لكنّه أيضاً معرّض للسقوط — فتنةٌ تجعل المعراج امتحاناً.

٣. الخطاب والبنية الصوتية:

١- الافتتاح: «يجيئني الصباح مشتعل العينين» — صياغة فعلية مُباشرة، الصباح هنا فاعلٌ، لا ظرف؛ الصباح يجيء وهو مشتعِلٌ بالعينيْن: تشخيصٌ لجسد الصباح بصور إنسانية.

تكرارُ ضمائر التوجّه والوقوفات القصيرة يولّد إيقاعاً نبضيّاً مقاطِعاً، يناسب حالة التهيّج والانتشاء.

٢- اللغةُ تَتوهّج بلحنٍ صوتيّ: تعددُ الأصوات (رنات الهاتف، أغنية، نشيج) يعطي النصّ موسيقى داخلية.

٣- التناصّ الدالّ: مفردات دينية/طوباويّة (معراج، محراب، سيد العارفين) تختلط بمفردات الغزل (عطرك، قبلة، نشيد)، ما يؤسس لغة هجينة بين التديّن والغرام.

٤. قراءات مفرداتية — تفسير مفردات محورية:

١- مشتعل العينين: الصورةُ الأولى تُشير إلى شدةِ البصرِ/الوجود؛ العينان هنا ليستا وسيلة نظر فحسب بل محرّكان للنصّ؛ اشتعال كدلالة على الإيقاظ والرغبة.

٢- متوهج اللغة: اللغة ليست وسيطاً جامداً بل نَارٌ تتوهّج، أي أنها عامل فِعلٍ فاعل في الحياة الروحية.

رنات هاتفك → معارج الفتنة: الحداثة التقنية تُؤسِّس جسراً بين البعد المادّي والفَتنة الروحية؛ رنّات الهاتف عاملُ استدعاءٍ للمعراج والغواية معاً.

٣- ملكة هذا الوجود / سيدة الخفق: تمثُّل المتكلِّم/المتكلِّم إليها كسلطةٍ في الحبّ، لكن ثنائيّة “سيد” و“ملكة” تحمل إمكانية الخضوع والاستبداد معاً.

٤- قلم الحكمة المرفوع عن العشّاق: إسقاطٌ لمقاييس العقلانية حين يغيب عن عشّاق الهوى؛ يُشرَع المجال للجنون.

٥- صهدي / رغدي / مهوى رغائبي: تكرارُ مفردات الجسد والرغبة باللّهجة الذاتية يخلق امتلاكًا وشعورًا بالتمكين والافتتان الذاتي.

٦- احتواك بين الجلد واللحم: الجسد كمكان امتلاك ومحطة نشيدٍ حميميّ؛ امتزاجٌ بين الوشائج البدنية والوجدانية.

٥. السيمياء التطبيقية: نموذج غريماس (خرائط الفاعلات):

نحيل النصّ إلى نموذج الفاعلات لنكشف ديناميّة الفعل:

١- الفاعل : «أنا» الشاعرة/المخاطبة — الفاعل المشتاق الذي يُستدعى ويستقبل.

٢- الموضوع/المبتغى: الوصول إلى حالة الانصهار الروحي/المعراج/الانتشاء التام.

٣- المرسل: «الصباح المشتعل» و«رنات الهاتف» و«الفتنة» نفسها: عناصرٌ تغرّبُ الفاعل وتدفعه إلى السعي.

٤- المرسل إليه/المتلقي: «أنت»/«سيد العارفين»/المخاطَب الذي يُمنح القدرة على منح المعراج والانتشاء، أو على افتضاح الفتنة.

٥- المساعد: اللغةُ المتوهّجة، العطر، الصوت، الصور التي تُعانق الروح.

٦- المعارض/المعيق : «الحكمة» المرفوعة عن العشاق، «الفتنة» كقوّة متذبذبة، امتيازُ الجنون كمعارض للمنهج العقليّ.

٧- العملية التحويلية: انتقالٌ من وضع الاستسلام إلى حالة المعراج؛ العملية ليست خطيّة بل دوّارة، فيها احتمال للسقوط أو للاكتمال.

الخريطة تُظهر نصًّا دراميًا: رغبة تقابل اختباراً، ولغةٌ تعمل كوسيطٍ تحوّل حالة الوهج إلى معراجٍ أو إلى فتنَةٍ مدمِّرة.

٦. البُنى الرمزية والدلالية العميقة :

١- المعراج كمجاز مزدوج: صعودٌ وتطهير، لكنه معرّض بالـ«فتنة»؛ هنا المعراج ممكنٌ إذا استسلم الفرد لفتنة المحبوب — أو قد يُفضي إلى الضياع.

٢- النار/الصهد/الاحتراق: حضور واضح لرمزية النار كدفءٍ وخطرٍ؛ «صهد الروح» يشير إلى لهيب داخلي يغذي البلاغة والعشق وفيه إمكانُ الهلاك.

٣- المحراب/هيبة الجبل/الرماد: عناصرٌ طقوسية تعبّر عن قداسةٍ ومآلٍ؛ الرماد دلالة على ما تبقّى من احتراق سابق، والمحراب مكان عبادة/التقرب.

٤- النهر/القبلة/الجلد واللحم: رموز جسديّة للموت/الولادة، للاندماج بين العاشق والمعشوق، وللتماهي كطقسِ اتحادٍ.

٧. قراءة نفسيّة ودينيّة:

١- نفسيّاً: النص يستدعي آليات الاندماج والهوية المختلّة. قول الشاعرة «عارية من حكمتي وصوابي» هو استسلامٌ لاندفاعٍ عاطفي يتجاوز الضبط الذاتي ـ علامة على نزعة تحوّل الحبّ إلى حالة فقدان للذات المؤلوفة. «قلم الحكمة» المرفوع يرمز إلى تعطيل الضوابط العقلية في مواجهة العشق، وهو تحول معروف في دراسات الارتباط والهيجان العاطفي.

٢- دينيّاً/روحانياً: توظيف صور المعراج والمحراب والسيد العارفين يشي بتداخل بين تجربة الحب وتجربة الارتقاء الروحي. الحبُّ هنا يملك طابعًا طقوسيًا يقارب تجربة الالتقاء بالقدس — ما يطرح تساؤلاً أخلاقياً: هل الحب وسيلة للخلاص أم امتحانٌ للخطيئة؟ النص يترك الإجابة مفتوحة.

٨. البُعد الجمالي والوَطني:

١- جماليّاً: اللغة معبّرةٌ ومشحونةٌ بصورٍ مركّبة، اقتصاد أبياتٍ مع تخطيطات صوتيةٍ مقصودةٍ، ومزيج من الحداثي والطقوسي يولد جمالاً محمّلاً بتوتر. التأثير الجمالي يأتي من الاصطدام بين المقدّس والمدنّي، بين الطقوس والهواتف، بين الصعود والفتنة.

٢- وطنيّاً: لفظات مثل «مدار»، «سكان المدار»، «هيبة الجبل» و«الغربة» في قصائد الشاعرة عامةً قد تُستغلّ لقراءات متعدّدة عن الهوية والاغتراب والتحرّر؛ في هذا النص، لا توجد إشارة صريحة للوطن لكنّ استحضار «المدار» و«السكان» يفتح إمكانية قراءة متخيّلة تتعلّق بالانتماء والمكان. هذه القراءة تبقى افتراضية وتحتاج استدلالًا من مجمل شعر نواصر.

٩. المقارنة على أربع مستويات:

أ. المستوى الانفعالي:

النص مشحون بمشاعر متداخلة: انتشاء، ذهول، لهفة، تهوّر، تخوّف: خليطٌ من النشوة والقلق. الانفعال يتدرّج من الاندفاع («هيا — اتهجاني عبر اللغة») إلى التساؤل الختامي غير المطروح هنا لكنه ضمني: إمكانية السقوط واردة.

ب. المستوى التخييلي (الخيالي):

الخيال واسع ومُولِّد للصور الطقسية والمادية معًا: معارج، محراب، نهر جارف، بلور النار، صهدي — كلّها تصنع فضاءً تخييليًا متعدّد الطبقات، يمزج الممكن بالمستحيل.

ج. المستوى العضوي (الجسدي):

الحضور الجسدي قوي: الجلد، اللحم، القبلة، نشيد على صدر عاشقة؛ الجسد ليس موضوعًا بل وسيط للمعراج والفتنة، هو المساحة التي تختبر العلاقة وتحمل الآثار.

د. المستوى اللغوي:

اللغة مُشتغلة على مستويات: بلاغة تصويرية، تكرّرات اسمية فعلية، صياغات طقسية/محدِّثة، ومزج بين خطاب الديني/الطوباوي والخطيبة الغزلية؛ تُنتج موسيقى داخلية وتوترًا نحو اللامتحقّق.

١٠. ما لا يُقال: الفراغ الإيحائي:

النص يترك فراغات استراتيجية: هوية المخاطَب غير محددة، ظروف اللقاء غير مفصّلة، خاتمة المعراج غير محسومة. هذا الفراغ هو مورد دلالي: يدعو القارئ إلى الاشتراك في كتابة النص، ويترك الإمكانية مفتوحة للقراءات التاريخية والاجتماعية.

9. خاتمة: هندسة الألم/الفتنة وإمكانيات القراءة المستقبلية:

«معراج الفتنة» نصٌّ يسترقّ بين لحظة الطقوس ولحظة الغواية: لغةٌ متوهّجة، صور جسدية وروحية، ومعمارٌ دراميّ محوره اختبارُ الهوية والهوى. القراءة الهيرمينوطيقية تُبدّي أن النصّ لا يعطينا إجاباتٍ نهائية بل يقدّمُ معمارًا للشكّ: هل يقدّم المعراج خلاصًا أم محنة؟ هل الفتنة طريقٌ للتحرّر أم للتآكل؟ إنّ أغنى ما فيه أنه يترك القارئ في معراجٍ من التساؤل، حيث تصبح اللغة نفسها معبراً ومحرّكاً في آنٍ معًا.

يبدو أنّ قصيدة «معراجُ الفتنة» ليست مجرّد نصّ يُقرأ، بل تجربة تُعاش؛ مسارٌ تتقدّم فيه الذات عبر مستوياتٍ متتالية من الانخطاف والوعي، ومن الانجذاب والاحتراق. وإذا كان العشق في ظاهر القصيدة حالةَ انتشاءٍ لغويّ، فإنه في بنيتها العميقة تحوّلٌ رمزيّ يختبر قدرة اللغة على حمل الأثقال الوجودية الأكثر هشاشةً وتوهّجاً.

لقد بدا جليّاً من خلال التحليلات المتعدّدة—الهيرمينوطيقية، الأسلوبية، الرمزية، السيميائية، النفسية، والدينية—أن النصّ يعمل وفق معمارٍ دلاليّ معقّد، يقوم على توتّرٍ جوهري بين قطبين: الرغبة كقوّة صاعدة والفتنة كاختبارٍ مُهدِّد. بهذا المعنى، يصبح «المعراج» حركةً مزدوجة: ارتقاءٌ يشتهي الاكتمال، وهاويةٌ تُلوّح دائمًا بإمكانية السقوط. ولا ينفصل هذا الفعل المزدوج عن الجسد الذي يُمثّل في النصّ مرآةً للروح، ولا عن اللغة التي تتحوّل إلى شرفةٍ يطلّ منها القارئ على ما لا يُقال.

إنّ هذا النص لا يمنح قارئه يقيناً نهائياً؛ بل يتركه مُعلّقًا في المسافة بين اللمسة والدهشة، بين الهمس والاحتراق، بين العشق بوصفه خلاصًا، والعشق بوصفه فتنةً لا يخرج منها المرء سالمًا. وربما هنا تكمن قوّة القصيدة: أنّها تفتح بابًا إلى منطقةٍ من الحبّ لا تُفسَّر بالعقل وحده، ولا تُختزل بالرغبة وحدها، بل تتشكّل في التقاء الطقوس بالغواية، وفي احتدام اللغة كجسدٍ آخر للعاشق.

وهكذا، تغدو «معراج الفتنة» شهادةً على قدرة الشعر العربي الحديث على مزج الروحاني بالجسدي، والغنائي بالدلالي، والحميمي بالكوني، ليقدّم نصًّا تتجاور فيه الفكرة والنبض، ويتحوّل العشق فيه إلى خريطةٍ وجودية تُضيء كلَّ ما حاولت اللغة إخفاءه.

وبين بداية المعراج ونهايته، يبقى السؤال مفتوحًا:

هل يرتقي العاشق لأنه يحبّ؟ أم لأنه يحترق؟

ولعلّ جمال النصّ أنه يترك الإجابة في يد قارئه—لا في يد الناقد ولا الشاعر—كي يختبر هو أيضًا معراجه الخاص بين الفتنة والخلاص.

***

بقلم: عماد خالد رحمة - برلين

.........................

معراج الفتنة

شعر نادية نواصر

يجيئني الصباح مشتعل العينين

متوهج اللغة

متوجا بعطرك، صوتك والشوق الذي تناساه ليلنا

وتحملني رنات هاتفك إلى معارج الفتنة والانتشاء

وحدي ملكة هذا الوجود

سيدة الخفق المكتظ بجنون عشقي اليك

اتهجاني عبر اللغة التي تخاتل روحي

وراني فيك مفعمة بالصهيل الذي يقول حنيني حد احتراق بلاغتي

يا سيد العارفين بأمر الروح، يوم ادنيتني منك

اهتز تراب دهشتي واعتراني ذهول الوله

مشيت في محراب عينيك

عارية من حكمتي وصوابي

العشاق يا اناي رفع عنهم قلم الحكمة

ويجوز لهم من الجنون ما لا يجوز لباقي سكان المدار

الصباح الذي يعيد ترتيبي فيك

صباح للغواية والبوح والهمس الفاتن

كأنثى من بلور النار، ومن صهد الروح التي تصاعدت بك إلى معراح روحي

يا صهدي، ويا رغدي ومهوى رغائبي

يا كل هذا النهر الجارف لاسئلة القلب وهي تتشكل فيك

كما تتشكل القبلة على صدر عاشقة من عاشقها المستبد

اني معك ولك ومنك واليك وفيك

اسطورة من رقة النون الاستثنائية

في عمر سخر لك تنهيدة الروح

واحتواك بين الجلد واللحم

***

 

للشاعر السوري توفيق أحمد

تأتي قصيدة «سوسنتان إليه هناك» للشاعر توفيق أحمد بوصفها نصّاً ينتمي إلى الجغرافيا المركّبة للشعر العربي الحديث، تلك التي يتجاور فيها الوجدان الفردي مع الذاكرة الجماعية، ويتداخل فيها الحنين العاطفي بقلق الوجود، وتتجاور الرموز الحسيّة مع البنى العميقة للخطاب الديني والوطني. إنّها قصيدة تتّخذ من الصورة الشعرية بوّابة إلى معنى أبعد، ومن الجرح مدخلًا إلى معرفة الذات، ومن الانتظار حقلًا لصراعٍ بين الرغبة وإكراهات الزمن.

في هذه الدراسة، لا اتعامل مع النص على أنّه بنية لغوية جمالية فحسب، بل بوصفه شبكة دلالية متشابكة تستدعي قراءة هيرمينوطيقية تأويلية تَسبر المخبوء تحت سطح اللغة، وتستنطق ما يطفو وما يتوارى في الإيقاع، والصورة، والرمز. ولأجل هذا، تتّسع المنهجية لتشمل مقارباتٍ أسلوبية ورمزية وسيميائية — مع تطبيق نموذج غريماس — بما يسمح بتفكيك البنى السردية الكامنة في القصيدة، وتحديد مواقع الفاعلين والأدوار والعلاقات، وتتبّع حركة الرغبة وهي تتشكّل وتتعثّر.

كما تنفتح القراءة على مستوياتٍ أربعة: الانفعالي، التخييلي، العضوي، واللغوي، لتبيّن كيف يتوزّع المعنى بين الوجدان والصورة والجسد والبنية التعبيرية. وتستكشف الدراسة أيضاً ما تحت الجلد الشعري من نبضٍ نفسي وديني، وما تقترحه مفردات القمح والفضّة والجرح والسوسنة من امتدادات ثقافية ووطنية، في سياقٍ ينتمي إلى الذاكرة السورية التي تُملي حضورها على النص ولو بصمتٍ خافت.

بهذا كلّه، تُقدِّم هذه الدراسة مشروعاً تأويليًا يروم الكشف عن آليات اشتغال القصيدة، وعن تلك التوترات التي تُحرّكها بين الحضور والغياب، الحب والجرح، الزمن والانتظار، وصولاً إلى فهمٍ أعمق للشعر بوصفه ممارسة معرفية وجمالية تُعيد تشكيل الوجود عبر اللغة.

منهجية: هيرمينوطيقـيّـة تأويلية، أسلوبيّة، رمزيّة، جماليّة-وطنيّة، وسيميائيّة بتطبيق نموذج غريماس؛ مع غوصٍ في البُنى النفسيّة والدينيّة، وقراءةٍ في الأنساق المعرفيّة، وتفسير المفردات، ومقارنةٍ بين المستويات: الانفعالي، التخييلي، العضوي، واللغوي.

١. مقدّمة منهجيّة وسياقيّة:

تقدّم هذه القصيدة خطاباً شعرياً ينسحب بين التوّجه الوجداني والوعي التأمّلي؛ عنوانها (سوسنتان / إليهِ هناك) يحيلان فوراً إلى ثنائية: زهرة/حضورٍ أنثويّ، ومكانٍ بَعِيد أو ذهنيّ (هناك). سأقرأ النص بوصفه نصّ تأسيسيّ له مواقع أدوارٍ فعلية وسردية، وأطّبق على بنيته نموذجَ غريماس لاستخراج محاور الأدوار، ثم أتنقّل بين مستويات التحليل البلاغي والنفسي والديني والوطني لمعرفة ما «تحت الجلد» من نبضٍ وتوترٍ ورمز.

٢. قراءة نصّية مجملة (ملامح أولية):

القصيدة تنقسم إلى لقاطتين أو موقِفين: القسم الأول (مِن فِضَّة...) يعتمد صوراً طبيعية (الفضّة، القمح، النجوم) وتسلسلًا تأمّلياً حول الزمان والمرأة والوصال؛ القسم الثاني (يا داميَ القلب...) يزداد حوارياً ونبرة السؤال والنداء، ويختتم بإيحاءٍ ثوريّ/غزلي («سنشعل الأرضَ بالفوضى و"بالغزل"»). ثمة توترٌ بين الحضور والغياب، بين ما يُعطى (ورد، زمن، كتاب) وما يُنتظر (وصول، إجابة).

٣. المعجم والمفردات: دلالات وملاحظة اصطلاحية.

فضّة / سِلْسالُ هذا العمرِ: «فضّة» مادّة ثمينة، و«سلسال العمر» تركيبٌ يربط المادة بالزمن؛ الدلالة: الزمنُ كَزينةٍ وجَرَسٍ في آن، يلمع ويثقل.

قمح / شجن: قمح رمز للغذاء والحياة، وشجن رمز للشجن الحاضر؛ المزج يخلق ثنائية مادية-وجدانية.

سوسنة / امرأة / وصول: السوسنة رمز أنثوي تقليدي (جمال، نقاء، هدوء)، و«الوصال» هو موضوع الرغبة.

١- نجوم للعابرين: نجوم كهباتٍ عابرة، إضاءات مؤقتة؛ إشارة إلى ما يُعطى للمجتمعات أو المارة.

٢- ضمائر المخاطَب (كَ، لَكَ، إلخ): تُنفِشُ الخطاب بوجهٍ مخاطَب واضح: شخصٌ موجود «هناك» لديه بيت وشرفات واستقبال الزمان.

٣- كتاب/أجراس الحنين/الغزل/الفوضى: رموز للتسجيل والذاكرة والصيرورة والتمرّد؛ الكتاب هنا وسيط ومقدّمة للاحتواء والانتظار.

٤- ملاحظة لغوية: النبرة تجمع بين الفصحى الموزونة واللهجة الشعرية المعاصرة في تركيب مضمر ومحكم.

٤. الأسلوبية والبنيات البلاغيّة:

١- التصوير المركب: مزج عناصر حسّية (الفضّة، القمح، النجوم) مع مشاعر داخلية (شجن، وجد)؛ يعطي النص كثافةً تصويريّة.

٢- التكرار والإيقاع الداخلي: تردّد عناصر زمنية ــ «أزمنة/أيام/نهارك» ــ يشدّ الانتباه إلى البُعد الزمني كقضية محورية.

٣- السؤال الخطابي: «هل وصلت؟» «هل في البال أغنية؟» يفجّران حوارًا داخليًا ويحوّلان النص إلى طقس سؤال وانتظار.

٤- التباين الاستعاري: «رماكَ في يمٍّ من الأشواق» استعارةُ غمرٍ تؤكّد قوة الاشتياق وغموضه.

٥. الرمزية والدلالات الثقافية والوطنية.

السلالات الرمزية في النص ذات امتدادات وطنية محتملة: القمح كرمز للأرض والرزق (بُعد وطني/اجتماعي)؛ الكتاب رمزّ للذاكرة والهوية؛ النجوم للعابرين قد تشير إلى النازحين أو المارة في تاريخٍ جارٍ. النص لا يذكر الوطن صراحة، لكن بلالغته الرمزية يقترح أزمة حضور/غياب في زمنٍ متقلّب، ما يفتح الباب لقراءة وطنية تتصل بزمن الحرب والرحيل والحنين إلى الألفة.

٦. الغوص في البنى النفسية والدينية:

١- الحنين كقوّة نفسيّة محركة: الحنين يُعرّف النص؛ هو المرسل (أو الدافع) الذي يضع الشخص في حالة انتظار دائمة.

٢- الجرح/الدميّة القلبية: في القسم الثاني، «يا دامي القلب» و«أنا بصدرِكَ جرحٌ» يضعان الجسد كمكان للكتابة والجرح، وحيث أن الجرح لا يُعرف كم يغطّ ريشة اليأس بالأمل ــ هذه صورة نفسية عميقة عن الصراع الداخلي بين الاستسلام والأمل.

٣- البُعد الديني: مفردات مثل «نهارك» و«كتابك» و«أجراس الحنين» قد تُستعاد في هياكل دينية طقسية: الكتاب كمرجع، النهار كرمز للأنوار الإلهية، والأجراس كنداء روحي؛ لكن النص لا يتّجه مباشرة إلى الطاعة، بل إلى صيغة إنسانية أكثر توتراً.

٧. تطبيق نموذج غريماس: محاور الأدوار:

أطبق هنا نموذج غريماس لاستخراج الأدوار الستة الأساسية وتوزيعها داخل النص:

١- الفاعل / المبتغِي الفعلي): «الشاعر/الراوي» أو المتحرك العاطفي الذي يسعى إلى «الوصال/الوصول/الإجابة».

٢- المفعول به / الشيء المبتغى): «وصول المرأة/الوصال/إجابة السؤال» — حضور السوسنة أو المرأة، أو الكتاب كرمز للقاء.

٣- المرسل  / المرسل): «الحنين/الزمن/الماضي» — الذي يبعث الحاجة والرغبة؛ أحيانًا «المرأة» ذاتها كمرسل عندما تحدد زمن وصولها.

٤- المتلقي  / المستقبل): الشاعر نفسه، وربما القارئ؛ يتقاطع مع الفاعل في الكثير من المواضع.

٥- المساعد / الساعد): «القصيدة/النساء/النجوم/الكتاب» — عناصر تُيسّر مسعى الوصول؛ القصيدة وظيفة وساطة.

٦- المعاكس (المعارض): «الزمن الضبابي/السؤال الخفي/النسيان/الغياب» — عوامل تمنع الوصل.

ملاحظة بنيويّة: هناك تشابك في الأدوار: الحنين يعمل كمرسل ومُعاكس في آن، والكتاب يشتغل كوسيط ومُخَلِّف للأثر. هذا التداخل يشي بخاصية الوعي الشعري المعاصر: لا فصل واضح بين الدوافع والعقبات.

٨. البرنامج السيميائي (منظومة السرد بحسب غريماس):

الرؤية الوظائفية:

1. الرغبة (الشاعر يريد الوصول/إجابة).

2. المهمة (توزيع الكتاب، انتظار، السؤال).

3. المعوقات (ضباب الطريق، السؤال الذي أخفاكَ).

4. الوسائل (القصيدة/النساء/النجوم).

5. النتيجة المحتملة (وصول/لا وصول؛ إشعال الأرض بالفوضى/بالحب).

الخطاب التحويلي: التوتر بين الإمكان/اليقين: الشاعر يستخدم صيغة ترقب («هل وصلت؟») وصيغ إعلان («سنشعل الأرض»)، ما ينبّه إلى تحول احتمالي من الانتظار إلى عمل/ثورة (عاطفية أو اجتماعية).

٩. مستويات القراءة: مقارنةٌ منهجية:

أ. المستوى الانفعالي؛

القصيدة تستثمر انفعال الشوق والحنين؛ الانفعال موجّه ومباشر: نداءات وأسئلة ونبرة ألم حميمي (جرح، دامي القلب). تستفز القارئ لتبني موقف وجداني مع الشاعر/الناطق.

ب. المستوى التخييلي (الخَيالي):

صور مركبة (فضّة، قمح، نجوم) تولّد عالماً تخييليًا مماكناً بين المادة والرمز. التصورات تشكّل فضاءً بصريًا مكثفًا: بيتٌ يطلّ من شرفة، يمّ أشواق، مدارك لا تُرى... الخيال هنا يعمل كخريطة لاتجاه الرغبة.

ج. المستوى العضوي:

الجسد حاضر كمكان للجرح والحنين («بصْدِركَ جُرحٌ»، «يا دامِي القلب»). العضوية تترجم الانفعال إلى حسّ بدني: الدم، الجرح، القلب. هذا يجعل النص قريبًا من التجربة الحسية، لا مقتصرًا على مجاز فقط.

د. المستوى اللغوي؛

النص يستخدم لغة فصيحة مزخرفة، تراعي الوزن الإيقاعي الداخلي وبعض التلاعب البنيوي (قلب تراكيب، فجاءات محورية كسؤال «هل وصلت؟»). اللغة هنا جسر بين الحسي والمجازي، وتعمل على تضخيم الإحساس بالانتظار.

١٠. البنى المعرفية والمرجعيات الثقافية:

القصيدة تعمل داخل أنساق معرفية تتقاطع فيها: الأدب الغنائي العربي (الحنين والمرأة)، التراث الرمزي (القمح كأرض/حياة، الفضّة كزينة للزمن)، والخبرة المعاصرة للفراغ والانتظار (نتيجة تاريخية واجتماعية). لا يبدو النص ملتفًا حول مرجع ديني محدّد، لكنه يستحضر طقوسًا بشرية (الكتاب، الأجراس، الشرفات) ذات دلالات اجتماعية وروحية.

١١. مقاربة نفسية-رمزية: ما تحت الجلد الشعري:

الشاعر يعاني من ازدواجية: رغبة في الإمساك بالوجود (المرأة/الوصال) ووعيٌ بأن الزمن يسرق هذا الإمساك.

الجرح هنا ليس مجرد ألم؛ بل موقع للكتابة (القصيدة تُولد من الجرح).

الانتظار يتخذ صفة طقس مُبدع: الشاعر ينتظر ليستعيد ذاكرة أو لكي يتم إطلاقِ فعل (الغزل/الفوضى).

التوتر بين «الأمل/اليأس» مركزي: تغطّي ريشة اليأس بالأمل أو العكس، ما يشير إلى عملية دفاعية نفسية تقلب الألم إلى إبداع.

١٢. قراءات ممكنة على المستوى الوطني والاجتماعي:

لو ما قرأنا النص في ظلّ سياق سوري (مؤلف سوري): قد تَقرأ مفردات مثل القمح والنجوم والكتاب والشموع كرموز للذاكرة الجماعية، والبيت كشرفة للوطن، والرحيل كيمّة لعهد النزوح والانتظار. العبارات الأخيرة («سنشعل الأرض بالفوضى و"بالغزل"») قد تُفهم كدعوة لتغيير طقوسية: فوضىٌ تبديلية تُقابَل بالغزل، أي إعادة خلق للحياة عبر الحب أو الشعر.

١٣. عناصر الاستعصاء والتناقض داخل النص:

التناقض بين «فضّة» (لمعان) و«يمّ الأشواق» (غمر)؛ بين «أجراس الحنين» (رصانة) و«سنشعل الأرض بالفوضى» (ثورة).

التردد بين سؤال شغوف وحوارٍ مكتوم: السؤال الذي أخفاكَ يعني أن هناك سرًا أو عنادًا يعيق التواصل.

هذا التنافر هو ما يعطي القصيدة طاقتها الدرامية: لا مصالحة سهلة بين الرغبة والواقع.

١٤. الخلاصة التفسيرية:

القصيدة نصّ اشتياقٍ يمزج بين الصدق الجسدي (جرح، قلب) والدلالة الرمزية (سوسنة، كتاب، قمح). من خلال نموذج غريماس نرى شبكة أدوار متداخلة: الشاعر يسعى للوصول والموت في انتظار الإجابة؛ الحنين هو المرسل والمُعكِّس؛ الزمن والضباب هما العقبة. جمالية النص تكمن في توظيف صور يومية صارخة لتكوين فلسفة عن التحرّك البشري بين الخوف والأمل، الهشاشة والثبات. كما توفّر القصيدة مشهداً انتقالياً: من انتظارٍ قديم إلى قرار فاعل (إشعال الأرض بالفوضى/الغزل)، مما يشي بتحول شعري واستعداد للفعل.

١٥. اقتراحات:

1. تحليل مفرداتي معمّق: مقاربة دلالات «سوسنة/قمح/فضّة» عبر التراث والمتنّ الشعري العربي الحديث.

2. مقارنة نصّية: وضع القصيدة جنب أعمال أخرى لتوفيق أحمد لكشف ثيماته المتكررة.

3. تطبيقات سيميائية إضافية: بناء مخطط سببيّة لغريماس مفصّل مع اقتباسات موضوعة في العقد السيميائي.

4. تتبع السياق التاريخي: قراءة القصيدة في ضوء المأساة السورية كِردٍّ محتمل على التجربة الجماعية .

5. عرض مناقشات نقدية: جمع آراء قرّاء ونقاد ومقارنتها مع النتائج السيميائية.

١٦. أسئلة بحثية لورقة نقدية أعمق أو فصل آخر:

كيف يبني الشاعر «الجرح» كمصدرٍ للخطاب الشعري، وما علاقة ذلك بالهوية الجماعية؟

ما وظيفة «الكتاب» في القصيدة: توثيق أم فتنة أم وسيلة تواصل فاشلة؟

هل تُؤشر نهاية القصيدة إلى فعلٍ ثوري حقيقي أم هي استعارة للتجدد العاطفي؟

كيف تتقاطع الأدوار الغريماسية مع البنيات النفسية للشاعر توفيق أحمد ؟

١٧. خاتمة:

«سوسنتان إليه هناك» قصيدة تنزّ في العمق: ليست مجرد حنينٍ إلى امرأة، بل استدراجٌ لأسئلة عن الزمان والذاكرة والهوية والقدرة على الفعل. بتطبيق الهرمينوطيقا والأسلوبية والرمزية وغريماس، نُجلي شبكة علاقاتٍ تكشف أن الشعر هنا وسيلة لتأطير الجرح وتحويله إلى فعل معرفي وجمالي، فتصير القصيدة مقاماً لتوحيد الشعور والفعل والمعنى.

***

بقلم: عماد خالد رحمة - برلين

.......................

سَوْسَنَتان..

إليهِ هناكَ ...

شعر: توفيق أحمد

- ١ -

مِنْ فِضَّةٍ سَلْسالُ هذا العُمْرِ

مِنْ قَمْحٍ ومِنْ شَجَنٍ

بِكَ وجْدُ مجنونٍ وحِكْمَةُ سوسَنةْ

بِكَ أَزْمِنَةْ

نَسِيَتْ على شُرُفاتِ بيتِكَ لُعْبَةَ الأيَّامِ

وانْسَكَبَتْ بِصَدْرِكَ أَنْجُماً للعابرينْ

حَدَّدْتَ لامرأةٍ زمانَ وصولِها

وسَأَلْتَ: هل وَصَلَتْ؟

فأخفاكَ السؤالْ

ورماكَ في يَمٍّ من الأشواقِ

واسْتَبْقَاكَ خَلْفَ أُنوثةِ التكوينِ

تَبْحَثُ عَنْ مَدارٍ لا تَراهُ سوى مَدارِكْ

هي فُرْصَةٌ لأقولَ شيئاً ظَلَّ مختبئاً بِصَدْري

وارْتَقَيْتُ إليهِ أَقْبِسُ فيهِ جُرْحاً مِنْ نهارِكْ

إنَّ القصيدةَ والنِّساءَ ومايُوزِّعُهُ الحنينُ

على كتابي بانتظارِكْ .

-٢-

يا داميَ القَلْبِ هَلْ في البالِ أُغنيةٌ

لمْ نَكتَشِفْها بقاموسِ الحنينِ؟ قُلِ

*

أنا بِصَدْرِكَ جُرْحٌ لَسْتُ أعرفُ كَمْ

أَغُطُّ ريشةَ يأسي فيهِ بالأملِ

*

نَحْنُ اخْتَصَرْنا حكاياتٍ وأزمنةً

وحَسْبُنا أننا سِرْنا ولم نَصِلِ

*

كانَ الطريقُ ضَباباً كيف تسألُني:

ماذا تَرَكْتَ لأجراسِ الحنينِ ولي؟

*

وزِّعْ كتابَكَ .. يومَ الوجْدُ يُطفِئُنا

سَنُشعِلُ الأرضَ بالفوضى و " بالغَزَلِ"

 

تعكس حالة الرواية الإسكوتلاندية نوعا من نمط الأدب الثانوي أو بعبارة أوضح أدب الأكثرية الثانوية. وأستعير هذا التعبير من دولوز وغوتاري كما ورد في كتابهما الشهير "نحو الأدب الثانوي" وموضوعه كافكا. ويبدو لي أن الإسكتلانديبن مثله.

فهم يكتبون بلغة غريبة، وهي غير لسانهم الأصلي الغيليك. ويعيشون في بلد يرتبط بالتاج البريطاني، وإن كان لدى بعضهم مشروع انفصالي على شاكلة استقلال الهند. ولو لا التجاور الجغرافي لوقع المحظور وأعلنت إسكوتلاندا انفصالها.

ولديهم رغبة بالتكامل مع الأوروبيين بعكس الإنكليز الذين يفضلون إغلاق أبواب قلعتهم.

ولم يحمل أعباء هذه الهموم أحد أكثر من حلقة أدباء غلاسكو. وأذكر من بينهم ألاسدير غراي وابنه الروحي روج غلاس. وأضيف طبعا كاتب البوكر، والذي كان أول من توج بها إسكوتلاندا عن روايته "كم تأخر الوقت. كم تأخر".

و برأيي كان يشير بالعنوان إلى الزمن الإسكوتلاندي وإلى نضج الهوية الغيلية وانبعاثها على غرار بقية القوميات والوطنيات في أوروبا وجنوب أمريكا.

تعرفت على كيلمان عن طريق صديقه الدكتور سكوت هايمس والذي خصص له بيبلوغرافيا شاملة. وأعتقد أنها أفضل مدخل يضيء لك كيلمان، أو جيمي كما يحب أن يدعوه، ومن الداخل.

فنور القلب مثل النجوم للبدوي في الصحراء. تقوده إلى مأمنه حتى لو لم يكن معه نار. وكيلمان لا يهتدي إلا بمحبته وغرامه لإسكوتلاندا، جغرافيا الأرض، وشكل القبة السماوية، وهي تنفتح وتغلق أبوابها بين الليل والنهار. ولمزيد من الإعراب عن انتمائه سمح لشخصياته أن تعبر عن نفسها بصوتها الخاص. فاختار الكتابة باللغة الثالثة. وهذه المرة أستعير هذا الاصطلاح من عميد المسرح العربي توفيق الحكيم. ويضاف إلى ذلك الأخطاء الإملائية المتعمدة ليطابق بين الحرف وصوته المقابل. وبهذه الطريقة شق كيلمان لنفسه طريقه. وكان يحرص على تعديله بين عمل وآخر حتى وصل إلى لغة مشذبة ومعلقة بالهواء. لا هي فصحى ولا هي عامية، وقريبة من لغة الصحف والأفلام، وذلك في عمله المهاجر "طريق التراب" والذي تدور أحداثه في أمريكا.

وكان قد مهد لهذا الأسلوب بلغة مرتجلة، تتكلم شخصياتها ولا تفكر. أو تفكر ولا تتكلم. ولجأ إلى ذلك في روايته التي رشحت أيضا للبوكر وهي بعنوان "النفور".

ولا تحلو كتابات كيلمان من مورثات سلفه ألكسندر تروكي. كلاهما يشاغب ولا يضع العواقب بحسبانه، وذلك قبل أن يغمره الندم، ويتحول إلى فريسة لضميره. غير أن كيلمان يستيقظ من هذا الكابوس في كل مرة، ويراجع حساباته. بمعنى أنه لا يبت بأي أمر، ويتبنى سياسة النهايات المفتوحة، ويترك الأزمة مؤجلة حتى يجد الحل. وإذا انتهى تروكي لتدمير نفسه، وسقط في حفرة أدب الإيروتيكا والمخدرات (تيمنا بالأمريكي وليام بوروز مؤلف "الوليمة العارية")، يردع كيلمان نفسه ويكتب عن دايستوبيا سياسية، وبأسلوب تجريبي كما فعل في "تفاصيل مترجمة"، وهي رواية بدون أحداث وتعتمد على تبادل البرقيات على شاكلة "الصندوق الأسود" للإسرائيلي عاموس عوز.

بلغ كيلمان حوالي الثمانين عاما. وغطى في سنواته الأخيرة قضايا تهم البشرية، من مشكلة كردستان في العراق، وحتى ظاهرة الاتحاد الروسي. ولنكون دقيقين قلق أوروبا الغربية من الروس. ولكنه حافظ على إخلاصه لأبناء الطبقة البائسة وكتب عن محنتهم مع ظروف حياتهم القاسية بلغة يتقاسمها الإحساس بالتمرد الممتزج باللامبالاة المسؤولة - لا الوجودية، والقيام بالواجب الذي يفرضه عليه وعيه الاستثنائي لهوية حضارته وتاريخه.

وختاما برأيي جيمس كيلمان اليوم هو آخر الأحياء الذين حملوا مشعل رواية اسكوتلاندية بإطار أوروبي وإنساني.

***

د. صالح الرزوق

حلب 2025

للدكتور ناصر مؤنس

هل وَصَلْتَ؟

– لا، يا عَشَّابُ.

أنتَ على الطَّريقِ إلى الحُقولِ النائِيَةِ.

بهذه الجمل أستهل مقالتي عن كتاب العشاب للصديق العزيز دكتور ناصر مؤنس الذي تربطني به علاقة صداقة حميمية منذ العام 1999، يعني أكثر من ربع قرن من الزمان والسنين، حينما ساهم مع الفنان الشكيلي المهندس حقي جاسم من السويد في ربيع العام 1999 بمدينة أوسلو عاصمة النرويج بلد الفايكنغ في شمال الكرة الأرضية في مهرجان كلمة من بلاد الرافدين (Ord fra Mesopotamia) بأعمال تشكيلية وكذلك قام ناصر بتصميم ملصق المهرجان الذي استمر ثلاثة أيام. استمرت علاقتنا بعد ذلك حيث ساهم مع خمسة فنانين عراقيين في العام 2001 بمعرض في مدينة درامن (جنوب أوسلو 40 كم).

يمتاز الفنان ناصر مؤنس (أبو إيكار) بأسلوبه الصوفي في معظم أعماله المبنية على قصائد شعرية يكتبها ويصوغها بطريقته الخاصة. وهذا مايميزه عن بقية الفنانين التشكيليين. يجمع ناصر بين الشعر الحر والفن التشكيلي الغرافيكي، وهذا قلما ونادرا ما نجده عند الفنانين التشكيليين والشعراء.

ان الصياغات الصوفية القائمة على الاستعارات الصريحة والمكنية تسبغ رونقا خاصا على أعماله الجميلة. قد يتبادر في البداية الى ذهن القارىء بأن فكرة الكتاب تعود الى بحث جلجامش السومري عن سرمد الحياة (يتفق معظم المؤرخين أن جلجامش كان ملكًا تاريخيًا لدولة الوركاء السومرية، وأنه حكم لفترة من الزمن خلال عصر فجر السلالات (2900-2350 قبل الميلاد)، ولكن بعد التعمق في فهم ما يجول في خاطر صديقنا ناصر مؤنس يفهم قصده وسره الصوفي.

العُشْبُ لُغَةٌ حينَ يَضيعُ الكلام.

يقول: العَشَّاب.

(هو)

يُنْبِتُ بُذورَ الكلمات، ويَجْهَلُ ما ستكون عليه الثَّمَرة.

 لربَّما أنك باحثٌ في الأغصانِ

عما لا يَظْهَرُ إلا في الجُذُور "

جلالُ الدينِ الرومي (ص 4)

أن الاستشهاد بمقولة جلال الدين الرومي تسبر غور فكرة هذا الكتاب وتكون مفتاحا لفهم المقصود. ولهذا تراه يطوف في أرض الله الواسعة لعله يجد غايته في فهم العالم السفلي والعلوي كما هو في النص التالي:

" أراد أن يَكْتُبَ عن بُقاعٍ شاسعةٍ، ومَجَرّاتٍ بعيدة.

نْذُرُ حياتَهُ للشِّعْر والأسفار، للطَّبيعةِ المَوْلُودَةِ من جديد،

ولسِحْر الفَضاءِ غير المُتَناهي.

أراد أن يَطُوفَ في الأرض بلا غاية." (ص 5)

وعندما نتمعن في الجملة السابقة أعلاه ندرك الهدف من سفر العشاب في بقاع العالم المختلفة كما جاب بقاع الأرض الملك جلجامش بحثا عن عشبة الخلود.

" اسْتَرْخى قربَ جِذْعِ شجرة،

شاعِرًا بالامتنانِ للعَتَمَة.

رأى الأثرَ الذي يَرْسُمُه ظلُّ قاربِ يُبْحِرُ في بحيرة.

رأى أطيافَ العالمِ تَلْمَعُ على قماشِ روحِه.

رأى الإلهَ يَجْلِسُ وسطَ زهرة.

سَمِعَ البَدائيَّ يقول: الإلهُ في الرَّعْدِ والنار.

سَمِعَ الساحرَ يقول: الإلهُ كامِنٌ في الكلمات.

سَمِعَ الحكيمَ يقول: الإلهُ مُجَرَّدُ حَدْسٍ، وعلينا ألاّ نُؤمِنَ بما

لا نستطيعُ إثْباتَه.

سَمِعَ الشاعرَ يقول: بَصيرتُنا لا تَعْبَأُ بمُكَافآتِ الرَّبّ.

سَمِعَ الآثاريَّ يقول: كانت لدينا ثقةٌ أ كبرُ بالأسطورةِ قبلَ

اكتشافِ الدين.

سَمِعَ الفلكيَّ يقول: رُوّادُ الفضاءِ هم البحّارةُ الأوائلُ في بحر الكوا كب.

سَمِعَ المُحاربِ يقول: نَعْرفِ الآنَ أنّ فِكْرَةَ القَتْلِ قد تمَّ

تصنيعُ ها في الأفرانِ النَّوويةِ للأديان.

أُنظُرْ كيف تَحْفِرُ الروحُ الأرضَ الرطبة،

كيف هبطَت الملائكةُ من السماء،

ومن الصرخةِ التي أطلقَها الإنسانُ الأول، وُلِدَ الإله:

صوتُ "الأنا" القادمِ من وراءِ الحياة.

أُنظُرْ إلى الصمتِ الذي يقعُ في الجانبِ الآخر من الزُّرقة،

إلى الطبيعةِ غير المُرَوَّضة، وسُكوتِ المجهول.

أُنظُرْ: الظُّلْمةُ تَزْدَري البهاءَ الذي لم تَنَلْ حَظْوَتَه،

والغِلظةُ التي تَنْتَصِر." (ص 7)

بعد استرخاء العشاب تحت ظل شجرة سمع أصوات مختلفة قادمة من الماضي السحيق بدأت تحاوره وتشرح له أسباب وجود مختلف الكائنات والظواهر الطبيعية وغير في هذا العالم الذي لا يمكنه ادراكها وفهمها بمحض نفسه وتفكيره الذي لا يمكن أن يصل الى هذا المستوى من التألق والفهم. ولهذا لا يود العشاب التحدث عن التشابه بين الآلام والأفكار، وإنما يريد أن يتكلم عن أوراد الصوفيون التي يتلونها في حلقات الذكر الجماعية أو في خلوتاهم الفردية في صوامعهم وبلوغهم حالة الاندماج الروحاني والاتحاد بالخالق الأحد. وكذلك التحدث عن أعشاب الشفاعة والخلاص من العالم الدنيوي الى عالم التألق الروحاني.، كما هو في الأبيات التالية:

"لا يُريد أن يتحدّثَ عن التَّشابُهِ بين الآلامِ والأفكار،

يُريد أن يتكلَّمَ عن الأورادِ الوَهميّةِ التي يُبدِعُها الصوفيّون،

عن أعشابِ الشفاعةِ والخلاص،

عن الدَّمِ الذي يَقْطُرُ من شجرةِ الحياة،

فتتحوّلُ القطراتُ إلى أزهار ورد

عن الكلماتِ المُطَرَّزَةِ على ألواحِ الصلوات. " (ص 9)

وبعد جهد جهيد والبحث المضني والدؤوب عن عشبة الخلود توصل العشًاب الى القرار التالي:

" لا يُريد أن يَبحثَ عن عُشبةِ الخلود،

يُريد أن يَصنعَها.

جَمَعَ السِّحرَ والعَقاقير،

جَمَعَ الأضاحي، مِسكَ الجِنِّ، الإيمانَ، الجَزَعَ البَدائي،

جَمَعَ التُّرابَ، الرمادَ، الحكمةَ والعدالة.

جَمَعَ الورد والقراص والخشخاش وسنبل المحبة.

أصغى إلى الافتِتانِ السِّريِّ، الخافِتِ، الوَديع،

وأراد أن يَصنعَ تِرياقَهُ الخاصَّ لشفاءِ الروح.

تَذكَّرَ الأسلافَ الذينَ عرَفوا طريقَ الغابات.

تَذكَّرَ أجدادَهُ الموتى، وهُم يَظهَرونَ بأجسادٍ شَفيفة.

تَذكَّرَهم كيفَ يمرُّونَ عبرَ الجُدران، والأشجار، والأشخاص.

تَذكَّرَ أرواحَهم تَسمَعُ شَدوَ الطبيعة،

وتَرقصُ على إيقاعِ ماضٍ بعيد.

تَذكَّرَ خَيالاتِهم مُرتديةً أوراقَ حشيشةِ القروح،

تَذكَّرَ الصلواتِ الخافتة، الطقوسَ الغامضة، قوَّةَ الإيحاء،

تَذكَّرَ ضيوفَ الأولياء وأحلافَهم.

وضَعَ يَدَهُ على فمِ القصيدةِ لِتَصمُت،

وأوقَدَ نِيرانَه. " (ص27-28)

ولا يزال العشًاب يفتش عن عشبة الخلود في غابات الأرض المتناهية الأطراف ذات الأبعاد الهندسية الكبيرة، توقف برهة وهو يفكر ويلتقط أنفاسه من السعي الحثيث للحصول على أكسير الخلود.

"حَاوَلَ الْتِقَاطَ يَقَظَةِ التَّاريِخِ،

بَحَثَ عَنْ زَهْرَةٍ تُشْبِهُ حَيَاتَهُ.

فَتَّشَ بَيْنَ الصُّخُور،ِ

فِي المِيَاهِ العَميقَةِ،

عَنْ عُشْبٍ بَعِيدٍ عَن ضَجِيجِ السُّطُوحِ.

جَمَعَ هَدِيرَ الجَدَاوِلِ وَهَسْهَسَةَ المَاءِ،

حَفِيفَ اللهَبِ، أزَيِزَ الحَشَرَاتِ،

وَريِحَ النَّعْنَاعِ وَمَا يُتَدَاوَى بِهِ،

وَمَا تَكَسَّرَ عَلَى الأرَضِ،

وَمَا لاَ تَدُومُ خُضْرَتُهُ.

ثُمَّ أوَقَدَ نِيرَانَهُ.

اِسْتَنَدَ إِلىَ شَجَرَةٍ،

وَرَاحَ يَقْرَأ فِي دَفْتَر الذِّكْرَيَاتِ:

القَلْبُ كَاهِنٌ صَلَّى مِنْ أجَلِ الثَّمَرَةِ.

هُوَ ابْنُ فُيُوضَاتٍ،

وَحْدَهُ يَعْرفِ مَعْنَى اليَقِينِ المَوْجُودِ فِي الصَّلَاةِ.

وَحْدَهُ يَعْلَمُ أنَّ العُشْبَ مِثْلُ اللُّغَةِ.

وَهَا هُوَ يَدْخُلُ نَهْرَ الفَرَادِيسِ المُسْتَرَدَّةِ،

أرَادَ أن يَصْنَعَ دَوَاءً لِدَاءِ الرُّوحِ،

وَيَتَعَلَّمَ كَيْفَ يَمُوتُ ". (ص 44-45)

توصل العشاب الى أن:

" الصُّوفِيُّونَ،

الْمُتَعَبِّدُونَ،

آبَاءُ الصَّحْرَاءِ،

الزُّهَّادُ وَالنُّسَّاكُ،

هَؤُلاَءِ وَحْدَهُمْ،

سَادَةُ الرَّفْضِ.

عَشَّابُونَ،

يُشِيرُونَ إِلىَ الْأبَدِ،

وَيُطْلِقُونَ صَيْحَاتٍ نَحْوَ مُسْتَحِيلٍ

لَنْ يَسْتَطِيعَ أحَدٌ بُلُوغَهُ.

صُوفِي عَشَّابٌ،

لَبَّى دَعْوَةَ الْأثَير،ِ

وَمِنْ قَصْفَةِ الرَّعْدِ حَصَلَ عَلَى ضَوْئِهِ الْعَادِلِ". (ص62)

ويجوب العشاب الأرض والجبال والصحاري والفيافي، علًه يجد ضالته، ألا وهي عشبة الخلود. طما هو واضح من النص التالي:

العَشَّابُ يَطُوفُ بَيْنَ نَفَسِ الأرَضِ وَعِطْر البَرَاريِ يَبْحَثُ عَنْ

شِفَاءٍ أوَ قَصِيدَةٍ. هُوَ الوَرعِ، الحُرُّ، النَّزيِهُ وَالكَريِمُ، النَّقِيُّ

وَالحَالِمُ. لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْهُ النَّهَمُ. جَائِعٌ لِلثِّمَار فَقَطْ، وَلاَ يُريِدُ

افْتِرَاسَ كَائِنٍ " (ص70)

وكذلك:

" يَا حَاجُّ،

يَا حَاجَّ إِلىَ الْحُقُولِ النَّائِيَةِ،

أيَّهَا السَّيِّدُ الَّذِي يُعَلِّقُ نُذُورَهُ

عَلَى شَجَرَةِ الْكَوْنِ،

قُلْ لِهٰذَا الْعَشَّابِ،

لِهٰذَا السِّرِّ الرَّفِيفِ،

لِهٰذَا الرَّجَاءِ الثَّمِلِ الَّذِي يُثْقِلُ الْمُقَدَّسَ،

لِهٰذَا الْقَلَمِ الْمُلْتَفِّ بِوَرْدِهِ وَأوَرَاقِهِ،

لِهٰذَا اللَّوْنِ الَّذِي يَصُبُّ سِحْرَهُ

عَلَى رَق عَتِيقٍ،

لِهٰذَا التَّوَاطُؤِ بَيْنَ الْكَلِمَاتِ وَالْأعَشَابِ،

لِهٰذَا التَّنَاغُمِ الْأ عَظَمِ لِلْوُجُودِ،

لِهٰذَا الطَّوَافِ الَّذِي لاَ يَعْتَريِهِ تَعَبٌ". (ص 88)

وفي الصفحة 101، يقول ناصر مؤنس:

" إنّنا نؤمن بأنّ "طاقة الأعشاب "ضرورةٌ لحفظ حيويّة

الشعر، فهي التي تُعيد تشييد صروح الأمل فوق أرض

الخراب. وغالبًا ما يُشبَّه فعل الكتابة الشعريّة بشعاع نورٍ

ساطع؛ إذ يُتصوَّر الفعلُ الشعريّ كرؤيةٍ خالصة تحمل

ادّعاءً عظيمًا، هو ادّعاء تجاوز الزمن. لكن إلى جانب

استعارة النور، تعترف الثقافة الروحيّة باستعارة أخرى هي

استعارة القلب، التي تُلطّف من غطرسة العقل.

إنّ الأمر لا يستلزم عنفًا ولا ارتقاءً نحو حقيقة أسمى؛ بل

على العكس، التواضع هو ما يليق بالشعر. عليه أن ينزل

من عليائه ليتّصل بنمط آخر من المعرفة. ولتحقيق تلك

اللحظة الحميمة، ينبغي للشعر أن يستلهم من الحقول

المجاورة، أن يُصغي لما حوله كي يجد نفسه من جدي".

وينتقل أبو أيكار الى الشامانية المنتشرة في مناطق مختلفة من العالم مثل سيبيريا في روسيا الاتحادية وشمال أوراسيا وشمال آسيا، وتوجد أيضا في الأمريكيتين بين االهنود الحمر (لسكان الأصليين) واليابان

في ديانة السنتو والهند الصينية وكوريا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية.

" الشامانيّةُ من أقدمِ أشكالِ الرّوحانيّة. ولا إنسانَ كاملًا في

الروحانية، كما لا إنسانَ كاملًا في الشِّعر. ففي الروحانية

يُطِلُّ علينا الكائنُ في تاريخِه الكونيّ، في توقِه إلى الوجود.

وفي الشعر نلتقي بالإنسان الملموس: الفرد، الشغوف،

الخالق. الروحانيةُ تسعى وتهتدي بنور القلب، والشِّعرُ لقاءٌ

وإتقانٌ واكتشافٌ لنعمةِ الكينونة".(ص104)

وهنا فهم العشاب أن السعي للحصول على عشبة الخلود ليس بالسهل وما عليه إلا أن يتعايش مع الواقع ويسلك طريق العمل من أجل سعادة نفسه وغيره من البشر.

وأخيرا يكتب الصديق الدكتور ناصر مؤنس في ختام كتابه:

"هل تُقدّم المعرفةُ الروحية أجوبةً لأسئلة الشعر؟

لا جوابَ واحدًا صحيحًا. فالقصائد لا تُطالِب قارئها بالقراءة،

بل هي التي تقرأُ قارئَها، حيث يلتقي العقلُ بالجسدِ

والرّوح. أمّا جوابي فهو: اجعل القصيدة علاجًا، ولو كان بلا

برهانٍ صُلب. يكفي أن تؤمن بهذا العلاج لتُ شفى، لتشكر

الوجود على هِباته، ولتتلاشى المتاهة.

.» لا يُنهى أي عملٍ فنّي، إنما يُهجَر «: وكما قال بول فاليري

وأنا، في محاولتي هذه، لا أنهي الكتاب، بل أهجره، أضعه في

منامٍ بلا صحو".(ص 107-108)

اسم الكتاب: العَشَّاب – (حاجٌّ إلى الحُقولِ النَّائيةِ)

شِعرٌ وتَرجَمَةٌ غُرافيكيَّة.

اسم المؤلف: ناصر مؤنس

تصميم الغلاف: ناصر مؤنس

الطبعة الأولى: 2025

الترقيم الدولي: 9781326155087

الناشر: دارمخطوطات

***

د. سناء عبد القادر مصطفى

ورواية (نهر الرمان) لشوقي كريم..

يعد الموت في الفلسفة والأدب، لحظة كشف للمعنى، لا مجرد نهاية بيولوجية.. فهو الحدّ الذي تتعرّى عنده الأسئلة الوجودية الكبرى: من نحن؟ ولماذا نعيش؟ وما جدوى الوجود إنْ كان مصيره الفناء؟..

في الفلسفة، رأى (هايدجر) الموت، إمكان الوجود الأصيل.. لأن الإنسان لا يكتشف ذاته إلّا حين يعي حتمية موته..

أمّا (أفلاطون) فعدَّهُ تحرّراً للروح من سجن الجسد.. و(نيتشه) جعَلَهُ شرطاً لتجدّد الحياة.. إذ لا تولد القيم إلّا من رماد الفناء.. وهكذا صار الموت مرآة الوجود، ومقياس التجربة الإنسانية..

وفي الأدب، تحوَّلَ الموت مِن حدث مأساوي إلى تجربة تأويلية.. كما في (جدارية) محمود درويش، و (نهر الرمان) لشوقي كريم حسن.. حيث يُستعاد الموت، لا كفناء، بل كحوار مع الغياب ومعنى البقاء.. فهو في النص الأدبي رمز للتحول والعبور، وفي الشعر والرواية يصبح لغة أخرى للحياة، تنطلق بصمتها، وتؤكد أنّ الإنسان لا يموت إلّا ليكتمل وجوده في الذاكرة والمعنى..

وتنتمي رواية شوقي كريم حسن (نهر الرمان)  إلى تيار سردي يرى أن الحقيقة لا تُقدَّم جاهزة، بل تُنتَج عبر التأويل.. ولذلك لا يظهر الموت في (نهر الرمان) بوصفهِ واقعة، بل بوصفهِ فضاءً للمعنى يتحرك فيه السارد والقارئ معاً..

ووفقاً للهرمينوطيقا الحديثة المتمثلة في فلسفة (غادامير، وريكور) فهم يرون أنَّ الحدث لا معنى له بذاته.. بل يصبح ذا معنى حين نؤوِّله.. وهو جوهر معالجة شوقي كريم حسن، الذي يرى أنَّ الموت ليس ما يحصل للجسد، بل ما يحصل للدلالة، والموت كتأويل لا كصدمة..

وفي الرواية، تنشأ لحظة الموت باعتبارها نقطة الانكشاف التي تنسحب منها كل الأقنعة.. فلا يموت أحد فجأةً؛ بل ينكشف موته في الروح واللغة والذاكرة، كما لو أن الموت نافذة، أو مرآة، أو نصّ ثانٍ يُكتب في الظلال.. وبهذا يتحول الموت إلى تفسير عميق للوجود الإنساني، تفسير للعلاقة بالآخر.. وتفسير للخيبات.. ولخراب المدن.. ولفساد القوانين.. وللهشاشة الإنسانية.. فالموت إذن، ليس حدّاً، بل تأويلاً للعالم..

والنهر في الرواية ليس عنواناً فقط، بل كيان صحيح يشتغل كأداة تأويلية.. وشاهدٌ لا يموت.. بينما يموت البشر، يبقى النهر حياً، مما يجعله قادراً على قراءة ما لا يستطيع البشر فهمه..

والنهر مؤوِّل التاريخ، وكل موت يسقط قرب النهر يتحول إلى (نص) يقرأه النهر ويحتفظ بدلالته.. هو أرشيف غير مرئي، يعيد ترتيب ما تنهار له الذاكرة الجمعية..

والنهر قانون فوق القوانين.. لأنَّ قوانين الإنسان قد تُلغى وتُبدَّل وتُسوَّف.. أما قانون النهر فهو ثابت.. ما يسقط فيه يعود إلى جوهره.. وهذا ما يمنح النهر معنى القانون الطبيعي الأخلاقي، الذي يتفوق على القانون البشري المأزوم والملوث..

والموت من منظور الوجودية التأويلية، وخاصةً عند (هايدغر، وريكور)، هو أوضح لحظة للذات.. والإنسان في الرواية يظهر ككائن لا يفهم نفسه إلّا في لحظة المواجهة مع نهايته.. فالموت هنا ليس عدواً، بل يفسّر للذات ويوضّح للإنسان ما عاشه، وما ضيّعه، وما تمنى أن يكونه.. ويعيد ترتيب الذاكرة.. فتتحول الحياة إلى دفتر أخير يعاد كتابته وهيكلته: المحبة، الخيانات، الوطن، القوانين المكسورة، والأحلام..

فالموت يعيد ترتيبها وفق ما يسمى بدائرة الفهم التي تجعل النهاية تفسيراً للبداية.. والموت يعرّي زيف القوانين، فحين يقترب السارد من الموت يكتشف أن القوانين التي عاش تحتها ليست عادلة.. وإنّ الزمن السياسي كان وما زال غامضاً.. وإنَّ العدالة لم تتحقق.. والموت يصبح معيار الحقيقة لا يترك مجالاً للمجاملة ولا للنفاق..

وإنَّ المقارنة التأويلية مع جدارية محمود درويش ليس تشابهاً تقنياً، بل وجودياً.. فالاثنان يواجهان الموت بوصفهِ كتاب معنى.. كديوان أو نص روائي.. ففي ديوان (جدارية) لمحمود درويش، يفتح الموت باباً للنص: (هذا هو اسمك).. فالنص يعيد الإنسان من الموت إلى المعنى..

وفي رواية (نهر الرمان) لشوقي كريم حسن، يعيد النهر كل موت إلى جذره الدلالي.. كأن كل موت يحتاج إلى تأويل..

والموت عند درويش محاورة.. وعند شوقي، قارئاً صامتاً، بينما النهر هو الذي يتكلم بدلاً عنه.. وكِلا النصين يعتبر الموت فرصة أخيرة لفهم الحياة لا لإنهائها.. لكن الفرق الجوهري هو أنَّ درويش يواجه الموت فردياً من خلال الجسد واللغة.. بينما شوقي يواجهه جماعياً من خلال معاناة الإنسان وخراب المدن..

وذاكرة العراقي الذي عاش الموت يومياً لعقود طويلة، وبكل أنواعه.. فالموت في رواية (نهر الرمان) مساحة للفهم، لا للحضور والعدم.. وهو تفسير يقدّم الحقيقة التي تهرب منها الحياة.. والنهر عقلٌ رمزي يرى ما لا يراه البشر.. وإنَّ القوانين زائلة، لكن قانون الموت ثابت.. ولذلك فهو أعدل من كل قوانين البشر..

وفي الرواية، الموت ليس هزيمة، بل يتشكل من الألم.. وهو فرصة أخيرة لقول الحقيقة..

ورواية (نهر الرمان) تؤسس لرؤية تأويلية تجعل الموت أفقاً معرفياً، لا نهاية مادية.. وتقرأ الموت بوصفهِ كشفاً وتفسيراً، لا استعادة للذاكرة.. ومحكمة أخيرة للمعنى.. وبهذا تصبح الرواية جدارية عراقية، تقف إلى جانب جدارية درويش، ولكن بصوت محمّل بتجربة الأرض العراقية، وذاكرة إنسانها ومعاناته في الاضطهاد والحروب والإرهاب والدم.. وتكشف التشوّهات التي خلفتها الحروب والخوف من السلطة المتجبرة، وهروب وضياع الإنسان في الشتات والمهاجر..

والقاص والروائي (شوقي كريم حسن) في كل رواياته وقصصهِ القصيرة، دائماً ما يعرّي الواقع، ويمثّل أدبه سرداً إنسانياً غاضباً، يعكس وجدان الإنسان العراقي في أكثر من نصف قرن من الاضطرابات..

إلّا أنه في رواية (نهر الرمان) جعلَ من الموت منظومة من المعاني والتأويلات، ليواجه الإنسان من خلاله حدوده القصوى.. لأنه ليس نهاية الإنسان، بل ليكتب من خلاله آلامه وعذاباته ويقينياته..

فتعد هذه الرواية بحق، نَفَس جديد يصبح فيه النهر مساراً للوعي، لا مجرى، فيغدو مرآة للذات وهي تواجه وتتأمل معنى نهايتها.. وشوقي كريم حسن نجح حين لم يكسر النسق السردي، بل أعاد تشكيله، بحيث ظلت الشخصيات واقعية، لكن رؤيتها للعالم تنفتح على أسئلة وجودية.. بعد أن جعلت الموت تجربة معرفية، لا حادثاً وفقداناً..

فالرواية عمّقتْ الأسئلة الفلسفية، ونجحت حين جعلت للموت معنى لا نهاية.

***

حسين علاوي

 

التمثيل التخيلي لمستويات دلالية مركبة

الفصل الأول ـ المبحث (6)

***

توطئة: يتمظهر النص الروائي في أجزاء وفصول رواية (حياة الكاتب السرية) من جلة مكونات وعناصر خاصة من النمذجة التي يقترحها التفاعل الدينامي بشكل متراتب وذي تأثير متبادل وروح الخلايا المركبة من جزيئات البنيات التكوينية والعلامات والأخبار والتقارير التي تخضع في نمو مسار معطيات السرد إلى سنن توالدية وتحولات ومواريات سردية وخطابية متعددة في مستوى الإحالات والعلاقات الأكثر غورا في منظومة عضوية حالات وبنيات السرد الروائي.

ــ آليات الحكي وتفاصيل حكاية قديمة

تكشف لنا النتائج الدراسية التي توصلنا إليها في بعض مباحث دراستنا السابقة للرواية موضع بحثنا فتوصلنا في هذا المبحث إلى محورية (آليات الحكي) الذي كشفنا فيه عن مختلف المحكيات التي تكونت في مسار المتن السردي من الانساق والتخييلات في الأنماط التالية (النسق الواقعي ــ الاشارات الزمنية ــ نموالشخصية وتطور طباعها ــ اتساع الوصف ــ الحوافز الظهورية والضمنية) بوصفها أفاقا لاشتغال تقنية (تداخلات وتعالقات المغامرة السردية) بلوغا نحو محكي المتن وما تتمظهر من خلاله من مواضع ومواقع حياة الشخصية الروائية ناثان فاولز ونزوعاته وعلاقاته اللامشخصة إزاء حكايات وعقد جرت في تفاصيل زمان غير محدد شكلا ومدلولا.

1ـ الداخل الشخوصي ومسافة الأشياء الحادثة:

من خلال استعراضنا لحياة الشخصية فاولز عبر تمظهرات حيواته المغلقة على تواريخ زمن لا يمكننا ترجمته إلا من خلال وسائط شخوصية وعقدوية تتمثل بأشد أوجه الانماذج الضدية المنشطة من خلال تفكيكية وتماسكية هجرانه لحياة الكاتب دون ورود مقدمات من شأنها تبرير ذلك الانفصال بين الكاتب وزمنه التخييلي بصورة مفاجئة. نتبين من خلال محكيات الرواية أن فاولز كان مبتئسا من: (ولى زمن الألفة ومعاقرة المشروب معا في أجواء من الفرح ومودة السكان الاعتيادية. حتى دفء الطقس المؤنس هجر المكان. بات الشك والارتياب يهيمنان على الجو في كل مكان. وقد ازدادت حدت التوتر اليوم حين عنونت صحيفة أسبوعية محلية موضوع غلافها ــ أسرار جزيرة بومون السوداء ــ. / ص 115الرواية) على هذا النحو كان جميع أهالي بومون يصابون بالجنون إلى جانب الخوف من وجود قاتل بارد الدم بينهم على الجزيرة. بهذا المعنى تتصاعد وتيرة الخوف من الداخل والخارج الشخوصي وعلى مسافة مخبوءة من تطورات الأحداث الروائية والأوصاف للأشياء المؤثرة: (دفعني صوت التنبيه الصادر من هاتفي إلى الخروج من تحت كومة الأغطية، فركت النوم من عيني قبل أن أكتشف ما ظهر على الشاشة. كان لوران لافوري قد نشر توا مقالتين متتاليتين.. دخلت إلى مدونته. كان منشوره الأول يستعرض صورة لوجهه المتورم. فقد روى أنه كان ضحية اعتداء تعرض له في الليلة السابقة ــ وقد زعم أن مجموعة من الزبائن هاجمته، متهمة إياه بتأجيج الهوس الذي بدأ يستولي على الجزيرة بتغريداته. / ص116 الرواية) إن ما يميز هذا الشكل الإنتاجي هو ارتباط المنتج بظواهر متبدية ومحاقبة، أي ما يعدها كمؤشرات في صلب استراتيجية الإنتاج، بلوغا نحو جملة علاقات وأواصر تصب في حيز السنن المتبدية كأدلة جزئية داخل المتبدي والمحاقب، بمعنى ما أن وحدات السرد التي كان يتابع السارد المشارك قراءتها من على الشاشة هي سيرورة الإدراك إلى ذلك الواقع المصاغ في التفكير والسؤال المداري، كما هو الحال مع مدارات أخرى من الوقائع: (لم يكن لافوري مخطئا في استنتاجه الأخير، لا بل كان متبصرا. كان الصحافي يرصد مشاعر الكراهية ويجسدها. يعيش في الوقت نفسه لحظة مجد ومعاناة حقيقية. كان يظن بحق أنه يؤدي واجبه المهني ليس إلا. / ص117 الرواية).

2ــ أبولين شابوي وكريم عمراني سيرة ذاتية مضللة:

تطفح على مستوى مدارية المتن الروائي حكاية أبولين شابوي وزوجها كريم عمراني ومن خلال ما قرأنا من سيرة أبولين شابوي نلاحظ أن هناك معطيات سردية تتعلق بكيفية ووسيلة اقترانها  بكريم عمراني كزوجا: (أما المقالة الثانية التي نشرها الصحافي فكانت عن التحقيق الذي تجريه الشرطة، وبنوع خاص التحقيق في شخصية الضحية وقصتها: في العام 1980 ولدت أبولين شابوي، وكانت شهرتها مرينياك قبل الزواج. أرتادت مدرسة سانت كلوتيلد ثم ثانوية فينيلون سانت ماري. كانت فتاة خجولا ولامعة ــ خلال سهرة للطلاب تعرفت إلى كريم عمراني، وهو تاجر مخدرات صغير يجري الصفقات عند جادة لاشيابيل ووقعت في غرامه. / ص117الرواية) تخبرنا الرواية من خلال الوحدات الخاصة بكريم عمراني بأنه ترك تحصيله الدراسي في مجال الحقوق، وهو متحدث حصيف، غالبا يبدو شارد الذهن، يميل إلى اليسار المتطرف، من عادته الشروع في الأحلام، فكان يحلم بأن يصبح فيدل كاسترو. أصبحت أبولين أكثر تغيبا عن حصصها وانتقلت لتسكن معه في كوخ وضيع في شارع شاتودان، شيئا فشيئا أصبح كريم عمراني يتعاطى المخدرات وكان يحتاج دائما إلى المزيد من المال لدفع ثمن جرعاته. غرقت أبولين في حياة منحرفة رغم الجهود الكثيفة التي بذلتها أسرتها لإخراجها من هذه الأجواء. بدأت ممارسة الدعارة ولكن سرعان ما لم يعد المال الذي تجنيه منها كافيا، فأصبحت متواطئة مع كريم وغاصت مع في حياة الشرذمة والانحراف. غدا السارد المشارك غاطسا في تفاصيل سيرة أبولين شابوي وكريم عمراني وإلى درجة ينأى بجريمة قتلها خارج حدود جزيرة بومون وسكانها.

ــ كشوفات الموقع الشخوصية وصراع خفايا الرسائل

تمنحنا الوحدات السردية في الفصول الروائية من رواية (حياة الكاتب السرية) ذلك التحول في علاقة ناثان فاولز بالسارد المشارك، خصوصا وهو الأخير الذي تصدى له فاولز عندما حاول التسلل إلى منزله وقد قام فاولز حينها بأطلاق رصاصة نحوه في الموقع الحجري الذي يفصل ما بين شاطىء البحر ومنزله، ولكنه اليوم أي ــ فاولز ــ راح يستقبله بحفاوة كبيرة لم يعهد لمثلها من قبل السارد المشارك: (دعاني فاولز إلى الجلوس وجلس قبالتي: ــ سأدخل في صلب الموضوع، خاطبني وعيناه تحدقان في عيني إن استدعيك إلى هنا، فذلك لأني بحاجة إليك؟. / ص121 الرواية) نتبين من خلال تلك الجلسة الحوارية التي استغرقت تقريبا من الصفحات (ص121. ص122. ص123. ص124) جملة محكومة بغاية الرجاء من فاولز نفسه (أنا بحاجة إلى مساعدتك) وبعد زمن من الحوار نكتشف حجم الخطورة في طلب فاولز من السارد المشارك الذي كان يساوم فاولز بالمقابل من إسداء هذه الخدمة له. كان رفاييل ــ السارد المشارك ــ قد وضع حقيبة في المرة الأولى من لقائهم الأول تحتوي على مسودة روايته الأولى: (ما أريده هو أن تقرأ مخطوطتي؟ بهدوء فتح فاولز الحقيبة لإخراج الرواية التي رميتها له خلال لقائنا الأول: لقد قرأت نصك أيها الصغير! أجابني والبسمة مرسومة على شفتيه. أعطاني مخطوطة ــ خجل القمم ــ والسرور باد على وجهه لأنه تمكن من الإيقاع بي. / حسنا هل ستقبل بمساعدتي، نعم أو قطعا لا؟ بكل جدية، حدق فاولز في عيني من دون أن يرمش له جفن: ــ ماذا تريدني أن أفعل؟ ــ أولا، أريد منك أن تستعلم عن امرأة من هي؟ ــ صحافية سويسرية موجودة على الجزيرة أسمها ماتيلد موني. / ص126 الرواية) على أساس من هذا، ينمو فعل بحث رفاييل في المنزل الذي كانت تسكن فيه ماتيلد موني، ذلك بعد خروج صاحبة المنزل العجوز بصحبة امرأة مسنة إلى الكنيسة. وبعد صراع رفاييل في البحث في مقتنيات غرفة ماتيلد تمهدها مطاردة ذلك الكلب له داخل المنزل، وبعد البحث المضني: (كان من الواضح أن ماتيلد تجري تحقيقا حول فاولز. لم يكن هناك جهاز كمبيوتر على مكتبها، ولكن كانت هناك العشرات من المقالات المطبوعة المظللة بقلم ستابيلو، كنت أعرف هذه الأوراق، إنها تلك التي كانت تظهر دائما حين أجري بحثا في شبكة الأنترنيت: المقابلات القديمة نفسها من حقبة التسعينيات التي أجريت قبل أن يعتزل فاولز الكتابة، ثم مقالتان مرجعيتان الأولى نشرتها صحيفة ــ نيويورك تايمز) في العام 2010 بعنوان ــ الرجل الخفي ــ والثانية نشرتها ــ فانيتي فير الأمريكية قبل ثلاث سنوات بعنوان ــ فاولز أو خطأ والعكس صحيح ــ / ص136 الرواية) كما سنلاحظ أن هذه الشخصية رفاييل بأعتبارها فاعلا ذاتيا تزاوج ــ على طول خط السرد ــ بين السرد والتبئير، فهي التي تتكلم وهي كذلك التي ترى، وسيتم من خلالها نقل أغلب الخطاب الروائي لهذه الرواية.

ــ تعليق القراءة:

تتجلى فضاءات رواية (حياة الكاتب السرية) من خلال أحداثها وأفعالها ومحاورها الزمنية والمكانية والشخوصية وحبكتها البوليسية التي تحتل المراحل الغامضة من زمن الرواية. فالحكاية الروائية تتبع سياق تسلسل الأحداث، تمتاز بموضوعة روائية كبيرة في البناء والأسلوب والنمو الدلالي. الرواية كأصوات سردية تطل من على المشاهد ضمن أداة الناظم الخارجي ويتحول بدورها إلى ناظم داخلي عندما يسجل آثار التحولات والأفعال في الرواية. سوف يواجه القارئ عند قراءة الرواية مدى تجليات الرؤية السردية وتصورات الفعل الروائي وهو يتأرجح في حدود التماهي بين شخوص الرواية وخطابها التشويقي في السرد والتبئير والتنصيص المركب.

***

حيدر عبد الرضا

في المثقف اليوم