قراءات نقدية

قراءات نقدية

للشاعر: أحمد يوسف داود

تقف قصيدة "أُريدُ رَحيلاً لِهذا السَّواد" للشاعر السوري أحمد يوسف داود عند الحدّ الفاصل بين الفاجعة والرجاء، بين انكشاف الروح وخذلان التاريخ، بين عراء الحرف وفضيحة الواقع. إنّها ليست مجرّد قصيدة رثاء للوطن أو للزمن، بل محاولة لالتقاط ما تبقّى من الإنسان في لحظة السقوط، ولتضميد جراح المعنى حين تعجز اللغة عن حمل ثقل الألم. هنا لا ينطق الشاعر بوصفه فرداً، بل بوصفه ذاتاً جَمْعيّة، تتماهى مع رُوح بلادٍ تنهكها الحروب، تتفسّخ في سواد الخيبة، وتظلّ — رغم كل شيء — تبحث عن ضوءٍ غير مُسمّى.

تضع القصيدة القارئ أمام مسرحٍ هيرمينوطيقيّ معقّد، تتداخل فيه الأصوات، وتتقاطع الطبقات الشعورية، ويتحوّل الخطاب من الذاتي إلى الجمعي، ومن الوجداني إلى الرمزي، ومن الرثاء إلى صيغة احتجاج صامت. هي نصّ يطلب تأويلاً، لأنّ كلّ مفردة فيه تعمل كـ"علامة" تتجاوز حدود الكلمات إلى بنى أعمق من اللغة — إلى الجسد، والذاكرة، والذعر، والأسى الوطني الذي يتراكم منذ عقود.

وعلى مستوى البنية، تنتمي القصيدة إلى شعر الأزمة، حيث تتحوّل الوظائف السيميائية للأدوار (الفاعل، المفعول، المرسل، المتلقي…) وفق نموذج غريماس إلى منظومة متشابكة، يتبدّل فيها الفاعل بين الروح والوطن، ويتحوّل الوطن من كيان إلى جرح، ومن جرح إلى "سواد" يبتلع الذات. هذا السواد ليس لوناً، بل نظاماً وجودياً، شبكةً من الرموز التي تُختبر بالتأويل لا عبر القراءة السطحية.

تستدعي القصيدة مقاربات متعدّدة:

١- هرمينوطيقياً: نخوض في لُبس المعاني، وفي طبيعة الصوت الشعري الذي يتردّد بين الانكسار والرجاء.

٢- أسلوبياً: نتتبّع جرس الكلمات، نبرة الخفوت، الموسيقى الداخلية، انسياب الجمل نحو الحزن الكبير.

٣- رمزياً: نقرأ الظلمة والهشيم والرماد بوصفها استعارات لوعيٍ مأزوم ومجتمعٍ محطم.

٤- وجمالياً: نرصد انزلاق اللغة من فضاء التجميل إلى فضاء الشهادة.

٤- نفسيًا ودينيًا: نكشف التحوّلات في خطاب الروح: بين الخذلان، والابتهال، والسؤال الميتافيزيقي لحكمة العدالة والغيب.

٥- سيميائياً: نعيد اكتشاف ماهية "السواد" كفاعلٍ مهيمن قادر على ابتلاع الذات وتوجيه مصائرها.

بهذا المعنى، نحن أمام قصيدةٍ تُطلّ من شرفة الخراب، لا لتبكيه، بل لتسأل: هل ثمّة مخرجٌ من هذا السواد؟

إنّها قصيدةٌ تُستعاد لأنّها لا تُغلق باب التأويل، بل تُضاعف احتمالاته.

1. مقدّمة ومقاربة منهجيّة:

تستدعي هذه القصيدة قراءاتٍ مُتعدِّدة الأفق: هي نصٌّ وجدانيٌّ ووطنيٌّ في آنٍ، يشتغلُ على توترٍ بين الانفعال الفرديّ وجراح الجماعة. ستعتمد هذه الدراسة مقاربةً هيرمينوطيقيّة–تأويليّة للكشف عن نوايا النصّ وظلاله، مع توظيف المنهج الأسلوبي لقراءة الوسائل البلاغيّة والإيقاعيّة، والمنهج الرمزي للكشف عن دلالات الصور، ثم استحضار أداة غريماس السيميائيّة لاستخراج محاور الأدوار الفاعلة في حقل الدلالة. سنغوص أيضاً في البُنى النفسيّة والدينيّة الكامنة «تحت الجلد الشعري» ونقارن النصّ على مستوياتٍ عدّة: انفعاليًّا، تخييليًّا، عضويًّا ولغويًّا وجماليًّا. الهدف: إظهار كيف يصبح الحزن هنا تجربة وجوديّة-وطنيّة مُركّبة تُعيد تشكيل الذات وتؤسِّس خطابًا شعريًّا مقاومًا بالتحنّنِ على حدود اللغة.

2. قراءة هيرمينوطيقيّة - تأويلية: سياق النصّ وأفقه الدلاليّ

القصيدةُ تبدأ بلحظة «هَزيعٍ من الوحشة»؛ أي لحظةٍ فجرية/لحمية لوعيٍ مفجوع. الوقع الوجوديّ واضح: الروح تصرخ بلا صوت، وتخلع معطفها لتضمّد جراح البلاد. هذا الفعل الرمزي (خلع المعطف) يضع الذات في موقف عارٍ متحمّل، مستعدٍّ للمسح والعلاج، لكن في الوقت نفسه مكشوف أمام العنف التاريخيّ. القراءة الهيرمينوطيقيّة تقرأ النصّ كحكاية استدعاء:

الفرد يستدعي تعاطفَ الآخر—أو بالأدقْ يعلن عن استحالة التعاطف الكافي ("الدمع ماعاد يكفي")—وبذلك تُصبح القصيدة شهادةً ونَداءً ومضادًّا للصمت السياسيّ والاجتماعيّ.

نقرأ النصّ كذلك كأرشيف حزن: كلّ وحدة لفظيّة تضيف طبقةً من الألم، من الفردي إلى الجماعي، من الليل إلى القمر، من المطر إلى الرماد. الهيرمينوطيقا هنا تُظهر أن كلّ صورة ليست انعكاسًا فقط، بل عملُ تأويلٍ داخليّ يطلب القارئ أن يُكمل المقطوعة بإحساسه الشخصيّ والتاريخيّ.

3. الأسلوب والبناء البلاغيّ والإيقاعيّ

1. الأسلوب التكثيفيّ: الشاعر يعمل بتكثيفٍ عاطفيّ وبصريّ؛ الجمل قصيرة أحيانًا، تبدو كأنها تنهض من ألمٍ متهرِّئٍ.

2. التكرار والتحوير: تتكرّر صور البكاء، الليل، القمر، والرماد، لكن مع تحويرٍ طفيف يثبّت حركة النصّ: من البكاء كفعلٍ فرديّ إلى البكاء كغريزة اجتماعيّة.

3. الأسلوب التصويريّ/الانفعاليّ: الصور التشخيصيّة (الروح تصرخ، الليل يرسل أقمارَه) تمنح النصّ حيويّةً أسطوريّة، تجعل الموت/الدمع/الفرحُ رموزًا عامّة.

4. الإيقاع الصوتيّ: تناغم الحروف الساكنة والمتحركة، وتوظيف الوقفات (علامات التعجب والاستفهام) يخلق إيقاعًا مُتقطّعًا ينسجم مع حالة الفزع واليقظة.

4. السيمياء (منهج غريماس): أدوارٌ ومحاور داخل الحكاية الشعريّة

نحاول هنا تطبيق مخطط غريماس لتحويل البنية الدلاليّة إلى شبكة أدوار:

١- المرسل: القصيدة/الذات الشاعرة التي تطلب الرحيل وتُعلِن الفاجعة؛ قد يُقرأ المرسل أيضاً كـ«الضمير الوطني» الذي يتوجّه إلى القارئ أو التاريخ.

٢- المرسل إليه/المرسَل إليه: القارئ، الجماعة، أو الضمير الجمعيّ (البلد، المواطن). أيضاً يمكن أن يُنظر إلى «البلاد» كمرسل إليه يحتاج إلى الإنقاذ.

٣- الموضوع/المطلوب: «رحيل هذا السواد»—رحيل الظلمة/الحزن/الاحتلال/اللاعدالة؛ هو الهدف الذي تطمح الذات إلى تحقيقه أو رؤيته.

٤- الفاعل/البطل: الروح الشاعرة، أو الذات المتكلّمة التي تقوم بفعل النداء والعلاج.

٥- المساعدون: صور الليل/القمر/البكاء—كعناصر تُسهم في التعبير وكوسائل إثبات الوجود؛ أو الدموع التي هي "لم تعد تكفي" فيصبح المساعد عاجزًا، لكن مفرداته تساعد على بناء الحزن.

٦- المعارضون/المعوقات: السواد/الخذلان/الخيانة/الظلم—قوى تمنع الرحيل، أو تجعل الرحيل تعبيرًا عن اليأس. كذلك «الصمت» كمُعارض (عدم الاستجابة).

٧- المرسل الحقيقي/النهائي: التاريخ، القدر، أو الذاكرة الجماعية التي تدفع بالذات إلى الصراخ.

بهذا التوزيع، النصّ يكشف وظيفةً حكيّة: هو ملحمةُ نداءٍ لا تنتهي، حيث الذات (الفاعل) تُسعى لإيجاد مخرج (الرحيل عن السواد)، لكن المعوقات تتحوّل إلى قوىً داخليّة تُجمد الفعل وتعيده إلى دائرة التكاثر.

5. البُنى النفسيّة والدينيّة تحت الجلد الشعريّ

البنية النفسيّة:

فعل الخلع (خلع المعطف): فعلُ تعرٍّ أمنيّ ونفسيّ؛ يمثل رغبة في مواجهة الجرح مباشرة دون وسائط. يشير إلى نوع من التضحية الطقسيّة: عرض الجسد/الروح للعلاج على الرأي العام. نفسيةُ الضحية هنا مزيج من الصدمة واليقظة: تصرخ الروح بلا صوت لأنّ اللغة قد هُمشت.

١- الإنهاك والجمود: "الدمع ماعاد يكفي" = نفاد الوسائل التقليدية للشفاء؛ هذا هو مؤشر انكسار جماعيّ/نفسيّ.

٢- الاستسلام الإجرائي: الجزء الأخير "فدعوت البكاء... ولكنه راح يخدعنِي" يشي برؤية نفسيّة عن الخداع: الحزن الذي يتحوّل إلى روتين خدّاع يمتصّ الفعلَ ويترك الروحَ سوداء.

البنية الدينيّة والطقوسيّة:

القصيدة توظّف رموزًا تضرب في العمق الدينيّ: الليل/القمر/المطر/الرماد—كلّها صور ذات نبرة طقوسيّة. المطر هنا ليس رحمة فحسب، بل "مطر من ذهول"؛ رمزيته تتحرّر من دلالتها القرآنيّة/التقليديّة لتصبح حالة وعي. الرماد له دلالة الترميم والتطهير من جهة، ودلالة الهلاك من جهة أخرى.

فعل الدعاء والدخول في حالة "قلقٍ آمل" يُشير إلى توتر دينيّ: ثقة مُعلقة بين استدعاء الفرح وانتظار معجزة أو رحمة إلهيّة لا تأتي. هذا التوتر يطرح الأسئلة الكبرى عن وجود الله/القدرة الإلهية في زمن المصاب.

6. المستوى الرمزي والدلاليّ (تفكيك الصور المفتاحيّة)

الروح تصرخ من غير صوت: الصرخة الصامتة كرمز للمعاناة التي لا تُسمع—سواء بفعل القمع أو بفعل النشاز الكلاميّ.

١- خلع المعطف: إشارة إلى التخلّي عن الحِمى، أو التقدم لشفاء الجراح؛ قد يرمز كذلك إلى فقدان الحماية والكرامة.

٢- الدمع الذي ما عاد يكفي: يرمز إلى استنفاد وسائل الحزن التقليدية، والانتقال إلى حالة من الفراغ العاطفي/الاستسلام.

٣- الليل وأقمارُه: الليل يتصرف كمن يواسي، لكن الأقمار هنا قد تكون أقنعة تواسي أو تدّعي الرفقة؛ "قمرٌ يستحي" يكشف عن مفارقة: حتى عناصر الكون تشعر بالخجل أمام حجم الفوضى.

٤- مطر من ذهول وغيمة من رماد: المزج بين المطر (رمز للحياة) والرماد (رمز للهلاك) يولّد دلالة مركّبة: الحياة تصفرّ، والهلاك يصبح هو ماء الوجود.

٥- السرير الضيّق للبكاءِ: صورة جسمانيّة تُحوّل البكاء إلى فعلٍ عضويّ عيان—والتجمّد من الحَسرة يشير إلى موتٍ داخليّ للأحاسيس.

٦- الخيانة والعمر: مخاطبة "يا صديق الخيانات يا عمر" تُحوّل الزمن إلى مُتآمر؛ العمر ذاته يحمل خياناتٍ لا تُغتفر.

7. شرح بعض المفردات الدلاليّة والعمل اللغوي عليها

١- هَزيعُ الوحشة: "هَزيع" لحظة فجرية أو شُعاع، هنا تربط الوحشة بلحظة تحوّل؛ الوحشة ليست حالة دائمة بل لحظة مُعلنة.

٢- مِعطفُها: ليس مجرد لباس، بل عنوانٌ للحمى والاحتماء، والخلع هنا رمز للشجاعة أو العري.

٣- مَخذولة: صيغة مبالغة للخذلان، تحمل معنى التترك وعدم الإمكان؛ الروح "مخذولة" أي مُترَكة على الحزن وحده.

٤- مباذلُ ما يدّعي: كلمة مركبة؛ "مباذل" جمع مبْذَل؟ تُقرب إلى مَناحي العرض والتباهي—القمر "يستحي" من تظاهر الكون بما ليس فيه.

٥- مطر من ذهول: تركيبٌ جديدٌ ومبتكر، يقوّي البُعد الإبداعيّ في النصّ؛ المطر ليس هنا سببًا للحياة بل نتيجة ذهولٍ جماعيّ.

٦- هَباءٌ يمرّ بلا صخب: الرمز إلى عبثية الدنيا؛ الهباء موت بلا أثر.

8. المقارنة التحليلية على مستويات متعددة

أ. المستوى الانفعالي:

النصّ يعتمد على تصعيدٍ انفعالي: من الصرخة الصامتة إلى استدعاء البكاء إلى استسلامٍ ثقيل. الانفعال هنا متدرّج لكنه متراكم—لا ينفجر في ثورة واحدة، بل يتراكم كما يتراكم الرماد على لهب لم يعد قابلاً للاحتراق.

ب. المستوى التخييلي (الخيالي):

الخيال في القصيدة غنيّ ومباشر: صور الليل/القمر/المطر والرماد تولّد هذا العالم اللامرئيّ الذي يمثل الوطن والذاكرة. التخييُل هنا وسيلةٌ لصياغة الحقيقة القاسية بطريقة تجعلها قابلة للتحمل والشهادة.

ج. المستوى العضوي (الجسدي):

القصيدة توظيفٌ للجسد: المعطف، السرير، دمعُ العين، تجمّدُ الحسرة—كلّها مؤشرات على أن الحزن ليس مجرد حالة ذهنية بل احتلال للجسد. هذا التحويل يجعل من الحزن مرضًا عضويًا، ومن الشعر دواءً أو شهادةً.

د. المستوى اللغوي والأعراف الجمالية

لغويًا، النص يختزل ويكثّف ويبتكر تراكيب تشدّ الانتباه ("مطر من ذهول")، ويتحرّك بين مستوى البيان والمجاز والصورة الأسطورية. من حيث الأعراف الجمالية، القصيدة تنتمي إلى مدرسة حداثيّة متأثرة بالرؤية الرمزيّة/الوجوديّة: قصيدة الشهادة، قصيدة الوطن الممزق، وقصيدة السرد الذاتي–الاجتماعي.

9. لحظة الإدهاش وجوهر النصّ:

لحظةُ الإدهاش في النصّ تتجسّد حين يتقاطعُ المفهومُان المتقابلان: المطرُ (رمز الحياة) و/مع الرماد (رمز الهلاك). هذه المفارقة تُحدث صدمةً معرفيّة تُجبر القارئ على إعادة قراءة العالم: الحياة تصبح مادةً للدهشة والهلاك يصبح ماء الوجود. الإدهاش أيضًا في عبارة "الدمع ماعاد يكفي الفواجع"؛ إدهاشٌ أخلاقيّ: لم يعد العالم قادراً على استيعاب المآسي، وحتى أدوات التعزية تنهار.

جوهر النصّ: هو صرخة توثّق فقدان فعل الراحة/العزاء في زمن الأزمات، وهو رغبة في الرحيل، لكن الرحيل هنا ليس خروجاً جغرافياً محضاً بل هجرة روحيّة عن سطوة السواد. الرحيل رمز لتحوّل، للبحث عن مشهدٍ إنسانيٍ أقلّ تلوّثاً.

10. انساقٌ معرفيّة ونهايةٌ تفسيرية:

النصّ يعمل عبر أنساق معرفيّة متداخلة:

١- أنساقُ الذاكرة والتاريخ: الجراح كذاكرةٍ جماعية.

٢- أنساقُ المعنى الديني/الطقسي: المطر/القمر/الرماد تُستدعى بصفتها إشاراتٍ طقسيّة.

٣- أنساقُ الجسد: الحزن كمرض عضويّ.

٤- أنساقُ البلاغة: التجريد، التكثيف، والابتكار اللغويّ.

٥- التفسير الخاتمي: القصيدة هي شهادةٌ شعريّة تطالب بالرحيل كخيار إنسانيّ أخلاقيّ عند حدود الاستحالة. إنها ليست نزعة انفعاليّة هاربة بل محاولةٌ لإعادة تركيب الذات مقابل الخراب. الشاعر هنا لا يُسقط الخسارة فحسب، بل يحاول جعلها مادة فاعلة للوعي والشعر: تحويل الألم إلى خطاب يطالب بالرحيل—ربما ليس هروبًا، بل ولادةً ممكنة.

11. توصيات بحثيّة ونقديّة لاحقة:

1. تحقيق نصّي: مقارنة مخطوطات/طبعات القصيدة إن وجدت، لتتبّع التبديل اللفظيّ.

2. دراسة علاقية مع نصوصٍ وطنية ومعاصرة حول نفس الثيمات (الحزن، الرحيل، السواد) لمقارنة الأوجه الأسلوبيّة.

3. قراءة نفسية أعمق: تطبيق مناهج التحليل النفسيّة (فرويد/يُونْغ) على الصور (الرماد، المعطف، السرير) لاستنباط آليات التكافل/الانفصال.

4. بحث سيميائي تطبيقيّ أوسع باستخدام غريماس: تحليل شبكيّ يتجاوز الأدوار إلى علاقات الحقول السرديّة.

خاتمة:

قصيدة «أُريدُ رَحيلاً لِهذا السَّوادْ!» هي نصٌّ مركّب—وجوديّ ووطنيّ، جسديٌّ ورمزيّ—يُقدّم تجربةً شعريّةً بليغةً عن استنفاد وسائل العزاء وعن الرغبة في الرحيل كخلاص. بالعمل عبر أدوات الهيرمينوطيقا والأسلوب والتحليل السيميائي لغريماس نكتشف لوحةً شعريّةً تتكوّن من جراحٍ جماعيّةٍ تُحوّل الشاعر إلى شاهدٍ، وإلى مبكيٍ ومُدَوِّنٍ لتاريخٍ لا يريد أن يُنسى. النصّ يدعونا، في النهاية، إلى أن نُسمع صرخته من غير صوت، وأن نُعيد التفكير في الرحيل كعمل مقاومةٍ وجوديّة.

***

بقلم: عماد خالد رحمة - برلين

............................

أُريدُ رَحيلاً لِهذا السَّوادْ!.

بقلم: أحمد يوسف داود

في هَزيعٍ من الوَحشةِ

الرُّوحُ تَصرُخُ من غَيرِ صَوتٍ

وتُلقي بِمِعطفِها جانِباً

كي تُضمِّدَ ـ عارِيَةً ـ ما تَرى

من جِراحِ البلادْ!.

*

أَعوَلَتْ بُرهَةً من فَجيعَتِها

إنّما الدَمعُ ماعادَ يَكفي الفَواجِعَ..

أنّتْ فَضاقَ الأنينُ بِها

فأقامَتْ على الحُزنِ مَخذولةً

في ثِيابِ الحِدادْ!.

*

يُرسِلُ اللّيلُ أقمارَهُ كي تُسامِرَها

فتُفيقُ مَواجِعُها:

كلُّ مافي فَمِ الأرضِ صَوتُ نَشيجٍ

فمَنْ سوف يَمسحُ أجْفانَها

كي تَذوقَ الرُّقادْ؟!.

*

يَستَحي قَمرٌ من مَباذِلِ ما يَدّعي

فيغيبُ على خَجلٍ والبَقيَّةُ تُغمِضُ..

والروحُ مَشغولةٌ بِأساها

يَفيضُ على لَيلِها مَطرٌ من ذُهولٍ

تَغّصُّ بهِ غَيمَةٌ من رَمادْ!.

*

لَمحةٌ من هَباءٍ تَمُرُّ بلا صَخبٍ..

كيف ضاق سَريرُ البُكاءِعلى دَمعِهِ

فتجَمَّدَ من حَسرةٍ؟!..

ياصَديقَ الخِياناتِ ياعُمرُ

هل ظلَّ للرّوحِ من فرحٍ قد يُعادْ؟!.

*

لاتُجِبْني فإني على قَلقٍ آمِلٍ..

(ماتَفتّحَ وَردُكَ يَوماً لأُبصِرَ أَلوانَهُ)

هكذا قالتِ الرُّوحُ لي فدَعَوتُ البَكاءَ..

ولكنّهُ راحَ يخدَعُني فأَلِفْتُ الخَديعَةَ

حتى تَصيَّدَ روحي السَّوادْ!.

 

تبدو رواية قصر التاجر للكاتبة منى الثابت وكأنها ليست عن المسيب فحسب بل عن الإنسان في علاقته بالمكان حين يصبح المكان ذاكرة وهوية وكياناً فاعلاً فالكاتبة لا تقدم المدينة بوصفها فضاءً جغرافياً ثابتاً بل ككائن يخلق أبناءه، ويمتص تاريخهم ويعيد إنتاجهم في سرديته الخاصة.

 "قد يصعب تحديد ميلاد وعينا بالوجود في هذا العالم بدقة، هل يولد لحظة إبصارنا النور؟ أم لحظة نطقنا الكلمة الأولى؟ أم إنه لاهذا ولاذاك؟ يقيناً، إنه حين تبدأ الذاكرة تسجيل أول المشاهد، أول خطوة على طريق الحياة الدبق المعبد بصمغ الذكريات والمشاعر"

"فأبعد ذكرى تُشكل البداية، وماقبلها اللاشيء..."

منذ المشهد الافتتاحي للرواية، حيث يُعاد بعث البطلين من نجمين في السماء إلى جسدين على الأرض، تضعنا الرواية أمام رؤية كونية أنثروبولوجية للمكان، المكان ليس مجرد خلفية للأحداث، بل أصل الوجود ذاته.

أنثروبولوجيا القصر.. الطبقة والسلطة والذاكرة

القصر في الرواية ليس بناءً معمارياً، بل بنية اجتماعية، إنه يمثل البيت الكبير كما يسميه علماء الأنثروبولوجيا أي النظام الرمزي الذي يُعيد إنتاج الهرمية والسلطة والتمييز بين السيد والتابع، الرجل والمرأة، النخبة والعامة.

" لم تخلع الخاتون السواد مذ توفى زوجها، ولزمت الإمساك بعصاه لا لحاجة بها، إنما كجزء من هندامها ..كما داومت على التختم بخاتمها الذهبي المزين بحجر فيروز دائري الشكل، مكملاً لشكل يدها المعروقة التي وشمتها بنقاط خضراء اللون .."

الخاتون الكبيرة، بما تحمله من سلطة مهيمنة، والباشا، رمز النظام الأبوي ـ الإقطاعي، يشكلان وجهين لسلطة المكان، في حين تأتي شخصية شمسة بوصفها محاولة لكسر هذه البنية عبر وعيها المختلف وجسدها الرافض للتوريث الرمزي للعبودية الأنثوية.

شمسة والبحث عن ضوء المكان

تمثل شمسة في الرواية الوجه الإنساني للمكان، تسكنها المسيب كما تسكن النخلة الفراتية عذوبة الماء ومرارة الملح، شمسة ليست بطلة في سياق رومانسي فقط، بل هي امتداد لأنثى الأرض العراقية، التي تُعيد تشكيل الذاكرة الجمعية في مواجهة التسلط العثماني والثورة المتأخرة.

" شمسة ذات الستة عشر ربيعاً، كان لها من أسمها نصيب شكلاً ومضموناً . أفصحت ملامحها بصدق عما وراءها فلم تكُ بكماء الملامح  وجهها البيضوي وضّاء القسمات بسحنته الحنطية وشى بحيويتها …."

من منظور أنثروبولوجيا الأدب، يمكن القول إن شمسة تجسد ما تسميه مارغريت ميد "الذات الثقافية" أي المرأة التي تعي موقعها في نسق اجتماعي - رمزي وتعيد إنتاجه من داخل التجربة لا من خارجها.

" أبطنت شمسة سيلاً من الاستفهامات نحو مسلمات كثيرة يُحظر عليها الخوض فيها، وهذا ماجعلها تجاهد تمردها المستتر بتصرفات مثالية بعض الشيء تكفيراً عمّا اعتقدت أنه سوء في سريرتها.."

الفرات بوصفه أرشيفًا ثقافياً

نهر الفرات في الرواية ليس مجرى مائياً بل حامل للزمن الاجتماعي؛ هو شاهد على التحولات من زمن العبودية إلى زمن الثورة، من التقاليد إلى الأسئلة الوجودية،فكل مشهد على ضفافه يعيد ترتيب العلاقة بين الإنسان والمقدس، بين الذاكرة والأسطورة، وكأن الكاتبة يستخدم الفرات كـ"أرشيف أنثروبولوجي" يحفظ روح الجماعة، وأحلامها، وخيباتها.

الرواية كبحث أنثروبولوجي

ينتمي قصر التاجر إلى ما يمكن تسميته بـ الأدب الأنثروبولوجي؛ أي الأدب الذي يتعامل مع الإنسان بوصفه نص ثقافي مفتوح، ويُعيد قراءة العادات، المعتقدات، اللغة، والسلطة من داخل السرد.

" تزين مضيف النساء بباقات الورد الدمشقي بمختلف ألوانه، وتخلل أغصان الياس . وضعت الباقات في مزهريات كريستال على طاولات الخشب الجانبية بين الأرائك، حيث وضع على كل طاولة مزهرية وشمعدان فضي وكمكُم أو كلبدان (عبارة عن إبريق نحاسي صغير له شكل الكرة من الوسط بقاعدة مخروطية وعنق طويل ورفيع ينتهي بما يشبه الزهرة المثقبة، يستعمل لرش ماء الورد وأحياناً تثبت في ثقوبه أعواد البخور الرفيعة) أما الطاولة الكبيرة في الوسط فقد وضعت عليها مزهريتان …"

خاتمة: من سرد المكان إلى وعي المكان

في نهاية الرواية يتضح أن المسيب ليست مجرد إطار زمني أو مسرح للأحداث، بل ذاكرة جمعية تتجسد عبر اللغة فكل حجر وبستان وضفة نهر في النص هو كائن يروي حكايته الخاصة.

بهذا المعنى يحول الكاتب المكان من فضاء مادي إلى فضاء رمزي ـ أنثروبولوجي، ومن الجغرافيا إلى الوجود.

" وقفت شمسة مع نجيب في الشرفة المطلة على الفرات يتأملان غروب الشمس، فقالت شمسة بيقين وبراءة:

- صدقت أمي عندما أخبرتني أن الشمس حين تغيب تغفو في النهر

- أبتسم نجيب لكلامها ثم وجه إليها سؤالاً ماكراً:

وكيف يكون الماء بارداً ليلاً وقد نزلت الشمس فيه ياشمسة؟

اتسعت عيناها وردت بثقة كبيرة :

لأن الشمس نائمة …."

رواية قصر التاجر هي نص عن المكان في جوهره، عن كيف يصنع الإنسان المكان، وكيف يُعيد المكان صناعة الإنسان إنها شهادة أدبية على أن المكان في الأدب العراقي ليس ديكوراً بل ذاكرة حية تقاوم النسيان.

***

د. فاطمة الثابت

لست أدري من الذي اقترح شعار «الرِّياض تَقرأ» شِعارًا لمعرض الرِّياض الدَّولي للكِتاب. غير أنَّه يظهر أنه لا يُدرِك دلالات مثل هذه العبارة، التي تبدو هزليَّة ساخرة، يمكن أن تُقال عن صَبيٍّ أضحى يقرأ، إجابة عن سائل: أهو يقرأ؟ أو عن أُمِّيٍّ تعلَّم القراءة على كِبَر، فصار يقرأ! ومن هنا فإنَّ هذا الشِّعار ينطوي على إهانةٍ للرِّياض وأهلها، وكأنَّنا نقول للعالم: «الحمد لله أيها الناس، (الرِّياض تَقرأ أخيرًا، أو تفكُّ الخط)!» يا للفخر، بشَّرك الله بالخير، هذا خبر مدهش حقًّا!

هٰكذا قفز بنا (ذو القُروح)، بلا مقدِّمات إلى هذا الموضوع. فتساءلتُ:

ـ «الرِّياض تَقرأ؟» معقول؟!

ـ بالطبع (الرِّياض) تَقرأ منذ أن أصبحت عاصمة للمملكة، وكانت قبل ذلك، كما تقرأ عواصم عَرَبيَّة أخرى منذ القِدَم؛ بمعنى القراءة الثَّقافي والحضاري. بل إنَّ القراءة والكتابة ثمرةٌ عَرَبيَّةٌ أصلًا، منذ ابتكر الكنعانيُّون أو الفينيقيُّون العَرَب رموزها في القرن العاشر قبل الميلاد تقريبًا، وما كان العالَم يعرف قبلئذٍ أبجديَّةً قط، وإنمَّا عرف الكتابة المسماريَّة المقطعيَّة في(العراق)، أو التصويريَّة الهيروغليفيَّة في (مِصْر). والكتابات الأوغاريتيَّة الكنعانيَّة- المكتشفة حديثًا بقرية (رأس شُمرة)، شمالي مدينة (اللَّاذقيَّة) في (سوريَّة)- هي بعض شواهد على تاريخٍ من تعليم العَرَب العالمَ القراءة والكتابة، وإنْ بات تاريخهم المعاصر تعتوره عُقَد النقص، حتى إنَّه ليُباهي بأنه: يَقرأ، كبقيَّة خلق الله!

ـ لعلَّ تلك العبارة «الرِّياض تَقرأ» ما هي إلَّا اجترار لعبارة، لا تقلُّ سقمًا، أُطلِقت خلال القرن الماضي: «القاهرة تَكتب، وبيروت تَطبع، وبغداد تَقرأ».

ـ وهي كذلك عبارة فكاهيَّة؛ وكأنَّ (القاهرة) لا تَقرأ، بل تَكتب فقط، أو كأنَّ (بغداد) لا تَكتب، بل تَقرأ، أمَّا (بيروت)، فلا تَقرأ ولا تَكتب، وإنَّما تطبع! وأمَّا بقية العَرَب، فلا يقرؤون ولا يكتبون ولا يطبعون، طبعًا! كلام بلا محصول، يُعْجِبُ العُربان لما فيه من ضروب البديع والتلاعب بالألفاظ، الذي يَطربون له عادةً! والواضح من هذا كله أنَّ العَرَب المتأخِّرين مغرمون عمومًا برنين الألفاظ، والترديد طربًا بما يسمعون، بلا تفكير في معناه.

ـ كيف؟

ـ ثمَّة ظاهرة ثقافيَّة عَرَبيَّة لافتة من خلال هذا السياق. وهي أنه ما أن تُطلَق عبارة، مهما كانت ركيكة، أو غير موفَّقة في مبناها ومعناها، حتى يتبارَى العَرَب، ولا سيما عبر الإعلام، في علكها دهرًا من الدُّهور، حتى ينجم غيرها. ما يذكِّرنا بالعبارة العَرَبيَّة القائلة: «فسارت مثَلًا!» مع الفارق؛ من حيث إنَّ المثَل إشارة إلى موقفٍ قصصيٍّ بعبارة مختزلة دالَّة. بخلاف ما نحن بصدده، وإنَّما الشاهد في الظاهرة الثقافيَّة العَرَبيَّة من حبِّ التكرار والترديد، بلا تفكير في المعنى. وربما جاءت هذه الظاهرة امتدادًا أيضًا للأنماط الشفويَّة الجماعيَّة التي لفتت (مليمان باري وألبرت لورد)، أو (جيمز مونرو)، في التراث الشِّعري الشَّفوي العَرَبي؛ إذ ما أن يقول شاعرٌ صيغةً شِعريَّةً معجِبة، حتى تجترُّها أفواه العشرات من الشعراء، لعقود من السنين أو لقرون.(1) وتلكم ثقافة القطيع: تثاءبت القبيلة كلُّها، لمَّا تثاءب شيخها!

-2-

ـ من حكاية «الرياض تَقرأ»، وسالفة الترديد بلا تفكير، دعنا نستأنف القراءة في قضيَّة النَّظم والنصِّية، التي قاربنا بعض جوانبها في المساق السابق. فآفة الترديد ليست بشفويَّة فحسب، بل هي مستشرية في عالم الكتابة والكتَّاب أيضًا.

ـ قد رأينا كيف انتهى الأمر بـ(أبي حيَّان التوحيدي)(2) إلى أن يثلب في كتابه «مثالب الوزيرين» نفسه هو وفهمه، بل إلى أن يثلب أدبه، حينما استدعته مناكفة بعض معاصريه، ممَّن يجمعون بين الشِّعر والكتابة، إلى الخروج من الكتابة الأدبية إلى التنظير النقدي. فإذا هو يخلط الحقَّ بالباطل، والنثر بالشِّعر، مستحسنًا قول القائل:

وإنَّ أَشعَـرَ بيتٍ أنت قائلُـهُ

بيتٌ يُقال، إذا أَنشدتَـهُ، صَدَقـا

وكان خليقًا- لو كان يعي ضُروب الكلام كما ادَّعى، وافتراق طبائعها ووظائفها- أن يكتب: «وما أبردَ ما قال القائل:...»! كما كان حقُّ البيت الذي رفع رايته أن يكون:

وإنَّ أَسخفَ بيتٍ أنت قائلُـهُ

بيتٌ يُقال، إذا أَنشدتَـهُ، صَدَقـا!

وهنا جلَّينا البون الشاسع بين (أبي حيَّان التوحيدي، -414هـ) و(عبدالقاهر الجرجاني، -471/ 474هـ) في الوعي النصوصي. ونضيف إنَّ لأبي حيان بعدئذٍ أن يردِّد علينا، معتذرًا أو هاجيًا، مع (شِمْر بن عمرو الحنفي)(3):

لَـوْ كُنْتُ في رَيْمانَ لَسْتُ بِبارِحٍ

أَبَــدًا وسُدَّ خَصاصُهُ بِـالطِّينِ

لِـي فـي ذَراهُ مَآكِـلٌ ومَشـارِبٌ

جــاءَتْ إلَـيَّ مَنِيَّتِـي تَبْغِينـي

ولَقَدْ مَرَرْتُ عَلَى اللَّئِيمِ يَسُبُّنِي

فَمَضَيْتُ ثُمَّتَ قُلْتُ لا يَعْنِيني(4)

غَضْـبانَ مُمْـتَلِئًا عَلَـيَّ إِهـابُـهُ

إِنِّــي ورَبِّكَ سُخْطُهُ يُرْضِِينـي

يا رُبَّ نِكْسٍ إِنْ أَتَتْـهُ مَنِيَّتي

فَرِحٍ وخِرْقٍ إِنْ هَلَكْتُ حَزِينِ

-3-

ـ ماذا عن (النَّظم)؟ [سألتُ].

ـ أمَّا نَظْم الشِّعر، فمنه هوسٌ مَرَضيٌّ لدَى بعض الشُّعراء بنظم القوافي، يُفسِد بناء القصيد، ويضيع معه المعنى. و(هوسيَّة النَّظم، وتضييع المعانى) يتجلَّيان، مثلًا، في قصيدة (أحمد شوقي)، تحت عنوان «في الانقلاب العُثماني وسقوط السُّلطان عبد الحميد».(5)

ـ معروف أنَّ (شوقيًّا) كان يكتب شِعره كـ(جريدة يوميَّة)، لا يفوِّت حادثةً في العالَم أجمع إلَّا عرَّج عليها بقصيدة طويلة.

ـ وما كذلك الشِّعر، لا عند العرب ولا عند غيرهم، منذ أن عُرِف الشِّعر. ولذلك، كان يسرد مطوَّلاته، التي يُعِدُّ لها قوائم القوافي، كما يُعِدُّ صاحب مطعمٍ قوائم الطعام. حتى يبدو أنه لا يترك كلمة في معجم (الفيروزآبادي)، «القاموس المحيط»، أو غيره، إلَّا استقصَى النَّظْمَ عليها.

ـ ولقد كان باعث تأليف تلك المعجمات أصلًا خدمة الشُّعراء النظَّامين، من أمثال (شوقي)، ومن سلف على شاكلته من الناظمين.

ـ ولذلك لا غرابة أن تجد في قصائده كثيرًا من الحشو، والركيك إلى جوار الرَّصين، والأبيات التي لا تضيف إلى المعنى شيئًا يُذكَر. ففي تلك القصيدة، التي يستهلُّها ببيته:

سَل يَلـدِزًا ذاتَ القُصـورِ

هَـلْ جاءَهـا نَبَـأُ البُـدورِ

ستسبح مضطرًّا في بيته:

والرَّوض فـي حَجـْمِ الـدُّنا

والبَحـر فـي حَجـْمِ الغَديرِ

وهو من تلك الأبيات المحشوَّة حشوًا، لا لشيء سِوَى للإتيان بكلمة (الغدير). ثمَّ هو هنا يتحدَّث عن أميرات القصور العثمانيَّة. ليقول عنهنَّ بعد أبيات:

أَمسَــينَ فــي رِقِّ العَــبيـ

ـلِ وبِتْـنَ فـي أَسْـرِ العَشيرِ

مــا يَنتَهِيـنَ مِـنَ الصَّـلا

ةِ ضَــراعَـةً ومِــنَ النُّـذورِ

يَطلُبـــنَ نُصـــرَةَ رَبِّهِــنَّ

ورَبُّهُـــــنَّ بِـلا نَصــــيرِ

صَــبَغَ السَّــوادُ حَـبِـيرَهُنَّ

وكــانَ مِن يَـقَـقِ الحُـبـورِ

فلا تدري ماذا أراد أن يقول عنهن؟

ـ بل كيف أمست هؤلاء الأميرات في «رِقِّ العَبيل»؟

ـ كأنَّه لم يجد كلمة أخرى غير «العَبيل». ولو قال: «في رِقِّ العَبيد»، لكان قال شيئًا ذا معنى.

ـ ثمَّ ما علاقة «الصلاة» و«النذور» بالموضوع؟

ـ العلاقة أنَّ في بطن الشاعر كلمة (النذور) على حرف الراء، ولا بدَّ أن يضع عليها بيتًا. وإلَّا أنَّى له بنظم ثمانين بيتًا في الموضوع، إنْ لم يستغلَّ للتقفية كلَّ الكلمات ذات الرِّدف المنتهية بالراء؟! بل أنَّى له أن يُعَدَّ «أمير الشُّعراء» دون تلك المطوَّلات النَّظْميَّة؟!

***

أ. د. عبد الله بن أحمد الفَيفي

..............................

(1)  إشارة إلى نظريَّة (مليمان باري)، التي لخَّصها تلميذه (ألبرت لورد)، حول النَّظم في الملاحم اليوغسلافيَّة. (يُنظر مثلًا: Lord, Albert, The Singer of Tales؛ مونرو، جيمز، النَّظْم الشَّفوي في الشِّعر الجاهلي).

(2)  (1992)، أخلاق الوزيرَين: «مثالب الوزيرَين الصَّاحب بن عبَّاد وابن العميد»، تحقيق محمَّد بن تاويت الطنجي، (بيروت: دار صادر)، 8- 9.

(3)  الأصمعي، (1993)، الأصمعيَّات، أحمد محمَّد شاكر وعبدالسلام محمَّد هارون، (القاهرة: دار المعارف)، 141- 142.

(4)  في رواية «أَمُرُّ على اللَّئيم». وهي أبلغ؛ لدلالة على أنَّ ذلك ديدنه، وليست بحالةٍ بعينها. وثُمَّت: بمعنى ثُمَّ. قال (الفراهيدي، العَين، (ثم)): «ثُمَّ: حَرْف من حروف النَّسَق، لا تُشرِّكُ ما قبلَها بما بعدَها، إِلَّا أنَّها تُبَيِّنُ الآخِرَ من الأوَّل، ومنهم مَن يُلزِمُها هاءَ التأنيث فيقول: ثُمَّتَ كانَ كذا وكذا.» وثُمَّ، وثُمَّتَ، وثُمَّتْ، كلُّها: حروف نَسَق. وقليلًا ما تجد إعلاميًّا معاصرًا يفرِّق بين (ثُمَّ) و(ثَمَّ)؛ فتسمعه يردِّد: «ومِن ثُمَّ»! وهو تعبير لا علاقة له باللُّغة العَرَبيَّة. والصواب: «ومِن ثَمَّ»، أي «ومن هناك». على الرغم من أنَّ «ثَمَّ» كلمةٌ ما زالت مستعملة في بعض لهجات الجزيرة العَرَبيَّة، بمعنى: هناك. ومن تخليطات المعجم المشار إليه، «معجم العَين»، قوله: «ثَمَّ معناه: هناكَ، للتبعيد، وهنالِكَ للتقريبِ!» فقلبَ ما كان حقُّه القول: «هناكَ للتقريب، وهنالِكَ للتبعيد.» وهو ممَّا يشكِّك في نسبة هذا المعجم إلى (الخليل). إلَّا أن يكون في النصِّ تصحيف، وهو الراجح، وأصله كلامه: «ثَمَّ معناه: هنالكَ، للتبعيد، وهناك للتقريب.» ولا تعليق لمحقِّقي هذا المعجم، ولا يحزنون، كالعادة!

(5)  ديوانه الأعمال الشِّعريَّة الكاملة، (بيروت: دار العودة، 1988)، 1: 119.

لا يبدأ البحر من الموج، بل من الداخل… من تلك اللحظة التي يقرر فيها الإنسان أن يغادر اليابسة ليس هربًا منها، بل بحثًا عن ذاته التي غمرها الغبار…

في “وقائع من أوجاع رجل غامر صوب البحر” لا يكتب واسيني الأعرج رواية عن الهروب، بل عن امتحان الوجود حين يتقاطع فيه الجسد بالماء، والذاكرة بالوجع، والحلم بالعدم.

كل موجة في النص ليست سوى سؤالٍ مؤجل عن معنى النجاة…

لا أحد يغامر صوب الموج إلا حين تضيق اليابسة بالمعنى… والبحر، كما يراه واسيني، ليس مكانًا، وإنما سؤالٌ مفتوحٌ على احتمالات الخلاص والهلاك معًا.

في هذه الرواية، الرجل الذي غامر صوب البحر ليس بطلًا في المعنى التقليدي، بل كائنٌ مثقلٌ بما يسميه ميلان كونديرا “ثقل الوجود”.

ذلك الثقل الذي لا يُحتمل لأنه نابع من الذاكرة، من التاريخ الشخصي والجمعي، من كل ما نحمله معنا دون أن نعرف كيف نضعه جانبًا…

يقول كونديرا: “إن أخفّ لحظة في حياتنا قد تكون أثقلها لأننا ندرك فيها كل ما لا يمكننا العودة إليه.”

هنا تتقاطع خفة كونديرا مع ثقل واسيني، ويتحوّل البحر إلى مسرحٍ للجدل بينهما؛ خفة الهروب وثقل العودة، خفة الموج وثقل الحلم، خفة الغياب وثقل البقاء.

واسيني الأعرج يكتب هذه الرواية كمن يصوّرها بعدسة داخلية. كل مشهد يبدو وكأنه لقطة من فيلمٍ يعرف المخرج أنه لن يُعرض أبدًا إلا داخل الذاكرة.

نرى المناضل الهارب وهو يعبر الأزمنة كأنها دهاليز، يسمع صدى أصواتٍ من الطفولة والسجن والمنفى، فتتداخل الأزمنة في وعيه كما تتشابك خطوط الضوء في لوحةٍ سريالية.

إنّه سينمائي في بنية السرد وتشكيلي في لغته، لا يصف المشهد بل يلوّنه، لا يسرد الأحداث وإنما يعزفها ويوزّع إيقاعاتها.

حين يكتب عن تظاهرةٍ عمالية، تبدو الجموع كريشةٍ كثيفة تتحرك داخل لوحةٍ حيّة: وجوه تلمع بالعرق، قبضات ترتجف، أقدام تتقاطع، وهتافات تتكسّر على صخور القمع.

وعندما يصف انهيار المصنع القديم، تتحوّل اللغة إلى مشهدٍ بطيء: صوت الحديد وهو يئنّ، الماء المتدفّق في الأنفاق، خوذةٌ صفراء تطفو، وعينٌ تتسع ثم تختفي في العتمة.

هذه المشاهد لا تُقرأ بل تُرى… وكل لقطةٍ تُصوّر الجمال في لحظة الموت، والحرية في لحظة الانهيار.

الرواية في جوهرها حوار بين الذاكرة والجسد.

البطل يحمل ذاكرته كما يحمل البحر ملوحته، لا يستطيع أن يتخلّص منها حتى وهو يفرّ منها.

يظن أن البحر سيغسله من ماضيه، لكنه يكتشف أن الماء لا يُطهّر من الذاكرة بل يعمّقها… في كل موجةٍ يسمع صوتًا قديمًا، وفي كل اتساعٍ يرى وجهًا رحل.

إنها ذاكرة تنبض تحت الجلد، تشبه ما وصفه كونديرا حين قال: “الإنسان لا يملك إلا ذاكرته، وكل محاولةٍ لنسيانها ليست سوى نوعٍ من الموت المؤجّل.”

لكن واسيني لا يكتب المأساة بل يكتب الجمال الذي يتسرّب من بين شقوقها…

الجمال الذي يشبه ضوءًا خافتًا ينعكس على سطح ماءٍ ملوث، ومع ذلك يضيء.

هذا الحسّ الجمالي لا يبتعد عن الموقف الإنساني، بل يعضده؛ فالجمال هنا ليس ترفًا بل مقاومة.

إنّ تصوير الألم بهذا العمق هو فعلٌ اشتراكي في جوهره، لأنه يُعيد للإنسان صوته وسط ضجيج السلطة.

نلمح صدى كامو وهو يقول في أسطورة سيزيف: “علينا أن نتخيل سيزيف سعيدًا”، كأنّ واسيني يريدنا أن نتخيل هذا الرجل الهارب سعيدًا أيضًا، لا لأنه نجا، بل لأنه قاوم.

الحرية في الرواية ليست نقيض الأسر فحسب، بل امتحان المسؤولية كما عند سارتر: “الإنسان محكوم عليه بالحرية.”

بطل واسيني يعرف أنه حرّ، لكنه يدرك أيضًا أن هذه الحرية ثقلٌ آخر لا يُحتمل، لأنها تُلزمه بأن يواجه نفسه.

فالهروب إلى البحر لا يُنقذ من شيء، بل يكشف كل شيء…

في عمق الموج لا يسمع المرء سوى صوته، ولا يرى سوى ظله، وهنا تبلغ الرواية ذروتها التأملية:

إنّ الإنسان لا يهرب من الخارج بل من ذاته، وحين يصل إلى أقصى المدى يكتشف أن البحر ليس نهايةً بل مرآة.

وفي تلك المرآة تتجلّى البنية التشكيلية للنص؛ فكل موجةٍ جملة، وكل دوّامةٍ فكرة.

اللغة عند واسيني تشبه الريشة المبلّلة، تترك أثرًا لكنها لا تحدد شكلًا نهائيًا.

وهذا ما يجعل النص مفتوحًا على التأويل كلوحةٍ تجريدية، وعلى التأمل كفيلمٍ لا يكتمل.

نقرأه كما نُشاهد لوحةً لبول كلي أو مشهدًا لبرغمان، لا نسأل ماذا يحدث بل كيف يحدث… ولماذا يؤلمنا.

إنّ الرواية تمزج الواقعي بالأسطوري، السياسي بالوجداني، الحلم بالكوابيس، لتخلق عالمًا يُشبه ما بعد الوعي.

البطل هناك وليس هناك، يعيش وينسحب، يرى البحر في داخله كما يراه أمامه.

في لحظاته الأخيرة على الشاطئ، نسمعه يهمس: “البحر أمامي… والذاكرة خلفي… والريح في صدري تُعلّمني أن لا مفرّ من ذاتي.”

هذا الهمس يُعيدنا إلى السؤال الأول: هل يمكن للهروب نحو البحر أن يكون خلاصًا؟ ربما لا.

لكن في هذا الفشل بالوصول يكمن كلّ المعنى.

في النهاية، “وقائع من أوجاع رجل غامر صوب البحر” ليست رواية عن البحر بقدر ما هي رواية عن الإنسان الذي لم يتعلّم بعد كيف يعيش خفيفًا دون أن يفقد عمقه.

واسيني الأعرج كتب نصًا ينتمي إلى الجغرافيا الإنسانية لا إلى الوطن فحسب، نصًا يقف إلى جانب أعمال ميلان كونديرا وألبير كامو وجان بول سارتر في بحثه عن التوازن بين الحلم والعبث، بين الخفة والثقل، بين النجاة والانكسار.

ولعلّ أبلغ ما يمكن قوله عن هذه الرواية هو ما قاله كونديرا:

“كل حياة إنسان هي بحثٌ عن نغمةٍ لم تكتمل.”

واسيني وجد نغمة وجعه في البحر… وترك لنا نحن القرّاء ومهمة الإصغاء إليها، علّنا نتعلّم كيف نحمل أوجاعنا دون أن نغرق.

***

إبراهيم برسي

الحدث السردي هو بمثابة توثيق مرحلة سياسية مظلمة، هي الحرب الطائفية التي اشتعلت نيرانها الحارقة، في فترة خيم الرعب والخوف على قلوب الناس. في شق لحمة المجتمع ومكوناته وحتى تمزيق اواصل العائلة الواحدة، في بدعة الانتقام وغسل الدم بين الطائفتين، وهي من الظواهر السلبية والسيئة جداً من مخلفات الاحتلال، في دخول الطائفتين (الشيعية والسنية) في حرب اهلية وكسر العظم بين الجانبين، في سفك دماء ابنائها بذرائع مجنونة عفا عليها الزمن وبال، بذريعة حفظ نقاوة الدم لدى الطرفين، وحتى هدر الدم بلا رحمة، إذا لم يرضخوا الى طلبات الطائفين، بقرار طلاق الزوج والزوجة، إذا هما من طائفتين مختلفتين، والرفض يعني بكل بساطة يقدم قربانا على مذبح الطائفية، في دولة في عقلية حكامها المشرفين، هي العقلية العشائرية والطائفية حتى العظم، هذا ما حدث فعلاً في الواقع المعيشي، بعد الاحتلال الأمريكي عام 2003. الحدث السردي يسرد حدث محدود في فترة زمنية قصيرة، لكن له امتدادات زمنية طويلة وخلفيات عميقة الدلالة والمعنى، تتجاوز اعواماً، هي بالضبط في ساعة خروج الطائفية من كهفها المظلم، إنها حادثة واقعية من الآلاف من القصص الواقعية المشابهة، فكان الموت يطارد الجميع على عل الهوية والاسم، هي حرب الانتقام الدموي بين الطائفتين (الشيعية والسنية)، حتى وصلت هذه الحرب الى مستويات خطيرة، حرب وانتقام بلا رحمة، حتى داخل العائلة الوحدة، الزوج شيعي والزوجة سنية، وإذ لم يرضخون لطلب الطلاق، يقتل أحدهما بدم بارد، مثلما حث لهذا الزوج المغدور (الشيعي) رفض طلب طلاق زوجته أم طفلتين، فجاءت طعنة الموت الغادرة، من طرف طائفة زوجته (السنية) واشقاء زوجها يطالبون بالانتقام وغسل العار، باهدار دم زوجته، حتى تتساوى معادلة، الانتقام مقابل الانتقام، إن هذا الواقع خارج تصور العقل والمنطق، بل انه يمثل السريالية الغريبة والمرعبة. لقد برعت الأديبة (سعاد الراعي) في احترافية راقية، في الصياغة الفنية والمنطلقات الفكرية الدالة، في أسلوبها الواقعي الرصين، وفي دراماتيكية الأحداث المتلاحقة، التي تشد القارئ شداً، ولم تترك مجالاً له أن يأخذ انفاسه، بالحبكة الفنية المتصاعدة نحو الذروة، مرهفة في تتبع تفاصيل الحدث السردي المركز بالتكثيف، الذي أخذ صيغة الوصف التصويري، بأن يجعل القارئ، يشاهد ويقرأ تفاصيل الرعب  بالمشاهد والمنتاج السينمائي، وكأننا أمام فيلم الرعب، مثل ما عودتنا الافلام الامريكية (افلام الرعب اكشن) لذا فإننا أمام فيلم رعب (الرعب اكشن الطائفي)، أمام حادثة من آلاف الحوادث، بذريعة نقاوة الدم الطائفي وصيانته من الإخلال به، أن يتجول الموت بحرية ويلاحق أبناء الطائفتين. كأنهما في مطاردة الموت الطائفي.

- احداث المتن السردي:

الزوج (الشيعي) رفض ان يرضخ لمطالب الطائفة الاخرى (السنية) بالطلاق من زوجته وام لطفلتين، فقتل بدم بارد، وضع الزوجة ام لطفلتين في موقف خطير يهدد حياتها من قبل أشقاء زوجها المقتول بالانتقام منها بالانتقام المتبادل، جاء دورها لتساق لقربان مذبح الطائفية، رغم توسلاتها ودموعها الباكية (- انا لست عدوتكم، أنا أم تحمل على كتفيها جرح هذا الواقع مثلكم) ص17. ولكن قصاص الانتقام اخذ قراره ولا رجعة عنه، بحجة أن زوجها قتل من طائفتها، وهي المرشحة لغسل الدم، كأنها أصبحت في عقليتهم مجرمة وقاتلة، ودمها أصبح حلالاً، هو الهدف والمنال، دمها يشبع عطش الطائفية للانتقام، ويهددها احد اشقاء زوجها (- سأجعلك جارية تحت قدمي حتى تُقبري). هكذا حفرت الطائفية انهار من الدماء في البطش والانتقام في المجتمع العراقي، وجدت الزوجة ان جرحها الداخلي ينزف، لم يعد لها خيار، اما ان تختار الموت، أو تختار الهروب إلى المجهول، أنها معضلة حياتية: كيف الخلاص من هذا المأزق ؟!. (- أية حفرة مظلمة وقعت فيها؟ واي مستقبل ينتظر أبنتيَّ) ص22. وقررت في داخلها، لن تستسلم للموت وللمذبح الطائفية، وقررت بشجاعة الزوجة (عفراء) ان تبحث عن كوة الخلاص حتى لو عبر على جثتها، وقررت ان تتصل بجارتها القديمة الطيبة (ام احمد) سبق وان هربت ابنائها الى خارج العراق، وفعلا اتصلت خلسة في الليل، لعل لديها خيط من النجاة، لترد عليها (أم أحمد) بقولها (كل عقدة ولها حل يا أبنتي، فلا تيأسي، أنا هنا كأمك، بانتظار أن تبوحي لي بما تختلج روحك) ص26. لتقول لها بصوت مهموم مليء بالقهر (خلصيني يا خالة.... اني اموت كل يوم ألف مرة). وتدبر لها سائق ثقة وامين، يساعدها في الهروب بسيارته الى خارج العراق، واتفقت على الموعد خلسة في الليل، وجاء السائق بالموعد المحدد، ليقول لها (- أنا من طرف ام احمد.... اسرعي قبل ان يفيق احد) ص30، أخذت طفلتيها وغادروا البيت مسرعين والخوف يأكل قلوبهم، لكن يراودها الأمل بالخلاص من الجحيم الطائفي الجاثم على صدرها (لن اعود إلى القبر، ولو كان الطريق الى الحرية مفروشاً بالخوف)، ولن تبيع نفسها وطفلتيها للخوف والمصير المجهول، ولن تسمح للطائفية ان تملك روحها وتكسرها بالخيبة والانهزام، وتنفست الصعداء حين تجاوزت السيارة بغداد، ويطمئنها السائق بقوله (- الآن أنتم في امان) وطلبت من السائق أن يحول اتجاه السيارة من صوب السليمانية الى صوب الحدود الاردنية، واتفقت على السعر الاجرة، واستجاب لطلبها، لان اهلها في عمان الاردن، وبدأ الأمل يكبر بتجاوز الخطر والمجهول (كان الموت يعرف عنواني في الأمس، أما المجهول فليس له عنوان. هذا حسن) ص55. وحين وصلت الحدود، نزعت خاتم الزواج، وكذلك خاتم الذهب المرصع بالعقيق ولفتهم في ورقة، وطلبت من السائق أن يسلم رسالتها الى (ام احمد) وكتبت في رسالتها (سلمي خاتم الزواج الى حيدر الجلاد، اخو زوجي، ليعرف أنني طلقتهم جميعاً دون رجعة / اما خاتم العقيق، فهو هدية صغيرة من ابنتكِ عفراء لتذكرنني بها) ص71. هكذا انتهت مأساة (عفراء) أم طفلتين، خرجت من فم الموت والمجهول الى بر الامان، كانت رحلة شاقة وصعبة، لكن تحملتها كامرأة قوية، وقفت بصلابة وشجاعة أمام الموت والمجهول، وخلعت خاتم الطائفية الثقيل، وحين نزعت أساورها الذهبية كاجرة لاتعاب السائق، رفض أن يقبلها (- لا داعي يا اختي...... / لا داعي ان تخلعي اساوركِ) هكذا المرأة انتصرت على الصعاب وسجلت أهدافاً (لقد طلقتكم جميعا.... لا قبيلة / لا طائفة / لا قانون، يمكن ان يعيدني الى الوراء) ص73. لتكتب لها مستقبل جديد بنفسها، حرة، ولو جرحت الف مرة.

ملاحظة: اشكركم من اعماق قلبي الى الاهداء الذي يخصني

***

جمعة عبد الله

 

مقدمة الدراسة: تنهض قصيدة «صمتُ المرايا» للشاعرة التونسية بهيجة البعطوط بوصفها نصّاً يتجاوز حدود البوح العاطفي إلى فضاءٍ تأمليٍّ تتقاطع فيه المجازات الوجدانية مع الأسئلة الوجودية. فهي ليست مجرّد اعترافٍ شعريٍّ عن فَقْدٍ أو لوعة، بل هي تجلٍّ تأويليٌّ لمعنى الذات حين تنكسر في مواجهة غياب الآخر، وحين يتحوّل الحبّ من وعدٍ بالخلاص إلى جرحٍ يفتح على المطلق. في هذا النص، يصبح الصمت لغةً، والمرآة كياناً وجوديّاً يعكس ما وراء الصورة — إنها محاولةٌ للقبض على ما يتفلّت من الإدراك، وتدوين ما لا يُقال.

من هنا تأتي أهمية مقاربة هذا النص من خلال المنهج الهيرمينوطيقي التأويلي الذي يُعنى بقراءة ما تخفيه العلامة أكثر مما تصرّح به، إلى جانب المنهج الأسلوبي الذي يضيء البنية اللغوية والإيقاع الداخلي، والمنهج الرمزي والسيميائي الذي يُعنى بتفكيك شبكة العلامات والدوالّ ضمن النص وفق مقاربة غريماس لمربّع الأدوار السيميائية (الفاعل/ المفعول/ المرسل/ المتلقي...). كما تنفتح الدراسة على البعد النفسي والديني والجمالي، بوصف الشعر هنا مرآةً لانكسارات الذات الباحثة عن يقينٍ في عالمٍ ملبّدٍ بالضياع، ووسيلةً لالتقاط لحظة الإدهاش بين الصمت والكشف، بين الغياب والحضور.

تسعى هذه القراءة النقدية إلى الغوص في ما تحت الجلد الشعري من توتّرٍ ونبضٍ ورمز، واستنطاق الأنساق المعرفية والانفعالية التي تحكم النص على مستوياتٍ عدّة: التخييلي، العضوي، اللغوي، الجمالي، والوطني. فقصيدة "صمت المرايا" لا تُقرأ على سطحها الغنائيّ فقط، بل تُفكّك كنصٍّ وجوديٍّ يُعيد مساءلة العلاقة بين الذات والمرآة، بين الصمت والقول، بين العشق والوعي.

نقودُ قراءتنا بثلاث دعامات منهجية متكاملة:

1. الهيرمينوطيقا التأويلية: قراءة المقاصد والآفاق الدلالية للنص، تتبع الأفق التأويلي بين ما يجيزه الخطاب الشعري وما يطلبه القارئ من فهم.

2. الأسلوبية والرمزية: فحص الوسائل الأسلوبية (الصورة، الموسيقى، الإيقاع، التراكيب) وكشف رموز النص الدلالية المتكرّرة.

3. السيميائيات (غريماس): تفكيك العلاقات الفاعلية داخل النص عبر "مخطط الأدوار" (الفاعل/ المفعول/ المرسل/ المتلقي/ المرشد/ المعارِض) لبيان البناء السردي الإنساني داخل الصوت الشعري.

نضيف طبقات: تحليل نفسي (الذات، الجرح، آليات الترميم) وقراءة دينية/ تصوفية (مجازات الغياب، الوجد، النبض). النص سيُقرأ على مستويين: ما يقوله لفظاً (الظاهر) وما يقال تحت الجلد الشعري (الباطن).

1. البنية السطحية: عناصر النص وملامحه الأسلوبية

القصيدة مقسَّمة إلى مقاطعٍ قصيرة واضحة، نبرة المتكلِّم–الأنا الأناشيدية تخاطب غائباً (أنتَ)، وتوظف موسيقى داخلية عبر تكرار الحركات، الصور الحسية، وتناوب بين جُمَلٍ إخبارية وإِناجيّة. من أبرز السمات الأسلوبية:

١- الصيغة الخطابية: مخاطبة مباشرة "تُنَاجِيكَ" — تضع القارئ في موقع شهود الحزن والود.

٢-الصور المركبة: "طَيْفُك"، "خَرَائِطُ العَالَمِ"، "زُجَاجًا مَكْسُورًا" — مزج بين الخرائط والمرايا والزجاج والخريف، مشهد بصري حادّ.

٣-الاستعارة المجازية الموسيقية: "سمنفونية عشق"، "لحنُ الجَوَى" — الموسيقى رمز للتماهي والاستمرارية.

٤- التضادّات/ المفارقات: حبٌّ لكنه "ألم"، غياب لكن "تَغْفُو بين نبضي" — ثنائية الحضور/ الغياب تُحرك النص.

٥-اللغة متوسطة المستوى بين الفصاحة والعامية الخفيفة: كلمات قوية ذات وقع فصيح ("مَثْقَلَةُ الوَجْدِ"، "أُرَمِّمُ شَظَايَا") مع صور قريبة من الوجدان اليومي.

هذه السمات تعطي القصيدة نبرة تأمّلية حيوية، توازن بين الحضور الغنائي والصرامة التأملية.

2. الحقول الدلالية ومفردات المفصل (تفسير مفردات محورية):

نُعرّف الحقول المفرداتية الرئيسة: الغياب/ الوجود (طيف، غياب، ألا أرانِي)، الموسيقى/ اللفظ (أوتار، لحن، قوافل القصيدة، حروف الرَّوي)، الخراب/ الترميم (زجاج مكسور، شظايا، أرمم)، الجسد/ النفس (نبض، قلب، روح)، الخريفي/ الزمني (خريف، أيام)، الحسية/ الشمّ (رذاذ العطر المنثور).

تفسير بعض المفردات:

١- طيفك: لا يعني وجوداً مادياً بل انعكاس حضوره في الذاكرة — علامة لوجود خيالي أو أثر.

٢- خرائط العالم حين أشتاق: الخريطة هنا مجاز للتمثيل المعرفي؛ الحضور يتحول إلى شبكة معانٍ تنظم العالم الداخلي للشاعرة.

٣- قوافل القصيدة: القصيدة كعملية حمل واحتفاء بالحبيب: اللغة تتحرك كقافلة، تنتقل من لحن إلى لحن.

٤- زجاج مكسر: رمزية تقليدية للذات المجروحة، حالة الانكسار والشفافية المفقودة؛ كذلك تشير إلى رؤية مشوّهة للواقِع.

٥- رذاذ عطرك المنثور بين السطور: الحضور الحسي/ الشمّي الذي يواصل وجوده عبر النص المكتوب؛ علامة على ديمومة الذاكرة.

3. القراءة الهيرمينوطيقية / مستويات التأويل

نحو تأويلات ممكنة للنص بوضع فرضيات متعددة مدعومة بالأدلة اللفظية:

أ. التأويل العاطفي/ الوجداني:

القصيدة سرد لوجدان يعاني انفصالاً لكنه يُعيد صياغة الغياب باعتباره نمط معرفة: الفقد لم يحلّ؛ بل أعطى فهماً جديداً (ـ"لم يُطفئني الفقد بل أنار بصيرتي" — هذه العبارة ضمنية في قطعة أخرى لكن هنا نفس المنطق موجود: الترميم عبر الألم). الوجدان يتحرك بين شوق واستسلام وترميم.

ب. التأويل النفسي:

الزجاج المكسور، الشظايا، عدم القدرة على الرؤية أمام المرايا، تدلّ على اضطراب في الهوية أو انقسام الذات. الفعل الشعري هنا يقوم بدور العلاج: "أُرَمِّمُ شَظَايَا الأَيَّامِ" → الشعر كفعل سُدْوِي/ شفائي يعيد ترتيب شظايا الذاكرة.

ج. التأويل الديني/ الصوفي:

مخاطبة الروح والمآل نحو "مَلاذي" و"الرجاء" و"تغفو بين نبضي" يستحضر لغة دعائية/ مناجاة أقرب إلى خطاب العاشق في التصوف: الحبيب كمبدأ غيبي/ إلهي أو رمز للمعرفة العليا؛ الغياب لا يبطله بل يجعل الحبيب حاضراً في القلب كحضور خفي (حضور القلب/ الباطن). كذلك "الروح تناجيك" تقترب من صيغة الابتهال.

د. التأويل المعرفي/ الأنساق المعرفية:

النص يقيم أنساقاً معرفية: الذاكرة كخريطة، القصيدة كقافلة، الجسد كمرآة زجاجية، والعطر كعلامة حسية محفوظة بين السطور. هذه الأنساق تُظهِر كيف ينظّم الشاعر العالم داخلياً: عبر خرائط، مخطوطات، مرايا، وأنغام. قراءة هيرمينوطيقية تتتبّع الانتقال من صورة إلى أخرى كعملية تفسيرية داخل النص نفسه.

4. سيميائيات غريماس — مخطط الأدوار

نطبق هنا مخطط غريماس البسيط: (المرسل ـ الموضوع/ الموضوع ـ المستقبل/ المتلقي ـ الفاعل ـ المعاون ـ المعارض). نحاول استخلاص "الأدوار" داخل النص الشعري:

١- الفاعل: «أنا الشاعرة»/ الضمير المتكلم (أنا المتكلمة) — الذي يسعى/ يشتاق.

٢- المرسل: الذاكرة/ الحنين/ القصد الذاتي للشعر — الدافع الذي يرسله إلى الفاعل. أحياناً يمكن اعتبار "الماضي" أو "الذكرى" مرسلاً لأنه يوجّه الفاعل نحو البحث عن المعنى.

٣- المرسَل إليه/ المتلقي: الحبيب «أنتَ»/ أو الذات الممثلة بالحضور — الذي سيستقبل فعل الحنين أو القصيدة.

٤- الموضوع: الاتحاد/ إدراك الحضور/ الرؤية الذاتية؛ أو استرجاع الحب بكيانٍ ثابت. أحياناً الموضوع هو «الهوية المكتملة» أو «الراحة/ الملاذ».

٥- المعاون: القصيدة، الذاكرة، الألق، الحواس (العطر، اللحن) — أدوات الفاعل في السعي.

٦- المعارض: الغياب، الضياع، الشظايا، الزوابع النفسية — عناصر تعيّق الوصول.

نرسم منها محورين رئيسين: محور سعي (أنا —> موضوع: لقاء/ إدراك) ومحور عائق (غياب/ شظايا) يَحُولان دون الوصول بينما القصيدة/ الذاكرة تعملان كمساعدة. هذا المخطط يبيّن بنية الصراع الشعري: حركة مستمرة بين السعي والعتبة.

5. التحليل الأسلوبي المفصل (تفكيك الآليات):

أ. التواصيف البلاغية؛

١- التشخيص: النجوم "تبتسم خجلاً" تشخيص للطبيعة تردّ على حالة الشاعرة.

٢- التشبيه: "كأنك سمفونية عشق" — تنصيص على تداخل الموسيقى مع العاطفة.

٣- الاستعارة: "قوافل القصيدة" — تحويل القصيدة لفعالية اجتماعية/ حركية.

٤- التكرار: تكرار الحقول (الحنين، الخسارة) يقوّي الإيقاع العاطفي.

ب. النحو والصياغة:

التناوب بين الجمل الخبرية والإناجية يعطي النص ديناميكية: الأخبار تُثبت الحالة، والإنابة (يا، أنت) تُشعل اللهفة.

الاستعانة بأزمنة حالية ومستمرة ("تُعانقُ طيفك"، "تتساقط دموعي") تُبقي الحدث حاضراً ومتحركاً داخلياً.

ج. الإيقاع الداخلي والموسيقى:

رغم عدم اتّباع القصيدة لوزن تقليدي صارم، إلا أن هناك إيقاعات داخلية تعتمد على تكرار الأصوات (موسيقى حروفية) وتراكيب لعبارات موسيقية: "لحنِ الحبِّ... لحنُ الجَوَى". هذه «موسيقى معنوية» تعزز الانفعال.

6. البنى النفسية: الانكسار، الترميم، الذات المجروحة

الذات الشاعرة في النص تبدو مُنزوية ومقسّمة:

١- الانكسار: "أشبه زجاجًا مكسورًا" — دلالة على فقدان السلام الداخلي، انقسام في الإدراك.

٢- الترميم: "أُرَمِّمُ شَظَايَا الأَيَّامِ" — الشعر كفعل إصلاح، إرادة بصرية لترتيب العالم.

٣- الاستبقاء الحسي: العطر المنثور، النبض، الأوتار → علامات تجعل الذات مرتبطة بالجسم والحواس، لا تختزل في مجرد فكرة.

نستطيع أن نقرأ النص كـ"عملٌ من الذاكرة المتألمة" يقوم على تجميع الذات، وفيه الشعر عملية علاجية.

7. البعد الديني/ الصوفي:

الخطاب الحواري مع الحبيب يشابه مناجاة العاشق للمعشوق في التصوف:

"روحِي تُنَاجِيكَ" — اللغة الدينية للدعاء.

"مَلاذِي وَكُلَّ الرَّجَاءِ" — وصف الحبيب كمأوى ومرجع إيماني نفسي.

"تَغْفُو بين نَبضي" — فكرة الحضور المستور: أن الحبيب ليس غائباً كلياً بل حاضر في شكل غيبوي حاضر في الباطن.

هذا لا يعني بالضرورة أن الحبيب إلهي، لكن النص يشبّه حالة الحبّ بالابتهال، ويستعمل مفردات تعبّدية للتأكيد على قُدسية التجربة العاطفية.

8. المقارنة بين مستويات: انفعالي، تخييلي، عضوي، لغوي/ جمالي.

أ. المستوى الانفعالي:

النص مشحون بالشوق والوجع والحنين. المشاعر مركّزة ومكثفة، تترجم في صور مباشرة (دموع، نبض) وفي صور استعادية (خرائط، شظايا). انفعال الشاعرة يتجه نحو الاحتفاظ بالمحبوب داخلياً لا لتحطيمه أو نسبته للخارج.

ب. المستوى التخييلي (الخيالي):

الخيال شعري وغزير — يجمع بين الصور الممكنة (العطر، الزجاج) والرمزيات الكبرى (القافلة، الخريطة). الخيال يبني عالماً داخلياً ذا ترابط ايقوني: الذاكرة كخريطة والقصيدة كقافلة. هذا المستوى يُنتج حسّاً بطوليّاً صغيراً للصراع الداخلي.

ج. المستوى العضوي:

الصور الجسدية (نبض، قلب، روح) تجعل المشاعر متجسّدة — لا مجرد فكرة بل حالة عضوية تتألم وتستعيد. استخدام فعل الشرب/ الارتشاف "أرتشف صمتي ولوعتي" يحوّل الصمت إلى مادة تُشرب، أي ملموسة.

د. المستوى اللغوي والجمالي (الأعراف):

اللغة تميل إلى الفصاحة والرصانة، تضع النص في سُلّم جمالي عربي معاصر يمزج تقاليد الغزل العربي مع الحرية الشكلية للقصيدة الحديثة. الاعراف: مخاطبة مباشرة، ازدواج بين البساطة التصويرية وعمق الاستعارة، احترام للحدة الشعرية دون تطريب زائد.

9. لحظة الإدهاش (المفاجأة الجمالية):

في هذا النص، لحظة الإدهاش مركّزة في المقطع الذي يربط بين الخرائط والحنين، تقول:

"فأنتَ خَرَائِطُ العَالَمِ حِينَ أَشْتَاقُ،

وحِينَ يُدْرِكُنِي الضَّيَاعُ."

هنا يتحوّل الحبيب إلى «خريطة» — لا يكون مجرد فرد بل نظام يُنظِّم الوجود. الإدهاش في تحويل الدال من شخصٍ إلى هيكل معرفي منطقي (خريطة) يخلخل القارئ ويكشف عن قدرة النص على خلق معنى مركب: الحبيب ليس فقط موضوع عشق بل مركز معرفي يعيد ترتيب العالم. كذلك إدهاش قوي في "أحتضنك بمفردات الهوى" — مفردات تصبح أجساداً تُعانق.

10. قراءة سيميائية أكثر تفصيلاً (علامات، رموز، أكواد):

١- المرآة: في عنوان النص "صمت المرايا" وداخل النص "أقف أمام المرايا فلا أرانِي" — المرايا هنا علامة الهوية والاختلاف: المرايا تصمت أو تكذب أو تُخفي؛ وعنوان القصيدة يضع الصمت كآلية انعكاس مقلوبة: لا انعكاس بل مفارقة. المرايا بوصفها رمزاً للذات المفقودة، أو للهوية التي لا تجيب.

٢- الخريطة: رمز للمعرفة، النظام، الاتجاه. الشعور بالحنين يصبح نشاطًا معرفيًا.

٣- الزجاج المكسور: رمز للانقسام، الشفافية المشتتة، رؤية محطمة للواقع.

٤- العطر: علامة ذاكرة حسية تدل على استمرار الحضور رغم الغياب.

الأكواد هنا: الحسي (شمّ، صوت، بصر) يقابلها الكود النفسي (حنين، ألم). النص يستخدم الأكواد الحسية لإيصال الأكواد النفسية.

11. الأنساق المعرفية داخل النص:

النص يبني شبكة من المعارف، أي مفاهيم مبنيّة داخلياً:

1. الذاكرة الخريطة (الذاكرة كنسق معرفي تنظيمي).

2. اللغة القافلة (اللغة كجماعة وكمسيرة).

3. الحضور الطيف (الحضور كتمظهر غير مادي).

4. الذات، المرآة، الزجاج (هوية متكسّرة/ لامرئية).

قراءة هذه الأنساق تكشف أن الشاعرة لا تكتب فقط عن فقدان؛ بل عن طريقةٍ للمعرفة: كيف تُنظَّم الذكريات، كيف تكتب الذات نفسها على هيئة خريطة أو قافلة.

12. المقارنة مع أنماط شعرية (سياق وطني/ أدبي):

شعريّاً، النص ينتمِي إلى تقاليد الغزل المعاصر العربي الذي يمزج بين الحسية والرمزية والتأمل، لكن بصبغة انشائية معاصرة.

على المستوى الوطني (التونسي/ المنطقة المغاربية) — دون الدخول في سِيَر شخصية للكاتبة — يمكن القول أن النص ينسجم مع تيارات حديثة تهتم بالذات والذاكرة والوجود بعد الحريات الاجتماعية والتحولات السياسية: الشعراء المغاربيون غالباً ما يوظّفون رموز الغياب / الذاكرة لتجربة فردية تتماهى مع التاريخ. (ملاحظة منهجية: هذا ربط عام ثقافي لا يفترض نية سياسية صريحة في النص).

13. اقتراحات لقراءات بديلة ونقاط بحث لاحقة:

١- قراءة نسوية: كيف تُصوِّر المرأة الذاتية (أنا الشاعرة) داخل فضاء الذكر/ الغياب؟ هل هناك طابع تحرري في "أحتضنك بمفردات الهوى"؟

٢- قراءة بينية: ربط النص بنصوص غزلية/ تصوفية عربية كلاسيكية (ابن الفارض، جلال الدين الرومي) أو الحداثيين (نزار قباني، أدونيس) لبيان التوارث.

٣- تحليل سيميائي معمّق: بنية العلامات داخل كل مقطع، وكيف تتفاعل نظم العلامات عبر القصيدة.

٤- تحليل صوتي/ موسيقي: إخراج وزن داخلي، دراسة التكرارات الصوتية وتأثيرها على الإيقاع الدلالي.

14. خاتمة موجزة: خلاصات وتلخيص التحليل

1. الذات المتكلّمة في القصيدة هي فاعل مُجروح لكنه فعال: يحوّل الألم إلى فعل شعري (الترميم/ الكتابة).

2. الغياب ليس فراغاً بل مجالاً مُكتنزاً بعلامات: طيف، خريطة، عطر — الحبيب حاضر كشبكة من الإشارات.

3. الشعر هنا يتخذ دور المعاون العلاجي، واللغة قافلة تنقل التجربة وتبني الهوية.

4. المفردات المركزية (مرآة، زجاج، خريطة، لحن، عطر) تعمل كـ"نظام علامات" متكامل يحمل الدلالات النفسية والروحية.

5. لحظة الإدهاش تتجلّى حين يتحوّل الحبيب إلى "خريطة العالم" — أي حين يتعدّى النص حدود الغزل إلى بناء معرفي يغيّر تصور القارئ عن العلاقة بين الحبيب والعالم.

15. مادة ملحقة: مخطط غريماس مختصر (نصّياً).

١- الفاعل: «الـأنا الشاعرة» — تسعى للوصول/ للاتحاد.

٢- المرسل: الذاكرة/ الحنين/ الماضي — تحفّز السعي.

٣- المرسل إليه/ المتلقي: «أنتَ» (الحبيب) أو الذات المندمجة.

٤- الموضوع: إدراك الحضور/ الهوية/ الترميم.

٥-المعاون: القصيدة، الذاكرة، العطر، اللحن.

٦- المعارض: الغياب، الضياع، الشظايا.

***

بقلم: عماد خالد رحمة - برلين

..........................

صَمْتُ المَرَايَا

كُلُّ شَيْءٍ هُنَا صَامِتٌ،

إلَّا رُوحِي تُنَاجِيكَ...

تَتَسَلَّلُ الكَلِمَاتُ،

تُعَانِقُ طَيْفَكَ،

فَتَبْتَسِمُ النُّجُومُ خَجَلًا.

*

أَرْتَشِفُ صَمْتِي وَلَوْعَتِي،

أَبْحَثُ عَنْكَ فِي لَحْنِ الحُبِّ...

فَأَنْتَ خَرَائِطُ العَالَمِ حِينَ أَشْتَاقُ،

وحِينَ يُدْرِكُنِي الضَّيَاعُ.

*

سَأَكْتُبُكَ قَوَافِلَ القَصِيدَةِ،

مَلاَمِحُكَ حُرُوفُ الرَّوِيِّ،

وَصَوْتُكَ لَحْنُ الجَوَى.

*

يَا مَلاذِي وَكُلَّ الرَّجَاءِ،

أَلْتَقِيكَ بَيْنَ حُرُوفِي،

أَتَنَفَّسُ رَذَاذَ عِطْرِكَ

المَنْثُورَ بَيْنَ السُّطُورِ،

فَأَحْتَضِنُكَ بِمُفْرَدَاتِ الهَوَى.

*

لَمْ يَكُنْ حُبًّا، بَلْ أَلَمًا،

كَانَ سَرَابًا وَأَضْغَاثَ أَحْلَامٍ،

غَدَوْتُ مَثْقَلَةَ الوَجْدِ،

أُرَمِّمُ شَظَايَا الأَيَّامِ،

أَقِفُ أَمَامَ المَرَايَا،

فَلَا أَرَانِي.

*

أُشْبِهُ زُجَاجًا مَكْسُورًا،

يَرَى اليَقِينَ غَرِيبًا،

وَالأَقْدَارَ مُشَتَّتَةً.

*

وفي حَضْرَةِ الغِيَابِ،

مَا زِلْتَ تَغْفُو بَيْنَ نَبْضِي،

بَيْنَ ارْتِجَافِ قَلْبِي المُتَيَّمِ.

***

بهيجة البعطوط – تونس

 

تضم مجموعة " ِورْد الروح " الشعرية للشاعرة جيهان بن رابحي أهم مكونات وعناصر الشعر من إيقاع متنوع، وعناصر بلاغية ومجازية، وموضوعات مختلفة تؤثث متنها الشعري، وتضفي عليه جمالية في التعبير، وعمق في المعاني والدلالات مما يرهص بأواليات بداية شعرية تمتلك عناصر وأدوات إبداعية قمينة بتأسيس أفق شعري موسوم بالرقي والتطور.

ولعل ما يميز نصوص المجموعة نسجها على منوال إيقاعي يطبع جل أساليبها وتعابيرها وهو مل نلحظه من أول نص " مزامير الزهد " في روي الراء المشبعة: " ضاقت به الِفكَرُ/ أستتر / يعتكر / َصَدرُ/ ُيخْتصرُ/ تعتصر.../ أتزر إلى آخر نص في المجموعة " أسطورة الرغد " حيث يتحول الروي إلى دال مشبعة: " الرَّغَدِ / َيدِ.../ ِشدَدِ ". وآخر داخلي كما في: " أكمامها تفيأت / وطلعها تفلقت " ص 32، من قصيدة " حفنة رسائل " حيث تتجانس وتتجاوب التاء والفاء لخلق جرس داخلي يثري نمط الإيقاع وينوعه، وفي حرف الراء و القاف والتاء: " إن الزفرة خارقة / حارقة " ص 81، وما تشكله من لون موسيقي بإيقاع متجاوب. وآخر بلاغي جمالي كالجناس المتمثل في قول الشاعرة: " عذرا عذرا / يا مُقْلا" ص 81، وهو جناس تام تكرر أيضا في: " والآن الآن... " ص 87، وفي قولها: " تربو سنابل ملأى َحبّا، حُبّا... " ص 86، في حركة الفتحة في حَبّا الأولى وحُبّا الثانية التي توزعت بين النصب والضم، وما يسبغه ذلك على المعنى من سمات الاختلاف والتنوع. والتشبيه كمكون بلاغي: " كالقشة حيرى شاردة " ص 19، مقترن بالأداة ( الكاف )، ومجرد عنها في قولها: " هي النجوم ذئاب ناعمة " ص 41، بفتحه لآفاق متعددة المعاني والأبعاد جماليا ودلاليا. إلا إن ما يميز شعر المجموعة بشكل لافت هو طابعها المجازي، وما يرسمه من صور، وما يصوره من لوحات دالة ومعبرة تطالعنا منذ النص الأول " مزامير الزهد " التي ورد فيها: " أنا دم الصمت في الأسحار غازلة / أسرار بوحي، وحزني ملؤه عبر " ص 15، فصورة منادمة الصمت، وغزل الأسرار بخيوط الوحي تفتح وتنفتح على أفق يستدعي الغوص في امتداداته، والضرب في مجاهله عدة معرفية وجمالية شاملة، وقولها: " تلهث في عري " ص57، حيث تختزل شدة الجهد والتعب في إهاب العري والانكشاف، وما يحملانه من أبعاد ومعاني، وما يزخران به من رموز وإشارات تحتاج إلى مقدرات جمة، وأدوات قراءة واستقراء ِعدّة لتفكيك ترابطاتها، وتحديد طبيعة علاقاتها الإبداعية، وقولها أيضا: " من كبة دهشتنا / ينسل سؤال... " ص 80، مع طرح نوع ما يجمع بين الدهشة والسؤال من تجاذب وتنابذ يحيط بكليهما و يجلل كنههما وامتداداتهما ؛ وكيف تقود الدهشة المفعمة بهالات الإبهار إلى اجتراح سؤال منسل ومتسلل من زحمة الارتباك والقلق والحيرة. وكيف يقدم المنديل كهدية فوق بساط حنين: " منديل مهدى / فوق بساط حنين " ص82، فيغدو للحنين بساط تقدم فوق جنباته الهدية، وينزاح به عن فراش تطأه الأقدام إلى مسرح لمنح الهدايا، ويتم رسم صورة للفراغ الذي تصير له سقوف تملأ فراغاتها: " وملأت سقوف فراغك... " ص 85، وما تزخر به السقوف من دلالات رمزية كتوفير الحماية ودرء ما يمكن أن ينجم من انكشاف وانفضاح. إلى غيرها من صور تروم اختراق نمطية الوصف المعهودة بإرساء إواليات تعبير وتصوير ترهص باجتراح أشكال مختلفة ومنزاحة والتي لا تسمح حدود هذه القراءة بمتابعة جلها.

ويقودنا الجانب المجازي وما ينتجه من صور إلى الوقوف عند بعض التعابير التي تكرس وتجسد نمط الاختلاف داخل متن المجموعة كما في قول الشاعرة: " أتجرع نفسي ألفظها " ص 19، وما يعكسه ذلك مما تمور به النفس من أهواء ومشاعر مؤلمة وممضة تحتم تجرعها ولَفْظها بَصْقها لعدم استساغتها واستمرائها في استعمال تعبيري يعكس ذلك لكن بأسلوب تصويري ينأى عن الشائع والمألوف. وملْأْ الكأس من نهر الفراغ: " أتحسس الكأس أملأها / من نهر فراغ " ص 20، فكيف للكأس أن ُتملأ من نهر فراغ ؟! وخرق واختراق الصمت الذي يخنق البوح: " أخرق صمتا / يخنق بوحي " ص56، وللصمت أن يخنق البوح ؟! والقدرة على صنع حُبّ يُغْزَل من صوف: " وصنعتك حبا / أغزله من صوف..." ص 89، وكلها تعابير صيغت بأساليب تختلف عن الشائع والمُتّبَع. وتضمنت النصوص كذلك استيحاءات متنوعة المرجعيات ؛ من الموروث الشعري القديم كما ورد في: " دعك، ودعك من اللوم " ص 52، على نهج ما ورد في قول الشعر العباسي أبي نواس: " دع عنك لومي فإن اللوم إغراء / وداوني بالتي كانت هي الداء " في موقفه عمن يلومه ويعاتبه على شرب الخمر مؤكدا بأن ذلك يضاعف من رغبته في الإقبال على معاقرتها والعَبِّ من كؤوسها لأنها تعالجه من وصب كل هم وكدر، وقولها أيضا: " لو صدقت/ من عرقوب " ص88، في إشارة إلى عرقوب كشخص يضرب به المثل، في التراث العربي، في إخلاف المواعيد، والإخلال بالوعود كما ورد في قصيدة " البردة " الشهيرة لكعب بن زهير: " كانت مواعيد عرقوب لها مثلا / وما مواعيدها إلا الأباطيل ". ومن النص القرآني في مثل قولها: " ما مت ما قتلت / شبهت لي منيتي " ص 32، حيث ورد في سورة "النساء" عن عيسى عليه السلام من قوله تعالى: " وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم"، وعن قصة حواء التي أكلت من الشجرة المحرمة كما ورد في سورة " طه ": " فأكلا منها فبدت لهما سوءاتهما... " والتي كانت سببا في خروج آدم وحواء من الجنة، وهو ما حورته الشاعرة بإيحاء وترميز: " وأنا في حلقك حواء / أنهش تفاحة حتفي " ص 56، وذكر مدى صبر أيوب، وتحمله لآلام المرض ومضاعفاته: " في حرقة من صبر أيوب " ص85، كما ورد ذكر العديد من الموضوعات،توزعت بين ما هو ذاتي كالحيرة الداخلية، حيث تعبر عن ذلك: " لا حيلة لي ولا مأوى ألوذ به / ضاقت بي الأرض، زاد اليأس يعتكر " ص 13، فلا تجد غير الله ملاذا آمنا يمنحها الرأفة والرحمة والطمأنينة: " حتى اهتديت إلى نجواك سابحة / أنت الملاذ، وفيك الخير يختصر " ص13، وينقيها من الذنوب،ويشفيها من المعاصي: " يا رب داو فإن الداء أثقلني / في الذنب أرسف والرمضاء تعتصر " ص 14، فهو مصدر الغوث والرحمة: " أنت المغيث إذا حلت بنا غِيَر / أنت الرحيم بنا بالعفو تقتدر " ص16، وما هو موضوعي قومي كالقضية الفلسطينية، وما تعيشه من مآسي يقترفها العدو الصهيوني الغاشم، حيث تقول: " فالأَقصى... مُقصى / والحائط فيه حزين... بدلتم بمقابر كل حدائقها / فأرى الشعب مهين " ص 79، الذي يمعن في التنكيل بالمواطنين الفلسطينيين بلا رأفة ولا هوادة متنكرا لكل المواثيق الحقوقية والإنسانية: " وفلسطين / تجر جنائزها " ص80، ووطني في تصوير ما يعج به المجتمع من اختلالات من قبيل أساليب القمع التي تغتال الأحلام، وتجهز على الطموحات: " بالبطش تعلو أيادي القمع في فزع / تَبَّتْ أيادي تُميت الحلم في بلدي " ص94، وتعليق كل المرامي المشروعة، والأهداف المرجوة على حبال التسويف والمماطلة مع استخدام كل أنواع الترهيب، وأساليب القمع والتضييق: " راهنت في المجد بالأحرار من وطني / ملوا من القهر والتسويف في كبد " ص 95. مما يحول دون تحقيق الأماني المنشودة، والأماني المأمولة.

لنخلص أخيرا إلى أن مجموعة " ِورْد الروح " الشعرية تتكون من عناصر وأدوات إيقاعية وبلاغية تمنحها ميزات تستجيب لشروط الإبداع الأساسية انسجاما مع روحه الخالية من أية شوائب تمس أصل جوهره، وعمق كنهه، وهو ما يستشعره ويلمسه القارئ للمجموعة الموسومة نصوصها بجمالية التعبير، وتنوع الموضوعات، وانسيابية الإيقاع، وبعد المعاني والدلالات مما يحمل ويثبت أكثر من دليل على امتلاك الشاعرة لمقدرات بارزة على الخلق والابتكار جديرة بالرقي بشعرها إلى مراتب أفضل، وتبويئها مقامات أسمى وأرفع.

***

عبد النبي بزاز

................

وِرْد الروح (شعر) جيهان بن رابحي، مطبعة بلال، فاس 2025.

الحسن بن هانئ المَعروف بأبي نُوَاس (145 - 198 ه / 762- 813 م)، شاعر عربي مِنْ أشهرِ شُعَراءِ العصرِ العَبَّاسِي، وَمِنْ كِبار شُعَراءِ الثَّورةِ التجديدية. أحدثَ انقلابًا في مَضمونِ الشِّعْرِ العربيِّ وأُسلوبِه، فَقَدْ تجاوزَ الأغراضَ التقليدية كالمَدْحِ والفَخْرِ، واتَّجَهَ إلى مَواضيع جديدة تُعبِّر عَن التَّرَفِ والتَّحَرُّرِ. وكانَ وَصْفُ الخَمْرِ أبرزَ هذه المواضيع التي ارتبطَ اسْمُه بِها، وَقَدْ قَدَّمَ رُؤيةً فِكريةً مُتكاملة جعلتْ مِنَ الخمر رمزًا للحياةِ والحُرِّيةِ والتَّمَرُّد.

تَجَلَّى أُسلوبُه الفَنِّي في طريقته في رَسْمِ صُورةِ الخَمْر، إذ اتَّسَمَتْ بالدِّقَّةِ والتفصيلِ والحيوية، فَقَد استعارَ مِنْ مُعْجَمِ الضَّوْءِ واللونِ والحركةِ مَا يُضْفي على الصُّورةِ طَابَعًا بَصَريًّا يَكَاد يُحوِّل المَشْهَدَ إلى لَوْحَةٍ فَنِّية، كما لجأ إلى الأساليبِ البَلاغيَّة مِنْ تَشْبيهٍ واستعارةٍ وكِناية، لِيَمنحَ الخَمْرَ صِفَاتٍ إنسانيَّة تَجْعلها شَخصيةً حَيَّةً تَتفاعل معَ الشاعر. ولا يَكْتفي بوصفِ مَظْهَرِها أوْ طَعْمِها، بَلْ يَربِط بَيْنَ لَوْنِها ورائحتها وتأثيرِها النَّفْسِيِّ، فَيَصْنَع لَوْحَةً حِسِّية مُتكاملة تَتجاوز الماديِّ إلى الجَمَاليِّ.

تُمثِّل الخَمْرُ في شِعْرِهِ رمزًا للحَياةِ والمُتعةِ، والتَّمَرُّدِ على القِيَمِ التقليدية، والتَّحَرُّرِ مِنَ القُيودِ الاجتماعيةِ والدِّينية، فَهِيَ لَيْسَتْ مُجرَّد شَراب، بَلْ وسيلة للتَّحَرُّرِ مِنْ سُلطةِ الدِّينِ والمُجتمعِ، والهُروبِ مِنَ الواقعِ القاسي، والتقاليدِ الصارمةِ التي كَبَّلَت الإنسانَ، وتَجسيد لفلسفةِ اللذةِ والاحتفاءِ بالجسدِ واللحظةِ الآنِيَّة.

بِهَذا المَعنى، تَتَحَوَّلُ الخَمْرُ إلى رمزٍ للبحثِ عَن الذاتِ، والتصالحِ معَ الرَّغَبَاتِ الإنسانية المَكبوتة. وَتَجْرِبَتُهُ مَعَ الخَمْرِ حِسِّية في ظاهرِها، لكنَّها تَنْطوي على نَزْعة فِكرية تُمجِّد الحُرِّيةَ الفردية، وتَحْتفي بالإنسانِ في طَبيعته الأوَّلِيَّةِ البِدَائية الغريزية الشَّهْوانية. وَالخَمْرُ لَدَيْهِ رَمْزٌ دُنيوي، مُرتبط بالمُتعةِ والمَجالسِ واللهوِ والعبثِ، وإنْ كانتْ تُخْفي وَراءها احتجاجًا على النِّفَاقِ الاجتماعيِّ والقُيودِ الأخلاقية.

وَتَعْكِسُ قصائدُه صِرَاعًا داخليًّا بَيْنَ اللذةِ والذَّنْبِ، وَبَيْنَ النَّزْعةِ الحِسِّيةِ والنَّزْعةِ الأخلاقية، وَهُوَ مَا يُضْفي على تَجرِبته عُمْقًا إنسانيًّا يَتجاوز حُدودَ اللهوِ والمُجُونِ الظاهريِّ.

لَمْ تَكُن الخَمْرُ عِندَه مُجرَّد شَرابٍ يَسْقي الأجسامَ، بَلْ كانتْ رمزًا فلسفيًّا يَعكِس مَوْقِفَه مِنَ الحَياةِ والوُجودِ والحُرِّية. وَهُوَ يَرى في الخَمْرِ خَلاصًا مِنَ الزَّيْفِ والنِّفَاقِ، وعَوْدَةً إلى الصِّدْقِ الطبيعيِّ في الإنسانِ. وَمِنْ خِلال هذا الرَّمْزِ، أعلنَ تَمَرُّدَه على الزُّهْدِ المُصْطَنَعِ، وَدَعَا إلى فَلسفةٍ جديدة تَحْتفي بالحياةِ ولَذَّاتِها، وَتُؤْمِن بأنَّ المُتعةَ الصادقةَ وَجْهٌ آخَر للحقيقة.

والشاعرُ الفرنسيُّ شارل بودلير (1821 م - 1867 م) مِنْ أبرزِ شُعراءِ القرنِ التاسع عَشَر في فرنسا، وَيُعْتَبَرُ رائد الحَداثة الشِّعْرية الأُوروبية. وَقَدْ شَكَّلَت الخَمْرُ في تَجرِبته الشِّعْريةِ رمزًا مَركزيًّا يُجسِّد الصِّراعَ بَيْنَ الجسدِ والرُّوحِ، بَيْنَ الواقعِ والمِثال، فَهِيَ عِنده لَيْسَتْ مُجرَّد شَراب، بَلْ حالة وُجودية يَسْعى مِنْ خِلالِها إلى تَجاوزِ بُؤْسِ الواقعِ، والارتقاءِ إلى عَالَمٍ مِنَ الجَمالِ والنَّشْوةِ الفَنِّية.

تَتَّخِذُ الخَمْرُ عِندَه بُعْدًا رمزيًّا عميقًا، فَهِيَ تُمثِّل وَسيلةً للتَّحَرُّرِ مِنْ قُيودِ الواقعِ الماديِّ، والانفلاتِ مِنْ ثِقَلِ الزَّمَنِ والمَلَلِ، فَهِيَ لَيْسَتْ مُجرَّد أداة للسُّكْرِ أو المُتعةِ الحِسِّية، بَلْ هِيَ رمزٌ للتَّحليقِ في فَضاءِ الإبداعِ، والانعتاقِ مِنَ الواقعِ المُبْتَذَلِ نَحْوَ عَالَمٍ أكثر صَفَاءً وَنَقَاءً. كَما تَرتبط الخَمْرُ في شِعْرِه بِفِكرةِ التَّمَرُّدِ على النِّظامِ الاجتماعيِّ والأخلاقيِّ، إذْ يَرى فيها وسيلةً للانفصالِ عَن المُجتمعِ البُرْجُوازيِّ الذي يَرفُض قِيَمَه المادية والسَّطْحية.

في فلسفته الشِّعْريةِ، تُمثِّل الخَمْرُ طريقًا نَحْوَ المُطْلَقِ الفَنِّي والرُّوحي، فَهُوَ يَرى أنَّ الإنسان يعيش في عَالَمٍ ناقصٍ وَمَلِيء بالبُؤْسِ والشَّقَاءِ والتَّعَاسةِ، وأنَّ الخَمْرَ تَمْنحه لَحْظَةً مُؤقَّتة مِنَ الكَمالِ والانسجامِ معَ الكَوْن. إنَّها رِحْلة آنِيَّة نَحْوَ السُّمُوِّ، يَستطيع الشاعرُ مِنْ خِلالِها أنْ يَقْترب مِنَ الجَمالِ المِثاليِّ الذي لا يَبْلُغُه في الواقع. وهَكذا، تَتحوَّل الخَمْرُ إلى رمزٍ للفَنِّ ذاتِه، لأنَّهما يَمْنحان الإنسانَ لَحْظةً مِنَ الخَلاصِ مِنْ عُبوديَّةِ الواقعِ.

يَرتبط وَصْفُ الخَمْرِ عِندَه بحالته النَّفْسِيَّةِ المُضْطَرِبَة، فَهُوَ يَعيشُ صِراعًا دائمًا بَيْنَ رَغْبته في الصُّعودِ الرُّوحيِّ وَسُقوطِهِ في عَبَثِ الواقع، وتُمثِّل الخَمْرُ بالنِّسْبَةِ إلَيْه حَلًّا مُؤقَّتًا للقلقِ الوُجوديِّ الذي يُعانيه، إذْ تَمْنحه شُعورًا زائفًا بالطُّمَأنينة، لكنَّها في الوَقْتِ نَفْسِه تُذكِّره بِزَيْفِ تِلْك الطُّمَأنينةِ وَزَوالِها السريع.

وَمِنْ هَذا المَنظورِ، تَظهَر الخَمْرُ كَمِرْآةٍ لِتَمَزُّقِ ذاتِ الشاعرِ بَيْنَ الحُلْمِ والهاوية، بَيْنَ النَّشْوَةِ واليأسِ، في صُورةٍ فَنِّية تُعبِّر عَن التناقضِ الإنسانيِّ العميق. وَهُوَ يَرى في الخَمْرِ تَجْسيدًا لحالةِ الشاعرِ ذَاتِه، فَكَمَا يَسْكَر الإنسانُ بالخَمْرِ لِيَهْرُبَ مِنْ واقعِه، يَسْكَر الشاعرُ بالشِّعْرِ لِيَتَحَرَّرَ مِنَ العَالَمِ العاديِّ، وَيَصْنَعَ عَالَمَه الخاص.

تُشكِّل الخَمْرُ في الشِّعْرِ العربيِّ والغَربيِّ رمزًا مُركَّبًا تَتداخل فيه اللذةُ والتَّمَرُّدُ والبحثُ عَن الخَلاص. وإذا كانَ أبو نُوَاس جَعَلَ مِنَ الخَمْرِ أداةً للتَّمَرُّدِ على القِيَمِ الدِّينية والاجتماعيةِ في العَصْرِ العَبَّاسِيِّ، فإنَّ بودلير جَعَلَ مِنها وسيلةً للهُروبِ مِنْ عَبثيةِ الواقعِ والاغترابِ الوُجوديِّ.

رَغْمَ المَسافةِ الزمنيةِ والثقافية، يَشترك أبو نُوَاس وبودلير في جَعْلِ الخَمْرِ أداةً للحُرِّيةِ والتَّحَرُّرِ، الأوَّل مِنْ سُلْطَةِ الدِّينِ والمُجتمعِ، والثاني مِنْ ثِقَلِ الوُجودِ والزمنِ. لكنَّ الاختلافَ الجَوهريَّ أنَّ خَمْرَ أبي نُوَاس احتفالٌ بالحَياة، بَيْنَما خَمْر بودلير هُروب مِنَ الحَياة.

***

إبراهيم أبو عواد / كاتب من الأردن

يُعد الشعر المعاصر مساحة للتعبير عن تجربة الذات الإنسانية في مواجهة الزمن، الغياب، الألم، والحنين.

تقدم الشاعرة هيلانة عطالله في قصيدتها "ضوءٌ لا يشبه الفجر" نموذجاً للشعر العربي الحديث الذي يمزج بين التجربة الذاتية العاطفية، الرمز النفسي، والبعد الروحي، ليكشف عن عالم داخلي غني بالنبض الشعوري والرمزي.

تهدف هذه الدراسة إلى تحليل النص بطريقة موسعة، باستخدام:

1. المنهج الهيرمينوطيقي التأويلي لفهم المعاني الضمنية للنص.

2. المنهج الأسلوبي والرمزي لدراسة الصور والاستعارات والتكرارات.

3. المنهج السيميائي وفق غريماس لاستخراج أدوار الفاعل، المفعول، المرسل، المتلقي.

4. تحليل البنى النفسية والدينية والجمالية.

5. مقارنة النص على المستويات الانفعالية، التخيلية، العضوية، واللغوية.

الفصل الأول: التحليل الهيرمينوطيقي التأويلي

1. الليل والضوء:

تبدأ القصيدة بـ: "في عمق الليل، يلوح ضوءٌ خفيف"

١- الليل: يمثل الانعزال النفسي والمرحلة التأملية التي يعيشها الفرد.

٢- الضوء: رمز الأمل، الذاكرة، أثر التجربة الإنسانية السابقة.

٣- التباين بين الليل والضوء يعكس التوتر الشعوري بين الغياب والوجود، الظلام والنور.

2. أثر الماضي' تقول الشاعرة هيلانة عطاالله:

"ربما هو أثر يدٍ مرّت على القلب يومًا ثم مضت"

يشير هذا النص إلى الذاكرة المتجسدة في الجسد والنفس.

يمثل الماضي كعنصر فعال في تشكيل الوعي الحالي، رغم مرور الزمن.

3. العودة كتصالح نفسي،تقول :

"العودة ليست طريقاً نُسافر فيه... وإنما أن نهدأ في حضن عزلتنا"

العودة هنا ليست مكاناً، بل حالة نفسية ومعرفية للسلام الداخلي وإعادة بناء الذات.

يظهر تصالح الشاعرة هيلانة عطا الله وجعها دون استسلام للألم.

الفصل الثاني: التحليل الأسلوبي والرمزي:

1. الرموز البارزة:

الرمز الدلالة.

١- الضوء الأمل، الذاكرة، أثر التجربة الإنسانية

٢- الليل الغموض، الانعزال، التأمل

العودة السلام النفسي، تصالح الذات

الهواء التجدد، استعادة الحيوية بعد غياب

2. الأسلوبية:

١- تراكيب قصيرة: تخلق إيقاعًا داخليًا متدرجًا.

٢- التكرار في كلمة "العودة": يبرز محور النص النفسي والمعرفي.

٣- الصور مكثفة: تمزج بين الرمز والواقع بطريقة تشعر القارئ بالسكينة والحنين.

الفصل الثالث: التحليل السيميائي وفق غريماس

1. أدوار الشخصيات داخل النص

الدور النص الوظيفة الدلالية:

١- الفاعل الذات/النفس منسج التجربة الداخلية

٢- المفعول القلب/الروح استقبال أثر الماضي والعاطفة

٣- المرسل الشاعرة/الوعي الراوي نقل التجربة والتأمل للقارئ

المتلقي القارئ/الوعي المشترك المشاركة في التجربة الشعورية

الأداة اللغة، الصور، الضوء، الليل نقل المعنى النفسي والرمزي

٤- الهدف إعادة التوازن النفسي، إدراك الذات الغاية الإنسانية والروحية للنص.

2. تحليل الوظائف السيميائية:

١- الإرسال والاستقبال: النص يرسل مشاعر وتأملات الذات للقارئ، وتستقبل النفس القارئ تجربة التأمل والتصالح.

٢- المفعولية: الصور الرمزية تخلق انعكاساً وجدانياً لدى القارئ.

الفصل الرابع: البنى النفسية والدينية

١- البنى النفسية: النص يكشف عن صراع داخلي هادئ، ويبرز تجربة الألم والحنين والتصالح النفسي.

٢- البنى الدينية والروحية، تقول:

"الأرواح لا تموت من الانتظار" → تأمل في البقاء واستمرارية الروح.

العودة: رمزية صوفية للتأمل والسلام الداخلي.

النص يعكس وعياً نفسياً وروحياً متوازناً بين الفقد والاستمرارية.

الفصل الخامس: المستوى الجمالي والوطني.

جمالية النص تكمن في:

1. الصور المكثفة واللغة المدروسة بعناية.

2. الإيقاع النفسي الداخلي الذي يخلق انسيابًا شعوريًا متدرجًا.

البعد الوطني/الإنساني: النص يعكس تجربة الإنسان العربي في مواجهة الغياب، الألم، انتظار الذات.

الفصل السادس: مقارنة المستويات التحليلية

المستوى التحليل:

١- الانفعالي إثارة الحنين والسكينة، التصالح مع النفس

٢- التخييلي بناء فضاء شعوري متخيّل بين الليل والضوء

٣- العضوي استجابات جسدية للقارئ (تنفس، إحساس بالهدوء)

اللغوي تراكيب مختصرة، تكرار مفتاحي، أسلوب مكثف ومتوازن

الفصل السابع: تفسير المفردات المفتاحية

المفردة التفسير:

١-الضوء أثر التجربة الإنسانية، الأمل، الذاكرة

٢-الليل الانعزال النفسي، الغموض، التأمل

٣-العودة السلام الداخلي، تصالح الذات، إدراك الذات

٤-الهواء التجدد، استعادة الحيوية بعد الغياب

الفصل الثامن: قراءة في الأنساق المعرفية

النص يربط بين الخبرة الفردية والوعي الجمعي.

تحويل الألم والغياب إلى تجربة معرفية وجمالية.

الصور الرمزية (الضوء، الليل، العودة) تعمل كمؤشرات لتفعيل الوعي الذاتي والوجدان الجمعي.

الفصل التاسع: الخاتمة

قصيدة "ضوءٌ لا يشبه الفجر" للشاعرة السورية هيلانة عطا الله تمثل نموذجاً للشعر العربي المعاصر الذي يدمج بين:

1. التأمل النفسي العميق.

2. الرمزية الجمالية والروحية.

3. البنية السيميائية المتكاملة وفق غريماس.

4. اللغة المكثفة والمدروسة بعناية.

القصيدة تفتح آفاقًا معرفية وانفعالية، وتعيد بناء الذات من خلال التأمل والذاكرة والوعي بالوجع والعودة إلى السلام الداخلي، لتكون شهادة على قدرة الشعر على الجمع بين الجمال والمعنى، الذات والعالم، الألم والأمل.

***

بقلم: عماد خالد رحمة - برلين

........................

هيلانة عطا الله

ضوءٌ لا يشبه الفجر

في عمقِ الليل،

يلوحُ ضوءٌ خفيف.

لا يشبهُ الفجر،

ولا مصابيحَ الطرقات.

ضوءٌ بلا إعلان،

يمرُّ من ناحيةٍ

نسينا أنّ للنفس بابًا إليها.

ربما هو أثرُ يدٍ

مرّت على القلبِ يومًا

ثم مضت،

وظلَّ القلبُ

يحتفظُ بحرارتِها .

نتأملُهُ بسكينةٍ كنا قد نسيناها

فنتنفّسُ

كما لو أن الهواءَ كان مهاجراً،

وها هو يعود.

الأرواحُ لا تموتُ من الانتظار.

هي فقط

تنكمش قليلاً

لتتّسع حين يحين وقتها.

والعودة

ليست طريقًا نُسافرُ فيه،

ولا بابًا نطرقه،

ولا يدًا نمسكُها خوفًا من الفقد.

العودة

أن نهدأ

في حضنِ عزلتِنا ونقول:

ها أنا قد عرفتُ الوجعَ

لكنه لم يكسرْني،

لم أرحل .

كلُّ ما في الأمر

أنني

كنتُ أتذكّر الطريق.

 

لا زلت أأكد بأن النقد الأدبي يجب أن لا يقتصر على الأدباء المشهورين فحسب، بل يجب أن يتجه إلى تلك الأقلام الشابة التي تبحث لها عن موقف أو محط قدم في الساحة الأدبيّة، وهنا يأتي دور الناقد الأدبي العضوي في تسليط الضوء على مثل هؤلاء، فهم في المحصلة سر استمراريّة الأدب ونسغ الحياة فيه. والشاعرة "سهام السعيد" هي من هؤلاء الأدباء الشباب الذين يبحثون عن بقعة ضوء لإبداعاتهم.

الشاعرة "سهام" التي تشبعت بحس وطني عال، وعشق لوطنها، تجذر في أعماق قلبها ونسيج عواطفها، وراح يشكل حيزاً واسعاّ من وعيها وثقافتها، تعاتب وطنها سوريا الذي كانت تجد فيه قبل الأزمة المأساة التي حلت به في العقدين الآخرين الأمن والاستقرار ودفء الروح وآمل المستقبل... قائلة له بعد أن حل به الدمار وعمّ الفساد وانتشر الفقر والجوع والتشرد والهجرة:

لا... أنت لم تعد وطني الذي ترعرعت فيه ووجدت ذاتي وانتمائي وأمني واستقراري، لأنك لم تستطع الحفاظ على عهدك بأن تكون وطن الأمن والأمان، والاستقرار ولم تعد تستطيع أن تأمن لنا لقمة العيش، وبالتالي أنت لم تعد قدري الذي عليّ أن أنفذ طواعية ما تأمرني به.. لأنك تركت قلبي سائباَ يعصره ألم ما حل به، ولم تعد قادراً أن تسيجه بأسوار الحب والدفء والحنان.

لا.. أنت لست وطناً

لأنك

لم تحسن العزف

على أوتاري

لأنك لست قدراً

تلزمني به أقداري...

لست وطناّ لأنك

لم تقيّد نبض قلبي

بالأسوار.

نعم أنت اليوم وطن الخراب والدمار والفساد. أما وطني الذي عرفته وترعرعت فيه، فهو شلال من العشق يرفض علي بالضرورة أن أحبه وأضحي من أجله، ها أنت اليوم تبكيني، وتمزق كل أحلامي وآمالي.. ومع كل ذلك لا أستطيع التخلي عنك رغم كل ما حل بي من محن.. تعال وكن كطائر الفينيق... وعلمني من جديد كيف أعشق أرضك، وكيف أقاوم بالبارود والنار من نالوا من هيبتك وكرامتك، علمني كيف أكون جنديّاً ثائرا يجيد الدفاع عنك وعني معاً. تقول:

أنا وطني شلال عشق

يُلزمني الحب بالإجبار

أنا وطني أبكاني عليه

ومزق خيمة أمطاري

علمني كيف أعشق أرضه

دربني كيف أسحق من وقف ضده

بالبارود وبالنار...

جبار وطني جندني

وزرعني في صف

الثوار...

نعم ..علمني يا وطني كيف أحب، وكيف أغار عليك من طعنات الغدر وأواجه كل أساطيل قوى الشر التي راحت تحاصرك في البر والبحر. تخاطبه:

أنا وطني

علمني كيف أحب

وكيف أغار عليه

من طعنات الغدار...

أسطولاً أصبح يأسرني

يملك شطي وبحاري.

البنية الجماليّة والفنيّة في القصيدة:

الصورة في القصيدة:

يعود الاهتمام بالصورة بوصفها أداة الشاعر التي تحكم شخصيته الفنيّة في أداء التعبير من جهة، ومن جهة أخرى تعد مقياساً فنيّاً وشخصيّاً للمبدع الذي أنتجها. فهي المادة التي تتركب من اللغة بدلالاتها اللغويّة والموسيقيّة والتخيليّة، التي تجمع بين عناصر التشبيه و الاستعارة والكناية والتمثيل و حسن التعليل.

لقد شكلت الصورة عنصرًا بارزًا ومهمًّا في هذا النص الشعري، إذ لجأت الأديبة "سهام سعيد" إلى تغليف أفكار النص وتثبيتها في نفس وذهنية القارئ بالصور إلى جانب ارتباط اللفظ المعنى، وهذا ما أيقظ العواطف، في لغتها التصويريّة. لقد كانت الشاعرة أكثر قدرة على التعبير في بوحها من التقرير. وبالتالي كلما كان الأدب تعبيريًّا كانت الصور هي التي تتشكل في ذهن القارئ. أما حين يكون الأدب تقريريًّا فإن الأفكار تطغى على الصور.

لقد جاءت الصورة عندها جزئيّة ومباشرة ومشبعة بمفردات البلاغة من تشبيه واستعارة وكناية ومجاز: (لم تحسن العزف على أوتاري)، (لم تقيّد نبض قلبي بالأسوار)، (أنا وطني شلال عشق)، (ومزق خيمة امطاري).

ولكون الشاعرة استطاعت أن تجعل من تراسل صورها حكاية أو اقصوصة عتاب ورغبة في النهوض والتحدي، فقد أَلَفَتْ هذه الصور الجزئيّة مع بعضها نسيجاً حيّاً من الدلالات المتكاملة والمترابطة ليس مع بعضها فحسب، بل ومع مكونات وخلجات الشاعرة النفسيّة والفكريّة أيضاً لتصبح في الغالب صوراً جديدةً من نسج جديد، يتراءى فيها عالم الشاعرة الداخلي وارتباطه بعالمها الخارجي، الذي تدفقت عواطفها وأحاسيسها نحوه دون حساب من أجل الارتقاء به وتجاوز محنته.

هذا وقد تماها الخيال في قصيدة الشاعرة بالصورة والمجاز. فالخيال المعتمد على أساليب البيان من استعارة ومجاز وتشبيه، يفسِّر مدى ارتباط هذا الخيال بعواطف المتلقي والتأثير فيها من جهة، وبأسباب تجلي هذا الجمال وقدرته على إبراز المعاني في القصيدة وتوضيحها من جهة ثانية.. وبالتالي مدى قرب هذا الجمال ذاته وسرعة إدراكه من قبل المتلقي من جهة ثالثة.

النغم والايقاع في القصيدة:

لقد تمرد الشاعر المعاصر وخاصة شاعر قصيدة (النثر) على الوزن والقافية، ولجأ إلى التنويع في الصوت والنغم، وأصبح الاهتمام بالإيقاع الداخلي يزداد، لكونه أشمل من الوزن والقافيّة ويتعدى في الدلالة. وقد تطور الإيقاع فانتقل من نظام الصوت المتشابه، ومن نظام الوزن الصارم في الشعر إلى إيقاع جديد متحرر متسامح مع نفسه، ومن ثمة صار الصوت يؤدي دوراً بالغ الأهميّة في التأثير على المتلقي بما يحمل من خصوصيات في التنغيم والنبر والجهر والهمس عند الالقاء من جهة، ثم اعتماد الشاعر الحديث على الصورة بوصفها مطلباً يُفضي إلى موسيقى جديدة تُنغمها مشاعره وانفعالاته المرتبطة بالموقف من جهة ثانيّة، وهذا ما أعطى قيمة أكبر للإيقاع النفسي، وللنسق الكلامي، لا لصورة الوزن العروضي للبيت الشعري.

إن كل هذه المعطيات التي تمثله قصيدة النثر الحديثة نجدها في قصيدة " غربة الأوطان" للشاعرة "سهام السعيد. لقد استطاعت عبر كل الصور الحسيّة والتخيليّة التي وظفتها في النص الشعري، أن تمنح المتلقي من خلال ترابطها، وعمق دلالاتها وسهولة لغتها، وترابط الدال والمدلول فيها أن يحقق رتماً موسيقياً داخلياً لنصها كاد أن يعوض ما فقده النص من وزن وقافية. تقول الشاعرة: (أنا وطني شلال عشق .. يُلزمني الحب بالإجبار...أنا وطني أبكاني عليه ومزق خيمة امطاري.. علمني كيف أعشق أرضه...دربني كيف أسحق ضده بالبارود وبالنار...). فبهذه الانسيابيّة في تلاحق الصور بكل جماليتها ومصداقيتها، يشعر المتلقي بشفافيّة الرتم الموسيقي في هذه الصور وما تحمله من مواقف تهز وتحرك خوالج الروح والجسد معا. لقد استطاعت الشاعرة عبر كل الصور الحسيّة والتخيليّة وقافية (السجع) التي وظفتها في النص الشعري، أن تمنح المتلقي من خلال ترابطها، وعمق دلالاتها وجماليّة لغتها، وترابط الدال والمدلول فيها، أن تحقق رتماً موسيقياً داخلياً لنصها كاد أن يعوض ما فقده النص من وزن، أو موسيقى خارجيّة.

العاطفة في القصيدة:

العاطفة هي الانفعال النفسي المصاحب للنص، وفي القصيدة نلمس بشكل واضح الانفعال الهادئً الايجابي المشبع بالإنسانيّة والأمل. كما نلمس في القصيدة جانباً واضحا يحمل هماً وطنيّاً وإنسانيّاً عاماً.. أما دوافع عاطفة الشاعرة فهي ضياع وطنها في حرب أهليّة طاحنة لم يسلم منها لا الحجر ولا البشر، والأهم انهيار قسم كبير من القيم الإنسانيّة العميقة والثابتة فيه، نعم هي عاطفة جياشة، تحمل هماً فرديّا في مضمونها إلا أنه هم إنساني عام في دلالاته.

لغة القصيدة:

لقد توشحت لغة القصيدة بالسماحة والسهولة والترابط والسبك والعذوبة والنعومة والرقة والشفافيّة. والأهم أنها كانت لفةً فصيحةً بسيطةً في الظاهر، وهذا ما يجعل المتلقي يشعر بأنها لغته هو التي يعبر فيها عن آماله وطموحاته ومعاناته، بيد أنها ليست لغة تقريريّة. إن حسن اللفظ في القصيدة حقق إلى جانب كل سماتها التي أشرنا إليها، رنتها الموسيقية اللذيذة في الأذن أيضاً، فكانت اللفظة الواحدة منسجمة مع بقية أجزاء الكلام، وهنا يكمن سر غرابة السبك وبراعة الصياغة وفن التعبير.

***

د. عنان عويّد

كاتب وباحث وناقد أدبي من سوريا

........................

(غربة الأوطان)

بقلم: الشاعرة سهام السعيد

***

لا.. أنت لست وطناً

لأنك

لم تحسن العزف

على أوتاري

لأنك لست قدراً

تلزمني به أقداري...

لست وطناّ لأنك

لم تقيّد نبض قلبي

بالأسوار.

أنا وطني شلال عشق

يُلزمني الحب بالإجبار

أنا وطني أبكاني عليه

ومزق خيمة أمطاري

علمني كيف أعشق أرضه

دربني كيف أسحق من وقف ضده

بالبارود وبالنار...

جبار وطني جندني

وزرعني في صف

الثوار...

أنا وطني

علمني كيف أحب

وكيف أغار عليه

من طعنات الغدار...

أسطولاً أصبح يأسرني

يملك شطي وبحاري.

 

يمثل النص السردي بعنوان " أحز رقبة الوقت" نموذجًا بارزًا للكتابة الشعرية-السردية المعاصرة، حيث يلتقي الشعر بالقصّ، والخيال بالانفعال، في فضاء مفتوح من الرمزية والوجودية والتأمل النفسي. ينحو النص نحو الاستكشاف الدقيق لذوات متعددة متشابكة، سواء في المقام النفسي أو الروحي، مستفيدًا من تقنيات اللعب بالزمن والفضاء والرموز. تكمن أهمية التحليل في كشف ما وراء النص من دفقات انفعالية، وأنساق معرفية، وأدوار فاعلية تهيمن على أحداثه.

1. التحليل الهيرمينوطيقي التأويلي:

أ. التفسير العام:

النص يطرح صورة الذات في مواجهة الزمن والفراغ والوجود. الرمز المركزي هو "البالون والخيط"، كدلالة على رغبة الإنسان في الإمساك بالزمن أو بتجربة الانفعال، لكنه يظل متفلتًا، ما يكرس حالة من السعي اللا متناهية والحيرة الوجودية.

ب. التوتر النفسي:

"أزعلُ وأركضُ وراء الخيط": انفعال متكرر، يدل على الصراع بين الرغبة والقدرة، الرمز هنا يشي بالتحكم والتلاعب بالواقع.

- القطّ الصامت: رمز للوعي العميق أو الذات المستترة، يمثل المرشد أو الشاهد على الفوضى الداخلية للمتكلمة.

ج. الرموز البارزة:

١-:الإبرة: رمز دقيق للحدث الصغير المؤثر، أو لمعاناة النفس الدقيقة.

٢- الظلّهيرة/النهار/الليل: تمثل التغيرات المزاجية والانفعالية، مع دلالة على مرور الزمن.

٣- العصفور الأزرق والريشة: رموز الحرية، الانتقال الروحي، وأحيانًا المكيدة أو الخديعة في إطار المخيلة.

2. التحليل الأسلوبي:

أ. السرد والصياغة:

النص يتميز بأسلوب متقطع، متسارع أحيانًا وبطيء أحيانًا أخرى، مما يعكس الحالة الانفعالية للذات. التكرار مثل "أضحك.. وأضحك" يوحي بمحاولة استقرار نفسي، والتكرار أداة إيقاعية تعكس حالة الانسداد أو التأمل العميق.

ب. اللغة والتعبير:

١- اللغة غنية بالصور المبتكرة: "رأسي المرفوع إلى فوق محطة رصد"، "القطّ كلّه كتلة مخفية الملامح".

٢- استخدام الاستعارات: "النهار كله.. والليل كله.. فرصة كأداء تتمطّى في الظّهيرة" يشير إلى تحولات داخلية ومعرفية، واستعمال كلمة "أداء" يعطي بعدًا فلسفيًا يرتبط بالفعل والمعنى.

3. التحليل الرمزي:

١- الخيط/البالون: الرغبة في الإمساك بالحياة، سعي النفس وراء لحظة متقلبة.

٢-:القطّ: الوعي أو النفس اللاواعية، مراقب للصراعات الداخلية.

٣- الإبرة: الخطر أو الألم الخفي.

٤- النهار/الليل/الظّهيرة: تمثيل مراحل الوعي، والتغيير المزاجي، والانفصال عن الواقع.

٥- العصفور الأزرق: رمز التطلع والحرية، لكنه أيضًا عنصر المخاطرة.

4. تحليل السيميائية (تطبيق نموذج غريماس).

المحور الشخصية / الدور الدلالة:

١- الفاعل المتكلمة / الذات الرغبة في السيطرة على الواقع الداخلي والخارجي

٢- المفعول الخيط/البالون، القطّ، الإبرة الأهداف أو الأشياء التي تؤثر في الذات

٣- المرسل النص / الوعي الشعري إيصال التوتر النفسي، الحالة الانفعالية

٤- المتلقي القارئ / الذات الواعية استقبال الرموز، التفكّر في الانفعال

المساعد الفضاء الداخلي (الصالون، الغرفة) تشكيل الحيز الرمزي للصراع الداخلي

٥- المعوق الفوضى، الغياب، الفراغ عناصر تعطل التوازن النفسي

5. قراءة الأنساق المعرفية:

النص يدمج بين: الوعي النفسي: التعبير عن العواطف الداخلية المتقلبة.

١- الوعي الرمزي: استخدام رموز واضحة للتعبير عن مفاهيم الوجود، الزمن، الحرية.

٢- الوعي المعرفي: استحضار العمليات العقلية، مثل التفكير في الأشياء اليومية (المطبخ، القهوة، الكهرباء).

6. مقارنة المستويات:

المستوى الملاحظات

الانفعالي الغضب، الحزن، اللعب، الفزع، السعادة العابرة

التخييلي الرموز (القط، العصفور، الخيط)، الصور الخيالية المتغيرة باستمرار

العضوي حركات الجسد، التنفس، التمدد، المشي، الضحك

اللغوي تكرار الجمل، الجمل القصيرة، الاستفهام الداخلي، اللعب بالعلامات الإيقاعية

7. الخلاصة:

النص يمثل تجربة شعورية ومعرفية مركّبة، تجمع بين الواقع الداخلي والخارجي، بين الفعل والرمز، بين الانفعال والحلم. ويتيح القارئ الغوص في مستويات متعددة من الخبرة الإنسانية، إذ يفتح الباب للتأمل في الزمن، الهوية، الحواس، والانفعال. استخدام أيمن معروف للرموز اليومية المرتبطة بالعالم الداخلي يشكل نصًا متعدد الطبقات، يمكن قراءته من مناهج متعددة: النفسية، الفلسفية، والجمالية.

***

بقلم: عماد خالد رحمة - برلين

......................

أحزُّ رَقَبَةَ الوقتِ..

بقلم: أيمن معروف

أرمي بالوني في هذا الفراغ.. وأركض.

*

يفلتُ الخيطُ من يدي.

أزعلُ، وأركضُ وراءَ الخيطِ. يضحكُ الخيطُ ويركضُ، وأنا أركضُ وراءَهُ وأبكي. يعلو الخيطُ ويهبطُ.. يهبطُ ويعلو.. وأنا ألهثُ وأنطّ.

رأسي المرفوعُ إلى فوقٍ محطةُ رصدٍ.. ويداي شبكةُ صيد.

*

يتهادى الخيطُ ويهبطُ..

يهبطُ بالوني.. يهبط.. يهبط.. فأثبُ عليه.. أثبُ عليه وأخطفه بين أحضاني مثل نورسٍ ضالّ.

*

على الكنبةِ في الصالونِ، القطُّ طوالَ الليلِ يموء.

ألتفتُ. أُطفئُ الضوءَ الجانبيَّ وأدعُ العتمةَ كلّها للقطِّ، وأنا أدخلُ أحراشي الملبّدة، أفسّرُ سيكولوجيَّتي الخاصَّة، وعيني على القطِّ.

*

القطُّ صامتٌ كالكنبةِ. الكنبةُ سوداء كالليلِ.

أفركُ عيني.. أُشعلُ ضوءًا.. أتمطّى، أتحسَّسُ حنجرتي.. وألعن التدخين. أُجْهِزُ على الخفِّ تحت الطاولة.. أنتعلُه بعصبيةٍ وأتجهُ صوبَ المغسلة. أفتحُ الحنفيةَ وأغلقُها. أتجهُ صوبَ الغاز في المطبخ، أضعُ دلّةَ القهوة على الغاز. لا أريدُ القهوة.. أفكّرُ بالشاي. الشايُ نفدَ البارحةَ.. والقهوة كذلك.. الغازُ انتهى. أذهبُ إلى الصالون.. أفتحُ المذياع. الكهرباءُ مقطوعةٌ أيضًا.

جَهْجَهَةُ الفجرِ تتسرَّبُ من شقوقِ الباب. على الكنبةِ في الصالون، القطُّ صامتٌ.. طوالَ الليلِ يموء. أجلسُ على كنبةٍ مجاورةٍ وأتطلّعُ في القطِّ. رأسُهُ ممدودٌ على شكلِ كرةٍ بيضويةٍ موضوعةٍ إلى جانب الذيل. الذيلُ ملفوفٌ كعشٍّ. القطُّ كلُّهُ كتلةٌ مخفيةُ الملامح. آخُذُ شهيقًا.. تحرجُني حنجرتي، فأسعلُ. يفزعُ القطُّ.. يفتحُ عينَيْه بنعاسٍ، يموءُ ويتفَرَّسُ في وجهي، يتمطّى. يقفزُ عن الكنبةِ ويتجهُ نحو السرير، وأنا أبقى صامتةً على الكنبة، في الصالون.

*

ذلك الصباحُ كلّه ذهب في التلألؤ والفكرة..

وأنا محاطةٌ بالكوابيس وخيوط الذّهب. أنقرُ على خشبِ الكنبةِ.. وأدندنُ بتفاهةٍ.. وأحيانًا أموءُ كقطّ. أعثرُ دون قصدٍ على إبرةٍ في كومةِ الصمت قرب الباب. أمدُّ يدي وألتقطُها. أضحكُ من لَقِيّةِ الصباحِ.. إبرةٌ في فراغ. أُمرّنُ نفسي على هذا الهُراء المُقَطَّن.. ثم أتعلمُ هذا القليل من الهواءِ الذي يتصادفُ مع تكّة الباب كما أتعلمُ حياكةَ جوربي في الظلام، لإيماني أنّ الضوء لا يقول لنا أشياءً مهمةً عن اللمعان، كما هو التاريخ لا يقول لنا أشياءً مهمة عن التراب.

*

تسقطُ الإبرةُ من يدي على البلاط.. فأسمعُ رنينَها الغامق الذي مازال يلسع جسمي كوخز الإبر. ينفرطُ المكانُ القليل ويتعدّد.. فأتهدّم في انفراط المكان.. وأصفن.

*

الجداريّةُ المائلة على الحائطِ مائلةٌ بشكلٍ صحيح.

أخمنُ البرتقالةَ التي في يد المرأة كناريًّا يُعشِّشُ في فضاء الكف، بينما تتوزع باقي اللوحة مساحات من ألوان مركّبةٍ تتخلّلها دروبٌ ملبّدةٌ بالحصى.

*

كلّ ذلك الصباح ذهب في التلألؤ والفكرة، وأنا مقرفصةٌ وسط الغرفة مكتظّة وكظيمة، بينما الظّهيرة تلوحُ، وهي تسيلُ أسيانةً مثل نمر.

*

ما الذي جاء بي إلى هنا كي أشعلَ سيجارةً في فم الوجود وألعبَ النّرد مع هذه الكائنات؟

*

البيتُ عشُّ ضباع، والبابُ مؤامرة.

أرمي العلبَ الفارغة في نهار الناس ولا أغلق باب المصادفة على الليل. لي الظّهيرة كلها تتعقّبني أسيانةً. ذبابةٌ زرقاء تطنُّ في هذا الفراغ مثل بارجةٍ حربيةٍ في البحر الميت. أعلقُ خرزةً زرقاء على باب الوقت، ثم أقلب الحصى تحت بيارق الظّهيرة، التي تسيل.

*

أدْعَكُ جسدي مثل قطة.. وأضحك.

أقبضُ على مزلاج الباب.. وأضحك. لا بدَّ من الضحك في الليل أو النهار.. لا بدَّ من الضحك.

*

الضحك.. فنجانُ قهوةٍ في الصباح الملبّد كأحجية.

أضحك.. وإذا كان ثمّة حمّى أصفع النافذة وأركن، لطلّة النسيم.

*

ما شأني بالمؤامرة والباب.. أنسى.

ما شأني بالبيت وعش الضباع.. أتخلّى. لا أدخل.. ولا أخرج.. وإذا كان ثمّة دخول، أسمّي البيت – الظّهيرة – عش دبابير.. وأضحك. وإذا كان ثمّة خروج، أسمّي الباب – المؤامرة – فرصة.. وأخرج.

أبدأ يومي هكذا، من الإفاقة حتى النوم. أجعل صباحي طريًّا وناعماً وأملس، ثم أنزلق فيه كحلزونة.. وأضحك.

لا بدَّ من الضحك..

الضحك.. فنجان قهوة.

*

غريبٌ، هو الضحك.

إيه.. إيه.. غريبٌ هذا الفراغ الذي هو رأس أفعى.

*

غريب، أعطيه ولا يأخذ. أنام قاتمة.. وأفيق قاتمةً في الفراغ.

ترنّ بوالين غريبة في الهواء. تصفرُ ريح.. ولا صوت. أسوّي مزاجي بضحكة، ولا أتعمّد قراءة العزلة. معرضةٌ نجوم الظّهيرة لشيء.. ومتروك بابي هكذا، في المشاع.

*

غريب.. تشرق شمس ولا لزوم لي. تغرب شمس ولا لزوم لي.

النهار كله.. والليل كله.. فرصةٌ كأداء تتمطّى في الظّهيرة. سأضع قبعةً على رأسي وأغيم..، قلت. لن أنتظر السماء حتى تهطل.. ولا الغيمة حتى تنزل إلى النهر. لا سماء.. ولا غيمة.. ولا نهر.. أو هطول.

*

الجحيم، التي في يدي، والجحيم الذي في الكلام سأهبُه المغفرة حتى يستقيم.

أرمي حجراً وأرسم دوائر كابية، ثم أركن للعصفور الأزرق وهو يتخبّط بين مسام الهواء ويخبط النافذة على الحافة. أضع ريشةً كالهنود الحمر وأكمن في دغْل اللحظة وفي السكون العميق، لا أخرّبش. أتنقل بخفّة طائر من كمين إلى كمين، وأنتظر. كم هو عمق الليل.. وكم هو قاعي. بين ركام الغبار المترسّب على الباب والمكدّس في غرفتي.. لا أقدر على التخمّن. أجلس على عشب الخرافة ويداي فوق رأسي كوسادة وأحدّق في مغاور الفضاء. يعبر شلح أزرق.. أظنّه الطائر في انتظار المكيدة. هكذا في الظّهيرة. الظّهيرة، الأسيانة، مثل نمر.

 

لا تأتي الحرب في نص (ساق تحدّق) للدكتور جمال العتابي كخلفية لأحداث متلاحقة، وإنما كقدر يتسرب إلى الجسد والوعي، كقوة جارفة تهز الكائن البشري في أعماقه قبل أن تحطم ملامح العالم الخارجي، فمنذ اللحظة الأولى، يُلقى بالقارئ مباشرة وسط أجواء تمتلئ بالدخان وصرخات الجرحى، حيث يتقاطع الرفض/ الوعي مع السلطة/ مشعلي الحروب، حين تتآكل الحدود بين الواجب العسكري الألزامي والصرخة الإنسانية التي لا تجد طريقها إلى النجاة.

ليست الشخصية الرئيسية (الطبيب طالب) بطلاً بالمعنى التقليدي للكلمة، بل هي وعي يقف على الحافة، بين قسمه الطبي الذي يربطه بالحياة، وبين مشاهد الموت التي تملأ الأفق بلا نهاية، فكل عملية بتر يجريها تتحول إلى سؤال، وكأن كل عضو يقطع يأخذ معه جزءاً من الروح والذاكرة (هذه ليست مجرّد ساق. إنها طريق، ذاكرة، خطوة أولى نحو بيت، أو نحو قبر) حيث لا نكون، وفي اللحظة التي تحدق فيها الساق المبتورة في وجه الطبيب، أمام تفصيل غرائبي عابر، بل أمام حقيقة ترى أن الجسد، وتلك الساق، ليس مادة صماء، بل تاريخ كامل من الخطوات والبيوت والأحلام، وأن ما يُفقد على الطاولة البيضاء لا يقل فداحة عما يسقط في ساحات القتال.

يبنى النص بلغة مشبعة بالصور الحسية، لغة تجعل القارئ يشم رائحة اللحم المحترق ويسمع صوت العظم وهو يُقص، ويرى العيون المفتوحة للأطراف المبتورة وهي تلاحق الطبيب في يقظته وكوابيسه، ليست هذه الحسية تزييناً، بل هي وسيلة للنفاذ إلى التجربة من داخلها، كما لو أن النص يريد أن يضع القارئ في صميم ما يعيشه أبطاله، حيث لا فاصل بين الدم والحبر، بين غرفة العمليات وليل الجندي الذي يصرخ في داخله دون أن يسمعه أحد.

تأخذ القصة شكل شظايا متفرقة، عمليات جراحية، مذكرات يكتبها الطبيب، أوراق مطوية في جيوب الجنود، كوابيس ليلية، أصوات تختلط بالظلام، وصية تُخط على جدار غرفة الأطباء، ولكن هذا التشظي لا يُعد خللاً، وإنما جزء من معنى النص نفسه، لأن الحرب لا تنتج حكايات متماسكة، بل تشظي الزمن إلى لحظات منفصلة، وهكذا تأتي القصة كأنها وعي، كذات مذهولة تلتقط ما يمكن التقاطه من معنى وسط الخراب.

ليست الساق في هذه القصة مجرد تفصيل جسدي، بل رمز للذاكرة (رجلي كانت أول مَن يدخل البيت. كنت أطأ بها تراب أهلي . تعرف الطريق… أكثر مما أعرفه)، فحين تُبتر، لا يُقطع عضو فقط، بل يُقطع تاريخ يرتبط بحياة الإنسان وصلته بها، وكأنه يطال شبكة كاملة من المعاني التي تكون وجود الإنسان، لهذا يهتز الطبيب كل مرة، لأنه لا يرى في العملية فعلاً جراحياً محايداً، بل قطيعة وجودية بين الكائن وجسده، بين حياته وما تبقى منها بعد فقدان جزء أساسي من كيانه.

لكن النص لا يتوقف عند صدمة البتر وحدها، بل يتعقب ارتداداتها في وعي الطبيب، في مذكراته وكوابيسه وسيجارته المشتعلة في الممرات المعتمة، في الأصوات التي تخرج من الأطراف المبتورة، والورقة التي تقول "روحي لم تُبتر"، ووصية الطبيب التي تدعو إلى سؤال الجريح عما بقي فيه لا عما فُقد منه، هذه كلها تجعل القصة تتحول من حكاية حرب إلى تأمل في معنى الإنسان حين يُنتزع من جسده.

يبدو الطبيب ممزقاً بين وعيه المهني وارتباكه الداخلي، ففي كل مرة يخلع قفازيه ليكتب في دفتره أو ليطفئ سيجارته، يبدو كمن يحاول عبثاً أن يضع حداً لما يتسرب إليه من صور الدماء والأطراف المبتورة والعيون المفتوحة على الطاولات المعدنية الباردة، فعبارة (قلبي يُبتر مع كل عضو يُقطع) ليست جملة عابرة، بل صرخة وعي يكشف فيها أن الإنسان لا يمكن أن ينجو من الخراب، حتى لو وقف في صف الحياة.

عندما يقول الجندي ساخراً (خذوا الباقي... يمكن يصيروا شهداء قبلي) ليست سخرية مرة فقط، وإنما محاولة لمقاومة العبث، ولمواجهة ما لا يمكن احتماله، بلغة تحتفظ بآخر ما تبقى من إنسانية مهددة بالانطفاء، لكن الطبيب هنا لا يضحك، لأنه يعرف أن ما يُفقد ليس مجرد أعضاء، بل أجزاء من الذات، وأن النجاة التي يقدمها في مواجهة الحرب تأتي ناقصة، محملة بثمن لا يمكن استرداده.

تخلق البنية التي اعتمدها العتابي، بانتقالها بين المونولوجات الداخلية والمشاهد الحسية والوثائق الصغيرة، نصاً يبدو وكأنه يخرج من قلب التجربة، لا من خارجها، فلا مسافة آمنة هنا بين الراوي والحدث، بل انغمار كامل، يجعل القارئ يعيش حالات التمزق والقلق والكوابيس، ولهذا تظل القصة تدور في ذهن القارئ، لأنها لا تقدم خلاصاً ولا عزاءً، بل تكشف هشاشة العالم والإنسان في مواجهة حرب غاشمة تأكل كل شيء ولا تشبع.

لكن القصة تتركنا أمام أسئلة لا جواب لها، فماذا يبقى من الإنسان حين يُفقد جسده؟ هل يمكن للروح أن تظل متماسكة رغم التمزق المادي؟ هل تكفي الذاكرة أو الحلم أو اللغة لتعويض ما يسقط في الحرب؟ إذ تظل الأطراف المبتورة في الصناديق المعدنية، والطبيب يواصل تدوين ملاحظاته، والحرب تستمر، والجنود الذين نجوا يحملون في أجسادهم علامات الفقد التي لا تزول، ومع ذلك، ووسط هذا الخراب، تظل هناك أصوات تصرخ (روحي لم تُبتر)، وكأن الإنسان، رغم كل شيء، يبحث عن بقايا معنى لا تقوى الحرب على تمزيقه.

***

أمجد نجم الزيدي

 

تكون الذات عادة أسيرة العالم الذي يعوم حول الباث، وهي منفتحة بدرجات كبيرة ومساحة واسعة، فالباث المالك لهذه الذات لايشعر بأنّه ملكه، بل هي مسخّرة للتعبير والسفر خارج حدودها؛ فالشعرية وتقنيتها ليست محصورة بشكلها الأناي، وإنما هي انعكاس فعال بين الذات المالكة والجماعة التي حولها أو الطقوس المؤلمة والأوجاع المنتشرة في العالم. فجمالية الذات تظهر بين تكوينات التموضع النصّي للنصّ الشعري؛ وتسخير الذات خارج الأنا المخصخصة للذاتية الشخصية، فهنا تصبح الذات ذات تمليك خاص ولكنها لاتميل إلى الشاعر بقدر ميلها إلى الآخر من جهة وإلى عكس الوقائع والارتباطات الموضوعية مع الآخرين من جهة أخرى. لذلك فمهمة الذات التوظيف الآني بقدر كبير وليس الماضوي، وإن بحثت في الماضي فهي تبحث الآن بكلّ تأكيد. فعندما يكون النصّ الشعري خارج التفكّر، وهو في مناطق الـ فلاش باكية، تظهر الحالات الماضوية بشكلها الآني، لأنّ الذات تبحث عن الآن، وهي آنية قبل كل شيء، ولكن بترتيب زمني، ترتيب ذا علاقة مع الأفعال وتفاعلها، وعندما يزور الشاعر بعض الشرود الذهني، يعكس لنا حالته الشعرية بتواصلٍ خلاق، فيقودنا من الماضي إلى الحاضر.

لاتبحث الذات عن المعاني العادية بل تسافر إلى أبعاد أخرى؛ أبعاد ليست قريبة ومطروحة بالشكل اليومي المعتاد، بل المعاني غير المعروفة، والكلمات الغريبة غير المستهلكة؛ وقد عمل السرياليون بهذا الاتجاه، وها هو رامبو مثلا: " ليس الشعر إذن، في نظر رامبو، ولا في نظر تلامذته السرياليين، طريقة معرفة بالمعنى العادي للمعرفة. بل هو الطريق التي بقيت لنا كي نتعرف إلى الأساطير الإنسانية بوجوهها التي لاتحصى. وما دامت الأساطير شيئا غير معروف فإنّ الكلمات التي تحملها لايمكن أن تعرف كذلك (1)".

عند انتقال الذات العادية إلى ذات شاعرة من الطبيعي أن تنتقل معها الحسية الجمالية، أو توجد منافذ فعّالة تؤدي إلى العنصر الجمالي، فالذات الشاعرة تحمل من منظومة الدهشة بما لايقارن مع غيرها، ومنظومة الدهشة هي الجمالية بذاتها، إذن يصبح لدينا بالإضافة إلى البعد الذاتي الجمالي، البعد الجمالي الذاتي؛ من خلال تموضع الذات الجديدة والتي دائما يتمّ البحث عنها، وهنا تبدأ العلاقات مابين المتخيل " الذاتي " والذات الشاعرة (أو العاملة) الجديدة.

إنّ السعي إلى الإيمان الذاتي والبحث عن المعاني من خلالها ليس إلا بداية للحسية الجديدة التي تعلّقَ الباث بها وراح مع التنقيب عن مفهومية الآخر والتقرّب من الموضوعاتية المطروحة على مستوى الوعي اللغوي في النصّ الشعري، ومستوى الوعي الذاتي في التأسيس الجديد. فهناك المستوى الداخلي للذات والمستوى الخارجي؛ ففي المستوى الداخلي هناك الاستقلالية في اتخاذ قرار الـ " أنا " حيث تميل هذه الاستقلالية إلى معرفة الآخر من خلالها والولوج إلى تمثله من خلال الكلمة والعبارة في النصّ الشعري، وهذا مايحدث كثيرا حيث ترتد الـ " أنا " من المستوى الداخلي إلى المستوى الداخلي عند التفكير بالآخر واتخاذه كمصدر مهم في تمثيل أوجاعه أو محيطه أينما كان، فهو متآخ مع دواخل الشاعر، وهناك الكثير من المشاهد الشعرية الواضحة تبين هذا التحليق في النصّ الشعري. وأما المستوى الثاني فهو المستوى الخارجي، فهنا يتمّ نقل الحدث الخارجي بواسطة التصوير العيني " البصرية " والتي تشتغل من خلال الأنا المنفصلة عن الآخرين، وترسم مساحة جميلة بين المساحة الداخلية والمساحة الخارجية.

المشهد الشعري، لاشعوري تصويري، وعبارة عن ديناميكية خلاقة، حيث نذهب إلى اللامألوف بواسطة الجنون الخلاق، الذي يدفعنا أكثر وأكثر نحو الحرية وحرية اللاشعور. فأسبقية التركيب الرمزي هو كل حالة تركيبية رمزية على أساس تفكيري، وعلى حسية متجددة، مما تدعونا إلى حالة من تأصيل خيالي، وهناك دعوة تموضعية ضمن المنظور الرمزي؛ وهذه الدعوة تدفعنا أكثر ونحن في غرفة الخيال نحو التأسيس والخلق الشعري. ومن هنا ندخل الى طبيعة المرء السيكولوجية، والمحتاجة الى نقاط من الانطلاق نحو الذات العاملة من جهة (حيث تشكل لدينا طبيعة شعرية ضمن حسيّة جديدة) والمنظور الخارجي من جهة أخرى، والذي تديره العين ضمن التفكر الجديد. وهذا الدوران جعلنا ذو تبنّي لمواقف جديدة، فالرؤية تلتقط الجديد ولا حاجة لها بالأشياء المُلتقطة، فربما هي مترسبة في الذهنية، ويتم تحريكها من خلال رؤية خيالية داخلية جديدة، فتدفعنا إلى خيال جديد. " الصورة عند الرمزيين إفراز خيالي متوتر يجمع بين الانكشاف والتحجب، وبين الكيف الحسي للصور والدلالة الكلية المجردة، بين النسق المثالي الذي يحدده الخيال، والأساس المادي للتجربة وهو الذي تبدأ منه الصور(2)". وهذا مايقودنا إلى الغور البعيد نحو اللاشعور، والاعتناء بالمنطقتين الداخلية: البعد الحدسي، والخارجية مع البعد الخيالي؛ فالمنطقة الداخلية الذاتية تعتني بالاثر العميق، والمنطقة الخارجية تقودنا إلى رؤى خارجية لالتقاط الممكن منها ضمن المنظومة الخيالية.

نذهب وعلاقة الحالة الذاتية مع الحالتين النفسية والفكرية، وهي مكونات لصيرورة غير منتهية في الشعر الحديث، وقد ذهب السرياليون بقوة أكبر نحو الأشياء، فالعالم يعوم من حولنا يعوم ونحن ننظر إليه نظرات غارقة، ومن خلال هذه النظرات الغارقة ننزل إلى قاع البحر (ماهية الأشياء وما حولها) فكلّ شيء من حولنا، قد تكون هذه الاشياء تحمل معاني تافهة، وهي ليست تمثيلية قصوى، ولكنّها مهمة، فلا ينظر إليها كلّ مدقق، فالمسافر الذي يبحث عن غربة، قد يراه بعضنا موضوعا تافها، ولكنّه مهما، فقد ازداد العالم من حولنا معاناة جديدة لرجل من طراز جديد؛ أقول من طراز جديد لأنّه بحث في ذاته، واستجابت تلك الذات إلى رغبة المعاناة ورحلته الجديدة. " الشعر هو موقف ووجهة نظر نرنو من خلالها إلى الأشياء، الشعر هو في الأشياء وفي موقفنا من الأشياء. إنّه حالة نفسية وفكرية، أسلوب ما، في التعاطي مع العالم والحكم عليه وفهمه وتمثله. إلا أنّ هذه الحالة تكون مطمورة تحت ركام الحسّ ونفايات المنطق ولابدّ من تدريب الإنسان كي يستعيد تلك الحالة من جديد (3) ".

لاتقلّ ميزة المشهد الشعري عن قيمته الجمالية في التعبير اللاشعوري، فعند إحالة الذات من الداخل إلى الآخر، يكون قد تبرع بموقف كما يتبرع بزمرة دمه للآخر دون معرفة مسبقة؛ فجلّ ماتملكه المخيلة تاجها الجمالي، ليكون السلطان الأول لها وهي ترسم المعاني بشكل لغوي امتدادي لكي تطرب باب المتلقي، علما ما نزفته لايمثلها تماما، تذهب إلى بعد اقترابي في الزمنية النازفة.

في هذا الزمن الإشاري لاتحتاج الذات إلى معينات، فهي وحدة إشارية، أشارت إلى الآخر بواسطة المنظور النظري، مما استدعى استبدال الكلمات بكلمات أكثر إثارة لكي يضمن الباث براءة المشار إليه بواسطة الذات الكاشفة.

الخروج من الحسية الداخلية وإلى الحسية الخارجية، يعني أنّ هناك توظيفات جديدة مع كلّ مائدة خيالية يتم التعلق خلفها، وما تحوي تلك المائدة من ملذّات تبعث على الأريحية، وكذلك المشهد الشعري فإنّه يبعث على أريحية فكرية خارج التفكر، بل يقودنا إلى مزاج حيوي ويدفعنا إلى الشيئية خارج الأشياء. فالشاعر تزداد ألوان متعته من خلال الشيئية، لذلك لايقترب من الأشياء؛ فاللذة الجمالية، هي القيمة الذاتية والتي تدفع الشاعر إلى التمعن أكثر فأكثر والإبحار في الأشياء؛ فاللذة الانفرداية تنظر إلى الجسد بشكله الانفرادي، بينما اللذة الجماعية فهي من اللذات المشتبكة وعديدة التفردات ولايمكننا السيطرة عليها، فتتعدد من خلالها الذوات، وكلّ ذات تتعلق بلذة؛ ونبقى مع لذة التفرّد فهي الأقرب إلى الذات الشاعرة والتي تبحث عن القيمة الجمالية بين مشاهد النصوص، وتعلقها في الذائقة الشعرية.

يمثل اللاشعور قيمة، قيمة ديناميكية عند الوعي الكتابي؛ وقد ذهب فرويد مع هذه القيمة (في العلاج الإكلينيكي)؛ فالمحتويات المكبوتة تخرج وتصبح حالة من الوعي، وهنا تمثل قيمة من اللاشعور، فتظهر لدينا حالة من المقاومة الكتابية؛ وخصوصا أننا في الشعرية؛ وهذا يعني أن تشكل قيمة من الشعرية الفائضة أيضا عند التفكر اللاشعوري في حالة المقاومة الواعية من جهة وحالة النتاجات النفسية التي تمنحنا حبّ المقاومة والديمومة الكتابية بأحضان القصائدية من جهة أخرى. فاللاشعور عند الكتابة يتمظهر عند الشعور، وهو حالة من حالات النسيان في تصويب الزمكانية، فالنتاج الثقافي والأحلام كلها ملتويات إفرازية تخرج عند اللاشعور الكتابي.

إن التقديرات الجمالية من الأعمال الخلاقة؛ فالفنان عندما يجمع أعماله وأدواته وابتكاراته ويوظفها كعمل جمالي، فهذا العمل نعتبره ذا فكرة خلاقة، فقد رأى " هيغل " بأن الأعمال الجمالية يجب أن تكون أعمالا محسوسة، كالتمثال والأشياء في الطبيعة الحرة وغير ذلك، ولكن يرى غيره مايخالف ذلك، فالعمل الجميل عندما يغزو التوظيفات الشعرية عن طريق المسلك القصائدي وحالة الجنون الخلاقة التي تؤدي وتنفذ إلى النصوص الجمالية فهو لايعتمد المحسوسات المباشرة؛ بالعكس فإن الشاعر قد يبحث عن حسية جديدة، حسية تميل إلى الجمالية قبل كلّ شيء واتقانها بشكلها الجديد لكي تنبت المؤثرات الجمالية وتبرق كحالة لامثيل لها.

الأعمال التي تثير الحواس من جديد هي تلك الأعمال التي تتكئ على الحالة الجمالية بأفعال تفاعلية تحرّك النصّ الشعري وتجعل منه ايقونة فعالة؛ فإنّ كلّ عضو من أعضاء الإدراك الحسّي من الممكن أن يكون مادة للعمل الجمالي.

تتحمّل اللقطة البصرية البعد الجمالي الذي نقلته بوسيلة البصر، بينما تتحمل اللقطة الحسية البعد الجمالي الذي رُسم بوسيلة الحس؛ وفي اللقطتين يتباعد المنظور الجمالي، فكلما ابتعد المنظور قلـت الأخطاء المنظورة، وكذلك من الناحية الحسية كلما تعمقت الحسية في المنظور الشعري قلت الأخطاء المنظورة وانشغلت المشاهد بحركات الأفعال والجمل ومجاوراتها التي تقودنا إلى البعد الجمالي في النصّ الشعري؛ وهكذا يمتزج الجمال بواسطة الأشياء والألفاظ لإنتاج حالة من حالات ومسالك فريدة النوع في النصّ الشعري الحديث.

***

كتابة: علاء حمد

...........................

1- ص 64، عصر السريالية، والاس فاولي، ترجمة: خالدة سعيد، دار التكوين، سورية

2- ص 267، الخيال مفهوماته ووظائفه، د. عاطف جوده نصر

3-ص 234، الرمزية والسريالية في الشعر الغربي والعربي، إيليا الحاوي، دار الثقافة، بيروت

رواية المفكرة الشخصية وهستيريا الذاكرة الشخوصية

توطئة: عكست الخطابات الروائية المتمركزة على محور مركزية الأنا، ذلك الاختزال المفضفض في مسألة الابتعاد عن الحظوة الموضوعية، ما جعل مثل نموذج هذه الروايات ذا نزعة ذاتية ــ شخصية، ضيقة في آفاقها وتفاصيل مسرودها الذي يتركز غالبا في الحديث عن شواغل الذات وفضاءاتها المتوقفة على محاورات وتوصيفات وأفعال لا تتسع إلا لتشمل قوقعة الذات الراوية وهمومها وهواجسها الدانية.

ــ شواغل السرد في وقائع هامشية الحكي

يبدو للقارئ النخبوي (الناقد) أن محطات رواية (ساعة بغداد) هي ذلك النوع من الروايات الموغلة في هواجسها الآنوية والحسية الفجة التي لا تطال سوى الكلام عن أحوال ومواقف قامت كاتبتها باختزالها في شروط خاصة من الصناعة الشواهدية. إذ إنها لا تكترث سوى بما يجول في خواطرها من علاقات وصداقات وتفاعلات أواصرية مع وقائع ميدانية من زمن الأفعال السردية، بل هي لا تتعدى في وسائلها وفرضياتها الإنتاجية صورة فتاة تكتب عن يومياتها بطريقة بعيدة عن المخيلة المؤسسة على شروط إثراء النص وسمو الدلالات بما يتأتى من أفعال تقانية خاصة. أنا شخصيا حاولت غض النظر عن الكتابة حول هذه الرواية بعد الإفراغ من قراءتها ولكن ما أثارني حقا حجم الترويج والفبركة الإعلامية في حق هذه الرواية وصاحبتها معا، لذا قررت الكتابة عنها لغرض الكشف وتسليط الضوء على حجم المغالطات الشنيعة في مكونات هذه الرواية بوصفها فاعلا عن أفعال لها الأساس المنظوري في عملية البناء الروائي. بعد زمن قراءتنا لرواية شهد الرواي ــ ساعة بغداد ــ لم نكتشف بأن هناك من تجليات دينامية متبدية في عناصر الموضوعة الروائية، ناهيك عن سطحية آليات الحكاية وهدر خطابها في إنتاج علاقات أشبه ما تكون بالمذكرات أو اليوميات العادية والخالية من أية قيمة إنتاجية لتجربة رواية ما. ولو حاولنا نبين مستوى موضوعة الرواية لما وجدنا فيها سوى دلائل رابطة وشواهد مفعلة بين علاقة الشخصية المشاركة مع الجيران ومع صديقاتها المتشعبات بقصص العشق والمواعدة وسرقة القبلات في الشوارع الضيقة وبعض الحدائق: (عاشت نادية تفاصيل قصتنا، ولكنها كانت غير متحمسة، كانت تكرر أمامي بين مدة وأخرى جملة لا أحبها ولا أعرف كيف أرد عليها: ــ أنت تحبين فاروق أكثر من حبي لأحمد. / ص83 الرواية) على هذا النحو نتعرف على مواطن تشكل بذاتها ثلاثة أرباع السرد في الرواية، ومثلها ما كان مرتبطا بهجرة العوائل العراقية إلى خارج البلاد من جراء تزايد حجم الفاقة والعوز بين مستويات العوائل في الحي.

1ــ هوامش السرد وممكنات تفعيل الحضور النصي:

تفرض مظاهر الرواية منذ عتباتها الاستهلالية ذلك القصد التكويني الذي يشكل بذاته النظرة الأولى من قواسم الزمن السردي، حيث المادة السردية انسجاما واتساقا مع مستوى أحلام البطلة المشاركة عنصرا ساردا، إذ تسعى الراوية إلى تأسيس أشبه بمرحلة الأحداث الأولى من زمن انبناء النص كحال هذه الفقرات: (قبل أن أغمض عيني، رأيتها تبتسم وهي نائمة، تحرك شفتيها ببطء كأنها تتحدث مع نفسها. اقتربت منها وأنا مندهشة ووضعت وجهي مباشرة أمام وجهها، شاهدت أطيافا ملونة تتحرك حول جبينها، خيالات لم أر مثلها من قبل. / ص12 الرواية) الشخصية الساردة في الرواية تحفل بخلق عوالم حلمية خاصة في رؤية الأشياء عبر حدود وقائعها ومستوى تمثيلاتها في ذاتها التي تمتاز بإيراد الأسئلة والبحث في آفاقها الزمانية والمكانية، بلوغا نحو خيالات تتعلق بنمو بصيرة الشخصية أحيانا.

2ــ الزمن النذير في سرداب خيالات الضوء والظلام:

غالبا ما تراودنا تجليات الرؤية السردية في رواية (ساعة بغداد) من خلال عين التصورات المتواطنة في تفاصيل المشاهد البانورامية وامتداداتها المؤطرة بصوت وخطاب الراوي، لذا فإن أغلب الأفعال التي جاءت تحت سقف الملجأ كمأوى مفسحا المجال لتعالي موجات الظلام وتراقص أصيص ظلال الأجساد على رقع الجدران والمسافات القصيرة الفارغة بين عائلة وأخرى، لذا وجدنا الشخصية الساردة لها من حجم الرؤى ما تبلغ بها (رؤية جوانية ذاتية) أو ما يمكننا تسميته ب (الفاعل الداخلي). أي إن الساردة الشخصية ترى الأشياء أحيانا ضمن الفضاء الداخلي وتطرح مؤولات أخيلتها ضمن صورة متداخلة في مساحة مشهدية مؤطرة: (قبل أن أعود إلى مكاني ما، أشعل أحدهم سجارته بعود ثقاب، شاهدت ظلي يتحرك على الجدار ثم راح يكبر ويتمدد على سقف الملجأ ويتلاشى، بقيت واقفة في مكاني أفكر في ظلي... إلى أين ذهب في هذا الوقت؟! أين تختفي ظلالنا من هذه الحياة؟ هل أنا في الحقيقة ظل نفسي؟. / ص14 الرواية) سنلاحظ بأن هذه الشخصية هي من تولت في أغلب الأحيان تقنيتي (السرد ــ التبئير) لاسيما في حالة التماهي الكلية مع فواعل تقنية خاصة ك(رؤية برانية خارجية ــ رؤية برانية داخلية ــ رؤية جوانية داخلية) فالسارد الشخصية يرى السرد صورة تقف من خلالها تفاصيل الأشياء والأحوال، ويتبين من خلال وحدات أخرى في عملية السرد، بأن الساردة الشخصية: (في خيالي أعدت الناس الذين شاهدتهم في الملجأ إلى بيوتهم في شارعنا، رتبت تلك البيوت في خطوط مستقيمة ورسمت منها سفينة كبيرة تشبه المحلة التي ولدنا فيها، ثم رسمت دخانا أبيض يصعد ببطء نحو الغيوم. / ص17 الرواية). إن الكيفية التشكيلية للساردة الشخصية تمنحها حالات حلمية واقعة ما بين (محسوسية الرؤية ــ ذاتية الموضوعة) بلوغا نحو مفصليات أكثر تعلقا بحيوية مؤثرات الزمن والسفر من خلال حلم سفينة النجاة.

3ــ التخييل المفرط وأزدواجية الواقع:

لقد اعتمدت شهد الراوي في روايتها (ساعة بغداد) سطحين للسرد، أو مستويين: مستوى أول يجري في تقديم مادة الفتاة التي تدخل الأحلام، ورغم هشاشة هذا المستوى، غير إنه يجري في مواضع أكثر تناسبا وريشة الرسام، ومستوى ثان يكشف فيه عملية ما يخفيه المستوى الأول ببناء عوالم أكثر محكومية ببناء السرد والمسرود. تكشف وجوه الرواية عن شخصيات عديدة منها إجمالا الجيران الذين همو نصفهم بمغادرة الحي والآخرين الذين ينتظرون دورهم في عجلة الهجرة، كما ولا يخفى ظهور ذلك الرجل الكاشف للوقائع عن ظهر غيب فيما حولته الساردة الشخصية إلى فتاة ساحرة تماشيا مع نزوعاتها الحلمية والعاطفية.

ــ تعليق القراءة:

إن الطبيعة المزدوجة في رواية (ساعة بغداد) تمتلك بالتركيز موضوعة مزدوجة تحاكي صور الدمار والحرب حالات ومغامرات الحب والعشق في الأحداث وكأنها حلت كترنيمة في المزاوجة والطرح التناقضي: ولماذا كل هذه المغالاة في حب الصديقات ما يصل درجة العشق أحيانا؟ عموما أن الرواية محملة بخصائص الحالة الذاتية المفرطة ما جعل أحداثها تبدو وكأنها رواية المفكرة الشخصية التي توقع شخصيتها وشخوصها في هستيريا الصراع العاطفي والذاكراتي.

***

حيدر عبد الرضا

 

قراءة رمزية ونفسية في شعر العشق الكوني للشاعر وسيم الروسان

يظلّ الشعر، منذ فجر الوعي الإنساني، أداةً لاكتناه ما لا يمكن قوله، ومرآةً تنعكس عليها الأسئلة الكبرى التي تربك الوجدان والعقل معاً. ومن بين هذه الأسئلة، يبرز سؤال الحب والموت بوصفه جوهر التجربة الإنسانية وذروة تناقضها: فهل الحب انبثاق للحياة أم طريق إلى الفناء؟ وهل الموت نقيض الحب أم استمراره في صورة أخرى؟

في القصيدة موضوع الدراسة، نواجه نصاً يحتشد بالتوهج الوجداني والرمزية الكونية، حيث يمتزج الجسد بالروح، والعاطفة بالتأمل، والذات بالعالم. الشاعر هنا لا يكتب غزلاً تقليدياً، بل يؤسس ميتافيزيقا للعشق، تجعل من الحب معادلاً للوجود، ومن الفقد معادلًا للحقيقة.

وسأحاول في هذه القراءة أن أستعين بمناهج التحليل الرمزي والمنهج الأسلوبي والتحليل النفسي (اليونغي) والتأويل الهيرمينوطيقي لفهم البنية العميقة للنص من حيث الدلالة، والصورة، والمجاز، والإيقاع، والرمز، والبنية النفسية المتخفية خلف اللغة.

أولاً: جدلية الحب والموت – الوجود في انفتاحه وتناقضه

يفتتح الشاعر نصه بسؤالٍ وجوديٍّ لافت:

«أفي الموت حب كما في الحب موت؟!»

سؤال يختزل الفلسفة كلها في جدليتها الأبدية بين الكينونة والعدم. فالحب، كما يرى هيغل، ليس سوى “تلاشي الذات في الآخر”، أي موت رمزي يهب للحياة معناها الأسمى. أما الشاعر وسيم روسان فيجعل من الحب والموت توأمين متعانقين، إذ يكتشف أن كلاهما يقود إلى التجاوز، إلى عبور الذات نحو مطلقها.

إنه يتساءل، فيقول:

 «في كل درب وجدت الموت، ففي أي موت سأجد الحب؟!»

وهنا يتحول الموت إلى رمزٍ للتحول لا للفناء، كما في فلسفة نيتشه الذي يرى أن كل موت هو شرطٌ لحياة أعمق. الحب عند الشاعر الروسان ليس لذّة ولا عاطفة، بل قدر كونيّ، موتٌ من نوعٍ آخر يفضي إلى الولادة.

ثانياً: الحبيبة بوصفها رمزًا كونيًّا – الأنثى كمرآة الوجود

في المقاطع التالية، تتجلى الأنثى بوصفها صورةً كونية لا مجرد كائن بشري. فهي ضوء، وبحر، وسماء، ومطر، وياسمين، وموسيقى. يقول الشاعر وسيم الروسان:

 «لياسمين شفتيك رائحة الجنة، لتمور نهديك مذاق الأبدية»

هذه اللغة الغنية بالمجاز الحسيّ تجعل من الأنثى تجلّيًا للخصب الكوني، وهو ما يشبه تصوّر يونغ لـ “الأنيمـا” — أي الصورة الأنثوية الكامنة في لاوعي الرجل، التي تمثل بوابة الخلاص الروحي.

وهنا لا نرى حبًّا بشريًا فحسب، بل طقسًا مقدسًا للاتحاد بين الأضداد: بين البحر والعطش، بين النور والعتمة، بين الجسد والروح. الأنثى في النص ليست موضوعًا للرغبة بل وسيطٌ بين العالمين، بين المرئي والمتعالي، تمامًا كما في التجربة الصوفية عند ابن عربي الذي رأى في الأنثى مظهراً للحقيقة الإلهية.

ثالثاً: الرمز والإيقاع – الشعر كحركة تأملية للروح

من الناحية الأسلوبية، يتحرك النص بإيقاعٍ متدرجٍ بين الهمس والانفجار، بين الإقرار والدهشة. الجمل الشعرية قصيرة لكنها تنفتح على دلالات واسعة، تحاكي ما يسميه باشلار “إيقاع الحلم المائي”.

الصور الشعرية تنبثق من عناصر الطبيعة: البحر، المطر، النهر، الغزالة، المرآة، النور. وهذه العناصر تُعاد صياغتها كرموزٍ للذات الإنسانية وهي تبحث عن مركزها.

فعندما يقول الشاعر الروسان:

«هل القصيدة مرآة النهر الوحيدة؟!»

يضعنا أمام تساؤل ميتاشعري عميق، فالشعر ذاته يتحول إلى مرآة للمرآة، أي تأمل الوعي في ذاته، فيحاكي البنية التأويلية (الهيرمينوطيقية) التي لا تنتهي: المعنى يولّد معنى، والقصيدة تعكس ما لا يمكن القبض عليه.

رابعاً: البعد النفسي – من العشق إلى الوعي

من المنظور النفسي، يتبدى النص كتعبيرٍ عن رحلة الانصهار بالآخر. فالحب هنا وسيلة للمعرفة، والمرأة تصبح رمزاً للذات العليا التي يبحث عنها الشاعر في أعماقه.

تعبيراته مثل:

 «كنتِ أنت فكنتُ أنا»

تكشف ما يسميه كارل غوستاف يونغ بـ “الاندماج بالأنيما”، أي اتحاد الأنا بالظل الأنثوي في محاولة لبلوغ التكامل النفسي.

لكن هذا الاتحاد لا يخلو من الألم، لأن الشاعر يدرك أن الحب – كالموت – لا يمنح الخلاص إلا عبر الاحتراق الداخلي. لذا فإن النص كله يبدو مثل عملية تطهير نفسي، كما في التصور الفرويدي للحب كـ "استبدالٍ للغريزة العدوانية بطاقة الجمال".

خامساً: بين الحضور والغياب – الشعر كمسكن للروح.

ينتهي النص بلحظة انكشافٍ شديدة الحساسية، يقول:

«فأي بحر سيخبر عينيك أن تخففا عني وطأة الزمن؟!»

إنه سؤال الوعي بالزمن، بالهشاشة، وباستحالة الإمساك باللحظة. هنا يتحول الحب إلى ذاكرةٍ جمالية للوجود، وإلى مقاومة صامتة للفناء.

فالقصيدة ليست غزلاً، بل تأملٌ في معنى أن تكون عاشقًا — أي أن تحمل عبء الوعي والحنين معًا. في هذا المعنى، تلتقي القصيدة بروح ريلكه الذي كتب: «الحب هو العمل الأخير لمن يريد أن يصير إنسانًا».

خاتمة:

في هذا النص البديع، ينجح الشاعر في تحويل التجربة العاطفية إلى رحلة أنطولوجية نحو الذات والعالم. الحب والموت، الحضور والغياب، الجسد والروح — كلها أضدادٌ تذوب في لغةٍ منسوجة على خيوط الضوء والماء.

إنها قصيدة تكتب الإنسان من جديد: كائناً يُحبّ لأنه يموت، ويموت لأنه يعي معنى الحب.

لغة النص، بصورها الغنية وتوترها الإيقاعي ومجازها الكوني، تجعل منه مرآةً لجوهر الشعر نفسه: بحثًا لا ينتهي عن الحقيقة في وجه الجمال، وعن الخلاص في وجه الفناء.

***

بقلم: عماد خالد رحمة - برلين

......................

أفي الموت حب كما في الحب موت؟!

في كل درب وجدت الموت

ففي أي موت سأجد الحب؟!

في أي ريح سأجد المطر؟!

للنهر مسار ثابت، فكيف حاد النهر في

عن صواب البحر؟!

2-

ماذا أقول عن وجهك ذي الصباحات الملائكية؟!

ماذا أقول عن ابتسامتك التي تسافر في روحي مثل طائر؟!

لياسمين شفتيك رائحة الجنة.

لتمور نهديك مذاق الأبدية.

وحيث تكونين يكون البحر بقلبه المجنح وعينيه الزرقاوين!

3-

ما سر هذا الضوء الذي تحفره شفتاك

في خاصرة الأقحوان؟!

ما عدد الشجيرات التي تغرسها عيناك

في بساتين روحي؟!

هل أبالغ إذا قلت

إن البحر نقطة في بحر أنوثتك؟!

شعرك مرآة سماء حالمة.

وجهك يعكس الطمأنينة

مثل مساء أليف.

اسمك يتدفق عذوبة في شرايين الموسيقى.

نظراتك تنهمر فرحا" مثل عيد من مطر.

و ابتسامتك أميرة تحتفي بها الأشجار

يغني لها الحجر.

و كنت أنت فكنت أنا،

و كانت سماء فكان بحر!

4-

قلبي يستحق جمالك

فهل جمالك يستحق جنوني؟!

و هل تعرفين بأن جنوني يبتكر المطر؟!

قبليني إذا" لأنطق العالم بكلمة واحدة: أحبك.

عندما تحبينني يصير قلبك مفتاحا" لقلبي.

و عندما احبك يصير قلبي مفتاحا" لهذا الكون!

5-

عندما نظرت إلى عينيك أول مرة

رأيت طفلتين جميلتين كأنما ينبض فيهما المسيح!

و عندما قبلني نعاس الحديقة نظرت إلى عينيك

مرة" أخرى فرأيت البحر كله محمولا" في سمكتين بنيتين

و عرفت بأني لا أعيش النظرة ذاتها مرتين!

و قلت في نفسي:

فيك من ليلى ما يجعلني أخاف على الذئب منك!!

فأي بحر سيخبر عينيك أن تخففا عني وطأة الزمن؟!

و ماذا سأفعل غدا" حين يصير وجهك الجذر الوحيد لقلبي؟!

6-

هل القصيدة مرآة النهر الوحيدة؟!

كيف لمرآة أن تعرف كيف تفكر المرآة؟!

و لماذا تعطي الغزالة تفاحها للذئب،

و تعصر ليمونها في فم النهر؟!

***

وسيم الروسان

 

للشاعرة لبنى خناتي

بين الحرف والهاوية، تقف لبنى خناتي على تخوم الذات واللغة، لتعلن في قصيدتها «هوية معلقة» ميلاداً جديداً للوعي المأزوم، ذلك الوعي الذي يتلمّس ملامحه في مرايا الكتابة ليكتشف أن الصورة قد انطفأت في العمق. فهذه القصيدة ليست مجرد تأمل في ضياع الهوية، بل هي سفرٌ تأويلي في اغتراب الذات الأنثوية والإنسانية معًا، في مواجهة واقعٍ مضطربٍ تتنازع فيه اللغة والوجود والذاكرة.

إنها قصيدة تُخاطب اللاوعي قبل الوعي، وتتحرك بين طبقات الرمز والتصوير والوجع، كأنها مرثيةٌ للكينونة، أو نشيدٌ صامتٌ لروحٍ تبحث عن خلاصها. ومن هنا تأتي قراءتنا لهذه التجربة عبر مناهج متعددة تتقاطع في رؤيتها للقصيدة: المنهج الرمزي الذي ينفذ إلى عمق العلامة الشعرية، والمنهج الأسلوبي الذي يرصد البنية اللغوية والإيقاعية، والمنهج النفسي الذي يكشف التوترات الداخلية، وأخيراً المنهج الهيرمينوطيقي (التأويلي) الذي يسعى إلى فهم النص بوصفه دائرة دلالية مفتوحة على تعدد القراءات.

أولًا: البنية الدلالية والرمزية:

تقوم قصيدة «هوية معلقة» على جدلية الذات والبحث عن المعنى، إذ تقول الشاعرة لبنى خناتي:

 «أُعلّق الحرف فوق الوقت أسئلة

وأرتق الصمت كي تغفو حكاياتي»

يبدو الحرف هنا رمزاً للوجود، والوقت رمزاً للفناء، أما الأسئلة فهي جسر الوعي الذي لا يجد أرضاً يقف عليها. فالشاعرة لا تكتب من أجل الإجابة، بل لتؤكد أن الأسئلة نفسها فعل مقاومة ضد العدم.

- الرمزية المركزية تتجسد في الهوية المعلقة — تلك الهوية التي لا تستقر على انتماء محدد، ولا تجد في اللغة سوى مرآة مشروخة. في قولها:

 «أدلّ نفسي على نفسي فتخطئها

ويختفي الوصف في لبس الإشارات»

يتجلى الضياع الوجودي بأبهى صوره: الذات تبحث عن ذاتها ولا تعثر عليها إلا في الضياع. وكأننا أمام إعادة إنتاجٍ لثيمة «الاغتراب الهايدغري» حيث يصبح الكائن منفيًا في العالم، غريبًا حتى عن كينونته.

ثانيًا: التحليل النفسي – الهوية كجرحٍ وجودي:

من المنظور النفسي، يمكن قراءة القصيدة بوصفها رحلة داخل اللاوعي الممزق بين الرغبة في الانتماء والخوف من الذوبان. إن قولها:

 «كأن عمري مصلوب على غده

والأمس يجلد ما أبقته خيباتي»

يُحيل إلى صورة الصلب الرمزية التي تعبّر عن ألمٍ داخليٍّ ممتد، وعن شعورٍ بالذنب أو العجز أمام الزمن. إنها الذات التي تعاقب نفسها، لأن الماضي لم يكن على قدر التوق، ولأن المستقبل ما زال مؤجّلًا.

وفقًا لمدرسة كارل يونغ، فإن هذا الصراع يعكس مواجهة «الأنا» لظلّها — ذلك الجزء المكبوت من الذات الذي يرفض الخضوع للوعي. فالشاعرة هنا لا تواجه العالم الخارجي فقط، بل تواجه ذاتها بوصفها سؤالًا غير محسوم، وكأنها تقول: «أنا مرآةٌ تبحث عمّن يعكسها».

ثالثًا: المنهج الأسلوبي – بين الإيقاع والتوتر:

من الناحية الأسلوبية، تهيمن على القصيدة نغمة موسيقية متوترة، لا تستقر على نسقٍ واحد، بل تتراوح بين الانسياب والحدّة.

نلحظ هذا في التوازي الإيقاعي بين الجمل:

 «أُعلّق الحرف فوق الوقت أسئلة»

«وأرتق الصمت كي تغفو حكاياتي»

هنا يتكرر الفعل بصيغة المضارع («أعلّق»، «أرتق») ليعكس استمرارية الفعل الداخلي — فعل الكتابة بوصفها محاولة دائمة لترميم الذات.

تستثمر الشاعرة كذلك أسلوب التضاد في ثنائيات مثل:

الريح / الأزمان، الليل / الصبح، الغد / الأمس — وهي ثنائيات تكشف عن توترٍ دائمٍ بين القوى الداخلية والخارجية التي تشدّ الذات إلى جهتين متناقضتين.

أما الصور الشعرية، فهي لا تُرسم لتصف، بل لتكشف. فقولها:

 «فلم أقابل بها وجهًا أُعَرفه

سوى خرابٍ علا فوضى هوياتي»

يقدّم صورة مركّبة تجمع بين الخراب والفوضى بوصفهما حالتين نفسيتين ودلاليتين في آن، مما يجعل الصورة الشعرية انعكاسًا لبنية الانكسار الداخلي.

رابعًا: القراءة الهيرمينوطيقية – تعدد المعنى وتأويل الوجود:

من منظور التأويل، تنفتح القصيدة على قراءات لا نهائية، لأنّها لا تُقدّم حقيقة، بل تخلقها. فالشاعرة لا تُعرّف الهوية تعريفًا ماهويًّا، بل تجعلها فعلًا مستمرًا من البحث والتوليد.

«كم خنتها لغتي كي تستقيم لهم

لكن حرفي أبى تنكيس راياتي»

هذا المقطع يُفكّك العلاقة بين اللغة والسلطة. إن خيانة اللغة هنا ليست ضعفًا، بل مقاومة؛ إذ ترفض الشاعرة أن تكون لغتها مرآة للامتثال الاجتماعي أو الإيديولوجي. إنّها لغةُ تمرّدٍ نقيّ، لا تُنكس راياتها حتى في الهزيمة.

في ضوء بول ريكور وهرمينوطيقاه الرمزية، يمكن القول إن النص يمارس «فعل التأويل الذاتي»، إذ يتأوّل الشاعر ذاته عبر القصيدة، ويتحوّل النص إلى مجالٍ للوعي الذاتي ولإعادة تكوين المعنى الإنساني.

خاتمة:

إن قصيدة «هوية معلقة» ليست مجرد بوح شعري، بل بناءٌ فلسفي للذات في زمن التبعثر. إنها مرآة الروح وهي تحاول أن ترى وجهها وسط غبار الأسئلة، وأن تتصالح مع هشاشتها لا عبر الإنكار، بل عبر الاعتراف والبحث الدائم.

تكتب لبنى خناتي من المسافة الفاصلة بين اللغة والوجود، لتجعل من الحرف كائنًا حسيًّا يتنفس، ومن الإيقاع نَفَسًا للوجع الجميل.

إنها تضعنا أمام نصٍّ لا يصف الهوية بل يؤوّلها، ولا يكتب الذات بل يخلقها من جديد.

***

بقلم: عماد خالد رحمة - برلين

......................

هوية معلقة

أعلق الحرف فوق الوقت أسئلة

وأرتق الصمت كي تغفو حكاياتي

تلهو بيَ الريح لا الأزمان تشرحني

ولا الخرائط تهدي درب رحلاتي

أدل نفسي على نفسي فتخطئها

ويختفي الوصف في لبس الإشارات

وأشعل الصبح بحثا عن ملامحه

فلا أرى غير وجهي في انطفاءاتي

كأن عمريَ مصلوب على غده

والامس يجلد ما أبقته خيباتي

كل الذي كنته قد زال من أثري

فمن أنا الآن؟ ما شكل انتماءاتي؟

تاريخنا اليوم قد أضحى صدى طلل

يرتد محض أسىً تبكيه ناياتي

كم خنتها لغتي كي تستقيم لهم

لكن حرفي أبى تنكيس راياتي

ما جئت أطلب من دنياي غير هدىً

للروح حتى ترى ما خلف مرآتي

فلم أقابل بها وجها أُعَرفه

سوى خراب علا فوضى هوياتي

كان ارتجافا خفيا لست أفهمه لكنه مثل وحي

للنبوءات

***

لبنى خناتي

 

دراسة تحليلية وفق منظور اجتماعي - نفسي

تمهيد: إذا نظرنا إلى الأدب وعلم الاجتماع لوجدنا علاقة جدلية بينهما، لأن المجتمع لا يخلو من الادب وفنونه، لذالك علم الاجتماع هو العلم الذي يدرس فيه المجتمع وتطوره وتركيبه، والعلاقة الاجتماعية وما ينشأ عنها من نظم وقواعد وسلوك وثقافة، دراسة (علمية) وصفية تحليلية، تهدف إلى معرفة الوظائف الاجتماعية في تقوم بها، هذه الظواهر والنظم الاجتماعية والقوانين التي تحكمها الظواهر الاجتماعية هي نموذج من الأفكار والموضوعات العامة والأساليب والقواعد المتعارف عليها في المجتمع، ويذكر بعض النقاد الاجتماعيين (كجورج لوكاتش ولوسيان غولدمان وكارل ماركس) بأن النقد الاجتماعي له ملامح كثيرةمنها:

أولاً: النقد الاجتماعي هو (نقد تفسيري) وهو يتجه إلى مضمون العمل الأدبي وسياقه الخارجي، لأنه ناصره، ويحاول الناقد من خلاله أبراز الدلالات الاجتماعية أو التأريخية أو النفسية.

ثانياً: بعض النقاد يسميه النقد الاجتماعي او المنهج (السوسيولوجي) والذي يرتبط بجوانب (سايكولوجية وإيديدلوجية) والتي انعكست على الواقع الاجتماعي والفن والأدب وخاصة في مجال الرواية فأصبح للكاتب مساحة في التعبير والتصوير لواقعه المعاش وتطلعاته بكل حرية[1].

وتعتبر الرواية العربية من النصوص الأكثر ازدحاماً بالعديد من المعالم الفكرية والحضارية، وأكثرها استحضاراً لمظاهر الوجود الانساني عبر العصور، ترصده في كل حالاته، وتعبر عن أماله وهمومه ومشاكله، لهذا جاءت معبرة عن مختلف الصراعات التي تنشأ بين الانسان مع ذاته ومع الآخرين، أما الرواية (العراقية) فقد ارتبطت بعد عام ۲۰۰۳ بالواقع الاجتماعي وأصبحت لها أهمية واسعة لكونها لسان حال المجتمع بجميع شرائحه فقد يتميز هذا النمط عن بقية الأنماط بالواقع الاجتماعي بشكل أعمق وأوسع، إذ يصور مشكلات هذا الواقع الذي يحتويها وما تعانيه من أزمات خاصة ذاتية يرجع في جزء منه إلى طبيعة الظروف الاجتماعية والأوضاع السياسية القائمة، ويمكن أن يكون هذا النوع مصدراً من مصادر التاريخ للشخصية الزمنية التي تقع أحداث الرواية فيها مع الأخذ في الحسبان ما تقتضيه طبيعة الفن الأدبي من أصول يحقق بها ذاته وينأى بها عن مجرد التسجيل، ولم تكن الشخصية الروائية بعيدة عن الأحداث والتحولات التي شهدها المجتمع العراقي والتي أثرت تأثيراً كبيراً على سمات الشخصية سواء أكان تأثيراً سلبياً أم إيجابياً، إذ ارتبطت سمات الشخصية الروائية بالتغيرات التاريخية والبنائية التي تحدث في المجتمع ومن ثم فإن هذه السمات ذات طبيعة متغيرة مثل البنية التي تشكلها، وفي الوقت نفسه تتسم بالاستمرار النسبي، فالأحداث الجديدة تندمج مع الأحداث القديمة فتصبح غير قادرة على محوها، وإنما تتفاعل معها لتبرز نمطاً جديداً من الشخصية، لذا فإن الشخصية الروائية هي نتاج المجتمع العراقي، وقد تأثرت بالتحولات التي طرأت عليها في سياق العمل الروائي ودلالات هذه التحولات وأثرها على حياة الفرد، وما تبع تلك الحياة من قهر واستبداد وظلم واعتداء على أبسط حقوق الإنسان وحرياته الفكرية، لذلك جاءت الشخصيات الروائية منسجمة مع بعضها تعبر عن قضايا عميقة ومؤثرة في حياة إجتماعية منسجمة مع تعبيرها الذاتي وانفعالاتها النفسية[2].

ولا تزال الرواية ذلك الجنس الأدبي الأكثر ارتباطا بالواقع ومحاكاة له، عبر بنيتها ترسم لنا عوالم متخيلة ذات أبعاد حقيقية، تلتقي فيها الشخصيات في إطار زماني ومكاني هي موضوع الرواية، تتصارع حيناً وتتحاور حيناً آخر تحت حدث واحد تتحرك وتنمو شيئا فشيئا، فينشأ الصراع من فعل الشخصيات في الرواية، وهو ظاهرة فنية، يحرك العمل الروائي، ويحضر بقوة في كل الأعمال الروائية، وهو أيضا، من أساسيات البناء السردي، وقوام الخطاب الروائي، فيعد الصراع من المظاهر الديناميكية وهو يعبر عن الأفكار والقيم والحريات المتوارثة عبر الأجيال، ويظهرها ويساعد في انتشارها، كما يبرز تلك الأيديولوجيات المتناقضة وشرور النفس وآثامها ويساعد في كشف الجانب الباطني الخفي في العقل البشري بما يحويه من رواسب معرفية واجتماعية، إما الصراع في الرواية، فهو يطرح العديد من الإشكالات التي ترجع في الأصل إلى كونها جنساً أدبياً عربياً متأصلاً في التراث أم أنه جنس غربي وافد على الثقافة العربية، هذا من جهة، ومن جهة أخرى يتمثل الصراع في بنية النص الروائي بين عناصرها السردية، ويمكن لنا أن نعرفه بأنه: الاحتكاك بين الشخصية ونفسها، أو بين عواطفها الذاتية، أو عقيدتها، أو بينها وبين شخصيات أخرى، وكلما كان الصراع قوياً، كان العمل الروائي أنجح وأعمق فالصراع في الرواية إذن من بين شروط نجاح الشخصية وترجع أهميته فيها إلى أهميته داخل الحياة، لأنه من مميزاتها، والصراع بين الأفراد متجذر فيهم منذ وجود البشرية، ولكي يشتد الصراع ويحتدم يجب أن تكون بين هذه الشخصيات شخصية محورية من ذلك الطراز القوي العنيد الذي لا يقنع بأنصاف الحلول، فإما بلوغ كل ما يريد أو يتحطم، ومنه يتصاعد الصراع ويتطور ليشكل لنا الحدث الروائي، وتسعى الرواية من خلال الصراع إلى إبراز الواقع ورصد أحداثه وسبر أغوار النفس البشرية الأكثر عتمة وتنقل الرواية من خلال الشخصيات الروائية والأحداث وتيرة الصراع وحدته بكثير من التطابق يجعل منه نقلاً حرفياً عن واقع غليظ، ولكن كصراع تتجلى فيه الرؤية الإبداعية السردية، ويبرز الصراع على أكثر مستوى، وبالتالي تختلف مداخل التعبير والإيحاء به، حيث تشترك اللغة والحوار والمكان وغيرها من مكونات النص الروائي، وقد كشفت الرواية الحديثة عن نوع ضمني من الصراع، هو الصراع الطبقي الذي يمثل منظور الحياة الاجتماعية، فهو صراع بين قوى اجتماعية قاهرة وأخرى مقهورة، وتحدث المواجهة نتيجة لفقدان التوازن في النظام الاجتماعي، حيث تكون هناك طبقة مالكة للسلطة والثروة وأخرى فاقدة لهما، كما كشفت أيضاً عن أشكال أخرى للصراع ظهرت مع تأزم الحالة والواقع الاجتماعي الحقيقي للإنسان مثل صراع الإنسان مع القديم والجديد، وصراعه مع الخير والشر، وكل المتغيرات والمستجدات في حياته[3].

فعلم الاجتماع قدأهتم بالشخصية كونها أحد أسس النظام الاجتماعي فتحولت إلى نمط اجتماعي يعبر عن واقع طبقي ويعكس وعياً أيديلوجياً، إذ تعني الشخصية، التكامل النفسي والاجتماعي للسلوك عند الكائن الإنساني الذي تعبرعنه العادات والاتجاهات والآراء، وهذا يبين أن الشخصية تعبرعن تصرفات وأفكار الإنسان في المجتمع، وذلك عبر العادات والتقاليد التي تساعدفي فهم هذه التصرفات والأفكار[4].

في مفهوم الصراع وأنماطه

الصراع في السرد مرتبط بالعملية السردية، أي بالرواية والقصة، إذ يشكل العنصر الرئيس فيها تتوالى من خلاله الأحداث تدريجيا إلى نهايتها ويشتمل على عدة خطوات أهمها: نمو الأحداث وحركتها: فيبدأ الكاتب قصته بالحديث أو العرض ثم يطوره حتى تصبح القصة حياة متدفقة بالحركة ويحيلها إلى التمثيل، والقصة الناجحة تسير وفق حركة طبيعية بعيدا عن السرعة والبطئ، 2_الصراع والعقدة فيها: تتكون بعد أن يحسن الكاتب سرد الأحداث وفق حبكة قصصية تعتمد الصراع، متنامية إلى الموقف المتأزم والمشوق الذي ينتظره المتلقي بشغف إلى ماسيحدث بعده، وهو ما يمكن القول عنه احتدام الصراع، ففي المجال الأدبي الصراع يحمل معنا فنيا نقديا لا يراد بها معناها اللغوي الصرف، بمعنى النزاع والمحاربة والمصارعة بين شخصين، فقد يكون الصراع خارجياً بين شخصيات القصة والأفكار والمبادئ التي يعتنقها الأشخاص، أو صراعاً داخلياً ينمو في الشخصية ذاتها من خلال حيرتها وترددها بين المواقف المتباينة[5].

ويحضر الصراع بشكل جلي داخل الروايات كونها تصف الواقع وتتغلغل فيه وتصور تقلبات وأزمات في نفسيات شخصياتها، فالروائي يكتب عن كل ما يدور حوله من حقائق تحصل داخل المجتمع منها الصراع الذي نجده في كل مكان، فهي ترصده دائما داخل المتن الحكائي، فيشعر القارئ دوما بحضوره عند قراءته لأية رواية تغوص في حركة المجتمع وما يموج فيه من صراعات [6].

وفي الأصل الصراع هو أساس الدراما، والمسرحية والرواية يبنى كلاهما أيضا على الصراع، وهو تضارب يأخذ بالتضخم بين قوتين الإنسان والقدر، القديم والجديد، الفرد والمجتمع الإنسان والطبيعة أو قوى مختلفة في نفس الإنسان[7].

وبعبارة أخرى فإن الصراع يظهر في الرواية كشكل من أشكال التفاعل الشخصي الديناميكي بين طرفين أو أكثر، تربطهما علاقة اعتماد متبادل، وهو ينتج عن بروز قدر من الاختلاف وعدم التوافق في الرؤى والمصالح والأهداف والتوجهات كما قد نجده بين قوتين رئيسيتين متضادتين، ينتج عن تقابلهما أو التحامهما، ما يدفع الحدث إلى الأمام من موقف الآخر، وقد اصطلح على تعريف هاتين القوتين باصطلاحات مختلفة كالفعل ورد الفعل أوالهجوم والهجوم المضاد، ومن شروطه أن يكون له قيمة، ويكون نادر الوقوع، ويمكن قبوله التنافس، وأن يكون له تأثير في النفس [8].

ويكون الصراع في الرواية مزدوجاً فيقسم إلى:

الصراع الداخلي: وهو الذي يدور في أعماق الشخصية في الداخل نفسي أو ذهني كالشخص مع نفسه تتجاذبه قوتان، كقوة الحق وقوة الباطل، أو قوة الإرادة وقوة الإعراض، وغالبا ما يكون قصير المدة ومصيرياً.

الصراع الخارجي: وهو الذي يقع بين شخصيات الرواية في البيئة أو المحيط، ويكون طويل المدة أحياناً ومركزياً ومصيرياً، ويلجأ الروائي إلى الصراع الخارجي أكثر من الداخلي كي يزيد انفعال القارئ ويشوقه [9].

في مفهوم النمط وتعدده

يقصد بالنمط: هو مجمل ما يجعلنا نصنف فئة من الأشخاص على ضوء ما يشتركون فيه من خصائص أو سمات مشتركة (مكافحون، عدائيون، طيبون، ....) [10].

اما اهم انماط الصراع في الرواية:

1-الصراع الإجتماعي: فقد إرتبط مفهوم الصراع عند علماء الاجتماع بالنظم والعادات والتقاليد التي تختلف من مجتمع لآخر، ويرتبط الصراع فيها بالصراع الطبقي في الحياة الاجتماعية، فهو اجتماع بين قوى اجتماعية قاهرة وأخرى مقهورة، وهذا ناتج عن فقدان التوازن في النظام الاجتماعي، ذلك أن ظاهرة الصراع الطبقي في المجتمعات المستضعفة تشكل ظاهرة بارزة، حيث تتخذ كل طبقة اجتماعية وكل فئة من الفئات نظاما ومنهجا أيديولوجيا يؤطر فكرها ويحدد مسارها، وقد تعاملت الطبقة البرجوازية مع باقي الطبقات على أنها طبقة عليا وباقي الطبقات دونها، وبالتالي اعتبرت من بين الطبقات الراقية، الأمر الذي زاد من شدة الصراع بينها وبين باقي الطبقات[11].

وعادة ما يركز هذا النوع من الصراعات في الرواية على صراع الشخصيات مع بعضها البعض في إطار اجتماعي، الأمر الذي يكشف ارتباط الأديب بواقعه، وما يتيح له التعبير عن كل ما يجري فيه، فهو يشاطر الآخرين آلامهم وآمالهم، ولا بد أن يتأثر بكل ما يجري حوله على مسرح الحياة من أحداث[12].

ويعد هذا الصراع من بين أبرز الصراعات التي ظهرت في الرواية العربية نظرا لطبيعة المجتمع العربي الذي يسوده نظام القبائل، ويحكمه عرف العادات والتقاليد، وبهذا سعت الرواية إلى كشف الظلم الذي تعانيه شريحة كبيرة من المجتمع العربي، لتبشر بشرارة ستنطلق يوما لتحرق هشيم الإقطاع والاستغلال، ومن بين القضايا التي كشف عنها الصراع الاجتماعي في الرواية قضية الصراع من أجل الأراضي، والصراع من أجل الأعراف، وكشف التفاوتات الاجتماعية وانتشار الظلم والعبودية ومحاربة الفقراء وظلم المهمشين المسحوقين في المجتمع[13].

ويذكر(محمد عبد الكريم الحوراني) في كتابه (النظرية المعاصرة في علم الإجتماع): بإن الصراع الاجتماعي من المواضيع المهمة التي كانت محط اهتمام العديد من الدارسين والباحثين، ونُوقشت بين المفكرين في شتى المذاهب الفكرية قديما وحديثا، بسبب تعدد التفسيرات والتحليلات حول طبيعة وأسباب حدوثه ومظاهره ونتائجه، فظاهرة الصراع القائم في المجتمعات قديمة قدم المجتمع ذاته، فإذا تتبعنا ظهوره تاريخياً تجده في شتى المراحل التاريخية ماعدا المرحلة البدائية التي مر بها المجتمع في تطوره، فقد كان الصراع موجوداً بين السيد والعبد في المجتمع العبودي، وبين الإقطاع والفلاح في المجتمع الإقطاعي، وبين البورجوازي والبروليتاري في المجتمع الرأسمالي الأرستقراطي، وقد جاءت الرواية لتركز على هذا النوع من الصراع بغية كشف الظلم والتفاوت بين فئات داخل المجتمع وتتبعه بداخلها[14].

إما انواع هذه الطبقات في المجتمع فتقسم بحسب تصنيف (كارل ماركس) إلى:

البروليتاريا (العمال) تسمى هذه الطبقة الطبقة العاملة والفقيرة لأنها تبيع قوتها العاملة للبرجوازية مقابل أجر زهيد بمعنى هي الطبقة الفقيرة والمسحوقة في المجتمع، والمُستغلة من اصحاب الطبقات الأخرى الأعلى منها.

البرجوازية أو الرأسمالية: وهي الطبقة المالكة للأدوات، ورؤوس الأموال ولها دور مهم في مجرى الحياة وفي صنع تأثير النشاط الاجتماعي ولديها سيطرة أو سلطة كاملة على الطبقات الدنيا، وهنا يكمن التناقض الذي ينشأ بين أفراد المجتمع.

ج- الطبقة الإرستقراطية: وهي الطبقة المتنفذة وأفرادها من أصحاب  السلطة العليا وهذه الطبقة هي الأعلى في المجتمع[15].

2- الصراع السياسي أو الأيديولوجي: غالبا ما ينجم هذا الصراع من السلطة، وعالم الصراع يكون على منفعة معينة أو على سلطة فلا يمكن أن نجد سلطة قائمة دون صراع، وهو أيضا تعارض المصالح والمبادئ والأفكار والسياسات والبرامج التي تميز العديد من التفاعلات داخل أو بين الأنظمة السياسية، كما يعرفه البعض بأنه نزاع القيم والمطالب على السلطة[16].

ويسمى أيضاً بالفكر (الأيديولوجي)الذي يرتبط بنوع من الصراع الأيديولوجي كرؤية كونية، لأنها تحوي على مجموعة من المقولات والأحكام حول الكون، تستعمل في الاجتماعات الثقافية لإدراك دور من أدوار التاريخ وتقود إلى الفكر، يحكم على كل ظاهرة إنسانية بالرجوع إلى التاريخ[17].

3-الصراع الديني: يؤدي العامل الديني إلى جانب العوامل الأخرى دوراً كبيراً في إثارة الصراع في كل الحضارات التي شهدها العالم، ويمكن القول عنه أنه ذلك الصراع الذي يستجيب لواحدة من هذه المعايير، صراع بين مجموعات تتبع ديانات مختلفة، أو صراع بين مجموعات من الطوائف في نفس الدين أو القضايا التي تشمل قضايا دينية مهمة، ويظهر هذا الصراع ويتطور في الروايات العربية أو الغربية من خلال عدم تقبل ما جاء في الثقافة الغربية من أفكار، عادات سلوكات لباس هندام..)، والتي عادة ما تكون متنافية مع الدين الإسلامي أو العكس عدم تقبل الغرب للثقافة الإسلامية، ومثالها أن تتقمص أحد الشخصيات الدور في الأنغماس في عادات وسلوكات غير مدمجة في أعرافها وأعراف مجتمعها الأصلية مثل (شرب الخمر، أمرأة غير محتشمة اللباس) أو دخول إحدى الشخصيات الغير مسلمة للإسلام في الروايات الغربية أو العربية ويتضح لنا هذا الصراع أنه عبارة عن استعداد لدى بعض الشخصيات الروائية العربية للاستسلام والركوع أمام ما ترفضه المجتمعات الغربية من قيم وتقاليد مهما كانت غريبة عن التقاليد الإسلامية، الأمر الذي يخلق تلك الثورة على هذه القيم السائدة، والتقاليد المجتمعية، ومن ثم اتباع طريق تختاره من أجل تحقيق ذاتها للتخلص من التقاليد والأعراف التي تكبلها، وليس بالضرورة أن يحدث الصراع الديني من خلال تصارع الديانات، بل قد تتجلى من خلال كسر شخصية ما من الشخصيات لكل معالم الدين الإسلامي، وعدم تبنيها نتيجة عدم تشبعها بالإيمان أو تحليها بأحترام الذات، وإفتقارها للمحفزات الدينية، كل هذه الأمور تخلق بلاشك، صراعاً للشخصية مع باقي الشخصيات التي عادة ما تمثل دور ولي الأمرأو المراقب الاجتماعي، وهذه هي أهم أشكال الصراع وأبرزها حضوراً في الرواية [18].

4-الصراع النفسي: فعند علماء النفس اعتبر الصراع نزاع بين قوتين معنويتين تحاول كل منهما أن تحل محل الأخرى، كالصراع بين رغبتين أو نزعتين أو مبدأين أو وسيلتين أو هدفين، أو الصراع بين القوانين أو الصراع بين الحب والواجب، أو الصراع بين الشعور واللاشعور في ظاهرة الكبت، اي بين اللاوعي (الغرائز والرغبات) وبين الوعي(الضمير الحي)[19].

ويذكر (يوسف حسن حجازي) الصراع النفسي في كتابه (عناصر الرواية الأدبية): "بأنه العنصر الذي يدفع الدراما للتفاعل الحاد، فهو المادة التي تبنى منها الحبكة، والصراع الأقوى في البناء الدرامي هو الصراع النفسي الذي يجري بين الشخص ونفسه من حيث الرغبات والاستعداد للمجابهة والاهتياج من حدث ما، وقد يكون صراعا ضد القدر والمصير، كما يتشكل الصراع النفسي من عدم استطاعة الشخصية على اختيار نهج أو سبيل معين يسلكه مما يؤدي إلى حالة من القلق وعدم الرضا والارتياح، ويعبر الصراع النفسي في الرواية عن الصراع الداخلي للشخصيات، سواء صراع الإنسان ضد نفسه أي مع قوة داخلية كالآلام النفسية، وتظهر بتناول الراوي الشخصيات بالتحليل ومحاولة التغلغل في أغوار النفس البشرية ورصد سلوك الشخصية".[20]

بمعنى أن الصراع النفسي كصراع يحدث داخل نفسية الشخصية الروائية، أو ما يعني تصارع الشخصية مع ذاتها ويتعلق هذا الصراع بالحالة الذاتية، أو روح الشخص في تحدي المشكلة وما يكشف الصراع النفسي داخل الخطاب الروائي هو الحوار الداخلي اي (صراع الشخصيات) بينها، وه يعتبر عنصراً فنياً له الدور الفعال في الكشف عن عواطف الشخصية، وفي الكشف عن جوهرها، وما يجيش في أعماقها وعن عقدها وأمراضها وغرائزها المكبوتة، فيظهر الصراع النفسي في الرواية عبر عدة أوجه لعل أهمها صراع (البطل) مع نفسه في تلك الحوارات التي كان يخوضها في عقله الباطني، وفي الألم والخوف والحزن وتصاعد القلق لدى الشخصية المحورية وكذلك حواره مع الشخصيات الثانوية[21].

ولهذا كانت الكثير من الروايات تحكي عن التجاوزات الإنسانية وشرور النفس وأثامها، تحكي عن حزن الشخصيات آلامهم واغترابهم، واعتمادا على هذا التصور ودمج الأدباء أعمالاً تصور صراعات مريرة، واجه الإنسان فيها قوى الطبيعة وقوى الشر التي كانت تحول بينه وبين تحقيق أهدافه ومصالحه في الحياة، ومنه أصبح الإنسان ومشاكله محور التجربة الروائية، فاستفاد الكتاب من تلك الدراسات النفسية ومختلف تحليلاتها، ومن ثم إسقاطها على الشخصيات داخل الأعمال السردية، ومن مظاهر الأنهيار النفسي الذي وصفته الرواية هو صراع السلوك الداخلي النفسي المتمثل بمشاعر الحب والعاطفه والكره والغيرة والحسد وأمراض سايكوباثية كعقدة أوديب، او النرجسية، والشك المرضي، في الشخصية أو الهلوسة والكوابيس والاحلام، والقلق والتوتر، وجنون الأرتياب (البارنويا)، وإنفصام وتعدد الشخصيات (الشيزوفرينيا) والشك، والمكر والخداع، وصراع الموت والحياة، والخير والشر، وصراع الهو (الرغبات)مع الأنا الأعلى (الضمير) والأنا الأعلى (المجتمع)[22].

وقد اهتم علماء النفس في دراسة الشخصية وتحديد انفعالاتها النفسية ومنهم (يانغ) والعالم الألماني(سيغموند فرويد) الذي يرى: أن الشخصية هي نتاج قوى لاشعورية، أي أن سلوك الفرد وحياته يمكن أن تتغير دون وعي منه، في هذه النظرية أعطى فرويد مفهوماً جديداً عن الواقع النفسي وهو تقسيم البواعث النفسي إلى ثلاث نظم أو عناصر من خلال تفاعلها تتشكل شخصية الفرد وهذه العناصر تعطى نموذجاً للشخصية، وهي:

(الهو): هو الجزء الأكثر بدائية، وهو متبع الطاقة النفسية الغرائز والدوافع الجنسية والعدوانية، وهي عبارة عن نزوات وشهوات فطرية وظيفته الأساسية جلب المتعة والراحة للفرد وهو يستوجب الإشباع في حينه، وظيفياً يعمل وفق مبدأ اللذة.

(الأنا): يمثل العالم الواقعي الشعوري ويستخدم للإشارة إلى وسائل الإشباع، ويمثل مجال الوظائف الذهنية كالتفكير والإدراك يُعد المراقب الذي يعمل للتكيف في حدود الواقع، يعمل على تأجيل إشباع النزوات العزيزية الصادرة عن الهو.

ج- (الأنا الأعلى): هو كل ما ينهي عنه صوت التفكير العميق او (الضمير)، والأنا الأعلى يسمى بالأنا المثالي، هو سبب تأنيب الضمير والشعور بالذنب عند التصرف خارج المعايير الاجتماعية المقبولة، الأنا الأعلى يبحث دائما عن الكمال، يعيق حاجات ودوافع الهو[23].

في مفهوم الشخصية الروائية

ويعرفها (جيرالد برنس) في (المصطلح السردي) حيث جمع تعريفه تعريفات الكثير من النقاد والأدباء، فهي عنده كائن موهوب بصفات بشرية وملتزم بأحداث بشرية والشخصيات يمكن أن تكون مهمة أو أقل أهمية وفقاً لأهمية النص، فعالة حيث تخضع للتغيير، مستقرة، حينما لا يكون هناك تناقض في صفاتها وأفعالها أو مضطربة وسطحية بسيطة لها بعد واحد فحسب، وسمات قليلة، ويمكن التنبؤ بسلوكها أو عميقة، معقدة لها أبعاد عديدة قادرة على القيام بسلوك مفاجئ[24] .

كما عرفت الشخصية أيضا بأنها: صورة تخييلية استمدت وجودها من مكان وزمان معينين، وانصهرت في بنية الكاتب الفكرية الممزوجة بموهبته المتشكلة فوق الفضاء الورقي الأبيض، لتسهم في تكوين بنية النص الروائي، وتنجز وظيفتها المسندة إليها تأليفاً وتعكس، بعلاقاتها مع البنى الحكائية الأخرى ظروفاً اجتماعية واقتصادية وسياسية، مسهمة بذلك في تكوين المدلول الحكائي واحتوائه، ومؤثرة تأثيراً فعالاً في المتلقي، دافعة إياه إلى إنتاج دلالة[25].

ويعرفها (أحمد رحيم كريم الخفاجي) في (المصطلح السردي) بأنها: " أحد الأفراد الخياليين أو الواقعيين الذين تدور حولهم أحداث القصة أو المسرحية".[26]

اما(حميد الحميداني) فيعرف الشخصية في كتابة (بنية النص السردي): هي مجموع ما يقال عنها بواسطة جمل متفرقة في النص أوبواسطة تصريحاتها، وأقوالها، وسلوكها".[27]

و(يمنى العيد) تعرف الشخصية في كتابتها (تقنيات السرد الروائي في ضوء المنهج البنيوي): "أن الشخصيات باختلافها هي التي تولد الأحداث وهذه الأحداث تنتج من خلال العلاقات التي بين الشخصيات فالفعل هو ما يمارسه أشخاص بإقامة علاقات في ما بينهم ينسجونها وتنمو بهم، فتتشابك وتنعقد وفق منطق خاص به، و ترى الشخصية برغم اختلافها هي التي تصنع الأحداث وتنتج من خلال الأحداث العلاقات التي تجمع بين الشخصيات".[28]

ويعرفها ايضاً (عبد الملك مرتاض) في كتابه (نظرية الرواية): "وهي أحد مكونات العمل الروائي الأساسية، وتقوم الشخصية بتصوير المجتمع الإنساني الذي يشكل فيه، وهي التي تنجز الحدث وهي التي تنهض بدور الصراع أو تنشيطه من خلال سلوكها وأهوائها وعواطفها".[29]

الشخصية في المنظور الإجتماعي

يختلف مفهوم الشخصية بحسب اختلاف المجال ففي المنظور الاجتماعي تتحول الشخصية إلى نمط اجتماعي يعبر عن واقع طبقي، ويعكس وعياً ايدلوجياً[30].

ولا تقف أهمية الشخصية عند حد معين، بل وقد تمتد وتتوسع حتى تفوق في ذلك على العناصر الأخرى كالزمان والمكان والحدث، وهذا ما تظهره جلياً العلاقة مع تلك العناصر وللشخصية مهام كبيرة في العمل الروائي أهمها:

إنها تُعبر عن فكر الكاتب وأيديولوجيته، من خلالها يستطيع الروائي التعبير عن أرائه، وبواسطتها يستطيع أن يصل إلى الحقائق التي يعتقد بها ويريد أن يوصلها إلى المتلقي.

يعبر الكاتب أو المبدع عن هموم المجتمع التي تؤلمه بواسطة تصويره طبقاته المختلفة وشخصياته التي اتصفت بالهموم والمشاكل .

ج- إن الرواني قد يلجأ في بعض الأحيان من أجل أن يعبر عن ذاته، وإظهار سيرته للناس إلى خلق شخصية روائية تكون موازية لشخصيته، أو مشابهة لها ولأيديولوجيتها التي تحملها، إن الشخصية هي التي تبعث الحركة في العمل الروائي، وهي التي تسير الحدث وتحركه عبر تفاعلها معه، فلا وجود لتصاعد الحدث في الرواية لولا الشخصيات التي تعمل على ذلك. فالحدث لا يوجد من لا شيء، ولا يتصاعد من لا شيء، بل يتصاعد عبر هذه الشخصيات، ثم أنه لا يتطور من تلقاء نفسه بل يتطور عبر تفاعل هذه الشخصيات معه واندماجها فيه وفي بعض الأحيان يلتبس الأ لدى كثير من قراء الروايات عندما يظنون أن الشخصية الروائية هي نفسها الشخصية الإنسانية الطبيعية وإن إظهار شخصية طبيعية في عمل فني كما هي في الحياة محال دون هذا القول نؤيده ونجده يتحقق في جميع الروايات التي نقرأها وندرسها، إذ نلاحظ كثير من الشخصيات الروائية تمتاز عن الشخصية الواقعية بأنها من صنع المؤلف، وأن المؤلف لم يخلقها إلا لكي تؤدي غرضاً معيناً فضلاً عن دورها في بث الحوار واستقباله واصطناع المحاكاة ووصف المناظر وتضريم الصراع وتنشيطه على وفق سلوكها وأهوائها، وكثير من الشخصيات الروائية تمتاز عن الشخصية الواقعية بأنها من صنع المؤلف، وأن المؤلف لم يخلقها إلا لكي تؤدي غرضاً معيناً فضلاً عن دورها في بث الحوار واستقباله واصطناع المحاكاة ووصف المناظر وتضريم الصراع وتنشيطه على وفق سلوكها وأهوائها [31].

وعلى اختلاف أنواع الشخصيات فهي في المنظور الإجتماعي وظيفتها واضحة فيحتاج النص الروائي إلى أنماط من الشخصيات، تؤثر الحوادث في بعضها البعض، فيتغير وينمو، ولا يؤثر في بعضها الآخر فيبقى على هيئته الأولى، وهذا يدفع النقاد إلى أن يطلقوا بعض الصفات التي تحدد مرتبة كل شخصية بها، وأكثر الصفات تداولاً هي الرئيسة والثانوية، والايجابية والسلبية، والسطحية والمدورة، والنامية، فالشخصية الروائية تعرف من خلال علاقتها بالشخصيات الأخرى، إذ تعني الشخصية التكامل النفسي والاجتماعي للسلوك عند الكائن الإنساني الذي تعبر عنه العادات والاتجاهات والآراء، وهذا يبين أن الشخصية تعبر عن تصرفات وأفكار الإنسان في المجتمع، وذلك عبر العادات والتقاليد التي تساعد في فهم هذه التصرفات والأفكار، إذ تعد الشخصية الواحدة عبارة عن مجتمع بعامة تحمل نمط معين تساعد على إنتاج شخصيات عدة مختلفة، فقد يصور البعد الاجتماعي للشخصيات من خلال الصراع بين الشخوص والذي نقل حدته بين شخوص الفئة الواحدة، كما يظهر البعد الاجتماعي للشخصية عبر مكانتها الاجتماعية، أي أن البعد الاجتماعي للشخصية متعدد الجوانب، إذ يركز على الشخصية من خلال محيطها الخارجي، وأوضاعها، وأيديلوجيتها وكذلك مكانتها الاجتماعية وعلاقتها بالشخوص الأخرى[32].

أنواع الشخصيات في الرواية

وهناك نوعان متميزان منها: (الشخصيات الثابتة والشخصيات النامية)

فالنوع الأول (الشخصية الثابتة): فهي تبنى فيه الشخصية عادة حول فكرة واحدة أو صفة لاتتغير طوال القصة وتكون أحادية الجانب فتبنى على سجية وفكرة واحدة فلا تؤثر فيها الحوادث ولا تأخذ منها شيئاً ولا تؤثر فيها البيئة ولاغيرها من الشخصيات وتكون تصرفاتها تبعاً لذلك معروفة لدى القارئ فهي لا تفاجته بجديد على نحو مقنع . والشخصيات الثابتة لها فائدة كبيرة في نظر الكاتب والقارئ فمما يسهل عمل الكاتب أنه يستطيع بنائها وتقيمها بلمسة واحدة وهي تخدم فكرته طوال القصة ولا نحتاج إلى تقديم أو تفسير ولا تحتاج إلى تحليل وبيان والقارئ فأنه يجد في مثل هذه الشخصيات بعض اصدقائه ومعارفه الذين يقابلهم كل يوم كما من السهل عليه أن يتذكرها ويفهم طبيعة عملها في القصة ومن أمثلة هذه الشخصيات التي لا تتغير ولا تختلف طبائعها و ادوارها ويبقون على حالتهم منذ بداية القصة كأنهم حجارة شطرنج كالشخصيات التي يخلقها (تشارلز ديكينز و شخصيات رواية عودة الروح (التوفيق الحكيم)[33].

أما النوع الثاني (الشخصية النامية): فهي على نقيض الثابته تبنى على سجايا وابعاد مختلفة وتتطور بتطور الحوادث في الرواية واحتكاكها بغيرها لهذا هي تفاجأ القارئ بين فينة وأخرى مع مجرى الأحداث وعلى نحو مقتنع بتفكير وسلوك جديد فهي للكشف لنا تدريجياً خلال القصة ويكون تطويرها عادة نتيجة لتفاعلها المستمر مع الحوادث في القصة ويكون هذا التفاعلي ظاهراً أو خفياً وقد ينتهي بالغلبة أو الاخفاق وياهم ما يميزها هي المفاجئة المصنعة بالتغير فأن لم تفاجتنا بصفة أو عمل أو ردة فعل جديدة فهي ثابته والشخصيات النامية تكون في أعمال روائية كثيرة، (كرواية مدام بوفاري) وشخصيات في روايات (ديستوفسكي) و (جورج اليوت) وشخصيات في رواية ترثرة فوق الديل) لنجيب محفوظ[34] .

وهناك أشكال أخرى للشخصيات الروائية منها:

الشخصية الرئيسية: هي شخصية (فنية) يختارها القاص لتمثيل ما أراد تصوير أو ما أراد التعبير عنه من أفكار وأحاسيس، إذ يوجد في كل عمل روانی شخصیات تقوم يعمل رئيسي إلى جانب شخصيات تقوم بأدوار ثانوية التي تعني أقل أهمية من قبل الكاتب فالشخصية الرئيسية هي التي تقود الفعل وتدفعه إلى الأمام، والشخصية الرئيسية هي الشخصية التي تتمحور عليها الاحداث في السرد و هي الفكرة الرئيسية التي تسبح حولها الحوادث و هي الهام بموقف بطولي فردي.

الشخصية الثانوية: هي الشخصية التي تكون العامل المساعد الربط الاحداث و إكمالها الرواية وهي التي تضيء الجوانب الخفية للشخصية الرئيسية وتكون إما عوامل كشف عن الشخصية المركزية وتعديل سلوكها، وإما تبع لها تدور في فلكها و لنطق باسمها فوق أنها تلقي الضوء عليها تكشف أبعادها، والشخصيات الثانوية مشاركة في الحدث وليست مجرد ظلال معنى هذا أن الشخصية الثانوية لها مكانتها أو دورها في الرواية والكاتب المتمكن هو الذي لا يستغرق كل فئة في شخصيته الرئيسية، بل يهتم بشخصيته الثانوية.

الشخصية المسطحة: هي كل تلك الشخصية المبسطة التي تمضي على كل حال لا تكاد تتبدل ولا تتغير في عواطفها ومواقفها وأطوار حياتها، ويعني بالشخصية المسطحة ذات البعد الواحد أو الوجه الواحد، التي نستطيع التعرف عليها منذ البداية هي ليست نادرة أو متفردة، وتجد تصرفاتها مستقيمة في اتجاه محدد حتى نهاية العمل.

الشخصية المدورة: هي الشخصية التي لها اكثر من بعد أو أكثر من وجه، وهي نادرة متفردة، معقدة، ودائماً ماتكون في الروايات الإجتماعية الواقعية لكي تمثل الصراع النفسي أو الإجتماعي، فهي الشخصيات التي يشكل كل منها عالماً كلياً أو معقداً، في الغير الذي تضطرب فيه الحكاية المتراكبة وتشع بالمظاهر كثيراً ما تتسم بالتناقض و هي تلك المركبة المعقدة لا تستقر على حال، لا يستطيع المتلقى أن يعرف مسبقا ما ستؤول إليه، لأنها متغيرة الأحوال، فهي على شأن هذه الشخصية المعقدة تقول عنها شخصية غريبة الأطوار لا تستطيع تخفين أو توقع ما ستؤول إليه[35].

التعريف بالمؤلف

عبد الرضا صالح محمد هو كاتب وروائي وقاص وفنان تشكيلي عراقي، ولد في جنوب العراق في محافظة ميسان عام 1950، وهو عضو في نقابة الفنانين العراقيين، وجمعية التشكيلين العراقيين واتحاد أدباء وكتاب العراق، حصل على عدد من الجوائز الأدبية في القصة القصيرة وله مؤلفات عدة منها: إمرأة الظل، أضغاث مدينة، خرير الوهم، ثلاثية اللوحة الفارغة، بعد رحيل الصمت، سبايا دولة الخرافة، الكواز ورحلة التيه.[36]

ملخص رواية (إمرأة الظل):

تقع الرواية في 249 صفحة مقسمة إلى جلسات، تدور أحداث الرواية حول امرأة غيورة وماكرة لعوب (أطياف وهي نفسها فاتن) التي تحب منذ الطفولة بطل الرواية (عدنان) الذي يحب صديقتها (وفاء) التي يفضلها عليها ويختارها زوجة وينجب طفلة منها (صبا) فيعيش في استقرار وسعادة زوجية دامت 15سنة، ثم تبقى هذه المرأة تلاحقه حتى بعد زواجه، ثم تختفي لفترة طويلة يعلم بعدها أنها تزوجت خارج العراق، وتبدأ الأحداث في ألأعظميه ببغداد عندما كان (عدنان) الذي يبلغ الخمسين من العمر يتجول في السوق ليشتري هدايا لأبنته وزوجته قبل عودته لمدينته، وهو موظف بسيط قادم بمهمة ابتعاث من دائرته في العمارة إلى بغداد، وعندها يلتقي بالصدفة بشابة جميلة تغويه ويعجب بها فتسلب عقله لدرجة الوقوع معها في المحرمات وارتكابه الخيانة مع هذه المرأة صاحبة الماضي الغابر والحاضر الضبابي (أطياف) ولكنه يكتشف فيما بعد أنها (فاتن) عادت من جديد لتدمر أسرته وحياته، وبذلك ينشأ صراع حاد بينهما يؤدي إلى مرضه النفسي الذي يشرف على علاجه دكتور نفسي يتعرف علية في عودته من بغداد في السيارة التي تقلهما إلى مدينة العمارة وهو الدكتور(عماد) الذي يشرف على علاجه بعد عودته إلى العمارة، ولا سيما بعد دخول عدنان في دوامة من الشك بالمرأة التي مارس معها نزوته الشهوانية العابرة التي أصبح يشبهها بامرأة يعرفها سابقاً تشبهها، وشكه ايضاً بزوجته الوفية التي يظن أنها مثله خائنة من جهة، ومن جهة اخرى يعاني تأنيب الضمير على فعلته التي يشعر بسببها بأنه تم فضحه بسبب تعامل زملاء عمله معه وتعامل زوجته له، ما أوصله إلى مرحلة الانهيار العصبي.

وأخذ ينبش في ذكريات الماضي ويستذكر مرحلة الطفولة والشباب ونشأته الأولى في قضاء المجر مع (وفاء وأطياف وأخيها يوسف) فتعود هذه الشخصيات كأشباح تطارد خياله المجهد، فيقرر إن لا راحة له إلا بعد ان يتأكد من المرأة التي لها ظل فيعود إلى بغداد مرة أخرى ليبحث عنها ليتأكد من هويتها ويحاول أن يبعدها عن حياته ويقطع صلتها بزوجته خشية أن تفضحه أمامها، وبعد ملاحقة ماضيها من اخيها (يوسف) أستطاع واخيراً تحديد موعد آخر يجمعهما، وسرعان ما يشعر أن هذا الموعد قد اخذ غير منحى لأنها لم تتقبل فكرة ألابتعاد عنه حتى بعد انتقامها منه.

فيحدث نقاش محتدم بينهما يؤدي إلى التدافع فتسقط أطياف ويتوهم أنه قتلها، ويهرب مسرعاً للعودة إلى مدينة عماريا، وبعدها تبدأ رحلته في التعذيب النفسي والتوهم والشك والخوف والقلق والتيه في دوامات الترقب لمواجهة مصير السجن، فتنتهي الرواية بعد احتدام المشاهد والحبكات وتنوع أشكال الرواة التي تسرد من وجهة نظرها حكاياتها أو حكايات غيرها فتدفع الأحداث إلى الاشتباك الذي ينتهي بتأزم يقود إلى الحل في النهاية نفاجأ بأن(عدنان) راقد في مستشفى حوله زوجته وابنته تذرفان الدموع وَسَط فرحة عارمة بعودته للحياة بعد ان كان مَيِّت سريرياً وهو يفتح عينيه أثر غيبوبة دامت أسابيع، ونكتشف أنه كان ضحية انفجار في سوق ألأعظميه حتى قبل أن يشتري الهدايا لأبنته، وهذه الهواجس والذكريات والصراعات التي طالته والترقب الذي عاشه والخيانة التي ارتكبها، ماهي إلا بواطن عقله الداخلي اللاوعي فقد كانت من وحي خياله الغير يقظ، وجميع أحداث الرواية لم تحدث لكن ربما تكون الأشخاص حقيقية لأنهم أطياف الماضي الذي يمثل في رغبته الدفينه (بفاتن) التي لم يصارح نفسه باشتهائها مسبقاً، أو ربما يكون هذا السيناريو والاسترجاع وسيله ليعمل عقله على نسج هذه السيناريوهات لكي لا يدخل في سبات الموت فيبقى حيٌّ يُرزَق.

التطبيق

أن رواية (امرأة الظل)تضمنت الكثير من الشخصيات (رئيسة وثانوية) و (المعقدة والبسيطة) فجعلت العمل الروائي ينهض بالأحداث وصولاً إلى الذروة والصراع فالشخصيات هي أحد تقنيات العمل السردي والروائي جعل لها ملامح وتوجهات عقائدية وفكرية أيديولوجية بالأضافة إلى عقد نفسية في شخصياته الرئيسية فجعلها تنكشف ووتوضح جوانبها للقارئ، ولأنه راوي عليم فهو يسرد عن شخصياته وعن ماضيها ومستقبلها وهو يعرف مايظهر منها وما بطن وهو عليم ببواعثها الداخلية النفسية وسلوكياتها وقسماتها وبواطنها فقد رسم ملامح كائناته الورقية بكل دقة وجعل القارئ يكتشف بالتأويل أنماط من هذا الصراع الأجتماعي والنفسي والديني والسياسي لهذه الشخصيات سواء كان صراعها داخلي بين ذاتها أو خارجي مع غيرها والمجتمع، ومن اهم انماط الصراع تبعاً لنوع الشخصيات وتطور الأحداث في الرواية هي:

1-الصراع الاجتماعي: في الرواية يوجد نمط الصراع الأجتماعي من أحتدام واشتباك الاحداث التي تشترك من فعل الشخصيات في الرواية ومنها شخصيات ثانوية نامية معقدة، كشخصية (يوسف) وحكايته مع حبيبته(ديما) فيظهر الصراع الطبقي بينهم والذي أحال من فكرة استمرار زواجهم (يوسف) المهندس والحاصل على شهادة الدكتوراء في الهندسة المدني، لكنه يبقى شخصاً وافداً من الجنوب وتحديداً من قضاء (المجر) في محافظة (ميسان) وهو من أبناء الفلاحين اصحاب الطبقة البسيطة الفقيرة، أو ماتسمى (البلورتاريا) أما (ديما) البنت المدللة، ابنة الطبقة المخملية تسكن منطقة (المنصور) في محافظة (بغداد) واهلها من اصحاب التجارة ورؤوس المال اي من الطبقة (البرجوازية) فهذا الأختلاف الطبقي والأقتصادي ولد صراع بين الشخصيات (خارجي) مع المجتمع وأعرافه صراع الفقير والغني وأختلاف المستويات المعيشية، حال دون اكتمال قصة حبهما وزواجهما، فكان سبب هذا الصراع هو(المجتمع) وقيوده الأقتصادية، ومثال على ذلك: "ذات جمعة كنت مشغولاً بتنظيف البيت، جاءتني مكالمة من امرأة لا أعرفها، ولما سألتها من تكون قالت:

- أنا (ديما) ابنة بهجت المقاول الذي تعمل معه" ص108.

ومثال ذلك أيضاً في وصف يوسف لمكانة ديما المجتمعية وحياتها المترفه في قوله: "كانت ديما تنتظرني على باب القصر وعندما دخلت، جلست في صالة طولها كذا وعرضها كذا كأني جالس في قصور النبي سليمان (ع)، صروح ممردة بالقوارير، ولجة كأنها ماء البحر ونقوش تعجز العين عن متابعتها، ورقوش ومنمنمات غاية في الدقة، ومنحوتات تحكي لك مقامات الترف وأخيلة الستائر والأرائك وغيرها" ص109.

وفي نهاية الصراع تبخرت الأحلام وافترقا الحبيبين لفوارقهما الطبقية، ومثال ذلك: " نعم ما دمنا نحب بعضنا، ولم يكن حاجز بيننا سوى أبيها بهجت والأيام كفيلة بتذليله والقبول بالأمر الواقع، وتعود الأيام صافية نسكن بقصره وتحت رعايته. لكن الذي حصل بعد ذلك غير هذا"ص118.

ويمكن ملاحظة نوع آخر للصراع المجتمعي في شخصية نامية أيضاً ومعقدّة وهي (لين) فتاة ليل الهاربة من أهلها، والتي اجبرتها ضغوط المجتمع وسلطته المضطهده لها، فصراعها الشخصي كان سببه إفرازات المجتمع واصحاب السلطة ومنهم (الضباط) وأستغلالهم لها ومعاملتها كسلعة للمتاجرة بشرفها وجسدها والنظر كوعاء لهم لتفريغ شهواتهم الحيوانية وكأنها ليست من البشر ولديها روح وفكر، ومثال ذلك: "اضریت عن تناول الطعام الذي يدس فيه المخدر حتى صحيت وهددته بأهلي وعشيرتي، وأن ما يفعله جريمة لا تغتفر، وأن ورائي رجالاً بل راح يضحك مستهزئاً بي، اخبرته سيقتصون منه أو أنا أقتص منه إذا لم يتركني لحالي، لكنه لم يصغ لكلامي، تشاجرت معه ودفعته، وبدأت بالصراخ بكل قوتي، ولما رأى الغضب والهيستريا مني صفعني بكل قوته على وجهي حتى أدمى فمي"ص141.

فهذا الصراع مع الشخصيات الأخرى كان سببه المقاومة ورفض الأستغلال، وخاصة هي من أسرة محافظة وكانت زوجة مخلصة ولديها تحصيل علمي، لكن ظروف الحياة والفقر وتخلي اهلها ومحاربة المجتمع لها والاعتداء عليها واغتصابها، جعلها تنحرف بالإجبار وتتغير سلوكياتها، ومثال ذلك بقولها: "لقد باعني النذل كما تُباع الخراف في حضائرها، أو كما تباع النساء في سوق النخاسة، وكأني ملك له"ص143.

وكذلك أيضاً: " لم تفعل بي كل هذا؟ ألا تعلم أني بنت أناس ولي زوج وطفلان؟ وأنا قادمة من أهلي لرؤية أطفالي ؟ أليس لك ضمير؟ ألا تخاف الله؟ ولو كانت لك أخت، هل تحب أن يفعل بها كما تفعل بي؟ أما شبعت؟ أرجوك أطلقني أرى أطفالي"ص141.

وادى ذلك الصراع الاجتماعي أن تصبح من الطبقة اصحاب الفقيرة المهمشة المسحوقة تسكن منطقة (البتاوين في بغداد) ومثال ذلك: "سقطت دموعها، وراحت تبكي وتتمتم، أين كنت ؟ وماذا صرت ؟ تائهة لا سكن لي ولا أهل ولا معين، يا حرقتي على أطفالي منذ عامين لم أرهم، وزوجي حبيبي الذي ضحى من أجلي لا خبر له، مضى دار العز، وسكنت دار الذل والهوان، وبقيت في ضلال لا أعرف أين ومتى ينتهي بي المطاف"ص142.

والمؤلف يصور لنا في روايته هذا الصراع الناتج من ظلم المجتمع لهذه الطبقات المهمشمة واستغلال فقرهم وحاجتهم، والتأثير في توجهاتهم الأخلاقية فالروائي يمثل صراع (لين) الخارجي مع مجتمعها ومع أهل زوجها الذين طردوها بعد استشهاد زوجها (مصطفى) في الموصل واخذهم لأطفالها وحرمانها منهم، فظلم أفراد المجتمع لها جعلها في صراع مع محيطها الخارجي ومع شخصيات أخرى في الرواية، وصراع مع ذاتها (الداخلية) وهذا الصراع يذكره الروائي كنوع من التبرير لبعض الشخصيات التي نراها في واقعنا الاجتماعي وكيفية تبرير سلوكها ورضوخها للظروف القاهرة وإستسلامها وحتى التحكم في انحرافها عن مسيرها المستقيم وفيه نوع ايضاً من التبرير لأفعالها الناتجة من قسوة المجتمع لها.

2-الصراع السياسي أو الايديولوجي: ويمكن رصد نمط هذا الصراع في الرواية بأفعال شخصياتها النامية والمعقدة وهي غالباً ماتكون شخصيات رئيسية كشخصية الطبيب النفسي والأمراض العقلية (عماد) صديق عدنان أو ربما هو صوت المولف الذي يختبأ خلف هذه الشخصية بتقنية (القناع) أو (المؤلف الضمني) ليتخذ هذه الشخصية كستار يبث من خلالها افكاره الأيديولوجية الخاصة، فبتقنية (الأسترجاع)وعلى لسان شخصية (عماد) يروي لنا الماضي وصراعه مع السلطة المتمثلة بالنظام الدكتاتوري ومثال ذلك: "لم أكن أعرف أن السياسة متدنية إلى هذا الحد من الحقارة والجريمة في هذا الوقت، وكل ما أعرفه وعشته أن للإنسان حرية في رأيه ومعتقداته أياً كانت فقط عدم القيام بأنشطة تتعارض مع توجهات الدولة ومحاربتها، ومن هنا بدأت المعاناة والحرب العلنية تجاهي، وأول الغيث ما تفاجأت به هو القطر، فقد تم تنحيتي من عمادة كلية الطب في جامعة بغداد إلى أستاذ في نفس الجامعة، ثم بدأ التعرض والتحرش القذر بعائلتي"ص47.

فالطبيب عماد يكشف لنا صراعه (الخارجي) مع محطيه ومجتمعه واضطهاد السلطة والنظام البائد له وهروبه من (بغداد)إلى الجنوب أي إلى (العمارة) بعد خوفه على اسرته وأولاده والبحث لهم عن مكان آمن للعيش بعد أرهابهم وترويعهم من قبل أفراد الأمن، جاء هذا الصراع نتيجة لأفكار عماد الأيديولوجية الحرة الجريئة تجاه جبروت وطغيان السلطة وهروبه من حبل المشنقة بسبب تحديه السلطة كمواطن عراقي ثائر وتصديه للنظام الجائر، وصراعه هذا افقده الأمن والحرية والعيش بخوف وقلق التعذيب والسجن، وهو يصف حال التغرب المجتمعي اثر الفكر الذي يحمله الانسان الحر والذي يستمر بطبع الانسان وديمومته حتى في زمن مابعد سقوط الدكتاتور، ومثال ذلك: "أما ما يشوب البلاد الآن من كثرة الأحزاب والتكتلات والجماعات فهم في أغلهم أناس غير متعلمين ولا متحضرين جاءوا من خلف الحدود مجندين من الدول التي لجأوا إليها لتنفيذ مصالحها ومطامعها، وما تمليه عليم تلك الدول من أوامر، ضاربين عرض الحائط بما يعرف بالانتماء الشريف للوطن ومقدساته"ص53.

وقد يشترك الصراع السياسي والفكري الديني والمجتمعي في أحداث الشخصية الروائية الواحدة في وصفها صراعاً خارجياً له، وهذا الصراع يكشفه لنا الشخصية الرئيسية، شخصية بطل الراوية(عدنان)، ومثال ذلك: "ففي زمن الطاغية ذقنا الأمرين من كبت الحريات ومجاعة عامة أدت بالعراقيين إلى الهجرة من البلاد تخلصاً من جور الحاكم الذي زج العراق في دوامة من الحروب راح ضحيتها الملايين من شباب ورجال الوطن، ثم سقط هذا الصنم، واستقبلنا من جاء بعده استقبالاً كبيراً. منا أننا سنعيش بسعادة ورخاء، فى ظل سياسيين يرفعون شعار الحزب، والرايات الدينية، حتى توضح أنهم اكثر بشاعة من غيرهم فنهبوا خيرات البلد"ص70.

والمؤلف هنا ينقل افكاره الأيديولوجية التي ينقلها للقارئ أو المروي له بأتخاذه شخصية (عدنان) كقناع وهو يتحدث عن الوضع السياسي وما يخلقه من صراع مجتمعي وسياسي وديني عاشه المواطن العراقي في قبل سقوط الدكتاتور وبعده، وهذا الصراع السياسي يصوره الروائي في اقوال وافعال شخصياته التي تدفع الحدث للتطور وصول الصراع إلى ذروته، ومثال ذلك: "لم تكن هذه الاستراتيجية وليدة العصر الحديث، فمنذ العصور القديمة والهجمات تتفاقم على بلادنا العربية للاستحواذ على خيراته وثرواته الغنية، فقدموا الجيوش والجحافل وقتلوا البشر بحجة الإعمار والإصلاحأما الآن فعادوا بعد تحرر البلدان العربية من جورهم ولصوصيتهم، ولكن بطريقة أخرى من خلال العقوبات الاقتصادية والتدخل غير المشروع في شؤون الدول الداخلية"ص71.

3-الصراع الديني: وفي رواية (امرأة الظل) يظهر نمط هذا الصراع الذي تجسده معاناة الشخصيات الثانوية كشخصية (وسام) أخ وفاء وشخصية (نوار) وهو صراع في المعتقد الطائفي ومكونات المجتمع العراقي، (فوسام) الطالب الحالم بنيل شهادة الطب والقادم من الجنوب من محافظة (العمارة) ليدرس في محافظة (الموصل)، وهو من المكون (الشيعي) وإما (نوار) الطالبة، ابنة احد كبار شيوخ الموصل، وهي من المكون (السني) وهذا الصراع الذي ينشأ من اختلاف الطائفتين أبان الحرب الطائفية يؤثر على هذه الشخصيتان وعلى علاقة حبهما، ومثال ذلك: "بعد إنهاء الكورس الأول بتفوق غالب سامي فيها مشاعره ولم يظهرها لها، وغالبت هي الأخرى مشاعرها وكتمتها بحزم رغم صراع العقل بالعطافة، لكنها وبدون إرادتها وجدت نفسها تهفو إليه بشدة، للقاء مرتقب قريب، وفي المرحلة الرابعة برزت بوادر للصراع الطائفي، وسريعاً ما تأجج أوارها، وراح طلاب الأغلبية يحاصرون الأقلية من طلاب المحافظات الجنوبية، وتهديدهم بالرحيل من المدينة أو القتل"ص222.

فيصور لنا المؤلف عبر شخصياته الروائية حجم الدمار الناتج من هذا الصراع الذي ينشأ على مبدأ العقيدة أو الطائفة، ويصف حالة الأضطهاد الشخصي والأغتيال على الهوية كنوع من صراع العداء بين المكونين والذي تنعكس آثاره على المجتمع، ومثال ذلك: "نظر سامي بعيني نوار ثم انحنى ليلتقط القصاصة الراسية على حذائه، وعرضها أمام ناظريه، تبادرت له أول كلمة، بخط كبير تتوسط الورقة " تحذير " وبما أن نوار المعنية بها ناولها لها، ارتجفت يدا نوار وهي تتوغل بتفاصيل التحذير!.....إلى ابنة مدينتنا نوار ومن معها من طلاب الجنوب، نحذرك أولاً من مرافقة هؤلاء الضالين، وعليهم الخروج من المدينة وترك الدوام في الجامعة، وخلاف ذلك سيعرضون انفسهم إلى القتل، في غضون ثلاثة أيام، وقد اعذر من أنذر، ثم ذكر أسماء الطلاب أسفل الورقة يتصدرها اسم سامي ثم ختمت الورقة بجملة(الطلاب الجهاديون)"ص225.

فالصراع الديني ينشأ مع أختلاف المعتقد للأشخاص وبالتالي تصادمهم، وبشكل ما سيؤثر هذا الصراع على المستوى العاطفي، والمؤلف يشوقنا من خلال تمثيل الشخصيات، وتصاعد الأحداث والصراع الديني، لمعرفة من له الغلبة ؟ ومن له الهزيمة في الحب؟ وهل تستطيع العاطفة والحب بين شخصين أن تغلب هذا الصراع المحتدم؟ حتى وان الشخصيتين تمثل أقطاباً لطائفتين مختلفتين، ومثال ذلك: "تغيرت الأوضاع، بسبب الظروف الرديئة، وعمليات الأغتيال على الهوية، فمن يحتمل أن تكون نوار ذات القد الأهيف والجمال المذهل قعيدة عربة، ومن يصدق أن يكون سامي الطالب الواعد والحالم بشهادة الدكتوراه قعيد الدكان وفي رقبته مسؤولية إعالة أمه وأخته وأخيه الذي يتم دراسته خارج البلاد"ص235.

والصراع الديني قد يتظافر مع الصراع السياسي في أحداث الشخصية الروائية كشخصية الدكتور(عماد) والذي يتحدث عن اضطهاد شريحة مهمة في المجتمع من اصحاب العلم والمهن الطبية، بسبب العقيدة أو الهوية، ومثال ذلك: "استمر الحال يسير بهدوء على أتم وجه، حتى عام ٢٠٠٦م وفي خضم دوامة الاضطرابات التي اجتاحت البلاد وخاصة في العاصمة بغداد، وعلى أثر الجريمة المنظمة التي قادتها أياد خفية في إثارة الفوارق الطائفية، والقتل على الهوية، واستهداف النخب من العقول المميزة التي تخدم الوطن بإخلاص وعلمية وقدرة عالية، وخاصة أساتذة الجامعات والأطباء المعروفين بقدراتهم المهنية، هاجرت تحت التهديد والخوف من القتل إلى ألمانيا تاركاً بيتي وأولادي، وعملت هناك كطبيب ممارس في جامعة برلين، ولست سنوات عملت بجد وإخلاص ولكني كنت أشعر بالغربة والحنين إلى وطني وبيني وعائلتي"ص46.

4- الصراع النفسي: ويمكن رصد هذا النمط من الصراع بشكل كبير جداً في مضمون رواية (امرأة الظل) والصراع النفسي هو وتقريباً (ثيمة) المؤلف هنا لأنه يقسم روايته هذه إلى (جلسات) وليس فصول، كما ضمن روايته بالرمز النفسي والعلامات السيميائية النفسية للدلالة على وجود الصراع النفسي الداخلي في الشخصيات بين ذاتها وصراعها مع الشخصيات الأخرى، واهم هذه العلامات النفسية تبدأ من عنوان الرواية فأمرأة الظل دالة على ازدواجية الشخصية النرجسية التي جسدتها (فاتن) وهي نفسها (أطياف) وكأنها شخصية لها ظل وماضٍ اسود يرافقها كهالة تدل على آثامها وظلامها، والاسم (إطياف) لهذه الشخصية هو كشبح من الماضي يطارد ذكريات (عدنان) ومن العلامات الأخرى التي لها دلالات نفسية هي ارتدائها قميص باللون (الأصفر) وهذه إشارة إلى خبث هذه الشخصية ومكرها وغيرتها أو كبت غرائزها ورغبتها الشهوانية تجاه (عدنان) لان اللون الأصفر يرتبط بالحرارة، وايضاً من علامات عدم الأتزان العاطفي لديها شرب الخمر والتعطر بشكل مبالغ فيه دلالة على الأغراء لجنس الرجال، فهي امرأة لعوب استطاعت اصطياد عدنان والعبث بمشاعره وعواطفه وتمكنت من الأنتقام منه، ومثال ذلك: "كانت تدرك أنه يتأمل قدومها، وفي قرارة نفسها تؤكد أنه صيد سمين وسهل الوقوع في شراكها، وصلت قريباً منه، وتجاوزت بخطوات، ومن ثم التفتت نحوه للحظة"ص9.

وكذلك في قول الراوي وهو يصف نواياها الأنتقامية: "هذا اللقاء كانت تتمناه أطياف منذ زمن طويل، فقد انتظرته وطالما خططت له وأجهدت نفسها من أجله ولكنها لم تنله، حتى جاءت تلك المصادفة الغريبة والتي لم تحسب لها، ودون عناء، ليكون عدنان بين يديها وطوع أمرها لتنفيذ ما اختزنته ذاكرتها في سالف الأيام"ص22.

فعند تحليل شخصية (أطياف) يظهر الصراع (الداخلي والخارجي) فيها، فهي شخصية رئيسية نامية معقدة تتطور بفعل الإحداث لتخلق الصراع، ويمكن توضيح نمط هذا الصراع في هذه الشخصية بإتباع تصنيف (سيغموند فرويد):

(الهو): يتمثل (باللاوعي) في شخصية أطياف هي الغرائز والرغبات العاطفية المكبوتة، وسلوكياتها الغير متزنة وانحرافها بممارسة الرذائل والخيانات الزوجية لكلا ازواجها (جلال) و(عواد)، وكذلك سعيها للإنتقام من (وفاء) زوجة (عدنان) لغيرتها منها وكرهها لصديقتة طفولتها وسبب ذلك هو تفضيل عدنان وفاء عليها وأختيارها زوجة له بدلاً منها، فتظهر رغبات اللاوعي بالعودة لهذه الشخصية (النرجسية) المغرورة التي تجد صعوبة في تقبل رفض عدنان لها ففي أول فرصة سنحت لها تمكنت من أغواء عدنان وإيقاعه في شباكها العنكبوتية فقد أغرته وجعلته يخون زوجته (وفاء) المخلصة، وهذه الرغبات المكبوتة تظهر الشخصية بصورة سوداوية من الداخل تعيش صراع الحب من طرف واحد والرفض من الشخص الذي تحبه فتقرر الأنتقام منه وتلقي بضلها على حياته الهانئة فتدمره، ومثال ذلك: "لقد فعلت فعلتها هذه العنكبوت، ونصبت شباكها المحكمة لتسلل إلى قلبينا وتفترس تلك العلاقة المحكمة من طيبة وحب وحنان، ما إن تزوجت فاتن ورحلت بعيداً عن وجهها، استقرت وهدأ بالها، كل هذه الفترة التي مضت اختفى وجودها عنهما، والآن تعود بأبشع وجه لتخطف زوجها بكل سهولة، وهو يعرف أهدافها السيئة، ونواياها الخبيثة"ص203.

(الأنا الأعلى): وهو مستوى الوعي في شخصية (أطياف) والذي يتمثل في الهواجس النفسية من الأصرار على الأنتقام من (عدنان) لعدم تقبلها شعور الرفض والإقصاء والنفور من قبل عدنان، فالوعي النفسي عندها يتجسد في رفض انوثتها واحساسها بأنها شخص غير كافي فمنذ الطفولة تشعر بالنقص منذ أيام الطفولة والصداقة بينها وبين يوسف اخيها ووفاء وعدنان، فهي صدمات طفولة امتدت لفترة النضج النفسي، مما ولد لديها الصراع الذاتي والثأر لأنوثتها المرفوضة، ومثال ذلك: "فقالت: لا تتحاذق ! لا بد أن تكون إحدانا أجمل من الأخرى.

سكت ولم يجبها، ثم أقسمت عليه أن يقول الحق، وكانت مغرورة بجمالها، تعد نفسها إحدى ملكات جمال العالم، صحيح أنها جميلة، ولكنها فضة مبتذلة تخون صديقتها(وفاء) التي تحبها، فأقبل عليها عدنان بوجهه قائلاً: أنظرى يا فاتن إنك صديقتي وزميلة الطفولة ولا ينقصك شيء، إنما الزواج قسمة ونصيب، فليس الجمال وحده يجعل المرء يُقدم على اختيار أميرة أحلامه، بل هناك عوامل أخرى تؤثر في اختياره، تتعلق بتربيته ونفسيته، وانا اخترت شريكة حياتي وفاء وانتهى"ص27.

(الأنا): وقد تجسد في نظرة المجتمع لأطياف الذي نتج عنه (صراع خارجي) يتمثل بالأشمئزاز من أفعالها، ونبذ اخيها (يوسف) لها، وخاصة لأنها شخصية صعبة الترويض وغير مستقرة وغير سوية، وزوجة خائنة لم تحافظ على زوجها (جلال) الذي طلقها، وثم زوجها (عواد) الذي خانته أيضاً وتقبل ذلك في بادئ الأمر، ثم بعد ذلك طلقها من شدة انحرافها واستخفافها وعدم تقديرها للحياة الزوجية، وهذا الصراع مع محيطها الخارجي ولّدَ صراعاً لديها، ومثال ذلك: " لما علم زوجها (جلال) ذلك منها، نصحها بعدم الخروج والسهر مع اسر يختلفون بعاداتهم وتقاليدهم عنهما، لكنها لم تستجب لنصحه، ولما كرر عليها ذلك ازدادت عناداً وتحدياً له، فما كان منه إلا أن رحلها إلينا"ص170.

وكذلك في قول يوسف الذي يصف انحدارها الخلقي: "وراحت تخرج بدون علمي، وتقضي نهارها خارج البيت، وأحيانا تعود في الليل استأت منها ومن تفاهاتها، وفي ذات ليلة وصلت الشقة في ساعة متأخرة من الليل، وكنت أنتظرها، شممت رائحة الخمر من أول دخولها، لم أشأ الحديث معها؛ لأني أعرف سرعة غضبها، خوفاً أن تعود في ذلك الليل للخروج من شقتي، فأجلت الحديث معها إلى الصباح"ص171.

فالمؤلف رسم ملامح هذه الشخصية بكل دقة وهو عليم ببواطنها النفسية وتقلباتها المزاجية التي تبين لنا بإنها مريضة بعقد نرجسية(سايكوباثية) منتقمة تهوى السيطرة، تعيش صراع مع نفسها ومحيطها وصراع خاص بها مع شخصية أخرى وهي (عدنان)، فيدور بينهما حوار يحتدم الصراع به وصولاً لإرتكاب عدنان جريمة قتلها، ومثال ذلك: "ثم وقفت كأفعى تفح كما لو أن خطراً داهمها، وهي تتهيأ للهجوم، جئت بي هنا لتوضح لي كراهيتك، وتدوس كرامتي، وأنا أتصور أنك تغيرت وجئت لتصلح اخطاءك؟!

-لا بأس، أنا كل ما أبغيه هو التفاهم معك.

- التفاهم على أي شيء؟

عليكِ أن تبتعدي عني وعن عائلتي وتدعينا نعيش بسلام، ضحكت ضحكة هستيرية، وبدأت تعربد وتصرخ وتقطع شعرها، وتكيل له أقذع الشتائم والسباب، جئت لتهينني أيها الحقير، القذر، تظهر الفضيلة أمام وفاء، وأنت أكبر دنيء؟! فحاول تهدئتها وإسكاتها بكلمات لطيفة ورجاها أن تسكت، فإن صوتها وصل إلى مسامع سكان العمارة، فتمادت وراحت تبحث عن آلة تضربه بها، وحمداً لله لم تجد، فعادت كالكلب العقور ومسكته من قميصه بيد وفي الأخرى تضرب وجهه وصدره، وهي تصرخ، أخرج أيها الحقير الدوني، فإن كل ما جرى لي بسببك، وكل ما صرت إليه من ورائك، أنت وزوجتك وفاء، تأمرت علي وسرقتك مني.

وراحت تهزه بعنف حتى تقطعت بعض ازرار قميصه، ثم تركته وبصقت في وجهه، فأثارت غضبه مسكها من كتفيها بقوة وهزها وهو يقول:

أما اكتفيت ؟! ايتها المريضة؟ لم أحبك يوماً، وكنت أكرهك منذ الطفولة، وما كان بيننا من أيام لم أعرف أنها أنت، إليك عني، دفعها ليتجاوزها ويخرج، لكنها تشبثت به، حاول التخلص منها وإبعادها عنه، فدفعها، فترنحت ثم هدأت وذابت كالعجينة الطرية وسقطت في قاع الصالة"ص183.

فهذا الحوار يصور حدة الصراع النفسي بين شخصية (أطياف) و(عدنان).

***

نور ضياء فالح حسين

........................

المصادر والمراجع

1-الأدب والصراع الحضاري، عود شلتاع، دار المعرفة، دمشق، سوريا، 1995.

2-البنية والدلالة في روايات إبراهيم نصر الله، أحمد مرشد، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ط1، 2005.

3-التفسير العلمي نحو نظرية عربية جديدة، نبيل راغب، ط1، لبنان، بيروت.

4-الدليل إلى تحليل النص السردي (تقنيات ومفاهيم)، محمد بو عزة، دار العربية العلوم، ط1، 2010.

5-الرواية والتحولات، عامر مخلوف، منشورات إتحاد كتاب العرب، دمشق، سوريا، 2000.

6-الصراع الأجتماعي في رواية (عمالقة الشمال) لنجيب كيلاني، من منظور كارل ماركس ودراسة الأدب الأجتماعي، إنتان أوكتفيينا، جامعة مولانا مالك ابراهيم الأسلامية، 2022.

7-الصراع في رواية (وبدأ الظلام) لعمرو المنوفي، شمار إبتسام، مذكرة ماستر، جامعة بسكرة، كلية الآداب واللغات، 2020.

8-المدخل في الأيديولوجيا والحضارة، خليفة عبد الرحمن وأفضل الله محمد إسماعيل، مكتبة سبتان للطباعة والنشر والتوزيع، الإسكندرية، 2006.

9-المصطلح السردي، جيرالد برنس، تر: عابد خزنة دار، المشروع القومي للترجمة، القاهرة، ط1، 2003.

10-المصطلح السردي في النقد الأدبي العربي الحديث، أحمد كريم رحيم الخفاجي، دار صفاء للنشر والتوزيع، عمان، 2012.

11-المعجم الفلسفي، جميل صليبيا، دار الكتاب اللساني، لبنان، ط1، 1971.

12-النظرية المعاصرة في علم الأجتماع، محمد عبد الكريم الحوراني، دار مجدولاي، عمان، الأردن، ط1.

13-النقد الروائي والأيديولوجيا (من سيمولوجيا الواقع إلى سيمولوجيا النص الروائي)، حميد الحميداني، المركز الثقافي العربي، بيروت، لبنان، ط1، 1990.

14-امرأة الظل، رواية، عبد الرضا صالح محمد، مؤسسة حماد الراوية للطباعة والنشر، بغداد، العراق، ط1، 2023.

15-إنسانية الأنسان، رالف بارتون، تر: سلمى خضراء الجيوسي، دار المعارف، بيروت، لبنان، 1961.

16-أنواع الصراع في روايات نجيب كيلاني، احمد ميساوي، 1994.

17-بنية النص السردي في منظور النقد الأدبي، حميد الحميداني، المركز الثقافي العربي للطباعة والنشر، بيروت، لبنان، ط1، 1990.

18-تحولات الشخصية في الرواية العراقية بعد عام 2003، سارة راضي بشارة، مجلة الدراسات المستدامة، العدد الرابع، 2021.

19-تقنيات السرد الروائي في ضوء المنهج البنيوي، يمنى العيد، دار الفارابي، بيروت، لبنان، ط1، 1990.

20-دراسة الصراع الأجتماعي في رواية الأرواح المتمردة، رسالة ماجستير، كلية الآداب، أندونوسيا، 2018.

21-دراسة بنية الشخصية في رواية ماجدولين لمصطفى لطفي المنفلوطي، رحالي سهام وكراري إيمان، مذكرة ليسانس، 2021.

22-عناصر الرواية الأدبية، يوسف حسن حجازي، ط1، 2010.

23-عناصر القصة القصيرة، كمال غنيم، الجامعة الأسلامية، غزة، 2015.

24-في النقد الأدبي الحديث منطلقات وتطبيقات، فائق مصطفى وعبد الرضا علي، مديرية الكتب للطباعة والنشر، جامعة الموصل، بغداد، العراق، ط1، 1998.

25-نظريات الشخصية، راضية طامش، مطبوعة بيداغوجية، جامعة ابي بكر بلقايد، تلمسان، 2022.

26-نظرية الرواية، عبد الملك مرتاض، مجلة عالم المعرفة، 1998.

27-نقد الفكر الأجتماعي المعاصر، محسن خليل عمر، الدار البيضاء، المغرب، ط1، 1978.

ينظر، التفسير العلمي نحو نظرية عربية جديدة، نبيل راغب، ص214.

تحولات الشخصية في الرواية العراقية بعد عام 2003، سارة راضي بشارة، ص472.

ينظر، الصراع في رواية وبدأ الظلام لعمرو منوفي، شمار إبتسام، ص21، 22.

ينظر، تحولات الشخصية في الرواية العراقية بعد عام 2003، سارة راضي بشارة، ص471.

ينظر، عناصر القصة القصيرة، كمال غنيم، ص1، 2.

ينظر، الرواية والتحولات، عامر مخلوف، ص25.

عناصر الرواية الأدبية، يوسف حسن حجازي، ص18.

ينظر، دراسة الصراع إلاجتماعي في رواية الأرواح المتمردة، ص67.

ينظر، عناصر الرواية الأدبية، يوسف حسن حجازي، ص19.

نظريات الشخصية، راضية طامش، ص20.

ينظر، النقد الروائي والإيديولوجيا، حميد الحميداني، ص23.

ينظر، انواع الصراع في روايات نجيب كيلاني، احمد ميساوي، ص62.

ينظر، نقد الفكر الإجتماعي المعاصر، محسن خليل عمر، ص18.

النظرية المعاصرة في علم الإجتماع، محمد عبد الكريم الحوراني، ص86.

ينظر، الصراع الإجتماعي في رواية(عمالقة الشمال)لنجيب كيلاني من منظور كارل ماركس، إنتان أوكتفييانا، ص27.

الأدب والصراع الحضاري، عود شلتاع، ص97.

ينظر، المدخل في الأيديولوجيا والحضارة، خليفة عبد الرحمن وأفضل الله محمد إسماعيل، ص26.

ينظر، الصراع في رواية(وبدأ الظلام) لعمرو المنوفي، ص20.

المعجم الفلسفي، جميل صليبيا، ص725.

ينظر، عناصر الرواية الأدبية، يوسف حسن حجازي، ص23.

ينظر، الأدب والصراع الحضاري، عواد شلتاع، ص90_97.

إنسانية الأنسان، رالف بارتون، تر-سلمى خضراء الجيوسي، ص120.

ينظر، نظريات الشخصية، راضية طامش، ص31، 32، 33.

ينظر، المصطلح السردي، جيرالد برنس، ص42.

البنية والدلالة في روايات إبراهيم نصر الله، أحمد مرشد، ص23.

المصطلح السردي، أحمد رحيم كريم الخفاجي، ص375.ف

بنية النص السردي في منظور النقد الأدبي، حميد الحميداني، ص51.

28- تقنيات السرد الروائي في ضوء المنهج البنيوي، يمنى العيد، ص42.

29- نظرية الرواية، عبد الملك مرتاض، ص91.

30- - ينظر، الدليل إلى تحليل النص السردي تقنيات ومفاهيم، محمد بوعزة، ص39.

31- ينظر، تحولات الشخصية في الرواية العراقية بعد عام 2003م، سارة راضي بشارة، ص 466، 467.

32- ينظر، نفس المصدر السابق، ص470، 471.

33- ينظر، دراسة بنية الشخصية في رواية ماجدولين)، رحالي سهام، كراري ايمان، ص16، 17.

34- ينظر، المصدر نفسه، ص18، 19.

35- ينظر، في النقد الأدبي الحديث منطلقات وتطبيقات، فائق مصطفى و عبد الرضا علي، ص 138، 139.

36- امرأة الظل، رواية، عبد الرضا صالح محمد، ص245

من السرديات البنيوية إلى آفاق النقد الرقمي

في زمنٍ تتكاثر فيه القراءات السطحية للأدب، وتضيع فيه الحدود بين الانطباع والنقد، يبرز اسم سعيد يقطين كأحد أبرز الأصوات التي سعت إلى تأسيس مشروع نقدي عربي متماسك، يزاوج بين صرامة التحليل البنيوي وانفتاح الرؤية على التحولات الرقمية والثقافية. فمنذ ثمانينيات القرن الماضي، ظلّ يقطين وفيًّا لرهانه الأكبر: بناء علمٍ للسرد العربي قادرٍ على قراءة النصوص من الداخل لا من خارجها، وإعادة وصل النقد العربي بواقعه المعرفي والثقافي.

هذا المقال يحاول تتبّع ملامح المشروع النقدي ليقطين، من جذوره البنيوية إلى آفاقه الرقمية، بوصفه تجربة فكرية تسائل النص والواقع معًا، وتضع القارئ أمام سؤالٍ جوهري: هل يمكن للنقد العربي أن يؤسس لنفسه نظرية من داخل لغته وثقافته؟

اختار سعيد يقطين السرد مجالاً مركزياً لاشتغاله النقدي، إذ رأى فيه المدخل الأوسع لفهم الخطابات الإنسانية كافة. فالسرد، في تصوره، يعتبر منظومة فكرية وثقافية تعبّر عن كيفية رؤية الإنسان للعالم وتمثيله له. ومن هذا المنطلق، سعى إلى نقل النقد العربي من الاهتمام بالمضمون إلى تحليل الخطاب السردي نفسه، أي كيفية تشكّل النص ومعماريته وديناميته الداخلية. وقد مثّلت كتبه تحليل الخطاب الروائي وانفتاح النص الروائي علامات فارقة في تأسيس هذا المسار.

إن انفتاح يقطين على البنيوية باعتبارها منهجا غربيا، يشكل توظيفا واعٍيا لها في سياق ثقافي عربي. فقد استند إلى مقاربات جيرار جينيت ورولان بارت وتودوروف، لكنه أعاد قراءتها في ضوء النص العربي. لقد كانت البنيوية بالنسبة إليه مرحلة تأسيس ضرورية لفهم البنية السردية، غير أنّه لم يتوقف عندها، بل تجاوزها نحو منهج تكاملي يجمع بين التحليل النصي والقراءة الثقافية. ففي كتاب انفتاح النص الروائي، دعا إلى فهم الرواية العربية ضمن شبكتها الاجتماعية والتاريخية، دون التخلي عن أدوات التحليل البنيوي. بذلك أسّس لما يمكن تسميته بـ“السوسيوسرديات”، أي النقد الذي يوازن بين البنية والدلالة والسياق.

حدد يقطين ثلاثة مكونات كبرى لتحليل الخطاب السردي: الزمن، الصيغة، والرؤية السردية. فالزمن، في نظره، هو بناء دلالي يكشف عن رؤية النص للواقع. أما الصيغة، فهي الأسلوب الذي تُقدَّم به المادة الحكائية، في حين تعبّر الرؤية عن موقع الراوي من الأحداث ومدى معرفته بها. من خلال هذه المكونات، سعى يقطين إلى تأسيس مقاربة نقدية قادرة على تفكيك البنية الداخلية للنصوص، مع الحفاظ على مرونة تسمح بتطبيقها على أجناس متعددة. غير أن بعض النقاد رأوا أن تركيزه على هذه العناصر الثلاثة قد حدّ من شمولية التحليل، إذ همّش عناصر أخرى كالشخصية والفضاء والحبكة. ومع ذلك، يبقى هذا الاختيار المنهجي أحد أبرز ما ميّز تجربته النقدية من حيث الدقة والصرامة.

مع بدايات الألفية الثالثة، اتجه سعيد يقطين إلى تجديد مشروعه النقدي بالانفتاح على التحولات الرقمية. ففي كتابيه من النص إلى النص المترابط وجماليات الإبداع التفاعلي، طرح مفهوم “النص المترابط” باعتباره شكلاً جديداً من أشكال الكتابة والقراءة في العصر الرقمي. هذا التحول لم يكن قطيعة مع الماضي، بل امتداداً طبيعيّاً لمنهجه البنيوي، لأن النص المترابط يظل بنية، لكنه بنية مفتوحة تتشكل في فضاء إلكتروني متعدد الطبقات. وهكذا، انتقل يقطين من نقد الورق إلى نقد الشاشة، محاولاً إعادة تعريف فعل القراءة ذاته في ظل الوسائط الجديدة. ويُعدّ هذا المنعطف الرقمي من أكثر ما يميز فكره النقدي المعاصر، إذ جعله من أوائل النقاد العرب الذين استشرفوا مآلات السرد في زمن التكنولوجيا.

لم يكن التراث عند يقطين موضوعاً للتقديس أو الإحياء الشكلي، بل موضوعا للنقد والمساءلة. ففي كتاب الرواية والتراث السردي، دعا إلى إعادة قراءة التراث العربي السردي باعتباره نصاً منتجاً للمعنى، فهو يرى أن المقاربة التراثية يجب أن تنفتح على الأسئلة الحديثة دون أن تفقد خصوصيتها، لأن التراث، في نظره،  يعتبرطاقة رمزية يمكن تفعيلها في الراهن. وبهذا المعنى، يتجاوز يقطين الموقفين التقليديين: التمجيد أو الرفض، نحو رؤية نقدية تُدخل التراث في حوارٍ مع الحاضر.

على الرغم من غنى مشروع يقطين، إلا أنه يواجه بعض الإشكالات المنهجية والمعرفية، منها تغليب الجانب النظري أحياناً على التحليل التطبيقي، محدودية العناصر الثلاثة في الإحاطة بكل مكونات السرد، صعوبة ضبط حدود النقد التفاعلي في ظل الانفتاح اللامتناهي للفضاء الرقمي. ومع ذلك، تبقى هذه التحديات جزءاً من طبيعة أي مشروع فكري طموح. فقد منح سعيد يقطين النقد العربي خريطة معرفية جديدة، وساهم في ترسيخ الوعي بضرورة المنهج والدقة والمساءلة العلمية في دراسة النصوص.

يمثل المشروع النقدي لسعيد يقطين إحدى التجارب العربية الأكثر تماسكاً وعمقاً في مقاربة النصوص السردية. فهو مشروع بدأ من البنيوية، لكنه لم يتجمد فيها، بل تحوّل إلى رؤية دينامية تستجيب للتحولات الثقافية والتقنية. لقد قدّم يقطين نموذجاً للناقد الذي لا يكتفي بالقراءة، بل يصوغ نظرية من داخل ثقافته، ويجعل من النقد فعلاً معرفياً لا تابعاً. ومن هنا، يمكن القول إن مسار سعيد يقطين لا ينتمي فقط إلى تاريخ النقد العربي، بل إلى مستقبله أيضاً، لأنه يفتح الباب أمام أجيال جديدة من النقاد لتأسيس نقدٍ عربيٍّ معاصرٍ يستوعب الماضي، ويقرأ الحاضر، ويستشرف الآتي.

***

حسن لمين - كاتب من المغرب

ليس في الحكاية ما يُثير الفضيحة بقدر ما يُثير السؤال: كيف يمكن للحب أن يولد عند حافة الموت؟ وكيف يتحوّل الجسد، في شيخوخته القصوى، إلى آخر محاولة لإنقاذ الروح من العدم؟

في (ذكرياتي مع عاهراتي الحزينات) لا يكتب غابرييل غارسيا ماركيز عن الشهوة، بل عن الإنسان حين يكتشف أن رغبته الأخيرة ليست في المتعة.. بل في الحنان.

في عامٍ تجاوز فيه بطله التسعين من عمره، يقرّر أن يحتفل بعيد ميلاده كما اعتاد — مع جسدٍ جديدٍ، مأجورٍ، خالٍ من العاطفة. لكنه هذه المرّة يطلب من المعرصة "القوادة" القديمة فتاةً بكرًا، نائمة، لا تعرف شيئًا عن هذا العالم. طفلة تعمل في مصنعٍ للخياطة، تُسلَّم له كما تُسلَّم دميةً لعجوزٍ مريضٍ بالوحدة. هناك، في الغرفة الباهتة التي تشبه مسرحًا صغيرًا من غبار الذاكرة، يدخل الرجل زمنًا آخر: يجلس بجوارها، يتأمل تنفسها، يحدّثها وهي غافية، وبدل أن يلمس جسدها.. يلمس طفولته الضائعة.

تتحوّل الليلة إلى مرآةٍ للوعي؛ يكتشف العجوز أن كل النساء اللواتي عرفهن لم يكنّ سوى مرايا مكسورة لانكساره هو، وأنه لم يعش يومًا حبًا خالصًا بل سلسلةً من "الشرمطة" مدفوعة الثمن.

هنا يطلّ ظلّ فرويد من بعيد، يذكّره بأن “الرغبة ليست في الجسد، بل في ما ينقصنا”. فالعجوز لا يبحث عن اللذة بقدر ما يبحث عن المعنى، عن تلك اللحظة التي تلتئم فيها الفجوة بين الرغبة والأمومة، بين الطفلة التي كانت تسكن ذاكرته والأم التي لم تفهم ضعفه.

إن ماركيز، من خلال هذا الاشتباك بين الشيخوخة والبراءة، يُعيد قراءة نظرية فرويد عن “الحنين إلى الأصل”؛ الجسد هنا ليس موضوعًا للغواية، بل عودةٌ متأخرة إلى رحم العالم، إلى الدفء الأول الذي لم يُمنح له..

تتحوّل الرواية إلى مشهدٍ سينمائي بطيء: كاميرا تتجوّل في بيتٍ قديم تغمره رائحة الكتب والعزلة، رجلٌ هرم يمسح غبار الماضي عن الأشياء كما عن نفسه، وضوءٌ أصفر ينعكس على وجه فتاةٍ نائمة لا نعرف إن كانت موجودة أم متخيلة..

في هذا المشهد الطويل، ينهار الخط الفاصل بين الحلم والواقع، بين الجريمة والطهارة. ماركيز يوجّه عدسته إلى داخل النفس لا إلى الخارج، إلى الفجوات الصغيرة في الذاكرة حيث تختبئ الرغبات القديمة كأفلامٍ لم تُعرض بعد..

حين يبدأ العجوز في الكتابة عن حبيبته النائمة في عموده الصحفي، يتحوّل من كاتبٍ روتينيٍّ ساخرٍ إلى عاشقٍ فيلسوف. الكلمات التي كانت يومًا باردة، صارت حارّة مثل دمٍ يعود إلى شرايينه بعد غيابٍ طويل. لم يعد يكتب لقرّائه، بل ليؤكّد لنفسه أنه لا يزال حيًّا.. يتذكّر أمه، وخادمته القديمة، ونساءه الكثيرات اللواتي تجاوز عددهن الخمسمائة، فيغمره الندم لا على الخطيئة.. بل على البرود. ومع كل سطرٍ يكتبه، تتبدّى أمامه مأساة الذاكرة البشرية: أننا لا نعرف قيمة الحياة إلا بعد أن تهرم فينا، ولا نكتشف معنى الحب إلا حين يعجز الجسد عن ممارسته..

في أحد المشاهد الأكثر رمزية، يجلس بجانب الفتاة النائمة يقرأ لها بصوتٍ خافتٍ من (المدام بوفاري) و(الأمير الصغير). يتحدث ولا يسمع ردًّا، ومع ذلك يشعر بأنها أقرب من كل النساء اللواتي تحدّثن إليه.

هنا تبلغ الرواية ذروتها الوجودية: التواصل لا يحتاج إلى كلمات، والعشق يمكن أن يُولد في صمتٍ مطلق

 الحب، في فلسفة ماركيز، ليس تملّكًا بل مراقبة. كما لو أن الكاميرا تكتفي بتسجيل النَفَس، بالانتظار، بتلك المسافة بين الجسدين حيث تتكوّن الروح..

في هذا العالم الرمزي، تصبح الفتاة النائمة استعارةً للبراءة التي لم تفسدها الحياة بعد، وللمعنى الذي يتوارى حين نلهث خلف اللذة. أما العجوز، فهو تجسيدٌ لفكرة الزمن المريض: وعيٌ متأخر بأن كل ما أنفقه في المتعة كان محاولة يائسة للهروب من مواجهة الفراغ الداخلي. وكأن الرواية تقول لنا إن الشيخوخة ليست في الجسد، بل في الفقد التدريجي للدهشة.. وإن هذا العجوز حين أحبّ، استعادت روحه ما فقدته حين ظنّ أنه عاش.

يُعيدنا ماركيز في هذه الحكاية القصيرة، التي كتبها عام ألفين وأربعة، إلى جوهر الواقعية السحرية وقد أصبحت أكثر صفاءً وتأملًا: لا قرى غريبة، ولا أزمنة متداخلة، بل وعي فردٍ واحدٍ يتنقّل بين الحلم واليقظة كمن يعيد مونتاج حياته في مشهدٍ واحد.

 كل تفصيلٍ في الرواية يعمل كما في السينما — زاوية الكاميرا، الإضاءة، حتى الأصوات — ليمنح القارئ إحساسًا بأنه يشاهد فيلمًا داخليًا أكثر مما يقرأ نصًا.

قبل النهاية، يبدو الحب والذاكرة في الرواية شكلين مختلفين للمقاومة ضد الفناء. فكل تذكّرٍ هو محاولةٌ لإبقاء ما مات حيًّا، وكل حبٍّ هو إصرارٌ على أن نعيش رغم الموت الذي يتقدّم فينا.

في النهاية، حين يعلم العجوز أن الفتاة تبادله الحب، يُطل عليه النور. يشعر بأنه شابٌّ من جديد، لا لأن الجسد عاد إليه، بل لأن قلبه خرج من عزلة تسعين عامًا..

يقول كأنه يختم وصيته: “عشتُ بما يكفي كي أكتشف، أخيرًا، أن الحب الحقيقي لا يُشترى”. تلك الجملة وحدها تختصر الفلسفة الكامنة في الرواية: أن الوعي، حين يصطدم بحدود الجسد، لا يموت.. بل يبدأ.

هكذا تتحوّل (ذكرياتي مع عاهراتي الحزينات) إلى تأملٍ في هشاشة الإنسان، في بحثه الأبدي عما يفلت منه دائمًا: الحب، المعنى، الزمن.

 رواية عن المصالحة المتأخرة بين الرغبة والروح، وعن اللحظة التي يُصبح فيها النوم فعلًا مقدّسًا، والبراءة خلاصًا، والشيخوخة طفولةً ثانية.

إنها ليست حكاية رجلٍ وفتاةٍ، بل حكاية الكائن البشري في محاولته الأخيرة لتبرير وجوده. وما يبدو فضيحةً في ظاهر النص، ليس سوى محاولة لإعادة تعريف الطهارة في زمنٍ فاسد، ولإثبات أن “الحب.. هو المعجزة الوحيدة التي يمكن أن تنقذ الإنسان من نفسه”.

***

إبراهيم برسي

 

قراءة هيرمينوطيقية رمزية في نص "راهبة الريح" للشاعر أيمن معروف

يشكّل التيه أحد أكثر الرموز رسوخًا في المخيال الإنساني، منذ أسطورة خروج بني إسرائيل في الصحراء، حتى فلسفة الوجود والاغتراب الحديثة. فهو فضاء اللامكان، ومجاز العدم، وحدود الذات حين تتقاطع مع المجهول. في النص الذي نحن بصدده، يتخذ الكاتب من التيه صورةً أنطولوجية، تكشف عن مأزق الإنسان المعاصر الذي يعيش في عالمٍ محكوم بالضياع الرمزي، وبتهاوي القيم والمعايير أمام طغيان العولمة وفقدان المعنى.

النص ليس مجرد إنشاء شعري أو تأمّل وجداني قدمه الشاعر أيمن معروف، بل هو تمثيل فكريّ لحالة الكائن حين يقف عارياً أمام أسئلة المصير، في حوارٍ داخليٍّ بين الذات والوعي، بين الإنسان وصوته الكونيّ الذي يحثّه على المضيّ والتراجع في آنٍ واحد.

في هذه القراءة، سأعتمد المنهج الهيرمينوطيقي التأويلي لفهم المعنى العميق للرموز والدلالات، والمنهج الرمزي والأسلوبي لتحليل اللغة وبنيتها، إلى جانب المقاربة الأنطولوجية الفلسفية لفهم الوجود الإنساني في ضوء نصٍّ يعبّر عن تيهٍ جمعيّ بقدر ما هو فرديّ. مستل من روح ما قدمه عبد الجبار النفري  من أعلام التصوف الإسلامي في كتابه الهام المواقف والمخاطبات .وهو أحد أكثر المتصوفة غموضاً وعمقاً في التعبير عن التجربة الوجودية الصوفية، حتى لُقّب بـ"صوفي المواقف والغياب". في كتابه «المواقف والمخاطبات» تتجلّى لغة تتجاوز حدود البيان إلى تخوم الكشف والإشراق، إذ يجعل النفّري من اللغة نفسها تجربة روحية، لا وسيلة للتوصيل فحسب. فهو لا يصف الطريق إلى الله، بل يُفصح عن لحظة التجلّي نفسها حين يغدو العارف وجهاً للمعرفة، والموقف حدّاً بين الفناء والبقاء.

تقوم طريقته الأسلوبية على الإيجاز الموحِي والغموض البنّاء؛ فهو يكتب كما لو كان ينقل ومضات من عالم الغيب إلى سطور التراب. يقول في أحد مواقفه:

 "أوقفني في الموقف وقال لي: إذا اتسعت الرؤية ضاقت العبارة.".

هذه العبارة تُعدّ مفتاحاً لتجربته كلّها؛ فالرؤية الصوفية عند النفّري تفيض حتى تعجز اللغة عن احتوائها، ولهذا جاء أسلوبه قائماً على التقطيع والسكوت والإشارة، أكثر من البيان والتقرير. أما «المخاطبات»، فهي نصوص فيضية تجري على لسان "الحق" الذي يخاطب العارف، كقوله:

 "يا عبد، كلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة، وكلما ضاقت العبارة قرب اللقاء."

أولاً: التيه كاستعارة للوجود والاغتراب

التيه في النص ليس طريقاً يُضلّ فيه المسافر، بل هو الحالة الوجودية التي يفقد فيها الإنسان علاقته بمركزه الداخلي. يقول النص:

 "التّيه جحيمٌ لا نأمةَ فيه... التّيهُ فضاءٌ أسود لا دمعة فيه."

هنا تتحوّل صورة التيه إلى كناية عن الانفصال بين الذات والعالم، وعن صمت الوجود أمام سؤال الإنسان. يتجاوب هذا المعنى مع فلسفة مارتن هايدغر الذي رأى أن "الوجود يُلقى في العالم ككائنٍ منفيٍّ بلا مرجع"، وأن مهمة الفكر هي استعادة "السكينة في قلب الضياع".

إنّ المتكلّم في النص يعي هذا المنفى، لكنه يحاول تحويله إلى وعيٍ خلاّق، إذ يُؤمَر بـ«التقدّم» و«التمهّل»، في مفارقةٍ تكشف عن ثنائية الإرادة والعجز، بين الحثّ على الحركة والخشية من المجهول، تمامًا كما عبّر سورين كيركغارد عن القفزة الإيمانية التي لا يمكن تجاوزها إلا بالجنون الوجودي.

ثانياً: اللغة بين الإرشاد والهاوية

يتبنى النص أسلوباً خطابياً ميتافيزيقياً، حيث تأتي اللغة محمّلة بالأوامر والنواهي: "تقدّم، تمهّل، اعلم..." وهي بنية تحاكي لغة الوحي، أو النصوص المقدسة، لكنها في عمقها حوار داخلي بين الإنسان وضميره الوجودي.

يُعيد هذا الخطاب إلى الأذهان ما أشار إليه بول ريكور في كتابه الرمز يعطي الفكر، حين أكّد أن اللغة الرمزية لا تشرح العالم بل تخلقه من جديد، وأن التأويل هو عبور من ظاهر النص إلى باطنه، من القول إلى الكينونة.

الشاعر أيمن معروف يمارس عبر لغته سلطة معرفية، لكنه في الوقت نفسه يكشف هشاشتها، فكل أمرٍ أو نهيٍ يُقابله شكٌّ أو ارتياب، كما لو أن النص يُفكّك ذاته في حركة دائرية مستمرة، شبيهة بما تحدّث عنه جاك دريدا في تفكيكيته، حيث لا وجود لحقيقة نهائية خارج النص، بل هناك تتابع دائم للمعنى المؤجّل.

ثالثاً: من العولمة إلى ميتافيزيقا الإنسان

حين يرد في النص:

"وترى، أطلسَ هذا العالَمِ يدخلُ من عولمةِ الشّعرِ إلى عولمةِ الفكرِ..."

يتحوّل الخطاب من البعد الفردي إلى البعد الكونيّ، ليشير إلى تشييء الإنسان وضياع هويته في العولمة الحديثة. هنا نسمع صدى أفكار هربرت ماركوز في نقده للعقل الأداتي، وزيغمونت باومان في توصيفه للمجتمع السائل، حيث الذوات تفقد صلابتها وتتحول إلى كياناتٍ هشّة تائهة في الاستهلاك والمعنى المفرغ.

يتقاطع النص إذاً مع رؤية ميشال فوكو حول "الذات المراقَبة والمقيّدة"، ويُعلن في الوقت نفسه تمرّداً أنطولوجياً على هذا التشييء حين يقول:

 "تمسّك بهويّتك الآن، التيه مؤامرة كبرى."

وهو تصريح وجوديّ حادّ بأن استعادة الذات فعل مقاومة، وأن الخلاص لا يأتي من الخارج بل من عمق الوعي نفسه.

رابعاً: التيه كتجربة كشفٍ روحي

في مستواه الأعمق، يبدو النص سلوكاً عرفانياً، يعيد الإنسان إلى منطقة الخطر حيث يتجلّى الوعي الكونيّ. فالمتكلم يُقاد إلى التيه، لا ليهلك، بل ليُبصر، كما قال محـي الدين بن عربي:

 "من لم يدخل البحر لا يعرف العمق، ومن لم يضلّ الطريق لا يعرف الرجوع."

وبذلك يصبح التيه شرطاً للمعرفة، والظلام مقدمة للنور، والضياع طريقًا إلى الوعي بذاتٍ أكثر صفاءً.

النص الذي بين أيدينا ليس مجرد قصيدة نثرية أو تأمل وجداني، بل هو بيان فلسفي-جمالي في مأزق الإنسان أمام ذاته والعالم. إنه نصّ يزاوج بين التجربة الوجودية العميقة واللغة الصوفية المتوهجة والنقد الثقافي المعاصر، ليقدّم صورة شاملة عن التيه كقدرٍ إنسانيّ وفضاءٍ للمعرفة والتحوّل.

لقد نجح الشاعر أيمن معروف في بناء رؤية مركبة تجعل من الشعر مساحةً للفكر، ومن الفكر مساحةً للرؤيا. إنه نص يذكّرنا بأن التيه ليس لعنة، بل ضرورة روحية لاستعادة الإنسان إنسانيته في عالمٍ فقد معناه.

لذا فقد جاء هذا النص كنصٌّ فلسفيّ عميق، يتشح بعباءة الرؤيا والقلق الوجودي، ويستبطن وعياً نقدياً كثيفاً بمأزق الإنسان المعاصر في زمن «التيه» الذي صار مجازاً كونيّاً للاغتراب والضياع وفقدان البوصلة.

الشاعر أيمن معروف استخدم تقنية الخطاب المونولوجي المتداخل مع صوتٍ إرشاديٍّ متعالٍ، كأنه نداء من الداخل أو «نبيّ» الوعي الذي يخاطب الإنسان في صحراء العالم المعاصر. فيتجلّى التيه لا كحدثٍ عارض، بل كشرطٍ أنطولوجيٍّ للوجود الإنساني، حيث تتفكّك الجهات وتتشظّى الذات بين أسطورة اليومي، وتاريخ المعنى، وخواء الروح.

قوّة النص تكمن في لغته المكثّفة، المتوتّرة، ذات النَفَس القرآنيّ والتوراتيّ في آنٍ واحد، حيث تُبنى الجمل بالأمر والنهي («تقدّم»، «تمهّل»، «اعلم»)، بما يشي بوجود «معلّمٍ كونيّ» يقود الذات عبر مراحل الانكشاف، كما في مسارات التصوّف أو فلسفة الوجود عند كيركغارد وهايدغر. فـ«التيه» هنا ليس جغرافياً، بل سفرٌ في الذات، واختبارٌ لحضور الإنسان أمام عبث العالم.

كما أن تضمين النص إشارات إلى ميتا التاريخ وفوكوياما وعولمة الفكر يُخرجه من فضاء التجريد الصوفي إلى قراءة نقديّة معاصرة للعالم، حيث يتحوّل التيه إلى رمز للعصر النيوليبرالي والعولمي، الذي التهم الإنسان وأحال ذاته إلى سلعة، وهويّته إلى طيف.

إنّ النص بهذا المعنى يجمع بين اللغة الشعرية العالية والفكر الفلسفي التأويلي، ويتّكئ على مجازاتٍ تُعيد للأدب العربي بعده الرمزي العميق، وتذكّر بأسلوب أدونيس في أغاني مهيار الدمشقي أو أنسي الحاج في الرسولة بشعرها الطويل حتى الينابيع.

- خاتمة:

نصّ يفيض بالرؤيا والجدل، ويؤسس لمساحة تأمل بين الأدب والفكر، بين الإشارة والحدس، بين المعنى وضدّه. لغته مشحونة بطاقاتٍ روحيةٍ وفكريةٍ تجعل من القراءة تجربة تأملية أكثر منها تحليلية. لو عُرض هذا النص في مجلة أدبية فلسفية، لأوصيت بنشره دون تردّد مع تثبيت عنوان فرعيّ هو:

 التيه بوصفه استعارة للوجود وفضاءً لفقدان المعنى.

***

بقلم: عماد خالد رحمة - برلين

.....................

أوقفَني في التّيهِ، وقالَ: تقدّمْ، فتقدّمتْ

  ورأيتُ طريقاً،

  تتفرّعُ منها طرقٌ شتّى فاختلطتْ قدّامي

  أسطورةُ يومي بجهاتي العشرين.

*

  وقالَ: تمهّلْ. لا تذهبْ أبعدَ،

  حتّى تكتملَ العدَّةُ في ترتيبِ الفوضى وإعادةِ

  تأهيلِ الذّاتِ لمقتضياتِ الوقفةِ

  في التّيه.

*

  وقالَ: التّيهُ جحيمٌ لا نأمةَ فيه.

  وقال: التّيهُ دخان. فاعلمْ أنُكَ دون سلاحٍ وبأنُ

  وسيلتَكَ المثلى كي تعبرَ هذي الفلواتِ

  الممهورةَ بجنونِ اللُيلِ تَوَقُّدُ عينينِ

  انطفأ بريقُهما في العتمةِ.

*

  واعلمْ،

  أنَّ هواءَكَ منهوبٌ وثلاثةَ أرباعِكَ

  متروكٌ للخوفِ وأنُ سماءك مطفأةٌ وسراجكَ

  منتهَكٌ في منتصفِ القول.

*

  وقال: التُيهُ فضاءٌ أسود لا دمعة فيه.

  فلتتذكَر في هذا البهتانِ كتابَ الحكمةِ ولتتوقَّع

  أن يختلطَ المشهدُ حين تمرُ قريباً

  من موتِكَ

*

  وترى، أطلسَ هذا العالَمِ

  يدخلُ من عولمةِ الشّعرِ إلى عولمةِ الفكرِ

  وعولمةِ الفلسفةِ السوداءِ ويشهقُ

  في عولمةِ التّبه.

*

  وقال: فلا تذهبْ في التُيهِ بعيداً.

  التّيهُ مهادٌ والتّيهُ بلادٌ تدخلها فترى غموضَكَ

  قربك مشغولاً في تأويلِ براءتِكَ الأولى

  وترى وضوحَكَ محضَ غبارٍ

  مبثوثٍ في التّيه.

*

  وقال: التُيهُ أراجيح. التُيهُ تباريح.

  فاحذر من مِيتا التّاريخِ وفوكوياما واسطِرلابِ

  الوهمِ و ميتا التّيه.

*

  وقال: وقد لا تعرف كيف ستبدأ يومَكَ

  أو تُنهي الأمر. وقال: طبيعيٌّ أن تنتصر الآن

  لذاتك.. ألُا تترك بابَكَ مفتوحاً لجنونِ التّيه.

*

  وقال: تقدّمْ. وتمسَّكْ بخِراجِ يديكَ..

  تمسَّكْ بهوائِكَ وترابِك.

*

  قال: تقدّمْ.

  وتمسَّكْ بهويَّتِكَ الآنَ.. التّيهُ مؤامرةٌ كبرى

***

روَى (ابن عبد البَر)(1)، من طرائف «الورِعين» الحمقَى، أنَّ أحدهم سمع الآية: «يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ»، فقال: «اللَّهمَّ اجعلنا ممَّن يتجرَّعُه ويُسيغُه!»> وهذه الطُّرفة تنطوي على ما هو أبعد ممَّا ساقها (ابن عبد البَر) من أجله.

ذلك أنها إذا كانت ردَّة فعل هذا المتلقِّي قد حدثت بسبب اختلالٍ في ذهنه، كما سيقت الطُّرفة تعبيرًا عنه، فقد يحدث مثل ذلك بسبب اختلال النصِّ نفسه، من حيث انقطاع السياق أو غيره، وبالجملة اختلال النَّظم. فاجتزاء النصِّ من سياقه قد يجعل المتلقِّي يفهم هاهنا أنَّ الإشكال الذي تحدَّثت عنه الآية إنَّما هو كامن في أنَّ المذكور (يتجرَّع ولا يكاد يُسيغ)! دون أن يعي مَن المقصود بذلك؟ وماذا يتجرَّع؟ وما «السالفة»، كما يقال بالعامِّيَّة؟ من خلال النَّصِّ، من قَبل ومن بَعد، في الآيات من (سُورة إبراهيم): «وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأَرْضَ مِن بَعْدِهِمْ، ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ. وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ. مِن وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِن مَاءٍ صَدِيدٍ. يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ، وَيَأْتِيهِ المَوْتُ مِن كُلِّ مَكَانٍ، وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ، وَمِن وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ.»

وكثيرًا ما يحدث مثل هذا في تلقِّي نصٍّ خارج بِنيته الكُلِّيَّة؛ فإذا المتلقِّي يضرب في فهمه أخماسًا بأسداس، بقطع النظر عن حالته الذهنيَّة. وهذا نموذج لما يمكن أن يُحدِثه غيابُ النَّظم من اختلالٍ في العلاقة بين النصِّ والقارئ، حتى ليبدو القارئ أحمق لدَى من أَلَـمَّ ببِنية النصِّ الكُليَّة. تلك البِنية التي كان (الجرجاني) يُطلِق عليها مصطلح (النَّظم).

على أنَّ من الاجتزاء كذلك الاجتزاء في فهم مفهوم النَّظم نفسه. فلو كان مفهوم النَّظم لا يعدو نَظم الأوزان والقوافي الشِّعريَّة، كما يفهمه بعضٌ، لاستطاع (عبد القاهر الجرجاني) أن يكون من أشعر الشُّعراء، وقبله (الخليل بن أحمد)، أو (الأصمعي). وإنَّما يَصِحُّ قول الجرجاني (2): إنِّ النَّظْم ليس «إلَّا أن تضع كلامك الوضع الذي يقتضيه (عِلم النحو)» إذا عنَى بـ(عِلم النحو)، الذي عزا إليه قيام (النَّظم)، ما سمَّاه (دريدا): (عِلم النحويَّة Grammatology). فذلك هو ما يُحدِث (الأَثَر) الجَماليَّ الانفعاليَّ الذي يثيره النَّصُّ في نفس المتلقِّي ومخيِّلته؛ حين يقتفي الناظم، كما قال الجرجاني(3): «رَسْمًا من العقل اقتضَى أن يتحرَّى في نَظْمه ما تحرَّاه.»  لأنَّ ذلك «الرَّسْم من العقل» هو منبع الإبداع؛ ورَسْم عقل الشاعر غير رَسْم عقل المفكِّر، أو رَسْم عقل الفيلسوف، أو رَسْم عقل النَّحوي، أو غيرهم من العقلاء والرُّسوم.(4)  وذلك الرَّسْم هو ما يُسمَّى في الفَنِّ، ومنه الشِّعر: الموهبة، التي تميِّز شاعرًا عن شاعر، وتميِّز الشاعر عن غير الشاعر؛ كما يمتاز المطرِب الموهوب عن المؤدِّي الموهوب، فضلًا عن امتيازه عن سائر الناس، مع أنَّ الجميع يشتركون في أنَّ لهم أصواتًا؛ من حيث إنَّ (رَسْم عقل المطرِب الموهوب)، كـ(رَسْم عقل الشاعر المطبوع)، هو ما يميِّزه عن غيره. 

وبالحديث عن مفهوم النَّظم و(عِلم النَّحويَّة)، و(الأَثَر) الجَماليَّ الانفعاليَّ- المتوخَّى ممَّا يثيره النَّصُّ في نفس المتلقِّي ومخيِّلته- يمكن أن نتوقَّف، مثلًا، عند الهوسُ بالانزياحات المكدَّسة، في بعض التجارب النصيَّة المعاصرة، التي تَعُد نفسها حداثيَّة، واهمةً أنَّ ذلك هو التجديد والتحديث في الشِّعر.  وهذه الظاهرة اليوم- التي يمكن أن أسمِّيها (التضخُّم المَرَضي في بِنية المجاز في القصيدة المعاصرة)- هي كهوس البديع في العصر العباسي وما تلاه؛ أيَّام كان البديعيُّون يتوهَّمون كذلك أنَّ الإغراق في البديع هو التجديد والتحديث في الشِّعر. من حيث إنَّه ما لم يوظَّف ذلك كلُّه لتشكيل معنى بنائيٍّ كُليٍّ للقصيدة، فإنَّه يستحيل إلى محض استعراض مهارات لُغويَّة وتركيبيَّة، لا يفضيان إلى تشييد شِعريَّة حقيقيَّة، ولا يُبقيان للشِّعر ولا للشاعر قيمةً تُذكَر. وإنَّما الانزياح وسيلةٌ شِعريَّة، وأداة فنيَّة، وكذا البديع، والموسيقى الشِّعريَّة. وحين تستحيل الوسيلة إلى غاية والأداة إلى هدف، فقل على الشِّعر: السلام ورحمة الله!

وبذا، فإنَّه إذا كان مفهوم النَّظم الشِّعري لا يتعلَّق بالأوزان والقوافي وحدها، فكذلك لا يتعلَّق بكثرة الانزياحات، أو البديع. بل حقيقته أنْ ينصهر كلُّ ذلك في بوتقة تشكيل النصِّ، المعبِّر بمجمله عن المعنَى، أو- بمصطلح (الجرجاني) وكلماته- المعبِّر عن «الرَّسْم من العقل، الذي اقتضَى أنْ يتحرَّى الشاعر في نَظْمه ما تحرَّاه».

على أنَّه ما زال من أرباب النَّثر والانتثار مَن ينتقصون من النَّظْم والانتظام، منذ عصر بني العبَّاس، ولا جديد تحت الشمس. ألم يقل (أبو حيَّان التوحيدي)(5): «والشِّعر كلام، وإنْ كان من قبيل النَّظم، كما أنَّ الخُطبة كلام، وإنْ كان من قبيل النَّثر، والانتثار والانتظام صورتان للكلام في السَّمع، كما أنَّ الحقَّ والباطل صورتان للمعنَى، ...وليس الصَّواب مقصورًا على النَّثر دون النَّظم، ولا الحقُّ مقبولًا بالنَّظم دون النَّثر؛ وما رأينا أحدًا أغضَى على باطل النَّظم واعترض على حقِّ النَّثر؛ لأنَّ النَّثر لا ينتقص من الحقِّ شيئًا. وما أحسنَ ما قال القائل:

وإنَّما الشِّعـرُ لُـبُّ الـمَرْءِ يَعرِضُهُ

عَلَى المجالسِ إنْ كَيْسًا وإنْ حَمَـقَا

وإنَّ أَشْعَـرَ بَـيـتٍ أنـتَ قـائـلُـهُ

بيتٌ يُقال، إذا أَنشدتَـهُ: صَدَقا.»

فانظر هنا كيف جعل النَّظم- وهو يعني به الشِّعر- قرين الباطل: «باطل النَّظم»، وجعل النَّثر قرين الحق: «حق النَّثر»! و«قد» يوجَد الصواب في النَّظم، كما قال: «وليس الصَّواب مقصورًا على النَّثر دون النَّظم»، وإنْ كان الصَّواب في النثر أصيلًا غالبًا، وليس محلَّ شكٍّ أو خلاف! غير أنَّ النَّظم- كما يستدرك- قد يجتلب للحقِّ القبول، بما فيه من سِحرٍ وتطريب. هذا هو خطاب (التوحيدي) الناثر البائس. ولذا لا غرابة أن يختم كلامه باستحسان ما كان خليقًا- لو كان يعي ضُروبَ الكلام كما ادَّعَى، وافتراقَ طبائعها ووظائفها- أن يكتب: «وما أبردَ ما قال القائل:...»! كما كان حقُّ البيت الذي رفع رايته أن يكون:

وإنَّ أَسخفَ بَـيتٍ أنتَ قـائلُـهُ

بيتٌ يُقال، إذا أَنشدتَـهُ: صَدَقا!

 لماذا نقول هذا لـ(أبي حيَّان)؟

لأنه قد عرضَ لُبَّه علينا، بوصفه ناقدًا، فكشف عن تهافته؛ فليتقبَّل ما جاءه من بيان سقوطه في فهم تمايز النُّصوص وتقييم ما بينها من فوارق.

وهنا يتجلَّى البَون الشاسع بين (أبي حيَّان التوحيدي، -414هـ) و(عبدالقاهر الجرجاني، -471/ 474هـ) في الوعي النُّصوصي، وفهم معنى النَّظم، وعدم اقتصاره على منظوم الأوزان والقوافي.

ثمَّ إنَّه لا يُنتظَر من النَّصِّ الأدبي، شِعرًا أو نثرًا، الإعرابُ عن الصَّواب وعن الحقِّ إعرابًا مباشرًا، كما يُنتظَر من الكلام الإخباري والتقريري. ولا تنهض الفروق بين الانتثار والانتظام، أو بين النَّثر والشِّعر، على أساس تلك المعايير الذهنيَّة، التي أسَّس عليها (التوحيدي) خطابه المتوحِّد. وإنَّما آليَّة النصِّ الأدبيِّ عمومًا، شِعرًا أو نثرًا، تخيُّلٌ، يكسِبه قبولًا أو نُفورًا. وما البيتان اللَّذان استشهد بهما، إلَّا نتاج ذلك العَشَى في تمييزه ألوان الكلام، يظنُّه الظمآنُ ماءَ بصيرةٍ ثاقبةٍ دقيقة. من حيث إنَّ البيت الشِّعري الذي يصدِّقه السامعُ ويُؤَمِّن عليه القارئُ هو موجودٌ لديهما سَلَفًا، وإنْ لم يعبِّرا عنه. وهو ما عناه (المتنبِّي) بالذَّمِّ، في قوله:

أَنا السَّابِقُ الهادِي إِلى ما أَقولُهُ

إِذِ القَولُ قَبْلَ القائِلينَ مَقُـوْلُ

فالقول الذي يكون «قبل القائلين مَقُوْلًا» هو نفسُه البيت الذي «يُقال، إذا أَنشدتَهُ: صَدَقَا». وإنَّما الشِّعر أن يأتي سَبْقًا، وهِدايةً، وتجديدًا لبناء العالَم، وترتيبًا لطرائق التفكير والتخيُّل. ومن ثَمَّ فإنَّ الشِّعر نقض ما كان يصدِّقه القارئ والسامع من المقولات والأفكار. وإلَّا صحَّ أن يقال: إذا كان الشِّعر من فِضَّة، فالسكوت من ذهب! ولهذا قال العَرَب: إنَّ أعذب الشِّعر أكذبه، لا بمعنى الكذب الأخلاقي، بل بمعنى الكذب الفنِّي، أي الخيال والتخييل، اللَّذين إنْ لم يستبدَّا بالنصِّ، فلا شِعر فيه، ولا حتى أدبيَّة. غير أنَّه ينبغي على القارئ كذلك أن لا يعشَى، بدَوره، عمَّا أنتج هذا القول التوحيدي الكسيح لدَى (أبي حيان). لا لتعلُّقه بسطحيَّة وعيه النقدي فحسب، ولكن أيضًا لموقفه النفسي من الوزيرَين، (الصاحب بن عبَّاد)، و(ابن العَميد)، اللَّذين تصدَّى لثلبهما بكتابه «مثالب الوزيرَين»، حيث جاءت مقولته تلك. وكلاهما كان ناثرًا شاعرًا، على حين انحصرت مواهب صاحبنا في «الهوامل والشوامل»، وأضرابها من فنون الترسُّل. بل لقد حاول أن يُحرِق في نهاية حياته ما استطاع من تراثه النثري هذا!

وهكذا انتهى الأمر بـ(أبي حيان التوحيدي) إلى أن يثلب في كتابه «مثالب الوزيرَين» نفسه هو وفهمه، بل إلى أن يثلب أدبه، حينما استدعته المناكفات إلى الخروج من الكتابة الأدبيَّة إلى التنظير النقدي.

  ***

أ. د. عبد الله بن أحمد الفَيفي

............................

(1)  يُنظَر: (د.ت)، بهجة المَجالس وأنس المُجالس وشحذ الذاهن والهاجس، تحقيق: محمَّد مرسي الخولي، (بيروت: دار الكتب العِلميَّة)، 2: 551.

(2)  يُنظَر: (1984)، دلائل الإعجاز، قرأه وعلَّق عليه: أبو فهر محمود محمَّد شاكر، (القاهرة: مكتبة الخانجي)، 55، 81.

(3)  يُنظَر: م.ن، 49.

(4)  بل إن المفكِّرين بدَورهم مفكِّران: مفكِّر ذو عقل شمولي مَرِن حُر، ومفكِّر أُحادي النظرة، منغلق، اتِّباعي، مستعبَدٌ لتيَّارٍ أو توجُّه، (الفرنسي ميشال أونفري- «نفي اللَّاهوت» نموذجًا، في ترجمته العَرَبيَّة الركيكة الحافلة بالعِيِّ اللُّغوي). وهذا الضَّرْب هو الغالب على مفكِّري العالَم عبر العصور، ولا سيما في الثقافات المنغلقة أو المؤدلجة. ومن ثَمَّ فإنَّ رَسْم العقل هنا أيضًا يختلف.

(5)  (1992)، أخلاق الوزيرَين «مثالب الوزيرَين: الصاحب بن عبَّاد وابن العميد»، تحقيق: محمَّد بن تاويت الطَّنجي، (بيروت: دار صادر)، 8- 9.

يُعْتَبَرُ الكاتبُ المِصْري نجيب محفوظ (1911 _ 2006 / نوبل 1988) أعظمَ روائي في الأدبِ العربي على الإطلاقِ. تُعَدُّ أعمالهُ سِجِلًّا حَيًّا للتَّحَوُّلات الاجتماعية في مِصْر.

كَتَبَ في فَترةِ التَّحَوُّلاتِ السِّياسية والاجتماعية العَميقة في المُجتمعِ المِصْرِيِّ، مِنَ الاحتلالِ البريطاني إلى ثَورة 1919 ثُمَّ ثَورة يوليو 1952، ومَا تَبِعَها مِنْ تَغْييرات في البُنْيَةِ الطَّبَقِيَّة. وانطلقَ مِنْ واقعٍ اجتماعي مُضطرِب، فَجَعَلَ مِنَ الأدبِ وسيلةً لكشفِ أزَمَاتِ العَدالةِ الاجتماعية، وعاشَ مَراحلَ الصِّراعِ بَيْنَ الطَّبَقَاتِ الاجتماعية، حَيْثُ كانت الطَّبَقَةُ الكادحة (العُمَّال، الفُقَراء، صِغَار المُوظَّفين، سُكَّان الحَارَاتِ الشَّعْبية) في مُواجَهةِ الفَقْرِ والسُّلطةِ والبيروقراطية. وَقَدْ كانتْ مِصْر تَمُرُّ بِمَرحلةِ انتقالٍ مِنَ الإقطاع إلى نَوْعٍ مِنَ الاشتراكية، فانعكسَ ذلك في أدبِه كَصِرَاعٍ بَيْنَ القَديمِ والجديد، وصارَ مَادَّةً خِصْبَةً في كِتَاباته التي رَصَدَتْ حَركةَ المُجتمعِ بَيْنَ القَهْرِ والأملِ.

قَدَّمَ تَصويرًا دقيقًا لِعَالَمِ الكادحين في الحَارَاتِ الشَّعْبية، حَيْثُ يَتجسَّد الفَقْرُ لَيْسَ كحالةٍ ماديَّةٍ فَقَط، بَلْ أيضًا كَمُعَاناةٍ وُجوديةٍ وإنسانية. وكانَ يَرى أنَّ الفَقْرَ لَيْسَ عَيْبًا فرديًّا، بَلْ نتيجة لعوامل اجتماعية وتاريخية مُعقَّدة، إلا أنَّه يُعالجه بِمَنظورٍ إنسانيٍّ أكثر مِنْ كَوْنِه سِياسيًّا. فالكادحُ عِندَه هُوَ إنسان يَسْعَى إلى حِفْظِ كَرامته رَغْمَ انكسارِه، وَيَظَلُّ قادرًا على الحُلْمِ والمُقاوَمة.

شَخصياتُه غالبًا مِنَ الحَارَةِ الشَّعْبية: الحَلَّاق، البائع، البَوَّاب، الفتاة الفقيرة. يُصورِّهم بَيْنَ مِطْرقةِ الفَقْرِ وَسِنْدَانِ السُّلطة، لكنَّهم يَحْتفظون بِكَرامتهم وإنسانيتهم. والكِفَاحُ عِندَه لَيْسَ اقتصاديًّا فَحَسْب، بَلْ هُوَ أيضًا وُجودي وأخلاقي، وَبَحْثٌ عَنْ مَعْنى الحَياةِ والعَدْلِ والكَرامة.

تَتجلَّى الطَّبَقَةُ الكادحةُ بِوُضوحٍ في أعمالِه الواقعية، فَهُوَ يَرسُم لَوْحةً مُتكاملة للحَياةِ الشَّعْبية في أحياءِ القاهرةِ القديمة، حَيْثُ تتقاطع طُموحاتُ الفُقَراءِ معَ قَسْوَةِ الواقعِ، وَيَتجسَّد حُلْمُ الإنسانِ بالتَّحَرُّرِ مِنَ الفَقْرِ، وأحيانًا يَسْقَط في بَراثِنِ الاستغلالِ، فَيَتَحَوَّل الحُلْمُ إلى مَأساةٍ.

وَقَدْ قَدَّمَ في أعمالِه مَأساةَ الأُسْرَةِ المِصْرِيَّة الفقيرة التي تُكافِح مِنْ أجْلِ البَقاءِ بعد وَفاةِ عائلها، فَيَتَحَوَّل الفَقْرُ إلى قَدَرٍ يَخْتبر القِيَمَ والأخلاقَ والمَبادئ. وفي بعضِ أعمالِه، تَتَحَوَّلُ الحَارَةُ إلى نَمُوذج مُصغَّر للمُجتمعِ الإنسانيِّ، حَيْثُ يَتوارث الناسُ الصِّراعَ بَيْنَ العَدْلِ والطُّغيان، وَيَظَلُّ " الفُتُوَّة " رمزًا للسُّلطةِ التي يَسعى الكادحون لِتَقْويمها أوْ مُواجهتها. وَهُوَ يَرى في الطَّبَقَةِ الكادحةِ الضَّميرَ الأخلاقيَّ للأُمَّة، لكنَّها في الوَقْتِ نَفْسِه ضَحِيَّةٌ لِبُنْيةٍ اجتماعية ظالمة. خَلاصُها يَتحقَّق بالوَعْي والنَّزْعةِ الأخلاقية النابعة مِنَ الداخل.

والرِّوائيُّ الأمريكيُّ جون شتاينبك (1902 _ 1968 / نوبل 1962) مِنْ أبرزِ الأُدباءِ الذينَ عَالَجُوا مَوضوعَ الطَّبَقَةِ الكادحة. كَتَبَ في ظِلِّ فَترةِ الكَسَادِ العظيم (1929_ 1939) حِينَ انهارَ الاقتصادُ الأمريكي، وَخَسِرَ مَلايين الناسِ أراضيهم وأعمالَهم، وَتَحَوَّلوا إلى مُشرَّدين يَبْحثون عن العملِ في الحُقولِ والمَصانع.

تعاملَ معَ الطَّبَقَةِ الكادحة بِرُؤيةٍ إنسانيَّة احتجاجيَّة، فَهُوَ لا يَكْتفي بِوَصْفِ مُعاناتهم، بَلْ يُدِينُ النظامَ الاقتصاديَّ الذي أنتجها، ويُبْرِز القِيَمَ الإنسانية مِثْلَ التَّضَامُنِ، والحُبِّ، والإخلاصِ، باعتبارِها السِّلاح الوحيد في مُواجهةِ القَسوةِ الاجتماعية. كما يَتميَّز أُسلوبُه بالواقعية المَمْزوجة بالرَّمْز، إذْ يَتحوَّل العملُ وَالأرضُ وَالأُسْرَةُ إلى رُموز كُبْرى للكَرامةِ الإنسانيَّة.

شَخصياتُه مِنَ العُمَّالِ الزِّراعيين والمُهاجِرين الفُقَراء، يُصارِعون الجُوعَ والاستغلال. والكِفَاحُ عِندَه ماديٌّ ومَعْنويٌّ في آنٍ معًا : الجُوع، والقَهْر الاجتماعي، وَضَياع الحُلْمِ الأمريكيِّ. لكنَّه يُغلِّف مُعَاناتهم بإحساسٍ عميق بالتضامُنِ الإنسانيِّ، والكَرامةِ، والأملِ بالعَدالةِ الاجتماعية.

جَعَلَ مِنَ الكادحين الأمريكيين رَمْزًا للمُعَاناةِ الكَوْنِيَّة، فالفَقْرُ عِندَه لَيْسَ حالةً اقتصادية فَحَسْب، بَلْ أيضًا مأساة وُجودية تَنْبُع مِن انعدامِ العَدالة. وَهُوَ يُؤْمِنُ بِقُدْرتهم على التضامنِ والتَّمَرُّدِ، والوِلادةِ الجديدةِ مِنْ رَحِمِ المُعاناة.

وَنَقَلَ في أعمالِه مَأساتهم بِلُغَةٍ تَمْتزج فيها الشاعريةُ بالغضب. والأرضُ عِندَه لَيْسَتْ مُجرَّد خَلْفِيَّة للأحداث، بَلْ هِيَ مُعَادِلٌ رُوحيٌّ للإنسانِ، حِينَ تُغْتَصَبُ الأرضُ، وَيُغْتَصَبُ الوُجودُ الإنساني.

وَجَعَلَ مِنَ الحَقْلِ الأمريكيِّ مِنْبَرًا للعَدالةِ والتَّمَرُّدِ. وَهُوَ لا يَكْتُب عَن الفَقْرِ كَقَدَرٍ، بَلْ كَجَريمة. الأرضُ التي يُطرَد مِنها الفلاحون تَتحوَّل إلى كائنٍ جريح، والإنسانُ الذي يُسحَق تحت عَجَلاتِ الرأسمالية يَتحوَّل إلى رَمْزٍ للمُقاوَمةِ الصامتة. وَقَدْ صَوَّرَ الحُلْمَ الأمريكيَّ وَهُوَ يَتفتَّت بين أصابع العاملين في المَزارع، حِينَ يُصْبح الحُلْمُ نَفْسُه سِلْعَةً لا يَقْدِرُون على شِرائها.

كَتَبَ بلسانِ الجماعة لا الفَرْدِ، بِصَوْتِ الغضبِ الجَمْعِيِّ الذي يُشبِه صَفِيرَ الرِّيحِ في الحُقولِ الخالية. لُغَتُهُ مُشْبَعَةٌ برائحةِ التُّرابِ، وَعَرَقِ الأجسادِ، وَدُموعِ الأُمَّهات. والكادحون لا يَسْكُنون عَالَمَ الهزيمةِ، بَلْ عَالَم النُّهوضِ مِنَ الرُّكام، حَيْث الحُلْم آخِر مَا يُنْتَزَع مِنَ الإنسان.

لَقَدْ رَكَّزَ محفوظ على الداخلِ المِصْرِيِّ، حَيْث الصِّراع بَيْنَ القِيَمِ والتقاليدِ والحَداثة، فَجَعَلَ الكادحين رُموزًا للبَقَاءِ والكَرامة، أمَّا شتاينبك، فَقَدْ رَكَّزَ على الإنسانِ العالميِّ في مُواجهةِ النِّظامِ الرأسماليِّ القاسي، فَجَعَلَ الكادحين رُموزًا للأملِ والمُقاوَمة.

***

إبراهيم أبو عواد / كاتب من الأردن

دراسة في مجموعة "اللمبة الحمراء" للكاتبة منال أمين

تُمثّل المجموعة القصصية "اللمبة الحمراء" للكاتبة منال أمين استكشافًا عميقًا للعوالم الداخلية للمرأة في سياق مجتمعي معقد، حيث تتشابك العلاقات الإنسانية وتتصارع الذات مع قيود الواقع وتوقعات الآخرين. إنها نصوص قصصية تنطلق من الخاص لتلامس العام، وتغوص في تفاصيل الحياة اليومية لتكشف عن أزمات وجودية ونفسية كبرى.

في حياة كل امرأة، تومض أحيانًا "لمبة حمراء"؛ قد تكون لحظة صمت قاتل في علاقة زوجية باردة، أو كلمة جارحة تسلبها ثقتها بنفسها، أو قرار مجتمعي يفرض عليها هوية لا تشبهها. هذا الضوء ليس مجرد تحذير، بل هو إشارة حاسمة تقف عندها الذات الأنثوية لتواجه مصيرها: إما أن تستسلم للقهر وتذوي في الظل، أو أن تتجاوز الخط الأحمر بحثًا عن شكل من أشكال التحرر، مهما كان الثمن باهظًا.

وبين دفتي هذه المجموعة القصصية، تقدم منال أمين عالمًا يعج بتلك اللحظات الفاصلة. سنلتقي بنساء يقفن أمام مرايا أرواحهن المتصدعة، يتساءلن عن ماهيتهن ودورهن في الحياة. منهن الزوجة التي تحاول يائسة أن تحطم جدار الصمت الذي بناه زوجها، فتُشعل حريقًا من الشك قد يلتهمها هي أولًا. ومنهن الأم التي تواجه تخلي زوجها وقسوة المجتمع لتمنح ابنتها "المختلفة" حقها في الحياة والحلم.

إن قصص "اللمبة الحمراء" هي تجليات سردية لصراع الذات النسوية الأبدي. هي صرخة المهمشات، وأنشودة الصامدات، ومرثية الضائعات. تستكشف الكاتبة بجرأة كيف يمكن للقهر الاجتماعي والعاطفي أن يسحق الروح، لكنها في الوقت ذاته، تحتفي ببراعم المقاومة التي تنبت في أقسى الظروف. فالتحرر هنا ليس دائمًا انتصارًا مدويًا، بل قد يكون في قرار صغير، أو دمعة رفض، أو حلم عنيد يتمسكن به في وجه المستحيل.

فالمجموعة تدعو القارئ للدخول إلى هذه العوالم، لا لتتعاطف مع الشخصيات فحسب، بل لتستمع إلى نبض أرواحهن وهي تخوض معاركها اليومية بين قيود الواقع ورغبة جامحة في التحليق نحو فضاء أرحب من الحرية والوجود.

تعتمد هذه القراءة النقدية على منهج تكاملي يستلهم آلياته من مدارس النقد الحديث، فهو يوظف:

- النقد السيميائي (Semiotic Criticism): لتحليل العتبات النصية (الغلاف، العنوان، الإهداء) بوصفها علامات بصرية ولغوية مُنتجة للمعنى وتوجه القارئ.

- النقد النسوي (Feminist Critic): لرصد صورة المرأة، وتحليل ديناميكيات السلطة في العلاقات بين الجنسين، والكشف عن أشكال القهر والبحث عن التحرر في القصص.

- النقد النفسي (نقد التحليل النفسي): للغوص في دوافع الشخصيات اللاواعية، وتفسير سلوكياتها بناءً على صدمات الماضي وعقده النفسية.

- النقد الاجتماعي الواقعي (Sociological Critic): لفهم كيف تعكس القصص قضايا مجتمعية ملحة مثل التمييز، الخيانة، والتفكك الأسري.

من خلال هذا المنهج المتكامل، سنسعى إلى تفكيك طبقات المعنى في المجموعة، بدءًا من عتباتها الخارجية وصولًا إلى قلب نصوصها السردية، لنقدم رؤية شاملة لمشروع الكاتبة الإبداعي.

تحليل عتبات النص: مفاتيح الدخول إلى عالم المجموعة

تعتبر العتبات النصية (Paratext) بمثابة البوابة الأولى التي يعبر منها القارئ إلى عالم النص، وهي تحمل دلالات مكثفة ترسم أفق التوقعات وتوجه عملية التلقي.

1. الغلاف: سيميائية اللون والصورة

يأتي الغلاف كعلامة بصرية قوية وموحية. نرى ممرًا ضيقًا مظلمًا تضيئه "لمبات حمراء"، وفي نهايته يقف ظل لشخص يولينا ظهره. هذا المشهد يولد إحساسًا بالغموض والترقب، ويمكن تفكيك دلالاته كالتالي:

- اللون الأحمر: يرمز إلى الخطر، التحذير، العاطفة الملتهبة، أو حتى الخطيئة. "اللمبة الحمراء" هي إشارة توقف، علامة على وجود خطأ أو تجاوز لحدود لا ينبغي تجاوزها، وهو ما يتردد صداه في العديد من قصص المجموعة التي تتمحور حول الخيانة والشك.

- الممر الضيق: يوحي بالنفس المحاصرة، الأزمة، أو الشعور بأن الخيارات محدودة، وهو ما تعانيه الكثير من بطلات القصص المحاصرات في علاقات مؤذية أو ظروف اجتماعية قاسية.

- الظل المبتعد: يمثل الغياب، الرحيل، أو الخذلان. هو الزوج الذي يخرج ويترك زوجته في قصة "اللمبة الحمراء"، أو الأب الذي يتخلى عن ابنته في قصة "من حقي أن أعيش".

أما الغلاف الخلفي، فيعرض صورة شخصية للكاتبة، مع اقتباس من القصة الرئيسية يكشف عن بطلة تعاني من صراع نفسي ("انتفضت في رعب حين رأت شبح أبيها المتوفى في المرآة")، مما يهيئ القارئ مباشرةً للأجواء النفسية المشحونة داخل المجموعة.

2-العنوان: "اللمبة الحمراء"

العنوان ليس مجرد اسم للقصة الأولى، بل هو رمز مهيمن على المجموعة بأكملها. "اللمبة الحمراء" هي تلك الإشارة التحذيرية التي تضيء وتنطفئ في علاقات الشخصيات وحياتهم. إنها تمثل:

- الشك الذي يدمر العلاقة الزوجية ("اللمبة الحمراء").

- علامة الخطر التي لم تنتبه لها "هند" قبل أن تسقط في فخ الخيانة ("ثمن الخيانة").

- التحذير من ضياع الأبناء بسبب الإهمال الأسري ("ثمن الخيانة").

3. الإهداء: الميثاق النسوي والاجتماعي

يُعد الإهداء مفتاحًا أيديولوجيًا للمجموعة، حيث تقسمه الكاتبة بوعي إلى قسمين، موجهة رسالة واضحة لكل من المرأة والرجل:

- إلى المرأة: دعوة لتمكين الذات وتحقيقها ("كوني نفسك دائمًا")، مع التأكيد على دورها المحوري كشريكة في الأسرة ("كوني عونا لزوجك... وملاذا دافئا لأولادك").

- إلى الرجل: نقد مباشر وصريح للسلوك الذكوري السلبي القائم على التقليل من شأن المرأة وخيانتها. الإهداء يطالب الرجل بالارتقاء إلى مستوى الشراكة الحقيقية ("كن رجلا يليق بعظمة المرأة التي منحها الله مكانة الشريك، لا التابع").

هذا الإهداء يضع المجموعة القصصية في إطار النقد الاجتماعي والنسوي بشكل لا لبس فيه، ويجعل من القصص التالية تجسيدًا سرديًا لهذه الرؤية.

تحليل قصص المجموعة وتصنيفها

تتنوع قصص المجموعة الثماني لتقدم بانوراما واسعة من التجارب الإنسانية، تتمحور غالبيتها حول المرأة كضحية ومقاومة في آن واحد.2096 najla

إحصاء تصنيفي للقصص

- قصص ذات طابع اجتماعي: 5 قصص (اللمبة الحمراء، ثمن الخيانة، من أنا؟، الصيد الثمين، من حقي أن أعيش).

- قصص ذات طابع نفسي: 4 قصص (اللمبة الحمراء، ثمن الخيانة، ليلة رأس السنة، من أنا؟!).

- قصص ذات طابع واقعي: 3 قصص (موعدي مع الحياة، الصيد الثمين، من حقي أن أعيش).

- قصص ذات طابع رمزي: قصتان (ليلة رأس السنة، الصيد الثمين).

وبتحليل قصة "اللمبة الحمراء":  نجد الكاتبة تعرض لصرخة في وجه الفراغ العاطفي

تُعد قصة "اللمبة الحمراء" للكاتبة منال أمين دراسة نفسية واجتماعية عميقة لأزمة المرأة في ظل علاقة زوجية باردة، حيث يصبح الفراغ العاطفي هو المحرك الأساسي لأحداث مأساوية. القصة لا تروي حكاية خيانة، بل حكاية صناعة الشك كوسيلة يائسة لاستجداء الاهتمام.

1. ملخص الأحداث: فخ من صنع الضحية

تدور القصة حول زوجة شابة تعيش في ترف مادي، لكنها تعاني من إهمال زوجها وبروده العاطفي القاتل. بعد شجار يتركها فيه ويخرج، تشعر بقهر الروح ورغبة في التحرر. في اليوم التالي، وأثناء جلوسها في مقهى، يحدث لقاء عابر وغير مقصود مع رجل غريب يلفت انتباهها بنظرة إعجاب.

هذه النظرة العابرة تعيد إليها شعورها بأنها ما زالت أنثى مرغوبة. انطلاقًا من هذا الشعور، تقرر أن تثير غيرة زوجها؛ فتختلق قصة عن مطاردة الرجل لها، ثم تسجل بصوت متغير رسالة غرامية على جهاز الرد الآلي في المنزل. في البداية، يسخر زوجها من قصتها، لكنه عندما يرى "اللمبة الحمراء" تومض في جهاز الرد ويسمع الرسالة، ينزعج بشدة ويبقى في المنزل. تنجح خطتها في استعادة وجوده المادي، لكنها تكتشف أنها زرعت بذور الشك في قلبه وأدخلت نفسها في نفق مظلم لا تعرف كيفية الخروج منه.

2. تحليل الشخصيات: أزمة الذات في مرآة الآخر

- الزوجة (البطلة): هي شخصية مأزومة تعيش صراعًا داخليًا حادًا. دافعها الأساسي ليس الانتقام بل استعادة الحب والاهتمام. هي لا تريد الثراء الذي يقدمه زوجها، بل تريده هو كرجل "يعزف سيمفونيتها". شعورها بأنها تحولت إلى قطعة أثاث أو "إحدى التحف التي تملأ البيت" يدفعها إلى حافة الانهيار. خطتها ليست نابعة من الخبث، بل من يأس عميق ورغبة في تحطيم جدار الصمت الذي بناه زوجها. لكنها بجهلها بعواقب أفعالها، تبني سجنًا جديدًا حول نفسها، أكثر إحكامًا من سجن الإهمال.

- الزوج: يمثل نموذج الرجل الغائب عاطفيًا. هو حاضر ماديًا، لكنه لا يرى زوجته ولا يسمعها. رد فعله الأول على محاولتها لفتح حوار هو السخرية والتقليل من شأنها، حتى إنه يتهمها بأنها "بدأت سن اليأس مبكرًا"، مما يعكس استخفافًا عميقًا بمشاعرها. غيرته لا تتحرك إلا بدليل مادي ملموس (الرسالة المسجلة)، وهو ما يوضح أنه يتعامل مع علاقته بمنطق التملك لا المشاركة.

3. الموضوعات الرئيسية (المواضيع)

- الفراغ العاطفي والوحدة الزوجية: هو المحور الذي تدور حوله القصة. فالزوجة محاطة بكل شيء إلا بما تريده حقًا: الحميمية والتواصل. إنها محبوسة في "زنزانة مؤصدة بمفاتيح من ذهب".

- انهيار التواصل: الصمت والإهمال هما القاتل الحقيقي للعلاقة. لا يوجد حوار بين الزوجين؛ هي تتألم في صمت وهو يعيش في عالمه المنفصل.

- خطورة الخداع كحل للمشاكل: تُظهر القصة ببراعة كيف أن الكذب، حتى لو كان بهدف نبيل (استعادة الزوج)، يتحول إلى سم يدمر ما تبقى من ثقة. البطلة أرادت حبيبًا، لكنها خلقت "سجانًا".

4. رمزية "اللمبة الحمراء"

العنوان نفسه يحمل رمزية قوية ومحورية. "اللمبة الحمراء" في جهاز الرد الآلي ليست مجرد ضوء، بل هي:

- علامة خطر وتحذير: إنها الإشارة التي تنذر بالخطر القادم، وبأن الزوجة قد تجاوزت حدًا لا يمكن الرجوع عنه.

- رمز الأمل الزائف: بالنسبة للزوجة، كان وميض الضوء هو علامة نجاح خطتها وأملها في استعادة زوجها.

- تجسيد الشك والخيانة: بالنسبة للزوج، أصبح هذا الضوء هو الدليل المادي على الخيانة، والرمز المرئي للشك الذي بدأ ينمو في قلبه و"يعلو كل يوم".

"اللمبة الحمراء" هي قصة قصيرة مكثفة وذات نهاية مفتوحة على الألم، تقدم نقدًا لاذعًا للعلاقات التي تفرغ من محتواها الإنساني وتتحول إلى مجرد شكل اجتماعي. إنها تحذير من أن محاولة إصلاح شرخ عميق في الروح بخدعة سطحية لا يؤدي إلا إلى توسيع الشرخ وتحويل البيت إلى سجن حقيقي.

وبتحليل نموذج آخر قصة: "من أنا؟!": وتمثل صرخة الهوية في وجه القهر الأبوي

تُعد قصة "من أنا؟!" واحدة من أكثر القصص جرأة وتأثيرًا في المجموعة، حيث تتناول بعمق قضية أزمة الهوية التي تُفرض قسرًا على فتاة بسبب العقلية الذكورية المتجذرة في بعض المجتمعات. القصة ليست مجرد حكاية، بل هي دراسة سوسيولوجية ونفسية للآثار المدمرة التي يخلفها القهر الأسري والرغبة في إرضاء الآخر على حساب الذات.

1. ملخص الأحداث: رحلة التدمير الذاتي بحثًا عن القبول

في إحدى قرى الصعيد، تعيش "سلمى" تحت وطأة والدها "الحاج محمود"، الذي كان يحلم بإنجاب ولد يحمل اسمه ويرث ماله1. ولأنه لا يستطيع الزواج بأخرى بسبب شروط الميراث العائلي، يقرر أن يعامل ابنته الوحيدة سلمى وكأنها ولد؛ فيجبرها على ارتداء ملابس الأولاد والقيام بأعمال شاقة

تكبر سلمى وهي تكره أنوثتها، وتشعر بالذنب تجاه والدتها التي تتحمل إهانات زوجها المستمرة. في محاولة يائسة وخطيرة لتحقيق حلم والدها وكسب رضاه، تبدأ سلمى بتناول هرمونات ذكورية سرًا على أمل أن يغير ذلك من هيئتها. لكن هذا القرار يدمر صحتها تمامًا، حيث تصاب بمرض السرطان نتيجة لاضطراب الهرمونات في جسدها.

عندما يكتشف الأب الحقيقة، يصاب بالرعب ويشعر بالذنب من فكرة فقدان ابنته، ويدرك حجم ظلمه. يبدأ في رحلة علاجها وينفق كل ما يملك لإنقاذها. خلال هذه المحنة، تتغير نظرته تمامًا ويتعلم أن يحبها ويحترمها لذاتها. تتعافى سلمى وتتحول إلى رمز للصبر والقوة، وتحكي قصتها لتعليم الفتيات أهمية تقبل الذات.

2. تحليل الشخصيات الرئيسية

- سلمى: هي الضحية والمحور الذي تدور حوله الأحداث. شخصيتها تجسد أزمة الهوية بكل أبعادها. هي لا تعيش حياتها، بل تعيش "الحياة التي أرادها والدها". دافعها ليس التمرد، بل على العكس تمامًا، هو الانصياع المطلق للرغبة الأبوية. فعلها بتناول الهرمونات هو ذروة التدمير الذاتي النابع من البحث عن الحب والقبول. رحلتها من الكره لنفسها إلى تقبل ذاتها والدعوة إليه تمثل مسار القصة من المأساة إلى الخلاص.

- الحاج محمود (الأب): يمثل السلطة الأبوية التقليدية في صورتها الأكثر قسوة. هو شخصية يحركها الهوس بالإرث والاسم، وهي قيم اجتماعية يعتبرها أهم من مشاعر ابنته وصحتها. هو ليس شريرًا بالفطرة، بل هو نتاج ثقافة تقدر الذكر على الأنثى. تحوله في نهاية القصة ليس نابعًا من وعي فكري، بل من دافع إنساني بدائي: الخوف من الفقد. صدمة مرض ابنته هي التي تجبره على إعادة تقييم أولوياته وإدراك النعمة التي كاد أن يفقدها.

3. الموضوعات الأساسية (المواضيع)

- أزمة الهوية: عنوان القصة "من أنا؟!" هو السؤال الوجودي الذي تعيشه سلمى. لقد سُلبت هويتها الأنثوية واستبدلت بهوية ذكورية مفروضة. القصة بأكملها هي إجابة مؤلمة عن هذا السؤال.

- نقد الثقافة الأبوية: القصة هي نقد مباشر وصريح لتفضيل الذكور في بعض المجتمعات، وكيف يمكن لهذه العقلية أن تدمر حياة الأفراد والأسر. الحاج محمود ليس مجرد شخص، بل هو رمز لثقافة بأكملها.

- الجسد كساحة للصراع: يصبح جسد سلمى هو ساحة المعركة التي يتصارع عليها رغبة الأب في الذكورة مع طبيعتها الأنثوية. تناولها للهرمونات هو محاولة عنيفة لتغيير هذه الساحة لتتوافق مع رغبة السلطة.

- الخلاص عبر المحنة: المحنة (مرض سلمى) هي التي تحمل الخلاص لجميع الأطراف. سلمى تجد ذاتها الحقيقية، والأب يجد إنسانيته المفقودة، والأسرة تجد معنى التكاتف من جديد.

"من أنا؟!" هي قصة قاسية وصادمة، لكنها تحمل في طياتها رسالة عميقة عن أهمية الحب غير المشروط وتقبل الآخر كما هو. تكشف القصة ببراعة كيف أن محاولة قولبة إنسان في قالب لا يناسبه لا تنتج إلا الألم والدمار. إنها دعوة صريحة لمراجعة الموروثات الاجتماعية التي تنتقص من قيمة الإنسان بناءً على جنسه، وتأكيد على أن الهوية الحقيقية لا تُفرض من الخارج، بل تنبع من أعماق الذات.

وبتحليل آخر قصة بالمجموعة "من حقي أن أعيش": انتصار الإرادة على وصمة المجتمع وتعد أطول قصص المجموعة

تُعتبر قصة "من حقي أن أعيش" من أقوى قصص المجموعة وأكثرها تأثيرًا، فهي لا تقدم مجرد حكاية، بل هي بيان إنساني عن الحق في الحياة والحلم، ورسالة قوية ضد التمييز والجهل المجتمعي. القصة هي رحلة ملهمة من الظلام إلى النور، ومن الرفض إلى التمكين.

ملخص الأحداث: من وصمة عار إلى أيقونة نجاح

تبدأ القصة بمأساة طفلة تُدعى "نور"، التي تُشخص إصابتها بمتلازمة داون بعد ولادتها بأربعين يومًا. يرفض والدها تقبل حقيقة "إعاقتها"، ويعتبرها "وصمة عار"، ويطلب من زوجته "ليلى" التخلص منها. أمام رفض الأم القاطع، يهجر الأب الأسرة، آخذًا معه ابنتهما الكبرى "نورهان" ويتركهما بلا سند أو مال.

تكافح الأم "ليلى" بمفردها، وتواجه قسوة المجتمع والتنمر الذي تتعرض له ابنتها. تكتشف موهبة نور في الرسم وتصميم الأزياء، فتدعمها بكل ما أوتيت من قوة. تكبر نور وتعمل في أتيليه كبير، وتفوز بجائزة دولية لتصميم الأزياء، محققة حلمها.

تتقاطع الأقدار حين تدخل شابة متعالية إلى الأتيليه لطلب فستان خطبة، وتتكشف لاحقًا أنها "نورهان"، أخت نور التي فرّق بينهما الزمن. يمرض الأب ويدخل المستشفى، وهناك تحدث المواجهة الكبرى بين ليلى وزوجها السابق، وتنكشف الحقيقة المرة أمام الابنتين. تنتهي القصة باحتضان الأم لابنتيها، معلنة بداية جديدة بعيدًا عن ألم الماضي.

2. تحليل الشخصيات الرئيسية

- نور: هي قلب القصة ورمزها. تبدأ كضحية لجهل والدها وقسوة المجتمع، لكنها لا تستسلم لدور الضحية. شخصيتها تتطور من طفلة باكية مكسورة القلب إلى شابة واثقة ومبدعة تفرض احترامها بموهبتها. نجاحها ليس مجرد انتصار شخصي، بل هو انتصار لكل "المختلفين" الذين يطالبون بحقهم في الوجود وتحقيق الذات.

- ليلى (الأم): هي البطلة الحقيقية والمحارب الصامت في القصة. تمثل الأمومة في أسمى صورها: التضحية، الصمود، والإيمان المطلق. رفضها التخلي عن ابنتها هو الفعل التأسيسي الذي تقوم عليه القصة بأكملها. هي السند والحامية والمعلمة، وبدون كفاحها وتضحياتها، ما كانت قصة نور لتكتمل.

- الأب: يمثل الجانب المظلم من المجتمع: العقلية الذكورية، الجهل، والرفض القائم على المظاهر. موقفه يجسد الخوف من "العار" الاجتماعي أكثر من حبه لابنته. عودته في نهاية القصة كشخص مريض ومنكسر هي عدالة شعرية، حيث يضطر لمواجهة نتيجة أفعاله، ويصبح هو نفسه في موضع ضعف بعد أن كان مصدر القوة والقسوة.

3.- القضايا  الاجتماعية  التي  ناقشتها  القصة: الحق في الحياة والحلم: هذا هو الشعار الذي ترفعه القصة. كلمات نور التي تتردد في قلبها على المسرح ("أنا من حقي أن أعيش... من حقي أن أحلم") هي جوهر الرسالة. القصة تؤكد أن القيمة الإنسانية لا تُقاس بعدد الكروموسومات أو بالمعايير الجسدية للمجتمع.

- وصمة العار والتنمر: تسلط القصة الضوء بمرارة على كيفية تعامل المجتمع مع ذوي الهمم. نظرات الازدراء والتنمر التي تعرضت لها نور هي انعكاس لجهل مجتمعي واسع.

- قوة الأمومة: قصة ليلى هي احتفاء بتضحيات الأمهات اللواتي يواجهن العالم بأسره من أجل حماية أطفالهن. هي التي حولت الألم إلى أمل، والضعف إلى مصدر قوة.

- الإرادة تفعل المستحيل: هذه هي العبرة النهائية للقصة. نور، الفتاة التي أراد والدها موتها، أصبحت مصممة عالمية. قصتها هي الدليل الحي على أن الإعاقة الحقيقية هي إعاقة الفكر والقلب، لا الجسد.

"من حقي أن أعيش" هي قصة مؤثرة ومُلهمة، تُعلي من قيم الإنسانية والرحمة والإرادة. إنها تدعو القارئ إلى النظر إلى ما وراء المظاهر، واكتشاف الجمال والقوة الكامنين في كل إنسان، بغض النظر عن الاختلافات. من خلال رحلة نور وليلى، تقدم منال أمين درسًا بليغًا في أن أعظم الانتصارات هي تلك التي تُبنى على أنقاض الرفض والألم.

ومجمل القول  إنًّ: مجموعة "اللمبة الحمراء" للكاتبة منال أمين ليست مجرد سرد لمجموعة من الحكايات، بل هي تشريح دقيق ومؤلم لواقع الذات النسوية في رحلتها الشاقة بين أغلال القهر وسعيها الدؤوب نحو التحرر. لقد تجلت هذه الذات في صور متعددة عبر قصص المجموعة؛ فرأيناها ضحية تتألم في صمت تحت وطأة الإهمال العاطفي كما في "اللمبة الحمراء"، ومُحطمة تبحث عن هويتها المسلوبة في "من أنا؟!"  ومناضلة صامدة تكسر قيود الوصمة المجتمعية في "من حقي أن أعيش".

تنجح الكاتبة ببراعة في أن تجعل من "اللمبة الحمراء" رمزًا مهيمنًا، لا يقتصر على قصة واحدة، بل يمتد ليصبح تلك الإشارة التحذيرية التي تومض في حياة كل بطلاتها، معلنة عن لحظة أزمة حاسمة تدفعهن إلى المواجهة. فكل قصة هي بمثابة "لمبة حمراء" تضيء جانبًا معتمًا من التجربة الأنثوية، سواء كان القهر نابعًا من سلطة أبوية، أو زوج متسلط، أو مجتمع قاسٍ في أحكامه.

وعليه، فإن هذه المجموعة القصصية تمثل شهادة أدبية وإنسانية على أن التحرر ليس دائمًا ثورة صاخبة، بل هو أحيانًا قرار بالبقاء، أو إرادة للصمود، أو حلم عنيد بالوجود. إنها دعوة صادقة لاستعادة الذات التي حاول الآخرون طمسها، وتأكيد على أن لكل امرأة، مهما كانت ظروفها، الحق في أن تروي قصتها، وأن تعيش حياتها بشروطها الخاصة، لا بشروط يمليها عليها الآخرون.

***

د. نجلاء نصير

وأنا أتابع صفحة للمترشحين لسلك الدكتوراه، لفت انتباهي طلب إحدى الباحثات يتعلق برغبتها في الحصول على نموذج لتقرير يخولها تقديم مشروعها العلمي. سؤال كبير وإشكال عميق يرتبط بهذا الأمر وهو بكل بساطة كيف لنا أن نترشح لسلك الدكتوراه ولا نحسن كتابة تقرير ؟ هل يمكن لنا أن نتبنى أفكار بعضنا البعض؟ هل الفكرة ملازمة لشخصها أم هي قابلة للانتقال رغم تغيير الأسلوب؟ كان هذا محور جوابي فانهالت علي الانتقادات والقليل من أيقونات الإعجاب.

أربأت نفسي عن جدال عقيم، رغم أني غير مقتنع بذلك، لكن ونحن نمارس الإقناع يجب أن يكون ذهن المتلقي والسامع مؤهلا فيما يسميه "محمد مشبال" بالحجاج الاقتناعي وبما أننا أمام صفحة افتراضية يضعف دور النسق والسياق الذي يحكم الخطاب كما يتوارى المقام وتتلاشى الوظائف اللغوية والنصية، هنا يمكننا أن نتحدث عن بلاغة رقمية كما دعى إليها "محمد بازي" في صياغته الفريدة لأنموذج تناغم الخطاب.

تأسيسا على ما سبق هل نجازف بالإعلان عن موت الباحث؟ ليس بالمفهوم الفلسفي للموت كما تحدث عن ذلك "نيتشه"، أو بالمفهوم النقدي البنيوي كما وظفه "رولان بارت" في قراءته للنص وإنما بمفهوم الناقد البريطاني "رونان ماكدونالد"؛ في كتابه "موت الناقد"؛ إنه موت رمزي حيث تراجع دور الناقد الأكاديمي وصعود قارئ غير متخصص يقوم بعملية التقييم للأعمال الإبداعية لقد تلاشى دور الناقد ضمن منظومة الإبداع الذي ما فتئ يسعى ويتلهف إلى مصادقة النخبة المثقفة، كما توارى دور الباحث وتولى إلى الظل واستكان وقال لاطاقة لي بالبحث، وأصبح يتلمس أيسر الطرق وأسهلها في مساره البحثي فغدا متقاعسا متهاونا متكاسلا. هنا يترادف الموت مع توقف الحركة ونبض الحياة كما تعني النهاية والعدم، لكن ألا يمكن لنا استحضار مفهوما آخر للموت كما تبلور في الشعر العربي المعاصر من خلال أسطورة العنقاء، حيث مثل الموت البعث من جديد، وهنا نعلن تكوين جنين الباحث ونموه طبيعيا إلى أن يستوي قائما ونقصد هنا بالموت الحياة من جديد، نموت في تحمل نفقات الكتب والمطبوعات، موت في الصبر على القراءة، موت في شد الرحال إلى المكتبات الوطنية والدولية، موت في تتبع الندوات والمؤتمرات والملتقيات، موت في امتصاص غضب الأستاذ المشرف، موت في تخليه عنك وعدم مواكبته لك، موت في إهانة أستاذ لك، موت في سهر الليالي، موت في تأجيل حقوق ذويك، موت في مقاومة الألم والمرض.. إنه موت لحياة جديدة وولادة باحث مجد، كطائر العنقاء حينما انتفض من رماده وعاد إلى الحياة من جديد. ورغم ذلك نسعى ونساق إلى الموت مرة أخرى لأن البحث العلمي حلقة لا متناهية لها مبتدأ ولا نهاية لها. حاولت أن استحضر هذه المقاربة لجعل الموت مرادفا لشعور بلذة المعرفة، قبل تذوق لذة الحياة. أو لذة النص وهو رسالتك أو بحثك.

إن الباحث اليوم يحتضر في صخب و ياليته يحتضر في هدوء، فالعيب أن نطلب الحياة وننشدها دون أن يتسلل الموت إلى أجسادنا. الباحثون اليوم يريدون كل شيء جاهز، دراسة جاهزة، مطبوعات متوفرة، جامعة قريبة، جدول الحصص لا يتعارض مع توقيت العمل، كتب حديثة النشر بصيغة رقمية، غيابه عن المحاضرات وعن حلقات العلم والمثال الذي انطلقنا منه لكتابة هذه المقالة هو الأساس، ألا تعلم هذه الباحثة الكريمة أن تقرير الدكتوراه يأتي بعد تصور عميق الإشكال، وبعد سنوات من اختمار الفكرة واكتمالها وبعد قراءة موسعة سماها المرحوم "فريد الأنصاري،" بالرصيد المعرفي.

إن الباحث اليوم هو خريج مؤسسة تعليمية ومؤسسة جامعية، هذا الباحث الذي يتحرى الحياة دون الموت، فما هو زاده المعرفي والعلمي ليمارس سلطته البيداغوجية والعلمية في تقديمه لمنتوجه، تنهار السلطة، وتنهار القيم، ومسؤولية المؤسسات الجامعية والتعليمية واضحة، ومسؤولية الباحث ثابتة، على الجميع أن يقتفي أثر الموت ليحيا من جديد. لقد تحدث "صلاح بوسريف" عن هذا الأمر من خلال ثلاثية العلاقة بين الجامعة والأستاذ والطالب حيث قال: " «الطالبُ، مُتعلِّم، يمتلك الرغبة والاستعداد للمعرفة والاكتشاف، وهو طالِب، بهذا المعنى، الذي هو نوع من النَّهَم المشروع الذي يسمح باستغراق المعارف والعلوم لحياة هذا الطالب..... والجامعة في هذه الحالة تكون وسيلة من وسائل عقلنة وتنظيم البحث، وعقلنة وتنظيم المعارف، ووضع الطلبة في سياق هذه العلوم، لا باعتبارها تخصُّصات صِرْفَة، بينها سياجات لا تسمح بالذهاب إلى غيرها من المعارف والعلوم».

لقد مات الباحث وترك مكانه لمتطفل على البحث العلمي متقاعس كسول يستعين بالذكاء الاصطناعي، ويعول عليه في تحرير بحوثه دون أدنى مجهود منه، إن هذا الطالب المتقاعس الكسول سيسهم في تدني مؤشرات البحث العلمي، ويكرس ثقافة التواكل، وستنتج بحوثا رثة سيئة المنهج وركيكة اللغة، وخالية من مضمون فكري.

***

د. عبد المجيب رحمون

دراسة تحليلية رمزية نفسية وتأويلية في قصيدة «شجرة نسيان» للشاعر أيمن معروف

بين النسيان والركض كاستعارتين للوجود، يقدّم الشاعر أيمن معروف في قصيدته «شجرة نسيان» وهي تجربة شعرية تتجاوز البنية الوصفية إلى ما يمكن أن نسمّيه تفكيكاً وجودياً للذات عبر رموز النسيان والركض، حيث يتخذ النسيان هيئة الخلاص والتلاشي في آنٍ واحد، بينما يتحوّل الركض إلى حركة بلا اتجاه، دائرية ومفتوحة على فراغ الوجود.

منذ المطلع، يعلن الشاعر انكساره بلغة صادمة:

«كنتُ شاعراً. أكلني الذئبُ في الطريقِ / ولم تلتفتِ السيارةُ والمارّةُ...»

في هذه الجملة تتكثّف ثنائية الحياة والمحو، فالشاعر هنا ليس فقط منبوذاً، بل ضحية اغتراب مزدوج: اغتراب عن العالم الخارجي (المارة والسيارة)، واغتراب عن ذاته الشاعرة التي ابتلعها «الذئب»؛ وهو رمز الغريزة والخراب والوحشة.

أولاً: الرمز بوصفه بؤرة الوجود الشعري

يحمل النص بنية رمزية مركبة، حيث يتحول النسيان إلى جوهر أنطولوجي (وجودي) يُعاد فيه تشكيل الذات بعد فنائها:

«صار النسيان مادتي الخام، يمحوني ثم يعيد تشكيلي...»

هنا يرتقي الشاعر بالنسيان من مجرد فعل نفسي إلى فلسفة للحياة. فكما يقول هايدغر، إن الإنسان لا يوجد إلا في قدرته على النسيان، لأن «الوجود ذاته هو إمكان يتبدّى في الانفتاح على العدم».

النسيان إذن ليس هروباً، بل ولادة ثانية عبر الفناء. وهذا يتقاطع مع رؤية نيتشه حين قال إن الإنسان لا يمكنه أن يبدع إلا إذا امتلك «قدرة نسيان فعالة»، تتيح له التحرر من ثقل الماضي.

ثانياً: البنية النفسية – الركض كأعراض القلق الوجودي

القصيدة بأكملها تُبنى على تكرار فعل واحد:

«أركض... أركض... أركض دون اتجاه»

يتحوّل الركض إلى علامة نفسية للقلق الوجودي، أشبه بما وصفه كيركغارد بـ«دوّار الحرية»، أي ذلك الشعور بالانفصال عن المعنى في عالم بلا مركز.

الركض هنا ليس فعلاً حركياً، بل تجسيداً لانعدام السكون الداخلي. فالشاعر لا يركض ليصل، بل يركض لأنه لا يستطيع التوقف.

وهذا ما يجعل النص أقرب إلى الاعتراف النفسي المتعب، حيث تختلط الحركة بالمحو:

 «أركض في داخلي. أركض في كل اتجاه. دونما أسف أو ندم»

إنه ركض داخلي، في دهاليز النفس لا في الطرقات، وكأن الشاعر يسير في متاهة صمّاء لا تفضي إلا إلى ذاته المنهكة.

ثالثاً: المستوى التأويلي (الهيرمينوطيقي): النسيان كإعادة قراءة للذات

تقوم القراءة الهيرمينوطيقية على تفكيك النص من خلال دائرته التأويلية؛ أي العلاقة بين الجزء والكل، بين التجربة الفردية والرؤية الكونية.

فكل مقطع من القصيدة هو حلقة في دائرة التلاشي والولادة، يبدأ بالمحو وينتهي بالتشكل.

 «يمحوني ثم يعيد تشكيلي... لأتمّ عدّة الطريق»

هذه الجملة تلخّص البنية التأويلية للنص: الطريق بوصفه مجازاً للوجود، والعدّة هي التجربة الشعرية والإنسانية التي لا تكتمل إلا بالضياع.

فالنسيان هنا ليس خصماً للذاكرة، بل معنى مكمّل لها؛ إذ لا يمكن للذات أن تتعرّف على نفسها إلا عبر ما تنساه.

في هذا السياق، يذكّرنا النص بمفهوم الذاكرة والنسيان عند بول ريكور الذي يرى أن النسيان «ليس غياباً للذاكرة بل أحد وجوهها، حين يُعاد تشكيل الماضي في صورة جديدة».

ومن هذا المنظور، فإن الشاعر «يتصالح مع نسيانه» ليولد من رحم العدم كذات أخرى، أكثر وعياً، لكنها أيضاً أكثر وهناً.

رابعاً: الصور الشعرية والإيقاع:

تُبنى القصيدة على صور متتالية تُحوّل المجرد إلى محسوس:

 «أُقشّر كمأة الغياب وأبكي»

«أجعل من حبّات الدمع أعشاش طيور»

في هاتين الصورتين يزاوج الشاعر بين الألم والتحوّل، بين الدمع بوصفه سقوطاً والطيور بوصفها صعوداً. إنها جدلية الانكسار والبعث، حيث يتحوّل الحزن إلى إمكانٍ للحياة.

الإيقاع الداخلي للنص متولّد من تكرار الفعل «أركض»، الذي يمنح القصيدة موسيقى نفسية أشبه بصفير اللاوعي. التكرار هنا ليس زخرفة بل إيقاع للهاجس، كما يقول الشاعر الفرنسي بول فاليري: «الإيقاع هو زمن المعنى».

إذ تتوالى الأفعال والحركات لتخلق موسيقى داخلية تترجم التوتر الوجودي للشاعر بين الرغبة في الثبات واستحالة التوقف.

خامساً: البعد الفلسفي والرمزي لشجرة النسيان

في الختام، تُختزل التجربة في صورةٍ ميتافيزيقية:

 «أنا، شجرةُ نسيانٍ طويلة»

هنا يتحقق الاندماج الكامل بين الذات والرمز.

الشاعر لم يعد يصف النسيان، بل أصبح هو ذاته النسيان.

الشجرة ترمز إلى الجذور والامتداد في آنٍ واحد، والنسيان إلى المحو، فالتعبير يجمع بين الثبات والزوال، بين الحياة والموت، في ما يشبه التحوّل الهيراقليطي الدائم حيث «كل شيء يتغير ولا شيء يبقى».

إنه كائن من نسيان، ممتد في الزمان، بلا ذاكرة، بلا مرفأ، بلا هوية إلا الركض نفسه.

خاتمة: الشعر كنجاة من الوعي الثقيل:

تبدو «شجرة نسيان» نصًّا عن عبث الوجود في عالمٍ فقد مركزه، وعن انكسار الإنسان الحديث أمام تيه المعنى وتضخم الذاكرة.

فالشاعر، مثل سيسيف، يركض نحو لا شيء، لكن في هذا الركض ذاته تكمن بطولته المأساوية.

يؤكّد النص أن الشعر لا يخلّد الذاكرة، بل يمنحنا نسياناً مضيئاً نواجه به ظلمة الوعي، وأن الخلاص لا يكون بالاستقرار، بل في الحركة الدائمة نحو المجهول.

كما لو أن الشاعر يقول مع ألبير كامو في أسطورة سيزيف:

 «علينا أن نتصور سيزيف سعيداً، وهو يجرّ صخرته إلى أعلى الجبل».

ففي النسيان ـ كما في الركض ـ تتجلى مأساة الإنسان وجلاله في آنٍ واحد.

***

بقلم: عماد خالد رحمة - برلين

..................

شجرة نسيان

بقلم: أيمن معروف          

كنتُ شاعراً.

أكلَني الذّئبُ في الطّريقِ

ولم تلتفت السَّيَّارَةُ والمارَّةُ والعائدونَ

منَ الصّيدِ، لوجودي.

*

هكذا،

اكتشفتُ اسمي في النّسيان

وسرعانَ ما ضيَّعتُهُ

في النّسيان.

*

صار النّسيانُ

مادَّتي الخام يمحوني ثُمَّ يُعيدُ

تشكيلي ويوصلُني منْ جديد لأتمَّ

عدّةَ الطريق.

*

الاتّجاهاتُ

ندوبٌ في مرآتِيَ المُحدَّبة

ودمي، بحذافيرِهِ في كلمةٍ سوداء

على الجريدةِ، أبيض.

*

ابْيَضَّ دمي.

والأيّامُ الضّخمةُ جعلتْني أجرُّ رأساً هائلاً

ومجنوناً طوالَ تلك السّنين،

وأركض.

*

أركضُ في داخلي.

أركضُ في كلِّ اتّجاه. دونما أسفٍ

أو ندمٍ، أركض.

*

منْ سلالةِ العدّائين.

ومع هذا لم تذكرني الإذاعاتُ أو تأتي

على اسمي الصُّحف.

*

أرمي جسدي

مثلَ شيءٍ في الطّريقِ،

وأركض.

*

أُلمِّعُ كوارثَ النّهار

وأحملُها مثل أخطاءٍ قديمة

ولا أستعمل التّذكّر.

*

أُقشِّرُ

كَمْأَةَ الغيابِ، وأبكي. أبكي،

وأنا أركض.

*

أجعلُ منْ حبّاتِ الدّمعِ

أعشاشَ طيورٍ أكمنُ لها في قلبِ الوردةِ،

وأركض.

*

أركض. أركض.

أركضُ دونَ اتّجاهٍ. أركضُ

دونَ أثر.

*

نسيتُ،

حياتي، هناكَ، أركض.

*

أركضُ،

في البلادِ الّتي ليسَ فيها

سوى الرّكض.

*

ملءَ يدي

ثلاث علبٍ للتّيه وثلاثُ حماماتٍ

تلمعُ في عينيَّ وعلى جبيني

قوسُ قزح.

*

أنا،

شجرةُ نسيان طويلة.

 

لا تُعدّ هذه القصيدة مجرّد استعراض لغوي أو تقنية شعرية صرفاً، بل هي تجربة شعرية مركّبة، تبحر في عوالم الرؤيا، وتغرف من ينابيع الصوفية، وتنطلق من نبع الدين، ثمّ تشدّ نحو الفكر، ثم نحو المجتمع، ثم نحو الذات.

نصٌّ بهذه الكثافة الميتافيزيقية، وهذا التوقد الشعري الذي يتخذ من الهلال الخصيب رمزًا كونيًّا وتاريخيًّا في آن، لا يُقرأ كما تُقرأ القصائد، بل يُؤوَّل كما تُؤوَّل الرؤى. إنه نصٌّ يتداخل فيه التاريخ بالأسطورة، والسياسة بالعرفان، والنبوءة بالحسرة، حتى يغدو الشعر فيه لسانًا للوجدان الجمعي الذي يعاني تمزّق الجغرافيا وانكسار الوعي، لا صوت شاعرٍ فردٍ فحسب.

منذ الاستهلال:

"وَلَمّا رأى في الجنّتينِ حرائقَا ... ورُؤيا بها النيرانُ شَبّتْ حقائقَا"

يُعلن الشاعر انفتاح رؤياه على مشهد الخراب، على الجنتين اللتين لم تعودا جنتين بل رمزين للخصب المحترق، بلاد الرافدين وبلاد الشام، وقد أضحت النار فيهما "حقيقة" بعد أن كانت مجرّد نذرٍ في الرؤى. هنا، يستحضر الشاعر صورة النبيّ الرائي، لا الشاعر فحسب؛ ذلك العارف الذي يمضي في طريق النور حاملاً مصابيح الغائبين، كما قال:

"مضى في طريقِ العارفينَ مُنوّراً ... مصابيحَ مَنْ لا يُبْصِرونَ طرائقا"

إنه شاعر/ نبيّ، على طريقة المتصوفة الكبار (ابن عربي، الحلاج، والسهروردي)، يقرأ النار لا كعقابٍ بل ككاشفٍ، والخراب لا كفناءٍ بل كاختبارٍ كونيّ لمعنى الخلق. فالشاعر هنا لا يصف ما يرى، بل يؤوّل النار كحقيقة وجودية، يكتشف من خلالها جوهر الهزيمة ومعنى التطهير.

يتنقّل النص في منعرجات متعدّدة من الحسّي إلى المجازي، ومن الواقعي إلى الصوفي، في نَفَسٍ شعريّ طويل لا يكلّ، حتى ليبدو وكأنه سفرٌ عرفانيّ عبر خرائط الجرح العربي. فهو مرةً يستحضر رموز الأرض (النخيل، الفرات، الجنائن، الحداء، اليمامات...) ومرةً يصعد إلى المقامات الروحية حيث الوجدان يهطل كوثراً والخيال يفيض بواتقاً.

وحين يقول:

"خصيبيّةُ الأمدادِ صوفيّةُ الرُؤى ... تطيرُ إلى معنى الوجودِ بيارقا"

فهو يعلن التحام المكان بالروح. إن الهلال الخصيب، في رؤياه، ليس جغرافيا فحسب، بل حالة وجدٍ روحيّ، موطن النبوءة الأولى، حيث يتجلّى الإلهي في الطين، وتتمازج الزراعة بالحكمة، والنهر بالسماء. إنّه مهدُ الكلمة الأولى، وجرحها الأخير.

على الصعيد الرمزي، تتجلّى القصيدة كرحلة من الضلال الجمعي إلى الوعي الكوني. فالشاعر، وإن بدا مصلحًا أو حكيماً في ظاهر القول، يقرّ بتجربته المزدوجة بين الحكمة والزندقة:

"فلسْتُ حكيماً بل أسيرَ نبوءةٍ ... ولم أكُ يوماً بالمواعظ حاذقا"

"وحَسْبُكَ شطحٌ حازَ طعْمَ تَزنْدُقٍ ... وَرُبَّ مُريدٍ قد تزندقَ صادقا"

إنها إشارة عميقة إلى الجدلية الصوفية بين الكفر والإيمان، بين الحرف والحقيقة؛ حيث لا ينال العارف المعرفة إلا عبر "الشطح"، أي الخروج عن حدود المألوف، كما فعل البسطامي والحلاج.

فالشاعر هنا لا يبرّئ نفسه من الشطح، بل يحتفي بها كمرحلةٍ في طريق الكشف.

بهذا المعنى، تتحوّل القصيدة إلى تجربة كشفٍ وجوديّ، يُستمد فيها الوعي من نار الخسارات، لا من بارد اليقين.

وحين تنحدر القصيدة إلى مآسي الراهن العربي، تنتقل من الرمز إلى الاعتراف السياسي الفاجع:

"أيا جارتا ويْلَ العروبةِ بعدما ... مَحا الصنمانِ الأكبران علائقا"

الصنمان الأكبران هنا رمزان مزدوجان: للسلطة والاستبداد، وللعقيدة الزائفة التي استعبدت الوعي.  إنّها صرخة ضدّ تآكل المعنى في زمنٍ تآكلت فيه الأوطان، حين صارت العروبة وهماً، والناس بيادق على رقعة الشطرنج، كما يقول بمرارة:

"أكُنّا كما الغرقى بوهمِ عروبةٍ ... على رُقعةِ الشِطْرنْجِ نعدو بَيادقا"

هنا يلتقي الشاعر مع محمود درويش في "مديح الظل العالي"، ومع أدونيس في نزعة تفكيك الأوثان، ومع السيّاب في رثاء الرافدين؛ لكنه يختلف عنهم في أنه لا يكتفي بالنقد، بل يحوّل الوجع إلى طريق عرفانيّ، إذ يواصل إشعال القوافي "كي تقوم حدائقاً".

الشعر عنده ليس ترفاً بل مقاومة روحية:

"بأنّي على نارِ الجنائنِ لم أَزلْ ... أزُخُّ القوافي كي تقومَ حدائقا"

هذا الشعر، في عمقه، تأملٌ في معنى البقاء الإنساني وسط العدم. إنّه يصرّ على أن الشعر يمكن أن يكون صلاة، وأن الكلمة ما تزال قادرة على إنقاذ ما تبقّى من الروح. حين يقول:

"أعوذُ بشعري والمعوذةُ فرقدٌ ... يَراهُ فؤادي في القصيدةِ شاهقا"

فهو يُعلن الشعر ملاذًا لا عقيدة، والنصّ معراجًا نحو العدالة المفقودة:

"ويرنو إلى كنه العدالة جوهراً ... فلم يرَ ما بين الأنام فوارقا"

هنا تتجلّى الروح الإنسانيّة الكونية التي تتجاوز العروبة بمعناها الضيق، لتستبصر جوهر العدالة الإلهية التي تسوي بين الخلق.

أما البعد الصوفي الرمزي في الختام فيبلغ ذروته في قوله:

"بِقلبٍ على جمرِ الحقيقةِ عاكفٍ ... وقدْ فاضَ تنّورُ الخيالِ بَواتِقا"

إنه قلب العارف الذي يلتهمه جمر الحقيقة، لا لينطفئ بل ليُضيء. فالنار هنا ليست فناءً بل تطهيراً، والخيال ليس هروباً بل تنورًا تُصهر فيه الحقائق حتى تتجلى صفوتها.

إنها صورة للوعي المتوهج الذي يعيد خلق العالم بالكلمة، في زمنٍ تعفّن فيه الخطاب.

في المحصلة، تمثّل "الهلال الخصيب" قصيدةً تجمع بين المأساة والرجاء، بين الخراب والنبوءة، بين الكلمة والمعنى. هي ليست بكاءً على الماضي، بل استنهاضٌ للوعي الجمعي، وتذكيرٌ بأن الشعر يمكن أن يظلّ الضمير الأخير للأرض المحروقة.

إنها قصيدة تكتب جغرافيا جديدة للروح، في عالمٍ فقد بوصلته، وتعيد إلى الشعر مهمته الأولى: أن يكون مرآة الوجود حين تنكسر المرايا، وأن يوقظ فينا ما نسيه التاريخ، أن الهلال الخصيب، مهما احترق، سيبقى خصيبًا، لأنه ينبت من رماده المعنى.

***

سعاد الراعي - درسدن/ المانيا

25.10.30

...................

رابط القصيد

https://www.almothaqaf.com/nesos/984171

باسل الخليل – روائي وناقد أدبي من سوريا مدينة حلب، مواليد 1971 – يحمل شهادة هندسة كهربائيّة من جامعة حلب – صدر له رواية: (لوحة تحت الرماد) والثانية (طوق النار). لا زالت مخطوطا. وله عملان مسرحيان لا زالا مخطوطين – يكتب النقد المسرحي – نال عام 2024 شهادة تقديريّة على قراءاته النقدية لجميع عروض المهرجان المسرحي المقام في حلب – يكتب القصة القصيرة جداً – عضو جمعيّة العاديات في حلب – وعضو مؤسس في منتدى الكواكبي للحوار الثقافي في حلب .

البنية الحكائيّة أو السرديّة للرواية:

في الأزمات التي تمر بها المجتمعات والدول، وخاصة الأزمات الداخليّة التي تخلفها السلطات المستبدة في دولها الشموليّة بما تمارسه على مواطنيها، من قهر وظلم وفقر وغربة وتشيء، والأهم تسلطها على الشعب وإقصائه عن دوره التاريخي في بناء الفرد والدولة والمجتمع، نجد أن هذه الأزمة تبدأ بالتصاعد حتى تصل إلى حرب أهليّة بين مكونات المجتمع، وأهم أطرافها هنا، القوى الحاكمة التي غالباً ما تتكئ على مرجعيات تقليديّة دينيّة طائفيّة أو سياسيّة حزبيّة تدعي العلمانيّة، لكنها منخورة من الداخل ببعد طائفي أو قبلي فاقع لا تستطيع القوى الحاكمة إخفاءه بكل ما تدعيه دساتيرها وإعلامها وسياساتها الداخليّة والخارجيّة.

إن رواية (لوحة تحت الرماد) تأتي في هذا السياق، لدولة ومجتمع مأزومين، هما الدولة السورية والمجتمع السوري. فكل مفردات بنية هذا الرواية تتحدث عن أزمة دولة صنعتها قوى حاكمة طائفيّة سخرت سلطة الدولة لمصلحتها لعشرات السنين، وحكمت باسم حزب علماني همشته هذه الطبقة الحاكمة وسخرته لمصلحتها واستمرارها بالسلطة، والنتيجة صراع داخلي بين مكونات المجتمع الأساسيّة، أدت إلى حمل السلاح للتعبير عن المصالح الأنانيّة الضيقة، وكيفيّة الدفاع عنها فكانت شهوة الدم أهم تجلياتها.

لقد استطاع الأديب الروائي "باسل خليل"، وهو من أبناء مدينة (حلب)، المدينة الأهم في سوريا بعد العاصمة دمشق، بل هي المدينة التي تشكل الخزان الاقتصادي لسوريا من جهة، وهي المدينة التي عانت كثيراً في هذه الأزمة من جهة أخرى، أن يسلط الضوء على الكثير مما عاناه أبناء مدينة حلب كما سيمر معنا في عرضنا للبنية الحكائية للرواية.

تقوم البنية الحكائيّة للرواية على عرض شخصيات نالت منها الأزمة السورية، فمنها من ظل متمسكا بقيمه النبيلة فكان كالماسك على جمرة من نار، ومنها من فقد توازنه وسار بطرق ملتوية بحثاً عن شهوة المال والجنس، ومنهم من تقبل مصيره برضى أو مجبراً وراح يؤقلم نفسه مع ما يحيط به من مآسي.. الخ.

إن الرواية تتحدث عن مهندس معماري (نبيل) يحمل قيماً نبيلة على اسمه، أبا أن تلوثه الأزمة كما لوثت غيره من أصدقائه في دائرة العمل كالمهندس "سليمان" الذي راح يقبل الرشاوى من المتعهدين، وعندما حاز على النقود هرب إلى خارج القطر، أما "نبيل" فقد هُمش ووضع في قبو الأرشيف، وفقد الكثير من امتيازاته الماديّة والمعنويّة، فاضطر أن يعمل بعد الدوام سائق تكسي أجرة، عند مالك لهذا التكسي الذي راح يسخر منه بدوره كما سخر منه المسؤول عنه في الدائرة، وكذلك زوجته "نوال" الموظفة في أحد البنوك، والتي كانت تلومه على قيمه النبيلة، وتذكره دائما بصديقه "سليمان" والرفاهية التي يعيش فيها وأسرته.

أما "سمر" فهي الابنة الوحيدة كأنثى لـ (نبيل ونوال)، الطالبة في كليّة الحقوق، والتي تربطها بزميل لها في الجامعة علاقة حب صادقة هو "فادي" ابن صاحب المطبعة التي تدمرت وسُرقت بسبب الحرب، فطلبت منه زوجته أن يعمل بائع خضروات شأنه شأن الفنان التشكيلي الذي فقد الكثير من موارده فحل به الفقر وراح بدوره يبيع خضروات لتأمين لقمة عيشه.

يقع منزل "نبيل" في حي (الجابرية)، حيث كان نقطة مواجهة مع المعارضة، أصابته قذيفة فأتلفت جزءاً منه، ولكون المنزل في نقطة مواجهة، اضطر أن يستأجر منزلاً في حي (محطة بغداد). وللمصادفة أن هذا المنزل كانت فيه لوحة قديمة تالفة، أراد "نبيل تغييرها بلوحة جديدة، وعند شروعه بإنزال اللوحة القديمة، وجد صندوقا مليئاً بالليرات الذهبيّة في حفرة داخل الجدار قد غُطيت باللوحة. وهنا يدور حوار طويل بين "نبيل وزوجته نوال"، حول الليرات الذهبية، فنبيل يريد إبلاغ أبي (مروان) صاحب المكتب العقاري عن صندوق الذهب، كي يرجعه إلى ابن صاحب البيت المستأجر الذي مات مع زوجته في حادث تسرب غاز، و"نوال" ترفض فكرته معتبرة أن هذا حق أسرتها وهي هديّة لهم من الله.

فكانت النتيجة من هذا الصراع بين الزوجين، أن تقوم "نوال" بسرقة الذهب، دون علم زوجها وبيعه، وعندما عرف زوجها "نبيل" بالسرقة، طلب منها إرجاع الذهب كي يسلمه لأهله، لكنها رفضت بشدّة، وقامت بشراء أثاث جديد للمنزل بدل الأثاث القديم، عند ذلك لم يعد زوجها يتحمل تصرفاتها فانهار بجلطة أقعدته في المنزل، وأهمل زوجته كليّا، فراحت بدورها غير مبالية بوضع زوجها الصحي، تبحث عن موارد ماليّة جديدة من خلال توظيفها جزءاً من قيمة الذهب في مشروع محولة كهرباء مثلاً، شاركت بها سراً جارهم صاحب محل الأمبيرات، حيث اتفقت معه على شراء محولة من قبلها والربح مناصفة، ولكن المحولة تصيبها قذيفة فتتلف من مكوناته ما يقارب 40%، الأمر الذي دفعها للاتفاق مع صاحب الأمبيرات على بيعها وفك الشراكة.

وعند شراء الأثاث تعرفت على (ماهر) العامل في محل المفروشات، وهو رجل فاسد له علاقات مع ضباط وعساكر بالجيش ومنهم (المقدم أحمد) المسؤول عن حاجز (حي محطة بغداد)، أوهمها بأنه هو صاحب محل المفروشات ويده طايلة وخاصة مع ضابط حاجز محطة بغداد فصدقته، واتفقا على فتح محل مفروشات آخر في حي المحطة تقوم هي بتمويله. وتم فتح المحل الجديد، وكان قد وعدها بأن يعرفها على (المقدم أحمد). بعد عدّة أيام من افتتاحه يأتي المقدم إلى المحل بالاتفاق مع (ماهر ونوال)، بذريعة المباركة خاصة وأن "ماهر" أوهم المقدم أحمد بأن "نوال" مغرمة به، وعند دخوله والترحيب به يتذرع "ماهر" بأنه سيذهب لشراء علبة دخان، بعد خروجه يحاول "المقدم أحمد" التحرش بها فتجري بينهما مشادّة، وعند رفضها طلبه الخسيس، يقول لها لماذا تمانعين وماهر قال بأنك معجبة بي وترغبين بالمحظور. ونتيجة المشادّة بينهما يخرج أصحاب المحلات المجاورة من محلاتهم على ما جرى بينهما، وهنا يضطر المقدم ماهر للهروب غاضبا، وتترك "نوال" المحل بدورها وتقرر الانتقام من ماهر.

بعد عدّة أيام تأتي "نوال" إلى محل المفروشات، وتطلب من ماهر تصفية الحساب واسترداد أموالها، وتُقرعه على ما قاله للمقدم "أحمد" بحقها، فتجري بينهما مشادّة تصل إلى حد استخدام الوسائل الحادة، تحاول ضربه بسكين لكنه يمسك يدها ويلويها ليدخل جزء من السكين في خاصرتها اليسرى، يهرب ماهر وهي يغمى عليها، يحملها جيران المحل إلى المشفى، وهناك بعد خروجها من المشفى مع ابنتها "سمر"، تتعرض لحادثة اغتيال من قبل سيارة عسكريّة يبدو (المقدم أحمد) كان وراء تدبيرها بغية قتلها للتغطية على جريمة ماهر التي كان هو السبب وراءها.

أثناء وجود سمر في المشفى مع أبيها لمتابعة وضع والدتها، يأتيها اتصال هاتفي يقول إن فادي حبيبها قد استشهد.

البنية الفكريّة للرواية

لقد استطاع الروائي "باسل خليل" بما يمتلكه من ثقافة عالية، أن يغوص في عالم الأزمة السورية وتجلياتها السلبيّة في حلب خاصة، وما جرى في حلب برأيي لا يختلف إلا في الدرجة عما جرى في بقية المحافظات والمدن السورية من دمار وفساد وانتهاك لأعراض الناس وإسالة للدماء وسرقة وتعفيش لممتلكات الناس.

في رواية (لوحة تحت الرماد) تقف في الحقيقة أمام لوحة سرياليّة في دلالاتها، تجلت في تعدد ألوانها وخطوطها وظلالها وأبعادها الاجتماعيّة والثقافيّة والاقتصاديّة.

فمنذ بداية الرواية، تجد نفسك أمام عمل روائي يسعى إلى كشف عمق الفساد الذي حل داخل المجتمع السوري، من الفرد إلى الأسرة إلى بنية الدولة والمجتمع.

فـ "سليمان" كان أنموذجاً عن شريحة الانتليجنسيا التي ركب قسم كبير منهم صهوة الفساد، وكذا الحال عند عناصر أهم مؤسسة تحمي الوطن وتدافع عنه، كما هو الحال في شخصيّة المقدم "أحمد"، كما صور الروائي كيف تبلور الفساد عند السفلة والمنحطين أخلاقيّاً وسلوكيّاً ممن هم في القاع الاجتماعي، الذين أصبحوا يصولون ويجولون في الدولة والمجتمع كشخصيّة "ماهر". أو عند أنموذج من الشخصيات المهزوزة في داخلها كشخصيّة "نوال" الزوجة التي ضاقت بها الحياة بعد تدمير جزء من منزل الأسرة، وتردي الوضع الاقتصادي، فانهارت قيمها مباشرة عند كشفهم الذهب في البيت المستأجر. ولكن في المقابل يسلط الروائي الضوء على شخصيّة "نبيل" الذي أراد من خلالها أن يقول لا بد من وجود الناس الخيرين الذين تمسكوا في مبادئهم الأخلاقيّة رغم قلتهم كي تستمر هذه الحياة من مبدأ لو خليت لقلبت.

كما أراد الروائي "باسل" أن يبين في الرواية أن الحب الصادق لا يستطيع أحد أن يلغي وجوده من حيث الجوهر، ولكن يمكن أن توضع أمامه معوقات كثيرة تحول دون السير به قدما، كما هي الحال في قصة الحب بين "سمر" و "فادي" حيث أدت الأزمة إلى مقتل "فادي" على خطوط التماس مع المعارضة.

كما سلط الروائي "باسل" الضوء أيضاً على ظاهرة الدمار المادي والروحي الذي دفع التاجر الذي سرقت ممتلكاته أن يبحث عن أي عمل شريف لتأمين لقمة العيش، كما جرى لوالد "ماهر" والفنان التشكيلي المبدع.

والأهم في هذه القضايا الفكريّة تأتي مسألة الهجرة والهروب من الوطن، بحثا عن الأمن والأمان، رغم كل المخاطر التي تعرض لها الكثير من المهاجرين، إن كان فقدانهم لحياتهم أو إذلالهم في دول المهجر، وهذا ما ساهم في غياب الشعور بالمسؤوليّة والانتماء اتجاه الوطن والمواطنة.

البنية الفنيّة للرواية:

البعد السيميائي أو الدلالي لعنوان الرواية:

يحمل عنوان الرواية دلالات عميقة وعديدة معا، وهذا يدل على عمق ثقافة الراوي "باسل خليل" الذي استطاع أن يختزل في رأيي مسألتين أساسيتين تعبران عن البنية الرواية في هذا العنوان، وهما:

الأولى: مباشرة، تتعلق باللوحة التي وجد خلفها الكنز.

والثانية: الدلالة المعنويّة أو المعرفيّة التي أراد الروائي أن يعبر عنها، إن كان فيما تركته هذه اللوحة من معاناة لأسرة "نبيل" من ضياع وانهيارات أخلاقيّة وجسديّة من جهة. أو التعبير أيضا عن الأزمة السورية بما حملته من مواقف رديئة من الناحية السياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة والثقافيّة والقيميّة داخل بنية الدولة والمجتمع السوريين عموماً. وهذ ما أكده الروائي على لسان فادي مع حبيبته سمر قائلا عن الوطن: (الوطن لا يخسر أبداً إن كان هناك من يدافع عنه... فترد عليه سمر: أيّ وطن هذا وقد بات خراباً.. علينا ألا ننسى: طالما لم نغادره فكلنا مشاريع موتٍ مؤجلة..).

الأسلوب السردي في بنية رواية (لوحة تحت الرماد)

لقد امتاز أسلوب سرد الرواية بالاقتصاد والدقة ورهافة الأسلوب، وجماليّة اللغة وسهولتها وشفافيتها، ودقة توظيف العبارات والصور والبيان فيها. وهذا ما جنب الراوي الوقوع في السرد التقريري أو الإنشائي المجاني. لقد جعل "باسل خليل" من الرواية لوحات متتابعة، تمثلت في تعدد فصولها وفقرات كل فصل فيها، حيث جاءت مرسومة بألوان حيّة مجللة بأطياف من الحزن والأسى والفرح والسخرية معاً.

لقد صاغ الروائي "باسل الخليل" الكثير من مظاهر الأزمة السورية، وما عبرت عنه من ضياع وتخلف وجهل وفساد، وذلك في ضوء وإيقاع وزوايا تصوير، وحشد الكثير من الطقوس والوقائع الواقعيّة.

إن رواية (لوحة تحت الرماد) يَقْبِلُ المتلقي على قراءتها بحفاوة، ويعكف على تأملها وتقصي أبعادها بجديّة واهتمام. وهذا يعود إلى أن الروائي يؤمن بدور الأدب في الحياة وتأثيره في الأزمات حيث يقول الروائي على لسان "نبيل" لابنته "سمر" بعد أن أصيب بالشلل وسألته عن أهمية القراءة بالنسبة له وهو الرجل المثقف: (إن أهمية القراءة وانشغالي بالشخصيات والأحداث والأفكار، ينتشلني من سفاسف الأمور وتوافه (القيل والقال).. هذا الانشغال يبعد عني شبح الفناء والفراغ وبالتالي فقدان الأهمية..).

لقد تميز أسلوب الرواية وبناؤها بالإحكام والانسيابيّة والرصانة. كما صاغ الراوي روايته في سرد روائي طغت عليه اللهجة الشعبيّة (الحلبيّة) بكل بديعها، إضافة لاتكائه كثيرا على المثل الشعبي لإدراكه العميق بأهميّة المثل الشعبي في اختزال تجارب الإنسان في هذه الحياة. هذا وظلت اللغة العربية الفصحى التي يتقن التعامل معها بطريقة بسيطة وسهلة وواضحة، هي أساس السرد في الرواية، وهي اللغة التي استخدمها بمعرفة عالية في بنية السرد، وخاصة عندما يتدخل لربط حوادث الرواية مع بعضها ومنحها حالة الانسيابيّة والتكامل.

طريقة الأسلوب السردي الذي اعتمد الراوي عليه في الرواية؟.

ما ميز طريقة السرد في الرواية، هو مشاركة السارد للشخصيات، أو ما يسمى (الرؤية مع)، حيث تكون فيها الشخصيّة هنا هي الساردة، من جهة، وهي تتشارك مع السارد – الروائي - أيضاً في تقديم أحوال الشخصيّة والأحداث من جهة ثانية. إن كثرة المواقف الحواريّة في الرواية جعلت الروائي يعطي لشخصياته حريّة واسعة في التعبير عن قناعاتها.. فالشخصيّة ليست جاهلة بما يعرفه الراوي عنها، ولا الراوي بجاهل عما تعرفه الشخصيّة عن نفسها.

ارتباط الحدث بالشخصيّة في بنية الرواية:

إن ارتباط الشخصيّة ببنية الحدث جاء ارتباطاً عضويًاً، وهذا الارتباط يدفعنا إلى القول: لا يمكن أن نتصور وجود شخصيّة في الرواية بدون حدث، ولا حدث دون شخصيّة، لأن الشخصيّة هي التي تصنع الحدث في الرواية، فهي القوة المولدة للأحداث تؤثر فيها وتتأثر بها. وأي خلل في بناء الشخصيّة والحدث معاً سيخل ببنية الرواية بالضرورة، ويحط من فنيتها التي لا يمكن أن تتحقق إلا بالترابط والانسجام بين الشخصيّة والحدث. لذلك وجدنا في رواية (لوحة تحت الرماد)، ذاك الارتباط الوثيق بين كل شخصيّة من شخصياتها مع أحداث الرواية، ومع زمانها ومكانها، وبالرغم من أن كل شخصيّة منها، الرئيسة أو الثانويّة أو الهامشيّة لها دورها في صنع الحدث الخاص بها، إلا أن الراوي استطاع أن يشكل من كل هذه الشخصيات والأحداث التي قامت بها، بنية عامة للرواية تجعل المتلقي يعيشها وينشدّ لمتابعة تفاصيلها الحدثيّة، وكأنها حلقات مسلسل تلفزيوني مترابطة مع بعضها.

على العموم: لقد تميز تصوير الراوي لروايته بالحيويّة وتسارع الايقاع، وذلك بسبب نأي الراوي عن السرد التقريري والانشائي أو التسجيلي كما بينا في موقع سابق، فكان سرد الرواية سرداً يتدفق في سلاسة وانسيابيّة وبساطة.. سرداً حافلاً بمفردات من الصور والمواقف والحوارات يتوالى في إيقاعات منضبطة ورصينة، وفي توازن دقيق بين الواقع والخيال، وبين الفكر والعاطفة، وبين الحكي المألوف والتجريب المشروع، وبين دوائر تتسع لهموم البشر الصغار والكبار معاً، ولهموم الإنسان في فضاء وجود اجتماعي متخلف، ولنقل لهموم وطن. ورغم بساطة أهل هذا الفضاء الاجتماعي، إلا أنه مشبع بالتناقضات وصراعات المصالح.

الشخصيّة في رواية (لوحة تحت الرماد)

لا شك أن أهميّة الشخصيّة في أي رواية لا تقاس ولا تحدد بالمساحة التي تحتلها، وإنما بالدور الذي تقوم به، وما يرمز إليه هذا الدور، وأيضا مدى الأثر الذي تتركه في ضمير القارئ، مما يدفعه للتساؤل والمقارنة، تمهيدا لتصويب موقف في الواقع.

وتعتبر الشخصيّة ذلك الكائن الذي يبدعه المؤلف من الكلمات على الورق، فيعطيه اسمًا، وعنوانًا، وشكلاً ومضموناً. إنه (كائن موهوب بصفات بشريّة، وملتزم بأحداث بشريّة").

نعم.. إن الرواية هي فن الشخصيّة، والشخصيات داخل الرواية تتخذ مكان الصدارة في الحدث الروائي، لأن الشخصيّة في الرواية "هي التي تكون واسطة العقد بين جميع المشكلات الأخرى، فهي التي تصنع اللغة، وهي التي تبث أو تستقبل الحوار، وهي التي تصنع المناجاة، وهي التي تصف معظم المناظر والوقائع التي تستهويها، وهي التي تنجز الحدث، وهي التي تنهض بدور تضريم الصراع أو تهدئته من خلال سلوكها وأهوائها وعواطفها، وهي التي تقع عليها المصائب... وهي التي تعمر أو تبني المكان وتشغل أو تملأ الزمان.

في رواية (لوحة تحت الرماد) نجد شخصياتٍ عديدةً ملأت فضاءاتِ الرواية بانفعالاتها وحواراتها وأفعالها وردود أفعالها مع محيطها المهني والعائلي والاجتماعي، فنمت بينهم مشاعر الصداقة والألفة والكراهية، وذلك كله بفضل ما يمارسونه ويتناقشون به ساعات لقائهم في محيطهم الاجتماعي من ألوان المصارحة والبوح والحوار، ومحاولة التعبير أو انتزاع قشور أجواء بيئيّة متخلفة أو مأزومة كما هو الحال في الأزمة السوريّة

إن لكل شخصيّة في رواية (لوحة تحت الرماد) همومها الخاصة، ولكنها بهذا الشكل أو ذاك تطمح للشروع بتحقيق التكامل والانسجام على المستوى الروحي والعقلي والجسدي مع الآخر، رغم أنها غالبا ما تفشل في تحقيق ذلك، ويتردى طموحها هذا إلى حالات من الفشل والاحباط بسبب ظروف الأزمة التي أحاطت بها .

طموح الرواية:

إن كل ما تطمح إليه رواية (لوحة تحت الرماد) هو تصوير ما حل بواقع الدولة والمجتمع السوريين من مآسي بسبب التخلف المزري الذي عاشه المواطن السوري تحت مظلة نظام شمولي استبدادي أدى إلى دمار شامل في البنية الماديّة والروحيّة داخل الدولة والمجتمع، وبالتالي تطمح الرواية إلى الخروج من كل مخلفات هذه الأزمة، من أجل بناء علاقة إنسانيّة أكثر عقلانيّة وإنسانيّة جديدة تتسم بالتوازن والسمو عن كل ما يسودها من كذب ورياء وأنانيّة، وتنطبق فيها الممارسة مع الفكر، ويتربع فيها الفكر العقلاني التنويري على عرش الضمير والقلب والعقل والسلوك.

***

د. عدنان عويّد - كاتب وباحث وناقد أدبي من سوريا.

 

في البنية النفسية والرمزية لقصيدة "نشيد الخيول" للشاعرة ناديا نواصر

تعتبر قصيدة نشيد الخيول من النصوص التي تتلبّس بشعرية الكشف والوله والاحتراق الداخلي، وتستدعي قراءة نقدية تتجاوز المستوى الحسي إلى الأبعاد الرمزية والنفسية والإيروسية والروحية.

تمثّل قصيدة نشيد الخيول التي مطلعها «جئتك في المساء المكتظ بغربتي» تجربةً شعريةً تتجاوز حدود البوح العاطفي إلى تخوم الكشف الوجودي والوجداني، حيث تمتزج في نسيجها اللغة بالوجدان، والعاطفة بالرمز، والرغبة بالمعنى. إنها قصيدةٌ تكتبُ الذاتُ فيها حضورها عبر غيابها، وتبحث عن خلاصها في الآخر بوصفه مرآةً للكينونة لا مجرّد موضوعٍ للحب أو الشهوة.

في هذا النص، تتجلّى الأنثى في صورة كونية تتماسّ مع عناصر الخلق الأولى: الماء والنار والضوء والرماد، لتصبح العلاقة بين الأنا والآخر فعلاً من أفعال التكوّن والانبعاث. فـ"المساء المكتظ بالغربة" ليس ظرفاً زمانيّاً بل حالة وجودية تضع الذات في مواجهة عزلتها، والرحلة نحو "الصدر المؤثّث بالنشيد الحر" ليست لقاءً حسّيّاً، بل عودةٌ رمزية إلى المأوى الأول، إلى الطمأنينة الكونية التي تنبثق من رحم العشق والمعنى.

وانطلاقاً من هذه الرؤية، تُقرأ القصيدة من خلال منظورٍ هيرمينوطيقي يستنطق أفقها التأويلي، ومنهجٍ رمزيٍّ ودلالي يفكّك بنيتها الصورية والمعجمية، وتحليلٍ بنيوي لغويّ يبيّن كيف تعمل اللغة على إنتاج الرغبة والمعنى، إضافةً إلى مقاربةٍ نفسية ترصد الدوافع الداخلية والانفعالات الكامنة في نسيجها.

تسعى هذه القراءة إذًا إلى الكشف عن البنية العميقة للنصّ، حيث تمتزج الشهوة بالروح، واللغة بالانفعال، والمعنى بالغياب، في نصٍّ شعريٍّ يجعل من العشق وسيلةً لتجاوز الغربة، ومن الكلمة أفقاً للخلاص.

القصيدة "نشيد الخيول" “جئتك في المساء المكتظ بغربتي” هي نصّ شفيف مشحون بالتوتّر العاطفي والإيروتيكي المكبوت، تنبض بين سطورها رغبة وجودية لا تُختزل في نداء الجسد، بل تمتد إلى التحام الكينونة بالكينونة، كما لو أنّ اللقاء بين "الأنا" و"الآخر" هو محاولة للخلاص من التيه، من الغربة، ومن العطش الميتافيزيقي للدفء.

1. البنية النفسية للنص:

القصيدة تُبنى على محورين متقابلين:

١- الاغتراب والانكسار: “المساء المكتظ بغربتي”، “طائر ضيّع بوصلة العمر”، “عارية القلب”.

٢- الانجذاب والانبعاث: “أغواني الصوت الهارب من أقاصي المجرة”، “نبع العطش المستميت على جسد الحكايا”، “حيث أينع النرجس واستيقظت أنثى الماء والنار”.

هذا التوازي يُظهر شخصية الشاعرة الجزائرية ناديا نواصر وهي في حالة مخاضٍ شعوريّ بين العطش الروحي والشهوة الكونية، بين الانكسار والرغبة في الاتحاد. إنها لا تبحث عن جسدٍ آخر، بل عن مأوى روحيّ يشبه الصدر المؤثث بالنشيد الحر؛ مأوى للكينونة الضائعة في زحمة الغربة.

2. الدافع الإيروتيكي – الرمزي:

الحضور الإيروتيكي هنا ليس مباشراً أو حسياً، بل يتخفّى في استعارات الماء والنار والليل والمساء.

حين تقول الشاعرة نواصر:

 “استيقظت أنثى الماء والنار”

فهي لا تتحدث عن أنوثة الجسد، بل عن أنوثة الوجود؛ عن الطاقة الأولى للخلق التي تتفجّر في لحظة عشق كونيّ.

والماء هنا رمز للحياة والانسياب والحنين، بينما النار رمز للرغبة والإشراق والانصهار.

وفي اتحادهما تنبثق “أنثى الوجود” التي هي الذات وقد بلغت ذروة انصهارها بالعشق — أي اللحظة التي يلتقي فيها الجمال بالإيروس بالروح.

هذا ما يجعل النص مندرجاً تحت ما يُسمّى في النقد الحديث بالإيروس الجمالي، حيث تتحوّل الرغبة إلى طاقة خَلقٍ وإبداع، لا إلى غريزةٍ فحسب.

3. اللغة الشعرية والتوتر الدلالي:

القصيدة تقوم على لغة مُفعمة بالتوهّج والالتباس الجميل، إذ تمزج بين النور والعتمة، الماء والنار، الوله والعقل، في نسيجٍ لغويّ يقترب من اللغة الصوفية في صعودها التدريجي من الحس إلى المعنى.

فعبارة “الروح الولهى – الصبر المنتحر – الرماد المستيقظ من نار الغوايات” تمثّل مستويات النفس في علاقتها بالرغبة: من اللهفة إلى الاحتراق إلى التطهّر.

4. الدافع الداخلي: الرغبة في الاتحاد والتحرّر.

من المنظور النفسي، النص يكشف عن حالة اغتراب وجودي وعطش أنثويّ للانصهار. المتحدثة تحمل وعياً مأزوماً بالعزلة، فـ"المساء المكتظ بغربتها" هو مساء الذات، بينما "الصدر المؤثث بالنشيد الحر" هو رمزية الوطن العاطفي، ذلك الذي تُستعاد فيه الأنثى إلى كمالها.

اللقاء مع الآخر ليس لقاءً عاطفياً، بل هو خلاصٌ من تمزّق الذات، فالـ"أنا" تمشي إلى "الآخر" بلا موعد، بلا طرقٍ على الأبواب، لأن الرغبة أقوى من التعقّل، ولأن الغواية هنا هي طريق الكشف والخلق في آن واحد.

- خلاصة الرؤية:

القصيدة ليست مجرّد نص حبّ، بل رحلة وجودية – روحية – إيروسية في آن، تسعى فيها الذات إلى تجاوز غربتها عبر فعل العشق الذي يتجاوز الجسد إلى التوحّد الروحي والكياني.

إنها قصيدة عن الأنثى التي تصنع من رغبتها صلاة، ومن عطشها نبعاً للخلق، وعن الشهوة التي تُروّض لتغدو شهوة النور والمعنى لا شهوة الجسد فحسب.

المنهج الهيرمينوطيقي — تفسير النصّ في أفق المعنى:

المنهج الهيرمينوطيقي يفتح الباب أمام قراءة النص بوصفه حلقة في دائرة فهم قوامها: القارئ — النص — السياق (التاريخيّ-الذاتيّ). هنا:

سياق المتكلم/المخاطَب: المتحدثة تأتي من حالة اغتراب؛ المساء المكتظ بغربةٍ يحدد نبرة النصّ؛ المخاطَب يبدو كمنفى/مأوى/ملكوتٍ يتوق إليه الفاعل.

دائرة الفهم: كل صورة في القصيدة تُعيد تفسير الصور السابقة: مثلاً صورة «طائر ضيّع بوصلة العمر» تُفسَّر لاحقًا عبر رموز الماء والنار والصدر المؤثث، فتتحوّل إلى رمز لحالة التجوال الوجودي وليس مجرد فقدان اتجاه فيزيائي.

الأفق المُؤوَّل: القصيدة تقرأ كقِصةِ رجوعٍ/انصهارٍ؛ لا كحدثٍ معزول. الهيرمينوطيق يسمح باعتبار كلِّ تكرار لفظي/صوري (المساء، الروح، النار) حلقةً في سلسلة كشف متصاعدة تقود إلى ذروة الانصهار («أنثى الماء والنار»).

النتيجة: النص تكوينيّ؛ فهمُ المقاطعِ يَتأتى حين نعيد ربطها بدينامية البحث عن مأوى وجداني، وليس بتحليل كل بيتٍ منفردًا.

المنهج الرمزي والدلالي — قراءة الرموز الكبرى والصغرى:

القصيدة غنية برموزٍ تعمل في مستويات متعدِّدة:

١- المساء/الغربة: رمز للحالة الوجودية والليل الداخلي، ليس فقط ظرفًا زمانيًّا.

٢- الطائر/البوصلة: الطائر رمز للذات التائهة — البوصلة رمز البحث عن معنى/وجهة.

٣- الماء والنار: ثنائية كلاسيكية للحياة والرغبة؛ الماء يرمز للانسياب والحنان والخصب، النار ترمز للشوق والاشتغال والانصهار المتحرّك. اتحاد «أنثى الماء والنار» يدلّ على لقاء قطبيّين ينتجان حالة مولدة (خلق أو ولادة شعرية وأنثوية).

٤- الرماد/الصبر المنتحر: الرماد يدل على آثار الاحتراق، لكنه «مستيقظ» هنا، أي أن احتراق الغواية لا يموت بل يعبّر، والصبر المنتحر يعكس تناقضاً: الصبر الذي بلغ حد الانهيار، لكنه يولّد وعياً جديداً.

٥- الصدر المؤثث بالنشيد الحر والنرجس: الصدر كمأوى/حقل إبداع؛ النرجس رمزُ الجمال والتجدّد، ما يمنح اللقاء بعدًا مولدًا جمالياً.

- دلاليًا، الرموز لا تعمل منفصلة بل كخريطةٍ معنوية: كل رمز يوجّه القارئ نحو تجربةٍ نفسيّة/وجودية واحدة: رغبة الانصهار والتحوّل.

- البُنية اللغوية والأسلوبية — كيف تُبنى اللغة لتوليد المعنى:

تحليل البُنية يبيّن كيف تُوظّف الوسائل اللغوية الإيقاع والدلالة:

١- التراكيب الذاتية والمواضع الشِّعريّة: تكرار «جئتك» في افتتاح النصّ يمنح الحدث طابعًا إلحاحيًا؛ التتابع بين الجمل القصيرة والشرطية يخلق إيقاعًا تامورياً (تدرّجًا من الارتباك إلى اليقين).

٢- التركيب الاستعاري: النص يعتمد بكثافة على الكثيف الاستعاري (الطائر، البوصلة، الرماد، الصهيل) ما يحوّل المشهد من سردية إلى رؤيا.

٣- التناصّ الصوتي والإيقاعي: استخدام صورٍ صوتية مثل «يهذي.. وتحمله للنجم ناياتي» يخلق موسيقى داخلية؛ توظيف اقتطاعات صوتية (وقفات، نقطتين، تشطير) يعزز حالة الاضطراب والاشتعال.

٤- الضدان البنيوية: القصيدة تشتغل بصيغة التضاد (غربة/مأوى، رماد/نار، صبر/انتحار)، ما يتيح طاقة ثنائية تُحرك المعنى نحو ذروة التلاشي/البعث.

٥- الضمائر والدلالة التواصُلية: الضمير «أنا» المتحرك نحو «أنتَ/أنتِ» يجعل الخطاب حميميًّا وخطابيًّا في آن؛ المخاطب يجمع بين كينونة نفسية ومقدسٍ رمزي.

البنية اللغوية إذن ليست زينة بل أداة تصعيد دلالي: كلّ بناء يُحشد لإنتاج إحساس الاندفاع والرغبة والتطهير.

- الحسّ النفسي — الاندفاعات، الدفاعات والدوافع الداخلية:

من منظور نفسيّ موجز:

١- الدافع المركزي: رغبة في الاتحاد/الانتماء ومعالجة اغتراب وجودي؛ لقاء الآخر يمثل حلًّا رمزيًا للانقسام الداخلي.

٢- انفعالات مختلطة: نصٌّ تجمع فيه «الذعر» (الطائر الضائع، الارتباك في الطريق) و«التوق» (العطش المستميت، النشيد الحر). هذا التباين يشير إلى فاعل نفسي يعاني توتّرًا داخليًا بين الخوف والرغبة.

٣- آليات دفاعية: استعمال الصور الاستعارية والتكثيف الشعري وظيفة دفاعية — تَحويل الشهوة الخامّ إلى تجلٍّ ميتافيزيقيّ (سحبها من مستوى الجسد إلى مستوى الرمز) يسمح بالتحكم في القلق والعار المحتملين.

٤- رمزية الانتحار/الصبر: عبارة «الصبر المنتحر» تدلّ على استنفاد قدرة التحمل، ولكنها أيضًا فعل تحوّل: الموت الرمزي لصبرٍ قديم يُعيد إنتاج طاقة شعرية/عاطفية جديدة.

٥- الهوية المؤقتة: حيوية الصور تدلّ على شخصية تبحث عن ذاتٍ متجددة؛ اللقاء ليس مجرد مُتعة بل إعادة بناء للذات المشتتة.

- التقاء المناهج — تركيب قراءة مُشتركة:

حين نجمع ما سبق: الهيرمينوطيق يشرح حركة الفهم وتدرّج الكشف، الرمزي يوضح طبقات الإحالة، التحليل البنيوي يبيّن آليات اللغة، والتحليل النفسي يكشف عن دوافع الانفعال. معًا، تعطي هذه المناهج صورة متكاملة للنص:

القصيدة نص كشف/ولادة، حيث تتحوّل الغربة إلى مسار يثمر لقاءً يُعيد للذات وحدةً وكيانًا.

الشهوة ليست نزوة عابرة، بل قوة خلّاقة تُعيد تشكيل اللغة نفسها.

بناء الصورة اللغوية والرمزية يسمح بتحويل العاطفة إلى تجربة جمالية تُقنع القارئ بأن الشوق هنا مقدّس وخلقٌ شعريّ.

- خاتمة:

القصيدة تُعدُّ نموذجاً ناجحاً لشعر الوجد المعاصر الذي يدمج الإيروس بالجمال والروح. باستخدام أدوات الهيرمينوطيق والرمزية والدلالات البنيوية والتحليل النفسي، نقرأ النص كرحلة تصاعدية: من تيه الغربة إلى شعور الانعتاق/الاتحاد، عبر لغةٍ مُصقولةٍ تجمع بين الصيحة والرقة، بين الصمت والنشيد. هي قصيدة عن الاشتغال الشعري نفسه: كيف تصنع الرغبة نصًّا، وكيف يتحوّل الاحتراق إلى نورٍ يولد غدًا.

***

بقلم: عماد خالد رحمة - برلين

.....................

نشيد الخيول

بقلم: نادية نواصر

جئتك في المساء المكتظ بغربتي

طائرا ضيع بوصلة العمر

في عيني شرود

وعلى كتفي نقر الوهن

عارية القلب

حافية الوجدان

في البدء أربكني الطريق

وعند السطر الأول من الخفق زلزلني المقال

أغواني الصوت الهارب من أقاصي المجرة

هزتني أغاني البحر

وماتبقى من صهيل المساء

كفه الأمان

والصهد المنبثق من يقطين الروح

نبع العطش المستميت

على جسد الحكايا

جئتك من حيث كان المفترق

والكامن الحارق

الرماد المستيقظ من نار الغوايات

الروح الولهى

الصبر المنتحر

على هيبة الجبل الوارف

أيها الموسوم بما رامه المجاز قل لي كيق مشيت إلي؟

وكيف مشيت إليك بلا سابق موعد؟

لا احتمال للحكمة

غير هذا الجنون

بعثر مدائني

وانهار العقل

بلا سابق طرق على بوابة الروح الموصدة

إني في مدار الحيرة

من أمر الروح

فابسط ذراعك كي أمضي إلى الصدر المؤثث بالنشيد الحر

حيث أينع النرجس

واستيقظت أنثى الماء والنار

وامتزج الممكن بالمستحيل

واختلطت اليابسة بالماء

واخرجت تربة الروح أثقالها

وتاه بنا الدرب إلى ما تعذر على الصحو

اعتقاله

جئتك في المساء الشهي

حيث ألقيت علي القبض

أيها الصقر قل لي

من القاتل ومن القتيل؟

 

مقدمة تعريفية بالشاعر: صقر عليشي

صقر عليشي هو شاعر سوري معاصر، ينتمي إلى جيل الثمانينيات الشعري، تميزت تجربته بالبحث الدائم عن جماليات جديدة وانزياحات عن المألوف. عُرف بلغته الشعرية المكثفة والحافلة بالرموز الميثولوجية والتاريخية، والتي يستحضرها لإضاءة هموم الواقع المعاصر وإشكالياته. يأتي اسمه ضمن كوكبة من الشعراء السوريين الذين سعوا إلى تجديد اللغة الشعرية وفتحها على عوالم أسطورية ووجودية، مما جعل قصيدته حقلاً خصباً للتأويل والدراسة.

في بابل

أخذت القصيدة الى بابل

كانت ما تزال تشكو من وعكة عابرة

في فواصلها

وعلامات الترقيم الأخرى

*

غافل رقتها البرد

في رؤوس الجبال

أثناء الجمال

*

قلت آخذها في نزهة

أعرفها على الأساطير

ولعلها تلم ببعض الأسرار

عن السحر الأبيض

لعلها توفق بلقاء مع الجن الأحمر

*

هذا يرفدها بالأفق

ويفيدها بامتحان الرشاقة

*

ثم نعرج في جولة

نحو الحدائق المعلقة

عسى يساعد هذا

في بث النشاط

في دورتها الشعرية

ويشحذ خيالها المثلم

فربما تزين المنحدرات بقفزة جمالية فائقة.

*

لكنها أزعجت الهواء اللطيف

وتجاهلت رغبتي .

حملت سلتها من المشمش

والمجاز الطازج

المقطوف من غوطة دمشق

وأدارت دفة الزمن

نحو "هاروت وماروت"

اللذين افتتنا بها من أول مشمشة

واختلفا في تفسير سحرها المغاير

ووصل صياحهما

الى مسامع الفلسفة.

*

أسرا لها قليلا من الغيب المنيع

وأهدياها اكسيرا..

وأقراطا تأرجحت في أذنيها

وتركت الدهشة معلقة !!

***

القراءة التحليلية: تشريح الرموز وطبقات المعنى في "في بابل"

لا تُقرأ هذه القصيدة كوصف لنزهة، بل كرحلة استكشافية عميقة داخل مختبر الشعر نفسه. إنها قصيدة "ميتاشعرية*" تتأمل ذاتها وتتحدث عن عملية الخلق الشعري، مُجسدةً في رحلة إلى بابل، رمز المعرفة والسحر والأساطير الأولى.

الطبقة الأولى: القصيدة ككائن حي

منذ البداية، يقدم الشاعر "القصيدة" ليس كنص جامد، بل ككائن حي يعاني من "وعكة عابرة". هذا الانزياح الجميل (تشخيص القصيدة) يُخرجها من حيز التجريد إلى حيز الوجود المادي والمرضى.

- "تشكو من وعكة عابرة في فواصلها وعلامات الترقيم الأخرى": الوعكة هي أزمة إبداعية، أو عدم توازن في البنية الداخلية للنص. الفواصل وعلامات الترقيم هي أنفاس القصيدة ونبضها، واضطرابها يعني أن إيقاعها الداخلي معتل.

الطبقة الثانية: بابل كفضاء أسطوري للعلاج

لا يختار الشاعر أي مكان للعلاج، بل يختار "بابل"، التي ترمز إلى:

1- منبع الحضارة والسحر: حيث كانت مركزاً للعلم والسحر في المخيال الجمعي.

2- الجن الأحمر وهاروت وماروت: يشيران إلى عالم الغيب والقوى الخارقة والسحر. "الجن الأحمر" قد يكون رمزاً للشهوة أو الطاقة البدائية، بينما يمثل "هاروت وماروت*" الملاكين اللذين علّما الناس السحر في بابل بأمر من الله، كاختبار لهم (كما ورد في القرآن الكريم والمرويات الإسلامية). هذا الانزياح يجعل من لقاء القصيدة بهما لقاءً مع أسرار اللغة والسحر الذي يتجاوز المألوف.

الرحلة العلاجية مقصودة بدقة:

1- "هذا يرفدها بالأفق ويفيدها بامتحان الرشاقة": الرشاقة هنا هي رشاقة التعبير وخفة اللفظ وبراعة الصورة.

2- "يشحذ خيالها المثلم": الخيال "المثلم" هو الخيال المجروح، المتعب، أو المنقوص. والشحذ يعني إعادته إلى حدة وقدرة على الاختراق.

3- "الحدائق المعلقة": رمز الجمال المعجز والهندسة الفائقة، وهي جرعة جمالية تهدف إلى "بث النشاط في دورتها الشعرية".

الطبقة الثالثة: تمرد القصيدة واستقلاليتها

هنا تكمن المفارقة الجميلة والانزياح الأهم. القصيدة، هذا الكائن الحي، لا تستجيب للعلاج المُخطط له.

1- "لكنها أزعجت الهواء اللطيف وتجاهلت رغبتي": تعلن القصيدة استقلاليتها عن شاعرها. هي كائن متمرد لا يمكن ترويضه أو توجيهه حسب خطة مسبقة.

2- "الهواء اللطيف" قد يكون رمزاً للأجواء الأسطورية الهادئة التي أراد الشاعر خلقها، لكن القصيدة أزعجتها بحيوتها غير المتوقعة.

3- "حملت سلتها من المشمش والمجاز الطازج المقطوف من غوطة دمشق": هذه هي الانزياحات الأكثر إشراقاً.

أ- المشمش: هو الفاكهة الدمشقية بامتياز. إنها تحمل رائحة الواقع المحلي والأرضي.

ب- المجاز الطازج: هنا يخلط الشاعر بين الحسي (المشمش) والمجرد (المجاز). فسلتها تحتوي على عناصر من الواقع الملموس (المشمش) وعناصر من الخيال الشعري (المجاز الطازج)، وكليهما "مقطوف من غوطة دمشق". هذه إشارة واضحة إلى أن منابع الشعر الحقيقية ليست في الأساطير البعيدة فقط، بل في الواقع المباشر والتربة المحلية (دمشق)، ولكن بشرط أن تُقطف كـ "مجاز طازج"، أي برؤية شعرية متجددة.

الطبقة الرابعة: الحوار مع قوى المعرفة والغرابة

بدلًا من الانصياع للشاعر، تتجه القصيدة مباشرة إلى "هاروت وماروت".

1- "اللذين افتتنا بها من أول مشمشة": الانزياح هنا رائع. "مشمشة" هي مرة أخرى الجمع بين الدمشقي (المشمش) والبابلي (هاروت وماروت). لقد افتتن ملاكا السحر بالقصيدة منذ أول عنصر دمشقي حملته معها.

2- "واختلفا في تفسير سحرها المغاير": القصيدة ليست فقط مسحورة، بل سحرها "مغاير"، مختلف، لا يمكن تفسيره بسهولة حتى من قبل أعظم السحرة. هذا يرفع من قيمة القصيدة ويؤكد تفردها.

3- "ووصل صياحهما إلى مسامع الفلسفة": الانزياح العبقري. الخلاف على تفسير سحر القصيدة ليس هامشياً، بل هو صياح (صراخ جدلي) يصل إلى أعلى مراتب الفكر (الفلسفة). الشعر يثير إشكاليات وجودية ومعرفية تصل إلى قلب الفلسفة وتجبرها على الإنصات.

الطبقة الخامسة: الخاتمة المعلقة (دهشة الشعر)

الهدية التي تقدمها القصيدة من هاروت وماروت هي خلاصة الرحلة:

1- "قليلاً من الغيب المنيع": لمحة من المعرفة المستعصية.

2- "أكسيراً": قد يكون إكسير الحياة، أو جوهر الشعر الخالد.

3- "أقراطاً تأرجحت في أذنيها": الأقراط تزيين، لكن تأرجحها في "أذني" القصيدة (ككائن حي) يخلق صورة بصرية-سمعية رنانة، ترمز إلى الجمال والإيقاع والزينة التي اكتسبتها.

4- "وتركت الدهشة معلقة !!": هذه هي الخلاصة. النهاية ليست حكمة محددة أو رسالة مباشرة، بل "دهشة معلقة". الدهشة هي أعلى درجات التأثير الشعري. وهي "معلقة" كالحدائق المعلقة في بابل، وكالقصيدة نفسها التي تبقى في فضاء التأويل. الشعر لا يحل الألغاز، بل يخلق دهشة دائمة أمام العالم.

الخاتمة:

قصيدة "في بابل" لصقر عليشي هي نص مركب ومتعدد الطبقات، يحفر في علاقة الشاعر بنصه المتمرد، ويبحث عن منابع الإبداع بين الأسطورة (بابل) والواقع (غوطة دمشق). من خلال استخدام الانزياحات المبتكرة (تشخيص القصيدة، خلط المشمش بالمجاز، حوار القصيدة مع هاروت وماروت)، تنجح القصيدة في تقديم رؤية للشعر كقوة حية مستقلة، قادرة على إثارة الجدل حتى بين ملكتي السحر والفلسفة نفسها، لتختتم بإعلان أن غاية الشعر ليست الإجابة، بل خلق "دهشة معلقة" تظل تتأرجح في ذهن القارئ كأقراط من نور.

مظاهر الميتاشعرية في قصيدة "في بابل"

في قصيدة عليشي، لا نرى حدثاً خارجياً ، بل نرى الحدث الداخلي لخلق القصيدة. كل عنصر في الرحلة البابلية هو استعارة لعملية الإبداع:

1- تشخيص القصيدة:

أ- "أخذت القصيدة الى بابل" – ليست مجرد ورقة، بل كائن يُؤخذ في رحلة.

ب- "كانت ما تزال تشكو من وعكة عابرة" – القصيدة مريضة، أي أن عملية الكتابة تعاني من عائق إبداعي.

ج- هذا التشخيص هو فعل ميتاشعري بحت، يجعل من النص كياناً مستقلاً عن خالقه.

2- الرحلة كاستعارة للعملية الإبداعية :

أ- الرحلة إلى بابل ليست حقيقية، بل هي رحلة في مخيلة الشاعر لـ "علاج" نصه. الشاعر هنا لا يكتب عن بابل، بل يستخدم بابل كفضاء استعاري لإنقاذ قصيدته.

ب- الأساطير، السحر الأبيض، الجن الأحمر، الحدائق المعلقة: كلها ليست غاية في حد ذاتها، بل هي أدوات وأدوية يقترحها "الطبيب" (الشاعر) لـ "المريض" (القصيدة) ليشحذ خيالها ويرفدها بالأفق.

3- الانزياح اللغوي كموضوع :

أ- الحديث عن "فواصلها وعلامات الترقيم الأخرى" و "دورتها الشعرية" هو حديث مباشر عن البنية الفيزيائية والفيزيولوجية للنص الشعري. الشاعر يتأمل جسد قصيدته من الداخل.

4- تمرد الموضوع على الخالق:

أ- هذه هي اللحظة الأكثر ميتاشعرية: "لكنها أزعجت الهواء اللطيف وتجاهلت رغبتي".

ب- هنا، تعلن القصيدة استقلاليتها عن خالقها. الشاعر يفقد السيطرة على مخلوقه. هذه فكرة وجودية عميقة عن الإبداع: في لحظة ما، تصبح القصيدة كائناً له إرادته الخاصة، ويقود الشاعر إلى حيث لا يتوقع. العمل الفني يفرض مساره على الفنان.

5. المشمش والمجاز: خلط الواقعي بالشعري:

أ- "سلتها من المشمش و المجاز الطازج" – هذا الانزياح الرائع هو خلط متعمد للمستويات:

أ- المشمش: واقع ملموس، محلي، دمشقي.

ب- المجاز الطازج: مفهوم مجرد (المجاز) يُعامل معاملة الشيء الملموس (طازج، مقطوف).

ج- هذه الجملة هي بيان شعري: مصادر الإلهام ليست في الأساطير البعيدة فقط، بل في الواقع اليومي، ولكن برؤية شعرية تجعله "مجازاً طازجاً ". القصيدة تتحدث عن مادتها الخام (الواقع والمجاز) بشكل صريح.

6. الحوار مع هاروت وماروت: النقد الذاتي:

أ- عندما "تختلف" شخصيات الأسطورة في "تفسير سحرها المغاير"، فإن هذا يمثل حواراً داخلياً للشاعر حول تفسير قصيدته الخاصة. حتى هو، كخالق، قد يختلف مع نفسه حول معنى ما كتبه.

ب- "ووصل صياحهما إلى مسامع الفلسفة" – القصيدة ترفع مستوى التأويل من التفسير السحري البسيط إلى مستوى النقاش الفلسفي. هي تتحدث عن قدرة الشعر على إثارة أسئلة وجودية وفلسفية.

الخلاصة:

باختصار، "في بابل" هي قصيدة ميتاشعرية بامتياز لأنها:

1- لا تحكي قصة، بل تحكي عن "كيفية ولادة القصيدة".

2- تتخذ من عملية الإبداع نفسها موضوعاً رئيسياً لها.

3- تتعامل مع القصيدة ككائن حي مستقل له رغباته ومساره.

4- تستخدم الانزياحات (كخلط المشمش بالمجاز) لتسليط الضوء على طبيعة المادة الشعرية نفسها.

الرحلة إلى بابل، بكل رموزها، هي مجاز كبير لعملية الخلق الشعري بكل إحباطاتها ومفاجآتها واستقلالية نتاجها النهائي. الشاعر لا يكتب عن بابل، بل يُجري عملية جراحية لقصيدته في مستشفى بابل الأسطوري.

***

بهيج حسن مسعود

***

هامش:

1-هاروت وماروت* هما شخصيتان ذكرتا في القرآن الكريم في سورة البقرة (الآية 102)، وهما ملكان أنزلهما الله إلى الأرض في بابل كاختبار للناس، حيث كانا يعلمان الناس السحر، ولكن ينبهانهم في نفس الوقت إلى أن هذا السحر هو فتنة وكفر، وأنه لا ضرر ولا خير إلا بمشيئة الله.

2- "الميتاشعرية*" (Meta-poetry

الميتاشعر هو "شعر عن الشعر نفسه". إنه نوع من الكتابة الأدبية التي يكون موضوعها الرئيسي هو عملية الكتابة الشعرية ذاتها، أو طبيعة اللغة الشعرية، أو دور الشاعر، أو علاقة القصيدة بالعالم. بمعنى آخر، هي قصيدة تُخرج نفسها كموضوع للتأمل.

يمكن تشبيهها بفيلم سينمائي يدور حول صناعة الأفلام، أو لوحة ترسم فيها الرسامة نفسها وهي ترسم اللوحة. إنه وعي ذاتي بالنص بذاته ككائن لغوي وفني.

قراءة نقدية في قصة "ذاكرة في ظلال الغياب" لسعاد الراعي

في عالمٍ تتسارع فيه خطى الزمن وتتلاشى فيه الذاكرة الإنسانية أمام زحف النسيان المرضي والنسيان الاجتماعي معًا، يبرز مرض الزهايمر كأحد أقسى التجليات الوجودية للفناء المتدرج. إنه ليس مجرد مرض عصبي يُفقد الإنسان ذاكرته، بل هو محوٌ تدريجي للهوية، اقتلاعٌ للجذور من تربة الوعي، وتحويل الذات إلى شبح يتجول في متاهات الماضي دون خريطة للعودة. في هذا السياق، تأتي قصة "ذاكرة في ظلال الغياب" للكاتبة سعاد الراعي كشهادة أدبية مؤثرة، تنسج من خيوط الفقد والوفاء نصًا يتجاوز السرد البسيط إلى أعماق المأساة الإنسانية المعاصرة..

تُبحر الكاتبة في أعماق هذا المحيط الوجودي، فتمنح المأساة صوتًا أليفًا، وتجعل القارئ شريكًا في اختبار الغياب لا مجرد مراقب له..

 تبدأ القصة بلغة شفافة" أتذكّر تلك المرّة الأخيرة التي حملتني خطواتي إلى بيت استاذتي ماريا بعد رحيل زوجها، وقد ثقلت على صدري مخاوف لم أفلح في تبديدها. كنت كمن يُساق إلى غياب غير مسمّى، يحمل في داخله رجفة لا يفسرها العقل"..

انها ارتعاشة كبيرة تنحنى فيها الذراعان الحانيتان حول الروح الرقيقة.. معلنة أن الهواجس، رغم صمتها المنضبط، تبعثر الأليف واليومي..

البنية النفسية: التوحد مع الفقد

ترصد الكاتبة بدقة موشور تشظي الذات.. فالشخصية المحورية تُحاول ربط اللحظة بالذاكرة لكنها تجد الأسماء الأقرب اليها تفر بعيدًا لحظة استدعاءها.. متعذرة عليها وخاذلة إياها.. هذا الضياع ليس فرديًّا بل جمعي..

 الراوية تحاول أن تلملم أشلاء ذاكرة استاذتها ـ وذاكرتها هي أيضًا ـ خشية أن يتحوّل كلاهما إلى أشباح. هناك اختزال نفسي مرهف للعجز صارت الأيام عندها جزرًا غائمة، لا جسر يصل بما فات، ولا قارب للعبور.

ان صياغة الاحداث تؤكد الطابع الحداثي لرؤية الكاتبة.. حيث تثير مشهد ضبابية الزمن في النص.. والذي يذكرنا بقصص مثل "العجوز والبحر" لهمنغواي أو "دكان الحلاق" لجمال الغيطاني، حيث يلتحم الزمن بالدلالة الوجودية..

البعد النفسي الاجتماعي - تفكك شبكة الأمان

تطرح القصة إشكالية اجتماعية حادة تتعلق بمصير المسنين في المجتمعات المعاصرة. ماريا، الأستاذة الجامعية والأم التي قدمت حياتها لأبنائها وللآخرين، تجد نفسها في "بيت العجزة" بعد أن "انقطع عنها أبناؤها، وتركوها وحيدة في مواجهة جسدٍ يخذلها يومًا بعد آخر وذاكرة يلفعها الضباب. هذا الخذلان الأسري يمثل جرحًا اجتماعيًا عميقًا يتجاوز الحالة الفردية ليصبح ظاهرة تستدعي التأمل والمساءلة. القصة تضعنا أمام مرآة قاسية تعكس تفكك الروابط الأسرية وتحول الإنسان إلى عبء في لحظة ضعفه، وإلى امتحان للرحمة والصبر، وتجلى قسوة الخسارة حين يتهشم معنى الانتماء على صخرة النسيان..

الطبقات الاجتماعية هنا تختبر نفسها.. هل تصبح الروابط مجرد واجب روتيني أم فضيلة متجددة تسعى إلى تخفيف وطأة الغياب؟

الكاتبة لا تكتفي بأثر المرض على الضحية، بل ترصد دوائر ارتداده على المحيطين بها: الهواجس، الانكسارات، تفاقم الغربة في الغربة وفي الديار، حتى يصير الجميع ضحايا الغياب بشكل أو آخر..

المقاربة الفكرية والحداثة

النص قائم على مأزق فلسفي.. هل الذاكرة هي الجوهر؟ وهل ينجو المرء من محنة ضياع ذاته في دوامة الزمن..

 الكاتبة تشتغل على هذه الرؤية الحداثية عبر اقتصاد لغوي مشدود، وتجسير رمزي بين تفاصيل اليومي وتيارات الفلسفة المعاصرة. كل مرآة في القصة تعكس كسرًا جديدًا في الذات؛ كل ذكرى تصبح ظلًا عاجزًا عن الامتلاء بالنور. النص بذلك يستجيب لطروحات أدباء مثل.. التشيكي الألماني كافكا أو الأمريكي بول أوستر في تمثيل الضياع والهشاشة وتحولات الوجود الفردي.

الذاكرة والهوية: التشظي الوجودي

يشكل مرض الزهايمر في القصة أكثر من مجرد حالة مرضية.. إنه استعارة للفقد الشامل، لانهيار الذات من الداخل. حين تتحدث ماريا عن حفلة حضرها زوجها المتوفى و"البروفيسور كروكوف والرفيق يوري" الراحلين، ندرك أن الزمن قد انطوى على نفسه في عقلها، وأن الموتى والأحياء قد اختلطوا في حاضر مشوش. تصف الراوية هذه اللحظة بقولها: "ذاكرتها لم تعد ملكًا لها، الزمن انسحب من عقلها تاركًا فراغًا مريرًا". هذا التصوير يحمل عمقًا فلسفيًا يتقاطع مع تأملات هايدغر حول الوجود والزمان، إذ تصبح الذات خارج التاريخ، منفية من سياقها الزمني..

التماهي السردي: أنا هي، وهي أنا

من أجمل التقنيات السردية في القصة ذلك التماهي التدريجي بين الراوية/ الراعي وماريا. تبلغ هذه الحالة ذروتها في المقطع المؤثر: "وفي لحظةٍ خاطفة، أحسستُ أنني أنا نفسي ماريا؛ جسدٌ حاضر، وروحٌ تتسرب من بين أصابعه". هنا تتجاوز الكاتبة حدود السرد الخطي لتدخل منطقة التماهي الوجودي، حيث تصبح الراوية والمروي عنها كيانًا واحدًا يتشاركان المصير والألم. هذه التقنية تذكرنا بما فعلته الانكليزية فيرجينيا وولف في "السيدة دالاوي" حين انساب الوعي بين الشخصيات كنهر واحد..

المكان كفضاء للرمز

"بيت العجزة" في القصة ليس مجرد مكان جغرافي، بل هو فضاء رمزي محمل بدلالات العزلة والاغتراب والموت البطيء. تصفه الكاتبة بلغة شعرية كثيفة.. "جدران رمادية عارية من أي حياة، نوافذ مغلقة على أسرار ساكنيها، ستائر باهتة تشبه وجوهًا فقدت لونها مع الأيام". هذا الوصف يحول المكان إلى شخصية مستقلة تشارك في صنع المأساة، تمامًا كما فعل غابرييل غارسيا ماركيز في "مائة عام من العزلة" حين جعل من ماكوندو كائنًا حيًا ينبض بالرمزية..

بلاغة اللغة وإبداع السرد

أسلوب الكاتبة يجمع بين الشفافية والكثافة: " هببت نحوها أحتضنها بنظراتي وبكل ما في شوق، ألقيت عليها تحية تتشبث بالدفء، وحاولت أن أستعيد بشاشتها التي كنت أعرفها، لكنها لم تكن هي نفسها. كان بيننا جدار خفي من الغربة، فصلٌ صامت جعلني أشعر أنني أقف أمام ظلّ ماريا لا ماريا نفسها.". في جملة واحدة تحتشد صور الحنين والوداع والموت. هناك ألفة ساحرة في تصوير اللحظات الإنسانية المربكة والشاردة "صوتها لم يعد يعرف وجهي... عيناها، حين تحدقان بي، كأنهما تبحثان عن صوت قديم".

هذه المفارقة الأسلوبية تخدم بدقة الجانب النفسي، وتمنح النص طاقة تعبيرية عالية، تمرر الكاتبة كل شيء بالصورة والإيماءة، لا التنظير المباشر، فتجعل من الشجن بؤرة تأمل لا مجرد بيان..

اللغة الشعرية والشفافية السردية

تتميز لغة سعاد الراعي بشفافية نادرة تجمع بين الشعرية والوضوح، بين العمق والسلاسة. جملها مشحونة بالصور الاستعارية دون أن تسقط في الزخرفة اللفظية. حين تكتب: " وأن أكون شاهدة على نورها الأخير " أو "صمتٌ كثيف كان يخيّم على المكان، حتى شعرت أن الجدران نفسها تسرد عليّ غيابها بصوت مكتوم"، فإنها تمنح القارئ تجربة جمالية راقية لا تنفصل عن المضمون الإنساني للنص..

الأثر التربوي والإنساني

تكمن أهمية هذه القصة في قدرتها على إثارة الوعي بقضية إنسانية ملحة: مصير المسنين والمرضى في مجتمعاتنا. إنها تدعونا للتفكير في معنى الوفاء، وفي مسؤولياتنا الأخلاقية تجاه من قدموا لنا حياتهم. القصة درس تربوي عميق في القيم الإنسانية، لكنها تقدمه عبر الفن لا عبر الوعظ المباشر، وهذا ما يمنحها قوتها التأثيرية.

البناء السردي وجماليات الانتظار

تبدأ القصة بمشهد الانتظار على عتبة البيت الخالي، وهو مشهد يحمل دلالات رمزية عميقة. الراوية تقف على "الدكّة الحجرية"، صلبة كالحجر في وفائها، مقابل غياب ماريا الذي يتحول من غياب مكاني إلى غياب وجودي. هذا الانتظار ليس مجرد فعل سلبي، بل هو موقف أخلاقي يكشف عن بنية نفسية ترفض الاستسلام للفقد. تكتب الراعي: "كنت أحرس غيابها بقلقٍ يثقل نظراتي"، وفي هذه الجملة تكثيف شعري لافت، إذ يتحول الغياب إلى كيان ملموس يُحرس ويُراقب..

أدب الشهادة والذاكرة

"ذاكرة في ظلال الغياب" نص ينتمي إلى ما يمكن تسميته "أدب الشهادة الإنسانية"، حيث الكاتبة لا تكتفي بتسجيل حدث، بل تحوله إلى تجربة وجودية شاملة. سعاد الراعي تثبت هنا أنها كاتبة ناضجة، تمتلك أدواتها السردية بتمكن، وتملك شجاعة الغوص في الموضوعات الصعبة دون خوف أو تردد. قصتها هذه إضافة نوعية للأدب العربي المعاصر، وصوت يستحق الإصغاء في زمن الضجيج والنسيان..

أهمية النص في الأدب والمجتمع

تذكَر هذه القصة بجدية وجسارة الأدب عند التصدي لموضوعات النسيان والحنين والفقد. النص بمثابة مرآة لتحولات الأسر أمام العلل المزمنة، يضيء مناطق الصمت والإرهاق، ويتيح للأفراد مراجعة علاقتهم بالحب والعطاء والذاكرة. كثيرون يغمضون أعينهم أمام شيخوخة القلب أو انهيار الرموز؛ في نص "ذاكرة في ظلال الغياب" نجد العكس: تفكيك لعقدة الصمت، واحتفاء بالتعاضد الإنساني رغم الفقد..

إنها مأساة إنسانية ومعضلة وجودية لطالما ألهمت الأدب العالمي ـ نجد شبيها له في «لا تزال آليس» لليزا جينوفا، أو في قصة ماركيز «ذاكرة غانياتي الحزينات»، حيث تتحول الذاكرة إلى مسرح للحنين والفقد والانطفاء..

*

قصة "ذاكرة في ظلال الغياب" نص رفيع، خدمه بجدارة أسلوب الكاتبة الشفاف.. واختزالها البليغ للوجع، ونضجُ رؤيتها للذاكرة باعتبارها الجدار الأخير في حرب الإنسان مع النسيان. تضم النصوص الأدبية العربية والعالمية القليل من الأعمال التي سبرت أغوار فقدان الذاكرة بهذا الصفاء والعمق..

انها تطرح العلاقة بين الفرد وذاته وذكرياته بوصفها سؤالاً وجوديًّا ممتدًّا. قصة تستحق أن تُقرأ وتروَّج كوثيقة أدبية وإنسانية واجتماعية عالية القيمة، تُكرس للأدب أدواره الجمالية والعلاجية معًا.

***

طارق الحلفي

 

وخروج النص الروائي من عمود السرد التقليدي... روايات كاظم الشويلي انموذجا

منذ أن وصل السرد العربي الكلاسيكي إلى مرحلة الاستقرار في أنماطه المألوفة – بدءًا من المقامة ومرورًا بالحكايات الشعبية وانتهاءً بالرواية الواقعية التقليدية المتأثرة بالثقافة الأوربية – كان يلتزم بما يمكن أن نطلق عليه (عمود السرد) والذي أشارت له الدكتورة (بشرى موسى صالح) في كتابها عمود السرد ما بعد الحداثي(1) وأعني به مجموعة من الأعراف التي تضبط نسقه، مثل: الخطية الزمنية، والحبكة المترابطة، والبطل التقليدي، واللغة الإنشائية المتزنة والبليغة، والراوي العليم الذي يتدخل مباشرة في ربط الأحداث، والعمل على إقناع المتلقي بواقعية الرواية، فضلاً عن الموضوعات المكرّرة والموروثة ذات الأفق الأخلاقي القيمي أو الترفيهي. لقد كان هذا العمود بمثابة القانون الضمني الذي يمنح السرد شرعيته ويحدّد ملامحه، غير أن هذا الإطار الصارم بدأ يتعرض لهزات كبرى مع صعود الحداثة، ثم جاءت ما بعد الحداثة لتعلن تحرّر السرد من (العمود) وخروجه عن سلطته إلى فضاءات الانفتاح والتجريب، فأخذ منحى مغايرًا قوامه كسر خطية الزمن، وتفكيك التسلسل إلى شذرات متفرقة، وتجريد الراوي العليم من سلطته وفتح المجال لأصوات متعددة، وعدم التحرّج من استعمال لغة متداخلة بين الفصيحة والعامية، بين النثر والشعر، بين الجد والهزل، فأصبحت اللغة نفسها موضوعًا للتساؤل والتشظي لا مجرد وسيلة للحكي، فضلا عن البطل الإشكالي، وتسليط الضوء على موضوعات كانت تمثّل تابوات في السرد التقليدي مثل: الجنس والسياسة والدين والهوية، وأيضًا العناية بالهامشي واللامألوف، والنصوص الموازية، والتناص، والعجائبي وتمظهراته المختلفة، والتداخل الأجناسي، والعمل على جعل القارئ شريكًا في إنتاج المعنى، إذ يعتمد النص على الفراغات والفجوات، ويترك له حرية التأويل، فيتحول النص إلى فضاء مفتوح لا نهائي، وتحطيم الحدود بين الواقع والمتخيل عبر تقنيات ما وراء السرد (Metafiction) وهي تقنيات كتابية يتم توظيفها في "روايات وقصص تلفتُ الانتباهَ إلى وضْعها الخيالي وإلى وقائع تأليفها"(2) حيث يُفصح النص عن أنّه مجرد حكاية متخيّلة، ويسلّط الضوء بشكل مباشر على طرائق كتابته عبر التعليق بأسلوب نقدي تحليلي على بنيته الأدبية، ممَّا يسهم في التلاعب بالحدود الفاصلة بين الوهم والحقيقة، ويعري لعبته السردية أمام القارئ الذي يجد نفسه جزءًا من عالم الرواية، وإقحام الروائي لاسمه وصفاته والكثير من تفاصيل حياته في المتن الحكائي، فيغدو الروائي كاتبًا وشخصية وموضوعًا في آن واحد، ممّا يتيح للقارئ الاطلاع على عملية الكتابة من داخلها، وهذا ما عمل عليه (كاظم الشويلي) في رواياته القصيرة الثلاث: (نيران ليست صديقتي، ومواسم الثلج والنار، وروايتي الفائزة بالجائزة) فالشخصية الرئيسة التي تتولّى سرد الأحداث في هذه الروايات التي تشبه المتوالية، هي شخصية (كاظم الشويلي) الذي يظهر داخل النص بصفته المرجعية كاتبًا وناشرًا، ففي روايته (نيران ليست صديقتي) يقحم شخصيته الحقيقية في نضالاتها كـأسير حرب عراقي ضمن الإطار الروائي(3) الأمر الذي يكسر من خلاله ما يُعرف بـعقد القراءة التقليدي. إذ لم يعد القارئ يتعامل مع شخصيات من ورق، بل مع شاهد على التاريخ يحمل ثقل تجربته الحقيقية. وفي هذا النوع من التقنيات السردية، تتفوق سلطة الواقع على سلطة التخييل، ويصبح الهدف الأساس للنص ليس الإمتاع الفنّي فحسب، بل الشهادة، والتوثيق، ويتم استخدام الأدوات الروائية كالبنية السردية واللغة؛ لتعزيز مصداقية الحقيقة المسرودة، وتصبح مهمة الراوي مضاعفة، فهو لم يعد يخلق عالمًا متخيّلاً، بل يعيد إنتاج عالم عاشه بالفعل.

تنتمي رواية (نيران ليست صديقتي) بامتياز إلى تيار أدب الذاكرة وأدب الحرب مع تركيز خاص على تداعيات (الحرب العراقية-الإيرانية) وتأثيرها الممتد إلى الأجيال اللاحقة، فهي تجربة سردية متجاوزة؛ لأنَّها تستثمر في سلطة الواقع لتوثيق صفحة منسية من تاريخ الحرب، لم يسبق لروائي عراقي أن خصّص لها رواية "يا كاظم... أنت تؤرشف تاريخ لا نعرفه ولا نعلمه، وقد دثرته الحروب الكثيرة لبلدنا بالنسيان والإهمال...هل تعلم يا كاظم انك اول كاتب يتناول رواية عن الاسرى العراقيين"(4). إن استخدام الراوي إطارًا سرديًّا مُفلترًا عبر شخصية (نيران) -التي مثّلت مستودع الذاكرة المؤلمة التي تروي قصص الحبّ والفقد في زمن الحرب والشتات-والتواصل معها عبر (الماسنجر) يحوّل كاظم الشويلي -بصفته أسيرًا حقيقيًّا- إلى علامة للذاكرة الجماعية لجيل كامل من الأسرى العراقيين، فالرواية لا تسرد قصته هو فحسب، بل تُقِرّ بوجود قصص لآلاف من الضحايا الذين لم تُروَ حكاياتهم.

تعتمد الرواية على الحكاية المضمَّنة التي تخص مصير الأسرى العراقيين (كاظم الشويلي، والضابط مرتضى) وتفاصيل معاناتهم، وعلى الحكاية الإطارية (حكاية الحب التي جمعت نيران وكاظم الشويلي) عبر وسيط حديث وهو التواصل الرقمي (الماسنجر/الدردشة)(5)؛ لـتذويب مرارة الحقيقة في نسيج يمكن للقارئ الحديث التفاعل معه. هذا الدمج بين الشخصيات الحقيقية والآلية السردية الحديثة (الإنترنت) يؤكد أن الذاكرة في العصر الرقمي لا تُستعاد إلا عبر جسور معقدة تصل الماضي الوثائقي بالحاضر الافتراضي. كما أنَّ اختيار الماسنجر كآلية لسرد الماضي ليس مجرد اختيار شكلي، بل هو تعبير عن إشكالية الذاكرة في العصر الحديث، إذ يصبح الفضاء الرقمي مختبرًا لإعادة بناء التاريخ الشخصي والجماعي، حيث تتيح هذه التقنية البوح بأسرار ظلَّت مدفونة لعقود.

تتقاطع في النص مجموعة ثيمات عميقة تشكّل جوهر الخطاب الروائي، من بينها صدمة الأسر والهوية، إذ يتجلى الموضوع الأهم في مصير الأسير العراقي كاظم الشويلي وذكره المتكرر، تجاوز السرد الجانب العسكري والسياسي والغوص في الجانب الإنساني عبر التركيز على تفاصيل الأسر، وصورة الأسير، والشوق إلى رؤية الأهل، ممَّا يجسّد الكيفية التي حوّلت الحرب إلى ندوب شخصية لا تُمحى "اظن كان دخولنا لهذا المعسكر بتأريخ 22/ 6/ 1987 أحسست حينئذ بشعور غريب يداهمني ويحيلني إلى قطعة من الحزن العميق، وامتزج الحزن بالفرح برغبة عارمة بالبكاء، لأول مرة اشعر بالغربة عن الوطن والحنين إلى الأهل والرغبة بالموت او النوم دون استيقاظ"(6)

أمَّا رواية (مواسم الثلج والنار)(7) فقد قدّمت مادة سردية ثرية تتقاطع فيها المحاور الشخصية والوطنية والاجتماعية، مُوظفة تقنيات الحوار والتناوب في السرد للكشف عن عمق الأزمة النفسية والوجودية للشخصيات، وتداعيات الأوضاع السياسية والاجتماعية على الفرد العراقي، خاصة ثيمة الحرب، والشتات والصراع الطائفي، واغتراب الذات. استخدمت الرواية لغة مباشرة وحوارات سريعة لتكثيف التوتر، جاعلة من العلاقة بين كاظم و وداد مجازًا لتمزق الذات العراقية بين الانتماء إلى الوطن المثقل، والانسحاب إلى الذات أو الفضاءات البديلة.

اعتمد السرد فيها على تتابع حوارات مكثفة ومواقف درامية تتخللها مونولوجات داخلية، يظهر ذلك بوضوح في تبادل الحوارات بين كاظم الشويلي (الراوي المحوري/الشخصية الرئيسة) ووداد المهندسة، وبين كاظم وزوجته، ممَّا يكشف عن التوتر المستمر في العلاقات. هذه الأصوات تشكل نسيجًا صوتيًّا يكسر سلطة صوت الراوي الأوحد، الأمر الذي يعزّز واقعية الحدث وتعدّد زوايا النظر للأزمة.

تضمّنت الرواية ثيمات رئيسة تبرز من بينها بقوة ثيمة الاغتراب، اغتراب الشخصيات عن محيطها الاجتماعي (كاظم وزوجته)، واغترابها الجغرافي (وداد)، واغترابها الروحي (كاظم وعلاقته بالفيسبوك/الصور المثالية). هذا يتقاطع مع سياق الرواية العراقية التي تتناول تشتت العراقيين وضياع هويتهم. أمَّا صراع الأزواج فهو الآخر شكّل ثيمة واضحة إذ استطاع الراوي أن يصوّر الصراع بين كاظم وزوجته بطريقة درامية (تتبعها، تنصتها، تصنع عدم المبالاة)(8) وظهرت الزوجة (ام علاوي) وهي تمثّل قيود الواقع البغدادي المحافظ (9)، بينما مثّلت (وداد) إغراء التحرّر والهروب من هذا القيد(10).

الأمكنة في هذه الرواية مأزومة مثل: بغداد، الكاظمية، ساحة عدن، العلاوي، هي الأخرى ثيمة مهمة، فهذه الأماكن ليست مجرد خلفيات، بل هي أطراف في الصراع الطائفي الذي شهده العراق بعد 2003، فقد طلبت وداد من سائقها كاظم اللقاء في ساحة عدن في مدينة الكاظمية، فأجابها: "أخاف من الطائفية أن تأكلنا!"(11) هذا الجواب يُحوّل المكان إلى فضاء سياسي-اجتماعي ملغّم، حيث يصبح اللقاء العادي محفوفًا بخطر الهوية والاقتتال.

لقد مثّل الفيسبوك في نهاية الرواية ثيمة أخرى ونقطة تحول درامي، إذ يشي بانتقال الصراع من حيز الواقعي الملموس إلى الحيز الافتراضي الذي يخلق صداقة مع حورية مغتربة(12)، ممَّا يعكس محاولة البطل اليائسة لتصنيع بطلة سحرية تهزمه وتنقذه في آن واحد.

امَّا رواية (روايتي الفائزة بالجائزة) فيبدأ السرد بـتشخيص الطبيب لحالة (كاظم) وكان هذا التشخيص بمثابة صدمة قاسية "يا كاظم، سوف تموت بعد اقل من ثلاثين يوماً"(13) ممَّا يشكل نقطة الانطلاق الدرامية، فالأحداث التي تلت هذه البداية القاسية، مثل التبرع بالأموال والتخطيط للسفر والعلاج، كلها تخدم فكرة مواجهة الموت(14) لقد اعتمدت الرواية على بناء سردي معقّد يزاوج بين السيرة الذاتية المتخيلة (رحلة الموت الوشيك) والرواية الفنية (الرواية الداخلية) لتطرح تساؤلات جوهرية عبر الفن حول الموت/ الخلود، وحول صراع المادة/ الروح، وقيمة العمل الإبداعي. إنّها رواية فكرية تتخفى في ثوب القصة، وتتّسم بلغة غنية، وقدرة على الغوص في أعماق الشخصية الرئيسة.

تكشف الرواية عن واحدة من أهم تقنيات ما وراء السرد، وهي تقنية (الرواية داخل الرواية) فالنص يقدم سردًا أساسيًا بضمير المتكلم لـ (كاظم) الذي يتلقى صدمة الحكم الطبي بقرب الأجل، ويتوازى معه سردٌ آخر يُكشف لاحقًا أنه من كتابة (كاظم) بعنوان "روايتي الفائزة بالجائزة"(15) هذا التداخل يثير تساؤلات حول علاقة الراوي بكتابته، وهل الرواية الداخلية هي محاولة للمقاومة أو الخلود أو مجرد انعكاس لحالته النفسية؟.

سيطرت على النص أسئلة وجودية وفلسفية حول الموت والحياة والتحولات الروحية إذ يُعدّ المشهد العجائبي الخاص بالمقبرة، والذي صوّر لقاء روح (كاظم الشويلي) وجسده نقطة تأمل ميتافيزيقية عميقة حول كينونة الإنسان. كما يمثّل تأكيدًا لـما طرحه الراوي من أفكار تتعلّق بكتابة الرواية وأهميتها، والعناصر الفنية التي يجب أن تتوافر فيها، والأهداف المرجوة من وراء كتابتها(16).

وممَّا يلحظ على الرواية استخدامها لغة ذات نبرة عاطفية عالية وشاعرية(17)، خاصة في وصف مشاعر الراوي الداخلية(18) وأيضًا غلبة أسلوب السرد التأملي الداخلي على النص، الأمر الذي كشف عن صراعات الراوي وأفكاره العميقة(19) وزاد من عمق التجربة النفسية للشخصية الرئيسية.

تكشف الصفحات الأخيرة عن انعطافة سردية وتحوّل جذري في مسار الرواية، فبعد الصدمة الأولى المتمثلة بقرب الموت وحتميته، يأتي الخلاص بفضل نجاح عملية القلب(20)  هذا التحول يعكس انتقالاً من صراع الإنسان مع الموت إلى صراعه مع ذاته. كما أنَّ سؤال كاظم للطبيب غسان عن سبب "التورم في القلب وكيف هو استأصله وعن كيفية رفع القلق والتوتر"(21) يرمز إلى أن المشكلة الحقيقية لم تكن جسدية محضة، بل نفسية وجودية. هذا يوجه الرواية نحو مغزى أكثر عمقًا يتجاوز التشخيص الطبي.

وممَّا يلفت نظر القارئ في هذه الرواية أن البنية المتداخلة للراوي/الكاتب تمنح النص عمقًا ماورائيًّا، وتسمح للكاتب بطرح أسئلة وجودية وفلسفية حول قيمة الإبداع في مواجهة الفناء. إنّها رواية تصف رحلة البطل من صدمة الموت إلى صفاء الروح، لتؤكد أن النصر الحقيقي يكمن في التصالح مع الذات وتحقيق الرضا الإلهي لا مجرد الظفر بـجائزة أدبية "ليس من المهم أن تفوز روايتي بجائزة ما، إنما أطمح فقط أن تفوز روايتي عند الله، وهذا الفوز يكفيني وأملي الوحيد أن أظفر   بالرضا الرباني"(22).

لقد استطاع الراوي ومن خلفه الروائي الواقعي في الروايات الثلاث-عبر توظيف تقنية ما وراء السرد وتنويعاتها- التمرد على تقاليد الكتابة التقليدية والتحرر من قيودها الجمالية، فعمل على كسر الإيهام السردي وتفكيك وهم الحكاية التقليدية عبر حديثه بصورة مباشرة مع القارئ المفترض(23) ممَّا يعيد للقارئ وعيه النقدي يجعله مشاركًا في انتاج المعنى، ومن تنويعات ما وراء السرد التي وظّفها (الشويلي) أن ظهر الراوي حاملا اسم الروائي الواقعي والكثير من السمات الشخصية التي تنطبق عليه "كاظم الشويلي، قاص، روائي، ناقد، ناشر..."(24)، وعضو اتحاد أدباء العراق، وعضو نقابة الصحفيين، وباحث، وكاتب لمئات المقالات النقدية والثقافية(25) الأمر الذي أحدث تداخلاً بين الواقعي والتخييلي وفجّر الحدود بينهما، وخلخل ثقة المتلقي بواقعية السرد، وبما إذا كان الراوي كائنًا سرديًّا متخيّلاً أم تجسيدًا لصوت الروائي المرجعي نفسه؟ وفضلا عن ذلك بدا الراوي منهمكًا بكتابة رواية(26) وبالحديث عن هذا الجنس السردي وأهميته وقدرته على معالجة قضايا المجتمع، وما يجب على الكاتب أن يتعلّمه، وما يتناوله من موضوعات ومفاهيم، وما هي الرسائل التي يبغي من خلاله إيصالها للمتلقي(27) والانشغال بكتابة القصص والمقالات الأدبية، ونشر روايته عن وداد وعن مواسم الثلج والنار والرعب في الجبهة(28) وزحمة أعماله في دار الطباعة والنشر(29).

ومن التقنيات التي وظّفها الشويلي هي تقديم الراوي رؤية نقدية داخلية لمواصفات العمل الأدبي الناجح، فالرواية التي تطمح للفوز بجائزة ما يجب أن تكون "مميزة وشيقة، ومليئة بأفكار مبتكرة وجاذبة وشخصيات قوية ومؤثرة، وقد يكون للأسلوب السردي واللغة دور كبير في الفوز بالجائزة"(30) كما بدأت هذه الرواية بتشخيص طبي أفصح عن الموت والفناء وانتهت بالشفاء والخلود الروحي. هذا الانتقال من (الجسد المريض) إلى (الروح المطمئنة) يمنح الرواية بنية دائرية أو تصالحية، وهذه البنية تُعدّ من أبرز السمات البنيوية التي تعبّر عن وعي سردي متقدّم، ففي الروايات التي تمارس ما وراء السرد، تمثل الدائرية وعيًا بالبناء ذاته، أي أن الرواية تعترف بأنها تُعيد الحكاية أو تكرّرها بوصفها لعبة فنية. وهنا تصبح الدائرية نوعًا من التأمل الذاتي في فعل السرد، وتؤكد أن الحكايات لا تنتهي فعلاً، بل تُروى بطرائق مختلفة، فضلا عن تأكيدها حتمية المصير، فحين يعود السرد إلى نقطة البدء، فإن هذا يشير أحيانًا إلى أن الشخصية لم تستطع الفكاك من قدرها، فكل ما جرى كان استدارة حول المصير ذاته.

لقد مثّلت روايات كاظم الشويلي الثلاث: (نيران ليست صديقتي، ومواسم الثلج والنار، وروايتي الفائزة بالجائزة) نموذجًا بارزًا لتحولات السرد ما بعد الحداثي في الرواية العراقية، وإعلانًا لتحرّر النص من قيود (عمود السرد) التقليدي. لقد تحوّل السرد في هذه الروايات إلى فضاء مفتوح لا نهائي، فضلا عن أن الشويلي نجح في توظيف تقنية ما وراء السرد وتنويعاتها بفاعلية عالية، متمرّدًا على تقاليد الكتابة التقليدية.

***

ا. م. د. إحسان ناصر حسين الزبيدي

...................

الهوامش:

(1) ينظر، عمود السرد ما بعد الحداثي النص الكاشف عن الرواية العراقية بعد 2003، بشرى موسى صالح، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، 2023.

(2) الفن الروائي، ديفيد لودج، تر، ماهر البطوطي، مؤسسة هنداوي، 2023: 228.

(3) ينظر، نيران ليست صديقتي، كاظم الشويلي، دار الورشة الثقافية للطباعة والنشر والتوزيع، بغداد، ط 5، 2024: 5، 11، 14.

(4) نيران ليست صديقتي: 15

(5) ينظر، م.ن: 6

(6) نيران ليست صديقتي: 15.

(7) مواسم الثلج والنار، كاظم الشويلي، دار الورشة الثقافية للطباعة والنشر والتوزيع، بغداد، ط 4، 2024.

(8) ينظر، مواسم الثلج والنار: ،5، 7، 16.

(9) ينظر، م.ن: 6

(10) ينظر، م.ن: 7.

(11) م.ن: 5

(12) ينظر، م.ن: 98)

(13) روايتي الفائزة بالجائزة، كاظم الشويلي، دار الورشة الثقافية للطباعة والنشر والتوزيع، بغداد، ط3، 2024: 5

(14) ينظر، م.ن: 6-7

(15) روايتي الفائزة بالجائزة: 17

(16) ينظر، م.ن: 26-32.

(17) ينظر، م.ن: 11

(18) م.ن: 47

(19) ينظر، م.ن: 5-11

(20) ينظر، م.ن: 53

(21) روايتي الفائزة بالجائزة: 52

(22) م.ن: 73.

(23) ينظر، نيران لست صديقتي: 19، وينظر كذلك، مواسم الثلج والنار: 21

(24) نيران ليست صديقتي: 47

(25) ينظر، مواسم الثلج والنار: 7، 19

(26) ينظر، نيران ليست صديقتي: 14، 33.

(27) ينظر، نيران ليست صديقتي: 55-57

(28) ينظر، مواسم الثلج والنار: 98

(29) ينظر، روايتي الفائزة بالجائزة: 17

(30) م.ن: 57.

للروائي شلال عنوز

تُعد رواية "يمامة بغداد" للروائي شلال عنوز عملاً أدبياً كثيفاً يغوص في أعماق النفس البشرية المتألمة، متخذاً من حكاية امرأة عراقية مرآة يعكس عليها جراح وطن مثخن بالحروب والفقد. عبر بنية سردية متقنة ولغة شعرية، ينسج الكاتب حكاية عن الوفاء والذاكرة والأمل الذي يولد من رحم المأساة.

1. عتبات النص: مفاتيح الدخول إلى العالم الروائي

تعتبر العتبات النصية (Paratext) المدخل الأول الذي يهيئ القارئ ويمنحه مفاتيح تأويلية أولية.

أ. العنوان والغلاف

يحمل العنوان "يمامة بغداد" رمزية مزدوجة ومكثفة. فاليمامة هي رمز للسلام والحب والوفاء، وهي في الوقت ذاته تجسيد مباشر للشخصية الرئيسية "حنان" التي ظلت وفية لذكرى زوجها الراحل. وبإضافة العنوان إلى "بغداد"، يتجاوز الكاتب الخاص إلى العام؛ فـ "حنان" لم تعد مجرد امرأة، بل أصبحت هي بغداد نفسها: جميلة، جريحة، وفية لذاكرتها، وباحثة عن السلام المفقود.

أما تصميم الغلاف فيعزز هذه الرؤية. نرى وجه امرأة بملامح حزينة وشاردة، تمتزج ألوانه الداكنة مع خلفية مضطربة، بينما تحوم يمامة بيضاء قرب وجهها، وكأنها جزء من روحها أو حلمها. هذا التصميم يشي بالموضوعات الأساسية: الحزن، الذاكرة، والروح التي تتوق إلى التحليق والحرية رغم واقعها المؤلم. الملخص على ظهر الغلاف يؤكد هذه الفكرة، واصفاً إدمان البطلة على زيارة قبر زوجها "ضحية حرب الخليج الثانية".

2 - تحليل البنية السردية

تتميز الرواية ببنية سردية مركبة تعتمد على تقنية "التأطير" (Framing) والتقابل بين الأزمنة.

أ. الحبكة والبناء السردي

تبدأ الرواية من النهاية؛ من مشهد جنازة "حنان" ودفنها بجوار زوجها ثائر. هذه البداية الصادمة تضع القارئ أمام حقيقة الموت، ثم تعود به الرواية إلى الوراء عبر فصل بعنوان "ما روته اليمامة..."، لتبدأ الحكاية الحقيقية كفلاش باك طويل يروي قصة حياتها منذ بدء حرب الخليج الثالثة (غزو العراق 2003).

الحبكة الرئيسية تدور حول "حنان"، الأرملة الوفية التي تجد طفلاً ضائعاً "طاهر" في خضم فوضى الحرب وتقرر تبنيه. يتشابك معها خطان ثانويان رئيسيان:

1. الخط الرومانسي المستعاد: عبر ذكريات حبها وزواجها من "ثائر" في ثمانينيات القرن الماضي.

2. الخط الاجتماعي: كشف سر "الحاج أحمد"، والد زوجها، وزواجه الثاني السري الذي نتج عنه الابن "سيف".

هذا التداخل بين الخطوط يخلق بنية غنية، تقارن بين الماضي المسالم نسبياً والحاضر المدمر، وبين قصص الفقد وقصص الكشف والمصالحة.

ب. الشخصيات ورمزيتها

الشخصيات في الرواية ليست مجرد أدوات لتحريك الأحداث، بل هي حوامل رمزية لأفكار ومراحل تاريخية.

- حنان (اليمامة): هي محور الرواية ورمزها الأكبر. إنها تجسيد للذاكرة العراقية الحية التي ترفض نسيان ماضيها الجميل (ثائر)، لكنها في الوقت نفسه تمتلك قلباً قادراً على احتضان المستقبل (طاهر). وفاءها ليس مجرد عاطفة شخصية، بل هو وفاء لقيم زمن مضى.

- ثائر (الماضي المفقود): زوجها الذي استشهد في حرب الخليج الثانية. اسمه الذي يعني "الثائر" يحمل مفارقة، فهو لم يكن ثائراً بل ضحية. يمثل "ثائر" الحلم العراقي الذي اغتالته الحروب؛ زمن الشباب والحب والثقافة الذي وُئِد قبل أن يكتمل.

- طاهر (المستقبل مجهول النسب): الطفل الذي وجدته حنان. اسمه الذي يعني "النقي" رمزي بامتياز. هو جيل المستقبل العراقي؛ جيل ولد في خضم الفوضى، مجهول الأصل (لا يعرف أهله)، لكنه يحمل براءة الأمل. تبني حنان له هو قرار رمزي باحتضان هذا المستقبل ورعايته رغم ماضيه الغامض.

- سامر (الحاضر الانتهازي): المشرف التربوي الذي يلاحقها. يمثل الواقع الانتهازي والمبتذل الذي يحاول فرض نفسه على الذاكرة النبيلة. علاقته الزوجية الفاشلة وكذبه يقفان على النقيض التام من صورة "ثائر" المثالية.

- الحاج أحمد وعائلته: يمثلون المجتمع التقليدي الذي يحمل أسراره الخاصة ويجد في النهاية طريقة للمصالحة والتعايش، مما يعطي بصيص أمل في إمكانية لم شمل المجتمع العراقي رغم انقساماته.

ج. الزمان والمكان ودلالاتهما

الزمان: يتأرجح السرد بين زمنين رئيسيين:

الثمانينيات: زمن الحب والجامعة، وهو يمثل الماضي النقي والحالم قبل أن تدمره الحروب المتعاقبة.

ما بعد 2003: زمن الاحتلال والفوضى ونقاط التفتيش. إنه الحاضر الجريح الذي تعيش فيه الشخصيات. هذا التقابل الزمني يخلق حالة من الحنين (النوستالجيا) ويكشف حجم المأساة التي حلت بالعراق

المكان: للمكان في الرواية أبعاد رمزية عميقة:

بغداد: هي ليست مجرد مسرح للأحداث، بل هي كيان حي يتألم. شوارعها (اليرموك، المنصور، البياع) تحمل ندوب الحرب، وتعاني من الاختناق والحزن.

المقبرة (وادي السلام): مكان محوري يبدأ منه السرد وينتهي إليه. إنها رمز للذاكرة والموت، لكنها أيضاً مكان للمعجزات؛ فبعد خروجها من المقبرة تجد "طاهر". إنها العتبة التي تفصل بين عالم الأموات وعالم الأحياء، وبين الماضي والمستقبل.

البيت: منزل حنان هو مزار للذكرى، تحتفظ فيه بكل ما يخص ثائر. لكن بدخول "طاهر" إليه، يتحول من متحف للماضي إلى حاضنة للمستقبل.

الرمز والتناص - بناء المعنى الخفي

لا تكتفي الرواية بسرد الأحداث، بل تغوص في أعماق الرمز لتكثيف دلالاتها، وتتناص مع الذاكرة الثقافية والتاريخية للعراق.

- الرمزية المحورية:

اليمامة: هي الرمز المهيمن الذي يجسد "حنان" وبغداد في آن واحد. إنها رمز السلام المفقود، الحب الأبدي، والوفاء لذاكرة لا تموت. تحليق اليمامة في نهاية الرواية هو فعل تحرر روحي يتجاوز الموت الجسدي، ويرمز إلى بقاء الحب والذاكرة أنقى من دمار الحرب.

الطفل طاهر: يمثل المستقبل العراقي البريء والمجهول النسب. العثور عليه قرب المقبرة وفي خضم انفجار هو إشارة رمزية إلى أن الأمل يولد من رحم الموت والفوضى. تبنيه من قبل "حنان" هو فعل رمزي لاحتضان الأمة لمستقبلها، حتى وإن كان غامضًا، ومنحه هوية ورعاية.

الرجل الغامض ذو الزي العربي: يظهر في المقبرة كشخصية نبوئية، يتنبأ لحنان بقدوم زائرين سيغيران حياتها. يمثل هذا الرجل القدر أو الحكمة الشعبية المتوارثة، التي تظهر في لحظات اليأس لتقدم بصيصًا من الأمل والإشارة إلى أن الحياة، رغم كل شيء، مستمرة.

التناص:

التناص التاريخي: تتناص الرواية بشكل مباشر مع تاريخ العراق الحديث المليء بالحروب: حرب الخليج الثانية التي قتلت "ثائر"، وحصار التسعينيات، وغزو عام 2003 الذي شكل خلفية الأحداث الرئيسية. هذه الأحداث ليست مجرد خلفية، بل هي جزء من نسيج النص الذي يوضح كيف شكلت السياسة مصائر الأفراد.

التناص الأدبي والثقافي: تستدعي الرواية أغاني عراقية شهيرة مثل أغنية حميد منصور "يم داركم" وأغنية لميعة توفيق في حفل الزفاف. هذه الأغاني تعمل كـ "مثيرات للذاكرة" ((Memory Triggers، حيث تعيد البطلة (والقارئ) إلى زمن البساطة والحب، مما يعمق الشعور بالنوستالجيا والفقد.

ثانياً: الحبكة والبناء السردي - هندسة الألم والأمل

تعتمد الرواية على بنية سردية غير خطية، تتلاعب بالزمن لتعميق الأثر الدرامي.

الحبكة الدائرية والمؤطرة: تبدأ الرواية بمشهد جنازة "حنان"، وهي النهاية الفعلية لحياتها، ثم تعود في فلاش باك طويل يروي قصة السنوات الأخيرة من حياتها. هذا البناء الدائري يجعل القارئ يقرأ الأحداث وهو يعلم مصير البطلة، مما يضفي طبقة من الحزن والقدرية على السرد. كل لحظة أمل أو فرح تُقرأ من خلال عدسة النهاية المحتومة.

تشابك الخطوط السردية: تتداخل قصة حنان مع الطفل طاهر (الحاضر والمستقبل) مع ذكرياتها عن حبها لثائر (الماضي)، ومع قصة الحاج أحمد وزواجه السري (أسرار المجتمع). هذا التشابك يخلق بنية سردية معقدة تعكس تعقيدات الحياة العراقية نفسها، حيث لا يمكن فصل الخاص عن العام، والحاضر عن الماضي. كشف سر الحاج أحمد، على سبيل المثال، يوازي كشف أسرار الوطن نفسه، وينتهي بالمصالحة، مقدمًا نموذجًا مصغرًا لما يمكن أن يكون عليه التعافي المجتمعي.

النهاية: اكتمال الدائرة وتحرر الروح

تأتي نهاية رواية "يمامة بغداد" لتغلق الدائرة السردية التي بدأت بها، ولكنها تتجاوز مجرد العودة إلى مشهد الموت لتقدم رؤية روحانية عميقة للتصالح والتحرر. إنها ليست نهاية مأساوية بقدر ما هي اكتمال رمزي لرحلة الألم والوفاء.

المشهد المحوري في النهاية هو ما يراه الابن "طاهر" بعينيه: يمامة تقف على شجرة السدر التي زرعتها حنان فوق قبر زوجها، ومع اكتمال مراسم الدفن، يظهر طائر آخر ناصع البياض، فترفرف اليمامة بجناحيها وتحلق معه عالياً حتى يغيبا معاً في الفضاء1. هذا المشهد يحمل دلالات متعددة:

1. اتحاد الأرواح: اليمامة، التي هي تجسيد لروح حنان، تتحد أخيرًا مع الطائر الأبيض الذي يرمز بوضوح إلى روح ثائر. هذا اللقاء السماوي هو انتصار للحب الأبدي على الموت والفناء الجسدي. لقد ظل وفاء حنان الأرضي راسخًا، فكان جزاؤه اتحادًا روحيًا أبديًا.

2. إتمام الرسالة: لم تمت حنان إلا بعد أن أدت رسالتها على الأرض. لقد احتضنت المستقبل المتمثل في "طاهر" ومنحته هوية وحبًا وأسرة. بمجرد أن اطمأنت على استمرارية الحياة من خلاله، تحررت روحها من قيود العالم المادي لتلحق بحبها الأول.

3. شهادة المستقبل: الشخص الذي يشهد هذا الحدث الروحاني هو "طاهر"، جيل المستقبل. هذه الشهادة تمنحه (ورمزيًا تمنح جيله) إرثًا من الحب والوفاء، وتؤكد له أن هناك ما هو أسمى من الحروب والموت. إنها وصية بصرية تنتقل من جيل الذاكرة إلى جيل الأمل.

بهذا، تتحول النهاية من قصة موت إلى قصيدة عن السمو الروحي. الموت لم يعد نهاية، بل أصبح بوابة للاتحاد والخلود، واكتمالًا لدائرة الوفاء التي عاشتها "اليمامة" طوال حياتها.

اللغة والأسلوب

تخدم شلال عنوز لغة تتميز بشعريتها العالية ورقتها، خاصة في وصف المشاعر والذكريات. "كانت مُحلّقة في سماواته، فراشة في مدى من ورد وخضرة". هذه اللغة الشاعرية تخلق تبايناً حاداً مع قسوة الواقع الذي تصفه الرواية بلغة مباشرة وواقعية، كما في تصوير مشاهد الحرب والدمار. يعتمد السرد بشكل كبير على تيار الوعي والمونولوج الداخلي لشخصية حنان، مما يسمح للقارئ بالولوج إلى أعمق أفكارها وصراعاتها النفسية.

ومجمل القول إن رواية "يمامة بغداد" ليست مجرد سرد لحياة امرأة عراقية، بل هي مرثية عميقة لوطن جريح وشهادة أدبية على قوة الذاكرة الإنسانية في مواجهة الفناء. لقد نجح الروائي شلال عنوز في توظيف كل عناصر السرد ببراعة لخدمة رؤيته.

فمن خلال بنية سردية دائرية، جعلنا نعيش الألم ونحن على يقين من النهاية، مما كثف من وطأة القدر. وعبر شخصيات رمزية مثل حنان (اليمامة/الوطن)، وثائر (الماضي النقي)، وطاهر (المستقبل البريء)، رسم استعارة كبرى للصراع بين الذاكرة والنسيان، وبين الموت وإرادة الحياة.

لقد تحولت الأماكن، من بغداد الحالمة إلى بغداد المحتلة، ومن المقبرة كفضاء للموت إلى فضاء لولادة الأمل، إلى شواهد حية على التحولات المأساوية التي طرأت على العراق. أما اللغة الشعرية، فقد منحت النص بعدًا جماليًا رفيعًا، خالقةً تباينًا مؤثرًا بين رقة المشاعر وخشونة الواقع.

في النهاية، تقدم "يمامة بغداد" إجابة روحانية على سؤال الوجود في زمن الحرب: حتى وإن سحق الموت أجسادنا، فإن قوة الحب والوفاء قادرة على أن تجعل أرواحنا تحلق حرة، متجاوزةً حدود الزمان والمكان، تمامًا مثل تلك اليمامة التي لم يكسرها الفقد، بل منحها أجنحة لتتحد بمن أحبت في الأفق البعيد. إنها رواية عن وجع الفقد، ولكنها في جوهرها احتفاء بخلود الذاكرة.

النهاية: اكتمال الدائرة الرمزية

نهاية الرواية هي عودة إلى بدايتها: موت حنان. لكنها ليست نهاية مأساوية، بل هي نهاية تحمل طابعاًروحانياً وتصالحياً. المشهد الأخير الذي يراه ابنها طاهر، حيث تحلق يمامة (روح حنان) مع طائر آخر أبيض ناصع (روح ثائر) ويغيبان معاً في الفضاء، هو إغلاق رمزي لدائرة الألم. فبعد أن أدت حنان رسالتها في الحياة برعاية المستقبل (طاهر)، تحررت روحها لتتحد مع حبها الأبدي. إنها نهاية تؤكد أن الحب الحقيقي والوفاء يسموان على الموت والحرب.

خلاصة: رواية "يمامة بغداد" عمل فني متكامل ينجح في توظيف حكاية فردية مؤثرة لاستكشاف مأساة جماعية. من خلال شخصيات رمزية، وبنية سردية متقنة، ولغة تجمع بين الشعرية والواقعية، يقدم شلال عنوز شهادة أدبية عميقة عن صمود الروح الإنسانية في وجه أقسى الظروف، وعن وطن يناضل ليصالح ماضيه الجريح ويحتضن مستقبله الغامض.

***

***

د. نجلاء نصير

 

للشاعر والناثر خلدون رحمة

١. مقدمة منهجية وسياقية: هذا النص يقف على تقاطع السيرة والرمز، بين النثر الشعري والتأمل الرمزي؛ هو نصٌّ قَدِمَ كزيارةٍ رؤيويةٍ لذاتٍ تائهةٍ تلتقي بمظهرٍ مؤنَّثٍ يحمل الوظائف الميتافيزيقيّة والوجدانية (الأم/القدّيسة/المرأة-المرآة). سأتعامل مع النص بوصفه بنية مفتوحة للمعنى: كل صورةٍ فيه ليست وصفًا فحسب، بل عقدةٌ دلاليةٌ تقود إلى نظام إشارات متداخل يفضي إلى رؤى نفسية وروحية واجتماعية. سأستند إلى مبادئ الهيرمينوطيقا (الدوران بين الجزء والكل)، وإلى سيميائيات غريماس لاستخراج المحاور الدرامية للأدوار، وإلى منهجية الأسلوب والرمز لفك طبقات اللغة.

٢. قراءة هيرمينوطيقية تأويلية (المعنى الظاهر والباطن):

النص يبدأ بلقطةٍ مركزيّة: المرأة — «بثوب صلاتها المطرّز بالدعاء» — تدخل الغرفة. هذه الولوجية ليست مجرد حدثٍ سرديّ؛ هي تفعيل لمشهد الفداء/الشفاء. على مستوى الظاهر، نقرأ وصفًا حميميًا: الضحكة، المرايا، الأصابع، العيون، الحكمة، الرهافة، العطر... إلخ. أما على مستوى الباطن، فالمرآة / العين / الثوب / الصلاة / الدعاء تعمل كرموزٍ للشفاء الروحي، للعودة إلى الذات، ولإعادة بناء «الطفل الغامض» في الروح.

الحضور الأنثوي هنا يملك وظيفة نبويّة/قابلة: يوقظ القوة الحياتية، يكسر «جبل الحزن»، يضيء «غابات العزلة»، يملأ «الركن الداخلي» بنورٍ وعطرٍ وحنان. النتيجة: خلخلةُ حالة الجمود الوجوديّ، وبلورة إمكانية الحياة (القهوة تُغلى بـ«نار القلب»). لكن المفاجأة البؤسْتية: الغياب المفارق — يبقى «ثوب الصلاة» معلّقًا على كتف الغربة. هذه الخاتمة تُعيد النصّ إلى مربع الحزن: الوجودُ لا يحصل على التثبيت، والزيارة تتحوّل رمزيًا إلى أثرٍ (ثوب) لا أكثر.

التحوّل من حضور ملموس إلى أثرٍ يذكّر بمآلات الأسطورة: الوعدُ الوجوديّ لا يستقرّ، والرغبة تتحوّل إلى أثرٍ ميتافيزيقيّ — أي إلى دوامٍ رمزيّ يربط بين الحياة والموت، بين الوعد والافتقاد.

٣. تحليل أسلوبي ورمزيات اللغة:

1. الصور الحسية: النص غنيّ بالصور السمعية والبصرية والشمّية واللمسية — «ضحكتها الدافئة»، «امتلاء الفم بالحليب»، «أصابعها إذ يكون المرمر طريًا»، «رائحة عطرها السريّ» — تخلق جوًّا من الحميمية الحسية التي تُقوّي مصداقية التجربة الرؤيوية. الحواس تتحوّل هنا إلى أدوات تأويل: الحليب رمز التغذية/الأمومة، المرمر الطريّ رمز اللطف في ما يبدو صلبًا، العطر رمز الذاكرة والخصوصية.

2. التراكيب المغايرة: اقتحام النصّ للجمل المفتوحة والتورية السردية («دخلتْ غرفتي. / هل أنا حيّ لأصدّق ما أرى؟») يساوي بين اليقظة والحلم، بين الواقعي والأسطوري.

3. الاستعارة المركّبة: «تصدّعَ جبل حزني»، «أضاءت غابات عزلتي» — الاستعارات تضخّم الحالة النفسية إلى مقاييس كونية، فتحوّل الخصوصيّ إلى عامّ، ما يجعل من تجربة الراوي تمثيلاً وجودياً.

4. التضمين الطقوسي: «بثوب صلاتها المطرّز بالدعاء» — ثوب الصلاة هنا ليس مجرد لباس؛ هو طقس يلبس العالم ويفسحه. الربط بين الثوب والدعاء يضع الرحم/المرأة/القداسة في نفس خانة الأداء الديني.

5. لغة القرب والبعد: النص متذبذب بين القرب الحميمي (جلست أمامي) والغياب النهائي (لم أجدها، لم أجد إلا ثوب صلاتها). هذه القطيعة الأسلوبية تُظهر ثيمة الفقد وعدم التثبت.

٤. تطبيق نموذج غريماس: محاور الأدوار السيميائية

طبقًا لنموذج أكتانتي لغريماس، يمكن قراءة الفعل السردي كما يلي:

١- الفاعل: الراوي/الذات المتألمة (المختبر/المنتظر).

٢- المرسل: النص يقدّم المرأة كبعث/رسالة؛ يمكن أيضاً اعتبار «القدر» أو «النداء الروحي» مرسلاً.

٣- الهدف / الشيء المطلوب: استعادة الحياة/الشفاء/الانسجام النفسي.

٤- المتلقي: الراوي/الذات (يتلقى الشفاء/الحضور).

٥-المساعد: ثوب الصلاة، عطرها، ضحكتها، دفء فم الحليب، الحكمة— جميعها وسائط تمكّن الهدف.

٦- المعارض: الحزن، العزلة، الغربة، «جبل حزني»، فقد التثبيت؛ وفي الدرجة الوجودية: الموت/العدم كقوة مضادة.

بهذه القراءة يظهر النص كحكاية نزاع: إرسالٌ — وصولٌ — تذوّق/تحقق — اختفاء/فشل. الخاتمة تجعل من الثوب علامةٍ بديلة عن حضور مُثَبَّت، وتحوّل الهدف (الانعتاق) إلى غيابٍ رمزيّ.

٥. تفكيك مفردات مفتاحية وتأويلها:

«بثوب صلاتها المطرّز بالدعاء»: مركّب رمزيّ: الثوب = الهوية الظاهرة والوقائية؛ الصلاة = فعلُ ربط/توسّل؛ المطرّز بالدعاء = عمل ينقش الحميمية الدينية على المظهر. هنا المرأة ليست فقط امرأة؛ هي طقس/وسيلة ارتداد إلى المعنى.

«امتلاء الفم بالحليب»: استعارة أمومية، رمز التغذية الأولى، والبراءة، والأصل. الحليب إشارة إلى الأصل الطفوليّ وإمكانية التجدد.

«مراياها العميقة حيث أراني بكلّ أبعادي»: المرآة تعكس تعدد الأناّهات — الذات المُجزأة تُرى بكامل أبعادها. المرآة هنا مرجعٌ للهوية الشفافة والاعتراف المتبادل.

«أصابعها إذ يكون المرمر طريًا»: تناقض لافت: المرمر مادة صلبة، لكن طراوته هنا رمزية لقوة ناعمة قادرة على جعل الحجر لينًا — رمز لاختراق الحواجز.

«برزخٍ يفصلني عن العالم»: البرزخ فضاء حائل بين عالمين؛ عيونها تنقل إلى معبرٍ شبه متصوفٍ، إنها نافذة إلى عالمٍ داخليٍّ خاص.

«نار قلبي» (لغلي القهوة): القلب كمحرِكٍ حميميّ للطاقة؛ تغلي القهوة على نار القلب تعبير مجازي عن التحضير الحيوي الذي يُقدَّم كضيافة روحية.

«ثوب صلاتها مُعلّقًا على كتف غربتي»: الغربة هنا حاملةٌ للأثر؛ الثوب كدليل على الحضور والغياب في آنٍ معًا. الكتف مكان حمل الحزن والغربة؛ الثوب عليه علامة فشل التثبيت.

٦. قراءة نفسية: الأنماط الأرشيفية واللاوعي الجمعي

1. الأنيمة اليونغية: الظهور الأنثوي في النص يجسد مفهوم الأنيمة (النموذج الأصلي للأنثى) لدى يونغ:

صورةُ المرأة-المرشدة/الأمّ/الشفائية التي تُكمّل الذات الممزّقة للراوي (الذكر الداخلي). النص يوفِّر لقاءً تآمليًا مع «العنصر الأنثوي» الذي يعيد التوازن النفسي.

2. المخطط الطفلي المُطمر: «انهِض الطفل الغامض في روحي» يُبين وجود ذاكرة طفولية محفوظة تحتاج إلى إيقاظ. الحضور يُفجر استجابة رجعية إلى حالة أصولية للتغذية/الأمان.

3. الافتقاد والحنين كآليات دفاعية: غياب المرأة في الخاتمة يمكن قراءته كأمرٍ رمزيّ يرمز إلى التجربة الخيالية التي تنقضّ أمام قسوة الواقع؛ هذا حركة دفاعية من نوع التخييل الذي يواجه الافتقاد الفعلي.

4. الشق المرضي للغة: «احترقت شجرة الكلام في حنجرتي» — صورة نفسية لشلل القدرة على التعبير أمام حضورٍ مهيب؛ الدلالة هي العجز التعبيري الذي يعكس مشاعر التوجّس والذوبان في الحضور.

٧. البعد الديني والرمزي: الصلاة والدعاء كآليات فاعلة

الصلاة والدعاء في النص ليستا طقوسًا شكلانية، بل أدوات فعّالة لإنتاج معنى وجودي: «ثوب الصلاة المطرّز بالدعاء» رمز الاتّصال بالقدسيّ، ويدلّ على أن الشفاء هنا مجهّزٌ بلغة الطقس. الإحالة إلى «برزخ» تؤكد وجود خلفية تصوفية أو قراءات إسلامية للحدّ بين العالمين. يمكن هنا استحضار مفاهيم ابن عربي حول «الانسان الكامل» والموضع الذي فيه تتلاقى الأضداد. النص يتعامل مع الدين كقوّة تأويلية عملية، لا كمجرد إطار أخلاقي.

٨. المقارنة بين المستويات: انفعالي، تخييلي، عضوي، لغوي

أ. المستوى الانفعالي:

النص يشتغل بقوة على الانفعال: ترنّحات القلق تُقابَل بفيض الحبّ والحنان. هناك توتّر مستمر بين أمواج السعادة المؤقتة وهزيمة الغياب؛ القارئ يعيش موجات الأمل ثم الصدمة الختامية. موسيقى النص الانفعالية عالية—الموروث الأمومي يُطلق طاقة أملية قوية ثم يختم بخيبة عميقة.

ب. المستوى التخييلي (التخييل):

الصور الخيالية (غابات العزلة، أطفال داخليين، برزخ) تنحت فضاءً شبه ميثولوجيّاً، يجعل من اللقاء مشهداً أسطورياً أكثر من كونه حدثًا يوميًّا. النص يعمل كحكايةٍ رمزية تُغني ذاكرة القارئ بالتخييل.

ج. المستوى العضوي (الحسي/الجسدي):

اللمسات الجسدية والتفاصيل الحسية (الفم، المرمر، العطر، القهوة) تجعل التجربة عضوية، قابلة للشعور الجسديّ، فتلتقي الرغبة الروحية والرغبة الجسدية في واجهة واحدة. هذا الانصهار يعطي النص بعدًا إنسانياً حيًا ــ لا فحسب تأمليًّا.

د. المستوى اللغوي:

اللغة مركّبة بين البسيطة والمدهشة: مفردات يومية (قهوة، فنجان) تتداخل مع مفردات عالية الرمزية (برزخ، ثوب الصلاة). التناوب بين الجمل القصيرة والمقطعات الوصفية الطويلة يكسب النص إيقاعًا موسيقيًا متغيّرًا. الأسلوب يميل إلى البلاغة المتحرّرة من القوالب التقليدية، ويستثمر التكرار الرمزي لخلق وحدة نصية.

٩. البعد الوطني/الثقافي والاجتماعي:

النص يستدعي عناصر ثقافية عربية ملموسة: القهوة كطقس ضيافة وكمؤشر للحوار والحميمية، الصلاة والدعاء كمظاهر دينية يومية، والزيارة المنزلية كفضاء اجتماعي عربي مختصّ. غياب المرأة وتحويل حضورها إلى «ثوب» على كتف «الغربة» يحمل دلالة على تجربة النازح/المغترب: الحضور الروحي لا يواكِب الحضور الاجتماعي، وتتحول العلاقات الحميمة إلى أثرٍ ثقافي يُحمل على الاستلاب والغربة. بهذا المعنى، النص يُحيل أيضًا إلى معانٍ وطنية: كيف يظلُّ الحنين والطقوس والرموز الدينية منقوشةً على أجساد المغتربين/المنفيين كعلامات لا تُمحى، بينما يغادر الناس الحقيقيون أو يعودون ناقصين.

١٠. محاور إضافية للتدقيق السيميائي (اقتراح عمليّ بتحليل غريماس تفصيليّ)

هنا يمكننا استخراج شبكة سيميائية كاملة من خلال:

1. ترشيح كلّ العلامات الدلالية الأساسية (ثوب/صلاة/دعاء/قهوة/مرآة/برزخ/المَرْمر/عطر/طفل).

2. بناء مصفوفة علاقات معنوية (تشابك علامات ــ مؤشرات ــ دلائل).

3. تطبيق مخطط الأفعال: إرسال/تلقي/مساعدة/مواجهة/غلبة.

4. استخراج «المنحى السردي»: اللقاء ــ الفتح ــ الإحياء ــ الاختفاء ــ الأثر.

هذا سيكشف عن مستوياتٍ إضافية: كيف تتقاطع العلامات لتشكّل «أيقونة الشفاء الفاشل»؟ كيف يُنتَج الشعور بالحنين كمرجع سيميائي مركزي؟

١١. قراءة مقارنة: النص على المستويات الأربعة مقابل نصوص عربية أخرى

عند مقارنته بنصوص تعالج اللقاء الإلهي أو حضور الأنوثة كمبدأ شِفائيّ (مثلاً نصوص نزار قباني الوجدانية/نصوص تصوّف ابن عربي الشعرية)، يميّز نص خلدون رحمة توفّره على تمازجٍ واضح بين الحميميّة الجسدية والطقس الديني. بخلاف الإقرار الحِلميّ في بعض نصوص الحبّ الحديثة، هذا النص يضفي على اللقاء طابعاً تقدّسياً ــ فالثوب والصلاة والدعاء عناصرٌ تعبّر عن علاقة مع الله والآخر في آنٍ واحد.

١٢. استنتاجات عامة ومقترحات نقدية:

1. النص يعمل بنجاح على خلق محوّل رمزيّ: من حضورٍ حيّ إلى أثرٍ رمزيّ (ثوب). هذه الحركة تراكمية وتنتج تأثيراً وجدانياً قوياً.

2. الازدواج الحسي-الروحي هو من أبرز مكاسب النص: يجمع بين اللمس والعطر والمرآة والمقدّس، ما يمنحه عمقاً متعدد المستويات.

3. الاختفاء النهائي (غياب المرأة) يعيد النص إلى ساحة السؤال: هل اللقاء كان فعلاً أمّ رؤيا؟ هذا البُعد الإشكالي يثري النص ويترك القارئ في حالة تأملٍ مفتوحة.

4. منهجية غريماس مفيدة للغاية لتفكيك محور «الرسول/المرسل/الهدف» في النص؛ أوصي بتطبيق مصفوفيّة تفصيلية لاستخراج كلّ تحولٍ وظيفيّ لعلامة رمزية.

5. القراءة النفسية (يونغ، فرويد، فروم) تضيء على آليات الاحتياج الأنثوي-الذكوري، وتظهر أن النص بَنَى مخزوناً من الصور الأرشيفية القادرة على إيقاظ اللاوعي الطفوليّ.

١٣. خاتمة فلسفية/نقدية مختصرة:

«بثوب صلاتها المطرّز بالدعاء» نصٌّ يقوم عند الحدود بين الحلم واليقظة، بين الطقس والحميمية، بين الرجاء والافتقاد. هو نصٌّ يشتغل كمشهدٍ طقسيّ لإعادة بناء الذات، ويعرض قلقاً وجوديّاً يتجلّى في تكرار الفقدان؛ يبقى الثوب كعلامةٍ شاهدةٍ على إمكان الشفاء ومرثيةٍ على عدمه. إن النص يعلّمنا أن اللقاءات الأهمّ ليست تلك التي تُثبت الوجود، بل تلك التي تترك أثرًا يُعيد تشكيل الذاكرة — حتى وإن كان هذا الأثر مجرد ثوبٍ معلّقٍ على كتف الغربة.

***

بقلم: عماد خالد رحمة - برلين

.....................

بثوب صلاتها المطرّز بالدعاء

بثوب صلاتها المطرّز بالدعاء، بضحكتها الدافئة كامتلاء الفم بالحليب، بمراياها العميقة حيث أراني بكلّ أبعادي، بأصابعها إذ يكون المرمر طرياً، بعينيها الخالدتين اللتين تفضيان إلى برزخٍ يفصلني عن العالم، بحكمة صبرها ورهافة حسّها وبراعة حدسها، بلحمها ودمها، بكلّ ما فيها ………

دخلتْ غرفتي .

هل أنا حيّ لأصدّق ما أرى ؟

دخلتْ عليّ بفرحٍ هادئٍ فتصدّعَ جبل حزني، أضاءت غابات عزلتي بنور يشعشع من أقمار محيّاها، غطّت المكان بحرير حنانها، صبّت روحها في صدري فاندهش الطفل الغامض في روحي، خطفتني برائحة عطرها السريّ الطالع من مشيتها الملائكيّة .

التبسَ عليّ صحوي، شككتُ بجسدي أتحسّسُهُ، غرقت حواسي ببحر الجنون .

جلستْ أمامي على الكنبى وقالت بصوت الحبّ:

- صباح الخير يا أمّي

صرخت من جوفي:

- صباح الحياة يا أمّي

همستْ:

- أشتهي فنجان قهوة من يدكَ

ارتبكتُ جداً حتى احترقت شجرة الكلام في حنجرتي، فأوحيتُ لها بلغةِ العينِ الدامعةِ:

- سأغلي القهوة على نار قلبي .

وضعتُ الركوة وعدتُ مُسرعاً نحوها …

لم أجدها

لم أجد إلا ثوب صلاتها مُعلّقاً على كتِفِ غربتي .

 

التوثيق والتأويل في قلب المأساة السورية

يمثل ديوان "قبور صغيرة" للشاعر السوري ماهر شرف الدين (2021) نموذجاً متميزاً للشهادة الأدبية التي ترفع الواقع المأساوي إلى مصاف الشعر، دون أن تفقد صلتها بالحدث اليومي. الديوان ليس مجرد مجموعة قصائد، بل هو "ذاكرة جماعية" شعرية، تقدم قراءة متعددة المستويات للألم السوري، تجمع بين التوثيق الواقعي والتأويل الوجودي.

أولاً: المأساة كموضوع وكمنطلق تأويلي

يدور الديوان حول المعاناة الإنسانية خلال الحرب في سوريا، ملامساً موضوعات مركزية كـ الموت والفقدان (المتجلي في العنوان الرمزي "قبور صغيرة" التي تدفن فيها الأحلام قبل الأجساد)، والمنفى والشتات، والجوع والحصار. إلا أن الشاعر لا يقف عند حدود التوثيق، بل يتجاوزه إلى تفكيك المفاهيم الكبرى، كما في تمييزه للثورة بأنها لم تكن "جداراً يستند إليه" ولا "مفتاحاً لقصر"، مما يحول الخيبة السياسية إلى سؤال وجودي عن معنى التمرد والأمل.

هنا يندمج المحتوى مع الرؤية التأويلية: فالمأساة ليست موضوعاً مباشراً فحسب، بل هي المساحة التي تتحرك فيها الذات الشاعرة لتطرح أسئلتها الوجودية. السياسة هي الإطار والوعاء، بينما المحتوى النهائي هو سبر أغوار الوجود الإنساني في مواجهة العنف والضياع.

ثانياً: الأسلوب واللغة: بين صدمة الواقع وغموض الشعر

1. اللغة الواقعية المشحونة شعرياً: يستخدم شرف الدين لغة يومية قريبة من لغة الإعلام في نقل الواقع، لكنه يحولها إلى استعارات متعددة الدلالات. "القبور الصغيرة" لم تعد مجرد مقابر، بل رمزاً لكل ما يُدفن حياً: الكرامة، الذاكرة، الطفولة. "الباص المحطم" يتحول من وسيلة نقل إلى جسد طافٍ لحكاية تشرد جماعي. هذا التحويل هو جوهر التأويل الشعري.

2. المباشرة كخيار جمالي: قد يبدو الأسلوب مباشراً وصادماً أحياناً، لأن طبيعة الصدمة تتطلب صراحة. لكن هذه المباشرة ليست سذاجة فنية، بل هي خيار مقصود يعكس فظاعة الواقع. ومع ذلك، فهي مباشرة مُؤَوَّلة، حيث يتم إفراغ المفاهيم المألوفة (كـ "لاجئ"، "ثورة") من معناها وإعادة ملئها بدلالات جديدة. فالعبارة: "افتحوا لنا الطريق لنعيش مع الوحوش" هي قلب للمفاهيم؛ فـ "الوحش" هنا يصبح ملاذاً من وحشية البشر أنفسهم.

ثالثاً: اللااكتمال السياسي كسمة جمالية

تمثل قصيدة النثر في الديوان انعكاساً لطبيعة الواقع السوري. فاللااكتمال الذي تمثله الثورة المنهارة والوطن المشظى يتحول إلى سمة جمالية في القصيدة. النصوص لا تقدم حلولاً أو خواتيم مغلقة، بل توقف اللحظة المفجعة في منتصف طريقها، محافظة على طاقة التأويل مفتوحة. القصيدة، كالوطن، لم تعد تحتمل الإجابات الجاهزة، وهذا ما يجعلها نابضة بالحياة وقابلة للقراءة من قبل أي قارئ، بغض النظر عن معرفته بتفاصيل المشهد السوري.

رابعاً: تقييم الديوان: بين قوة الصدق وعمق الرؤية

1- قوة الديوان: تكمن في صدقه الإنساني وقدرته الفائقة على تحويل الزمن الرديء إلى مادة شعرية خالصة. لقد نجح في:

أ- تجنب الخطابية: لم يتحول الديوان إلى منشور سياسي، فحتى في أكثر نصوصه واقعية، حافظت اللغة على غموضها الشعري وإيحاءاتها.

ب- تجنب الانفصام: لم ينفصل هم الذات عن هم الجماعة، بل تم تأويل معاناة الجماعة لتصير جزءاً من جرح الذات الشاعرة، مما يخلق تكاملاً عضوياً نادراً.

ج- إثراء التأويل: قدم نصوصاً لا تنغلق على معنى واحد، تبقى قابلة للقراءة من قبل من يعيش التفاصيل، ومن هو بعيد عنها لكنه قريب من ألمها الإنساني الكوني.

2- في مواجهة النقد: قد يرى بعض النقاد أن اعتماد الأسلوب الواقعي المباشر يجعل بعض القصائد أقرب إلى "الخبر الصحفي"، مطالبين بمزيد من الانزياحات اللغوية المعقدة. لكن الرد على هذا يتمثل في أن "المباشرة المؤولة" في هذا الديوان هي أسلوب مقصود وليست عجزاً تقنياً؛ فهي تستمد شرعيتها من فظاعة الواقع المراد توثيقه وتحويله إلى استعارة، مما يثري النص بدلاً من أن يفقره.

الخلاصة: وعاء للزمن الرديء

"قبور صغيرة" لماهر شرف الدين هو مشروع شعري متكامل، يثبت أن قصيدة النثر يمكنها أن تكون "وعاءً للزمن الرديء" دون أن تتنازل عن شرطها الجمالي. إنه يجمع بين قوة الوثيقة التي تحفظ الألم من النسيان، وعمق النص التأويلي الذي يستنطق المأساة ليكشف عن أسئلة الوجود الأكثر إيلاماً. قيمته لا تكمن فقط في جماليته الشعرية، بل في كونه صرخة إنسانية خالصة، وشهادة ستظل حية على مرحلة دموية من التاريخ.

***

بهيج حسن مسعود - سوريا

لنجاح عزالدين

في دروب المعرفة حيث تتدفق أنهار الحرفِ وتتوهج أماسي الفكر، تسير "نجاح عز الدين" بخطى واثقة، تحمل بين جنباتِها شغفًا لا ينضب نحو اللغةِ العربية وآدابِها، هي أستاذة استثنائية في التعليم، لم تكتف بالغوص في أعماق النصوص والأساليب، بل جعلت من دراستها الأكاديمية جسراً يعبر نحو آفاق إبداعية رحبة.

حصلت على شهادة الإجازةِ (الليسانس) والماجستير في اللغة والأدب والحضارة العربية، لتواصل رحلتها البحثية في الدكتوراه، متخذةً من "التجريب في القصة التونسية" منارةً لأطروحتها، تنقّبُ فيها عن الجديدِ واللا مُتوقع، وتكشف عن طبقات الإبداع المختبئة.

ولها في حقلِ النقدِ بصمةٌ لامعة، تمثلت في إصدارها النقدي التحليلي لكتاب "المصون في سر الهوى المكنون" لإبراهيم الحصري القيرواني، تحت عنوان "في أفانين الهوى"، والصادر عن دار دال للنشر الإلكتروني في سوريا عام 2019، وهو عمل يغوص في تفاصيل النص القديم ليستخرج منه درر المعاني ويقدمه للقارئِ المعاصر بلغة عصرية ثرية.

ولا تزال رحلتها مع الكلمة متواصلة، وهي تعد لكتاب نقدي جديد يقرأ تجارب إبداعية سردية وشعرية من تونسَ والوطنِ العربي، لتؤكد أن النقد ليس مجرد شرح، بل هو حوار خلاق مع النص.

شاركت في عدد من الملتقيات العلمية والأدبية، سواءً في الجامعة العربية أو كلية منوبة، أو عبر اللقاءات الحضورية والافتراضية، محققة تفاعلاً واسعاً مع جمهورِها وطلاب العلم، ولها إسهامات منشورة في عدة صحفَ ومجلات أدبية وثقافيةٍ ورقية، تؤكد من خلالِها حضورها الدائم في المشهدِ الثقافي.

**

واليوم، تقف "نجاح عزالدين" أمام عوالم مجموعة "كوخ من لبن النساء وأشياء أخرى"، لتسافر بنا عبر سردها الأدبي الذي يجمع بين رقة المشاعر وعمق الرؤية، في رحلة نقدية تليق بتجربة إبداعية استثنائية.

عندما نضع أيدينا على المجموعة القصصية "كوخ من لبن النساء (وأشياء أخرى)" لنجاح عزالدين، فإننا لا نقتني كتاباً فقط، بل نوقع على "عقد قرائي" فريد من نوعه، عقد لا يكون فيه القارئ متلقياً سلبياً، بل شريكاً فعالاً في تشييد عالم النص واستنطاق دلالاته، تبدأ هذه الرحلة التشاركية من عتبات النص الأولى، التي لا تكتفي بالإعلان عن المضمون، بل تُعدّل في أفق توقعنا وتستدعينا إلى لعبة تأويلية شيقة.

كيف لا ننطلق من العنوان؟ كوخ من لبن النساء (وأشياء أخرى) ، إنه عتبة تثير وتستفز الخيال، (الكوخ) يوقظ فينا البساطة والعزلة والبدائية، بينما (لبن النساء) ينقلنا إلى حكايات الجدات وأساطير الخصب والأمومة، هذا المزيج بين الأسطورة والواقع اليومي هو بمثابة النغمة الأساسية التي سترافقنا طوال القراءة. أما الإضافة "(وأشياء أخرى)" فهي كمن يقول لنا: "استعد لما هو غير متوقع، فحدود هذا العالم أوسع مما تظن".

بيان التحرر من قيود الجنس الأدبي

قبل أن نغوص في النصوص، يقف التصدير ليعيد برمجة عقولنا كقراء، إنه يعلنها بصراحة: هذه النصوص هي (قصص، ويوميات، وقد تتعدى ذلك أحياناً)، بهذه العبارة، تهز نجاح عزالدين (أفق انتظارنا) التقليدي، إنها لا تقدم لنا قالباً جاهزاً نضعه في رف "القصة القصيرة" أو "اليوميات"، بل تدعونا إلى تبني استراتيجية قراءة مرنة، هي ترفض أن تتعامل مع الكتابة كما يتعامل "الفقهاء مع النص الديني"، مؤكدة أن "الكتابة عندي تعلمك 'أن تكتب في كل شيء وأن تكتب بكل شيء'"، هذا هو الانزياح الأجناسي الأول، الذي يحطم القيود ويعلن ولادة عقد قرائي جديد قائم على المفاجأة والتعدد.

لغز "القرين": النص الخفي والدور الإبداعي للقارئ

ها نحن ندخل عالم النصوص، ولكن هل ما نقرأه هو كل شيء؟ في مقدمته الثرية، يشير عبد العزيز بركة ساكن إلى ظاهرة أدبية فريدة في هذه المجموعة، يسميها "القرين". "القرين" ليس مجرد نص ضمن النص، بل هو بنية متخفية، شبح نصي يتراءى بين السطور، إنه، كما يصفه بركة ساكن، "نصوص غير مكتملة، تتيح للقارئ كتابتها".

انزياح الزمن والسرد

لا تقدم لنا نجاح عزالدين عالماً خطياً مريحاً، بل تعتمد الانزياح الزمني وتشظي السرد لتخلق واقعاً مكسوراً يعكس حالة شخصياتها وواقعها، في "زمن الضفادع"، تنتقل بنا الكاتبة من صورة امرأة عجوز ترمي الضفادع في الوادي، إلى استعارة مجازية عميقة عن الخطاب الفارغ والفساد المستشري.

(زهرة امرأة تجاوزت العقد الخامس... ترسبت في هذا الوادي الضفادع التي تناسلت، وتضاعفت، حتى صارت قبائل وشعوب... تسمع لها نقيقاً... محدثة ضجيجاً صاخبا.)

الانزياح من الواقعي إلى الرمزي المجازي يستدعي قارئاً قادراً على فك الشفرة، الضفادع هنا ليست حيوانات، بل هي كناية عن "الضجيج" الاجتماعي والسياسي الذي يخنق الفرد، وفي "رفيقة درب"، نلمس انزياحاً آخر في منظور السرد، حيث ينتقل بنا النص من السرد الخارجي إلى تدفق الوعي الداخلي للأب، مقترباً من أعماق الشخصية ومشاعرها المكبوتة.

انزياح اللغة: متعة الانزياح عن المألوف

اللغة هنا ليست وعاء للمعنى فقط، بل هي جزء من الجمالية ذاتها، إنها لغة مشحونة بشعرية عالية، تستخدم الانزياح الدلالي لخلق عوالم موازية، في "عيشة أخرى"، نجد مثالاً رائعاً: (تعانقا الجسدان حتى تماهيا وتخاطبت روحاهما، ثمّ سرت رعشة في كامل جسديهما وتحركت أصابعهما المتشابكة، وراحا يتمتمان بكلام لا يفهمه غيرهما.)

هنا يحدث الانزياح من الحسي (التعانق) إلى الروحي (تخاطبت روحاهما)، ليرسم لنا مجازاً جميلاً عن اتحاد يتجاوز المادة. هذه اللغة لا تخبرنا، بل تجعلنا نحسّ ونتذوق متعة الانزياح عن المألوف. وفي المقابل، في "المنسية"، تستخدم الكاتبة الانزياح نحو العامية والنداءات الحميمة (هيا حبيباتي، دجيجاتي...) لخلق واقعية حسية تلمس القلب مباشرة.

النهايات المفتوحة: القارئ هو من يكتب الخاتمة

لا تقدم لنا العديد من النصوص حلولاً نهائية، بل تفضل الانزياح عن النهاية المقفولة، لتترك للقارئ مهمة ختم المعنى، مصير "زهرة" في "زمن الضفادع" مجهول: "هجرت، زهرة المكان ولم يعرف لها طريقا إلى اليوم." هل هربت؟ أم تحررت؟ أم ضاعت؟ النص يصمت، ليترك الإجابة لنا.

حتى في نهاية "عيشة أخرى" الشعرية، يظل السؤال قائماً: هل ما حدث هو موت أم اتحاد روحي أخير؟ "وراحا يتمتمان بكلام لا يفهمه غيرهما." هذا الانزياح نحو الغموض يحول القارئ من متلقٍ إلى مشارك في صياغة المصير النهائي، مكملاً المشهد بناءً على تجربته هو.

الانزياح.. فن صناعة القارئ الشريك

من خلال هذه الرحلة، تتجلى لنا حقيقة هذه المجموعة: إنها نموذج راقٍ لأدب لا يكتمل إلا بوجود القارئ.. لقد استخدمت نجاح عزالدين استراتيجيات الانزياح المتعددة – انزياح الأجناس، والزمن، واللغة، والنهاية – ليس بهدف الإلغاء، بل بهدف البناء؛ إنها تخلق عالماً قابلاً للتشكل، يتحول فيه القارئ من مستهلك إلى "قارئ مثالي"، قادر على تفكيك الشفرات واستنباط الدلالات الخفية، "كوخ من لبن النساء" ليس مجرد مجموعة نصوص، بل هو ورشة مفتوحة للقراءة والإبداع، تثبت أن أجمل النصوص هي تلك التي نكتبها معاً، كاتبة وقارئاً، في مساحة اللقاء بين السطور.

***

رزق فرج رزق – ليبيا

إنَّ مِن شَرْح الشِّعر في تراثنا ما يبدو إفسادًا للنصِّ، وإسفافًا في فهم معناه، وتقييدًا بليدًا لآفاق دلالاته الشِّعريَّة. خُذ مثالًا نموذجيًّا من شرح الشُّرَّاح بيت (أبي تمَّام)(1):

إِنَّ الإِخــاءَ وِلادَةٌ وأَنـا امـرُؤٌ

مِمَّن أُواخي حَيثُ مِلْتُ فأُنجِبُ

فماذا تفهم من هذا البيت؟ هكذا تساءل (ذو القروح) في المساق السابق. فسألته:

ـ أنت ماذا تفهم؟

ـ أمَّا أنا فأفهم- ربما بنزوعٍ (ما بعد حداثيٍّ)، يرى في التأويلات المفرطة إفسادًا للنصوص وإسفافًا بالعقول- أنَّ الشاعر يقول: «إِنَّ الإِخاءَ وِلادَةٌ»، كما قال هو حرفيًّا. أي أنَّ علاقتك الأخويَّة الصادقة بإنسانٍ هي بمثابة ولادةٍ جديدة لك. ثمَّ قال: «وأَنـا امرُؤٌ مِمَّنْ أُواخي حَيثُ مِلْتُ فأُنجِبُ». وهذا كذلك ما قصدَه حرفيًّا. أي: أنَّه ممَّن حيث ذهبَ في أُخوَّته مع الناس، أنجبَ نفسه مولودًا جديدًا منهم، وأنجبهم من نفسه مواليد جُدُدًا كذلك. فظاهر النصِّ أبلغ وأشعر من ذلك الباطن الذي تكلَّفه بعض الشُّرَّاح، محاولين التماسه، لاستنزال النصَّ من تحليق سماواته الشِّعريَّة، إلى سوقيَّته وابتذاله العامِّي، الذي لا يُدرِك الشارحُ أرفع منه، حيث تقرأ:

«قال الخارزنجي: يقول: إخاء المتآخين كأُخوَّة الإخوة. وأنا رجلٌ مستقصٍ في اعتقاد الإخوان، فإذا اتَّخذت أخًا استكرمته. أي اتَّخذته كريمًا، فأنجب، من نجبت عن الشجرة اللِّحاء، وبلغت إلى خالص الشيء. وهو مَثَلٌ ضربَه. أي: أنا بالغٌ في المودَّة. هذا على رواية، فأَنجب بفتح الهمزة. وروَى الباقون بضمِّ الهمزة: أواخي النُّجَباء.»(2)

هكذا توصَّل الأخ (الخارزنجي)، بعد طول تفكيرٍ وتأمُّلٍ وعناء!

ـ وعند الصباح، سكتَ الشُّراح، عن الكلام المباح!

ـ نعم، فلم يضيفوا على كلام (الخارزنجي) حرفًا! ولكن بعد أن نَجَبُوا معه عن شجرة الشِّعر اللِّحاء! فالشاعر لم يَعْدُ أنْ كرَّر المقولة الشَّعبيَّة الدارجة: «رُبَّ أخٍ لكَ لم تلده أُمُّك!» وهذا المستوى من التلقِّي والشرح ينطبق عليه قول (أبي تمَّام) نفسه:

أَيُّ مَرعَــى عيــنٍ وَوادِي نَسِـيبِ

لَحَبَتْــهُ [الشُّرَّاحُ] فــي مَلْحُـوْبِ

بعد أن تستبدل بكلمة «الأيَّام» في البيت «الشُّرَّاح».

ـ على أنَّ من تتبَّع آراء (الخارزنجي)- بصفة خاصَّة- في شرح الشِّعر تأكَّد له أنَّ الرَّجُل لا يفقه لغة الشِّعر.

ـ ولذا تجده يقرأها على وجه الحقيقة المطلقة، وكأنها إخبار. انظر مثلًا كيف فهم قول (أبي تمَّام) أيضًا:

ولا غَـروَ أَنْ وَطَّـأتَ أَكنـافَ مَرتَعـي

لِـمُهمَـلِ أَخفاضِــي ورَفَّهـتَ مَشـرَبي

إذ يقول للممدوح: لا عجبَ أن جعلتَ مرتعي موطَّأ الأكناف لصغار إبلي (أخفاضي) التي كانت مهمَلة، وجعلت مشربي رِفْهًا.

ـ فكيف فَهِمَ (البشتي الخارزنجي، ـ348هـ) البيتَ؟

ـ قال، لا فُضَّ فوه، إنْ لم يكن قد فُضَّ، بعد تلك القرون: «يقول: أرحتَني عن الحِلِّ والارتحال، فأهملتُ أخفاضي، فلم أحتج مع رفدك إلى استعمالها وركوبها للانتجاع.»(3) فهو- كما ترى- يفهم كلام الشاعر على أنه مجرَّد «نشرة أخبار» عن حقائق الأشياء والوقائع، لا على أنه كلامٌ مجازيٌّ تخييلي. ولو كان يفهم الشِّعر ولغته لوعَى أنْ ليس من إبلٍ هنالك ولا مرعى، وإنَّما هي استعارة مركَّبة تعبيرًا عمَّا ناله من خير الممدوح.

ـ إنَّ اللُّغة الأدبيَّة عمومًا هي لغة متشابهة، وليست بمحكمة غالبًا.

ـ صحيح. وقد أشارت الآية إلى هٰذا المعنىٰ في «القرآن»: «مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ، هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ، وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ.» ذلك لأنَّ «القرآن» جاء بلسانٍ عربيٍّ أدبيٍّ مبين. واللُّغة المتشابهة هي اللُّغة الأدبيَّة عمومًا، وهي لهذا خاضعة للتأويل، لا للشرح؛ فالشرح مجاله اللُّغة العِلميَّة المحكَمة. ولذا ذهب مَن ذَهب إلى أنَّ الآيات المحكَمة هي آيات الأحكام الشرعيَّة، لا غير(4)؛ لأنَّ هذه آياتٌ عِلميَّة قانونيَّة، «هُنَّ أُمُّ الكِتَاب»، وعليها مدار العمل أو عدمه. ولذا استُخدِم ضمير العاقل، «هُنَّ»، لا «هي أُمُّ الكِتَاب». «فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ، فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ؛ ابْتِغَاءَ الفِتْنَةِ، وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ.» إذ يُعجِب هؤلاء المتشابهُ؛ لأنَّه يتيح لهم أن يشطحوا، بلا قيود ولا حدود. وهذا ما يبغون؛ لأنهم أهل زيغٍ عن الحقِّ لا أهل حق.

ـ مع أنَّ التأويل أيضًا مقيَّدٌ بضوابط اللُّغة، والسياقات، وقبل ذلك وبعده بالرسوخ في العِلم، وليس مطلَقًا.

ـ «وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ، وَالرَّاسِخُونَ فِي العِلْمِ، يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِندِ رَبِّنَا، وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الأَلْبَابِ.» والراسخون في العِلم يعلمون تأويله بالضرورة، وإلَّا ما جدوَى نزوله؟! ولئن كان القائلون بهذا هم القليل من المفسِّرين؛ فإنَّ أهل الحقِّ قِلَّة دائمًا في كلِّ مجال. ومنهم (مجاهد) و(ابن عبَّاس)؛ حتى إنَّ هذا الأخير كان يقول: «أنا ممَّن يعلم تأويله».

ـ فالواو على هذا للعطف لا للاستئناف.

ـ أجل. لكنَّ الراسخين في العِلم هؤلاء يجمعون بين العِلم والإيمان، ولا يتَّبعون بعض الكتاب دون بعض، كما يفعل أهل الزيغ. لأنه، في النهاية، «مَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الأَلْبَابِ».

ـ أي: «أولو العقول».

ـ لم يقل «أولو العقول»؛ لأنَّ (الألباب) تشمل العقول والقلوب. كما أن التأويل ليس حكرًا على طائفة من البَشر، وإلَّا أمسينا أمام أسوار كنسيَّة، كتلك التي كانت قائمة دون العقل في (أوربا) خلال القرون الوسطى؛ إذ كانت السُّلطة الدِّينيَّة هي المتحكِّمة الوحيدة في فهم النص؛ وعلينا- نحن خارج تلك السُّلطة (بضم السين)- قفل العقول والأفواه وأبواب الاجتهاد؛ لأنَّ ثمَّة معصومًا من الخطأ: سوف يفسِّر لنا ويفهم ويفتي!

ـ وعندئذٍ لم تَعُد من قيمةٍ للنصِّ نفسه أصلًا!

ـ ولا للإنسان المخاطَب به! والنصُّ الأدبي لا تتأتَّى قراءته بالعقل وحده، ولا بالقلب أو بالنفس وحدها، بل بهما معًا، أي: بـ(الألباب).

ـ إنَّ تلك الآية تبدو هكذا آيةً في منهجيَّة قراءة النصوص أصلًا.

ـ وإذا كان هذا حال النصِّ ذي الصبغة الأدبيَّة، فما حال النصِّ الأدبي المحض؟

ـ بل ما حال النصِّ الشِّعري تحديدًا؟

ـ إنَّه نصٌّ متشابهٌ بامتياز. غير أنَّ الذين في عقولهم زَيْغٌ من الشُّرَّاح والنقَّاد فرقتان، في تعاملهم مع الشِّعر: فرقة تغالي في اتِّباع ما تَشَابَهَ منه؛ ابتغاء تأويله بما ليس فيه، كما رأينا في بيت (أبي تمَّام) النموذج؛ وفرقة تقرأ النصَّ على ظاهره السطحي؛ لأنَّها لا تطيق التأويل؛ فتجرِّد النصَّ من أدبيَّته وشِعريَّته. والفرقة «الناجية» هم (أولو الألباب)، الذين يؤوِّلون ما يحتمل التأويل، ويُمِرُّون ما خلاه على ظاهر معناه، بلا تكلُّف تأويل. كما قال (عُمَر بن الخطَّاب): وقد «قَرَأَ عَلَى المِنْبَرِ ﴿وَفَاكِهَةً وَأَبًّا﴾، فَقَالَ: هَذِهِ الفَاكِهَةُ قَدْ عَرَفْنَاهَا، فَمَا الأَبُّ؟ ثُمَّ رَجَعَ إِلَى نَفْسِهِ فَقَالَ: إِنَّ هَذَا لَـهُوَ التَّكَلُّفُ، يَا عُمَرُ!»(5)

ـ وقد فَهِمَ بعض الحمقَى من المعاصرين أنَّ (عُمَر) وصفَ هنا «القرآن» بالتكلُّف!(6)

ـ وما أكثرهم! والنصُّ الشِّعري الجيِّد هو- في النهاية- الذي لا يستدعي الفرقة الأُولَى؛ لأنَّ تأويله منه وفيه؛ من حيث هو نصٌّ تخييليٌّ تأويليٌّ بالأصالة، لا بوساطة مؤوِّل؛ بما أنَّه شِعر، لا نصٌّ غيبي، أو دِيني، ولا نصٌّ أدبيٌّ عام. كما أنَّ النصَّ الشِّعري يربأ بشِعريَّته عن سطحيَّة الفِرقة الأخرى؛ فإنْ هي قاربته تطفُّلًا فضحَها في العالمين!

***

أ. د. عبد الله بن أحمد الفَيفي

...........................

(1) (1987)، ديوان أبي تمَّام بشرح الخطيب التبريزي، تحقيق: محمَّد عبده عَزَّام، (القاهرة: دار المعارف)، 1: 133/ 15.

(2) يُنظَر: (1989)، النِّظام في شرح شِعر المتنبِّي وأبي تمَّام، دراسة وتحقيق: خلف رشيد نعمان، (بغداد: وزارة الثقافة والإعلام)، 2: 178.

(3) يُنظَر: م.ن، 2، 217- 218.

(4) يُنظَر: السيوطي، (1426هـ)، الإتقان في علوم القرآن، تحقيق: مركز الدراسات القرآنيَّة، (المدينة المنوَّرة: مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف)، 4: 1335- 000.

(5) م.ن، 3: 731. وفيه «الكَلَف». وذكر محقِّقه في حاشيته أنَّ «في مصادر التخريج: «التكلف»، وهي أنسب للسياق.»

(6) يُنظَر مثلًا: الأخضر، العفيف، (2014)، من محمَّد الإيمان إلى محمَّد التاريخ، (كولونيا- بغداد: منشورات الجمل)، 200.

لمحمود درويش

مدخـــل: في بداية تسعينيات القرن الماضي دخل الشاعر محمود درويش مرحلة إبداعية جديدة حاول من خلالها تجاوز مرحلة سابقة جعلته "شاعر القضية الفلسطينية"، وهو ما لم يرفضه درويش، لكنه كان يرفض أن يُخنق في أفق إبداعي فلسطيني؛ فلطالما كان يلوم النقادَ على ذلك. وعَبَّر عن قلقه في عدد من حواراته من قَـرْنِ اسمه في كل مناسبة بقصيدته الخالدة "سجل أنا عربي"، التي تُمَثِّل مرحلة فنية متقدمة في تجربة درويش الثرة، والتي عمل جاهدا على تجاوزها على اعتبار أنها تمثل مرحلة البدايات؛ فانتقل إلى مرحلة إبداعية جديدة نستطيع القول إنها بدأت مع ديوانه (لماذا تركت الحصان وحيدا)(1)، واستمرت في عدد من دواوينه مثل (كزهر اللوز أو أبعد)(2) و( سرير الغريبة)(3) محافظا على النفس الشعري نفسه والهم الذاتي والغوص في التفاصيل الدقيقة للارتقاء بما هو يومي عابرٍ إلى مستوى الكونية الإنسانية؛ مع نهل عميق من شتى المعارف والمرجعيات بشتى ضروبها ومنابعها شرقا وغربا، واستطاع أن يحول (التغريبة الفلسطينية) إلى رمز للاغتراب البشريّ والكوني.

"إن الدفق الشعري الخلاق يكمن عند محمود درويش في قصائد هذه الدواوين التي تتميز عن سابقاتها بذلك الامتلاك المتميز للغة الاستعارية المتفردة، وذلك الانسياب الإيقاعي الساحـر." (4)

في ديوان (سرير الغريبة) يستنطق درويش الأنثى ويقَوِّلها ما لم تستطع قوله، يسافر في جوهرها الأنثوي وينبش في ذاكرتها ومشاعرها ورؤاها ويسبر أغوارها. ومهما فعل لن يرى كل ما يريد رؤيته في عالمها، لـذا تقول له "تخيل، ولو مرة أنك امرأة لترى ما أرى". إن المرأة عند درويش ليست امرأة نزار قبّاني، أو المرأة المشتهاة في شعر الغزل العربي، إنّها امرأة من إبداعه، يصورها كما يراها أو يشتهيها وهي، كما في جُلِّ أشعاره، متعدِّدَةُ المظاهـر فهي الأم حينا وهي الحبيبة وهي الأرض أيضا؛ إنها في فكر درويش تتسامى على الزمان والمكان؛ يتحدث عنها بكل شفافية وحذر من أن يخدش عالمها الساحر والآســر الذي يصنعه بأشعاره البهية مع نرجسية جلية، فبالرغم من كل ذلك تعشق أشعاره وتغار منها.

قصيدة (وقوع الغريب على نفسِه في الغريب) من روائع ديوان سرير الغريبة. يبدأها درويش بنَفَسٍ صوفي في قوله (واحد نحن في اثنين) يستحضر فيه "مسألة الحلول" التي قال بها المتصوفة مثل أبي منصور الحلاج الـذي يقول في بيتيه الشهيرين(7):

أنا مَنْ أهْوى ومَنْ أهْوى أنا **** نَحْنُ روحانِ حَلَلْنا بَدنا

فَإذا أبْصرتَنــي أبْصَرتَــهُ  ***  وَإذا أبْصَــرْتَـــــــه أبْصَرْتَنا

وهو تعبير يشكل مدى ارتباط الشاعر بأنثاه حدَّ التماهي والحلول، ولا حلول إلا من قِبَل عاشق متفانٍ في عشق مولاه/ معشوقته، إنه عشق صوفي عميق، وليس عشقا شهوانيا لأنه الشاعر الشفيف الذي يؤثث ملامح المرأة السامية لديه بأشعاره. وصفة التوحد هذه تُنبئ القارئ بما يشترك فيه الطرفان؛ بدءا باعتماد ضمير الجمع المتكلم؛ إنهما من دون هوية (لا اسم لنا((8( وغريبان، متى؟ عندما يتأمل الغريب نفسه في المكان والزمان الغريبين يكتشف الهوية المشتركة الضائعة. ولم يبق من الأرض سوى الظلِّ "ظلِّ الحديقة/ الأرض والوطن" ذاك الظل الذي يشكل الخيال، بالرغم من أنه يشتبه بالأصل فهو شيء آخر غير حقيقي، له جماله الخاص وحضوره المميز في الذاكرة، إنه ظل لشيء بعيد متوغل في الكيان؛ وهو ما تَبَقّى من الهوية، لكن الظل سرعان ما يبهت تدريجيًا، لكنه يبقى الملجأ الوحيد للبحث عن الذات. واللجوء إلى الظلال سبيل لإثبات شرعية الوجود وامتلاك الأرض وتسلية النفس بالبحث عن ("العناوين"/ الأمكنة) الضائعة خلف الظل. يدعو الشاعر أنثاه إلى البحث عن الهوية المفقودة بتتبع الظل للوصول إلى الجغرافيا التي تؤكد شرعيتَها وهويَّتها الكتُبُ المقدسة و"نشيد الإنشاد" :

"........وبحثنا مَعا

عن عناوينِنا: فاذهبي خَلف ظلكِ،

شرقَ نشيدِ الأناشيد، راعيةً للقطا،

تجدي نجمةً سكَنَت مَوتها، فاصْعدي جَبلا

مُهمَلا تجدي أمسِ يُكْمِلُ دَوْرَتَهُ في غَدي.(ص36)

كعادته درويش ينهـل من الكتب المقدسة ويستحضر نصا من (العهد القديم) وهو (سفر نشيد الأناشيد) أو (نشيد أنشاد سليمان)(9) وأهم ما أخذه درويش من هذا "النشيد" شخصية امرأة تدعى (شولميت) كانت راعية غنم، ورجل يذكر في بعض الروايات اليهودية والمسيحية أنه الملك سليمان، يتحاوران حوار غزل شفيف ينتقل بهما إلى مرحلة تحقيق الزواج.

يدعو الشاعر أنثاه (شولميت) إلى اقتفاء أثر الظلِّ، ظل الأمكنة الساكنة في الوجدان للوقوف على حقيقة الهوية واكتشاف الجبل/ فلسطين وهو المكان الذي وحَّدَهُما وجعلهما (واحدا في اثنين).

يتوقف الصوت الذكوري ليفسح المجال للأنثى لتؤكد ارتباط الهوية بالمكان المفقود؛ فبعد الجبل هناك البحر والحشائش الخضراء والسماء وما تحمله من دلالات عن الحياة والارتباط بالهوية المهددة بالضياع.

وتكرار اللازمة في النص (واحد نحن في اثنين) له دلالاته المتعددة إنه تأكيد التوحد والبحث المشترك عن إثبات الذات والهوية والغربة وهي قاسمها المشترك (ياغريب / ياغريبة).. ولاسترجاع حياتهما في المكان قبل ضياعه ينقصهما العناق الحقيقي الذي لا يكون على إلا على الأرض بعد عودتهما إلى اثنين والخروج من الاحتواء على مستوى الذاكرة والعاطفة.

لكن ذلك لن يتحقق فقد ضاعت الهوية/ الاسم حين يبحث عنها الغريب في البلد الغريب .

" لا اسم لنا يا غريبة

عند وقوع الغريب على نفسه في الغريب ! "

***

ميلود لقاح

.................

الهوامش:

1-  رياض الريس للكتب والنشر -2001

2-  رياض الريس للكتب والنشر، بيروت: 2005

3-  رياض الريس للكتب والنشر، بيروت: 1999

4-  ميلود لقاح-(محمود درويش في كتابات بعض مؤبنيه) موقع المثقف -العدد: 2411 المصادف: 2013-04- 12

5-  سرير الغريبة 35

6-  سرير الغريبة : ص35

7-  ديوان الحلاج – جمع المستشرق الفرنسي لويس ماسينيون – ص26/ نسخة pdf

8-  سرير الغريبة ص 35

9-  ويكيبيديا/ https://ar.wikipedia.org/wiki

يُعْتَبَرُ طَرَفَة بن العَبْد (تقريبًا 543 م _ 569 م) مِنْ أبرزِ شُعراءِ الجاهليَّة. عاشَ في بيئةٍ بَدَوِيَّةٍ صَحْراوية قاسية، تَنْتشر فيها الصِّرَاعاتُ القَبَلِيَّة، والمَوْتُ مَوجودٌ في كُلِّ لَحظة، وَلَهُ حُضُورٌ دائم في الوَعْي الجَمْعِيِّ، والحياة قصيرة، فانعكسَ هَذا عَلى رُؤيته للحَياةِ والشَّبَابِ. وَهُوَ يَرى أنَّ الشَّباب مَرحلة عابرة لا تَسْتحق التَّقَشُّفَ أو الادِّخار، وَيَدْعُو إلى استغلالِها في المُتعةِ واللذةِ قَبْلَ أنْ يُداهِم المَوْتُ الإنسانَ، وفي هَذا إشارةٌ إلى نِهايةِ الإنسانِ، وحَتميةِ المَوْتِ، وضَياعِ الشَّبابِ. لذلك كانتْ نَزْعَتُهُ شَهْوَانِيَّةً لَذائذيَّة، ورُؤيته العَامَّة عبثية وماديَّة ومُتمردة، تَدْعُو إلى اغتنامِ المُتعةِ واللذة، لأنَّ الحياةَ قصيرة، والشَّباب لا يَدُوم، والمَوْت لا مَفَر مِنْه، خاصَّةً في ظِلِّ شُعوره بِقِصَرِ عُمْرِه، حَيْثُ قُتِلَ في رَيْعَانِ شبابه.

نَظَرَ إلى الشَّبَابِ باعتباره مرحلةً قصيرة، يَنْبغي أنْ تَقُومَ على الاستمتاعِ والتَّمَرُّد، وَرَفْضِ الانصياعِ للمُجتمعِ أو القُيودِ الاجتماعية، فَهِيَ فُرصة وحيدة لِتَذَوُّقِ اللذةِ قَبْلَ الفَنَاءِ السريع الذي يُمثِّله المَوْتُ. وَهُوَ يَرى أنَّ الشَّبابَ ضائعٌ بالضَّرُورة، فلا جَدوى مِنَ الخَوْفِ، ولا فائدة مِنَ القَلَقِ، بَلْ يَجِبُ الانغماسُ في مَلَذَّاتِ الحياة، وَهُوَ بذلك يُعبِّر عَنْ فَلسفةٍ حَياتية تَمِيلُ إلى العبثِ، والاحتفالِ بالجسدِ، وتَعظيمِ الغرائز.

عَبَّرَ عَنْ إحساسِه بالغُربةِ والضَّيَاعِ، لَيْسَ فَقَط مِنْ خِلالِ تَمجيدِ الماضي وَبُعْدِه عَنْ مُتَنَاوَلِ اليَدِ، بَلْ أيضًا مِنْ خِلالِ التَّفَكُّرِ في الفَوضى الاجتماعيةِ والسِّياسيةِ التي كانتْ تعيشُها قبيلته.

عاشَ فَتْرَةَ شَبابِه مُتَأرْجِحًا بَيْنَ الحَياةِ والمَوْتِ، مُوَاجِهًا مَصيرَ الفَناء، وَهُوَ مَا يَعكِسه شِعْرُه الذي يَجْمَع بَيْنَ استذكارِ جَمالِ الشَّبابِ والتَّعبيرِ عَنْ فِقْدانِ الأملِ في المُستقبَل، بسببِ تآكُلِ الأحلامِ وَتَبَدُّدِهَا. هَذا التَّأرْجُحُ بَيْنَ اليأسِ والمُقاوَمةِ يَدُلُّ عَلى فلسفةِ الشاعرِ الوُجودية، ويُشير إلى صِراعٍ دائم بَيْنَ الرَّغبةِ في البَقَاءِ والتَّحَدِّي والمَصيرِ المَحتوم.

دارَ الشاعرُ في فَلَكِ المَوْتِ، وَهَذا دَفَعَه إلى الشِّعْرِ في مُحاولةٍ للتَّعبيرِ عَنْ حَياته القصيرةِ المَليئةِ بالصِّراعِ والمُعَاناةِ والألَمِ. وكانَ يَرى أنَّ المَوْتَ لا يأتي إلا بعد أنْ يَصِلَ الإنسانُ إلى ذُرْوَةِ شبابِه وأحلامِه. وَقَدْ أظْهَرَ حَسْرَةً مَريرةً عَلى ضَياعِ الشَّبابِ، وَعَدَمِ التَّمَتُّعِ بِه، وكأنَّ العُمْرَ انتهى قَبْلَ أنْ تَبدأ الفُرَصُ الحقيقية. كَما أظْهَرَ حُزْنًا شديدًا على الزَّمانِ الذي مَضَى سريعًا دُون أنْ يَتْرُكَ لَهُ الفُرصةَ للاستفادةِ مِنْ طَاقته وحَيويته. بَلْ وَيَظْهَر في شِعْرِه استشرافُه للمَوْتِ المُبَكِّر، وَهُوَ مَا يَتَمَاهَى مَعَ حَياته القصيرةِ التي انتهتْ بالقتلِ.

وَيُعْتَبَرُ جون كيتس (1795 م _ 1821 م) مِنْ أبرزِ شُعَراءِ الحركةِ الرومانتيكية الإنجليزية. كانَ مَهْوُوسًا بالجَمالِ والزَّمَنِ والفَنَاءِ، وَمَعروفًا بِحِدِّةِ تأمُّلِهِ في ضَياعِ الشَّبابِ والمَوْتِ المُبكِّر. وَقَدْ تُوُفِّيَ شابًّا بِمَرَضِ السُّلِّ، وَلَمْ يَحْظَ في حَياته إلا بالتجاهلِ والاحتقارِ مِنْ قِبَلِ النُّقَّادِ والشُّعَراءِ، وعاشَ مُعَذَّبًا بَيْنَ المَرَضِ والنَّقْدِ.

كانَ يَرى أنَّ الشَّبابَ ضَحِيَّةُ الزَّمَن، وأنَّ الجَمَالَ هَشٌّ وعَابِرٌ، لكنَّه لا يَدعو إلى المُتعةِ الجسدية بِقَدْرِ مَا يَحْتفي بالجَمَالِ الفَنِّي الخالد. وَرُؤيته العَامَّة ذات طبيعة فلسفية ومِثالية، تَعكِس حُزْنًا عميقًا، وتأمُّلًا في مَعنى الحَياةِ، لكنَّها تَسعى إلى الخُلودِ مِنْ خِلالِ الفَنِّ لا المُتعةِ.

اعتمدَ أُسلوبًا رمزيًّا مُعَقَّدًا، وَلُغَةً مُوسيقية رقيقة تَعِجُّ بالصُّوَرِ الفَنِّيةِ الرَّمزيةِ والمَجَازِ، وغالبًا مَا يَسْتدعي عَناصر مِنَ الطبيعةِ والفَنِّ، وَيَسْتَلْهِم مِنَ الأساطير، وَيَجْعَل مِنَ الطائرِ أو المَزهريةِ أو الرَّبيع رُموزًا للشَّبابِ العابرِ، أو الخُلودِ المَنشود. وَقَدْ عَبَّرَ في شِعْرِه عَنْ رَغْبته في الهُروبِ مِنَ الواقعِ عَبْرَ الجَمال، لأنَّه يُدرِك أنَّ شبابَه وَصِحَّتَه في طَريقهما إلى الزَّوال.

والشَّبَابُ عِندَه لَيْسَ وَقْتًا للمُتعةِ العابرة، بَلْ لَحْظة سريعة مِنَ الجَمالِ الباهرِ، يَطْمَح إلى تَخليده عَبْرَ الشِّعْرِ، لأنَّه يَعْلَم أنَّه لَنْ يَبقى طويلًا لِيَعيشَ هَذا الجَمَالَ بِنَفْسِه، وَلَنْ يعيشَ طويلًا لِيَشْهَدَ تَحَوُّلاتِ الزَّمَن. لذلك كانَ يُركِّز على التأمُّلِ في الجَمَالِ والفَنَاءِ كَأمْرَيْن مُتَرَابِطَيْن، فالشَّبابُ بالنِّسْبَةِ إلَيْه هَدِيَّةٌ مُؤقَّتة، مِثْل لَحْظَةِ جَمَالٍ في لَوْحَةٍ فَنِّية.

عَبَّرَ عَنْ رُؤيته للأشياءِ العظيمةِ التي تَحْدُث في الحَياة، وأيْقَنَ أنَّ وَراءَ كُلِّ شَيْءٍ عظيمٍ هُناك الفَنَاء الذي يَنتظر الجميعَ. وَرَأى في مَوْتِ الشَّبابِ جُزْءًا مِنْ دَوْرَةِ الحَياة. وكانَ يَحْزَنُ على ضَياعِ الفُرَصِ، وَعَلى فَترةِ الشَّبابِ التي غالبًا مَا تَمُرُّ سريعًا دُون أنْ يُحقِّق الإنسانُ كُلَّ مَا يَرْغُب بِه.

وَمَفهومُ " ضَيَاع الشَّباب " يَظْهَر عادةً في سِياقِ الحُزْنِ عَلى مُرور وَقْتٍ لا يَعُود، والتأمُّلِ في تِلْك الفَترةِ الذهبية التي تَتَّسِمُ بالحَيَويةِ والطُّموحِ، ثُمَّ التلاشي السريع لِهَذه الفَترةِ بَعْدَ مُلاقاةِ الإنسانِ للصُّعوباتِ والمَآسِي. وهَذا المَفهومُ لا يَرتبط بِمُرورِ الزَّمنِ فَحَسْب، بَلْ أيضًا يَرتبط بِمَشاعرِ الخَيْبَةِ والنَّدَمِ بسببِ عَدَمِ القُدرةِ على الاستفادةِ الكاملةِ مِنْ هَذه المَرحلة.

رَغْمَ التَّبَايُنِ الزَّمَنيِّ والثَّقَافيِّ بَيْنَ طَرَفَة بن العَبْد وجون كيتس، فإنَّهما يَتشاركان الشُّعورَ العميقَ بِضَياعِ الشَّبابِ. كُلٌّ مِنْ زاويته. طَرَفَة يُواجهه باللذةِ، والتَّمَرُّدِ، والانغماسِ في المُتعةِ الجسدية، بَيْنَما يَتأمَّله كيتس بالحُزْنِ، والألَمِ، والبحثِ عَن الخُلودِ الفَنِّي، وتَخليدِ اللحظةِ الجَمَالِيَّة. وَمِنْ خِلالِ شِعْرِهما، يَتَّضِح أنَّ الشُّعورَ بِضَياعِ الشَّبابِ وَفَنَائِهِ قَضِيَّةٌ إنسانيَّة تَتجاوز الزَّمَانَ والمكان. والجَديرُ بالذِّكْرِ أنَّ الشَّاعِرَيْن تُوُفِّيَا وَلَمْ يَبْلُغَا سِنَّ السادسةِ والعِشرين مِنَ العُمْر.

***

إبراهيم أبو عواد / كاتب من الأردن

عتبات البداية والنهاية وأثر المنظمة السرية

تعد رواية "لن ينقطع الوتر" للكاتب اللبناني أحمد دهيني نموذجًا أدبيًا غنيًا يستحق القراءة والتأمل، لا فقط من خلال نسيجها السردي المتشابك، بل أيضًا عبر عتباتها النصية التي تفتح أبوابًا متعددة للتلقي والتأويل، وتكمن جمالية هذه الرواية في كيفية استثمار الكاتب لعناصر مثل الإهداء والعتبات الأولى لتأسيس حوار مع القارئ منذ اللحظة الأولى، وصولاً إلى النهاية التي تترك أثرًا متواصلًا في الوجدان.

عتبة الوجدان والانتماء

يبدأ دهيني روايته بإهداء مكثف وعميق، يمثل عتبة وجدانية تؤسس لمسار النص كله، الإهداء ليس مجرد تكريم، بل هو بيان وجودي وإنساني، فهو يهدي العمل إلى أمه، التي تصفها بـ"النور والحنان"، وإلى أخيه، وإلى روح أبيه، وإلى "الوردة العابقة بالعبير"، وإلى "الصادقين والطيبين، إلى المعذَّبين والمظلومين".

هذا الإهداء يخلق علاقة حميمة بين القارئ والنص، وكأن الكاتب يشاركنا مكنوناته الإنسانية منذ البداية. إنه يضع القارئ في حالة استعداد لتلقي نص ليس مجرد حكاية، بل هو رحلة في أعماق الإنسان: ألمه، حبه، خيباته، وإصراره. الإهداء يعمل كمرآة تعكس القيم التي ستدور حولها الشخصيات والأحداث: الوفاء، الحب، المقاومة، والبحث عن العدالة.

إشارات مفتاحية

عنوان الرواية "لن ينقطع الوتر" يحمل دلالة موسيقية ووجودية، الوتر قد يكون رمزاً للعلاقة الإنسانية، للحب، للأمل، أو حتى للصلة بين الإنسان والله، الفعل "لن ينقطع" يؤكد الاستمرارية رغم كل الصعاب، هذا العنوان يخلق توقعاً لدى القارئ بأن الرواية ستتناول صمودًا ما، ربما صمود الحب، أو الإيمان، أو القيم في وجه الفساد والظلام.

غلاف الرواية، الذي صممه الكاتب نفسه، يعزز هذه الفكرة من خلال تصوير قد يعكس التوتر بين الظلام والنور، أو بين الوتر الممدود وخطر انقطاعه، الغلاف يصبح جزءًا من تجربة التلقي، حيث يثير فضول القارئ ويوجه خياله نحو فضاء النص.2076 ahmad

عتبة الصراع المركزي وأثرها على القارئ

في الصفحات من 23 إلى 28، يقدم الكاتب وصفًا مفصلاً لمنظمة "جينتي إنتليجينتي" السرية، وهي منظمة نخبوية عنصرية تدعي الاصطفاء الإلهي وتتحالف مع المافيا، هذا الوصف ليس مجرد خلفية للصراع، بل هو عتبة سردية كبرى تضع القارئ في قلب المعمعة الأيديولوجية للرواية.

- بناء العالم الخفي: يشرح الكاتب الهيكل الهرمي الصارم للمنظمة، بدءاً من "الحكيم الأعظم" ذي السلطة المطلقة، مروراً بالحكماء الأولين والمجالس الثلاثية، ووصولاً إلى "الحراس العقائديين" و"الأذرع التنفيذية" مثل المافيا، هذا البناء المعقد يخلق لدى القارئ شعوراً بالرهبة والغموض، ويدفعه إلى تفكيك شبكة القوة هذه طوال الرواية.

- التلقي النقدي: من خلال كشف العقيدة العنصرية للمنظمة (فكرة "نقاء الدم" والحق الإلهي في الحكم)، يوجه الكاتب القارئ نحو قراءة نقدية للخطابات الاستعلائية والسلطوية، القارئ لا يتلقى هذه المعلومات بشكل سلبي، بل يُدعى لمقارنتها بالواقع ورفض منطق الهيمنة هذا.

- تضافر الصراعات: هذا الكشف يربط بين الصراع العائلي  والصراع الأيديولوجي الأوسع، مما يثري تجربة التلقي ويجعل القارئ شاهدًا على كيفية اختراق الفساد والسلطة الخفية لأعماق العلاقات الإنسانية.

استمرارية الوتر

تختتم الرواية بعودة إلى فكرة الوتر، لكن هذه المرة من خلال حوار بين لورينزو وفيرونيكا، حيث يقول لورينزو: (لن ينقطع فينا الوتر، وفي الظلام ستشعل الشمس كي تُقبل وتعانق القمر...)

هذه النهاية لا تشكل خاتمة مغلقة، بل تترك الباب مفتوحاً للتأمل والاستمرار، إنها تؤكد أن الوتر - سواء كان حبًا، أو إيمانًا، أو قيماً - لن ينقطع، رغم كل المؤامرات والصراعات التي عاشتها الشخصيات، ورغم وجود منظمات شريرة مثل "جينتي إنتليجينتي"، النهاية تمنح القارئ شعوراً بالأمل والاستمرارية، وكأن الحياة تتجاوز النص، والحب يتجاوز الموت.

عتبات متجددة

من خلال عتباتها الأولى والإهداء، وعنوانها، والكشف عن المنظمات السرية كعتبة سردية كبرى، ونهايتها المفتوحة، تقدم رواية "لن ينقطع الوتر" نفسها كنص حيوي يتفاعل مع القارئ، الإهداء يخلق جسراً وجدانياً، والعنوان يوجه التوقع، والكشف عن العالم السري يضفي عمقاً درامياً وأيديولوجياً، والنهاية تمنح مساحة للتأمل والاستمرار، كل هذه العناصر تجعل من الرواية ليست مجرد حكاية تُروى، بل تجربة إنسانية تشاركية، حيث يصبح القارئ شريكاً في بناء المعنى، وفي استمرار الوتر الذي لا ينقطع في مواجهة كل أشكال الظلام.

***

رزق فرج رزق - ليبيا

في ضوء تطوّر النقد الأدبي الحديث، بات النصّ الشعري يُعامل باعتباره بنية دلالية – رمزية – تواصلية؛ فالتقصّي النقديّ لا يكتفي اليوم بتحليل المعنى الظاهر وإنما يسعى إلى الكشف عن «ما تحت الجلد» من توترات نفسية ورّموزٍ كامنة وبنى أسلوبيّة تمتدّ من اللغة إلى النحو، ومن الوزن إلى القافية. وتُعدّ السيميائيات منهجاً محورياً في هذا المسار، إذ تعرّف النصّ بوصفه «نظاماً لإنتاج الأقوال» وليس مجرد تركيب جمليّ، وتُركز على العلاقات بين العلامات داخل النصّ وخارجه، كما تنظر إلى النصّ باعتباره «فضاءً معرفياً» داخليّاً وخارجياً.

وبينما تُركّز اللسانيّات البنيوية الجُملية، على القدرة الجُملية – أي الإمكانات الإنتاجية للّغة ضمن الجملة – فإنّ السيميائيات النصية تهتمّ بالقدرة الخطابية – أي كيف يُنتج النصّ ذاته أحوالًا وجودية ومعرفية.

في هذا الأفق، تأتي دراسة قصيدة «قوس الحبر» للشاعر أيمن معروف، لتُجرى عبر تطبيقة متعددة المناهج: الرمزيّ، الأسلوبيّ، النفسيّ، الهرمينوطيقيّ، الوطنيّ، والسيميائيّ. نعمد في هذا البحث إلى تحليل النصّ باعتباره منظومة رموزٍ وتوتراتٍ شعورية، رصداً للبنى النفسية التي تحيا خلف النصّ، واستكشافاً للأسلوب الشعريّ – من اللغة إلى النحو، ومن الوزن إلى القافية – وكشفاً للأخطاء أو الانزياحات اللغوية إن وجدت، ضمن قراءة دقيقة تستند إلى منهج أكاديميٍ صارم.

التحليل:

1. البُعد السيميائي – الرمزي:

1.1 العلامة والنظام:

في قصيدته، يستدعي الشاعر أيمن معروف الماء كعلامة مركزية: «جَفَّتْ مياهُ النّهر / جَفَّ البحرُ والماءُ الذي / في الماءِ لا يتكلّمُ». اللغة هنا تحمل دلالة مزدوجة: الماء رمز للحياة والخصوبة، والجَفْافُ رمز للفراغ والموْت. إن تحوّل الماء إلى صمت أو عدم كلام يدلّ على انكسار القدرة التواصلية، وعلى فقدان المعنى. من منظور سيميائي، نحن أمام «إشارة» تتحوّل إلى «مدلول» كثيف بالغياب. ولهذا تتحوّل الصورة إلى رمزية: الماء لا يكلّم – كأنّ اللغة نفسها قد عطلت.

تتكرّر الصور المائية – النهر، البحر، الماء – ثم تتخذ الصحراء والجحيم مقعدًا لها: «وعَدَتْ على / الصّحراءِ ألفُ جهنّمٍ / وخَبَتْ على نارِ / النّشيدِ جهنّمُ». الصحراء هنا رمز المهجور، والحريق والجحيم رمزان للكوارث الداخلية. إنّ الانتقال من الماء إلى الصحراء يشير إلى تراجُع وجوديّ، من خصوبة اللغة إلى خرابها. تلك الثنائية (الماء/الصحراء) تخلق قطباً ثنائيّاً أساسيّاً في المنظومة الرمزية للنصّ، وهو ما يؤكّد مبدأ العلاقات البنائية في السيميائيات.

1.2 النصّ كمنظومة إنتاج أقوال:

النصّ لا يقف عند وصف الحال، بل يستدعي الشعر ذاته: «يا شعرُ عَلّمني ارتِكابَ الإثمِ أنتَ الآنَ أدرى بالجنونِ وأَعلَمُ». الشعر – كقدرة خطابية – يُصار إليه ليعلّم الإثمّ، بمعنى أنّ الشاعر يعترف بأنّ الشعر صار وسيطاً في الانحرافِ عن المعنى أو الواقع. من هنا، الشعر ليس مجرد موضوع بل فاعل داخل النصّ، وهو يعكس فكرة القدرة الخطابية.

يطفو في النصّ مفهوم «قوس» في العنوان «قوس الحبر»، ثم «قوسٌ أنا في / ضفّتيكَ»، أي أنّ الشاعر يلتقط نفسه بوصفه قوساً – رمزاً للانحناء والانطلاق أيضاً – على ضفتَي الماء والبلوى. إن هذا التحوّل الرمزيّ من العنصر الخارجي إلى الذات يضع النصّ في مدار من التّقليب الذاتي والتّأمل: الذات تقوس، تنحني، وتصبح عنصراً مبدعاً ورمزاً.

1.3 البُعد الوطني والوجودي:

تتكرّر في النصّ إشارات إلى الحريق والجحيم والبلوى، وهي ليست مجرد صور شعريّة بل تستبطن وضعاً إنسانياً/وطنياَ: «وحاولتُ أن أقولَ الأرضَ شِعراً». الأرض هنا ليست مجرد مكان، بل موطن مبدد، هو موطن الشاعر/الأنا التي تآكلت. وهذا يحمل دلالة وطنية ضمنية، بقدر ما ينخرط الشاعر في الأزمة الوجودية والوطنية على حدّ سواء، في عالمٍ باتت فيه مياه النهر تَجفّ، واللغة لا تتكلّم.

2. البُعد النفسي – الأسلوبي:

2.1 التوتر النفسي والاختلاف مع الوجود:

يُفتتح النصّ بتصريح الاغتراب: «وأنا المُبَدَّدُ في الجهاتِ / وليس لي جهةٌ لأعرفَ مَنْ أنا». معرفة الذات مفقودة، ويحتدم التوتر بين الأنا والجهة، بين الانتماء والضياع. من المنهج النفسي–الرمزي، هذا يدلّ على تجربة اضطراب الهوية، وفي ذات الوقت صراع وجودي. الأسلوب هنا متسق مع النفسي: اللغة موجزة، الصورة مرهقة، والعلاقات بين المتنقلات النفسية (جهات، مبَدَّد، هوية) تعكس نزعة الشعور بالانفصال.

2.2 الأسلوب والنحو:

أسلوب الشاعر أيمن معروف يتّصف بالتشظّي والتكرار: تتكرّر جملة «جَفَّتْ مياهُ النّهر / جَفَّ البحرُ» في ثلاثة مقاطع، مما يعكس حالة التثبيت على الفجيعة، وعلى الفقد الذي لا انتهاء له. من الناحية النحوية، يستخدم الشاعر الترادف والتكرار كأداة إيقاعية ورمزية. لكن يمكن ملاحظة أنّه في بعض المواضع اندفاعٌ نحو البناء الحرّ (مثلاً «من دونِما / صحفٍ تُريدُ الآنَ دمعي / صالحاً للبيعِ»)، وهو بناء قد يفتقر إلى الربط النحوي المثالي بين الجمل (إنّه انقطاعٌ عمديٌّ ربما).

3. الأسلوب الشعري – الوزن والقافية:

3.1 الوزن والإيقاع:

على الرغم من أنّ النصّ يتّخذ شكلًا شِعريّاً حُرّاً إلى حدّ كبير، إلا أنّه يحمل إيقاعات قريبة من بحر الطويل أو المتدارك في بعض المواضع، مثل: «جَفَّتْ مياهُ النّهر / جَفَّ البحرُ والماءُ الذي / في الماءِ لا يتكلّمُ». ثمّ «يا شعرُ عَلّمني / ارتِكابَ الإثمِ أنتَ الآنَ / أدرى بالجنونِ وأعلَمُ». هذا التعدد في الإيقاع يُعبّر عن التوتر ذاته؛ عن اضطراب النصّ بين بثّ الشعور وانفلات الشكل.

3.2 القافية:

القافية ليست منتظمة، بل تبدو غالباً مكسورة أو مفتوحة بوعي: «…. والماءُ الذي / في الماءِ لا يتكلّمُ». ثم «… دمعي / صالحاً للبيعِ في سوقِ / النّخاسةِ والجنونْ». هذه الحرية في القافية تعبّر عن نزوع النصّ إلى المقاومة والتمرد، وعدم الانصياع إلى البنية الكلاسيكية. من المنهج الأسلوبي، هذا الخيار يُظهر الضدية بين الشكل الكلاسيكي والمضمون الثائر.

4. القراءة الهرمينوطيقية:

من منظور الهرمينوطيقيا، أيّ قراءة تعبيرية/تأويلية للنصّ، يمكن القول إن النصّ يُحيل إلى «قراءة الذات في مواجهة العدم». حين يقول الشاعر «كن مرّةً يا صاحبي مثلي لنخترعَ القيامةْ»، فإنّه لا يدعوك إلى القيامة بالمفهوم الديني وحده، بل إلى إعادة اختراع الذات في فضاء خالٍ من الوتد والأرض. النصّ في هذا المعنى ليس صورةً للحظةٍ فحسب، بل هو دعوةٌ لتمردٍ وجوديّ.

5. الملاحظات اللغوية:

هناك إشارات نحوية قد تُعدّ «انزياحات» أو تدخّلًا شعريّاً عمديّاً، مثل «وليس لي جهةٌ لأعرفَ مَنْ أنا، فجهاتِيَ الغَبْراءُ». هنا الفاصلة قبل «، فجهاتِي» قد تُعدّ كمقطع انقطاع يُشذب الإيقاع الشعوري.

كلمة «استباهُ الفاسدونْ» في «جَفَّ البحرُ والماءُ اسْتَباهُ الفاسدونْ» استعمالٌ للشّاذّ: الكلمة «استباح» عادة تُعرَف، بينما «استباه» هنا قد تكون مقصودة لكنها تفتقر إلى شيوعها اللغويّ.

في بعض الأبيات، تبدو علامات الوقف غير متوافقة لغوياً، مثل: «، ما فازَ إلاّ الفاشلونْ.» الفاصلة قبل «ما» ثم الوقف النهائي «.» يعطي انقطاعاً شعريّاً متعمداً، لكن من منظور النحو التقليدي يُعتبر أسلوباً منحرفاً.

استخدام «وكأَنِّي» – (لم يظهر كثيراً في المقتطف)، لكن استخدام تكرار «وأنا» في المقطع «وأنا المُبَدَّدُ …» يظهر تكرار ضمير الأنا كأداة شعوريّة، لكن من الناحية النحوية يشدّد عمود الجملة الذاتية.

القافية المفتوحة والمكسورة في النص تُعدّ اختياراً شعرياً، لكنها تحمل «انزياحاً» عن التزام القافية التقليدية، مما يضع النص في موقف الحداثة ورفض القوالب المسبقة.

الخاتمة:

إنّ قصيدة «قوس الحبر» تمثّل تجربة شعريّة مركّبة تقع عند مفترق العلامة والمعنى، الذات والوجود، اللغة والعدم. عبر أدوات متعددة المنهج – السيميائي، النفسي، الأسلوبي، الهرمينوطيقي، والوطني – قرأنا النصّ على أنّه نظام دلاليّ متنبّأٌ بعيشه الداخلي، لا مجرد صورة. ماءٌ يَجفّ، لغةٌ لا تكلّم، قوسٌ ينحني، شعرٌ يعلم الإثمّ: كلها رموزٌ للغربة والوَهن والتمرد. أما من الناحية الأسلوبيّة، فالتنوّع بين الإيقاع شبه التقليدي والبناء الحر، وبين القافية المكسورة والانقطاع النحويّ، يعكس توتر النصّ الداخلي والشعور بالتشظّي. من زاوية الهرمينوطيقيا، فالنصّ يدعو إلى إعادة اختراع الذات وقيامة وجوديّة في فضاءٍ بلا أساسات.

مستقيمًا في منهجه الأكاديميّ، يمكن القول إنّ قراءة هذه القصيدة تُحقق مبتغى السيميائيات النصيّة: كشف النظم الداخليّة للعلامة وبناها، وتمكين القارئ من قراءة «ما لا يُقال» مباشرة، بل ما يُشعّ من بين طيّات اللغة. وأخيراً، فإنّ ملاحظاتنا اللغوية – من الانزياحات إلى التكرار – لا تضع النصّ في خانة الخطأ، بل تكشف بصيرة الشاعر في توظيف اللغة خارج القوالب، وهي بصمة الحداثة داخل النصّ.

ملاحظات لغوية مُلخّصة:

1. تكرار عنصر «جَفَّتْ مياهُ النّهر / جَفَّ البحرُ…» كمفتتح يعكس تثبيتاً شعوريّاً لكنه يخلق نوعاً من الجمود البنائي.

2. استعمال «استباهُ» بدلاً من «استباح» أو «ابتلاه» قد يُعدّ انزياحاً لغويّاً مفصوداً أو غير مقصود، لكنّه يخدم الإيقاع.

3. تنوّع الإيقاع بين تقريب الطويل والخَطّ الحر يجعل القصيدة في موقع الحداثة لكن يفرض على القارئ تركّزاً أكبر لاكتشاف الإيقاع الداخلي.

4. القافية المفتوحة والمكسورة تُعدّ خياراً شعريّاً يعكس التمزّق الوجودي، لكن من الناحية التقليدية تُعدّ «انحدارًا» في الالتزام.

5. الانقطاعات النحوية والفاصلة قبل «، ما فازَ إلاّ الفاشلونْ.» تعطي الإحساس بتوقّف الوعي وتردّده، وهي أسلوب شعري يُبرّر النزعة النفسية للنصّ.

بهذه الدراسة الأكاديمية، تكون القصيدة قد وُضعت تحت مجهر تحليلٍ متعدد المنابع، يجمع بين العلامة والمعنى، بين النفس والأسلوب، وبين اللغة والوجود.

***

بقلم: عماد خالد رحمة - برلين

.......................

قوس الحبر

جَفَّتْ مياهُ النّهر

جَفَّ البحرُ والماءُ الّذي

في الماءِ لا يتكلَّمُ.

*

وعَدَتْ على

الصَّحراءِ ألفُ جهنَّمٍ

وَخَبَتْ على نارِ

النّشيدِ جهنَّمُ.

*

يا شِعرُ عَلِّمْني

ارتِكابَ الإثمِ أنتَ الآنَ

أدرى بالجنونِ وأَعلَمُ.

*

لي فيكَ اُغنيةٌ ولي

منكَ المدى أُنشوطتانِ

ودمعتانِ وطَلْسَمُ.

*

قوسٌ أنا في

ضفّتيكَ وفي رحى البلوى

الدّريئةُ والخُبالُ المُبْرَمُ.

*

فلتَعتَصِمْ بمياهِ

وجهِكَ يا فتى واعصمْ

سماءَكَ قبل أنْ يَصِلَ الدَّمُ.

*

جَفَّتْ مياهُ النَّهرِ

جَفَّ البحرُ والماءُ الّذي في

الماءِ تهتكُ قوسَهُ الشُّعَراءُ.

*

وأنا المُبَدَّدُ في الجهاتِ

وليس لي جهةٌ لأعرفَ مَنْ

أنا، فجهاتِيَ الغَبْراءُ.

*

وسمائِيَ الفُصحى

لسانٌ أبكمٌ ورطانةٌ عَجماءُ.

ومدارُ قافيتي

السَّوادُ الجَمُّ تَزْربُ في مدى

أنحائِهِ الرَّمضاءُ.

*

كلٌّ لَ*َدَيهِ شَمالُهُ

وجنوبُهُ وأنا لَدَيَّ

غروبِيَ الوَضّاءُ.

*

جَفَّتْ مياهُ النَّهرِ

جَفَّ البحرُ والماءُ

اسْتَباهُ الفاسدونْ.

*

ويقولُ لي منْ أنتَ !!

في أَوْجِ اشتعالي

القـاتلونْ.

*

حتى التُّرابُ

يقولُ لي منْ أنتَ

في عزِّ اتِّضاحي

*

ثُمَّ يُنْكرُني الرِّضى

والحاسدونْ.

*

وأنا هنا منْ دونِ

قافيةٍ ولا أملٍ ولا جدوى

يراها الآخرونْ.

*

منْ دونِما

صحفٍ تُريدُ الآنَ دمعي

صالحاً للبيعِ في سوقِ

النّخاسةِ والجنـونْ.

*

ويقولُ لي الشّعراءُ

دَعكَ منَ الكتابةِ

والكآبةِ والظّنونْ.

*

وأَتِح لروحِكَ مقعداً

بينَ الحداثةِ والحداثةِ

كي تكونَ ولا تكونْ.

ما فازَ إلاّ الفاشلونْ.

*

سأقولُ لي

قد يأكلُ الشّعراءُ

لحمَكَ والوظيفةْ.

*

قد يأكلُ الصّحفيُّ

صوتَكَ والخليفةْ.

*

من قالَ إنَّ الشّعرَ

ليسَ ضـرورةً مُثْلـى

لإتمامِ الصّحيفةْ !!.

*

ولكي يُتِمَّ

الشّاعرُ المقتولُ في

المعنى نزيفَهْ.

*

كونٌ صغيرٌ

ذابَ في لغتي وأَدمَتْني

القصيدةُ والمواجعْ.

*

ذهب المجازُ مودِّعاً

من قبل أن تأتي لمكمنِها

الحوادثُ والتّوابعْ.

*

هيّأتُ أسـبابي

وإنّ معي من الأدواتِ

ما يكفي لتكتملَ القصيدةُ

والشّوارعْ.

*

هذا دمي

ارتطَمتْ نيازكُهُ الصَّغيرةُ

بالزّوابِعْ.

*

قد كان

مشغـولاً بترتيبِ العواصفِ

واختلافِ اللّيلِ

*

والرّيحِ

الّتي في اللّيلِ

واللّيلِ المُخادعْ.

*

حتى العبارةُ

لم تكن تعنيهِ أصلاً.

*

كانَ مشغولاً

بِبَلبَلَةِ الأماكنِ

والأصابعْ.

*

لم تتركِ الكلماتُ

لي شغبي لأركض في

مدارِ الأرضِ أقطفُ

غيمةً في إِثرِ أُخْرى.

*

ما حيلتي !!

وأنا الأَتَيتُ كما

النّسيمِ الحرِّ

*

في الغاباتِ

يعشقُ أنْ يظلَّ

الآنَ حُرّا.

*

وأتيتُ

ملتبِساً بأشكالِ الطّيورِ

أقولُ للأشجارِ أَمرا.

*

وأتيتُ

قبل تفتُّحِ الأقداحِ

في الحاناتِ

*

قبلَ

توقُّدِ العطّارِ

في المعنى

*

أُعاقرُ

خمرتي وأُذيعُ

سرّا.

*

وأمرُّ قرب الأرضِ

أفتحُ معجَمَ القَتْلى على

اِسْمي قربَ إِسْمِ أبي

وعائلتي هنا لأراهُ ذِكرى.

*

وأرى ارتباكَ العشبِ

في الغاباتِ والقنْصَ الّذي

يشتدُّ في السّاحاتِ

*

ثمَّ أرى

أنا الأعمى ضرورةَ

أنْ أقولَ الأرضَ

شِعرا.

*

من يستطيعُ

الآنَ تشكيلَ الهواءِ

*

ليحرسَ

المعنى على بابِ

الخديعةِ

واللّغةْ.

*

من يستطيعُ

الآنَ ترتيبَ الفراغِ

*

ليخدشَ

المبنى بهذي

الأدمغةْ.

*

لو كانَ لي

ما كانَ من شأنٍ

لرامبو

*

وهـو يلتهمُ

الجحيمَ كحَبَّـةِ (البالتانِ)

لاجتحتُ الجحيمَ،

لأبلُغَهْ.

*

كن مرّةً يا صاحبي

مثلي لنخترعَ القيامةْ.

*

ونطلَّ من عدَمٍ على

عدَمٍ ونبتكرَ السّلامةْ.

*

كن مرَّةً مثلي

 بلا أحدٍ ولا ولدٍ

ولا وَتَدٍ لدَيكْ.

*

كن مبهماً

لتظلّ ملعوناً ومجنوناً

ومطروداً بأقصى جنَّتَيكْ.

*

كن واضحاً

لتكون مقتولاً ومتّهماً

ومشغولاً عليكْ.

*

كن مثلما تهوى

وأَتلِفْني جميعي

في هوائِكْ.

*

كن مرّةً وحدي

لتشرقَ بي سمائي

منْ سمائِك.

***

في المثقف اليوم