قراءات نقدية

قراءات نقدية

في ديوان (تراتيل على حافة البوح) للشاعرة المغربية حورية خرباش

تمهيد: سنرجئ مقولة الافتراس الناعم إلى حينها ريثما يستدعيها السياق، ونقول: إن قراءتنا الموضوعاتية لديوان (تراتيل على حافة البوح) للشاعرة حورية خرباش تدخل في ثلاثة أنساق ثقافية:

1 - نسق ثقافي مغربي يعانق تحولات الحداثة الشعرية من موقع الإسهام الفني الناضج والمسؤول.

2 - نسق انخراط الشاعرة في هذه الحساسية الشعرية الحداثية حيث تُدلي بدلوها الشعري وببصمتها الخاصة.

3 - نسق نون النسوة الذي لا يميزها عن الكتابة الذكورية، فهذا لا يشكل همّاً من همومنا النقدية وإنما نقصد أنّ كتابتها الشعرية تحمل مشروعا فنيا في سياق هيمنة ذكورية أنصفها التاريخ فوق التصور، وما ديوان (تراتيل) إلا صرخة في وجه هذا التاريخ لانتزاع الحق أو بعض الحق من هذه الهيمنة الموهومة.

و لتوضيح ذلك نستطرد عبر السؤال التالي: لِمَ يؤرّخ الدارسون مثلا لظهور الرواية في الحقل الأدبي العربي تأسيساً برواية (زينب) للكاتب المصري حسين هيكل التي صدرت عام 1914 في حين أن باكورة الظهور الروائي العربي تعود إلى نهاية القرن التاسع عشر مع عائشة التيمورية في روايتها الموسومة بـ (نتاج الأحوال في الأقوال والأفعال، عام 1885 – مصر) ومع أليس بطرس البستاني برواية (صائبة، عام 1891 – لبنان) ومع عفيفة آظن برواية (فابيولا، عام 1895 – سوريا)...؟ والحديث في هذا يطول ولا حاجة لنا بالمزيد، فيكفينا فيه هذا الاستشهاد المعبّر، لأن المقام هنا مقام قصيدة النثر، لا مقام جدل أو جدال حول أسبقية دون أخرى.

* المقاربة:

1 – عتبة العنوان:

اختارت حورية خرباش لديوانها عنوان (تراتيل على حافة البوح). والتراتيل جمع ترتيلة، ورَتِلَ الكلامُ تناسق وانتظم. ورتّلَ يُرتّل جوّد وتأنّق في تلاوة القرآن. والترتيلة هي الأنشودة مرتّلة في صلاة المسيحيين.

و الحافة هي الناحية والجانب والهاوية. وهي أيضا الحاجة.

و البوح من باح يبوح أي ظهر. وباح فلان بالسر أظهره1.

و إذا ما قارنّا هذا العنوان بقرينه في ديوانها السابق (ترانيم على بياض الروح) يتبدى لنا جليا حرص الشاعرة (حورية خرباش) على العوم في هذه التيمة بوعي فني قائم على تصور جمالي للوجود.

و الترانيم اسم جمع لترنيمة واحدة. ورَنِمَ رجّعَ الصوت وتغنّى به وطرب.

يفيدنا ذلك أن الشاعرة لا تكتفي بصوغ القصيدة في مكافحة البياض للانتصار على تسطّحه فحسب، وإنما تتجاوز ذلك إلى بناء نسق دلالي يخرج بالمعنى من الطرح العائم والمشترك إلى عملية جمالية تبني الأغنية بدل القصيدة. والمتأمل للديوان يصدمه ذلكم التراكم المعجمي والدلالي للمقولات التالية في ترددها البائن:

التيمة = حجم التردد في الديوان

التراتيل = 3 مرات

الترانيم = مرة واحدة

الأغنية = 6 مرات

الشدو = مرتان

الابتهال = مرتان

الوتَر = مرة واحدة

اللحن = مرة واحدة

الانشودة = مرة واحدة

القصيدة = 12 مرة

المجموع = 29 تردّداً

وانطلاقا من هذا التردد لنفس التيمة بصيغ مختلفة متجانسة في الدلالة، يحقّ لنا التأويل بعدما غادرت الشاعرة حلبة الإنتاج مع رولان بارت، ونقول: إن الديوان في جله هو أغنية تُحيل على حواء لا في ميراث الخطيئة، ولكن في فلسفة الأنثى عندما تبني رؤيتها داخل تشكيل لغوي حيوي وضاغط بنعومة حريرية تؤمن بمقولة التجاوز والتخطي. قالت الشاعرة في هذا السياق:

و نحّيتُ تفّاحتك المُحرّمة

من موائدي2.

و في الكلام النّاعم رفض لميراث التفاحة المرتبط بإدانة المرأة. وفيه كان التاريخ يحرص حرصاً تمثُّلياً مغلوطا على إلصاق الفعل بها. مع العلم أن الوحيَ حسم في المسألة منذ قرون طويلة مسطراً الحقيقة الربّانية المنصفة في إعجاز جمالي ودلالي خارق. (فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ ۚ وَعَصَىٰ آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَىٰ)3. فانظر معي أيها القارئ إلى علامة التثنية (أكلا – لهما – سوءاتهما – طفقا – يخصفان – عليهما) المتكررة بقوة في هذ السياق القراني، وانظر أيضا إلى الختم الربّاني وكيف تمّ إسناد الغواية.

والديوان أغنية كبيرة تكمل أغنية الديوان الأول (ترانيم). أغنية مقطّعة يتنامى فيها البعد الدرامي والمتخيل داخل شِعريةٍ حداثية تتغيّى القول المختلف في أزمنة قصيدة النثر التي تغتال إشراقها - أحياناً - ثقافة الشبه.

و الديوان أغنية واحدة بدليل أن كل القصائد – باستثناءٍ ضعيف – هي في الأصل محاورة بين الأنا والأنت. بين الذات والآخر. قالت الشاعرة:

سأرحل وبيدي أغنية

يشدو بها عبق الدوالي

لأجلك... الديوان، ص 10

و قالت أيضا:

يا لرجع الصدى

في مسمعي

و مرايا السراب

في غربتي

و لفيف من أغاني الصباح

على أعتابك الواهية... الديوان، ص 54

وهي محاورة بؤرية تركز على الدوال بأعلى ما يمكن من طاقة التركيز والتكثيف. ذلك أن حجم الديوان صغير في صفحات لا تربو على الثمانين، وفي قصائد لا تتجاوز العشرين، وهي مركّزة تفر من قبضة القصيدة الشاملة (التي يُعبَّرُ عنها بالقصيدة الطويلة). وهذا مبحث مهم في إشكاليات قصيدة النثر المتعددة والتي تطرح أكثر من سؤال حول الحجم والبياض وهندسة الفضاء الورقي، مما يدعو إلى القول إن القصيدة المركزة في عرف الشاعرة (ح خ) هي كينونة أكثر منها إجراء مساحةٍ قابلةٍ للتسويد 4.

و في إجراءٍ منهجي تقابلي نقول إن التراتيل تتجانس مع (الترانيم) وتتشعبان في نفس الآن. محدثةً بذلك نسقا متكاملاً من فنّ القول، تُسطّره ذائقة الشاعرة في مستووين:

*  مستوى التوازي التركيبي حيث صِيغَ العنوانان داخل مركب اسمي بمبتدأ محذوف (هذه تراتيل... – هذه ترانيم...). ثم قرنت المتكلمة العنوانين معا بشبه جملة (على حافة البوح – على بياض الروح).

*  مستوى الدفقة الموسيقية الأخيرة في عنوان الديوان الأول (الروح) وعنوان الديوان الثاني (البوح). تخرج الشاعرة من التجربة الأولى وكأنها تجترح بياض الروح وتخترق صمتها وتدلف من هناك إلى ورطة لذيذة في ديوان (تراتيل على حافة البوح). إن الخروج من البياض معناه تكسير الصمت وهو الترجمة الدلالية للرغبة في البوح، أي في القول والهمس والصراخ داخل دوائر الإبداع طبعا. ولكن هذا البوح تقدمه لنا الشاعرة (ح خ) مبطّناً في مقولة الخطر بقرينة لفظية هي (الحافة). والتراتيل باعتبارها أنشودة كبيرة فهي لا تتم على الركح بل تتمّ على صفيح فضاء مختلف موسوم بالسقوط الممكن في أي لحظة. إنه فضاء الحافة. ومن عميق المفارقة أن يتمّ الإنشاد والغناء والبوح وكل أشكال القول على شَفا هذه الحافة.

و الخلاصة: إن الشاعرة في زمن الكتابة الذكورية تمارس نوعا من الخرق لناموس هذه الكتابة. وهو خرق يهدد كينونتها أولاً بأول، وهي لا تبالي، من منطلق حقّها في تأويل ذاتها كما تشاء.

2 – الأنا الحاضرة بقوة:

اعتمدنا في هذا التأويل على عملية رصد دقيق لمقولات الأنا والأنت في تجربة احصائية أفضت إلى ما يلي:

أقانيم الحضور حجم التردد في الديوان

حضور الأنا 296 ترددا

حضور الأنت 339 ترددا

و المعول عليه هنا هو تتبع المقولتيْن في التركيب أولا، وهو المفضي إلى الدلالة لاحقا في مقاربة الضمائر وما جرى مجراها من وحدات لسانية.

مثال الأنا  - أشعلتُ أصابعي

مثال الأنت  - ماذا لو أنك، وحدك، تنير خريطة حلم...

و الملاحظ أنه على تفوق التراكم المعجمي لــ (أنت) فإن هذا الأخير لا يتجلى إلا عبر جسور الــ (أنا). قالت الشاعرة في مثال لا حصري:

لا تحجب  عنّي  نورك

أنت   أنا   أنت

و في مثال آخر هو غيضٍ من فيض:

ماذا لو أنك وحدك تحضن عمري (أنت أنت أنت أنا)

هذه بعض البنيات السطحية الحاملة للدلالات العميقة في هذا الخطاب الشعري في قصيدة النثر الحداثية. وفيه تأخذنا الشاعرة (ح خ) عبر (أناها) القابضة على محورية الصوغ الشعري من حيث كونها تدير تجربة الحبّ بمعناه الواسع داخل نسق شعري عضوي يروم تلبية رغبتين: الأولى ترتبط بتحقيق الوجود والثانية ترتبط بالتعبير عن الرؤية الخاصة لهذا الوجود. وهما رغبتان تتداخلان بشدة إلى درجة التلازم، ويبقى الفصل بينهما مجرد إجراء تفكيكي لخدمة المقاربة في توجّهاتها التأويلية.

إن حقيقة الوجود المتعلقة بالذات \ الأنثى هي أمر رهين برؤية الشاعرة للوجود في أفق شاعري يمتطي ثنائية الذات والآخر لتعلن عن فلسفتها في مجال الحب. وهي فلسفة تتجاوز العلاقة المبتسرة بين الرجل والمرأة إلى تكريس فعل نبيل وعميق هو:

3 – الاتصال الإنساني:

قالت الشاعرة:

غادرْ إن شئت

ستبقى دوني

وحيدا تغوص بوحدتك

و تصل لآخر الشوط

أقصى ما في مداك

مثقلا بغبار الأرصفة

و ضياع الطرقات... الديوان، ص 61

تهدم الشاعرة بهذا الوصل الإنساني نقيضه الموسوم بالانفصال الذي تقدمه لنا في سياق الرفض لليل والظلام وتداعياتهما، حيث يبرز شعاع (الأنت) قوي الفعل ومضيئاً لأنشودة الصمت ومحوّلاً دلالة الغياب إلى حضور جميل.

تبرز الذات المتكلمة هنا واعية بتدرج كينونتها في الانبناء، عبر أطيافٍ شعرية ننظّمها وفق التتابع التالي:

- حضور الشك = كفرتُ بيقيني * ص 16

- حضور التخطي = نحّيتُ تفاحتك * ص 14

- حضور الانتظارية = القصيدة   * ص 27

- حضور الاشتعال = تلهب كفي  * ص 29

- حضور الضياع  = و ضاع خطوي * ص 31

- حضور الألم   = أنقش على جدران ألمي * ص 33

- الحضور المازوشي = أقضم أصابعي * ص 37

- حضور القوة  = أنا أميرتك  * ص 43

- حضور الخوف  =  أخاف أن أحتمي بظل صخرة * ص 47

ترتبط تجليات حضور الذات هنا بسياق الأنثى في الواقع وفي المتخيل. وفيه تمارس الشاعرة كينونتها بامتياز وجودي داخل لعبة الخفاء والتجلي. طرفها الأول يبين عن أحوال الضعف والثاني يؤكد حالة القوة. من هنا إذن تأويلنا للعنوان في تعالقاته مع سياقات المتون الشعرية كاملة. ذلك أن مفردة (تراتيل) في قلب حروفها تقودنا إلى تخريجة صورية غريبة وهي (رتيلاء) وهي تحيلنا على أنثى العنكبوت. والمسكوت عنه هنا هو أن الأنا تجد معاناتها نابعة من تاريخ وجودها، ومن ثمّة تسكنها باستمرارٍ رغبةٌ قوية في تحقيق الوجود والخلاص5. وفي هذا تشترك المبدعات الشاعرات العربيات مع اختلاف في خصوصية الرؤية التي تتعدد من خلاص عبر التمرد والرفض والتجاوز أو عبر التماهي والاستبطان أو عبر الحلم والسياحة الجمالية أو عبر القطيعة أو المداهنة وما شابه... وأما شاعرتنا (ح خ) فقد اختارت الخلاص عبر آلية الحب وتكريس الاتصال الإنساني داخل لعبة الافتراس الناعم لكل شوائب الرجولة الخارجة عن سمت الوجود الإنساني والاتصال.

4 – الآخر، الحاضر \ الغائب:

اعتمدنا في ذلك على رصد العلامات اللغوية التي تسندها الشاعرة للآخر المُعَبَّرِ عنه بـ (أنت). فوجدنا الحصيلة التالية: (وجود غامض – متعالٍ – مجنون – يحب العزلة والخلوة والوحدة – متقلب – حاملُ أسرار – مبتهل – مشرق – منير – واصل – مهاجر – لمّاح – ذكي – ملهم – أمين – غاوٍ – غائب – حاضر – طيف – حاضن – جوال – جوّاب – قوي – جارف – متمنع – بعيد – وحيد – متفرد – مشتعل – شارد – مرغوب – سلطان – غني – واعد – عميق – معاند – رحب – شديد الجفاء – ناسٍ – معطّر – معذِّب – متجاهل – فاتن – ساديٌّ – عصيّ – مدلل – رافض – مترنم...) ونكاد نجزم بأن الإيجاب في هذه المسندات هو المهيمن مقارنةً من مسندات السلب والتنقيص. وهذا معطىً معجمي مقصود يخدم رؤية الشاعرة لثنائية الرجل والمرأة و يتساوق كذلك مع لعبة الافتراس الناعم.

لا تقبض الذات أو الأنا على الآخر في وضعية السهل والمستجيب والبديهي والمسالم والدوني والرخيص. إنها تروم القبض عليه في عليائه وسموقه وقوته لتثبت الذات قوّتها وتفوّقها وعلويتها. فلا معنى للصراع مع ضعيف أو مع رخيص. المعنى يجد ذاته في مقاومة المتميز والقوي. ولعلّها صورة تبنيها الشاعرة لتأكيد قيمِ الذات القوية عبر النقيض الأقوى. وفي مثال الشاعر عنترة بن شداد شهادة على المشترك المعنوي عبر الزمان حيث كان لا يثبت قوته إلا في هزيمة الغريم المدجج الذي تفر منه أشد الفرسان بأسا:

و مدجّجٍ كره الكماةُ نزالهُ \\\ لا ممعنٍ هرباً ولا مستسلمِ

فشككتُ بالرمح الأصمّ ثيابَهُ \\\ ليس الكريم على القنا بِمحرّمِ 6.

هكذا يشتغل مخيال الشاعرة (ح خ)، فهي تتحين فرصة القبض على مفهوم الرجل متلبسا بخصائص القوة، يقاوم، لا ضعيفا في مفهوم الأنوثة، بل قويا في تجديد مفهوم هذه الأنوثة أو بعبارة أدق نقول: تصحيح تمثل الرجل المغلوط لمفهوم الأنوثة.

5 – الحضور الإشراقي:

 لا نقول الحضور الصوفي أو الحضور العرفاني لأن التراكم المعجمي في هذه الحقول لا يخدم افتراضنا وحتى توجه الرؤية لدى الشاعرة (ح خ) لا يسير في هذا الاتجاه. ولكن بعضاً من هذا يتمسرح على سطوح المعجم والتركيب وبالتالي يلحّ علينا في استقطاب الدلالات هناك فيما نسميه الإشراق. لأنه أقرب إلى تمثلات الشاعرة وأقرب إلى تأويلاتنا المشروطة. واعتمدنا في ذلك أيضا على رصد إحصائيٍّ دقيق لمفردة (النور) وتداعياتها ومرفقاتها سواء أسندت للأنا أو للآخر (أنت) .

و قد وردت في الديوان على إيقاع متكرر بائنٍ: 44 تردّداً.

قالت الشاعرة:

لطالما

لبست بردة المريدين

كي ألزم خلوة محرابك

و نذرتُ كياني هدية

لشيطان آثامك

و حفظتُ عن ظهر القلب

كل أسرارك

لا ولا حتى ملائكة السماء

درتْ بما أخفتْه أفلك أبراجك... الديوان، ص 15

و قالت أيضا:

لا تحجب عني نورك

فلا أحد لي غيرك

من يفقه بلاغة الوصال

أو يفهم لمح الشوق

في طيّ الكلام... الديوان، ص 19

 وقالت أيضا:

و تتركني عند المنتهى وحدي

تغزل عيناي اشتعالَ الرؤى

لبساً لغواياتك... الديوان، ص 21

يعجّ الديوان بمثل هذه الصياغات (اشتعال الرؤى – خوالج الروح – مقام العزلة – رحاب الهديل – أشعة الأنوار – تراتيل على كل الطرق – جوال الفيافي – يبتلّ مضجعي...) مما يشي بنوعية إضافية في مجال الكتابة النسوية عند الشاعرة (ح خ) وهي تلقي بظلال هذا البعد الإشراقي على بعض العتمات الوجودية لأغراض رؤيوية وفنية نذكر منها:

- تأكيد الندية

- تأكيد التفوق

- استلهام التراث

- جمالية الاستلهام

- الخوض في مخيال الإشراق

و تتمظهرهذه النزعة في تضخم الإحساس بالأنثوية باعتبارها نزعة وجودية تصوغها جمالية متفردة في الصوغ. تنتقل من البناء الجمالي لعالم الشاعرة المكتظ بالذاتية المنتصرة عبر قوة الآخر في أساليب شعرية تتبنّى السهل الممتنع والانزياحات الرقيقة، إلى البناء الدلالي الموغل في كشف اللاوعي الذي يبحث منذ بداية الديوان عن صيغة لتأكيد مصداقية البوح الموشك أن يكون على الحافة بما تطرحه من إمكان السقوط، وهو السقوط الممنوع مادامت الشاعرة تسعى إلى البوح داخل شرط النبوة التي تحميها من كل انزلاق. وينسجم مع هذا التخريج قرارُ الذات المتكلمة في أن تلبس البردة في حضرة الشعر لفظاً ودلالةً في سياق النبوة 7. وما الآخر المحشور في السياق الشعري إلا ذلكم المعادل الموضوعي للآخر\الرمز. وقد وردت مفردة البردة في سياق استدعاء واستجلاب الاعتراف بالأنثى داخل مقولة التاريخ.

6 – سيمياء الجسد في التراتيل:

يتبدى الجسد في ديوان (ترتيل على حافة البوح) امتداداً لرؤية الشاعرة الوجودية والفنية لعلاقة الرجل بالمرأة. وهي تقدمه لنا حضوراً نوعيا يتكلم بكثير من الترميز والدلالة والأبعاد. وحسبنا من ذلك تتبع حضور تيمة الجسد في الديوان عبر أمثلة تعزيزية لا حصرية:

-  (أشعلتُ أصابعي... ص 14): هناك تلميح شاعري لجسد التضحية والقربان، بقرينة لفظية دالّة هي مفردة (الموائد). أنظر القصيدة.

- ( لبستُ بردة المريدين... ص 15): الجسد هنا سديمٌ عرفانيّ وروحانيّ متجاوز للباس والترف والخيلاء. وقرينة القربان تأخذ بعداً آخر أكثر جرأةً في التعبير الشعري المنزاح عبر طقس النذر (نذرت كياني هدية لشيطان أناملك)

- (أنا النافذة كالريح... ص 16): حضور الجسد في صورته الشعرية الشفافة وغير المغلقة. والقرينة اللاحقة تحكي قرار الذات وهي تفتح من أنفاسها أبواباً مُشرعة، في توجّهٍ فلسفي يؤمن بالانفتاح أكثر من أي نسق آخر.

-  (كلّ لمسةٍ سلام... ص 18): المقولة هنا تتجاوز الحد البهيمي والغريزي في استحضار لحظات الجسد، واللمس متعلق بقيمة السلام نقيضاً للحرب لا السلام المتعلق بالتحية حيث التماس بين يدين هما في آخر المطاف جسدان. الشاعرة تفرّ بالعبارة الشعرية إلى عالم القيم حيث الجمال والحق والخير، ومن ذلك، قيمُ السلام بين هذين الأقنومين اللذين شغلا الناس والثقافة والعالم. وفي هذا السياق تفتح الشاعرة أفقاً آخر عجيباً وعامراً هو أفق الاتصال الإنساني.

- (علّ قبلة منك على جبيني تحتفي بصبوة الأغاني... ص 23): احتشامٌ واضحٌ في صوغِ مقولة الجسد داخل فعل الشهوة. وقرينةُ الجبينِ تفيد ذلك، وتجعل القبلة فعلاً مفرغاً من كل حسٍّ غرائزيّ ممكن. القبلة هنا متعالية، يردّدها (هدير البحر) وتحمل في آخر المطاف غضبا من الذاتِ ضد الأنت. إنها قبلة الموقف.

- (لنستحمّ معاً بأشعّة أنوارك... ص 24): الاستحمام يستدعي الجسد، والأنوار قرينة تمنع الجسدانية وتقرّبنا عرفانية مفارقة.

- (...) والأمثلة في سياق هذه الجسدانية المتأرجحة بين الشهوانية الماكرة والعرفانية الأمكر، كثيرةٌ ومتعددة، ونظنّها قائمة بذاتها في محور دلالي يشكل مقاربة نقدية مستقلة. وحسبنا من هذا أنْ أشرنا وأوّلنا، وللقارئ كل التأويل في مخرجات هذا المحور.

- خاتمة:

تتجاوز الشاعرة (حورية خرباش) ذلكم الخطاب السوداوي القاتم والقائم على رفض الآخر رفضاً مجانياً في جموحِ الأنثى البانية موقفها على رد الفعل من أجل فكرة الانعتاق... إنها لا تدين الآخر في شخص الرجل، بقدر ما تدين بنعومةٍ شعريةٍ الموقفَ التاريخيَّ الذي صاغ الرجل مهيمناً فيما قد أقصى الأنثى وأغمطها بعض حقّها المشروع...

و الشاعرة في عمق رؤيتها الفكرية والفنية تسعى إلى مد جسور الوصل والوصال والتواصل والاتصال بمقولات مقروءة في ثنائية كبيرة هي الذات والكون، وهي التي تتلاشى داخلها ثنائيةٌ أصغر هي المتعلقة بالمرأة والرجل.

الشاعرة في آخر المطاف تمارس تمرّدها الناعم، لا من باب المواجهة الرافضة للآخر كنسق ثقافي تعسّف على وجودها، وإنما هي تتمرد عليه بهسيس الكلمة وسلام المفردة ورقيق العبارة ومكر الانزياح داخل رؤية شعرية كليانية تحشر الآخر في لعبتها الفنية والوجودية... هكذا تأسر الآخر في جوهر التوحيد بين الأقنوميْنِ لا في عزلة الأقنوم.

***

بقلم: نورالدين حنيف أبوشامة \ المغرب

.........................

إحالات:

1 - أنظر ابن منظور - لسان العرب – دار المعارف – باب الباء وباب الحاء وباب الراء

2 - الديوان: حورية خرباش، تراتيل على حافة البوح، مطبعة وراقة بلال، 2020، الطبعة الأولى، ص 14

3 - سورة طه الآية 121

4 - لمزيدٍ من الاطلاع على مصطلح القصيدة المركزة، يرجع إلى: مجدي وهبة وكامل المهندس: معجم المصطلحات العربية في اللغة والأدب مكتبة لبنان، 1979م

5 - ذكر موقع «لايف ساينس» العلمي الأميركي أن الباحثين بجامعة «هامبورغ» الألمانية وجدوا أن أنثى العنكبوت تأكل الذكر بعد التزاوج للحصول على مزيد من المنافع الغذائية وإنجاب عناكب أكثر صحة.

6 – خليل الخوري (تحقيق)\ ديوان عنترة\ مطبعة الآداب\ بيروت\ ط 1893\ ص 82

7 - في حديث خاص مع الشاعرة ألقتْ في مسمعي اعترافاً جميلا يخص رغبتها القوية في رؤية النبي صلى الله عليه وسلم في منامها. أنظر:

سلسلة الحوارات مع المبدعين: ضيفة حلقة الأسبوع الشاعرة حورية خرباش 23 - 05 – 2022 إعداد وتقديم: رضوان بن شيكار

من الأنطولوجيا النصية إلى الفينومينولوجيا المشهدية.. دراسة نظرية مقارنة في حقل الدراسات الأدائية المعاصر

إن دراسة المورفولوجيا، أي علم تحوّلات الشكل والبنية، للتخييل المسرحي تكشف عن أزمة وجودية عميقة تتجاوز شكل الصراع السلطوي بين المؤلف والمخرج بتجاربه الأزلية. نحن لسنا بصدد جدل أحقية التأويل، فما يهمنا هو التوقف مليّاً عند وجود معرفي عنوانه "التحوّل التخييلي الأنطولوجي، وهو مصطلح فلسفي يعني تغيّرًا جذريًا في طبيعة وجود الشيء وماهيته والذي يعنى بدقة دراستنا هذه بكل جوانبها الفلسفية والإجرائية. فالخيال، في رحلته من الورق إلى الخشبة، لا يُترجم أو يُفسَّر فقط، وإنما يتعرض لعملية عنفٍ خلّاق، يُعاد فيها خلقه ضمن شروط وجودية جديدة تولدت نتيجة صراع باتا فيزيقي بمراتب اعلى. إنه يتحول إلى فينومينولوجيا، أي ظاهرة حيّة تُدرَك وتُعاش في التجربة الواعية للجمهور. هذه الدراسة تستعير فكرة «موت المؤلف» التي طرحها الناقد الفرنسي رولان بارت، لتعتبرها نقطة انطلاق لتحوّل الخيال من كينونة لغوية إلى ظاهرة أدائية حسية. وهنا الاستعارة لا بهدف محو بصمات المؤلف ولكن تمثيله بوصفه محرض أساس لخلق العرض وتجليه بابجديات تشكل ظاهرة جديدة مغايرة.

1- البارادايم النصي: المؤلف كصانع مطلق

في هذا النموذج المتمثل بالإطار العام والتكويني الحقيقي بمختلف أدواته للنص المسرحي، والذي هيمن على المسرح العالمي لقرون، يُعتبر النص الدرامي كينونة مقدسة ومكتفية بذاتها. المؤلف هنا هو الصانع المطلق الذي يبني عالمًا "ديجيتيكيًا" متكاملًا لا نقص فيه ولا منافذ حتى للإطلالة من خلالها إلى ما هو أبعد، وهو مصطلح نقدي يعني العالم الداخلي المتكامل للحكاية. ويُعد هنريك إبسن المثال الأبرز لهذا المؤلف-الصانع. ففي مسرحياته، مثل «بيت الدمية» تصل الإرشادات المسرحية إلى حد وصف تفاصيل الأثاث وملمس القماش، في محاولة للسيطرة الكاملة على كل عنصر حسي من الصفحة، جاعلًا من نصه خيالًا ذا نزعة "لوغوسنترية" أي إن الكلمة المكتوبة هي مركزه الأوحد. هذا النص هو أشبه بـشفرة جينية متكاملة، تنتظر التنفيذ الدقيق لا الخلق الجديد.

2- محرضات وآليات التخييل: تشريح عملية الخلق

قبل تحليل الثورة الأدائية، يجب أن نتوقف لتشريح الآليات الداخلية التي يتولد عبرها التخييل في كل من العالمين: النصي والمشهدي. فلكل منهما محرضاته وأدواته التي تطلق شرارة الخلق.

أ. في العالم النصي: التخييل كفعل ترميز للغياب

كما يعي أهل التجربة والجمال والإبداع يكون المحرض الأساسي للتخييل عند الكاتب هو "الغياب" فالصفحة البيضاء الساكتة أمامه هي فراغ مطلق، والعالم الذي سيبتكره غائب، وهمي الوجود وغير موجود. إذن عملية التخييل هنا هي محاولة يائسة وشاعرية لبعث الحياة في هذا العدم عبر أدوات ترميزية محددة:

- المُحرّض الأول: الصراع الدرامي: هو المحرك الذي لا يهدأ. رغبة شخصية متفجرة تصطدم بجدار عالٍ: هي بالتأكيد الشرارة التي تُشعل كل شيء. صراع "أنتيجون" بين القانون الإلهي والقانون المدني ليس مجرد فكرة، بل هو المحرض الذي يستدعي الحوارات، والمواجهات، والمصائر المأساوية والذي يقود إلى نتائج أخرى تدعم الحبكة وتفرعاتها.

- المُحرّض الثاني: النقص في الشخصية: كل شخصية عظيمة تنطلق من "نقص" ما: نقص في الحب، في السلطة، في المعنى، فيما علق من أحداث في الماضي. هذا النقص وإن كان ضئيلاً هو الذي يحرضها على الفعل، وبالتالي يحرض الكاتب على تخييل مسار أفعالها ومنحه مساحة للتحليق بعيداً في مسارات الخلق والإنشاء.

- الأداة: اللغة الحوارية والنص الخفي: الأداة الرئيسية هي الكلمة، ليس فقط بما تقوله صراحة، بل بما تضمره كسلاح مواجهة. النص الخفي - أي ما يعتمل صدر الشخصيات وتشعر به وتقدر قيمته ولكنها لا تقوله - هو أداة التخييل الأقوى التي يوفرها النص، حيث ترمى الكرة هنا في ساحة ملعب القارئ والممثل الذي يعالجها بتخييل محيط كامل من المشاعر غير المعلنة.

- الآلية: البنية المعمارية: يقوم الكاتب بتخييل عالمه الأدبي عبر بناء هيكل بشكل هرمي من المشاهد والفصول، ينظم من خلاله تدفق المعلومات وتصاعد التوتر. هذه البنية هي الآلية التي تضمن ألا يكون التخييل فوضويًا، بل تجربة موجهة ومحكمة بإيقاع هارموني منتظم.1714 khadom

ب. في العالم المشهدي: التخييل كفعل تجسيد للحضور

على النقيض تمامًا، المحرض الأساسي للتخييل في العرض ليس الغياب، بل "فرط الحضور المادي" فالمخرج لديه جسد حقيقي، وفضاء حقيقي، وزمن حقيقي. التحدي هنا ليس خلق شيء من العدم، بل تحويل هذا الحضور المادي الخام إلى حضور شاعري ذي معنى، تتحكم فيه أدوات سحرية مغايرة.

- المُحرّض الأول: الجسد الحي: جسد الممثل أعظم من أداة محايدة، فهذه الشعلة المتوهجة المتشكلة من لحم ودم وإحساس هي أرشيف من الذكريات والنبضات والقيود والتطلعات والهزائم والانتكاسات. الصدام بين النص المجرد وإمكانيات الجسد المادية ومحدوديته هو محرض هائل للتخييل. قد يطلب النص "غضبًا"، لكن الكيفية التي يترجم بها جسد ممثل معين هذا الغضب (رجفة في اليد، صمت مطبق، انفجار لفظي عنيف) هي فعل تخييل مشهدي خالص.

- المُحرّض الثاني: مقاومة الفضاء: الفضاء المسرحي، بحدوده وأبعاده، يحد من الأفكار المطلقة. هذه المقاومة هي التي تشعل فتيل الوعي على إيجاد الحلول الشعرية وتخييل المعالجات الصورية. الرغبة في إظهار "غابة" على خشبة فارغة هي التي حرضت بيتر بروك على استخدام أعواد الخيزران، محولةً القصور المادي إلى ثورة تخييلية جمالية تفتح الباب واسعاً لتخييلات أخرى تساهم برسم الإنجاز.

- الأداة: اللوحة الحسية: يمتلك المخرج أدوات لا يمتلكها الكاتب: الإضاءة التي ترسم الفضاء وتكشف معالم الجمال في كل ما هو ساكن ومتحرك على الخشبة وحتى العتمة هي من معالم الإضاءة الواعية التي توجه عين المتفرج حيث مكامن الجمال، والموسيقى التي تبني الإيقاع العاطفي بفونيماتها المختلفة والمتناغمة، والصمت الذي قد يكون أبلغ من أي حوار. هذه الأدوات لا "تخدم" النص، بل تكتب نص المخرج الموازي - النص الفرعي خاصة العرض وثمرة وعي المخرج.

- الآلية: الكوريغرافيا المكانية والزمنية: الآلية هنا هي تنظيم وتهذيب وتشذيب حركة الأجساد في الفضاء اليومي إلى حركة واعية درامية بحضور يوهج الحكاية والعرض، والذي يخدم تنظيم إيقاع الأحداث في الزمن لذلك نرى ريتم بطء الحركة عند روبرت ويلسون في "آينشتاين على الشاطئ" أبلغ من مجرد أسلوب، فقد تعدى ذلك بخطوات عريضة إلى آلية تخييلية تبطئ من إدراك المتفرج وتجبره على رؤية ما هو مألوف كشيء غريب وجديد. كما يحاول منح المتفرج فرصة للتفكير والتحليل وبناء التأويلات وفقاً لثقافته وأدواته الإجرائية في ردة الفعل المناسبة إزاء ما يراه ويسمعه ويحسه.

3- الثورة الأدائية: تجارب حية في إعادة الخلق

إن فهم هذه الآليات يجعلنا نرى تجارب المخرجين الطليعيين ليس كتمرد، بل كنتيجة حتمية للتحول في فهم محرضات التخييل.

خاتمة: أثر النص في زمن الفرجة

إن الانتقال من نموذج إبسن إلى نموذج ويلسون ليس قصة خيانة للنص، بل هو تاريخ تطور الفن المسرحي نفسه. الخسارة الظاهرية لسلطة المؤلف هي في الحقيقة الشرط الضروري لولادة »الحدث المسرحي «يظل خيال المؤلف كنصٍ أصلي، كـ "شبحٍ في الآلة" ومُحرّض أولي، يؤثر في العرض ويمنحه عمقه الدرامي، لكنه لا يعود المتحكم الأوحد فيه. العرض المسرحي المعاصر هو "باليمبسَت"، أي مخطوطة شائكة كُتبت فوق مخطوطة أقدم تجلت بمسارات أقل لكنها أعمق، حيث تظل آثار النص الأصلي مرئية، لكنها تتشابك مع طبقات جديدة من الكتابة الجسدية والبصرية والصوتية التي حرضتها عوامل وآليات التخييل المشهدي، لتخلق في النهاية كائنًا فنيًا جديدًا ومستقلًا.

في الختام: الأمانة المطلقة مع النص هي موت للمسرح وإعلان عن تواضع الأدوات، بينما الخيانة الواعية هي الشرط الضروري لاستنطاق صمت الورق على الخشبة وفتح النوافذ مشرعة باتجاه الجمال.

***

الكاتب: كاظم أبو جويدة

 

للشاعر الكبير يحيى السماوي

المقدمة: تستعرض هذه الدراسة تجربة الاغتراب والانفصال عن الجذور الحضارية كما تعكسها القصيدة "ومضة" للشاعر القدير يحيى السماوي، حيث يتحول التفكك النفسي إلى موت رمزي للهوية الشخصية. تهدف الدراسة إلى تحليل البيتين من الومضة عبر استكشاف الأبعاد البلاغية، البنيوية، والدلالية، مستندة إلى فرضية مفادها أن انفصال الذات عن فضاء "وادي الرافدين" لا يعبر فقط عن تحرك جغرافي، بل يشكل إعلانًا عن زوال وجود ثقافي ونفسي يسبق الموت الجسدي.

تنقسم الدراسة إلى أربعة محاور أساسية:

أولًا، التحقيق في الجذور اللغوية للتوازي بين الفعلين "استراح" و"استرحتُ"، مع إبراز دلالاتهما الرمزية ضمن السياق الشعري.

ثانيًا، تحليل بنيوي يركز على العلاقة التصاعدية بين عناصر الوطن والذات، مع دراسة التتابع الدرامي في ترتيب الأبيات لتوضيح ديناميكية الحوار الذاتي الداخلي.

ثالثًا، قراءة سيميائية للمفاتيح الرمزية في النص (مثل الوطن، الخيمة، الموت) بهدف رسم خريطة إشارات تُعمّق تجربة الاغتراب.

رابعًا، دراسة عملية إزاحة المعاني واستثمار الاستعارات المركزية في صياغة تصويرية لحالة التشرد وفقدان الهوية.

تتبع منهجية البحث نهجًا وصفيًا تحليليًا، حيث يُقدم النص بتحليل أولي ثم تُفسر دلالاته بالاعتماد على مناهج النقد البنيوي والسيميائي مع عرض أمثلة تطبيقية مأخوذة من الشعر. في ختام الدراسة، تُستخلص نتائج أدبية وثقافية تثري فهم العلاقة بين الإنسان وأرضه وتراثه الحضاري. مع مقدمة وخاتمة

ومـضـة

الـوطـنُ اسـتـراحَ مـنـي..

وأنـا اسـتـرحـتُ..

*

فإنـنـي مـنـذ نصبتُ خيمتي

في غيرِ وادي الرافدينِ:

مُـتُّ !

1. فك رموز الأبيات

في البيت الأول، لا يتناول الشاعر "الراحة" بالمعنى الحرفي، بل يقدّم مفهومًا مقلوبًا في علاقة الذات بالوطن. هنا، الوطن يستريح من الشاعر كما استراح الشاعر من الوطن. يشير هذا إلى أن العلاقة بين الشاعر وموطنه قد تعرّضت للخلل، فالمفروض أن "الراحة" تكون حالة متبادلة، لكن الشاعر يعبر عن عدم الراحة في صميم هذه العلاقة.

أما في البيت الثاني، فـ"نصب الخيمة" هو عنصر رمزي قوي يشير إلى التشتت والاغتراب. فقد كان من المفترض أن يستقر الشاعر في وطنه الأصلي (وادي الرافدين) ولكنه اختار الخيمة، التي تمثل موقفي الترحال والانقطاع. الخيمة هي تذكير بمؤقتية الاستقرار والهوية الضائعة.

2. التحليل البنيوي

القصيدة تركز على ثنائية "وطن – ذات"، وهذه الثنائية تكشف عن الصراع الداخلي للشاعر بين الانتماء إلى أرضه واغتراب ذاته. التباين بين مفهوم الوطن واحتياجات الذات يخلق حالة من التوتر الدائم، حيث يبحث الشاعر عن مكان يحقق فيه توازنه الشخصي، بينما ترفض الأرض أن تكون ملاذًا له.

ترتيب الأبيات يعزز من فكرة التصاعد الدرامي، حيث يبدأ الأمر بمفارقة تثير الصدمة، ثم ينتقل إلى حالة من السكون (الراحة)، ليحدث التحول الجذري في النهاية، حيث يعلن الشاعر عن "موت" رمزي.

3. التحليل السيميائي

في هذا السياق، "الوطن" لا يقتصر على كونه مكانًا جغرافيًا، بل يتخذ طابعًا أعمق مرتبطًا بالأمن النفسي والانتماء الثقافي والتاريخي. كما أن "الخيمة" تصبح استعارة للهوية المشتتة والضياع في المنافي، فهي ليست رمزًا للاستقرار، بل هي دالة على الافتقار إلى الجذور والهوية الثابتة.

أما "الموت" فهو ليس موتًا جسديًا، بل موتٌ للهوية أو فَقدٌ للانتماء، الأمر الذي يعكس حجم الأثر الكبير للاغتراب على الذات.

4. الدلالة الإزاحية

يتمكن الشاعر من إزاحة معاني الكلمات العادية وتوجيهها نحو سياقات ذات دلالات أعمق. "الراحة" التي يتم الحديث عنها لا تتعلق بتوقف الجسد عن التعب، بل ترتبط بالموت الرمزي. كما أن "نصب الخيمة" في مكان آخر غير "وادي الرافدين" يعني رفض الشاعر للانتماء التقليدي. هو لا يختار الهجرة من وطنه فحسب، بل يختار فقدان الهوية التي يمثلها هذا الوادي.

5. الاستعارات

- الوطن كمصدر للراحة: استعارة توضح أن الوطن في ذاكرة الشاعر ليس مجرد مكان يعيش فيه، بل هو "حضن" روحاني يشعر فيه بالسلام الداخلي.

- الخيمة كذات شاردة: استعارة تعبر عن حالة من الضياع والاغتراب، حيث لا يوجد مكان ثابت للذات في الخارج.

- الوادي كمهد للإنسانية: استعارة تشير إلى أن وادي الرافدين يمثل بداية التاريخ والجذور العميقة للإنسانية، وهو المكان الذي يعكس الاستقرار والتقاليد.

6. الاستنتاج النهائي

القصيدة تُصور كيف أن اغتراب الشاعر عن "وادي الرافدين" لا يمثل مجرد ابتعاد عن مكان جغرافي، بل هو قطع للصلة بالجذور التاريخية والثقافية. هذا الانقطاع يخلق موتًا رمزيًا في هوية الشاعر، مما يعبّر عن فجيعة الاغتراب الذي لا يقتصر على بعد جغرافي بل يمتد ليشمل التدمير الروحي.

7. استخلاص العبر

- الانتماء لا يُفصَل عن الهوية: إذا قُطِعَت الجذور، فإن الذات تصبح ميتة رمزيًا. التفريط في الروابط الثقافية يؤدي إلى موت أكثر قسوة من الموت الجسدي.

- الاغتراب كحكم مبكر على الذات: يؤدي الاغتراب عن الوطن إلى "إعدام" الهوية الثقافية في الخارج، ويعكس هذا كيف يمكن للإنسان أن يفقد جزءًا من ذاته في الرحيل.

خاتمة

تُظهر نتائج هذا البحث أن قصيدة “ومضة” لا تكتفي بوصف حالة اغترابٍ سطحية، بل تُمثِّل انتحارًا رمزيًّا للهوية كلما فُصِمَت الصلة بالأصل. إن المعالجات البلاغية—من توازي الأفعال إلى توظيف الخيمة والموت كعلامات—تبني سردًا دراميًّا يتدرج من الراحة الزائفة إلى الموت الحقيقي للذات. ومن ذلك نخلص إلى أن النص يؤكد على أنّ الانتماء ليس امتيازًا جغرافيًّا فحسب، بل ضرورة وجودية وحضارية لا يمكن تجاوزها دون دفع ثمنٍ ثقافي ونفسي باهِظ. هذه الدراسة تدعو إلى مزيد من المقارنات مع نصوص المهجرية العربية ونماذج أدبية عالمية تناولت الاغتراب الرمزي، لتوسيع آفاق فهم تأثير التشرد على تكوين الذات الشعري.

***

سهيل الزهاوي 

بما ان هنالك آراء مختلفة حول کل مبتكر حديث وامكانية تعارضه مع العتيق الاصيل، هنا في هذا المقال أود أن القي نظرة سريعة على بعض الاشكاليات التي تعيق التقاء هاتين المدرستين المختلفتين وأسباب اتساع هوة الاختلاف بينهما وكذلك بين المتحمسين لهما، من حيث اطرها العام ومن ثم بالتحديد حول التغييرات الحاصلة في هيکل الشعر العمودي الموزون وما بعده مع شعر التفعيلة.

الحداثة في اللغة هي مصدر للفعل حدث يحدث حدوثا وحداثة، وهذا الفعل يدل على التجديد والاستمرار، ومن أهم معانيه اللغوية الجديد أو الكلام والخبر.

إذاً الحداثة هي الشيء الجديد وهي الانتقال من حالة قديمة الى حالة جديدة، وقد تشمل وجود تغيير ما. كما ارتبط أفكار الحداثة مع العلوم والاختراعات، فظهرت العديد من الوسائل التي لم تكن مستكشفة مسبقا. وهي قيمة خالدة في صيرورة أنشطة إنسانيّة.

أما بالنسبة لتأريخ هذا التيار الحداثي في الغرب؛ فترجع ارهاصاته الى أواخر قرن التاسع عشر وقد شملت مجالات واسعة كالفلسفة والفنون الى جانب التغيرات في الاتجاهات الثقافية من تحولات واسعة النطاق وبعيدة المدى في عالم الغرب.

لو القينا نظرة خاطفة الى نقاط الاختلاف والتشابه بين الشعر التقليدي والحر، سنلاحظ بأن الشعر الحر بكل مدارسه مكتمل لمرحلة ما قبله وليس رفضا لها! بل بناء ما وصل اليه الشعراء الحداثة على هذا الصرح العظيم والذي يسمی بشعر الكلاسيكي أو التقليدي. فلماذا نفكر بعقلية السياسة الضيقة ونحسب ان كل ما لا ينتمي الينا فهو ضدنا؟

فلو نظرنا الى مكونات الشعر بشكل عام نلاحظ بأن (المضمون، البناء، المعجم، الصورة الشعرية) موجودة في کلتا المدرستين الشعريتين، الا ان الفرق والاختلاف الواضح هو في طريقة التشكيل الشعري، اذ ان الفارق الأكبر والملمح الجلي من حيث الشكل هو استعمال بحور العروض الستة عشر في الشعر التقليدي والتي هي منابع النغمات وقياس التشكيلة الشعرية وتعرف ببحور الشعر، وقد يتبلور هذا العنصر في شعر الحر من خلال الايقاع الداخلي للكلمات بدلا عن تفعيلات البحر الشعري. أما التكثيف والايجاز والتوهج والموسيقی والتخيل تعتبر من العناصر المشتركة في قصائد تلك المرحلتين المتفاوتتين، أي نص يتخلى عن هذه العناصر فلا يمكن أن نسميه شعرا. ومن المنطقي ان ما وصلنا اليه اليوم هو نتاج عطاءات السلف وقد بنی عليه الانسان المعاصر ما أبدعه القدماء، وبالاخص المتعلق بمجال الادب والذي يعتبر اللغة المشتركة بين المجاميع البشرية والمعلم المشترك بينهم أينما كانوا ستضاف الى ركب الحضارة.

من جهة أخری نستطيع أن نعمم فكرة هذا المقال على كل موجودات الحياة ونطرحه في شكل سوءال مثمر، بحيث نصل الى مبتغانا ونقول: هل كل جديد ضد القديم؟ وهل كل جديد سيء وكل قديم حسن أم العكس صحيح؟ وهل هما مكملان للبعض أم متضادان؟ بالطبع لاء؛ كما ان هنالك أمورا مرفوضة في الجاهلية وأمورا حسنة في ذات الوقت لم يطرأ عليها تبديل ولا تغيير بعدما انطوت صفحات زمنها، فعلى سبيل المثال ان الصدق من المسلمات الاخلاقية لا يمكن أن يتغير بمرور الزمان وتغيير الظروف ولو مرت عليه آلاف السنين، فهو من الخصال الحميدة التي يبنى عليها بقاء الأمم وصلاح الانسان اجتماعيا، إذاً ليس كل قديم سيء وكل جديد حسن والعكس صحيح؛ لكن لو نقلنا هذه النظرة الى عوالم الفن والادب والتي تعتبر من المتغيرات وليس الثوابت، فيمكننا ان نقيس أحوال وأطوار الزمان عليه، فاللغات الحية في حد ذاتها تتحرك الى الامام في دوامة التطور ومرتبطة بجميع مجالات الحياة  الاخرى، وهكذا تختلف قرائح الناس ومذاقاتهم الشعرية وميولهم، بحيث ترى ان لكل نوع من الشعر جمهوره الخاص ومتابعيه والذي يتدخل الرصيد المعرفي والطبع الخلقي في هذا التوجه، فاذا كان كل سطر في الشعر الكلاسيکي حاملا في طياته معانيه المستقلة فان نص الشعر الحر بأجمله يعتبر وحدة متكاملة فلربما تضم معنى واحدا بعينه وتشارك في صنع هذا المعنى سائر الاسطر مكتملا له، في هذا الجنس الادبي لا يكون الشاعر مقيدا بالبحور لرسم الصور المجازية وابتكار جزالة الالفاظ، لكنه في الوقت نفسه لا يمكنە ان ينأى بنفسه عن الموسيقی والايقاع الداخلي. وهكذا يرى الشاعر المنتج الحداثي بأن الشعر الكلاسيكي يعتبر موروثا غنيا وكنزا ثمينا غني عن التعريف، فلربما يصبح مصدرا لألهام الشعراء الجدد، وليس رفضا له بل بناء على ما ورثنا من أسلافنا بلغة اليوم وبمكوناتها الشكلية والضمنية بحيث تتماشی مع التطورات الحياتية المتنوعة والكينونة المعنوية لانسان العصر، اذ ان الشعر بدوره كلغة راقية للأحاسيس الممتزجة بالخيال يعتبر استجابة طبيعية لمطالب الحياة الجديدة وسبر أغوارها، فعلى سبيل المثال في زماننا وكما يزعمون؛ أصبح العالم قرية صغيرة بواسطة التقدم التكنلوجي واقترب البلدان من البعض كاسرا حاجز الحدود الجغرافي، وبالتالي كل ما يرى ويسمع في العالم أصبحت مادة خامة لأنتاج نص شعري عند الحداثوي ومع ترجمة أي قصيدة تقليدية ستفقد جزءا من رونقها الشكلي ومن بينها تفعيلاتها في اللغة الثانية وتبقی منها المضمون والصور والمجاز والدلالات. كما ان هذه الحرية أمام الشاعر تفتح لە أبواب الابداع على مصراعيه كي يخيره بين انتقاء عناصر معينة في الشعر والتعمق فيها والتركيز عليها في نصه بشرط ان لا تتعدى لغته مواصفات

جمالية اللغة الشعرية وكثافته الدلالية، وفي الضفة الاخرى يتفق معظم النقاد مع بعض الآراء التي تنتقد الاشعار الرديئة التي تكتب بأسم الحداثة والشعر الحر، والتي تخلو من أي قيمة جمالية وابداع شعري ولا تمت بأي صلة الى الشعر وآفاقه الابداعية.  فمن الحداثيون من وظفوا الرموز والاساطير في القصائد  بحيث ساد الغموض بعض النصوص، وقد لجأ البعض الى عالم ماوراء الشعور في تخيلاتهم لرسم صور شعرية سريالية، منهم من نجح وبقی واقفا على ساقيه ومنهم من سقط ونسي.

ناهيك عن رغبة التغيير والتطور عند بني البشر منذ القدم الى وقتنا الحاضر، فكل حضارة حسب رأي أرسطو تمر بمراحل الولادة ثم الطفولة والشباب والاكتمال ثم الشيخوخة، ثم الضعف والموت، مثلما حدث مع الشعر العربي في عصر الانحطاط بعد العصر العباسي، وحتی في العصر العباسي کانت هنالك نزعة التجديد والحداثة ظهرت الى الوجود، كما يعتبر البعض: أبو نواس(231هـ/846م)، وأبو تمّام(196هـ/811م) في الحداثة الأدبيّة العربيّة في العصر العبّاسيّ من الاوائل.

في حين تكتب سوزان برنار في جزء الاول من کتابها (قصيدة النثر) عن بداية نشوء هذا الصراع بين الكلاسيكي الغربي وتيار الحداثة كالآتي: (هذه االرغبة الواعية في بث الشعر في النثر كانت في بدئها خميرة ثورية، وفهمها الحديثون بأعتبارها كذلك حقا خلال المشاجرة الشهيرة ورفعوا تليماك كأنها راية الثورة . ودفعوا بقيادة (هولار دي لاموت) المتحمس للهجوم على قلعة القافية المنيعة حتی هذه اللحظة، وقدم فنيلون بنفسه المعونة العسكرية، بطريقة فعالة، عندما قام في خطاب الى الاكاديمية ١٧١٤ بالفصل بين الشعر والنظم، وعندما تكفل بقضية القافية:

ان نظمنا للشعر ان لم أكن مخطئا، يفقد أكثر مما يكسب من القافية، انه يفقد الكثير من التنوع، والسلاسة والانسجام.

وعبثا حاول حزب الكلاسيکيين المعارضة، والتذرع بالتمييز المقدس بين الانواع ، والاعلان بقلم الاب ديفونتين:

انها لاساءة استخدام المصطلحات، وتخل عن الافكار الواضحة والجلية، ان تمنح اسم الشعر -جديا- الى النثر الشعري، على نحو ما حدث مع تليماك.

لم يكن قد حدث شيء من ذلك، فقد أعلن الكتاب بحماس غامر انهم تخلصوا من عبودية نظم الشعر، كما قال الحديثون واندفعوا في أثر فنيلون، ليكتبوا اشعارا ملحميا نثرية  -ص ٤٦،٤٥)٤٤٨٨٨

في الختام أود أن أشير الى ان الغلو سيٶدي الى الهلاك  في الامور كلها وما كان الرِّفْقُ في شيءٍ إلَّا زانَه، فكم يؤلمني عندما أرى شغوفا بالشعر يستهتر بشعراء ويستهين بنتاجاتهم سواء أكان الشاعر من جيل العروض أو الحديث، فهذه علامة مرضية بحاجة الى تصحيح وعلاج، فكل كلمة لها مدلولاتها سواء أكانت في شعر القديم أو الجديد، وهناك زوايا نقدية متعددة للنظر والتقييم، فالمحب للابداع والكلمة الخلابة لا ينحاز الى فئة ليرفعهم الى السماء وينزل بالآخرين الذين لا يرغب بقراءة أعمالهم الى باطن الأرض وأسفل السافلين، صحيح ان القريحة الشعرية لكل منا مختلفة ومتفاوتة، لكن المثقف الحقيقي لا ينتهج نهج المستبدين بتصفير الاخرين.

مع انني لا تربطني أي علاقة بالشاعر لكننا لو تأملنا على سبيل المثال في نص (الشمس تُحِبّ دروب مايا) لأدونيس وهي قصيدة في المجموعة الشعرية (زوكالو) نستكشف من خلال  كثافة لغة النص ورموزه أمورا عدة، لكن مع القراءة السطحية لربما يضحك المتابع من أسماء (مايا) أو (زوكالو) ولايفهمه ولا يريد أن يسأل نفسه ولا يتعب نفسه في عناء البحث لفك شفرات النص، ومع أول قراءة يرفضه رفضا تاما، بينما نجد في هذا السطر لوحده احالات عدة من بينها حضارة مايا والتي سكنت في جزء كبير من منطقة وسط أمريكا وولايات جنوبية في المكسيك، حيث كانت لديهم حضارة يقدر تاريخها بحوالي 3000 سنة. خلال ذلك الوقت الطويل كانوا يتحدثون في تلك الأراضي مئات اللهجات، التي تولد منها هذا اليوم حوالي 44 لغة ماياوية مختلفة. وقد عرفت بالحضارة الوحيدة في تطور اللغة الكتابية في الأمريكتين زمن ما قبل كولومبوس، فضلا عن الفن، الهندسة المعمارية، وأنظمة الرياضيات والفلك. فانه من العيب للمثقف والناقد الشعري ان يتجاهل هذه الحقائق والاشارات الشعرية والحضارات البشرية العريقة ويدعي كونه ناقدا ومنظرا للشعر التقليدي، في حين لا يتعارض الجيد القديم مع الجيد الحديث.

كما ان هناك اشارة في نفس السطر الى نص (حجر الشمس) للشاعر المكسيكي أوكتافيو باث، فأنی لمتابع وناقد شعري يكون جهولا بهذه البديهيات المعرفية لضرورة فهم رموز النص وسياقاتها الدلالية؟ حيث يقول باث في مقطع له:

الزمن يعود كمدٍّ

وينحسر بدون أن يلتفت،

ما مضى لم يكنْ لكنّه يأتي

وبكلّ هدوء يصبّ

في لحظةٍ أخرى تتلاشى:

أمام مساء البارود والحجرِ

المسلّح بسكاكين خفيّة،

بكتابةٍ حمراء لا تُحلّ رموزها،

تكتبين على جِلدي، وهذه الجروح

تُغطّيني كرداءٍ من شُعَلٍ،

وأشتعل ولا أتلف، أبحث عن الماء،

ولا ماء في عينيكِ، عيناكِ من حجَرٍ

وقد كتب الاستاذ هادي الحسيني بعنوان (زوكالو أودنيس ، نافذة تطل على الشعر) عنه:

أودنيس الذي عودنا دائماً على الجديد والمختلف منذ قصائده الاولى، وأغاني مهيار الدمشقي وحتى اليوم كان دائما يأتينا بالشعر من اعماق البحر ونبقى في دهشة ونحن نرى اللؤلؤ والمحار المستخرج من نصوص مختلفة وعميقة في الرؤيا والخيال. وتأتي تسمية (زوكالو) والتي اتخذها عنوانا لكتابه الأنيق وهي الساحة الرئيسية في مدينة مكسيكو ستي حيث يفتح الشاعر نافذة فندق (لاكاسونا) الذي سكنه ليرى الشمس وهي تضع أولى خطواتها فوق عتبة مكسيكو. ويصور اودنيس بأول قصيدة في هذا الكتاب الذي يقترب كثيرا من قصيدة النثر في غالبية نصوصه واخرى يقترب فيها الى النص المفتوح، وقد استغنى الشاعر في كتابه عن اوزان الخليل الفراهيدي كما معروف عنه في كتابته للشعر منذ اكثر من ستة عقود من الزمن وتزيد ليطل ّعلينا بزوكالو ونصوصها العذبة التي تنسال منها رائحة الشمس الصافية في (مايا) حيث يقول في مقطع له:

هل أُصادق ذئاب الطبيعة؟

أقتل تلك الّتي تربضُ تحت أظافري؟

أُركِّز بصري على بصيرتي، وهذه على ذاكَ، وأرافقُ إلى بلاده القصوى عِطْر وَرْدةٍ تموت.

بدأ ثوبُ السّماء يتبلّل بالجراح. إذاً، أخذت هذه البائسة تتعلّم كيف تُنشِد معنا:

الطائر عابرٌ،

والقفص بلا نهاية.

الشمس تُحِبّ دروب مايا

***

سوران محمد - شاعر ومترجم وناقد

..................

المصادر

١- قصيدة النثر/ 1، سوزان برنار، ترجمة: راوية صادق، دار شرقيات للنشر والتوزيع.

٢- -Understanding Poetry. 4th edition. by: Brooks, Cleanth, Robert Warren, Wadsworth Publishing.

٣-  زوكالو، أودنيس، دار الساقي، ٢٠١٤

٤- (حجر الشمس) للشاعر المكسيكي أوكتافيو باث. ثلاثون قصيدة في الشعر الامريكي اللاتيني المعاصر، ترجمة: محمد الخطابي.

٥- أدونيس وتجلي الخلل العقلي اللغوي، الاستاذ محمد رشيد، ٢٠٢٤.

٦- هادي الحسيني، الحوار المتمدن، ١٣/٤/٢٠١٧.

قصي الشيخ عسكر (1951) شاعر وروائي عراقي-دنماركي. وُلد في نهر جاسم بالبصرة، وتخرّج في جامعة البصرة مجازًا في الأدب العربي عام 1973، ثم حصل على الماجستير من جامعة دمشق عام 1986، ودرس اللغتين الإنكليزية والدنماركية في الدنمارك. تنوّعت كتاباته بين الشعر والرواية والدراسات، لكنه في قصة الومضة، أبدع أسلوباً خاصاً يتميز بالاقتصاد اللغوي، والمفارقة الهادئة، والتحوّل الشعوري العميق الذي لا يُعلن، بل يُلمَح.

في قصة "مرجان"، كما في كثير من نصوصه الأخرى، يُكرّس د. قصي الشيخ عسكر جماليات القصة القصيرة جداً القائمة على التكثيف، والمفارقة الداخلية، والتحوّل العاطفي الخفي. لا يعتمد على الحبكة الملتوية ولا على المفاجآت الدراماتيكية، بل يكفيه تفصيل بسيط من الحياة اليومية، يسلّط عليه ضوءًا خافتًا، ثم يتركه يتفاعل داخل وجدان القارئ. إنه من أولئك الكُتّاب الذين يؤمنون أن المفاجأة الحقيقية لا تأتي من الخارج، بل من تماسٍ غير متوقَّع مع الداخل: مع الحسّ، والذاكرة، والخذلان، والتعلّق.

نص القصة:

مرجان

بقلم د. قصي الشيخ عسكر – نُشرت بتاريخ: 26 تموز/يوليو 2025 في صحيفة المثقف

قصة ومضة

صداقتي مع مرجان تمتدّ إلى أكثر من عام!

كان يهر إليّ عن بعد

يتمسح بساقي سواء أمشي أم أجلس على أيّة منضدة فارغة أجدها على الرصيف، وحالما يأتي النادل أرمي إليه – قبل أن تمتدّ يدي إلى فمي – بقطع من شطيرة اللحم وكسرة خبز.

يحدث ذلك كلّ يوم تقريبًا

تقرؤ ملامحه جيّدًا فيشيع في نفسي البهجة

حتى إنّي من شدّة إعجابي به سمّيته (مرجان)

صاحب المطعم الطيب ذو الابتسامة الواسعة ارتاح للتسمية وأضاف أنّه لطيف حقًّا لقد طهّر المطعم من الفئران!

ومنذ يومين لم أره

افتقدت مرحه

ومواءه الهادئ وتمسحه بساقي وهو يستقبلني حين آتي لتناول طعامي.

ظننته في الداخل يتابع مطاردة الفئران

وقد صدمت حقًّا حين عرفت فيما بعد أنّ مطعمًا جديدًا افتتح في الشارع القريب الموازي تُقَدَّم فيه وجبات السمك المشوي، وإنّ الرائحة استفزّت مرجان، فرحل إلى هناك!

***

هذه القصة، رغم قصرها الشديد، تمثل نموذجًا مثاليًا لبناء "التحول الداخلي" في قصة ومضة. القط "مرجان" هنا ليس مجرد كائن ثانوي، بل هو رمز لصوتٍ يومي ألفه الراوي. حضور مرجان كان جزءًا من النظام العاطفي للمكان، وعندما يغيب فجأة – بسبب تحوّل في الرغبة – تنفتح في النص مساحة شعورية جديدة: الشعور بالفقد. إن المفارقة المؤلمة تكمن في أن "مرجان" لم يُطرد، لم يُعاقَب، بل هو من قرّر الرحيل، ببساطة، نحو مكان آخر، بدافع الغريزة. ومع ذلك، يترك وراءه فراغًا داخليًا لم يكن الراوي يدرك وجوده.

ومضة عن الحب اليومي الصغير الذي يخونه الواقع ببرود... دون أن يرتكب أحد خطأ.

هذا النمط من التحول العاطفي الصامت يعيدنا إلى نصوص لكُتّاب عالميين اعتمدوا اقتصاد اللغة والتركيز على لحظة واحدة مشحونة بالمعنى. من بينهم ريموند كارفر Raymond Carver في قصته "Little Things" (أشياء صغيرة)، المعروفة أيضًا بعنوانها الأصلي "Popular Mechanics" (الميكانيكا الشعبية)، حيث يتكثف الألم العميق خلف شجار منزلي بسيط، ويُختزل انهيار العلاقة في مشهد تقاسمٍ عنيف للطفل. لا يُصرَّح بالتحوّل، لكنه يتجسد في الصمت، في طريقة التوصيف البارد، وفي النهاية المعلّقة. كما تشبه "مرجان" أيضًا قصة "The Basement Room" (غرفة القبو) لـ جراهام غرين Graham Greene، التي تدور حول صبيّ يكتشف هشاشة عالم الكبار من خلال مشهد خيانة بسيط يغيّر نظرته للعالم. الحدث ليس ضخمًا بحد ذاته، لكنه كافٍ لإحداث شرخ داخلي لا يُمحى. ونجد مثالًا موازيًا عند فرانسيسكو إيسبينوزا Francisco Espinoza في قصته "La Ventana Abierta" (النافذة المفتوحة)، حيث ينتظر صبيّ من نافذته يوميًا شيئًا لا يأتي، حتى تُغلق النافذة ذات يوم، وينتهي النص. لا يُقال شيء كثير، لكن الإغلاق الصامت يحمل دلالة وجودية حاسمة.

في جميع هذه القصص، المفاجأة لا تأتي من الخارج، بل من التغير الشعوري الذي يخلخل التوازن النفسي للشخصية. ويتجلى هذا النهج أيضًا لدى أليس مونرو Alice Munro، في قصتها "Perspective" (وجهة نظر) من مجموعة Dance of the Happy Shades (رقصة الظلال السعيدة)، حيث يتغير منظور البطلة للعالم بهدوء داخلي نتيجة موقف يبدو عاديًا. مونرو، مثل د. قصي، لا تشرح التغيير، بل تتركه يتسرّب عبر الإيماء والفراغات. الحدث لا يهم، بل أثره العاطفي. في "Perspective" كما في "مرجان"، لا ينهار شيء ظاهر، لكن ما يهتز هو البنية الدقيقة للتعلّق، والثقة، والإحساس بالاستمرارية.

قصة "مرجان"، إذًا، ليست عن قط فقط، بل عن الصمت بعد الغياب، عن أنفاس الكائنات التي أحببناها دون وعي، ثم تركتنا دون وداع. ومع أن التحول الداخلي لا يُصرَّح به، فإن القارئ يشعر بانزياح في الوجدان، كأنه خسر شيئًا. هذا النوع من الكتابة لا يحتاج إلى ضجيج، ولا إلى مفاتيح تفسير، بل يترك المجال مفتوحًا للتأويل، ويمنح الأدب وظيفته النبيلة: ملامسة الإنسان من الداخل.

إن قصي الشيخ عسكر، في "مرجان"، يقدم درسًا نقيًا في فن قصة الومضة، يؤكد فيه أن قوة الأدب لا تقاس بعدد الصفحات، بل بما تُحدثه في النفس من أثر. وفي اقتصاده الشديد، وفي مراهنته على اللحظة، وعلى التفاصيل العابرة، يضع نفسه في حوار عميق مع كبار كتّاب القصة في العالم.

***

بولص آدم

ويقولون أن الأيام مضت بنا عتيّا..

وحان وقتُ الخجل من التوغل في ألوان الأمنيات

كثيرة كثيرة هي عليكِ

كلّها..؟

كيف..!وكلّما مددت يدي للمس الوقت إشتعل كأنه لحظة سقطت من عوالم الخُرافة...

مازلتُ أجتر مرارة التفاصيل التي تأبى أن تصير طوع يدي

روضتها حتى تمكن مني التعب

والوحد

والحزنُ

أفواه حولي تصرخ بكل عنجهية

طوقتني بالتّهم

اللّوم والشكوى

على أحوال أفئدتهم المثقوبة الخاوية على عروشها...

على من العتاب..؟

على المسافرة أم على خالق السّفائن و الأمواج..!

كذلك أنا مركب ضائع في اليم مثلكم..

الا ان لي منارة تشتعل من داخل روحي الى السماء

تُرشدني دائما الى الطريق...

وان شاء الله سأصلُ...

***

كلثوم البوركي – المغرب

........................

القراءة:

كأننا لسنا أمام قصيدة، بل أمام نَفَسٍ حارٍّ صاعدٍ من جوف إنسان تَشظّى بين حلمٍ لم يكتمل، وخطى ما تزال تمشي بثباتٍ فوق رماد الرجاء. نصّ الشاعرة كلثوم البوركي ليس مجرد بوحٍ أنثوي يمرّ عابرًا على سطح الألم، بل هو حجرٌ قُذف في بحيرة النفس حتى ارتجف الماء من عمقه.

لم تختر الشاعرة عنوانًا. وكأن النص لا يحتاج اسمًا، بل يحتاج قارئًا يُغلق عينيه وينزل فيه، كمن يدخل نفقًا بلا بوابة، لأنه ببساطة نفقٌ داخل الروح.

أولًا: صوت الذات… حين يصير العالم متآمرًا

منذ الجملة الأولى:

"ويقولون أن الأيام مضت بنا عتيّا…"

يظهر "هم" ويظهر "أنا". بينهما مسافة بحجم المعاناة.

"هم" يقولون. و"أنا" أتألم.

هذا الافتتاح الذكي لا يصور فقط عبور الزمن، بل اتهامًا مبطّنًا للمجتمع، لمؤسسات الخوف، للصوت الخارجي الذي يقمع التوق، ويُخجل الحلم.

ثم تأتي العبارة:

"وحان وقت الخجل من التوغل في ألوان الأمنيات…"

ليتجلّى هنا ما يشبه القمع الداخلي الذي نزرعه في أنفسنا كلما حاولنا أن نحيا خارج ما يسمح به الواقع.

كأنّ الحلم صار تهمة، والأمنية صارخة يجب إسكاتها.

ثانيًا: الرماد واللمس واللهيب

تقول:

"كلّما مددت يدي للمس الوقت اشتعل كأنه لحظة سقطت من عوالم الخرافة…"

ما أعمق هذا التصوير.

فـ"الوقت" هنا ليس زمنًا فيزيائيًا، بل هو اللحظة التي كان من المفترض أن تكون للحب، أو التحقق، أو الأمان… لكنها كلما اقتربت تحترق، كأنّها "ليست من هذا العالم".

هذا النص لا يبكي، بل يلمس الحريق وهو ينظر إليه بذهول.

كمن يرى الحلم يُولد ثم يذوب، ولا يملك إلا أن يمدّ يده، حتى لو احترق.

ثالثًا: الأصوات المشوشة والاتهام المقلوب

في مقطع صادم:

"أفواه حولي تصرخ بكل عنجهية / طوقتني بالتّهم…"

نحن أمام لحظة محاكمة، لكن المدهش أن المحاكَمة لا تجري في محكمة، بل في الحياة اليومية، في عيون الآخرين، في صمت المجتمع.

"العنجهية" هنا ليست صفة شكلية، بل توتر داخلي، صوت الفوضى التي تحاول إطفاء صوت الداخل.

ويا للمفارقة، فإن قلوب هؤلاء صارت:

"مثقوبة خاوية على عروشيها…"

في بيت مقلوب البناء، العروش قائمة، لكن القلوب خاوية.

كأنّ الشاعرة تقول: إنهم يحاكمونني من قلاعهم العالية، لكنهم أكثر خرابًا مني.

رابعًا: سؤال العتاب… أم سؤال القدر؟

"على من العتاب..؟ على المسافرة أم على خالق السفائن والأمواج..!"

هنا تبلغ التجربة ذروتها الوجودية.

فالسؤال لم يعد بسيطًا.

من المسؤول؟

أهي الأخرى (المسافرة) التي تركتني؟

أم هو القدر الذي صنع السفائن وجعل اليمّ بلا ضفاف؟

في هذه اللحظة، الشاعرة لا تشك فقط، بل تفكك العلاقة بين الإنسان والله، بين المصير والاختيار، بين الغرق والهداية.

ثم تأتي أجمل جملة، الضوء الذي يُنهي هذا الليل الطويل:

"إلا أن لي منارة تشتعل من داخل روحي إلى السماء…"

يا لروعة اليقين!

كل شيء حولها ينطفئ: البحر، الأمل، الحلم، الناس، السفائن…

لكن ما يشتعل ليس في الخارج، بل من الداخل.

وهنا يكمن السر:

المنارة ليست خارجيّة، بل تنبع من الروح.

وهكذا، رغم كل شيء، تقول بثقة:

"وإن شاء الله سأصل."

ليست النهاية سعيدة، لكنها منتصرة.

الذات ما زالت وحدها، لكن لم تعد تائهة.

وأخيراً فإن نصّ كلثوم البوركي ليس قصيدة، بل تجربة وجدانية مغموسة بالرماد والضوء معًا.

كتابة تنتمي إلى ضفاف الشعر الصوفي، وتشتبك مع قضايا المرأة، والمجتمع، والقدر، دون أن تفقد سلاحها الأساسي: الصدق والوضوح المتوتر.

لقد كتبت الشاعرة نصًّا لا يحتاج أن يعلّق في الذاكرة، لأنه يسكن في القلب.

وقدّمت تجربة تُقرأ كما تُقرأ الحياة: متعثّرة، موجوعة، لكنها مضيئة من الداخل.

***

بقلم: كريم عبد الله – العراق

لآمال صالح.. البنية الدلالية والرمزية والنفسية والتأويلية

- منذ لحظة ولوجنا إلى النص: "طائر الهدهد" ندرك أن الهدهد رمز إشكالي.

يأتي عنوان النص "طائر الهدهد" كعتبة دلالية مشحونة بالرموز؛ فالهدهد في المخيال العربي والإسلامي ليس طائراً عادياُ، بل هو رسول الحكمة والإلهام ووسيط الوحي (الهدهد في قصة سليمان مثالٌ على طائر يكتنز المعرفة ويتجاوز حدود المألوف). اختيار هذا العنوان يضع القارئ منذ البدء في مواجهة نصّ يبحث عن الرسالة المفقودة، وعن وسيط بين الذات والعالم، بين الحقيقة والغياب.

- ففي البنية الدلالية مجد أنّ الوطن ككائن حيّ.

يشتغل النص على تفكيك صورة الوطن عبر نقله من كيان جغرافي إلى كائن حيّ يتألم، يسافر، يبكي، وينمو، تقول الشاعرة آمال صالح:

"هل سمعتم بوطنٍ يسافر، يقفز.. يغتسل بدموع اليتامى ويكبر في حجر النساء الثكالى.."

هذه الصورة تكسر النمطية، وتجعل الوطن أقرب إلى ذات إنسانية تتقاسم مع الشاعرة الألم والانتظار. بهذا التحويل، يصبح الوطن آخرَ محاوراً للذات، لا فكرة مجردة بل كائن يتقاطع مع مخاضاتها النفسية.

- في مجال الرمزية والتأويل: من الهدهد إلى السحابة.

القصيدة مشبعة بالرموز: الهدهد، المطر، السحابة، الزيتون، الطفل الجائع.

الهدهد: رمز للرسول الذي يحمل بشارة، لكنه في النص يصبح أيضاً علامة على الأمل المؤجل: "لا بأس إن هو قلدَ الهدهد.. وجاء يخبرنا عن وطنٍ يأتي به على سحابة."

المطر والريح: رموز لحركة الطبيعة التي تسبق التحول الروحي، المطر هنا ليس ماءً فحسب، بل لغة كونية تنتظر الشاعرة آمال صالح أن تنطق: "ترقبتُ أن يتكلم المطر.."، وكأنها تعوّل على أن تصبح الطبيعة نفسها وسيطاً للوعد القادم.

الزيتون: رمز السلام والجذور، يوظَّف هنا كبشارة للوطن الموعود تقول: "يصبح علينا ببشارةٍ وعرف زيتون."

الطفل الجائع: أقصى تجليات الألم الإنساني، لكنه أيضاً رمز المخاض الأخير الذي يسبق الميلاد/الخلاص.

- في سياق البنية النفسية: الذات في لحظة افتقاد.

النص مشحون بشدة بـ القلق الوجودي، إذ تكتب الشاعرة آمال صالح من موقع الانتظار الذي يقترب من اليأس لكنه لا ينزلق إليه، تقول:

"قد كاد يقتلني بك السؤال.."

الخطاب هنا موجه إلى الوطن/الرسول/الحلم الذي تتوسل منه كلمة – حتى لو كانت كذباً – لكنها تعترف أنه لا يكذب: "لكنه لا يكذب، حتى وإن فاقت جراحُه كل مخاضات العالم."

هذا التكرار (لا يكذب) يكشف عن حاجة عاطفية قهرية للتصديق، وكأن الشاعرة تبني أسطورة طهرانية حول هذا الوطن/الحلم الذي يظل صادقاً حتى وهو متأخر عن المجيء.

- في مجال المنهج التأويلي (الهيرمينوطيقي): النص كرحلة بحث عن معنى.

إذا قرأنا النص بمنهج هيرمينوطيقي، فإنّ "الوطن" لا يُفهم هنا كمعطى سياسي أو جغرافي، بل كمعنى غائب تبحث عنه الذات، كأفق روحي يعيد ترميم العلاقة الممزقة مع الوجود.

الجملة:

"حتى وإن لم يأتِ مثلما تصورته.. لا بأس.."

تكشف عن تحوّل في وعي الذات: لم يعد الحلم نفسه هو الغاية، بل القبول بمجيء المختلف، كأن الذات تهيئ نفسها لرحلة وجودية تنتهي بالتسليم للحقيقة مهما كانت.

- في مجال الصور الشعرية والإيقاع.

الصور في النص مكثفة ومرنة، تزاوج بين الحسّي والميتافيزيقي، تقول:

"وطنٍ يسافر" (تشخيص مجرد).

"يغتسل بدموع اليتامى" (تداخل بين الألم والفعل التطهيري).

"يكبر في حجر النساء الثكالى" (مزج بين الوطن كطفل والنساء كأمومة جمعية).

أما الإيقاع، فالنص قائم على التدوير وكثرة علامات الحذف (..) التي تخلق مساحات صمت تعادل الحيرة والانتظار. الجمل القصيرة المتقطعة: "يقفز.. يغتسل.. يكبر.." تعكس ديناميكية حلم يتشكل ثم ينكسر.

- في مجال فلسفة النص: الأمل كنجاة.

في النهاية، يمكن القول إنّ القصيدة تعيد تعريف الأمل لا كحالة عاطفية، بل كـ فعل مقاومة وجودية حيث نجدها تقول:

"نظرةُ طفلٍ جائعٍ.. هي المخاض الأخير.. وبعدها.. لا بد أن يأتي..!"

الأمل هنا ليس تفاؤلًا ساذجاً، بل وعي مأساوي بأن الفجر لا يولد إلا من رحم أقسى اللحظات.

- خلاصة:

قصيدة "طائر الهدهد" ليست نصاً غنائياً فحسب، بل نص حواري مع الوجود؛ فيه تذوب الحدود بين الذات والوطن والطبيعة في رحلة بحث عن معنى الخلاص. الرموز الكثيفة (الهدهد، المطر، الزيتون، الطفل الجائع) تتشابك لتصنع خطاباً وجودياً يتأرجح بين الانتظار واليقين، بين الغياب والحضور.

إنها كتابة تستدعي الهيرمينوطيقا لفهمها، لأنها لا تُعطي معنى جاهزاً، بل تستفز القارئ ليشارك في تأويل حلم يتشكل على حافة اليأس والرجاء.

***

بقلم: عماد خالد رحمة - برلين

...............

طائر الهدهد

يا وجهي الذي لا تعرفه الحضارات الحديثة..

العالمُ غاب عن الأنظار

في الزمن الذي حضرتُ فيه..!

ترقبتُ أن يتكلم المطر..

وأن تهتدي الريحُ إلى طائرٍ جديد..

لا بأس إن هو قلدَ الهدهد..

وجاء يخبرنا عن وطنٍ يأتي به على سحابة..

هل سمعتم بوطنٍ يسافر،

يقفز..

يغتسل بدموع اليتامى

ويكبر في حجر النساء الثكالى..

يصبح علينا ببشارةٍ وعَرْفِ زيتونٍ..

هل سمعتم بوطنٍ يتكلم..؟

تخيلتُ صوته يقول الشعرَ لي،

رسمتُه بين حاجبيَّ،

ناديته: "قل لي ولو كذبًا كلامًا ناعمًا،

قد كاد يقتلني بك السؤال.."

لكنه لا يكذب، حتى وإن فاقت جراحُه

كلَّ مخاضات العالم..

لن يكذب..

وأنا أحبه لدرجة العشق..

لأنه لا يكذب..

حتى وإن لم يأتِ مثلما تصورته..

لا بأس..

نظرةُ طفلٍ جائعٍ..

هي المخاض الأخير..

وبعدها.. لا بد أن يأتي..!

إنَّ الشِّعْرَ الغِنائيَّ لَيْسَ تَجْميعًا عَبَثِيًّا للقِيَمِ العاطفيَّة، وإنَّما هُوَ تَعْبيرٌ عَن العَواطفِ الخالصة، وتَجسيدٌ للمَشاعرِ الإنسانية النبيلة. ويَمْتاز بِحَرارته وخَيَالاتِهِ وتأثيرِه في المُتَلَقِّي، وتَجَاوُزِ الواقعِ، وكَشفِ أسرارِ الذات الإنسانية، والمُوازنةِ بَيْنَ أفراحِها وأحزانِها.

والشِّعْرُ الغِنائيُّ لَيْسَ مَحصورًا في الغَزَلِ وَوَصْفِ مَحاسنِ المَرأة، بَلْ هُوَ رُمُوزٌ معرفية، وَرُؤيةٌ وُجودية، وأفكارٌ اجتماعية، وهَكذا تَتَّسِعُ اللغةُ الشِّعريةُ لِتَشْمَلَ المَشاعرَ الحاملة للعَلاقات الاجتماعية، وَتَحْتَضِنَ المواضيعَ المُتَغَيِّرَةَ والأحوالَ المُتَقَلِّبَةَ في حَياةِ الإنسانِ، وتُعيدَ صِيَاغَةَ التفاصيلِ الحَيَّة في التُّرَاثِ، وَتَدْمُجَ التَّجْرِبَةَ الذاتيةَ معَ التَّجْرِبَةِ الاجتماعية باستخدامِ الصُّوَرِ الفَنِّية المُدْهِشَةِ، والإيقاعِ الكَلِمَاتيِّ شَدِيدِ الوَقْعِ في النَّفْسِ الإنسانية.

والصُّورةُ الشِّعريةُ هِيَ حَجَرُ الأساسِ في بِنَاءِ القصيدةِ الغِنائية، والزَّمَنُ الحقيقيُّ القادر عَلى تَكثيفِ الأفكارِ في لَحظةٍ لُغَويةٍ واحدة شديدة التَّركيز، والرابطةُ الوُجودية بَيْنَ الإنسانِ والأرضِ، والعَلاقةُ المَصيرية بَيْنَ خَيَالِ الإنسانِ وَمَشَاهِدِ الطبيعة، والصِّلَةُ المَنطقيةُ بَيْنَ اللغةِ والرَّسْمِ، باعتبار أنَّ اللغةَ هِيَ الرَّسْمُ بالكَلِمَاتِ، والرَّسْمُ هُوَ الكِتَابَةُ بالألوان. كَمَا أنَّ الصُّورةَ الشِّعْرية تُحَقِّقُ التَّوَازُنَ بَيْنَ التَّجْرِبَةِ النَّفْسِيَّةِ والتَّجْرِبَةِ الاجتماعية، اعتمادًا عَلى البِنَاءِ اللغويِّ المُتَمَاسِك، واستنادًا إلى مَصادرِ المَعرفةِ التي تَتَكَاثَر باستمرار نَتيجة البَحْثِ عَن المَعْنى. مِمَّا يُؤَدِّي إلى إعادةِ اكتشافِ جَوْهَرِ الشِّعْرِ بِوَصْفِهِ عَملية تَزَاوُج بَيْنَ ذَاتِيَّةِ الشاعرِ وَتَجْرِبَتِهِ الوِجْدَانِيَّة، وَالغَوْصِ في أعماقِ العَواطفِ بِكُلِّ أبعادِها المَعنوية والمادية.

وَيَرتبطُ الشِّعْرُ الغِنائيُّ بشكلٍ وثيق بالمُوسيقى، والإيقاعُ والنَّغَمُ والتَّنَاغُمُ الصَّوْتِيُّ هِيَ عناصر أساسيَّة في بِنَائِهِ المَعْنَوِيِّ وهَيْكَلِهِ الرَّمْزِيِّ، وَيَتَميَّزُ بِرَهَافَةِ الأُسلوبِ، وَنَقَاءِ الإحساسِ، وَشَفَافِيَّةِ الصُّورةِ، والصَّفَاءِ العاطفيِّ. وكُلُّ هَذه المُكَوِّنَاتِ مُجْتَمِعَةً تُمثِّل رُوحَ التَّعبيرِ الفَنِّي، وتُجسِّد قُدرةَ الفِعْلِ الشِّعْرِيِّ عَلى حَمْلِ المَشاعرِ الشَّخْصِيَّة، ونَقْلِ التَّجَارِبِ الحَيَاتِيَّة، وتَكثيفِ المَعَاني المُتَشَظِّيَةِ دَاخِلَ فِكْرَةٍ واحدة، مِنْ أجْلِ تَسْهِيلِ تَركيزِ الانطباعِ لَدَى المُتَلَقِّي، اعتمادًا على العُمْقِ اللغويِّ، والتراكيبِ المُوحِيَة، وَسَلاسَةِ الأفكارِ، وَالصِّدْقِ الشُّعُورِيِّ، والذَّاتِيَّةِ في التَّعبير، وَهَذا مِنْ شَأنِهِ تَجذيرُ الهُوِيَّةِ الثقافية، وتَرسيخُ سُلطةِ النَّصِّ الأدبيِّ، وتَثبيتُ القِيَمِ الاجتماعية، لَيْسَ بِوَصْفِهَا أنظمة استهلاكية مُعَاشَة، بَلْ بِوَصْفِهَا حالات إبداعية مُتَجَدِّدَة وَمُتَدَفِّقَة.

وَمِنْ أبرزِ أساتذةِ الشِّعْرِ الغِنائيِّ الإنجليز، الشاعرُ ألفريد تنيسون (1809 _ 1892). وَقَدْ تَمَيَّزَ شِعْرُهُ بالرُّومانسيَّةِ الحالمةِ والحزينة، والتَّسَاؤُلِ عَنْ مَعْنَى الحَياةِ والمَوْتِ، وَهِيَ أسئلة عادَ إلَيْهَا الشاعرُ كثيرًا في مَراحل مُختلفة مِنْ حَياته. كما أظهرتْ بَعْضُ أعماله اهتمامًا واضحًا بالشرق العربي وشِعْرِه، وذلك نتيجة حركة الاستشراق التي عَمَّتْ أوروبا في القرن التاسع عَشَر، فجاءتْ مُقَدِّمَة قصيدة " لوكسلي هول "، لِتُظْهِرَ تَأثُّرَهُ بِمُعَلَّقَةِ امرئِ القَيْسِ، ولا سِيَّما مَطْلَع القصيدة على أطلال بناء لوكسلي.

وَتَمَيَّزَتْ قَصائدُ الشاعرِ الفرنسي آرثر رامبو (854 - 1891) بِالغِنَائِيَّةِ وَالبَرَاءَةِ وَنَضَارَةِ الشَّبَابِ مِنْ جِهْة، والتَّمَرُّد والسُّخْرية مِنْ جِهَة أُخْرَى.

والشاعرُ السويدي إريك أكسل كارلفلت (1864 - 1931) يُعْتَبَر بالدَّرَجَةِ الأُولَى شاعرًا غِنَائِيًّا، وَيَتَمَيَّز شِعْرُه بالأبعاد الرمزية والفَضَاءاتِ الغِنائية، وَقَدْ حَوَّلَ الأغاني الشَّعْبية إلى قصائد رمزية حيَّة عابقة بالتَّحَوُّلاتِ اللغويةِ، والطُّقوسِ المَعرفيةِ، والإشاراتِ الغامضة.

والأديبُ الرُّوسيُّ بوريس باسترناك (1890 - 1960) تُعْتَبَر الغِنَائِيَّة سِمَةً بارزةً في كِتاباته، وهي غِنائية قائمة على الأصوات والألفاظ المُتناغمة المُثْقَلَة بالأحاسيسِ والصُّوَرِ والإيقاعاتِ المُتَنَوِّعَة. كَمَا تَتَمَيَّز قِصَائِدُهُ بالدِّقَّة، وَتَدَاعي الأفكار، والتَّراكيب المُعَقَّدة. وَيَتَّصِف مُعْجَمُهُ اللغويُّ بالضَّخَامَةِ والغِنى. وَصُوَرُهُ الفَنِّية تَمتاز بالتكثيف، والأداءِ الجَمَاليِّ، وَقُوَّةِ التعبير.

وَيُعَدُّ الشاعرُ شيلي (1792- 1822) مِنْ أفضل الشُّعَراء الغِنائيين باللغة الإنجليزية. وكانت حياته غير العادية وتفاؤله العنيد وصَوْتُه القوي المُعترِض عواملَ ساهمتْ في جَعْلِهِ شَخْصِيَّة مُؤثِّرة، وَعَرَّضَتْهُ للتَّشْويه خِلال حَيَاتِه وَبَعْدَ مَمَاتِه. وَقَدْ أصبحَ أيقونةً لِلْجِيلَيْن الشِّعْرِيَّيْنِ اللذَيْن تَلَيَاه.

والأديبُ الإسباني لوبي دي فيغا (1562 - 1635) يُعَدُّ واحدًا مِنْ أفضل الشُّعَراء الغِنَائِيِّين في الشِّعْرِ الإسبانيِّ، وَتَتَبَدَّى حَسَاسِيَّتُهُ الغِنائية في القصائد التي كَتَبَ كَلِمَاتِها لِتُغنَّى.

والشاعرُ الفرنسي سان جون بيرس (1887 - 1975) يَمتاز شِعْرُهُ بِغِنائيَّة ذات طبيعة مَلْحَمِيَّة لا نظير لها بَيْنَ مُعَاصريه، كما أنَّه يُعْتبَر أكبر مُجدِّد في الشِّعْر الفرنسي. فعلى المُستوى التِّقني، نَجِدُه يَتَخَلَّى عن البَيْتِ الشِّعْري، لِيُؤَسِّس المَقْطَعَ الشِّعْري المُتكامل الذي يُشْبِه الفِقْرَةَ، كما أنَّه تَخَلَّى عَنْ بُحُور الشِّعْر الفرنسي التقليدية، وراحَ يَكْتُب الشِّعْرَ على شكل إيقاعات مُتتالية ذات مُوسيقى خاصَّة بها. في عام 1924، نَشَرَ قصيدته  الأشهر " آناباز " التي كرَّسته شاعرًا عالميًّا. و " آناباز " ليس اسْمًا لفتاة، بَلْ هُوَ تَعْبير إغريقي قديم يعني " رحلة إلى داخل الذات ".

***

إبراهيم أبو عواد / كاتب من الأردن

لا أحد يكتب القصيدة من دم الضوء..

ولا ينثر المجاز حين يكون ممتلئًا بالعافية.

إلى قارئ لا أعرفه

يستلقي الشاعر فوق البياض حائراً بين اضطرابه وقرّائه، كأنّه يُسائل الصمتَ، هل يكتبُ خوفَه، أم يعتلي صهوة الريح وبيده مفردات نحيلة تتدثر بالبلاغة؟

تتراشق الكلمات في ذهنه كسهام تخطيء أهدافها، فتتعثّر أحلامه بحبرٍ لا يجف، فكلّ جملةٍ مرآةٌ تفضحُ ما توارى خلف قناع اللغة...

فهذا البياض لا يرحم، لأن عيونا خفية تحدق فيه كأنها تنتظر اعترافاً ما، لكن؛ لا شيء في قلبه سوى نزيفٌ مؤجل، كلّما لامسَ المعنى انكسر. فينام على وسادة الأسئلة، ويخاطب الأرصفة التي علمته الانتظار، وكأن سطوره تمتد من جرحه حتى السماء.

هو لا يكتب ليُطَمْئِنَ أحداً على ضلوعه المحطمة بين الأوزان، بل ليُقنعَ نفسه أنّه لا يزال حياً. وأن الكلمات التي تخرج مذبوحة من لوعته، ليست سوى محاولة فاشلة للبكاء...

يمدّ إصبعه إلى السطر مثل محارب يسقط صريعا وهو يحاول أن يمسك بعروق الغمام، فيرتجف الورق بين يديه كجسدٍ عارٍ في حضرة الحقيقة، فأيّ خيانة هذه التي تجعله يكتب ليهرب، ثمّ يسقط في الفخّ ذاته آلاف المرات؟!

يا قارئي الذي لا أعرف

تولد القصائد حين يصرخ النَّدى من المناطق المُظلمة، ولما يضيق القلبُ على نبضه، و حين تصبح الذكرى خنجرًا لا يفهَمُ إلا الورق.

فالألمُ... هو اليدُ التي تُمسك بالقلم حين ترتجف الأنامل كأوراق الخريف ..

وهو تلك اللحظة التي يتمزق فيها شيء داخلك ، فتبحث عن أي لغة لتُنقذك...

لغة تعانق الجرح وتخرجك سالما من العاصفة.

ولولا الألم، لما بكى البحر في القصائد، فسافرت بين أمواجه سفن الشعراء كي تصطاد دمعه، ولا احترقت المدن في السطور وهي تنتظر الشتاء الطويل كي تنبت أزهار الحرف، وما تهنا بين ألف معنى كي نجد مفتاح الفرح في عالم يغرق في الأحزان.

فيا قارئي الذي لا أعرف

إن الشاعر لا يصطفي الحزن، لكن الحزن يختاره ليكون رسولًا يحمل عشبة الحياة كما الأساطير، ويمشي في الأرض مثقوب القلب، لا ظل له غير ذاكرته، وحين يتعب؛ يركب عربة الليل لعله يلتقي بالغرباء مثله، ليترك أثرًا من نورٍ على الورق.

اسأل شاعرًا حقيقيًا:

كم مرة مات ليكتب بيتًا في الهواء؟

كم ليلة بات فيها يُناجي اللاشيء وينثر الحنين؟

كم خسر؟ ،وكم ندم؟، وكم بكى وهو يصوغ مفردةً واحدة ؟

ستُدرك أن الألم ليس لعنةً تُطل من عيون الحزانى، بل بابٌ سريّ للشعر نحو بهْوٍ خفي يؤدي إلى الخلود.

وحين يضع النهاية لقصيدة ما، يكون قد تعب من كل الشرفات التي يطارد من خلالها السراب، وانهار بين الجمل التي انسكب فيها دمُه مثل المصابيح؛ لكن لا أحد استطاع قراءتها وفهْمها كما يريد.

وحين يتلاشى، لا يبكيه أحد، لكن؛ تبكيه النقطة الأخيرة، وكأن الشعر لا يولد إلا من الرماد.

***

نجاة الزباير

23/06/2025

 

شعرية الوصية ومأساوية الوجود في قصيدة "تركت لكم ما أحب"

يأتي نص الشاعر الفلسطيني محمود السرساوي "تركت لكم ما أحب" بوصفه شهادة شعرية مكثّفة تتجاوز البعد الشخصي إلى أفق إنساني ووجودي، حيث ينفتح النص على قضايا الفقد والميراث الرمزي ومواجهة الزمن. إنّه نصّ يتجاوز الحكاية البسيطة إلى بناء أسطوري-رمزي يتكئ على لغة الوصايا والنبوءات، ويغدو فيه الفعل الشعري أقرب إلى فعل خلاص روحي يمنح "الآخر" ما لا يمكن أن يُفنى: المعنى، الأمل، والجمال.

في هذه الدراسة سنعتمد المنهج الرمزي الأسلوبي لتفكيك البنية الدلالية والخيال الرمزي، والمنهج النفسي لفهم الحركية الشعورية العميقة في النص، إضافة إلى المنهج الهيرمينوطيقي (التأويلي) لتأويل أبعاد الخطاب واستنطاق طبقاته المعنوية، في ضوء حوار النص مع ذاته ومع قارئه.

- في مجال البنية الرمزية للوصية – من الملموس إلى المتعالي.

يبدأ النص بفعل تأسيسي: "تركت لكم ما أحب"، حيث يتجلّى منطق الوصية كهيكل نصّي شامل، يهيمن على حركة الدوال ويوجّهها. لكن المدهش أنّ الشاعر لا يورّث ماديات أو أملاكاً، بل يمنح "سماء تزيد عن الأرض جرحاً"، أي فضاءً فسيحاً مثقلاً بالمعاناة. هنا يتحوّل الميراث إلى رمز مركّب: السماء/الجرح، كأنّ الشاعر يسلّم وصاياه على شكل جراح كونية، لا على شكل عزاء.

هذا المزج بين السموّ (السماء) والجرح (الأرض) يخلق ما يمكن تسميته بـ"رمزية التضاد الخلّاق"، حيث تتحوّل المأساة إلى ميراث جمال، والفقد إلى إمكانية للحب والالتئام: "وقلباً تلوذون فيه إذا ما عشقتم وضاقت عليكم حدود الوطن".

القلب هنا ليس قلباً فردياً بل فضاءً جمعياً، رمز أمومي يحتضن الجماعة في لحظة التيه والاغتراب، ليصبح الوطن البديل حين تضيق حدود الجغرافيا.

- في مجال البعد النفسي – من الأنا المجروحة إلى الأنا المعطاءة

يُظهر النص توتّراً نفسياً عميقاً بين ذاتٍ مجروحة وذاتٍ معطاءة. فالشاعر الذي يقرّح السماء جراحاً، هو نفسه الذي يمنح "هبوب الصباحات بين الأصابع" و"خيل الجموح الذي لا يقال" و"جلال الجمال وخمر الأمل".

بهذه الصور يتبدّى الصراع بين نزعة الألم الوجودي (الجروح، النزف، الغياب) ونزعة التخطّي والإحياء (الأمل، الخلود، الصباحات). من منظور التحليل النفسي يمكن قراءة النص كتعبير عن آلية التحويل التسامي، حيث يتم تحويل الألم الشخصي إلى طاقة شعرية خلاقة تثمر جمالاً ومعنىً للآخرين.

* في مجال القراءة الهيرمينوطيقية – النص بوصفه خطاب خلاص

إذا كان التأويل الهيرمينوطيقي ينطلق من أنّ النصوص الكبرى تُقرأ بوصفها محاولات لفهم الوجود، فإن "تركت لكم ما أحب" هو نص خلاص: إنه يقدّم "ما أحب" لا بصفته حنيناً ذاتياً، بل كدعوة للآخر للعبور من الألم إلى المعنى.

إنّ تكرار اللازمة "تركت لكم ما أحب" ثلاث مرّات لا يمكن اعتباره مجرّد تأكيد، بل هو إيقاع طقسي يضفي على النص بعداً شعائرياً، وكأنّ الشاعر يؤدّي صلاة الوصية. هذا الإيقاع يتكامل مع موسيقى الألفاظ: (هبوب – الجموح – جلال – الخلود – شلال)، حيث ينحت السرساوي معجمه على إيقاع تصاعدي يحاكي حركة الروح من الأرضي (الجرح) إلى الكوني (الخلود).

في مجال الصور الشعرية والإيقاع

يمتاز النص بكثافة الصور ذات البعد الحلمي: "شلال لوز من النزف يولد خلف الجبال وبين الظلال وفوق السفوح"، صورة تجمع بين قسوة النزف وعذوبة اللوز، بين الموت والميلاد، في مشهدية شبه رؤيوية. أما الإيقاع الداخلي فيقوم على التكرار الدائري (تركت لكم ما أحب)، والتوازن التركيبي في الجمل: (سماء تزيد عن الأرض جرحاً / قلباً تلوذون فيه)، بما يعزز من البعد التراتلي الطقسي للنص.

- خاتمة

"تركت لكم ما أحب" ليست مجرد قصيدة وصية، بل بيان شعري فلسفي يقدّم ميراثاً من الجراح والجمال معاً. إنها كتابة تعيد صياغة مفهوم الإرث من كونه امتلاكاً إلى كونه معنىً مشتركاً يُترك للآخرين: الأمل، الجمال، الحب، وحتى الألم بوصفه ذاكرة جمعية. بهذه القراءة، يتضح أنّ السرساوي يبني نصّه على أساس تأويلي-وجودي يجعل من الشعر وسيلة لمداواة الجرح بالمعنى، ومن الوصية أفقاً مفتوحاً يتجاوز حدود الفرد والوطن إلى كونية الروح.

***

بقلم: عماد خالد رحمة - برلين

....................

تركت لكم ما أحب

سماء تزيد عن الأرض جرحا

وتنفض عنكم غبار الزمن

وقلبا تلوذون فيه إذا ما عشقتم

وضاقت عليكم حدود الوطن

تركت لكم ما أحب

هبوب الصباحات بين الأصابع

خيل الجموح الذي لا يقال

جلال الجمال، وخمر الأمل

وصبوة قلب تزور خطاكم

بكل السطور وكل الفصول

 وكل المقل

تركت لكم ما أحب

طيوف الخلود بشهوات روحي

ومليون نجم يقود الكلام

ويتلو السلام بملء جروحي

وشلال لوز من النزف يولد

خلف الجبال وبين الظلال

وفوق السفوح

 

حين يصبح العشق دينًا والمحبوبة ميتافيزيقيا.. قراءة نقدية في ديوان يحيى السماوي ..

ليس "التحليق بأجنحة من حجر" مجرّد ديوان شعر، بل هو نصٌّ كونيّ يتقاطع فيه الله مع المرأة، الوطن مع الجسد، والتصوّف مع الزنا المقدّس. إنه صرخة مجنونة على هيئة قصائد، يخوض بها يحيى السماوي معركته الأخيرة ضد الخذلان، الغربة، الفناء، والجمود العقائدي.

في هذا العمل، لا يعرض السماوي نصوصًا، بل يفتح عروقه ليكتب بدمه، بلحمه، بصلاته، بعريه، بطفولته، وبشيخوخته. كل بيت هو خلية نابضة، وكل صورة تشقّ الحواس كالعاصفة. نحن أمام شاعر لا يخاف من المجازفة، ولا يخاف من المجاز.

المحبوبة: أنثى، إلهة، كونٌ مكتمل

في ديوان السماوي، المرأة ليست نصف المجتمع، ولا نصف القصيدة؛ هي القصيدة بكاملها، وهي الجسد والنصّ في آنٍ معًا.

إنها البتول السومرية، العذراء المقدّسة، ومَن يتوضأ بنداها، ويصلّي نحو نهديها، ويُقيم شعائره على خصورها كأنه يؤسس ديانة جديدة:

" متوضئًا بنداكِ

صليتُ الغروبَ

ميمّمًا نحو الواحد الأحد: الفؤادَ

ونحو خدركِ مقلتي

وفمي توجّه نحو كوثر زمزمِكْ "

هنا، نلمح انزياحًا لاهوتيًا جريئًا، يعلن فيه الشاعر أن المحبوبة هي القبلة والقيامة والمحراب. هي الله الممكن في زمن الآلهة الغائبة. هو لا يعشق امرأة، بل يؤمن بها. ولعل إيمانه بها أعمق من إيمانه بالمفاهيم الثابتة.

القصيدة كعقيدة، والمجاز كفداء

يكتب السماوي كما لو كان الحلاج يعود بعد ألف عام، لكن أكثر عريًا، وأكثر ولهاً، وأقل خوفًا من صلب جديد. قصائده تتفجر مثل نبوات متمردة. وفي لحظة، تصبح القصيدة خمرة، ثم سريرًا، ثم صلاة، ثم سيفًا.

"أحببتُ فيكِ غدي الذي قد مرَّ في

أحلامِ أمسي حين عزّ المطلَبُ"

في كل بيت، هناك صوفيٌ يقبّل قدم نبيته، وفي كل فاصلة، هناك رسولٌ يعترف بخطيئة النور. إن اللغة عند السماوي ليست أداة وصف، بل طقس خلاص.1706 yahia

الدين الآخر: أنثوي، حسي، صادق

في ديوانه هذا، يتقاطع الإيمان مع اللذة، ويتقابل الجسد مع الروح، في لحظة شعرية نادرة. الصلاة لا تُقام في المساجد فقط، بل على شفتين، على نهدين، على عطرٍ فائرٍ من جسدٍ حيّ:

"صلّى على قميصها يومًا صلاةَ الظهرِ

ركعتينْ

لأنه في سفرٍ

بين سهوبِ الخصرِ والساقِ

وبين الجيدِ والنهدينْ "

ويعلن بلا وجل أن طقوسه قبلها كانت مدنّسة. كأن الحبيبة، في لاهوته الشعري، هي "الطهارة المطلقة"، وهي وحدها من تغسله من أدران الخطيئة:

"أقسمُ بالتفاحة المقدّسةْ

وبالندى الناضحِ من زهرتها

واللذة المحتبسةْ

أن طقوسي كلها قبلكِ

كانت

نزوة مدنّسةْ "

هذا ليس تمرّدًا على الدين بقدر ما هو إعادة تشكيل للقداسة نفسها، بنزعة حسية لا تخلو من النور.

المنفى الأبدي: الجسد وطن، والوطن قبر

الغربة ليست مكانًا في هذا الديوان، بل هوية مجروحة.

السماوي، المنفي بين وطنه المسروق وحلمه المشنوق، يُحوّل قصائده إلى خيام مؤقتة ينام فيها قلبه ويهذي.

هو النبي المطرود، والحبيب المصلوب، والشاعر الذي يرتّق جراحه بالحبر والدمع والغناء:

"ما منقذي مني سوايَ ..

أنا عدوي لو جنحتُ عن اليقينْ"

هكذا يعلن أن الصراع ليس فقط مع السلطة أو الوطن، بل مع النفس التائهة، ومع القلب الذي يخونه الرجاء.

لغة من لهب وماء

ينسج السماوي لغته من الياقوت والرماد، من الرموز السومرية والمفردات الطقسية، من ماء زمزم وخمر بابل. يجمع بين فصاحة التراث وتمرّد الحداثة. لا يخشى من المجاز العالي، ولا يتورع عن العري البلاغي:

" حينًا أمُصُّ التين والخوخَ

وحينًا أرشفُ الزفيرا

وأفرشُ البساطَ والوسادَ والشرشفَ

والسريرا

عبدٌ ..

ولكنّ الهوى صيّرني

أميرا "

هذا شاعر لا يؤمن بالقصيدة المداجنة .. يؤمن فقط بالقصيدة الحقيقية، وإن كانت مرقّطة بالجنون، بالوحل، بالشهوة، بالبكاء.

خاتمة: الشاعر متَّهمٌ بالحب

التحليق بأجنحة من حجر هو شهادة شاعر في محكمة الكون.

هو سِفر عشقٍ لا يعرف التوبة، وكتاب صلاةٍ من دون محراب، وأسطورة شاعر اختار أن يكون عاشقًا حتى الوجع، ومؤمنًا حتى الكفر.

في هذا الديوان، القصيدة ليست قصيدة، بل حياة موازية، بديلة، مكثفة، وموجعة.

وأكاد أجزم: لم يكن يحيى السماوي يكتب، بل كان يتطهّر.

***

بقلم: رانية مرجية

يقدم ديوان "جحيم" للشاعر المصري محمد أبو زيد صرخة جمالية في وجه العالم، سردٌ شعريّ يمتد على مساحة كثيفة من الألم والتجريب والتأمل. لا يقدّم الشاعر نصوصًا تقليدية يمكن احتواؤها في خانة “القصيدة الجديدة” وحسب، بل يذهب إلى تأسيس "سينما شعرية" داخل كل نص، مشحونة بالحركة، والقطع المفاجئ، وتراكب الأزمنة والمشاهد، مستعيرًا أدوات الصورة السينمائية والفانتازيا، وساخراً من أدوارنا الاجتماعية واليومية والتاريخية التي نرتديها على مسرح الكارثة.

منذ العتبة الأولى، يضعنا العنوان "جحيم" أمام نوع من الاختزال الوجودي الصادم، لكنّه ليس جحيماً كلاسيكياً؛ بل جحيماً عصرياً، تشكّله الميديا، وفوضى العالم، وجثث الذاكرة، وتحوّلات الهوية. جحيم مصنوع من الضحك المكسور، من تقنيات "الكولاج" الشعري، من مفارقة حادة تجعل القارئ يضحك ويبكي في اللحظة ذاتها.

الديوان ينتمي لما يمكن تسميته بـ "شعر ما بعد الكارثة"، حيث تتفكك الذوات، ويتحول الشعر إلى أداة للبحث عن البقايا وسط ركام الرماد. في جحيم، نجد ذاتًا ممزقة، مستلبة، تتماهى أحيانًا مع الأسطورة، وأحيانًا مع شخصيات من ألعاب الفيديو، أو أفلام الكارتون، أو مخلوقات من كوابيس الواقع السياسي والاجتماعي.

رسالة هذا الديوان تتجاوز الظرف الشعري أو التعبير الذاتي، نحو نوع من التحذير الناعم والزفير المعاصر؛ كأن القصائد تقول إننا نعيش داخل مشهد منهار بالفعل، وأن الشعر لم يعد نافذة أو خلاصًا، بل أداة لحفظ ملامح الرماد قبل أن يذروه الزمن. جحيم أبو زيد موجّه إلى زمننا الحاضر المشظى، وإلى مستقبل يحتاج إلى أرشيف عاطفي وجمالي يشرح لماذا سقطت المدينة، ولماذا لا تزال الأرواح تبحث عن أغنيتها في الظلام.

في قصائد مثل حروب هادئة، أنا أقوى من سلاحف النينجا، ميت يحرس الغابة، وكوروساوا خدعنا، تظهر براعة أبو زيد في بناء نص مزيج من الشعر والتأمل الساخر والنقد الثقافي، حيث تحضر الذاكرة الجماعية (الحروب، القرى، الموت، الغياب) ضمن بناء شعري شديد الخصوصية.

هذه "السينما النصية" التي يبرع في تركيبها، لا تخلو من حمولات وجودية، تأملات لاذعة في مصير الإنسان، وقلق متنامٍ حيال ما تبقّى من الحب، من الصداقة، من الحياة، في عالم يحترق بالمفارقات والغرابة والخراب.

بين قصيدة النثر والمشهد السينمائي

قصائد الديوان تكتب نفسها بمنطق «مونتاج داخلي». المشاهد لا تُروى، بل تُركّب، والقصيدة لا تُبنى بتراتبية، بل تتوزع ككادرات سينمائية. النبرة هادئة، لكن تحتها مرجل من الألم الخافت:

«لا أغنية مفضلة لي...

تمر الموسيقى من أذني اليمنى إلى اليسرى

دون أن تسقط منها قطرة واحدة.»

الذات مفككة، تتكلم تارة، تراقب أخرى، تهذي ثالثة. أبو زيد لا يكتب عن ذاته، بل يكتب بذاته، عبر منظور مكسور، يلتقط العالم من زواياه المظلمة، كما يفعل المخرج الذي يلتقط جماليات الحطام. هذه نصوص قابلة للمشاهدة لا للقراءة، تنتمي إلى ما وصفه رولان بارت بـ"نص المتعة": نص لا يُفكك، بل يُخترق، لا يُفهم، بل يُعاش.

ظلال 2019 وما قبل الجائحة

حين نُشر الديوان في 2019، لم يكن أحد يعرف أن العالم على مشارف عزلة جماعية كبرى بفعل الجائحة، لكن روح النصوص توحي بأن الشاعر كان يكتب من قلب ما بعد الكارثة. هناك نبوءة شعرية هادئة في جحيم؛ عزلة مرئية، خوف من الخارج، زمن مفكك.

«صيدليات لبيع الأيام»

«الزمن تطاير كأوراق الرزنامة»

«كل من قابلتهم... تحدق فيّ الآن، وتحاصر البيت»

هذه العبارات تشي بتيه زمني، وفقدان تام لمرجعية الواقع. الشاعر هنا لا يرثي فقط، بل يوثّق انزياح المعنى، حيث يتحوّل الزمن إلى سلعة، والعلاقات إلى مؤثرات صوتية، والحياة إلى شاشة بلا صوت.

السينما: خيال لا استعارة

خيال محمد أبو زيد السينمائي ليس مجازًا، بل بنية تفكير. الديوان مكتوب بعدسة مخرج، لا قلم شاعر. نقرأ مشاهد حية، مكتملة العناصر:

«أدخلها من السقف، ثم أبنيه فوقنا

تغني حتى تطير الغرفة مثل بالون...

نضع أيدينا على الجدران الزجاجية

ونتأمل في انبهار ملايين النجوم في الخارج»

وفي مشهد آخر:

«أرسلت إليك غرابًا يحمل وردة...

اعتذاري يجرّ جثة خلفه»

هذه الصور لا تعتمد على المجاز اللغوي التقليدي، بل على البصري الخالص. نكاد نرى اللقطات تتحرك أمامنا. القصائد تتحول إلى cut scenes، ومجموعة متسلسلة من اللقطات المأخوذة بكاميرا قلقة، تلتقط التفاصيل وتغوص في مشهدية الأشياء.

نموذج آخر: "ميت يحرس الغابة"

«أنا الميت الذي يحرس الغابة

يرتدي قبعة الشرطة

ويكتب تقاريره بالنار

كل مساء أعدّ عدد الأشجار

أرسم وجوهها وأبتسم

أشجار ترتدي أحذية مطاطية

ولا تخرج من الأرض إلا بإذن»

هنا، لا نشاهد فقط مشهدًا شعريًا، بل نتابع افتتاحية فيلم سوداوي يبدأ من الغرابة وينتهي في التأويل الوجودي. الميت يرتدي زيًا نظاميًا ويحرس أشجارًا لها وجوه وأحذية. هذه المشهدية لا تتوسل الرمزية المباشرة، بل تعمل وفق خيال بصري فانتازي، تستعير من الرسوم المتحركة ومن أفلام ديستوبية الطابع، لخلق سينما شعرية داخل القصيدة.

سخرية وجودية وصوت من الهامش

بدلًا من صوت شعري مباشر أو نبرة احتجاجية، يقدّم أبو زيد في جحيم صوتًا داخليًا لا يكترث للنجاة، بل يراقب الخراب ويصفه، كما يفعل سارد في فيلم وثائقي عن نهاية العالم:

«كوروساوا خدعنا»

«طفل يعبر خلف أليس إلى بلاد العجائب»

«البيت فوقي تتهدم حيطانه حتى تصبح هرمًا، ليس أكبر من خوفو ولا أصغر من منقرع»

هذه العبارات تحمل طابعًا ساخرًا وغرائبيًا في آن. لا يوجد مركز، ولا بطل. بل فقط ذات مهشّمة تحاول أن تقول: «أنا موجود، ولو على الهامش».

نهاية مفتوحة على رماد

جحيم لا يُغلق أبوابه، بل يفتحها على مساحة من التأمل المتوهج. الشاعر لا يقدّم عزاءً، ولا يحاول بناء جسر للهروب من الألم، بل يمكّن القارئ من العيش داخله، كأن النصوص تقترح علينا: «كن شاهداً. لا أكثر. لكن كن حاضراً».

هذه القصائد تشتبك مع كل شيء: مع الغابة التي لم يدخلها الشاعر لكنه كتبها، مع الطفولة التي تنقلب إلى منطقة أشباح، مع "الديناصورات" التي تغزو الشعر وتدير الندوات، مع الحروب التي يخرج منها الفلاحون ليحصدوا أرواحهم، ومع القرية التي لم تعد سوى رأسه المحفوظ في "النيش" ليتلو عليه الضيوف الفاتحة.

الرسالة الأعمق التي يتركها أبو زيد بين السطور أن الشعر في زمننا ليس ترفًا، بل مقاومة ناعمة. أن الذاكرة تحتاج إلى أشكال جديدة لحفظ الألم، وأن الشاعر، في النهاية، ليس شاهدًا على الواقع فقط، بل هو من يعيد ترتيب رماده بصيغة يمكن أن يتنفسها المستقبل.

محمد أبو زيد، صاحب مشروع أدبي متجدد، تتقاطع فيه الحساسيات الشعرية الحديثة مع خيال بصري حاد، وسخرية وجودية لاذعة، ووعي عميق بالهشاشة المعاصرة. كتب في الشعر والرواية والنقد، ويمتاز صوته الأدبي بفرادته، لا يسكن في يقين، بل يكتب من مناطق الشكّ، ويقيم في تخوم اللغة، بين الحلم واليومي، بين الضوء وظله.

جحيم، يتجاوز كونه ديوانًا شعريًا فحسب، إلى أن يؤرشف روح معاصرة أنهكها التيه، وسيناريو مفتوح لقصائد قادمة تكتبها الحروب الصغيرة داخل كل بيت، وكل سرير، وكل شاشة.

***

بولص آدم

(ولدتُ في ظهيرة الضجيج للشاعرة المغربية وفاء أم حمزة اجليد)

تمهيد: قاربتُ الديوان انطلاقاً من الإجراء الإحصائي المشفوع باجتهادنا في التأويل معضوضاً باستيعابنا للحظات السيميائية القادرة على إضاءة المتن الشعري الموسوم بعنوان (ولدتُ في ظهيرة الضجيج) للشاعرة المغربية (وفاء أم حمزة اجليد) التي راكمتْ في الساحة الثقافية، لحدّ الآن، ثلاثة إصدارات هي بالترتيب الزمني:

- انْڭولْ كلمْتِي، وهو إضمامة في فنّ الزجل

- أغنيات أحفظها عن الملائكة، ديوان في قصيدة النثر

- ولدتُ في ظهيرة الضجيج، ديوان في قصيدة النثر

- وديوان قيد الطبع لعنوان (صافْلُو) في قصيدة النثر

مدخل منهجي:

يهتم الإجراءُ الإحصائي بـ(تتبع السمات الأسلوبية ومعدّل تواترها وتكرارها في النص1. ذلك أنّ أحد أهدافنا من هذه المقاربة هو جعل الأرقام تنطق بالدلالة. من هنا تتبعنا للظواهر المعجمية في الديوان وتراكماتها داخل ثنائية القصدية وعدم القصدية، في احترازٍ منهجي نقول فيه إننا لا نستنطق المفردات المتراكمة والمترددة داخل معتقل القاموس الفارض أنساقَهُ الماهوية المرتبطة بالحدود والتعريفات، وإنما نستنطقها داخل سياق الديوان ككل وداخل القصيدة كجزء من هذا الكل، باعتبارهما رؤيا تتجاوز الحدود المعجمية، علماً أن الوقوف عند مخرجات الأرقام لا يقدم الدرس النقدي في شيء إذا اكتفى بعملية العدّ والرّصد من أجل العدّ والرّصد فقط... الإحصاء إجراء تقني يمثل وساطة لا غاية.

الإجراء الإحصائي في دراستنا هذه لا قيمة له إلّا داخل المنهج التأويلي السيميائي الذي حرصنا في مقاماته على دمغه بشرطين:

- شرط العلامة الفائضة، ويتعلق الأمر بدراسة العلامة في ذاتِها وفي تداعياتها. مثال ذلك رصد علامة (الماء) داخل ذاتها بما هي ملفوظة عبر الفونيمات التالية (م – ا – ء)، ثم في تداعياتها بما هي ظلال قد تنبع من الاشتقاق مثل (المياه – مائيّ...) وقد تتأـّى من المعنى في تعبيراته المختلفة مثل (الغيم – السحاب – البحر – أغسل ... وما جاور ذلك).

هذه التداعيات هي في عمق التحليل تأسيسٌ لممكناتِ وجودٍ مجازية تصنعها الذات المؤوّلة على شكل دلالة. ومثال ذلك قول الشاعرة:

كان يمكن أن أكون نورسة – 2

قد يقول قائل إن الأمر متعلق بدلالة الحرية، ولكن هذا التخريج ليس إلا دلالة في وضعٍ تأجيلي على حدّ تعبير (جاك ديريدا)3. ومعناه أنْ لا حقّ لدلالة الحرية في ادّعاء القطعية مادام الأمر متعلقاً باجتهادٍ في تأويل المتن الشعري، ومن ثمّة فلكل دلالةٍ نصيب أختِها وأخواتِها في التجلّي دون ادّعاء الهيمنة.

- شرط التأويل المشترك، وهو القائم على أن فهم المتن الشعري أو غيره من المتون، هو حصيلة تقاطعٍ بين ما نفهمه في النص في لحظته الحاضرة وبين شتى المعارف التي نحملها في عمقنا الإنساني. نفهم من ذلك أننا لا نشتغل في دائرة هيرمينوطيقية مغلقة، بل نشتغل في أفق واسع من الدوائر التأويلية لا نكون فيه منقطعين عن جملة المعارف التي نحملها في وعينا وفي لاوعينا. وهي توجّهنا وتؤثّر فينا في تخريجاتنا لممكنات الدلالات عبر تأويلنا المشروط.

نفهم من هذين الشرطين أن حضور العلامة في المتن وفي الدرس النقدي هو حضور موسوم بالتنسيب لا بالإطلاق. وأن الذات القارئة للمتن الشعري وغيره من المتون هي ذات تتحول من دائرة مغلقة إلى حضور أنطولوجي متعدد السياقات ومنفتح جدّا.

المقاربة:

1 – المعرفة بالنقيض:

نلتقط معاً مفردة (الضجيج) بعيداً عن نية قراءتها داخل سيمياء العتبة. بل نلتقطها لتجاوزها عبر نقيضها 4. الذي يحظى بصفة الهيمنة إحصائياً، ونقصد بذلك مقولة (الهمس). فقارئُ العنوان سرعان ما ينجرّ إلى فكرة الضجيج في تجلياته الصاخبة، ويحسِبُها في تراكمها المتواضع على الشاعرة ويبني على ذلك أحكامه في غير تروٍّ أو تؤدة. في حين أن الضجيج مقولةٌ لم تتجاوز في بعدها التراكمي خمسةَ ترددات، في الصفحات الآتية: ص 19 – 24 – 47 – 78. ويتبدى في هذه السياقات أن الضجيج مرصودٌ لغير دلالة الضجيج، ذلك أن الشاعرة ساقته في سياقات بعيدة عن تأكيد تبئيرهِ باعتباره صوتاً غالباً ومهيمنا، مثالُ ذلك أنها في الصفحة 19 ربطته بالنفي (و لا الضجيج المسافر)، وفي الصفحة 24 غلّبتْ عليه مقولة الصمت، وفي الصفحة 47 بأرتِ الشاعرة النشيد على مقولة الضجيج، وكذلك وقع في الصفحة 78... نفهم من هذه الأمثلة مكر الشاعرة وهي تحاصر مقولة الضجيج باعتباره صخباً داخل طوقٍ حريريٍّ يجرّد المفردة من محتواها الصّارخ، لتحوّله سيميائياً إلى نقيضه\الهمس. ولا أدل على ذلك من ربط الشاعرة للضجيج بمفردة النشيد الفاتكة بدلالة الصخب. الشاعرة ترمي في روعنا بنداء يمجّد الهمس بدل الصخب.

إن تبئير مقولة الهمس بدل الضجيج، هو اختيار ذكي من الشاعرة، يصف الذات منذ ولادتها داخل الصخب، وقد آن الأوان للهمس كي يأخذ مقاليد الذات ويوجّهها في فلسفة العمار الهامس، لأن المعنى يكمن في الهمس.

و الديوانُ طافح بمقولة الهمس خارج دوائر العلامة الذاتية المنطوقة في فونيماتها (ه – م – س). ونجده بغزارة في العلامات المعانقة لظلالِ التداعيات، نكتفي بالأمثلة الدالة التالية:

- القصيدة 3 – كل نصوصي خواطر السنونات

- القصيدة 5 – قلبي كوخ مخمليّ

- القصيدة 7 – دعني أغزل من نبضك نفساً لصباحي

- القصيدة 8 – في مضمضة الفجر

- القصيدة 9 – أستمع لأنين الماء

- القصيدة 10 – أسموبالكلام العصيّ كأنثى الربيع

- القصيدة 11 – لم أبتعد كثيرا في الكلام عن سيرة العطر

- القصيدة 12 – لا صوت في دمي

- القصيدة 13 – أسير خفيفة كأغنية

- القصيدة 14 – وصمتي وجه آخر للناي

- القصيدة 15 – ما حاجتي إلى مساء فوضوي

- القصيدة 16 – أحجب الكلام عن الكلام

- القصيدة 17 – أغنيتي من ياسمين

- القصيدة 18 – من أنا لِأرث هدوء الياسمين

- القصيدة 19 – أتعلّم أسرار الناي والطين

- القصيدة 20 – واقفة على شرفة الكلام

- القصيدة 21 – أبتلع صمتي القديم

- القصيدة 22 – أتلو قصيدتي في خشوع

- القصيدة 23 – أنهض في فم غزالة

- القصيدة 24 – أرتّبني مجازاً على نهد الضوء

- القصيدة 25 – أزرع نبض النشيد ياسمينة

- القصيدة 26 – لو أن الكلام عنها صار أخف

- القصيدة 27 – أربّي الشعر على نهد الصبيحة

- القصيدة 28 – وترٌ لأغنية العطر

- القصيدة 29 – هذه القصائد خيالات في نبض القمر

و هذا الجرد ليس حاصراً لكل تداعيات الهمس بقدر ما هو تمثيليٌّ فقط، اخترنا منه بعض الأمثلة فيما القصائد كلها عامرة بهذه المقولة بشكل يدعو إلى درس هذه التداعيات الهامسة في مقاربة مستقلة نظرا لحمولتها القوية في فهم رؤيا الشاعرة واستيعابها.

سيمياء النبات والكينونة السديمية:

أحصيْنا في هذا الحقل الدلالي تراكماً معجمياً غزيراً وملفتاً للنظر، حتّى إن القصائد في الديوان لا تخلو واحدة منها من إشارة أو عبارة أو بشارة. وقد نيّف هذا التراكم على 113 تردّداً متنوعاً لا يكرر ذاته في شبه أو تكرار أو نسخ، ولو قيد أنملة.

المقولة النباية حجم التردد

الورد 24

الياسمين 13

السنابل 07

التفاح 06

الشجر 07

العشب 06

القرنفل 05

الصفصاف 05

القطن 05

القصب 05

الربيع 04 – بمفهوم العشب

البنفسج 03

القمح 03

و من النبات ورد في الديوان كلّ من الخزامى والعنب والسنديان والتوت والنخلة والزيتون واللوز والزنبق والحبق والليمون والرمان والزهر والبرتقال و...

لا نتحدث هنا عن محور الطبيعة، بما هي كائنات يدخل في مجالِها كلٌّ من النبات والطير والحيوان والجبل إحالةً على غرضٍ شعري تغنى به الشعراء قديما وحديثا. وإن كان هذا الظلّ حاضرا في الديوان، إلا أن حديثنا هنا يحصر الدرس النقدي في مقولات النبات باعتباره قوّة سيميائية حاضرة في وعيِ الشاعرة وفي لاوعيِها، يؤطّر مدخلات إبداعها ومخرجاته.

وحضور هذا الحقل الدلالي ليس حكراً على الشاعرة، بل هو محور قديم قال فيه الكثيرون ومنهم الأعشى:

وتضحك عن غرّ الثنايا كأنه \\\ ذرى أقحوانٍ نبته متناغم

ومنهم امرؤ القيس:

إذا قامتا تضوع المسك منهما \\\ نسيم الصبا جاءتْ بريّا القرنفل

إلا أن حضور النبات في سياق ديوان (ولدتُ في ظهيرة الضجيج) أمر آخر، يحتلّ فيه هذا العالم بؤراً نفسيةً واسعة بالإضافة إلى المساحات الفضائية في الديوان. من هنا قيمة هذا المحور الفنية وضرورة استنطاقها في ممكن الدلالات.

في بداية الديوان وفي قصيدة (بنفسجةُ النشيد) أعلنت الشاعرة عن شيء لافت. يتعلق ببيان شعري يمارس خلخلةً في ثوابت الكينونة، تقول فيه:

كان يمكن أن أكون نورسة

كما كنت قبل الآن

أو أكون شجرة لوز

في حلم ناسك – 5

التأخير في الكلام العربي تبئير. والكينونة هنا فضّلت - عبر تقنية التقديم والتأخير - تجلّيها باعتبارها وجوداً داخل النبات (شجرة لوز). وهنا يتكرر فعل الكينونة داخل مقولة الاحتمال، كما النبات هو في الأصل احتمال حياة إذا توفرت شروطها ومنها الماء على أقل تقدير... وقد حشدت الشاعرة في هذا المقطع حزمة من فعل (كان) في صيغه المتنوعة (كان – يمكن – أكون – كنت – أكون). والصورة السمعية المؤثّتة داخل النسق الصوتي المتشكل من فونيمي الكاف والنون، تهيمن على مساحات الاستقبال. وتتأكد فاعليتها الدلالية داخل سيمياء النبات: أو أكون شجرة لوز.

واختارت الشاعرة صيغة التنكير بدل التعريف لمقولة (اللوز). تاركة المفردة على غارِبِها تمارسُ حضورها النكرة الملقي بظلالِ الاحتمالات القِرائية. لأن التعريف يشير إلى متعيّن، فيما التنكير أبلغ في الإشارة والعبارة على الأقل هنا في هذا السياق.

يتحرك في المقطه أعلاهُ إيقاعٌ صوتيٌّ للكاف منغوماً بأثر صوت النون، ليُخرج الكينونة من جفافِ الفيزياء إلى مقام الأبعاد:

- الكينونة في بشريتها = علاقة تبادلية بين الذات والواقع

- الكينونة في حيوانيتها = المعادل الموضوعي في النورسة

- الكينونة في وجودها النباتي = جوهر التبئير في شجرة اللوز

يكاد هذا الاحتمال يصم المقطع والقصيدة والديوان معاً بوصمة الشك. ويفيدنا التركيب (هوس الرؤى) ذلك. ويفسر لنا هذه الكينونة المتعددة كالتالي:

الشك ------ الهوس

- الشبهة

- الاحتمال

تبحث الشاعرة عن اليقين أو ما يشبه اليقين. تبحث عن صيغة له تحوله من مقولة الاحتمال إلى مقولة الثبات وتوطين الذات خارج الوجود الفيزيائي الموسوم بالبداهة. إنه الوجود داخل فكرة النبات باعتباره عالمَ حياةٍ ثم عالمَ سديم.

و لا يتعلق الأمر بعالم النبات في حقيقته الفيزيائية، بل بجوهر النبات ووجود الذات المتكلمة لا في جغرافية تجسّدها بل في جوهر وجودها المنفلت من قبضات التشيّؤ.

و لننظر إلى عبارات شعرية من الديوان هي أمثلة فقط، تستبيح المادة وتخرج من شرنقاتها إلى معانقة الرؤيا والسديم في تفسير الكينونة داخل عوالم النباتات:

شجرة لوز – قمح الكلام – رقصة الحبق – الورد وتنهيداتي – أرتّب روائح الليمون – وكلّما استيقظت الكمنجات تنمو في كفي بنفسجة النشيد...

فيض من غيض هذا فقط. وفيه تختم الشاعرة رحلتها من الشك إلى اليقين عبر صيرورة وسيرورة النباتات مقرونة إلى أنطولوجيا الذات في تشعّبٍ ماهويٍّ يسير في اتجاهِ تناغمٍ وانسجام دلاليين يحكيانِ أكثر من بعد:

- قمح الكلام ......... عطاء

- رقصة الحبق ......  حركية وجمالية

- الليمون ............ ترتيب محطات الكينونة

- البنفسجة ........... يقين الإبداع

و غيرها من أمثلة ولادة يتناسل فيها التأويل المشروط بقرائن الحال والمقال في الديوان.

هكذا نستأنس بالشاعرة وهي تُخرج مقولة النبات من نمطية التمثّل القديم حيث الشجرةُ معبودةٌ في الأساطير القديمة – مثلاً – إلى كينونة جوهرية تختلف عن الكينونة في ميلادها المتشيّء. قالت (أكون شجرة لوز). وهنا وتحديدا في هذا المقام، يصبح النبات هوية. وهنا ينبغي التنبّه إلى القفزة النوعية البائنة بينونة كبرى من الشجرة داخل الطقس الخرافي إلى الشجرة داخل الماهية.

و النباتات حاضرة في الديوان لأنها حاضرة في نسغ الإنسان، موضوعاً غذائيا وبيئياً وزراعياً وعلمياً وثقافياً ودينياً وأسطوؤياً وغيرها من مجالات وتصنيفات. فلا يكاد يخلو مجالٌ ما من الاتصال بهذا العالم بصورة أو بأخرى. ولعلّ قصّة الخلق الأولى تثبت ذلك، حيث التعامل مع الشجرة كان من باب التوق الى فكرة الخلود. فلا غرو أن يكون الديوانُ حاصدا بغزارةٍ بائنةٍ دلالات النبات ومخرجاته في أيادي التأويل وسيمياء الكشف عن بعض الغائر من كينونة الذات المتكلمة في رصدها لكينونتها الخاصة.

من هنا نقرأ جمالية الصوغ الشعري في قوة البناء والدلالة والأبعاد في مثل قول الشاعرة:

أنقش سيرةَ النحل

على رموش صفصافة

أركض إلى المعنى

كي تذوق فكرتي العطر

و أعود لأغزل سنابل صمتي

على نوتات الحلم – 6

إن المتتبع لشرط هذه الكينونة النباتية ليفاجأ بالتراكم الغزير الباني نسقَ اعتمالٍ شعريٍّ يتميّز بالفرادة في طرق هذا الباب الدلالي والأبعادي والتأويلي. لقد اكتفينا بما يمثّل له تمثيلا قاصراً عن قراءة الكينونة قراءة مستوفية لخطوط طولها وعرضها داخل هذا المقام الضيق مساحتُهُ الورقية. فلكل قصيدةٍ حظّها من هذا الإشراق القويّ الحاضن للذات في جسد زنبقة أو ياسمينة أو حبّة قمح أو نكهة تفاحة أو في سفر عطر ليمونة...

خلاصة:

و إذا شئنا خلاصة لهذا التراكم الغامر نقول ما قالت الشاعرة في آخر قصيدتها الموسومة بـ(طائر المساء الغريب) وهي تردم داخلها كل المسافة بين النبات والذات والشعر... قالت:

و لأنني مُزارِعةٌ

في حديقة الشعر

أكتب عن حكمة الرّمان

أفتح رئتي للهواء المجفّف

أحرر حقائبي من غربتها

أرشفني شفة الضوء

مني بارقة الكلام

سقطت في نهد قصيدة ... 7

***

نورالدين حنيف أبوشامة

باحث في الأدب والفكر \ المغرب

....................

إحالات:

1 – د ابراهيم محمود خليل\ النقد الأدبي الحديث\ دار المسيرة للنشر والتوزيع\ ط 1 2003\ ص 157

2 – وفاء أم حمزة اجليد\ ولدتُ في ظهيرة الضجيج\ مكتبة السلام الجديدة\ الدارالبيضاء\ ط 1 ،2024\ ص 11

3 – للمزيد من التوسع أنظرJacques Derida / positions/paris minuit/ 1972

4 – علمتنا اللسانيات الحديثة وقبلها علّمنا علم القراءات القرآنية أن التعريف بالمقابلة وبالنقيض يكون فعّالاً وناجعا.

5 – الديوان\ ص 11

6 – الديوان\ ص 25

7 – الديوان\ ص 74

 

للكاتبة والروائيّة محبوبة محمد سلامة

محبوبة محمد سلامة - كاتبة وروائيّة‏، عملت ‏معلمة‏ للقراءات العشر للقرآن الكريم‏، وتدرس في ‏رواق الأزهر الشريف للقرآن الكريم‏، كما تدرس في ‏كليّة آداب جامعة القاهرة، قسم علم نفس وفي ‏كليّة دار العلوم جامعة القاهرة‏. (سُقِيَتْ روحها بالقرآن وتشبع به حرفها وارتوى) كما يقول أحد نقاد أعمالها.

صدر لها: كتاب "جنود من عسل" – رواية "على شق الوسن" – رواية "دليلة" – كتاب "أمسك عليك قلبك" – رواية "ونراه قريباً" – رواية "يوم المزيد" – كتاب "أميرة الدموع وقلوب الزمن". ورواية "وحوش في منزلي" موضوع دراستنا.

الرواية في المضمون:

البنية الحكائيّة للرواية:

تعالج الروائيّة "محبوبة" في روايتها "وحوش في منزلي" قصة فتاة جامعيّة تزوجت بعد تخرجها من الجامعة في بداية العقد الثالث من عمرها، موظف حكومي، أنجبت له في ولادتها الأولى طفلة سمتها "مريم"، وبعد أربع سنوات جاء حملها الثاني بثلاثة توائم، ولدان وبنت هم "روح، وريحان، وريتال".

منذ الأيام الأولى للولادة بدأت التعب والارهاق يأخذ مأخذه من حياة الأم فكراً وجسدا. حتى راحت الكوابيس تلاحقها في نومها إن استطاعت النوم (انتفضت في يوم من نومي على احساس ألهب عقلي.. أيدي تتحسسني وتنهشني.. حاولت التملص والهرب لا مفر ولا مقر، اختلطت انفاسي بأنفاس من عند رأسي وهو يقترب من وجهي ويتحسس خدي وأنفي، حاولت فتح عيني لكن شعور من الارهاق والتعب قد أنهكني.. صرخت بداخلي.. ابعدوا عني لكن الصوت لم يتعدَ حدود عقلي وفكري.في لحظة سئلت نفسي.. هل أتمنى الموت الآن أم أنتظر قليلا ؟. وصدع الرفض في رأسي معلنا ان هذا التمني سيكون دليلاً على الاستسلام والهزيمة... فتحت عيناي بعد توسلي لها لتنفتح وتدع عنها سلطان النوم وآثامه فالنوم لم يعد مسموحا لي بعد الآن.). (4ص).

بعد خمسة عشر يوماً من ولادتها تقرر الرحيل من منزل أهلها إلى منزلها.. تتوسل أمها وأختها أن تبقى أياماً أخرى حتى تتعافى من آلام الولادة، إلا انها تقرر الذهاب أخيراً وهي تقول لأختها التوأم "هدى" على الهاتف التي نعتتها بالجنون على رحيلها إلى منزلها وترك منزل أهلها غير مراعية وضعها الصحي :(انت ناسية أن اختك بتمتحن، وأمك مش حمل مراعية أولاد بالوضع دا، وطبعا أبوك إن كان مش عاوز يزعلني ويتكلم فانا من غير ما يقول لازم أخلي، عندي دم إزاي راجل في سنه يستحمل صريخ ثلاث أطفال في وقت واحد !. انا مش بستعبط.. أنا بحاول ما ضايقش الي حواليا.).(ص6).

مع وصولها إلى منزلها، تبدأ مأساة أم وحيدة مع أربعة أطفال كلهم بحاجة لتأمين حاجاتهم ومتطلباتهم، من طعام ورضاعة وتنظيف وكل ما يتطلبه الطفل الرضيع... ويلها صراخهم الذي لا تعرف سببه، هل هو من الجوع أم من ألم ما: (وعلا صوت الصراخ، وشعرت بجسدي يسخن من أثر صوتهم ورأسي تكاد تنفجر، وتجمعت في عيني دموع القهر ورأيتهم كوحوش قد سكنت عالمي بملامح طفوليّة بريئة تخدع الأعين ويتملكوا بها القلب).(ص8) فتصرخ بأعلى صوتها وهي تقول لزوجها: (إبق الليلة دي كلها هناك جنب السرير وظل إسأل عليا من فترة للتانية لا يكون جرالي حاجة. ).(ص9 ).

وهكذا تمضي أيام التعب والشقاء مع (وحوشها) كما سمتهم، حتى راحت تنسى ذاكرتها أشياء مألوفة عندها كبعض آيات القرآن: (مر أول يومان لي دون نوم تماما، فجأة عرفت معنى الجنون من قلة النوم، نام اثنان وظل ثالثهم يبكي بدون سبب، غيرت حفاضه، أطعمته حتى اكتفى، أعطيته دواء المغص، أخذته في حضني كي يهدأ وكل هذا وما زال يصرخ خ خ خ.. أكاد أجن.. أصمت.. يكفيك.. ارحمني لكن يا ليته يفهم ، بدأت أربت علي ظهره حتى وجدتني أردد سورة الفاتحة ثم أوائل البقرة وأنهيت أول ربع ووقفت ولم أعد استطيع التكملة.. يالله أين ذهب الحفظ!! ما الآية التي بعدها ؟ ). (ص10).

إضافة لفقدان بعض ذاكرتها بدأت تشعر بخلل واضح في رويتها بسبب ما تعانيه من تعب وشقاء مع وحوشها: (رؤيتي صارت مشوشة، نظرت للسرير وجدته وقد امتلأ أطفالاً..ما يقرب من العشرة كلهم على السرير.. كدت أصرخ من الفزع ،إنه كابوس مخيف لا بد أنني نائمة، لكن يا ليته كان كابوسا كنت حينها سأفرح لأنني ذقت طعم النوم لكنه ضعف رؤية وتشوش من قلة النوم جعل عيناي ترى ما لم يتواجد في الحقيقة.). (ص11).

مشكلة أخرى حلت مع وحوشها... لم يوافقهم حليب أمهم، وهذا ما جعل زوجها يبحث عن عمل إضافي لتأمين مصروف العيال من حليب ودواء وغير ذلك.

كل ما كبر الأولاد يوما كبر همهم وازدادت حركتهم وعبثهم في محتويات البيت من نثر وتكسير لكل ما يقع تحت أيديهم إضافة لإذاء أنفسهم. كل هذا كان يشكل عبئاً إضافيا على الأم من كل النواحي الجسديّة والفكريّة والروحيّة..

في يوم التقت عيناها في المرآة فجأت: (وقفت أمام المرآة ورفعت وجهي إليها، وتأملت تلك الملامح التي أظنني أعرفها منذ زمن بعيد، تألمت لحالي، اقتربت من المرآة وألصقت وجهي بها كأنني أتأكد أنني صاحبة هذا الوجه. فرأيت وجهي وقد نزفت منه الحياة، حينها رفعت يدي لأنظر إليها فصدمني اصفرارها وجفاف جلدها... أدمعت عيناي من منظري وكأنني من ضحايا حرب نزعت الرحمة من قلوب فائزيها فجاروا على خاسريها.(ص31).

وهنا تتطرق الروائية إلى حالة أخلاقيّة أو وجدانيّة تركت آثاراً نفسية عندها بسبب جارتها التي تركت عندها أولادها مرات عديدة للعناية بها، وعندما احتاجتها للمساعدة في العناية بأولادها لمدّة ساعة لظروف طارئة رفضت مساعدتها، لقد تنكرت للجميل. إلا أن العذاب النفسي الأكبر يأتي من حماتها التي ترفض العناية بأطفالها الصغار عدا الطفلة مريم التي تأخذها دائما معها إلى منزلهم، في الوقت الذي تُحَمّلُ زوجة ابنها ما يتعرض له الأطفال التوأم من مشاكل صحية أو غيرها متهمة إياها بالإهمال.

تمر الأيام مسرعة بكل شقائها وانعكاسات هذا الشقاء على الأم فيكبر الأولاد.. مريم أصبحت في السادسة ودخلت المدرسة الابتدائية، والتوأم الثلاثي وصلوا العامين من العمر فيوضعونهم في الحضانة، ولكن رغم تحوله العمري تزداد شقاوتهم وعبثهم.

في نهاية الرواية تسافر الأم وأطفالها ووالدها ووالتها وأخوها وأختها "ليلى" رحلة لمدّة يومن إلى الاسكندرية، وفي طريق العودة تتعرض سيارتهم لحادث ينجون منه بأعجوبة، موعزين سبب النجاة للقدر أولاً ثم للأطفال ثانياً، وهنا يتحول الأطفال بنظر أمهم وأهلها من وحوش كما وصفتهم أمهم إلى ملائكة.

البنية الفكريّة للرواية:

تمتد الرواية في بنيتها السرديّة على مقدمة وثمانية عشر جزءاً، كلها في سياقها العام تقوم على السرد الوصفي للأحداث التي تضمنتها الرواية، فاستخدام التفاصيل واللغة الوصفيّة في توصيف الأشخاص والأماكن والأحداث في الرواية، ساعد المتلقي على تخيل للمشاهد وتجسيدها في ذهنه، وهذا ما يجعله يعيش ويستمتع بالأحداث بشكل أكثر واقعيّة وتفاعليّة.

بيد أن اعتماد الرواية على الوصف بشكل واسع في متنها السردي، غطى إلى حد كبير على الرؤى الفكريّة التي يمكن أن تبرز بشكل مباشر من خلال الحوار، وتشد القارئ من البداية إلى النهاية بحثاً عنها والتفكير بها.

إن وصف الرواية بالتفصيل الدقيق لشقاوة التوائم وعذابات الأم بشكل خاص في ملاحقة ما يبدونه من أعمال عبث بمحتويات المنزل وإصلاحه، لا تخرج عن المألوف عند أية أسرة لديها أطفال، عدا أن شقاوة التوائم الثلاثة تتضاعف، وهذا ما يربك الأم والأسرة والمحيط الأسري بعمومه إن كان من أهل الزوج أو الزوجة.

بيد أن ما يلفت النظر في الرواية هو استنتاج المتلقي لتلك المواقف النفسيّة والسلوكية، وحتى الفيزيزلوجيّة المتشابهة التي يتعرض لها التوأم في أوقات محددة، كما يجري لبطلة الرواية وتوأمها "ليلى" من حالات مرضيّة نفسيّة أو جسديّة عرضيّة قد تصيب إحداهن فجأة فتشعر بالألم أو بالإحساس النفسي توأمها دون مبرر منطقي، كما جرى لبطلة الرواية عندما انتفضت في أحد الأيام على ألم حاد برأسها لا تدري له سبباً، فقلة النوم اعتادت عليها كما تقول.. فتتساءل لماذا الآن رأسها تؤلمنها هكذا ؟. تطور الأمر وصارت الرؤية مزدوجة والألوان متداخلة، لم تعد تستطيع الوقوف على قدميها، وكلما نظرت بالمرآة وجدت تجمعات دموية قد خطت لها موقعا في بياض عينيها، لقد ضعفت رؤيتها أكثر وأكثر... فاتصلت بزوجها بالعمل وهو بدوره اتصل بوالدتها.. لكنها لم ترد مرة واثنان وثلاث.. حتى يئس من الاتصال واعتذر من عمله وحضر للمنزل، وأخيراً تتصل والدتها تعتذر.. وتقول بأن "ليلى" توأمها في المستشفى.ص66.

عند ذهابها إلى المشفى مع زوجها سألها الطبيب (بتشتكي من إيه ؟.صمت قليلا وهي تنظر لزوجها وتشعر بقلة الحيلة ثم قلت: ولا حاجة.. أنا كنت تعبانة جداً النهاردة ومش شايفة ومصدعة وعيوني حمر، لكن من حوالي عشر دقائق كل الحاجات دي اختفت.. فانا مش عارفة إيه الي حصل. فأشرت برأسي له أنني بخير. ثم وجهت كلامها لزوجها علينا أن نرحل. فأشارت برأسها له أنها بخير.). (67). المفاجأة أن أختها "ليلي" التي كانت في المشفى قد خف مرضها فانعكس أمر الشفاء عليها. ثم راحت تسأل والدتها عن حالة شقيقتها على الهاتف وتقول: (تفتكري ها يطلعوا أولادي زينا.. كل ما يغيبوا عن بعض يعيوا ؟

هل سيكونوا مثلي أنا وليلى ؟.).

عند زيارة أم التوائم وأختها "ليلى" الطبيب للنظر في وضع حالتهما الغريبة، بعد أسئلة كثيرة تداولها معهم منذ طفولتهما حتى اليوم وصل لنتيجة مفادها كما قال لهما: (نصيحتي ليكم يا بنات ما تروحوش لدكاترة متخصصين لأن الأمر دا مش مرض دي نعمة من ربنا ليكم ويكفي ان ولا واحدة فيكم ها تحس في يوم إنها لوحدها. بالإضافة أن سبب ردود الفعل دي مختلفة.. منها البعد عن بعض لمدّة طويلة أو زيادة الالم عند حد فيكم فالتاني بيستقبله بصورة عرضية.. طبعاً كل دي فرضيات والله أعلم.).(ص94). وهنا بررت هذه القضية الغامضة بسبب عجز الطب على أنها نعمة من الله.

أما الفكرة الثانية التي تشير إليها الروية بشكل غير مباشر وهي أن المرأة تظل تعشق الأولاد والإنجاب حتى ولو كان لهذا الأمر نتائج خطيرة على حياتها.

تقول أم التوائم: (خرجت من دورة المياه بعد خمس دقائق وقد شحب وجهي وانتفضت أوصالي. أريد أن أبكي.. لا بل أريد أن أنتحب... ظلت والدتي تحدثني وتسئلني وبكل ما أوتيت من قوة وعزم تحثني على الإفصاح عن ما يدور بداخلي. لكني كنت مغيبة عن الواقع تماما وكأن الألوان حولي باهتة والأصوات مهتاجة وصريخ مولود يعلو في الخلف لا أدري موضعه لكنه يفزعني... اقترب مني زوجي وراح يسألني: في إيه.؟... أعاد علي السؤال مرة واثنتين وثلاث وخمسة وعشرة حتى افقت قليلا من صدمتي والتفت إليه ونظرت بعيني زوجي ثم أخرجت ما في قلبي بكلمتين اثنتين اسقطتهم عليه: أنااااا..... حامل.). (ص122). أفاق بعدها على لمسة يدها ليده، فنظر لي وابتسم.. ثم قال:الحمد لله على ما رزق.. بس ازاي ما انت بتاخدي موانع الحمل ؟.نظر إليها بابتسامة وأخفى الكثير من ما في نفسه بنفسه، ولكنها تعلمه وتفهمه، بل هي تدري ما برأسه قبل أن يخطر بباله أو ينطقه لسانه.

تقول: (اتصلت بطبيبتي ثانية وهي تبارك لي على الحمل وتخبرني أن حملي هذه المرة سيكون بتوأم... ابتسمت.. كيف هذا، لا أدري؟... سعدت بالخبر مع أنه أحزنني في البداية تحسست بطني فشعرت بقشعريرة قد ملكتني، أعدت النظر في المرآة فكأن جبيني يتلألأ كتلؤلؤ الكوكب في جنح ليل مبرد، وافتر ثغري عن الأنوار افترار الأكمام عن الأزهار..(ص134).

أما الفكرة الأكثر حضوراً في الرواية هي قضية إيمان الفرد المسلم بقدره وما يكتب له أو عليه، فكل شيء يعتبر أمراً مقدراً من قبل الله وعلى الإنسان أن يرضى به. ولكن الذي لا نستطيع تفسيره هو كيف حملت هذه المرأة وهي تأخذ موانع الحمل، رغم أن زوجها يعرف سر حملها وهي تعرف أن زوجها يعرف. ؟!!!!.

الرواية في الشكل:

العتبة السيميائيّة للغلاف والعنوان:

مساحة كبيرة من سطع الغلاف يغطيه الأسود الذي يدل على الحزن والألم والكآبة والتعب والمعاناة.. تتخلله بقعة ضوء متدرجة في نورها تكشف عن ثلاثة أشباح في وسط الغلاف تؤكد عنوان الروية (وحوش بمنزلي)، الذي يعبر عن غرابة تصرفات التوأم الثلاثي وما تركوه من الم وشقاء وعذاب عند الأم، الأمر الذي جعلها تصفهم بصفة الوحوش.

الأنموذج المرجعي للرواية:

تنبني الرواية على الأنموذج الواقعي، وعلى طبيعة المتخيل القائم على معطيات اجتماعيّة استلهمت الروائيّة معطيات مضمون روايتها وتشكيل عالمها الحكائي من صور الواقع.

فالرواية تدخل من جهة في محيط الأدب الواقعي، الذي يصور حياة الناس وقضاياهم ومشاكلهم، بعيداً عن عالم الفانتازيا والخيال والرومانسيّة وغير ذلك من أشكال الرواية الحديثة. ومن جهة ثانية، تقع الرواية أيضاً في مضمار الرواية النسويّة من حيث أن الروائيّة فتاة وهي " محبوبة محمد سلامة"، ثم أن البنية السرديّة والفكريّة للرواية تدخل في مضمار عالم المرأة. وهذا النوع من الروايات راح ينتشر بسرعة كبيرة في عالم الرواية العربيّة خاصة بعد أن كثر عدد الروائيات والقاصات وحتى الشاعرات من الأناث، اللواتي رحن يسلطن الضوء على عالمهن ومشاكلهن في هذه الحياة، وأهل مكة كما يقال أدرى بشعابها، وبالتالي هن أدرى بمشاكلهن.

إن الرواية في سياقها العام قدمت لنا شخوصاً تشبه شخوص الواقع المعيش في ظروف اجتماعيّة مختلفة يسهل التعرف عليها. أي الروائيّة قدمت في روايتها عالم شبيه بظروفنا الاجتماعيّة وشخصيات شبيه بشخصيات الواقع. لذلك يطلق على هذا الأنموذج من الروايات بالرواية الواقعيّة. وأهم سمات وخصائص هذه الروية أن تقدم للقارئ تفاصيل دقيقة عن المكان وجزئياته، كالشوارع والغرف ومكونتها والأصوات والأفعال وضروب الأنشطة المختلفة. وذلك يأتي لقذف المتلقي في عالم يشعر أنه جزء منه، أي تطلعنا على تفاصيل حياتنا الاجتماعية، وهذا ما استطاعت الروائية تحقيقه.

سمات وخصائص البنية السرديّة للرواية:

لقد اتسم أسلوب سرد الرواية بالاقتصاد والدقة. وجنبها الوقوع في السرد التقريري. وجعل منها لوحات متتابعة مرسومة بألوان حيّة مجللة بأطياف من الحزن والأسى والفرح والسخرية وغيرها من المواقف الحياتيّة.

إن الروائيّة صاغت الكثير من أحداث روايتها في ضوء وإيقاع وزوايا تصوير واقعيّة مدهشة كما بينا في موقع سابق. وحشدت الكثير من المفردات والوقائع الواقعيّة. الأمر الذي يجعل القارئ يقبل على قراءتها بحفاوة وتأملها وتقصي أبعادها بجديّة واهتمام. وبالتالي يقدر جهد الروائية بأنها تؤمن بدور الأدب في الحياة وتأثيره على المتلقي.

لقد تميز أسلوب الرواية وبناءها بالأحكام والانسيابيّة والرصانة والبساطة، حيث يتم فيه الانتقال من باطن الشخصيات إلى ظاهرها أو عالمها الخارجي بسلاسة وانسيابيّة واقتصاد. مع ورود الكثير من القطع في البنية السرديّة، وهذا واضح من تعدد أجزاء الرواية (ثمانية عشر جزءاً) الذي جعلها لا تسير باتجاه واحد، حيث وجدنا بَالبنية السرديّة مجموعة من السرديات التي تتوازى على مدار الرواية، مما جعل الرواية مليئة بالزخم. فالسرديات المختلفة تتوزع على الفصول أو أجزاء وكأن شاشة الرواية منقسمة إلى أقسام كثيرة، يراها المشاهد بَالوقت نفسه تقريبا، فهو لا ينتهى من السرديّة الواحدة مرة واحدة، وإنما يدخل معها حكايات متنوعة، وينتقل من حكاية إلى أخرى، بكل سهولة وحرفيّة.

لقد اعتمدت الروائيّة في معظم سردها من جهة المنطوق اللفظي على المنولوج الداخلي، وهذا المنطوق يعكس رؤية خاصة بمؤلفها، حيث تم تبنى رؤية واحدة في تشخيص الواقع، وكانت العلاقة بين الروائي والشخصيّة الروائيّة علاقة تحكم وسيطرة، وهذا ما ساهم في فقدان الشخصيّة الرئيسيّة في الرواية وهي (الأم) حريتها وشخصيتها، لتصبح تعبيراً عن صوت الروائيّة وأيديولوجيتها. هذا مع وجود بياضات كثيرة داخل البنية السرديّة، قامت الروائية بتلوينها أو تغطيتها عبر حوارات سريعة على الهاتف أو بشكل مباشر بين الزوجة وزوجها أو مع حماتها أو والدتها أو الدكاترة المشرفين على حالات الوجع الذي يصيب شخوص الرواية. فالحوار من جهة أخرى جاء في الرواية أداة فنيّة أخرى كشفت عن ملامح وسمات الشخصيات، وساعد القارئ على تمثلها وفهمها. إن الروائيّة في حواراتها المتناثرة في بنية السرد استطاعت أن توظف هذه الحوارات ليس لتنمية الحدث في الرواية فحسب، وإنما لتكشف عن الملامح الذاتيّة أيضاً لشخوص روايتها، النفسيّة والفكريّة والأخلاقيّة، لقد أفصحت الرواية عن نماذج إنسانيّة متعددة، تمنح عالم كل أنموذج منها خصوبة وحيويّة متجددين. أما الكيفيّة التي تمت بها عملية السرد من قبل الروائية فهي:

الرؤية من الخلف:

ففي هذه الحالة يكون السارد أكثر معرفة بالشخصيّة الروائيّة، أي هو يعرف ماذا يجري في أعماق البطل وفي ذهنه أو ما يشعر به نفسه، فليس لشخصياته أسرار، إنه سارد عالم بكل شيء وفي كل شيء. وهو أيضاً الذي يعرف كل أحداث القصة وشخصياتها، ما خفي منها، وما ظهر، وهو يتنقل بحرية بين الأزمنة والأمكنة، ويدخل عقول شخصياته ليكشف عن أسرارها وخباياها. وعلى هذا الأساس كانت بطلة القصة وهي الراوية، على دراية كاملة بنفسيّة أطفالها وسلوكياتهم عبر مراحل تحولاتهم العمريّة، وكذلك زوجها وكل الشخصيات الثانويّة في الرواية كشخصيّة حماتها أو أمها أو والدها.. الخ.

الشخصيات في الرواية:

إن الحدث يظل فعلاً هلاميّاً ما لم تشكله الشخصيات بحسب حركتها وعلاقاتها ودرجة وعيها، وبالتالي مساراتها التي يشكلها الكاتب أو الروائي. وشخصيات رواية "وحوش في منزلي" التوأم الثلاثي، هم شخصيات نامية ممتلئة بالحياة والحرارة، تركزت فيهم اهتمامات الروائيّة، وبالتالي كانت مقنعة فنيّاً للمتلقي تماماً كونها تعبر عن شخصيات حقيقيّة ملموسة في مواقفها وتفكيرها وسلوكياتها..

أما الشخصيات الثانويّة أو الهامشيّة في الرواية كالزوج والحماة وافراد أسرة الزوجة والدكاترة وغيرهم من شخصيات، فهي في عمومها شخصيات لم تتوقف عندها الروائيّة كثيراً بحكم دورها الهامشي. لذلك كانت أقرب إلى الجمود والثبات والسطحيّة. فهذه الشخصيات تظهر قليلاً لتودي دوراً معيناً وتختفي.

المكان والزمان في الرواية:

المكان في الرواية:

يعتبر المكان والزمان من العوامل المؤثرة في الرواية، حيث يمكن أن يكونا خلفية للأحداث أو أن يكونا عنصرًا مهمًا في تطور القصة وسياقها. فالمكان في الرواية كان حقيقيّاً، إن كان من حيث شموليته، وهو مصر الكنانة، أو من حيث خصوصيته، منزل في مدينة القاهرة، أو من حيث طبيعته وسماته وخصائصه، حيث تركز معظم بنية السرد والأحداث في محيط مغلق وهو المنزل، وفي هذا المحيط كانت يجري عبث (الوحوش) وشقاوتهم ومعاركهم الطاحنة مع كل ما يقع تحت أيديهم، مثلما كان يغطى على كل أسرار نتائج هذه الشقاوة. هذا دون أن يعدم المكان في الرواية فسحات أخرى مفتوحة، ولكنها ظلت هامشيّة في العالم الحكائي للرواية.

أما الزمان:

إن زمن في الرواية جاء زمناً خطيّاً، ترتبت فيه الأحداث ترتيباً متتالياً، جاءت الواحدة منها بعد الأخرى. فالنص الروائي في عمومه شكل بؤرة زمنيّة، ومن يتابع سرد تفاصيل أحداث الرواية وحركتها يقف عند ترتيب الزمن، فهو شَكّلَ من جهة عاملاً أساسياً في تقنية الرواية، ومن جهة أخرى شكل هاجساً متوتراً عند بطلة الرواية التي كانت تحسب الزمن في اليوم من خلال متابعتها لحالات التطور والتبدل التي تحل بأطفالها، ورغبتها أن تسرع هذه الزمن كي يصبح هؤلاء العفاريت قادرين على الوعي بذاتهم، وهذا يخفف من حملها الثقيل في العناية بهم.

اللغة في الرواية:

امتازت لغة الرواية بالبساطة والسهولة والوضوح والحيويّة وخاصة عندما يتم السرد باللغة العربية الفصحى، بيد أن هناك مشكلة واجهها الأسلوب اللغوي في الرواية وهي ازدواجيه اللغة، لقد كان السرد باللغة العربية الفصحى، في حين كانت اللغة العاميّة (اللهجة المصريّة) هي الناقلة للحوار في هذه الرواية. وهذا التعدد فرضته طبيعة الشخصيات، وتنوع ثقافتها وبساطة الأحداث في الرواية، كونها أحداث يومية مباشرة خارج نطاق تعقيدات الحياة ومستوياتها السياسيّة والفكريّة والاقتصاديّة وغير ذلك.

المنظور أو المنهج للرواية:

لا شيء في الحياة ومنه الفن أن يأتي من فراغ، وليس هناك أي عمل بلا غاية أو وظيفة ومنه الفن والأدب. وقد أثرت الوظيفة على الفن ماهية وأداة منذ البداية، ويحرص الكثير من نقاد الأدب على ربط الفن بالوظيفة التي جاءت هذه الأعمال الفنيّة تلبية لحاجات فكريّة وجمالية، بل حاول بعضهم الربط بين البنية العامة للعمل التكويني والبنية العامة للمجتمع.

لقد صيغت رواية " الوحوش" الذين منحتهم أمهم بعد سنتين صفة" الملائكة" في سرد يتدفق في سلاسة وانسيابيّة وبساطة، وحافل بمفردات من الصور والمواقف والحوارات المشبعة بقيم إنسانيّة يكافح أبطالها من أجل استمراريّة الحياة وتحقيق أهداف يرغبون بتحقيقها... سرد توالى في إيقاعات منضبطة ورصينة، وفي توازن دقيق بين الواقع والخيال، وبين العقل والعاطفة، وبين حكي العامة وحكي الفصحى... وبين دوائر تتسع لهموم وأفراح الكبار والصغار في هذه الحياة، كل وفق وعيه وثقافته ومن زوايا تتناسب ومصالحه وهمومه وعواطفه.

***

د. عدنان عويّد

كاتب وباحث وناقد من سوريا

في زمنٍ صاخبٍ تجفّ فيه ينابيع الشعر، ويبهت فيه الحُبّ تحت وطأة الاستهلاك والسطحية، تأتي مجموعة "مناديل من حرير الكلمات" ليحيى السماوي، كضوء يتسلل من نافذة الروح، ليعيد للكلمة قدسيتها، وللعشق طهارته الأولى. ليست هذه النصوص مجرد نثر شعري، بل هي ترانيم صوفية تمتح من ينابيع الفلسفة والعرفان، وتتماهى في جسدٍ لغويّ مشغول بالحنين، وبوجع المحبة، وبجمالية الحلول العشقي الصوفي.

العاشق النبيّ: الشاعر ككاهن المحبة:

يمثّل السماوي هنا صورة العاشق-النبي الذي يخاطب معشوقته لا بوصفها جسدًا، بل بوصفها كينونة كونية، تمتد جذورها إلى الروح، وتغتسل بماء التأمل. نقرؤه فنشعر وكأننا في حضرة صوفيّ عاشق، يسجد عند محراب الجسد والروح معًا، فيصوغ من لمسةٍ قبلةً ، ومن تنهيدةٍ صلاة:

"حياتي قصيدة من بيت شعرٍ واحد ..

أنت مطلعها"

في هذا البيت النثري، لا نجد الشاعر وحسب، بل نجد الإنسان الباحث عن مطلقه، عن جزئه الضائع في الآخر. وهنا، يتحول الحبيب إلى مجاز إلهي، فيصبح العشق شكلًا من أشكال العبادة.

بين نشيد الإنشاد والحلاج: إرث العشق المقدّس:

ليست مصادفة أن تُفتتح المجموعة بإشارة عميقة إلى "نشيد الإنشاد"، فالسماوي، كما سليمان، يبحث عن الجمال الفاضل، لا الجمال السوقي. وما شولميث إلّا استعارة لعشقه الأزلي الذي لم يكتمل. وكأن السماوي يردد في طيّات نثره ما قاله الحلاج ذات عشق: "أنا من أهوى ومن أهوى أنا":

" أنا وحدي: إثنان ..

 أنا وأنت: واحد "

بهذا التماهي، يُلغي السماوي المسافة بين العاشق والمعشوق، ليؤسس لحلولٍ شعري بينهما، حِلٌّ لا جسدي فحسب، بل روحي وفلسفي.

صوفية الجسد، فلسفة اللغة:

رغم العناق الحسيّ الواضح في كثير من المقاطع، إلّا أن السماوي لا يقع في فخ الغريزة، بل يرتفع بها. فالجسد عنده وسيطٌ للسمو، والقبلة طقسٌ مقدّس، يُعيد خلق العالم من جديد:

"أضلاعي سأستلها قصيدةً بعد قصيدة

لأصنع لك

سريرًا من الشعر"

في هذا التكوين، تتحوّل المفردة إلى ملمس، والجسد إلى ورقة، والشاعر إلى نحّات في معبد الجمال.

شيفرات القرآن والحديث: الحسيّ في حضرة المقدّس:

يملأ السماوي نصوصه باقتباسات قرآنية وحديثية، ليس على سبيل التزيين، بل ليمارس فعل التقديس للكلمة والحب. حين يقول:

" أين أُولّي أحداقي

 فثمّة وجهك"

نحن لا نقرأ الآية فحسب، بل نُعيد قراءتها في مرآة العشق، فتصبح الحبيبة قبلةً، ووجهًا إلهيًا يتجه نحوه القلب والبدن معًا.

رمزية الأسطورة:

من جلجامش إلى شهرزاد

يستدعي السماوي رموز الأسطورة لا ليعيد سردها، بل ليمارس إعادة إنتاجها بمعجمه العاشق. "جلجامش"، "سيزيف"، "شهرزاد"، كلها تتحول إلى طيفٍ يتقاطع مع تجربة الشاعر، فتصبح الذات العاشقة مسرحًا تراجيديًا-روحانيًا لتجربة الخلود والانكسار والبحث عن المعنى:

"  أفعاكِ بريئةٌ من أعشاب كلكامش ..

لكنها

ليست بريئةً  من قلقي "

بهذه المفارقة، يعيد السماوي صياغة قلق الإنسان أمام الحب والموت، في لغةٍ تنوس بين المجاز الفلسفي والانفعال الوجداني.

تواشج الصوت والظل: ميتافيزيقا اللغة

ينجح السماوي في تحويل الحرف إلى جسد، واللفظة إلى نَفَس، حيث لا يمكن التفريق بين النص والنبض. تتوه اللغة فيه كما يتوه العاشق في حبيبته، فيغدو النص تجربة عيشٍ كاملة، لا مجرد قراءة:

"قلمي عيني الثالثة… فهل تقرئين دمعي؟"

ما بين اللغة والدمع، يخلق السماوي معبرًا خفيًا للقارئ، ليحسّ لا فقط بالجملة، بل بما تحتها.

خاتمة: الحبّ كخلاص جمالي:

"مناديل من حرير الكلمات" ليست مجموعة نصوص نثرية فحسب، بل هي طواف في محراب العشق، حيث تتصادى الفلسفة مع التصوف، والجسد مع الروح، والمقدس مع الحسيّ، في تجربة قرائية لا تشبه إلا ذاتها. يحيى السماوي هنا لا يكتب… بل يتجلّى.

إنه يحيى السماوي الذي يكتب نشيد الإنشاد الحديث، نشيد لا مكان فيه للزيف، بل للوضوح الصارخ، للحب الطاهر، للكتابة التي تمسّ القلب قبل الورق.

وبهذا، نُسجّل شهادة محبة ودهشة في حضرة شاعرٍ، علّمنا أن اللغة يمكن أن تكون حريرًا… وأن القلب يمكن أن يُكتب بمناديل.

***

رانية مرجية

مقدمة: نظرا لأهمية تجربة الشعر التجديدي التركي أو ما يسمى بالشعر الملموس والشعر المضاد للغنائي أو الشعر التجريبي، ومن جهة أخری بسبب ندرة المصادر العربية حول هذه التجربة الشعرية الفريدة، قمت بأعداد هذا الملف عن الشاعر عمر شيشمان والذي يعتبر رائدا في هذا الحقل ومعروف كناقد، ولم لا؟ والشعر دائما حاضر داخل لغة عصره، بل هو مرآة فني لكل حقبة تتزين بمفردات زمانه، وكما تلاحظون فأن هذه الحركة تسعى الى ادخال البصريات والسمعيات الى عالم الشعر لتکوين صورها الشعرية المتجددة والمثيرة للأهتمام، آخذا مادته الخامة من تناقضات الحياة اليومية ومفرداتها وأحداثها. كما ان الاعتياد على (البصريات والسمعيات) أصبحت سمة الاغلبية بينما طغى التکنلوجيا المعلوماتي على جميع الأصعدة الاعلامية والمنصات والنشاطات الادبية والفنية في زمن السرعة، بل وصل الی حد قد كون جيلا شغوفا من الشباب ملمين في هذا، فمزاولة الشعر في هذه الحقول أعتبره فوزا للشعر وليس خسارة له، بما ان للشعر روابط وثيقة مع الدراما والموسيقی والسينما والرواية واللوحات الفنية، لكن الفارق هنا هو ان الشعر يحتفظ بسيماته وخصوصياته واستقلاليته حينما يستعين باللغة الشعرية. والشعر الجيد وعلی خطی رامبو يستعين بكل الحواس ويمنح الكلمات طاقاتها الدالة لايجاد لغة تحتوي وتختصر الروائح والاصوات والالوان. أو الهدم والبناء الجديد كما قيل.

بأنتظار قيام المترجمين الكرام بعمل ترجمات كافية عن هذه التجربة وشعرائها من اللغة التركية الی العربية كي تروي ظمأنا ويتسنی لنا متابعة كل جديد علی صعيد ركب الشعر العالمي.

عمر شيشمان وأعماله

عمر شيشمان هو شاعر وناقد تركي من مواليد إسطنبول عام 1980. بدأ كتابة الشعر في الخامسة عشرة، وهو أحد الشخصيات الرئيسية في المشهد الشعري التركي المعاصر، إلى جانب أحمد غونتان وإفي مراد ومراد أوستوبال، ظهرت هذه الحركة في الشعر التركي في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، والتي يشار إليها بالشعر الملموس والشعر المضاد للغنائي أو الشعر التجريبي، الذي يحاول تجربة شكلية مختلفة في كل قصيدة، والتي تعتبر بصمة مهمة لشعر العقد الأول من القرن الحادي والعشرين من خلال تقديم أشكال شعرية مختلفة تمامًاكما في كتاب الثاني (بيتكيبن) لعمر شيشمان، حيث تستمر التجربة بنفس الوتيرة. تتكون التشوهات وتحريفات في الكلمات (تقنيات مثل الانزلاق والقطع والبلع) واستخدامات نحوية غير محددة من جهة، واستمرار الشعور بالتدمير اللغوي من جهة أخرى، وهو يغني بالموت والبعث ثييمة لنصوصه. تُظهر قصائد ديوان الشاعر الثالث "ديكينلي زيبلاك"، كما عبّر عنها أسومان سوسام، "أنه بعيدعن الانفعال اللاواعي، وبتعاون العاطفة والحس والفكر مع اللغة والصور التي ننغمس فيها، تُجسّد الحركة والتكوين والخبرة خطابًا مؤثرًا للغاية. وبصفتها قصيدة تجربة، قصيدة حياة، تُجسّد ديكنلي زيبلاك علاقتها بعالم الوجود كما هو"من خلال الهروب من القيم والأحكام والمراجع. تتطور دون الحاجة إلى مركز خطابي، بل قطعة قطعة. وبقوله إن القطعة أكبر من الكل، فإن الفوضى خير من النظام.

في "أعمال شيشمان الدرامية"، يرتقي بالسرد البسيط الذي بدأ مع ديكنلي زيبلاك إلى مستوى أعلى. تعتمد هذه القصائد على روعة الشهادة الخام غير المزخرفة. تصف (إسراء إرتان) هذا الكتاب على النحو التالي: "في القصائد التي جمعتها تحت عنوان "الشفاء الدرامي"، مستفيدةً من إمكانياتها الفكرية/العاطفية، كممثل ومسرحي في هذه القصائد، تُتيح للقارئ فرصة الشعور بقرب المواقف الإنسانية. تُواجههم بمواقف تُسعدهم وتُعذبهم بنفس القدر. هذا وضع مُهدد للقارئ بطريقة ما. تتركه وحيدًا في مواجهة عصر الدمار، وحاجته لإيجاد حلٍّ لهذا الوقت الذي يجوب فيه مُتحكمون في غرف النوم. مع ذلك، فإن معرفة القلب عملٌ شجاع. ومن االبديهي ان الاستجابة لقوة الكلمات ليست تجربةً يستعد لها الجميع.

آخر أعماله كان كتاب "إمبات" عام ٢٠٢١. تدور قصائد الكتاب حول مواضيع مثل انعدام التواصل، والمسافة بين الناس، والتعاطف، وعدم القدرة على البقاء غير مبالٍ. تُحيط بهذه القصائد حدس وملاحظات شخص لا يستطيع البقاء غير مبالٍ بما يراه. لا يمكنه التظاهر بعدم رؤية أو سماع ما يراه. فيصبح متواضعًا، وخجولًا، وحزينًا. يستخدم الناقد(عثمان تشاكماكجي) التعبيرات التالية عن هذه القصائد: الكسور، والانسكابات، والأذى، والقسوة، والوحشية، وجرائم القتل المتقنة، كل هذا يحدث في لحظة، كما لو لم يحدث شيء وقد حدث. ... هنا، كعين ضخمة، يكتشف عمر شيشمان كل هذا ويسجله بنظارته الليلية التي ترى كل شيء، فهو يقوم بترميز المواقف والشخصيات والاحداث في نصوصه وفقا لما يراه مناسبا ويوظفها كتقنيات في خدمة الشعر وجمالياته وابداعاته.

أسلوبه:

يُعرَف شعر شيشمان بألعابه اللغوية واستخدامه للكلمات بمعاني مختلفة وخروجه عن اللغة المألوفة باستخدام الكلمات والحروف الناقصة لإنشاء لغة وأسلوب فريدين، كما يجمع شعره بين عناصر الحياة اليومية والثقافة الشعبية والاستفسارات الفلسفيَّة. في إحدى مقابلاته، تلقّى شيشمان السؤال التالي: "أثناء قراءة قصائدك، يبدو أن هناك خلفية ذهنية مرهقة من الكلمات ومن اللغة بشكل عام. فهل مفهوم السرد الكلاسيكي والجماليّات عبثي في إدراكك للشعر؟"، ليجيب شيشمان: "بالتأكيد ليس عبثًا، إذا قلتُ إنه عبثي، فسيتعيَّن عليَّ تجاهل العديد من الكتّاب والشعراء الذين أحبهم. ومع ذلك، هناك شيءٌ ما، فكتابة قصائد ذات صفحة واحدة تشبه خطوط أبولينير في هذه الأيام، هو أمرٌ غريبٌ ومصطنع، تمامًا مثل كتابة شيء مئة مرّة بنفس الأساليب الكلاسيكية دون إضافة أي شيء من عندك".

كما كتب سولي توزول حول هذه التجربة التالي:

مع اتساع آفاق الشعر نحو الواقع، نشر الشاعر المعاصر التركي عمر شمشان ديوان لە بعنوان "الخطأ مستمر" في مايو ٢٠١٤ ،على الرغم من قلة قراء الشعر في هذه الايام، الا ان هنالك مجموعة من الشعراء يكتبون في مجال الشعر التجريبي. عمر شيشمان هو واحد من هؤلاء الشعراء، استخدم الشاعر في ديوانه تقنيات شعرية تجريبية متنوعة.. حيث تعد كتابات الناقد (إرهان ألتان) تحاليل ومراجعات تدور في دائرة الشعر التجريبي بشكل عام. وهكذا، انطلاقًا من كتاب ألتان، انضممتُ، كقارئ، إلى رحّالة الشعر التجريبي.

يقول إرهان ألتان إن "الخطأ مستمر" تحتوي على قصائد تتميز بخصائص "ملموسة" إلى حد كبير. بمعنى آخر، في هذه القصائد تُختزل الأصوات (الحروف) إلى كلمات، وتُبتلع، وتُشتق كلمات جديدة، ويُتلاعب بشكل اللغة لخلق قصيدة بصرية وسمعية. تُتلاعب بأشكال الحروف، وتُشوّه الكلمات والجمل لجعلها غير مقروءة بصريًا، وتُستخدم رموز مثل المربعات والدوائر بالإضافة إلى الكلمات في القصيدة.

أكثر ما يُعجبني في الشعر التجريبي أنه، بالإضافة إلى إضفاءه حياة جديدة على الشعر في مطلع الألفية الثانية، يُوجد أيضًا كشكل من أشكال التعبير لا يجذب القارئ، بل يتحدى القراء والنقاد الذين يتجاهلونه، ويتحدى جهود الحفاظ على هذا الوجود. هذه القصيدة ليست كالقصائد التي اعتدنا عليها. إنها تثير أسئلة عميقة في نفس القارئ. يكاد المرء يتساءل: هل يحاول الشاعر إخفاء شيء ما ؟ لكن عندما تتمكن من دخول العالم الذي يدعوك إليه الشاعر، تجد نفسك وجهاً لوجه مع عالم مختلف تماماً. الشاعر لا يدعو القارئ إلى هذا العالم، ولكن إذا فتح القارئ الباب ودخل، فقد يكون ضيفاً، وربما حتى يحصل على فرصة أن يكون جزءاً منه.

من القصائد التي لفتت انتباهي في الكتاب قصيدة "تارانج". نعم، وكما يوحي اسمها، تستخدم لغة رسمية مرتبطة بالشطرنج. يرسم عمر شيشمان مربعات على الصفحة التي تقع فيها القصيدة، مثل رقعة الشطرنج، ويضع كلمات في هذه المربعات كقطع الشطرنج. يصبح الرخ والحصان والفيل والملكة والملك أباً وأماً، وربما حلماً على التوالي. هناك لحظات تكون فيها البيادق في المربعات. أعتقد أنها قصيدة رائعة. يحاول موضوع القصيدة هزيمة "ذات" خصمه دون أن يُقيّد نفسه. أنت تتجول في مثل هذه القصيدة وتشعر بطلاقة عنان فرس خيالك لفهم المعان والكل يستكشف جزءا منه داخل هذه النتاجات وحسب معرفته الشعرية.

في قصيدة أخرى بعنوان "الضرر ينكشف"، يُغيّر عمر شيشمان بصريًا الجمل والكلمات التي يُعبّر بها عن مواقف تتعلق بموضوع القصيدة. لذلك، يصعب قراءة الكلمات، لكن هذا الشد البصري يُعزّز أيضًا هذه التعبيرات البالية.

أما في قصيدة "ملك"يستخدم الشاعر تقنيات مُتنوعة. من أكثرها إثارة للاهتمام السرد المُنفّذ باستخدام المربعات والدوائر المُمتلئة. وكأن سرد الفناء يُعبّر عنه بالأشكال لا بالكلمات. كما يتضمن الكتاب نصوصًا سردية مألوفة لدينا.

في الواقع، يدعوا الشعراء التجريبيين القراء المهتمين إلى عالم آخر لسنا بعيدين عنه. بعد فترة، عندما لا يستطيع أحد أن يبقى غير مبالٍ، سيواجه كل منا هذه القصيدة وجهًا لوجه. وهكذا عمر شيشمان وغيره من الشعراء، يواصلون عملهم في مجال يصعب الحفاظ عليه اليوم، تمامًا مثل الشعر التجريبي، وعلينا ان لا ننسى جهود (مٶسسة١٦٠كيلومتر) على دعمهم للشعر وهذه الحركة. وكما يقولون في مقدمات كتبهم: "إذا قاوم الشعر، انتصر".

ماذا يقول الشاعر عن تجربته؟

وفي مقابلة أجرتها (بيتك سينم دولون) مع الشاعر عمر شيشمان في تشرين الثاني ٢٠١٩ حول أسلوب الشعر التجريبي، حيث يلقي فيها الشاعر الضوء على بعض حيثيات وخبايا أسلوب هذا النوع من الشعر.

استهل الشاعر بالجواب على السؤال: هل يُمكننا تقييم "الشفاء الدرامي" كنص سيرة ذاتية مُحمّل ببيانات نفسية، أم نصا شعريا؟

- لقد واجهتُ منذ البداية ردة فعل "هل يعتبر هذا شعرا؟". يقول المهتمون بما أكتبه أحيانًا إنهم لا يستطيعون وضعه "في خانة الشعر التركي". يبدو لي أننا نعجز بشكل متزايد عن الوصول إلى جوهر الموضوع. ليكن الشعر اسمًا لمهنة مرتبطة بالمختارات، وأنا أكتب شيئًا كهذا، لنسمّه "غير شعري". لكن هذه هي ترتيباتي، ومواقفي، وتكراراتي، ومناظري الطبيعية، لطالما خاض الشعراء هذه المعركة فلنمعن النظر في أبجدياتهم.

بالطبع، يُمكننا تقييم "الشفاء الدرامي" كـ"نص سيرة ذاتية مُحمّل بالبيانات النفسية". ولكن يُمكننا أيضًا تقييم "هاتا ديفام إيديوَر"، و"بيتكيبن"، وخاصةً "ديكينلي زيبلاك" بهذه الطريقة. لا أعلم إن كان هذا مُصادفة، ولكن قيل منذ البداية إن هذه القصائد كانت إنسانية للغاية، وفي النهاية، كانت مليئةً بقصص إنسانية كثيرة. أعتقد أنني أصبحتُ راويًا يجده السرديون غريبًا، وشكليًا يجده الشكليون غريبًا. احتاروا بحيث لا يُمكنهم وضعي هنا أو هناك. لا أستطيع التأقلم مع أيٍّ من الجانبين، ولا أريد التخلي عن أيٍّ منهما.

كانت الصور الشعرية في النصوص "فورية" ، مليء بالعواطف والانطباعات والصور الفورية. لطالما اهتمت بالسجلات الفورية للعين منذ قصائدي الأولى. حاولتُ استيعاب الصور بأسلوب أكثر بساطةً وبدائية. كما أن حقيقة أنني بدأت الكتابة عندما كان ابني رضيعًا كان لهذا تأثير علي أيضًا. قضيت أيامي أراقبه.

حتى عندما نعتبر نطاق اللغة محدودًا باللغة، فإنها لا تتجاوز نطاقها عندما يتعلق الأمر بـ"الوقائع والتجارب". فعبء اللغة من الوقائع والتجارب هو أيضًا مادتنا، بل هو أكثر من ذلك. لا أُفضّل اعتبار اللغة قواعد نحوية، أو صرفية، إلخ. في هذه الحالة، لا أستطيع إقامة صلة بين اللغة وعالمي، ولا جدوى من استخدامها. في يوم مزدحم، امشِ من (كاديكوي جارشي) إلى (بهاريه)، ومن هناك إلى (مودا كاب)، ثم انعطف إلى حديقة (يوغورتشو). إذا أصغيتَ إلى ما يحيط بك "بانتباه شديد" خلال هذا الوقت، ستكاد تُصيب بالجنون.

وفي الرد على السوءال: تُلفت الانتباه إلى عنصر الصوت في كتاب "الشفاء الدرامي"، مع الانسداد الاجتماعي الناجم عن ضعف الذاكرة الجماعية، مما يُقلب علاقة الفرد بالمجتمع رأسًا على عقب. هل تُقيّم الصوت كمفهوم، لا كجزءٍ مُعقّد من النص، بل ككلٍّ بتأثير أجزائه؟.

- قرأتُ مقاطع/أعمالًا من "القفزة الشائكة" و"الشفاء الدرامي" في حفلٍ موسيقيٍّ مؤخرًا. عندما انتهيتُ، شعرتُ أنها مُثيرةٌ للشفقة، يُعجبني أنني لم أُنصت إلى صوتي الداخلي المُضطرب الذي كان يُحاول إيقافي وقراءتها. تتخذ هذا القرار بشكلٍ لا رجعة فيه لحظة نشر القصائد. لا يستحق الأمر الخوض فيه. ذكرتُ هذا لأُوضّح أن الجرأة والخجل مُتقاربان بالنسبة لي. هذه أيضًا "لحظة". في تلك "اللحظة"، لم أشعر في الواقع بتحرر من الانفعال بالمعنى الحرفي، بل شعرتُ وكأنني أُثير نفسي. بالطبع، لا يمكن لأحد، ولا ينبغي لأحد، أن يكون غاضبًا طوال اليوم. ستُصيب بنوبة قلبية. عادةً ما يكون الشباب غاضبين، لسبب وجيه. كنتُ شابًا غاضبًا أيضًا. لا أعتقد أن للشعر علاقة جوهرية بالغضب، ما أقصده بالغضب هو شيء آخر؛ ربما حالة ترقب دائم للكلمات والصور والعلامات والقصص. وهذا يشمل أيضًا التشنجات العصبية والهواجس والأصوات. عندما تقول صوتًا، فأنت لا تقصد الانسجام داخل الأبيات. في "القفزة الشائكة"، أردتُ أن يُغطي لحن "القفزة الشائكة" القصيدة بأكملها كعشب، في الصوت والصورة. دع الصوت/الصورة يكونان دعامتين ومساحة. هناك عناصر صوتية أكثر طفولية في "الشفاء الدرامي". هناك تهويدات، وأغاني أطفال، ومطاردة بين كلب ورجل تستمر طوال الكتاب. دراجة نارية عابرة. "الشفاء الدرامي" هو شفاء مُتسارع عفوي، غير مُتوقع على أي حال. للشعر و(الحساب) علاقة قديمة بالذاكرة. ما نتذكره يتغير باستمرار. نحن في الواقع غير موثوقين تمامًا في هذا الصدد. علاوة على ذلك، تتغير طريقتنا في التفسير أيضًا. نُحنط موقفًا وتفسيرًا. الأمر يهم الآخرين بقدر خصوصيته.

نماذج من نصوصه:

(نستمعُ إلى أغنيةٍ جديدة)

خارجًا من الفندق، أعلقُ في بابٍ دوّار

صراصيرُ صغيرة أمام المصعد

زجاجٌ متّسخ قد لكمتُه

إلى أين تنظر موظّفة الاستقبال تلك

فأنا من أقاومُ الباب خلف الزجاج

*

صادفتُ تركيًّا في أحد أفلام الرعب

طُلِبَ مني أن أترك جوانبي الكوميدية على الطاولة

قلتُ وأنا أدخل: هذا؟ حفنةٌ من البذور

ثم رميتُ ولّاعتي الأُخرى في سلّة المهملات.

**

٢

(108)

تحرَّرتُ من الجاذبية

لا حزن ينتابني لفقدان وزني

*

شاهدتُ الأرض من خلال ثقب سفينة الفضاء

يضيء محيطه القمر الجميل

رأيتُ أشعة الشمس تخترقُ الغلاف الجوي واحدةً تلو الأخرى

الفضاء مظلم، والنجوم تتلألأ

*

كم أتمنى عناقكم

أصدقائي، الذين لم ألتقِ بهم أبدًا

الغرباء، أقربُ الناس، وأكثرهم قيمة

*

لا حزن ينتابني لفقدان وزني

شاهدتُ الأرض من خلال ثقب سفينة الفضاء

وأشعة الشمس تخترق الغلاف الجوي

لا حزن ينتابني

لفقدان وزني

***

سوران محمد

.....................

المراجع:

1-edebiyathaber.net/sir

2-160incikilometere

٣- جريدة العربي، أحمد جيو حسن

4- Wikipedia.org/ Ömer Şişman

للشاعر الفلسطيني خلدون عماد رحمة، بالمنهج النفسي، المنهجي الأسلوبي، والهرمينوطيقي:

في "حيرة النمل"، يخوض الشاعر خلدون عماد رحمة رحلةً داخلية قاسية، حرباً على الذات المتصدعة، حين يتسلل “النمل” رمزاً لوخز الضمير، لا شكلياً فقط، بل كمخرّب لمأمن الروح، مُشكّلاًً سرداً نفسيّاً تتقاطع فيه الأطياف الوجودية مع السؤال عن جدوى الحب والهوية، بلجنة تحمل لهيب الرغبة والموت، وطقوس الانتظار والضياع.

ـ في مجال البنية الدلالية والرمزية...

* النمل رمز مركزي مزدوج، يحمل دلالات التسلط الصغير، والكوامن الداخلية التي "تفتت القلب" و"تدوخ"، وهو أيضاً حامل لتأويل أعمق عن سرّ الحياة، عن "ازدواجية الزمن" الذي "يفجر رموزَه النبيلة" ثم يأكلها باجتياحه.

* الصراخ والرعد كإيقاعات ثورية داخلية، يفضح البعد النفسي الذي يصعد حتى "يصخر البعيد".

* الكأس ورموزه (الخمر، الزمرّد) تمزج الخمر بالهوى والحلم، لكن بالنمل تتحول للتحطيم، معبّرة عن تحوّل الرغبة إلى موت أو خيانة للذاتي.

ـ في مجال البعد النفسي والتحليل الهرمينوطيقي...

* القصيدة مشحونة بالقلق ("فزعٌ") والهذيان ("أهذي صِفاتُ الوحيد")، وهما نصان نفسيان يتجاذبان بين الحلم والوحي.

* الهزيمة النفسية والحضارية تتجسد في “نفاد الهدوء” و"تحطيم صرح الروح"، مما يؤسِّس لنزوع وجودي وجع سلبي يشبه سلوك الـنمل الجحود المنهك.

* ثنائية "الواقع المنطوي" و"سراب الحلم" تعكس حالة تشظٍ داخل الذات الممزقة بين قوى الواقع والخيال، محترقة في صراعهما.

ـ في مجال الأسلوب اللغوي والإيقاع الموسيقي...

* الإيقاع الداخلي محكم من خلال تكرار الحروف الصامتة القوية (النون، الراء، الصاد…) مما يولّد صوتاً مخيفـاً: "أصْيحُ وصوتي مَطارقُ رعدٍ"؛ كما يظهر نمط تقطيع شبه متداخل، يكسر تسلسل النسق الروائي نحو التقطّع النفسي.

* الشاعر يعتمد تكرار الضّمير "أنا" كإعلان للذات الفاقدة سيطرتها، متعالية على خطاب التهويل، نبرة وجود مفتعل لبلوغ الإنسانية الكاملة.

* الموسيقى اللغوية المشتبكة تنسج انحساراً وانكساراً، مرئياً في استمرارية المقاطع الجمعيّة: "أصِيـحُ"، "تهزهزُ"، "تشقّقُ"، مع إيقاع شبه سنفوني داخل أبيات مكثفة.

ـ في مجال التأويل الفلسفي...

* النمل يتجاوز الهشاشة إلى قمة التأويل؛ هو لا يقصّ صناديق العمر فحسب، بل يهدم "ضوء الرموز النبيلة"، كناية عن موت القيم السامية أمام الاستلاب.

* ثنائية الحب والجنون تتجسّد: "لأني أجنُّ إذا ضيعتني سفينةُ حبّي"، مما يعكس شكلاً شاعريّاً لظاهرة الانفصام بين الذات والمحبوب ككيان خارجي وسياسي مهيمن.

* اللحظة "إذا ما رميتَ عليها براكينَ نبضك" تختزل علاقة الشاعر بمنهج تأويلي عميق، فثمة خوف من أن يفقد "براكين الروح" الذي يغري، لكنها تختنق في النمل.

ـ في مجال الرؤية النهائية...

تنتهي القصيدة إلى سلام هش: عودة الذات كـ"نملة" تحب الحياة، رغم الفقد وسديم الهواجس. فـ"فُتاتُ الأمل" يتجسّد كرمز لاستمرار الإنسان، حتى ليبدو هذا الخلاص، رغم أنه صغير ومؤقت، أقوى من الفناء.

ـ في الختام:

"حيرة النمل" تحفر في النفس الشعريّة قاعاً تفتك فيه الفواجع الداخلية، وتستحضر التشظّي الذاتي الذي يتجاوز الشخصي إلى الحضاري. عبر الرمزية الفرنسية للحشرة الثائرة، وبنية لغوية موسيقية أقرب للطقوس، تنزلق القصيدة داخل حقل نفسي انتقادي. هي خطيّة إبداعية لذات تقف على شفير الطموح وتحتمي بفتات الأمل كمورد أخير، وترفض الاستسلام الكامل.

***

بقلم: عماد خالد رحمة ـ برلين

.......................

حيرة النمل

حيرةُ النملِ

أحِسُّ بنملٍ كثيفٍ يفتتُ قلبي

يهدِّمُ صرحَ الهدوءِ بآلاءِ روحي

يدبُّ بظلٍّ مهيب الحواسِ

ويفضحُ أسرارَ دمعِ البنفسجِ في مهرجانِ عروقي

تُهلوسُ أشباحُ شرقي وغربي

ويبزغُ من بين أحراشِ جسمي

أسَاطيلُ رُعبي

أنا فزعٌ منْ تخبُّطِ صاريَتِي

لأني أجنُّ إذا ضيَّعتني سفينةُ حبِّي

أصيحُ وصوتي مَطارقُ رعدٍ

تشقِّقُ صخر البعيدِ البعيدْ

ويا ليتَ يسمَعُ من بِقُربي

سَأحلِفُ بالمعجزاتِ لكمْ

وأقسم أني أحسُّ بنملٍ بغيضٍ

يدوِّخُ طيرَ الزمرُّد في كأس خَمري

يقصُّ صناديقَ عمري

يفكِّكُ ضوءَ الرموزِ النبيلةِ

في بهو جُوعي العريقْ

أصارحُ نفسي:

أهذا جُنوحٌ عن الواقعِ المُنطوي في مسرحِ الذاتِ؟

أم أن حُلمَ الوصولِ مَحاهُ سرابُ الطريقْ؟

أهذي صِفاتُ الوحيدِ الشَغوفِ بماءِ الحريقْ

أيقلقُ إنسانُ هذا الزمانِ

منَ النملِ والنملُ تأويلُ

سرٍّ عميقْ

ولكنَّ نملاً مقيتاً يزلزلُ فِضَّةَ رأسي

ولا أَتحاذقُ بالاستعاراتِ

نملٌ

يُقهقِرُ ليلَ الكمنجاتِ في صفو صدري

يذوِّب أطلالَ من سَهِرُوا فوقَ جسرِ رُؤاي

يهزهزُ صخر قِلاعي

وتهرعُ قداسُ غابتي الحجريَّةِ والخيلاءُ بأرضِ سَماي

أنا فزعٌ

تكسَّر وهجُ المرايا

وشاخت عصافيرُ عطرِ الصبايا

وكل النساء بقريةِ صمتي

هَجرنَ مواويلَ أعراسهنَّ

وطرنَ عرايا

أحسُّ بنملٍ جَحودٍ عَنيفٍ دَؤوبٍ

ولا شيءَ يردعُ عنه العملْ

أحاولُ نوماً أكابرُ ضحكاً

ولا يقتدي النملُ باسمِ الجدلْ

فتجتاحُنِي حِكمَةُ الألم /

ولو دخلَ النملُ في قلبكَ

تَهلكْ

وحالُ القصيدةِ موت أكيدٌ

إذا ما رميتَ عليها براكينَ نبضكْ..

وبعدَ هنيهةِ ذُعرٍ أهابتْ وجودي

أجمِّعُ نفسي

بصمتٍ

لأدركَ أنَّ الدبيبَ ارتحلْ

فأغدو كما كنت مثل جميع البشرْ

نملةً

تحبُّ الحياةَ وتُفنَى

لأجل فُتاتِ الأملْ

 

في السياق السوداني، حيث تُثقل الكلمة بحمولة التاريخ، ويُفترض في القصيدة أن تقول الحقيقة، وتخدم القضية، كثيرًا ما يُنظر إلى الشكل بوصفه ترفًا برجوازيًا، أو حتى خيانة للمعنى. غير أن الشكل، وفقًا للشكليين الروس، ليس غلافًا لما يُقال، بل هو الكيفية التي تُصاغ بها الرؤية، وتُبنى بها المسافة بين الواقع والعادي.

ولعل الشاعر السوداني الحديث، منذ التيجاني يوسف بشير مرورًا بمحجوب شريف، وحميد، وحتى شعراء الحداثة وما بعدها من الجيل الجديد في الحراك الثوري، قد مارسوا هذا التوتر بين الشكل والموقف، بين المجاز كبلاغة، والمجاز كسياسة. وإذا أخذنا مفهوم “التغريب” عند شكلوفسكي — وهو أن يعيد النص ترتيب المألوف ليُصبح غريبًا، ويجعل القارئ يرى العالم كما لو أنه يُكتشف لأول مرة — فإننا نجد أثره واضحًا في عدد من التجارب السودانية التي كسرت أفق التوقّع، لا بصرخة سياسية، وإنما بانزياح لغوي.

في قصائد حميد، مثلًا، لا تُقال الثورة بوصفها بيانًا، بل تُقال كما يُغنّى الحنين إلى سيدة ميتة. تفقد اللغة وظيفتها الإخبارية، لتصبح بنية صوتية تتفجر بالمفارقة، بالحكي الشعبي، بالتكرار البنائي، وبكسر الإيقاع الرسمي. قصيدته “عم عبد الرحيم” ليست هجاءً للفقر، بل “تغريب” للخطاب الرسمي الذي يصوّر الريف كبقعة سكينة. القصيدة تُعيد خلق الريف بوصفه حفرة روحية، لا مشهدًا طبيعيًا.

كذلك محجوب شريف، ورغم وضوحه السياسي، لم يكن يكتب شِعرًا كمنشورات الحزب، بل كان يستثمر في “شكل” الأغنية، وفي الإيقاع الشعبي، ليُخفي داخلها ديناميتًا دلاليًا، لا يُفجَّر دفعة واحدة. الشكل هنا لا يخدم المعنى، بل يشوّشه، يبطئه، ويُعيد تركيبه.

وإذا قرأنا القصة القصيرة أو الرواية السودانية المعاصرة — من بشرى الفاضل مرورًا بعادل القصاص — بعيدًا عن موضوعاتها الكبرى (الهوية، الجندر، الدين، السلطة)، وركّزنا على طرائق بناء الزمن، والضمير السردي، والانزياحات الأسلوبية، لأدركنا كم أن “الشكل” لم يكن تابعًا، بل قائدًا خفيًا للمعنى.

في رواية “موسم الهجرة إلى الشمال” للطيب صالح، على سبيل المثال، لا تحضر الحداثة في الموضوع، بل في الشكل السردي المفتّت، في الحكاية التي تتكرّر بظلال جديدة، لا لتخبر، بل لتُربك. هنا يصبح الشكل أداة مقاومة، لا فقط للنظام، بل للمُسلّمات الفنية.

والمدهش في النص السوداني أنه يمارس الشكلانية حتى دون وعي نظري بها، كرد فعل على سلطة المعنى الواحد، وعلى سلطة “الموقف”. فحين يُضطر الكاتب لأن يُعبّر عن نفسه داخل خطاب قمعي (ديني، أو عسكري، أو قبلي)، يصبح اللعب بالشكل هو التمرّد الوحيد الممكن.

وبالتالي، فإن الدفاع عن الشكل، عن التجريب، عن البنية، ليس دفاعًا عن الجماليات ضد السياسة، بل هو دفاع عن السياسة في أعمق صورها: حين تصبح الكتابة عملية خلق لا إعادة إنتاج.

ولأن السودان بلد يُطالِب كُتّابه دائمًا بأن يكونوا في “صف الجماهير”، فإن الشكل يصبح أيضًا اختبارًا للمسافة. أن تكتب بلا خطاب مباشر، في مشهد يموت فيه الناس يوميًا، هو أمر أخلاقي فقط إن فهمنا أن الشكل لا ينفي الألم، بل يصوغه بطريقة لا تُخدّر.

كما كتب جاكوبسون: “الوظيفة الشعرية للغة ليست تجميلًا، بل زلزلة.”

وإذا كان كل نظام قمعي ينتج خطابًا بلاغيًا ميتًا، فإن الشكل الحيّ، المربك، الغريب، المشظّى، هو في حد ذاته ثورة ضد يقين اللغة.

الشكليّون الروس لم يكونوا برجوازيين معزولين، بل كانوا يحاولون أن يُعيدوا للكتابة استقلالها، وسط نظام يريد من الأدب أن يكون بوقًا. أليس هذا هو عين ما نحاول فعله اليوم، في الخرطوم، حيث يُقتل الناس باسم الكرامة، وتُمنَح الجوائز للذين يقولون “الشيء المناسب” بالشكل المناسب للسلطة؟

إن السؤال اليوم في الأدب السوداني ليس فقط “ماذا نقول؟” بل: كيف نُدهِش القارئ فلا يصدّق أن ما يقرؤه هو الشيء الذي يعرفه؟

هذا هو الشكل. وهذا هو معنى التغريب.

***

إبراهيم برسي

في قصته القصيرة "إبراهيم إبراهيم" (نشرت في العدد 132 من جريدة أوروك) يبني صالح الرزوق عالمًا سرديًا داخليًا، مكثفًا، يتكئ على التهكم، والتفكيك الساخر للحبكة التقليدية، ويُفعّل وعيًا حكائيًا أقرب إلى الحكاية المعاصرة منه إلى البناء السردي الكلاسيكي.

نتابع في القصة شخصية غامضة تدعى إبراهيم إبراهيم، تقتحم حياة الراوي فجأة، وتترك أثرًا محيرًا بين الواقع والاختلاق. يتحدث إبراهيم عن ماضٍ ملتبس، عن صداقته مع بروديل وحنا مينه في قبو بيروت، ويزعم أنه أملى على الأخير فصولًا من المصابيح الزرق، رغم أن الرواية سبقت زعمه بثلاثين عامًا. يروي عن نساء عابرات وسهرات طويلة مع زكية حمدان، ويعيش في قبو شبه خاوٍ، بكنبة معدنية وعلبة سمنة استُخدمت بدل كرسي، بينما على الرف نسخ ممزقة من الكتب، بينها "الياطر" موقعة بالحبر.

الرزوق لا يقدم سردًا تقليديًا قائمًا على حبكة محكمة أو صراع واضح، هو يبعثر عناصره في فضاء حكائي ملتبس، حيث تتقاطع الواقعية مع السخرية المبطنة. لا تتصاعد القصة نحو ذروة درامية، بل تنمو عرضًا، عبر جمل قصيرة مشحونة بتهكم خافت، وتخفي مفارقات داخلية ذكية. السرد لا يلاحق غاية بحد ذاتها، وإنما يتتبع ظلال الحكاية وهي تتبخر، عبر شخصية لا نعرف عنها الكثير، وتختفي كما جاءت.

شخصية إبراهيم لا تحتل مركز السرد بوصفه بطلاً، بل تتقاطع مع حضور طيفي، يتحدث عن كتبه وصور أمه وخالته بتشويش متعمد. حين يسأله الراوي عن امرأة في صورة معلقة، يجيبه بأنها أمه. ثم يتبين أنها خالته التي ربّته لأنها لا تنجب. المفارقة لا تُحل، بل تتعقد، وتبقى ملامح المرأة ملتبسة، كما لو كانت استعارة لعمق غامض في ذاكرته.

حتى اسمه المركّب – إبراهيم إبراهيم – يُوظف على نحو تهكمي، يصل ذروته حين تسأله امرأة غريبة عن اسمه، وتلقبه بـ "إبراهيم مربع". هذا الانزلاق من الاسم إلى الجبر لا يأتي من باب الطرافة فقط، بل يعكس مأزق الهوية في عالم تآكلت فيه الثوابت.

أما المكان – القبو – فهو ليس مجرد مشهد خارجي، بل استعارة داخلية. قبو مظلم، مترب، مهجور، لكنه مأهول برائحة الورق القديم، والذكريات المفبركة، والاحتمالات. لا يصف الراوي المكان بوصف شعري، لكنه يقدمه بلقطات شبه فوتوغرافية: "ثلاجة يغطيها الغبار"، "كنبة معدنية"، و"علبة سمنة فارغة غطاها بجريدة قديمة". كلها تفاصيل ترسّخ هشاشة الحياة المادية حول هذه الشخصية، وتعزز الإحساس بعبثية الزمن ومهزلة الذاكرة.

اللغة التي يعتمدها الرزوق متقشفة، خالية من الزخرفة، لكنها مشبعة بوعي ساخر. السخرية هنا ليست خفة، بل إنذار داخلي، أو تعب هادئ من العالم. حين يسأله الراوي، باستنكار، عن حقيقة أنه أملى على حنا مينه صفحات من روايته، يرد إبراهيم بجملة تكثف فلسفة النص:

"ولكن لا يوجد في هذه الحياة شيء أصلي. كلنا لصوص يا عزيزي. حتى الأمم القوية تسرق أراضي الأمم الضعيفة. وكذلك الأفكار."

بهذه العبارة، يختزل الرزوق رؤيةً سردية للعالم: الكتابة ليست ابتكارًا بقدر ما هي تكرار بصيغ متغيرة، والحكاية ليست ملكية، بل دوّامة من التداخلات والتناص.

في النهاية، يختفي إبراهيم. يطرق الراوي الباب فلا يجده، وتفتح له امرأة غامضة تشبه المرأة التي في الصورة. ثم تختفي هي الأخرى بعد يومين، وتغلق الباب خلفها بسلسلة وقفل أصفر لامع. لا يُقدَّم تفسير. لا يحاول الراوي البحث عن أجوبة. بل يُترَك الغياب مفتوحًا كجرح بلا شفاء. المشهد الأخير لا يقدّم خاتمة، بل يفتح دائرة جديدة من الشك:

"وسمعتها تغلق الباب بخبطة قوية. وحين أخذت نظرة من العين الساحرة رأيت أنها أضافت له سلسلة من الحديد مع قفل أصفر يلمع بلون ذهبي."

ليس المهم من أقفل الباب، بل ما يعنيه هذا القفل في سياق النص: إنه رمز للغياب غير المفسّر، لصمت الشخصيات، لانغلاق الحكاية على نفسها كأنها تنسحب من العالم.

بهذا كله، ترسّخ "إبراهيم إبراهيم" بصمتها بوصفها تمثيلاً مصغرًا لعالم صالح الرزوق الأوسع: عالم لا يبحث عن البطولة، بل عن آثارها؛ لا يقيم صرحًا من المعنى، بل ينقّب في أنقاضه؛ لا يخبر القارئ بشيء، بل يجعله يتساءل عن كل شيء – من هو إبراهيم؟ هل كان موجودًا فعلًا؟ وماذا يعني أن تختفي الحكاية، لا لأنها انتهت، بل لأنها تآكلت من الداخل، مثل الصورة، مثل الأثاث، مثل الذاكرة نفسها؟

***

بولص آدم

ينطوي ديوان " يد تقود عماي " للشاعرة المغربية نجاة الزباير"1" على مفاتيح إقرائية متعددة قد يكون أسهلها قراءة هذه التجربة الشعرية ضمن الخرائطية الرمزية للشعريات الوجودية الإغترابية التي طبعت مساحة كبيرة من المنجز النصي للقصيدة الحداثية. لكننا لن نيمم بوصلات القراءة في هذه الوجهة وسنؤثر ارتيادا يذهب نحو رفع سدول النص الشعري عن أمكنة المعنى المحتجب وخلع العذار عن أحجبة المعنى الذي يتوارى في السدوف والسجوف البلاغية الشفيفة والكثيفة.

ثمة سند جمالي تنهض عليه نصانية الديوان وهو المتمثل في انتحاء كتابة شعرية تؤالف بين الرمزية الإشارية للغة العرفانية من خلال إحالات تناصية على ابن عربي وجلال الدين الرومي وابن الفارض ورابعة العدوية وفريد الدين العطار يتماهى فيها النص القرآني بالحمولة الدلالية للخطاب الصوفي، وتؤالف في نفس الوقت باسترفاد السجلات الرمزية للشعر الغربي من هوميروس إلى بودلير مع اختراقات لسجل المتن الأساطيري (جلجامش، برومثيوس، إيكاروس، سيزيف، نرسيس..)

جراء هذا التركيب الأرابيسكي وتساندات موزييك لغة بإيقاعات حابلة بما هو ظاهر وما هو مضمر من الصوغ التشاكلي لهذا التعدد من الرموز تنهض الكتابة الشعرية في هذا الديوان [كما في أعمال شعرية أخرى للشاعرة] كرحلة رمزية عبر مسالك البيان الشعري في التعبير عن علاقة الذات بواقع غير متطابق (واقع لإغتراب الجسد والروح)، وعبر إسراءات ومعارجية البوح الشعري لكتابة تتدثر بلبوس الرموز الأساطيرية والصوفية للتعبير عن اغتراب الوعي والفكر في عالم ووجود يفتقد لحمة الاكتمال ويفتقد الجوهر الخالص للروح والكينونة الصميمية. نقرأ من الديوان:

انكمشت في أسفار ابن عربي

زحف القلب خلف فجره

" أدين بدين الحب " قال

اتسعت في مداه حيرتي

وانفتحت أبواب بصيرتي

(...)

أيها البعيد

أرأيت كل هذا الغبار

يدثر إسمي في ذاكرة هواك

فآوي للعراء

كي أصطاد قصيدة

شردت حروفها

فألقاك

تحت سقف هواجسها

تعانق وردة الوصل

وكلما قصصت من الضلوع

شوقك

نبتت لي أجنحة من رماد

تحملني إلى عناوينك.

" ص – 16 / 18 "

هكذا تترحل بنا القصيدة في الفضاء السيميائي لتلاقي الأكوان المعرفية لكل من النفري [كلما اتسعت الرؤيا ضاقت العبارة] وابن الفارض [الحب عقيدة أهل الخواص]، مثلما نعبر من الإشارة اللماحة إلى غربة الملك الضليل الشاعر امرىء القيس وصول إلى الالتفات الكنائي للأندلس وشاعريها ابن زيدون ولسان الدين ابن الخطاب، دون نسيان التناص الأول مع الآية القرانية (فنبذناه بالعراء) والتناص الثاني مع أسطورة طائر الفينيق في قول الشاعرة (نبتت لي أجنحة من رماد).

أهم ما ينتج عن هذا الانتحاء الجمالي هو أننا نصير بصدد كتابة شعرية تشتغل وفق [استطيقا الاستعارات التماثلية] التي أوضح الباحث محمد بازي انبناءاتها في العديد من النصوص الأدبية من خلال كتابه (تقابلات النص وبلاغة الخطاب)"2"، أي أن القصيدة تتجاوز على مستوى تشكيل الصورة الشعرية الحيز الضيق للمحسنات البيانية والبديعية التي تجعل التشبيه والإستعارة والكناية مقصورة على حيز الجملة وبالتالي تشيد الشاعرة ما يمكن وصفه ب [الإستعارة النصية / أو الاستعارة السياقية كما يحب محمد مفتاح أن يسميها]"3"

تركز الشاعرة على بلاغة النص الشعري مبتعدة عن التنميق والزخرف البياني أو النزعة البديعية، وهذا يتضح من خلال اعتمادها جماليات التقابل بين المنوال الإستعاري لتجربتها الشخصية والمنوال الإستعاري العرفاني، أو الذهاب أبعد من ذلك إلى توسيع مرايا المناويل الإستعارية بالانفتاح على العديد من السجلات الرمزية المجازية الكونية، كما يتضح في الصوغ الشعري التالي:

أ - يمكن تأمل جمالية النسج الاستعاري في قصيدة " وجه ليس لي " التي مطلعها:

المرآة الكاذبة

تشطرني نصفين

وجه يفتح شباك القصيدة

يقود معناي

و آخر ينام غريبا

على كتف الضوضاء

يقول لي:

مساء الخير

و يتبع خطاي.

و هي قصيدة تشتغل على مفهوم الخيال المرآوي [انشطار الذات في صورتين متناقضتين اغترابيتين] مع استدعاء لصورة (القرين الشعري)"4"

ب – يستعاد المنوال الإستعاري ذاته من خلال قصيدة " أنامل تنوب عني " وهي قصيدة لتمرئيات صورة الأنا في اعكاسات الوعي الشعري، نقتبس منها:

كانت عيناها تفضحان سري

هي غيري

قلت..

وأمعنت في التخفي

لكنها أمسكت بظل وهمي

واستلقت في جرحي

تعد زنابق دمي

المسفوحة على باب التمني.

يتجانس الالتجاء إلى [المرآة] كمنوال استعاري ناظم لبلاغة الكتابة الشعرية مع النزوع الاستطيقي للكتابة الصوفية في اعتمادها رمزية المرايا للحديث عن الذات في مختلف تمثلاتها وهو ما يذكرنا بالبيت الشعري الصوفي الشهير (وما الوجه إلا واحد غير أنه / إذا أنت عددت المرايا تعددا)، لكن الأمر ليس فقط مخصوصا بالشعرية الصوفية فشكسبير في شعره التراجيدي كثير الجنوح

لا لا إلى رمزية المرآة للتعبير عن استعارات الغيرية كما عن أشكال الصراع بين الإنسان أو الزمن، أو إظهار مفارقات الوجود ونقائض المشاعر والقيم وهو القائل في شعره (يا مرآة مرائية / كأتباعي أيام الهناء / إنك تخدعينني) من مسرحية ط ريتشارد الثاني ".

لا تغرق الشاعرة نجاة الزباير في استدعاء الإصطلاح الصوفي وهي بذل ذلك تذهب نحو استلهام جوهر الشكل الشعري لروح الوعي العرفاني: كما أنها تترك النشيد الشعري يسترفد كل أشكال التعبير عن الذات سواء من خلال الأنماط التي عرفتها مختلف الشعريات الرومنطيقية في الشرق والغرب أو من خلال التماس مع الماهية الشعرية لروح الحداثة.

تعتني بتشييد القصيدة ك [معمار] لكي تتجنب السقوط في شرك التداعي غير البناء في نصاصية القصيدة، وتقتصد في بناء الجملة جاعلة المعنى المجازي سيد الكتابة فيما خطاب الحقيقة يرد بلغة مشذبة من وقع المباشرة والسطحية. في بنائها المعنى تترك مونولوج القصيدة ينفتح على الحوار الرمزي مع الكثير من الأسماء والأصوات (فان كوغ، سيلفيا بلات، زرقاء اليمامة، سعاد الصباح، الموناليزا، نزار قباني، جيفارا..).

تلك اليد التي تقود العمى الوجودي السائد هي [يد شبيهة بعناية سماوية] ترعاها أقدار ومصائر الشعر كما يرعاها ذلك النور الذي يحمله القلب والبصيرة والروح في مواجهة عالن انتصر فيح الحس على يقظة الإحساس. عالم لا يكف كل شيء فيه يندثر إلا من تلك الشعلة التي لا زلت تتوهج في قلب الشاعر / الشاعرة ولا تخبو رغم شحة الزيت في القنديل.

***

محمد علوط – 2025

......................

هوامش:

1 – نجاة الزباير "يد تقود عماي" طبعة أولى 2023 منشورات بيت الشعر في المغرب.

2 – محمد بازي " تقابلات النص وبلاغة الخطاب " طبعة أولى 2010 منشورات الاختلاف والدار العربية للعلوم ناشرون بيروت لبنان / راجع الفصل الرابع تحليل الباحث لقصيدة نسر لعمر أبي ريشة.

3 – محمد مفتاح " مجهول البيان " طبعة أولى 1990. دار توبقال الدار البيضاء المغرب

4 – راجع: عبد الفتاح كيليطو " الكتابة والتناسخ " ترجمة عبد السلام بنعبد العالي. طبعة أولى 1985. تالمركز الثقافي العربي لبنان – المغرب.

للشاعر الفلسطيني سعيد خلايلي

القصيدة كوثيقة وجدانية وكينونة رمزية

تنهضُ قصيدة "كُلُّ جُرحٍ فيكِ جُرحي يا فلسطين" للشاعر سعيد خلايلي على بُنية وجدانية كثيفة تتشابك فيها الدلالة السياسية بالرؤية النفسية، والرمز بالواقع، والمجاز بالمرارة. وتبدو القصيدة في مجملها نشيداً داخليّاً موشوماً بالأسى، فيه يتحول الوطن من جغرافيا إلى ذات، ومن أرض إلى معنى وجودي. تمثل هذه القصيدة مثالًا عالياً على الشعر المقاوم الذي لا يكتفي بالصراخ، بل يتوسل الأسلوبية الرفيعة، والإيقاع الموسيقي، والصور الكثيفة، لإيصال صوت الجرح الجمعي.

وإذ نقرأ هذا النص من منطلق أسلوبي ونفسي ورمزي وهيرمينوطيقي، فإننا نجد أنفسنا أمام تجربة شعرية تتجاوز الانفعال السياسي إلى تأملٍ فلسفي في العلاقة بين الإنسان وموطنه، بين الجسد والأرض، بين اللغة والجراح.

- في مجال التحليل الأسلوبي – البناء، الإيقاع، اللغة

1. البنية الإيقاعية والوزنية:

جاءت القصيدة موزونة على البحر الكامل أو الطويل (في الغالب بتفعيلات الكامل: متفاعلن متفاعلن متفاعلن)، مع حفاظ واضح على موسيقى داخلية نابضة تستند إلى التكرار الصوتي، والتوازي التركيبي، والقافية الغنائية التي تعزز الانفعالات العاطفية يقول:

"يا وطنيَ الأغلى فلسطينُ السَّنا

ومعارجُ الأرواحِ فيكَ ومُهْجَتي"

يظهر من المطلع هذا التوازن الصوتي بين "فلسطين" و"السنا"، وكذلك التناغم في نبرة الشوق والصعود الروحي نحو الوطن، مما يرسّخ النغمة التأملية ويُدخل المتلقي في مناخ وجداني صوفي.

2. الأسلوب البلاغي:

القصيدة تتوسل بتقنيات التكرار (كُلّ جرحٍ فيكِ، يا وطني، فلسطينُ)، والنداء الشعري، والاستفهام التقريري، والتضاد بين النور والظلمة، الحياة والموت، الرجاء والفناء. هذه الأدوات تُحدث تأثيراً شعورياً مضاعفاً، حيث تصير كل كلمة طقساً لغوياً يحتفي بالألم، يقول:

"فامنحينا مرةً لذةَ البقاءْ

مثلما تهدي لنا فَقدَ الرّجاءْ"

هنا نجد توازياً أسلوبياً بين "لذة البقاء" و"فقد الرجاء"، ما يعكس المفارقة المأساوية التي تعيشها الذات الفلسطينية.

- في مجال التحليل الرمزي – الوطن كرمز للأم، للذات، للقداسة

1. رمزية الوطن/الأم:

القصيدة تُحوّل "فلسطين" من مفهوم سياسي إلى صورة أمومية مقدّسة. فالوطن هو "يا أمَّ آهاتي" و"يا نخلةً في جرحها تتجلدي"، أي أنه يتحمل الألم بصبر الأم، ويتحول إلى مركز تعزية وعزاء في آنٍ معاً، يقول الشاعر خلايلي:

"يا أمَّ آهاتي التي نزفتْ دمي

يا نخلةً في جُرحِها تتجلّدي"

هذه الأم ليست فقط رمزا للأرض، بل للخصب والكرامة والتجلّد أمام الموت. وهنا تكمن القيمة الرمزية للنخلة في الثقافة العربية كعلامة على الثبات.

2. رمزية الجراح والدماء:

"الجُرح"، "الدم"، "السهر"، "الدمع"، "القاني المسفوح" هي إشارات متكررة تحوّل الجسد الإنساني إلى جسدٍ وطني. الجرح ليس خاصاً، بل هو جرحٌ كليّ/جمعي؛ وما يصيب الوطن يصيب الذات مباشرة.

"كلُّ جُرحٍ فيكِ، نبضي في شغافِهِ

ويدايَ من وجَعِ الحصارِ على صدى"

هذه الرمزية تجعل من الشعر فعل مشاركة في الألم الوطني، وتعيد تشكيل العلاقة بين الفرد والجماعة.

- في مجال التحليل النفسي – القصيدة كمرآة داخلية للأنا المقهورة.

1. أنا الشاعر بوصفها كائنًا منفيًّا داخليًّا:

القصيدة مليئة بصور الانفصال والاغتراب، لكن دون تسليم، بل بإصرار على العودة والتشبث رغم النفي. فالشاعر يقول:

"أنا المُسجّى فيكِ حينَ تُداسُني

قدسيّتي… والدمعُ فوق وسادتي"

إن الذات تتماهى مع الوطن حتى تغدو جثة "مُسجّاة"، لكنها في الوقت نفسه تحمل وعياً يقظاً وعاطفةً متقدة.

2. القصيدة كعملية تفريغ شعوري/وجداني:

الكتابة هنا فعل مقاومة نفسية ضد الانهيار. الشاعر يتلو، ينتحب، يتهجّى الدعاء في الليل، ويستعين بالصور العاطفية للتعبير عن التوترات الداخلية، يقول:

"وأنا السّهارى في ليالِكِ أنتحبْ

أتلو على الليلِ البعيدِ توجُّدي"

الشاعر هنا في حوار داخلي مع ليله الخاص، والليل رمز وجودي للضياع والأمل في آنٍ، مما يمنح النص طابعًا تأمليًا يتقاطع مع النفس الإنسانية المتعبة.

- في مجال التحليل الهيرمينوطيقي – تأويل فلسفي للمعنى العا

1. فلسطين بوصفها سؤالًا وجوديّاً:

في الخاتمة، تتحوّل فلسطين إلى "السؤال المطلق اللامنتهي". هذا التحول يمنح القصيدة بُعداً تأويليّاً جديداً، إذ لم تعد فلسطين فقط مأساةً سياسية أو وطناً محتلًّا، بل صارت سؤالًا كونيّاً حول المعنى والهوية والحضور، يقول:

"أنتَ السُّؤالُ المُطلقُ اللامنتهي

أنتَ الحضورُ وإنْ بداكَ تجلُّدُ الصَّمتِ"

هذا البيت يعكس وعياً عميقاً بالزمن الوجودي. فلسطين ليست فقط المكان، بل هي شرط وجود، والغياب الصاخب الذي يُعرّي كل العالم من معناه إذا غابت.

2. من الجرح إلى البعث:

في البيت الختامي، يقول الشاعر خلايلي:

"نمشي إليكَ، وفي المدى أرواحُنا

كالماءِ تعبرُ من جراحِكِ للغدِ"

نرى صورة "الماء" الذي يتسلل من الجراح – وهذا تأويل مدهش للتحول من الألم إلى الأمل. فالماء، رمز الحياة، يخرج من الجرح، رمز الموت، بما يؤسس لرؤية مستقبلية خلاقة وسط الأنقاض.

- في مجال الصور الشعرية والتشابيه والاستعارات

القصيدة غنية بالصور المحسوسة والرمزية معًا، مثل:

"الدمعُ فوق وسادتي" → صورة حميمية للحزن الممتد من العام إلى الخاص.

"يدينا نخلةٌ تُهدي المدى رُطبًا من الأشلاءِ" → تشبيه مركب يُبرز المأساة والخصوبة في آنٍ.

"غنّتْ صباياكِ… لكنْ دُفنَّ الحُسنَ في التابوت" → مفارقة قاتلة بين الجمال والموت.

هذه الصور تُشكّل طيفاً رمزياً يتنقل بين الحسي والتأويلي، بين المباشر والمجرد، بأسلوب بلاغي راقٍ.

خاتمة: القصيدة كأغنيةٍ للهوية وجراحاتها، تمثل قصيدة "كُلُّ جُرحٍ فيكِ جُرحي يا فلسطين" تجربة شعرية ناضجة تتجاوز خطاب المظلومية إلى بناء كينونة شعرية ناطقة بالحضور والمقاومة والمعنى. القصيدة تُزاوج بين الحنين والاحتراق، بين الحب والفقد، بين الذات والرمز، لتقدم فلسطين لا كأرض موعودة فقط، بل كوعدٍ شعري وجودي يظلّ معلقاً في فضاء الضمير واللغة والتاريخ.

إنها ليست فقط نشيداً لفلسطين، بل اعترافٌ كونيّ بأنّ هذا الجرح ليس سياسياً فحسب، بل هو انكسار في الروح الإنسانية كلما تجاهلت المأساة أو اعتادت مشاهد الذبح دون تأمل.

***

بقلم: عماد خالد رحمة - برلين

.......................

كُلُّ جُرحٍ فيكِ جُرحي يا فلسطين

يا وطنيَ الأغلى فلسطينُ السَّنا

ومعارجُ الأرواحِ فيكَ ومُهْجَتي

أنا المُسجّى فيكِ حينَ تُداسُني

قدسيّتي… والدمعُ فوق وسادتي

*

كلُّ جُرحٍ فيكِ، نبضي في شغافِهِ

ويدايَ من وجَعِ الحصارِ على صدى

كلُّ قرحٍ مسَّ شبرًا منكَ، وانطفأتْ

شمسي، وكانَ القَلبُ فيكَ مُوْقَدا

*

يا أمَّ آهاتي التي نزفتْ دمي

يا نخلةً في جُرحِها تتجلّدي

الثكلى دمي، واليتامى أضلعي

والروحُ بُسطتْ كي يناموا في يدي

*

وأنا السّهارى في ليالِكِ أنتحبْ

أتلو على الليلِ البعيدِ توجُّدي

وأُقايضُ النجمَ الدعاءَ لأجلِهمْ

وأقولُ: يا ربّاهُ! بَوِّبْ مولدي

*

والقانيُ المسفوحُ فوقَ ترابِنا

قد كان دمي، والروحُ زُفّتْ للسُّدى

فلِمَ استحللتِ الذُّبُوحَ لمُهجتي؟

فلِمَ الزهورُ تذوبُ فيكَ وتنطوي؟

*

يا وطنيَ الأغلى فلسطينُ الهوى

ربّما كنّا قُساةً في الهوى

فامنحينا مرةً لذةَ البقاءْ

مثلما تهدي لنا فَقدَ الرّجاءْ

*

عطشى نُموتُ، وفي يدينا نخلةٌ

تُهدي المدى رُطبًا من الأشلاءِ

وحزانى نحنُ، والأهلينَ فينا

رُمحٌ، وسيفٌ… في مَدى الأعداءِ

*

أيُّ قُبحٍ شوَّهَ القدسَ التي

كانتْ تُطرِّزُ بالضياءِ دُموعَنا؟

وغزةُ الزهراءِ، أينَ ضياءُها؟

والخيلُ تسأل: من يُعيدُ شُعاعَنا؟

*

والخليلُ الحُرُّ… أيُّ مدائنٍ

نامتْ على أوجاعِها ما بانَها؟

قولي فلسطينُ، مَن حطّمَ الوَدى؟

من بدّدَ الأناشيدَ في أفواهِنا؟

*

كُلُّ وضّاءٍ، كأنّ الروحَ فيهِ

مصلوبُ شوقٍ، أو شهيدٌ فُتِّتا

كُلُّ من ذابَ اشتياقًا في ثراكِ

كانَ النقاءَ… وكانَ فينا أنبَلَا

*

غنّتْ صباياكِ الجميلاتُ الهوى

لكنْ دُفنَّ الحُسنَ في التابوتِ يا

يا قدسُ، صبحنَا على شوقٍ دمي

هل يطلعُ الفجرُ المضمّخُ بالدُّجا؟

*

أنا عندَ بابِكِ، في يدي أناشيدُكِ

أهديكِ حُبّي، واشتياقي، ومُقلتي

أنا ذلكَ العاشقُ الذي لم ينثني

عنكِ… وإنْ ذبُلتْ يدي أو قامتي

*

يا وطني الأغلى فلسطينُ الهُدى

كلُّ جُرحٍ فيكِ… جُرحي وأُغنيتي!

وطنيَ المصلوبَ فينا كلَّ يومٍ

لم تَمتْ… بل في ضمائرِنا سَكنتْ

أنتَ السُّؤالُ المُطلقُ اللامنتهي

أنتَ الحضورُ وإنْ بداكَ تجلُّدُ الصَّمتِ

*

فيكَ انكشفتْ وجوهُنا المسروقةُ

فيكَ استبانَ خريفُنا وتَجدَّدَ النبتُ

أنتَ البقاءُ لكلِّ معنىً خالدٍ

أنتَ البدايةُ… حينَ لا يبقى لنا وقتُ

*

نمشي إليكَ، وفي المدى أرواحُنا

كالماءِ تعبرُ من جراحِكِ للغدِ

ونُعيدُ ترتيبَ الوجودِ بأسرِهِ

كي يستقيمَ الحُبُّ فيكَ… على أحدِ

*

يا وطنيَ الأغلى فلسطينُ البُكا

والمُلْهِمُ الأبقى… وسِرُّ الخالد

 

"غراب يواري سوءة الليل"

يتميز ديوان " غراب يواري سوءة الليل " للشاعر المغربي رشيد سبابو بميزات وخاصيات تعبيرية ودلالية تضفي عليه نزعة شعرية أكثر انفتاحا على عناصر ذات أبعاد رمزية تختزل الزمان والمكان والأعلام فضلا عن مكونات بلاغية وإيقاعية تغني نسيج المجموعة الشعرية من خلال ما تثري به نصوصها من تنويع وعمق يفتح أفقا مغايرا لإواليات التلقي القائم على تعدد افتراضات القراءة، ومقصديات التأويل، حيث يطالعنا من أول نص " غراب يواري سوءة الليل " العنصر المجازي بمختلف ضروبه وأنواعه من استعارة في: " أحيك من الشعر لباسا فضفاضا... أغطي عري ذاتي بالكلمات البتولة " ص 6، في استعارة اللباس المحاك من الشعر، وتحويل الكلمات إلى غطاء، وتشبيه، ضمني، للشاعر بقطرة ماء: " وربما أكون قطرة ماء تسللت من فم عطشان وانتحرت غارقة في نهر الحب " ص 13، هي القطرة المرتسمة على فم عطشان، يتوق لإرواء عطشه ولو بقطرة ماء لا يتوانى الشاعر في إلباسها مسوحا استعارية تنتهي بها منتحرة غرقا في نهر الحب، صورة تندرج في سياق نسق بلاغي جمالي تتنوع مساراته وتتعدد: " أقلعت عن تدخين الحياة " ص18، في تبديل للسيجارة بالحياة، وما يفرزه ذلك من تصورات ورؤى تنزاح عن النمط الشعري السائد والمألوف. واستعارة الصمت للتفاصيل، وخلط الأوراق للنسيان: " تصمت كل التفاصيل عندما يخلط النسيان الأوراق.. " ص22، مع إلباس التفاصيل والنسيان رداء فضفاضا، وما يحمله كفعل بحمولات غريبة وعجيبة من امتدادات بعيدة المرامي، ومتشعبة المقصديات.وفي تساوق مع عنصر الاستعارة تبرز العديد من الصور الشعرية، مثل: " حب يتدفق من بين يدي إله " ص17، حب لا متناهي الحدود، غير محدد الكنه والماهية ينبثق من ذات إلهية علوية المقام، سامية المرتبة، وتصوير لنغم الناي وما يحمله من شجن وكرب: " ناي يبكي بصخب " ص 24، ومدى هيمنة الزمن وتحكمه في مصير أشخاص: " فلننسلخ من قبضة الزمن " ص 30، يسعون للتخلص من قيوده المحكمة، وأصفاده الثقيلة. وصفات عميقة المعنى والدلالة تتمثل في انكشاف الليل: " سنعود إلى بيتنا قبل أن يتعرى الليل " ص 31، وما يسببه التيه من بلل للآخرين : " فيصيبنا بلل التيه " ص 31. ونظرا لما تحمله النصوص من طابع مجازي غني بأشكاله التعبيرية والتصويرية، وأبعاده الدلالية يصعب الإحاطة بأغلبها في مقاربة محدودة فقد اكتفينا بالتمثيل لبعضها. ورغم أن نصوص المجموعة ذات صيغة نثرية فلم يسلم بعضها من صبغة إيقاعية اخترقت تركيبها، وتسللت لصلب تفاصيلها وتشكلاتها كما في قول الشاعر: " اقتربت احترقت " ص8، بتكرار حرف التاء في نهاية جملتين فعليتين تتشكلان من فعل وفاعل، وحرف الميم في: " ظلام مزيدا من الظلام..." ص 8، وحرف القاف في: " هذه المدينة الصاخبة تزيد من قلقي من زقاق إلى زقاق " ص 34، وما يخلقه تكراره من نغمة تكسر رتابة النزعة النثرية وتوالي مقاطعها، وحرف التاء في: " أحببت كرهت تمردت بكيت " ص35، وإن كانت تروم تشكيل نوعا من التناغم خارج نظام التفعيلة وضوابطها. والطابع الرومانسي الذي لم تخل منه بعض نصوص المجموعة الشعرية كما في " نورس بلا وطن حيث نقرأ: " حيث يمكنني مشاهدة البحر يبتلع الشمس بروية. " ص 16، في تصوير رومانسي مجازي أخاذ. تصوير يتكرر في: " نورس يشرب القهوة ويسمع لموسيقى البحر... " ص16، وهو وصف ينأى عن التعبير الشعري السائد والمألوف ؛ إذ كيف لنورس أن يحتسي القهوة، ويصخي لموسيقى البحر ؟! ونص " على وجه الماء " حين يصف الراعي وهو يعبر عن لحظة الرحيل بمعزوفة يصدح بها نايه: " يعزف الراعي على الناي سمفونية الرحيل " ص19، ولعنصريْ الزمان والمكان حضور بارز في ثنايا الديوان، وما يميزهما من تواشج  وتداخل، دائب التفاعل والتأثير: " النهار هنا لا يبكي والشمس لاتريد مفارقة هذا التراب العطشان..." ص33، في تصوير لثقل الزمن وتمططه وتمنعه عن الانتهاء في رحاب قرية (الزحيليكة) يطوقها الفراغ، ويغمرها السكون والرتابة، ورغم ذلك لا يعمها الحزن، ولا تشيع مظاهره بين جنباتها: " هذه القرية تحمل كل شيء عدا الحزن كل مرة آتها حزينا.. تحضنني كطفل جائع يهتدي لثذي أمه " ص 34، وهي صورة تعبر عما تعج به هذه القرية من مشاعر حنان وحدب جديرة بالتخفيف من ثقل ووزر الغم والكآبة عكس مدينة سلا بوفرة أزقتها ودروبها، وترامي أطرافها وأرجائها الضاجة صخبا وجلبة: " هذه المدينة الصاخبة تزيد من قلقي من زقاق إلى زقاق أجر رجلاي هاربا مني إلى الفراغ... " ص 34، ورغم ما تبعثه في الذهن والوجدان من إلهام على الإبداع الشعري إلا أنها لا تزيغ عن أفق يكتنفه الحزن والضياع: " كتبت مائة قصيدة كلهن حزينات اغتصبهن الضياع " ص 35، فإذا كانت قرية الزحيلكية موطن هدوء وسكينة فسلا مصدر كدر وألم: " أنا و"سلا " وجهان لألم واحد " ص 35. وتشير بعض النصوص إلى رموز لأسماء وأعلام من مختلف الحقول والمجالات أسطورية ميثولوجية ك "إيروس " من آلهة الإغريق: " أين إيروس ؟ " ص8، وفلسفية مثل الفيلسوف الألماني " نيتشه ": " أضرب بمطرقة " نيتشه " على رأس الوجود... " ص 29، وتشكيلية في إشارة للوحة " الموناليزا ": " خلق " الموناليزا.. " ص30، وأدبية شعرية بذكر الشاعر الفلسطيني محمود درويش والكاتب الروماني سيوران: " قصائد درويش ولعنات سيوران " ص 37، وقيس بن الملوح المعروف ب " مجنون ليلى ": " لازال المجنون يبحث عن ليلى.. " ص 24، مع ما تحبل به هذه الرموز من دلالات فكرية، وميثولوجية أسطورية، وأدبية إبداعية، وفنية جمالية بمختلف أشكالها وأسسها وثوابتها ومرتكزاتها.

فديوان " غراب يواري سوءة الليل " يزخر بخاصيات إبداعية بارزة على مستوى العناصر المستخدمة، والأسماء المستوحاة، وما تحفل به من حمولات رمزية ودلالية أغنت المجموعة الشعرية، فأضحت أكثر انفتاحا وتنوعا ورحابة.

***

عبد النبي بزاز

.....................

* غراب يواري سوءة الليل(شعر) رشيد سبابو، مطبعة الخوارزمي ـ الدار البيضاء 2022.

    

"قراءة في إحداثيات التوجه"

لسرد وقائع التاريخ ولع لدى كثيرين، وشغف أيضا لاسيما إذا تعلق الحدث التاريخي بماضٍ يبدو مشرفا لعقود طويلة وبعيدة، هكذا تبدو حركة الضباط الأحرار التي قامت لإجلاء الاحتلال الإنجليزي من مصر وإنهاء حكم الملك فاروق الأول، وكلمة الحركة مفهوم عسكري يرتبط بالعسكرية والجندية والتخطيط الاستراتيجي للمعارك والمواجهات المسلحة، المصطلح الذي سرعان ما تغير اسمه ودلالته إلى كلمة ثورة التي أطلقها على الحركة عميد الأدب العربي صاحب الأيام الدكتور طه حسين ؛ وقتما انضمت جموع الشعب المصري إلى حركة هؤلاء الضباط الشباب الأحرار بالفعل والذي تزعمهم الرئيس الراحل جمال عبد الناصر الذي أصبح فيما بعد رئيسا للجمهورية العربية المتحدة آنذاك.

(٢)

وربما طه حسين في إطلاقه لكلمة ثورة بدا متأثرا كثيرا وليس بعض التأثر للثورة الفرنسية وتغلغل الثقافة الفرنسية في ثنايا تكوينه وتأصيله الفكري وربما أيضا أراد وهو صاحب العبارة الأكثر شهرة في القرن العشرين " التعليم كالماء والهواء" حينما طالب بمجانية التعليم دون التطرق الآن لما فعلت الثورة بالتعليم وما صار إليه راهن تعليمنا الآن ! لكن في صياغته لكلمة ثورة وعبارته ذائعة الصيت كان يحمل مشروعا استشرافيا للتنوير وتثوير الثقافة العربية. الأمر الذي تجسد بعد ذلك في تحقيق التوزيع الديموقراطي العادل للثقافة، وتعويض المناطق التي كانت محرومة من جني الإبداع دون التطرق مطلقا إلى يوليو من حيث نكبتها أو نكستها، أو من حيث تجاوزاتها التي تم تسجيلها أيضا في الأعمال الأدبية التي صارت خالدة إلى اليوم.

(٣)

والمشهد الذي بين يدينا ونحن نسطر بعض الحروف والكلمات في ذكرى الاحتفال بثورة الثالث والعشرين من يوليو ما يعنيني قضية الأدب والسياسة لا أكثر لا أقل، وهذه العلاقة يمكن توصيفها من زوايا ثلاث ؛ علاقات ملتبسة، ومساحات شائكة، ومغامرات أدبية غير محسوبة . رغم أن ثورة يوليو 1952 راهنت على الثقافة كسلاح ناجز من حيث توجيه الوعي القومي للجماهير في وقت باتت فيه الثقافة عموما والأدب الفني من رواية وقصة ومسرحية وقصيدة ملمحا من ملامح الوطن، وأسلوب حياة لا يمكن التغافل عن شهوده الحضاري في وقته وحينه.

(٤)

لكن من خلال استقراء العلاقة بين الأدب والسياسة يمكننا اقتناص نقطة التصالح بينهما ؛ تحقيق الأمن الفكري الذي يعني إحساس المجتمع بأن أفكاره وأخلاقه وقيمه ليست مهددة من طرف داخل أو خارجي، أو تهديده من فكر وافد خبيث. من هنا تم الالتقاء بين نقيضين من أجل السعي نحو تحقيق الطمأنينة وسلامة الفكر والفكرة أيضا، وسلامة الاعتقاد الشعبي، وحينما لجأت السياسة آنذاك للأدب فهي كانت على وعي بالرهان على التاريخ لأن الأعمال الأدبية تظل خالدة بإعادة طباعتها ورواجها اللامحدود بين القراء ومن ثم تجاوز فعل القراءة إلى جموح المشاهدة عبر شاشات السينما، وهذا ما يمكن وصفه بقانون الهيمنة على الوعي الجمعي.

(٥)

لكن، يظل الأدب رغم هروبه من مباشرة التوثيق التاريخي أصدق قليلا من تأريخ الحدث نفسه لاسيما في مساحة التوثيق والتأويل والتفسير عبر زوايا إبداعية رغم كل محاولات أي نظام حاكم بائد أم قائم بفرض الوصاية والولاية على عملية الإبداع، من أجل هذا كان الأدب هو التأريخ الخالد للعصور السياسية المنصرمة. ومن هنا يمكننا القول بأن الأدب وأهله ساهم بشكل كبير في توثيق ملامح ثورة 23 يوليو سنة 1952.

(٦)

ليس هذا فحسب، بل إن الزعيم الراحل جمال عبد الناصر أعلن أكثر من مرة أن رواية المفكر والأديب الشاهق توفيق الحكيم (عودة الروح) التي استهدفت عرض فكرة عودة الروح لمصر بعد قرون من الضياع، وفكرة قيادة مصر لكي تعود لممارسة دورها الحضاري. كذلك رواية العميد نجيب محفوظ أوبرا الحكايات ومقهى الحكي في روايته الجميلة (بداية ونهاية) والتي نشرت عام 1949 والتي رصد فيها بعبقريته السردية والحوارية أيضا أوضاع المجتمع الملكي وظلم الطبقات، لكن يظل نجيب محفوظ حالة خاصة جدا في موافقه السياسية تجاه ثورة يوليو وربما هذا الاستثناء الأدبي له ضمن عشرات المبدعين هو الذي جعله بمنأى عن منافسة الحصول على رضا السلطات لعقود طويلة.

(٧)

وبحق، تظل العلاقة بين يوليو الثورة والأدب مرحلة معقدة سياسيا ومعقدة أدبيا أيضا ؛ لاختلاف الشهادات والنصوص وتباينها، وخير مثال على ذلك توفيق الحكيم نفسه الذي أشار جمال عبد الناصر أنه أحد أصحاب فكرة الثورة والرمز التاريخي لها قبل اشتعالها بسنوات، فكتب قبل الثورة روايته (عودة الروح) في 1933، ثم تبعها برواية (الصفقة) في عام 1956 التي تناولت كفاح الفلاحين حتى حصولهم على حقوقهم كاملة وإصدار قانون الإصلاح الزراعي، وبعد ذلك جاءت روايته (الأيدي الناعمة) التي تناولت قيمة العمل واختلاف البعد الاجتماعي للمواطن عقب الثورة المصرية، لكن في عام 1960 فاجأنا توفيق الحكيم بنقد ثورة يوليو مسار الحدث وليس الفكرة نفسها حينما قدم للقارئ العربي مسرحيته (السلطان الحائر) التي شهدت أحداثها حيرة الحاكم بين مزاعم الديمقراطية وشهودها، والقانون الحاكم للجميع، والقوة الغاشمة وتفاصيلها شديدة الشراسة.

(٨)

لذلك يمكننا تفسير العلاقة بين الثورة والرواية من زاويتين ؛ الأولى زاوية التوثيق، والأخرى زاوية تتبع المسار. أما الزاوية الأولى (التوثيق) في ثمة شهادات أدبية لأصحابها تم رصدها في سياق فني روائي، من مثل روايات (في بيتنا رجل) لإحسان عبد القدوس، و(صح النوم) ليحيى حقي، و(رد قلبي) ليوسف السباعي، و( غروب وشروق) لجمال حماد، فسمحت الثورة لهؤلاء الأدباء تسجيل شهاداتهم التاريخية عبر قناة أدبية وهي الرواية وتم تجسيدها فيما بعد من خلال السينما.

(٩)

لكن هل تخلى المبدعون عن سماتهم الفنية الاستثنائية التي تميزوا بها ؟ هنا نلجأ إلى عبارة إحسان عبد القدوس الشهيرة : " حبك الأول هو حبك الأخير "، لم يستطع كل من إحسان عبد القدوس ويوسف السباعي التخلي عن مزيتهم الرئيسة في الفن الروائي لاسيما وأنهما من رموز الرواية الإنسانية الرومانسية، فكلاهما صبغا رواية الثورة بخيط رومانسي يعطيها فكرة موازية هي حب الوطن بقناع آخر . ربما بخلاف جمال حماد الذي له خلفية عسكرية وخبرة تاريخية طويلة دفعته أن يحاول تقليد إحسان عبد القدوس ويوسف السباعي في صنيعيهما لكنه بقصة رومانسية بها أقنعة التشفي والمحاكمة غير المباشرة والانتقام بصورة غير شرعية في روايته ( غروب وشروق).

(١٠)

أما الزاوية الأخرى، زاوية تتبع المسارات، فيمكن إجمالها في روايات (ثرثرة فوق النيل) و(ميرامار) لنجيب محفوظ، و(نجمة أغسطس) و(تلك الرائحة) لصنع الله إبراهيم، و(القضبان) لمحمد جلال، و(شئ من الخوف) لثروت أباظة، وجميعها رصدت مسارات الديمقراطية التائهة ونقد اتجاه المسار الثوري وقت تدشينه وصور الانتهاكات ضد العدالة الاجتماعية الإنسانية. فتحولت الرواية العربية إلى قضية وعي بقدر ما كانت تشكل دراما سياسية، بل استحالت الرواية المصرية منذ بزوغ ثورة يوليو 1952 وحتى نهايات الستينيات من القرن العشرين جزءا أصيلا من تصدير المشهد السياسي لعقل المواطن، فتعقدت العلاقة مجددا بين الأدب والسياسة في ظل صراع الأدمغة والحرب من أجل احتلال العقول.

(١١)

وفي سياق الزاوية الأولى التي اهتمت برصد وتوثيق المشهد الثوري، نجد حراكا مسرحيا استثنائيا لم يتكرر بعد حتى لحظة الكتابة الراهنة، حتى أعدت فترة الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين العصر الذهبي للمسرح المصري، ورصدها آخرون بقولهم تاريخ المسرح الحقيقي ؛ حيث كان البطل هو النص المسرحي لا الممثل، وباتت الفكرة المسرحية هي الحدث لا السيناريو أو الحوار بين الممثلين. فكانت ثمة أصوات مسرحية واعدة ؛ عبد الرحمن الشرقاوي وصلاح عبد الصبور ونعمان عاشور وسعد الدين وهبة وألفريد فرج، وبزغت أيقونات مسرحية خالدة مثل على جناح التبريزي وتابعه قفة، والسبنسة، وكبري الناموس، والناس اللي تحت، وسقوط فرعون.

(١٢)

ولا يمكننا ختم السطور الراهنة دون إشارة سريعة لما أحدثه صلاح عبد الصبور في المسرح الشعري العربي بدءا من رائعته (مأساة الحلاج) في 1966 والتي كانت بمثابة نبوءة لنكبة يونيو 1967، وكان بذاته كما وصفه النقاد الصوت الشعري الوحيد خارج السرب، ومسرحية ( مسافر ليل ) التي تنتمي لمسرح الكوميديا السوداء والتي تناول فيها صور الصراع الخفي والمعلن أيضا بين والسلطة بكل أشكالها السياسية والاجتماعية والدينية محاولاً تسليط الضوء على احتدام الصراع بين الإنسان والمجتمع، والإنسان والسلطة.

(١٣)

أما أبرز الحضور الأدبي وشهوده المثير بل الأكثر إثارة لتأثير الحركة الثورية في يوليو 1952 هو الصوت الشعري والمسرحي الاستثنائي الذي لا يمكن الفكاك من شراكه أو أسره أو اقتناص اسمه على سبيل التغافل؛ نجيب سرور

*** 

ا. د. بليغ حمدي إسماعيل - أستاذ المناهج وطرق تدريس اللغة العربية / كلية التربية – جامعة المنيا

حينما تختم قراءة رواية "فرانكشتين في بغداد" الحاصلة على "البوكر العالمي للرواية العربية" لهذا العام، يداهمك الشعور بالاحباط والمرارة لمصائر تلك المجموعة من الشخصيات التي عايشتها وعانيت همومها ومحنها وربما، وجدت من تعرفهم وسطها طيلة فترة القراءة. انها مجموعة من الشخصيات التي طحنتها الاحداث المروعة في العراق منذ وقوعه تحت الاحتلال الامريكي وصعود نخب للحكم غير مؤهلة اخلاقيا ومهنيا لادارة البلاد، فخلقت اجواءا تقترب في حالات منها الى الى صور الرعب والطريق المسدود في بحث الانسان العادي عن حقه بالعيش بأمن وسلام بحياة كريمة. انها شاهدة ادبية على واقع تخطى حدود الواقع ويشع العراق فيها على كافة مستوياتها اللغوية، ونمطية الشخصيات وألوان الطعام والمكان.

يستعير احمد السعدواي الاسطورة الخيالية الشهيرة التي خلقت شخصية "فرانكشين" بكل تنوعاتها وتأويلاتها النصية والسينمائية ليسحبها على العراق في أحلك مراحل تاريخه الحديث، ويفجر من خلالها ما خفي وراء ذلك الواقع والواجهات النفسية للشخصيات التي تتكيف له له باحثة عن موطء للوقوف عليه للتنفس والاستمرار في الحياة. ولكن يالخيبة الجميع. ان التجربة القصصة للجوء الى ماوراء الواقع كشكل فني، لتجسيده بكل فداحته  لها جذور عميقة في الاداب العالمية، بما في ذلك في الادب الروسي ونتلمسها بسطوع  كلاسيكيا في اعمال نيقولاي جوجول لاسيما في قصصه "الأنف" و"المعطف" وحديثا في قصص الاديب الروسي الكبير ميخائيل بولغاكوف " الماستر ومرغريتا" و " وقلب كلب" وانتشرت اكثر في ادب ما بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وما بعد الحداثة وتجلت باعمال فيكتور بليفين وفلاديمير سوروكين ويوري مماليف... ان رواية العراقي احمد سعداوي باسلوبها وحبكتها، يمكن ان تنتسب الى ما يسمى ب "الواقعية الميتافيزيقية"، بقدرتها على الكشف عن مكامن الواقع كحالة ماساوية تعمل ضد الانسان / المواطن وارادته وتتجاهل خياراته وتجعله بيدقة شطرنج لا حول ولاقوة لها في مواجهة الاعصار الي حركته "قوى غاشمة" لياخذ بطريقة بكل ما هو ويطفأ وهج النفوس وتطلعاتها ويختطف لحظات السعادة والفرح ويجعل الانسان من دون أمل ولاطموح وتحوله الى هارب بما في ذلك من نفسه. يعيش حالة اختناق. الانسان كحالة ككائن عاجز عن مواجهة القدر والمصير. ان الوظيفة الاساسية للاسطوري في العمل الادبي تنحى الى البلوغ بهذه او تلك من الظاهر حتى نهياتها المنطقية.

يوزع احمد سعداوي شخصياته على مجموعات صغيرة تكون كل منها انعكاسا ورؤية للمرحلة التاريخية / الاجتماعية التي تشكلت في 2006، حيث تصاعد العنف اللاعقلاني وغابت القيم وظهر على الافق نموذج مشوهه للانسان في العراق، تتداخل في مصائرها التي تكون متناقضة احيانا لكنه يخرج بها بمصير واحد. ويكون شبيه صنيعة "فيكتور فرانكشتين " الاسطوري الذي سيطلق عليه اسما عراقيا " الشِسمة" او الذي لا اسم له، هو السند الذي تتأسس عليه اركان الرواية وباعث تطور احداثها وشخصياتها. ان " الشٍسمة " الذي لا اسم له هو نتاج تجميع اعضاء من فارقوا الحياة نتيجة االتفجيرات الارهابية، وينهض بروح غريبة احد ضحايا الاعمال الارهابية للانتقام، لكنه يتحول بالنهاية الى اداة قتل عشوائية القتل من اجل القتل، انه ايضا صورة للقوى القديمة في المجتمع العراقي التي جُمعت اجزاؤها التي تهشمت بعد الاطاحة بالنظام السابق، لإستعادة الماضي والانتقام من الاحتلال ومن برايها وقف وراءه، ولكن باستعمال الوسائل القديمة وبدون طرح بديل اكثرة واقعية يستجيب لروح الحاضر، ولا قدرة على الحياة وبقيت عاجزة، وتحولت بعض تياراتها الى ممارسة القتل المجاني، والتدمير اللامبرر. ان "هادي العتاك"(العتيق)، الذي يمتهن شراء الادوات العتقية لتجديدها وبيعها بسعر اكبر، هو نسخة فرانكشتين الذي يجمع اشلاء   "الذي لا اسم له" بدوافع انسانية محضة، ولكنه جمعه من " اشلاء" عتيقة كما هي بضاعته فلم يحقق مشروعه الانساني، بل وراح ضحيته، ليكون هو الجاني. ولم يحقق المسخ الذي لا اسم له عدالة الشارع بعد ان تبدد الامل باحقاق عدالة السماء والقانون.

ان المثقف العراقي في "فرانكشتين في بغداد " يلوح مغلوب على امره. فجمهرة الصحفيين والمصوريين والكتاب ينخرطون في الوضع الاجتماعي ـ التاريخي، لتاكيد الذات وتحقيق الطموحات الشخصية والاغتراف من ملذات المال والجنس والمظاهر، انهم لا يطرحون مشروع التغيير ورسم البديل في الواقع الكالح الذي يرسمونه يوميا في صحفهم ومجلاتهم ويظهرون على شاشات التلفزيون لتقيدم تحليات عنه.

المرأة في الواقع العراقي الذي يرسمه احمد سعداوي هي الضحية الاكبر في مجتمع بلغ به جنون الرجال الى مستويات لا تقدر. وتتوزع نساءه الى معسكرين كبيرين، تنضوي في الاول الامهات العجائز اللواتي كن دائما عماد العائلة، واللواتي من المعسكر الثاني وجدن انفسهم على هامش المجتمع فرحن يمارسن بيع الجسد او الروح لمواصلة الحياة ولو في إطار النخبة. وتظهر العجوز "اليشو" الآثورية التي تنتظر ابنها الذي غيبته الحرب مع إيران قبل عشرين سنة ليبث النظارة في حياتها ويعيد مجد الدار، وتعتصم في بيتها القديم العريق، بيت الاجداد الذي يوحي بمتحف الأثريات. ان المرأة تنتسب الى أقدم شعب سكن العراق (الاشوريين) وبيتها هو بالذات صورة العراق الذي تحاول صيانته، ولكن المضاربين والمحتالين يحومون حولها لبيعه لهم، للاستيلاء عليه كغنيمة، ضمن التطور المنطقي للأحداث فالمسيحية "الآشورية" تترك بيتها ليس عن ارادة ولا رغبة، وسرعان ما يعصف به انفجار ارهابي ليدمره نهائيا، ويجد فرج الدلال الذي اشتراه من العجوز انه ارتكب غلطة بعقد الامال التجارية عليه، لانه كان منخورا وهشا من الداخل ولاح في واجهته عامرا وقويا وقوي الاركان. أنه العراق الحديث.

لم تجد حتى الشرائح الاجتماعية الطفيلية التي راحت تعتاش على مخلفات الوضع الذي خلقته حالة الاحتلال والاقتتال الطائفي، مكانا لها في الوضع التاريخي الاجتماعي الجيد. فيترك صاحب فندق العروبة وفرج الدلال ايضا بغداد ويعودون ايضا الى مواطنهم القييمة وكذلك الصحفي محمود السودادي ويختفي السعيدي، وتنهار احلام رئيس لجنة سرور. ان الوضع الي يتشكل يعصف بكل اشرائح والقوى وبالإنسان وقيمة وثوابت. ان نور التضامن الانساني والعناية بالأخر يلوح فقط في علاقة الشماس يوشيا بالعجوز ايليشو حيث يحنو عليها ويقدم لها ما يسهل عليها العيش وسط تلك الاجواء المأساوية. ان النظام السياسي في رواية احمد سعدواوي يرتسم كاصداء على جسد الواقع الممسوخ وتظهر شخصيات من دون اسماء وبوجوه متجهمة تثير الرعب ويتوجس منها الانسان شرا.

***

د. فالح الحمراني

في نص "حلّاق الشعر" للكاتب العراقي مروان ياسين الدليمي، لا نقرأ حكاية مهنة عابرة، بل نشهد مرآة مزدوجة لحياة كاملة تنحتها الضرورة وتصقلها الكرامة، حيث يتحوّل الحلاق إلى شاعر يقصّ ذاته كما يقصّ شَعر الآخرين، وتغدو الحلاقة رمزًا لفعل الكتابة نفسه: عمل يدوي وعقلي وروحي، يمارَس كل يوم ضد المحو والاختزال. فليست المهنة هنا مجرد وظيفة، بل استعارة وجودية لقصيدة تُكتب في الظل، ويقول صاحبها بيقين: "أنا كنت حلاقاً… وكانت القصائد، في داخلي، تقصّ رأسي كل يوم."

في هذا النص الذي يتكثف فيه زمن الحصار وجفاف العالم، لا يتحدث الكاتب عن "التجربة" باعتبارها شيئاً ماضياً، بل يتحدث عن "الهوية"، وكيف يمكن للواقع أن يحاول قسر الإنسان المبدع إلى زاوية ضيقة، تختزله في لقطة واحدة، أو في صفة مهنية، أو في تعليق عابر من أحدهم. يقول:

"أن يُختزَل إنسانٌ في مهنةٍ عابرة، أن يُنسى كل كفاحه، فقط لأنّ أحدهم لم يحتمل أن يراك تُواصل...".

هكذا تصبح نظرة الازدراء اليومية، مجرد "كلمة" أو "نظرة"، سلاحًا رمزيًا يقاتل به المجتمع ما لا يستطيع فهمه أو تحمله.

المفارقة العنيفة أن المجتمع لا يغفر للمبدع حاجته إلى العمل اليدوي، بل يكاد يطلب منه أن يبقى فوق الأرض وفوق الحاجة، وكأن الإبداع لا يتنفس إلا في ترف. لكن، كما كتب جورج أورويل الذي عمل في غسيل الصحون قبل أن يصبح أحد أعظم الكتّاب الإنجليز:

"أكتب لأني لا أستطيع العيش بصمت، ولكنني كنت أعيش في صمتٍ قسري طويل، حين لم يكن لي مكان في عالم الكتب".

كثير من المبدعين الكبار لم يصلوا إلى عالم الأدب أو الفن إلا عبر دروب الحرف والمهن:

الشاعر الروسي فلاديمير ماياكوفسكي الذي عمل رسام لافتات إعلانية.

المسرحي الأمريكي سام شيفلين الذي عمل في مصنع للسيارات.

الكاتب الفرنسي ألبير كامو الذي شغل وظائف مكتبية متواضعة قبل أن يصبح أيقونة فكرية وأدبية.

تشارلز بوكوفسكي عمل سنوات طويلة في مكاتب البريد، وكان يقول: "الكتابة كانت نجاتي من الوظيفة التي لا تنتهي"

توفى يانسون، الكاتبة الفنلندية الشهيرة بمخلوقات الـ "Moomin"، كانت ترسم الكاريكاتير في الصحف لتعيل نفسها.

بيير شوفالييه هو مثال مهم وملهم ضمن الحديث عن المبدعين الذين مارسوا مهنًا يدوية قبل أن يحققوا حضورهم في الحقول الفنية. فقد عمل لحّامًا في بداياته، وهي مهنة تتطلب تركيزًا وصبرًا ودقة، ثم انتقل إلى الكتابة والإخراج السينمائي، ليصبح لاحقًا أحد الأسماء المؤثرة في دعم سينما المؤلف، خاصة عندما تولّى مسؤولية قسم السينما في قناة Arte الفرنسية.

المكسيكي خوان رولفو، كاتب كبير وصاحب رواية "بيدرو بارامو" المؤثرة في أدب أميركا اللاتينية، عمل قبل شهرته موظفًا في سجل السكان المدنيين وبائعًا للأجهزة المكتبية، وعانى من الفقر والضياع.

غابرييل غارسيا ماركيز، كان صحفيًا يعمل في ظروف شديدة التقشف، ولفترة، كان يكتب في الصباح ويبيع الموسوعات المنزلية من باب إلى باب ليلاً ليكفي أسرته.

الروائي الياباني كواباتا ياسوناري الحائز أيضاً على نوبل، عمل مصححًا صحفيًا ومتدربًا في النشر، وكان يعيش حياة تقشفية شديدة في طوكيو. لم يكن يملك حتى حذاءً يليق به عند حضوره أول اجتماع أدبي هام.

إن رحلة الإبداع لا تنفي الكدح، بل تسبقه غالبًا. ما بين لحّام فرنسي وحلاق عراقي وكاتب مكسيكي يعمل موظفًا مغمورًا، تكمن الحقيقة البسيطة: الإبداع ليس امتيازًا برجوازيًا، بل هو صرخة كائن حر، ينحت صوته في كل الظروف.

والمذهل أن هذا "التوتر" بين الكرامة الداخلية والوظيفة الخارجية هو ما يصنع غالبًا جوهر الإبداع. كما قال الفيلسوف هربرت ماركوز: "الحرية الحقيقية لا تُقاس بامتلاك الوقت، بل بامتلاك النفس رغم الوقت".

يكتب مروان: "الكلمة لم تكن وصفًا، بل طعنة. وسكينها ليس في معناها، بل في ما تُخفيه من نيّة."

هنا تصبح اللغة الاجتماعية أداة عنف رمزي، وتصبح السخرية من "حلاق" ـ وإن كان شاعرًا ـ إهانة موجهة لا إلى المهنة، بل إلى الكينونة الإنسانية التي يُفترض بها أن تتجاوز التصنيف.

إن العنوان ذاته "حلّاق الشِّعر" يحمل هذا الازدواج المؤلم والساخر:

فمن جهة هو من يقصّ "شَعر" الآخرين – مادة الجمال الخارجي، ومن جهة أخرى هو من يُقصي "شِعره" – مادة الجمال الداخلي. لكنه يفعل ذلك بكبرياء وهدوء، كمن يعرف أن وظيفته الأعمق هي ما لا يُرى، ما لا يُدفع ثمنه، ولكنه يبقى. في لحظة سخرية من أحد الزبائن، يتوقف الزمن:

"ما حاجتك إلى الشعر، وأنت حلاق؟!"

فيضحك هو، لا من الجملة، بل من جهلها.

في نص "حلّاق الشِّعر"، لا يُدافع الكاتب عن "الحلاقة" كوظيفة، بل يدافع عن الحق في أن تكون أي مهنة طريقاً للكرامة، لا سيفاً للمهانة. بل إنه ينزع من المهنة أي سطوة اجتماعية:

"المقص بيدي، لا على عنقي."

في اختصار يليق بشاعر يعرف كيف يضع الجملة حيث توجع.

لقد مرّ المبدعون في عقودهم الأخيرة بحصار مزدوج: الحصار الاقتصادي، ثم الحصار المعنوي. أُجبر الكثيرون منهم على العمل في المهن اليدوية، وواجهوا نظرات الاحتقار المبطنة من بيئات لا تعرف كيف تُقدّر القيمة إلا إذا جاءت عبر سلطة أو مال. وهكذا، كما تقول حنة أرندت:

"المجتمع الذي لا يعرف كيف يحترم فكر أبنائه، سيقسو عليهم بألف طريقة، ثم يتساءل: لماذا غادرونا؟"

لكن "حلّاق الشِّعر" لا يغادر، بل يبقى، يضحك، يصمت، ينتظر، يقصّ شَعر الزبائن نهارًا، ويقصّ القصائد لروحه ليلاً. ويعرف، كما في خاتمة النص:

ويظل، كلما نادوه “حلاقًا”، يبتسم ويواصل.

لأنه يعرف:

أن القصيدة الأخيرة، دائمًا، له.

بهذا اليقين العميق، تظل كرامة المبدع محفوظة رغم كل محاولات الاقتطاع أو الاختزال، لأن الإبداع لا يُقاس بوضع اليد، بل بموضع القلب. والقصيدة، كما الحياة، لا تُختَزَل فيما تراه العيون، بل فيما تصنعه الكلمات في الظل.

***

بولص آدم

قراءة نقدية رمزية نفسية هيرمينوطيقية في قصيدة سمر يازجي "سكَنتُكِ... فأزهرتُ".

في قصيدة "سكَنتُكِ... فأزهرتُ"، تسير الشاعرة السورية سمر يازجي على خيط من الضوء الممزوج بالرماد، فتكتب من قلب التجربة ومن جوف التحوّل، لا على سطح الكلمات. القصيدة ليست مجرد بوحٍ عاطفي؛ بل هي نصّ تأويليّ يتشابك فيه الحب مع الهوية، والأنثى مع الوجود، والانبعاث مع الفناء. وسنتناول هذه القصيدة عبر منهج نقدي مركّب يضمّ المنهج الرمزي، الأسلوبي، النفسي، والهيرمينوطيقي (التأويلي)، لقراءة طبقاتها العميقة بنظرة فكرية أدبية فلسفية.

- في مجال البنية الرمزية – الأزهار التي تنبت من السكن

العنوان ذاته "سكَنتُكِ... فأزهرتُ" يستبطن مركزية العلاقة بين "السكن" و"الازدهار"، وهي علاقة رمزية شديدة العمق: "السكن" هنا ليس إقامة جسدية، بل اندماج روحيّ تامّ، نوعٌ من الحلول الصوفيّ في الآخر، والذي يُفضي إلى تفتح الذات وازدهارها.

"سكَنتُكِ... فأزهرتُ" —

العنوان يشي بأن الذات لم تكن مزهرة قبل اللقاء، بل كانت جدباء، وبفعل هذا الاتحاد، حدث نوع من التحوّل الوجودي.

الرموز المتتابعة — من "الدهر"، إلى "الأحلام"، إلى "العينين"، إلى "التيه"، إلى "الرماد"، كلها تُشكّل بناءً رمزيّاً لرحلة التحوّل الداخلي التي تخوضها الذات العاشقة.

- في مجال البنية النفسية – الحب كفعل إنقاذيّ من العدم

القصيدة كلها يمكن قراءتها كمسار تحلُّل نفسي للقيود التي كانت تخنق الشاعرة، إذ نلاحظ كيف تُمثّل الحبيبة بمثابة "الآخر المنقذ"، القادر على إعادة تشكيل كينونة المتكلمة، تقول:

"ما كنتُ أحيا،

بل كنتُ أتوهّم الحياة،

حتى جئتِ،

وتنفستُ انعتاقي فيكِ."

هنا نجد تعبيراً واضحاً عن التحوّل من حالة "اللاوجود" أو "الحياة المتوهمة" إلى حالة "الحياة الحقيقية"، وذلك عبر الدخول في تجربة الحب العميق. ووفقاً للتحليل النفسي، يمكن فهم الحبيبة كـ"الذات العليا" التي تتكامل معها الـ"أنا"، أو كرمز للأمّ الأولى – الحاضنة الوجودية الكبرى.

- في مجال الأسلوب والصور الشعرية – تناغم اللغة والإيقاع والمعنى

أسلوب الشاعرة يتّسم بنَفَس تأملي داخلي، يُقرّب القصيدة من النثر الشعري، لكنه يحتفظ بإيقاع داخلي ناعم تشكّله التكرارات والوقفات، مثل:

"سأبقى فيكِ،

ولكِ،

وبكِ اشتياقي يتجذر،"

تكرار الحرف والضمير والتصعيد التدريجي في البناء النحوي يمنح النص نغمة روحية وإيقاعاً خفياً يشبه التراتيل أو الأدعية الوجودية. كما نجد صوراً شعرية مركّبة وعذبة، تقول الشعرة سمر اليازجي:

"انبعثتُ كقصيدةٍ من رماد."

"كنتُ غباراً على أرصفة اللامعنى."

"صرتُ بكِ شِعراً لا يُتعبه النثر."

في هذه الصور، تتكشّف قدرة اللغة على استعادة الذات، على تحويل العدم إلى قصيدة، والشتات إلى شكل فنيّ معترف به. الرماد والغبار يمثلان الفراغ والضياع، بينما القصيدة والشعر يمثلان إعادة صياغة الذات وتخليق المعنى.

- في مجال المنهج التأويلي – الهرمينوطيقا الوجدانية للنص

القصيدة، وفق تأويل هرمنيوطيقي، ليست عن الحب فقط، بل عن جدلية الحضور والغياب، عن التحول من غربة الذات عن نفسها، إلى لحظة تعرّفها عبر مرآة الآخر. فالحبيبة ليست شخصاً فقط، بل معنى وجودي، صورة للـ"معنى" ذاته، تقول:

"والزمان يزهر عطراً،

يتكلم بلغةٍ لم أعهدها،

لغة أنتِ مفردتها الوحيدة."

إنها ليست لغة جسد أو غرام فقط، بل لغة كينونة كاملة لا يُفهَم الزمن بدونها. وتبعاً للمنظور الهيرمينوطيقي، يمكن اعتبار هذه "اللغة" ميتافيزيقا فردية تنبع من ذاتية التجربة.

في مجال الحب كفلسفة وجودية

تُبنى القصيدة على فلسفة ضمنية مفادها: الحب ليس عاطفة، بل "حدث وجودي" يُعيد تعريف الذات والواقع. لهذا تقول:

"أنا، مذ عرفتكِ،

انبعثتُ كقصيدةٍ من رماد."

كأنّ الحب فعل خلق، يُخرج الذات من رمادها — من هشاشتها — ليجعلها قصيدة، أي بنية منسجمة، فنيّة، متماسكة. وهذا التصور يقارب رؤية كيركيغارد للحب بوصفه "رحلة الإيمان الجمالي"، ويقترب كذلك من مفهوم إريك فروم للحب كقوة روحية إبداعية، لا مجرد عاطفة عابرة.

- خاتمة: الحب بوصفه تجدداً وجودياً

قصيدة سمر يازجي ليست اعترافاً غرامياً، بل تجلٍّ وجودي لمعنى الحب كإعادة صياغة للذات والدهر والمعنى واللغة. إنها قصيدة عن "السكن" الذي لا يُشبه الإقامة، بل الانصهار، وعن "الازدهار" الذي لا يُولد من أرضٍ خصبة، بل من تربة محترقة تُحييها نظرة، أو اسم، أو أنثى.

القصيدة تقول – دون أن تصرّح – بأن الإنسان لا يُولَد مرّةً واحدة، بل يولَد حقًا حين يُحبّ.

***

بقلم: عماد خالد رحمة - برلين

.........................

سكَنتُكِ... فأزهرتُ

سمر يازجي

أحببتُ دهري حين أحببتكِ،

ففيكِ استقامت الأحلام،

وازدهى المعنى الذي كان غائماً في تفاصيل العيش.

في عينيكِ سمعتُ وشوشة وجعي،

وغفرتُ للدنيا كلّ انكساراتها،

لأنكِ كنتِ فيها.

سأبقى فيكِ،

ولكِ،

وبكِ اشتياقي يتجذر،

كأن بين روحي وحنيني عهدٌ

لا يُنقَض.

أنا لا أفارقكِ،

لأن الحبَّ فيّ يسكن،

وأنتِ تجسّده.

قلتُها حين التقيتكِ:

لن أنثني،

لن أتهرّب من هذا التيه الجميل،

فأنا، مذ عرفتكِ،

انبعثتُ كقصيدةٍ من رماد.

أقسمتُ أن أكون ظلكِ،

أن أُقيم في عينيكِ كفصلٍ أبدي،

لا يعرف الخريف.

منذ التقينا،

والزمان يزهر عطراً،

يتكلم بلغةٍ لم أعهدها،

لغة أنتِ مفردتها الوحيدة.

بكِ تحررتُ من أشيائي التي كانت تقيّدني،

كنتُ غباراً على أرصفة اللامعنى،

وكنتِ الريح التي أعادت لتفاصيلي الحياة.

ما كنتُ أحيا،

بل كنتُ أتوهّم الحياة،

حتى جئتِ،

وتنفستُ انعتاقي فيكِ.

صرتُ بكِ شِعراً

لا يُتعبه النثر،

ولا تُطفئه الأيام.

لحسن الموسوي

صرخة من ذاكرة امرأة: يضعنا السرد الروائي أمام عدة حالات شعورية عميقة وبليغة في المعنى والرمزية الدلالة، في ذاتية شعور أم فقدت ابنها الصغير، نتيجة انفجار سيارة مفخخة في حي شعبي وقرب بيتها، فتناثرت اشلاء الضحايا ومن جملتهم أطفالها الثلاثة، ربما عقلها يسلم للأمر الفاجعة الحزينة، لكن قلبها يرفض ذلك، بأن طفلها الصغير (صبيح) ما زال حياً لم يطاله الموت في الانفجار المرعب، بذا الشكل يغوص السرد الروائي بتفاصيل الحدث الجلل، ويرسم بريشته فنية مبدعة في وضع لوحة الواقع في الاطار الصورة العامة، والحياة العامة بكل التفاصيل الدقيقية، في ظل الرعب الذي يطال الناس ويمزق سكينة الحياة ومعيشتهم، من الانفجارات المرعبة التي تنفجر في الأماكن العامة المزدحمة، وخصوصاً الأحياء الشعبية، أو وصف وتصوير الحالة العراقية المأساوية في ظل الارهاب الدموي، بأن عامة الناس الابرياء، هم الضحايا، وهم من يدفعون ضريبة الدم من الافعال الطائشة والعشوائية من الجماعات الارهابية المتطرفة، التي هدفها تدمير وتخريب العراق، في الإفراط في رعب الدموي في كل مكان (لقد بات الوضع مقلقاً جداً، واخذت الامور تنحى منحى خطراً، حينما بدأت السيارات المفخفخة بزرع الرعب في نفوس المواطنين الآمنين، حتى بات الجميع يرى اي سيارة تمر بالقرب منهم، وكأنها الوسيلة الوحيدة التي ستنقلهم الى العالم الآخر)، براعة السرد الروائي للأحداث يتحرك على مساحات واسعة من الواقع الفعلي والتصوير الشعوري، بين المعطيات على الأرض والخيال، بين الحقيقة والوهم، بين الشك واليقين، يزيد من فعاليته في حراكاته الدراماتيكية الصاعدة الى الذروة، باللغة السردية المرهفة والمشوقة، التي تجذب القارئ من خناقه، لمتابعة مسلسل الاحداث الدرامية في حوراراته، أومتابعة مسلسل الموت، وقد اخذ شكل سيناريو في المونتاج السينمائي، في مسلسل الموت الطويل، ومن ناحية الايغال في الهواجس القلقة لقلب الام المفجوعة، ودورها بارزاً، ليس فقط في صلب الاحداث المتن السردي فحسب، وانما في تصاعده الى عمق الازمة النفسية، يغوص في سايكولوجية الام، التي ترفض بأن الموت خطف طفلها الصغير (صبيح) لذلك وجدت الملجأ الوحيد لمدارات فاجعتها، هي الغوص الاحلام، ومخاطبة الاشباح في الليل، لكي يعلموها بمصير أبنها المفقود، تخلت عن كل الامنيات، سوى أمنية واحدة لا غيرها (- أمنيتي الوحيدة هي أن أعرف مصير أبني المفقود (صبيح) أخذت الاشباح بالتشكيل على هيئة حلقة وخذوا تشاورن فيما بينهم) هذا شعور الام المؤلم في عسف الانتظار الصعب والمرهق، حتى يطل اليقين وتتضح الصورة الحقيقية، لكي يبدد الشك، هذا الاحساس العميق يمور بغليانه في شعورها الداخلي للام، كأنه يلسعها بسياخ النار . وتدور مسيرة حياتها على هذا المنوال، في عملية تراجيدية لم تتوقف، حتى اتهمها زوجها (حميد) بالجنون والهذيان في الاحلام وصوتها العالي، وهي تخاطب الاشباح في الليل، كأنهم هم شفاعتها في كشف حقيقة أبنها المفقود، رغم ان زوجها يعتقد جازماً بأن اطفاله الثلاثة جميعهم طالهم الموت، وسلم أمر للقدر، بأنهم اصبحوا شهداء من طيور الجنة (- أنت مؤمن بالله ومؤمن بالقضاء والقدر، أحتسبهم شهداء عند الله) لانه تلقى وقائع الاحداث الدموية من زوجته التي اصابت بالحادث ايضاً ونقلت الى المستشفى وكذلك من احاديث الناس (- تقول زوجتي انها رأت أولادك الثلاثة وهم يلعبون عند الباب داركم، وبعدها حدث انفجار عنيف بالقرب منهم، عثرنا على جثة أثنان منهم، اما الثالث فلم نعثر له على اي اثر) ولكن دفنوا في ثلاثة قبور، يزورانهم بين فترة واخرى، لكن الام ظلت على اصرارها العنيد بأن طفلها الصغير، لم يخطفه الموت، ضاق زوجها ذرعاً من هذيانها الجنوني، وهددها بالطلاق لانها اصبحت مجنونة (- حسناً، ما دمت مصرة على هذا الجنون اذهبي وانت طالق، سوف اذهب الى عملي، وعندما أعود لا اريدك أن أراك هنا) تركها وحيدة في محنتها الصعبة وحيدة، وتزوج غيرها، تركها في حزنها المؤلم، وهي تناجي من يسعفها ويخرجها من هذا البئر العميق، سوى الاستماع بدموع باكية الى اغنية المطرب الكبير (حميد منصور) في اغنيته المشهورة جداً، بين الناس تقول بعض كلماتها (تجينا .. تجينا / ردتك تجينا .. راحت واجت الايام ... / ردتك تجينا .. علينا .... علينا ...... بس مر علينا ...... وتورد الاحلام .... من تمر علينا) وفي تطور الأحداث الدراماتيكية، يزور الاب (حميد) قبور اولاده الثلاثة، ويلتقي مع أحد الشيوخ، الذي يدعي بمخاطبة الموتى و يدخل في حوارات معهم، ويقول لكل ميت له قصة لم تكتمل فصولها النهائية، ولكنه يوجه كلامه الى الاب الذي فقد أطفاله الثلاثة، يخبره بالخبر اليقين (- ابنك الأكبر يسلم عليك ويقول ان اخاه الاصغر لم يغادر عالم الاحياء، وان صحيفته في عالم الأموات مازالت مطوية ولم تنشر حتى الآن) عندها شعر بالندم الشديد في الاساءة الى زوجته وأم أطفاله الثلاثة، اتهمها بالجنون والهذيان . وبعد ذلك يأخذنا السرد الروائي الى مقولة (الله يمهل ولا يهمل) بعد سنين طويلة، في حادثة خلاف مالي بين اثنين شركاء في ادارة متجر تجاري، أحدهم كشف السر الذي كان مطوياً لسنوات، بأن شريكه في المحل اشترى طفلاً صغيراً بعد الفاجعة في انفجار عنيف في إحدى الأحياء الشعبية، ويعرف عائلة الطفل المفقود من سنوات، وفي صبيحة احد الايام طرق باب بيت (حميد) واخبره بأن طفله الصغير المفقود مازال حياً، وفي مشهد دراماتيكي ليؤكد ان قلب الام لم يخطئ مهما كانت الأحوال، في عرض بعض الشبان يسيرون أمامها وحين جاء الدور على ابنها انهضت مرعوبة لتاخذ الشاب في حضنها وهي تبكي وتصرخ بكل قوة الشوق والحنين هذا ابني (صبيح) وليس اسمه (احمد) كما ينادونه (- هرولت اليه مسرعة واحتضنته وغابت عن الوعي لتهوي بكامل حزنها) واخذوا يرشون الماء على وجهها لمحاولة ايقاظها، وحينما عادت الى وعيها ورشدها قالت باكية العينين (- ألم أقل لكم بأني لست مجنونة / ألم أقل لكم بأن ابني حي يرزق / أين أنت يا حميد / تعال وانظر الى ابنك / تعال و كفر عن سيئاتك / لقد طلقتني بسبب إحساس الأم الذي لا يخيب أبداً / سامحك الله ياحميد / سامحك الله) .

***

جمعة عبد الله – ناقد وكاتب

 

للشاعر محمد لشياخ

الحلمة كورال، ملحمة زجلية للشاعر الزجال ذ.محمد لشياخ، تقع في 84 صفحة، صدرت عن دار بصمة للنشر والتوزيع، من تقديم الشاعر أمغارالمسناوي . ومادامت الملحمة هي " قصيدة قصصية طويلة، تسرد مآثر بطل حقيقي أو أسطوري تتجسد فيه المُثل، أو سرد لحادث طريف شيق، بإمكان سرده أن يلقي الأضواء على خفايا ونفسيات " [1]. فإن الحلمة.. كورال عصارة تجربة إبداعية ناضجة غذتها الثقافة الأدبية والنقدية للشاعر/الكاتب محمد لشياخ، هي عالم إبداعي يتلبس فيه الشاعر بالحاكي ليوصلنا إلى الخفي الكامن وراء الإنجاز الفعلي للغة، يدل السرد والحكي فيها عن تأمل الكاتب للواقع، وعن صراعه من أجل الوجود والحياة عبّر عن ذلك بواسطة الحوار بين الشاعر/الزجال (الحاكي) والجهال(شويكات غرسهم الزمان ف اقدام الحياة) [2] من جهة، والشاعر المفترض من جهة أخرى موضوعه "القصيدة الزجلية " بين الإمكان والوجود، متأملا ما كانت عليه ووجودها الجمالي في حاضرها وفي تطورها، مستشرفا إلى مستقبل أروع. إنه صراع مر يعيشه الكاتب مع اللغة يغوص في ثخومها باحثا عن معانيها الإيحائية وصورها الجمالية، من أجل بناء عالمه الإبداعي وتأتيت صوره الشعرية الدالة العميقة والمركبة التي تبتعد عن الصور المتداولة الحسية البسيطة، حيث تلتقي في النص مقومات السرد مع مقومات القصيدة الشعرية مما أضفى عليه صبغة التميز والفرادة .

وسنقف على بعض الرموز التي استعملها الشاعر/الكاتب ودلالتها. كما سنستجلي بعض القضايا الأدبية والنقدية التي يتضمنها الديوان مع إحالاتها. الحلمة.. كورال فضاء مليئ بالعتبات والإشارات والنصوص المتناصة التي يستدعيها الكاتب/ المبدع مقتبسا معانيها، و التي يمكن الوقوف عندها زيادة على العتبة الرئيسة وهي العنوان . يسافر الشاعر/ الكاتب بالمتلقي في أزمنة متعاقبة رتبها ورقمها، فجعلها ، تبدأ ب "زمن الظلمة" وتنتهي " بالزمن اللي صبح فيه الظلام جنة، والضوء محنة " الذي يحيل إلى المعاناة وإلى الضبابية وعدم الوضوح، وبهذا يحقق الشاعر الشكل الدائري الذي هو من خصائص القصيدة الحديثة في بنائها من حيث المعنى .إذ يتمم المختتم معنى المفتتح  فيها، يقول في المفتتح:

قال الزجال اللي كتب:

صرخة ف الظلام خارجة عميا

ولد الحلمة كبر ف العتمة. [3]

ويقول في المختتم:

تم   بين القصب

غنى الحالم لحنك المرتل يا جنة

والجنة حلمة. [4]

التيمة الرئيسية المولِّدة للكتابة الشعرية هي " الحلم "، وتدور في فلكها تيمات صغرى من قبيل: الحالم، زمن الحلم، عالم الظلمة، عالم النور، الزجل أو الكلمة أو الحرف .

فبناء النصوص يعتمد على ثنائية الظلمة / النور، وهي ثنائية تضرب عميقا في التاريخ الإنساني فكرا ووجدانا، وهي لصيقة بعالم الحلم، حيث البداية عند الشاعر الزمن الأول الذي مازالت فيه الكلمة في وجودها الأول لها قدسيتها، إذ لم يدنسها بعد الاستعمال، وقد امتطى الشاعر للصعود إلى هذا النبع الصافي أمواج الحلم التي بلغ عددها ثمانية، تؤسس بدورها تلك الأزمنة الثمانية المرتبة، غير أن الشاعر ينحاز إلى عالم الظلمة الذي تختبئ فيه الأسرار، ويخاف من عالم النور حيث تتضح الحقيقة الكاذبة، وتحضر المحنة المؤلمة. إن خروج الشاعر من حيز الظلمة إلى حيز النور، واكتشافه لهذين الحيزين معا يشبه تلك الصرخة الأولى التي تعلن عن خروج الوليد، توا، من الرحم المظلم إلى الفضاء المنير، وهي في هذا السياق، ليست صرخة فرح وحبور وإقبال على الحياة بقدر ماهي صرخة هلع ورعب من مغادرة عالم دافئ تعمه الطمأنينة والسلام، ولا غرابة أن يستهل الشاعر النص الثامن باقتباس مأخوذ من منتسكيو ومفاده: " ينبغي أن نبكي الناس في يوم ميلادهم لا في يوم مماتهم ".

فالحلمة، كلمة، خروج من الظلمة للنور و شمساته، الحلمة رواء ضد العطش، الحلمة حياة خالدة، الحلمة عند الشاعر أنثى ولادة. إذ يعيش ولد الحلمة الكاتب/ الزجال مع القصيدة  تحولاتها الكبرى عبر الأزمنة على مستوى الإبداع نتتبع فيها أحوال الذات المستلهِمة لأحوال النفس المتوحدة والقصيدة الزجلية في شتى مراحل وجودها من الإفصاح والخروج إلى النور إلى التطور  في الحياة  إذ تتماشى الأحداث والتطورات النفسية للكاتب / الشاعر في نفس طويل، بدايته هيام وعشق يقول:

تسع شهور من العشق

قبل ما التاريخ يبدا

قبل ما اللوح يفتح سرداب الرعدة

ويبيع الخوف ف قراطس الندى

قبل ما تبدل وجعة الصوت ثوبها

وتلبس دربال الكلام. [5]

يتنامى الحدث هنا، وتتظافر تقنيات السرد من شخوص وحوار وأزمنة لتصور عسر الولادة والمعاناة الرمزية التي يطرح الكاتب من خلالها  أفكاره الخاصة بأسلوبه الخاص وقد اختار له الصراع بمستوييه الواقعي والرمزي، حيث المعاناة النفسية الحقيقية إبان الإبداع، والبحث الدؤوب عن اللغة المعبرة والتراكيب الدالة تحقيقا للتناسب بين ما هو وجداني والشكل الإبداعي الأدبي في تجربة الشاعر، كل ذلك انطلاقا من تراكم معرفي وتجريبي ورهانات الكاتب الزجال، حيث يبقى الزجل موروثا إبداعيا وفكريا، وملاذا آمنا لطرح الأفكار التي لها علاقة بهذا الفن الأدبي من أجل إيصال المعنى وإسماع الصوت، صوت الزجال الراوي المتلبس في القصيد بالآخر . قال:

فعين راس الماء

تفتل الماء بين صبيعات مطرزة

وبين النقش ترسمت كلمة

برمها الريح على راس عكازه

وجلس مجابه فلجة الشمس. [6]

يدل رسم الكلمة على الكتابة، كما يستنتج ذلك من قوله: قال الزجال اللي كتب. تأكيدا على الكتابة، لأن الكتابة سلطة وتعاقد بين الكتاب والمبدعين والقراء.  يريد الشاعر أن يضفي الطابع العالم على الأدب الشعبي، "الحلمة كورال" تنتمي إلى الأدب الشعبي، والشعر الشعبي تحديدا،  تضعنا في قلب نظرية الأنواع الأدبية، ونعتمد في هذا المجال على ثنائية لغوية: هي اللغة العامية / اللغة الفصيحة أو لغة العوام / لغة الخواص، وكذلك على ثنائية تاريخية انثروبولوجية: شفهي / مكتوب، فتجعلنا نلمس التحول الذي طرأ على الأدب الشعبي، وهو الانتقال من الشفهية إلى الكتابة مع الاحتفاظ بالنوع والخصائص المشتركة ، وكذلك انتقال النصوص الشعبية مما هو منسوب للجماعة ، حيث يبقى المؤلف مجهولا (مثل ألف ليلة وليلة، كتب السير،عنترة بن شداد..) إلى النص المنسوب إلى الثقافة الخاصة، فتصبح لدينا ثنائية أخرى هي الثقافة الشعبية المنسوبة إلى الجماعة/والثقافة الشعبية العالِمة المنسوبة إلى الأفراد المحددين الذين يتوفرون على ملكية إنتاجهم الأدبي، وهكذا يضيف الكاتب الشاعر الأستاذ محمد لشياخ الطابع العالم على هذا النوع الأدبي .

فإذا كان الزجل يستمد مفهومه اللغوي من الحمام الزاجل الذي يحمل الرسائل، فإن للزجال هذا الدور المنوط به ككل أديب ومثقف، أي له رسالة أو رسائل، ومحمد لشياخ ف "الحلمة كورال " أداه بكل المقاييس وعلى جميع المستويات سواء منها الفكري أو الفني الأدبي في تناغم وانسجام تام، بين الشكل والمضمون، فقد أثار من خلال النص مجوعة من الآراء والقضايا التي لها علاقة بهذا النوع الأدبي على مستوى التنظير نقف على بعضها:

-    يقول: الزجال نبي الكلام، الزجال لابس دربال الكلام، يشير إلى الخصائص والصفات التي يجب أن تميز هذا الشاعر، وهي امتلاكه ناصية الإبداع، أي الكلام  وصنعته ، وصنعة الكلام، معرفة تامة باللغة وخصائصها، ومعرفة بقواعدها الفنية في أداء المعاني وتوليدها .

-    قال الحلمة باتول ولدت كلمة، والكلمة بتول الحروف، تدل الباتول على العذراء عموما، فكذاك القصيدة جديدة وإن كانت ذات أصول وتاريخ، نفهم من هذا أن على كل شاعر وكاتب أن يتميز ويتجدد بأسلوبه، الذي يصبح علامة فارقة بينه وبين غيره.

- المبدع لا يموت الزجال لا يموت ينبعث من رماده مثل الفنيق يخلده إبداعه. قال:

ومن تحت الرماد

غتسمعوا كبدة الزجال

كوني يا نار على حرفي " برد وسلام". [7]

وأيضا

الزجال إلى قتلتوه

راه جلدوا كناش للكلمات

راه عظامه قصايد موحيات(..)

غيقراو صبيانكم وصايته ف كتاب الأموات. [8]

ونطرح في هذا السياق، السؤال كيف يخلده شعره؟ يخلده شعره إذا توفرت له الشروط  والصفات ، وأول صفة في الإبداع الذي يمكن أن يخلد صاحبه هي أن يعبر عما هو انساني، وقد سماه "القدرة على السمو اللي ما تيفرقش لا بين الألوان ولا بين الأشكال لا في الحياة ولا في الإنسان" [9].  يضاف إليه شرطا آخر وهوان يكون مدونا ومحينا. قال:

ها روحي

ها خبز معاشي

نقعوا فيه رشاتكم

شاركوني ملحة الكتابة . [10]

-  الشعر والزجل ككل شعر إبداع خلاق وليس انعكاسا ميكانيك للواقع، يستشف هذا الرأي من تكرار "مرايا كذابة" ودلا لتها، ومنه قوله:"لما العالم ضاق بالحالم قرر يرجع للظلام، فين كان قادر يقرا كينونته بلا لغة بلا مرايا كذابة" [11]، والإبداع   يستدعي المعرفة بالأدوات وامتلاكها، ويقتضي الموهبة التي يجب أن تنمى بالصنعة والقدرة على التصرف في اللغة.

- يشير الشاعر / الكاتب أيضا إلى علاقة القصيدة في فن الملحون والقصيدة الزجلية الحديثة على اعتبار أن الأصل واحد والجنس واحد. يقول:

فوسط الغمامة

سمعت خصومة

الرعد غضبان من خليلته السرابة

الماء بينهم حالف ما يشهد (..)

شكون قادر يسقي نخلة الكلام

هنا     تفرق الكلام

هنا     تكفا صدر النبي ف الحافة

هنا     الحلمة نزلت تحفر طريقها ف فيافي

هنا     وراء ظهر الشمس تخبا القدر

لابس سلهام الزهاد . [12]

-    ونسجل مع الناقد الكاتب دور النقد الأدبي في إضاءة الموضوع، وأنه مايزال زهيدا بالمقارنة مع التدفق الإبداعي في هذا المجال، كما يتعزز هذا بالدعوة إلى غربلة التجارب وإعطائها حقها في التقويم والتقييم حيث ورد الغربال الذي يدل على هذا المفهوم في مواضع شتى منها قوله:

قالت الحياة:

وعلا ش ما يكون "إنسان"

"إنسان" تيتماهى مع الصفاء

قادر يقطع دروب الجراح

"انسان" تيعلم الشمس تكون غربالنا . [13]

أما على مستوى الأسلوب واللغة فقد انتقى الشاعر ألفاظا إيحائية يطغى عليها معجم صوفي يحيل إلى الصفاء والسمو مثل: الحلم، الرؤيا، النور، الماء، حيث ترتبط الرؤيا بالأنبياء صلوات الله عليهم، وخاصة رؤيا سيدنا يوسف عليه السلام التي كانت دليله إلى العزيز، كما فسر رؤى غيره ، أما عند المتصوفة فقد ارتبطت الرؤيا بالبشرى الإلاهية، وقد استعملها  الكاتب / الشاعر بهذا المفهوم فجعلها تتعدى الأحلام والحوافز النفسية وتحقيق الرغبات المكبوتة – عند فرويد مثلا – إلى الرؤيا والمكاشفة وتحقيق اللذة والشهوة  بالمعنى الصوفي فتصبح لها علاقة بالنور يقول الشاعر مستدعيا في هذا المعنى معنى قول جلال الدين الرومي:"النور اللي ف العين ما هو إلا آثار من نور القلب .أما النور اللي ف القلب فهو النور الحقيقي". [14]

إن بين الرؤية والرؤيا يتحدد عالم الشاعر الإبداعي الجمالي الحالم، والذي يبدأ بالشهوة والغواية . يقول:

شهوتي أنا ..ف حلمة... سميتها الحياة (..)

شهوتي يعصرني مزاجها ف دوايته

يخوتمني ضمغة  ف وصايته

شهوتي ف حلمة

راغ زينها ف رقاد الضاية

لما غزات بلادها الخيول

يوم خرجت لمناجل ترضع الصابة

تنشر الدفى فصبيعات الحطابة. [15]

أما "الماء " فله ارتباط بالحياة والوجود كما في القرآن الكريم " وجعلنا من الماء كل شيء حي " الأنبياء الآية 30. كما يحيل أيضا الى القوة والطوفان، لكن الشاعر استعمله استعمالا مرتبطا بالشعر وخاصة الصوفي الذي يحمل فيه الماء رمزية شدة العشق والشوق، كما ورد في دراسة رمزية الماء في التراث الشعري العربي، يقول الكاتب:" يرتبط الماء بالشعر الصوفي عند الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي فيصبح دلالة على الحب الإلاهي وتعبيرا عميقا عن الشوق والعشق وعن كل ما هو روحاني وصوفي، فالماء تعبير عن الإغداق في ملكوت الله وأسرار كونه" [16]. يقول:

قال الحالم

فين الماء اللي ماتت غمامته ف عشق أمي

باش تولدني حالم

فين السماء اللي تدلى صدرها باش ترضعني

فين حقي فصوفيات الحضرة

فين دربال الدرويش نحطو تاج

نهار يغسلني نورك من جهلي

نهار يعاوني الصبر على صبري. [17]

بصور تركيبة تجريدية تارة مبنية على المجاز والانزياح تارة أخرى، وباستثمار تجارب الآخرين والتأمل في الحياة، والقدرة على توظيف الرصيد المعرفي والثقافي المتنوع الذي يدل على الزخم المعرفي المتراكم، وامتلاك الكفايات والمهارات الإبداعية حقق الشاعر الزجال الأستاذ محمد لشياخ التناسب الوجداني بين حالته الانفعالية وبين الأسلوب الفني، في إيقاع قوي مبني على التوازي، وعلى تساوي الجمل والمقاطع مثلا:

ياك حنا اللي سمناك حلمة

يا كوكب الذر ف ملكوت الكتبات

يا تاج الورد ف سميت الزهرات

ياسوار كسرى ف قصور الطاووس

المفرخ بيضه فعشاش الكلمات. [18]

حيث تجد التساوي في التركيب "يا كوكب الذر، ياتاج الورد"، "ف ملكوت الكتبات ، فسميت الزهرات". يُكسب النص بنية إيقاعية داخلية قوية، حافظ عليها خصيصة مكتسبة أقرها الكاتب في وصف الحلمة ب "كرال"، وهذا تصنيف نوعي فرعي يعني الجوقة أو المجموعة، وهو مصطلح يستعمل في فنون أخرى، تصنيف كمي غير مؤثر، لأن الشعر يكتب في شكل قصائد مفردة أو قصائد متعددة موضوعها الحياة و" الحياة كورال من الوجعات" يتقاسمها الانسان. ومع ذلك تبقى للإبداع حرية مقيدة في الاشتغال على التخوم بين الأنواع – كما هو شأن التجريبيين -، لكن هناك ملامح كبرى، تراكمت عبر العصور، وشكلت تقاليد أدبية لا يمكن تجاهلها. إلا أن الحدود اليوم بين الأنواع الأدبية لم تعد واضحة. " فالشعر بهذا التصور مساحة يصطخب فيها الجدل بين عناصر الثبات وعناصر الحركة، ساحة تفنى فيها عناصر، وتتخلق أخرى، وتتحدد فاعلية العناصر المتولدة، بمقدار ما تقتضي من رؤى، ومقدار ما تحتوي من إمكانات الكشف وطاقات التغيير." [19]

هكذا عبر شاعرنا المبدع بأسلوبه المتميز ولغته الراقية عن الثابت والمتحول في القصيدة الزجلية عن وعي بالوظائف واستحضار تام للتراكم الثقافي والتجريبي بمؤثراته النفسية والموضوعية، فجاءت تجربته غنية تحتاج إلى أكثر من قراءة، وإلى النظر فيها بأكثر من زاوية.

***

د. فطنة بن ضالي

..................

الهوامش:

[1] سعيد علوش، معجم المصطلحات الأدبية، دارالكتاب اللبناني، ط1985،1، ص205.

[2] الحلمة كورال، ص 31

[3] الحلمة كورال، ص 7

[4] الحلمة كورال، ص 81

[5] الحلمة كورال، ص 7

[6] الحلمة كورال، ص 11

[7] الحلمة كورال، ص 62

[8] الحلمة كورال، ص 64

[9] الحلمة كورال، ص 71

[10] الحلمة كورال، ص 40

[11] الحلمة كورال، ص 79

[12] الحلمة كورال، ص 73-74

[13] الحلمة كورال، ص 75

[14] الحلمة كورال، ص 11

[15] الحلمة كورال، ص 15

[16] خليل المعلمي، رمزية الماء في التراث الشعري العربي، جريدة الثورة 18 يناير 2016.

[17] الحلمة كورال، ص 76

[18] الحلمة كورال، ص 32

[19] اعتدال عثمان، قراءة في أوراق الغرفة للشاعر أمل دنقل ، فصول ، م4، ع1أكتوبر-ديسمبر 1983،ص121.

أهم ما يمز بنية هذه الرواية هو المونولوج غير التقليدي الذي تعودنا عليه في السبعينات. المونولوج هنا مناجاة الأم، هنا يأتي دورها كما أشرنا، صوت الوالدة العراقية فيه نغمة خاصة، معبّر عن سردية أنثوية عراقية، إنه مساهمة كبيرة في عالم تعدد الأصوات في هذه الرواية، يجسد تاريخ الهم العراقي، صوتٌ يتميز بوضوح الألم ونبرة الحزن، كله شجن، نواح، بكاء، سرد جميل جدا. إنها سردية الأم التي ترى الأمور بطريقةٍ أخرى. ص 149 تسأل ابنَها العريس العنّين: "ألا تذكر مسرحيتك الوحيدة". ص 150

وتتداخل "سردية" العروس أو تختلط مع مداخلات أم عبد الرحمن "نظرت الزوجة (يقصد شيرين) إلى التقويم الشهري ...صورة زوجها ببزته العسكرية... العروس شيرين... اعتصمت...ارتدت ثوبا أسودَ". ص 151-150

عند بداية المونولوجات يتداخل صوت والدة الجندي المقتول مع صوت أم المحتضر عبد الرحمن بشكل بارع لكنه يحتاج إلى قارئ متانٍّ، لهذا قد يتساءل عمّن يدور الحديث؟ من هي التي استلمت البرقية؟ فيتضح أنها والدة الجندي صديق شيرين أو "زوجها" المقتول في الجبهة لأن الحدث قديم يتم استذكاره. ص 152

إذن سردية عبد الرحمن بأنه أراد أن يستر شيرين ليس بالضرورة دقيقة، قد تكون هلوسة وتبريرات، مجرد ادّعاء، ليغطي "عجزه" مثلًا!

وإن شيرين ليست عذراء، بل إنها وبحسب رواية عبد الرحمن حبلت من صديقه الجندي القتيل، وهنا قد يتبادر إلى ذهن القارئ سؤال: إنه زوجها فلماذا يجب عليه أن يسترها؟ قد يكون الجواب هو: هذا أسلوب الكاتب في الغموض أو "خلط الأوراق" والتبريرات، لو كان خطيبها فحسب بدون عقد زواج شرعي لأصبحت الحبكة أكثر منطقية!

إنها مشكلة اجتماعية تقليدية كُرّستْ لها العديد من النتاجات الروائية والمسرحيات والأفلام العربية الاستهلاكية.

وقد أجابنا الكاتب على هذا السؤال قائلاً: "موضوع زواجها غير الرسمي كان غامضًا، قالت شيرين ذلك ربما تهربًا من قصة عذريتها، قضية غامضة، المهم هو عنين وهي غير عذراء.. هكذا هو الأمر".

لا سيما أن غموضًا آخرَ يحفز القارئ على طرح السؤال ويتطلب التركيز لفهم الحبكة، سرد جميل ومونولوج متداخلان تشترك فيه عدة شخصيات يبدأ بإيضاح العقدة والأسرار لكنها قد لا تتعدى الادعاءات لتبرير المواقف وحفظ ماء الوجه بالذات بالنسبة لعجز عبد الرحمن وجنين العروس: نقرأ في الرواية: "خرجت أم الجندي من غرفتها تصرخ: ابني ابني" ص 151 بينما تسأل أم عبد الرحمن ابنها العريس العاجز: "لماذا كنت تنظر لأخيك الكبير نظرات ريبة؟". ص 152

مونولوجات واعترافات متداخلة لتبين الحقائق لكنها تزيد الغموض. لاحظ تجسيد مآسي أمهات الجنود العراقيين!

حوار بين الأم وابنها المحتضر، عبد الرحمن يتحدث في مونولوجه عن حياته والحرب كجندي، ويفسر سبب عجزه الحقيقي لإصابته بشظايا وعن شيرين التي أحبها لكنها تحبل من صديق لها، جندي يموت في الجبهة، فيقرر أن يسترها، ويعلّق على "رواية" أخيه الكبير قرأها واختلف معه في أحداثها! سرد رائع، متجدد ومتناسب مع بنية الرواية المتعددة والمتنوعة!

ولا بدّ أن نشير إلى أن أسلوب الكاتب هنا في التمهيد لبداية نهاية الرواية يتميز بمونولوج طويل من ص141 إلى ص 167 يتضمن حواراتٍ جميلةً بين الأم وابنها المريض وطريح الفراش والعروس شيرين ومولودها الرمز والأخ الكبير. وتتضح في هذه السردية الهجينة كما قلنا أهم الحقائق:

العريس المريض يتحدث عن نفسه وعجزه ويتضح انه عاجز ليس بسبب طفولته بل شظايا دخلت قضيبه.

يبدأ المونولوج هنا بين الأم وابنها العريس وهو على فراش الموت: "قل لي أي شيء قل لي عبد الرحمن لم اكن أطلب منك أن تصبح بطلا لكنك بطل .... ألا تذكر مسرحيتك الوحيدة التي كنت تحلم بتمثيلها على المسرح". ص 150

وهنا يتداخل سرد آخر بين الزوجة والأم ينقلنا الكاتب ببراعة إلى شيرين عندما كانت (زوجة الجندي) تتحدث مع والدته أثناء استلامهما برقية وفاته. ص 152 لكن، في هذه الأثناء تواصل أم عبد الرحمن حوارَها مع ابنها ومناجاته قبل أن يرحل عنها، يقول لها: " كنت في بطنك عندما انغرست في صدره (والده) رصاصات عدوه". ص 153

في "نزوة الموت" تحضر أيضا إحدى فرضيات موت الأب بينما كان ابنه البطل جنينًا في بطن امه. ص 153

لماذا تتكرر هذه الواقعة؟ إنها أليغوريا الموت الذي أهلك العراقيين! كأن الموت بطل من أبطال الرواية، أو أحد أعمدتها ورمز الحياة العراقية!

الموت! الموت! إنه الغياب والآلام، ابتلى به العراقيون منذ العهود القديمة وحروبهم الشرسة، يمارس الموت حضورَه هنا ايضاً. ص 154

البرقية والحلم عمودان مهمان تقف عليهما بنية هذه الرواية كما هو الحال في رواية "نزوة الموت"، حيث يقول البطل العائد من فرنسا لينقل رفات أبيه: "الخطيئة ابتدأت منذ اليوم الذي استلمت فيه برقية من أمي". ص 93

أما الزمان فيصوره الكاتب بوضوح من خلال أبطال الرواية الجنود: زوج شيرين الأول المقتول في الجبهة وبرقية الشؤم التي تعلن هذا الخبر المشؤوم، ونعيق الغربان فوقهم، وعريس شيرين الحالي الذي يعاني من عجز جنسي بسبب الحرب، "لا أعتقد بوقوع حرب أخرى بعد هاتين الحربين". ص 100

وإذا أردنا الحديث عن البنية، فلا بد لنا أيضًا من الإشارة إلى أن الكاتب يأخذ بيد القارئ بسلاسة لتبدأ نهاية المأساة، إن صح القول مجازًا فنحن أمام رواية غير تقليدية لا تلتزم بالمقومات المعروفة ولا بالأبعاد الثلاثة.

تدخل على الخط في السرد هنا شخصية عبد الرحمن نفسه، بطريقة رائعة لتتحقق البوليفونيا!

يعاني عبد الرحمن من الحُمّى ثم يموت! ص 148 تنتهي هذه الرواية بطريقة تتناسب مع بنيتها التي اعتمدت في النهاية على حوارات افراد العائلة وذكرياتهم.

تعتمد البنية بالأساس على تطور الأحداث ارتباطا بحياة الجنين وعمره داخل بطن شيرين كل شهر له فصل فهي تتكون من تسعة فصول لكل فصل عنوان يدل على محتواه. نظرة تجديدية في ابتكار بنية محدثة!

يلعب طائر البوم دوره في تطور الحدث وتصاعده بحيث يجعل البنية أكثر حيوية، ويبدأ بلوغ ذروة المضمون (ص 150) بقدوم ساعي البريد والبرقية كما هو الحال في "نزوة الموت" وكما أشرنا سابقًا في مقالنا هذا.

إنه موقف مثرٍ ومهم في بنية الرواية كأنه مشهد فيلم روائي!

"ظهر ساعي البريد ... برقية البرقيات مخيفة دائما مثل نعيب البوم تحمل فأل الشر قرأ اسم زوجها أصبح في قائمة المفقودين... ". ص 151

إنها ليست رواية بحبكة تقليدية، ولهذا تظهر هنا تساؤلات من المتلقي العادي موجهة للكاتب، إنها عصية الفهم على القارئ العادي، وليس هناك ضيرًا، لكن لا بأس من التوضيح أحيانًا بكلمة واحدة قد تنقذ الموقف ولا تُسيء للسرد.

لنلاحظ مرّةً أخرى كيف تتداخل الأصوات والسرديات المتنوعة في هذه الرواية، يترك الجندي المريض المحتضر، وصيتَه إلى أخيه. ص 156

إن الوصية، عمليًا، مخطوط صغير آخر يختلف عما كتبه ويكتبه الراوي الأصلي الذي لم يعد ساردًا عليمًا، يقول: " من حقي أن أسرد قصتي، ومن حق أمي وشيرين أن تسردا قصتهما" ص 156، فيشرح قصتهما، بينما شيرين تقرأ "مخطوطته" عند تعبه بسبب مرضه، ويتضح أنها (شيرين) كانت تحب شخصًا آخرَ غير عبد الرحمن و"حملت منه جنينها ...". ص 159

وهكذا فإن السرد الأخير يحصل فيه بعض "التشويش" والارتدادات بسبب تداخل أربع سرديات مثل:

- سردية الأخ الكبير، السارد الأصلي الفنطازي يستخدم رمزية العناكب والمضاجعة والعلاقة مع شيرين "العنكبوت" وقتلها بالسيف في نهاية الرواية، وقصة عجز عبد الرحمن منذ طفولته.

- سردية عبد الرحمن هي في حقيقة الأمر "وصيته" المكتوبة، يسردَها ويحكيها مؤلفها حيث يصورّ أخطاء مخطوطة أخيه ويعلّق عليها وتحريريا حيث تقرأها شيرين.

- سردية والدة عبد الرحمن وسردية شيرين التي تصلنا على شكل مداخلات.

- أما السرد عن برقية الجندي القتيل! فهو مجرد غموض مقصود من الكاتب يتطلب قراءة متأنية وتفاعل القارئ مع الأفكار بطريقة إبداعية.

هل هي حكاية أو اعتراف عبد الرحمن بأن شيرين حامل من الجندي الميت المقتول في الحرب؟ أم أن الجنين من أخيه؟ هل الجنين (الشبيه) ابن الجندي أم ابن الراوي الأول أخيه (الكبير)؟ غير واضح، وبقيت الامور غير واضحة حتى في آخر صفحة في الرواية. أنظر ص 167

ليس المهم مَن الفاعل بل الأهم الاستفادة من دروس الماضي ونبذ الحروب وتحقيق الاستقرار والحفاظ على أرواح البشر!

نهاية الرواية:

النهاية لوحدها لها معمارها الخاص، تعتمد على مونولوج الأم وحوارها مع الابن الكبير وذكريات عن المرحوم عبد الرحمن. ص 150

طائر البوم عن طفولة عبد الرحمن وخدمته العسكرية، أسلوب رائع، عبد الرحمن العنّين يكتب عن نفسه. ص 155 ويطّلع عليها اخوه الكبير. إذن نحن الآن أمام ساردين عليمين لكل منهما سرديته الخاصة به، فيتحقّقَ التناص وتتداخل هاتان المخطوطتان. ويفاجئنا الكاتب بساردَتين أخريين، تسرد الأم روايتها، والزوجة شيرين لها أيضًا رؤيتها الخاصة بها تعبر عنها في "سرديتها"، أو قسمًا من المخطوطة، فهُما تشتركان فيها

وكأننا نقرأ "مناحةً" عراقية نسائيةً بامتياز!  أنظر الصفحات 149-155

أخيرًا لا بدّ لنا من القول إن بنية نهاية الرواية بدءًا من تمهيدها إلى الذروة تتسم باعترافاتٍ مسهبةٍ بلغة تتداخل فيها الأصوات والحقائق، يساهم القارئ الفطِن في إعادة ترتيبها نتيجة عند تفاعله مع النص أثناء القراءة.

إنه سرد سيمفوني رائع على امتداد عدة صفحات. أنظر 149- 167

إنها سيناريو جدي لفيلم اجتماعي عن مأساة المجتمع العربي: العذرية والعفّة وليلة الدخلة!

تنتهي ذروة النهاية بوصف رائع جدا لولادة شيرين وليدها الجديد، ص 142 وتقدمه الأم بعملية التوليد، قائلةً: "يشبه أباه" ص 143 لكنها تشك بالأخ الكبير، صرخت في وجهه وكأننا أمام مشهد مسرحي أو لقطة سينمائية معبّرة: "أنت"! ص 143

في المقابل يضمحل العريس المريض ويعاني من الحمى والكوابيس ويتحدث عن الموت، وهي موضوعة الكاتب نفسها في "نزوة الموت" عندما يتساءل السارد: "ما شكل الموت" ص 147 تحولت شيرين في الحلم إلى عنكبوت ضخم يخنقه. العنكبوت تمارس مع الذكر مرة واحدة وتخنقه ويموت عبد الرحمن!

لكن المولود العراقي الجديد يكمّل المنظومة الأليغورية في هذه الرواية، فيُجسّدُ "أليغوريا" الحياة بغض النظر عن هوية والده المجهولة، وتبقى الأفكار حيّةً متوهجةً تبعثُ وميضها في أذهان قرائها من الأجيال القادمة التي عليها استخلاص العِبر من مآسي الحرب!

***

الدكتور زهير ياسين شليبه

.......................

1- شاكر نوري. نافذة العنكبوت. المؤسسة العربية للدراسات والنشر، الطبعة الأولى، بيروت 2000

2- زكية خيرهم. نهاية سرّي الخطير. وكالة سفينكس للنشر والتوزيع القاهره 2017

وأنظر دراستنا الموسعة عنها: د. زهير ياسين شليبه. قراءة في رواية " سري الخطير" لزكيه خيرهم. جريدة المثقف. 24 ايار 2023

3- د. زهير ياسين شليبه. غائب طعمه فرمان. دراسة نقديه مقارنة. دار الكنوز الأدبية، بيروت 1996

ومقالنا: قراءة في رواية زينب للدكتور عارف الساعدي. جريدة المثقف. ديسمبر/ كانون الأول 2023

4- أنظر: حوارنا مع الكاتب شاكر نوري. ملحق القبس الثقافي 04 مايو/ أيّار 2024

قراءة رمزية نفسية هيرمينوطيقية في ديوان ماء الياقوت" للشاعر عبد القادر الحصني

في شعر الشاعر عبد القادر الحصني، يتعالق الجسد اللغوي مع الجسد المعنوي في جدل لا ينفصل، حيث تتحوّل القصيدة إلى كائن طاغٍ، تُخضع الشاعر لتقلباتها، وتُنازع فيه وعيه وهويته وقراره. في قصيدة "طاغوت القصيدة"، يتلبّس النص الشاعرَ كما يتلبّس المسّ الروحي، فينشطر كيانه بين نشوة الخمر، وحقيقة الصحو، بين غواية الأنثى وتجلي الوطن، بين اللذة والمأساة، في بنية أسلوبية عالية الإيقاع والتكثيف الرمزي.

- في مجال المنهج الرمزي – القصيدة ككائن متعدّد:

يتّخذ الحصني من الخمر والأنثى والحانة والفرس والأرض رموزاً وجودية تتجاوز معناها المباشر، يقول:

 "إلى السُكر أشكو ما ألاقي من الصحوِ

لأُدني ما أنئي، وأبسط ما أطوي"

الخمر هنا ليست فقط شراباَ، بل هي "القصيدة" ذاتها، وهي الفن، الملاذ، والتطهير. أما "الصحو"، فهو وعي الواقع، مأساته، وشرطه التاريخي القاسي. الشاعر لا يهرب إلى السكر بل "يشكو" من الصحو، لأنه وعيٌ فائض، ووجود لا يُحتمل.

"فتقرأ في كفي تفاصيل ما أنوي

ويركض أطفال جميلون في دمي".

هذه الصورة تكشف بُعداً طفولياً للقصيدة، فهي أيضاً خصوبة، ولادة، وشهوة معرفية وإبداعية.

- في مجال المنهج النفسي – الانشطار بين الهو والأنا:

نلحظ في القصيدة تشظي الذات الشاعرة بين متعة مؤقتة وانهيار دائم، يقول:

 "كذا أنا.. حتى أستفيق مهدماً

على الخمر لا تروي، كما الشعر لا يروي".

*

في هذا السطر تكثيف للغربة الوجودية: الخمر لا تروي، والشعر لا يروي، في إشارة إلى جفاف داخلي عميق لا تملؤه طقوس الكتابة أو طقوس اللذة. النفس الشاعرة ممزقة بين الإشباع الرمزي والعطش الفعلي. يقول:

 "وذئب أحدّ النابَ فيَّ، فصوته

وصوتي خليطٌ، ما يبين إذا يعوي".

صورة "الذئب" هنا رمز للهو الوحشي، للغريزة، وهو يعوي بلسان الشاعر. لا فرق بينهما. الذئب والشاعر متواطئان في العواء. إنها الحالة الفرويدية الخالصة حيث يتصارع الهو مع الأنا.

- المنهج الأسلوبي – هندسة الإيقاع وتراكيب الدهشة:

القصيدة مكتوبة على بحر البسيط، لكنه بسيط متسع، تُنَفَّذ عليه طقوس الدهشة، ويتمدد فيه الحرف إلى أقصى ما يقدر على تحمّله من الصور والانفعالات.

 "وأبتهج أن الشعر مثل الخمرِ إذ

تفيضُ، ولا شيءٌ من الجمر يطفي".

في هذا التركيب، نلحظ جمالية التوازي والاستعارة المتحولة: الخمر = القصيدة = الانفجار = الجمر = العشق. تتدافع التراكيب بمجازاتٍ متوالدة، لكنها لا تفقد وضوحها.

كما أن استخدام الأفعال الحركية المكثفة (“أبتهج”، “أمسح”، “أهصرها”، “أدلّي”) يمنح النص حياة جسدية شديدة، فيصير الجسد كياناً تأويلياً، واللغة امتداداً للعصب والشهوة.

- في مجال المنهج الهيرمينوطيقي – التأويل الوجودي للموقف:

الشاعر في هذه القصيدة لا يسرد تجربة شخصية، بل يطرح موقفاً وجودياً من الشعر، الوطن، والكينونة. يتجلى ذلك في الخطاب الوطني في المقاطع الأخيرة، يقول الحصني:

"وفيٌّ لهذي الأرض أمسح تربها

بجفن قريح، لا يثوب إلى غفْوِ"

كما يقول:

 "وأوصيكم أن لا تلينوا لغاصب

يراودكم عن أرضكم، وهو لا يلوي"

ينتقل النص من المونولوج الحميمي إلى خطاب جماعي، سياسي، ينفتح على التاريخ والراهن، ويعيد تعريف الشعر كفعل مقاومة. الشعر هنا ليس ترفاً بل التزاماً:

 "فما الأرض إن تمنع سوى العرض كله

وحاشا لعرض أن يؤول إلى جزوِ"

- في مجال الثنائيات الكبرى – الجدلية الرمزية بين اللذة والمأساة:

القصيدة محكومة بمنظومة ثنائيات تقابلية:

- السكر × الصحو

- الأنثى × الأرض

- القصيدة × الطاغوت

- اللذة × الانهيار

- الجسد × الروح

- الغناء × الخرس

- البطولة × الانكسار

هذه الثنائيات لا تُفكك بشكل مباشر، بل تتداخل عبر بنية شعرية مشحونة بالرمز والانفعال، ما يمنح القصيدة طابعاً مأساوياً عميقاً، حيث اللذة دائمًا مؤقتة، والشعر دائماً مسكون بفقدان المعنى، يقول:

"طاغوتٌ يُزحزح كلامي عن الذي

أريد من القول السديد إلى اللغو"

القصيدة تعلن تمردها، وتصبح سلطة، تُحرّف المعنى. كأن الشعراء، مثل الأنبياء، يُسقطون في الاختبار حين يواجهون جبروت اللغة.

في الختام: الشاعر ككاهن مكسور. في "طاغوت القصيدة"، يتحول الشاعر الحصني إلى كاهنٍ مكسور، يعاني من نزيف الرؤية، ومن انكسار سلطة الكلمة. يقف على تخوم المجاز والواقع، فيرى في الأنثى وطناَ، وفي الخمرة يقظة، وفي الشعر خيانة أحياناً ونجاة في أحيان أخرى. النص يعيد تشكيل العلاقة بين الشاعر والقصيدة، فيجعل من الأخيرة طاغوتاً... ساحراً وعنيفاً، مغوياً ومُستلباً، طاهِراً ونجِساً في الوقت ذاته.

***

بقلم: عماد خالد رحمة - برلين

........................

طاغوت القصيدة

إلى السُكر أشكو ما ألاقي من الصحوِ

لأُدنـيَ مـا أنـئـي ، وأبسُـطَ مـا أطـوي

*

وتـنـبـو بِجِـرْمي أرضُ بـيـتـي وسقفُه

فـآوي إلى الساقي إذا لاتَ مـا يـؤوي

*

وأقـعـدُ في ركـنٍ مـن الـحان سـادراً

إلى أنْ تدورَ الخمرُ من نحوها نحوي

**

أباشـرها بالـرَّاعش الـعَـذب من يدي

فـتـقـرأ في كـفّي تـفـاصيلَ مـا أنـوي

*

ويـركض أطـفـالٌ جـمـيـلون في دمي

فـتحسِـبُـني خِـلواً، ومـا أنـا بـالـخِـلْـوِ

*

فسبحان من سـوّى الـقـواريـرَ نسـوةً

وسبحان من أغرى الرِّجالَ بما يغوي

*

وأبـدلـنـي بـالـثّـيِّــبِ الـبـكـرَ خـمــرةً

ترقُّ طباعاً .. فهي تشجا على شجوي

*

وتـطـوي همـومي في طـوايا خُـمارها

فـلـلَّـهِ كـم تسـطـيعُ حـواءُ أن تـحـوي!

*

وكـيـف إذا مــرَّت بـفــاضـل روحـهـا

عـليَّ تُـعــدِّيـني السَّـقـامَ إلـى الـبَـروِ!

*

وتمسـحُ من وجهي الغضونَ ، فَـرَيّـقٌ

إهـابي . وعـودي في الشَّبيبة ، لم يذوِ

*

فـلو شِــمـتـني أسـمـو إلـيهـا بـرشـفـةٍ

تـمـصُّ لـذيـذَ الـرَّاحِ من فـمـها الحـلـوِ

*

وأهـصرها هصرَ الضجيـعِ ضـجـيـعَـهُ

فـسِـفْـلٌ إلى سِـفْـلٍ، وعُـلـوٌ إلـى عُـلْـوِ

*

وأبـتـزُّ عنها الـثوبَ خـيـلَّـتـني ضُحـىً

يـفـكُّ ضبـابَ الـفجر عن شجر السَّروِ

*

وخـيَّـلـتـنـي صِنـوَ الـلَّـذاذةِ .. وحـدَهـا

يـحـقُّ لـهـا أن تـدَّعـي أنّـهـا صِنـوي

**

كـذا أنـا .. حـتى أسـتـفـيـقَ مُـهَـدَّمـاً

على الخمر لا تُروي، كما الشِّعر لا يَروي

*

وأعلمُ عـلمَ المجتـوي شـطـرَ نـفـسـهِ

بأن حالُ من يهوى كحال الذي يهوي

*

أطـيـلُ لـبـئـرٍ مـا لـهـا مـن قـرارةٍٍ

حـبـالي، وأُدلـي في غيـابتها دلـوي

*

كـأنَّ فـراغَ الكأس مـثـلُ خـوائـه

خوائي، فها شلوان: شِلوٌ على شِلو

*

وذئـب أحـدَّ الـنـابَ فيَّ، فـصـوتُـه

وصوتي خليطٌ ،مـا يبينُ إذا يعـوي

*

يـزحزح طاغوتٌ كلامي عن الذي

أريـد من القول السَّـديـد إلى اللَّغـو

*

وما ذاك عن ضيق القـوافي، وإنَّما

يـواري مـديحي ما أُكِنُّ من الهجـو

**

يريـدونني أشـدو ؟! أأهـزوءةٌ أنـا

لأصـدحَ في لـيـل الـهـزائـم بالشَّدوِ

*

وأفـرحَ بـالسِّـلم الـذي يـجـتـدونـه

متى كانت الأسلاب ترجع بالجدو؟

*

أأنـسـج من صـلـد الـكلام عـبـاءةً

لأخـلـعـها عـمـداً على زمن رخـو؟

*

وعهدي بشعري الريح خلَّى للاحقٍ ٍ

خـطـاه فـنـونَ المسـتحيـل من العدوِ

**

وفـيٌّ لهـذي الأرض شـعرٌ مَحَـضْتُـه

على عكر الأيام ما اسطعتُ من صفوِ

*

وقـدَّمـتـه فـي أوَّل الـرَّكب حـاديـاً

ونـزَّهـتـه عن أن يكفَّ عن الحدوِ

*

كشأن جـدودٍ أودعـوه صمـيـمَـهمْ

واعلوه حتى أدركوا بـالـغَ الشَّـأوِ

*

أُنّمى إليهم بامرىء القيس شاعراً

أحـلَّ ذؤابـات الـقـصائد في بـهـوِ

*

وعلَّـقني كالبرق في جـذع نخـلـةٍ

يثيرُ غبارَ الطلع في أفْقـها العلوي

*

ومـثـلي فـتـىً حـرٌ تـحـرُّ دمـاءه

خروقٌ تَدَاعى، تستحيلُ على الرَّفو

*

إذا قال قالَ الشعرَ من حُـرِّ قـلـبـه

وطـاولني كالنجم لما حـذا حـذوي

**

وفيٌّ لهذي الأرض أمسـح تربَـها

بجـفـنٍ قريـحٍ، لا يثوب إلى غفـوِ

*

وفـيٌ لشـعـب واحـدٍ مـتَـوحِـدٍّ

كما جسدٍ إذا يألم العضوُ للعضوِ

*

ويـا فرسـاً غـذَّوه لـوزاً وسُـكَّراً

وراضوه من خوض الحروب إلى الرَّهوِ

*

وحـلَّـوه من بَـعد الشـكيـم بخـرزةٍ

يُـجـمِّـع فيها ما تبقَّـى من الـزَّهـوِ

*

تـدلـلتَ فاهـززْ منكَ ذيـلاً ممشّـطـاً

ونـاصيـةً شـقراء تـصلـح لـلـهـوِ

*

ودعْ عنكَ ساحاً تُعثّر الخيلَ بالقنا

فـقد ربّـما تـُرديـك في زمن الكبـو

*

وجـمِّـعْ بخـصيـيـكَ المـآثـر كلَّـها

وشمَّ من الإصطبل رائحة الفَسْوِ

*

فقد حَسَـمَ السُّوَّاسُ أمـرَكَ عندما

رأوا فيك ما يكفي التفـرُّغَ للنزوِ

**

وفيٌّ لهذي الأرض تُـنـبتُ ثـائـراً

وتطوي شهيداً بين أحشائها يثوي

*

وأحني لأطفال الحجارة هامةً

فأنهمُ سـؤرُ الكرامـةِ والـبـأوِ

**

أفـيـقـوا بـنـي أمّـي فإني لخائفٌ

عليكمْ من السِّلم الذي خفتُ مِلغزوِ

*

وأوصيكمُ أن لا تـلـيـنوا لغاصبٍ

يراودكمْ عن أرضكمْ، وهو لا يلوي

*

فما الأرضُ - إن تمنَعْ - سوى العِرْضِ كلِّهِ

وحاشـا لعِرضٍ أن يـؤول إلى جـزوِ

*

أقولُ، وفي صدري من الحبِّ نبعـةٌ

تفيض، وفي صدري من الجمر ما يكوي

*

وأعـلمُ أن الشـعب كـفء لـنـازلٍ

إذا أعوز الأمرُ العصيبُ إلى كُفوِ

*

فهاكمْ ملايين العصافيـر في دمي

تنقِّـر باب اللّيل .. تبحث عن جَـوِّ

 

مقاربة بنيوية-سيكولوجية لمقاطع من قصيدة للشاعر يحيى السماوي

المقدمة: يُعَدُّ الشعر الحديث مختبرًا للتوترات الكبرى بين الذات والوجود، وبين الرغبة والخذلان، وبين الحلم والواقع. لم يعد النص الشعري الحديث حاملاً لمعنى أحاديٍّ أو رسالة مغلقة، بل أصبح فضاءً لتعدد الأصوات والرؤى، ومرآةً لأزمة الإنسان في زمن الاغتراب. من هنا، فإنّ تحليل النصوص الحديثة لا يمكن أن يكتفي بالقراءة الظاهرية، بل يتطلب الغوص في بنياتها العميقة ورصد دينامياتها النفسية والرمزية.

النص الذي بين أيدينا – مقاطع من قصيدة قيد الإنجاز – يقدّم خطابًا شعريًا مفعمًا بالأسئلة، يحاول فيه الشاعر أن يستعيد فردوسه المفقود عبر أسطرة الحلم واستدعاء الذاكرة الحضارية. إنه نصّ مشحون بالصور الحسية والمجازات الوجودية، تتقاطع فيه الثيمات الكبرى: الحب، الغياب، الأمل، الموت الرمزي. ترمي  هذه القراءة إلى  مقاربة هذا النص بواسطة ثلاثية تحليلية: البنية السطحية، البنية العميقة، والبعد السيكولوجي، مع إضاءة على البنية الموسيقية التي تشكّل النسيج الصوتي للنص.

تنطلق القراءة من فرضية أساسية: أن النص يتحرك ضمن جدلية الحلم والاغتراب عبر بنيات متقابلة، تتجسد في الصور، وفي الإيقاع، وفي الحقول المعجمية التي تشتغل على ثنائيات ضدية، مما يجعل النص مشهداً درامياً لصراع داخلي يعيشه الشاعر بين توقه للخلاص وانكساراته المتكررة.

الإطار النظري

1. البنيوية والنص الشعري:

البنيوية، كما بلورها فرديناند دي سوسير، تقوم على مبدأ أن اللغة نظام من العلامات، وأن الدالّ والمدلول لا ينفصلان عن النسق الذي يحكمهما[١]. وقد طبّق رولان بارت هذه الرؤية على النصوص الأدبية، مؤكدًا أنّ النص ليس مجرد حامل لمعنى، بل هو شبكة من العلاقات داخلية، لا تُفهم إلا بواسطة رصد البنية العميقة التي تتحكم في إنتاج الدلالة[٢].

أما غريماس فقد قدّم أداة مهمة لتحليل البنية الدلالية هي المربع السيميائي، الذي يقوم على إبراز العلاقات التضادية والتقابلية بين المفاهيم (الحياة/الموت، الأمل/اليأس)[٣]. سنستعين بهذا المربع في الكشف عن الثنائيات التي تنظم النص المدروس.

2. التحليل النفسي والخيال الشعري:

يرى فرويد أن الإبداع الفني ينهل من اللاوعي، وأن الحلم – مثل الشعر – يقوم على آليات الكبت والتعويض والإزاحة[٤]. أما كارل يونغ فيرى أنّ النصوص العميقة تحرك ما يسميه "الأرشيتيب" أو النماذج البدئية التي تنتمي إلى اللاوعي الجمعي[٥]. في نصنا هذا، سنلاحظ حضور رموز بدئية مثل: الماء، الصحراء، السفينة، المدينة الأسطورية (أوروك)، وهي رموز تحمل دلالات نفسية وثقافية متراكبة.

تحليل البنية السطحية:

1. الحقول المعجمية:

يتوزع المعجم الشعري في النص بين حقلين متقابلين:

حقل الخصوبة والحياة:

«تأتينني في الحلم أمطارًا / فيعشب رملُ صحرائي / ويغسل حزني الممتد»

كلمات مثل: أمطار، يعشب، الأزهار، النخيل، الينابيع تشكّل شبكة دلالية توحي بالبعث والامتلاء.

حقل الموت والفقد:

«ما الذي أبقت لي الأيام من أشجار بستان الهوى غير العقيم من الفسيل؟»

يتقابل هذا المعجم مع مفردات مثل: الصحراء، الحزن الممتد، العقيم، المتاهة، البئر.

2. الصورة الشعرية:

تقوم الصورة على التحويل الدلالي (المرأة → مطر، المطر → حياة)، وهو ما يسميه بارت "الأسطرة الثانية" حيث تتحول العلامة من وظيفتها الطبيعية إلى وظيفة أسطورية[٦]:

«حمامةً تأتينَ تُلبسنِي قميصًا من هديل»

الحمامة هنا ليست مجرد طائر، بل رمز للطهر والسلام، يتحول في المخيال الشعري إلى معادل للخلاص النفسي.

3. المشهدية:

يتميز النص بتكوين مشهدي بصري:

«فيعود طفلاً شيخُ بادية السماوة، خلفه يمشي من الأزهار جيش والسواقي والنخيل»

هنا نجد استحضارًا لأسلوب "التراكب البصري"، حيث تتحول الكلمات إلى لقطات سينمائية، ما يجعل القارئ يعيش انفعال المشهد.

البنية الإيقاعية:

الإيقاع يتراوح بين الانسياب والتوتر:

في مقاطع الحلم:

«لتقوم مملكةُ المحبة والهوى / فيها النساء جميعهن بثينة»

النغمة رخوة، الأصوات السائلة (م، ن، ل) تهيمن، مما يمنح النص نبرة هادئة.

في مقاطع الخيبة

«كيف الوصول إلى المرام إذا السفن يقودها القرصان والمنبوذ والنفر العميل؟»

النغمة حادة، الأصوات الصامتة القاسية (ق، ط، د) تعكس غضبًا داخليًا.

هذا التحول الإيقاعي يجسد ما يسميه ياكبسون بـ"التوازي الإيقاعي" كآلية دلالية تواكب التحول النفسي[٧].

تحليل البنية العميقة:

1. شبكة الثنائيات الضدية

باستعمال المربع السيميائي (غريماس)، يمكن اختزال الصراع في النص إلى ثنائيات:

الحياة مقابل الموت:

«أمطارًا» ↔ «العقيم من الفسيل»

الأمل مقابل اليأس:

«بشارة عذراء» ↔ «فلتشطبيني من كتاب حياتك الوردي»

الأصل مقابل الاغتراب:

«جيلان في أوروك» ↔ «سأفر من أوروك ثانية»

هذه الثنائيات لا تبقى متقابلة فقط، بل تتداخل في حركة جدلية، إذ يتحول الأمل إلى خيبة، والحياة إلى موت رمزي، مما يمنح النص ديناميكية دلالية.

البعد السيكولوجي:

النص يكشف عن ذات مأزومة تمارس آلية التعويض من خلال بناء مملكة وهمية:

«لتقوم مملكةُ المحبة والهوى فيها النساء جميعهن بثينة»

هذه اليوتوبيا تكشف الحاجة إلى طهر مثالي، في مواجهة واقع موبوء (القرصان والمنبوذ والنفر العميل).

كذلك نجد حضور آلية النكوص في الخاتمة:

«فلتشطبيني من كتاب حياتك الوردي… لم يعد في كأس قلبي من نمير النبض غير الأقل من القليل»

هنا يعود الشاعر إلى نقطة العدم، بعد رحلة حلمية لم تُثمر، ما يشي بصدمة وجودية تدفع إلى الانسحاب.

يونغ يفسر استدعاء الرموز (أوروك، السفينة) بكونها محاولات لاستعادة النموذج البدئي للأمان، لكن النص يفشل في تحقيقه، فينقلب الرمز إلى نقيضه: السفينة أداة نجاة تتحول إلى "بحر متاهة".

الخاتمة:

يمكن القول إن النص يمثل بنية حلمية تنهض على تقابلات حادة بين امتلاء الرغبة وفراغ الواقع، بين يوتوبيا العشق وديستوبيا المنفى. البنية السطحية تُخفي خلف زخرف الصور شبكة من التوترات الدلالية التي تكشفها البنية العميقة، فيما يعكس الإيقاع تحولات المزاج النفسي من الأمل إلى الخيبة. سيكولوجيًا، يتبدّى النص كصرخة مكبوتة، يحاول عبرها الشاعر أن يستعيد زمناً طاهراً في عالم ملوّث، لكنه ينتهي إلى خذلان يوسّع دائرة غربته.

بهذا المعنى، لا يكتفي النص بتمثيل تجربة شخصية، بل يفتح على مأزق الوعي العربي الحديث في صراعه مع الخراب والاغتراب، مما يجعله نصًا غنيًا بإمكانات القراءة، وقابلاً لأن يُدرج في خانة الشعر الوجودي الذي يزاوج بين الرؤيا والجرح.

***

رياض عبد الواحد

....................

الإحالات:

فرديناند دي سوسير، محاضرات في علم اللغة العام، ماكغرو-هيل، 1966.

2. رولان بارت، درجة الصفر في الكتابة، دار هيل ووانغ، 1977.

3. ألجيرداس غريماس، الدلالات البنيوية: محاولة في المنهج، جامعة نبراسكا، 1983.

4. سيغموند فرويد، تأويل الأحلام، دار بيسك بوكس، 2010.

5. كارل غوستاف يونغ، الإنسان ورموزه، دار ديل، 1968.

6. رولان بارت، أسطوريات، دار سوي، 1957.

7. رومان ياكبسون، اللسانيات والشعرية، مطبوعات جامعة هارفارد، 1960.

........................

مقاطع من قصيدة طويلة قيد الإنجاز

تـأتـيـنـنــي في الحلم أمطارًا

فـيَـعـشـبُ رمـلُ صـحـرائـي

ويـغـسـلُ حـزنـيَ الـمـمـتـدَّ  مـن أمـسـي

الـى يـومـي الـعـلـيـلْ

//

وحـمـامـةً تـأتـيـنَ

تُـلـبِـسُـنـي قـمـيـصـًا مـن هـديـلْ

//

وبِـشـارةً عـذراءَ عـن

مـفـتـاحِ قُـفـلِ الـمـسـتـحـيـلْ

//

فـيـعـودُ طـفـلاً شـيـخُ بـاديـةِ الـسـمـاوةِ

خـلـفـهُ يـمـشـي مـن الأزهـارِ جـيـشٌ

والـسـواقـي والـنـخـيـلْ

//

يـطـوي الـفـيـافـي

يـقـتـفـي آثـارَ قـيـس بـنِ الـمُـلـوَّحِ

والـسـمـوألِ

والـيـنـابـيـعِ الـتـي ســتُـقـيـمُ غـدرانـًا

لأعـذبِ سـلـسـبـيـلْ

//

لِـتـقـومَ مـمـلـكـةُ الـمـحـبَّـةِ والـهـوى

فـيـهـا الـنـسـاءُ جـمـيـعـهـنَّ :" بثينةٌ "

وجـمـيـعُ حـادٍ فـي مـضـاربِـهـا : " جميلْ "

//

وأنـا وأنـتِ : الشاهدانِ  على قِرانِ

ندى صباح اللوزِ والكَرَزِ الشذيِّ

على فمِ العطشانِ  منذ غيابِ آخرِ نجمةٍ حيرى

إلى شمس الأصيلْ

//

جـيـلانِ فـي أوروكَ فـي رعـبٍ

ومـثـلـهـمـا نـزيـلُ الـغـربـتـيـنِ

وهـا أنـا فـي بـئـرِ حـزنـي

مـنـذ جـيـلْ

//

مُـتـرقِّـبـًا  حـبـلاً مـن الـفـرَحِ الـمُـؤجَّـلِ مـنـذُ

عام تحاصص المتفيقهين الزور ما أبقى لنا من

زادنا ألغازي الدخيلْ

//

كيف الوصول إلى المرامِ

إذا آلسفين يقوده القرصانُ والمنبوذُ

والنفر العميلْ ؟

//

سأفر من " أورك " ثانيةً

وأُلقي بيْ إلى بحر المتاهةِ ..

ما الذي أبقت ليَ الأيامُ

من أشجار بستانِ  الهوى

غيرَ العقيم من الفسيل ؟

//

ما دُمتِ  هيّأتِ السفينةَ والشراعَ لتُبحري

خلفَ المدى

وعزمتِ عن مُقلي الرحيلْ :

//

فلتشطبيني من كتابِ حياتكِ الورديِّ ..

حسبي :

لم يعدْ في كأسِ قلبي من  نميرِ النبضِ

يا نهر الهوى

غيرُ الأقلِّ من القليلْ !

 

في خيبات العاطفة وتراجيديا الأمل المؤجل

تأتي قصيدة "بين ركام التمني" للشاعرة التونسية نعيمة المديوني بوصفها نصاً شعرياً نثرياً مشبعاً بالتوتر العاطفي والرمزية النفسية، حيث تتداخل فيه الحواس، والذاكرة، واللغة مع عناصر الزمن الغائب والانتظار المفتوح على اللايقين. لا تكتب الشاعرة المديوني فقط عن الحب، بل عن انكسار صورة الآخر، وعن العزلة المترسبة في زوايا الحنين. القصيدة تتحوّل إلى اعتراف وجودي، ينطلق من الذات المحبّة المتألمة لتصوغ تجربتها الوجدانية ضمن بناء شعريّ مشحون بالرموز والتأويلات، مما يفسح المجال لمقاربتها من خلال عدة مناهج نقدية متقاطعة.

- ففي مجال البنية الرمزية للنص:

نجد أنّ النص يحفل  بمجموعة من الرموز المفتوحة والدلالات الكثيفة، التي تعمل بمثابة شفرات حسّية لتأويل العالم الشعري الذي تبنيه الشاعرة. من أبرز الرموز:

1. "الطيف"، حيث تقول:

"أنتظر طيفَك"

"هلّا اعترضك طيفُ وعدٍ ما أخلفَ يومًا مواعيده؟".

الطيف هنا ليس مجرّد حضور شبح الغائب، بل هو تمثيل للوعد/الحنين/السراب. الطيف رمز للغياب المقيم، للشخص الذي لا يأتي، لكنه يهيمن على الحضور الداخلي. هو تجلٍّ للخيبة المربوطة بالأمل، كما أنّ الصيغة الاستفهامية تضع المتلقّي في موضع تشاركي تأويلي.

2. "الدالية الوارفة"، تقول:

"وأنا هنا، تحت داليةٍ وارفة، أجمّع أنفاسي الوهنة..."

الدالية ليست فقط مشهداً طبيعياً، بل هي رمز للخصوبة والأمان الزائل، والمفارقة تتجلى حين تكون الشاعرة تحت ظلها، لكنها منهكة. الورف (الفيء) رمز للسكينة، لكنّ النفس “وهنة” مما يدل على تصادم الرمز الخارجي بالداخل النفسي.

3. "رفات الوعود"، تقول:

"وأنا العليلةُ على رُفاتِ الوعود..."

الوعود حين تتحوّل إلى رفات، فإنّ الزمن لم يخذل فقط الذات، بل قتل المعنى. هنا ينتقل النص من العاطفة إلى بعد وجودي فلسفي: كيف يتحوّل الحب إلى ذكرى، والذكرى إلى جثة؟

- في سياق المنهج الأسلوبي وتحليل البنية التعبيرية:

تتميّز القصيدة بـ:

1. التكرار البنائي لجملة "وأنا هنا":

يوجد تكرار أربع مرات لجملة "وأنا هنا"، وهذا التكرار هو تقنية أسلوبية تؤدي وظيفة مركبة:

- تثبيت الهوية المتصدعة في مكانها الزمني والنفسي.

- إبراز حالة "الثبات وسط الانهيار".

- إيقاع داخلي يضبط النغمة الشعورية (قريب من اللازمة الموسيقية).

2. الصياغة الإنشائية التقريرية/الاستفهامية، تقول الشاعرة المديوني:

"فما بالكَ أخلفتَ الموعد؟"

"هل كنتَ متعمّدًا، أم أنساكَ الزمانُ محبّتي؟"

"أتذكرُ يومَ أقسمتَ أن ترعى غربتي؟".

القصيدة تمارس حواراً داخلياً مع غائبٍ مُدان، وهي حوارات مكثّفة بالاستفهام الإنكاري، ما يجعل من النص محكمة عاطفية تُدين الغياب والخيانة والنسيان. الشكل الأسلوبي يتلبّس وظيفة نفسية: تفريغ المشاعر والتثبّت من جرحٍ لم يلتئم.

- في سياق المنظور النفسي: الذات الجريحة والبحث عن التوازن.

من المنظور النفسي، يمكن اعتبار القصيدة سرداً داخلياً للذات المجروحة الباحثة عن المعنى والعدالة العاطفية. يظهر البُعد النفسي في:

الهشاشة الظاهرة في "الأنفاس الوهنة" و"العليلة".

الكوابيس التي تنهش الجسد ، حيث تقول:

"ألا تتركني للكوابيس تنهشُ جلدي"

— تصوير الكوابيس بكونها تنهش الجلد هو تجسيد نفسي رمزي لحالة القلق الليلي، واللاوعي الذي يفضح الكبت العاطفي.

الدمعة الخارجة من "الكبد" ، تقول:

"أن تُهمل دمعةً تدحرجت من كبدي؟"

– في الترميز النفسي، الكبد مصدر العاطفة والغضب. الدمعة هنا تمثل وجعاً لا عين له، بل قلب/كبد ينزف.

- في مجال المنهج الهيرمينوطيقي: تأويل المعنى والغياب الحاضر.

الهيرمينوطيقا تهتم بتفسير المعنى الذي يتجاوز النص الظاهري. وفي هذه القصيدة، تتداخل الأنا الشعرية مع الزمن المؤجّل، فيصير الغياب جوهراً لا مجرد حدث.

الغائب ليس شخصاً، بل رمز للمطلق المفتقد، للعهد المنكسر، للفكرة التي لم تكتمل.

لذلك تسأل الشاعرة نعيم. المديوني:

"فما بالكَ أخلفتَ الموعد؟ هل كنتَ متعمّداً، أم أنساكَ الزمانُ محبّتي؟"

– هذا التساؤل ليس مجرد سؤال عن الخيانة، بل تأويل لخذلان الزمن للعاطفة.

والختام، تقول الشاعرة

"وغيرَ صورةٍ لنا، تبتسمُ على مشارفِ الوعود، ساخرةً."

– نهاية تنضح بسخرية الوعي، ووعي السخرية: حيث تتحوّل الصورة إلى رمز للتاريخ العاطفي المتكسّر، تسخر منه الشاعرة بعد أن فقدت قدرتها على تصديق الوعد.

- في سياق الإيقاع الموسيقي والصورة الشعرية:

1. الإيقاع الداخلي:

ليس في القصيدة وزن تقليدي، لكنها تحافظ على إيقاع داخلي ناتج عن:

- التوازي التركيبي (وأنا هنا…)

- الجمل الفعلية القصيرة

- التكرار الصوتي لبعض الحروف (مثل السين والشين والنون) مما يخلق موسيقى داخلية حزينة.

2. الصور الشعرية:

الصور تتعدى التجميل اللغوي إلى حمل دلالات سيكولوجية وتأويلية، تقول:

"أُشعل قناديلَ الأمل" — صورة النور وسط الظلمة النفسية.

"أن تُهمل دمعةً تدحرجت من كبدي" — استعارة مركبة تستنطق الألم العميق.

"أدندن على العود أغنية أودعتني مواجعها" — الموسيقى هنا ليست راحة بل أداة استحضار للوجع.

في الختام لا يسعني إلا أن أقول إنّ القصيدة كجسد رمزي للخذلان والتوق.

قصيدة  "بين ركام التمنّي" للشاعرة التونسية نعيمة المديوني ليست قصيدة غزل ولا رثاء، بل تجربة وجودية مكتملة الأركان، تكتب فيها الشاعرة جرحها بلغةٍ ذاتية كثيفة، محمّلة بالصور والرموز والموسيقى، ضمن بنية تؤسّس لنصٍّ فيه من التأمل أكثر مما فيه من الحكي، ومن السؤال أكثر مما فيه من الجواب.

تدعونا الشاعرة إلى تأمل خذلان الوعد كخذلانٍ للزمن ذاته، وإلى مساءلة الحب حين يصبح ذكرى ساخرة تبتسم من حافة السراب.

***

عماد خالد رحمة

...................

بين ركام التمني

وأنا هنا، وقد هلّلت الأفراح،

أنتظر طيفَك،

أُشعل قناديلَ الأمل،

أصافح نسماتِ الفجرِ النّديّة،

أهمس، والدّمعُ يجرح المقل:

"هلّا اعترضك طيفُ وعدٍ ما أخلفَ يومًا مواعيده؟"

وأنا هنا، تحت داليةٍ وارفة،

أجمّع أنفاسي الوهنة،

أنظر إلى السّماء،

أُبايع ذكرى لقاء،

عسى تجود بلحظةٍ ماجنة،

لحظةٍ تجمعنا،

تروي عطشي.

وأنا هنا... بين رُكومِ التمنّي،

أتسلّق محراب الهوى،

أتشبّث بحلمٍ مضى،

وآخرَ آتٍ مستبشرًا،

وعدتني، يا قطعةً من فؤادٍ سكَنَهُ النّوى وأضناه الفُراق،

وعدتني ألّا تتركني للكوابيس تنهشُ جلدي،

وعدتني أن تمحوَ دمعتي،

فما بالكَ أخلفتَ الموعد؟

هل كنتَ متعمّدًا، أم أنساكَ الزمانُ محبّتي؟

أتذكرُ يومَ أقسمتَ أن ترعى غربتي؟

كيف لك، يا قطعةً من دمي، أن تنسى القَسَم؟

أن تُهمل دمعةً تدحرجت من كبدي؟

وأنا العليلةُ على رُفاتِ الوعود، أُدندن

على العودِ أُغنيةً

أودعتني مواجعَها،

أوجعتني تقاسيمُها.

وأنا هنا، أقف على أمواجِ الأحلام،

أبحث...

أبحث عن عذرٍ يجعلني أغفر زلّتك،

فما وجدتُ غير الآه تجرح كبريائي،

وغيرَ صورةٍ لنا، تبتسمُ على مشارفِ الوعود،

ساخرةً.

 

في قصيدة الشاعر القدير عبد الستار نور علي

اولًا: مقدمة: تتناول هذه القصيدة، للشاعر القدير عبد الستار نور علي، واحدةً من أبرز التحولات السياسية والاجتماعية في تاريخ العراق الحديث—ثورة الرابع عشر من تموز عام 1958. تُعد هذه الثورة مرحلة فاصلة في مسار البلاد، إذ استطاع الشعب العراقي، بمشاركة فعّالة من الجيش، الإطاحة بالنظام الملكي وإعلان الجمهورية. وقد حمل هذا الحدث في جوهره تطلعات جماهيرية عميقة نحو الحرية والتحرر من الهيمنة بالإضافة إلى تحقيق العدالة الاجتماعية.

ضمن هذا السياق التاريخي، يوظّف الشاعر رمز "تموز" ليصبح تجسيدًا مهيمنًا يعبر عن الثورة والنهوض والتغيير. ويتحول الشهر ذاته إلى شخصية ملحمية فاعلة، تتقدم نحو الوطن رمزًا لبداية جديدة. وتُقدم لحظة الانتصار بلغة احتفائية تجمع بين الأبعاد الشعرية والسياسية، مع استخدام رموز مثل "الكأس" و"النخب"، والتي تعكس حالة الانتشاء الجماهيري بتحقيق الحلم الوطني، ليس فقط كإنجاز عسكري، بل كولادة جديدة لهوية جماعية تنبض بالكرامة.

على الجانب المقابل من هذا المشهد المُشرق، يرسم الشاعر صورة للخيانة والعار مستخدمًا رمزية "الشنّار" والصفات المعبّرة عن الخضوع مثل "الذليل الحافي العاري". هذه الثنائية الضدية تجسد التوتر العميق بين القوى التي انحازت للكفاح الوطني من جهة، والأطراف التي استسلمت للهزيمة من جهة أخرى. وفي هذه المفارقة يبرز صوت الجماهير الثائرة بوصفها المحرك الحقيقي للتحول التاريخي، إذ تصبح الثورة "ملحمة" تتجاوز إطارها السياسي لتترسخ في الذهنية الجماعية للأمة كفعل أخلاقي وشهادة حية على التضحيات.

لذلك، لا ينبغي قراءة القصيدة كاحتفاء عابر بلحظة تاريخية بحد ذاتها. إنها تتجاوز ذلك لتكون إعادة صياغة شعرية للذاكرة الجمعية العراقية وإضاءة عميقة على المفارقات بين عصور الاستبداد وعصور التحرر. في الوقت ذاته يُبرز النص اعتمادًا جليًا على الرمزية والاستعارة والانزياحات الدلالية التي تعكس إدراكًا واعيًا بأن الحرية تُنتزع بالإرادة الشعبية ولا تُمنح بتواطؤ القوى السياسية.

 ثانيا: نص القصيدة

قمْ  املأِ الكأسَ واشربْ نخبَ  أحرارِ

تموزُ   أقبلَ    مزهوَّاً     على   الدارِ

تموزُ    أقبلَ   عيداً    لا   يُصارُ   لهُ

في  حشدِ   ملحمةٍ  في   زهوِ  ثوَّارِ

أمّا      الشَّنارُ     فلا   ثوبٌ    لِيسترَهُ

يبقى الذَّليلَ الوَطيْءَ الحافيَ العاري

ثالثًا تحليل الابيات:

البيت الأول:

قمْ، املأِ الكأسَ واشربْ نخبَ أحرارِ

- الأسلوب الإنشائي يبدأ بفعلَي أمر: "قُمْ" و"املأ"، ما يمنح البيت طابعًا تعبويًا وحركيًا يحفّز القارئ أو المخاطب للمشاركة في لحظة احتفال أو نصر.

- "الكأس" و"النخب": رمزان احتفاليان كلاسيكيان يُستخدمان هنا بصورة مجازية للتعبير عن الانتصار الثوري وليس عن متعة فردية.

- "نخب أحرار": يُحيل إلى تمجيد الثوار والشعب الذين ساهموا في صنع الثورة؛ فالنخب يُشرب لمن يستحق التقدير، وهنا هو تقدير للأبطال الذين حرّروا البلاد من الملكية.

البيت الثاني:

تموزُ أقبلَ مزهوًّا على الدارِ

- "تموز" هنا رمز زمني–ثوري، يُجسّد الثورة العراقية في 14 تموز، ويتحوّل إلى كيان حيّ "أقبلَ"، في تجسيد زمني–شخصي فريد.

- "مزهوًّا": صفة تمجد اللحظة الثورية، فتموز ليس عاديًّا بل يأتي شامخًا، معتدًّا بما تحقق.

- "الدار": ترمز إلى الوطن (العراق)، الذي عاد إليه الزمن الثوري منتصرًا، وكأن الوطن نفسه كان ينتظر هذا التحوّل.

الرمزية:

- البيت بأكمله يُبرز روح الانتصار والعودة، في تجسيد للشهر كحدث حاسم يتحرك داخل المكان (الدار/الوطن)، لا كزمن مجرّد.

البيت الثالث:

تموزُ أقبلَ عيدًا لا يُصارُ لهُ

- تكرار "تموز أقبل" يعزز التركيز على رمزيته التاريخية.

- "عيدًا لا يُصار له": أي أن مجيئه يشبه العيد، بل هو عيدٌ لا يضاهى أو يُعادله عيد آخر.

- فيه تمجيد ضمني للثورة بوصفها مناسبة قومية لا تُنسى.

البيت الرابع:

في حشدِ ملحمةٍ في زهوِ ثوَّارِ

- "حشد ملحمة": تعبير مركّب يدل على أن الثورة لم تكن مجرد لحظة عابرة بل كانت حدثًا جمعيًا ملحميًا، شاركت فيه الجموع وصاغته الدماء.

- "زهو ثوار": وصف للحالة النفسية للثائرين بعد تحقق النصر؛ الزهو هنا ليس غرورًا بل اعتداد مشروع بالتاريخ المنجز.

البلاغة:

- الصورة مشبعة بطاقة حركية، كما لو أن المشهد الثوري لا يزال متوهجًا في أذهان الناس.

- الاقتران بين "الحشد" و"الملحمة" و"الزهو" يعبّر عن وحدة الجماهير واعتزازها بالكرامة التي حققتها.

- البيت الخامس:

أمّا الشَّنّارُ فلا ثوبٌ ليسترَهُ

- "الشنّار": كلمة فصيحة قديمة تعني العار والخزي، تُستخدم هنا لوصف الخونة أو من وقفوا ضد الثورة أو تواطؤوا مع النظام الملكي.

- "فلا ثوب ليسترَه": استعارة تدل على أن خزيهم مكشوف، ولا شيء يستطيع التغطية عليه.

- يُظهر البيت أن الخيانة ليست فقط موقفًا سياسيًا، بل انحدار أخلاقي لا يمكن إخفاؤه.

الرمزية:

-  يستخدم الشاعر صورة العري المجازي ليعبر عن انكشاف الجبن والانحطاط في وجه الحق الثوري.

البيت السادس:

يبقى الذليلَ الوطيءَ الحافيَ العاري

- يستكمل صورة "الشنّار" من البيت السابق، في وصف تفصيلي للمهزوم المنكسر.

- "الذليل – الوطيء – الحافي – العاري": كلها صفات تُحيل إلى الضعف والتجرد من الكرامة، وتشكل صورة مضادة تمامًا لـ"زهو الثوار".

- قد تشير هذه الصورة إلى بقايا النظام الملكي، أو العملاء، أو أولئك الذين اعتادوا الخضوع لسلطة القهر.

البنية الشعرية:

- التكرار البنائي للصفات يخلق إيقاعًا تصاعديًا في تصوير الانحدار الأخلاقي.

- يختم الشاعر بهذه الصورة لإظهار المفارقة بين من يحتفل بكرامة النصر، ومن يجرّ ذل الهزيمة.

خاتمة التحليل الجزئي:

القصيدة ببنيتها المحكمة توزّع المعاني بين طرفين متقابلين: الثوار المكللين بزهو النصر والموقف الأخلاقي، والمهزومين العاريين من الموقف والشرف. ويستخدم الشاعر لغة مشبعة بالرمز، والانزياح الدلالي، والاستعارة لتأكيد أن الثورة ليست فقط تحوّلًا سياسيًا، بل قيمة وجودية تفرق بين من يحتفل بكرامة النصر، ومن يجرّ ذل الهزيمة.

رابعًا: البنية والسيميائيات في قصيدة تموز: تمثيل الثورة والخيانة في إطار شعري رمزي

 تأتي هذه القصيدة في سياق استحضار حدث سياسي مفصلي في التاريخ العراقي الحديث، هو ثورة الرابع عشر من تموز عام 1958، التي أنهت الحكم الملكي وأعلنت قيام الجمهورية، بمشاركة واسعة من الجيش والشعب. وتُجسّد القصيدة لحظة الانتصار هذه من خلال استحضار رمزي مكثف لشهر تموز، الذي يتحوّل من زمن تقويمي إلى شخصية فاعلة ذات حضور ثوري.

تقوم القصيدة على ثنائية دلالية عميقة تُقابل بين النصر والثورة من جهة، والخيانة والانكشاف من جهة أخرى، في بنية شعرية محكمة توظف الاستعارة، والانزياح الدلالي، والرمز، والمقابلة البلاغية.

أولًا: التحليل البنيوي

1. البنية العامة: تتشكل القصيدة من ستة أبيات تنقسم إلى قسمين بنيويين:

1. القسم الأول (الأربعة أبيات الأولى): يحتفي بالثوار وتموز كثورة.

2. القسم الثاني (البيتان الأخيران): يكشف الخونة ويهجوهم.

2. تقوم هذه البنية على التناقض بين الحضور المشرف للثوار والانكشاف المذل للخونة، ما يعكس البنية الأيديولوجية للنص.

3. البنية الزمنية: تدور القصيدة حول زمن حاضر مفعم بالنصر، يتحقق عبر ذكر "تموز" بوصفه حدثًا تاريخيًا لا كزمن تقويمي؛ فقد صار كيانًا فاعلًا "مزهوًّا" يمثل الثورة التي استردّت الوطن.

إذ تكرار عبارة "أقبل تموز" مرتين يؤكد لحظة مجيء الثورة، ويعزز البنية الدائرية–التحولية من زمن الذل إلى زمن العز.

4. البنية الصوتية والإيقاعية: يعتمد النص على إيقاع داخلي يتعزز بتكرار الحروف الصافية مثل (الراء، الألف، الشين)، ما يخلق جرسًا إنشاديًا مؤثرًا.

كما يُستخدم ألف المد في كلمات مثل: "أحرار، الدار، ثوار، العاري"، مما يمنح القصيدة طابعًا إنشاديًا قويًا يوائم الإيقاع مع المعنى التحرري.

5. البنية السردية: بالرغم من طبيعتها الغنائية، تحتضن القصيدة تسلسلًا سرديًا ضمنيًا:

1. النداء والفعل: (قُمْ، املأ، اشرب)

2. وصف مجيء الثورة: (تموز أقبل)

3. تصوير الجماهير: (حشد ملحمة، زهو ثوار)

4. كشف الخيانة: (الشنّار، الذليل الحافي العاري)

6. يعكس هذا التسلسل حركة تحوّل من الفعل الثوري إلى التقييم الأخلاقي للمواقف.رابعًا: الخصائص البلاغية

- الصورة الحركية المشبعة بالطاقة: يُصوِّر الشاعر المشهد الثوري على أنه نابض بالحركة والحيوية، مما يوحي بأن لحظة الانتصار لا تزال متوهجة في أذهان الجماهير. هنا تتحوّل الكلمات إلى لقطات سينمائية تعكس قوة الزخم الثوري.

- اقتران "الحشد" و"الملحمة" و"الزهو": يجمع هذا الاقتران بين ثلاثة مفاهيم مركزية لتأكيد وحدة الجماهير واعتزازها بالكرامة التي حققتها. فـ"الحشد" يشير إلى تظافر الجهود، و"الملحمة" تعكس بطولات الجماعة، و"الزهو" يعبّر عن الفخر المشروع بالانتصار.

ثانيًا: التحليل السيميائي

1. الرموز المركزية:

- تموز: رمز للثورة والبعث الوطني.

- الكأس والنخب: رموز للاحتفال بانتصار جماعي.

- الدار: الوطن المستعاد.

- الشنار: الخيانة والعار السياسي.

- الذليل الحافي العاري: الخونة والعملاء الذين فقدوا الكرامة.

2. دلالات العلامات: - الكأس: تدل في معناها المباشر على وعاء يُستخدم للشرب، لكنها في السياق الشعري ترمز إلى الاحتفال الجماعي بالنصر والتحرر.

- نخب الأحرار: يُقصد به تقديم التقدير، لكنه في العمق يُعبّر عن تمجيد للثوار ودورهم البطولي في صنع الثورة.

- تموز: زمن تقويمي (شهر)، لكنه يتجاوز ذلك ليصبح رمزًا للثورة العراقية في 14 تموز، بوصفه حدثًا تحوليًا ومفصلًا في التاريخ الوطني.

- الدار: تعني المنزل، لكنها ترمز إلى الوطن العراقي الذي عاد إليه الثوار بعد الانتصار.

- الشنّار: تعني العار والخزي في المعجم، لكنها في سياق القصيدة ترمز إلى الخيانة السياسية والجبن الأخلاقي.

- العاري: يُشير ظاهريًا إلى العُري الجسدي، لكنه هنا رمز لانكشاف الخونة وتجردهم من أي غطاء وطني أو أخلاقي.

خامسًا: التحليل الانزياحي والدلالي والاستعارات:

1. الانزياح الدلالي:

- الكأس: انزاح من دلالته الحسية (وعاء للشرب) إلى دلالة رمزية (احتفال بالانتصار)

- تموز: لم يعد مجرد شهر في التقويم، بل صار كيانًا فاعلًا مجسدًا الحدث التاريخي.

- العاري/الحافي: انتقل من وصف جسدي إلى وصف أخلاقي وسياسي يكشف خيانة الخونة.

2. الاستعارات:

- "نخب أحرار": استعارة تتجاوز تقديم المشروبات إلى تمجيد الفعل الثوري وإيصال تقدير الجماعة.

- "تموز أقبل مزهوًّا": تشبيه مجازي يتحول إلى استعارة، حيث يُشبَّه الشهر بالإنسان المنتصر.

- "حشد ملحمة": استعارة مركبة تُضفي على الثورة صفة الملاحم البطولية.

3. وظيفة الانزياح والاستعارة في النص:

- تعميق الدلالة: الانزياحات تجعل القارئ يعيد قراءة العلامات بإدراك أعمق.

- تضخيم الأثر الإيحائي: الاستعارات تخلق صورًا حسية تتحرك في الذهن لتصوير المجد والعار

- بناء تواصل شعوري-سياسي: يسهمان في ربط القارئ تاريخيًا وعاطفيًا بالثورة وأبطالها.

سادسًا: الخاتمة:

تتجلى في هذه القصيدة ملامح شعر الثورة بوصفه سجلًا وجدانيًا وتاريخيًا يخلّد لحظة تحوّل مفصليّة في تاريخ العراق الحديث؛ ثورة الرابع عشر من تموز 1958. فبإحياء شهر تموز كشخصية فاعلة، يحوّل الشاعر الزمن إلى حدثٍ ثوريٍّ ينبض بالانتصار ويستعيد الدار (الوطن) من أيدي القهر.

وتظهر في بنية النص تناغمًا بين الدلالة الشكلية والمضمون الثوري، حيث يتكوّن القسم الأول من أبيات الاحتفاء بالثوار وانبعاث الحرية، في مقابل القسم الثاني الذي يفضح الخونة والشنّار في صورة ذليل عاري لا ستر له. هذا التماثل البنيوي الدلالي يعزّز أثر القصيدة ويوفّر لها قوة بلاغية تتحرك عبر التضاد وثراء الرموز.

وعلى المستوى السيميائي، ترتبط العلامات (الكأس، النخب، الدار، تموز، الشنّار، العاري) بدلالات جمعيّة عميقة تنحو نحو تشكيل ذاكرة وطنية، فتتكثّف فيها معاني الاحتفال الجماعي بالشجاعة والكرامة، وتنكشف خيانات الشرّ عبر صورٍ حسّيةٍ صادمة.

أما الانزياح الدلالي والاستعارات، فقد منحا النصّ مرونة لغوية تُبقي القارئ في دائرة تواصلية غنية، تنقله من المشهد الفردي إلى الملاحم الحشدية، وتضخّم قيمة الفعل التاريخي الثوري بوصفه رمزًا للجماعة وموقفًا أخلاقيًا.

بهذا، لا يمكن اختزال القصيدة في شكلها الشعريّ المجرد، إذ إنها وثيقة ثقافية تحفر في الذاكرة، وتؤكد أن الحرية لا تخضع للزمن وحده، بل تُنتزع بإرادة الشعوب وتمظهراتها الفنية. وقد أثبتت هذه الدراسة أنّ القصيدة تنجح في صياغة خطاب ثوريّ رمزيّ يتجاوز اللحظة التاريخية إلى صيرورةٍ مستمرةٍ في وعي الأمة.

***

سهيل الزهاوي

ملخص تحليلي للقصيدة

تعد "ومضات" نموذجًا مكثفًا لشعر يحيى السماوي، حيث تجسد ثنائية الحب والوجود عبر استعارات جسدية طازجة ورمزية تراثية مُعاد تشكيلها. القصيدة تنتمي لقصيدة النثر العربية، معتمدة على التكثيف والمفارقة، وتمزج بين البراءة والعاطفة الجياشة، وهو ما يُميز تجربة السماوي الشعرية .

الشرح التفصيلي للمقاطع مع التحليل

1. المقطع الأول: الحب كفعل طفولي مقدس

"فمي طفل .. / دُميَّتُهُ شفتاك"

- الشرح: يحوِّل الشاعر فمه إلى "طفل" والمحبة إلى "دمية"، مستخدمًا استعارة تُجسد العلاقة الحميمة كلعبة طفولية بريئة.

- التحليل: هذه الصورة تعكس التبسيط الشعري الذي يميز السماوي، حيث يختزل التعقيد العاطفي في علاقة أبوية (فم/طفل) وجسدية (شفتان/دمية). التوظيف يذكرنا بقصيدته "شاهدة قبر من رخام الكلمات" حيث الجسد يُصبح مادةً للإبداع والألم .

2. المقطع الثاني: الكتابة كفعل جسدي

"فمي قلمٌ .. / لا يُحسن الكتابةَ / إلاّ / في دفترِ شفتيك"

- الشرح: الكتابة هنا مشروطة بالوجود الجسدي للمحبوبة، فـ "دفتر الشفتين" هو حيز الوجود الوحيد للإبداع.

- التحليل: الصورة تكرس الارتباط العضوي بين الجسد والكلمة، وهو ما نجده في ديوان "كتاب الحب/فصل القبلة" للسماوي . التكثيف يُحيل إلى فلسفته: "الإبداع لا ينبثق إلا من جسد الحبيبة-الوطن" .

3. المقطع الثالث: التحول الوجودي عبر النظرة

"لكثرة تحديقي... / سريري بستانا!"

- الشرح: التحديق المستمر في "قميص النوم الأخضر" يُحدث تحولًا سحريًا: العين تُنبت عشبًا، والوسادة تتحول إلى شجرة كرز.

- التحليل: السماوي يستخدم الانزياح الأسطوري (تحول الأشياء عبر الحب) لخلق عالم موازٍ. الأخضر يرمز للخصوبة، والكرز للحياة، في إشارة إلى قدرة الحب على تحويل المنفى إلى جنة .

4. المقطع الرابع: الوطن المجازي

"أنا وطنٌ / أنت عاصمته!"

- الشرح: الذات تُصبح "وطنًا" والعاشقة "عاصمته"، في مفارقة تدمج الحب بالانتماء.

- التحليل: هذه الصورة تُجسد المنفى الداخلي للسماوي، ففي حواره يقول: "العراق وطني ومنفاي في ذات الوقت" . العاصمة هنا مركز للوجود، كما النهر السومري في "نبضات".

5. المقطع الخامس: الثنائية المقدسة (القرب/البعد)

"أيتها البعيدة... / أنتِ مطلعها!"

- شرح: البعد الجسدي ("بُعد الشيطان") يقابله القرب الروحي ("قرب الله").

- تحليل: السماوي يعيد صياغة الرمز الديني لخدمة التجربة الإيروتيكية، كما في "تفاحة آدم" في "نبضات" . القصيدة تُختزل في بيت واحد، كناية عن مركزية المحبوبة في الوجود.

6. المقاطع الأخيرة: الحسية والبراءة

"سأقشِّركِ مثل برتقالة... / لا يأكلُ دُميَتَهُ الوحيدة"

- الشرح: العاشق يعد بعدم الإيذاء ("جنوني لا أنياب له") ويؤكد براءة رغبته ("الطفل لا يأكل دميته").

- التحليل: الجمع بين العنف الرمزي ("قضم"، "أنياب") والطمأنينة ("آمنةً") يعكس تناقض المشاعر الإنسانية. الصورة الأخيرة تُختتم بـ الطفولة الشعرية التي يصفها السماوي: "تحت عباءة كهولتي يختبئ طفل" .

السمات الفنية والموضوعية

1. التكثيف والانزياح:

- كل مقطع يُشكل "ومضة" مستقلة، لكنها ترتبط بشبكة رمزية موحدة (الجسد، الطفولة، الوطن). السماوي يُعرف بـ "اقتصاد اللغة" وفق الناقد عصام شرتح .

- الانزياحات تُكسر المألوف: "العين تُنبت عشبًا"، "السرير يصير بستانًا"، مما يخلق شاعرية مفاجئة.

2. الرمزية المزدوجة:

- الرموز تحمل دلالتيْن: جسدية (الشفتان، القميص) ووجودية (الوطن، المنفى). الناقد حيدر الحمداني يرى أن السماوي "يحول الرموز التراثية لتعبر عن الحب الفردي" .

3. المفارقة والتناقض:

- الجمع بين "البعد/القرب"، "العنف/البراءة"، "المنفى/الوطن". هذه الثنائيات تعكس رؤية السماوي للحب كـ "فردوس يُطهر من خطيئة المنفى" .

4. اللغة والإيقاع:

- اللغة بسيطة لكنها مشحونة بالمجاز، مع إيقاع داخلي يعتمد على التكرار ("فمي... فمي") والتوازي ("بعيدة... قريبة"). السماوي يرفض التزمت الشكلي لكنه يحافظ على موسيقى الشعر .

نقد وتقييم القصيدة

الإيجابيات

- جرأة الصور: تحويل الجسد إلى طفل/قلم/وطن يُعد تجديدًا في الشعر العربي، خاصة في المزج بين الحسية والبراءة .

- التماسك العضوي: رغم انفصال المقاطع، إلا أن شبكة الرموز (الجسد، الطفولة، الكتابة) تُوحد القصيدة، وهو ما يتوافق مع معايير قصيدة النثر حسب رحمن غركان .

- التكثيف المكثف: مثل "أنا وطنٌ / أنت عاصمته!" يختزل علاقة الحب بالوطن في بيتين، وهو ما يعد "نموذجًا مصغرًا" لأسلوب السماوي .

السلبيات المحتملة

- المبالغة في الاستعارات الجسدية: بعض الصور ("سأقشِّركِ مثل برتقالة") قد تُرى كـ "سادية ناعمة"، كما انتقد بعض النقاد قصائد السماوي .

- الانزياح المفرط: تحول "الوسادة إلى شجرة كرز" قد يبدو غامضًا للقارئ غير المتعمق في رمزيته.

السياق في تجربة السماوي

- المنفى والطفولة: القصيدة تعكس هاجس السماوي بالمنفى ("أنا وطن") واللجوء إلى الطفولة كملاذ روحي، كما في "شاهدة قبر..." حيث يقول: "كنت طفلاً حتى على مشارف الستين" .

- الحب كفردوس بديل: في ظل غياب الوطن، يصير جسد الحبيبة فردوسًا، كما في "نبضات" حيث "الفردوس" مكان للطهارة .

الخاتمة: "ومضات" كمرآة لتجربة السماوي

"ومضات" ليست مجرد قصيدة حب، بل هي تأمل وجودي في علاقة الذات بالآخر والوطن. السماوي هنا يواصل مشروعه في "تحويل الألم إلى فن"، كما في قوله الشهير: "سأقيم من تلقاء حزني مهرجانًا للفرح" . القصيدة تثبت أن شعره – كالماء في رمزيته – قادر على خلق الحياة حتى في صحراء الغربة، مُحققًا المعادلة الصعبة: البراءة في العاطفة، والخلود في اللحظة.

***

البرهان حيدر

 

للشاعر الفلسطيني خلدون عماد رحمة.. قراءة أسلوبية، نفسية، رمزية، هيرمينوطيقية

تنبثق قصيدة "لو تقطفيني الآنَ" من رحم التوتر الوجودي، وتكتب ذاتها في مفترق الحواس والفكر، حيث تمتزج الإيروسية بالميتافيزيقا، والرمز بالجسد، واللغة بالصرخة. إنها قصيدة لا تُقرأ بعين واحدة، بل تحتاج إلى منظار تأويلي متعدّد، يدمج الأسلوبي بالنفسي، والرمزي بالهيرمينوطيقي، لأنّ النص يشتبك مع قارئه كما يشتبك العاشق بجسده – دهشةً، ورغبةً، وتمزقاً.

- في مجال التحليل الأسلوبي – وبنية الصوت والصورة: نقرأ افتتاحية صادمة ومدهشة، حيث يقول الشاعر خلدون رحمة:

"لو تقطفيني الآنَ

قلبي أثقلَ الشجرةْ ."

يفتتح الشاعر قصيدته بجملة شرطية تفجيرية "لو تقطفيني الآنَ"، جملةً معلقةً لا تتم، معلقة في الزمن، ومشدودة إلى احتمالية لا تتحقق. هذه التقنية تعكس هشاشة الذات ورغبتها المتقدة في نزع جذورها. أما الجملة الثانية "قلبي أثقلَ الشجرة" فتأتي بمفارقة مدهشة، حيث ينعكس الثقل على القلب الذي يُفترض أن يكون رقيقاً، منساباً ومتدفقاً، في حين تتجسد "الشجرة" كمجاز للأنثى، أو للحياة ذاتها، التي لا تقدر على حمل هذا الثقل العاطفي. من هنا نلحظ التواشج بين الجسد والرمز حين يقول:

"مررتِ بعطرك الشبقيّ في غيبوبتي

ألهبتِ رمزاً خافتاً في معبد الجسد الحزين"

لغة مشبعة بالحسية المكثفة، حيث يتحول "العطر الشبقي" إلى كائن فاعل يخترق الغيبوبة. ليس حضور الأنثى هو المثير، بل طيفها، عطرها، والذي يعيد إحياء الرمز الكامن في جسد الشاعر. الجسد هنا معبد – أي أنه مقدس/مدنس في آن، وتلك هي ثنائية الأسلوب الأساسية في القصيدة: الجسد كمجال للتأويل الوجودي والشعري.

- في مجال التحليل النفسي – الأيروسية والهروب من النقص: نجد طفولة الجسد واشتهاء العدم، يقول:

"دلقتِ حليبكِ الناريّ في إبريق صمتي

فامتلأتُ طفولةً"

إنه انفجار دلالي جسدي/نفسي. يوظف الشاعر خلدون رحمة ثنائية الحليب والنار، لتجسيد التناقض بين العطاء والإحراق. لكن هذا الفيض يؤدي إلى "الامتلاء بالطفولة"، أي العودة إلى أصل الذات، إلى المرحلة النرجسية الأولى التي يسودها الاندماج بين الذات والآخر. ففي هذا المقطع يقول:

"ورأيتُ زهرة شهوةٍ تمشي ببطﺀ نحو أرض العفّةِ المتصحّرةْ"

هنا يظهر اللاشعور الجنسي بصورته المتردّدة، بين رغبة محمومة وعفة مواربة. يمشي النص على حافة التوتر بين الدافع الإيروسي والمحرم الاجتماعي/الديني، فيشبه فرويد حين يتحدث عن الصراع بين "الهو" و"الأنا الأعلى".

- أما في سياق التحليل الرمزي وطبيعة الجسد بوصفه استعارة كونية: نجد المعنى قد عري من خلال تجلي الرمزية الإيروسية، حين يقول:

"هبيني عريكِ السريّ كي ألجَ المعاني من أنوثتها".

العري هنا ليس جسديّاً فقط، بل هو كشف للحقيقة، للحكمة، للمعنى المغيّب. الأنوثة تحولت إلى بوابة المعرفة، كما في بعض الأساطير الغنوصية حيث يتجسّد الكمال المعرفي في الاتحاد بالآخر/الأنثى. والعبارة:

"ألج المعاني من أنوثتها" . ترسخ هذا الارتباط بين الرغبة والمعرفة.

- أما في سياق الحبّ/الموت كحقيقة واحدة فإنه يقول:

"زوّجيني الحبّ حدّ الموتِ

إنّ الموتَ يخجلُ من سؤال المقبرةْ !"

في هذه المفارقة الرهيفة، يقترح الشاعر خلدون عماد رحمة أن الحب المطلق يقود إلى الموت، أو أن الموت هو التجلي الأقصى للحب. لكن الموت هنا لا يرعب، بل يخجل، إذ فقد هيبته أمام عمق العشق. هذا تجريد رمزي يقرّب القصيدة من تخوم التصوف، حيث الفناء هو وسيلة الاتصال بالمطلق.

- في مجال قراءة هيرمينوطيقية – وفي تأويل المعنى المراوغ:

نجد الذات الشاعرة كمشروع تأويلي ، يقول بصراحةِ تامة:

"سأفيقُ حين ينامُ حلم الله في عينيكِ"

الجملة مدهشة في دلالتها اللاهوتية والشعرية. "حلم الله" يشير إلى ذروة الوجود، فحين تنام هذه الذروة في "عينيكِ"، يستيقظ الشاعر. إنه انقلاب في منطق الزمن والمعرفة، وتكثيف لتجربة العشق بوصفه وحياً. وفقًا للهيرمينوطيقا، النص هنا ينقلنا إلى دائرة تأويل مفتوحة، تتجاوز ظاهر اللغة إلى ميتافيزيقا المعنى.

- كذلك الحرب كفعل فكري/شعري، يقول:

"أشعلُ حربَ أفكاري على نهديكِ

أحرقُ وردة الرؤيا وأصرخُ:

كيف تندلعُ القصيدة دون جمرةْ ؟".

هذا المقطع من أكثر الأجزاء غنى وتأويلاً. فـ"نهديكِ" يتحولان إلى ساحة معركة فكرية لا شهوانية، والحرب ليست إلّا صراع المفاهيم والتأويلات داخل الوعي. و"وردة الرؤيا" حين تُحرق، فذلك يعني أن الإلهام نفسه يتعرض للاحتراق كي يولد الشعر. إذاً، القصيدة لا تندلع إلا بعد احتراق داخلي – جمرة داخل الذات.

-  أما في مجال البنية الإيقاعية والصور الشعرية: فإنّحالة الإنزياح والتكثيف تبرز أنّ القصيدة تتحرك بإيقاع داخلي متوتر، يتشكّل من الصور المكثفة والانزياحات اللغوية، حيث يقول:

"دلقتِ حليبكِ الناريّ" – صورة مزدوجة في المعنى والحس.

"زهرة شهوةٍ تمشي" – أنسنة الشهوة وتحويلها إلى كائن.

"الخطيئة قشرة الثمرة" – استعارة لاذعة عن الجذب المحرّم.

هنا نلحظ التكرار الدلالي والدينامية الشعورية عندما يؤكد بقوله:

"اقطفيني... اقطعيني... واغرسيني..."

التكرار هنا ليس زخرفاً بل تصعيدٌ للحالة النفسية. إنه تصعيد شعوري يتوسل التدمير من أجل التكوين. يريد الشاعر أن يُقتلع ليُعاد غرسه. وهذا جوهر كلّ ولادة جديدة.

في الختام:

قصيدة "لو تقطفيني الآنَ قلبي أثقلَ الشجرةْ" للشاعر الفلسطيني خلدون عماد رحمة ليست مجرد نصّ غزلي أو شهواني، بل هي صرخة وجودية مغلفة بوشاح الإيروس والرؤية، تُعلن الحرب على ثنائية الجسد/الروح، وتكسر الحواجز بين المعنى والحس، بين الأنثى والفكرة.

إنها قصيدة تتسلل إلى وعي القارئ عبر اللغة، وتجرّه إلى حدود التأويل والجنون والدهشة. فكلّ بيت فيها هو مقامٌ شعريّ ومعرفيّ، وكل صورةٍ مفتاحٌ لبوابة تأويل لا تنغلق.

***

بقلم: عماد خالد رحمة - برلين

......................

لو تقطفيني الآنَ

قلبي أثقلَ الشجرةْ .

مررتِ بعطرك الشبقيّ في غيبوبتي

ألهبتِ رمزاً خافتاً في معبد الجسد الحزين

عطِشتُ من هولِ الغرابةِ

واختفى جسدي

دلقتِ حليبكِ الناريّ في إبريق صمتي

فامتلأتُ طفولةً

ورأيتُ زهرة شهوةٍ تمشي ببطﺀ نحو أرض العفّةِ المتصحّرةْ

هل أنتِ ميّتةٌ ؟

هبيني عريكِ السريّ كي ألجَ المعاني من أنوثتها

اقتليني

زوّجيني الحبّ حدّ الموتِ

إنّ الموتَ يخجلُ من سؤال المقبرةْ !

سأفيقُ حين ينامُ حلم الله في عينيكِ

أشعلُ حربَ أفكاري على نهديكِ

أحرقُ وردة الرؤيا وأصرخُ:

كيف تندلعُ القصيدة دون جمرةْ ؟

لا تعودي للبدايةِ

حامض طعم الحكايةِ

والخطيئةُ قشرة الثمرةْ .

اقطفيني الآن من جذري

اقطعيني

واغرسيني في حديقة قلبكِ الزرقاﺀَ

كي تتحرّر الفكرةْ .

 

للشاعر العربي السوري د. أسامة حمود

يشار إلى أن الشاعر "أسامة الحمود" من مواليد دير الزور1971، حصل على إجازة في الهندسة الزراعية من جامعة حلب، وعلى درجة الدكتوراه في الهندسة الزراعية من جامعة الفرات، حيث عين عضواً في الهيئة التدريسية في جامعة الفرات. هوعضو اتحاد الكتاب العرب/جمعية الشعر. صدر له خمس مجموعات شعريّة:

1- ضفائر البوح. 2- على أكف الياسمين. 3- قيثارة الصدى.

4- ضوع قصيد وبعض نثار. 5- حديث الياسمين.

حائز على المركز الأول في مسابقة قصيدة الأغنية الوطنيّة السوريّة. وشارك في العديد من المهرجانات الأدبيّة والفعاليات والأنشطة الثقافيّة. عضو مجلس إدارة الاتحاد العربي للثقافة عام 2025.

له قصائد منشورة في صحف ومجلات ومواقع إلكترونية عديدة.

لقد شغلت حرب غزة في تشرين الأول 2023، منذ قيامها حتى اليوم العالم بأسره، إن كان من خلال تلك البطولات التي قدمها مقاتلو غزة الأبطال في مقاومة أعتى جيش في الشرق الوسط (الجيش الذي لا يقهر) من جهة. ثم ما حققته هذه الحرب من جرائم بحق كل أهل غزة دون استثناء في العمر والجنس، هذه الحرب التي بينت للعالم كله أيضاً عنصريّة الصهاينة، وخروج مئات الملايين في دول الغرب وأمريكا ذاتها باحتجاجات تعبر عن سخطها وكرهها للصهاينة وكشف ادعاءاتهم في معاداة الساميّة.

وبالرغم من الشارع العربي ظل صامتاً لأسباب يعرفها الجميع، إلا أن صوت الكتاب والأدباء والفنانين كان الأعلى في الاحتجاج والتعبير عن معاناة أهلنا في غزة، ومن بين هذه الأصوات جاء صوت الشاعر العربي السوري الدكتور "أسامة حمود" في قصيدته (جُندُ اللهِ في غَزَّة).

البنية الدلاليّة للقصيدة:

استطاع الشاعر في هذه القصيدة أن يبين لنا تلك القيم النبيلة التي يتحلى بها معظم فلسطيني أهل غزة بشكل خاص، من خلال تمسكهم بقضيتهم وصبرهم على كل الأوجاع والآلام التي حلت بهم من قبل الصهاينة وهم يدافعون عن أرضهم وكرامتهم، هذا الدفاع الذي يعرفون بأنهم سيقدمون له الكثير من وجودهم بالذات، إن كان على مستوى ما تم من تدمير لمعظم منازلهم وبنية "غزة" الخدميّة، أو على مستوى تقديم الشهداء، أو على مستوى فرض الحصار والتجويع.

إن كل ما جاء في القصيدة من دلالات يشير إلى حالات لا حصر لها من البطولات والتضحيات والصبر على مقاومة الصهاينة، ولكن هم في المقابل كبدوا العدو الصهيوني الكثير على المستوى المادي والبشري والمعنوي. حتى حازوا عند الشاعر أسامة على تسمية (جند الله في غزة).

(للهِ جُنـــدٌ حَيَّـــرُوا وَعيَ العِـــدَا

كالجَيشِ واحِدَهُـم يراهُ تَجَمهَرا)

إن هؤلاء الغزاويين لم يختلف صغيرهم عن كبيرهم في شجاعته وتضحياته، وخاصة هؤلاء الأطفال المعجزة الذين بهروا العالم في صمودهم وصبرهم وشجاعتهم وايمانهم بقضيتهم. حيث يقول فيهم الشاعر:

(والطِّفلُ من تحتِ الرُّكامِ يُخِيفُهُم

فكـــأنَّ طَـــودًا للمــــماتِ تَحَضَّرَا)

*

(اســمٌ على الزَّنــدِ النَّدِيِّ مُخَــطَّطٌ

طُــوبى لِطِفـــــلٍ بالثَّبــــاتِ تَزَنَّرا)

*

(يَرقى بثَـــوبِ العِيدِ تَهـــفُو رُوحُهُ

لِجِنـــانِ خُلدٍ، فاحتَــفى وتَعَطَّــرَا)

نعم إنه شعب المستحيل، الذي تمسك بحبل الله حتى انطبق عليه قول الله عز وجل (وكم من فئة قليلة غلبت فئة كبيرة بإذن الله. وهذا ما ألمح إليه الشاعر بقوله:

(فلِقُـــوَّةِ الضَّعفِ اشــتِقاقٌ مُـذهِلٌ...

لا يَقــبلُ اللُّغـــزُ المَهِيبُ مُفَسِّـــرا.).

أما تلك الأجساد المسجاة في أكفانها، فهي تعبر عن ملاحم بطولات زرعت في عمق يقين كل فلسطيني بأنها ليست إلا سنابل قمح تخضبت باليقين فأثمرت إيماناً بأن القتال من أجل الوطن سيظل بحاجة للتضحيات أو الشهادة حتى يتحقق الانتصار وبالتالي الحريّة وكل ما يرتبط بها من كرامات وعزة. وهنا يقول الشاعر)

: في واحَـــةِ الأكــفانِ ثَمَّ مَلاحِــمٌ...

زَرعٌ تَخَضَّــبَ باليَقِيــنِ فأثــــمَرَا).

(أنَّ الشَّهــــــادةَ مَطلـــعٌ لِحيـــاتنا...

سَنُطِلُّ مِن رَحِـــمِ الظَّـلامِ لِنُبصِرا.)

البنية الفنية للقصيدة، أو القصيدة في الشكل:

الصورة في القصيدة:

يأتي الاهتمام النقدي بدراسة بناء الصورة، من حيث اعتبار الصورة أساس الخلق الفني في القصيدة، وهي التي تعبِّر عن تحولات النص الشعري، وتحمل المواقف الإبداعيّة والفنيّة والفكريّة التي يريد الشاعر تضمينها لنصه الشعري، كما تسهم في فهم تجربة الشاعر الإبداعيّة من خلال قدرة الصورة الشعريّة على بناء الأشكال المجازية التي تنقل رؤية الكاتب للعالم، وتعمل على تحويل الواقع الحسي والمجرد معاً إلى عوالم شعريّة خلاقة.

من هذا المنطلق تأتي دراستنا للصورة الشعريّة في قصيدة (جند الله في غزة) للشاعر الدكتور" أسامة حمود". بقول الشاعر:

وعَلا عَوِيلٌ للدُّيُـــوكِ مُجَـلجِـــلٌ

والخَوفُ في كُلِّ الجِهاتِ تَجَذَّرَا

فالصورة الشعرية المتخيلة هنا، تشير في دلالاتها العميقة إلى حالة الجبن والخوف الذي تلبس الجنود الصهاينة وراح يتجذر وبنتشر في كل أرض فلسطين المحتلة.

ومَضَتْ جَحَافِلُهُــم تَنُـوءُ بِخَيبَةٍ

تَســعى إلى سُبُلِ النَّجاةِ لِتَعبُــرَا

أما في هذه الصورة الحسيّة فقد أرد الشاعر أن يقول بأن الجيش الذي لا يقهر كما روجت له الصهاينة، ها هو يمضي بجحافله وهو ينوء تحت سياط الخيبة والهزيمة أمام جند الله، فرحوا يسعون بكل جهدهم إلى إيجاد سبل للنجاة من نيران من عاهدوا الله على القتال حتى الموت.

غَصَّت ملاجِئُهُم بِفَيضِ خُنُوعِهِم

والغَيظُ في رَسمِ الوُجُوهِ تفجَّـرَا

وفي هذه الصورة الحسيّة استطاع الشاعر أن يصور لنا حالة الرعب والجبن معاً عند الصهاينة حيث دفعتهم صواريخ المقاومة أن يتراكضوا مذعورين مخذولين إلى الملاجئ التي غصت بفيض خنوعهم، حتى أصبحت ملامح الغيظ تتفجر في وجوهم.

من خلال قراءتنا لصور قصيدة (جند الله في غزة)، التخيليّة منها والحسيّة، إن كانت الصورة العامة التي شكلت رقعة مترابطة في بنية شكل القصيدة، أو الصور الجزئيّة كالصور البلاغية من: تشبيه واستعارة وكناية ومجاز، نجد أن تكوين الصورة في النص الشعري جاء مترابطاً ومنسجماً مع الفكرة العامة للقصيدة من جهة، كما جاء عمق الصورة منسجماً مع حركتها وعمق تلوينها المشبع بالانفعال النفسي والعاطفي والوجداني.

لقد ظهرت براعة الشاعر في تجسيم الصورة في القصيدة أيضاً، فالمعاني الخفيّة اللطيفة التي هي من خبايا العقل بدت من خلال الصورة جليّةً، ويمكن رؤيتها أو لمسها من قبل المتلقي حتى يشعر وكأنها أمام عينيه.. نعم لقد أصبحت المفردات المعنويّة التي تفهم بالعقل، مثل: الجبن والخوف والغيظ والخيبة التي ظهرت عند الصهاينة.. أو من بقية الصور التي تشير إلى الشجاعة والبطولة والتضحية التي ظهرت عند المقاومين الفلسطينيين بكل شرائحهم.. وكأنها شيء محسوس.

النغم والايقاع في القصيدة:

بالرغم من أن القصيدة عموديّة المبنى، وهذا يتطلب بالضرورة إيقاعاً يقوم على الوزن والقافية، وهنا جاء الوزن على البحر (الكامل)، بينما جاء حرفا القافية والروي في حالة ارتباط بين (الراء والألف) فالراء هي حرف الروي، وهو الحرف الأساسي الذي تتحدد عليه القصيدة.

إن نظام، الوزن والقافية، والصوت المتشابه، والبنيات المتماثلة في الوحدات المتقابلة في القصيدة كان لكل ذلك دور حيوي في إبراز جمالية النص وتأثيره، مما يخلق إحساسًا بالتوازن والإيقاع. أي خلق إيقاع موسيقي داخلي يشد المتلقي ويساعده على فهم النص الشعري واستيعاب معانيه بشكل أعمق. كما أن الوزن والقافية يعتبران من أهم العناصر التي تميز الشعر عن النثر، وتضفي عليه طابعًا خاصًا يجعله أكثر جاذبية وتأثيرًا.

العاطفة في القصيدة:

العاطفة هي الانفعال النفسي المصاحب للنص، حيث تجلت عاطفة الشاعر "أسامة" في قصيدته بالصدق المشبع بالفخر والاعتزاز برجال الله الذين أثبتوا قوة عقيدتهم وإيمانهم بوطنهم وتحديهم لمغتصبي أرضهم، ولكنها مشبعة أيضاً بالحزن على ما حل بأهل غزة من قتل وتشرد وتدمير... لقد تجلت في عاطفة الشاعر الأبعاد والدوافع الإنسانيّة والقوميّة العميقة، وهي عواطف تشابك بها الكره للعدو الغاصب، والألم لما أصاب أهل غزة من قهر وقتل ودمار، ولكنها حملت أيضاً مشاعر الاعجاب والفخر بما حققوه من انتصارات.

اللغة في القصيدة:

لقد جاءت اللغة في القصيدة سمحةً.. عليها رونق الفصاحة والابتعاد عن الوحشية أو المعجمية وجاءت في تراكيبها منسجمة، ومسبوكة الألفاظ غير متنافرة، هذا إضافة لجزالتها في مواقف القوة والفخر ببطولات أهل غزة، لقد بدت اللفظة الواحدة منسجمة مع بقية أجزاء الكلام، وهذا ما منح اللغة أيضاً سلاستها ونصوعها وإصابة معناها، وهذا ما يؤكد عند المتلقي بأن روعة السبك وبراعة الصياغة سر فن التعبير.

ملاك القول:

تعتبر قصيدة (جند الله في غزة) من أدب الحروب، هذا الأدب الذي يصور لنا ما تخلفه هذه الحروب من مآسي ماديّة على مستوى الدمار الذي يلحق بالإنسان نفسه وبالبيوت وكل وسائل الخدمات، و مآسي معنويّة على المستوى النفسي والأخلاقي والاجتماعي.. الخ. وخاصة إذا كانت الحروب غير متكافئة بين معتدي امتلك كل وسائل القتل والتدمير، وبين شعب آمن يعمل الصهيوني على سلبه أرضه وكرامته وحريته.

وقصيدة (جند الله في غزة) جاءت لتعبر عن حالة عدم التوازن في القوة من حيث العتاد والعتيد، بين صهيوني مستعمر امتلك كل وسائل القوة والدعم الدولي للمارسة عنصريته على شعب أعزل، لا يملك إلا كرامته وإرادة البقاء التي صنع منها قوة معنوية بوسائل قتال بسيطة لمواجهة قوى الشر والعدوان.

لقد جاءت القصيدة لتوصف لنا حالات الصراع الدامي بين عدو مغتصب وشعب مقهور على أمره، فكان الوصف حقيقيّاً وواقعيّا عبر فيه الشاعر بفنيّة عالية إن كان على مستوى الصورة أو اللغة أو العاطفة عن تلك البطولات الأسطوريّة لكل مكونات شعب غزة، كما صور لنا حالة الهزيمة والذل والخنوع التي حلت بالعدو الصهيوني وجيشه الذي لا يقهر.

نحن في الحقيقة أمام شاعر متمكن من حرفته، استطاع ببراعة الفنان المبدع أن ينقلنا عبر قصيدته بكل مكوناتها الابداعية في الشكل والمضمون، إلى أجواء المعركة ليجعلنا نحس ونشعر بكل ما جرى فيها من عزة وكرامة وقوة وإرادة شعب يريد التمسك بأرضه والدفاع عنها ببطولة وبسالة، وبين عدو مغتصب يشعر بأنه ليس صاحب قضية، ففي داخله مهزوز وجبان وخائف، لولا التطور التكنولوجي الذي يمتلكه والذي أعطاه شيئاً من القوة للحفاظ على ماء وجه، بعد أن عرته المقاومة في الشكل والمضمون.

***

د. عدنان عويّد

كاتب وباحث من سوريّة

.................................

جُندُ اللهِ في غَزَّة

اجمَـــع رَمــادَ الرُّوح، آنَ خَلاصُنا

والقَـــفرُ أينَعَ بالدِّما؛ فاخضوضَرا

*

وهُنا لِشــعبِ المُســتحِيلِ فَـرَادَةٌ

ما فَكَّ طلسَـــمَها الزَّمــانُ لِيَجهَرا

*

فلِقُـــوَّةِ الضَّعفِ اشــتِقاقٌ مُـذهِلٌ

لا يَقــبلُ اللُّغـــزُ المَهِيبُ مُفَسِّـــرا

*

في واحَـــةِ الأكــفانِ ثَمَّ مَلاحِــمٌ

زَرعٌ تَخَضَّــبَ باليَقِيــنِ فأثــــمَرَا

*

(وحُبُوبُ سُــنبُلةٍ تموتُ) بأرضِهـا

سَتُثِيلُ في سِــفرِ البُطولةِ أسطُرَا

*

و (ستَملأُ الوادِي سَــنابِلَ) غَضَّــةً

سَـتُعِيدُ للخَصــمِ المَقِيتِ تَصـوُّرا

*

أنَّ الشَّهــــــادةَ مَطلـــعٌ لِحيـــاتنا

سَنُطِلُّ مِن رَحِـــمِ الظَّـلامِ لِنُبصِرا

*

والطِّفلُ من تحتِ الرُّكامِ يُخِيفُهُم

فكـــأنَّ طَـــودًا للمــــماتِ تَحَضَّرَا

*

اســمٌ على الزَّنــدِ النَّدِيِّ مُخَــطَّطٌ

طُــوبى لِطِفـــــلٍ بالثَّبــــاتِ تَزَنَّرا

*

يَرقى بثَـــوبِ العِيدِ تَهـــفُو رُوحُهُ

لِجِنـــانِ خُلدٍ، فاحتَــفى وتَعَطَّــرَا

*

لا تَنصَحُوا بالصَّبــرِ قَومًا جـاوَزُوا

للصَّبرِ سَـــقفَ سَـمائِهِ فاستُصغِرَا

*

ألِمِثلِهِــــم تُســـدَى نَصــائحُ مِثلِنا

أبِمائِهــــا تُغـــوِي الجَــداوِلُ أنهُرَا

*

وهُنا لِوَهــــمِ المُدَّعِيــــن نِهـــايَةٌ

سَهــمٌ على صَدرِ الجِبـالِ تكَـسَّرَا

*

أســطورَةٌ رَسَــــخَتْ بِلُبِّ عُقُولِنا

قد آنَ - تحتَ نِــعالِنا - أن تُقهَـرَا

*

وَهـنٌ على وَهـنٍ، تَكَشَّــفَ للأُلى

ولِذَاكَ بَيتُ العَنكَبُـــوتِ تَبـــعثَرَا

*

وعَلا عَوِيلٌ للدُّيُـــوكِ مُجَـلجِـــلٌ

والخَوفُ في كُلِّ الجِهاتِ تَجَذَّرَا

*

ومَضَتْ جَحَافِلُهُــم تَنُـوءُ بِخَيبَةٍ

تَســعى إلى سُبُلِ النَّجاةِ لِتَعبُــرََا

*

غَصَّت ملاجِئُهُم بِفَيضِ خُنُوعِهِم

والغَيظُ في رَسمِ الوُجُوهِ تفجَّـرَا

*

للهِ جُنـــدٌ حَيَّـــرُوا وَعيَ العِـــدَا

كالجَيشِ واحِدَهُـم يراهُ تَجَمهَرا

*

مـن كُلِّ ناحِيَـــةٍ يُطِلُّ كَفـــارِسٍ

بالعَزمِ يَجتَــرِحُ الحَيـــاةَ لِيُزهِرَا

*

فكأنَّمــا تُهـــدِيهِ - مِلءَ بَرِيقِها -

مِن بَعدِ مَوتٍ رُوحَـــهُ كي يَثأرَا

*

وهناك، حَيثُ اللهُ يُرسِلُ جُنـدَهُ

تأبى جُمُــوعُ المُنتَهَى أن تُدبِـرَا

*

يا غَزَّةَ الصِّيــدِ الكِــــرَامِ تأَهَّبِي

فالنَّصــرُ في ثَوبِ الرُّكامِ تَنكَّرَا

*

سيَهُـــبُّ بُركانًــا يُحَــرِّرُ أرضَنا

وبِلالُ يَهـــرَعُ صَوبَهــــا ليُكَبِّرَا

***

د. أسامة الحمُّود

للشاعرة التونسية أمل صالح.. منهج تحليلي: أسلوبي – نفسي – رمزي – هيرمينوطيقي

في قصيدة "تَصَوَّر...!" تفتح الشاعرة أمل صالح نافذة تأملية على الذات وهي تلامس تخوم النسيان والذاكرة، وتفكك من خلالها جدلية الغياب والحضور، الموت والحياة، من خلال خطاب شعري داخلي تتجلى فيه الأنا المتشظية والباحثة عن معنى لوجودها في ضوء سرد خافت يمر عبر الصور والإيقاع والرمز. تنتمي هذه القصيدة إلى شعر التأمل الوجودي الذاتي، وتحتكم في بنيتها إلى تعددية أسلوبية وتراكيب رمزية كثيفة، ما يتيح قراءتها بعدة مستويات، وهو ما سنسعى إليه من خلال أربعة مداخل تحليلية متشابكة: الأسلوبي، النفسي، الرمزي، والهيرمينوطيقي التأويلي.

المدخل الأسلوبي – البنية الإيقاعية وتكثيف الصورة:

القصيدة تخضع لتشكيل أسلوبي متوازن بين البساطة الظاهرة والعمق الدلالي المضمر، فهي ليست شعر تفعيلة تقليدياً، لكنها تحمل إيقاعاً داخلياً موسيقياً ينبثق من التكرار والتوازي والتنغيم الصوتي الناعم.

يتكرر فعل "تتصوّر" مراراً، مما يشكّل لازمة أسلوبية تنسج فضاءً تكراريًّا وظيفيًّا، وهو تكرار يحمل دلالتين:

1. دعوة للآخر/القارئ إلى المشاركة في الوعي الشعري للذات.

2. محاولة للذات الشعرية لإقناع نفسها بالواقع أو الحلم عبر التخييل المتكرر. تقول الشاعرة أمل صالح:

"هل تتصوَّرُ مِثلي...

أماكنَ كانت مزدحمةً...

وأشياءَ ذاتَ معانٍ مختلفة...؟!"

هذا الاستهلال يُؤسس منذ البداية لعلاقة قائمة على التشظي الحسي والانكسار المعرفي، فالشاعرة تبحث عن مؤازرة شعورية من قارئ مفترض، لكنها في العمق تبحث عن ذاتها، عن صوتها الداخلي الموشوش في زحمة الغياب.

من الناحية الإيقاعية، تستعمل الشاعرة علامات التوقف (...) والتساؤل (!؟) بشكل كثيف، ما يمنح النص توتراً إيقاعياً يشبه التنهيدات، ويعزز من توظيف الصمت كعنصر صوتي ضمن القصيدة، مما يفتح النص على الفراغ الزمني والذهني.

المدخل النفسي – الذات المجروحة والذاكرة المأزومة:

من منظور التحليل النفسي، تتجلى في القصيدة ذات مأزومة تمرّ بحالة من الانسحاب والتفكك الداخلي، ما يشبه المرحلة الفاصلة بين الصدمة وإعادة البناء النفسي. فالقصيدة، في ظاهرها، لا تتحدث فقط عن أماكن أو أشياء، بل عن الانهيار الداخلي للمعنى، تقول:

"الوجوهُ اختفت فجأةً من الذاكرة،

ازدحامٌ كان قد رحل...

هل كان موتًا

ذلك الذي عشته؟

أم بدايةً لحياةٍ...؟!"

هذا التساؤل الكينوني يحمل ثقل تجربة نفسية مريرة، قد تكون فقداناً أو اكتئاباً وجودياً، غير أن اللافت أن الشاعرة أمل صالح لا تمنح أي يقين، بل تترك الباب مفتوحاً على الاحتمالين: الموت كبداية، والحياة كامتداد للموت. إنها إذن تتحدث عن المنطقة الرمادية في الوعي البشري، تلك التي تفصل بين الإدراك والانهيار.

العبارات مثل:

"نسيتُ حتى معنى النسيان"

"أحسستُ باختناقٍ"

"ربما سأعود لنفسي ثانيةً".

تعكس بوضوح مراحل الإنكار ثم الوعي ثم التمني، وهي من مراحل ما بعد الصدمة. فالنص ينمو من حالة الانفصال عن الذات باتجاه رغبة في الترميم النفسي، لكن ذلك مشروط بتدخل "النسيان" كشخصية فاعلة.

المدخل الرمزي – النسيان ككائن، والزمن كخصم:

من أبرز خصائص النص أن الشاعرة أمل صالح تشخص المفاهيم:

النسيان ليس مجرد فعل عقلي، بل كائن حي من لحم ودم، "كان يجب أن يوقفني... أن يحاورني".

الزمن ليس إطاراً محايداً، بل خصم عنيد يتطلب هدنة كي تستعيد الذات تنفسها، تقول:

"يا ليتَ الزمنَ يُعطيني هدنةً..."

الرموز في النص ليست تقليدية بل متحوّلة:

الازدحام رمز للانتماء أو الحياة الاجتماعية التي تلاشت فجأة.

المركب رمز للمسار الجمعي، أو القارب الوجودي الذي غادرته الشاعرة عن وعي.

الوجوه السابحة تشير إلى كثرة العلاقات السطحية، وإلى الغربة في محيط مكتظ لكنه فارغ من المعنى.

كل هذه الرموز تصب في محاولة استرجاع الذات التي غادرت كل شيء لتنجو من كل شيء.

المدخل الهيرمينوطيقي – التأويل الوجودي للنص:

وفقًا للمنهج الهيرمينوطيقي الذي يقرأ النصوص بوصفها حلقات في مسار تأويلي لا نهائي، يمكننا أن نفهم القصيدة كمحاولة لإعادة تفسير الذات في علاقتها بالزمن والآخر والنسيان.

القصيدة لا تطرح حقائق بل أسئلة مفتوحة، وتُركّب دلالتها من خلال المعاني المتولّدة باستمرار. في قولهــا:

"رُبّما كنتُ سأعودُ لنفسي ثانيةً،

وأُصلحُ كلَّ ما مرَّ بي..."

نجد أن الذات لا تبحث عن الحاضر بل عن إمكانية استعادة ما فُقد، كأن القصيدة كلها هي أداة للتخييل العلاجي، أي أن التأمل يصبح وسيلة للشفاء.

الخطاب الموجّه للآخر – الظاهر في "هل تتصور معي" – ليس سوى استبطان للذات، ومحاولة لمحاورة مرآتها، فكل "آخر" هو صورة متخيلة للنفس ذاتها، وبهذا المعنى يمكن أن نقرأ النص كتأويل شعري لحالة "الانقسام الوجودي" ومحاولة رتقه عبر اللغة.

خاتمة:

قصيدة "تَصَوَّر...!" نص شاعري متماسك ينتمي إلى شعر الذات المنكسرة والمتحوّلة، ويكشف عن تجربة شعورية مركّبة تتنقل بين الذاكرة والنسيان، الموت والحياة، الفردانية والانفصال.

بنيته الأسلوبية القائمة على التكرار والصمت، وشحناته النفسية العميقة، والرموز المفتوحة، والمستوى التأويلي الغني، تجعل من هذا النص نموذجاً للشعر الذي يستبطن المعنى بدل أن يصرّح به، ويقود القارئ إلى مجاهل التأمل، لا إلى ضوء المعنى النهائي.

***

بقلم: عماد خالد رحمة - برلين

.......................

تَصَوَّر...!

هل تتصوَّرُ مِثلي...

أماكنَ كانت مزدحمةً...

وأشياءَ ذاتَ معانٍ مختلفة...؟!

هل تتصوَّرُ معي...

الزمنَ في عنفوانِه... يفضي

إلى نَسيمٍ لا رائحةَ له؟

الوجوهُ اختفت فجأةً من الذاكرة،

ازدحامٌ كان قد رحل...

هل كان موتًا

ذلك الذي عشته؟

أم بدايةً لحياةٍ...؟!

*

هل تتصوَّرُ معي

أنني نسيتُ حتى معنى النسيان...؟!

لم يُعاتبني،

لم يتفوَّهْ بكلمة...

لم يقلْ لي: لماذا غادرتَ المركب؟

لماذا غادرتَ الوجوهَ السابحةَ

في عوالمَ مكتظّة؟

لأنني أحسستُ باختناقٍ...

كنتُ سأُجيبُه:

النسيان...

لو كان توقّفَ وحاورني...

رُبّما كنتُ سأعودُ لنفسي ثانيةً،

وأُصلحُ كلَّ ما مرَّ بي...

رُبّما ستعودُ لي الذاكرة...

وأتصوَّر...

يا ليتَ الزمنَ يُعطيني هدنةً...

حتى أتصوَّر...!

***

أمل صالح

المقدمة: من رؤيا يوحنا حين قال: (ورفع ملاك واحدٌ قويٌ حجراً كرحى عظيمة ورماه في البحر قائلاً: هكذا بدفعٍ سترمى بابل المدينة العظيمة ولن توجد فيما بعد، وصوتُ الضاربين بالقيثارة والمغنيين والمزمّرين والنافخين في البوق لن يُسمَع فيك فيما بعد، وكلُّ صانعٍ صناعةٍ لن يوجدَ فيك فيما بعد، ونور سراجٍ لن يضيء فيك فيما بعد ..) إلى (معرض العظام) مرت السجونُ على عيني صوراً متنوعة، صغيرة، مرعبة، مظلمة، وضيقة، أو كبيرة واسعة لا ضوء حياة بها.

السجون بقيود أو دون قيود، او قيود افتراضية، هي موضع محدد لا اجتياز، موضع مقيد بالأصفاد، أو بقرارات فبكل الأحوال ترعاه الآلهة القساة وتحميه وتنفذ أوامر آلهة  صغيرة صاغرة دون سؤال أو دون مشاعر، أو دون طرفة عين أو واعز إنساني، كلاب مطيعة وفيّة، لها مواصفات من الشراسة والقوة و الفتك والتعوّد ما لغيرها، كل هذا تسحبه الكتابة والأفكار المدونة لتظهره للقاريء بكل وضوح وإنارة دون تردد، لا مخفي أمام الكلمة ولا ممنوع ولا تابوات محصنة، واغلبها على صفحاتٍ مسجونة بغلاف زيّنَ بدلالات وعتبات وألوان تبهر الناظر وتجرّه إليها، كما زيّنت السّجون من الخارج بأنواع الطلاء، ووضعت عليها الأبواب التي مصاريعها تشبه أبواب الأساطير، ووقف عليها جنودٌ أو شّرَطةٌ يرتدون أبهى الملابس وألطف الثياب، ولكن ألفاظهم خشنة كما ودَّ الكاتب أن يوضح مقدار خشونتها حيث مثلها بصوت النباح حين تنهر المراجعين، لتعطي للسجن رهبةً ويُزرع الخوفُ، فالقشور الخارجية لا تمت بصلة لما تنطوي عليه الدواخل.

فقد مررتُ بالسجون الحقيقية زائراً ومستدعى ومستودع فيها، ولأغراض التحقيق والملاحقة، والمتابعة، ومررتُ عليها قاريءً من خلال رواتها الذين عاصروها والذين عاشروها والذين عملوا فيها والذين أخذوا وصفها من أفواه تركت صرخاتها ومازالت على جدرانها الصدى وبعض ملاحظات وأقوال وحكم يأس، وللآن تزورهم إلى أسرّتِهم ليلاً لتوقظهم مشاهد الرّعب وصور الدماء وصرخات التعذيب، والأجساد المهشمة، والعيون المفتوحة التي رأت من زارها ولا تستطيع الإغماضة حين غادرتها الروح على أرصفة الاسمنت أو وسط قاعات البرد الذي لا تدفئها كل

مدافيء الحياة. لا أزعم أني قرأت كل ما رُوي ونُثِر ونُظم عن السجون ولكنني تلمست محنة العربي في رواية الشرق المتوسط، وقرأـتُ مجموعة شهداء بلا أكفان واطلعت على ذكريات من منزل الأموات، والكثير من السجون الأخرى حينما انغلقت عيناي وانعكس الضوء على كم من قطرات عالقة اطبقت جفوني ، فأغلق البؤبؤ حين تعثرت على آخر ما قرأت من تقاليد السجون بأنواعها في (كلاب الآلهة).

ففي أحد الأيام أيقنت أن أحشائي تحاول الخروج من جسدي، وأنا اتدلى عكس ما عشت وباتجاه معاكس للحياة، وعلى حد تعبير(نعيم شريف) كالرأس في لوحة (شاغال) عندما علقوني بالمروحة في مديرية أمن ناحية المجد.

ولكنني عشقت سجن الوطن، ولم أؤمن بالرحيل أو الخروج من جدرانه المسفوحة على طول حدوده مع العرب والجوار، حيث عقدت الأمر محبّاً لهذا السجن الكبير وعبر مقولة قلتها (أموت على تراب وطني، أفضل من موتي بجنان الغربة)، لست نادما على سجني فالكثير ممن أحبّوا سجونهم وسجّانيهم، وهناك ظاهرة في علم النفس يوردها في ضوء هذه العلاقة بين الضحية والجلاد، وعملية تعاطف المعتدى عليه مع المعتدي إلى حدود الدفاع عنه، بـ(متلازمة استوكهولم) وعرفوها على أنها ظاهرة تفترض وجود الارتباط وهو استجابة الفرد للصدمة وتحوله إلى ضحية، فالتضامن مع المعتدي هو أحد الطرق للدفاع عن الذات كما هو موضح في (ويكيبيديا متلازمة استوكهولم)، فما بين العقدة السايكلوجية الكبرى هذه ومحبة الوطن الفطرية وما تضمره الأنساق من تلازم عقائدي عشنا نتدافع وندافع ونقاتل في سجن مشرعة أبوابه ومتاح الرحيل للجميع.

***

عيّال الظالمي - العراق/ المثنى

الأم رمز المرأة العراقية:

وقد يكون من المفيد هنا أن نذكر أن الروائي شاكر نوري يصور الأم كعمود هام في العائلة، لا سيما أنها بقيت وحدها بعد اغتيال زوجها، تحمل أعباءها على كتفيها. يقول ابنها الراوي عنها: "...اغتيال أبي، ومنذ ذلك الحين، ترفض الاقتران برجل آخر". ص 37

تريد الأم إنجاح ليلة دخلة ابنها العاجز عبد الرحمن بأي ثمن درءًا للفضيحة بين الناس، "تأمر" "الأخ الكبير": "افعل شيئاً من أجل أخيك" ص 28، لكنه يعلق محبطًا بين نفسه: "دُهشتُ لهذا العرس الذي تحول بين استلامي لبرقية أمي، ورحلة القطار إلى مدينتنا، إلى مأتم جنائزي، دون ميت". ص 29

يُوَفّق الكاتب بتصويرها ونمذَجَتها من خلال دعاءاتها بلغة متناسبة مع مستواها، لكي يُوفّق ابنها العريس في ليلة الدخلة. "متى يفضُّ عبد الرحمن بكارتها؟" ص 30 "الأم تراقبهما من ثقب الجدار" ص 35

رمزية الأب:

لكن الروائي يكرس عمله للأب وأليغوريته ورمزيته ومكانته الخاصة في المجتمع رغم إساءة السلطات له ومحاولة تشويه سمعته، يقول الراوي: "لمحتُ صورة أبي الشمسية... روح أبي ... تذكرته ... يوم اغتياله المشؤوم". ص 28

وهي صورة الأب نفسها في رواية "نزوة الموت"، وقد أكد لي الكاتب شاكر نوري أنه استوحاهما من شخصية والده، لكنه لم يُقتل بل مات موتاً عادياً وهو دفنه بنفسه وحضر عزاءَه.

وسألتُ الكاتب عن سبب اختياره العناكب وماهي رمزيتها فأجابني مشكورًا: "اخترتُ العناكب لأن حياتها غامضة، أنثى العنكبوت دائماً تقتلُ زوجها، الحب فيه قتل. شيرين تلجأ إلى غرفة العناكب لأن ليس لها شخص آخر، العناكب تعطيها الشهوة وعوّضت عن عجز عريسها عبد الرحمن، فتمارس الشهوة باختلاط العناكب على جسدها. ونقرأ في الرواية "هل يصل العهر بالمرأة أن تضاجع العناكب؟". ص 54

يبدو أن الروائي حقًّا شُغلَ بحرب العناكب، يقول الراوي: عنها "العجيب أن أمي حذرتنا من حرب العناكب". ص 56، ويتمتم ساخرًا "ماذا تنفع حروب الأرض إذا كان أخي عاجزًا عن فض بكارة زوجته؟!". ص 62

"هل يمكن أن يعتقد كالآخرين بأن الرجل لا يمتلك سوى شيء واحد هو القضيب؟!" ص 67

يتحدث بجرأة عن "حركة الحيامن" ص 67 ووصف القضيب والعجز الجنسي. ص 124

الأسلوب:

يتميز الأسلوب بالسخرية المبطنة الحاضرة دومًا في اغلب نصوص شاكر نوري، "قالت أمه عنه يوم الخطبة "إنه شاعر ومسرحي! فضحك الجميع" ص 68، "فرقة المدرسة اختارته ليُمثل دور امرأة". ص 68

"في يوم الخطبة لمحت شيرين وجهه المدور الخالي من زغب اللحية والشاربين...". ص 69

النساء يسمونها ام عبد الرحمن لكن الأصول أن تُسمى الأم باسم ابنها الكبير.

وهنا نلاحظ بقاء الراوي في "نافذة العنكبوت" بلا اسم، ينادونه: (الأخ الكبير) فحسب، قد يكون لابتعاده عن العائلة وقلة حضوره، بل غيابه عنها وهو ما نراه في النص، وأيضًا ما اكّده الكاتب لي. لكني أرى الأمر من جانب آخر قد يكون أبعد أو أعمق، فالراوي هنا ليس كما هو الحال في السرديات التقليدية يكون "عليمًا" ملمًّا بكل التفاصيل، وهو واحد منهم، يروي حكاياته عنهم، إلا أنه هنا يتكلم عنهم من بعد كأنه في الضفة الأخرى، يحمل رمزيةً خاصةً: مغترب، ينظر إلى مجتمعه من زاوية أخرى، غير متعالٍ، أو على الأقل يتظاهر بالتواضع لكنه غير مبالٍ لتقاليده القديمة فيشذ عن القاعدة ويتصرف بحرية، يتجاوز حدوده. ولهذا بالذات يُكنّون والدته باسم اخيه الأصغر (أم عبد الرحمن). إنه غائب حاضر، "يخلط" بعض الأمور، لكنه يبقى كبيرًا في نظر الآخرين "الأخ الكبير" بعيدًا عن أفواههم وألسنتهم التي تلوك بالآخرين إلا والده وهو الابن البار الكبير!

طريقة السرد:

يتحول السرد هنا فجأة إلى حالة واقعية خيالية تفاجئ القارئ حيث يتحدث عبد الرحمن عن اعترافاته وعند المتابعة يطلب من شيرين أن تكمل القراءة، فيختلط هنا الكلام المحكي بقراءة النص، فبينما يتحدث (عبد الرحمن) عن نفسه بضمير أنا كراوٍ جديدٍ، سارد ثانٍ، عليمٍ حقًّا بدلًا من أخيه (الكبير)، الذي اخذ مهمة السارد الأول منذ بداية السرد الروائي، لكنه يقول لعروسته بين الفينه والأخرى "أكملي القراءة يا شيرين" ص 159 ، إنها في حقيقة الأمر وصية تركها لهم ليقرأوها فتأخذ شيرين على عاتقها القراءة كإنسان اعتياديٍّ وليست عنكبوتا كما اعتدنا عليها. ص 159

شيرين هنا ليست مجرد عروسة حامل من جندي آخر، بل رمز، صوّرها السارد عنكبوتةً تضاجع العناكب بخيال فنطازي!

تتأسس البنية السردية على قراءة الابن الجندي المحتضر لرواية أخيه السارد "العليم" فنحن هنا أمام بنية تتكون من رواية داخل أخرى تشبه القصص المؤطّرة أو الإطارية" هو الذي فضح سرّي ... لوثته العقلية... دون استشارتي ...". ص 156- 155

***

الدكتور زهير ياسين شليبه

قراءة تحليلية في قصيدة "كيف لهذا التحرّقِ في الترقب" للشاعر سعد الأبطح

في مشهد شعري مكثف يعانق تخوم المعاناة الوجدانية والخذلان العاطفي، يُطلّ الشاعر الفلسطيني سعد الأبطح عبر قصيدته المعنونة "كيف لهذا التحرّقِ في الترقب"، ليبوح بانكسارات القلب، لا من جهة الغواية، بل من جهة التأمل العميق في عطب العاطفة وانهيار المعنى داخل تجربة الحب. القصيدة لا تحتكم إلى المباشرة، بل تتوسل بتراتيل الأسى، وتتوسل بلغة مبطّنة بأحمال رمزية ونفسية وفكرية كثيفة، تجعل من قراءتها عملاً تأويلياً ومساءلة مستمرة لما تحت النص، لا لما يظهر فقط على السطح.

تجمع هذه الدراسة بين أربعة مناهج تحليلية: الأسلوبي الذي يعاين البنية اللغوية والصور، والنفسي الذي ينفذ إلى لاوعي الشاعر الأبطح، والرمزي الذي يحلل الشفرات والدوال المتراكبة، والهرمينوطيقي الذي يمنح النص تأويلاً وجودياً عميقاً.

ففي سياق الغوص في البنية الأسلوبية والصور الشعرية. يفتتح الشاعر الأبطح النص بتكرار استفهامي شجنـي ينهض بوظيفة تفكيك المعنى وتوليد القلق الشعري، يقول:

"كيف لهذا التحرّقِ في الترقب

هذا النشوبُ إثر الملامسات

وهذا الاضطرامُ خلال الإبتسامات".

نحن أمام تكرار بنية "كيف" التي تمارس اشتغالا معرفياً لا يروم الجواب، بل يؤسّس لعجز الفهم، وللذهول أمام الظاهرة الشعورية المسماة حباً. فالتحرّق، النشوب، الاضطرام، كلها أفعال نفسية/جسدية تشي باشتعال داخلي لا يمكن استيعابه بالعقل المحض، بل بالوجدان المرتبك.

يتسم هذا المقطع باستخدام أفعال حسيّة كثيفة ودوال توترية (تحرّق، نشوب، اضطرام)، ما يمنح اللغة إيقاعاً داخلياً متسارعاً يُماثل خفقان القلق، وهو إيقاع نفسي أكثر منه موسيقي، إذ يعكس حالة تصاعدية للعاطفة المشحونة حتى الانفجار.

أما في سياق التحليل النفسي – وهم الحب ولاوعي الخسارة

يصرّح الشاعر دون تردّد قائلاً :

"كيف لكل هذا التأججِ المبهمِ المسمى حباً

والذي أوهمَ النفسَ بلانهائيتها أن ينتهي".

هنا نبلغ لبّ التمويه النفسي للحب ونسغه الداخلي، بوصفه حالة مضلّلة للذات، تجترح لها أوهام الخلود ("بلانهائيتها")، ثم تتهاوى فجأة إلى العدم. من منظور تحليل نفسي، يشتبك هذا المقطع مع مفاهيم كارل يونغ حول الظلّ والإسقاط، إذ يبدو الحب هنا كإسقاط لمثالية الذات على الآخر، وحين ينهار ذلك البناء الإسقاطي، تنهار معه صورة النفس نفسها.

ثم يأتي الانحدار واضحا وصريحاً حين يقول:"ليبقى فقط

هذا الرجاءُ الخافتُ، والغاضبُ تارةً".

الرجاء الخافت هنا ليس أملاً، بل هو فضلة شعورية، أشبه برماد الحريق. الغضب المتقطّع إشارة إلى مرحلة المقاومة الداخلية لفقدان الوهم، حيث يتداخل الحزن مع الرفض، وتُكابد الذات عملية الحداد النفسي لا على شخص، بل على صورة مثالية سقطت.

- في سياق الرمزية والتمثيلات الدلالية. نجد من أبرز الرموز في النص: "القنديل"، يقول الشاعر سعد الأبطح:

"ليت هذا القنديلُ لم يُوقَد أبداً"

القنديل رمز للوعي أو الاكتشاف أو الانتباه العاطفي، و"إيقاده" يعادل يقظة القلب. لكن المفارقة أن الشاعر يتمنى ألا يُضاء هذا القلب أبداً، لأنها إضاءة مدمّرة. يشير هنا إلى رفض المعرفة التي تجلب الألم، كما لو أن الجهل العاطفي نعمة، في مقابل انكشاف القلب الذي قاد إلى الحزن.

"الصقيع – الوحدة – الفراغ"، يقول:

 "فتورَ الحماسِ أبردُ من صقيعِ الوحدة".

الوحدة هنا أقلّ ألماً من الانسحاب العاطفي البارد، الذي يبدو أشبه بانطفاء النفس. يشكّل هذا التدرج الرمزي تراتبية بين ألوان الفقد: من فتور الحماس، إلى الوحدة، إلى الفراغ الكوني الذي "يصير ثقيلاً" إلى أن "يتمزّق". هنا تتجلى مجازات الانهيار الكامل للكينونة، حيث يتلاشى معنى الحب ومعه وجود الذات.

- في مجال التأويل الوجودي (المنهج الهيرمينوطيقي)

تشير القصيدة إلى جدلية الحضور والغياب، النور والعتمة، الامتلاء والفراغ، ضمن بناء هيرمينوطيقي يشي بأن الحب ليس تجربة شعورية عابرة، بل هو حدث وجودي يقلب كينونة الإنسان رأساً على عقب.

البيت الأخير:

"الفراغ الذي يصير ثقيلاً ......

ثقيلاً

إلى

أن

تتمزق".

يأخذ طابع الانهيار الدرامي التدريجي، ويُكتب كأنه تفكك زمني/لغوي متزامن مع التفكك الداخلي. هذا الشكل الأسلوبي (التقطيع البصري والطباعي) يعكس التمزق لا كمجاز فقط، بل كفعل وجودي. إنها لحظة موت رمزي. أشبه بما يسميه هايدغر السقوط في العدم، حين يصبح الإنسان مكشوفاً على لاشيئيته بعد انهيار المعنى.

- الإيقاع والموسيقى الداخلية في قصيدة " كيف لهذا التحرّقِ في الترقب"

من اللافت غياب الوزن التقليدي في القصيدة، مع حضور إيقاع داخلي متوتر، ناتج عن:

التكرار (كيف، ليت، ثقيلاً)

الجناس: "الرجاءُ الخافتُ، والغاضبُ"

الانزياحات اللفظية والعبارات المنكسرة.

كل ذلك يعزز موسيقى الحزن المترجرجة، ويضفي على النص هالة من الشجن المنضبط، كما لو أن الشاعر يُمسك بالحزن كي لا ينفلت، ولكنه يُظهره في صوته اللغوي.

خاتمة: النص بوصفه مرآة للشروخ النفسية العميقة

في هذه القصيدة لا نقرأ تجربة حب، بل نقرأ أصداء التلاشي العاطفي وما يخلّفه من فراغ وجودي. الشاعر الأبطح يمضي من الحب إلى تأمل فقدان الحب، من الوهج إلى العتمة، ومن الرغبة إلى الحداد. لا خطاب في النص سوى خطاب الذات لنفسها، بوصفها الساردة والشاهدة والضحية في آن واحد.

إنها قصيدة تكتب انكسار الكينونة أكثر من انكسار القلب، ويُحسَب للشاعر قدرته على تحويل التجربة الذاتية إلى نص رمزي كثيف، مفتوح على تأويلات فلسفية وعاطفية ونفسية متشابكة.

***

بقلم: عماد خالد رحمة - برلين

........................

نص القصيدة:

كيف لهذا التحرّقِ في الترقب

هذا النشوبُ إثر الملامسات

وهذا الاضطرامُ خلال الإبتسامات

كيف لكل هذا التأججِ المبهمِ المسمى حبا

والذي أوهمَ النفسَ بلانهائيتها أن ينتهي،

 ليبقى فقط

 هذا الرجاءُ الخافتُ، والغاضبُ تارةً: ليت ماكان ظلَّ محاولةً

ليت هذا القنديلُ لم يُوقَد أبداً وبقيتَ متآلفاً وعتمتَكَ بعدما، تعلمت كيف تسيرُ فيها متدبراً مايسلّيكَ ويسعفكْ، أما أن يُضاءَ قلبٌ ثم يخبو رويداً رويداُ لحزنٌ يمسي اليأسُ أمامَهُ مجردَ صداعٍ خفيف، قد أكون كعادتي مخطئا، لكن شموسا كبرى لم تنجو من هكذا مصير،

ولتكتشِفْ: أنّ فتورَ الحماسِ أبردُ من صقيعِ الوحدةِ التي بذاتها أكثرُ رأفةً من خسارة من تحب، ثم الفراغ، الفراغ الذي يصير ثقيلا ......

ثقيلاً

إلى

أن

تتمزق .

***

سعد الأبطح

 

في المثقف اليوم