دراسةٌ نقديَّةٌ لِمُدوَّنةِ النِّيرنِ القصَصِيَّةِ
توطئة: حين تتمايز لُغة الإبداع الأدبي التعبيرية على بنيَّة كينونتها التكوينية النصيَّة، وتتفرَّد بوصلتها المحوريَّة على خطِّ نظيرتها الأُخرى اللُّغة المحكيَّة، وأعني بذلك قصديَّاً عندما تتفوَّق لغة المجاز الشعري والمخيالي على حساب لغة الحدث السَّردي، وتنحرف فنيَّاً وأسلوبياً ينكفئ مسار البناء الفكري القصصي القصير عن تأدية مهامه وإنجاز واجباته الأساسيَّة المنوطة به تكوينيَّاً. حينئذٍ ينصرف أسلوب فنيَّة التعبير القصّصي المعهودة إلى قصٍّ سرديٍّ إنشائي آخر صرف.
الأمر الذي يُفقده كليَّاً زمام السيطرة عليه، والإمساك بتلابيب عناصر القصَّة الفنيَّة القصيرة، والخروج عن خطِّ مسار قواعدها الرئيسة المعروفة: (الحدث، والشَّخصيات، والصراع، ووحدتا المكان والزمان). فضلاً عن ذلك غياب العناصر الأساسية الأخرى المساعدة لبنية القَصِّ الحكائي مثل (موضوع الحادثة، والسَّرد، والبناء القصصي) المرتبطة جميعها بتطوّر الأحداث وتنامي مسير حركة صراعها الدائر.
فعندما يتحوَّل مفهوم السرد القَصصي من أداةٍ أدبيَّةٍ وفنيَّةٍ يوظّفها القاصُّ أو الكاتب بقصديةِ هدف الوصول لغايته القِصصية إلى أداةٍ تعبيريةٍ إنشائيةٍ قصصية على أنها حكاية مسرودة تسبقها الفكرة الحدثية، يتخلخلُ نظام القصّ، ويُفقده خطَّ التوازن الموضوعي الذي بُنيْت عليه أساسات فاعلية السرد الصحيح. وذلك باعتبار أنَّ السرد هو الأساس الحقيقي الذي يرتكز عليه عامل الحوار المهمِّ فنيَّاً وتقنياً، فضلاً عن أهمية عنصري الصراع الحركي للشخصيات والتوصيف القِصصي للحدث.
فالاهتمام بمثل هذه التقنيات الفنيَّة المتتابعة إنتاجياً والمتراتبة أُسلوبياً تتطلَّب من الكاتب أو الرائي أو السارد فهماً عميقاً بدراسة جوانب القصَّة الأخرى، وإدراك أهمية الحدث السردي، واستشراف الأسس البنائية المهمَّة التي يقوم عليها؟ والسَّرد الذي يستند إلى الطريقة المُثلى التي يقوم بها فنيَّاً وعملياً، وتروى بها القِصَّة، ويُحكى بها المتن السردي عبر وسائل التعبير المعروفة كالحوار والوصف والصراع والإدهاش الصادم والمفارقة،وحركة الصعود والهبوط الدرامي لعقدة النصِّ وفق سلسلةٍ منتظمةٍ من الأحداث الزمكانية المرتَّبة يُسمَّى سرداً قصيَّاً مُحكماً لا غبار عليه.
أمَّا السرد الذي يخرج عن تقنيات المبنى القصصي الحكائي وينحرف بمعناه، أو يميل بلغته غير الفنيِّة إلى لغة التعبيرية الإنشائية،أو يقترب منها كثيراً، فيحتملً أنْ يكون سرداً إنشائياً آخر عابراً لقواعد القصصيَّة، وغيرَ مكتملٍ في تعاضد عناصره الفنيَّة بعضها بعضاً. ومن الطبيعي أنْ يكون غيرَ مُؤدٍ لمفاهيم آلياته واشتراطاته الحكائية الصحيحة التي تقوم عليها فكرة البناء القصِّي القصير.
إنَّ إهمال الشخصيات، أو ما يسمَّى بـ (الفواعل) الحدثية في المرويَّات السرديَّة، وجعلها عائمةً في التوصيف، وعدم رسم ملامحها الحركية رسماً فنيَّاً واضحاً في عجلة صراعها البيني الدائر مع المجتمع أولاً، أو مع الشخصيات الأخرى ثانياً، أو مع نفسها في بؤرة صراعها الداخلي النفسي ثالثاً. وبالتالي عدم ارتباطها الموضوعي الوثيق مع ديناميكية الحدث الدرامي الأكبر أو ما يسمَّى بـ (الفعليات) ارتباطاً تخليقيَّاً مؤثِّراً. ومن ثمَّ تلاشي توثيقها الزماني لواقعة الحدث المكانية التي ترتبط فعلياً بزمانٍ ومكانٍ مُحدَّدٍ ما. وكلُّ ذلك يُهدِّد فاعلية البناء السردي الحقيقي ويُحطِّم الجدار الداخلي لفنِّ القصَّة القصيرة ويخرجه عن جادة صواب السَّرد القَصصي القصير الذي يُعدُّ أصعب فنون السرد وأجناسه قاطبةً، وأكثرها تعقيداً وأهمية في نقديات تقانات إنتاج السرديَّات الحداثوية.
فالفنُّ القصصي أو الروائي بطبيعة الحال ليس مجرد أَخْبَارَاً أو ذكر حكايةٍ ما تسبقُها فكرةٌ، أو تَسطيرُ فكرةٍ تعقبها حكايةٌ متوالدة الأفكار، وليس مجرد تنظيم حدثٍ سرديٍّ رئيسٍ أو ثانويٍّ عابر لقصديته،أو تحشيدٍ لحركة شخصياتٍ غيرِ فاعلةٍ في صراعها الشخصي أو المادي، أو وجود حوار فعلي درامي،وسرد وحادثةٍ وَوصفٍ مُتسلسلٍ أو دائريٍّ في القِصَّة القَصيرة؛ بل هو توظيف حقيقيٍّ لجميع هذه العناصر الفنيَّة، واستنطاق لجماليات صورها الصوتية والحركية والفعلية المتعدِّدة التي تُدهش ذائقة المتلقِّي وتُلبي هَمَّ رغباته الرُّوحية والعقلية في اختراقها المذهل له، وكسرها لجدار المألوف اليومي الذي اعتاد عليه في حركة الصراع لدورة الحياة التقليدية الرتيبة المُنمَّطة الشكل.
بَياناتُ المُدوَّنةِ القَصصيَّةِ
إنَّ قراءتي الذهنية الفاحصة وتَتبُّعي التأمُّلي لطيَّات مدوَّنة (النِّيرن) القِصَصيَّة لكاتبها القاصّ والشَّاعر العراقيّ المَيسانيّ إبراهيم زغير ظاهر، والصادرة بطبعتها الأولى عام 2024 عن دار أكيودي للثقافة وبِحجمٍ كميٍّ ورقيٍّ من القطع المتوسِّط بلغ نحو (186) صفحةً، والتي وتضمَّنت محتويات تشكّلاتها الإنتاجية (52) نصَّاً قصصياً توزَّعت موضوعاتها القصيرة بين عنواناتٍ فكريَّةٍ بلغت (31) عنواناً فنيَّاً، وعنواناتٍ ماديَّةِ وحسيَّةِ احتوت على (21) عنواناً سياقياً. ستلفتُ هذه المتابعة الميدانية الانظارَ إلى قصدية (التوطئة) التي وضعتها مِهاداً أو مقدِّمةً لدراسة محتوى هذه المجموعة القصصية المُحتَشَدَة في نسق تكثيفها الكمي؛ لكي نضعها إجابةً صريحةً لمعيار النقديَّة.
عَتباتُ المُدوَّنةِ القَصصيَّةُ
واللَّافت جدَّاً للقارئ عتبة المدونة العنوانية الرئيسة (النَّيرن)التي تصدَّرت لوحة الغلاف الأول الخارجي للمجموعة الرَّمادي الفاتح اللَّون. فالعنونة قد تَضيف بُعداً جمالياً ودلالياً لفنيِّة القصِّ، وقد تكون خلاصةً تكثيفيةَ موجزةَ عن مسار القَصِّ. و (النِّيرنُ) عنوان حسِّي صوري وأيقونة سيميائية علاماتية دالة على نوع من سيَّارات النقل نسبةً إلى مؤسِّسها في العراق صاحب شركة نيرن للنقل في الشرق الأوسط (نورمان نيرن) وأخيه اللَّذينِ اشتهرا بهذه الماركة السيميائيَّة العربيَّة العالميَّة.
ودالة (النّيِرن) كانت في الحقيقة عنواناً لقصةٍ فرعيَّةٍ، ولكنْ من باب إطلاق اسم الجزء على الكلَّ وظِّفت هذه السمةُ عتبةً عنوانيةً رئيسةً استحباباً وغلبةً وشهرةً لاسم هذه المجموعة التي لا أجد لها صلةً فكريَّةً ودلاليَّةً، أو عَلاقةً مباشرةً أو غيرَ مباشرةٍ بموضوعات هذه المدوَّنة الفكرية والحسيَّة الثانوية. وكانت الغلَّبة للعنوانات الفنيَّة في هذه المُدونة على نظيرتها السياقيَّة التقريرية الأخرى.
وكان من الأجدر بالقاصَّ إبراهيم زغير أن يختار لها عنواناً فنيَّاً آخرَ مثل، (القَدرُ...حِينَما يتَكَلَّمَ)، الأكثر جَدوى في علاقته الفكرية البعيدة والقريبة بالعنوانات الثانوية الأُخَرى القريبة جداً من الاسم. أمَّا الغلاف الخارجي الخلفي للكتاب فقد تصدَّرت لوحته صورةٌ شخصيةٌ للكاتب، وجزءٌ سرديٌّ من نصِّ قصَّة النِّيرن الفرعية،كأنِّي بالقاصِّ في هذه القصَّة يتحدَّث سيريَّاً عن ذكريات أيامه الخوالي بهذه الرِّحلة المكوكية من مدينته الريفيَّة الجَنوبية العُمارة لمدينة بغداد العاصمة الحَضريَّة.
لعلَّ اللّافتَ الآخرَ والأكثر غرابةً في عتبات هذه المجموعة دالة (الإهداءِ)الشخصي التي خصَّ بها الكاتب قُرَّاءَهُ، ومُتلقيه؛ ولكنَّهً قَصَرَ هذا الإهداء حصراً على نتاجه بعد حدوث رحيله للدار الآخرة. "إلَى الَّذينَ يَتَوَاصلُونَ مَعِي بَعدَ الرَّحِيلِ... بِالذكرَى وَالتَّرحُّمِ.. أَهديهُمُ هَذَا النِّتَاجَ". (النِّيرنُ، ص5).
أسلوبيةُ القَاصِّ الفنيَّةُ
وسيفهم المتلقِّي المغزى الحقيقي من جدوى هذه التوطئة التي استحال فيها نظام الفنُّ القصصي القصير إلى مجرد قصٍّ إنشائي انزاح فيها أسلوب القصِّ الحكائي عن مضمار دائرته التعبيرية المتشابكة العناصر المُوحدَنَة، وخرج فيها الكاتب بأسلوبه الفنِّي التعبيري المِقدَام في كثير من نصوصه السردية إلى خواطر لُغويةٍ وتطلُّعاتٍ صوريَّةٍ، وحكاياتٍ قَصصيةٍ عائمة بلغتها الإنشائية العالية ذات المستوى اللُّغوي اللِّساني المسبوك والدلالي المحبوك،والَّتي فاقت بمخايلها اللُّغوية الفنيَّة ورصد استعاراتها المجازية الجريئة لغة السرد الطبيعي التي هي تُرجمان النص القصصي وبيانه. وحقيقةً مثل هذا الأسلوب التنميطي السادر بلغته التعبيريةلا يتناسب مع أدبيات فنِّ القَّصة القصيرة.
وقد طغت هذه الأسلوبية بسماتها المهيمنة الجديدة على بنية السرد فتلاشت صور وأشكال عناصر الفنِّ القصصي أمام سيل (الإقدام والإحجام) من الطوفان اللُّغوي السَّردي الإنشائي الكبير الذي أغفل باجتياحه اللُّغوي المجازي العارم عمل كلِّ عناصر السَّرد التي اختفت تحت مظلَّة الحدث وتهويماته الإنشائية التي انمازت به أسلوبية القاصِّ المُعجمية في تعامله المباشر مع الكثير من النصوص القصصية التي حفلت بها نصوص هذه المجموعة. ولم يتمكَّن القاص من سلخ جلده الفكري ونكران ذاته التعبيرية الهائمة أمام هذه (المجازية الإنشائية) التي طوَّقت عنقه وبلغت شأوها التمكيني الكبير في أكثر من أربعين قصةً أو نصَّاً قصصياً كاد لها أنْ تكون الأهمية لولا النمطيَّة.
كانت النصوص العشرة الأولى بعد نصَّ رباعية (عيون المرايا-4)القصصية التي تصدَّرت مفتتح الكتاب هي النصوص القصصية الرائدة في تلافيف هذه المجموعة. وهي الأكثر فاعليةً ومراساً وتطبيقاً لآليات قواعد السرديَّة التي التزم فيها قلمُ القاصِّ إبراهيم زغير بعناصر الفنِّ القَصصي المتعارف عليها في أبجديات السَّرد القَصصيَّة والرِّوائية الحديثة والقديمة. فضلاً عن نصِّ قصته الأخيرة المعنونة بـ (معاناة (مُواسي)) التي ختم بها الكاتب السارد زغير مدوَّنته القصصيِّة (النِّيرن*).
إنَّ قِصصاً مثل، (النِّيرنُ، والنَّحسُ، وحبٌّ...في الأمانةِ، والطُموحُ، وَأفاعي، وَالقَدرُ...حِينَمَا يَتكلَّمُ، وإلى هَذا أنتمِي، وَأهدَابٌ ودُموعٌ، وبَيرقُ الدلالةِ، وتَحتَ قَيظِ الِانحرافِ، وعُيونُ الجِسرِ، ومُعاناةُ مُواسٍ)، هِيَ في الحقيقة نصوص حكائيةٌ تستحق فعلاً التأمُّل والدراسة والبحث والتحليل الهرمنيو طيقي والذِّكرَ والتأويلَ المعرفيّ الإبستمولوجي؛ كونها النماذج السرديّة الأكثر تطبيقاً واستجابةً وإمتاعاً وإدهاشاً فاعلياً في جماليات الفنِّ القَصصي القصير الماتع بمفارقاته الانخاطفيَّة.
أمَّا النصوص القصصية الأخرى فعلى الرغم من جماليات موضوعاتها،ورصد أنساقها الثقافية في الفكر والمجتمع والسياسة، ولولا تغليب تهويمات لغتها الإنشائية المتمايزة في وثوبها القافز على فنيَّة عناصرها التسريدية لكانت محتوىً قصصيَّاً رائعاً مكمِّلاً لمثابات هذه المجموعة القصصية.
ولنقف في هذا المطاف السردي عند نصِّ (عُيون المَرايا-4) متأملين أسلوبية القاصِّ التعبيرية في صناعة وتخليق نصٍّ قصصي قصير أثقلته حمولات لغته المكتنزة بتوصيفاته الإنشائية للشخصية. "اِنغمستْ فِي سِفْرِ فَضَاءِ المَشاعِرِ تِستِشِفُّ أيَّ الرُّؤَى مِصدَاقَاً لِمَا تَقولُهُ المَرايَا، بَعدَ أنْ أَخذتْ مَنحَىً خًطيراً فِي حَالةِ اِندمَاجِ الجَسدَينِ وَشُعورِ القَلبينِ بِالاِنتشَاءِ، الرُّوحانِ اللَّذانِ حَلَّقَا فِي مَتَاهاتِ اللَّا شُعُورِ لِيَضِيفَا عَلَى القَلبينِ حُبَّاً مَلائكيَّاً يَسمُو عَلَى مُمارساتِ الوَاقعِ لِيُتَرجِمَ حاَلةَ الغُلوِّ النَاجمَةِ عَنِ التَّستُرِ خَلفَ فَيضٍ مِنَ الخَيَالِ. صُولَجانُ الأَميرةِ هُوَ مَقلَبٌ أَرسَتهُ بَوادرُ الذَّهابِ إلَى آفاقِ التَّصوِّرِ بِعُمقِ المَرَاياَ، حَيثُ أضحَتْ خَجِلَةً مِنْ أَنْ تُمارِسُ هَوَسَ الحُبِّ الَّذي لَا وُجودَ لَهُ أَصلاً، فَأعارَتْ عَينيهَا لِلمَرايَا بَعدَ فِقْءِ عينيها". (النِّيرن، ص13). فاللُّغة هي الأساس في هذا النصِّ القصصي، وليس الحداثة أو ما بعد الحداثة التي قد يظنُّ البعض أنها كُتِبَتْ وفق متطلباتها الجديدة .
على الرغم من الأنسنة الروحية الجميلة التي انمازت بها فكرة النصِّ الموضوعية في تعامله مع الشخصية في صراعها المادي مع الآخر، فإنَّ الكاتب قد وقع مُنتشياً في تسطيح المتاهات الخيالية البعيدة التي قتلتْ روح الحدث زمكانياً وشتَّتْ صوت شخصيته ولم تَظهرْ حركة صراعه البؤري في لُجةِ هذا الجوِّ الرومانسي المترامي الأطراف، واختفتْ معالم وآثار المكانية المرتَّبة بزمان الحدث.لعلَّ هذا النموذج الإجرائي القصصي المخيالي الذي يقتربُ كثيراً من فنِّ الخاطرة المجازية تنطبق لغته تسريده تماماً في إنتاج معالجاته الحكائيةعلى النماذج السرديَّة الأخرى لهذه المصفوفة.
ومن الجدير بالذكر أو الاهتمام، أنَّ العنونة علامٌة دالة على محتوى القِصَّة أو الرواية. ولنتأمل قُدرة القاصِّ الفنيَّة في نهاية هذه القصة الدالة عتبتها العنوانية على وقع فنيَّة مجازيتها التي وضع لها خاتمة حراك موضوعية عادية غير خاطفةً أو صادمةٍ في تصوير حركة دراميتها البصرية والصوتية المفتوحة للمتقِّي الذي يرغب الكاتب عَبْرَهذه الفراغات النقطية أن يشاركه فعلية الحدث.
"التفتتْ إِلى صِولجانِهَا السِّحريِّ الَّذي فِيِه مِنَ القُوةِ مَا يَدفعُ خِدَاعَ المَرَايَا وَيَصلُ إِلى قَلبِهَا، شَرَعَتْ تَضربُ المَرايا بَذَلكَ الصَولجانِ وَهيَ تَصرَخُ لَا أُريدُ مَرَايَا...لَا أُرِيدُ مَرَايَا..." (النِّيرنُ، ص 14). فخلاصة الخاتمة الموضوعية هنا تشي بالمحاججة والرفض الذاتي لا بالصدمة الفجائية التي تُحطِّمُ جدار مألوف المتلقِّي وتكسر وقع محيطه الخارجي بما هو جديدٌ ماتع لافت لأنظاره ورغباته. وسنكتفي بهذا النص القصصي أُنموذجاً تحليلياً وافياً في إجرائنا التطبيقي للنصوص الإنشائية الأربعين نصاً قصصياً ونشرعُ بتحليل وتفسير وتأويل النصوص الأخرى الأكثر التزاماً بالقصيَّة.
قراءاتُ تَطبيقيةٌ مختارة من نُصوصِ المُدوَّنةِ
- قِصَّةُ (النّيِرنُ)
إنَّ أهم ما يُميِّز قصة (النِّيرن) التي أخذت المجموعة القصصية عنوان عتبتها الرئيس منه، والتي جاءت تسميتها نسبة إلى الأخوينِ النيوزلنديينِ أصلاً (نُورمان وجِيرالد نِيرن) الَّذينِ أسَسا شركة (نيرن للنقل البريِّ)، وكما تُشير قصتهما فقد قَضَيَا شطراً كبيراً من حياتهما بين بغداد ودمشق وبيروت إبَّان الحرب العالمية الأولى. لذلك فإنَّ أهمَّ خاصية تميِّز هذه القصَّة علامتها السميولوجية المتفرِّدة الدالة على سيارات النيرن تلك الأيقونة الصورية العالمية لواسطة النقل السريعة في ذلك الوقت العصيب من تاريخ العراق الحديث. فضلاً عن أنَّها قصة ملتقطة من سحر الواقعية العراقيَّة.
وفضلاً عن كلِّ تلك المزيَّة الإعلانية التي عُرفت بها شركة النِّيرن عالمياً، كونها واسطة نقل لها ثقلها الإنساني والتاريخي والسياسي العتيد المعروف في العالم العربي. لذلك اختار القاص دلالتها الرمزية لتكون عنواناً لإحدى قصصه الواقعية التي انطلق منها هاجس رحلته النيرنية بتذكُّر أيامه.
"غَلبتنِي ذِكريَاتُ الأيامِ الخَوالِي حِينَمَا كَانَ الفَجرُ هُوَ الوَقتُ الأمثلُ لِلسفَرِ إِلَى بَغدادَ فِي (النِّيرنِ)، وَقَدْ رَنَّ فِي أُذُنِي زَعيقُ مُنبِّهٍ إِيذانَاً بِبِدِءِ الاِنطلاقِ، وَهوَ أَشبَهُ بِمُنَبِّهِ بَاخرةٍ كَبيرَةٍ لِدعوةِ المُسافرينَ أَنْ يَأخذُوا أَماكنَهُم، تَهَافتَ المُسافرونَ عَلَى المَقَاعِدِ، وَلَمْ يَستطيعُوا تَمييزَهَا لِتشابِهَهَا، وَبَدَأ الاِضطرابُ بِسببِ الجَلوسِ وَالقِيامِ وَالانتقالِ مِنْ مَقعدٍ لِآخرَ مَعَ شِدَّةِ اللَّغَوِ...وَقتٌ مُستقطعٌ حَتَّى يَستدلُّ كلُّ رِاكبٍ عَلَى مَقعدهِ، بَدَأ ضَجيجُ المُحَرِّكِ يُدَوِّي لِإِعلامِ البَاعةِ وَالمُتسولينَ لِمغادرةِ الحَافلةِ". (النِّيرن، ص 16). الكاتب يسرد الحكاية عن لسان حال بطلها بضمير تكلُّم الفاعلية.
إنّ معطيات هذا النص الحكائي القصير تُشير بوضوحٍ إلى أنَّ القاص إبراهيم زغير لم يتجاوز حدود عناصر الفنِّ القصصي واشتراطاته، فالحدث السردي الواقعي لفكرة الحكاية اتَّضحت معالمه ومساحاته النصيِّة، وحركة الشخصيات ظهرت فواعلها الصورية بتجلٍّ مرئي بصري متراتب. أمَّا العناصر الزمانية والمكانية فقد حُدِّدت في طيَّات الحدث، وحتَّى العلامات السيمائية أخذت محلّها الرمزي الأيقوني الدال على إعلان الحركة التنبيهية التي أطلقها مُحرِّك السيَّارة لمغادرة الحافلة.
وعلى وفق ذلك التراتب الزمكاني سارت مجريات الحدث السردي بتشويق لوقع هذه القصَّة وما رافقها من أحداث ومفارقات خلال هذه الرحلة التي تُشبه سيرتُها أسلوب الرحلات الأدبية حتَّى بلغت منتهاها بتلك الخاتمة الإدهاشية التي وظَّفها الكاتب بطريقة غرائبية غير معهودة التوصيف. "بَلغَتْ السَّاعةُ الرَّابعةُ فَجرَاً، وَطَأَتْ إِطاراتُ (النِّيرنِ) أَرضَ بَغدادَ، فَتَرَجَّلنَا إلَّا إنَّنا لَمْ نُدركْ فِي أيِّ اِتَجاهٍ نَسيرُ". (النيرن، 19). ويبدو لي أنَّ طول الرحلة والنَّصبَ كانا السبب في هذا الذهول النفسي.
- قصةُ (النَّحسُ)
أمَّا النصُّ الأخر الذي يطالعنا تالياً لنصِّ النِّيرن، فهو قصَّة (النَّحسُ) الدالة عتبتها العنوانية اللَّفظية على معنى واقعتها الحدثية التي تتطلب مِنَّا وقتاً من التفكُّر والتأمُّل؛ كونها جاءت تجسيداً فنيَّاً مماهياً لديستوبيا آثار سحر الواقعية العراقية، وبوصفها توصيفاً دقيقاً لانثيالات الواقع الاجتماعي الإنساني الذي مرَّ به الفرد العراقي المكافح في تـأثُّره بتتبع ِشعبياتِ موروثاته عبر سنين حياته المنصرمة.
وأنَّ ما يلفت النظر في هذه القصة ذات الطابع الاجتماعي الأسري العامل الذاتي النفسي لسرديَّة مأساوية الحدث الدرامي الموصوف بحكايته (النَّحسُ) التي رافقت شخصية بطلها الذي استسلم لبراثن الواقع المُزري الذي أحلَّ به بؤساً وشقاءً وموتاً ومعاناةً مقابل تصحيح مَساره الاجتماعي.
"ظَهيرةُ يَومَ الغَدِ جَاءَهُم مَنَ يُخبرُهُم أنَّ سَيَّارةَ العَروسِ اِنحرفتْ عَنْ مَسارِها؛ نَتيجةَ المَطرِ الكَثيفِ، وَسَقَطتْ فِي النَّهرِ المُجاورِ لِلشارعِ العَامِ وَقُتِلَ الجَميعُ، الزَوجةُ وَأُمِّها وَالمَرأةُ العَجوزُ وَابنُهَا، وَكَذلكَ سَائقُ السَّيَّارةِ". (النيرن، ص 23). وهنا تظهر قدرة الكاتب الإبداعية في قلب مسار الحدث وتَبَدُّل معالمه من فرحٍ غامر إلى أجواء حزن وغمٍ خَيَّمَ فيه ظلال النَّحس على نفسية البطل.
"لَيلةٌ حَالكةُ الظُّلمةِ، اِختلَى بِنفسِهِ تَحتَ النَّخلةِ فِي وَسَطِ الدَّارِ هِيَ المُواسِي الصَادقُ لِأهلِ الدَّارِ، عَصَاُ صَغيرةٌ بِيدِهِ كَأنَّه يُشيرُ بِهَا إِلَى النَّحسِ". (النِّيرنُ، ص 23). أراد القاصُّ أنَّ يقول لنا بموحيات هذه الدفقة الشعورية الإنسانية إنَّ العلاقة ما بين عصا التشيُّؤ والنَّحس المعنوي هي علاقة إشارية قصدية، وكأنما القدر قد خصَّه بهذا الابتلاء الذي يُغيِّرُ الأحوال من حالٍ لحالٍ آخرَ.
وعلى الرغم من تفاقم كلّ تلك المآسي والنحوسات الحدثية المتلاحقة التي وقعت لشخصيات هذه القصة، فإنَّ السارد أو الكاتب الحقيقي قد وضع خاتمةً تأمُّليَّة مفتوحةً مثيرةً للدهشة ولافتةً للإمتاع بمفارقتها التصويرية عن حركة بطل القصَّة وشخصها الفاعل الرئيس، وعن زوجته الأولى التي لا تُخَلِّفُ واصفاً إيَّاه بحالٍ جديدٍ من اللَّامباة وعدم الاكتراث بتداعيات تراجيديا الحدث المنحوس ."جَلَسَ عَلَى الأَرضِ جَنبَ زَوجتِهِ، وِأخرجَ مِنْ جَيبِ بِنطالِهَ (صَمونتي جَيشٍ وَرأسَ بَصلٍ كَبيرِ)، قَسَّمَ رَأسَ البَصَ لِنصفينِ، نِصفٌ لِزوجتهِ وَالنِّصفُ الآخرَ لَهُ، وَكلٌّ مِنهُمَا (صَمونةٌ) وَاحدةٌ، بَدَأَ الأكلَ وَالتفتَ إِلى الفَضاءِ البِعِيدِ". (النيرنُ، ص 24 ).
ومما يلاحظ أنَّ حركة البطل الدرامية كانت حركةً إيماءٍ صمتيِّةٍ لا صوتيَّةٍ أشبهَ بـإيحاءات مَسرحةِ (التمثيل الصامت)؛ دلالةً على الذهول والانخطاف الشعوري الذي أصابه نتيجة فعل واقعة الحدث.
- قِصَّةُ (حبٌّ ...في الأمانةِ)
والقصَّة الثالثة التي استحقت أنْ تكونَ أيقونةً سرديةً عاطفيةً من أيقونات هذه المجموعة، قصةُ (حُبٌّ...فِي الأمانةِ). ولفظةُ (الأمانة)، هي الاسم الحقيقي الشهير لمصلحة نقل الرُّكاب، أو حافلة نقل الركاب الداخلية المعروفة التي تعمل في داخل المدن والمحافظات العراقية وأحياء العاصمة بغداد.
وإنَّ سرديَّات هذه القصة وفكرتها تظهر جانباً اجتماعياً واعياً من جوانب الواقع المحافظ، وترسم صورةً دراميةً حركيةً إيماجيةً بصريةً متناميةً من صور مشاعر يوتوبيا العشق العاطفية الإنسانية لبطلي هذه القصة الطالبين الفتى (عبد الله)، والفتاة (سُعاد) اللَّذين بدآ قصة حبٍّ صادقة نواتها اللُّقيا في الأمانة؛ لكن انتهت علاقتهما بالفشل الذريع ؛ نتيجة فعل وتأثير التقاليد الاجتماعية الصارمة وانحراف بعض السلوكيات المحافظة القاصرة عن صوابه، والتي ألقت بظلالها الحزينة على فكرة هذه العلاقة الإنسانية البريئة الواعدة التي يمكن أن تنجح لو قُدِّر لها الوعي المجتمعي.
"فِي سِاعةٍ مِنْ سَاعاتِ النَّهارِ المُظلِمَةِ الَّتي اِنقلبتْ فِيهَا كُلُّ مَقاييسِ حَياتهِ، وَرَدَهُ خَبرٌ عَنْ تَزويجِهَا بِمحافظةٍ أُخرَى... وَلَّدَ لَديهِ الخَبَرُ فَاجعةً وَرزيَّةً مِنْ رَزايَا الدَّهر عَلَى كِيانهِ كُلِّه، فَهوَ غَيرُ مُستعِدٍ لَهَا وَلَيستْ فِي حَساباتِهِ". (النيرن، ص 29، 30). هذا الفعل الحدثي المُباغت يدلِّلُ على أنَّ عامل الفشل لم يكن في حسابات تفكير البطل ولم يكن في توقعاته،على الرغم من أنه وارد الحدث.
إنَّ إحساس البطل العاشق عبد الله بألم مشارط الصدمة الكبيرة التي هالتْ بمبضعها شعوره ونَكَأتْ فتق جروحه مما وصل إليه من فشل مريعٍ ذريعٍ وخيبات وجع مرير، فإنَّ ردةَ هذا الفعل المضاد ولَّدتْ لديه شعوراً بالأمل وعدم اليأس والاستسلام لمثبطات واقع الحال وما آل إليه محال المآل. و"غَدَا كُلَّ يَومٍ تَواجدَهُ فِي بَلدتهِ يَجلسُ عِندَ مَوقفِ (الأَمَانَةِ)، وَهيَ تَقُلُّ الرَاكبينَ، ثُمَّ تَبدَأ سَيرَهَا وَهوَ يُراقبُهَا تَبتَعدُ إلى أنْ تَغِيبَ فِي الأُفُقِ...". (النيرن،ص30).هذه هي الصورة السلوكية التي رسمها الكاتب وذيَّلها خاتمة لقصة (حبٍّ في الأمانة)،ولا شكَّ أنها خاتمة موضوعية مفتوحة لوعي القارئ.
واللَّافت للأنظار في تجليات عناصر هذه القصة الفنيَّة أنَّها من القصص البوليفونية القليلة التي صرَّح فيها الكاتب بذكر اسمي بطليها وهما (عَبدُ اللهِ وسُعادُ) على خلاف النصوص الأخرى التي يكون فيها الكاتب سارداً أو رائياً عن شخصياتها، أو سارداً فيها عن أبطالها الرئيسيين والثانويين بصفة الراوي العليم ، أو بضمير المُتكلِّم أو الغائب أو ما ينوبُ عنهما بالصفة التوظيفية الشخصية.
- قِصَّةُ (الطُّموحُ)
أمَّا القصة الرابعة اللّافتة للحدث، فهي قصة (الطُّموحُ)الدالة على مكنون عتبتها العنوانية الطموح. والطموح الذي يستعرضه الكاتب لمتلقِّيه، ويستدعيه لقارئه الواعي، هو الطموح الذي يجمع بين جانبين مُهمَّين من نيل الأماني الشخصية، الطموح العلمي المعرفي المستقبلي، والطموح الحياتي الاجتماعي الذي يسعى إليه الفرد أُسرياً. إنَّه طموح المستقبل الذي سعى إلى تأسيسه البطل برغبةٍ.
بإيجاز إنها قِصَّة شاب جامعيّ طموح، وشابة جامعيَّة أخرى أحبَّ الاثنان تخصُّصهما اللُّغة العربية والأدب العربي وتحابَّا ّعاطفياً بعضهما بعضاً، وتعاهدا معاً في ظلِّ ذلك على الزواج في نهاية تخرجهما العلمي؛ غير أنَّ الشَّاب حال مفاتحته لوالده اصطدم بمعارضته الشديدة لهذا الزواج ورفضه القاطع له، بذريعة العُرف الاجتماعي، (إنَّ ابنة العمِّ لابنِ العمِّ) الذي تفرضه سُنن التقاليد والأعراف الريفية والقبلية البالية المؤثِّرة، فضلاً أنَّ الفتاة من محافظة أخرى ليست محافظتهما.
"لَيلةُ مَملوءةٌ بِالمفَارقَاتِ،مُخيبةٌ للآمالِ حِينَمَا اِنتفضَ وَالدهُ يَرتجفُ كَسَعفَةٍ فِي رِيحٍ شَديدةٍ تَغشَّاهُ الغَضَبُ، وَمَا إنْ سَمِعَ وَالدَهُ يَبغِي الزَواجَ بِفتاةٍ مِنْ مَحافظةٍ بَعيدةٍ، عِندَهَا رَفَضَ رَفضَاً قَاطِعَاً وَنَهَرَهُ بِعُنفٍ قٍائِلاً: ( بَناتُ عَمِكَ أَحقُّ بِالزواجِ)". (النِّيرن، ص 33). ولم يَفلحْ عبد الله في إقناع والده.
والكاتب في استدعائه لهذه القصَّة التي تَحدِثُ أشباهها كثيراً في أطياف المجتمع العراقي القبلي وتضجُّ به وخاصةً المجتمع الريفي ذو التقاليد المتطرفة، استطاع أنْ يحيل هذه الحكاية الواقعية الخبريَّة الفرديَّة إلى فكرةٍ أو ظاهرةٍ جمعيةٍ عامَّة تستدعي الأنظار المفَّكرة إلى التأمُّل ووضع الحلول والأفكار الناجعة لها التي تحول دون استشرائها بين الناس،بالرغم من أنَّها آخذةٌ بالانحسار.
وعلى الرغم من تلك الصور الاجتماعية القاسية بظلمها على الواقع، فإنَّ القاصَّ برغم تصديره السردي الماتع الجميل لمفتتح قصة (الطموح) قد وضع لها نهايةً غيرَ مقنعةٍ لفكرة هذا الطموح الذي جعله معادلاً موضوعياً للنجاح. مُبرِّراً فيه موقف البطل المبدئي من رفض الزواج بامرأة أخرى بديلة للتي أحبَّها إلزاماً بعهد الوفاء. لكنْ هكذا موقفٍ مُضادٍ لا يُحقِّق مبدأ الطموح والأمل الذي يسعى البطل العاشق لنيله؛ كونه يعدُّ هروباً قاسياً من أس المشكلة وليس حلَّاً نهائياً ناجعاً لها.
"هُوَ رَفَضَ فِكرةَ الزَواجِ بِرُمَّتِهَا، مَاذَا يَقولُ لِلَّتي وَضعتْ ثَقتَهَا بِهِ كَيفَ يَتَصرَّفُ؟ قَطَعَ الاِتّصالَ بِهَا وَغَيَّبَ وَجهَهُ عَنهَا، وَنَأى بِجانبهِ بَعِيدَاً...". (النِّيرنُ، ص 33). فكلُّ وسائل الطموح انتهت بالفشل.
- قِصَّةُ (أفاعِي)
القصَّة الخامسة التي نحن بصدد تتبع حكاية سرد فكرتها الموضوعية، هي قصة (أفاعي)أو (أفاعٍ) التي وظَّفها الكاتب في متن مجموعته؛ لينقل لنا جانباً مثيولوجياً صورياً فكريَّاً مهمَّاً آخر من فعل ممارسات شعبية مؤثِّرةٍ ملتقطة من تمظهرات البيئة الاجتماعية التي يُقوم بها جهراً تحت عباءة الدين بعضٌ من الدجالين والمخادعين بالنَّصبِ على عقول الناس البسطاء والسُّذج من البُلهاء الذين يصدقون تلك الأفعال المزيفة والمشينة، ويعتبرونها كرامةً أو جاهاً خاصَّاً بالرغم من أنها تعدُّ نصباً واحتيالاً احترافياً مقصوداً.المهمُّ في نصِّ هذا القصِّ ليس الإخبار عنه؛ بل طرح فكرة الجهل.
"أطبقتْ كَفُّ الجَهلِ عَلَى العُقُولِ لِتُدَنِّسَ جَمالَ الإشراقِ فِيهِ وَغَرَسَتْ مَفاصلَهَا فِيهِ لِتَشلَّ حَرَكَةَ التَّمييزِ بَينَ مَا هُوَ جَميلٌ وَقَبيحُ، فَيسهلُ قَيادُهُ، وَكَذَا تَمريرُ الكَثيرِ مِنَ المَفاهيمِ الَّتي تُرسَمُ لِلتضليلِ". (النِّيرنُ، ص34). إذن فكرة الجهل هي الهاجس الذي يطرحه القاص بهذه الحكاية النسقية.
هذه هي لغة القاص التخييلية في مفتتحه التصديري لحبكة القصِّ المتواتر بفاعليةٍ شخوصه ومفاعيله في سير العلاقة الخطيَّة للحدث الرئيس والأحداث الأخرى التي تقوم بها تلك الشخصيات.
" رَدحٌ مِنَ الزَمنِ اِنقضَى وَانقطعَ ذِكرُ (السَّيِّدِ)، وَبَقَى هُوَ وَأفاعيهُ مَثَلاً يُضرَبُ عِندَ النَاسِ، هَلْ هُناكَ (سَيِّدٌ أبُو الحِيَايَةِ) آخرُ يَستطيعُ تَقمُّصَ دَورِهِ أَمْ عَقُمَتِ الحَيَاةُ؟ رُبَّمَا هُنَاكَ مَا يَعجِزُ (سَيَّدَ أبو الحِيَايَةِ) عَنْ أَداءِ دَورهِ، رُبَّمَا أَيضَاً يَكونُ هُنَاكَ...". (النِّيرنُ، ص 37). أي طَامةُ الجَهلِ تتفاقم وتتزايد.
إنَّ ما يلفت الأنظار في هذه الخاتمة الفراغية التنقيطية التي يتساءل فيها الكاتب باستهجانٍ واستنكارٍ تكراريّ تأكيديّ على لسان حال رائيها التسريدي عن تماثل وجود فاعل الفعل الحدثي لهذا التمثيل الدرامي المفتعل المخادع الكاذب، وربَّما وجودُ رَدةِ الفعل المماثل لنظائر سيِّد أبي الحِيَايَة التي تتعدَّد بتعدُّد الوجوه العامَّة والخاصَّة، وقد تكون الخاصَّة منهم،"سيِّدُ...سَيِّدُ... سيِّدُ.." (النيرن، ص37).
- قِصَّةُ (الرِّياءُ)
ومن بين مفردات هذه المُدوَّنة القَصِّيَّة الأكثر إيجازاً وتكثيفاً وترميزاً وإيحاءً سيميولوجياً ودلالياً قصَّة (الرياءُ) في هذه العنونة التي هي علامة دالة على محتوى القصة المعبِّر عن واقع حال دلالتها الحدثية والفنية التي يُرسل فيها لنا الكاتب إشاراتٍ ضوئيةً لافتةً، وموحياتٍ رمزيةً شاخصةً عن صفةٍ نفسيةٍ ممقوتةٍ من أخلاقيات المجتمع السلبية التي تتماهى فيها مخيلة السارد الكاتب مع حركة بطله الذكوري في تأثيث علاقة الحبِّ العاطفية غير السليمة والمبنية على الخداع والمماراة الكاذبة.
"صَفعنِي عَلَى خَدِّي الأيسَرِ بِشفتيهِ البَاردتَينِ...هَمَسَ فِي أُذُنيَّ مِفرداتٍ مِنْ عِباراتِ الحُبِّ الفَائِتِ هِيَ أَشبهُ بِعمليةِ تَرميمٍ لِعَلاقةٍ آيِلَةٍ إِلى الاِنهيارِ، قُلتُ: - فِي حَياتكَ اِمرأةٌ أُخرَى؟ تَجهَّمَ ثُمَّ اِبتسَمَ. - كَيفَ عَرَفتِ؟- قُلتُ:...- قَالَ حَدَسُكِ فِي مَكانِهِ...". (النِّيرنُ، ص38).رُبَّما الصفح والهمس من علامات الرياء.
هذه الأسطر الإحالية النصيَّة الإخبارية هي كلُّ محتوى سرديات (الرِّياء) الشخصي، وإنَّ ما يُثير الانتباه في خواتيم هذه القصة القصيرة جداً ليس تكثيفها واقتصادها اللُّغوي ومفارقتها الإدهاشية الماتعة فحسب؛ بل طريقة الباثِّ الحوارية لطيَّاتها في معرفة الآخر (الضدِّ) المرأة المعشوقة لسلوك العاشق البطل المُحبِّ المخادع السلبي تجاهها، وإقراره الكلي بفعل الرياء المفتعل. وقد اتَّضحت تلك الصفة غير الصادقة من خلال تقنية الحذف والبيانات الناتجة عن أسئلة البطلة التي أفشت سرَّ هذا الرياء الشخصي وفضحت مصادره وأنساقه رمزياً وإيحائياً كون النصُّ علامةً سيميائيةً دالة.
- قِصَّةُ (القَدَرُ... حِينَمَا يَتَكَلَّمُ)
لقد درجت السَّرديات عامَّةً والقصَّة القصيرة بوجهٍ خاصِّ على أن يكون لها عنونة هي بمثابة عتبة علاماتية رئيسة، أو بوابة الدخول إلى يوتوبيا مدينة القصَّة الفاضلة، أو إلى ديستوبيا الفوضى الفاضحة بكل تجلياتها ونسيج فروعها الجزئية والكليَّة.والعتبة العنوانية قد تكون بعضاً من عناصر الإدهاش والإثارة. حيث تؤطر إلى الإشارة إلى العلاقة الكليَّة الوثيقة بين مكنونات الحدث السردي (الحِبكة)من جانبٍ دلاليٍّ سيميائيٍ والعنونة من جانبٍ فنِّي آخر، وهذا ما يضيف للقصَّة بُعداً دلالياً.
وقد تكون العتبة العنوانية خلاصة إيجازٍ بيانيةٍ مُكثَّفةً لمسار حركة القصِّ السردي وتجلياته. وهذا ما أريد التنبيه إلية والإشادة به من أنَّ أبرز القصص الرائعة لغةً وأسلوباً وإنتاجاً تقنياً وفنياً، والتي يمكن أنْ نعدها سيِّدة قصِّ هذه المدوَّنة النيرنيَّة، قصَّة (القدرُ... حِينَمَا يَتكلَّمُ). إنهَّا حقَّاً النصُّ الذي يشي بأنَّ القصة ليس إخْبَارَاً قَصَصيَّاً مَحكيَّاً، وإنَّما هي أفكارٌ يسمو بها النصُّ ويرتقي بذاته.
(القدرُ...حِينَمَا يَتكلَّمُ)، هذه القصَّة التي هي على قدرٍ كبيرٍ من الأهمية الموضوعية، والغاية والدهشة والإمتاع النفسي في علاقاتها الخطيَّة المُتحركة وتضاداتها وإيحاءاتها الصورية المتتابعة. وفي تنامي حركة سردياتها المحبوكة حبكاً لغوياً، والمسبوكة سبكاً معنوياً ودلالياً، تُخبرنا خطى حبكة وقائعها الحدثية المباغتة بما يُخَبِّئُهُ القدر السيِّئ لشخصَّية بطلها الذي توحدنَ بين صراع يوتوبيا الحق وديستوبيا شرِّ الباطل. فلمنْ تكون غلبة هذا الصراع الاستهوائي في نهاية الرحلة؟
ذلك الرجل المحافظ الذي اتَّخذ من السلوك الجنسي الشاذ طريقاً مُهلكاً لفعل خيانته الزوجية مع امرأة أخرى. كلُّ ذلك حدث بسبب من انحداره الرخيص، ونزق نزواته المتصابية ورغائبه الشهوانية التي أوصلته إلى هذا المستوى العدمي السِّلبي الوضيع، بعدما كانت ذاته تشكِّل وجوداً رمزياً إيجابياً.فخسر هذا البطل السحري كُلَّ شيءٍ، خَسِرَ ثقةَ زوجته ومحبَّة أولاده وحياته وسمعته وحصنَ مكانتهِ الاجتماعيةِ التي شكَّلت جميعها رأس ماله الذي كلَّفَهُ هِزةً لمستقبل حياته الشخصيَّة.
"أَفلحَتْ تِلكَ الفِخَاخُ فِي أنْ تَكونَ إحداهُنَّ مِنْ ضَحاياهِ تَتَخبَّطُ فِي جَهالةٍ اُحجِبَتْ عَنهَا نُورُ التَّبَصُّرِ، هِيَ تَلتقِي مَعهُ فِي مَعَرَّةِ الجُنوحِ، مَعَ اِزديادِ شَغَفِهَا فِي إفرَاغِ جُيوبهِ، لَا تُجَارَي زَوجتُهُ جَمَالاَ؛ لَكنَهُ فَيضُ الاِنحدَارِ الرَّخيصِ، تَواعَدَاً وَاختَلَاءً فِي وُحُولِ الشّهوةِ المُتدَنيَّةِ، نِتاجاتُ ذَلكَ التَّقارُبِ المُريبِ، أُسدِلَتْ غِشاوةٌ عَلَى العَقلينِ، فَمَا عَادَ يَعنيهُما أَيُّ السُّبلِ أَصلحُ سِوَى سَبيلِ الاِختِلَاءِ، أَينَ؟ وَكيفَ؟". (النِّيرن، ص39).فهذه رمزيَّة واضحة عن مؤثِّرات رغبة الانحراف الجنسي.
هذا الملخص القصصي الإيماجي التصويري الدرامي لواقعة الحدث، وهذا الانحدار السلوكي الجنسي الشاذ البغيض هو عماد الفكرة المخيالية التي وضعها السارد، وهو أس المشكلة ونواة تقصيصها التي يفهما المتلقِّي. النزوة التي أوصلت بطلها الرمز المثالي إلى قاع الحضيض، وألقت به في نار الخيبة وجحيم دنيا الخسران الذي كلَّفَهُ ثمنَ حياته الاجتماعية؛ نتيجةَ غواية أفعاله السلوكية الداعرة وتخبُّطه الخُلقي المكبوت الذي لم يحافظ على جداره الخارجي من أثر النزوات.
ومن الخطلِ أنَّ البطلَ قد ساقته قدما القدرِ المُقدَّرِ لهُ، أنَّ هذه المرأة التي اختلى بمعيتها فعل الممارسة الجنسية الشائن مصدر الرذيلة ونسقها الثقافي المُضمر أنْ تكون زوجةَ مفوضِ الشُّرطةِ الذي كان البطل موقوفاً لديهم في نَظَارَةِ سجن المركز؛ بسبب ارتكابه حادثَ دهسٍ لطفل بسيارته.
فمفوض الشرطة هذا، هو الرجل الذي انتخاه بطل القَّصة المهندس المغامر المُنحَرّف من أجل ستر الفضيحة، وردماً للعار وتجنُّباً للمعايب والفواجع التي لحقت به؛ لإنقاذ تلك المرأة الفاجرة زوجة المفوض التي تركها البطل تختبئ في خزانة الملابس في بيته خشيةَ أن تراها زوجته التي غادرت البيت مع أولادها، والتي تفاجأ بها المفوض منذهلاً ومبهوتاً من فجائية المشهد الذي ساقه قدر الفضيحة لسترها بدلاً من قتلها ، فلنتأمَّل وقع مسرح المفارقة الحدثية الصادمة بتجلِّياتها الآنية.
"ِاِنجلَتْ لَهُ الحَقيقةُ، فَقَالَ: مَا الَّذي جَاءَ بِكِ إِلى هُنَا؟ هَولُ المُفاجأةِ أَخذَهَا بِاقتدارِ فَداحَةِ المَوقفِ وَجَعلَ فَمَهَا يَبتلعُ كَلماتِهِ، رَصاصاتُ المَوتِ مَزَّقَتِ الحَيرَةِ،؟ وَجَّهَ رَاحلَتَهُ عَودَاً مُثقلَاً بِرزايَا الفَضيحةِ الَّتي فَاضَتْ عَنْ قُدرةِ تَحمُّلِهِ، قَدَمَاُ ساَقتَاهُ بِدونَ إرادتِهِ، إِلى المَوقفِ، اِستبشرتْ أَساريرُ المُهندسِ ظَنَّاً مِنْ نَجَاحِ المُهِمَّةِ". (النِّيرن، ص 41، 42). ولم يَدُرْ بِخُلده أنها ستتحول لفاجعةٍ مروعةٍ.
فهذه الصياغة الأسلوبية اللِّسانية السَّرديَّة الواقعيَّة المكثَّفة الماتعة التي أثَّثَ بها الكاتب انثيالات تركيب هذه القصَّة التي انبجست منها صور عيون اعتقال اللَّحظة الشعورية الهاربة التي تنامت فيها خيوط نسيج هذه الحكاية الفجائية إلى أكثر من فكرةٍ مسكوتٍ عنها،؛ كونها هاجساً إنسانياً وذاتياً مغيَّباً،فقد استأثرت على اهتمام القارئ النوعي والمتلقيِّ الوجودي العادي معها حكايةً وفكرةً. مما أودى ذلك الاستئثار المعرفي والإنساني إلى تعاطفهما الوجداني والفكري المُتوحدن مع وقائع أحداثها الغرائبية المؤلمة إلى حدِّ الإدهاش والأسى لما آل إليه القدر بمصائر من سار بركاب الأثر.
وهي في الوقت نفسه حملت كاتبها المنتج الذي هو لسان حال ساردها أو مُحكيها أو بطلها أنْ يضع لها خاتمةً حواريةً تساؤليَّةً مأساويَّةً جرت بنيه وبين خصمه (المُفوض المُنقذ) الذي أظهرته مخايل القدر المفاجئ، لكشف مستور الحقيقة المصيرية. الحقيقة التي أنسنها بعفويةٍ صادقةٍ وبعث نسغ الحياة فيها فجعلها قدراً منسياً ناطقاً بالكلم، وترجماناً بيانياً لإعلاء كلمة أثر الحقِّ على الباطل.
"أَمَا عَلِمتَ أنَّهَا مُتزوجَةٌ وَلَهَا ثَلاثَةُ أَولادٍ؟-أَرادَ أنْ يُجيبَ لَكِنَّ صَوتَ الفَناءِ أسرعُ مِنْ فَمهِ، تَرَكَهُ مُضرَّجاً بِدمائِهِ، وَفِي الرَّمَقِ الأَخيرِ قَالَ:-أَحَقَّاً قَدْ تَكَلَّم القَدرُ؟". (النيرن، ص42) بموتِ الجاني الفاعل.
قصة (القدرُ...حِينمَا يَتكلَّمُ)، على الرغم من كونها كُتُبَتْ بطريقة غرائبية تسريدية مُحكمةٍ، وبأسلوبٍ دراميٍّ عجائبي فنِّيٍّ في صراع حبكته التي تجمع مفارقتها التسريدية بين فعل الحُلُم الشائن وفعلية الحقيقة الواقعة، اعتمدت على تقانات عديدة مثل، (الإيحاء والترميز الصوري والفجائية والمفارقة) الإدهاشية الصادمة في صناعة واستدعاء واقعية الحدث وأَسطرتِهِ بالمخيالي الفنتازي، فقد استمدَّت أصول جذورها الفكريَّة ومصادرها الأسطورية المتخيَّلة وأنساقها الثقافية والموضوعية الملتقطة من مثابات رهان الواقعية المجتمعية التي هي انعكاس للكبت والحرمان.
- قِصَّةُ (إِلَى هَذَا أنتَمِي)
القصة الثامنة التي علقت عرضاً بذهني وتفكيري الشعوري ولم تغادر آثارها الزمكانية مخيلتي إلَّا بالحديث عن جدوى واقعيتها الوجودية القارَّة هي قصة (إلى هذا أنتمي). وهي في الحقيقة من القصص والحكايات الموضوعية البسيطة ذات النسق الثقافي الظاهر، والتي يقف خلفها القاصُّ الباثُّ إبراهيم زغير مستتراً بقناع ستر التَّخفِّي الأدبي ، وعدم الظهور للقارئ في كشف غطاء أدب غشاوته السيريَّة الذاتية التي تفضحها وتكشفها للقارئ (الناقد) بوابة عتبها العنوانية الدالة على صدق الانتماء الوجودي الزمكاني لهذا الكاتب الأصيل الذي راح يتماهى بإخلاصٍ ووفاءٍ ومحبَّةٍ مع جذور بيئته الريفية (الأهوارية)، ويرسم لها واقعها التاريخي والحضاري والمثيولوجي الناطق.
(إلى هذا أنتمي) هي النصُّ السردي الإشاري الواضح، والجملة القصصية الخبرية القارَّة بمعناها الدلالي الدقيق. فهي على الرغم من كونها أُنتجت بأسلوبٍ إنشائيٍّ وإخباريٍّ إعلانيٍّ ماتعٍ يميل في تخليقه السردي الفنِّي إلى الأسلوبية التقريرية المُحبَّبة التي يفرضها الخطاب النصِّي، وليس إلى الإبتذالية الإملالية الماجَّة، فإنها استطاعت بإتقانٍ أنْ تنقلَ لنا مشاهد صوريةً فاعلةً حيَّةً عن أثر جماليات طبيعة الحياة الأهوارية الثابتة منها والمتحركة، سواء أكانت تلك الطبيعة الكونية السومرية إنساناً أو حيواناً أو نباتاً أو بيئةً مائيةً ساحرةً ظاهرةً وخفيَّةً لتلك المستنقعات المترامية الأطراف التي تعايش فيها الإنسان والحيوان والجماد وتوحدنَوا بألفةٍ عجيبةٍ تحت خيمة الأهوار.
لقد تمكَّن الكاتب والأديب إبراهيم برؤى عينه البصرية الثالثة،وبعدسة التقاطاته الصورية الثاقبة، وبهواجسه الشاعرية النصيَّة الواثبة أن يبثَّ في أدبه بواطن الثراء ويبحث بصدقٍ عن مواطن الجمال الفنِّي، وأنْ يدوِّن بشغف ومحبةٍ لتلك الحياة الطبيعية البسيطة الساحرة، ويُؤرخِن لمثابات واقعها الخرافي الأُسطوري وفق هذه التشكيلات السردية الحكائية المتراتبة التي ينتمي إليها انتساباً وتاريخاً وحياةً ضاربة في العمق لا تقف عند حدٍ من حدودها التاريخية المتأصلة.فلنقرأ بودٍّ صوت الكاتب وهو يشدو بهذا الانتماء لهذه البيئة الكونية العالمية عبر رحلة الزمن الماضي والحاضر.
"شَدَدتُ الرِّحالِ لِأختلسَ مِنَ الزَّمَنِ حُقبةً قَدْ تجَاوزَهَا العُمرُ، أَردتُ أنْ أَستعيدَ ذِكرياتِ نَفسِي لَأذكرَهَا بِجذورِهَا عَلَّهَا لَا تَجدُ فُسحةً مِنَ التَمرُّدِ كَي تَتَقمَّصَ خُصوصيَاتِ الآخرينَ، شَمَمتُ رَائحةَ (الهُورِ) المَمزُوجِ بِعُطرِ القَصَبِ الَّذي كَانَ قَدْ قَوقَعَ تَفكيرِي بِدائرةٍ لَا تَتجاوزُ مُحيطَهُ، حَيثُ أضفَى عَليهِ فُطرةً عَلَى فُطرتِهِ الطبيعيةِ، سَافرتْ عينايَ عَبرَ دَهاليزِ الزَمنِ لِأَرَى نَفسِي فِي مَنطقةِ (الجِدِي) كَمَا يَحلُو لِجَدِي أَنْ يُسَمِّيهَا، بُيُوتٌ بُنيتْ فَوقَ مُسطحَاتِ المَاءِ مَرصوفَةً بِأفكارِ الأولِينَ، أَنَا مَخبُوءٌ تَحتَ عَباءَتِها، سَذاجةُ التَّوصيفِ وَالتَّصرُفِ سِمَةٌ وَاكبتنِي مُنذُ الطُّفولَةِ اِستَقَيتُهَا مِنَ الحَياةِ الَّتي لَيسَ فِيهَا مِنَ الجِدِّيَّةِ إلَّا فِي مَجَالِ الأَكلِ وَالجِنسِ، بَطالَةٌ مُقنَّعَةٌ مَا تَجودُ بِهِ طَبيعةُ الهُورِ كَغِذاءٍ يَمنحُنَا القَنَاعَةَ المُطلقَةَ...". (النِّيرن، ص 43). لغة السَّرد تكاد تجمع بين الحُلُمِ والواقع.
في خضم هذه الرحلة التي نقلتنا من خلالها مخيلة الكاتب الصورية الممتلئة حضوراً إلى أحضان
الطبيعة السومرية الأهوارية الجنوبية التي شكَّلت تجلياتها وعلاماتها السيمائية وعلاقاتها الخطيَّة المتتابعة مِساحةً كبيرةً من مشاعر تفكيره ورؤاه السردية الأدبية،مَكَّنتهُ من استدعاء آفاق حاضنتها واسترجاع ذكرياته وطفولته وصباه في مرابعها عبر تحوِّلات تلافيف الزمان والمكان. هي رحلة تجمع بين عبق الماضي الغابر والراهن الحاضر وبين الخيال والواقعِ بهذا التتابع الحدثي السيري القصصي المحايث لجمال الطبيعة. فنصُّ (إلى هذا أنتمي) نتاج ثقافة ما وتمثيل لثقافة تاريخية ما.
وها هو الكاتب إبراهيم زغير يضع بلغته الشاعرية لمدونته القصصية خاتمةً حلميةً متمنياً فيها الاتِّكاء على شاخص من البردي يحمل طيفاً من عبق أحلامه ونثيث ذكرياته النازفة بحنين الوجع. " وَهَا أَنَا عُدتُ بَعدَ تِلكَ السِّنينِ الَّتي لَا أَجِيدُ عَدَّهَا لِسُرعَةِ اِنقضائِهَا إِلَى مَسقَطِ رَأسِي وَمَوطنِ صِبَايَ عَلِّي أَجِدُ شَاخِصَاً مِنَ البَردِي يَحمِلُ ذِكرَايَ". (النيرن،ص44).تخلُّصٌ موضوعيٌّ نَاسبَ الحَدَثَ.
ومن يتتبَّع نصوص مدوَّنة (النِّيرن) القَصصية بتأمُّلٍ وتدبُّرٍ كبيرينِ سيلحظ حِرصَ الكاتب الشديد على أنْ تكون نصوص هذه المجموعة على قدرٍ كافٍ وجهد وافٍ من التنوِّع والموضوعية الفكرية والتعدُّدية النوعية المتفردة، وليس على مستوى واحدٍ من هامش الثقافة التنميطية ومعجمية القوالب السردية النسقية الجاهزة الأطر التي لم تلقَ لها اهتماماً جاداً وأُذناً صاغيةً واعيةً تتلقفها من جمهور القرَّاء والمُتلقِّين. فعناصر مثل التجديد والغرابة والفرادة والمغايرة الموضوعية هي من مزايا هذه المدوَّنة ومن جوهر تكوينها البنائي الفكري. فتعدُّ عنواناً ثريَّاً بارزاً لجماليات الإمتاع والمؤانسة في عمليات التلقي القرائي الحداثويَّة.فالسرديَّة قد تتأتى من التناغم الإيقاعي بين الأفكار والأسلوب.
- قِصَّةُ (أَهدابٌ... وَدُمُوعُ)
ولعلَّ من النماذج التطبيقية الجيِّدة التجريب والدالة الثراء في التنوِّع والتجدُّد والتعدُّد الفكري والمغزى الاجتماعي والأُسري البيئي قصة (أهدابٌ...ودُمُوعٌ) الواقعية التي جمعت في رمزية محتوى مضانها البنائي التكويني المضادة بين ثنائيات (الأمل والألم)، و (الحياة والموت)، و (السكينة والدموع)،و (الرخاء والشدَّة)،و (التَّماسك والتفكُّك)؛ وفقاً لتبعات آفاق حركة الصراع السردي الدائر.
إنّها نصٌّ عائليٌّ بامتيازٍ يحكي بوجعٍ مُجتمعي واقعي فجيعة فقد عائلة مسالمة لزوجةٍ وأمٍّ نتيجة فايروس مرضي عارض عكَّر صفو الحياة، وسوء سلوك فقدان الزوج (الأبّ) إثرَ مَجزةٍ إرهابيةٍ قطَّعتْ أشلاءه في يوم دامٍ تعطَّلت فيه سفينة حياة الأسرة بكدرٍ ألمَّ بها وزاد حزنها بدلاً من الرخاء.
"فَجيعَةٌ تِلكَ الَّتي فُجِعَتْ بِهَا عَائلتُهُ، أَرادَ أنْ يَملَأَ ذَلكَ الفُراغَ لِتكونَ عَينَاً عَلَى وَلَديهِ وَابنتِهِ البِكرِ، وَالَّذينِ لَمْ يَتجاوزَا مَرحلةَ الدِراسةَ الاِبتدائيةِ، كَانتْ أُمَّا رَؤُوماً تَجاوزَتْ الخُطوطَ الحَمرَاءَ الَتي وَضعتهَا العَاداتُ وأَحاديثُ المُتحدِّثِينَ عَنْ زَوجةِ الأبِ، قَدْ تَفاعلتْ مَعَ مُفردَاتِ حَياتِهُم بِصدقٍ وَأمانَةٍ، كَانتْ تَتَرحَمُ رِسالتُها التَّعويضيةُ لِيَتحسَّسُوا أَنَّهم لَيسُوا أَيتَامَاً، فَسَخَّرَتْ جُلَّ وَقتِهَا وَاضعَةً فِي حِساباتِها أنَّهُم يَجبُ أنْ يَتقبَّلُوهَا أُمَّاً لَهُم". (النيرن، ص45)، فنجحت في مهمتها رغم الفقد.
هذه النتيجة الحاصلة التي خلفتها تبعات سلوك الزوج، والتي حلَّت الأمُّ البديلة محلَّ الأمِّ الفقيدة، وأصبحت سكناً لهم ومودةً ورحمةً، حتَّى أنَّها شهقت شهقةً كادت أنْ تزهقها روحها .فكانت خاتمة القصة أشبه بخطاب ذاتي مُوجع موجَّه من الزوجة الراعية إلى الزوج الفقيد إثر الموج الطائفي.
"لَقَدْ أَديتَ وَصيتَكَ وَتَحَمَّلتُ وُزرَ التَّغييرِ، وَتَجاوَزتُ بِكُم مَرحَلَةَ الفَجِيعَةِ، فَمَنْ ذَا الَّذي يَتولَّانِي وَيُنقذُنِي مِنْ فَجيعَتِي...؟". (النيرن، ص48). وتظلُّ المفارقة التساؤلية السِّمة الأشد بروزاً في القصِّ.
ليس المُهمُّ في مدونة (أهدابٌ...ودُمُوعٌ) ذاك الإخبار الحكائي التراجيدي المؤلم عن تلك الواقعة الحدثية؛ بل المُهمُّ ذلك التقطير اللُّغوي اللِّساني الوصفي لجماليات الحدث والذي يصحبه فنيَّاً تقطير صوريّ، والذي من ماهيته الخطيَّة والاستبدال والتضادية والرمزية والإيحائية والإيهام الإضمار.
- قِصَّةُ (بَيرَقُ الدِّلالةِ)
(بَيرقُ الدَّلالةِ)، النصُّ القِصَصي العاشر نُسِجَتْ خيوط حكايته المتواشجة بعنايةٍ شديدةٍ، وكُتِبَتْ مضان فكرته الشائقة بأسلوبٍ إنشائيٍّ فريدٍ، وهُندِسَت معماريته التأثيثية بلغةٍ تعبيريةٍ أسلوبيةٍ تجمع بين راهن الحقيقة المعيش، ومخيالية التصور الشعوري بِدْأً من نقطة تصدير مفتتحه، ومروراً بمستعرضه وتنامي حوارات صراع حبكته، وتقلُّب سير حركاته ومفارقاته، حتَّى خواتيم نهاياته.
هذا التوصيف الشكلاني من حيث اللُّغة التعبيرية والأسلوب الفنِّي الجمالي المُحكم، أمَّا من حيث عناصره الفنيَّة التي أسهمت في إنتاج وتخليق بيانات أحداثه، فالأمر حينئذ فيها مختلف جدَّاً، فالحدث الفعلي، والشخصيَّات الفاعلية عائمة تسير وفق رويٍّ وقصِّ (ألفِ ليلةٍ وليلةٍ)، وكأنَّ النصَّ يجري في زمن الملوك والوعاظ والسَّلاطين، أي في بيئةٍ أسطوريَّةٍ مخياليَّة ممتدةٍ عمقاً زمكانياً.
وهذا يشي بأنَّ الشخصيات مغيَّبةٌ وخفية تسير خلف حُجُبٍ مستورةٍ إلَّا شخصيَّة البطل الَّتي رسمها الكاتب الراوي، وكأنَّه هارون الرشيد في عصر زمانه الذي لا يعرف أو يُميِّز شخصياً أسماء زوجاته وأبناءه حينما يراهم عابراً وجهاً لوجه. وقد اُبتلِي هذا البطل المُهاب بشهية كَثرة تعدُّد الزيجات التي أوصلته إلى منطقة نائية من مفارقة الإذلال والخيبات والخسران غير المُخطَّط له.
"مَعَ مَا يَتَمَتَّع بِهِ مِنْ قُوّةٍ جَسديَّةٍ عَاليَةٍ أَضفتْ عَلَيهِ شَرَاهَةً بِكَثرَةِ الزِّيجَاِت، بَرَعَ فِي هَذَا المَجَالِ، حَتَّى بَاتَ يُحاكِي عُظَمَاءَ سَلاطينِ العُصورِ الغَابِرَةِ، إنْ وُصِفَتْ لَهُ اُمرأةٌ فِي حَيٍّ مَا، مَا عَلَيهِ سِوَى أَنْ يُكَلِّفَ خاَدمَهُ مَعَ بُدِرِ الدَنانيرِ فَتَأتيهُ صَاغِرَةً". (النيرن، ص49). فَهُيام البطل بالنساء له ما يبرره.
أمَّا مثابات وحدة المكان وارتباطه بالحدث الزماني وثوقيَّاً فَلا ترى له مكاناً مادياً ما على سطح كوكب الأرض، وإنَّما تجده حاضراً في عقل الكاتب رابضاً في إعماق مخيلته وضميره المستتر التي صيرها له بعناية الرائي لصورة هذا البطل (السُّطانية)َ. فهو مكان معنوي متصوُّر فضاؤه المحلِّي أُسطورياً أكثر مما يكون مكاناً وجودياً مادياً مرئياً بكامل أبعاده وتجسَّداته الكُليَّة الشيئية.
"بَيٌت مِنَ البَساطَةِ الفَنيَّةِ لَا يَرتَقِي تَوصيفُ حَاكمِهِ الَّذي يَديرُ مِنْ خِلالِهِ شُؤُونَ اتبَاعِهِ، نَسيجٌ غَيرُ مُتجانِسٍ ،رُوادُ ذَلِكَ البَيتِ، الكَثرةُ مِنْهُم مِنَ النُّدمَاِن وَالخَدَمِ وَالحَشَمِ وَبَعضِ الضُّيوفِ، كَمَا وَأنَّهُ مِنْبَرٌ لِفضِّ النِّزَاعاتِ بَينَ النَّاسِ.". (النيرن، ص50). أيُّ بيتٍ هذا الذي يتراءى لك صورة حُلُميةً!ً
والقارئ الواعي والناقد الحاذق الجادُّ الذي يتتبَّع بحرصٍ وتؤدةٍ أحداث نصِّ هذه القصة (الغرائبية) المتعاضدة الأفكار والحكايات لمعرفة المعنى الدلالي اللُّغوي لدالة (بَيرقِ الدلالةِ)، وكشف موحياته الرمزية، وفكّ شفراته اللُّغوية الدلالية. ومن ثمَّ بيان أنساقه الثقافية الظاهرة والخفيَّة المضمرة لا يجد لها سوى تفسيرٍ وتحليلٍ واحدٍ، ذلك هو المعنى السيميائي العلاماتي والأيقوني لدالة (الرايةُ)، أو بيرق الدلالة العلاماتية للاستدلال على رمزية المثابة المكانية التي أرادها الكاتب مثابةً جنسيَّةً لافتةً رايةً من مثابات تعدُّد زوجات بطل قِصَّتهِ.وسيتِّضحُ من خلال ذلك الرمز أنَّ لكلِّ نصٍّ معنىً قائماً.
"لَمْ يُبرمِجْ طَريقةً لِمباشرَةِ نِسائِهِ، وَإنَّمَا الزَّوجةُ الَّتِي لَهَا دَورُ المُباشرةِ تَرفَعُ بَيرَقَاً يُستدَلُّ بِهِ عَلَى صَاحبَةِ الاِستحقَاقِ". (النِّيرن، ص 50). إنَّ عدمَ اتباع الزوج لطريقةٍ ليس معنى ذلك غير مُمنهج.
والمعنى الرَّمزي الإيحائي لِترفعَ بَيرَقَاً أو رايةً دلاليةً يعني ليلةُ معاشرتها الجنسيَّة هو المنهج البديل للطريقة المباشرة التي لم يتبعها في نوباته الزوجية. ويضع القاصُّ مُلحقاً تعليلياً لشرعية هذه الممارسات الفعلية أو العلامات التي ترفعها الزيجات استدلالاً في يوم التحاق الزوج البطل لمباشرة زوجته ومعاشرتها فعلياً، ويلقي من الناحية الدينية بتباعات هذا الفعل على منهجيته الإيمانية بها.
وحين تصل قمةُ الصراع في (بيرقِ الدِّلالةِ) إلى حدٍّ أقصى أقصاها، والبطل في أشدِّ عنفوانه وزهوه الرجولي من فحولة الشرقي، تصلُّ الحكاية في أبعد تجلياتها مع هذا البطل إلى أسفل أدناها وذلك في خاتمة مؤثِّرة في تخريج منتهاها، لتصف الحال وواقع المحال الفعلي الذي وصلت إليه عظمة هذا البطل الخرافي المائز من التدنِّي والسقوط في الهاوية، هاوية الخيبة والخسران الأبدي.
"أَينَ الدُّنيَا الَّتي وَثِقَتُ بِهَا؟ لَا سَرمديَّةُ فِي الحَياةِ، أَينَ نَظريةُ البَقاءِ؟ وَهَا قَدْ قَرُبَ الفَنَاءُ، أَحقيةٌ أَنَي سَأترِكُ هَذَا المُلكَ الَّذِي هُوَ عُنوانُ العَظَمَةِ، غَامرهُ شُعورٌ بَأنَّهُ قَدْ جَلَسَ بَينَ لُحي أَسَدٍ يَقضمُهُ المَوتُ وَيجرحُهُ تَرَكَ المُلكَ، أَمَرَ خَادمَهُ بَأنْ يَعدَّ لهُ مُتكَأً أًمامً بًيتِهِ، وَأنَّه يَرغَبُ أنْ يَرَى جُموعَ المُعزِّينَ قَبلَ مَفارقتِهِ الحَيَاةِ...". (النيرن، ص 52). هذا هو شعور البطل، خيبات أملٍ ووجع وتراجع. ولم يبقَ من (بيرقِ الدلالةِ) إلَّا علامات الذهول والأسى والألم والمرارة التي وضعها الكاتب خاتمةً.
"هُوَ فَقَطْ يَنظرُ لَا يَقوَى عَلَى الكَلَامِ تَأخذُهُ مَوجةٌ مِنَ البُكاءِ، وَهوَ الَّذي لَمْ يُبكِهِ شَيءٌ أبَدَاً، إلَّا أَنَّ ذَلكَ لَا يُغيِّرُ شَيئَاً مِنْ حَتميَّةِ المَصِيرِ،سَكَتَ ذَلِكَ القَلبُ، الغَبرَةُ عَلَتِ المَيدانَ،وَمَا زَالتْ الأَكدَاسُ مِنَ النَّاسِ تَستعرِضُ، لَا هُوَ يَرَاها...وَلَا هِيَ مُستشعِرَةٌ بِرَحِيلهِ...فَغَدَتْ تَستعرِضُ...!". (النِّيرنُ، ص52).
وقد عمد المؤلِّف القاصُّ بعد هذا العناء من السقوط الذي أطاح بالبطل إلى قصدية تقنية الحذف التنقيطي في صياغة عبارات هذه الخاتمة المؤثِّرة لِحَضِّ القارئ الجادِّ ومشاركته في استتمام هذه الخاتمة الشعورية المفتوحة التي أظهرت تلاشي شخصية بطله، وكشفت عن صور جموع حاشيته الخاصة ومحبِّيه بين واقعية قد تُصدقُ وازدراء لمخياليةٍ قَد لا تُصدَقُ أثرَ واقعةِ الحدثِ الفكريَّةِ.
- قِصَّةُ (تحتَ قَيظِ الِانحرَافِ)
إذا كانت الحكاية تؤدِّي إلى فكرةٍ في نقديةِ السَّرديَّات الروائية والقصصية في الحداثة وما بعد الحداثة، فإنَّ قصة (تحتَ قيظِ الانحرافِ)تُعدُّ من أبرز الانحراف الجنسي، والشذوذ المِثْلِي الذكوري وأغربها دراميةً وتمثيلاً تراجيدياً مُخزياً. تلك الحكاية التي التقطتها عينُ الرَّائي المؤلِّف البَصَرَيَّة الثالثة بدقةٍ من عصرنة عقابيل الواقع ورهان تحدِّيهِ المصير المعيش بمهنيَّةٍ واحترافيةٍ فنيِّةٍ عاليةٍ.
لقد جسَّد فيها القاص الكاتب حركيَّاً وصوريَّاً ودراميَّاً خلال وقع أسلوبيته التسريدية أصدق معاني
الجرأة والمبادأة والإقدَام والشجاعة الفنيَّة في نسج خيوط حكايته الحريرية الناعمة،وإخراج فكرتها الجمعية عبر تتابع أثير مجسَّاته القصصية لمرآة الواقع وإبراز سلوكياته المجتمعية المنحرفة الضافية تحت سطوة النفوذ وترافة العيش الرغيد، ووفرة المال الحرام والتطرُّف الجنسي البغيض.
تستعرض خيوط سرديَّات فكرة هذه القصَّة الحكائية مخرجات التِيهِ والضياع والضلال والانحراف السلوكي الشائن التي أفرزتها إشكالية حمولات شخصية بطلها الازدواجية المُعرَّف اجتماعياً بتاجر الأقطان والأقمشة والمتظاهر بِزِّيهِ العربيِّ مثالاً لسمة التواضع الذي يخفي تحتَ جناحيه عظمة واقعه وثرائه المالي الكبير، ووجاهة مركزه التجاري الرفيع الذي يعرفه الناس علامةً فارقيَّةً عنه.
هذه الشخصية الرجولية الازدواجية الرفيعة القدر، والوضيعة الأثر أسقطت جُلَّ نُبلَهَا الشريف وخلقها الإنساني الأشم العفيف في مستنقع التطرف الجنسي المُغاير. ومن ثَمَّتْ ممارسة شهواته الحيوانية البذيئة مع شاب جميل الشكل ضعيف الإرادة بصدِّه للفعلِ يعمل موظَّفاً بمكتبه التجاري.
"وَفِي بَيتٍ صَغيرٍ هُوَ أشبَهُ بِمُتحفٍ يَطلُّ عَلَى نَهرِ دِجلَةَ لَيلَاً، يَكونُ مَقرَّاً لِممارسَةِ شَهواتِهِ البَذيئةِ، كَانَ يُثيرُ التَّنقلَ بَينَ عَواصمِ العَالمِ لَكِنْ لَا تَطيبُ لَهُ الإقامةُ إلَّا بِمعيتِهِ، وَالَّذي أَصبَحَ لُغزَ حَياتِهِ، حَيثُ التَّملُّكُ جَعلهُ يَبتكرُ أَفكارَاً تَضمنُ بَقاءَ صَبَيهَ تَحتَ كَنَفهِ، بَعدَ أنْ تَقادَمَ بِهِ العُمرُ، هُوَ يَعملُ المُستحيلَ مِنْ أَجلِ أنْ لَا يُفرِطُ بِهِ وَلَو كَلَّفَهُ ذَلكَ ثَروتَهُ أو أيِّ شَيءٍ آخرَ أغلَى مِنْ ذَلكَ، اِرتَأَى تَزويجهُ بِابنتِهِ الوَحيدةِ كَي يُحقِّقَ هَدَفَهُ، الأمُّ وَالبِنتُ تَنظُرانِ إِلَى هَذَا الشَّابِ نَظرةَ إعجابٍ لَهدوئهِ وَجمالِهِ الآسرِ دُونَ قِرَاءةِ أفكَارِ الأبِّ أَو مَعرفةِ نَواياهُ" الحقيقيةِ الخَفيَّةِ (النيرن، ص 53، 54).
لم تقف تطلعات شخصية بطل هذه القصة المركبة عند هذا الحدِّ من الغواية واللَّذة والاستمتاع بالانحراف الماجن؛ بل تعدَّدت مضان تلك الحكاية ونسيج أفكارها حيث غريزة البطل في حبٍّ التملك النفسي الغريزي الذي أكده سيجموند فرويد في تحليلاته النفسية للشخصية غير السوية، لهذا الشاب في أنْ يزوِّجه ابنته الوحيدة كي يضمن بقاءه بالقرب منه، ولو كلَّفه الأمر ثمن حياته كُلُّها.
"طَارَحَهُ الغَرَامَ، لَكنْ الصَّبِي جَابَهَهُ بِالاِمتناعِ، رُبَّما وَفَاءً لِهذهِ الزَّوجةِ المَغلوبِ عَلَى أَمرِهَا قَالَ:- اِعلمْ أَنَّه لَا تُوجدُ قُوَّةٌ فِي الكَونِ تَستطيعُ أَخذَكَ مِنِّي ، وَأنَّي ضَحيتُ بِعائلتِي مِنْ أَجلِكَ وَلَستُ أنثَنِي عَنْ قَتلِكَ وَقتلِهَا إنْ اِقتضَى الأَمرُ ذَلِكَ". (النِّيرنُ، ص 55). إلى هذه الدرجة من الصلابة تمسَّك بحِّب الشَّاب؛ لكنَّ الأقدار تجري بما لا تشتهي سفن الانحراف والأهواء والرغبات التي أعدها لهذا الفعل السلوكي المارق للأعراف الأخلاقية والقيم الشرعية الدينية التي تحدُّ فعل هذه الممارسات السيِّئة.
فما كان من فجائيةٍ مصاديق القدر وثورة الحقِّ المنتصر أنْ تكتشف ابنته التي هي من صُلبه في صبيحة ثاني أيام زواجها من الشَّاب الرذيلة التي مارسها أبوها في مواقعة زوجها غريمه الجنسي. ما أقساهُ من مشهد درامي تراجيدي مُروعٍ مُؤلمٍ تقشعِّرُ له الأبدان ويهتزُّ له الضمير الإنساني الحيّ والوجدان! وما أبشعها من صورة إيماجية حيَّة مستقبحة رسمها الأبُّ هديةً لابنته في يوم زواجها !
"عَادَتْ إِلى الجَنَاح وَجدتهُ مُقفَلاً، اِستغرَبَتْ الأمرَ، فَتحتهُ فِي نِسختِها الخَاصةِ ثُمَّ دَخلتْ، الجَناحُ كَبيرٌ لَمْ تَسمعْ صَوتَاً وَلَا ضَرباتِ أَجزاءِ (الطَّاوليّ) الَّتي كَانَ يَهواهَا أبوهَا، وَلَجَتْ فِي هُدوءٍ وَجدَتْ بَابَ غُرفتَهَا مَفتوحَاً، سَقَطَتْ حَدقاتُهَا عَلَى أبيهَا وَهوَ يُجانِسُ زَوجَهَا وَعَلَى فِراشِهَا، دَوارٌ أصابَهَا كَانتْ لَهَا رَغبةُ التَّقَيُّؤ؛ لَكنَّهَا تَمالكتْ نَفسَهَا وَخَرجتْ مُسرَعَةً دُونَ أنْ يَلحظَهَا أَحدُهُمًا". (النيرن، ص56). هكذا يُصوِّر الكاتب الحالة النفسية المنهارة للزوجة بعد الذي رأته بأُمِّ عينها فعلاً.
إنَّ انتصار فاعلية الشرِّ على جادة طريق الخير أو الصواب في هذه الواقعة الحدثية على الرغم من كونها أمراً مستهجناً وقبيحاً مكروهاً ومرفوضاً عُرفَاً وتَقاليداً ومبدأً، فإنَّه أمام عظمة المأساة وهُول الصدمة ليس أمراً ضرورياً في إتمام الحدث؛ بل الضروري والمهمُّ والحاسم في ردة الفعل فداحة هذا المشهد وما خلَّفهُ من آثارٍ نفسيةٍ كبيرةٍ لدى ابنته التي تراه مثالاً رفيعاً للأبِّ المثالي والزوج الراعي لحقوق الأُسرة والمجتمع. لقد سقطت هيبة هذا الأب القابع تحت مظلة الازدواجيَّة.
كان هول الصدمة المروِّع وواقعة المشهد الصوري الأبوي وهو يمارس فعل الرذيلة المثلية الذكورية مع زوجها الشَّاب أفقدها كليَّاً حياتها الشخصية الخاصَّة ودمَّرها كابنةٍ وزوجةٍ في أبشع صورة من صور الانتحار القصدي الظالم كَردٍّةِ فعلٍ، بدلاً من تقبل هزيمة العار التي لحقت بها.
"دَخَلَتِ الحَمَّامَ وَخَلَعَتْ ثِيابَهَا، غَمَسَتْ جَسدَهَا فِي حَوضِ السِّباحةِ الصَّغيرِ وَانتزعتْ قُطبَي السِّلكِ مِنْ مُجفِّفِ الشَّعْرِ، مِسكتْهُمَا وَذَهَبَتْ إلَى حَيثُ تُريدُ...!". (النيرن ،ص 56).بنهاية مفتوحة خُتِمَتِ القصةُ.
والسؤال الذي لا بدَّ منه، هل الانتحار إزاء هكذا موقف صادم يعدُّ حلاً ناجعاً لتطهير النفس من القبائح وضاءةً للنفوس قبل وضاءة الأجساد الدرنة أمْ أنَّه يعدُّ هروباً عن مسكوت لا يمكن البوح به علناً أمام الملأ؟ أعتقد أنَّ مواجهة الحدث وجهاً لوجهٍ هي أقدس وأنبل ما تقوم به حيال هكذا أفعال.
ومن نوافل القول المستحب التي تُحسب لِمَعِيَّةِ الكاتب القاصِّ إبراهيم زغير وشخصيته الإبداعية في مدونته السردية (النِّيرن)،تلك هي الصورة الشمولية الأكثر اتساعاً لبانوراما التنوِّع الموضوعي، والجِدة الفكرية في اختيار عيِّنات مادته الاخبارية القصصية الثرة (حكايةً وفكرةً) وإنتاجاً وتصديراً.
فبعد هذا التحشيد الكمي الهائل من القصص ذات الأثر الثيمي المُتَّقد، والتي كُتِبَت وقائعها الحدثية الرتيبة كما أشرنا متقدِّماً وفق مخيالٍ حكائيٍّ سرديّ إنشائيّ بامتيازٍ لا يخلو من آثار الحسِّ الواقعي والتقاط تمظهرات يومياته وصور مشاهده الجمعية المألوفة في الحياة. والتي بأسلوبها اللُّغوي تجاوزت آليات كتابة الفنِّ القصصي وعناصره دون مراعاةٍ واضحةٍ لزمكانية الحدث وفاعلية ارتباطه بشخصياته الرئيسة والثانوية التي هي بؤرة الحوار المضيئة والصراع الحركي لمجريات يوتوبيا مدينة السرد الفاضلة. وصراعها المرير مع ديستوبيا قوى الشرِّ وفوضى الصدِّ والمجابهة.
- قصَّةُ (مُعَانَاةُ مُواسَي)
وعلى وفق ذلك النسق الأسلوبي القصصي المغاير في تأسيس مدخلاته اللُّغوية وتأثيث مخرجاته الفنية التي ارتأى القاصُّ أن تكون من أبرز مزاياه المعجمية في صناعةً فنيَّة التعبير القصصي القصير بهذا السمت الإنشائي التصويري يُفاجئُنا الكاتب في قصِّة (مُعاناةُ (مواسي))،أو (مُواسٍ)،وهي آخر قصص هذه المجموعة وترتيبها التسلسلي الثاني والخمسون بالخروج من تبعية وقيود ضِلالهِ الإنشائي والخواطري النسقي القديم، والعودة إلى أحضان عباءة السرد الفنِّي وسياقات عناصر الفنِّ القصصي القصير. ومراعاة اشتراطاته التي لا يمكن الانقلاب عليها أو تجاوز معطياتها القريبة والبعيدة في الكتابة.ولا أدري لماذا هذه العودة المتأخِّرة بعد أن قطع شوطاً كبيراً في نهجه السابق؟
والأهمُّ في تجليات قصَّة (مُعاناة مواسٍ) الأخيرة الدالة على معنى عتبتها العنوانية، والتي ستكون مصدر إدهاشٍ ومفارقة لها، إنها إضمامة لحكاية سرديَّة من إضمامات الواقع اليومي الفردي والجمعي الصارخ بكل توجُّعاته الإنسانية المتهالكة التي تئِنُّ بها عصرنة المجتمع الحداثوي الآني، وتُعاني منها وقائع أحداثه الحالية، وتحذر منها استشرافات آفاقه المستقبلية الحادثة مع تقادم الزمن.
دأب فيها القاص إبراهيم زغير على التقاط ما هو كائن وجودي فاعل، وما سيكون راهناً حالياً في مرآته الصورية العاكسة لمجسَّات هذا الواقع المعطوب. وبإيجاز فنِّي تعبيري وفكري يروي القاص وقع حكايته السردية بواقعيةٍ شعوريةٍ إنسانيةٍ مؤلمةٍ لواحدةٍ من أبرز إفرازات الواقع الصحي العراقي المعيش الحاضر الذي يشكو تعثُّر سير خدماته العامة والحياة الإنسانية الكريمة.
ويستعرض لنا الكاتب السارد بعدسة سوناره الفكري صورياً معاناة امرأة عجوز جِدَّة أُنيطت لها مهمة (المواساة) لطفلٍ مريضٍ هو ابن بنتها، حين اقتضت الأقدار والحالة الصحية السفر به خارج العراق إلى إحدى مشافي الهند. وتدور دوائر التغرُّب على هذه المرأة الجِدَّة العجوز بطلة القصَّة التي لم تخرج حتى من بيتها أو تُبارح مدينتها. تلك هي دائرة الألم والمعاناة والحزن والمرض وعدم قدرتها على تدبُّرها لشؤون أمرها كونها وحيدةً. فكانت في الوقت ذاته هي العليل المواسي الذي بحاجةٍ لِمُواسٍ لتسييِر أحواله حينما تغلق الدنيا أبوابها بوجهها ظلمةً وسواداً وإخفاقاً وكُربةً.
"تَبَرَّعَتْ جَدتُهُ لِأُمِّهِ أنْ تَكونَ (المُواسِي) لَهُ، وَانطلقتْ رِحلةُ العَجوزِ (المُواسِي) مِنْ بَغدادَ إلَى دُبَي ومِنْ هُناكَ إلَى الهِندِ، اِنطلقتْ مَعَهَا المُعاناةُ، حَيثُ البِلادُ الِّتي لَمْ يَطأهَا قَدَمَاهَا، وَلَا تَعرفُ أَيَّ شَيءٍ عَنهَا، اِمرَأةٌ لَمْ تُغادرْ بَيتَهَا طِيلةَ حَياتِها؛ لِذلكَ هِيَ تَجربةٌ صَعبَةٌ، وَلَو لَمْ تَتعَلَّقْ بِحياةِ ذَلكَ الطَفلِ الَّذي هُوَ مُحورُ سَعادةِ بِنتِهَا لِمَا خَاضتها". (النيرن،ص176).أي خاضت هذه التجربة العصيبة.
ليست الأهمية الفنيَّة في تصوير مشاهد ما حدث لهذه العجوز المواسي في حكاية رحلتها الصحيَّة المُؤلمة المألوفة،وإنما تكمن الأهمية الفكرية في هذا السرد الحكائي المرير في ما يتعرَّض له الإنسان العراقي من مهانةٍ وإذلالٍ ومآسٍ حينما يخرج من أرض بلاده ودياره لقضاء مهمِّةٍ من مهمَّات حياته الخاصَّة في الوجود والعدم، وبلده يضجُّ بتلك الإمكانات العلمية والمادية الزاخرة.
"وَالطَّامةُ الكُبرَى أنَّهَا لَمْ تُقِمْ فِي حَياتِهَا كُلِّها بِفُندقٍ، وَلَا تَعرِفُ كَيفَ تَختَارُ فُندقَهَا المُلائِمَ لِمرَضِ طِفلِهَا، وَالَّذِي يَجبُ أنْ لَّا يَبتَعدْ عَنْ المُستشفَى خَوفَاً مِنْ مُداهمةِ المُضاعفَاتُ لَهُ، غَدَتْ تَضرِبُ أخمَاسَاً بِأسداسٍ،الطَّبيبُ العِراقِيُّ المُرافقُ اِتَّفَقَ مَعَ إِدارةِ المُستشفَى عَلَى أَنْ تُقيمَ فِي إِحدَى غُرفِ دَارِ الضِيافَةِ، وَافقتْ إدارةُ المُستشفَى، فَأشارَ عَليهَا ذَوُو المَرضَى العِراقيينَ أنْ تَبقَى فِي اللَّيلِ مَعَهُم دُونَ عِلمِ إِدارةِ المُستشفَى، وَفِي النَّهارِ تَقضيهَا فِي حَدِيَقةِ المَستشفَى...". (النيرن، 177).
بهذه اللُّغة التقريرية المباشرة والقصِّ الحكائي المتراتب يصف لنا القاصُّ صوراً تترى من معاناة هذه السيِّدة العجوز المواسي وإهمالها،ويحكي مكابداتها اليومية وجهادها الإنساني الشخصي المرير في الحفاظ على صحَّة طفلها المريض من أجل إنهاء مهمتها الصحيَّة بسلامٍ. وهي التي قصدت المستشفى بصورةٍ أصوليةٍ من قبل الدولة،لا يتطلَّب منها كلَّ هذا العناء والمفارقات الفجائية المُذلة.
وما حصل لهذه السيِّدة العراقية المواسي من تعسفٍ وإذلالٍ وسوء حالٍ وتقصير ممنهج يحصل لكثير من العراقيين أبناء الوطن خارج بلدهم بسبب افتقادهم لأبسط حقِّ متطلبات الرعاية الصحية والعيش السليم في العراق.وكأنِّي بالكاتب السارد يبعث برسالةٍ إيحائيةٍ مضمرة عن ديستوبيا الواقع المُرتهن إلى القارئ ليفكَّ طلاسم رموزها وشفراتها الدلالية عما يمرُّ به العراقي الذي من حقِّه أنْ ينعم بالسكن وحقِّ الرعاية الصحية وإمكانية التعليم والعيش الرغيد والأمان والاستقرار الدائم.
في منتهى ختام أحداث هذه القصة التراجيدية يُلَوُّنُ لنا الكاتب الرائي في تجريب لوحته القصصيَّة صورتين رمزيتين من صور (الأمل والألم) السيمائية، صورةُ الأملِ والحياةِ السعيدةِ المتفائلةِ لهذا العليل الرمزي المستقبلي التي من أجلها بُنيت عليها أحادث الحكاية وصراعها المرير، وصور اليأس والإحباط والنكوص والمرض والمعاناة الدائمة لتلك المرأة العجوز المواسي لرفقة لطفلها.
"كَبُرَ الطِّفلُ العَليلُ، ولَمْ يَذكرْ شَيئَاً عَنْ مُعاناةِ جِدَّتِهِ (المُواسِي)، وَتُرِكَتْ تُكابِدُ المَرضَ وَلَا تنسَى تِلكَ المَشاهِدَ الَّتي غَدَتْ لَصِيقَةَ حَياتِهَا...". (النِّيرن، ص180).نهاية موضوعية مفتوحةٍ لتقدير المُتلقِّي. والحقيقة إذا كانت صورة الطفل الأولى صورةً فرديَّةً حُرةً وجميلةً، فإنَّ صورة الثانية التي مثَّلَ بها للمرأة العجوز المواسي هي بحدِّ ذاتها تمثِّل صُورةً جمعيةً لمعاناة الشعب العراقي التي لا تنتهي.
خُلاصةُ القولِ
إنَّ كلَّ نصٍّ قصصي من قصص مدونة (النِّيرن) السردية يعدُّ صورةً إيحائية سواء أكانت ظاهرةً أو مضمرةً، وكلُّ صورةٍ منها تعدُّ علامةً سيمائية، وكلُّ علامةٍ دالةً أيقونيةً معنويةً، وكلُّ دالةٍ معنويةٍ هي فكرة ثيمية موضوعية قائمة بذاتها، وكلُّ فكرةٍ أصلها حكايةٌ بسيطةٌ في ظواهرها، عميقة في جواهرها، وقد تتعدَّد فروع هذه الحكاية وتتشعب خيوطها التسريدية إلى أفكارٍ متجدِّدةٍ. وهذا يشي بأنَّ السرد القصصي أو الروائي يبدأ بحكايةٍ ما وينتهي بفكرةٍ أو أفكارٍ متعدِّدةِ الصراع.
إنَّ أهمَّ ما يُميِّز سرديات مصفوفة (النيرن) القصصية ثراء موضوعاتها الإنسانية، والاجتماعية والثقافية والتاريخية والروحيَّة والسياسية والاقتصادية والزمكانية الكونية، وتنوِّع أنساقها الثقافية الخفية والجليَّة. فضلاً عن ذلك تضافر جماليات عنواناتها الانزياحية الفنيِّة، والتقريريَّة السياقية الحسيَّة، والتي كانت بعضاً من عناصر الإدهاش والإمتاع القصصي وموحياته الرمزية. حيث العلاقة الخطيَّة المباشرة وغير المباشرة بين تجلِّيات واقعة الحدث السردية وثريا النصِّ العنوانية.
والتي جاءت مضان أفكارها وحكاياتها الإخبارية تماهياً سرديَّاً وتعبيراً لسانياً صادقاً عن الخروج من خطِّ الفردية الذاتية الضيِّقة إلى سحر الواقعية الذاتية الجمعية العراقية الواسعة. والتي هي مُوئلُ هَمِّ الإنسان وآثار خيباته وخطى وجع نكوصاته اليومية المتكرِّرة التي تمثِّلُ حداثوياً في يوتوبيا المدينة الفاضلة أدب سرديات الانفتاح نحوَ هُويَّة الضدِّ الآخر المقموع والمسكوت عنه قَصديَّاً في ديستوبيا المجتمع غير الفاضل. ذلك هو عالم المسخ والظلم والفوضى والتَّجرُّد عن قيم الإنسانيَّة.
***
د. جبَّار ماجد البهادليّ - ناقدٌ وكاتبٌ عراقيّ