قراءات نقدية

قراءات نقدية

تمثّل السيميولوجيا ـ في أصل تكوينها الفلسفي ـ بحثاً في جوهر العلامة، كما صاغ ملامحها الأولى أفلاطون في جدلياته حول المحاكاة، ثم جاء أرسطو ليُحكِم بنيتها النظرية عبر ربط العلامة بالخطاب والبرهان. غير أنّ التبلور المفهومي الحاسم وقع في أعقاب المناظرة الشهيرة، قرابة عام 300 ق.م في أثينا، بين الفلاسفة الرواقيين والفلاسفة الأبيقوريين، حيث تمّ ترسيخ التصور الثلاثي للعلاقة العلاماتية: الدال (signifiant)، والمدلول (signifié)، والوظيفة القصدية التي تربط الأول بالثاني في سياق تواصلي.

وفي العصر الحديث، استعاد منظّرون كبار، مثل أندريه مارتينيه، برييطو (Prieto)، وجورج مونان (Mounin)، جوهر هذا المبحث، مؤكدين أنّ العلامة لا تُختزل في بعدها اللساني، بل تمتد لتشمل أنماطاً غير لغوية: كعلامات المرور، والرموز الأيقونية، والإشارات الطقسية، لتشكل جميعها نسيجاً من الرموز المتداخلة التي تُسهم في إنتاج المعنى.

- المربع السيميائي: من التضاد إلى التوليد الدلالي:

اعتمد غريماس (A.J. Greimas) في مشروعه السيميائي على ما يُعرف بـ المربع السيميائي، وهو الأداة المنطقية التي تُفكّك البنية العميقة للخطاب، عبر كشف علاقات التضاد (contradiction)، والتقابل (contrariety)، والتضمين (implication). بهذا المعنى، فإنّ النص الشعري ليس مجرد رصف من الكلمات، بل هو شبكة من التوترات الدلالية التي تتحرك وفق نسق عقلي وجمالي معقد، يشتغل على ثنائية الحضور/الغياب، والامتلاء/النقصان، والحياة/الموت.

- سيميولوجيا الشعر: البنية والوظيفة:

حين تنتقل السيميولوجيا إلى ميدان الشعر، فإنها تواجه خطاباً يتجاوز وظيفته الإبلاغية المباشرة ليصير فعلَ خلقٍ جمالي يُعيد تشكيل العالم. فالشعر ـ كما يرى بول فاليري ـ «لغة في لغة»، أي أنه يقيم داخل النظام اللساني لكنه يخلخل قوانينه من الداخل، لينشئ نظاماً فرعياً تُهيمن عليه الإيحاءات والانزياحات.

وهنا تبرز ضرورة التحليل على مستويات متعددة:

- المستوى الصرفي: حيث تُدرس بنية الكلمة وتحولاتها الإيقاعية.

- المستوى الصوتي: الذي يكشف عن الدور الموسيقي للأصوات، بما يحمله من رمزية باطنية.

- المستوى الدلالي: حيث تُستقصى الحقول المعجمية والتشابكات الرمزية.

- المستوى التركيبي: في شقيه النحوي (ترتيب الجملة) والتناصي (حضور نصوص أخرى داخل النص).

- المستوى البلاغي: بما يتضمنه من استعارات وكنايات وصور شعرية.

- الشعر كمنظومة علاماتية:

يرى رولان بارت أن النص الشعري هو «نسيج من الاقتباسات»، وأن كل علامة فيه تنفتح على علامات أخرى، مما يجعل القراءة السيميولوجية فعلَ تنقيب لاكتشاف الدلالات الكامنة خلف ظاهر الكلام. كما أن جاك دريدا يذهب أبعد حين يؤكد أن العلامة «لا تحضر أبدًا حضورًا كاملًا»، إذ يظل المعنى مؤجَّلًا دومًا (différance)، وهذا التأجيل هو ما يمنح الشعر طاقته الإيحائية التي لا تنضب.

- الوظيفة الجمالية للعلامة الشعرية.

في سيميولوجيا الشعر، لا تُفهم العلامة إلا بوصفها حدثًا جماليًا، أي أنها لا تُحيل على شيء خارجها فقط، بل تبني عالَمها الذاتي. فالبيت الشعري قد يوحي بالحب، أو الموت، أو الوطن، لكنه في الآن ذاته يخلق حبّه الخاص، وموتَه الخاص، ووطنَه الخاص، عبر تشكيلات صوتية وصورية ولغوية فريدة. وهذا ما يجعل الشعر، بحسب هايدغر، «إقامة الإنسان في العالم على نحو شعري».

- الشعر بين الحرية والدلالة:

يُمارس الشعر حريته عبر كسر النمط المألوف للغة، لكنه في الوقت ذاته يظل منضبطًا بضرورات التشكيل الجمالي. فكل خروج عن القاعدة في الشعر، إنما هو خروج محسوب يخضع لقوانين داخلية يفرضها النص نفسه. وهنا تتضح أهمية المقاربة السيميولوجية في كشف التوازن الدقيق بين الفوضى المبدعة والنظام الخفي.

- خاتمة

إنّ سيميولوجيا الشعر ليست مجرد منهج نقدي، بل هي أفق فكري وجمالي يتيح لنا قراءة النصوص بوصفها عوالم من العلامات المتداخلة. هي دعوة إلى الغوص في أعماق الكلمة، لا لاستخراج معناها المباشر فحسب، بل لتلمّس اهتزازاتها وظلالها وإيحاءاتها. فالشعر، في نهاية المطاف، هو لغة تتجاوز ذاتها، وعلامة تبحث عن علاماتها، وصوت يسعى إلى الإنصات إلى صمته الداخلي.

تطبيق سيميولوجي على مقطع شعري.

لنأخذ بيتًا للشاعر أبي الطيب المتنبي:

 إذا غامرتَ في شرفٍ مرومِ **فلا تقنعْ بمـا دونَ النجومِ

1. المستوى الصرفي

الفعل "غامرت" يشي بالفعل الإرادي المقرون بالمخاطرة، وهو اختيار صرفي يحوّل المعنى من مجرّد طلب إلى فعل وجودي.

- كلمة "النجوم" جاءت جمعًا، بما يحيل على الكثرة والامتداد، لا على نجمٍ واحد، فيتسع فضاء الطموح.

2. المستوى الصوتي:

التكرار الصوتي لحرف الميم في "مروم" و"النجوم" يخلق انسجامًا موسيقيًا يوحي بالعلو والامتداد.

- المدود الطويلة (غامرت، مروم، النجوم) تمنح البيت انفتاحاً إيقاعياً يناسب دلالته.

3. المستوى الدلالي:

"الشرف المروم" علامة على القيمة المثالية التي تُطلب رغم صعوبتها.

- "النجوم" علامة رمزية على أقصى الغايات، وهي هنا تُجسّد السمو والعلو الميتافيزيقي.

4. المستوى التركيبي.

الجملة الشرطية ("إذا... فلا") تخلق علاقة سببية دلالية: الطموح إلى المجد يقترن برفض القبول بالقليل.

- البنية الثنائية (غامرت/لا تقنع) تقيم تضادًا بنائيًا يزيد التوتر الدلالي.

5. المستوى البلاغي والتناصي

استعارة النجوم غنية الحضور في التراث الشعري العربي، لكنها هنا جاءت ضمن سياق فلسفة المتنبي عن الذات البطولية.

البيت يشتغل على تضاد ضمني بين الأرض/السماء، بين الممكن والمستحيل، ليحيل في النهاية إلى دعوة وجودية للارتقاء.

بهذا التحليل نرى كيف تعمل سيميولوجيا الشعر على تفكيك البنية الشعرية إلى طبقات من العلامات، كلٌّ منها يسهم في إنتاج المعنى الكلي. فالمتنبي لم يكتب دعوة مباشرة للطموح، بل نسج منظومة علاماتية تتضافر فيها الأصوات، والصيغ الصرفية، والرموز الثقافية، لتنتج نصًا مفتوحًا على التأويل.

***

بقلم: عماد خالد رحمة - برلين

في مديح الفضائل الإنسانية في شعر الكستي البيروتي:

أولاً: المدخل الهيرمينوطيقي – سياق القول وفلسفته.

القصيدة تنفتح على بيت مفتاحي يمثل أطروحة الشاعر:

 "أخو الفطانة لا تغنيه فطنته

ما لم تقدمه للعلياء همته"

هنا يضع الكستي البيروتي معادلة قيمية تفضي إلى أن الذكاء وحده لا يكفي ما لم يقترن بالهمّة العالية والعمل الدؤوب. هذا المبدأ يعكس خلفية فكرية قريبة من فلسفة الأخلاق العملية عند أرسطو، حيث الفضيلة ليست في الملكة فقط، بل في الفعل الذي يحقق الغاية.

في السياق التاريخي، تعكس هذه الرؤية المناخ الاجتماعي العثماني المتأخر في بيروت، حيث كانت القيم الأرستقراطية (الشرف، النسب، الذكاء) تتعرض لاختبار أمام قيم الكفاءة والاجتهاد. ومن خلال هذا الوعي، يدعو الشاعر إلى تجاوز التعويل على الحظ أو المظاهر، نحو العمل المثمر، كما في قوله:

"لكن أرى السعي منه في مناكبها

حقاً عليه وإن طالت مشقته"

ثانياً: التحليل الأسلوبي – اللغة والبنية الإيقاعية

القصيدة موزونة، وهو الذي يمنح النص نَفَساً خطابياً متدفقاً، يسمح للشاعر بالجمع بين النبرة الوعظية والاحتفائية. ويظهر في النص استخدام مكثف للأضداد والمقابلات، مثل:

"أسود القلب" مقابل "بياض اللون".

"العسر" مقابل "اليسر".

"القوي" مقابل "العاجز".

هذا التوتر الدلالي يخلق ديناميكية فكرية، ويعكس وعي الشاعر بأن الحقيقة الأخلاقية لا تتجلى إلا من خلال المقارنة بين القيم ونقائضها.

كما أن المعجم الشعري يتحرك بين مجالين:

1. مجال القيم الإنسانية: الفطانة، الهمّة، المعرفة، الوفاء، المروءة.

2. مجال الرموز الطبيعية والكونية: الشمس، النجوم، الليث، البرق.

هذا المزج يضفي على النص بعدًا رمزيًا، إذ تصبح الظواهر الكونية استعارات للقيم البشرية (الشمس رمز النور الفكري، الليث رمز القوة، البرق رمز الحدة واللمعان).

ثالثاً: التحليل الرمزي – البنى الدلالية العميقة

القصيدة تتحرك من فكرة عامة (الفضائل لا تكتمل إلا بالفعل) إلى تجسيد حي لهذه الفضائل في شخص ممدوح محدد. الممدوح هنا يصبح "الرمز الحي" للقيم التي دعا إليها الشاعر في المطلع.

الفطانة + الهمّة: الممدوح ليس فقط ذكياً، بل طموحاً فاعلاً.

المروءة + الوفاء: تكرار الدعوة لمصاحبة "الحر مكثار الوفاء" يؤكد مركزية الوفاء كفضيلة اجتماعية.

الصفاء الداخلي: قوله عن الممدوح "مبارك الوجه صافي القلب" يجعل الصفاء رمزاً للوحدة بين الظاهر والباطن، وهي قيمة صوفية في عمقها.

رابعاً: البنية النفسية للشاعر – صورة الذات في النص

الشاعر في هذا النص ليس مجرّد مادح؛ بل هو مربٍ أخلاقي، يوجّه خطابه أولاً إلى القارئ/المستمع، ثم يجسد المثال في شخص الممدوح. هذه الحركة تكشف عن بنية نفسية قائمة على:

1. نزعة تعليمية: رغبة في ترسيخ قيم السعي، الوفاء، النبل.

2. نزعة مثالية: البحث عن نموذج بشري يجمع الفضائل النظرية والعملية.

3. نزعة اعترافية: حين يقول "أحسنت نية قصدي بالأخاء له" يصرّح بدوره العاطفي والأخلاقي في العلاقة مع الممدوح، مما يمنح النص بعدًا شخصياً.

خامساً: التكامل بين الفكرة والشخصية الممدوحة

القصيدة تُبنى بنيوياً على منطق "المقدمة الأخلاقية" ثم "التجسيد الشخصي"، وهذا النمط شائع في مدائح الحكماء والشعراء الوعاظ. الممدوح، في نظر الشاعر، هو تجسيد لمعاني:

- العقل النيّر: "منوَّر الفكر في ليل المشاكل"

- التوازن النفسي: "في حالة العسر لم يخطر بفكرته غمّ"

الاستقرار الاجتماعي: "من معشرٍ هم كنوز الدهر"

سادساً: الخاتمة التأويلية

في ضوء المنهج الهيرمينوطيقي، يمكن القول إن هذه القصيدة لا تُقرأ فقط كنص مدحي، بل كخطاب قيمي موجّه إلى مجتمع يواجه تحديات تآكل القيم أمام اعتبارات النسب أو الحظ أو المظهر. الممدوح هنا هو "الرمز التأويلي" الذي يمنح النص وحدته الداخلية، ويجعل القيم المجرّدة قابلة للتصوّر والتطبيق.

وبالمنهج الأسلوبي، يظهر أن التكرار والطباق والمجاز الطبيعي أدوات لبناء شبكة من المعاني المتوازنة بين الجمالية والمضمون. أما المنهج الرمزي، فيكشف أن الشاعر لا يستخدم الأسد والبرق والشمس لمحض الزخرفة، بل لترسيخ صورة الفضائل الإنسانية كقوى طبيعية لا تزول.

***

بقلم: عماد خالد رحمة - برلين

..........................

نص القصيدة:

أخو الفطانة لا تغنيه فطنته

ما لم تقدمه للعلياء همته

ومن ترفع قدراً دون معرفةٍ

تبرأت منهُ في دنياه رفعته

وأسود القلب لم تحمد مآثره

ولو زهت ببياض اللون عمته

والحظ في الناس رزق ساقه قدرٌ

منهُ لكل امرء تأتيه قسمته

لكن ارى السعي منه في مناكبها

حقاً عليه وان طالت مشقته

وان من قال قد تأتي الأمور بلا

سعي وفيما ادعى كانت ادلته

كم عاجزٍ طال باع والقويُّ غدا

قصير باعٍ ولم تنفعهُ قوَّته

والليث أمسى على ما فيهِ من شرسٍ

مع البعوضة لا تخفى قضيته

قلنا له نادرُ الأشياء ليس لهُ

حكمٌ يرى عند من زانتهُ حكمته

وانما نحن بالأمر الذي ظهرت

اسبابهُ وجرت في الناس كثرته

فاجنح إلى ما له اهل النهى جنحت

تكن فتى اعربت عنه فتوته

واسلك طريقاً بها تلقى النجاح ولا

تصحب من الناس من تؤذيك صحبته

ولازم الحر مكثار الوفاء ودع

عنك الدنيَّ الذي قلت مرؤته

وان مدحت فكن للمدح منتقداً

بمن تباهي النجومَ الزهرَ مدحته

مثل الحسين الذي جأت مقاصده

بكل خير وقد طابت سريرته

مولى روت عنه أبناء العلا خبرا

وحدثت عن صفات الروض سيرته

حسن الثناء له في ذاته شغفٌ

لولا معانيه لم تظهر مزيته

مبارك الوجه صافي القلب قد عجنت

بالحلم والجود والانصاف طينته

صفا به الوقت عزا واصطفاه لنا

وكيف لا نصطفيه وهو صفوته

حسوده من علاه لم يصب غرضا

ولم تكن اخطأته قط نعمته

من لا يقر بما حازت مناقبه

من الكمال فقد زاغت بصيرته

منوَّرُ الفكر في ليل المشاكل قد

فاقت على الشمس أشراقاً أشعته

في حالة العسر لم يخطر بفكرته

غمٌّ وفي اليسر لا تبدو مسرته

فهو الشفوق الذي نفنى الهموم به

وهو الصديق الذي تبقى مودته

سميره في نعيم لا يرى نكداً

ولا تحط عن الاقران حرمته

من معشرٍ هم كنوز الدهر وهوبهم

فريدة العقد تلقاه وزينته

فيا له اللَه من شهم له شرف

قد أشرقت في سماء العصر طلعته

من مشرق الشمس قد سارت لمغربها

مقرونةً بتحايا الحمد شهرته

ذو منطق لا أرى دراً يقاس به

ومظهر زانت الأيام بهجته

لو يسمع البرق ما يحكى لقلت له

من أين أنت إذا لاحت اسرته

احسنت نية قصدي بالاخاء له

إذ كان أشرف من ترجى أُخوته

فأوصلتني لما أرجوه من أمل

ونية المرء في الدنيا مطيته

سواه يحوي المنى بالحظ وهو حوت

بالعلم رتبةَ ازمير فضيلته

هنأته وهناء الأكرمين غنىً

بها ولي منه ما ترضاه شيمته

وصيغة المدح قد نادى مجوهرها

يا سعد ارخ وفت بالمجد رتبته"

 

للأديبة التونسية فاطمة محمود سعد الله.. قراءة في خطاب سردي ما بعد حداثي

"الجندر ليس ما نحن عليه، بل ما نفعله مراراً وتكراراً " بهذه العبارة المفصلية من جوديث بتلر في Gender Trouble، تنكشف هشاشة التصور الجوهراني للهوية الجندرية، وتظهر الذات بوصفها أدائية لغوية، قابلة للتشكل والتفكك. ومن هذا الأفق النظري، تُقرأ رواية «حورية والوحش» لا كسرد ذاتي فحسب، بل كنص يحفر في البنى العميقة للذات الأنثوية، ويفكك التمثيلات المستقرة للجسد، والهوية، والرغبة ضمن خطاب روائي ما بعد حداثي تتقاطع فيه اللغة مع الجندر، والصدمة مع المقاومة...

تنتمي الرواية إلى جنس السيرة الذاتية النسائية، لكنها تتجاوز الطابع التقريري إلى تفكيك البنى الخطابية التي صاغت الأنثى كتمثيل رمزي داخل ثقافة ذكورية. وتسائل الرواية ثبات الهوية في ظل وعي متحول بالذات واللغة، حيث تتحول الكتابة إلى فعل مقاومة سردية ضد التشييء والتواطؤ الرمزي. بناءً على ذلك، تطرح هذه الدراسة سؤالاً محورياّ: كيف تعيد الرواية بناء تمثيلات الجسد والهوية الجندرية؟ لا بوصفها خطاباً عن المعاناة، بل كبنية رمزية تقاوم التشييء، وتفكك فاعلية الذكر بوصفها مرجعية ثابتة...

وانطلاقاً من هذا التصور، تعتمد هذه القراءة مقاربة مركبة تنفتح على:

- النقد التفكيكي، لتعريه ثنائيات المعنى وكشف لا استقراريته،

- والتحليل النفسي اللاكاني، الذي ينظر إلى الذات بوصفها بنية لغوية تتأسس عبر الانقسام والاختلاف.

- والنقد النسوي ما بعد البنيوي كما تبلور في طروحات بتلر وراويل كونيل، حيث يفهم الجندر كأداء قسري يمكن فضحه أو إعادة صياغته.

هذه المناهج لا توظف كمقولات جاهزة، بل كعدسات تأويلية تحاور الرواية وتفكك طبقاتها. وتنبثق من ذلك مجموعة من الأسئلة التحليلية: كيف يتموضع الجسد الأنثوي كحقل للمعنى لا كمجال للتشييء ؟ كيف تفكك الرواية الهوية الجندرية بوصفها بناءً هجيناً يعبره القلق والتوتر والرمز؟ وما الدور الذي يلعبه المرض والموت الرمزي في إنتاج وعي نسوي بديل؟ وكيف تسهم اللغة الشعرية والتناصات الصوفية في تشكيل خطاب ذاتي متشظّ يعيد تعريف الذات في مواجهة مؤسسات القمع الرمزي؟

بهذه الرؤية، تقارب «حورية والوحش» لا بوصفها حكاية عن الحب أو الألم، بل كخطاب سردي متداخل الطبقات، يكتب الذات الأنثوية وهي تتشكل داخل تماس دائم بين الغياب والحضور، وبين المقاومة والانكسار، وبين الجسد بوصفه أثراً ؟ لغوياً، والهوية بوصفها فعلاً تأويلياً لا يكتمل ....وبهذا التأسيس المفهومي، يغدو الانتقال إلى الفصل الأول ضرورة تأويلية، حيث تبدأ البنية السردية في تجسيد تلك التوترات الرمزية بين الأثر والهوية، وبين الغياب كقيمة سردية والحضور كإمكانية تأويل.

الجسد كأثر، والهوية كتمازج رمزي

يفتتح الفصل الأول، الموسوم بـ"في حقل الذكريات"، البنية الرمزية للرواية، بوصفه تمهيداً سردياً يتقاطع فيه الحسي والذهني، الواقعي واللاواعي، عبر ثنائية مركزية تتمثل في شخصيتي عمر وحورية. فمنذ العنوان، يقدم الحقل بوصفه فضاءً دلالياً مشبعاً: ليس مجرد مكان زراعي، بل مسرحاً للنبش في الذاكرة، حيث يتقاطع الزمان (الذكريات) بالمكان (الحقل)، لتنكشف تشققات الهوية الذكورية وتصدعاتها في مواجهة حضور أنثوي رمزي.

تتأسّس هذه البنية على تقابل رمزي جوهري:

عمر: العقلاني / الواقعي / الذكوري

حورية: الحلمي / اللاواعي / الأنثوي

غير أن هذا التقابل لا ينتج ثباتاً سردياً، بل يفجر توتراً داخلياً يعرّي هشاشة الذات الذكورية، التي تبدو مترددة بين منطق السيطرة ورغبة الانجذاب. ففي ضوء التحليل النفسي (اللاكاني)، يمكن النظر إلى حورية بوصفها تجل للرغبة المكبوتة في لاوعي عمر، لا ككائن واقعي بالضرورة. فهي لا تحضر كموضوع حب تقليدي، بل كمرآة تعيد له تمزقات ذاته، وتجسد انكشاف الذكورة حين تواجه حدود تمثيلها.

تنهض هذه الثنائية على استعارات متشابكة، منها:

المشروع الزراعي: هل هو رمز للخصوبة، أم تعويض عن فشل وجودي؟

حورية: هل هي كائن حي، أم تمظهر شبحي لرغبة مشتهاة؟

كل هذه الأسئلة تفرغ العلاقة من بعدها العاطفي لصالح قراءة رمزية تعري البنية الذكورية في لحظة ارتباكها، حين تدرك أن الآخر الأنثوي لم يعد موضوعاً سلبياً، بل قوة رمزية تقوض استقرارها وتظهر تصدعها.

ضمن هذا السياق، يقارب اللقاء بين عمر وحورية كـفعل انكشافي لا عاطفي، يكشف عن تفكك الهوية الذكورية في مواجهة الآخر الأنثوي لا بوصفه موضوعاً للرغبة، بل ككيان دلالي يخلخل موقع الفاعل الذكوري ويعيد توزيع السلطة الرمزية داخل النص.

الذات الأنثوية بين التصدع والتأمل

يعيد الفصل الثاني، "خطان متوازيان"، رسم ملامح الهويات النسائية في مجتمع آخذ في التحول، حيث تتوسط حورية فضاءً تأملياً يعري تناقضات القيم السائدة. من خلال سرد غير خطي يتكئ على تناص صوفي وبصري، تقوض الرواية الثنائيات المتجذرة (مثل ذكر/أنثى، أصالة/تحرر)، وتعيد تشكيل الذات الأنثوية بوصفها كائناً رمزياً متشظياً ومنفتحاً على المعنى.

يتكامل هذا الفصل مع سابقه في إنتاج خطاب تفكيكي، يتجاوز الطرح النفسي إلى مساءلة الهوية بوصفها بنية لغوية وتاريخية، ويحول السرد إلى مرآة للذاكرة الجماعية النسوية. إذ لا تسعى الرواية إلى الخلاص، بل تكشف تفكك الذات الفردية والنسوية ضمن زمن التحولات، حيث تتحوّل اللغة من وسيلة تواصل إلى أداة تفكيك وتأمل وجودي.،

ينتقل السرد في الفصل الثالث (في الحمام الشعبي) من الواقع الخارجي إلى تمثيل الجسد الأنثوي كفضاء رمزي للمقاومة والقلق. الحمام الشعبي يتحول من طقس يومي إلى لحظة مكاشفة، تعري هشاشة الذات، وتكشف عن قلق لا شعوري تمثله "الكتلة" بوصفها انبثاقاً نفسانياً مكبوتاً عبر منظور نسوي، يعاد للجسد موقع الفعل والوعي، لا الخضوع، وتصبح الكتابة وسيلة مقاومة وتمكين.

أما الفصل الرابع (غيمة تمطر في الذاكرة)، فيرسم سردية الحنين والانتماء، حيث يتحول المطر إلى محفز رمزي للذاكرة العاطفية والوطنية، وتغدو العلاقة مع "عمر" تمثيلاً حباً ووطناً وهوية. يستدعي النص فلسفة "زوربا" كمجاز للحرية والرقص، ضمن سرد شاعري تتداخل فيه الأزمنة والتجارب.

كلا الفصلين الثالث والرابع يقدمان صورة المرأة ككائن متوتر بين الهشاشة والقوة، بين الجسد والروح، بين الحب والانتماء، ويجعلان من الذات الأنثوية مشروعاً تأويلياً مفتوحاً يقاوم النسيان ويعيد تعريف العلاقة بالزمن والوجود.

الجسد في مواجهة الانهيار – تمثيل الهاجس الوجودي في السرد النسوي

في الفصل الخامس (حورية)، تبلغ الرواية ذروة التحول من التمثيل الرمزي للجسد الأنثوي إلى سردية وجودية تنهض على التصدع والقلق. يتحوّل المرض من كيان بيولوجي إلى مجاز للانهيار النفسي والمعرفي، ويغدو "الوحش" تعبيراً عن اللايقين والفراغ الكامن خلف مظهر التماسك.

الجسد، الذي شكّل في الفصول السابقة فضاءً للحلم والتأمل، يتبدى هنا كـ"نص مأزوم" يحمل آثار الانهيار الداخلي. كما تصف جوليا كريستيفا في حديثها عن الجسد في الأدب النسوي:

"الجسد الأنثوي ليس موضوعاً للتمثيل، بل مجال للانكسار اللغوي والانفجار الدلالي"

اللغة السردية تتخلى عن انتظامها، وتنفتح على مجاز شعري يغرق في التناصات الصوفية والطبيعية (القمر، البحر، المرآة)، بما يعكس تشظي الذات وتفكك مرجعية الزمن. في موازاة ذلك، يعاد تشكيل الذكورة لا كسلطة، بل كحضور مرافق، يشكل توازناً هشاً مع ذات أنثوية تتأرجح بين الخوف والرغبة في النجاة.

اذا الفصل الخامس بيان سردي عن القلق المعاصر للأنثى، حيث يصبح الجسد موقعاً للتوتر بين الحياة والموت، بين الصمت والكلام، وتتجلى الكتابة بوصفها مقاومة رمزية لانهيار الكينونة.

الجسد المهدّد والهوية في مرآة الألم.

يتخذ السرد في الفصلين، الفصل السادس (في قاعة الانتظار) والفصل السابع (بين القبول والرفض) منحى تصعيدياً على مستوى التوتر الوجودي، إذ يتحول الجسد الأنثوي من فضاء رمزي للبوح والتمرد إلى نقطة انهيار تواجه فيها الذات أسئلة الحياة والموت، والمكانة الاجتماعية في لحظة العجز.

المرض كزلزال وجودي

يروى السرطان لا كحدث بيولوجي، بل كشرخ كينوني يعيد صياغة علاقة البطلة بجسدها وبالعالم. يصبح اسم "ناجية" تجسيداً مريراً للمفارقة:

"تكرر النداء ثلاث مرات دون أن يكون لناجية حضور أو صوت".

وفي مشهد يعكس الانهيار الداخلي، تقول الساردة:

"وقع هذا الخبر من نفس حورية وقع صاعقة سقطت على سقف هش".

الذات المريضة – من الإنكار إلى الرفض الوجودي

تسلك حورية مساراً نفسياً متأرجحاً بين الإنكار والخوف، يتجلّى في رفضها للخضوع للعلاج الكيمياوي، باعتباره تمطيطاً للألم لا خلاصاً منه:

"لن أستسلم... ما الذي يجبرني على تجرع العذاب قطرة قطرة؟"

بهذا تعيد الكاتبة تعريف النجاة لا كاستمرار فيزيولوجي، بل كحفاظ على الكرامة والاختيار.

اللغة السردية – المشاعر في هيئة صور

تصاغ التجربة المرضية من خلال لغة شعرية استعارية تعكس الداخل المهتز للبطلة:

"هطل من عينيها سيل بلل فيها كل شيء"،

"فراغ المقعد الذي تحول فجأة إلى كهف".

هذه الصور تحول الألم إلى بنية سردية داخلية، يتماهى فيها المكان مع الشعور.

الجسد والخذلان – مقاربة نسوية

تكشف الرواية عن هشاشة البنية الاجتماعية في التعامل مع المرأة المريضة، حيث تتحول الرعاية إلى عبء، والأنوثة إلى عبء مضاعف. تقول سلمى:

"زوجها استكثر عليها بضعة أشهر من الرعاية... صار يطلب منها أن تنام في مكان آخر لأن أنينها يزعجه".

وبالتالي في هذين الفصلين السادس والسابع، لا تصف الرواية المرض فقط، بل تفكك الثقافة المحيطة به، وتعيد طرح الجسد الأنثوي بوصفه موقعاً لتقاطع الألم الشخصي بالعنف الرمزي. كما تعبر الكاتبة عن تمثيل أنثوي حداثي يعترف بالضعف لا بوصفه هزيمة، بل شكلاً من المقاومة الهادئة. وبهذا المعنى، تتحقق مقولة إيلين شووالتر:

"الكتابة النسوية ليست فقط عن المرأة، بل عن التجربة المعاشة للجسد والهوية في وجه البُنى القمعية."

من التمزّق النفسي إلى الوعي النسوي

تمثل الفصول من الثامن إلى العاشر تصعيداً دلالياً ونقطة انعطاف في السرد، حيث تنتقل حورية من الذروة النفسية للانهيار إلى استعادة رمزية للذات، ثم إلى انكشاف تراجيدي لمأساة نسوية تتجاوز التجربة الفردية.

ففي الفصل الثامن "الهروب"، يتحوّل الطريق إلى مرآة لانفجار داخلي، فتسقط البطلة أزمتها النفسية على الطبيعة من خلال تقنية الإسقاط، ويتجسّد الوحش بوصفه حالة ذهانية داخلية:

"يكبر ذاك الشبح ويطول... ويتمدد داخلها حتى يهيأ لها أن شرايينها تنتفخ وتنفجر".

هنا، تقود المرأة سيارتها في لحظة هيجان، وكأنها تقود وعيها نحو الاصطدام بالحقيقة، قبل أن يعيدها الواقع الذكوري إلى موقع الخضوع، لا بالاحتواء بل بالصدمة.

أما في الفصل التاسع "الفراولة"، فتحضر الطبيعة كرمز للخصوبة والشفاء، وتصبح الزراعة فعلاً تحررياً يعيد للبطلة سلطتها الجسدية والمعنوية:

"كانت ترى حبات الفراولة تتخفى بين الأوراق... كعذراء تتستر من عيون المتحرشين".

يتحول الجسد هنا من مصدر ألم إلى طاقة إنتاجية، تنخرط فيها البطلة ضمن مشروع نسوي جماعي يكسر عزلة المعاناة.

اما في الفصل العاشر (في المأتم)، تبلغ الرواية ذروتها التراجيدية من خلال استعادة حكاية "ناجية"، التي تمثل فقداً مزدوجاً: بيولوجياً واجتماعياً، تقول الرواية:

"نجت ناجية جنيناً لأن رحم والدتها كان لها حضناّ حافظاً... ولكنها لم تنج من المرض شابة".

ينكشف المجتمع كقوة قمعية تتواطأ ضد المرأة في لحظة هشاشتها، عبر الإهمال، الفقر، والخذلان العاطفي.

تتكامل هذه الفصول في صياغة خطاب نسوي نقدي، تتحول فيه المرأة من موقع الألم الخاص إلى صوت جمعي يعرّي بنية القهر. وكما ترى جوليا كريستيفا، فإن "الكتابة الأنثوية ليست فقط استعادة للجسد، بل إعادة تشكيل للغة ذاتها"، وهو ما تحققه الرواية بتكسير الخطية، وتكثيف الرموز، وتحويل الألم إلى أداة كشف معرفي ونقدي.

الألم كوعي نسوي

يشكّل الفصلان الحادي عشر "هندة.. والمحطة الأخيرة" والفصل الثاني عشر "جلسة الشيميو الأولى" منعطفاً سردياً كثيفاً في رواية حورية والوحش، حيث تقدم ثنائية وجودية تتمثل في موت "هندة" وبداية علاج "حورية"، ضمن مقاربة تجمع بين الاجتماعي والرمزي.

ثنائية الحياة والموت

يجسد موت هندة مأساة نسوية صامتة، تختزل تقاطع المرض مع العزلة والفقر، حيث تتكرر العبارة:

"وماتت هندة..." لتؤكد فداحة الخسارة، وتحول الموت إلى رمز طبقي – نسوي، يعكس التهميش المجتمعي للمرأة المريضة.

بالمقابل، تشكل تجربة العلاج لدى حورية انتقالاً من الإنكار إلى الاعتراف، ومن الانهيار إلى بداية التحدي، يتجلى في العبارة: "حورية في هذه اللحظة ليست هي... وهذا الجسد لا تعرفه."

البنية السردية والرمزية

يعتمد السرد على ضمير الغائب الداخلي، محملاً بلغة شعرية ومجازات جسدية (كالاحتراق، الفراغ، والماء)، تعمّق من أثر الألم. يتحول الجسد إلى ساحة صراع بين البقاء والانطفاء، بينما يقرأ العلاج كـ"طقس عبور" نحو استعادة الذات.

الدلالة النسوية

تمثل "هندة" المرأة المهملة التي تموت في الظل، رمزاً لـ"الصامتات"، بينما تظهر "حورية" كصوت يقاوم لا بالانتصار الجسدي بل بالاعتراف بالهشاشة. بذلك، تنقل الرواية خطابها النسوي من التنديد المباشر إلى تفكيك ثقافة الصمت والقهر.

كما تشير الناقدة إلين شووالتر: "الكتابة النسوية ليست مجرد رواية عن النساء، بل تفكيك للغة التي حجبت تجاربهن."

اي الفصلان يقدمان سردية معقدة عن الجسد المهدد، حيث يتقاطع الألم الفردي مع نقد اجتماعي حاد، ويتحول المرض من حدث بيولوجي إلى تجربة وجودية تكتب بلغة مقاومة، جمالية وحميمية في آن.

بين الحلم والوعي – تعدد تمثلات الأنوثة

يشكّل الفصل الثالث عشر "مملكة الحور" والرابع عشر"خير زاد" بنية سردية مزدوجة تبرز تحول الرواية من التلقي العاطفي إلى الوعي النقدي. تجسد "حورية" كرمز يوتوبي للأنوثة الحالمة، ذات حضور طيفي يتماهى مع الجمال والعاطفة في فضاء شبه صوفي، كما في مشاهد الطائرة والغيوم التي تحاكي الهروب من الواقع. بالمقابل، تقدم "خير زاد" صورة المرأة الواعية، الناقدة، ذات الموقف الثابت، التي تكشف هشاشة التصورات الثقافية السائدة عن الجسد والهوية.

"كانت حورية تسبح في خيالها، أما خير زاد فكانت تغرز قدميها في الأرض كجذع نخلة".

تكشف العلاقة بين الشخصيتين عن توتر سردي دال: الأولى تميل إلى الحلم والرغبة، والثانية تنزع نحو الحقيقة والموقف. هذا التباين لا يطرح كتناقض بل كتكامل سردي، يفكك من خلاله النص الصور النمطية للمرأة، ويعيد تشكيلها عبر ازدواجية الحلم/الوعي، والضعف/القوة.

وبالتالي يسهم هذان الفصلان في توسيع الأفق الجندري للرواية، حيث لا تختزل الأنثى في دور واحد، بل تكتب ككائن متعدد، يعيش توتراته ويصوغ وعيه داخل عالم لا يخلو من الأسطرة والصدمة معاً...

الشعر، البحر، والجسد – كتابة الذات في أفق التحول

يقوم الفصل الخامس عشر (بين الشعر والبحر) على جدلية رمزية بين البحر والشعر، حيث يشكل المكان (سيدي بوسعيد) فضاءً علاجياً تتقاطع فيه الجغرافيا مع الذاكرة والروح. تتجمع الشخصيات النسوية الثلاث (حورية، خير زاد، ريحانة) في مشهد مشبع بالدلالة الجمالية والحميمية، وتتحول الطبيعة (البحر، مشموم الياسمين، القهوة العالية) إلى وسائط استعادية تربط الذات بذاتها.

يستثمر السرد تقنيات الأداء المشهدي، ويعيد عبر سيميائية الجسد صياغة معنى الأنوثة: فتساقط شعر حورية يقابله تضامن شعري وجسدي من صديقتيها، يجسد تفكيكاً رمزياً لمعيارية الجمال ويؤسس لأنوثة بديلة قائمة على الوعي والمشاركة الوجدانية.

"لن نتركك وحدك... من اليوم كلنا بلا شعر، لكن بكرامة كاملة."

في لحظة شعرية داخل النص، تستعيد البطلة صوتها عبر القصيدة، ويتحول الشعر إلى ممارسة تطهيرية ومقاومة داخلية. ويكشف الحوار مع ريحانة عن توتر بين الإبداع والتمركز حول الذات، مما يعكس تفاوتاً في درجات النضج بين الوعي الأدبي والنفسي.

ينتهي الفصل بحركة دائرية من النشوة إلى الحزن، في استدعاء رمزي لهشاشة النفس أمام المرض، حيث لا يلغي البحر الألم، بل يحتويه ضمن أفق كوني أوسع.

يمثل هذا الفصل ذروة رمزية في الرواية، يركب فيه النص عناصر الجسد، والذاكرة، والطبيعة، والشعر ضمن سردية نسوية شفائية تتجاوز التوثيق، نحو مساءلة عميقة لمفهوم الحياة داخل تجربة الألم.

الهوية المتصدعة والمرآة القاسية

يندرج الفصلان السادس عشر (انا . لست أنا) والسابع عشر (الحلم) في مسار السردية النفسية الرمزية للرواية، ويعكسان ذروة التمزق الوجودي الذي تعيشه "حورية" على تخوم المرض، بين تهشيم الهوية الجسدية وتجربة الموت الرمزي.

ففي الفصل السادس عشر، "أنا. لست أنا"، تتجلى حالة التنافر الذاتي في صورة امرأة لا تتعرف على جسدها. تشكل المرآة هنا استعارة للانكشاف العاري، حيث يتصدع تصور الذات أمام تساقط الشعر وتغيّر الملامح. تتكرر ثنائية (أنا/لست أنا) كعلامة على تشظي الهوية، والاغتراب عن الجسد كمسكن مألوف. السرد يوظف خطاباً داخلياً شجياً، تتحول فيه المرآة من أداة تأمل إلى شاهد على الاندثار.

الرنين المغناطيسي كطقس عبور ميتافيزيقي

أما الفصل السابع عشر، "الحلم"، فيتجاوز عتبة المرض الجسدي إلى تجربة موت رمزي، تستحضر عبر تصوير الرنين المغناطيسي. يتحول هذا الجهاز إلى فضاء قبر رمزي، تمتزج فيه الأصوات، والضوء الأزرق، والكوابيس، باستدعاءات دينية (الكفن، نكير ومنكر)، لتكوين مشهد حلمي ثقيل بالرموز. يفتح الحلم هنا مساحة للاوعي، حيث تتداخل الحياة بالفناء، والرغبة بالخلاص.

الشعرية الرمزية والتكثيف التأويلي

يعتمد السرد في كلا الفصلين على لغة عالية الشحنة الرمزية، تتخللها صور حسية (الطين، الغيوم، الدلو المثقوب، ظل الذات) تستدعي بعداً تأملياً . الخطاب الديني يحضر كتناص مع الرهبة، لا الخلاص، في توظيف يعمق من أثر الوجود على حافة العدم.

حيوية الرغبة في النجاة

ورغم تصاعد الرموز الموتية، تظل البطلة مدفوعة برغبة دفينة في الحياة: التشبّث بالأدعية، توق الشفاه للهواء، وحنين غامض إلى الآخر. هنا يتبلور الصراع بين الرغبة في الرحيل، ونداء الحياة الذي لا يخبو كلياً...

يقدم الفصلان لوحة داخلية مكتظة بالتوتر، حيث تكتب تجربة المرض لا كحدث بيولوجي، بل كتحول وجودي يعيد صياغة العلاقة بين الجسد، الوعي، والكون. عبر تكثيف سردي وشعري، ترتفع الرواية من البوح الفردي إلى تأمل إنساني في هشاشة الكينونة.

يندرج الفصل الثامن عشر "الحج إلى القبور" والفصل التاسع عشر "استئصال الثدي" ضمن سردية نسوية تستبطن الألم بوصفه تجربة وجودية وجندرية. إذ تتحول زيارة قبر الأم إلى طقس حميمي يستدعى فيه الحنين والأمان، في مقابل غرفة العمليات التي تجسد تهديداً لهوية "حورية" الجسدية والرمزية.

استئصال الثدي يتجاوز بعده الطبي، ليُكتب كفقد وجودي، يكشف عن تقاطعات السلطة الجسدية، الاجتماعية، والذاتية. فالجسد الأنثوي يعاد تموضعه كحقل مقاومة، تواجه فيه البطلة معايير الأنوثة النمطية وتعيد بناء وعيها بذاتها.

يعتمد السرد على مونولوج داخلي وتكثيف بلاغي (المفارقة، المجاز)، حيث تتجاور المقبرة والمقهى، الألم والتسطح، في مفارقات تظهر تناقض التجربة الإنسانية.

يمثل هذين الفصلين ذروة التحول في وعي البطلة، وتعيد من خلالها الرواية مساءلة العلاقة بين الجسد والهوية، عبر كتابة تحفر في العمق النفسي للمرأة المريضة/المقاوِمة.

الحب والقمع: بين العاطفة والسلطة

يتأسس التحليل في هذا القسم على تقاطع العاطفة والقمع كما يتجليان في الفصلين: العشرين ("الحب") والحادي والعشرين ("الاعتقال") من رواية حورية والوحش. يشكل هذان الفصلان لحظة سردية مفصلية، تنكشف فيها الهوة الحادة بين ذروة الوجد العاطفي والانتهاك المؤسساتي، ما يكشف عن وعي نقدي يزاوج بين الحميمي والسياسي.

في الفصل العشرين، يقدم الحب كخبرة تطهيرية تعيد تشكيل الذات وتقاوم آثار التمزق الجسدي والنفسي. تتداخل الرموز البلاغية (اليمامتان، زهرة الأوركيد، تمثال الشمع) لتنتج خطاباً رمزياً حسياً يماثل بين التجربة العاطفية والتجلي الصوفي، حيث تستعاد الأنثى كمركز للانبعاث، ويعاد للرجل موقعه كفاعل معنوي، ضمن علاقة تحاكي توازناً كونياً مفترضاً ...

في المقابل، يقدم الفصل الحادي والعشرون خطاباً مناقضاً يتسم بكثافة توثيقية وواقعية، من خلال تجربة الاعتقال العبثي التي يتعرض لها "معز". يفكك النص آليات العنف المؤسساتي، حيث يختزل الجسد إلى موضوع للاستجواب والتشييء، ويجرم الفكر لمجرد انتمائه إلى الحلم. يتحول السرد هنا إلى فضاء بوليسي يعكس هشاشة الحريات الفردية أمام منظومة قمعية لا تعترف لا بالحب ولا بالفكر.

ينتج هذا التوازي بنية سردية ثنائية:

الفصل العشرون: فضاء للحضور، التعافي، والعاطفة المستعادة؛

الفصل الحادي والعشرون: فضاء للفقد، التشييء، والانتهاك الرمزي للجسد والمعنى.

بهذا البناء، تبلور الرواية موقفاً أخلاقياً حاداً يرى في الحب طاقة خلاصية، وفي القمع تهديداً جوهرياً للكرامة الإنسانية. وتعيد مساءلة إمكانات الأمان العاطفي في غياب العدالة، مؤكدة أن الذات لا تصان بالمشاعر وحدها، بل بالضمانات القانونية التي تحمي الجسد والكرامة.

تحولات الصداقة والمنافسة الثقافية

ينبني الفصل الثاني والعشرين على دراسة دقيقة لتحولات العلاقة بين "حورية" و"ريحانة"، حيث تنتقل من إطار تضامني أنثوي إلى علاقة تنافسية مشبعة بالتوتر والغيرة المقنعة. تقدّم "ريحانة" في هذا الفصل بوصفها نموذجاً لصورة "الصديقة-الخصم" (Frenemy)، وهي علاقة مشروطة تتراوح بين المساندة الظاهرية والرغبة الخفية في الإقصاء.

يوظف السرد آليات تحليل نفسي ناعم لتفكيك هذه العلاقة، كاشفاً أن طموح ريحانة المهني والثقافي لا يستند إلى منجز ذاتي متين، بل إلى محاولة ملء فراغ غياب حورية، وإعادة تشكيل المجال الرمزي وفق نزعة فردية مفرطة.

العنوان "الريحان ينقلب شوكاً " ليس مجازياً فحسب، بل دال على انهيار قيم التآزر والوفاء تحت ضغط الأنا المتضخمة. تعيد الرواية بذلك طرح سؤال مشروع الشرعية داخل الحقل الثقافي: هل يكتسب عبر الاجتهاد والاعتراف المتبادل؟ أم عبر الاستحواذ الظرفي الذي ينهار أمام اختبار الجمهور؟

ثنائية الألم والانبعاث بين الفردي والجمعي

ينخرط الفصلان الثالث والعشرين (اليد الواحدة .. قد تصفق) والفصل الرابع والعشرين (اي معجزة ستنجيك يا كبدي) من الرواية في معالجة سردية متقاطعة لثنائية الألم الجسدي والظلم الاجتماعي، من خلال تجربتين متوازيتين: استئصال الثدي لدى "حورية" واعتقال "معز" ظلماً...

في الفصل الثالث والعشرين، يتحول جسد المرأة المبتور إلى فضاء لإعادة بناء الذات ضمن رؤية نسوية مقاومة، حيث يقدم الألم لا كمأساة بيولوجية، بل كبنية رمزية تستولد المعنى. يعاد تشكيل مفهوم الأنوثة خارج معايير الجمال التقليدية، ليغدو "النهد الواحد" علامة على الاستمرار، والكتابة فعلاً للشفاء والتجاوز.

أما في الفصل الرابع والعشرين، فتستعاد صورة المجتمع القامع من خلال مأساة الطالب المعتقل، حيث يقدم "عمر" كأب ممزق، وكمواطن عاجز أمام عدالة مختلة. يمثل الإفراج عن "معز" لحظة "تفريج" سردية تعيد ترميم العلاقة بين الخاص والعام، بين الذاتي والسياسي.

تكشف الرواية، من خلال التوازي البنائي بين الحدثين، عن قدرة الإنسان – والمرأة تحديداً على الانبعاث من رماد الجراح، عبر التضامن، الوعي، واستعادة الصوت السردي. ويظهر الجسد، كما المؤسسة، كساحة صراع رمزي، تنتهي فيه المحنة بانفتاح على أفق أكثر إنسانية وعدالة.

من الجرح الفردي إلى الفعل الجماعي

ينتقل السرد في الفصلين الخامس والعشرين (العودة) والسادس والعشرين (ميلاد ودادية مرضى السرطان) من مرحلة التلقي السلبي للألم إلى لحظة تحول وجودي تنبع من عمق التجربة النسوية مع الجسد والمجتمع. تتجلى عودة "حورية" إلى فضاء "الركن النير" بوصفها فعلاً استعادياّ، يتجاوز الشفاء الجسدي نحو إعادة بناء الذات عبر الثقافة والمشاركة، في ما يمكن وصفه بـ"السرد الشفائي" (healing narrative) الذي يؤطر الجرح باعتباره نقطة انطلاق، لا مجرد نهاية مأساوية.

يطرح هنا فهماً ما بعد حداثي لوظيفة الأدب، لا كحقل نخبوي مغلق، بل كأداة للتعبير الجماعي والتضامن الاجتماعي. يظهر ذلك في تأسيس "الودادية"، التي تمثل انتقالًا من الذات المتألمة إلى الآخر/الجماعة، في مقاربة تستند إلى مبدأ "التمكين عبر التجربة" كما في أدبيات السرد الذاتي النسوي. تتوزع الأدوار بين المثقفين والناشطين، في حراك سردي يدمج الرمزي بالميداني.

كما يسجل تطور لافت في العلاقات النسوية داخل الرواية، حيث تتحول علاقات التوتر السابقة بين "حورية"، "خير زاد"، و"ريحانة" إلى تحالف تضامني يعلي من قيمة العمل المشترك، مكرساّ نموذجاً نسوياً بديلاً يتجاوز ثنائية التنافس والانكسار إلى التكافل والبناء…

الكتابة كخلاص صوفي

يتّسم الفصل الأخير (الورقة الأخيرة .. لن تسقط) بطابع رؤيوي رمزي يبتعد عن السرد التقريري ليقترب من الكتابة الصوفية ذات النزوع الحلولي، حيث تتماهى البطلة مع رمز "الشجرة"، بما تحمله من دلالات كونية: الجذور، الثبات، والخصب. هذه التماهيات تتناغم مع مفهوم "الحلول" كما يستثمر في التصوف الإسلامي،لا سيما عند ابن عربي حيث تذوب الذات الفردية في الكينونة الكونية، ويغدو الجسد بوابة للسمو لا للخذلان.

تتحقق ثنائية الحضور/الغياب، وهي ثنائية مركزية في أدبيات المقاومة الرمزية، لتطرح سؤالاً حول معنى الخلود في الذاكرة الجمعية، لا في الجسد الفاني. إذ بينما تسعى "حورية" إلى الانصهار مع الطبيعة، يحاول "عمر" الإمساك بحضورها المحسوس، في صراع تأويلي حول الحب والزوال.

تتسع الوظيفة الشعرية للغة في هذا الفصل، حيث تتحول الاستعارات والمجازات إلى أدوات تأويلية تعيد بناء الواقع لا تمثيله، ويغدو الجمال الأنثوي معادلاً رمزياً للحياة المستمرة رغم الفقد....

تشكل هذه الفصول الثلاثة الأخيرة ذروة سردية تتحول فيها الأنثى من كيان هشّ إلى ذات خلاقة، ومن الفردية المتألمة إلى التضامن الجماعي. كما تعيد الرواية تأطير الجسد بوصفه موقعاً للمعنى لا للمأساة، وتكرس الأدب كفعل مقاومة واستمرار، لا مجرد تمثيل للحظات الانكسار...

الموقع الجمالي والنظري للرواية في السياق النسوي العربي

يتبلور البعد التحويلي لرواية حورية والوحش بجلاء حين تقرأ في أفق المقارنة مع نصوص سردية أعادت كتابة الحكاية الخرافية ذاتها، كما في رواية Beauty: A Retelling of the Story of Beauty and the Beast لروبن ماكنلي، التي تمنح البطلة صوتاً داخلياً وتعيد موضعتها كذات فاعلة داخل منظومة أبوية متزعزعة. غير أن حورية والوحش لا تكتفي بإعادة توزيع الأدوار أو تفكيك ثنائيات الحكاية الأصلية، بل تنفتح على توتر خلاق بين الامتثال والمقاومة، بين الوفاء للتقاليد والانزياح عنها، ما ينتج سرداً ذا كثافة رمزية عالية، يتجاوز الإطار الخرافي ليؤسس لفضاء سردي تشظي تتقاطع فيه الأسئلة الوجودية مع البنى الجندرية، وتستثمر فيه أدوات التفكيك والنقد النسوي دون الوقوع في الحسم الأيديولوجي أو التنميط الخطابي.

بهذه الكيفية، تساهم الرواية في إثراء السرد النسوي العربي بوصفها مشروعاً كتابياً يزعزع مركزية المعنى ويعيد إنتاج الذات الأنثوية في صيرورة لغوية غير مكتملة، حيث الجندر لا يقدم كجوهر، بل كأداء تتقاطع فيه اللغة مع الجسد واللاوعي. وإذا كانت رواية "الباب المفتوح" للكاتبة لطيفة الزيات تموضع الذات الأنثوية داخل خطاب تحرري اجتماعي صريح، فإن حورية والوحش تنقل تلك الذات إلى تخوم التفكك واللايقين، حيث تتحول الهوية إلى سؤال مفتوح لا يبتغي الاستقرار بل المراوغة. وفي مقابل المنفى الجسدي والصمت الحاد الذي يوسم أدب هدى بركات، تستعيد هذه الرواية الجسد بوصفه أثراً لغوياً قابلاً للانتهاك والكتابة في آن، بينما تتجاوز البعد الإيروتيكي الطاغي في سرديات أحلام مستغانمي إلى أفق شعري وجودي يتوسل الغواية لا من أجل المتعة، بل بغية كشف الندبة وتأويل اللامرئي .

هكذا تتجلى حورية والوحش لا كمجرد إعادة كتابة نسوية، بل كخطاب سردي معقد، يعيد مساءلة تمثيلات الجسد، ويقوض سرديات الهيمنة، ويقترح تموضعاً جديداً للأنوثة في المتخيل السردي العربي.

بهذا المعنى، تشكل حورية والوحش إسهاماً نوعياً في إعادة تشكيل السرد النسوي العربي من الداخل، ليس عبر تقديم صورة بديلة للمرأة أو استبدال ثنائية الهيمنة/الخضوع بثنائية معكوسة، بل من خلال تفكيك بنية التمثيل ذاتها، وكشف أن كل صورة هي نتاج لغوي هش، وأن الذات الأنثوية لا تمنح سلفاً، بل تتشكل وتتفكك داخل فضاء الكتابة بوصفها أثراً دالاً لا جوهراً مكتملاً . فالرواية تشتغل على تخوم اللغة والجسد، الرغبة والصمت، لتؤسس خطاباً سردياً يتجاوز التقريرية النسوية إلى أفق تأويلي مقلق، تنصهر فيه الأدائية الجندرية مع الهشاشة الوجودية، وتعاد فيه مساءلة الذات بوصفها فعلاً تأويلياً لا يكتمل.

***

دراسة نقدية من إنجاز فاطمة عبد الله

للشاعرة (تنسيم حومد سلطان)

تنسيم حومد سلطان، مواليد 1988، من سوريا – حلب، مارست مهنة التعلم منذ 14 عاماً ولم تزل على رأس عملها، شاركت في ما يقارب 100أمسية أدبيّة في حلب، حائزة على المركز الثاني في مسابقة اتحاد الكتاب العرب لشعر التفعيلة عن قصيدة "نزاريّة"، لها صوتها الأنثوي الخاص، تشتغل على التيار الوجودي المادي، في عالمها الأدبي.

 لقد اخترت من قصائدها العديدة، قصيدة (تفاصيلُ حب أسمر)، وهي قصيدة تدخل في عالم التيار (الوجودي المادي)، (1). وهو تيار قليل من اشتغل عليه في عالم الشعر والقصة والرواية والفلسفة في عالمنا العربي. ومن أهم الأدباء العرب الذين اشتغلوا على التيار الوجودي هو "عبد الرحمن بدوي"، حيث يُعد من رواد الفلسفة الوجوديّة في العالم العربي. كما أن هناك أدباء آخرون تأثروا بالفكر الوجودي وتضمنت بعض كتاباتهم مفردات من هذا التيار الذي يعتبر (الحريّة) منطلقاً للوجود الإنساني، مثل نجيب محفوظ ومحمود المسعدي.

البنية السرديّة للقصيدة:

 (الشعراء يتبعهم الغاوون... في كل وادٍ يهيمون، ويقولون ما لا يفعلون).. فكيف يكون حال الشاعر إذا هام في عالم الحب والعشق والشوق والرغبة في اللقاء؟!. نعم، هم الشعراء إذا ما حظر شيطان الشعر، تفجرت عندهم منابع العطاء الابداعي، وغالباً ما يغيب العقل عندما يكون البوح عن الحب والرغبة في لقاء الحبيب، لتحظر العاطفة بكل قوتها وجنونها، وتفجر الخوالج النفسيّة والروحيّة للشاعر فيها.. لا تحدّها حدود أو يحول دون تجليها ستار، وبالتالي ستتحطم ستائر المضمر والمحرم والمسكوت عنه.

 هذا هو حال الشاعرة "تنسيم حومد سلطان" التي هام الشوق ببطلة قصيدتها، فراحت في بوحها الوجودي النزعة، تسردُ كيف استطاع اللقاء مع الحبيب أن يطفئ كل نيران الشهوة روحاً وجسداً، وكأنها فنانة تشكيليّة ترسم لوحة عشق تعرف كل تفصيل تشكيلها وحركاتها، ومزج أو نسج ألوانها الساطعة منها والداكنة، الحارة منها والباردة، حيث تنقلك عقلاً وعاطفةً عبر هذه اللوحة، إلى مشهد سينمائي حسي تعيش معه حرارة اللقاء وعمق وتفاصيل مفرداته.  القصيدة جريئة في بوحها، وبالتالي هذا يتطلب منا التعامل مع كل بنيتها بشفافيّة ومصداقيّة عاليتين.

 تبدأ الشاعرة بوحها في كلمة (قرأت)، والقراءة هنا معرفة وحريّة معاً، وأعمق أنواع القراءة هي التي تقرأ سيمياء أو دلالات المفردات أو الأصوات والصور، إضافة إلى الوجه وتعابيره، وما تخنزن هذه السيماء من رغبة أو شوق أو حزن أو فرح... فكيف تكون دلالات هذه القراءة إذا كانت في موال شاعرة تجيد البوح والتعبير عن خوالج روحها ورغبات جسدها، أو في صوت أنثى هامها الشوق، فدعتها أنوثتها المشبعة برغبة اللقاء المحرّم، وقد جعل منها الشوق والرغبة طفلة تتلوى مثل داليةٍ، نالها عطش الروح والجسد، وهي بحاجة لمن يروي عطشها، فوجدت هناك في لقاء حبيها (الخطر- المحرم)، بقعة ضوء تحقق رغبتها العارمة في قطف أنفاس عشيقها.

قرأتُ وجهك في موالِ شاعرةٍ

في صوت أنثى دعاها المنبرُ الوعرُ

في طفلةٍ تتلوى مثل داليةٍ

في كل بقعةِ ضوءِ خانها المطرُ

بيني وجلدكَ أنفاسٌ سأقطُفها

على جناح براقٍ أسمه الخطرُ

 تناجي حبيبها، الذي تعتقد أنه خلق لها، منذ بدء الكون، وعبر كل أزمنته السحيقة، حيث كانت الأشواق له تتشكل عندها حتى اختمرت، ومع اختمارها ضاعت كل قدرات مفردات اللغة في التعبير عن عمق وحرارة وصف حبيبها.. بل إن عمق شوقها له جعلها ترى في عينيه الحقول كلها قد ازدهرت بالخصب.

كأني منك بدءُ الكون َأزمنةٌ

سحيقةٌ في مدى الأشواقَ تختمرُ،

أحتارُ في لغتي، أرنو ولا لغةٌ

تجيدُ وصفك ... لا يعلو لها خبرُ

مددت ظلكَ في عينيّ فانبجستْ

كلَ الحقولِ، رؤىً بالخصب تزدهرُ

 عندما تم اللقاء أخيراً بينها وبين حبيبها الذي خلق لها، أصبح جسمها بين يديّه أغنيةَ شوقٍ وعشقٍ تجاوز المألوف في تأثيره، فلم يعزف لها وتر من قبل، فراحت تحرك كوامن الروح والجسد عندها معاً لعذوبتها... هنا عند اللقاء لم تحرجها أنوثتها من دعوة ثغره لتقبيلها وسقيها عطش الروح والجسد الذين استسلما أخيرا لعالم الشهوة والرغبة العارمة.

 وصار جسمي على كفيك أغنيةً

تدور في البالِ

غنى لحنَها وترُ

دعوتُ ثغركَ في لقيايَ

من عطشٍ

فاستسلمَ الجسمُ

وانحازتْ له النذرُ

 مع العناق والتحام الجسدين، راحت أنوثتها تئن وتصرخ من طغيان ثورة الجسد، فعاشت عالم الرغبة والشهوة بكل (معاجمها).. وهنا تشبه العاشقة نفسها بمريم العذراء، ولكن النخلة غير النخلة، والثمر غير الثمر.. فتحت شجرة عاشقة (تنسيم)، استيقظ الشرر، ولم يعد الخوف له حضوره فكل شيء أصبح مباحاً، فهذا الثغر الذي عانت شفتاه عطشُ الروح والجسد، عاد ليرتوي من وصل اللقاء، حتى أصبح هذا الوصل كأنه الوحي وأنات الشهوة عندهما السور.

أنوثة صرخت، تسري مَعاجِمها

كأنهرٍ سبعٍة من حولها سدرُ

وأشعلتْ مريمُ العذراءُ

ضِحْكَتَها

مِن تحتِ نخلتَها

واستيقظَ الشررُ

تهزَّ رمحاً إلى التِنِّين،

تصرعهُ

وتفتحُ الثغرَ، عُد للماءِ يا نهرُ

على الشِّفاهِ دعاه الوصلُ

نلفظُهُ

كأنهُ الوحيُ أو أنَّاتنا

 السورُ

 مع لقاء الشفاه، بدأت تشعر عاشقة (تنسيم) بأن أسراب أنفاس حبيبها، راحت تتهاوى على عنقها، فاستفزت دمها، وأخذت قبلاته على جيدها تشعل نيران جسدها، بينما أكفه التي راحت تداعب تضاريس جسدها، أخذت تعتصر خمر كل تلك التضاريس، في الوقت الذي أفاض لقاء الجسدين ينابيع الماء من مسامات جسديهما كأنه غيمة عشق هطلت مطراً يروي عطش الروح والجسد معا. أما نهديها اللتان فاضت بهما النشوة العارمة، فقد انتصبتا بهمس وحفيف النشوة وتباعد ما بينهما كأنه بوابة قد أزاحت كل كبت وعطش تلك السنين العجاف... في ذروة نشوة اللقاء، تهمس عاشقة (تنسيم) لعشيقها عند ارتعاشة الروح والجسد:

أسرابُ أنفاسِه تهوي على عُنقي

فتستفزُ دمي، والنارُ تنتشرُ

فالجيدُ مني صلاةُ الضوءِ

إذْ طلعت،

وفي رُبا كفهِ الأعنابُ

 تُعْتَصرُ

والماءُ من نَبعه يطفو على جَسدي

والغيمُ من قبضَتي يروي

ويَنحدرُ

كأن نهديَ باب الزيحِ

مفتتحٌ

بهمسِ أنثى يناغي بوحَهَا السَّحرُ

أنا الحَريقُ وأنتَ الماءُ

مُعجزتي

ينشقُ – إذا ما اقتربنا-

 ذلك القمرُ.

البنية الفنيّة للقصيدة:

 يقال: (أكذب الشعر أعذبه)، وأنا أقول: إن أجرأ الشعر أصدقه، خاصة إذا كان الشعر يتعلق بعواف الإنسان ومشاعره وأحاسيسه، وهذا الصدق تجلى واضحاً في قصيدة "تنسيم حومد سلطان" (تفاصيل حب أسمر)، لما امتازت به الشاعرة من جرأة في التعبير عن عمق عواطفها، في هذه القصيدة دون خوف أو وجل.

 إن التجربة الشعريّة في جوهرها تقوم على الفرادة الذاتية، التي تتيح للشاعر أن يقول: أريد أن أبدع شيئا لم يبدعه أحد غيري، الأمر الذي يجعل هذه التجربة تتماهى أو تتداخل بكل عناصرها في عمليّة الخلق الشعري الابداعي الى درجة يصعب فيها على الناقد أن يخرج من دائرة هذا الإبداع، لذلك هو يسعى جاهداً أن يحدد ماهيّة هذه العمليّة الابداعيّة من خلال فكرة العمل الابداعي ذاته، وما استبطن هذا العمل من عاطفة، ووعي، وخيال، ووهم وواقع، وذاكرة، وحرية.

أولاً اّلصّورة اّلشّعريّة في القصيدة:

 تعتبر الصّورة الشّعريّة من أهمّ المرتكزات والرّوافد الفكريّة والجماليّة الّتي تثري الدلالة، وتغني المعنى في النّصّ . ومالا شكّ فيه أنها من أهمّ الوسائل التّعبيريّة، الّتي تفوق اللّغة التّعبيريّة المباشرة، إذ تمثّل مواقف الشّاعر الذّاتيّة.

 فالصورة الشعريّة بتعبير آخر، تحتل أهميّهً كبيرةً في تشكيل البناء العام للعمل الأدبي، على اعتبار أن العمل الأدبي أو النص بعمومه، هو صورة يقوم الكاتب أو الأديب في تجسيدها شعراً أو نثراً. فهي تعبر أيضاً عن جماليّة البناء الفني في فضاءات الإبداع. وهي التي يقوم عليها العمل الأدبي بشكل عام والشعري منه بشكل خاص، لذا هي لا تعبر فقط عن إحساس وعاطفة الأديب أو المبدع فحسب، بل تعبر أيضاً عن حقائق وصور من واقع الإنسان عموماً، والأهم أنها تعبر عن تجارب الشاعر وخلجاته ومكوناته التي يكشف عنها بطريقه بالغه الدقة والروعة بعد أن رسمها بحواسه، وعبر عنها بعاطفته المشحونة بالإحساس. وهذا ما يجعل المتلقي لهذه الصورة أن يعيش التجربة مع الشاعر فيتفاعل معه ويفهم تجربته ويحس بها.

 نعم.. إن الصورة في سياقها العام، هي تركيب لغوي يُمكّن الشاعر من تصوير معنى عقلي وعاطفي، أو واقعي أو مجازي متخيل، فالصورة الشعريّة غالباً ما تكون متخيلة، بيد أن الشاعر المبدع يستطيع أن يشكل من دلالات الصورة المتخيلة، واقعا حسيّاً يشعر به المتلقي أو يحس بوجوده، ويتمتع بجماليّة الصورة، وينفعل معها عبر التجسيد والتجريد والمشابهة.

 وكل هذه الفنيات المتمثلة في الصورة ودورها، استطاعت الشاعرة" تنسيم" أن تجسدها في قصيدتها التي استطاعت حقيقة عبر صورها بكل تجلياتها المتخيلة والحسيّة منها، أن تنقل المتلقي إلى عوالم الروح والجسد واللهفة والشهوة التي تجلت في قصيدة (تفاصيل حب أسمر).

 (مددت ظلكَ في عينيّ فانبجستْ كلَ الحقولِ، رؤىً بالخصب تزدهرُ.. أنوثة صرخت، تسري مَعاجِمها كأنهرٍ سبعٍة من حولها سدرُ.. أسرابُ أنفاسِهِ تهوي على عُنقي فتستفزُ دمي، والنارُ تنتشرُ.. فالجيدُ مني صلاةُ الضوءِ إذْ طلعت، وفي رُبا كفهِ الأعنابُ تُعْتَصرُ.. ).

 هكذا نجد "تنسيم" ترسم بالصورة كل ما تحس أو أحست به في لقاء الحبيب، لقد استطاعت أن تجعل المتلقي يتابع ليس ما تبوح به أو تصفه من عواطف ومشاعر وأحاسيس في حالة اللقاء، فحسب، بل نقلته إلى العيش مع كل أحاسيسها وعواطفها وحركاتها وسكناتها وأنينها وكأنه جزء من مشهد اللقاء ذاته.

 لقد امتازت الصورة الشعريّة عند الشاعرة "تنسيم" بالتطابق بين المتخيل والواقع، فصدق الصورة لا يحققه المتخيل وحده وإنما مدى قدرتها على مطابقة الواقع، بحيث شكلت كل الصور في بنيه القصيدة انسجاماً تاما بين أفكار القصيدة وتلازماً مع مشاعر وأحاسيس الشاعرة. كما امتازت أخيراً بالشعور والحيويّة، فحيويّة الصورة في القصيدة استطاعت أن تنقل المتلقي إلى عالم حدثها ليشارك الحدث وكأنه جزء منه.

اللغة في القصيدة والمحسنات البديعية والبيانيّة:

 تمثل اللغة آليّة استراتيجيّة هامة في البناء الشعري فهي كما يقول أحد النقاد (هي السفينة التي تنقل الشاعر والمتلقي معاً إلى آفاق المجهول، من أجل الكشف عن الرؤى الهاربة في المتاهات السريّة البعيدة،) وهذا ما يدفع المتلقي إذا كانت اللغة واضحة وشفافة إلى عيش عالم القصيدة والتفاعل معها.

 لقد استطاعت الشاعرة " تنسيم" أن تكسر في لغتها منطق العلاقات المألوفة، وتنحرف عن المألوف في بحثها الدائم عن الخلود والتجدد، وهذا ما وجدنا في قصيدة (تفاصيل حب أسمر). ولأن اللغة هي ماء القصيدة وتربتها الخصبة، فقد عملت الشاعرة على صياغة لغة جديدة حيويّة بسيطة في نسيجها ونظام مفرداتها وصورها وحيويتها وعلاقتها بأحاسيس الشاعرة ومخيلتها ورؤاها.

 أما على مستوى المحسنات البديعة والبيانيّة في القصيدة، فالقصيدة تراكمت فيه الانزياحات، والاستعارة، والكناية، والتشبيه، إضافة إلى ارتفاع نسبة الكثافة في التّخييل، والترابط في نسيج النص، فكل ذلك خلق درجة عالية من الانسجام في بنية القصيدة وعالمها الفكري والدلالي. مع تأكيدنا دائما بأن الإكثار من الانزياحات والتشبيه والاستعارة والكناية وغيرها من مفردات علم البيان في بنية أي نص، يحول كل ذلك إلى حرفة عند الشاعر في صياغة نصه، في الوقت الذي هي فيه حالة جماليّة تضفي على النص رونقاً وموسيقى هادئة تحرك إحساس المتلقي وخلجات نفسه. وهذا ما تحقق فعلاً في بنية قصدية (تفاصيل حب أسمر).

التعبير والعبور عند الشاعرة:

"التّعبير" و"العبور":

 إذا كان (التّعبير) في الشعر يتمّ في يقظة الحواسّ، نتيجة لاستحضار الموجودات بهذه الحواس ذاتها، فإن (العبور) يتمّ بالرؤيا المجرّدة والتخيل، من هنا فـ (التّعبير) يقتضي يقظة الحواس، وعند غياب هذه اليقظة، يتمّ (العبور) عبر التّخيُّل والرّؤيا المجرّدة، وهذا العبور تجسد في بنية القصيدة كلها، فمعظم الصور التي تراكمت في النص كانت متخيلة، إلا أن طبيعة حدث القصيدة وقدرة الشاعرة وإبداعها، تحول هذا المتخيل إلى تجسيد حسي كأنه مشهد سينمائي كما بينا في موقف سابق.

المستوى الايقاعي في القصيدة:

 إنّ الشّعر صيغة موسيقيّة، فليس الشّعر في الحقيقة إلّا كلامًا مموسقاً، تنفعل لموسيقاه النّفوس، وتتأثّر به القلوب. وإلى هذا ترتكز أهمّيّة الموسيقا في الشّعر، فهي تستطيع أن تُقيم بناءً مُتكاملًاً يجمع بين التّأليف القائم في أعماق أحاسيس الشّاعر، وبين غيره من المُتلقّين، في قدرة فنّيّة تجعل إيقاعات النّفس تجذب الآخرين، بواسطة هذا النّغم الشّعريّ.

 ويظهر المستوى الايقاعي في اتجاهين هما:

المستوى الخارجي ويشمل الوزن:

 أي بحور الشعر وأوزانها التي يستخدمها الشعراء. وهو – أي المستوى الخارجي - عنصر مهم من عناصر القصيدة، ولا يمكن فصلُه عن سواه من مُكوّناتها، وليس الوزن مُجرّد تفعيلات مُنفصلة عن المعنى، تُلقّن وتُحفظ، ولكنّه لصيق بالمعنى وغير مُنفصل عنه، ويساعد على تأكيد المعنى، وتثبيته في الذّهن، وصونه من الضّياع. وإضافة إلى الوزن تأتي القافية: وّهي أصوات تتكون في أواخر الأشطر أو الأبيات من القصيدة، تكوّن عبر تكرارها في مدّد زمنيّة منتظمة رتماً موسيقيّاً خاصاً في القصيدة.

أما المستوى الداخلي للموسيقى:

 ويدخل فيها المحسنات البديعيّة والبيانيّة كالجناس والطباق، وسائر المُحسّنات البديعية، مع تركيب الكلام وتتريب الكلمات وتّخيّرها، وكلّ ما من شأنه أن يُعين على تجويد البنية، والرّنين في أبيات القصيدة.

 إن كل هذه الفواعل الموسيقيّة في القصيدة استطاعت الشاعرة "تنسيم حومد سلطان" أن تحققها في قصيدتها (تفاصيل حب أسمر). فاختيارها للبحر "البسيط" الذي يمتاز بانسيابيّة وزنه، إضافة لجماليّة تفعيلاته الموسيقيّة الفريدة "مستفعلن فاعلن مستفعلن فعلن"إذ تمنحه إيقاعاً منتظماً ومرناً. وبعداً جماليّاً، حيث يتناسب هذا البحر مع مختلف الأغراض الشعريّة، وخاصة الغزل والوصف والحماسة والرثاء، مما يجعله خياراً شائعاً بين الشعراء. أما القافية فقد اتكأت القصيدة على حرف (الراء)، ويتميز هذا الحرف بأهميّة جماليّة كبيرة أيضاً، فهو يضفي على القصيدة إيقاعاً مميزاً وتأثيراً صوتيّاً لافتاً. ويُعتبر، حرف الراء من الحروف الجهوريّة، أي التي تتميز بصوت قوي وواضح، وتكراره في القافية يولد إيقاعاً تردديّاً يتماهى مع المعنى الذي يعبر عنه الشاعر.

 أما على مستوى الرتم الموسيقي الداخلي، فقد جاءت القصيدة مشبعة بالمحسنات البيانيّة،إن كان على مستوى التشبيه والكناية والاستعارة، أو على مستوى تركيب الكلام وتتريب الكلمات وتّخيّرها، أو على مستوى "النسيب" الذي تجلى في القصيدة بكثرة الأدلة مشيراً إلى التهالك في الصبابة، والافراط في الوجد واللوعة والتصابي والرقة. وكلّ ما من شأنه أن يُعين على تجويد البنية، والرّنين في أبيات القصيدة.

قرأتُ وجهك في موالِ شاعرةٍ

في صوت أنثى دعاها المنبرُ الوعرُ

في طفلةٍ تتلوى مثل داليةٍ

في كل بقعةِ ضوءِ خانها المطرُ

بيني وجلدكَ أنفاسٌ سأقطُفها

على جناح براقٍ أسمه الخطرُ.

***

د. عدنان عويّد

كاتب وباحث وناقد أدبي من سوريا

......................

 1- الفلسفة الوجوديّة الماديّة: تيار فلسفي يميل في جوهره إلى الحريّة التامة، غير المشروطة بأيّة مسؤوليّة، أو أيّة قيود في التفكير والممارسة. وهي تؤكد على تفرد الإنسان، كونه صاحب تفكير حرٍ وإرادةٍ حرّة واختيارٍ لا يحتاج إلى موجه. وبالتالي على الإنسان في المذهب أو التيار الوجودي، أن يتخلص من كل موروث عقدي، أو أخلاقي يؤثر على رغباته وطموحاته الذاتيّة، كي يمارس حياته بحريّة مطلقة دون أي قيد. والوجوديّة تعني من اتجاه آخر، أن وجود الإنسان الفرد يسبق ماهيته الإنسانيّة كمجموع أو ككتلة اجتماعيّة مهما كانت مرجعياتها دينيّة أو عرقيّة أو سياسيّة.. الخ، فماهية الكائن الفرد هي ما يحققه فعلاً عن طريق وجوده، ولهذا هو يوجد أولاً، ثم تتحدد ما هيته ابتداء من وجوده. ولكن هذا التأكيد في الوجوديّة ليس أكثر من دعوة خادعة، كي يجد الإنسان نفسه أو يؤكد وجوده. ولكي يجد أو يؤكد الإنسان نفسه في الفهم الوجودي، عليه أن يتحلل من القيم، وينطلق لتحقيق رغباته وشهواته بلا قيد. وعلى هذا الأساس، يبدأ فهم معنى الوجود عبر الدخول بالتجربة الوجوديّة الفرديّة الداخليّة القائمة على التخيل والأحاسيس الداخليّة المشبعة بعواطف ورغبات بحت ذاتيّه، لذلك فالفرد الوجودي يقوم بمعايشة الواقع وجدانيّا أكثر من معايشته عقليّا، ومن خلال هذه المعايشة مع الواقع للذات المقهورة والمشيئة والمستلبة أصلاً، يبرز عنده اكتشاف المعاني الأساسيّة في الوجود الإنساني، وهي معانٍ تمثل: العدم، والفناء، والموت، والخطيئة، واليأس، والعبثية، والعنف، ثم القلق الوجودي. إنها بتعبير آخر، فلسفة العدم.

راجع دراستنا (الفلسفة الوجودية. د. عدنان عويّد) على العديد من المواقع الالكترونية. مثل: موقع تللسقف – صحيفة الثورة السوريّة – صحيفة المثقف – وساحة التحرير.. وغيرها.

.........................

(تفاصيلُ حب أسمر)

تنسيم حومد سلطان

قرأتُ وجهك في موالِ شاعرةٍ

في صوت أنثى دعاها المنبرُ الوعرُ

في طفلةٍ تتلوى مثل داليةٍ

في كل بقعةِ ضوءِ خانها المطرُ

بيني وجلدكَ أنفاسٌ سأقطُفها

على جناح براقٍ أسمه الخطرُ

كأني منك بدءُ الكون َأزمنةٌ

سحيقةٌ في مدى الأشواقَ تختمرُ،

أحتارُ في لغتي، أرنو ولا لغةٌ

تجيدُ وصفك ... لا يعلو لها خبرُ

مددت ظلكَ في عينيّ فانبجستْ

كلَ الحقولِ، رؤىً بالخصب تزدهرُ

وصار جسمي على كفيك أغنيةً

تدور في البالِ

غنى لحنَها وترُ

دعوتُ ثغركَ في لقيايَ

من عطشٍ

فاستسلمَ الجسمُ

وانحازتْ له النذرُ

أنوثة صرخت، تسري مَعاجِمها

كأنهرٍ سبعٍة من حولها سدرُ

وأشعلتْ مريمُ العذراءُ

ضِحْكَتَها

مِن تحتِ نخلتَها

واستيقظَ الشررُ

تهزَّ رمحاً إلى التِنِّين،

تصرعهُ

وتفتحُ الثغرَ، عُد للماءِ يا نهرُ

على الشِّفاهِ دعاه الوصلُ

نلفظُهُ

كأنهُ الوحيُ أو أنَّاتنا

 السورُ

 أسرابُ أنفاسِه تهوي على عُنقي

فتستفزُ دمي، والنارُ تنتشرُ

فالجيدُ مني صلاةُ الضوءِ

إذْ طلعت،

وفي رُبا كفهِ الأعنابُ

 تُعْتَصرُ

والماءُ من نَبعه يطفو على جَسدي

والغيمُ من قبضَتي يروي

ويَنحدرُ

كأن نهديَ باب الزيحِ

مفتتحٌ

بهمسِ أنثى يناغي بوحَهَا السَّحرُ

أنا الحَريقُ وأنتَ الماءُ

مُعجزتي

ينشقُ – إذا ما اقتربنا-

 ذلك القمرُ.

***

القصيدة على البحر البسيط

يمثل محمود درويش حالة استثنائية في تاريخ الشعر المعاصر، ويعد كقامة شعرية متفردة نموذجاً مباشراً لخصوصية القصيدة التي سرعان ما تتحول إلى مزاجاً عاماً لمريدي الشعر بصفة خاصة وللثائرين والعاشقين والرافضين لنظمهم السياسية الطاغية بصفة عامة، لذا فإن متعة تناول سيرة وأشعار محمود درويش تتأتى من رصد حالته الشعرية وتجربته داخل القصيدة التي يصر أن يكون فيها حاضراً بغير غيابٍ، وربطها بواقع تجعل القارئ يعيش يومياته المتأرجحة بين الثورة والعشق والرفض واسترجاع ذكرياته.

وتفرد درويش لم يتحقق من تفرد حالته التاريخية بوصفه مواطناً فلسطينياً يعاني وشعبه من الطغيان الصهيوني فحسب، بل إن حالة التفرد تلك تحققت من خلال لغة رمزية مسكونة بالدلالات التي لا تنقضي، فالقصيدة الدرويشية تشبه بالرسم الجرافيتي الذي يعبر عن حالة راهنة تستدعي المشاركة والتعاطف معها وهذا سر من أسرار تفرد قصيدته، بجانب أن محمود درويش كان حريصاً على أن يجعل كل حالات الغياب حضوراً مشهوداً ليس مستحيلاً، ومن ثم يستطيع القارئ والمتابع لنصه أن يكون حضوره القرائي موجوداً بالقصيدة بغير ملل أو كلل.

الوُجُوْهُ تَتَعَدَّدُ:

وليس بغريب أن تتعدد وجوه محمود درويش الشعرية إذا ما رجعنا إلى بدايات التكوين مروراً بمراحل تقعيد وتكريس القصيدة لديه، فالبدايات عند محمود درويش تبرهن على هذا التعدد ومزية التنوع في قصيدته التي تجعله شاعراً مرغوباً لدى قارئه بتعدد وتنوع حالاته ووجوهه هو أيضاً. فبين بدايات شبيهة بالنص الشعري عند نزار قباني وبدر شاكر السياب مروراً بالنصوص المباشرة لعبد الوهاب البياتي وأدونيس حينما كان غير مضلل بنصه المغاير لطبيعة اللغة، انتهاء بصور شعرية ترصد حالات ومقامات كشعر أحمد أبي الطيب المتنبي، نجد محمود درويش يصنع لنفسه كرسياً في ديوان الشعر العربي حتى يكاد بعض النقاد المتأخرين يصفونه بأنه الوريث الشرعي للقصيدة العربية من أجل حفاظه على تنوع الشعر واختلاف أغراضه والتمسك برصانة قواعده مع السماح لبعض التجاوز الشعري الذي يضمن للقصيدة معاصرتها ومطابقتها لمقتضى الحال كما يزعم البلاغيون القدماء.

وهذه الوراثة الشعرية الشرعية لمحمود درويش هي التي مكنته من أن يمتلك خصوصية الشهادة الشعرية للتاريخ المعاصر، فإذا كنا قد نذهب بالرأي بأن أدونيس هو المالك الحصري للقصيدة في تنوعاتها الفلسفية المعاصرة، فإن محمود درويش بحق هو مؤرخ الواقع الإنساني شعرياً، لأنه بإيجاز استطاع رسم خارطة شعرية ممتدة ترصد حالات متباينة مثل تباين المناخات والطقس فيمكنك أن تلتمس واقعك الاجتماعي أو السياسي أو الشخصي من خلال التماس تلك الحالة من القصيدة نفسها.

الثَّوْرَةُ حُضُوْرٌ عَبْرَ الشِّعْرِ:

لم يكن غريباً التحاف الثوار بدول الربيع العربي مصر وتونس وليبيا وأخيرا سورياً بديوان محمود درويش، ولم تكن تلك الصور والمشاهدات التي رأينا من إلقاء شعري لبعض قصائده التحريضية على الأنظمة السياسية الفاسدة إلا توثيقاً تاريخياً لهؤلاء الثوار على نزاهة ونقاء قضيتهم الثورية، بل يمكننا الزعم بأن قصائد محمود درويش التحريضية الثورية وإن كانت فلسطينية الرائحة والتوجه إلا أنها كانت باعثاً قوياً لفورة الثائرين وشحذ عزائمهم باعتبار أن الثورات العربية في بدايتها كانت ياسميناً تارة وبيضاءَ تارة أخرى وهي بذلك تشبه القصيدة الدرويشية التي يمثل فيها العطر واللون ملمحين رئيسيين فيها.

(نم، يا حبيبي، ساعة

حتى يعود الروم، حتى نطرد الحراس عن أسوار قلعتنا

وتنكســــــر الصــــــواري

كي نصفق لاغتصاب نسائنا في شارع الشرف التجاري

نم يا حبيبي ساعة حتى نموت

هي ساعة للانهيار

هي ساعة لوضوحنا

هي ساعة لغموض ميلاد النهار

كم كنت وحــــدك، يا ابن أمّي

يا ابن أكثر من أب

كم كنت وحـــــدكْ)

ويعود الشاعر التحريضي بوجهه المباشر غير المقنع ليحرض على الثورة وإن كانت القصيدة كما أوضحنا تحمل رائحة وطعم ولون التراب الفلسطيني لكن ما فلسطين إلا صورة رمزية لشتى البقاع العربية التي تمارس عليها الأنظمة العربية السياسية كل صنوف وفنون الفساد والطغيان السياسي غير المشروط:

(وضعوا على فمه السلاسل

ربطوا يديه بصخرة الموتى،

و قالوا: أنت قاتل

أخذوا طعامه والملابس والبيارق

ورموه في زنزانة الموتى،

وقالوا: أنت سارق

طردوه من كل المرافيء

أخذوا حبيبته الصغيرة،

ثم قالوا: أنت لاجيء

يا دامي العينين والكفين

إن الليل زائل

لا غرفة التوقيف باقية

ولا زرد السلاسل

نيرون مات، ولم تمت روما

بعينيها تقاتل

وحبوب سنبلة تجف

ستملأ الوادي سنابل)

وإذا أردت أن تكتشف ماهية الثورة ودلالتها ودور محمود درويش التحريضي عليها فعلى القارئ دوماً أن يتجه إلى مواضعة (الولادة) لغة واصطلاحاً شعرياً درويشياً داخل ديوانه، فلفظة الولادة التي يصر محمود درويش على استخدامها الحصري لها هي معادل موضوعي لمفهوم الثورة والخروج الشرعي على الحكم السياسي غير الشرعي، والولادة داخل القصيدة تحمل دلالات متعددة كتعدد وجوه محمود درويش الشعرية نفسها، فهي تشير إلى ثورة آتية، أو رمزاً تاريخياً يحمل استشرافاً مؤقتاً للمستقبل:

(كانت أشجار التين

وأبوك..

و كوخ الطين

و عيون الفلاحين

تبكي في تشرين!

- المولود صبي

ثالثهم..

و الثدي شحيح

و الريح

ذرت أوراق التين!

حزنت قارئة الرمل

وروت لي،

همسا،

هذا الغضن حزين!

- يا أمي

جاوزت العشرين

فدعي الهمّ، ونامي!

إن قصفت عاصفة

في تشرين..

ثالثهم..

فجذور التين

راسخة في الصخر.. وفي الطين

تعطيك غصونا أخرى..

و غصون!)...

دَرْوِيْشُ ولَذَّةُ الحَكْيِ:

عندما تتعانق الطبيعة متمثلة في الأرض وأنهارها المطلة على النوافذ العربية المسكونة بالحيرة والقلق وتوجس انتظار الغائب، تظهر قامة الشاعر الفلسطيني المبدع محمود درويش الذي تزامنت ذكرى وفاته قبل الشهر المنصرم. والشاعر الفلسطيني محمود درويش الذي رحل عن دنيانا وهو يحلم بوطن فلسطيني على أرض عربية، غادر الحياة وفارقها بعد صمت طويل من الحكام العرب تجاه قضية وطنه، وسقوط بعض الأنظمة العربية وقت تهاوي سياساتها تجاه النخبة والقصيدة، وبعد انحسار مستدام للنخوة العربية التي لا نجدها إلا في مدرجات كرة القدم. ومشروع القصيدة عند محمود درويش في مجمله الذي تحتفي هذه السطور القليلة بشعره يمكن أن نرصده في ملامح متمايزة ومحددة، أهمها ملمح الحرية، فكل من يقترب نحو شعر محمود درويش يدرك حقيقة الحرية التي حرص عليها وعلى نشرها بين المواطن العربي وإخوته وعشيرته. بالإضافة إلى ملمح آخر مهم في المشروع الشعري لدى محمود درويش هو الإنسانية، لذا من الأحرى على أولئك الذين تعاملوا مع شعره من منظور نقدي مجرد أن يتخلوا عن الأسس النقدية الجامدة ويعلوا القيم الإنسانية من جانب الحكمة الشعرية "وداوني بالتي كانت هي الداء".

لذا فالرائي للمشروع الشعري العام له والخاص لدرويش يستطيع استقراء حالة العناق بين الإنسان ومفردات الطبيعة لاسيما المسكونة بالحركة وإن كانت من كنهها السكون والجمود كالتراب والحصى والضلوع والأرصفة الصامتة، إلا أنها تتسق مع عناصر أكثر حرية وحركة كالعصافير والشجر: ينظم درويش:

" أسمي التراب امتداً لروحي

أسمي يدي رصيف الجروح

أسمي الحصى أجنحة

أسمي العصافير لوزاً وتين

أسمي ضلوعي شجر

وأستل من تينة الصدر غصناً".

ولعل درويش في قصيدته المتفردة " فكر بغيرك " ، يحاول أن يرسم لوحة تضامنية تجسد مشاعر المواطن العربي تجاه أخيه المفترش الأرض دونما غطاء، بل هو يسعى إلى أن يعري واقعاً ممتقعاً يمارس فيه المواطن البعيد عن سطوة الاحتلال كل أنواع رفاهية العيش، وهنا لا يكتف محمود درويش بدور المحرض فقط، بل يثير حفيظة ذلك المواطن تجاه ما يعانيه الفلسطيني المغتصبة حقوقه وأرضه وعرضه، بل وربما أحلامه أيضاً.

" وأنتَ تُعِد فطورك، فكر بغيركَ

لا تَنْسَ قوتَ الحمام

وأنتَ تخوضُ حروبكَ، فكر بغيركَ

لا تنس مَنْ يطلبون السلام

وأنتَ تسدد فاتورةَ الماء، فكر بغيركَ

مَنْ يرضَعُون الغمام

وأنتَ تعودُ إلى البيت، بيتكَ، فكر بغيركَ

لا تنس شعب الخيامْ

وأنت تنام وتُحصي الكواكبَ، فكر بغيركَ

ثمّةَ مَنْ لم يجد حيّزاً للمنام

وأنت تحرّر نفسك بالاستعارات، فكر بغيركَ

مَنْ فقدوا حقهم في الكلام

وأنت تفكر بالآخرين البعيدين، فكر بنفسك

قُلْ: ليتني شمعةُ في الظلام".

فها هو ذا الشاعر المحرض دوماً يدغدغ مشاعر المواطن العربي المنعم بالرفاهية بعيداً عن أصوات القنابل والرصاص وفوهات البنادق، ويحرضه أن يشارك مواطنه الفلسطيني همومه ويتقاسم معه قدراً من المعاناة اليومية، لا أن يكتفي بترديد التعاطف والمشاركة الوجدانية فقط، والقصيدة رغم قصرها إلا أنها اختزلت الحقوق الرئيسة التي يحلم بها المواطن الفلسطيني مثل حقوق الطعام، والشراب، والبيت، بل يتجاوز محمود درويش خطوط قصيدته لينبه على ما امتلكته الأمة العربية من جماليات لغوية كالاستعارات والتشبيهات والكناية والمجاز المرسل والفصل والوصل، وكل الأبواب البلاغية التي امتلأت بها المؤلفات العربية، ورغم ذلك فإن الطفل والرجل والمرأة والشيخ بالأراضي الفلسطينية المحتلة قد فقدوا جميعاً حقهم في الكلام.

ويظل محمود درويش مرتبطا بالفكر القومي، ترتفع معه فنيا ومعنوياً مضامين قصائده، كما تنخفض معه أيضاً، فهو مؤشر واضح وصادق لإيجابيات وسلبيات المرحلة، فهو يندد بالظلم الواقع على المواطن العربي في بلاده العربية، ونجده يرثي بغداد والعراق حينما تتحول إلى أراض غريبة مستهجنة، تعاني قمع الاغتراب والتنوع الديني والعرقي الذي يمزقها ويفتتها أشلاء متناثرة يصعب تجميعها في نسيج واحد. وهو في هذا العناق الأيديولوجي بالفكر القومي نجده مصراً على التواجد الفعال لعناصر الطبيعة من خلال مفردات بعينها كالنسر مثلاً:

" أنا آت إلى ظل عينيك آت

مثل نسر يبيعون ريش جناحه

ويبيعون نار جراحه

بقناع.. وباعوا الوطن

بعصا يكسرون بها كلمات المغني

وقالوا: اذبحوا واذبحوا..

ثم قالوا: هي الحرب كر وفر".

ثم نجده تارة أخرى مشيراً إلى خطر الحكم الباطش الذي يكون الفرد مسوقاً لا إرادة له، مشيراً إلى تلازم هذا البطش والانتكاسات القومية والوطنية، هذا التلازم يجعله مضطراً لاستخدام آليات لغوية (مفردات وتراكيب) تشير إلى سطوة القيد ومحاولة الفكاك منهن ولعل قصيدته المشهورة " الأرض " هي خير نموذج للتأكيد على الملمح القومي والوطني بمؤشراته في مشروعه الشعري.

" هذا اخضرار المدى واحمرار الحجارة

هذا نشيدي

وهذا خروج المسيح من الجرح والريح

أخضر مثل النبات يغطي مساميره وقيودي

وهذا نشيدي

وهذا صعود الفتى العربي إلى الحلم والقدس ".

أنَا أرْفُضُ.. إذاً أنا مَوْجُودٌ:

ولعل السمة الأكثر وضوحاً وتميزاً في قصيدة محمود درويش هي سمة الرفض، والرفض عنده رفض سياسي سرعان ما يستطيع تطويعه داخل النص ليصبح رفضاً اجتماعياً لكل ما هو مغتصب غير مكتسب بفعل التجربة ومحك المحاولة والخطأ، وتراه مجتهداً في تمزيق عباءة الانكسارات العربية. لذا فإن قصيدة محمود درويش لم تجئ تعبيراً عن رفض الهزيمة العربية في يونيو 1967 فحسب، ولكن جاءت أيضاً تعبيراً عن رفض الاحتلال الإسرائيلي منذ بدايته وكشفاً لوجه جديد لم يعرفه العرب والعالم، عن أشكال المقاومة العربية داخل أسوار السجون الإسرائيلية.

وتمتاز القصيدة الدرويشية بسمة البعد عن اليأس والهزيمة، فهي قصيدة دائماً ما تشع بالأمل في الانتصار المحتوم، وربما تأتي هذه المزية من أن شاعرنا ينطلق من موقع النضال الحقيقي والعملي ضد الاحتلال، حيث القصيدة التي تفضح جرائم الاحتلال، وتكشف دونما حماقة عن بشاعة ما يتعرض له الناس تحت الحكم الإسرائيلي، ولعل محمود درويش امتاز عن شعراء جيله في أنه لم يسجل موقفاً، ولم يكتف بالإدانة والشجب السلبي، ولكنه يثير فعلاً، إنه يحرض على المقاومة، بل وقصيدته نفسها تعتبر منشوراً سرياً يفرض على المواطن العربي تنفيذ ما جاء به من أوامر وتعليمات، لذا فالقصيدة محرضة، وصاحبها محرض على المقاومة، وإن شئت فقل إن محمود درويش يطلق رصاصة تحت اسم القصيدة. 

(" أنا الأرض..

يا أيها الذاهبون إلى حبة القمح في مهدها

احرثوا جسدي!

أيها الذاهبون إلى جبل النار

مروا على جسدي

أيها الذاهبون إلى صخرة القدس

مروا على جسدي

أيها العابرون على جسدي

لن تمروا

أنا الأرض في جسد

لن تمروا

أنا الأرض في صحوها

لن تمروا... " ).

الغَائِبُ حِينَمَا يَصيْرُ أكْثَرَ حُضورَاً:

قد لا يجد المرء حيرة وهو يعتزم قراراً بالحديث عن محمود درويش، لأنه بغير وعي سيتجه طواعية نحو قصيدته المطولة " جدارية " والتي زين بها عباءة الشعر العربي منذ المهلهل بن أبي ربيعة مروراً بالقامات الشعرية الكبيرة في تراثنا الشعري، فالجدارية باختصار دقيق تعد دليل التشغيل لمشروع درويش الشعري، وسيرة ذاتية للشاعر نفسه تركها لنا بعد رحيله كي نستبين شعره ومشروع قصيدته.فلقد نظم محمود درويش جداريته وكأنه يعلن بيانه الختامي، رغم أنه أعقبها بقصائد ودواوين أخرى، لكنه أراد أن يكون ما تمنى أن يريده في الماضي ؛ فكرةً، وطائراً، وشاعراً، وكرمة، ولغةً. ووصف أبجديته التي عاشها شاعراً ملأ الدنيا وشغل الناس، فكان غريباً، ورسولاً ورسالة ً، وحواراً للحالمين، وسماوياً، وغياباً، وطريداً.

(" سأصير يوماً طائراً، وأسل من عدمي

وجودي. كلما احترق الجناحان

اقتربت من الحقيقة، وانبعثت من

الرماد. أنا حوار الحالمين ".

ويقول في جداريته:

" سأصير يوماً شاعراً،

والماء رهن بصيرتي. لغتي مجاز

للمجاز، فلا أقول ولا أشير

إلى مكان. فالمكان خطيئتي وذريعتي " ).

فالجدارية وثيقة مهمة لتأريخ القصيدة عند محمود درويش فهو يسعى بها لأن يكون حاضراً طيلة الوقت بين قرائه، ولأن يكون شديد الثقة لديهم حينما يهرعون لديوانه بعد موته وهذا ما تحقق بالفعل لأنه لا يرصد حالته الإنسانية فحسب، بل يكرس للصوت الإنساني العام الذي يأمل بقدر ما يعاني، ويحلم بالقدر الذي يحرم فيه من كل مظان الحياة الكريمة من حرية وعدالة ووجود كريم.

وفي الوقت الذي يسعى فيه محمود درويش إلى تأسيس شخصي له داخل تاريخ القصيدة العربية لم يكن يعلم أنه يحتفل بغيابه أولاً، وبجدلية العلاقة المطردة بين الموت والحياة:

(وكُلُّ شيء أَبيضُ،

البحرُ المُعَلَّقُ فوق سقف غمامةٍ

بيضاءَ. والَّلا شيء أَبيضُ في

سماء المُطْلَق البيضاءِ. كُنْتُ، ولم

أَكُنْ. فأنا وحيدٌ في نواحي هذه

الأَبديَّة البيضاء. جئتُ قُبَيْل ميعادي

فلم يَظْهَرْ ملاكٌ واحدٌ ليقول لي:

ماذا فعلتَ، هناك، في الدنيا؟

ولم أَسمع هُتَافَ الطيِّبينَ، ولا

أَنينَ الخاطئينَ، أَنا وحيدٌ في البياض،

أَنا وحيدُ … )

والجدارية تمثل في مجملها خطاباً إلى الموت بدلالته الفلسفية لا بالصورة الجسدية، وهو يصر على أن يجعل لهذا الرحيل شعرية خاصة تدلل على الحضور من خلال استحضار الكائنات اللغوية التي تؤرخ سراً وعلانية لهذا الحضور الذي يستسلم طواعية لاحتفالية الموت باعتباره يقيناً لا لغط في موعده:

(سأَصيرُ يوماً فكرةً. لا سَيْفَ يحملُها

إلى الأرضِ اليبابِ، ولا كتابَ …

كأنَّها مَطَرٌ على جَبَلٍ تَصَدَّعَ من

تَفَتُّح عُشْبَةٍ،

لا القُوَّةُ انتصرتْ

ولا العَدْلُ الشريدُ)

ونص "جدارية" هو النص الشعري الذي سمح لمحمود درويش أن ينتقل من خانة الشاعر الوطني القومي إلى خانة أكبر مساحة ودلالة وأهمية حيث صار شاعراً إنسانياً يخاطب حتفه الأخير وهو يستعرض حياة سريعة لم تلوثها عوارض الحياة وحركاتها وسكناتها، وهو في طريقه إلى الوصول لمقام الشاعر الإنساني يجتهد لأن يدلل على إنسانيته المعرضة دوماً لجدل الحياة:

(سأَصير يوماً كرمةً،

فَلْيَعْتَصِرني الصيفُ منذ الآن،

وليشربْ نبيذي العابرون على

ثُرَيَّات المكان السُكَّريِّ!

أَنا الرسالةُ والرسولُ

أَنا العناوينُ الصغيرةُ والبريدُ)...

وأكاد أظن أن محمود درويش بأسئلته التي لا تؤمن بالصدفة واللحظية لم يسع لأن يضع إجابات شافية لها فترك لنا عناء البحث عن تلك المهمة مستلهمين نصه الشعري ومسترشدين بقاموسه الشعري ذي الدلالات المتعددة لصياغة إجابات من شأنها أن تفتح باباً جديداً لأسئلة لا تنتهي:

(هل أَنا هُوَ؟

هل أُؤدِّي جَيِّداً دَوْرِي من الفصل

الأخيرِ؟

وهل قرأتُ المسرحيَّةَ قبل هذا العرض،

أَم فُرِضَتْ عليَّ؟

وهل أَنا هُوَ من يؤدِّي الدَّوْرَ

أَمْ أَنَّ الضحيَّة غَيَّرتْ أَقوالها

لتعيش ما بعد الحداثة، بعدما

انْحَرَفَ المؤلّفُ عن سياق النصِّ

وانصرَفَ المُمَثّلُ والشهودُ؟ ).

***

د. بليغ حمدي إسماعيل

أستاذ المناهج وطرق تدريس اللغة العربية بكلية التربية جامعة المنيا

عن دار السرد في بغداد صدر لجمال الهنداوي مجموعة، تتكون من ثماني قصص، جاءت بعنوان "حب وحمص وثالثهما نيتشة".

تصدرت الكتاب مقدمتان.

الأولى لكريم شوقي حسن، وورد فيها أن حكايات الهنداوي تدور في أرجاء المدينة، وتتابع وجوه شخصياتها الطيبة والعفيفة.

والثانية لقصي الشيخ عسكر، وبدوره يؤكد أن للقصص عين كاميرا لكنها مدعومة بعاطفة القارئ ووجدان الكاتب، بمعنى أنها حكايات تتداخل فيها حياة جميع شرائح المجتمع، حتى أنها تبدو أقرب لشهادة عن أحياء المدينة وسكانها ومعاناتهم.

من الناحية الفنية يمكن إدراج كل القصص في مجال أو فضاء حزام الخمسينات الذي حمل هموم الناس، وكان مرحلة انتقالية على مستويين.

في التفكير انتقل من معاناة جيل الهزيمة إلى جيل الاستقلال، ولذلك كانت الموضوعات بمعظم الأوقات مغمسة بالدم ثم بالعرق، أو بمشاكل التحرير ثم مشاكل البناء. وفي الحالتين لم يكن يخلو أي مشروع أدبي من أحزان وفجائع وصدمات تنم عن وعي شقي وخسارة مهينة.

وفي أساليب التعبير كان محطة استراحة تفصل بين حداثتين، الرومنسية التي انقلبت على تقاليد الكلاسيكية الجديدة، وعلى ما بعد الواقعية - وهو الاتجاه المعروف في النقد الأدبي باسم الحداثة. وغني عن الذكر أنها حداثة تتكون من أطياف موزعة على قوس عريض من التأويل والتعبير.  ولعب هذا التوسيط دور جسر متحرك ساعد على تبديل إدراكنا لمعنى الذات، من مجرد قلب مكلوم وحزين إلى تجربة فردية داخل مجتمع ممزق ومضطرب. ويمكن متابعة هذا التواطؤ بين الأضداد في قصة "دليفري"، وهي عن أم تبتاع الطعام من عامل توصيل لأنه يذكرها بابنها المفقود. وكذلك في قصة "العطر"، وتدور حول صداقة بين بائعين في حي شعبي، وتنتهي بوفاة أحدهما. وأخيرا في قصة "زواج مصلحة"، وهي شهادة عن تحول العقد الاجتماعي إلى سياسة مكيافيلية، الهدف منها المصالح فقط. ولا يهم أن الزوجين امرأة ورجل، فكلاهما وجهان لورقة واحدة، وهما بتعبير رولان بارت، في دراسته عن بناء القصة، مجرد نمط. أو تكرار لحالة يسميها باسم "ذات الشخص". بمعنى أن المرأة والرجل لا يعبران عن طبيعتهما البيولوجية ولا عن الدور النوعي - أو الوظيفة المناطة بهما و لكن عن وعي كل منهما لموضعه في الحياة.

وإذا ابتعدنا قليلا عن الفهم السطحي لعذاب هذه الشخصيات، ولدورهم الاجتماعي، يمكن أن نلاحظ أنهم جزء لا يتجزأ من التفسير الفرويدي لقصة العائلة. فالشخصيات كلها من عائلة واحدة هي بسطاء وفقراء الناس، وجميعهم لا يستعملون عقولهم للخلاص من الأزمة ولكن قلوبهم. ولذلك يبدو أنهم كالجندي الأعزل، ولا خيار ولا حل أمامهم غير الاستسلام. وهم مستعدون لإقفال أبواب عقولهم. بتعبير آخر إلغاء متاعب التفكير، والاستسلام للقدر الأعمى والقاسي والذي لا يرحم أحدا.

ويمكن تصنيف كل هذه الشخصيات في ثلاث فئات - إذا دمجنا تحليل بارت مع تفسيرات فرويد.

أول فئة هي عن أمهات وأبناء. ومن الواضح أنها علاقة أنماط. فالابن هو أي شاب أو يافع، والأم هي كل امرأة عجوز سبق لها أن تكفلت بإرضاع وتغذية طفل. بمعنى أن الأبناء لا يعرفون أمهاتهم بالضرورة. وهذا هو حال قصة "دليفري". فعامل التوصيل، نائب الابن، ومبعوث من طرفه، ويذكرني كثيرا بصابر بطل "الطريق" لنجيب محفوظ والذي يعرف أمه ولا يوجد لديه أي فكرة عن والده، ويقوده هذا الحضور والغياب لحالة شك واضطراب وجودي ينتهي بسفك الدم كالعادة. ولكن يتمسك الهنداوي بالنظافة، ولا يلوث يديه بالدم. ويتحقق ذلك بخطوتين بمنتهى الأهمية إذا نظرنا إلى لغة الأعماق. أولا لا يوجد ولوج في القصة، فالشاب يراوح عند أعتاب الباب، ويلغي أي شبهة بالسفاح وزنى المحارم. وتقتصر الوظيفة على مبدأ التغذية الراجعة - وتسليمها رزم الطعام الجاهز. ويساعد على إتمام المهمة، بدون قتل أو سفاح، غياب الأب، السبب الأول في رهاب الخصاء.

ثاني فئة هي عن الأخوة. وفي حالة قصة "العطر" عن أخوين فقط. ولكن الأم هنا هي مثيل للأب أو ند له، ولذلك لا يوجد جريمة أوديبية ولا أي صدام بين الآباء والأبناء. يضاف لذلك أن الأخوين توائم. فهما متشابهان بالعمر والمهنة. وكذلك بالمكان والفترة الزمنية. ولا أتوقع في هذه الظروف نشوء عقدة تلصص تتطور إلى غيرة وحسد. ويحل محلها علاقة تكافل أو اتفاق شفوي على توزيع المهام.

ولنزع وربما تبريد فتيل الأزمة يخطف الموت الأم في قصة "دليفري"، والأخ التوأم في قصة "العطر". ويهيئنا للتعايش مع جو يخيم عليه الأسى وواجب العزاء. وذلك في إطار من ألوان رمادية وسوداء - ويرمز له في قصة "بجاه أبي الجوادين" بعباءة المرأة وطياتها. ولا أستطيع أن لا أرى أي صلة بين شبح الموت العابر في قصة "الغريب" لكامو - حينما يضع ميرسو إشارة حداد سوداء على ياقته، والمصير المحتوم في قصص جمال الهنداوي، والتي تبدأ بفكرة عامة عن وجود ناقص وغامض، وتنتهي بموت زؤام وصامت. وهذه إحدى أهم وسائط الإعراب عن العدمية عند العرب وعدم انسجامهم مع قوانين الأب ومرحلته. ولا تبتعد الروايات العسكرية التي صورت حروب الإنقاذ - عند العجيلي ثم حروب النكسة عند عبد النبي حجازي - عن هذا الهم الدفين. فالعجيلي يهرب من تبعات الخسارة إلى السياحة، وللتجول في أرجاء أوروبا حيث يخترع لنفسه آباء مهاجرين أو تاريخا قديما دالت دولته، وجمراته لم تنطفئ بعد (انظر قصص "قناديل إشبيلية"). وينقل حجازي المعركة إلى مكاتب تدور فيها المراوح، وإلى إثبات فحولته بضرب الزوجات وإقامة علاقة مع النساء الجميلات. وأخيرا بإلقاء الطرائف وشرب الكحول، وكلها أدوات لإلغاء الوعي المشؤوم، وإفساح المجال للشعور الباطن والغرائز. وأعتقد أنه أسلوب من أساليب النقد الذاتي لدرجة التجريح.

ثالث وآخر فئة عن نساء ورجال، أو أزواج وزوجات. ولكن في ظل هدنة مكيافيلية ومشبوهة، وتمثلها قصة "زواج مصلحة". وهي هدنة تجارية تعبر عن حركة إصلاح نفعي، مثل الاتفاقيات التي تعقدها أحزاب متنافرة لكن يجمعها حب التسلط، وأشبه ذلك بمؤسسة الجبهات الوطنية - والتقدمية في بعض البلدان. ومع أنه لا تتوافر أركان التشبيه، و بالأخص أن القصص بعيدة عن السياسة، لكن هذا لا يمنع أنها تنقل رسالة لخطاب اغترابي يفاقم من الإحساس بالمنطقة الرمادية التي نسقط في حفرتها. وتلمس قصة "حب وحمص وثالثهما نيتشة" هذه المشكلة حينما يقرر بائع الحمص أن يبدل مهنته إلى بائع كتب مع أنه لا يقرأ ولا يكتب، وذلك للاستحواذ على قلب صبية يرغب بها. ومن حسن الحظ أنه ترك النهاية معلقة، وهذه أهم نقطة في جميع القصص. فهي أشبه ببدايات تبحث عن نهاية مناسبة لشخصياتها. وهذا البحث المضني هو لب وجوهر موضوع كامل المجموعة.

***

د. صالح الرزوق – أديب وناقد ومترجم

 

لجمال الهنداوي

هذه النصوص القصصية اعتبرها مختلفة عن المعتاد والسائد التقليدي، تدخلنا في حوارات وتساؤلات في الصياغة الفنية، وتركيبة الحبكة السردية، بمعنى انها جدلية في عدة مقومات، في الصياغة الفنية، وبناء الرؤية التعبيرية والفكرية، في المعنى والمغزى والرمز الدال، الذي يشع في الجوهر والمضمون الدال، رغم انها واقعية الاتجاه ومن قلب الواقع المعيشي للشرائح الاجتماعية الفقيرة، التي تكافح بعناد واصرار في الصراع الحياتي، لكن تجد نفسها غارقة في المعاناة والظلم والحرمان، لم تستسلم بل تظل تكافح بعرق جبينها بالمكابرة والكبرياء، رغم الاحباط والخذلان، الذي يصيبها، لتجد نفسها في موقع صعب، في نيل الطموح في معمعة الصراع الحياتي، وابطالها اناس بسطاء يملكون الكرامة ولا يتخلون عنها، مهما كانت صخرة سيزيف على اكتافهم، أنسانيون بحق، هذا جوهر الرؤية الفكرية ورمزيتها الدالة، شرائح انسانية اكثر من الشرائح الاجتماعية اخرى، مكافحون بلا كلل، رغم غصة الالم والوجع في دهاليز الحياة الصعبة والمعقدة، وتحاول ان تخلق البسمة من بئر الاحزان، لانها تملك احاسيس انسانية في طيبتها الشعبية، يشعر القارئ بتعاطف شديد ومؤثر تجاه هذه الشخصيات في النصوص القصصية، واعتقد هذا ما يسعى اليه الاستاذ (جمال الهنداوي) وهو يسلط الضوء الكاشف عليها، ويدخل في عمق المشاعر الداخلية، وهو يقدم نماذج حية من الواقع المجتمع، التي تملك الكثير من حكايات المعاناة، شخصيات تحاول جاهدة ان تجد مكاناً تحت الشمس في قلوبهم النظيفة، في تعاملهم الصريح بدون مراوغة، ومن هذا المنطلق الفكري، ينبغي تقديمهم بشكل مختلف، وهنا تكمن قدرة وبراعة الاستاذ (جمال الهنداوي) في تقديمهم بشكل مختلف، في بناء القصة، التي تعتمد على اسس ثلاثة: البداية. العقدة او الصراع. النهاية او الحل. نجد في هذه المجموعة القصصية، تبدأ بالصراع وتنتهي بالصراع الدراماتيكي، أما النهاية أوالحل، فإنه معدوم وغائب، يترك النصوص بدون نهايات أو حلول، يتوخى الكاتب من ذلك ضرب عصفورين بحجر واحد، الناحية الأولى. ان يترك النهايات لتأويل القارئ ومدى شغفه وتفهمه لهذه النماذج الشعبية المكافحة، في صراعها مع الحياة والزمن، رغم الانكسار الحياتي، والناحية الثانية. ان يتركها عائمة في بحر الحياة لا حول ولا قوة لها، لأنها تجد نفسها غارقة بصعوبة العوم الى شاطئ السلامة، كأن الزمن يعمل ضدها بكل قوة. رغم انها غارقة في ازمة الصراع، تظل مكابرة بكرامتها وإنسانيتها الطيبة، او مثل ما يقول المثل الشعبي (تحمل قنبورتها وتمشي)..... لنسلط الضوء على بعضها بإيجاز شديد:

× قصة: العطر:

بائع العطر البسيط والشعبي في قلبه الابيض (ابو خضير) يبيع العطور في سوق شعبي في محل صغير، كل صباح في ابتسامة تعلو في ملامحه، يرحب بالزبائن لكنه يميز خصائل الناس في أخلاقهم وسلوكهم، مثل ما يميز أنواع العطور، تراه حلو المزاج مع الناس الطيبين مثل صديقه الحميم (أبو فراس) الذي يعود به الى الى سنوات العمر الماضية وذكرياتها، مثل العطور لها خيط من الماضي، يرتب عطوره حسب الحاجات الناس، ولكن بعد وفاة صديقه الحميم (ابو فراس) حزن عليه بالوجع والأسى، حتى شعر ان الحياة جدبت، مثل العطور التي فقدت روائح عبيرها، وأصبحت روائحها كئيبة لا تطاق، فهجر العطور والسوق.

× قصة: حب.. وحمص.. وثالثهما نيتشه:

الشاب العشريني (جليل) بائع الحمص بالعربة، يعتني في بضاعته ونظافة الكؤوس و ويعتني في ترتيبها، فهي مصدر رزقه، يحاول إرضاء الزبائن بالنظافة والديكور اللائق، وهو يتحمل مشقة الشمس، وقد اختار افضل مكان قرب بوابة كلية الآداب (- الجامعة مكان محترم وآمن... والرزق وفير) كل صباح تطل عليه فتاة جامعية تماثله في عمره، يخفق قلبه بتسارع ضرباته شوقاً ومحبة، ويحاول ان يرضيها بكأس الحمص، يحاول يجذب اهتمامها وهي تشتري كأس الحمص، تغيبت بعضة أيام، قلق عليها، ولكن عندما أطلت في احدى الصباحات، انفرجت اساريره فرحاُ، لاحظ التعب في عينيها، وحاول ان يستفسر بخجل وارتباك فقالت له (- امتحان الفلسفة ارهقني جداً، ولكن انتهى والحمد لله) ثم أردفت (- بالضبط.... أكثر ما اتعبني هو نيتشه وهيغل، هذان الفيلسوفان يعقدان أي شيء في الحياة) ليقول لها انه سمع باسم نيتشه مرة في الانترنت، وذهب الى شارع المتنبي يفتش عن كتاب مبسط عن نيتشه، فوجده، لكنه وجد صعوبة في فهمه، رغم أنه قرأه أكثر من مرة، واخذت الفتاة الجامعية تتقطع في مجيئها حتى اتعبه الصبر، لأن الحب كان من طرف واحد، لكن دفعه الفضول إلى قراءة الكتب وشغف بحبها، لتعوض عن حبه الخائب، حتى فتح مكتبة صغيرة، وكسب الوعي والإدراك من اطلاعه على الكتب، بدلاً عن الحب الخائب.

× قصة: بجاه أبي الجوادين:

امرأة فقيرة تعيش على الرزق ما تدره ماكينة الخياطة، منصبة طوال اليوم على القماش الاسود العباءات النسائية، وتنظر الى كوام القماش والعباءات غير المنجزة كل صباح، أحبت (أحمد) وكان كل آمالها ان ينتهي الحب بالزواج، ليقف الى جانبها في حياة مشتركة في الحب والوفاء، لكن حبيبها خذلها بعدم قبول الزواج من طرف عدم قبول أمه لها، وتزوج ابنة عمه، مما تجرعت كأس الخيبة والخذلان، وبعد فترة طويلة طلبها في لقاء بموعد في الكافيتريا التي شهدت لقاءات حبهما في السابق، ترددت في قبول الدعوة، رغم ان حبيبها السابق اعلمها بعزمه الزواج منها بعدما طلق زوجته، ذهبت إلى الإمام أبي الجوادين، ليعينها على ترددها وارتباكها، لا سيما وان جرح القلب مازال ينزف من الاحباط، توجهت الى موعد اللقاء، وعرض عليها الزواج لتقول له (- متأكد انك تستطيع ان تقنع أمك ؟ كما لو كانت لا تحبني) ثم أردفت (- هل تذكر عندما كنت بحاجتك في ذلك اليوم..... وانت اختفيت بلا كلمة وداع) ثم أردفت وهي تحاول ان تضبط اعصابها (- كل شيء ممكن ان يرمم..... إلا الخذلان) وغادرت المكان.

× قصة: دليفري:

عامل توصيل طلبيات الطعام إلى البيوت (عبدالله) أحد الايام تأخر كثيراً في توصيل الطلبية بسبب البحث عن عنوان البيت صاحب الطلبية، واخيراً وجده، وحين طرق الباب خرجت امرأة مسنة (ام علي) اعتذر عن التأخير كثيراً، فاجاب المرأة (- لا يا ولدي.. إن مجيئك

في هذا الليل يعد فضلاً منك. هل أسمك علي

- لا يا خاله.. أنا عبدالله

-عاشت الاسامي، ياولدي)

ويعرف عنها بأنها تعيش في البيت وحدها، تقتلها الوحدة والعزلة عن الناس، ابنها (علي) مات، وابنتها ذهبت ضحية انفجار ارهابي، ولديها ولدان آخران، أحدهما في استراليا والآخر في المانيا، وهي تصر في البقاء في بيتها ترفض الرحيل عنه، وتكررت طلبياتها من نفس الطعام، وتصر على إيصال الطلبيات (عبدالله) وعقد تعارف حميم بين الطرفين، مثل الام والابن، ولاحظ ان طلبيات تكفي لاكثر من شخص، وكان غايتها ان ترى (عبدالله) التي تصر تناديه باسم ابنها المتوفي (علي)، فاضطر ان يجلب من بيته كل يوم الطعام اليها، وفي احد الايام لم تكن المرأة المسنة في بيتها، واستفسر من الجيران عن سبب الغياب، فقالوا له. نقلت إلى المستشفى في حالة خطيرة، فتش عنها ولم يعثر عليها، فاحس بمرارة الحزن والجزع.

× قصة: خيوط القلب

ام مهدي: امرأة فقيرة من الوسط الشعبي، تعيش في رزقها بما تدر عليها ماكينة الخياطة القديمة، تخيط (الدشاديش) الى الاطفال في الحي الفقير، ابنها الصغير (مهدي) طلب منها ان تخيط له دشداشة العيد مثل الاطفال الآخرين، ولكن لسوء الحظ تعطلت ماكينة الخياطة، واصرت بعزم ان تلبي طلبية ابنها،فخاطت الثوب الابرة، ومرات تنغرس الإبرة في اصابعها حتى تورمت، وانجزتها صبيحة العيد، ورسمت فوق الجيب وردة من الخيوط الملونة، فكنت دشداشة (مهدي) متميزة عن دشاديش اطفال الحي، لكي تدخل الفرحة في قلب ابنها، رغم تورم اصابعها والتعب والمعاناة.

× قصة: الميت الحي

في ظهيرة الصيف عام 2003 يوم مختلف في تاريخ العراق خرج السجناء وأصبحوا احراراً من كوة الزنازين. وكل منهم يحمل مأساة ظالمة ومؤلمة، احدهم اعتقل وعذب في مديرية الأمن، باعتباره مناهضا للنظام، ظل في زنزانة السجن أكثر من 13 عاماً دون محاكمة ولا محامي، بسبب اقتناء كتاب ممنوع، بوشاية من رفاق المنطقة، خرج في يوم السقوط بعدما اختفى رجال الأمن، ليجد سائق التاكسي (أبو سليم) امامه، وطلب منه ان يطوف به في مناطق بغداد شوقاُ وحنيناً للغياب الطويل، وتنتهي رحلته الطويلة في منطقته (الدورة)، بسرد حكايته إلى سائق التاكسي (أبو سليم) الذي تعاطف معه كثيراً لحالته المزرية، والعقاب المجحف الذي تجرع سمومه، وقال بأنه ايضاً اعتقل بوشاية بسبب اقتنى كتاب الأغاني، ولكن حالفه الحظ بوجد محقق مثقف، واعتبر الكتاب ليس عدواً للنظام، فاطلق سراحه، وتخلص من ورطة السجن طويل الأمد ليقول (- يقال أن الدولة التي تخاف من الكتاب، تكون مصنوعة من الورق) وحينما وصل الى منطقته (الدورة) الى بيته القديم، وعرف بالفاجعة التي أصابت اهله، والده مات، وامه ايضاً ماتت حزناً عليه، والبيت بيع من قبل الورثة. كانت الصدمة كبيرة بفاجعتها ليقول بحسرة الحزن، بأنه أصبح غريباً، لا بيت، لا وطن، لم يبق له سوى ان يسكن في المقبرة، بالقرب من قبر أمه وأبيه، شعر بالحزن المؤلم، بأنه اصبح غريباً، وليس له سوى التوجه الى المقبرة.

***

جمعة عبد الله

 

للشاعر المصري أحمد بخيت.. في ضوء المنهج الرمزي، الأسلوبي، النفسي، الهيرمينوطيقي

تُعدّ قصيدة «الليالي الأربع» للشاعر المصري أحمد بخيت نصّاً شعريّاً مركَّب البنية والدلالة، يزاوج بين البوح الغنائي والتأمل الوجودي في صورة عشقٍ متجاوز لحدود التجربة الفردية إلى آفاق الرمز والأسطورة. عبر نسيج لغويّ متوهج بالإيقاع الداخلي، وصورٍ تستدعي الماء والليل والطيران والعيون بوصفها مكوّنات لخطاب الحبّ والفقد، ينحت الشاعر عالماً تتجاور فيه الصوفية والشهوانية، واليقين والشكّ، في وحدة توترٍ إبداعية. ولأن القصيدة تنفتح على طبقاتٍ متعددة من المعنى، فإنّ مقاربتها تستدعي تضافر المنهج الرمزي للكشف عن بنيتها الإيحائية، والمنهج الأسلوبي لرصد خصائصها التعبيرية، والمنهج النفسي لاستجلاء أبعادها اللاواعية، إضافة إلى القراءة الهيرمينوطيقية التي تفكك العلاقة بين أفق النص وأفق القارئ، بما يسمح ببلوغ فهم أعمق لجدلية الحبّ والشعر في خطاب أحمد بخيت.

١. مقدِّمة تأطيرية ومناهج العمل:

أقترح هنا قراءة مركَّبة تجمع بين: (أ) التحليل الرمزي (دلالة الصور والأنساق الرمزية)، (ب) المنهج الأسلوبي (أدوات اللغة، بنية الخطاب، الإيقاع الحرّ)، (ج) القراءة النفسية (دلالات الرغبة، النقص، السُّلطات اللاواعية)، و(د) الهيرمينوطيقا التأويلية (آفاق القراءة، أفق المؤلِّف / القارئ، وطبقات المعنى). سأعتمد اشتقاقَ المعنى من داخل النص بالأساس، مع توطين كثير من الاقتباسات النصّية لإثبات الأحكام التفسيرية.

٢. البنية السردية والصوتية: الخطاب كغناء متقطّع

القصيدة لا تبدو نصّاً سردياً متكاملاً تقليدياً بقدر ما هي «خطابُ اشتياقٍ» مُجزَّأ إلى لحظاتِ انفجارٍ لغويّة. تكرار النداء «يا لَيلَى» كـتُحضينٍ صوتيّ يُنَظِّم الحرَكَة العاطفية ويؤطّر فصولَ النّص («بغيرِ الماءِ / يا لَيلَى» — «إذنْ / مِنْ أينَ يأتي الحزنُ / يا لَيلَى؟»). هذا النداء المتكرّر يعمل كمرساةٍ رمزية: هو اسمُ المحبوب/الأنثى، ومكانُ تلاقي النبرة الغنائية مع ثيمةِ السؤال والافتقاد.

- الأسلوبُ عامّي– شعريّ في آنٍ واحد: جُمَل قصيرة مكسّرة («يموتُ / جمالُ ألفِ طريقْ»)، تعابير طويلة موجزة («أُحِبُّكِ... / لم يغِبْ منِّي / سوى وجهِ الفتى العابرْ»)، وانقطاع/استئناف مفاهيمي بواسطة النقاط والحروف الاستئنافية («أحبُّكِ...»، «فليُسمُّوا الحبَّ / وَهْمًا، / كذْبةً، / إغراءْ»). هذه التقطيعات الأسلوبية تزيد من إحساس التلهّف والافتقاد والارتعاش الصوتي.

- إيقاع القصيدة حرٌّ لا يتقيد بقافية موحّدة؛ لكنها تحتفظ بتكراراتٍ صوتية (تجاورات حروفية: ل، ر، ش) وتكرارات معنوية (الحبّ، الحزن، الطيران، الماء، العيون) تُنتج موسيقى داخلية أقرب إلى النَشيد/الترنيم منها إلى البيت العمودي.

٣. رموز مركزية ودلالاتها المتقاطعة

- الماء:

الماء يظهر كرمز للحياة والملء والهوية: «بغيرِ الماءِ / يا لَيلَى / تشيخُ طفولةُ الإبريقْ». هنا الماء ليس فقط عنصرًا مادياُ بل شرطٌ للوجود الشعريّ والوجداني: من دونه «تشيخ طفولة الإبريق» — الإبريق كشكلٍ للحياة المنزلية للهوى يصبح عجوزاً بلا ماء. في موضع آخر: «أفي مقدورِ هذا الماءِ / إلاّ أنْ يكونَ / الماءْ؟» — سؤال فلسفي رمزي: هل الكائنُ (الماء) يملك إلا ذاته؟ أم هل العشق يطلب من الشيء أن يكون «أكثر من ذاته»؟ الماء رمز النقص والوفرة في آن.

الليل / ليلَى

الاسم «ليلى» ليس مجرد اسمٍ أنثوي؛ هو شخصية رمزية تقترن بالليل (ليلى/ليل): «نجمةُ السُّلوانِ / حين لمحتُها.. / غَارتْ». الليل هنا حاضنٌ للغموض، للغواية، للمساءات الشعرية، وهو كذلك «أيقونة الأسرار» («فيا أيقونةَ الأسرارِ / في الأشعارِ / يا لَيلَى»). النداء المتكرر يجعل ليلَى محوراً أنثروبولوجيًا — أنثىٌ، رمزُ الغيرية، بل «الأنثى-العمل الفني» التي يُنسب إليها فعلُ الخلق والشكل.

الطيران / الأجنحة / الطائر

ثيمة الطيران تتكرر («أجنِحَتِي / يجفُّ بريشِها / التحليقْ»؛ «لأنَّ السِّرَّ / في الطيرانِ / لا في الريشِ / والطائرْ») لتبيّن الفرق بين الوسيلة والغاية: ليس الريش وحده ما يجعل الطائر يطير بل فعل الطيران نفسه، رمزٌ للحرية/الروح. يفصح الشاعرُ عن وعي نقديّ للوسائل (الريش) مقابل الفعل (الطيران)، وكأن الحبّ هو فعلُ الوجود لا امتلاك الأداة.

العيون / الكحل / الوعد:

العيون عند الشاعر رمز للمرآة والعبور: «هي امرأةٌ... تضيءُ غيابُها صوتي! / سوى امرأةٍ / بِسُكَّرِها / أُحلِّي / قهوةَ الموتِ!» و«عيونُكِ / يا سمَا عينَيَّ / صحوُ الشوقِ في الناياتْ». العين هنا تضيء وتغوي وتصبح «مكانًا» للفداء والغواية.

- الموسيقى والشعر كقوة خلاقة/خلاصية:

الشاعر يحوّل المحبوبة إلى «موسيقا» ويعلن أن الشعر هو الصيغة الخلاصية: «أنا غيرُ موسيقا / تليقُ بِسِحْرِ رَقْصَتِها»؛ «سأعزِفُ فيكِ / موسيقا السماءِ». الشعر عنده فعلُ عبادةٍ وجهاد: يبارك ويصيح ويؤطر وجوده. في موضعٍ أخطر، الشاعر يواجه السؤال الديني-الجمالي: «فَمَنْ سيسبِّحُ الرحمنَ / بالأشعارِ / في الجَنَّةْ!» — أي: مَن سيحافظُ على قيمة الشعر في حال تنكر الشاعر لذاته الشعرية؟

٤. ملاحظة أسلوبية: التكرار، النفي، والتضادّ:

- التكرار المنظّم («أحبُّكِ...») يعمل كمرثيةٍ دائمة. النفي والتساؤل («لماذا...؟»، «أفي مقدور...؟»، «إذنْ / مِنْ أينَ يأتي الحزنُ يا لَيلَى؟») يخلق بنية استجواب داخليّة تشير إلى أزمة وعي؛ فالشاعر يسأل ليتجاوز، لكنه في السؤال يعيد إنتاج الافتقاد.التضادّ أو الأزواج الثنائية تلعب دورًا بنائيًا: ماء/يابس، طيران/ريش، حب/شكّ، حزن/سُلوان، إنسان/إنسان (سؤال أخلاقي وجودي: «لماذا ليسَ في الإنسانِ / ما يكفي منَ الإنسانْ!؟»). هذه الأزواج تنشئ حركةَ متناظرة داخل النصّ: توتّرٌ دائري يدور حول مركز الحبّ/الافتقاد.

٥. قراءة نفسية: الرغبة، النقص، والأنيمة

من منظورٍ نفسيّ (نقضي على التبسيط ونعتمد استعارات نفسية معقّدة):

الأنيمة والأنثى كمَثَلٍ نفسي.

ليلى في النصّ تمثّل الأنيمة — صورة الأنثى الداخليّة التي تُكملُ الذكر. العلاقة إذًا ليست علاقةُ جسد فقط بل علاقةُ تعبيرٍ وجوديّ: «حين أحبُّ / سيدةً / أحوِّلها لموسيقا!» هذا تحويلٌ نفسانيّ: تعظيمُ الأنا للذات الأنثوية داخليًا.

الرغبة واللاّك — قراءة لاكانية.

- تظهر بنيةُ النقص بوضوح: «بغيرِ الماءِ...»؛ «لم يعثرْ على امرأةٍ / يضيءُ غيابُها صوتي!»؛ «لماذا من يقينِ الحبّ نَقطِفُ وحْدَنا الشّكَّا!» في القراءة اللاكانية، الشاعر يواجه «اللاّك» — نقصانٌ لا يملأهُ أي موضوع. الحبّ يصبح سعيًا لشيءٍ لا يمكن الوصول إليه، فالنداء الدائم لـ«ليلى» ليس استدعاءً لموضوعٍ موجود بل للفراغ المرجوّ أن يُملأ.

- الاندفاع الجنسي/الروحاني والتصوّف.

القصيدة تُجمع بين لغةٍ شهوانية وصوفية: «أنا الصوفيُّ / والشَّهوانُ / عَشَّاقًا / ومعشُوقا» — ازدواجيةٌ نفسية تعبّر عن أنشودة التوحيد والغواية في آن، حيث تتحول المحبوبة إلى مُستودَع للقداسة والشهوة معًا. هذه الثنائية تُظهر استعصاءَ الحلّ: الحبّ لا يُفلح لأنّه يضمّ إلى جوهره نقيضَه.

٦. الهيرمينوطيقا: آفاق التأويل وقرائن القراءة

القصيدة تُنتج عدة آفاقٍ تأويلية:

1. أفق المؤلف: إنْ افترضنا أن الشاعر يقدّم تجاربًا ذاتية، فالقصيدة إعلانُ حبٍّ واعترافُ عجزٍ أمام العشق الذي يشيخ اللغة والوقت. لكن لا ينبغي ملازمة هذا الافتراض؛ النصّ مستقل ويستدعي قراءاتٍ متعدّدة.

2. أفق القارئ: القارئ يأتي بشيفراته (ثقافية، دينية، رمزية)؛ لذا تتفتّح معاني جديدة. النبرة الصوفية قد تُستقبل لدى قارئٍ متدين بوصفها تقربًا إيمانيًا، ولدى قارئٍ عصري بوصفها تجسيدًا للحنين الوجودي.

3. التوتر بين النصّ والمرجع: تكرارُ الأسماء (ليلى، خال، النيل) يبني شبكة إشارات تربط بين دلالات محلية (الثقافة العربية/المصرية) والأرشيف الشعري (ليلى كشخصيةٍ أسطورية في الشعر العربي). الهيرمينوطيقا تتطلّب هنا اعتبارَ الخلفية الثقافية دون تسليمها كدليلٍ قاطع: النصّ يعيد صياغة الأسطورة لا مجرد استنساخها.

٧. قراءة تفصيلية مقاطع على مقاطع (عينات تحليلية):

- افتتاحية: «بغيرِ الماءِ / يا لَيلَى / تشيخُ طفولةُ الإبريقْ»

- افتتاحيةٌ مُحكمة: تبدأ بغيابِ شرطٍ (الماء) فيصبح الإبريق ـ هنا رمزُ الاحتواء والسر الذي يُسقى به الشغف ـ مُهترئًا، وبذلك يقدم الشاعرُ الحبّ غير المشبع كعائق أمام تجديد الطفولة والبراءة.

- مفصل: «لأنَّ السِّرَّ / في الطيرانِ / لا في الريشِ / والطائرْ»

- تصريحٌ فلسفيّ بصيغةٍ شعريّة: يقترحُ الشاعرُ أن الفعل/النية أهم من الظاهر. في سياق الحبّ، قد يعني هذا أن العشق كفعل وجودي مهمّ أكثر من سمات المحبوبة أو أدوات الإغواء.

- استدعاءات دينية/أخلاقية: «فَمَنْ سيسبِّحُ الرحمنَ / بالأشعارِِ / في الجَنَّةْ!»

تتحول توصيفات الحبّ إلى سؤال أخلاقي -وروحي: الشاعر يخشى أن يفقد الشعر دوره التعبّدي، وأن تتنازل الإبداعية عن وظيفتها الروحية إن لم يعترف الشاعرُ بقيمته.

- خاتمة لحنية: «بياضٌ قاتلٌ / وَرَقِي / وقافيتي»

- خاتمة تحيل إلى انكسار اللغة/القافية نفسها: «قوافيتي» هنا ليست منقذة؛ ربما الموت الشعري يلوح بسبب كثرة الشوق أو بسبب استنفاد الوسائل.

٨. النتائج الاستنتاجية (خلاصات تحليلية)

1. القصيدة نصّ مركزيّ في منظومة الحنين والافتقاد: كل رمزٍ (الماء، الليل، العيون، الموسيقى) يدوّم معنى النقص وإمكان الخلاص من خلال الفعل الشعري ذاته.

2. الشاعر يضع الشعر في منزلة الفعل الخلاّق والعبادة؛ الشعر ليس تسجيلًا بل ممارسة وجودية: «أنا الموعودُ... / ما هُوَ كائنٌ».

3. اللغة الأسلوبية: التقطيع، التكرار، الاستفهام، والنداء تعمل معًا لتوليد موسيقى داخلية تُقارب الطقوس أكثر من كونها سردًا خطيًا.

4. ازدواجية دينية/شهوانية تشكّل بنية نفسية عميقة: المحبوبة تُقدَّس وتُشيَّطُ في آنٍ واحد، والذات تسعى إلى التوحيد والتنفيس عبر الحبّ والشعر.

5. الهيرمينوطيقا تُبيّن أن النصّ يحتمل قراءات متعدِّدة: دينية، اجتماعية، نفسية، وجمالية؛ وكل قراءة تضيف بعدًا دون أن تُجهِد النصّ إلى معنى وحيد.

٩. اقتراحات لمشروعات بحثية لاحقة

- دراسة مقارنة بين استخدام رمز «الماء» في هذه القصيدة ونصوص عربية/مصرية معاصرة لتحديد خصوصية تكوينية عند أحمد بخيت (نقاش نمطي/دلالي).

- تحليل أسلوبي مقارن بين نمط النداء (يا...) في هذه القصيدة ونماذج من الشعر العربي الحديث (الموسيقى الداخلية، التكرار، الوظيفة الدلالية).

- قراءة نفسية معمَّقة بمناهج لاكان/فرويد/يونغ، مع استخدام منهج السرد الذاتي للشاعر إن وُجدت سيرته أو مقابلاته (طبعاً مع توخي الحذر من التوظيف الحيوي المباشر).

١٠. خاتمة موجزة

«الليالي الأربع» قصيدةٌ تحتفي بالافتقاد وتبيِّن الشعر كمسعى للخلاص والاعتراف. عبر صورٍ مركّبة (الماء، الطيران، العيون، الموسيقى) وبنيةٍ أسلوبيةٍ متقطعةٍ وغنائية، يصوغ أحمد بخيت نصًا يوجّه سؤال الوجود: كيف نعبرُ عن نقصنا؟ وكيف يُمكن للشعر أن يكون طائرًا يطير رغم جفاف الريش؟ القصيدة تقترح أن الجواب يكمن في الفعل الشعري نفسه — في الطيران لا في الريش.

***

بقلم: عماد خالد رحمة - برلين

.......................

قصيدة الليالي الأربع

بغيرِ الماءِ

يا لَيلَى

تشيخُ طفولةُ الإبريقْ

بغيرِ خُطاكِ أنتِ

معي

يموتُ

جمالُ ألفِ طريقْ

بغيرِ سَمَاكِ

أجنِحَتِي

يجفُّ بريشِها

التحليقْ

أحبُّكِ...

لم يغِبْ منِّي

سوى وجهِ الفتى العابرْ

سيُكْمِلُ

كبرياءُ الشِّعْرِ

مَا لمْ يُكمِلِ الشاعرْ

لأنَّ السِّرَّ

في الطيرانِ

لا في الريشِ

والطائرْ

أحبُّكِ...

فليُسمُّوا الحبَّ

وهْمًا،

كذْبةً،

إغراءْ

أفي مقدورِ هذا الماءِ

إلاّ أنْ يكونَ

الماءْ؟

إذا امتلأ الزمانُ

بنا

تلاشَتْ

فِتنةُ الأسماءْ

أحبُّكِ...

نجمةُ السُّلوانِ

حين لمحتُها..

غَارتْ

ولستُ أعاتِبُ السِّكِّينَ

فى ضِلعِي

الذي اختارتْ

فلا أحدٌ

يردُّ الخطوَ

للقَدَمِ التي سارتْ!

إذنْ

مِنْ أينَ يأتي الحزنُ

يا لَيلَى؟

إذنْ

من أين؟

وأنتِ غزالةٌ بيضاءُ

تمرَحُ في

سَوادِ العينْ

على جَمْرٍ مشيتُ إليكِ

قلْبًا حافيَ القدمينْ!

لماذا

مِنْ يَقينِ الحُبِّ

نَقطِفُ وحْدَنا الشّكَّا!

ومِنْ بستانهِ

الممتدِّ

نحصدُ وحْدَنا الشَّوْكا!

ونبحَثُ فيهِ

عن ركنٍ

يُسمَّى

حائطَ المبكَى؟!

لماذا لم نجدْ

في الحزنِ ما يكفي

منَ السِّلوانْ!؟

لماذا لم نجدْ

في الحبِّ ما يكفي

منَ الغُفرانْ!؟

لماذا ليسَ في الإنسانِ

ما يكفي منَ الإنسانْ!؟

لماذا كلُّ أسئلتي

وأنتِ هُنا

وأنتِ هُناكْ

غنائي الفَذُّ

يا لَيلَى

هديةُ طائرِ الأشواكْ

وماذا

قد يَضِيرُ الشمسَ

إنْ هُمْ

أغلقوا الشُّبّاكْ؟!

يقولُ لَكِ الغَيَارَى

مِنْكِ:

إنّ غناءَهُ

فتنةْ

إذا أنا تبُتُ

عن شِعْري

ولم أتقبَّلِ المِنَّةْ

فَمَنْ سيسبِّحُ الرحمنَ

بالأشعارِِ

في الجَنَّةْ!

وكيفَ أتوبُ

والعصفورُ

لم يُفطَمْ

عن الشجرِ؟

ولم يحفَظْ كتابُ الليلِ

غيرَ قصائدِ القمرِ؟

سأعزِفُ فيكِ

موسيقا السماءِ

فباركي

وَتَرِي!

أعوذُ

بوَجْهِ مَنْ خَلَقَ الجمالَ

فكانَ

كيفَ يشاءْ

وزانَ الأرضَ

بالأزهارِ،

والأطفالِ،

والشهداءْ

أيُبدِعُ كلَّ هذا الشِّعْرِ

ثم يخاصمُ الشعراءْ؟!

أكادُ أضيءُ

يقتلُني ويحُيِيني

بِكِ

العِرْفانْ

يصافِحُنِي الذي سيكونُ

ما هُوَ كائنٌ

ما كانْ

سَكِرْتُ بما...

سَكِرْتُ وما...

سكِرتُ...

فقبِّليني

الآنْ!

أنا نَخْلُ الجنوبِ

الصعبُ

هُزِّي الجذعَ واكتشفي

بجذرٍ راسخٍ

في الأرضِ

يحتضنُ السَما

سَعَفي

للَيلَى

أن تعانقَني

عناقَ اللامِ للألِفِ!

أنا الصوفيُّ

والشَّهوانُ

عَشَّاقًا

ومعشُوقا

أسيرُ

بقلبِ قِدِّيسٍ

وإن حسِبُوهُ

زنديقا

وحين أحبُّ

سيدةً

أحوِّلها لموسيقا!

ولَيلَى

نجْمةٌ ما الليلُ بعدُ

وما غرورُ الشمسْ؟

إذا أغمضتُ

أُبصِرُها

وأشرَبُ ضوءَها

بِاللَّمْسْ

وإن ضحِكَتْ

رأيتُ غَدِي

يكفِّرُ عن ذنوبِ الأمسْ

ولَيلَى

سِدرَتِي في الوَجْدِ

مِيعادي مع الأشواقْ

وإصغائي

لصوتِ اللهِ

حينَ يضيءُ

في الأعماقْ!

عروسٌ هذه الدنيا

وكُحْلُ عيونِها

العُشّاقْ!

ذهبتُ

إلى براري الحُبِّ

قبْلَ ترهُّلِ الوقتِ

فلم أعثرْ

على امرأةٍ

يضيءُ غيابُها صوتي!

سوى امرأةٍ

بِسُكَّرِها

أُحلِّي

قهوةَ الموتِ!

هي امرأةٌ

تخصُّ الرُّوحَ

لا بَدْءٌ لِقِصَّتِها

وما مِنْ منتهىً

في العشقِ

عُمْري

بعضُ حِصَّتِها!

وما أنا غيرُ موسيقا

تليقُ بِسِحْرِ رَقْصَتِها

ذهبتُ إلى أنوثتِها

صبيًّا طاعنًا في الحبّ

أُدَنْدِنُ باسمِها مطرًا

فَأُزْهِرُ

في السنينِ الجَدْبْ

أنا الموعودُ،

أسمرُها،

المبشَّرُ باسْمِها

في الغَيْبْ!

أَشُمُّ جمالَها بِيَدِي

وأُبصِرُهُ بآذاني

وأسمعُهُ بأحداقي

أقبِّلُهُ بأجفاني

وأقرأُ فيهِ

توارتي،

وإنجيلي،

وقرآني!

قديمًا

قبلَ تربيةِ الأفاعي

تحتَ سقفِ القلبْ

وقبْلَ

الناسُ

منفى الناسِ

والدنيا

غنيمةُ حربْ

أتى ولدٌ

إلى الدنيا

تُظَلِّلُهُ

غمامةُ حُبّ!

أنا الولدُ الذي ابْتَكَرَ البِحَارَ

مُضَيِّعًا شَطَّهْ

تَمَنّى قهوةَ الأنثى

فكانت

شَهوةَ القِطَّة

أترجِمُ

مِلْحَ هذا الدمعِ

أمواجًا

من الغِبْطَةْ!

أنا هو

ذلكَ الولدُ القديمُ

الأسمرُ اللثْغَةْ

يُضَمَّدُ رُوحَهُ

شِعرًا

ويَنْفُثُ ساخرًا

تَبْغَهْ

وحَوْلَ القلبِ دائرةٌ

تُحَدِّدُ

مَوْضِعَ اللدغَةْ

أنا المجنونُ يا لَيلَى

شهيدُ الحُلْمِ

والأشواقْ

بِحُبِّكِ

أُسْكِرُ الدنيا

وباسْمكِ

أملأُ الآفاقْ!

على آثار أقدامي

يَسيرُ العشقُ

والعُشّاقْ!

عبَرْتُ متاهةَ الماضي

وما جَمَّلتُ أخطائي

وسرتُ

على صِراطِ الحزنِ

محفوفًا بأعدائي

وجئتُكِ

خالصًا للحُبِّ

مِنْ أَلِفِي

إلى يائي!

فيا ثأري مِنَ الأحزانِ

يا بابي

على الملكوتْ

بنقصٍ في الضلوعِ

وقفتُ

مُتّهَمًا

بوَرْقَةِ توتْ

أَضُمُّكِ

فليكُنْ سَفَرٌ

على عطشٍ

وقِلَّةِ قوتْ!

أُحِبُّكِ في الزمانِ يَجيءُ

لا في الوقتِ

وَهْوَ يفوتْ

أحبُّكِ في الجمالِ يُضيءُ

أطفالاً

وحِضْنَ بيوتْ

أحبُّكِ...

لحظةٌ تكفي الفتى ليعيشَ

لا ليموتْ!

أنا أدعوكِ

معجزتي

فَمَن سمّاكِ

أحزاني؟!

عشقتُكِ

من ضجيج خُطاي

حتى

صمتِ أجفاني

ولم أحلمْ

بعابرةٍ

أقبِّلُها

وتنساني!

معي

زُوّادةُ التَّحنانِ

في ناي الرعاةِ

السُّمْرْ

معي أسطورتي

في العشقِ

أنتِ

ونارُ هذا الشِّعْرْ

ولي

كالدّيكِ حَنْجَرَةٌ

مَهَمَّتُها

ابتكارُ الفَجْرْ

أتيتِ

فَشَفّني صَحْوٌ

حكَيتِ

فمسَّني سُكْرُ

تنهَّدَ في دمي وَرْدٌ

وغرَّدَ في فمي

شِعرُ

وحفَّتْنِي ملائكةٌ

وسالَ على يدي

نَهْرُ

هما عيناك

يا وَعْدَ السَّما

للأرضِ

مِنْ أزلِ

أسافرُ منذ ميلادي

ولم أرجعْ ولم أصلِ

لغيرِ عيون لَيلَى الكحلُ

لَيلَى كُحْلُها غَزَلي!

فيا أيقونةَ الأسرارِ

في الأشعارِ

يا لَيلَى

ويا الأندَى

ويا الأشجَى

ويا الأحلَى

ويا الأغلَى

أحلِّقُ

في أعالي الشِّعْرِ

واسمُكِ دائمًا

أعلَى!

أغارُ

على اسمِكِ الضوئيِّ

يا وقّادةَ الإغراءْ

أغارُ

على أناقتهِ النبيلةِ

من فَمِ الغرباءْ

فيخفقُ قَلْبِيَ:

اكْتُبْها

وضَعْ ما شئتَ

من أسماءْ

عيونُكِ

يا سمَا عينَيَّ

صحوُ الشوقِ في الناياتْ

حضارةُ آخرِ الدنيا

بكارةُ أوّلِ الغاباتْ

عيونٌ

تصطفي رَجُلاً

فضيحةُ قلبهِ

الكلماتْ!

هنا

في المَقعدِ الخالي

مِنَ الجمهورِ

كلَّ مساءْ

ستجلِسُ

أجملُ امرأةٍ،

لتسمعَ

أجملَ الشعراءْ

وتنثُرَ

عطرَها الأبديَّ

في قمصانِهِ البيضاءْ!

تقول لأختِها:

انتظري

نحدِّثْهُ على عَجَلِ

أأطلُبُ رَقْمَ هاتفهِ؟

أكاد أموتُ

من خَجَلي

قفي لا تملئي

عينيكِ منه

إنّهُ رَجُلِي!

وبُحَّتُهَا

انسكابُ المِسْك

حين تقولُ:

يا أحمدْ

نبيذُ أناملٍ خَمْسٍ

تُمسِّدُ شَعرِيَ الأجْعَدْ

تَنَهُّدُ مُوْجَعٍ في النايِ

رَفَّةُ طَائرٍ

مُجْهَدْ!

تقولُ لنفسِها:

نَزِقٌ وقاسٍ

ساحرٌ وبعيدْ

لماذا صوتُهُ النيلِيُّ

يسكنُ فيَّ

كلَّ وريدْ؟!

أَحقًّا

أنَّ رائحتي تذكِّرُهُ

بكعْكِ العيدْ؟!

أُحِبُّكِ...

كيفَ حالُ الخالِ

يا ليلاي

مِنْ بَعْدِي؟

أتغفو شَهْقَةُ الإغراءِ

فوقَ الشاطئ الوَرْدِي

وعندي

كُلُّ هذا الليلِ

كيفَ أُضيئُهُ وحدي؟!

مساءُ الشجو

يا خالَ الجميلة

ما تركتَ خَلِي

غنائي كلُّهُ

سَفَرٌ إليكَ

قصائدي

قُبَلي

يقولُ الخال:

يا مجنونُ!

قبِّلْني

على مَهَلِ!

متى ألقاكِ

يا ليلايَ

إنَّ دَمِي

يخاصمُني

ورُوحي

لا تسيرُ معي

وقلبي لا يكلّمُني

وصوتي

ليسَ يؤنسُني

وصمتي

ليس يُلهِمني!

متى ألقاكِ؟

إنَّ الشِّعْرَ

أوجعُ ما يكونُ

الآنْ

ولا قاموسَ للأشواقِ

لا إيقاعَ للتَّحْنانْ

بياضٌ قاتلٌ

وَرَقِي

وقافيتي

قراءة في “لغاية في نفس سادن المئذنة” ليحيى السماوي

يأتي نص “لغاية في نفس سادن المئذنة” للشاعر العراقي الكبير يحيى السماوي، من مجموعته “أنقذتِني مني”، ليكشف عن قدرة الشاعر الفذة على الجمع بين المقدس والمدنس، وبين لعب الطفولة ونيران العشق الناضج، في لوحة شعرية تتقاطع فيها الروح مع الجسد، والبراءة مع المكر، والصوت الطقسي للمئذنة مع همس الوسادة.

بين الطفولة والمئذنة… مفارقة البدايات والنهايات

يفتتح السماوي نصه بصورة الطفولة التي لم تزل تسكن قلب العاشقين رغم “شيخوخة الزمان”. لعبة “الشرطي واللص”، و”الأميرة في بلاد الجن”، و”الطفل العصي على الفطام” تضع القارئ في مناخ براءة ظاهري، سرعان ما يتحوّل إلى خلفية لعاطفة ناضجة مشبعة بالمشاكسة والغواية.

المقدّس والمدنّس في تمازج فني

عنوان النص وحده يفتح باب التأويل: سادن المئذنة هو الحارس الروحي، رمز الطهارة والنقاء الطقسي، بينما جسد النص ينبض بصور الحواس والرغبة والفتنة. السماوي هنا يضع المقدّس والمدنّس في حوار إبداعي، ليرينا أن الحب الحق لا يكتمل إلا إذا احتضن الأضداد.

صور حسية مشبعة بالألوان والروائح

النص ثري بالصور الحسية: “ورد الياسمين”، “التوت الخضيب”، “ندى القرنفل”، “البردة الخضراء”، “قميص النوم”، و”السواحل التي تبايعني سندبادًا”. هذه الصور تتجاوز دورها الجمالي إلى بناء عالم شعوري ملموس، بحيث يشعر القارئ أنه يتذوق ويرى ويشم ويتلمس المشهد.

درامية العتاب والمصالحة

في حركة مسرحية متقنة، يتدرج النص من الخصام إلى البكاء، ومن اشتعال الحرائق إلى الاستغاثة، ثم إلى الضحك والخضوع لموسيقى الصفح. هذه الدرامية الوجدانية تجسد علاقة إنسانية حقيقية، حيث التوتر جزء من تثبيت أركان الحب.

النار والتطهير

رمزية النار في النص تتجاوز الطهي والدفء، فهي نار التطهير والتحرر من “ذنوب لذاذة العشق الحرام”. السماوي يوظف هذه النار كرمز للحياة والرغبة، وكتقاطع أسطوري بين الخلق والفناء، بين الخبز كقوت الجسد والنار كقوت الروح.

إيقاع غني ولغة متدفقة

يستند النص إلى إيقاع داخلي نابض، يتبدل بين انسياب الحلم وعصف الموج، مدعوم بتكرارات وصور متولدة. اللغة هنا ليست وسيلة لنقل المعنى فقط، بل فضاء لتوليد المعنى من جديد في كل قراءة.

خاتمة

في “لغاية في نفس سادن المئذنة”، يقدّم يحيى السماوي نصًا يقيم في المسافة المضيئة بين المئذنة وسرير الحبيبة، بين الطهر والفتنة، بين النداء الطقسي والهمس الشخصي. إنه نص يذكّرنا بأن الشعر العظيم هو ذاك الذي يتسع لكل الأضداد، ويجعل منها لغة للحياة.

***

بقلم: رانية مرجية

للشاعر المغربي (ادريس زايدي)

تمهيد: سنتناول مفهوم الانسجام تظهيرا لا تنظيرا، باعتباره منظومة حركية تتجاوز حدود النص، وتفكّر في الخطاب، مفترضين وجود متلقٍّ فعّال وقادر على ممارسة التأويل. (فليس هناك نص منسجم في ذاته ونص غير منسجم في ذاته بعيدا عن المتلقي). كما سنتناول هذا المفهوم في تقابل مع مفهوم آخر، هو الاتساق، لا برصد آلياته في التركيب، ولكن باستثمار نتائجه الحاضرة والتي لا نكلف نفسنا في تقصّيها. إنها موجودة وظاهرة في متون الديوان.

وإذا كان الاتساق مجموعة من الروابط النحوية والمعجمية والإحالات ووسائل الربط والاستبدال والحذف و… والتي تجعل النص متماسكا، بحيث يكون دور المحلل هو البحث عن هذه الظواهر ليعثر عليها، فإن الانسجام لا نبحث عنه لنعثر عليه في الخطاب الشعري، وإنما نبنيه ونشيده عبر آليات التأويل المشروطة بحدود منهجية تحاصره حتى لا يشط بعيدا عن ممكنات هذا الخطاب.

قراءة في الديوان:

يمثل ديوان “أسأتُ لي” للشاعر المغربي “ادريس زايدي” حساسية شعرية موغلة في التراث والحداثة معا، إذ اختارت هذه الحساسية الشعرية لذاتها أن تمارس حضورها في سياق ثقافي متوتّر على مستوى التجنيس الأدبي. ونحن في هذا المقام لا يهمنا هذا الصراع، بقدر ما يهمنا وضع الديوان في سياقه العام، وهو السياق الذي يوجّه القراءة النقدية انطلاقا من استحضار التصورات النظرية للشعر التقليدي وللشعر الحداثي معاً، لأن الشاعر (ادريس زايدي) يعي تمام الوعي هذا التوتر، وبالتالي فهو قد صاغ ديوانه في هذا الأفق بانيا أنساقه اللغوية على النمط القديم فيما أنساقه الأبعادية تمارس حضورا حداثيا قويّا.

نشتغل في هذا الديوان على استثمار آليات الانسجام للظفر بمجموعة من النتائج نعتبرها عصارة عمليات التأويل الممكن والمشروط:

1 – آلية التجنيس:

ونقصد به انسجام التجنيس، وفيه يمارس الديوان على القارئ شيئا من المكر المشروع، على مستوى جدل القديم والجديد، بحيث يقحم الشاعرُ القارئَ في لُججِ القصيدة العمودية في إطار عقد ضمني مع المتلقي، يبني فيه الشاعر هوية الجنس الأدبي داخل النسق القديم، وهو النسق الذي يؤطر وجدان المتلقي وذهنيته وسمعه وكل جوارحه وهو يتأرجح داخل إيقاع صوتي يرسله بين الصدر والعجز، وداخل البيان الذي يلقي به في تاريخ ماضوي يعبق بصور امرئ القيس والمتنبي وغيرهما …

لكن، سرعان ما يكسر الشاعر هذا العقد، ويلقي بالقارئ في أتون قصيدة النثر حيث (مقام الإساءة) بشخصيتها المغايرة تمام المغايرة لهيكل القصيد الذي أطّر وجدانه قبل ذلك، بشكل لا يمس في هوية الخطاب الشعري في شيء، ولا يخدش في انسجام الرؤية الفنية للذات المتكلمة في شيء.

هكذا يتحول إيقاع المتلقي الوجداني من التاريخ إلى الحداثة. ومع أن الشاعر لم يصنع جسورا ملفوظة للعبور بالمتلقي إلى هذه الضفة المغايرة، إلا أن القارئ سرعان ما يستوعب الحدث، وينسجم هو أيضا مع النثيرة في غير تعثّر. لماذا؟ لأن نسق البناء الشعري والصوغ اللغوي واحد، والهيكل مغاير ومختلف، في صياغة شعرية قادرة على استدعاء المتلقي إلى عمق الرؤيا، بألف ممدودة تفيد الـتحرر والانطلاق في ملكوت الشعر سواء أكان تشطيراً أم تسطيرا.

ما التأويلات الممكنة التي تثوي خلف ذهنية المتكلم؟ يتحدّث الشاعر في مقام الإساءة حديثاً يمتزج فيه الأثر الصوفي مع شعرية الحكي (أسأتُ لي ولي أسأتُ وساء حال ما رأيتُ حين ألقتْ جمرةً في الماء كنتُ بين حرٍّ في البهاء شارداً. وحينها اقتربتُ أسفل المقامِ، ثمّ قادني دخانٌ أزرق إلى موجه … تنتهي هذه النثيرة بشذرة عمودية من بيتين في انسجام متني قويّ).

نقول في غير جزْمٍ ولا حسم:

إن الشاعر لا يؤمن بحدود الشعر، ويؤمن بوحدة الشعر

تتجاور في نسق الشاعر الذهني كلٌّ من القصيدة العربية الأم، والقصيدة النثيرة في تواصل زئبقي وتفاعل هيولاني.

الشاعر يتعالى على صراع الأنواع وصراع الوصايات الشعرية.

هوية العمل الشعري لا تكمن في شكله فقط، وتكمن أيضا وأساسا في مقدار ما ينطوي عليه من خصائص ” الشعرية”.

2 – التغريض:

يعتمد مبدأ التغريض في منظومة الانسجام على استناد المتلقي لتيمة النص أو الخطاب من أجل تكوين تأويل معيّن، ولو كان تأويلا أولياً . والتيمة هي بداية قولٍ ما، وهي قد تكون عنوانا، وقد تكون جملة البداية، ولها تأثير على تأويل المتلقي.

لننظر، عابرين، في عتبة العنوان دون ادّعاء رصده كليّاً وشمولياً.

تتصدر عبارة (أسأتُ لي) غلاف العنوان، وتعلن عن قامتها الفارهة وهي تُشهر في وجه المتلقي ورقة انحرافٍ في القول، على اعتبار أن الإساءة هنا فعلٌ موجّه إلى الغير في مألوف التعبير والتداول. وعوضَ أن يسير ذهننا في اتجاه (أسأتَ لي) بفتح حرف التاء، انحرف بنا الشاعر إلى (أسأتُ لي) بضمّ حرف التاء، لينقل ميدان التوتّر من علاقة الذات بالآخر، إلى علاقة الذات بالذات. هنا تمارس عبارة (أسأتُ لي) جدلية الخفاء والتجلي، فهي تختفي في متون القصيدة العمودية، وعددها ستّ وأربعون قصيدة، لتتجلّى في نثيرة واحدة هي (مقام الإساءة) الصفحة 11:

تتجلى العبارة (أسأتُ لي) واضحة البنية: فعل وفاعل ومفعول به شبه جملة، إضافة إلى التوكيد عبر تكرار المحتوى وداخل بينة قولية أكثر دقة عبر بلاغة التقديم والتأخير في قول الشاعر مُرْدفاً (ولي أسأتُ) … ينضاف إلى هذا تكرار صوت السين الصفيري (أسأتُ – أسأتَ – ساءَ) لينسجم هذا الفراغ المخرجي مع فراغ الدلالة التي تتملص عن القبض، لتصبح الإساءة إلى الذات هي إدانة الذات على اقترافها للجمال الشعري. وهي إدانة مفارِقة تشي بالعكس في غير تصريح.

ما يؤكد ذلك هو سياق المقام في قول الشاعر في النثيرة – ساء حال ما رأيتُ – كنتُ شاردا – أسفل المقام – تلعثمت خطاي – ودّعتُ المقام لمن يعلو الجبل) وهي إشارات غير عابرة تفيدنا تقابلا بين ذاتين، واحدة كبيرة بمؤشر لسني هو (الجبل) وثانية متواضعة هي الذات المتكلمة المتنازلة عن موقعها للممكن في الشاعر من باب القيمة. وهذا الممكن في الشاعر مستضمرٌ في قناعة، مفادُها أن الشعر الجيد لم يُقْتَرَفْ بعدُ، وأن الشاعر الجيّد لم يولد بعد.

هكذا يتلاءم الخطاب الشعري في باب التغريض في نسق ذهني يقول: إن الخطاب الشعري الجيد لا تبنيه هياكل التجنيس بقدر ما تبنيه وحدة الرؤيا. وأن هذا الاقتراف الجمالي الموسوم بالقصيدة العمودية هو إساءة ماكرة للذات، وعامرة بالإدهاش الشعري وصائرة إلى امتدادات لا حدود لها في نسغ الشعرية العربية. أنظر ديباجة الديوان، ص 5، الفقرة الثانية (وحتى لا تكون القصيدة العمودية مثار جدال لا يجدي، فالانصراف إلى أسئلة علاقة الشعر براهنيته، أقوى من سؤال القديم والجديد …).

3 – التطابق الذاتي:

في القصيدة الموسومة ب (هوى شاعر) يرسل الشاعر (ادريس زايدي) البيت الأول أرسالاً حكيما:

ما سيّد الشعر إلا شاعــــــر عبرا

زمّ القوافي ونالَ العشق فانشطرا

ص 14 من الديوان

وتبدو فيه الذات المتكلمة مالكة لرؤية خاصة لفن النظم والقريض، ويتناسب توظيفه لأداة (ما) النافية مع الإثبات، في صوغٍ بياني يضمر دلالة معينة، نقترحها عبر مفهوم المقولات، كالتالي:

المقولة الكبرى: الشاعر السيد

المقولات الصغرى: عابر، متمكن، عاشق، متشظٍّ

نعتبر الصوغ الأول سياقا عاما على الإطلاق، لكن البيت الثاني:

يبدي مخاصمتي كالريح يعزفني

وكنتُ بين أناي الهمس إذ بطرا

ص 14 من الديوان

يتيح لنا ملامسة التطابق الذاتي كمحور محقق لمفهوم الانسجام النصي عبر تأويل الظاهر إلى نسق مضمر هو:

الشاعر بالمفهوم العام: سيد عابر متمكن عاشق متشظّ، والشاعر بالمفهوم الخاص: مخاصم متحرر عازف هامس … والعلاقة هي التطابق الذاتي دلالةً لا شكلاً. إن تتبعنا لمسار القصيدة في كلها وجلها يفيدنا هذا التطابق بين الذات المطلقة في الشعر على مستوى التسطير النظري، وبين الذات المتكلمة في الشعر على مستوى الممارسة.

نتابع القصيدة في مكرها المنساب وانسيابها الماكر، ندرك حرص الشاعر على رسم معالم الشاعر رسما قصديا يروم من خلاله بثّ رسالة إلى هذه الساحة الثقافية والفنية التي تعجّ بالغثّ والسمين في مجال تعاطي القريض:

يتجلى الشاعر في القصيدة على الصورة التالية:

الشاعر: (يسكن بين اللحن) حضور الموسيقى والإيقاع الخليلي

الشاعر: (يمشي بشط المرايا) حضور مكوّن التخييل

الشاعر (يرسم الحذر) حضور اليقظة في مفهوميها، الحالم (الشاعر) والعالم (الناقد)

الشاعر (القطف شقّ يدي) شرط الشقاء في الإبداع، قال الفرزدق (إن خلع ضرس أهون عليّ من قول بيت شعر).

4 – علاقة التضمن والملكية:

ننطلق من القصيدة (عزف جاهلي) ص 43، لرصد علاقة الجزء بالكل، المفضية إلى مقولة الملكية، يقول الشاعر في مطلعها:

نثرتُ مشيبي عابرا سبحة العرى

وقد سامني ما الجـــــاهلي تدثّرا

وقفتُ على الدّار التي رسَمَتْ لنا

خدود الأثـــــافي بعد هجر تنكرا

هي علاقة تؤسس لجدل الذات (ضمير المتكل) مع الدّار (ضمير الغيبة). وفي هذا الإطار تتناسل وحدة (الدّار) اللسنية عبر العلاقات التالية:

الأثافي – القفر – الحمالة – الطلل – القطا – الأشطان – هند – مهند – أسماء – امرؤ القيس – الشنفرى – الناقة – الخيمة …

وتتناسل تبعا لذلك محاورات الذات:

الذات الحنين حيث التوق إلى الزمن الجاهلي لا في حضوره الفيزيائي المرتبط بمقولة التحقيب والحيز وإنما في حضوره كامتداد لمفهوم الإبداع الأصيل العابر لمقولة الزمن.

الذات الإنسان حيث الراهن المستشرف لإبداعٍ يمارس دوره في ترسيخ مفهوم القيمة.

الذات الأنثى حيث تتجلى صورة المرأة العربية محاطة بذاكرة جميلة من الأشياء، لا تؤسس لهويتها ولكن تمارس وخزا جميلا لاستحضارها كنسق وجودي لا يمكن تغييبه في مجال الإبداع.

هذه العلاقات في تعددها الشكلي يحكمها مبدآن:

مبدأ العضوية وفيه يمدّ الشاعر المعاصر رجلاً في التراث وأخرى في الراهن.

مبدأ الملكية وفيه يتكلم الشاعر من مساحة الامتلاك لهذا الماضي بكل تفاصيله. وهو امتلاك يتجاوز حيازة الأشياء إلى حيازة المفاهيم، ومنها مفهوم الشعر الذي لا يمكن تصوره خارج التصور الفني القديم.

تفيدنا علاقة التضمن والملكية في تحديد توقعاتنا نحن المتلقين، حول البنيات الدلالية للخطاب الشعري في ديوان ” اسأتُ لي”. إن سرد المعطيات المرتبطة بالأثافي والناقة وهند وما جاورها … يعدّ انثيالاً يغرف من القديم، وهو في انطباعنا الأول يبدو غير مقبول وغير منسجم مع عالم الشاعر المعاصر والمرتبط بواقع غير الذي نقرؤه في القصيدة وفي الديوان. نعتبر هذا نوعا من تشعب الدلالة السائرة في اتجاه الانسجام عن طريق مبدأ العضوية والملكية الذي فسّر لنا طبيعة هذا التفاعل بين القديم والمعاصر.

5 – إطار المَقْوَلَة:

وفي هذا السياق يبدو الشاعر الإنسان معاصرا، متقلبا في الماحول، الموسوم بالراهنية، يعيش راهنه وفق شروط يمليها هذا الراهن، يتفاعل معه وفق محدداته المعاصرة المشروطة… هذا الانثيال المعرفي يضعنا أمام قائمة من المفردات ذات الطبيعة (الجاهلية) المعزولة عن سياق الذات المتكلمة، انطلاقا من استحضارنا للحالة العادية والمفترضة التي تبني نسقنا الذهني مركّباً مَقْوَلَة المكوّن المركزي (الشاعر):

الشاعر: + إنسان + معاصر + حداثي + يمتلك سيارة لا ناقة + يطهو آليا لا على الاثافي + في وجوده امرأة ليست بالضرورة هند أو أسماء …

إن مؤشر الانسجام الأول نستفيده من مفهوم الاتساق عبر آلية الضمير المتكلم: نثرتُ – خاتلتُ – قال صحبِي… والضمير هنا لا يقف عند حدود الإحالة على فاعل ومنفعل، فحسب، وإنما وأيضا يمارس نوعا من الإطار، كمفهوم نميز فيه معرفتنا للعوالم المفترضة. والضمير هنا في إحالاته، يتحول إلى إطار معرفي يفيدنا في تمثل الأنساق الذهنية من قبيل:

القصيدة، بؤرة في الصوغ الشعري القديم

القصيدة، تجسيد ذكي لحضور المخيال العربي

القصيدة، مجال خصب لتداخل الذوات وتداخل الأزمنة وتداخل النصوص.

من هنا تقودنا إجراءات المقْوَلَة للذات إلى نتائج ترتبط بشرعية العوالم الممكنة في الديوان، عالم الماضوية الشعري أو الشعرية الماضوية، وعالم الراهن والواقع… وهي في ظاهرها تشعبات ضاغطة، سرعان ما تنسجم دلاليا عبر التخريجات أعلاه.

من هنا، نستنج أن الشاعر “ادريس زايدي” يتكلم من مساحة الوجود الكلي المندمج العابر للأزمنة والذي لا يعترف بالمسافات الحدود. وهو الاستنتاج الذي يقودنا إلى رؤية الشاعر الفنية القاضية باحتضان كل الموجودات في الإبداع.

6 – الأنساق الذهنية:

نعتبر النسق منظومة مضمرة من الدلالات الموغِلة في الخطاب، لا يصنعها مبدع المتن الشعري أو أيّ متن لغوي آخر. وإنما تصنعها الثقافة. وهو نسق يتوارى خلف مورفولوجيا الكلام في ظاهر اللفظ والمعنى. وفي هذا السياق نحاول أن نقرأ ديوان (أسأتُ لي) في أفق استدعاء أشكال هذه الأنساق الممكنة حسب تأويلنا المتواضع:

نسق الاستمتاع: نستثمر في هذا النسق حضور مكون الخمرة، في الديوان، نعالجه ضمن تصوّر تحكمه الكثافة الاستعارية المخترقَة باستعارات جزئية متعددة. وهذا يجعلنا نعتبر الديوان مؤوَّلَةً كبرى تسهم في تشييد المعنى وبنائه بناء منفتحا ومفتوحا على مجالات واسعة من التأويلات.

قال الشاعر في قصيدة (فتحٌ أخيرٌ ص 9) من الديوان:

وخُذ عناقيد الضياء ومـــا بدا \ فأنت إلى عرشِ الغواية تقترب

وفي قصيدة (مقام الجناح ص 10) قال:

هو ذا نشيد الشعر يسكب سحره \ بدمٍ تمطّى للسقـــــاية يحتفي

شُرب السخيّ على المكارم جوفه \ يختار ضيف الكأسِ دون تكلّف

تتبدّى الخمرة هنا لا سائلا مرتبطا بحالات الانتشاء وفيزياء اللذة العابرة، بقدر ما تبدّت كونا قائما بذاته، مشروحا في عنف الوجود المتلبس بدلالات التعالي (الضياء – السحر – العرش) والغواية (الدم – السقوط) مما يلقي بنا في التخريجة التالية: الخمرة مجال ارتقاء، لا مجال ارتداد وانتكاس.

إننا لا نمارس ليّاً لأعناق الاستعارات من سياقاتها الخاصة، لتخدم دلالات جاهزة في أذهاننا، وإنما نستدعي الملفوظات في مساحة من التحليل والتأويل المشروطين، للظفر بالممكن من المضمر في الخطاب. إن الشاعر (ادريس زايدي) لا يتغنى بالخمرة باعتبارها مادة سائلة ناقلة للذات من حالة سويّة إلى حالة مترنّحة، بقدر ما يوفر لمكون الخمرة زمناً شعريا موسوما بالرؤيا الماضوية مندمجا في نسغ الحداثة وأزمنتها:

الخمرة: + رياح + سحر + سقاية + احتفاء + نور + شعاع + ضياء + عرش + غواية …

يتحقق التشاكل في مكون الخمرة مع الإنسان اعتمادا على التفاعل بين مقومات جوهرية في الإنسان ومقومات جوهرية في الطبيعة، (نور، شعاع، ضياء، رياح) يوحدهما الإيجاب المتحقق في الإنسان اعتمادا على سياق القول الشعري.

يتمثل الشاعر مقولة الخمرة تمثلا استباقيا حيث يربطها بالقيمة (شربُ السخيّ على المكارم – يختار ضيف الكأس دون تكلّف)… هكذا تتجلى الخمرة في ذهنية الذات المتكلمة زمناً روحيا هو أقرب إلى الصوغ الصوفي منه إلى الصوغ التقليدي الواصف.

غير أن ارتباط مكون الخمرة بالزمن الروحي وبالقيمة في منظور الشاعر، يدعمه حضور الحياة وضدّها، مما يعكس خلفية المتكلم ومواقفه الوجودية. ومادام الشاعر يتبنى حُسنيَيْ الزمن والقيمة فإنه زكاهما باختيار مقوّم آخر هو المرأة:

قال الشاعر في قصيدة (ودّعتُ أسحارها ص 26):

خُذ هاتِ كأسك مسجوراً بأجنة \ تقول قارئة الكفّين ويْح سر

كذاك مجنونها يسري وتحذفه \ حذف سطور الهوى خانت لظى الجمر

فاشتدّ حال المنافي بين أضلعنا \ ولألأَ الخدّ من برقٍ ومن مطر

من هنا تشييد المعنى في اتجاه التقابل المنسجم بين الخمرة والحياة، من جهة، والخمرة والمرأة من جهة ثانية، حيث لا تكون الكأس الأداة، مفهومة إلّا بين يدي هذه الموسومة في السياق الشعري بقارئة الكف. والقراءة هنا نفهمها تأويلاً تقدّمه المرأة للشارب وهي ترسم له معالم بعض مستقبله، والمستقبل لا يكون – طبعاً – إلا حياة.

ب – نسق الاعتبار: في نسق الاعتبار يغيب ويتوارى ويضعف ضمير المتكلم، بخلاف ما سبق. وتحضر بدلَ الضمير إحالاتٌ دالّة على متعيّن في التركيب ومتعيّن في الدلالة.

في قصيدة (هديلُ الرّيف ص 114) يتدرّج الشاعر في الكشف عن تيمة الموضوع:

الطيف طاف بريف الأهل وامتنعا \ بين الأسود سما الربّان وارتفعا

أوهى الكريم بين بأجدير الهوان ضُحى \ والفارس الشهم فوق الخيل قد رتعا

عبد الكريم ودير الحرب منحبس \ كالنور يألفه من بيتُه التمعا

يذكر الطيفَ (التجريد) ثم يذكر الكريم (التوصيف) ويذكر أخيرا عبد الكريم (الشخصنة)… هكذا ينتقل بنا الشاعر من التجريد إلى التوصيف إلى التصريح. إذن ما مسوّغ هذه الخطة في التدبيج؟ يبدو الأمر متعلقا بتشعب الموضوعات فيما الأمر يتعلق بتيمة واحدة هي الريف مشخّصا في علم من أعلامه الذين مارسوا حضورا نوعيا على تاريخ المنطقة.

في هذا النسق الموسوم بالاعتبار يحضر التاريخ والوطن انثيالاً في ثنائية غير قابلة للتجزيء والفصل… (قاد المغاربة في الأوطان، بيت المغاربِ والأرياف – انّ الخسار بأنوال – فكان جمع بني الأرياف…) وهما، أي التاريخ والوطن لا يستدعيهما سياق الإضمار على مستوى السرد، سرد الأحداث للتوثيق، ولا على مستوى التغني بالوطن في رومانسية إنشائية عابرة، وإنما يستدعيهما قصد الاعتبار من اللحظة الماضوية (التاريخ) والراهنة (الوطن) الممتدين في نسغ المتكلم وفي نسغ المجتمع الذي ينخرط فيه ثقافةً مشتركة. وفي هذا النزوع المشترك تحتمي الذات بالزمن المرجعي، مشخصاً في زمن الريف وأبطاله، ومصوغاً في قالب يوهيمري، تتخذ فيه الشخوص هالاتٍ من الضوء قصد الاعتبار من حركيتهم الماضوية. من هنا يتم وصف هذا الزمن بالأسطوري (الأسود، الفارس، فوق الخيل، عبد الكريم كالنور، على الجبال، صاغ المثاني…). ويمثل هذا الزمن بؤرة التأويل ومنطلقا له، سواء للاعتبار من أحداث الماضي أو للاعتبار في أحداث الراهن الذي يمثل طرفاً ثانياً التشعّب التيماتي السائر في اتجاه الانسجام انطلاقا من النظر الى الزمن المتشعب بين اللحظة الموجِّهة بكسر حرف الجيم، أي التاريخ الريف، واللحظة الموجَّهة بفتح حرف الجيم أي الحاضر الوطن.

وهو النسق المبتوت في قصائد أخرى مثل القصيدة (مخايل الربيع ص18) حيث يتوارى ضمير المتكلم ليحضر ضمير الغيبة باعتباره “أنا جمعياً”:

سمعتُ الكنانة عاجت بوردٍ \ وبالشام أمسى الخطيب منيعا

حيث تتسع دائرة الاعتبار من الزمن المرجعي المحيل على بؤرة الوطن الخاص، إلى الزمن المرجعي المحيل على بؤرة الوطن العام.

ج – نسق الكتابة: في هذا الإضمار يمكن لنا أن نؤول انزياحاتٍ من قبيل (سيد الشعر، زمّ القوافي، كالريح يعزفني… ص 14) وغيرها بتأويلات تبحث في عمق وعي الذات المتكلمة لاستنباط مفهوم الكتابة والكتابة الشعرية لديها. وفيها، أي تأويلاتنا، يبدو الشاعر ممسكا بهذا التصور الفني لفعل الكتابة. فالشاعر هو ذاك المتكلم العابر الذي يقول كلمته ويمشي، متحكما في القوافي مالكا لناصية القريض، عاشقا لفن القول، منشطرا ومتشظيا لا مألوفا نمطياً، مخاصما ودائما في توتّر موجب مع الماحول، شبيها بالريح في انعتاقها، عازفا حاملا لموسيقى ذاتية، عامرا بالخيال، يقظاً، مكابداً، متعاليا تعالي استلهام لا تعالي طبقة… في هذا المنحى تتبدى لنا الكتابة الشعرية مزيجا من الأصالة (زمّ القوافي) والمعاصرة (التشظي والانشطار) في تصور فني يعطينا فكرة عن الصراع الأدبي بين القصيدة العمودية وقصيدة النثر، ومما يؤكد مخرجنا هذا تسطير الشاعر ادريس زايدي في مقدمة ديوانه بيانا بليغا عن مفهوم الكتابة الشعرية وموقفه من هذا الصراع (وما القصائد والمطولات بإيقاعاتها إلا وجه من وجوه الشعرية العربية الثابتة الجوهر في منجزنا الشعري العربي ص 5).

خلاصة: حاولنا في جهد متواضع أن نقرأ ديوان (أسأتُ لي) للشاعر ادريس زايدي قراءة تبحث في آليات انسجام الخطاب الشعري، وتحققنا من مجموعة من النتائج عبر تأويلاتنا الممكنة دون شطط في التخريج، وانتهينا إلى أن الديوان تحكمه شعريةُ فن القول الممتدة خارج التجنيس وخارج تقديس هذا التجنيس، بحيث وهي المدثّرة في عباءات التقليد، لا التقليدانية، تحاول أن تمتص كل أشكال الحداثة عبر مرونة الصوغ الانزياحي وعبر معاينة التيمات المتعددة البادئة بالذات والمنتهية بالآخر مشخصا في كثير من القضايا أهمها قضايا الوطن والتاريخ والراهن… وقد ركزنا في اشتغالنا هذا على آليات مثل التجنيس المنسجم، والتغريض والتطابق الذاتي وعلاقة التضمن والملكية واستضمار أنساق الاستمتاع والاعتبار والكتابة.

***

بقلم: نورالدين حنيف أبوشامة

...........................

* المرجع: ادريس زايدي - ديوان (أسأت لي) الصادر عن مطبعة وراقة بلال سنة 2018.)

لدى الشاعر إدريس جمّاع

أبدأ بتحية موجزة عن الشاعر ثم أقدّم قراءة تفصيلية للنصّ، تليها مقترح إطار تطبيقي يمكن تعميمه على نصّين آخرين من شعره (سأذكر أمثلة نصّية مع تبرير اختياري استنادًا إلى مصادر عن الشاعر).(السيميائي/الرمزيّ)، المنهج الأسلوبي/اللغوي، المنهج النفسي.

تمهيد موجز عن الشاعر وسياق نصوص الشاعر السوداني إدريس محمد جمّاع:

إدريس محمد جمّاع (1922–1980) شاعر سوداني معاصر ذائع الصيت في المجتمع السوداني، اتّسم شعره باللّسان الشفاف والوجدانية المفرطة، وقد عُرف بأنه صاحب مجموعة شعرية مجمعة ونصوص لاقت تداولاً وغناءً وحكايات شعبية حول ظروف كتابتها. ظهرت في سيرته أحداث نفسية وصحية أثّرت في مسار إنتاجه الشعري، ما يجعل قراءة نصوصه من منظورات نفسية وهيرمينوطيقية أمراً مثمراً.

- قراءة أول نصّ: نظرة إجمالية:

النصّ الأول يقوم على منعرجات عاطفية عالية: مزيج من الحنوّ، الغزل العارف، التمجيد الجمالي، والاندفاع النفسي الذي يلامس حدود الاضطراب (أو حالة وعي متشظّية). الصور تترنّح بين الفضاء السماوي والفاعلية النفسية (انكسار، استرجاع، استعصاء بالبعد). الإيقاع الخطابي يتراوح بين الهمس والكلام المفجوع ثم الصراخي أحياناً ("واستعصمت بالبُعد عنا")، وفي مقاطع أخرى يظهر تفخيم وصياغة بلاغية كلاسيكية (تورية، طباق، تشبيه ضمني).

وهذا يدفعنا لأن نحلّل النصّ من كلِّ منظورٍ بشكل مُنسّق: أولاً الأسلوبي/اللغوي، ثم الرمزي، ثم النفسي، ثم قراءة هيرمينوطيقية شاملة تربطه بسيرة الشاعر وإمكانات المعنى.

1 — المنهج الأسلوبي / اللغوي:

1. النسق الصوتي والإيقاعي.

توظيف تكرارات داخلية (مثلاً: تكرار الحرف «س/ص/ع» في أماكن مشدّدة) يخلق نغمة اشتياقٍ وصرامة.

تباين الجُمل الطويلة (متعثّرة أحياناً) مع مقاطعٍ قصيرةٍ تقطع الإيقاع وتدخِل حالة تشظّي نفسية (مثال: “أعلى الجِمال تَغارُ مِنّـا” مقارنةً بـ “أنتِ السماءٌ بدأتْ لنا”).

2. المستوى البلاغي

كثير من الاستعارات المباشرة: القراءة تقوم على تحويلات جعلت الأحاسيس أجساماً ("أعلا الجِمال تغار منا" — جمال كنشاطٍ فاعل أو غيْرة كقوّة).

الطباق والتضادّ (الروح/القدر، البعد/الاستعصام) يُستخدمان لإبراز الصراع الداخلي.

3. اللغة والصياغة.

لغةٍ بسيطةٍ ظاهرياً لكنها محمّلة بالانثناءات الدلالية؛ تفضّل المباشرة الوجدانية على التعقيد التصوريّ.

توظيف الضمائر (أنتِ/أنا/نحن) يخلق ديناميكية علاقية؛ الضمير المخاطَب "أنت" يتوسّط المشهد كنقطة محورية يُنحو إليها كل معنى.

4. التركيب السردي.

النص لا يتّبع خطّاً سرديّاً تقليدياً بل هو موجة انفعالية: افتتاحية (مديح/تقريظ) → تعميق حالة الفقد/البُعد → صور قتالية (السيف) → خاتمة تعاود الحديث بصيغة تأمّلية أو استنطاقٍ جماعي (“ثم قالوا…”).

- الاستنتاج الأسلوبي: الشاعر إدريس محمد جمّاع يوظّف لغةٍ قريبة من الفصحى المحكية المشبعة بالصور، فيعمل تقابل الصوت والإيقاع مع البنية الدلالية لخلق تجربة وجدانية مباشرة لكنها مركّبة.

2 - المنهج الرمزي / السيميائي.

أقوم هنا بفك رموز المفردات والصور الكبرى في النص وربطها بمخزون دلالي ثقافي وإنساني.

1. السماء / الأعلى / الجِمال

- السماء: رمزٌ مألوف للعلو، المالاها، الحاجة إلى الفوران الروحي، وأيضاً للبعد/الغياب. دعوة الشاعر للمخاطبة "أنتِ السماء" تُحول الحبيبة إلى سماءٍ متعالية — رمز متناقض: هي حاضرة ككيانٍ لكنه بعيدة.

"أعلى الجِمال تغار مِنّـا": الجمل (أو الجِمال هنا قد تعني: "أعلا الجمال") كشخصنة للجمال الذي يحسّ بالغيرة — رمز للاعتراف بقوة الحب/الجمال الإنساني على الكون ذاته.

2. البعد والاستعصام

البُعد هنا لا يقرّ كظرف مكاني فقط بل كقوّةٍ تعصي على المخاطَب إمكانية الاقتراب؛ استعصام البُعد يُرمز لعائق داخلي (حاجز نفسي أو مرضي أو غياب أخلاقي/اجتماعي) يحول دون التلاقح.

3. السيف

- السيف كلاسيكياً رمز للقوّة، لكن الشطر "والسّيف في الغمد لا تُخشى مضاربه" يقدّم تناقضاً: سلاح كامن، قوة مقبلة لكنها غير منظورة؛ وربما تُشير إلى عنفٍ مكبوت في الشخصية أو في المجتمع؛ أو إلى قدرة العين (“وسيف عينيك”) على التأثير أقوى من السيف الماديّ. تحويل العين إلى سيف (استعارة متحركة) يربط بين البصر والرغبة القاتلة/المغيرة.

4. القصّة/التصرّف الجماعي في النهاية:

“ثم قالوا ... ثم قالوا اتركوه” — تكرار الأفعال الجماعية يعطي انطباعاً عن حكمٍ اجتماعيّ/طبيعي على حالة الشاعر: إما تحيّز أو رفض، إدانة أو استسلام. يمكن قراءة هذا الرمز كدلالة على المجتمع الذي لا يفهم الجنون/الحب المطلق ويقرر إبعاده.

- الاستنتاج الرمزي: النص مبني على رموز تقليدية (سماء، سيف، جمال) لكنها تُستخدم بشكل يحوّل الحضور العاطفي إلى صراع بين الحرارة الداخلية وقسوة الواقع/البعد، ويحوّل العين إلى أداة قادرة على الجرح أو الفتك — تصوير يربط الحب بالتهديد والجنون.

3 - المنهج النفسي (قراءة عميقة داخلية):

هنا نقرَؤُه كنصّ يعبّر عن نفسية مُشخّصة/ممزقة، ويمكن الاستفادة من مفاهيم من التحليل النفسي (لا فرويدية بالضرورة بل قراءات وجودية).

1. الاندفاع العاطفي كعلامة اضطراب:

الجمل العامّة في النص: تعدّد التناقضات، القفز بين الصور الكبيرة والحسيّة (السماء مقابل السيف)، ووجود أحكامٍ خارجية ("ثم قالوا")، يُشير إلى وعي مشتّت أو تحولات مزاجية قوية. هذا يتوافق مع سردات عن مرض الشاعر في نهاية حياته—حيث تُذكر له اضطرابات وعي.

2. التحويل، والتحوّل الجنسي/الجمالي:

الشاعر يحوّل ألم العجز أو الوحدة إلى نشوة جمالية؛ الحب/السمَاء يصبحان متنفساً/مُخدّراً من الألم النفسي.

3. العين كغريزة/قوة كاشفة، يقول:

"وسيف عينيك" ترمز لما يلجمه النظر من طاقة إثارة وتدمير في آنٍ واحد؛ العين هنا ليست مجرد حاسة بل فعل نفسي (نظرةٌ تُذهب العقل). هذا يتلاءم مع روايات شعبية حول افتتان الشاعر بعيون ممرضة أو امرأة ساعدت في تدهوره النفسي (حكايات راجت حول حياته).

4. الانعزال والاغتراب، يقول إدريس جمّاع:

"واستعصمت بالبُعد" و"ثم قالوا اتركوه" يعطي انطباع التهميش الاجتماعي والاغتراب الذي قد يسهم في تطويع الهذيان أو الشعر كملجأ.

الاستنتاج النفسي: النص ليس مجرد نشيد غزل، بل هو كشف لنفسية مهاجمة للذات وللآخر، حيث يتحوّل الحب إلى فيضان يحطم توازن الفاعل النفسي. قراءة نفسية تربط النص بتاريخ الشاعر الصحي تفتح أبواباً لتفسير إبداعيّ يصبح الشعر فيه علاجاً واعتلالاً في آن.

4 - القراءة الهيرمينوطيقية (تأويل شامل وربطه بالسياق):

الهيرمينوطيقيا تهدف لقراءة النص كحلقة ضمن سلسلة معانٍ: النص، المؤلف، القرّاء، والسياق التاريخي/الاجتماعي.

1. النص كمرآة للسيرة محسوبة):

بما أن الشاعر معروف بمعاناته النفسية في سنواته الأخيرة وبقصص افتتانه وحالات طبية، فإن كثيراً من قراءات الصور (العين التي تُذهب العقل، الاستعصاء بالبعد، الأحكام الاجتماعية) يمكنُ أن تُقرَأ كإشارات هيرمينوطيقية إلى مصير الشاعر وحكم المجتمع/العائلة على حالته. مع ذلك، على القارئ أن يحذر من الإفراط في التقريرية البيوغرافية: النص كيانٌ مستقل له دلالاته.

2. نصّية الحب والجنون كثيمة مركزية:

ثيمة الحب الذي "يذهب العقل" تظهر في الثقافة العربية (أغاني، نصوص)، لكن هنا تتحوّل إلى حالة وجودية فيها تداخل بين الجمال/الهوى والتهديد/الجنون. هذا يعطي النص طابعاً كلاسيكياً وحداثياً في آن: كلاسيكي في الرموز، وحداثيّ في التشظّي النفسي والوعي الذاتي.

3. السياق الثقافي والاجتماعي:

المجتمع (العائلة/الناس) يظهر كجهة تقرر: "ثم قالوا... اتركوه"، ما يفرض قراءة اجتماعية انتقادية: كيف يتعامل المجتمع مع العبقرية والانفعال؟ هل هو ردّ فعل دفاعي ضد اللامألوف؟ الهيرمينوطيقيا تدعو لعرض النص في مواجهة هذا السؤال.

4. افتتاحيات للنصوص الأخرى:

إذا أردنا أن نضع النص في سلسلة مع قصائد أخرى لإدريس جمّاع (مثل "في ربيع الحب" أو "اللحظات الخالدة" — عناوين معروفة/منقولة في مراجع عن ديوانه)، فسنجد تكرار ثيمات العشق، الجمال، الوحدة، والانزلاق النفسي.

- الاستنتاج الهيرمينوطيقي: النص يعلن عن تجربة إنسانية مركّبة — حب وجمال يقابلهما إساءة فهم/رفض اجتماعي، وهو ما يفسّر تردّد السيرة والميثولوجيا المحيطة بالشاعر بعد موته.

5 — مخارج نقدية وتوصيات بحثية لدراسة البنية النقدية التحليلية، يمكن تعميمها على ثلاثة نصوص — النصّ المرسل + نصّين آخرين من شعر إدريس جمّاع،  وقراءة أسلوبية مفصّلة للنصّ الأول الذي انتهجنا فيه تحليل مفردات، إيقاع، ترتيب جمل، بلاغة، علاقات الضمائر.وتتبعنا قراءة رمزية، وفهرسة الرموز الكبرى (السماء، العين/السيف، الجمال، البعد) وربطها بمصادر ثقافية عربية/سودانية.

إضافةإلى قراءة نفسية واستخدام نظريات نفسية (تحويل، انفعال، اضطراب ذهانيّ/حدّية) لتفسير آليات التعبير في النص وربطها بحياة الشاعر (مع ملاحظة حدود المنهج البيوغرافي).

- أما في سياق هيرمينوطيقيا وسياق النص واللقى الاجتماعي، الأسطورة حول الشاعر، وعدد من المقاربات النقدية المقارنة (مثلاً مقارنة مع شعراء سودانيين معاصرين أو مدرسة التجريب الشعري العربي). ودراسة مقارنة بين ثلاث نصوص من شيوعها في مصادر ودواوين إدريس محمد جمّاع:

"في ربيع الحب" (أو نصّ بعنوان مشابه في مجموعته) — لقراءة إشراقات الحب والربيع.

الجدير بالذكر أن للشاعر إدريس جمّاع ديوان بعنوان :"اللحظات الخالدة/اللحظات الأخيرة" (عنوان المجموعة/قصيدة مرجعية) — لقراءة موضوعات الختام والذاكرة والجنون.

لكل نصّ من النصّين: نطبق نفس المصفوفة: أسلوبي → رمزي → نفسي → هيرمينوطيقيّ، ثم نخرج بمقارنة تكشف التحولات الموضعية في المرثية، الحب، والعلاقة بالمجتمع. وهنا أعرض مثالين تطبيقيين مختصرين من التحليل التفصيلي لمقتطفين في نصّ الشاعر إدريس جمّاع

1. المقطع:

"أعلى الجِمال تَغارُ مِنّـا

ماذا علينا إذ نظرنا"

-أسلوبياً: تركيب تكراري يثبّت الفاعل (الجِمال/الجمال) ويحوّله إلى فاعل غيور — عملية تجميل توحي بعظمة النفس العاشقة.

- رمزياً: الغيرة هنا صفة الجمال ذاته؛ الشاعر يرفع حبه إلى مرتبة تنازع الجمال الكوني.

-نفسياً: وتعكس حالة تضخم نفسي (إجراء مشابه لعرض النرجسية العاشقة).

2. المقطع:

"وسيف عينيك في الحالَتَيْنِ بتّـار"

- قراءة: استعارة مركّبة (العين → سيف؛ السيف → بتّار/قاطع). تحوّل البصر إلى فعل مدمر/فاعل، ما يعكس الخطر المتأصل في النظرة العاشقة، وربما دليلًا على فقدان السيطرة الذي يصفه الشاعر.

***

بقلم: عماد خالد رحمة - برلين

.....................

النص الأول للشاعر إدريس جمّاع:

ﺃﻋَﻠﻰ ﺍﻟﺠﻤﺎﻝ ﺗﻐﺎﺭُ ﻣِﻨّﺎ

ﻣﺎﺫﺍ ﻋﻠﻴﻨﺎ ﺇﺫْ ﻧﻈﺮﻧﺎ

ﻫﻲَ ﻧﻈﺮﺓٌ ﺗُﻨﺴِﻲ ﺍﻟﻮَﻗﺎﺭَ

ﻭﺗُﺴﻌِﺪ ﺍﻟﺮّﻭﺡَ ﺍﻟﻤُﻌﻧَّﻰ

ﺩﻧﻴﺎﻱ ﺃﻧﺕِ ﻭﻓﺮﺣﺘﻲ

ﻭﻣُﻧَﻰ ﺍﻟﻔﺆﺍﺩِ ﺇﺫﺍ ﺗَﻤﻧَّﻰ

أﻧﺕِ ﺍﻟﺴﻤﺎﺀُ ﺑَﺪَﺕ ﻟﻨﺍ

ﻭﺍﺳﺘﻌﺼﻤﺖ ﺑﺎﻟﺒُﻌﺪِ ﻋﻧَّﺎ

النص الثاني:

ﻭﺍﻟﺴﻴﻒ ﻓﻲ ﺍﻟﻐﻤﺪِ ﻻ ﺗُﺨﺷَﻰ ﻣﻀﺎﺭﺑُﻪ

ﻭﺳﻴﻒُ ﻋﻴﻨﻴﻚِ ﻓﻲ ﺍلحالتين ﺑﺘّﺎﺭ

النص الثالث:

إﻥ ﺣﻈﻲ ﻛﺪٓﻗﻴﻖٍ ﻓﻮﻕٓ ﺷﻮﻙٍ ﻧﺜﺮﻭه

ﺛﻢ ﻗﺎﻟﻮﺍ ﻟِﺤُﻔﺎﺓٍ ﻳﻮﻡَ ﺭﻳﺢٍ ﺍﺟﻤﻌﻮﻩ

ﻋَﻈِﻢ ﺍﻷﻣﺮُ ﻋﻠﻴﻬﻢ ﺛﻢ ﻗﺎﻟﻮﺍ ﺍﺗﺮﻛﻮﻩ

ﺇﻥ ﻣﻦ ﺃﺷﻘﺎﻩُ ﺭﺑﻲ ﻛﻴﻒ ﺃﻧﺘﻢ ﺗُﺴﻌﺪﻭه...

قراءة في نص "وطنٌ يبيع ملامحي" للشاعر الدكتور حامد عبد الضبياني

يعتقد الفلاسفة الوجوديون على مدى فترة طويلة مثل “ألبير كامو” و”جان بول سارتر” أن الغربة الوجودية إحدى أعمق أزمات الإنسان الحديث إذ يعيش الفرد في واقع متسارع ومضطرب تتهاوى فيه اليقينيات الروحية والفكرية فيجد نفسه ممزقًا بين توقه للمعنى وصمت العالم من حوله ويولد هذا الشعور غالبًا من فقدان الانتماء أو من إدراك هشاشة الوجود وعبثيته فيستمر الإنسان في ممارسة حياته وسط الآخرين منخرطًا في تفاصيلها اليومية لكنه يؤدي أفعاله بشكل آلي ويحمل داخله فراغًا صامتًا وانفصالًا عن الذات فلا يجد في بيئته أو في علاقاته ما يمنحه ارتباطًا حقيقيًا أو إحساسًا راسخًا بالانتماء في عالم يزدحم بالرصاص أكثر من الأغاني وحيث تذبل الملامح قبل أن يكتمل الحلم يطل نص “وطنٌ يبيع ملامحي” للشاعر والأديب الكاتب الدكتور حامد الضبياني كوثيقة وجدانية مفتوحة على الخراب ليس بكاءً على الأطلال، ولا حنينًا إلى زمن مضى ولكنه شهادة شعرية على عصر عربي مكسور تتقاطع فيه الغربة الوجودية مع الخرائط الممزقة ليصبح الوطن فكرة مؤجلة والإنسان ظلًا يبحث عن جسده.

الغربة الوجودية

١ - الغربة الوجودية الذات في رماد الغيم

“رماد غيم كان يحلم أن يكون مطرًا” هنا تبدأ الحكاية بحلم يولد ميتًا الظل الوحيد على جدران المقابر هو صورة مكثفة لذات فقدت مرآتها حيث يغدو الأمل مؤجلًا في ليل مغلق هذه ليست غربة جغرافية بل عزلة داخلية شبيهة بما وصفه “كامو” و”هايدغر” مواجهة مباشرة مع عبث العالم وغياب المعنى فالمرأة التي “تمشي على ،رمل القصائد حافية القلب” كانت توقظ في الشاعر شهوة الطيران لكنها تسقط فجأة كضحية حرب لم تُعلن الحب هنا ليس مجرد علاقة شخصية بل رمز لقيم الجمال والدفء التي تنهار تحت ضغط الصراع كما حدث مع “نزار قباني” حين تحوّل شعره من الغزل إلى المراثي السياسية.

سؤال الهوية في شوارع محفّرة

“من أنا” سؤال يتعثر في طرقات العراق الممزقة وينام في زوايا الوطن كجثة عاشق إنه سؤال وجودي يتجاوز الشخصي ليصبح جماعيًا تمامًا كما في أسطورة سيزيف عبث في التكرار لكن مع وعي يرفض الاستسلام لتتنقل الكاميرا الشعرية في النص بين مدن عربية محطمة لتسرد جغرافيا الألم بمرارة مكثفة في سوريا تتحول حلب التي كانت تضج بالضحك والحياة إلى جدران قاتمة تمضغ الأطفال وتلفظهم على خرائب الزمن ،صورة تختزل مأساة الحرب التي أدمت الطفولة وأفقدت الحياة رونقها وفي لبنان ينبعث نواح الأرز كرمز للذاكرة الوطنية التي تتألم فيما ترتدي بيروت جراحها كعباءة ملك مذبوح كناية عن سقوط المجد والحضارة تحت وطأة النزاعات التي حوّلت المدينة إلى مشهد من الدمار والوجع أما اليمن فتُصوّر بسعادة طفلة مكسورة كمرآة تحطمت تحت أقدام البنادق في مشهد بصري قوي يعكس كيف انهارت البسمة والبراءة وسط دوامة القتل والغياب هذه الخريطة الشعرية ليست مجرد توثيق جغرافي بل هي مرآة مكسورة تنعكس فيها شظايا الفقد والألم حيث تحمل كل قطعة من هذه الأرض المنهكة ،وجهًا خاصًا للدمار الذي أصاب الشعوب وأوقف الزمن في لحظة مأساوية يمكن الاستشهاد في هذا السياق بشعر “نازك الملائكة” التي جسدت في قصائدها مأساة الحرب والدمار في الوطن العربي وكذلك بالأدب السوري المعاصر الذي وثق النزاع من منظور إنساني عميق مثل أعمال “محمد الماغوط” التي استخدمت الرمزية لتصوير المآسي الجماعية.

انهيار القيم

تعكس هذه الصورة الصادمة في القصيدة “أمهات يبعن أولادهن مقابل رغيف ورجال يخلعون الوطن كقميص متسخ” عمق المأساة التي لم تعد تقتصر على الخراب الجغرافي أو السياسي بل تتغلغل في نسيج الروابط الاجتماعية والأخلاقية التي تُشكّل جوهر الانتماء الإنساني هنا يتحول الوطن من كيان جامع يحفظ كرامة أفراده وهويتهم إلى مسرح لانهيار القيم حيث يختفي التضامن ،ويتبدد الشعور بالمسؤولية تجاه الآخر الأمهات اللاتي يبعن أولادهن لا يرمزن فقط إلى الفقر المدقع بل إلى قمة اليأس التي تدفع الإنسان إلى التفريط في أغلى ما يملك مقابل بقاء مادي هش بالمقابل الرجال الذين يخلعون الوطن “كقميص متسخ” يعكسون حالة الخذلان واللامبالاة وإسقاط الهوية الوطنية كعبء ثقيل لا يحتمل هذه العبارة تختزل الانفصال التام بين الفرد والوطن فتبدو المواطنة هنا صراعًا فرديًا بائسًا يخلو من التضامن والمعنى ويغرق في وحشة الغربة النفسية والاجتماعية من منظور فلسفي يمكن قراءة هذه الصورة في ضوء أفكار “سارتر” حول الخيانة والاختيار الحرّ حيث يصبح التخلّي عن الوطن رمزًا للانفصال الوجودي ،عن الذات وتجسيدًا لاضطراب الروابط الإنسانية في زمن الانهيار بذلك لا تعبر العبارة فقط عن مأساة سياسية واجتماعية بل عن أزمة وجودية شاملة تعصف بالعلاقات والهوية في عالم مكسور.

البنية الفنية وديناميكية الإيقاع

القصيدة تتكون من مقاطع مترابطة عبر لازمة “حين تنام القصيدة” التي تعمل كمحور إيقاعي ودلالي هذه اللازمة ليست مجرد تكرار بل هي نقطة انطلاق لتحولات النص حيث تنتقل القصيدة من حالة السكون (النوم) إلى اليقظة والتجدد الإيقاع الداخلي يتسم بالسلاسة والتدفق مستندًا إلى تناغم الأصوات (مثل الجناس والتكرار الصوتي) وتوزيع الصور الشعرية التي تخلق إحساسًا بالحركة الدائرية كما لو أن النص يحاكي دورة الحياة والموت ديناميكية الإيقاع تتجلى في التوازن بين التدفق الحلمي والتوقفات التأملية على سبيل المثال عبارات مثل “حلمًا ريًا ضيًا” تحمل إيقاعًا موسيقيًا يعزز الإحساس بالانسيابية، بينما عبارات مثل “تراتيل صمت” تخلق لحظات توقف تأملي يدعو المتلقي إلى التفكر في الصمت كجزء من الإبداع هذا التناوب يعكس حالة نفسية متأرجحة بين النشوة الإبداعية والتأمل العميق.

المضمون والدلالات الرمزية

أ- الوجود والعدم

مفهوم “نوم القصيدة” يمكن قراءته كنموذج للسكون الإبداعي أو انقطاع الوحي لكنه يتجاوز ذلك ليصبح استعارة للانتقال بين الوجود والعدم الشاعر يستخدم الموت كفعل إرادي (“أموت على صدرها”) ليؤكد قدرته على التجدد من خلال القصيدة هذا يعكس رؤية صوفية ترى في الموت بوابة للحياة كما في الأبيات التي تصف بعث القوافي هذا التحول يحمل بعدًا نفسيًا حيث يعبر عن صراع الشاعر مع الفراغ الإبداعي وانتصاره عليه عبر اللغة

ب. الحب تجربة صوفية ونفسية

المحبوبة في القصيدة ليست مجرد كيان بشري بل رمز للإلهام أو القصيدة ذاتها هذا التماهي بين المحبوبة والقصيدة يخلق توترًا نفسيًا بين الرغبة الحسية والتوق الروحي عبارة “أموت على صدرها” تجمع بين الحسية (الصدر) والروحانية (الموت كتضحية) مما يعكس حالة نفسية معقدة يعيشها الشاعر الشوق إلى الاتحاد بالمطلق (القصيدة/المحبوبة) والخوف من فقدان الذات في هذا الاتحاد هذا البعد النفسي يجعل القصيدة تجربة داخلية تعبر عن صراع الشاعر مع ذاته ومع اللغة.

ج. اللغة أداة خلق وخلاص

اللغة في القصيدة ليست مجرد وسيلة تعبير بل كيان حي يتفاعل مع الشاعر عبارة “زعمت احتدام الحروف ولادة مجدًا” تشير إلى اللغة كقوة خلاقة قادرة على إعادة صياغة الواقع هذا الاحتدام يعكس حالة نفسية من التوتر الإبداعي حيث يصارع الشاعر الحروف ليولد منها معنى جديد الصمت الذي يظهر في “تراتيل صمت” يصبح جزءًا من اللغة مما يعزز فكرة أن الصمت نفسه لغة تحمل دلالات عميقة

د. السدرة والرؤية الكونية

رمز “سدرة المشتهى” يحيل إلى التجربة الصوفية الإسلامية حيث تمثل السدرة نقطة الاتصال بين الإنساني والإلهي في القصيدة تصبح السدرة رمزًا للخلاص الروحي والإبداعي الشاعر يعزف “تراتيل صمت” المحبوبة مما يوحي بأن الصمت ليس فراغًا بل حالة تأملية تؤدي إلى الوحي هذا البعد يمنح القصيدة طابعًا كونيًا حيث تصبح القصيدة صلاةً ووسيلةً للتسامي.

الصور الشعرية واللغة

الصور الشعرية في القصيدة متعددة الطبقات تجمع بين الحسية والروحية على سبيل المثال “أموت على صدرها”: صورة حسية تحول القصيدة إلى جسد محبوب لكنها تحمل دلالة روحية تعبر عن التضحية من أجل الإبداع “لشعرِ لتولدَ من مقلتيكِ صلاةَ نبيٍّا”: المقلتان تصبحان مصدرًا للوحي والقصيدة تتحول إلى فعل مقدس مما يعزز الطابع الصوفي “شرود الغزالة في لاوعي وعي الكلام”: هذه الصورة تجمع بين الرقة (الغزالة) والفلسفة (لاوعي الوعي) معبرة عن حالة الشاعر المتأرجحة بين الحلم والواقع اللغة تتسم بالمرونة والموسيقية مستخدمة أدوات مثل الجناس (“موتي المرتجى” و”موتكِ المشتهى”) والتكرار الصوتي.

العزلة النهائية

شاعر على “شرفة مرضه” يكتب قصيدة ذابلة الحبيبة غائبة والانتظار كمحطة قطار نسيها الزمن هنا تلتقي الغربة الجسدية والوجدانية في مشهد هادئ لكنه خانق في مشهد العزلة النهائية يقف الشاعر على “شرفة مرضه” كرمز لحالة الانكفاء والانفصال عن العالم حيث يتحول المرض إلى مساحة استعصائية تلتقي فيها الغربة الجسدية بالوجدانية في آن واحد القصيدة التي يكتبها “ذابلة” ليست مجرد كلمات بل انعكاسٌ لصحة متداعية لروح تنحني تحت وطأة الضعف والاحتضار وكأنها آخر نبضٍ يتلاشى بصمت غياب الحبيبة هنا لا يقتصر على فقدان الشخص الحبيب بل يتعداه إلى فقدان الأمل والدفء العاطفي الذي يحرّك الحياة فتتحول “أنفاس الربيع في شتاء القصف” إلى صورة مكثفة عن تضاد الحياة والموت الحضور والغياب أما الانتظار فهو كمحطة قطار “نسيها الزمن” يعبر عن حالة من التجمّد والجمود انتظار بلا وعد أو خلاص حيث تتلاشى الزمنية وتصبح اللحظة أبدية في فراغها مما يعزز شعور الوحدة المطلقة التي يرزح تحتها الشاعر ويجعل من العزلة ليست فقط حالة جسدية بل مصير وجودي لا مفر منه هذه العزلة تحيلنا إلى مفاهيم الوجودية التي تركز على الفقدان والعدم وعلى الصراع الداخلي بين الذات وحقيقة الوجود كما هو واضح في أعمال “سارتر” و”كامو” حيث الإنسان يواجه ذاته في لحظة انكشاف مطلقة بلا حيلة إلا التمرد الصامت على

البعد النفسي في نص «وطنٌ يبيع ملامحي»

يتمحور حول حالة الانفصال العميق بين الذات وواقعها حيث يعكس النص أزمة الهوية والاغتراب الداخلي يستعمل الشاعر صورًا مكثفة ومجازات تترجم صراعات نفسية معقدة مثل “رماد غيمٍ كان يحلم أن يكون مطرًا” والتي تعبّر عن الحلم المفقود والذات المحاصرة بين الألم والأمل المؤجّل تتكرر عبارة “أنا؟” لتجسد نداءات النفس المتألمة الباحثة عن ذاتها وسط ضياع الوطن فتُشعر القارئ بحالة القلق والتوتر النفسي المستمر هذا التكرار الإيقاعي يعمل كنبض داخلي يبرز اضطراب الذات ويعكس شعور الانفصال والغربة الوجودية التي يعيشها الفرد حيث تنكسر الروابط مع المحيط ومع الذات ويصبح الإنسان أسيرًا لحالة من الفراغ العاطفي والوجداني

الديناميكية، و تتجلى في حركة النص بين الأمكنة العراق سوريا لبنان اليمن كل انتقال يفتح مشهدًا جديدًا من الخراب وكأن الشاعر يجول بكاميرا شعرية عبر خرائط الألم يربطها بخيط داخلي من التوتر المستمر عبر التضاد المطر والرماد الضحكة والموت الإيقاع يتصاعد ثم ينكسر محاكيًا موجات الصدمة والانكسار.

البعد الفكري

يتجاوز النص المأساة الذاتية إلى أفق وجودي وسياسي حيث يرى “ألبير كامو” أن الإنسان يعيش في عالم عبثي يبحث فيه عن معنى لكنه يواجه فراغًا وجوديًا يجعل منه كائنًا ممزقًا بين الحاجة للمعنى وصمت الكون وكما يقول “جان بول سارتر” الإنسان محكوم عليه بالحرية لكنه يجد نفسه في حالة من الاغتراب عندما يفتقد القدرة على صنع معنى حقيقي في عالم متغير ومليء بالخذلان فالخذلان الجمعي في النص يجعل الناس يخلعون انتماءاتهم كما يخلعون قميصًا متسخًا في تعبير عن فقدان الثقة بالوطن والذات يستدعي النص رموز الشعر العربي ك”البدر شاكر السياب” و”نزار قباني” و”أبو القاسم الشابي” الذين عبروا عن الحلم والرغبة في التغيير لكن “الشابي” يؤكد في قوله إذا الشعب يومًا أراد الحياة فلا بد أن يستجيب القدر إلا أن النص يذكّرنا بأن القصيدة وحدها لا تغير التاريخ دون فعل حقيقي

البانوراما الوحدانية

وطن يبيع ملامحي ليس نصًا شعريًا عاديًا بل بانوراما وجدانية عميقة تجسد انهيار الذات وتفكك الجغرافيا في آن معًا من خلال صور ومجازات مشحونة بالكثافة العاطفية مثل رماد غيم كان يحلم أن يكون مطرًا ينقل النص تجربة الغربة الداخلية والحلم المجهض فيما يتكرر سؤال أنا كنبض قلق يعكس رحلة البحث عن الهوية في فضاء متشظ ومراوغ.

الخلاصة الفلسفية

النص يدمج الحلم بالخذلان والذات بالوطن ليصوغ بيانًا شعريًا ضد التلاشي كما أشار “سارتر” إلى أن التمرد هو رد فعل الإنسان على العبث والإرادة في استمرار الصراع رغم العدم هي إرادة الحياة ذاتها فالذات المنكسرة في النص ليست فقط ضحية بل مقاومة وجودية متجددة صرخة تنبع من أعماق الغربة لتعبر عن تحدٍّ للنسيان والهزيمة وتعلن أن النجاة تكون في الصراع المستمر للحفاظ على الذاكرة والهوية حتى في قلب الخراب وبهذا التحليل يجوز القول إن الشعر قد ارتقى إلى مجالات الفلسفة بطرحه لقضايا عميقة ووجودية إذ يمكن اعتبار الشعر وسيلة فكرية حسية تعبّر عن التجربة الإنسانية بطرق تجريدية ورمزيات تحمل معاني فلسفية عميقة الشعر لا يقتصر على التعبير عن المشاعر فحسب بل يتناول أسئلة الوجود والذات والهوية والعبث والمعنى ما يجعله قريبًا من الفلسفة في السعي لفهم الإنسان والعالم كما أشار الفيلسوف “بول ريكور” إلى أن “الشعر والفلسفة يتشابهان في البحث عن المعنى لكن الشعر يفعله عبر الصور والإيقاعات والفلسفة عبر المفاهيم المنطقية” لذلك يمكن القول إن الشعر يُعدّ شكلًا من أشكال الفلسفة الحسّية التي تُقدّم رؤى إنسانية عميقة خصوصًا حين يتناول نصوصًا مثل «وطنٌ يبيع ملامحي» التي تطرح أزمة الاغتراب والهوية والخراب فتكون صرخة وجدانية وفكرية في آن واحد .

***

د. آمال بوحرب - ناقدة وباحثة

........................

وطنٌ يبيعُ ملامحي

بقلم: حامد الصبياني

***

رمادُ غيمٍ كان يحلم أن يكون مطرًا

أنا الذي لا ظلَّ لي

إلّا على جدران مقابرَ أُغلِقت في الليل

بالأمل المؤجَّل...

كنتُ أحبُّها —

تلك التي تمشي على رمل القصائد

حافيةَ القلبِ

تُوقظ في دمي شهوة الطيران

فإذا بها

ضحيّةَ حربٍ لم تُعلن بعد.

من أنا؟

سؤالٌ يتعثّر في شوارع العراق المحفَّرة،

تأكله أقدامُ الصمت

ويغفو في زوايا الوطن كجثةِ عاشق.

أين سوريا؟

أين زُرقةُ حلبَ حين كانت تضحكُ؟

أين درعا، والقصير، والحمص الذي لم يعد يُطهى؟

جدرانها تمضغُ أطفالًا

وتبصقهم على خرائب الوقت.

وفي لبنان،

ينوحُ أرزُ الجبل

على نهدِ أُغنيةٍ محترقة،

بيروت تُلبس جراحها كعباءةِ ملكٍ مذبوح.

اليمن؟

كان يضحك كطفلٍ ببراءةِ القهوة

فصار يبكي بسواد البنادق،

تكسّرتْ "سعادته"

كمرآةٍ دهسها الغياب.

وفي كلِّ البلاد —

أُمهاتٌ يبعنَ أولادهنَّ

مقابل رغيفٍ…

ورجالٌ يخلعون الوطنَ

كقميصٍ مُتَّسخٍ بالخذلان.

أنا؟

مَنْ أنا؟

غريبٌ في لغتي

مكسورُ اللغةِ،

يكتبُ من شرفةِ مرضه

على ورقِ المغادرة.

صحّتي؟

قصيدةٌ ذابلة

كُتبت على ضوءِ سِرْجٍ خافت

ينهار كلما حاولتُ الوقوف.

حبيبتي؟

ذاهبةٌ كأنفاسِ الربيع في شتاء القصف،

بقاياها بين دفاترِ الموتى،

ضحكتها سقطت في وادٍ

لا يعرف طريقَ الرجوع.

أنتظر...

كمحطةِ قطارٍ نسيها الزمن،

لا قطارَ يأتي،

ولا مسافرَ يعيد لي اسمي القديم.

أنا؟

بكاءُ السيّاب في موجِ البصرة

أنا؟

قُبلةُ نزارٍ ضاعت في رصاصٍ أعمى

أنا؟

صرخةُ الشابيّ حين ضاقت به بلاده،

وأقسمَ أن يغيّرها…

لكنَّ القصائد وحدها لا تغيّر التاريخ.

أنا؟

غريقٌ يكتب وصيّته في هواءٍ بلا نافذة.

أنا آخرُ شهقةٍ في صدرِ هذا الوطن،

آخرُ أغنيةٍ

لم تجدْ من يسمعها.

***

 

من سيمفونيّة الحب (10)

حسب (المنهج الرمزي الأسلوبي، النفسي، والهيرمينوطيقي)

***

- أولاً: مدخل إلى النص:

يأتي هذا المقطع من مشروع شعري أوسع هو سيمفونية الحب، حيث يتشابك الحسي بالعاطفي، ويختلط المادي بالأسطوري. النص أمامنا ليس غزلياً تقليدياً، بل هو مشهدية شعرية ذات طبقات: حبّ أنثوي، وحنين مكاني (الشام)، وإيحاءات تاريخية ومقاومية، ضمن نسيج لغوي مفعم بالرمز والانزياح.

- ثانياً: التحليل الرمزي الأسلوبي.

1. الحقول الرمزية.

المكان الزراعي/الطبيعي: (زيق البصل، الموج، النخل، العسل، الحدائق، الصنوبر، البيارة)

هذه الصور تحيل إلى الأرض بوصفها رحماً للحياة، وإلى علاقة المرأة بالمكان كتجسيد للأمومة والخصب.

- الجسد الأنثوي: يوظّف الشاعر الرموز الجسدية (الخصر، الأثداء، الصدر) ليس بوصفها غاية حسية، بل كجغرافيا رمزية للحب والوطن معاً.

الحيوانات/الطيور: (الحجل، القبّرة، النمل)

رموز متصلة بالبرية والحرية والعمل الدؤوب، وفي الوقت ذاته ذات دلالات إيحائية في التراث الشعبي.

- الأدوات الحربية: (السيف، السيّاف، الرماح).

تشير إلى حضور القوة والصراع، وارتباط الحب بالحماية والمواجهة.

- الثمار: (العسل، التفاح)

ترمز إلى الحلاوة والرغبة والحياة المتجددة.

2. الأسلوب:

- التقطيع المشهدي: النص مكتوب على هيئة لقطات متلاحقة، كل منها يقدّم صورة مكتملة.

- الانزياح اللغوي: (نهر القبل، ملك يحمي معاليق العسل، رمّاح فوق العين) تحوّل المعنى من الحسي المباشر إلى المجازي المركّب.

- التكرار البنائي: بدء النص وانتهاؤه بـ"تلك الجميلة" يخلق إطاراً دائرياً، كما في مقاطع السيمفونية الموسيقية التي تعود إلى اللحن الأساسي.

- التركيب النحوي المقطّع: علامات التعجب وكسر الجمل تمنح النص إيقاعاً متوتّراً، يناسب مزيج الشغف والحنين.

- ثالثاً: التحليل النفسي:

النص يكشف عن ثلاث طبقات نفسية:

1. الطبقة الإيروسية: الجمال الأنثوي حاضر بوصفه باعثاً للحياة وملهماً للحركة، لكنه ليس نزوة، بل حاجة وجودية.

2. الطبقة الوجدانية/النوستالجية: الحنين إلى الشام يتداخل مع صورة الحبيبة، فيتماهى الوطن مع الجسد الأنثوي.

3. الطبقة الصراعية: حضور السيف والرماح والسيّاف يوحي بأن الحب والوطن كلاهما في حالة تهديد، وأن الدفاع عنهما واجب عاطفي ووجودي.

على مستوى فرويدي، يمكن قراءة الصور الأنثوية بوصفها العودة إلى الأم الأولى، حيث الأرض والمرأة متّحدتان في صورة الحاضنة والمانحة. أما على مستوى (يونغي) , نسبة إلى - كارل غوستاف يونغ - ، فالمرأة هنا هي "الأنيما" في أقصى تجلياتها الرمزية، الممزوجة بطاقة الخصوبة والموت معًا.

- رابعاً: القراءة الهيرمينوطيقية (التأويلية):

- المستوى الظاهر: مشهد حبيبي متنوع الصور، يمزج الطبيعة بالجسد الأنثوي، مع إشارات للمكان الشامي.

- المستوى الرمزي العميق: الأنثى تمثل الشام، والجسد يمثل تضاريس الوطن، والثمار والحيوانات تمثل خيراته، فيما الأدوات الحربية تمثل التهديدات التي تستدعي الحماية.

- الزمن الشعري: ليس لحظة آنية، بل زمن دائري؛ الماضي والحاضر يتداخلان، والبيارة الأولى (الأرض المقدسة) تمتد إلى بيارة النمل القصيّ (رمز العمل والمثابرة حتى في المنفى).

- السؤال الختامي: "هل تأتي؟ لنغرس ما تبقى من أناشيد الأمل؟" هو نداء مزدوج: للحبيبة أن تعود، وللشام أن تنهض، وللأمل أن يُزرع مجدداً.

- خامساً: البنية الجدلية في النص:

النص يتحرك على محاور ثلاثية:

- المحور الأول: الحب/الوطن: تماهي الحبيبة مع الوطن يجعل العاطفة الشخصية ذات بعد جمعي.

المحور الثاني : الخصب/التهديد: الطبيعة المورقة تقابلها أدوات الحرب والدمار.

- المحور الثالث: الحنين/الرجاء: الحنين إلى الماضي يقابله دعوة لزراعة الأمل في المستقبل.

-سادساً: الخلاصة النقدية:

من سيمفونية الحب (10) نص متعدّد الأصوات والدلالات، يستخدم الرموز الزراعية والجسدية والطبيعية والعسكرية في نسيج واحد، ليجعل من المرأة تجسيداً للأرض والوطن والحلم. الأسلوب يعتمد على المشهدية المتقطعة، والصور الكثيفة، والإيقاع المتوتر. من منظور نفسي، النص يعبّر عن وحدة الحب والوطن كحاجة وجودية، ومن منظور هيرمينوطيقي، هو خطاب مقاوم يرفض الانفصال بين الحسي والمعنوي، بين الخاص والعام.

الجدول التحليلي هذا يربط بين الرموز والصور في نص الشاعر السوري مفيد خنسة «من سيمفونية الحب» (10) ودلالاتها في المستويات الثلاثة: الرمزي، النفسي، والهيرمينوطيقي.

الرمز / الصورة الشعرية الدلالة الرمزية الدلالة النفسية الدلالة الهيرمينوطيقية (التأويلية)

زيق البصل رمز للجذور البسيطة والخصب الأرضي حنين إلى الأصل والارتباط بالمكان الأم الوطن في بساطته الأولى قبل التشويه

الموج / نهر القبل فيض العاطفة والاندفاع الحسي الرغبة في الاتحاد والذوبان في الآخر الحب كقوة جارفة تربط الحبيب بالوطن

النخل / العسل رمز العطاء والحلاوة المستمدة من الجهد الإشباع الروحي والحسي معاً الثمر الطيب الناتج عن الصبر والمثابرة

ورد الحدائق المتساقط انطفاء الجمال وذبوله خيبة وفقدان براءة الحب أو الوطن زوال الخصوبة تحت وطأة الحرب أو الغياب

أثداء النساء رمز الخصوبة والحياة الحاجة إلى الحماية والحضن الأرض الأم التي تمنح الحياة وتتعرض للانتهاك

السيف / السيّاف / الرماح القوة والصراع والتهديد القلق والخوف من الفقد ضرورة الدفاع عن الحب/الوطن

التفاح المتدحرج سقوط الكمال والجمال فقدان ما هو ثمين انكسار الحلم أو انحرافه عن مساره

القبرة / الحجل الحرية والبرية والجمال الرشيق توق إلى الانطلاق والتحليق الأمل المرهون بالتحرر من القيد

البيارة / النمل الأرض والعمل الدؤوب المثابرة والاستمرارية رغم الصعاب وحدة العمل الإنساني الجماعي

الشام الحضن التاريخي والثقافي ملاذ نفسي ووجداني الرمز الأسمى للوطن والحب والهوية

هنا يصبح من السهل رؤية أن النص يعمل على مزج الرموز الحسية بالطبيعية والمكانية لخلق خطاب شعري مركّب، حيث تتداخل دلالات الجسد مع دلالات الأرض، ويتحوّل الحنين العاطفي إلى دعوة نهوض جماعية.

***

بقلم: عماد خالد رحمة – برلين

....................

من سيمفونيّة الحب (10)

بقلم مفيد خنسة

***

تلك الجميلةُ،

تنحني،

كي تنزعَ الأعشابَ عن زيقِ البصلْ،

والحلوة البيضاءُ،

ترمي صدرَها في الموجِ،

كي يرتدّ عن شطآنه،

نهرُ القبلْ،

والنخلُ متخّذاً من الوداي العيقِ،

الضخرَ في أجوافه،

ملكاً، لكي يحمي معاليق العسلْ

ما بالُه ورد الحدائقِ،

خلفَ منحدراتِ أثداء النساء تساقطت أوراقهُ

وتهدّمت شرفاتُ أشجارِ الصنوبرِ،

في الأسرّة،

والمساءُ الحلوُ في ثغرِ البريئة قد ذبُلْ

والنملُ،

ما بالُ الشمال يسيرُ منتصبَ النشيدِِ على قيصي؟!

والممراتُ القديمةُ بين حيطاني،

وهذا القشّ بين مفاصلي،

والدربُ، هذا الدرب من بيّارة الأقصى إلى بيارة النمل القصيّ

قد اكتملْ

وتشيرُ لي،

والخصرُ،!!

-ليتَ الشعرُ يُسعفني-

فأكتبَ ما أرى،

وتميلُ،

-ليت الفقريتركني-

لأقرأُ،

ما يقولُ:،

وساعدان،

وكوكبٌ،

والسيفُ!!،

تحت السيفِ، سيّافٌ

وفوق العين !!

رمّاح،

ورأس الحرة الحسناء عن تفاح من تهوى تدحرجَ وانفصلْ

لي فيكمُ قلبي،

وذاكرتي،

ونبضُ دمي،

وبعضُ مدامعي الحرى أيا أهل الجبلْ،

لي نوحُ قبّرةٍ،

وزفرةُ جدولٍ،

وهديلُ نائحةٍ،

على الأغصانِ، لي كشحُ الحجلْ

تلك الجميلةُ،

في ربوع الشامِ هل تأتي؟

لنغرس ما تبقى من أناشيد الأملْ؟!!!.

 

"نظرة حائرة" للشاعرة زينب غسان البياتي

يبرز مفهوم الحنين فِي الفلسفة، والشعر أكثر من مجرد شوق إِلىٰ الماضي فهو تجربة وجودية تعكس انقسام الذات بين الحاضر المؤلم، والماضي المثالي فلسفيا يربط هيدغر الحنين بالوجود فِي العالم حيث يصبح الشوق إِلىٰ الأصل محاولة لاستعادة الذات الأصيلة، أما فِي الشعر فيتحول الحنين إِلىٰ لغة حسية تنسج من الذاكرة،  والفقدان كما عند درويش الذِي يرىٰ فِي الحنين جرحا ينبض بالهوية، وهٰكذا يصبح الحنين فِي نظرة حائرة لزينب غسان البياتي جسر يربط الفلسفة بالشعر إذ يتجسد كعطر منسي يذكر الذات بصباح فيروز، وبغداد لكنه يحمل مرارة الخيبة، ويفتح الباب لصراع وجودي عميق.

نص قصيدة نظرة حائرة لزينب غسان البياتي:

أَنا تلك النظرة الّتِي تحيا فِي بؤبؤ بصرك الأعمىٰ

يلملم الخجل خدها،

ثُمّ غنىٰ لها دمع الورد عند أوّل خيبة فِي الصباح،

ياله من حب ماكر تسلل إِلىٰ جسد حائر،

كقهوة قصيدة تشتهي الغروب،

فِي غفوة القلب هناك حيث الانتظارات المملة،

أُغنية تهوىٰ صباح فيروز،

وَ صباح بغداد،

جادلت نعاس الفجر ليغازلها

اختباء الصباح بين دموعها،

حكاية ضائعة بين وسادة

قطعت وتين الحب،

يتوسل بصمته

ثُمّ ينادي إِلىٰ ذاته..

***

يطفو الحنين فِي هٰذا النص كعطر منسي تذروه الريح فينشد فِي أغان خجلىٰ، ويعانق خيبة الصباح إنّه ليس مجرد اشتياق للماضي بل جرح نابض يحمل رموز زمن ذهبي مفقود صباح فيروز، وصباح بغداد هذان الرمزان رسمًا جغرافيا لروحية تمثل الحلم العربي المشرق الّذِي تحول إِلىٰ قهوة قصيدة تشتهي الغروب حنين مركب يتشابك فيه دفء الذكرىٰ مع مرارة الفقدان كدمع الورد الّذِي يغني عَلىٰ أطلال الأمل، ويتحول الحنين إِلىٰ مدخل ؛ لفهم القصيدة حيث يتجسد كخيط يربط الذات الشاعرة بماضيها، ويلقي بظلاله عَلىٰ حيرتها الوجودية كما يعكس التساؤل الفلسفي عن الذات فِي مواجهة الفقدان.

دلالة العنوان:

العنوان نظرة حائرة يختزل جوهر الذات الشاعرة ليس كحالة عابرة بل ككينونة دائمة، والنظرة هي الأنثىٰ / الذات الّتِي تحيا فِي بؤبؤ بصر أعمىٰ عالقة فِي تيه بين الخجل يلملم الخجل خدها، والخيبة دمع الورد عند أوّل خيبة، والحب فِي القصيدة قوة ماكرة تتسلل إِلىٰ جسد حائر فتجعل الذات تنقسم عَلىٰ نفسها فِي صراع بين التوق إِلىٰ التحرر، والاستسلام للقدر، ويتجاوز هٰذا الموضوع العاطفة ؛ ليصبح استعارة للصراع الوجودي بين الإرادة، والاستلاب حيث تتساءل هل هي حرة أم أسيرة حب ماكر يتحكم بها كما يشير سارتر إِلىٰ التوتر بين الحرية، والاغتراب.

البنية، والزمن الدائري:

تعتمد القصيدة بنية متقطعة من مقاطع قصيرة تشبه ومضات الوعي فِي غفوة القلب هٰذه البنية لا تسرد قصة خطية فحسب، وإنما تخلق زمنًا دائريًا يعكس حبس الذات فِي حلقة مفرغة من التوقعات (الانتظارات المملة، والخيبة، والحنين)، التكرار الدائري للأزمنة (الصباح، الفجر، الليل، الغروب)، يعزز إحساس التكرار العقيم بينما الانزياحات النحوية مثل: ثُمّ غنىٰ لها دمع الورد، والإيجاز الشديد كقهوة قصيدة تعكس تشظي الذات، وانزياح المنطق تحت وطأة العاطفة، وهٰكذا تجعل القارئ يعيش تجربة الحيرة مع الشاعرة كما لو كان عالقًا فِي دوامة نفسية لا نهائية.

الصور الشعرية:

تتألق القصيدة بصور شعرية مكثفة تجمع بين الحسية، والتناقض فمثلًا صورة (غنىٰ لها دمع الورد عند أوّل خيبة فِي الصباح) تجسد التناقض بين جمال الورد رمز الحب، ودمعه رمز الألم، وبين الصباح رمز الأمل، والخيبة الّتِي تستقبله، الغناء هنا ليس فرحًا، ولكنه رثاء يحول الجمال إِلىٰ ألم، وفِي صورة (كقهوة قصيدة تشتهي الغروب) تذوب القهوة مرارة، ودفء فِي القصيدة التعبير الجمالي لكنها تشتهي الغروب النهاية، والسكون فتعبر عن رغبة الذات المتألمة فِي الخلاص، أما صورة (ياله من حب ماكر تسلل إِلىٰ جسد حائر) فتجسد الحب ككائن خادع يستلب الجسد الضعيف، بينما (أَنا تلك النظرة الّتِي تحيا فِي بؤبؤ بصرك الأعمىٰ) تقدم تناقضًا مدهشا الرؤية الوعي تعيش فِي عمىٰ وجودي، أو عاطفي مما يعمق إحساس الذات بالضياع كما يصف كيركغور القلق كمواجهة للعدم.

ذروة القصيدة:

تصل القصيدة إِلىٰ ذروتها فِي صورة (جادلت نعاس الفجر ليغازلها اختباء الصباح بين دموعها)، والفعل جادلت يحمل صراعًا عقيمًا محاولة واعية لليقظة ضد نعاس الفجر رمز الخمول، والنسيان الهدف الظاهري ليغازلها هو اختباء الصباح بين دموعها، ورفض الظهور، ولوذ بالدموع مما يحول الغزل إِلىٰ محاولة فاشلة لإثارة الأمل فتختزل هٰذه الصورة مأساة الذات جهد يائس لكسر حلقة الحيرة ينتهي بتأكيد الخيبة فتصبح قلب القصيدة النابض بالألم، والتناقض.

إيقاع القصيدة:

يبدأ الإيقاع بخمول غفوة القلب، وانتظارات مملة ثُمّ يثور لحظيا بحنين أُغنية تهوىٰ صباح فيروز لينكسر عَلىٰ صخرة خيبة الصباح، ودمع الورد، ثُمّ يرتفع الإيقاع إِلىٰ ذروة الصراع فِي جادلت نعاس الفجر ليهبط أخيرًا إِلىٰ يأس اختباء الصباح بين دموعها هٰذا التذبذب يعكس حالة الحيرة الدائمة حيث تتأرجح الذات بين الأمل، والخيبة فِي حلقة لا نهائية.

حوار الضمائر:

تتجلىٰ ديناميكية القصيدة فِي حوار الضمائر أَنا تلك النظرة تتحدث إِلىٰ جسد حائر، وبصر أعمىٰ مما يخلق توترًا دراميًا داخليًا فالأنا الوعي الحب الهوية تحاول تأكيد وجودها بينما الجسد، والبصر يمثلان الجانب الضعيف الخاضع للاستلاب، وهٰكذا يجبر هٰذا الحوار القارئ علىٰ المشاركة فِي تفكيك الصراع داخل الذات المنقسمة مما يضفي طابعًا تفاعليًا عَلىٰ النص.

السياق الثقافي:

ترتبط القصيدة بالسياق الثقافي العربي عبر رموز مثل: صباح فيروز، وصباح بغداد اللذين يمثلان زمنًا ذهبيًا مفقودًا، وحضارة عربيّة مجروحة فهذه الرموز ليست زخرفا، وإنما جروح نازفة فِي جسد النص تعكس فقدان الهوية الثقافية، أما القهوة كطقس عربي جماعي، فتتحول إِلىٰ استعارة لانعزال الذات، ومرارتها فِي قهوة قصيدة تشتهي الغروب مما يربط الأزمة الشخصية بالأزمة الثقافية الأوسع كما يشير إدوارد سعيد إِلىٰ فقدان الهوية فِي المنفىٰ.

الأسئلة الوجودية:

تطرح القصيدة أسئلة وجودية عميقة فالنظرة الّتِي تحيا فِي بصر أعمىٰ تعكس العمىٰ الوجودي حيث تسعىٰ الذات للمعنىٰ رغم فقدان اليقين محاولة مجادلة نعاس الفجر تمثل تمردًا عَلىٰ العبث لكن فشلها فِي اختباء الصباح يؤكد سيطرة الخيبة، وفِي الوقت ذاته تتناول القصيدة قضية الهوية، والاستلاب، فالذات هي حكاية ضائعة بين وسادة تسأل عما إذا كانت تملك إرادتها، أم هي أسيرة حب ماكر يستلبها.

لغة القصيدة:

تتميز لغة القصيدة بتكثيفها الشديد حيث تحمل كُلّ كلمة ماكر حائر أعمىٰ دلالات عميقة فالانزياحات مثل: دمع الورد يغني، والتجسيد الحب الماكر الصباح يختبئ تحول المشاعر المجردة إِلىٰ كائنات فاعلة مما يضفي طابعًا دراميًا، وأسطوريا، أما الإيقاع المتقطع فيعكس الاضطراب الداخلي بينما غياب الروابط أحيانا يعزز إحساس التفكك.

الحنين جسر الذاكرة، والهوية:

لعل الحنين فِي هٰذه القصيدة لا يقتصر عَلىٰ اشتياق عابر للماضي بل هو تجربة وجودية تعكس انقسام الذات بين حاضر مؤلم، وماضي مثالي يذكرنا ذٰلك بفلسفة هيدغر الّتِي تربط الحنين بالوجود فِي العالم حيث يصبح الشوق لاستعادة الذات الأصيلة محاولة لإحياء وجود غائب، وفِي الشعر يتحول الحنين إِلىٰ لغة حسية تنسج بين الذاكرة، والفقدان كما عند محمود درويش الّذِي يرىٰ فِي الحنين جرحًا ينبض بهوية الذات تظهر فِي القصيدة رموز صباح فيروز، وبغداد كجغرافيا روحية تمثل الحلم العربي المشرق، وهو الحنين المركب الّذِي يجمع دفء الذكرىٰ مع مرارة الفقدان مدخلًا لفهم الصراع الوجودي الّذِي تعانيه الذات.

الصراع الديناميكي:

يتجلىٰ هٰذا الصراع  فِي الحوار الداخلي بين عناصر الذات المختلفة الّتِي تمثل توترات متناقضة، ومستمرّة:

1- الصراع بين " أَنا " تلك النظرة الواعية، والذات الحائرة:

تتحدث أَنا بصفتها الوعي المحاول تأكيد وجوده، ومعناه فِي مواجهة الجسد الحائر، والبصر الأعمىٰ اللذين يمثلان جانبًا من الذات الضعيف، والخاضع للاستلاب هٰذا الحوار الداخلي يعكس حالة انقسام الذات بين الإرادة فِي الفهم، والتحرر، وقوة الاستلاب الّتِي تسلبها القدرة عَلىٰ الرؤية، والمعنىٰ.

2- الصراع بين الأمل، والخيبة:

تتنقل القصيدة بين لحظات الأمل، والحنين مثل: أُغنية تهوىٰ صباح فيروز، والخيبة المؤلمة كدمع الورد عند أوّل خيبة فِي الصباح، واختباء الصباح بين دموعها هٰذا التذبذب الزمني، والمشاعري يخلق ديناميكية متجددة تعبّر عن حالة الحيرة، وعدم الاستقرار الوجودي.

3- الصراع بين الإرادة، والقدر:

الحب فِي القصيدة يصوَّر كحب ماكر يتسلل إِلىٰ جسد حائر مما يجعل الذات فِي صراع بين الرغبة فِي التحرر من هٰذا الحب الماكر، والقبول بالاستسلام له، وهو استعارة للصراع الوجودي بين الإرادة الحرة، والاستلاب الّذِي يعانيه الإنسان

لعل من خلال دراستي لهذه الأبعاد مجتمعة يشكل صراعًا ديناميكيًا داخليًا ينبض فِي بنية النص، ويمنح القصيدة توترها الدرامي العميق فِي هٰذا الصراع يمكن الإشارة إِلىٰ فلسفة سارتر الّتِي تحدثت عن الذات المنقسمة، والّتِي تعيش فِي حالة انقسام بين الوجود لذاته، والوجود للآخر، وهو صراع مشابه هنا حيث تحاول الذات تأكيد وجودها رغم كُلّ أشكال الاستلاب.

الخاتمة مرآة الوجود:

تغدو قصيدة نبض فضاء مفتوحا يتجاوز حدود النص ليصبح مرآة لأسئلة الإنسان الكبرىٰ إذ تنبض كُلّ كلمة فيها بقلق الوجود، ورغبة الخلاص، وتعيد للقارئ وعيه بحضوره الهش أمام تيارات الزمن، والشعور فيتحول النص إِلىٰ تجربة وجودية متكاملة لا تقف عند حدود الإحساس الجمالي بل تمتد لتلامس البعد الفلسفي العميق فِي جدلية الحياة، والموت، والغياب، والحضور فتغدو القصيدة فِي النهاية فعلا تحرريا يوقظ فينا نبض السؤال، ويدفعنا إِلىٰ إعادة صياغة علاقتنا بالعالم من جديد.

***

د. آمال بوحرب - باحثة، وناقدة

........................

نظرة حائرة

في غفوةِ القلب

هناك حيث الانتظارات المملة

أُنثىٰ يلملمُ الخجلُ خدَها،

وَ تنشرُ مع الرّيحِ أَغاني العطر المنسية..

ثُمَّ غنىٰ لها دمع الوردِ

عند أَولِ خيبةٍ في الصباح،

وَ في الليل...

حكايةٌ ضائعةٌ بين وسادةٍ

قطّعَتْ وتينَ الحبِ..

ثُمَّ جعلت مني

أُغنيةً تهوىٰ صباحَ فيروز

وصباحَ بغداد

كقهوة قصيدةٍ تشتهي الغروب.

ياله من حبٍ ماكر

تسلل إِلىٰ جسدٍ حائر

يتوسل بصمتِه.. ثُمَّ ينادي

إِلىٰ ذاتهِ قائلًا

أَنا تلك النظرة التي تحيا

في بؤبؤ بصرك الأَعمىٰ

جادلتْ نعاسَ الفجرِ

ليغازلَها اختباءُ الصباحِ

بينَ دموعِها.

***

زينب غسان البياتي.

٢٠٢٤/٧/٢٧

 

تُعْتَبَر الكاتبة الكندية أليس مونرو (1931 _ 2024) سَيِّدَةَ القِصَّةِ القَصيرة بِلا مُنَازِعٍ، وأوَّلَ مُؤلِّفة للقِصَصِ القصيرة تَحْصُل على جائزة نوبل للآداب (2013)، وأوَّلَ كندية تَفُوز بِهَا، كَمَا أنَّها فازتْ بجائزة البوكر (2009). تُلَقَّبُ بـِ " تشيخوف الغرب " نِسْبَةً إلى الكاتبِ الروسي أنطون تشيخوف (1860 _ 1904) أعظم كاتب قِصَّة قصيرة في التاريخ، وَنَظَرًا لِمَا تَتَّسِمُ بِهِ كِتاباتُها مِنْ حِسٍّ إنسانيٍّ، وَنَظْرَةٍ إلى أعماقِ النَّفْسِ، فَهِيَ تُوَثِّقُ التَّجْرِبَةَ البشرية بكثيرٍ مِنَ التسامحِ في تَصويرِها لِتَعقيداتِ الحياةِ والعَلاقاتِ، وأيضًا بسبب قُدرتها على استعراضِ مُكَوِّنَاتِ الحَياةِ في المَناطقِ الريفية، عَلى صَفَحَاتٍ مَحدودة، لِتَخْتَزِلَ فِيها كثيرًا مِنَ المَعَاني والأفكارِ والصُّوَرِ عَن الحَياةِ والناسِ، وَتَدْمُجُهَا جَميعًا بِأُسلوبٍ أنيق، في قِصَّة قصيرة مَليئة بتفاصيل مُتناغِمة.

تَتَحَدَّثُ مُعْظَمُ قِصَصِها عَن الحُبِّ والصِّراعِ والحَياةِ في الريفِ، وَتَتَضَمَّنُ نُصُوصُها وَصْفًا مُتَدَاخِلًا لأحداثٍ يَومية، لكنَّها تُبْرِزُ القَضَايا الوُجودية. وَتُوصَفُ مونرو بأنَّها بارعةٌ في التَّعبيرِ في بِضْع صَفَحَاتٍ قصيرة عَنْ كُلِّ التَّعقيدِ المَلْحَمِيِّ للرِّواية. وَتَتَمَيَّزُ كِتاباتُها ببساطةِ الأُسلوبِ وَعُمْقِ المَضمونِ، والكَشْفِ عَن تناقضاتِ الحَيَاةِ، والجَمْعِ بَيْنَ السُّخريةِ والجِدِّيةِ في آنٍ مَعًا.

وقالت الأكاديميَّةُ السويدية: " مونرو تَتَمَيَّزُ بِمَهارة في صِياغة الأُقْصُوصَةِ التي تُطَعِّمُها بأُسلوبٍ واضح وواقعيَّةٍ نَفْسِيَّة ". وتابعتْ تَقُول: " إنَّ قِصَصَها بِمُعظمها تَدُور في مُدُنٍ صغيرة، حَيْثُ غالبًا مَا يُؤَدِّي نِضَالُ الناسِ مِنْ أجْلِ حَياةٍ كَريمة إلى مَشَاكِل في العَلاقاتِ، وَحُدُوثِ نِزَاعاتٍ أخلاقية، وَهِيَ مَسألة تَعُود جُذورُها إلى الاختلافاتِ بَيْنَ الأجيال، أو التناقضِ الذي يَعْتَري مَشاريعَ الحَيَاةِ ".

ظَلَّتْ مونرو عَلى يَقينٍ مِنْ أنَّ القِصَّة القصيرة لَيْسَتْ أقَلَّ شأنًا مِنَ الرِّوايةِ، لَذلك حَرَصَتْ عَلى كِتابةِ القِصَصِ بعاطفةٍ مُفْعَمَةٍ بالصِّدْقِ والتَّحْليلِ النَّفْسِيِّ، معَ الاعتمادِ عَلى الحَبْكَةِ الجَيِّدةِ، وَعُمْقِ التفاصيل. والأبطالُ في قِصَصِ مونرو فَتَيَاتٌ وَسَيِّدَاتٌ يَعِشْنَ حَيَاةً تَبْدُو عاديَّةً، لَكِنَّهُنَّ يُصَارِعْنَ مِحَنًا مُؤلمة، كالتَّحَرُّشِ، أو الزَّوَاجِ المَأسَاوِيِّ، أو مَشاعرِ الحُبِّ المَقموعة، أوْ مَتَاعِبِ الشَّيْخُوخة.

كانتْ مونرو مِنْ أوائلِ مَن ابتكرَ تِقْنيةَ السَّرْدِ غَيْرِ الخَطِّي، والذي يَقْفِز فيه الساردُ بَيْنَ الحاضرِ والماضي والمُستقبَلِ. وهَذا الأُسلوبُ الأدبي لا يَعْتَمِد على التَّسَلْسُلِ الزَّمَنِيِّ للأحداثِ، بَلْ يَعْتَمِد عَلى الاسترجاعاتِ الزَّمنية، أو الوَمَضَاتِ المُستقبلية، أوْ سَرْدِ قِصَص مُتَعَدِّدَة في وَقْتٍ واحد.

تَدُورُ أحداثُ العَدِيدِ مِنْ قِصَصِ مونرو في مُقاطعة هورون، أونتاريو. وَيُعَدُّ التركيزُ الإقليميُّ القويُّ أحدَ سِمَات أدبِها. وعِندما سُئِلَتْ بَعْدَ فَوْزِها بجائزة نوبل: " ما الذي يُمْكِنُ أنْ يَكُونَ مُثِيرًا للاهتمامِ في وَصْفِ الحَيَاةِ في بَلْدة كَندية صغيرة ؟ "، أجابتْ: " يَكْفِي أنْ تَكُونَ هُناك ". وَيُقَارِنُ الكثيرون بيئات بَلْدتها الصغيرة بِمَناطقِ جَنُوبِ أمريكا الرِّيفيِّ، غالبًا مَا تُوَاجِهُ شخصياتُها عاداتٍ وتقاليد راسخة.

نُشِرَتْ أوَّلُ أُطروحة دُكتوراة حَوْلَ أعمالِ مونرو عام 1972. وفي عام 1984، نُشِرَ مُجَلَّد ضَخْم يَجْمَع الأوراقَ البحثية المُقَدَّمَة في أوَّلِ مُؤتمر لجامعة واترلو حَوْلَ أعمالِها، بِعُنوان: " فَن أليس مونرو: قَوْل مَا لا يُقَال ". وَفي عَامَي 2003 و2004، نَشَرَتْ مجلةُ " الرِّسالة المَفتوحة" الكندية، وَهِيَ مُرَاجَعَة فَصْلِيَّة للكتابةِ والمَصَادِرِ، أرْبَعَ عَشْرَة مُسَاهَمَة حَوْلَ أعمالِ مونرو.

أحدثتْ أعمالُ مونرو ثَورةً في عَالَمِ القِصَّة القصيرة، لا سِيَّمَا في مَيْلِها إلى التَّقَدُّمِ والتراجعِ في الزَّمَن، وَدَمْجِها لِدَوراتٍ قصصية قصيرة، أظهرتْ فِيها بَرَاعَةً سَرْدِيَّةً. وقِيل: " إنَّ قِصَصَها تُجسِّد أكثرَ مِمَّا تُعْلِن، وَتَكْشِف أكثرَ مِمَّا تَسْتَعْرِض ".

رَغْمَ النجاحِ الذي حَقَّقَتْهُ مونرو، وَحَصْدِها مَجموعة مِنَ الجوائز الأدبية العالميَّة خِلال أكثر مِنْ أربعة عُقود، لَمْ يَكُنْ حُضُورُها صَاخِبًا، بَلْ آثَرَتْ حَيَاةَ الكِتمانِ، والبُعْدَ عَن الأضواءِ، عَلى غِرَارِ شخصياتِ قِصَصِها، وَمُعْظَمُها مِنَ النِّسَاءِ اللواتي لَمْ تَكُنْ في نُصُوصِها تُركِّز عَلى جَمَالِهِنَّ الجَسَدِيِّ إطلاقًا.

وَقَدْ رَوَتْ في حَديثٍ صَحَفِيٍّ أنَّها كانتْ تَحْلُمُ مُنْذُ أنْ كانتْ مُرَاهِقَةً في مُنْتَصَفِ أربعينياتِ القَرْنِ العِشرين بأنْ تُصْبح كاتبةً، " لكنَّ الإعلان عَن هَذا النَّوع مِنَ الأُمُورِ لَمْ يَكُنْ مُمْكِنًا في ذلك الزمن. لَمْ يَكُنْ مِنَ المُسْتَحَبِّ أنْ يَلْفِتَ المَرْءُ الانتباهَ. رُبَّما كانَ للأمر عَلاقة بِكَوْني كندية، أوْ بِكَوْني امرأة، وَرُبَّمَا بِكِلَيْهِمَا ".

في عَالَمِ مونرو، تتألَّقُ شخصياتٌ لا تَعْكِسُ أيَّةَ حِنْكَة. تَظْهَرُ أمامَ أعْيُنِنا وكأنَّنا الْتَقَيْنَا بِها صُدفةً في السُّوقِ. أفرادٌ عَادِيُّون يأخذون بأسبابِ حَياةٍ مَحدودة مُهَمَّشَة، لِتَمثيلِ البشرية بِأسْرِهَا بِلُغَةٍ تَتَرَاوَحُ بَيْنَ المَكْبُوحِ والصَّرِيحِ.

وَقَدْ تَمَيَّزَتْ الكاتبةُ بِقُدرتها على نَسْجِ قِصَص مُعَقَّدَة ذات عُمْق فِكري وعاطفي، باستخدامِ لُغَة بسيطة وواقعية، والتركيزِ عَلى تفاصيلِ الحَياةِ اليوميةِ في المُجتمعاتِ الصغيرة، والكَشْفِ مِنْ خِلالِها عَنْ جوانب عميقة مِنَ الطبيعةِ البشريةِ والعَلاقاتِ الإنسانية. وَقِصَصُها تَتْرُكُ أثَرًا عميقًا في نُفُوسِ القُرَّاءِ، وتَدْعُوهُم إلى التأمُّلِ في قَضايا الحَيَاةِ والوُجودِ بطريقةٍ جديدة ومُختلفة.

***

إبراهيم أبو عواد / كاتب من الأردن

كثيرا ما يكتب الشعر والنقد والدراسات الشعرية هذه الأيام، بغض النظر عن رفضك أو أعجابك بهذه المحاولات، لكن نادرا ما نقرأ کتابا أو مقالا يتناول حيثيات الشعر ويتحدث عن ألف باء کتابته، لأن الذي يستطيع القيام بهذا الأمر هم الشعراء- النقاد، كـ (تي أس أليوت)(١)  وطه حسين ومحمد اقبال وغيرهم علی مر العصور وعلی سبيل المثال لا الحصر، ولكن ليس بوسع  كل النقاد خوض هذا الغمار، وليس هذا تقليلا من شأنهم، بل لأن الشعراء- النقاد يعيشون تلك اللحظات الشعرية ويمرون بحلوها ومرها وهم أقرب الی نبض الشعر من غيرهم، لذا هم أدری من غيرهم فيما يدور في جنباتهم منذ اتيان الالهام وحين ولادة الشعر من أعماق النفس الی ان يری النور  بنشره في الكتب أو الصحف الادبية والمنصات الاجتماعية، ويمكن للشاعر الحفيص ذو عين نقدية أن يحيط بتلك الحيثيات ويدونها لغيره من باب الاخذ بدروسها والاستفادة من خبراته الشخصية، وبعد انتاج العمل الشعري يمتلك القراء هذا الشعر، يتقاسمون ويتشاركون الشاعر في جوانبه الابداعية، يلتذون به ويطيرون معه في سماء الاخيلة الشعرية  للوصول الی المبتغی الابداعي بالتمعن وتخيل الصور المجازية والغاية القصوی من النظم بالتعمق في معانيه وشعابه، وكما يقول القرطاجني في (منهاج البلغاء وسراج الادباء):" النظم صناعة آلتها الطبع. والطبع هو استكمال للنفس  في فهم أسرار الكلام، والبصيرة بالمذاهب والاغراض التي من شأن الكلام الشعري أن ينحی به نحوها؛ فاذا أحاطت بذلك علما قويت علی صوغ الكلام بحسبه عملا، وكان النفود في مقاصد النظم وأغراضه وحسن التصرف في مذاهبه وأنحائه انما يكونان بقوة فكرية واهتداءات خاطرية،/ تفاوت فيها أفكار الشعراء".(٢)

علی العموم؛ نادرا ما نجد هنا وهناك من يتحدثون عن حيثيات كتابة الشعر وفنونها العديدة، ربما يرجع السبب الی أهمية الموضوع في صنعة الشعر والذي يخص الشعراء دون غيرهم، والشعر يعتبر فنا أدبيا لغويا بحيث تختلف لغته عن الاستخدام اليومي، وقد قال الجاحظ في (البيان والتبيين): "شعر الرجل قطعة من كلامه، وظنه قطعة من علمه، واختياره قطعة من عقله. وقال ابن التوأم: الروح عماد البدن، والعلم عماد الروح، والبيان عماد العلم"(٣).

فاذا اتفقنا جدلا بأن العمل الشعري الثري والمبدع هو توظيف خصائص المادة الأولية للغة، بشقيها الظاهري والمعنوي أي: الالفاظ والمعاني، فأن لهذا الصرح الانساني الخالد حاجيات أساسية تستوجب توفرها في أي قصيدة شعرية كي تكتمل مراحل بناءها وتجتاز طورها وتصبح نموذجا أمثل للأدب المنتج ونعطيها جزءا من وقتنا ونسميها عملا ونتاجا أدبيا معتبرا، بدءا بالموهبة ومرورا بالآليات المستخدمة بالعناية والوعي الی الاختيار الأمثل للموضوع واجتياز حواجز الثيمة الحية والأفكار المتجددة المبدعة، والا سنعيد أنفسنا والآخرين من أسلافنا مقلدا ودون تقديم أي منجز يذكر أو اضافة جديدة علی ما أبدعوه من أبدعوا قبلنا...

لا يخفی علی الدارس لفنون الشعر بشقيه الشكلي والمضمون، بأن كتابة   الشعر هي موهبة قبل الرغبة، وليس للشعر أي جنسية تذكر أو انتماء ضيق الأبعاد، بل انه ينتمي الی الانسانية في المقام الاول، فهناك من السلف من اقتصروا وعرفوا الشعر بالوزن والقافية فقط، ولكن وحسب النظريات الحديثة ليس الوزن والقافية الا رداءا موسمية يلبسه النص الشعري لغرض انجاز بعض تحسينات جمالية، لكن البنية الاساسية والخفية في الشعر هو الجزء الذي يتبقی منه بعد ترجمته الی لغات أخری، حيث نلاحظ بأن الشعر سرعان ما يفقد الوزن والقافية في اللغة الثانية مع الترجمة، لذا هنالك من رأوا غلوا بأن الشعر غير قابل للترجمة، لكنه بأعتباره عملا انسانيا ذات مضمون روحي يتقاسمه الجميع علی وجه الخليقة،  وبطبيعته يطرق أبواب وجدان الجميع، يخاطب القلب والعقل قبل أن يكون مصطلحات لغوية، فهو أقرب من الكل ودون الاستثناء.

تكتب سوزان برنار في هذا الصدد عن قصيدة النثر  كيف تمرد علی السائد وفي النتيجة لم تخرج عن دائرة الشعر بأخضاعها لقوانين أخری مماثلة لكن في ثوب العصرنة، شكلا ولغة : "والمٶكد أن قصيدة النثر تنطوي علی مبدأ فوضی وهدام، اذ نشأت من التمرد علی قوانين الوزن والعروض، واحيانا علی القواعد العادية للغة. لكن كل تمرد علی القوانين الموجودة مجبر-  فيما لو أراد تقديم عمل أدبي قابل للأستمرار-  علی أن يحل محل هذه القوانين قوانين أخری، خشية الوصول الی ما هو غير عضوي وفاقد للشكل. وهي -  في الواقع-  ضرورة  خاصة بالشعر".(٤)

هنالك جوانب مهمة ورکائز قوية يبنی عليها أي عمل شعري بغض النظر عن انتمائه الی أي مدرسة شعرية، لكننا قلما درسنا وقرأنا هذه المرتكزات؛ هنالك تفاصيل دقيقة تختزل نفسها في عمل شعري لا يلاحظها الا من يقرأ بأمعان ويتابع بتدبر، خاصة ان معظم النتاجات الادبية في وقتنا الحاضر يفتقد الی الاكتراث بە من قبل طبقة النخبة ينظر اليها ويحكم عليها بشكلها الظاهري کوحدة واحدة دون التفكيك والتشكيل والتجزئة، لكنها في الأصل هي قطعة فنية يمكن لأي حرف من حروفها أن تنقلب موازين المعنی. فهناك من الشعراء من يحرص على تحسين مهاراته اللغوية في النصوص، وما يتطلبه ذلك من نحو وصرف وإملاء ونحو ذلك، لكن نصه في الأخير لا يٶدي دوره، ولا يحدث أي رجفة أو اهتياج في النفس وبناء علیه لا نتأثر به ولا يهزنا من الاعماق كي نعتني بە ونحفظه ونتعاطی معه.

بما لاشك فيه ان هنالك ترابط وثيق بين الکلمة والفكر لصياغة المعنی، فالمعنی ليس لوحده تتحرك داخل نص ما بمعزل عن الکلمات، فهما وجهان لعملة واحدة، يستحسن الشاعر المجيد استعمالها وايجاد الترابط بين مجمل الكلمات والمعنی العام للنص وهذا ليس الا وليد الفكرة، فكل عمل أدبي دون الفكرة يكون شيئا مجوفا أو ربما ينظر اليه لا أكثر من زخرفة أو نسيج ذو ايقاع معين، فالانتقاء واختيار الدال المناسب واستعماله  في موقعه الجغرافي الصحيح في النص  ليس الا استجابة لمتطلبات الفكرة وخدمة لها. بل يوءكد ويعتبر ابن طباطبا ان أول مراحل ابداع شعري ما هو تجول الفكرة في الخاطر، اذ ان الفكرة هو المعنی والغرض الموحد للقصيدة، بل أبعد من ذلك يری البعض الآخرون ان الأفكار هي التي تقوم بتشكيل القصيدة وصياغته ومن ثم يتخذ ويشكل اسلوبا معينا. وهنالك من ذهب أبعد من ذلك حينما قالوا بأن التفنن هو الذي يبتكرُ الأفكارَ ويُخفيها في الوقت نفسِه. لهذا ينحاز الشاعر والناقد الانجليزي شيللي الی الانسجام في الفکر أكثر من اخضاعه لنظام شكلي معين حيث يكتب في (دفاعا عن الشعر): "انطلاقا من وجهة نظر فلسفية دقيقة، لا يمكن التقسيم الشعبي الی نثر وشعر. فليس من الضروري أبدا أن يخضع الشاعر لغته لنظام معين من الأشکال التقليدية، وذلك بشرط أن يراعي الانسجام في فكره".(٥)

اذن ايجاد فكرة مناسبة لنص شعري هو أول مرحلة انجاز العمل الانتاجي، وجدير بالذكر ان كل ماتقع تحت أصناف المعاني  مثلما ذكره الجاحظ في (البيان والتبيين) يتحكم بها الفكرة ويوظفها في موقع صحيح في جغرافيا النص متماشيا مع النواة الاولی والفكرة العامة والتشعبات المقطعية : "جميع اصناف الدلالات علی المعاني من لفظ وغير لفظ، خمسة أشياء لا تنقص ولا تزيد، أولها اللفظ ثم الاشارة، ثم العقد، ثم الخط، ثم الحال التي تسمی نصبة، والنصبة هي الحالة الدالة، التي تقوم مقام تلك الأصناف، ولا تقصر عن تلك الدلالات... والاشارة واللفظ شريكان، ونعم العون هي له، ونعم الترجمان هي عنه، وما أكثر ما تنوب عن اللفظ".(٦)

من الجانب الآخر هنالك من يعتبرون أن الفكرة هي مرادف للألهام، وهي بمثابة النواة في النباتات والثمار، لا يمكن الغنی عنها، فعلی سبيل المثال نری من الشعراء المجيدين ينقصهم هذا العنصر لأدامة صنعتهم وهم بأمس الحاجة اليه، فلربما يكون هذا أحد المٶثرات السلبية والعوامل الفعالة للتثبط والعزوف عن كتابة الشعر لفترة ما، لغاية استعادة المادة الخامة والطاقة المعنوية اللازمة لأيجاد ولم الأفكار ونضجها من جديد كي تنفجر منها قصيدة متجددة مبتكرة، يمكن لهذه الافكار أن تأتي من العناصر الحياتية اليومية، كالعلاقات والاحداث والاسفار والمشاهدات، سواء أكان المٶثر صغيرا أم كبيرا، قريبا أم بعيدا.. ثم تتحول الی فكرة لنص ما، مع التشكل في أساليب شعرية عن طريق استخدام ادوات شعرية مناسبة لتَّشكيل نص ما: من تنظيمِ وتریيب الألفاظِ والمفردات والمقاطع والاستعانة بعلوم البلاغة من التشبيه والمجاز والاستعارة والرموز وصور من الخيال واستكمال التكوين الشعري مجتمعة بعناصرها الأربع حسب تصانيف بعض النقاد: (المضمون، البناء، المعجم، الصور الشعرية) ولكي نتميزه عن الأصناف الأدبية الأخری.

لقد أوضحنا مما سبق شيئا من أهمية ايجاد وولادة الفكرة المناسبة لأي نص في داخل نفس الشاعر. ثم تأتي الدور علی الثيمة فهي لا تقل أهمية من الأول، فهي ليس الموضوع بعينه ولا ينحصر دوره في كلمة واحدة أو عنوان النص فقط، بل كل ما يتعلق بالمعاني الرئيسية والفرعية تنصف تحت عنصر الثيمة، وهي مبنية علی قواعد الفكرة، مستندا ظهرها الی تقنيات الكتابة الفعالة. فهناك من يصف الثيمة بمكانة القلب للجسد، وقد عرفت بأنها "عبارة عن صورة أو كائن أو فكرة يتم استخدامها لبيان سمات النص، فهي تعتبر الإطار الأساسي الذي يضيف عمقا وصدى إلى الأعمال الأدبية، أنها المنظار الذي يستطيع بواسطته القارئ تفسير النص"(٧).

أما ناقدتنا المتمكنة نادية هنداوي فهي تطرقت الی هذا البحث ووصفت الثيمة من وجهة نظرها وصفا دقيقا وشبهتها بالمحيط وأما الموضوع فهو کالبحر وأما الفكرة فهي القارب. أي ان الثيمة أشمل وأكبر من الموضوع، فاذا انحصر الموضوع في كلمة أو تعبير واحد، فان الثيمة تستوعب كل المتعلقات الفرعية للمعاني واحالاتها فيما تنطويها المقاطع النصية قاطبة، وهي كما يقول رولاند ب. توبياس: "نظام توجيه يعمل بالقصور الذاتي لخدمتك".(٨)

مع ذكر ما سلفناه، لا يقتصر النص الجاد والناجح علی هذين العنصرين فحسب، بل يبحث الشاعر عن تقنيات متميزة لصياغة الفكرة والثيمة لأيصال مبتغاه واكتمال انجازه الشعري بتميز ونجاح.

تتضمّن التِّقنيَّات الشِّعريَّة المُختلفة عاملا مهما لأضفاء الطابع الجمالي علی النصوص الشعرية بأنواعها الثلاث: الشعر العمودي  وشعر التفعيلة أو قصيدة النثر، وهي مجموعة أدوات كالـ:  التّكثيف، التّشكيل، الرموز، التعابير، التناص، الاستلهام، المجاز والتشبيه والاستعارة والخيال وغيرها. بحيث تبرز هنا دور اللغة واستخداماتها البلاغية وما تحتويها من فنونها لصياغة النص بما ينسجم مع ما اختاره الشاعر مسبقا ورسم خريطته في مخيلته، ثم ينجرف في شكل سيل جار يأخذ مجراه  من منبعه الخام داخل النفس الی مصبه ثم البدأ بمرحلة المراجعة والتصحيح والحذف والاضافة قبل النشر.

كما يزيد البعض الصدق علی هذه التقنيات كعامل مساعد لتقوية ثيمة النص متماشيا مع اختيار موضوع الشعر اختيارا أمثل، حيث يعتبر هذا الأمر في غاية الأهميّة؛ لأنّه هو الذي يُشعل الحِس الداخلي في الشاعر، لذا يجب الحرص على اختيار الموضوع بعناية، بأن يُعبر عن الشاعر نفسه أو يكون قريبا من عالمه ورٶاه ومبادئه وقناعاته الذاتية، هنا يبرز أداء الشاعر، سليقته وقريحته الشعرية وتلاعبه الفني  للثيمة المتجددة المبتكرة التي اختارها وترابطه بخيط غير مرئي بالمتلقي، فمثلًا لا يُمكن لرجل غني كتابة قصيدة عن معاناة الفقراء مثلما يكتبها رجل فقير، كما لا يُمكن لرجل غير محب كتابة قصيدة غزل أو حب مثلما يكتبها رجل عاشق.(٩)

يقول  القرطاجني حول منازل الشعراء من المعاني: "فمراتب الشعراء فيما يلمون بە من المعاني اذن أربعة: اختراع واستحقاق وشرکة وسرقة، فالاختراع هو الغاية في الاستحسان، والاستحقاق تال لە، والشركة منها ما يساوي الآخر فيه الأول فهذا لا عيب فيه،  ومنها ما ينحط فيه الآخر عن الأول فهذا معيب، والسرقة كلها معيبة وان كان بعضها أشد قبحا من بعض"و "ان المعاني منها ما يقصد أن تكون في غاية من البيان علی ما تقدم، ومنها ما يقصد أن تكون في غاية من الاغماض، ومنها ما يقصد أن يقع فيه بعض غموض، ومنها ما يقصد أن يبان من جهة وأن يغمض من جهة"(١٠)

ختاما لا يسعني الا ان أذكر ما ذكرتها سوزان برنار عن أسباب مركزية دور رامبو في تأريخ حقبة ماقبل السوريالية الی يومنا هذا  لأنه كان أول من أكد –بقوة-  علی علاقة الضرورة بين الصيغة الشعرية الجديدة وهذا البحث عن المجهول، الذي يجعل من القصيدة الحديثة محاولة ميتافيزيكية، أكثر من كونها شكلا فنيا.(١١) فلا ننسی الطبع السائد في الحقبة الجاهيلية من الشعر العربي عندما ربطوا الألهام الشعري بعوامل غير مرئية كالجن أو ما يسميه البعض بشيطان الشعر، لكنه في الأخير ان الشعر هو أقرب نوع أدبي من روح الانسان، لا دخل له لا بالشيطان ولا الجن، اذ تعتبر الجوانب الغيبية في الانسان بكينونتها الثلاث(النفس، الفكر، الروح) المصدر الحقيقي لنبع الشعر الصافي، وهذا هو حال الشاعر الماهر المجيد الذي سيصقله بتجاربه النظرية المعمقة في علوم الشعر واللغة وبتجاربه الحياتية العملية.

***

سوران محمد - شاعر ومترجم وناقد

................................

المراجع:

The Use of Poetry and Use of Criticism، T.S. Eliot،1986 by Harvard University Press١-

٢- القرطاجني، أبي الحسن حازم، (منهاج البلغاء وسراج الادباء)، تحقيق: ابن خوجة، محمد الحبيب. الطبعة الثالثة، دار العربي الاسلامي، السنة ١٩٨٦، بيروت. ص١٩٢

٣- أبي عثمان عمرو بن بحر بن محبوب، الجاحظ (البيان والتبيين)، تحقيق السندوبي، حسن، دار أحياء العلوم،

ص٣١- ٣٢.

٤- برنار، سوزان (قصيدة النثر من بودلير حتی الوقت الراهن)، ترجمة: صادق، راوية، دار شرقيات للنشر والتوزيع، السنة ٢٠٠٠، الجزء الاول ص ٣٤

٥- المصدر السابق ص ٢٩

٦- مصدر رقم ٣/ ص ٣٢- ٣٣

٧- مفهوم الثيمة في النص الأدبي، عباس، عبد الكريم حمزة (الناقد)

iraqpalm.com/ar/article/- Theme

٨- هنداوي، نادية، «الثيمة» تلك البوصلة الخفية

hindawi.org/books/41862715/12

٩-  منصور، حسن عبد الرازق، الشعر والعقل-  منهج للفهم، دار أمواج للطباعة والنشر والتوزيع،٢٠١٤، ص١٠٣.

١٠- مصدر رقم ٢، الصفحة١٧٧، ١٩٨.

١١- مصدر رقم ٤، ص ٣٤.

تراجيديا محرقةُ المعنى وقيامةُ الدم.. قراءة فلسفية في بنية الفجيعة / الاديب والشاعر يحيى السماوي

(١) القراءة النقدية الاولى: الطفُّ.. ميتافيزيقيا المنازلة الكبرى:

 في هذه القراءة النقدية المركبة سأحاول أن أغوص في اعماق الجرح المفتوح، واحلل كربلاء الطف لا كحدثٍ تاريخي، بل كـ ميتافيزيقيا المنازلة الكبرى، حيث الاصطفاف لم يكن بين سيوف ودروع، بل بين النور والعدم، بين الإنسان والوحش، بين الله والفراغ.

 اذن، لنقترب، لكن بحذرٍ شديد.. فكربلاء ليست نصًا يُقرأ، بل نارٌ تُكوى بها الروح، وصوتٌ لا يزال ينادي:

 “ أما من ناصرٍ ينصرني؟ "

 لذلك لم تكن كربلاء أرضًا فحسب، بل كانت المِحكّ الأخير لإنسانية الحسين وصدقه لمبادىء دينه الحنيف.

 رأيت في الطفِّ، الحسين (ع) لم يكن رجلًا وحيداً خرج لطلب الإصلاح …بل كان الكون نفسه يُعيد تعريف ذاته، وكانت القيم تتعرّى أمامه لتظهر على حقيقتها:

 مَن الذي بقي مع الله؟

 ومَن الذي باع دينه بدرهمٍ ؟

 أو من باع دينه بخوفٍ أو بحقدٍ دفين؟

 أيّ وجعٍ أعمق من أن ترى وليدًا يُذبح على صدر أبيه، لا لذنبٍ جناه، بل لأن السيف خاف من بكاء الطهر؟

 أيّ مأساةٍ أفجع من أن تُسبى بنات النبي، والناس يهلّلون في الأسواق؟

 كشاهدنا في الطف، لم تكن هناك رايتان، بل ميزان: ميزان الدم والمعنى.!

 لذلك لم تكن في الطف مناطق رمادية أما أبيض وهو الفوز العظيم وأما أسود وهو عار التاريخ الى يوم الدين.

 ما وقف الحسين وحيدًا، ليشرب من كأس الفناء، إلا لكي لا تموت الكرامة ولا يضيع الدين، فقدم أطفاله واولاده واخوته واصحابه قرابين، كي لا يُذبح الضمير في مهده، ويعيش الطغيان.

 إن ما حدث في الطف لم يكن “معركةً” فقط، بل كان “انقلابًا كونيًا” سقطت فيه الأقنعة، وارتقى فيه الحسين من جسدٍ إلى فكرة، ومن دمٍ إلى خلود.

 ولذلك وثق المؤرخون ان كربلاء لم تكن حدثًا في التاريخ فحسب، بل هي لحظة انثيالات وجودية تتكرّر كقدر، وتستحيل رمزًا للتراجيديا الإنسانية في أقصى تمثّلاتها الأخلاقية والميتافيزيقية.

 من هذا الأفق نلج إلى قراءة النصوص الحسينية لا كأدب رثائي، بل كأدب فلسفي يعيد تشكيل العلاقة بين الإنسان، والألم، والحق، والمطلق.

 في هذه القراءة، نقرأ تراجيديا الفجيعة الحسينية بوصفها محرقةً للمعنى بمعناه الأخلاقي في مواجهة العبث، وقيامةً للدم بوصفه المعادل الرمزي لثورة الوعي الأخلاقي والروحي.

أولاً: من الرثاء إلى الفلسفة..

تحوّل النصّ الحسيني:

 يمثّل الشعر الحسيني منذ بداياته، خصوصًا في العراق، امتدادًا لفكر الثورة الماورائي، حيث يتقاطع فيه:

 المأساوي بالديني، والتاريخي بالميتافيزيقي، والواقعي بالرمزي.

 وفي قلب هذا التحوّل، يتحوّل الرثاء من بكاء إلى احتجاج جمالي، ومن دمعة إلى بنية إدراكية للمعنى.

 الشاعر يحيى السماوي هنا لا يرثي ميتًا، بل يستحضر القضية بوصفها مرآةً للوجود الإنساني المأزوم.

 في قصائد الطفّ الحديثة، ومنها قصيدة (شكوى حسينيٍّ تأبّد حزنه)، للشاعر الكبير يحيى السماوي نشهد استدعاءً فلسفيًا للحسين بوصفه صورة الحق الكامل، لكنه أيضًا صورة الإنسان في أقصى تجلياته.

ثانيًا: تراجيديا محرقةُ المعنى:

فلسفة المعنى في الطف:

 حين يواجه الإنسان فجيعة تُجهض كل قوانين العدل، فإن السؤال لا يكون عن الحدث، بل عن “معنى الحدث”. الطفّ بهذا المعنى هو سؤال الإنسان الأزلي:

 هل للحقّ جدوى في عالم تحكمه السيوف؟

 وهل يستحقّ المعنى أن يُذبح لأجل أن يبقى؟

 في الطفّ، أُحرِق المعنى مرّتين:

 مرّة عندما خُذل الحسين،

 ومرّة حين قُتل وهو وحده يصلي

لضمير الكون.

لكن هذا الحرق ليس موتًا، بل هو نفيٌ للزيف. فالمعنى لا يولد إلا من النار. من هنا، تتحوّل الفجيعة إلى محرقة كاشفة، لا للمظلومية فحسب، بل لهشاشة النظام الأخلاقي الذي يسكت عن الجريمة.

ثالثًا: قيامة الدم حين يصير الجسد لغةً أبدية

فلسفة الدم كرمز للثورة الوجودية:

 في الأدبيات الدينية، الدم رمز للتضحية، لكنه في الفاجعة الحسينية تحوّل إلى خطاب فلسفي قائم بذاته. فالدم الحسيني لا ينزف عبثًا، بل يعلن عن قيامة المعنى.  إن كل قطرة دم في كربلاء هي “بيان ثوري” على صمت الضمير الإنساني، ولذلك فهي لا تجف، ولا تنسى.  من هنا، يصبح الدم في شعر الطفّ علامة على الحياة لا على الموت، وعلى الحضور لا على الفناء. هو حضورٌ أبدي في ضمير اللغة والتاريخ.

رابعًا: تراجيديا الاختيار..

فلسفة القرار في مواجهة الحتم

 يُنظر إلى كربلاء أحيانًا بوصفها فاجعة مفروضة، لكن الشاعر الحسيني السماوي يرى فيها قرارًا وجوديًا – ميتافيزيقيًا.  فالحسين لم يُسق إلى المعركة، بل اختارها. وهذه الفكرة تضعنا أمام جوهر التراجيديا:  أن تكون قادرًا على النجاة، ومع ذلك تختار الهلاك، فقط لأنك لا تحتمل الحياة دون معنى.  وهنا تتقاطع الفلسفة الوجودية مع الطفّ. الحسين يشبه سقراط، لكن أكثر منه قربًا للسماء. ويشبه بروميثيوس، لكن دون أن يسرق النار، بل يصير هو النار.

خامسًا: تراجيديا الجمال حين يكون الألم شعرًا

في شعر الطفّ، لا نقرأ بكاءً فقط، بل جمالًا غريبًا متعالياً، يقدّس الألم لا بوصفه عجزًا، بل بوصفه شكلاً ساميًا من أشكال البقاء. الألم هنا ليس عاطفة، بل بنيةٌ شعرية وفلسفية تنقذ الإنسان من تفاهة الحياة.

 إن النصّ الحسيني يعيد تعريف مفاهيم: القوة، الصبر، الجمال، الوفاء، البطولة، الموت على حق.  وهكذا، فإن تراجيديا الحسين ليست عن القتل، بل عن البقاء، ليست عن القبر، بل عن القيامة.

خاتمة:

 “الطفّ” هو المأساة التي صنعت حضارةً أخلاقية. كل قطرة من دم الحسين كانت نبيًّا صغيرًا،  وكل دمعة هي يقظة جديدة في ضمير العالم.  من هنا فإن التراجيديا الحسينية ليست مجرد موتٍ جميل، بل قيامة مستمرة للمعنى في وجه العالم المتوحش.

 لقد اختار الحسين أن يكون هو اللغة حين خرست الكلمات، وأن يكون هو النور حين عميت البصائر، أن يكون هو المعنى حين صار العالم خواءً.  وها نحن، بعد ألف عام، لا نزال نحبو في رُكبه… شاعرين… أو حزانى… أو مندهشين.

(٢) القراءة النقدية الثانية: تراجيديا محرقةُ المعنى وقيامةُ الدم.. قراءة في البنية الفلسفية والرمزية

واقعة كربلاء ليست مجرد حادثة تاريخية ولا معركة بين فريقين، بل هي حدث أنطولوجي يتجاوز الزمان والمكان، ينطوي على أبعاد ميتافيزيقية ورمزية ووجودية تعيد صياغة العلاقة بين الإنسان والمقدّس، بين الدم والحق، بين الموت والحياة.  في “الطف” لا نقرأ التاريخ فقط، بل نقرأ سؤال الإنسان عن جوهره، عن قيمه، عن حدود صموده حين تكون العدالة ذبيحة، والإيمان محاصرًا بالسيوف.

أولاً: الطف كحدث ميتافيزيقي

1. تحوّل المأساة إلى رمز كوني

الطفُّ ليس مجرد ساحة حرب، بل هو محراب تجلّت فيه العدالة الإلهية عبر الدم الطاهر، حيث تصبح المنازلة بين الحسين ويزيد صراعًا بين:

- النور والظلام

- الحق والباطل

- الخلود والزوال

 هنا يتجاوز الإنسان جسده ليصبح فكرة، ويتحوّل الاستشهاد إلى معراج وجودي.

2. كسر نواميس الواقع:

في كربلاء، لا تسير الأشياء وفق نواميس الواقع، بل وفق جدلية القداسة والامتحان. الحسين يسير إلى الموت طواعية، لا هربًا منه، بل ليُميت موت المعنى، ويحيي قيمة الرفض الأبدي للظلم.

ثانيًا: الوعي الحسيني كفعل حرية

1. الحسين و”القرار الحر”

الحسين لم يُجبر على القتال، بل اتخذ قراره بوعي كامل، رغم إدراكه النتيجة المأساوية. هنا تتجلى الفلسفة الوجودية في أبهى صورها: “ما خرجتُ أشِرًا ولا بطرًا، بل لطلب الإصلاح في أمة جدّي”.  في هذا الموقف يعلن الحسين أن الإنسان لا يُعرّف بما يحدث له، بل بما يختاره عن وعيٍ وإيمان.

2. ثنائية (الذات – المطلق)

يذوب الحسين في المطلق الإلهي حتى يصير فعله امتدادًا للمشيئة العليا، وتصبح المعركة عبورًا نحو التوحّد مع المعنى، لا نصرًا دنيويًا.

ثالثًا: أبطال كربلاء كرموز فلسفية

العبّاس – الفروسية المطلقة

يمثّل العبّاس الفارس الذي لا يقاتل ليَقتُل بل ليَمنع القتل. هو رمز للفداء الخالص، حيث يبلغ ذروة العطش ليمنح الماء لغيره.

زينب – فلسفة الصبر والصوت المقاوم

بعد المذبحة، تتجلى زينب كضمير ناطق للتراجيديا، فتتحوّل من أنثى في منفى الألم إلى فيلسوفة وجودية تحاكم القتلة وتؤرّخ للحقيقة.

رابعًا: ميتافيزيقيا الدم وقيامة المعنى

الدم كقيمة وجودية:

الدم في كربلاء لا يُراق عبثًا، بل يتحوّل إلى لغة صوفية، يُكتب بها التاريخ المقدّس، ويُرسم بها وجه الحريّة.

القيامة الرمزية

كل سنة تعود كربلاء لا لأنها لم تنتهِ، بل لأنها تحوّلت إلى رمز خالد: كل أرض كربلاء، وكل يوم عاشوراء. هنا تصبح الذكرى مقاومة دائمة ضد كل طاغية.

خامسًا: التراجيديا الفلسفية:

واقعة الطف لا تُختزل بالحزن بل تتجاوزه إلى تراجيديا فلسفية ينتصر فيها الموت الشريف على الحياة الذليلة. بهذا تصبح المأساة حسينية لأنها تُوقظ المعنى فينا، وتُعيد تعريف مفردات البطولة والكرامة.

خاتمة: كربلاء ليست ذكرى نحييها، بل فلسفة نعيشها. وهي منازلة بين الوجود والعدم، بين الروح والسلطة، بين المعنى والفراغ.  الحسين لم يمت، لأنه لم يكن جسدًا فقط، بل كان حقيقة تمشي على الأرض، و”الحق لا يُهزم حتى لو انكسر الجسد”.  وحدهُ الحسين، كان يعرف أن الطريق إلى كربلاء ليس ممهدًا بالنصر، بل مفروشٌ بجثث الأحباب، وصرخات الأطفال، وعطش الرُضّع، وغصة النساء.  لكنه سار… لأنه كان يعلم أن المعنى لا يُكتب إلا بالدم، وأن القيم لا تُبنى إلا على رماد الأجساد الطاهرة.  في الطفّ، لم تكن المعركة بين جيشين، بل بين السماء وكل ما هو دونها.  كان الحسين لا يقاتل فقط سيوف الطغيان، بل ينازل الفراغ الأخلاقي الذي اجتاح أمة كانت يومًا تهتف: “نحن أنصار محمد !.  وها هي اليوم الطف تسحق قلب ابن محمد. الطفُّ ليست مأساة فقط، إنها سؤالٌ مفتوح على الزمن.  كربلاء ليست جرحًا قديمًا يُبكى، بل جرحٌ حيّ يُفتح كل يوم، في صمتنا عن الظلم، في سكوتنا عن الذل، في كل مرة نضعف فيها أمام القهر.  الحسين لم يمت، لأنه قرر أن يموت ليحيا. وها نحن، بعد أكثر من ألف عام، ما زلنا نبكي…لا لأن الحسين مات، بل لأننا لم نعد نملك شجاعة الحسين، ولا يقين الحسين، ولا حب الحسين للحق.

فيا دم الحسين خذنا إليك لعلنا نغتسل منك، ونولد من جديد.

شكر وامتنان للشاعر الكبير يحيى السماوي أيها الشاعر النبيل… في زمنٍ أضحت فيه الكلمات باردةً كالحجارة، بعثتَ من وهج الولاء قصيدةً حسينية دافئة، ناحت فيها الروح قبل الحروف، واستصرخت الوجدان قبل الأوزان.

أشكرك جزيل الشكر على هذا النزف الطاهر، الذي لا يُكتب بالحبر، بل بالدمع، ولا يُلقى على الورق بل يُسجّل في الضمير. لقد أعدت للحرف قدسيته، وللرثاء طهره، وللثورة معناها النبيل. قصيدتك ليست نصاً يُقرأ، بل طقس ولاء يُمارس، ومحراب عشق يُصلى فيه. دمتَ منارة من منارات الأدب الحسيني الرفيع، وراية مرفوعة في سماء الحق والجمال. دمت بهذا الألق الجميل.

***

الناقد الدكتور عبد الكريم الحلو

...................

للاطلاع على القصيدة

يحيى السماوي: شـكـوى حُـسـيـنـيٍّ تـأبَّـد حـزنـه

للشاعر زياد كامل السامرائي

يحاول الشاعر ان يرسم خطاً شعرياً خاصاً به، وبلغة تخاطب القارئ شعورياً في إحساسها العميق، بما يملك من قدرات شعرية متمكنة من الصياغة والرؤية الفكرية والتعبيرية الدالة، يتوغل في مخيلته الشعرية كي يخلق حالة التساؤل والتأمل، ليفتح المدارك الذهنية لدى القارئ بالتأمل، ليدرك حجم الصراعات الحياتية والوجودية، ومعضلاتها وتناقضاتها القائمة، التي تتحرك بين الوجع والحلم، في الواقع محبط ومخيب، الذي لا ينتج سوى الهزائم والانكسارات النفسية، في عالم مضطرب ومشوش في هشاشته، بين المحسوس واللامحسوس، في زمن يغوص في اليأس والحزن والتخبط، كأنه يدور في حلقة مفرغة بالدوران، مما تؤثر على خلجات النفس التي تجد نفسها محاصرة من كل الجهات، هذه الارهاصات لا تترك فسحة من الحلم، وعلى هذا المنوال يعزف او يضرب على وترها الحساس، في براعة تشكيل الصور الشعرية الباذخة في المعنى، والقادرة على الاثارة في تحفيز القارئ، ان يفتش عن هذه المعضلات بالقراءة العميقة المتأنية، ان يرصد تفاعلاتها الذاتية والموضوعية، حتى يرصد مساحات الوهن والخلل في منصات الحياة والوجود المتشابكة، في الفعل ودراماتيكية الحركة، وتحاول ان تجد مخرجاً لها من عنق الزجاجة، لذلك نجد عناوين نصوص القصائد صادمة غير مألوفة، على سبيل المثال في ذكر بعض العناوين المجموعة الشعرية (عمر بعيد عن المرمى): أقيم في ورقة. حلم لم يزدهر. قراءة لعش الحمامة. ثماني عقود شمعة واحدة. لجوء غويا الى الوثبة. عمر بعيد عن المرمى. نهر نحيل جنرال أعمى. مدن بلهاء. ذو الساق الواحدة. ساعي الدموع يطرق مرتين.... وغيرها من العناوين التي تثير حواس وذهن القارئ بشكل مرهف. لكي يؤكد بأن الإحباط في سيكولوجية النفس تحمل مشروعية في القلق والهواجس، بأن عالم الخارجي يؤثر على العالم الداخلي أو الذاتي، يحاول محاورة القارئ شعورياً للخروج من هذا العالم المتشابك، لكن لاشيء يترك مسحة من الفرح، سوى الالم والاحزان، هكذا يرسم لوحاته الشعرية في براعة الوصف والتصوير، لكي يوضح بأن العمر بعيداً عن الهدف ولا يمكن الوصول إليه في اصابة المرمى، انها في حالة دوران، كأن لا جديد تحت الشمس، يعني مشاعر الذات تقع في مثلث من الحزن واليأس والالم، العمر يتجرع المراثي في محطات العمر.

× قصيدة الدوران:

أنحتفل بسنة جديدة

ونحن وجها لوجه في دمي !

نفتح بها قلبينا الواحد

لنغازل نجمتينِ

لا يمسّهما جُرح

ولا يتعبُ من دوراننا فجرا

يذوب في شفتينِ

لانّا شربنا من شطآن العيون

مراثي وأغنيات.

العمر بلغ سن الرشد، ولم يمرعليه طيف ينعش العمر بالتماهي بحضوره، كأن الحياة جدبت لا يمر عليها المطر، مثل الروح التي لم تجد حلم يزدهر وينمو، بل ان حلمها لا يزدهر، سوى في المعاناة تنمو وتكبر، والحلم لا يمر سوى في مخيلته كشاعر.

× قصيدة: حلم لا يزدهر:

بلغتُ "سن الرشد"

ولم يأسرني أي حُلْم

الا كشاعرٍ..

لكني أتسائل: كيف خرج ذلك الحُلْم

من حَنجرة الكلمات

ولم يُزهر !

× الأم حاضرة في قصائد المجموعة الشعرية، كما هي حاضرة في القلب، وان الخالق اعطاءها منزلة عظيمة،خلق الجنة تحت اقدامهن، لذا فأن النص الشعري من قصيدة (ثمانية عقود... شمعة واحدة) موجهة الى كل امهاتنا جميعاً الى الام العراقية بالذات، التي تحملت اطنان من الوجع والالم، لكنها ظلت مكابرة في قلبها الحنون الى فلذات كبدها، لهذا يهدي القصيدة الى الام بمناسبة اليوم العالمي للمرأة، ينحني العمر كله، بل تنحني النخيل تحت اقدامها.

ذلك المحراب الذي أضاء صلاتنا في ظلام الأبديّة..

روّى أفاريز القلب المتورَّد بخفقاتٍ منها ولها، فقد نحيا سنوات نناجيها وقد لا نحيا دونها.

ترتجف الكلمات والجُمل، حاسرات البصر، حائرة على باب وصفكِ ولو بــ "خُصلة" واحدة منكِ.

لكني أكتبُ لكِ ارتباكي و أنا في لجّة الأرض وأحشاء المصير..

لا عذر أقدّمُه اليكِ اليومَ.. انْ هي الجنّة تحتَ أقدامكِ خاشعة راكعة مُستبشرة، منذ القيامة الأولى لشهيق القلب. فما بالها الحياة تستغرقنا، تلفّنا بعبائتها السوداء دونكِ.

قصيدة: لجوء (غويا) الى الوثبة

قصيدة مستوحاة من لوحة (الثالث من مايو 1808. للرسام الإسباني الشهير فرانشيسكو دي غويا، أثناء الاحتلال الفرنسي بقيادة نابليون لإسبانيا وكيف جسدت تلك اللوحة براعة وتراجيديا شجاعة المقاومة عند الإسبان)، يسحبها لطقوس العراقية الى سوح النضال وسط بغداد، اشتعلت فيها الاحتجاجات ومظاهر الرفض للسلطة والأحزاب المتسلطة، التي فجرت انتفاضات الشعب، سواء في ساحة الوثبة، او في ساحة التحرير في انتفاضة تشرين عام 2019، والتي جابهتها الحكومة بالقتل والقمع والاختطاف والتخوين، رمزية اللوحة، بتقابل جيشين في المواجهة الحادة والدموية، الأول مسلح بالرصاص وآلة الموت وقنابل الدخان، والثاني مسلح بصوت الكلام (نريد وطن).

تاهتْ خطى الأرصفة كما خُطاك

منذ شتمتْ رئتاكَ عواصف الدخان

لحظة دُثّرتْ فرشاة الألوان أحلامنا

لغة خالقها على جسد من بلور

*

لتُعلنَ قيامة، لا قاتل فيها ولا مقتول

سوى لوحة باهضة تجثو فيها ثورة

يقرأ منها الزائرون فواجعهم.

قصيدة: عمر بعيد عن المرمى

وهي تحمل عنوان المجموعة الشعرية، تحمل إيحاء ورمز بليغ المعنى والدلالة، مشحونة بصدق الاحساس في الشعور الداخلي لمحطات العمر، تركض وراء الوهم والسراب، بعيداً عن المرمى أو الهدف، في عناقيد العمر لم يمر عليها سوى فصل الخريف في الصراع الوجودي، كأنها تلعب مع الزمن لعبة (الغميضة).

أنْ تحزن، وأنتَ تعُدّ القُبلات والمُدن

لا يكفي..

لأنكَ ترى من باب ذاكرتك المعطّلة

حقولا من اليأس و البكاء

وهي تشرب قصيدة عطشى

حتى آخر جذورها المحمومة

لحياةٍ ملعونة

*

موسم الهجرة الى الوهمِ

تَركَ آثارنا في البحرِ

لكنّ الحوت لنْ تعثر علينا

كُنا في السماء

نُجرّب لعبة "الغمّيضة" مع الدّب الأكبر.

× قصيدة: النص المخروم لمقتل خمبابا:

النص الشعري يحتاج الى قراءة وتأمل عميق تفكير في مسألة قتل خمبابا آله الشر على يد جلجامش وانكيدو، تحمل عدة تأويلات وتساؤلات: هل قتل الشر فعلاً ؟ هل هو يحمل دلالة قتل القديم من أجل ان يبعث الجديد من موت القديم ؟ أم ان مسألة القتل بدوافع اللهو والعبث ؟ هذه التساؤلات تفتح آفاق الاسطورة القديمة في إعادة صياغتها ومفهومها المعنى في الدلالة والإيحاء والرمز، ينبغي فهمها على ضوء واقعنا الراهن، في الصراع بين القديم والحديث.

أكتب هذا...

أنا العاجز في الأسطورة عن ذرف المراثي

لعلّ الخمرة التي تركتُها على شفاه عشتار

ينكشف منها الموج والشراع

ليتأرجح عاليا مركبي

قبل أنْ يسبح موتي في الآفاق.

*

ها أنا أتقبّل بين أيديكم الموت

كما يتقبّل الطائر الهواء

وجهان بسياجين من حديد

يلتقيان بمن سيموت

وأنا بمن سيولد

***

جمعة عبد الله

 

قراءة في البنية الرمزية والشعرية

تغدو القصيدة المعاصرة، في لحظات الانهيار الجمعي، مساحة لاستعادة الأسئلة الكبرى حول الهوية والقدر والمقدّس، عبر لغة تُقاوم المحو وتُعيد تشكيل الوعي. في هذا السياق، تبرز قصيدة "أقنعة المكائد" للشاعر طارق الحلفي بوصفها نصًا شعريًا ذا بنية رمزية كثيفة، يتقاطع فيها الذاتي بالجمعي، والميتافيزيقي بالسياسي، حيث تتحوّل التجربة الشعرية إلى مرآة تعكس تشظي الذاكرة وتكرار التاريخ بوصفه مأساة لا تنفكّ تعيد إنتاج ذاتها.

تسعى هذه القراءة إلى مقاربة القصيدة من منظور شامل، يكشف عن طاقتها الرمزية، وأبنيتها الجمالية، وخطابها الفكري والوجودي، إضافة إلى إسقاطاتها الاجتماعية والسياسية والدينية، مع إبراز مواطن القوة البلاغية فيها.

* في البنية الجمالية والتوتر الإيقاعي

تتوسّل القصيدة بنيةً لغوية متوترة، مشحونة بالصور والإنزياحات، قائمة على تراكيب مشهدية تتكئ على التكرار والتوازي والإيقاع الداخلي، ما يمنحها طابعًا طقوسيًا ونبوئيًا. يُلاحَظ منذ المطلع:

"وبِلادٍ أيقظتها دَوْرَةُ المَوتِ

وَكُثْبانُ الغِيَابِ"

أن اللغة تستدعي فضاءً رماديًا، زمنًا معطّلاً، ومكانًا مثقلاً بفقد المعنى. هذه الافتتاحية تُرسي أُسس الرؤية الشعرية القائمة على استدعاء الموت لا بوصفه نهاية بل كـ "دورة" دائمة، تُنتج الغياب وتعيده، وكأنّ التاريخ يتحرك في فلكٍ مغلق من العنف والتكرار، كما ان التشظي الإيقاعي في الجمل الشعرية يُعبّر عن انكسار داخلي، ويخدم الدلالة، ويعكس تهشّم الوعي الجمعي الذي تتحدّث عنه القصيدة بوضوح.

* الرمز الديني بوصفه أداة للمساءلة لا للتبرير

تتداخل في القصيدة إشارات دينية متعددة، تُطرح لا كمسلّمات عقائدية، بل كمفاهيم قابلة للتأويل تُخضع للمساءلة. يبرز ذلك في قوله:

"حينَما طَوّقها اللهُ بِملهاةِ الحُروبِ

فذَبَحنا بِاِسمِهِ أهلنا دُونَ لُهاثٍ"

هذا المقطع يُعيد إنتاج خطاب القتل المقدّس بلغة صادمة، حيث يُستحضر اسم الإله في سياق التبرير للذبح، في نقد ضمني لانتهاك القداسة وتوظيف الدين لتبرير الدماء. إنه توظيف شعري للمقدّس بوصفه ساحة تأويل مشروعة، تُفتَح فيها الأسئلة لا لتُغلق.

وتتجلّى المفارقة في صورٍ رمزية أخرى:

"مِهْرَجانًا لِمَسيحٍ كبّلتهُ الفاجعات،

او إزارًا لِشَفِيعٍ تَرتَجيهِ المعجزات"

في هذا التشكيل الشعري، تُستعار شخصية المسيح، لا بوصفه مخلِّصًا لاهوتيا، بل كرمز فادح النبل، ضحية أخرى تضاف الى سلسلة لا تنتهي من المصلوبين، أولئك المكبَّلين بالفواجع، في مشهد يتكرر في تراجيديا إنسانية، لا بخلاص موعود. اما الشفيع الذي".. ترتجيه المعجزات"، فهو ليس سوى المخلص المنتظر او المنقذ الغائب الذي تعلق عليه الآمال في زمن عز فيه الفرج.

* الرؤية السياسية والاجتماعية ـ من مركز الفعل إلى هوامش العبودية

تكشف القصيدة تحوّل الذات الجماعية من موقع "المرجِع" إلى موقع "العبودية"، بلغة تفضح التقهقر والانهيار:

"مَرْجِعًا كَنَّا وَأصْبَحْنا عبيدًا لِلجنودِ القَتَلَةْ

مَرْجِعًا كَنَّا وَأصْبَحْنا خُطامًا في مَزادِ السَّفَلَةْ"

يُظهر هذا التحول قطيعة رمزية مع التاريخ المجيد، ويتحول الفاعل الجمعي إلى مفعول به ضمن ديناميكية محو الوعي والكرامة. يتكرر مفهوم "القدر" كقوة ضاغطة تحكم وتُقصي وتُسقط:

"قَدرًا.. يَطرُدُنَا بَعْضُ رجالٍ

قَدرًا.. يَحْكُمُنا نِصْفُ رِجالٍ"

القصيدة تُحمِّل الواقع السياسي مسؤولية الانهيار، من خلال التلاعب بمفاهيم الرجولة، والسيادة، والشرعية، وتُسقط عنها أقنعتها لتُظهر هشاشتها.

* جدلية الرماد والقيامة ـ انتظار المعنى خلف ميعاد المعاد

يستمر النص في اشتقاق تأويلات رمزية من المفردات الدينية ("التيمم"، "الصلاة"، "الرحمة"، "الميعاد")، ولكنه يعيد توظيفها خارج سياقاتها الطقسية، لتكون إشارات إلى عجز الخلاص وتأجيل المعنى:

"فاسْتَكانَتْ خامَةُ المَعنى رَجاءَ الاِخْتِباءِ

خَلف مِيعادِ المَعادِ"

إنها صورة ميتافيزيقية للمعنى وقد استتر، وتحوّل إلى رجاء مؤجل، إلى قيامة محتجبة، ما يُضفي على النص بُعدًا فلسفيًا/ وجوديًا، يُعبّر عن ضياع البوصلة في زمن الانهيار المعنوي.

* إسقاطات معاصرة ـ التاريخ كأقنعة متكرّرة

تنبني القصيدة على ما يمكن وصفه بـ "فلسفة الأقنعة"، حيث تتكرّر المآسي بأوجه جديدة، ولكن الجوهر واحد:

"دَوْرَة اخرى سَتَأْتي

بِمَرَايا الأقنِعةْ"

إنه تكرار قاتل، لا يحمل أملاً في التجديد، بل في المراوغة، و "فيَض الصليل" هو تعبير عن انفجار عنفٍ مسلّح، فُرض قسرًا في مجتمعات تُدار بالمكيدة لا بالعدالة.

يُسقط النص هذه البنية الدائرية على الواقع العراقي بخصوصيته، والعربي بعموميته المتقاربة، بما يعانيانه في "مزاد السفلة"، و "خُطام العبودية"، حيث تُباع القيم، ويُدفن الأمل في رماد الخراب، وتُزيَّف المآسي باسم الاحتفالات.

* مقارنة مع نماذج من الشعر العالمي ـ في المأساة ووحدة الوجع

يتقاطع صوت القصيدة العربية في "أقنعة المكائد" مع أصوات شعراء عالميين عبّروا عن الألم الجمعي والحروب والدمار الأخلاقي، بأساليب شعرية كثيفة الرمزية، مثل:

1. باول تسيلان الشاعر الالماني في قصيدة "أنشودة الموت"

واحد من أبرز شعراء ما بعد المحرقة، كتب تسيلان شعرًا يفيض بالتجربة الجماعية للموت، ويُعيد تفكيك اللغة ذاتها بوصفها أداة للخلاص والموت معًا. في قصيدته "أنشودة الموت"، يقول:

"الحليب الأسود للفجر، نحن نشربه مساءً

 نشربه ظهرًا وصباحًا، نشربه ليلًا

 نشربه، نشربه"

تسيلان، كما شاعر "أقنعة المكائد" طارق الحلفي يوظف التكرار الطقسي لتكريس فكرة الدائرة العبثية، ويربط الموت بالمقدّس عبر صورة "الحليب الأسود"، تمامًا كما يربط شاعرنا الصلاة بـ "الرماد"، والوضوء بـ "حصاد الدم"، وهو ما يمنح النص العربي بعدًا كونيًا مشتركًا في مأساوية التجربة البشرية.

2.  ت. س. إليوت ـ الشاعر الانكليزي في "الأرض الخراب"

في رائعته الشهيرة، يرسم إليوت لوحة ما بعد الحرب، حيث الرماد يحل محل المعنى، والقيامة مؤجلة، والإنسان يعيش في "أرض خراب". يقول:

"أبريل أقسى الشهور

 يخرج الليلك من أرض الموت"

إن ثنائية القيامة/ الدمار عند إليوت تُقابل تمامًا ثنائية "الرحمة من رحم الرماد" في "أقنعة المكائد" كلا الشاعرين يستدعي الميثولوجيا والدين، ولكن لا كوسائل خلاص، بل كأدوات تفكيك للمأساة.

3. فيسوافا شيمبورسكا في"نهاية وبدء"

في قصيدتها "نهاية وبدء" تتحدث الشاعرة البولندية الحائزة على نوبل عما بعد الحرب، عن اللحظة التي يعود فيها الناس للحياة، بينما تبقى المعاني مستترة:

"بعد كل حرب

يجب أن يقوم أحدهم بترتيب الأمور

نوعٌ من النظام

لا يحدث من تلقاء نفسه"

وهو ما يقابل قول الشاعر في "أقنعة المكائد":

"فاسْتَكانَتْ خامَةُ المَعنى رَجاءَ الاِخْتِباءِ

خَلف مِيعادِ المَعادِ"

كلاهما يعبّر عن قصور المعنى، وانهيار البُنى القيمية، وحاجة ما بعد الدمار إلى من يُرمّم الخراب الوجودي.

4.  ناظم حكمت ـ "قصيدة عن طفل ميت في الحرب"

ناظم، المناضل التركي، يُسقط في شعره الحروب على جسد الطفل، الانسان العادي، لا السياسي. يقول:

"كان يملك يدين صغيرتين،

 كان يستطيع أن يلعب بهما،

 أن يكتب بهما..

 لكنه مات"

يتقاطع هذا الحس الإنساني، البسيط والموجع، مع روح "أقنعة المكائد" التي تُدين تكرار المجازر باسم القيم أو الإيمان، وتُسقط الحروب على الجسد الجمعي والبراءة.

يتبين أن قصيدة "أقنعة المكائد"، وإن كانت من رحم تجربة عربية، فإنها تتناغم في خطابها الرمزي والإنساني مع تجارب شعرية عالمية كبرى، ما يجعلها قابلة للانفتاح على النقد المقارن.

 لقد استطاع الشاعر أن يوظف الحس التنبّئي والألم الجماعي بأسلوب بلاغي يُقارب كبار الشعراء العالميين في التعبير عن لحظة السقوط، وتكرار المجازر، وغربة الإنسان في مدارات الخراب. وأن يوظّف أدواته البلاغية والفكرية لبناء نصٍ يُوازي بين الشعر والنبوءة، بين المرثية والصلاة، بين الدم والقيامة، ليمنح المتلقي تجربة شعرية مغايرة، تُلامس الألم، وتوقظ السؤال، وتدعو إلى التحرّر من "الأقنعة" قبل أن تُعاد "الدورة" مرة أخرى... كما يُحذّر النص في كل مقطعٍ تقريبًا.

***

سعاد الراعي

2025.08.04

........................

"اقنعة المكائد"

وبِلادٍ أيقظتها دَوْرَةُ المَوتِ

وَكُثْبانُ الغِيَابِ

قد دَخَلناها نُعيدُ الذِّكرياتِ

قَد دَخَلناها ومِن بابِ الحَرائِقْ

حينَما طَوّقها اللهُ بِملهاةِ الحُروبِ

فذَبَحنا بِاِسمِهِ أهلنا دُونَ لُهاثٍ

وتَوَضَّأْنا حَصادَ الدَّمِ في كُلّ تَأَنٍّ

وتيَمَّمنا ضُحى قَبلَ الصَّلاةِ

كي نُداني تَرَفَ الرَّحْمَةِ مِن رَحْمِ الرَّمادِ

قَبْلَ أنْ يَرْتَطِمَ الضَّوءُ بِأَهْدابِ الصَّباحِ

وَيَفزّ المَيْتون.

**

دَوْرَةٌ أخرى سَتَأْتي

بِطَواحينِ المَكائِدْ

دَوْرَة اخرى

يُعادُ المَشْهَدُ المترع بالموتى

ومِن دُونَ ارتيابْ

دَوْرَة اخرى سَتَأْتي

بِمَرَايا الأقنِعةْ

فَنُعاني قَدرًا سُلطانهُ فَيضُ الصّليل

قَدرًا.. يُرْهَنُ ارضًا لِضَياعٍ أَبَدي

قَدرًا.. يَطرُدُنَا بَعْضُ رجالٍ

قَدرًا.. يَحْكُمُنا نِصْفُ رِجالٍ

قَدرًا.. يَهرِبُ مِن بُرْجِ القِيامَةْ

حامِلًا أسماءَنا طَعنةُ عُريٍّ

لصَهيلِ الحَلباتِ

كي نُسَمّي كُلّ إيماءَة يَأْسٍ،

مِهْرَجانًا لِمَسيحٍ كبّلتهُ الفاجعات،

او إزارًا لِشَفِيعٍ تَرتَجيهِ المعجزات.

**

مَرْجِعًا كَنَّا وَأصْبَحْنا عبيدًا لِلجنودِ القَتَلَةْ

مَرْجِعًا كَنَّا وَأصْبَحْنا خُطامًا في مَزادِ السَّفَلَةْ

مَرْجِعًا كَنَّا وَاِصْبَحْنا هَبابًا

بَعثرتهُ الرّيحُ في فَوْضى مَكِيدَةْ

مَرْجِعًا كَنَّا وَاِصْبَحْنا ظِلالًا لأفولِ الأصدِقاءِ

نَنْقلُ القَوْلَ بِصَمْتٍ وَنُغَنّي بِضَميرِ الغَائِبينَ

فاسْتَكانَتْ خامَةُ المَعنى رَجاءَ الاِخْتِباءِ

خَلف مِيعادِ المَعادِ

**

كُلمّا رَفّ على البُعْدِ جَناحٌ

اسقَطتهُ الطائِرات

**

طارق الحلفي

(غرفة تحت المياه.. لفؤاد ميرزا)

“نصوص مختارة وقصص قصيرة جدًا” هكذا أراد الكاتب فؤاد ميرزا تقديم نصوصه، دون إخضاع أغلبها لجنس أدبي محدد، كي يضع القارئ منذ البداية أمام عتبات سرد يجنح إلى أكثر من منحى، ومثل هذه النصوص تفسح المجال للكاتب كي يرسم لوحة مركبة تتضمن الكثير من التجارب والمواقف التي عاشها وعايشها على مدى عقود، خاصةً وأن تواريخ تلك النصوص جاءت متفرقة ما بين حقبة السبعينات والثمانينات والتسعينات… الأمر الذي يجعلنا نتعرف أكثر على الكاتب ورؤاه والمفارقات التي واجهها داخل الوطن وخارجه، لا سيما وأنه أمضى سنوات طويلة من الاغتراب في بلاد مختلفة كي يتفاعل مع ثقافاتها وأجواء عوالمها، ويضيف تلك السنوات المرتحلة ما بين محطة اغتراب وأخرى إلى مخزون ذكرياته المحَملة بإرهاصات الحياة اليومية التي عاشها في مدينته خلال عهود سياسية متباينة كان لها بالغ الأثر على صياغة هوية المجتمع العراقي المعروف بتعدد إنتماءاته الدينية والمذهبية والقومية، بالإضافة إلى تنوع توجهاته الفكرية، وتناقضها أحيانًا، لذا نلاحظ دومًا أن ذاكرة المبدع العراقي تكون أشبه ببنوراما تتمادى حدودها مرحلةً عمرية تلو أخرى، كما أن لكل كاتب رؤاه وتركيبته الشخصية التي صقلتها الكثير من الأحداث، المرتبطة غالبًا بالاضطرابات والتغيرات السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي شهدتها البلاد عبر عقود، والكاتب هنا ينتمي إلى الطائفة “الفيلية” عريقة التاريخ، رغم ذلك عانى أبناؤها الكثير من الظلم، شأن الكثير من الطوائف الأخرى، الأمر الذي جعله يعي معنى الاغتراب منذ سنٍ مبكرة، رغم ذلك نجده يرفض الانغلاق والتعصب، فمن يتأمل نصوصه يدرك مدى انفتاحها الاجتماعي والثقافي، ولو من خلال أبسط اللمسات التي تضفي إلى تلك النصوص تفاصيل ذات سِمة بغدادية خالصة، تستمد خصوصيتها من منطقة باب الشيخ، إحدى مناطق بغداد القديمة. تمثل ذلك جليًا في أكثر من نص تضمن شيئًا من السيرة الذاتية للطفل والصبي الذي كان وهو يتأمل أبسط مفردات الحياة اليومية ويعرف كيفيفة توظيفها ضمن السياق السردي بعد ذلك في كل نص يكتبه، يجسد من خلاله جسرًا حضاريًا وثقافيًا يخترق كل مدينة يقطنها، في إيطاليا أو أمريكا او غيرها من الدول البعيدة عن مدينته التي تظل مدللة المبدع العراقي بشكلٍ عام، فنحن مهما أبحرنا في بلاد الغربة وخضنا من تجارب عصيبة نجد أن بغداد تمتلك سرًا غامضًا يشدنا إليها أكثر فأكثر، مهما نالها من جنون العهود السياسية المتعاقبة، مثل الحبيبة الأولى التي تظل تتحكم بكل انفعلالتنا وكتاباتنا وحواراتنا.

بهذه الصورة نشعر أن مدينة الكاتب ظلت تخفق في بواطن النصوص، حتى وإن كتبها في روما أو نابولي أو نيويورك أو أي مدينة أخرى، ضمن نوستالجيا خاصة صارت من السمات المميزة للأدب العراقي، متأثرة بالتراث الحضاري لأرض الرافدين، كما لو أن جلجامش غرس فينا حيرته وبحثه الدائم عن سر الخلود، رغم كل ما يعاني الكاتب العراقي من شتات واضطراب ونوازع خوف وشعور بالظلم والتهميش، أو واجه من مخاطر الاعتقال لمجرد الانتماء لهذه الطائفة أو تلك، أو بسبب انضمامه إلى حزب محظور.

كل تلك المفارقات الحياتية يمكن أن نتلمس بصماتها في ثنايا النصوص لدى بحثها في فضاء الذاكرة المختزنة للكثير من الخيبات والانكسارات، وأيضًا الأحلام المتمردة على الواقع، رغم الإشارات المتكررة للطائفة “الفيلية” كي ينقل شيئًا من معاناتها على مر العقود والأنظمة، مؤكدًا رفضه لأي نوع من التهميش أو الظلم، ومن ناحيةٍ أخرى تمسكه بهويته العراقية، رغم أنه أمضى جل سنوات عمره بين محطات الاغتراب، ومثل هذه الإشكالية يواجهها الكثير

من المبدعين العراقيين الذين اعتادوا اللجوء إلى المنافي، حيث يأخذ عليهم البعض انهم صاروا لا يعرفون عن بلادهم شيئًا وبالتالي لا يستطيعون التعبير عن مواجعها بصورة صحيحة وعميقة تستطيع أن تجسد الواقع الاجتماعي سريع التغير، خاصة بعد الاحتلال الذي مضى عليه عمرًا، نشأ خلاله جيل مغترب بدّوره عما الفناه من قبل في مدينةٍ انهكتها الحروب وسنوات الحصار.

تكتسب نصوص الكاتب فؤاد ميرزا تميزها الذي حمل عبق بغداد بشوارعها وأزقتها وساحاتها وطقوس عوائلها اليومية، مهما بدت عليه من بساطة يمكن أن تضيف جوًا من السعادة الحميمة، رغم كل ما يواجهه أفرادها من أعباء حياتية متزايدة من عقدٍ لآخر.

رغم تلك الظروف العصيبة التي خبرها الإنسان العراقي تبقى في الذاكرة فسحة من الأمل، فرصة للحب، لمغازلة عينيّ الحبيبة والشارع والحي والمدينة، كما يبقى للطفولة فضاء رحب من البراءة والعفوية، سافرت مع الكاتب وظلت زاد ترحاله الطويل كي يشعر بمحن المظلومين والمهمشين هناك وهناك، حتى بدت الذاكرة مثل خارطة تتجاوز خطوط الطول والعرض، تمزج ما بين رؤى الشرق والغرب، وترفض تحجيم (الأنا) ضمن بقعة جغرافية محددة، دون أن يفقد السرد شيئًا من خصوصيته، وهذا ما نجده في الكثير من نصوص الكتاب العراقيين، لذا حظيت بوهجها الخاص وتميزها الذي فرض حضوره القوي عربيًا وعالميًا، متجاوزة حدود الزمان والمكان وكل قيد يسعى للنيل من الهوية العراقية تحت أي مسمى.

***

بقلم: القاص والناقد أحمد غانم عبد الجليل

أنا لا أشك في أن الأمر لم تكن فيه مبالغة كثيرة، فهذه القصيدة التي لم يختلف حولها السودانيون" كعادتهم" اختلافا عنيفاً، كأقصى ما يكون العنف، بل أظهروا لها الاذعان والتسليم، تستحق فعلاً منا التحايا والهتاف، والتصفيق، لشاعرها المرهف "مدني يوسف النخلي"، الذي نعد شعره الغنائي الملتهب الذي أحرق فؤاد صاحبه، هو مضرب المثل في جودة السبك، وعذوبة التعابير، وسمو المعاني، ودقة التصوير، فالصور المتراكمة، المزدحمة، التي أوشكت أن تختنق في حنايا "النخلي" استدعت منا تلك الأحاديث الطويلة المتشعبة، في المحافل والأسمار، فغزارة صوره الشعرية التي نهيم بها، ونحبها، ونعجب بها كل الاعجاب،  لم تكن في الحق سريعة عارضة، ولكنها كانت بطيئة متلاحقة، تظهر لنا حقيقة العمق النفسي الذي يكمن وراءها، يخبرنا الصريح من هذه الصور والمضمر، عن اختلاجات جوانح فاطرها، وعن شوارعه الطاردة، التي لم ينزوي مطرها الحزين، في قصيدتة الشامخة التي تغنت بها "ذات مبدعة"، تلك الذات العذبة، التي أضحى صوتها الثري مدعاة للفخر، ومظهراً للتفرد، وجسراً للتعبير، فنحن نتباهى "بمصطفى سيد أحمد"، ونزهو بتوهجه الابداعي، ونقدس تجربته المكتملة الطرح والرؤية، ساهم" النخلي" بنحو أربعة عشر عملاً في تأثيلها.

و"النخلي" في رؤيته للمكان الذي وقف فيه واجماً، بازاء تلك الحوادث الكبرى التي زلزلت حياته، تجاوز حتماً الأشكال الجغرافية المختلفة، فهو لم يقف أصلاً على مكوناتها، ولم يعي ذهنه الشارد، هل تبدلت معالمها، أم ظلت حاوية لكل قديمها، فذهن "النخلي" الذي أسبغ عليه صاحبه من الخيال ما عجزت عنه الحقيقة، كان يحتفي بأشياء أوسع من ذلك وأعمق، فالمكان الذي وثّق أواصر تحالفه مع الحزن والأنواء، لم تستدعه ضرورة فنية، تحتاج إلى تفصيل وايضاح، ولكن أوجدته فكرة" التداعي" المسيطرة على مهجة "النخلي" المستسلمة إلى حزنها، فهي لم تنتظر حتى تهدأ عواصفها، لتعاود المسير، فما أن دنا منها ورجاها، انفجرت عليه بالصواعق والحنين، وهنا تتفاوت الروعة، ويتباين الابداع، فالهم الذي أضحى حالة راهنة، ونتيجة حتمية لضياع الحلم، يعصف بروح النخلي ويزري بها، ويجعلها محتبسة في عوالم مكفهرة، أبدع "النخلي" في صياغة كل حرف جسد ملامحها وفصولها، وقناعتي التي لا ينازعني فيها شك، أن "النخلي"، رغم الشقاء والبؤس الذي تقاذفه في تلك العوالم، إلا أنه كان لا يود أن يطرأ عليها أي تغيير أو تبديل، كان يريد لرئتاه أن تستنشق من عبير سرابها لأطول فترة ممكن، وألا تمضي الريح لشأنها،  وأن يظل قمرها غائباً، وأن يغسل وكف مطرها الغزير المتواصل، صهوات طرقها، وردهات شوارعها، كان "النخلي" يريد من الطبيعة القاسية، أن تكون رائدته في هذه الحياة، تتعبه، وتتضنيه، وتجهده في سبلها المتشعبة، كان النخلي يريد أن تظل سمات هذه المعالم، وخصائصها، مغروسة في دواخله، يريد حقاً أن يظل شيئاً ملموساً وقائماً من تداعياتها وأحداثها، يجعل روحه تظل في طيران وتحليق، روحه التي كانت تلتمس أجدى أسباب الارتباط، وأغنى دعائم الامتزاج، التي تمكن ذاته الشفيفة من أن تحتضن ظلالها، وتعانق أغصانها، يريد باختصار رؤاها المترسبة في أحناء صدره، أن تظل حاضرة بأشكالها المختلفة، تمد إليه أعناقها في سفره ومقامه.

و"النخلي" الذي ينتابه الشجن من ويلات العودة إلى منعطفات دروبها التي فدحتها الحياة، وحصرتها في انطباعات حادة لا تتغير، ظلّ يؤكد هذا الملمح في قصيدته التي اكتوى فيها بنار الانتظار، لحبيب تناءى عنه، فعدد من الدلائل التي نوضحها الآن، تشير إلى هذا الحزن الموروث بعضه، والحادث بعضه الآخر، فالأسى الذي يتناسل ويتوالد بكثرة وكثافة، في جميع أبيات هذا الدفق الشعوري، هو الجوهر الضمني الكامن، في جميع المعطيات الحسية، التي زخرت بها أبياتها الشعرية، فالليل فتح شرفة من وجع، والقمر رحل وفارق سماه، وأضواء المصابيح البعيدة، التي كان يتهادى على نورها الشاعر، انخزلت وتراجع سناءها ثم خمد، والمشاوير التي لم يدفع بها الشاعر بعيدة عن ذاته ، ممدودة في نبض التعب، ونحن هنا نلمح الجدة، والطرافة، والنبوغ في التشبيهات، تشبيهات يتعين علينا معرفة قواعدها، وفحص طرقها من الاستدلال والبرهنة،  فالتشبيهات ارتبطت بالمواقف التي تسببت في حدوثها، وبالتأويل في معاني النكبات التي ترتبت عنها كنتائج لها، تستطع لنا رزيئة الانتظار الممض الطويل، التي تمخض  عنها تلك الصورة المألوفة والملحة للخيبة، التي تستحق أن نعيد النظر فيها من الأساس، فالاخفاق يندس دائماً في العواطف المحضة، ويتسرب إليها.

ولعل الشجى الذي تحصفت أسبابه في هذه القصيدة، هو قطعا شجى حقيقي، مؤسس على تجربة صادقة خاضها الشاعر، فالصياغة الشعرية التامة، التي تسايل الدم من جبينها، يجعل مزاعمنا تستمد صحتها من استقراء وحدس صحيح، ولكن هذه القصيدة الحافلة بالجوى، لا ينبغى لنا أخذ صورها، ورموزها، ودلالتها، بمنتهى البساطة التي أعطاها لنا شاعرها، بل يجب أن نجتهد في الوصول إلى المعاناة التي تطاولت أيامها، يجب ألا تختلط علينا حقائق أفكارها، وإسقاطاتها، ويذهب بعضها في بعض، فهذه القصيدة بمعايير حرارة عاطفتها، وبعتبة أحساسيها المتعاقبة الصادقة، التي يستعصى علينا تحديد نقطة انبثاقها، أو نمط تميزها، فتيار مشاعرها الجارف، ومضامين وجْدَها العاصف، يرسل لنا احصائيات لها رأي، ولها إرادة، فنحن نعدها اتساق منطقي، لأنماط البنية الشعرية، وللانطباعات التي سبقت صياغتها.

أما ايقاع هذه القصيدة، وجرسها الموسيقي، فهو وواضح وبين، وقد وضع له النخلي" تشريعاً استثنائياً خاصاً بها، تناثر في جميع عناصرها، أبصرناه في أفق القافية التي لا ينضب معينها، فالرتم الموسيقي لهذه القافية، ليس على شاكلة الموسيقى الداخلية التي نحبها ساعة، ونكون إلى جانبها، ثم نمجها وننصرف عنها، فتقاطيع القصيدة المحكمة البناء والصنع، تنسجم لها أرواحنا على الدوام، لأنها تضاعف لنا معنى الوله في النفس.

أما اللغة والأسلوب، فقد أديا المهمة التي كانت ملقاة على عاتقيهما على أكمل وجه، فقد عبرا عن صور من العسير حصرها بكيفية دقيقة، صور شامخة مستساغة، صاغها النخلي في عبارات مستقلة، اقتضت تراكيب معينة، لا يمكن استعادتها أو استنساخها، أم أساليبها فلا نجد غضاضة ولا ضرر إذا نعتناها  بالأدوات التي كانت تحت رهن إشارة صاحبها، وحققت له أمنيته الوثابة، فقد استوعبت جميع القضايا الصادقة التي تطرق لها النخلي في قصيدته الفينانة، التي لم تكن ضئيلة أو تافهة، كما هو الشأن في الكثير من قصائد الشعر الغنائي.

د. الطيب النقر

الثلاثاء 5/8/2025

.........................

واقف براك،  كلمات: مدني يوسف النخلي،

لحن وأداء العملاق: مصطفى سيد أحمد رحمه الله

واقف براك والهم عصف .

ريحاً كََسَح زهرة صباك ..

ليلاً فتح شُرفة وَجَع ..

قمراً رحل فارق سماك ..

مطر الحزن عاود هطل ..

جدد عذاب الأرصفة ..

ضي المصابيح البعيدة ..

أتعب عيونك وإنطفأ ..

لمتين مواعيدك سراب ..

والريد شقا وحرقة جفا ..

واقف براك ..

بعد المشاوير البقت ..

ممدودة في نبض التعب ..

بتعود وتلقى رجاكا زول ..

حفظ الوداد زمنا صعب ..

والباقي من ليل الهوى ..

وعطر الصبابة الما إنسكب ..

والباقي من كل الغنا ..

وسيل الكتابة الما نضب ..

 *** 

..........................

حاشية: براك تعني في اللهجة

 السودانية وحدك، أي تقف لوحدك في وجه هذا العنت.

نبذة عن الشاعر:

يخبرنا الأستاذ صلاح شعيب، في مقال له بعنوان: "مدني النخلي شاعر الحلم والشجن والثورة"، تم نشره في موقع الراكوبة السوداني الواسع الانتشار، أن مدني النخلي" ولد مدني يوسف النخلي في مدينة مدني، وتلقى تعليمه الأولي، والأوسط، والثانوي، بمدارس البعثة التعليمية المصرية، ومؤسسة الطلاب الجامعية بالدوحة في تخصص اللغات والحاسوب.

بداياته الأدبية كانت بالقصة القصيرة، فأصدر مجموعة صدى الذكرى، ثم صارت هواياته الرسم، وعبره نال الجائزة الأولى أثناء دراسته في مدرسة الاتحاد المصرية بلوحة ضفاف، ثم عمل ممثلاً كوميدياً على مسرح المدرسة ثم تحول إلى القصة، والشعر.

وصدرت له حتى الآن ثلاث مجموعات، وهي كل النجوم عام ١٩٨٣ بالدوحة، وواقف براك نسخة الدوحة ٢٠٠٥ وأخرى منقحة في الخرطوم عام ٢٠٠٧، وثالثة أيضاً في الخرطوم ٢٠٠٩.

شارك النخلي في العديد من المهرجانات منها الإبداع بالجزيرة 1983 ميلاد الأغنيات ٢٠٠٤، ٢٠٠٦، ٢٠٠٨ بالخرطوم، ونال في كل مهرجان المرتبة الثانية، وفي الثالث المرتبة الأولى بأغنية “فلنغن للوطن”.

تعامل شاعرنا مع عديد من الفنانين والملحنين منهم الراحل محمد سلام الذي غنى له “يا بلد”. وصديقه  الراحل مصطفى سيد أحمد لحن وغنى من كلماته نحو أربعة عشر عملاً، أبرزها “عشم باكر” و”علمي عيوني السفر” والتي شارك مصطفى في كتابة الجزء الأخير منها، و”ما بان عليك سفر العمر” و”أديني إحساس بالأمل”، و”واقف براك” و”وهج الشعاع” و”أملنا الباقي” و”من جديد” و”لحظات ندية” و”قالوا المحل معاك كنت”، كما لحن له مصطفى سيد أحمد عدداً من الأعمال للفنان سيف الجامعة، وخالد محجوب. وقد امتدت صداقته مع مصطفى ل

"نحو 24 عاماً حتى لحظة وفاته.

للشاعر يحيى السماوي.. خطابات الوداع العشقي

المقدمة: يحمل النص الشعري الحديث شحنة دلالية وجمالية متراكبة، تفرض على القارئ والناقد أن يتجاوزا المستوى الإخباري إلى فضاء أوسع من التفاعل التداولي والمعياري. وفي قصيدة "لا تسأليني الصبرَ عنكِ"، يقيم الشاعر خطاب وداع مركّبًا يتجاوز الرثاء إلى طقس اعترافي ميتاشعري يتقاطع فيه الغياب مع الحضور، والعاشق مع القدّيس، والجسد مع المعنى.

تفكيك العنوان: "لا تسأليني الصبر عنكِ"

التحليل الفونيمي:

يحمل النصيص توزيعًا صوتيًا متوازنًا من حيث الإيقاع الداخلي بين:

التكرار الجزئي لحرف "السين" (س، ص) بوصفه صوتًا مهموسًا يرمز غالبًا للهمس والانكسار.

تتابع الأصوات المجهورة مثل "ع" و"ن" تُضفي بعدًا وجدانيًا داخليًا.

احتلال الضمير "عنكِ" للموقع الختامي يمنح العنوان طابعًا حواريًا مباشرًا يحفز الانتباه.

التحليل الدلالي:

التركيب "لا تسأليني" يحمل رفضًا مستترًا لطلبٍ ضمنيّ، ما يفتح مساحة تأويلية لنفي يُخاتل الأمر. أما "الصبر عنكِ" فتنويع دلالي؛ إذ ينقل الصبر من كونه فضيلة إلى كونه عبئًا لا يُحتمل، إذ الحبيبة هي مصدر الفقد، لا الخلاص.

يحيل النصيص إلى خطاب استباقي داخل النص، تهيئةً لحضور الحبيبة في لحظة غيابه، وكأنّه يحتجُّ على فداحة السؤال بعد الغياب. ومن هنا تتشكّل بداية التوتر بين الإنشاء والخبر، بين الواقع والمُتخيّل، وهي سمة تداولية راسخة.

التحليل التداولي للنص:

المقام التداولي العام:

يُنشأ النص ضمن مقام وداعي افتراضي، يتخيّل فيه الشاعر موتَه والحبيبة شاهدة عليه. هو مقام اعترافي حميم، تنتفي فيه الضمائر الغريبة، ولا يخاطب فيه الآخر إلا بصيغة واحدة: "أنتِ".

"باركتُ موتي لو تكونُ مشيّعي

يومَ الرحيل وشاهدي ومودّعي"

هنا نلحظ فعلًا إنشائيًا ضمنيًا (باركتُ) يختزن داخلَه تمنّيًا غير مباشر، فالشاعر لا يبارك موته بوصفه حقيقة، بل بوصفه تخييلًا رمزيًا.

2. أفعال الكلام:

الخبر التحويلي: حين يقول الشاعر:

"يمّمتُ قبلَ الموتِ نحوكِ مقلتي

فهو لا يُخبر فقط، بل يُنجز "تحويلًا" في وجهة المصير؛ فالرحيل نحو الموت يمر بالحبيبة. هذا الفعل التحويلي هو لبّ المقام التداولي للنص.

الأمر التضرّعي:

"فلتَمسحي بحرير كفٍّ أدمعي"

"واستغفري لي عن خطيئةِ عاشقٍ"

هذان الأمران لا يحملان سلطة، بل توسّلًا، وهما يعبّران عن فعل استرحام ضمني يعمّق مقام الحنان الطقسي في النص.

المخاطب المفترض وسلطة الغياب:

تُوجَّه الخطابات للحبيبة، ولكنها لا تظهر كذات ناطقة. إنّها مخاطَبة ولكنها غائبة عن القرار الفعلي، وهذا يعزّز الوظيفة الشعرية للنص، حيث الغياب يتسلّل بوصفه قوّة دافعة للقول.

التحليل المعياري للنص:

الاتساق والاتّساق:

يعتمد النص على سرد شعري متّسق، يُشيّد على تتابع زمني (من التمنّي بالموت، إلى الطقس الشعائري، إلى الندم، ثم الحنين، فالتصعيد العرفاني في الحب)، وهذا ما يعطي القصيدة معيارًا عاليًا من التراتب البنائي.

الكفاءة الإنشائية:

الصورة الشعرية ذات صبغة عاطفية وميتافيزيقية عالية، يتجلّى فيها:

استعمال الطباق والتوازي:

"مُمَسّدًا باللثم... مُغمضًا جفني"

احتشاد الإيحاءات الجنسية الطهرانية:

"عذراءُ يستسقي العناقَ ويرتعي"

"نسكٌ عفيفُ الإثم غير مخلّعِ"

تُوظَّف اللغة في أقصى طاقتها الانفعالية لخلق حالة رمزية عن جسد "العاشق" الطاهر الذي لم يُدنّسه إلا العشق، وهذه صورة قلقة ومعقّدة ومركبة.

تعدد مستويات الخطاب:

النص يعمل على أكثر من طبقة خطابية:

خطاب جنائزي شعائري.

خطاب اعترافي غزلي.

خطاب وجداني روحاني.

وهذا التعدّد يمنح القصيدة شرعية معيارية بوصفها تتجاوز حدود النمط الواحد.

جماليات الصورة الشعرية وديناميكيات التلقي:

"أنا يا ابنة الريحان نهرُ صبابةٍ

مائي "عراقٌ" و"السماوةُ" منبعي"

تُستثمر هنا رمزية الماء، والانتماء، والجغرافيا الحميمية. يربط الشاعر بين البنية الوجدانية والفضاء الوطني، ليؤكّد أن الحب لا ينفصل عن الأرض، عن المنبع.

هذه الصورة التداولية تفتح أفق التلقي نحو "تجربة الهوية العاطفية" بوصفها امتدادًا لهوية المكان.

البعد النفسي – قراءة في ضوء الأطروحة اللاكانية:

الرغبة كمركز للذات الناقصة:

بحسب "جاك لاكان"، فإن الرغبة ليست نزوةً آنية بل بنيةٌ تأسيسية للذات، لا تنبع من الحاجة بل من الفقد. وهذا الفقد هو ما يحرّك الذات للبحث عن "الآخر" الذي يمنحها وهم الاكتمال. وفي النص:

"باركتُ موتي لو تكونُ مشيّعي"

الرغبة هنا لا تتوجه إلى الحضور بل إلى رغبة الآخر، وهو من أهم مفاهيم لاكان: الرغبة هي رغبة الآخر.

"واستغفري لي عن خطيئةِ عاشقٍ

من قبل عشقكِ قلبه لم يخشعِ"

الرغبة مُضاعفة: ليست في العشق بل في الخشوع الذي تمنحه "الآخر" للحب، وكأن العاشق لا يكتمل إلا من خلال نظرة الحبيبة التي تمنحه الغفران.

الجسد كعلامة دالّة لا ككينونة:

"تتلو على جسدي المسجّى آيةً

ترجو الأمانَ لخائفٍ مُستشفعِ"

الجسد هنا يتحول إلى مرآة للهوية الناقصة. ليس مهمًا أن يموت الجسد، بل أن يُعرَف (أن يُسمّى، أن يُغفر له)، أي أن يدخل النظام الرمزيّ، وهي حاجة لاكانية لتثبيت المعنى، لأن الهوية بلا تسمية، تظل قيد التّيه.

الخيال والواقع: الإنشطار بين المتخيّل والرمزي

لحظة "التشييع"، "التقبيل"، "الاستغفار"، كلها صور متخيّلة لرغبة اللاوعي في نيل الاعتراف الرمزي من الآخر، لكن الحبيبة لا تحضر كفاعل، بل كمتلقٍّ صامت. إذًا، يبقى العاشق أسير دائرة لاكانية: "الرغبة في الآخر" دون التمكّن منه.

"لا تسأليني الصبر عنكِ فما غدي

إن كان غير ظليل خدركِ مهجعي؟"

الطفولة المستدامة: إرجاء النضج العاطفي

"قد جاوز السبعين وهو طفولةٌ

عذراءُ يستسقي العناقَ ويرتعي"

هنا يظهر جليًا "الطفل الداخلي اللاكاني"، وهو بُعد نفسي يتجلّى في تكرار الحاجة للآخر عبر أطوار العمر. فالرغبة في "العناق"، في "الارتواء"، هي محاولة لاواعية لتعويض النقص الأول.

الشعر بوصفه إعادة صياغة للرغبة:

كل القصيدة يمكن أن تُقرأ بوصفها إعادة سرد لحلم الموت/الاعتراف/الحضور، ولكن بواسطة لغة رمزية تُحاكي خطاب الطقس الديني، بما يعيد تشكيل الذات بواسطة القانون الرمزي للعلاقة مع الآخر.

الخاتمة:

لقد كشفت القصيدة عن بنية لغوية وعاطفية تستبطن طقس الوداع عبر لغة مشبعة بالتضرع العشقي والانعتاق العاطفي. ومن خلال التحليل التداولي والمعياري والنفسي اللاكاني، تبيّن أن النص لا يشتغل على اللغة بوصفها وسيلة للتعبير، بل كأداة لتشكيل العالم والغياب معًا.

ا شكّل النصيص مفتاحًا لولوج تجربة شعرية عميقة، إذ النداء هو وسيلة لتثبيت المستحيل، والرفض هو شكل من أشكال الرجاء. أما استعمال الأساليب الإنشائية فكان محمّلاً بدلالات فائقة الانضباط الوجداني، تقود إلى مركز الذات اللاواعية المتصدّعة.

***

رياض عبد الواحد

......................

لا تـسـألـيـنـي الـصـبـر عـنـك

للشاعر: يحيى السماوي

بـاركــتُ مـوتـي لـو تـكـونُ مُـشَــيّـعـي

يـومَ الــرَّحــيــل وشــاهِــدي ومُـوَدّعـي

*

تــتـلـو عـلـى جَـسَـدي الـمُــسَــجّـى آيـة ً

تـرجـو الأمـانَ لـخـائِــفٍ مُـسْــتــشْــفِـع ِ

*

ومُـمَــسّــداً بالـلـثـم ثـغـريَ .. مُـغـمـضـاً

جـفـنـي وتُـبـعِـدُ سـاعـدي عـن أضـلـعـي

*

يَـمَّـمْـتُ قـبـلَ الـمـوتِ نـحـوكِ مُـقـلـتـي

فـلــتـمــسـحـي بـحــريــر كــفٍّ أدمـعـي

*

واسـتـغـفـري لـيْ عـن خـطـيـئـةِ عـاشـقٍ

مـن قـبـلِ عـشــقــكِ قــلــبُــهُ لـم يـخــشَــعِ

*

لــمْ يَــدَّخِــرْ زهْـــراً لــجُــوع فَــراشَـــةٍ

يـومـاً ... ولا عـن كــأسِــهــا بــمُــمَــنَّـعِ

*

خَـبَـرَ الــهــوى طـفـلاً .. صَـبـيّـاً .. يـافـعـاً

وازدادَ كـهْــلاً ـ غــيــرَ عــشــقٍ ـ لا يَـعـي

*

قد جاوزَ " الـســبـعـيـنَ " وهـو طـفـولـةٌ

عــذراءُ يـســتـســقـي الـعــنـاقَ ويَـرْتـعـي

*

مُــتـبَــتّــلُ الــنَــزَواتِ ... حـتـى طــيــشُـــهُ

نُــسْـــكٌ عــفــيــفُ الإثــمِ غــيــرُ مُـخَــلَّــعِ

*

يُـدنـي مـن الـخـمــس الــطــبـاقِ ســريــرَهُ

ســكــرانُ .. لــكــنْ مــنْ رحــيــق تــمَــتـُّـعِ

*

فـنـديـمُـهُ فـي الـلـيـل سُــهــدٌ ... والــضـحـى

صـوتٌ بَـعــيــدُ الـرَّجْـعِ يُــثـمِـلُ مـســمـعـي

*

أنـا يـا ابــنـةَ الــرَّيـحـان نــهــرُ صَـــبــابــةٍ

مـائـي " عـراقٌ " و " الـسـماوةُ " مَــنـبَــعـي

*

لا تـســألـيــنـي الـصَّـبـرَ عــنــكِ فـمـا غـدي

إنْ كـان غــيــرَ ظـلــيــلِ خـدركِ مــهــجَــعـي؟

 

قراءة في مجموعة (وأنا كلّ الكلام)

طارق الحلفي شاعر مهم من الشعراء الذين يعيشون خارج العراق منذ فترة طويلة تبدأ من عام 1976 حبت عاش في الوطن في حالة مطاردة انتهت بالسجن زمن جمهورية الخوف وانتقل في عدة بلدان إلى أن استقرّ في المانيا، وفيها أصدر ثلاث مجموعات شعرية، اخرها مجموعة (وأنا كلّ الكلام) التي بين يدي للدراسة الآن فقد قرأت المجموعة منذ صدورها عام 2024 قراءة مستمتع والقراءة الثانية قبل بضعة أيام وكانت قراءة ناقد أو بعبارة أدقّ قراءة متأمل منسجم مع نفسه ومع الشعر الذي بين يديه.

لقد عكس الشاعر طارق الحلفي حياته التي عاشها زمن الخوف في جمهورية الرعب، وحياته في أكثر من بلد في شعره وصوره وخياله، فلجأ إلى الرمز العميق الثري بالمعاني عبر وسائل متعددة سأقف عند كلّ وسيلة وأبيّن أبعادها وما تحمله من دلالات، واخصّ بذلك الطبيعة المتجسّدة في عالمي النبات والحيوان.

أولا: دلالة الزهر والنبات:

1. النرجس

لأنني أحتاج بوح غياهبي

فلي الأصائل نرجسا/ ص20

لم يأت ذكر النرجس للدلالة الجمالية فقط كما نجده عند الشاعر (وليم وورد وورث)الذي تحدث عن جمال النرجس في قصيدة عنوانها (Daffodils ) التي أصبحت نموذجا جماليا لشعر الوصف ومازالت تدرس في أقسام قسم اللغة الإنكليزية في العراق إلى الآن .إن الشاعر طارق الحلفي انطلق في قصيدته التي جاءت بعنوان (لأنني) وهو عنوان يلفت النظر كونه يُعنى بالسببية سببية الوجود أو المتكلّم ذاته - انطلق من البعد الجمالي الى بعد آخر مسكون بالرمز، فنذكّر أنّ النرجس يرمز إلى حبّ الذات، وتجدّد الطبيعة لأنّه يتفتح في نهاية الشتاء، فهو يمثّل الولادة، تلك البداية جعلها الشاعر تتمركز في النهاية المشار إليها بكلمة أصيل، فالمعروف أنّ الأصيل لغة هو الوقت من بعد العصر إلى  المغرب، وتعريفه يدلّ على أنّه ختام نهار، وارتبط في القرآن الكريم بعلاقة الفرد مع الله من خلال العبادة : (وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُن مِّنَ الْغَافِلِينَ).2، أمّا في التجليات الغيبية التي تحمل البشرى بزهو وجمال النرجس والأمل  الآتي في المستقبل فإنّ النرجس  اسم  من أسماء أمّ مخلّص البشريّة  من الجور والظلم المهدي  المنتظر الموعود لذلك نجد الشاعر يلتزم برمز النرجس  ويحوّله عبر معاناته من  أسطورة تحمل معنى الإيجاب والسلب (الجمال والولادة وحب الذات) إلى واقع:

نرجسا كانت خرافاتي

وبعضا من ظنوني

بالمحصلة إن النرجس يدلّ على معاناة الشاعر من خلال المثلث الذي يحمله وهو الولادة والجمال والأمل الموعود في الخلاص من العالم السلبي عبر توحد الأسطورة بالواقع.

2. الدفلى

أداة أخرى سخّرها الشاعر في تعزيز الرمز ليحتلّ موقعا مركزيا في مجموعته، يقول:

إني ابتدأت

والبدايات اشتهاء

والمكان

زهرتا دفلى

وموسيقى فارسيّة

حين نتتبع سيرة حياة شجرة الدفلى يهمّنا شيئان اثنان هما المكان وسرّ الجمال، في المكان الذي يبحث عنه الشاعر وأشار إليه بوضوح أن الدفلى كما تدلّنا  المصادر جاءت من القوقاز، ومكان الشاعر العراقي الحلفي في البدء كان البصرة ثم  مكان القلق والتحدي كردستان التي قضى فيها شطرا من حياته وهو يتأمل مدن شمال الكرة الأرضية، والنموذج الذي لسمه في ذهنه القوقاز والاتحاد السوفيتي، إزاء هذه  الحالة - حالة التحدي والقلق والحلم بالجمال - اشتق من المكان ثنائية نظن أنّه قصد بها الرجل والمرأة اللذين عبر عنهما بشجرتي الدفلى، مع ذلك وهو طفل صغير حذّره أهله من شجرة الدفلى كما حذرني أهلي فأنا كنت مفتونا ومزهوا بجمالها، في البصرة نسمى الدفلى شجرة أصابع العروس، يخطفنا جمالها الباهر بزهورها الحمراء والبيضاء والذهبية فيردعنا أهلنا ألا نلمسها لأنها سامة، كانت البصرة عامرة بهذه الشجرة شجرة أصابع العروس، فهي شجرة للنظر لا أن تُلمس، وبقي سمها نموذجا للجمال القاتل في شعر السياب  الذي يقول في المومس العمياء:

وتفتحت كأزاهر الدفلى مصابيح الطريق

كعيون ميدوزا تحجّر كل قلب بالضغينة

فكأنّها نذر يبشر أهل بابل بالحريق3

المصابيح تدلّ الزبائن في مدينة البغاء إلى العواهر فكأنها في تفتحها تشبه شجرة الدفلى السامة جمال المصابيح الذي يشتت الظلام هو نفسه السم المتوهج جمالا في  زهور الدفلى، ويربط  الشاعر صورة الدفلى بصورة حسية يستلها من تشكيل بصري  نراقبه عن بعد وهو حريق بابل العريقة، في حين يركب الشاعر الحلفي صورته من تشكيلة بصرية هي الدفلى وسمعية ألا وهي الغناء الفارسي، صورة تقابل الماضي العريق فيتحول السلب عنده عبر الصوت والأذن إلى بارقة أمل، فالموسيقى الفارسيّة حسبما يرد في تعريفها موسيقى عريقة جدا وآلاتها مميّزة، وكان الملوك الميديون والساسانيون يترنمون بها4،وأرى أن الشاعر وجد فسحة أمل عبر الموسيقى للخروج من تناقض الجمال الذي يجلب الشرّ والموت عبر تغيير المشهد من مرئيّ إلى مسموع.

3. الزعفران

هناك تداعيات لنبات الزعفران توحي بمعانٍ رسمها الأقدمون هي: الرفاهيّة.. الفخامة والجمال، وقد ورد الزعفران في نشيد الإنشاد (أنت نبع مغلق، بستان رمان.. بالحناء والناردين.. والناردين والزعفران)5 ونميل إلى أنّ العهد القديم جعل الزعفران بتشكيلته اللونية الزاهية نموذجا جماليا راقيا ولم يرد ذكر الزعفران في العهد الجديد، ولا القرآن أما في السيرة فقد نهى النبيّ محمد(ص) الرجال عن أن يصبغوا به، ونظنّ أن نهيه جاء مطابقا لفكرة العهد الجديد من خطابه للمحبوبة في أنها جميلة وراقية ومرفهة وتلك صفات تليق بالنساء أكثر من الرجال، وربما هذه الصفات جعلت  المرأة البصريّة(بالانتساب الى مدينة البصرة) تكتب بماء الزعفران تعويذتها لتسهّل لها عمليّة الولادة وتخفّف عنها آلام المخاض، يقول الشاعر:

بين قلب

شفتاه الفجر

والنبض المندّى بلهاث الزّعفران

الفجر ولادة يوم جديد واللهاث - لهاث الولادة - يلتصق بالزعفران فتخفّ الآلام أيضا يمكن أن يضاف الزعفران إلى مادة حسية راقية:

وانسللت

كصدى دقات قلبي في البعيد

فتناثرت غماما من عقيق الزّعفران

العقيق يدلّ أيضا على الجمال والرفاهية لكن له تأثيرا آخر هو إضفاء العزيمة والقوة على حامله

لهاث الزعفران (ولادة)(تعب)\\عقيق الزعفران (جمال قوة عزيمة)

والإثنان ضمن الإطار الجمالي برابط المعاناة التي يعيشها الشاعر بدليل تناثره غيوما تمنح الأرض الخير الذي يعني الولادة، وهو الأمل الذي راوده قبل أن يغادر بلده ويحمل السلاح في كردستان.

4. النخل

في قصيدته صديقي الساهم يتمثل الشاعر الحلفي سيرته بصورة مكثفة موجزة، ولكي يحقق المطلوب فإنّه بدأ القصيدة بومضة نثر من فن قصيدة النثر استمرّت ثلاثة أسطر كمقدمة للقصيدة:

تتمدّد الأيام وتتضرج بالذكرى

باللهب كدليل على شجرة الكلام

قبل أن تبيض غصونها المفرطة بالأمل

ولكي يحقق سيرته عبر قصيدة موجزة فقد تبين بصفته شاعرا محترفا أمرين يحققان له مقصده هما البحر الذي تشدنا موسيقاه إلى السيرة بهدوئه وعنفه، والرمز القوي.. في مسألة البحر اختار بحر الرمل:

ساهما كنت وتبقى ساهما

بين عينيّ وثوب المرحلة

فاعلاتن فاعلاتن فاعلن

التقديم النثري كان لابدّ منه من حيث التفاعل مع فنية السيرة، والبحر يحقق التناغم الموسيقي بين النثر

والشعر، فقد اعتاد اّلعربيّ القديم أن يقحم أحيانا النثر في شعره ليزيده قوّة.. البيت التالي المنسوب إلى الإمام عليّ (ع) يؤكّد قولنا:

أشدد حيازيمك بموت فإنّ الموت لاقيكا

فكلمة اشدد زائدة والبحر من تفعيلتين هما: حيازيمك للموت: مفاعيل مفاعيلن مفاعلين مفاعيلن

الأمر الثاني فهو اختيار النخلة لتصبح رمزا عاما يشكل التداعيات التي يحتاج اليها زمن السيرة الذي بدأه الشاعر بالنثر من قبل:

يا صديقي كان في بستاننا نخل وتين

ثم يقول

وبقينا

نكتب النخل ونرسم

عند معلولة شهرا ص 101 \ 102

الأفضل أن نلجأ إلى المنهج النقدي الذي تحدثنا عنه في أكثر من مناسبة ويتلخّص في أن نقف عند أي بيت يعجبنا أو يلفت نظرنا ثمّ نستدرج الأبيات التي قبله والتي بعده، بعدّه البيت المركزيّ إذ اخترت بيت مميز في ص 102

للنخل تداعيات قديمة وردت في الأساطير وكتب والأديان وربّما في العلم  يقول العلم والخبرة معا إن النخلة الشجرة التي تشبه الإنسان في حالة إذا قطعت رأسها تموت، منها أن النخلة مباركة ورد اسمها في القران بخاصة في قصة مريم وولادة المسيح ،ومباركة النبي محمد (ص) لها في قول: أكرموا النخلة، ولا أبالغ إذا قلت أن الشاعر الحلفي حقق مفعول الرمز القوي حين جمع النخل في البداية مع التين ذلك الذي يرد في الأديان السماوية بصيغتين مختلفتين، فلسان المسيح أشار إلى تينة حمقاء، وملخص ما رواه مرقس أن  المسيح طلب ثمرا من التينة في غير وقت الثمر فلم تعطه فدعا عليها ويحاول اللاهوتيون  المسيحيون أن يؤلوا القصة لا على الحقيقة بل تأويلا رمزيا يرى في أن شجرة التين تعني اليهود الذين دعاهم المسيح للإيمان به فرفضوا فدها عليهم، في حين نجد صورة أخرى للتين في الأدب المعاصر يرسمها الشاعر إيليا  أبو ماضي بعنوان (التينة الحمقاء) ومفاد القصة أنّ تينة في حقل ترفض فلا تورق ولا تثمر كي لا تعطي خيرها للآخرين وعندما يراها الفلاح من دون ثمر ولا أوراق بقطعها! ونحن نتساءل أيّ اتجاه نحا إليه الرمز في سيرة الحلفي من خلال الرمز، فنجد المسار انساب على الشكل التالي:

بدأ بعموم الشجر في المقدمة

انتقل إلى خصوصية الشجر (النخل)

ثمّ جمع بين النخل والتين.

هنا يخرج الشاعر الحلفي عن إلحاق الرمز بالشر (اليهود) حسبما ورد في التأويل المسيحي بل ألحق شجرة النخل بالتين وهو مقدس في الفكر الإسلامي إذ أن الله أقسم به في القرآن: (والتين والزيتون)، وبين الاستخدامات الثلاثة المسيحية والإسلام والشعر المعاصر بإلحاق شجرة التين بالنخل حتى تكتسب عمقا أبعد لا يستغلّ التراث بل يتفاعل معه بتفاؤل.

لقد ترعرع الشاعر في بيئة كانت تعج بالنخيل على ضفتين شطّ العرب وهما العشار والبصرة وأبو الخصيب يقابلها الضفة الأخرى وهي قضاء شطّ العرب، غابات تمتدّ على الضفتين بشكل هادئ رزين مهيب صورها السياب في قصيدة (أنشودة المطر) بشكل مذهل:

حيناك غابتا نخيل ساعة السحر

أو شرفتان راح ينآى عنهما القمر

من خلال الإسقاطات التاريخية والدينية يمكن أن نقارن بين قدسية النخلة وقدسية الأم، عينا الأم والحنان فيهما والنخلة تطعمنا مثلما ترضعنا، في ذلك الزمان كان الطفل يأكل التمر بعد حليب أمّه

اما الشاعر الحلفي فقد تابع مشهد مأساة النخل في سيرته الذاتية الشعرية حيث تعرض غابتا السّيّاب إلى  قتل وتخريب وابادة ونفي فبعض النخل اقتلع وعدد آخر تم تصديره الى  دولة صحراوية، ولم يكن أمام الشاعر سوى أن يهاجر\ يهرب\يحمل معه نخلته لتصبح مطرا يسقي الظمأ:

النخل يهتزّ

وتهتزّ الغصون

ألا يذكِّرنا التعبير أعلاه بما ورد في القرآن الكريم (وهزي إليك بجذع النخلة)؟ ومادامت النّخلة تمثّل عماد الحياة بصفتها مقابل للأم والعطاء والحنان فإنّ الشاعر يحملها معه وفي يده سلاحه يسافر بها في مكان مقدّس يليق بالنخلة:

نكتب النخل ونرسم

عند (معلولة) شهرا في الخنادق

فلا يليق بالنخلة إلّا معلولة الآرامية ودير مار تقلا، وتقلا هي قديسة ولدت عام 30م لأبوين وثنيين تتلمذت على يدي القديس بولس ويحتفل بها المسيحيون يوم 23 ديسمبر، لذلك كانت النخلة التي هزتها مريم تهاجر من مدينة البصرة فتحلّ في هذه البلدة وأراها بلا شكّ نقطة جميلة ولوحة من اللوحات التي رسمها الشاعر الحلفي بالرمز.

ثانيا: الطير والحيوان

ذكر الشاعر بعض الطيور في قصائده فجاءت رمزا يعزز صوره ولوحاته الشعريّة ومنها:

1. الهديل

هو ذكر الحمام، وقد طار في أحد الأيام فافترسه جارح من الجوارح فأخذت الحمامة تنوح عليه، هكذا ورد الأسطورة وهي أسطورة عربية قديمة، اتكأ عليها الشاعر في تركيب لوحته:

لأنني ذكر الحمام وأنت لي

أنثاه جمرا

والهديل سناك

يصوّر الشاعر مأساته على وفق الشكل التالي:

هو نفسه الهديل، وهو ضحيّة العنف والتسلّط، لا حلّ الا بالعوامل المذكورة محلّ الجارح المفترس.

الشاعر (ضحيّة)|| الهديل(ضحيّة)

الحمامة (تنوح)|| المرأة (تنوح)

صوت || نار

إنّه يحوّل أحد الأطراف من صوت مدرك بالسمع (نواح) إلى سناء أو نار أو نور، ومن قبل حول المرأة التي تقابل الحمامة أنثى ذكر الحمام إلى جمر، ليعزز من أثر الرمز ضمن عملية التبادل السمعي البصري.

2. الهدهد واللقلق

في التراث والفكر العربي نجد للهدهد مدلولين:

الأوّل مفهوم ما قبل الإسلام ويشير إلى أن الهدهد بار بأمه كان يحملها وما هذه القنزعة التي على رأسه إلا التاج الذي كوفئ به.

المدلول الثاني المفهوم الإسلامي حيث ارتبط الهدهد بالمقدّس ـ النبي سليمان والملكة بلقيس.

أما اللقلق فيعني في الفلسفة المصرية القديمة الحكمة، وفي المسيحيّة تفاعله مع مريم في ولادة المسيح.

لقد جمع الشاعر الحلفي في قصيدة واحدة عنوانها (فريضة العمل) بين الهدهد واللقلق:

وهدهد التاريخ في أسرة القصب

يعير رحلة الجهاد

مرة لريبة الجسد

ومرة لعمة الرمد

ونحن في بوصلة المغيب

لقالق الهجرة للأبد

لا شكّ أن المحور، محور خير، فقد التقى حول خيرية الهدهد أو إيجابيته في الاسلام والمسيحية، إن حركته أعطت للحياة طعما فبفضله عرف النبي سليمان بلقيس، ولو أمعنا النظر في المقطع لوجدنا أن الشاعر الحلفي ينقل حركة الهدهد من حركة ظاهرة محسوسة إلى حركة خفية

هدهد التاريخ.. التاريخ هو القدم والطائر الهدهد متحرك لكن هذه المرة في أسرة القصب، من عنوان القصيدة ندرك أنّ حضارة السومريين والمصريين ارتبطت بالقصب، سومر الأهوار والفراعنة الكتابة على القصب.

وهناك الحركة الخفية في السرير، حركة لقاء الرجل بالمرأة.

فليس هناك من جمود بل هي الحركة الخفية التي تسري هذه المرة من داخل عمق الإنسان والتاريخ ليلتقي الهدهد ناقل الخبر بقديم مثله ودال على الخير وهو اللقلق، وفي التراث العالمي يقال إن اللقلق يورث القديم الذي بناه للأجيال الجديدة، أو إن حركة الهدهد الخفية التي تسري في القصب استطاعت أن ترتقي من جديد إلى أعلى لتلتقي باللقلق الذي يتخذ من الأماكن العالية مقرا له، فتظهر من جديد واضحة للعيان.

إن الشاعر لم ينظم الشعار الذي يقول (من لا يعمل لا يأكل) بصورة مباشرة إذ أراه ليس بشاعر شعارات بل هو فنان كثف صورة شعار مشهور بطائرين خيرين هما الهدهد واللقلق ليضفي على قصيدته حالة من التفاؤل الفنّي على الرغم من المأساة التي عاشها.

3. الغراب والغرانيق

مرة أخرى يجمع الشاعر الحلفي في قصيدة واحدة بين اسمي طيرين لهما مدلولات رمزية في الفكر العالمي هما الغراب والغرانيق. الغراب في أساطير الشمال: الدنمارك والسويد يدلّ على الحكمة، وعندنا في المجتمع العربي يعدّ علامة للتشاؤم على وفق ماورد في الفكر الجاهلي واستمرّ هذا الاعتقاد إلى الآن على الرغم من أن الأسلام أشار إليه إشارة إيجابيّة في قصة ابني آدم هابيل وقابيل حيث علم قابيل كيف يدفن أخاه وهو إلى مفهوم الحكمة عند الإسكندنافيين، وإن كان الغراب في قصة طوفان نوح قد خان الأمانة.

فمنـ منطلق تعامل الشاعر الحلفي فيمع الغراب؟ يقول:

اقطفي لي من سواد الليل شمسا أبديّة

واكتبي كلّ الحكايا

منذ أن مرّ غراب البين يوما

في فضاء الأبجديّة

يبتدأ القصيدة من التناقض بين الأبيض والأسود وفي النص التفاتة إلى مفهوم يتعلق بالوجود. الكون نفسه ابتدأ بالظلام، (في البد كان هناك ظلام وكان روح الله يرف على العالم)، وكما تشير التوراة، وفي الفلسفة الإسلاميّة نجد أن الظلام هو الأساس بل إن الله كان موجودا في العماء قبل أن يخلق الكون، فمن الظلام انبثق الضياء والكون، إن الغراب ذو لون أسود يجئ في القصيدة في المرحلة الثالثة:

الظلام الأصل

البياض المنشق عنه (الشمس)

الكتابة المرحلة الثالثة

يعني الشاعر بكلمة الكتابة الفكر، ولا شك أن الفكر الذي جاء بعد الشمس هو فكر المحبة والسلام والإيمان والخير، لكن غراب البين الأسود أو الريح الهوجاء هبت على الحروف\الأبجدية ويقصد بذلك الفكر الشوفيني الذي شرد الكثير من يساريين وغيرهم عندئذ يستعين بقوة عظمى:

أدركيني

قوة الأنثى، الأم، العقيدة

حيثما هبت أعاصير الضلال الهمجية

كلما نحن سقطنا

كالغرانيق نطير

ابتهاجا في فضاءات يديك

فالغراب، الريح السوداء توصلنا إذ تلبس لبوس الطائفية، والهمجية إلى مرحلة الغرانيق تلك الخرافة التي نسجها بعض المؤرخين، ومفادها أن الوحي عندما نزل على النبي محمد (ص) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى فألقى الشيطانُ على لسانه :تلك الغَرانيقُ العُلى وشفاعتُهنَّ تُرتَجى ماورد أفرح أهل مكة، والغرانيق في الأصل هي طيور كما  تعرفها معاجم اللغة، لقد استعمل الشاعر قصة الغرانيق استعمالا ذكيا فقلب الصورة التقليدية إلى وجه آخر مثلما اشتق من الظلمة النور. الغرانيق نفسها انقلبت إلى طيور حب وخير، إنها تحولت من حالة الألوهية التي تمثلها العزى واللات ومناة إلى طيور بريئة استطاعت بقوّة الفعل أدركيني أن تصبح أليفة دالة على الفرح والخيريّة.

4. الذئب / الكلب الديك

قد يدلّ الذئب في الأساطير العالمية على الشرّ، ففي الأسطورة الاسكندنافية نجده يقطع يد الإله تير بعضة منه، وفي الفكر العربي نجد مثالا له في قصّة العربي الذي وجد فرخ ذئب فعطف عليه وأخذه إلى شاته لترضعه وعندما كبر وثب على الشاة فافترسها حيث نُظِمت هذه القصة شعرا، اوهناك صورة أخرى للذئب إيجابية إذ تراه العقلية العربية يطارد والجن تخاف منه، ويرسم له  الشاعر الأحيمر السعدي صورة إيجابية:

عوى الذئب فاستأنست بالذئب إذ عوى

وصوّت إنسان فكدت أطير

ولربما يكون أدق تعبير على جماليّة الذئب وإيجابيته في الفن المعاصر ما وجدناه في الشريط السينمائي (الرقص مع الذئاب) الذي حاز على جائزة أوسكار.

مع قضية الذئب سأشير أن السطر الذي ورد فيه ذكر الذئب احتل الرقم 32 وهو السطر الذي بدا المركز او المغناطيس الذي تنجذب إليه جميع الأبيات بدءا من البيت الأوّل في القصيدة التي عنوانها (العراق):

متجمعا بين ارتعاش القلب والذكرى

وما ولوا عليه غير أولاد الذئاب سطر 32

قبل سطر الذئب تحتشد الأسطر بالعنف والجريمة والصور المخيفة

المراثي\الموت الضياع\ الاستلاب الايقاد الكره... الحروب... الدماء... لتنتهي تلك الحوادث المتمثلة لا مفردات القاسية عند الذئب، فهل اختار الشاعر عفوية الذئب وبراءته التي حدثنا عنها القرآن الكريم، أم رمز الشر، إن المفردات السابقة لم تتطهر حين جذبها الذئب إليه بل انسجمت فيه واندمجت بعنفه وشراسته لتتحذ صورتين أخريين تنتهي عندهما القصيدة هما الكلبة والذئب.

لا داعي أم نذكّر أن الكلب بالمفهوم  العربي والعالمي يرمز إلى الوفاء، ومن الطريف أن نذكر أن هناك كتابا قديما ألِّف عن الكلاب عنوانها (تفضيل الكلاب على الكثير ممن لبس الثياب) لكن في الوقت نفسه هناك نزعة في الفكر العربي تميل إلى احتقار الكلب وتعده نجسا فإذا ماراد شخص سبّ آخر قال عنه (ابن كلب)، أما الديك فيرمز عند المسلمين إلى الفجر والصلاة والنقاء الروحي، الديك يذكرنا بالصلاة لكن نستطيع القول إن الكلب والديك لم يحافظا على صورتيهما الإيجابية فالحوادث السابقة تشبعت  بالذئب لتصبح هي نفسها فيهما: الكلب يدل على الوضاعة والخسة اتخذ هيئة حصان:

منذ أن شدّوا على أنثى الكلاب

سرج إكسير الأماني والخداع

*

أما الديك فقد بدأ يصيح بمفهوم آخر مناقض للصلاة

وهم الديك الذي يعلن في كل صباح:

*

ربنا زد فحشنا يسرا لنثري

سعة في طمع الدنيا

وتيها وغواية

ومادامت القصيدة من (العراق) عنوانا له فرمز الديك الفاسق والكلب والذئب ينطبق على من يحكمون اليوم.

***

قصي الشيخ عسكر – روائي وناقد

......................

1ـ أذكر أن قسم اللغة الإنكليزيّة كان يدرّسها في جامعة البصرة ويطلب من الطلاب ترجمتها وقد حضرت من باب الفضول أو الرغبة للتعلم واشتركت مع أحد الأصدقاء في ترجمتها.

2ـ الاعراف 205

3ـ ديوان انشودة المطر/ ص 145. مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة

4 ـ راجع ويكيبيديا: الموسيقى الفارسيّة.

5ـ سفر نشيد الإنشاد 4 / 12 ـ 14

6ـ ديوان انشودة المطر/ ص 123. مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة

للشاعرة ظمياء ملكشاهي

المقدمة: تُقدم قصيدة “لا تكن معتمًا…” لظمياء ملكشاهي نموذجاً للشعر الحرّ الذي يواكب الصراع الوجودي بين الألم والأمل، مستثمرةً رموز القلق الكينوني والاضطراب النفسيّ في بناء نصٍّ يحرّض الذات على تجاوز العتمة وإشعال شرارة الحياة من داخله. تنطلق الدراسة من فرضيّة مفادها أن ملكشاهي توظف ثلاث آليات متكاملة لتحويل الجمود النفسي إلى طاقة فعّالة: الأولى تتناول البنية النحوية والدلالية للخطاب الشعري؛ الثانية تركز على البعد النفسي والرمزي للعناصر التصويرية؛ والثالثة تقارن بين تقنية المخاطب الذاتي في النصّ الشعري ومُقاربته الفلسفية في “هكذا تكلم زرادشت” لنيتشه.

يستند البحث في محاوره الثلاث إلى المنهج الوصفيّ التحليلي، حيث:

1- يبيّن المحور النحوي–الدلالي وظائف النهي والحثّ والانزياحات الدلالية في إحداث صدمة تحفيزية للذات.

2- يدرس المحور النفسي–الرمزيّ استدعاء المحسوسات والاستعارات ودورها في رسم مسار التحوّل الداخلي من العتمة إلى الانبعاث.

3- يعقد المحور الفلسفي–الشعري مقارنة نقدية بين خطاب ملكشاهي الذاتي ولغة الأوامر والنبوءة في نصوص نيتشه، لتبيان كيفية انتقال الذات من متلقٍّ سلبي إلى فاعلٍ مبدع.

من خلال هذه المحاور الثلاثة، تهدف الدراسة إلى كشف الآليات الفنية التي تكوّن بنية القصيدة كمشروع إنسانيّ مُتمرد على الانكسار، قادرٍ على استنطاق الإرادة الداخلية وإعادة ولادة النور من تحت الرماد

نص القصيدة:

لاتكن معتما...

تنوس في سقف الغرفة كفانوس عتيق

هي ذي ايامك الموسومة بالعتمة

لا تستمع لتلك المنى

ماعاد يجديك التريث

أسرع وأنت تحث الخطى إلى منتهاك

واختر لغيمتك مطرا يليق بهطولك

ثمة من ينتظرك صباحا ليبدأ يومه

قططك التي تحب

علمها كيف يموت الانتظار عندما لا تأتي

تلك الأشجار التي ترسمها لن تكبر أكثر

وطيور النوارس لا تحب سمكاتك

بحرك زبد

وايامك عدد

وٱخرك اسم على شاهد

اغصانك الكسيرة لن تزهر

عواء بعيد

طيور تنتظر خلف شبابيك السماء الزرقاء

تراتيلك تترنم في شوارعها

فلا تسقط الٱن مرغما

كن حليف نفسك

وابتهج وانت تقاتل طواحين الهواء

مازال فيك رمق للمجالدة

ٱيها الخرتيت الجبار

والمجالد الصعب

تموضع في جحرك

فالموت قريب

تفسير أبيات القصيدة

المصطلحات البلاغية المعتمدة

- التشبيه: مقارنة صريحة بين شيئين باستخدام أداة مثل “كـ”.

- الاستعارة: تشبيه مكنى عن أحد طرفيه بحذف صريح لعنصر من عناصر التشبيه.

1. عنوان القصيدة: “لا تكن معتمًا”

يستهل العنوان بالأمر المنهي، فـ“لا تكن” وظيفة إنشائية تحريضية تدعو الذات إلى رفض الانسحاق في العتمة. هذه الصيغة تلتقي مع مقاربة سارتر الفلسفية لحتمية الفعل الحرّ وتؤسّس لخطابٍ وجوديٍّ يُجاهر بضرورة الاستيقاظ الذاتي.

2. “تنوس في سقف الغرفة كفانوس عتيق"

توظّف الشاعرة استعارةً بصرية لوصف الوعي الداخلي بضوء خافتٍ، يشبه فانوسًا قديمًا على وشك الانطفاء. “تنوس” تعكس رجفة الحركة وذبذبة الانكسار، فتؤسس لرمز تردّد الذات بين البقاء والزوال.

3. “هي ذي أيامك الموسومة بالعتمة”

الجملة الإخبارية تنبّه إلى اتساع الظلال ليشمل امتداد الزمن نفسه. “الموسومة” هنا استعارة نوعية للدلالة على الثبات: فالعتمة ليست حالة عابرة بل عنوانٌ يختزل تجربةً مستمرةً من الكآبة.

4. “لا تستمع لتلك المنى”

الأمر القاطع هنا يستهدف وهم الأمنيات كوسيلةٍ للتسكين. تُعمَّق الكلمة “المنى” وظيفتها التقليدية فتتحول إلى فخّ يثبّط الحماس بدلاً من تأجيجه، مستدعيةً فكرة ديكارت عن ضرورة الشكّ في الوهم لتحرير العقل.

5. “ما عاد يجديك التريث”

النفي المطلق يحسم جدوى الانتظار، فالتأجيل أصبح قرين الانطفاء. هنا تتماهى النصيحة الشعرية مع مقولة هيدغر عن “رهاب الوقت” ورسوخ أهمية المبادرة الفعلية.

6. “أسرع وأنت تحث الخطى إلى منتهاك”

الدعوة إلى الإسراع ليست تسرّعًا أعميًّا بل حركةٌ مدروسة. “حث الخطى” استعارةٌ للحافز الداخلي، تعكس وعيًا بضرورة امتلاك زمام المبادرة الفعّالة نحو تحقيق الذات.

7. “واختر لغيمتك مطرًا يليق بهطولك”

يُحوِّل هذا البيت سيل المشاعر أوّلًا إلى خيارٍ واعٍ. الاستعارة هنا “مطر لغيمة” تؤكد قدرتك على التشكيل الذاتي حتى في لحظة الانسكاب العاطفي، مذكّرةً بمنهج الكينونة عند سارتر.

8. “ثمة من ينتظرك صباحًا ليبدأ يومه”

يُرجع الخطاب الشاعرية إلى البعد الاجتماعي، فيستعيد الذات من عزلتها بوظيفة إنسانية. هذا الانتظار يدلّل على أثرك في الآخرين، كأنك رمزٌ ضوئيٌّ ينبغي لك عدم الانطفاء.

9. “قططك التي تحب علّمها كيف يموت الانتظار عندما لا تأتي”

القطط هنا رمز للألفة والاعتماد. الدعوة إلى تعليمها قسوة الفقدان تحوّل الوداعة إلى مسؤولية؛ فغيابك يصنع موت الصبر لديك وللآخرين، فتتحوّل العلاقة إلى اختبارٍ لمدى جدوى الوجود.

10. “تلك الأشجار التي ترسمها لن تكبر أكثر”

الأشجار استعارةٌ للأحلام والمنجزات. تثبت أنّ الخيال بلا فعلٍ متسقٍ يبقى قابعًا في طور التمثّل دون نموٍّ حقيقي، وفق ما يوضحه رولان بارت عن اشتراط ديمومة الفعل لإتمام الدلالة.

11. “وطيور النوارس لا تحب سمكاتك”

التنافر السريالي في هذه الصورة يدفع إلى تأويل الخذلان: حتى رموز الحرية (النوارس) ترفض عطاياك الرمزية. يسلّط الضوء على فجوة بين العرض والطلب، بين الذات والعالم.

12. “بحرك زبد وأيامك عدد وآخرك اسم على شاهد”

ثلاثيةٌ شعريّة تركّز على هشاشة الوجود: البحر زبدٌ لا عمقَ فيه، الأيام معدودةٌ، والنهاية مرصودةٌ. ينتهي الخطاب بتذكيرٍ بأن مقولة “العدم” ليست مفرًا بل دافعٌ لصنع المعنى الآن.

13. “أغصانك الكسيرة لن تزهر”

استعارة للألم والعجز: الأغصان المنكسرة رمزٌ للذات الموجوعة التي لا تجد في جرحها ما يثمر. هذا التشاؤم المؤقت يهيئ القارئ لتصعيد الفعل المقاوم في الفقرات اللاحقة.

14. “عواء بعيد طيور تنتظر خلف شبابيك السماء الزرقاء تراتيلك تترنم في شوارعها”

جمعٌ بين الصوت (العواء) والصورة (الطيور والشبابيك) والموسيقى (التراتيل)، ليشكّل سيمفونية حنين مهيَمَنة على الصمت الخارجي. يشير إلى جهد الذات لفرض وجودها في فضاءٍ عامٍّ صامت.

15. “فلا تسقط الآن مرغمًا كن حليف نفسك”

نقطة التحول: النفي “لا تسقط” يقابله الأمر الإيجابي “كن حليف نفسك”. يعكس الانتقال من ضياع الذات إلى تحالفٍ وجدانيٍّ مع الداخل، تأكيدًا على أن المقاومة تبدأ باتفاق بين الوعي والإرادة.

16. “وابتهج وأنت تقاتل طواحين الهواء ما زال فيك رمق للمجالدة”

توظيف دون كيـشوت كرمزٍ للتحدّي العبثي، فيقلبه إلى مثالٍ للكرامة. يحتفي البيت بقدرة الذات على استثمار رمقها الأخير في معارك مصيرية، حتى لو بدا القتال ضد قوى لا يمكن دحرها.

17. “أيها الخرتيت الجبار والمجالد الصعب تموضع في جحرك فالموت قريب”

تختتم الشاعرة بنداءٍ لحيوانٍ بدائيٍّ قويٍّ، يجمع الوحشية والعناد. “تموضع في جحرك” استعارة للاختباء المُعَدّ للمعركة الأخيرة. رغم وعي الذات بقرب الموت، فإنها تُصوغه كاختبارٍ أخير للهيبة.

الخلاصة

1. القصيدة تنتقل من وعيٍ بالعتمة والجمود إلى خطابٍ تحريضيٍّ للتمكين الفعّال.

2. الخطاب الذاتيّ يُوَلّد تحالفاً بين الإرادة والوعي بدلاً من الركون إلى الوهم.

3. رموزُ الضوء والظلال والحياة والموت تتصاعد لتؤسس لخطاب مقاومةٍ وجوديةٍ متكامل.

التناقض الظاهري أم الانسجام البنائي؟

1. الانطباع الأول

على مستوى الصور الفردية، قد تبدو بعض الأزواج متعارضة:

- البيت الذي يصور “أغصانك الكسيرة لن تزهر” مقابل الدعوة لاحقًا لـ “ابتهج وأنت تقاتل طواحين الهواء”

- الانتقال من التأمل في العتمة إلى الحث على الفعل يبدو قفزة درامية.

لكن هذا التضاد ليس تناقضًا حقيقيًا، بل هو محرك للعاطفة والنظرية في شعرية القصيدة.

2. آلية التضاد الإبداعي

- الشعر يستثمر التضاد لتكثيف الانفعال وإبراز التحول النفسي.

- في السياق الوجودي، الانهيار الأولى (“عتمة”، “أغصانك الكسيرة”) يهيئ القارئ لذروة الفعل المقاوم (“لا تكن معتمًا”، “ابتهج”).

3. الوحدة العضوية للنص

1. الخطاب التحريضي يبدأ بالنفي والتحذير ثم ينتقل إلى الأمر والدعوة للانتصار على الذات.

2. التصاعد الدرامي:

- من وعي بالعجز (صور الانطفاء والموت)

- إلى تصعيد موقفي (صور القتال والكرامة)

3. التناقضات الظاهرة تخضع للنسق الواحد:

- لا تناقض في الرؤية بل تناوب للمشاعر يدعم رحلة الذات من الظلام إلى الفعل.

4. الخلاصة

- لا يوجد تناقض مفاهيميّ بين الأبيات، بل توظيف للشعرية المضادة لتعميق المضامين.

- كل صورة تقيم حلقة في السرد الذاتي، فتنتقل السلسلة بين انكسار الأمل وحضوره من جديد في دعوة الفعل.

المقاربة البنيوية

المقدمة

تناول هذه الدراسة بنية القصيدة باعتبارها منظومة دلالية متكاملة، تتفاعل فيها صور الظلام والنور عبر صراع داخلي يتحول إلى خطابٍ وجوديٍّ مشحونٍ بالتوتر والتحفيز. تنقسم القراءة البنيوية إلى ثلاثة محاور رئيسة: الهيكل الداخلي، الثنائيات البنيوية، والتتابع الدرامي.

1. الهيكل الداخلي: من السكون إلى الحراك

- المقطع الأول (من “لا تكن معتمًا” حتى “ما عاد يجديك التريث”) يشكل مدخلًا رمزيًا إلى حالة الجمود النفسي واللاجدوى. تستحضر الشاعرة عبر “الفانوس العتيق” و“الأيام الموسومة بالعتمة” عتمة داخليةٍ ثابرةٍ، فتثبت موقع الذات في عزلتها وكآبتها.

- المقطع الثاني (من “أسرع وأنت تحث الخطى” حتى “ما زال فيك رمق للمجالدة”) تنقلب صياغة النص من الوصف السلبي إلى صيغة الأمر والدعوة للفعل. تسهم مجازات مثل “اختر لغيمتك مطرًا” و“كن حليف نفسك” في توليد طاقةٍ حركيةٍ تعبر بالذات من الاستكانة إلى المواجهة، رغم إدراكها بقرب النهاية.

- المقطع الثالث (من “أيها الخرتيت الجبار” حتى “فالموت قريب”) تختتم القصيدة باعترافٍ بواقعية الموت، مرفق بصورة “الخرتيت المجالد” رمزًا للقوة الباقية. هذا الوقوف الختامي يمحو شعور الهزيمة، ويعيد صياغة الموت كلحظةٍ واعية ضمن رحلة الوجود.

2. الثنائيات البنيوية: صياغة التوتر

تتكامل بنية النص عبر ثنائيات تخلق صراعات داخلية تدفع القصيدة نحو التناقض المنتج:

الثنائية                الوظيفة البنيوية

عتمة / نور   تأرجح الذات بين الانغلاق والبحث عن البصيرة

سكون / حراك الانتقال من الجمود إلى المبادرة

موت / رمق جدلية النهاية وبقاء الطاقة للمجابهة

انتظار / انقطاع كسر رتابة الزمن و تحرر الذات من الركود

تسليم / مقاومة الصراع بين الخضوع والاستقلال بالإرادة

3. التتابع الدرامي: من الإدراك إلى القرار

1. الإدراك السلبي: توصيف الظلام الداخلي وتثبيت الذات في موقع الضعف.

2. الأوامر التحفيزية: صياغة خطابٍ تحريضيٍ ينتقل بالذات من التردد إلى الفعل.

3. ذروة المواجهة: إعلان تحالف الإرادة مع الذات واستقبال الموت كجزءٍ مدركٍ من الصيرورة الوجودية.

الخلاصة

1. القصيدة تتخذ بنيةً تصاعديةً من الثبات إلى الحركة ثم التمركز الختامي.

2. الثنائيات تضفي توترًا دلاليًا ينتج ديناميكية النص ويعزز صراع الذات مع مصيرها.

3. التتابع الدرامي يوضح مدى تحول الخطاب من وعي بالعجز إلى قرارٍ فاعلٍ بالتمرد على العتمة.

الانزياحات الدلالية

- الارتعاش الضوئي («تنوس… كفانوسٍ عتيق»)

المنحى الحركي لفعل «تنوس» يمنح الفانوس العتيق حياةً يترنّح فيها بين الانطفاء والاشتعال. تنقل هذه الصورة شعورًا بالقلق الكامن، كما لو أن النفس تتنفس أنفاسها الأخيرة قبل أن يزول نورها.

- أنسنة الانتظار («يموت الانتظار»)

تُصوَّر لحظة الانتظار ككائنٍ معرض للموت، فيتحول الرجاء إلى وهم قابلٍ للفناء. بهذا الانزياح، تُقترح على الذات إمكانية تحطيم قيود الترقب بقرارٍ حاسم، فيُعاد تعريف الغياب كخيارٍ مُلغى لا كزمنٍ مؤجل.

- تجميد النموّ («الأشجار التي ترسمها… لن تكبر»)

تُمنح الأشجار المرسومة حياةً خيالية، لكنها تُحرم من النمو الفعلي، فتبرز الفجوة بين الإبداع العقلي وواقع العجز عن الإخصاب والتحوّل. تصبح الرغبات حبراً على ورقٍ ما لم تُدعم بفعلٍ وقرار.

- اختلال البحر («بحرك زبد»)

تتحوّل عمق البحار إلى سطحٍ رغوي هشّ، فتفقد الذات جذورها وسكونها. يرمز هذا التحول إلى اضطرابٍ داخليٍّ يزيح الاتزان ويتركَّز على الخارجي السطحي بلا عمق ولا معنى.

- تفريغ الزمان («أيامك عدد»)

يُختزل الزمن إلى أرقامٍ جافة بلا روح أو خبرة، ما يعمّق الإحساس بتسارع الفناء. هنا لا يُسرد الزمان بخلق الحكاية بل يُحسب كحافزٍ للفعل، لا وعاءً للانتظار.

الاستعارات الرئيسية

- العتمة

استعارة للانسحاب الوجودي وانطفاء البصيرة، حيث لا تعود الظلال مجرد فراغ فيزيائي بل انعكاسٌ لحالة انكماش داخلي.

- طواحين الهواء

تجسّد المعارك العبثية لكنها ضرورية لاختبار الإرادة والبطولة. المواجهة هنا لا تقاس بالنتائج بل بالعزم المستمر رغم العبث.

- الخرتيت الجبار

رمز للإرادة الصلبة المغلّفة بهيئةٍ بدائية، يجمع بين القوة الظاهرة وهشاشةٍ باطنة، فتتبدى الذات مقاتلةً تعرف متى تصمد ومتى تنسحب.

- شبابيك السماء

تصوّر نافذةً روحية أو أفقًا للخلاص، تُقرب السماء إلى متناول الذات دون أن تؤكد إمكانية الفتح أو الإجابة النهائية.

- رمق المجالدة

الطاقة الأخيرة التي لا تعني الهزال بل شرارة انطلاق جديدة، حيث يُختبر العزم في قمة اللحظة الحاسمة.

- الفانوس العتيق

استعارة لذاكرةٍ تقاوم النسيان، وضوءٍ باهت يصرّ على الاستمرار رغم تقادم الزمن وتهديد الانطفاء.

- عواء بعيد

صدى داخليٌّ للوحشة الوجودية وعزلة الذات في فضاء خالٍ من الردود، يعبّر عن ندبة الروح وفقدان الأمل.

المقاربة السيميائية

المقاربة السيميائية – تُعالج هذه المقاربة القصيدة كنظامٍ من العلامات) الدالة، تنحو بصورها المتناقضة والإيحائية إلى كشف أزمة الذات في علاقتها مع الزمان، والموت، والإرادة. وفيما يلي إعادة صياغة تلحظ بنية العلامة (الدال – المدلول) وسياقها الدلالي:

1. المبادئ المنهجية

- تُفهم القصيدة هنا شبكة علامات موصولة ببعضها عبر علاقات تشبيهية واستعارية.

- يُركَّز على حركة كل علامة داخل محورها البصري–النفسي: من الانطفاء إلى التوهّج، من الصمت إلى الصخب.

- تُقرأ علامات القصيدة بوصفها رموزًا توضّحُ صيرورة الذات بين العتمة والفعل.

2. قراءة العلامات الدلالية

1. الفانوس العتيق

- الدال: الفانوس القديم المرتجف فوق سقف الغرفة.

- المدلول: وعي داخلي باهت يواجه خطر الانطفاء، مع بقايا أملٍ متآكلٍ بدوره.

2. الغيم والمطر

-  الدال: اختيار المطر لغيمة الذات.

- المدلول: قدرة الذات على توليد التجدد والإخصاب العاطفي من قرارٍ داخلي مستقلّ، لا من عوامل خارجية.

3. القطط المحبوبة

- الدال: القطط التي اعتادت الحضور والانتظار

- المدلول: الارتباط الحميميّ بكل ما نحتضنه، ومسؤولية حرمان الآخرين من هذا الحضور عند انكفائنا.

4. الأشجار الراسمة

- الدال: أشجارٌ مصوّرةٌ على الورق لا تكبر

- المدلول: الأحلام والمشاريع الخيالية الجامدة، التي من دون فعلٍ مستمرّ تظلّ حبراً على ورق.

5. طيور النوارس وسمكاتك المرفوضة

- الدال: النوارس التي لم تعد تحب السمك.

- المدلول: الخذلان حتى من رموز الحرية، وفجوة بين ما نعرضه من قيمةٍ وما يطلبه الواقع.

6. البحر الزبد

- الدال: بحرٌ يتكوّن كله من زبدٍ سطحي

- المدلول: فقدان العمق والجوهر في تجربة الذات؛ صراعاتٌ بلا صدى حقيقي.

7. الخرتيت الجبار

- الدال: الكائن المدرّع القويّ.

- المدلول: إرادةٌ صلبة رغم هشاشتها الظاهرة، استعارةٌ للذات المحاربة على نحو دونكيشوتي.

8. الشبابيك الزرقاء

- الدال: نوافذ في جدار السماء.

- المدلول: أفقٌ روحيٌّ أو منفذٌ للحرية؛ رغبة الذات في الخروج من أسوار العتمة.

3. دينامية العلامة

- التنافر السيميائي: اختلاف الواقع (نوارس ترفض السمك) والخيال (طيورٌ منتظِرةُ الفجر) يخلق انفعالاً دراميًّا.

- التعالق الدلالي: كل رمزٍ يعيد توقيته في ثنائية العتمة/النور والصمت/الصخب، ما يعزّز انتقال الذات من الركود إلى المقاومة.

4. الخلاصة

تكشف مقاربة العلامات هذه عن اشتباكٍ سيميائيٍّ بنيويٍّ يجعل من القصيدة خطابًا وجوديًا متوتراً، لا يكتفي بتشخيص أزمة الذات بل يحوّل اللغة إلى ساحة مقاومة داخلية مستمرة.

المقاربة النفسية

1. دينامية الصراع الداخلي

- تبدأ القصيدة برمز «العتمة» كخلفية نفسية تغرق الذات في كآبةٍ تجمّد الفعل.

- يصاحب هذه الحالة صمتٌ داخلي تفرزه الأنماط الدفاعية (الإنكار والقمع)، ثم تتصاعد إيقاعات أوامر النهي والتحريض (لا تكن… أسرع… قاتل) لتحرّض النفس على إطلاق الطاقة الكامنة.

2. مراحل التحول النفسي

1. الصمود في العتمة

- الذات تذعن لبؤسها، فتعيش جمودًا داخليًا يوازي صمت الظلال.

2. انفجار الإرادة

- إصدار الأوامر يمثل «لحظة مفصل» تحوّل اليأس إلى دفعة حركية، حيث تصبح اللغة أداة مقاومة.

3. الفعل المتجلّي

- تجسّد الأوامر في صور رمزية تنبض بالحياة: تحريك الفانوس، تأجيج القطط، انتفاض الشجرة.

3. وظيفة الرموز النفسية

- الفانوس بؤرة ضوءٍ داخل الظلام، رمز لبذرة الإرادة التي تقاوم الانطفاء.

- القطط المنتظرة تجسّد توقعات الذات للخلاص الخارجي، وتؤشر إلى ضرورة المبادرة قبل فوات الأوان.

- الشجرة المكسورة مرآة لفقدان الأمل حين تبقى الرغبة حبراً على ورق بلا فعلٍ داعم.

- طواحين الهواء معركة وهمية تواجه فيها الذات قيودها الداخلية والظروف المفتعلة.

- النوارس تجسيد لرغبة الحرية التي ترفض الأسر بحكايات الذات الصغيرة.

المقارنة الفلسفية–الشعرية لتقنية المخاطِب الذاتي

1. تقنية المخاطب الذاتي في «لا تكن معتمًا» لظمياء ملكشاهي

- أسلوب الأمر والنهي يبدأ النص بصيغة أمر تُحفّز «الذات» على الخلاص من العتمة، فتؤسّس مونولوجًا ذاتيًا يسعى إلى نقل الصوت الداخلي إلى فعل مقاوم.

- ثنائية القائل والمخاطب تنقسم «الذات» إلى ضميرين: قائلٌ يوجّه وضميرٌ مُخاطَب يستجيب أو يرفض، ما يولّد صراعًا نفسيًا يتجاوز التمني إلى الفعل.

- التقنية كأداة تحفيز تُعيد القصيدة بناء المشهد النفسي عبر إزاحة الانتظار والتمني بفعل إلزامي؛ فتتحوّل اللغة إلى آلية ضغط داخلية تدفع الذات نحو الحركة.

2. تقنية المخاطب الذاتي في «هكذا تكلم زرادشت» لنيتشه

- الخطاب النبوي–الفلسفي يستعين نيتشه بصيغة الأوامر والنبوءات لتفجير طاقات «الأنا العليا» وبناء إنسانٍ متجاوزٍ للمألوف.

- تعدد الأصوات والتناوب تتداخل في النص أصوات نيتشه، وزرادشت، والمتلقي الافتراضي، فينأى الخطاب عن السرد الأحادي ليصبح مسرحًا وجوديًا تعليميًا–تفكيكيًا.

- الأسئلة البلاغية التحفيزية تنبع معظم الأوامر من أسئلة تشكّك في المسلّمات، فتدفع الذات إلى التفكير الأخلاقي المتعالي وإعادة النظر في ثوابتها.

3. أوجه التشابه

عنصر المقارنة ظمياء ملكشاهي فريدريش نيتشه

طبيعة الخطاب أوامر شعرية حسّية نثر فلسفي نبوي

الهدف الخروج من العتمة والانتظار تجاوز الإنسان العادي نحو الأسمى

الذات المخاطبة ذاتٌ مجروحة تبحث عن الاستنهاض ذاتٌ واعية تنشد التجلّي

التقنية البلاغية أوامر مباشرة – صور حسّية مونولوجات – أسئلة بلاغية

مركزية الذات الذات محور الفعل والتغيير الأنا بذرة التحول الكوني

4. الخلاصة

تؤكد المقارنة أن ظمياء ملكشاهي تستثمر تقنية المخاطب الذاتي في صيغة أمر تُفعّل الحوار الداخلي بين اليأس والإرادة، فتلتفت نحو الفعل الشعري المقاوم. في المقابل، يوظف نيتشه الأوامر والأسئلة ضمن خطاب فلسفي-نبوي لبناء «الأنا العليا» وتجاوز الشروط المألوفة. وفي كلتا الحالتين، تعود «الذات» إلى موقع الفاعل الرئيسي لصنع المعنى وإعادة ولادة نفسها من رماد الخمول إلى نبض الإرادة.

خاتمة

قصيدة "لا تكن معتمًا" تفتح أبوابًا من التأويل العميق والمتشابك، مدفوعة بصراع داخلي مشحون بثنائيات الحياة الجوهرية: النور مقابل العتمة، الانتظار أمام الفعل، والتراجع مقابل المواجهة المستميتة. الشاعرة اختارت خطابًا ذاتيًا ليس كوسيلة بلاغية عابرة، بل كنهج وجودي يعكس حوارًا داخليًا بين الذات وما تحمله من إمكانيات خفية، كأنها تُبادر بمواجهة مكنونات نفسها عند مفترق المصير.

ينسج النص شبكة معقدة من الاستعارات الرمزية والانزياحات الدلالية، مما يجعل تجربة القراءة رحلة في أعماق النفس، مدفوعة ببنية درامية متصاعدة تبدأ من الغموض وتتحوّل تدريجيًا نحو حسم يُطالب بالمقاومة. تبدو القصيدة أقرب إلى بيان يدعو للتمسك بالجوهر الذاتي مهما كانت الظروف، حتى في مواجهة الموت القريب. ومع ذلك، تعترف بحقيقة هشاشة الإنسان، إلا أنها تحول هذه الهشاشة إلى قوة تحدٍ ورفض للهزيمة.

في الختام، "لا تكن معتمًا" ليست إجابة بل سؤال مفتوح تُلقي به في وجه العتمة:

هل ستنطفئ، أم تُقاوم بشعلة خافتة لا تزال قادرة على التوهج؟

***

سهيل الزهاوي

 

أقنعة الضوء في سوق الأقوال يرتدون الحرير يبيعون الشرف بكلمات مزوقة يلقون النصح كأنهم أنبياء الصدق وعلى شفاههم تتراقص الفضيلة لكن في الخفاء تتساقط أقنعتهم كأوراق خريف يغرقون في مستنقع أفعالهم يسرقون النور ويبخسون الظلال يراؤون كالطواويس ريشهم زاه تحت ضوء النهار لكن في العتمة يتلصصون على أحلام الآخرين يعّلون على الخلق كأنهم جبال لا تهز لكن قلوبهم هشة كالزجاج تتكسر عند أول امتحان يا أصحاب الأقوال العذبة لماذا تخيطون ثوب العفة وتلبسون تحته ثياب الخداع ألسنا جميعاً بشر يعتريهم النقص في المرآة تنظرون لكن لا ترون سوى وهم الكمال فمتى تلقون الأقنعة وتعترفون بأن الصدق أثقل من أكاذيبكم ريم الحاوي أقنعة الضوء في سوق الأقوال يرتدون الحرير يبيعون الشرف بكلمات مزوقة يلقون النصح كأنهم أنبياء الصدق وعلى شفاههم تتراقص الفضيلة لكن في الخفاء تتساقط أقنعتهم كأوراق خريف يغرقون في مستنقع أفعالهم يسرقون النور ويبخسون الظلال يراؤون كالطواويس ريشهم زاه تحت ضوء النهار لكن في العتمة يتلصصون على أحلام الآخرين يعّلون على الخلق كأنهم جبال لا تهز لكن قلوبهم هشة كالزجاج تتكسر عند أول امتحان يا أصحاب الأقوال العذبة لماذا تخيطون ثوب العفة وتلبسون تحته ثياب الخداع ألسنا جميعاً بشر يعتريهم النقص في المرآة تنظرون لكن لا ترون سوى وهم الكمال فمتى تلقون الأقنعة وتعترفون بأن الصدق أثقل من أكاذيبكم.

 يعد عنوان القصيدة تعبيراً مجازياً، واخفاءً للمعنى الحقيقي، فهو الرمز العاكس لحالة عاطفية كما أنه يمثل قوة روحية تعبر عن عوالم مخيفة، فضلا عن دلالة التمويه، فالعنوان بمجمله يعبر عن استعاره بصرية تعبر عن تجربة الشاعرة.

 يخلق العنوان ثنائية تضادية ما بين المظهر المضىء والظلام الساكن خلفه وهذا ما يمنح النص التوتر الجمالي والدلالي، ويشد من رؤية المتلقي للدخول الى النص. وبالتالي فالقناع اخفاء الذات والهوية، ويعد تقنية من تقنيات القصيدة، ونوعاً من الانزياح التعبيري، وسيمياء تضئ الدخول الى باب القصيدة

  في سوق الأقوال يرتدون الحرير يبيعون الشرف بكلمات مزوقة يلقون النصح كأنهم أنبياء الصدق وعلى شفاههم تتراقص الفضيلة يعد سوق الاقوال تعبيرا مجازيا للتعبير عن الفوضى في تبادل الكلام والآراء، ويتميز بالانفتاح، وغير متناهي، أشبه بفسيفساء متعددة الألوان، اتخذتها الشاعرة تعبيراً عن طاقتها السلبية التي تزاحمت عند عتبة رؤيتها البصرية.

تتخذ من الحرير الدلالة الحسية والرمزية، فهو يعبر عن الجمال والنعومة والاغراء البصري. ترسم من لغة الجسد اسلوبا لغويا من خلال الملامح الجسدية التي تومئ إلى ما يظهره ويخفيه الوجهة، وما يتفوه به من الكلام. تتخذ من لفظة الشرف مجازا للتعبير عن الصدق، ومن الفضيلة إشارة الى الاغواء والاغراء، وتغليب الإحساس على العقل، أي الانتقال من المادي الكلام المزوق من خلفه الرذيل الى الروحي الفضيل.

تعطي الشاعرة عالمين: الظاهري المبرهج والباطني الخادع، هذه المفارقات تعمل على خلق اهتزازات بصرية وذهنية لقراءة الواقع. تقارن الشاعرة بين تضادين: الانبياء اهل الكمال النفسي والعقلي، والمنافقين اهل الهوى والخداع، من أجل خلق حالة المشهد الدرامي امام القارىء.

لكن في الخفاء تتساقط أقنعتهم كأوراق خريف يغرقون في مستنقع أفعالهم يسرقون النور ويبخسون الظلال يراؤون كالطواويس ريشهم زاه تحت ضوء النهار لكن في العتمة يتلصصون على أحلام الآخرين) تستدرك ما يتراقص على شفاههم.

تشبه الاقنعة بتساقط اوراق الخريف الصفراء التي تحمل دلالة التعبير، الموت والانبعاث انها دورة العود الأبدي، كما أنها رمز الانكسار والندم والتحول الزمني واللوني من الاخضر اليانع الى الاصفر الذابل؛ هذه التقلبات جاءت متزامنة مع الحالة الشعورية للشاعرة.

يرمز المستنقع الى دلالة كثرة الاعشاب وهذا ما يوازي كثرة الكلام، السكون والهدوء واغراء البصر، ماؤه ضحلة ومتغير، كتغير أفعالهم.

توظف التضاد ما بين النور والظلال لخلق حركة دراماتيكية للنص، فالنور يظهر الحقيقة، والظلال تختفي عنده الحقيقة. تستخدم يبخسون للدلالة على التعالي والاستخفاف بالآخر.

تمكنت الشاعرة من تحقيق التوازن الايقاعي والموسيقي في النص من خلال: يغرقون، يسرقون، يراؤون ويبخسون، كل هذه المفردات المقفاة تدل على التلاعب بمشاعر وإرادة الآخر، وعلى الطاقة السلبية المشحونة بالإحباط العاطفي.

تمكنت ان تحدث تحولات في التشبيه من الانبياء الى الطاووس، وهذا ما يضفي على النص مسحة دينية تعزز البناء الدلالي للنص؛ فالطاووس يعبر عن دلالة البهرجة والغرور والتغطرس واستصغار الآخرين، فالطاووس يعكس ريشه الضوء مما يسبب ظهور ألوان مختلفة جذابة ومغرية، وهذا ما يواكب الاقنعة المضيئة التي تعكس الضوء. تجعل من العتمة دلالة النفس الخفية ومن التلصص دلالة التجسس على الاخرين، فضلا عن شهوة البصر.

يتعالون على الخلق كأنهم جبال لا تهز لكن قلوبهم هشة كالزجاج تتكسر عند أول امتحان يا أصحاب الأقوال العذبة لماذا تخيطون ثوب العفة وتلبسون تحته ثياب الخداع ألسنا جميعاً بشر يعتريهم النقص في المرآة تنظرون لكن لا ترون سوى وهم الكمال فمتى تلقون الأقنعة وتعترفون بأن الصدق أثقل من أكاذيبكم) تشبههم بالجبال التي لا تهتز، اي يرون أنفسهم بحالة كالألوهية في الكمال ولكن تستدرك وتراهم قلوب هشة مهزوزة.

 تعمل مقاربة تشبيهية بين الجبال والزجاج: بين الصلابة والهشاشة، هذه المفارقة تعمل على خلق رؤية غير متوقعة للمتلقي حول الحقيقة والواقع، وتفتح العديد من التأويلات للجمل الشعرية، وعليه تظهر المسافة بين قول الشاعرة وقصدها، واتاحة الفرصة امام المتلقي لكشف المضمر من الاقوال الشعرية في النص. تنادي وتستفهم، وهذا ما يمنح النص تناغما موسيقيا، وتوظف التفعيلة المقفاة-العذبة والعفة-للتعبير عن دلالة النقاء والصفاء.

تتخذ من ثياب الخداع رمزا للتعبير عن الحرير، ومن ثوب العفة رمزا للطهر، وهذا ما يعزز ميزة التضاد التي تهدف الى توضيح المعنى المضمر لدى المتلقي.

تخاطبهم وتوبخهم على مظهر ثيابهم المخيط ظاهريا وهذا ما يقابل الاقنعة المضيئة بنفس القوة التعبيرية في الافشاء عن البساطة في الظهور، وبنفس الوقت يبطنون المظهر، فالأقنعة تظهر بمظهر براق، وتخفي الباطن المكبل بالحقد؛ فكلاهما يحملان دلالة نكران الذات والخداع.

تتخذ من المرآة دلالة للتعبير عن الذات التي تتكشف حقيقتها أمامها، كما إنها تمثل مرحلة الوعي؛ هذه التقنية التي استخدمتها الشاعرة، تعبر عن واقعهم المزيف، لأن المرآة تعد متلقي يكشف خبايا الإنسان وأوهامه.

تعمل الشاعرة على تحولات مادية -الأقنعة المضيئة - الى تحولات زمنية-متى، هذه التحولات تزيد من تذوق المتلقي للكشف عن قصدية الشاعرة في النص.

تختتم النص بثنائية تضادية ما بين الصدق والكذب: بين خفة القول -الصدق، وثقل الكلام - اكاذيبهم.

 تتخذ من ثياب الخداع رمزا للتعبير عن الحرير، ومن ثوب العفة رمزا للطهر، وهذا ما يعزز ميزة التضاد التي تهدف الى توضيح المعنى المضمر لدى المتلقي.

تخاطبهم وتوبخهم على مظهر ثيابهم المخيط ظاهريا وهذا ما يقابل الاقنعة المضيئة بنفس القوة التعبيرية في الافشاء عن البساطة في الظهور، وبنفس الوقت يبطنون المظهر، فالاقنعة تظهر بمظهر براق، وتخفي الباطن المكبل بالحقد؛ فكلاهما يحملال دلالة نكران الذات والخداع.

تتخذ من المرآة دلالة للتعبير عن الذات التي تتكشف حقيقتها امامها، كما انها تمثل مرحلة الوعي؛ هذه التقنية التي استخدمتها الشاعرة، تعبر عن واقعهم المزيف، لأن المرآة تعد متلقي يكشف خبايا الإنسان واوهامه. تعمل الشاعرة على تحولات مادية -الأقنعة المضيئة - الى تحولات زمنية-متى،هذه التحولات تزيد من تذوق المتلقي للكشف عن قصدية الشاعرة في النص. تختتم النص بثنائية تضادية ما بين الصدق والكذب: بين خفة القول -الصدق، وثقل الكلام - أكاذيبهم.

***

بقلم الدكتور حمزة علاوي مسربت - كلية الفنون الجميلة / جامعة المستقبل - العراق

قراءة فلسفية في قصيدة "شكوى حسينيٍّ تأبّد حزنه" للشاعر يحيى السماوي.. وفق قراءة رمزية فلسفية مفاهيمية بمنهج صبَيٍّ متأمل.

حين أقرأ يحيى السماوي، لا أقرأ شاعرًا، بل أستشعر كيانًا يتجاوز اللغة إلى جوهرها، ويجعل من القصيدة كائنًا حيًا يتنفس الرمز، ويُفكر بالفلسفة، ويُحاور الوجود. لا يكتب ليصف، بل ليكشف، لا ليُدهش، بل ليُطهّر. في نصه، لا شيء يُقال كما هو، بل كل شيء يُحيل إلى ما وراءه، إلى ما لا يُقال.

القصيدة عنده ليست بناءً لغويًا، بل بنية رمزية مشدودة، تتقاطع فيها الذات مع الكون، ويتحوّل فيها الخيال إلى وسيلة إدراك، لا إلى زينة. كل بيت هو عتبة، كل صورة هي سؤال، كل استعارة هي محاولة لفهم ما لا يُفهم. السماوي لا يكتب من خارج التجربة، بل من قلبها. يجعل من الألم معنى، ومن المعنى خلاصًا، ومن الرمز وطنًا. قصيدته لا تُقرأ، بل تُعاش، تُحس، وتُفكك كما يُفكك الحلم حين يستيقظ العقل على حقيقته. هكذا يتجلّى الشعر عنده: فعل وجود، لا ترفًا؛ كشف، لا زخرفًا؛ خيالًا، لا هروبًا؛ رمزيةً، لا زخرفة. إنه لا يصف العالم، بل يعيد خلقه، لا يهرب من الجرح، بل يسكنه، ويجعل من القصيدة مرآةً للذات حين تتأمل الكون، وتعيد ترتيب الفوضى بلغة لا تُشبه إلا نفسها.

سرد قصصي رمزي مستلهم من قصيدة "شكوى حسينيٍّ تأبّد حزنه"

لم يكن الماء كما نعرفه.

كان يسير في عروقي، لكنه لا يُرويني.

كنت أشرب، وأشرب، وأشرب، لكن العطش كان يسكن في مكانٍ لا تصل إليه الكؤوس.

سألتُ النهر: لماذا لا تُطفئني؟

فبكى، وقال: منذ مُنِع الحسين، وأنا عطشان.

نظرتُ إلى الغيم، فوجدته يمرّ كئيبًا، لا يُلقي السلام.

الأشجار كانت تُنبت أوراقًا تُشبه الأكفان، والإنسان كان يمشي كأنه يبحث عن شيءٍ ضائع منذ ألف عام.

كل شيء كان يبكي، حتى قبل أن نفتح أعيننا.

الدموع كانت تسبقنا، لأن الحسين لم يكن فقط جسدًا، بل كان عينًا ترى، وهدىً يُهتدى به، وحقًا يُحيا به، وإيمانًا يُصلى به.

رأيت الفرات، ذلك النهر الذي يُغني للحياة، يُلطِم ضفافه، ويجلد نخيله.

الغدران الصغيرة كانت تشقّ زيقها، كما تفعل النساء في المجالس، وكأنها تقول: نحن شهدنا، ولم نمنع.

ثم رأيت رجلاً، لا يُشبه الرجال.

كان يحمل سيفًا، لكن السيف لم يكن للقتل، بل للعدل.

قالوا لي: هذا علي.

ثم رأيت فتىً، لا يُشبه الفتيان.

كان يمشي كأنه لا يمشي، كأن الأرض تُفسح له الطريق.

قالوا لي: هذا الحسين.

ثم رأيت امرأة، وجهها يُشبه الدعاء.

قالوا لي: هذه فاطمة.

ثم رأيت أخًا، عينه تُشبه الوعد، وسيفه لا يُشهر إلا إذا بكى القلب.

قالوا لي: هذا العباس.

كلهم كانوا نورًا، لكن الحسين كان الشمس.

كان لسان الجهاد، لا سيفه فقط.

كان إمام الصراط، لا سالكه فقط.

كان قلب العطاء، وشريانه، ونبضه.

سألت نفسي: لماذا أشعر أنني أبحث عن شيءٍ لا أعرفه؟

فأجابني صوتٌ في داخلي: لأنك تبحث عن الحسين.

ثم رأيت الطوفان.

لم يكن ماءً، بل كان خنوعًا، وكان دخانًا، وكان جمرًا.

رأيت الصحراء تُصبح بحرًا، لكن ماؤها يُحرق، وموجها يُخنق.

سألت: أين نوح؟

قالوا: جاء، لكنه لم يجد بستانًا.

رأيت الأرض تنكمش، والمدى يهرب، والطوفان يستبدّ.

رأيت الناس يُصلّون، لكن لا أحد يسمع الأذان.

رأيت الجيوش تتكاثر، لكن لا أحد يُجير المستجير.

ثم رأيتني، صغيرًا، أقول للحسين:

أنا لم أشهدك، لكني أعيشك.

أنا لم أرك، لكني أراك في كل شيء فقد معناه.

أنا عطشان، لا للماء، بل لك.

وعاهدته، كما يعاهد الطفل أمه حين يخاف:

أن أبقى قائمًا، ما دام فينا للصلاة أذان.

القصيدة "شكوى حسينيٍّ تأبّد حزنه"

تمثل نصًا شعائريًا احتجاجيًا، يتجاوز البنية الشعرية التقليدية ليصبح خطابًا كونيًا، يتداخل فيه النحو مع الرمز، والعروض مع الفلسفة، والبلاغة مع الوجدان. من الناحية النحوية، جاءت الأبيات الثلاثون سليمة في تركيبها، خالية من الأخطاء الإعرابية، ومتنوعة في أساليبها بين الجمل الاسمية والفعلية، والنداء، والاستفهام، والشرط، مما يُضفي على النص طابعًا حيًا ومتعدد الطبقات. الجمل الاسمية تُستخدم لتثبيت المعاني الكبرى، مثل "الماءُ عطشانُ"، حيث يُشخص الماء ليصبح كائنًا حيًا يفتقد الحسين، في حين تُستخدم الجمل الفعلية لإظهار الحركة والاحتجاج، كما في "أرخصتَ نبضَكَ"، التي تُظهر الفعل الحسيني بوصفه تضحية واعية.

القصيدة مبنية على بحر الكامل، بتفعيلاته الثلاثية المتكررة "متفاعلن متفاعلن متفاعلن"، دون خروج أو زحافات مؤثرة، مما يُعطيها إيقاعًا قويًا يتناسب مع طبيعة الحزن الحسيني. القافية النونية الموحدة تُضفي طابعًا شعائريًا، وتُرسّخ المعنى في الوجدان، مع بعض الخروج الفني في بعض الأبيات لخدمة الدلالة، دون أن يُخل ذلك بالاتساق العام.

من حيث الرمزية، تتجلى في كل بيت تقريبًا. الماء، الغيم، الأشجار، الإنسان، كلها رموز لكائنات فقدت معناها بفقد الحسين. الفرات يلطُم نفسه، والنخيل يشق زيقه، في صور تُجسد الطبيعة بوصفها شاهدة على الجريمة. الحسين يُقدَّم لا بوصفه فردًا، بل بوصفه امتدادًا لعلي وفاطمة والعباس، حيث يُعاد تعريف النسب النبوي بأنه وراثة للمبدأ، لا للدم فقط. السيف، الفتى، الأم، الأخ، كلها رموز تُعيد بناء الهوية الحسينية بوصفها هوية أخلاقية كونية.

القصيدة تُعيد تعريف الزمن، حيث يصبح الصبح داجيًا، والليل هوانًا، والصحراء بحرًا ماؤه جمر، والموج دخان. هذه الصور تُجسد انقلابًا وجوديًا، حيث لم يعد للزمن معنى، لأن الحسين غائب. نوح لا يجد بستانًا، والأرض أبعد ما تكون عن المدى، والطوفان استبدّ بموجه، في صور تُظهر أن النجاة مستحيلة في غياب المبدأ.

في القسم الأخير، يُعاد بناء العهد، لا بوصفه وعدًا شخصيًا، بل بوصفه التزامًا كونيًا، يُربط بالأذان، أي بالوعي، وبالصلاة، أي بالاتصال بالحق. الحسين هنا ليس شهيدًا فقط، بل هو معيار للزمن، ومبدأ للعدالة، ونقطة التقاء بين الدين والتاريخ والوجدان.

القصيدة في مجملها تُجسد خطابًا فلسفيًا رمزيًا، يُعيد تعريف الحسين بوصفه مبدأ كونيًا، ويُعيد تعريف الأمة بوصفها كائنًا حيًا فقد قلبه، ويُعيد تعريف اللغة بوصفها وسيلة للحداد والاحتجاج والرجاء. كل بيت فيها يُمثل طبقة من المعنى، وكل تركيب نحوي يُخدم دلالة رمزية، وكل صورة تُحيل إلى فكرة وجودية، وكل قافية تُرسّخ الحزن في الوجدان الجمعي.

اخوتي اخواتي..

هذا النص لا يُقرأ فقط، بل يُتأمل، ويُبكى عليه، ويُعاد ترتيله كما تُرتل الزيارات، لأنه ليس قصيدة، بل مرآة للضمير.

***

بقلم: د. محمد صبي الخالدي - الكوفة

٣ / ٨ / ٢٠٢٥

........................

شكوى حسينيٍّ تأبّد حزنه

الـمـاءُ مـنـذُ مُـنِـعْـتَـهُ عـطـشـانُ ..

والـغَـيـمُ والأشـجـارُ والإنـسـانُ ..

*

والـبـاكـيـاتُ عـلـيـكَ قـبـلَ عـيـونـنـا

مُـقـلُ الـهـدى والـحـقُّ والإيــمــانُ

*

لَـطَـمَ الـفـراتُ ضـفـافَـهُ ونـخـيـلَـهُ

حُـزنـًا وشَـقَّـتْ زِيـقَـهـا الـغـدرانُ

*

يا ابـنَ الـذي لا سـيـفَ إلآ سـيـفُـهُ

وفـتـىً ولـيـسَ كـمِـثـلـهِ الـفـتـيـانُ

*

وابـنَ الـتـي تُـعـنـى إذا قـال امـرؤٌ :

خـيـرُ الــنـسـاءِ ولـلـتـقـى عـنـوانُ

*

وأخَ الـذي مـا سَـلَّ َ سـيـفَ عَـزيـمـةٍ

إلآ تَــســاقَـطَ حـولَــهُ الــفــرسـانُ

*

أرخَصـتَ نـبضَـكَ للحنيفِ فـأرخَصَتْ

لــكَ نـبـضـهـا وخـلـودَهـا الأزمـانُ

*

فـلأنـتَ مـن فـجـرِ الـشـهـادةِ شـمـسُها

ولأنــتَ مـن ثــغــرِ الـجـهـادِ لِــســانُ

*

ولأنـتَ مـن دِيـنِ الـصــراطِ إمـامُـهُ

ومـن الـعـطـاءِ الـقـلـبُ والــشــريـانُ

*

مـولايَ لـي عـذري فـبـعـضُ تـسـاؤلٍ

فـيـهِ الـجـوابُ إذا اشـتـكـى الـحَـيـرانُ

*

جـاز الـزُّبـى زبَـدُ الـخـنـوعِ فـصـبـحُـنـا

داجٍ ... وأمّــا لــيــلُـــنــــا فــهَــوانُ

*

صَــحـراؤنـا بـحـرٌ ... ولـكـنْ مــاؤُهُ

جَـمــرٌ ... وأمّـا مـوجُـهُ فــدُخــانُ

*

مـن أيـنَ يـأتـي بـالـسـفـيـنـةِ مُـنـقِـذًا

" نـوحٌ " ولـيـس بـأرضِـنـا بُـسـتـانُ؟

*

الأرضُ أبـعَـدُ ما تـكـونُ عـن المدى

وقـد اســتـبــدَّ بـمـوجِـهِ الـطـوفـانُ

*

زمَـنُ ولا كـالـجـاهـلـيَّـةِ .. قُـدِّسَـتْ

فـيـهِ الـعـروشُ وسُــيِّـسَ الـقـرآنُ

*

زمَـنٌ تـصـهـيـنَ فـيـهِ بـعـضُ أرومـتـي

وأُعِــيـدَتِ الأصــنــامُ والأوثــانُ

*

كـم مـن مـؤدٍّ لـلــصــلاةِ وصــائِــمٍ

جَـهــرًا ولـكــنْ رَبُّـهُ الـشـيــطــانُ

*

بـلـغـوا الــتـمـامَ مـن الـفـسـادِ كـأنـمـا

فـيـهـمِ عـلـى شَــرِّ الـخـطـى إدمـانُ

*

شَـكـوى حُـسـيـنـيٍّ تـأبَّـدَ حُـزنُـهُ

وتـأبَّـدتْ فـي قــومِـهِ الأحــزانُ

*

مـولايَ أشـكـوهـم إلـيـكَ وأشـتـكـي

قـومـي ومـا قـد أضـمَـرَ الـجـيـرانُ

*

ثُـكِـلـتْ عـروبـةُ أمَّـتـي وتـأرمَـلـتْ

فـيـنـا الـسـيـوفُ ودُجِّــنَ الـشـجـعـانُ

*

كُـنّـا نُـجـيـرُالـمُـسـتجيـرَ إذا اشـتـكى

ظُــلــمًــا وطـالَ بــلادَهُ الــعــدوانُ

*

والـيـومَ صِـرنـا نـسـتـجيـرُ ولا فـتـىً

لـو تـسـتـغـيـثُ " سًـعـادُ " أو " نـجـوانُ "

*

لَـيـكـادُ يـخـجَـلُ أمـسُـنـا مـن يـومِـنـا

وتــفــرُّ مـن أحــداقِــنــا الأجـفـانُ

*

لِـمَـنِ الـجـيـوشُ تـنـاسـلـتْ حـتـى لـقـدْ

ضـاقـتْ بـهـا الـثـكـنـاتُ والــمــيـدانُ ؟

*

لا " مازنٌ " مَـدَّتْ لِـ " غـزّـ ةَ " سـاعِـدًا

فـتُـغـيـثُ مـظـلـومــًا .. ولا " ذُبــيــانُ "

*

عـذرًا أبـا الأحــرارِ مـن جـزَعـي فـلا

" قـحـطـانُ " مُـنـصِـفــةٌ ولا " عـدنـانُ "

*

بـئـسَ الـمـصـيـرُ إذا يـسـيـرُ بـركـبـنـا

نـحـو الأمــانِ الـقـادةُ الــعــمــيــانُ

*

فـعـسـى حـفـيـدًا مـنـكَ يـأتـي فـي غـدٍ

بالعـدلِ حـتـى يـسـتـوي الـمـيـزانُ

*

عـهـدًا أبـا الأحـرارِ تـبـقـى قــائِـمًـا

مـا قــامَ فــيــنــا لــلــصــلاةِ أذانُ

***

يحيى السماوي 

 

"العاشق الذي ابتلعته الرواية" لأسيد الحوتري

"العاشق الذي ابتلعته الرواية" للكاتب الصديق أسيد الحوتري، صدرت عام 2024 عن دار الخليج للنشر والتوزيع. وفيها يربط الكاتب بين الأسطورة والتراث وبين الواقع الفلسطيني المُعاش بكل تجلياته التاريخية والسياسية. وبشكل مُحكم، استطاع أن يجعل من حكاية ظريف الطول -الراسخة في الذاكرة الشعبية العربية عموماً والفلسطينية خصوصًا- ومن أسطورة الإله الكنعاني "بعل" وصراعه مع بقية الآلهة، أن يقوم بعملية إسقاطهما على الواقع الفلسطيني ومراحل النضال التي عرفتها القضية الفلسطينية، فجاءت روايته موزعة على ثلاث محطات ومفاصل متداخلة غير منفصلة، وهي: حكاية ظريف الطول التراثية، الأسطورة الكنعانية، والانتفاضات الفلسطينية وتداعياتها.

قبل البدء في الإضاءة على هذه الرواية، لا بد من الإشارة إلى شخصياتها الرئيسية، والتي تتمثل في كل من:

1- "غريب" ذلك الشاب الفلسطيني الذي شارك في انتفاضة الحجارة في نابلس (1987)، وأُصيب إصابة أدت إلى فقدانه الذاكرة ونقله إلى سجن الاحتلال، وهناك يلتقي الشخصية الثانية في الرواية وتُسمى بـ«الأديب» الذي يقرأ عليه أعمال إميل حبيبي وجبرا إبراهيم جبرا، ويسلمه في النهاية مخطوطًا قرمزيًا. لنكتشف أن كل ما جرى للشاب غريب ما هو سوى حلم أو كابوس.

2- "الأديب"، السجين المُزمن في السجن والمشبع بالثقافة وسعة الاطلاع على التاريخ الفلسطيني، السياسي منه والأدبي، والذي سيتولى تثقيف غريب وتوجيهه إلى ما كتب كل من الأديبين: إميل حبيبي في روايته "المتشائل"، وجبرا إبراهيم جبرا في رواية "البحث عن وليد مسعود"، والأديب بهذا المعنى يحاول إزالة الغشاوة عن أعين غريب، وربما عن أعيننا نحن، بأن يعيد إحياء الذاكرة الجمعية لنا وإنعاش الهوية الفلسطينية بعد أن تقاذفتها الأهواء والمواقف السياسية المتناقضة.

3- ظريف الطول، وهو محور القصة ورمزها، إنه الشاب الفلسطيني في كل زمان ومكان، المتجذر في أرضه، والمؤمن بعدالة قضيته وواجب الدفاع عنها. ولذا نجده يتماهى مع الإله عليان بعل في الأسطورة الكنعانية، ولتأكيد هذا التماهي، فإن والدته "عشتار" عندما وضعته أسمته "عليان"، وعندما كان صغيرًا عُرِفَ بـ"علي"، وبعد أن أصبح في مرحلة الشباب، أطلق عليه أهل القرية لقب "ظريف الطول" (42). من هنا، فإن ظريف الطول يمثل كل الأسماء، وكل الشباب الفلسطيني المقاوم.

4- "عنات" ابنة الشيخ مالك الثري، والتي أحبّها ظريف وأحبّته، لكنه اصطدم بمعارضة والدها الذي استنكر: كيف لابنة الحسب والنسب أن تقع في حب نجار، ابن فلاح لا يُعرف لهما أصل ولا فصل؟ فهو السيد، أما ظريف فهو ابن عبد من عبيده (55). عنات ليست معشوقة عليان بعل، وحبيبة ظريف الطول فقط، بل أبعد من ذلك، فهي ترمز إلى الأرض والقضية، وقد عبّرت عن ذلك بقولها: "أنا وظريف كنَّا القضية، كنَّا الإنسان، وأرض كنعان هي المكان" (119). وخوفًا من أن تُنسى هذه القضية في بلاد الشتات، كانت الأهزوجة التراثية:"يا زريف الطول وقف تاقُلك، رايح عالغربة وبلادك أحسن لك، خايف يا زريف تروح وتتملّك، وتعاشر الغير وتنساني أنا". (62)

بالعودة إلى مضمون الرواية، فقد بدأت في فصلها الأول بمقولة إميل حبيبي في روايته المتشائل:

"أمّا بعد، فقد اختفيت ولكنني لم أمتْ" للتأكيد دومًا وأبدًا على أنّ الفلسطيني وإن خفُت نضاله أو اختفى إلى حين، لكنه بالتأكيد لم يمت ولن يندثر، وسيعود إلى ميادين النضال بأشكال وصور متعددة. وفي موضع آخر، وعلى لسان "الأديب"، فقد وُفِّق الكاتب في الإشارة إلى رواية جبرا إبراهيم جبرا "البحث عن وليد مسعود"، وفيها إشارة واضحة إلى ضياع الهوية الوطنية الفلسطينية ومخاطر تشتتها.

الرواية، كما قلنا، ترتكز على حكايتين: الأولى الأسطورة الكنعانية وصراع الإله عليان بعل مع بقية الآلهة، والثانية حكاية ظريف الطول وعشقه لمحبوبته عنات. ومن هاتين الحكايتين يأخذنا الكاتب لنقوم بالعديد من الإسقاطات الحيّة والمباشرة. فإذا كانت الحكاية الأولى، في رمزيتها، تأخذنا إلى واقعنا العربي وكيفية تعاطيه مع القضية الفلسطينية، فإن الحكاية الثانية تجسد لنا واقع المقاومة للاحتلال، والذي تصدى له الشباب الفلسطيني بقدراتهم الذاتية. ولتوضيح هذا الأمر، نورد ما يلي:

أولاً: الأسطورة الكنعانية وإسقاطها على واقعنا العربي:

في رسالة الإله المتجبر (يمّ) إلى الإله (إيل): "سلّموا إليّ ذاك الذي تؤوون، ذاك الذي تؤويه الجموع، سلّموا إليّ (بعل بن دَجن) وأنصاره (85). وهنا يمكن لنا أن نسقط مضمون هذه الرسالة على ما تتعرض له أمتنا العربية من ضغوطات وحصار اقتصادي في حال عدم تخليها عن نصرة القضية الأساس. لكن، وللأسف، يبدو أن مثل هذه الضغوطات قد أتت أُكُلها، وهذا ما تورده الرواية في وصف تخاذل الآلهة، فتقول: "إن تخاذل الآلهة أمام مطلب (يم) جعل بعل – (يمكن اعتبار بعل يرمز إلى فلسطين) – يوقن أن وصمة عار أبدية حملها صمت الآلهة وخنوعها وتواطؤ بعضها على تسليم بعل للظالم المتكبر (يم). فهل يُعقل أن يعجز (243) إلهاً من أصحاب السمو والجلالة والعظمة والفخامة، بمن فيهم (أم الدنيا إيلات)، أن تعجز كل هذه الآلهة عن الوقوف في وجه الطاغية (يمّ) نصرةً لبعل؟"(86). هنا يبرز تداخل الأسطورة وإسقاطها على الواقع الفلسطيني وتخلي النظام العربي بمجمله عن نصرته في وجه المتجبر المحتل، وربما الإشارة التي وردت عن "أم الدنيا إيلات" تأخذنا نحو مصر بعد اتفاقيات كامب ديفيد. وفي مشهد آخر تظهر استكانة النظام العربي ورضوخه، وتورد الرواية كيف أن "بعل / فلسطين"، عندما قرر التصدي للرسولين (مبعوثي الدول الكبرى) والفتك بهما، اعترضت بقية الآلهة بذريعة تحريم قتل الرّسل عُرفًا، ففي ذلك إثم كبير. وقد أبدى بعل تعجبه من آلهة تلزم نفسها بعهود ومواثيق، في حين أن عدوها (يم) يضرب بهذه المواثيق عرض الحائط. (86)

تستمر الرواية في الاستناد إلى أسطورة الإله الكنعاني "عليان بعل" لتعيد التذكير بمبادرات السلام العربية العديدة التي طُرحت ولم تلقَ أي تجاوب، فتورد العبارة التالية: "لم تلقَ مبادرة السلام التي طرحها بعل، والتي تبنتها معظم الآلهة، آذاناً مُصغية عند (موت)، بل على العكس، استخفّ (موت) بها وحرّض قوى الشر المنتمية إلى عالم العماء الأزرق." (96) وفي هذا إشارة إلى مبادرة السلام العربية التي عُرفت بمبادرة بيروت عام (2004)، والتي أماتها الاحتلال في مهدها.

وفي دعوة صريحة إلى ضرورة وأهمية التضامن العربي ووحدة الموقف فعلاً لا قولاً، يقول بعل:

"إنّ النصر الهين والسريع والمبين على (موت / المحتل) لن يتحقق إلا بوقوف باقي الآلهة إلى جانبي". ويسترسل بعل ليقول: "لم يكن مفاجئًا ما وصلتُ إليه، ففي نكبتي مع (يمّ) تخلّت عني الآلهة (ربما يشير هنا إلى نكبة 1948)، وفي نكستي مع (موت) يتكرر الصمت والتخاذل والتآمر"، (وهنا إشارة رمزية إلى حرب 67). وعن الضجيج العربي الإعلامي الذي لا يسمن ولا يغني من جوع، يكمل بعل: "لا يصلني من الدعم إلا الشعارات البراقة التي تحيي المقاومة وصمودها، ولا يواجه (موت) إلا بظواهر صوتية: الإدانة، الشجب، والاستنكار". وفي إشارة لا تخلو من السخرية والتهكم، يوصي بعل لهؤلاء المعربين عن "قلقهم العميق" بتناول النعنع المغلي. (99)

في عملية ترميز واضحة، تذكر الرواية كيف أن الإله (يم)، باستبداده وبطشه وتجبره على بقية الآلهة، وتنكيله بالناس عبر تجويعهم (85)، فإن في هذا إشارة واضحة إلى ما نحن عليه الآن، وما يعانيه أهل غزة من حصار وتجويع.

ثانيًا: حكاية ظريف الطول التي أوردتها الرواية تسمح لنا بإجراء إسقاطات مباشرة على واقع الاحتلال ومواجهته، حيث نجد أن الفلسطيني، منذ طفولته وصباه، متعلق بالجذور والأرض، كحال ظريف الطول وولعه بالأرض والشجر، وكان منذ طفولته يرنو للقتال ومقاومة العدو، فقد كان يصنع من أغصان الأشجار سيوفًا وبنادق ورماحًا، ومن طين الأرض كان يُكوِّر قنابل ليلهو بها مع أقرانه (42). كما برز عشقه للبندقية، وعن هذا العشق يقول: "لم تُخلق أكتاف الرجال إلا لتُعلَّق عليها البنادق". (49) وفي إشارة إلى بداية التصنيع المحلي للسلاح، على تواضعه، يقول ظريف:

"لا بد من صناعة السلاح، لا ينتصر إلا من يصنع سلاحه بيده، وهنا يكون الاستقلال حقيقيًا." (138) كما أن "براق"، فرسه، تشجعه على الاستمرار في تصنيع السلاح، وعلى عدم الالتفات إلى الأصوات النشاز التي ترتفع للتشكيك بجدوى هذا السلاح، فتخاطبه بالقول: "حذار من أن يُحبطك المُحبطون! سيطلق المنبطحون والمتخاذلون والمنتفعون والخائنون على بنادقك هذه اسم 'البنادق العبثية' من باب التحقير والتقليل من شأنها، فلا تبتئس بما يصفون." (141)

بعد أن مررنا على هاتين الحكايتين وما ترمزان إليه، لا بد من الانتقال للإشارة إلى ما حملته الرواية من رسائل وشيفرات، ومن هذه الرسائل:

أولا، حال الشباب الفلسطيني: حيث إن كل مولود فلسطيني هو مشروع شهيد أو أسير. يقول "غريب" في هذيانه: "هذا هو حال الشباب في فلسطين، إنهم لا يكبرون أبدًا، ولا يعرفون عن الحياة إلا سفرين من أسفارها: سفر التكوين وسفر الخروج، أما الرجولة والكهولة والشيخوخة فأسفار مفقودة." (17) و"الفلسطيني لا يصير سعيدًا إلا بعد انتهاء أجله، فالفلسطيني السعيد هو الفلسطيني الشهيد." (18) وفي موضع آخر يقول: "إن قوافل الأبطال لا تسير في الغالب إلا إلى السجون أو إلى القبور." (23)

ثانيا، حال الانقسام داخل المجتمع، وعدم الجدوى من مقارعة الاستعمار البريطاني ولاحقًا الاحتلال الصهيوني، وبروز طبقة من المتخاذلين والمنتفعين، أمثال الشيخ مختار، ففي "الوقت الذي كان يناضل البعض، كان البعض الآخر يقف مشاهدًا ومتفرجًا، وآخرون يمارسون الخيانة جهارًا نهارًا، وكان المتعامل الشيخ مختار قد جنده المحتل في منظومة عميلة تحت مسمى فصائل السلام عام (1939)، حيث تحوّل البعض إلى بنادق في يد العدو، وإلى رصاص في صدر البعض الآخر." (178). كما تبرز الرواية هاجس الخوف من المواجهة الذي تحكم بالكثيرين أمثال الشيخ مالك (والد عنات)، والذي انتقد ظريف الطول لاقتنائه السلاح، فيقول عنه: "كيف تجاسر على شراء السلاح وتوزيعه؟ ألا يخشى الإنكليز؟ أنا عقلاني، موضوعي وواقعي، لا أحد يستطيع الوقوف في وجه أقوى دولة في العالم." (59) لقد أصبح الحديث عن الخيانة وجهة نظر تُسوَّق محليًا وعربيًا تحت مسمى الواقعية السياسية، التي يختبئ خلفها العديد من أصحاب الرأي. "فلا طاقة لنا بطالوت وجنوده." (32) (وهنا يبرز التناص الديني). وفي إشارة إلى ظاهرة العمالة التي يغذيها الاحتلال، يقول "الأديب" مخاطبًا "غريب" في سجنه: "أنا التاريخ وأنت كيس الخيش"، في إشارة منه إلى ظاهرة العمالة، حيث كان العميل يرتدي كيس الخيش لتغطية رأسه حتى لا تُعرف هويته وهو يشي بالمقاومين. (69)

ثالثا، الدعوة إلى إعادة إحياء الذاكرة الفلسطينية والنبض المقاوم: وعن هذا يقول "الأديب" مخاطبًا "غريب": "من فقد ذاكرته لا ولاء له ولا انتماء. الذاكرة هي الحكاية." (23) وفي موضع آخر يقول له: "قسْ نبضك، بماذا تشعر؟ لا شيء. لا نبض في عروقك، إنك ميتٌ منذ زمن. أنت فاقد للذاكرة، فاقد للنبض. حتى لو تحركتَ ونطقتَ، إنك ميت ميتة بائتة كبرى. مع ذلك، فلقد منحتُكَ ذاكرة وطنية علّ النبض يعود إلى قلبك مرة أخرى، لتُكفّر عنك خطاياك وكل ما اجترحتْ يداك." (68).

رابعا، الهوية الفلسطينية ومحاولة استعادتها: ولم يكن أمام الكاتب أفضل من روايتي كل من إميل حبيبي وجبرا إبراهيم جبرا. فقصة المتشائل، التي دار اللغط حول شخصية بطلها سعيد أبي النحس، وانقسام الرأي حوله إلى ثلاث فئات: ما بين الخائن والمناضل والمتفرج. (32) تمثل، بشكل أو بآخر، شرائح المجتمع الفلسطيني خصوصًا والعربي عمومًا. وأيضًا رواية جبرا إبراهيم جبرا، أراد الحوتري أن يذكّرنا بتشتت الهوية لدى الفلسطيني بعد كل هذا الشتات الذي تعرّض له شعب فلسطين، فلقد فُقدت الهوية وضاعت بعد تحولها إلى مجموعة هويات متناقضة، فكان المناضل، السياسي، المقاتل، المتدين، الأديب، وحتى زير النساء. لقد أوشكت الأنا الفلسطينية على الضياع في ظل شتات ولجوء ووطن محتل. (36)

فيما يشبه البانوراما التاريخية، تورد الرواية المراحل التي شهدتها فلسطين، بدءًا من الاحتلال البريطاني لفلسطين، الذي شهد أولى بوادر تسلل اليهود إليها، وحتى يومنا هذا حيث يرزح شعبها تحت نير الاحتلال الصهيوني. كما تذكر بداية المواجهات مع المستعمر الإنكليزي، كثورة موسم النبي موسى عام (1920) التي رُفع فيها شعار اللاءات الثلاث: "لا لوعد بلفور، لا لهجرة اليهود إلى فلسطين، ولا لوطن قومي لليهود في فلسطين". (166) وللدلالة على استمرار شعلة النضال مضاءة، تورد الرواية بلسان الحاجة بركة كيف أن ولديها نضال وجهاد سارا على خطى والدهما الشهيد، ولعبا دورًا فاعلًا في ثورة البراق عام (1929). لقد أسمت ولديها "نضال" و"جهاد" لما لهذين الاسمين من رمزية معينة في أن فكرة الجهاد والنضال راسخة ومتجذّرة في الوعي الفلسطيني. (166)

في صورة أيضًا من صور تكامل الأرض الفلسطينية مع الشعب، هي ما جرى للمستعمر "ريتشارد" الذي أُصيب بعقب بندقية ظريف الطول، ووقع على الأرض تنهشه أشواكها، ليتأكد له أنّ الأرض شريكة لظريف ومتواطئة معه في مقارعة المستعمر. (192)

عود على بدء، وانطلاقًا من العبارة التي بدأت الرواية بها: "أما بعد، فقد اختفيت ولكنني لم أمت"، فإن اختفاء ظريف الطول بعد خروجه من سجن عكا، لا بد وأنه سيعود وينهض مثل طائر الفينيق. فهو الفلسطيني في كل الساحات والأزمنة، وسيكون المقاتل الذي يقتنص الإنكليز في حيفا، والمشارك في معركة جنين إلى جانب القائد العراقي عمر علي البيرقدار عام (1948)، وأحد المشاركين في انطلاقة الثورة الفلسطينية عام (1965)، والمقاوم ضد الصهاينة في إحدى قرى الجليل، وأيضًا على تخوم عكا، ومشاركته في حرب أكتوبر عام (1973)، وهو أيضًا من سيقوم بتفجير دبابة صهيونية في بيروت عام (1982)، وسيشارك في الانتفاضات المتتالية في فلسطين، ليعود إلى غزة عبر الأنفاق ويقوم بتسليح الثوار في يافا ببنادق من صنعه، ليخوض معهم معارك:

الفرقان (2008/2009)، حجارة السجيل (2012)، العصف المأكول (2014)، صيحة الفجر (2019)، سيف القدس (2021)، وحدة الساحات (2022)، وأخيرا وليس آخرا يظهر ظريف الطول على هيئة الملثَّم في معركة طوفان الأقصى (2023/2025).

تلك هي حكاية ظريف الطول، حكاية كل شاب فلسطيني مؤمن بقضيته وعدالتها. لا يهاب الموت والاستشهاد في سبيلها، وهي مصداق لتلك الأهزوجة التي تقول:

"يا زريف الطّول وارسم يا رسّام،

صورة لفلسطين وصورة للقسّام،

وعيـون الثّوار والله ما بتنام،

نصر يا استشهاد هذا شعارنا."

***

قراءة: عفيف قاووق – لبنان

أنا أزعم أن القصائد الأولى في التاريخ هي الأغاني التي كانت تردّدها النساء وهُنّ يحتضنّ ويُرقّصن بَنينهنّ وبناتهنّ أو ينتظرن رجالهنّ العائدين بما اِصطادوه أو قطفوه من الغابات والأدغال والبراري أو هنّ يعتنين بما تنتجه الأراضي الخصبة القريبة من مقرّات إقامتهنّ ولعل القصيدة البابلية المُدوَّنة بالخط المسماري في سطور لوح طيني والتي تعود إلى أكثر من أربعة آلاف سنة تؤكّد أن المرأة هي الأولى التي وصلت إلينا قصيدتها أو مقطع منها حيث تقول في بعض سطورها:

أنا في البريّة وقد اِنتهيت من اِقتلاع الأشواك

والآن سأزرعُ كرمة عنبٍ

وقد غمرت النَّار المستعرة في داخلي بالماء

فأحبّني كما تحبُّ حملانك الصغيرة

واِعتنِ بي كما تعتني بقطيع ماشيتك

واِبحثْ عنِّي إلى أنْ تجِدني

في القرن السابع قبل الميلاد اِكتملت صياغة ملحمتي الإلياذة والأوديسا حسب بعض الباحثين وفي نفس هذا القرن في بلاد الإغريق ظهرت الشاعرة ـ صافُو ـ وهي أول شاعرة وصلتنا قصائدها فربما تكون إذن معاصرة للشاعر ـ هوميروس ـ ومن قصائد الشاعرة ـ صافُو ـ قولها في مقطوعة

في فجر الربيع

يبزغ القمر مكتملا

وتأخذ الفتيات أماكنهن

كما لو كن يتحلقن حول المصلّى

غير أنّ تاريخ الشّعر العربي لم يسجّل بوضوح بعض الشاعرات إلا في القرن الأول الهجري الموافق للقرن السابع الميلادي فذكر ليلى الأخيلية مع صاحبها توبة بن الحمير ـ والخنساء مع أخيها صخر.

وسجّل بوضوح جرأة الشاعرة ولادة بنت المستكفي الأندلسية تلك التي طرزت بيتين من شِعرها على وشاحها قائلة.

أنا واللَه أصلُح للمعالي * وأَمشي مشيتي وأتيهُ تِيهَا

وَأمكّنُ عاشقي من صَحن خدّي * وأعطي قُبلتي مَن يشتَهيهَا

أمّا في تونس وعلى ساحلها الشرقي وبالقرب من مدينة الشّابة فما يزال ـ برج خديجة ـ قائما إلى اليوم شاهدا على الشاعرة ـ خدّوج الرّصفية ـ وهي من معاصري القرن الرّابع الهجري وقد ذكر حسن حسني عبد الوهّاب أنّها أحبّت الشاعر أبا مروان عبد الملك بن زيادة الله وأحبّها وكتب فيها شعرًا ممّا أغضب إخوتها ففرّقوا بينهما ومن شعرها قولها في ذلك:

فرّقوا بيننا فلمّا اِجتمعنا * مزّقونا بالزّور والبهتان

ما أرى فعلهم بنا اليوم إلّا * مثلَ فعل الشيطان بالإنسان

أوّل شاعرة تونسية أصدرت ديوانا شعريا هي الشاعرة ـ زبيدة بشير ـ بعنوان ـ حنين ـ سنة 1968 وقد عبّرت قصائده عن وهج الوجدان في خضمّ مشاعر الحبّ بين مدّه وجزره ووردت القصائد في نمط شعر البحر أو شعر التفعيلة ولم تكد تمض سنوات قليلة حتى أصدرت الشاعرة فضيلة الشابي ديوانها الأوّل بعنوان ـ روائح الأرض والغضب ـ سنة 1973 وكانت جميع القصائد في غير نمط البحور والتفعيلات ومعبّرة عن توقها للحريّة والقيم الإنسانية

بظهور الشّاعرة فضيلة الشابي وبتواتر إصداراتها الأدبية المتنوعة اِنفتح المجال على مصراعيه أمام الأقلام النسائية وماكان ذلك إلا بفضل اِنتشار التعليم عامّة واِكتساب المرأة التونسية مكانة متقدّمة في شتّى المجالات وخاصّة في التعليم والصحّة والإدارة والفنون وما بروز أسماء أدبية نسائية في تونس إلا تتويج للنّقلة الاِجتماعية والحضارية الشاملة التي شهدتها البلاد

من بين هذه الأسماء الجديدة البارزة نذكر الأديبة والشّاعرة الأستاذة ـ فاتن كشو ـ التي ساهمت في إثراء المكتبة التونسية بإصداراتها المتواصلة في السّرد القصصي والرّوائي بالإضافة إلى الدراسات والشّعر حيث تميزت أغلب قصائدها بخروجها عن السّرب المعتاد في مواضيع وقاموس بكائيات العشق والغرام وأطلقت جناحيها ترفرف نحو أبعاد إنسانية شفّافة أو تغوص في أعماق التراث الإنساني مستحضرة قصص الخلق القديمة مثلما تقول في قصيدة ـ تفّاحة الرّيح ـ

زيفُ آدم

يغتصب تفّاحة

ويلعن فيها

طعم الكبرياء

لكأنما الشاعرة تتقمّص شخصية حوّاء فتصرخ في وجه القيم الذكورية بما تحمله من أنانية واِستغلال ومظالم عبر عصور التاريخ وترفض أن تكون المفعولة بها أو حتى أن تقوم بدور الضحية ناهيك أن تصبح الموؤودة ولا حتى أن تقبل أن تنتهي شهيدة حيث تصرخ معلنة التمرّد والثورة قائلة في قصيدة ـ وتموت في عتمة الجليد ـ

اِشتعلتُ

تأجّجتُ

تمرّدتُ

اِلتويتُ

صرختُ

وكما لم أشأ أن أولد مقتوله

لم أشأْ أيضًا أن أموتَ على قيد الحياه

وخلعتُ عني صَلَفَ القَبيله

الشاعرة فاتن كشو تعلن التمرّد والثورة على القيم والثوابت التي جعلت من الأنثى ترضى بقيود الإهانة وتذعن للمذلّة التي كبّلت شخصيتها على مدى العصور الماضية. لهذا وذاك ترنو الشاعرة نحو عالم جديد وتحلم بدنيا أخرى جميلة تحقق فيها ما تصبو إليه في آمالها من تحرّر واِنعتاق وانطلاق مثلما ورد في قصيدة - حلم بلون الدم -

كنا كلّما دقت الأجراسه

نشرب رحيق شتاتنا

نداوي العمر الحزن

ببحر للدموع

هذه الآلام لي

تلك الأحلام

خانتني

تكتب مواثيق جديدة

نختمها بالدم الأحمر

فاجع إذن ما تراه وما تكابده الشاعرة وهي تقارع شراسة الواقع وتتحدّاه بما فيه من عوائق وتحديات ومصاعب فهي كمن يتقدّم على درب من الجمر إن تقدم وجد أمامه اللّهب وإن تراجع فاجأه الحريق لكن الشاعرة في هذه الحالة تنبثق بين اللّهب والحريق أو بين النار والنار كطائر الفينيق الذي ينبعث من اِحتراقه فتولد من جديد عندما ترسم بالكلمات لوحة الخلق الأولى

ما بين نار ونار

تشتغل أحداقي

أضرم فتيلا في مشكاتي

أسمع زغرودة

تثرثر لحظة الولادة الأولى

ما بين نار ونار

صوت الشاعرة فاتن كشو قادم من أصداء عصور القهر التي رزحت تحت كلكلها المرأة فلا عجب أن تكون عناوين بعض القصائد متّشحة بألوان القتامة والأسى ومعبرة عن الخيبة وضراوة المعاناة مثل هذه العناوين

نجوم لا تضيء - مزيفة شمسك - حب مسموم - طغيان مذكر.

وإنّ القتامة لئن ظهرت في مثل هذه العناوين فإنها تتجلّى بوضوح أيضا في كثير من مفردات القصائد مثل كلمات الجثث - القنابل - القتل - غول الفقر - الجماجم - قهوة دموية - الجيف.... صوت مثخن بجراح الأنثى الآتي صداه من سحيق العصور حاملا نبرات التحدي والكبرياء!

صوت قادم من جبال لا تهدم

من رعد لا يهزم

هو صوت الشاعرة فاتن كشو !

***

سُوف عبيد - تونس

 

يربط العديد من القراء وبعض النقاد بين النص والشخص/ صاحبه، ويبالغون في هذا الربط حتى انهم بفسّرون كلّ ما يقرؤونه لهذا الكاتب او ذاك على انه يعبر عن وقائع وحوادث عاشها صاحبها وقام بتصويرها فيما يقرؤونه من اعمال او عمل أدبية، وممّا يذكر في هذا السياق ربط القراء والعديد من المثقفين والمتابعين الادبيين الصحفيين، بين الكاتب السوري الراحل حيدر حيدر واحد شخصيات روايته المشهورة وليمة لأعشاب البحر، وقد تمثّل هذا الربط في هيزعة ثقافية تلت نشر رواية حيدر قبل فترة ليست قصيرة من الزمن ضمن سلسلة أدبية مصرية مشهورة وذلك بعد صدورها بسنوات، وتمثلت تلك الهيزعة في أن أحد شخصيات الوليمة عبّر عن شيء من الكفر في احد المواقف التي تضمنتها الرواية. في تلك الفترة كان لا بدّ من توضيح بعض اسرار العملية الأدبية فيما يتعلق بكتابة الرواية وقد قمنا بالتوضيح في حينها، ممثلا في ان الكاتب يختلف عن الراوي وفي ان ما قالته تلك الشخصية، شخصية الوليمة، انما عبّر عنها ولم يعبر عن راي الكاتب صاحب الرواية، وذلك تفسيرا لما واعتمادا على ما رآه الناقد المنظّر الادبي الشهير برسي لبوك في كتابه عن صنعة الرواية.

هذا احد جوانب الموضوع وليس صلبه لهذا نمضي مبتعدين عنه لنعود مقتربين من صلب الموضوع، يختلف النص عن الشخص، ولا يلتقي معه الا في القليل، صحيح ان كل كاتب ومبدع بصورة عامة يُدخل نسبة من تفاصيل حياته في كتاباته المتخيّلة خاصة، قد تصل نسبة ما يدخله هذا العشرة او العشرين في المائة، غير ان ما يقوم به في عمله التخييلي، يدفعه لأن يُقلع في افاق الخيال وآمادها الواسعة الرحيبة، وقد يكون من نافل القول أن نزعم ان الكاتب المبدع حين اقلاعه في عالم التخييل إنما يمارس كذبا واختلاقا، لتكوين عالم كامل متكامل، يتجوّل فيه شخوصه، ويمارسون حياتهم اليومية العادية، وكأنما هم احياء يرزقون، غير انهم في الحقيقة لا يعدون في هذا كونهم كذبة واختلاقا، قد يكون اصدق من الواقع والحقيقة.

توضيحا لهذا نقول، إننا في حياتنا اليومية، نلتقي أناسا خلال لحظات محدّدة من الحياة، فنحن مثلا نرى الشيخ وهو يؤم في مصلّي الجامع، بالضبط كما نرى الراهب يكرز ويعظ امام جمهور المصلين في الكنسية، غير اننا لا نراه في مُجمل حياته اليومية بكل ما فيها من تحركات، أفكار واقوال، اما في العمل الإبداعي، فإننا نلتقي باي من الشخصيات في كلّ لحظاتها الحياتية اليومية المعيشة، او في جلّها، كما تتطلب السردية الأدبية، وذلك بخلاف تلك الشخصيات المحيطة بنا، والتي لا نعرفها مهما حاولنا تمام المعرفة، اقصد على العكس من الشخصيات الأدبية. لهذا نحن نعرف شخصية سي السيد (احمد عبد الجواد)، في ثلاثية نجيب محفوظ او زكريا المرسنلي في رواية الياطر لحنا مينة، او هملت في مسرحية شكسبير والامثلة كثيرة، أكثر مما نعرفهم من المحيطين بنا، وقد يذكّر هذا بالرجل الزوج الذي يمضي ربع قرن من الزمان مع زوجته وبالقرب منها ويكتشف في لحظة معينة انه لا يعرفها تمام المعرفة، والعكس صحيح.

فيما يتعلّق باختلاف النص عن الشخص، نعود بالذاكرة الى ما كتبه العديد من المفكرين والنقاد المعروفين في شتى بقاع العالم واصقاعه، فقد فَصلَ هؤلاء بين النص وصاحبه وراوا في كلٍّ منهما عالما قائما بذاته، وهو ما تجلّى في الكتاب الرائع عن " المثقفين"، الذي وضعه الكاتب الامريكي بول جونسون وضمّنه العديد من الفضائح المتعلقة بكتاب عُرفوا عالميا بانهم اخلاقيون من الدرجة الأولى وخلافا لهذا عُرفوا في حياتهم المعيشية اليومية الخاصة على النقيض من هذا ويكفي ان نكّرر قول جونسون عن هؤلاء متذكّرين ومشيرين الى كارل ماركس ابسن برتولد بريخت وارنست همنجواي، للتوضيح نقول ان جونسون يكشف عن الجوانب المعتمة في حيوات هؤلاء وغيرهم، تاركا الجوانب المضيئة غنيمة لأعمالهم الأدبية الخالدة.

من المفكرين الذين فصلوا بين النصوص واصحابها، نشير الى ما كتبه المفكر الشيوعي الكبير فردريك انجلز، صاحب كتاب اصل العائلة، عن الكاتب الفرنسي ذائع الصيت انورية دي بلزاك، صاحب رواية الاب جوريو، فقد رأى فيما خلفه من ابداع روائي ادبي، تمثلا عميقا للطبقة الصاعدة او الوسطى في المجتمع الفرنسي ابان القرن التاسع عشر، في حين ان بلزاك هذا، كما يقول انجلز ذاته، كان مَلكيًا آخذا ومؤمنًا بالحكم الفردي الملكي المطلق. ويتماهى ما يراه انجلز بهذا الصدد، مع ما رآه الناقد المجري البارز جورج لوكاش، عندما رأي في كتاباته الرائعة عن الادب الواقعي، تمثيلا حقيقيا لغياب العدالة الاجتماعية في النظم الرأسمالية، وذلك خلافا لما رآه معظم نقاد كافكا، إذا لم يكن كلهم، وهو ان كتابات كافكا انما عبرت عن الرؤية الكابوسية لانسان العصر.

السؤال الذي يطرح ذاته الآن، هو ما الذي يجعل النص مختلفا عن الشخص/ صاحبه في كثير من الأحيان والحالات.. والجواب قد يكون بسيطا، وهو ان الانسان المبدع عندما ينفذ عمله الإبداعي، عادة ما يكون في ذروة عالية من ذرى الصدق الإنساني، لهذا نراه طائرا محلّقا في آفاق الحقيقة التي قد لا يراها وربما لا يلمسها في حياته اليومية المعيشة لمس اليد، اما بالنسبة لنا نحن القراء، فان ما يبقى من الانسان المبدع هو عمله، واما ما يمارسه في حياته اليومية، جراء الكثير من الضغوطات والأسباب الخارجية، فانه يذهب مولّيا برحيله، مخلّفا لنا مناراته الإبداعية المضية في طريق حياتنا او الحياة عامة.

***

ناجي ظاهر

للشاعر مبارك وساط

حين تحلم اللغة، تولد "حيْرة" - قصيدة لا تُقرأ كلمات، بل تُعاش كحلم ينبض في الظلال والضوء، حيث تتبدّد الحدود بين المعنى واللا معنى، ويصير الشعر حياة من نوع آخر. في عالم تنطفئ فيه الكلمات عن الإرشاد، تبزغ هذه القصيدة ككيان حيّ يتردد بين الظلال، حيث لا مرسى للحقيقة ولا قرار للمغزى، وفي عتمة اللغة تتفتح أزهار الحيرة التي لا تزهر إلا في صمت الروح.

يكتب مبارك وساط من عتبة الوعي الأخيرة، حيث تتحول اللغة من وسيلة إلى كائن حي يفكر ويحلم ويتوه. في "حيْرة" لا يُمسك الشاعر القصيدة بل تصيبه، لا يطارد المعنى بل يُضلّله، مؤمنًا أن اللحظة التي يُمسك فيها المعنى تموت فيها الحياة الشعرية.

هذه ليست قصيدة تُشرح، بل أثر يُترك، صمت يتكثّف. "حيْرة" نعبرها لنتحوّل، لا تفتح الطريق بل تُربك البوصلة، تردنا إلى أنفسنا في مرايا تفتح ولا تعكس. الشعر هنا حياة بلا أرض، بلا يقين… لكنها مشعّة بالحضور، كأن الحيرة ذاتها ضوء غير مرئي وارتجاف في قلب اللغة.

الشفرة الإبداعية

في قلب هذه التجربة الشعرية، تكمن شفرة إبداعية، فالقصيدة تبدأ من دون تمهيد، كأنها جاءت بعد احتراق سابق، كأن اللغة لا تبدأ، بل تُكمِل شيئًا انكسر ولم يَرَه أحد:

"لم أنصب فخًّا لطائر / نمتُ قليلاً جنب شجرة / وانغرس حلم الطائر حتى أسافل جذورها"

هنا، لا الطائر طُرِد، ولا الشاعر اصطاد. بل الحلم نفسه هو الذي حفر في الجذر، واستقر في لغة لا تصف، بل تُخفي.

القصيدة تعمل وفق شيفرة خاصة، لا تعتمد على التوالد المنطقي، بل على القفز، التناقض، والانخداع الجميل. كما لو أننا في حلمٍ لشجرة حلمت بطائر، أو طائر نام داخل شجرة. من سبق؟ من حلم بمن؟ لا يهم. ما يهم أن القصيدة فتحت دائرة صفر جديدة:

"وثمّة عين تجوس دائرة الصّفر نفسه الذي رسمته أنفاسي"

لا مركز هنا، ولا أمان، ولا بداية، ولا قرار.

اللغة ككائن حي – الهندسة الشعرية للحيرة

في هذا النص، يشتغل وساط على هندسة الحيرة، لا بوصفها ضعفًا معرفيًا، بل كقيمة شعرية خالصة. يبدو وكأن الكلمات خُطّت في حلمٍ نصف يقظ، أو كما لو كان هذا الكائن اللغوي يكتب نفسه من مكانٍ لا يراه الشاعر.

يُعبّر عن هذا بمشهد سقوط/بعث متكرر:

"وإذا ما تعثّرت وسقطت / يبعثني الضّحك واقفاً حتى الغيمة / التي كانت أمّي قد سلّمتها إلى سماء الأيتام"

هذا الضحك ليس خلاصًا، بل دورة داخلية من السقوط/الاستعادة، حيث اللغة تضحك وهي تنكسر.

لذا كانت الجملة التي ظهرت لاحقًا في النص موجزة لكنها مكثفة:

"القصيدة لا تُكتب، بل تتنفّس."

وبعد تكرارها بفوارق دلالية طفيفة، صيغت لاحقًا كخلاصة مكثفة:

"لا تُكتب اللغة، بل تتنفّس. لا تُنتج المعنى، بل تتخلّق كما تتخلّق الحياة من جزيئاتها الأولى."

هذا ليس تكرارًا اعتباطيًا، بل تمويج صوتي وفكري متدرج.

اللغة المتحركة – قصيدة تُغيّر جلدها

قصيدة "حيْرة" ليست ثابتة في جنسها، إنها تتحرك مثل الماء:

- تتكلم بلغة الحلم ثم تنزلق إلى لغة التيه

- تقترب من السرد ثم تتراجع إلى الحذف

- تُلمّح أكثر مما تُصرّح

- تتوالد من صور مألوفة وتحوّلها إلى رموز معطوبة

"حَبلٌ ينْزلُ من ثُقْبٍ في مرآة"

صورة واحدة، كفيلة بتفكيك منطق الإدراك البصري. فالثقب في المرآة ليس كسراً، بل نافذة لواقعٍ مُعاكس، والحبل ليس وسيلة نجاة بل تعلّقٌ لا واعٍ بمصدر لا يُعرف.

القصيدة كسينما داخل الوعي

ليست هذه القصيدة نصًّا يُقرأ، بل فيلمًا داخليًّا، بلا شاشة، بلا حوارات، تُعرض مشاهده في عتمة الدماغ لا على جدار. رجل يسير في ضباب حلمه، يدٌ تبحث عن حبلٍ يتدلّى من مرآة، ومرآة أخرى ينطفئ فيها الضوء، لكن الذهب يظل يلمع – لمعان الحيرة، لا اليقين. إنها سينما اللاوعي، مشاهدها لا تحتاج تفسيرًا، بل استسلامًا.

لكن هذه السينما التي تتقدّم على حواف الإدراك لا تقوم على الحركة وحدها، بل على الصمت الداخلي أيضًا. فمشهدٌ مثل:

"وثمّة عينٌ تجوس / دائرةَ الصّفر نفسه / الذي رَسَمَتْهُ أنْفاسي"

هو لقطة ثابتة بامتياز، لكنها مشبعة بالحركة الباطنية، أقرب إلى ما يقدّمه أندريه تاركوفسكي في لحظاته الساكنة ذات التأمل الزمني.

فـ"دائرة الصفر" ليست مساحة فارغة، بل بؤرة وجودية تدور حول نفسها، والعين ليست بَصَرًا بل بصيرةٌ تتلمّس ما بعد العالم المرئي. هنا تدخل القصيدة إلى ما يمكن تسميته بـ**"السينما السوداء للوعي"**، حيث كل شيء جامد، لكنّ الروح تتحرّك في صمتٍ كثيف. فهذه السينما الشعرية، لا تُشاهد بالعين، بل تُرى من الداخل… كالحلم حين يُقرأ.

إيقاع الحيرة

في خلفية النص، هناك إيقاع لا يُسمع بل يُحسّ. الترجيع، التقطيع، والتشظي تصنع موسيقى خافتة تُشبه الجاز الحرّ أو موسيقى الغرفة الحديثة.

التكرارات مثل:

"أمضي في طريقي الوعر / أمضي في سبيلي الوعر"

ليست تكرارات سردية، بل نبضات تيه. في "حيْرة"، اللغة تتنفس لا لتُطمئن بل لتُربك… إيقاع الحيرة يعلو على التفسير.

لوحة من شعر – الرؤيا العاطفية في "حيْرة"

القصيدة هنا ليست كلمات، بل لوحة شعورية مرسومة بالألوان لا بالأكريليك أو الزيت، بل بالإحساس الخام. ألوانها ليست زينة، بل كاشفة عن طبقات الوعي واللاوعي. قصيدة "حيْرة" لا تُقرأ فقط، بل تُرى – من الداخل – من الحلم – من ثقوب المرآة – من بريق الذهب الذي لا يُضيء.

تحليل المنظومة اللونية:

1- رمادي / فحمي (العزلة – التيه – الانطفاء)

"أحلامي أنا مُشَتتة في الآبار"

"وثمّة عينٌ تجوس دائرةَ الصّفر"

"أمضي في سبيلي الوَعْر / وإذا ما تعثّرت وسَقطت"

اللون هنا لا يعني حيادًا بل اختلالًا، كأن الذات فقدت لونها الشخصي ودخلت في حيّز الغياب.

2- أخضر داكن / أزرق باهت (الذاكرة العضوية – الأم – الغيمة)

"نِمتُ قليلاً جنْبَ شَجرة"

"الغيمة التي كانت أمّي قد سلّمَتْها / إلى سماء الأيتام"

الأخضر هنا ليس حياة، بل حياة منطفئة في الجذر. الأزرق ليس سماويًّا، بل قديمٌ مطويٌ في الذاكرة، كأنه ظلّ عاطفةٍ لم تكتمل.

3- ذهبي باهت (الخاتمة المؤجلة – الحقيقة الملغّزة)

"وقد بدأ الضّوء يتخفّى في الذّهب"

إنه ذهبٌ لا يُضيء، بل يلمع كتذكيرٍ بما لم يتحقّق. هذا اللون هو مجاز الحقيقة حين ترتدي قناع الالتباس.

التقاطع مع التشكيل:

- مارك روثكو: بألوانه التي توصل شجنًا غير منطوق، كما تفعل القصيدة. لوحته No. 61 (Rust and Blue) تتقاطع تماماً مع المزاج البصري لـ"حيْرة".

- إدوارد هوبر: يرسم الوحدة داخل الفراغ اليومي، كما تفعل القصيدة حين تقول:

"لا آبَهُ حتّى بصورتي التي / بدأتْ تُـثـقـِّـبُ المرآة"

الوجود كحلم مؤجل

منذ السطر الأول، لا يعود الشاعر سيّد العالم، بل يتحوّل إلى كائن جانبي، ينام لا ليحلم، بل ليحلم به الطائر. تُستبدل سلطة الذات بسكون الطبيعة، وتصبح "الحيرة" موقفًا فلسفيًّا من الوجود لا يحتاج إلى تفسير.

- الذات مشتّتة،

- الطريق غير محدد،

- الضوء ليس يقينًا بل وهمٌ يلمع ولا يُنير،

- الضحك ليس خلاصًا، بل موقف عبثي ضد السقوط.

ليست الحيرة هنا مشكلة تُحل، بل حالة وعي بلا أرض. شكلٌ من حياةٍ تُبنى على اللايقين، على ما لا يمكن إدراكه، وعلى سؤالٍ لا يبحث عن إجابة، بل عن تأمّلٍ دائم.

في قلب القصيدة، ينبض خيط صوفي:

الطائر الذي لا يُصطاد، بل يحلم في الجذر، هو الروح التي تتجاوز الصيد الحسي وتلتحق بمصدرها في الظلمة.

الشجرة لم تعد "موضوعًا طبيعيًّا"، بل مقام وجود، والمطر المؤجّل ليس تأخرًا زمنيًّا، بل تعليقٌ في الظهور.

"حيْرة" ليست قصيدة تُفهَم، بل تُعاش – كحلم، كهاجس، كضوءٍ يتخفّى في الذهب.

الشعر كتنفّس طبيعي: حين تختل طقوس الطبيعة

القصيدة في "حيْرة" لا تُكتب، بل تتنفّس. فهي ليست نصًّا، بل حياة. لا تُكتب اللغة، بل تتنفّس. لا تُنتج المعنى، بل تتخلّق كما تتخلّق الحياة من جزيئاتها الأولى. تتحول القصيدة إلى نظام حيّ، يتجاوب مع تغيرات الداخل والخارج، كما تتجاوب الطبيعة مع فصولها.

كل عنصر فيها كائن يتفاعل بيولوجيًّا مع الآخر:

- الطائر = الغريزة

- الشجرة = الزمن العضوي

- المطر = التوازن البيئي

- المرآة = الإدراك الحسي

- الغيمة = الذاكرة المتحركة

لكن في "حيْرة"، هذه المكوّنات تتعطل فجأة، كأن الطبيعة نفسها تفقد طقوسها:

- المطر تم تأجيله

- الغيمة بلا أم

- الطائر يحلم في الجذر

- الضوء يتخفى لا يسطع

كل هذه الصور ترسم عالماً مقلوباً، كأن الكوكب دخل في اضطراب شعريّ. القصيدة ليست فقط عن الشاعر، بل عن الأرض وهي تفقد توازنها الداخلي. يصبح الحلم فعلًا مقاومًا في وجه هذا الخراب، والضحك ليس سخرية من السقوط، بل صرخة حياة في وجه الاختلال.

الخاتمة: "حين تنظر القصيدة إليك"

القصيدة هنا لا تُشبه مرآة، بل ثقبًا أسودَ صغيرًا في قلب اللغة، من يسقط فيه لا يعود كما كان.

"حيْرة" ليست قصيدة نُمسك بها، بل حالة تُمسك بنا.

الحيرة ليست سؤالًا، بل هي الصورة التي يُطلّ بها الشعر على العالم، ويُوقظ بها ما نظنّه مستقرًّا.

في 'حيْرة'، لا نغرق لنفهم، بل لنُعاد توليدنا من رحم الغموض. القصيدة ليست مرآة تعكس ذاتنا، بل ثقب أسود يسحبنا في عتمته، ليعيد تشكيلنا، ويحفر فينا الحيرة نفسها… حيرة الحياة التي لا تهدأ.

***

ناظم ناصر القريشي

....................

حَـيْـرة

مبارك وساط

لَمْ أَنصُبْ فخّاً لطائر

نِمتُ قليلاً جنْبَ شَجرة

وانْغرسَ حُلمُ الطّائر

حتّى أسافلِ جذورِها

أحْلامي أنا مُشَـتـتـة

في الآبار

وثمّة عينٌ تجوس

دائرةَ الصّفر نفسه

الذي رَسَمَتْهُ أنْفاسي

أمضي في سبيلي الوَعْر

وإذا ما تعثّرْتُ وسَـقَـطْت

يَبْعـثُني الضّحكُ واقفاً حتّى الغيمة

التي كانتْ أمّي قد سلّمَتْها

إلى سماء الأيتام

أمْضي في طريقي الوَعْر

لا أقلقُ إنْ كانتْ قدماي المارقتان

تنبُشان المثلَّثات تنفُشان ريشَها

ولا آبَهُ حتّى بصورتي التي

بدأتْ تُـثـقـِّـبُ المرآة

فما الذي يُمْكن أنْ أفعله

بكلّ تلك الحبال التي ستتدلّى

من هاتيك الثـقوب

-أنا الذي رأيْتُ يوماً

جدولاً

يتسلّل

من فتق في ستارة

وقلت: جاء لِيتحصّن -

وماذا يُمْكن أن يرى طائر

في حُلم

ما الذي تستطيعُه الشّجرة

بعد أنْ تمّ تأجيلُ المطر

وأين طريقي، الآن

وقد بدأ الضّوء يتخفّى

في الذّهب؟

 

نحو انكشافِ كينونةِ الجمال.. في مفارقةِ الإبستمولوجيا والاستطيقا

في جوهرِ الفكرِ الفلسفي، يبرز التصوّرُ الميتافيزيقي بوصفِه فعلاً تأويليّاً يُعيد مساءلةَ ما يُدَّعى أنَّه يقينٌ، ويفتح الوجودَ على احتمالاتٍ تتجاوز التشييءَ العقلي، متوغّلاً في مستوياتِ المعنى ما قبلَ المعرفي وما بعدَ اللغوي. وهنا، يُصبح التفكّرُ في الميتافيزيقا تفكّراً مزدوجَ الحضور: من جهةٍ، يفضح أسسَ الدوغمائية التي تسعى إلى احتكارِ الحقيقة، ومن جهةٍ أُخرى، يُتيح انفتاحاً استطيقيّاً يُؤسّس لوعيٍ شعريّ يُقوِّض الوثوقيّاتِ المتكلّسة، ويُعيد الجمالَ إلى قلبِ الوجود.

أولاً: التصوّرُ الميتافيزيقي كمساءلةٍ لليقين

لطالما سعى التصوّرُ الميتافيزيقي في الفكرَين الغربي والعربي على حدٍّ سواء إلى مساءلةِ ما يُقدَّم بوصفِه يقيناً، لا سيّما في بنياتِ المعرفةِ التي تُغلّب الحسمَ والاطمئنانَ على الشكِّ والتأويل. فالدوغمائية، كما يشير بول ريكور، ليست سوى انغلاقَ الوعي على نسقٍ مغلقٍ من المعاني، يُعيد إنتاجَ ذاتِه بواسطةِ الإيمانِ الأعمى بالحقيقة، لا باختبارِها عبر الممارسةِ النقديّة والوجوديّة.

ومن هذا المنطلق، يتعارض التصوّرُ الميتافيزيقي مع كلّ نسقٍ إبستمولوجيّ يُشيّئ المعنى ضمن بُنى عقلانيّة مغلقة. فالفلسفةُ التي لا تُساءِل يقيناتِها تغدو عقيدةً متخشّبة، لا أداةً لتحريرِ الفكر. وهنا، يلتقي التصوّرُ الميتافيزيقي مع مشروعِ ديكارت في الشكِّ المنهجي، ولكن بتوسيعِ أُفُقِه نحو مساءلةِ جدوى كلّ معرفةٍ تدّعي الكونيّة والامتدادَ المطلق.

إذًا، فإنّ الميتافيزيقا – في أفقِها الأعمق – لا تُؤسّس لليقين، بل تُعرّي كلَّ يقينٍ من وَهمِ الامتلاك، وتُعيد الفكرَ إلى مساحتِه الأصليّة: الحيرةِ، والتوتّرِ، والانكشافِ، والقلقِ الخلّاق.

ثانياً: من العقلِ إلى الحواس – الاستطيقا الشعريّة كمجالٍ وجودي

في مقابلِ هذا التصوّرِ النقديّ للميتافيزيقا المعرفيّة، تنهض الاستطيقا الشعريّة بوصفِها تصوّراً ميتافيزيقيّاً مغايراً، لا يتّكئ على اليقين، بل يحتفي بالانكشافِ الجمالي.

فالشعرُ، في جوهرِه، ليس نُطقاً بالأشياء، بل وقوفاً عند كينونةِ الأشياءِ كما تظهر وتتجلّى في لحظةٍ شعريّةٍ مكثّفة. وفي هذا السياق، لا يمكن اختزالُ الشعرِ إلى مجرّدِ بنيةٍ لغويّةٍ أو بلاغيّة، بل يجب النظرُ إليه كنداءٍ وجوديّ: استدعاءٌ لجمالِ الوجود، بما هو ظاهرٌ لحائيّ، وباطنٌ مستتر؛ أي بما هو تجربةٌ انخطافيّة تقطع سياقَ اليوميّ والمألوف.

الشعرُ، وفق هذا الفهم، ليس صورةً للواقع، بل تمزيقٌ لسطحه من أجلِ انكشافِ جوهره. إنّه تجلٍّ للكينونة في انزياحاتِ اللغة، وانفلاتِ المعنى، وتوتّرِ الإيقاع. وهنا، يتقاطع التصوّرُ الاستطيقي مع ميتافيزيقا هايدغر، الذي رأى في الشعر موطنَ الحقيقة، وفضاءً للانكشافِ الأنطولوجي؛ فـ"القصيدة جسدُ الحقيقة في هيئةٍ جمالية"، وهي التي تُعيد للوجودِ دهشتَه الأولى.

ثالثاً: الجمال بوصفِه انزياحاً وجوديّاً

إنّ الجمالَ الذي يتمخّض عن التصوّرِ الشعريّ ليس جمالاً شكليّاً، بل هو أثَرٌ كينونيّ لانزياحِ اللغةِ عن وظيفتِها التداوليّة، وانتقالِها إلى فضاءِ المجازِ والحدسِ والانخطاف.

هنا، تُصبح الكينونةُ ذاتاً مولِّدةً للفوارق، لا للتماثلات، وتُصبح الذاتُ الشاعرةُ شاهدةً على لحظةِ انفجارِ الوجود، لحظةِ تولُّده الشعريّ.

ولذلك، فإنّ التوتّرَ الذي يعيشه الشاعرُ ليس قلقاً سيكولوجيّاً، بل توتّراً وجوديّاً، نابعاً من رغبةٍ جامحةٍ في تجاوزِ العاديّ، ومجابهةِ كلِّ ما هو مألوف. وهذا التوتّرُ هو ما يُنتج الانزياح، ويُضفي على التجربةِ الشعريّة طابعَ المجازفة، لا بوصفِها تزييناً لغويّاً، بل كاندفاعٍ في تيّارٍ جارِف، بحثاً عن المعنى في قلبِ اللايقين.

إنّ الشاعرَ، كما يرى رولان بارت، لا يقول الحقيقة، بل يخلق إمكانيّاتٍ جديدةً للوجود. ولذلك، فكلُّ قصيدةٍ هي شكلٌ من أشكالِ مقاومةِ التكرار، ومجابهةِ الرتابة، وتفجيرِ الراكدِ اللغويّ.

رابعاً: الشعر كرؤيا كينونيّة

في هذا الأُفُق، يمكن القولُ إنّ الشعرَ ليس قولاً عن الوجود، بل هو الوجودُ في حالتِه الشعريّة، أي في لحظةِ تجلّيه الجماليّ الأقصى.

فالشعرُ لا يَصف الجمال، بل يكشفه. لا يُفسّر العالم، بل يُجسّده. لا يُعيد إنتاجَ الواقع، بل يخلقه خلقاً جديداً.

وهكذا، تتجلّى القصيدةُ بوصفِها "جسداً جماليّاً" حيّاً، لا بوصفِها نصّاً مغلقاً. وهذا الجسدُ الجماليّ لا يكتمل، بل يظلّ يعود إلى كينونتِه كلّما استُحضِر، وتُلي، وتأوِّل.

القصيدةُ لا تُستهلك، بل تُبعث في كلِّ قراءةٍ جديدة، وكلِّ تأويلٍ جديد.

إنّها ليست وثيقةً، بل كائناً حيّاً، يعود إلى ذاتِه في دورةٍ انكشافيّةٍ لا تنتهي.

خاتمة: انفتاحُ الميتافيزيقا على الجمال

إذًا، فإنّ التصوّرَ الميتافيزيقي لا ينبغي أن يُختزل في صرامةِ النسقِ العقليّ، بل ينبغي أن يُعاد فهمُه بوصفِه أُفُقاً مفتوحاً على الجمالِ، والدهشةِ، والتجربة.

وبين مساءلةِ الإبستمولوجيا وانخطافِ الاستطيقا، يمكن للإنسانِ أن يجد موقعَه في العالم، لا بوصفِه سيّداً عليه، بل مُنصتاً له، مدهوشاً من ظهورِه، مفتوناً بجمالِه المستتر.

ولعلّ أعظمَ ما يمكن أن يفعله الفيلسوفُ أو الشاعر، هو أن يُعيدَنا إلى لحظةِ البدء، إلى حيثُ الكينونةُ تُولد من جديد، وحيثُ الوجودُ يُنشد ذاتَه عبر القصيدة، ككائنٍ يتكلّم الجمالَ بلغتِه الأصليّة.

"ليس الشعرُ كلمات... الشعرُ هو جسدُ الوجودِ حينَ ينطق ذاتَه في لحظةِ كشفٍ لا تُقاس بالعقل، بل تُعاش."

***

عماد خالد رحمة – كاتب وناقد

 

أسئلة الرواية الغيرية في ضوء النقد الثقافي

يمكن القول بكثير من النسبية بأن رواية (سيرة موتى لم يبكهم أحد) للروائي الجزائري عبد القادر برغوث، تعد في نظري إحدى النصوص الروائية الجزائرية القليلة، التي

تستمد محمولها الموضوعاتي من الذاكرة الإجتماعية لكاتب هذه الر واية، وموضوع الذاكرة والسرد صار في السنوات الأخيرة أكثر الموضوعات تناولا من قبل الباحثين المتخصصين في حقلي الدراسات الثقافية والنقد الثقافي، بالمعنى الذي نجده يتواتر في مضمون كتابين في الفضاء الثقافي المغاربي الأول:

أصدرته باحثة جزائرية هي الدكتورة حياة مختار أم السعد بعنوان (الذاكرة في السرد أزمنة الحروب والمنافي والكراهية).

وضعت فيه موضوع الذاكرة والسرد أمام امتحان النقد الثقافي عندما حاولت مساءلة النص الروائي العربي على ضوء قضايا (التمثيل الثقافي والرد بالكتابة) وغيرها من مفاهيم سرديات النقد ما بعد الكولونيالي، ضمن دائرة التداول السردي لقضايا الذاكرة في السرد الذكوري والسرد النسوي معا.

والثاني:

هو كتاب (سرديات الأمة تخييل التاريخ وثقافة الذاكرة في الرواية المغربية المعاصرة) للناقد الثقافي المغربي الدكتور إدريس الخضراوي قارب فيه عددا مهما من النصوص الروائية المغربية على ضوء مفاهيم النقد الثقافي خاصة منها النصوص التي تحتفي بالذاكرة المغربية جاعلة منها موضوعا للإشتغال الروائي ضمن ذلك الأفق الذي يسميه الناقد الهندي ما بعد الكولونيالي هومي بابا (الأمم سرديات) وهو مايتجلى في عنوان كتاب إدريس الخضرواي

(سرديات الأمة تخييل التاريخ وثقافة الذاكرة في الرواية المغربية المعاصرة) على صعيد الإقتباس العتباتي.

ويمكن اعتبار بعض مقالات الناقدة الجزائرية الدكتورة ليندة مسالي تصب في هذا الإتجاه أيضا.

هذا ما يجعلني أرى بأن الروائي عبد القادر برغوث لم يتجاهل موضوع الذاكرة وحاول تناوله روائيا ضمن فضاء محدد هو الفضاء الإجتماعي السهبي في الجزائر العميقة وتحديدا في بادية الجلفة الواقعة حاليا على بعد ثلاثة مئة كلم جنوب الجزائر العاصمة.

الفضاء الذي يعرفه الروائي معرفة جيدة، ثم تحويل مواد الكتابة من الحيز الجغرافي الإجتماعي إلى الحيز النصي لتشكيل مجتمع النص أو المجتمع التخييلي للرواية، مع وعيه التام بعدم الخلط بين الفضاء الجغرافي والفضاء الروائي وبين الفضاء والمكان والفضاء النصي.

وهي الحدود الإبستيمية التي عالجت بعض أسئلتها النظرية باحثة جزائرية هي الدكتورة سعدية بن ستيتي في كتابها المهم (الإطار المفاهيمي للفضاء الروائي)، عندما نبهت إلى عدم الإنسياق وراء ذلك الخلط بين هذه المفاهيم مجتمعة (الفضاء الجغرافي والفضاء الروائي والفضاء والمكان).

ولست هنا في وارد العودة إلى الأسباب والملابسات التاريخية والمفهومية التي جعلت الدكتورة سعدية بن ستيتي تنبه لهذا الخلط المفاهيمي، مما سيبعدنا عن الغاية المتوخاة من هذا المقال وهو تقديم قراءة نقدية لرواية (سيرة موتى لم يبكهم أحد) وليس للحديث عن كتاب الدكتورة سعدية بن ستيتي حديثا نقديا هو أقرب لما يسمى في النقد المعاصر بنقد النقد.

وعبد القادر برغوث لا يقدم نفسه على صعيد الوعي بالقراءة ناقدا أو منظرا وقراءاته لبعض كتب النقد الروائي في نظري لا تتجاوز بعض حالات الممارسة الروائية عندما تكون مؤثثة ببعض ذخيرة الروائي النقدية.

والدليل على ذلك أنه لا يراكم من النصوص الداخلية والعناوين الفرعية لها أو مايسميه أحد عمداء فلسفة العتبات النصية وهو جيرار جينيت (النصوص المصاحبة أو النصوص الموازية).

بل يكتفي ببعض العناوين القليلة وهي عناوين بسيطة وموحية ولا تحتاج إلى عناء كبير على صعيد القراءة والتلقي على غرار:

(رؤيا / الوالدتان / أصل الشجرة / الرحيل الكبير / المتربصون / انسلاخ / القمل / الجوع / القهر / فك رقبة)

وغير ذلك من ما له صلة بالأصول الجينية للكلمات، التي تتألف منها هذه النصوص الصغرى أو (النصوص المصاحبة) في انعكاس محمولاتها الدلالية والثقافية على مضامين المتون الصغرى للرواية.

وهي متون تتوزع على فضاءات واسعة من الفضاء النصي للرواية بدء من العنوان الرئيسي للرواية ثم الإستهلال ومابقي من (النصوص المصاحبة أو النصوص الموازية) للنص / العنوان (سيرة موتى لم يبكهم أحد).

سيرة موتى لم يبكهم أحد / (التفكيك الثقافي) للعنوان يحيل العنوان إلى موضوع السيرة ثم إلى الآخرين / الموتى لأن الموت في حد ذاته آخر لا أحد منا يعلم شيئا عن هذا الآخر المخيف بل لا يعلم كيف يموت وأين سيموت ؟

مما يعني في النهاية بأن الأمر يتعلق بنص روائي يتناول سيرة غيرية أو آخرية هي سيرة موتى أصبح أغلبهم في حكم الغائب.

وقد لا تتردد الرواية الحديثة في احداث نوع من الإرباك، عندما تتعمد ممارسة استهداف ما يسميه أحد نقاد فلسفة العنونة وهو الدكتور عبد المالك أشهبون " بالتشويش على القارئ وقصدية التحايل عليه خلافا لهدف العنونة في الرواية التقليدية الذي كان لا يتجاوز بعض قضايا الإفصاح والإبانة والتلخيص " (01).

التشويه الماثل في قصدية المؤلف لموتى آخرين هم الموتى الأحياء المقيمين داخل فضاء بيني لاهم من الأحياء ولاهم من الأموات.

وهي قصدية أقرب إلى التورية أو (التورية الثقافية) بالمفهوم الذي يقترحه محمد عبد الله الغذامي كأداة إجرائية ضمن مشروعه عن النقد الثقافي في كتابه المهم (النقد الثقافي قراءة في الأنساق الثقافية العربية).

مع العلم أن الأمر يتعلق هنا بسيرة هي السيرة الروائية الغيرية أي سيرة الآخر المحلي وليس الآخر المختلف عنا أثنيا وعقائديا وهوياتيا.

إنها السيرة الغيرية في بعدها السيري أو الفكري كما تتجلى في عدد مهم من السير الغيرية التي كتبها بعض الكتاب عن زملاءهم أو أساتذتهم من الكتاب الآخرين، على غرار ما فعله الأستاذ خضرون عمر مع صديقه حميد ناصر خوجة في كتابه (حميد ناصر خوجة الى آخر نفس في الشعر / اليد الممدودة سيرة في أجزاء كما يرويها الأصدقاء والأقارب وكما يرويها ناصر خوجة في شعره ونثره).

وكما فعل الناقد الفرنسي بونوا بيتيرز مع أستاذه جاك ديريدا في كتابه (البحث عن ديريدا دفتر كاتب سيري).

ويستوقفني هنا عمل آخر كان قد انجزه أحد طلبة إدوارد سعيد وهو تمثي برنن بعنوان (إدوارد سعيد أماكن الفكر).

وهي بالطبع سيرة غيرية تطلبت من تلميذ إدوارد سعيد العمل عليها لسنوات لتقديم سيرة مغايرة لإدوارد سعيد غير الموجودة في الكتب سيرة يقول مؤلفها بأن:

" الذين عرفوا إدوارد سعيد في كتبه فقط، لم يروا كل مافيه لم يروا صبيانيته بلا شك.

لم يروا ولاءه العميق لأصدقاءه، لم يروا فيه الإعتداد بالنفس، والنزق الذي يظهر أحيانا والحاجة المستمرة إلى الحب والدعم المعنوي " (02).

أجل لقد كانت هذه السيرة الغيرية التي كتبها عبد القادر برغوث سيرة روائية غيرية بالمعنى الذي يحضر في ذهن الروائي عبد الرحمان منيف عندما يعتبر بأن الرواية العربية كلها هي سيرة من لا سيرة له، وليس بعيدا عن عبد الرحمان منيف يقسم الروائي واسيني الأعرج السيرة الغيرية إلى جزئيتين أساسيتين:

"سيرة غيرية عامة، تهتم بتفاصيل شخصية ما وفق مرجع حقيقي يبررها، أي أن الكاتب يصبح مثل المؤرخ لا يحيد عن الحقيقة كما حدثت، أو على الأقل يفترض ذلك. المؤلف في هذا النوع من السيرة الغيرية، مجرد آلة ناقلة "(03).

فيما الجزئية الثانية من السيرة الغيرية التي يحبذها الأعرج واسيني، هي السيرة الإبداعية، التي تتحول فيها في نظره " المادة التاريخية الحياتية التي عاشها شخص ما، إلى إطار مرجعي للكتابة الحياتية التي يخترقها التخييل، ويجعل فيها المؤلف المبدع الصامت يتكلم وفق رؤية مدروسة ومحتملة الوقوع، ويملأ البياضات " (04).

وهي السيرة التي نرى ملامحها الأساسية في نصه الروائي المهم (كتاب الأمير مسالك أبواب الحديد) بوصفه نصا روائيا غيريا (الغيرية المحلية)

مثلما نرى بعض ملامحها قد تحققت أيضا في هذا النص الروائي (سيرة موتى لم يبكهم أحد).

وإذن من هم هؤلاء الموتى وكيف ماتوا أو مات بعضهم وما مصير غيرهم من الموتى الأحياء والأموات.. ؟.

الموت في الرواية

الرواية كما نعلم والحديث هنا ينصرف لرواية (سيرة موتى لم يبكهم أحد)، رغم أنها مكتوبة في مرحلة ما بعد الكولونيالية، لكنها تستمد عناصر ديمومتها الفنية وأسئلتها النصية من الزمن الكولونيالي، الزمن الذي كانت فيه الجزائر تحت السيطرة الإستعمارية.

وعليه فالراوي عندما كان يستدعي بعض الشخوص الروائية من الذاكرة الثقافية لمخياله الإجتماعي، لم يتجاهل بالطبع هامشية هذه الشخوص من منطلق اقامتها داخل ذلك الفضاء الجغرافي السهبي الذي لم يكن كما هو عليه الأن محررا، بل كان تحت سيطرة الكولونيالية البيضاء بكل استيهاماتها ضمن ذلك الاستقطاب الذي بررت إحلاله الدراسات السوسيولوجية الكولونيالية وبعض توجهات خطاب الإستشراق الغربي، حيث نتج عن ذلك ماوصفه لاحقا أحد النقاد وهو إدوارد سعيد (بالجغرافيا الكولونيالية).

وهي الجغرافيا التي كان قد خصص لها الناقد الثقافي أزراج عمر مقالا مهما تحدث فيه عن البعد الثقافي للجغرافيا من خلال رؤية إدوارد سعيد.

هذه بعض علامات رواية الهامش الاجتماعي، وهي رواية تكاد تخلوا تماما من (الشخوص العالمة) بتعبير محمد عابد الجابري أو (الشخوص المفهومية) بمنظور جيل دولوز بإستثناء ذكر مستشفى يحمل اسم النقيب محمد بن شريف وهو (شخصية مفهومية).

لكونه يؤرخ له بأنه من الأوائل الذين مارسوا الكتابة الروائية بلسان الآخر في شمال إفريقيا وليس في الجزائر فقط، وذكره لم يتجاوز الإشارة إلى المستشفى الذي يحمل اسمه.

وهو مستشفى العرب مستشفى النقيب محمد بن شريف الذي تقول الرواية بأنه كان يستقبل كل يوم عشرات الحالات بسبب الأوبئة والأمراض وسوء التغذية

ناهيك عن بعض الإشارات العابرة التي تتخلل بعض ثنايا الرواية كحديث الراوي مثلا عن تكوين المختار الإبن الثاني لغانم الذي تقول الرواية بأنه حفظ القرآن الكريم وحفظ موطأ الإمام مالك ومتن ابن عاشر.

او تكوين غانم نفسه الذي أرسلته والدته الزهرة لإحدى زوايا تعليم القرآن بطلب من المرابطة التي قالت لها:

" ورأس أبي أراهن بضفيرتي هاتين أقصهما إن وقع كلامي على الأرض أن ابنك هذا سيكون كالشجرة التي يستظل تحتها الناس ويأكلوا من ثمارها إنه مبارك " (05).

ولحسن حظ الفتى تقول الرواية بأن غانم بعد أن حفظ القرآن الكريم وهو لم يتجاوز العاشرة من عمره استخلصه شيخه الجنيدي من دون طلابه كلهم ليودعه علمه وفقهه وأسرار التصوف والكون والفهم وغيرها.

أو حديث الراوي عن التحول الذي طرأ على حياة المختار عندما التحق بالمدارس الفرنسية وتعلم لغة الآخر الفرنسية بسرعة فائقة، ثم تأقلم مع زملائه من الطلبة والأساتذة وأغلبهم من أبناء القياد والفرنسيين واليهود ولم يشعر بأية وحشة أو ضيق.

هذه هي بعض الحالات القليلة التي تقدم لنا فيها الرواية صورة جزئية لحضور شخصية ثقافية.

أما باقي الشخوص الروائية فهي كلها من الهامش الإجتماعي وكلهم يمثلون الوجه الآخر من الحياة الأخرى الأشبه بالموت.

لقد كان أول الموتى الذي دفعت به الرواية خارج المجتمع التخييلي للرواية هو المخزوع زوج الزهرة الأول الذي أنجبت معه توأمين هما سليم وأبوزيد، قتل المخزوع في الصحراء بعد فضيحة السرقة التي أقدم عليها، ثم اكتشف أمره ووقع عليه فعل القتل فقامت بدفنه الزهرة من دون عزاء يذكر أو ندم على موته.

فيما قتل ابنه أبو زيد حسب اسمه الحقيقي أو شمعون بحسب الإسم الذي وضعه له المربي اليهودي الذي أخد أبوزيد وسليم لتربيتهما.

وهو اسم يهودي أختاره له والده الثاني بالتبني قتل في ميتة تقول الرواية أنها لا تختلف عن مقتل والده الأصلي المخزوع بسبب إدمانه القمار ثم انضمامه إلى عصابة سطو عجلت بحتفه إثر شجار مع عصابات أخرى منافسة.

والرواية لا تتردد في تقديم والده من التبني عيزرا والذي تبنى معه شقيقه الآخر يعقوب وهو سليم حسب اسمه الأول الذي اختارته له والدته الزهرة قبل تسليمهما لليهودي عيزرا بهدف تربيتهما بإيعاز من جنية الصحراء عندما وجدت الزهرة نفسها في العراء الصحراوي بلا مأكل ولا مشرب ضائعة تريد النجاة بنفسها والعودة إلى بيت ذويها بعد رحلة مضنية قادها إليها المخزوع قبل أن يغادر الحياة غير آسفة عليه.

هكذا تقدم الرواية عيزرا " كيهودي يهفوا للولد منذ زمن بعيد وهو المحروم من الخلف لقد قرر أن يرحل مع زوجته من مسعد ثم يعود إليها بعد عام مدعيا بأن الولدان من صلبه وصلب زوجته وسيسميهما يعقوب وشمعون " (06).

ثم ماتت الزهرة نفسها بعد أن حققت حلم حياتها وهو رؤية ابنها سليم الذي عاد إليها بهوية مركبة أو هوية متشظيية كما جاء في نص الرواية نصفه عربي والنصف الآخر يهودي.

"غادرت الحياة راضية مبتسمة فتفرق الرجال بعد وفاتها وعاد سليم أو يعقوب إلى أمريكا حسب وصية والده بالتبني، وهكذا قرر أن يعيش بهوية متشظية وقصة لم يكن له يد في بدايتها ونهايتها غامضة لا يعلم عنها شيئا " (07).

وهي هنا الهوية الخطابية المنبثقة من "الخطاب الروائي " بالمعنى الباختيني نسبة إلى الناقد الروسي ميخائيل باختبن وهو بالطبع خطاب متعدد ومعقد يقدم للقارئ مختلف المنظورات لشخوص روائية لا تتطابق هوياتها بالضرورة مع هوية الكاتب الفعلية حتى ولو كانت صادرة عن شخوص هم من صنع الروائي بالمعنى الذي يتجلى في منظور إدوارد سعيد عندما كان يرى بأن الرواية هي ذلك الإحساس بوجود فضاء متنازع عليه.

أو الهوية بوصفها سردية بالمعنى الذي تحدث عنه ناقد من نقاد ما بعد الكولونيالية وهو الهندي هومي بابا عندما كان يرى بأن (الأمم سرديات)، فعل ذلك هومي في كتابه المهم (الأمة والسرد)،.

والسرد المقصود هنا ليس فقط السرد القصصي والروائي، بل السرد في مفهومه الفلسفي كما يتجلى في عمل مهم من أبحاث فيلسوف ما بعد الحداثة فرانسوا ليوتار الذي كان أول فيلسوف ما بعد حداثي يخصص كتابه (الوضع ما بعد الحداثي)، لذلك الذي سماه (السرديات الكبرى والسرديات الصغرى) ممثلة في بعض الفلسفات التي حكمت العالم كالماركسية والليبرالية وغيرها.

وكما يتبدى في تلك الصيحة التي كان أن أطلقها رولان بارت عند كان يرى بأن السرد موجود في كل الخطابات وليس فقط في الخطاب القصصي والروائي.

بما يعني الإقتراب من معنى (الهوية المنزوعة المركزية)، كما وصفها الناقد الثقافي البريطاني ستيوارت هول في ارتباطها بقضايا الهجنة الثقافية في ضوء النظرية ما بعد الكولونيالية الميالة لنقد الأنساق الثقافية المضمرة في الخطاب الهوياتي أو (الهوية عبرثقافية) بمفهوم الباحثة الأستاذة صليحة مرابطي.

طالما أن كتابة السردية المضادة أو (الرد بالكتابة )، في سياق هو سياق ما بعد الكولونيالية وفقا لنوع من المقاربة التي اختارها ثلاثة من نقاد ما بعد الكولونيالية وهم بيل أشكروفت وغاريث غريفيت وهيلين تيفن في كتاب جماعي بعنوان (الرد بالكتابة النظرية والتطبيق في آداب المستعمرات القديمة).هي مبرر وجودها بعيدا عن ثقافوية السردية الإستعمارية الني حاولت لي عنق التاريخ بما يستجيب لإرادة (الهيمنة بالتخييل) بمفهوم الدكتور وحيد بن بوعزيز، في مهمة عسيرة تتطلب من الروائي الحكاء التعويل على تسريد التاريخ أو الوعي بالكتابة الروائية بوصفها تاريخا هو (التاريخ من الأسفل)، حسب المفهوم الذي وضعه الناقد الهندي ما بعد الكولونيالي ديبيش شاكابراتي في كتابه المهم (مواطن الحداثة مقالات في صحوة دراسات التابع).

سيرة موتى لم يبكهم أحد في مهب الأنسنية

لكن هل كتب مؤلف رواية (سيرة موتى لم يبكهم أحد) تاريخ الهامش الإجتماعي السهبي كما يعرفه كله أو بعضه أو سمع عنه من أفواه الجدات والآباء وبما وصله من السرديات الشعبية والروايات الشفوية غير العالمة..؟.

أم أنه اكتفى فقط بكتابة سيرة بعض الموتى الذين هاله أمرهم، فتكفل وهو الروائي المقتدر بكتابة سيرتهم السيرة الغيرية أو السيرة الآخرية ضمن نص روائي هو الثاني له بعد عمله الأول (جبال الحناء) ثم مجموعته القصصية الوحيدة (ديدان آخر الليل) ضمن ذلك الأفق من (الكتابة الروائية الأنسنية) بمفهوم إدوارد سعيد.

أعتقد أنه لم يفعل ذلك بعد، ولا يمكن لأي كاتب مهما بلغ من الموهبة أن يكتب ما يحلم به أو يضعه نصب عينيه ضمن نص روائي واحد، وقد يفعل ذلك ضمن عدد من النصوص وليس من خلال نص واحد بذلك المنظور الذي يتجلى في عمل نقدي مهم للناقد والسوسيولوجي الفرنسي لوسيان غولدمان عندما تمكن من استخراج ما سماه (بالرؤيا للعالم).

ولكن من خلال نصوص باسكال وراسين وليس من خلال نص واحد لأحد منهما وهي رؤيا كان يرى غولدمان أنه لا يمكن استخراجها من نص واحد لكاتب فرد بل من مجموعة من النصوص في مرحلة معينة من الزمن.

وحسبه أعني برغوث عبد القادر أنه تمكن من كتابة رواية سيرية غيرية تستمد من الحياة الأخرى للسيرة الغيرية (سيرة موتى لم يبكهم أحد) مشروعية أدبيتها.

وبصراحة مطلقة لا أدري إن كان الروائي عبد القادر برغوث قد قرأ شيئا عن أنسنية إدوارد سعيد ضمن كتابه المهم (الأنسنية والنقد الديمقراطي).

غير أنه من حقي كناقد ثقافي أن أضع ذلك ضمن انحياز السارد إلى الفضاء الإجتماعي الذي تشكل منه وعيه فأفرز نصا ابداعيا عمل فيه على (دنيوة) الفضاء الجغرافي السهبي بحسب المفهوم الذي قام بنحته إدوارد سعيد في كتابيه (العالم والنص والناقد) و(الثقافة والإمبريالية) وهو (الدنيوة) ضمن مشروعه في النقد الديكولونيالي لقراءة النصوص الإبداعية في بعدها الدنيوي الإنساني بوصف دنيوة الفضاء الجغرافي موضوعا للفضاء النصي الروائي أتاح للروائي التعامل مع شخوصه الروائية كشخوص متخيلة، فوضعهم الأموات منهم والأحياء داخل أجندة برنامجه الروائي مبديا بعض الحنو الإنساني على مصائرهم التراجيدية ضمن عمل نقدي هو أشبه بالتأويل النقدي أو التأويل الثقافي.

كأننا في هذه الحالة أمام اختبار فرضية البحث عن مشروعية (الأنسنية النصية) من داخل النص الروائي وهي تستمد دلالتها المفهومية والنظرية من ذلك الجمع المركب الذي أوجده إدوارد سعيد بين "الحركة الإنسنية والممارسة النقدية أي الأنسنية بما هي توجه عمل المثقف النقدي في عالم اليوم المضطرب والعاج بالنزعات العدوانية والحروب والإرهاب " (08) وما إلى ذلك.

الأنسنية النصية والجماليات الديكولونيالية

وينبغي أن لا ننسى بأن الأنسنية النصية كما تشكلت من داخل النص الروائي لا تتجاهل القيم الفنية للنص الروائي، بل لا تتجاهل تحديدا الهوية الجمالية للنص الروائي التي تشكل مشروعية النص الروائي كما حاولت استخراجها والبحث عنها من داخل النصوص الروائية العربية روائية وناقدة، هي الأستاذة شهلا العجيلي من خلال كتابها (الهوية الجمالية للرواية العربية رؤية ما بعد استعمارية)، من منظور النقد الثقافي في صلته بدراسات ما بعد الإستعمار لتستقرأ تاريخ الأدب العربي عموما بما هو " تاريخ تطور الأشكال التي لا يمكن عزلها عن تحولات الوعي والبحث في الموضوعات الجمالية وهو البحث الأوفى للبنى الفنية " (09).

فعلت ذلك الروائية السورية شهلا العجيلي بعد أن خصصت لمسألة الهوية الجمالية في النصوص الروائية العربية ثلاثة فصول كاملة تكفلت بالحفر الإيركيولوجي بمفهوم ميشيل فوكو من باطن النصوص الروائية العربية والنصوص النقدية العربية والغيرية، وهذه الفصول هي:

01) الوعي الجمالي في طلائع الرواية العربية

02) تفكيك التجربة الإستعمارية روائيا

03) تحولات الهوية في الرواية العربية.

لقد كان عبد القادر برغوث يملك من الوعي الجمالي ما أهله بأن يستثمر في السرديات الشعبية والأقوال المتواترة لما وصله من مرويات ذاكراتية وهو المتلقي والناص الذي يحسن كيف يختار وماذا يختار من المواد السردية المتوفرة له في الفضاء الإجتماعي السهبي كي يحولها إلى سرد روائي هو (السرد الإنبثاقي) بمفهوم الدكتور محمد بوعزة على اعتبار أن السرد الإنبثاقي هو "سرد ثقافي انبثق من تواريخ الصمت الكولونيالية المكرسة بالقوة " (10).

ضمن لغة سردية وفنية تحتفي بالجماليات الشعبية، وقد وصفها المفكر الصيني إين آنغ عندما كان بصدد تطوير ومناقشة أفكار بيير بورديو بخصوص موضوع الجماليات الشعبية "بأنها نقيض النزعة الجمالية البرجوازية التي يتم الحكم فيها على موضوع فني انطلاقا من معايير شكلية ومعممة للغاية تخلوا خلوا تاما من أية عواطف أو متع ذاتية " (11).

كنوع من (الرد بالكتابة) على دعاة الجماليات الرفيعة أو نصوص (الحداثة الرفيعة) بتعبير الناقدة المصرية ماري تيريز عبد المسيح بما يعني الإقتراب من ما أصبح يسمى في الدراسات ما بعد الكولونيالية (الجماليات الديكولونيالية)، كما حاولت التأسيس لها نظريا أستاذة فلسفة الجمال بالجامعة التونسية الدكتورة أم الزين بن شيخة المسكيني، رابطة ذلك بإعادة قراءة فلسفة الجمال الغربية على ضوء ثنائية (الإختلاف والغيرية) من أجل غاية مهمة وضعتها في الحسبان وهي (تحرير المحسوس من الهيمنة المركزية)

بل " تحرير الخطاب الجمالي من وهم الكونية الغربية التي بنت عليها أوربا مسار الحداثة الغربية وقيمها المعرفية والأنطولوجية والتأويلية " (12).

وهي بالطبع لا تتنكر لبعض الجماليات الغربية التي لا تركز على إقصاء الجماليات الأخرى من خارج الفضاء الأمبراطوري الغربي ولا تتعامل معها بنوع من الدونية والإنتقاص والإلغاء.

"إن مهة تحرير المحسوس من وجهة نظر نزع الإستعمار الغربي الجمالي عنه لا يتضمن أية كراهية للغرب، إنما يقتضي فقط اعتبار الجماليات الغربية مجرد فصل في تاريخ أنماط الكينونة في العالم " (13).

كأنها هنا تقترب من ذلك التمييز الذي وضعه المفكر المغربي عبد الله العروي عندما أن يميز بين غربين هما:

الغرب الثقافي ثم الغرب الإستعماري المتأخر.

وهو موضوع آخر يطول شرحة، ليس هنا مجاله وقد أعود إليه في مناسبة أخرى بعيدا عن هذا المقال المخصص لنقد وتحليل نص روائي هو (سيرة موتى لم يبكهم أحد) للروائي عبد القادر برغوث.

***

قلولي بن ساعد / كاتب وناقد / الجزائر

......................

مصادر

01) العنوان في الرواية العربية / عبد المالك أشهبون / ص 22 نشر مشترك منشورات دار محاكاة ودار النايا للنشر والتوزيه دمشق الطبعة الأولى 2011

02) إدوارد سعيد أماكن الفكر تأليف تمثي برنن ترجمة محمد عصفور ص 27 منشورات المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب الكويت مارس 2022 العدد 492

03) السيرة الغيرية الإبداعية / واسيني الأعرج صحيفة المدينة / تاريخ النشر: 21 يونيو 2018

04) المرجع نفسه السيرة الغيرية الإبداعية / واسيني الأعرج صحيفة المدينة / تاريخ النشر: 21 يونيو 2018

05) سيرة موتى لم يبكهم أحد / رواية / عبد القادر برغوث ص 54 / منشورات فهرنهايت الطبعة الأولى 2023

06) سيرة موتى لم يبكهم أحد / رواية ص 41

07) سيرة موتى لم يبكهم أحد / رواية ص 139

08) الأنسنية والنقد الديمقراطي إدوارد سعيد ترجمة فواز طرابلسي ص 18 / منشورات دار الآداب بيروت الطبعة الأولى 2005

09) الهوية الجمالية للرواية العربية / رؤية ما بعد استعمارية / شهلا العجيلي ص 13

منشورات الإختلاف وضفاف / الجزائر بيروت الطبعة الأولى 2020

10) سرديات ثقافية من سياسات الهوية إلى سياسات الإختلاف / محمد بوعزة ص 58 منشورات الإختلاف / ضفاف / ودار الأمان الجزائر بيروت الرباط الطبعة الأولى 2014

11) أنظر دراسة إين لانغ / دالاس والثقافة الجماهيرية ضمن الفصل الخامس من كتاب الكرنفال في الثقافة الشعبية إعداد وترجمة خالدة حامد ص 157 منشورات دار المتوسط ميلانو إيطاليا 2017

12) هل يمكن الخروج من الغرب نحو جماليات ديكولونيالية / بن شيخة المسكيني جريدة عمان / 12 / 12 / 2023

13) نفس المصدر هل يمكن الخروج من الغرب نحو جماليات ديكولونيالية

 

دراسة تحليلية نقدية

جنازة في قلب الغياب: بعد الهجرة الطويلة، عاد ليرى عش أمه. لم يكن عشًا من طين، بل من عيدان تنبت بين الذكريات، تفوح منها رائحة ليست ترابًا فقط، بل خليطٌ من حليبٍ قديمٍ ودمعٍ جفّ قبل أن يُمسح. النسائم كانت تتسلل بين تلك الأعواد كأنها تبحث عن شيء مفقود، ربما عن نبضٍ لا يزال يسكن التراب، أو حضنٍ لم يُكمل مدّته. كان الوطن يتجسّد أمامه قبرًا، لكنه قبرٌ حيّ، ينبض باسمها الذي طغى على أسماء المدن جميعًا.

فأسُ الموت لا يدنو تدريجيًا، بل يقتلع الحياة بضربةٍ واحدة. الأشجار تسقط بلا مقدمات، والروح تصرخ قبل أن تُلملم نفسها. بعد الفراق، الحياة تحوّلت إلى عقوبة، والموت صار خلاصًا تأخر، كم تمنّى أن تسبق حياته رحيلها كي لا يرى العالم يفتقدها.

في أقاصي المهجر، هناك حيث أسواق أديليد، حاول بعض الأصدقاء بناء عزاء بمواد مستوردة: كراسي أنيقة، طعام مرتب، لكن ينقصهم شيء لا يُشترى ولا يُطبخ... كأسٌ من دموع تعيد الحياة إلى عينين تيبّستا من الفقد. وبين هذا المشهد البارد، نبت سؤالٌ عميق: لماذا غابت قبل أن يلده الحنين؟ لماذا تخلّت عنه قبل أن يحمل اسمه؟ كان رجلًا، لكنه حينها شعر بارتجاف طفل يبحث عن حضنٍ بلا صوت.

المناجاة بدأت كهمسٍ لاهوتيٍ هش: هل لا توجد سلالم غير الموت للصعود إلى الملكوت؟ هل لا طريق للاجتماع سوى أن يفنى الجسد ليستيقظ القلب في السماء؟

وعندما شُيّعت، لم تكن لها جلبة، لا مدافع، لا موسيقى، لا ضجيج قادةٍ أو صخب وطن. فقط فقير يمشي بجانب عصافير وأرامل وطفلٍ مكسور الجناح، وكأنّ الوطن كلّه فقد صوته، وشيّعها كما يشيّع أرواح أبطاله الخجولين.

الليل بات عباءتها، والنهار كفنها، والزمن صار فصولًا لا تعرف الضوء إلا عبر ذكراها. يعيش حيًّا لكنه ميت، يمشي لكنه منهكٌ من الحياة. وكل الفرق بين الحياة والموت صار موقع السرير ونوع الوسادة، لا أكثر. حتى أبسط الأمنيات لم تتحقق: لم يُغمض عينيها، ولم تُغمض عينيه، ففشل الحنان في لحظة كان يستحق فيها أن يكون كاملاً.

في محاولة لتوثيق الغياب، طلب من عابرٍ أن يصوّره مع الهواء، مع نفسه، مع الحزن الوحشي، مع أمّه النائمة في قلبه. وهناك، بين الدمع والنداء، سأل الله: هل عذاب جهنم أشد قسوة من حرقة وداعٍ لم يحصل؟ لو وصل ساعي بريد الآخرة في الوقت المناسب، لربما نام مع ابتسامة.

ومثل قديسٍ ندم، خلع قميص الحماقات وتوضأ بالكوثر، ليس طلبًا للنجاة، بل رجاءً في رؤيتها، حتى لو من وراء الحُجب. تساءل: كم غطّوها بالتراب؟ هل أخفوا نحيبه عنها بأكوام الأرض؟ أما زالت تسمع صوته في العتمة؟

عند منتصف الليل، عاد الصوت الطفولي يتسلل من ثنايا الرجولة: "أريد أمي"، قال، ثم بكى. لم يجد مأوى لأحلامه، ولا وسيلة للسفر دونها، فقد كانت تأخذه معها إلى الأماكن المقدسة، حتى عندما لا يذهب، كانت تأخذه بروحها.

القصيدة تتجسّد روائيًا: عباءتها السوداء أصبحت سجادة صلاة، دعاؤها نجاة، وصفعتها لم تكن ألمًا بل خوفًا عليها من ألم الكفّ. عند موتها، جفّ حليب الطفولة، والسنون تحوّلت إلى خيوط كفن، والحياة إلى محرابٍ خالٍ من الصلاة. طلب من أحبابه ألا يدعوا له بالهناء، بل بالصبر، بالبلادة، بتجلّد الجبل، وبخيط جنون يرقّع به عقله المُنهك.

كانت كائنًا طاهرًا: تنثر القمح للعصافير، تهب الفقراء صحن دعاء، وتخاف من أن تموت العصافير بالشظايا. مرضها وشيبها كانا إعلانًا عن أمومة تخجل الملائكة من وصفها، وعباءتها علم الوطن بلا رايةٍ رسمية.

وحين جاءه طيفها، لم يقل: "تصبحي على خير"، بل قال: "تصبحين على جنّة"، وكأنّ الجنة تبدأ حين تفتح عينيها.

الذروة كانت حين أدرك أنّه جثة تمشي، أن الحياة مقبرة، والوجود اسمٌ قديمٌ لنزيفٍ لا يُشفى. لم يعُد يخاف عليها من الموت، بل هي الآن من تخاف عليه من الحياة. كل من أساء إليهم، يريد أن يعتذر... فقط كي ينام في حضنها.

الناعور يدور، والمطر أصبح جمرًا، وجلدها لا يسيل منه سوى دمٍ عرف الأرصفة والسنابل والظلام. من شُيّعت لا تُفدى، ولو أن تمزيق الثوب يُجدي، لشقّ جلده... لكنه لا يُجدي.

الدارسة النقدية الأدبية:

القصيدة تنتمي إلى الشعر الحر التفعيلي، ولا تلتزم ببحر شعري كلاسيكي. هناك انسياب نغمي يعتمد على الإيقاع الداخلي والانزياح اللغوي. لا تسعى إلى الموسيقى المقفاة، بل إلى خلق موسيقى داخلية مبنية على الانفعال والتكرار الرمزي، مع طابع سردي مكثف يُشبه القصيدة/الرواية.

القصيدة تُجسّد رثاءً وجوديًا لأمٍّ هي الوطن والأصل والطمأنينة. حالة الشاعر تُراوح بين الاعتراف، التوبة، الندم، والاحتجاج على القدر، ثم تنقلب إلى تحولات رمزية تنتقد العالم والموت والاغتراب. الحزن ليس فقط على فقد الأم، بل على فقد الوطن، الذات، وحتى الله كما فُهِم في لحظة الألم.

النحو في القصيدة يخرج عن القواعد التقليدية لكنه يخضع لمنطق القصيدة الحداثية التي تسمح بالانزياحات اللغوية لكسر نمطية التعبير. اللغة عالية الكثافة الرمزية والتصويرية، تُستخدم فيها صور مثل: "كأس دموع بالإيجار"، "رسالة في صندوق عمري"، "عباءة أمي علم الوطن". الأفعال تميل إلى الزمن الماضي والمضارع، وتَكرارُها يخدم البناء الشعوري، لا فقط التتابع السردي.

القصيدة تتبع منهج القصيدة الحديثة غير التقليدية، وتميل إلى تقسيم النص إلى مشاهد منفصلة ومترابطة، مثل لوحات سردية. لا يعتمد النص على وحدة البحر، بل على وحدة الحالة النفسية والانفعال. التفعيلة موجودة ولكنها تتخفّى خلف السرد الشعري شبه الروائي.

القصيدة هي صرخة ألم مكتوبة بلغة التوبة والاحتجاج، فالشاعر لا يصرخ، بل ينزف رموزًا. صيحات الألم مضمّنة وليست مباشرة؛ تظهر في طلب الصورة مع الهواء، وفي مناشدات العصافير، وفي التساؤلات عن العدالة الإلهية.

الأم هي الرمز الأكبر للوطن والقداسة. العباءة تمثل العلم الحقيقي، هوية كاملة. العصافير ترمز للبراءة والحرية والذاكرة الحية. التراب هو حضن الوطن الذي يستقبل الأم. النعش والبخور تمثيل للغياب المقدّس بلا ضجيج. دعاء الأم هو طقس رمزي يُضاهي الخلاص السماوي. الرمز في القصيدة يعمل كأداة فلسفية وفكرية، لا مجرد زينة شعرية. هناك بحث صوفي في العلاقة بين الذات والله، بين الحياة والموت، وبين الذنب والغفران.

النص يمزج بين التجربة الواقعية (الموت، الفاتحة، العودة) وبين التحولات الرمزية (عباءة كعلم، العمى كاستغناء). يوجد تناول عرفي للحدث: مجلس عزاء، زيارة القبر، لكنه سرعان ما يتحول إلى خطاب فلسفي رمزي. إذًا: القصيدة تبدأ واقعية، لكنها تنقلب رمزية/فلسفية منذ المقاطع الأولى.

القصيدة هي نصٌ كونيّ يمتد من رثاء شخصي إلى مساءلة وجودية، تفتح أبواب الحزن، لا لتغلقها، بل لتجعلها ممرًا نحو الأسئلة الكبرى: عن العدالة، عن الوطن، عن الله، وعن الإنسان. أصالتها تكمن في صدقها، لا في زخرفها. حداثتها تنبع من عمق الرمز، لا من تكلّف اللغة. تركيبتها السردية جعلت منها رواية شعرية فلسفية ذات بنية فريدة.

***

بقلم: الدكتور محمد صبي الخالدي – الكوفة

.....................

شاهدة القبر

ليَ الان سَــبَـبٌ آخـر

يَمـنعُـني من خـيـانـة ِ وطـنـي:

لـحـافٌ سَـمـيـكٌ مـن تـُرابـه

تـَدَثـَّرَتْ بـه ِ أمـي..

ووسـادة ٌ من حجارتـه

في سـريـر قـبـرهـا!

(2)

وحـدُهُ فـأسُ الـمـوت

يـقـتـَلِـعُ الأشـجـارَ من جـذورهـا

بـضـربـة ٍ واحـدة..

(3)

قـبـلَ فِـراقـهـا:

كـنـتُ حـيّـا ً

مـحـكـومـا ً بالمـوت..

بـعـدَ فـراقـهـا:

صـرتُ مـيـتـا ً

محـكـومـا ً بالـحـيـاة!

(4)

فـي أسـواق " أديـلـيـد "

وجَـدَ أصـدقـائي الـطـيـبـون

كلَّ مـسْـتـَلـزمـات ِ مَـجـلـس الـعـزاء:

قِـمـاشٌ أسـود..

آيـاتٌ قـُرآنـيـة للجدران..

قـهـوة ٌ عـربـيـة..

دِلالٌ وفـَنـاجـيـن..

بـخـورٌ ومـاءُ الـورد..

باسـتِـثـنـاء شيء ٍ واحـد:

كأسٌ مـن الـدمـوع ـ ولو بالإيـجـار

أُعـيـدُ بـه ِ الـرطـوبـة َ

إلى طـيـن ِ عـيـنـيَّ

الـموشِـكـتـيـن

عـلى الـجَـفـاف!

(5)

لمـاذا رَحَـلـت ِ

قـبـل َ أنْ تـَلِـديـني يا أمـي ؟

أدريـك ِ تـُحِـبّـيـن َ الـلـه..

ولـكـنْ:

أمـا مِـنْ سـلالـمَ غـيـرُ الـمـوت ِ

لـلـصـعـود إلى الـمَـلـَكـوت ؟

(6)

لم تـَحـمِـلْ نـَعْـشـَهـا عَـرَبـة ُ مـدفـع..

ولم يُـعـزَفْ لـه مـارش ٌ جَـنـائـزيّ..

الـقـَرَويّــة ُ أمـي

لا تـُحِـبُّ سَـمـاع َ دويِّ الـمَـدافـع

ليس لأنه يُـفـزع ُ

عـصـافـيـرَ نخـلـة ِ بـيـتـنـا..

إنما

لأنه يُذكـِّرُهـا بـ " جـعـجَـعَـة ِ الـقـادة "

الـذين أضـاعـوا الـوطـن..

وشـرّدوني!

تـَكـرَهُ أصـوات الـطـبـول

( بـاسـتِـثـنـاء طـبْـل المُسـَحّـراتي )..

نـَعْـشـُهـا حَـمَـلـَتـْهُ سـيـارة ُ أجـرة..

وشـيَّـعَـتـْهــا:

عـيـونُ الـفـقـراء..

الـعـصـافـيـرُ..

ويـتـامى كـثـيـرون..

يـتـَقـَدَّمُـهـم شـقـيـقـي بـِطـَرَفِـه ِ الإصطـنـاعـيـة..

وشـقـيـقـتـايَ الأرمَـلـَتـان..

وجـدولان ِ من دمـوعي!

(7)

كـيـفَ أغـفـو ؟

سَـوادُ الـلـيـل ِ

يُذكـِّرُني بعَـبـاءتـهـا..

وبـيـاضُ الـنـهـار

يُـذكـِّرُني

بالـكـَفـَنْ!

يـا لـلحـيـاة مـن تـابـوت ٍ مـفـتـوح..

أشـعـرُ أحـيـانـا ً

أنَّ الحـيَّ

مَـيْـتٌ يَـتـَنـَفـَّس..

والـمَـيْـتَ

حَـيٌّ

لا يَـتـَنـَفـَّس!

(8)

الأحـيـاءُ يَـنـامـون َ فـوقَ الأرض..

الـمـوتى يـَنـامـون َ تـَحْـتـَهـا..

الـفـرقُ بـيـنـهم:

مَـكـانُ الـسَّـريـر

ونـوع ُ الوسـائـد ِ

والأغـطـيـة!

(9)

آخـرُ أمـانـيـهـا:

أنْ أكونَ

مَـنْ يُـغـمِـض ُ أجـفـانَ قـبـرهـا..

آخـرُ أمـنـيـاتي:

أنْ تـُغـمِضَ بـيَـدَيـهـا أجـفـاني..

كـلانـا فـَشِـلَ

في تـحـقـيق ِ أمـنـيـة ٍ

مُـتـَواضِـعـة!

(10)

أيُّـهـا الـعـابـرُ.. لـحـظـة ً من فـضـلِـك..

هـلاَّ الـتـَقـَطـْتَ ليْ

صـورة ً تـذكـاريـة ً مـع الـهـواء؟

وأخـرى مـع نـفـسـي؟

وثالـثـة ً عـائـلـيّـة

مـع الـحـزن والـوجَـع ِ الـوحـشـيِّ

وأمي الـنـائمـة ِ

في قـلـبـي ؟

(11)

سُـبـحانـكَ يا رب!!

أحَقـَّا ً أنَّ عَـذابَ جَـهَـنـّم

أشــدُّ قـسـوة ً مـن عـذابي

حين تـَعَـذرَ عـليَّ

تـوديـع ُ أمي؟

آه.. لـو أنَّ سـاعي بـريـد ِ الآخـرة

وضـَعَ الـرسـالـة َ في صـندوق عـمـري

لا عـلى وسـادة أمي..!

(12)

أيتها الحَـمـاقـات ُ..

الـلـذائـذ ُ..

الـنـَّزَق ُ..

الـطـَّيْـشُ..

الـبَـطـَرُ..

الخـطـيـئـة ُ..

الجـنـوح ُ..

المـعـصـيـة ُ :

ها أنا أخـلـَعُـكـنَّ من حيـاتي

كما أخـلعُ قـمـيـصـا ً وسِـخـا..

عليَّ منذ الان

التوضـّـؤ بالكوثـر

كي يسـمَـحَ لي الـلـه

بـدخـول فـردوسـه

لـرؤيـة أمي!

(13)

الـفـصـلُ ليس شـتـاء ً

فلـمـاذا غـَطـّاها أشـقـائي

بكلِّ هذه الأغـطـيـة من الـتـراب ؟

ربما

كي لا تـسـمـعَ نحـيـبـي

وأنا أصـرخُ في بـراري الـغـربـة

مثـل َ طـفـل ٍ خـطـفـوا دُمْـيَـتـَه:

أريـدُ أمي..

فـتـبـكـي!

(14)

لسـتُ سـكـرانـا ً..

فلمـاذا نـظـرتـم إليَّ بازدراء

حـيـن سَــقـَطـْـتُ عـلى الـرصـيـف ؟

مَـنْ مـنـكم لا ينزلِـق ُ مُـتـَدَحْـرجا ً

حين تـتعـثـَّرُ قـدَمـاه بـورقـة ٍ

أو بقـطـرة ِ ماء

إذا كان

يـحـمـلُ الـوطـن َ عـلى ظـهـره..

وعـلى رأسـه

تابـوتُ أمـِّـه ؟

(15)

يـا كلَّ الـذين أغضـَبْـتـُهـم يومـا ً

من أصـدقـاء طـيـبـيـن..

ومجـانـيـن..

وبـاعـة ِ خـضـروات..

وزملاء طـبـاشـير..

وطلبـة ٍ رائـعـيـن أبـعَـدَتـني الـحـكومـة ُ عـنـهـم..

ورفاق ِ مـعـتـَقـلات ٍ ومـعـسْـكـرات ِلـجوء

وأرصـفة ِ مـنـافي:

إبـعـثـوا إليَّ بعـنـاويـنـكم

وأرقـام هـواتـفِـكـم..

فأنا أريـدُ أنْ أعـتـذرَ منكم

قـبـل ذهـابـي لـلـنـوم

في حُـضـن أمي!

(16)

وأنـتم أيـهـا الـهَـمَجـيّـون

من مُـتـَحَـزِّمـيـن بالـديـنـامـيـت

وسـائقـي سـيّـارات ٍ مُـفـَخـَّخـة

وحَـمـَـلـَة ِ سـواطـيـر وخـنـاجـر:

كفى دويَّ انـفِـجـارات وصَـخـَـبـا

ألطـيِّـبـة ُ أمي لا تـُطـيـق ُ الـضـجـيـج

فـدَعـوهـا تـنـام ُ رجاء..

(17)

الـطـيِّـبـة ُ أمي

ما عـادتْ تـَخـافُ الـمـوت..

لـكـنـَّـهـا

تخـافُ عـلى الـعـصـافـير

من الشـظـايـا..

وعـلى بـخـور المـحـراب

من دخـان ِ الحـرائـق..

والأمّـهـات ِ اللائي

أنـضـبَ الرعـبُ أثـداءَهـن!

(18)

حـيـنَ أزورُ أمـي

سـأنـثـرُ عـلى قـبـرهـا

قـمـحـا ً كـثـيـرا..

أمي تـُحِـبُّ الـعـصـافـيـر..

كلَّ فـجـر:

تـسْـتـَيْـقِـظ ُ عـلى سـقـسـقـاتـهـا..

ومن ماء وضوئـهـا:

كانت أمي

تـمـلأ الإنـاءَ ا لفـخـار قرب نـخـلـة الـبـيـت

تـنـثـرُ قـمـحـا ً وذرة ً صـفـراء..

وحين تـطـبخُ رُزّا ً

فـلـلـعـصـافـيـر ِ حِـصَّـتـُهـا

مـن مائـدة أمي!

(19)

في صَـغـري

تـأخـذني مـعـهـا إلى السـوق

وبـيـوت ِ جـيـرانـنـا..

حتى وأنـا فـي مُـقـتـَبَـل الـحـزن

لا تـُسـافـرُ أمي إلى كربلاء

إلآ وتأخـذني مـعـهـا..

أنـا عُـكـّازُهـا..

وفـانـوسُـهـا..

وحـامِـلُ صُـرّتـِهـا المـلـيـئـة

بـ " خـبـز الـعـبّـاس "..

والبيض الـمـسـلـوق..

و إبـريـق " شـاي الـزهـرة "..

فكيف سـافـرتْ وحـدهـا لـلـقـاء الـلـه ؟

ربـمـا

تـَسْـتـَحـي من ذنـوبـي!

آه..

من أين ليْ بأمّ ٍ مـثـلـهـا

تـَغـسـلـني من وحْـل ِ ذنـوبي

بـكـوثر دُعـائـهـا

حـين تـفـتـرشُ سـجّـادة َ الـصّـلاة ؟

(20)

يـا أحِـبـائي الـطـيـبـيـن

أرجوكم

لا تسـألـوا الـلـه أنْ يـملأ:

صَـحـني خـبـزا ً..

وكـوزي كـوثـرا ً..

وجسـدي عـافـيـة ً..

وروحـي حـبـورا..

فأنـا بحـاجـة ٍ الان إلى:

صَـبـر رمـال الصحراء على العـطـش..

وتـَجَـلـُّد ِ بـغـل ٍ جَـبَـلـيّ..

وبَـلادة ِ خـروف..

ولا مُبالاة حـمـار..

وإلى خـيْـط ٍ من جـنـون

أرتـقُ بـه ِ

جُـرحَ عـقـلـي!

(21)

لم تـكـن أنـانـيَّـة ً يـومـا..

فلمـاذا ذهـَبَـتْ إلى الـجـَنـَّـة ِ وحـدهـا

وتـَرَكـتـني

في جـحـيـم الـحـيـاة ؟

(22)

مُـذ ماتت الطـيـبـة ُ أمي

لم أعُـدْ أخـافُ عـلـيـهـا

من الـمـوت..

لـكـنـهـا بـالـتـأكـيـد

تـخـافُ الان عليَّ

من الـحـيـاة!

(23)

أغـيـثـوني..

أريـدُ أوراقـا ً من مـاء

لأكـتـُبَ

كـلـمات ٍ

مـن جـمـر!

(24)

حين مات أبي

ترَك لي " فاتورةَ كـهـرباء "..

حين مات ولدي

ترك لي

بدلة َ العـيـد الذي لم يعِـشـه..

أمي ؟

تركت لي عباءتها..

سـأتخذ مـنـهـا سـجّادة لـلصـلاة..

أمّـا أنا

فسـأترك لأطـفـالي

قـائمـة ًطويلـة

بأمنياتي التي لم تـتحـقـق..

منها مثلا

أن يكون لي وطـنٌ آمنٌ.. و

قـبـر!

(25)

الـطـيِّـبـة ُ أمي لم تـمُـتْ..

لا زالت

على قـيـد دموعي

(26)

دفءُ أمـومـتِـهـا

وليسَ حَـطـَبُ مـوقِـدِنا الطيني:

أذابَ جَـلـيـدَ الـوحشـة

في شـتاءات عـمـري..

رائحـة ُ يَـدَيـهـا

وليس نـوعُ الحـنطـة ِ:

جـعـل خـُبـزَهـا

ألذ َّ خبـز ٍ

في الـدنـيـا..!

دعـاؤهـا

ولـيـسَ الـحـظ ّ

أبْـعَـدَ الـحـبـلَ عـن رقـبـتي!

(27)

يومَ صَـفـَعَـتـني

بكـيـتُ كـثيـرا..

ليس لأن الدمَ

أفـْزَعَ الـطـفـل َ الـنائم في قـلبي

ولكن:

خـشـيَة َ أنْ يكون وجهي الفـتِيّ

آلـَمَ كفّ أمي..

(28)

مذ غـادر أبي بيتنا

وهي تجلس عـلى حـافـة الدنـيـا

بانتظار " هدهد الآخرة "..

(29)

مـرَّة ً

لـَسَـعَـتْ نـحـلـة ٌجـيـدَ أمي..

ربما

ظـنـَّتْ نـقـوش جيـدِهـا ورودا زرقاء

لـتـَصْـنـعَ من رحـيـقـها عَـسَـلا..

خـُضـرَة ُ عـيـنـيـهـا

أغـوت الـفـراشـات ِ للإقامـة

في بـيـتـنـا الطينيّ!

(30)

ألـيـوم َ

سَـقـَطـَتْ حـفـنـة ُ أوراق

من شـجـرة مـخـاوفـي:

أمي لن تمرَض َ بـعـد الان..

لن تـُشـقـيـهـا غـُربـتي..

لـن تـُرعِـبـَهـا أسـئـلـة ُالشـرطـة عـني..

وأنـا ؟ منذ الـيـوم:

لن أخـافَ عـلـيـهـا من الـمـوت ِ

أبـدا..!

(31)

آه..

مـَنْ لملايين الـفـقـراء..

المرضى..

المُـشـَرَّدين..

وكلِّ مـَنْ كانت الطـيِّـبـة ُ أمي

تـُطـعِـمُـهـم كلَّ يـوم

خـبـزا ً دافـئـا ً من تـنـّورِ دُعـائـهـا

بـعـد كلّ ِ صـلاة ؟

(32)

أيـهـا الـعِـمى

لـن أخـافـَكَ بـعـد اليـوم..

عـيـنـاي أصـبَحَـتـا

فائـضـتـيـن عن الـحـاجـة..

تمـامـا ً كـالـزائـدة الـدوديـة ِ

ما دمتُ لـن أطـبـق َ بـهـمـا

عـلى وجـه ِ أمي!

(33)

لـو أنَّ مـنْ شـيَّـعْـتُ

يُـفـدى

أبْـدَلـتُ بالـدارَيْـن ِ

لـَحْـدا

أو أنَّ شـَقَّ الـثـوب ِ يُجدي

قـد شـَقـَقـْتُ عـلـي

***

يحيى السماوي

الاغترابُ - في المَنظورِ الأدبيِّ والنَّسَقِ الفَلسفيِّ - لَيْسَ انتقالًا مِنْ مَكانٍ إلى مَكانٍ، أو الابتعادِ عَن الأحبابِ والأصدقاءِ. إنَّهُ شُعورُ الفَرْدِ بالعُزلةِ، والانفصالِ عَن ذَاتِهِ والعَناصرِ المُحيطة بِه، أي إنَّ الإنسانَ يَنفصِل عَنْ جَوْهَرِه، وَيَشْعُر بالغُربةِ وَهُوَ مَوجود بَين الناسِ، وَيَعْجِز عَنْ إيجادِ مَعْنى حقيقيٍّ للأحداثِ اليومية والتفاصيلِ الحَياتية، نَتيجة أسباب نَفْسِيَّة واجتماعيَّة واقتصاديَّة.

والاغترابُ مُرتبطٌ بالمَسؤوليةِ والحُرِّيةِ للإنسانِ في اختيارِ قِيَمِهِ وأفعالِه، مِمَّا قَدْ يُسبِّب لَهُ القَلَقَ والارتباكَ والاضطرابَ، وهَذا يَعُودُ إلى عوامل كثيرة، مِنْهَا: فِقْدَان القِيَم الرُّوحِيَّة، والتَّغَيُّرات الاجتماعية السَّريعة، وضُغوط الحَياة الحَديثة، والابتعاد عَن الطبيعة.

وَتُعْتَبَر قَصَائدُ الشاعرةِ الأمريكية إميلي ديكنسون (1830 - 1886) أفضلَ تَعبير عَن الاغترابِ، حَيْثُ عَكَسَتْ شُعورَ المُثقفين الأمريكيين بالاغتراب بعد الحرب الأهلية (1861 - 1865). عَاشتْ في عُزلة معَ أُخْتِها وأُمِّها، حيث كانت تُفَضِّل كِتابةَ العَالَمِ عَنْ بُعْد، فانسحبتْ مِنْهُ لِتَتأمله. وَوَجَدَتْ ذَاتَها في عُزلتها، كَمَا أنَّها لَمْ تَتَزَوَّجْ. وقد قال أحدُ الشُّعراء الأمريكيين إنَّ العُزلة التي اختارتها إميلي لِنَفْسِها في بَيْتِ أبيها وفي غُرْفتها الخاصَّة، لَمْ تَكُنْ هُروبًا مِنَ الحَياة، بَلْ إنَّ الأمر عَلى عَكْسِ ذلك، فقد كان اعتزالُها مُغَامَرَةً إلى قلب الحياة التي اختارتْ أن تَكْتشفها وتُروِّض مَجهولَها، تلك الحياة الشاسعة الخَطِرة، كثيرة الآلام، ولكنِ الأصيلة.

وَالشاعر النمساوي راينر ريلكه (1875- 1926) تُعْتَبَر حَيَاتُه مِثَالًا واضحًا عَلى الغُربةِ والاغترابِ والتَّهميشِ والإقصاءِ، في حِقْبَة اتَّسَمَتْ بِتَوَالي الأزماتِ الاقتصادية، وسَيطرةِ الرَّأسماليَّة، وَالتَّوَسُّعِ الاستعماريِّ. وَقَدْ جاءتْ أعمالُه الشِّعْرية والنثرية ورسائلُه تَعْبِيرًا عَنْ إحساسِه الحَياتيِّ العَميقِ بالاغتراب، وانكفاءِ الفِكْرِ والحَياةِ الرُّوحِيَّة، وانعزالِها عَن العَالَمِ الخارجيِّ، مِمَّا وَلَّدَ حَالَةً مِنَ الحَسَاسِيَّةِ المُفْرِطَةِ التي أنتجتْ بِدَوْرِها انطوائيةً صَعْبَة.

والأديبُ التشيكي فرانز كافكا (1883 - 1924) عَانَى مِنْ غُربته الرُّوحِيَّة واغترابِه العاطفيِّ، وعُزلته الوِجْدَانِيَّة، فَهُوَ يَشْعُر عَلى الدَّوَامِ أنَّه خَارج الزَّمانِ والمَكانِ، ولا يَنْتمي إلى العَناصرِ المُحيطة بِه، فَهُوَ تشيكي المَوْلِد، يَهُودي الدِّيَانة، يَكْتُب وَيَتَكَلَّم بالألمانية. وهذا الأمْرُ يَحْمِلُ في طَيَّاتِهِ بُذورَ العُزلةِ والغُربةِ والاغترابِ، فالتشيكُ يَعْتبرونه ألمانيًّا، والألمانُ يَعْتبرونه يَهُوديًّا. وَمَعَ أنَّه تشيكي المَوْلِد لا يَكْتُب باللغة التشيكية، وَمَعَ أنَّه يَهُودي الدِّيَانة لا يَكْتُب باللغةِ العِبْرِيَّة. وَهَذه الغُربةُ المُتفاقِمة جَعَلَتْ مِنْهُ شخصًا خجولًا ومُعَذَّبًا، وأدخلته في صِدَامٍ مَعَ وَالِدَيْه، فصارتْ علاقاتُه الاجتماعية مُتوترة تمتاز بالقَلَقِ والخَوْفِ، وَلَمْ تَكُنْ أزماتُه الاجتماعية إلا انعكاسًا لأزماته الرُّوحِيَّة.

والشاعرُ الإيطالي جوزيبي أونغاريتي (1888 الإسكندرية بِمِصْر - 1970 مِيلانو بإيطاليا)، عَبَّرَ عَنْ ضِيقِه بالعَيش وَتَبَرُّمِه به، واستحواذِ فِكرة المَوْتِ وَهَاجِسِهِ عَلى نَفْسِه، فَبَحَثَ عَنْ وَطَنٍ حَقيقيٍّ ضائع ومُختبئ في ليل الزمان السحيق. كما بَحَثَ عَن " البَرَاءَة الأُولَى ". وتُظْهِر هذه الأحاسيسُ كُلُّها أنَّ جُرْحَ النَّفْيِ والاغترابِ الذي كانَ يَشْعُرُ بِهِ على الدَّوَامِ لَمْ يَنْدَمِلْ عِنْدَه. وَقَدْ زَادَ مِنْ حِدَّةِ اغترابِهِ عَنْ وَطَنِهِ آنذاكَ مُعارضته للفاشيَّة وأفكارِها المُتطرفة، فَشَدَّ الرِّحَالَ،وسافرَ إلى البرازيل،لِيُدَرِّسَ فِيها الأدبَ الإيطاليَّ الحديث خِلال الفَتْرَة (1937 - 1942).

والفَيلسوفُ الألمانيُّ كارل ماركس (1818- 1883) صَاغَ مَفهومَ المَادِيَّةِ الجَدَلِيَّة انطلاقًا مِنْ مَفْهُومَي الجَدَلِيَّةِ عِند هِيغل، والمَادِيَّةِ عِند فيورباخ، وَوَظَّفَه كَي يُقَدِّمَ تَصَوُّرًا ماديًّا للتاريخ الإنسانيِّ، وَشَرَحَ مَفهومَ الاغترابِ (الاستلاب) الاقتصاديِّ، الذي يُؤَدِّي بِدَوْرِهِ إلى اغترابٍ اجتماعيٍّ وَسِيَاسِيٍّ للإنسانِ، وَفْقًا لأُطْرُوحته. يَرى ماركس أنَّ العَمَلَ في ظِلِّ الرَّأسماليَّةِ يُؤَدِّي إلى اغترابِ العَامِلِ عَنْ ذَاتِهِ وَعَمَلِهِ المُنْتَجِ وَزُمَلائِه، وهَذا الاغترابُ يُؤَدِّي إلى استلابِ الإنسانِ، وَفِقْدَانِ مُلْكِيَّةِ عَمَلِه، وبالتالي يَفْقِد إنْسَانِيَّتَه، وَيَخْسَر مَشَاعِرَه وأحاسيسَه وكِيَانَه وَشَخْصِيَّتَه وَهُوِيَّتَه.

والفَيلسوفُ الألمانيُّ مارتن هايدغر (1889 - 1976) تَقُومُ فَلسفته على ثلاثة أركان: القَلَق، الاغتراب، المَوْت. وَيَبْرُزُ مَفهومُ الوُجودِ الوَهْمِيِّ، حَيْثُ يُعَاني الإنسانُ مِنَ الاغترابِ، فَيَتَقَمَّص الآخَرِين، ولا يَجِدُ نَفْسَه، وَهَذه المَرحلةُ تُمثِّل نَوْعًا مِنْ عَدَمِ الوُجود. أي إنَّ الإنسانَ يَغْفُلُ عَنْ حَقيقةِ وُجُودِه، وَيَخْضَع لتأثيراتِ المُجتمعِ، والعَاداتِ، والتَّقاليدِ، وإفرازاتِ النِّظَامِ الاستهلاكيِّ المَادِيِّ، وَيَفْقِد ارتباطَه بالذاتِ والعَالَمِ، نَتيجة عَدَمِ وُجودِ مَعنى واضح للحَياةِ، أوْ لِعَدَمِ قُدْرته على تَحقيقِ الأصالةِ،وهَذا يَجْعَلُهُ يُعَاني مِنَ الغُربةِ الرُّوحِيَّةِ، والاغترابِ عَنْ ذَاتِهِ ومُحِيطِه. ولا بُدَّ مِنَ التركيز على الأسئلةِ الوُجوديةِ وَمَعْنَى الكَيْنُونة.

والفَيلسوفُ الألمانيُّ الأمريكيُّ إريك فروم (1900 - 1980) يُعْتَبَر مِنْ أهَمِّ الفَلاسفةِ الذين تَعَرَّضوا لأزمةِ الإنسانِ المُعَاصِر، وَقَدْ سَاهَمَ في جَعْلِ مُصْطَلَحِ " الاغتراب" مِنَ المُصْطَلَحَاتِ المَألوفةِ في القَرْنِ العِشْرين، مِنْ خِلالِ أبحاثِه وَدِرَاسَاتِه. وَطَرَحَ مَسألةَ غُرْبَةِ الإنسانِ عَنْ نَفْسِهِ نَتيجة النَّزْعَةِ نَحْوَ الاستهلاكِ التي تَفْرِضُهَا المُجْتَمَعَاتُ الصِّنَاعِيَّة.

***

إبراهيم أبو عواد / كاتب من الأردن

دِراسةٌ في شَخصيَّاتِ رِوايةِ (بَابُ الدِّروَازةِ)

تَقديمٌ: (بَابُ الدِّروازَةِ)، مُدوَّنةُ رِوايةٍ للأديب العراقيّ والكاتب الشُّمولي المثابر علي لفتة سعيد، والفائزة بجائزة الإبداع السرديّ العراقيّ لعام (2023م) في حقل الرِّواية التي أطلقتها وزارة الثقافة والسياحة والآثار في العراق. تعدُّ هذه الرواية في تصنيفها الأجناسي من الأدب الرِّوائي السِّيري، أو السرد الذاتي التوثيقي للشخصيِّات الروائيَّة (أصواتِ الرِّوايةِ)، أو رموزها الفواعلية القائمة بالحدث، والتي بُنيت عليها وقائع وأحداث الرواية في تَراتُبِها وفق الخطِّ الزمني المُمتدّ لها تاريخيَّاً بنحو ثلاث سنوات، من عام (1978م حتَّى بداية عام 1980م). وقد أشار الكاتب لهذه الأرخنة التاريخيَّة في مطلع افتتاحية السطر الأول من الرواية، وتحديداً في جزئها الأول، ثمُّ تِباعاً في أجزائها العَشرةِ.

تعتمد رواية (بابُ الدِّروازةِ) في تنامي بنائها الهرمي الحثيث وحركة سَيرِها السَّردي الفعلي بالدرجة الأولى على تقنية الحوار الداخلي أو (المُونولوج) الحركي الدَّرامي الذي يمنح السرد الذاتي السِّيري بُعدَاً إثرائيَّاً وفكريَّاً فاعلاً لديمومة الحدث الجمالي في تصاعد ديناميَّة صراعه زمانياً ومكانياً. وقد تمثَّلت تَمظهرات هذا الحوار وحِدَّةُ تشابكه الحَدَثي أو أوج عظمتها بين شخصيَّة (سعيد)، الرجل العلماني بائع الثلج في باب الدِّروازة، وشخصيَّة المجاور لمحلَّه ونظيره (هادي) بائع السِّبَحِ والسِّجاد وتُرب الصلاة،الرَّجلُ المُتدين والمُتلفع بعباءة الدين الإسلامي شَكلاً ومضموناً.

وأنَّ وتيرة هذا الحوار الفكري الناشب عقائدياً وفكريَّاً بين الشخصيتين المتضادتين والمُؤدلَجتين كانت سبباً مهمَّاً من أسباب نزوح الكاتب إلى أنْ يكون تسريده الحكائي لواقعة الحدث الموضوعيَّة على أساس بِنية المِيتا سرد الحداثوي في وقعه الأُسلوبي الذي يلفت اهتمام القارئ وعنايته له، ويَحضُّهُ ذهنيَّاً على التواصل مع مجريَات الحدث الرِّوائي الشائق في التتابع وعدم تركه حتَّى نهاياته الأخيرة. خاصةً وأنَّ الكاتب (السَّارد) قد برعَ في توظيف تقنيتَي (الاستباقِ والاِسترجاعِ) وتوزيعهما على انثيالات فضاء السرد بطريقةٍ فنيَّ وأُسلوبيةٍ تُريحُ المتلقِّي والقارئ وتُسهم إيجابياً في تنامي وتسريع عجلة الصراع الدائر بين الشخصيَّات المتشابكة، وفكّ حبكتها العُقدية المغلقة.

هذا من جانب ومن جانبٍ آخر تمنح المتلقِّي والقارئ معاً مِساحةً كبيرةً من حُريَّة التفكير والتماهي -زمكانياً- مع أنساقها في فهم وقائع أحداث الرواية والاستمتاع ذائقياً بمشاهد حركة شخوصها في حقبةٍ مهمِّةٍ من تاريخ العراق السِّياسي الحديث، والتي ما زالت تأثيراته السياسيَّة والاقتصاديَّة والاجتماعيَّة والدينيَّة والثقافيَّة عالقةً في الذهن العراقي. فضلاً عن أنَّ هذا اللَّون من الكتابة السردية ذات الطابع السِّيَرِي والتوثيقي المَدِيْنِي الَّذي تميَّزت به أُسلوبية الكاتب علي لفتة سعيد في خاصية معجمه السردي يجمع في إبداعيته التعبيرية وفنيته الموضوعية الكتابية بين اشتغالات التنقيب في حفريَّات الذاكرة الجمعية المشتركة، والتجريب الذاتي الفنِّي، وبين الواقعة السِّحرية المُتجدِّدة وخاصيَّة التأمُل الفكري والفلسفي الذي يعطي العمل الأدبي أهميةً كبيرةً، وميزةً مغايرةً في السرديَّات الحديثة. ولهذا لا يمكن أنْ نعدَّ سردياَّت متن (بَابُ الدِّروازةِ)عَملاً أدبياً مُتمَايزاً فحسب، وإنَّما هو ثورة ذاتيةٌ داخليَّةٌ ضدَّ فعل ديستوبيا وأشكال الظلم والتهميش والانعتاق والتحرُّر للتعبير عن طابع الهُويَّة والانتماء الذاتي الواحد للوطن الكبير، ومن ثمُّ العبور تلقائياً عبر هذا الخطِّ الدفاعي المُستميت إلى جادة الحقِّ والصَّواب ويُوتويبا مدينة الخير الفاضلة سردياً في الِّرواية.

عَتبةُ الرِّوايةِ العُنوانيَّةِ:

من يقصدُ زيارة الإمامين، موسى الكاظم ومُحمَّد الجَواد بمدينة الكاظمية المقدَّسة في بغدادَ، لا بُدَّ وأنْ يسلكَ أحد الطرق أو شوارع الأبواب الثلاثة المؤدِّية للضريح المقدَّس والتي يُطلقُ عليها أبواب الإمام الكاظم. وأعني بذلك تحديداً بابً القبِلة، حيث الدخول منه إلى ضريح الإمام موسى الكاظم، وباب المراد المرتبط بلقب الإمام الجَواد والدَّال على قضاء الحوائج من خلال اسمه (باب الحوائج)، وباب الدِّروازة (مثابة الرِّواية) المؤدِّي إلى سوق السِّربَادي التاريخي الشهير في مدينة الكاظمية. وكلُّ بابٍ من هذه الأبواب الثلاثة يرتبط بشارع يؤدِّي إلى صحن ضريح الإمام الذي تُحيطُ به المحلَّات الكثيرة المتاجر المتنوعة وبعض الفنادق السِّياحيَّة، ويكثر فيه الباعة المُتجولون.

إنَّ اختيار الكاتب علي لفتة سعيد لِجُملة (بابُ الدِّروازةِ) عتبتهً عنوانيةً رئيسةً لافتةً لروايته، يعدُّ اختياراً عينيَّاً مُوفقاً من حيثُ المعنى الدلالي التاريخ والديني لدَالة (الدِّروازة) ذات الأصل الفارسي، والتي تعني عُجمتها بالعربيَّة البابَ أو الرِّتاجَ المفتوحَ، أمَّا من حيثُ المبنى الموضوعي المكاني فباب الدِّروازة يؤدِّي عمليَّاً وحركيِّاً إلى بابي القبِلة والمراد معاً. فهو الأكثر توسُّطاً وشهرةً من معالم مدينة الكاظمية المُقدَّسة دينياً واقتصادياً وثقافياً وروحياً وفكريَّاً، فضلاً عن كونه مثابة روحيَّة وسياحيةً مكانيةً للزائرين وعمل الفقراء والمُعدمين والمُهمَّشين العاطلين من أبناء الجنوب البسطاء.

ويُعدُّ (بابُ الدروازة) مَعلَمَاً تجارياً بارزاً للزائرين الذين يقصدون زيارة الإمامين. إذنْ (باب الدِّروازة) يُمثِّل أيقونةً ثقافيةً ودينيةً تاريخيَّةً كبيرةً وسيميائية رمزيةً بارزةً من مظاهر هذه المدينة السيَّاحية الكثيرة التي أراد لها الكاتب أنْ تدور فيها أحداث ووقائع روايته السردية وتتفاعل حركيَّاً شخوصها الفواعليَّة في خان الدروازة السكني مع مثابات الحدث الجديدة التي وظَّفها الكاتب له.

وليس مع نفسها فقط وإنَّما مع خطِّ عالمها المحيطي الاجتماعي الذي يلفُّه الكثير من آثار الغموض والضبابية والمجهول إلَّا تحقيق المأمول من الطموح المستقبلي والوصول إلى الغايات والأماني المنشودة. وهذا ما تُوحي به رمزيَّاً لوحة الغلاف الأولى المُتَّشحة بالسواد والحزن الظاهر، والتي تشي في الوقت نفسه بإظهار مظلومية وصرخة الجماهير الشعبية المُحتشدة من أجل التخلُّص من نِيرِ الدكاتورية المُستبدة بوجع الحروب التي تنتظرها وتحطُّم مستقبلها الجودي وتُهدِّد كيانها الآمن.

و(بَابُ الدِّروازة) على الرُّغم من مكانته الدينية والسياحيَّة التي يتمتَّع بهما فإنّه باب الحُريَّة وطريقها المقصود في نيل الغايات والأهداف والتمنيَات لإحلال الأمن والطمأنينة والسلام الوارف: "إنَّ العِراقَ كُلَّمَا تَعرَّضَ إلَى اِحتلالٍ تَتغيرُ الأسماءُ أو تُضافُ لَهُ أسماءٌ جَديدةٌ تَدلُّ عَلَى وجُودِ المُحتلِ". (بابُ الدِّروازةِ، ص 42). هذا الرأي يُعرفُ تَاريخياً في اختيار أسماء تدلُّ على بقايا من المحتل.

أمَّا لوحة الغلاف الثانية أو ما يسمُّى بـغلاف (التَّظهِير)،فَقد جاءت تأكيداً للخطِّ الزمني لسبعينيَّات القَرن العشرين، تلك الحِقبة الزمنية المهمَّة والفارقة من تاريخ العراق السياسي والمحصورة بين نهاية حكم أحمد حسن البكر وبداية تولي صدام حسين حكم العراق. فهي تعدُّ الشرارة النارية التي انطلقت منها أحداث الرواية بِدأً من ريف العراقي الجَنوبي بسوق الشيوخ وانتهاءً ببغداد العاصمة.

والتي شهدت بعدها أحداثاً وتطوراتٍ سياسيَّةً وأيدلوجيةً مهمَّةً ومثيرةً للدولة وواقع الشعب في تقرير المصير المجهول. وجاءت بعدها العتبة الافتتاحية للرواية التي ارتأى فيها الكاتب علي لفتة سعيد أنْ تكون تَجييراً ذاتياً وإهداءً حقيقياً لِجِدَّته العجوز التي ما زال مسكوناً بحبَّها الإنساني ووفاءً لها؛ كونها كما يرى الصَّوت الذي منحه هُويته الإبداعية المتفرِّدة الحروف، حيث قال عنها: "إِلَى جِدَّتِي، لَمْ يَزلْ صَوتُكِ يَمنحنِي هُويَّةَ المُكوثِ بَينَ الحُرُوفِ"، ويَعنِي حروف الكتابة والقراءة.

أَبنيةُ الرِّوايةِ المَكانيَّةُ:

يبدأ خطُّ الشروع المكاني الأوَّل لرِواية (بَابُ الدِّروازةِ)الصادرة بطبعتها الأولى في عام (2022م) عن دار الشؤون الثقافية العامة لوزارة الثقافة والسياحة والآثار في بغداد/ العراق، والتي تعدُّ من فئة القطع الكتابي المُتوسِّط التكثيف، والذي يقع بنحو (240) صفحةً، حيثُ تنطلق رحلة المكان والزمان فيها من مدينة سوق الشيوخ ذات الطابع الريفي بالناصرية، والتي هي إحدى أقضية مركز محافظة ذي قار المهمَّة ثقافيَّاً وإبداعيَّاً في الجَنوب العراقيّ السُّومريّ، وقوفاً بها عند مدينة بغداد مركز العاصمة والثقافة والحياة النابضة. حيث مدينة الكاظميَّة السَّياحية ولدينيَّة المُقدَّسة حتَّى بناية الخان مثابة الحدث الروائي، الذي عُرِفَ عنه أنَّه من المباني التي شُيِّدت إبَّانَ فترة العهد العثماني الذي حكمَ العراق أربعة قرون من الزمن. ويُعدُّ الخان من أولى مباني هذه المنطقة.

وإنَّ ميزة هذا الخان المُوقعيَّة بأنَّه يُمثِّل قلب الحدث، وفي زُقاقٍ قريبٍ من بابي القِبلة والدِّروازة، ومن مكان عمل شخوص الرواية، وخاصةً البطل الرئيس الذي يعمل في معمل الثلج الذي يديره زوج خالته المدعو سعيد. وتأتي أهمية هذا المكان الذي اختاره الكاتب سعيد عنواناً لروايته (بَابُ الدِّروازةِ) في كونه من أكثر الأمكنة والمثابات البغدادية الشهيرة التي مرَّ بها أغلب الرموز السياسية والمسؤولون الذين تعاقبوا على حكم العراق قاصدينَ من خلالهِ الوصول لزيارة ضريح الإمامين (الكاَظم والجَواد)،بُغيةَ تحقيق المُراد وطلبَ الدُّعاء والتَّبَرُّك بهما قولاً وعملاً وربَّما واجباً.

والغريب أنَّ هذا الخان ببنايته الشعبة القديمة المُتهالكة الجدران، والتي كانت مَلاذاً آمناً يأوي المُعدمينَ من عامةِ الفقراء والمُعوزِّين من محافظات الجنوب العراقي يحتوي على عشر غُرف ضيِّقةٍ صغيرةٍ جدَّاً تضمُّ عشر أُسرٍ أو عوائل في غرفة فقيرةٍ بسيطةٍ يصل مجموع ساكنيها بنحو سبعة وعشرين فرداً أو نسمةً بشريةً كما يُشير إلى ذلك كاتب الرِّواية وراويها العليم الذي يصف بطل روايته الفتى أو الَّصبِي الجَنوبي (خلَّاوي) الَّذي له من العمر سِتةَ عَشرَ رَبيعاً، فيقول واصفاً:

"هُوَ الآنَ يَجلسُ فِي غُرفةٍ صَغيرةٍ مِنْ غُرفِ بِنايةٍ قَديمةٍ تُسَمَّى الخَانَ، تَسكنُهُ أكثرُ مِنْ عَشرِ عَوائلَ فَقيرةٍ، كُلّهُم جَاءُوا مِدْنٍ وَمَحافظاتٍ أُخرَى. الغُرفةُ تَقعُ فِي أَولِ الخَانِ، مَا إنْ يَنتهِي مُمرُّ البَابَ الخَشبِيِّ الكَبيرِ الَّذي طُولِ الغُرفةِ ذَاتِها، والَّذي لَا يَتعدَّى ثَلاثَ أمتارٍ، وَعَلَى جِهةِ اليَمينِ تَقعُ الغُرفةُ الِّتي عَرضُهَا لَا يزيد عَلَى المِترينِ وَنِصفِ المَتِرِ.. وَهيَ بِذاتِ المِساحةِ أو أكبرٍ بِقليلٍ لِلغُرفِ الأُخرَى المُوجودةِ عَلَى ثَلاثةِ أضلاعٍ مِنْ أضلاعِ سَاحةِ الخَانِ". (بَابُ الدِّروازةِ، ص 8).

على الرغم من الشعور بالقَلق والغُربة والحَيرة وعامل التَّوهان النَّفسي فإنَّ هذا المكان وغيره من أحياء بغداد والكاظمية كان مُبهراً وسَاحراً للشاب المراهق القادم من بيئة حياتية شعبية ريفية مسالمةٍ ومُغايرةٍ لتعقيدات المدينة وجوها العام. خاصةً وأنَّ خلَّاوي بطل رواية (بَابُ الدِّروازةِ) الكُلِّي لم يتركَ مدينته سوق الشيوخ يوماً فيجرب السفر أو الرحيل عنها إلَّا لبغداد الساحرة لعقله.

قاصداً هذه المدينة المُذهلة بعمرانها وزحمتها التي وصل إليها وانبهر بها وبمثاباتها العالية الكبيرة التي أدهشته. فاختلطت عليه دالات الطريق وعُنواناتها، واشتبكت عليه تشعُّبَات وكثرة فضاءاتها في الوصول إلى الخان المقصود. فهي أشبه بِحُلُمٍ مرَّ عليه، يراها كامرأةٍ أُنثى تُمشط شَعرَها على ضفاف نهر الفرات كما يوصفها أخوه الأكبر سليم طالب الدكتوراه في معرض المقارنة بين مدينته سُوق الشيوخ الصغيرة وبغداد العاصمة الحضرية الضَّاجة الكبيرة بالسُّكان ومبانيها العالية العمران، وبمشاهد سيَّارات مَصلحة نقل ِالرُّكاب الحمراء الإنكَليزيَّة ذات الطابقين التي تُشبِهُ الكائن الخّرافيَّ بحركتها الإنسيابية المُثيرة كالنحل تجري في شوارع بغداد الأزل.

كلُّ هذه الصور (الإيموجية) والبصرية المتحركة شكَّلت هاجساً مثيراً لديه عن طبيعة الحياة والمكان في الكاظمية والعاصمة بغداد. فهي لحظة كَالحُلُم الذي يمضي سريعاً عنه فجعلته في غمرة اندهاش وذهول وتفكير تامٍ. وكانت له حكاية، بل حكايات وصراع مع تداعيات المكان والزمان وشخوصه في البقعة التي يَقطن فيها ويَحيا ويَعمل رافِلَاً بالحياة ومكابدة العيش، وكان حقَّاً عاشقاً لشوارعه وأزقته الضيِّقة وفضاءاته اللصيقة التي أصبحت جزءاً مهمَّاً من مكان عمله اليومي::

"كَانَ ذَلكَ فِي صيفِ عام 1978،حِينَ وَطَأةْ قَدمَاهُ أَرضَ العَاصمةِ بَغدادَ.. كَانَ وَقتَهَا فَرِحَاً، سَعيدَاً، عَامرَاً بالبهجةِ، كَأنَّهُ تَخلَّصَ مِنْ اِلتصاقِ تَجمُّعاتِ الحُزنِ فِي قَلبِهِ وَعَلَى جَسَدهِ.. كَانَ حِينَهَا مُنبهِرَاً حَتَّى مِنْ ضَوءِ الشَّمسِ، يَرَاهَا تَختلِفُ عَنْ الَّتي تُشرِقُ مِنْ صَوبِ مِنطقةِ الصَّابئةِ مِنَ الجِهةِ الثَّانيةِ مِنْ نَهرِ الفُراتِ الَّذي يَمرُّ بِمدينةِ سُوقِ الشُّيوخِ.. لَمْ يَزلْ لِتَوِّهِ يَنزلُ مِنَ السَّيارةِ الَّتي أقلَّتهُ مِنْ كَراجِ النَّاصريَّةِ إلَى كَراجِ النَّهضةِ. فِي مُنتصفِ الطَّريقِ نَامَ مِنِ تَعبِ السَّهرِ وَهوَ يَحلمُ بِالسفرِ إلَى بَغدادَ وَالعَيشِ فِيهَا كَأيِّ مُواطنٍ لَا تُلاحقُهُ الظُّنونِ ولَاَ العَوزِ وَلَا اليُتمِ.. سَيعيشُ مَعَ أخِيهِ وَجِدَّتِهِ". (باب الدروازة، ص 5).هذه هي الصورة الكُليَّةالتي رسمها الكاتب ابن الناصرية لبطله.

لم تقف حركة البطل على المكان الذي يعيش فيه ويعمل فقط، وإنَّما دفعه شعوره الحركي والنفسي إلى التجريب والتَّنزُّه والتحوَّل والانتقال الحركي والاطِّلاع على أماكن وضواحٍ أخرى في مدينة الكاظمية وبغداد العاصمة، فذهب إلى منطقة الشوصة وإلى ساحة عدن وأحياء في النوَّاب وإلى حديقة 14 تموز. وسمع بالوزيريَّة التي لم يزرها وبكرَّادة مريم وتخيَّلها، تلك المنطقة على نهر دجلة والَّتي يقع فيها بيت نوري السَّعِيد رئيس وزراء العراق في العهد الملكي. ثمَّ اتَّسعت رقعة المكان في الرواية لتشمل أماكن أخرى مثل، كُليَّة الإدارة والاقتصاد وأكاديميَّة الفُنُون الجميلة في جامعة بغداد، ومعاهد وكُليَّات أخرى يسمع بها ولم يرَها من ذي قبل، وكان مَسكوناً بأحيائها.

والَّلافت للنظر أنَّ أغلب أحداث الرواية، بل إنَّ معظمها كان يدور في حيٍّ ما بين الخان القريب من باب الدروازة ومن معمل الثلج الذي يديره زوج خالته سعيد والقريب بمسافة ربع ساعة تقريباً عن موقع الخان الذي يؤدِّي فرعه الضيِّق إلى ضريح الإمام الكاظم. فَالبِنيةُ المَكانيَّةُ على الرغم من كونها ضيِّقة ومحصورةً بين مثابتينِ مُحدَّدتينِ بَيدَ أنَّها تُشكِّل عالماً واسعاً وكبيراً من مُخيلة الفتى خلَّاوي ومن مِساحة تفكيره الذهني الحائر الذي أخذ بالنمو والنضوج الفكري والثقافي والحضاري:

"كَانَ عَليهِ فِي كُلِّ صَباحٍ الذَهابُ إلَى مِنطقةِ بَابِ القِبلَةِ يَقطعُ المَسافةَ مَشيَاً لِمُدَّةِ رُبعِ سَاعةٍ، فِي طِقسٍ يَوميٍّ. كَانَ فِي بِدايتهِ أشبهَ بِاستطلَاعٍ لِمَا يَمكنُ أنْ يَكونَ دَهشةً لِحياتِهِ الجَديدةِ، قَبلَ أنْ تَتَحوَّل هَذهِ الدَّهشةُ إلَى رُوتينٍ يَومِي بِداخلهِ الخَوفُ فِي الكَثيرِ مِنَ الأحيانِ.. يَذهبُ إلَى هُناكَ حَيثُ مَحلِّ زَوجِ خَالتِهِ لِبيعِ الثَّلجِ.. المَحَلُّ يَقعُ فِي زُقاقٍ ضَيِّقٍ لَا يَبعدُ عَنْ مَرقدِ الإمامِ موسَى الكَاظمِ سِوَى عُبورِ شَارعٍ لَا يَزيدُ عُرضهُ عَنْ ثَمانيةِ أمتارٍ وَعُرضُ الزُّقاقِ لَا يَزيدُ عَنْ ثَلاثةِ أمتارٍ، لَهُ فَتحتانِ تَطلُّ الأُولَى عَلَى شَارعِ بَابِ القِبلَةِ والثَّانيةُ عَلَى بَابِ الدِّروازةِ المَلِيءِ بِمحَالٍ مُتنوِّعةٍ لِبيعِ المَلابسِ والأحذيَةِ وَلَعبِ الأطفالِ وَمَلابسِ العِرسَانِ، وَحَتَّى اللِّحِفُ وَالبطانياتُ". (بَابُ الدِّروازة،ص11، 12).

وعلى الرُّغم من كُلِّ ذلك العالم المكاني الجديد على نفسية وتصوُّر الصَّبي خَلَّاوي فإنَّه كان ينتابه شعور داخلي عميق من غربة المكان وغياب أثر الطفولة والمقرَّبينَ من أصدقائه في سُوق الشيوخ والفسحة الدائمة في أماكنها اللصيقة به، وربَّما أثَّرَ عليه أمر الدراسة وجوها مؤقتاً ودخوله في حياة عمليَّةٍ جديدةٍ أخرى مُغايرة لنمط حياته السابقة بسوق الشُّيوخ، فولَّدَ لديه انطباعاً نفسياً قلقاً ورؤى خياليَّةً مُخيفةً شكَّلت جزءاً فكريَّاً كبيراً من روتين حياته الجديدة. ولكن ذلك الحال يحدث لبُرهة من الزمن ويتغيَّر بين لحظة وأخرى، وينتابه شعور جديد بالفرح والسرور حين تبدأُ:

"لَحظاتُ الرَّاحةِ بِالنسبةِ لِخَلَّاوي حِينَ يَحملُ قَالبَ الثَّلجِ أوْ حَتَّى نَصفَهُ وَيَذهبُ بِه إلَى فُندقِ السَّعادةِ أوْ فُندقِ الأُمَّةِ فِي شَارعِ الشَّريفِ الرَّضيِّ المُحاذِي لِشارعِ بَابِ القِبلَةِ، وَالَّذي يَبدأُ مِنْ رَأسِ شَارعِ بَابِ الدِّاروازةِ ويَنتهِي كَمَا شَارعِ بَابِ القِبلَةِ بِساحةِ بَابِ القِبلةِ، أوْ بِالأحرَى سَاحةِ المَدرسَةِ الإيرانيَّةِ الّتِي تَقعُ عَلَى يَمينِ الشَّارعِ مِنْ الجَهةِ الأخُرى، الَّتي يَقعُ خَلفَهَا سُوقُ السّربَادي. المُهمُّ أنْ يَخرجَ ويَحفظَ عَلَى الأقلِّ أسماءَ هَذهِ المَناطقِ وَيَحفظُ خَارطتَهَا وَيَعرفُ أُناسَهَا وَأصحابَ مِحالِهَا وَحتَّى مَجانِينهَا وَمُتسوِّلِيهَا، وَبَائعِي (جَنابرِ) السَّكائرِ وَالعُطورِ عَلَى الأرصفةِ، حَيثُ يَهربونَ كُلَّما شَاهدُوا رِجَالَ البَلديَّةِ...". (بَابُ الدِّروازةِ، ص 21، 22).

إنَّ أكثر ما يخيف خلَّاوي ليس وحشة المكان وغربته وتصرُّفات سعيد زوج خالته الذي يعمل معه عاملاً في معمل الثلج، وإنَّما ما يُخيفه فعلاً هو تصرُّفات وأفعال أصحاب المحلَّات والفنادق والباعة المتجولون غي هذه المدينة من الذين يعاقرون الخمر ويفعلون الرذيلة، وهم قريبون من ضريح الإمام وفي عتبات محيطه الخارجي، فما أسوأهُ من شعور وإحساس بفعل المنكر السيء:

"لَكنْ هَذِه المَرَّة لَمْ يَكنْ مَا يُخيفهُ زَوجُ خَالتِهِ،بَلْ مَا رَآهُ فِي الفُندقِ،أو مِنْ صَاحبِ الفُندقِ تحديداً، وَلَمْ يَستطعْ تَفسيرَهُ. كَانَ الرَّجلُ يَجلسُ خَلفَ مُنضدةِ الفُندقِ فِي صَالةِ الاِستقبالِ الَّتِي لَا تَنتمِي إلَى الصَّالاتِ الَّتِي يَراهَا فِي التِّلفزيونِ ، هِيَ مُمرٌّ صَغيرٌ يَفصلُ البَابَ الخَارجيَ عَنْ غُرفِ الطَّابقِ الأرضِي، هُناكَ سُلَّمٌ ضَيِّقٌ لَا يَسعُ لِنَزيلينِ، وَحَتَّى سُلَّمُ الخَانِ فِي الزَّاويةِ المَيِتَةِ البَعيدةِ أعرضُ مِنُه. كَانتْ السَّاعةُ فِي حِينِهَا قَدْ أطلَّتْ عَلَى الثَّالثةِ ظُهرَاً، حِينَ دَخَلَ إلَى الفُندقِ وَكَانتْ غُرفةُ صَاحبِ الفُندقِ مَفتوحَةً وًهوً يًشربُ الخَمَر، فِيمَا كَانتْ بِالقربِ مِنهُ مُتسوِّلةٌ رَاهَا كَثيرَاً فِي بَابِ القِبلةِ. خَرَجَ مُسرعَاً بَعدَ أنْ تَحوَّلَ الرَّجلُ إلَى كَلبٍ فِي لَحظةٍ مُباغتةٍ..." (بَابُ الدِّروازةِ، ص 23، 24).

التَّجلِّياتُ الفَنيَّةُ لِشخصيَّاتِ الرِّوايةِ:

من يقرأ التمثَّلات السرديَّة لشخصيَّات مُدوَّنة (بَابُ الدِّروازةِ) بوعيٍ وإدراكٍ عميقينِ سيلحظُ بعينٍ بصريةٍ ثالثةٍ أنَّها من نوع وصنف الروايات (البوليفونيَّة) المُتعدِّدة الأصوات والشخصيَّات والرموز المُتحركة. وعلى الرُّغم من تلك التعدُّدية الشخصيَّة فإنَّ للرواية شخصيتها المركزية وبطلها المحوري الرئيس الذي هو بؤرة الحدث ونقطته المُحورية،والتي يمكن أنْ تتشظى حكاياتها الفاعلية وتنتشر من قلب ثِيمتها المركزية التي هي مركز اشتغالات واقعة الحدث الموضوعية للرواية.

وليس هذا عملها فقط فإنَّها تتجزأ وتتوحَّد فنيَّاً بوحدةٍ سرديَّةٍ مَوضوعيَّةٍ مُترابطةِ البنيان تشكِّل لُحمة الحدثِ وَسُداه العضويَّة الكبرى التي لا ينفرط عقدها أو نسيجها السردي عن الإمساك بتلابيبه الفكري السردي، وعن نواته الحقيقية التي هي بالتأكيد تُعدُّ نقطة التَّلاقي والتَّجافي والتَّصافي والاختلاف معاً عبر سلسلة من الروافد والأنساق الموضوعية والثقافية التي تُبنى عليها أحداث الرواية تصاعديَّاً وتكتمل بها فكرة الخطاب السردي للمُدوُّنة من خلال شخصيتها المركزية الرئيسة أولاً وشخوصها الثانوية المساعدة في بناء الحدث الكلي للرواية ثانياً.

غيرَ أنَّ كلَّ هذا يُعدُّ سياقاً أُسلوبيَّاً تعبيريَّاً معروفاً ومألوفاً في أبجديات السرد الروائي وفي تقاليد كتابته التخليقيَّة إنتاجاً. بيدَّ أنَّ اللَّافت للنظر وغير المعروف من أنساق فنيَّة التعبير السردي الخفية في اشتغالات هذه الرواية يتَّصل بالجانب الإبداعي والفكري والفلسفي لرؤية الكاتب وحصافته التعبيرية في صُنع عملٍ روائيٍّ فنِّيٍّ مُتمايز. ومثيرٌ للدهشة لا في اتِّحاد عناصره الأساسَّية التقليديَّة المعروفة فحسب، وإنَّما في جماليَّات أُسلوبيته الفكرية وشِعريَة لُغته السَّردية الإمتاعية الراكزة.

فضلاً عن حساسيَّة حبكته العُقديَّة، وفرادة مُلهمات فنياته الإبداعية التجدُّدية التي تنفتح على فضاء ما بعد الحداثة في الميتا سرد، فتخلق عوالمَ جديدةً وإضاءاتٍ إمتاعيَّةً مثيرةً من الابتكار والابتداع وتؤصِّل لركائز م السرديات التفاعلية الخلاقة بين (الفكرة والحكاية) في منظومة الحداثة السردية من خلال لغة شفراتها وأنساقها الظاهرة منها والخفية، والتي هي تشكِّل محطَّ اهتمام المُتلقِّي والقارئ النابه (الناقد)، وتشغل باله تفكيكاً وتحليلاً وتأويلاً هيرمنيوطيقياً وموضوعياً كاملاً.

إنَّ ما أُريدُ أنْ ألفتَ النظر إليه جليَّاً وأُنبه القارئ الذكي الواعي إليه في هذه الإلمامة السريعة والإحاطة الأخيرة عن تلك الشخصيات في رواية (باب الدروازة) تتعلَّق بخاصيَّة وأسلوبية الكاتب السارد أو الراوي العليم أو بتمايزها الفني المغاير. ويبدو أنَّ نباهة الرائي علي لفتة سعيد وذكاءه الفكري وسعة ملكته الفطرية واستعداد موهبته المعرفية المكتسبة في القدرة على حبِّ التجديد والتخليق الإجرائي السردي كان سبباً مهمَّاً جداً من أسباب جرأته الإلماعية الفكرية وشجاعته وإقدامه واندفاعه الأسلوبي في تطوير شخصياته الروائيةالرئيسة والثانوية المتوحدنة ثيميَّاً وسرديَّاً.

ومن ثمّتَ الخروج بها من خطٍّ سرديات الرتائبية التقعيدية ومن براثن شِباكِ سياق النمطية والمعجمية الإطارية المملَّة إلى منظومة معرفية وفنيةٍ من الأنساقٍ والبدائل الثقافية والسردية الجديدة النابضة بالحياة تلك التي تبعث على التأمُّل والتفكُّر والانطلاق نحو آفاق مستقبليةٍ وإنسانيةٍ رحبةٍ تبتعد عن ركود وظلال رتابةالمُستهلك والمَعطوب موضوعيَّاً فنيَّاً.فضلاًعن رماد قيم المنتهية صلاحيته الفكرية من خلال هذه البدائل الثقافية المبتكرة لحركة هذه الشخصيات التي تصنع وتؤثَّث لبنية العمل الروائي المسلَّح بالوعي الفكري والمشيَّد بالبناء الجمالي والسردي اللُّغوي المكين.

ما أريد الإشارة إليه مجدَّداً في هذا السياق من دراسة الشخصيَّات المهمَّة وألفتُ التأكيد إليها فنيَّاً مرَّةً أخرى، هوما قام به الكاتب علي لفتة سعيد بخصوص أداء شخصياته الفواعلية وكيف وظَّف أدوارها الحكائية؟ وكيف صيَّرَ وسيَّرَ حركة فعلياتها الحدثية إلى مرموزاتٍ آيدلوجية وموحياتٍ عقائدية تبرز أشكال وتيرة الصراع الداخلي القائم الذي تنتمي إليه -سِرِّيَّاً وعلنياً- أطراف وعيَّنات كبيرة من أبناء الشعب العراقي برغم مركزيَّة الحزب الحاكم الواحد الذي يسود طبيعة نظام الحكم القائم في وقته حينذاك. والذي لا يسمح لِهُويَّة الآخر حتَّى بمجرد التفكير بمشاركته دفَّة الحكم.

لقد استطاع علي لفتة سعيد بحنكته السردية المكينة ورصانة دهائه الفكري البعيد المُتجدِّد الفاعلية أنْ يلعب لُعبته الحداثية في التعامل مع الشخصيَّات، وكيفية توظيفها بنائياً وحركيَّاً وفنيَّاً ودراميَّاً. لقد تَمكَّن سعيد برؤيته الفلسفية السرديَّة أنْ ينقل لنا حركة الصراع الدرامي التسريدي الدائر بين محوري (الخير والشرِّ) من مركزية البطل الرئيس الأوحد مع الأخر إلى مُحوريَّة الشخصيَّات الثانوية التي نفخ في جسدها الميَّت ومنحها رُوحاً سرديَّةً ودماءً نقيَّةً حركيَّةً جديدةً.

وجعل من بطلها المركزي (خلَّاوي) شكلاً رمزيَّاً حَائراً مُعطَّلاً عن دوره الرئيس الفاعل كبطل حكائي للرواية. وقد أحال دوره الفعلي المنظور إلى أشبه بِحَكَمٍ صَامتٍ غيرِ قادرٍ على اتخاذ القرار الشُّجاع حول الطرفين. فهو ينظر ويسمع بإعجابٍ ويُصغي بانتباهٍ شديدٍ إليهُما ويُحلل الأمور وما قد يحصل آنياً؛لكنَّه غيرُ قادرٍ حتَّى على إبداء الرأي أو النطق به حول تواتر الصراع الدائر بينهما.

ويَشي مثلُ هذا السلوك إلى أنَّ الكاتب قد أحال موقف البطل إلى الحيادية والابتعاد عن دهاليز السياسة التي لم يسمع عنها خلَّاوي وعن فلسفتها من ذي قبل؛ كونه فتىً صغيراً فقيراً من مدينة تميل إلى الهدوء والسَّلم وتعيش الفقر والجهل والتهميش، وأقرب ما تكون طبيعتها لِحياة الأرياف التي ترى في السياسة والآيدلوجيات العقائديَّة والفكريَّة من حقِّ أو حصَّة أصحاب العقول في المدن الكبيرة مثل بغداد وغيرها من مدن العراق التاريخية الأخرى المزدحمة بالفكر والثقافة السياسية.

هكذا بَرَعَ عقلُ علي لفتة الفكري وأُسلوبه في أنْ يُؤصِّلَ لشخصيَّاته بِخُطىً ثابتةٍ وواثبةٍ في دفع عجلة سير دراميَّة الحدث الموضوعي للرواية وجعله صراعاً محوريَّاً جدليَّاً عقيماً لا يمكن أنْ ينتهي إلا بانقضاء فلسفة الحكم الدكتاتوري المُتسلط لعقود من الزمن على رقاب الشعب العراقي.

والحقيقة أنَّ هذا النهج والسلوك الأُسلوبي الذي انتهجه الكاتب (الروائي) تُجاه الشخصيَّات في سردياته الحكائية والقصصيَّة المُنتجة لفضاء الخطاب الروائي كانت مِهمَازاً فكريَّاً مُلحَّاً أشبهَ بِمسمارٍ مُدببٍ عَاصفٍ مُباغتٍ ولادغٍ في حضِّه وإيقاظه على نقل عملية أوجه الصراع الفكري بين الشخصيَّات الثانوية المتضادة في الرواية نفسها إلى محورين أساسيين مُتعارضين لا ثالث لهما إلَّا محور الحزب الأحادي الحاكم للبلد، وخلَّاوي الذي يمثل منصَّة الاستماع والإنصات لهما بدقةٍ.

إنَّ هذين المحورين يسعيَان بكل الوسائل الخارجية والداخلية المُتاحة في التخلُّص من ربقة وشِرار نار لهيبه المُحرقة للكلِّ من تثبت نواياه العدائية له. لقد قَدَحَتْ إلى ذهن الكاتب ورؤيته السردية فكرة الصراع بين اتجاهي اليسار واليمين الَّتي جسَّدتها اشتغالاته المركزية في الرواية.

وعلى الرُّغم من اشتداد هُوَّة الصِّراع الدائر بين الطرفين المُتنازعين والغَلبة لمن ستكون في النهاية، فإنَّ بصمة الكاتب الفنيَّة وضربته الإبداعية تأتي في خاتمة الرواية الموضوعية هاتفاً إدهاشياً تحذيريَّاً مُثيراً للمتلقِّي ورجعاً صوتيَّاً لصدىً يُحذِّر فيهِ بطله الأوحد من الانتماء إلى هذه الأحزاب الفاشلة التي تمثِّل الخراب والدَّمار واليأس لدى السواد الأعظم من أبناء الشعب العراقيّ:

"لَمْ يَجدْ شَيئاً يَلوذُ بِهِ غَيرَ الصَّمتِ، وَالنَّظرِ إلَّى الحُفرةِ الَّتِي لَمْ يَجدْ لَهَا فَتحةً مُعلنَةً، فَيأتيهِ الصَّدَى نَابعاً مِنْها، يَرتَدُ إليهِ عَاليَاً: -إيَّاكَ وَالانتماءَ إلَّى الأحَزابِ، حِينَهَا سَيحلُّ الخَرابُ بِكَ وَبِعمرِكِ...". (بَابُ الدِّرازةِ، ص240)

التَّجلِّياتُ السِّيريَّةُ لِشخصيَّاتِ الرِّوايةِ:

حِينَ نَجوسُ النظر بيانيَّاً وإحصائياً في أُسلوبيَّات شخصيَّات مُدوَّنة (بَابُ الدِّروازةِ) نجدها قد تجاوزت سبعَ عشرةَ شخصيةً، منها ثماني شخصيَّاتٍ ذكوريةٍ، وتسعُ شخصيَّاتٍ أنثويةٍ بين رئيسة مؤثِّرةٍ وفرعيةٍ مُساهمةٍ وطارئةٍ مُكمَّلةٍ. لكلِّ شخصيَّةٍ لها رسمها البياني وخطُّها الفواعلي المستقلِّ ومِساحتها العمليَّة والحركيَّة المحدَّدة في فضاء السرد الروائي وانتقالاته المتواثبة. في الوقت الذي يؤكِّد فيه الكاتب سعيد ويشير إلى أنَّ مجموع الشخوص الساكنين في غُرف خان باب الدروازة بلغ سبعاً وعشرينَ فرداً، وقد ورد ذكر سبعة عشر شخصية منهم توزَّعت بأحداث الرواية وفصولها.

وعلى وفق ذلك المنظور السَّردي للشخصيَّات المستدامة ارتأى الروائي علي لفتة سعيد أنْ يكونَ الوجه الحقيقي المُمَثّل لمحورِ اليسار الوطني المنحرف في توجهه السياسي يكمن في شخصيَّة (سعيد) الوطني الشِّيوعي وصاحب معمل الثلج الذي عُرِفَ بآرائه العِلمانيَّة المتشدِّدة وشخصيَّته التحررية والانفتاحية المتواثبة الانطلاق نحو العالم الحُرِّ الآخر الذي لا تقيِّدهُ سلاسل وقُيود آفة الفساد والاستبداد والدكتاتورية والشعارات الظالمة لحقوق الإنسان المناضل التواق للمواجهة.

كان سعيد يعيش عالمه السياسي الخاص وله نظرته المستقبلية البعيدة وتوجّهه في استشراف الماضي والحاضر والقادم من الأيام والسنين الذي ينتظره مصير الحكم القائم بظهور آلهةٍ جُددٍ بَشَرٌ يحكمون الناس بالنار والحديد والقمع والموت والنفي. لهذه الأسباب وغيرها مجتمعةً تعرَّضَ سعيد إلى الاعتقال والتعذيب أكثر من مرَّةٍ وأُدعَ في سجن نقرة السلمان الرهيب في سبعينيَّات القرن العشرين؛ كونه شخصاً مُثَقَّفاً من طرازٍ خاصٍ على الرُّغم من بساطته، وله قراءاته الكثيرة وكُتبه الوفيرة ومكتبته الخاصَّة.وقد يكون سعيداً رمزاً لإحدى شخصيَّات الحزب الشيوعي الوطنية.

وللرجل المكافح سعيد كتاباته ومذكراته التدوينية والتوثيقية التَّحرُّرية المعارضة للنظام والشاهدة على أحداث العصر تركها بمخلَّفات ورقيَّةٍ في صُندوقٍ خشبيٍّ متينٍ مُودعٌ بمحل عمله. إلَّا أنَّ سعيداً كان عصبيِّ المزاج وسريع الغضب يثور سريعاً لأتفه الأسباب حين يُستفَزُ خلال حواراته مع المحور الآخر المناهض له فكريَّاً حول تداعيات الحكم وسياسة النظام الدكتاتوري الحاكم للبلد.

أمَّا المحور الثاني من هذه الشخصيَّات المناوئة لتوجَّه وفكر المحور الأول، فتمثَّل بمحور اليمين الإسلامي المعتدل، وقد تجسَّدَ تمثيله الفكري بشخصيَّة (هادي) بائع السِّبَحِ والسجَّاد والتُّرب القابع تحت عباءة الدين الإسلاموي الجديد. وكان فعلاً رجلاً هادئاً ومسالماً وصبوراً جَلِدَاً باردَ الأعصاب على خلاف نقيضه سعيد الثائر الفائر. كما كان يتحلَّى بأدبِ وصفةِ الإصغاء العالي لمحاوره وبأعصاب قويَّةٍ هادئةٍ وكَيَاسةِ عَقلٍ حَكيمٍ وَرَاجحٍ وَرَزينٍ ثابتٍ يملك نفسهُ عند اشتداد حِدَّة الغضب في المواقف الحرجة، وليس شديد الصُرعة عند الغضب الذي يُطفئ سراج العقل ويُضيِّع الحقوق.

وكان هادي يعتقد كلَّ الاعتقاد ويظنُّ بأنَّ زمام الأمور في نهاية المطاف ستفضي لدولة الإسلام السياسي الجديد متأثراً بما حصل للجارة إيران في ثورة الإمام الخميني؛لذلك كانت حواراته اليومية مع جاره سعيد تأخذ طابعاً نديَّاً وقوياً في النظر إلى ما ستؤول الأمور في المستقبل القادم القريب.

وكانت حدِّة هذا الصراع تتفاعل وتتنامى على أَشُدِّها من أول فصول وأحداث الرواية حتَّى مُنتهاها التحذيري الأخير المفتوح الذي رسمه الكاتب لها، والذي لم تكن خاتمة نهايته الموضوعية متوقعةً لرؤية وحسابات وتصوُّر كلٍّ من المُحورين بين أطراف اليسار واليمين السياسي الشعبي.

أمَّا شخصيَّة خلَّاوي الطرف الثالث لهذا المثلث فكانت تُمثِّل المعادل الموضوعي المحايد بين وجهي الصراعين المُحتدمين. وقد أفاد البطل خلَّاوي كثيراً من تجلِّيات جذوة هذا الصراع القائم والذي لم تكن له معرفة به سابقاً، أو أنَّه قد سَمِعَ عنه وعن عالمه السياسي الرحيب. غير أنَّه في كلَّ الأحوال أصبحت له حصيلة من مُدخلات الثقافة السياسية والاجتماعية، وتطوَّر نضجه العقلي والفكري الواسع، وصار له تصوراته الذاتية عما يحصل من تطوَّرات وأحداث طارئة للعراق.

لقد كان همُّ خلَّاوي الوحيد أنْ يحصل من هذا الوطن على فرصة عملٍ مناسبٍ أو وظيفةٍ بسيطةٍ يُقوُّت بها نفسه ويُعيل بها أسرته الفقيرة، مُمَنِّيَاً نفسه في الوقت ذاته ولو كان ذلك الحُلمُ لأجلٍ بعيد في استكمال تحصيله الدراسي في الابتدائية والإعدادية والذي لم يحصل عليه إطلاقاً حتى في نهاية المطاف؛ بسبب بوادر قيام بشائر الحرب التي تلوح في الأفق في عقد الثمانينيات بين الجارين العراق وإيران، والإعلان المفاجئ في طلب مواليده للالتحاق بإداء خدمة العلم العسكرية الإلزامية. والتي كانت من المفاجآت العصيبة التي تنتظره مستقبلياً. وكأنِّي بالراوي العليم أو السارد علي لفتة أنْ يقول ويخبر في تسريداته الرمزية وموحياته السيميائيَّة لواقعة الحدث الموضوعيَّة بأنَّ خلَّاويَ وسعيداً وهاديَّاً وغيرهم من عامَّة الناس من أبناء الطبقة البروليتارية العاملة هم جميعاً ضحية من ضحايا أنظمة الحكم البعثي الدكتاتوري القائم وحطب لهشيم ناره التي لا تنطفئ أوَارُها:

"وَفِي لَحظةٍ مَا لَا يَدرِي إنْ كَانتْ حَقيقيةً أمْ هِيَ مِنْ صُنعِ الخَيَالِ، رَأى زَوجَ خَالتِهِ وَهوَ يَحفرُ حُفْرَّةً بِيديهِ، حُفرةً عَميقةً جِدَّاً، ثُمَّ نَزَلَ فِيهَا وَلَمْ يُرَ مِنهُ شَيئَاً.. فِي لَحظتِهَا كَانَ يَسمعُ صَوتَ التِّلفزيونِ، إذْ كَانَ المُذيعُ يَصرخُ وَهوَ يَقرَأُ البَيانَ الَّذي أعلَنَ فِيهِ اِستدعاءِ مُواليدهِ لِخدمَةِ الإلزاميَّةِ وَعَلَى الجَميعِ الاِستعدادُ لِلمعركةِ...". (بَابُ الدِّروازةِ، ص 240).

هذه التجلِّيات السرديَّة الثلاثة من أوجه الاختلاف للصراع الميلودرامي المرئي وغير المرئي من أبرز شخصيَّات الرواية الرئيسة والثانوية المؤثِّرة التي أسهمت إسهاماً كبيراً وفاعلاً في تنمية مسيرة الحوار الداخلي المونولوجي وتصاعد بنائه الموضوعي قنيَّاً وجماليَّاً، وفي إظهار آثار الصور القيمية والفكرية والإنسانية والوطنية المُثلى في مجتمع (بابِ الدِّروازةِ) المُصغَّر سرديَّاً. فهذه الشخصيّات هي أيضاً تعدُّ مزيجاً واقعيَّاً من الفنِّ السردي الدرامي والبُعد العقائدي الثوري.

أمَّا شخصياته الفرعية الأخرى التي ترتبط ارتباطاً مباشراً مع طرفي الصراع الوطني والاجتماعي والروحي الأول والثاني فكان دورها الفواعلي الحدثي تكميلياً ثانوياً؛ لكنَّه دور له تأثيراته الفنية والاجتماعية المؤثرة في الكشف عن حفريَّات وآثار الواقع الحياتي البسيط للمواطن الأعزل في حقبة تاريخية مُهمَّة جِداً من تاريخ العراق السياسي والاقتصادي الحديث والمعاصر.

وقد كشفت حقائق السِّير السرديَّة والذاتية لطبيعة هذه الشخصيَّات المأزومة عن هُوية المجتمع ومعاناته ومظلوميته وشعوره بالحيف والتهميش واللَّامبالاة وتفشي حالات العوز والفقر والفاقة. لكن في الوقت نفسه أثبتت هذه الشخصيَّات بأنها ذات طاقةٍ إيجابيةٍ كبيرةٍ تسعى من خلالها إلى الوصول لنيل حقِّها العلمي والعملي المنشود في التعلُّم العالي والتخرُّج التطور المعرفي، فضلاً عن أملها في الحصول على ما تصبو إليه شخصيَّاً من حُريَّةٍ وكرامةٍ وأمانٍ وسلامٍ وعيشٍ آمنٍ رغيدٍ.

فلو تتبعنا الأثر العملي لهذه الشخصيَّات الذكورية لوجدنا فيها شخصيّة طالب الدكتوراه بكُليَّة الإدارة والاقتصاد والتي تمثَّلت بشخصية سليم الأخ الأكبر لخلَّاوي، وهي من الشخصيَّات التكاملية التي كان لها أثر كبير في توجيه مسيرة أخيه خلَّاوي والمحافظة عليها في عالمه الجديد الآخر. ثمَّ تأتي شخصية حسن طالب كُليَّة الفُنُون الجميلة بجامعة ببغداد، والذي كان من أقرب الشخصيَّات المحلية لقلب البطل خلَّاوي، وله مواقف وحوارات عديدة معه بخصوص مظاهر حياته الجديدة. فضلاً عن شخصية حسين طالب كُليَّة الطبِّ، وهو ممن يسكنون بجوار غرفة خلَّاوي في الخان نفسه، وكان من المحبِّين والناصحين له في تمضية حياته العملية والتكيُّف معها ومع مستجداتها.

ومن بين الشخصيَّات الثانوية الأخرى شخصيَّة جعاز بائع العصير أو الشربت والشاي، وهو من الأفراد الذين يسكنون الخان بباب الدروازة،وتجمعه مع البطل مَحبَّة ومودَّة وعَلاقة جوار اجتماعية وحياتية خاصة ومشتركة تحت سقف واحد ومجتمع يتضوَّر من وقع الألم ويئن من المعاناة. وهذه الشخصيات تجمع في سِيرتها الذاتية والسرديَّة بين جمال البعدالفنِّي الميلودرامي والبعد الاجتماعي.

ونذهب في هذا التقييم السِّيري السَّردي إلى الطرف لآخر من الشخصيَّات الأنثويثة ذات الطابع السردي الثانوي أو الفرعي المُكمِّل في إيقاعه الحدثي لتجليَّات الطرف الأول الذُّكوري المؤثِّرة في شاخصية الحدث. ويأتي على صدر هذه الشخصيَّات الفواعليَّة شخصيَّة فتحيَّة، تلك الفتاة المُثيرة للجدل ذات الأصول العشائرية الجنوبية، والتي دفعتها ظروفها الاجتماعية إلى الهرب من مدينتها الديوانية إلى بغداد مع أبيها على إثر فضيحةٍ أخلاقيةٍ واجتماعيةٍ هَزَّت أركان شرفها ولوَّثت سمعتها الاجتماعية والتي تعرَّضت لها؛ بسبب فعل الغواية الجنسية التي حصلت لها.

ومن ثم الإيقاع بها من قبل شاب يدعي أنَّه ابن عمها وعَدَهَا بالزواج كَذِبَاً وبُهتاناً، ثُمَّ تَخلَّى عنها بعد أن حصل على بُغيته منها مع رفيقه سائق السيارة الذي ارغمها على الفعل ذاته وإلَّا التشهير بشرفها وسمعتها التي نزلت إلى قاع الحضيض. وكانت الفتاة فتحيَّة ضحيةً من ضحايا المجتمع الرجولي القاتلة التي لا تَرحم، وقد أمَّنها بالوعود وخان عهد الوفاء تحت فاحشةالتخدير والإغراء. وقد أدَّت فتحيَّة دوراً اجتماعيَّاً وسرديَّاً تفاعلياً مُريباً مُهمَّاً من أدوار باب الدروازة الحدثية التوقعية.

أمَّا الطرف النسائي النِشط الأثر الآخر الذي يُقابل شخصيَّة الشَّابة فتحية في فعلية الأداء الذي يُحيطه الشكُّ والغموض والرِّيبة فهي شخصية الأرملة أُمّ صلاح، وكيلة صاحب الخان في جمع أموال الإيجارات، والتي تعمل حفَّافة لِشَعرِ النساء في خارج الخان وداخله. وقد عرف عن هذه الشخصيَّة بأنَّها تحمل الكثير من الأسرار الشخصيَّةً الغريبةً والخفيةً الغامضة التي تخصُّ سيرة حياتها الشخصية؛ كونها أولاً امرأةً أرملةً وزوجةَ أحد شهداء حرب تشرين مع إسرائيل في سوريا.

وثانياً ما أصاب سيرتها الأخلاقية من اعتداء رجل عليها يُدعى صاحب محلِّ الأعشاب أثناء قيامه بالفحص الموضعي لمنطقة حسِّاسة من أسفل جسدها وتخديرها ومداعبتها بالملامسة والنيل من شرفها وكرامتها، وبالتالي سقوطها في لذَّة هاوية الإغواء الجنسي الرجولي بفعل شعورها بحميمية اللَّذة بعد سنوات طويلة من الجفاف العاطفي التي مرَّت بها إثر فقدان زوجها الشهيد. فكانت ضحيةً أخرى من ضحايا المجتمع الذكوري الباحث عن لحظات الإمتاع الجسدي للمرأة.

والشخصية النسوية الثالثة التي تمتلك الحكمة والتجربة والخبرة الاجتماعية في الحياة الأسريَّة، هي شخصية المرأة العجوز أم يوسف، التي تعدُّ الجدة الكبيرة لولدي بنتها الوسطى خلَّاوي وسليم وقد جاءت معهما إلى بغداد لتعيش في خان باب الدِّروازة وتتكفَّل برعايتهما؛ كونهما ولدين يتيمين لا راعٍ لهما سواها. وكان لها الدور الكبير في تربية وتنشئة خلَّاوي وسليم وتوجيه حياتهما العملية والأسرية والمحافظة عليهما. وسنتعرَّف عليها أكثر عندما نُجيل النظر بالتمثِّلات الإجرائية لهذه الشخصيَّة، وكيف تمكَّنت من فرض إحكام قبضتها الأُسرية عليهما من تصرُّفات الآخرين، وتوجيه مسيرتهما العلمية والاجتماعية توجيهاً صحيحاً من خلال هذه التنشئة والتربية والمراقبة والوعي.

وهده الشخصيَّات الأنثوية المهمَّة الثلاثة على الرغم من كونها شخصياتٍ ثانويةً هَامشيَّةً فرعيَّةً بَيدَ أنَّها تجمع في رمزيتها السرديَّة بين بعدين مختلفين، البُعدُ الفنِّي العملي السِّيري والبعد الاجتماعي السردي الساعي إلى تحقيق حياة حرَّة كريمةٍ وآمنة مستقرَّةٍ في مجتمعٍ بغدادي مغاير.

لم يبقَ من الشخصيَّات الفرعية إلَّا ستُ شخصيَّاتٍ تكميلية لسدِّ فراغات الفضاء السردي بالحدث الفعلي الميلودرامي والبَصَرَي الحَرَكي الذي يُضفي على واقعة الحدث الموضوعية تصويراً دراميَّاً تكامليَّاً مُذهلاً وناجحاً. فتأتي شخصية أمّ وداد الخيَّاطة على رأس هذه الشخصيَّات، وشخصيَّة أم حسين قارئة الفأل، ثُمَّ شخصيَّتا أمّ رازقيَّة وأمَ جَواد، وشخصيَّةُ صاحبةِ الحَمَّام، وهنَّ جميعاً من اللواتي يسكنَّ في الخان ومن العوائل الفقيرة التي أجبرتها ظروف الحياة على العمل بالكاظمية.

فضلاً عن شخصيَّة فخريَّة خالة خلَّاوي وزوج سعيد بائع الثلج الذي تنحدر أصوله الجنوبية من مدينة سوق الشيوخ التي لم يرها أو عاش فيها أكثر حياته. حتَّى إنَّ لهجته كانت بغدادية بحتةً وليست جنوبية، بل كانت مغايرةً؛ الأمر الذي دفعه إلى التندر والاستهزاء بلهجة خلَّاوي الجَنوبية والسخرية من بعض مفرداتها المحبَّبة للنفس التي اعتادعليها أبناؤها الجنوبيون ولم تفارق ألسنتهم أينما رحلوا وأينما حلَّوا في العراق وخارجه. وربَّما وردت هناك توصيفات لرموز شخصيَّة ليست اسميَّة في الرواية من أجل استكمال مشاهد الرواية وتتمة أحداثها السرديَّة المهمّة إنسانياً وإبداعيَّاً.

أكثر من سبع عشرة شخصيَّةً من جنس الذكور والإناث وظَّفها كاتب الرواية علي لفتة سعيد لتكون الهندسة الفنيَّة والبنائيَّة لِعُمارة شخصيَّات (بابُ الدِّروازة)، والَّتي اجتمعت في هذا الحيِّ الشعبي المقدَّس الذي تختزن ذاكرة جدرانه التأصيلية شخوصاً وأصواتاً وتواريخاً ومدناً ومثاباتٍ.

البُعدُ السَّايكولوجي السِّيرِي لِلشخصيَّاتِ:

إنَّ الشخصيَّات التي وظَّفها الكاتب السارد في حيِّ أو خان (بابُ الدِّروازةِ) المؤدِّي لأبواب كثيرة في الكاظمية، هي شخصياتٌ على الرُّغم من فقرها الاجتماعي الشديد وحاجتها الماسة للعمل وانتظار ساعة الفرج والأمل، فإنَّها تعدُّ شخصيَّاتٍ مُفعمةُ بالحبِّ والحياة الحركية النابضة الدائبة والتي لا تكلُّ أو تملُّ أو تفترُ في مواجهة الصعاب والتحديات في نيل المَراد وتحقيق الطموح.

إنَّها أقلُّ ما يُقالُ عنها شخصيَّات مكافحة عَركَتِ الحياة، وسارت في درب الجهاد والتمنِّيات؛ لذلك فإنَّ علي لفتة أعاد تدويرها وتأويلها وإنتاجها من جديد لا تكريرها، ووضعها تحت كاشف التأمل وسونار الوجود في سرديَّات المكان والزمان الذي لا يكتفي بتقصيص حكاياته، بل يذهب إلى تفعيل جُلَّ فكراته وتجديد رؤى سردياته الحدثية بِكُلِّ ما هو مثير للجدل والفكر ونبض الحياة.

فعلي لفتة سعيد ابن مدينة الناصرية الواعي والمَهجوس بها وبماضيها، وهو الذي خَبرَ دروبها وعجن تاريخها واستوعب رغبات نفوس أبنائها، وعاش مآسي وأوجاع وألم حياتها الِّسيريَّة. وكان شاهداً على تحوُّلاتها العصرية زمكانياً وتاريخياً في الريف والقرية والمدينة مثلما كان أبطالهُ أنفسهم شهوداً أحياءً ثُقاةً على فعل جريمة العصر،بل كانوا الضحايا المفجوعين بالألم والوجع والنكوص والمعاناة،وكانوا مُثقلين بالهمِّ وكثرة الجراح والخوف من المجهول الذي ينتظر حياتهم0

كان الكاتب في رحلة تسريداته الحكائية الميلودرامية وتحولاتها السريعة بين (بغداد والناصريَّة)، و (الكاظمية وسوق الشُّيوخ) باحثاً عن مرآة ماضيه الجنوبي السومري وعن مصادر وأنساق ذاته الوجودية والنفسية القلقة التي تصيَّرت أشياءَ ورموزاً ومواضيعَ نفسية وروحيَّة وثورية وآيدلوجية معقَّدة في تركيبة نفوس أبطاله المجاهدين، وشخوصه الأحرار المسالمين عبر هذا العقد الفريد من السلسلة التجريبية من المواقف والأفكار والتحوُّلات السرديَّةالعَصيبة التي أصابت المكان والزمان.

لم يكتفِ الكاتب في أطياف سرده الفسيفسائي الذي يجمع بين وقائع الماضي والحاضر والمستقبل المتقاطع الآتي برصد واقعية هذه التحوُّلات وجمع أحداثها التاريخية والسياسية والاجتماعية المهمَّة فقد ذهب بعيداً إلى مناطق أكثر حساسيَّةً، وإلى التقاط وتصوير وتجسيد نفسيَّاتِ هذه الشخصيَّات المُهمَّشة التي كانت مُتعدَّدة الثقافة والأهواء والسايكولوجيات. وكانت التمثَّلات السردية شاهداً على تلك النفسيَّات الازواجية وعلى حركاتها الفواعلية الحذرة جدَّاً في هذه البقعة المكانية المقدَّسة.

ويعدُّ الانتقال المكاني من المدن والمحافظات الصغيرة إلى مناطق العاصمة بغداد المأهولة سكَّانيَّاً من العوامل الإركيلوجية المهمة في إظهار آثار العامل النفسي والبشري والذاتي المؤثِّر لبنية هذه الشخصيَّات المركبة في الحفاظ على تراثها الثقافي والإنساني، وفي شحن قدرتها على مواصلة الحدث مهما كانت نتائجه السلبية والإيجابية.

ومن خلال ضمير الفاعلية الحدثي أكان (حاضراً أم غائباً)، والَّذي هو اللِّسان اللُّغوي للراوي العليم أو السارد والمُعبِّرُ الفاصح عن واقع حال أصوات الرواية وتُرجمان نفسيَّة شخوصها القلقة، يطرح الكاتب الراوي علي لفتة سعيد جملةً من التساؤلات التأمُّيلة والفلسفية والوجودية الذاتية حول تقرير المصير وإثبات الوجود (أكونُ أو لا أكونُ) فيقول: (ماذا يعني لنا الوطن الكبير حين يتحوَّل إلى منفىً وتغريبٍ،ويتصيَّر إلى خرابٍ ويَبابٍ ودَمارٍ؟)،إنَّه بالتأكيد شعورٌ بالضيق والتِّيهِ والضياع والتشظي والانتشار بدلاً من الحفاظ على بناء هُوية الذات الوجودية في ظل زحمة هذا التشرذم وسيادة الفُوضى وغشاوة سمادير الكدر والضياع الذي يُهدِّد مستقبل الإنسان وكيان هُويته الذاتية.

فمثل هذه الأسئلة ذات الطابع الوجودي التي تُغور في أعماق النفس الإنسانية وتُسبِرُ أنساقها الحركية الداخلية الفائرة تأتي وتؤكد حضورها السردي الفاعل لا لِتروي لنا حكاياتٍ أبطالها وشخوصها المليئة بالوجع الذاتي، والمضمَّخة بالألم النفسي والهَمِّ الوطني الكبير فحسب، بل إنَّما هي في حقيقة الأمر تُقلِّلُ من غلواء واقعة ذلك الأثر الرُّوحي وتُخفِّفُ من شدَّة الاحتقان النفسي الناقم على هيمنة الحدث الكُلِّي وتصاعد تفاقمه وضرره مع تقدُّم الزمن وبقاء التسلُّط الحاكم لها.

كانت أُسلوبية الرائي علي لفتة سعيد الأنويَّة المتمايزة في تأثيث مُعجمه السردي الروائي لمدوَّنة (بَابُ الدِّروازةِ)، هي المقاربة الشخصيَّة للنفس الإنسانيَّة الأمَّارة بالتنازع في ثنائيَّات عَديدةٍ مثل، ثنائية (الألم والأمل)، و (الماضي والحاضر)، (الحكاية والفكرة)، و (المعنى والمبنى)، و (الحسرة واللّذَة)، و (الواقعي والأُسطوري) من المتخيَّل، وغيرها من المتضادات النفسية والمعنوية المُفخَّخة التي اجتمعت غيوم فضاءاتها المُلبَّدة بالأسى تحت مظلة خطابه السردي لتكون جزءاً كبيراً لسياقٍ يُدشِّنُ مشروعه الفكري والثقافي الإنتاجي الذي تميَّز به أُسلوبه العراقي الروائي المتجدِّد سردياً.

فالكاتب لا يسعى إبداعياً إلى اجترار إنتاجه السردي الكبير وتكرار شخصياته في خط ِّمشروعه التواثبي، بل يكشف بأمانةٍ وحرصٍ عن البعد الفنِّي والنفسي لأنماط تلك الشخصيَّات المُهمَّشة والمسكوت عنها عبر فنيَّة هذا التراسل الزماني والمكاني لواقعة الحدث الموضوعية المتجدِّدة.

وعلى وفق تلك المنظورات الشخصيَّة والفنيَّة والتصوُّرات النفسيَّة الهائلة التي إنماز بها أبطال شخصيَّات رواية (بَابُ الدِّروازةِ)، لا بُدَّ من الإشارة إلى بيان مفهوم البعد النفسي أو السايكولوجي لتلك الشخصيَّات الروائيَّة العاملة على إنتاج الحدث وتفعيله فنيَّاً وإبداعياً وجماليَّاً.

فالبعد السايكولوجي لها يُشير إلى مجموعة من الجوانب النفسيَّة والعاطفية والفكرية التي تتشكَّل من خلالها هُويَّة الشَّخصيَّة الروائية المستقلة وتتبلور. فتتأثَّر هذه الجوانب وتؤثِر على سلوكها الذاتي الخاص وتفاعلاتها الجمعيَّة العامة المشتركة مع الآخرين في فضاء محيطها الخارجي.

ومَنْ يُمعنُ النظرَ جليَّاً ويُدققُ في سرديَّات مفهوم البعد النفسي لأصوات رواية (بَابُ الدِّروازةِ)، سيكتشفُ أنَّ الكاتب، أولاً، تناول الدوافع النفسية المثيرة التي دفعت كلَّ شخصيَّةٍ من شخصيَّات الرواية إلى التصرُّف العقلي بطريقةٍ معيَّنةٍ ما. وثانياً سيلحظ أنَّ هذا البعد تناول جميع المشاعر والعواطف والأحاسيس الجياشة المؤثِّرة في سلوك الشخصيَّات وتفاعلاتها الحركية.

وثالثاً أنَّ هذا البعد تناول من خلال التوصيف السردي كُلَّ الأفكار والمُعتقدات والتصوُّرات الشيئية تلك التي تشكِّل نظرة الشخصيَّة للعالم العالم الخارجي أوَّلاً ولذاتها النفسية الداخلية ثانياً. فهذه المُدخلات الثلاثة تُسهمُ إسهاماً كبيراً في بناء وتنمية البعد النفسي للشخصيَّات الروائية.

والبعد النفسي أو السايكولوجي في مدوُّنة (بَابُ الدِّروازةِ) كان له أهميته المعرفية والفنيَّة والجمالية؛ وذلك كونه يُساعد على فهم الشخصيَّة، أي يُساعد المتلقِّي أو القارئ على إدراك وفهم الشخصيَّة ومعرفة دوافعها النفسية وسلوكها العام. فضلاً عن أنَّه يُسهم كثيراً تنامي وتطوير حِبكة الرواية وفي تقديم الصراعات العُقدية والتَّحديات المَصيريَّة للشخصيَّة الرِّوائيَّة ذاتَ الأثر السردي الكبير.

ولمفهوم البعد النفسي للشخصيَّات الروائية في (بَابُ الدِّروازةِ) له تقنياته البنائية المختلفة التي اعتمدها الكاتب الرائي، وقد استخدم الكاتب والمُؤلِّف علي لفتة سعيد ثلاثاً من هذه التقنيات البنائية المهمَّة.فقد استخدم تقنية (الوصفُ النفسيّ)لهذه الشخصيَّات،وأعني بذلك وصف مشاعر كلِّ شخصيِّة وأفكارها ورؤيتها الوجودية، وإن كان نوع هذا التوصيف توصيفاً سرديَّاً متداخلاً في الحواريات الحدثية للشخصيَّات. وقد تمثَّلت مظاهر هذا التوصيف في الشخصيَّات المركزية والثانوية المُهمَّة، فقد وصف شخصيَّةَ كُلاً من (خلَّاوي وسعيد وهادي وسليم وحسن وفتحيَّة وأُمّ صلاح وأُمّ يُوسف).

وستخدمَ أيضاً الكاتب تقنية (الحِوارٌ الداخليُّ) أو المونولوج الذي يُساعد في تخليق التفاعل العميق والمباشر بين القارئ النابه والشخصيَّة الروائية التي تؤدِّي الحدث السردي بإتقانٍ. ومن أمثلة هذا الحوار النموذجية الإجرائية جميع الحوارات الداخلية الكثيرة والمُحتدمة بين شخصيَّة سعيد الثوريَّة الغاضبة وشخصيَّة هادي السلميَّة الهادئة، وما نتج عن هذه الشخصيَّة من أحداث وتوقُّعات عديدةٍ.

أمَّا التقنية الثالثة التي وظَّفها الكاتب بروايته، فهي استخدامه لتقنية (التَّفاعُ مَع الآخرينَ)، وأعني بذلك ما تَقومُ به الشخصيَّة الروائيَّة من تقديم التفاعلات الشخصيَّة مع الآخرين المُهتمِّين بالحدث، وكيفية تأثير هذه التفاعلات الكيميائية والنفسية على أثر سلوكها وتصرفها وحركتها وثباتها. وهذا ما نجده ماثلاً في المشاهد الِميلودراميَّة والسرديَّة التي أدَّتها الشخصيَّات الأنثويَّة مثل، شخصية (فتحيَّة وأُمّ صلاح وأُمّ يُوسف الجِدَّة)، وشخصيَّات ذكوريَّة مثل، (سليم وحسن وحسين وجعاز) التي تفاعلت جميعها مع شخصية خلَّاوي البطل المركزي الحائر في رواية باب الدِّروازة.

وخلاصة القول إنَّ البعد النفسي أو السايكولوجي الذي ضمَّنه الكاتب حكائياً وسِيريَّاً في رواية (بَابُ الدِّروازة) لَعبَ دوراً مُهمَّاً وكبيراً في إظهار الدوافع النفسيَّة والعاطفية الحماسية والاعتقادية والفكرية للشخصيَّات الروائية في مثابة أو خان باب الدِّروازة، والَّتي اتَّضحت معالمها السردية المائزة من خلال التقنيَات الفنيَّة المُستخدمة التي جاءت بها أسلوبية الكاتب سعيد الإبداعية والإنتاجية في صنع عمل روائي مُبهر له خصوصياته الفنيَّة والجمالية التي تستحق كلَّ التقدير.

تَمثُّلاتُ البُعدِ السَّايكولوجي الشِّخصيَّةُ:

إنَّ من أبرز الشخصيات الروائية المُهمَّة التي تركت طابعاً نفسيَّاً وإنسانيَّاً مُركَّباً وعقائدياً آيدلوجيَّاً مُعقَّداً ووطنياً وروحيَّاً دينياً واجتماعياً مؤثِّراً في إنتاج واقعة الحدث السردية لبابِ الدِّروازة، تلك هيَ شخصيَّة (سعيد) الرجل المثقّف وصاحب مَحلَّ بيع الثلج في شارع ضيق من باب الدِّروازة، وشخصيَّة نظيره (هادي) الدينية صَاحبُ محلَّ بيع السِّجَّاد المجاور لسعيد في الحي أو المَثابة نفسها.

وقد عُرِفَ عن الشخصية الأولى بأنَّها من الشخصيَّات الوطنية ذات الميول المحليَّة الشيوعية والفكرية التحرريَّة التي تُحلِّلُ الأمور وتغربل الأفكار وتَستشرف التوقُّعات حول مصير البلد وما ينتظره من تحوُّلاتٍ وتغيُّراتٍ سياسيةٍ واجتماعيةٍ وثقافيةٍ مُقبلة تتقاطع مع مصالح الشعب وتطلُّعاته المستقبلية. في حين أنَّ شخصية هادي الثانية، هي شخصية إنسانيَّة مسالمة كيِّسة تميل إلى الحكمة والهدوءوتنظر إلى الأمورنظرةً من جانب تأمُّلي إسلاميٍّ وروحيٍّ في الخلاص من الواقع المَعيش.

أمَّا الشخصية الثالثة والمُهمَّة على الرغم من أنها تمتاز بالبساطة فهي شخصية الفتى (خلَّاوي) المُحوريَّة الاجتماعية التي عُرِفَ عنها بأنَّها شخصيَّة ازدواجية سايكوباثية مضطربة السلوك ومركَّبة التعقيد، ظاهرها الخارجي الشكلي يُوحي بشيءٍ طبيعيٍّ وسَويٍّ،وأمَّا باطنها الداخلي العميق فيشي بأشياء تَخيُّليةٍ وتَصوُّريةٍ أخرى أكثر تعقيداً وغموضاً وهوساً في المشهد السردي الدرامي.

وقد أدَّى ها المثلث السردي لهذه الشخصيَّات المُغايرة فكراً وعملاً وعقيدةً وإدراكاً دوراً فاعليَّاً وأساسيَّاً في إبراز الوجه النفسي الحقيقي لعمل سردي مثل رواية (بَابُ الدِّروازة)، علماً أنَّ هذه الشخصيَّات المُتصارعة آيدلوجيَّاً وفكريَّاً أصولها الانحدارية جنوبية وليست بغداديةً، غير أنَّ ظروفها الاجتماعية والاقتصادية وروحها الوطنية وتطلُّعاتها الفكرية ألقتْ بها أن تكون في حيٍّ شعبيٍّ من أحياء الكاظمية المقدَّسة. ويضاف إلى سِيرة هذه الشخصيَّات الذكوريَّة المهمَّة شخصيَّات أُنثوية أخرى مثل، شخصية الفتاة (فتحيَّة)، ومثيلتها أُمّ صلاح المرأة المُريبة، والمثيرتين للجدل والغرابة الموضوعيَّة، والشخصيَّة الثالثة أُمّ يُوسف صمَّام الحكمة والأمان الاجتماعي في الخان.

وعلى وفق هذه البيانات الوصفية لشخصيَّات الرواية ومدخلاتها الموضوعيَّة السِّيرية، فإنَّها شكَّلت في حضورها العتبة المهمَّة الأولى من عتبات الحُمولات الفكرية والحوارية السرديَّة المكثَّفة لواقعة الحدث السردية في هذه الرواية، وذلك بدأً من مَطلعها الافتتاحي وحتَّى خواتيمهَا النهائيَّة.

لقد اتَّخذ البعد السايكولوجي لشخصيَّات (بَابُ الدِرّوازةِ) أبعاداً نفسيَّة سرديَّةً كثيرةً التمثُّلات، فجاءت موضوعات حكائية وقصصيَّة عديدة مثل، (الاختلاف الفكري، والحبّ والخوف والعصبية، والطموح المستقبلي، وإفشاء السرِّ، والمحافظة على التقاليد الاجتماعيَّة).وتعدُّ من أبرز موضوعات البعد النفسي التي شهدت تَمثلاتها السِّيرية أحداث الرواية ووقائها السرديَّة الدَّراميَّة المُتصاعدة.

1-الاختلاف الفكري:

فمن أمثلة الصراع الفكري الذي تحوَّل إلى صراعٍ آيدلوجيٍّ ونفسيٍّ مُختلفٍ على الهُويَّات العقائدية ذلك هو الحُوار الذي دار بين سعيد بائع الثلج المؤمن باليسار الوطني والكارهِ لرجال الدين وتصرفاتهم المزدوجة ومواقفهم الخفيَّة الَّتي لا تَمُتُّ إلى حقيقة الدين بِصلةٍ لا من قريبٍ أو بعيدٍ، وبين هادي المُتدين المنضوي تحت مظلة اليمين الإسلامي والمؤمن بأنَّ الوقت قد حان لهم:

"خَرَجَ سَعيدٌ غَاضبَاً مِنَ المَحلِّ، وتَوجَّهَ إلَى بَائعِ السِّبَحِ وَقَالَ بِصوتٍ عَالٍ:.. إنَّهُم سَيتوالدونَ وَسَيتكاثرونَ، فَالفرصَة ُمُواتيةٌ لِقَلبِ مُعادلةِ الحَياةِ بِالخوفِ، والعَالَمُ كُلُّهٌ سَيصنَعُ المُتغيُّراتِ.. رَأى خَلَّاوي عَلاماتِ القَلقَ عَلَى وَجهِ بَائعِ السِّبَحِ وَهوَ يُشيرُ لَهُ بِالسكوتِ أو عَلَى الأقلِّ تَخفيضِ صَوتِهِ، فَهوَ يَذكرُ رِجالَ الدِّينِ بِالسوءِ وَهَم يَعيشونَ حَولَهُ، وَلَا يَبعُدُ مَكانُهُم فِي الحَضرَةِ سِوَى بِضعةِ أمتارٍ. خَرَجَ بَائعُ السِّبَحِ مِنَ مَحَلِّهِ وَسَحبَ سَعيداً مِنْ يَدِهِ وأدخَلَهُ إلَى دَاخلِ مَحَلِّ الثَّلجِ وَأجلَسَهُ عَلَى الأريكةِ وَطاَلَبَهُ بِأخذِ النَفَسِ، وَوَجَّهَ لَهُ سُؤالاً بِلهجتِهِ بِطريقةٍ تَحمِلُ اِستهجَانَاً وَغضبًاً:- أنتَ مَا تَريدْ أتّْوُّب؟ لكنَّ سَعيداً لَمْ يَهدَأْ فَلَجَأَ إلَى ذِكرِ اِللهِ بِسوْءٍ..." (بَابُ الدِّروازةِ، ص 155).

لم تَنتهِ حِدَّة الصِّراع المتفاقم بين الرجلين المختلفينِ تحاوراً في الفكر والاتِّجاه والعقيدة والرأي، وما يمكن أن يحصل للعراق من أحداثٍ سياسيَّةٍ تَهزُّهُ مثلما حصل للجارة الشرقية إيران في الحقبة نفسها على مستوى تغيير نظام الحكم القائم من غربي علماني إلى إسلامي ديني،وكان سعيد وقتها:

"يَصرَخُ وَيقولُ اِنتبهُوا إلَى الآلهَةِ الجُددِ.. كَانَ يَتحدَّثُ مَعَ جَارِه ِالمُقابلِ لِمحلِّهِ فِي الزُّقاقِ الضّيِّق بِائعِ القائمة بينسِّبحِ وَسجاجيدِ الصَّلاةِ وِمَلابسِ الإِحرامِ وَالأحجَارِ وَالمَحابِسِ وَالخَرزِ، وَكلِّ مّا لّهُ عُلاقةٌ بِالطقُوسِ الدِّينيةِ،بِمَا فِيهَا بَيعِ أكفانِ المُوتَى ومَاء الكَافور..كَانَ زُوجِ خَالتِه يُمازِحُ الرَّجلَ بِطريقةٍ عَجيبةٍ لَا يَفعلُها مَعَ أيَّةِ شَخصيَّةٍ أُخرَى..كَانَ يَقولُ لَهُ:-خّلِّ تَنفعكَ هَذهِ الأشياءً؟ (بَابُ الدِّروازةِ، ص 95).

لم يفهم خلَّاوي ما يدور من أحاديث السياسة المُلغَّزة عن الآلهة الجدُّد بين الرجلين، بل كان: "يَعتقدُ خلَّاوي بَعدَ سَماعِهِ لِلكثيرِ مِنَ الحِكاياتِ أنَّ الآلهَةَ الَّتي كَانتْ فِي عُصورٍ غَابرةِ يَمكنُ لَهَا أنْ تَعودَ، بِل إنَّ زَوجَ خَالتِهِ يَصرُّ عَلَى أنَّها مُوجودةٌ، لَيسَ بِمعنَاهَا التَّوظيفِي الَّذي يَستغلُهُ مِنْ يُريدُ غُسلُ العُقولٍ.. كًانً يًستمعُ وَلَمْ يَكُنْ أمامَهُ سِوَى القُبولِ، فَقدْ صَارَ الأمرُ بِعينٍ أُخرَى وَزاويةٍ نَظرٍ أُخرَى..". (بَابُ الدِّروازة، ص 94، 95).وبالتأكيد أنَّ الآلهةَ الجُددَ المقصودين هُم أدوات الحكم الجديدة.

2- العَصبيةُ وَشِدَّةُ الانفعالِ:

كانت صفات نفسيَّة مثل، العصبية وسرعة الغضب والانفعال والثوران الشعوري من أهمِّ الأبعاد النفسيَّة والطباع الحادَّة التي تميِّز شخصيَّة سعيد وتستفزٌّه في معظم الحوارات السياسية والعقائدية الساخنة القائمة بينه وبين نظيره رجل السِّبَح،ولكنْ ما يغطِّي على شخصيَّة سعيد الانفعالية أنَّه كان:

"يَفهمُ مَا لَا يَفهمُهُ الآخرونَ، وَلَهُ عَقلٌ أكبرُ مِنْ جَميعِ النَّاسِ فِي هَذَا المُجتمعِ، يَفهمُ الكَثيرَ مِنَ الأشياءِ الَّتي لا يَمكنُ أنْ يَفهمَهَا غَيرُهُ، يَتنبَأ بِمَا سَيحصِلُ، لَكنَّهُ عَصبيٌّ وَسَريعَ الانفعالِ، فَيضيعُ مِنهُ خَيطُ الإقناعِ.. وَهوَ أمرُ أيضاً تَعلَّمهُ مِنْ زَوجِ الخَالةِ، وأيضاً مَا تَتَعلَّمهُ مِنْ بِائعِ السِّبحِ، حَيثُ يَنساقُ إلَى هُدوئِهِ وَقُدرتهِ عَلَى الإقناعِ بِأقلِّ الكَلماتِ وَأخفِّ الاِنفعالاتِ الَّتي تَكادُ تَكونُ غَيرَ مَرئيَّةٍ لِمنْ يُشاهدهُ.. حَتَّى إنَّه سَمِعَ مَرَّةً مِنهُ وَهوَ يَتحدَّثُ مَعَ سَعيدٍ مُحاولَاً ثَنيهُ عَن ذِكرِ اِللِه بِسوءٍ وَأنَّ هَذَا لَا يَنفعُ بَلْ يَضرُّ وَيُقلِّلُ اِحترامَ النَّاسِ لَهُ، بِل لَا يَجوزُ أنْ يَكونَ كَذلكَ". (بَابُ الدِّروازةِ، ص 118، 119)

وقد وصل الحال النفسي بسعيد في عصبيته وانفعاله ومشاجراته إلى حدِّ الاشتباك والتدافع في حواراته مع الآخر الذي يشتدُّ معه في جدال أو نقاش حادٍ. وقد حدث مثل هذا السلوك فعلاً مع خلَّاوي الذي يعمل معه حين طلب من زوج خالته أنْ لا يكون عصبياًغاضبَاً فثارت ثائرته النفسيَّة:

"وَكَأنَّهُ رَمَى جَمرَاً مِنْ بُركانٍ عَلَى رَأسِ الرَّجُل، نَظَرَ إليهِ مُستشيطَاً بِشكلٍ مُخيفٍ حَتَّى خُيِّلَ لَهُ أنَّ قَطيعاً مِنَ الكِلابِ تُطاردُهُ، وَقَبلَ أنْ يَهرُبَ مِنْ أمامهِ أمسَكَهُ زُوجُ خَالتِهِ مِنْ يَاقتِهِ وَهَزَّهُ، وَعينَاهُ تَقدحانِ غَضَبَاً شِريراً.. سَمِعَهُ يَقولُ: لَولَا أنَّكَ يَتيمٌ وَابنُ أُختِ زَوجتِي لَطرتُكَ. دَفَعَهُ مِنْ صَدرِهِ فَسقَطَ عَلَى الأرضِ، وَفِي لَحظةِ نُهوضِهِ مَدَّ سَاقهُ اليُمنَى تَحتِ الأريكَةِ فَارتَطَمَتْ بِصندوقٍ خَشبِيِّ.. لَمْ يَكُنْ خَلَّاوي قَدْ شَاهدَهُ مِنْ قَبلَ، فَالأريكةُ عَليهَا فِرَاشٌ...". (بَابُ الدروازِة، ص 100، 101).

3- عَاملُ الخَوفِ:

إنَّ عامل الخوف والرهبة من العوامل النفسيَّة المُهمَّة التي اتصفت بها شخصيَة خلَّاوي والتصقت وأصبحت جزءاً من تفكيره الخيالي البعيد الذي يُصيِّر الناسَ إلى صورة قطيعٍ من الكلاب السائبة. وأنَّ هذا السلوك التخيُّلي الجديد لخلَّاوي هو ما لاحظه عليه أخوه سليم طالب الدكتوراه وحذَّره منه ومن نتائجه، موجِّهاً له عدة توجيهات وتوصيات لا بُدَّ من الالتزام والأخذ بها،بيدَ أن خَلَّاوي صار:

"لَا يَتذكَّرُ كَمْ مِنَ التَّوصياتِ الَّتِي سَمِعَهَا مِنْ أخيهِ، وَاحدةٌ مِنهَا أوصَاهُ وَهوَ يَراهُ يَحضِنُ رَأسَهُ بَينَ رُكبتيهِ ألَّا يَكونَ خاَئفَاً دُومَاً، فَهذَا عَيبٌ بِحَقِّ شَابٍ. لَكنَّهُ لَا يَعلمُ أنَّ صَوتَ الكَلبِ أقوَى مِنَ التَّوصِياتِ بين سعيدٍ وهادي؛ لِذَا حَاولَ البَحثَ عَنْ حَلٍ يَهديهُ إِلَى القُوَّةِ كَي لَا يَخَافُ". (بَابُ الدِّروازةِ، ص 28).

الخوف الذي يشعر به خلَّاوي لم يكن خوفاً ناتجاً عن أمر طبيعيٍّ مُعيَّن ما يحدث له طارئاً، بل كان خوفاً نفسيَّاً مضطرباً تتحوُّل آثاره الفعلية إلى كِلابٍ يتخيَّلها على شكل صورٍ حَركيَةٍ حيَّةٍ تحدث أمامه لا يمكن التخلُّص منها إلا بالهرب والابتعاد من مكان الواقعة إلى فضاء مكاني آخر:

"مَرَّةً حًصلًتْ مُشاجرةٌ فِي رَأسِ بَابِ الدِّروازةِ الَّذِي يُؤدِّي إلَى بَابِي القِبلَةِ وَالمَرَادِ بَينَ اِثنينِ مِنَ بَاعةِ المَلابِسِ النِّسائيَّةِ فِي وَسَطِ الشَّارعِ، تَمَّ فِيهَا اِستخدامُ الأسلحةِ البِيضاءِ مِنْ سَكاكينَ وعصيٍّ .. تَسمَرَّ مِثلَ خَشبةٍ كَأنَّهُ يُراقبُ فِيلَمَاً سِينمائيَّاً، لَمْ يَتحرَّكْ مِنْ مَكانهِ حَتَّى اِزدادَ مَنسوبِ الخَوفِ وتحوِّلِ الجَميعُ إلَى كِلابٍ، حِينَهَا هَربَ رَاكضَاً إلَّى مَحلِّ بِيعِ الثَّلجِ فِي الزَاويَةِ البَعيدةِ؛ لِيتخلَصَ مِنِ جَمهرةِ النُّبَاحِ". (بَابُ الدِّروازةِ، ص 40، 41).

وقد تحوَّل عامل الخوف عندَ خلَّاوي إلى عامل اقترانٍ شرطيٍّ له مثيراته واستجاباته النفسية التي ترتبط بفاعلية الحدث الحسَّاس والمُخِيف، وخاصةً عندما يتحوَّل النقاش بين سعيد وهادي إلى خلافٍ ومشاجرةٍ وتوترِ وانفعالِ شديدِوحادٍ فيما يخصُّ واقع الحال ويلامسُّ أثرَالمُحال،لكنَّ خلَّاوي:

"مُشكلتُهُ لَمْ تَزلْ فِي الخَوفِ الَّذِي يَعتريهِ، وَمَا أُضِيفَ لَهُ مِنْ وُجودِ الآلهَةِ، آلهةُ الدِّينِ كَمَا يَقولُ صَديقُهُ الفَنَّانُ وَآلهَةُ السِّياسةِ كَمَا يُسمِّيهُم زَوجُ خَالتِهِ وَآلهةُ القَدرِ كَمَا يُسمِّيهُم أخوهُ سَليمٌ .. رُبَّما أَرجِعُ الأمرَ إلَى عَدمِ قُدرتِهِ عَلَى الفَصلِ، حَتَّى الآنَ بَينَ مَا يَعرفُهُ وَمَا يُريدُ فَهمَهُ.. فَقَدْ اِختلطتْ عَليهِ المَعلوماتُ الكَثيرةُ الَّتِي سَقطتْ فِي حَوضِ عَقلِهِ بِصورةٍ مُتسارعةٍ خِلَالَ أَشهُرٍ مَعدودةٍ. وَرَغمَ عَدَمِ اِختلاطِهِ بِالنَّاسِ، لَكنَّهُم وَخَاصةً أبناءُ المَنطَقَةِ...". (بَابُ الدروازةِ، ص 118).

إنَّ شعور البطل خلَّاوي بالخوف ولَّدَ لديهِ شعوراً سريعاً بنضوج الوعي وتنامي الفكر والطموح بالمستقبل الذي ينتظره فراحَ ينظر لما يجري حوله نظرة إحاطةٍ وتحليلٍ ومعرفةٍ ويأخذ بالجديد:

"كُلُّ شَيءٍ تَغيَّرَ فِي المَكانِ وَلِذَا تَغيَّرَ خَلَّاوي،حَتَّى أخوهُ سَليمٌ لاحظّ ذَلكَ وَأغلبُ سُكَّانِ الخَانِ.صَارَ أكثرَ صَمتَاً وَأكثرَ فَهمَاً لِمَا يَجرِي، لَكنَّهُ ظَلَّ وَهوَ مَا لَا يَعرفُهُ أحدٌ، يُحاولُ الوُصولَ إلَى فَهمِ الآلهةِ، وَهَلْ لَهَا عَلاقةٌ بِمَا يَحصلُ لَهُ مِنْ رُؤيةِ الكِلَابِ النَابحَةِ؟ الآلهَةُ الَّذينَ يَقصدُهُم يَختلفونَ عَنْ آلهةِ العَمِّ سَعيدٍ أوْ الفَنَّانِ حَسنِ أو أخيهِ، بَلْ آلهةٍ مِنْ خَوفٍ.. تُطاردُهُ وَكَأنَّها تَقولُ لَهُ لِمَاذَا أَدخلتَ عَقلكَ وَتَفكيركَ فِي أشياءَ لَا يُرادُ لَكَ الوُصولُ لَهَا أوحتَّى التَّفكيرُ فِيها؟" (بَابُ الدِّروازةِ، ص 121).

4- المَحافظةُ عَلَى التَّقاليدِ وَالأعرافِ:

ومن الأبعاد النفسيَّة التي حرص الكاتب علي لفتة سعيد على توظيفها في الرواية، والتي ترتبط ارتباطاً مباشراً بالأعراف والتقاليد والعادات المجتمعية العشائرية هي المحافظة على التقاليد وعدم كسرها بما يجلب لها العار والسمعة السيِّئة بين القبائل. وذلك فعلاً هو ما حصل للفتاة فتحيَّة بفعل حادثة اغتصاب شرفها والاعتداء عليها من قبل شاب سبَّبَ لها الهجرة مع أبيها من بيتها بالديوانية إلى زقاق خان الدروازة ببغداد، الأمر الذي جعلها إحدى ضحايا المجتمع الذي لاذت منه بالفرار:

"مَرَّتْ ثَلاثُ سَنواتٍ عَلَى الحَادثةَ وَسَنتانِ مِنْ الهُروبِ مَعَ أبيهَا الَّذي صَارَ يَصرخُ بإخَوتِهِ مُعترضاً عَلَى طَلبِ قَتلِهَا غَسلَاً لِلعارِ، مَرفُوضاً مِنْ قِبَلِهِ؛ كَونَهَا ضَحيةً.. كانَ الأجدَى بِقتلِ النَّزقَينِ؛ لأنَّهما اِرتكَبَا إثمَاً كَبيراً بِشابةٍ يَتيمةٍ. كَانتْ هِيَ البِنتُ الَوَحيدةُ لَهُ مِنْ أُمِّهَا المَيِّتَةِ.. لَكنَّ الأعمامَ أصرَّوا إمَّا قَتلُها أو الخُروجُ مِنَ القَريةِ، فَهذهِ الفَتاةُ سَتجلبُ العَارَ، وَكانِ عَليهَا الصُّراخُ والاِمتناعُ..لَكنَّ الأبّ هَدَّدَهًم بِكشفِ الجَريمةِ إلَّى الشُّرطةِ أوْ الزَّواجُ مِنهَا". (بَابُ الدروازةِ، ص141، 142)

5- تَفشِّي الأَسرارِ الشَّخصيَّةِ:

ومن التمثُّلات السايكولوجية الأخرى التي طالت شخصيَّات هذه الرواية وأصبحت جزءاً مهمَّاً من ممارساتها الحدثية المُلحَّة في الاشتغال النفسي تلك هي نزعة تفشي الأسرار الشخصيَّة التي تغلف بواطن الشخصيَّة وتُحيطها بالغموض. غير أنَّ مرموزات قصص هذه الشخصيِّات السِّيريَّة وموحياتتها الخارجية والداخلية تفضحُ غشاوة تلك الأسراروتضعها أمام طاولة التساؤل الشخصي، وخاصةً تمثُّلاتها ظهرت عند شخصيَّات الرواية الأنثوية تمثَّلت بالشابة اليتيمة فتحيَّة المُريبة، وشخصيَّة أُمّ صلاح الحفَّافة الَّتي يلفها كثيراً الغموض والسَّرِّية والكتمان والانغلاق الشَّخصي التَّام:

"كَانَتْ أُمُّ صَلَاحٍ تُريدُ سَكبَ مَا بِداخلِهَا لِأغراضٍ تَعتقدُ أنَّها تَستَبِقُ فِيهَا فَتحيَةً، إذَا مَا فَضَحَتْ سِرَّهَا..فالنِّساءُ لَا يَبقَى حَرفُ تَحَت أَلسنتِهُنَّ، فَكيفَ إذَا كَانَ السِّرُّ مِنَ العِيارِ الثَّقيلِ، فَسيبقَى قَولَاً مَشهورَاً مَفضوحَاً يُسيءُإلى السُّمعةِ مَهمَا كَانَ نَوعُهُ،رغمَ هُدوئِهَا وَقدرَتِهَا عَلَى لَملمَةِ الأوضَاعِ، لَكنَّها مِنْ ذَاتَ النِّساءِ الكَثيراتِ الكَلامِ، البَاحثَاتِ عَنِ المَصلَحَةِ... ". (بَابُ الدروازةِ، ص 74).

لقد تمكَّنت أُمُّ صلاح الحفَّافة بشخصيتها العتيدة من أنْ تُشرك معها الحاجَّة أُمَّ يُوسف التي هي جدَّة خلَّاوي، وأنْ تُفضي إليها بأسرارٍ خاصةٍ عن فتحيَّة، وخاصَّةً عن موضوع يخصُّ عذريتها، وليست عن علاقتها الخاصة بخلَّاوي،والتي كانت الحاجَّة أُمُّ يوسف تعتقد أنَّها تخصُّ خلَّاوي معها:

"رَمَتْ أُمُّ صَلاح ٍ كَلماتِهَا فُوقَ الطّبَّاخِ النَّفطيِّ لِتصِلَ إلَّى أَذانِ الحَاجةِ مُباشرَةً كأنَّها تَرمِي ثُقْلَاً كَبيراً خائفة فِي الوَقتِ نَفِسهِ مِنْ رَدَّةِ فِعلِ الحَاجَّةِ قَدْ تَكونُ عَكسيَّةً وَلَنْ تَقبلَ بِمَا تَقولُهُ وَتَعَدُهُ غَيرَ مُناسِبٍ.. (فَتحيَّة لَيستْ بٍاكِرَاً)!! ". (بَابُ الدروازةِ، ص 76).

أمَّا الأسرار الخاصة بأمِّ صلاحٍ والتي كانت تخفيها عن عِلمِ الآخرين فقد أفشت بها إلى صنوها وقرينتها فتحيَّة لكي تستريح من هذا الحمل أو العبء الثقيل ذلك الهمُّ الذي يؤرقها ويزعجها دوماً:

" رَمَتْ أُمُّ صَلَاحٍ تَفاصيلَ مَا حَدَثَ لَهَا فِي أُذنِي فَتحيةَ، وَكَأنَّها رَمَتْ بِكُلِّ اِحتراقاتِهَا وَبراكينهَا وَجمرِهَا؛ لِتشعرَ بِالراحةِ وَالخَوفِ مَعَاً، رَمَتْ مِنْ أولِ حِكايةِ الشَّعَرِ إلَّى لَحظةِ اِستغلالِهَا بَعدَ أنْ نَزلَ الدَواءُ الَّذي وَصَفَهُ صاَحبُ مَحَلِّ الأعشَابِ لها، إلَّى أسفلِ جَسدِهَا حَتَّى حُدودِ رُكبتيهَا، فَكَانَ خَوفُها هُوَ الَّذي جَعلَهَا تَستجيبُ لِطلبِهِ بِرُؤيةِ مَا تَعانِيهُ بِمَا فِيهَا الكَشفُ عَنْ عَانتِهَا وَمُداعبتِهَا بِأصابعِهِ بِحُجَّةِ القِيامِ بِالفحصِ، وَكَيفَ اِنهارتْ صَارخَةً لَيس َفِي وَجهِهِ، بَلْ مِنْ اللَّذةِ بَعدَ جفافِ أعوامٍ". (بَابُ الدِّروازةِ، ص 152).

6- الطموحُ المَعرفيُّ المُستقبليُّ:

حين نبحث في التنقيب عن أثر عامل الطموح الذاتي والمستقبلي نجده حاضراً في الشخصيَّات الروائية الذكورية التي ورد الحديث الحكائي عنها في سرديَّات الرواية والتي تشكِّل جانباً نفسيَّاً وثقافياً مُهمَّاً من شخصيَّات الرواية المتنوُّعة الاتجاهات، والتي لديها أيضاً رغبةٌ عارمةٌ في تحقيق مطامحها الشخصيَّة والمعرفية في المستقبل القريب. فترى شخصيَّة سليم الطالب الطموح في الحصول على شهادة الدكتوراه، وشخصيَّة حُسين طالب الطبِّ الذي يطمح نفسيَّاً واجتماعياً أنْ يكون طبيباً يوماً ما،وشخصيَّة حسن طالب أكاديمية الفنون الجميلة الذي يحلمُ أنْ يكون فنَّاناً مبدعاً:

"وَحقَّاً فَقدْ رأى[سَليمُ] أنَّ أخاهُ[خَلَّاويَ] قَليلَ الكَلامِ مَعَ الجِيرانِ إلَّا مَعَ اِثنينِ، حُسَينٌ جِيرانهُ فِي السَّكَنِ، وَهوَ أيضاً طَالب كُلَّيةِ الطِّبِ، وَحَسنُ وَهوَ أيضاً طَالبٌ فِي أكاديميةِ الفُنُونِ الجَميلَةِ.. وَهوَ مَا فَعَلَهُ حِينَ وَجَدَ ضَالتَهُ فِي الفِكرِ وَالفَنِّ وَالحَياةِ مَعَ حَسنِ الفَنَّانِ". (باب الدروازة، ص 14).

ويُلاحظ من خلال المسرودات الحكائيَّة والقصصيَّة لأحداث الرواية أنَّ الفتى (خلَّاوي) على الرغم من كونه شاباً مراهقاً لم يكمل الإعدادية في تحصيله العلمي والدراسي؛ لكنَّه كان ميَّالاً لمجالسة المُتعلِّمين والاستماع لأحاديثهم ونصائحهم التنويريَّة والمعرفيَّة، وكان أيضاً شديد الحبِّ والرغبة في التعلم من أجل مستقبل زاهر يضمن له الحياة رغم عوامل الفشل التي واجهها عمليَّاً:

"لَمْ يَكُنْ حِينِهَا قَدْ أكمَلَ عَامَهُ السَّاسَ عَشرَ.. يَرَى المَدينةَ الَّتي تَعنِي العِراقَ وَيَسمعُ بِهَا مِنْ أَفواهِ الَّذينَ زَارُوهَا وَمِنْ فَمِ أخيهِ الَّذي قُبِلَ فِي كُلَّيَّةِ الإدارةِ وَالاقتصادِ يَرَاهَا مِثلَ اِمرأةٍ تُمَشِطُ شَعرَهَا عَلَى نَهرِ الفُراتِ، وَلَمْ يَعلمْ بَعدَ أنَّ بَغدادَ يَشطرُها نَهرُ دِجلةَ الخَالدُ الَّذي يَتغَنَّى بِهِ كُلَّمَا قَرَأ نَشيدَاً عَنِ الوَطنِ، يَرَاهَا غَافيَةً تَحتَ سَعفَاتِ النَّخيلِ...". (بَابُ الدِّروازةِ، ص 6، 7).

7-الرَّغبةُ بِالحبٍّ والإغْوَاءِ العَاطفِي:

لم يبقَ من الأبعاد النفسيَّة السايكولوجية التي زخرت بها أحداث رواية (بَابُ الدِّروازة) إلّا عامل نفسي مُهمٌّ جدَّاً، ذلك هو نزعة الحُبِّ أو العشق والغرام وما يرافقه من إغواء وتحرُّش جنسي.وهو الذي سعت إليه شخصيَّة الفتاة فتحيَّة وما خطَّطت له للإيقاع بالفتى القروي الطاهر خلَّاوي بحبال غرامها وهو المُتردِّد والمُحافظ الذي يشعر بالحياء والخجل؛بسبب تربيته الاجتماعية ويتمه المُبكِّر. فهو لم يجرب معنى العشق أو الغرام مع أي فتاةٍ في مدينته ذات الطبيعة العشائرية سوق الشيوخ:

"ظّلَّ خَلَّاوي يَابِسَاً فِي مَكانِهِ وَعيناهُ عَلَى صُنبورِ المَاءِ دُونَ كَلمةٍ إلَّا مِنْ أنفاسِهِ المُتلاحقةِ.. وَعَيناهُ تَجوبانِ الأبوابَ المُنغلقةَ حتَّى بَابَ المَرافقِ البَعيدةِ.. وَبَعدَ جهدٍ اِنتبهَ إلَى أنَّها كَانتْ تَتقَصَّدُ الوُقوفَ لَصقهِ. لَمْ تَنزلْ مِنْ دَرجِ الطَّابوقِ، وَلَمْ تَتحرَّكْ عَنهُ مَسافةَ سَنتمتراتٍ، بَلْ كَانتْ تَتَعمَّدُ كُلَّمَا تَمدُّ يَدَهَا إلّى المَاءِ تَضربُ خَاصرَتَهُ أوْ بَطنَهُ أوْ حَتَّى أسفلَ بَطنهِ. كَانتْ تَتشرَّبُ دُونَ هَوادةٍ كَأنَّها قَطَعتِ المَسافاتِ الكَبيرةَ فِي الصَّحراءِ.. بَلْ إنَّها زَادتْ مِنَ الحَركةِ وَتَركَتْ فُخذَهَا يُلامسُ فَخذَهُ. كَانتْ هِيَ بِجسدٍ مَربوعٍ قَليلاً.. لَهَا وَجهٌ دَائريُّ وَعَينانِ لَمْ يتبيَّنهُما مِنْ قَبلُ كَونهُ لَمْ يُطلْ النَّظرَ إليهَا أبداً.. وَرُبَّما هَذَا السُّكونُ اِعتبرتهُ فَتحيَّةُ مَقصودَاً، أوْ أنَّها شَعَرَتْ أنَّه يَستصغرُهَا وَلَا يُبالِي بِجمالِهَا، وَهوَ أمرٌّ لَا تَرضاهُ.. لَكنَّه لَمْ يِكُنْ مَشغولاً بهَا، بَلْ كِانَ مُنشغلاً فِي تِلكَ اللَّحظةِ بِكيفيةِ التَّخلُّصِ مِنْ لِزوجةِ المَكانِ وَرعشَةِ التَّلامُسِ". (بَابُ الدِّروازةِ، ص 35، 36).

هذا ما يخصَّ أو يتعلَّق بعلاقة فتحيَّة بالشاب خلَّاوي، وكيف أن الأمور لم تضبط وفشلت معها في تحقيق مراميها السديدة؛ لأن هناك توجُّساً ورقيباً حوله، وعيوناً تلاحقه وتحدُّ من حركته البريئة وتضبط حسن سلوكه ونشءتربيته التي كان شاهداً وصفياًعلى أخلاقه الحميدة وسيرته الحسنة فقد:

"كَانَ الزَّمنُ يَمشِي خَافتَاً فِي الخَانِ، وَثمَّةُ مُماحكاتٌ لَا يَرَاهَا أحدٌ بَينَ أُمِّ صَلاحٍ وَفتحيَّةَ، وَلَمْ تَشغلْ بَالَهَا الحَاجَّةُ أُمُّ يُوسفَ بِالأمرِ، فَكُلُّ مَا يَعنيهَا ألَّا يَكونُ حَفيدُهَا قَدْ تَورَّطَ بِعَلاقةٍ مُرِيبةٍ مَعَ فَتحيَّةَ مَهمَا كَانَ نَوعُهَا، سَواءٌ كَانتْ عَلاقةَ حُبٍّ أمْ عِشقٍ أوْ كَمَا تُسمِّيهَا (يِنامُ وَيَّاهَا)، وَهذَا كُفرٌ وَعَيبُ". (بَابُ الدِروازةِ، ص127).

إنَّ العَلاقات الشخصيَّة التي تحدث بين رجل وامرأة تحت ما يُسمَّى بالعَلاقة العاطفيَّة أو الحبِّ له نتائجه النفسيَّة والاجتماعية الخطيرة إذا لم يكن يسوده الثقة والأمان والوفاء والإخلاص. وقد يتحوُّل إلى دمارٍ وتحطيمٍ للشخصيَّة وخاصةً الأُنثوية التي تسعى إلى استثمار علاقتها الإنسانية من أجل الزواج والارتباط الصحيح؟ وهذا ما حصل لفتحيَّة في علاقتها المُريبة مع ابن عمها الشَّاب الذي خدعها ثم اغتصبها مع صديقة سائق السيَّارة الذي أقلهما، فتركا فتحيَّة في قارعة الطريق المُغاير فريسةً للمجهول. هذه القصة ترويها أُمُّ صلاحٍ للحاجَّة أُمِّ يُوسف لما حصل لفتحيَّة فتقول:

"وَبِصراحةٍ كَبيرةٍ أخبرتهَا أُمُّ صَلاحٍ بِشكوكِهَا مِنْ خِلالِ مَشيتِهَا وَنهديهَا وَفَرجةِ مُؤخرتِهَا.. لَكنَّ الحَقيقةَ الَّتِي أرادتْ فَتحيَّةُ التأكيدَ عَلَى أنَّها ضَحيةٌ لِعمليَّةِ اِختطافٍ مُدبَّرٍ بِحَّجةِ الحُبِّ. أخبرتهَا أنَّهُ أَخذَهَا مَعَ صَديقٍ يَمتلكُ سَيَّارةً مِنْ نَوعِ (لَادَا)، طَلبَ مِنهَا الصُعودَ سَألتهُ عَنْ السَّائقِ، قَالَ لَهَا إنَّه صَديقٌ مُهمَّتهُ إيصالُنا إلَّى المَكانِ وَيَذهبُ. أعادتِ الحَكايةَ مُنذُ البِدايةِ وقَالتْ إنَّها كَانتْ وَاقفةُ فِي ظَهيرةٍ تُموزيَّةٍ قَاسيةٍ، عَائدةً مِنْ بَيتِ خَالتِها حِينَ طَلَبَ مِنهُ ذَلكَ. طَبعاً فِي الحَالتينِ هِيَ تَقولُ الحقيقةَ، فَقدْ كَانتْ عَائدةً حَقَّاً مِنْ بِيتِ خَالتِهَا، لَكنَّهَا كَانتْ عِلِى مَوعدٍ مَعهُ، لَمْ تَذكرْ ذَلكَ فِي حَديثِهاَ. المُهمُّ السَّائقُ أوصلَهَا إلَى البَيتِ المَهجورِ وَغَادرَ بِسيارتِهِ...". (بَابُ الدِّروازةِ، ص142، 143).

ومن أمثلة وشواهد الإغواء والتحرُّش الجنسي الذي قامت به فتحيَّة لإيقاع خلَّاوي في شباك حبِّها، كونه يتيماً مثلها وقريباً لنفسها ومستواها الاجتماعي مع فارق بسيط بينهما، وهي فتاة ناضجةٌ ومستحقة للزواج وعمرها يفرض عليها الشعور بالحاجة الماسة للمُتعة الجسدية والجنسية، خاصةً وأنها بايلولوجياً قد ذاقت طعمها حين تم اختطافها واغتصاب عفتها وشرفها من قبل قريبها الشاب المخادع الذي يسكن في مدينتها الديوانية.فتحيَّة ضحيَّة وفتاة مسكينة تبحث عن فرصتها في الحياة:

"نَعودُ إلَى تِلكَ اللَّحظةِ الَّتِي لَمْ تَزلْ فِيهَا فَتحيَّةُ وَاقفةً إلَّى جَانبِ خَلَّاوي عَلَى تِلكِ الطَّابوقاتِ فِي دُرجِ الحَوضِ أوْ سُلَّمِهِ.. سَمّهِ مَا شِئتَ.. فَقدْ جَعلتهُ مُتعمِّدةً يَرتعدُ خَوفَاً وَتَرَقُّبَاً وَهيَ تَضربُ بِفردةِ مُؤخرتهِ أعلَى فُخذهِ حِينَ مَحنيَّةً عَلَى صُنبورِ المَاءِ لِتغسِلَ وَجهَهَا وَلَا تَجعلُ المَاءَ يَسقطُ إلَّى السَّاحةِ.. حَاولَ النُّزولَ، لكنَّهَا وَقَفَتْ خَلفَهُ تَمَامَاً، فَصارتْ بَطنُها لَصقَ ظَهرِهِ، فَارتعَدَتُ حَرائقُ المِعدانِ فِي سُوقِ الشُّيوخِ وَهيَ تَأكُلُ عَشراتِ البُيُوتِ المِبنيَّةِ مِنَ القَصبِ فِي اِشتعالِ التِّبنِ وِالأبقارِ وَحتَّى الجَاموسُ...". (بَاُب الدِّروازةِ، ص 40).

ليس هذا هو المشهد المُتفرِّد والأخير للإغواء والتحرُّش الجنسي مع ما حصل لشخصيَّات رواية (بَابُ الدِّروازة) الُأنثوية والذكورية، فقد كان المشهد الميلودرامي السردي الذي حصل لأمِّ صلاح الحفَّافة مع صاحب محلِّ الأعشاب في سوق السَّربادي لمعاينتها والكشف على المنطقة السفلى الحسَّاسة من بطنها ومداعبتها حتّى بلغت ذروته الحسيَّة التأوه (والتَّنيطُ الصوتي) من أكثر المشاهد الإغرائية الجنسية إثارة وتهيُّجاً لحركة الأنوثة الصوتية. وقد أبدع الكاتب سعيد في توصيف إيقاع هذه اللحظة الإمتاعيَّة الفارقة حين مزجَ بينَ الحركة الصوتية المُتمثِّلة بالصُّراخ والتأوُّه الصوتي الجنسي، وفعل الحركة الإمتاعية الروحية للجفاف النفسي لهذه الصورة السردية حين قال عنها: "اِنهارتْ صَارخةً لَيسَ فِي وَجههِ،بَلْ مِنَ اللَّذةِ بَعدَ جَفافَ أعوامٍ"الظَّمأِالطِّوالِ. (بَابُ الدِّروازةِ، ص 152).

فضلاً عن هذا كلِّه يضاف إلى ذلك ما حصلَ في حمَّام النساء من مشاهد عُريٍّ وإغراءٍ جنسيٍّ وعاطفيٍّ داخل أروقة وخلف سِتار هذا الحمَّام، وقد ذكرت فتحيَّة الكثير من هذه المشاهد حينما زارت الحمَّام أول مرَّةٍ لها برفقة شريكتها أمّ صلاح. وقد تمَّ الحديث عن بعض السرديَّات في هذه الدراسة. فمثل هذه المشاهد في الرواية التي وظَّفها الكاتب لم تاتِ اعتباطاً لغرض إثارة القارئ وتسخين مشاعرة، وإنَّما كانت جزءاً مهمَّاً من المشاهد الحكائية الموضوعية لتنشيط وتكثيف فاعلية السرد الروائي فنيَّاً وجماليَّاً ونفسيَّاً. وهي تعبيرٌ فنِّيٌّ عن تقانات الكاتب وإيقاعه الأُسلوبي النفسي.

وقبل أنَّ أختم الحديث عن تمثَّلات البعد الفنِّي والجمالي والنفسي أو السايكولوجي لشخصيَّات باب الدِّروازة، لا بُدَّ من الإشارة والتنبيهِ لا التنويه النقدي إلى أنَّ معظم شخصيَّات هذه الرواية تميَّزت بأنها من أكثر الشخصيَّات المُهمَّشة والمُغيَّبة فكرياً وآيدلوجياً وعقائدياً وثقافياً، والمسكوت عنها قصدياً أو عن غير قصدٍ في الواقع الحياتي المعيش. وخاصةً شخصيَّاتها الأنثوية التي تعاني شظف العيش والجهل والفقر والفاقة والعوز والإهمال الشديد للمرأة ودورها الاجتماعي والحياتي.

أمَّا شخصيَّات الرواية الذكورية على الرغم من أنَّ بعضها يتحلَّى بمكانة علميَّةٍ وفنيَّةٍ ومعرفيةٍ وثقافية كفاحيةً مهمَّةٍ، فإنها غير قادرة على النهوض بدورها القيادي الفاعل في المجتمع تُجاه تعدُّد الآلهة ودورها القمعي الحاكم لها. وهي أيضاً مُعطَّلة غير قادرة على اتخاذ أي قرارٍ جريءٍ وشجاعٍ وحاسمٍ في المواجهة والتصدّي لتمظهرات الواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي الذي يَئنُّ من الظلم والاستبداد المناطقي لها. وخيرُ دليلٍ على ذلك التهميش عجزُ بطل الرواية المركزي وفقدان شجاعته وركونه لزاوية الاستماع والصمت والإذعان والقبول بالمحيط.

هذه الأفكار جميعها أسهمت بإمتاع وإتباع ٍفي صنع وإنتاج وتخليق عمل روائي تاريخي مهمٍّ من تاريخ العراق السياسي والثقافي في حيٍّ شعبيٍّ من أحياء بغداد يُدعى خان (بَابُ الدِّروازةِ)، حتماً ستكون له مكانته الثقافيَّة والفنيَّةً وإضافته المعرفية المهمَّة في رفوف وأروقة السرديَّات الروائيَّة للمكتبة العراقيَّة خاصَّةً، والعربيَّة عامَّةً. وسَتشهدُ نقديَّات الثقافة العراقية لكاتبه المثابر الشُّمولي علي لفتة سعيد بمكانته الإبداعية والثقافية المتمايزة بين مُجايليه من أدباء وكُتَّاب الوطن الكبير.

***

د. جبَّار ماجد البهادليّ /  ناقدٌ وكاتبٌ عراقيّ

لم تقف صيرورة وسيرورة المناهج النقديّة عند حدود دراسة النص الأدبي وتفسيره اعتماداً على علاقته بالتاريخ أو المجتمع بكل مستوياته فحسب، بل انتقلت للتركيز على العالم الداخلي للنص الأدبي في بنياته اللغويّة والفنيّة والرمزيّة والدلاليّة، والبحث عن العلاقات والقوانين الباطنيّة التي تحكمه.

إن تفسير وتوضيح أي نص أدبي شعراً كان أو نثراً، يحتاج الي تفسير وتأويل مستوى دلالات البنيّة الاجتماعيّة من جهة. وكذلك مستوى التلقي، والجمالي، والانفعالي، وغير ذلك. من جهة ثانية.

فعلى المستوى الاجتماعي: لا بد من كشف البنية الاجتماعيّة التي تحيط بالكاتب، وطبيعة العلاقات الاجتماعيّة القائمة في هذه البنيّة، وما هي أبرز التناقضات والصراعات الاقتصاديّة والاجتماعية (الطبقيّة) والسياسيّة والثقافيّة التي أثرت في الكاتب أو الأديب، وحددت المسار العام للموضوع أو النص الذي اشتغل عليه، وما هي أهدافه.  فهناك مسائل تتعلق بمستوى تخلف وتقدم المجتمع من حيث أبعادها السياسيّة والاقتصاديّة والثقافيّة والاجتماعيّة. ومن مفردات أو مسائل هذا التخلف أو التقدم، يأتي دور المرأة ومكانتها، وكذلك الأمّيّة، وانتشار الجريمة بكل أنواعها، والانحطاط الأخلاقي كتعاطي المخدرات والدعارة وتذرير المجتمع، وهناك مسألة الهجرة وأسبابها وأشكالها، وكذلك الاستبداد والظلم والقهر والجوع والتشرد، وهناك انتشار الخرافة والأسطورة، وهناك الصراعات الطبقيّة والعرقيّة والدينيّة وتفريعاتها الطائفيّة والمذهبيّة. وغير ذلك من قضايا عالجها الأدباء شعراً ونثرا، إن كان على مجال القصة أو الرواية.

مستويات قراءة وتحليل النص الأدبي:

أولاً- على مستوى البنية الدلاليّة:

إن علم الدلالة يشتغل على دراسة المعنى في اللغة، وكيف تنقل الكلمات والعبارات والجمل المعنى. أي يهتم علم الدلالة بمعنى الكلمات والعبارات والجمل وكيفيّة استخدامها في التواصل بين الأديب والمتلقي.

إن علم الدلالة هو فرع من فروع علم اللغة، وهو مهم لفهم كيفيّة استخدام اللغة والتقنيات الأدبيّة مثل الاستعارة والرمز والصور والانزياح.. الخ، في السياق العام للنص. حيث يشير النص الأدبي إلى الأعمال المكتوبة في الشعر والدراما وأشكال الأدب الأخرى من قصة ورواية ومسرح، وكيف تتم كتابة هذه النصوص أو الموضوعات للتعبير عن الأفكار والعواطف. (1).

إن البنية الدلاليّة تشكل نوعاً من التوليف والتنظيم لبنية النص الأدبي، وهي المقولة التي تخترق أيضاً كيان النص باعتبارها رؤية يصوغها النص بشكل جدلي، أي بشكل يبين تلك العلاقة التي تشير إلى مدى تأثير مكونات بنية النص بعضها ببعض. وهي في المحصلة البنية التي يصادفها الناقد الأدبي فتمنحه بطابعها الشمولي فهما أعمق للخلفيّة الإيديولوجيّة أو الفكريّة المعبرة عن حوامل اجتماعيّة ذات مرجعيات طبقيّة او دينيّة أو عرقيّة أو قوى اجتماعية ذات توجهات محددة فنية كانت أو أدبيّة أو غير ذلك.

بتعبير لآخر: إن المستوي الدلالي في المحصلة يدرس ويعالج الكلمات والعلامات في النص، بهدف تحليل الدلالات المتعلقة بالبني المختلفة داخل النص مثل: التحليل اللغوي البلاغي والمعجمي: ويتضمن تحليل العناصر اللغويّة المختلفة المستخدمة في النص مثل الإيقاع والتكرار والتشبيه والاستعارة والمجاز والتخاطب. كما يدرس دلالات الجمل كمعنى الجملة وكيفيّة ارتباطها بجمل أخرى. وما هي أنواع البنى الدلاليّة في النص الأدبي وبدلالات الخطاب.؟. كما يهتم بدلالات عمليّة، كالمعاني التي تنشأ من السياق، مثل الجمهور المقصود أو لهجة المؤلف. أما الدلالات المعجمية: فتهتم بمعاني الكلمات والعبارات الفرديّة. (2).

ثانياً – على مستوى التحليل السيميائي:

إن السيمياء علم يستمد أصوله ومبادئه من مجموعة كبيرة من الحقول المعرفيّة، كاللسانيات والفلسفة، والمنطق، والتحليل النفسي، والأنثروبولوجيا، (ومن هذه الحقول المعرفيّة استمدت السيميائيات أغلب مفاهيمها وطرق تحليلها) كما أن موضوعها غير محدد في مجال بعينه، إنها تهتم بكل مجالات الفعل الإنساني بدْءًا بالانفعالات البسيطة ومرورا بالطقوس الاجتماعيّة وانتهاءً بالأنساق الإيديولوجيّة الكبرى. فالسيميائيات ليست نظريّة فحسب، وإنما هي ممارسة دائمة." لذا لا تنفرد السيمياء بموضوع خاص بها، إنها تهتم بكل ما ينتمي إلى التجربة الإنسانيّة والعاديّة شريطة أن تكون لهذه الموضوعات سيرورة دلاليّة.

إن منهج التحليل السيميائي يسعى بوصفه منهجاً نقديّاً حديثاً ومهماً في تحليل النصوص الأدبيّة، إلى الکشف عن مكنونات النص من خلال الوصول إلى المعنى العميق لبنية النصوص الأدبيّة (المضمر والمسكوت عنه) عبر العلامات والإشارات والايحاءات والألوان والرموز والصور والأيقونات.. وتهدف السيميائيّة إلى تحويل الحقول المعرفيّة (خصوصا اللغة والأدب) من مجرد تأملات وانطباعات، إلى علوم بالمعنى الدقيق للكلمة. فالسيمياء تنظر للأشياء والموجودات بوصفها علامات، تدرس النص الأدبي وفق نسق إشاري، وتبحث في المعنى وأشكال وجوده، وبذلك تکون قد حررت النص من القيود التي فرضتها عليه المناهج (النسقيّة) كالبنيويّة أو التفكيكيّة أو نظريّة التلقي أو الشكلانيّة الروسيّة وغيرها، وبالتالي لم تعد السيميائية مُکبلة بالنظر إلى الشکل، أو البنية على حساب المعنى والدلالة. هذا وتتعدد آليات التحليل السيميائي بما يتناسب مع حرکة المعنى وتطوره مثل التشاكل والتباين إذ يعدان من أهم المعايير السيميائيّة التي تساعد محلل الخطاب على استكناه دلالات النصوص، وتحديد مقاطعه بسهولة ويسر، وتسعفه کذلك على تکوين قراءة تأويليّة منسجمة ومتسقة تركيبياً ودلاليّاً، وتداوليًا. أما (المربع السيميائي) فهو أداة لتصوير المتضادات التي ينهض عليها النص مما يساعد على إبراز قيم المعاني وتميزها فبضدها تتميز الأشياء وتُعرف، وکل هذه الآليات تجسد الجانب الشكلي للمعنى في مستواه الأكثر عمقاً.(3)

ثالثاً – على مستوى التحليل النفسي: يمكن اعتبار التحليل النفسي للنص الأدبي، ذاك المنهج الذي يستمد آلياته النقديّة من نظريات التحليل النفسي كـ (الفروديّة، والنيوفرويديّة، والتحليل المادي النفسي، والنفسي المثالي.. وغير ذلك). ، حيث يُعنى بإخضاع النص الأدبي للبحوث النفسيّة، إذ يتم تحليل نفسيات الكتاب، وخصائص شخصياتهم بالاعتماد على كتاباتهم وحياتهم. وبتعبير آخر يمكن اعتبار المنهج النفسي في دراسة الأدب، بمثابة فحص وتمحيص للنصوص الأدبيّة، وربطها ارتباطا وثيقا بنفسيّة من أنتجها، والأخذ بعين الاعتبار، دواخل وكوامن الشخصيات، والعقد النفسيّة التي قد تؤثر فيها، وكذا المكبوتات داخل نفسيّة الأديب التي يسعى إلى تفريغها من خلال عدّة مسارات من النصوص التي يشتغل عليها. وكذلك ما يتعلق بالتأثير الذي يحدثه النص على القارئ، وكيف يستجيب للأفكار والمشاعر والمعنى العام للنص. (4).

رابعاً - على مستوي التلقي:

تعكـس هنا الكيفيـّة الـتي يـُدرك بها الـنص مـن خلال القارئ أو المتلقي. ويعد تحليل الـنص فعـلا قرائيّـا، والملاحظـات المستنتجة من القراءات العديدة هنا تـستمد شـرعيتها مـن الـنص مباشـرة، ولـيس مـن بنـاء حقـل ثقـافي أو علمـي آخـر. وبالتالي تبدأ لحظـة كـشف المعـنى بالانطبـاع المباشـر الـذي يخلفـه الــنص في نفــس المتلقــي، وهــو في حقيقتــه صــورة فطريـّـة نقيـّـة لــذلك اللقــاء بــين الــنص وقارئه، لا تشوبه شائبة تعيق فعل النص الخلاق في إثارة الانطباع الفطـري الأولي لدى المتلقي، لكـن هذه الصورة الفطريّة الصادقة تُصدّع، عندما يسخر المتلقـي الـنص لرؤاه الذاتيّة ومواقفه الأيديولوجية.

لقد سعت نظريّة التلقي إلى تأسيس مفاهيم وآليات اجرائيّة لبلورة مستويات قراءة النص الأدبي ونقده، فاعتُبرت هذه النظريّة منهجا للقراءة والتأويل، حيث اهتمت بالقارئ نظرا لدور هذا الأخير في بناء معنى النص وتحقيقه، وهي تهتم بكيفيّة تلقي النصوص والخطابات وتبيان الوسائل التي تتم بها عملية استقبال الكتابات الابداعيّة.

إذن يدرس مستوي التلقي، القراءات المختلفة والتفاسير والتأويلات العديدة من قبل المتلقي لهذا النص الادبي عموماً. فالنص في جوهره لم يفرخ مجرداً، بل هو نتاج الواقع، وبالتالي عند صياغته هو يصور الواقع، من جهة، ويخاطب الواقع ممثلاً هنا بمتلقي النص، الذي يقوم بقراءة هذا النص والبحث فيه عن ذاته الفرديّة والاجتماعيّة معا من جهة ثانية.

إنّ كل ما يقال حول نص من النصوص هو في حد ذاته تلقي أو قراءة، وهذه القراءة ترتبط بعلم وثقافة المتلقي وأحواله النفسيّة ورؤيته الأيديولوجية. وإن كان هناك اختلاف مكاني أو زماني أو ثقافي بين المرسل أي كاتب النص والمرسل إليه، أي القاري، فلن ينتقل المعني من المرسل الي المرسل إليه بشكل كامل، وستختلف بالضرورة القراءات. لكن إن كان بينهما اتحاد أو توافق سينتقل المعني بشكل تام إلى حد كبير، ولا يمكن أن يكون عند القاري قراءات مختلفة.

خامساً - على المستوى الجمالي:

ونقصد بالبعد الجمالي هنا الذوق الأدبي والفني الذي تتميز به هذه الشخصيّة أو تلك. وبطبيعة الحال يمكننا من خلال العمل الأدبي نفسه أن نفسّر لماذا هذا الذوق دون غيره. ذلك أن الذوق ليس بالشيء المُعطى منفرداً، وإنما هو شيء تتدخل عدد من الشروط في تحديده. ومنها على سبيل المثال لا الحصر العمر والجنس والطبقة الاجتماعية.

ويعتبر النقد الجمالي فرعاً من فروع النقد الأدبي الذي يركز على تحليل وتقويم الجماليات في الأعمال الأدبيّة. ويهدف هذا النوع من النقد أو التحليل إلى فهم كيفيّة استخدام العناصر الجماليّة مثل اللغة، الأسلوب، الصور، والرموز في النصوص الأدبيّة لإثارة المشاعر والتأثير في القارئ.

إن أثر النقد الجمالي في الأدب يتجلى في تعزيز تقدير الجوانب الفنيّة والجماليّة للأعمال الأدبيّة، مما يساعد على تعميق الفهم والتقدير للأدب كفن. كما يسهم في توجيه القراء والنقاد نحو استكشاف الأبعاد الجماليّة للنصوص، مما يثري التجربة الأدبيّة ويعزز من قيمة الأدب في المجتمع، ويرتقي بالذوق الفني للمتلقي وإحساسه بجماليات الحياة.

إن الموقف الجمال يُعالج النص على أساس المفردات التي تستخدم لتحقيق البعد الجمالي في النص، كالنحو وعلم البلاغة والمحسنات البديعيّة، كالترادف، والطباق، والمقابلة، والتقديم والتأخير، والتورية، وكثرة الانزياحات اللغويّة، والصور البيانيّة كالتشبيه والاستعارة والكنايّة. (5).

سادساً - على المستوى الانفعالي:

ويكون الحديث هنا عن الحزن والألم والفرح في هذه النص، وعن الظروف المحيطة بالكاتب والنص معاً، فالظروف الصعبة والسيئة للمجتمع من حيث انتشار الفقر والجوع والجريمة والتشرد والغربة والمخدرات والدعارة مثلاً، غالباً ما تولد عند الناس شعور غياب العدالة والمساوة، ووجود الظلم والاستبداد، وغياب القانون وقلّة الايمان بقيم ومثل الفضيلة دينيّة كانت أو وضعيّة، الأمر الذي يؤدي إلى انتشار سلوكيات غير أخلاقيّة، مثل قتل الناس بعضهم بعضا، والسرقة، وشرب الخمر وتعاطي المخدرات، وممارسة الكذب والنميمة.. وغير ذلك. وفي المقابل يمكن أن يعبر النص عن الفرح وحب الحياة والأمل وحب الانتماء والتضحية والشجاعة..الخ.

***

د. عدنان عويّد

كاتب وباحث وناقد ادبي من سوريا.

.........................

1- موقع إجابة - ما هي أنواع البنى الدلالية في النص الأدبي.. بتصرف.

2- راجع موقع إجابة – بتصرف.

3- السيميائية وتحليل النصوص الأدبية – مجلة كلية دار العلوم – جامعة الفيوم - نجلاء عبد التواب عبد الباري – بتصرف.

4- التحليل النفسي للأدب – موقع القدس العربي – مصطفى لغتيري. بتصرف.

5- النقد الجمالي: بوابة الإبداع ومرآة الأدب” – موقع الموسوعة -

 

تتألق قصيدة "شكوى حسينيٍّ تأبّد حزنه " ليحيى السماوي كعمل شعري ينسج رثاءً حسينيًا بأسلوب عمودي يحمل إيقاعًا مهيبًا عبر البحر الكامل والقافية الموحدة، مما يضفي عليها طابعًا وقورًا يعكس عمق المأساة الحسينية. يبرع الشاعر في استحضار صور بصرية وعاطفية مكثفة، كما في قوله "الماء منذ منعته عطشان.. والغيم والأشجار والإنسان"، حيث يربط عطش كربلاء بحالة كونية تشمل الطبيعة والإنسان، مكرسًا الحسين رمزًا للعطاء والمقاومة. جمالية هذه الصورة تكمن في قدرتها على تحويل المأساة الفردية إلى تجربة جمعية، تعززها لغة بليغة تجمع بين الإيجاز والتأثير العاطفي.

يوظف السماوي الطبيعة كمرآة للحزن، كما في "لطم الفرات ضفافه ونخيله.. حزنًا وشقت زيقه الغدران"، حيث يجسد الفرات ونخيله ككائنات حية تشارك في الرثاء، مضفيًا بعدا حسيا يعمق التفاعل مع النص. الإيقاع المنتظم يعزز هذا التأثير، إذ يمنح القصيدة نبرة تراجيدية تشبه النواح، مما يجعلها مناسبة للسياق الحسيني في مهرجان الشطرة.

تبرز القصيدة أيضًا في قدرتها على الانتقال من الرثاء إلى النقد الاجتماعي والسياسي، كما في "زمن ولا كالجاهلية.. قدست فيه العرش وسيس القرآن"، حيث يستخدم السماوي الإشارات التاريخية لانتقاد الفساد والخنوع المعاصر. هذا التحول يضفي على النص بعدا معاصرا، حيث يصبح الحسين رمزًا للعدالة والمقاومة ضد الظلم. جمالية هذا الجانب تكمن في التوازن بين اللغة الشعرية العالية والرسالة الاحتجاجية، مما يجعل القصيدة صوتًا للضمير الجمعي.

مع ذلك، يمكن ملاحظة أن الاعتماد على الإيقاع المنتظم والقافية الموحدة قد يحد من مرونة التعبير عن تعقيدات الواقع المعاصر، خاصة في تناول قضايا مثل التصهين والفساد، التي قد تستدعي لغة أكثر تجريدًا أو انفلاتًا إيقاعيًا لتعكس الفوضى المعاصرة. كما أن تركيز النص على الصور التقليدية، رغم جمالها، قد يقلل من جاذبيته للقارئ الذي يبحث عن تجديد أسلوبي.

بشكل عام، تتفوق القصيدة في توظيف اللغة البليغة والصور الحسية لخلق تجربة رثائية مؤثرة، تعززها الإحالات الدينية والتاريخية التي تجعل الحسين مركزًا للتأمل في العدالة والإنسانية. إنها قصيدة تحمل روح الشامية ونبض المقاومة، محققة توازنًا بين الجمال الشعري والرسالة الأخلاقية، مما يجعلها جديرة بسياقها الثقافي والديني.

***

ريم حاوي - لندن

......................

شكوى حسينيٍّ تأبّد حزنه

الـمـاءُ مـنـذُ مُـنِـعْـتَـهُ عـطـشـانُ ..

والـغَـيـمُ والأشـجـارُ والإنـسـانُ ..

*

والـبـاكـيـاتُ عـلـيـكَ قـبـلَ عـيـونـنـا

مُـقـلُ الـهـدى والـحـقُّ والإيــمــانُ

*

لَـطَـمَ الـفـراتُ ضـفـافَـهُ ونـخـيـلَـهُ

حُـزنـًا وشَـقَّـتْ زِيـقَـهـا الـغـدرانُ

*

يا ابـنَ الـذي لا سـيـفَ إلآ سـيـفُـهُ

وفـتـىً ولـيـسَ كـمِـثـلـهِ الـفـتـيـانُ

*

وابـنَ الـتـي تُـعـنـى إذا قـال امـرؤٌ :

خـيـرُ الــنـسـاءِ ولـلـتـقـى عـنـوانُ

*

وأخَ الـذي مـا سَـلَّ َ سـيـفَ عَـزيـمـةٍ

إلآ تَــســاقَـطَ حـولَــهُ الــفــرسـانُ

*

أرخَصـتَ نـبضَـكَ للحنيفِ فـأرخَصَتْ

لــكَ نـبـضـهـا وخـلـودَهـا الأزمـانُ

*

فـلأنـتَ مـن فـجـرِ الـشـهـادةِ شـمـسُها

ولأنــتَ مـن ثــغــرِ الـجـهـادِ لِــســانُ

*

ولأنـتَ مـن دِيـنِ الـصــراطِ إمـامُـهُ

ومـن الـعـطـاءِ الـقـلـبُ والــشــريـانُ

*

مـولايَ لـي عـذري فـبـعـضُ تـسـاؤلٍ

فـيـهِ الـجـوابُ إذا اشـتـكـى الـحَـيـرانُ

*

جـاز الـزُّبـى زبَـدُ الـخـنـوعِ فـصـبـحُـنـا

داجٍ ... وأمّــا لــيــلُـــنــــا فــهَــوانُ

*

صَــحـراؤنـا بـحـرٌ ... ولـكـنْ مــاؤُهُ

جَـمــرٌ ... وأمّـا مـوجُـهُ فــدُخــانُ

*

مـن أيـنَ يـأتـي بـالـسـفـيـنـةِ مُـنـقِـذًا

" نـوحٌ " ولـيـس بـأرضِـنـا بُـسـتـانُ؟

*

الأرضُ أبـعَـدُ ما تـكـونُ عـن المدى

وقـد اســتـبــدَّ بـمـوجِـهِ الـطـوفـانُ

*

زمَـنُ ولا كـالـجـاهـلـيَّـةِ .. قُـدِّسَـتْ

فـيـهِ الـعـروشُ وسُــيِّـسَ الـقـرآنُ

*

زمَـنٌ تـصـهـيـنَ فـيـهِ بـعـضُ أرومـتـي

وأُعِــيـدَتِ الأصــنــامُ والأوثــانُ

*

كـم مـن مـؤدٍّ لـلــصــلاةِ وصــائِــمٍ

جَـهــرًا ولـكــنْ رَبُّـهُ الـشـيــطــانُ

*

بـلـغـوا الــتـمـامَ مـن الـفـسـادِ كـأنـمـا

فـيـهـمِ عـلـى شَــرِّ الـخـطـى إدمـانُ

*

شَـكـوى حُـسـيـنـيٍّ تـأبَّـدَ حُـزنُـهُ

وتـأبَّـدتْ فـي قــومِـهِ الأحــزانُ

*

مـولايَ أشـكـوهـم إلـيـكَ وأشـتـكـي

قـومـي ومـا قـد أضـمَـرَ الـجـيـرانُ

*

ثُـكِـلـتْ عـروبـةُ أمَّـتـي وتـأرمَـلـتْ

فـيـنـا الـسـيـوفُ ودُجِّــنَ الـشـجـعـانُ

*

كُـنّـا نُـجـيـرُالـمُـسـتجيـرَ إذا اشـتـكى

ظُــلــمًــا وطـالَ بــلادَهُ الــعــدوانُ

*

والـيـومَ صِـرنـا نـسـتـجيـرُ ولا فـتـىً

لـو تـسـتـغـيـثُ " سًـعـادُ " أو " نـجـوانُ "

*

لَـيـكـادُ يـخـجَـلُ أمـسُـنـا مـن يـومِـنـا

وتــفــرُّ مـن أحــداقِــنــا الأجـفـانُ

*

لِـمَـنِ الـجـيـوشُ تـنـاسـلـتْ حـتـى لـقـدْ

ضـاقـتْ بـهـا الـثـكـنـاتُ والــمــيـدانُ ؟

*

لا " مازنٌ " مَـدَّتْ لِـ " غـزّـ ةَ " سـاعِـدًا

فـتُـغـيـثُ مـظـلـومــًا .. ولا " ذُبــيــانُ "

*

عـذرًا أبـا الأحــرارِ مـن جـزَعـي فـلا

" قـحـطـانُ " مُـنـصِـفــةٌ ولا " عـدنـانُ "

*

بـئـسَ الـمـصـيـرُ إذا يـسـيـرُ بـركـبـنـا

نـحـو الأمــانِ الـقـادةُ الــعــمــيــانُ

*

فـعـسـى حـفـيـدًا مـنـكِ يـأتـي فـي غـدٍ

بالعـدلِ حـتـى يـسـتـوي الـمـيـزانُ

*

عـهـدًا أبـا الأحـرارِ تـبـقـى قــائِـمًـا

مـا قــامَ فــيــنــا لــلــصــلاةِ أذانُ

***

يحيى السماوي

 

في ديوان (قطاف خارج الموسم) للشاعرة المغربية زهراء الأزهر

تمهيد: لا نعتبر ديوان (قطاف خارج الموسم)* للشاعرة المغربية (زهراء الأزهر) إضمامةً من القصائد الهاربة من أتون الوجدان إلى آفاق التوثيق والنشر والسياحة الثقافية، بقدر ما نعتبره مشروعا فنياً تقترف فيه الشاعرة أعلاهُ فنّ الجمال داخل منظومة إبداعية تعجّ بالإشكالية، هي منظومةُ قصيدةِ النثر. تقترف الشاعرةُ هذا الفنّ برؤية خاصّة تتدرج عبر ثلاثيتها الإبداعية في إصداراتها: (رعشةُ يراع - في ظل كلماتك فقط - قطاف خارج الموسم.) والبقية تأتي.

و هذا التدرج لا يراكم الدواوين في خزانة الشاعرة من أجل تحقيق كمٍّ نرجسي في رفوف المكتبة المغربية الكبيرة بقدر ما ينبني في مفكّرتها كسيرورة دينامية وكصيرورة متحوّلة. الأولى تفيد الحركية في بوصلة الشاعرة الملتطقة باستمرار إمكاناتِ الإدهاش الإبداعي، كي تبعد مشروعها الفني عن آفة السكون والستاتيكية. والثانية تفيد الرغبة العارمة في التحول داخل الحساسية الشعرية الفردية والجمعية في نفس الآن، والتي تراقبها الشاعرة كوليد تخشى عليه من الشبه والتكرار، وذلك  في أفق واعد تصنع فيه الشاعرة قدر إدهاشها الممكن واللاممكن.

قد قلنا الممكن إشارة إلى إمكان القبض على الشاعرة (زز) داخل كماشات القراء ثم النقاد. وقلنا اللاممكن إشارة إلى شِعرها الآخر والقابع في سيمياء التأويل حيث يصبح المتلقي جزءاً من هذا المشروع وهو يُغْني النواة \ الأصل بمزيد من الإنتاج الأدبي في سياق (القطاف) عبر رؤىً غيرية متعددة.

المقاربة:

أ – قراءة في الإهداء:

كتبت الشاعرة (ز ز) في مطلع ديوانها ما يلي:

(كلمة لابد منها: إني حرمت الصمت على نفسي وجعلته بين أسطري محرّما) * - الديوان ص 3.

ترفض الشاعرة مقولة الصمت وتشجبها وتدينها على اعتبار الصمت حالةَ ظلم أكثر منه حالة موقف. وهي ترسل هذا البيان في إهدائها على ناصية الديوان إعلاناً واضحا ترغب فيه عن التسمية الرتيبة (إهداء) وتحوله إلى (كلمة لابدّ منها). وكأن الأمر يتعلق بحالة نفسية مضغوطة لا تجد الشاعرة بدّاً من إخراجا والصدح بها.

وفي هذه الكلمة الهامسة تناصٌّ مع الحديث القدسي " يا عبادي، إني حرَّمتُ الظلمَ على نفسي وجعلتُه بينكم محرَّمًا... "1.

والشاعرة لا تقدم بهذا التدبيج ديواناً صامتا ً ومغلقا على ذاته. بل هي تقدم نقيض الصمت الذي نعتبرُه في هذا السياق تاريخا من الاختفاء والتواري خلف شتّى أنواع السلطة الضاغطة على صوت الأنثى عبر التاريخ. من هنا جاءت فكرة تحرير الأسطر الدالة مجازياً في جزئيتها على الكل، أي على الشعر. في أفق الإرهاص عبر ناصية الإهداء للخروج من حالة الخوف والسكون والظل إلى حالات الأمان والحركية والحضور والفعل، وذلك عبر ناصية الإهداء.

وفي عمق التأويل نقول: إن الشاعرة في هذا التناص مارستْ مكرا مشروعاً إذ امتطت صهوةَ الكينونة المتسامقة في شخص الذاتِ باعتبارها كائناً متعالياً ومتحكماً في نواصي إبداعه. وهذه صورة مستفزّة للتراث في شخص الفرزدق الذي كان يركن تحت سلطان أسطره، وكان يجد صعوبة في النظم إلى درجة أن خلع ضرس من أضراسه أهون عليه من قول بيت واحد. وهذا التعالي مشروعٌ أيضا ونلمسه في قناعة الشاعرة بامتلاكها لقرارت أسطرها، أو على الأقل هي تمنع هذه الأسطر أن تركن إلى الصمت، بله وأكبر من ذلك، فهي تحرّم على أسطرها ذلكم الصمت. إن من يمارس هذه القدرة على التوجيه لحروفه لا يمكن أن يكون متواجداً في صفوف حروفه، هو أكبر من حروفه وإلّا لما أمكنه أن يصدر قراره بالمنع وبالتحريم.

ب – مفهوم التشاكل:

لابد من الإشارة أولا إلى أن مفهوم التشاكل هنا هو مفهوم إجرائيٌّ قبل أن يكون شرطاً منهجيا. التشاكل مفهوم سيميائي غربي التنظير، ولو أن العرب تحدّثوا عنه في مضان اشتغالهم النقدي القديم. وهو اصطلاح يقوم في الأصل على جذر يوناني من كلمتين 

isos  -  وتعني متشابه ومتماثل

topos  -  بمعنى المكان

و قد استعمله  الناقد والباحث الفرنسي " غريماس " في مجال السرد مقترضا إياه من حقل العلوم الفيزيائية والكيميائية2. وهو أول من أدرج مفهوم التشاكل ضمن التحليل السيميائي للسرد، وبعد ذلك أصبح هذا المفهوم الإجرائي مرتكزا جوهريا في الكتابات النقدية تنظيرا وتظهيرا.

و يراه "غريماس" مجموعة متراكمة من المقومات والمقولات المعنوية التي تجعل قراءة الحكاية قراءة متشاكلة أي منسجمة3.

و يراه "راستي" تكراراً لوحدة لغوية مهما كانت. وإذا كان غريماس قد حصر التشاكل في المضمون فإن راستيي وسّع في دائرة المفهوم ليسري التشاكل على المضمون والشكل معا.

و يراه "محمد كمفتاح" تنميةً لنواة معنوية سلبا أو إيجاباً بإركامٍ قسري أو اختياري لعناصر صوتية ومعجمية وتركيبية ومعنوية وتداولية ضماناً لانسجام الرسالة4.

والخلاصة أن التشاكل يتعلق بوجود خصائص ومقومات دلالية وسيميائية مشتركة تجعل النص متسقاً ومنسجما ومفهوما على مستوى المعنى. أي أن هناك قواسمَ مشتركةً ومختلفةً تجعل نصا مفهوما ومنسجما قابلا لقراءته وتحليله. من هنا حديثنا عن التشاكل بالتمتثل والتشاكل بالاختلاف والتباين. هناك نص آخر يعتمد على اللاتشاكل باعتباره بنية مفككة قائمة على الاختلاف.

التشاكل في عمق المفهوم استمرارٌ لقاعدة سُلّمية للمقومات السياقية التي تمكّن من تحقيق تغيرات على مستوى التمظهر في اتجاه بنائي ظاهره هدم للتشاكل وباطنه بناء وتأكيد له.

و لنستوعب ذلك نأخذ مثالا استئناسياً من ديوان الشاعرة (زز). قالت في قصيدة (أنا والبحر) ص 107:

وها أنا قد أتيتُ إليك

تشدّ أذني عتبات ندائك

...

ثم قالت في نفس السياق:

جئتُ حيث أنت

جئتَني حيث أقفُ برذاذ مائك – الديوان، ص 107

وغرضنا هنا ينصبّ على تغيّر الوحَدَتَيْن اللسْنِيتيْن (أتيت وجئت)

و يعني ذلك أن التشاكل من زاوية أجرأته كأداة تحليلية يمكننا من ضبط استبدال المفردات والمقولات معجميا وسياقيا داخل النص أو داخل الخطاب، والتي باختلاف سماتها المتماثلة أو المتباينة تسهم في توليد الدلالة وتشكيل معاني النص، وتسعف الباحث كذلك في تصيّد الدلالات التي يحوم حولها النص.

هذه العملية ولو أنها تبدو دقيقة في اشتراطاتها المنهجية القائمة على استثمار البعد اللغوي في تداوليته، إلا أنها تمكّن القارئ أو المتلقي من ضبط ما يلي:

- البحث عن الانسجام الخطابي

- صحة المقروئية

- خلق وحدة النص الممكنة

أولاً: التشاكل الصوتي

في البدء، وجب الاحتراز من الانزلاق وراء تأويل الأصوات العربية وتأويل تكرارها في إطار ما يسمى برمزية الأصوات. ونعني بالرمزية الصوتية العلاقة بين الصوت والمعنى، وهي قضية لغوية قديمة أسالت حبراً كثيرا: فهناك من يقرّ بوجود علاقة بين الصوت ودلالته عليه وهناك من ينكر هذه العلاقة. ومع ذلك نحتفظ بالرأي المعتدل الذي يعترف للأصوات بقيمتها التعبيرية المشروطة بما يمليه سياق الحال والمقال. فكلنا نحفظ قوله تعالى (لقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ ۘ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ) 5*. كما نحفظ قول الشاعر المتنبي:

فَقَلقَلتُ بِالهَمِّ الَّذي قَلقَلَ الحَشا    \\\   قَلاقِلَ عيسٍ كُلُّهُنَّ قَلاقِلُ6.

ندرك في المثالين وبوضوح تكرار صوت القاف في سياقين مختلفين: الأول يرتبط بغضب الله عز وجلّ، والثاني يتعلق بحزن الشاعر. وفي كلا المثالين تبدو الدلالات قويةً من خلال تكرار وحدة صوتية معيّنة. ولا نظن مختلفا واحدا يعترض هنا على العلاقة بين الصوت ورمزيته التعبيرية.

و في سياق تحليلنا للإجراء السيميائي الموسوم بالتشاكل ركزنا على الصوتي منه فقط نظرا لتراكمه الواضح في الديوان. وبدأنا بعملية إحصاء لبنيات حروف الرويّ وهو الحرف الذي تنبني عليه القصيدة، وبه تسمّى وإليه تُنسب. كأن  نقول لامية الشنفرى وسينية البحتري وهكذا دواليك.

أحصينا الديوان في إحدى وسبعين قصيدة خضعت أو أخضعتها الشاعرة لبنية تشاكلية صوتية مدهشة كالتالي.

الروي حجم التردد

روي النون 11 قصيدة

الراي 8

الهاء 8

القاف 6

اللام 4 

الباء 4

السين 3

العين 3

الكاف 3

الطاء1

الياء 1

وما تبقى من القصائد مثّل تشاكلا في سياق صوتي آخر لم تلتزم فيه الشاعرة بوحدة الروي وإنما تركت ذائقتها تنسج المخيال في نسق صوتي تشاكلي يعتمد على تعدد الأروية. ونمثل لذلك بقصيدة (أخلصت وما أحببت) فقد تناوب في دفقتها الموسيقية الأخيرة كل من روي القاف والدال والنون. وقصيدة (كلمات مروية) وفيها احتشم روي النون نسبيا في إلحاحٍ محتشمٍ بحضورٍ لم يتجاوز ثلاثة تردّدات. ثم لاحظنا في هذا المبحث ملاحظتين:

الأولى: اعتمدت الشاعرة على الروي الساكن في أغلب قصائدها، ونشزَ من ذلك عشر قصائد جاءت أرويتها متحركة أو مشبعة. والعدد 10 من 71 قصيدة يعدّ نشازا ولا يبني قاعدة. وتأكدنا من حضور هذا السكون المهيمن بالتأويل الإعرابي ومن مواقع المفردات داخل التركيب النحوي.

والسؤال هنا هو: لِمَ اختارت الشاعرة الرهان على ظاهرة السكون في الروي؟ ولمَ اختارت أن تكون الدفقة الموسيقية الأخيرة من كل سطر شعري ثانٍ ساكنة؟ إما بحرف رويّ وإما باقترانه بهاء السكت. أترك السؤال مفتوحا للإجابة عنه في غضون القادم من المقاربة.

الثانية: داخل هذه الهيمنة لوحدة الروي وحضور النشاز المكسر لهذه الوحدة يتبدى لنا اختيار الشاعرة التي تريد أن تجتهد في قصيدة النثر على مستوى الموسيقى أو الإيقاع، وعياً منها بأن قصيدة النثر بؤرة فنية لاستقبال كثير من الأسئلة الطارحة ذاتها باستمرار مادامت الرؤية النقدية العربية لم تتفق بعد على برّ ترسو فيه سفن البحث في إشكالية التجنيس.

و لقد اخترنا النسق الصوتي لحرف النون نظرا لتوفر شرط التراكم. وهو الشرط الأساس الذي يبني عليه كلٌّ من غريماس ومحمد مفتاح مفهوم التشاكل.  ثم أردفنا الإحصاء الأول إلى إحصاء آخر خرجنا فيه ومنه بالتشاكلات النونية التالية:

القصيدة النون صوتاً  ذاتيا النون تنويناً الروي

ظلت وتظل  37 مرة 6 مرات نون ساكنة

مرآة الروح  34 مرة 10 مرات نون + هاء السكت

قصيدتي السنوية 33 9 نون ساكنة

أخيّتاه 35 14 نون ساكنة

شمس النهار 14 4 نون مشبعة

تهاليل  25 6 نون ساكنة

على جناح فراشة 35 16 نون ساكنة

الرهان 32 9 نون ساكنة

أشواق 23 4 نون ساكنة

سمراء 26 14 نون ساكنة

أخلصت 30 9 نون مشبعة

و قد اعتمدنا الحرف مدخلا سيميائيا لقراءة ظاهرة التشاكل الصوتي في هذا الديوان، لا من باب البذخ القرائي أو من باب الترف الثقافي، ولكن لأن الكلمة هي الوحدة المعجمية المكونة للغة، والكلمة مادتُها الأساسية هي الوحدات الصوتية المتفاعلة لتشكيل كيان اللغة المنطوقة. إن الصوت يمثل المظهر الأول للحدث اللغوي ثم الحدث الشعري إذا ما قفز المبدع من البداهة إلى الخيال.

لكن العلاقة بين الصوت والمعنى ثم بين الصوت والدلالة علاقة شائكة ومعقدة ولا ينبغي لنا أن نقول إن صوت الصاد مثلا في القصيدة الفلانية يدل على القوة، وأن صوت الميم في أخرى يدل على الحزن، إلا إذا اشترطنا منهجية التراكم المشفوعة بالقراائن اللفظية والحالية. وفي سياق الديوان (قطاف خارج الموسم) وجدنا حرف النون صوتاً مهيمناً على مستوى:

- الحضور كوجود فونيمي ذاتي باعتباره وحدة صوتية متميزة عن غيرها

- الحضور كصوت ناتج عن التنوين

- الحضور في كل القصائد بتراكم اختياري أو لا اختياري

- الحضور كصوت مميّز في الصواتة العربية لدعم المعنى والدلالة

و الذي لا يختلف فيه الدارسون المتخصصون في الأصوات هو أن حرف النون صوت مختلف عن الاصوات العربية الأخرى، نظرا لميزته الإيحائية التعبيرية على مستوى الدلالة؟

و النون هو الحرف الخامس والعشرون في الترتيب الهجائي، والرابع عشر في ترتيب الأبجدية العربية. قال فيه ابن جنّي (النون حرف مجهورٌ أغنّ، يكون أصلا وبدلا وزائدا ) 7 *

ننتقل الآن إلى رصد ملامح التشاكل الصوتي لنسق النون في بعض القصائد، تمثيلا لا حصرا، وتأكيدا لهيمنة هذا النسق داخل رؤية الشاعرة الفنية والوجودية.

* المثال الأول: قصيدة (ظلت وتظل)

التوحيد بين أقنومي الوجود:

هيمن حضور نسق النون فيما يربو على 43 تردداً، يحكي في مقام القصيدة قفزا شعريا على مقولة التوتّر بين الرجل والمرأة إلى مرتبة تؤمن فيها الشاعرة بمقولة الوصل.

قالت: (مدّ لي جسراً إليك – الديوان، ص 30)

كما أن صياغة حرف النون داخل القصيدة يخدم هذا التخريجة عبر إضافة النون إلى مفردات الأمان والحنين ورماد السنين وموقع اليمين... وهذا الحضور الكمي يتجاوز الوظيفة التعبيرية كقيمة صوتية معزولة إلى قيمة دلالية تشي برغبة الذات المتكلمة في الهدم والبناء: هدم ميراث التوتر بين الرجل والمرأة وبناء علاقة جديدة تقوم على التكامل بدل التنافر، والتقارب بدل المسافة.

هكذا تسيرقصيدة (ظلّتْ وتظلّ) ويسير معها الديوانُ في اتجاه بناء عالمٍ  جمالي تقوم فيه الدلالة على على تنغيم أقنومي الوجود وتوحيدهما. وفيها تقفز الشاعرة برؤيتها الشعرية المختلفة على مقولة التوتّر بين الرجل والمرأة. وهي المقولة التي قهرها الشعراء طبخاً إما من زاوية الموضوع الضاغط، وإما من زاوية الموضة في التناول من أجل ارتداء عباءة الاختلاف. وأما شاعرتنا فاختارت التناغم بين الطرفين، لا ضعفاً ولا استجداءً للساحة الذكورية، وإنما قناعة فلسفية تعترف بوحدة الكينونة لا بتفرّقها وشتاتها وتنافرها.

*المثال الثاني: قصيدة (مرآة الروح)

يثيرنا في هذا النسق ذلكم التشاكل التركيبي بين النداء والاستفهام الاستنكاري  والأمر الخارج عن معناه البلاغي إلى دلالة الالتماس داخل نسق النون، الذي تردد 43 مرة.

 قالت الشاعرة:

أيها المريدون ماذا تريدون؟

أنصتوا لنبضةٍ عارمةٍ مرنة.- الديوان، ص 40

يخيّم على المقطع الصغير صوت النون وهو يتردد ستّ مرات، بين نسق صوتيٍّ ذاتيٍّ (ثلاث مرات) ونسق التنوين (ثلاث مرات). مما يشي بحضوره القويّ داخل تركيب لا يتجاوز ثمانِ مفرادت. أفعمتْها الشاعرة بهالة النون المعبّرة والذاهبة فنيّاً مذاهِبَ الإدهاش في التلقي الجمالي. وبين إرادةِ المخاطب المبنية داخل سيمياء الشك وبين يقينِ النبض العارم والمرن، تتأتّى للقارئِ إمكاناتُ تأويل الكلامِ في عدّةِ اتّجاهات، منها مساءلة المخاطب الغافل عن حقيقة الأشياء المعزولة في وهمه عن إمكان النبض الماثِلِ في ذهن الشاعرة باعتباره أساساً في الوجود... النبضُ هو الوجود.

*المثال الثالث: قصيدة (قصيدتي السنويّة)

تردد فيها نسق النون الصوتي 42 مرة.

و الأمثلة هنا وافرة نذكر منها قول الشاعرة:

يا موسم القحط أدبِرْ

دعنا نعانق الحنين

فقوافلنا ظمأى

افتح بابً للمتعبين

...

فجسد المدينة متعب

و وجهها شاحبٌ حزين – الديوان، ص 52

النون حاضرة وبانية لنسق الدلالة الداعية إلى الوصل بدل القطيعة. سواء تعلق الأمر بالإنسان (المتعبون) أو تعلق الأمر بالمكان (المدينة)...

 *المثال الرابع: قصيدة ( أُخيّتاه)

 وفيها حضر صوت النون بمعدل 49 مرة، وهو رقم مثيرٌ وفاتح لأكثر من سؤال خاصة إذا علمنا أن القصيدة لا تتجاوز 22 سطرا شعريا. بمعنى أنها قصيدة مركزة يبدو فيها النون مخيِّما على الترددات الصوتية للقول الشعري. ومما زاد في قوة دلالاتها النونية أن الموضوعة فيها تُقارِب رثاءً عامرا بالحزن.

النون هنا قالب صوتي استطاع باقتدارٍ شعريٍّ أن يحتضن حالة الفقد وحالة الصبر:

قد يجفّ الدمع من عيني وليس

يخفّ لواعج القلب الحزين

يا صاحبة القلب الحنون فداك نفسي

فدمعي يسيل بجرح سخين

و حسبنا من هذا الفيضِ غيضٌ من التمثيل والاستشها. وما على الراغب في معاينة هيمنة هذا النسق إلا قراءة الديوان واستخلاص معانيه في هذا الاتجاه الذي لا أظنه عبورا أبدعته الصدفة، بقدر ما هو حضورٌ أبدعته ذائقة شاعرة تمكر بالكلمة مكراً جميلا وتبعث فيها من روحها أشكال النغم الناطق بشتى الدلالات.

خاتمة:

مارستِ الشاعرة رؤيتها الفنية في بناءٍ شعريّ متكامل وأتحفتْنا بعمل متناغم هو الديوان (قطاف خارج الموسم). دبّجتْ فيه موقفها الفني من الوجود ومن عناصر هذا الوجود، ومن  طبيعة الإبداع وحدّدت موقفها من مجموع قضايا راهنة فيها مرونة وتحدٍّ للمألوف بشكل حوّلت فيه ديوانها من سيماء الشبه والتكرار إلى شكل من أشكال الفرادة وهي تصوغُ رهانها الشعري داخل ثقافة الاختلاف. وضعتْ فيه أشواقها وآلامها وآمالها وحنينها وحتى معانقاتها الخارجة من شرنقات الذات إلى الموضوع في شخص القضية الفلسطينة. إنها في آخر المطاف شاعرة تكلمتْ من مساحة جرحٍ نقيّ لم يغرقها في سوداوية معتمة بقدر ما فتح لها وأمامها بواباتِ الإشراق الشعري الموصوف في نسق النون.

نلفت النظر إلى أن قراءة الدلالات داخل نسق النون وحده بمعزل عن باقي مكونات الخطاب الشعري هي قراءة قاصرة عن تمثل الديوان باعتباره وجوداً فنيّاً يحتاج إلى إحاطة شاملة كي نستنطق أبعاده في غير ليٍّ لأعناق التأويل. إن تظافر المكونات القولية في فن القصيد هو ما يبعث في الديوان حياةً جديدة يبنيها القارئُ خارج دوائر الشاعرة في لحظات إبداعها والذي لا يمكن أن يحاصرنا في سيمياء رؤيتها الفنية فقط. وتبقى التخريجات الدلالية النازحة من بطن صوت النون قاصرة حتى يزكّيها القارئ الباعث في الديوان وفي القراءة النقدية معاً شكلاً من أشكال حياةِ التأويل الممكن. ذلك أن استخلاصنا للدلالة في هذا المقام هو استخلاص يعيش في وضعٍ تأجيليٍّ ريثما ينضاف إليه استخلاص آخر وآخر وثالث وهلمّ جرّا...

***

نورالدين حنيف أبوشامة\ المغرب

....................

إحالات:

* الديوان: زهراء الأزهر، قطاف خارج الموسم، مطابع الرباط نت  2022، الطبعة الأولى

1 - الحديث عن أبي ذر الغفاري، ورواه مسلم

2 - توجد مركبات ذات صيغ جزئية واحدة، ولكنها تختلف في التركيب أو في توزيع الذرات. وهذا الاختلاف جعل المركبات الكيميائية توصف بالمتشاكلة. فالتشاكل في التصنيف الكيميائي يطلق على الوحدة والتوازن والتجانس والتناظر والتشابه والتماثل، ويعني أيضا الانتماء إلى حقل أو مجال أو مكان معين.

3 - محمد مفتاح، تحليل الخطاب الشعري، المركز الثقافي العربي، 1986  ص 20

4 - محمد مفتاح\ تحليل الخطاب الشعري\ ط1- مدار التنوير للطباعة والنشر\ بيروت 1985\ ص 52

5 - سورة آل عمران، الآية 181

6 – ديوان المتنبي\ تحقيق عبدالرحمن المصطاوي \ دار المعرفة\ بيروت \ ط 1983  ص 34

7 - أبو الفتح عثمان ابن جني الموصلي، سر صناعة الاعراب، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، ط 1، 2000، ص 2 \ 107

 

قراءة في ضوء نظرية الفوضى

شهدت الرواية المعاصرة تقاطعًا متزايدًا مع مفاهيم علمية وفلسفية حديثة، من بينها نظرية الفوضى (Chaos Theory) التي تقوّض فكرة النظام الثابت، وتؤكد أن أصغر التغيرات قد تُحدث نتائج غير متوقعة، ومن أبرز مفاهيم هذه النظرية "أثر الفراشة"، الذي ينطبق بشكل دقيق على رواية "قواعد العشق الأربعون"، وتمثل رواية "قواعد العشق الأربعون" للروائية التركية إليف شافاق مساحة سردية خصبة للتأمل في التحولات النفسية والروحية التي يمر بها الإنسان عبر تفاصيل تبدو في ظاهرها بسيطة، لكنها تحمل طاقات تغييرية عميقة، وإذا ما نُظر إلى هذه الرواية في ضوء نظرية الفوضى، وتحديدًا مفهوم "أثر الفراشة"، اتّضح لنا أنها تبني عالمها السردي على سلسلة من الأحداث الصغيرة التي تُفضي إلى تحولات جوهرية في حياة الشخصيات، بما يبرر مقاربة الرواية بمفاهيم العلوم الحديثة، ويمنحها بعدًا فلسفيًا غير مباشر.

فهل يمكن قراءة الرواية باعتبارها تجسيدًا سرديًا لأثر الفراشة؟ وهل تمثل التحولات الدقيقة فيها مبدأً لتفكيك الثبات والجمود؟

 أثر الفراشة: المفهوم والإطار النظري

يُشير مفهوم "أثر الفراشة"(Butterfly Effect)، أحد مبادئ نظرية الفوضى- وهي فرع من الرياضيات التطبيقية والفيزياء النظرية، نشأت في القرن العشرين، وتهدف إلى دراسة الأنظمة المعقدة والحساسة للتغيرات الطفيفة-، إلى أن تغيرًا بسيطًا في بداية نظام ما قد يقود إلى نتائج بعيدة وغير متوقعة في المستقبل. ويُستخدم هذا المفهوم لتفسير التحولات الكبرى الناتجة عن مقدمات تبدو عشوائية أو هامشية. في السياق الأدبي، يُعدّ هذا المفهوم أداة تحليلية تُمكّننا من قراءة تطور الأحداث وتنامي الشخصيات بعيدًا عن خطية السببية التقليدية.

الرواية كنسق دينامي فوضوي

تعتمد الرواية على بنية سردية ثنائية، تربط بين:

القصة المعاصرة: إيلا روبنشتاين، المرأة الأميركية التي تعاني من رتابة الحياة، تتلقى مهمة تحرير رواية بعنوان "الكفر الحلو"، فتدخل عالمًا من التحولات العاطفية والروحية.

القصة التاريخية: العلاقة الصوفية بين جلال الدين الرومي وشمس التبريزي في القرن الثالث عشر، حيث تظهر "قواعد العشق" الأربعون.

هذه الثنائية تُجسّد مبدأ التراكم الفوضوي حيث تؤدي قراءة رواية من قبل إيلا إلى زعزعة بنيتها النفسية والاجتماعية، تمامًا كما تؤدي لقاءات شمس بالرومي إلى قلب توازن نظام فكري ديني مستقر.

تطبيقات أثر الفراشة داخل المتن الروائي

رفرفة الفراشة الأولى: قراءة رواية داخل رواية

إن تسلّم إيلا لرواية "الكفر الحلو" يبدو في البداية أمرًا إداريًا بسيطًا، لكنه يُفجّر سلسلة أحداث تغيّر مجرى حياتها، هنا تعمل "القراءة" كفعل تحويلي، يُشكّل نقطة بداية لتفتت النظام القديم داخل الشخصية.

وهذا الحدث البسيط أشعل سلسلة تغيرات عميقة في حياتها: فقد أعاد طرح أسئلة عن الحب، والروح، والذات. كما دفعها للتواصل مع الكاتب، عزيز زاهارا. وأيضًا قادها إلى رحلة داخلية من الشك إلى الإيمان ومن السكون إلى التغيير (هذا يشبه تمامًا رفرفة جناح الفراشة: قراءة رواية غيّرت حياة كاملة).

شمس التبريزي كعامل اضطراب في النظام الروحي

شمس هو الفراشة الثانية، دخوله حياة الرومي يُربك النظام الديني والاجتماعي، ويُحدث تحولًا شعريًا وفكريًا حاسمًا. فالعلاقة بين شمس والرومي تمثل نموذجًا لعدم الاستقرار المؤدي إلى الإبداع، وهو جوهر نظرية الفوضى في الفنون.

بمجرد دخول شمس إلى قونية ومقابلته لجلال الدين الرومي فقد أحدث زلزالًا في حياته الروحية والاجتماعية، وانقلابًا في علاقاته، خاصة مع تلاميذه وأسرته، وتحولَّ الرومي من فقيه واعظ إلى شاعر ومتصوف عظيم (وجود شخص واحد (شمس) أثّر على حياة آلاف لاحقًا عبر إرث الرومي الشعري والروحي).

قواعد العشق كنبضات تحولية

كل قاعدة من "قواعد العشق الأربعين" تُشبه في تأثيرها تلك الرفرفة الدقيقة التي تهز البنية المعرفية للشخصية، هذه القواعد ليست مجرد تأملات، بل محفزات لاضطراب خلاق في العقل والوجدان، وتعمل كبذور فكرية تفكك الاستقرار الزائف.

فكل واحدة من القواعد الأربعين التي يطرحها شمس تؤدي إلى تغيير فكري/ روحي تدريجي في الرومي وإيلا والقارئ، ومثال ذلك: "الحقيقة التي لا تُفهم بالقلب لن تُفهم بالعقل" — تنقل الإنسان من التعقّل الجامد إلى الذوق الصوفي (القواعد تبدو مفردات صغيرة، لكن أثرها واسع المدى في النفوس والعقول.)

سلسلة الأسباب الصغيرة = تحوّلات وجودية كبرى

الرواية تتأسس على مبدأ أن الإيماءة الصغيرة، الكلمة العادية، اللقاء العابر — ليست أشياء تافهة، وكل تفصيل يملك قدرة كامنة على زعزعة النظام الشخصي الداخلي.

 تحولات كبرى من مسببات دقيقة1725 nahla

 خاتمة: العشق كفوضى خلاقة

تتجلى رواية "قواعد العشق الأربعون" كنموذج أدبي يمثّل مبدأ أثر الفراشة في أبهى تجلياته، فالتغيرات الصغيرة التي حدثت للشخصيات، أو القرارات التي اتخذت ببساطة، نتج عنها تحولات كبرى في الوعي والمصير. ومن خلال مقاربة الرواية "بمفهوم "أثر الفراشة"، يمكن القول إن الرواية لم تقدم الحب بوصفه عاطفة متوقعة ومستقرة، بل بوصفه قوة فوضوية خالقة، تزعزع وتعيد ترتيب العالم الداخلي، وبذلك تكون الرواية تمثيلًا سرديًا لنظرية الفوضى حيث النظام ينبثق من اللانظام، واليقين يولد من الشك، والتغيير الجوهري ينطلق من أكثر النقاط هامشية.

وبالتالي فالرواية ليست فقط خطابًا عن الحب، بل هي أيضًا تمثيل أدبي دقيق لنظرية الفوضى حيث النظام ينبثق من الاضطراب، والتغيير الجذري يبدأ بخطوة صغيرة . وأيضًا الرواية في ضوء هذه القراءة تصبح أكثر من قصة حب، إنها تجربة فلسفية عن مصير الإنسان في مواجهة المجهول، وكيف أن الفراشات الصغيرة في حياتنا قد تكون سرّ ولادتنا الجديدة.

***

د. نهال عبد الله غرايبة

أكاديمية وباحثة أردنية/ أستاذ مساعد/ قسم اللغة العربية وآدابها/ الجامعة الإسلامية بمينيسوتا/ المركز الرئيسي

 

التقليلية والتي جاء بها الشاعر الفرنسي ستيفان مالارميه، في تلك الحقبة، والاعتناء في النصّ النوعي، حيث أوجد الشاعر الفرنسي هذا المصطلح لكي يكون نافذاً مع طلابه ومدى العمل على تنفيذ هذه الرغبة النوعيّة، حتى اقترح عليه طلابه بأن يعمل المصطلح نظرية لكنّه رفض ذلك، وهو يتناول البعد الزمني من خلال التقليلية، ومفردة التقليلية لاتناسب إلا قصيدة النثر، تناسبها تماماً، حيث قوّة المعاني والقوّة الزمنية بإدخال النصّ الشعري بمختبر بطيء والنظر به ربّما يكون لحظة من خلال (النصّ اللحظوي)، وربّما لأسابيع، وربّما لشهور، وإذا كانت الزمنية غير ثابتة من خلال التقليليّة، نستطيع أن نطلق عليها بـ (برهة النصّ " 2 )، ولكن ومن خلال المعانى الواسعة لهذا المصطلح الشمولي، والذي يعني لنا التقشف اللغوي أيضاً، نستطيع توظيفه كأبعاد تقليلية للمفردات من جهة وللحالة الزمنية من جهة أخرى، فظهور القصيدة القصيرة في قصيدة النثر، أعطت بعداً تقليلياً زمنياً ولغوياً، وكذلك من ناحية المعاني ومساحتها في البعد التقليلي، وأضاف هذا المصطلح لقصيدة النثر إضافة نوعية من ناحية الاعتناء في النصّ الشعري، والنصّ الحسّي بمساحته اللامحدودة، حيث أنّ السيطرة على المشاعر من الإفراط، تؤدّي إلى مهام لتنقية النصّ وتوجيهه نحو الجمالية.

والأمثلة كثيرة حول الاعتناء بهذا المصطلح وتنفيذ حدوثه بالنصّ الشعري الحديث.. وكذلك حركة المحسوس بشكل جزئي، والمصطلح جار العمل عليه أيضاً في مجالات واسعة؛ ويعد من المصطلحات المهمة في قصيدة النثر الحديثة، فنحن نقتصد حتى بالأبعاد التفكرية، وكذلك الأبعاد البصرية، فالمتخيل الذاتي له حركته الذاتية وله محفظته الخاصة، وهذا يمنحنا أن نكون معه في المتخيل البصري أيضاً، فهناك الأبعاد البصريّة والتي تشكل بعداً تقليلياً أيضاً، وكذلك الأبعاد التذكرية المقتضبة، حيث يكون زيارة الفلاش باك، زيارة وقتية وليست دائمية، ومن خلال هذا التوقيت نستطيع أن نتكفل ببعده التقليلي وعدم انشغال الذات أكثر ممّا تكون عليها وخنقها في حالات تذكرية نستطيع أن نتجاوزها في كلّ لحظة ندخل معها.

اقرأ الكثير حول النصّ والنصّ المفتوح، ويتكأون عادة على المعاني، ويحدّدون بعض النصوص ويطلقون عليها بالنصوص المغلوقة (في قصيدة النثر أعني)، ألا يرون بأنّ النصّ لاينتهي من خلال الإضافات التي من الممكن جدا التعامل معها، وبما أن قصيدة النثر تعتمد الاختزال، فهذا يساعدنا على تقويم النصّ المنتهي، النصّ المتوقف هنا، ومن الممكن جداً التحايل عليه وجعله من النصوص المفتوحة، والتقليلية واحدة من المصطلحات الداخلة على النصّ المختزل، وهي تناسب حتى المعاني وقوّة تفاعلها في النصّ وهذا يمنحنا قوة التخيل وحركة الخيال الذي لاينتهي بنقطة، وكذلك التأويلات والاعتماد على الاستدلال في تجلياته الواسعة.. فلغة الجمال ومن خلال المؤسّسة الجماليّة، لاتتوقف بحالةٍ من الحالات، وهي لغة تمتلك من المساحة الواسعة والتي تقودنا إلى المتعة الحسّية ولذة النصّ.

لم يكن مالارميه أحد أهم الشعراء الرمزيين يهدف من الجمال إلا إلى الجمال. وليس هذا فحسب. بل إن سعيه الدؤوب إلى الجمال المثالي قد جعله يحلم، لمدة عشرين عاماً بأن ينتج شعراً صافياً من دون أن ينتج إلا القليل من الشعر.

إن تغييرات المعجم الشعري لدى الشاعر هي تغييرات في البصر والبصيرة، فتارةً يقودنا إلى البصيرة الداخلية وتارةً أخرى إلى البصيرة المكانية، وهذه الاشتغالات البصرية مع الرمزية تعطي الانتماء إلى المفردة الشعرية الواحدة وكيفية حبسها وتجنيس بصمتها؛ قد أستطيع تسميتها (بالمفردة الذكية) لأنّها غير مطروقة أولًا، وتدخل المخيلة بدهشتها ثانياً.

(في الحروف لم تعد لتفاجئ القارئ. هنا يكمن وجه الاحتياج إلى شكل تعبيري قادر على استيعاب المسافة الفاصلة بين -المجاز والرمز- وبين -الحال المدركة والحال الذاهلة- بما يجسد أوجه الانحراف/ الانزياح، القائمة بين -اللغة القائمة واللغة المفكرة-، وذلك في مستويي المضامين الرمزية للقصيدة المعاصرة والآليات الفنية المشكلة لها. تلك الخصوصية هي الميزة الفارقة لأية كتابة حروفية. " 3 ).

ظهرت التقليلية بشكلها المطروق في الستينات وكانت جماعة كركوك تسعى وتشتغل على قصيدة نوعية لطرحها في الشارع العراقي، وقد برز من بين جماعة كركوك الشاعر الراحل جان دمو والشاعر فاضل العزاوي، الذي كتب الرواية أيضاً، متكئاً على الرواية القصيرة (القلعة الخامسة مثلًا)، شعراء جماعة كركوك تركوا قصائد تحصد ما بين الحروف، ووطناً يحترق من شماله إلى جنوبه.

لم أدخل إلى التقليل من الشعرية والشاعرية التي تنتاب الشاعر في آخر الليل، وكما هو بودلير عندما جعل الحياة مشفى كبيراً وكلّ واحد يغيّر سريره، فكلّ شاعر يغير رسالته/ عفواً قصيدته، وينام نومةً صامتةً، لا يسعه النهوض إلا مع نصّ مثالي، قصيدة تنتمي إلى لسان الشاعر ومحسوساته المحصورة بين الذهنية والبصيرة التي تصبّ برؤى أريحية وهو يناضل من هذه الحياة، لحياة أكثر شاعرية. إذن الشاعر ليس بحديقة يتمتع بزهورها، وإنما هو في زنزانة كبيرة لا يعرف الخروج منها إلا بنصّ قابل للضجيج.

***

كتابة: علاء حمد

..................

الهوامش

1 - ستيفان مالارميه (: Stéphane Mallarmé) شاعر فرنسي، وُلد في باريس 18 مارس عام 1842. ينتمي مالارميه إلى تيار الرمزية ويعد واحداً من روادها.

2-تمتدّ البرهة من الثانية إلى ستّة شهور حسب ماذكره العلامة العراقي د. مصطفى جواد

3-الدكتورة حياة الخياري - مجلة الكوفة - مجلة فصلية محكمة - ص126 - السنة الثانية العدد الثالث - صيف 2013.

م: سُرق المصطلح من صفحتي الفيس بوكية عام 2016، بينما كنت في عطلة في تركيا خطر على بالي مصطلح التقليلية، وكتبت عنه بشكل مختصر، وعند عودتي للدنمارك، بقيت أنقب عن المصطلح فلاحظت أنّ هناك ترجمة على صيغة وورد وهو المصدر الوحيد ولكن للأسف المترجم لم يكتب اسمه، مع أنّه اعتمدتها كمصدر وإعادة المصطلح لصاحبه وهو الشاعر الفرنسي ستيفان مالارميه.

***

في المثقف اليوم