قراءات نقدية

قراءات نقدية

تعريف الشكلانيّة الروسيّة:

غالبا، ما تُطلق الشكلانيّة في الأدب والفن، على المدرسة الشكلانيّة الروسيّة، لكن يمكن أن نضيف إليها مدرسة "تارتو السيميائيّة" بموسكو،(*). و"حلقة براغ اللغوية"،(*) إضافة إلى المنظرين الذي يحملون تصورات شكلانيّة في النقد الأدبي، وإن لم يكونوا منتمين مباشرة إلى جماعة المدرسة الشكلانيّة الروسيّة.(1). وعليه، فقد ظهرت الشكلانيّة الروسيّة ما بين ١٩١٥ و ١٩٣٠ م، ومع بدايات ظهورها، نبذت الرأسماليّة، ولم تعترف إلا بالاشتراكيّة العلميّة التي تعود، في جذورها إلى كتابات "كارل ماركس، وبيليخانوف، وهيجل، وأنجلز، وجورج لوكاش"، وغيرهم من المنظرين الجدليين الذين سعوا بجديّة نحو ربط المضمون الأدبي – أي الفكر - بالواقع أو ما يسمى " الوجود الاجتماعي"، ومحاربة جميع التيارات الشكلانيّة والنزعات البنيويّة التي تعنى بالشكل على حساب المضمون.(2). غير أنها راحت تتخلى شيئاً فشيئاً عن المضمون فيما بعد لحساب الشكل كما سيمر معنا لا حقاً.

ومن باب العلم، يمكن الحديث عن مدارس أساسيّة ضمن التيار الشكلاني الروسي نفسه مثل: ("جماعة موسكو" التي يمثلها "رومان جاكبسون"  و"جماعة بيترسبورغ" أو جماعة "دراسة اللغة الشعريّة" التي يقودها "فيكتور شلوفسكي".) (3).

والمدرسة الشكليّة الروسيّة في سياقها العام، هي أحد المذاهب النقديّة المؤثرة في ميدان النقد الأدبي في روسيا، بيد أنها في ثلاثينيّات القرن العشرين، راحت تعيش حالة ضعف وانعزال، كونها لم تلتزم بالمنهج المادي التاريخي الجدلي الذي كانت تتبناه الدولة في تحليلها للظواهر، لتعود وتزدهر من جديد في السنوات اللاحقة. والشكلانيّة الروسيّة في أحد تجلياتها الأساسيّة اعتبرت ردّة فعل على النظريّات الرومانسيّة/الانطباعيّة في الأدب، التي سلطت الضوء على الكاتب وقدراته الإبداعيّة المستقلة، لتقوم بتسليط الضوء والاهتمام على (النص)، مؤكدة أهميّة الشكل بالنسبة لهذا النص، وما له من أثر في التطورات التي تطرأ عليه. بيد أن الشكليين الروس وبسببِ رفضهم لواقعهم وللحرب العالميّة الثانيّة، لم يعودوا يهتمون بالنظريات الأدبيّة، ولا بالمعلومات المتعلّقة بالنص، ولا يكترثون بأهميّة الكاتب على أنه مبدع لهذا النص، فقد أهملوا الكاتب ودوره مثل إهمالَهم للواقع وسماته. هذا وقد تطورت مدرستان نقديتان شكليتان:

(الأولى: في موسكو، وهي التي نشأت منها الشكلانيّة الروسيّة. والثانية: التي تبعتها الشكلانيّة الأنغلوأمريكيّة النقديّة الجديدة. وكانت هذه الشكلانيّة في صيغتها الأمريكيّة، هي النمط المهيمن على الدراسات الأدبية النقديّة في أمريكا حتّى السبعينيات متجسدة في النظريّة الأدبيّة لدى الناقد الأدبي التشيكي/ الأمريكي "رينيه ويليك" والناقد الأدبي والصحفي الأمريكي "أوستين وارين"). (4).

على العموم: إن الشكلانيّة الروسيّة بعد تخليها عن مضمونها الاشتراكي، والمنهج المادي التاريخي في التحليل، شكلت نزعةٌ نقديّة تهدف إلى تغليبِ قيمة الشكل والقيم الجماليّة والذوقيّة ، وما فيها من فكر أو خيال أو شعور على مضمون العمل الأدبيّ.  لكنّها تطورت لاحقًاً واتجهت أيضاً إلى دراسة بنية هذا الشكل. ومن أبرز ما ميّز الشكلانيّة الروسيّة في مرحلة تركيزها على الشكل، هو رفضها لكلّ ما هو مُغرق في الغموض، إضافة لاعتمادها منهجيّة تجريبيّة تركز على دراسة الظواهر والملاحظات التجريبيّة بعيدًا عن الانطباعيّة / الرومانسيّة. أي تركيزها على الشكل ونسيج النص اللفظي، وهذا دفعها إلى دراسة الأصوات وتكرارها وتناسقها وإيقاعها. وممّا هو جدير بالذِكر أن المدرسة الشكلانيّة الروسيّة وضّحت الفرق في استخدام الكلمات / الأصوات بين اللغة الشعريّة أو الأدبيّة، واللغة العمليّة التداوليّة في حياتنا اليوميّة المباشرة، كما عملت على تحديد المستويات المختلفة للنص وأساليبه.(5).

أهم رواد المدرسة الشكلانية الروسيّة:

تجسّدت المرحلة الأولى للمدرسة الشكلانيّة الروسيّة على آراء "كارل ماركس" وتنظيراته، أي على الفكر اليساري ومنها نظريّة الإنعكاس لـ "جورج لوكاش"، إلا أنهم راحوا يتخلون عن موقفهم اليساري هذا وبخاصة (نظرية الانعكاس) التي قدَّمها "جورج لوكاتش"، وأعلَنوا أنّ النقد وفق نظرية الانعكاس لا بد وأن ينتقل إلى داخل أو مضمون العمل، وهذا لا يتفق والموقف عند الشكل فقط. أمّا المرحلة الثانية وهي المرحلة التي راحت تنكر فيها بشكل واضح ودون مواربة ربط السياسيّة بالإبداع، ورفَضَ الواقع أو الوجود الاجتماعي كمحدد أو منتج للأفكار.

وعلى هذا الأساس ظهرت الشكلانيّة هنا في ثوب جديد على يد "جاكوبسون وباختين" وبخاصة بعد أنْ شعَرَ "جاكوبسون" أنّ الموت أوشك أن يلحق بالشكلانيّة، وذلك بسبب حصار السياسيين الروس لها عام (1930).

أما أبرز أعلام الشكلانيّة الروسية فهو: "ميخائيل باختين" الذي دعا إلى ضرورة عَقْد المصالحة بين المدرسة الشكليّة والمدرسة الماركسيّة القائمة على التحليل المادي التاريخي، وذلك عندما أبرزَ رأيَه باجتماعيّة اللغة، لأنها تعدّ في الأساس ظاهرة اجتماعيّة، وبذلك ابتعد "باختين" قليلاً عن القطعية التي أعلنها الشكليون في تحولاتهم اللاحقة نحو ما هو خارج النص. غير أن "باختين" ظل محتفظاً بمسافة بينه وبين الشكليين، تلك المسافة التي جعلته يوافقهم بعدم الاقرار بنظريّة الانعكاس، وظلت رؤيته تركز على (ديناميكيّة) اللغة بسبب قناعته بظاهريتها الاجتماعيّة.(6). وهناك أيضاً من الرواد "جاكوبسون" الذي يعتبر صلة الوصل بين الشكلانيّة والبنيويّة، إذ حاول من خلال قراءاته النقديّة للشعر أو الأدب، أن يصل إلى التناسق والتوافق بين الشكل والمحتوى، كما ركز على العلاقات القائمة بين اللغة اليوميّة واللغة الشعريّة أو الأدبيّة، وأشار فى مقالته "اللسانيات والشعريّة" إلى الشعريّة، ووصل من خلال حديثه عن الشعريّة إلى تحديد نظريّة للاتصال حدّد عناصرها الرئيسة في: (المرسل) الذى يقوم ببث (رسالة ما) عبر قناة داخل السياق النصي، حيث تحمل هذه الرسالة شفرة أو عددًا من الشفرات، ثم (المتلقي) الذي يقوم بحل شفراتها. وكلّ عامل من هذه العوامل له وظيفة لسانيّة مغايرة للأخرى.(7). هذا ويمكننا القول: إن الشكلانيّة الروسيّة تشتمل على أعمال العديد من المفكرين الروس ذوي التأثير الكبير على الساحة الأدبية مثل (فيكتور شيكلوفسكي، ويوري تينيانوف، وبوريس أيشينباوم، وجريكوري فينكور، وهي أسماء أحدثت ثورة في ميدان النقد الأدبي بين العام 1914 حتى الثلاثينيات وذلك يرجع إلى جهودهم التي بذلوها للتأكيد على خصوصية لغة الشعر والأدب واستقلاليتها).(8).

دواعي (النقد الأدبي) لنشأة الشكلانيّة الروسيّة:

قلنا في موقع سابق إن الشكلانيّة الروسيّة ظهرت ردًا على سيطرة المذهب أو المنهج الرومانسي تحت مظلة النظام الرأسمالي، أي رداً على التوجهات النفسيّة والتاريخيّة والاجتماعيّة والفكريّة التي سيطرة على الأدب الغربي لوقتٍ طويل، حتى صار هذا دافعاً لدى الشكلانيين الروس ليقوموا بدراسة الأدب بوصفه بنيةً جماليّة مستقلة، تتضمن مجموعة من العناصر التي تتفاعل فيما بينها تفاعلاً إيجابياً أو سلبياً.(9). (وقد خدمت الشكلانيّة الأدب والفن والنقد، فقامت بإثرائهم بنيويّاً وسيميائيّاً عن طريق المقاربات بين النصوص الصوتيّة والإيقاعيّة والصرفيّة والدلاليّة والبلاغيّة والتركيبيّة، وتحليلها ضمن استعمالاتها الوظيفيّة أو السياقيّة.).(10).  لقد عمل الشكلانيون الروس حقيقة على إرساء مبادئ نظريّة جماليّة، وتطلّعوا إلى خلق علم أدبي مستقلّ، ينطلق من المميزات الجوهريّة للأدب والسمات الفنيّة له، إذْ كان هدف الشكلانيّة الروسيّة هو الوعي النظريّ بالأدب، وتأسيس نظريّة أدبيّة يكون العمل الأدبي موضع اهتمامها الأساس.(11). حيث طالبت الشكلانيّة الروسيّة في أهم تجلياتها بعد تخليها عن المضمون كما بينا في موقع سابق، بمقاربة النص الأدبي، على أنه بنية فنيّة مغلقة ومكتفية بذاتها، لا يرتبط بوقائع خارجيّة، ولذلك كان تركيزُها في تحليلها للنص الأدبي مُنصبًا على النص بوصفه نقطة البدء والمعاد، والنأي بالنقد عن العلوم الإنسانيّة التي سيطرت على الخطاب الأدبي فترةً من الزمن، لمركزته على ما هو خارج النص من تاريخ وعلم نفس وعلم اجتماع وسيرة وغير ذلك. ومع أنّ الشكلانيّة تجاهلت العوامل الخارجيّة في دراسة الأدب، ولكنْ هذا لا يعني عدم اعترافها بقيمتها، إنّما يعني تحديدها لمجال اتجاهها النقدي في قراءاتها للنصوص الأدبية.(12).

بتعبير آخر: لقد دافعت الشكلانيّة الروسيّة عن رأيها الذي يقولُ إنّ جوهر الظاهرة الأدبيّة لا يكون في علاقتِها بمنشأها أو بيئتها، إنما في كينونتها الموضوعيّة، بوصفها بنية مستقلة. ولعل أهمّ مبادئها: هو تقويم النص بوصفه نصًا لغويًا فقط، إذ إن بناء النص الأدبي وجوهره الأساس إنما يكون في الكلمات وليس في الأفكار، فليس معنى النص أو مضمونه ولا العوامل الخارجيّة المحيطة به هما ما يمنح الأدب هويته، إنما صياغته وطريقة تركيبه ودور اللغة فيه هو ما يجعل من الأدب أدبًا، ومن هنا ظهر مع هذه المدرسة النقدية ما يسمّى "أدبية الأدب " التي تسلّط الضوء على مجموع المواصفات التي تتحقّق في النص، لتجعل منه أدبًا، لذلك يقول جاكبسون: إن موضوع العلم الأدبي ليس هو الأدب إنمـا (الأدبيّة) أي ما يجعل من عملٍ ما عملًا أدبيًّا.(13).

لقد كان الأدب قبل الشكلانيّة الروسيّة يعامل على أنه صورة مرآتيّة عن سيرة المؤلف وخلفيته، أو توثيقاً تاريخيّاً أو اجتماعيّاً. أما الشكليون فيعلنون أن الأدب منتج له استقلاليته وخصوصيته. فكان هنالك مبدآن إثنان في دراسة الأدب في المدرسة الشكليّة الروسيّة قد المحنا إليهما في عرضنا السابق بشكل غير مباشر هما:

الأول: الأدب نفسه، أو السمات الأدبيّة التي تميز الأدب عما سواه من الأنشطة البشريّة، والتي يجب أن تشكل الأساس الذي تتوجه لدارسته النظريّة الأدبيّة. كما بينا أعلاه عند "جاكبسون"

أما المبدأ الثاني: فهو «الحقائق الأدبيّة» والتي يجب أن تعطى الأولويّة في النقد الأدبي على أي حقائق أخرى، سواء كانت فلسفيّة أو جماليّة أو نفسيّة. بيد أنه كان هنالك توافق بين المبدأين على الطبيعة المستقلة للغة الشعر، وخصوصيتها كموضوع يخضع للدارسة في النقد الأدبي. وقد سعى الشكليون بشكل خاص إلى تحديد السمات الخاصة باللغة الشعريّة، سواء كان ذلك في الشعر أو في النثر، والتي يمكن معرفتها من خلال تحديد البعد الفني فيها والعمل على تحليلها. (14).

اضمحلال دور الشكلانيّة الروسيّة:

عموماً لقد هوجمت الشكلانيّة الروسيّة لنقاط عدّة من أبرزها،: تركيزها على إعطاء دلالات جديدة للمفردات نفسها، وهذا ما سيجعلها في النهاية تبتعد عن المعنى كلياً والتركيز على الشكل فقط. رغم أن الشكلانيين لن يستطيعوا تحقيق هذا الانعزال عن الواقع كلياً مهما حاولوا، لأن المحتوى الأدبي الذي يشتغلون عليه مرتبط بالواقع بالضرورة.(15).. وفي أواخر السبعينات من القرن العشرين اضمحلّ دور الشكلانيّة الروسيّة بشكل أكثر  بسبب رفضها ربط الأدب بالسياسة كما أشرنا في موقع سابق. وبالرغم من تعرّض الشكلانيّة إلى رفض كبير عبر تاريخ وجودها، وكان هذا الرفض هو الورقة الرابحة في يد منافسيها ليؤكّدوا سوءَ نظريتها، وانحرافها الأيديولوجي عن باقي المذاهب والمفاهيم النقديّة السائدة، لكنْ ممّا هو جدير بالذكر أن بعض النقاد الأدبيين الأكاديميين يميلون لظهور الشكليّة من جديد.(16). وهذا ما وجدناه في الشكليّة الميكانيكيّة، والشكليّة العضويّة والشكليّة النظاميّة، والشكليّة اللغويّة. فلنتعرف بشكل أوليّ على هذه المدارس الشكليّة:

أولاً - الشكليّة الميكانيكيّة:

ورائد هذه المدرسة الأديب والناقد الروسي "شيكلوفسكي" الذي راح يفند ما كان شائعاً في الأوساط الأدبيّة في روسيا آنذاك، بأن الأدب منتجاً اجتماعيّاً أو سياسيّاً، وأنه يخضع في تفسيره وفهمه للخلفيّة التاريخيّة والاجتماعيّة، وكذلك اعتبار الأدب تعبيراً شخصيّاً عن نظرة المؤلف للعالم يوضحها من خلال توظيف الصور والرموز. ولذلك انصب اهتمام "شيكلوفسكي" و"جمعية دراسة اللغة الشعريّة" التي يتزعمها على الطرق الشكليّة، والتركيز على التقنيات والأدوات، وقد ألف كتاباً أسماه (الفن كصنعة) «تمثل الأعمال الأدبيّة وفقاً لهذا الأنموذج (آلات ميكانيكيّة)، فهي نتيجة جهد بشري مقصود يتم فيه استخدام المهارات الخاصة لتحويل المواد الخام إلى آلة معقدة مناسبة لغرض ما»(17). وعلى هذا الأساس فإن هذا المنهج يجرد المنتج الأدبي من ارتباطه المشترك بالمؤلف والقارئ والخلفيّة التاريخيّة والوجود الاجتماعي. وقد وضح "شيكلوفسكي" هذه المنهجية حيث أشار إلى أن الفن هو تفاعل الأدوات الأدبيّة والفنيّة التي يستخدمها الفنان لإنتاج أعماله. (18).

ثانياً - الشكليّة العضويّة:

رداً على القيود التي فرضتها الشكليّة الميكانيكيّة، قام بعض الشكليين الروس باعتماد الأنموذج العضوي. حيث استغلوا أوجه الشبه بين الأجسام العضويّة والمظاهر الأدبيّة من ناحية انطباقها على الأعمال الفرديّة والأنواع الأدبيّة. فمقاربة الظواهر البيولوجيّة مع النظريّة الأدبيّة وفر إطاراً مرجعياً آخر لدراسات الأنواع الأدبيّة ونقدها. ولكن هذه المدرسة قد فشلت كالشكليّة الميكانيكيّة في تفسير التغيرات الأدبيّة، والتي تؤثر على الأدوات ووظائفها والأنواع الأدبيّة. (19).

ثالثاً- الشكليّة النظاميّة:

اشتملت المدرسة الشكليّة النظاميّة على الجانب الزمني في النقد الأدبي. ومن أهم الشخصيات في هذا النموذج هو "يوري تينيانوف". (20).

رابعا - الشكلية اللغويّة:

تعد اللغة الشعرية، المادة الأولية في عمليات الإبداع الفني هنا، فاللغة موجودة في مخزون كل إنسان، والسبب في ذلك هو الأحداث التي يعيشها، ولغة الشعر تختلف عن لغة الكلام المنثور، لذلك فرق أصحاب النظرية اللغويّة في هذه المنهجية بين اللغة الشعريّة واللغة العمليّة. فالأخيرة – اللغة العمليّة - تستعمل في التواصل اليومي بين الناس لإيصال المعلومات، أي هي لغة تقريريّة. بينما. تجسد اللغة الشعرية كيان الشاعر وتعبر عن حالاته النفسية التي عاشها، وما زال يعيشها، تجاه قضية معينة، أثارت في نفسه مشاعر معينة، وتعرف اللغة الشعرية بأنها لغة جديدة، ومتجددة، بمعنى أنها قادرة على التعايش مع القضايا المختلفة، ومواكبتها، كما أنها تعبر عن رغبات الإنسان وميوله، وتسمى باللغة الباطنية، لأنها ليست لغة تقف على ظواهر الأحداث، والقضايا

وعند الشكلانيين الروس كما هو الحال عند "جاكوبسون وليف جاكوبينسكي". والكثير من الناشطين أو المهتمين في هذا الاتجاه، فقد اهتموا باللغة الشعريّة كأساس لدراستهم وبحثهم. والأدب عموماً يعتمد بشكل أساس على الحقائق اللغويّة الصرفة كما بينا في موقع سابق. أما اللغة الشعريّة فتجعل للارتباطات اللغوية في الخطاب قيمة ذاتيّة. فالعمل الأدبي يتجاوز نفسيّة الكاتب والقارئ ويصبح له وجوداً مستقلاً بمجرد وضعه وإنشاءه.(21).

أثر المدرسة الشكلية الروسية على الصعيد الأدبي:

كان للشكليّة الروسيّة بشكل عام أثر كبير في لفت الأنظار إلى الإشكالات الأساسيّة في النقد الأدبي والدراسة الأدبيّة، من ناحية الموضوع بالدرجة الأولى، حيث غيرت الشكلية كثيراً من المفاهيم التي تدور حول العمل الأدبي وطبيعته، وأرجعت القضيّة إلى أجزائها الأساسيّة التي يمكن الانطلاق منها. كما ساعدت الاتجاهات المتعددة في الشكليّة الروسيّة ما تقارب منها من بعضه وما تباعد، على ظهور مدرسة (براغ البنيويّة) في منتصف العشرينيات، وكانت أنموذجاً للجناح الأدبي في المدرسة البنيويّة الفرنسيّة في الستينيات والسبعينيات في القرن العشرين.(22).

المدرسة الشكلانية عند النقاد العرب:

(رغم أنَّ الشكلانيّة الروسيّة تكوَّنت في بدايات القرن العشرين، وشكّلت إرثاً ضخماً امتدَّ إلى الثقافات الأخرى من الفرنسيّة إلى الإنجليزيّة والألمانيّة، وأحدث هذا الإرث صدىً واسعاً في هذه الأوساط الثقافيّة، إلا أن قبولها من النقاد العرب جاء متأخراً، فلم تتم الترجمة لها أو الاهتمام بها قبل السبعينيات من القرن المنصرم، ولم يكن هناك عند الكتاب والأدباء العرب شيء ذو أهميّة فائقة أو كبيرة عن الشكلانيين ونظرياتهم والمناهج النقدية الخاصة بهم.). (23).. أو بتعبير آخر، (لم يستقبل النقاد العرب الشكلانيّة الروسيّة بالحفاوة ذاتها التي استقبلت فيها في بلدان أوربا الغربيّة، بل لم يكترث النقاد لأمرها إلا بعد مرور سنوات كثيرة، ففي السبعينيات من القرن الفائت بدأت حركة اهتمام متواضعة وخجولة بترجمات لا تكاد تذكر في الشكلانيّة الروسيّة، ولم يكتب للشكلانيّة التداول في الأوساط العلميّة والجامعيّة والأكاديميّة، ولا في الأوساط الثقافيّة والاجتماعيّة قبل هذا الوقت.). (24). (ربما يعد كتاب "رينيه ويليك وأوستين وارين" المعنون بـ (نظرية الأدب)، أول كتاب نقدي يتطرق إلى الشكلانيّة ويترجم إلى اللغة العربيّة وذلك عام 1972، ورغم ذلك فلم يحظَ هذا الكتاب بالاهتمام ولم يلفت اهتمام القارئ العربي في المشرق أو المغرب إلى الشكلانيّة، رغم أهميته المدرسيّة والعلميّة وما في ثناياه من إشارة إلى أعمال الشكلانيين.). (25).

ملاك القول:

على العموم، إذا انتقلنا إلى مرتكزات الشكلانيّة الروسيّة لفحص دعائمها النظريّة والتطبيقيّة، فيمكننا حصرها في النقط التالية:

١- (عدم الاكتفاء بالأعمال القيمة والمشهورة في مجال الأدب أثناء التطبيق النصي، بل توجهت الشكلانيّة الروسيّة إلى جميع الأجناس الأدبيّة، مهما كانت قيمتها الدنيا؛ مثل: أدب المذكرات، وأدب المراسلات، والحكايات العجيبة.. الخ، قصد معرفة مدى مساهمتها في إثراء الأعمال العظيمة، كما فعل "ميخائيل باختين" مع الأجناس الشعبيّة الدنيا في كتابه (شعريّة دوستويفسكي).).(26).

2- استعمال مصطلح السيميوطيقا، أو ما يسمى بالسيميائية  والسيميولوجيا: وقد (عرف مصطلح السيميولوجيا أوالسيميوطيقا على أنه علم حديث ظهر بفضل النتائج التي توصل إليها "دوسوسير" في مجال البحث اللساني، حيث اعتبرت اللغة في هذا المصطلح نظاماً من العلامات والرموز يهدف إلى تحقيق التواصل والتبليغ في مجتمع ما، وهو بهذا الشكل يقر بالطابع الاجتماعي للغة.).  (27).

3- الاهتمام بخصوصيات الأدب والأنواع الأدبية. أي: البحث عن ما سمي بالأدبيّة، وما يجعل الأدب أدباً. (ويُذكَر أن "الشكليّة" كان لها دور كبير في تطوير النقد الروائي، نظرا لما جاءت به من مفاهيم خاصة حول: "الوظيفة"، و"الحبكة"، و"الحكاية"، و"التحفيز"، وغيرها.). (28).

4- التركيز على شكل المضامين الأدبيّة والفنيّة، ودراستها في ضوء مقاربة شكلانيّة. وليست القضية من منظورهم قضية إنكار لهذا المضمون، فهم يعترفون بعلاقة "الفن" بالواقع الاجتماعي، ولا ينفون هذه العلاقة، وإنما القضية عندهم قضية تحديد تخصصات. إذ إن هذه العلاقة - من منظورهم - ليست من شأن الناقد، كما أن ليس عمله تحديدها أو تحديد "المضمون" الموجود في "الأدب"(29). وعلى هذا الأساس جاء انتقاد الشكلانيّة أيضا لإهمالها مشاكل علم الجمال، وإغفالها لمبادئ علم النفس وعلم الاجتماع، وتحويل الدراسة الأدبيّة إلى تطبيقات شكليّة وتقنيّة لا فائدة منها، كونها تَهْمِلْ الإنسان والتاريخ والمجتمع والنفس الإنسانيّة. أي: تهمل الذات المنتجة والذات المتلقيّة، وتقصي الواقع الذي يجمعهما على مستوى الإرسال والمرجع الاجتماعي بكل مستوياته. لقد كان هم الشكلانيين الأساس هو دراسة النواحي الشكليّة في (مظاهرها اللغويّة)، التي يتَّبعها العمل الأدبي، لكي يجعل من نفسه مغايراً للغة الخطاب العاديّة المستخدمة في الحديث اليومي، وذاك لكي يتمكن – العمل الأدبي - من تقديم تلك المعاني والحقائق التي اعتدنا عليها، في شكل نستطيع معه الإدراك على نحو أعمق وأكثر نضجا عما قبل. أي استقلاليّة الأدب عن الإفرازات والحيثيات الاجتماعيّة والسياسيّة والاقتصاديّة والتاريخيّة والنفسية والأخلاقية، ودراسته باعتباره بنية مستقلة عن ما يحيط به).

6- التشديد على خاصيّة الاختلاف والانزياح بين الشعر والنثر.  (30).

ختاماً: نقد وتقويم:

بعد أن كانت الشكلانيّة الروسيّة موقفاً نقدياً ادبياً له حضوره الكبير لربطه بين الواقع والفكر، أو بين الشكل والمضمون في الأدب فمع مطلع القرن العشرين، أصبحت  جريمةً غير مقبولة في روسيا الاتحاديّة عندما تخلت عن هذا الربط الجدلي، والدليل على ذلك الحملات التي قام بها الإيديولوجيون الاشتراكيون ضد هذه النظريّة النقديّة؛ مثل "تروتسكي" الذي اعتبر النظريّة الشكلانيّة بمثابة اعتراض على الماركسيّة في روسيا السوفيتيّة، و"لوناتشارسكي" الذي وصف الشكلانية، في سنة ١٩٣٠م، "بأنها تخريب إجرامي ذو طبيعة إيديولوجيّة.". إلا أن هذه الشكلانّية طُعمت بآراء التحليل الاجتماعي الماركسي مع أحد السوسيولوجيين الروس، وهو "أرفاتوف"، وأيضا مع "جان موكاروفسكي"، وكذلك مع البلغاريّة "جوليا كريستيفا" التي زاوجت، في تحاليلها النصيّة، بين الشكلانيّة والمقاربة السوسيولوجيّة الماركسيّة. وبهذا، كانت سباقة إلى تأسيس ما يسمى بالسيميوطيقا/ السيميائيّة الماديّة. (31).

إن هذه الشكلانيّة الروسيّة - التي أفلت في سنوات الثلاثين من القرن الماضي - أصبحت مدرسةً مُرَحَّباً بها في أوروبا الغربيّة منذ سنوات الستين من القرن الماضي، ونالت ثناءً كبيراً من قبل الباحثين والدارسين. وفي هذا يقول "رومان جاكسون": (وعلى الرغم من المخلفات المحزنة لهذه المواقف الكريهة – للشكلانيّة - فإننا نلاحظ اليومَ ميلا للتذكير بالاكتشافات الحقيقية للسانيات وعلم الجمال السوفياتيين، في العشرينيات، لإعادة تأويلها وتنميتها – أي الشكلانيّة الروسيّة - في هيئة جديدة خالقة؛ وذلك عن طريق مقابلتها بالتيارات الراهنة للفكر اللساني والسيميائي، وإدماجها في النظام المفهومي المستعمل اليوم. إن هذا الميل النافع ليتجلى بحيويّة في المناقشات، وفي الأعمال الجذابة لباحثين شباب، في كل من موسكو، ولينِنْغراد، وتارتو." (32).

***

د. عدنان عويّد

......................

الهوامش:

- (تم تشكيل مدرسة موسكو تارتو للسيميائية ونظرية العلامات بين عامي 1958 و1962. عندما انضمت مجموعة متنوعة من العلماء بشكل غير رسمي من الخمسينيات إلى الثمانينيات لتقديم بدائل للنهج السوفيتي الحاكم للغة والأدب والثقافة، وعملهم على تطوير لغويات دو سوسير بمفاهيمها المركزية عن الإشارة كوحدة للدال والمدلول.). يراجع موقع – e3 arabi – إي عربي.

- (حلقة پراغ اللغوية: تكونها  عدد من علماء اللغويات والنقاد. وطور اعضاء الحلقة طرق التحليل اللغوي التركيبيّة بين عامي 1928 الي 1939 ولكن بعد الحرب العالمية الثانية ورغم تشتت المجموعة ظل تأثير مدرسه براجغ واضحاً علي علم اللغويات. تزعم العالم التشيكي البارز "ڤيلم ماتسيوس" الحلقة حتي وفاته في 1945. ضمت الحلقة علماء روس مثل رومان ياكوبسون ونيقولاى تروبتسكوى وسرگي كراكڤييسكى وأيضا عالمي اللغة التشيكيين البارزين رينيه ولك ويان موكاروڤسكي.). يراجع مقع المعرفة – حلقة براغ.

1- (موقع: جامع الكتب الإسلامية - النظرية الشكلانية في الأدب والنقد والفن ). بتصرف

2المرجع نفسه. بتصرف

3- المرجع نفسه.

4- (موقع سطور).

5- (الشكلية في الأدب"، www.marefa.org،). بتصرّف.

6- "المدرسة الشكليّة الروسيّة.. قراءة في النقد المعاصر"، www.ahewar.org، بتصرّف.

7- موقع سطور بتصرف.

8- (بيتر شناير، المدرسة الشكلانية الروسية، صفحة 33.).

9- (اوراد التويجري - "المنهج الشكلاني"، جامعة بابل). بتصرف

10- المرجع نفسه

11- (موقع سطور.). بتصرف.

12-  المرجع نفسه - بتصرف.

13- ( الشكلانيّة الروسيّة )". www.uobabylon.edu.iq. بتصرّف.

14- ويكيبيديا. بتصرف.

15- (موقع سطور- بتصرف.

16- ("شكليّة"، www.wikiwand.com. بتصرّف.

17- ( مجلة دروب الأدب – المدرسة الشكلية في النقد العربي الحديث – د. لامية مراكشي. بتصرف).

18 - الوكيبيديا. بتصرف.

19- الموقع نفسه - بتصرف.

20- (الموقع نفسه - بتصرف).

21- (الموقع نفسه - بتصرف. وحول أمفهوم اللغة الشعريّة – يراجع موقع موضوع - مفهوم اللغة الشعرية - فرح عبد الغني.

22- (المرجع نفسه - بتصرف. وللاستزادة في معرفة "مدرسة براغ" يراجع موقع – هنداوي – المصطلحات الأدبيّة الحديثة – الفصل الخامس – مدرسة براغ.

23- (  لامية مراكشي، "المدرسة الشكلية في النقد العربي الحديث"، مجلة دروب أدبية.).

24- المرجع نفسه.

25- المرجع نفسه.

26- ).(ميخائيل باختين: شعرية دويستفسكي، ترجمة: الدكتور جميل نصيف التكريتي، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، المغرب، الطبعة الأولى سنة ١٩٨٦ م.

27- (مصطلح السيميولوجيا وإشكالية الترجمة - لكاتب: حمادي فاطمة الزهراء.  https://www.asjp.cerist.dz/en/article/ ).

28- (أهم أفكار الشكلية الروسية Russian Formalism - مدونة الناقد: وائل النجمي.).

29- ). (أنظر: تيري إيجلتون - مقدمة في نظرية الأدب - ص14.).

30- ( للاستزادة في معرفة الدعائم النظريّة والتطبيقية لنظرية أو منهج الشكلانيّة الروسيّة  نظر: الشكلانيون الروس: نظرية المنهج الشكلي، ترجمة: إبراهيم الخطيب، الشركة المغربية للناشرين المتحدين، الرباط، الطبعة الأولى سنة ١٩٨٣ م، ص:٩. عن موقع (موقع: جامع الكتب الإسلامية - النظرية الشكلانية في الأدب والنقد والفن).

31- (موقع: جامع الكتب لإسلامية النظرية الشكلانية في الأدب والنقد والفن). بتصرف.

32- المرجع نفسه - بتصرف.).

ستيفان تسفايغ أحد أعظم الكتّاب في عصره، وأوسعهم شهرة عالمية، ومؤلف عدد كبير من الروائع الأدبية في الرواية والسيرة الفنية والتاريخ والرحلات. روايات تسفايغ القصيرة تدهش القارئ بطابعها الدرامي، وتأسره بحبكات غير عادية، وتجعله يفكر في تقلبات مصائر البشر، ومدى عجز الانسان الأعزل، وما يمكن أن يرتكبه من أعمال أو جرائم تحت تأثير العاطفة. كانت الشخصية الرئيسية في معظم رواياته امرأة معقدة ورائعة، وكان تصوير تسفايغ لها واقعياً ورائعاً، لدرجة أن العديد من القارئات أحببن رواياته، إلى حد التماهي مع شخصياتها الرئيسية.

عندما تولى هتلر السلطة في ألمانيا، شعر تسفايغ، النمساوي - اليهودي بالمصادفة على حد تعبيره - أنه لن يمر وقت طويل قبل أن يغزو هتلر النمسا أيضًا. وبعد أن شعر بذلك، غادر وطنه وعاش بقية حياته مغترباً، في إنجلترا وأمريكا والبرازيل.

كان يكره الفاشية بشدة، ويرى أن هجومها على البلدان الأوروبية الأخرى هو بداية انهيار الحضارة الغربية. النمساوي بالولادة ورجل الثقافة الألمانية، لم يستطع أن يتصالح مع حقيقة أن الأراضي الألمانية أصبحت تشكل تهديداً لوجود البشرية. ويتألم عندما يرى انهيار الثقافة الأوروبية والقيم الإنسانية.

كان كاتباً إنسانياً مسالماً، لكن النظام الهتلري عَدَّه عدواً، حيث تم حرق كتبه وحظرها رسمياً في ألمانيا. ومنذ عام 1934 رأى الكاتب بوادر اقتراب الأسوأ.فانتقل من سالزبورغ إلى لندن، وحصل على الجنسية البريطانية، ولكنه لم يشعر بالأمان.

مثلث الحب

في إحدى الحفلات التقى تسفايغ بزوجته المستقبلية فريدريكا وينترنيتز. كانت مطلقة، ولم تنجح حياتها الأسرية، ورحل زوجها من أجل امرأة أخرى، وتركها مع ابنتين صغيرتين دون مصدر رزق. كانت فريدريكا تبلغ من العمر 26 عامًا، وتلقت تعليماً جيدا، حيث أكملت دورات في علم النفس وأصول التدريس، وعملت معلمة للغة الألمانية والفرنسية، وكتبت قصصًا جيدة. وقد أحبها تسفايغ بعمق وتزوجها في عام

1920، وعاش معها عشرين سنة في سعادة ووئام. ذات مرة كان تسفايغ وزوجته يتنزهان بالقرب من منزلهما في سالزبورغ عندما صادفا رجلاً عجوزاً متهالكا على ذراع فتاة صغيرة كانت تسنده بعناية، وتمهد الطريق له.

" كم هي الشيخوخة مثيرة للاشمئزاز! - قال ستيفان بعد ذلك. لا أريد أن أعيش لرؤيتها. ماذا لو لم تكن هناك حفيدة بجانب هذا الخراب، بل امرأة شابة. هل تذكرين ما جاء في التوراة عن الملك داود؟ وصفة الشباب الأبدي تبقى هي نفسها في كل العصور. لا يمكن لرجل عجوز أن يستعيرها إلا من امرأة شابة تحبه". ستتذكر فريدريكا لاحقًا بمرارة ما قاله ستيفان، رغم أنها لم تعلق عليه أهمية كبيرة في تلك اللحظة.

هل كان من الممكن أن تظن فريدريكا أن السكرتيرة التي أحضرتها إلى المنزل لمساعدة زوجها في طباعة أعماله ستصبح أمله الذي طال انتظاره لاستعادة شبابه؟.

لم تكن فريدريكا تتخيل أن شارلوت ألتمان، وهي فتاة منحنية ونحيفة وشاحبة البشرة، يمكن أن تشكل تهديدًا لسعادة أسرتها. كانت الفتاة تبحث عن عمل من خلال لجنة اللاجئين، فأخذتها فريدريكا بدافع الشفقة. لم يكن لدى شارلوت المسكينة، البالغة من العمر ستة وعشرين عاماً، سوى ميزة واحدة مقارنة بفريدريكا: الشباب. في مرحلة ما، اكتشفت السيدة تسفايغ أنها موجودة داخل مثلث الحب. علاوة على ذلك، أخبرتها شارلوت نفسها عن هذا في رسالة، وتوسلت أن تسامحها – لأن ذلك كان مجرد حادث. وعلمت فريدريكا أن زوجها كان له رأي مختلف، عندما اقترحت تسريح السكرتيرة. قال ستيفان إن الفتاة كانت "مثل معجزة" بالنسبة إليه. استمرت هذه الحياة الغريبة ثلاث سنوات - قبلت فريدريكا على مضض شروط اللعبة.

لكن ذات يوم، عندما عادت إلى المنزل، رأت شظايا إناء مكسور ووجه زوجها المرتبك. قال إن شارلوت تسببت في فضيحة، وكانت على وشك القفز من النافذة. وطلب من فريدريكا الطلاق. كان ذلك بمثابة صفعة على وجهها، لكن ماذا يمكنها أن تفعل؟ تم التوقيع على الوثائق، لكن ستيفان أدرك على الفور تقريبا الخطأ الفادح الذي ارتكبه. وتوسل إلى فريدريكا أن ترسل برقية إلى المحامي بإسميهما يطلبان فيه وقف إجراءات الطلاق. تم إرسال البرقية، ولكن من المفارقات أن المحامي كان في إجازة. وتم طلاقهما رسمياً في عام 1938، ولكن فريدريكا كانت تتلقى كل يومين رسالة من ستيفان: «عزيزتي فريتزي!.. ليس في قلبي سوى الحزن من هذا الانفصال، الخارجي فقط، وهو ليس انفصالًا داخليًا على الإطلاق.. أعلم أنك ستكونين حزينة بدوني»... لكن ليس لديك الكثير لتخسريه. فقد أصبحت مختلفًا، تعبت من الناس، ولا يسعدني إلا العمل. إن أفضل الأوقات قد ولت بلا رجعة، وقد عشنا خلالها معًا...أتوسل إليك أن تحافظي على اسمك العائلي – تسفايغ".

في عام 1940، بعد إندلاع الحرب العالمية الثانية، هاجر الكاتب إلى الولايات المتحدة الأمريكية مع زوجته الشابة شارلوت. لكنه ساعد زوجته السابقة وابنتيها من زواجها الأول على القدوم إلى هناك، والتقى بها، بل وأراد الذهاب في إجازة معًا. لم تكن روحه تعرف السلام، ولم يكن يستقر على حال. كان عيد ميلاده الستين يقترب. "ستون - أعتقد أن ذلك سيكون كافياً. العالم الذي نعيش فيه لا رجعة فيه. ولن نتمكن بعد الآن من التأثير على ما سيأتي. كلمتنا لن تُفهم بأي لغة. ما الفائدة من العيش مثل ظلك؟" وينقل يوهام ماس عن شارلوت قولها: “إنه ليس في حالة جيدة. أنا خائفة".

ولسوء الحظ، لم تتمكن السكرتيرة المسكينة من تحقيق معجزة إعادة الشباب لزوجها المسن. كتب تسفايغ في إحدى رسائله إلى فريدريكا: “لا يمكن خداع القدر؛ لقد انتهى الأمر، ولم أعد عاشقًا". واعترف في الرسالة التالية: "كل أفكاري معك".

كان الملاذ الأخير لتسفايغ هو بلدة پتروپولیس على مشارف مدينة ريو دي جانيرو في البرازيل، التي أهدى لها أحد كتبه - "البرازيل - بلد المستقبل". واعترف بأن الحياة هنا مريحة، والناس ودودون للغاية.. ومع ذلك، في الوقت نفسه، شعر وكأنه منفي لن يرى وطنه مرة أخرى.

كان هو وشارلوت يجلسان في الأمسيات على الشرفة، ويراقبان الغسق وهو يتعمق تحت النهر، ويسمعان أصوات الآخرين القادمة من المنازل المجاورة،. وأصوات الراديو البعيدة، وصرير الكراسي الخشبية الهزازة، وأحاديث لا نهاية لها بلغة أجنبية غير مفهومة، تخلق شعوراً بوجود ستار لا يمكن اختراقه يفصلهما عن الحياة العادية والطبيعية.

كان تسفايغ يتقن اللغات الألمانية والإنجليزية والفرنسية والإيطالية والإسبانية، لكنه لم يحاول تعلم اللغة البرتغالية، فقد كان مشغولا للغاية طوال الوقت - عقود مع دور النشر، والكتب الجديدة، والطلاق المؤلم من زوجته فريدريكا، والأهم من ذلك - اقتراب الطاعون النازي، الذي حرمه من منزله ووطنه ومستقبله.

قضى تسفايغ لأشهر الأخيرة من حياته في حالة اكتئاب عميق. كان يشعر بالوحدة، ولم يجد من يتحدث معه، وغاب عن المناسبات والأحداث الثقافية. ومقارنة بالفخامة التي اعتاد عليها في الفيلا الخاصة به في سالزبورغ، بدا المنزل الصغير المستأجر في پتروپولیس متواضعا لا يليق بمقامه. كان الأثاث بسيطاً، وكان كل استحمام يتطلب تسخين الماء بصعوبة كبيرة، بالإضافة إلى ذلك، بحلول عام 1942، اضطر إلى خلع جميع أسنانه.

قبل وقت قصير من انتحاره، كتب تسفايغ: "أريد أن أقوم بواجبي الأخير- أن أشكر بصدق هذا البلد الرائع، البرازيل، الذي رحب بي ترحيباً حاراً ووفر لي الظروف الجيدة لعملي. كل يوم أتعلم المزيد والمزيد. إنني أحب هذا البلد، ولم يكن بإمكاني في أي مكان آخر إعادة بناء حياتي بالكامل بعد أن فقدت عالم لغتي، ودمرت أوروبا - موطني الروحي - نفسها بنفسها؟.

:" الرعب الذي تسببه لي الأحداث الجارية يزداد إلى ما لا نهاية. نحن الآن على حافة حرب ستبدأ حقًا بتدخل آخر القوى المحايدة، وبعدها ستأتي سنوات ما بعد الحرب الفوضوية... ويتبادر الى ذهني أنه لن يكون هناك لي منزل، أو مأوى، أو ناشر، و لم يعد بإمكاني مساعدة أي من أصدقائي بعد الآن. كنت أقول لنفسي دائمًا: اصمد طوال الحرب، ثم ابدأ من جديد... هذه الحرب تدمر كل ما أنشأه الجيل السابق".

 لم ير تسفايغ مكانه في عالم المستقبل. وهكذا، فإن قرار إنهاء الوجود البغيض نضج تدريجيا، يوما بعد يوم. عندما رأت شارلوت معاناة زوجها، حاولت التخفيف عنه، ولكن دون جدوى.

نهاية مأساوية

في 22 فبراير 1942، كتب ستيفان وشارلوت 13 رسالة إلى الأصدقاء، بما في ذلك رسالة ستيفان الى زوجته الأولى فريدريكا التي يقول فيها:" لقد سئمت من كل شيء". لم تترك شارلوت حبيبها، وأخذت معه جرعة قاتلة من الباربيتورات. عندما دخل خدم المنزل غرفة النوم لتأخرهما بالاستيقاظ المعتاد، وجدوا الكاتب و وزوجته قد فارقا الحياة في عناق أبدي ودون إثارة ضجة. وكانت هناك رسائل وداع على الطاولة.

قالت شارلوت في رسالتها الوداعية : " إن الموت سيكون تحريراً لستيفان، ولي أيضا، لأنني تعذبت بسبب نوبات الربو ". وكتب ستيفان :"بعد الستين، هناك حاجة إلى قوة خاصة لبدء الحياة من جديد. لقد استنفدت قوتي بسبب سنوات التشرد بعيدًا عن وطني. بالإضافة إلى ذلك، أعتقد أنه من الأفضل الآن، ورؤوسنا مرفوعة، أن نضع حداً لوجود كان فرحه الرئيسي هو العمل الفكري، وقيمته العليا الحرية الشخصية. أحيي جميع أصدقائي. دعهم يرون الفجر بعد ليل طويل! "لكنني غير صبور جدًا وأغادر قبلهم.

في اليوم التالي تصدر خبر انتحارهما الصفحات الأولى لكبريات الصحف العالمية. وتحت الخبر المحزن صورة الزوجين المتوفين. كان وجه تسفايغ في صورته الأخيرة مسالمًا. وضعت شارلوت رأسها على كتف زوجها وأخذت يده في يدها بحنان. دفن ستيفان وشارلوت تسفايغ في المقر الصيفي السابق للأباطرة البرازيليين في بتروبوليس.

في عام 1942، لم يكن من الممكن أن يظل هذا الخبر مثار ضجة كبيرة لفترة طويلة، في ذروة الحرب العالمية التي كانت مستعرة في أوروبا والشرق الأقصى. أثار سلوك تسفايغ الدهشة في الأوساط الأدبية.

يبدو للوهلة الأولى أنه لم يكن لدى تسفايغ أي أسباب واضحة للانتحار. لا أزمة إبداعية، ولا صعوبات مالية، ولا مرض قاتل، ولا مشاكل في حياته الشخصية. ووفقا لمعايير ذلك الوقت، كان يعتبر رجلا ثرياً جداً.

صدمت الأوساط الثقافية في العالم بالخبر المفجع وطرح العديد من التأويلات المختلفة الحافلة بالتكهنات والاستنتاجات النفسية حول أسباب الإنتحار: ربما سئم من التشرد والبحث عن وطن جديد. كانت البرازيل ملاذاً مريحاً، إلا أن الكاتب كان يتوق إلى موطنه النمسا.

. وقال توماس مان، وهو كاتب ألماني عظيم آخر في المنفى، بأنه "هروب من مصير المهاجرين المشترك بيننا جميعًا وانتصار للطبقة الحاكمة في ألمانيا، التي تم التأكيد على "براعتها" المثيرة للاشمئزاز من خلال ضحية بارزة بشكل خاص". ومع ذلك، بعد مرور عشر سنوات، اعترف مان بأنه بدأ يفهم تسفايغ، الذي لم يكن يريد ولا يستطيع أن يعيش في عالم مليء بالكراهية والمصائب والحواجز العدائية والخوف الذي لا يرحم الذي أحاط به.

وربما كان التفسير الذي قدمه إريك ماريا ريمارك هو الأقرب الى الحقيقة:

" الأشخاص الذين ليس لديهم جذور، غير مستقرين للغاية، وتلعب المصادفة دوراً حاسماً في حياتهم. لو تمكن تسفايغ وزوجته في المساء الذي انتحرا فيه في البرازيل، من التعبير عن حزنهما لشخص ما، على الأقل عبر الهاتف، فربما لم تحدث هذه الكارثة. "لكن تسفايغ وجد نفسه في أرض أجنبية بين الغرباء ".

***

د. جودت هوشيار

تقديم: رواية الشاعرة مالكة حبرشيد جرح الذاكرة شخصيا أصنفها ضمن أدب السيرة الذاتية أكثر منها رواية، وذلك لأنها أساسا سرد لوقائع حقيقية مرت بحياة الشاعرة. فهي إذن جزء من السيرة الذاتية التي تتضمن لحظات من السير الغيرية، وفي هذا العمل الأدبي السردي تنفلت الشاعرة من الروائية ونجدنا بين الفينة والأخرى أمام فقرات مطولة هي أقرب للشعر والسجع أكثر من العمل الروائي التقليدي وهو زمن طويل وقوي من عمر السيرة الذاتية حيث تطل عليك شاعرة من حجم مالكة في أسلوب روائي لن تجده إلا في جمال العبارة عند زميلتها أحلام مستغانمي .

الرواية/السيرة الذاتية تداخلت فيها عدة أنماط سردية، وظهر منها جليا شكل الكتابة الشذرية على شاكلة ما كتبه محمد شكري في المتأخر من كتاباته.

في السيرة الذاتية للشاعرة مالكة هناك تداخل لأزمنة الكتابة وأحيانا يحضر الفلاش باك، ولذلك فهذا المتن السردي مؤهل لأن يصبح عملا دراميا خصوصا وأنه هو أساسا صرخة إدانة لواقع اجتماعي مرير من طرف شاعرة أتهمها بالمثالية.

عاصمة الحكي في سيرة الكاتبة هي مدينتها الجميلة خنيفرة المناضلة، وهي شكواها الأولى من ظلم التاريخ والاقتصاد والاجتماع .

هذا النص الأدبي يتحرك أساسا بين زقاقين ومدينتين وزمنين هما زمن الظالم وزمن المظلوم. وبين لحظتين، لحظة الواقع المرير ولحظة المستقبل المأمول، المحمول على كتفين، كتف الوعي وكتف النضال .

هكذا رأيت النص فأثار انتباهي أنه لا يكاد يتحرك إلا داخل ثنائية ما، ولربما الإشتغال بالرقم إثنين، ومنها أن مفاتيح الأرض والسماء في خنيفرة إثنتيهما توجدان في يد إثنين هما الفقيه والولي الصالح .

الكاتبة في هذا العمل السردي لها نمطها الخاص في الكتابة وإن كان هناك بعض التناص الأسلوبي في كتابها هذا مع كتاب ٱخرين في لحظات من الإبداع إن في السجع أو في الانتقالات الشذرية .

الكاتبة مالكة، في هذا العمل يتصارع في ساحة مدادها شخصيتان، شخصية الشاعر الحالم ذي العبارة القوية والصورة الشعرية والصحافي الناقم على الوضع والراصد للواقع البئيس، وهذا الأسلوب الصحافي التقريري الذي يغطي مساحات من هذا العمل السردي ليس غريبا على الكاتبة فهي متابعة جيدة لما تمور به الساحة السياسية الوطنية والدولية، ويتضح بشكل جلي من خلال كتابها أنها مناضلة حقوقية ونسوية شرسة خطت النص معتمدة على الكثير من الكلمات المفتاح التي تخترقه طولا وعرضا وتختصر كثيرا من مسافات المعنى، وهي أكثر من عشرين لفظة مثل:

الجرح/ الجهل/ الفحولة الراسخون/ التواطؤ/ الدم/ المدى/الردح/المايات/الجمجمة.

أما كلمة نكبر فكانت افتتاحا ومفتاحا لخمس انتقالات في السرد من مرحلة إلى أخرى.

أزعم أن حب الكتابة عند الشاعرة مالكة بدأ منذ أن بدأت تنصت لأنين مدينتها خنيفرة، ولذلك فالأماكن والشخوص لهم حضور قوي في هذا العمل الذي استعملت فيه الكاتبة عدة تقنيات لتبليغ الرسالة/الصرخة، منها تمرير المعنى على لسان الغير واستعمال لفظة هنا وهناك بالأمازيغية أو الدارجة، كما أنها تشرك القارئ في عملية التأليف بالإكثار من نقط الحذف، ناهيك عن إطلالة الميلودراما واستعمال الجمل ذات المفردات المتناقضة.

كما أزعم أن أقوى لحظات الإبداع في الكتاب هي حين تنتصر الشاعرة على الروائية، وحين تنتصر المبدعة على المناضلة، وفي تلك اللحظات أتت عبارات قوية منها:

 - يزهو بملابسه الرثة

 - معطف صبر وحذاء انتظار

 - ميبلادن تزغرد وجعا.

 - ظل الحزن صعلوكا على قارعة الحياة.

 - إلبسي أوجاعك.

 - تخمة الجوع.

 - السكوت المقصود دوي   يصم الٱذان.

 - بشارات الهزائم.

الكاتبة مالكة حبرشيد أجد فيها المرأة المغربية الأصيلة، فهي عربية العرق، أمازيغية الهوى، مغربية الهوية، وقدرها أن تكون كذلك فوالدتها الأمازيغية لما تزوجت بوالدها العربي كانت هي الأمازيغية الوحيدة في قبيلة زوجها، وبسبب أخلاقها وصبرها اتجه جل شباب القبيلة يختارون الزواج من فتيات القبيلة الأمازيغية المجاورة مما وحد القبيلتين في بوثقة واحدة موحدة، وذاك مثال للتلاقح العربي الأمازيغي ببلادنا العزيزة.

هذه الكاتبة الأمازيغية/العربية هي مسلمة العقيدة اشتراكية المذهب السياسي، نبوية الدفاع عن حقوق المرأة، تقصف ولا تبالي، تقول كلمتها الحرة ولا تهتم بالنتائج، تقول للجلاد أنت جلاد، وتدين السلطة، وتفضح أشباه المثقفين مزدوجي الوجه والمبادئ، وتمقت سوق النخاسة الانتخابي.

وأنا السائح بين هذه السطور أحدث نفسي وأقول، ما هذا التشاؤم ؟ لكن صاحبة الصحيفة لا تتنازل، فهي تعلن نفسها كاتبة لالتقاط السواد (على الرغم أنه لا يليق بها) وذلك رفضا منها للدخول في الجوقة. لكن سوداوية وتشاؤم الكاتبة لا ينم في العمق عن هزيمة بقدر ما ينم عن حرقة وأمل في الانتصار والتجاوز.

الطفلة مالكة كانت بعشق متعدد وتعطي لحياتها معنى داخل غرفة بيتها متحركة بين الأدب والرقص والغناء، وعلى الرغم كل الحظر الممارس من أهلها فهي أحيانا وبتٱمر مع والدتها تنسل من البيت لتمارس نجوميتها فتكون أحيانا ماجدة وهي تركب الطائرة مع حبيبها، وأحيانا سعاد حسني النشالة، وكثيرا ما رأت نفسها جميلة بوحيرد وهي تمد الثوار بالسلاح والطعام، ولما تخرج من سينما الأطلس تختلس الخطوات من الجنبات خوفا من أن تلتقطها عينا أخيها فيضيع منها ما حملت من زاد وذخيرة.

 تعود البطلة للبيت وقد انشطرت الى نصفين. نصف مستسلم للخوف، وٱخر متمرد على تقاليد الاجترار القاتل.

الطفلة مالكة التي كانت بطلة أفلام والتي حاورت المتنبي مرارا والتي حلمت أن تكون شاعرة أو قائدة ثورية منقذة أو أميرة شارل. كبرت على وسادة الأرق واكتشفت أن الوطن ليس خنيفرة، وأنه أكبر من ذلك. لكن للأسف مع كبر الوطن كبرت الهموم. وعلى الرغم من ذلك أقول شخصيا أن جزءا من حلمها تحقق، لقد أصبحت شاعرة مبدعة بحجم مطبات الوطن، وأصبحت ناشطة حقوقية أدانت الظلم والقهر والجهل وأدانت حتى الذكورة، وأتساءل كم كانت تحتاج من ديوان لتهجو الذكورة لولا بصمة والد حنون يحب والدة صبورة.

أصبحت شاعرة لأنها حاورت المتنبي، ولأنها أنصتت لأدب الشارع السبعيني (الحلقة) ولأنها تابعت حكي عمي موحى الذي تحدثت بلسانه، ولربما في لحظات ما تحدثت الكاتبة على لسانه، هذه الأخيرة التي برعت في وصف جسده الذي أنهكته الحرب العالمية الثانية، وزاده المخزن إنهاكا لالشيئ سوى لأنه ينتمي للقبيلة نفسها التي ينتمي إليها الثائر أومدة .

كبرت الطفلة وأدانت إدريس البصري الذي حلق شعر الشيختين فاطمة قسو وتاولعيبات لأنهما رفضتا الرقص أمامه هو وضيوفه في 3 مارس ولسان حالها يقول إن للحق دمعا وللباطل أنيابا.

كبرت الطفلة وأدانت مديرة الثانوية مارگيريت تاتشر.

كبرت وأدانت الرقية الشرعية.

كبرت الطفلة وأعلت من شأن كوثر حفيظي، وثريا الشاوي، وسعيدة لمنبهي، ولم تنس أعلام خنيفرة موحى اوحمو الزياني، وموحى أوسعيد وعلي امهاوش.

ختمت الكاتبة كتابها بقصيدة شعرية تعتذر للشعر وتتهمه بمخاتلة المعنى، وهي بذلك تدافع عن عملها الذي اعتنى بكشف الحقيقة وتعرية المستور على حساب صنعة الكتابة بالرمز والمرموز، وفي السياق نفسه، وقبل القصيدة/الختم نجد في السطر ما قبل الأخير عبارة تقول (بقدر ما يتحقق من تطور تكنولوجي يتوحش الإنسان).

***

محمد شخمان - مكناس/المغرب.

يونيو/حزيران 2024.

يحتل عنصر "المكان" مكانًا متصدرًا في قائمة العناصر التي تأثرت سلبًا بالتَّحوُّلات التَّوظيفيَّة في عصرنا الحاضر، فاختلفت اختلافًا جوهريًّا عمَّا كانت عليه في الماضي، فحين ننظر في تراثنا العربي؛ نجد أن العربي القديم اهتم بالمكان اهتمامًا بالغًا، فجعله رفيقًا له في أشعاره، وقرينًا ملازمًا لذِكر المحبوبة في المقدمة الغزلية التي كان يفتتح الشاعر بها قصيدته، وشاهدًا ناطقًا في أغراض الفخر والهجاء وذِكر الوقائع والحروب، لذلك كان ذلك العربي القديم -على اعتزازه وإبائه- يبكي إذا ابتعد عن موطنه المفضَّل، كما يذكر لنا امرؤ القيس [ت: 80ق.هـ] وهو يصف حال رفيق رحلته عمرو بن قميئة [ت: 85ق.هـ] حين اصطحبه معه إلى قيصر:

بكَى صاحِبي لمَّا رأى الدَّرْبَ دُونَهُ

وأيقَنَ أنَّا لاحِقانِ بِقَيْصَرا

وبعد أن جاء الإسلام ظل المكان محتفظًا بصدارته، إلى أن كثر اختلاط العرب بغيرهم نتيجة الفتوحات الإسلامية، وتمصير الأمصار، وانتقال بعض أهلها إلى الإقامة في بلاد العرب، وصاحَبَ ذلك بناء المدن والقرى، واختفاء حياة التنقل والترحال التي كان يعيشها العربي القديم، وأصبح الناس يعيشون في نسيجٍ واحدٍ، تحت ظِلال حضارة جديدة لها خصائصها ومعالمها المختلفة.

وفي هذه الحضارة الجديدة ازدهرت عند العرب علوم أخرى بجانب علومهم الأدبية التي برعوا فيها قديمًا مِن شعرٍ ونثرٍ؛ فظهرت علوم القرآن والتفسير والحديث والفقه وما يتعلق بها من علم الأصول والعلل وغير ذلك، إضافة إلى علوم الفلسفة والاجتماع وغيرها من العلوم الإنسانية، وكذلك العلوم التطبيقية كالطب والهندسة والرياضيات وغيرها، وقد نبغ في جميع هذه العلوم عددٌ كبيرٌ من العرب وغيرهم؛ وهنا برز دور المكان من جديدٍ ولكن بشكلٍ مختلفٍ؛ فقد أصبح المكان عاملًا مؤثِّرًا في حصول العلماء -ومنهم الشعراء والأدباء- على مكانتهم التي يستحقونها أو يرجونها؛ فكان الشاعر الفحل أو الأديب البليغ أو العالِم المتصدر في علمه؛ إذا عاش بعيدًا عن العواصم والحواضر؛ لا يكاد يُلتفَت إليه؛ ويذكر لنا التاريخ أمثلة على ذلك؛ منها ما أورده ابن خلكان [ت: 681هـ] في وفيات الأعيان؛ أن «الحسين بن شعيب السنجي [ت: 427هـ]، لمَّا انصرف مِن عند الشيخ أبي حامد الإسفرايني [ت: 406هـ]؛ مرَّ بابن كج [ت: 405هـ]، فرأى ابن كج عِلمه وفضله، فقال له: يا أستاذ؛ الاسم لأبي حامد والعلم لك؛ فقال: ذاك رفعته بغداد وحطَّتني الدينور».

وربما كان ذلك لكثرة إقبال الناس على الحواضر والعواصم؛ وهو الأمر الذي يساعد في شهرة النابغين من أهلها، فكان ذلك عاملًا مشجعًا على إقبال النابغين من كل مكانٍ إلى هذه العواصم والحواضر، فوجد الناس بذلك من العلم ما يكفيهم مشقَّة التَّرحال في طلبه؛ فهم يعيشون في المدن الجاذبة لأهل العلم والفكر والإبداع، فمن عاش من العلماء بعيدًا عنها؛ لم يكن له ذِكرٌ، في الغالب.

وفي عصرنا الحاضر؛ أصبح الإعلام هو الذي يفرض أهمية المكان وإن كان ذلك المكان خامل الذكر في جميع الحضارات السابقة وانتهاء بحضارتنا الإسلامية التي فاقت كل حضارة، فقد أصبحت بعض القنوات الإعلامية تُضفِي هالةً من التَّبجيل على بعض المبتدئين والمتعالِمِين -رغم ضعفِهم- لا لشيءٍ إلَّا لأنهم من قاطني هذا المكان أو ذاك؛ الذي تحاول بعض الكيانات الدَّخيلة أن تروِّج له، مستغلَّة بعض الإعلاميين الضعفاء ممن لا عِلم لهم ولا خبرة، فتُزيِّن لهم أن ذلك المكان اشتهر قديمًا واحتلَّ الصدارة في بعض العلوم، أو نبغ فيه أحد القادة الفاتحين أو نحو ذلك، ثم تملي عليهم ما تريد من مدحٍ وإطراءٍ وتقديسٍ لذلك المكان؛ أملًا منها في صرف الأنظار إليه، وتعلُّق العامَّة به، مع أن الله لم يكتب لذلك المكان شيئًا له قيمة، أو حدثًا له أهمية؛ إنما القضية كلها تتعلق بالغزو الفكري الذي تعكف على تنفيذه مؤسسات كارهة للعروبة وللإسلام، وإذا كان بعضٌ أو كثيرٌ من هؤلاء الإعلاميِّين الذين يقعون في براثنهم؛ ليس لديهم قدرٌ كافٍ من العلم أو الثقافة؛ فالأدهى من ذلك أن بعض المحسوبين على العلم والثقافة ينساقون خلفهم ويشجعونهم، حتى نتج عن ذلك تقديسٌ أعمى لبعض الأماكن التي لا يُعرَف لها ما يستدعي شيئًا من التقديس؛ فلا هي بالأماكن الدِّينية التي أمر الله بتقديسها، ولا هي بالأماكن التي شكَّلت هويَّة العرب أو المسلمين يومًا ما، والمأساة الحقيقية في ذلك أنهم يتَّخذون من ثقافتهم الدَّخيلة مقياسًا، وقد جعلهم ذلك يظلمون الناس ويتنكَّرون لأفضالهم، حتى أصبحوا يحطُّون مِن مكانة العالِم المبدع لأنه ليس من أبناء أو سكَّان تلك القرية الأثرية -مثلًا- التي تقع في مدينة كذا؛ التي ينتمي إليها أولئك الإعلاميون ثقافيًّا، وهذا هو نهجُهم في كل أمرٍ يُسلَّطون عليه مِن قِبَل تلك الكيانات التي تستغلهم في عمليات الغزو الثقافي والفكري الذي تتعرض له بلادنا العربية والإسلامية؛ ذلك الغزو الذي يتم تنفيذ مخططاته بأيدي بعض الجاهلين الذين تم وضعهم في صفوف الإعلاميين لكي يروِّجوا لكل ما هو قبيح، ويحطُّوا مِن قدر كل ما هو جميل ونافع.

وعَوْدًا على بدءٍ نقول: إنَّ حُبَّ العربي القديم للمكان وحنينه إليه؛ لم يكن من أجل المكان ذاته؛ فقد كان معظمهم يعيشون على الترحال والتنقل؛ إنما كان شعورهم بالانتماء إلى هذا المكان أو ذاك من أجل ما شهده المكان من مواقف وأحداث تمثِّل جزءًا من حياتهم وتاريخهم، لذلك كان حب المكان أمرًا فطريًّا ومطلوبًا.

لكن ما سرُّ حبِّ العربي المعاصر لمكانٍ ليس بِعَربيٍّ أصلًا ولا إسلاميٍّ ولا علاقة له بأي عنصرٍ من عناصر هويَّتنا؟! إن الأمر لا يعدو كونه محاولةً لِسَلخ العربي من هويَّته، والزَّجِّ به -ثقافيًّا وفكريًّا ووجدانيًّا- في أحضان أمكنةٍ غريبةٍ عنه، لذلك يسعون جاهدين من أجل تتويج أبناء تلك الأمكنة الأعجمية بشهادات النبوغ والتفوق في علوم العرب وثقافتهم، وفي الوقت ذاته يجري التعتيم على النابغين والمتفوقين العرب.

***

حسن الحضري - شاعر وكاتب مصري

بدءاً، نقول إن الروائي والناقد والبروفيسور البيروفي ماريو بارغاس يوسا (1936) يعد من أهم فرسان جيل الازدهار الادبي في أميركا اللاتينية، الجيل الذي نشط في خمسينات وستينات وسبعينات القرن الماضي، وضمّ الكتّاب المعروفين على نطاق عالمي؛ كارلوس فوينتس من المكسيك، وخوليوكورتازار من الأرجنتين، وغابرييل غارسيا ماركيز من كولومبيا، وإيزابيل الليندي من تشيلي. وبالإضافة إلى التوصيف المذكور – جيل الازدهار، فإنهم، كلما ذُكرت الواقعية السحرية في الأدب العالمي، ذُكرت هذه النخبة. والواقعية السحرية، بحسب الويكيبيديا، تُعرّف بأنّها تقنيةٌ أدبيةٌ ظهرت في كثيرٍ من الأعمال الروائية والقصصية في الأدب الألماني منذ مطلع خمسينات القرن الماضي، وأدب أميركا اللاتينية بعد ذلك، ثمّ وجدت طريقها إلى بعض الأعمال في آداب اللغات الأخرى. ويستثمر هذا التيار الأدبي مزج تنويعاتٍ فنتازية مع قوانين الواقع، بشكلٍ يذهل القارئ ويربك حوّاسه فلا يستطيع التمييز بين ما هو حقيقي وما هو خيالي، هذه التنويعات ماثلةٌ في الخرافات والحكايات الشعبية والأساطير وعالم الأحلام والكوابيس.

حظي بارغاس يوسا بشهرةٍ عالميةٍ في ستينات القرن الماضي منذ صدور أولى رواياته؛ المدينة والكلاب، والبيت الأخضر، وحديث في الكاتدرائية. وتناولت رواياته مضامين متنوعة، مثل ألغاز جرائم وموضوعاتٍ تاريخيةٍ وأحداثًا سياسية، وتحوّل عديد أعماله إلى أفلام، مثل: بانتاليون والزائرات، والعمّة جوليا وكاتب النصوص . حصل على عديد الجوائز، اهمها جائزة ثيرفانتس (1994)، جائزة نوبل في الآداب عام (2010).

من أعماله المترجمة إلى العربية؛ قصة مايتا 2013، وحرب نهاية العالم 2021، ودفاتر دون ريغوبرتو 1997، وامتداح الخالة 1999، ومن قتل بالومينو موليرو2001، وحفلة التيس2018، والفردوس على الناصية الأخرى 2004، ورسائل إلى روائي شاب 1997، وشيطنات الطفلة الخبيثة، 2006، وليتوما في جبال الأنديز 1993، والجراء (رواية قصيرة 2007، والرؤساء (مجموعة قصصية) 2007، وحلم السلتي 2012، والبيت الأخضر 2015، والبطل المتكتم 2016، وخمس زوايا 2021، وزمن عصيب 2021 .

يستثمر بارغاس يوسا السخرية السوداء في عديد أعماله الروائية، ولذا كان من الالقاب التي أطلقت عليه (المتهكّم الذكي) مثلاً، رواية "العمة جوليا وكاتب السيناريو"، المُترجمة إلى العربية عام 2023، لم يُتَح لنا الحصول على نسخةٍ منها، ولكن كُتب عنها بأنّها روايةٌ غارقةٌ في الفكاهة وحبّ المراهقين، وأنّها روايةٌ تتحدّث عن سحر المدينة المفقودة، وهي " نوعٌ من السيرة الذاتية لـ بارغاس يوسا". تغمر قارئها بالسرور والبهجة، وتتناول حنين بارغاس يوسا إلى ليما – عاصمة البيرو- في خمسينات القرن الماضي. وهي رواية ممتعة "تمتلئ بالأشخاص الغريبي الأطوار وخطوط الحبكة التي تمزج الخيال بالحقيقة". ويمكن أن نتناول هنا بشكلٍ موسّع، روايتيه المهمتين (بانتاليون والزائرات)، و(قصة مايتا)، لما فيهما كما نرى، من رؤى تراجيكوميدية كتبهما بارغاس يوسا بشكل ذكيٍ ومُحترف.4263 bantalyon

بانتاليون والزائرات

صدرت هذه الرواية بطبعات عديدة، آخرها عن دار الجمل 2022، ترجمة صالح علماني. وتدور أحداثها في البيرو، موطن الروائي، ويمكن إيجاز حبكتها بما يلي: بعد تلقّي المؤسسة العسكرية في البيرو شكاوى كثيرةً عن اعتداءات الجنود في مناطق الأمازون على نساء الفلاحين وبناتهم، ابتكرت هذه المؤسسة فكرة تأسيس خدمة زائرات" نساء غانيات" يتكفّلن بتوفير المتعة الجنسية للجنود. وللمفارقة، الطابعة لأعمال بارغاس يوسا، فإنّها، أي المؤسسة العسكرية، تكلّف أشدّ ضباطها التزاماً في حياته العسكرية والاجتماعية النقيب المُرقّى حديثاً بانتاليون بانتوخا بتأسيس خدمة دعارةٍ للقوات المسلّحة، فيحقّق نجاحاً باهراً فيها، انعكس على تسميتها شعبياً (بانتالاند)، لكنَّ هذا النجاح لبطل الرواية عسكرياً والعاطفة المشبوبة تجاه أجمل نساء خدمة الزائرات، وتدعى البرازيلية أولغا، الامرأة الوحيدة، من بين اللاتي يقدّمن تلك الخدمة، التي تجرّأت على جسّ نبض عواطف بانتوخا، لما امتاز به من صرامةٍ في تعامله مع الزائرات. هذا النجاح، لابدّ من دفع ثمنه الباهظ لجهة مهنته العسكرية وحياته العائلية، فتهجره زوجته بوتشيتا مع ابنتهما الحديثة الولادة، بعد انكشاف أمره مع العشيقة البرازيلية، ومن ثمّ انكسار بطل الرواية بانتوخا إلى وضعٍ لا يُحسد عليه، نتيجة الحملة الشرسة التي قادها إعلامي إذاعي مُمثّلاً بشخصية سينتشي، لفضح هذه الخدمة، ومن ثمّ السكوت من جانبه عنها مقابل رشىً. لكنّ السكوت والمديح جاءا بعد افتضاح أمر بانتوخا. ومن التطوّرات التي رافقت تلك الخدمة وأصابتها في مقتل، خطف مدنيين من قرى البيرو النائية زائرات، واغتصابهنّ بوحشية، كان من نتائجها التراجيدية مقتل البرازيلية فنعاها بانتوخا، وظهر في المقبر مرتدياً الزي العسكري، متجاهلاً أو متناسياً تحذيرات القادة الكبار بارتداء الزي المدني لإخفاء علاقة الجيش بالخدمة، فأدّى ذلك إلى انهيارها.

وترى الناقدة والأكاديمية السورية الأردنية شهلا العجيلي، في معرض قراءتها للرواية بأنّها تثبت بأنّ ما يصنع الروايات الجيّدة، ليس الأفكار الخطيرة، ولا الأحداث العظيمة، بل تلك التي تجعل أيّة حادثةٍ بسيطةٍ حدثاً مهماً في واقع النصّ. فنّ الرواية، بحسب العجيلي، بحاجة إلى حكاياتٍ، لا إلى أفكار فحسب، وفي الوقت ذاته "هذا لا يعني أنّ الرواية بعيدة عن التاريخي والدينيّ والسياسيّ والإديولوجيّ. إنّها تقاربهم، وتستعملهم من غير أن يستعملوها".

أدرج المتهكم الذكي بارغاس يوسا، على طول صفحات الرواية، تقارير الجيش الرسميّة المؤرخنة، مع الالتزام بتفاصيل التقارير جميعها: "الطريقة، الخطاب، المفردات، الاعتذارات، الحواشي، الخواتيم، كما استعمل الردود على التقارير" كما ثبّتت العجيلي في قراءتها للرواية. كما استثمر بارغاس يوسا سردنة الوثائق، عندما ضمن الرواية سيناريو نصياً عن تدخّلات الإعلامي الإذاعي سينتشي، سعياً منه في تأليب الرأي العام ضدّ بانتوخا، من أجل الحصول على رشىً منه، وحين اضطرّ بانتوخا إلى التسليم بالأمر وإرسال مبلغٍ شهريٍّ، انقلبت البوصلة باتّجاه كيل المديح لبانتوخا وفريق الزائرات، وهنا سخريةٌ واضحةٌ من الإعلام المدفوع الثمن، الذي ظاهره الدفاع عن المبادئ وباطنه الابتزاز والرشى.

استثمر بارغاس يوسا الريبورتاجات الصحفية، لنقل الوقائع الكاملة لمقتل البرازيلية أولغا، كما نشرت صحيفة (أروينتي) في عددٍ خاصٍّ لها وقائع تشييع جثمان القتيلة، ومراسم دفنها بالمقبرة العامة، وتكريمها بوصفها" شهيدة الخدمة"، وضمّ العدد الخاص كلمة النعي التي ألقاها بانتوخا، والتأثّر المفرط الذي كان بادياً عليه إلى حدّ البكاء. وبما أنّه عددٌ خاص، فقد تشرت الصحيفة وقائع جريمة ناوتا، المنطقة التي وقعت فيها أحداث الجريمة. ونشر تاريخ العدد الصادر للصحيفة يوم 5 كانون الثاني 1959، يوحي للقارئ بأنّها أحداثٌ حقيقية، وهنا يتّضح أثر مصداقية الواقعية السحرية على القارئ، من خلال تلك الأرخنة، بحيث يلتبس على القارئ هل ما يقرأ؛ واقعٌ أم خيال؟ كما أنّ التشييع المهيب لقتيلةٍ تعتبر اجتماعياً سيئة السمعة، يفصح لنا أنّها روايةٌ تراجيكوميدية، يدهشنا فيها البناء الروائي المُحكم في (بانتاليون والزائرات) حينما تتراصّ هذه الملهاة" تقديم الخدمة الجنسية للجنود" مع السياقات العسكرية الرصينة.

قصة مايتا

رواية " قصة مايتا" يستثمر فيها بارغاس يوسا التهكّم السوداوي عن التطرّف الثوري في دول العالم الثالث، البيرو، نموذجاً، ومآل فشل هذا التطرف وهزيمة عرّابيه، وانزلاق موطن الروائي إلى أحداث عنفٍ وحربٍ أهليةٍ حدثت في البيرو بين عامي 1982 – 2000.

تقع أحداث الرواية عام 1958، بطلها، مايتا شخصيةٌ حقيقيةٌ (افتراضاً) قادت تمرّداً ثورياً فاشلاً في عام 1958، بمعيّة بعض المتطرّفين اليساريين، المنتمين إلى حزب العمال الثوري (التروتسكي)، الساعين إلى قيام دولةٍ اشتراكيةٍ في بلادهم. في الرواية يلتقي مايتا بملازم الشرطة باييخوس، وهو الذي حرّض مايتا على القيام بهذا الحراك الثوري، في إقليم خاوخا عاصمة البلاد الأولى.

الراوي الأول هنا، هو الكاتب ذاته، أي يدخل كشخصيةٍ رئيسةٍ في الرواية، وهذه أحد التقنيات التي يحفل بها أدب بارغاس يوسا، وهي الرواية الصادرة بنسختها الاصلية عام 1986، هو يستنطق شخصيات الرواية، ويجمع شهادات عنهم عن التباسات قصة مايتا مع التغيير الثوري الذي يزمع هذا الأخير القيام به، ومن هذه الشخصيات، شخصية خوسيفا أروسيوينيو، خالة مايتا وعرّابته، مثلاً هذا الحوار بين الكاتب واروسيوينيو " هل جرت هنا الحفلة التي تعرّف فيها مايتا على باييخوس؟ هنا بالذات – تؤكد لي السيدة اريسوينيو ذلك.." الرواية: ص13، التحقيق المفصّل عن مايتا والتحولات في حياته، شاباً وكهلاً، أثار فضول خالته وشكوكها، وهو يثير فضول القارئ أيضاً، هل هذا التقصّي حقيقةٌ أم خيال؟، بدليل صيغة إجابة الروائي، عندما تسأله الخالة..هل سيكتب سيرة حياته، فيجيبها كما ورد في الرواية" لا، ليس حياته – أجبتها وأنا أبحث عن صيغةٍ لا تسبّب لها مزيداً من البلبلة- أريد أن أكتب شيئاً مُستوحىً من حياته. ليس سيرةً وإنّما رواية. قصة حرّة، حول الحقبة، والوسط الذي عاش فيه مايتا والأشياء التي جرت في تلك السنوات": الرواية ص25 .

وهنا نسأل، هل تقصّيات الروائي حقيقيةٌ أم خيالية، هل التداول العمومي للواقعية السحرية لدى القارئ يجعل كلّ شيء مُبلبلاً، إذ بالإمكان وصفها بأنها تخييلٌ أكثر واقعيةً من الواقع. وهنا لعبة الروائي في إثارة مزيدٍ من البلبلة والتفكير التأملي لدى القارئ فيما يقرأ، حيث يتوقّف ليتساءل هل هذا واقعٌ أم خيال. يرى القارئ أنّ الحوار بين الروائي وإحدى شخصياته مثيرٌ جداً، فهي تسأله لماذا اختار مايتا للكتابة عنه، وترك شخصياتٍ شهيرةٍ في البيرو. تساؤل خالة مايتا أثار بدوره تساؤلات لدى الروائي" ألأنّه في عبثيته وتراجيديته كان السبّاق؟): ص23 . هذه التراجيكوميديا في شخصية مايتا تعكس" صورة شعاعية للتعاسة البيروية".

أرى في كلّ تعاسات البشر طرفين متناقضين، الملهاة والتراجيديا، ليس هناك شقيٌّ أو تعيسٌ لا يتهكّم عن حياته، وحيوات الناس من حوله، سعداء أو تعساء. الفكاهة السوداء ماثلةٌ في تضاعيف الرواية، من ذلك ما يقوله مايتا عن حديث باييخوس عن الثورة" لقد أمتعه سماع من يتحدّث عن الثورة كمن يتحدّث عن لعبةٍ أو مأثرةٍ رياضية": ص24، وهو توصيفٌ ثريٌّ عن الثورة، واقعي – خيالي.

ما يحدث في (قصة مايتا) قلبٌ للوقائع، وإبرازها بشكلٍ ساخر، مثلاً، عندما يقول باييخوس بأن البيرو الحقيقية موجودة في سلسلة الجبال، وليس على الشاطئ، إنها موجودة ما بين الهنود ونسور الكندوز وذرى الأنديز، كذلك ليما العاصمة، ليست الموجودة، الآن، هي الحقيقية، حين يصفها" المدينة المتأجنبة والمملّة واللابيروية": ص30 .

تنعكس طروحات باييخوس على مايتا، حيث يصف الثاني الأول بأنه سياسي نقي، السياسة لديه" مشاعر وحسب، نزقٌ أخلاقي، تمرّد، مثالية، أحلام، سخاء، صوفية" ص30 .

ولكنّ ما جرى، لاحقاً، من تطرّفٍ ثوري في أحداث خاوخا عام 1958، أدى إلى انقلاب المفاهيم، وأصبح اللاواقع هو الواقع، والمثالية السياسية تحوّلت إلى وقائع حزينةٍ تثير المرارة والسخرية معاً. والدليل على ذلك تأملات مايتا بشان الثورة، حيث هي" روتينٌ لا نهائي، وبخلٌ رصين، وإنها ألف تقشّفٍ وتقشف، وألف دناءة ودناءة، وألف وألف..." ص31 .

هناك سخريةٌ من قبل مايتا، تّجاه مثقفي بلاده" أخلاقهم تكاد لا تساوي إلا قيمة تذكرة سفرٍ بالطائرة إلى مؤتمر للشباب، أو للسلام، الخ": ص32. وعلى وتيرة التحقيق مع خالة مايتا، يجمع الروائي المشارك في الرواية تحقيقات وشهادات، تشكّل البنية الأساسية للرواية، عبر ثلاثة أزمنة؛ زمن الروائي، وزمن الرواة المُستجوبين، وزمن البطل، وبتداخل تلك الأزمنة، تتسع دائرة الرواية، لتصبح كما المتاهة اللاوقعية، وهذا ما يؤكده بارغاس يوسا، بالنص في الرواية "إنني واقعي، أحاول أن أكذّب دائماً في رواياتي وأنا أعرف السبب، إنّه أسلوبي في العمل، وأعتقد أنّها الطريقة الوحيدة لكتابة قصةٍ بالانطلاق من التاريخ": ص97. وهنا نقول إنّ الكذب، أي الخيال هو الملهاة، والصدق، أي الواقع، هو التراجيديا.

ما يريد أن يقوله بارغاس يوسا هو أنه اخترع بيرو " قياميّة"، فبوساطة خياله الفانتازي الجامح والمنضبط في الآن ذاته، يقول الروائي" اختلقت بيرو قيامية، تعيث بها الحرب والإرهاب والتدخلات الأجنبية خراباً، ولن يتعرف أحدٌ بالطبع على أيّ شيء وسيعتقد الجميع أنّها محض خيال": ص 399 . لقد أذاب بارغاس يوسا الحدود بين التاريخ واللاتاريخ، بين الواقع واللاواقع، ليزرع في كل ما قرأنا الشك المثمر، الذي يحفزنا للبحث عن تاريخ أكثر صدقية.

***

باقر صاحب - أديب وناقد عراقي

 

ان شعراء وادباء ثقافة الادب الساخر هم الحالمون بحل لغز الصراع الطبقي بين اللبراليين المنحرفين وبين المثقفين الحقيقيين الصامدين هم الذين يؤدون ضريبة التحرر وهو عنوان الاديب وموقعهُ من التغيير، باعتقادي الشخصي يكون قد حصلنا على المثقف الملتزم وهم شعراء وادباء المهجر الذين هجروا الوطن للحفاظ على الوطن، يقول الاديب الروسي مكسيم غوركي : " ان الادباء مهندسو النفوس البشرية "الذين تعرضوا لعذابات نفسية لتسلط على الروح والفكر، وربما خاض تحديات نضالية كفاحية خطيرة يسهل الطريق الى التغيير المنسشود، لذا يكون الشعر والادب في الصدارة الريادية لانهُما من انواع الفنون التحريضية والكشف والشهادة على واقعية الحدث اليومي والتاريخي، وهو بذلك يسبق العقل ويواكبهُ ويضيء لهُ الطريق ويحرسهُ من غوائل التضليل وكشف عالم المظلومية في حياة المواطن وازماته اليومية، حين نواجه حقيقة مرة ربما محبطة للتامل انهُ : لا تغيير شامل الا بالشعر والادب ! ربما هو شاعر او اديب انتحاري ذاهب الى الحرب بدون اسلحة تقليدية بيد انهُ على علمٍ مسبق بقواعد اللعبة وقادر على تفكيك شفرة الذات البشرية باشعاره الترميزية او اديب مثقف ملتزم في مدوناته الانتقادية اللاذعة  كما يبدو في سيمياء عنوان المقالة،  عبد الجبار وهبي (ابو سعيد) وجاسم المطير والشاعر الخالد احمد مطرهم البعض من  شعراء وادباء المقاومة .

ويبدو لي من خلال مطالعاتي لهذا الصنف الساخر من الادب ان الشعراء والادباء جندوا انفسهم لهذه المهمة الصعبة والمعقدة والمحفوفة بالمخاطر المرعبة ربما يواجه الموت او النفي من وجه الارض هو صاحب الكلمة الحرة الاديب المتطوع لمهمة المعارضة وكشف المظلومية ومقاتلة بسلاح افتراضي لذباحي الكلمة الحرة يتميز بانهُ متابع وقارئ نهم ومطلع لما يكتبون حولهُ مطلا من نافذة العراق ثم من نافذة الادب الخليجي فالعربي والعالمي، ومطلع جيد لعالم الروايات العربية المصرية والعالمية، اضافة الى الا طلاع على عصرنة الشاشة البيضاء السينما الصامتة والمتحركة وصاحب موهبة في رسم الكاريكاتيربتوليفة حس موسيقي مرهف لكي يجيد هندسة اللعبة الانتقادية خلال تحريك بيادق رقعة الشطرنج ليعلن خلال الاحتدام (كش ملك ---- مات !!!) فهو اقتحامي جريء يتمتع بنسبة كبيرة من الشجاعة والحكمة ولانهُ قد اتقن مفهوم الحرية وربيب المعتقلات والسجون السياسية  .

نماذج لمثقفي الادب الساخر

-الاستاذ عبد الجبار وهبي (ابو سعيد) عضو اللجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي عام 1963، كان لهُ عمودا مخصصا لمقالته اللاذعة بعنوان (كلمة اليوم) في جريدة اتحاد الشعب في ستينات القرن الماضي، وددتُ ان احصل على نسخة من جريدة اتحاد الشعب الصادرة عن لسان الحزب قبل ستين سنه بيد ان محاولاتي اليائسة مع الارشيف لم تنجح !، كانت كلمته الانتقادية سياسية وسوسيولوجية اجتماعية له القدرة الفائقة في تحويل الالم الى (بسمة) بتوليفة درامية من نقدٍ وهجاء وتهكم لتطهير النفس البشرية من الهم والقلق والاحباط والياس والتشاؤم يشطبها الكاتب المتالق ابو سعيد سراعا (ببسمة) وتسمى بالنقد الادبي بالكوميديا السوداء، وكانت (كلمة اليوم) مشوقة ومثيرة للاهتمام حتى سُئل الزعيم عبدالكريم قاسم من قبل الصحافة عن رايه بالكاتب عبد الجبار وهبي !؟ قال : رصاص راس القرية ارحم لي من عبد الجبار وهبي ابو سعيد (يقصد براس القرية تقاطع في شارع الرشيد تعرض الزعيم الى عملية اغتيال فاشلة خططها  لهُ حزب البعث العربي الاشتراكي، وكانت نهاية هذا الكاتب والمثقف الساخر الاعدام يوم 19 تموز 1963من قبل انقلابيي 8 شباط الاسود 1963.

- الكاتب الساخر البصري جاسم المطير :1934-2023 هو باحث سياسي اقتصادي وقاص وروائي عراقي من مواليد البصرة، اشتهر بمقالاته الساخرة اللاذعة الموسومة ب(مسامير جاسم مطير) وهذا نموذج واحد توفر عندي بعد البحث المضني !  :

من مسامير جاسم المطير- وزيرة الصحة العراقية نموذج الهي لا يستقيل !!!

ان معالي وزيرة الصحة العراقية الدكتورة عديله حمود قيادية في حزب الدعوة لا تعرف شيئا عن (ايزيس) ولا عن (ربة الامومة) لانها منغمسة بحب المنصب الوزاري، عويناتها متركزة ومفتوحة على الراتب والمكاسب لا شان لها بمبادئ  الشاعر الجورجي فايكومينيسكي ولا بما يسمى (اسطورة اوزوريس) كما انها لا تعرف شيئا عن حريق 12 طفل رضع في مستشفى اليرموك ببغداد، ولا تعلم ان يوم امس استقالت في السويد اصغر وزيرة سويدية عمرها 29 سنة اسمها (عايده حاج علي) من اصول يوغسلافية سبب تقديمها الاستقالة لانها رُصدتْ في الشارع العام وهي تسوق سيارتها وهي محتسية قنينة بيره، بعد فحص جهاز نسبة الكحول تبينت النسبة 20% غرمتْ 50 يورو، ولكنها قدمت (استقالتها) لانها تعتقد انها تجاوزت على القانون ينسبة 20% في 1\8\2016  .

- الشاعر احمد مطر : 1954 البصري اقتحم عالم الشعر وهو يحمل جينات التصدي للانظمة الشمولية الدكتاتورية والظواهر الاجتماعية والسياسية المعيبة، امتزجت هذه الظواهرالحياتية مع عالمهِ الشعري ليرسمها بابهى صورة وبنكهة جمالبة خاصة اضطر فيها سلوك طريق هذا النمط من المقاومة الذي هو التعبير عن الثورة والتغيير .

اخر قصيدة لاحمد مطر في الحكام العرب بعد ثورات الربيع العربي:

عندي لغز يا ثوار

يحكي عن خمسة اشرار

الاول يبدو سباك

الثاني ساقٍ في بار

الثالث يعمل مجنونا

في حوش من غير جدار

والرابع في الصورة بشرْ

لكن في الواقع بشار

اما الخامس يا للخامس !

شيءَ مختلف الاطوار

انك تعرفهُ مكار

***

عبد الجبار النوري – كاتب وباحث ادب عراقي مغترب

في تموز 2024

................

هوامش

-اطروحة الباحثة العراقية مريم الفاخري \ اساليب السخرية في ادب احمد مطر.

- الادب الساخر\ نبيل راغب، سنة النشر 2000 بيروت

في تموز 2024

بين اللامنتمي والمنتمي في مسيرته الشعرية

تعرفت عليه في مهرجان المربد في أواخر الثمانينات، في حينها أهدى لي مجموعته الشعرية (مقعد راكب غادر الباص   1987). من حينها عرفته مهاجرا ثائراً ينطبق عليه قول كولن ولسن (في كتابه اللامنتمي) بانه الانسان الذي أدرك ما تنهض عليه الحياة الانسانية من اساس واهٍ، فشعر بان الاضطراب والفوضى اللتان يسودان العالم هما أعمق تجذرا من النظام....

فمنذ مجموعته الاولى (ليس للمساء اخوة) تحسسته شاعراً يسير على حبل متدلٍ بين ضفتين - المنتمي واللامنتمي - الى الزمان والمكان، فالزمان لديه ينصهر في اللحظة التي فيها والمكان هو تلك البقعة الصغيرة الذي يقف او يجلس او يستريح فيها...

بدأ الشاعر اكتشاف ذاته من خلال اكتشافه للزمان والمكان الذي جعله يشعر بالانتماء، أنه المكان الحبلى بذكرياته الطفولية كي يختزل كينونته الانسانية الناتجة من تفاعلاتها مع الاخر الجمعية مكونة الـ (نحن).

تارة كانت محطات الباصات والقطارات مكانه والزمان لديه كان تلك اللحظة التي كانت الاعاصير تجرفه و ترميه الى تلك المحطة التي يستقر فيها... لذا كثيرا ما كان يكتب رغباته على الثلج وعلى رمل البحر محبّته...

لقد أحس الشاعر منذ خطوته الاولى أن اقتناص اللحظات الهاربة هي التي تمكنه من ايجاد معادلا نفسيا لحالات الارهاق النفسي من خلال بحثه لايجاد مكان لا يتعالى فيه الاحساس بالملل والرتابة.4260 وديع سعادة

كان يتقمص في مسيرته دور بطل هنري باربوس (الجحيم) وهو يفتش عن الوجود من خلال فتحة المفتاح في الباب او ثقب ابرة ولكنه لم يرى الا فوضى من الحشد يشتركون في هدف الوصول مسرعين الى مراكب بحار وأمواج  تسير بهم مسرعة، احدهم يريد أن يصل بركابه الى نقطة الوجود واخرى تجرفهم مع اوراق الشجر المتكدسة على سطح الماء الى الشاطئ الرملي لينصهر في اللاوجود. جميعهم يدورون في حلقة أرض اليباب (اليوت) لانهم لم يفكروا يوما ان يكونوا رموزا حسابية في معادلة الحرب التي دمرت لبنان والمنطقة، لذا فهم يرفضون تلك القيم التي حولت ربيع بلادهم الى خراب لذا كل منهم، ومن بينهم شاعرنا تأبط نعلاه ليمتشق عباب المغامرات ما دام كل شئ سينتهي الى النهاية..

كان يرى الحياة كما الحلم في مفترق الطرق فهي ليست الحقيقة، فلا طريق أمامنا الى الخارج ولا العودة الى الداخل، لذا بدأ يكتب رغباته على قالب الثلج ومحبته على البحر  حين تكسرت في يده زجاجة العالم (كما يقول في قصيدته 1VX  - ليس للمساء اخوة - 1974):

في هذه القرية

تُنسى أقحوانات المساء

مرتجفة وراء الأبواب

في هذه القرية التي تستيقظ

لتشرب المطر

انكسرت في يدي زجاجة العالم

أن عاطفته الإبداعية وتحسسه في الأثر الذي تركه اللاانتماء الى المكان، أكسبته نبضاً إبداعياً، جعلته يتحلق بها من إطارها الفوضوي الحسي اللا منتظم في حيز الطبيعة، إلى إطار فني جمالي منظم، عبر جمالية التخييل، وفضاء المتخيل الإبداعي الخلاق.

أيا ترى ما الذي جعل شاعرنا يتأرجح بين اللامنتمي و المنتمي إن  لم تكن نظرته الثاقبة الى الوجود كونه كان يرى اكثر مما تراه عيناه، فعاشت في مخيلته مئات الاسئلة جعلته يرى كل شئ وكأنه يعيش ما بعد الموت.. وكما يقول في مجموعته (المياه المياه 1983):

قطرةً قطرة

ينزل الموتى على بابي

ومركب يتوقف من أجلي تحت الشمس

وجالية فقيرة من الرعشات

تعود الى الرمل

هذا الانزياح الحياتي لم يكن الا تمردا وجوديا لا يخلو من رغبة في تأكيد الذات الخارجة عن النسق ببوصلة منكسرة تجعل صاحبها في حالة تيه وضياع.

من هنا تمظهرت ظاهرة اللامنتمي الى المكان في قصائد الشاعر وديع سعادة كشكل من أشكال التمرد على الواقع كونه كان يرى تلك النسمة التي تستحق المغامرة من أجلها، فبدأ شعره يتجه ليتقمط دلالة الذات بوصفها الفضاء الحضوري، فجاءت قصائد المجموعة وهي منحازة إلى مايشبه الهاجس اليومي فاشتغل الشاعر على أسلوب السيرذاتية فأبدع فيه. وكما في قصيدته (حياة) من مجموعته (مقعد راكب غادر الباص   1987):

وأنا ولدُ أرعن راكب دراجة

يهرِّب زنزاناته في الليل

يمشي مخمورا

حاملاً رجلاً مجنوناً منذ الصباح على ذراعه

ذاهباً نحو مسحّ

محتفظاً من كل ماضيه بـ: أحشاء

ومفتاح

لا يجد له بيتا

الرحلة وضعته هنا

ان الانسان الذي تسوقه الهجرة يصادف في حياته الاوهام والرغبات فهو لا شئ سوى ذلك الحبل الذي تحول جسرا يفصل بين المنتمي واللامنتمي بين الوجود واللاوجود بين الحنين الى مهد طفولته او البقاء متدليا في وسط حبله... فتحسس الشاعر أهمية المكان كونه من أكثر العناصر أهمية في تشكيل جمالية نصه الشعري فارتبط به ارتباطًا وثيقًا منذ ولادته الأولى، مروراً بشبابه وحتى اللحظة، حيث أصبح المكان هاجسا لا يمكنه الانفصال عنه فبدأ يبحث عنه كي تتجسد على أرضهِ معالم شخصيته التي ارتسمتْ خطوط البدايات الأولى لتجربته الأدبية. 

ففي مجموعته (بسبب غيمة على الارجح   1992) بدأ الشاعر ينشطر بين حنينه وذكرياته  في بيته الدافئ مع عائلته وهو يقص لاطفاله الحكايات وبين مشقات الطريق، فتارة تقذفه الرياح وفي الاخرى تقذفه أعاصير البحار كما يقول في قصيدته الظلال من المجموعة نفسها حيث يتجسد خيال الشاعر في حركة قطرات الماء التي تنحدر من سفوح الجبال نحو ساقية تجرف معها آماله وطموحاته وأبتسامات الصغار فتبعثرت وتشتت فكيف له أن يجمع أوصالها ليبث فيها الحياة إن كان لا يجدها حتى من خلال  ثقب ابرة:

زحلوا حتى وصلوا

الى الماء منهكين

وفوقهم كانت الشمس تبحث عن إبرة

لتعيد وصلهم بالظلال

أن القيمة الجمالية لفضاء المتخيل الشعري تبدو في هذه الإسقاطات الجمالية على الشخصية والأحداث، والرؤى الشعرية، فلا تزال قصائده منحازة إلى مايشبه الهاجس اليومي ولا يزال يعيش ويزاوج بيته الريفي اينما ذهب يتخيله معه يسكنه ويلامسه إلا أنه هل يستطيع ذلك البيت أن يرمم جراحه ويعيد النصاب الى ما عليه؟؟؟.

بعد تجربته الشعرية هذه دخلت الصورة مرحلة أخرى، فما عادت إحساساً أو إدراكاً للمكان المشبع بذكريات الطفولة ومأساة الحرب وفقدانه لمن كانت سرته مرتبطة بسرتهم بل أصبحت تجسد الاشياء التي يصادفها في رحلته الطويلة في الوقت الذي لا يزال يعيش الفراق والزوال وخاصة حين فارقت امه الحياة:

نادوها من سطيحاتهم، نادوها من الحقول

لم يسمعوا صوتها

وحين جاؤوا

كانت نقطةُ ماءٍ لا تزال

ترشَحُ من يدها وتزحف

الى الحبقة

وبعدها عاش فراق والده:

لم يقل شيئاً قبل أن تحول

وجهه غابةً

فقط شجرات قليلة منها صارت بيضاء

حين الثلج على الجبل المقابل كان يرحل

وشجرات مدّت جذورها وطلع

دغلٌ صغير من ترابه

حاول الشاعر في محطته هذه تجسيد الحقائق النفسية والشعورية والذهنية التى يريد  أن يطرحها، من خلال تجربته الغنية ورؤيته المعمقة للزمان والمكان على نحو مغاير، حيث انتقل من المشهد الحسي للصورة إلى العلاقات التي يفرزها الواقع النفسى والشعورى للفراق فتشكلت الصورة الشعرية لديه من الخيال الممزوج بالحدس وقام  بشحنها بدلالات جديدة. فالخيال لديه هو الطريق الاقصر للكشف والفيض عن أناه وهو يتساءل ما الذي يبقيه العيش في هذا المكان لا شئ الا الرحيل:

لمس باب البيت وخرج

تاركا على القفل بعض أنفاسه

رآهما ينظران اليه:

القفلُ الذي كان يحبسُ وراءه عواء الليل

والباب الذي كان الصباح

يطلع من شقوقه

رآهما يتحلّلان ويعودان

يباساً على الطريق وكتلة صدئة

وراء الحيطان ترجع الى الجبال

أحجاراً وحيدةً وحزينة

وفي مجموعته (محاولة وصل ضفتين بصوت 1997) بدأ الشاعر ترتيب أوراق ذكرياته من جديد وهو يتأمل مسيرته مجتراً لكل ما شاهده وعاناه من ارهاصات وضعته أمام مجازات شعرية قابلة للتأويل والتشظي ولكل منها لها زمنها التوليدي في التخيل والتخييل،لمعرفة الذات  فاقتران" الرؤيا" بالصورة الشعرية يتم بالتخييل وهي أكمل حالات الانفعال الطبيعي لما للخيال عنصر جمالي بارز في تفعيل المنتجات الفنية عموماً. ففي قصيدته (غيوم):

الذين جرفتهم المياه الى الوادي

ارتفعوا غيوماً

لم يمطروا

إلا أن ذكرياتهم (قصيدته نزهة ذاك اليوم) لا تزال تلازم المكان المتجسد في مخيلته لذا تراه لا يزال يرى طبع أصابعه على قفل الباب وآثار أقدامه على الرصيف وفوق الاسفلت طبقة من جلده والمكان لا يزال مهجورا، ولا يزال الربيع في خبر كان... كل هذت دفعته لافراز متخيلات جمالية في قوالب فنية جذابة وآسرة جمالياً؛ إلا أنه لا يزال يحتفظ بأسرار الحياة التي تلقفها وهو في طريقه الى اللاعودة وكما يقول في قصيدته (الطريق):

سلمتنا المياه أسرارها أخيراً

لكننا كنا على حافة الشلال

فانحدرنا رذاذاً

مرسلين للنباتات نعومة سقوطنا

حركة الصورة بدأت لديه من تجربته الاولى ثم تسامت في الأعالي، وغاصت في أعماقه لتعبر من الثبات إلى الحركة، من اللامكان الى المكان ومن المحدود إلى اللا محدود.. فزاد من كثافتها وإيحاءاتها الشعرية للموقف والحدث الشعري وأصبح الماء الذي تزاوج مع أنفاس وذكريات من غرقوا فيه أو من جازفوا بالعبور من خلاله، المحور الذي تتركز حوله أو تلتف صوره الشعرية في أغلب قصائده، أصبح المرآة التي تعكس صورة الموت في ذهنه فتحولها مخيلته الى صور ناطقة... ولما لا يكون الماء المحور إن كان هو نسمة الحياة وهو البداية.

إن شعرية المتخيل لديه مكنته من رصد شبكات من العلاقات، بين المكان وذات الشاعر وكينونته فتجسدت اللامنتمية في شخصيته أكثر من خلال قصيدته الجميلة والتي أبدع الشاعر في صورها (استعادة شخص ذائب) وهو يرى كيف تحول الانسان الى قطرة ماء وذاب في البحر، فهذا يعني لا زمان له ولا مكان. في الوقت الذي يعي ان المكان هو الذي يمنح الانسان الإحساس بالانتماء والوجود ويوقظ شعور الحنين في نفسه كلما داخله شعور بالاغتراب والمفارقة.

هذه البحيرة ليست ماء. كانت شخصاً تحدثتُ اليه طويلاً ثم ذاب!

ولا أحاول الان النظر الى ماء بل استعادة شخص ذائب

كيف يصير الناس هكذا بحيرات، يعلوها ورق الشجر والطحلب؟!

قطرة قطرة ينزل الموتى على بابي

ومركب يتوقف من أجلي تحت الشمس

وجالية فقيرة من الرعشات تعود الى الرمل

لم أرتجف. لكني جننت. الماء بارد لكني لم أرتجف. فقط ارتعشت قليلاً. ثم جننت.

يُعد المكان الذي يشهد فيه الشاعر بدايات طفولته الأولى الأكثرَ حضورًا في قاموسه الشعري ؛ لكونه أحد أبرز المكونات اللاشعورية في عقل الشاعر، بوصفه المكان الأثير لدى النفس، ومن هنا نلمح التفاعل مع بنية هذا المكان (البحر) أكثر انفعالًا واستدعاءً من الأمكنة الأخرى في منجزه الشعري.

حاول الشاعر ومنذ مجموعته هذه إنتاج ذاكرة إبداعية مفارقة، ليس من خلال نفى الذاكرة السلفية، بل من خلال التعايش مع الحتمي... لذا تحولت الصورة لديه من نتاج المخيلة إلى المشهدية الناتجة من الانطباع المباشر تجاه الأشياء.

أن تدفق الصور والأفكار عبر نسغ قصيدته هذه تجسد لنا شاعريته والتي تكمن في تشكيلة من التكوينات البصرية والتي رسمها الموت في حياته لذا تكررت لديه عبارة (ينزل الموتى على بابي) هذه الصورة التي تتقاطع خطوطها مجسدة لنا صورة الغائب الذي لا يزال الشاعر يتشبث في لملمتها ورتق جراحها من خلال استرجاعات زمنية تمزج بين الصورة البصرية والصورة الشعرية.

أن قوى التخيل لديه مكنته من الاستجابة لقوة الحدث، وشدة تأثيره على وجدانه فأنتج صورا شعرية غير خاضعة لسلطة العقل بل للخيال فأسهمت  في تفجر قاع النفس المعتمة.

وفي قصيدته (في النفق... في العظمة) تتجسد النهاية أمام عينيه لتبدأ الحياة من جديد وكما قالها أليوت (في نهايتي تكمن بدايتي) هكذا أحسها الشاعر وديع سعادة حين رأى الرياح تقترب من الجدار والوقت قد تفتق وبقي معلقا بقطب واحد وهو ينتظر السقوط.

إلا أن الشاعر لم ييأس كونه يعرف مثلما لكل بداية نهاية سيكون لكل نهاية بداية:

(تبدأ الحياة في اليوم الأخير

الأيام كثيرة، لكن الحياة قليلة. تتأجل من يوم الى يوم.... وهكذا تبدأ الحياة فقط حين انتهائها)

الا أن الشاعر في مجموعته الشعرية (نص الغياب 1999) يقف من جديد في مفترق الطريق ولكن في هذه الحالة الطريق ما بين مزاولة الانتماء والوجود من خلال الكتابة أو من عدمها فيتساءل مع نفسه:

هل أقول الوداع للكتابة؟

أقول الوداع

حوار الكتابة حوار الصمت. زمن الكتابة زمن الغياب. مكان الكتابة عدم المكان

لا حياة بالكلمات

بعد هذه التجربة الغنية بالمغامرات والعطاء اخذ التشكيل النصي للقصيدة لدى الشاعر وديع هو ما يجعل من صوره ومتخيله الشعري أساساً لما يعايشه للغور تجاه مناطق الإيجاز والتكثيف والرؤى والإيحاء والانتقال من المتخيل الجمالي الى الشعري، لقد أفرزت مسيرته كم هائل من الصور المتتشظية والمتتناثرة على شكل مشاهدات من خلال ربطها ووضعها داخل إطار حسي ترتبط فيما بينها بخيط ذهني داخل اللوحة الواحدة لتتحول هذه الصور الجزئية إلى صورة فسيفسائية جميلة تامة ومتكاملة.

وفي مجموعته (رتق الهواء 2006) بدأ يقترب من الانتماء الى المنتمي (المكان)، ففي قصيدته (حين أراد القاعد أن يمشي) تيقن الشاعر عليه أن يحول حلمه الى حقيقة عليه أن يقتل حلمه ليستعيد المكان كي ينتمي اليه من جديد لذا عليه أن يزاوج المكان لينال من الزمان حصته فيقول:

يركض من مكان الى مكان صافقاً هنا وهناك

يقتل ذبابة فتنبت فراشة

يقتل فراشة فينبت طير

قذفه حلمه في الريح

كان جالساً فأراد مشيا

وضاع

حلم المسافات

الشاعر تقمط طفولته ليصنع من مكعباته عالما جديدا، إلا أنه يريد أن ينقل ماء البحيرة من خلال ملعقة كوبه الصغيرة فتقمط (فان كوخ) ليقول لنا أنا أدرك الكون بواسطة الشعور لا العقل.. فشعوره باللاإنتماء الى الزمكان أفرز لديه نوعا متخيلاً من الانتعاش من خلال تجمع الانطباعات الحسية في مخيلته فبقي قريبا من فطرته وأصبح ميالاً الى التحسس وازدادت الحياة لديه عمقا بحيث يستطيع أن يصنع أشياءً غير ملموسة من خلال التأمل والكفاح الذهني وأيمانه بأن الحياة يجب أن تستمر  والعودة الى الذات من جديد.

إلا انه في مجموعته (تركيب آخر لحياة وديع سعادة 2006) بدأ بترتيب نفسه ويكون قد اجتاز ضفة اللامنتمي وحل في ضفة المنتمي فأصبح يتحسس المكان فهذا يعني هناك زمان، لذا حين أعاد ترتيب اوراقه واعضاء جسمه وجد نفسه يشتغل على الفضاء الواسع كما الخيال، زاوج جسمه مع نسيم الفضاء ليكون قادرا على التكيف في المكان الجديد (المهجر) بعد أن تيقن ان العودة الى مهد الطفولة يكتنفه المستحيل فيقول في قصيدته (كائنات أخرى):

الفضاء الذي روض نفسه بالفراغ

خلق طيوره

والارض التي حدّقت طويلاً في يبابها حتى خلقت أشجارها

تؤوي طيور فضائه

ومن ثم يقول:

عابرون بلا شكل ولا ظل

وإن أرادوا إقامة

ففي نفسه ثقوب

تكفي

لسكناهم النحيلة

فلا تزال لديه طاقة إبداعية لها إمكانية الخلق، وإعادة صهر دلالة العلامات الفنية التي يراها والتي عليها أنْ تستمر، حتى يتبلور لديه نسقاً رمزياً لا تتوانى عن الانفجارِ في وجه الحقائق المألوفة.

لقد كان المتخيل الجمالي لديه بؤرة حراك للأحداث والمواقف والمشاهد التي صادفته في ترحاله مع المكان والاصدقاء فكان بؤرة حراك الأحداث وفواعلها الرؤيوية تتمثل في المشاهد التي كانت مخيلته ترسمها له.

ظن كل شئ بدا اليه في مكانه يسهل عليه ترتيبه إلا أنه بعد هذه الجولة الطويلة وهذا الصراع المرير من أجل الوصول الى ضفة المنتمي وجد نفسه في قصيدته (مثل الظنون):

ظنّ التراب غيما

سقط ويبس

محتفظاً من الفضاء بلهاث ناس كانوا يعبرون

في صحارى حارقة

ظن الشجر أيادي دفنت تحت التراب

في حروب قديمة

ظن وظن ولكن يبدوا ان الوقت كان قد فات فما عليه إلا أن:

قال سأزرع نباتاً جديدا

لا يحتاج الى تراب ولا الى ماء

دخل في خياله وزرع ظلاً

ومذ ذاك وهو ينام

في ظل خيال

بدت الصورة الشعرية لديه كتجل من تجليات طاقة الخيال. بالخـيال يستطيع إعاد ترتيب وخلق معاني ودلالات جديدة للمكان، وخياله يعانق عوالم جديدة لها علاقة موضوعية بالنشاط الوجداني فحاول القبض على خيوط بعض دوائر حقيقة هذا الوجود الذي أراد صنعه في مخيلته الغائرة وحيث لا يمكن البتة لعقله أن يتلمسها ويقبض عليها لان شدة الخيال لديه مكنه من السفر في تخوم اعتمد كل الاعتماد على البصيرة والحدس حتى يدنو من الحقيقة.

فجمال الألفاظ لديه لا يكمن في ذاتها بقدر ما تكمن في اتساقها وخلقها عوالم دلالية تخييلية لها القدرة على صوغ فضاءات تخييلية بين عناصر متقاربة،فاستطاع بممارسته النصية أن يشيد وجوداً جديدا للطيور والاشجار والتراب والغيوم...

وفي خطوة لاحقة حاول أن يعيد ترتيب جسمه في قصيدته (قال.. أيضا):

خلع يداً ووضع مكانها زهرة

خلع عينا ووضع مكانها ثمرة

خلع قدما ووضع مكانها شجرة

خلع فماً، أذناً، قلباً، رئة...

ومشى في حديقته الجديدة

يبحث عن نفسه

ولا يجدها

ما يحمله الشاعر من رؤية تخييلية متوهجة ؛ جعله يرتقى بمتخيلاته الشعرية آفاقاً من الحراك الرؤيوي الجمالي الذي يضمن عمق التأثير، وبلاغة الرؤيا، من خلال عوالم مبتكرة وظفها الشاعر

فما كان منه الا أن يقف في مفترق طريق العمر ليتذكر حياته وما عليه الا أن يعيد ذاكرته يوم تحول الى طير وترك في كل بقعة حل فيها ذكرى...

بعد هذه الجولة في فضاء الخيال الرحب أعاد تشغيل آليات البناء في الذهن من أجل انجاز صورة شعرية تدهش المتلقي وتؤثر فيه فجاءت الصورة الشعرية محاولة تكثيف عاطفي ووجداني للتجربة الوجودية بلغة إيحائية.

ففي مجموعته (من أخذ النظرة التي تركتها أمام الباب – 2011) حاول الشاعر تشغيل ذاكرته ليرى ذكرياته تمر من أمام عينيه على شكل فلم سينمائي كون العلاقة بين الشاعر والمكان علاقة تلازمية حميمية تخضع للتجربة الشعرية التي يمر بها الشاعر ؛ ليكون المكان فيها حاضرًا ومألوفًا لديه، وله خاصية مميزة، ونصيب وافر من الاهتمام يجعل حضوره طاغيا في المنجز الشعري للشاعر.

يحا ول الشاعر تجسيد الحدث من خلال ادراكه للعلاقات القائمة بينه وبين الصورة التي تفرزها له رؤيته لما تحتمله من معنى بشكل مباشر، وفقا لذاتية الشاعر كـرد فعـل معـادل لدواخله وبأثر تجربته الذاتية. كما ان التعبير عما هو ظاهر من قلق يكشف عن ما هو مضمر وبما يكشفه من انفعال وتوتر قائم على سطح الصورة يوازي علاقاته مع الحدث.

ففي قصيدته (بقليل من الحطب بقليل من الدخان):

بقليل من الحطب المتبقي في قلبي

أشعل سيجارة

وأرى في دخانها رفاقي

الذين ماتوا سكارى على الطرقات

وفي مكان اخر يقول:

أيضا رأيت شجرا تضربه الرياح ويسقط

شجراً في العروق

شجراً في الدم

رأيت أصابع تحاول أن تصير غصوناً

وتهوي

وعيونا تريد أن تصير ثماراً

للعابرين وللطيور

أن القيمة الجمالية للمتخيلات الشعرية في مجموعته الشعرية (من أخذ النظرة التي تركتها أمام الباب) ترتكز على قوة المثير الجمالي الذي عكسه الحدث في أناه الداخلية، فافرزت لديه كثافة الرؤية، والقيمة الحداثية لفضاء المتخيلات، ورؤاها المحركة لدلالاتها وتأويلاتها.

من خلال تجربته الشعرية هذه استطاع الشاعر أن يخلق من الخيال ومن نتاج تجربة عاشها ممزوجة بالمآسي بعد أن استفزه الواقع ليتقمط اللامنتمي الى المكان فرسم لنا خياله واقعاً مرّ به الشاعر لا يتلمسه الا من كان له خيالا فاعلا في رسم الصور المجازية.

هذا الخيال الواسعُ اللاملموس وبلا واقعٍ يقفُ عليه الشاعر ليعطي للمتخيل الجمالي قيمته المثلى في الكشف عن خصوبته الشعرية، للسير في طريقه لتشكيله النصي، ليثير تلك الحساسية الشعرية، القادرة على دغدغة (أنانا) وتحقق متغيرها التخييلي الجمالي الخلاق، الذي يتأسس على سعة الأفق، وعمق التأمل، وسحر الرؤيا الوهاجة.

وفي مجموعته (قل للعابر أن يعود نسي هنا ظله 2012).

فإن المتخيل الشعري يفتح مداليل الجملة الشعرية، لتخلق تصورها، وإبداعها بالتئامها بالنسق اللغوي التشكيلي المناسب. إذ أن الإدراك الجمالي للواقع يثمر معرفة جمالية بهذا الواقع. ومن هنا، تصير علاقة المتخيل بالواقع علاقة جمالية، وتصير وظيفة الفن أو الأدب هي الوصول إلى حالة من التناغم والانسجام.

الشاعر في تجربته هذه يحاول رؤية الأشياء رؤية صوفية للوصول لحالة من الكشف والرؤى المختلفة للأشياء التي جردها من شكلها المادي لتكون قادرة على القفز فوق الزمان والمكان بعد أن حولها الى أشكال قادرة للتكيف فى تناغمها أو تنافرها أو فوضاها ليرينا العالم كما هو فى حقيقته التى قد لا نراه نحن.

يتذكر اصدقائه الذين كانوا معه يقاسمونه الوجود واللاانتماء في قصيدته (المقعد):

هناك ايضا فوق من يمشي ولا مقعد له

ولكن من هم هؤلاء الذين طلعوا من ماء ويمشون فوق ؟ لا شك بينهم أنفاس غرقى

الأثرُ الجمالي لدى الشاعر وديع يتجسد كونه أثراً متخيلاً، فإنَّه يتركُ وجودَّه على صعيد الصور التي تفرزها وتجسدها مخيلته من خلال أفعاله الدلالية بطرائق تشكيلية. فانغمست صوره في الخيال القادر على تحريك مشاعر المتلقي من خلال الربط بين الدال والمدلول فصوره لا تتوقف عن توليد الدلالات داخل فضاء الصورة فأفرزت تجربته الشعرية زخماً عميقاً من الدالات. ومن هذا المنظور، فإن ما يعزز شعرية المتخيل بداعة النسق الوصفي، وحيازته التصويرية المراوغة من جهة، وارتياده فضاءات رؤيوية غير مدركة من جهة ثانية؛ مما يعني أن ثمة اشتغالاً إبداعياً على نسق التمفصل المثير، الذي يرفع وتيرة النسق حرارة وجمالاً نصياً. ولكنه لا يزال يراهم، يتحسسهم وكما يقول في قصيدته (العيون أيضا):

نظر ولم يرَ رحماً

نظر، ولم يرَ.

كأنه كان هو العابرين.

ومثلهم لم يعرف الى أين تذهب نظرته

انهم لم يموتوا لا يزالون أحياء (الذي غرق):

الذي غرق في الماء صار سحابة

ثم نزل قطرةً قطرة

والسابحون في البحر يسبحون فيه

 ولعل هذه الانفعالية الواضحة، حملت الشاعر على اختيار مفرداته القادرة على استيعاب طاقاته الانفعالية، بما يثير المتلقي، وبمعنى آخر تصدمه بما تحمله من شحنة توترية، يقوم اساسها على محورين: محور الذات الشاعرة، المتأثرة، ومحور الموضوع، والعلاقة القائمة بينهما، التي اما ان تكون علاقة تنافر وخصام، واما ان تكون علاقة توافق وانسجام.

وقد تعمد الشاعر الى اسلوب الانزياح؛ ليعمق من مسافة التوتر، واللامألوف بين مفردات اللغة، منتجا علاقات جديدة ذات طبيعة حزينة، تحمل معاناة الشاعر، واحزانه المتصاعدة. ففي قصيدته (الذي مات ولم ير الغزالة) يقول:

انتظر الغزالة ستين عاماً على النبع

أراد فقط أن يراها

هذه التي جالت طويلاً في خياله ورَعَت

عشب رأسه

وفي قصيدته (كان):

كان بودي أن أكتب أغنية

أن أجد كلمات

تقتل الضجر

ان روحه هائمة في أفق القصيدة يعرضها كما هي وان فضائه الشعري زمن مطلق تنساب اللغة فيه كالنهر، لغة تكوينية متدفقة كالموجات تنبثق الأفكار من خلالها، تتحول من لغة صوفية الى لغة مرئية تتشكل أحيانا كالحلم يحاول الشاعر ان يجسده بالكلمات فهو رهين لحظته الشعرية.

وفي مجموعته الاخيرة من المجموعة الكاملة (ريش في الريح  2014)  والتي أعتبرها محطة استراحة يعود ليحاور الأنا المتألمة ويعزيها في هذا الآخر ويرسل عبر صوره المتباينة آهات الشجون وغصص الرزايا فيقول للقارئ:

ايها الناظرون الى السماء

أنظروا جيدا تروها خاوية

وكذلك:

الغصون التي تهزها الريح لا تكون ترتجف

بل هي تلوح

للغصن الاخرى

وفي الختام:

في مجاميعه الشعرية هذه وعلى مدى أكثر من 30 سنة (1983-2014 ) أبدع الشاعر من خلالها في انتاج صور ورؤى تجسد المراحل التي اجتازها جعلنا نحسّه ساردا ليوميات عاشها بعد أن نفح فيها من روحه شعريتها، فقد انتقل من النص الوجداني المعبر عن تبرمه من الحاضر إلى نداء اعتمد تتابعا للأحداث، فتغيرت مستويات الأداء الشعري تبعا لمضامينها المتباينة لتبحث عن الأنا التائهة وتواسيها بأسلوب جميل وكلمات موحية يعلو وينخفض الإيقاع معها حسب الحاجة السيكولوجية المفسرة لقهر الذات وحجم العواطف.

الشاعر في رحلته الطويلة عبر ذاكرة احتفظت بالعديد من الصور الممزوجة بالحلم والناتجة بفعل الحدس والطاقة الكامنة في داخله، ولدت عنده قصيدة جامعة بين عروقها ما انصهر من المتناقضات التي صادفته في مزيج واحد الحسي والمجرد، ليُعبّر من خلالها عن قلق الذات الفردية، وذلك من خلال حركة الشاعر النفسية، ومدى تفاعله الداخلي مع صورة تترك لدى القارئ تخييلاً تصورياً تقوم مخيلتنا بإعادة تشكيلها من جديد.

تارة كان يتقمط الغنائية وفي الاخرى كان ساردا لحياته، تارة كان يتقمط النص الشعري وفي الاخرى كان النص المفتوح هو الذي يتقمطه.

ان شعرية القصيدة لدى الشاعر وديع كان اعتمادها على كثافة الحدث ورد فعله تجاهه، فكان لشعرية المتخيل الجمالي دوره في رسم الصورة، وإكسابها قيمة جمالية وسعة تخيلية.

لقد أبدع شاعرنا في اضفاء لمسته الإبداعية التخييلية على صوره الخاصة فاستطاع وبعد جولة من النتاجات ان يحرك الأشياء، ويخلقها من جديد، ليبعث فيها نبض الحياة؛ ممثلة بروح الفن وجوهره الأصيل. فجاءت قصائده مرايا عاكسةً لوقائع الماضي التالد، والحاضر الراهن، واستشراف الغد المستقبلي الآتي...

***

نزار حنا الديراني

الشخوص الرواة بين ذاتية الحكي وجمالية التوظيف

توطئة: في حقيقة الأمر أن العلاقة بين السارد والمؤلف هي علاقة ترابطية ﻻ تنفصل في أي مظهر من مظاهر الإنشاء والتركيب والتنصيص، ذلك دون النظر إلى موقع السارد في أحداث النص، أو رؤيته السردية، وهذا الترابط ينتفي مع إلغاء صوت ودور (المؤلف الجاد ؟) ومحوه من النص، خصوصا إذا كانت طبيعية الارتباط تعتمد جملة من الأصوات الحاكية التي تتموقع داخل أوضاعية بنائية خاصة مشتملة على صوت وحاﻻت الشخصية ذاتها وبذاتها. وعلى ضوء هذه الجدلية واجهتنا رواية (الرقص على إيقاعات الغياب) للقاص الروائي عادل المعموري، لتشكل لنا محاورها الشخوصية المركزة ارتباطا علائقيا بذاتها وبالنسيج التشاركي الذي تتموضع في حيزه الأفعال السردية في الرواية، لذا بدت وكأنها فضاءات مستقلة في معجم المحورية والتمحور الفضائية في أحوال النص وتمفصلاته البنائية والاسلوبية، أي إنها عوالم تختص بسرد وقائعها الأدوارية في مساحة تشاركية مركزة من ثنائية (المسرود الذاتي = المسرود العرضي) وﻻ تختلف القيمة الدورية للشخصية في الإرتباط والتواصل مع طبيعة العلاقات المتوازية من حراك الشخصيات المحورية الأخرى، بل إنها توظف محكيها اقترانا بمصاحبات رؤية وموقع السارد المشارك الذي يحث صوته وفعله بموازاة عملية تقارب (الحكي ضمن دائرة المحكي العام ؟) كما وتمارس هذه الشخصيات دورها وسلطتها في بناء دائرة منظورية متكونه من مجموعة علاقات حافزية ومحفزة، تأخذ لها من حيثيات السردي والمحكي ارتباطا تناوبيا في موقع ما، إلى آخر من وحدة الطالع الشخوصي، لذا ﻻ اختلاف بين المواقع الشخوصية الحاكية في محور سردها إلا من ناحية اختلاف الأوضاع والصفات والدور ورؤية السارد الشخوصي في الحكي المناط بدوره توظيفا وتبئيرا ومجاورة في الرؤية من خارج الذات العاملة إلى حاكمية مكوناتها وكوامنها في الداخل الشخوصي.

- حوارية المسرود الذاتي ووقائع المنظور المبأرة .

١- المؤلف الضمني ومسارات العلاقة الضمنية:

يرى بعض نقاد السرديات ان المؤلف يمارس سلطته في بناء النص وتكوين علاقة جوانية أو نسبية في مرحلة محددة في الدور السردي، كأن يكون هو ذلك الضمير الغيابي الموظف بديلا عن ذلك الأب المهاجر أو ذلك الشقيق المفقود من إحصائية الحياة والموت، عموما يوظف (المؤلف الضمني)كأداة من أدوات الحكي والاستجابة التي يتطلبها مدار السرد،كحال الشخصية جميلة في هذه الوحدات: (يأتيني صوته كالعادة يخترق الجدران الباهته، يسألني في تلك العتمة وأنا أجلس وحيدة في بيتي: -- جميلة أما زلت تنتظرين قميص يوسف ؟ -- ربما يعقوب يعلم بعودة أحبائه بطريقة الإلهام الرباني ./ص٥ الرواية) وتأخذ الرؤية الحوارية (المونولوج) اشكاﻻ مختلفة في الرؤية السردية تتحدد من خلالها إحاطة الشخصية بعوالم ذلك الصوت وعلاقته بأحداث محكيها ودوافع موقع دورها العاملي، بوصفها رؤية مشخصة ترصد وتقلب مكونات وأجزاء وقائع المتخيل بتفصيلاته ومجسداته أمام المتلقي، إذ تتجاوز حدود السارد المشارك، بمجرد ذكرها وتحاورها الداخلي مع ذلك الصوت في حدود صورته التحاورية الضمنية والعرضية أحياناً: (يقولها ويختفي، كان يزورني بين الفينة والأخرى، أحياناً يمكث عندي أياما، ينزوي في ركن من أركان بيتي الفارغ، يتناهى إلي صوته وهو يهمس لي من غرفة أخي العلوية، أسمع صوت بعثرة الكتب وحفيف الأوراق ./ ص٦ الرواية) لابد من التنويه بأن بعض المستهلات السردية في البناء الروائي، غالبا ما تكون مفعمة بذلك المسرود العرضي، حتى وإن كان في حالة من اﻻنتقالية أو الاستباقية، فالاستهلال العتباتي اعتمده المعموري ها هنا لأجل اشاعة علاقات تتصل بحواضر مرهونة بحركية الاحوال والمواقع الشخوصية الأخرى، ففي ثنايا الوحدات الحواريةو المحكية، نكتشف ثم أسماء وأدوار وخلفيات تشتمل على مؤطرات ومستويات خاصة من تمثيلات النص: (-- هذه الكتب الكثيرة لمن تدخرينها ؟ هل تظنين ان -- نبيل -- سيعود ليتصفحها من جديد ؟ ./ ص٦ الرواية) وما يرمي إليه الصوت الضمني في الوحدات، ما هو إلا (الرؤية - البؤرة) وكذا ما تشتمل عليه الأفكار والهواجس والتصورات في مكنون وجدان الشخصية جميلة من علاقة قد ﻻ تنتهي بغير استجلاب المظاهر والمحاور التعرفية في سياق الوحدات توضيحا لمنظور المرادات المقصدية وما تستلزمه من استرجاعات تصورات مضمنة ومعلنة في رؤى دينامية مقاربة أو مغتربة: (أنا لست مجنونة وﻻ ممسوسة، ولكني أملك طاقة روحانية بالتحدث مع الجن، فقد كان جدي في طفولتي يستخدمني لفتح المندل والتكلم مع الجن، هذا الجني الذي يتواجد معي أغلب الأحيان، أنا أعرفه منذ زمن قديم. / ص٦ الرواية) وباستقرائنا لحصيلة مؤهلات الشخصية جميلة، إذ نعاينها كونها فتاة مشدودة إلى واقعها المتردي، فهي تلك الفتاة التي فقدت شقيقها الأكبر في الحرب، كذلك هي الفتاة التي لم تحظ بحسن الفتيات، لذا بقيت وحتى عقدها الأربعين دون اقترانها بذلك الزوج المناسب، لذا ما كان بوسع أمها سوى تغريرها بصفقة الزواج من أبن خالتها حميد: (أمي كانت صريحة معي حد السذاجة قالت لي: - أن زواجي من - حميد - سيقرب المسافات بينها وبين أختها ويرأب الصدع القديم بين اسرتيهما. / ص١٠ ص ١١ الرواية) غير ان المسكينة جميلة لم تحيا مشاعر الزوجة بصورتها التمثيلية إلا وبعد مرور عدة أشهر من التحاق حميد للحرب: (التحق بوحدته لخدمة الاحتياط، جاءني الخبر الذي كنت اتوقعه . / ص١١ الرواية) لعل الروائي المعموري في بعض الوحدات الخاصة في مرحلة ما وراء زواج جميلة من حميد، كان أكثر تندرا في تعزيز تموجات المسرود بما يلاءم خصائص وعلامات الشخصية جميلة، فالروائي راح يغطي السرد بأقصى الأفعال المتماهية مع الاحتفاظ بصوت ووتيرة الساردة المشاركة بما يوفر لمرحلة مأزومية الذات الشخوصية مبلغاً ذرويا على مستوى كشوفات البؤرة السردية: (سكبت -طاسة - الماء خلفه بوصية من أمه كي يحفظه الرب ويعود إلينا سالما .. موضوعة -الطاسة - والماء الذي يرمى خلف الراحلين، تلك عادة دأب عليها أهلنا منذ أمد بعيد . ﻻ أدري من ابتدعها رغم عدم إيماني بها جملة وتفصيلا . بدليل أن - حسن - جارنا ذلك الشاب الأشقر الوديع . جلبوه شهيدا بعد يومين من رش الماء خلفه، وحدث ما كنت اتوقعه، رحل زوجي حميد ولم يعد،وقد أدرج اسمه مع المفقودين في الحرب . / ص١٤ الرواية) لا شك ان العلاقة بين المبئر والمبأر في حدود هذه الوحدات السردية لا تقف وقفة المشهد الخارجي، بل كونها حالة تركيزية بين (المبئر = تبئيره) جنوحا نحو دواخل تفاصيل محكية راحت تنتقل كصيغة خطاب من حاضر (المبأر - اللحظة الزمنية المنصرمة) وحتى حدود الإطار الحاضري للشخصية كصوت سردي يقوم بدور (السارد - الشخصية - المبئر) وصوﻻ إلى كونها الفاعل الذاتي الذي اتخذ من نفسه شكلا للمحفز لهذه الجملة من الاسترجاعية، لذا ينتقل الشكل السردي من فاعلية الاسترجاع إلى ممارسة فعلية في رؤية الحاضر الوقائعي للشخصية . كذلك نتعرف من خلال تفاصيل الرواية على الشخصية نبيل شقيق جميلة، بالمقابل من وجود شخصية سالمة تلك المرأة الأخاذة في حسنها وكيفية زواجها من جبار ذلك الرجل الكهل الذي يعاني من الضعف الجنسي والذي تشغل حياته مهامه في منظمة حزب البعث، في حين كان نبيلا فارا من الجيش، فيقع في عشق سالمة تلك المرأة التي تصاحب جميلة وأمها في دارهم في أغلب الأوقات، فيما كان نبيل يتخفى هاربا من الحرب في أحدى غرف الطابق العلوي من المنزل، فيقع عن طريق المصادفة في حب سالمة والهيام بجمالها الساحر، ويحدث ما يحدث من أحداث روائية لها مقبولية الذائقة والتذوق الجمالي .

- تعليق القراءة:

ﻻ يمكننا طبعاً تناول كل الأحوال النصية في رواية عادل المعموري، خصوصا وإنها تتحلى بذلك التواتر والتوتر في السياق الدرامي والنواتي،إذ يتعلق زمنها الكتابي ضمن فضاءات محكية تقع في حدود ارتباطات كل شخصية ومقامها الاحوالي الخاص في السرد والمسرود، الروائي يتعامل مع أزمنة الشخوص بتلقائية عذبة، ناهيك ما للبناء الروائي من المؤثرات والمتواليات المحكومة بالفجائية والمعمارية المتخيلة والمحتملة في ذائقة النص . لذا تكشف لنا أخيرا الرواية عن وقائع وويلات الحرب ونتائجها البائرة على حيوات الشخوص الداخلية والخارجية، لذا فهي رواية ذات صنعة فنية وجمالية وتقانية لا غبار يشوبها . ومن هنا اقول ختاما ان دﻻﻻت رواية (الرقص على إيقاعات الغياب) هي النسيج الروائي الشاهد والدال على عقود ملتبسة وممجوجة من ولادة شبح الموت والمكبوت والاصفاد التي قام بتوظيفها الروائي المعموري في سياقات حكايته الرواية المائزة في توظيفاتها وتشخيصاتها لبقايا الحياة المهجورة في رحلة الهروب من الموت والزمن المفقود في إيقاعات الانغلاق والتيه في غياهب الغياب .

***

حيدر عبد الرضا

(الأشجار تحلّق عميقاً )

يتخذ الشاعر (سعد ياسين يوسف) من أسلوب التمركز العلامي في مجموعته (الأشجار تحلّق عميقاً) الصادرة عن (دار أمل الجديدة- دمشق 2021) ممثلاً بالتركيز التكراري على موضوعة الشجرة، وتوظيف وجودها ورمزيتها وإحالتها في مختلف زوايا النظر، ومختلف المضامين الإنسانية متّخذاً منها أيضاً المرتكز الفني فضلاً عن الإشاري، فهي المرتكز الشعري الذي تتصاعد تجلّياته وإيحاءاته عبر إضمامة من النصوص، بل هي تتضافر لتشكّل ارتحالاً، وبحثاً وتأمّلاً في الحياة والطبيعة والمكان، والميثولوجيا، وتظاهرات تشرين ومناجاة الأم بوصفها الشجرة المباركة الأولى، ومناجاة الوطن والإنسان ووقائع الحياة الأخرى كالغربة ورثاء المرأة الباسلة (طوعة).

وهذه هي معالم الرؤية الشعرية المرتكزة على العلامة المركزية (الشجرة) التي ينطلق فيها الشاعر وهو يوظف ظواهر فنّية متعدّدة وصولاً إلى صياغة شعريّة تشكّل صوتاً منفرداً، وتجربة ترسم حدود مغايرتها بذكاء، واستلهام شعري يميل إلى استثمار الصورة الشعرية، والإيقاع وبراعة الاستهلال والخاتمة الدالّة وانتقاء المنظومة اللّفظية لتأسيس إرسالية تعبيرية منتجة.

لعل من الظواهر الفنية الأخرى القدرة المتجلّية في انتقاء العنوانات، وعدم الترهّل أو الملل من وجود مفردة الشجرة في معظمها بلا تكرار معيب بل إنَّ الشاعر تناول عناصر ومظاهر أخرى مرتبطة بالشجرة أو تعبّر عن مدلول موازٍ لها مثل الفسيلة والجذور والخضرة والغصن والزرع والنخل والألواح والأوراق و(اليابس والأخضر)!!، بل إن الشاعر يوسّع المدى الترميزي، إذ تتحوّل الأم إلى شجرة وإلى نخلة باسلة، وهذا المنحى يؤسس لموضوعة أنَّ الشاعر يفجّر المدى والبنية الدلالية ويجعل الشجرة تتّخذ معاني وتجلّيات رمزية وواقعية ممّا يجعل الخطاب الشعري ينفتح على طاقة التأويل وتعدّد المعنى، ولم يكن توظيف الشجرة مجرد وصف مورفولوجي محض مثل وصف الطبيعة لدى بعض الشعراء لاسيما الرومانسيون، وبذلك حقّق الشاعر انزياحاً دلالياً في الخروج من المعنى الحقيقي إلى المعنى المجازي، ومن التوصيف إلى الترميز، ومن الواقع إلى المتخيّل الرمزي واقترنت الشجرة بالمرأة بدلالة المشترك العطائي، بل إنَّ المعنى خرج إلى غرض ودلالة أخرى، حين تجسّد وجود العطاء على شكل شجاعة أسطورية أبدتها (طوعه) وهي امرأة عراقية من ناحية العلم في تكريت أنقذت عشرين شاباً عراقياً من موت حتمي على يد الدواعش وقوى الظلام والجهل وآوتهم في بيتها وقد لقّبت بهذا الاسم لشجاعتها الفائقة وموقفها الإنساني والوطني ووقوفها ضد الفكر الكهفي المتحجّر.

وكل هذه الظواهر مرتبطة بموضوعة العنوان ودلالته وبُعده السيميائي الذي ينطوي على رؤية مغايرة وتقديم صورة خارجة عن المألوف لتشكيل البعد الرمزي والتأويلي (الأشجار تحلّق عميقاً) ولم يقل (عالياً) وفقاً للسائد والمتوقع بل كسر الشاعر أفق التوقع بهذه المفارقة وخلق استجابة جديدة لتأويل جديد يسير إلى الثبات والقوة والبسالة وأنَّ الشجرة في حقيقتها المورفولوجية ترتبط بالأرض وتستند عليها وهذا سرّ قوتها وربما يحيلنا العنوان إلى تناص مع عنوان لمسرحية إسبانية (الأشجار تموت واقفة)، وهي تحمل دلالة القوّة والثبات والبسالة والإخضرار وهي مقولة رمزية وإشارية تنطبق على كثير من وقائع ومواقف الحياة.

إنَّ المعاينة النقدية والتحليلية ستكشف لنا الأبعاد الجمالية، وبعض الأساليب التي عمّقت من الأداء أو الخطاب الشعري بتنوعها ولا يخفى اهتمام الشاعر بالمكان بوصفه الفضاء المعبّر عن الأحداث والرؤى بمعناها الشعري فهو يوفّر الطقس الذي يشكّل دالّة من دوال النسق الشعري، ورسم ملامح الصورة الشعرية، ولا يمكن لأي تفرّد للصورة الشعرية أن يحدث من دون استثمار المكان بكلّ أبعاده الهندسية والوجوديّة والسايكولوجيّة،  ومن الظواهر الفنية اللافتة توافر وفاعلية الاختزال الشعري، ولم يقع الشاعر في مزالق الفائضيّة والترهل والاسترسال المخل، فالقصيدة عنده محكومة بنسق داخلي وجمالي يبتعد عن الإفاضة والإطناب .4255 سعد ياسين يوسف

تكمن دلائل الارتكاز العلامي في الانطلاق من دلالة العتبة التي وصفها الشاعر في صدارة المجموعة وهي مقولة للرمز الصوفي العربي (ابن عربي) التي يعبر فيها عن المعنى العلامي المتمركز للشجرة الذي يحوّل الكون بكلّيته إلى صورة شجرة، ممّا جعل الشجرة فضاءً كونيًّا يحمل كثيراً من نسغ الوجود والطبيعة وتزاد الموضوعة عمقاً ودلالة من خلال العلاقة المتجذرّة والمثمرة بين الإنسان وعالم الشجرة الممتد، يقول (ابن عربي): "إنّي نظرت إلى الكون وتكوينه، وإلى المكنون وتكوينه، فرأيت الكون شجرة". (المجموعة: 5)، ففي نص (محاولة ليست أخيرة) يقول الشاعر:

كلّما هممت/ بكتابة قصيدة حب/ لك غاليتي

وقفت على حافة هذا الكون/ لأنادي اشجاري

أشجار الغابات من أقصى الأرض/ إلى اقصاها لتريني

هل ثمّة شجرة تطال سموّك/ فاسميها باسمك

تتمايل في حضرتك ملايين الأشجار"(المجموعة: 22).

إنّ هذا الاقتران بين الشجرة والمرأة يمنح الدلالة عمقاً ويجعل الكون حاضنة لخضرة وأنساغ الجمال بكلّ صوره، ومعانيه، كون الشجرة هي الايقونة للجمال في الوجود الكوني، واقتران المرأة بالشجرة يجسّد البعد الكوني لهذا التلازم.

ويمكن الاستدلال على طبيعة العلاقة المنتجة بين الأشجار والانسان لاسيما أنّها تمثّل مكانة قصوى لها بين الفقراء، فالفقراء أكثر التصاقاً بها كونها تمثّل رمزاً للعطاء والأمان بلا مقابل. وفي نص (يابس وأخضر) نجد هذا التلازم أيضاً:

الأشجار وحدها/ من تكسو أرصفة الفقراء/ بالذهب

حينما يحلّ خريف البلاد/ فؤوساً وكراسي/ بقوائم...

أصلها في بطون الجياع/ وفرعها في عتمة

حزن اغاني الأمهات!!!

"دللول يا البلد يا بني دللّول". (المجموعة: 63).

عبر هذا يتجلّى التلازم بين الطبقة المسحوقة وفقرائها، وبين الشجر وهم يلتصقون به كملاذ، وتجسّد الأم هذا الحزن الذي يكابدونه وهم يصنعون من الشجرة حياة لهم ولغيرهم.

ونجد الإشارة إلى العمل وتحويل الشجرة إلى مظاهر ووسائل أخرى لكي تستمر الحياة، ويستمر عمل الفقراء مقترناً بعطاء الشجرة، وبهذا تتآصر رابطة البشر والشجر، ومن تجليات الشجرة وأثرها في حياة الإنسان حين تحوّل إلى نوع من الأمان والظل، وتتحوّل إلى مرتع للطيور وهي التي تجعل البيوت مكتظّة بالاخضرار، ويمكن تأمّل نص (أوراق من شجر شتّى..!):

"الشجرة/ التي آبت إليها الطيور/ مع غروب الشمس

ها هي تنتصب بكلّ وهج خضرتها/ بعد أن استحال البيت

الذي نشرت ظلّها عليه/ ركاما يوم منحتْهُ نصف ظلّها

وهديل الطيور/ التي علت مع الدخان..". (المجموعة: 81).

فالبيت حين تغيب الشجرة عنه يتحوّل إلى ركام والطيور تهرب إذا لم تكن هناك شجرة تحتضن أعشاشها، وهي تؤوب مع الغسق، والشمس الآفلة لتنام في أمان أخضر، فحياة الكائنات والبشر مرتبطة ارتباطاً كلّياً بعالم الشجرة التي ترمز للطبيعة الحانية، وإنّها إيقونة الوجود، ويكفي النظر إليها لمعرفة أنَّ الحياة تورق مثل الشجر.

إنّ الشاعر يقدّم صورة أخرى لجمال الشجرة وغصونها المورقة الوافرة الظلال، ويحزن للبحر الذي يفتقد إليها، فيكون موحشاً كما في نص (ما زرعته البلاد):

موحش هو البحر/ لا أشجار تصطف على شاطئه

تشير بأغصانها لموج/ لن يعود..

إلاّ بحبّات رمل التوّجس/ ولا نوارس تعلو...

وتهبط/ خارقة فراغ صمت اللّحظة/ بنشيد اصطياد اللّوعة

تلك التي أثملتنا/ ونحن نحدّق في سطور

سمائها الباردة/ من قبل أن تتلفع/ بجمر ارتعاشات ذاكرة

هي كل ما زرعته/ فينا البلاد... (المجموعة: 85- 86).

يتميز النص بوجود حركة مشهديّة لوصف البحر الموحش الخالي من الشجر، وعبر تدفّق صوري يعكس تداعيات وصخب البحر، ويحقّق الشاعر انعطافاً على مستوى الدلالة للربط بين البحر والبلاد وارتعاشات الذاكرة، عبر لغة وصور متواترة وجميلة على الرغم من مسحة الأسى والوجع، ويستوقفنا بعض التوظيف الدلالي والصوّري (نشيد اصطياد اللّوعة) وما فيها من صورة باذخة ودالّة، ونسق انزياحي، وتقديم الصورة المجازية المؤثرة بانزياحاتها اللافتة، (تلك التي أثملتنا...) جملة شعرية على تحليق تعبيري عميق الدلالة والتخييل.

فالشاعر يمتلك القدرة على تأسيس منظومة صوريّة (بيئية) أي إنّها تستثمر ملامح البيئة وعناصرها ومظاهرها وموجوداتها، ويمكن لهذا المنحى أن يؤسس لقصيدة يمكن تسميتها بـ(قصيدة البيئة) التي تعكس قدرة فنيّة للتوغل في المكان، ووصف تفاصيله والانفتاح على معانٍ ورؤى وإحالات صوريّة متعددة تمثّل ذاكرة الإنفعال بالمكان، ومرموزاته وهويته، والمعاني التي تترشّح عن وجود الإنسان فيه. وإذا كان البحر موحشاً بسبب فقدان الشجر فإنّ الوطن يتحوّل إلى خراب وعتمة، وقد اغتيل فيه الشجر، والشجر في هذا النص يمثّل المعادل الموضوعي للحياة بأسرها.

ويتميز نص (اغتيال الخضرة) بتدفّق صوري أيضاً وإشارات ودلالات تكشف عن محنة البلاد تحت سطوة وبشاعة القذائف وعويل الحرب، ويُعدُّ هذا النص من النصوص المتميزة لوصف الحرب بوصفها الخراب الذي يلتهم ويشوه البشر والشجر والحجر، وهذه التداعيات يؤشّر لها المنحى الإشاري والسيميائي للعنوان (اغتيال الخُضرة) وضمناً يشير إلى اغتيال الشجر بوصفه المظهر أو العلامة الدالّة على الحياة، وازداد المعنى جمالاً ودلالة بوجود الإشارة إلى اللّون الأخضر، وهو الدال الآخر المعبّر عن وجود الشجر كونه يجسّد وجود الحياة والبشر والجمال والبهجة والعافية، وقد برع الشاعر في الربط بين حياة الشجرة وبيئة الاخضرار وبين ضراوة وهمجيّة الحرب:

كم ربيعاً مرَّ/ بلا غيث يغسل الأشجار

في شارع دجلة؟ / يرسم شكل خطواتنا معاً/ على رصيفه/ الذي اغتالته السرفات/ وأرعبه صوت صفّارة الإنذار/ من فوق دائرة البريد

كم ربيعاً مرَّ من غير أن تلتقط/ صورة العيد الهارب من بين المقابر

وحزن الأمهات.../ كم ربيعاً قطعتْ رأسه

حماقات الحروب/ قبل أن يشرق فينا...؟ (المجموعة: 90).

ويبدو النص متماسكاً عميقاً في دلالاته، وانتقالاته وقد زاده جذباً الاستدلال الاستفهامي ووضع الألفاظ في سياق يتعمّق المعنى فيها، وكذلك براعة الشاعر وهو يقدّم صورة حزينة للشعر والنهر وموت المطر:

"بلا غيث يغسل الأشجار/ في شارع دجلة؟!"

وشارع دجلة في ميسان من المظاهر الجميلة يمتد مع النهر بأشجاره الباسقة ولكن للأسف اغتاله الجفاف والسرفات التي ترمز إلى (الاحتلال) ولم يكن في المكان نشيد الأطيار تحت سطوة صفّارة الإنذار، ويمكن الاستدلال على جمالية الصورة الشعريّة، وعمق دلالتها وتماسك عناصرها في الجملة الشعرية الآتية:

"كم ربيعاً مرّ من غير أن نلتقط صورة للعيد الهارب من بين المقابر....؟؟"

فهروب العيد وهي صورة مجازية تشخيصية مؤثّرة عمّقها التناقض الدلالي بين العيد والمقابر!! ثم اردفها كتتويج لهذا الخراب متمثّلاً بـ(حزن الأمهات)، وهي إشارة معبرّة عن فداحة الحزن عندهن، فالأمهات هنّ اللواتي يدفعن فاتورة الحرب بالحزن والانتظار والأنين والعيون الغائرة التي تنظر إلى طرقات الأبناء الذين ابتلعتهم الحروب بلا هوادة، وكم انطوت الصورة الشعريّة ومجازيتها الحاذقة التعبير على الربط بين الربيع والرب وما بينهما من تضاد وتناقض وتنافر:

"كم ربيعاً قطعت رأسه/ حماقات الحروب

قبل أن يشرق فينا...!!". (المجموعة: 90).

وتكمن جمالية النص في تعالقه مع عالم الشجرة، وهو الذي جعل الشاعر يختم النص في حضرة الشجر، ليعمّق الأثر السايكولوجي بين الشجر والحرب التي تمثّل الاغتيال الحقيقي والبشع لكلّ اخضرار وجمال يجسّد المعنى عبر سقوط الأوراق من أعالي الشجر كصورة لسقوط كلّ شيء تحت أقدام وبشاعة الحروب، ويتحول كلّ شيء إلى كتاب قديم، ومثل كسرة خبز على جدار قديم وتلك صورة بالغة التجسيد والتعبير وتحوّل كلّ شيء إلى يباس وعتمة وتلاش:

فإنّ ما مرّ/ ليس سوى ورقة تهبط ببطء

من أعالي شجرتنا/ إلى مستقرّها

في كتاب سيعلوه الغبار كثيراً/ ككسرة خبز

على جدار قديم؟!!". (المجموعة: 92).

وعبر توظيف الدال المرتبط بالشجرة يجد الشاعر المشهد المتوتر والمعبّر عن ثنائية الحياة والموت التي تجسّد صورة أو إحالة أو ايحاءً مركزياً ونسقاً مهيمناً فهو حين يصف الشجرة ونسغها، فإنه يوحي بالمعنى المضاد وهو الجفاف وانعدام الحياة، وبذلك فإنّ هذه الثنائية تتوافر على مستوى الحقيقي والمجازي والرمزي؛ أي أن هناك معنى حاضراً ومعنى غائباً، وكلاهما يحيل إلى الآخر.

وتتجلّى أبعاد أخرى ترتبط بوجود الشجرة من عناصر الجمال الأخرى إذ نجد الشاعر يميل إلى وصف كلّ أنواع الجمال والتناغم الذي يرتبط بالشجر، وهو ما يعمّق الدلالة الأيقونية المهيمنة وتداعياتها، وخلق نمط من التعالق والعلاقات بينها وبين مظاهر وإشارات وعوالم الجمال المختلفة.

ونلحظ في نص (حلول) تلك العلاقة الجماليّة بين الشجر والموسيقى، بإدراك تشفيري ضمني فالشجرة رمز للتجسيد المطلق، أمّا الموسيقى فهي علامة على التجريد المطلق، وكلاهما أيضاً يحيل على الآخر، وهذه الحركيّة التبادلية تؤسس دلالتها في ضوء المشترك الجمالي بينهما:

على غير موعد/ حفلها الموسيقي/ استيقظتْ قبل فجر التوقّع

أصوات هديل الطيور/ والعصافير.. / وهي تصطخب برأسي

المتلفّع بالغصون/ مددت يدي خارج السرير

تساقطت منها أوراق خريف/ واخضرّت أوراق أخرى..

قدماي تمتّد عميقاً/ بفصول الأرض..." (المجموعة: 93).

ويكمل الشاعر الصور الشعريّة المتوالدة بهذا المقطع المؤثر:

جناح الخضرة  / كي اتوحد بموسيقى رفيف الأجنحة

اللاتعرف  /  إلاّ التحليق  /  في أفقٍ كلّما أوغلتْ فيه

فإنّي أعانق دفء روحك..." (المجموعة: 94).

وعلى وفق المعاينة التحليلية يمكن الاستدلال على نسق الاختزال الذي يميل إليه الشاعر في خطابه الشعري، ومن خلال المقاطع الشعرية نلحظ هذه الظاهرة متجسّدة، ولم ترافق النصوص أيّة فائضية شعرية أو استرسال غير منتج.

يكتب الشاعر سعد ياسين بأسلوب (برقي) ويعتمد الجملة القصيرة والضربات السريعة على الرغم من أنّه كما يمكن استشراف ذلك يعتمد ويميل كثيراً إلى أسلوب الانتقالات والتحوّلات داخل النص، فالنص عنده بنية متصاعدة ومتحرّكة في كلّ الاتجاهات.

إنّ نص (مجرّة المجر) يرتكز على وصف تداعيات المكان متمثّلاً بمدينة (المجر) المعروفة في محافظة ميسان، ويمكن رصد أسلوب الانتقال والتحوّل في هذا النص متجسّداً بالانتقال من الواقعي إلى الميثولوجي ومن الحقيقي إلى المجازي، لكنّ النسق الصوري يبقى ثابتاً يحرّك البنية الشعرية ويزيدها عمقاً وجذباً للمتلّقي:

مذ خلق الله مجرّتها/ وأجرى على الأرض نهريها

شقّ بمرود أمّنا حواء/ عينيها فكانت مجرّة السماء

تلألأت النجوم في أعماقها/ فأضاءت مدى شاسعاً /  من سماء وماء

خزاماتٍ وأساطير ويُشن/ ترقص حوريات النور/ فوق قبابها..

من نهري عسل وحليب الجنّة../ استل عصاه المقدسة

رماها على جرفي نهريها/ وقال لها كوني.." (المجموعة: 95).

تتجلّى في النص ديناميّة الأسطرة والتعزيز بالأثر الميثولوجي، واعتمد في أسطرة المكان من آلية الإضفاء، والإنطلاق الميثولوجي، واستعارة بعض الإشارات أو المفردات القرآنية لجعل المكان مؤطّراً بنوع من التمجيد والقداسة:

"رماها على جرفي نهريها/ وقال لها: كوني" (المجموعة: 95).

واستعان بتوظيف الميثولوجيا الأنثوية ممثلة بـ(حواء): "شق بمرود أمّنا حواء" (المجموعة: 95)، وبهذه الوسائل والانتقالات استطاع الشاعر التحرّك والتحوّل من المكان الواقعي إلى المكان الميثولوجي (المؤسطر) وتشبيهه بالفردوس العالي، ولكنّ الشاعر لم يغادر تمركز خطابه الشعري حول الشجرة ومثيلاتها والإشارة إلى اللمحة الأنثوية:

ضفائر عمدّها المسك، القرنفل/ غابات يشاميغ سومر

تصهل الريح إذا ما تأزّروا بها/ للغزاة/ وهاماتٍ من نخيلٍ...

كلّما مرّ بها خائف.../ تساقط عليه رطب الأمان

حلّق في الأغنيات مع أسراب (الحِذّاف)/ المتسلّق نهر (العدل)

إلى صحن الله" (المجموعة: 96).

ويتوغل الشاعر في تفاصيل المكان وذكر أجزاء من مدينة (المجر) ونهرها وهو الصحين وغيرها من الأماكن، وأضفى على المكان سحراً وجسّده وكأنّه فردوس أرضي بدلالة أنّ الماء هو سرّ الحياة وسر الإخضرار وزهو الأشجار.

ويتخذ الشاعر من الأشجار رمزاً للثبات والكبرياء في جمالها ووقوفها سامقة تتجذّر على الرغم من تقلّبات الطبيعة والمتغيرات في نص (غصنان) وسيميائية العنوان وتنتمي إلى إشارة مرتبطة بالشجرة بدلالة الجزء على الكلّ:

"مذ كانت/ بذرة في رحم الفكرة/ أشجاري

ألهمتها أن لا تنحني للثلج/ كي لا يُقطف

وردَ الخضرة فيها/ وتضيعَ في عتمة/ البياض.." (المجموعة: 104).

نلحظ في الاستهلال التركيز على البعد الزمني، وقد أحال الفكرة إلى إرث ورسوخ، (مذ كانت)، ووصف قوّة وبسالة الشجرة لأنها ملهمة منذ القدم بأنْ لا تنحني للثلج كي لا يقطف أزهارها وثمرها، وتضيع في عتمة البياض، ويمكن ملاحظة التناقض والتضاد بين العتمة والبياض، وهذه الثنائية إيحاء بصراع الثنائيات، فالشجرة تصارع وتقارع كلّ الظروف والمتغيرات، والأنواء لكي تبقى واقفة ببسالة وهي ترتكز على جذورها الحية النابضة، ومن الظواهر الفنية في هذا الوصف والبحث عن الاكتمال الذاتي ما يحيل إلى طاقة من التأويل فقصدية الشاعر تنبئ بانزياح دلالي يشمل الشجرة، ويشمل الإنسان بوصفه يملك المشترك مع الكائنات أو النباتات التي تكافح وتبقى سامقة على الرغم من الخطوب والتحولات، وعلى وفق هذا تصبح نصوص المجموعة وهي تتمرأى وتتجسّد، وترتبط بما هو واقعي ورمزي، لكنّها ولطبيعة الطاقة التعبيريّة التي تستند إليها، تملك القدرة والخصائص للانفتاح على مساحة التأويل والترميز والايحاء، وتوافر الاستبدالية على مستوى المعاني والإحالات.

ويتمكن الشاعر من الخروج من العلامة المركزيّة، والشجرة المهيمنة إلى تداعيات وفضاءات أخرى لتنويع الأغراض والتوّجهات لكنّ النسق (الشجري) يبقى حاضراً وسائغاً في البنية الشعرية، فهو حين يصف جمالية وقدسيّة الأم يقرنها بالشجرة، وقد سمّى النص (شجرتها) وعبّر عن أنّها مصدر النماء والخضرة:

مع أوّل صرخة/ وأول إبصار للنور

كانت خضرتك تربت على صدري/ أن لا تخف

وكلما ادلهمّ ليل/ أضاءت أغصان شجرتك قناديل/ البهجة

فتنطلق الكركرات/ ناعمة بيضاء

مثل رفيف نوارس شط العمارة" (المجموعة: 106).

وليس من المتعذر اكتشاف أن الأم قد استحالت إلى شجرة مقدّسة، وهي التي منحته النور والبهجة، وربتت بالحنوّ على صدر الشاعر، بل تجاوزت كلّ المتوقع حين تنطق: "بأن لا تخف حين/ يدلهمّ اللّيل وتتوالى الأحزان.."

ويعود إلى المكان بوصفه الحاضنة التي جمعت بينه وبين الأم (الشجرة السامقة) والواهبة للعطاء على (شط العمارة)، وذكر الماء يحيل إلى العلاقة بين الخضرة والماء، والأم والأمان وتوامض جذور الحياة، حتّى يصل إلى ذروة التجلي الرؤيوي والشعري، ويرسم ملامح صورة التقديس والاحتفاء بالأم كونها النبع والجذر والشجرة الوارفة الواهبة:

"لم أكتب لك/ إلاّ الساعة بعد أن أدركتُ/ أنّ القصيدة التي

لا ترسم بريق عينيك/ يا أمّي/ صلاة باطلة

لن تبلغ السماوات..." (المجموعة: 109).

ويحشّد الشاعر مفردات الجمال ليتمكن من رسم الصورة الشعريّة بالغة التأثير، وإنّ القصيدة بوصفها الجمال لكنّها لا تكتمل إلاّ بذكر الأم، وإن لم تستطعْ رسم بريق عينيها فهي صلاة باطلة، وذلك أقصى التقديس للأم، والإحالة إلى الصلاة إشارة سيميائية لقداسة الأم بوصفها شجرة تنتمي إلى السماء، يوظف الشاعر العلامة المهيمنة متمثلّة بالشجرة في نص مؤثّر يتصدّى فيه لوصف مناخ ووقائع انتفاضة تشرين وقد وسم نصّه الشعري بعنوان (أوراق من شجرة التحرير)، إذ نلحظ الدلالة السيميائية بين مفردة الشجرة والتحرير كإشارة إلى المكان الذي شهد وقائع المواجهة والإيحاء بالمعنى الذي عبرّت عنه هذه الصورة باتّجاه الحريّة، والتصدّي للسلطة الجائرة، وشراسة عنفها وقد استهلّ النص بذكر الأشجار كرمز للحياة والثبات والبسالة، وتعرضها لأساليب القمع:

"حفيف الأشجار الذي/ أخفاه الدخان في ساحة التحرير/ صار صرخة...

حينما أدرك أنّ الهراوات/ التي انهالت على رأسه/ كانت من خشبها.." (المجموعة: 16).

تتجلّى في النص براعة لتوظيف الشجرة للشر وتحوّلها من أغصان زاهية ومعطاء إلى هراوات تلاحق الثائرين، وقد حققت الصورة الشعريّة إدانة لاستبداد، وبربريّة التسلّط الذي يشوّه الأشجار، ويحيلها إلى أداة للقمع، وليس أداة للحياة والجمال والأمان، تبقى مجموعة (الأشجار تحلّق عميقاً) تجربة شعرية فريدة وإنسانية تنتصر للجمال والتناغم وتدين القبح عبر نصوص دالّة ومنتجة للمعنى، وهي في اعتقادي تنتمي للشعر (البيئي) الذي لا يمجّد الطبيعة ويصفها إنّما يبين الشاعر أثارها في الإنسان والحيوان.

***

د. سمير الخليل

 

(قراءة في بِنية العقليَّة الاتِّباعيَّة)

أشرنا في المساق السابق إلى التخبُّط إلى أقصى اليسار للقول بعَرَبيَّة كلمات غير عَرَبيَّة، أو استدراج دوارج خالصة إلى الفصحى، الذي يذكِّرنا بتخبُّط معاكس إلى أقصى اليمين، يحاول أن ينسب كلمات عَرَبيَّة، بل قرآنيَّة، إلى لغات أخرى. ومن ذلك ما تقدَّم ذكره حول كلمة (زخرف)- التي وردت في «القرآن»، وبها سُمِّيت سُورةٌ من سُوره، هي (سُور الزُّخرف)- فجاء من زعمَ أنَّها من أصولٍ أجنبيَّة مستورَدة، وظلَّت جامدةً حتى العصر العباسي. وقلنا إنَّ (طَرَفةُ بن العَبْد)(1) قد صفع هذا المدَّعي ببيته:

أتَعرِفُ رَسمَ الدَّارِ قَفْرًا مَنازِلُهْ

كَجَفْنِ اليَمانِيْ زَخْرَفَ الوَشْيَ ماثِلُهْ

فاستعملها فعلًا مشتقًّا؛ فأين من عينيك ذياك الجمود؟! كما قال (المُرَقِّش الأكبر)(2):

تَنَزَّلْـنَ عَـنْ دَوْمٍ تَهِــفُّ مُتُـونُهُ

مُزَيَّنَـــةٍ أَكْنافُهــا (بالزَّخـارِفِ)

وقال (أَوس بن حَجَر)(3):

تَـذَكَّرَ عَيْنًـا مِـنْ غُمـازَةَ ماؤُهـا

لَهُ حَبَـبٌ تَسْتَنُّ فِيـهِ (الزَّخـارِفُ)

وقال (ثعلبة بن عمرو العَبدي)(4):

لِمَـــنْ دِمَــنٌ كَـــأَنَّهُنَّ صـَحائِفُ

قِفـارٌ خَلا مِنْهــا الكَثِيـبُ فَواحِفُ

*

فَمـا أَحْـدَثَتْ فِيهـا العُهُـودُ كَأنَّما

تَلَـعَّـبُ بِالسَّـمَّانِ فِـيهـا (الزَّخـارِفُ)

أتكفي هذه الشواهد من الشِّعر الجاهلي، أم نزيد؟!

غير أنَّ صاحبنا المدَّعي لم يسمع بكلِّ هذا الشِّعر الجاهلي؛ إذ ذهب إلى أنَّ مادَّة (زخرف) من أصولٍ غير عَرَبيَّة، ظلَّت جامدةً حتى العصر العباسي. كما زعمَ أيضًا أنَّ كلمة (سيمة) غير عَرَبيَّة؛ لأنه كذلك لم يعثر عليها في الشِّعر الجاهلي، وهو إنْ لم يعثر على لفظٍ في الشِّعر الجاهلي، فليس بعَرَبي، قولًا واحدًا، رُفعت الأقلام وجفَّت العقول!(5) ولا أدري أيَّ شِعرٍ جاهليٍّ يبحث فيه صاحبنا؟! لأنَّ (عَدِيَّ بن زيد العِبادي)(6) بدَوره سيخرج عليه ليصفعه ببيته:

بـانَ الشـَّبابُ فَمـا لَـهُ مَرْدُودُ

 وعَلَيَّ مِنْ (سِمَـةِ) الكَبِيرِ شُهُودُ

وهذا الشاعر من أقدم الشعراء في العصر الجاهلي، وليس من الإسلاميِّين، أو حتى من المخضرمين بين الجاهليَّة والإسلام. ولذا يبدو كذلك أن باحثنا المتبحِّر في تاريخ العَرَبيَّة لم يصله صوت ذلك الشاعر القديم في استعمال الكلمة، وقبل مجيء «القرآن»، بأمدٍ بعيد. ولن نشير إلى شعراء جاهليِّين آخرين أقل شهرة استعملوا تلك الكلمة، مثل (ابن زائدة التَّغْلبي)(7) القائل:

نُـقـارِعُ مِـنْ مَعَـدٍّ ما اسْتَطَـعْـنا

ونَحْمِي العِرْضَ مِنْ (سِمَةِ) الهَوانِ

أو قول (أُسَيْد بن عَنْقاء الفَزاري)(8):

غُلامٌ رَماه الله بالحُسنِ يافعـًـا،

لَهُ (سِيمِـياءٌ) لا تَشُقُّ على البَصَرْ

والكلمة، بعد هذا، على علاقة اشتقاقيَّة كُبرَى بمادَّتَي (وسم) و(سما). اللتين جاء منهما: الوسم، والاسم. يقول العَرَب: وسَمَ وَسْمًا وسِمةً، إذا أثَّر بسِمةٍ، بكَيٍّ وغيره. وتوَسَّم فيه الشيءَ: رأى فيه أَثرًا منه، وتَفَرَّسَه، من الوَسْم، والسِّمَة والعلامة. واسمُ الشيء، وسَمُه، وسِمُه، وسُمُه، وسَماهُ: علامَتُه.

-2-

على أنَّ الأمر في هذه الكلمة- كما ذكرتُ في بحثٍ لي قديمٍ في النقد الأدبي، بعنوان «الإشارة- البِنْيَة- الأثر (قراءة في «دلائل الإعجاز» في ضوء النقد الحديث)»(9)- يتعلَّق بمشترَك لفظيٍّ بين العَرَبيَّة وغيرها. ولذلك اقترحتُ في بحثي المشار إليه مصطلح «السِّيْمَوِيَّة أو عِلم السِّيْمات»، بديلًا عَرَبيًّا لمصطلح «سيميولوجيا Semiology»، أو «عِلم العلامات»، ونحوهما من المصطلحات المستعملة في الترجمات العَرَبيَّة؛ من حيث إنَّ «السِّيْمَوِيَّة» مطابقٌ عَرَبيٌّ أصيلٌ لمصطلح «سيميولوجيا»- ذي العلاقة بالكلمة الإغريقيَّة Semion- مبنًى ومعنًى. فـ«السِّيْمَوِيَّة» مأخوذةٌ من «سِيْمَة»، كما اتُّخِذت: «بِنْيَوِيَّة» من «بِنْيَة»، و«السِّيْمات»: جمع «سِيْمَة» أو «سِيْما» أو «سُوْمَة»، بمعنى علامةٍ أو «سِمَة». وقد استُخدِمت الكلمة في «القُرآن» بدِلالاتها المختلفة على أنواع العلامات، لكنَّه يشار بها إلى تلك العلامات ذات الدلالة الفارقة. وهنا تكمن ميزةٌ أخرى لمصطلح (سيما) عن غيره، كـ(علامة)، و(إشارة)، اللذين يُعجبان العَرَب والمعَرِّبين اليوم. مثل قوله تعالى: «زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ، مِنَ النِّسَاءِ، والْبَنِينَ، والْقَنَاطِيرِ المُقَنطَرَةِ، مِنَ الذَّهَبِ، والْفِضَّةِ، والخَيْلِ المُسَوَّمَةِ»، (سُورة آل عمران: الآية 14). وقوله: «لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِن طِينٍ، مُسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ»، )سُورة الذاريات: الآيتان 33- 34). وقال: «وعَلَى الأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ»، (سُورة الأعراف: الآية 46). كما قال: «سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ»، (سُورة الفتح: الآية 29).(10) حتى إنَّ عوامَّ (مِصْر) ما زالوا يقولون، مثلًا: «بين فُلان وفُلان سِيْم مُعَيَّن»، أي إشارة أو شِفرة. والمصطلَح بصيغته هذه يستقلُّ أيضًا عن إلباس المصطلحات العَرَبيَّة المستعملة الأخرى، في بعض الدراسات التطبيقيَّة، مثل: «السِّيميائيَّة Semiotic». من حيث إنَّ «السِّيميا/ السِّمياء» تُشير في تراثنا إلى ضروبٍ من الطلسمات والأعمال السِّحريَّة، تحدَّث عنها (أحمد بن علي البوني، -622هـ)، في الفصل السابع والثلاثين من كتابه «شمس المعارف الكُبرَى». قال (القرافي)(11): «السِّحر: اسم جِنسٍ لثلاثة أنواع: النوع الأوَّل: السِّيمياء، وهو عبارة عمَّا يركَّب من خواصَّ أرضيَّة...». وهو ما لا علاقة لموضوع السيمائيَّة في اصطلاح النقد الأدبي به! فأَولَى به أن يستعمل مصطلح (سِيمَويَّة)، أو (سيمائيَّة)، لا (سيميائيَّة).

عِلمًا أنْ ليست كلُّ لُغة العَرَب مذكورةً في شِعرها، بحيث يسوغ احتجاج بعضهم بهذا لأنَّه لم يعثر على كلمةٍ فيه. ولو افترضنا وصول الشِّعر العَرَبيِّ قبل الإسلام إلينا كاملًا غير منقوص؛ فإنَّ للشِّعر لُغةً منتقاة من اللُّغة في كُلِّ عصر، وله سياقاته الفنيَّة الخاصَّة. أترى لو أنَّ أحد الناس جاء اليوم وأنكر وجود بعض الكلمات في معجم التداول في عصرنا لأنَّها غير مستعملة في شِعر الشعراء- أو حتى في أدب الأدباء عمومًا- أكنتَ ستُجلسه في غير مقاعد الحَمْقَى والمغفَّلين؟! ليت شِعري، أ لأجل هذا غالى من غالى في الشكِّ في صِحَّة الشِّعر الجاهلي؟ ذلك أنَّ ثمَّة من إذا لم يجد كلمةً قرآنيَّةً في الشِّعر الجاهلي، قال، بفهاهة: إذن، هي غير عَرَبيَّة الأصل، وإذا كشفت له عن الكلمة في الشِّعر الجاهلي، قال: هذا شِعرٌ منحول، صُنع بعد الإسلام! منطقه منطق ذلك الأعرابيِّ المكابر صاحب «عنز ولو طارت!» وهذا التيَّار- المغالي في نِسبة ما جَهِل إلى غير العَرَبيَّة من الألسنة- في تنطُّعه، وجرأته على الهَرْف، كسابقه، من أولئك الذين يتعسفون في نسبة كلمة غير عَرَبيَّة إلى العَرَبيَّة. وبين الفريقين لافتة تقول: إنَّ العلاقة بين اللُّغات أمرٌ طَبَعي، ولا يتأتَّى الجزم بأصلٍ لُغويٍّ أوَّل، إلَّا بقرينةٍ عِلميَّةٍ حضاريَّة. وفيما عدا هذا فإنَّ الأشباه والنظائر شائعةٌ بين اللُّغات، كما هي الأشباه والنظائر شائعةٌ بين ملامح البَشَر.

***

أ. د. عبد الله بن أحمد الفَيفي

........................

(1) (2000)، ديوان طَرَفة بن العَبْد، شرح: الأَعلم الشَّنْتَمَري، تحقيق: دُريَّة الخطيب ولُطفي الصَّقَّال، (البحرين: دائرة الثقافة والفنون- بيروت: المؤسَّسة العَرَبيَّة للدراسات والنشر)، 126.

(2) (1998)، ديوان المُرَقِّشَين: المُرَقِّش الأكبر، عمرو بن سعد (-57ق.هـ)؛ والمُرَقِّش الأصغر، عمرو بن حرملة (-50 ق.هـ)، تحقيق: كارين صادر، (بيروت: دار صادر)، 60/ 10.

(3) (1979)، ديوان أوس بن حجَر، تحقيق: محمَّد يوسف نجم، (بيروت: دار صادر)، 69/ 36.

(4) الضَّبِّي، المفضَّل، (1979)، المفضَّليَّات، تحقيق وشرح: أحمد محمَّد شاكر وعبدالسلام محمَّد هارون، (القاهرة: دار المعارف)، 281/ 1- 2.

(5) جاء هذا في ندوة «فرانكفونيَّة»، أيديلوجيَّة غير عِلميَّة، تحدَّث فيها أحد الباحثين «المرموقين»، فقال ما قال، بكلِّ ثقة، وكأنه ذلك البحَّاثة اللُّغوي الذي جاء ليكشف للعالم عن كلمات غير عَرَبيَّة في «القرآن»، إلى درجة أنه توصَّل إلى أنَّ الكلمات العَرَبيَّة نفسها، وغير المعَرَّبة، يحوم حول عروبتها الشكُّ أيضًا. والدليل؟ ليس أكثر من أنه لم يعثر عليها في الشِّعر الجاهلي! ولأنه متبحِّر في هذا الميدان، فإنه ربما يقصد بالشِّعر الجاهلي السبع المعلَّقات، لا أكثر! وإلَّا فإنَّ ما يزعمه غير صحيح، كما بَيَّـنَّا. ولا شكَّ أنه لم يكلِّف نفسه بفتح معجم في العَرَبيَّة، أو ديوانًا في الشِّعر، قبل أن يهرف بما قال؛ لأنه لو فعل، لخجل من زعمه الذي زعم. ولست أدري أهو أوَّل القائلين بذلك؟ أم هو يردِّد قول غيره كالعادة؟ وعمومًا، لا غَرْوَ أن تسمع مثل تلك الأحكام اللُّغويَّة «الرصينة» في ندوةٍ تتطرَّق إلى لُغة «القرآن» من عَرَبٍ لغتهم حين يتحدَّثون غير عَرَبيَّة أصلًا، بل خليطٌ من العاميَّة الأفريقيَّة والفرنسيَّة المشوهة، من خلال مؤسَّسة ذات تسميةٍ ماكرة ساخرة «بلا حدود»، لا تكاد تجد فيها طرحًا محترمًا، لا بمعيار المنهاج العِلمي المتجرِّد، ولا بغيره، وإنما هو «رَدْحٌ» أيديولوجي مكرَّر، من أسماء معيَّنة مكرَّرة، ينضح من وجهة استشراقيَّة واحدة، فتعرف نتائج ما سوف يقال قبل مقدماته، وكأن الشعار المشار إليه في التسمية «الإيمانيَّة بلا حدود» ما جاء إلَّا على سبيل المثل العَرَبي، الذي ضمَّنه (ابن سهل الأندلسي) في بيت دالِّ:

هيهات لا تَخفَى علاماتُ الهوَى ::: كاد المُريبُ بأن يقول خُذوني!

(6)  (1965)، ديوان عَدِي بن زيد العِبادي، تحقيق: محمَّد جبَّار المعيبد، (بغداد: شركة دار الجمهوريَّة)، 123/ 1.

(7)  (2014)، حرب بني شيبان مع كِسرَى أنوشروان، برواية: بِشر بن مروان الأسدي، تحقيق: عارف أحمد عبدالغني، (دمشق: دار العراب/ دار نور حوران )، 95.

(8) ابن منظور، لسان العَرَب، (سوم).

(9) شارك به الباحث في (مؤتمر ‏جَرَش للنقد الأدبي، جامعة جَرَش، الأردن، 2000م). ثمَّ نُشِر في (سبتمبر 2000)، في (مجلَّة «جذور»، (النادي الأدبي الثقافي بجُدَّة)، العدد 4، المجلَّد 2، ص7- 32).

(10) ويُنظَر في دلالة هذه المادَّة اللغويَّة: ابن منظور، لسان العَرَب، (سوم)، (سما)، (وسم).

(11) (2007)، كتاب الفُروق: أنوار البُروق في أنواء الفُروق، تحقيق: مركز الدِّراسات الفقهيَّة والاقتصاديَّة: محمَّد أحمد سرَّاج وعلي جمعة محمَّد، (القاهرة: دار السلام)، 4: 1288.

 

الهجاء الهوراتي والجوفينالي والمينيبي هي ثلاثة أنواع مختلفة من الهجاء الذي كان سائدا عبر التاريخ. كل أسلوب له خصائصه الفريدة وأساليبه في انتقاد المجتمع والسياسة والطبيعة البشرية. في هذا المقال، سوف نستكشف أوجه التشابه والاختلاف بين النقد الهوراتي والجوفينالي والمينيبي.

يتميز الهجاء الهوراتي، الذي سمي على اسم الشاعر الروماني هوراس، بنبرته الخفيفة والمرحة. ويهدف إلى تسلية وترفيه الناس بدلا من إثارة الغضب أو الإساءة. غالبا ما يستخدم الهجاء الهوراتي السخرية والذكاء والمبالغة للإشارة إلى عيوب المجتمع وحماقاته. إنه شكل ألطف من الهجاء يسعى إلى استفزاز السلوكيات البشرية والأعراف بلطف والسخرية منها. الهجاء الهوراتي أكثر دقة ودقة مقارنة بالهجاء الجوفينالي والمينيبي.

على النقيض من ذلك، فإن الهجاء الجوفينالي، الذي سمي على اسم الشاعر الروماني جوفينال، أكثر قسوة ومرارة في نقده. الهجاء الجوفينالي هو شكل مباشر لا يقبل المساومة من أشكال الهجاء يهدف إلى فضح وإدانة الرذائل والظلم في المجتمع. غالبا ما يستخدم الهجاء الجوفينالي السخرية والشتائم والسخط الأخلاقي لمهاجمة أهدافه. إنه أكثر مواجهة وعدوانية مقارنة بالهجاء الهوراسي. غالبا ما يُنظر إلى الهجاء الجوفينالي على أنه شكل من أشكال الاحتجاج ضد الأمراض الاجتماعية وإساءة استخدام السلطة.

الهجاء المينيبي، الذي سمي على اسم الفيلسوف اليوناني مينيبوس، هو شكل أكثر تعقيدا وانتقائية من أشكال الهجاء يجمع بين عناصر الهجاء الهوراسي والجوفيني. يتميز الهجاء المينيبي ببنيته غير التقليدية وأسلوبه السردي. غالبا ما يتميز بمزيج من النثر والشعر، بالإضافة إلى أصوات ومنظورات متعددة. الهجاء المينيبي أكثر فلسفية وفكرية مقارنة بالهجاء الهوراسي والجوفيني. إنه يستخدم السخرية والمحاكاة الساخرة والعبث لتحدي التفكير التقليدي والتشكيك في طبيعة الواقع.

على الرغم من اختلافاتهم، فإن السخرية الهوراتية والجوفينالية والمينيبية تشترك جميعها في هدف مشترك: انتقاد عيوب وحماقات الطبيعة البشرية والمجتمع والتعليق عليها. وهي تعمل كوسيلة لتسليط الضوء على عبثية وظلم العالم من حولنا. ولكل شكل من أشكال السخرية نقاط قوته وضعفه، ويمكن استخدامه بفعالية في سياقات مختلفة ولأغراض مختلفة.

غالبا ما تستخدم السخرية الهوراتية للسخرية من الأعراف والمعايير الاجتماعية وانتقادها بلطف. ويمكن أن تكون طريقة مرحة وخفيفة الظل للإشارة إلى سخافة السلوك البشري. من ناحية أخرى، فإن السخرية الجوفينالية أكثر مواجهة واستفزازية. فهي تسعى إلى إثارة استجابة عاطفية قوية من جمهورها وتحريضه على التغيير. أما السخرية المينيبية فهي أكثر تجريبية وغير تقليدية. فهي تتحدى القارئ للتفكير النقدي ومناقشة المعتقدات والقيم الراسخة.

إن السخرية الهوراسية والجوفينالية والمينيبية هي ثلاثة أشكال مميزة من النقد استُخدمت عبر التاريخ للتعليق على المجتمع والسياسة والطبيعة البشرية. ولكل شكل من أشكال السخرية خصائصه الفريدة وأساليبه في انتقاد العالم من حولنا. وسواء من خلال الفكاهة أو الغضب أو العبث، فإن السخرية تعمل كأداة قوية لكشف عيوب المجتمع وحماقاته وإحداث التغيير. ومن خلال فهم الاختلافات بين السخرية الهوراسية والجوفينالية والمينيبية، يمكننا أن نقدر بشكل أفضل ثراء وتنوع الأدب الساخر.

***

محمد عبد الكريم يوسف

رواية جمال العتابي تحاول أن تلملم خيوط حكايةٍ بطلُها «محمد الخلف» الذي هرب من السجن وراح يرسم خطة دقيقة للوصول إلى ملاذ آمن في قريته «العطرانية» في منطقة الفرات الأوسط. ونكتشف أن بطل الرواية كان سجيناً من سجناء الرأي بعد عام 1960، إذ أُحيل بتهمة كيدية ملفقة إلى المحكمة العسكرية التي حكمت عليه بالسجن، وأودع سجن الكوت. وعندما حدث انقلاب الثامن من فبراير (شباط) 1963 الفاشي، نجح السجناء، ومنهم بطل الرواية، بالتعاون مع أبناء المدينة، في كسر أبواب السجن، وإطلاق سراح السجناء الذين اتخذوا طرقاً مختلفة للوصول إلى بيوتهم أو البحث عن ملاذات آمنة.

والرواية بكاملها عبارة عن مونولوغ داخلي طويل، من وجهة نظر بطل الرواية، يتحدث فيه عن حياته الجديدة المجهولة تماماً:

«أين المسار، بعد أن بِتَّ ليلتك في بيت أحد أصحابك المعلمين في الكوت؟ أصبحت طليقاً الآن، قالها «محمد الخلف»، وبحيرة وذهول: ما زلت بملابس السجن»، (ص 5).

وهكذا تتشكل البنية السردية للرواية، بوصفها بنية بحث عن ملاذ آمن، وبنية مطاردة، مرئية وغير مرئية، من أجهزة الأمن الديكتاتورية آنذاك. وتتحول قرية «العطرانية» وهي سكن العائلة والعشيرة في منطقة الفرات الأوسط إلى بنية مكانية مولدة، تحرك الأحداث، وتستحضر الذكريات المغيَّبة، وتقدم مراجعة نقدية ذاتية لتجربة الحركة الوطنية طوال نصف قرن، وتعيد تشكيل صورة البنية السردية بكاملها.

فعندما وصل «محمد الخلف» إلى قرية «العطرانية» أطلق عليه «نوار الناهض»، زوج شقيقته الذي رافقه إلى قرية «العطرانية» في قلعة سكر بالناصرية، لقب «محمد العطراني»، ووفَّر له ملاذاً آمناً:

«ها هو مخبؤك، بعيدٌ عن أعين الرقباء، تستعيد فيه ملامح الماضي»، (ص 29).4245 منازل العطراني

وكان هذا المخبأ حقاً فرصة مناسبة لـ«محمد الخلف»، لمراجعة صفحات حياتية بعين نقدية فاحصة ونقد ذاتي سياسي وشخصي للسنوات الماضية. والرواية، من جانب آخر، تفضح مظاهر العنف والاستبداد التي تمارسها الأنظمة الديكتاتورية، وبشكل خاص نظام البعث وأجهزة أمنه ومخابراته، كما تنطوي الرواية على مراجعة لتاريخ العراق السياسي طيلة نصف قرن، وتحديداً منذ ثورة الرابع عشر من يوليو (تموز) عام 1958 حتى الاحتلال الأميركي للعراق عام 2003. كما تكشف الرواية عن استيعاب دقيق لطبيعة الحياة اليومية وتفاصيلها في الأرياف والأهوار. ويمكن القول إن معظم شخصيات الرواية الثانوية هي من شريحة الفلاحين الكادحين، باستثناء نماذج تنتمي إلى شريحة المثقفين والمتعلمين في مقدمتهم بطل الرواية «محمد الخلف»، وولده «خالد»، فضلاً عن «نوار»، زوج شقيقته الكبرى الذي رافقه إلى ملاذه الأخير. وتُختتم الرواية بقرار الحكومة بإخلاء السجون والعفو عن المحكومين والسجناء والهاربين وإطلاق سراحهم، وذلك الإجراء كان إجراء استباقياً لاحتمال احتلال البلاد وغزوها بعد أن راحت الحشود العسكرية الأجنبية تقف على الحدود لاحتلال البلاد خصوصاً بعد احتلال النظام الصدامي لدولة الكويت الشقيقة:

«الغاية واضحة، النظام أقدم على الإجراء قبل أن يتداعى وينهار، أمام حشود العساكر التي تنتظر في الحدود لاحتلال البلاد وغزوها»، (ص 252).

وتكشف الرواية، من الناحية السردية، عن نزعة ميتاسردية واضحة، تتمثل في رغبة بطل الرواية «محمد الخلف» في كتابة مذكراته، ومنها الأوراق السبع التي كتبها والمؤرَّخة في: «22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1963 – العطرانية»، (ص 120). فضلاً عن وجود إشارات إلى أنه ترك فصولاً من مذكراته عن سيرته الشخصية بعنوان «مذكرات عطراني»، (ص 120). وهناك من بين مذكراته فصل أفرد له عنواناً باسم «سردياته» يتحدث فيه عن حياته عندما كان معلماً في الأربعينات، بعد أن نُقل إليها من «الدواية» عام 1951، وفيها وصفٌ شامل لحياة الناس والقرية والمدرسة، وبشكل خاص لمعلميها وطلابها، (ص 123).

وكانت الأم، زوجة «محمد الخلف»، رمزاً للمرأة العراقية المكافحة والصابرة التي تحملت كل المآسي والخسارات التي مرت بالأسرة والمجتمع:

«امرأة عاشت عمراً كاملاً من الأحزان والمرارة، مع ذلك ظلت شامخة كنخلة راسخة في الأرض»، (ص 250).

ونجد مظاهر واضحة للكوميديا السوداء في كثير من صفحات الرواية، وهي تسخر من أنظمة الاستبداد والديكتاتورية، وتكسر جدار الخوف الذي يمنع المواطن من مقاومتها، وربما تتجلى هذه الظاهرة في السخرية من استثمار لافتات النظام الديكتاتوري التي تحمل شعارات الحزب الحاكم (الحرية والاشتراكية) لعمل ملابس داخلية للأطفال، وكما قال أحد الأشخاص ساخراً: «تسترون مؤخراتكم بعبارات التحدي والنصر القادم!»، (ص 248). وكما قال «محمد الخلف» لأحد أشخاص الرواية:

«كان علينا أن نشملك بهذه (المكرمة) بالعيد، ربما وجدت عند خصيتيك شعارات (الحرية والاشتراكية). الأحفاد كذلك، نالوا حصتهم من (المكارم)، تلك ألبستهم الداخلية زاهية بشعارات تمجّد الأمة، خصوصاً إذا كان القماش ملوناً أصلاً»، (ص 248).

ومن الضروري الإشارة إلى وجود تنوع في أنماط السرد. على الرغم من هيمنة بنية المونولوغ الداخلي، التي تستبطن لا وعي بطل الرواية «محمد الخلف». فهناك فصول ومقاطع تكشف عن بنية السرد كلي العلم، وأخرى تعتمد على بنية المشهد الروائي، كما تشغل الحوارات الخارجية موقعاً خاصاً في البنية السردية، ولا يمكن أن نتجاهل الطبيعة البوليفونية متعددة الأصوات في السرد والتي تمنح الفرصة لعدد من الشخصيات الروائية لتقديم منظوراتهم ووجهات نظرهم السردية.

ففي الفصل السابع والعشرين يعتمد السرد إلى درجة كبيرة على بناء المشهد:

«عندما ينام الجميع، يبقى محمد مستيقظاً تحت الضوء الشاحب، المنسكب من السقف»، (ص 142).

كما نجد مظاهر للسرد كلي العلم، وهو سرد خارجي تقريري:

«كان محمد الخلف قد رسم له مسالك الطريق من ساحة الأمين إلى الكاظمية ثم إلى مدينة الحرية في الشارع المقصود في أول مظلة»، (ص 36).

ويتكرر توظيف بنية المونولوغ الداخلي في حوارات عدد من الشخصيات الروائية، منها منولوغات «نوار»:

«أذهب إلى الفراش كي أستريح، أصبح النوم صعباً، كم أيقظتني الكوابيس!»، (ص 32).

أو كما نجد الابن خالد في هذا المونولوغ عقب زيارته لوالده في السجن:

«كنت أوجه كلامي لأبي، ولا أعرف بالضبط لماذا انصرفت إلى رصد حالات الانفعال في وجوه السجناء ووجوه عوائلهم»، (ص 9).

الرواية لم تسقط في التسجيلية والوثائقية وبقيت أمينة على شروط السرد والتخييل

ونلاحظ أن عنوان الرواية «منازل العطراني» بوصفه عتبة نصية أولى بتعبير الناقد الفرنسي جيرار جنيت، ينطوي على دالّين سيميائيين: الأول دالٌّ مكاني هو «منازل» وهو الملاذ الذي اتجه إليه بطل الرواية «محمد الخلف» في هروبه والذي يشير إلى قرية «العطرانية» في الفرات الأوسط. أما الدال الثاني (العطراني) فيشير إلى شخصية بطل الرواية «محمد الخلف». وبهذا فالرواية تتحول جزئياً إلى رواية عن المكان، بوصفه مولداً للسرد، ورواية شخصية مركزية من جهة أخرى.

لكن الرواية في مجملها تظل رواية شخصية (Personality Novel) لأنها تتمحور، كما أشرنا سابقاً، حول سيرة بطلها ومعاناته داخل السجن وخارجه، حيث تتشكل الشخصية وبناؤها عبر أكثر من مستوى من مستويات السرد. فهناك سرد «بيوغرافي» يقدمه البطل نفسه من سلسلة مونولوغاته، التي تشكل القسم الأعظم من البنية السردية، كما تسهم تعليقات وأحكام أفراد أسرة البطل وأصدقائه في إضاءة جوانب مختلفة من شخصيته. وبهذا، فالشخصية الروائية تتحول إلى بؤرة مركزية تتوجه إليها جميع أنماط السرد، لتعلن في النهاية عن تكامل شخصية بطل الرواية «محمد الخلف»، كما رسمها الروائي.

وكما أشرنا سابقاً، فالرواية لم تسقط في التسجيلية والوثائقية، وبقيت أمينة على شروط السرد والتخييل، من خلال خلق شخصية روائية افتراضية، وورقية إلى حدٍّ كبير، بتعبير رولان بارت، لكنها لم تقطع جذورها بالأرض والحياة والواقع.

***

د. فاضل ثامر

بقلم: (رولان بارت)

ترجمة : حسني التهامي

***

(3) الحدث:

يُحوّل الفن الغربي "الانطباع" إلى وصف، في حين أن الهايكو ليس وصفا؛ إنه فن الوصف المعكوس، لدرجة أن حالة الشيء تتحول سريعا، وبشكل جامح، إلى جوهر هش للمظهر: لحظة "هاربة" يتحول الشيء خلالها - على الرغم من كونه مجرد لغة – إلى خطاب، وينتقل من لغة إلى أخرى ويغدو مجرد ذاكرة لهذا المستقبل. ليس الحدث في الهايكو هو الشائع فحسب:

(رأيت أولى حبات الثلج:

هذا الصباح نسيت أن

أغسل وجهي)

لكن أيضا كل ما يصادفنا من مواهب كالرسم والصور المصغرة (تلك الأشكال شائعة بكثرة في الفن الياباني) كهذا النص لشيكي:

ثوْر على متن

قارب صغير يعبر النهر

تحت أمطار المساء

هنا يصبح هذا النص أو هو بالفعل عمل فني خاص ومتكامل يمنحنا (كما تضع الزن ملمسها على أي شيء سواء أكان تافها أم ذا قيمة) طيةً خفيفةً بملمسها الخاطف تتجعد صفحة الحياة وحرير اللغة. يمتلك الوصف، ذلك الأسلوب الغربي، معادلا دينيا حال التأمل، مثال ذلك، الجرد المنهجي للأشكال الوصفية للألوهية أو لحلقات السرد الإنجيلي (تحديدا في إغناطيوس لويولا، حيث تمارين التأمل وصفية في الأساس). على النقيض، يتناول الهايكو ما وراء الطبيعة بعيدا عن المواضيع الدينية، فنراه يتوافق مع آراء البوذي مو ومع ساتوري الزن، الذي لا يعني استلهام النور الإلهي على الإطلاق، ولكنه " الوعي بالحقيقة" وفهم الشيء كحدث وليس كجوهر، وهو بمثابة الوصول إلى ذلك الشاطئ الأمامي للغة، والذي يتماس (بعد إعادة تشكيله) مع وهج المغامرة (ما يحدث للغة، عوضا عن الموضوع).

يبدو أن عدد الهايكوات وتشتتها من ناحية، وقصر كل نص وقفلته من ناحية أخرى تقسم وتصنف العالم إلى عوالم لانهائية، وتشكل فضاء من الشظايا البلورية، وغبارا لأحداث، حال الاستغناء عن الدلالة، يستحيل أو لا ينبغي لشيء أن يوقفها أو يحركها أو يوجهها أو حتى يتخلص منها، ذلك لأن الهايكو لا يضع اعتبارا للموضوعات: فالقراءة ليس لها كيان آخر، غير ما يعنيه الهايكو، بانحرافاته اللامتناهية، إنها لاشئ مطلقا سوى أنها قراءة؛ فوفقًا للتصور الذي يفترضه مذهب الهو- يان، يمكن للمرء الاعتقاد بأن البنية العامة لأي نص هايكو هي عبارة عن شبكة من الجواهر تعكس كل جوهرة فيها بقية الجواهر الأخرى، هكذا، إلى ما لا نهاية، دون أن يكون هناك مركز أو نواة للإشعاع (بالنسبة لنا، إن أهم تصور لتأثير هذا الارتداد التلقائي للإشعاع، ولتلك الانعكاسات المجهولة المصدر، هو التصور المعجمي الذي يتم به تعريف المفردة من خلال المفردات الأخرى) .فالمرآة، في تصور الغربيين، كائن نرجسي في الأساس: سطح أملس يرى فيه الإنسان نفسه؛ بينما ينظر إليها أهل الشرق على أنها فارغة؛ إنها رمز للفراغ من أية رمز (" إن عقل الرجل المثالي، يقول أحد معلمي الطاوية، " يشبه المرآة. إنها لا تدرك شيئًا لكنها تقبل كل الأشياء التي تتلقاها دون الاحتفاظ بها): فقط تعترض المرآة مرايا أخرى، وهذا الانعكاس اللامتناهي هو الفراغ ذاته (الذي، كما نعلم، ليس سوى شكل). هكذا يذكرنا الهايكو بما لم يحدث لنا قط؛ فمن خلاله نتعرف على تكرار بدون مصدر، وحدث بلا سبب، وذاكرة بلا إنسان، ولغة بلا مرافئ.

ما أقوله عن الهايكو قد ينطبق على كل ما يحدث أثناء تجوالنا في ذلك البلد الذي يُدعى اليابان. هناك، في الشارع، في الحانة، في المتجر وفي القطار، شيء ما يحدث دائمًا، ذلك الشيء الذي يعد، من الناحية الاشتقاقية، مغامرة – يحتوي على تفاصيل متناهية الصغر: إنه تنافر في الملبس، ومفارقة تاريخية للثقافة، وحرية في السلوك، ولا منطقية في المسارات، إلخ. وإحصاء هذه الأحداث أمر عبثي، لأنها تشع فقط لحظة قراءتها في القصائد المفعمة بالحيوية والتي تتناول تفاصيل الشارع، وسوف لا يتقبلها المتلقي الغربي بشكل تلقائي دون أن يضفي عليها من الأبعاد المتعلقة بالمعنى: وفي الواقع لابد له أن يجعل مادة الهايكو من تلك التفاصيل اليومية التي لم نألفها في أدبنا، وما يمكن لنا أن نضيفه في هذا الصدد هو أن تلك المغامرات المتناهية الصغر (التي يؤدي تراكمها، خلال يوم واحد، إلى حالة أشبه بالثمالة الجنسية) لا تقدم أية عمل تصويري، (فالطابع الياباني لا يأبه بنا، لأنه منحاز لما يشكل خصوصية اليابان، وهو حداثتها)، أو روائي (لا يفسح المجال لثرثرة من شأنها تحويله إلى سرديات أو وصفيات. ما يطرحونه للقراءة ( أنا، في هذا البلد، بمثابة قارئ ولست زائرًا ) هي كتابات أشبه بالسكتة الدماغية المفاجئة، تكون بلا وعي ولا هوامش؛ فكثير من السلوكيات البالغة الدقة ( بداية من طريقة الملبس حتى الابتسام)، والتي نقوم بها نتيجة للنرجسية الغربية الراسخة، هي فقط علامات على الغرور المتضخم لدينا، بينما تصبح هذه السلوكيات، لدى اليابانيين، مجرد طرق لمعايشة وتصوير بعض الأحداث غير المتوقعة في الشارع : لا يدل يقين واستقلالية الإشارة على الذات، لكن على الشكل التصويري للوجود؛ بحيث يكون مشهد الشارع الياباني (أو الأماكن العامة بصورة أشمل ) مليئا بالدهشة، باعتباره نتاجًا لجماليات أزلية، لا يعتمد مطلقا على (هستيريا) الأشخاص، ولكن، مرة أخرى، على تلك المحاولة الأولى للكتابة التي تتسم بالعفوية؛ دون التركيز على التخطيط والمراجعة والتدقيق والتصحيح، وتعكس رؤية الكاتب الإبداعية. تلك المحاولة الأولى لا تعبر عن الوجود، لكنها تتسبب فيه.

"عندما تمشي، يقول أحد معلمي الزن، " كن قانعًا بالمشي، وعندما تجلس، كن راضياً بالجلوس. ولكن، قبل كل شيء، لا تمتعض! ": يقوم بهذه الطريقة، على ما يبدو لي، كل واحد بطريقته الخاصة – راكب الدراجة الشاب الذي يحمل صينية على إحدى ذراعيه، أو البائعة الشابة التي تومئ برأسها في انحناءة شديدة حد الخضوع وكأنها تؤدي طقسا من طقوس العبادة، قبل أن يغادر زبائن المتجر ليصعدوا على سلم متحرك؛

أو يقوم لاعب الباتشينكو بإدخال ودفع واستلام كراته، بإشارات ثلاث متناسقة؛ أو كما اعتاد المتأنق في المقهى بإشاراته المألوفة على فتح مغلف مناديله البلاستيكي (المجهزّ) ليجفف يديه قبل أن يشرب الكوكا كولا: كل هذه الأحداث هي جوهر الهايكو.

***

.......................

* ملحوظة: نشر المقال في مجلة البيان العدد 644

في المفهوم: يعود مصطلح الرومانسيّة أو الرومانتيكيّة إلى كلمة رومان (Roman) ومعناها في العصر الوسيط: (حكاية المغامرات شعراً ونثراً، كما تدل على المشاهد الريفيّة بما فيها من الروعة والوحشة، والتي تحيل إلى العالم الأسطوريّ والخرافيّ والمواقف الشاعريّة.). (1). وهي أيضاً (كلمة مشتقّة من "رومانس"، وتعني نوعًا من القَصص شاعَ في القرون الوسطى في معظمِ البلاد الأوروبيّة الجنوبيّة خاصّة، كانت تُنظَم شعرًاً في الغالب وتدورُ حول مغامرات الفرسان وبطولاتهم في سبيل المكارم والحبّ، وتعني في سياق آخر كلَّ ما هو خياليّ أو غير واقعيّ، بعيداً عن العقل، وأقرب إلى العواطف والمشاعر.) (2).

وبتعبير آخر فالرومانسيّة أو الرومانتيكية بالأساس هي مدرسة أو مذهب في الأدب والفنون، تقوم على تمجيد العواطف الانسانيّة، وتعلي من شأن مشاعر الانسان بكل ما تحمله هذه المشاعر من تنوع وتناقضات، كالخوف والهلع، الرعب والألم والحب والشوق والنرجسية.. إلخ لذلك تميزت الأعمال الفنيّة والأدبيّة االرومانسيّة بوفرة الإنتاج، وحظيت بانتشار واسع كونها قريبة من الناس، ولعبت دوراً كبيراً في إحياء الفنون الشعبيّة بشكل ملحوظ. وحاولت أن تقدم للإنسان الغربي، المطحون بالماديّة والرأسماليّة والصناعة، أنموذجا بديلاً أكثر إنسانيّة. (3).

جذور الرومانسيّة وسياقها التاريخي:

إن أول ظهور لمصطلح معالم الرومانسيّة كان في ألمانيا مع القرن الثاني عشر، ولم يكن واضح المعالم.. إلا أنها – أي الرومانسيّة - راحت تظهر كحركة أدبيّة وفنيّة وسياسيّة وفلسفيّة في فرنسا مع القرن الثامن عشر (1700م)، وسرعان ما انتقلت إلى ألمانيا وإسبانيا وإنجلترا وإيطاليا. حيث كانت في تلك المرحلة مجرد صرخة اعتراض ضد الأرستوقراطيّة الغربيّة وحياة البذخ التي تعيشها العائلات "النبيلة"، وطريقة للاحتجاج على معاييرها الاجتماعية. ثم تنامت هذه الصرخة في الرومانسيّة إلى أن بلغت ذروتها في أواخر القرن التاسع عشر (1860م) كردة فعل على الثورة الصناعيّة الكبرى، والتي كانت منذ بداياتها أنموذجاً قبيحاً لاستعباد البشر واستغلالهم كآلات تعمل بلا توقف، الأمر الذي ساهم في تشيئهم واغترابهم الاقتصادي، مقابل لقمة عيش قليلة تضمن بقائهم أحياء، فقط ليواصلوا العمل وتحقيق الأرباح للمستثمر. (4).

لا شك إن التغيرات الاقتصاديّة والسياسيّة والاجتماعيّة في نهاية القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر حتمت على أوربا تغيير اتجاه مصادرها الثقافيّة، وقلبت رأساً على عقب الذوق الأدبي والفنّي في المجتمع، وممّا سهل انتشار الرومانسيّة الجو السياسي الأوربيّ، فعلى ضوء المصابيح الثوريّة، وعلى صوت مدافع الثورة الفرنسيّة ظهرت طبقة جديدة تسلّمت مقاليد الحكم والسلطة، وظهرت معها مفاهيم الأمّة والشعب والمواطنة والحريّة والمساواة والعدالة، وقد عمّ هذا التيار كلّ أوربا منذ نهاية القرن الثامن عشر إلى أواسط القرن التاسع عشر، وهي الفترة الموازية لتصاعد القوميّات وشعور الأدباء بغنى الألوان المحليّة وضرورة العودة إلى المنابع الحيّة للإلهام.

الإسهامات المبكرة للأدباء في الاتجاه نحو الرومانسيّة:

لقد كان للرومانسيّة دلالاتها المتعددة في الحقيقة كما تبين معنا بعد قيام الثورة الصناعيّة، إلا أن ما يهما هنا هو دلالاتها الأدبيّة والفنيّة حيث اشتغلت على القَص الخيالي، والتصوير المثير للانفعال، والفروسيّة والمغامرة والحبّ، والمنحى الشعبيّ، والخروج عن القواعد والمعايير المتعارف عليها في الأدب المكتوب بلغاتٍ محليّة غير اللغات القديمة، كالفرنسيّة والإيطاليّة والبرتغاليّة والإسبانيّة. هذا وقد وُصِفَ بالرومانسيّة شعراء وروائيون ومسرحيّون عاشوا قبل عصر الرومانسيّة مثل (شكسبير، وكالديرون، وموليير، ودانتي، وسرفانتس.)، لأنهم أتوا بأدب جديد، ولم يكونوا يعولون على الاهتمام بالأشكال القديمة. ثم جاء فيما بعد مع عصر التنوير ( روسو، غوته، ومولير، وشيلر، وليسنغ،) وغيرهم من فلاسفة وأدباء عصر التنوير،(5).

فهذا جان جاك روسّو: (1712م - 1778م)، اعتبر أحد رموز الرومانسيّة في عصر التنوير، وهو الذي آمن بالعقل والفكر والجدل، نجده (قد انعطف نحو الغريزة والإحساس الفردي وحسّ الطبيعة والأحلام والتملّص من القيود الاجتماعيّة، وكان يرى أن الإنسان طيّبٌ بفطرته، والمجتمع هو الذي يفسده، وأن التقدم يحمل معه شقاء الإنسان، ولا علاج له سوى الإخلاد إلى الطبيعة واللجوء إلى الدين، لقد كانت روح الرومانسيّة تسري في مؤلفاته من قبل أن تولد الرومانسيّة، ويبدو أثر ذلك في كتبه: (إيميل، الاعترافات، أحلام المتجول الوحيد). (6).

وفي القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر كان لفظ الرومانسيّة يطلق مقصوداً به وصف كلّ بادرة جديدة تتحدّى القواعد الأدبيّة المترسخة، بالذم أو النقص. يقول الشاعر (غوته): (الكلاسيكيّة صحّة، والرومانسيّة مرض). ولم يجرؤ أحدٌ من الشعراء الفرنسيين أن يطلق على نفسه وصف (رومانسي) حتى عام 1818م حين أعلن (ستندال): "أنا رومانسي، إنني مع (شكسبير) ضد (راسين)، ومع (بايرون) ضد (بوالو)".(7).

أما في التاريخ الحديث والمعاصر رغم ظهور العديد من مناهج النقد الأدبي تحت ما سمي بمناهج الحداثة وما بعدها، فإن مصطلح (الرومانسيّة) ظل يُطْلَقُ على مذهبٍ أدبيٍّ بعينه ذي خصائص معروفة، استخلصت على المستوى النقدي من مجموع ملامح هذه الحركة الأدبيّة التي انتشرت في أوربا في أعقاب المذهب الكلاسيكي، وكذلك على هذه الفترة وما خَلَّفَتْ من إنتاج على المستوى الإبداعي. والرومانسيّ يرفض تقليد نماذج الأقدمين، وبخاصة الكلاسيكيين، ويريد أن يكون مخلصاً لنفسه، وأصيلاً في التعبير عن مشاعره وقناعاته، وهو يقدّم كيفيّةً جديدة في الإحساس والتصور والتفكير والانفعال والتعبير. وهذا كان المنعطف التاريخي نحو الحريّة الفرديّة التي بدأت تعبر عنها الليبرالية الكلاسيكيّة وفلاسفة عصر التنوير.

أبرز خصائص المذهب الرومانسيّ:

تعتبر غَلَبة الكآبة والحزن والصراع الدراميّ النفسي، والشعور بتفاهة الحياة وسخافتها بسبب ما أفرزته الثورة الصناعيّة في شقها السلبي من دمار للبنية النفسيّة والأخلاقيّة والاجتماعيّة للإنسان. ومن الأسباب التي دفعت الإنسان إلى التوجه نحو الطبيعة والاعتماد ولو حسياً على جمالها، واتخاذها إطارًا من إطارات المشاهد القصصيّة. وكذلك التركيز على الذاتيّة الموغِلة في التشاؤم المنبثق عن الاضطراب النفسيّ الشديد، والاهتمام بالآداب القوميّة والشعبيّة والتمرّد على جميع الأنظمة والقوانين والأحكام والأعراف، والمناداة بالحريّة الأخلاقيّة والفكريّة. أما البطل الرومانسي فمستمَدّ من الشخصيات البشريّة الوطنيّة، أو من الحياة الاجتماعيّة بشكل عام، ولم تعد مستمدة من الآلهة والأبطال الخارقين، كملامح شخصيات التاريخ الوسيط، ولكن ظلت هذه الشخصيات ضمن الإطار الشاعريّ، فهناك البطل العاشق اليائس البائس، والبطل الذي يمثّل العظمة والعبقريّة، والبطل المعذّب الشديد الحساسيّة، والبطل الشجاع الطيّب، والبطل الذي ظلمه المجتمع. كما اتّجه أدباء الرومانسّيّة صوبَ قضيّة المرأة فأعطوها منزلتها، حيث أعادوا إليها اعتبارها الاجتماعيّ، واختلفت النظرة الشعريّة إليها من شاعر إلى آخر، فبينما وجد فيها بعضهم الحبيبة المعبودة والمُلهِمة والملاك الذي هبط من السماء، رأى فيها آخرون تجسيدًا للشرور الشيطانيّة ومَجلبة للشقاء والألم، وشاهد فيها آخرون كِلا الوجهيْن المتناقضيْن، وعلى العموم هي عندهم القَدَرُ الذي لا فِكاك منه. أما الحب عندهم فقد سما إلى مرتبة العبادة، حيث نظروا إليه نظرة شموليّة تصوفيّة، وكمحرك أساس للكون. هذا وقد اعتمدوا على اللغة السهلة، والابتعاد عن اللغة الكلاسيكيّة الجزلة والمتصنعة والوعرة. وبدأ الناس يدركون معناها الحقيقيّ التجديديّ وثورتها ضدّ الكلاسيكيّة، واتجه صوبَها الكثير من الأدباء والنقاد والمفكرين الغربيّين كطريق أكثر حرية من قيود الكلاسيكيّة،)8).

أهم أفكار ومبادئ النزعة الرومانسية في الأدب والفن:

لقد كانت الرومانسيّة كما تبين معنا من خلال عرضنا لأبرز سماتها وخصائصها بأنها ثورة ضد الكلاسيكيّة، وهذا ما سنراه واضحاً من خلال أفكارها ومبادئها وأساليبها التي قد لا تكون واحدة عند جميع الرومانسيين، ويمكن إجمال هذه الأفكار والمبادئ فيما يلي:

1- الذاتيّة أو الفرديّة: وتعد من أهم مبادئ الرومانسيّة، وتتضمن الذاتيّة عواطف الحزن والكآبة والأمل، وأحياناً الثورة على المجتمع. فضلاً عن التحرر من قيود العقل والواقعيّة والتحليق في رحاب الخيال والصور والأحلام. وبسعيها للخلاص من قيود العقل والارتباط بقضايا الواقع والكتلة الاجتماعيّة، سادت فيها التوجهات التلقائيّة والعفويّة في التعبير الأدبي، وعلى هذا لا تهتم الرمانسيّة بالأسلوب المتأنق، والألفاظ اللغويّة القويّة الجزلة.(9).

2- تنزع بشدّة إلى الثورة وتتعلق بالمطلق واللامحدود. واعتبرت الحريّة الفرديّة أمراً مقدساً، لذلك نجد من الرومانسيين من هو شديد التدين مثل: ("فرانسو رينيه الفيكونت دوشاتوبريان" له كتاب «الشهداء» 1809 التي صور فيها انتصار المسيحية على الوثنية. ويعتبر "شاتوبريان" زعيم المدرسة الرومانسية في الأدب الفرنسي، ويعزى إليه الفضل في إثراء اللغة الفرنسية وتطور النثر الفني. ونجد منهم شديد الإلحاد مثل" بيرسي بيش شيلي". شاعر إنكليزي رومانتيكي مهم، يعتبر واحداً من أفضل الشعراء الغنائيين باللغة الإنكليزية. في 1811، أصدر شيلي دون ذكر اسمه كتيبًا يُدعى «ضرورة الإلحاد».). (10). ولكن معظمهم يتعالى على الأديان والمعتقدات والشرائع التي يعدها قيوداً. وهذا ما جعلهم يهتمون بالطبيعة: والدعوة بالرجوع إليها حيث فيها الصفاء والفطرة السليمة، وإليها دعا روسو كما بينا في موقع سابق.

3- فصل الأدب عن الأخلاق، فليس من الضروري أن يكون الأديب االمبدع فذ الخلق. ولا أن يكون الأدب الرائع خاضعاً للقوانين الخلقيّة. فالإبداع والابتكار عند الرومانسيين قائمان على إظهار أسرار الحياة من صميم عمل الأديب، وذلك خلافاً لما يقول به الكلاسيكيون من أن عمل الأديب محاكاة الحياة وتصويرها.(11).

4- الاهتمام بالمسرح لأنه هو الذي يطلق الأخيلة المثيرة التي تؤدي إلى جيشان العاطفة وهيجانها. كما اهتموا بالآداب الشعبيّة والقوميّة، والاهتمام باللون المحلي الذي يطبع الأديب بطابعه، وخاصة في الأعمال القصصيّة والمسرحيّة. (12).

رواد المذهب الرومانسي عند العرب:

لقد دخلت الرومانسيّة إلى الأدب العربي، وتأسّست لها جمعيات ومدارس للأدباء والمبدعين العرب، كـ (الرابطة القلميّة لشعراء المهجر)، و(مدرسة الديوان) و(جماعة أبولو)، ومن أبرز المبدعين العرب الذين اعتنقوا الرومانسية: "جبران خليل جبران": كاتبٌ وأديبٌ ورسّامٌ وشاعرٌ لبناني، أسَسَ (الرابطة القلمية) التي ثارت على ما هو تقليدي واتجهت نحو التجديد، وقد كانت ملامح الرومانسيّة واضحة وظاهرة جدًا في مؤلفاته.(13). وهناك "خليل مطران": شاعرٌ لبناني، ويُعدُ واحدًا من روادِ حركةِ التجديد، تأثر بالمدرسة الرومانسيّة واستقر عليها بعد أن قَلّدَ شعراء عصره في بعض الموضوعات التقليديّة، حيث كان لثقافته الفرنسيّة أثرٌ في توجهه نحو المدرسة الرومانسيّة.(14). كما كان هناك "عباس محمود العقاد": أديبٌ ومفكرٌ وصحفيٌ وشاعرٌ مصري، وهو من مُؤسسي "مدرسة الديوان" والتي تأثرت بالرومانسيّة في الأدب الإنجليزي، فكان نقدهم مبنيّاً على مبادئ الرومانسيّة وتعاليمها. (15). و"ميخائيل نعيمة": قاصٌّ وروائيٌّ، ومسرحيٌّ، وكاتبُ مقالات، وناقدٌ كبير، يُعدُّ أحدَ مؤسّسي (الرابطة القلميّة)، وكانت ملامح الرومانسيّة بارزة في مؤلفاته.(16). و"إبراهيم ناجي": شاعرٌ مصري، مَالَ إلى الرومانسيّة وكان وكيلًاً لجماعة (أبولو) التي اتجهت نحو المذهب الرومانسي، وكانت لديه نزعة روحيّة "صوفيّة".(17).

أما بالنسبة لوجهة النظر الإسلاميّة تجاه الرومانسيّة، فإنها تؤكد على أن أي تيار أدبي لا بد أن يكون ملتزماً بالدين والأخلاق كجزء من العقيدة، وإذا كانت ملازمة الحزن والتعبير عنه لها سلبيات كثيرة، فإن الإسلام يطلب من معتنقيه مواجهة الظروف التي يتعرضون لها بشجاعة والتسليم بقضاء الله وقدره، وتَلَمْسِ الأسباب للخروج من الأزمات دون يأس أو إحباط، وكل إنسان مسؤول عن تصرفاته ويحاسب عليها بين يدي الله، طالما كان يملك أهليّة التصرف، أما المكره فهو معذور وتسقط عنه الأوزار فيما يرتكبه قسراً، ولكنه لا يعذر في التعبير الحر عما ينافي العقيدة ويتعارض معها.(18).

ملاك القول: إن النزعة الرومانتيكيّة / الرومانسيّة، حاولت أن تقدم للإنسان الغربي، المطحون بالماديّة والرأسماليّة والصناعة، نموذجاً بديلا أكثر إنسانيّة، (وتأثر بهذه المدرسة حتى رجال الدين المسيحي، بتأثير من أعمال الفيلسوف الرومانتيكي الألماني شيلنج بشكل خاص، والذي كان يقول "المسيحية صدرت عن الروح الشرقية").(19).

وفي الفلسفة.. كانت الوجوديّة صرخة رومانسيّة عميقة بعد الحربين العالميتين الأولى والثانية، حفرت في أعماق الإنسان الذي عاش مآسي الحربين، لاستكشاف كنهه وتناقضات مشاعره المتراوحة بين العنف والعطف، بين الرحمة والقسوة، بين الإيثار واللامبالاة.. إلا أن حجم الدمار الذي خلفته تلك الحروب البشعة كان أكبر من أن يحتمله إنسان القرن العشرين على ما يبدو، لذلك ظهرت بعد الحربين العالميتين الفلسفة الوجوديّة التي تمادت في احتقار العقل حتى وصلت لإنكار كل الحقائق باستثناء "عبثيّة العالم". ونتيجة لهذا تعرضت الرومانسيّة في منتصف القرن العشرين (1950م) لهجمة شرسة ونقد عميق مس أهم أركانها، فتراجعت كثيراً، ما أفسح المجال واسعاً لبروز جناح جديد أكثر عقلانيّة ووعياً بالواقع، فنشأت على أنقاض الرومانسيّة الكلاسيكيّة، رومانسيّة جديدة أعطت قدرا أكبر من الاهتمام للعقل والمنطق، فكانت محاولة واعدة في خلق توازن بين الروح والعقل، بين العاطفة والمنطق.(20).

بيد أن الغرب قد أفرط كثيرا فيما بعد بدور العقل وبتقديسه لدرجة الخواء الروحي، عكس الشرق الذي تمادى بالروحانيات إلى حد الخرافة. فعقلانيّة الغرب المفرطة بسبب تحكم الرأسماليّة الجشعة وتأجيجها للحروب العابرة للقارات، أنتجت الإلحاد وموت الإله، بينما روحانيّة الشرق المفرطة في المقابل، أنتجت الجهل والتخلف والفوضى والفقر والجبر وكره الحياة. لذلك لا أمل للإنسانيّة بالنجاة إلا بالتزام التوازن بينهما، هذا العالم لن ينجو إلا بعقلانيّة تحكمها الأخلاق النبيلة المحبة لجوهر الإنسانيّة، وهذا يتحقق بالعقل النقدي الملتزم بقضايا الناس وحل مشاكلهم عن طريق وسائل واقعيّة. (21).

***

د. عدنان عويّد - كاتب وباحث من سوريّة

.........................

الهوامش:

1- (موقع الألوكة الأدبيّة الروائيّة– الرومانسية).

2- (موقع سطور: المذهب الرومانسي وخصائصه - أزهار عبد الغني.).

3- (مدونات الجزيرة - الرومانتيكية.. بين الشرق والغرب - محمد هلال الخالدي). بتصرف.

4- (مدونات الجزيرة - الرومانتيكية.. بين الشرق والغرب بتصرف - محمد هلال الخالدي). بتصرف. (ويراجع ايضاً للاستزادة حول السياق التاريخي للرومانسيّة - لمذاهب الادبيه ( الرومانسية موقع الأدب المقارن

https://comparative-literature.blogspot.com/2010/04/blog-post_10.html.

5- ( موقع الألوكة الأدبيّة الروائيّة– الرومانسية). بتصرف.

6- المرجع نفسه

7- ( موقع الألوكة الأدبيّة الروائيّة– الرومانسية). بتصرف. ويراجع أيضاً للاستزادة (لمذاهب الادبيه (الرومانسية - موقع الأدب المقارن.

(https://comparative-literature.blogspot.com/2010/04/blog-post_10.html).

8- ("خصائص الرومانسيّة"، ww.alukah.net،) بتصرف.

9- (لمذاهب الادبيه (الرومانسية).موقع الأدب المقارن (https://comparative-literature.blogspot.com/2010/04/blog-post_10.html). بتصرف

10 – الويكيبيديا.

11- - ("خصائص الرومانسيّة"، ww.alukah.net،) بتصرف.

12- - (لمذاهب الادبيه (الرومانسية). موقع الأدب المقارن، بتصرف.

(https://comparative-literature.blogspot.com/2010/04/blog-post_10.html).

13- المرجع نفسه. بتصرف

14- ( www.adab.com،) بتصرف.

15- (https://ajdawer.blogspot.com/ - المدرسة الرومانسية العربية (الرومانتيكية ) : تعريفها، أسباب ظهورها، روادها، خصائصها، ). بتصرف.

16- (www.marefa.org،). بتصرف.

17- (https://ajdawer.blogspot.com/ - المدرسة الرومانسية العربية (الرومانتيكية ) : تعريفها، أسباب ظهورها، روادها، خصائصها، ).  بتصرف.

18-المرجع نفسه. بتصرف.

19- (مدونات الجزيرة - الرومانتيكية.. بين الشرق والغرب - محمد هلال الخالدي).

20- المرجع نفسه. بتصرف

21- المرجع نفسه. بتصرف.

 

ألف ليلة وليلة، أو ما تعرف أيضا باسم الليالي العربية، هي مجموعة من الحكايات الشعبية من الشرق الأوسط وجنوب آسيا جُمعت خلال العصر الذهبي الإسلامي. وقد رويت هذه القصص وأعيد سردها لقرون وأصبحت من أشهر الحكايات في الأدب العالمي. ومع ذلك، تكمن وراء الإعدادات الخيالية والسرد الساحر موضوع متكرر من الطغيان والقمع.

توجد واحدة من أبرز الأمثلة على الطغيان في ألف ليلة وليلة في قصة الملك شهريار وزوجته شهرزاد. في هذه الحكاية، يصور شهريار كحاكم قاسٍ ومستبد يتزوج زوجة جديدة كل يوم، فقط ليقوم بإعدامها في صباح اليوم التالي. والسبب وراء هذه الممارسة البربرية هو اعتقاد شهريار بأن جميع النساء خائنات ولا يمكن الوثوق بهن. لا يؤدي هذا السلوك الاستبدادي إلى وفاة عدد لا يحصى من النساء البريئات فحسب، بل يخلق أيضا مناخا من الخوف وعدم الثقة في مملكته.

تواجه النساء المضطهدات في ألف ليلة وليلة باستمرار طغيان المجتمع الأبوي. وفي جميع القصص، غالبا ما يتم تصوير الشخصيات النسائية على أنها عاجزة وتحت رحمة شخصيات السلطة الذكورية. ويتجلى هذا في قصص مثل "علاء الدين والمصباح العجيب" حيث يتم تصوير والدة علاء الدين كأرملة عاجزة تكافح من أجل تلبية احتياجاتها، وفي "علي بابا والأربعون لصا" حيث يجب على مرجانا، وهي فتاة عبدة ذكية، أن تتفوق على أعداء سيدها لإنقاذ الموقف.

شكل آخر من أشكال الطغيان في ألف ليلة وليلة هو طغيان الكائنات السحرية والمخلوقات الخارقة للطبيعة التي تمارس قواها على البشر. في حكايات مثل "الصياد والجني" و"حكاية الملك المسحور"، تخضع الشخصيات لأهواء الكائنات القوية التي تستخدم سحرها للسيطرة على العالم البشري والتلاعب به ومعاقبته. تعمل هذه القصص كحكايات تحذيرية حول إساءة استخدام السلطة وعواقب تحدي النظام الطبيعي.

لا يقتصر موضوع الطغيان في ألف ليلة وليلة على الحكام والكائنات السحرية، بل يمتد أيضا إلى الأعراف والتوقعات المجتمعية. في العديد من الحكايات، تكون الشخصيات مقيدة بقواعد سلوكية صارمة وأعراف اجتماعية تملي أفعالهم وتحد من حريتهم. وهذا واضح في قصص مثل "الحمال وثلاث سيدات بغداد" حيث يتم الحكم على الشخصيات ومعاقبتها لانحرافها عن الأعراف والتوقعات الاجتماعية.

بالإضافة إلى القوى الخارجية للطغيان، تواجه الشخصيات في ألف ليلة وليلة أيضا صراعات داخلية مع رغباتهم ودوافعهم الخاصة. تستكشف العديد من الحكايات موضوعات الإغراء والجشع والأنانية، وتوضح كيف يمكن لهذه الرذائل أن تؤدي إلى سلوك مدمر للذات وانحلال أخلاقي. يعمل هذا الطغيان الداخلي كتذكير بأن الحرية الحقيقية تأتي من إتقان دوافع المرء ورغباته.

يمتد موضوع الطغيان في ألف ليلة وليلة أيضا إلى عالم الحب والعلاقات. في حكايات مثل "حكاية نور الدين والفتاة "، يتعرض الشخصيات لطغيان الحب غير المتبادل والغيرة والخيانة. تسلط هذه القصص الضوء على القوة المدمرة للعواطف غير المقيدة وأهمية الصدق والتواصل في العلاقات الرومانسية.

تقدم ألف ليلة وليلة تصويرا معقدا ودقيقا للطغيان يتجاوز الثنائيات البسيطة للخير مقابل الشر. غالبًا ما يكون الدافع وراء الشخصيات في الحكايات مزيجا من النوايا النبيلة والرغبات الأنانية، مما يجعلهم ضحايا ومرتكبين للطغيان. يضيف هذا الغموض الأخلاقي عمقا وتعقيدا إلى القصص، مما يتحدى القراء للتساؤل عن مفاهيمهم الخاصة للعدالة والأخلاق.

يعمل موضوع الطغيان في ألف ليلة وليلة كتذكير تحذيري بمخاطر القوة والسلطة غير المقيدة. من خلال طاقمها المتنوع من الشخصيات وخطوط الحبكة المعقدة، تستكشف الحكايات عواقب القمع والظلم والفساد الأخلاقي. من خلال التعمق في الجانب المظلم من الطبيعة البشرية، تقدم ألف ليلة وليلة للقراء لمحة مثيرة للتفكير حول تعقيدات الطغيان والنضال من أجل الحرية.

***

محمد عبد الكريم يوسف

قدم عرض مسرحية (وين رايحين؟) سينوغرافيا وإخراج  حيدر منعثر، على مسرح الرشيد في بغداد، يوم الخميس ٤/ ٧/ ٢٠٢٤ ولمدة أربعة أيام، زمن العرض ساعة وخمس وأربعين دقيقة تقريبا.

تضمن عنوان العرض (وين رايحين؟) سؤال عصف في ذهن المتلقي، وأن عليه -أي المتلقي- الإجابة عن هذا السؤال، انه ليس سؤال شخصي بقدر ما هو سؤال جمعي، يمكن صياغته بالاتي: انتم الذين قرأتم عنوان العرض جميعا: إلى أين تتجه بكم الأمور؟ إنه سؤال/عنوان يزرع الشغف بمشاهدة العرض، ويثير توقعا بأن العرض سيكون شعبيا وباللهجة المحلية التي تجعل الشخصيات ومجمل مفردات العرض قريبة من روح ومدركات الجمهور وذائقته الفنية.

يفتتح العرض بتوزيع ظروف مغلقة على الجمهور، ويطلب أحد القائمين على العرض من الجمهور عدم فتح الظرف إلا بإيعاز منهم، وفي هذا اثارة للتوقعات ودفع للمتلقي باتجاه الانتظار والترقب. ومن هنا برز الخيط الأول في نسيج التواصل بين العرض والجمهور.

تفتح اضاءة الخشبة على منظر متكون من مجموعة كراسي موزعة بشكل منتظم، يجلس عليها نساء ورجال، يكتشف الجمهور بعد حين أن بعض الجالسين شخصيات حية، والبعض الآخر تماثيل تعود لشخصية (حامل التماثيل).4218 مسرحية

عُرِضَ فيديو عن بدايات العمل في العرض، التغييرات التي طالت الحياة الشخصية لبعض الممثلين وشيء عن سيرتهم الشخصية، إنهم جزء من هذا المجتمع ونالوا نصيبهم من الأحداث التي جرت في البلاد. بعد هذا التقديم تبدأ وحدات الفعل الدرامي: 

الوحدة الاولى: يقدم العرض ثلاث شخصيات الرجل (حامل التماثيل) والمرأة الشابة، والمرأة الكبيرة (الأم) ينتظرون بملل على الكراسي، يسأل الرجلُ (حامل التماثيل) المرأة الشابة عن الوقت، أنها لا تعلم الوقت رغم امتلاكها ساعة في يدها، وتتهمه بالتحرش رغم أنه لم يفعل ذلك، تتدخل (الأم) لفض النزاع بطريقة تبسيط الأمر والتسامح مع شيء من المفارقات والكلمات الكوميدية، ومن خلال الحوار وردت معلومات الجمهور: أن الثلاثة موجودون منذ زمن طويل في هذه سيارة، يبدو أنها توقفت، يجهلون أسباب توقفها، بل انهم يجهلون الى اين هم ذاهبون. تبقى مسألة التعرف على الوقت محور حواراتهم، فلا أحد منهم يعرف الوقت الآن، ولا متى يصلون الى وجهتهم التي لا يعرفونها.

يدخل السائق بمظهر وسلوك يشبه إلى حد ما سائقي سيارات النقل الجماعي المحليين، الذين يلتقيهم الجمهور في الشوارع، يخبرهم السائق بوجود ثقب في خزان الوقود دلالة تسريب الطاقة والثروة وفقدانها، يبوحون بمعلومة فيها شيء من التورية: (السيارة لا تشبه أي سيارة أخرى، لقد سارت سبعة الآلاف سنة) إنها ليست سيارة، انها ارض حضارة موغلة بالقدم.

الوحدة الثانية: يطلبون من السائق تشغيل راديو السيارة، تتقاطع الآراء حول ماذا يسمعون أغاني أم قرآن ام اخبار؟ وبعد جدال تحدث المفارقة الكوميدية عندما يخبرهم السائق بأن الراديو عاطل، ولكنه بعد حين يخرج ويشغل الراديو لإذاعة أخبار تشير إلى حقب من تاريخ العراق بداية من تأسيس الجمهورية في ١٤ تموز وتواريخ اخرى تشكل تحولات في تاريخ العراق.

الوحدة الثالثة: يمنح السائق نفسه شرعية السلطة على الثلاثة (الرجل والمرأة الشابة والمرأة الكبيرة) بقوله: (أنا من يقودكم) وهو في الحقيقة لا يقود الناس، إنما يقود السيارة. ولكن هذا الفهم الخاطئ للقيادة واستسلام الشخصيات الثلاثة له، جعلته يشترط عليهم العمل على تسليته، بأن يسرد حكاية كل منهم حكاية تؤنسه، لكي يتمكن من اصلاح السيارة.4219 مسرحية

حكاية المرأة (الأم): فقدت الولد والزوج بالحرب وبقيت وحيدة حتى انها صرخت: (يمه … شوكت نوصل لبر الأمان) وكان لصرختها صدى قوي لدى الجمهور الحاضر.

حكاية الرجل (حامل التماثيل): تضمنت رمزية عالية، لقد فقد جميع ذويه واستبدلهم بتماثيل بلا حياة، حتى ان حبيبته تركته لأنه مصاب بمرض السرطان نتيجة الإشعاع الذي طاله من الحرب. 

حكاية المرأة الشابة: تتذكر أغاني الطفولة، وما يكتب في الصف المدرسي خلال الثمانينات من القرن الماضي، وما يحمله من ترميزات وإيحاءات عميقة تنأى به عن المباشرة، يكشف ذلك من خلال عودة المرأة الشابة إلى طفولتها بإجراء تحولات أدائيّة بالصوت والإلقاء والسلوك، ووقوفها أمام السبورة، وتتداخل الحقب في عقلها، تكتب بالطباشير (٢١) و (دا) لتقدم معادلة الواحد وعشرون سنة الماضية والدار التي هَجّرَها منها إرهاب داعش، انها شابة من الطائفة الايزيدية تعرضت لاعتداءات جسدية وعنف خلف لديها عقدة من الرجال، مما يبرر اتهامها للرجل (حامل التماثيل) بالتحرش.

من خلال سرد الحكايات أفصحت شخصيات (المرأة الأم وحامل التماثيل والمرأة الشابة) وجسدت ماضيها وجوهر انتمائها، لقد عمل المخرج على بناء شخصيات الثلاثة بالتوجهات نفسها من حيث كونهم ضحايا الأزمات والحروب والحصار التي تعرض لها المجتمع.

الوحدة الرابعة: يستمر السائق سادرا في غيه، لدرجة انه يرغب بمشاهدة امرأة ترقص، المرأة الأم تصدمه عندما تعلن أنها لا تعرف الرقص، انها تعرف اللطم، يُفّعِل المخرج ومصمم الديكور (الداتا شو) و يؤثث المشهد بالصورة الحاضرة في وجدان المتلقي للأبد بظهور (وثيقة) لوحة شهداء قاعدة (سبايكر) التي تثير مشاعر الحزن العميق والغضب العارم على الإرهاب وقواه الظلامية.

الوحدة الخامسة: السائق يظهر في تسجيل فيديو، يخبرهم بكل ود وبساطة وكأنه يقدم خطابا لشعبه الحاضر في قاعة العرض: (أن الطريق لن ينتهي) ثم يدخل السائق إلى المسرح ليعلن أن السيارة مغطاة بالظلام لتبدأ المرحلة الاقسى (دخول داعش)

لقد سعى المخرج والمصمم على تقديم وثائق واضحة عبر عرض الصور والفيديوهات لغرض اختزال الزمن، والتقليل من الحوار والسرد، وبقصد الحصول على وقع أقوى على الجمهور وكسر الاندماج بالاحداث، وفي هذا مقاربات من المسرح الوثائقي الذي اسس له (ارفين بسكاتور) الذي يعتقد بعدم الاكتفاء " بعرض الاحداث الفردية بل يتخطى ذلك إلى تحليل انعكاساتها الاجتماعية والاقتصادية، والى تقرير كافة الوقائع التاريخية المتصلة بها بشكل ينقل الصورة (الدرامية) إلى الحدود والافاق الملحمية، وذلك من خلال اكساب العرض المسرحي الطابع القصصي الوصفي مع اللجوء إلى الوسائل التوضيحية (كالمعلقات واليفط، والبيانات، والشرائح الزجاجية، والأفلام التسجيلية) لربط الأحداث التي يجري عرضها بأحداث التاريخ القريب والبعيد "(١) وتأكيدا لهذا النهج بدأ العرض بكتابة على الشاشة، وعرض صور وافلام تمثل حقبة النظام الدكتاتوري والحصار على الشعب وسقوط بغداد بيد الاحتلال ٢٠٠٣، والتهجيرات وكابوس الطائفية وتفجيرات الإرهاب الدامية وعملية الانتخابات الديمقراطية، وانتهى العرض بكتابة على الشاشة.  4220 مسرحية

من السمات الجمالية للعرض المسرحي الملحمي هو الحكي المباشر مع الجمهور، والمشاهد القصيرة الكثيرة والحكاية داخل حكاية، وعدم جعل الموسيقى عنصر مساعد على اندماج الجمهور مع العرض، وجميعها توفرت في هذا العرض بوضوح، حتى أن منفذ المؤثرات الموسيقية جلس على الخشبة، واصبح محاورا حينما جعل الآلات الإيقاعية تنطق بوضوح بالرفض والقبول والتأكيد والنفي، يضاف إلى عزف الايقاعات الحي

الإطار العام لحكاية المسرحية: ثلاثة مسافرين في سيارة يصيبها عطل يؤدي إلى توقفها في طريق لا تعرف له بداية ولا نهاية، تنبثق من هذه الحكاية حكايات لكل شخصية من الشخصيات الثلاثة، يجمعها قاسم مشترك هو: أن الثلاثة يتعرضون لظروف قاسية عمت المجتمع، ويتصدى كل منهم لهذه الظروف للمحافظة على حياته وحياة من يحب، أنهم ضحايا الحرب والحصار الاقتصادي والاحتلال وغزو (داعش) ثلاثتهم فقدوا أحبتهم.

وقد استند الممثلون في أدائهم إلى مقولة (برتولد بريخت): " يجب أن تكون علاقة الممثل بالجمهور حرة ومباشرة تماما، انه يريد فقط أن يعلن عن شيء ما ويقدمه إليه، عليه فموقف إنسان مجرد ان معلن ومقدم يجب أن يصبح اليوم أساس كل أفعاله "(٢) واقتربت الشخصيات/المؤدون من روحية الجمهور كثيرا بتوجيه الحوار المباشر، وطرح الاسئلة، وحتى في لحظات التوتر وتصاعد الصراع حافظ المؤدون على طريقة الأداء التقديمية، حتى أن حدة انفعالات الشخصيات التي برزت في المشهد الأخير (دخول الأمير الداعشي ومساعده والتهديد بالقتل بالسيف وما رافقه من خوف وفزع، حتى هروب أمير داعش بثياب النساء) كان الأداء خارجيا ولم يصل إلى حد تشنج المؤدي وإطلاق الصياح والصراخ، انه اشارة واضحة على تمكن جميع المؤدين من ادواتهم، وإظهار قدرتهم على تقديم الشخصيات. علما ان الممثلون ( لؤي احمد، زهرة بدن، طلال هادي، لمياء بدن، اياد الطائي، امير احسان) قدموا أكثر من شخصية، وتنقلوا بالشخصية الواحدة عبر الحقب الزمنية، مما يستدعي تحولات في عمر الشخصيات وأبعادها الجسدية والنفسية يتناسب مع الحقب المختلفة.

أضيفت مفردات متحركة للمنظر ذات بعد دلالي رغم بساطتها وانسيابية دخولها وخروجها، انتقل المشهد إلى صف مدرسي، وسيارة نقل عام نوع (تاتا)، وواجهة بيت المرأة الشابة وقد أسهم الفعل الدرامي في نقل أجواء التحولات المكانية.

الصراع في عرض (وين رايحين؟) متغير المحاور، يدور الصراع في بداية الغرض بين قطبين الشخصيات الثلاثة (حامل التماثيل، المرأة، الأم) من جهة، ومن جهة اخرى السائق المتلون الذي تسلط عليهم بقيادات الرعناء للسيارة الخربة، ويظهر ميله بلا خجل ولا وجل مع المتغيرات السياسية ويستمر الحروب، حتى انه يشي بالثلاثة عندما تغزو قوى الظلم والظلام البلد تملقا. ثم يتحول الصراع بين الثلاثة وهذه القوى الظلامية لينكشف معدن الثلاثة النقي من تضامنهم وتضحيتهم لبعضهم ووقوفهم إلى جانب بعضهم حتى لو دفع أحدهم حياته مقابل حماية الآخر/ين، يثير حماسة المتلقي ويعزز انتمائه للمجتمع واعتزازه بالوطن. ذلك أننا "عندما نحلل الصراع في احدى المسرحيات نكشف اولا اي جانب من الواقع قد عكسه ذلك الصراع، سنبحث عنه في نضالات وأفعال الابطال القوية بعد أن نعود ثانية إلى العموميات لكي نثمن: في اية مشكلة من هذه المشاكل يكمن ثراؤه وعمقه الفلسفي"(٣) وعليه يكون صراع الثلاثة ضد السائق وكل من انتهكهم ليس حالة خاصة، بل إنهم يمثلون حال العموم الاجتماعي في صراعهم ضد كل من يوقف ويعطل عجلة الحياة.

بعد مرور أقل من ساعة من زمن العرض (ظهور داعش) ادرك المتلقي ما ستؤول إليه الأحداث، ولكن الشغف بالمتابعة والتشويق للآتي ظل حاضر بفعل الأواصر التي نسجها الإخراج والتمثيل مع المتلقي لمعرفة مآلات الاحداث على وفق الصورة الدرامية الجمالية.4221 مسرحية

ظهرت كتابة على الشاشة توعز للمتلقي بفتح الظرف الذي تم توزيعه في بداية العرض وقراءة المكتوب في الورقة، ليكتشف أنها تتضمن شيئا من العرض اسماه المخرج بالمشهد المفقود، وهو حوار بين اثنين من الملثمين والأم، وقد عرفها احدهما بانها الخالة فطم، وكانوا يسكنون في نفس الزقاق (المحلة) مما دعا الملثم لتركهم يستمرون في رحلة البحث عن وطن داخل وطنهم، بحسب التعبير الوارد في الورقة. وقد ترك المخرج لخيال الجمهور بتصور هذا المشهد، الذي ربما سمع او شهد الكثيرون أحداثا مشابهة له. وفي هذا حرض على مشاركة المتلقي في رسم صورة جزء من أحداث العرض.

لم يقدم العرض اجابة محددة لسؤال: (وين رايحين؟) بل عمل المخرج على عرض الأسباب التي أدت إلى فقدان بوصلة تحديد الاتجاه، وأفضت إلى حالة التيهان الذي يحاصر الشخصيات، ومن ثم الانطلاق لمعرفة  (إلى أين تتجه الأمور؟) بفعل درامي انتظم خلاله الممثلون بخط واحد واتجهوا إلى مقدمة خشبة المسرح ليقولوا بصوت واحد: (نحن من نختار طريقنا لنعرف وين رايحين …)  يرفعون الكراسي للأعلى، دلالة على رفض للبقاء في كراسي الحافلة، كسر الكراسي المهيمنة، عدم الركون للجلوس والصمت بعد اليوم … ترك المخرج (حيدر منعثر) تأويلها للجمهور، بدعوة تحريضية مفتوحة على فعل التغيير الذي يجب أن يبدأ من تعليم الأطفال أن يكونوا احرار.

رفع العرض شعار (تعالوا نحب من جديد … مسرحنا) وقدم المخرج (حيدر منعثر) وفريق العرض الممثلون لؤي احمد، زهرة بدن، طلال هادي، لمياء بدن، اياد الطائي، امير احسان، مصمم الديكور عقيل عبد علي ومصمم الإضاءة عباس قاسم والتقنيون ضربوا مثلا طيبا بالحرص الفني على تقديم عرض مسرحي يتوافق مع/ ويعمل على تنمية ذائقة الجمهور بمختلف شرائحه، فكانت النتيجة تحية جميلة وتصفيق استمر طويلا.

***

ا. د. حبيب ظاهر حبيب

......................

1. سعد اردش: المخرج في المسرح المعاصر، الكويت، سلسلة عالم المعرفة، مطابع الرسالة، 1979، ص 197.

2. برتولد بريخت: نظرية المسرح الملحمي، ترجمة جميل نصيف، بغداد، دار الحرية للطباعة، 1973، ص 193.

3. سينيثيا يانوفا: نظرية الدراما، ترجمة: نور الدين فارس، بغداد، وزارة الثقافة، مطابع دار الشؤون الثقافية العامة، ٢٠٠٩، ص٢١٠.

 

دراسةٌ نقديَّةٌ لِمُدوَّنةِ النِّيرنِ القصَصِيَّةِ

توطئة: حين تتمايز لُغة الإبداع الأدبي التعبيرية على بنيَّة كينونتها التكوينية النصيَّة، وتتفرَّد بوصلتها المحوريَّة على خطِّ نظيرتها الأُخرى اللُّغة المحكيَّة، وأعني بذلك قصديَّاً عندما تتفوَّق لغة المجاز الشعري والمخيالي على حساب لغة الحدث السَّردي، وتنحرف فنيَّاً وأسلوبياً ينكفئ مسار البناء الفكري القصصي القصير عن تأدية مهامه وإنجاز واجباته الأساسيَّة المنوطة به تكوينيَّاً. حينئذٍ ينصرف أسلوب فنيَّة التعبير القصّصي المعهودة إلى قصٍّ سرديٍّ إنشائي آخر صرف.

الأمر الذي يُفقده كليَّاً زمام السيطرة عليه، والإمساك بتلابيب عناصر القصَّة الفنيَّة القصيرة، والخروج عن خطِّ مسار قواعدها الرئيسة المعروفة: (الحدث، والشَّخصيات، والصراع، ووحدتا المكان والزمان). فضلاً عن ذلك غياب العناصر الأساسية الأخرى المساعدة لبنية القَصِّ الحكائي مثل (موضوع الحادثة، والسَّرد، والبناء القصصي) المرتبطة جميعها بتطوّر الأحداث وتنامي مسير حركة صراعها الدائر.

فعندما يتحوَّل مفهوم السرد القَصصي من أداةٍ أدبيَّةٍ وفنيَّةٍ يوظّفها القاصُّ أو الكاتب بقصديةِ هدف الوصول لغايته القِصصية إلى أداةٍ تعبيريةٍ إنشائيةٍ قصصية على أنها حكاية مسرودة تسبقها الفكرة الحدثية، يتخلخلُ نظام القصّ، ويُفقده خطَّ التوازن الموضوعي الذي بُنيْت عليه أساسات فاعلية السرد الصحيح. وذلك باعتبار أنَّ السرد هو الأساس الحقيقي الذي يرتكز عليه عامل الحوار المهمِّ فنيَّاً وتقنياً، فضلاً عن أهمية عنصري الصراع الحركي للشخصيات والتوصيف القِصصي للحدث.

فالاهتمام بمثل هذه التقنيات الفنيَّة المتتابعة إنتاجياً والمتراتبة أُسلوبياً تتطلَّب من الكاتب أو الرائي أو السارد فهماً عميقاً بدراسة جوانب القصَّة الأخرى، وإدراك أهمية الحدث السردي، واستشراف الأسس البنائية المهمَّة التي يقوم عليها؟ والسَّرد الذي يستند إلى الطريقة المُثلى التي يقوم بها فنيَّاً وعملياً، وتروى بها القِصَّة، ويُحكى بها المتن السردي عبر وسائل التعبير المعروفة كالحوار والوصف والصراع والإدهاش الصادم والمفارقة،وحركة الصعود والهبوط الدرامي لعقدة النصِّ وفق سلسلةٍ منتظمةٍ من الأحداث الزمكانية المرتَّبة يُسمَّى سرداً قصيَّاً مُحكماً لا غبار عليه.

أمَّا السرد الذي يخرج عن تقنيات المبنى القصصي الحكائي وينحرف بمعناه، أو يميل بلغته غير الفنيِّة إلى لغة التعبيرية الإنشائية،أو يقترب منها كثيراً، فيحتملً أنْ يكون سرداً إنشائياً آخر عابراً لقواعد القصصيَّة، وغيرَ مكتملٍ في تعاضد عناصره الفنيَّة بعضها بعضاً. ومن الطبيعي أنْ يكون غيرَ مُؤدٍ لمفاهيم آلياته واشتراطاته الحكائية الصحيحة التي تقوم عليها فكرة البناء القصِّي القصير.

إنَّ إهمال الشخصيات، أو ما يسمَّى بـ (الفواعل) الحدثية في المرويَّات السرديَّة، وجعلها عائمةً في التوصيف، وعدم رسم ملامحها الحركية رسماً فنيَّاً واضحاً في عجلة صراعها البيني الدائر مع المجتمع أولاً، أو مع الشخصيات الأخرى ثانياً، أو مع نفسها في بؤرة صراعها الداخلي النفسي ثالثاً. وبالتالي عدم ارتباطها الموضوعي الوثيق مع ديناميكية الحدث الدرامي الأكبر أو ما يسمَّى بـ (الفعليات) ارتباطاً تخليقيَّاً مؤثِّراً. ومن ثمَّ تلاشي توثيقها الزماني لواقعة الحدث المكانية التي ترتبط فعلياً بزمانٍ ومكانٍ مُحدَّدٍ ما. وكلُّ ذلك يُهدِّد فاعلية البناء السردي الحقيقي ويُحطِّم الجدار الداخلي لفنِّ القصَّة القصيرة ويخرجه عن جادة صواب السَّرد القَصصي القصير الذي يُعدُّ أصعب فنون السرد وأجناسه قاطبةً، وأكثرها تعقيداً وأهمية في نقديات تقانات إنتاج السرديَّات الحداثوية.

فالفنُّ القصصي أو الروائي بطبيعة الحال ليس مجرد أَخْبَارَاً أو ذكر حكايةٍ ما تسبقُها فكرةٌ، أو تَسطيرُ فكرةٍ تعقبها حكايةٌ متوالدة الأفكار، وليس مجرد تنظيم حدثٍ سرديٍّ رئيسٍ أو ثانويٍّ عابر لقصديته،أو تحشيدٍ لحركة شخصياتٍ غيرِ فاعلةٍ في صراعها الشخصي أو المادي، أو وجود حوار فعلي درامي،وسرد وحادثةٍ وَوصفٍ مُتسلسلٍ أو دائريٍّ في القِصَّة القَصيرة؛ بل هو توظيف حقيقيٍّ لجميع هذه العناصر الفنيَّة، واستنطاق لجماليات صورها الصوتية والحركية والفعلية المتعدِّدة التي تُدهش ذائقة المتلقِّي وتُلبي هَمَّ رغباته الرُّوحية والعقلية في اختراقها المذهل له، وكسرها لجدار المألوف اليومي الذي اعتاد عليه في حركة الصراع لدورة الحياة التقليدية الرتيبة المُنمَّطة الشكل.4216 ابراهيم صغير

بَياناتُ المُدوَّنةِ القَصصيَّةِ

إنَّ قراءتي الذهنية الفاحصة وتَتبُّعي التأمُّلي لطيَّات مدوَّنة (النِّيرن) القِصَصيَّة لكاتبها القاصّ والشَّاعر العراقيّ المَيسانيّ إبراهيم زغير ظاهر، والصادرة بطبعتها الأولى عام 2024 عن دار أكيودي للثقافة وبِحجمٍ كميٍّ ورقيٍّ من القطع المتوسِّط بلغ نحو (186) صفحةً، والتي وتضمَّنت محتويات تشكّلاتها الإنتاجية (52) نصَّاً قصصياً توزَّعت موضوعاتها القصيرة بين عنواناتٍ فكريَّةٍ بلغت (31) عنواناً فنيَّاً، وعنواناتٍ ماديَّةِ وحسيَّةِ احتوت على (21) عنواناً سياقياً. ستلفتُ هذه المتابعة الميدانية الانظارَ إلى قصدية (التوطئة) التي وضعتها مِهاداً أو مقدِّمةً لدراسة محتوى هذه المجموعة القصصية المُحتَشَدَة في نسق تكثيفها الكمي؛ لكي نضعها إجابةً صريحةً لمعيار النقديَّة.

عَتباتُ المُدوَّنةِ القَصصيَّةُ

واللَّافت جدَّاً للقارئ عتبة المدونة العنوانية الرئيسة (النَّيرن)التي تصدَّرت لوحة الغلاف الأول الخارجي للمجموعة الرَّمادي الفاتح اللَّون. فالعنونة قد تَضيف بُعداً جمالياً ودلالياً لفنيِّة القصِّ، وقد تكون خلاصةً تكثيفيةَ موجزةَ عن مسار القَصِّ. و (النِّيرنُ) عنوان حسِّي صوري وأيقونة سيميائية علاماتية دالة على نوع من سيَّارات النقل نسبةً إلى مؤسِّسها في العراق صاحب شركة نيرن للنقل في الشرق الأوسط (نورمان نيرن) وأخيه اللَّذينِ اشتهرا بهذه الماركة السيميائيَّة العربيَّة العالميَّة.

ودالة (النّيِرن) كانت في الحقيقة عنواناً لقصةٍ فرعيَّةٍ، ولكنْ من باب إطلاق اسم الجزء على الكلَّ وظِّفت هذه السمةُ عتبةً عنوانيةً رئيسةً استحباباً وغلبةً وشهرةً لاسم هذه المجموعة التي لا أجد لها صلةً فكريَّةً ودلاليَّةً، أو عَلاقةً مباشرةً أو غيرَ مباشرةٍ بموضوعات هذه المدوَّنة الفكرية والحسيَّة الثانوية. وكانت الغلَّبة للعنوانات الفنيَّة في هذه المُدونة على نظيرتها السياقيَّة التقريرية الأخرى.

وكان من الأجدر بالقاصَّ إبراهيم زغير أن يختار لها عنواناً فنيَّاً آخرَ مثل، (القَدرُ...حِينَما يتَكَلَّمَ)، الأكثر جَدوى في علاقته الفكرية البعيدة والقريبة بالعنوانات الثانوية الأُخَرى القريبة جداً من الاسم. أمَّا الغلاف الخارجي الخلفي للكتاب فقد تصدَّرت لوحته صورةٌ شخصيةٌ للكاتب، وجزءٌ سرديٌّ من نصِّ قصَّة النِّيرن الفرعية،كأنِّي بالقاصِّ في هذه القصَّة يتحدَّث سيريَّاً عن ذكريات أيامه الخوالي بهذه الرِّحلة المكوكية من مدينته الريفيَّة الجَنوبية العُمارة لمدينة بغداد العاصمة الحَضريَّة.

لعلَّ اللّافتَ الآخرَ والأكثر غرابةً في عتبات هذه المجموعة دالة (الإهداءِ)الشخصي التي خصَّ بها الكاتب قُرَّاءَهُ، ومُتلقيه؛ ولكنَّهً قَصَرَ هذا الإهداء حصراً على نتاجه بعد حدوث رحيله للدار الآخرة. "إلَى الَّذينَ يَتَوَاصلُونَ مَعِي بَعدَ الرَّحِيلِ... بِالذكرَى وَالتَّرحُّمِ.. أَهديهُمُ هَذَا النِّتَاجَ". (النِّيرنُ، ص5).

أسلوبيةُ القَاصِّ الفنيَّةُ

وسيفهم المتلقِّي المغزى الحقيقي من جدوى هذه التوطئة التي استحال فيها نظام الفنُّ القصصي القصير إلى مجرد قصٍّ إنشائي انزاح فيها أسلوب القصِّ الحكائي عن مضمار دائرته التعبيرية المتشابكة العناصر المُوحدَنَة، وخرج فيها الكاتب بأسلوبه الفنِّي التعبيري المِقدَام في كثير من نصوصه السردية إلى خواطر لُغويةٍ وتطلُّعاتٍ صوريَّةٍ، وحكاياتٍ قَصصيةٍ عائمة بلغتها الإنشائية العالية ذات المستوى اللُّغوي اللِّساني المسبوك والدلالي المحبوك،والَّتي فاقت بمخايلها اللُّغوية الفنيَّة ورصد استعاراتها المجازية الجريئة لغة السرد الطبيعي التي هي تُرجمان النص القصصي وبيانه. وحقيقةً مثل هذا الأسلوب التنميطي السادر بلغته التعبيريةلا يتناسب مع أدبيات فنِّ القَّصة القصيرة.

وقد طغت هذه الأسلوبية بسماتها المهيمنة الجديدة على بنية السرد فتلاشت صور وأشكال عناصر الفنِّ القصصي أمام سيل (الإقدام والإحجام) من الطوفان اللُّغوي السَّردي الإنشائي الكبير الذي أغفل باجتياحه اللُّغوي المجازي العارم عمل كلِّ عناصر السَّرد التي اختفت تحت مظلَّة الحدث وتهويماته الإنشائية التي انمازت به أسلوبية القاصِّ المُعجمية في تعامله المباشر مع الكثير من النصوص القصصية التي حفلت بها نصوص هذه المجموعة. ولم يتمكَّن القاص من سلخ جلده الفكري ونكران ذاته التعبيرية الهائمة أمام هذه (المجازية الإنشائية) التي طوَّقت عنقه وبلغت شأوها التمكيني الكبير في أكثر من أربعين قصةً أو نصَّاً قصصياً كاد لها أنْ تكون الأهمية لولا النمطيَّة.

كانت النصوص العشرة الأولى بعد نصَّ رباعية (عيون المرايا-4)القصصية التي تصدَّرت مفتتح الكتاب هي النصوص القصصية الرائدة في تلافيف هذه المجموعة. وهي الأكثر فاعليةً ومراساً وتطبيقاً لآليات قواعد السرديَّة التي التزم فيها قلمُ القاصِّ إبراهيم زغير بعناصر الفنِّ القَصصي المتعارف عليها في أبجديات السَّرد القَصصيَّة والرِّوائية الحديثة والقديمة. فضلاً عن نصِّ قصته الأخيرة المعنونة بـ (معاناة (مُواسي)) التي ختم بها الكاتب السارد زغير مدوَّنته القصصيِّة (النِّيرن*).

إنَّ قِصصاً مثل، (النِّيرنُ، والنَّحسُ، وحبٌّ...في الأمانةِ، والطُموحُ، وَأفاعي، وَالقَدرُ...حِينَمَا يَتكلَّمُ، وإلى هَذا أنتمِي، وَأهدَابٌ ودُموعٌ، وبَيرقُ الدلالةِ، وتَحتَ قَيظِ الِانحرافِ، وعُيونُ الجِسرِ، ومُعاناةُ مُواسٍ)، هِيَ في الحقيقة نصوص حكائيةٌ تستحق فعلاً التأمُّل والدراسة والبحث والتحليل الهرمنيو طيقي والذِّكرَ والتأويلَ المعرفيّ الإبستمولوجي؛ كونها النماذج السرديّة الأكثر تطبيقاً واستجابةً وإمتاعاً وإدهاشاً فاعلياً في جماليات الفنِّ القَصصي القصير الماتع بمفارقاته الانخاطفيَّة.

أمَّا النصوص القصصية الأخرى فعلى الرغم من جماليات موضوعاتها،ورصد أنساقها الثقافية في الفكر والمجتمع والسياسة، ولولا تغليب تهويمات لغتها الإنشائية المتمايزة في وثوبها القافز على  فنيَّة عناصرها التسريدية لكانت محتوىً قصصيَّاً رائعاً مكمِّلاً لمثابات هذه المجموعة القصصية.

ولنقف في هذا المطاف السردي عند نصِّ (عُيون المَرايا-4) متأملين أسلوبية القاصِّ التعبيرية في صناعة وتخليق نصٍّ قصصي قصير أثقلته حمولات لغته المكتنزة بتوصيفاته الإنشائية للشخصية. "اِنغمستْ فِي سِفْرِ فَضَاءِ المَشاعِرِ تِستِشِفُّ أيَّ الرُّؤَى مِصدَاقَاً لِمَا تَقولُهُ المَرايَا، بَعدَ أنْ أَخذتْ مَنحَىً خًطيراً فِي حَالةِ اِندمَاجِ الجَسدَينِ وَشُعورِ القَلبينِ بِالاِنتشَاءِ، الرُّوحانِ اللَّذانِ حَلَّقَا فِي مَتَاهاتِ اللَّا شُعُورِ لِيَضِيفَا عَلَى القَلبينِ حُبَّاً مَلائكيَّاً يَسمُو عَلَى مُمارساتِ الوَاقعِ لِيُتَرجِمَ حاَلةَ الغُلوِّ النَاجمَةِ عَنِ التَّستُرِ خَلفَ فَيضٍ مِنَ الخَيَالِ. صُولَجانُ الأَميرةِ هُوَ مَقلَبٌ أَرسَتهُ بَوادرُ الذَّهابِ إلَى آفاقِ التَّصوِّرِ بِعُمقِ المَرَاياَ، حَيثُ أضحَتْ خَجِلَةً مِنْ أَنْ تُمارِسُ هَوَسَ الحُبِّ الَّذي لَا وُجودَ لَهُ أَصلاً، فَأعارَتْ عَينيهَا لِلمَرايَا بَعدَ فِقْءِ عينيها". (النِّيرن، ص13). فاللُّغة هي الأساس في هذا النصِّ القصصي، وليس الحداثة أو ما بعد الحداثة التي قد يظنُّ البعض أنها كُتِبَتْ وفق متطلباتها الجديدة .

على الرغم من الأنسنة الروحية الجميلة التي انمازت بها فكرة النصِّ الموضوعية في تعامله مع الشخصية في صراعها المادي مع الآخر، فإنَّ الكاتب قد وقع مُنتشياً في تسطيح المتاهات الخيالية البعيدة التي قتلتْ روح الحدث زمكانياً وشتَّتْ صوت شخصيته ولم تَظهرْ حركة صراعه البؤري في لُجةِ هذا الجوِّ الرومانسي المترامي الأطراف، واختفتْ معالم وآثار المكانية المرتَّبة بزمان الحدث.لعلَّ هذا النموذج الإجرائي القصصي المخيالي الذي يقتربُ كثيراً من فنِّ الخاطرة المجازية تنطبق لغته تسريده تماماً في إنتاج معالجاته الحكائيةعلى النماذج السرديَّة الأخرى لهذه المصفوفة.

ومن الجدير بالذكر أو الاهتمام، أنَّ العنونة علامٌة دالة على محتوى القِصَّة أو الرواية. ولنتأمل قُدرة القاصِّ الفنيَّة في نهاية هذه القصة الدالة عتبتها العنوانية على وقع فنيَّة مجازيتها التي وضع لها خاتمة حراك موضوعية عادية غير خاطفةً أو صادمةٍ في تصوير حركة دراميتها البصرية والصوتية المفتوحة للمتقِّي الذي يرغب الكاتب عَبْرَهذه الفراغات النقطية أن يشاركه فعلية الحدث.

"التفتتْ إِلى صِولجانِهَا السِّحريِّ الَّذي فِيِه مِنَ القُوةِ مَا يَدفعُ خِدَاعَ المَرَايَا وَيَصلُ إِلى قَلبِهَا، شَرَعَتْ تَضربُ المَرايا بَذَلكَ الصَولجانِ وَهيَ تَصرَخُ لَا أُريدُ مَرَايَا...لَا أُرِيدُ مَرَايَا..." (النِّيرنُ، ص 14). فخلاصة الخاتمة الموضوعية هنا تشي بالمحاججة والرفض الذاتي لا بالصدمة الفجائية التي تُحطِّمُ جدار مألوف المتلقِّي وتكسر وقع محيطه الخارجي بما هو جديدٌ ماتع لافت لأنظاره ورغباته. وسنكتفي بهذا النص القصصي أُنموذجاً تحليلياً وافياً في إجرائنا التطبيقي للنصوص الإنشائية الأربعين نصاً قصصياً ونشرعُ بتحليل وتفسير وتأويل النصوص الأخرى الأكثر التزاماً بالقصيَّة.

قراءاتُ تَطبيقيةٌ مختارة من نُصوصِ المُدوَّنةِ

- قِصَّةُ (النّيِرنُ)

إنَّ أهم ما يُميِّز قصة (النِّيرن) التي أخذت المجموعة القصصية عنوان عتبتها الرئيس منه، والتي جاءت تسميتها نسبة إلى الأخوينِ النيوزلنديينِ أصلاً (نُورمان وجِيرالد نِيرن) الَّذينِ أسَسا شركة (نيرن للنقل البريِّ)، وكما تُشير قصتهما فقد قَضَيَا شطراً كبيراً من حياتهما بين بغداد ودمشق وبيروت إبَّان الحرب العالمية الأولى. لذلك فإنَّ أهمَّ خاصية تميِّز هذه القصَّة علامتها السميولوجية المتفرِّدة الدالة على سيارات النيرن تلك الأيقونة الصورية العالمية لواسطة النقل السريعة في ذلك الوقت العصيب من تاريخ العراق الحديث. فضلاً عن أنَّها قصة ملتقطة من سحر الواقعية العراقيَّة.

وفضلاً عن كلِّ تلك المزيَّة الإعلانية التي عُرفت بها شركة النِّيرن عالمياً، كونها واسطة نقل لها ثقلها الإنساني والتاريخي والسياسي العتيد المعروف في العالم العربي. لذلك اختار القاص دلالتها الرمزية لتكون عنواناً لإحدى قصصه الواقعية التي انطلق منها هاجس رحلته النيرنية بتذكُّر أيامه.

"غَلبتنِي ذِكريَاتُ الأيامِ الخَوالِي حِينَمَا كَانَ الفَجرُ هُوَ الوَقتُ الأمثلُ لِلسفَرِ إِلَى بَغدادَ فِي (النِّيرنِ)، وَقَدْ رَنَّ فِي أُذُنِي زَعيقُ مُنبِّهٍ إِيذانَاً بِبِدِءِ الاِنطلاقِ، وَهوَ أَشبَهُ بِمُنَبِّهِ بَاخرةٍ كَبيرَةٍ لِدعوةِ المُسافرينَ أَنْ يَأخذُوا أَماكنَهُم، تَهَافتَ المُسافرونَ عَلَى المَقَاعِدِ، وَلَمْ يَستطيعُوا تَمييزَهَا لِتشابِهَهَا، وَبَدَأ الاِضطرابُ بِسببِ الجَلوسِ وَالقِيامِ وَالانتقالِ مِنْ مَقعدٍ لِآخرَ مَعَ شِدَّةِ اللَّغَوِ...وَقتٌ مُستقطعٌ حَتَّى يَستدلُّ كلُّ رِاكبٍ عَلَى مَقعدهِ، بَدَأ ضَجيجُ المُحَرِّكِ يُدَوِّي لِإِعلامِ البَاعةِ وَالمُتسولينَ لِمغادرةِ الحَافلةِ". (النِّيرن، ص 16). الكاتب يسرد الحكاية عن لسان حال بطلها بضمير تكلُّم الفاعلية.

إنّ معطيات هذا النص الحكائي القصير تُشير بوضوحٍ إلى أنَّ القاص إبراهيم زغير لم يتجاوز حدود عناصر الفنِّ القصصي واشتراطاته، فالحدث السردي الواقعي لفكرة الحكاية اتَّضحت معالمه ومساحاته النصيِّة، وحركة الشخصيات ظهرت فواعلها الصورية بتجلٍّ مرئي بصري متراتب. أمَّا العناصر الزمانية والمكانية فقد حُدِّدت في طيَّات الحدث، وحتَّى العلامات السيمائية أخذت محلّها الرمزي الأيقوني الدال على إعلان الحركة التنبيهية التي أطلقها مُحرِّك السيَّارة لمغادرة الحافلة.

وعلى وفق ذلك التراتب الزمكاني سارت مجريات الحدث السردي بتشويق لوقع هذه القصَّة وما رافقها من أحداث ومفارقات خلال هذه الرحلة التي تُشبه سيرتُها أسلوب الرحلات الأدبية حتَّى بلغت منتهاها بتلك الخاتمة الإدهاشية التي وظَّفها الكاتب بطريقة غرائبية غير معهودة التوصيف. "بَلغَتْ السَّاعةُ الرَّابعةُ فَجرَاً، وَطَأَتْ إِطاراتُ (النِّيرنِ) أَرضَ بَغدادَ، فَتَرَجَّلنَا إلَّا إنَّنا لَمْ نُدركْ فِي أيِّ اِتَجاهٍ نَسيرُ". (النيرن، 19). ويبدو لي أنَّ طول الرحلة والنَّصبَ كانا السبب في هذا الذهول النفسي.

- قصةُ (النَّحسُ)

أمَّا النصُّ الأخر الذي يطالعنا تالياً لنصِّ النِّيرن، فهو قصَّة (النَّحسُ) الدالة عتبتها العنوانية اللَّفظية على معنى واقعتها الحدثية التي تتطلب مِنَّا وقتاً من التفكُّر والتأمُّل؛ كونها جاءت تجسيداً فنيَّاً مماهياً لديستوبيا آثار سحر الواقعية العراقية، وبوصفها توصيفاً دقيقاً لانثيالات الواقع الاجتماعي الإنساني الذي مرَّ به الفرد العراقي المكافح في تـأثُّره بتتبع ِشعبياتِ موروثاته عبر سنين حياته المنصرمة.

وأنَّ ما يلفت النظر في هذه القصة ذات الطابع الاجتماعي الأسري العامل الذاتي النفسي لسرديَّة مأساوية الحدث الدرامي الموصوف بحكايته (النَّحسُ) التي رافقت شخصية بطلها الذي استسلم لبراثن الواقع المُزري الذي أحلَّ به بؤساً وشقاءً وموتاً ومعاناةً مقابل تصحيح مَساره الاجتماعي.

"ظَهيرةُ يَومَ الغَدِ جَاءَهُم مَنَ يُخبرُهُم أنَّ سَيَّارةَ العَروسِ اِنحرفتْ عَنْ مَسارِها؛ نَتيجةَ المَطرِ الكَثيفِ، وَسَقَطتْ فِي النَّهرِ المُجاورِ لِلشارعِ العَامِ وَقُتِلَ الجَميعُ، الزَوجةُ وَأُمِّها وَالمَرأةُ العَجوزُ وَابنُهَا، وَكَذلكَ سَائقُ السَّيَّارةِ". (النيرن، ص 23). وهنا تظهر قدرة الكاتب الإبداعية في قلب مسار الحدث وتَبَدُّل معالمه من فرحٍ غامر إلى أجواء حزن وغمٍ خَيَّمَ فيه ظلال النَّحس على نفسية البطل.

"لَيلةٌ حَالكةُ الظُّلمةِ، اِختلَى بِنفسِهِ تَحتَ النَّخلةِ فِي وَسَطِ الدَّارِ هِيَ المُواسِي الصَادقُ لِأهلِ الدَّارِ، عَصَاُ صَغيرةٌ بِيدِهِ كَأنَّه يُشيرُ بِهَا إِلَى النَّحسِ". (النِّيرنُ، ص 23). أراد القاصُّ أنَّ يقول لنا بموحيات هذه الدفقة الشعورية الإنسانية إنَّ العلاقة ما بين عصا التشيُّؤ والنَّحس المعنوي هي علاقة إشارية قصدية، وكأنما القدر قد خصَّه بهذا الابتلاء الذي يُغيِّرُ الأحوال من حالٍ لحالٍ آخرَ.

وعلى الرغم من تفاقم كلّ تلك المآسي والنحوسات الحدثية المتلاحقة التي وقعت لشخصيات هذه القصة، فإنَّ السارد أو الكاتب الحقيقي قد وضع خاتمةً تأمُّليَّة مفتوحةً مثيرةً للدهشة ولافتةً للإمتاع بمفارقتها التصويرية عن حركة بطل القصَّة وشخصها الفاعل الرئيس، وعن زوجته الأولى التي لا تُخَلِّفُ واصفاً إيَّاه بحالٍ جديدٍ من اللَّامباة وعدم الاكتراث بتداعيات تراجيديا الحدث المنحوس ."جَلَسَ عَلَى الأَرضِ جَنبَ زَوجتِهِ، وِأخرجَ مِنْ جَيبِ بِنطالِهَ (صَمونتي جَيشٍ وَرأسَ بَصلٍ كَبيرِ)، قَسَّمَ رَأسَ البَصَ لِنصفينِ، نِصفٌ لِزوجتهِ وَالنِّصفُ الآخرَ لَهُ، وَكلٌّ مِنهُمَا (صَمونةٌ) وَاحدةٌ، بَدَأَ الأكلَ وَالتفتَ إِلى الفَضاءِ البِعِيدِ". (النيرنُ، ص 24 ).

ومما يلاحظ أنَّ حركة البطل الدرامية كانت حركةً إيماءٍ صمتيِّةٍ لا صوتيَّةٍ أشبهَ بـإيحاءات مَسرحةِ (التمثيل الصامت)؛ دلالةً على الذهول والانخطاف الشعوري الذي أصابه نتيجة فعل واقعة الحدث.

- قِصَّةُ (حبٌّ ...في الأمانةِ)

والقصَّة الثالثة التي استحقت أنْ تكونَ أيقونةً سرديةً عاطفيةً من أيقونات هذه المجموعة، قصةُ (حُبٌّ...فِي الأمانةِ). ولفظةُ (الأمانة)، هي الاسم الحقيقي الشهير لمصلحة نقل الرُّكاب، أو حافلة نقل الركاب الداخلية المعروفة التي تعمل في داخل المدن والمحافظات العراقية وأحياء العاصمة بغداد.

وإنَّ سرديَّات هذه القصة وفكرتها تظهر جانباً اجتماعياً واعياً من جوانب الواقع المحافظ، وترسم صورةً دراميةً حركيةً إيماجيةً بصريةً متناميةً من صور مشاعر يوتوبيا العشق العاطفية الإنسانية لبطلي هذه القصة الطالبين الفتى (عبد الله)، والفتاة (سُعاد) اللَّذين بدآ قصة حبٍّ صادقة نواتها اللُّقيا في الأمانة؛ لكن انتهت علاقتهما بالفشل الذريع ؛ نتيجة فعل وتأثير التقاليد الاجتماعية الصارمة وانحراف بعض السلوكيات المحافظة القاصرة عن صوابه، والتي ألقت بظلالها الحزينة على فكرة هذه العلاقة الإنسانية البريئة الواعدة التي يمكن أن تنجح لو قُدِّر لها الوعي المجتمعي.

"فِي سِاعةٍ مِنْ سَاعاتِ النَّهارِ المُظلِمَةِ الَّتي اِنقلبتْ فِيهَا كُلُّ مَقاييسِ حَياتهِ، وَرَدَهُ خَبرٌ عَنْ تَزويجِهَا بِمحافظةٍ أُخرَى... وَلَّدَ لَديهِ الخَبَرُ فَاجعةً وَرزيَّةً مِنْ رَزايَا الدَّهر عَلَى كِيانهِ كُلِّه، فَهوَ غَيرُ مُستعِدٍ لَهَا وَلَيستْ فِي حَساباتِهِ". (النيرن، ص 29، 30). هذا الفعل الحدثي المُباغت يدلِّلُ على أنَّ عامل الفشل لم يكن في حسابات تفكير البطل ولم يكن في توقعاته،على الرغم من أنه وارد الحدث.

إنَّ إحساس البطل العاشق عبد الله بألم مشارط الصدمة الكبيرة التي هالتْ بمبضعها شعوره ونَكَأتْ فتق جروحه مما وصل إليه من فشل مريعٍ ذريعٍ وخيبات وجع مرير، فإنَّ ردةَ هذا الفعل المضاد ولَّدتْ لديه شعوراً بالأمل وعدم اليأس والاستسلام لمثبطات واقع الحال وما آل إليه محال المآل. و"غَدَا كُلَّ يَومٍ تَواجدَهُ فِي بَلدتهِ يَجلسُ عِندَ مَوقفِ (الأَمَانَةِ)، وَهيَ تَقُلُّ الرَاكبينَ، ثُمَّ تَبدَأ سَيرَهَا وَهوَ يُراقبُهَا تَبتَعدُ إلى أنْ تَغِيبَ فِي الأُفُقِ...". (النيرن،ص30).هذه هي الصورة السلوكية التي رسمها الكاتب وذيَّلها خاتمة لقصة (حبٍّ في الأمانة)،ولا شكَّ أنها خاتمة موضوعية مفتوحة لوعي القارئ.

واللَّافت للأنظار في تجليات عناصر هذه القصة الفنيَّة أنَّها من القصص البوليفونية القليلة التي صرَّح فيها الكاتب بذكر اسمي بطليها وهما (عَبدُ اللهِ وسُعادُ) على خلاف النصوص الأخرى التي يكون فيها الكاتب سارداً أو رائياً عن شخصياتها، أو سارداً فيها عن أبطالها الرئيسيين والثانويين بصفة الراوي العليم ، أو بضمير المُتكلِّم أو الغائب أو ما ينوبُ عنهما بالصفة التوظيفية الشخصية.

- قِصَّةُ (الطُّموحُ)

أمَّا القصة الرابعة اللّافتة للحدث، فهي قصة (الطُّموحُ)الدالة على مكنون عتبتها العنوانية الطموح. والطموح الذي يستعرضه الكاتب لمتلقِّيه، ويستدعيه لقارئه الواعي، هو الطموح الذي يجمع بين جانبين مُهمَّين من نيل الأماني الشخصية، الطموح العلمي المعرفي المستقبلي، والطموح الحياتي الاجتماعي الذي يسعى إليه الفرد أُسرياً. إنَّه طموح المستقبل الذي سعى إلى تأسيسه البطل برغبةٍ.

بإيجاز إنها قِصَّة شاب جامعيّ طموح، وشابة جامعيَّة أخرى أحبَّ الاثنان تخصُّصهما اللُّغة العربية والأدب العربي وتحابَّا ّعاطفياً بعضهما بعضاً، وتعاهدا معاً في ظلِّ ذلك على الزواج في نهاية تخرجهما العلمي؛ غير أنَّ الشَّاب حال مفاتحته لوالده اصطدم بمعارضته الشديدة لهذا الزواج ورفضه القاطع له، بذريعة العُرف الاجتماعي، (إنَّ ابنة العمِّ لابنِ العمِّ) الذي تفرضه سُنن التقاليد والأعراف الريفية والقبلية البالية المؤثِّرة، فضلاً أنَّ الفتاة من محافظة أخرى ليست محافظتهما.

"لَيلةُ مَملوءةٌ بِالمفَارقَاتِ،مُخيبةٌ للآمالِ حِينَمَا اِنتفضَ وَالدهُ يَرتجفُ كَسَعفَةٍ فِي رِيحٍ شَديدةٍ تَغشَّاهُ الغَضَبُ، وَمَا إنْ سَمِعَ وَالدَهُ يَبغِي الزَواجَ بِفتاةٍ مِنْ مَحافظةٍ بَعيدةٍ، عِندَهَا رَفَضَ رَفضَاً قَاطِعَاً وَنَهَرَهُ بِعُنفٍ قٍائِلاً: ( بَناتُ عَمِكَ أَحقُّ بِالزواجِ)". (النِّيرن، ص 33). ولم يَفلحْ عبد الله في إقناع والده.

والكاتب في استدعائه لهذه القصَّة التي تَحدِثُ أشباهها كثيراً في أطياف المجتمع العراقي القبلي وتضجُّ به وخاصةً المجتمع الريفي ذو التقاليد المتطرفة، استطاع أنْ يحيل هذه الحكاية الواقعية الخبريَّة الفرديَّة إلى فكرةٍ أو ظاهرةٍ جمعيةٍ عامَّة تستدعي الأنظار المفَّكرة إلى التأمُّل ووضع الحلول والأفكار الناجعة لها التي تحول دون استشرائها بين الناس،بالرغم من أنَّها آخذةٌ بالانحسار.

وعلى الرغم من تلك الصور الاجتماعية القاسية بظلمها على الواقع، فإنَّ القاصَّ برغم تصديره السردي الماتع الجميل لمفتتح قصة (الطموح) قد وضع لها نهايةً غيرَ مقنعةٍ لفكرة هذا الطموح الذي جعله معادلاً موضوعياً للنجاح. مُبرِّراً فيه موقف البطل المبدئي من رفض الزواج بامرأة أخرى بديلة للتي أحبَّها إلزاماً بعهد الوفاء. لكنْ هكذا موقفٍ مُضادٍ لا يُحقِّق مبدأ الطموح والأمل الذي يسعى البطل العاشق لنيله؛ كونه يعدُّ هروباً قاسياً من أس المشكلة وليس حلَّاً نهائياً ناجعاً لها.

"هُوَ رَفَضَ فِكرةَ الزَواجِ بِرُمَّتِهَا، مَاذَا يَقولُ لِلَّتي وَضعتْ ثَقتَهَا بِهِ كَيفَ يَتَصرَّفُ؟ قَطَعَ الاِتّصالَ بِهَا وَغَيَّبَ وَجهَهُ عَنهَا، وَنَأى بِجانبهِ بَعِيدَاً...". (النِّيرنُ، ص 33). فكلُّ وسائل الطموح انتهت بالفشل.

- قِصَّةُ (أفاعِي)

القصَّة الخامسة التي نحن بصدد تتبع حكاية سرد فكرتها الموضوعية، هي قصة (أفاعي)أو (أفاعٍ) التي وظَّفها الكاتب في متن مجموعته؛ لينقل لنا جانباً مثيولوجياً صورياً فكريَّاً مهمَّاً آخر من فعل ممارسات شعبية مؤثِّرةٍ ملتقطة من تمظهرات البيئة الاجتماعية التي يُقوم بها جهراً تحت عباءة الدين بعضٌ من الدجالين والمخادعين بالنَّصبِ على عقول الناس البسطاء والسُّذج من البُلهاء الذين يصدقون تلك الأفعال المزيفة والمشينة، ويعتبرونها كرامةً أو جاهاً خاصَّاً بالرغم من أنها تعدُّ نصباً واحتيالاً احترافياً مقصوداً.المهمُّ في نصِّ هذا القصِّ ليس الإخبار عنه؛ بل طرح فكرة الجهل.

"أطبقتْ كَفُّ الجَهلِ عَلَى العُقُولِ لِتُدَنِّسَ جَمالَ الإشراقِ فِيهِ وَغَرَسَتْ مَفاصلَهَا فِيهِ لِتَشلَّ حَرَكَةَ التَّمييزِ بَينَ مَا هُوَ جَميلٌ وَقَبيحُ، فَيسهلُ قَيادُهُ، وَكَذَا تَمريرُ الكَثيرِ مِنَ المَفاهيمِ الَّتي تُرسَمُ لِلتضليلِ". (النِّيرنُ، ص34). إذن فكرة الجهل هي الهاجس الذي يطرحه القاص بهذه الحكاية النسقية.

هذه هي لغة القاص التخييلية في مفتتحه التصديري لحبكة القصِّ المتواتر بفاعليةٍ شخوصه ومفاعيله في سير العلاقة الخطيَّة للحدث الرئيس والأحداث الأخرى التي تقوم بها تلك الشخصيات.

" رَدحٌ مِنَ الزَمنِ اِنقضَى وَانقطعَ ذِكرُ (السَّيِّدِ)، وَبَقَى هُوَ وَأفاعيهُ مَثَلاً يُضرَبُ عِندَ النَاسِ، هَلْ هُناكَ (سَيِّدٌ أبُو الحِيَايَةِ) آخرُ يَستطيعُ تَقمُّصَ دَورِهِ أَمْ عَقُمَتِ الحَيَاةُ؟ رُبَّمَا هُنَاكَ مَا يَعجِزُ (سَيَّدَ أبو الحِيَايَةِ) عَنْ أَداءِ دَورهِ، رُبَّمَا أَيضَاً يَكونُ هُنَاكَ...". (النِّيرنُ، ص 37). أي طَامةُ الجَهلِ تتفاقم وتتزايد.

إنَّ ما يلفت الأنظار في هذه الخاتمة الفراغية التنقيطية التي يتساءل فيها الكاتب باستهجانٍ واستنكارٍ تكراريّ تأكيديّ على لسان حال رائيها التسريدي عن تماثل وجود فاعل الفعل الحدثي لهذا التمثيل الدرامي المفتعل المخادع الكاذب، وربَّما وجودُ رَدةِ الفعل المماثل لنظائر سيِّد أبي الحِيَايَة التي تتعدَّد بتعدُّد الوجوه العامَّة والخاصَّة، وقد تكون الخاصَّة منهم،"سيِّدُ...سَيِّدُ... سيِّدُ.." (النيرن، ص37).

- قِصَّةُ (الرِّياءُ)

ومن بين مفردات هذه المُدوَّنة القَصِّيَّة الأكثر إيجازاً وتكثيفاً وترميزاً وإيحاءً سيميولوجياً ودلالياً قصَّة (الرياءُ) في هذه العنونة التي هي علامة دالة على محتوى القصة المعبِّر عن واقع حال دلالتها الحدثية والفنية التي يُرسل فيها لنا الكاتب إشاراتٍ ضوئيةً لافتةً، وموحياتٍ رمزيةً شاخصةً عن صفةٍ نفسيةٍ ممقوتةٍ من أخلاقيات المجتمع السلبية التي تتماهى فيها مخيلة السارد الكاتب مع حركة بطله الذكوري في تأثيث علاقة الحبِّ العاطفية غير السليمة والمبنية على الخداع والمماراة الكاذبة.

"صَفعنِي عَلَى خَدِّي الأيسَرِ بِشفتيهِ البَاردتَينِ...هَمَسَ فِي أُذُنيَّ مِفرداتٍ مِنْ عِباراتِ الحُبِّ الفَائِتِ هِيَ أَشبهُ بِعمليةِ تَرميمٍ لِعَلاقةٍ آيِلَةٍ إِلى الاِنهيارِ، قُلتُ: - فِي حَياتكَ اِمرأةٌ أُخرَى؟ تَجهَّمَ ثُمَّ اِبتسَمَ. - كَيفَ عَرَفتِ؟- قُلتُ:...- قَالَ حَدَسُكِ فِي مَكانِهِ...". (النِّيرنُ، ص38).رُبَّما الصفح والهمس من علامات الرياء.

هذه الأسطر الإحالية النصيَّة الإخبارية هي كلُّ محتوى سرديات (الرِّياء) الشخصي، وإنَّ ما يُثير الانتباه في خواتيم هذه القصة القصيرة جداً ليس تكثيفها واقتصادها اللُّغوي ومفارقتها الإدهاشية الماتعة فحسب؛ بل طريقة الباثِّ الحوارية لطيَّاتها في معرفة الآخر (الضدِّ) المرأة المعشوقة لسلوك العاشق البطل المُحبِّ المخادع السلبي تجاهها، وإقراره الكلي بفعل الرياء المفتعل. وقد اتَّضحت تلك الصفة غير الصادقة من خلال تقنية الحذف والبيانات الناتجة عن أسئلة البطلة التي أفشت سرَّ هذا الرياء الشخصي وفضحت مصادره وأنساقه رمزياً وإيحائياً كون النصُّ علامةً سيميائيةً دالة.

- قِصَّةُ (القَدَرُ... حِينَمَا يَتَكَلَّمُ)

لقد درجت السَّرديات عامَّةً والقصَّة القصيرة بوجهٍ خاصِّ على أن يكون لها عنونة هي بمثابة عتبة علاماتية رئيسة، أو بوابة الدخول إلى يوتوبيا مدينة القصَّة الفاضلة، أو إلى ديستوبيا الفوضى الفاضحة بكل تجلياتها ونسيج فروعها الجزئية والكليَّة.والعتبة العنوانية قد تكون بعضاً من عناصر الإدهاش والإثارة. حيث تؤطر إلى الإشارة إلى العلاقة الكليَّة الوثيقة بين مكنونات الحدث السردي (الحِبكة)من جانبٍ دلاليٍّ سيميائيٍ والعنونة من جانبٍ فنِّي آخر، وهذا ما يضيف للقصَّة بُعداً دلالياً.

وقد تكون العتبة العنوانية خلاصة إيجازٍ بيانيةٍ مُكثَّفةً لمسار حركة القصِّ السردي وتجلياته. وهذا ما أريد التنبيه إلية والإشادة به من أنَّ أبرز القصص الرائعة لغةً وأسلوباً وإنتاجاً تقنياً وفنياً، والتي يمكن أنْ نعدها سيِّدة قصِّ هذه المدوَّنة النيرنيَّة، قصَّة (القدرُ... حِينَمَا يَتكلَّمُ). إنهَّا حقَّاً النصُّ الذي يشي بأنَّ القصة ليس إخْبَارَاً قَصَصيَّاً مَحكيَّاً، وإنَّما هي أفكارٌ يسمو بها النصُّ ويرتقي بذاته.

 (القدرُ...حِينَمَا يَتكلَّمُ)، هذه القصَّة التي هي على قدرٍ كبيرٍ من الأهمية الموضوعية، والغاية والدهشة والإمتاع النفسي في علاقاتها الخطيَّة المُتحركة وتضاداتها وإيحاءاتها الصورية المتتابعة. وفي تنامي حركة سردياتها المحبوكة حبكاً لغوياً، والمسبوكة سبكاً معنوياً ودلالياً، تُخبرنا خطى حبكة وقائعها الحدثية المباغتة بما يُخَبِّئُهُ القدر السيِّئ لشخصَّية بطلها الذي توحدنَ بين صراع يوتوبيا الحق وديستوبيا شرِّ الباطل. فلمنْ تكون غلبة هذا الصراع الاستهوائي في نهاية الرحلة؟

ذلك الرجل المحافظ الذي اتَّخذ من السلوك الجنسي الشاذ طريقاً مُهلكاً لفعل خيانته الزوجية مع امرأة أخرى. كلُّ ذلك حدث بسبب من انحداره الرخيص، ونزق نزواته المتصابية ورغائبه الشهوانية التي أوصلته إلى هذا المستوى العدمي السِّلبي الوضيع، بعدما كانت ذاته تشكِّل وجوداً رمزياً إيجابياً.فخسر هذا البطل السحري كُلَّ شيءٍ، خَسِرَ ثقةَ زوجته ومحبَّة أولاده وحياته وسمعته وحصنَ مكانتهِ الاجتماعيةِ التي شكَّلت جميعها رأس ماله الذي كلَّفَهُ هِزةً لمستقبل حياته الشخصيَّة.

"أَفلحَتْ تِلكَ الفِخَاخُ فِي أنْ تَكونَ إحداهُنَّ مِنْ ضَحاياهِ تَتَخبَّطُ فِي جَهالةٍ اُحجِبَتْ عَنهَا نُورُ التَّبَصُّرِ، هِيَ تَلتقِي مَعهُ فِي مَعَرَّةِ الجُنوحِ، مَعَ اِزديادِ شَغَفِهَا فِي إفرَاغِ جُيوبهِ، لَا تُجَارَي زَوجتُهُ جَمَالاَ؛ لَكنَهُ فَيضُ الاِنحدَارِ الرَّخيصِ، تَواعَدَاً وَاختَلَاءً فِي وُحُولِ الشّهوةِ المُتدَنيَّةِ، نِتاجاتُ ذَلكَ التَّقارُبِ المُريبِ، أُسدِلَتْ غِشاوةٌ عَلَى العَقلينِ، فَمَا عَادَ يَعنيهُما أَيُّ السُّبلِ أَصلحُ سِوَى سَبيلِ الاِختِلَاءِ، أَينَ؟ وَكيفَ؟". (النِّيرن، ص39).فهذه رمزيَّة واضحة عن مؤثِّرات رغبة الانحراف الجنسي.

هذا الملخص القصصي الإيماجي التصويري الدرامي لواقعة الحدث، وهذا الانحدار السلوكي الجنسي الشاذ البغيض هو عماد الفكرة المخيالية التي وضعها السارد، وهو أس المشكلة ونواة تقصيصها التي يفهما المتلقِّي. النزوة التي أوصلت بطلها الرمز المثالي إلى قاع الحضيض، وألقت به في نار الخيبة وجحيم دنيا الخسران الذي كلَّفَهُ ثمنَ حياته الاجتماعية؛ نتيجةَ غواية أفعاله السلوكية الداعرة وتخبُّطه الخُلقي المكبوت الذي لم يحافظ على جداره الخارجي من أثر النزوات.

ومن الخطلِ أنَّ البطلَ قد ساقته قدما القدرِ المُقدَّرِ لهُ، أنَّ هذه المرأة التي اختلى بمعيتها فعل الممارسة الجنسية الشائن مصدر الرذيلة ونسقها الثقافي المُضمر أنْ تكون زوجةَ مفوضِ الشُّرطةِ الذي كان البطل موقوفاً لديهم في نَظَارَةِ سجن المركز؛ بسبب ارتكابه حادثَ دهسٍ لطفل بسيارته.

فمفوض الشرطة هذا، هو الرجل الذي انتخاه بطل القَّصة المهندس المغامر المُنحَرّف من أجل ستر الفضيحة، وردماً للعار وتجنُّباً للمعايب والفواجع التي لحقت به؛ لإنقاذ تلك المرأة الفاجرة زوجة المفوض التي تركها البطل تختبئ في خزانة الملابس في بيته خشيةَ أن تراها زوجته التي غادرت البيت مع أولادها، والتي تفاجأ بها المفوض منذهلاً ومبهوتاً من فجائية المشهد الذي ساقه قدر الفضيحة لسترها بدلاً من قتلها ، فلنتأمَّل وقع مسرح المفارقة الحدثية الصادمة بتجلِّياتها الآنية.

"ِاِنجلَتْ لَهُ الحَقيقةُ، فَقَالَ: مَا الَّذي جَاءَ بِكِ إِلى هُنَا؟ هَولُ المُفاجأةِ أَخذَهَا بِاقتدارِ فَداحَةِ المَوقفِ وَجَعلَ فَمَهَا يَبتلعُ كَلماتِهِ، رَصاصاتُ المَوتِ مَزَّقَتِ الحَيرَةِ،؟ وَجَّهَ رَاحلَتَهُ عَودَاً مُثقلَاً بِرزايَا الفَضيحةِ الَّتي فَاضَتْ عَنْ قُدرةِ تَحمُّلِهِ، قَدَمَاُ ساَقتَاهُ بِدونَ إرادتِهِ، إِلى المَوقفِ، اِستبشرتْ أَساريرُ المُهندسِ ظَنَّاً مِنْ نَجَاحِ المُهِمَّةِ". (النِّيرن، ص 41، 42). ولم يَدُرْ بِخُلده أنها ستتحول لفاجعةٍ مروعةٍ.

فهذه الصياغة الأسلوبية اللِّسانية السَّرديَّة الواقعيَّة المكثَّفة الماتعة التي أثَّثَ بها الكاتب انثيالات تركيب هذه القصَّة التي انبجست منها صور عيون اعتقال اللَّحظة الشعورية الهاربة التي تنامت فيها خيوط نسيج هذه الحكاية الفجائية إلى أكثر من فكرةٍ مسكوتٍ عنها،؛ كونها هاجساً إنسانياً وذاتياً مغيَّباً،فقد استأثرت على اهتمام القارئ النوعي والمتلقيِّ الوجودي العادي معها حكايةً وفكرةً. مما أودى ذلك الاستئثار المعرفي والإنساني إلى تعاطفهما الوجداني والفكري المُتوحدن مع وقائع أحداثها الغرائبية المؤلمة إلى حدِّ الإدهاش والأسى لما آل إليه القدر بمصائر من سار بركاب الأثر.

وهي في الوقت نفسه حملت كاتبها المنتج الذي هو لسان حال ساردها أو مُحكيها أو بطلها أنْ يضع لها خاتمةً حواريةً تساؤليَّةً مأساويَّةً جرت بنيه وبين خصمه (المُفوض المُنقذ) الذي أظهرته مخايل القدر المفاجئ، لكشف مستور الحقيقة المصيرية. الحقيقة التي أنسنها بعفويةٍ صادقةٍ وبعث نسغ الحياة فيها فجعلها قدراً منسياً ناطقاً بالكلم، وترجماناً بيانياً لإعلاء كلمة أثر الحقِّ على الباطل.

"أَمَا عَلِمتَ أنَّهَا مُتزوجَةٌ وَلَهَا ثَلاثَةُ أَولادٍ؟-أَرادَ أنْ يُجيبَ لَكِنَّ صَوتَ الفَناءِ أسرعُ مِنْ فَمهِ، تَرَكَهُ مُضرَّجاً بِدمائِهِ، وَفِي الرَّمَقِ الأَخيرِ قَالَ:-أَحَقَّاً قَدْ تَكَلَّم القَدرُ؟". (النيرن، ص42) بموتِ الجاني الفاعل.

قصة (القدرُ...حِينمَا يَتكلَّمُ)، على الرغم من كونها كُتُبَتْ بطريقة غرائبية تسريدية مُحكمةٍ، وبأسلوبٍ دراميٍّ عجائبي فنِّيٍّ في صراع حبكته التي تجمع مفارقتها التسريدية بين فعل الحُلُم الشائن وفعلية الحقيقة الواقعة، اعتمدت على تقانات عديدة مثل، (الإيحاء والترميز الصوري والفجائية والمفارقة) الإدهاشية الصادمة في صناعة واستدعاء واقعية الحدث وأَسطرتِهِ بالمخيالي الفنتازي، فقد استمدَّت أصول جذورها الفكريَّة ومصادرها الأسطورية المتخيَّلة وأنساقها الثقافية والموضوعية الملتقطة من مثابات رهان الواقعية المجتمعية التي هي انعكاس للكبت والحرمان.

- قِصَّةُ (إِلَى هَذَا أنتَمِي)

القصة الثامنة التي علقت عرضاً بذهني وتفكيري الشعوري ولم تغادر آثارها الزمكانية مخيلتي إلَّا بالحديث عن جدوى واقعيتها الوجودية القارَّة هي قصة (إلى هذا أنتمي). وهي في الحقيقة من القصص والحكايات الموضوعية البسيطة ذات النسق الثقافي الظاهر، والتي يقف خلفها القاصُّ الباثُّ إبراهيم زغير مستتراً بقناع ستر التَّخفِّي الأدبي ، وعدم الظهور للقارئ في كشف غطاء أدب غشاوته السيريَّة الذاتية التي تفضحها وتكشفها للقارئ (الناقد) بوابة عتبها العنوانية الدالة على صدق الانتماء الوجودي الزمكاني لهذا الكاتب الأصيل الذي راح يتماهى بإخلاصٍ ووفاءٍ ومحبَّةٍ مع جذور بيئته الريفية (الأهوارية)، ويرسم لها واقعها التاريخي والحضاري والمثيولوجي الناطق.

 (إلى هذا أنتمي) هي النصُّ السردي الإشاري الواضح، والجملة القصصية الخبرية القارَّة بمعناها الدلالي الدقيق. فهي على الرغم من كونها أُنتجت بأسلوبٍ إنشائيٍّ وإخباريٍّ إعلانيٍّ ماتعٍ يميل في تخليقه السردي الفنِّي إلى الأسلوبية التقريرية المُحبَّبة التي يفرضها الخطاب النصِّي، وليس إلى الإبتذالية الإملالية الماجَّة، فإنها استطاعت بإتقانٍ أنْ تنقلَ لنا مشاهد صوريةً فاعلةً حيَّةً عن أثر جماليات طبيعة الحياة الأهوارية الثابتة منها والمتحركة، سواء أكانت تلك الطبيعة الكونية السومرية إنساناً أو حيواناً أو نباتاً أو بيئةً مائيةً ساحرةً ظاهرةً وخفيَّةً لتلك المستنقعات المترامية الأطراف التي تعايش فيها الإنسان والحيوان والجماد وتوحدنَوا بألفةٍ عجيبةٍ تحت خيمة الأهوار.

لقد تمكَّن الكاتب والأديب إبراهيم برؤى عينه البصرية الثالثة،وبعدسة التقاطاته الصورية الثاقبة، وبهواجسه الشاعرية النصيَّة الواثبة أن يبثَّ في أدبه بواطن الثراء ويبحث بصدقٍ عن مواطن الجمال الفنِّي، وأنْ يدوِّن بشغف ومحبةٍ لتلك الحياة الطبيعية البسيطة الساحرة، ويُؤرخِن لمثابات واقعها الخرافي الأُسطوري وفق هذه التشكيلات السردية الحكائية المتراتبة التي ينتمي إليها انتساباً وتاريخاً وحياةً ضاربة في العمق لا تقف عند حدٍ من حدودها التاريخية المتأصلة.فلنقرأ بودٍّ صوت الكاتب وهو يشدو بهذا الانتماء لهذه البيئة الكونية العالمية عبر رحلة الزمن الماضي والحاضر.

"شَدَدتُ الرِّحالِ لِأختلسَ مِنَ الزَّمَنِ حُقبةً قَدْ تجَاوزَهَا العُمرُ، أَردتُ أنْ أَستعيدَ ذِكرياتِ نَفسِي لَأذكرَهَا بِجذورِهَا عَلَّهَا لَا تَجدُ فُسحةً مِنَ التَمرُّدِ كَي تَتَقمَّصَ خُصوصيَاتِ الآخرينَ، شَمَمتُ رَائحةَ (الهُورِ) المَمزُوجِ بِعُطرِ القَصَبِ الَّذي كَانَ قَدْ قَوقَعَ تَفكيرِي بِدائرةٍ لَا تَتجاوزُ مُحيطَهُ، حَيثُ أضفَى عَليهِ فُطرةً عَلَى فُطرتِهِ الطبيعيةِ، سَافرتْ عينايَ عَبرَ دَهاليزِ الزَمنِ لِأَرَى نَفسِي فِي مَنطقةِ (الجِدِي) كَمَا يَحلُو لِجَدِي أَنْ يُسَمِّيهَا، بُيُوتٌ بُنيتْ فَوقَ مُسطحَاتِ المَاءِ مَرصوفَةً بِأفكارِ الأولِينَ، أَنَا مَخبُوءٌ تَحتَ عَباءَتِها، سَذاجةُ التَّوصيفِ وَالتَّصرُفِ سِمَةٌ وَاكبتنِي مُنذُ الطُّفولَةِ اِستَقَيتُهَا مِنَ الحَياةِ الَّتي لَيسَ فِيهَا مِنَ الجِدِّيَّةِ إلَّا فِي مَجَالِ الأَكلِ وَالجِنسِ، بَطالَةٌ مُقنَّعَةٌ مَا تَجودُ بِهِ طَبيعةُ الهُورِ كَغِذاءٍ يَمنحُنَا القَنَاعَةَ المُطلقَةَ...". (النِّيرن، ص 43). لغة السَّرد تكاد تجمع بين الحُلُمِ والواقع.

في خضم هذه الرحلة التي نقلتنا من خلالها مخيلة الكاتب الصورية الممتلئة حضوراً إلى أحضان

الطبيعة السومرية الأهوارية الجنوبية التي شكَّلت تجلياتها وعلاماتها السيمائية وعلاقاتها الخطيَّة المتتابعة مِساحةً كبيرةً من مشاعر تفكيره ورؤاه السردية الأدبية،مَكَّنتهُ من استدعاء آفاق حاضنتها واسترجاع ذكرياته وطفولته وصباه في مرابعها عبر تحوِّلات تلافيف الزمان والمكان. هي رحلة تجمع بين عبق الماضي الغابر والراهن الحاضر وبين الخيال والواقعِ بهذا التتابع الحدثي السيري القصصي المحايث لجمال الطبيعة. فنصُّ (إلى هذا أنتمي) نتاج ثقافة ما وتمثيل لثقافة تاريخية ما.

وها هو الكاتب إبراهيم زغير يضع بلغته الشاعرية لمدونته القصصية خاتمةً حلميةً متمنياً فيها الاتِّكاء على شاخص من البردي يحمل طيفاً من عبق أحلامه ونثيث ذكرياته النازفة بحنين الوجع. " وَهَا أَنَا عُدتُ بَعدَ تِلكَ السِّنينِ الَّتي لَا أَجِيدُ عَدَّهَا لِسُرعَةِ اِنقضائِهَا إِلَى مَسقَطِ رَأسِي وَمَوطنِ صِبَايَ عَلِّي أَجِدُ شَاخِصَاً مِنَ البَردِي يَحمِلُ ذِكرَايَ". (النيرن،ص44).تخلُّصٌ موضوعيٌّ نَاسبَ الحَدَثَ.

ومن يتتبَّع نصوص مدوَّنة (النِّيرن) القَصصية بتأمُّلٍ وتدبُّرٍ كبيرينِ سيلحظ حِرصَ الكاتب الشديد على أنْ تكون نصوص هذه المجموعة على قدرٍ كافٍ وجهد وافٍ من التنوِّع والموضوعية الفكرية والتعدُّدية النوعية المتفردة، وليس على مستوى واحدٍ من هامش الثقافة التنميطية ومعجمية القوالب السردية النسقية الجاهزة الأطر التي لم تلقَ لها اهتماماً جاداً وأُذناً صاغيةً واعيةً تتلقفها من جمهور القرَّاء والمُتلقِّين. فعناصر مثل التجديد والغرابة والفرادة والمغايرة الموضوعية هي من مزايا هذه المدوَّنة ومن جوهر تكوينها البنائي الفكري. فتعدُّ عنواناً ثريَّاً بارزاً لجماليات الإمتاع والمؤانسة في عمليات التلقي القرائي الحداثويَّة.فالسرديَّة قد تتأتى من التناغم الإيقاعي بين الأفكار والأسلوب.

- قِصَّةُ (أَهدابٌ... وَدُمُوعُ)

ولعلَّ من النماذج التطبيقية الجيِّدة التجريب والدالة الثراء في التنوِّع والتجدُّد والتعدُّد الفكري والمغزى الاجتماعي والأُسري البيئي قصة (أهدابٌ...ودُمُوعٌ) الواقعية التي جمعت في رمزية محتوى مضانها البنائي التكويني المضادة بين ثنائيات (الأمل والألم)، و (الحياة والموت)، و (السكينة والدموع)،و (الرخاء والشدَّة)،و (التَّماسك والتفكُّك)؛ وفقاً لتبعات آفاق حركة الصراع السردي الدائر.

إنّها نصٌّ عائليٌّ بامتيازٍ يحكي بوجعٍ مُجتمعي واقعي فجيعة فقد عائلة مسالمة لزوجةٍ وأمٍّ نتيجة فايروس مرضي عارض عكَّر صفو الحياة، وسوء سلوك فقدان الزوج (الأبّ) إثرَ مَجزةٍ إرهابيةٍ قطَّعتْ أشلاءه في يوم دامٍ تعطَّلت فيه سفينة حياة الأسرة بكدرٍ ألمَّ بها وزاد حزنها بدلاً من الرخاء.

"فَجيعَةٌ تِلكَ الَّتي فُجِعَتْ بِهَا عَائلتُهُ، أَرادَ أنْ يَملَأَ ذَلكَ الفُراغَ لِتكونَ عَينَاً عَلَى وَلَديهِ وَابنتِهِ البِكرِ، وَالَّذينِ لَمْ يَتجاوزَا مَرحلةَ الدِراسةَ الاِبتدائيةِ، كَانتْ أُمَّا رَؤُوماً تَجاوزَتْ الخُطوطَ الحَمرَاءَ الَتي وَضعتهَا العَاداتُ وأَحاديثُ المُتحدِّثِينَ عَنْ زَوجةِ الأبِ، قَدْ تَفاعلتْ مَعَ مُفردَاتِ حَياتِهُم بِصدقٍ وَأمانَةٍ، كَانتْ تَتَرحَمُ رِسالتُها التَّعويضيةُ لِيَتحسَّسُوا أَنَّهم لَيسُوا أَيتَامَاً، فَسَخَّرَتْ جُلَّ وَقتِهَا وَاضعَةً فِي حِساباتِها أنَّهُم يَجبُ أنْ يَتقبَّلُوهَا أُمَّاً لَهُم". (النيرن، ص45)، فنجحت في مهمتها رغم الفقد.

هذه النتيجة الحاصلة التي خلفتها تبعات سلوك الزوج، والتي حلَّت الأمُّ البديلة محلَّ الأمِّ الفقيدة، وأصبحت سكناً لهم ومودةً ورحمةً، حتَّى أنَّها شهقت شهقةً كادت أنْ تزهقها روحها .فكانت خاتمة القصة أشبه بخطاب ذاتي مُوجع موجَّه من الزوجة الراعية إلى الزوج الفقيد إثر الموج الطائفي.

"لَقَدْ أَديتَ وَصيتَكَ وَتَحَمَّلتُ وُزرَ التَّغييرِ، وَتَجاوَزتُ بِكُم مَرحَلَةَ الفَجِيعَةِ، فَمَنْ ذَا الَّذي يَتولَّانِي وَيُنقذُنِي مِنْ فَجيعَتِي...؟". (النيرن، ص48). وتظلُّ المفارقة التساؤلية السِّمة الأشد بروزاً في القصِّ.

ليس المُهمُّ في مدونة (أهدابٌ...ودُمُوعٌ) ذاك الإخبار الحكائي التراجيدي المؤلم عن تلك الواقعة الحدثية؛ بل المُهمُّ ذلك التقطير اللُّغوي اللِّساني الوصفي لجماليات الحدث والذي يصحبه فنيَّاً تقطير صوريّ، والذي من ماهيته الخطيَّة والاستبدال والتضادية والرمزية والإيحائية والإيهام الإضمار.

- قِصَّةُ (بَيرَقُ الدِّلالةِ)

 (بَيرقُ الدَّلالةِ)، النصُّ القِصَصي العاشر نُسِجَتْ خيوط حكايته المتواشجة بعنايةٍ شديدةٍ، وكُتِبَتْ مضان فكرته الشائقة بأسلوبٍ إنشائيٍّ فريدٍ، وهُندِسَت معماريته التأثيثية بلغةٍ تعبيريةٍ أسلوبيةٍ تجمع بين راهن الحقيقة المعيش، ومخيالية التصور الشعوري بِدْأً من نقطة تصدير مفتتحه، ومروراً بمستعرضه وتنامي حوارات صراع حبكته، وتقلُّب سير حركاته ومفارقاته، حتَّى خواتيم نهاياته.

هذا التوصيف الشكلاني من حيث اللُّغة التعبيرية والأسلوب الفنِّي الجمالي المُحكم، أمَّا من حيث عناصره الفنيَّة التي أسهمت في إنتاج وتخليق بيانات أحداثه، فالأمر حينئذ فيها مختلف جدَّاً، فالحدث الفعلي، والشخصيَّات الفاعلية عائمة تسير وفق رويٍّ وقصِّ (ألفِ ليلةٍ وليلةٍ)، وكأنَّ النصَّ يجري في زمن الملوك والوعاظ والسَّلاطين، أي في بيئةٍ أسطوريَّةٍ مخياليَّة ممتدةٍ عمقاً زمكانياً.

وهذا يشي بأنَّ الشخصيات مغيَّبةٌ وخفية تسير خلف حُجُبٍ مستورةٍ إلَّا شخصيَّة البطل الَّتي رسمها الكاتب الراوي، وكأنَّه هارون الرشيد في عصر زمانه الذي لا يعرف أو يُميِّز شخصياً أسماء زوجاته وأبناءه حينما يراهم عابراً وجهاً لوجه. وقد اُبتلِي هذا البطل المُهاب بشهية كَثرة تعدُّد الزيجات التي أوصلته إلى منطقة نائية من مفارقة الإذلال والخيبات والخسران غير المُخطَّط له.

"مَعَ مَا يَتَمَتَّع بِهِ مِنْ قُوّةٍ جَسديَّةٍ عَاليَةٍ أَضفتْ عَلَيهِ شَرَاهَةً بِكَثرَةِ الزِّيجَاِت، بَرَعَ فِي هَذَا المَجَالِ، حَتَّى بَاتَ يُحاكِي عُظَمَاءَ سَلاطينِ العُصورِ الغَابِرَةِ، إنْ وُصِفَتْ لَهُ اُمرأةٌ فِي حَيٍّ مَا، مَا عَلَيهِ سِوَى أَنْ يُكَلِّفَ خاَدمَهُ مَعَ بُدِرِ الدَنانيرِ فَتَأتيهُ صَاغِرَةً". (النيرن، ص49). فَهُيام البطل بالنساء له ما يبرره.

أمَّا مثابات وحدة المكان وارتباطه بالحدث الزماني وثوقيَّاً فَلا ترى له مكاناً مادياً ما على سطح كوكب الأرض، وإنَّما تجده حاضراً في عقل الكاتب رابضاً في إعماق مخيلته وضميره المستتر التي صيرها له بعناية الرائي لصورة هذا البطل (السُّطانية)َ. فهو مكان معنوي متصوُّر فضاؤه المحلِّي أُسطورياً أكثر مما يكون مكاناً وجودياً مادياً مرئياً بكامل أبعاده وتجسَّداته الكُليَّة الشيئية.

"بَيٌت مِنَ البَساطَةِ الفَنيَّةِ لَا يَرتَقِي تَوصيفُ حَاكمِهِ الَّذي يَديرُ مِنْ خِلالِهِ شُؤُونَ اتبَاعِهِ، نَسيجٌ غَيرُ مُتجانِسٍ ،رُوادُ ذَلِكَ البَيتِ، الكَثرةُ مِنْهُم مِنَ النُّدمَاِن وَالخَدَمِ وَالحَشَمِ وَبَعضِ الضُّيوفِ، كَمَا وَأنَّهُ مِنْبَرٌ لِفضِّ النِّزَاعاتِ بَينَ النَّاسِ.". (النيرن، ص50). أيُّ بيتٍ هذا الذي يتراءى لك صورة حُلُميةً!ً

والقارئ الواعي والناقد الحاذق الجادُّ الذي يتتبَّع بحرصٍ وتؤدةٍ أحداث نصِّ هذه القصة (الغرائبية) المتعاضدة الأفكار والحكايات لمعرفة المعنى الدلالي اللُّغوي لدالة (بَيرقِ الدلالةِ)، وكشف موحياته الرمزية، وفكّ شفراته اللُّغوية الدلالية. ومن ثمَّ بيان أنساقه الثقافية الظاهرة والخفيَّة المضمرة لا يجد لها سوى تفسيرٍ وتحليلٍ واحدٍ، ذلك هو المعنى السيميائي العلاماتي والأيقوني لدالة (الرايةُ)، أو بيرق الدلالة العلاماتية للاستدلال على رمزية المثابة المكانية التي أرادها الكاتب مثابةً جنسيَّةً لافتةً رايةً من مثابات تعدُّد زوجات بطل قِصَّتهِ.وسيتِّضحُ من خلال ذلك الرمز أنَّ لكلِّ نصٍّ معنىً قائماً.

"لَمْ يُبرمِجْ طَريقةً لِمباشرَةِ نِسائِهِ، وَإنَّمَا الزَّوجةُ الَّتِي لَهَا دَورُ المُباشرةِ تَرفَعُ بَيرَقَاً يُستدَلُّ بِهِ عَلَى صَاحبَةِ الاِستحقَاقِ". (النِّيرن، ص 50). إنَّ عدمَ اتباع الزوج لطريقةٍ ليس معنى ذلك غير مُمنهج.

والمعنى الرَّمزي الإيحائي لِترفعَ بَيرَقَاً أو رايةً دلاليةً يعني ليلةُ معاشرتها الجنسيَّة هو المنهج البديل للطريقة المباشرة التي لم يتبعها في نوباته الزوجية. ويضع القاصُّ مُلحقاً تعليلياً لشرعية هذه الممارسات الفعلية أو العلامات التي ترفعها الزيجات استدلالاً في يوم التحاق الزوج البطل لمباشرة زوجته ومعاشرتها فعلياً، ويلقي من الناحية الدينية بتباعات هذا الفعل على منهجيته الإيمانية بها.

وحين تصل قمةُ الصراع في (بيرقِ الدِّلالةِ) إلى حدٍّ أقصى أقصاها، والبطل في أشدِّ عنفوانه وزهوه الرجولي من فحولة الشرقي، تصلُّ الحكاية في أبعد تجلياتها مع هذا البطل إلى أسفل أدناها وذلك في خاتمة مؤثِّرة في تخريج منتهاها، لتصف الحال وواقع المحال الفعلي الذي وصلت إليه عظمة هذا البطل الخرافي المائز من التدنِّي والسقوط في الهاوية، هاوية الخيبة والخسران الأبدي.

"أَينَ الدُّنيَا الَّتي وَثِقَتُ بِهَا؟ لَا سَرمديَّةُ فِي الحَياةِ، أَينَ نَظريةُ البَقاءِ؟ وَهَا قَدْ قَرُبَ الفَنَاءُ، أَحقيةٌ أَنَي سَأترِكُ هَذَا المُلكَ الَّذِي هُوَ عُنوانُ العَظَمَةِ، غَامرهُ شُعورٌ بَأنَّهُ قَدْ جَلَسَ بَينَ لُحي أَسَدٍ يَقضمُهُ المَوتُ وَيجرحُهُ تَرَكَ المُلكَ، أَمَرَ خَادمَهُ بَأنْ يَعدَّ لهُ مُتكَأً أًمامً بًيتِهِ، وَأنَّه يَرغَبُ أنْ يَرَى جُموعَ المُعزِّينَ قَبلَ مَفارقتِهِ الحَيَاةِ...". (النيرن، ص 52). هذا هو شعور البطل، خيبات أملٍ ووجع وتراجع. ولم يبقَ من (بيرقِ الدلالةِ) إلَّا علامات الذهول والأسى والألم والمرارة التي وضعها الكاتب خاتمةً.

"هُوَ فَقَطْ يَنظرُ لَا يَقوَى عَلَى الكَلَامِ تَأخذُهُ مَوجةٌ مِنَ البُكاءِ، وَهوَ الَّذي لَمْ يُبكِهِ شَيءٌ أبَدَاً، إلَّا أَنَّ ذَلكَ لَا يُغيِّرُ شَيئَاً مِنْ حَتميَّةِ المَصِيرِ،سَكَتَ ذَلِكَ القَلبُ، الغَبرَةُ عَلَتِ المَيدانَ،وَمَا زَالتْ الأَكدَاسُ مِنَ النَّاسِ تَستعرِضُ، لَا هُوَ يَرَاها...وَلَا هِيَ مُستشعِرَةٌ بِرَحِيلهِ...فَغَدَتْ تَستعرِضُ...!". (النِّيرنُ، ص52).

وقد عمد المؤلِّف القاصُّ بعد هذا العناء من السقوط الذي أطاح بالبطل إلى قصدية تقنية الحذف التنقيطي في صياغة عبارات هذه الخاتمة المؤثِّرة لِحَضِّ القارئ الجادِّ ومشاركته في استتمام هذه الخاتمة الشعورية المفتوحة التي أظهرت تلاشي شخصية بطله، وكشفت عن صور جموع حاشيته الخاصة ومحبِّيه بين واقعية قد تُصدقُ وازدراء لمخياليةٍ قَد لا تُصدَقُ أثرَ واقعةِ الحدثِ الفكريَّةِ.

- قِصَّةُ (تحتَ قَيظِ الِانحرَافِ)

إذا كانت الحكاية تؤدِّي إلى فكرةٍ في نقديةِ السَّرديَّات الروائية والقصصية في الحداثة وما بعد الحداثة، فإنَّ قصة (تحتَ قيظِ الانحرافِ)تُعدُّ من أبرز الانحراف الجنسي، والشذوذ المِثْلِي الذكوري وأغربها دراميةً وتمثيلاً تراجيدياً مُخزياً. تلك الحكاية التي التقطتها عينُ الرَّائي المؤلِّف البَصَرَيَّة الثالثة بدقةٍ من عصرنة عقابيل الواقع ورهان تحدِّيهِ المصير المعيش بمهنيَّةٍ واحترافيةٍ فنيِّةٍ عاليةٍ.

لقد جسَّد فيها القاص الكاتب حركيَّاً وصوريَّاً ودراميَّاً خلال وقع أسلوبيته التسريدية أصدق معاني

الجرأة والمبادأة والإقدَام والشجاعة الفنيَّة في نسج خيوط حكايته الحريرية الناعمة،وإخراج فكرتها الجمعية عبر تتابع أثير مجسَّاته القصصية لمرآة الواقع وإبراز سلوكياته المجتمعية المنحرفة الضافية تحت سطوة النفوذ وترافة العيش الرغيد، ووفرة المال الحرام والتطرُّف الجنسي البغيض.

تستعرض خيوط سرديَّات فكرة هذه القصَّة الحكائية مخرجات التِيهِ والضياع والضلال والانحراف السلوكي الشائن التي أفرزتها إشكالية حمولات شخصية بطلها الازدواجية المُعرَّف اجتماعياً بتاجر الأقطان والأقمشة والمتظاهر بِزِّيهِ العربيِّ مثالاً لسمة التواضع الذي يخفي تحتَ جناحيه عظمة واقعه وثرائه المالي الكبير، ووجاهة مركزه التجاري الرفيع الذي يعرفه الناس علامةً فارقيَّةً عنه.

هذه الشخصية الرجولية الازدواجية الرفيعة القدر، والوضيعة الأثر أسقطت جُلَّ نُبلَهَا الشريف وخلقها الإنساني الأشم العفيف في مستنقع التطرف الجنسي المُغاير. ومن ثَمَّتْ ممارسة شهواته الحيوانية البذيئة مع شاب جميل الشكل ضعيف الإرادة بصدِّه للفعلِ يعمل موظَّفاً بمكتبه التجاري.

"وَفِي بَيتٍ صَغيرٍ هُوَ أشبَهُ بِمُتحفٍ يَطلُّ عَلَى نَهرِ دِجلَةَ لَيلَاً، يَكونُ مَقرَّاً لِممارسَةِ شَهواتِهِ البَذيئةِ، كَانَ يُثيرُ التَّنقلَ بَينَ عَواصمِ العَالمِ لَكِنْ لَا تَطيبُ لَهُ الإقامةُ إلَّا بِمعيتِهِ، وَالَّذي أَصبَحَ لُغزَ حَياتِهِ، حَيثُ التَّملُّكُ جَعلهُ يَبتكرُ أَفكارَاً تَضمنُ بَقاءَ صَبَيهَ تَحتَ كَنَفهِ، بَعدَ أنْ تَقادَمَ بِهِ العُمرُ، هُوَ يَعملُ المُستحيلَ مِنْ أَجلِ أنْ لَا يُفرِطُ بِهِ وَلَو كَلَّفَهُ ذَلكَ ثَروتَهُ أو أيِّ شَيءٍ آخرَ أغلَى مِنْ ذَلكَ، اِرتَأَى تَزويجهُ بِابنتِهِ الوَحيدةِ كَي يُحقِّقَ هَدَفَهُ، الأمُّ وَالبِنتُ تَنظُرانِ إِلَى هَذَا الشَّابِ نَظرةَ إعجابٍ لَهدوئهِ وَجمالِهِ الآسرِ دُونَ قِرَاءةِ أفكَارِ الأبِّ أَو مَعرفةِ نَواياهُ" الحقيقيةِ الخَفيَّةِ (النيرن، ص 53، 54).

لم تقف تطلعات شخصية بطل هذه القصة المركبة عند هذا الحدِّ من الغواية واللَّذة والاستمتاع بالانحراف الماجن؛ بل تعدَّدت مضان تلك الحكاية ونسيج أفكارها حيث غريزة البطل في حبٍّ التملك النفسي الغريزي الذي أكده سيجموند فرويد في تحليلاته النفسية للشخصية غير السوية، لهذا الشاب في أنْ يزوِّجه ابنته الوحيدة كي يضمن بقاءه بالقرب منه، ولو كلَّفه الأمر ثمن حياته كُلُّها.

"طَارَحَهُ الغَرَامَ، لَكنْ الصَّبِي جَابَهَهُ بِالاِمتناعِ، رُبَّما وَفَاءً لِهذهِ الزَّوجةِ المَغلوبِ عَلَى أَمرِهَا قَالَ:- اِعلمْ أَنَّه لَا تُوجدُ قُوَّةٌ فِي الكَونِ تَستطيعُ أَخذَكَ مِنِّي ، وَأنَّي ضَحيتُ بِعائلتِي مِنْ أَجلِكَ وَلَستُ أنثَنِي عَنْ قَتلِكَ وَقتلِهَا إنْ اِقتضَى الأَمرُ ذَلِكَ". (النِّيرنُ، ص 55). إلى هذه الدرجة من الصلابة تمسَّك بحِّب الشَّاب؛ لكنَّ الأقدار تجري بما لا تشتهي سفن الانحراف والأهواء والرغبات التي أعدها لهذا الفعل السلوكي المارق للأعراف الأخلاقية والقيم الشرعية الدينية التي تحدُّ فعل هذه الممارسات السيِّئة.

فما كان من فجائيةٍ مصاديق القدر وثورة الحقِّ المنتصر أنْ تكتشف ابنته التي هي من صُلبه في صبيحة ثاني أيام زواجها من الشَّاب الرذيلة التي مارسها أبوها في مواقعة زوجها غريمه الجنسي. ما أقساهُ من مشهد درامي تراجيدي مُروعٍ مُؤلمٍ تقشعِّرُ له الأبدان ويهتزُّ له الضمير الإنساني الحيّ والوجدان! وما أبشعها من صورة إيماجية حيَّة مستقبحة رسمها الأبُّ هديةً لابنته في يوم زواجها !

"عَادَتْ إِلى الجَنَاح وَجدتهُ مُقفَلاً، اِستغرَبَتْ الأمرَ، فَتحتهُ فِي نِسختِها الخَاصةِ ثُمَّ دَخلتْ، الجَناحُ كَبيرٌ لَمْ تَسمعْ صَوتَاً وَلَا ضَرباتِ أَجزاءِ (الطَّاوليّ) الَّتي كَانَ يَهواهَا أبوهَا، وَلَجَتْ فِي هُدوءٍ وَجدَتْ بَابَ غُرفتَهَا مَفتوحَاً، سَقَطَتْ حَدقاتُهَا عَلَى أبيهَا وَهوَ يُجانِسُ زَوجَهَا وَعَلَى فِراشِهَا، دَوارٌ أصابَهَا كَانتْ لَهَا رَغبةُ التَّقَيُّؤ؛ لَكنَّهَا تَمالكتْ نَفسَهَا وَخَرجتْ مُسرَعَةً دُونَ أنْ يَلحظَهَا أَحدُهُمًا". (النيرن، ص56). هكذا يُصوِّر الكاتب الحالة النفسية المنهارة للزوجة بعد الذي رأته بأُمِّ عينها فعلاً.

إنَّ انتصار فاعلية الشرِّ على جادة طريق الخير أو الصواب في هذه الواقعة الحدثية على الرغم من كونها أمراً مستهجناً وقبيحاً مكروهاً ومرفوضاً عُرفَاً وتَقاليداً ومبدأً، فإنَّه أمام عظمة المأساة وهُول الصدمة ليس أمراً ضرورياً في إتمام الحدث؛ بل الضروري والمهمُّ والحاسم في ردة الفعل فداحة هذا المشهد وما خلَّفهُ من آثارٍ نفسيةٍ كبيرةٍ لدى ابنته التي تراه مثالاً رفيعاً للأبِّ المثالي والزوج الراعي لحقوق الأُسرة والمجتمع. لقد سقطت هيبة هذا الأب القابع تحت مظلة الازدواجيَّة.

كان هول الصدمة المروِّع وواقعة المشهد الصوري الأبوي وهو يمارس فعل الرذيلة المثلية الذكورية مع زوجها الشَّاب أفقدها كليَّاً حياتها الشخصية الخاصَّة ودمَّرها كابنةٍ وزوجةٍ في أبشع صورة من صور الانتحار القصدي الظالم كَردٍّةِ فعلٍ، بدلاً من تقبل هزيمة العار التي لحقت بها.

"دَخَلَتِ الحَمَّامَ وَخَلَعَتْ ثِيابَهَا، غَمَسَتْ جَسدَهَا فِي حَوضِ السِّباحةِ الصَّغيرِ وَانتزعتْ قُطبَي السِّلكِ مِنْ مُجفِّفِ الشَّعْرِ، مِسكتْهُمَا وَذَهَبَتْ إلَى حَيثُ تُريدُ...!". (النيرن ،ص 56).بنهاية مفتوحة خُتِمَتِ القصةُ.

والسؤال الذي لا بدَّ منه، هل الانتحار إزاء هكذا موقف صادم يعدُّ حلاً ناجعاً لتطهير النفس من القبائح وضاءةً للنفوس قبل وضاءة الأجساد الدرنة أمْ أنَّه يعدُّ هروباً عن مسكوت لا يمكن البوح به علناً أمام الملأ؟ أعتقد أنَّ مواجهة الحدث وجهاً لوجهٍ هي أقدس وأنبل ما تقوم به حيال هكذا أفعال.

ومن نوافل القول المستحب التي تُحسب لِمَعِيَّةِ الكاتب القاصِّ إبراهيم زغير وشخصيته الإبداعية في مدونته السردية (النِّيرن)،تلك هي الصورة الشمولية الأكثر اتساعاً لبانوراما التنوِّع الموضوعي، والجِدة الفكرية في اختيار عيِّنات مادته الاخبارية القصصية الثرة (حكايةً وفكرةً) وإنتاجاً وتصديراً.

فبعد هذا التحشيد الكمي الهائل من القصص ذات الأثر الثيمي المُتَّقد، والتي كُتِبَت وقائعها الحدثية الرتيبة كما أشرنا متقدِّماً وفق مخيالٍ حكائيٍّ سرديّ إنشائيّ بامتيازٍ لا يخلو من آثار الحسِّ الواقعي والتقاط تمظهرات يومياته وصور مشاهده الجمعية المألوفة في الحياة. والتي بأسلوبها اللُّغوي تجاوزت آليات كتابة الفنِّ القصصي وعناصره دون مراعاةٍ واضحةٍ لزمكانية الحدث وفاعلية ارتباطه بشخصياته الرئيسة والثانوية التي هي بؤرة الحوار المضيئة والصراع الحركي لمجريات يوتوبيا مدينة السرد الفاضلة. وصراعها المرير مع ديستوبيا قوى الشرِّ وفوضى الصدِّ والمجابهة.

- قصَّةُ (مُعَانَاةُ مُواسَي)

وعلى وفق ذلك النسق الأسلوبي القصصي المغاير في تأسيس مدخلاته اللُّغوية وتأثيث مخرجاته الفنية التي ارتأى القاصُّ أن تكون من أبرز مزاياه المعجمية في صناعةً فنيَّة التعبير القصصي القصير بهذا السمت الإنشائي التصويري يُفاجئُنا الكاتب في قصِّة (مُعاناةُ (مواسي))،أو (مُواسٍ)،وهي آخر قصص هذه المجموعة وترتيبها التسلسلي الثاني والخمسون بالخروج من تبعية وقيود ضِلالهِ الإنشائي والخواطري النسقي القديم، والعودة إلى أحضان عباءة السرد الفنِّي وسياقات عناصر الفنِّ القصصي القصير. ومراعاة اشتراطاته التي لا يمكن الانقلاب عليها أو تجاوز معطياتها القريبة والبعيدة في الكتابة.ولا أدري لماذا هذه العودة المتأخِّرة بعد أن قطع شوطاً كبيراً في نهجه السابق؟

والأهمُّ في تجليات قصَّة (مُعاناة مواسٍ) الأخيرة الدالة على معنى عتبتها العنوانية، والتي ستكون مصدر إدهاشٍ ومفارقة لها، إنها إضمامة لحكاية سرديَّة من إضمامات الواقع اليومي الفردي والجمعي الصارخ بكل توجُّعاته الإنسانية المتهالكة التي تئِنُّ بها عصرنة المجتمع الحداثوي الآني، وتُعاني منها وقائع أحداثه الحالية، وتحذر منها استشرافات آفاقه المستقبلية الحادثة مع تقادم الزمن.

دأب فيها القاص إبراهيم زغير على التقاط ما هو كائن وجودي فاعل، وما سيكون راهناً حالياً في مرآته الصورية العاكسة لمجسَّات هذا الواقع المعطوب. وبإيجاز فنِّي تعبيري وفكري يروي القاص وقع حكايته السردية بواقعيةٍ شعوريةٍ إنسانيةٍ مؤلمةٍ لواحدةٍ من أبرز إفرازات الواقع الصحي العراقي المعيش الحاضر الذي يشكو تعثُّر سير خدماته العامة والحياة الإنسانية الكريمة.

ويستعرض لنا الكاتب السارد بعدسة سوناره الفكري صورياً معاناة امرأة عجوز جِدَّة أُنيطت لها مهمة (المواساة) لطفلٍ مريضٍ هو ابن بنتها، حين اقتضت الأقدار والحالة الصحية السفر به خارج العراق إلى إحدى مشافي الهند. وتدور دوائر التغرُّب على هذه المرأة الجِدَّة العجوز بطلة القصَّة التي لم تخرج حتى من بيتها أو تُبارح مدينتها. تلك هي دائرة الألم والمعاناة والحزن والمرض وعدم قدرتها على تدبُّرها لشؤون أمرها كونها وحيدةً. فكانت في الوقت ذاته هي العليل المواسي الذي بحاجةٍ لِمُواسٍ لتسييِر أحواله حينما تغلق الدنيا أبوابها بوجهها ظلمةً وسواداً وإخفاقاً وكُربةً.

"تَبَرَّعَتْ جَدتُهُ لِأُمِّهِ أنْ تَكونَ (المُواسِي) لَهُ، وَانطلقتْ رِحلةُ العَجوزِ (المُواسِي) مِنْ بَغدادَ إلَى دُبَي ومِنْ هُناكَ إلَى الهِندِ، اِنطلقتْ مَعَهَا المُعاناةُ، حَيثُ البِلادُ الِّتي لَمْ يَطأهَا قَدَمَاهَا، وَلَا تَعرفُ أَيَّ شَيءٍ عَنهَا، اِمرَأةٌ لَمْ تُغادرْ بَيتَهَا طِيلةَ حَياتِها؛ لِذلكَ هِيَ تَجربةٌ صَعبَةٌ، وَلَو لَمْ تَتعَلَّقْ بِحياةِ ذَلكَ الطَفلِ الَّذي هُوَ مُحورُ سَعادةِ بِنتِهَا لِمَا خَاضتها". (النيرن،ص176).أي خاضت هذه التجربة العصيبة.

ليست الأهمية الفنيَّة في تصوير مشاهد ما حدث لهذه العجوز المواسي في حكاية رحلتها الصحيَّة المُؤلمة المألوفة،وإنما تكمن الأهمية الفكرية في هذا السرد الحكائي المرير في ما يتعرَّض له الإنسان العراقي من مهانةٍ وإذلالٍ ومآسٍ حينما يخرج من أرض بلاده ودياره لقضاء مهمِّةٍ من مهمَّات حياته الخاصَّة في الوجود والعدم، وبلده يضجُّ بتلك الإمكانات العلمية والمادية الزاخرة.

"وَالطَّامةُ الكُبرَى أنَّهَا لَمْ تُقِمْ فِي حَياتِهَا كُلِّها بِفُندقٍ، وَلَا تَعرِفُ كَيفَ تَختَارُ فُندقَهَا المُلائِمَ لِمرَضِ طِفلِهَا، وَالَّذِي يَجبُ أنْ لَّا يَبتَعدْ عَنْ المُستشفَى خَوفَاً مِنْ مُداهمةِ المُضاعفَاتُ لَهُ، غَدَتْ تَضرِبُ أخمَاسَاً بِأسداسٍ،الطَّبيبُ العِراقِيُّ المُرافقُ اِتَّفَقَ مَعَ إِدارةِ المُستشفَى عَلَى أَنْ تُقيمَ فِي إِحدَى غُرفِ دَارِ الضِيافَةِ، وَافقتْ إدارةُ المُستشفَى، فَأشارَ عَليهَا ذَوُو المَرضَى العِراقيينَ أنْ تَبقَى فِي اللَّيلِ مَعَهُم دُونَ عِلمِ إِدارةِ المُستشفَى، وَفِي النَّهارِ تَقضيهَا فِي حَدِيَقةِ المَستشفَى...". (النيرن، 177).

بهذه اللُّغة التقريرية المباشرة والقصِّ الحكائي المتراتب يصف لنا القاصُّ صوراً تترى من معاناة هذه السيِّدة العجوز المواسي وإهمالها،ويحكي مكابداتها اليومية وجهادها الإنساني الشخصي المرير في الحفاظ على صحَّة طفلها المريض من أجل إنهاء مهمتها الصحيَّة بسلامٍ. وهي التي قصدت المستشفى بصورةٍ أصوليةٍ من قبل الدولة،لا يتطلَّب منها كلَّ هذا العناء والمفارقات الفجائية المُذلة.

وما حصل لهذه السيِّدة العراقية المواسي من تعسفٍ وإذلالٍ وسوء حالٍ وتقصير ممنهج يحصل لكثير من العراقيين أبناء الوطن خارج بلدهم بسبب افتقادهم لأبسط حقِّ متطلبات الرعاية الصحية والعيش السليم في العراق.وكأنِّي بالكاتب السارد يبعث برسالةٍ إيحائيةٍ مضمرة عن ديستوبيا الواقع المُرتهن إلى القارئ ليفكَّ طلاسم رموزها وشفراتها الدلالية عما يمرُّ به العراقي الذي من حقِّه أنْ ينعم بالسكن وحقِّ الرعاية الصحية وإمكانية التعليم والعيش الرغيد والأمان والاستقرار الدائم.

في منتهى ختام أحداث هذه القصة التراجيدية يُلَوُّنُ لنا الكاتب الرائي في تجريب لوحته القصصيَّة صورتين رمزيتين من صور (الأمل والألم) السيمائية، صورةُ الأملِ والحياةِ السعيدةِ المتفائلةِ لهذا العليل الرمزي المستقبلي التي من أجلها بُنيت عليها أحادث الحكاية وصراعها المرير، وصور اليأس والإحباط والنكوص والمرض والمعاناة الدائمة لتلك المرأة العجوز المواسي لرفقة لطفلها.

"كَبُرَ الطِّفلُ العَليلُ، ولَمْ يَذكرْ شَيئَاً عَنْ مُعاناةِ جِدَّتِهِ (المُواسِي)، وَتُرِكَتْ تُكابِدُ المَرضَ وَلَا تنسَى تِلكَ المَشاهِدَ الَّتي غَدَتْ لَصِيقَةَ حَياتِهَا...". (النِّيرن، ص180).نهاية موضوعية مفتوحةٍ لتقدير المُتلقِّي. والحقيقة إذا كانت صورة الطفل الأولى صورةً فرديَّةً حُرةً وجميلةً، فإنَّ صورة الثانية التي مثَّلَ بها للمرأة العجوز المواسي هي بحدِّ ذاتها تمثِّل صُورةً جمعيةً لمعاناة الشعب العراقي التي لا تنتهي.

خُلاصةُ القولِ

إنَّ كلَّ نصٍّ قصصي من قصص مدونة (النِّيرن) السردية يعدُّ صورةً إيحائية سواء أكانت ظاهرةً أو مضمرةً، وكلُّ صورةٍ منها تعدُّ علامةً سيمائية، وكلُّ علامةٍ دالةً أيقونيةً معنويةً، وكلُّ دالةٍ معنويةٍ هي فكرة ثيمية موضوعية قائمة بذاتها، وكلُّ فكرةٍ أصلها حكايةٌ بسيطةٌ في ظواهرها، عميقة في جواهرها، وقد تتعدَّد فروع هذه الحكاية وتتشعب خيوطها التسريدية إلى أفكارٍ متجدِّدةٍ. وهذا يشي بأنَّ السرد القصصي أو الروائي يبدأ بحكايةٍ ما وينتهي بفكرةٍ أو أفكارٍ متعدِّدةِ الصراع.

إنَّ أهمَّ ما يُميِّز سرديات مصفوفة (النيرن) القصصية ثراء موضوعاتها الإنسانية، والاجتماعية والثقافية والتاريخية والروحيَّة والسياسية والاقتصادية والزمكانية الكونية، وتنوِّع أنساقها الثقافية الخفية والجليَّة. فضلاً عن ذلك تضافر جماليات عنواناتها الانزياحية الفنيِّة، والتقريريَّة السياقية الحسيَّة، والتي كانت بعضاً من عناصر الإدهاش والإمتاع القصصي وموحياته الرمزية. حيث العلاقة الخطيَّة المباشرة وغير المباشرة بين تجلِّيات واقعة الحدث السردية وثريا النصِّ العنوانية.

والتي جاءت مضان أفكارها وحكاياتها الإخبارية تماهياً سرديَّاً وتعبيراً لسانياً صادقاً عن الخروج من خطِّ الفردية الذاتية الضيِّقة إلى سحر الواقعية الذاتية الجمعية العراقية الواسعة. والتي هي مُوئلُ هَمِّ الإنسان وآثار خيباته وخطى وجع نكوصاته اليومية المتكرِّرة التي تمثِّلُ حداثوياً في يوتوبيا المدينة الفاضلة أدب سرديات الانفتاح نحوَ هُويَّة الضدِّ الآخر المقموع والمسكوت عنه قَصديَّاً في ديستوبيا المجتمع غير الفاضل. ذلك هو عالم المسخ والظلم والفوضى والتَّجرُّد عن قيم الإنسانيَّة.

***

د. جبَّار ماجد البهادليّ - ناقدٌ وكاتبٌ عراقيّ

بقلم: راشيل هانيل

ترجمة: د. محمد عبدالحليم غنيم

***

فى هذه المقالة: تتحدث راشيل هانيل عن تدريس كلاسيكيات الجريمة الحقيقية للنساء السجينات

في يوم شديد الحرارة من شهر أغسطس من عام 2022، دخلت المعهد الإصلاحي الفيدرالي للنساء في واسيكا بولاية مينيسوتا، وهو واحد من 29 سجنًا فيدراليًا مخصصًا للنساء في الولايات المتحدة. منشأة ذات إجراءات أمنية مخففة تضم ما يقرب من 800 امرأة مُدانات بارتكاب مجموعة متنوعة من الجرائم بدءًا من التهرب الضريبي وغسل الأموال إلى حيازة المخدرات والقتل.

وأنا هنا لتدريس مقرر جامعي: الأخلاق في الأدب، مع التركيز على الأعمال الواقعية. سنبدأ مع رواية ترومان كابوت الكلاسيكية بدم بارد.

قبل الدورة، مرت سنوات منذ أن قرأت الكتاب. تذكرت القصة الرئيسية: مقتل أربعة أفراد من عائلة كلاتر في هولكومب، كانساس، في 15 نوفمبر 1959، ومطاردة القتلة، ريتشارد هيكوك وبيري سميث، والقبض عليهما وإعدامهما في نهاية المطاف. لكن ما لم أتذكره: إلى أى حد يرسم  الكتاب صورة متعاطفة لسميث.

يصور كابوتي – متعمدا -سميث كإنسان أولاً، ثم مجرم بعد ذلك .

يظهر سميث لأول مرة بضع صفحات فقط في الكتاب. يقدمه كابوتي كمغامر، ومسافر حول العالم، يتنقل بين ألاسكا وهاواي واليابان وهونج كونج. نعلم أنه يحب الكتابة والرسم والغناء: فهو يتصور نفسه كفنان وقد فكر بالفعل في اسم مسرحي: بيري أوبارسونز. ويصفه كابوتي قائلاً: "عيون داكنة رطبة"؛ "شفاه وردية وأنف مرح"؛ "نوعية من الرسوم المتحركة الشريرة."

ينتظر كابوتي حتى نهاية الكتاب ليكشف عن الحقائق البشعة للجريمة. فقط بعد أن قرأنا وصفًا تفصيليًا لخلفية سميث الدرامية، علمنا أن سميث هو مطلق النار. عمدًا، يصور كابوتي سميث أولاً كإنسان ثم كمجرم.

تقع المنشأة الفيدرالية في ويسيكا، مثل العديد من السجون في الولايات المتحدة، في أطراف بلدة صغيرة في منطقة ريفية، بعيدًا عن المركز الحضري. نقوم ببناء سجوننا بعيدة عن الأنظار، مما يجعل من السهل تجاهل البشر داخل الجدران.

يبدو الصف في سجن ويسيكا كأي صف آخر. تجلس الطالبات اثنتين في كل طاولة. هناك لوح أبيض أمام الغرفة. عندما أدخل، تتمركز أربعة عشر زوجًا من العيون علىّ. النساء يبتسمن؛ الغرفة تفيض بالدفء والطاقة. بالنسبة لي، هؤلاء النساء هن طالبات في المقام الأول. لا يهمني ما فعلن للوصول إلى هنا، ولا أحتاج إلى معرفة ذلك.

بصراحة، لم أر التناقض في إدخال كتاب جريمة حقيقية إلى فصل السجن حتى بعد بدء الصف. كنت قد نظرت إلى الكتاب فقط من منظور الأخلاق في كتابة النصوص غير الخيالية. الكتاب ينتهك عدة مبادئ للصحافة التقليدية: المصادر غير واضحة، يعيد كابوتي إنشاء كميات كبيرة من الحوارات، يتكهن بما كان يفكر فيه أفراد عائلة كلاتر في يومهم الأخير، والمشهد النهائي يأتي مباشرة من خيال كابوتي.

لكن على الفور، تفهم الطالبات الصورة الكاملة والمفصلة بشكل استثنائي التي رسمها كابوتي لسميث. يعمل الصحفي التقليدي على الحفاظ على خط بين المهني والشخصي. ولكن من الواضح أن كابوتي وضع علاقة وثيقة مع سميث بحسب كل الحسابات.

وفقًا لكثير من الأشخاص الذين عرفوا كابوتي، رأوا أنه وصف شيئًا من نفسه في سميث. كان كلاهما قصير القامة. وعانى كلاهما من طفولة قاسية تضمنت تخلي الوالدين عنهما. كان كلاهما ذكيًا ، ولديه ميل إلى صياغة الكلمات. وفى الأخير كان كلاهما مثلي الجنس.

حتى يومنا هذا، فإن الطبيعة الدقيقة لعلاقة كابوتي بسميث غير واضحة. ربما لم يكن الأمر أكثر من مجرد تلاعب من جانب كابوتي، حيث تحدث الكاتب مع الشاب خلف القضبان، وأغرقه بالهدايا والإطراء، وساعده في الأمور القانونية، كل ذلك في محاولة لإقناع سميث بسرد قصته الدرامية. وادعى آخرون أن كابوتي وسميث وقعا في الحب.

بقطع النظر عن الحقيقة، فإن  كابوتي يقلب السرد التقليدي. تتوقع النساء اللاتي أقوم بتدريسهن أن تركز قصة الجريمة الحقيقية على الضحايا، ولكن عائلة كلاتر تظهر فقط في البداية. فالعائلة تكاد تكون مجرد وسيلة للوصول إلى القصة الحقيقية، قصة سميث. سألت: "هل من الأخلاقي أن يصوّر كابوتي سميث وهيكوك بإنسانية؟  "إنهم قتلة مدانون، بعد كل شيء". أسمع جوقة تقول "نعم" وأرى الإيماءات القوية للرؤوس.

في الواقع، أعطى كابوتي للقراء الفرصة لرؤية سميث بعيدًا عن وصفه كمجرم.

هؤلاء النساء يعرفن ما يعنيه أن يتم تصنيفهن. بالنسبة لهن، يبدو الأمر كما لو أن الزمن قد  توقف عند إدانتهن. بالنسبة للمجتمع، لم يعدن صديقات ، أوأمهات، أو أخوات، أو بنات.  تم محو  كل شيء جيد فعلنه من قبل . كأنهن حفريات محاصرة في العنبر، فإنهن مجرمات إلى الأبد.

قمت بتدريس الفصل مرة أخرى في الفصل الدراسي التالي، وهذه المرة في سجن النساء التابع للولاية على بعد حوالي 20 ميلاً خارج مينيابوليس. تمسكت هذه المجموعة من النساء أيضًا بالعلاقة بين كابوت وسميث، ومرة أخرى أجرينا محادثات مثيرة للاهتمام حول كيفية تصوير المدانين بارتكاب جرائم ضد الإنسانية.

طلبتُ من إحدى النساء في الفصل أن تخبرني بالأفكار التي أثارها الكتاب لديها. كتبت: "أسوأ عقوبة يمكن أن نتلقاها هي عندما يتوقف المجتمع عن اعتبارنا بشرا ويبدأ في تصنيفنا كمجرمات، أو سجينات، أو مجرمات سابقات".

في الواقع، أعطى كابوتي للقراء الفرصة لرؤية سميث بعيدًا عن وصفه كمجرم. يقول جورج جاريت، الذي يكتب في مراجعة فرجينيا الفصلية، إن كابوت يقدم لسميث "تعاطفًا عميق الأبعاد".

أرى بعضًا من نفسي في النساء اللاتي أُدرِّسهن. إنهن ذكيات ومضحكات، تقريبًا كلهن من محبات القراءة. إحداهن تكتب سيرتها الذاتية. لقد ارتكبن أخطاءً سيئة. وأنا أيضًا. لم أرتكب جريمة، لكنني قد جرحت أشخاصًا. لم أقتل رجلاً، ولكنني قد أذيت روح رجل. لا أرغب في أن أُعرف فقط بسبب تلك الخيارات. لا أريد أن يكون الجزء الأدنى من حياتي هو الشيء الوحيد الذي يعرفه الناس عني.

بعد تدريس الكتاب لأول مرة في سجن واسيكا، عدت لأعيد قراءة كتاب كابوتي. كتب فرانسوا فيلون، المترجم عن الفرنسية، في "أغنية المشنوقين"::

أيها الإخوة البشر الذين يعيشون بعدنا،

(لا تقسو قلوبكم علينا)

لأنكم إذا أشفقتم علينا نحن الفقراء،

فعاجلا  يرحمكم الله .

***

.............................

الكاتبة: راشيل هانيل / Rachael Hanel: تعيش راشيل هانيل وتكتب خارج مانكاتو، مينيسوتا. وهي مراسلة صحفية سابقة ومحررة وتقوم بتدريس الكتابة الإبداعية في جامعة ولاية مينيسوتا، مانكاتو. وهي مؤلفة أكثر من 20 كتابًا واقعيًا للأطفال. سنكون آخر من خذلك: مذكرات ابنة حفار القبور، هو كتابها الأول للبالغين. راشيل حاصلة على درجة البكالوريوس في الاتصال الجماهيري والتاريخ ودرجة الماجستير في التاريخ، وكلاهما من جامعة ولاية مينيسوتا، مانكاتو. حصلت على درجة الدكتوراه. في الكتابة الإبداعية من جامعة باث سبا.

https://lithub.com/what-truman-capotes-in-cold-blood-reveals-about-its-authors-intentions/?utm_source=Sailthru&utm_medium=email&utm_campaign=Lit%20Hub%20Weekly:%20July%208%2C%202024&utm_term=lithub_master_list

تَقديمٌ: من بين حقائق المُسلَّماتِ والأبجديات النقديَّة في حركة الحداثة السرديَّة وما بعدها، عندما يكون الأديب ناقداً شعريَّاً أو سرديَّاً، يكون له كيانه النقدي الخاصُّ بذاته الوصفية التي يُشارُ إليها -تعريفاً وتشخيصاً- بِبَنَانِ النقديَّة، ويُنظر إليها بعين الاعتبار نظرةً مُستقلةً في فاعليته النقدية. وبالتالي يُعرف جهده الكشفي والتنقيبي الأثري الذي يَنماز به بهذه المَهَمَّة المعرفية غير العادية. ولكنْ عندما تكون الصفة الذاتية للأديب -مشتركةً إئتلافية- أي أنْ يوصف الأديب بكونه ناقداً وسارداً روائيَّاً فاعلاً، فتلكَ -وَأَيمُ اللهِ- نظرةٌ اعتباريةٌ أخرى تختلف في سياق مهمتها الفاعلية وسمتها النقدي وحدَّها التعريفي الوضعي الاتّحادي عن النظرة الاعتبارية التوصيفية الأولى المُنفردة الأثر.

ولعلَّ هذا المدخل التعريفي الموجز بمهام توصيف الذات الإبداعية الناقديَّة العامّةً، والناقديَّة الأدبيَّة الخاصةً يُحيلنا التمهيد فيها إلى ذلك الأديب الذي يجمع في مهام وظيفته الأدبية الإبداعية الثنائية، بين صفتي الناقد والسارد معاً. وهذا التفرُّد النوعي الأخير هو ما يُميِّز السيرة الأدبية الضَّاجَّة الفكر للكاتب العراقي علي لفتة سعيد بوصفه روائياً وقاصَّاً سارداً، وشاعراً، والناقدَ الأمهرَ الباحثَ في خطاب البنائية السردية على المستوى الروائي الفنِّي العربي والعراقي المَحلِّي.

ذلك الهاجس النقدي الذي يمكن أنْ نطلق عليه اعتباراً –لا تَرَفَاً أو بَطَرَاً أو تزلُّفاً مجانباً لغير الحقيقة الموضوعية-  صفة  (شاخصُ الفاعليَّةِ السرديَّةِ)، وأعني قصديَّاً بذلكَ  ما أقولُ مِنْ أنَّ عليَّاً  هو المِهْمَازُ الضوئي والحركي الباحث -صبراً وتأنيَّاً- في تجلِّيات البناء السري، والكاشف تأويليَّاً لمرافئ محطاته التكوينة في فنِّ الرواية.وذلك كون الرواية تعدُّ جنساً أدبيَّاً  يتَّسم بصفة العالمية من حيثُ السعةُ والانتشارُ الفنِّي، والمقبولية المُغريَة لجماليات التلقِّي القرائي عند جمهورٍ كبيرٍ ونوعيّ متفرِّدٍ في وعيه من القُرَّاء والمتلقِّين الذين يجدون فيها مرآتهم الحقيقية الضالة، ويرون فيها تجسيداً وتعميقاً حيَّاً لِهُويتهم الشَّخصية والذاتية المستلبة إمتاعاً وابتداعاً في شتَّى مجالات الحياة الكونية.

إنَّ نافلة القول بإطلاق مُصطلحين اثنين مُزدوجين على الروائي العراقي والأديب الناقد المثابر علي لفتة سعيد، مثل (شاخصٌ، ومهمازٌ) لا يمكن أنْ يأتيا جُزافاً انطباعياً تأثُّرياً أو إشهارياً إخوانياً من فراغين عابرين كَريحٍ موسميةٍ هابَّةٍ على وجه النقدية السردية.ذلك لأنَّ المعنى الدلالي الحقيقي القريب لدالة (شاخص)، تشي بأنَّهُ العلامة الأيقونية لمدلول (الرَّايَة) الدالة على رمزيتها الصورية الاعتبارية المعروفة سيميائياً في نظرِ العيَّان. وفي الوقت ذاته تعني من خلال معناها الذهني البعيد تلك النقطة الضوئية اللَّافتة النظر، والَّتي يركن إليها وعي القارئ النابه، ويهتدي بها عمليَّاً وفعليَّاً وإجرائيَّاً للوصول إلى ضفاف الغائية المنشودة في الإشارة إلى قصديتها الدلاليَّة والجمالية البعيدة.4203 علي لفتة

أمَّا لفظة (مِهْمَازٌ)، فهو ذلك المسمار الفَمِي الحديدي الرفيع المُوجِّهُ، والمِقوَد الرَّسَني الحَبلي البازُّ اللَّاسع الذي يعتمده الفارس أو الرائض في قيادته الواثبة. وأعني بذلك الناقد الهُمامُ والفارس المِقدَام الجَريء الذي يُحرِّك حمولات الأشياء الثبوتية، ويستنطقها معرفياً ونقديَّاً من فم واقعيتها الجمودية النسقية الساكنة، ويقودها من مثابات مصادرها وأنساقها الأساسية إلى مآلاتها التحوِّلية الآنية وفضاءاتها الحركية الناطقة بمتظهراتها الصورية العديدة (الصوتية والسمعية) البنائية الفاعلة.

وإنَّ الجمع التوحُّدي بين ثنائية جدلية قصديَّة (الَشَّاخصيَّة والمهمازيَّة) المُتعاضدتينِ فنيَّاً وتآلفيَّاً، ليس أمراً نقديَّاً يسيراً هيِّناً ومُتاحاً لكلِّ أديبٍ ناقدٍ أو روائيٍّ ساعٍ لتملُّك مثل هذه الوظيفة المهاميَّة الغالبة، والتي لا يُلقَّاها شاخصياً إلَّا ذو حظٍّ ٍعظيمٍ، وقدرٍ كبيرٍ من المعرفة الابستمولوجية النافذة.

والقارئ الواعي بصرياً وذهنياً ومعرفياً لصفحات كتاب علي لفتة سعيد النقدي الموسوم بـ (الفكرةُ وفَاعليةُ الحكايةِ فِي الرِّوايةِ العَربيَّةِ)، حتماً سيلحظ بتجلٍّ مرئيٍّ واضحٍ أنَّ الكتاب على الرغم من تكثيفه النوعي، وتحشيده الكمي الإنتاجي قد انقسم محتواه الموضوعي على جانبين مهمِّين، جانب نظري تنظيري أدبي، وهو الفصل الأوَّل منه، وجانب عملي إجرائي تطبيقي آخر لمثابات السردية الفاعلية، وهو الفصل الثاني من محتويات الكتاب، والأكثر مِساحةً وشمولاً واتِّساعاً في منهجه الإجرائي التأويلي الهرمنيوطيقي، والتحليلي المعرفي الابستمولوجي والثقافي لقواعد فنِّ السرديَّة.

وبطبيعة الحال أنَّ الفصل الأوَّل -على الرغم من اختزاله الكمي وتكثيفه النوعي المعرفي الدقيق، فإنَّه قد تضمَّن تنظيراً معرفياً لسرديَّات روايات ما بعد الحداثة العربية التي انفتحت بمضانها التكوينية المعصرنة على  خطى عقابيل الواقع الحياتي المُرتهن بتعدُّد تجليات مظهره، الأسطوري أو المخيالي ، والغرائبي أو العجائبي الفنتازي -الذي فيه شيءٌ كثيرُ من تجلِّيات الواقع وإرهاصاته التحوِّليَّة الحثيثة-والذي يُهيمُ بالفكرة متفوقاً في وقع أُسِّه على عنصر الحكاية في سرديات  الرواية.

فضلاً عن ذلك الانزياح المعرفي كلِّهِ فضيلةُ هاجس العروج التأمُّلي إلى أساس الرواية حينما يكون منطلق التسريد من أصل الحكاية إلى الفكرة؛ وذلك باعتبار أنَّ فنيَّة الرواية تعدُّ أساساً لُعبةً إنتاجيةً كتابيَّة مدهشةً. ثُمَّ  يتبعها التحوِّل إلى الحديث عن تجلِّيات البعد الإنساني واقتفاء أثره وتتبُّعه جمعياً، وارتباطه فنيَّاً وتكوينياً بالبعد الاجتماعي في الفضاء الكوني لعالم الرواية الواسع الرحيب.

ومن ثمَّتْ الكشف عن حفريات المكان الزمكانية، وضرورة الجَيلان في فَلكِ تَمظهراته التكونية، ومحاور أنساقه الثقافية الظاهرة منها والخفيَّة المُضمرة التي يتطلَّبُها مشغل التحليل في بناء الفاعلية السردية في الرواية العربية تنظيراً وتطبيقاً. وإجمالاً خُتِمَ محتوى هذا الفصل بإشكالية وَأدِ النصِّ المحلَّي البيئي وقتله سرديَّاً أمام حركة وتفوق النصِّ الأجنبي الغربي الراسخ بنيةً وتفاعلاً وإحكاماً.

وجاءت مثابات كشوفات الفصل الثاني الموضوعية في مشاغل الكاتب النقدية البنائية السرديَّة؛ لِتُعلِنَ التعريف عن هوية نفسها الذاتية في منظومة الإجراء التطبيقي العملي لفاعلية البناء السردي في أربع عشرة روايَّةً عربيَّةً وعراقيَّةً. وكانت الغلبة في هذا الإجراء المفصلي للروايات العراقية التي تضمنت ثماني رواياتٍ لِكُتَّابٍ سَردَةٍ عراقيين ذكوراً لا إناثاً، يقابها في الطرف الشريك الآخر ستُ رواياتٍ لِكُتَّابٍ عَربٍ، اثنان منهما أردنيان، وآخران مصريان، وواحد تشاديّ،وأخرى تونسية.

أمَّا المشاركة الروائية النسوية فقد اقتصرت على الرِّوائيَّةِ التونسية حبيبة مِحرزي، والمصرية

مَرفت البربري، والأُردنيِّةِ بديعة النعيمي. ولا نجد أثراً يذكر للروايَّة الذكورية أو النسوية الخليجية أو السورية أو الفلسطينية أو الجزائرية أو المغربية التي تشكِّلُ نسبةً رواجٍ كبيرةً في العالم العربي. ولابُدَّ من التنبيه إلى أنَّ في نيَّة الكاتب أو مؤلِّف هذا الكتاب إضافة أسماءٍ روائيةٍ عربيَّةٍ مُهمَّةٍ أخرى لمتحويات الكتاب يُعزِّزُ بها دراسته النقدية لسرديات الفكرة والحكاية في الرواية العربيَّة.

واهتمت مشارط الدراسة وحفرياتها الأثرية في روافد هذا الفصل بمفاصل البناء السردي والفنِّي وانتقالاته السريعة، والبحث في كُنه مستوياتها، والوقوف بنيوياً على آفاق روافد مستويات الصراع السردي، وبيان حركة التصاعد الدرامي للرواية. وإجراء استنطاق لعنواناتها الرئيسة، وما بعد تلك العنوانات من أفكار تكمن ورؤىً وصورٍ لابُدَّ من إيصالها للمتلقِّي. كونها في الحقيقة تمثِّل البوابات المضيئة التي ينطلق منها عمل السارد الرائي في روايته إلى عتبات مدينته الداخلية في الرواية.

وكان اختيار الكاتب  الدارس لتلك العتبات النصيَّة لغاياتٍ ومقاصد فنيَّةٍ وبنائيةٍ وتركيبيةٍ عنوانيةٍ قارَّةٍ تُماهي اللُّعبة الإنتاجية في الكشف عن دلالاتها اللُّغوية والجمالية المُعبِّرة عن فكرة مستهلاتها الافتتاحية البعيدة والقريبة. لا لأنها (ثُريا النصِّ)، أو بؤرة هالته الضوئية اللَّافتة نصيَّاً، بل لأنَّها أُسُ الفكرة أو نصَّ الحكاية التي تتمخض عنها أفكار ورؤى أخرى جديدة واثبة الخطى قد تؤدِّي كثيراً هذه الخطوة إلى المصاهرة الزوجية والألفة والسكينة بين الحكاية وفكرتها بأيِّ شكلٍّ من الأشكال.

وكما يعول على ذلك الناقد الرائي علي لفتة نفسه في معرض تطبيقاته البنائية للرواية؛ فيرى أنَّ الرواية كعملٍ سرديّ متواصلٍ تعتمد أساساً وبالدرجة الأولى على الحكاية لإنتاج الفكرة التي تتوالد تدريجياً مع مستويات السَّرد إلى أفكارٍ أكثر نضوجاً وتعضيداً ومؤانسةً لها،ورُبَّماً تعقيداً لها.

والحقيقة إننا اليوم أمام دراسٍ وناقدٍ مثل، (علي لفتة سعيد) مُغرمٍ جدَّاً إلى حدِّ الهوس الفكري والهُيام العشقي بمفردة (اللُّعبة) السرديَّة؛ لِما لهذه الدالة اللُّغوية الواسعة من حمولاتٍ فكريَّة ناهضةٍ، ودلالاتٍ معنويةٍ خاصَّةٍ وعامةٍ تشي بها على حدٍّ سواء،ولها في منظومة الدراسة النسقية الحداثوية والمعصرنة مآلاتٌ إثرائيةٌ فنيَّةٌ قريبةٌ وبعيدةٌ ضاجَّةٌ في معجم الكاتب على مستوى النقديَّة السرديَّة.

وقد تعدَّدت موحيات استخدامات هذه اللَّفظة المُبَأَّرَة ذهنياً وفكرياً عند الكاتب الرائي سعيد حتَّى أنَّ توظيفاتها الإجرائية جاءت كعتباتٍ عنوانيَّةٍ موازية لثنايا متن النصِّ في اشتغالاته النقدية للرواية العربيَّة على الوجه التعدُّدي المتواتر الآتي:  (اللُّعبةُ الحكائيةُ)، و (لُعبةُ الحوار)، و (اللُّعبةُ السَّرديَّةُ)، و (لُعبةُ التقطيع السيناريوي)،و (أبعادُ اللُّعبةِ والتدوينِ السَّرديّ)،و (لُعبةُ الصّراعِ في الروايةِ)، و (لُعبةُ المَتنِ وإنتاجيةُ الحكايةِ)،و (لُعبةُ المَكانِ)، (اللُعبةُ التدوينيةُ بينَ الواقعِ والمُخيّلةِ)،فـ (لُعبةُ المستويات).

فضلاً عن مواضع تردُّدها التَّكراري المتجدِّد في معرض تحليلاته النقدية للسرديات الروائيَّة. ومَزيَّة هذا الأمر المعرفي المُتراتب تُدلِّل باتقانٍ لافتٍ على أنًّ اللُّعبة كمدلول نقدي دقيقٍ فضفاض أخذت مأخذها اللَّساني اللُغوي، والتحليلي الثقافي الفنِّي الراسخ، وبثَّتْ صداها الواسع في اشتغالات الكاتب الموضوعية نتيجةَ هيمنة فلستها ورؤاها الدلالية الكبيرة على وقع تجربته النقدية والسرديَّة.

أّمَّا المفردة الدلالية الأخرى التي كان لها نصيب وافر من الحظِّ الواسع والقبولية المحبَّبة عند الكاتب في سرديات مشغله النقدي وفي نهج رؤاه الفكرية العملية لفنِّ الرواية، فكانت لدالة (اللُّغة)، وأثرها وأهميتها الحيوية الفاعلية في مشاكلة البناء السري للرِّواية. وقد بنى علي لفتة سعيد على مدلولاتها الفكرية التركيبة، وأثر سياقاتها الفنيَّة والمعجميَّة والنسقيَّة المتواشجة في منهجه النقدي التحليلي تردُّدات العنوانات الرئيسة الآتية:

 (اللُّغةُ السرديَّةُ وقائمةُ الحُوارِ)،و (اللُّغةُ ومفهومُ الحُوارِ)، و (لُغةُ الرَّاويّ)، و (مَحمولاتُ اللُّغةِ ومَحمولاتُ الوصفِ)، و (اللُّغةُ وانتقالاتُ الحَدثِ)، و (اللُّعةُ ومِعياريةُ المَشهدِ). ويُلاحظُ جليَّاً على تردداتها التواترية ثمَّة ارتباط فكري رؤيوي وفلسفي عميق بين هذه اللُّغة كمحتوى موضوعي فكري  وبين نظائرها السرديَّة الأخرى التي تشترك معها بنائياً.

وبحث الرائي السَّارد والناقدُ نفسيَّاً وسايكولوجياً في إنتاجية معطيات اللُّغة السرديَّة المحلية، أو ما يُعرف باللَّهجة العامية، كَمَا وَفَهمَ أبعادَها، ووقعَ دلالاتها الإنسانية والجمالية التوقعيَّة المؤثِّرة في حياة الناس مجتمعياً. وكانت اللُّغة -في هندستها المعمارية- عند علي لفتة الناقد صوتاً فكرياً واثباً لا أثراً أو صدىً عابراً في بناء فاعلياته السرديَّة. لكونه يتذوَّق هذه اللُّغة تذوِّقاً فكرياً وحسيَّاً ويستمع بإنصاتٍ وتَأنٍ لحركة صداها الذهني في عقله، فَتُحيلُها مخيلتهُ الفكريَّة إلى حقائق إجرائية بنائية.

ومن اللَّوافت النقدية المثيرة لنظريات المعرفة الإنسانية في جماليات القراءة وآليات التلقَّي الذهني المعرفي الحداثوي لـ (نقد النقد)، أنَّ المتتبع النابه بعينٍ نقديةٍ ثالثةٍ  (القارئ الناقد) لكتاب،  (الفكرةُ وفاعليةُ الحكايةِ في الروايةِ العربيَّةِ)، سيلفت نظره في قراءته التأمُّلية الإمعانية المُتَّئدة أنَّ (علي لفتة سعيد) لم يهتم إهْمَالَاً في حفرياته النقدية التسريدية وكشوفاته المعرفية وتحليلاته الروائية بعناصر الرواية وأركانها الأساسية الأربعة المعروفة في السرد (الحدث، والشخصيات، والزمان، والمكان).

ومما يُلاحظ أنَّ الكاتب من خلال تحليلاته الدلالية وتطبيقاته الإجرائية العملية في خطابه النقدي لم يشتبك مع حركة شخصيات الرواية (الفواعلية) التي تُعدُّ ركناً أساسياً ومهمَّاً في بناء الرواية. ولم يتفاعل فنيَّاً مع أحداث الرواية (الفعليات) الحدثية البالغة الأثر فيها؛ كونها تعدُّ العنصر الأهَّم في الواقعة الحدثية للرواية. ولم يقف على جوانبها الموضوعية، ويكشف عن تجلِّيات حبكتها العقدية.

أمَّا وحدتا الزمان والمكان فلم يتعرَّض لهما الكاتب بوصفهما عنصرين مرتبطين جدلياً بزمكانية الفضاء المكاني المحدَّد بزمان ومكان ما الذي تقوم عليه أحداث الرواية وتجري هرمياً وأفقياً. فكان حضورهما النقدي محصوراً من خلال ارتباطهما النقدي بفاعلية الحدث البنائي السردي ِللرواية.

ولأنَّ الكاتب علي سعيد يبحث في الميتا سرد الحداثي وما بعد الحداثي، فإنَّ كلَّ هذه العناصر الإثرائية للسرديات الروائيَّة لم تلقَ حضوراً إجرائياً لازماً لافتاً للنظر. حتَّى وإنْ كان وجوده فيها انطباعياً في أولويات أقانيم مشغله النقدي السردي الحداثوي. فقد كان مناط اهتمامه النقدي مُنكبَّاً فكرياً على التجنيس الأدبي للرواية، سواء أكانت الرواية العربية أم العراقيَّة على وجه الخصوص.

مما جعل اهتماماته الإجرائية مُنصبَّةً على أثر التسريد الحداثي، فشغلته في بنية الكتابة السرديَّة للرواية مسألة (الحكاية)، أو الثيمة وإشكاليتها البنائية على أرض الواقع في تخليق الإنتاج الفكري. وذلك باعتبار أنَّ (الحكاية) تسبق جدلياً الفكرة، وأنَّها كثيراً ما تقود إليها فكرياً مع تنامي الحدث وتتابعه فنياً. ويخلص الكاتب سعيد في جوهر اشتغالاته العملية إلى القول بأنَّ الرواية إمَّا أنْ تكون حكايةً تؤدِّي إلى فكرةٍ،أو تكون فكرةً جوهريةً تقود إلى حكاية أو ينصهر الاثنان تُوحدُنَاً في  بوتقة.

والإشكالية الحداثوية الأخرى التي شغلت فكر علي لفتة سعيد قضية ما يُسمِّيه (الأدبُ الغاضبُ) أو الأدب الثائر الحركي الناهض، والتي ظهرت مسامع أصواتها الناطقة المحكية والمُنادية للتحرَّر بعد عملية التغيير، وعلاقتها الجدلية بالأدب  (الخائف) الصامت الخانع الذي يخضع لسلطة الرقيب.

ومن بين الموضوعات الإثرائيَّة المُهمَّة الأخرى التي بحثها كتاب الناقد المؤلِّف في متن سجل تمظهراته النقدية ورؤاه الفكرية المستويات السَّرديَّة في الرواية العربيَّة وعلاقتها البنائية الفاعلية في الفضاء السردي لجسد الرواية. وأعني بذلك المستويات اللُّغوية الستة، (الإخباري، والتصويري، والقصدي، والتحليلي، والتفاعلي، والتأمُّلي)،التي بها تتكشف مكنونات العمل الروائي وتزدهر فنياً.

فضلاً عن ذلك التأسيس اهتمَّ عليٌّ في تأثيثه البنائي النقدي بفاعلية الحركة الدرامية في السرديَّات الروائيَّة العربيَّة ومدى ارتباطها الوثيق بعنصر (الحوار)الذي يمثِّلُ صوت الشخصيات الروائية المتحركة الناطقة،وعلى وجه الخصوص في الروايات البوليفونية المتعدِّدة الأصوات الفاعلة الأثر.

ولم يغفل الكاتب في فِهرستِ موضوعاته النقدية شخصية (الراوي العليم)، بطل الرواية، وعلاقته النسقية المضمرة أو الظاهرة بالكاتب المؤلِّف الراوي صاحب العمل أو المنتج المُبدع  في تماهيه السردي. وبما أنَّ العتبات العنوانية هي من الموضوعات النقدية المهمَّة الأثيرة، والفواعل السرديَّة البنائيَّة الحديثة التي أكَّدها الناقد الفرنسي جيرار جينيت في تنظيراته الأدبية لكتاب العتبات النصيَّة.

فقد اهتمَّ بها علي لفتة سعيد اهتماماً بالغاً وملحوظاً باعتبار أنَّ العتبات العنوانية الموازية للنصِّ  تشكِّلُ في أيقونيتها الصورية السيميائية في سرديات ما بعد الحداثة بواباتٍ فناريةً رئيسةً قائمةً بذاتها، وتُعدَّ شواخصَ محطَّاتٍ ضوئيةً نافذهً تقود مسالكها الإرشادية ودلائلها الفنيَّة للدخول إلى العالم الأرحب للرسالة النصية في أقانيم يوتوبيا المدينة الفاضلة للرواية الحداثوية الآخذة بالانتشار.

في مُتبنيات كتاب (الفكرةُ وفاعليةُ الحكايةِ في الرِّوايةِ العربيَّة) يأخُذُك الكاتبُ السَّاردُ والناقدُ المُبهرُ علي لفتة سعيد في مضان شواخصه النقدية لسرديَّات ما بعد الحداثة إلى تحوِّلات النصِّ السردي الجديد،والكتابة بصدقٍ عن عوالم المسكوت عنه، والنبش أثرياً في مُعميات المُغيِّب النقدي الفاعل في بناء السرديَّات الروائيَّة العربيَّة المعاصرة فكرةً وحكايةً. فالكشف عنهما حفرياً يمثل في النقدية السردية نتاجَا لثقافةَ ما وتمثيلاً لثقافة ما شكَّلت هاجساً إبداعياً نقديَّاً مُلحَّاً في أَوَّليَات الكاتب.

وفي الوقت ذاته يرغُمُك المؤلِّف عليٌّ لفتة سعيد في أسلوب معجمه السَّردي النقدي الشائق المَكين، ومِهْمَاز لغته الاستفزازيَّة التي تتحايل عليك فنيَّاً وجمالياً في الاستمرار معها -دون فكِّ الاشتباك منها- على رُكُوبِ مخاطرِ موجتها للإبحار عميقاً في مرافئ شواطئها النقدية. لاستكشاف أغوار صدفاتها القَارَّة الخفيَّة في سرديَّات هذا اليَمِّ الواقعي المتلاطم، والمُتخيَّل الأسطوري غير المرئي والعجائبي الفنتازي الذي هو جزء من ظلال الواقع الراهن المعيش بكل تناقضاته المتعدِّدة.

لترى فنيَّة تلكَ الإحالات المتنوِّعة والانتقالات النقدية، والالتقاطات الصُّورية التي يُصدِّرُها لِمُتلقيه في استنطاق تلك الشِّفرات السرديَّة الثابتة في كشوفاته النقديَّة، وسياحته المعرفية المضيئة. والإفادة من وقع حمولاته الفكرية المتجدِّدة التي يمكن أنْ نضعها إضافةً نوعيةً حافلةً في تاريخ سجل سرديَّات المكتبة العربيَّة عامةً والعراقيَّة خاصَّةً على حدٍّ سواءٍ؛ لدراسة السرديَّات الروائيَّة العربيَّة في سياقٍ ثقافيٍّ مُغاير آخر ومُختلفٍ في أقانيم النقديَّة الحديثة التي تحتفي بهكذا فتوحاتٍ.

***

د. جبَّار ماجد البهادليّ

آذار  2024م

 

أليس مونرو كاتبة كندية شهيرة معروفة بقصصها القصيرة الجذابة والمثيرة للتفكير. ولدت مونرو عام 1931 في أونتاريو، ونشرت العديد من مجموعات القصص القصيرة طوال حياتها المهنية، وحصلت على جوائز مرموقة مثل جائزة نوبل في الأدب عام 2013. غالبا ما تدور قصص مونرو حول حياة النساء وعلاقاتهن، وتتعمق في موضوعات الحب والخسارة والهوية وتعقيدات المشاعر الإنسانية.

إحدى أكثر مجموعات مونرو شهرة هي "رقصة الظلال السعيدة"، التي نُشرت عام 1968. هذه المجموعة هي مثال جميل لقدرة مونرو على خلق شخصيات حية ومقنعة، كل منها تواجه تحدياتها وصراعاتها الخاصة. تستكشف القصص في هذه المجموعة تعقيدات العلاقات الإنسانية، فضلا عن الطرق التي يتعامل بها الأفراد مع تعقيدات حياتهم الخاصة.

ومن بين المجموعات الأخرى الجديرة بالملاحظة لمونرو "أقمار المشتري"، التي نُشرت عام 1982. وفي هذه المجموعة، تتعمق مونرو في حياة شخصياتها بدقة وعمق، وتكشف عن تعقيدات أفكارهم وعواطفهم الداخلية. ومن خلال قصصها، تستكشف مونرو الطرق التي يتعامل بها الأفراد مع عدم اليقين والتغيير، وتسلط الضوء على التجارب العالمية للحب والخسارة والشوق.

غالبا ما تتميز قصص مونرو بشخصيات نسائية قوية ومعقدة تتصارع مع رغباتها وطموحاتها الخاصة. وفي مجموعتها "صديقة شبابي"، تستكشف مونرو تعقيدات العلاقات بين الأم وابنتها، وكذلك الطرق التي تتنقل بها النساء بين التوقعات والقيود المفروضة عليهن من قبل المجتمع. ومن خلال قصصها، تتحدى مونرو الأدوار الجنسانية التقليدية وتسلط الضوء على الطرق التي تسعى بها النساء إلى الاستقلال وتأكيد الذات.

تُعَد مجموعة "الهارب" التي نُشرت عام 2004 من أكثر مجموعات مونرو المحبوبة. في هذه المجموعة، تتعمق مونرو في تعقيدات العلاقات الإنسانية، وتستكشف الطرق التي يتوق بها الأفراد إلى التواصل والتفاهم. ومن خلال قصصها، تكشف مونرو عن الطرق التي يتنقل بها الأفراد عبر التضاريس غير المتوقعة للحب والخسارة والشوق، وتسلط الضوء على التجارب العالمية التي توحدنا جميعًا.

تشتهر قصص مونرو بتفاصيلها الغنية وشخصياتها الحية وسردها المعقد. في مجموعتها "عزيزتي الحياة"، التي نُشرت عام 2012، تنسج مونرو قصصا مؤثرة وعميقة، وتتعمق في موضوعات الذاكرة والندم والفداء. من خلال قصصها، تدعو مونرو القراء لمواجهة تعقيدات التجربة الإنسانية، وتقدم رؤى حول الطرق التي نتنقل بها عبر المناظر الطبيعية المتغيرة لحياتنا.

تتميز قصص مونرو بنظرتها الثاقبة، فضلاً عن تعاطفها العميق مع شخصياتها. في مجموعتها "الكراهية، الصداقة، الخطوبة، الحب، الزواج"، التي نُشرت عام 2001، تستكشف مونرو الطرق التي يتعامل بها الأفراد مع تعقيدات العلاقات الإنسانية، وتسلط الضوء على الطرق التي يشكل بها الحب والشوق حياتنا. ومن خلال قصصها، تدعو مونرو القراء لمواجهة تعقيدات القلب البشري، وتقدم رؤى حول الطرق التي نتوق بها إلى التواصل والتفاهم.

تتميز قصص مونرو غالبا ببنيتها غير التقليدية وأساليب السرد. في مجموعتها "الكثير من السعادة"، التي نُشرت عام 2009، تجرب مونرو الشكل والبنية، وتبدع قصصا مبتكرة وجذابة. من خلال قصصها، تتحدى مونرو أعراف سرد القصص التقليدية، وتدعو القراء إلى إعادة النظر في الطرق التي نفهم بها ونفسر العالم من حولنا.

تشتهر قصص مونرو بعمقها العاطفي وبصيرتها النفسية. في مجموعتها "حب امرأة طيبة"، التي نُشرت عام 1998، تتعمق مونرو في تعقيدات العلاقات الإنسانية، وتستكشف الطرق التي يتعامل بها الأفراد مع الرغبة والندم والشوق. ومن خلال قصصها، تقدم مونرو تصويرا دقيقا ورحيما للتجربة الإنسانية، وتسلط الضوء على الطرق التي نسعى بها إلى التواصل والتفاهم في عالم يتسم بعدم اليقين والتغيير.

تُعَد قصص أليس مونرو القصيرة شهادة على موهبتها غير العادية ككاتبة. ومن خلال إعداداتها الغنية بالتفاصيل، وشخصياتها الحية، وسردها المعقد، تدعو مونرو القراء لمواجهة تعقيدات التجربة الإنسانية، وتقدم رؤى حول الطرق التي نتنقل بها عبر التضاريس غير المتوقعة للحب والخسارة والشوق. تُعَد قصص مونرو تذكيرا قويا بالقوة الدائمة للأدب في إلقاء الضوء على التجارب العالمية التي توحدنا جميعًا، وتدعو القراء لمواجهة تعقيدات القلب البشري بروح منفتحة.

في "حب امرأة طيبة" تقدم مونرو  للقراء نظرة عميقة إلى تعقيدات العلاقات الإنسانية والعواطف. مونرو، المعروفة بسردها القصصي الماهر وفهمها العميق للطبيعة البشرية، تتعمق في حياة شخصياتها بقدر كبير من التعاطف والحساسية. تستكشف القصة التي تحمل عنوان "حب امرأة طيبة" موضوع الحب بأشكاله المختلفة، وتسلط الضوء على الطرق التي يمكن بها للحب أن يمكّن الأفراد ويدمرهم في نفس الوقت.

في قصة "حب امرأة صالحة"، تقدم لنا مونرو إينيد، وهي امرأة شابة تتورط في شبكة من الأسرار والأكاذيب بعد اكتشاف جثة في نهر قريب. وبينما تكافح إينيد مع التداعيات الأخلاقية لاكتشافها، تُجبر على مواجهة تعقيدات العلاقات الإنسانية وتأثير أفعالها على من حولها. من خلال قصة إينيد، تستكشف مونرو القوة التحويلية للحب وقدرته على تحرير الأفراد وتقييدهم.

يتجاوز استكشاف مونرو للحب العلاقات الرومانسية، كما نرى في قصة "حلم أمي". في هذه القصة، يتعمق مونرو في الرابطة العميقة بين الأم وابنتها، مسلطًا الضوء على الطرق التي يمكن بها للحب أن يشكل ويحدد العلاقات الأسرية. من خلال شخصية الابنة، يوضح مونرو الطبيعة الدائمة للحب الأمومي وقدرته على تجاوز الزمان والمكان.

في جميع أنحاء المجموعة، يتناول مونرو موضوعات الخسارة والشوق والفداء، ويقدم للقراء استكشافًا مؤثرًا ومثيرًا للتفكير للتجربة الإنسانية. في قصة "صور الجليد"، يفحص مونرو الطرق التي يتعامل بها الأفراد مع الحزن والخسارة، مسلطًا الضوء على القوة التحويلية للفن والذاكرة في عملية الشفاء. من خلال شخصية البطل، يصور مونرو تعقيدات العاطفة الإنسانية والطرق التي يتنقل بها الأفراد عبر تعقيدات الحياة.

في "أنقذوا حاصد الأرواح"، يستكشف مونرو موضوع الفداء من خلال شخصية مجرم مُصلح يسعى إلى التكفير عن خطاياه الماضية. من خلال رحلة البطل نحو الخلاص، تسلط مونرو الضوء على قوة المغفرة والطرق التي يمكن للأفراد من خلالها إيجاد الشفاء والفداء من خلال أعمال الإيثار والرحمة. تعمل القصة كتذكير قوي بالقوة التحويلية للحب والطرق التي يمكن أن تشكل بها حياة الإنسان وتعيد تعريفها.

تتميز كتابات مونرو بعمقها ودقتها، حيث تتنقل بمهارة عبر تعقيدات النفس البشرية وتتعمق في تعقيدات العلاقات الإنسانية. من خلال سرد القصص الحية والشخصيات المرسومة بدقة، تلتقط مونرو جوهر التجربة الإنسانية وتقدم للقراء لمحة عميقة عن الروح البشرية. "حب امرأة طيبة" هي شهادة على موهبة مونرو كراوية قصص ماهرة ومراقب حريص للطبيعة البشرية.

في الختام، "حب امرأة طيبة" هي مجموعة من القصص القصيرة التي تتعمق في تعقيدات العلاقات والعواطف الإنسانية، وتقدم للقراء استكشافًا مؤثرًا ومثيرًا للتفكير للتجربة الإنسانية. من خلال روايتها الماهرة وفهمها العميق للطبيعة البشرية، تسلط مونرو الضوء على القوة التحويلية للحب وقدرته على تشكيل وإعادة تعريف حياة البشر. بشخصياتها المرسومة بشكل غني واستكشافها الدقيق للنفسية البشرية، تقف "حب امرأة صالحة" كشهادة على موهبة مونرو كراوية قصص ماهرة ومراقبة حريصة للطبيعة البشرية.

***

محمد عبد الكريم يوسف

تعمل روايات ما بعد الحداثة كوسيلة للبحث في تعقيدات التجربة الإنسانية وبناء الواقع ، من خلال تفكيك المفاهيم التقليدية للتاريخ والهوية والسرد، والدعوة إلى التفاعل بشكل نقدي مع العالم، والاعتراف باختلاف وجهات النظر تجاه تلك المفاهيم وتنوعها.

فمن مميزات الرواية الما بعد حداثية أنها شهادة على عملية التفاعل بين التجريب الروائي والبناء الثقافي المعقد للمجتمعات الإنسانية، وكيفية تكونها زمانيا ومكانيا، بالإضافة إلى ميزة أخرى هي ابتعادها عن تراتبية السرد الخطي التقليدي، وميلها إلى عملية التشظي والتناص وما وراء السرد (الميتافكشن)، لذلك فقد مهدت لظهور مفهوم جديد يعرف بما وراء السرد التاريخي (historiographic metafiction)، الذي فتح المجال أمام الروائيين لإعادة بناء أو ( إعادة تحبيك) الماضي والحاضر والمستقبل، وطمس الحدود الفاصلة بينها، حيث يوفر مفهوم ليندا هيتشيون لما وراء السرد التاريخي إطارا لفهم تعقيدات السرد وعلاقته بالتاريخ، إذ يشير ليس  إلى الخيال الذي تبنى به الاحداث التاريخية في الرواية فحسب؛ وإنما إلى الطرق التي يتم بها بناء التاريخ وتفسيره، وطمس الحدود بين الخيال والتاريخ، وابراز البنى السردية والأدوات النصية التي يتم من خلالها تحليل معرفتنا بالتاريخ وتشكلاته الاجتماعية والثقافية.

ففي صلب هذا المفهوم يمكننا الاعتراف بأن التاريخ ليس حقيقة موضوعية ثابتة، بل هو بناء ذاتي تشكله قوى ثقافية واجتماعية وسياسية، لذلك تنفي روايات ما وراء السرد التاريخي فكرة السرد التاريخي المتماسك، وينحاز روائيوها إلى البحث عن وجهات نظر جديدة ومختلفة، وربما إلى تفسيرات متناقضة، ويعتمدون على انثيال الذاكرة وانسيابيتها، لذلك فهم يستنطقون الأسس التي بنيت عليها الحقيقة التاريخية، ويدعون إلى التشكيك فيها، إذ أن من بين الأفكار الرئيسية لما وراء السرد التاريخي هو تأكيده على العلاقة بين التاريخ والخيال، وبدلا من النظر إلى هذين النمطين من الخطاب على إنهما متنافيان، ترى (هتشيون) بأنهما متشابكان بشكل لا ينفصل، حيث ينخرط الروائيون في تقص واع لعملية السرد الروائي، وطبيعة الروايات التاريخية وكيفية فهمنا للتاريخ، ولكن كيفية فهمنا لهذه الروايات، ومفهوم ما وراء السرد التاريخي، يحتاج إلى دراية كبيرة بالسياقات الثقافية المنتجة لها، ومرجعياتها التاريخية وتناصاتها، وهذا ما يمكن أن نجده ربما في رواية (العابد في مرويته الأخيرة) للروائي محمد خضير سلطان، حيث نرى أن هناك إعادة لخلق أسطورة النشوء الأولى للتاريخ، ممثلة بالإنسان والمكان، وهذا ما تشير إليه ربما وبصورة مباشرة العتبة الاستهلالية للرواية (هذه المدونة لا صحة كبيرة لها، إنما هي إعادة ترتيب هجائية للحكاية الحقيقية المفقودة) (الرواية ص7)، إذ يحاول الروائي منذ البدء، أن يعيد تشكيل أسطورة الخلق؛ ليس من منطلقها الديني، بل من منطلقها الأسطوري، المرتبط بالحضارات العراقية القديمة، ورغم أن هذه الأسطورة متداخلة ومتمازجة مع حاضنتها التاريخية، في تشكيل وعي الإنسان العراقي القديم بذاته وزمانه ومكانه، إلا أنها وظفت روائيا في هذا العمل داخل حاضنة تاريخية/ ثقافية أخرى، يراد منها تشكيل تاريخ مواز، يمثل وعيا جديدا بالتاريخ وتشكلاته الاجتماعية والثقافية، يمثله ربما المولود الجديد (سليل البرية خارج أسوار أوروك) (الرواية ص19)، لذلك فقصة الخلق المعاد تصورها؛ لا تبنى وفق نمط الأسطورة المتناص معها، وإنما تحمل بين طياتها مجموعة من الاشارات والدوال التي تضيف لتلك المرجعية أبعادا أخرى، وتمثل بذورا لدوال ستنمو لاحقا في المسارات التاريخية التي تبنيها الرواية (ما كانت الربة الام الكبيرة عابثة ولم تكن تهدر وقتها السماوي حيث تقف بقوامها الجميل لتلقي قليلا حزمه القصب ذات النهاية التي تشبه النجمة المثمنة) (الرواية ص19) إلى آخره، حيث نجد لاحقا طائر الشقراق البري الذي يعبر إلى جهة اليمين، ماء النهر، الطين الدهلة.. الخ، حيث تمثل هذه الإشارات وغيرها بذورا ستنبت لاحقا، وستبنى عليها أحداثاً ورؤى تمثل دلالات مركزية في ثيمة الرواية.

وضع الروائي وفي الجزء الأول من الرواية وفي صفحتها الأولى هامشا لعنوان هذا الجزء (خارج أسوار أوروك)، يحيل فيه إلى أنه (اقتباس بتصرف من النصوص الرافدينية ومنها ملحمة جلجامش) (الرواية ص19)، والذي ربما يجعلنا نتوقع أن هذه الإشارات وهذه الحكاية هي صورة مماثلة للأصل/ المرجع، أو ربما هي صورة شعرية لذلك الأصل/ المرجع، مما قد يشكك بافتراضنا عن التناص وما وراء السرد التاريخي في بناء هذه الرواية، ولكن وأن افترضنا هذه المطابقة أو المماثلة مع ذلك المرجع؛ إلا أنها تختلف ربما في كيفية تضمينها، في نسق بنائي يقود هذه الحكاية صوب مدى آخر من التوظيف، الذي سيظهر لاحقا في الأجزاء الأخرى من الرواية، والتي تمثل سدى حكايات العابد ورواته.

إعادة بناء الحكاية الأسطورية، يأخذ تمثلات عدة في الرواية، ومنها أنها زرعت بذوراً لنمو تاريخ مواز، يحمل روح تلك الأسطورة- المرجع، ولكن بصورة جديدة، تجعلها تعيش في أزمان عدة، حيث يرينا هذا الاقتباس من الرواية مثلا (لم يقترب سليل البراري قط من أسوار أوروك ولجش وحسب، بل حتى بابل والكوفة والحيرة ومكة والبصرة والقدس وأور وآشور) (الرواية ص20)، إن هذه الأمكنة ليست أمكنة بحد ذاتها، وإنما هي إشارات لأزمان مختلفة ولكنها تحمل روح تاريخية واحدة، حيث أن هذه المدن تنتمي إلى أزمنة نشوء مختلفة وغير متقاربة، أي أنها صور متنوعة للروح التاريخية المسيطرة، والمهيمنة على رؤيتنا لتلك الأزمنة وذلك التاريخ.

عندما تبدأ تتشكل صورة العابد وأثره المكاني (كان مجلس العابد شاخصا وسط البلدة الناشئة بصورته المروية القديمة مثل مرابض الأم الكبرى المندثرة، والجديدة مثل مياه تجري، تجري وتتجدد باستمرار، ومنذ مئات السنين) (الرواية ص٢٥) فهو يبدأ بالخروج من سطوة اللبنة الأولى التي أنشأته، إلى صورة أخرى متخيلة، وموازية للتاريخ الافتراضي لنشوء هذه المدن والأماكن، ولكن تبقى بذور تلك النشأة هي التي تحكمه وتقيم سداه، وعمليه الخروج هذه من الحكاية الأسطورية المتناص معها، إلى تشكيل هذا التاريخ الموازي، تسندها بعض الحجج المضمنة، والتي تسند هذا التاريخ وتمثلاته، كما في معاني الأسماء التي طلب أحد رواة العابد تدقيقها (ينظر: الرواية ص٤٢)، وهذه الصيغة الحجاجية، هي محاولة لإثبات هذا الخيط التاريخي الذي يتشكل من جديد، وكذلك ما يتعلق بغناء المغني سعدون لنغمة (أنا ليا ويلي) وربطها بالإله (ويلي السومري) (يرى سميث أن هذه النغمة البكائية قريبة جدا من أجواء قربانية لذبح الإله ويلي في سومر ومهر دمه بإنسان ما بعد الخلق) (الرواية ص٨٧)، وكما نلاحظ أن هاتين الصيغتين من الحجاج التي يحاول بها الروائي أن يسند روايته لذلك التاريخ، تنبعان بصورة مباشرة من الحكاية الأولى للخلق، التي مثلت مرجعا وتناصا.

***

أمجد نجم الزيدي

لم نفكّر في شأن التوتّر الأدبي الحاصل بين قابلٍ لقصيدة النثر وبين رافضٍ لها ونحن نقدّم لإشكالية هذا النوع الأدبي الأدبي الطارح لأكثرَ من سؤال. وتفكيرنا منصبٌّ أساساً على البحث عن شِعرية القصيدة. وبمعنى آخر فالنقاش لم يعد نافعا في تقليب أوجاع الجدل حول مشروعية أو عدم مشروعية هذا النوع. وهل هي قصيدة هجينة أم هي بنتٌ شرعية لكيان أدبي عمّر طويلا وهيمن وفرض قواعده حتى لا مندوحة عنها في النظم وفي القريض. إن هذا التداول لا يشبهنا ولا نرومه ولا يقدّمنا أو يؤخّرنا عن مسعانا الذي نهدف فيه إلى بيان ما في قصيدة النثر من جماليات ترقى بها من ابتذال الكلام إلى فنّ الكلام الذي لا يستطيعه ولا يقدر على اجتراحه إلا مفوّهٌ في اللغة وفي فن اللغة وفي أحلام اللغة وفي مخيالها الخصب،  ولا يجرؤ على طرق أبوابه إلا متمكّن من فن الشعر، لا ذلكم المتكلّم الخارج من يأس النظم.

قصيدة النثر في منظوري النقدي المتواضع، انسيابٌ طبيعي لفن القول. ولا أراها ردّة فعل ضدّاً في هيمنةِ  جنس أدبي سبقها في الوجود. قد يكون التّماسُّ بينهما واقعا لا نردّه البتّة، وقد يكون فيه بعض التأثير والتأثر، ولكن لا يبلغ فيه الحدُّ  درجةَ محوِ خصوصية وجود هذا الجنس ولا يشط إلى حدّ إقصائه، وكأن التاريخ يقف عند عتبة نوع أدبي أوحد ومعيّن ولا يتجاوزه. فهذا في قناعتي المتواضعة ضرب من الوهم لأنه جزمٌ قطعيٌّ مغلوط يكاد يقول إن الأرحام التي ولدت عبقرية الأصالة الشعرية الأبوية القديمة غير قادرة على إنجاب حداثة شعرية نسْليّة يحق للأبناء فيها أن يسندوا لذواتهم عبقريةً أو كشفاً أو اجتراحا  أو خلقا...

هذا النقاش لا ينفع الآن حيث  نعيش تراكماً مبهراً لمتون قصيدة النثر في المغرب وفي المشرق وفي العالم بأسره. وهو التراكم الذي يقوم لوحده دليلاً على ضرورة الخروج بالنقاش من مصداقية الوجود  ولا مصداقيته، ومن وسم الهُجنة وعارها إلى فهم هذا الوجود ( أقصد وجود قصيدة النثر ) وتشريحه وتفكيكه وقراءته القراءات المتساوقة وروح العصر. وأنا في هذا النزوع لا أقول بضرورة الدعوة إلى شرعية هذا الجنس الأدبي،  لأنّ في دعوتي اعترافا ضمنيا بلاشرعيته. الأمر أبعد من ذلك دلالةً وقيمة، فنحن لا نملك الوصاية الأدبية والفكرية التي تخول لنا وضع جنس في خانة الاستحقاق دون آخر ولا التنقيص من جنس لحساب آخر. وحتى وإن سُلِّمَ لنا جدلاً وفرْضِيةً وافتِراضاً بهذه الوصاية فلن نرفعها سيفاً على أعناق هذا الجنس الأدبي المثير والزوبعي والزئبقي والهيولاني الذي يحمل في كل يوم إدهاشا من نوع خاص، ويبشر كل يوم بسؤال مفتوحٍ على الاحتمال الشعري الخصيب، ويصدمنا كل يوم، ولا أقول بتمرّده فحسب، بل أقول باختلافه وتميّزه أيضا. ذلك أن قولي بالتمرد هو قولٌ يستحضر دائما موضوعاً متمَرَّداً عليه ومرفوضا. وفي هذا أعلن سقوطي في التناقض إذ أضع قصيدة النثر في موقف ردّة الفعل فيما هي انسياب طبيعي لصيرورة فنية كانت بذرة ثم كبرت وتعملقت شاء من شاء وأبى من أبى.

و أكاد أجزم في طرحي المتواضع بعض الصواب في عزلي قصيدة النثر عن سياق ردّة الفعل، على اعتبار أنها كيان عضويُّ الوجود لا صوري، وأصيل الكينونة لا متناسل عن أبوة، وحتميُّ الحدوث لا عابر. ومستقلّ الكينونة لا  تابع. ودليلي في ذلك وجود بعض المتون الإبداعية القديمة التي انفلتت من قبضة التجنيس وأذكر منها مواقف النفري التي جدّد فيها اللغة الشعرية ورفع الكتابة  إلى مراتب إدهاشية غريبة. ولقد كان المتنُ النّفريُّ ( يتحرك صامتا في نطقه وناطقا في صمته. فهو يستخدم اللغة لا لكي يعبّر بالكلمات، فهذه عاجزة، وإنما لكي يعبّر بما يقدر أن ينسج بها من علاقات هي رموز وإشارات. اللغة هنا، جوهريا، مجازية. إنها تخرج ما تفيده الكلمات عن موضعه من العقل إلى ما لا يمكن فهمه إلا تأويلا...)1.

نحن ندرك أن مثل هذه التخريجات على مصداقيتها تجر علينا غضباً من جهتين: الأولى تسمنا بالماضوية والنكوصية وتضعنا في خانة الباحثين عن جذور قصيدة النثر في التراث العربي والإسلامي. والثانية تصفنا بالعجز عن تمثل قصيدة النثر في استقلالية تامة عن أيّ أبوة، وبالتالي تدخلنا في خانة الباحثين الذين لا يفعلون سوى ليّ أعناق نصوص الماضي كي تخدم أجندات أدبية ونقدية  خاصة. ومع ذلك نقول إن هذا ليس مرادنا وإن أدرجناه سياقاً استشهاديا بقوّة الحق في الطرح النقدي. إن مرادنا الواضح هو درس بعض النماذج من المتون الشعرية في قصيدة النثر المغربية والعربية داخل أفق واحد، هو الكشف عن شعريتها وفق تصوّر نقدي تلتقي فيه علمية التحليل وموضوعية التأويل. وحسبنا في ذلك أن نثير لإضاءة مسعانا النقدي وتأكيده ودعمه، بعضَ الإشكاليات العالقة في محور قصيدة النثر.

وأولها سؤال: هل نشتغل على ماهية قصيدة النثر بمرجعية قاعدية خارجية، كأن نقيسها في مستوى الموسيقى بضوابط المرجعية الإيقاعية العربية القديمة المبنية على تحديد ماهية الشعر في  كلِّ  كلامٍ موزونٍ ومقفّىً دالٍّ على معنى؟ أم أننا سنشتغل على ماهيتها من داخل كينونتها المتفردة والمستقلة والمشروطة بمعايير موضوعية تراعي خصوصية القصيدة في ولادتها الجديدة وتراعي طبيعتها الماتحة شرعيتها من حقها في التعامل مع اللغة والإيقاع من زاوية نظرها الخاصة؟ وهنا لابدّ من تسطير وقفات في غاية الأهمية ويتعلق الأمر بضرورة تقدير كلامنا في محلّه دون تأويلنا ضدّ المرجعية الإيقاعية القديمة التي نعتبرها عبقرية فذّة لا مثيل لها في الدقّة العلمية سواء في شخصها كنظرية عربية قائمة ما قام الشعر، أو في شخص مهندس فكرتِها: الخليل بن أحمد الفراهيدي العالِم الظاهرة. ويتعلّق الأمر أيضا بضرورة التمييز في ماهية الشعر بين الأصل والفرع وبين التأسيس والتناسل. وهو التمييز الذي لا يعني بتاتاً حتمية أن يكون الفرع نسخةً حرفية من الأصل وأن يأتي المتناسل صورة طبق الأصل لصورة التأسيس، مثلما لا يقع أن يكون الابن تكرارا للأب، حتى ولو تشابها بيولوجياً فإن الماهيتيْن تختلفان قطعاً وتتمايزان بشكل ملفت.

من هنا سؤالُ: هل تمتلك قصيدة النثر في تكوينها الجيني ما يؤهلها كي تكون شعراً قائما ومستقلا ومزاحماً لباقي الأنواع مزاحمة تدافع لا مزاحمة إقصاء أو مفاضلة أو مقارنة؟ إن هذا الجنس الأدبي الذي يتكلّم اللغة كسائر الأجناس الأخرى هو لعمري قادر أن يكون. وفي هذه الكينونة أراه لا يتوسّل الأعتاب كي يمارس حضورة الفني. وأراه يمارس حضوره بقوة الشعر لأنه يعانق اللغة في اشرئبابها الممكن لا في تكرارها أو في استنساخها. من هنا قدرته على أن يكون وأن يمارس كينونته بامتياز مادام يستوعب اللغة في حركيتها لا في سكونها وفي احتمالها لا في وضعها المسطّح وفي خروجها لا في خنوعها وفي ثورتها لا في تسليمها. إنها قصيدة النثر التي تحمل في ذاتها توثّباً حيوياً لا نظير له ولا مثيل. وهو التوثّب الذي لا نتحدث عنه جزافا وبمجانية ترفية وبذخية وإنما نوظّفه في وعي بفن الكتابة النثرية المحلقة في سماوات الشعر. إن هذه الميزة أو الخاصية التي تتأسس عليها قصيدة النثر هي ما يسم هذا الجنس الأدبي بالقدرة على التطوّر الخلّاق. والفكرة فلسفيةٌ غارقة في مباحث الوجود والأخلاق عند المفكر (هنري برغسون) أتقاطع معه و أستعيرها منه في توظيف أدبي لا أجد فيه حرجا البتّة على اعتبار أن العلوم تتقاطع وتتماسّ وتتبادل التأثير والتأثر وتتنكر لمفهوم القطائع الإبستيمولوجية. وإني لواجد في تحليل المفكر للشخصية الإنسانية إحالةً غير مباشرة على كينونة قصيدة النثر: (وهكذا تنمو شخصيتنا وتكبر، وتنضج دون انقطاع. وكل لحظة من لحظاتها عنصر جديد ينضمّ إلى ما كان موجودا من قبل. فلنذهب إلى حد أبعد من ذلك، فنقول: ليس هذا جديدا فحسب، بل هو شيء لا يمكن التكهن به...) 2.

يتناسل السؤال أيضا في مقام اللغة داخل قصيدة النثر مادامت بهذه الحيوية المتوثّبة وبهذه القدرة المبدعة القادرة على الانثيال المدهش. ما الذي يجعل اللغة في هذا الجنس الأدبي أكثر حركية ودينامية ّ ؟ هل الأمر يتعلق بتنصلها التاريخي من قبضة الوزن في صورته الخليلية ؟ أم الأمر أكبر من ذلك ؟ وأعمق وأجدر أن نقف عنده دون تسريع قطفة الأحكام. ونحن نرفض القول بدونية الكتابة في جنس قصيدة النثر انطلاقاً من عجز مكين لدى شعرائها لأنهم لم يستطيعوا مجاراة ضوابط وقواعد القصيدة التقليدية \ الموزونة \ الأم. فهذا تخريج لا نقد فيه ولا علم، وبالتالي وجب البحث عن مخارج أخرى أكثر معقولية ونضجاً وتقديرا لفنّ الشعر.

و أرى أن استقلال قصيدة النثر عن أشكال التعبير الأخرى لا علاقة له بردّة الفعل أبدا بقدر ما هو انسيابٌ منطقي تدرّج فيه فن القول مشروطاً بسياق حضاري فرض شكل التعبير من منظور رؤية فنية مختلفة عن الرؤى السائدة. من هنا معانقة قصيدة النثر للغة في غير تقليد أو إعادة أو تكرار. إنها المعانقة النابعة من تمثل المتكلم بها لحياة اللغة داخل شكل جديد يبحث عن تشكله النهائي الذي لم يثبت لحدّ الآن على مرفأ. وهذا وصفٌ لا قدح  فيه، يفسّر دينامية الجنس الأدبي في معانقته للغة داخل الاحتمال لا داخل الشبه وتركيم طرقات الجاحظ بمزيد من المعنى. اللغة في قصيدة النثر تبحث في فائض المعنى داخل تصوّرٍ متقدم يربط إرهاص اللغة بنهاياتها ويتجاوز النهايات إلى بدايات أخرى مفتوحة على الاحتمال المدهش، في وحدة اتصالية منفتحة عبّر عنها الناقد تودوروف بالقول: (اللغة هي المبدأ والمعاد وهي نقطة انطلاقه ونقطة وصوله. اللغة تضفي على الأدب صيغتها المجردة كما تضفي عليه مادتها المحسوسة)3.

و قد يقول قائل: هل اللغة وتوظيفها يعدّان أمراً مفارقاً في قصيدة النثر ؟ وبمعنى آخر، هل تنفرد هذه القصيدة بعبقرية استعمال اللغة حتى لا إمكان لمضاهاتها من قِبلِ الأنواع الأخرى ؟ نقول توّاً ودون تردّد: لا، فهذا ضرب من نرجسية التقوقع. وإنما الأمر يتعلق بقدرة قصيدة النثر على التميّز في شأن اللغة وبشأن اللغة على اعتبار أنها لا تلتزم بقواعد معينة لأنها قصيدة مُجنّحة. ومادامت كذلك فلا يمكن ضبطها داخل دوائر القاعدة والضبط الشعري المحكوم بسلطة البناء الصارم . إنها حالةٌ متفردة من القول تتبنى صوغا خاصا نابعا من طبيعتها الزئبقية  المتملصة من كل طوق وعن كل طوق والخالقة إن شئنا القول أطواقها الخاصة والمتواطئة دائما مع مقولة الحرية.

 ***

نورالدين حنيف أبوشامة - المغرب

......................

إحالات:

1- أدونيس، الشعرية العربية، دار الآداب، بيروت، الطبعة الأولى 1985،  ص 71

2- هنري برغسون، التطور الخالق، ترجمة محمد محمود القاسم  المركز القومي للترجمة، 2015، ص 16

3- ادوارد سابير وآخرون، اللغة والخطاب الأدبي (مقالات لغوية في الأدب) اختارها وترجمها سعيد الغانمي، بيروت، المركز الثقافي العربي 1993،، ص 42

في عنوان المجموعة الشعرية "ويقول لها" للدكتور عاطف الدرابسة، بوح وإقرار، وفيما يشبه الاعترافات تتوالى قصائد الشَّاعر الدكتور عاطف الدرابسة، وفي أولى القصائد "كرسي برجل واحدة" والتي تُذكرُنا بقصيدةِ الشَّاعر الكبير الرَّاحل "نزار قباني" وهي "السيرة الذاتية لسيافٍ عربي" تناصٌ واضحٌ، حيث يعلن فيها الشَّاعر الدَّرابسة:

أنا الملكُ الحاكم بأمر الشيطانِ

أُعلنُ الحربَ متى أشاء

أُعلنُ الحب متى أشاء

كذلك انا

أفعلُ بالرَّعيةِ ما أشاء

وفي موضعٍ أخر نجدُ بأنَّ هذا الحاكم مراوغ مُحتالٌ يقول عن نفسه:

هكذا أنا كرسيٌ برجلٍ واحدةٍ

لا أجيد إلا لغة الَّلفِ

 والدَّوران

- ونكتشف بأنَّ كُلَّ أفعاله العظيمة التي فعلها، ماهي سوى سرابٌ، فلا هو من يكتب على الماء، ولا هو من يطفئُ البرقَ، ويُخرسُ الرَّعدَ، ويروضُ السَّحابَ، أو يَسجنُ الهواءَ، فما هو سوى مريضٌ بجنونِ العظمة يسعى وراء السَّرابِ. هذه هي الشخصية التي يرسمُها الشَّاعر لذلك الحاكم، وإذا ما أردنا أن نفكرَ فيما بين السُّطور لنصلَ إلى المُضمرِ من مقاصده، نكتشفُ ذلك في تَوالي المعاني:

فهذا الكرسي من حجرٍ

وأنا يا ألهة العربِ ملكٌ

يحكمُ منذ الأزلِ

دولةَ المقابرِ

الرعيةُ أمواتٌ

والأمواتُ هم يا سيدتي سكانُ القصورِ

والقصورُ مقابرٌ

وهكذا تصبحُ الاسقاطات السياسية في قصيدته أمراً لا مفر منه، ويصبحُ موضوعُ التَّناصِ مع قصيدةِ نزار قباني في قصيدتِه "السيرة الذاتية لسيافٍ عربي" أمراً واضحاً وجلياً لا مفرَ منه.

وفي قصيدته الثَّانية "الهدنة" تناصٌ من لونٍ آخر، ومع أيةٍ قرآنيةٍ هذه المرَّة، حيث يرتلُ لنا سورةَ الفاجعةِ:

هل تسمحون أن أرتل عليكم سورة الفاجعة؟

الهاوية

وما أدراكم ما الهاوية؟

كُلُّ المنازلِ خاوية

لا عروشٌ فيها ولا خابية

 والقصيدة في المضمون تدور حول الحرب الهمجية في غزة، والتي تأتي على الأخضر واليابس، فيتحدث عن المجازر التي لا تنتهي إلا بهدنةٍ صُوريةٍ، لا تكفي سوى لالتقاط الأنفاسِ ولسماعِ حشرجاتِ من يحتضر بلا شفقةٍ:

غزَّة

كُلّ الأماكن حزينةٌ

كلُّ الأماكن موحشةٌ

أسمعُ صوتَ الجوعِ

أرى الجثثَ تسلكُ الطريقَ الممنوعِ

وأرى المساجد والكنائس بلا صلواتٍ

ولا دعاء

تُصيبه غزَّة بالحزن وهي تحترقُ والبطلُ متوارٍ خلف السِّتار، تُبكيه رائِحةُ شِواء الُّلحوم الطَّرية، وما في الطريق سوى نائحات وشهقات، وقصفٌ لا يتقن الصَّمت أبداً، وكلّ العيونِ تحدِّق في الجانب الآخرالبعيد، والأذان صَمَّاء، في زمنٍ لا يُشبه كل الأزمان.

ويستمر طعمُ الحنظلِ في كأسه، يتجرعُ مرارتَه، يعرضُ علينا تفاصيلَ الكابوسِ الَّذي ألَّم به فما عاد يعلمُ إن كان حياً او ميتاً مسلوب الذَّاكرة أم مازال يتذكر:

كنت قد فقدت ذاكرتي

أحاول أن أسترجع صوراً من اليوم

فلم أجد صورة واحدة

تذكرني أنني كنت على قيدِ الحياة

هذا اليوم..

 ولا يلبثُ أن ينتهي الكابوسُ بتساؤلِ الحِيرة: إن كان العظماء والأساطير في العالم، ما استطاعوا تغيير شروط الُّلعبة، فكيف سيكون بمقدوره وهو البائس المسكين أن يغيِّرَ معالمَ هذا الزَّمن الرديء:

فكلُّ هذا وكلُّ هؤلاء

لم يُخلِّصوا العالم الموبوء من كلِّ هذا الوباءِ

فكيف لي أن أنجو من موائد الوحوشِ

هو اليأسُ يرتِّب له أفكارَه، ويجعلُه يرفضُ كل شيءٍ، حتَّى نِعمةَ النَّارِ الَّتي جاء بها "بروموثيوس" ومَنحها للإنسانِ كي يتدفَّأ بها، ويطردُ الحيواناتِ المُفترسة عن مسكنه، وقبل هذا وذاك كي يطهو بها طعامَه، ولكن أيّ طعامٍ لفقيرٍ؟، وأي مذاقٍ لمسكينٍ؟، والنَّارُ ما عادت كما أرادها "بروموثيوس" نعمةً للإنسان الّذي صيَّرها بشروره أداةَ قتلٍ وفناءٍ ودمارٍ، ولذا يعاتب الشَّاعر بروموثيوس قائلاً:

بروموثيوس: ليتك ما سرقت النَّار..

أرجوك أخرج من الموقد

لقد هيأتُ لك سريراً لتقيمَ في الفُرنِ

فقد حكمتْ عليك الآلهة أن تبقى سجيناً إلى الأبدِ

وأن يبقى فرنَ الشِّواءِ مُغلقاً

الفقيرُ يموتُ إذا استنشقَ رائحةَ اللحم المشوي

الفقيرُ يموتُ إذا استنشقَ رائحةَ الرَّغيفِ

- يَتسلَّلُ اليأسُ رويداً رويداً إلى كلِّ ما يراه ويحسُّ به، وكأنَّه عدوى وباءٍ ينتشرُ من غير رحمةٍ، إلى كلِّ مناحي الحياة، و حتّى المرأة التي من المُفترض أن يراها عوناً له على نكبات الزَّمان، ما عاد يطمئِنُ إليها، فقد صار عسيراً عليه فهمها، فيجدها متقلبةَ الأطوارِ مثل الطَّبيعة، حزنٌ وفرحٌ، قُربٌ وبُعادٌ، ثورةٌ و نسيمٌ ضَّحِكٌ وبكاءٌ، فيحتارُ في أمرها:

قلتُ لكِ إنني لا أجيدُ قراءةَ النِّساء

أنتِ والطبيعةُ وجهان لأحلامي:

متقلبةٌ، متحولةٌ، متناقضةٌ

كريمةٌ حيناً وبخيلةٌ أحياناً

أنتِ والطبيعةُ

وجهانٌ متناقضانِ للُغتي

أنت كالطبيعة امرأةٌ متناقضةٌ

مرةً تهبيني طينَ الجداول فأختنقُ

ومرةُ تهبيني ماءَ الأنهارِ فأرتوي

وعندما يستعصي عليه لونَ الحبورِ، يُحاولُ الُّلجوءَ إلى الحُلمِ كي يكون مُنقذاً له في طَوفان الكونِ المُمتَدِّ إلى أعماقه، فيرى فيه حبلَ الخلاصِ وبوَّابته إلى عالم آخر، فيخذله حتى الحُلمُ، ويتفاجأ بأنَّه هو الأخر متهالكٌ وعاجزٌ:

أحلامي كأنها جموعٌ من القصائد التي لا تجيدُ الإبحارَ

تسألُ عن موجٍ يحملُها

عن ريحٍ تحركُها

عن أشرعةٍ، فإذا كُلُّ الأشرعةِ مُمزقةٌ

وهكذا نجد أن حتَّى أحلامه لا تملكُ مجاديفَ في مركبه، ولا تقوى على الإبحار، يائس يتسرَّبُ الشَكُّ إلى حناياه كأنَّه يستبقُ الحدثَ قبل حدوثِه، فلا يأمنُ جانبَ العشقِ مخافةَ الخيانة:

لا تُلقِ نفسكَ

في نارِ الحبِّ

لا أريد أن أشُمَّ رائحةَ الخيانة

 وهي تحترقُ

وليس هذا فحسب، بل يمضي إلى أبعد من ذلك فهو لا ينتظرُ خيراً مطلقاً من علاقةِ عشقٍ، إنه شكٌ إلى حدودٍ لا يحدُّها حَد ٌ، فهو على ثقةٍ بأنَّ الخيانةَ أمرٌ مَحتمٌ وهي قادمةٌ لا محالة:

إياكَ أن تأمنَ إلى اِمرأةٍ شرقيةٍ

قلبُها مع واحدٍ

وعقلُها مهووسٌ بواحدٍ

ويدها في جيب واحدٍ

وعينُها على واحدٍ

ورغم كلّ هذا لا يجدُ مفراً من الُّلجوءِ إليها، مثلَ طِفلٍ تقسو عليه أمه، فيرتمي في حِجرها ويذرفُ الدُّموع َ لها ومنها.

وحينما يحاصرُه اليأسُ وتتكاثفُ غربانُ الشُّؤمِ حولَه، لا يجدُ مَفراً من الارتماءِ بين أحضانِ المرأة فهي رغم كُل شيءٍ تبقى الملاذَ له:

كم قلتُ لكِ يا حبيبة

أنتِ العطر العابق في جسدي وأنفاسي

لا تَروي لهم

كيف تدقُ ساعةُ الحُبِّ في قلبي وفي روحي

تاركةً على الشفتين قبلةَ الوداعِ

يضيءُ من زيتِها كل الوجودِ

وعندما يستكين إلى لمساتِها وقبلاتِها يصيرُ الكونُ بالنِّسبةِ له أشهى:

تعالي يا حبيبة

نرسمُ الكونَ في هذه الليلة بلونين: لونِ القمحِ ولونِ الَّليمونِ لنستعيدَ ذواكِرنا

ونسألُ الحقولَ عن الجذورِ

ولكنَّه حالما يستفيقُ من النَّشوةِ يراودُه الشكُّ مجدداً، فيطلبُ منها أن تتلفَ كلًّ وثائقِ الِّلقاء:

أشعلي النار في كأسِك وأحرقي أخر قبلةٍ وأخر حوارٍ

فأنا يا سيدتي بقايا رجلٍ في روايةٍ اسطوريةٍ

وبقايا عاشقٍ في قصيدةٍ مكسورةَ الوزنِ والإيقاعِ

ورغم هذا تبقى المرأةُ بالنسبة له خشبةَ الخلاصِ التي يَنشدها في زَّمنِ العَتمةِ، رغم كُلّ تحفُّظاته وشَكوكه:

كأنَّك يدُ السَّماء على صدري

ترسمُ لوحةَ الحياةِ على الضِّفافِ

من أين جاء كل هذا الحبّ

من أين خرج كل هذا الوجع

وتصيرُ المرأةُ عنوانَ الحياة، بل عنوان كلّ ما في الكونِ ولون كُلّ الأشياء من الولادةِ وحتى المماتِ، والمماتُ ربَّما هو هجرٌ ورحيلٌ، ورُبَّما هو الرَّحيلُ الأكبر وهو ديمومةُ الغيابِ:

تأمَّل أيها النازِفُ صَمتَها

بيدٍ تحملُ فأساً وبيدٍ تحملُ كفناً

أطِل النظرَ اِصغِ إلى ندائِه سيأخذُك إلى هناك

حيث روحها والقبر

وبعد هذا هو عاطف الدَّرابسة، ناقدٌ صارمٌ، ورياحٌ عاصفةٌ عندما يقتضي الأمرُ، ولكنَّه شَاعرٌ رقيقٌ في الغزل، تصيرُ عواصِفُه نَسائمَ ربيعيةٍ مُنعشةٍ.

في داخله قلبُ طفلٍ في جسدِ شاعرٍ، يُخفي بين ظلالِ الصَّرامةِ عذوبةَ العاشقِ وهيامَ المُحبِ، يظنُّ من لا يفقهُ بمكنوناتِ النفسِ بأنَّه كارهٌ للمرأةِ، غير مدركٍ بأنَّ خيطاً رفيعاً، يفصل بين الحبِّ والكُرهِ، ربَّما المرءُ حينها يكرهُ المحبوبَ لكونه يعشقُه الى درجةٍ يصيرُ فيها البعادُ عنه عذاباً وعقاباً، لكونه صورة حقيقة لوجهي الحقيقة الحبّ والكُره.

عاطف الدَّرابسة الَّذي يجانِبهُ السُّرور، وتقلبُ له الدُّنيا ظهرَ المِجنِ، رغم تَوقِه إلى فُسحةِ فرحٍ، لكنَّ الحرائقَ تحجبُ أمامه فضاءات الضَّياء، ففي جحيمِ السَّوادِ لا طعم للحبورِ، حيث الصقيعُ يخمدُ الشَّمسَ هناك وتُفترسُ الذئابُ كلَّ القطيعِ بلا رحمةٍ، وتبكي الزُّهورُ في كل ليلةٍ براعمَها التي حصدتَها براثنُ الأعاصير بلا شفقةٍ.

هو اليأسُ يأكلُ بنهمٍ من أفكاره، وحتى من بصيصِ الأملِ في أخرِ النفقِ يقول:

لا تنتظري الأملَ إنه يحترقُ

يصير رماداً لا يشبهُ رمادَ الفينيق

وبالطبع فالأملُ حين يذوي لا يمكنه أن يحيا مُجدداً وسط الرمادِ، كما في أسطورة طائر الفينيق، إنَّه طعمُ الوجعِ، ولون اليأسِ، ومرارة الخذلانِ، وجراح الخيبةِ، في ترانيمٍ باح بها شاعرنا عاطف الدَّرابسة، في ديوانه “يقول لها" فأضحت كلُّ بحارِه مُصطبغَةً  بلونِ الحُزنِ، وفي لُججها يتمايلُ مَركبُه التَّائِه من غيرِ مجاديفٍ ولا أشرعةٍ، يبحث بلا جدوى عن بصيصِ ضَوءٍ قد ينبعثُ من المَنارةِ البعيدةِ ذات مرةٍ.

***

جورج عازار

 

نالت الرواية المكتوبة في المنفى حيزاً كبيراً في الإبداع الروائي العراقي، هذا الحيز يستلزم مواكبةً نقديةَ موضوعية، وهنا تذكر الكاتبة والمترجمة والروائية لطفية الدليمي شيئاً عن العلاقة بين الإبداع الروائي ونقده في مقالة لها في جريدة "المدى" عنوانها" رواية المنفى العراقية.. رؤية من داخل المشغل الروائي" تقول فيها:" تكاثرت أعداد الروايات العراقية المكتوبة في المنفى وتنوّعت موضوعاتها وخبرات كاتبيها حتى صارت ظاهرةً تستحق الاستفاضة في التوضيح والمكاشفة وإزالة مناطق اللبس التي كرّسها انكفاء الرؤية النقدية لبعض نقّادنا على قراءاتٍ متلاحقةٍ تعتمد مواضعاتٍ شخصيةً محضة، أو تعميماتٍ تكشف حالةً من الاسترخاء النقدي".

بالتأكيد أن روايات المنفى، حالها حال روايات الداخل، تناولت ثيماتٍ مختلفة، هموم العراقيين وتطلعاتهم، آثار الحروب والحصار والقمع الديكتاتوري على الحياة العراقية، ومن ثمَّ هناك الثيمات المختلفة في روايات ما بعد الاحتلال الأميركي، ولكننا نرى أن أهم ثيمات الرواية العراقية في الحقبتين الدكتاتورية والحالية هي ثنائية الوطن والمنفى.

في هذه المقالة تسليط الضوء على هذه الثنائية في  بعضٍ من روايات العراقية المغتربة دنى غالي، المقيمة في الدنمارك منذ عام 1992، الضوء يكتفي بتشريح هذه الثنائية  في روايات" جنوب" و منازل الوحشة" و " عندما تستيقظ الرائحة ".

جنوب

يتقدم آخر روايات العراقية المغتربة دنى غالي" جنوب" الصادرة عن دار المدى عام 2023،  يتقدمها مقتبسٌ من نصٍّ للكاتب والفيلسوف الفرنسي  موريس بلانشو، مغزاه أن الاغتراب حاصلٌ إن كان في البلد- المنفى أو في البلد الأصل. فهي تروي حكايات ثلاثة أصدقاءٍ عراقيين من الجنوب، فاضل وحسام ووائل اختاروا الهرب من الموت العراقي، إلى بلدان الشمال الأوروبي، ومن هنا تركيز الروائية دنى غالي على جنوبيّتهم، لكي توظّف الدلالة المكانية بين جنوب الحصار والقمع وموت الحروب المتتالية، بالضد منه الشمال الأوروبي، حيث الأمان والعيش الكريم والحريات العامة في الدنمارك. بالطبع الجنوب في البلد الأصلي، العراق، ضمن جغرافية أوسع هي الشرق الأوسط، بينما بلد اللجوء الشمالي، يقع ضمن منطقةٍ أوسع هي الغرب الأوروبي. إثنان  منهم فاضل وحسام اللاجئان  في السويد، عادا إلى الشرق، واستقرّا في الخليج، فاضل في الكويت، وحسام في الإمارات،    وبعد استقرارهما خطرتْ لفاضل أن يسافر هو وحسام  إلى أوروبا، لغرضٍ سياحي هذه المرة،  كي يجتمعوا  بكلّ أصدقائهم الذين بقوا في المهاجر، ومن ضمنهم وائل.

الملاحظ في الرواية أنها توصل إلينا مقارناتٍ بين طباع  ثلاث شخصياتٍ لجؤوا إلى الغرب الأوروبي، هرباً من وطنهم الذي لم يحميهم، أو كانت هواجسهم قويّةً بأنهم لم يؤمنّوا فيه مستقبلهم، بعد أن تفتّت حاضرهم فيه، أما الماضي فهو بالنسبة  لهم وطن ذكريات طفولتهم  وشبابهم. وعلى ذلك هي مقارناتٌ تسعى من خلالها غالي إلى تسريد منظورات الأصدقاء الثلاثة لقضايا جدالية في حياتهم، مثل الوطن والمنفى والمرأة.

فاضل: أكثرهم التصاقاً بالوطن، وأكثرهم حميميةً في العلاقة مع الناس، أكثرهم تبرماً من المنفى، والعلاقات الاجتماعية الباردة، وبالنتيجة، ترك الغرب – الشمال، وعاد إلى الشرق– الجنوب.

حسام: هو الشخصية المتوازنة في وجهة نظره للأمور، فهو أكثرهم  اندماجاً مع المنفي، فضلاً عن إلمامه بعالم التقنيات وتعلّم لغة أجنبية، ولكن ذلك لا يمنع من أنه يكتب الشعر. مقياس اندماجه مع الغربة، تعلّقه بفتاةٍ جورجية، وصلتْ ذروة العلاقة لغاية الزواج، لكنهما تركا بعضهما  بعد انتهاء عقد تمار.  حسام بالنتيجة تزوّج في الإمارات واستقرّ في دبي.

وائل: يختلف عن الاثنين في أنه لم يتزوّج، اندماجه في المنفى الدنماركي ليس حميمياً جداً، رغم أنه لا يودّ العودة إلى الوطن، وينتقد فاضل لهيامه الزائد عن اللزوم بكلِّ ما هو عراقي. وائل الصموت عن الزواج أسفرت صفحات الرواية لاحقاً عن علاقته عن بعد  بصديقة أخته، الصديقة التي تُدعى بان، كشفت زيف وائل لجهة تعاليه ومكابرته عن العودة إلى العراق، وتوضّح له بأن العراق يبقى الملاذ الأول والأخير للعراقيين مهما أدمنوا العيش في المنافي  .

منازل الوحشة

في هذه الرواية، الصادرة عام  2013  عن دار التنوير  للنشر، تضطرُّ عائلةٌ صغيرةٌ إلى التشتت، في ذروة الأحداث الدامية التي شهدها العراق في الأعوام 2006،2007، 2008 . العائلة مُكوَنةٌ  من أبٍ وأمٍّ وابنهما الشاب. الأمّ هي الراوية  فتتولى سرد همومها وهموم عائلتها، فالزوج أسعد  مُحبطٌ جداً مما يجري، مغتربٌ في بيته، وهنا ننوّه، كما هو في مقتبس رواية (جنوب) من بلانشو، إلى أن الاغتراب في هذه الرواية لا يعني فقط الهروب إلى الخارج، بل يعني الاغتراب أيضاً أن تكون غريباً في وطنك، الغربة داخل الوطن تحفّز الأب على الهرب إلى عمان، بعد أن تعرّض إلى الاختطاف من مكان عمله في معهد الفنون الجميلة في بغداد، تاركاً زوجته تلعق جراحها في وطنها بمفردها، وخاصةً انشداهها كثيراً بابنها سلوان،   ومعاناته  النفسية بأسبابها العديدة، أولاً اشتراكه في الحرب كأيِّ شابٍّ عراقي فهو من مواليد أواخر سبعينيات القرن الماضي، ثانياً حرص أمه على ألاّ يخرج من البيت بسبب الأوضاع الأمنية المتردّية. تذكر الأم الراوية عن مخاوفها الشديدة من حالة ابنها سلوان" تأزّم وضع سلوان تحديداً بعد عام 2003 وساءت صحته، الأمر الذي أفزع أباه وجعله يتخبّط بالتعامل معه. فقد وسائل اتصاله معه دفعةً واحدة. وكأن ما حصل في البلد لم يعد كافياً، لكلٍّ منهما انطواؤه، وأنا الحارسة، تنتقل عيناي بينهما" الرواية : ص10 .

سلوان استقرّ في دمشق، جرى ذلك بعد أن دخلت البيت الكئيب فتاة جاءت بها أم الراوية، أي جدة سلوان، فتاةٌ حالمةٌ بالهرب أيضاً، فتجد ضالّتها بتوطيد علاقتها بسلوان وتحثّه على الهروب إلى الخارج. ولأن رواية " منازل الوحشة"، تروي أحداث العراق في عام  2006 ، والعامين التاليين، حيث ذروة أحداث العنف في العراق، بدأت تنخفض تدريجياً عاماً بعد عام، فإن الأم الراوية، تؤمّل نفسها بعودة سلوان، كلاهما الأم والابن ينتظران مزيداً من التحسن في الوضع الأمني، كي يلتئم شمل العائلة من جديد، هذه هي الأحلام البسيطة للعراقيين، ولكنها أصبحت صعبة التحقيق بفعل الظروف العراقية المعقدة دائماً.

عندما تستيقظ الرائحة

في هذه الرواية الصادرة عن دار المدى عام 2006 ترسم دنى غالي حكاياتٍ عن  معاناة  اللاجئين في الغربة، تحديداً تقوم بتشريح عوالم ثلاثة عراقيين، كان بلد لجوئهم الدنمارك، هؤلاء الثلاثة؛ رضا المولاني ـــ مروى البصري ـــ نهلة صباح (زوجة رضا المولاني السابقة).

ما يميّز الثلاثة أنهم لم يستطيعوا التكيف مع عوالمهم الجديدة، بل ظلّوا أسيري كلِّ ما عانوه في وطنهم العراق. معاناة تتجلّى في كوابيسهم؛ الحروب، الحصار، الاضطهاد بجميع أشكاله من قمعٍ فكريٍّ وسياسي، إنهم يعانون غربةً من نوعٍ جديد، أدّت إلى حالاتٍ نفسيةٍ لديهم، لذا يلجأ رضا المولاني ومروى البصري إلى محللةٍ نفسيةٍ من بلد اللجوء الدنمارك. في أثناء جلسات العلاج، تبدو  المحللة النفسانية هادئةً ومستقرةً، وفي وضعٍ صحيٍّ جيد، وهنا تريد دنى غالي، إجراء مقارنةٍ بين بيئة المحلّلة النفسية ذات الرخاء والأمن والاستقرار والحريات العامة، على عكس بيئة القادمين من بلاد قد أطبقت فيها الدكتاتورية على كلِّ شيءٍ جميلٍ وضروريٍّ في الحياة الحرة الكريمة.

تضاعف الاغتراب لدى الفرد، يجعله يتصوّر، بل يتيقّن لاحقاً، بأنَّ الوطنَ طاردٌ لأبنائه، لكي يُجبروا على اللجوء إلى المنافي، وهي مواطن اغترابٍ جديدة، بسبب  عدم التكيّف مع تقاليدها، إنها أوطانُ عديد العقود من الزمن، في إرساء مبادئ العدالة والحرية والرفاهية الاجتماعية.

وفقاً لذلك ترسم غالي مصائر شخصيات روايتها، رضا المولاني يقرّر العودة إلى الوطن، بالرغم من عدم قناعته بهذا القرار، وهو بهذا ينهي حاضر المنفى ليعود إلى ماضي الوطن . أما نهلة صباح فتغيّر اسمها إلى ( هيلينا سابا) وهي بذلك تروم الجزم النفسي بقطع علاقتها مع الماضي . وبالنسبة لمروى البصري فكان خيارها وسطياً بالبقاء في المنفى، ولكن يظل الحنين إلى الوطن يجرّها إلى الصراع النفسي الدائم بين مكانين، أو بالأحرى بين وطنين ورائحتين.

دنى غالى، وتلك مفارقة، تسرد تزايد اهتمام المحلّلة النفسية بكل ما هو عراقي، جرّاء الحلات النفسية المعقدة، المُحالة عليها لمرضى عراقيين، فبدأت افكارها تتداعى بشأن غرائبية قصص العراقيين، فأصبحت تقرأ عنهم في الصحف، وتتابع البرامج الوثائقية في التلفاز عنهم، وأصبحت  تدرك أن هذا البلد الغني لكن ناسه فقراء تتنافس عليه القوى العظمى.

التعامل الراقي للمحللة النفسية وأريحيتها في التعامل مع اللاجئين، وجعلهم يبسطون أمامها كل ما عانوه، لكي يزيحوا همومهم الثقيلة، ربما تروم منه دنى غالي، بأنه من الممكن التكيّف والانسجام مع  شرائح رائعةٍ من مجتمع اللجوء، ما يعبّد جسراً للتفاهم مع شرائح أخرى من هذا المجتمع.

***

باقر صاحب - أديب وناقد عراقي

 

نسقية التضاد في مرايا التصحر الذواتي

توطئة: لعل تجربة الشاعر الكبير (محمود البريكان) الشعرية ورغم عدم ذيوعها من خلال تعدد المطبوعات، إلا إنها تجربة تتجاوز العديد من المنجزات والمجلدات الشعرية الضخمة للشعراء، فهي تترتب من الداخل الأسلوبي بتشكيلات ترفع بالدال المرمز إلى مواطن ثرية بالإيحاء الكياني لأدق دقائق انطلاقة الدﻻﻻت الحبيسة عميقا في تأويلاتها وعلاماتها الملفوظية المتضادة وطبيعة موضوعة وفكرة ورؤية القصيدة الناجزة في دائرة اللامألوفية في التقاط الأشياء وأحوالها ضمن أوجه استبدالية وإحالية خاصة من مكونات الابعاد الاستدﻻلية في التكوين النصي الشعري.. من هنا ومن خلال التعامل مع قصيدة البريكان، نتجاوز إحساسنا النمطي في التلقي والقراءة والذائقة الإسقاطية، لنبدأ من مرحلة حركية مضمرة بأشد حاﻻت حسية الأنا الشاعرة بهواجس موضوعاتها المنطلقة من حدود خارج تراتيبية المطروح اللفظوي، امتدادا إلى عوالم (الميتانصي) ومعارفه الاوصافية النادرة والفريدة. في الواقع إن حيز قراءتنا لعوالم تجربة البريكان تتضائل في أدواتها وآلياتها وممارساتها، خصوصا وأن لقصيدة الشاعر ذلك اللون والتشكيل والأداة التي ﻻ يمكننا مقاربتها مع أي تجربة شعرية سائبة من تجارب شعراء التقليد والنمطية والخواطر النثرية المهلهلة في الدال والدليل والعضوية الأداتية في رسم الوظائف الوسائلية والوسائطية في بنيات القصيدة. وتبعاً لهذة المقدمة التوطئية نتعرف على أحدى تجارب الشاعر الفذ من خلال قصيدته الموسومة ب (البدوي الذي لم ير وجهه أحد) فما وراء حجب هذه الهيئة العنوانية من خصوصية وأسرار ملحمية بالذات المضاعفة في مدها الايجابي الأولي تصديرا مركزيا كثريا تتمرأى بآليات لغة (الحضور - الغياب / العلامة - السمة / الذات الساردة - لوحة المرآة).

- المروى إليه غيابا: السياق وحدود مرجعية المخاطبة.

عند البدء بأول مطالع النص يواجهنا التلفظ بضمير المروى إليه غيابا، لينضم صوت المخاطب إلى لغة الخطاب المأخوذ بإنتاج النسق السياقي في مجال الرقعة (الزمكانية) وفضاءاتها المتعلقة برواية المحكي شعريا:

لعلك يوما سمعت عن البدوي العجيب

الذي كتب الله أن ﻻ يرى وجهه أحد.

لعل الانموذج الدوالي المطروح ب (البدوي) يفتتح المستوى من رؤى دائرة في علاقة (فضاء: الذات - المرآة - ذاكرة - حكواتي) بلوغا مقتربا بفروض واحتماﻻت أن تكون خصيصة هذا الكائن محتجبة على صعيد ذاتها أوﻻ ثم إلى وسائل وتطلعات الارتباط العلائقي بين (الصحراء - الأسطرة) لتتكشف لنا ذاتية ذلك الدال وكأنها حقيقة مرجعية تستقبل أحوالها في إطار لجج الرمل ومسار غيابها عن هوية علاماتها في عموم فضاء ملحمة الرمل والدال المؤول (أن ﻻ يرى وجهه أحد) فلتذكير القارىء ها هنا في ان حدود الدرجة القصوى من عدمية الذات المتصحرة، حيث بدت تغيب عنها تواريخ صورتها الميلادية وتفاصيل تختص بوضعها النسقي. غير أنها تبقى ضمن نموذجها الانتمائي كهوية بيئتها في بيوت شعور الإبل، تستقبل يومها من خلال بزوغ خيوط الشمس من خلال شعيرات بالية من سقف الخيمة المثبتة بركائز الأوتاد وعقد الحبال الذابلة:

وجهه الأول المستدير البريء

الذي غضنته المهاللك وافترسته الحروب

وخطت عليه المآسي علاماتها.

نمت طبقات الزمان

على جلده.. فهو ﻻ يتذكر صورته

صورة البدء.

هذه المقاطع تلخص لنا فلسفة أزل الآزال في بنية التكوين البدوي، فهي من جهة ما تجتذب لاضاءة صفات الذات وكينونتها الفطرية (وجهه الأول المستدير البريء) وصوﻻ الى حقيقة تقاويم وتواريخ سيرورته عبر جغرافيا الجسد الصحراوي المتمثل بأشد أحوال المنازعات والحروب القبلية المرتبطة بطبيعة النسيج الحضوري لعادات الروح الصحراوية المشربة بموجودات (الثأر - الغزو - الخصام - الغنائم) فكل هذه الخلجات هي من الاضطراب في العنفوان والشهوانية الصراعية من أجل البقاء في ثوب البطولة والجبروت القبلي (غضنته المهالك وافترسته الحروب) وما ينبثق عنها من سمات ذات دﻻﻻت روحية تتشكل بوازعات الطابع والتمثل (وخطت عليه المآسي علاماتها) وتنحو علامات الزمانية في المقاطع كفلسفة احوالية في الموقف والفهم والإدراك، لذا تبقى كحالة (إنتاج موقفي؟) بزخم مكتظ دﻻليا في علامة دهرية تتعدى عينات الموقع الوصفي الآني (نمت طبقات الزمان.. على جلده.. فهو لا يتذكر صورته) لعل البريكان يضع بدوية في خانة يصعب الخروج منها، فهو يصفه بروح المغاﻻة غالبا، ما جعله يبتعد عن التقويم الصوابي للموضوعة الحسية للحدث الشعري: نقول لعل الامور ﻻ تصل إلى هذا الحد من المغاﻻة (فهو ﻻ يتذكر صورته) خصوصا وإن هناك وسائل اكثر انجازا في تفعيل جمالية الصورة الشعرية ودعم علامات الصفات للفكرة الواصفة منظورا شعريا، إذ ليس هناك أية مبررات معيارية في جعل المهالك تنسي المرء صورته وهيئته، حتى وان كان ذلك البدوي الذي تشرب زمنه في يباب لجج كثبان الرمل والحصى ودبيب القوارض ورياح السموم، إذ ﻻ يمكننا بمعنى ما تقبل هذه الدﻻلة سوى في ترجيحها إلى كفة المبالغة والاسراف في رصد الحاﻻت الانشائية لا أكثر.

١- عضوية بلاغة المرايا وملكوت الواصف الشعري:

لعل إن المشاهد القادمة من سياق المد الدﻻلي جعلت تتنامى في حدود آليات (الواصف = الموصوف) ليذهب ذلك الواصف بآنويته بعيدا عن الانسياق وراء الأوضاع الانشائية في بعض ما ﻻحظناه في مقاطع القصيدة اعلاه:

 مستغربا في مرايا المياه ملامحه الغامضة

أنا هو ذاك

أنا البدوي الغريب يجوب البوادي

و يطوي العصور ويعبر جيلا فجيلا

إلى آخر الأزمنة.

تتكرر لأزمنة التوكيد الآنوية بطريقة الأثباتي والثبوتي،و كأن الشاعر يسعى في نصه إلى التزود بأعلانية وثوقية من ذاته ولذاته، ولكن المد الدﻻلي ﻻ يتطلب من الشاعر كل هذه التكرارات المتلاحقة في كل بداية سطر، لعلها ﻻ تقدم ذلك التنام الدرامي والشعري المعزز بالفهم القرائي بادىء ذي بدء (أنا هو ذاك.. أنا البدوي) أما من خلال المقطع السابق تتضح لنا حقيقة (مستغرباً في مرايا المياه ملامحه الغامضة) ذلك البدوي الذي يعاين ذاته ضمن فاعلية الوصول إلى معرفة شكله الذي غاب عنه في مدار التوقع والتصور، فهو يكتشف ذاته عبر شاشة مرايا وحكايا المياه هذه الضربة الشعرية منصصة بما يلاءم سياقات ومضادات الحياة الصحراوية، وما يترتب عليها من مضامين حركية وتحفيزية قابلة لنمو الدﻻلة الفعلية ورمزية مؤثراتها الناجزة.

- تعليق القراءة:

إن ذات التمثيل الشعري في قصيدة (البدوي الذي لم ير وجهه أحد) خلاصة في التطبع الاثباتي المتعدد ومحاولة العودة إلى مواطن التعريف بأزل دورة الكينونة التي راحت تلعب دورا دﻻليا في تراكيب الدوال الشعرية، لذا فإن من غير الضرورة استعراض كل أجزاء القصيدة، خصوصا وإنها سقطت في الجانب الوصفي والعرضي أكثر مما ينبغي.. أي أن الأجزاء المقطعية في النص،جعلت تستخدم جوامع الوسائل والوسائط (المرجعية: التشبيه - المشبه به) في مواضع كان من المستحسن للشاعر إعادة صياغتها بطرائق أسلوبية اكثر فنية وشعرية وجمالية، ﻻ أن تبدو الملفوظات وكأنها مرسلات مبثوثة في مواضع ﻻ تعبر عن أية إمكانية في خطاب النص الشعري، كما في هذه المفردات المقطعية التي بدت وكأنها خاوية من الشعرية:

حفظت أغاني الزوابع عبر الأفق

وكنت امرأ القيس في التيه

والمتنبي على الطرق النائية

وفي عزلة الروح كنت المعري رهين السجون

الثلاثة

وكنت دليل القوافل عبر المفاوز

وكنت الذي يوقد النار للطارقين.

على هذا النحو وجدنا بعض من ملفوظات النص، وكأنها مواعظ سيرذاتية وتهليلية تتقصى تفاصيل ﻻ يمكن الاستجابة وإياها قياسا إلى ثيمة موضوعة القصيدة، بل إنها ﻻ تتناسب وهذا الشكل الطردي الذي هو من المباشرة ولجاجة جهات الدﻻلة وأواصر العلاقة الشعرية الرصينة. على اية حال لنأخذ ما جاءت به نهاية القصيدة من: (أحس وراء صلابة جلدي.. وراء قناعي القديم.. وراء برود عظامي.. أحس اختلاجة روح خفي.. بصيص براءة.. وبقايا من القوة الغاربة) إن الراوي الوصفي هنا يسعى إلى تلمس حاﻻت فطريته الأولى، أي تلك المرتبطة بذاته الأولى التكوينية وملحقاتها التي تصور شكلا آخر من نقاوة الكائن الصحراوي المؤسطر، فهو فيما مضى راح يحصي مستويات الالتحام بواقعه السلبي، ولكن هو ما زال يهجس ذلك النبض الروحي الذي يتكشف عنه رهانه هذا الكائن المبجل بأسمى صلات شموخ رمزية الصحراء وعراقتها التي تؤسطر لمن يعتاش في مفاوزها أجلى دﻻﻻت الثبات على القيم والاعتبارات السامية: (متى تتدفق بالدم؟.. هذه اليد الذابلة.. متى تتحرر من موتها.. متى يا الهي؟!.. متى؟؟) فيا تبقى الجمل الاستفهامية المرتهنة بأداة التعجب تصارع وجودها الحاضر. طلبا إلى ذلك البدوي الراقد في الأرواح السلفية العريقة للصحراء، لذا تتمخض رؤى الروح البدوية في الأعضاء الميتة للكائن البدوي، استنجادا يلخص ويخلص ويحرر الذات البدوية من براثن آنويتها التضادية المنعكسة في مرايا وقائع الراهن المميت من التصحر الذواتي السقيم.

***

حيدر عبد الرضا – ناقد عراقي

 

للشاعر النيجيري تجاني عثمان هطيجيا

في سبعة وثمانين ترنيمة رسم الشاعر النيجري (تيجاني عثمان الهطيجيوي) عالمه الشعري الخاص. وجعلنا في مساراته الجمالية ندلف إلى عوالم أخرى أكثر ثراءً وانفتاحاً على إدهاشِ الضوء.

يورّطُنا الشاعر (تجاني) في الجلال قبل الجمال. وفيهما معاً يصنع بلاغته الخاصّة بإيقاعاته المتميّزة، في قرارٍ فنيّ هو القصيدة الخليلية بكلّ ما تحمله التسميةُ من عمقٍ ومن مغامرة. فليس كلٌّ بمَكَنَتِهِ النّظمُ في هذا الاختيار.

و إذا كانَ البدءُ هديلاً فإنّ الختمَ ماء. والبدءُ كان هديلاً في صحبة سيّد الورى، وخيرِ الأنام... فيما الختمُ كان سفراً في الماء من ياياري إلى الرباط فطنجة ثم تطوان... هذا المجمّع الحضاري الذي احتضن رحلة الشاعر الفيزيائية والوجدانية وطبع فيه بحقٍّ قيمَ الاعتراف في أجمل صوره، وفي أبهى حلله، وفي أرقى وأرقّ درره.

و بين الهديل والماء، بين ارتشاف عبق النبوة وعطر الفضاء، انثالتْ علينا من الديوان ترانيمُ مُموسقةٌ في بلاغةٍ أصيلة زكّاها حرفٌ غابرٌ في نسغِ التراث، وعابرٌ لرحمِ الحداثة، رغم اندماج المقول في بحور الخليل. ممّا يُعلّمُنا أن الحداثةَ ليستْ زمناً بقدرِ ما هي رؤيا، بألف ممتدة وغير مقيّدة.

فتعالوا أيها العاشقون لِلْكَلِمِ في بُؤَرِ الْكَلْمِ الطّافحِ بتباشير الشّفاء. تعالوا كي نقرأ الديوان لا في علمه، بل في فيضِه، لأن المقامَ مقامُ وجدانٍ شاعرٍ ومقامُ شعرٍ واجِد. نتسمّع فيه لوشوشاتِ الكلام في سيماء الجمال النازحِ من شقيقتنا (نيجيريا) عبر قناةٍ إنسانية بالكادِ تقضمُ من عمرها الواعد. هي قناةُ الشاعر (تجاني) التخييلية.

1 – القصيدة المركّزَة:

اختار الشاعر هندسةَ بياضٍ ذكيةٍ تغيّى من خلالها عدم إرهاقِ القارئ بالقصائد المطوّلة. وقد اختار الشاعر (تجاني) المتون الشعرية المركّزة التي يسمّيها بعض النقاد بالقصيرة. إذ إن أطول قصيدة في الديوان لا تحتكر أو لا تكاد تحتكر بياض صفحةٍ ونصف. وما تبقى من الديوان فإنه يعوم في بياض صفحة أو نصفها أو ربعها، فيتحول حوار الأسود والأبيض إلى مغازلة خفيفة الوطء، سهلة التناول في امتناعٍ دلاليٍّ لا يقدّم ذاته رخيصاً في عمليات اجتِناء المعنى وفائض المعنى وفيضِ المعنى.

و لو أن اختيار الشاعر (تجاني) لم يُخرجِ الشعر من ثوبِهِ التقليدي والمعياري، باحتفاظه بهندسة التشطير وهيمنة صورة الصدر والعجز، إلّا أنه في اختيار القصيدة المركزة (القصيرة) عمل على التركيز والتكثيف من حجم المقول في قرار فنّيٍّ يُطلق المعنى في ذكاء اللغة الشعرية المختزلة التي تُراعِي مواقف المتلقي الّذي أصبح يزْورُّ عن النصوص الشعرية المطولة والشاملة نظرا لغزوِ الصورة واكتساحِها لرؤيته البصرية... من هنا جاء اختيار الشاعر (تجاني) للقصائد العمودية المركّزة.

ولا ينبغي أن نفهم من ذلك أن الشاعر ضحّى بالمعنى والدلالة في سبيل إرضاء هيمنة الصورة، بقدر ما ينبغي أن نفهم أن الشاعر هنا تميّز بقدرته الفنية على تطويع الفضاء البصري تطويعاً ذكياً راكمَ فيه مجموعة من القضايا الذاتية والموضوعية في غضون نصوصٍ تجاوزت الثمانين نصّاً. وهذا لعمري ثراءٌ أدبي يشي بتحكم الشاعر بناصية الصوغ الشعري العمودي القادر على التردد البصري أمام أعين القارئ دون دفعه إلى الإحساس بالرتابة المتأتيّة من التشابه الإيقاعي.

و في هذا التوجه الفنّيّ نجد الشاعر واعياً بهندسة البياض عبر تحبير المساحات النفسية للقارئ بصبيبٍ من الصور الشعرية البديلة، وهي التي تستدعيهِ إلى مداعبة التردد الخليلي المورّط للمتلقي في سيمياءِ صواتةِ بحر الكامل والبسيط، اللذيْنِ اختارهما الشاعر عن وعيٍ إيقاعيّ يدركُ فيه أن الأذن التي لا تطرب لهذين البحرينِ هي في الآخرِ أذن منقوصة.

2 – نسق البصيرة:

و هو مربط الفرس في هذا الديوان، نعبُرُها معاً في اقتطاف ثمارِ الشجر الصوفيّ، وبعبارةٍ أنصف نقول إنه الشجر العرفاني. وفي هذا الإطار تابعتُ صيرورة القصائد في تيماتها المتنوعة فوجدت أن تجربة الشاعر (تجاني) الشعرية هي في آخر المطاف تجربة كيانية، تعقِلُ ذاتَها داخل جوانيةٍ فكرية ترسلُ الوجدانَ أميراً يقرأ الفنّ الشعريّ في غير تصنّعٍ أو تمحّلٍ يلوي للنصوص أعناقاً كي تقول غير الذي تحمل في بُعديْها القرائِييْنِ : بُعد المعنى وبُعد التأويل.

التجربة الشعرية في ديوان (هديل الروايا) انسيابٌ صاحٍ صحواً عرفانياً يكادُ يشرِقُ من ذاتِهِ، ويثملُ من ذاته، ويهيم بذاته . وهو انسيابٌ يتقطّر صفاءً يعكس جوانية المتكلّم العرفانية التي يمكن تتبع مساراتها تمثيلاً لا حصراً في المحطات التالية:

أ – في المحبّة:

قال الشاعر (تجاني) في محبة الرسول صلى الله عليه وسلم

صلى عليه إله العرش ما بزغتْ  

 شمس الضحى وعلتْ أنوارُها تلعا

*

لا تحرمني عدواً في سبيل هوى  

 ديار نورٍ من الرحمن قد سطعا1.

ب – في الوصل:

قال الشاعر

أحرقي الحجب واجذبي الروح جذبا  

 يطرد البين لي لكي لا يعود

*

و يشوك الحجاب قربا ووصلا  

 لا انطلاقا ولا يطيب رقود2.

ت – في الخمرة:

قال الشاعر

لو احتسيت مدام السمر كالسيل  

 ما كان أحسن من لقياك في الليل3.

وقال

صبّ للنهى كأساً ليكفي شاهدا  

 واسحبه عن دنيا الشعور النائي

*

رقرق سحائب فرحة واحلب بها  

 شاة التردد من رعاء الشاء4.

ث – في الهوى:

قال الشاعر

ارحمي من تلذع الشوق قلبي  

 واجعلي للحجاب كشفا بديلا

*

بدّلي "سوف" ب "حان" ملاذي  

 ولعلا بإنّ واطوي السبيلا5.

ج – في الفناء:

قال الشاعر

ازدردت الهوى ولم يبق سؤر  

 أنت كأسي وإن حبك ماؤه

*

لا تلوموا الدموع فهي أريقت  

 قد أصيبت بقفصها وهي داؤه6.

من هذا الغيضِ إشارةٌ لما في الفيض من عبق المعنى السّائر في نسغ الدلالة العرفانية بقوة الشعر في سيمياء الإشراق.

3 – خصوصيةُ الإشراق:

لا يوظف الشاعر (تجاني) مفاهيم الإشراق في قصدية واضحة لبناء عالمٍ صوفيٍّ بقدر ما يتيح لقريحته الانسياب التلقائي، فنحصد نحن معشر القراء ما يفلت في تعابيره من حالات نؤوّلها بالعرفان والإشراق وغيره دون ليٍّ لأعناق المتون.

قال الشاعر في قصيدة دهشة النور:

هل غادر الشوق أهل الله منذ بدا  

 كلّا ولا طرق المحجوبَ من خمدا

*

يجول في الحق بين الحق بالحق  

 في أزله، صهْ ولا تستغرب العهدا7.

أوّلُ التجليات مساءلةٌ لا تنتظر جواباً بقدر ما تسطّر قاعدة في فنّ الإشراق، هو أن يكون المريدُ من أهل الله، يجول في الحق للحق بالحقّ ... عدا هذا، ينبغي على المتطفّلين السكوتُ في مقام النقاء (صهْ) .

والإشراق ليس وليد زمن معيّن يتحيّزُ في أسرِ التوقيت والتحقيب، إنه انثيالٌ سديميٌّ غائرٌ وقادمُ من الأزل (في أزله) وهنا يمتص الشعر في كف (تجاني) الأبعاد الزمنية ليعجنها في بؤرةِ المطلق بالمفهوم الربّاني الذي تتحوّل في الأزمنة إلى زمن واحد هو الأزل. بمعنى أن المريد السائر في دروب الحق المُشرق ليس ابن اللحظة التي قال فيها أو التي عبّر فيها أو التي سافر فيها إلى الضوء... إنه ابن الأزل، رصده الحق لهذا المقام، وأهّله ليكون.

و ثاني التجليات، يتعلق برغبة عرفانية من الشاعر في ردم المسافة بين المتكلم وبين النبوة، أي بين الذات والتاريخ، بين الوعي والوحي ... والصوغُ الشعريُّ جاء ذكيّاً يتوسّل في محراب النور (لا تحرمني). قال الشاعر:

لا تحرمني عدْواً في سبيل هوى  

 ديار نورٍ من الرحمن قد سطعا

*

صلى عليه إله العرش ما بزغت  

 شمس الضحى وعلت أنوارها تلعا8.

 وفي هذا السياق إشراقةٌ من النوعِ الرقيق، نسبةً إلى الرقائق، يجلو فيها الشاعر اندماج الأكوان في عناق النبوة، والإشارة إلى كوكب الشمس خير دليل.

ثالث التجليات في الديوان أمرٌ بدا فيه الشاعر (تجاني) واعياً برسالة الشعر، بحث لم يُهرِّب قضايا الواقع إلى الأبراج العاجية المحلِّقة بعيداً عن الناس . الإشراق في عُرفِ الشاعر مسلكٌ ملتصقٌ بالواقع ضدّاً في تغوُّلِ الواقع، والّذي لخّصه في كثيرٍ من المظاهر الاجتماعية والسياسية منها مظهر رباء كورونا ومنها هيمنة أمريكا الغشوم ... والمخرج في نظر الشاعر لا يعدو أن يكون احتماءً بالينابع في كف الرسول صلى الله عليه وسلم.

أنتم ونحن عبيده فلنعبدن  

 من دون شرك ولنلُذْ بالماحي

*

خير الخلائق أجمعين محمد  

 صلى عليه خالق الأشباح9.

 وفي هذا تشذيبٌ جميل لفكرة العرفان المتاخمة لواقع الناس، لا تلكم الفكرة الهاربة والحالمةُ والعازلةُ للإنسان عن واقعه الذي يستدعي منه انتماءً واضحاً بمنهجٍ أوضح في ظلِّ اكتساحِ العبث لكلّ بنيات الواقع ومكوّناته . ولم يجد الشاعر (تجاني) أنجى وأسلم من اللوذِ بالماحي صلّى الله عليه وسلم. وهذا يُعتبرُ رؤية نقديةً للذات وللموضوع عبر النظمِ والشعر بصياغةٍ جمالية تمنعنا من الجريِ وراء سراب التنظير. الشعرُ لا يُنَظِّرُ بقدر ما يطرح الفكرة في انزياحات بلاغية ومتخيّلة تتكلم بكثير من الأبعاد والدلالات، والتأويل في هذا السياق يصبح مطلباً منهجيا للخروج بالديوان من مباشرة المعنى إلى تخيّل المعنى.

4 – إشراق الشعر في الخمرة:

في ديوان (هديل الروايا) توقٌ وشوقٌ لمعانقة المستوى المتعالي للكينونة التي تقيم في سديم الروح. وهي كينونة الشعر في أبهى ارتقائه. وقد عبّرالشاعر (تجاني) عن هذا الأفق في كثير من المحطات، نذكر منها على سبيل المثال فقط قصيدة (أنا وأم القوافي). وفيها يرسم الشاعر ذاتاً متشوقة، لا في ضعفها واستكانتها وخشوعها، بقدر ما يرسم هذه الذات في قوّتها واشرئبابها ...

فهي ترجو أن تكون بمعية أم القوافي، بل أكثر من ذلك... فهي ترجو أن تكون ضوءاً لها. وهذه النديّةُ يعتبرها الشاعر موقعاً مستحقّا. قال (وأنا لها) .

و الطريق إلى أم القوافي في منظور الشاعر (تجاني) ليس سهلاً. إنه سبيل إلى الكينونة والوجود. بعيداً عن قلقِ (هيدغر) الذي قال : (إن ما يشعر المرء إزاءه بالقلق هو الوجود في العالم بما هو كذلك)10.. الشاعر (تجاني) يمارس فرح الكينونة وهو يسير بشعره في اتجاه امتياز الكينونة.

إن الطريق إلى أم القوافي ليس متعلّقاً بمتعيّن أو بمتشيّئٍ يسهل القبض عليه في ثقافة البذخ الرومنسي. إنه اختيار للمضيِّ في تاريخ هذه الذات الواصفة والموصوفة في نفس الآن. وقرينتنا في هذا التأويل مفردةُ الطفولة باعتبارها نقطة بداية لهذا التحول الجميل والجليل في كينونة الشاعر. قال:

يا من ذهبت بذكريات طفولتي  

 وإجابة جوعاً تعضّ سؤالها

*

و بدأتُ صفراً ثمّ بتّ  

 بلا حدودٍ في حصادي بقلها

*

لكنها طافت بذكرك طفلةً  

 وكبيرة فاحمد لذا أفعالها11

و لكي يكون داخل الكينونة الممتازة، قرر الشاعر امتطاء صهوة الخمرة كما يفعل الصوفيون في لحظات الانتشاء الكبرى .

و كما ارتشفت عسيلة من طعمها  

 أضحيتُ راويها وجلت خلالها

و في هذا السياق نسمح لتأويلنا أن يقتبس من الصوفيّ العظيم حافظ الشيرازي قوله:

و صرتُ إذا ما شربتُ الخمور  

 كشفتُ بكأسي جميع الأمور12.

والشاعر (تجاني) سار في دروب هذا الكشف كسبيل لتجاوز المعنى إلى فائض المعنى إلى فيضِ المعنى. ولننظر الصياغة الشعرية عنده نجدها ترصد العمليات الآتية:

- ارتشاف العسيلة

- تذوق طعمها

- التحول من عمليتي الارتشاف والتذوق إلى حالة:

- التملك

و كأنّ هناك دعوةً شعرية إلى تجاوز شعرية القصيدة القائمة على فن التذوق إلى فن الامتلاك. إن عملية التجاوز من المعنى إلى فائض المعنى إلى فيض المعنى غير متاحة للجميع، إنها امتيازٌ في كينونة الشعر عبّر عنها (تجاني) بمكر أدبيٍّ جميل يمرّر من خلاله فكرة امتلاك الشعر كتمهيد للتحكم في نواصي الشعر عبر روايته ... قال (أضحيتُ راويها)... وعبر صياغته الصياغة المتحكّمة (و جلتُ خلالها)...

ختمٌ:

الشاعر عثمان تجاني هطيجيا أو الهطيجيوي، شاعر قويّ الروح وقويّ صياغة هذه الروح في تلاوين الشعر الموزون. يمسك بأعناق اللطافة ويلقي بها في مقامات العرفان حتّى تكتظّ فتتحول الكلمات فيها إلى أبعاد خفية وجوانية متستّرة وراء سديم العبارة الناقصة، لأن اللغة تقصر عن التعبير ... من هنا هروب الشاعر إلى الإشارة عبر فيض القول وفيض الوجد علّه يجد بعض ضالّته هناك.

إن حدود الكتابة الشعرية قابلة لنسبية الإحاطة عبر قراءة القراء والنقاد، ولكن الكتابة الشعرية والعرفانية هي التي تقضّ مضاجعهم بتحدّهيا أولاً لصاحبها وممتلكها ثم لهؤلاء الذين يرغبون في الكشف عن أسرارها عبر آليات التأويل التي لا تستطيع اللحاق بآفاق فيض المعنى. إن ماهية الشعر في قبضة (تجاني) ماهية ذكية تتلون أحيانا بجدلٍ معرفيٍّ صوفيٍّ يحوم حول الحقيقة ولا يلامسها توخياً لابتغاء المزيد من الشوق في اخترام العبارة والدلالة والأبعاد.

وفي هذا الاتجاه نقول إن الشاعر (تجاني) نجح أيما نجاح في توظيف تقنيات اللغة الصوفية القائمة على فعل التماهي والجدل بين مجموعة من الثنائيات الضدية التي تتجاوز بذخ الطباق إلى قوة الفكرة، داخل وعيٍ فنيٍّ بأن اللغة جسدٌ يدثّر توقاً إنسانياً عارفاً وعرفانيا. من هنا صعوبة الإمساك بالمعاني في حالات تستّرها وإضمارها وتضمينها وهي القادرة على أن تجعل النصوص داخل الديوان في ارتحالٍ دائمٍ يعصمها من ابتذال المألوف والسائد .

***

بقلم نورالدين حنيف أبوشامة \ المغرب

.....................

إحالات:

1 – تجاني عثمان هطيجيا – هديل الروايا – ديوان شعر – مطبعة ووراقة بلال – ط 1 – 2024 – ص 11

2 – نفس المرجع ص 29

3 – نفس المرجع ص 40

4 – نفس المرجع ص 37

5 – نفس المرجع ص 72

6 – مفس المرجع ص 36

7 – نفس المرجع ص 77

8 – نفس المرجع ص 11

9 – نفس المرجع ص 19

10 - جون ماكوري، الوجودية، ترجمة إمام عبد الفتاح إمام، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، 1982، ص 186

11 – الديوان ص 76

12 - أغاني شيراز أو غزليات حافظ الشيرازي، ترجمة إبراهيم أمين الشواربي، القاهرة 1944، ص68.

 

عن دار السومري للطباعة والنشر والتوزيع، صدرت مجموعة قصصية للكاتب ماجد زغير بعنوان (وطن في تاكسي)، شحن فيها تجربته عن الحياة الكندية من خلال إقليمي أدمونتن وأونتاريو الكائنين في غرب ووسط كندا، وذلك من خلال عين سائق التاكسي المبصرة والتي تكشف طبيعة المجموعات الإثنية التي انصهرت في هذا المُناخ السوسيولوجي المتعدد، والذي يؤطر بالكيان الكندي، سواء من سكانه الأصليين أو المجموعات البشرية التي هاجرت منذ عقود. لقد كانت عيون ماجد زغير ترصد هذه الأجيال وهي تعيش أفراحها وأتراحها، وتتعايش مع هذه البيئة الشرسة في ظروفها وتضاريسها، والتي تمتد إلى القطب الشمالي المتجمد، مما انعكس على طبيعة الفرد الكندي،حيث جعلته هذه المعطيات منكفئا على نفسه، محاطا بعزلة ووحدانية ، وكأن ذلك انعكاس لحدة ما يحيط به ، حيث الأبعاد الهائلة لأرض غير مأهولة، يغمرها الثلج في أغلب أشهر العام، بدرجات من البرودة الشديد التي تنعكس على العلاقات الاجتماعية ،وكأنها تستمد من الطقس برودته.

وقد التقط الكاتب تلك الهموم اليومية من الناس أنفسهم، من خلال علاقاتهم ببعضهم. وقد سجل هذه الحكايات والمواقف الطارئة، والتي يقتضيها صعود الراكب من نقطة انطلاقه من البيت أو العمل أو البار والمقهى حتى وصوله إلى غايته.  ويبقى الكاتب شاهدا على الأحداث، مراقبا للسلوك البشري وهو في حالة ضعفه أو قوّته، يأسه أو فرحه. وقد احتوى الكتاب على أكثرَ من خمسين قصة قصيرة،  ضمنها في كتابه الذي عنونه (وطن في تاكسي).

وإذا توقفنا عند عتبة العنوان باعتباره نصّا موازيا، فلا نرى علاقة بين الوطن ومعظم القصص، سوى بعض الإشارات العابرة بين الزبائن( وأغلبهم من الكنديين) وبين الراوي الذي هو من أصل عراقي، ولو كان الوطن حاضرا في القصص التي تضمنتها المجموعة، لامتلك العنوان ذريعته.

تعتمد القصص في أغلبها على المكان، والذي يتمثل في مقاعد سيارة التاكسي، وعلى طرفين: السارد وهو سائق التاكسي، والشخص الآخر، أي الزبون، والذي يتكوّن عادة من شخص أو مجموعة أشخاص. أما الزمن فلم يحدده الكاتب ولم يشر إليه، ولكنه في أغلب الأحيان لا يستهلك إلا حيزا قصيرا. أما أغلب أبطال القصص فهم من القاع الاجتماعي؛ شباب محبطون يبحثون عن المال بأية طريقة ولا يتورعون عن ارتكاب الجرائم في سبيل تلبية حاجاتهم، أو مجموعة من سماسرة ومتعاطي المخدرات، أو النساء اللواتي يَخُنّ أزواجهن، أو عن سكارى يطلقون العنان لمشاعر غير أخلاقية.كما تناولت بعض قصصه موضوع المثلية في المجتمع، وصدور القوانين التي تحمي المثليين وتجرّم من يتعرض لهم. ولم يكتف بذلك بل تصدى لثروة رجال الدين، والذين يعظون الناس بالزهد ولكنهم يتمتعون بقصور الرفاهية والفخامة.   أحيانا يسمي أبطال قصصه بأسمائم، وأحيانا أخرى مجرد نماذج أو هياكل بشرية عابرة، مثل أوليفيا الفتاة اللعوب التي تنجرف لعواطف رخيصة مع رجل تتعرف عليه للتو،وتريد أن ترتمي بين أحضانه، ولكنّ أمه الخائفة عليه طردتها بإشارة بليغة بقولها مخاطبة ولدها :" أوليفيا رائعة لا تنس أن تعرفها على زوجتك حينما تعود من إمستردام".

كما تحدث في قصة أخرى عن شخص كهل وحزين، يندب حظه، لأن زوجته استولت على نصف ممتلكاته وانفصلت عنه للبحث عن عشيق أو شريك يلبي رغباتها، وقد تبين من خلال القصة أن الرجل يحسدنا – نحن الشرق أوسطيين- بأن المرأة الشرقية لا تفعل ذلك، لأن القانون سيقف مع الرجل بعكس كندا، حيث الحقوق بجانب المرأة،مهما أخطأت.

كما يترشح للقارئ أن ثمة الكثير من الحكم والمواعظ التي تظهر أحيانا في ثنايا النصوص كموقف الأم التي طردت ابنها من البيت كي تعلمه، الاعتماد على نفسه، أو كما قالت:

"الولد يحتاج إلى جهد كي نصنع منه رجلا "

أو تلك المرأة المسنة التي أهدرت الكثير من الوقت الثمين لسائق التاكسي، وهو في عجلة من أمره للحاق بزبائن آخرين، وحينما لاحظت تبرمه من بطء حركتها وهي تنزل من سيارته، فقالت له عبارة كبيرة في مدلولاتها:

"إياك أن تكبر في السن ".

وعلى نقيض الشخوص السلبيين الذين اختارهم، فهناك بعض النماذج الإيجابية، ومنهم تلك الفتاة التي استقلت سيارته التاكسي في يوم شديد البرودة، وحينما رأت من خلال الزجاج أن طيرا جريحا ينازع في مساحات ثلجية، فخرجت تطارده من أجل إنقاذه، متحدية الصقيع، لتمسكه، وبعد ذلك تصر على نقله إلى دائرة إسعاف الحيوانات، تاركة مواعيدها وعملها.

ورغم الصيغة القصصية التي تبناها الأستاذ ماجد زغير في مؤلفه، ولكنها  تخلو من الأخيلة التي يقتضيها الأسلوب القصصي، مما يوحي بأن تلك القصص شكل من أشكال اليوميات،وإذا شئنا المذكرات التي تتناول تجاربه في العمل، وهذا لا يقلل من شأنها، لأنه حاول الاندماج في المجتمع الجديد، متطامنا معه، راصدا لأسراره وخفاياه التي لا تبدو أنها بارزة في حياتنا اليومية، ولكنها تتجسد واضحة في الليل، حيث وسائل اللهو والبارات ونوادي الرقص أو التعري والتي تتركز في مدن كندا الكبرى ، والتي تنطوي بدورها على الكثير من الخفايا والأسرار. وقد كان الكاتبُ صادقا ودقيقا بنقل الكثير منها حرفيا. ولكن ذلك يؤثر على عملية الإبداع الأدبية، التي تقتضي تلوين العمل القصصي بأدواته الجمالية،  ومنها الصور الفنية ورسم المواقف والملامح وإبراز المشاعر ،كي تظهر القصة وهي تنضح بالحياة.

ومع ذلك فقد جاءت القصص حافلة بالمتعة من خلال سيل من المواقف الطريفة والمتناقضة والحادة،وبعضها ذات صيغة تحاكي القصص البوليسية، والكثير منها يُثير فضول القارئ غير الكندي، كما أنها تقدم له بعض الجوانب غير المرئية عن طبيعة الحياة الكندية.

***

رحمن خضير عباس

شذرات من القراءة النقدية لرواية "خوف" للأديب أسامة المسلم

تخيل أيها العربي عالماً تسيطر عليه بقبضة من حديد خطط ودسائس ومكائد الجن بشقيه الكافر والمؤمن والشياطين. تصور أنك تعيش في بيئة تعادي الآدمية وقيم الاستخلاف أرضا. ألا تختنق من إجبارية الالتزام بالصمت بذريعة ايهام نفسك بوصولك إلى مراتب النضج والحكمة والتبصر؟ أليس وراء انزوائك وعزلتك وتخليك عن واجب التدافع هو مصلحة ذاتية غير مشروعة أو "خوف" بأبعاد هلاك مروعة؟ ألا يصيبك الهلع على مدى الساعة مقاوما المتربصين بك والمراقبين لأقوالك وأفكارك وتحركاتك؟ ألا يصيبك الهلع أكثر عندما تعتبر نفسك أنك تحت مجهر مراقبة حكومة بلادك وأجهزة القوى المنتصرة التي تطمع في إنهاء إعادة كتابة مجلدات وسجلات التاريخ بمنطقها الخاص بعيدا عنك وعن أمثالك؟ ألا يخاطبك ضمير الجرأة فيك وأنت تتابع تفشي اعتماد أساليب القمع الغرائبية لإغلاق كل منافذ محاولات التفكير الإنساني الحر؟ ألا تكتئب عندما تلوث مسامعك قولة "الفلسفة مشأمة"؟ ألا تمتعض من انجذاب الأهالي للتفاهة والعبث وابتعادهم عن واجب الدرابة العقلية واليدوية لتطويع الطبيعة والحفاظ عليها وتحقيق تراكم الإنتاج المحسن لأنماط العيش؟

تساؤلات وأخرى داهمتني وأنا أقرأ رواية "خوف" بأجزائها الثلاث من أولها إلى آخرها للأديب السعودي أسامة المسلم. فعكس ما قيل ويقال في شأنها، أعتبرها من الأعمال الأدبية التي تستحق القراءة والتأمل. امتزج فيها الواقع بالخيال لإنتاج الرمزية والدلالة. عبر الكاتب عن فكر الشباب بدون أن يروج للفردانية كما فعل الفيلسوف الألماني نيتشه. أبعاد الرواية وكأنها دعوة لإعادة بناء السياسة عند العرب. بقي الكاتب في عمق المجتمع ولم يتخطى التاريخ مبرزا الأهمية القصوى لمفهوم التكيف في هذا الزمن الصعب بأهدافه وكائناته المخيفة. وبذلك فهو لم يختر مواجهة الكون بما فيه وبما ليس فيه.

اضطر السارد (الإنسي) وشخصياته العيش في عالم غرائبي يستخدم تقنيات متطورة وخارجة عن المألوف لمراقبة الأفراد، والتحكم في المعلومات، وتفشي الخداع والضغينة، وقمع أي تمرد.. عبارة المدخل "لماذا تأخرت..تذكر قبل أن تدخل أنك لن تخرج.." تم انتقاؤها لتتصدر أفكار وأبعاد فصول الرواية لزرع الخوف في نفس القارئ. دخول عالم التدافع بآلية التكيف الفاعل اعتبره الكاتب، بالرغم من مخاطره ومعاناته المضنية، واجبا من واجبات الانتماء الترابي، وفي نفس الوقت وفاء لأمانة الوجود الفردي في دار الفناء. عشرية السبعينات اعتبرها السارد مرحلة هامة بالنسبة للمجتمع السعودي. لقد ولد مبتسما بدون أن يطلق صرخة البكاء الطبيعية المعتادة المميزة لولادة البشر أرضا. إنها ابتسامة الاستعداد لاستقبال الحياة بمنطق الفعل وفرص الحظ المفتوحة في بلاد مسقط رأسه. لقد اعتمد الكاتب الواقعية مؤكدا منذ البداية أن دوافع كتابة الرواية أو السيرة الذاتية لا تستهدف تصنيف فئة من مجتمعه أو عزل فئة دون غيرها. في نفس الآن يبقى هذا التصنيف والوعي بمعتقدات وعادات المجتمع ذا أهمية بالغة للأدباء والمفكرين. لقد اعتبر السارد ذلك من أهم أوراق الاعتماد لضمان نفاذ الفكرة الذكية في أذهان الأفراد والجماعات خاصة فئة الشباب اليافع المتطلع للعيش في عالم أفضل.

ابتسم له الحظ في لحظة ولادته. هاجر مع أفراد أسرته إلى أكبر وأعظم وأقوى دولة في العالم. تعلم لغة العلوم، الإنجليزية، كلغة أولى تملكت الزعامة في مسار قيادة الفكر الليبرالي الرأسمالي. التسلح بالأدوات الفكرية اللازمة في ظرف وجيز مكنه من التميز في بلاده بعد عودته إليها وهو لم يتجاوز السنة السادسة من عمره. امتعض من أحكام القيمة الصادرة عن أبناء بلاده. لقد اعتبروا مرارا وتكرارا أمريكا عالم فسق، ولغتها لغة كفر.

لقد فضح الكاتب تعمد التكرار التعسفي المضني لإلباس الأفكار الشعبية حلل بدع سوداء تم التعسف لإلصاقها بالدين الإسلامي. لقد قدم تشخيصا دقيقا للوضعية الثقافية للعرب المسلمين بشكل عام وللشعب السعودي بشكل خاص. ذكرنا هذا الامتعاض بما وقع لابن رشد. فبقدر ما ربط عشرية السبعينات من حياة السعوديين بأمل التغيير، بقدر ما سارع بأحداث روايته لدق ناقوس خطر ينبئ بزوال مكانة العرب العلمية. بكى تلميذ ابن رشد وهو يتابع الجمهور مبتهجا والنار ملتهبة تحرق كتب معلمه بدون أن يطلع المتجمهرون على مضامينها ورسائلها.

ذكرنا أسامة في روايته بعبارات شبيهة بجواب ابن رشد لتلميذه حيث قال "إذا كنت تبكي حال المسلمين، فاعلم أن بحار العالم لن تكفيك دموعا، أما إذا كنت تبكي الكتب فاعلم أن للأفكار أجنحة وهي تطير لأصحابها.. ". سقطت الأندلس يوم أحرقت كتب ابن رشد وبدأت نهضة أوربا يوم وصلتهم أفكاره. التكيف الذي عجز ابن رشد على تحقيقه، يطرحه أسامة المسلم من خلال روايته بشكل جديد وبأسلوب سهل وسلس في العشرية الثانية والثالثة من القرن الواحد والعشرين. الإسلام، إسلام إبراهيم عليه السلام، ينبني على ثلاثة مبادئ أساسية أولها الاعتقاد بوحدانية الله والإيمان باليوم الآخر والقيام بالعمل الصالح، فتطورت الأوضاع والشعائر إلى أن جاء الإسلام المحمدي بأركانه الخمس. تطورت الممارسات المرتبطة بالمصالح، فاختنقت القيم الإنسانية الأصيلة ذات الأبعاد الزمانية التي تمتد إلى زمن الجاهلية، ونشأ إسلاما موازيا بمنطق المتمشيخين. الرواية التي بين أيدينا هي بمثابة بحث عن عقلانية بمنطق حماية الوجود العربي في الحاضر والمستقبل. من لا يعرف لن يصمت، بل سيجادل ويخالف شاهرا سيف موروثه الذي أصبح في حد ذاته عائقا للعمل النهضوي والتنويري. المعركة لنصرة العقل مستمرة. المعركة كما نظر لها ابن رشد هي في حد ذاتها بحث مستمر لجعل الحكمة مناصرة للنظر في الأشياء حسب ما تقتضيه طبيعة البرهان. إنها الكفاءة التي تحرص بكل السبل على انتقاء النافع في التراث وتيسير الانفتاح على تطورات الحضارة البشرية شرقا وغربا وشمالا وجنوبا.

عاد "خوف" إلى بلاده طفلا، فرسخ في الصفحات الأولى من روايته معنى التنشئة التي تستحقها الشعوب. احتضنه الحظ، فشد الرحال إلى بلاد العم سام، فتكونت لديه شخصية مغايرة لأبناء جيله. احتضنه الحظ عندما شاءت الأقدار أن يكون مولودا لأب متعلم وأسرة رَبها مرتبط بالعلم والكتب والسياسة والنماء. تعطل التلفاز. انبعثت مقومات نشأته في أمريكا التي علمته معنى تدبير الوقت في حياة الإنسان. لم يخرج إلى الشارع للعب مع أقرانه لوأد الفراغ وما يثيره من ملل (لتجاوز ألم ثلاث أيام موحشة). صعد إلى الطابق العلوي من منزل الأسرة، فعثر على ما أسماه بالكنز الثمين. ارتبط بالمكتبة حتى سن العاشرة. كل يوم يركب على بساط سحري يجول به العالم ومستجدات كشوفاته المعرفية والعلمية. أوضح للقارئ بالحجة والبرهان الأهمية القصوى للغة الإنجليزية بالنسبة للأجيال المتعاقبة. بواسطتها ألم بتراكم التطورات العلمية والتدبيرية الكونية إلى درجة وجد نفسه في فضاء تعليمي في بلاده لا تستجيب مقرراته لحاجياته التكوينية.

الفضاء الذي ترعرع فيه الكاتب/السارد (أمريكا وأسرة متعلمة) مكنه من تحقيق التميز. بجانب أب جمع أهم ما يميز الحضارة الأمريكية من معارف وعلوم تمكن السارد من تحقيق الارتباط بين القراءة والعلوم والفنون (الموسيقى)، وتحقيق النبوغ المبكر لشخصيته. لقد بين في حبكته السردية كيف يُكرس التمييز عربيا مبرزا أسبابه، وكيف تشكل الفئات المجتمعية، منها ما يصنف أفرادها من الفاعلين والزعماء (الأقليات)، ومنها الفئة الأغلبية (قاعدة الهرم الثقافي) المشكلة من التابعين المستسلمين بدون وعي ورغما عنهم للالتحاق بسلاسة بما تمت تسميته ظلما وعدوانا ب "القطيع".

بتنشئة طفولية غربية واضحة المعالم، تمكن السارد من الاستفادة مما تذخره مكتبة الأب من كتب ومجلات وأسطوانات وأقراص موسيقية. بإشارته إلى مسألة "الحقيبة الدبلوماسية السوداء"، التي تمكن من فتحها والاطلاع على محتواها، أفشى الكاتب للقارئ سر وجودي يتعلق بأبعاد مآلات التنشئة الصحيحة للأجيال. بالمعرفة وتراكماتها عبر التعليم والقراءة في فضاءات التنشئة، يتحول الفرد المستهدف إلى فاعل ملم بأوضاع وطنه ومتطلباته، وفي نفس الآن واع بالتحديات والرهانات السياسية والاقتصادية والتكنولوجية.

وبذلك، يكون كل من راكم المعارف في ساعات حياته منذ طفولته يتحول مع مرور الأيام إلى منظر في الشؤون الثقافية والمخططات الجيوستراتيجية للقوى العالمية. التنشئة الديمقراطية في الغرب بمؤسساتها المتعددة والمتنوعة تطمح بشكل رسمي وعلني لتحقيق ادماج كل أفراد المجتمع في فئة الخاصة بدون تمييز. في حين التنشئة العربية ما زالت تقاوم ثقافيا وسياسيا مبدأ المساواة وتساوي الفرص، بحيث ينتج عن منطق بلورتها وتفعيلها فئتين مجتمعيتين بوساطات ضعيفة عاجزة على تعزيز الثقة في أدوارها ووجودها، الأولى يمكن نعتها بالفئة المحظوظة (الزعامات القيادية في السياسة والثقافة والاقتصاد)، والثانية بالتابعة (القطيع) بأفكارها السطحية التي تخضع بسرعة فائقة لخطابات الزعامات السياسية والعقائدية الاستغلالية البعيدة كل البعد عن متطلبات الحاضر والمستقبل.

التراكمات المعرفية التي حققها "خوف" جعلته واعيا بمتطلبات وجوده في بلاده. التمييز واللامساواة في التنشئة أنتجت واقعا معقدا. لم يجد نفسه منجذبا للمؤلفات المحلية وكأنه يناصر التوجه الفكري لعبد الله العروي الذي دافع بالحجج والبراهين عن حاجة المجتمعات العربية لتبني مفهوم "القطيعة المنهجية مع التراث". في سياقات تعبيره عن صعوبة تكيفه مع الأوضاع الثقافية السائدة في المملكة العربية السعودية، بقي السارد عازما على التشبث بالأسلوب الغربي وقوة طروحاته وعقله المختلف، والبحث عن آليات التكيف مع واقعه بمنطق الفاعل الطامح لتحقيق غد أفضل لمجتمع انتمائه. في هذا الصدد، أفشى الكاتب حقيقة هامة للغاية حينما قال على نفسه أن له عقل مختلف، لكنه ليس بالضرورة الأذكى. هناك أذكياء كثر من أبناء وطنه، لكن ظروف تنشئتهم وثقافة محيطهم لا تمكنهم من تغيير مسار حياتهم ووعيهم الثقافي. باح بوضوح تام بفشل السياسات العربية في مجال إنتاج أجيال المستقبل.

أخرجته أمه إلى المجتمع بخرافاته وأساطيره. تعجب لامتثالها لضغوطات الأقارب. أصابته علة المعدة التي لم ينفع معها دواء نظرا لطبيعة آلامها التي امتزج فيها القصور البدني بالنفسي. التكيف مع الأوضاع الهشة ثقافيا وماديا صعب ومعقد للغاية. نبوغ عقله المبكر أدخله إلى فترات حياة بمتاعب مضنية. ضَغَط المحيط القريب والبعيد، فأخضعته أمه لبركة الشيخ الذي لا يجيد إلا التمتمة والبصق في وجه المرضى وفي قارورة الزيت بمقابل مادي سخي. راكم السارد ما يكفي من المعارف لإتقان عمليات تحليل الشخصيات. تعجب لأمه التي جالت العديد من الدول المتقدمة كيف استسلمت للتعاطي للخرافة.

لرسم لوحة قاتمة عن واقع السعوديين في تلك الفترة، قابل الكاتب بين وعيهم الثقافي ومستوى تعليمهم وتكوينهم وظروف عيشهم الهشة (السكن في دور من طين متهالكة). وصف تفاصيل ظروف الاستقبال في مقر الدجال. قاعة الانتظار مكتظة بالنساء والأطفال، والمدة الزمنية الكافية للوصول إلى الشيخ طويلة. إذا كان النساء الأكثر لجوء للدجالين في الماضي، فقد أصبحوا اليوم يمثلون أكثرية قراء روايات الكاتب الغرائبية. في نفس الآن، لم يترك الكاتب الفرصة تمر بدون التعبير عن ضعف قيم التحضر عند المجتمع السعودي خلال العقود السبع الأولى من القرن العشرين. لم تجد أمه من وسيلة للوصول إلى الدجال بسرعة سوى تقديم الرشوة للوسيط (VIP). الدولة السعودية موقفها واضح. الدجل يعاقب عليه القانون. توقفت الأم عن زيارة المتمشيخ الدجال، وعندما سألها بطل الرواية (ابنها) عن السبب لم يجد لديها من جواب سوى كون الشرطة قد اعتقلته.

شدد الكاتب عن وجود ارتباط وثيق بين التخلف والخوف. هذا الأخير، كلما ازدادت قساوته، كلما جرد الخائف الضحية من العقل ومن كل وسائل الدفاع عن النفس. إنه السلاح الذي بنى عليه ذلك المشعوذ مشروعه الدجلي، ممكنا إياه من ابتزاز الناس (النساء) في أموالهم بالباطل، وأحيانا في أعراضهم. مجتمعاتنا العربية الإسلامية لا زالت تمجد ثقافيا وفنيا الدجل والتفاهة والخطابات الكاذبة جاعلة منها المصدر الرئيس للاغتناء وتراكم الثروات بدون علم أو جهد. إنها المعضلات التي تهمش بقساوة وعنف كبيرين الأفكار النيرة والسلوكيات القويمة البناءة والعلوم النافعة لحياة الأفراد والجماعات. تتطور الإنسانية غربا، وتتوسع الهوة بيننا وبينهم كل يوم، ويزداد منطق عيش أغلب أفراد المجتمع العربي كسادا وقساوة بفعل تجذر التعودات الحيوانية التي ترتبط أكثر بالغرائز الطبيعية مغيبة العقل الذي يميز البشر عن باقي الكائنات في الكون. باستغلال البدع الدينية الخرافية، يتمكن المتمشيخون من التفنن في ارتداء عباءات تعطيهم الصلاحيات والشرعيات والحصانات التي يحتاجونها لشرعنة وجودهم السياسي والثقافي والمادي.

استمر البطل يتخبط مع هذه الأوضاع المتعبة إلى أن بلغ العشرين من عمره. بقي دائما منشغلا بتحليل الأوضاع ومركزا على تطورها ووقعها، الشيء الذي مكنه من تراكم الكفاءة في مراقبة أفراد مجتمعه من حوله. خُمُس قرن من حياته (عشرون سنة الأولى) مكنه من الإحاطة من كل الجوانب بنظرية "الخوف" بإشكالياتها ومسبباتها وتداعياتها. دخل مرحلة اليافعين بقدرة عالية لمناقشة الناس والأقران بالمنطق العقلاني مبررا لهم كون الثقة العمياء التي يهبونها للمتنكرين بعباءة الدين هي مصدر لوأد غريزة الحذر والشك التي تعتبر من أساسيات البقاء عندكم.

استمات البطل بكل ما امتلكه من نبوغ عقلي مبكر في الدفاع عن حاجة المجتمع لتنوير العقول، لكن تأثير اللحية والثوب القصير ورائحة دهن العود كان قويا ومتجبرا. تشبث بالأمل مشرئبا بكل جوارحه أفق تغيير نمط تفكير أبناء بلاده اتجاه المتمشيخين الماكرين في السياسة والدين. استمر في تحقيق مشروع تكيفه مع الأوضاع متمسكا بمفاهيمه ومبادئه متقنا تجاهل من اختار أن يكون جاهلا. عبر بوعي عميق في مرحلة دراسته بالجامعة (مبكرا) أن المجتمع يعاني سوء الفهم لمعنى الفهم. أحكام القيمة أصبحت عملة رائجة مستفحلة في مجتمعه. تقويم عقول الأشخاص يتم قبل أن يتفوهوا ولو بكلمة واحدة، وتتوالى تصنيفات أخلاقهم بدون التعامل معهم. إنه نظام غريب لم يقرأ عنه بطل الرواية من قبل في أي كتاب. تعرض للهجوم المنهجي والاعتباطي عندما استشهد في بعض أحاديثه بأينشتاين بحيث تم وصفه باليهودي الغبي. اعتبر الاعجاب بشخصية هيتلر، الذي تشبث ببرهنة تفوق الجنس الآري رغم التفوق الذي حققته دول فرنسا وإنجلترا وأمريكا في القرنين السابع عشر والثامن عشر الميلاديين، هراء وفسقا. التعامل مع الآخر المقبول اجتماعيا وثقافيا في بلاده يجب أن يتم في إطار القولة "هم الضالون ونحن الناجون". كل شيء خارج جغرافية الوطن السعودي لا يجوز التعامل معه إلا بالازدراء والمقت ولو كان نافعا. الصداقة مع أصحاب الديانات الأخرى خيانة للمنظمة التي ستدخل الجنة من أوسع أبوابها. مقاومة السارد لهذه الثقافة البالية جعلت محيطه ينعته غير ما مرة لأسباب ليست دينية بالزندقة وازدراء الدين. لم يستسلم للمضايقات بشتى أنواعها. عاند الواقع مناقشا ومنتصرا للعقل مقنعا نفسه دائما أن متطلباته العقلية أكبر.

خُطَط رواد الدجل في مجملها عبارة عن مكائد ودسائس انتهازية قاتلة. الهجوم التقليدي اللاعقلاني هو سلاحهم المثبت لسلطتهم ومكانتهم المادية في المجتمع. لا يتعبون في ابتداع السبل والحيل من أجل التأثير على الجمهور ليلتفت للعاقل وإجباره لمعانقة اليأس على هامش الأحداث. استمر السارد في تواجده وتفاعله مع الأغلبية التي سماها بالغبية إلى أن وصل إلى اليوم الذي غير حياته. ترسخت قناعته بصعوبة التكيف مع المجتمع. تحول الشيخ من أقربائه ومنزله إلى منفذ للدخول في عالم الغرائب. يصمد ويتفاعل. تحول مرارا إلى ضحية خيانة. لا يستسلم، ثم يقاوم مجددا. عاش المحن المضنية الواحدة تلو الأخرى إلى أن تحول في آخر المطاف إلى خبير منحته التجارب صفة المفاوض مع كبير شخصيات الرواية بأجزائها الثلاث. إنه الرجل الأنيق الذي كان من وراء عودة الشيطان "دجن" قرين الإنسي "نجد" من اليمن.

تجسد النهاية مصير من تجلد بكلل متشبثا بالصبر والعقل المعرفي والإبداع الأدبي. وهنا لا بد من التذكير بانجذاب "خوف" بأحمد شوقي. قد يتساءل القارئ لماذا امتعض البطل من المؤلفات المحلية وانجذب لهذا الأديب والشاعر الألمعي؟ الجواب في غاية السهولة. أحمد شوقي (1868-1932)، حسب الجزيرة نت، أديب استبق وعي الشعب المصري بعشرات السنين. أبوه كردي وأمه من أصول تركية. أدخلته جدته إلى قصر الخديوي إسماعيل الذي كانت تعمل فيه وصيفة. لقد كانت على قدر كبير من الغنى والثراء، فتكفلت بتربيته ونشأ معها في القصر. تابع دراسته في الحقوق في فرنسا ثم إسبانيا. قاوم بشعره الاستعمار البريطاني. استمر في ابداعاته وتكيفه مع تطورات الأوضاع في بلاده وفي العالم إلى أن بويع أميرا للشعراء العرب سنة 1927. كما يعتبر من أكبر المدافعين على المرأة قيد حياته. الأديب أسامة المسلم بدوره يعتبر المرأة العمود الفقري للمجتمعات، الشيء الذي جعله يميل لخيار جعل أبطال رواياته من النساء. إنهن بطلات من نوع خاص لا يمكن لأي عربي عاقل إلا أن يطمع في تكريس مقومات شخصيتهن المعبر عنها في الرواية في المجتمعات القطرية من المحيط إلى الخليج.

وأختم هذا المقال بأهم أبيات شعر أمير شعراء العرب:

* وطني لو شُغِلْتُ بالخلد عنه.. نازعتني إليه في الخلد نفسي.

* العلم يرفع بيتا لا عماد له.. والجهل يهدم بيت العز والشرف.

* الناس صنفان موتى في حياتهم.. وآخرون ببطن الأرض أحياء.

* إن الشجاع هو الجبان عن الأذى.. وأرى الجريء على الشرور جبانا.

* قف دون رأيك في الحياة مجاهدا.. إن الحياة عقيدة وجهاد.

* وما نيل المطالب بالتمني.. ولكن تؤخذ الدنيا غِلابا.

* وما استعصى على قوم منال.. إذا الإقدام كان لهم ركابا.

* أحرام على بلابله الدوح.. حلالٌ للطير من كل جنس.

* إن اليتيم هو الذي تلقى له.. اُمَّا تخلت أو أبا مشغولا

***

الحسين بوخرطة

يكون الذين قرأوا رواية البؤساء للكاتب الفرنسي فيكتور هوغو، قد اكتشفوا – إن هم قرأوها بعمق وتأمّل – حجم البؤس الاجتماعي والثقافي والسياسي (الفقر المدقع والأمراض البيولوجيّة والنفسيّة والجهل المميت والاستبداد)، الذي كان سائدا في المجتمع الفرنسي خاصة، والأروربي عامة في القرن التاسع عشر، وهو امتداد طبيعي لعصر الظلمات في أوربا، في الوقت الذي كانت الحواضر العربيّة والإسلاميّة في الأندلس وبغداد والقاهرة وتيهرت وبجاية الناصريّة ومراكش والقيروان، تنعم بنور العلم والمعرفة.

أعود إلى صلب الموضوع، وهو أنّ وضعنا الثقافي والاجتماعي والسياسي والأخلاقي الحالي، لا يختلف كثيرا عن وضع أسلافنا غداة سقوط بغداد يوم 9 صفر 656 هـ الموافق لـ 10 شباط (فبراير) 1258 م، وهو سقوط ألقى بهم إلى غياهب قرون من الضعف والانحطاط، لتليها فترة الغزو الاستعماري، الذي أمعن في تدمير الهويّة وتفتيت الأمة العربيّة والإسلاميّة إلى أقطار، وصمّم لهم الغرب الاستعماري، وعلى رأسهم بريطانيا وفرنسا جامعة عربيّة، يجتمع في أروقتها العرب، ليتبادلوا التهم والملامات والخصومات، وينفضوّا من حول بعضهم البعض وأوجههم كظيمة من شدّة الغيظ.

ماذا أنتجت لنا ثقافة البؤس؟ ومتى نتطهر من بؤس الثقافة؟ متى يدرك العرب والمسلمون، أنّ ما يجري اليوم في غزّة من إبادة جماعيّة لإخواننا الغزيّين والفلسطينيين عامة، هو من إفرازات ثقافة البؤس والبؤس الثقافي، الذي غزا منظومتنا التعليميّة، الابتدائيّة والثانويّة والجامعيّة، ومنظومتنا الدينيّة، الفقهيّة، ومنظومتنا الاجتماعيّة، المتمثّلة في التفكّك الاجتماعي والتسيّب الأخلاقي، ومنظومتنا السياسيّة،القائمة على الاستبداد الشرقي والديمقراطيّة الغربيّة، التي تدير حربا طاحنة في غزّة وأوكرانيّا والسودان، من خلال تمويل أطراف الصرع بالأسلحة الفتّاكة، وتأييد الظالم لسحق المظلوم، ومنح الحق لمن لا حق له، وسلبه من صاحبه ظلما وعنوة وقهرا.

من مظاهر بؤسنا الثقافي، إشغال أفراد المجتمع بالصغائر وإحلالها محلّ الكبائر، وبالمسائل المظهريّة على حساب المسائل الجوهريّة، وضياع اللبّ بين القشور في المسائل الفقهيّة ؛ تأجيج الصراع بين المكوّنات الاجتماعيّة من خلال إشعال الفتن الدينيّة واللغويّة والإثنيّة والإيديولوجيّة والمذهبيّة.

ومازالت الأفكار الميّتة والمميتة تتصدّر منابر الحوار في الجامعات والمنتديات والقنوات المسموعة والمرئيّة ومواقع التواصل الاجتماعي. في الوقت الذي يبيد فيه الكيان الصهيوني – وهذا باعتراف قطاع كبير من المجتمع الغربي ومحكمة العدل الدوليّة – مازلنا، نحن، عاجزين عن توفير أبسط الخدمات الاجتماعية للمواطن العربي (ماء، وكهرباء) في عزّ حرارة الصيف اللاهبة.

ومن مظاهر البؤس الديني والفقهي، خرج علينا رهط من أدعياء العلم والإيمان، ليفتوا للدهماء، أنّ ما جهاد إخواننا في غزّة والضفّة والقدس، لا يدخل في باب الجهاد بالسنن. وهم يقصدون بذلك، الجهاد بأمر من وليّ الأمر. وهو حقّ أريد به باطل. وكنت قد طرحت سؤالا على هؤلاء العلماء الأفذاذ، الذين تجاوزا في علمهم وذكائهم وبصيرتهم السؤال التالي: ما رأيكم في الحجاج (الحرّاقين)، أيّ بلغة أهل المغرب، الذين ذهبوا إلى الحج، دون أن يأذن لهم وليّ أمرهم ولا وليّ أمر الحرمين الشريفين؟ أيّ ذهبوا إلى الحج خارج الأطر النظاميّة التي وضعتها المملكة العربيّة السعوديّة والضوابط الأمنيّة التي حدّدتها؟ أما كان عليهم أن يحجّوا طبقا لمبدأ (الحج بالسنن)؟ ممّا أسفر عن سقوط مئات الضحايا أثناء أداء الحج هذه السنة. كنّا نظنّ أنّ الحرقة (الهجرة السريّة) تقتصر على المهاجرين إلى أوربا، فإذا بها تنتقل عدواها إلى الحقل الديني المقدّس، أيّ إلى الركن الخامس من أركان الإسلام. وهي من إفرازات ثقافة البؤس والبؤس الثقافي اللذين نعاني منهما.

لكن، لا أحد تفضّل بالجواب، وكتب لي أحد الأساتذة قائلا: لن يجيبوك، يا أستاذ، لأنهم منشغلون بمسائل الحيض والنفاس وتكفير من يخالفهم في مظاهرهم البائسة وآرائهم البائدة.

ومن مظاهر البؤس الثقافي والثقافة البائسة، تهميش الكفاءات العلميّة والأدبيّة، وإقصاؤها من المشهد العلمي والأدبي، بينا تقام موائد مستديرة وتُمنح منابر إعلاميّة رفيعة، لأشباه العلماء والمثقفين، ليطعنوا في هويّة الأمّة، بداية من ضرب اللغة الفصحى، وتشجيع اللهجات العاميّة على حسابها، فقد تجرّأ أحد المتفلسفين إلى القول جهرا وأمام العام والخاص، أنّ التدريس باللغة العربيّة في الجزائر، انتقل من كونه مشكلة إلى إشكاليّة، وهو، لعمري، مؤامرة مدفوعة الثمن سلفا. ودعا بالمقابل إلى إبدالها باللهجة الأمازيغيّة، التي يعزف عن دراستها الأمازيغ أنفسهم. والهدف، من وراء الستار، هو جعل اللغة الفرنسيّة في موضع العربيّة، بعدما قرّرت وزارة التربية الوطنيّة تدريس اللغة الإنجليزية بداية من المرحلة الابتدائيّة،.

ضرب الهويّات الوطنيّة والقوميّة، مشروع استعماري قديم، هدفه تفتيت المجتمعات العربيّة والإسلاميّة إلى كنتونات قبليّة، متنافرة ومتناحرة. فقد عمد المستشرقون الغربيّون إلى البحث الأنثروبولوجي والتنقيب عن الآثار القديمة، الماديّة واللاماديّة، لبعث النعرات القبليّة وإحياء العصبيّات الميّتة والمميتة. وما يقوم به الغرب الصليبي، وعلى رأسه، فرنسا، في المغرب العربي خير شاهد على المؤامرة الفظيعة التي تُحاك ضدّ وحدة المغرب العربي، جغرافيّا وديموغرافيّا وثقافيّا ومذهبيّا واقتصاديا. إنّ إثارة مسألة اللسان الأمازيغي (البربري)، هدفها ضرب الوحدة الوطنيّة في أقطار المغرب العربي. رغم أنّ المواطنين في المغرب العربي، يعتزّون بالانتماء للسان العربي ولغة القرآن الكريم، ولم تُطرح هذه المسألة إلاّ بعد الغزو الاستعماري، تنفيذا لسياسة (فرّق تسد).

ومن مظاهر البؤس الثقافي، والثقافة البائسة، عجز الجامعة العربيّة عن إصلاح ذات البين في الحرب الأهليّة السودانيّة، وقبلها الحرب الأهليّة اليمنيّة. وكبح آليات الاستبداد السياسي. إنّ منظومتنا الثقافيّة والتعليميّة، تعانيان من داء الأدلجة والأهواء وتخلّف المناهج وضعف البرامج والتردّد في اتّخاذ القرار وضبابيّة الإصلاح والغربلة. لقد عجزت الأمة العربيّة والإسلامية عن ابتكار عصا للمكنسة، حتى جاءتنا من الغرب، بعد قرون من اعوجاج ظهر المرأة وتمنجله (من شكل المنجل) من أثر الكنس بوجه كاد أن يلمس الأرض، وخياشيم يسدّها الغبار.

من مظاهر البؤس الثقافي، والثقافة البائسة، ظاهرة الولع بالمنتوج الغربي واتّباعه شبرا شبرا، تجسيدا لمقولة ابن خلدون (المغلوب مولع أبدا بالغالب). واستيراد الفلسفة الغربيّة، دون تمحيص أو تمييز بين ما يتلاءم مع قيّم المجتمع وما يتعارض معه. فكلّما أمطرت في الغرب، هرع قوم عندنا إلى رفع المطريّات تحت سماء شافيّة لا شيّة فيها. فعمد المشتغلون بالنقد إلى التسابق في تبنّي النظريّات النقديّة، وهرول المهتمون بالعلوم الاجتماعيّة والدارسون لها والمدرّسون إلى اعتناق النظريّات الغربيّة، دون مراعاة البيئة الزمكانيّة التي ولّدتها وأنشأتها وأوحت بها...

وكأنّ زعماء الولع والاتّباع، عندنا، يسابقون زمنا غير زمانهم، ويخاطبون جمهورا غير جمهورهم.

من مظاهر بؤسنا الثقافي، وثقافتنا البائسة، المدن والقرى المتّسخة. فالقمامات تستأسد الزمان والمكان، ولم يستطع، هذا المواطن العربي، أن يجسّد مقولة (النظافة من الإيمان)، فهو يعيش في زاويّة والنظافة في زاوية أخرى. هذا، الطفل الذي هو رجل الغد لا نعلّمه مباديء المواطنة الحقّة، ولا نرسّخ في نفسه سلوكياتها الصحيحة. فالسائر في شوارعنا وساحاتنا والمتنزّه في حدائقنا، أو شبهها وغاباتنا وعلى شواطئ بحورنا وضفاف أنهارنا، تواجهه بقايا مكانها الأصلي والطبيعي مكبّات القمامة، ولكنّ المواطن العربي، لا يجد حرجا في رميها في أيّ مكان عشوائيّ.

أما الطامة الكبرى، والقشّة التي قصمت سنام البعير، والبعير منها براء. فعزوف الشباب عن المقروئيّة. والزائر لجامعاتنا، ستصدمه ظاهرة النفور من المطالعة، وسألت طالبا السؤال التالي: كم كتابا تقرأ خلال السنة؟ أو كم ساعة تقرأ في السنة؟ وما هي أهم الكتب التي قرأتها سنة 2023 م، وفي النصف الأول من سنة 2024؟ لبُهت الذي سُئل، وتلعثم، وربّما اعترت وجنتيه حمرة الخجل.إنّ نسبة المقروئّة عندنا لا تتعدّى 2 بالمائة على أقصى تقدير. وهذه معضلة توارثتها الأجيال من الأسر والمناهج المدرسيّة الباليّة.

بؤسنا الثقافي، يا سادة، يا كرام، بيّن لا عور فيه ولا قذى بعينيه ؛ في علاقاتنا الاجتماعيّة وطقوسنا العباديّة وفي مدارسنا وجامعاتنا. في تعاملنا من الأحياء ونظرتنا إلى الأموات. جلّ قراراتنا مرهونة عند الأموات. عواطفنا تجاه الأموات أقوى منها تجاه الأحياء. نستدعي الأموات لحلّ مشكلاتنا المعاصرة. نسير إلى الأمام وعيوننا إلى الخلف.

ثقافتنا البائسة، يا سادتي، ستفضي بنا إلى الانقراض، كما انقرضت الديناصورات. لن تسعفنا من أدوائنا الظاهرة والباطنة. هي دليل دامع على أنّنا نعيش في عصر الضعف والانحطاط الثاني، عصر الجمود السياسي والديني والعجز عن الاجتهاد والتجديد والنهوض، وهي إنذار لنا قبل فوات الأوان.

ومن الواجبات العاجلة، غير الآجلة، أن نطهّر عقولنا من البؤس الثقافي، كي تنفتح أمامنا سبل النهضة العلميّة والانطلاقة التكنولوجيّة، لحفظ ديمومة وجودنا وحريّتنا.

***

بقلم: علي فضيل العربي / ناقد وروائي / الجزائر

رواية "والله راجع" للكاتب الفلسطيني د. محمد عبد السلام كريّم، أشبه ما تكون بوثيقة تاريخية  قدّمها لنا الكاتب بقالب روائي اعتمد فيها تقنية الراوي العليم، وتؤرخ لمرحلة زمنية عاشتها فلسطين عمومًا ومدينة صفد بالتحديد، وذلك مع بداية انطلاق الثورة الفلسطينية ضد الإحتلال البريطاني ومعه العصابات اليهودية.

يلاحظ أن الكاتب إستفاض في الإشارة إلى اليوميات المعاشة في مدينة صفد  والحديث عن الأسر الصفدية ويومياتها حيث أفرد لها مساحة لا بأس بها من صفحات الرواية، متخذا من أسرة أبو نايف النموذج الحيّ عن تلك الأسر والعائلات. مُبرزًا  التعاضد والتكاتف الأسري بين أفراد العائلة الواحدة فكانوا في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى كما يقول رسولنا الكريم عليه الصلاة والسلام. وقد ظهر هذا التكاتف خلال المحنة التي أصابت العائلة نتيجة الكسر في الجمجمة الذي أصاب ابنها (العبد) عبد السلام.

كما أجاد الكاتب في توصيف الأماكن والعادات الأسرية و التغنّي بمدينة صفد تلك المدينة الموغلة في عمق التاريخ من لدن كنعان أوربما قبله والتي تشبه حمامة بيضاء رمت بجناحيها على جبلين وأرخت برأسها على عدة تلال، في حين استراح جسدها وذيلها على أودية بين تلك الجبال في هذه البيئة الجبلية المرتفعة وهي حاضرة الجليل وعاصمته. و جرمقها  أعلى جبل في المنطقة، وفيها الكثير من المواقع المهمة المختلفة، فمن الشعرة الشريفة إلى القلعة فالجامع الأحمر، وغيرها الكثير.

وينتقل بنا الراوي العليم إلى مرحلة ثانية وتحديدا مع  أواخر العام 1935 وبدايات عام 1936 حيث بدأت المضايقات البريطانية واليهودية للشعب الفلسطيني تطفو على السطح، فكانت بداية الثورة الفلسطينية للتصدّي للاحتلال البريطاني وخاصةً في دعمه غير المحدود للهجرة اليهودية، من كل أرجاء العالم باتجاه فلسطين.

وللتأكيد على اللُحمة الوطنية بين شرائح المجتمع الفلسطيني أظهرت الرواية الدور المهم والفعّال لكل من المساجد والكنائس، وتعانق الهلال مع الصليب بالفعل لا بالقول،من خلال كل من الشيخ علي خطيب المسجد والراهب عطالله في كنيسة السيدة مريم العذراء. حيث تولى كل منهما وعلى طريقته فيشحذ الهمم وتحريض المواطنين على الجهاد والتصدّي للإحتلال البريطاني والمحافظة على الثوابت وإبطال المخططات الانجلو- يهودية، من هجرة وتسليح، إضافة إلى ضرورة التنبه من مغبة الإقدام على بيع الأراضي إلى اليهودي أو الإنكليزي أو غير ذلك. لأنهم يريدون صفد، ولكن خاليةً من أهلها.

وحسنًا فعل الكاتب عندما قدّمَ  لمحة موجزة عن بعض الرجالات والقيادات الذين تصدّوا لمقاومة الإحتلال والعصابات اليهودية، كالشهيد عز الدين القسّام ذلك  الشيخ السوري من مدينة  جبلة، قرب اللاذقية، والذي قاتل الفرنسيين في سورية فطاردوه؛ ليستقرّ في حيفا، حيث شكّل جمعيةً لمقاومة الاحتلال البريطاني ومشاريع هجرة اليهود من كل العالم باتجاه فلسطين.وامتد أثره ليومنا هذا،وقد وقد خلفه بعد استشهاده في قيادة الثورة الشيخ فرحان السعدي. كما أن الشيخ أمين الحسيني بدأ بالتحضير لأعمال ثورية ضد الإنكليز من خلال اللجنة العربية العليا.  إضافة إلى دخول فوزي القاوقجي منطقة المثلث مع نحو 250 مقاتلًا  من العراق وسورية وشرق الأردن، بغرض الانضمام إلى قوات الجهاد المقدس.

أما فيما يخص الشخصية الرئيسة في هذه الرواية وهي العبد أو عبد السلام فقد كانت بذرة ثقافة المقاومة تنمو لديه وواجب الدفاع عن الوطن يعتمر في قلبه، بعد أن آلمه ما سمع من  عمليات الإعدام التي تبنّاها الاحتلال البريطاني، ونفذها بحق المقاومين ومنهم الشهداء محمد جمجوم وعطا الزير وابن صفد فؤاد حجازي. لدرجة أن طبيعة ألعابه مع إخوته  تغيرت، من (عسكر وحرامية إلى يهود وفدائية)، واللافت أنّ أيّاً من الإخوة لم يكن ليقبل أن يلعب دور اليهود. وعندما جاء البريطاني برفقة المختار لتفتيش منزل والديه اقترب العبد من المختار وقال له، بلغة طفوليّة: " أخبرهم بأننا حتى لو لم يكن لدينا سلاح فسننتصر ويخرجون من صفد".

وبلغة شعريّة تبرز الرواية تضامن الأرض مع الثوار ففي الحديث عن معركة صفد يصف الراوي كيف أن أرض صفد وجبالها ألبست المقاتلين خضرتها، واشرأبت أشجارها وتداخلت لتمكّنهم من التخفي والرصد. وبالمقابل تأبى هذه الأرض ان تبتلع قطرة دم إنكليزية واحدة فأغلقت مسامها.

يُسجل للكاتب أنه لم يغفل الإشارة إلى ما يمكن اعتباره  بتخاذل النظام الرسمي العربي فبينما  كان الإصرار البريطاني، على تشكيل كيان يهودي مستغلاً الغياب العربي والاسلامي فقد ترك الفلسطينيون وحيدين يقاومون. وقد صدق ابومصطفى–أحد سكان صفد- عندما قال "مشكلتنا الأساسية هي مع الانكليز ودعمهم للهجرة اليهودية. وكذا عدم متابعة قضيتنا من العرب والمسلمين". لا بل أكثر من ذلك فقد قام زعماء السعودية والعراق وشرق الأردن واليمن كوسطاء ليطالبوا الفلسطينيين، بوقف الإضراب، الذي استمر نحو ستة أشهر، ويدعوهم، في رسالتهم إلى:  " الإخلاد إلى السكينة حقناً للدماء، معتمدين على حسن نوايا صديقتهم الحكومة البريطانية.

ويبدو  أن ديدن النظام الرسمي العربي منذ البدء وليومنا هذا لا يتقن سوى عقد المؤتمرات فقد عقد العرب، في أواخر 1944 مؤتمراً في الاسكندرية، ووقّعوا ميثاق جامعة الدول العربية، إلاّ أن الفلسطينيين  رأوا  أنّ المؤتمر والميثاق لم يعطيا الاهتمام الواجب للقضية الفلسطينية. وبقي الدعم العربي مجرّد وعود لم تتحققّ، .فكان قرار تقسيم فلسطين إلى دولتين دولة يهودية ودولة عربية، عبر الأمم المتحدة  في 29/11/1947 .ثم دخل عام 1948، بآلامه المختلفة والفلسطينيون كانوا بانتظار تدخّل رسمي عربي ما، لم يلحْ بعد في الأفق.

والموضوعية تقتضي منّا التفريق بين الشعوب العربية وأنظمتها ويشير الراوي لإنضمام الضابط إحسان كم الماظ. سوري الجنسية والذي جاء بمبادرة فردية منه للمشاركة بالحرب ضد العصابات اليهودية. وللأسف كان هذا الضابط المؤمن بعدالة القضية ضحية لتجاذب الأراء حول مسألة إدارة الصراع حيث بدأ الخلاف مع النقيب ساري الضابط الأردني الأعلى رتبة منه،  بعد قيام مقاتلي الملازم إحسان باستهداف الحافلة اليهودية، ليطلب النقيب ساري من الملازم إحسان، إعلامه مسبقا بأي عملية ينوي القيام بها. وعندما يحاول الملازم إحسان أن يشرح له أهمية السريّة في عمليات المقاومة يتمسك النقيب ساري بالتراتبية العسكرية متوعدًا  بإطلاق النار على كل من يخالف تعليماته حتى لو كان من "قبضياتك" يا ملازم إحسان !؟ وهذا ما جعل الشك يساور الملازم إحسان ليقول للنقيب: "من لحظة قدومك وأنت تحاول معرفة معلومات، ولا تريد توفير السلاح لنا. لصالح من تعمل ؟. وعندما لجأ الملازم إحسان إلى المقدم أديب الشيشكلي، وفاتحه بما يتعرض له من الضابطين، فنيش وجميعان. لم يكن لدى الشيشكلي أيّة حلول أو محاولات تسوية. بل طلب منه أن يترك صفد لفنيش وجميعان . لتتدحرج الدموع على خدّي إحسان وهو يعانق مقاتليه، ويمضي وهو يردد: أسفي عليكم با أبناء صفد.لقد باعوكم للأغراب وبأرخص الأسعار.

وفي موضع آخر تشير الرواية إلى حجم الخيبة التي عاد بها  زكي قدورة، رئيس بلدية صفد، ومعه وفد من ثلاثة أشخاص من زيارته  للرئيس شكري القوتلي في دمشق، الذي أبدى أسفه  لعدم  قدرته على توفيرّ السلاح خاتمًا حديثه بالقول:" للأسف العين بصيرة والإيد قصيرة.يا ريتني فيني أساوي شي. ". ولم تأتِ زيارة هذا الوفد  للقصر الملكي الأردني بأي نتيجة ملموسة بل بوعود لا أكثر.

ويستفيض الراوي في تبيان التخبط العربي في مواجهة العصابات اليهودية كقيام الملازم أول ايميل جميعان باستبدال الكتيبة الأردنية بكتيبة أخرى يجهل عناصرها جغرافية المعارك ومصادر الخطر كما أن المدفعية اليتيمة التي جاء بها جيش الانقاذ، وكذا كتيبة الهاون قد انسحبت، في أصعب مراحل المعركة.وأمام هذه الحال يستذكر عبد السلام ما قاله الملازم إحسان. لقد بيعت صفد. لقد  سلمّت صفد. ويكمل قائلاً "هل من المعقول أن ينسحب جيش الانقاذ، دون إعلامنا؟! أوليس ذلك كمن يقول للعصابات اليهودية تعالوا واستولوا على المدينة؟ ! لم يكن لمدينة صفد أن تنهار لولا أيد خفية تمكّنت من فعل ما لم تستطع العصابات اليهودية فعله.

يحدثنا التاريخ بأن الطفل الفلسطيني يولد وهو مقاوم، فلقد كان دور طلّاب  وأطفال المدارس بسيطاً، في هذه المرحلة إلاّ أنّه حيوي في حماية الثوار، فعندما علم الجيش الانكليزي بأمر اجتماع الثوار في المسجد استنفر عناصره وتوجّهوا صوب المسجد للإجهاز على الثوار. لم يكن على كل طفل إلا ترديد كلمة واحدة فقط هي إجو، وتعني وصلوا . تداول الأولاد الكلمة من قرب مركز البوليس وحتى المسجد،. فما أن وصل جنود الاحتلال المسجد، حتى كان الشيخ علي يغلق باب المسجد، بعد أن خرج جميع الثوار،من المسجد سالمين.

مما لا شك فيه أن ما يطلق عليهم بيهود الداخل أشد خطرا من يهود الخارج، فقد شهدت البلاد محاولات إحباط وتهويل تولاها مجهولون على شاكلة رجل يدعى هزّاع،الذي كان لسبب أو آخر، يتجوّل حيث لا يسمح للآخرين. كان يرتدي لباساً بدوياً يختلف عن لباس بدو محيط صفد، وكانت مهمته بث الذعر وتثبيط عزيمة المقاومين. وهو ينادي: يا أهالي صفد، أولادكم في جبل كنعان والقلعة ومحيط  المدينة استشهدوا... معظم مواقعهم سقطت وسيطرت عليها  العصابات اليهودية... أخرجوا من المدينة قبل أن يصلوا إليكم ...حافظوا على أعراضكم. وفي جولة أخرى من جولات التوهين يقول هزاع: أعتقد أنّ العرب لن يدخلوا إلى صفد. ومن ثمّ فالعصابات  اليهودية لن تترك أي قرية في الجليل.

كما كان للإعلام الكاذب دوره المشبوه في المعركة حيث أن إذاعة لندن البريطانية تعلن كاذبة:"  أنّ المعارك المستمرة في شمال فلسطين، أدت إلى سقوط مدينة صفد. وفرّ جميع المدنيين من المدينة، ومحيطها، باتجاه الحدود السورية والحدود اللبنانية

ختاما يبقى الأمل بتحرير فلسطين قائما  والنصر آت لا محالة والكُل الفلسطيني والله راجع.

***

عفيف قاووق – لبنان

 

تعتبر مسرحية " السياسي العجوز " للكاتب ت. إس. إليوت عملا معقدا ومثيرا للتفكير يستكشف مجموعة متنوعة من المواضيع. أحد المواضيع الرئيسية في المسرحية هو مرور الوقت وتأثيره على الأفراد والعلاقات. بطل الرواية اللورد كليفرتون هو رجل دولة مسن يتصارع مع أفعاله وعلاقاته الماضية مع اقترابه من نهاية حياته. من خلال شخصيته، يتعمق إليوت في موضوعات الندم والفداء وحتمية الشيخوخة.

موضوع مهم آخر في " السياسي العجوز " هو طبيعة القوة والنفوذ. اللورد كليفرتون شخصية قوية شغلت منصبا سياسيا لسنوات عديدة، وكانت قراراته ذات عواقب بعيدة المدى. تستكشف المسرحية الطرق التي يمكن أن تفسد بها القوة الأفراد وتؤدي إلى الغموض الأخلاقي. كما تدرس حدود القوة وهشاشة السلطة البشرية.

موضوع ذو صلة في المسرحية هو مفهوم الواجب والمسؤولية. اللورد كليفرتون مثقل بإحساسه بالواجب تجاه أسرته وبلده وضميره. يجب عليه أن يتصالح مع عواقب أفعاله ويتحمل مسؤولية أخطائه. تثير المسرحية تساؤلات حول طبيعة الواجب والتضحيات التي يجب على الأفراد تقديمها من أجل الوفاء بالتزاماتهم.

تستكشف المسرحية أيضا موضوعات الحب والخيانة. علاقات اللورد كليفرتون بأفراد عائلته وأصدقائه المقربين محفوفة بالتوتر وعدم الثقة. تدرس المسرحية تعقيدات الحب والطرق التي يمكن بها للخيانة أن تحطم حتى أقوى الروابط. يتعمق إليوت في الاضطرابات العاطفية التي تصاحب الحب والطرق التي يمكن للأفراد من خلالها أن يكونوا ضحايا ومرتكبي الخيانة.

بالإضافة إلى ذلك، تعالج المسرحية موضوع المغفرة والمصالحة. يجب على اللورد كليفرتون أن يتصالح مع أخطائه الماضية وأن يطلب المغفرة من أولئك الذين أخطأ في حقهم. تدرس المسرحية عملية المصالحة والطرق التي يمكن للأفراد من خلالها إيجاد الخلاص من خلال مواجهة أفعالهم الماضية. كما تثير تساؤلات حول حدود المغفرة وصعوبة تجاوز تجاوزات الماضي.

علاوة على ذلك، تتعمق " السياسي العجوز " في موضوع الهوية واكتشاف الذات. يكافح اللورد كليفرتون للتوفيق بين شخصيته العامة كرجل دولة قوي وذاته الخاصة. يجب عليه مواجهة إخفاقاته الأخلاقية والتصالح مع هويته الحقيقية. تستكشف المسرحية تعقيدات اكتشاف الذات والطرق التي يجب أن يواجه بها الأفراد حقائقهم الخاصة من أجل إيجاد السلام الداخلي.

موضوع مهم آخر في المسرحية هو فكرة القدر والحتمية. يواجه اللورد كليفرتون عواقب أفعاله الماضية ويجب أن يتصارع مع مفهوم القدر والقضاء والقدر. تثير المسرحية تساؤلات حول دور الاختيار في تشكيل مصير الفرد والطرق التي يرتبط بها الأفراد بأفعالهم وقراراتهم.

علاوة على ذلك، يفحص " السياسي العجوز " موضوع الذاكرة والحنين. يطارد اللورد كليفرتون ذكريات شبابه والاختيارات التي اتخذها على طول الطريق. تتعمق المسرحية في الطرق التي تشكل بها الذاكرة ذواتنا الحالية وتؤثر على قراراتنا المستقبلية. كما يثير تساؤلات حول طبيعة الحنين إلى الماضي والطرق التي يمكن بها للأفراد أن يجدوا الراحة والعذاب في ذكرياتهم.

وأخيرا، تستكشف المسرحية موضوع الفناء وحتمية الموت. يواجه اللورد كليفرتون فناءه الخاص ويجب أن يواجه حقيقة وفاته الوشيكة. تتعمق المسرحية في الطرق التي يتعامل بها الأفراد مع نهاية حياتهم والإرث الذي يتركونه وراءهم. كما تثير تساؤلات حول طبيعة الوجود والطرق التي يجد بها الأفراد المعنى في مواجهة الموت.

إن " السياسي العجوز " هي مسرحية غنية ومعقدة تستكشف مجموعة متنوعة من الموضوعات، بما في ذلك مرور الوقت، والقوة والنفوذ، والواجب والمسؤولية، والحب والخيانة، والمغفرة والمصالحة، والهوية واكتشاف الذات، والمصير والحتمية، والذاكرة والحنين، والفناء. من خلال شخصية اللورد كليفرتون، يتعمق تي إس إليوت في تعقيدات الوجود والطرق التي يتنقل بها الأفراد في تحديات الحياة. تعتبر المسرحية تأملا قويا في التجربة الإنسانية وتقدم رؤى عميقة حول طبيعة الحالة الإنسانية.

***

محمد عبد الكريم يوسف

طلعت على الساحة الثقافية، في الأيام القليلة الماضية، زُهرة الحوَّاشي ـ المتخصصة تخصصَا مهنيا في علم الأحياء ـ بثلاث مجموعات شعرية في آن معا، لا يفصل بينها مؤشر منهجي يذكر. ومن أوجه الطرافة في الحدَث، أن هذه الثلاثية الشعرية، في شكل إصدارها، هي ثلاثيتان بما تحمله دفتا كل كتاب في العنونة: فمن اليمين إلى اليسار هي تباعا بترتيب الناشر: " رأسي في قفص الاتهام "، و "حرف ودمعة "، و" حديث الروح ". أمّا من اليسار إلى اليمين ـ كما تُقرأ الكتبُ بالأبجدية اللاتينية ـ فتسمّى تباعا : "  Confidence" و "  Nostalgie " و " Etat d esprit ". وهذه العناوين المتمايزة تنسحب ـ مَثْنى ـ على كلٍّ من الإصدارات الثلاثة ، بشكل يتيح للقارئ ، منذ البدء، خيارا في أن يقرأ المجموعة الواحدة من أوّلها إلى آخرها من الجهة التي تستهويه. إلا أن القارئ يتفاجأ، عند المتابعة، بأن المجموعات الشعرية الثلاث  ليست باللغتين العربية والفرنسية ، بل وباللغة التونسية الدارجة أيضا . ويَفهم أن كل نص من نصوص المجموعة  نص في لغته الأصلية ، وليس منقولا بالترجمة، من لغة إلى لغة، الأمر الذي يضع قارئ هذه الثلاثية ، في محتوى إصدارها، أمام ثلاث ثلاثيات شعرية متمايزة في ثلاثية واحدة، لا  ـ فقط ـ أمام  ثلاث تراجم لنص وحيد.

هذه الثواليث المتمايزة المتزامنة المتحاذية في الإصدار المتوحِّدة في الشكل ، تنبّه القارئ إلى ما لمحتوياتها  من خصوصيات التعدّد والتنوّع ، كما لو أن إصدارها متزامنة متحاذية متّصلة منفصلة، مؤشِّر على ضرورة توَخّي مقاربة مخصوصة بها عند قراءتها، يصبح بها قارئ الشعر في وضْع باحث بالمخبر، مَعْنيٍّ بأطوار تجربة مجهرية في علم الأحياء، يرصد تطورات اكتشاف نسيج خلويّ خلاياه تتفرّد وتمتزج، قادت إليه أبحاث بيولوجية في كائن حيٍّ جميل فسيفسائي التركيب. ذلك أن النص الفني ـ والشعري على وجه الخصوص ـ عمل تشكيلي مادّته اللغة، وتقنيات تشكيله وآليات تحليله مرهونة بميكانزمات تركيبه.

ويعزّز هذا المنزعَ في التعاطي مع هذه الثلاثية ، مؤشِّر ثان طريف هو الآخر؛ وكأنه بمثابة مدخل من المداخل التي قد تعزز القراءة، وقد يكون من المفيد أن يقارَب  القارئ بها هذا العمل . ولا إخال التنصيص عليه إلا إحالة مقصودة. ويبدو في ظاهره من حواشي الطباعة وهوامشها. إلا أن التنصيص المشدَّد عليه، من داخل صفحات العناوين الستة، ومن خارجها، يجعل تجاهله عند القراءة إخلالا أدواتيّا يشوِّه مردود القارئ. هذا المؤشر يتعلق بصاحبة المجموعات الشعرية الثلاث نفسها زُهرة الحَوّاشي: فالشاعرة بهذا الاسم هي مجرّد شخص مدنيّ تدخل على الساحة الأدبية من باب الشعر. إلا أن لهذا الاسم المدني الذي تتسمّى به الشاعرة على وجه الصدفة، مسمًّى آخر على سبيل المجانسة. ذلك أن لنبتة البرسيم المعروفة زَهرةٌ، هي الأخرى، تسمّى زَهرة الحوَاشى. ولا يبعد أن يكون بين المسمَّييْن استعارة مّا، ذات معنى بلاغي، مطلوب من القارئ الوقوف عنده أو الوقوف عليه، من خلال ما بين المستعار منها وبين المستعار لها، من ممْكِن دلالات التَّكَنّي.

إحدى إحالات دلالات التكنّي هذا، أوالشبه بين الزهرتين، زُهرة الحوّاشي و زَهرة الحواشي، هي أنّ من فصائل نبات البرسيم، فصيلة ذات زهر أحمر ثلاثي البتلات، تتخذ منه الشاعرة ـ على وجه مقصود ـ كنية فنية لها، ورمزا، بكل ما يعنيه الترميز، يتصدّر كل مجموعة من مجموعاتها الشعرية الثلاث بشكل بارز على دفَّتيْ كل مجموعة. ومن ثَمّ فالمتعيِّن على القارئ ألّا يُغفِل، عند مقاربة نصوص كل مجموعة، هذه الأبعاد، وأن ينصت، في كل نص، إلى صوت المرأة الشاعرة صاحبة الذات الوجودية المدنية المنفعلة الفاعلة، وصوت الشاعرة المُنشِدة ذات الرؤية الفنية الخصوصية الطريفة، وصوت الفنانة الرمز التي تراوح بين الواقع المحدود والأمل المنشود.

إن زَهرة البرسيم الحمراء ـ زَهرة الحوَاشي ـ التي تتكنّى بها زُهرة الحوَّاشي ، في أوقات الضيق بمغاليق الوجود، والانحباس في متاهات النفس الهائمة، وأحوال اللجوء إلى استغفال قوَى الشر الخفيّة الغاشمة، وتلهية الهموم باستقراء آثار الحظ العاثر والثائر، والمرور إلى عوالم نشدان النوافذ والشرفات،  على ضوء ألعاب الورق، هي زهرة التسلّي، يَستشْرِف بها ـ دون مُنازع ـ صاحبُ المحنةِ سوءَ الطالع أو الفألَ الناجز. وعلى قدر ما هو عليه من التفاؤل أو التشاؤم، يقرّر منذ البدء من أيّ طبيعة إيجابية أو سلبية تكون نتيجة التشَوُّف. فإمّا نعم ـ لا ـ نعم، وإمّا لا ـ نعم ـ لا؛ أو ما شابَهَ مِن ألعاب العُشّاق في الحدائق المغلقة، حدائق الخلوة إلى النفس الجريحة النازفة، أو في مروج مرابع الصبى والتصابي، مروج الدهماني الخضر الرحيبة في الهواء الطلق:   يحبّني ، لا يحبني ، يحبني. ومن هذا المنظور فإن قراءة هذه المجموعات على غرار قراءة زَهرة البرسيم الثلاثية، هي قراءة الفأل الحسن والاستبشار بالسعد الطالع، لأن الشاعرة العاشقة الحالمة اختارت أن تَسٍمَ مجموعات التلاثية الثلاث بزهرة برسيم أحمر على وجه التحديد.

وفي هذه الثلاثية الشعرية مُحايٍثات أشبه ما تكون بالمقام الذي يتنزّل فيه المقال، أحدها أن القارئ، إذ يدخل على نصوص المجموعات من واجهة العناوين الناظمة لمحتويات المجموعات في معنى واحد هو معنى العنوان الدالِّ على موضوع كل مجموعة من مجموعات الثلاثية، يخرج من تَصَفُّحِ محتوى تلك المجموعة تحت عنوان ثانٍ يُغايِرُ في المعنى معنى العنوان الذي دخل منه، لا هو بالضدِّ المقابل ولا هو بالمُرادف له ؛ بل هو معنى نظير تـنتظم فيه نصوص كامل المجموعة بلغاتها الثلاث من الجهتين. وإذن يذهب إلى أنّ كل مجموعة شعرية من المجموعات الثلاث ـ بحدّ ذاتها ـ معمارٌ فنيّ تشكيلي ذو واجهتين كبرَييْن، يدخله القارئ من إحدى بوّابتيْه العربية أو الفرنسية التي يشاء. والمطلوب من قارئ أعمال زُهرة الحوّاشي الشاعرة، ألا يخطئ القـَرْءَ بين أجزاء ما يقرأ، فيقع في محظور، ويربط  بين أطراف تلك الأجزاء من حيث لا تحتمل الربط. أو يدمج المباشر في غير المباشر دون ما يَلزَم من التروّي والحيطة. وعليه أن يوجد للموضوعات أو المواضيع المعابر والجسور الكفيلة بالعبور والعودة، بين " رأسي في قفص الاتهام " ونظيره الفرنسي " البوح "، أو بين " حرف ودمعة " وبين نظيره " حنين "، أو كذلك بين " حديث الروح"، و " معنويات ".

إن نصوص زُهرة الحوّاشي بلغاتها الثلاث لا تـُقرأ في مجموعاتها الثلاث قسما قسما، كلًّا  على حدة، على سبيل  التحاذي والتوْليف في كل مجموعة، وإلّا لكان لزاما أن تتخذ النصوص الواردة في كل مجموعة من المجموعات الثلاث باللغة الدارجة التونسية،عنوانا تنفرد به ضمن كل مجموعة، على اعتبار أن للنصوص باللغة الفرنسية ـ على أولى الغلاف، من اليسار، عنوانا مخصوصا لها، لا يتعدّاها، شأنها شأن النصوص الواردة فيها تحت عنوان بالعربية الفصحى، على دفّة الكتاب اليمنى. هكذا، كل مجموعة شعرية هي تشكيلة ثلاثية التركيبة تندرج في سياقين منتظمين متناوبين يتباينان ويلتقيان في حركية دائبة ضمن المجموعة الواحدة، يُنْشئان مسارَها ومدارَها . وينضاف إلى هذه الحركية البنيوية الداخلية الثابتة في المكان، حركية متزامنة أخرى تـَنْشأ من تزامن المجموعات الشعرية الثلاث في الصدور، وتُنشِئ لنفسها ـ بنيويّا ـ زمانها ومداها ما دام لا يُعرف لنصوصها من داخل المجموعات أو خارجها  لا أوّل ولا آخر.

ثلاثية زُهرة الحوّاشي الشعرية تتراءى للقراءة ـ من هذا المنظور البنيويّ الديناميكي  ـ تشكيلةً إنشائية مركّبة، لا تشكيلة بسيطة خطّية. وقد يقود البحث المتأنّي المعمَّقُ فيها إلى الكشف عن فرادة أسرار بِنْيَتها الداخلية التي استَحدَثتْ لمضامينها شكليّـتَها الخارجية، هذه التي طَلعتْ بها على الساحة الشعرية. وسواء من باب الصدفة أو القصد، فإن تشكيل هذه الثلاثية الشعرية تشكيلا واعيا أو عفويا، على هذا الوجه من الانتظام، مَبْصوم بوجدانٍ شعريّ مُرْهَفٍ هَنْداس مُعَقْلـَن، يَجْنَح إلى مقارَبَةِ كينونةِ الشعر وعوالمها، بعين المَجاهر والمناظير المعتادة على التبصّر في التناسج الخَلـَوي وتراصفه وتناضده في عوالم البحث في الجُزيْئات الحيوية الدقيقة اللطيفة اللّا ـ مرئية، عجائبيةً أو غرائبية كانت ...

كذلك، من المحايثات الحافّة بنصوص هذه المجموعات الشعرية الثلاث أيضا، ثلاثة إهداءات بالفصحى من جهة، وثلاثة تصديرات بالفرنسية من الجهة الأخرى. وتفصل ـ أو تربط ـ من الجهتين، بين نصوص الفرنسية ونصوص الدارجة التونسية، في أواسط المجموعات الشعرية الثلاث، صورتا قطعتَيْ مصوغ تراثيّ شعبيّ ريفيّ تونسيّ؛ لعلّها مؤشِّر على التجسير بين الأغراض الشعرية تجسيرا تشكيليا فنيا، بين لغات الثلاثيات الثلاث، ولِمَ لا مؤشّر كذلك على طابع تلك النصوص المحلّي وسياقها الشعبي؟  للعبور بتلك النصوص من الثقافي المحلّي إلى الحضاري الكوني. هذه الأصناف الثلاثة من المحايثات الحافّة بنصوص المجموعات، تؤطّر وجهة القارئ في مقاربة النصوص بالسياقات التي تندرج فيها، لعلّه بتلك الحوافِّ يدرك مَراصد رؤية زهرة الحوّاشي الفنّانة الشاعرة، وهموم مساراتها ومسيرتها الاجتماعية ـ التاريخية.

تجمع زَهرة الحوَاشي / زُهرة الحوّاشي، هذه الباقات من أزاهير عمرها، وتهدي منها باقة "حرف ودمعة " إلى أبيها الحبيب، مَرْفوقة ـ على شاكلة الباقات المُرْسَلة ـ من الجانب الأيْسر " حنين"، ببطاقة عليها تصديرٌ مفادُه إقرارُ البشرية  بالفناء، واعترافُها بمحدودية البقاء على قيْد الحياة. غير أنّ ذلك لا يُعْفي أحدا مِن اعتبار كل مَن لا يسعى وراء الحقيقة، قد قضّى حياته ميْتا بين الأحياء. ومن هذا المنظور تتجلّى ميلودْراميّة الحياة، ومنزلة الإنسان التراجيكوميدية، وأصالة صراعه البطوليّ ومَصْرَعِه في الوجود، على نعت ما بدا لهذه الشاعرة المتحفّزة قلبا وقالبا على أعتاب الحياة.

الباقة الثانية  "حديث الروح" من جهة، ومن الجهة الأخرى "معنويات "، مُهداةٌ من اليمين إلى حرائر تونس نبراس الحرية، ومُصدّرة من الشِّمال بعبارة تعرّف بها  الشاعرةُ الأمومــةَ على أنها ـ في كلمةٍ ـ الموتُ عِشْقا لا غير. بل هي ـ الأمومة ـ ذوبانُ الوالد في الموْلود بالمعني الصوفي، وحلولٌ فيه. أو هو انعتاق الذات الحبيسة في ملكوت الحرية الرحيب. غير أنّ العبارة بقدر ما فيها من نفَس ملحميّ، واستعداد للمصالحة مع الذات و الغير، والانسجام مع الكون، فيها من عناء اقتحام الوجود والمصير، و قسوة الغربة، ومرارة الاستِلاب، ما لا شافع منه لأنثى، إذا ما حاق بالإنجاب مجتمعٌ عاقرٌ بليد. الموت عشقا مفهومٌ مثْقـَل بالمعاني الحافّة، في الثقافة الغنائية والسينمائية الفرنسية والكونية. وهو لحن تُنشِدُه الإنسانية المعذّبة، وآفاقٌ تَنْشَدّ إليها وَ تَنْشُدُها، في العالَم، منذ سبعينيات القرن الماضي، أبصارُ الأجيال المتعاقبة، كلما رزحتْ غريزةُ حفْظ النسل لديها تحت نعال الهمجيّين الحكّام.

أما ثالِثة الثَلاث " رأسي في قفص الاتّهامَ / بَوْحٌ "، المهداة إلى شهداء الوطن الأبرار، فتُصدِّرها عبارة مَفادُها أنّ المحتالين ينتهي بهم أمرهم إلى مُغَفَّلين، وتلك هي القاعدة في مثل تلك المعتمَلة. أو بعبارة عربية " كما تدين تُدانُ ". ولا يَخْفى مِن وراء ذلك القصْدُ. ومن يَضْحَكُ الأخير يكون خيرَ الضاحكين. وبهذا التواشج والانتظام بين حوافّ المجموعات الشعرية الثلاث، تكتمل دائرته، وتدور، ويكتمل تربيعها، وتتّضح للقارئ أكوانها الشعرية ومداراتُها وأبعادها.

إن هذا التعريف بثلاثية زهرة الحوّاشي الشعرية هذه، من خلال الحَوافّ التي حفّتْها بها صاحبتُها، يكتفي من عرْضها، بالكشف عن بعض فحواها، حتى لا يُهْدِر استمتاع القارئ بنصوصها، ويهتك أسرار نكهتها ويزهّده في الإقبال عليها قبل استبطانها. وفي كلمة فإن هذه الإصدارات  الثلاثة المتزامنة تعكس واقع الشاعرة ـ على غير المعتاد ـ بعين امرأة تتدامج في وجدانها حميمية الفتاة الحالمة، ومجالدة الشابّة المتحفزة، ومكابدة المرأة المثقّفة الملتزمة التزاما معرفيا سياسيا أخلاقيا بقضاياها النسوية الأصيلة، و وظائفها الاجتماعية التاريخية، وظائف المؤمنة ـ في محيط عدواني ـ بفجر غد أفضل. يُطِلّ من وراء مسارب " بير ماطر" أو على سنابل القمح والقمْع في " مروج الدهماني " أو " ربوع سليانة ".

***

الشاعر والنّاقد محمد مرزوق

 

بقلم: جوناثان أور

ترجمة: د.محمد عبدالحليم غنيم

***

لعقود من الزمن، جذبت رواية (الدب) لماريان إنجل الصادرة عام 1976 الانتباه بفضل حبكتها ومشاهدها الخيالية المثيرة.

الدب هي رواية عام 1976 بقلم ماريان إنجل (على اليسار). في الصورة طبعة 2014

تُوصف رواية ماريان إنجل "الدب" التي صدرت عام 1976، والتي تحكي قصة علاقة بين امرأة وعشيقها، بأنها واحدة من أكثر الكتب إثارة للجدل في تاريخ الأدب الكندي.

لكن الخبراء يقولون إن الكتاب الحائز على جائزة الحاكم العام هو أيضًا أحد الأمثلة الأكثر جرأة وذات صلة في الأدب الكندي الكلاسيكي، حيث يمزج ببراعة المشاهد الكوميدية مع موضوعات مهمة مثل الاستعمار وعلاقتنا بالطبيعة. ويقول أحد الخبراء إنها تتناول أيضًا مسألة الاستيلاء الغربي على قصص السكان الأصليين.

تقول أريثا فان هيرك، الروائية وأستاذة اللغة الإنجليزية في جامعة كالجاري: بين الحين والآخر، يبدو أنها تطفو على السطح ثم يقرؤونها كما لو كانت بذيئة أو مثيرة أو صادمة. ولكن هذا ليس السبب في أن لها قيمة خالدة."

إنها تعلم القارئ... إعادة النظر في تصوراته المسبقة عن المرأة، وعن الطبيعة، وعن كندا نفسها... وهذا يعني، على ما أعتقد، أنها ستستمر لمئات ومئات السنين."

من فائز GG إلى ميمي الإنترنت

عادت الدب إلى الظهور مؤخرًا في عام 2014 - بعد عقود من وفاة إنجل في عام 1985 - ويرجع الفضل في ذلك نسبيا إلى منشور على موقع مشاركة الصور المعروف (إيمجور).

حيث نشر أحد المستخدمين صورة لطبعة Bantam Seal من الكتاب، والتي تُظهر امرأة عارية الصدر يحتضنها دب بني كبير من الخلف، بالإضافة إلى مقتطفات من مشاهد الكتاب الأكثر إثارة.

وكتب الملصق بشكل لا يصدق: "لديك ما بيرر القيام به يا كندا".

وحصد أكثر من مليون مشاهدة، مما جدد الاهتمام بالكتاب. في وقت لاحق من ذلك العام، أصدر الناشر McLelland & Stewart نسخة مطبوعة جديدة تمامًا - مع صورة غلاف جديدة.

وقال ممثل عن الناشر لمجلة الصناعة Quill & Quire: "أردنا شيئًا ذكيًا يجسد الإثارة الجنسية للكتاب، لكن لم يكن له المظهر المعسكر للكتاب الذي انتشر على نطاق واسع".

عند صدور الرواية الأصلية لأول مرة في عام 1976، تلقت إنجل والناشر بعض الرسائل الغاضبة. لكنها حازت أيضًا على تقييمات رائعة من النقاد، وأصبحت من أكثر الكتب مبيعًا في فصلي الربيع والصيف.

قال نيك ماونت، أستاذ الأدب الإنجليزي في جامعة تورنتو ومؤلف كتاب "الوصول: قصة كانليت"، "وليام فرينش في ذا جلوب... وصفها بأنها قطعة خيالية جادة - إنها أفضل أعمالها حتى الآن، فهي مليئة بالتحديات والاستفزاز" .

إنه كتاب يتحدث عن الكثير من الحوارات التي تجري في كندا في الوقت الحالي.

كما فاز الكتاب بجائزة الحاكم العام في ذلك العام، عندما ضمت اللجنة التي اختارت الفائزين مارجريت لورانس، ومردخاي ريشلر، وأليس مونرو.

بعد صدور الدب، عُرفت إنجل كروائية وكاتبة مقالات غزيرة الإنتاج، وفي عام 1973، أصبحت عضوًا مؤسسًا وأول رئيس لاتحاد الكتاب الكندي.

قال كريستل فيردوين، أستاذ اللغة الإنجليزية بجامعة ماونت أليسون في نيو برونزويك ومؤلف كتاب شرايين الحياة: كتابات ماريان إنجل: "لقد تم استقبالها ككاتبة جريئة وجسورة".

- لماذا الدب؟

عندما سألها أقرانها والمحاورون حتماً عن مصدر إلهامها للكتاب، ظلت إنجل متكتمة.

سأل بيتر جزوفسكي من قناة سي بي سي إنجل في عام 1976.

-  لماذا الدب؟ أعتقد أن ما أقوله هو لماذا لا أقول تمساح؟

أجابت إنجل:

- حسنًا، أعرف ذلك، لكنني لا أقول ذلك، حسنًا؟ لقد كان موضوعًا شخصيًا لسنوات عديدة".

وفي نفس المقابلة، أشارت إنجل إلى أنها تأثرت بقصة الأم الدب، أو الأميرة الدب، كما قدمها لها النحات الهايدا بيل ريد. ومع ذلك، اعتمدت بشكل رئيسي على إصدار القصة الذي سجله ماريوس باربو، وهو عالم اثنولوجي وفولكلوري فرنسي كندي.

لاحظت تانيا أجيلا واي، أستاذة مساعدة في اللغة الإنجليزية في جامعة تورنتو، أنه لا توجد إشارات مباشرة إلى أسطورة Haida Bear Princess في النص، على الرغم من وجود إشارات عديدة إلى فولكلور الدب.

وتتساءل عما إذا كانت إنجل " تكافح بمهارة" مع طريقة صياغتها، إن لم تكن قد استحوذت على قصة السكان الأصليين في رواياتها.

على مدار القصة، أصبحت هجمات لو على الدب أكثر عدوانية بشكل متزايد.  تقول أغيلا واي إنه قد يكون شكلاً من أشكال "التوطين الذاتي للمستوطنين، أو الدافع الاستعماري لإقامة اتصال بالأرض من قبل المستوطنين" من خلال حيوان أو نبات مرتبط بطريقة ما بأساطير السكان الأصليين.

قطع الخيال

أصبح هذا الارتباط واضحا بشدة في محادثات لو مع لوسي، وهي إحدى كبار السن من السكان الأصليين والقائمة على رعاية الدب بشكل غير رسمي. ولكن بعد ذلك يخرج كل شيء عن المسار الصحيح عندما تركع "لو" على أطرافها الأربعة في محاولة لإتمام علاقتهما. وبدلاً من ذلك، يضربها الدب ويترك جرحًا في ظهرها.

وقد أوضحت أجيلا واي أن لو حصلت على الندبة الجديدة على ظهرها "كعلامة على تبرئة ذنبها". لكنها تضيف أنه من غير الواضح ما إذا كانت إنجل تبني قصة تستفيد من تقاليد السكان الأصليين أو تسخر منها.

وقالت "إنها تشعر وكأنها شفيت وأصبحت بريئة. لكن... أعتقد أن الرواية في نهاية المطاف تسخر من هذا الشعور بالكمال الذي تتركه لنا لو عندما تعود إلى المدينة".

تقول أجيلا واي إن هذه الديناميكية المعقدة بين السكان الأصليين والمستوطنين قد تجعل من رواية الدب نصًا أكثر أهمية الآن من أي وقت مضى.

تقول: "إنه كتاب يتحدث عن الكثير من المحادثات التي تجري في كندا في الوقت الحالي... محادثات طال انتظارها حول تراث الاستعمار الاستيطاني، واستمرار تجريد الشعوب الأصلية من ممتلكاتها، ومسألة استيلاء المستوطنين على ثقافات وهويات السكان الأصليين، "

"في كثير من الأحيان عندما تثار هذه الأسئلة، يعتقد الناس أنها مجرد مظهر من مظاهر ثقافة "اليقظة" المعاصرة. ولكن، كما تعلمون، فإن قراءة شيء مثل رواية  دب تذكرنا بأن مسألة الاستيلاء ونوع الرغبة الاستعمارية الاستيطانية في امتلاك الهوية كانت منذ فترة طويلة جزءًا من الثقافة الكندية."

كلني أيها الدب

أشاد ماونت بإنجل ووصفها بأنها "كاتبة بارعة للغاية ومضحكة للغاية وذكية للغاية ومثيرة للسخرية للغاية"، مضيفًا أن أسلوبها المميز جعل (الدب)  مختلفة عن الأدب الكندي في ذلك الوقت،  الذي كان الكثير منه جادًا للغاية.

ومع ذلك، حققت هذا باستخدام العديد من السمات المميزة للنوع الأدبي (أو الصور النمطية): علاقة البطلة بالبرية غير المروضة، وانعكاس الطابع الإنجليزي الفيكتوري القديم لكندا الذي يتلاشى ببطء أمام سكان المدينة العالميين الأكثر تنوعًا في تورونتو.

قال ماونت: " "هناك سطر، وأعتقد أنه أول لقاء جنسي فعلي بينها وبين الدب حيث تقول [لو]: 'كلني، أيها الدب'"

"وأنت تعلم، اعتمادًا على كيفية قراءتك لها، إما أن تكون هذه هي أسوأ سطر في الأدب الكندي كله، أو أنها واحدة من أفضل الأسطر."

"https://www.cbc.ca/radio/ideas/why-the-classic-canadian-novel-bear-remains-controversial-and-relevant-1.5865107

 

ما بين رصيف الذكريات وآفاق الرؤى، تنطلق تجربة الشاعر الجزائري بادر سيف، في ترجمتها للحالة النفسية المثقلة بحمولة السلبي، ما استدعى نظير هذه الصرخة التي تعزّز إيقاعاتها هوية المكان/ الانتماء.

تجربة تنثر الجمال، وإن جدّفت الذات الشاعرة، ضمن حدودها، على قدر معين، ومنسوب تصاعدي، من الضبابية في تلوين المعنى والصور.

نقتطف له التالي:

لا توقظ خيولنا العصية لنضطر للرحيل

فنحن غبار مدن عابر

وقصائد من مربع ماء راكد

أيها الليل يا باب الضيافة والحلم

كسر أنياب الفجيعة فجرا

فالأطفال على عجالة من أمرهم

يسرقون خوخ نملة صائمة

ونحن نعد حناجر الشواطئ المتيبسة

أيتها الانجم الصادق عشقها لصراخ الأعنة

إن المطر أمسكه رأس اللغة

فلا تقسمي رغيف الطمس

يا لغة الخيل

وشرفات الدهشة

إني أتشبث بشرفات الأرقة

لا أستسلم للريح.

ولكن يظل يشفع لهذا الخطاب القِناعي، وإن كان يروم عملية تواصلية يهيمن عليها الطابع الحِجاجي الإقناعي، موروث البكائية والانكسار، الشيء الذي يدفع بالشاعر إلى اللوذ بمعجم الإغراق في الغموض، بما يتيح تمرير هذا الزخم من الصور الغاضبة جدا، وعلى الشاكلة المروّحة عن اختناقات أصوات متعددة، قد تختزلها الشخصية الواحدة، في السياق السردي للمنجز، في كليته. يقول:

عن رقيم المسقط

كي أعيده إلى صنوبرة المزار

ليشفي الكوكب الرضيع

من غصة بفعل ريشة الريح

ومتلازمة الإشارات...

في الطريق إلى صينية الجوى

أفرك تفاحة الجسد المهادن

أنبش هبوط الدمعة

إلى مسارب الأيك عله المساء يعيد للأسماء  

 لون الصباحات

علها المدن السابحة في رونق الهباء

تستلطف كياسة الخدر أحصي أجراس النهر

نمير الموج

أرتب رفوف السماء المتوجة

بنوارس من نور

أذكرها بهديل الانتساب لقشيب الينابيع

ثم في الطريق أسهر مع عكاز التاريخ

أعيد له كيمياء الشعر

ومنطق الاتكاء على رابية النسيان

كي أزيل غبار المادة

عن وردة شكلتها من نغم الأيام

وذلك الزمن يغرد

لا حرف الشفاه

لترتطم ثورة الغيب بمتاريس

العسجد المتهالك على شرفات الأبجدية.

هذا التصوير الفني المكثف، المفروض، والذي لم يُجترح قط من باب المجانية، أو ما يشبه الدّعاية، إنما انرسمت ملامحه، حتّى يكون في مستوى صرخة انكسار هوية كائن مقموع ومجروح في انتمائه، يحاول أن يتشبث قدر الإمكان بـــــ" ثالوث التملك" كما ذكرته الشعرية هنا:

ـــ أنا الشاعر.

ـــ أنا الوطن (جبل سردون).

ــــ أنا الضمير الجمعي المغيّب.

كل ذلك كي يخيم العطش الوجودي، بمفرداته القاهرة، والتي لن بعالجها سوى ديدن إدمان الشعر، ومقامرة الحياة به، في بلوغها من الظلامية والتخشب، ما يتحقق له منتهى الإحباط والانشطار، بل وحدّ المكاشفة الوجدانية التي تبدو لها هذه الحياة، بلا روح تذكر، أي في أقصى درجات التصوير المشفّر والمبهم لدوال الموت. ويقول أيضا:

ترثي صيفا يكاد يمضي نصفه

وبيدر الأسرار

ألوذ بنصوص الكناية الكئيبة قرب

طمي النخل

لأبتر ذراع زمن ...وناب ذئب أدهشته زفة النهار

هذا المساء قهوته البريئة

أركب الطواحين من أجنحة الورق

والريح ثكلى

تبكي يوميات من عالم الأمطار

لأغازل مصاعد اللغة المنهكة.

تجدر الإشارة إلى أن هذه المجموعة تقع في94 صفحة من القطع المتوسط، وتضمّ 19 نصا، بين المطولات والمتوسطة الطول.

صمم غلاف الديوان الشاعر والفنان المغربي نور الدين الوادي. اما لوحة الغلاف فتعود للشاعر والفنان المهجري مهدي النفري.

***

شاعر وناقد من المغرب

..........................

هامش:

انظر نشيد سردون (مجموعة شعرية رقمية) لمؤلفها الشاعر الجزائري بادر سيف، منشورات عبور الثقافية، 2024، المغرب.

يرى الكثير من النقاد بأن الصورة الشعرية في النصوص واحدة من المعايير التي يُحكم بها على أصالة التجربة الشعرية، وعنصر من عناصر الإبداع في الشعر  وتضفي على القصيدة او النص بُعدا جماليا وطاقة ايحائية  تعبّر عن تجربة الشاعر واحتدام مشاعره السيكولوجية والتي يعكسها باستخدام الإنزياح الاسلوبي لضمان تفاعل المتلقي مع تاويلات نصه من خلال التفسير والكناية والمجاز واستخدامات زمن الفعل …. إلخ،  في مسعى لتوظيف الصورة الشعرية التي تتباين من شاعرٍ الى آخر، بل هي التي تؤطر بُنية القصيدة بكاملها وتستعين بإيقاعها الداخلي للتأكيد على مهارته وموهبته وبراعته  الشعرية .

أسوق هذه المقدمة لكي أبدأ بها قراءتي لنصوص المجموعة الشعرية للشاعرة عالية ميرزا الموسومة (68 شهوة بيضاء) والتي تضم ثمانيةً وستون مقطعاً تشكل بمجملها كتلاً مرصوفة من الصور المستلهمة من خيالها ببراعة مدهشة وقدرة اخاذة ممزوجة بفيض من الجرأة والوضوح فضلاً عن تحميل الكلمة بالدلالات والمعاني الى أقصى مداياتها المتاحة . وبفعل البيئة الفكرية والاجتماعية التي عاشتها الشاعرة في المهجر فإنها اكسبتها مساحة واسعة من الانفتاح والانعتاق من الكوابح والقيود الاجتماعية التي أثرّت تجربتها خلافا للسائد في مجتمعاتنا الشرقية التي تتسم أغلب نتاجات العنصر النسوي فيها بالتورية والرمزية  والانكفاء على الذات:

في المرة القادمة عندما نلتقي

اعلمك ثقافة إهداء الزهور الصباحية

واقود اصابعك لتكتشف كالاعمى

خريطة جسدي بحواسك الاخرى

لتصل الى عوالم لم يطأها قبلك أحد !

وتجوس عالية في تقنيات اللغة الشعرية وتركن الى  التشبيه التي هي من أقدم الوسائل الفنّيّة في بناء الصورة الشعريّة وتحديد أبعادها، فتهرب من الذاكرة وتحيل الوقت الى سائل، وتجعل من الضوء كائناً ذي حركة  بل وتحيل الانتظار الى جمرة من النار لتمزج هذه التشابيه في مقطع يموج بالحركة ويمور بالحيوية:

أُراوغ ذاكرتي كي لا أنهمك فيها

فينساب الوقت ويتبع ضوء

مُرتد للفضاء

أطارد ظلك الموشح بهالة

الشبق المنفلت من روح إلهٍ تمرد

وتنازل عن عرش إلوهيته

ليتذوق لسعة جمر الانتظار.

من الواضح إتكاء الشاعرة التام على الفعل المضارع في نصوص المجموعة  في تكوين الصّورة الشعريّة التي تُعدّ الرّكن الأساس في البناء الشعريّ لتوظيف الإمكانات الزمنيّة له في السياقات التركيبيّة للبنية  اللغوية للمجموعة من منطلق  قناعتها  بأن هذا الفعل الأثير ليس لديها فحسب بل ولدى جمهرة واسعة من الشعراء لإضفاء سمة الاستمرار والتجدد على النص والتعبير الدقيق عن مكنونات الشاعر نفسه  في زمنه الحاضر في منحى لمزج ذات الشاعر مع المتلقي بحيث يكوّنان معا نسيجاً مشتركاً من المعاناة والمكابدة او الفرح والحب الغامر مثل (أعلمك، أقود، أستعير، أحملها، أعبر بها، أخبئها، ألتقط، أصونها...) وحشد كبير من مثيلاتها في جلّ النصوص:

من الشمس أستعير

حفنة دفء

وخصلة من جديلتها

أحملها في حنايا الروح

كذكرى الوطن عند الغريب

اعبر بها الحدود نحو المحال

أخبئها تحت جلدي

أخبئها   ...  في الجانب الأيسر من صدري

ألتقط أحلامي التي ارتكبتها خلسة

أصونها من فم العتمة  !

لكن غربة الروح ومكابداتها لا تحول دون خلق مساحات شاسعة من الرقة والرومانسية في نصوص المجموعة   فترتقي عالية بأدواتها التصويرية ولغتها الدافئة نحو الركون الى أعماق القلب،  وتتجاوز الصيغ السطحية المبتذلة  فتحيل كلمة (أحبك)  الى طاقة حسية تنبض بالمناجاة  والتعاطف والرجاء، بل إن سحر هذه الكلمة قادرعلى ان يخوض مديات التجربة ويغير من طبيعة الموجودات المادية من حولها:

حين أقولُ أحبك

تلبس الكلمة حلتها

لتهرب من شفتي

وتسكن زاوية بعيدة من قلبي

أنتشل نفسي

أتلاشى فيك

فيغير النهر مجراه

تسبقني الصفصافة

لتقف أمامي وتلفني بظلها

فأهمس باسمك  !

وتمضي عالية في سعيها المحموم للتشبث بالأرض التي لا تشعر بالإنتماء إليها هناك في المهجر، فتقع في حيرة الاختيار بين الريح المنسلة من بين أناملها وبين ذرات الرمل التي تتحايل عليها  لتحشرها  في  محبس الزمن  لكن وجع الانتظار يلسعها وهي تترقب إنقضاء  فوضى الحبيب للعودة الى دفء السكون، وهي تستعين بلغة صافية وموحية  ترسم عبرها  صورة شعرية لتحافظ على إصرارها الذي لا يلين:

أتشبث بذيل الريح

ناسية أصابعي

وهي تطارد ذرات الرمل

أضعها عنوة في قنينة الوقت

لتطفو فوق الغيم

أترقب طيفك المنفلت من قبضة

فوضاك المتمردة

أغريه بخصر ساعة الرمل

ليستكين .

ورغم قدرة الشاعرة  على التعبير عن مكنونها الداخلي بإستخدام  تقنيات الصورة الشعرية بإقتدار واضح، إلا ان بعض نصوص المجموعة  تلكأت في اللحاق ببراعتها  وعانت  من تكرار المرادفات التي أضعفت مقاصدها رغم  محاولتها إستلهام   بعض الوقائع المحورية كمحنة الخروج من الجنة  فعادت في العديد من نصوصها  الى مرادفات المطاردة  والزمن والاستكانة  والظل والرمل والفوضى وغيرها، بل والإحساس بالتوتر نتيجة  ترويض جموحها وتعاملها مع الحدث الآني بفوقية بينّة:

لا هدنة مع الوجع

أتكور في جحرٍ

أدخل في سبات الأفعى

أطارد غفلة أمواج البحر

بين المد والجزر

أصطاد الوهلة

من غفوة الزمن

لأروض اللبوة في صدري

كشرنقة منسية

ألف ظلاً حول ظلي

لتستكين على ورقة توت

هاربة من الجنة.

ولأنها تتجرع جائحات  الغربة عن الوطن والأحبة  بوجع  ظاهر، فهي مع تأكيد الحاجة الى التلفع  بأعباء التعبير الصوري تتناول معاناتها وتوقها الى حضن الوطن  البعيد  بأسلوب سردي  مباشر ا لم يؤثر سلباً على ميزة  المجموعة  التي حفلت بالصور الشعرية الشفافة التي هي من أبرز سماتها:

في المكان نفسه

أجلس على طاولتي المنزوية

في الركن للمرة بعد الألف

أنتظر بعضاً من الشمس

الهاربة من بوابة الشرق

لعلها تحمل ومضة دفء

بين خصلات جديلتها

لتذيب صقيع الشمال

أمسك الزمن من عنقه

ليكف عن التثاؤب والهذيان

ثم أطوي وحدتي في كتابي

وأمضي ...

وفي خضم جحيم الانتظار واللوعة لا تزال  عالية تتمسك بأملها الضائع بين الشظايا والمدن الأفلة خلف الضباب والريح المجنونة والموج الصاخب والانتظار الممض ليأتي الغائب الحاضر ويأخذها خلف المسافات  أو على متن غيمة مطيرة تحمل معها مفاتيح الرجاء  والرخاء معاً:

خذني غيمة شاردة

لسماء قلبك

أو قبضة قمح

زادا لمواسم القحط

وشحة الشجون .

وهكذا فإنها أسرفت في إعتمادها التشابيه الاستعاريّة كما في النصوص المماثلة في المجموعة، لتعيد إلى التشبيه فاعليّته في خلق الومضة الشعرية، ورفد الصورة بعناصر التخيّل الابتكاريّ والابداعي .

***

محمد حسين الداغستاني

تنتمي روايةُ (الحفيدة الأميركية) للروائيةِ العراقيةِ المغتربة إنعام كجه جي، نسبياً  إلى الأدبِ  الذي يتناول الإرهاب اليومي في العراق. عنوانُ الرواية يمارسُ غوايتهُ في قراءةِ الروايةِ والبحثٍ فيها، لاسيما تعالقُه بالحدثِ المهمِّ في تاريخ العراق، ألا وهو الاحتلال الأميركي عام 2003.

الوضع العراقي المعقَّدُ والملتبسُ ومخلفاتُ النظام الدكتاتوري المباد، خلقت حالةً أشدَّ حراجةً في تاريخ المغتربين العراقيين في المنافي، وبعضهم لاجئون عراقيون في أميركا فرّوا في سنوات التسعينيات من القرن الماضي أو قبلها، حصلوا على الجنسية الأميركية. تغوصُ الروايةُ في إشكاليةِ الهويَّةِ بين وَطنين مُختزلين في صورتي الحلمِ الأميركي والحنينِ العراقي، ولمن يتغلب الولاء في النهاية.

الحفيدة الأميركية هي (زينة) بطلة الرواية الشابة، حفيدةُ عقيدٍ في الجيش العراقي، وأبوها مذيعٌ في ذلك العهد، يُسجن ويُعذَّب إثر وشايةِ أحد زملائه في العمل، حين تذمَّرَ من طولِ نشراتِ الأخبار ومللِ الناس منها، قرَّرَ بعدَ خروجهِ من السجن، مغادرةَ العراق نهائياً، هو وزوجته وابنتهما بطلة الرواية وأخوها، ألم نقلْ إن كلَّ مشكلاتِنا عقّدها النظامُ المباد.

تعمل الحفيدةُ على العملِ كمترجمةٍ في صفوف الجيش الأميركي المتواجدِ في العراق، متنقلةً بين مدينة تكريت- مركز محافظة صلاح الدين- والمنطقة الخضراء في العاصمة بغداد، بالإضافة إلى مدينة  الموصل-مركز محافظة نينوى، تسعى متنكِّرةً إلى لقاء جدتها (رحمة) التي بقيت في بغداد. وبعد ما علمت الجدَّة بطبيعةِ عملِ حفيدتِها لامتها أشدَّ اللوم على عملها هذا، عَدَّته خيانةً للوطن، مثلما تنقلُ البطلةُ  أصداءَ تجنيد العراقيين المقيمين في ديترويت، كمتعاقدين في صفوف القوات الأميركية، التي ستُسقط نظام الحكم البعثي في العراق. أصداءٌ هي صراعٌ بين هويتين، فتقول: "أناس يشجِّعون ويزيِّنون التجربة، وأناسٌ يديرونَ الوجوهَ ويبصقونَ ويحذِّرون من خيانةِ الأرض، التي شربنا من دجلتها وفراتها، حتّى ولو لصالح أرضنا الجديدة التي تسقينا الكوكا كولا صباحَ مساء": الرواية- ص 17 .

لكنَّ بطلةَ الروايةِ لم تقتنعْ بعدمِ صوابِ حماسها للعمل كمترجمة، فهي تسهمُ في تغييرِ الحالةِ العراقيةِ، فضلاً عن إيفاء دينٍ للوطنِ الجديد أميركا، واعتباراتٍ شخصيةٍ  مثل تحسينِ الوضعِ المادي، إذ تعاقدَ المتطوعون برواتبَ مغريةٍ جداً، تجعلهمْ  يتجاهلونَ مخاطرَ الموتِ أو الإعاقة، إنَّها باختزال؛ المغامرة. بل تعتبرُ نفسها، موقنةً من ذلك أشدَّ اليقين بأنها" ذاهبةٌ في مهمةٍ وطنية": ص18

ومن الملاحظِ أنَّه كلَّما برزتْ مجسّاتُ الصراعِ بينَ الهويَّتين، تبرّرُ لذاتها، بأنَّها ستخدمُ وطنينِ في مهمتِها تلك، وتريدُ كجه جي من ذلك صعوبة إقناع القارئ من قبل البطلة بذلك. فهي مؤمنةٌ بالوهمِ الأميركي، بأنَّ أوضاعَ العراقيين ستتحسنُ حالاً، ويتمتعونَ بالحريةِ، والرفاهية، فحتى الشيخ سيعودُ صغيراً. ولكنَّه الوهمُ المبطَّنُ بالإغراءِ المالي الخيالي.

ولأجل خلقِ عمقٍ في الإقناعِ الذاتي بالمهمة المقبلة، تتذكَّرُ أحداثَ 11 ايلول 2001، حينما صُدم الأميركان بما جرى، فهي ترى أنَّ عمقَ مهمتها مرتبطٌ بمكافحةِ الإرهابِ وداعميهِ في كل مكان، من أنظمةٍ شموليةٍ قامعةٍ للحريات، مثل النظامِ الصدامي في العراق آنذاك. ومن هنا تبريرنا في زجِّ الروايةِ في  دراساتِ هذا الكتاب، بوصفِ مهمةَ البطلةِ بأنَّها تسهمُ في الحربِ ضدَّ نظامٍ إرهابي،  بتقدمِ فصول الرواية نشعرُ أنَّ البطلةَ تشعرُ أنَّه من الضرورةِ الفصلَ بين النظامِ والشعب، وبأنَّ ليسَ كلِّ قطاعاتِ الشعبِ تؤيُّد تلكَ الطريقةِ في إسقاطِ النظام، ويَعدُّونه غزواً ليس إلاّ.

نرى البطلة أيضاً  في حالةِ هبوطٍ معنويٍّ مستمرٍّ سببهُ الخسائرُ المتصاعدةُ في صفوفِ الأميركيين، وكذلك الشحذُ المستمرُّ لمشاعرها الوطنية إزاء بلدِها الأوّل، بعدَ كلِّ لقاءٍ مع جدَّتِها (رحمة).

 ولكي تُحسنَ  كجه جي، التي رُشِّحت روايتُها (النبيذة) إلى القائمةِ القصيرةِ لجائزة البوكر العربية لعام 2019، في نسجِ خطوطٍ متقنةٍ تصبُّ في خلقِ انقلابٍ نفسي وتحولاتٍ نوعيةٍ في حياةِ البطلة، زجّتْ بساردٍ عليمٍ، لن يظهرَ كثيراً في الرواية، عبر شخصيةٌ تسمّى المؤلِّفة، وكأنَّ البطلةَ انقسمتْ بين ذاتين؛ الراوي العليم المتجسِّدُ فيها وذاتُها الأخرى المؤلِّفة، فتناكدُ  تلك المؤلفةُ البطلة، وتتّهمُ الأخيرةَ بإزعاجها، وأنّها تفتعلُ المواقفَ لكيْ تكتبَ روايةً وطنيةً على حسابها.

هناك خطوطٌ سرديةٌ أخرى تمثِّلُ طبيعةَ التعايشِ والانسجامِ بين المكوِّنات العراقيةِ منذُ القدم، (طاووس) مثلاً، امرأة مسلمة من مدينة (الصدر) تعمل كخادمةٍ شاملةٍ تعتمدُ عليها عائلةُ (زينة) المسيحية في كل جوانب حياتها، وإذ تُصابُ والدةُ البطلة، ب (التيفو)، تُرضع طاووس زينة عندما كانتْ طفلةً  بعمر شهرين، فيصبح أبناؤها الستة إخوةً لها, أحدهم واسمهُ (مهيمن)، فوجئتِ البطلةُ بمعاملتهِ لها كأخٍ كبيرٍ لها، وتعلّقتْ به بما يشبه خروجاً عن الحبِّ الأخوي، ولكنَّه ظلّ أخاً حنوناً على الرغمِ من عدم رضاهِ عن عملها مع الجيشِ الأميركي.

مهيمنُ والجدةُ التي تموتُ بحسرتِها من مأزقِ حفيدتها، كما تقول زينة، جعلاها تقرِّر عدمَ تجديد عقدها والعودةَ إلى أميركا. كما انتصرتْ ذاتُها الأخرى عليها كأميركيةٍ متمأزقةٍ بين وطنين: "تعبتُ وتعبَ مني الكمبيوتر. ضاقَ بطباعِ المؤلفة. أرادتْ أنْ تلحقَ بي إلى ديترويت. تتبعنُي حتى آخر رمقٍ. تسجّلُ اندحاري قبلَ أنْ تنهضَ عن طاولةِ الكتابة. تمطُّ ذراعيها وتفردُ ظهرَها وتصفِّق جذلاً. تشربُ نخبَ انتصارِها على الحفيدةِ الأميركية"  ص193.

***

باقر صاحب - شاعر وكاتب عراقي

 

قراءة نقدية مسافاتيّة في النص الشعري الموسوم (ثلاث قطرات من ندى فرات السماوة) للشاعر يحيى السماوي.

***

- مسافة النص:

(ثـلاث قـطـرات من نـدى فرات السماوة)

(1)

مـا حـاجـتـي لِـ " بـسـاط الـريـح "؟

خـذوا " الـريـحَ " لـكـم

واتـركـوا " الـبـسـاطَ " لـي ولـحـبـيـبـتـي ..

*

(2)

لا أتـمـنـى أنْ يـكـونَ لـي جـنـاحـان قـويـان

فـحـبـيـبـتـي تـقـيـمُ فـوق الأرض ...

لـذا أتـمـنـى امتلاك:

قـدمـيـن قـويّـتـيـن

تـقـطـعـان الـطـريـقَ الـمـمـتـدّ مـن أحـداقـي

الـى وجـهِـهـا!

*

(3)

قـالـت لـيَ الـحـديـقـةُ:

الـريـاحُ أفـضـلُ سـاعـي بـريـد

بـيـن الـمـيـاسـم والـتـويـجـات!)

- مسافة إستهلالية:

إنَّ الكتابة الإبداعية بصورة عامة، والشعرية منها على وجه الخصوص هي عبارة عن ممارسات لفعل إحتجاجيّ لا يعرف التوقف أو المهادنة بأي شكل من الأشكال، وثمّة مسافات متعددة لذلك الإحتجاج: احتجاج ضد الواقع المظلم، إحتجاج ضد الوسط النخبوي الراكد ولا يتقبل أن تلقى في مائه حجارة جمالية تحرّك دوائر الوعي لديه، واحتجاج ضد الذات أيضاً ليس بجلدها سايكولوجياً فحسب، وإنما لحّثها على ممارسة الإحتجاج الجماليّ لكي يضمن ديمومة وسلامة حركيّة الإبداع في كوامنه ذات الأغوار السحيقة، وهنا يحضرنا قول مهم للكاتبة الأسبانية آنا ماريا ماتوته حيث تقول:

(الكتابة إحتجاج متواصل، حتى لو كانت عن الذات).

ثمَّة دراما إحتجاجية تشي بالتوتر المستمر Constant Tension الذي يعيشه الشاعر-المؤلف-الممثل-المُخرج-المُنتج لخطابه الإبداعيّ شعراً إيقاعيَّاً أم نثراً فنيَّاً يركب بساط الشِعريَّة المدهشة. إنَّ الفعل الدراميّ بثيمته أو بنبرته الإحتجاجية يغري القارئ- المتلقّي على ملاحقة خيوطهِ، حتى لو لبس لبوس تقنية الرسائل المُضمَرة Mechanism of Implied Messages

كما نراه ونشعر به جماليَّاً في قصائد وومضات الشاعر المبدع يحيى السماوي الذي يغوينا سحر مراياه الشعرية Poetic Mirrors على قطع تذاكر الدخول لمسرح قصيدته لنرى ما نرى هناك من نفائس وكنوز ودرر شعريَّة تُعرضُ لنا فوق خشبةِ مسرحٍ جماليٍّ بامتياز.

في مسرح القصيدة ثمَّة مرآة جمالية تعكس ما يحدث في بؤرة النص، أي المسافة الجمالية Aesthetic Distance، وتلك المرآة تتحول إلى مرايا أخرى عاكسة لمفهوم المسافة وما بعدها، وهنا تحدث عملية تشّظي مسافاتيّ تعكسه مرايا النص، حيث تتحوّل المرآة الواحدة إلى مرايا مسافاتية تعكس للمتلقي تفاصيل ما يدور خلف الكواليس الدرامية من أحداث درامية ذات إيقاع مسرحي يوقظ وعي القارئ-المتلّقي، ويلقي في بؤرة وعيه الراكد أحجاراً جماليّةً تجعله يعي ويطلق العنان لمخيلته أن تتصوّر ما يجري هناك، وتحثه على أن يفتح ستائر مسرحه المُتخيَّل، ويكون في تلك اللحظة الجماليَّة شريكاً وفاعلاً فعّالاً بما يُعرَض من أفكار ودلالات وإشارات تُجسَّدُ دراميّاً فوق خشبة مسرح القصيدة.

- مسافاتيَّة العنوان:

(ثلاث قطرات من ندى فرات السماوة)

وفقَ ما نرمي إليه في نظرية المسافاتية، نرى أنَّ عنوان الخطاب الشعري، قصيراً كان أم طويلاً، يشكّل البؤرة الجمالية أو المسافة الجماليّة التي يتركها مبدع النص للقارئ الجماليّ Aesthetic Reader لكي يلجَ في طبقات النص المسافاتيَّة، أو يغور بعيداً وعميقاً في غابة النص ذات المتاهات المتشابكة كأغصان أشجار تلك الغابة المُتَخَيَّلة، ليكتشفَ الأسرار الجماليّة الغائرة هناك، وهذا الأمر قد يلتبس على القارئ العادي Normal Reader الذي عادةً ما يمرّ بالنص مرور الكرام، ولا يَبذلُ جهداً بالكشفِ عن خفاياه، وإذا ما حملنا عدّةَ القارئ الأول: القارئ الجماليّ، الذي تهمُّهُ عملية مغامرة الغوص بعيداً في مياه النص، ليشاركَ مُبدعَهُ لذّة إكتشاف البنية الدرامية العميقة للنص، نجدُ بأنَّ الشاعر الفذ يحيى السماوي قد أسّسَ لمسرح قصيدته إنطلاقاً من العنوان: (ثلاث قطرات من ندى فرات السماوة)، حيث نرى، وفق منظورنا المسافاتيّ، بأنَّ القطرات الثلاث سيشكلّنَ مسافاتٍ دراميّة ثلاثا، بمعنى أنَّ كل قطرة تمّثل مشهداً مسافاتيّاً متحرّكاً، بل كل قطرة تصبح شخصيةً مسافاتيّةً مطلوبا منها أن تؤدّي دورها الدرامي فوق خشبة مسرح القصيدة، ويمكن للقارئ الجماليّ أن يتخيَّلَ بأنَّ القطرات الثلاث: بنات ثلاث ولدن من رحم الأم-الندى وأبيهنّ الفرات، وبيتُهُنَّ الجماليّ Aesthetic Home هو مدينة السماوة، ولا غرابةَ في الأمر، إذا ما أخذنا المخيالُ بعيداً في تصوّر ذلك البيت- المسرح، حيث يقول الفيلسوف والمفكر الجماليّ الفرنسي غاستون باشلار:

(يجسّد البيت إحدى القوى الكبرى التي تمزج بين الأفكار والذكريات، وكذا الأحلام الإنسانية، فيمثل حلم اليقظة مبدأها الرابط).

وهنا يكون كل مقطع من مقاطع النص عبارة عن مسافة جماليّة حُلُميَّة تضمر في طيَّاتها الكثير من الأسرار التي تُعرَض كأحداث مسافاتيّة دراميّة من على خشبة مسرح القصيدة.

- المسافة الأولى:

مـا حـاجـتـي لِـ " بـسـاط الـريـح"؟

خـذوا " الـريـحَ " لـكـم

واتـركـوا " الـبـسـاطَ " لـي ولـحـبـيـبـتـي ..

يدخل الشاعر هنا (أو صوت الشاعر المسرحي) مخاطباً جمهور القرّاء في مسرح قصيدته، أو ربما جوقة أخرى مُتخيَّلة تقدّم له بعض الإغراءات لكي يمتطي صهوة (بساط الريح)، ويرحل بعيداً عن سمائه أو أرضه الأولى، وإذا ما كانت صورة (بساط الريح) تأخذنا أو تحلّق بنا في سماء التراث حتى لو كنا نطير بأجنحة الخيال، كما يرى الفيلسوف إفلاطون بأنَّ (الشاعر كائن خفيف الأجنحة)، والشاعر هنا يحتّج متسائلاً: (ما حاجتي لـ "بساط الريح"/ خذوا "الريحَ" لكم/وأتركوا "البساطَ" لي ولحبيبتي...).

إنَّ إحتجاج الشاعر الدرامي يؤسس لما يمكن أن نسمّيه بـ (درامية الإحتجاج Dramatisation of Protest) والتي يترجمها جماليَّاً من فوق خشبة مسرح قصيدته، إذْ يكون إحتجاجهُ إحتجاجاً مسافاتيَّاً، أي يمكن الرجوع إلى قراءة محمولاته ودلالاته من خلال التزوّد بزاد المسافة الجمالية Aesthetic Distance، فهي المستودع الجماليّ الذي نأخذ منه ما يكفينا من مؤن الخيال التي تغذّي أفكارنا وتمدُّنا بالطاقة الجماليّة التي نحتاجها لإتمام طقوس تلك الرحلة في مسرح القصيدة. وعندما نتحدّث عن شخصيات Characters المسافة الأولى أو المشهد الأول التي يقدّمها الشاعر من على خشبة مسرحه الدراميّ، نجدها كما يلي:

 (أنا الشاعر وهي مسافاتية بإمتياز: أنا الشاعر-أنا الراوي-أنا الممثل-أنا المخرج-أنا المنتج)، وكل (أنا) تمّثل مسافة بحد ذاتها، أما شخصية "بساط الريح"، تلك الشخصية المركّبة، تتحوّل فيما بعد إلى شخصيّتين بارزتين في مسرح القصيدة هما: البساط، والريح التي تتكرّر ضمنيّاً في المشهد الثاني، وتعود لتطّل علينا بصوتها الجماعي الإحتجاجيّ في المشهد الأخير، وكذلك تظهر لنا شخصية محوريّة يتكرّر حضورها الدرامي في المشهد الثاني والثالث على حدّ سواء، ألا وهي شخصية الحبيبة.

 - ثيمة الإحتجاج في المشهد الأول:

تتجسّد صرخة الشاعر الإحتجاجية في المشهد الدرامي الأول عبر عبارة: (ما حاجتي لـ "بساط الريح"؟)، إذْ يطلب منهم أن يفصلوا ما بين الشخصيّتين الدراميّتين المحوريتين: البساط، والريح، وللبساط دلالة فلكلورية ورمزية تراثية ووطنية، فهو لا يريد لبساط الريح، وإنْ كان نتاج مخيَّلة ميثولوجية Mythological Imagination، أن يبعده عن حبيبته الأولى: السماوة، الأم، الأرض، الوطن، العراق وهو ينعم ببرودة ندى الفرات الذي يراقب من خلف الكواليس ما يدور من أحداث فوق خشبةِ مسرح القصيدة.

- المسافة الثانية:

يقول الشاعر-الراوي-الممثل-المخرج-المنتج للنص الدرامي:

(لا أتـمـنـى أنْ يـكـونَ لـي جـنـاحـان قـويـان

فـحـبـيـبـتـي تـقـيـمُ فـوق الأرض ...

لـذا أتـمـنـى امتلاك:

قـدمـيـن قـويّـتـيـن

تـقـطـعـان الـطـريـقَ الـمـمـتـدّ من أحداقي

الـى وجـهِـهـا!)

وقبل الوصول إلى مسافة البنية الجمالية للمشهد الدرامي، ربما تستوقفنا مسافة من نوع آخر، ألا وهي المسافة التأملّية للشخوص التي ستؤدي دورها المسرحي من فوق خشبة مسرح القصيدة بمواجهة جمهور القراء الذين يطّلعون على النص، أو أولئك الذين يجلسون في المقاعد الأمامية من مسرح خيال الشاعر وهي تبدو لنا بالشكل التالي حسب ظهورها على الخشبة الإفتراضية:

- أمنية الشاعر التي يجسدها الفعل المسبوق بـ (لا الناهية: لا أتمنى) وتلك تقودنا إلى ثيمة النفي والإثبات فهو لا يتمنى أن يكون له جناحان قويان، وهنا نلتقي بالشخصية الثانية:

- جناحان قويان: علامة الطيران والبقاء بعيداً عن الوطن.

- حبيبة الشاعر التي تقيم في الأرض.

وهنا ثمَّةَ صرخة إحتجاجية مُضمرة تجسدها عبارة: (حبيبتي تقيم في الأرض...)، وأيَّة أرض؟ أيَّة مسافات لنا أن نتخيّلها في تلك النقاط الثلاث(...) والتي تلعب أيضاً دورها السيميائيّ في مسرح القصيدة؟! إنَّ النقطة هنا علامة دراميّة مُتخيَّلة تخرق مخيّلة القارئ-المتلّقي، أو ما يمكن بتسميته بجمهور مسرح القصيدة، وتهّز الإسترخاء الذهني لديه، وتجعله متوّثباً على الدوام لأي دور جماليّ يتحتم عليه تأديته هو الآخر، أي تجعله يتفاعل مع دراما النص، ويكون على أتمّ الجهوزية والاستعداد لملء الفراغ المسافاتي، بما يريد أن يدخله من أفكار أو كلمات تحلّ محل مسافات النقاط المذكورة، حيث كل نقطة تكون مسافة، وثمَّةَ مسافة ما بينها وبين المسافة الأخرى.

-الطريق، هنا، شخصيّة مسافاتيّة تلعب دورها الدرامي الخاص بجماليَّات المكان.

-الأحداق: بمظهرها الجمعي لا تكون خاصة بحبيبة الشاعر كصورة إنسانية، وإذا كانت كذلك لجعلَ الطريقَ يمتّد من حدقتي عينيه، لكن ثمّةَ تحوّلات درامية تصنعها كلمات ذلك المشهد المسافاتيّ بإمتياز، فكلّ الأحداق التي يمتلكها الشاعر: حدقتي عينيه، وحدقات عيونه الإبداعية، بوصفه شاعراً ودراميَّاً وممثلاً مسرحيَّاً ومخرجاً ومنتجاً، وبغضّ النظر عن وجود تلك المسميَّات من عدمها في سيرته الشخصية، نحن هنا نتحدث عن فاعليَّته الجماليَّة في مسرح قصيدته لأنَّ حدقات تلك الشخصيّات مجتمعةً ستتجّه صوبَ وجه الحبيبة-الأرض-السماوة-الأم-رفيقة درب العمر الطويل.

- المسافة الثالثة:

يقول الشاعر-الراوي مخاطباً جمهور مسرح قصيدته:

(قالت ليَ الحديقة:

الرياحُ أفضل ساعي بريد

بـيـن الـمـيـاسـم والـتـويـجـات!)

ولو سلّطنا الضوء على شخصيّات المشهد المسافاتيّ الأخير، نرى من الممكن أن نقرأها على النحو التالي:

- شخصية الشاعر-الراوي من خلال عبارة (قالت ليَ).

الحديقة: شخصية دراميَّة جديدة تظهر على خشبة مسرح القصيدة لأول مرة. والحديقة هنا رغم حضورها الجماليّ في مسرح الحياة الواقعي، وفي مسرح المخيّلة أيضا، يترجم وجودها في المشهد الدرامي الأخير فعلاً إحتجاجيّاّ وإن جاء ضمنيّا هذه المرّة، فهي تهمس بإذن الشاعر-الراوي وتخفّف بعض الشيء من حدّة التوتر الدراميDramatic Tension لديه، وإن كان المشهد يتطلب تلك الحدّة من التوتر، وبهذا الفعل الإحتجاجي الهادئ تغيّر شخصية (الحديقة) من نظرة الشاعر-الراوي (للريح) التي تحدث تغيّراً مسافاتياً لتحوّلها من دورها الفردي إلى دورها الجماعي، حيث كانت في المشهد الأول شخصية منفردة بعد فصل جسدها عن جسد (البساط) لتكون هنا شخصية جماعية اسمها:

- الرياح: شخصية إيكولوجية Ecological Character محوريَّة سبق لنا، كجمهور مسرح القصيدة، أن التقينا بها في مسافة المشهد الدرامي الأول وهي ترتدي بدلة الميثولوجيا الشعبية Popular Mythology ممثلةً بـ (بساط الريح)، وفصلها الشاعر عن (البساط) لتعود شخصية إيكولوجية فردية، أي أصبحت شخصية تؤدّي دورها البيئي حسب مقتضيات الفعل الدرامي المطلوب تأديته من فوق خشبةِ مسرح القصيدة، بيدَ أنَّ دورها الإيكولوجي الجماعي يتحوَّل، حسب نظرية التحوّل المسافاتيّ: أي نظرية تحوّل المسافة إلى مسافةٍ أخرى مختلفة عن بنيتها الدراميّة الأولىDramatic Structure، إلى دور شخصية أخرى، بمعنى إنَّ شخصية (الرياح) البيئية Ecological تتحوّل أمام أنظار جمهور مسرح القصيدة إلى شخصية إنسانية يكون إسمها الدرامي في هذا المشهد المسافاتيّ الأخير:

- ساعي البريد: إنَّ شخصية (ساعي البريد) رغم حضورها المجازي Metaphorical Presence هنا، إذا ما قرأناها بلغتها الشعرية قبل تحوّلها إلى لغة درامية مسرحية، تلعب دوراً جماليّاً مزدوجاً Double Aesthetic Role في مسرح مخيلتنا الإفتراضي، فهي شخصية إنسانية لعبت وتلعب دوراً مهماً في مسرح حياتنا الاجتماعية بشكل عام والعاطفية على وجه الخصوص، إذْ كانت توصل رسائل قلوبنا لمن نحب ونعشق، وتأتي الينا برسائل القلوب التي تحبنا وتعشقنا، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى إنَّ (ساعي البريد)، هنا، كما يريد له الشاعر- الراوي- الممثل-المخرج- المنتج يحيى السماوي، يضطلع بمهمة إيصال الرسائل الجماليَّة التي تنتج لنا حياةً عطريَّة أو ثمريَّة، تجعلنا نشعر بالجمال ونتوّجه بالشكر والعرفان للرحمن العظيم الذي خلق كلَّ هذا الجمال بكلِّ تجليَّاتهِ المسافاتيّة، فـ (ساعي البريد) هنا يضطلع بدور مسافاتي جمعي، إذ تكون شخصيته فرديّة، لكن فعلها جمعي يتمثل بـ (الرياح)، والفعل الجمالي هنا هو فعل خالق ومنتج لحياة جديدة، فالدور التلقيحي للرياح وهي تجمع بين (المياسم) و(التويجات) وهي شخصيات تشارك لأول مرة في المشهد الأخير من مشاهد مسرح القصيدة:

- المياسم: شخصية إيكولوجية تنتمي لعالم الورد.

-التويجات: شخصية إيكولوجية تنتمي لعالم الورد أيضاً.

إنَّ الفعل الجماليّ لعملية التلقيح تشارك أو تشترك به الشخصيات الثلاث: (الرياح، المياسم، والتويجات)، والشاعر هنا يشتغل بوعي كبير على البنية النحوية للمفردات، حيث جعل منها شخصيات جماعية(الجمع) وليست فردية(المفرد)، لأن (الحديقة) وإن كانت شخصية فردية لكن تكوينها وبنيتها جماعية، بمعنى إن (الحديقة) منتج مسافاتي، أي تتكوّن أو تتشكّل بنيتها الجماليَّة من عدة مسافات، ولهذا يمكننا، وحسب نظريتنا المسافاتيَّة، أن نعتبر (الحديقة) كائناً جمعيَّاً مسافاتيّاً، حيث إنّ فعل التلقيح أنتجته شخصيات جماعية: (الرياح، المياسم، التويجات)، وبالنتيجة أنتج لنا (الحديقة) التي لا تتشكّل بزهرة أو وردة واحدة، بل بفعلٍ جماعيّ لزهرات أو وردات عديدة.

- مسافة الخاتمة:

من هنا، وتأسيساً على كل ما تقدم، نرى بأنَّ الشاعر الكبير يحيى السماوي يريدنا، من خلال البنية الدراميّة والجماليّة لمسرح قصيدته، أن ندركَ بإنَّ الفعل الجماعيّ الذي تشترك به شخصيات إيكولوجية وإنسانية سينتج لنا حديقة، والحديقة هي: الحبيبة (حبيبة الشاعر التي تعطى حياته عطراً عاطفيّاً بحضورها الورديّ في حلّهِ وترحاله)، وهي المدينة-الأم (السماوة التي يريد لها أن تكون حديقة غنّاء على الدوام)، وهي الوطن الحبيب(العراق: حديقة وجوده الإنسانيّ والشعريّ الذي شكّل هويته الطبيعية والإحتجاجيّة بوصفه إنساناً وشاعراً).

إنَّ الشاعر هنا، ينبّه جمهور مسرح قصيدته لأهمية الدور الإيكولوجي الذي تلعبه تلك الشخصيات وإسقاطاته الجماليَّة على الواقع الإنسانيّ، فهي شخصيّات مهمّة تؤدّي أدوارها الدراميّة والجماليّة، بفعل طبيعيّ أو إحتجاجيّ، ليس فوق خشبة مسرح النص الشعري السماويّ (نسبة للشاعر يحيى السماوي) فحسب، بل فوق خشبة مسرح الحياة.

***

بقلم: د. مسلم الطعان

 

عندما انتهيت من قراءة قصة "موعد ترجمة"، أثارت في نفسي تعجبًا عميقًا، فقد كانت القصة شيقة للغاية ودفعتني لأقول بالعراقي: "تخبّل"! لم أكن أعرف من كاتبها آنذاك، لكنها أثرت فيّ بشكل لم أتوقعه. لذا، كتبت رأيي الصريح في رسالة إلكترونية إلى الدكتور زهير ياسين شليبه، مشيرة إلى أن القصة، على الرغم من بساطتها كما تبدو من عنوانها، تجسد أسلوبًا ساخرًا وشيقًا وتصويرًا وسردًا بارعًا لأنها غير تقليدية. القصة تصور حدثًا واحدًا يعكس قضايا اجتماعية ونفسية وإنسانية بلغة مكثفة ومشوقة، حيث يلتقي القارئ بشخصيات متنوعة مثل الشيخ المغربي والشاب الدنماركي موظف القطار، والعجائز الدنماركيات، وخالته ووالدته وجدته اللاتي يستحضرهن من خلال ذكرياته عنهن. الشخصيات المتنوعة في القصة تمثل نسيجًا اجتماعيًا غنيًا، تمكن الكاتب من استكشاف تعقيدات الحياة والثقافة بطريقة تلامس إحساساتهم بعمق. من خلال الذكريات والمونولوجات، يتجول الراوي بنا في عوالمهم، كاشفًا عن التحديات اليومية والأوضاع السياسية بأسلوب يشبه تقنيات التصوير السينمائي. خلال قراءتي، شعرت كأني أخاطب زهير ياسين شليبه وجهًا لوجه، مؤكدة أن مؤلف القصة متمكن بشكل ملحوظ من فن كتابة القصة القصيرة، محددًا بدقة الزمان والمكان والشخصيات. بطل القصة، الذي يحاول بشتى الطرق الوصول إلى موعد الترجمة بدون تأخير، ينقلنا عبر معاناته من الأرق والإرهاق بطريقة تجعل القارئ يتعاطف معه بشدة. وصوله في النهاية إلى البلدية بلا موعد مسبق كما تهيّأ له، لكن ليجد نفسه مطلوبًا لترجمة أخرى حالة اضطرارية، هو تذكير بأن الصدف أحيانًا تقود إلى مسارات غير متوقعة. هذا الحدث يكشف عن المفارقة الرائعة في الحياة وكيف يمكن أن تتحول اللحظات العادية إلى نقاط تحول كبرى. القصة، بكل ما فيها من أحداث وتفاصيل وتصوير حيوي، لم تكن مجرد تسلية بل درسًا في التعاطف والفهم المتبادل من خلال أحاديثه الشيقة مع الشيخ بالدارجة المغربية ومزاحه معه ونظراته للعجائز الدنماركيات. أخيرًا، أشكر زهير ياسين شليبه على هذه التجربة الأدبية الغنية التي أثرت فيّ عميقًا وأكدت لي مرة أخرى أن الكتابة ليست فقط فنًا بل جسرًا يعبر به الإنسان إلى قلوب الآخرين وعقولهم. "موعد ترجمة" لم تكن مجرد رحلة عبر الصفحات، بل كانت رحلة عبر النفس والزمان، تخللتها طيات من التفكير والعبرات التي لا تُنسى. من الجدير بالذكر أن "موعد ترجمة" لم تكن مجرد قصة تتناول الأحداث اليومية، بل كانت عملاً أدبيًا يستكشف العمق النفسي والثقافي للشخصيات بطريقة تدعو القارئ للتفكير والتأمل. الطريقة التي تتعامل بها القصة مع موضوعات مثل الهوية، الانتماء، وتقاطع الثقافات قدمت لي نظرة متعمقة عن كيفية تأثير الثقافة في تشكيل الذات. كانت هذه الجوانب بمثابة جسور تربط بين عالمي الخاص والعوالم المعروضة في النص. في كل مرة كنت أتأمل في الحوارات والوصف الدقيق للأماكن والأشخاص، كنت أشعر بأن الكاتب ينقلنا، نحن القراء، إلى مركز الحدث، ليس فقط كمراقبين بل كمشاركين فعالين في السرد. هذه التقنية السردية لا تسمح للمرء بأن يظل محايدًا؛ بل تجبره على التفاعل مع الأحداث والشخصيات، مما يعزز الاتصال العاطفي مع القصة. التفاصيل الثرية والمشاهد المصورة كانت تعكس ليس فقط المهارة الأدبية للكاتب ولكن أيضًا قدرته على استخدام اللغة كأداة للتعبير عن مجموعة معقدة من المشاعر والأفكار. كل جملة كانت تبني وتضيف إلى الصورة الكبرى، مما جعل النهاية، على الرغم من بساطتها الظاهرية، تحمل وزنًا عاطفيًا وفكريًا كبيرًا. هذا التأثير العميق للقصة عليّ لم يكن متوقعًا، لكنه ترك في نفسي أثرًا لا يُمحى. القصة، بتناقضاتها وتقلباتها، كانت تعكس الحياة نفسها، مع كل تعقيداتها وجمالها. مما جعلني أتأمل في الدور الذي يلعبه الفن والأدب في تشكيل تفكيرنا وإدراكنا للعالم من حولنا. بعد قراءتي لهذه القصة، أصبحت أكثر تقديرًا للقصص القصيرة كوسيلة لاستكشاف القضايا الإنسانية العميقة في سياقات مكثفة وموجزة. إنها تذكير بأن الأدب لا يحتاج إلى الإطالة ليكون مؤثرًا؛ بل يمكن للكلمات المحسوبة والمشاهد المنتقاة بعناية أن تحرك العقل والروح على حد سواء.

والآن لنقرأ ماذا يقول كاتب قصة "موعد ترجمة" الدكتور زهير ياسين شليبه:

صحيح، انا ارسلتها لك مدعيًا انها لشخص آخر معجب بكل ما يكتبه، قلت عنه باللهجة العراقية ساخراً "كلمَن نغفته بحلقه حلوه.

وشرحتُ معناه، يعني، يصعب على المرء أحياناً ان يرى عيوبَه!

كتبتُ قصة "موعد ترجمة" بدون التفكير بأي خطة مسبقة للكتابة! مثل رسّام يبدأ برسم لوحته، يضع الألوان عليها، الوجوه، المكان، الزمان، ثم يقوم بتشكيلها، يتركها يومين ثلاثة، اشهر، سنة، عدة سنين، حتى بعد نشرها مختصرة، يعود إليها، يتعمّق بها، يكتب بإسهاب كموسيقي يعزف الكمان، بالذات الكمان!

ليس فيها احداث، مجرد حكي بحكي، سرد، لكنه مليء بتنوع الزمان والمكان من خلال الناستولجيا، العودة إلى أهله، والدته، خالتها، ابنة عمها التي هي خالته أيضًا!! كيف حدث ذلك؟ امرأة عجوز خضراء العينين، يقارنها بالأوروبيات المتزينات بأبهى الملابس بينما هي تلبس الأسود دوماً! يستحضرها في خياله ويدعها تخرج معهن، تحدثهن بالإشارات عن زوجها او طليقها، تقول لهن: حمار! بالإشارات طبعًا!

والسارد الشارد الراوي (صورة الكاتب) يتطلع اليهن من نافذة القطار قلقًا على خالته!

نجد هنا عدة مستويات من شخصيات نسائية! وطبعًا يقابلها الأمر نفسه من حيث اللغة: الإشارات! واللهجات العراقية في مونولوج عن امّه والمغربية في محاوراته مع الشيخ المغربي والفصحى وطبعًا اللغة الدنمركية عندما يتحدث مع موظف القطار وكتب الترجمة والبلدية!

السخرية والتهكم جنبًا الى جنب مع حالك القلق وحركة القطار والناس الرائحين والغادين في ممر القاطرة وتغير الوقت ومراقبته باللحظات خوفًا من التأخر عن الموعد المقرر، كلها عناصر شد وجذب مقصودة من الكاتب في السرد المليء بتفصيلات قد تتطلب المزيد من التركيز. هذه القصة ليست قصيرة تمامًا، فهي اطول من القصيرة نوعما، إنها الفصل الاول لرواية قد تُكتب في المستقبل!

***

زكية خيرهم

 

كلما تقدم الإنسان في السن ازداد انغماساً في الذكريات عن الطفولة والأصدقاء، والحب والأماكن التي كان فيها سعيداً. يبدو أن الحاضر يتعبه، ويريد الهروب منه. ماذا عن المستقبل؟ من يدري كيف سيكون الأمر. الذكريات واضحة ومشرقة، عند السفر إلى الماضي، نميل إلى خداع أنفسنا قليلاً وتزيين بعض الأشياء، ولا نستعيد في ذاكرتنا إلا الأشياء الجيدة والمبهجة، لأن الزمن محا كل الألم، لذلك عندما يواجهنا أي مشكلة في الحاضر، نعود إلى الذكريات، ونقنع أنفسنا بأن الحياة كانت أفضل في السابق، لكن هل كان الأمر كذلك حقاً، أم أننا نسينا الأشياء السيئة فحسب؟ كل شيء نسبي. يكفي تقديم بعض الحجج وسوف تتلاشى الألوان الوردية للذكريات على الفور.

السبب الذي يجعلنا نميل إلى خداع أنفسنا في ذكرياتنا يكمن في عواطفنا. إن علاقتنا بزمان أو مكان أو شخص ما تمنحنا إحساساً بالقرب الذي نحتاجه في الأوقات الصعبة. إنها مثل «حبة مهدئة» في لحظات الاكتئاب. الذكرى مثل «التربيتة» اللطيفة على الكتف، تعيدنا لفترة وجيزة إلى حالة من الهدوء والسكينة. لكن كيف نتفاعل مع الشعور بأن العالم قد تغير، وأن كل شيء ليس كما كان من قبل؟ ماذا يحدث عندما ندرك أن مستقبلنا قد سرق منا؟ هل ندخل إذن ملجأ الماضي؟ هل يمكننا اختيار ماضينا وماضي البلد الذي نعيش فيه؟ الموضوع أرضً خصبة للاستكشاف الإبداعي، وقد تداوله الكتّاب، لعدة قرون. وكتاب مارسيل بروست «البحث عن الزمن الضائع» ربما كان أعظم محاولة لتقييم الحياة الماضية. وبعد مئة عام ونيف يأتي كاتب بلغاري موهوب ليكون نقيضاً لبروست في تقييم الماضي.

غيورغي غوسبودينوف كاتب روائي ومسرحي وشاعر وناقد أدبي بلغاري، من مواليد 7 يناير/كانون الثاني 1968، تخرج في كلية فقه اللغة في جامعة صوفيا. ترجمت رواياته الثلاث إلى الإنكليزية. وهو الكاتب البلغاري الأكثر ترجمة منذ سقوط النظام الشيوعي. وحازت روايته الأخيرة «ملجأ الزمن» جائزة مان بوكر الدولية لعام 2023. وعلى عكس جائزة البوكر الأصلية، التي تُمنح للروايات المكتوبة باللغة الإنكليزية، تُمنح جائزة البوكر الدولية للأعمال الروائية المترجمة إلى الإنكليزية من اللغات الأخرى. وهذه هي المرة الأولى التي تفوز بها رواية بلغارية. وعلى الرغم من تركيزها الواضح على الماضي، إلا أنها تأتي في الوقت المناسب تماما. قالت الكاتبة المغربية/ الفرنسية ليلى سليماني رئيسة لجنة تحكيم جائزة مان بوكر الدولية: «الرواية الفائزة «ملجأ الزمن» رائعة ومليئة بالسخرية والكآبة. هذا عمل عميق يتناول سؤالا حديثا جدا: ماذا يحدث لنا عندما تتلاشى ذكرياتنا؟ لقد تمكن غيورغي غوسبودينوف بشكل مذهل من التعامل مع المصائر الفردية والجماعية، وكان هذا التوازن المعقد بين الشخصي والعالمي، هو الذي أقنعنا وأثر فينا. كتبت هذه الرواية بدقة، وهي تعزز سمعة الكاتب كواحد من الكتّاب الذين لا غنى عنهم في عصرنا، وصوت رئيسي في الأدب العالمي».

وقال غوسبودينوف بعد حصوله على الجائزة: «الاعتقاد الشائع أن الموضوعات الكبيرة مخصصة للآداب الكبيرة، أو الآداب المكتوبة باللغات الواسعة الانتشار، في حين يتم تجاهل اللغات الصغيرة، التي تبقى محلية وغريبة. جائزة مان بوكر الدولية تغير الوضع الراهن، وهذا مهم للغاية». وصرح في مقابلة مع صحيفة بلغارية: «بسبب المأساة التي تتكشف في أوكرانيا، فإننا نسمع الآن المزيد من القصص من البلقان وأوروبا الشرقية».

تتكون الرواية أساسا من تأملات وذكريات، حول مراكز «العلاج الزمني» لطب الشيخوخة النفسي، التي تعالج المرضى الذين يعانون من مرض الزهايمر، وغيره من الأمراض المرتبطة بفقدان الذاكرة بشكل أساسي. وتتناول الرواية مشكلة عدم التوافق بين الزمن الذاتي والموضوعي، والزمن الفردي والاجتماعي، وعلاقة الإنسان والمجتمع بماضيهما، وتثير موضوعا وثيق الصلة بعصرنا – شيخوخة سكان الأرض. حيث يشكل كبار السن نسبة متزايدة من التركيبة العمرية والجنسية لسكان البلدان المتقدمة، ويواجهون بشكل متزايد الخرف وغيره من أمراض الشيخوخة. الشخصيتان الرئيسيتان في الرواية هما، الراوي وصديقه غوستن الطبيب النفسي الذي يقرر فتح «مركز صحي» للمصابين بمرض الزهايمر في زيوريخ. هناك يخطط لعلاج المرضى بطريقة غير عادية – بإعادتهم إلى الماضي. يعتزم غوستن خلق أجواء الزمن الذي عاشوا فيه وإعادة إنشاء عالم قريب بصريا من كل عقد من عقود القرن العشرين في أجنحة المركز: الأثاث والملابس، وماركات معينة من السجائر، وأغطية المصابيح، وورق الحائط، ومجلات الأرشيف. وغيرها من العناصر الداخلية المميزة الفريدة من نوعها لكل عصر. وعلى هذا النحو تسمح الملاجئ العلاجية للمرضى بالعيش في محيطهم السابق الآمن. «في يوم من الأيام، سوف يكتسب هذا العمل زخماً حقيقياً – يقول المعالج غوستن للكاتب الراوي – وسنقوم بإنشاء هذه المراكز أو المصحات في بلدان مختلفة. الماضي هو أيضا ظاهرة محلية. ستكون هناك منازل من سنوات مختلفة. ستكون لدينا، يوما ما، أحياء صغيرة في كل مكان، ثمّ مدن صغيرة، وربما حتى دولة بأكملها للمرضى الذين يعانون من ضعف الذاكرة، ومرض الزهايمر، والخرف، ولجميع أولئك الذين يعيشون بالفعل في حاضر ماضيهم». وفقا للحبكة، أثبتت الدراسات أن هذه الطريقة لعلاج مرض الزهايمر تعطي نتائج جيدة وتسمح حتى بالشفاء. المركز الصحي ليس مجرد مكان يعالج فيه غوستن المرضى؛ إنه أيضا الفكرة المثالية للراوي لاستكشاف القرن العشرين في أوروبا، فهو مكلف بجمع الأشياء التي كانت تستعمل في ذلك القرن، ويسافر عبر البلدان بحثا عنها.

يصل ضابط الشرطة السرية السابق مع رجل كان ضحيته ذات يوم، يعاني الآن من الخرف. لقد أصبح ضابط الشرطة ذاكرته الاصطناعية، حيث يعيد لحظات السعادة إلى الرجل الذي اضطهده ذات يوم وأبلغ عنه. في إحدى النكات السوداء العديدة في الكتاب، يجد مريض روماني العزاء من خلال تذكر ليس ما عاشه، بل ما تخيله: الحياة في الولايات المتحدة. الحنين لا يتعلق بما كان لديك، بل بذكرى ما كنت تريده: شيك بأثر رجعي من بنك غير موجود، يُدفع دائماً بطريقة أو بأخرى. بعض المرضى لديهم ذكريات من الأفضل تركها دون استعادتها: في إحدى الحالات المروعة، يعالج غوستن امرأة لا تتحمل أن تكون بالقرب من الحمامات. يكتشف أنها ناجية من الهولوكوست، ما دفعه إلى التفكير في أن الذاكرة ليست جيدة في حد ذاتها، وأن النوع الصحيح من النسيان ضروري أيضا من الناحية العلاجية. يكتب غوستن: «أنه كلما زاد الماضي، ضعفت ذاكرتنا».

بدأ أشخاص أصحاء في مراجعة المركز للعيش في الماضي والخروج من الحياة اليومية الصعبة – المستقبل لم يعد يجذب أي شخص، الجميع يريد العودة إلى الماضي. وسرعان ما أصبحت فكرة «الشفاء بالماضي» شائعة جدا لدرجة أن فروع مركز غوستن تفتح في العديد من المدن الأوروبية الكبرى وتبث محطة إذاعية أيامًا كاملة من عقود محددة. ويتخيل غوستن مدنا وبلدات محددة في عصور معينة. وسرعان ما تريد بلدان بأكملها محاكاة فكرته. وفي مختلف أنحاء أوروبا، تروج الأحزاب السياسية لعقود مختلفة في تاريخها الوطني. وتجري الاستفتاءات بالفعل، وتختار البلدان بجدية العقد الذي ترغب العيش فيه في المستقبل، ويصبح العالم مكانا أكثر عبثية مما كان عليه من قبل. يصبح التمييز بين الماضي والذاكرة مهما في وقت لاحق من الرواية، عندما يتم اختطاف فكرة غوستن – كما كان من المفترض أن يحدث دائما – من قبل السياسيين.

ففي بلغاريا مثلاً، يصطدم الاشتراكيون الذين يريدون إعادة إحياء حقبة الستينيات والسبعينيات بالقوميين الذين يتفاخرون بانتصارهم على العثمانيين في عام 1876. إن استعادة المجد الماضي وسط فقدان الذاكرة الجماعي يشكل منجماً ذهبياً للمحتالين مثل صديق الراوي القديم ديمبي، الذي يجهز جثة غيورغي دميتروف المحنطة، أول زعيم شيوعي في بلغاريا، ليلوح بها لحشد من المعجبين. يجد غوسبودينوف الفكاهة في الكآبة، حيث تثبت أوروبا، مرة أخرى، أن معرفة التاريخ ليست عائقا أمام تكراره. وهو يستمتع بالصور النمطية الوطنية: «إذا لم تتمكن الدول الاسكندنافية من تحديد أي فتراتها السعيدة تختار، فإن رومانيا أيضا تعاني من الشك، لكن لأسباب معاكسة». إنه أمر مضحك وسخيف، لكنه مخيف أيضا، لأنه حتى عندما يلعب غوسبودينوف بالفكرة باعتبارها خيالا، يبدأ القارئ في التعرف على شيء قريب منه. وقد كتب المؤلف «ملجأ الزمن» في الفترة بين استفتاء الخروج البريطاني من بريكست والغزو الروسي لأوكرانيا، وكلاهما يمثل بطريقته الخاصة استخدام الحنين كسلاح، واختيار عصور محددة في النظام العالمي القديم للمشفى الزمني. هذه الرواية لعبة فكرية ذكية عالية المستوى مع القليل من الاستثمار العاطفي، لأن غوسبودينوف كاتب يتمتع بطاقة كبيرة ومهارة عالية. يرتبط الراوي بعلاقة وثيقة مع غوسبودينوف نفسه: بلغاري، ولد في عام 1968، تظل نهاية الشيوعية بالنسبة إليه كما في هذه الرواية صورة شبحية، نقطة التقاء بين الماضي والحاضر. إن عاطفته تجاه تلك الفترة صادقة، لكنها خالية من الأوهام. يمكنه استخلاص شخصيات ذات أبعاد كاملة من تفاصيل ذكرياتهم المتناثرة. إن انتقالاته – بين الفكاهة والحزن، والظرف العبثي والمأساة الصارخة، والشفقة والملاحظة الساخرة – ليست مزعجة أبدا.

طرأت فكرة الرواية في ذهن غوسبودينوف قبل خمسة عشر عاما. وكما قال للجنة بوكر، فقد أدرك فجأة أن الماضي يمكن أن يصبح «وحشاً خاصاً» وأن العودة الجماعية إليه عديمة الجدوى: «كانت رغبتي في كتابة هذه الرواية تنبع من شعوري بأن شيئا ما قد حدث خطأً في سيرورة الزمن. كان هناك قلق في الهواء، ويبدو أنه يمكن الشعور به جسديا». كان غوسبودينوف منزعجا من الانقسام في العالم، والشعبوية المتزايدة، وإصرار الأوروبيين والأمريكيين على «الماضي العظيم». إن العودة إلى الماضي لا ترتبط فقط بعدم الرضا عن الحاضر، بل وأيضاً بالحاجة إلى التحكم في المستقبل. ولتحقيق هذه الغاية، قد تحاول الشعبوية العودة إلى ماضٍ مثالي لم يكن موجوداً قط، أو ابتكار تقاليد جديدة، أو استعادة شيء عفا عليه الزمن بشكل انتقائي ومشوه. ويتجلى هذا في الرواية في فصل «في بلد واحد» مع مثال بلغاريا. يقول غوسبودينوف: «لقد نشأت في نظام يروج لمستقبل زاهر في ظل الشيوعية. والآن تغيرت المخاطر، أولئك الذين باعوا «المستقبل المشرق» تحولوا الآن إلى شعبويين يبيعون «الماضي المشرق».. ولهذا السبب أردت أن أروي قصة «الاستفتاءات على الماضي» التي أجرتها جميع الدول الأوروبية. كيف يمكنك العيش مع نقص المعنى والمستقبل؟ ماذا سنفعل عندما يبدأ جائحة الماضي؟».

عنوان الرواية في حد ذاته يشير إلى «المأوى من الزمن» و»المأوى داخل الزمن». كلاهما جذاب، لكنه مستحيل. وإذا كان الحنين يبدو وكأنه مصدر غير ضار للمشاعر الممتعة، فإنه الآن يشبه على نحو متزايد أداة قوية وخطيرة للتلاعب. وبطبيعة الحال، تكمن وراء هذه المعالجات المثيرة درجة معينة من الخداع. ليست كل الذكريات المنسية هي ذكريات سعيدة. إن إعادة الناس بشكل مصطنع إلى الماضي، والسؤال الأوسع حول ما إذا كان هذا يجلب العزاء حقا، وما إذا كان الانغماس في الحنين علاجيا أم ضارا ــ هو السؤال المركزي في رواية غيورجي غوسبودينوف.

الفكرة الرئيسية

أصبح غيورغي غوسبودينوف نجما أدبياً إثر فوزه بجائزة مان بوكر الدولية، وأجرى مقابلات صحافية مع ممثلي الصحافة الغربية والبلغارية. وقال لصحيفة بلغارية: «إن رواية «ملجأ الزمن» في جوهرها هي استكشاف لعدم جدوى الخوض في الماضي. كما أثبت ذلك غزو بوتين لأوكرانيا المجاورة. أعتقد أن حرب بوتين هي حرب من أجل الماضي، فهو شغوف بالماضي. كانت أوكرانيا «أرضه» في الأربعينيات والخمسينيات من القرن، لكن المشكلة تكمن في أنك لا تستطيع العيش في الماضي، وهو يحاول جر الجميع معه إلى الماضي، وهذا أمر خطير للغاية على المستوى الأوروبي والعالمي». ويدعو غوسبودينوف إلى عدم التركيز على الحنين إلى الماضي على حساب القضايا المعاصرة. كتب غوسبودينوف «ملجأ الزمن» بعد عام 2016، الذي شهد التصويت على خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي ووصول ترامب إلى السلطة، ويوضح المؤلف أنه أراد تأليف كتاب يصف بدقة الأزمات التي تواجه العالم ويقول: «لقد نشأت في بلغاريا، التي كانت دولة شيوعية حتى عام 1989. أتذكر كيف وعدونا بمستقبل مشرق، ولم أرغب في أن يبيع أحد لابنتي قصة عن «الماضي المشرق»- لم أكن أؤمن بهذا البيان الفارغ.

يشعر المؤلف بالقلق إزاء الصعود المتزايد للشعبوية والقومية في أوروبا، خاصة في بلغاريا. أردت أن أكتب رواية ديستوبية تظهر ما قد يحدث في المستقبل القريب. إن الأدب الجيد وسيلة فعالة ومضادة للبروباغاندا التي تنشرها الحكومات، ومن المهم جداً «محاربة البروباغاندا بالأدب – وهو ما فعله العديد من الكتاب الأوروبيين الجيدين». عندما سئل عما يجعل الرواية ناجحة، قال غوسبودينوف مبتسماً: «ما لا يقتلني يجعلني كاتبا». التجربة الحياتية هي التي تجعلك كاتبا عظيما.

***

د. جودت هوشيار

 

(إن الكتابة لم تعد كتابة مغامرة وإنما صارت مغامرة كتابية).. جان ريكاردو(1932-2016):منظر الرواية الجديدة

يبدو لي أن أفضل مدخل لمقاربة رواية الاديبة والكاتبة والشاعرة باللغتين والترجمان زهرة حواشي  هي زاوية الخطاب في روايتها ابن العاقر. كيف حكت لنا قصة هذه العاقر؟ هل كانت مجرد سارد يروي مغامرة بإمكان أي إنسان أن يرويها ولا تميز إلا للمغامرة  أم أن الأديبة واعية بمغامرة الكتابة الروائية وما تقتضيه من إبداع يستلزم الإلمام بشرائط الحكي من خلال مسرحة الاحداث وعرضها لا قولها وسردها.

أولا: التقديم المادي والمعنوي

1: التقديم المادي

ابن العاقر رواية للكاتبة زهرة الحواشي. تقع في مائة وتسع وثلاثين صفحة. الطبعة الأولى بمطبعة الثقافية المنستير/ تونس.

2: التقديم المعنوي

أ- منطق الرواية:

جمعت ابن العاقر بين اسم الرواية وخصائصها من حيث موضوع عقر امرأة اسمها ربح وولادتها بعد تزوجها ثانية وما اكتنف مغامرة ربح الاجتماعية والوجودية حتى حبلت وولدت من جهة وشكل المسرحية وفصولها وهي بعدد خمسة هنا وعروضها من جهة أخرى.

إن العقرمشكلة اجتماعية صحية نفسية يمكن أن تكون رمزا للجفاف والجدب والمحل وكيف يمكن التغلب عليها بالصبر والحب والتسامح ذلك أن العقر ليس هو العقم...

ب- الشخصيات وعلاقة بعضها ببعض:

تزدحم الرواية بالشخصيات ويمكن تقسيمها حسب وظائفها حسب نماذج فلاديمير بروب والتي اختصرها غريماس (الجيرداس) في ثلاث علاقات الرغبة بين الذات والموضوع والتواصل بين المرسل والمرسل إليه والصراع بين المساعد والمعارض.

* الرغبة: رغبة ربح بنت الضاوي في الإنجاب من ابن عمها زوجها وحبيبها  لكن تلك الرغبة  منيت بالفشل. فكان تطليق زوجها لها. ثم تعلق ربح بالإنجاب دفعها إلى المغامرة بزواج ثان وتربية ربيب لها رضيع أحبته حبا جما وتمنت الحمل فكان لها ما أرادت.

* الصراع: لربح أحباء كثيرون أبوها الضاوي وأمها فاطمة وأخواتها زمردة وتبر وابن عمها زوجها الأول وعلي بلخمري زوجها الثاني والناجي ربيبها من أمينة زوج بلخمري الثانية وعمر ابن بلخمري من زوجته الأولى...ولربح باعتبارها الشخصية المحورية أعداء قليلون جدا أولهما العقر وثانيهما زوجة عمها أم طليقها التي يبدو أن لها يدا في عدم إنجاب ربح. ولم يكن الصراع قويا ولا متجسدا بل كان صراعا خفيا يدور في النفوس والأذهان أكثر منه متبلورا في الواقع والعيان.

* التواصل حوار بين ربح وأبيها وأمها وأخواتها ثم زوجها علي بلخمري وهو حوار تفاهم وتعاون وإمتاع ومؤانسة. فكثيرا ما كان الضاوي يغني لربح وكثيرا ما كانت ربح تغني للناجي وكثيرا ما غنت ربح في الأعراس وأمتعت وشتفت..

لكن الحوار يكاد يختفي بين ربح وحماتها زوجة عمها وبينها وبين ربح وطليقها حتى أن أسماءهما لم يذكرا فكان التواصل تسمية للشخوص وتكنية للوجود واستمتاعا بالحياة من ناحية وكان عدم التواصل ذكر لبعض السمات أو الصفات وسكوت عن الكلام المباح وإعدام لذكر ذوات من ناحية أخرى.

تبدو القصة المغامرة قصة عادية لا أهمية كبرى لها فليس فيها مخاطرات ولا أخطار ولا غرائب تشيب لها الولدان ولا عجائب تسحر الوجدان بل حكاية تكاد تكون عادية هذه الأيام ولكن ما الذي قد يجعلها رواية إبداعية ذات خصال وشأن؟

ثانيا: الخطاب الروائي

ونعني به الطريقة التي بواسطتها يجعلنا الراوي او الراوية نتعرف على أحداث القصة المغامرة.

وينقسم إلى مستويين المستوى التركيبي النحوي والمستوى الدلالي.

I. المستوى التركيبي النحوي

ويتكون من الزمن أي علاقة زمن القصة بزمن الخطاب وعلاقته ببناء النص ثم صيغ الخطاب أو السرد وتتحدث عن العلاقات بين الخطابات وكيفية اشتغالها( خطاب مسرود –معروض – منقول) وأخيرا الرؤية السردية أو التبئير أي الراوي وعلاقته بالسردي بوجه عام.

انبنى عنوان الرواية على المفارقة. فمن جهة ربح عاقر لما تنجب ومن جهة أخرى ابنها الناجي ربيبها الذي اتخذته ابنا ثم ابناها اللذان أنجبتهما من صلبها أي غير عاقر. فالقانون الذي يحكم هذه الرواية مبدئيا المفارقة والتباين وعدم الاتفاق أي الاختلاف. فهل ينطبق هذا القانون على بقية جسم الرواية؟ وما قيمته الفنية في تحقيق روائية الرواية وأدبيتها؟

1- الزمن:

لا توجد مطابقة بين الزمن التاريخي والزمن الروائي. فالرواية تنطلق أحداثها من فترة ما بعد طلاق ربح من ابن عمها وهي خمسينية . "ربح بنت الضاوي امرأة قمحية البشرة ...تلك الفتاة القادحة نشاطا ...تزوجت وكان عمرها ثلاثة وعشرين سنة من ابن عمها وعاشت معه ما يزيد عن عشر سنين  ولسوء حظها لم ينجبا..." (زهرة الحواشي، ابن العاقر(رواية) ، ط 1، مطبعة الثقافية بالمنستير، 2023، ص 7). ونضيف مدة الطلاق حوالي07 سنوات لتصبح مع انطلاق القصة خمسينية. بينما التسلسل التاريخي يفرض البداية من الولادة ثم النشأة والطفولة والشباب ثم الزواج والطلاق بسبب العقر ثم الزواج والإنجاب وخاتمة القصة.

لذلك اعتمدت الساردة التضمين والتسلسل والتناوب.

*التضمين: القصة الأم مغامرة ربح بنت الضاوي. تنطلق الرواية من حدث توقف ربح عند حالها وقد شارفت الخمسين وبدأت تيأس من الزواج والإنجاب فتتذكر صباها السعيد مع والديها ومعاناتها في زواجها الأول وطلاقها ومرارة عيشها اليوم تذكر الراوية:" بقيت ربح مع والديها واستمر بها كابوسها وقتا طويلا ثم تتكلم ربح " علاش مخاليق ربي الكل تولد من البقرة للنعجة للدجاجة للكلبة...لا نفعت معاي قوابل لا عزامة...توة أيست وبرد قلبي على الصغار" (زهرة الحواشي، ابن العاقر، ص 12).

*التسلسل: تندفع الأحداث أحيانا متتابعة في الزمن متسلسلة تسلسل التاريخ. تنطلق الأحداث إلى الأمام متسلسلة منذ إخبار زمردة أختها ربح بوفاة أمينة زوجة علي بلخمري وحثها على قبوله زوجا إن تقدم لها لتبدأ قصة الزواج بين الرفض فالتمنع فالقبول مرضعة لابنه فزوجة فمنجبة. وطبعا تتخلل هذه القصة الاجتماعية فالعاطفية فالغرامية تضمينات لأحداث وتناوب لها.

* التناوب: تسرد الرواية سفر علي بلخمري وزوجته ربح وربيبها الناجي وأبيها الضاوي إلى العاصمة قصد متابعة العناية بربح في حملها بعد عقر مديد فتصف الطريق من السرس إلى تونس مرورا بالروحية ومكثر وسليانة وجبل برقو زمن الاستقلال في بداياته فينقطع وصف الطريق لينفتح القص على زمن الاستعمار حين يتذكر الضاوي سفراته إلى الفحص في شبابه ليتاجر مع رفاق له في بيع الدجاج " الداندان" للفرنسيين. يقول السارد:" كانت السكك الحديدية تحاذي طريقهم فتذكر الضاوي كيف كان يمر بتلك الربوع ...ثم يقول الضاوي: الثنية حتى للفحص مشيتها ميات المرات قبل الاستقلال...كنت نا وجماعة صحابي ..نربو الدندان ونهبطوه في أقفاص ...ونقصدو ربي للفحص . كانوا فيها الفرنسيس والمعمرين يحبوا لحم الدندان ياسر" ( ابن العاقر، ص ص 122 و123).

إن توفر هذه الأنواع الثلاثة من الأزمنة شائع في الرواية ولكن فضل بعضها على البعض بتخير الأزمنة في الخطاب بعيدا عن تسلسلها في الخبر وهو ما يعرف بتقنية التخطيب من جهة و بإتقان تنويع الأزمنة وإدماجها في المتن الحكائي فترد سلسة منسجمة لا تصنع فيها ولا إسقاط من جهة أخرى. وهنا نجحت الكاتبة في حسن تضمين الأحداث من خلال مركزتها في شخصية محورية هي ربح. واكتفت ربح بسرد ما تعيشه وتجاوزت التعاقب التاريخي غير الإبداعي في الرواية باستخدام التذكر والاسترجاع فتتحدث عن طفولتها المرحة وشبابها المنكسر وكهولتها المضطربة. ثم تتخلص من ربقة الماضي والحنين لتمني النفس بانبثاق صباح جديد عبر الحلم والمنام استباقا للحاضر المحبط. فتكسر سلاسل الحاضر وأغلال الماضي القريب منذ خيبة الزواج والعقر لتتطلع إلى المستقبل عبر الرؤيا. لطالما كانت تحلم وخاصة بالظفر بحصاة لؤلؤة في نهر. وكبر هذا الحلم لما انتقلت إلى منزل علي بلخمري لترضع له ابنه يتيم الأم. وتكرر ذلك الحلم ليلة أرضعت الناجي " ثم فتحت يدها وبقيت تتأمل الحصاة وتمسحها ...فيزداد بريقها حتى صارت لؤلؤة ..واستفاق بها الحلم على صياح الديكة فأخذت تبحث عن لؤلؤتها في صدرها لتجد الرضيع في حضنها ..." ( ابن العاقر، ص 48).

ولا يخفى هنا حبكة الراوية وحنكتها ومهارة الصنعة في التصريح والتلميح بين الحصاة التي تحولت لؤلؤة في المنام ولما أفاقت وجدت لؤلؤتها في حضنها. أي أن الحلم بدأ يقدم بشائره ولو عن طريق الرمز وعبور الحلم.

إن ارتباط كافة أحداث الرواية بربح وانبثاق كافة الأحداث من ربح وأهلها وعالمها يشد معمار الرواية إلى هيكل صلب ومنبع ثر وصانع ماهر في الحكاية والغناء وتقدم الأحداث وتناوبها كما تشد خيوط إلى النول وتتعرج وتتفرع وترتفع محكمة الصنع في يد امرأة صناع تذكرنا بإحكام السرد لدى شهرزاد سيدة الحكي وأميرة البيان.وهنا مظهر كبير من مظاهر الأدبية ربحت الكاتبة رهانه.

فكيف جاءت صيغ السرد ؟

2- صيغ السرد:

وفيها نتعرف الطريقة التي بها يقدم الراوي القصة أو يعرضها. وتنقسم عامة إلى السرد المحكي telling)  ) والعرض (showing) والنقل (Reported speech). وتنبع أدبية الخطاب هنا من بناء عالم سردي خيالي يوازي أحداث القصة فيكسبها جمالية تتجاوز المباشرة الفجة والواقعية المبتذلة تسمى اليوم الجمالية الواقعية.

احتوت رواية العاقر على الحكي والعرض ونقل السرد أي بين التقريري والوصفي و بين الحكاية في تحركها والمشهد المسرحي الثابت في عرضه. فكانت هذه مفارقة الجنس الفني الذي سمته الكاتبة رواية بالرغم من أنها مسرحية أيضا. أو لعلها مزيج بينهما. وهنا مفارقة التكنية. هل نحن أمام جنس أدبي محدد التصنيف  يدعى رواية أم نحن أمام شكل أدبي يجمع الرواية بالمسرح والغناء.

لذلك نجد أنواعا من الخطاب المسرود وأصنافا من الخطاب المعروض والمنقول.

وهي إجمالا 7 أصناف (صيغة المسرود الذاتي وينبني على الاسترجاع وتذكر الماضي وصيغة الخطاب المعروض وفيه يتكلم المتكلم مباشرة إلى متلق مباشر والخطاب المعروض غير المباشر وصيغة المعروض الذاتي ويتميز بمحاورة ذاته عن شيء يحدث في الحاضر أما المنقول فنوعان منقول مباشر عندما ينقل غير المتكلم كلام غيره كما هو والمنقول غير المباشر حينما ينقل الخطاب المسرود بتصرف).

وبالعودة إلى ابن العاقر فلا نكاد نجد الصنف الأول أي المسرود الذاتي والمعروض الذاتي  وعلى العكس من ذلك تحضر  بقية الأصناف الخمسة التي يهيمن فيها السرد المعروض والمنقول مباشرا وغير مباشر.

مثل ذلك ربح تتذكر طفولتها "عاشت ربح سنوات من السعادة مع حبيبها ولكن نكد عيشها عدم الإنجاب.." (ابن العاقر، ص 8). فالاسترجاع هنا لا يمر عبرذات ربح وصوتها بل عبر صوت الراوية . وكذا أغلب الاسترجاعات.

والرواية في معظمها خطاب معروض أو منقول يتمحور حول ربح. ولا شك في أن طغيان الخطاب المعروض والمنقول يعكس رؤيا الكاتبة وجهة النظر أو التبئير ورؤيتها العالم. فما هي خصائص الرؤية السردية في ابن العاقر؟

3- الرؤية السردية أو التبئير:

ويهتم التبئير بالراوي وعلاقته بالعمل السردي. ويعرف تنظيريا بوجهة النظر والرؤية ( تودروف مثلا) والبؤرة  والتبئير(جرار جنيت مثلا)...

وتتجسد الرؤية السردية عمليا في التقديم البانورامي (الراوي مطلق المعرفة ) والتقديم المشهدي (تغيب الأحداث وتقدم الأحداث مباشرة للمتلقي) واللوحات الفنية (تركز الأحداث على ذهن القارىء أو إحدى الشخصيات). وقد قدم تودروف أصنافية في الغرض تتكون من الراوي العليم أو الرؤية من الخلف والراوي الشخصية أو الرؤية مع والراوي الشخصية من الخارج أو المحدود.

وحينما نطبق على روايتنا نلحظ بيسر هيمنة الراوي العليم. فالتعريف بربح وبحياتها العائلية وبقريتها " دشرتها" وتجارب الزواج والطلاق بل وأحلامها وحنينها كلها تمر عبر الراوي العليم يعرف كل شيء ويتدخل في كل شيء حتى في المنام يرافق ربح ويحيط  بهواجسها وأحلامها وكوابيسها وقد يسمح في بعض المرات بابتعاده القصير لتتكلم أو تبلغ موقفا.

كما يحضر التقديم المشهدي منفلتا إلى حين لتقديم حدث أو موقف أو مشهد وخاصة عندما يكون المشهد أغنية شعبية أو موقفا ملحميا.

مثال ذلك إتاحة السارد لربح الغناء. وكان ذلك عن طريق استراق علي بلخمري صوتها وهي تغني

تقول الساردة "وكان علي بلخمري يطرب لصوتها فيبقى خلف الباب. وكم كان يتأثر عندما تغني ربح:

وحش الصرا وبرودة

يا ولفتي وحش الصرا وبرودة

يا من عزم شرف على قمودة...

وقد تلجأ الساردة لاستغلال فرصة الحديث عن الزلاج وسقوط شهداء في معركة الزلاج سنة 1912 وإعدام الشاذلي بن عمر القطاري والمنوبي بن علي الخضراوي المعروف بالجرجار تستغل هذه الذكرى لتعرف بالجرجار وتعرض الأغنية الملحمية التي ظهرت بعد الإعدام

مناحة الجرجار

بر ي وإيجا ما ترد أخبار علجرجار

يا جماعة شوفو ما صار

القطاري معاه الجرجار..

آه يم خلوني نبكي بالغصة

آه لا إله إلا الله...

ولا تعدم رواية ابن العاقر الرؤية المصاحبة لكنها قليلة جدا إذا ما قورنت بالرؤية العليمة. لكنها تكاد تعدم الرؤية من الخارج.

انطلاقا من أصناف الرؤى السائدة في الرواية  وهي الرؤية من الخلف أساسا والرؤية "مع" نادرا فإن التبئير باعتباره الموئل السردي المركزي يعكس هيمنة الراوي وإمبرياليته. وهذا الاستنتاج يطابق غياب السردي الذاتي في محور صيغ السرد ويفسر طغيان السرد  المعروض والمنقول ويقر عدم توفق الكاتبة إلى إبداع السرد الكاشف للذوات وما يعتمل في وجدانها وما يتطلبه من قوة الخيال وثراء اللغة ونضح الصنعة وما يتيحه من تعدد الأصوات وفرادتها. وهي نواقص تتجاوز بتعميق التجريب.

قصرت الكاتبة في زرد سرد متخيل ذاتي حر ينطق به الشخوص فيشعروننا أننا أمام كائنات حية تعيش وتحلم وتتألم وتتشوق وتعشق وتكره كأنها كائنات دموية تنضج بالحياة وليست دمى حبرية تحتاج أكسير الحياة . ومع ذلك وفقت الكاتبة في حبك الأزمنة وتوظيفه إبداعيا من خلال استخدام الحلم والذاكرة.

فكيف انعكس التميز في البناء الحكائي والضعف المسجل في صيغ السرد ورؤاه على البعد الدلالي في رواية ابن العاقر؟ أو كيف تنبني الدلالة ونستحصل المعنى أمام مفارقة الخصب والعقر؟

II. المستوى الدلالي التدلالي

ويشمل المكونات الأساسية في المتن الروائي من عنونة وعتبات وقضايا/ تيمات مصرح بها أومسكوت عنها والتي يسميها جيرار جنيت "المتعاليات النصية" في كتابه أطراس وكيفية تصويرها للمفارقات  وقيمتها الجمالية وميزتها الشعرية ، " أدبية الرواية"...

أولا: مفارقة العنوان

يقوم العنوان على مفارقة بين العقر والإنجاب. والمفترض في العنوان أن يكون وليد اختيار عميق هادف وليس عملا اعتباطيا. فالعنوان مرآة العمل الفني ووجهه وواجهته إن أحسنا اختياره أفلحنا وإن تعاملنا معه بسذاجة خبنا. ولذلك نشأ علم كامل في أروبا مؤخرا وتطور ليبلغ أوجه اليوم تحت اسم العنونة La titrologie) ).

يذهب في روع القارىء لعنوان ابن العاقر أن في الأمر تناقضا لا مفارقة. كيف للعاقر أن تنجب؟

غير أن بالعودة إلى المعجم أول درجات الكتابة والتفسير اللغوي سرعان ما تتبدد غيوم المقابلة لتتجلى مفارقة عجيبة لغوية ودلالية إذ تفرق اللغة العربية بين العاقر والعقيم. العقيم من العقم مدارهما على الجدب وعدم الخصوبة و عدم الإثمار والإمطار والإنجاب والموت بينما العقر من الجرح والقطع والذبح فنقول انعقر البعير بمعنى الجرح والذبح. ونقول اعقر الله رحم المرأة أصابها بداء في رحمها فلم تحمل. هنا نتبين الفرق الكبير بين العقم المؤذن بالجدب والهلاك وعدم الإنجاب والموت والعقر الدال على عقم جزئي بل عرضي يمكن تجاوزه والنجاة والحياة بالمداواة والرعاية...

فهل قصدت الكاتبة من خلال روايتها ابن العاقر حال السرس موطن الحكاية وتونس الإطار الأكبر

للسرس بعد الاستقلال وما أصابها من الجراحات والخيبات والقطائع مع التاريخ الوطني النضالي والأصالة التاريخية والثقافية والحضارية مثلت كلها مأزقا أودى بها إلى عقر كدنا نعتبره عقما لولا أن الكاتبة استدركت بأن قلبت الميم أولى حروف الموت راء أولى حروف الرواء والحياة فانتقلنا من ظلمات الجدب والممات إلى ممكنات الخصب والإنجاب والحياة إلى أغاني الحياة...

قد يكون. اعتنت الكاتبة بعتبات النص فوصفت ابن العاقر بالرواية. وهو تنصيص توجيهي قد لا ينطبق بالضبط على نصها ابن العاقر.. فحتى المعيار الكمي تعد ابن العاقر 139 صفحة لايعد محددا حاسما فبإمكان القصة أن تقارب هذا الكم وقد تتجاوزه. وقسمت نصها إلى خمسة فصول. وهو تقسيم أنسب إلى المسرحية. وجمعت ابن العاقر بين السرد والمشاهد المسرحية والمواقف الغنائية والملحمية. فهي قصة غنائية هجينة ليست بالرواية ولا بالمسرحية. وهي رواية بالاتفاق. لكن هذا التنوع الأجناسي في رواية ابن العاقر وتعدد الأصوات لتعدد المتكلمين أخصب الرواية وأغناها لتزاحم النصوص المتعالية صلبها.

ثانيا: مفارقة الجدب والخصب والموت والحياة

لاحظنا في بنية الرواية جمعها بين الرواية والمسرحية بين الحكي والإخبار وبين العرض ونقل المواقف والأشعار وهي ثنائية السرد والعرض ثنائية الماضي والحاضر والميت والحي تنعكس دلاليا في نوعية الرواية خبرا وخطابا.

قصة ربح امراة خمسينية تزوجت ابن عمها عن حب ووفقا للتقاليد فابنة العم لابن عمها يحل له خطفها من الهودج إن زوجت لغيره كما استقر في التراث الشعبي. لكن عدم إنجاب ربح كان حاسما في تطليق ابن عمها الذي لم تسمه الراوية ولحماتها دور خطير في حصول الطلاق.

تأتي اختها زمردة لتعرض عليها الزواج من علي بلخمري الذي فقد زوجته بعد إنجابها الناجي الذي يحتاج إلى مرضعة.

بعد رفض وتمنع تقبل ربح المغامرة كمرضعة للناجي لا زوجة لأبيه لكن حسن معاشرة بلخمري من جهة وتحريض أختها زمردة على اغتنام ربح كهولتها ويسر زوجها دفعاها لإتمام الزواج.

تبدو الأحداث هنا عادية لكن تعلق ربح بالرضيع وإخلاصها له وعنايته الفائقة به وحبها الخرافي له جعلها تحن إلى الحمل والإنجاب والعلاج بعيدا عن دجل الدجالين ورقيات الأفاقين مثلما حصل لها في زواجها الأول. وما حصل كان عجبا عجابا كيف تقمصت ربح دور الحامل وعاشت الدور وتقلبت في الفراش تكور بطنها بأقمشة مذكرة إيانا بتقمصات أبطال كافكا في روايته الشهيرة المسخ مع فرق جوهري فإذ تحول فيه البطل الكافكي إلى حشرة صرار فإن تحول ربح من العقر القريب من العقم إلى حمل حقيقي بعد عقر وحمل كاذب..هنا دعوة قوية من الراوية إلى ضرورة مقاومة العقر والجدب بالحب والصبر والإرادة وصنع القدر لا انتظار السانحات...إذا الشعب يوما أراد الحياة ...فلا بد أن يستجيب القدر.

وتنجم مفارقة ثانية لصيقة بالأولى متصلة بمفارقة العلم والعمل والشعبذة والدجل. تصور الراوية ماساتها مع العقر خلال زواجها الأول من ابن عمها. وكيف كانت تجبر على التردد على المشعوذين الدجالين والمتطببين ليصفوا لها أدوية غيرنافعة ويعطوها حروزا بمثابة كتيبات شفاء غير مجدية. فكانت النتيجة الفشل في الإنجاب فالطلاق. تقول الساردة:" وقد أخذها زوجها عديد المرات إلى أحد العزامين المشهورين ...يسلمها مكاتيب صغيرة مكتوبة بماء الصمغ ... مع "حروز" تضعها تحت وسادتها أو تعلقها في ثيابها. لكن لم يجد كل ذلك نفعا" (ابن العاقر، ص 11).

بينما زواج ربح الثاني من بلخمري ورعايتها لابنه الناجي وتعلقها به كل ذلك شجعها على حب الإنجاب فسهرت من أجله وتعلقت همتها به وطلبته بتمثيل دور الحامل وحب بلخمري حتى أدركته

ولكن نجاح الحمل والولادة لم يتما إلا بتدخل الطبيب بتشخيص صعوبة الحمل لدى العاقر ربح ومعالجة المعيقات بالأدوية اللازمة جعلا قضية الإنجاب ممكنة. وهكذا زال عقر ربح بطلب الأسباب من رغبة فيه ومعاشرة لزوج أحبته بالمطاولة والتجريب واختارته بالعقل والتدبير على عكس زواجها بابن عمها على مقتضى التقليد ثم لما أرادت الإنجاب قصدت الطبيب رمز العلم لا المشعوذ رمز الجهل والتخلف فكان لها ما أرادت وغادرت العقر والعقم إلى الولادة والخصب.

ويتخذ الصراع بين العقر والإنجاب بعدا ثقافيا في مراوحة الكاتبة بين الفصحى والتي تستخدمها في الحكي والعامية التونسية الريفية الفلاحية من أعماق السرس والشمال الغربي وعموم تونس في الستينات والتي تستخدمها الكاتبة في نقل مواقف الشخصيات وحواراتهم الداخلية أو الخارجية.

فكأنما الفصحى للتاريخ والسرد أي البونوراما والعامية للحوار ونقل بواطن النفوس فهي لغة المسرحة والدراما. مثال ذلك: "كانت كثيرا ما تنظر إلى الحيوانات الصغيرة ويغلب عليها الحزن. "علاش مخاليق ربي الكل تولد م البقرة للنعجة للدجاجة للكلبة حتى الخنافيس تولد ونا ما نولدش" ( ولد العاقر، ص 12).

ولقد تكررت هذه الخاصية في معظم الرواية. وهي ميزة إيجابية تقوي السمة الإبداعية للرواية فترتقي بها من سرد الكاتبة الأحداث إلى صنع الشخصيات بأنفسهم لها. وهذا ما كان نوه به الروائي الأمريكي هنري جيمس في دعوته "إلى ضرورة مسرحة الحدث وعرضه لا إلى قوله وسرده بمعنى أن على القصة أن تحكي ذاتها لا أن يحكيها المؤلف" .

ولكن السؤال هل تنجع المزاوجة بين الفصحى والعامية في تحقيق أعلى مراقي الإبداع؟ وهل تصلح الفصحى للسرد والعامية للمسرح والمسرحة دائما؟ بصفة أخرى كيف نوظف اللغة ودرجاتها في العمل الإبداعي؟  أعطت الكاتبة إجابة وهي الفصحى للقص والعامية للمسرحة. وهي إحدى المقاربات الممكنة ولكن ما خصائص اللغة الفصحى وميزات العامية المختارة؟ في الفصحى والعامية أبعاد جمالية إبداعية لكن تخير العبارات والكلمات ليس أمرا هينا فهو لا يقل قيمة عن تخير العناوين.

استمتعنا بنصوص في العربية الفصحى من إبداع الكاتبة حضر فيها الجهد الشخصي لزهرة الحواشي  وخصائص نصوص إبداعية مشهورة مسجلين ظاهرة التناص الأثيرة. مثال ذلك  حينما تتذكر طفولتها مع أبيها الضاوي: "وقد قضت معه طفولتها البسيطة والسعيدة بين المروج الخضر والجداول المنسابة حين كانت ترافقه للمرعى وتستمع إلى صوته البديع وهو يردد الأهازيج العذبة" ( ابن العاقر، ص9)

ثم " لكنها عادت منكسرة الجناحين" ( ابن العاقر، ص 10). طبعا نلحظ أسلوب الكاتبة ونصوص الشابي وحسين هيكل وجبران خليل جبران...

وشنفتنا الراوية بعرض قصائد من الشعر الشعبي الذي تتغنى به الأرياف والمدن في أغراض الغزل

والحب والحرب والملاحم البطولية. مثل " ياربح يا نجمة الصبح لو كان منك ياسر"

أو فاجعة إعدام القطاري والجرجار......

مناحة الجرجار

بر ي وإيجا ما ترد أخبار علجرجار

يا جماعة شوفو ما صار

القطاري معاه الجرجار..

آه يم خلوني نبكي بالغصة

آه لا إله إلا الله..

وهي قصائد شعبية كانت منتشرة في ربوع الشمال الغربي وربما في أغلب البلاد التونسية أحسنت الكاتبة استثمارها فأدرجتها في سياق وصف شخصية أو ذكر حدث وطني وذكرتنا بها حفظا للذاكرة الجماعية واعتزازا بالتراث الشعبي صنو التراث الفصيح.

وفي هذا الحرص على استذكار التراث الغنائي والملحمي تشبث بالهوية الخصبة لتنوع مكوناتها وأبعادها وتحذير من الجحود والتجاهل والقطيعة وهي كلها عبارات مرادفة للعقر إن استطال ولم يعالج أو تتوفر العزيمة للتغلب عليه استحال عقما.

وقد سجل تحاور النصوص العامية والفصحى والادبية والتاريخية والغنائية والملحمية  تناصا او " تفاعلا نصيا" على حد تعبير سيد يقطين في كتابه انفتاح النص الروائي يدلل على تميز النص الجامع أو الرواية وفرادتها.يقول جرار جنيت في مدخل على جامع النص:" ليس النص هو موضوع الشعرية بل جامع النص أي مجموع الخصائص العامة أو المتعالية التي ينتمي إليها كل نص...". حبلت رواية ابن العاقر بالنصوص المختلفة والمتنوعة شعرا ونثرا وتاريخا ومسرحا وملاحم ومشاهد واكتظت بالأصوات عامية وفصيحة عالمة وشعبية معاصرة وتاريخية عريقة. نلمح حضور تلك النصوص مجردة أو مضمنة أو مقتبسة ولكنها مغيبة بشكل ما. وهي حاضرة في غيابها. فلئن كان الغياب فقرا وعقرا ومحلا فإن شظاياها وأطيافها وشخوص بعضها يوثث مائدة زاخرة بالأطعمة والفواكه ووليمة دسمة تعلن عن الخصوبة والغنى وترسم سجادا مطرزا بشتى الأشكال والألوان وتغري الأنوف بأطايب العطور والعود والبخور.

ولقد اختارت الكاتبة نهاية طريفة لمثل هذه المفارقات والمنسلة للصراعات. لقد اختارت التسامح حلا ممكنا للأحقاد والنزاعات والكراهية الناجمة عن النزاع حول الميراث والثروات ولم تختر الحرب والسجال والقتل والثارات. وهي أمراض اجتماعية إن لم نوفق في معالجتها أهلكنا الضرع والنسل وحققنا العقر المؤدي حتما إلى العقم والمحل والهلاك.

فلقد اكتشفت ربح كيد عمر لأبيه وسرقته لأمواله وترصده لسرقة العقود للاستحواذ على الأرض والميراث دون إخوته من ربح. وعوض أن توغر ربح صدر زوجها بلخمري على ابنه عمر من زوجته الأولى وتؤجج الكراهية والحقد بسبب الإرث خاصة وقد ظلم الورثة وخاصة ابنه عمر  "وميز عنهم ربح اعترافا لها بجميلها مع الناجي" (ابن العاقر، ص 138) فإن ربح اختارت العدل والتسامح حلا وعنوانا للحياة. فطلبت من زوجها علي أن يعدل وينصف عمر رغم حقده على أبيه. خاطبته قائلة:" نعرف اللي أنت وعمر ولدك ماكمش متفاهمين لكن هو يتيم ووحداني ما كانش عنده خيوة ذكورة...نا ما ش نتنازل ليه على بايي في الأرض وغيرها. نهار آخر ما يلقو كان خوهم الكبير"

ولم يكن من الأب علي بلخمري إلا أن يصفح عن ابنه عمر" وأمام نبل مشاعر ربح ورجاحة عقلها ازدادت معزتها عند زوجها وصفح عن ذنب ابنه ...وقد استعاد علاقته مع أبيه وأسرته".

وهكذا توفق الكاتبة إلى حل أزمة العقر وما تشي به من عقم وتستبعد كافة حلول العنف والقوة والكراهية والحقد وتختار التسامح .

التسامح قلب يسع المفارقات ويتفهم الاختلافات ويتسامى عن الإساءات والتعديات ويدعو إلى التعايش والتكامل والتجاوز عن الصغائر من أجل هزم العقر والجدب والمحل والسعي المخلص إلى طي صفائح البغضاء القديمة وفتح صحائف أخلاق التسامح والقيم العليا ومجالات العلم والعمل والإرادة والمحبة والعيش المشترك بين أبناء الشعب الواحد والأمة الواحدة ضد كافة أشكال العدوان الأجنبي والهيمنة الاستعمارية والعنصرية في مجتمع حر وعالم متضامن مع الحق.

الــخــاتـمـــة

ابن العاقر للروائية والشاعرة والترجمان زهرة حواشي جنس بديع يجمع بين الرواية والمسرح والغناء فهي أقرب إلى رواية غنائية تصور ربوع تونس الخضراء بالشمال الغربي عامة والسرس والدهماني والروحية والكاف خاصة زمن الاستقلال وما قبله وما بعده بقليل. فترة تحول كبرى شهدتها تونس والمغرب العربي والوطن العربي والعالم. فترة الاستقلالات على حد تعبير المغربي علي أومليل والديكولونيالية حسب فرانز فانون (1925-1961) الفرنسي المارتينيكي وإيمي سيزار(1913-2008) أستاذ فانون ومواطنه. تروي قصة امراة كهلة عرفت العقر في زواجها الأول من ابن عمها فطلقها فتزوجت أحد جيرانها فأنجبت. هي حكاية عجيبة بعض الشيء لأنها تتحدث عن عقر امراة ثم إنجابها. ولكن العجيب حقا كيف حكت الراوية القصة؟ أي كيف جاء خطاب الرواية؟

تكون خطاب الرواية ككل رواية من مستوى تركيبي نحوي ومستوى دلالي تاويلي.

ويتفرع المستوى التركيبي النحوي إلى صيغ الزمن وصيغ السرد والتبئير.

تميزت الرواية بتخطيب الزمن (اختيار ازمنة بعينها وتوزيعها) في مخالفة للزمن التاريخي وربطه بالراوية العليمة مما سمح بالتلاعب بالأحداث والتصرف فيها وعرض لوحات غنائية ومشاهد درامية ومواقف بطولية تخلد الحركة الوطنية فسمعنا أصواتا متعددة لفاعلين كثيرين تسجل الحوارية الباختية وتجسد أشكالا من  المناص أو العتبات والتناص وألوانا من التسلسل والتناوب والتضمين في كف راوية عليمة تدير خذروف الحكي وتهيمن على الإخبار فتتجاور البانوراما والمشهدية وتتنافس القصة مع المسرح والماضي مع الحاضر وهو ما ينقلنا إلى المستوى الدلالي التدلالي الذي ينهض على متوالية من المفارقات أولها العنوان ابن العاقر ليتناسل في مفارقات الجدب والخصب والعلم والجهل والفصحى والعامية والثارات والتجاوز لتفصح الرواية عن تصوير مشكلة اجتماعية صحية نفسية ثقافية فكرية حضارية منطلقها ربح والشمال الغربي في تونس زمن الاستقلالات ومنتهاها تونس والعرب والعالم الثالث في صراعه بين عقره الناجم عن الماضي والاستعمار وتطلعه إلى الاستقلال الحضاري. وهنا قدمت الكاتبة زهرة التسامح والعلم والإرادة حلا للخلاص والتغلب على كافة أشكال العقر والعجز.

رواية ابن العاقر رواية غنائية اجتماعية واعدة نجحت في تشخيص المشكلة أي العقر وتقديم الحل أي العلم والتسامح ولكنها مطالبة بتعميق الجوانب الفنية لاسيما صيغ السرد وتحرير الشخصيات.

***

تقديم: د. كمال الساكري

في المثقف اليوم