قراءات نقدية

قراءات نقدية

كان الهايكو الإستوني التقليدي حاضرا قبل عام 1960، ولكنه شهد تطورا ملحوظا شكلا ومضمونا منذ الستينيات من القرن الماضي، وهذا ما ذهبت اليه الدكتورة (كاتي ليندستروم) من قسم تاريخ العلوم والتكنولوجيا والبيئة في المعهد الملكي في (ستوكهولم – السويد) من خلال مقالها القيم بعنوان (منظور واسع للهايكو الإستوني مقارنة بأصوله اليابانية)، وقد إستندت في تحليلها إلى قصائد الهايكو المنشورة في مجلة (لومينج) الأدبية للفترة (1963 – 1998). ويعتبر الشاعر والكاتب والمترجم والمحرر(أندريس إيهين) (1940 – 2011) من أبرز رواد هذا الشعر باللغة الإستونية في القرن المذكور، وكان قد نشر في ايرلندا مجموعة هايكو ثنائية اللغة (الإستونية – الإنكليزية) بعنوان (موس بيتل سوالو) 2005. وهو مدرج في قائمة الشعراء الأكثر إبداعا في أوروبا لعام 2010، ومن أعماله أيضا (بلوط الذئب 1968، دع الطائر يثرثر في الخارج 1977). أما (فيليكس تامي) و(أرفو أنتونوفيتش ميتس) (1937 – 1997) فقد كتبا الهايكو باللغة الروسية. ولد (ميتس) في (تالين) الإستونية وعاش في موسكو معظم الوقت، وتلقى تعليمه هناك في (معهد مكتبة لينينغراد) و(معهد مكسيم غوركي للأدب). عمل محررا في بعض المجلات الأدبية. نشر أربع مجموعات شعرية. له قصائد مترجمة إلى الإنكليزية والهولندية والهندية والصربية والسويدية وغيرها. من أعماله (أحجار تالين 1989، الحلقات السنوية 1992، قصائد 1995، في غابات الخريف 2006). ترجم الشعر الإستوني إلى اللغة الروسية.

وقد ظهر (الهايكو الإستوني) المتكون من ثلاثة أسطر لأول مرة في عام 2009، ولكن ب ( 4 - 6 - 4) مقاطع مقابل (5 – 7 – 5) للهايكو الياباني (ينظر: إلسي ليهيستي، الإدراك الصوتي لشكل الهايكو في الشعر الإستوني مقارنة بالياباني). ويعتبر الشاعر والفنان والناشر ومصمم الجرافيك (أسكو كوناب) (تولد 1971 تارتو) من أبرز رواده، وقد نشر في عام 2010 مجموعة هايكو مشتركة باللغة الإستونية مع (يورغن روست) و(كارل مارتن سينيجارف) (تولد 1971 تالين) تحت عنوان (الهايكوالإستوني). وله أيضا عدة مجموعات شعرية. أما (سينيجاريف) فهو خريج جامعة (تارتو)، ويحمل شهادة في فقه اللغة الإستونية. كتب الشعر في سن مبكرة، ونشر مجموعته الشعرية الأولى وهو في ال (17) من العمر. ساهم في مجموعات شعرية مشتركة. أصدر مع الصحفي (يوري بينو) رواية موجهة للأولاد. كان رئيسا لاتحاد الكتاب في إستونيا للفترة (2007 – 2016).

ومن شعراء الهايكو أيضا (يوري تالفيت)، وهو أديب وأكاديمي معروف، ولد عام 1945 (بارنو). حاصل على شهادة في فقه اللغة الإنكليزية من جامعة (بارنو)، وعلى شهادة الدكتوراه حول الرواية الاسبانية. رئيس تحرير مجلة (الدراسات الأدبية الدولية). ترجم من الاسبانية إلى الإستونية ل (كيفيدو، كالديرون، ر. غوميز دي لا سيرنا) ول (غارسيا ماركيز، فارغاس يوسا وغيرهما) من أمريكا اللاتينية. ترجم إلى اللغة الإنكليزية للشاعر الإستوني الكبير (يوهان ليف) بالاشتراك مع الشاعر المعروف (هارفي ل. هيكس). 

 وفي عام 2011 نظمت أول مسابقة للهايكو باللغة اللإستونية على هامش معرض (هلسنكي) للكتاب الذي أقيم خلال الفترة (27 – 30 تشرين الأول). وكان لإستونيا مركز الصدارة في المعرض المذكور حيث شهد عرض مجموعة واسعة من الاعمال الأدبية والثقافية والفنية والعلمية الإستونية. مع حضور واسع للشخصيات الأدبية والفنية الإستونية الكبيرة.

نماذج من الهايكو الإستوني (مترجمة عن الإنكليزية):

1

- أندريس إيهين  

غيوم بيضاء صوفية الشكل

تغدو أكثر بياضا

بعد أن حلقت البجعات بجانبها

*

في الحقل الذي أزهر فيه الخشخاش

نقيض العقبان

خريف وشيك

*

مستلهمة من أغنية العندليب

شرعت الضفادع تغني منقنقة

بحيوية بالغة

2

– أرفو ميتس

رياح عاصفة

نحن في قلب عاصفة ثلجية ذهبية اللون

أوراق الشجر الصفراء المتساقطة

***

بنيامين يوخنا دانيال

...........................

1 – Dr. Kati Lindstrom، A broad Perspective on Estonian haiku as compared to its Japanese origins. https: // www. researchgate. net

2 – A History of Haiku in Bosnia – Herzegovina، Estonia and Macedonia. www. thehaikufoundation. org

3 – Estonia haiku. https: // en. Wikipedia. org

4 – Ilse Lehiste، The Phonetic realization of the haiku from in Estonian poetry، compared to Japanese. https: // www. degruyer. com

5 – Kati Lindstrom، Author، landscape and communication in Estonian haiku. https: // philpapers. org

6 – Juri Tavet. https: // estlit. ee

7 – Karl Martin Sinijarv. https: // www. estonianliteraturecenre. ee

8 – Arvo Mets. Wikipedia. https: // Wikipedia.org

السياق الموقفي ومونتاج الوحدات السياقية، الفصل الأول، المبحث (3)

توطئة: قد نفهم إفتراضا بأن مؤشرات رواية (حياة الكاتب السرية) للكاتب الفرنسي هيوم ميسو، ذات وحدات تختلف عن مستويات البناء الروائي التقليدي، وقد يخص هذا المجال من اختلاف طبيعة مؤثثات الرواية، في كونها تمارس نشاطا حيويا بمحتوى تقانة الوحدات واللقطات والمشاهد العامة والخاصة، تندرا حاسما بجملة أوجه توافقات (المونتاج السينمائي-،السياق الوحداتي المبئر- التشكيل الموقفي المترابط) إشباعا للنص وآلياته بذلك المحتمل من التماسك والترابط اللذان يوفران ذروة خاصة ومخصوصة من مسافة وحجم ظرفية الأنتقالات الزمنية والمكانية والشخوصية الصاعدة تبئيرا بجملة مفترضات تكثيفية لأحداث الزمن الروائي.

- النص الروائي وتراتيبية الاجتزاء اللقطاتي:

يمتد السرد في بنيات فصول الرواية الى ذلك النوع من الاستباق الداخلي (التكميلي - الاستقرائي) بلوغا بهما الى شواهد مونتاجية امتهنت حضور المحاور الشخوصية بصور الإشارات الاستباقية التي بات يقدمها السرد في محمول الأحداث المحكية، كطبيعة تبلغ ذروتها الى غايات مكشوفة ومضمرة بالشد المونتاجي المحصل من خلال حقيقة الاحوال السياقية الجارية على مستوى السرد المتصل:  (كان القلق الشديد يتأكل ناثان فاولز من الداخل ./ص52الرواية) نجد هنا أن محتوى اللقطة حلت في ما يشبه العنصر التأشيري -السياقي، الذي يشكل بذاته حراكا داخليا يفيد زمن حصول (اللقطة المتوسطة) توافقا بالناتج الإحساسي الذي يشتمل عليه محور الشخصية، وهو بوصفه الوقع الاولي في وحدة المحتوى لوحدة محمول النص التأشيرية بوجوب خضوع طبيعة اللقطة الى حالة تمظهرية تمظهرا مرتبطا بجملة هواجس داخلية أو خارجية، ولكنها في الآن نفسه تؤشر بذاتها نحو إنطلاقة سياقية مشروطة بوازعات معادلية ذاتية لا يمكنها تجاوز محتوى الحجم  اللقطاتي في الحال التمثيلي: (كان يجلس في كنبه ويرفع قدمه اليمنى المثبته بالجص على مقعد منخفض .. كان مشوش لتفكير- فكلبه برونكو، الكائن الوحيد الذي يهمه وجوده على هذه الأرض./ص52،الرواية)

1- السياق الإشاري وبنية التركيز الاستباقي: 

لعل من الصعوبة الدارجة في الكتابة الروائية، إنشاء جملة ما خارج مقصدية الرابطة الإتصالية في محددات (السياق -الرسالة- المرسل - قناة الاتصال - شيفرة تولد إرسالي) ومن هنا لعلنا في حالة المحور الشخوصي التمثل بوظيفة اللقطة، جعلنا نعاين حساسية جملة الوحدة السابقة (الكائن لوحيد الذي يهمه وجوده على هذه الأرض) بما يشكل المعنى القار بأن المحورالشخوصي على اهلية كفاءية تامة في عدم توافر الانموذج الذي يعنيه تماما كعلاقة حميمة مع اي نوع بشري اخر، سوى ذلك الكلب الذي هو خارج مؤشرات حقيقة محاور الرواية الفعلية والعضوية، ولكن المؤلف ميسو إراد من وراء ذلك إظهار كون ناثان هو بذاته شخصية تدعي لذاتها مهجورية الصلات والأواصر مع كل ما هو خارج حدود قلعته الحصينه، لذا فهذه الأمر بذاته هو من الاختزال في حق حكاية ناثان وهو يمارس مع نفسه حياة عدوانية القالب والقبول، إذ تحكمها من جهة ما محنة انتكاسية ونفسية مريرة والضيق صدرا بالاخر المجتمعي (في الليلة السابقة اتصل ناثان بجاسر فان ويك وكيله الادبي من نيويورك، وصلة الوصل الاساسية التي تربطه بالعالم الخارجي /ص52،الرواية) هاهنا نتعرف على أهمية هذه الحدة التأشيرية الواردة في النص، ما راح يعزز من خلالها اعتقادنا بأن ناثان ذو طوية عزلوية تدعوا الى الريبة والشك، وأحيانا الى الاقرار بالسؤال المطروح هنا:  ما الذي يجعل من هذا الكاتب الشهير يقع بصورة فجائية فريسة الى حياة عدمية متقلبة في المزاج ورصانة النفس والمتروكية الكاملة لممارسة عوالمه الكتابية التي لا غنى للكاتب دونها؟  ألربما يكون مريضا أو مستاءا من جراء حدوث حالة مستعصية على وضعه التفسي، وبخاصة جانبه العضوي من أوضاع سلامة جسده، أو لربما هو مأزوما في ذاته بطريقة يصعب علينا تحصيل مفادها القضوي بدءا في حيثيات الرواية الاولى في استلالاتها الاولية؟

معنى ذلك أن المحور ناثان فاولز عبارة عن فرضية في حالاته المتشعبة في الانتاج الدلائلي، اي بوصفه  مصدرا مرجحا حول حياته ومجمل حالاته المعروفة في النص، لكنه بذاته يشكل إنتاج حالة سياقية تتمثل في كونها دليلا على أوجه سننية ما نخترق الواقع الحاصل في مجريات النص، تلقيا محيرا معقدا في أدلة أحواله التحيينية: (أيقظ رنين الهاتف الجداري فاولز من سباته. لم يكن الروائي يملك هاتفا محمولا أو بريدا إلكترونيا أو حاسوبا./ص٥٣ الرواية) كما وضحت بادئ ذي بدء المقدمات الروائية الخاصة بشخصية ناثان - قد لا يستنتج من خلالها سوى جملة أشكال دينامية مفترضة- قد لا تقدم بدورها للواقع النصي سوى تصورات وتكهنات مؤشرية تدعو الى الاعتقاد في كون هذه الشخصية تعاني من حالات ذهانية قد يجوز ان تكون بسبب كونه كاتبا مرموقا، أو أنه يجاهد بضع حالات نرجسية احدثتها نجوميته الادبية في مرحلة مبكرة من انتاجه الروائي. ولكن هل ياترى بالامكان القول بأنه يكابد حالات خاصة ن مهزومية الكاتب من انتاجه الروائي القادم، لا شك في ذلك، بخاصة وأن اغلب الكتاب يعيشون مراحل متحفظه من نصوصهم المستقبليه والخوف والقلق منها إن لم تكن في المستوى المطلوب وفقا لحصيلة رواياتهم القديمة . لعلنا ونحن نطالع طبيعة التركيبة في حياة ناثان فاولز، لاحظنا ثمة حالة انتقالية في الاحداث الروائية التي تخص وضعه كمحورا فاعلا، فإذا افترضنا ذلك فما نوع هذه الانتقالات السردية التي تضمرها لنا تمثيلات شخصية مأزومة على نحو ما من حالات الخصوصية الموضوعية التي تعرفنا إياها مدارات الاحداث الصاعدة بالنمو السردي والتبئيري، إذا انها جاءت على هيئة (تزاحم إشارات- علامات) إستكمالا لتداخل حدود سردية جعلت توضحها حالات إنتاجية خاصة بالوحدات الموازية من علاقات المواقع المحورية في الواقع النصي.

2- آليات المستنتج في عين الإنتاج التصادفي:

علمنا أن سيرورة الاستدلال قد تأتي غالبا، أما عن طريق المنتج التتابعي وناتجه القابل بالضرورة لكل امكانيات الإمتداد الدلالي المرتبط بنوعيات الحدوث المشيد، أو من خلال دمج سمة دلالية تصادفية ملموسة في أوجه مؤشر قضوي، يحرض على المنتج سببا من جهة الاحاطة وقيد التفعيل للنواة النصية. قلنا علمنا سلفا من خلال حكاية الاحداث بأن: (كان فاولز يتنقل متكئا على عكازيه، ويدور حول نفسه كأسد محتجز في قفص، كما كان يتناول مضادات التخثر لتجنب الإصابة بجلطة - لم يكن يجيب قط على الاتصالات التي ترده، بل كان يترك المجيب الآلي في الطابق العلوي يتولى المهمة ./ص53 الرواية) ما معنى هذه الوحدات من اللقطة أو المشهد ؟ أو بالاحرى هل لها معنى ما يختص بأختفاء الكلب دالا في جهة ما من اهتمامات المحور الشخوصي ؟ . قد تكون الإجابة عنها، في حكم كونها سياقية مع غيرها من اللقطات، بخاصة ما يتعلق وجانب الخاص من حياة فاولز ومدى الصدمة التي اعتاشها من خلال غياب كلبه، ولكن هل هذا كل ما يعنيه الامر في شأن ورود مثل هذه السياقات، كحالات (يدور حول نفسه - يتناول مضادات التخثر - لم يكن يجيب قط على الاتصالات - المجيب الآلي يتولى المهمات) لا شك أن هذه المؤشرات تمتلك أدلتها السياقية، كذلك تمتلك علاماتها الفعلية بالنسبة لحقيقة الدليل التحققي في حالات المحور الشخوصي المركزي -دليلا مضمرا- وبوصفه علاقة ضرورية ترتبط بموضوعة علامات الحكي . أقول أن عملية المجاورة في سنن الأدلة السياقية اللاحقة والسابقة ما هي الإ عملية العثور على: (-لدي خبر سار لك ياناثان:  لقد وجدنا برونكو؟) هذا بدوره ما راح يعزز صلات الاعمال المهملة من قبل المحور في عدم ردوده على الإتصالات، ناهيك عن كونه لم يكن مهتما اعتبارا بوسائل الهواتف اصلا، وحتى قبل حادثة ضياع الكلب. إذن الانساق الاولية للتواصل هي اساسا لم تكن مرحبا بها في مجال اهتمامات فاولز، ذلك ما يرشح حقيقة مهجورية المحور للزمن والمكان والشخوص الخارج حدود قلعته . لعل ما اثار اهتمامنا بطريقة غير مألوفة هو: (أين عثر عليه؟ رأته امرأ ة شابة على الطريق بالقرب من شبه جزيرة صوفيا واقتادته الى إدز كورنر؟ . شعر ناثان بانها مكيدة مدبرة . كانت شبه الجزيرة تقع في الطريق الآخر من بومون؟ ماذا لو كانت هذه المرأة قد خطفت كلبه لكي تتمكن من الوصول إليه؟) تأتي مجموعة هذه الاسئلة الحوارية الدائرة بين ناثان ووكيله الأدبي في مرتبة المؤول المباشر، وترتبط من جهة ما بذلك المفعول المضمر لدخيلة ناثان المنتج لكل هذه المؤولات، ولذلك لا تخلو هذه الاسئلة من التفعيل النواتي في ربط الوقائع بالاسباب، بل لربما هي تمثيلات إنتاجية تبريرية تتطلب ربطا محايثا لكافة التحيينات والمعطيات المخمنة، بخاصة وان هناك حادثة قد يحصيها ناثان بوصفها تجربة اخفاقية منتحلة من قبل تلك الصحافية التي تمكنت من فتح محاورة مع ناثان في مطلع الثمانينات، اي كمحادثة خارج حدود الاضواء والاصداء الاعلامية، فكشفت هذه الصحافية عن تفاصيل دقيقة ومؤثرة كان فاولز يعدها ضمن هتك الاسرار والخصوصيات الشخصية له، وما حدث إن تم تحويل تلك المحادثة الى مقال حواري قامت بنشره تلك الصحافية في إحدى الصحف الأمريكية، وهذه الامر بدوره ما آثار حفيظت ناثان ومنذ يومها غدا مكرها للعناصر العاملة في الصحافة، خصوصا انه كان يؤثر لذاته حياتا سرية في حصن قلعته المنيعة: (- من هذه المرأة بالضبط ؟ - ما تيلد موني، انها سويسرية قصدت الجزيرة في إجازة ..إستأجرت غرفة في النزل بالقرب من دير راهبات البيند يكتين، وهي صحافية في صحيفة - لوتان-) لا شك أن العوامل السردية تشتغل في مساحة الحوار إستباقا وإقترانا لا يفارقان تلك الخيوط الصاعدة في منظومة الحبكة، ولو في حدود ممكنة من المقاربة والكشف المعقد . إذن من الحكمة ألا يبد ناثان ظهورا امام واجهات وناصيات الإعلام وذباب الصحافة، ولكن لماذا كل هذه التحفظات ؟ أهو الغرور المفرط؟ أو هو القلق من المطالبة بكتابة رواية جديدة؟ أم أن هناك حالة مضمرة تشي بعقدة ناثان الملغزة، وهل فعلا ان ناثان مصابا بقهرية الخوف من الكتابة. ولنتذكر قيلا مما قاله فاولز سابقا عشية ذلك اللقاء الاول مع رفاييل في ضيعة منزل ناثان: (حياة الكاتب هي الشيء الاقل روعة في العالم، تنهد فاولز ..أنت تعيش كالأحياء الاموات، وحيدا منقطعا عن العالم  تبقى في ثوب النوم طوال النهار وتؤذي عينيك مسمرا أمام الشاشة وأنت تتناول البيتزا الباردة./ص47 الرواية) قد يشكل مثل هذه الاعتراف من فاولز نفسه الى رفاييل حالة فرارية من  مشروع حياة المؤلف، لذا بدت إجوبته شاذه من نوعها النادر، وقد يجعلنا مثل الامر الاعتقاد بأن فاولز يتجشم عبء عقدة مضمرة في إحدى مستويات حياته الصراعية مع اسراره ومبرراته اللامقنعة تماما، ولكننا على أية حال لا نريد أن نعلم مستوى  الانتكاسة في تفاصيل حياته الشخصية، بقدر ما نحاول التعرف بدرجة ما من الوضوح ومعرفة ما سبب درجة الانقلاب في حياته الثقافية والأدبية . لعل الروائي الفرنسي غيوم ميسو أربك القارئ في سلم توقعاته نوعا ما، بخاصة وأن مستوى انسحاب شخصية الكاتب من  عالمه التأليفي لا تحدث بصورة فجائية، دون مقدمات وتجليات تمهيدية معروفة في رحلة مبررة في الانسلاخ عن دلالات ذلك العزوف الغرائبي . ما بين عناية رفاييل بمستوى كونه ذلك المكتبي الناشط في بيع المزيد من الروايات عبر مشغله لدى أودبير: (إنها الظهيرة بعد جدال دام عشرين دقيقة، نمكنت من بيع نسخة من كتاب الياباني تانيغوتشي، فابتسمت، والحال انه وفي أقل من شهر تمكنت من تغيير المكتبة - لابد لي هنا من الاعتراف بأن المكتبي كان له الفضل بذلك لأنه منحني الحرية المطلقة، كان يدعني وشأني في المكتبة التي لم يكن يتردد إليها إلا نادرا، كما انه لم يكن يخرج من شقته في الطابق الأول سوى ليذهب ويشرب بعض كؤوس خمر في الساحة ./ص55 الرواية)

لعل هناك معطيات غريبة بدت مشتركة بين ثنائية الشخصيتين (فاولز - أوديبير) فالشخصيتين تشكلان حالة متقاربة نسبيا في مجلى الملغز والمرمز وبعض الاطوار النفسانية التي تترتب من حيث موقع الطابع والهيئة، وكأن هناك خيطا ما يتجاذب الطرفين من بعيد.ففاولز مشحون بصبغة غرائبية تقارب طبع ما عليه حال أوديبير من حيث كونه شخصية منزوعة من شروطها التي تستوجب أن يكون عليه حالها، في حين يربط رفاييل بين الطرفين كحلقة وصل وكعلاقة تتم في حدود مبهمة لا يسمح سياقنا الحالي الكشف عنها إلا في حدود ظرفها الموضوعي الخاص من زمن الرواية .

- المؤلف المفترض لسيرة فاولز السرية:

لا شك أن طبيعة المنظور السردي في رواية (حياة الكاتب السرية) تشكل حدا متناوبا عبر تشكلات من أشكال وثنائية (الراوي- الشاهد) فالروائي ميسو قام بتحديث اللالية الحدثية عبر جملة تقديمين مختلفين، الأول منهما (بانورامي؟) ذو وظيفة تصويرية يتكئ على (العرض الذاتي للمسرود- المسرود الذاتي للموضوعة) والاخر أضحى مشهدي ذو صفة حوارية، وقد عزز ميسو هاتين الطريقتين بتقنيات (سياقية:  يوميات-مذكرات- حوادث قتل - معطيات ووقائع متواترة) وتبرز عناية الروائي غيوم ميسو بالوحدات السردية الأكثر ملازمة الى فضاءات وأزمنة قابلة للتفتيت والتشظي، وهذا ما جعل الخطاب في الرواية كمقاربة متوارية ومضمرة لأحوال حكاية (المؤلف المفترض؟) الذي هو ذاته تماهيا بين (المؤلف الحقيقي + المؤلف المفترض) حيث تظهر لنا ثمة وحدات تؤشر لذاتها قناعة خاصة في كون الشخصية رفاييل هو من يكتب الرواية حينا، ومن جهة اخرى يطل لنا صوت المؤلف المركزي حينا ليقول: (لم أحرز اي تقدم يذكر في مشروعي حول لغز ناثان فاولز الذي اطلقت عليه اسم حياة الكاتب السرية).

1- الفضاء الخارجي ومسافة الفرادة في الموصوف: 

تتمحور عبر دلالات (الفضاء الخارجي) تلك المتعلقات المرتكزه في (الواقع- الوقائع) لتتجلى منهما علاقة حيادية بين الذات الساردة التي تحكي بضمير الأنا العليم وتصف بلغة محايدة. فالذات الشخوصية المتمثلة ب(رفاييل) بدت متعاطفة ومغامرة مع دوافع احداث الجزيرة، فيما نجد طبيعة الملفوظات راحت تكتسب ابعادا وصفية بالغة، مستهدفا بذلك الرصد الٱخباري لمجريات الوقائع اليومية: (بدا المكتبي قلقا .. منذ عشر دقائق، انتشرت إشاعة لا تصدق في الساحة .. أكتشف متنزهان هولنديان جثة على شاطئ تريستانا بيتش، وهو الشاطئ الوحيد على الساحل الجنوبي الغربي للجزيرة .. المكان خلاب ولكنه خطير، ففي العام ١1990 قتل مراهقان كانا يلعبان من المنحدرات، كان حادثا مروعا صدم سكان الجزيرة وهو مشاعرهم /.ص57 الرواية)

- تعليق القراءة: 

لعل دور السياق في معنى الوحدات السردية لها ذلك الترابط والتماسك عبر تفعيل عاملي (حكاية- علاقة- دلالة) وإذا قمنا بتقصي زمن ومكان الوحدات في الاجزاء الروائية، لوجدنا كونها عبارة عن (سياق موقفي- تراتيبية سياق) إقترانا بذلك الادراك الوقائعي الذي غدا يؤسسس دلالات تتجاوب وتتلاحم مع نمو تزامن الترابط والتماسك في موضوعة الرواية ومشخصاتها وأوصافها الاكثر تحولا في زمنية اللقطات والمشاهد وتراتب الموصولات التشاكلية والتمثيلية في روح المعطيات المضمنة والضمتية والاكثر إيغالا في إجرائية التحفظ في الموارد والمصادر المخصوصة في حجب مواقع التفاصيل الروائية.

***

حيدر عبدالرضا – ناقد وكاتب عراقي

بقلم: بي بي غرانت

ترجمة محمد عبد الكريم يوسف

***

تتحدد كل شخصية تقريبا في رواية لوليتا من خلال ميولها الجنسية، ولكن نادرا ما تشارك أي شخصية في أنشطة جنسية تقليدية. إن ميل هومبرت الجنسي إلى الأطفال يمنعه من إقامة علاقات جنسية مناسبة مع النساء؛ ولوليتا، باعتبارها موضوع شهوته، غير قادرة على استكشاف ميولها الجنسية بشكل طبيعي وتختار شريكها الجنسي التالي بشكل سيئ، فتقع في حب كويلتي، وهو متحرش آخر بالأطفال ومصور إباحي أيضا. إن قصتهما ليست سعيدة: إذ يُقتَل كويلتي؛ ويُسجن قاتله؛ وتنتهي ضحيتهما بالزواج والحمل في سن السابعة عشرة، ثم تموت أثناء الولادة. ومن خلال تقديم معرض غير طبيعي للشخصيات وقصة تنتهي بمثل هذه النغمة القاتمة العقيمة، يبدو أن نابوكوف يوحي بشيء ما حول طبيعة الجنس والمسؤولية الأخلاقية.

ويتتبع هومبرت مصدر ميله الجنسي إلى الأطفال إلى "قصة حب غير مكتملة في مرحلة الطفولة" مع "الطفلة الأولى"، آنا بيل لي. وبالتالي، فهو يقع في أسر الحوريات، اللواتي يغرين الفتيات جنسيا "بين سن التاسعة والرابعة عشرة". وهذا يجعله غير قادر على إقامة علاقات جنسية طبيعية مع النساء البالغات؛ وأي متعة يحصل عليها تعتمد على مدى تشابههن بالفتيات الصغيرات. وتستميله مونيك لأن "جسدها الصغير... لا يزال يحتفظ بشيء من الطفولة"؛ وينجذب إلى فاليريا بسبب "تقليدها لفتاة صغيرة"؛ ومن أجل ممارسة الجنس مع شارلوت، "يستحضر الطفلة بينما يداعب الأم"؛ وبعد أن تتركه لوليتا، يواعد ريتا، التي تتمتع بجسد "ما قبل البلوغ". ومن خلال اشتهائه للفتيات الصغيرات، ينتهك همبرت أحد أقوى المحرمات في المجتمع الغربي، لذا فهو يحاول إثبات أن هذه المحرمات نسبية. كما يحاول إعادة تعريف مفهوم ما يعنيه أن تكون "طبيعيا" جنسيا وقلب الصورة التقليدية للمتحرشين بالأطفال، بحجة أن "أغلبية مرتكبي الجرائم الجنسية... "إنهم غير مؤذيين، وغير مؤهلين، وسلبيين، وخجولين". في الواقع، إنه لا ينتمي إلى أي من هذه الصفات. ومشاعره تجاه لوليتا مشكوك فيها أيضا. قد يزعم أنه "غير مهتم بما يسمى "الجنس" على الإطلاق" وأن الانجذاب الذي يشعر به تجاهها يتجاوز مثل هذا الابتذال، لكن الجملة الأولى في الرواية تشير إلى أن الجوانب الجنسية لهوسه مهمة بقدر أهمية الجوانب العاطفية: لوليتا ليست فقط "نور حياته"، بل هي أيضا "نار خاصرته" - أي مصدر إثارته الجنسية.

تتضمن أول تجربة للوليتا مع الجماع شخصا في فئتها العمرية: تشارلي هولمز البالغ من العمر 13 عاما. على الرغم من أنه يتمتع "بقدر من الجاذبية الجنسية مثل الجزر النيئ"، إلا أنها تجده "ممتعا نوعا ما".

لا يمكن قول الشيء نفسه عن علاقتها الجنسية مع همبرت، الذي يبلغ من العمر 37 عاما عندما التقيا: حتى لو بدأت الجماع، كما يدعي همبرت، فإن مشاعرها تتحول بمرور الوقت من "الفضول المتهور" إلى "الاشمئزاز الممتع" إلى "الاشمئزاز الصريح"؛ في الواقع، ردا على افتقارها المعتاد للاستجابة، أطلق عليها همبرت لقب "الفتاة التي لا تقاوم". "الأميرة الباردة".

في البداية، يواجه همبرت صعوبة في إقناع لوليتا بممارسة الجنس، ولكن بمجرد أن تبدأ في إدراك مدى قوتها عليه، تبدأ في ممارسة البغاء من أجل كسب مصروف الجيب. كما تستخدم الجنس كشكل من أشكال التهديد: عندما تتجادل مع همبرت، قالت إنها ستنام مع أول شخص يطلب منها ذلك. سرعان ما ينفصل الجنس عن الشعور بلوليتا، ومن المزعج كيف تصبح غير مبالية بهذا الأمر. ومن عجيب المفارقات أن مديرة المدرسة برات تعتقد أن لوليتا "غير مهتمة بشكل مرضي بالمسائل الجنسية": الحقيقة هي أن نموها الجنسي تضرر بشكل لا يمكن إصلاحه بسبب علاقتها بهومبرت. في الارتباط بكويلتي، تعتقد أن ظروفها ستتحسن، لكن كويلتي لديه تعاطف أقل من همبرت، ويطردها عندما ترفض التمثيل في أحد أفلامه الإباحية.

إن كويلتي يلعب دور بطل لوليتا، الذي "أنقذها من منحرف وحشي"، ولكنه ليس أفضل منه، لأنه هو أيضا يعاملها كشيء جنسي. ومثله كمثل همبرت، فإن كويلتي "مجنون تماما في الأمور الجنسية"، ولكن حقيقة كونه "عاجزا تقريبا" تعني ضمنا أن الجنس بالنسبة له رياضة عقيمة وتلصصية.

ولهذا السبب، يعتقد بعض القراء أنه يجسد الجانب المنحط من همبرت (وحش بلا ضمير)، ويزعمون أنه عندما يقتل همبرت كويلتي، فإنه يدمر رمزيا ذاته الشريرة.

ومع ذلك، فإن كلا الرجلين لا يمكن إصلاحه. ففي لقائهما الأخير، عندما سأل همبرت لوليتا عن الأفعال الجنسية التي حاول كويلتي إقناعها بالمشاركة فيها، كانت إجابتها غامضة: "أشياء غريبة وقذرة ومبتكرة". وقد ضغط عليها للحصول على إجابة دقيقة، لكنها "رفضت الخوض في التفاصيل مع ذلك الطفل داخلها". إن ترددها يعكس رغبتها في حماية نقاء طفلها الذي لم يولد بعد: إن مجرد الحديث عن هذه الأفعال القذرة من شأنه أن ينال من براءته. وكما اتضح، فإن طفلها يموت معها أثناء الولادة، وهو رمز مؤثر لكيفية إعاقة براءة لوليتا ونموها بسبب هوس همبرت الجنسي. ويبدو أن هذا يشير إلى أن ممارسة الجنس بدون حب، وبدون الشعور بالأخلاق والمسؤولية، كما يعترف همبرت أخيرا، ليست ممارسة جنسية.

***

....................

المصدر:

Encyclopedia of Themes in Literature, Copyright © 2011 by Jennifer McClinton-Temple, Facts On File, Inc.,  SEX AND SEXUALITY in Lolita P. B. Grant p 817

كوميديا سوداء في سيرة فوتوغرافي

يفاجئنا الروائي العراقي أزهر جرجيس في روايته "حجر السعادة" التي وصلت إلى القائمة القصيرة لجائزة البوكر العالمية للرواية العربية عام 2023، بمحاولة اغتيال  فوتوغرافي مغمور، لكنَّ المحاولة لم تتمْ،  كما يهجس القارئ، بدليل أنَّ الراوي، يُظهر أنَّ كل شيءٍ على ما يرام بعد طلوع النهار، فهل هو كابوسٌ له خلفيات معينة، في سيرة حياة الراوي المشارك والشخصية الرئيسة في الرواية "كمال"، حيث يبدو لمن يكمل قراءتها بأنها سيرة حياة  فوتوغرافي منذ طفولته ولغاية شيخوخته، وفيها تسليط أضواءٍ على الحياة العراقية خلال سني عمر بطل الرواية منذ خمسينيات القرن الماضي ولغاية أواخر العقد الثاني من قرننا الحالي.

قسّم جرجيس روايته إلى فصولٍ قصيرة، ولذلك بلغ عددها 32 فصلاً، كلُّ فصلٍ له عنوان، مستمدٌّ من الحدث الرئيس فيه. نعتقد أنَّ قِصَر الفصول في رواية يبلغ عدد صفحاتها 314 من القطع المتوسط، يمنح القارئ تشويقاً، لكي يعرف ما يحدث في الفصل التالي، زدْ على أنّها استراحةٌ قصيرةٌ للقارئ، كي يتأمّل ما حدث في كلّ فصل، وخلق ارتباطاتٍ في مسلسل الأحداث بحسب الرؤية القرائية لكلِّ قارئ.

عودةٌ إلى البدايات

يعود كمال عبر "الفلاش باك" إلى طفولته في حارة الميّاسة في مدينة الموصل، عندما كان عمره ثمانية أعوام، يروي معاناته، بين أب ٍقاسٍ وعاطلٍ وخمّار، وزوجة أبِ لا تعامله بالحسنى كما تعامل أخاه الصغير، فهو ابنها، بينما هو وأخته جانيت من زوجة أبيهما السابقة، أي والدتهما. جانيت تعمل على حياكة (ليف) الحمّام وصنع مكانس القش، وتذهب الزوجة ومعها كمال الذي يحمل البضاعة، فتبيعها لتشتري بها متطلبات البيت، لكنها تستكثر على كمال شراء قطعة (زلابية)، فيضطر إلى سرقتها ، لكن الزوجة الماكرة تفضح ذلك الأمر عند أبيه، الذي يعذّبه بقسوةٍ شديدة، ويحرّم عليه دخول البيت، فيضطرَّ إلى المضي بعيداً، إلى ما يسمّى خرافةً (بستان الجن). ويتكرَّر هروبه من البيت، المرة الثانية، يفلح في الفرار إلى بغداد، عندما اتّهم بإغراق أخيه في النهر.

قبل هروبه النهائي إلى بغداد، لجأ إلى البستان، فعثر بين العشب، حيث جلس، على حجرٍ أزرق  لامع مثقوب، وهنا تأمّل فيه أن يكون حجر نجاته من كل ما هو فيه، وفي سياق الأحداث أفاده الحجر، في حالتين، استعادة النطق، وإزالة التأتاة نتيجة  إحدى حالات التعنيف القاسية من قبل أبيه، والحالة الثانية استعادة الهدوء الداخلي، بعد حالات التوتر التي لا تُعدُّ ولا تحصى، من تلك التي مرّ بها كمال في حياته، تتمُّ الحالتان، بعد أن يلتقم فم كمال الحجر من جميع جوانبه، وبعد شعوره بزوال الحالة الشاذّة، خَلُص إلى أنَّ هذا الحجر، سيعيد إليه السعادة الداخلية، ومن هنا سمّى جرجيس روايته "حجر السعادة"، ولذا علّقه كمال في رقبته كتعويذة.

ومن هنا نستنتج استثمار جرجيس في روايته  للميثولوجيا، وكأنّ المصائب والتعاسات التي مرّ فيها بطل الرواية، لا تُزاح إلاّ بمعجزات .

ملاذ الفوتوغراف

عشق كمال للتصوير، هو الذي جعل حياته تستمرّ في بغداد، حين يتعرّف على المصوّر خليل، صاحب استوديو  في شارع الرشيد وسط بغداد، وقبلها كان يعيش حياة تسكعٍ ينخر جسده الجوع، ممتهناً أعمالاً مختلفة، بين لصوصيةٍ أًرغم عليها مقابل إيوائه وإطعامه من قبل رجل يدّعي التديّن، كما عمل عتّالاً وصباغ أحذية. يجد كمال نفسه في مستشفى بعد أن طعنه متشرّدٌ مجنون، في خاصرته، أجريت له عملية رفع كلية، وبما أنّه بلا مأوى، يؤويه العم خليل في بيته، ومن ثمّ في شقة  أعلى الاستوديو، وأهدى له كاميرا، فانطلق يمارس التصوير، وهو سعيدٌ بتطورات حياته الجديدة، كما أصبح له صديقٌ في مثل سنّه يعمل في مطبعة، بعد أن يموت العم خليل تأثراً بوفاة زوجته، التي يُحب، ترك وصيةً له عند صديقه فوزي المطبعجي، مالك مطبعة السلام، والد حبيبته نادية، الذي رفض هو وزوجته، اقتران ابنتهما به، فيزوجانها لابن عمها رجل الأعمال المقيم بين بغداد ولندن. الوصية وثيقةٌ دامغةٌ على أنّ كمال أصبح المالك الشرعي للاستوديو. فأصبحتْ له ملكية خاصة به.

هذه هي  أيام كمال، تمضي بين مدٍّ وجزر، بين أيام سعادةٍ، وأيام بؤس، وكذلك نحن العراقيين عامة، والبشرية جمعاء، هي رواية إنسانية، تمثلنا، حين يغدو العيش بكرامة، الهدف الرئيس، نتيجةً لكلّ ما قد  يقاسيه الناس، وليس كمال وحده، من ذل.

حروب.. حروب

باشتعال لهيب الحرب العراقية – الإيرانية، يكون كمال قد بلغ سن السادسة والعشرين، يروي كمال أجواء الحرب حينذاك، وللمفارقة أنه شكر المشرّد حيث كان السبب، في رفع إحدى كليتيه وإعفائه من الخدمة العسكرية.

كما يروي كمال بسخريةٍ سوداء ما جرى في أثناء الاحتلال الاميركي للعراق 2003، كان يتابع الأخبار وهو رابضٌ في البيت، الذي انتقل إليه في منتصف التسعينيات، بعد الفوضى التي سادت شارع الرشيد آنذاك، إذ أصبح غير قابلٍ للسكن، البيت يقع في محلةٍ شعبيةٍ في أطراف بغداد، لكنه شاهد صورةً مصغرةً عن أحداث النهب والسلب في ذلك العام، بطلها جاره "طزّون"، وكان في العهد البائد لصاً وقاتلاً. إذ جاء بسيارة حمل فيها مواد منهوبة، قبض عليها في اليوم التالي مبلغاً كبيراً، وحدث أن اختفى "طزّون" في اليوم التالي، وبعد فترة من الزمن، ظهر بمظهرٍ مختلفٍ واسمٍ مختلف، ظهر على أنه شخصيةٌ متنفذةٌ له حراسه الشخصيون.

يريد الراوي العليم القول من خلال الحوادث التي يمرّ بها كلَّ يومٍ في بغداد، بأنّ الاستثناء في حياتنا العراقية أصبح قاعدة،  فيصف بغداد في شتاء 2018  بأنها" مدينة الحواجز الأمنية  والاختناقات المرورية. ستشعر وأنت تقود وسط الزحام بأنك قادمٌ من الصين على ظهر ناقةٍ عرجاء": الرواية ص241.  كما حدث أن صدمت سيارة حديثة آخر موديل، سيارته البيجو القديمة، فحدث عراكٌ بينه وبين شابٍ طويلٍ مفتول العضلات، يضع مسدساً في حزامه، فضّهما بعض الحاضرين، لكن الشاب هدّد  كمال بأنه سيقتله حتماً في يومٍ من الأيام.

أحسَّ كمال، بأنَّ العد التنازلي لحياته قد بدأ، وهذا يعطينا إحساساً بأنّ نهاية  أحداث الرواية باتت وشيكة، اعتباراً من الفصل السابع والعشرين، فالأمور  تسير من سيّئٍ إلى أسوأ، كأنما هناك  أيدٍ خفية، تحيك المكائد له. رغم الانحدار السيئ، كان كمال يلتقط كلَّ ما هو إيجابي في الحياة العراقية  ليعزّزَ الأمل بالنفوس :" مرّ أصحاب الستر الخضراء. كانوا يزيحون الأكياس والحجارة عن حواشي الطريق وممرات الصرف الصحي، فتناولتُ الكاميرا وعمدتُ إلى توثيق ما يصنعون": ص 203 .

ظلّ كمال يتأمل متسائلاً: لماذا عليه أن يموت  قتيلاً، وليس موتاً طبيعياً،  مندهشاً بأنَّ الموت الطبيعي على السرير أصبح نادراً . ولكنَّ محاولة اغتياله تمّتْ  بأربع رصاصات، بعد أن كانَت في مطلع الرواية طيفاً أسود. ظنَّ القاتل الماجور بأنه مات، ولكنَّ معجزةً حدثت بنقله سريعاً بسيارة إسعاف إلى المستشفى ومعه نادية، التي غفر لها خذلانها له، فظلَّت تلازمه، وحين تعافى تدريجياً، أخرجته من المستشفى إلى متحف السلام، الذي صودرَ من أبيها أيام العهد المباد، وأعادته بإرادتها الحديدية وكتاباتها بإسمٍ مستعار. قرر كمال بعد معافاته تدريجياً الانتقام، وكانت نادية تثنيه عن ذلك إلاّ أنَّهُ أصر، ولكنّه بعد ليلةٍ حميميةٍ معها، ظلَّ نائماً وحين استيقظ، بدأ يضحك، وحين سألته، قال لها: "- طلع النهار ولم انتقم!":ص316. في الدلالة على أنَّ حبَّ الحياة الجميلة أسمى وأغلى وأجمل من  سلسلةِ الانتقامات التي لن تنتهي.

***

باقر صاحب – أديب وناقد عراقي

 

إن التأمل في بساطة أسلوب رواية الأديب أسامة المسلم "خوف" تدفع القارئ، بعد إنهاء قراءة أجزائها الثلاثة، إلى التأمل باستحضار الهوية الحضارية ما بين دول العالم المتقدم بشقيه الغربي (أمريكا وأوروبا) والشرقي (روسيا والصين) والعالمين العربي والمغاربي.

لقد ترسخ عند الأفراد والجماعات في العالم الأول تاريخ الفكر الفلسفي وتطوراته عبر العصور، بحيث برزت في العصر الحديث الأدوار الريادية للتاريخانية في تنوير الشعوب وحسم تفوقها العالمي. لقد توفرت كل الشروط الثقافية والمعرفية التي مكنت شعوب هذه الدول من خلق القطيعة المنشودة النافعة مع ظلمات الماضي خلال القرنين 15 و 16، ليتم خلال القرنين 17 و 18 إعلان النجاح الغربي في المرور إلى الأنسنة وتحويل الإنسان إلى مركز الكون، وترسيخ الاعتقاد الشعبي بمزايا التنوع الثقافي والانفتاح على ثقافات الآخر.

أما في عالمنا العربي والمغاربي (الثاني)، كان موعد إصابته بداء فقدان القدرة على جعل الفلسفة والتاريخ والعلم أساس الوجود الحضاري مبكرا، ليصطدم في مطلع الألفية الثالثة بتهديدات النهاية من جهة ورهان استحقاق التموقع كونيا من جهة أخرى. عاش هذا العالم نبوغا فكريا وفلسفيا وعلميا في القرون الأولى الموالية لظهور الإسلام. امتزجت السياسة بالثقافة، وتم تهميش التفكير الفلسفي، وبقيت الشعوب مرتبطة بالميتافيزيقا والسماء تاركة الطبيعة وعلومها للغرب.

تميز القرنان 15 و 16 الميلاديين باشتداد المد الإسلامي وبداية التدخل الأوروبي. لقد شكلت المرحلة امتحانا لقياس موازين القوى في العالم. مر العالم الغربي من مفهوم "الانسان الكائن الثقافي المالك للطبيعة" في وقت استمرت الهوة في الاتساع ما بين الشعوب العربية والمغاربية ومقومات التنوير الثقافي كأساس لطلب الكلمة على مستوى هياكل اتخاذ القرار الكوني.

بطل رواية "خوف" شاب من مواليد السبعينات. عاش طفولته الأولى بأمريكا. تشبع بمآلات ارتباط الفلسفة والتاريخ والحكمة والقوة بدولة العم سام. تشرب بعد ذلك عن طريق الإعلام بمعاني ودلالات إعلان النظام العالمي الجديد من طرف الرئيس بوش الابن. عاد إلى بلاده، وعمره لا يتجاوز سبع سنوات،  فانغمس في عالم غريب لا زالت أوضاعه الثقافية وكـأنها مشابهة للأوضاع بالغرب ما قبل القرن 15. هاجس التكيف مع الأوضاع الجديدة المتخلفة جعله يسرد علينا أحداث ثلاثة أجزاء من روايته جاعلا القارئ يبحر في عوالم الإنس والجن والشياطين. استحضر تاريخ الأمة العربية الإسلامية، وتحدث عن المدونات الشعبية بشقيها النافع والمضر، مبعثا الأمل في نفوس الشباب واليافعين في تحقيق الذات بمنطق جديد. إنه المنطق الذي يفرض الحفاظ على الهوية العقلانية للأمة من خلال الغوص في تحليل وعقلنة التراث، والانفتاح بذكاء وسلمية على تاريخ الحضارات والأمم.

بطل الرواية، الذي اتخذ لنفسه اسم "خوف"، هو نموذج حياة النخب العربية والمغاربية التي استوعبت ارتباطات التنمية بالتنوير والفلسفة والتاريخ والعلوم المختلفة، لكنها وجدت نفسها مقوقعة سياسيا وثقافيا في فضاءات فعل جد ضيقة. وجدت نفسها كذلك مضطرة إلى التعبير أدبيا عن هذا الواقع بالتعاطي للفانتازيا.

***

الحسين بوخرطة

تقديم لرواية الأديب محمد سيف المفتي

1- توطئة: رقصة داكنة.. هي فعلا.. داكنة.. في تحرّكاتها، واهتزازاتها، تمايلها، والتواءاتها، كنت أنتظر الرّقصة منذ الأسطر الأولى، إمّا للرّقص، أو لمعرفة سبب القتامة فيها.. وبقِيتُ طوال الرّواية أترصّد مشهدها بين الأسطر، لكنْ هذه الرّقصة دوّختنا، من خلال السّرد المفصّل، الدّقيق فيها وأسلوبها الفنّي الرّشيق، الجميل، بخبرة واحتراف من كاتبها، فقد كان يأخذنا معه مرّة إلى زمن الماضي..، بكلّ مسافاته، وأخرى يُعيدنا إلى زمن الحاضر شكلا ومضمونا، قلبا وقالبا، يحدّثنا عن حاضره، وحاضر شخصياته التي برع في رسمها وانتقائها ووصفها، من أرشيف ذكريات طفولته، ومن صنع خياله الخصب، فكان يسحبنا تارة إلى داخل الفضاءات المغلقة، الضّيّقة، وتارة أخرى يحملنا إلى عالمه الخارجي والمساحات المفتوحة، الشّاسعة، وأحيانا يُلقي بنا في حضن الحبّ والدّفء والحنان، ومرّات يرمي بنا في زنزانة، أو في الحفر، بين رائحة الموت ومخالب الحقد والتّوحّش وسخرية الأقدار المضحكة المبكية،.. فكنّا نتتبّعه بأسف وشغف، نقتفي أثر إبداعه في رسم الخيال، وكأنّنا نشاهد فيلما سينمائيا طويلا مرعبا..

2- التعريف بالكاتب:

 الأستاذ محمد سيف المفتي كاتب عراقي، - من محافظة الموصل، مقيم بأوسلو النّرويجية منذ قرابة الثّلاثة عقود ( 1997) رجل أعمال سابقا بالعراق من 1991- 1997 - مهندس زراعي خرّيج كليّة الزّراعة في الموصل 1987 - ماجستير الثّروة السّمكيّة من جامعة علوم الحياة في النّرويج 2006. - مترجم معتمد من المعهد العالي في أوسلو 2015 - مشارك في عدّة دورات في مجال حوار الثّقافات من 2000- 2019 - بكالوريوس في التّرجمة الفوريّة من جامعة النّرويج 2022 - مترجم ومحاضر في عدّة منابر محليّة ودوليّة منها وزارة الخارجيّة النّرويجيّة من 2000 إلى 2024 * الاهتمامات : - رئيس منتدى الحضارات 1997- 1999 في Sunndalsøra - عضو في لجنة احتفالات اليوم الوطني النّرويجيّة 1998 - عضو في اللّجنة الخارجيّة لحزب العمّال النّرويجي في البرلمان 2003 - عضو مجلس في بلدية ايدسفولد 2003- 2006 - عضو مجلس بلدية اوبلكورد 2018 - رئيس مجلس إدارة منظمة "كلّنا معا النرويجية" 2017 - رئيس منظمة U-Turn النّرويجيّة 2019- 2024 - عضو في منظّمة قلم النّرويجيّة - عضو في مؤسّسة الكُتّاب النّرويجيبن * مؤلفاته: - الجمال العربية على الثّلوج القطبية. رواية. القاهرة 2007 - ظالمايا. رواية. عمان 2015 - رقصة حالكة أو داكنة. رواية صدرت باللغة النّرويجية سنة 2023 وترجمت إلى العربية سنة 2024 - له مقالات متعددة نشرت في جرائد ومجلات ومواقع إلكترونية عربية ونرويجية.

3- التّقديم المادّي والعام للرّواية:

 وصلتْ إليّ "رقصة داكنة" في نسخة "ب د ف" في أواخر شهر رمضان (مارس) 2024، عن طريق الصّديق الأديب حسن السليفاني المقيم في مدينة دهوك، ولأنّها من الحجم الكبير تعذّر عليّ قراءتها في تلك الأيّام بسبب ضيق الوقت والتزاماتي السّابقة، فكنت أسرق من وقت لآخر، بعض الصّفحات من ال 456 صفحة.. وكم أسعد حين أقرأ منها ما يفوق العشرين،.. غالبا ما تكون حصص المطالعة عندي في وقت متأخّر من الليل بعد نوم الجميع إلى حين أذان صلاة الفجر، أو في الصّباح قبل استيقاظ العائلة.. أحيانا تغلبني المشاغل لفترة وعندما أعود للمطالعة أضطرّ للرّجوع إلى الوراء لتذكّر الأحداث وللحافظة على تسلسلها في مخيّلتي.. رواية "رقصة داكنة"، شدّت انتباهي.. جعلتني أصرّ على قراءتها حتى آخر سطر فيها.. لمدّة طالت نسبيّا، ذكرت الأسباب، زيادة على ذلك استئنافي للنّشاط بنادي الأدب الذي أديره بالعاصمة تونس، بعد شهر رمضان وعيد الفطر، وهذا هاجس آخر يأخذ منّي ومن وقتي الكثير.. تدور أحداث الرّواية في أمكنة عديدة، أهمّها الموصل، دهوك، أوسلو، ويتفرّع مسرى أحداثها إلى داخل البيوت، والغرف، الشوارع والنهج ومكاتب العمل،. أماكن خاصّة وعامّة، ساحات ومساجد، لم يغفل السّارد عن شاردة أو واردة.. " رقصة داكنة أو حالكة" كما أراد تسميتها الأديب محمد سيف المفتي أراها رواية من روايات السّير الذاتية، الفردي، والجماعي، هي سيرة وطن وشعب وانتماء..، جمعت الحقيقة بالخيال، وربما كانت الغلبة فيها للأحداث الحقيقيّة، من خلال السّرد الفاضح والكاشف للواقع، المعرّي لسياسة الحلفاء والسياسة الداخلية ولجماعة داعش الذين لم يدمّروا الموصل والعراق فقط، بل دمّروا وخرّبوا عالما وشعوبا وعقولا، غرزوا سيوفهم في صدور الأبرياء، وجّهوا طعناتهم في ظهورهم، بثْوا سمومهم باسم الدين في فكر الشباب بدءا بالأطفال، اشتغلوا على غسل الأدمغة بطريقة احترافية لم يكتشفها حتى من قاتل داعش، ما جعل العالم والشّعوب العربية ترزح إلى يومنا هذا تحت هذا الفكر الدّيني المتطرّف والتّيار الإرهابيّ الخطير، المدمّر للإنسانيّة والحضارات والثّقافات والسّالب للهويّة العربيّة بما فيها من تراث وأصالة وتقدّم وازدهار وما تمتلكه من ثروات بيئيّة وبنيويّة وثقافيّة.. ولنا عظيم الشّرف أن نفخر وأن لا نشعر بالنّقص والتْخلف إزاء هذه الدّول المتغطرسة، المهيمنة.. الرّواية أزاحت السّتار عن عدّة حقائق، سلختها، بيّنت غايتها وغرض الفكر الدّاعشيّ، السّارد تناول فيها بدل القضيّة ألف قضيّة..، قضيّة تصبّ في قضيّة..، أوّلها كذبة الدّين وادّعاء الدّاعشيّين إعادة نشر الإسلام، تصحيحه وإصلاحه، بأسلوب همجيّ، سخيف، مذهبهم القتل والذّبح، التّعذيب والسّلخ، الشّنق، التّخويف والتّرويع، للسّيطرة على الحكم والتّمتّع بخيرات وثروات البلاد، والتّصرّف في جميع المنشآت الاقتصاديّة شأنهم شأن كل الطامعين بالسلطة،.. ثانيها، قضيّة المرأة، بصفتها أنثى، نعتها بالعورة، ناقصة عقل، ودين.. صالحة للفراش، والنّكاح، يحرّم الحلال ويحلّل الحرام،.. لفائدتهم ولقضاء مآربهم، والتمسّك بزمام الحكم والقضاء..، ثالثا، قضيّة التّعليم، احتلالهم للمدارس والجامعات، جعلها أوكارا لهم ولأسلحتهم، مناطق ملغّمة لا يمكن عبورها أو اجتيازها، تشويه فكر الأطفال والشّباب، تنشئتهم على الكره والحقد، شرب دم أخيه في انتشاء، تجريدهم من مشاعر الإنسانية، تجهيلهم فكريّا ودينيا وعاطفيا، وخلق مجتمع ثائر، متوحّش، مسلوب العقل، يعمل لصالحهم شبيها بآلة الرّوبو،.. رابعا، قضيّة التّراث، العمل على سحقه ومحوه، من خلال ضرب وتدمير المواقع الأثريّة، سرقة الكنوز والآثار الثّمينة، بيعها لدول الغرب، تهريبها، بعلّة الحرام والحلال، تهشيم وإتلاف ما تبقّى.. بنيّة بتر الأصول وقتل الجذور..، خامسا، قضيّة التّهريب للمواد الاقتصادية، والغذائية..، سادسا، قضيّة التّجارة بالأعضاء،.. سابعا، قضيّة التّجسّس على خصوصيّات البلد، بيع الذّمة، قتل الضمير والعمل لحساب الأقوياء والغرباء ومع العملاء من الغرب..، ثامنا، قضية الرّشوة، والارتشاء، تاسعا، قضيّة الهجرة الغير شرعية، وتهجير الأدمغة والعملة الصّعبة.. عاشرا، قضية الحبّ والتّفرقة بين الأزواج والعائلة وغرز مخالب الشكّ بين أفراد الأسرة، وزعزعة الثّقة فيما بينهم..، قضية، موت الحبّ والجمال..، تشويه البيئة، تدمير الكائنات، مثل النبات والحيوان، وهنا أسوق مثالا لزهرة عباد الشمس التي تحيا بفضل الحبّ والرّعاية وتذبل وتموت حالما تطالها يد الغدر، وتصلها يد الإنسان العابثة.. حقْا،هي رواية حُبِكت ببراعة الرّاوي، وبذكاء، جعلنا نشاركه رقصته السّوداويّة، المؤلمة والحزينة، بدل أن نرقص رقصة زوربا الصّوفية الجميلة ونحلّق في سموات وردية،.. هذه الرواية، عشت كلّ أحداثها كأنّني طرف في السّرد.. أبكي لبكائهم، أضحك لضحكم، أتوجّع لوجعهم، أفزع لفزعهم،.. ربْما أطلتُ الشّرح، لكن، مع ذلك سأجتهد لأكون حريصة على ترك عنصر التّشويق في الرّواية، ومعرفة مضمونها وأغوارها، من خلال فصولها العديدة وخاصّة نهايتها المخاتلة، كانت صدمة لنا نحن القرّاء ورجّة للرّاوي، (الشخصية سيف.. ) فقد عبث السّارد بمخيّلتنا، أوهمنا بالفرح، جعلنا نرقص، وننتظر التّكريم والمكافأة، فإذا بنا نرقص أسفا، رقصة الذّئب.. يوم عرسه تهطل المطر، فكانت الرقصة حالكة، تألّمنا لألم الرّاوي، شعرنا بالخيبة التي تجرّع مرّها بمفرده، حتى رفيقة دربه زوجته دانا التي كانت تسنده خاب ظنّها هي الأخرى بعد أن رافقته إلى حفل تكريمه لمشاركته الحلم والفرح والرّقص،.. هذا ما جعل الراوي سيف يكتم غيظه، يبتلع غصّته، ويترك الأمور للتّأويلات.. وللقارئ..

2- عتبة العنوان:

جملة اسمية بسيطة تتكون من مبتدأ وخبر. كلمتان متضادتان، الأولى تدلّ على الفرح والزّهوُ هي "الرّقص" فهل يرقص الإنسان عندما يكون يائسا، أو تعتريه صدمة أو موجة من الأسى، أو تجده في غيبوبة وفقدان وعي؟ الثّانية "داكنة" تُفيد القتامة والحزن والألم، فالمشاعر حالكة السّواد بسبب انكسار القلب.. في ذات الوقت المفردة الأولى تعني الحركة والنّشاط والحيويّة، "'رقصة"، والرّقص يُشاهد بالعين، من خلال تحرّكات الجسد وانفعالاته، اهتزازه، تمايله، ووضع الأقدام، تنقّلها، وقد يصحب الرّقصَ إيقاع معيّن، وصوت دبكة الحذاء ونقر الأقدام، فتتوفّر في هذا المشهد (الرّقص) حاستيّ البصر والسّمع.. أمّا كلمة داكنة أو حالكة هي حالة ولون، لون اللّيل، ولون السّماء في حالة تلبّدها بالغيوم والسّحب.. فهل للرّقص لون؟ ألاحظ أنّ الكاتب وظّف تقنية المشاهدة (البصر: حركة ولون) بالعين الفاحصة، الثّاقبة ليسرد هذه الأحداث، كأنّه يريد القول أنّه شاهد عيان على كلّ فصول الرّواية.. هذا ما جعل وصفه دقيقا من خلال اشتغاله على التّفاصيل الملمّة بالأحداث من كلّ الجهات والاتّجاهات والوِجهات فلا مجال للتّشكيك أو للتّخمين أو النّقاش.. عتبة الإهداء يهدي الكاتب محمد سيف المفتي روايته: - لزوجته زهراء المفتي، يذكرها بالاسم، شاكرا صبرها معه وتحمّلها لنزقه أثناء الكتابة لمدة سبع سنوات، كان يكتب ويمسح وكانت هي تشجّعه على إعادة الكرّة في كلّ مرّة وتقول: " لا تهتمّ لنبدأ من جديد" - لكلّ من غيّبتهم القسوة سواء الموت أو الفقد، وبالتّحديد لابن أخته "علي" الذي سرقته داعش.. والذي مازالت روحه تسكن وجدانه.. عتبة التّنويه: في أقلّ من ثلاثة أسطر ذكر الكاتب محمد سيف المفتي هذا التّنويه ولا أدري ما غايته من ذلك، هل لتشتيت ذهن القارئ، أو لجعله يعود للتّاريخ وربط الواقع بأحداث الرّواية كي يقترب من الحقيقة أكثر ويميْز الخيال منها عن الحقيقة، إذ قال: - أودّ أن ألفت نظر القارئ الكريم إلى أنّ الكثير من الشّخصيات والأحداث خياليّة لكن كنقطة انطلاق، فإنّ هذه الرّواية مبنيّة على أحداث وشخصيّات حقيقيّة " لماذا هذا الخلط؟ ولماذا هذا التّشويش على ذهن القارئ؟ لماذا لم يتركه يجتهد بنفسه ويقول إذا كانت الرواية مزيجا بين الحقيقة والخيال أم لا؟ هذا التّنويه يؤكّد أنّ الرّواية تتضمّن شخصيّات وأحداثا خيالية.. وأخرى حقيقية.. فيا ترى أيّ منها الخيالي، وأيّ منها الحقيقيّ؟ ملاحظة أولى: التّواريخ المذكورة في الرّواية حقيقيّة، والأماكن التي جرت بها الأحداث حقيقيّة، بعض الأسماء أيضا حقيقيّة، مثل اسم شخصية السّارد "سيف" ومكان إقامته وعمله "النرويج"، وذكر تعب ومؤازرة زوجته الزهراء له في الإهداء.. وكذلك كانت تفعل دانا الزوجة في الرواية..، كانت رفيقته في السفر، تحمّلته بكل انفعالاته وهي في دهوك رغم انشغاله عنها بفضّ مشاكل الآخرين، شاركته أحزانه، أصرّت أن تكون حاضرة في الحفل يوم تكريمه لتشاركه الفرح( آخر الرواية).. فهل هذا التّناص صدفة أم مقصودا..؟ ملاحظة ثانية في نصّ الإهداء أطلق على ابن اخته اسم "عليّ" وقال سرقته داعش، نجده في الرّواية يتحدّث عنه بحبّ وألم وأعطاه اسم "أنيس" ويقول أنّ داعش خطفته أيضا.. إذن، يمكن الجزم أنّ الرّواية واقعيّة أكثر منها خياليّة بنسبة مئوية كبيرة بتصرّف واجتهاد وبإقحام بعض التّغيير في سير الأحداث وأسماء الشّخصيات، احتراما للخصوصيٍات، وربما لتوخّي الحذر من المخابرات والملاحقة لا أدري بالضبط، خصوصا أنها رواية تقشّر حقيقة داعش ونواياهم الخفية ومن معهم ومن وراء صناعتهم وتواجدهم.. والاهم استراتيجياتهم في صناعة الخبر وطرقهم في التي خدعت العالم بما فيها الجيش الأمريكي، و عتبة الشخصيات ومضمون الرّواية: تعدّدت الشّخصيات في الرّواية من خلال تناسل الأحداث وتواترها وتقدّمها في السّرد، فكانت الأسماء تتوالى، بحسب ارتباطاتها بالأمكنة والأزمنة، وعلاقة بعضها ببعض، ولا يغيب عنّا أن الأحداث جرت في مدينة الموصل على إثر استيلاء داعش عليها في شهر جويلية 2014 وقد وصف الرّاوي سيف ذلك اليوم ب" تسونامي الإرهاب" ( 10/ 07/ 2014) كما ذكّر بموضوع مهمّ حدث، يتمثّل في رغبة والده القاضي لإرسال ابنه يونس إلى لندن لمواصلة الدّراسة سنة 1977 لكنّ والدته عارضت ذلك القرار.. * في الرّواية إذن، جانب كبير من الحقيقة يمكن القول أنّها رواية تسجيليّة.. تجمع بين أدب اليوميّات وأدب الرّحلة والحرب، توثّق الواقع، ويتوفّر فيها ما يُشبه المقال الصّحفي، أو التّقرير البوليسي، والمخابراتي.. الشّيء الوحيد الذي جعل هذا المُنجز ينحو إلى جنس الرّواية هو عامل التّخييل الذي أقحمه ووظّفه وضمّنه وأثرى به الأحداث بذلك الأسلوب والتّشويق والتّضليل في السّرد.. ونجد أيضا الكاتب يعطي الهوية لعدّة شخصيات (الاسم، الصّفة، الملامح، تاريخ الولادة، عنوان الإقامة،. ) ويتحدث عن حالات الإرهاب التي وقعت في الموصل من ذلك ثورة الإرهابيين في افريل 2014.. ويُسمّي المساجد والأنهج والأحياء والمكاتب والجامعات المتواجدة فيها، والتي اتّخذت من بعضها داعش مراكز لقيادتهم ومعاقل لتنظيم الدّولة الإسلامية.. * كما ذكر بعض الأحزاب والتنظيمات باسمها.. وهذا يطول شرحه، فأترك أمره للقارئ.. * ذكر في الرواية سنة زواجه من دانا، 1998 وهذا يأتي بعد هجرته في الواقع واستقراره بالنّرويج بسنة.. * ذكر اسم الزّعيم "مسعود البارزاني" في كوردستان الذي أمر بفتح الحدود في وجه اللاّجئين من الموصل هربا من الموت على يد داعش المتوحّش.. وهذا توظيف للحقيقة ومزجها بالخيال.. فمدينة دهوك والسّليمانية وعدّة مدن في كوردستان كانت أرضَ أمان لأغلبِ العراقيين.. لا أطيل.. الأمثلة عديدة.. والسّرد غزير وثريّ دليل على ثقافة وخصوبة ذهن الكاتب المليء بالوقائع والحقائق، ما جعل روايته تنحو للخيال.. غير أنّ الحقيقة أبشع بكثير لو نعترف ونقرّ بذلك.. الخاتمة رواية رقصة داكنة، هي بمثابة الكابوس في حدّ ذاتها، هنا، لا أعني أنّها مخيفة بل لأنّ أحداثها أليمة وبشعة، تخلّف ندوبا وخدوشا في نفسيّة القارئ بسبب ما اقترفته داعش من بشاعة في حقّ المدنيين والأبرياء، وسلب راحهم وحريّتهم وحرمانهم من الهدوء، وحقّ العيش في سلام، والتّنقل إلى العمل في أمان..، فترة حسّاسة جدّا وعنيفة، عاشها العالم بأسره، خاصّة مدينة الموصل والشّعب العراقي، الذي ذهب ضحيّتهم شهداء كثيرون، بكذبة الدّين والفتح وإعادة تصحيح الإسلام وباستغلال سذاجة العقول.. وما داعش في الحقيقة إلاّ صناعة غربيّة اتّفق عليها هؤلاء الأقوياء لتدمير الشّعوب العربيّة وتفكيك صفوفهم وتشتيت وحدتهم، لاغتصاب ثرواتهم ونهب تراثهم.. والكلّ شاهد على ما اقترفوه من فظاعة وفساد، وكاشف لحقيقتهم.. وتبقى الأسئلة في أذهاننا كثيرة: - إلى أيّ مدى نجح هؤلاء.. في تدمير البلدان العربيّة والتّلاعب بهشاشة عقول النّاس البسطاء وتدمير نفسيّات أسر بحالها من خلال اتْخاذهم نهج التّرويع والقتل والذّبح والخطف..؟ وهل صحيح ما نوه اليه الروائي بأن العالم كسب حربا وخسر السلام، وهل صحيح أن داعش قتلت وبقي الفكر الداعشي حيا؟

- هل فكرة القضاء على داعش واستعادة المدن والبلاد، هي انتصار حقيقيّ عليهم..؟ أم هي مجرّد وهم، وتراهم نجحوا في ترك دناستهم ونجاستهم في عقول الأجيال القادمة، كالأطفال والشّباب الذين نجدهم قد نفروا المدارس وعافوا الثّقافة وتعلّقوا بالأوهام والسّراب فكان مصيرهم الضّياع والضّلال والتّفكير في الهجرة والهروب من أوطانهم، بدل أن يجتهدوا ويتعلّموا ويعملوا في سبيل النّهوض من مستنقع الجهل الذي سقطوا فيه؟ - كيف يكون العلاج لمثل هذه الظاهرة والتّصدّي للفكر الداعشي الذي سكن العظام والأوصال، فباتت الشّعوب العربيّة بأسرها مريضة، كسيحة..؟ - كيف نقي أبناءنا من هذا الوباء كي يتعافوا منه ويبدؤون حياة ورديّة جديدة، يكون الرّقص فيها تعبيرا عن الفرحة والانتشاء للروح والعقل والجسد..؟

***

سونيا عبد اللطيف – تونس

 18/ 05/ 2024

غلوريا نايلور في سطور:

كانت غلوريا نايلور مؤلفة أمريكية أفريقية مؤثرة معروفة بتصويرها الثاقب والقوي للنساء الأمريكيات من أصل أفريقي في الأدب. غالبًا ما استكشفت أعمال نايلور موضوعات العرق والجنس والهوية، وألقت الضوء على نضالات وانتصارات النساء الأمريكيات من أصل أفريقي في المجتمع. ولدت نايلور في مدينة نيويورك عام 1950، ونشأت في عائلة من الطبقة العاملة وواجهت العديد من التحديات طوال حياتها والتي ألهمت كتاباتها لاحقا.

نُشرت أشهر أعمال نايلور، "نساء بروستر بليس"، عام 1982 وفازت بجائزة الكتاب الوطني لأول رواية. تحكي الرواية قصص سبع نساء أمريكيات من أصل أفريقي يعشن في مشروع إسكان في مدينة خيالية، وكل واحدة منهن تكافح مع نضالاتها الشخصية ومواجهاتها مع العنصرية والتمييز المنهجي. من خلال سردها القصصي الحي والمقنع، لفتت نايلور الانتباه إلى تعقيدات ومرونة النساء الأمريكيات من أصل أفريقي، وأعطت صوتًا لتجاربهن وألقت الضوء على تقاطعات العرق والجنس والطبقة.

بالإضافة إلى "نساء بريوستر بليس"، كتبت نايلور العديد من الأعمال الأخرى التي نالت استحسان النقاد، بما في ذلك "ليندن هيلز" و"ماما داي" و"بيلي كافيه". وقد حظيت كتاباتها بالثناء لتطورها الغني في الشخصيات ونثرها الغنائي وتعليقها الثاقب على القضايا الاجتماعية. كما تناولت أعمال نايلور التراث الأفريقي الأمريكي والفولكلور والروحانية، مستفيدة من موضوعات التقاليد والمجتمع والمرونة لنسج سرديات مستنيرة ومؤثرة عاطفيا.

خلال مسيرتها المهنية، تلقت نايلور العديد من الجوائز، بما في ذلك جائزة الكتاب الأمريكي ومنحة جوجنهايم. كما كانت معلمة مخلصة، حيث قامت بتدريس الكتابة الإبداعية في العديد من الجامعات وتوجيه الكتاب الطموحين. إن تأثير نايلور على الأدب والثقافة الأمريكية الأفريقية لا يمكن إنكاره، حيث لا تزال أعمالها موضع دراسة واحتفال بسبب رؤاها العميقة للتجربة الأمريكية الأفريقية.

كانت غلوريا نايلور مؤلفة رائدة تحدت أعمالها الأعراف المجتمعية وأعطت صوتًا للمجتمعات المهمشة، وخاصة النساء الأمريكيات من أصل أفريقي. ومن خلال سردها القصصي القوي وتعليقاتها الثاقبة، فتحت نايلور الأبواب أمام الأجيال القادمة من الكتاب لاستكشاف العرق والجنس والهوية في أعمالهم. ولا يزال إرثها يلهم القراء والكتاب على حد سواء، ويشكل شهادة على القوة الدائمة للأدب في إثارة الفكر واستحضار المشاعر وإحداث التغيير.

المجتمع في رواية "نساء بروستر بليس":

في رواية "نساء بروستر بليس" للكاتبة جلوريا نايلور، يلعب موضوع المجتمع دورا مهما في تشكيل حياة الشخصيات. تشكل نساء بروستر بليس، وهو حي خيالي في وسط المدينة، مجتمعًا متماسكا يوفر الدعم والصداقة والشعور بالانتماء في مواجهة الشدائد.

يأتي سكان بروستر بليس من خلفيات متنوعة ويواجهون تحديات مختلفة، لكنهم متحدون من خلال شعور مشترك بالمجتمع. من خلال تفاعلاتهم مع بعضهم البعض، فإنهم يخلقون شبكة من الروابط الاجتماعية التي تساعدهم على التعامل مع صعوبات الحياة الحضرية. سواء كان ذلك من خلال مشاركة وجبة أو تقديم أذن صاغية أو توفير كتف للبكاء عليها، تعتمد نساء بروستر بليس على بعضهن البعض من أجل الراحة والرفقة.

يتجلى الشعور بالمجتمع في بروستر بليس بشكل خاص في الطرق التي تتجمع بها النساء للاحتفال بالأحداث المهمة والحداد على الخسائر. عندما يتوفى أحدهن، يجتمع سكان بروستر بليس لتقديم احتراماتهم وتقديم التعازي للأسرة الحزينة. إن هذا الشعور بالتضامن في أوقات الحزن يسلط الضوء على أهمية المجتمع في تقديم الدعم العاطفي والتفاهم.

تجد نساء بروستر بليس القوة أيضا في جهودهن الجماعية لمقاومة القوى القمعية التي تسعى إلى تقويض شعورهن بالمجتمع. سواء كان ذلك من خلال الوقوف في وجه الشركاء المسيئين، أو المطالبة بظروف معيشية أفضل، أو النضال ضد الظلم الاجتماعي، فإن نساء بروستر بليس يتحدن معا لتأكيد وكالتهم والمطالبة بالاحترام.

على الرغم من التحديات التي يواجهنها، تجد نساء بروستر بليس العزاء والقوة في شعورهن بالمجتمع. يستفدن من تجاربهن الجماعية وتاريخهن المشترك للتنقل عبر تعقيدات الحياة الحضرية وإيجاد طرق لرفع معنويات بعضهن البعض. هذا الشعور بالمجتمع هو مصدر تمكين يمكّنهن من المثابرة في مواجهة الشدائد.

من نواحٍ عديدة، تعمل نساء بروستر بليس كعالم مصغر لديناميكيات مجتمعية أكبر، تعكس أهمية المجتمع في تعزيز المرونة والتضامن. من خلال تفاعلاتهن وعلاقاتهن، يظهرن قوة الارتباط الإنساني في التغلب على الصعوبات وإيجاد شعور بالهدف والانتماء.

إن موضوع المجتمع في "نساء بروستر بليس" بمثابة تذكير بالإمكانات التحويلية للعمل الجماعي والدعم المتبادل. فمن خلال التجمع معا ودعم بعضنا البعض، يتمكن سكان بروستر بليس من التغلب على التحديات التي يواجهونها وخلق شعور بالوطن والانتماء وسط عالم قاس لا يرحم.

تُظهر نساء بروستر بليس أن المجتمع ليس مجرد موقع جغرافي أو مجموعة من الأفراد، بل مجموعة مشتركة من القيم والمعتقدات التي تربط الناس معا بطرق ذات مغزى. ومن خلال مرونتهن وتضامنهن وإحساسهن بالمجتمع، يُظهِرن قوة الارتباط الإنساني في التغلب على الشدائد وإيجاد القوة في مواجهة الصعوبات.

تسلط "نساء بروستر بليس" الضوء على أهمية المجتمع في تشكيل حياة الأفراد وتعزيز المرونة في مواجهة الشدائد. ومن خلال تجاربهن المشتركة، وروابط الصداقة، والجهود الجماعية لمقاومة القمع، تُظهِر نساء بروستر بليس القوة التحويلية للمجتمع في خلق شعور بالانتماء وتمكين الذات.

***

محمد عبد الكريم يوسف

....................

لمزيد من المعلومات يمكن الرجوع إلى الرواية

NayLor, GLoria The Women of  Brewster Place (1982)

قَصيدةُ النثرِ لَيْسَتْ فَوضى لُغويةً بلا وزن ولا قافية، وإنَّما هي تَكثيفٌ وُجودي للمَعنى الشِّعْرِي على الصعيدَيْن النَّفْسِي والاجتماعي، وتَجميعٌ لِشَظايا مُوسيقى اللغةِ في صُوَرٍ فَنِّية عابرةٍ للتَّجنيس، وكاسرةٍ للقوالبِ الجاهزةِ والأنماطِ المُعَدَّة مُسْبَقًا، وتَوليدٌ للإيقاعِ الإبداعي في داخلِ الألفاظِ الوَهَّاجَةِ والتعابيرِ المُدْهِشَةِ . وهذه المَنظومةُ المُعَقَّدَةُ لُغَوِيًّا، والمُرَكَّبَةُ شِعْرِيًّا، تَهْدِف إلى اكتشافِ العناصر الفكرية المَقموعة في العلاقات الاجتماعية، واستخراجِ القِيَمِ المَعرفية المَنْسِيَّة في التجارب الحياتية، وابتكارِ أنظمة شِعْرية مُتَحَرِّرَة مِنَ قُيود المَواضيع المُسْتَهْلَكَةِ، والخَصائصِ اللغوية الشَّكلية المُبْتَذَلَة التي فَقَدَتْ تأثيرَها بسبب كَثرة استعمالها .

وقَصيدةُ النثرِ انعكاسٌ لِرُؤيةِ الشاعرِ للوُجودِ شَكْلًا ومَضمونًا، وإعادةُ صِياغةٍ للقوانين الحاكمة على مصادر الإلهام الشِّعْري، بِحَيْث تُصبح مُوسيقى اللغةِ نُقْطَةَ التوازنِ بَيْنَ وُضُوحِ الألفاظِ المُتدفقةِ أفقيًّا وعموديًّا، وبَيْنَ غُموضِ الصُّوَرِ الفَنِّيةِ المُتَفَجِّرَة وَعْيًا وإدراكًا، وتُصبح العلاقةُ بَيْنَ الألفاظِ والمَعَاني تَجديدًا مُستمرًّا للعلاقةِ بَيْنَ الشاعرِ ونَفْسِه مِن جِهة، وبَيْن الشاعرِ ونَصِّهِ مِن جِهةٍ أُخْرَى، باعتبار أنَّ الشاعرَ هُوَ الرُّوحُ الساكنةُ في جَسَدِ اللغةِ، والتَّجسيدُ الحقيقي لِرُوحِ اللغةِ في جَسَدِ المُجتمع .

وإذا كانَ الإبداعُ الشِّعْرِي سُلطةً مركزية قائمة بذاتها، فَإنَّ قصيدةَ النثر هُوِيَّةٌ رمزية مُستقلة بِنَفْسِهَا، واندماجُ السُّلطةِ معَ الهُوِيَّةِ في النَّسَقِ الشِّعْرِي الذي يَتَوَالَد مِن نَفْسِه يَجْعَل زَمَنَ المَشاعرِ والأحاسيسِ كائنًا حَيًّا قادرًا على استلهامِ التُّراثِ وتجاوزِه، ويَجْعَل رُوحَ اللغةِ كِيَانًا حُرًّا قادرًا على صَهْرِ المَاضِي والحاضرِ في بَوْتَقَةِ المُسْتَقْبَلِ . وهذا يَعْنِي انفتاحَ الزَّمَنِ في العلاقاتِ اللغويةِ بشكل مُطْلَق، مِمَّا يُولِّد وَعْيًا شِعْرِيًّا خَاصًّا بِتَحليلِ عَناصرِ الواقعِ، وتَغييرِ زَوَايا الرُّؤيةِ لتفاصيل الحياة .

وكُلَّمَا وَسَّعَت اللغةُ حُدودَ الزمنِ دَاخِلَ الهُوِيَّةِ الرَّمزيةِ والتُّراثِ المَعرفيِّ والذاتِ الإنسانية، اتَّسَعَ الوَعْيُ الشِّعْري للتجاربِ الحياتية إنسانيًّا وإبداعيًّا، وهذا الاتِّسَاعُ سَيُصبح معَ مُرور الوقت تاريخًا جديدًا لِرُوحِ اللغةِ في جَسَدِ المُجتمع، ومُتَجَدِّدًا في مُوسيقى اللغةِ، ومُسْتَقِرًّا في مَصادرِ الإلهامِ الشِّعْرِيِّ، ومُكْتَفِيًا بِذاته مَعْنًى ومَبْنًى . وإذا كانَ التاريخُ لا يَنفصل عَن الوَعْي، فَإنَّ اللغة لا تَنفصل عَن الحُلْمِ . وهذا الترابطُ بَين هذه التراكيب الوُجودية سَيُكَوِّن فَضَاءاتٍ جديدة لقصيدة النثر .

إنَّ الوَعْي الذي تُولِّده قصيدةُ النثرِ يُمثِّل مَنظومةً مِن الأسئلة الوجودية التي يَتِمُّ طَرْحُها على إفرازاتِ الماضي والحاضرِ معًا، مِن أجْلِ حماية المَعنى الشِّعْري مِنَ القَطيعةِ بَيْنَ الروابطِ النَّفْسِيَّةِ والعَلاقاتِ الاجتماعية، وهذا مِن شأنه تَكريسُ الصُّوَرِ الفَنِّيةِ المُدْهِشَةِ في الماضي الذي لا يَمْضِي، والحاضرِ الواقعِ تحت ضغط النظام الاستهلاكي، مِمَّا يُؤَدِّي إلى دَمْجِ ثَورةِ الشِّعْرِ في كَينونةِ الزَّمَنِ، وتَحويلِ البُنى الاجتماعية المادية إلى هياكل شِعْرِيَّة مَعنوية، تَمتلك القُدرةَ على التواصل معَ الأجناس الأدبية كُلِّهَا، باعتبار أن الأدبَ والزمنَ نظامان مَفتوحان عَلى كَافَّةِ الأشكالِ والاحتمالاتِ .

وقَصيدةُ النثر لَيْسَتْ تاريخًا قائمًا بذاته فَحَسْب، بَلْ هِيَ أيضًا جُغرافيا رمزية تُوظِّف الخِطَابَ التاريخي في فَلسفةِ اللغةِ التي تَؤُول إلى فَن تَعبيري عَن القِيمةِ الإنسانيةِ للحياةِ، والبُنيةِ الشِّعْرِيَّةِ الكامنةِ في عَناصرِ الوُجودِ وأنسجةِ المُجتمعِ . والترابطُ الوثيقُ بَيْنَ فَلسفةِ اللغةِ والفَنِّ التَّعبيريِّ يُؤَدِّي إلى صِناعةِ أساليب لُغَوية جديدة تُعيد بِنَاءَ الوظيفةِ الشِّعْريةِ على كَينونةِ الزَّمَنِ، وتُعيد صِياغةَ العَلاقاتِ الاجتماعية إنسانيًّا ورمزيًّا . وهذه الإعادةُ المُزْدَوَجَةُ تُسَاهِم في إدخالِ مَصادرِ المَعرفةِ في التجاربِ الحياتية، وإخراجِ التياراتِ الشِّعْريةِ مِن إطارِ تَقديسِ الماضي والجُمودِ على التُّراث، مِمَّا يَقُود إلى إعادةِ تعريفِ وَظيفةِ قَصيدةِ النثر باعتبارها انقلابًا لُغَوِيًّا على القوالبِ الجاهزةِ والأشكالِ المُسْتَهْلَكَةِ . وكُلُّ عمليةِ إعادة تَعريف على المُسْتَوَيَيْن الشِّعْري واللغوي هِيَ بالضَّرورةِ تَجديدٌ في تِقْنِيَّات الكِتابةِ، وتَوسيعٌ لِحُدودِ الأجناسِ الأدبية، حَتَّى تَشْمَل الأفكارَ المَقموعةَ، والأحلامَ المَكبوتةَ، والأزمنةَ المَنْسِيَّة، والأشياءَ المَسكوت عنها .

إنَّ الإلهامَ الشِّعْري داخلَ قَصيدةِ النثرِ لَيْسَ انتظارًا لِمَا لا يَأتي، بَلْ هُوَ صِناعةٌ دائمةٌ للألفاظِ والمَعَاني، وإشراقٌ مُستمر في التجارب الحياتية كَمًّا وكَيْفًا، وتَوْليدٌ مُتَوَاصِل للصُّوَرِ الفَنِّية المُدْهِشَة. والشاعرُ الحقيقيُّ لا يَنتظر مَجِيءَ الأنساقِ اللغويةِ، وإنَّما يَندفع باتِّجَاهها، ويَقتحمها، ويَندمج مَعَهَا، ويَنقلب عليها، مِن أجْلِ تَجميعِ شَظايا الانفجارِ الشِّعْري في العَواطفِ الإنسانية المُتأجِّجة، والحِفاظِ على دِيناميَّة قَصيدة النثر في ظِلِّ ضَغْطِ الهُوِيَّةِ على الذات، وضَغْطِ التُّراثِ على الحاضر. وهذا الأمرُ شديدُ الأهمية، لأنَّه يَمْنَح التكثيفَ الوُجودي للمَعنى الشِّعْري شرعيةً أخلاقيةً، وسُلطةً اجتماعيةً، وقُدرةً على اقتحامِ أعماقِ الشاعرِ في رِحلةِ البَحْثِ عَن الحُلْمِ بَيْنَ الأنقاضِ .

وإذا كانَ الشاعرُ مُهَاجِرًا أبديًّا إلى أعماقِه وذِكْرَياته، فَإنَّ قصيدة النثر مُسافرة أبدية إلى رُوحِ اللغةِ وفلسفتها . وهذه الحَركةُ الشِّعْرية الدؤوبة النابضة بالحَيَاةِ والحُرِّيةِ تَمْنَع كَينونةَ الزَّمَنِ مِنَ التَّحَوُّلِ إلى أُسطوانة مَشروخة، وبالتالي يُصبح الزَّمَنُ تَيَّارًا للوَعْي، وفَضَاءً إبداعيًّا، ولَيْسَ سِجْنًا للإبداع .

***

إبراهيم أبو عواد / كاتب من الأردن

أدي بن آدب أنموذجا

مما لا شك فيه أن العلاقة بين مشرق الوطن العربي ومغربه كانت ولا زالت دون مستوى الطموح كثيرا، ولا زالت شبه القطيعة المصطنعة تتحكم بعلاقاتهم مع بعضهم، ولاسيما منها الدول التي تموضعت على أطراف الوطن الكبير، مثل موريتانيا  وأخواتها، وهذا ليس في الحياة العامة وحدها، ولا في التواصل المجتمعي وحده، بل امتد إلى التجارة والأدب والتعاون العلمي والإنساني والسياحة والتبادل الثقافي والمعرفي والأعمال المشتركة، وهي بمجموعها نشاطات فكرية ومالية وحدها قادرة على كسر هذا التابو المصطنع، أو الذي فرضته الظروف، ونظرا لصعوبة التوفيق بين هذه المطالب الصعبة .

وبسبب تعارض المصالح والاختلاف الأيديولوجي السياسي أرى أن كسر مثل هذا التابو لا يتم بأساليب تقليدية بل يحتاج عادة إلى ثورة تواصلية، من أولى قواعدها التخلي عن الرؤية المناطقية الضيقة، وفصل السياسة عن التفاعل الحياتي اليومي، وتقليل استخدام اللغة المحكية والتكلم والكتابة بدلا عن ذلك باللغة الفصحى التي يفهمها الجميع، ومن المؤكد أن طيب النوايا وحسن الدواخل والشفافية ستكون جزء مهما من هذه المعادلة التي أصبح أمر تحقيقها اليوم أيسر من شربة ماء، بشرط أن يتولى الكبار تنفيذ هذه المهمة ونشرها في مجتمعاتهم.

وإذا كانت المواصلات السيئة والاتصالات المتخلفة والأوضاع الاقتصادية الصعبة والواقع السياسي المضطرب، والأحكام القبائلية الفاشية حجر العثرة الذي أعاق التواصل فيما مضى، أو كان الوضع العام المضطرب الحساس في هذا البلد أو ذاك أحد المحاذير التي تصرف البال عن أي نوع من أنواع التواصل، أو كان اختلاف المناهج السياسية المعلنة دافعا للتباعد(1)، فإن استمرار القطيعة إلى الآن، بعد انحسار العواصف، وهدوء الأوضاع، واستتباب الأمن، فضلا عن وجود العنصر الأكثر أهمية وهي شبكات التواصل الاجتماعي، والانفتاح السياحي، والتعاون والتعاطي والتبادل الكوني الشامل، مع كل هذا يبدو استمرار القطيعة أمرا غير مقبول ولا مستساغ بالمرة، فالعالم يتحول يوما بعد آخر إلى قرية كونية، كانت حتى الأمس القريب كبيرة نوعا ما، ولكنها تقلصت اليوم وأصبحت في منتهى الصغر، ينطبق عليها المثل الشعبي الدارج في العراق (احنا ولد الكُرَيَّه كلمن يعرف أُخَيَّه)، "نحن أبناء القُرَيَّة (مصغر قرية) كل واحد منا يعرف أُخَيه (مصغر أخِيه)" للتدليل على وجود المشتركات العظمى التي فرضها التقارب بين الشعوب.

من أجواء هذا التنائي وبسبب مخرجاته كانت العلاقة بين العراق وموريتانيا قد تعرضت لبعض المواقف السياسية التي أسهمت في تباعد البلدين عن بعضهما بشكل غير مستساغ ولا مقبول، ومع ذلك شاءت الأقدار أن أتعرف على قامة أكاديمية وأدبية مائزة ومؤثرة في محيطها المورتاني والمغاربي، هو الأستاذ الدكتور أدي ود آدب، الأكاديمي والشاعر والناثر والناقد والإنسان، فأتيحت لي فرصة الاطلاع على بعض كنوز الثقافة المغاربية من خلاله، ولاسيما وأن الأخ الدكتور بدا لي من خلال نتاجه الفكري والأدبي نموذجا حقيقيا للمثقف العربي، إذ كان كريما معي، فأهداني أغلب مؤلفاته؛ التي وجدت فيها تنوعا وتميزا وتفردا وجمالا أخاذا يسر اللب ويشرح القلب ويذكي السعادة في الروح.

المؤسف في الأمر أنه رغم هذا العطاء الثَّرّ وتنوعه المحبب، ورغم الشهرة المغاربية الواسعة التي حظي بها الدكتور أدي، والتي ترجمتها الجوائز العديدة التي تحصل عليها، مثل: المركز الأول شعريا في مسابقة برنامج سهرة الشهر بالإذاعة الوطنية 1985، والمركز الأول في جائزة الإبداع الأدبي، بجامعة محمد الخامس - الرباط2006، والمركز الأول في المهرجان الدولي للشعر والزجل، بالدار البيضاء، مرتين:2007و2009، والمركز الثاني في مسابقة شاعر الرسول التي نظمتها التلفزة الموريتانية 2010، والفوز-أيضا- في مسابقة قصيدة اللغة العربية المنظمة من طرف "مجلس اللسان العربي بموريتانيا" 2017، إلا أنه كاد أن يكون مجهولا في مشرق الأمة، وهذا ليس لقصور في نتاجه، وإنما لقصور في انفتاح مهرجاناتنا على عموم بلدان الوطن العربي الكبير واكتفائها ببعض الوجوه التي تتكرر سنويا، فعند اطلاعي على سيرته لم أجد دليلا واحدا على تعاون يذكر، سوى فوزه بالمركز الخامس في مسابقة أمير الشعراء بأبوظبي عام 2008. وقبالة ذلك تجد ذكره ضبابيا في مشرقنا.

لهذا السبب وربما لأسباب أخرى كنت حينما يجمعنا مجلس السمر أحدث زملائي وأصدقائي عنه، وهم نقاد وأكاديميون ومثقفون وأدباء، وأتحدث لهم عنه شخصيا وعن منجزه الفكري والأدبي، فلا أجد بينهم من يعرفه أو يقرأ له، وهذا يترجم مقدار التعتيم الذي نمارسه طواعية على علاقاتنا ببعضنا، رغم أننا انفتحنا على الآخر الغربي بلا قيود، فأنتج لنا هذا التنائي الذي يوجع الروح بعدا فكريا وثقافيا أيضا، إذ يندر أن تجد أديبا من مغرب الوطن مدعوا لحضور المؤتمرات والمهرجانات الثقافية التي تقام في المشرق رغم كثرتها.

شجعني جهل زملائي وجمال ما أنتجه يراع الدكتور أدي على المضي في البحث والتقصي أكثر وأكثر عن هذه الشخصية المجهولة في مشرق العرب والمشهورة جدا في مغربهم، مثلما يتضح من تبني دور النشر الجزائرية والمغربية طباعة وتوزيع أعماله، شخصت ذلك بعد أن وجدته أديبا لا يشق له غبار ولا يمكن تجاوزه، أديبا ذو عطاء متنوع يمازج بين الشعر والنثر والنقد والتاريخ الأدبي والتراجم والسير والصحافة أيضا، أو مثلما يفهم من سيرته الذاتية العطرة "شاعر وباحث أكاديمي، وناقد، وخبير لغوي موريتاني"؛ يوثق معلوماته من خلال سلسلة كتب متنوعة، أصدرها فحظيت بالتقدير والترحاب.

وأنا واقعا كنت قد نويت بداية أن أكتب عن إحدى منصات تجربته نقدا أدبيا تخصصيا مثل أي نقد متداول وشائع، ولكني عزفت عن هذه الفكرة لأني أعدها تقليدية خالية من التجديد؛ لأكتب عوضا عنه ما يمكنني من خلاله أن أقدم الدكتور أدي إلى المواطن المشرقي على طبق من معرفة، لأني أيقنت أن كتابتي هذه ستكون عتبة موضوع التعارف؛ الذي سينتج كتابات أخرى يتناول فيها النقاد أعماله وأعمال زملائه شعراء موريتانيا بلد المليون شاعر.

وللتهيؤ لمثل هذا الأمر وخلال مرحلة الإعداد للكتابة عنه، تنقلت بين صفحات ما أهداه إليَّ لألُم ولو بصورة أولية بفكرة مركزة عن منهجيته وأسلوبيته والمعلن والمضمر فيها. فكان أول ما جلب انتباهي اهتمامه الكبير بالكل، وترفعه عن الاهتمام بنفسه، فهو كتب عن النقد الأدبي موضوعا للمقاومة بين المشرق والمغرب، وكتب عن الشعر الحساني والشعر العربي وصل الفصل ونسب الأدب، وكتب عن المفاضلات في الأدب الأندلسي الذهنية والأنساق، وكتب عن عمود الغرابة في الادب الاندلسي (نظرية الأعمدة المتناسخة)، وهي جميعها موضوعات ثقافية عامة قد لا تظهر من خلالها أي مؤشرات لشخصية الكاتب، بقدر كونها محاولة لبيان رؤى فاحصة مدققة في مواضيع معينة، وهو ما يتضح من قوله: "أهدي رؤيتي حول رحلة الإبداع الأدبي العربي الحتمية، من عمود الألفة إلى عمود الغرابة، انطلاقا من نظرية نقدية تؤمن بأن لا وجود لعمود أدبي واحد، بل هناك أعمدة أدبية عديدة، ينسخ لاحقُها سابقَها، اقتضتها نواميس التطور الكونية، وماهية مفهوم الإبداع(2).

ثم اهتم بشيء آخر، أجده حتى وإن كانت له خصوصيته النسبية الترابطية بشخصه، إلا أن الكتابة عنه تدخل نفس مضمار الاهتمام بالآخر، إذ كتب عن ( أهل آدب)، فكتب عن الشيخ أحمد بن آدب، وكتب عن المقاومة الأخلاقية في أدبيات أسرة أهل آدب، وكتب عن خنساء شنقيط خديجة (ديه) بنت سيدي ولد آدب، وكتب عن (سيدي) ولد آدب رمز الفتى الكنتي، فارس المدفع والقلم، وأسرة "أهل آدب" سلالة الشعر وبيت القصيد، وهو بالتالي وزع اهتمامه في جهات يرى أن إشهار أصلها أهم من كتابته عن نفسه وعن منجزه وهذا إيثار لا تجده سوى لدى الكبار.!

المهم أن الدكتور أدِّي كان قد أشار إلى هذه العلاقة في محاولة منه لتوضيح البناء الرؤيوي بالقول: "حين أقتحمُ مقاربة سر العلاقة بين عائلتي "أهل آدب"، وبين الشعر

خصوصا، والأدب عموما، فليس دافعي لذلك تمجيد الذات، ولا الافتخار بالعروق الضاربة، في هذا الإرث الثقافي الكبير، بقدر ما أعدُّ دافعي علميا بحتا، وأداء لواجب وطني وأخلاقي مُلْزِم (3).

وأنا واقعيا حينما قرأت قوله هذا، أيقنت أن الرجل طالب علم وساعٍ إلى معرفةٍ شمولية، حتى لو أهمل خصوصياته الشخصية، وهذه من سيماء العلماء ومناهج العلياء، لا يعرف معناها المتصنعون والأدعياء.

في معمعة تداعي الأحداث والانشغال بتمجيد الآخر، كانت للدكتور وقفات لا ليتحدث من خلالها عن نفسه، خروجا على سياقات ما أعتاد عليه، وإنما هي نفثات روح شفيفة جاءت لتصب في نفس وادي العطاء للآخر، لكن من جهة أخرى ومن طريق آخر، فهو لأنه شاعر مجيد، وغزير الإنتاج، أراد أن يسعد الناس بجميل ما سيقرئونه من شعر من خلال تَوَزُّعِه بين مجموعة دواوين ودراسات شعرية منها:

صلوات القوافي

بصمة روحي

فلسطين القصيدة

وطني على كتفي

وجوه كتبتني

وهي المحطة التي سنتوقف عندها لنتحدث عن أدي شاعرا ولاسيما بعد أن لمست أنه وظف هذه الشاعرية لتبهج الغير أكثر مما هي دعاية لنفسه.

آدي شاعرا:

هناك ثمانية دواوين شعرية تطرز تاريخ شاعرنا وأديبنا الدكتور أدي ود آدب، امتدت على مساحة زمنية من عام 2009 ولغاية عام 2022 وكانت ثمرتها تبني وزارة الثقافة الجزائرية عام 2009 إصدار مجموعتين من أعماله، كانت الأولى بعنوان: "رحلة بين الحاء والباء"، وهي سباحة في أعماق بحر الحب المقدس، ضد تيار عولمة الكراهية والحب المدنس، وكأنه أراد التبشير بثقافة التقارب التي تحدثنا عنها، والثانية بعنوان: "تأبط أوراقا، ويجد الباحث والقاري في أعماق هذه المجموعة نوعا من المحاولات الجادة لصعلكة ثورة المُثُل شعريا وفكريا، بسلاح القلم والورق. وبرأيي أن مجرد هذا العمل المشترك بين الشاعر الموريتاني والوزارة الجزائرية على بساطته يؤكد وجود التعاون الأدبي والفكري بين بلدان المغرب على خلاف ما هو عليه مع بلدان المشرق.

تأكيدا لهذه الجنبة المهمة نجد مؤسسة "آفاق للدراسات والنشر والاتصال" وهي مؤسسة مقرها بمدينة مراكش في المملكة المغربية قد أصدرت له عدة دواوين، منها: ديوان "بصمة روحي" 2018، وهو سعي للاستثمار في مقومات التميز الإبداعي، واستقلالية الشخص والنص.

وديوان "صلوات القوافي 2022، وهو شعر في المديح النبوي رددته تراتيل الروح في محرابها، معراجا إلى سدرة منتهى المديح.

ثم ديوان "وجوه كتبتني 2022، وهو ديوان ضمَّ مجموعة قصائد كتبها الشاعر تخليدا لوجوه شخصيات وشمت أثرا عميقا لا ينمحي في الوجدان.

تلاه ديوان "فلسطين القصيدة"، وهو ديوان يعتبر نشيدا في الدعوة إلى تشييد للوطن الفلسطيني، "فوق بحر القصيد، استيطانا في الروح".

تلاه في العام نفسه صدور ديوان "وطني على كتفي، وهو نشيد كاهلٍ مثقل بوطن شخصي، يهاجر في شاعر هُجِّر عنه.

وتلاه ديوان "خرائط الوجع، وهو سَفَرٌ في المواجع العربية، التي تلوّن الأطلس الكبير بلون الدم والرماد.

والذي أراه أن هذه المجموعة من الأعمال الشعرية (دواوين وقصائد) يجب أن تحظى باهتمام النقاد المشرقيين وعنايتهم لما تنضوي عليه من تنوع وموضوعية وتنوع في الغايات والرؤى والأهداف، وستكون الكتابة عنها تجربة جديدة خوضها ممتع ونشرها نافع.

شاعراً أكاديميا

استغل الشاعر الدكتور آدي ود أدب امتلاكه ثلاث ثيمات قيمية ارتكازية مهمة هي كونه:

- أكاديميا من حيث الدراسة والعمل، إذ حصل على الدكتوراه في الأدب الأندلسي من جامعة محمد الخامس بالمغرب سنة 2011م بتقدير امتياز، وعمل أستاذا منتدبا للغة العربية وآدابها في جامعة قطر خلال المدة 2014-2015م، وأستاذا متعاونا بجامعة محمد الخامس بالمغرب خلال المدة 2008-2010م، وأستاذا للغة العربية بالتعليم الثانوي في موريتانيا (1991-2002م)؛ كما عمل عضوا في فريق الدوحة للمعالجة المعجمية بـمعجم الدوحة التاريخي للغة العربية 2015-2017م قبل أن يلتحق رسميا بالفريق المركزي للمعجم في أكتوبر 2017 خبيرا لغويا. وهو تخصص ينمي القدرات الذاتية ويحسن الذائقة ويضع صاحبه على أعتاب دنيا الأدب ولاسيما الشعر قديمه وحديثه، ويفتح كونة لتعاون القطبين المشرقي والمغربي في بعض محطاته، أجدها دون الحاجة والمطلب والمراد.

- كاتبا صحفيا بارزا. ومدققا وخبيرا لغويا، وهذا ما جعله على احتكاك مباشر لا بالأحداث وحدها بل وبصانعيها أيضا والتعامل معهم وفق رؤية فنية تحتاج إلى انتقاء المفردات بلباقة ودبلوماسية.

- محكما اعتمده "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات- بالدوحة - فرع بيروت"، مما أتاح له تنمية قدراته الثقافية والعلمية، ومنحه مقدرة على تحكيم الضمير بدل العواطف والميول، وهي مهمة لا يجيدها ولا يقدر على أدائها سوى قلة من الناس. وقد نجح شاعرنا ليكون محكما مقبول الرأي في بعض بحوث المركز الأدبية المعدة للنشر. فضلا عن ذلك تعاون مع "مركز الجزيرة للدراسات" بالدوحة، أكثر من مرة، في تدقيق بعض منشورات المركز. وغير هذا وذاك اعتمد محكما في لجان تحكيم أدبية عديدة. وهي إضافة قلما تتاح لشاعر، تنماز بكونها تعمل على تهذيب تعامل الشاعر مع المفردة لأنه مسؤول عن تقويم مفردات غيره. وقد استغل الدكتور أدي كل هذه المتاحات لينتج مجموعة مهمة من الدراسات التخصصية

أكاديميا باحثا:

مزايا عديدة وبعضها فريدة، تجمعت في شخصٍ مرهفَ الإحساس، نقي السيرة، واسع البصيرة، مزايا قلما يتاح لشخص أن يجمع بينها في شِعب واحد، فخلقت منه مبدعا متنوع العطاء، ينماز عطاؤه بالثراء، وكانت المؤلفات والبحوث التخصصية المحكمة جزءً من هذا الثراء، فهو في دوامة العمل الفكري أنتج مؤلفات عديدة ومتنوعة، نشر له منها - حتى الآن - 11 كتابا، هي على التوالي:

1- "الإيقاع في المقامات اللزومية للسرقسطي"، صدر عن دائرة الثقافة والإعلام في الشارقة، عام: 2006 م. وينضوي هذا الكتاب على فكرة تجاوز دراسة الإيقاع في الأدب من الشعر، إلى النثر أيضا، بين صوت المعنى خارجيا، ومعنى الصوت داخليا.

2- "المفاضلات في الأدب الأندلسي/الذهنية والأنساق"، صدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات بالدوحة، عام: 2015م. والكتاب أطروحة كبيرة حاولتْ أن تنتظم – نسقيا – للم شتات الوجود الأندلسي المفقود؛ بيانا، ومكانا، وزمانا، وأنسانا، وإيمانا، وعرفانا، من منظور فكرة "المفاضلات" الحافزة إلى التميز الإبداعي في جميع تلك الأبعاد.

3- "تأويل رؤياي: أطروحات صغيرة في الأدب والثقافة"، وقد صدر هذا المؤلف عن مؤسسة آفاق، مراكش، المملكة المغربية، 2019م، وهو عبارة عن مجموعة مقالات تخصصية بلغ عددها حوالي 150 مقالا، هي سيرة قلم يهوى السباحة في أعماق الأطاريح الثقافية والأدبية، مهما ضاقت المساحة، وقلت الحروف.

4- سلسلة "أدبيات أهل آدب"، وهي سلسلة كتب تضم خمسة مؤلفات صدرت جميعها عام 2020م عن مؤسسة آفاق المغربية، وهي:

أـ ارتياد لمناطق مجهولة، من التراث الثقافي والأدبي الموريتاني، ومحاولة لكتابة سير شخوص ونصوص، انحسر دونها التدوين.

ب ـ أسرة أهل آدب: سلالة الشعر وبيت القصيد. والكتاب رسم لمسار رحلة جينات الشعر، في أجيال هذه الأسرة عبر قرنين ونيف.

ج ـ المقاومة الأخلاقية في أدبيات أهل آدب، وقد حاول المؤلف في هذا الكتاب تتبع بعض تجليات التربية الأخلاقية في سلالة أهل أدب.

د ـ سيدي ولد آدب: رمز الفتى الكنتي، فارس المدفع والقلم. هذا الكتاب محاولة لإنشاء سيرة فارس، وشاعر، وعالم، لم يكتب عنه أهله، ولا وطنه.

هـ ـ الشيخ أحمد بن آدب: شيخ المشايخ وقطب الشعراء. وهو الآخر كتاب لبناء سيرة جديدة لشخصية جمعت المشيخة الاجتماعية، والدينية، والشعرية.

و ـ خديجة "دَيَّه" بنت سيدي بن آدب: خنساء شنقيط. وينماز هذا الكتاب بكونه محاولة بعث لخنساء شنقيطية من هذه السلالة الشاعرة، عزفت نشيد الأمل والألم.

5ـ عمود الغرابة في الأدب الأندلسي، (نظرية الأعمدة المتناسخة)، كتاب البديع في وصف الربيع، لأبي الوليد الحميري، أنموذجا. صدر عن مؤسسة آفاق، المملكة المغربية عام 2022م. وهذا الكتاب أطروحة تقوم على نفي "العمود" الشعري الأدبي الواحد، وتؤسس لنظرية "الأعمدة المتناسخة"، حسب تغير الذائقة الأدبية عبر العصور، انطلاقا من "عمود الألفة" التقليدي، إلى "عمود الغرابة" الأندلسي الجديد المتجدد، المنبني - في إغرابه - على: مفارقة المألوف إبداعا، والإحكام والإتقان والتجميل صناعة، والانفعال والإعجاب والاستغراب تلقيا.

6ـ النقد الأدبي: موضوعا للمقامة بين المشرق والمغرب. صدر عن مؤسسة آفاق، عام 2022م. وهو بحث يتجاوز النقد الاجتماعي المألوف موضوعا للخطاب المقامي، إلى ترصُّد النقد الأدبي، المنبثة قضاياه الجوهرية في مقامات أشهر مقاميَّيْن مشرقييْن: الحريري، والبديع الهمذاني، وأشهر مقاميِّيْن مغاربييْن: أبي الطاهر السرقسطي الأندلسي، وابن شرف القيرواني.

7ـ الشعر الحساني والشعر العربي، وصل الفصل.. نسب الأدب. صدر عن مؤسسة آفاق، 2022م. وهو محاولة لجرّ الدراسات الأدبية الأكاديمية الفصحى في موريتانيا، الى معمعان الشعر الشعبي "الحساني"، تجسيرا لهوة الفصل بين الشعرين والأدبين، وتحقيقا لنسب الأدب بينهما، فالشعر شعر بغض النظر عن اللغة التي كتب بها، فصيحة، أو دارجة.

أما في مجال البحوث التخصصية المحكمة فقد صدرت له العديد من البحوث، في الأدب العربي بشكل عام، والأندلسي بشكل خاص، والموريتاني بصورة أخص، ونشرت في مجلات محكمة.

وبالتالي أجزم بدون شك أو ريب أننا نقف أمام قامة علمية أدبية شامخة ذات تجربة ثرة وعلم غزير، وأننا لا نُعفى من التقصير إذا لم نولي هذه التجربة اهتماما كبيرا على مستوى الدراسات النقدية أو الدراسات الأكاديمية التخصصية (من متطلبات نيل درجتي الدكتوراه والماجستير فضلا عن بحوث الترقية العلمية، وبحوث التخرج لنيل درجة البكالوريوس).

إن وجود الأعم الأغلب من مؤلفات ومجاميع الدكتور أدي ود أدب لديَّ يعد فرصة إضافية لتيسير أمر من يريد أن يسعى في تنفيذ هذا المقترح، وأنا على استعداد لتزويدهم بها عند الطلب، فضلا عن ذلك أرى الدكتور على استعداد تام للتعاون مع أي طالب علم أو أديب ناقد بالصورة والشكل الذي يعجبهم.

بقيت نقطتان أود الإشارة إليهما رغم أنهما لا تلتقيان مع هذا السرد إلا من خلال جزئيات بسيطة:

النقطة الأولى: هي مهمة عمل (الدبلوماسية الشعبية) لتقريب رؤى الشعوب العربية التي تبنتها (رابطة المجالس البغدادية الثقافية)(4)، بعد أن فشلت الدبلوماسية الرسمية المؤدلجة والتي تتحكم بها المناهج السياسية في تحقيق هذا التلاقي، إذ قامت الرابطة سعيا منها لتوثيق عرى الإخوة بين الشعوب العربية بتنظيم سفرات مقننة لوفود من علمائها ومفكريها وأكاديمييها وباحثيها وفنانيها وشعرائها إلى دول عربية عديدة مثل: مصر، تونس، سلطنة عمان، لبنان، سوريا وغيرها، وقد نجحت في استقطاب أنموذجات مشابهة لتوجهات أعضائها من الطرف الآخر، أسهمت في إقامة علاقات متينة مع مقابلها، فحققت نقلة كبيرة في علاقات الشعوب العربية ببعضها، وكلنا أمل أن تتاح لنا فرصة زيارة موريتانيا والمملكة المغربية لتحقيق اللقاء العربي المنشود.

النقطة الثانية: لمستُ من خلال المشاريع الشعرية العربية المشتركة الثلاث التي أنجزتها بالتعاون مع بعض الأصدقاء مثل "قصيدة وطن"، التي انجزتها بالتعاون مع الشاعر العراقي المغترب ضياء تريكو صكر، وهي قصيدة مشتركة من وزن واحد وروي واحد، اشترك بكتابتها 173 شاعرا من 15 بلدا عربيا، وقصيدة "جرح وطن"، التي أنجزتها بالتعاون مع الشاعر العراقي الدكتور علي الطائي، وهي مشابهة للأولى ولكن عدد الشعراء بلغ أكثر من 180 شاعرا من 16 بلدا عربيا، ومجموعة "هذا العراق" الشعرية المشتركة التي أنجزتها بالتعاون مع الدكتور علي الطائي أيضا، والتي اشترك بكتابتها 388 شاعرا من 17 بلدا عربيا، أن هناك رغبة جامحة لدى شعراء الأمة ليتعاونوا فيما بينهم في أي عمل بنائي صادق، لكن عدد المشاركين من بلدان المغرب العربي كان متفاوتا من بلد لآخر، ففي الوقت الذي اشترك فيه 20 شاعرا جزائريا، وعشرة شعراء تونسيين، نجد هناك 6 شعراء مغاربة، وشاعرا موريتانيا واحدا هو الدكتور آدي ود أدب مع أن موريتانيا تسمى بلد المليون شاعر.! وهذا بالتأكيد بسبب ضعف التواصل بين المشرق والمغرب، ولذا أحث الباحثين والكتاب والأدباء العراقيين على تجربة التواصل مع مقابليهم في مغربنا العربي، وذلك ليس بالأمر الصعب في ظرفنا الراهن.

***

الدكتور صالح الطائي - باحث في الفكر الديني ومقارنة الأديان، وشاعر وناقد، أصدر 86 كتابا.

........................

الهوامش

(1) كان العراق قد قطع علاقاته الدبلوماسية مع موريتانيا في شباط من عام 1999م، وبقيت العلاقات متوقفة لسنوات عديدة؛ حيث أعيدت في أيلول عام 2012، لكنها لا زالت دون مستوى الطموح العربي والإنساني.

(2) عمود الغرابة في الدب الأندلسي (نظرية الأعمدة المتناسخة) كتاب البديع في وصف الربيع لأبي الوليد الحميري أنموذجا، مؤسسة آفاق للدراسات والنشر والاتصال، مراكش ـ المغرب، 1444هـ ـ 2022م، صفحة الإهداء.

(3) أسرة أهل آدب سلالة الشعر وبيت القصيد، مؤسسة آفاق للدراسات والنشر والاتصال، الداوديات، مراكش ـ المغرب، ص14.

(4) رابطة المجالس البغدادية الثقافية، رابطة مستقلة ذاتية التمويل ذاتي، لا ترتبط بأي جهة سياسية أو دينية، تضم أعضاء تخصصيين من كل الطيف العراقي، وتعمل على تمتين علاقات الشعوب العربية ببعضها من خلال اللقاء المباشر والتعاون.

توطئة: أن يجترح الشعر، في غمرة انحرافاته المتمركزة أساسا في الروح العاطفية، والميولات الرومانسية، ويشقّ له توجها يتأسس في الأصل، على رؤى أكثر تحرّرا وانقلابا على واقع اضطهاد الشعوب، فهذا ليس من قبيل الصدفة، بقدر ما هو ثقافة تتماهى مع الحداثوي وتنغمس في حيثياته ومضامينه.

مثلما تعكس استشكالا بحجم تحوّل المنظومة المفاهيمية، لدى جيل تبدّل بالكامل.

وهي منظومة مرتبطة بالهوية وأولويات وجودية وحضارية أخرى.

من هنا، نجد ثورات ما يسمّى ب” الربيع العربي” وقد خصّبت إلى حدّ بعيد مثل هذه البؤر الانقلابية في مجالات عدّة، أبرزها التوجه الثقافي، ما أدّى إلى اصطباغ المشهد الإبداعي بتيارات تتبنّى البعد الثوري، وإن اختلفت وتنوّعت قوالبها،وتعدّدت تمظهراتها، لكن يبقى المضمون واحدا موحّدا: الانتصاف للكرامة العربية.

من منطلق سياسي، لم يك أحد يتوقع أن يحدث هذا، بعد التطبيع الكبير الذي عرفه تاريخ العلاقة ما بين الشعوب العربية وحكّامها.

لا أحد يستطيع إنكار التضحية التي قام بها، البوعزيزي، حتّى ولو سلّمنا أنه أراد ردّ الاعتبار لنفسه فقط، وربما قد يكون غائبا أو مغيبا عنه الحسّ الثوري، قبل وأثناء وضع حدّ لحياته، بتلك الطريقة الجنائزية التي هزّت العالم العربي، بدرجة أولى، وولّدت تعاطفا كبيرا، ونفخت في غيرة المواطن المسحوق المغلوب على أمره، ودفعت به إلى الانتفاض ضد الآلة القمعية، وشتى أشكال الاستعباد والاضطهاد والغطرسة المخزنية.

مثل البوعزيزي الشرارة الأولى، لنزيف جماهيري خانه النضج بما يكفي، لسدّ الطريق على المتاجرين وسماسرة السياسة الذي ركبوا في الأخير على ما يمكن أن نسميه ـــ تجاوزا ــ مكاسب الثورة.

أو هذه الثورات التي اندلعت في بعض الدول العربية، تونس البدء، وتمّ احتواؤها بشكل ذكي في باقي البلدان.

الموازي لذلك، هو مثل هذه التيارات الإبداعية، والتي يعنينا منها، الشعر، قبل أي شيء آخر، وله تشعّبات في ذلك، بالطبع، ما لفت انتباهي على نحو خاص، منها، هو ما أطلق عليه ” الميليشيا الثقافية ” في العراق.

العديد من الأقلام كتبت عن هذه الثورات، ولكن قلة فقط من المبدعين الذين استطاعوا فهم تلك الحقبة فهما صحيحا، واستوعبوا تداعياتها استيعابا سليما متحرّرا من هيمنة وسلطة الإيديولوجي.

ومما لاشك فيه أن الشعر الذي ركّز على جوانب رسالية نابضة بالهمّ الإنساني وانشغالاته، وأنصتت متونه إلى الأسئلة الهوياتية والوجودية، في عمقها، هو الشعر الذي يمكن القول أنه اختزل تلك المرحلة وما عقبها من تحديات، كي يعطى، أو بالأحرى، يرسم أفقا لتيار جديد يشاكس بالهاجس الإنساني، ويُشرع عوالم خفية الكائن العربي المطعون في كرامته، على المصراعين، ويعرّيها جملة وتفصيلا.

من هؤلاء، الشاعر التونسي المبدع، ونحن نطالع له ديوانه الموسوم ” سفر البوعزيزي” الذي يوقّع تجربة جديدة ومغايرة متمحورة على الابتكار في اللغة والصورة والرؤية.

إنها تيمة الحلم كنافذة لخلاص الكائن والعالم، تتوسل مثل هذا الخطاب المتشبّع بروح الثورة، محتلّة منزلة المابين، فلا هي بالفلسفية المحضة، ولا هي بالخارطة أو الجغرافية الإبداعية المرتكنة إلى إيقاعات الصوفي، ولكنها في المقابل برزخية تؤاخي ما بين الحلمية والواقعية، مراهنة على عمق المتون وطفوها على معمارية بسيطة وسلسة، تُترجمها تقنية السهل الممتنع.

إن هذه المجموعة التي بين أيدينا، قيد الدرس، تقدّم أفقا شعريا متساميا على مفهوم القضية، بل وفاضحا في الكثير من المحطات، زيف ما انطوت عليه شعريات القضية من تعتيمات وتضليل.

سخّرت لهذا التيار الشعري المفاخر برائد الثورات العربية، ذلكم الشاب التونسي الذي قدمّ نفسه قربانا لاعتبارات سالف ذكرها، وبدوافع في صلبها الإنساني الحارق، العديد من الآليات الخطابية الحجاجية القائمة على وعي متوهج بالواقع.

وقد استخدمت لهذا الغرض جملة من الدوال سوف نجردها تباعا في هذه الورقة التي نحاول من خلالها تقريب المتلقي من ملامح موجة إبداعية استثنائية استطاعت تعرية عالم السلبية والنقصان.

مفهوم الانتماء

في بناء عوالم مثل هذا التيار الشعري الذي تمخض عن هزائم نفسية قبل أن تكون مادية، وشكّل صدمة ثانية لجيل البوعزيزي وما بعده، حينما أتت خيانة الثورة وغدرها، على هذا المقاس وبهذا الاستسهال وعد النضج، الذي مكّن لتجار الإيديولوجي والساسة السماسرة، وخوّل لهم ما يعتقدونه انتصارا لجيل طعن في حريته وكرامته وحياتيه، وسائر ما هو تحت سقف الكمالية الحضارية والوجودية التي يحظى بها غير العربي في بقاع وربوع أخرى.

لأنه في الأصل خسّة ولصوصية كرّست لضرب مخزني جديد، أرخى بأبجديات خادعة بأشكالها فقط، فيما الروح باقية وضاجة بنبرة قشيبها ومتقادمها.

هوان وذل وخنوع وتبعية عربية، بلبوس جديد، راح العربي المسحوق يدفع ضرائبها أكثر فأكثر، بحيث يضرب في هويته وكرامته وحريته وثقافته ووجوده.

نقف عند حدود تفجير أسئلة الجذر، في الكثير من نصوص الديوان، على سبيل المثال لا الحصر، قصيدة ” تذكرت البداية ” التي يقول فيها:

أمد الكون في ألفي ويائي

وأبسطه وأحقنه دمائي

وأشربه بلا مزج

قراحا

شراب الضوء يشرب دون ماء

وأدعو أن يصار إلى قصيدي

فيشرب

أو يعلّق في البهاء

أدير الكأس لا أدري لماذا ؟{1}.

ونص ” البيت “، نقرأ بعضا من طقوسه الهامسة، إذ يقول نصر:

إلا الكلام.ستأتي النجوم إلى هذه الدار.سوف يعرّش نبت الصباحات فوق الصحيفة أو فوق لوح المرافع.سوف تهز الغيوم برانيسها كي تبلل جير البيوت وجلّيزها. والعصافير سوف تعد منازلها في خصاص السقوف.ونهر القصيدة سوف يعود بأمطاره وأسراره، ويعود الحمام. ” أنا هكذا “لت للأصدقاء{2}.

إنه بيت الخلود المهدى إلى الشاعر محمد النجار، وطبعا، فروح شاعر مبدع كنصر سامي،لا يمكن أن تختزل من أسرار الصداقات والعلاقات، سوى ما هو موغل في الإنساني، وأكثر من ذلك مذبوح في الهوية والانتماء.

أن تستحضر شاعرا في نصوصك وتحتفي به، على هذا النحو من المشاكسات المتاخمة لجرح في العروبة لم يزل ينز، ذلكم هو التمكن واليقظة والاستبصار الراسم لقول شعري تعرف من خلاله وعبره الذات متاهات وتعالقات الإيديولوجي والاجتماعي، في كثير من نقاط التقاطع والتوازي، حدّا يدمي كرامة العربي ويذكره ببيته المغتصب، وفوق ذلك حلمه المسروق وثورته المجهضة.

قس على ذلك العديد من النصوص التي تستنطق الهوياتي، وتحاصر بأسئلة المنبت أو الجذر، مثل نص ” لي سماء في السماء “، إلخ…

ذاكرة المكان

تبدو سلطة المكان في نصوص نصر جلية، وواضحة المعالم، متلوّنة المتون، كونها جزء لا يتجزأ من تصور عام والج في روح الانتماء والانشغال بدوائرها.

من تمّ، هذه التجليات لذاكرة الأمكنة في شعريات الثورة وما بعدها، لما لها من قدسية ورمزية، أي هذه الأماكن، ووظائف ضمنية تغذي الطرح الثوري الانقلابي في الواقع والنص وشتّى المناحي الاجتماعية والحياتية والثقافية.

ولأن الطفولة البعيدة، أيضا ذاكرة، على نحو راسم لتشاكل واسترسال في توليفة نستشف عبر الديوان كيف أنتجها هذا المزج ما بين حلمية الواقعي وواقعية الأسطوري، تأسيسا على إقحامات واستحضارات صارخة بالرموز على نطاق أوسع، وفي مضمار تاريخانية محتفية بالانساني، ومنسبة للمشترك، كما أنها مدغدغة بتقنيات تمرير الموروث بما هو ماضوية واستغراق في الذاكرة، قابل لإنتاج جديد وصياغات مغايرة، تتيح التملص من سلطة الغابر وسطوة الذاكراتي.

هناك نصوص كثيرة تعكس هذه التوجهات، نذكر منها الآتي، قصيدة ” فوضى على باب القيامة ” باعتبارها فسيفساء كلامية شفّت كثيرا عن حقول الطفولة والذاكرة وقدسية المكان، بما يشد إلى تلوينات التوأمة ما بين الطفولي والمكان على تعدداته وتناسلاته الذاكراتية، نقتطف للشاعر هذه الأبيات:

أودع في الشموس البيض عمري

وأجمعه نجوما أو رذاذا

وأفتح فكرتي وطنا

وأعطي لهذي أضلعي

ودمي لهذا

ولا أدري أتفهمني حروفي بحق

أم تبادلني لذاذتها غصبا

لتدفع في دمائي هجيرا لا يطاق ولا يحاذي

أفكّر في غدي

وأنا عليم بأن الشعر منذور لهذا

فهذي الشمس تطلع

حين ترمي حروفي في دم الأكوان{3}.

ملفت هذا الكرم الشعري الذي يفتح أوراق كثير ممن أثروا بتجاربهم الإبداعية المناهضة للسلبية والنقصان والديكتاتوريات الأيديولوجية والمدبجة بحس نضالي ومقاومة شرسة، إبداعيا، لجميع مظاهر الاحتلال والاستعمار.

أشعار تُهدى إلى اسم وارف تسلّح بشعر القضية وأبدع فيه قبل أن يُسربله بفوقية للمشترك الإنساني، بما هو آيات خالدة لن ولم تنسى، أو تعتريها عوامل التعرية والتجاوزات.

شاعر القضية الفلسطينية الأول، محمود درويش

وهنا تصهل المسافة ما بين إبداع القضية وإبداع الثورة، كما أراد لها نصر، معتمدا إيقاعات للفوضوية البانية، وكأنه يؤسس لمنطق منفلت مسعف في ترتيب أوراق الزمن العربي، من جديد، ومعاودة الحسابات، بعد كل هذه الخسائر والهزائم المتكررة.

إنها تجليات ثقافية جديدة تعصف بها ملامح شعريات انبثقت من رحم الثورة المخذولة، تماما مثلما أسلفنا.

فيما نص ” معلّقة القصبة ” والمُهدى إلى نزهاء المسؤولية السياسية الذي حافظوا على أياديهم نظيفة، دون أن يسيل لعابهم إلى البريق السلطوي المستنسخ لروح مخزنية جديدة، ولم يقع في فخّ المكاسب الناهضة على موت الضمير واختناق صوت العقل.

يقول نصر:

صنع التّاريخ

لم يقبل عطايا

حين هزّ العرش واجتثّ الزوايا

ذاك شعبي الحر

ذاك التونسيّ

من أضافت آيه إلى المجد آية

من تأذّى حين كان الليل أعمى

من رأى ضوءا فغالته المنايا

صنع التّاريخ حقّا،

لا مجازا

وأشاع الشمس في ليل البرايا

كل نجم فيه من أضوائنا.

عرق يضخّ الدّم في كل الثنايا

نحن آمال الشعوب الآن

فينا يبصرون المجد

بل نحن المرايا[4].

إضافة إلى نصوص أخرى تخط ذات المسار، وتجذب إلى سماوات السفر في الجوانب الأكثر إشراقا من ثورة انطلقت بريئة ولكن سرعان ما أفسدتها وزايدت عليها وساومت في بعض مكاسبها، التكالبات والأنانيات السياسية، نصوص من قبيل ” قبر من رماد “، ” قبضة عشب من أجل ياسمين “،”شرفة في القاع “.

إذ الجميل في المجموعة، أنها سفر في الإنساني، يزدان بسيرة بطل حقيقي أجبره جور الوطن، وشعور المغترب في بيته، على تفجير ثورة الكرامة والحرية والخبز، فكانت التضحية التي أدخلته عالم الرمزية والخلود، حدّا تكشّفت له آفاق الإبداع الشعري العاقّ بمعنى ما من المعاني المفتية بها ضرورات تاريخية معينة، يواكبه نزيف الانتقال من صور إبداع القضية خاصة بعدما اكتشفت بعض أقنعتها، واتّهمت من قبل كثيرين، كونها أوقعت كذلك، في براثن التكالب على نزر المكاسب وقمع النبض الثوري في أولى تباشيره، سارقة بذلك حلم جيل كامل، ما أن صدق مرحلة جديدة وواعدة ومنصفة، تحترم حريته وعدالته وكرامته، وتعتبر هويته وترا حساسا وخطا أحمر لا يقبل المزايدات الرخيصة.

يقول أيضا:

… أحدّثها،

اسقّي الليل في أهدابها

مطرا، وأرميها سماوات

على هذي الجحيمات الطويلة.

أما بويب،

فشرفته في القاع يعرفها دمي

في القاع، أي في القاع،

حيث أسكن يا جميلة.

حيث تولد فكرتي بيضاء

لكن السكاكين الصقيلة

تمرّ من خلل السواد

وتستبيح الضوء

أبصر فجأة عدما يطلّ،أرى رحيلا

يسلّمني إلى رحيل.

وموتا إلى موت.

عدا عينيك، إنهما يسافران

ويفتحان بأحرفي وطنا بديلا{5}.

وإذن… في معنى وصور الوطن البديل أو الموازي، الذي تبنيه الثورة الإبداعية اللائقة بتضحيات رمز اسمه البوعزيزي، كشخصية تاريخية، شهيد أولى الثورات العربية.

وما إسقاط أو إحالة المشهد إلى حضور رمزي لأبرز أقلام النيوكلاسيكية الشعرية العربية، بدر شاكر السياب إلاّ قيمة أخرى تمت إضافتها بعناية ودقة وحرص، إلى ما من شأنه أن يذكي قداسة البوعزيزي، ويزرع روحا صافية، أو يضخ دماء جديدة في الشعرية العربية الحديثة، وهذا ما قدّمته وتحاول أن تقدّمه هذه الموجة الجديدة الوافدة بأحاسيس للتجديف في الواقعي بوصفه مرايا للأسطوري، والعكس بالعكس تماما، راسمة بثقة وتمذهبات بعد حداثية، مناخات للتشكيك في القضية والثورة، ما دامتا أخضعتا واحتواهما الإيديولوجي الغارق في أقنعته وزيفه، كي تظل في الأخير سيرة استشهاد البوعزيزي، منعطفا تاريخيا خطف العبور في أفلاكه، فجرا ثوريا،سرعان ما انطفأ، لتخلد رمزيته وضمنيته وإشراقات حمولته التي تتلاقح ضمن عوالمها تعاليم العروبة ووصايا هوية الكائن الراعية للمشترك الإنساني، قبل أي شيء آخر.

بذلك يكون ” سفر البوعزيزي ” فجر ثورة، خذلتها الإيديولوجيات المزيفة، وأقبرتها الأنانيات السياسية ونفعيات الماسونية الرخيصة.

ويقول كذلك:

وطني كعادته يريد ولا يريد ويستزيد من الصلاة كي يعيد حياته.بالرفض أحيانا وبالتّحنان يملأ كوبه ذاك المقدّس بالدموع لوحده حتى يرضّع ياسمينا في حديقة بيته ويمدّ نهرا في العروق لكي يهيّئ للعروق فراشا. ويقول للنقط الصغيرة فوق حرف الشّين صيري غيمة ثم املئي بيت الشعوب بما تحب وما تريد.قطّريني فوقها لأكون عطرا.ذوّبيني في الفضاء لكي ألامس صدرها. كوّني منّي الندى ثم انثريني حولها{6}.

من هنا إعجاز الحرف الذي تنبري له أوطانا موازية مشتهاة، وليست في سوى أخيلة الشعراء، وفق شاكلة محرّضة على الفعل الإبداعي المتلاعب بالأزمنة، بحيث يرتب الذاكرة ويستغرق في تأملات الآني ويستشرف الغد.

عوالم الأسطورة والرموز والموروث

يحوي الديوان متوالية من القصائد التي تهيمن على معماريتها استعمالات الغرائبي، ودائما على نحو يخدم الغرض العام الذي تمّت كتابة المجموعة لأجله، فتح صفحات بطل عربي كبير، يمثل استشهاده انقلابا في التاريخ العربي المرير وما انطوى عليه من تقاطعات للسياسي والمجتمعي والديني، هذا السفر البرزخي الذي تقترحه المجموعة ضمن عوالم منذورة لجملة من الآليات والإمكانات الإبداعية، صانعة لتحول كبير ومهم على مستويات متعددة في القول الشعري أو البوح المتمرد الذي يقدّس الثورة كما رمى بذرتها إنسان استثنائي يدعى البوعزيزي.

ممّا أثرى إيقاعات الفعل الشعري، وصبغها بمتون عميقة تذود عن السيرة الإنسانية، وفق حدود المنطق الثوري المشروع.

بحيث يبرز الانشداد إلى لبنة جوهرية، أفصحت عن منبت الثورة، وعبّرت عن حيثياته بوضوح، وفصلت فيه، بلغة تصويرية واعية وواثقة تطور المعنى وتسخّره للمفردة، وليس العكس.

وهنا تظهر قدرة الشاعر وتمكّنه من أدواته، كما عمق وعيه بالأزمة، ما سهل عليه تفجير أسئلة الهوية والتقاطعات الإيديولوجية والاجتماعية والعقدية، في بعدين: نفسي وعقلي.

يزدهر مثل هذا التوجه في تراكمية تذكيها إغراءات هذا السفر، سفر البوعزيزي، متزملا بوجه آخر، وجه السيرة النابضة بالضمير الجمعي.

هذا السفر والذي هو بمثابة دينامو للسّيري مثلما يشدو به الهمّ الجماهيري، محققا وحدة وتجاورا في المشترك.

وهكذا انبثقت ثورة الحرية والكرامة والخبز، بفضل شاب يتحوّل إلى رمز وذاكرة حية، يعود إليها الشعر كل حين، وتؤوب إليها القصائد منفّسة عن الجرح العربي العميق، مصرّحة بأن الإيديولوجي هو المتهم، كي يبقى، بالتالي، البوعزيزي، أو بالأحرى تخلد رمزيته، فوق هذا الجرح وفوق هذه الثورة المخذولة وفوق الحلم العربي المسروق.

المهم أن وصايا نصر من خلال سفر البوعزيزي، تظل واضحة وصريحة، ومنبّهة إلى أخطاء التاريخ العربي وثغراته، ومدافعة عن حلم عربي آخر مشروع، بعيد عن المزايدات والمكاسب التي قد يصنعها التحالف السياسي والعقدي والمجتمعي.

ثمة الكثير من النصوص المفضية إلى دهاليز الأسطوري، والمدغدغة بأسراره وإسقاطاته على راهن عربي مقنّع خان ثورة الأحرار وقطف مكاسبها.

نذكر قصيدة  ” سيعود يوما طائر الفينيق”، مطالعين قدرة الشعر على استنطاق الذاكرتي المثقل بأوهام الزعامة وأنانيات السلطوي، بما يفيد التاريخ الإنساني المكرور والمنتج لمختلف أشكال الاستعباد والقمع والاضطهاد، كي يظل الحلم هو الخيار أو البوابة الوحيدة لمؤانسات الاغتراب الروحي، وتضميد السيكولوجية المنهزمة أمام غطرسة الحكام وساديتهم.

يقول الشاعر التونسي نصر سامي:

لكنني أرتدّ أحمل عزلتي وقصيدتي. هو هكذا. صحراؤه خضراء والموت طير قادم من أجلها. ” ليكن صباحك رائعا يا خوف”. ولتكن أنهار حزنك جنة، لأبيع وهما للصغار وللفراش وأعدّ نهرا للغزال وللغزالة كي يناما في هدوء وأهيئ الكلمات كي تستقبل الآتي وتلقي فوقه في الليل بردتها. هو هكذا. في أرضه شجر النهايات القديمة يطرح الآن الحروف ويملأ الدنيا بماء الليل. وفي السماء، سماء وحدته التي أسرى بها الوهم القديم إلى قصيدته، رأيت باب النجم مفتوحا ورأيت أشرعة تهزّ الغيم ورأيت مدينة تنسلّ من أضلاعه وتمدّ في ليل الكلام ضياءها.’ لم يستطع أحد هنا نسيانه{7}.

إنّه النسيان المستحيل، أي الذاكرة الحية الرافلة بحضور الكائن في رمزيته، ودوما يتمّ تشبيه الشعر بالضوء الذي يسري في عالم السلبية والنقصان، كي يضيء جوانب العتمة، ويجود بالسّحر أو الجمال والمعرفة المتوقف عليهما خلاص الكائن والكون.

في ذلك انتقال من حالة الانشغال بالهم الشخصي العفوي وغير المقصود، إلى حالات الشّعبوية المستقطرة من هواجس الإنساني والمعتصرة روحها من فراديس انتساب شمولي إلى شجرة الإنسانية الخالدة.

حقا وصدقا، مثل البوعزيزي، لا ينسى وستظل تضحيته منقوشة في الذاكرة والوعي العربي،ما استفرد وشذّ وغرّد على هواه حاكم من الزعماء العرب، الذين طالما خنقوا شعوبهم بسوط المخزنية المقيتة.

لدينا حلم، على حدّ تعبير الشاعر نصر سامي، وسقف هذا الحلم هو وهم الكتابة ومقامرات السفر في متاهاتها، لحين بزوغ فجر جديد، ينتظره البوعزيزي مختزلة فيه، وهو فارس برزخيته، أحلام الشعوب العربية المقموعة، فجرا ينصف التضحية الجسيمة لذاك الفتى العربي المرعب برمزيته.

وهناك نصوص تعتمد إقحامات رمزية، وتنخرط في عوالمها، حدّ السحر وأسر الذائقة والعقل على حدّ سواء، نطالع للشاعر بعض الطقوس منها في قصائد قوية قوة رمز هذه المأدبة الشعرية، وهو يرقد هنا/ هنالك في عزّ برزخي هو مفخرة لكل عربي ممسوس في هويته وحريته وكرامته، يقول:

بردى معي. لا أفهم الآن الممات ولا أرى إلا الحياة تمرّ في جسدي وتفتح في الردى بيتا وفي بلدي. من أين يأتيك الردى وأنت يا بردى من صنعت المجد للأحياء وأنت أنت الضوء في هذا المدى المزروع بالألغام وأنت أنت الريح تزرع صوتنا شجرا وتمنح للندى في حلمنا الرواح والجسد.

وآه يا بردى. لا ماء في الأرجاء غير الدمع يا بردى. والحزن نفس الحزن يكبر في أغانينا وفي دمنا. يحتلّ كل الأبيض الممتدّ فينا{8}.

إنما يستمدّ الكائن براءته من هذا البياض الممتد والذي هو في الأصل شعر، يبارك كل الثورات عبر التاريخ الإنساني، على استرسال صفحاته وانسدال فصوله، كي يدين الجور والقمع ونعرات الشيطنة، وكلّ عقوق يقود إلى خراب العالم وتدمير نفسية الكائن واغتيال أحلامه.

سفر جلجامش وضع نهايته كشف السّر، إكسير الحياة، ليكون خلود هذا الرمز في الذاكرة الإنسانية ساطعا وقويا، ولكن ليس بسطوع وقوة الكائن العربي الذي تراكمت عليه الخيبات والهزائم والانكسارات التي لا يمكن تحمّلها أو استساغة سيناريوهات تخيّلها حتى.

لذلك كانت المعادلة هنا دامغة بعناوينها ومضامينها، وأيضا بعمقها الإنساني ومتجذّرة في هويتها العربية، وهذا هو سر البياض الممتد والقابل للعديد من التأويلات، إنه واقع ينشد مثاليته ولا يتأتى بغير النبش في سيرة البوعزيزي ومساءلة سفره السرمدي.

ذلك حين تغوص شعرية تيار إبداعي جديد في حقول تجاذبات ضدّية، كي ترعى وبشراسة الخطاب الإنساني في الروح العربية الأبية، واستقصاءات فانتازية موغلة في المفارقات، بما يضع شعر الثورة على تنوع تجلياته، فوق القداسة والحياة، ويظهره على انه موتا بمعنى الحياة، وغيابا بمعنى الحضور، وفوضوية بمعنى الترتيب وهدما بمعنى البناء.

يحاكي الخبز في ثقافة الشعوب العربية المقموعة، عشبة الخلود هناك، في عوالم جلجامش، لدى نجد أن ما منح طابع الرمزية المتفوقة فيما يتعلّق بالحالة ” البوعزيزية” نسبة إلى عريس الثورة العربية، البوعزيزي، إذا شئنا، هو صرخة من هذا النوع، وهي صرخة تحرج أساسيات أو ضرورات الحياة، بينما هناك، لدى جلجامش، وما تتوقف عليه ملحمته من تمثلات، تمت مسرحتها على مستوى كمالي صرف، وهنا يكمن عمق الحالة الإنسانية الأولى ما اقتضى هذا الإسقاط الثانوي الذي مثل في الحقيقة شرف إضافة.

إنها موسوعية عالم البوعزيزي وهو يطفو على ما عداه من مثاليات، وقد أفلح الشاعر نصر سامي، في ترجمة هذا الإحساس وتمرير الحمولة الجمالية والمعرفية والتراثية الدالة عليه.

فضلا عن نصوص الاعتناء بالموروث، هنا، وكيف أنها لم تستنسخ الذات الشاعرة، بقدر ما طبعتها بولادات ثانية، مزهوة بإيقاعات الاستحداث والخلق والابتكار في المعجم والصور.

نأخذ مثلا نص ” في ظل مرثية أبي لؤي الهذلي ” وما تثرثر به من انزياحات للجنائزية والمأساوية المتبّلة للمشهد البوعزيزي، الواخز بتفاصيل الإنساني والراشق بنثار تجليات حالاته.

نطالع له كذلك البعض من طقوس الاتكاء على الموروث والنهل من خزائنه في سياق عربي محض تتقاذفه التأثيرات الخارجية وتنغّص على أجوائه لوثة الموالاة ومعرّة التبعية.

يقول:

قالت: ” نعم، لي في الجوار مراجع. سأمر يوم الأربعاء. أحب أن ألقاك”. وسألت في سرّي: لماذا الأربعاء؟ من أجل إيقاع القصيدة ربما ؟ من أجل ثلج لم يزل معلقا في روح هذا العالم المدفون في الظلماء؟ أم من أجل محو لم يزل معلقا في مرثيات الموت يدفعه الهواء؟

يمرّ الوقت موتورا معنّى. أسمع الموتى يفرّغون ويملؤون. وأرى الدواب تئن تحت السّوط بكماء لا تدري. وأسمع في نداء الباعة المتجولين البؤس والمرض المحاط بفضة بيضاء هي الستر والخوف من غليان هذا الوقت والقبول بما تبقّى من فتات موائد الغليان. لا أريد من الرياح قصيدة. مثلي يسافر في الريح قصيدة مغموسة في العطر ينسجها الضياء. والضوء أسود لا يزال، والنجم أسود، وكل شجيرة في غاب ذاكرتي هنا سوداء. حتى السماء فإن السم مازجها حتى تسمّم في أعماقها الماء{9}.

وهذا بيت القصيد، نصر سامي من خلال حضور البوعزيزي وانثيال رمزيته لسائر مشاهد الجنائزية والمرثاة في راهن عربي دموي مضطرب ومهزوز، محض ارتقاء بالكائن إلى مستوى القصيدة الكونية المترنّمة بالمشترك الإنساني.

الشعر هو النور الذي يسري في عروق عالم مطفأ، فينير التوجه الآدمي المتعثّر، والمحاصر بإملاءات البهيمية والشيطنة، مقابل تنويم مشاتل النوراني والجمال في النفس البشرية الضعيفة أصلا، مع أنها توّاقة في الغالب، إلى الكمال، منجذبة إلى سماواته.

إنها كتابة البياض التي تكرّم البوعزيزي، وتكتب غيابه حضورا مشرقا متوهجا. وتلعن المزايدات السياسة التي أفسدت كل شيء، وجنت على تضحية البوعزيزي التاريخية.

شعرية المقدس

إن التناص مع المقدس، يمنح لأنساق هذه المجموعة إشعاعا وأفقا لجمال استغراق القاموس الديني، بما يصون روح الابتكار في اللغة والتجديد فيها، حظوظا تجعل الرسالة المفخخة بالحس الثوري، أجمل وأقوى.

يتمّ استثمار المعطى الديني، على نحو يباغت البياضات في محطات عديدة، فتحصل الخيانة التي تسمو بكتابة الغياب، إلى مستوى الرمزية التي تنسج طقوسيات جرد سيرة البوعزيزي، وتمجيد السفر في عوالمه إلى الآخر.

تلك كتابة الغياب بمعنى الحضور، لا نمتلك سوى تفعيل تفاصيلها والمناورة بفصولها، بغية مغازلة واقع الخيبة والعدم الذي خلّف فشل الثورات العربية، بعد أن راهن على شرارتها الأولى، كل عربي مطعون في كرامته وهويته.

مثلا، في قصيدة ” المدثر ” نلمس إحالات الطهارة الروحية، والتي تفيد من نواحي أخرى تيمة النبوءة، وهنا ترخي بثقلها دوال مثل هذه المفردة التي لها قواسمها المشتركة، بالطبع مع الشعر كأصل للفنون.

ينضاف إلى النبي والشاعر، الثوري كمخلّص للبشرية والعالم.

نقتطف من هذه القصيدة الجميلة، الاقتباسات التالية:

أتذكّر روحي وهي تحدّق في آيات الرحمن قرب شجيرات الزيتون تقوم بفرش مصلّى. أهمّ بتقبيل الأرض تحت الساقين العاريتين الرائعتين الحاملتين لإحدى أجمل أسطورات الأرض: أمي، تلك المخلوقة من أنوار، تلك المشغولة بالياقوت والأطيار. تلك الليل حين تمدّ يديها ألف نهار، تلك الجنات جميعا منها تغار، تلك اللغة الملأى بالأسرار. أتذكر قلبي وهو يطير إليها. حلم هذا حلم. أبكي وحدي في ظلماء الليل. جسدي حجر لكن روحي غيم، وأنا أتدفق في ساعات الشوق أمي الناي ناي الله وقد جسده في كلمات، أمي نور يتدفّق كالأنهار ويهدي كالآيات، أمي تاريخ حنان لم تعرفه لغات الأرض ولم تعرفه حياة، أترقرق أنوارا أتشظى تخرج من شفتيّ زهور الليل. وأرى حولي كتبي، متناثرة كقبور تنتظر الحفّار، وأصرخ: ” لو هذه الأرض تفاحة في فمي، لقضمت قضمت قضمت إلى أن تسيل الدماء وينهل عارض برق “. أنا هكذا، لغتي وطني{10}.

في ارتباط هذا السفر بمنظومة مفاهيمية من القداسة والسمو بمكان، الانتماء، الأم، الأرض، اللغة، وهلم جرا، تكون هذه الشعرية قد اختطت مسارا استثنائيا، يسجل حضور ا محايثا  للكينونة المتمردة والثائرة، ويعطي انطباعا بجدوى الشعر في هذا الدومين الزاخر بأسلوبية إبداع الغياب الذي يعنيه الحضور الرمزي، وتلوّن تجاويفه ملامح الأنا المتسربلة بالضمير الجمعي والهامسة بصوت ” النحن”.

إن مجارات المقدس في نظير هذه الشعرية، التي استطاعت من خلالها الذات الشاعرة، تأجيج الفعل التواصلي والارتقاء به إلى أعلى نقاط إشباع الذائقة وتغذية الذهن، على حدّ سواء، تبعا لفصول رسم أحاسيس لاختزال هذا الجرح التاريخي المقيم في الذات، خارج النص والمعنى الذي يبحث عنه هذا العربي المطعون في حريته وكرامته وأبسط حقوقه.

لهي مجارات واعية وواثقة وراصدة للأزمة في عمقها وتشعّباتها وخطورتها، ذلك حين تغتصب خياناتنا البياض، حتّى ليغدو الإبداع مرادفا للوهم الذي نراوغ به وجوديتنا، ونحن نقاوم الجور الإيديولوجي، ملزمون باتخاذ الحيطة والحذر في عبورنا الآثم.

من خلال القصيدة، نتهم ذواتنا، وفي المجمل نحمّل التاريخ أخطاءنا، ولكن يأتي الشعر الحقيقي، يجيء من ينابيع الحس الثوري، وأدغال الأصوات المتمردة التي لا تهادن، محاولا التصحيح والتقويم.

خلاصة

في اعتقادي، الشعر الذي لا يختزل مرحلته ويحتويها بالتمام، لا يمكن التعويل عليه، ولعل ما كتبه هذا التيار الجديد احتفاء برواد الثورة، خير دليل على ما ذهبت إليه.

في أفق تخليق الشعري للإيديولوجي، والعكس بالعكس تماما، ولكن مع كامل التعرية والفضح.

بإمكاننا القول أن هناك ثلة حققت مصداقية وراكمت تجاربا في هذا، وما بصمه الشاعر التونسي نصر سامي المكتوي بواقع خذلان الثورة، كأي عربي حرّ قدره أن يصرخ ملء الثغر، في الظل، حالما ومستشرفا ومسلحا بنبوءاته.

وظف نصر جملة من الإمكانات، بحيث استطاع الانخراط في تيار شعري مثلت الثورية وقوده الأساس، فكان أن أمتع ضمن حدود هذا السفر الوارف بمثاليته وضمنيته ورمزيته الآسرة.

سفر البوعزيزي، كعلامة فارقة في المشهد الشعري العربي الحديث، كون الذات الشاعرة داخل مثل هذه السراديب، لم تغتر بغير خيانات البياض، وكتابة الغياب، ثأرا للإنساني في كائنية مجبولة على ثقافة التمرد، إنشادا للخلاص من قبضة التاريخ المخزني الطويل الضاغط بماسونية سدنته وساسته الحمقى.

***

أحمد الشيخاوي - شاعر وناقد مغربي

...................

هامش:

(1) مقتطف من نص ” تذكرت البداية”، صفحة 19.

(2) مقتطف من نص ” البيت “، صفحة 26/27.

[3] مقتطف من نص “، فوضى على باب القيامة ” صفحة57.

[4]مقتطف من نص ” معلّقة القصبة “، صفحة 129/130.

[5]مقتطف من نص ” شرفة في القاع “، صفحة 221/222.

[6]مقتطف من نص ” يصير نجما خلف ثورته “، صفحة 125.

[7]مقتطف من نص ” سيعود يوما طائر الفينيق “، صفحة 80.

[8] مقتطف من نص ” جلجامش “، صفحة 113.

[9]مقتطف من نص ” في ظل مرثية أبي ذؤيب الهذلي “، صفحة 197.

[10]مقتطف من نص ” المدثر” صفحة 83/84.

المبحث (1): فضاءات الصورة المؤنسنة وأسطرة الدال الصوري

توطئة: لعل مصطلح الشعرية منذ أن أطلق أرسطو على كتابة الذي يحدد الأنواع الأدبية ويصنفها ويردها إلى خصوصية عواملية تختص بها (البويطيقا) فيما ظلت هذه الشعرية حديثا رائجا في مصطلحات الشكلاتيون الروس، وصوﻻ إلى كونها تعني في ما تعنيه ذلك المجال النوعي المتميز للعلم الصوري الذي يكشف قضية كون الشعر شعرا، وبالتالي تغدو الشعرية كوسيلة تقانية في منحاها الأكثر تحقيقا في صياغة حاﻻت الأشياء ضمن مرسلات لفظوية وتلفظية تخرج محكومية الدال إلى القولي من حدوده السياقية اللغوية إلى جملة خصائص نوعية من الكشوفات الجوهرية والظاهرة من تحت عباءة المعنى العلائقي المجدول في أفق خصائص وظائفية تهتم بالكيفية عدوﻻ من الوافرة الكمية في معالجات اللغة الأدبية النمطية. وعلى هذا النحو وجدنا في تجربة مجموعة (قارة الأوبئة) للشاعر العراقي القدير فوزي كريم، ذلك المجال الوظائفي للدال فاعلا، وهو يعالج شكلا من اللغة الشعرية التي تتبنى العلامات والإشارات والتوصيفات، مجال معطيا للملفوظ الدوالي رسما تشكيليا راح يؤسطر مواضع والاحوال الأزمنة والأمكنة والذوات والذاكرة،ضمن حدود شعرية جعلت من أداتها بالوظيفة الشعرية ﻻ في أشكال القصيدة البنائية فحسب، ذلك الابتعاد عن تمثيلات الخطاب الشعري الواهن للقصيدة النمطية، امتدادا تفاصيليا لها نحو وصف الأشياء في نطاق تلك اللغة والقدرة الإمكانية التي تختص بها مقادير ومعايير البنيات المطولة من شعرية الأساليب الأنزياحية في ملامسة الممكن والجوهري من جماليات (شعرية الصورة المؤنسنة) لذا جاءت ملفوظات (قارات الأوبئة) ضمن نفسها الملحمي وكأنها الدﻻلة الكلية التي تغطي محمل اشتغاﻻت عوالم كينونة الذوات المضمرة والظاهرة في إبعاد المقطوعات الشعرية الواصفة: 

- البنية الصورية وآليات صفة التشكيل

لعل ترتيب آليات الملفوظ الشعري في فصول بنيات قصيدة (قارات الأوبئة) تستأثر لذاتها ذلك البناء الإحالي الذي يعد بذاته المركبة انعكاسا لمعادﻻت إمكانية ذات إطﻻقة خيالية ممسرحة بروح الموصوف والواقعة الاحوالية المتصلة في مدار زمنية تصاعدية مقرونة بخواصية (الإكتفاء - الاقتطاع - سياق ادائي) وذلك تبعا إلى أن الواقعة الشعرية في الزمن المجمل النصي، تفرض ممهدات دﻻلية تتجاوز من خﻻلها (سردية - شعرية) تتعاشان من خلال واصلات تصويرية - حسية، لها خصوصية التعويض عن بدائل غياب المحفوظ الجودي، بعيدا عن نبرة فجائعية رثة من شأنها تفجيع الاتساق التشكيلي في سلم النص بأي حالة دخيلة من شأنها قلب الاستعانة بالرموز إلى فجيعة رثائية فجة:

قنوات تحفرها الأمطار..

منعطفات بيوت متراصة كأقراص الخبز

شبابيك مهترئة كالمناخل

أبواب تكتم أنفاسها أمام طارق الليل

أسلاك كهرباء تئز بفعل القوى المكبوحة

للرغبات الطرية ./ص ٧ 

١- مستوى التلفظ بين مرآة السرد وضمير شعرية الفاعل:

إن القارىء إلى مستهل المقاطع الأولى من زمن تصديرات النص، راح يتسلم ثمة مراويات تستثمر من السرد الكثير من السعة والامتداد في التوصيف القصصي، غير إن السارد - الفاعل، بدا وكأنه ذلك الاستمداد الخارجي في حاﻻت شهودية خاصة من الأداء والتواصل الاستدعائي إلى سلسلة افعال ومسميات تتمظهر من خلالها أحوال (زمنية - مكانية - تشكيلية) وصوﻻ إلى ذلك الحلوص في بعث الأشياء في حدود مكوناتها النواتية المراوية: (قنوات تحفرها الأمطار . . منعطفات بيوت متراصة كأقراص الخبز) لعل مستوى الاستباقي في موارد جملتي (منعطفات بيوت = كأقراص الخبز) تستنزف في المدار الذاكراتي ذلك التوليد الخاص ب (الجدة - انتظار عودة الأب - الأم التي ترتقب عودة ولدها من الحرب) وهكذا راح الشاعر بحمل متهلات نصه، دوالا لها كل الصلة والتقارب من تواريخ قديمة لها رائحة ونكهة محطات القطارات الصاعدة والساكنة فوق مدارجها الحديدية، عرباتها مشرعة الابواب (أبواب تكتم أنفاسها أمام طارق الليل) لعل الشاعر يظل فيمفعول دواله إلى جملة من الرؤية الأكثر ذروية من مسافة احكام وجود المسافات اللامة للغياب الخاص للأشياء، رغم زمن وجودها الوقائعي، ولكن هناك زوايا زاخرة بالجذب والفقدان (شبابيك متهرئة كالمناخل) وما يزيد من حجم أداة التشبيه فإن حاﻻت الأشياء في مغامرة ركونية قصية في أبعادها المتغايرة، ورغم ذلك فلا تفارقها حاضنات المألوفية ودﻻلتها السخية في سجلات الظراب التكويني. الشاعر يبث الإشارات والعلامات والرموز، والقارئ يستلطف دفء الزوايا وحرارة رغيف الخبز من جدران التنور . ربما الشاعر يواجه مصيرا مترديا في(اسلاك كهرباء تهتز) ها هنا تكمن الإشارة إلى حالة خاصة من المكبوت والضغط الذي راح يتماهى مع أطروحة ركون الرغبات (القوى المكبوحة - للرغبات الطرية) لذا فإن الجملة اللاحقة راحت تلوح لنا بمدى تفعيل الوازع التقييدي والضغوطي للذوات، عندما راح جملة اللاحق تخبرنا (أزفة معقودة كظفيرة المحارب) إذن إن مجموع الجمل الشعرية الواردة تدلل على هوية قاهرة وكامنة، جعلت تحاكي تلك الأوضاع المدلولية المليئة ب (الرموز المقنعة)وصوﻻ إلى دﻻﻻت تتناسب وتتشاطر مع محكيات الساردة الشعري الذاتانية.

٢ - العينات المؤسطرة في الحسن الفجائعي المشكل:

إن حاﻻت الوقائع المؤسطرة في مجاﻻت قصيدة الشاعر تشف لها دربا أليما في حدود (الرمز - الأسطورة - القناع)كأساليب نفسانية تشي من وراءها أحاسيس نادرة من الاظافة والمغايرة في النوع والمجاورة ومعاينة دال النتيجة . فالشاعر فوزي كريم يستشعر (الاوضاع الدوالية) بحسب مقادير رؤيته الصورية المعادلة، لذا فإننا نجد صوته بما هي معا في الرؤية والتشكيل: 

دجلة يلامس البشرة بالملاحم

وبعضا الساحر يكشف عن المعدن الزائف

للأيام المتﻻحقة !

أسماك تتقفز إلى المتطلعين وتختفي ررؤوسها

المدببة في ثنيات ثيابهم وهناك تمطر بيوضها

وتستلم للنيران . /ص٨ 

إن المقاطع الشعرية ها هنا تؤول إلى دﻻﻻت كبرى من طبيعة (أحداث النص) فهي عبارة عن حاﻻت صورية تعبر عن التعدد في المحنة والتي راح الشاعر يؤلها كمعادﻻت موضوعية تستأثر لذاتها من خلال خطاب الإيحاء والرمز، كشفا عن وقائع تعددت في إطارها التحوﻻت للذات والكينونة التي ظهرت أشكالها رؤى الحرب والموت في حياة في حياة شروط قهرية من رسومية الإيحاء بالقصد (دجلة يلامس البشرة بالملاحم .. وبعصا الساحر يكشف عن المعدن الزائف .. للايام المتلاحقة) لذا فإن المحصلة التميزية لنهر دجلة كونه تمثيلا يلامس حقائق ضمن قوى مرجعية اصيلة، لذا فإن قضية بلاغات الحرب هي من الأمور التي تخدش الحياء لكونها نافذة في الانفلات حول تحرير الاصفاد من الاصفاد (يكشف عن المعدن الزائف للايام المتلاحقة) فيما تبقى امثيلات دوال الاسماك اختلاكا بذلك المحتمل الذي يجعل من عنف الموت سبيلا إلى فرار الاسماك من مواضعها إلى (وتخفي رؤوسها المدببة في ثنايا ثيابهم) فيما تستقر خلف الثياب للجنود القتلى دون أن يقادرها إحساسها بالأمان من اهاويل الموت فتبيض يرقاتها فوق ندوب الموت المحفورة في اجساد الجنود القتلى: (وهناك تمطر بيوضها وتستلم للنيران) .

- تعليق القراءة:

إن الابداع في نص (قارات الأوبئة) هو حلم ورؤية الاضداد من الذات الشعرية فالشاعر يتقصد خطابا وتخييلا مكبلا بجوار التصادمات مع واقع السلطة القائمة في البلاد حينذاك، لذا فإن (قارات الأوبئة) هي النافذة التي من خلالها يطالع الشاعر ويكتب عالمه الحسي معبرا باللاشعور واللاوعي ولكن بالمحتمل اليقيني الراسخ حول مدى قذارة هذه القارة المليئة بالابعاد النفسية المقهورة والكظيمة وهي تعاين آخر سقوطات أحلامها الاحوالية فوق مسطحات المستنقعات والمنعطفات المتخللة بانتهاء ونهايات الابعاد الذواتية المرسومة قهرا وكمدا عبر (فضاء الصورة المؤنسنة وأسطرة الدال الصوري) لذا تبقى احلام الشاعر اللاشعورية تسبر غورا في تأويل قارته المنسية إلا من بلاغة غبار الموتى وقذارات (أمواج تنبش رائحة الروث) .

***

حيدر عبد الرضا – ناقد وكاتب عراقي

 

إن دخول الهايكو إلى الثقافة الرومانية وأدبها ذو عمر طويل، ويعود ذلك إلى بداية القرن العشرين، وإلى عام 1902 على وجه التحديد، عندما بدأت العلاقة الدبلوماسية بين اليابان ورومانيا بعد مباحثات غير رسمية أجريت في (فينا – النمسا)، أثمرت عن إنشاء مفوضية رومانية في (طوكيو) عام 1921، ومفوضية يابانية في (بوخارست) عام 1922. علما تشير بعض المصادر إلى قيام الكاتب والعالم الروماني (بوجدان بيتريسيكو هاديو) (1838 – 1907) الذي كان يشغل منصب مدير أرشيف الدولة) بترجمة بعض نصوص التانكا المهداة من الأمير الياباني (نيغاتا نو إيتو) إلى الأمير الروماني (كارول الأول) (1839 – 1914) الذي توج ملكا بعدها (1881 – 1914).

نشرت مجلة (إيفينمينتول ليتارار – الحدث الادبي) الرومانية أول دراسة حول التانكا والهايكو في عام 1904، وكانت بقلم (آي. سيبريان). وفي عام 1911 نشر الشاعر (ألكساندرو فلاهو) (1858 – 1919) مقالة قيمة حول نفس الموضوع، وقد تضمنت بعض النماذج الشعرية المترجمة عن اللغة الفرنسية. وكانت مقالته المذكورة بعنوان (الشعر الياباني) الواردة في كتابه (بجوار المدفأة) . كما ترجم الشاعر(جورج فويفديكا) (1893 – 1962) عن اللغة الألمانية مجموعة تانكا يابانية تحت عنوان (الزهور الشرقية 1919). وهناك ترجمات عن الألمانية والفرنسية ل (ترايان تشيلاربو) الذي تلقى تعليمة في روما – إيطاليا، وقد جاء في مقدمة كتابه (الروح اليابانية) (ما من تأثير غربي، الإيحاء بشكل أساسي أكثر من التفصيل). وأيضا ل (أليكساندرو تي. ستاماتياد) و(دان كونستانتينيسكو) و(إيون أكسان) و(أوريل رو). كما كان ل (إيوان تيمو) (1890 – 1969) و(جورجي باجوليسكو) (1886 – 1963) الدور الكبير في نشر هذا النوع الشعري في رومانيا. وبحسب الباحث (فلورين فاسيليو) مؤلف كتاب (قصيدة الهايكو في رومانيا) الصادر في عام 2001: (إن الترجمات قد نأت بنفسها بشكل دلالي عن القصيدة الاصلية من خلال إستخدام المعجم الدلالي، لأنها تمت بإستخدام مختارات باللغات الفرنسية والألمانية والإنكليزية كمصادر معتمدة، مترجمة بدورها عن اليابانية).

أما أول قصيدة هايكو كتبت باللغة الرومانية فكانت بقلم الشاعر (ألكساندرو ماسيدونسكي)، وكان ذلك في عام 1920. وفي عام 1935 نشر الشاعر والقاص والكاتب المسرحي الروماني المعروف (ألكسندرو تيودور ستاماتياد) (1885 – 1956) إضمامة صغيرة قريبة الشبه بالهايكو إلى حد بعيد، ومتكونة من (12) قصيدة، وكان قد ترجم أيضا ل (شارل بودلير، أوسكار وايلد، إدغار آلان بو، عمرالخيام). أما الشاعر (إيون بيلات) (1891 – 1945) الذي تلقى تعليمه في باريس، فهو مبتكر قصيدة السطر الواحد في الشعر الروماني، وقد اعتبرها النقاد مأخوذة من الهايكو أو مرتبطة به إلى حد ما. وقد كتب عنها الشاعر نفسه (لا ينبغي إعتبار القصيدة المكونة من سطر واحد قصيدة يونانية أو الروباي الفارسي أو الهايكو الياباني). ومن الرواد أيضا (مارين سوريسكو) و(نيتشيتا ستانيسكو) و(ماريا بانو) (1914 – 1999) و(فيرجيل تيودوريسكو) (1909 – 1987) و(جورج توموزي) (1936 – 1997) و(سيزار بالتاج) (1937 – 1997) و(بيتر غيلميز) (1932 – 2001) و(تيفان أوغستين) (1922 – 2002). ذكرت الباحثة (أناستازيا دوميترو) في بحثها القيم (التداخل الشعري بين الشعر الياباني والشعر الروماني) المنشور في عدد يوم 18 تشرين الثاني 2013 من مجلة (هايكو): (لقد ساهم كل من إيون بيلات وترايان تشيلاريو وآل تي ستاماتياد بشكل كبير في تعرفنا على التانكا والهايكو، بالإضافة إلى غيرهم). أما بخصوص (إيون بيلات) فقد كتبت (يتمتع إيون بيلات بالمعلومات، والحساسية تجاه الدقة التشكيلية، وهذا ما يراه الناقد جورج كالينسكو أيضا. وبحسب سيربان سيوكوليسكو، فقد قرأ بيلات لجميع الشعراء القدامى والجدد، ومن العصور القديمة حتى اليوم، ومن جميع أنحاء العالم).

وتمثل الفترة اللاحقة لعام 1989 المرحلة الذهبية الحقيقية والخصبة في تاريخ الهايكو الروماني. وهو العام الذي تغير فيه النظام السياسي. علما نشر الباحث (فلورين فاسيليو) المهتم بتاريخ الهايكو الروماني في نفس العام وبالتعاون مع زميله (براندوا ستيسيوك) كتابا قيما حمل عنوان (العلاقات الغنائية: كوكبة هايكو). ثم أصدر في العام الذي يليه أي 1990 أول مجلة معنية بالهايكو في رومانيا، وضمت هيئة تحريرها أسماء بارزة، مثل (مارين سوريسكو، إيون أكسان، أوريل رو، ستيفان أوغست دويناش، غابرييل ستانيسكو). وكانت تصدر كل ثلاثة أشهر وب (8000) نسخة ورقية، لتصدر بعدها كنصف سنوية وب (1000) نسخة فقط. كما أنشأ (فاسيليو) في عام 1992 دار نشر مستقلة أسماها (هايكو) أيضا لنشر مجموعات الهايكو وبثلاث لغات (الرومانية والإنكليزية والفرنسية). كما أنشأت الشاعرة الرومانية (كورنيليا أتاناسيو) دار نشر أخرى على نفس الشاكلة (إيديتورا أتار). وقد تولت مهمة نشر مجموعات هايكو من تأليفها، وأيضا ل (جول كوهن بوتيا وفاسيلي مولدوفان) وغيرهما.

 وقد شهد عام 1991 ظهور (جمعية الهايكو الرومانية)، ومن أوائل الأعضاء فيها: (إيكاترينا زازو نياغوي)، وهي شاعرة هايكو. ولدت عام 1956 (براهوفا). نشرت قصائدها في (الباتروس، أساهي، عالم اليوم، أصداف البحر، الاقحوان، هيرالد تربيون، كونستانزا هايكو) وغيرها. عضوة في جمعية الهايكو الرومانية. عضوة في جمعية الهايكو العالمية – اليابان. صدر لها (زهور الريح 2012). أدرجت في قائمة الشعراء ال 100 الأكثر إبداعا في أوروبا 2010. و(فالنتين نيكولينوف)، وهو كاتب وقاص وروائي وشاعر هايكو. ولد عام 1945 (بوخارست). حاصل على شهادة في الهندسة من معهد الفنون التطبيقية في (كلوج نابوكا) 1972. بدأ الكتابة منذ عام 1965. عضو جمعية الهايكو الرومانية. رئيس تحرير المجلة الثقافية الرومانية اليابانية. و(أميليا ستانيسكو)، وهي أكاديمية وكاتبة وشاعرة. ولدت عام 1974. حاصلة على شهادة في فقه اللغة تخصص روماني – فرنسي كلية الآداب وااللاهوت - جامعة أوفيديوس. عضوة في اتحاد الكتاب الرومان ورابطة بافاريا الألمانية. أصدرت ستة كتب غنائية. حاصلة على شهادة الماجستير في اللغة الفرنسية من جامعة (كونستانزا) والدكتوراه في فقه اللغة. حاصلة على جائزة كتاب الشعر 2005 والجائزة الأولى للشعر في مسابقة الشعر والنثر 1992 التي نظمتها مجلة (ديناميس).

 وتوجد أيضا (جمعية كونستانتا هايكو) التي شهدت النور في عام 1992 على يد (إيون كودريسكو)، بالإضافة إلى العديد من الجمعيات والدوائر المحلية. و(أيون كودريسكو) شاعر ورسام وأكاديمي ومحرر وناشر. ولد عام 1951 (كوبادين). حاصل على شهادة الدكتوراه في الفنون البصرية من الجامعة الوطنية للفنون في بوخارست. بدأ بنشر الهايكو في 1992. ترجمت قصائدة إلى عدة لغات. عضو في عدة منظمات معنية بالهايكو. منح العديد من الجوائز، ومنها: جائزة متحف هايكو للادب (طوكيو) 1991 وجائزة جمعية كونستانزا للهايكو 1992 وجائزة مدينة ناغويا للهايكو (اليابان) وجائزة من مسابقة كوساماكورا الدولية للهايكو – اليابان 1998 وجائزة جمعية الهايكو الكرواتية 1995 والجائزة الخاصة لجمعية الهايكو الامريكية 1992، 1994، 1996، 2022 وغيرها كثيرة. من كتبه (رحلة هيغا 2020)، (الفرشاة المتجولة 2020) و(شيء من لا شيء 2020) و(الزهور غير المباعة – مشترك 1995). يقول عن الهايكو (إن كتابة قصيدة الهايكو مثل رسم لوحة بالحبر أو لوحة مائية. إذ لكل كلمة قوة ضربة من الفرشاة.. من خلال الهايكو إكتشفت الرينكو والهايبون والهايغا. لرسم لوحة أو كتابة قصيدة، نحتاج إلى الانسجام والتباين والإيقاع واللهجات والأفكار والعاطفة).

و هناك مجلة رومانية معنية بنشر شعر الهايكو وغيره تحمل عنوان (الباتروس – ثنائية اللغة) التي نشرت الهايكو والسنريو وهايبون والرينكا والتانكا وغيرها، وقد صدر عددها الأول في عام 1992 وعددها الأخير في عام 2001، وقد ترأست تحريرها الشاعرة (لورا فاسيانو)، وهي كاتبة مقالات. ولدت عام 1948 (بوكو). خريجة كلية فقه اللغة في المعهد التربوي في (كونستانتا)، وخريجة كلية الفقه في (بوخارست). عملت في التعليم. شاركت في مهرجانات الهايكو للفترة 1992 – 1994، وفي مؤتمر الهايكو الأوروبي الأول 2003.

ثم صدرت بعدها مجلة (الهايكو) التي شهدت النور في عام 2004 على نفس المنوال. أما (ماريوس شيلارو) فقد تولى إدارة عدة دور نشر، وحرر مطبوعات ثقافية في مدينة (تاش)، وهو شاعر وكاتب وناقد ومحرر ومترجم وروائي غزير الإنتاج معروف عالميا. ولد عام 1961 (نغريستي فاسلوي). من مؤلفاته (طريقة أخرى للأنتحار، عشاق الوهم، مستأجر الوقت، الحاضر قادم، حياة فاوست الأخرى، عندما يستقر الحاضر، التاريخ والشعر في الثقافة العربية، لون الصمت، الوهم والتناقض، نحو شفاه السماء. له أعمال منشورة في اليابان وإيرلندا والنمسا.

و هناك أيضا مجلة (الحديقة المسحورة) للهايكو التي أسستها (ستيليانا كريستينا فويكو) في رومانيا بتاريخ 25 آذار 2023. و هي رسامة ومصورة وشاعرة هايكو وتانكا ومحررة. ولدت عام 1987. تعيش في (بلوييستي). بدأت بكتابة الشعر منذ أيام الدراسة الثانوية. تحمل شهادة في علم التحكم الآلي الاقتصادي والإحصاء والمعلوماتية من جامعة البترول والغاز في (بلوييستي). حاصلة على شهادة الماجستير في قواعد بيانات دعم الاعمال من نفس الجامعة 2012. منحت عدة جوائز شعرية، ومنها الجائزة الأولى في مسابقة البرقوق البري للهايكو 2015 وإشادة في مسابقة (اد آي أي) للهايكو في نسختها ال15 / 2013. أدرجت في قائمة الشعراء ال 100 الأكثر ابداعا في أوروبا لأكثر من مرة.

كما توجد مجموعة كوكاي الرومانية التي يترأسها الشاعر والمترجم والمحرر (كورنييلو ترايان أتاناسيو). ولها مدونة باللغة الرومانية شهدت النور في عام 2007. وتقوم بإجراء المسابقات الشعرية، وقد أجرت أول مسابقة شعرية لها في 1 نيسان 2007. وتنشر الهايكو الروماني والأجنبي من مختلف بلدان العالم، مع إجراء المقابلات وإستطلاع الآراء، وعرض الكتب والمطبوعات الوطنية والأجنبية المتعلقة بالهايكو، وتقديم التعليمات والارشادات الضرورية لكتابة الهايكو، وعرض التحليلات والمقارنات لقصائد الهايكو ونشر مختلف المقالات، ونشر المجموعات والمجلدات الشعرية الشخصية والمشتركة للشعراء الرومان. مع وجود نسخة باللغة الإنكليزية موجهة للأشخاص الذين لا يجيدون الرومانية.

أما (أتاناسيو) فهو شاعر غزير الإنتاج، من أعماله (البحث عن النغمة: هايكو 2020) و(السماء الصافية فوق الغيوم). يقول عن الهايكو (يمثل نص الهايكو الجزء المرئي من جبل جليدي عائم فوق الماء، في حين أن الجزء الأكبر والاعمق من القصيدة – الصورة والاقتراحات والتلميحات والرموز – سيكون تحت مستوى سطح الماء. إن الهايكو كفضاء ثلاثي الابعاد، مثل جسم هندسي الشكل، حيث يكون النص خطيا والصور مسطحة، ويتم إنتاج الحجم بواسطة نوع من التخمير لأنزيمات النمو المرشوش في النص، مثل إضافة غبار المخبوزات إلى العجينة). وهو يرى (إن مستقبل شعر الهايكو في رومانيا إنما هو مستقبل الأشخاص الذين سيتذوقونه ويقرأونه ويكتبونه. إذا فعلوا ذلك بتفان وإخلاص، فسوف يكون هناك دوما مجتمع سيقدر ذلك دوما). كما يترأس (كورنييلو) تحرير أول مجلة هايكو رومانية على الشبكة العنكبوتية تحت إسم (يوروبيا)، ويعمل فيها (إيوانا دينيسكو، دان دومان، إياديكو جوفيرديانو، مانويلا دراغوميريسكو، كليليا إيفريم، سورين توما بوك) وغيرهم.

 أما أول مسابقة هايكو دولية أقيمت في رومانيا فكانت في عام 2003 تحت رعاية مجلة هايكو وبمبادرة من (فالنتين نيكوليشوف). كذلك تقوم (جمعية الهايكو الرومانية) بتنظيم مسابقة هايكو شهرية على الشبكة العنكبوتية وتنشر القصائد الفائزة على نحو منظم. وهناك مسابقة كونستانتا الدولية للهايكو الذي تنظمه (جمعية هايكو كونستانتا)، وقد أجريت في عام 2021 تحت عنوان (البحر الهائج)، تخليدا لذكرى مأساة (فوكوشيما) في 11 آذار 2011. وقد تكونت لجنة التحكيم فيها (للكبار) من (نيكول بوتييه، جوليا راليا، جان أنتونيتي، فلورين جريجوريو، فاسيلي مولدوفان) ولجنة التحكيم (للأطفال) من (دانييلا فارفارا، فيرجينيا بوبيسكو، فاسيلي كونيوشب ميستشانو، كاميليا سوسيو، أناستازيا دوميترو). وقد فازت بالجائزة الأولى الشاعرة الرومانية (ميريلا برايليان)، والشاعر البولندي (كرزيستوف كوكوت) بالجائزة الثانية، والشاعر الروماني (ميرسيا مولدوفان) بالجائزة الثالثة. اما (ميريلا برايليان) فهي شاعرة هايكو، تعيش في مدينة (ياش). خبيرة في التراث الثقافي. أدرجت في قائمة الشعراء ال 100 الأكثر إبداعا في أوروبا 2020 – 2021. منحت عدة جوائز شعرية. أصدرت مجموعة هايكو متكونة من (150) قصيدة هايكو بعنوان (المحك). عضوة في جمعية الهايكو الرومانية وجمعية الهايكو الفرنسية. لها قصائد مترجمة إلى الفرنسية، وأخرى إلى اليابانية من قبل (هيدينوري هيروتا). وأما (ميرسيا مولدوفان) فهو شاعر هايكو غزير الإنتاج. يعيش في مدينة (جيبو). أدرج في قائمة الشعراء ال 100 الأكثر إبداعا وعطاء في أوروبا لعام 2022. ينشر قصائده في الصحف والمجلات والمواقع العالمية المعنية بالهايكو. إشترك في العديد مسابقات الهايكو وفاز فيها بجوائز. ترجمت الكثير من قصائده إلى عدة لغات.

و أيضا مسابقة شحذ قلم الرصاص الأخضر المجراة باللغة الإنكليزية عبر الشبكة العنكبوتية – الانترنيت منذ عام 2012، وقد أسسها (كورنيليو ترايان أتاناسيو). وهي تستقبل أكثر من (200) مشاركة من مختلف بلدان العالم في كل مرة. وقد أعلنت نتائج المسابقة في شهر نيسان الماضي 2024، وفازت بالمركز الأول الشاعرة الكندية (ديبي سترينج) بالاشتراك مع الشاعر المالطي (بول كالوس – مكرر). أما المركز الثاني فكان من نصيب الشاعر الأمريكي (إدوارد هادلستون)، والمركز الثالث من نصيب الشاعر الهندي (راجانديب جارج). مع تنويهات مشرفة لكل من (ناديجدا كوستادينوفا – بلغاريا، توم بيروفيتش – الولايات المتحدة الامريكية، كيري جي هيكمان – الولايات المتحدة الامريكية، ناديا ياشمينيكا – كرواتيا، جافين أوستن – استراليا، ياسمينة بوتنارو – رومانيا. إن (إدوارد تارا) هو أمين مسابقة شحذ قلم الرصاص الأخضر للهايكو منذ 2012، شاعر هايكو وتانكا ورينغا. ولد عام 1969 (ياش). مدرس رياضيات. عضو جمعية الهايكو الرومانية منذ 1991. حائز على عدد كبير من الجوائز والتكريمات (أكثر من 100 جائزة). منها الجائزة الاول في مسابقة الهايكو بالانكليزية اليابانية – الأوروبية 2010 والجائزة الثانية في مسابقة ريسوبوكس الدولية للهايكو 2019 والجائزة الأولى في مسابقة آيريس الدولية للهايكو. أصدر مع الشاعرة (كلارا توما) مجموعة هايكو تحت عنوان (هذا الهايكو !) 2022. وقد نشرت (إيرينا آنا دروبوت) دراسة قيمة عنه بعنوان (أسلوب قصائد الهايكو لدى إدوارد تارا) في العدد (30 / 2022) من مجلة (الدراسات الأدبية الرومانية).

و كان لشعراء الهايكو الرومان مشاركات كثيرة ومتميزة في العديد من المسابقات والفعاليات الشعرية الدولية والوطنية التي حصدوا بموجبها العديد من الجوائز، نذكر منها: مسابقة كوساماكورا الدولية للهايكو – اليابان ومسابقة البرقوق البري للهايكو ومسابقة الهايكو اليابانية – الأوروبية بالانكليزية ومسابقة ريسوبوكس الدولية للهايكو ومسابقة آيريس الدولية للهايكو ومسابقة ماينيتشي للهايكو ومسابقة كوكاي الدولية للهايكو ومسابقة أكيتا الدولية للهايكو ومهرجان كاثرين مانسفيلد الدولي للهايكو عبر الانترنيت ومسابقة ماينيتشي الدولية للهايكو (ينظر: إيرينا آنا دروبوت، مسابقات الهايكو باللغة الإنكليزية على الانترنيت – نظرة عامة، العدد 2 / 2016 من مجلة الممر الثقافي بين الشرق والغرب، ص ص 186 – 204). ومن هؤلاء الشعراء (دان يوليان)، وهو شاعر هايكو معروف. ولد عام 1955 (أوبيرسيا أولت)، ويعيش في (بوخارست). باحث أول في علوم وهندسة المواد. عضو في مجموعة كوكاي الرومانية منذ عام 2011. أدرجضمن قائمة شعراء الهايكو ال 100 الأكثر إبداعا في أوروبا. حائز على العديد من الجوائز، ومنها جائزة آنا روس – مسابقة كونستانتا الدولية للهايكو 2020 والجائزة الأولى في مسابقة مجلة هايكو الرومانية 2020 والجائزة الأولى في مسابقة كوكاي – النسخة الهندية 25 / 2018 والجائزة الأولى في مسابقة كوكاي الهندية 2015. ترجمت قصائده إلى عدة لغات حية. وأيضا (ماريا تيرينسكو - ماريا كونستانتا أوريليا)، وهي شاعرة هايكو وهايبون. ولدت عام 1949 في (ساسيل ماراموريس). خريجة كلية الرياضيات والميكانيكا – جامعة بابس بولياي (كلوج نابوكا). عملت في التعليم. نشرت أربعة مجلدات من الهايكو ومجلد واحد من الهايبون. إشتركت في مسابقات شعرية عديدة في الهند ورومانيا واليابان وفرنسا، ومنحت عدة جوائز وكرمت أكثر من مرة. منها الجائزة الثانية في مسابقة الهايكو الكرواتية 2013. و(فلورنتينا لوريدانا داليان)، وهي كاتبة وشاعرة. ولدت عام 1968 في (بوخارست) وتعيش في (سلوبوزيا). مهندسة كيميائية. نشرت قصائدها في رومانيا وكرواتيا ولبنان ومقدونيا واليابان واسبانيا. حاصلة على تنويه في مسابقة الهايكو اليابان – الاتحاد الأوروبي. عضوة في جمعية الهايكو الرومانية وغيرها. ترجم لها (هيدينوري هيروتا) إلى اليابانية. و(أوبريكا باديانو)، وهي كاتبة وشاعرة. ترجم لها (هيدينوري هيروتا) إلى اليابانية. كما ترجم لها (فاسيلي مولدوفان) إلى الإنكليزية. نشرت الكثير من قصائدها في الصحف والمجلات والمواقع المعنية بالهايكو، واشتركت بعدة مسابقات شعرية. و(ميهاي مولدوفيانو – ميركو)، وهو شاعر هايكو ومصور. نشر قصائده في مختلف الصحف والمجلات والمواقع المعنية بالهايكو. إشترك بمسابقات شعرية وتم الإشادة بقصائده. له قصائد مترجمة إلى بعض اللغات الأجنبية. و(لافانا كراي)، وهي محررة ومصورة فوتوغرافية وشاعرة هايكو وتانكا . تعيش في مدينة (إياسي). نشرت ثلاثة كتب هايكو مصورة ومجموعة تانكا. أحدها بعنوان (ريسبيرو – هايكو – إيديتورا بيم، ياسي، رومانيا 2020). والثاني بعنوان (تيمبو روباتو – هايكو 2020). ترجم لها (هيدونوري هيروتا) إلى اليابانية. نظمت عدة معارض فنية. محررة في مجلة (هايغا). وقد منحت منحت عدة جوائز. و(ماجدالينا دايل)، وهي شاعرة هايكو وتانكا ومحررة وكاتبة. ولدت عام 1953. تعيش في (بوخارست). نشرت قصائدها داخل وخارج رومانيا. صدرت لها مجموعة هايكو واحدة وثلاث مجموعات تانكا، بالإضافة إلى أشكال شعرية أخرى. عضوة في جمعية الهايكو الرومانية وجمعية الهايكو العالمية. و(منى يوردان)، وهي شاعرة هايكو تعيش في (بوخارست). لها قصائد مترجمة إلى بعض اللغات الحية كالفرنسية. كما ترجم لها (هيدونوري هيروتا) إلى اليابانية. اشتركت في مسابقات هايكو وطنية ودولية. و(فاسيلي مولدوفان)، وهو من مواليد عام 1949. ساهم في تأسيس جمعية الهايكو الرومانية، ورئيس مجلس ادارتها للفترة 2001 – 2009. نشر خمس مجموعات هايكو، منها (عبر الالآم، وجه القمر غير المرئي، سفينة نوح). و(فلورين غولبان)، وهو كاتب وشاعر ومحرر. ولد عام 1975 (ترانسلفانيا)، ويعيش في بوخارست. أصدر ثلاث مجموعات شعرية. وردت أعماله في العديد من الكتب المشتركة. يهوى موسيقى الروك. عضو في جمعية الهايكو الرومانية وغيرها. ترجم له (هيدينوري هيروتا) إلى اليابانية. و(ماريانا توناس)، وهي شاعرة هايكو. ولدت عام 1954. تعيش في مدينة (برايلا . مدرسة فنون جميلة. بدأت بنشر أعمالها منذ عام 1968.)

كما يتم تدريس شعر الهايكو في العديد من المدارس والكليات والمعاهد في رومانيا، وتقام له الورش والفعاليات الموجهة للطلاب في مختلف المراحل الدراسية من أجل نشر الوعي بالهايكو بين هؤلاء، وتشجيعهم على كتابته، والمشاركة في مسابقات ومهرجانات الهايكو الدولية، مع نشر قصائدهم ورسوماتهم في كتيبات مستقلة تشجيعا لهم، وتقديم الهدايا والمكافآت النقدية الرمزية لهم. وكان للشاعر (إيوان غوبودين) الدور الكبير في هذا المجال. ومن هذه المسابقات مسابقة مؤسسة (جي أي إل) التي أجرتها في نسختها ال 13 في عام 2013 – 2014 بمشاركة (19000) نص لاطفال من (34) دولة. وأيضا مسابقة متحف (ياماديرا باشو التذكاري) لهايكو الطلاب. وقد شارك الأطفال الرومان فيهما بالعديد من نصوص الهايكو. وأيضا مهرجان (كاثرين مانسفيلد الدولي للهايكو – فئة الصغار) عبر الانترنيت الذي أقيم مؤخرا وللفترة 15 تموز – 15 أيلول 2023، وقد فاز فيه (أندريا ليبادوكا – 14 سنة) بالمركز الثالث و(سيبي سيوبيكا – 11 سنة) بالمركز الثاني مشترك مع إشادة ل (تيو كونتاك – 13 سنة). ومسابقة الهايكو العالمية للأطفال في نسختها الثامنة عشر 2023 – 2024، والتي أعلن عن شروطها مؤخرا، ومنها أن يكون عمر المتقدم 15 عاما أو أقل إعتبارا من 15 كانون الثاني 2024. أما مسابقة (نيكولاس أ. فيرجيليو التذكارية للهايكو والسينريو 2024) فكانت حصة الأسد فيها من نصيب الأطفال الرومان (تيو كونتاك وماريا نيغرون وإيدي بارفو).

 - تيو كونتاك (الصف السابع) عن القصيدة التالية

يمد الربيع

صندوق الأقلام الملونة

الذي لم تستخمه البتة

 ماريا نيغروت (الصف السابع) عن القصيدة التالية -

يوم القمر...

لم تزل أمي بحاجة

لمن يتبرع لها بالدم

 إيدي بارفو (الصف السابع) عن القصيدة التالية -

ليلة يسود فيها السكون

غصن من شجرة الكرز

يصطدم بالقمر

أما الدكتور (رادو سيربان)، وهو دبلوماسي وشاعر وإقتصادي وسفير رومانيا السابق في اليابان، فقد كان له الدور الكبير في نشر الهايكو في رومانيا مع تعريف الشعب الياباني بالهايكو الروماني. ولد عام 1951. حاصل على شهادة الدكتوراه في الاقتصاد من أكاديمية الدراسات الاقتصادية. نشر أكثر من (30) كتابا، منها (6) مجموعات هايكو بالرومانية و(3) مجموعات هايكو بالانكليزية. منها (بلسم الروح 2012) و(نافذة التناغمات 2014) و(لقطات شعرية 2017) و(تأملات 2018). أصدر مع (فاسيلي بوينارو) مجموعة (تأملات 2018) و(في الهايكو). عضو في جمعية الهايكو الرومانية.

***

بنيامين يوخنا دانيال

.......................

1 – Anastasia Dumitru، Poetic Interference Japanese Poetry VS Romanian Poetry. https: // revistahaiku. blogspot. com

2 - Marcel Mitrasca، Japan in Romanian Books Before World War Two. https: // eprints. lib. hokudai. ac. jp

3 – Haiku from Romanian Haiku Group (6). https: // akitahaiku. com

4 – Haiku from Romanian Haiku Group (11). https: // akitahaiku. com

5 – Haiku in Romania. https: // www. thehaikufoundation. org

6 – A History of Haiku in Romania. https: // www. thehaikufoundation.org

7 – Haiku in Romania، from the Orient towards. https: // notabene – bg. org

8 – Tag: the Romanian Haiku Society. https: // akitahaiku. com

9 – Al. T. Stamatiad. https: // en. Wikipedia. org

10 – Haiku World of Patricia Lidia in Romania. https: // akitahaiku

. com

11 – Becoming a Haiku Poet in Romania. https: // www. graceguts. com

12 – Submission Guidelines I World Children’s Haiku Contest. www. jal. foundation. or. jp

13 – HIS International Haiku Competition 2013 Results. https: // irishhaiku. com

14 – Caribbean Kigo Kukai: 2010. https: // www.. caribbeankigokukai. blogspot. com

15 – Irina Ana Drobot، Zen Buddhism، Taoism And Shintoism in Romanian Authors. https: // www. ceeol. com

16 – Radu Serban، Haiku in Romania. https: // www. edituraecou. ro

17 – Irina Ana Drebot، What Could We Understand by Translation ?. https: // www. intechopen.com

 18 – Journal of Romania Literary Studies. https: // www. ceeol. com

ثمة سؤال يفرض نفسه منذ سنة 1988 سنة حصول الأديب الروائي نجيب محفوظ على جائزة نوبل، وهي الجائزة اليتيمة في مصر القيمية والمعرفية وكما يقال مصر أم الدنيا، ولم تتكرر وتحصل لأديب قبلهُ أوبعده !

لماذا مُنح نجيب جائزة نوبل؟

- مُنح محفوظ الجائزة بأستحقاقاتهِ العلمية والمنطقية والموضوعية بمهنية أحترافية واقعية تشهد لهُ غزارة نتاجاته المعرفية والقيمية الناطقة بالأنسنة.

-لم يعد نجيب محفوظ كاتباً متميزاًعميق الصلة بمجتمعهِ بقضاياه وتحولاتهِ بل أصبح عظيماً بنظر العديد من أعمدة الأدب والثقافة الأنسانية على مساحة كوكبنا الجميل وحيث الأعلام العالمي الذي أقتحم (عالم نجيب محفوظ) بمانشيست جريدة اللومانتيي ألواسعة الأنتشار} الناطقة باسم الحزب الشيوعي الفرنسي والتي دعتهُ في ثمانينات القرن الماضي قائلة: {صباح الخير يا ملك الرواية }!؟

- إن كتابة الرواية فن من فنون الكتابة تضاف لها الموهبة ولا تتوقف على هذه الأسس فقد أضاف لها نجيب محفوظ التجديد خصوصا  شخصنتهُ المعصرنة.

- فهو العزيز في زمن الجدب صاغ للأدب العربي والعالمي مفهوم الحداثة ببراعة فائقة بناءً ومادة وتكنولوجية مع مقاربات في التطور الجمعي السوسيولوجي للوصول إلى أعادة بناء الأنسان المصري الحداثوي بأقحامهِ في العولمة الرقمية الحديثة ويجعل لهُ رافعة واحدة هو: (التعليم).

- وحصل محفوظ على كاريزمية واسعة ومدهشة محلية وأقليمية وعالمية بسر كسب اليمين والوسط واليسار والقديم والحديث.

-  تمكن من فك شفرة كارل ماركس في التغييربتفهمهِ الفلسفي العميق لضرورة ظهور "الشعوربثقافة الوعي والأدراك" بتردي الوضع الطبقي أولاً ثُمَ السير الطوعي الثوري في سكة الألف ميل للوصول بمصر إلى مصافي العالم المتحضر وتوازيها.

- فقد شغل ذكرهُ الأمة الأدبية والثقافية بعالمهِ الروائي والحكاواتي المتسم بسيمياء رموزهِ وشفراتهِ المراوغة والتي غدتْ نسغها الصاعد للسفر التراثي لعصرنا الحاضر بهيئة طوفان معرفي ثر وثري لا ينضب من الأعمال الرصينة ذات الشفافية العالية الصاعدة لسفر الأمة الثقافي.

- ولآن أسلوبهُ يجمع بين الحدث التأريخي والقصصي الشعبية والواقعية، ولآن عالم محفوظ يضمُ بين جنباتهِ عدة مدارس في آنٍ واحد فهو ينحومن الواقعية النقدية إلى الواقعية الوجودية ثُمَ إلى الواقعية الأشتراكية أضافة إلى تزويق الرواية بجماليات السريالية.

- فهو متحف موسوعي يجمع أتجاهات النقد الأدبي التأريخية والبنيوية كما تحتوي رواية "أولاد حارتنا" بالذات على مفارقات تظهر ما بين التنوع والتكرار والتضارب وتناقض الأضداد فهوقدم لنا نموذج فكري حديث مختوم عولمة وحداثة والذي سماهُ الناقد الراحل الدكتور الطبيب حسين سرمك حسن بنقد النقد.

- وجدتُ ثيمات الأنسنة والكفائة الأدبية في جميع رواياته خاصة أولاد حارتنا والحرافيش ومقارباته من الأنسان المصري وهو يطحن بماكنة الصراع الطبقي.

- تمكن من أن يجعل من الكلمات (كائن حي) عجز الأدباء المعاصرون مجاراتهِ.

- أكد في روايته أولاد حارتنا (ثيمة الحارة)التي توازي جغرافية العالم ولكنها الحقيقة تدور الأحداث بدراميتها الموجعة على أرض الكنانة مصر أم الدنيا.

- فهو كاتب البرجوازية الصغيرة والفقيرة المعدمة التي تكافح لأجل البقاء ولآجل أثبات وجودها وهو أكثر فهماً للطبقة الوسطى وأقدرهم تعبيراً عن مشاكلها وكشف واقعها الطبقي  بملاحظة حركة التأريخ التطورية الحتمية، فهو {ديمقراطي تقدمي في مجتمع شرقي غيبي.

ملخص القصة

تبدأ ببطل الرواية (الجبلاوي) كان شخصاً عنيفاً صلباً متسلطاً ومزواجا لهُ الكثير من النساء – وهنا عقدة الرواية في أحتدام الجدل بين الأوساط الدينية بأن محفوظ يقصد بالجبلاوي الذات الألهية لذا كفروا الكاتب ومنعوا نشر الرواية، وتعرض لحادثة أغتيالٍ فاشلة في 14 تموز1994 من جانب أنصار التيار الديني المتطرف.

وحسب أعتقادي الفكري وقراءاتي المتعددة للرواية وفي أزمنة مختلفة: أرى أن محفوظ يقصد بالبطل رمزيا بالحكومات المستبدة الذين حكموا مصر الفراعنة والمماليك والأتراك والأسرة الفاروقية وعساكر أنقلاب تموز، أما الأخوة عباس وجليل ورضوان – عدا أدريس – يمثلون الطبقة الضعيفة والمستلبة في المجتمع المصري. أنتهج فيها أسلوباً رمزياً يختلف عن أسلوبه الواقعي، فهو ينحو في هذه الرواية جاهداً على أبرازالقيم الأنسانية التي نادى بها الأنبياء كالعدل والحق والسعادة الروحية، ونظرية العقد الأجتماعي لروسو وربما أعتبرتْهُ نقداً مبطناً لبعض ممارسات عساكر الثورة والنظام الأجتماعي الذي كان قائماً.

وعلى العموم كانت أكثرجدلاً من حيث المضمون بين الأوساط الدينية بالذات، حاول الكاتب أن يصوّرالرواية بعرض تراجيدي مأساوي للفقراء والمعدمين ومدى الظلم الذي لحق بهم وبالبشرية عموماً منذ طرد آدم من الجنة وحتى اليوم حيث الأشرار يعيثون فساداً في الأرض ويستبدون ويستعبدون الضعفاء وقد غلقوا أبواب الأمل أمام الطبقات المسحوقة أن تتمتع من نصيبها في الحياة.

سلط ضوءاً على العبودية والقهر مبيناً وبجرأة فائقة حركة التأريخ في الصراع الطبقي للمجتمع المصري الذي يعيش الخوف والجوع ووضوح الفروق الطبقية بشكل مذهل ورهيب، ووضحها محفوظ ببراعة بليغة وهو يحرك خيوط شخوص الرواية في توزيع الأرث من قبل رب الأسرة بصورةٍ غير عادلة تكتنفها الأنتقائية والأزدواجية والتحيّزْ والتعسف بأعطاء الحظ الأوفر ل (أدهم) والذي يقصد به آدم وحرمان (أدريس) الذي يقصد به أبليس، وبهذه الرمزية وهي الصفة المتعارف عليها عند الحكومات المستبدة، وهي أدانة للنظم الشمولية والدكتاتورية.

 وأنهُ لم ينتقص من الدين ورموزه ولا من ثوابته ومسلماته الفكرية بل هو أستعملها كماشة نار في تقليب الحوادث المأساوية على مساحة جغرافية مصر والعالم العربي، وما كانت حكاية (عرفة) في نهاية الرواية والتي رسم له شخصية معرفية وموسوعية لكي يجلب أنتباه القاريء والمتلقي بأن رافعة التغيير تكمن في (التعليم والمعرفة القيمية) الذي يمثله (عرفه) وجعل العلم البلسم الشافي والطريق القويم ألى " أولاد الحارة " في النهوض من كبوتهم، ولعل أهم شاهد على عدم تعرضه للأديان وبالذات الدين الأسلامي هو ما جاء في الصفحة 583 من الرواية (---الدين الذي هو منبع قيم الخير والعلم الذي هو أداة التقدم والنهضة في حاضرنا ومستقبلنا).

  وكان يرى أن الدين قد أُستغلّ ووظّف توظيفاً خاطئاً أدى ألى شقاء الأنسان كما رأينا في سطوة الكنيسة في القرون الوسطى والفتوحات الأسلامية في القرون الماضية وتعسف الدولتين الأموية والعباسية وعبث ولصوصية الدين الراديكالي بعد 2003.

وأعتقد بأن أتهام محفوظ بالزندقة والألحاد هو محض أفتراء على الرجل حسداً وغيرة لنجوميته الأدبية المتألقة وهو الأديب العربي الوحيد الذي فاز بجائزة نوبل في الأداب ونتاجاته الثرة التي وصلت ألى أكثر من خمسين بين روايات وقصص وبحوث ونقد، وسوف أفند بطلان هذا الأتهام الظالم بأن محفوظ في مجمل سير الرواية آمن بموت جبلاوي، وهل تموت الآلهة؟؟؟وكذا بطله العلامة (عرفه) مات وفنى كجسد وبقيت معارفه شاخصة ألى الأبد، وهنا أتكأ محفوظ على ركيزتين في أحترام الثوابت الدينية وهما { الخلود لله والموت والفناء للبشر وركيزة العلم }، وثم أصطفاف أعداء الرجل من رجال الدين والأزهريين والمد الأخواني ووعاظ السلاطين وجماعة الوفد وعساكر الثورة البورجوازية ورجال الحقبة الملكية التي عاصرها الكاتب والذين أخضعوا مصر للمستعمر، وهو الذي سفّه آراء من أعتقد ويعتقد أن الأمور سوف تتغيّرْبعد ثورة 1952 معلناً حقيقة تأريخية (أن صنماً هُدم ليبنى صنماً آخر أو بعبارة أدق ذهب الظالم وبقي الظلم) وعرض بشكلٍ جزئي سلبيات نظرية الحق الألهي في فرض عبودية بطل الرواية الجبلاوي على أسرته وهي رموز تشبيهية لدكتاتوريات حكام العرب قديما وحديثا، وأن تشبيهات الكاتب لشخوص الرواية بالرموز الدينية قد خدم النص والفكرة التي أنشيء من أجلها المتن.

أخيراً/ لقد آن الأوان لأولاد هذه الحارة أن يعرفوا سر ضعفهم وخنوعهم وأن يثوروا لكرامتهم وكبريائهم وأن يلقوا بالتخلف والجهل والأنقياد والعبودية بعيداً، هذه هي الروح التي تبنتها الرواية " أولاد حارتنا " فهو لم يدعو للحرب بل للحوار والسلم لذا أنهُ أستحق جائزة نوبل.

وأن الرواية تبشر بيومٍ يستطيع فيه الأنسان أن ينتصر على السلطة الغاشمة وأدواتها الفتوات والبلطجية وعاظ السلاطين والجهل وكانت آخر كلمات الرواية والتي حركت مشاعري وأحاسيسي من الأعماق { --- لكن الناس تحملوا البغي ولاذوا بالصبر وأستمسكوا بالأمل وكانوا كلما أضرّ بهم العنف قالوا لابد للظلم من آخر ولليل من نهار

  ***

عبد الجبار نوري

كاتب وباحث عراقي مقيم في السويد

حزيران 2024

.........................

هوامش البحث

- جبرا أبراهيم جبرا – الأسطورة والرمز – ترجمة – بغداد 1973 ص 258 -نت

-سليمان الشطي – الرمز والرمزية في أدب نجيب محفوظ- الكويت 1976 ص29

- لويس عوض – دراسات في النقد والأدب – القاهرة ص 345 – ص346

- احمد ابراهيم الهواري - مصادر نقد الرواية في الادب العربي الحديث – القاهرة 1979.

- ادور الخراط – عالم نجيب محفوظ –مجلة المجلة 1963 – ص 37

مقدّمة: "حيفا النّائمة"، هي قصيدة للأديب نايف خوري، الذي عُرِفَ ككاتب وإعلامي أكثر من كونه شاعرا، إلا أنّ هذه القصيدة تعدّ من أجمل ما كتب من أشعار، فهي تأخذنا في رحلة عبر مدينة حيفا، مستكشفة جمالها وتاريخها، تحيطها بنظرة فلسفيّة تجسّد من خلالها تجربة اللّجوء والتمزّق بين الوطن الأمّ والغربة، وتتأمّل معنى الحياة والموت. يعبّر فيها خوري عن أحاسيسه تجاه وطنه ومدينته، الّتي تُطلّ علينا كقطعة فنيّة حيّة، تتراقص على أوتار الكلمات وتتسنّم ذرى الكرمل شامخة كملكة متوّجة، تَتدلّى أطراف ثوبها الأخضر على سفوح الجبال، متوسّطة بين شلّالات من الضّوء الذهبيّ تغمرها شمس الصّباح، وتتناغم فيها الألوان والصّور بانسجام، وفي المساء، يتراقص ضوء القمر على أمواج بحرها؛ لينير طريق السفن العائدة إلى ميناء الأمان "الوطن".  وخلال الوصف، يتصوّر القارئ نفسه يتجوّل في شوارع المدينة، يستنشق عبق التاريخ من أزقّتها الضيقة، ويسمع أصوات النّاس وضحكات الأطفال في السّاحات والشّوارع.

هكذا، يرسم خوري لوحة حيفا النّائمة بألوان هادئة، حيث تغفو المدينة تحت سفح الكرمل، وتضيء مصابيح العتمة دروب العمال في رحلتهم الصباحيّة.

ينطلق الجرو باحثا عن طعام، بينما يحلّق العصفور كالسّهم لالتقاط حبوب رزقه. توقظ النّسمات حيفا مع حركة المصانع وازدحام الشّوارع، فيصحو الطلّاب على ابتسامات الفرح، بينما تصبح المدينة كالموجة التي نمت في عمق البحر، لتطل على رمال الشّاطئ وتغسل أقدام العجوز الصيّاد.

تتقدّم سفينة نحو مينا السّلام، ويسدل اللّيل ستائره على البيوت. أمّا الفجر فيبعد العتمة عن الدّروب لتشرق الشّمس على قبة عباس الذهبية، فتحيي جمالا ورمزا أصبح تاجا، وتصلّي الأمّ كي لا تنام حيفا مرّة أخرى.

أسلوب الكتابة: تتميز القصيدة بأسلوبها السهل الممتنع، الممزوج بالصّور الشعريّة المختلفة. يستخدم خوري لغة بسيطة واضحة، ما يجعلها سهلة الفهم على القارئ العادي.

الأسلوب الفلسفي:

تتضمّن القصيدة العديد من التأمّلات الفلسفيّة حول معنى الحياة والموت والزّمن والذّاكرة. يتساءل خوري عن مصير حيفا ومستقبلها، فيحرّك النّقاش حول عبثيّة الحياة تحت الظّلم، والتّناقضات بين جمال المدينة والاحتلال والأمل في العودة، واليأس من الواقع، كما يثير التّساؤلات حول معنى الوجود والهويّة في ظلّ فقدان الوطن، فحيفا النّائمة هي رمز للوطن الّذي تمّ سلبه، وأفقد أهله الإحساس بالأمان والاستقرار، وجعلهم يعيشون في حالة من الغربة والضّياع والتّشتّت.

رحلة عبر اللّاوعي:

تقدّم القصيدة رحلة عبر اللّاوعي، تتيح للقارئ استكشاف مكنونات النّفس البشريّة، وتعبّر عن رغبة الشّاعر في تحرير اللّاوعي من قيوده والوصول إلى عوالم جديدة من خلاله، فحيفا النّائمة هي رمز للذّاكرة المفقودة والأحلام المكبوتة، وهي رمز لحالة الوعي المغلقة، الذي يصبح فيها الفرد غير مدرك لما يحدث حوله، فيغدو محاصرا في أفكاره ومشاعره.

تشير مصابيح العتمة إلى الأفكار والمشاعر المخفيّة في اللاوعي، بينما يجسّد الجرو والعصفور الحاجات الأساسيّة والرّغبات الغريزيّة، تصبح موجة البحر رمزا للّاوعيّ الدّيناميكيّ، بينما يمثّل العجوز الحكمة والخبرة، ويعبّر حنين الأمّ إلى الماضي عن تأثير التّجارب السابقة على اللّاوعي، بينما يغدو الدّعاء من أجل حيفا رمزا للرّغبة في تحرير اللّاوعي من أغلاله.

الموضوع:

تصوّر القصيدة مدينة حيفا من خلال وصف جمالها وسحرها ونشاطها اليوميّ، كما تقدّم رحلة عبر المدينة من خلال وصفها في مختلف أوقات النّهار، مبرزّة مفارقات الحياة بين السّكون والحركة، والظّلام والنّور، والأمل واليأس. تشير إلى صمود شعبنا في وجه الظّلم والتّشريد، وتعبّر عن إيمانه الرّاسخ بمستقبل أفضل، وتؤكّد على أهميّة الوحدة والتمسّك بالأرض والهويّة.

يعايش الشّاعر صراعا داخليّا بين رغبته في التمسّك بذاكرة الوطن المفقود، وبين شعوره بالإحباط من واقعه الحاضر، يجد نفسه محاصرا بين الماضي والحاضر، غير قادر على التحرّر من أسر الذّاكرة، ولا على التكيّف مع واقع لا ينتمي إليه، فيعبّر عن صرخته المدوّية في وجه الظّلم والقهر، وينادي بالحريّة والعدالة؛ ليذكّرنا أنّ الوجود الإنسانيّ لا معنى له دون الشّعور بالانتماء والهويّة، وأنّ فقدان الوطن مأساة إنسانيّة حقيقيّة. وبهذا يشارك تجربته الشخصيّة مع قرّائه، ويدعوهم إلى التأمّل في معنى الوجود الإنسانيّ في ظلّ الظّروف القاسية التي نعيشها.

رحلة عبر حيفا النّائمة، تأمّلات في دورة الحياة والأمل:

تُستهلّ القصيدة برسم لوحة ساحرة لحيفا الغارقة في سباتها العميق، تضيئها مصابيح خافتة كأنّها نجوم تتلألأ في سماء اللّيل، هذه المصابيح ليست مجرّد مصدر إضاءة، بل هي رمز للأمل والتّفاؤل، وإشارة إلى استمرار الحياة رغم الظّلام.

مع حلول الفجر، ينطلق العمال في رحلة يوميّة شاقّة، يحملون على أكتافهم أعباء الحياة وطموح لا ينطفئ، وشموع أمل تضيء دروبهم. يمثّل غريدهم كالسّهم مثابرة لا تقهر، وسعيا دؤوبا لتحقيق الأحلام.

تستيقظ المدينة مع النّسيم العليل وحركة المصانع وزحام الشّوارع، لتنبض بالحياة من جديد؛ فيبتسم طلاب المدارس لبعضهم البعض، ويتبادلون مشاعر الفرح والأمل، كأنّهم يرون في وجوه أصدقائهم انعكاسا لمستقبل واعد.

تشبّه القصيدة حيفا بموجة بحر هادئة غرقت في أعماق اللّيل، ثم أفاقت على رمال الشّاطئ، حاملة معها رسالة من الأمل والتّجديد. يقف العجوز على الشّاطئ، صامدا شامخا كالجيل السّابق من أجدادنا، يلقي صنّارته لاصطياد رزقه، بينما تتّجه سفينتة نحو ميناء الاطمئنان والأمان، حاملة معها أحلاما بالخلاص والحريّة. وبين هبوط اللّيل وطلوع الفجر تسدل حيفا ستائرها على بيوتها، وتشرق الشّمس على قبّة عبّاس الذّهبيّة؛ لتلف المدينة بتاج الجمال.

تُختَتَم القصيدة بالحزن وحنين أمّ الشّاعر إلى قرية "إقرث"، التي هُجِّرت منها عائلتها عام 1948م، تناجي الله ألّا تنام حيفا ثانية، خوفا من عودة الظّلام والظّلم.

الأسلوب السرديّ: يتّخذ خوري أسلوبا سرديّا يروي فيه حكايته مع حيفا، فيخلق شعورا بالارتباط مع المدينة والانتماء إليها، ويضفي شعورا بالواقعيّة.

يثير هذا الأسلوب مشاعر الحنين إلى الماضي، والإحساس بالفقدان، وكذلك الرّجاء بمستقبل أفضل. يقدّم الشّاعر مدينته كشخصيّة رئيسة، وكيان حيّ له مشاعره وأحلامه "الأنسنة". أمّا الرّاوي فهو المتكلّم الذاتيّ، أي الشّاعر الذي يفصح عن مشاعره وأفكاره تجاه حيفا.

الزّمن: تتناول القصيدة زمنيين يلعبان دورا هامّا، زمن الذّكريات والحياة قبل النّكبة. وزمن كتابة القصيدة، وهو الزّمن الحاضر.

اللّغة والأسلوب الفنّي: اعتمد الشّاعر لغة غنيّة بالصّور البلاغيّة الجميلة، وأسلوبا مباشرا وصادقا، ليمنح القصيدة شعورا بالقوّة والتّأثير. وظّف العديد من الرّموز الّتي تضفي عمقا فلسفيّا مثل البحر والرمال والشّمس.

وظّف أيضا تقنيّة التّشبيه والاستعارة، وقارن حيفا النّائمة بالعديد من الأشياء، مثل:

- العروس الجميلة: "حيفا نائمةٌ كالعروسِ الجميلةِ".

- الطّفلة الصّغيرة: "تُغني حيفا نائمةً أغنيةَ الأطفالِ".

- البحر الهادئ: "تنامُ حيفا على صدرِ البحر".

تساعد هذه التّشبيهات على خلق صور حيّة للمدينة في ذهن القارئ، وصبغتها بالجمال والهدوء.

تشبيهات معبّرة أخرى مثل:

- "حيفا الحالمة كَمَوْجَةِ البَحرِ التِي نَامَت فِي العُمْقِ" - يشبّه الشّاعر حيفا بموجة بحر هادئة.

- "شمَالًا، جَنوبًا.. تَتَلَألَأُ مَصَابِيحُ العَتْمَةِ تُنِيرُ دُرُوبَ العُمّالِ فِي السّيّارَةِ"، يشبّه مصابيح حيفا بالنّجوم التي تنير دروب العمّال.

- "وَغِرِّيدٌ كَالسَّهمِ يَلتَقِطُ حُبُوبَهُ"، يشبّه تغريد العصفور بسهمٍ يبحث عن طعامه؛ ليمنح القصيدة شعورا بالحركة والنّشاط.

- "بَينَ اللّيلِ وَهُوَ يَشُدُّ سَتَائِرَهُ عَلَى البُيُوتِ وَالفَجرِ الذِي يُزِيحُ العَتمَةَ عَن الدُّرُوبِ"، يشبّه اللّيل بالسّتار الّذي يغطّي البيوت، والفجر بالضّوء الذي يزيل الظّلام، فيكسو القصيدة بالتّباينات.

الاستعارة: "تَصَلّيِ، أَلَا تَنَامَ حَيفَا ثَانِيَةً" – يصف الشّاعر دعاء الأمّ لحيفا ألّا تنام ثانية بالصّلاة، ما يكسب القصيدة شعورا بالرّوحانيّة والقداسة.

"حَيفَا النّائِمَةُ تَصحُو مَعَ النّسَمَاتِ، مَعَ حَرَكَةِ المَصَانِعِ، وَازدِحَامِ الشَّوَارِعِ" - يشبّه حيفا بالشّخص الذي يستيقظ مع حركة الحياة، ليصبغ القصيدة بالطّاقة والحركة والفعاليّة والاندفاع والحماسة.

"وَتَنشَغِلُ أُمِّي بِحَنِينٍ إِلى إِقرِثَ، وَتُصَلّيِ، أَلَا تَنَامَ حَيفَا ثَانِيَةً" - يصوّر خوري حنين أمّه إلى قريتها المهجّرة بالشّاغل الّذي يشغلها، ما يضفي على الأبيات لمسة من الحزن والألم والحسرة على ضياع الوطن، يعبّر عن مشاعرها من خلال استخدام الأفعال المضارعة: "تنشغل، تصلّي"، مستخدما الصّور الحسيّة لإيصال ذلك بشكل أوضح وأعمق، فهي تلوّن أيّامها بذكرى الأحبّاء والمكان، تحنّ إلى أرضها وهوائها وشمسها، وإلى بيتها الذي هجرَته قسرا، تتذكّر الأيّام الماضية، فتتولّد في نفسها دمعة حارّة تسقط بصمت وألم، تبحث عن رجاء آخر، لكنّ الواقع قاسٍ والمستقبل غامض، فتتحلّى بالصّبر والإيمان، وتصلّي.

الإيقاع:

يعدّ الإيقاع المتنوّع أحد أهمّ العناصر المُشكِّلة لهذه القصيدة، فهو سريع في بعض الأجزاء، وهادئ في أجزاء أخرى، ما يساعد على إيصال المشاعر والأفكار بشكل مؤثّر، ويمنح الشّعور بالتّناغم.

الإيقاع السّريع:

استُخدم في بعض الأجزاء لخلق شعور بالإثارة، ولمحاكاة حركة الحياة وحيويّتها:

- "انْطَلَقُوا فَجْرًا مَعَ المُقَاوِلِ، يَحمِلُونَ صُرَّةَ الزَادِ وَالجُهْدِ، يَنفُثُونَ دُخَّانَ أنْفَاسِهِم".

- "طَلَّابُ المَدَارِسِ يَتَثَاءَبُونَ وَيَبْتَسِمُونَ بِمُلاقَاةِ الفَرَحِ فِي وُجُوهِ رِفَاقِهِم".

- "بَينَ اللَيْلِ وَهُوَ يَشُدُّ سَتَائِرَهُ عَلَى البُيُوتِ وَالفَجْرِ الذِي يُزِيحُ العَتمَةَ عَن الدُّرُوبِ".

الإيقاع الهادئ: استُخدم في بعض الأجزاء؛ لخلق شعور بالسّكينة والاسترخاء، ولإيصال المشاعر الحزينة أو المتأمّلة، وإضفاء الشّعور بالهدوء والجمال، مثل:

- "حَيفَا النّائِمَةُ، حَيفَا الرّابِضَةُ عَلَى سُفُوحِ الكَرْمِلِ".

- "وَغِرِّيدٌ كَالسَّهْمِ يَلتَقِطُ حُبُوبَهُ".

- "وَتَنشَغِلُ أُمِّي بِحَنِينٍ إِلى إِقرِثَ".

أمّا التنوّع في الإيقاع؛ فيمنح التّناغم والتّوافق لأبيات القصيدة، وينبّه القارئ لما يقرأ.

أمثلة أخرى على التنوّع في الإيقاع:

- استخدام المقاطع القصيرة والطّويلة بشكل متناوب.

- استخدام التكرار في بعض الأبيات، واستخدام التّقطيع في أبيات أخرى.

القافية:

غير موجودة، ما يضفي على القصيدة شعورا بالحريّة والتلقائيّة، ويساعد على إظهار المشاعر الحقيقيّة للشّاعر.

الوطنيّة والأبعاد السياسيّة: تقدّم القصيدة رمزيّة عميقة عن الصّراع السياسيّ الذي نعيشه، تظهر صمود النّاس وتمسكهم بالأرض والهويّة.

- "حَيفَا الرّابِضَةُ عَلَى سُفُوحِ الكَرْمِلِ" - يُعبّر الشّاعر عن حبّه لحيفا، وعن فخره بجمالها وتاريخها، مشيرا إلى الصّراع عليها، يصفها بالرّابضة؛ للدّلالة على صمودها، والتمسّك بسفوح الكرمل، والأرض.

- تظهر مشاعر الاستياء لدى الشّاعر المسكون بالحزن بسبب التّهجير حيث يقول: "وَغِرِّيدٌ كَالسَّهْمِ يَلتَقِطُ حُبُوبَهُ".

- لتمثيل الصّراع، وظِّفت بعض الصّور مثل: "مَوْجَةُ البَحرِ التِي نَامَت فِي العُمْقِ / أَفَاقَتْ عَلَى رِمَالِ الشّاطِئ".

- يرمز "البحر" إلى وحدة الشّعب وترابطه، حيث يقول: "تَتَقَدَّمُ سَفِينَةٌ نَحوَ مِينَاءِ الاطْمِئْنَان". ويقول: "وَتَنشَغِلُ أُمِّي بِحَنِينٍ إِلى إِقرِثَ / وَتُصَلّيِ، أَلَا تَنَامَ حَيفَا ثَانِيَةً".

التّفاؤل والأمل بالمستقبل: على الرّغم من الصعوبات والتحدّيات، إلّا أنّ القصيدة تظهر شعورا بالأمل بالمستقبل، الأمر الذي يلامس شتّى مشاعر الإنسان، من الحنين إلى الماضي والأمل في العودة، إلى اليأس من الواقع في ظلّ فقدان الوطن، إلى تمسّك النّاس بهويّتهم وثقافتهم.

يرمز "الفجر" إلى بداية جديدة، حيث يقول: "وَالفَجْرِ الذِي يُزِيحُ العَتمَةَ عَن الدُّرُوبِ".

"مَوْجَةُ البَحرِ التِي نَامَت فِي العُمْقِ، أَفَاقَتْ عَلَى رِمَالِ الشّاطِئِ".

"تَصحُو حَيفَا، تَنبِضُ الأحْيَاءُ وَالحَارَاتُ، وَتُشرِقُ شَمْسٌ عَلَى قُبَّةِ عَبّاسٍ الذَّهَبِيّةِ لِتُحيِيِ جَمَالًا وَرَمزًا أَصبَحَ تَاجًا".

يُعبّر الشّاعر عن أمله في عودة حيفا إلى سابق عهدها، لتصبح رمزا للأمل والتّجديد، فهي رمز للوطن الجميل، تغفو تحت وطأة الاحتلال، تاركة خلفها جروحا عميقة في نفوس أبنائها.

وظّفت الرمزيّة في هذه الأبيات بشكل بارع لإيصال الرّسالة بشكل مؤثّر، ونذكر بعض الأمثلة على ذلك:

الموجة: ترمز إلى حلم العودة، للحياة والتجدّد، فالموجة التي نامت في عمق البحر قد غابت، لكنّها موجودة ومستمرّة، ما يشير إلى عودتها من جديد. أمّا الشّاطئ فيرمز للأمل والخلاص.

التّاج: يرمز للجمال والسّيادة، سيادة الوطن.

كما يعبّر الشاعر عن تفاؤله بمستقبل العمّال، وعن إيمانه بقدرتهم على بناء مستقبلهم. "شَمَالًا، جَنوبًا.. تَتَلَألَأُ مَصَابِيحُ العَتْمَةِ تُنِيرُ دُرُوبَ العُمّالِ فِي السّيّارَةِ".

"طَلَّابُ المَدَارِسِ يَتَثَاءَبُونَ وَيَبْتَسِمُونَ بِمُلاقَاةِ الفَرَحِ فِي وُجُوهِ رِفَاقِهِم" – وهنا تفاؤل واضح بمستقبل الطلّاب، وإيمان بقدرتهم على تحقيق أحلامهم.

"حيفا النّائمة" قصيدة وصف: تصنّف هذه القصيدة ضمن قصائد "الوصف"، وذلك بتركيزها على وصف الأشياء والأماكن والأشخاص وأحوال المدينة، استخدمت فيها الصّور البلاغيّة، مثل التّشبيه والاستعارة والكناية؛ وذلك لإضفاء لمسة من الجمال على الوصف.

وصفت حيفا النّائمة تحت سماء مظلمة، ووصفت حركة العمال في الصّباح. كما وصفت المدينة في مختلف أوقات النّهار، ما جسّد روحها بأسلوب مباشر.

وصفت الحياة اليوميّة لسكّانها من عمّال يذهبون إلى عملهم، وطلّاب يذهبون إلى مدارسهم، وصيادين يلقون شباكهم في البحر، الأمر الذي يثير مشاعر القارئ ويحرّك خياله، ويقدّم معلومات عن الشيّء الموصوف.

حيفا النّائمة: رمزيّة فلسفيّة وشعريّة:

حيفا: مدينة عريقة تقع على ساحل البحر المتوسط، عرفت عبر التّاريخ بنشاطها وتنوّعها الثّقافيّ. قد يبدو وصف مدينة نابضة بالحياة مثل حيفا بـ "النّائمة" تناقضا غريبا، لكنّه يحمل في طيّاته دلالات فلسفيّة وشعريّة عميقة.

فلسفيا: يرمز "النّوم" إلى الموت، فحيفا كأيّ مدينة أخرى شهدت على مرور الزّمن، تغيّر الأجيال ورحيل أحبّائها. قد يرمز "النّوم" أيضا إلى لحظة من الهدوء والسّكون بعد صخب الحياة وصراعاتها، فحيفا عانت عبر تاريخها، لكنها ظلّت صامدة شامخة. وقد يشير "النّوم" إلى فترة راحة استعدادا لنهضة جديدة، فحيفا مدينة حيويّة لا تتوقّف عن التطوّر.

شعريا: تصبغ صفة "النّائمة" مدينة حيفا بالجمال، كجمال حسناء نائمة، ويشير "النّوم" إلى هالة من الغموض والسحر، يثير فضول القارئ لمعرفة المزيد عن أسرار المدينة. يشير أيضا إلى الرومانسيّة والحنين، ويثير مشاعر الحبّ والانتماء لدى المتلقّي.

يعدّ وصف حيفا بـ "النائمة" تناقضا غنيّا، يثري القصيدة ويضفي عليها أبعادا جديدة ودلالات عدّة، فمن خلاله يمكن تأمّل حال المدينة من منظور مختلف، واكتشاف تنوّعها وجمالها وعمقها. وصفها بالنّائمة لا يتنافى مع حقيقتها، فهي كأيّ مدينة حيّة، لها أوقات من الهدوء والسّكون، وأوقات أخرى من الانطلاق والنّشاط، ولها أسرارها وأحلامها التي تبوح بها.

"أمّا البيت "وَمَقَاهِي البَحَّارَةِ وَالسَّاهِرِينَ" فيمثّل تناقضات الحياة في المدينة، فبينما تغفو حيفا، تضيء مقاهيها حياة البحّارة والسّاهرين، مُشكّلة رمزا للرّحيل والهروب من الواقع، والبحث عن حياة جديدة. ورمزا للأرق والقلق والتّفكير في الماضي والمستقبل.

هذه المقاهي هي ملتقى للتّواصل بين النّاس، وهي تصوّر التناقض بين الفرح والحزن، الحياة والموت. يشير وجودها إلى استمرار الحياة في المدينة، بينما يمثل روّادها تنوّع المجتمع الحيفاويّ من بحّارة وساهرين. واستخدام كلمة "مقاهي" بدلا من "قهوة" يعطي جمالا ورونقا، كما يضفي ضمير الجمع "البحّارة والسّاهرين" شعورا بالاتّساع والكثافة، ويزيد استخدام حرف الراء في "البحّارة والسّاهرين" من موسيقى البيت.

حيفا النّائمة، أنسنة المدينة: تعدّ الأنسنة من أهم الأساليب الأدبيّة الّتي تستخدم لخلق شعور بالتّعاطف والتّواصل بين القارئ والنّص. تضفي الأنسنة على النّص لمسة من الرومانسيّة والحنين، وتثير مشاعر الحبّ والانتماء. وعندما نقول: "حيفا نائمةٌ كالعروسِ الجميلةِ"، نضفي على المدينة صفات إنسانيّة، مثل الجمال والأنوثة.

يساعدنا وصف حيفا بالنّائمة كأنثى على تخيّل المدينة بشكل أوضح، فعندما نعطي صفات إنسانيّة على شيء ما، يصبح من السّهل علينا تخيله وفهمه، وعندما نرى مدينة جميلة نائمة، نشعر بالتّعاطف معها ونرغب في حمايتها.

إليكم الأمثلة على الأنسنة في القصيدة:

- "حَيفَا النّائِمَةُ"، تشبيه المدينة بالمرأة النّائمة.

- "حَيفَا الرّابِضَةُ عَلَى سُفُوحِ الكَرْمِل"، تشبيه المدينة بالإنسان الرّاقد على الأرض.

- "تَتَلَألَأُ مَصَابِيحُ العَتْمَة"، إضفاء صفة التلألؤ على المصابيح، وهي صفة إنسانيّة.

- "تُنِيرُ دُرُوبَ العُمّالِ فِي السّيّارَةِ"، تشبيه المصابيح بإنسان يُنير الطريق للعمال.

- "وَجَروٌ يَستَغِيثُ بِمَن يُطْعِمُهُ"، إضفاء صفة الاستغاثة على الكلب، وهي صفة إنسانيّة.

- "مَوْجَةُ البَحرِ التِي نَامَت فِي العُمْقِ / أَفَاقَتْ عَلَى رِمَالِ الشّاطِئِ"، تشبيه الموجة بالإنسان النّائم ثم المستيقظ.

- "وَالفَجْرِ الذِي يُزِيحُ العَتمَةَ عَن الدُّرُوبِ"، تشبيه الفجر بإنسان يزيل الظّلام عن الطّرق.

- "تَصحُو حَيفَا، تَنبِضُ الأحْيَاءُ وَالحَارَاتُ"، تشبيه المدينة بالإنسان الذي يستيقظ وتنبض فيه الحياة.

- "وَتُشرِقُ شَمْسٌ عَلَى قُبَّةِ عَبّاسٍ الذَّهَبِيّةِ / لِتُحيِيِ جَمَالًا وَرَمزًا أَصبَحَ تَاجًا"، تشبيه الشّمس بالإنسان الذي يُحيي الجمال.

الحنين: يخلق الحنين في هذه القصيدة شعورا بالارتباط بالمدينة، فعندما يتذكّر القارئ ذكرياته الجميلة في حيفا، فإنّه يتأمّل معنى الحياة وتغيّرها، يشعر بارتباط عاطفيّ قويّ مع المدينة، يفكّر فيها فيشعر بالحنين إلى الماضي ويشتاق إلى العودة إليها.

- "وَغَرِيبٌ يَستَغِيثُ بِمَن يُطْعِمُهُ" - يُعبّر الشّاعر عن حنين الغريب إلى وطنه، وعن حاجته إلى المساعدة.

- "وَتَنشَغِلُ أُمِّي بِحَنِينٍ إِلى إِقرِثَ" - يُعبّر هنا عن حنين أمّه إلى قريتها الأصليّة الّتي هُجّرت منها عام م1948.

- وصفت حيفا بالمدينة القديمة: "حيفا مدينةٌ قديمةٌ عريقةٌ"، وفي هذا تذكير بالماضي الجميل: "أذكرُ أيامَ طفولتي في حيفا".

- الشعور بالفقدان: "أفتقدُ حيفا وأهلَها".

ختاما:

تعدّ هذه القصيدة نموذجا لقصيدة الوصف، فهي لوحة شعريّة حيّة تجسّد روح المدينة وتثير مشاعر القارئ، تعبّر عن إحساس الشّاعر تجاه مدينته ووطنه، من حبّ وفخر، وحزن على ما حلّ بها من مآسي.

وإليكم قصيدة حيفا النّائمة لمبدعها الأستاذ نايف خوري.

***

صباح بشير - كاتبة وناقدة

...................

حَيفَا النّائِمَة / نايف خوري

حَيفَا الرّابِضَةُ عَلَى سُفُوحِ الكَرْمِلِ

شَمَالًا، جَنوبًا.. تَتَلَألَأُ مَصَابِيحُ العَتْمَةِ

تُنِيرُ دُرُوبَ العُمّالِ فِي السّيّارَةِ..

انْطَلَقُوا فَجْرًا مَعَ المُقَاوِلِ

يَحمِلُونَ صُرَّةَ الزَادِ وَالجُهْدِ

يَنفُثُونَ دُخَّانَ أنْفَاسِهِم

وَجَروٌ يَستَغِيثُ بِمَن يُطْعِمُهُ..

وَغِرِّيدٌ كَالسَّهْمِ يَلتَقِطُ حُبُوبَهُ..

حَيفَا النّائِمَةُ..

تَصحُو مَعَ النّسَمَاتِ

مَعَ حَرَكَةِ المَصَانِعِ

وَازدِحَامِ الشَّوَارِعِ.

طَلَّابُ المَدَارِسِ يَتَثَاءَبُونَ

وَيَبْتَسِمُونَ بِمُلاقَاةِ الفَرَحِ

فِي وُجُوهِ رِفَاقِهِم..

حَيفَا الحَالِمَةُ..

مَوْجَةُ البَحرِ التِي نَامَت فِي العُمْقِ

أَفَاقَتْ عَلَى رِمَالِ الشّاطِئِ

وَغَسَلَت أَقدَامَ عَجُوزٍ يُلقِي صِنَّارَتَهُ لِلصّيْدِ.

تَتَقَدَّمُ سَفِينَةٌ نَحوَ مِينَاءِ الاطْمِئْنَانِ

وَمَقَاهِي البَحَّارَةِ وَالسَّاهِرِينَ..

بَينَ اللَيْلِ وَهُوَ يَشُدُّ سَتَائِرَهُ عَلَى البُيُوتِ

وَالفَجْرِ الذِي يُزِيحُ العَتمَةَ عَن الدُّرُوبِ

تَصحُو حَيفَا، تَنبِضُ الأحْيَاءُ وَالحَارَاتُ

وَتُشرِقُ شَمْسٌ عَلَى قُبَّةِ عَبّاسٍ الذَّهَبِيّةِ

لِتُحيِيِ جَمَالًا وَرَمزًا أَصبَحَ تَاجًا..

وَتَنشَغِلُ أُمِّي بِحَنِينٍ إِلى إِقرِثَ

وَتُصَلّيِ، أَلَا تَنَامَ حَيفَا ثَانِيَةً.

قراءة نقدية عمودية لرواية "خوف" للكاتب السعودي أسامة المسلم

قبل أن أمكنك عزيزي المتتبع للشأن الثقافي والإبداعي والعلمي العربي والمغاربي من قراءات تفصيلية لرواية "خوف" بأجزائها الثلاثة، انتصرت للحاجة المنهجية بتصدير هذه القراءة بمقالين أولين كتقديم، الأول لتحديد السياق الفكري للرواية عنونته ب"القراءة العمودية"، والثاني للحديث عن تقنيات السرد والمتن الحكائي عند الأديب أسامة المسلم (المقال المقبل).

إن الاستثمار الثقافي الجاد في إبراز تراث قيم المجتمعين العربي والمغاربي منذ زمن الجاهلية، تحول اليوم مع كتاب مواليد السبعينات، وعلى رأسهم الأديب السعودي أسامة المسلم، إلى انشغال قوي للشباب.

لقد تأكد اليوم أن الوقت لا يرحم، وأن العرب والمغاربيين لن ينصاعوا يوما لشعار " الإنسان الليبرالي العالمي الوحيد" الذي روجته قوى النظام العالمي الجديد زمن العولمة أو خلال الزمن التاريخي الذي سمي تعسفا ب "زمن ما بعد الحداثة".

نفس الانشغال نجده مجسدا في الكتب الفكرية لعباقرة القرن العشرين والواحد والعشرين وعلى رأسهم المرحوم محمد عابد الجابري، والدكتور عبد الله العروي، والدكتور طه عبد الرحمان، والدكتور ماجد الغرباوي .... إنه الانشغال الذي استثمر بجدية وإرادة هائلتين في دراسة وتحليل وتقييم التراث الفلسفي العالمي، الذي ركز رواده على إبراز الأدوار الريادية التي جسدها كل من ابن رشد وابن خلدون ومحي الدين ابن عربي وغيرهم في تطور الحضارة العربية وتطور الفكر الفلسفي الكوني.

هذا النمط الأدبي الروائي الجديد (الأجزاء الثلاثة لرواية خوف كنموذج) يشكل اليوم الجسر القوي بين الفكر والمجتمع بتقنية وعبقرية أدبيتين جديدتين تحولتا إلى تجربة إبداعية مؤثرة نظرا لأهمية المضمون وتشربه السريع من طرف الأجيال الصاعدة. في هذا الشأن، ومن خلال حواراتي ونقاشاتي مع الدكتور علي القاسمي، كان دائما يلح على البساطة في الأسلوب والعمق في المعنى والدلالة. كما استنتجت من فترة الصداقة التي ربطتني معه أنه كان يعتبر المثلث "الرباط، وبغداد والرياض" القلب النابض للحضارة العربية والمغاربية في الماضي والحاضر، والمجال الترابي الخصب ثقافيا والأنسب جغرافيا الذي سيمكن شعوب المنطقة برمتها من طلب الكلمة للتعبير عن الذات كونيا.

نفس الحرص على مقاومة منطق المنتصر الغربي، بجوانبه المصلحية والسياسية الواضحة، نجده كذلك في الشرق. لقد رفعت على أنقاضه ومتناقضاته شعارات موازية كشعار "الحضارة الأوراسية"، وشعار "الحضارة الصينية"، وشعار "الحضارة الهندية"، وشعار "الحضارة اليابانية"......

دروس ودلالات وعبر كتابات الأديب السعودي أسامة المسلم، وكتابات الدكتور العراقي علي القاسمي، وكتابي الذي خصصته لنقد مجموعته القصصية "أوان الرحيل" تحت عنوان "سراديب الموت"، استثمرت في حيز كبير منها في "التراث العربي والمغاربي". روايات أسامة انغمست حتى في التاريخ العربي الجاهلي. فعبارة "النقد المبني على الشخصية" تم اختيارها بعناية تامة. للعرب تاريخ شخصية بمروءة نسائية ورجالية وقيم ومبادئ وأسس حياة لا تقاس في تاريخ البشرية. فحتى المعارف المحلية التراثية (مدونات عمار كنموذج) يمثل حيز هام منها ثروة قيمية وسلوكية تاريخية ومكون هام من شخصية إنسان المنطقة الممتدة من الخليج إلى المحيط. إحياء النافع منها يعد اليوم واجبا على كل المثقفين لتوثيق الروابط العقلانية ما بين الماضي والحاضر والمستقبل. فحتى التأمل في الواقع الأمريكي (دولة بتاريخ لا يتجاوز 200 سنة)، كحاضر امتزجت فيه مجموعة من مقومات شخصيات عدة أقطار وأمم مهاجرة، جدير بالتأمل (نموذج غربلة وانتقاء للتراث الثقافي لعدة أجناس بشرية تحت غطاء النمط الديمقراطي الليبرالي). إنه النمط المؤسساتي والثقافي والسياسي الذي عاش فيه بطل الرواية السنوات الست الأولى من حياته.

فعقلانية التحكم في الخوف في حياة الإنسان عند أسامة المسلم يقابلها واجب تحقيق شروط الشجاعة والاطمئنان في استقبال الموت عند علي القاسمي. إن مواجهة غطرسة الخوف غير المبرر عقلانيا، ككابح للجرأة والإبداع والمناوئ لعزائم الغوص في عالم كشف أسرار الكون، يجب أن يوازيها الاستعداد التام للإنسان العربي والمغاربي للوفاء الصادق لأمانة استخلافه في الأرض بإبداع نسق منتج لتدبير وقته بجعل الزمن المخصص للترفيه والترويح على النفس آلية للرفع من مردودية عمله اليومي.

***

الحسين بوخرطة

بقلم: نيشيا كرونيستر

ترجمة: وإعداد صالح الرزوق

***

بالنسبة لجيني إيربينبيك لا شيء يدوم إلى الأبد، لا المنزل، ولا الطقوس التي تربطنا بالأجيال السابقة، ولا حتى الموت. حتى أسلوب كتابتها يؤمن بعدم الثبات.

في أعمالها، تختفي الأشياء. الناس يختفون. المعرفة تختفي. وكذلك تتلاشى بمرور الوقت الطقوس والعادات، والممارسات التي تهدف إلى الحد من تآكل الثقافة وربطنا بماضينا. وموضوعات أعمال إيربينبيك معقدة، ومكثفة تاريخيًا، وغنية ماديًا، ومع ذلك لا يستمر في أعمالها سوى عدم الثبات - أو الفكرة البسيطة المتمثلة في اختفاء الأشياء. من أفضل من جيني إيربينبيك  في الكتابة عن الاختفاء النهائي لكل الأشياء، حتى تلك التي تبدو أكثر ثباتًا بالنسبة لنا؟. عندما توحدت ألمانيا في عام 1990، كانت شابة بالغة، وشهدت مع اندماج الشرق بالغرب التفكك السريع لدولتها ومحو الكثير من ثقافتها. لذلك بالنسبة لها، لا شيء يدوم، لا الوطن، ولا الدولة، ولا حتى الذاكرة.

ينظر العديد من كتاب القرن الحادي والعشرين الألمان إلى القرن السابق نظرة تاريخية، ويعبرون عنها بروايات عن أفراد أو عوائل.  ولا يبذ في هذا المجال جيني إربنبيك. حاز عملها الأدبي الأول، وهو رواية قصيرة بعنوان " قصة الطفلة العجوز" (1999)، على إعجاب النقاد لأنها قدمت المانيا الشرقية بصورة بيت تحيا فيه جماعة. و"قصة الطفلة العجوز" هي قصة فتاة تقف وحيدة في زاوية الشارع وليس لديها سوى الملابس التي ترتديها وفي يدها دلو فارغ. يمكن القول إنها لوحة اجتماعية فارغة، فالفتاة لا تستطيع أن تتذكر من هي أو من أين أتت؛ وكل ما تعرفه أن عمرها أربعة عشر عامًا. ولا تجد السلطات طريقة مناسبة للتصرف معها،  وفي النتيجة تجد لها مأوى في منزل للأطفال، وهناك تصل بسرعة إلى أسفل السلم الاجتماعي بسبب مشكلة جسدية ولافتقارها إلى المهارات الاجتماعية. وتحاول جهدها أن تنتمب إلى نظام المنزل، وتقبل بفارغ الصبر مكانها المتدني، فهو المكان الأكثر أمانًا في أي نظام اجتماعي لأنه لا يحتاج لمن يدافع عنه. وهي تعرف ما يوجد خارج أسوار المدرسة. ومع أن الآخرين يسعون إلى لحرية، تستمتع هي بنظام المدرسة الذي يمكن التنبؤ به.  ولا شك أن هناك شيئًا غير مفهوم بشأن هذه الفتاة، التي يبدو أنها عاجزة عن الإحساس بذاتها والسيطرة على جسدها المعوق. ولا نعلم حتى النهاية العجيبة للرواية أنها تحمل سرًا: فهي ليست في الرابعة عشرة من عمرها فعلا، ولكنها تبلغ في الواقع ثلاثين عامًا. وهي امرأة اختارت أن تلوذ بأمان واستقرار مؤسسة للأطفال.

تشير "قصة الطفلة العجوز" إلى أحداث مر بها التاريخ الثقافي والأدبي الألماني، وخاصة اللقيط كاسبار هاوزر من القرن التاسع عشر وأوسكار ماتسيرات من أعمال غونتر غراس، الذي تأخر نموه على نحو معروف في الرواية المشهورة "طبل الصفيح". كما هو الحال في رواية غراس، لاحظ النقاد الرمز السياسي في قصة إيربينبيك. بعد توحيد ألمانيا الشرقية والغربية، وجد العديد من الشرقيين السابقين أنفسهم عاطلين عن العمل، عدا عن إلغاء مؤهلاتهم المهنية، ونتيجة لذلك، أصبحوا معوزين اقتصاديا، ومحرومين من الهياكل الاجتماعية التي كانت تخفف من حدة الفقر في النظام الاشتراكي. وبعد أن خذلتهم سياسات الوحدة الألمانية واقتصادها، بدت لهم الحرية الموعودة خدعة قاسية. ولا سيما للكثيرين الذين لم يتمكنوا من تأمين تكاليف الحياة في النظام الرأسمالي الجديد. وبحلول أواخر التسعينات، رغب الكثيرون في العودة إلى أيام جمهورية ألمانيا الديمقراطية، ورأى النقاد أن "الطفل الكبير" لإيربيينبيك تعبير عن هذه الرغبة. ورأى نقاد آخرون أن الفتاة نفسها رمز للشرق، فقد ظهرت فجأة على مسرح السياسة الغربية  دون أن تفهم النظام الاجتماعي الجديد. وكانت ألمانيا الشرقية، في ظل النظام الجديد، مثل الطفلة العجوز، محرجة، و"مقزمة" اقتصادياً وسياسياً.

وألقت روايتاها اللاحقتان "الزيارة" (2008) و" نهاية الأيام" (2012)، نظرة أطول على القرن العشرين. تصور "الزيارة" منزلاً وقطعة أرض تتغير ملكيتها ثلاث مرات على مدار قرن. وتجري فيها أحداث تاريخية واسعة النطاق تغطي جزءا من تاريخ المنزل، ومصائر أربع عائلات ارتبطت به. تبدأ الرواية، في مطلع القرن العشرين، حينما كانت الأرض الواقعة على ضفاف البحيرة في براندنبورغ مهرا لزواج بين الجيران وبهدف تعزيز الثروة.  ولكن عندما تصاب كلارا ابنة مالك الأرض بالجنون ولا تستطيع الزواج، يبيع والدها الأرض لمهندس معماري. تؤدي الصفقة إلى انتحار كلارا، وتعتبر حادثة الموت رمزا يدل على مرور النظام الاجتماعي القديم مع ظهور النظام الرأسمالي الحديث. عمد المهندس المعماري لبناء منزل على تلك الأرض في ثلاثينات القرن الماضي ووسع ممتلكاته عن طريق شراء الأرض المجاورة، بالإضافة إلى مرسى قوارب خاص بها وممر يساعد على الوصول إلى المياه، وبسعر يفرضه على المالكين اليهود الذين يحاولون جمع الأموال للفرار من ألمانيا. ثم نرى أنفسنا نشاهد دوريس، طفلة من المنزل المجاور، وهي تختبئ من النازيين في خزانة مظلمة في الحي اليهودي في وارسو، ولكن يتم القبض عليها وتواجه موتًا مروعًا. وأثناء الموت كانت ذاكرتها عن تلك البحيرة وعن المناظر الطبيعية في ألمانيا هي راحتها الوحيدة. ونشاهد أيضا اغتصاب زوجة المهندس المعماري على يد ضابط روسي في المنزل في نهاية الحرب، وبعد ذلك نشاهد المهندس المعماري وهو يخفي متعلقات العائلة الثمينة في الفناء قبل أن يهرب إلى الغرب في الخمسينات. ونتتبع أفكار امرأة حصلت جدتها على المنزل من حكومة ألمانيا الشرقية بعد عودتها من منفاها الروسي الذي عاشت فيه خلال الفترة النازية. والآن يتوجب عليها أن تناضل من أجل الاحتفاظ به بعد توحيد ألمانيا، بعد تقدم عائلة المهندس المعماري بمطالبة لاسترداده، ولكنها تخس  في خاتمة المطاف معركتها.

هذه الحكاية الأخيرة مقتبسة، كما هو معروف، من تاريخ عائلة إيربينبيك، وهي تعبر عن المرارة التي خلفها فقدان منزل جدتها الواقع على ضفاف البحيرة في براندنبورغ، مكان ذكريات الطفولة السعيدة. عنوان الرواية Heimsuchung وترجمته الرائعة سوزان بيرنوفسكي إلى الإنكليزية "الزيارة". ولكن "الزيارة" في هذا السياق تعني "الاستحواذ"، ويمكن للمرء أيضًا تقسيم العنوان الألماني المركب إلى "هايم" (الوطن) و"سوشينغ" " (أن تبحث). والواقع أن المنزل يمثل الأمرين: الحنين إلى وطن لم يعد موجوداً، وأيضاً الطريقة التي تستحوذ بها على ألمانيا الأحداث العنيفة التي شهدها القرن العشرون. ونحن القراء، نأخذ دور  أشباح، لنشاهد هذه الأحداث من مسافة صامتة وبجدول زمني يتجاوز القدرات البشرية. تروي المقدمة تاريخًا بطيئا طوله آلاف السنين تزحف فيه الجبال الجليدية التي تتشكل منها التلال والبحيرة، وتتابع الخاتمة تفاصيل هدم المنزل واستعادة المناظر الطبيعية، ولو لفترة وجيزة. إن الأنشطة البشرية في القرن العشرين ليست سوى نقطة صغيرة في تاريخ الأرض الطويل وفي مسيرة الزمن الزاحف إلى الأمام. هذا الصراع بين الأنشطة البشرية التي يعمى عنها الزمن وبين الضرورة الوجودية  لحاضر الأفراد، شيء تبرع به إيربينبيك من خلال رصد التحولات البانورامية وبالتلاعب بالمسافة، وبتقريب المشاهد.

في الرواية التالية "نهاية الزمان" تقدم القرن العشرين من وجهة نظر مختلفة تمامًا عن "الزيارة". بدلاً من الحفاظ على التركيز المكثف على مكان واحد، تتبع شخصية مركزية أُجبرت على الهجرة بشكل متكرر على مدار القرن. بطلة الرواية هي امرأة من يهودية من أوروبا الشرقية، وبالتالي فإن الرواية تتابع أحداث القرن العشرين من خلال الصعوبات والتحديات التي واجهتها هذه المرأة اليهودية. وقد عانت بدرجات متفاوتة من مشكلة الاندماج بالمجتمع حسب ظروف حياتها الخاصة - في غاليسيا البولونية في مطلع القرن، وفيينا أثناء صعود الفاشية، وروسيا خلال الحقبة النازية، وألمانيا الشرقية في فترة ما بعد الحرب، وأخيرًا برلين، بعد التوحيد – وبذلك تسلط الضوء على الوضع غير المستقر لمن يعيش على هوامش المجتمع. يشعر القارئ في "الزيارة" بمسافة شبحية تفصله عن أحداث الرواية، لكن "نهاية الزمان"  تشد القارئ، وتصور صدمات القرن العشرين من خلال التقارب الحميم مع شخصيات الرواية.

في هذه الرواية، ليس المكان فقط، بل الزمان أيضًا، له معنى خاص. تتابع الرواية خمس نسخ مختلفة من حياة وموت الشخصية المركزية، الفتاة/المرأة التي تبقى بدون اسم حتى نهاية الرواية. يركز الكتاب الأول على حداد عائلة مات رضيعتها البالغة من العمر ثمانية أشهر أثناء نومها، وكل كتاب من الكتب التالية للرواية يسبقه فاصل أو سيناريو من نوع "ماذا لو"، فالموت ينقلب على نفسه، ويطول أمد الحياة، حياة الطفلة. في الكتاب الثاني، تكبر الطفلة وتصبح فتاة تعاني من المجاعة والبرد في فيينا في أعقاب الحرب العالمية الأولى، وتدفعها حاجتها إلى أن تصبح ناشطة سياسية. لكنها تنتحر مع عشيقها. في الكتاب الثالث، تصبح شيوعية شابة ثورية تنتقل إلى أوفة ثم إلى موسكو، وتبدأ الكتابة في مجلة باللغة الألمانية. ولكن عندما يتم الاشتباه أنها تروتسكية، يقبض عليها وتقتل في معسكر اعتقال. في الكتاب الرابع، تصبح مؤلفة مشهورة تهاجر إلى ألمانيا الشرقية للمساعدة في تشكيل الوعي الثقافي للدولة الشيوعية الجديدة لكنها تموت في حادث محض بالسقوط على السلالم. في الكتاب الخامس، تكبر وتصبح امرأة مسنة تعيش حقبة ما بعد التوحيد في دار للمسنين مع آخرين من جيلها، ولكن لا أحد يسمع ما لديهم من قصص عن القرن العشرين في ألمانيا بسبب التدهور العقلي والموت، وبسبب تراجع الوعي بين الشباب، وقلة الاهتمام. 

في أعمال إيربنبيك، يعتبر القرن العشرون حقل ألغام لا يمكن النجاة منه إلا بالحظ والصدفة، ويحفر حقل الألغام هذا أيضًا أثلاما عميقة في الذاكرة بين الأجيال. نظرًا لأن السرد يأخذ في كل كتاب منعطفا مختلفا وفقًا لسيناريوهات متعددة من نوع "ماذا لو"، تمر أجزاء معينة من المعلومات والطقوس والقصص العائلية من فصل إلى فصل لاحق، بينما تختفي أجزاء غيرها. ويبدو أنه لا يوجد استمرارية ملموسة إلا في الممتلكات والإرث العائلي. ومع ذلك يضيع معنى هذه الآثار عندما لا تتمكن الأجيال اللاحقة من التعرف عليها.

يكمن تفرد إيربينبيك في تجربتها مع الشكل، ولكن أيضًا في الطريقة التي تصور بها الزمن. فهو دائري وخطي، وغير منتظم في الوتيرة والاتجاه. في "الزيارة"، البستاني هو الشخصية الوحيدة المرتبطة بالمنزل باستمرار، وهو شخصية ذات صفة أسطورية. لا أحد يعرف من أين أتى أو المدة التي قضاها هناك. سنة بعد سنة، يقوم بزراعة وإزالة الأعشاب الضارة وإزالة الأشجار وإضافة الحواجز، والقيام بالعمل الموسمي وهو التنسيق والتقليم من أجل راحة الذين يسكنون المنزل. ويظهر مرارًا وتكرارًا بين الفصول، وبالتالي يكسر تقدم الزمن في الرواية بعمله الدوري. في "نهاية الزمان"، الزمن ليس خطيًا فقط، مع أنه يؤرخ للقرن العشرين، ولا دوريًا، لأن دورات الحياة تتكرر عبر الأجيال؛ ولكنه أيضا يقبل الانقلاب على نفسه، وتتم إعادة بطلة الرواية إلى الحياة بشكل متكرر. بالنسبة لإيربينبيك، لا شيء يدوم إلى الأبد، لا المنزل، ولا الطقوس التي تربطنا بالأجيال السابقة، ولا حتى الموت. حتى أسلوب كتابتها يعاني من عدم الثبات. وله طراز موسيقيي. فهو إيقاعي ودوري. ولا تتكرر الأفكار المهيمنة في عمل واحد فقط، ولكن في جميع أعمالها. وتبقى دائما  أصداء: تتكرر العناصر التي تظهر بقوة في بداية رواياتها، ولكنها تتضاءل قليلاً في كل مرة حتى تتلاشى تمامًا في النهاية. والصمت مهم بالنسبة لإربينبيك، كما هو الحال في الموسيقى، والفواصل بين الكلمات لا تقل أهمية عن الكلام الذي يقال. ولذلك علينا أن ننتبه إلى ما هو غير موجود، والذي يختفي.

ولكن عندما نعتقد أنه يمكننا قول شيء محدد حول موضوعات إربينبيك الرئيسية - حول العلاقة بين عدم الثبات والاختفاء والخسارة في أعمالها - فإنها تغير وجهة نظرنا مرة أخرى، مما يعطي عدم الثبات اتجاها متفائلاً في روايتها "اذهب، مضى، غاب" Go، Went، Gone 2015. ريتشارد، بطل الرواية، أستاذ فخري للكلاسيكيات، وأصبح أرمل، ومع فقدان زوجته وانتهاء عمله رسميًا، أصبح لديه الآن الوقت متاح، ولكنه لا يحدد اتجاهه. يفكر في موته الوشيك، مدفوعًا جزئيًا بمنظره البحيرة القريبة من فناء منزله، حيث غرق رجل مؤخرًا ولم يتم انتشال جثته. كما هو الحال في بقية نصوص إيربينبيك، الموت حاضر دائمًا، تحت السطح مباشرةً. في بداية "اذهب، مضى، غاب"، يركز ريتشارد على ما اختفى، ولكن في يوم من الأيام تظهر له أشياء جديدة. بعد وصوله إلى منزله بعد زيارة أحد الحفريات الأثرية التي شارك بها أحد الأصدقاء والتي كشفت عن ممرات تحت الأرض أسفل ما يعرف الآن باسم ألكسندربلاتز، يرى في نشرة الأخبار المسائية أن اللاجئين الأفارقة تجمعوا أمام مجلس مدينة برلين، مضربين عن الطعام، في محاولة يائسة لتلقي المساعدة من الحكومة.  يشعر ريتشارد بالانزعاج لعدم رؤيتهم عندما مر من ذلك الموقع في وقت سابق من ذلك اليوم. وعقد العزم على معرفة المزيد، وقام بزيارتهم، وسرعان ما كرس نفسه للمساعدة. فعمله مقسم بين مساعدة بعض اللاجئين للتعامل مع النظام، وإعطاء دروس للعزف على البيانو، وشراء  أرض في غانا لأم شخص آخر (وهي ليست صفقة شراء صغيرة)، وفي النهاية يستضيف بعض اللاجئين ليعيشوا معه، ويوفر سكنًا للآخرين، لحين وقت حفلة عيد الميلاد.

يفهم ريتشارد محنة اللاجئين، ويسمع قصص هجرتهم المروعة، ويكافح ضد النظام البيروقراطي الذي وجدوا أنفسهم فيه، ونشاركهم نحن القراء في هذه الإجراءات.  رواية إيربينبيك تتويج لبحث شامل، ومقابلات مع اللاجئين في ألمانيا، ودراسة مكثفة لقانون الهجرة الأوروبي، وأثر الإجراءات التي اتخذتها إيربنبيك نفسها لمساعدة اللاجئين، وتوفر كلها نظرة ثاقبة على نظام اللجوء البيروقراطي الغامض في ألمانيا وفي أوروبا مع تأمل في حياة النازحين الصعبة. يفسح موضوع الاختفاء المجال للرؤية والتنوير، وفي كلمة الشكر والتقدير التي كتبتها إيربينبيك، تدل القارئ  كيف يتبرع للمنظمات التي تخدم اللاجئين.

كان القرن العشرون وفقًا لأعمال إيربنبيك عصر الخسارة والنزوح، لكن في "اذهب، مضى، غاب" روح التفاؤل العملي. إن إيمان إربنبيك الدائم بعدم الثبات هو على وجه التحديد ما يغذي هذا الأمل. ومع أن عدم الثبات يمكن أن يعني الموت والخسارة والانفصال عن التقاليد، فإنه يحمل أيضًا إمكانية التغيير الإيجابي. ترى إيربينبينك بعد أن شهدت تغيرًا اجتماعيًا سريعًا لتفكك دولتها، مدى عدم استقرار المؤسسات، وأخطاء ما نعتقد أنه راسخ إلى الأبد. وبسبب تاريخ عائلتها، فهي تدرك جيدًا مدى هشاشة الاستقرار. لا شيء دائم، لا القوانين، ولا الأمن الشخصي، ولا حتى الحدود، السياسية د التي تفصل بيننا وبينهم. في كتابها "اذهب، مضى، غاب"، تبين لنا أن عدم الثبات يجب أن يحدد طريقة استجابتنا للمحرومين في عالمنا. فإذا فتحنا أعيننا وقدمنا ما في وسعنا من مساعدة، فربما نتمكن من أن نصبح قوة ضد ذلك النوع من الخسارة والنزوح الذي ميز القرن العشرين.

مانهاتن، كانساس

***

......................

نيكيا كرونيستر Necia Chronister أكاديمية من جامعة ولاية كانساس، ومحررة مجلة "دراسات في أدب القرن العشرين والحادي والعشرين" . من أهم أعمالها "نزاع أهلي" 2022. وهو عن مصير قانون الملكية في دولة ألمانيا الشرقية السابقة.

 *ملاحظة تمت الاستفادة من برامج الذكاء الصناعي في تنسيق وترتيب الترجمة.

 

(يا امرأةً زفـيـرُها أريجُ زُعـفـران).. أنموذجاً

يا امرأةً زفـيـرُها أريجُ زُعـفـران

مـشـى بـيَ الـلـيـلُ الـى الـفـراتِ

قـبـلَ مـوعـدِ الأذانْ

**

الـى صـلاةِ الـفـجـرِ ..

وحـدي

وبـقـايـا مـن رذاذ الـقـمـرِ الـنـعـسـانْ

**

ودمـعـةٌ خـبـيـئـةٌ ـ وربـمـا قـهـقـهـةٌ صـامـتـةٌ ـ

تـخـثَّـرتْ مـا بـيـن أهـدابـيَ

والأجـفـانْ

**

وبـيـتُ شـعـرٍ واحـدٍ

حـاولـتُ أنْ أُكـمِـلَـهُ قـصـيـدةً ..

فـأعـلـنـتْ عـصـيـانَـهـا علـيَّ أبـجَـدِيَّـتـي

وأبـحُـرُ الـعـروضِ والـبـيـانْ

**

لأُكـمِـلَ الـبـيـتَ الـيـتـيـمَ الـمُـسـتَـبـى

عـن الـمـشـوقِ الـسـومـريِّ

عـاد بـعـدَ غـربـةٍ طـويـلـةٍ

فـلـم يـجـدْ جَـنَّـتَـهُ الأرضـيـةَ

**

مُـفـتِّـشًــا فـي الـلازمـانِ عـن غـدي

فـلـم أجـدْ

إلآ بـقـايـا جُـثَّـةِ الـمـكـانْ

**

فـي شـبـهِ تـابـوتٍ مـن الـرَّمـادِ

تـذروهُ ريـاحُ الـغـدرِ والـجـحـودِ

والـخـذلانْ

**

والـحُـلُـمَ الـبـسـتـانْ:

**

أودَعَـهُ عـنـدَ خـؤونٍ جـاحـدٍ

كـان يـظـنُّـهُ مـلاكـاً

قـبـلَ أنْ يـكـتـشـفَ الـمـارقَ فـي خَـبـيـثِ أصـغـرَيـهِ

والـشـيـطـانْ

**

مـشـى بـيَ الـلـيـلُ وحـيـدًا ..

سـاعـةٌ مَـرَّتْ عـلـى حـفـيـدِ أنـكـيـدو ..

وسـاعـتـانْ

**

والـسـومـريُّ الـحـالِـمُ الـمـغـدورُ فـي فِـردوسِـهِ

لـمّـا يـعـدْ يـمـلـكُ مـن تـنُّـورِهِ

غيـرَ رمـادِ الـيـأسِ والـدخـانْ

**

لا الـمـاءُ .. لا الـخـضرةُ .. (**)

لا الـحِـسـانُ .. لا الـلـؤُلـؤُ ..

لا الـمـرجـانْ

**

لا الـسـنـدسُ / الإسـتـبـرقُ / الـزنـبـقُ

لا الـريـحـانْ

**

ولا جـواري مـلـكِ الـمـلـوكِ " هـارونَ "

ولا كـنـوزُ " قـارونَ " ..

ولا تـاجٌ وصـولـجـانْ

**

يـمـكِـنْ أنْ تُـحَـرِّكَ الـمـيـاهَ

فـي أنـهـاريَ الـظـمـيـئـةِ الـشـطـآنْ

**

إلآكِ يـا صـوفـيّـةَ الـلـذاتِ ..

يأطـاهـرةَ الآثـامِ ..

يـا مـائـيَّـةَ الـنـيـرانْ

**

يا امـرأةً

زفـيـرُهـا أريـجُ زعـفـرانْ:

**

جـمـيـعُ مـا خـسـرتُـهُ صـار رِبـاحًـا ..

وبـخـورًا صـارَ مُـذْ دخَـلـتِ فـي مـحرابـيَ

الـدُّخـانْ

**

أنـا وأنـتِ والـفـراتُ

الآنْ:

**

نـوقِـظُ فـي بـاديـةِ الـسـمـاوةِ الـعـشـبَ

نـقـودُ نـحـوهـا الأمـطـارَ والأنـهـارَ

والـغـدرانْ

**

نـنـشُّ عـن غـزلانِ " أوروكَ " ذئـابَ الـغـدرِ

والأحـزانْ

**

كـلُّ خـؤونٍ لـلأمـانـاتِ :

لـئـيـمٌ / مـارقٌ / مُـبـتـَـذَلٌ / جَـبـانْ

**

واسـتـطـرَدَتْ سـيـدةُ الـنـسـاءِ فـي "أوروك ":

إنَّ الـبـحـرَ لا يُـغـوي الـفـراشـاتِ

فـإنَّ قـطـرةً واحـدةً مـن الـنـدى

تُـطفـئ مـا يـعـجـزُ عـن أطفـائِـهِ الـبـحـرُ مـن الـنـيـرانْ

**

هـل يـمـلـكُ الـعـصـفـورُ مـن غـابـاتِ "أوروكَ "

سـوى مـا يَـسَـعُ الـعُـشَّ مـن الأغـصـانْ؟

**

مَـجـدُكَ فـي الـعـشـقِ

وفـي الـقـصـيـدةِ الـبـيـضـاءِ

كُـنْ مـثـلـي:

فـقـد هَـبَـطـتُ مـن عـرش ســمـاواتـي الـى أرضِـكَ

فـلـنُـشـدْ إذنْ

مـمـلـكـةَ الـفـراشـةِ / الـوردةِ ..

والـحـمـامـةِ / الـهـديـلِ ..

والـرَّبـابـةِ الـنـاسـكـةِ الألـحـانْ

**

مـا ضـاعَ قـد ضـاعَ

فـإنَّ الـنـهـرَ لـن يـعـودَ لـلـغـيـمـةِ ..

والآهـاتِ لـن تـعـودَ لـلـصـدورِ ..

والـدمـوعَ لا يُـمـكـنُ أنْ تـعـودَ لـلـعـيـونِ ..

والـرَّمـادَ لـنْ يُـبـعـثَ مـن تَـنُّـورِهِ أفـنـانْ.

***

القراءة

هناك الكثير من الدراسات النقدية التي تناولت قضايا الشعر العربي المعاصر، خاصة تلك الدراسات التي استأثرت بموضوع الصورة الشعرية، وما يتعلق بمفهومها ووظائفها وأنماطها، التي عدت من أهم القضايا تداولاً في دراسـة النص الشعري المعاصر، كونها تتحكم في شعرية النص، حتى أصبحت من أولويات مقوماته الفنية، وجزءاً لا يتجزأ منه، بل شكلت (البنية المركزية للشعر)، "رينيه، وارين، نظرية الأدب، ص 193"، وعلامة فارقة في قصيدة النثر، جنباً إلى جنب مع ما تسلل إلى قصيدة النثر من مدارس فلسفية وصوفية وعلم النفس ونظريات فرويد في (الوعي واللاوعى)، فهي إحدى دوال الحداثة الشعرية، بما تمتلكه من عناصر دهشة وانزياح وخيال ومعنى، تسهم في البناء الفني لأي نص شعري حداثي.

لقد تجاوزت الدراسات النقدية المعاصرة المفهوم البصري للصورة، الى (دلالات متعددة، أهمها : الصورة الذهنية، والصورة بوصفها مجازاً، ثم الصورة بوصفها أنماطاً تجسد رؤية رمزية أو حقيقية أو حدسية)،"جابر عصفور، نورمان فريدمان، الصورة الفنية، مجلة الأدب المعاصر، ع16،ص31". فهناك من يرى أن الصورة لا تقتصر على الدلالة البصرية وإنما لها محتوى فكري، خضعت إلى تحولات من الوضوح والمباشرة إلى التعقيد والغموض.

كان لشعراء الحداثة اهتمامهم بالصورة الفنية وطريقة تشكيلها وبنائها،حتى قيل عنها (لا يكون الشعر شعراً إلا بها)، بل اعتبرها البعض من النقاد بمثابة المحور الذي تبنى عليه القصيدة المعاصرة، وعدوها (جوهر القصيدة بصورة عامة)، بل إن البعض ذهب إلى (أن القصيدة برمتها هي صورة مستعارة)، لأن وظيفة الصورة هي أن تجسد الجوانب النفسية والذهنية والشعورية للشاعر.

إذاً الصورة الشعرية سمة أسلوبية يتميز بها الشعراء، حتى غدت واحدة من أبرز الأدواتهم التي يستخدمونها في بناء نصوصهم الشعرية، التي تجسد أفكارهم وتصوراتهم وانفعالاتهم.

فهي إحدى الأسس المؤثرة في بنية النص الشعري، التي تتسم بإلايجاز والمجاز والتكثيف والكناية والتشبيه والاستعارة، إضافة الى مكوناتها الأساسية من (لغة، وخيال، وعاطفة)، الثالوث الذي شكل مصادر الصورة الشعرية، وما تمثله من جمالية وقوة دلالة، و(تعبير عن حالة نفسية معينة يعانيها الشّاعر إزاء موقف معين من مواقفه مع الحياة)، "محمد زكي العشماوي، قضايا النقد الأدبي،ص 108". وتجسيد لذات الشاعر وتجاربه وإبداعه الفني ومرآة تعكس انفعاله وعاطفته وكل ما يتصل به.

إن الصورة الشعرية تمثل الاختزال والتكثيف اللغوي، الدالة على عمق التجربة الشعرية للشاعر، لأن في هذه الصورة تكتمل المعاني النفسية والتعبيرية لهذه التجربة، وأهميتها في النص الشعري ك (إحدى الوسائل الشعورية التي يستخدمها الشعراء في التعبير عما يريدون)، "تشارلتون، فنون الأدب، ص 89"، فهي من أهم مرتكزات بنية النص الشعري، وليس زينة بلاغية أو تشكيلاً زخرفياً يشكلها الشاعر، يمكن الاستغناء عنها، بل جزء من النص وتتناغم مع أجزائه ومكوناته الأخرى، وبؤرة دلالات لغوية وذهنية ونفسية، ورمزية، وطاقة شعورية يتولد عنها النص، وتحقق وحدته.

فالصورة الشعرية جوهر الشعر بكل أدواته الفنية المؤثرة، وركناً اساسياً في النص الشعري، ومرآة عاكسة لتجربة الشاعر، تظهر قدرته على إبرازها -الصورة الشعرية‐ بكل أبعادها وملامحها القائمة على اللغة الشعرية التي تتشكل منها، والتي تؤثر في تشكل النص وفتح مغاليقه، وتحرير اللغة من معجميتها.

لقد اكتسبت الصورة الشعرية أبعاداً ذهنية ورمزية، فهي ذات بعد ذهني تقوم على أسس نفسية ذاتية وخيال له (القدرة على تكوين صورة ذهنية لأشياء غابت عن متناول الحس)، "جابر عصفور، الصورة الفنية في التراث النقدي والبلاغي عند العرب، ص 13". والمقصود هنا بالصورة الذهنية، الصورة العقلية، التي تتكون من عناصر عقلية مجردة، وفضائها فضاء نفسي ذهني، جامع للصورة الرمزية والتجريدية. فكلمة الذهنية تشير إلى الذهن أي العقل والفهم، أي فهم الشيء وتصوره، فهي (تمخر عباب المعنى أي قابلة للتأويل والتفسير ولها أبعاد فلسفية)، ذات بنية تراكمية معرفية وشحنات عاطفية وأبعاد نفسية، وقدرة تفاعل عناصر المعرفة والإدراك فيها لسبر أغوارها، حتى تكتمل في ذهن الشاعر لأن الصورة الذهنية هي (مجموعة الانطباعات التي تتكون في الذهن)، (ويكيبيديا). أما عند علماء النفس (يشترك الإنسان ‏في تكوينها في عقله الواعي ثم تتسلل إلى العقل الباطن).

إن دراسة الصورة الشعرية عند أي شاعر، ليست بالأمر السهل، وفي دراستنا هذه سوف نسلط الضوء على الصورة الشعرية وتراكيبها اللغوية والرمزية في نص الشاعر "يحيى السماوي"، كنموذج من نماذج شعره الذي أعطى اهتماماً متزايداً للصورة الشعرية من بين الشعراء، حتى صارت قضية محورية وعلامة بارزة في أسلوبه الشعري، فهو يستفز القارئ على قراءتها قراءة بصرية وذهنية تأملية، لإنها تعبر عنه. ففي نصوص الشاعر "السماوي" نجد الكثير من تمظهرات الصور الذهنية الذي شكل عناصرها من (شخوص وأماكن وأحداث)، فكان اختيار الشاعر "السماوي" للصورة الذهنية ينبع من تأثيرها في تشكيل النص ولغة النص، التي تستند على الانفعال (بكونها التركيبة الفنية النفسية النابعة من حاجة إبداعية وجدانية متناغمة يتخذها الشاعر أداة للتعبير الوجداني أو النفسي)، "نعيم الباقي، تطور الصورة الفنية في الشعر العربي، ص239".

نص الشاعر "يحيى السماوي" (ومضات لغوية)، ذات صور فنية ودلالات ذهنية، تجمع ما بين المعنى الحسي والمعنى الذهني، وهذه الومضات لا تخرج عن إطار الصورة الذهنية المشبعة بتأملات وهواجس يصل بها الشاعر "السماوي" إلى ذروة المتعة الشعرية من خلال مخزونه المعرفي ومنظوره الجمالي، كصور إيقونية فيها الكثير من الإثارة والإدهاش.

لقد كسر الشاعر "السماوي" نظام الكتابة المألوف، فالبناء الكلي للنص جاء من خلال الصور القصيرة جداً المختزلة ذات البناء الفني والتكثيف الدلالي والإيحاء والإدراك الحسي، محملة بدلالات كثيرة تثير إحساس المتلقي، هذا الكم من الومضات يمكن أن نطلق عليه تسميت (القصيدة الصورة)، الذي يوجدها خيال الشاعر كوسيلة للتوصل الى الصورة الذهنية، التي تتيح للشاعر رؤية أشياء لم تُرى من قبل، لأن خيال الشاعر يمكن (أن يفكك العالم كله ويجمع أجزاءه وينظمها، ويخلق منها عالماً جديداً بمقتضى قوانين تنبعث من أعماق النفس)،"عبد الغفار مكاوى، ثورة الشعر الحديث، ص96، ص97". فالشاعر "السماوي" شاعر واسع الخيال، متفتح الذهن، متمرد جريء، يثير بومضاته الشعرية انفعالات نفسية إنسانية، تغني نصه الشعري بتنوع رؤاه الشعرية، ذات الدلالات التي تنم عن رؤيته الواقعية لمشكلات مجتمعه، بتلاوين انفعالية واغترابية، كحكايات شعرية يرويها، لإيصال ما يريد قوله، فهو يمتلك القوة التعبيرية المكتنزة بطاقة شعورية، وتكثيف دلالي إيحائي ورمزي في خطابه الشعري، حيث استطاع أن يتجنب التقريرية والمباشرة في نصوصه الشعرية، من خلال الرمزية والانزياحات اللغوية، التي وظفها في تحويل الصورة البصرية الى صورة ذهنية مفعة بالجمال، من خلال استخدام أدواته الرمزية، فهو شاعر يمتلك التجربة الثرية واللغة الرمزية المعبرة التي تتعامل تعاملاً صوفياً مع اللغة، فيرسم إيقونات شعرية معبرة عن حالات إنسانية مفعمة بالمشاعر والأحاسيس.

نلاحظ في النص تراتبية الصور الذهنية حتى نهاية النص، تجمع بين الواقع والخيال، وبين المعقول واللامعقول، حيث أضفت الطابع الحداثي على نصه الشعري، فنرى كل ألفاظ النص هي ألفاظ رمزية لها دلالات عميقة ومقصودة في ذهن الشاعر ووعيه، يأخذها من السياق الذي تنتمي إليه.

الرمزية في نص الشاعر "السماوي" أحدى مكونات البناء الفني والفكري والجمالي للنص، وأسلوب من أساليب أدائه الفني، فالرمز في الشعر حسب تعبير "مارتن هايدغر" (يجعل المعنى ملتصقاً بالكينونة الأصيلة لا بالكينونة المزيفة)، فالشاعر عندما ينسج صورته الذهنية فهو يتكئ على رموز واستعارات وتشبيهات، وانزياحات لغوية تتجاوز المالوف وتحقق الدهشة وغيرها من الأدوات، فهو (يتيح لنا أن نتأمل شيئاً آخر وراء النص. هو قبل كل شيء، معنى خفي وإيحاء)، "أدونيس، زمن الشعر، ص 160".

النص الذي بين أيدينا عبارة عن (صور جزئية تخلق حالة تكون شبيهة بالحالة الصوفية)، نص يزخر بأشكال الصور الشعرية، أتكئ الشاعر في أنتاجه على أهم محاور هذه الصور ألا وهي الصور الذهنية الذي وظف فيها الكثير من الأدوات والمعاني الشعرية، وقراءتنا هي محاولة لفهم الصورة الذهنية لدى الشاعر "السماوي" الذي لا يهدف إلى مطابقة الواقع بما يدل عليه من تعبيرات، إنما (يستعمل الصور ليعبر عن حالات غامضة لا يستطاع بلوغها مباشرة أو من أجل أن تنقل الدلالة الحقة لما يجده الشاعر)، "مصطفى ناصف، الصورة الأدبية، ص217". فالصورة الذهنية أداة الشاعر ومرآة عاكسة لأسلوبه الشعري، وبراعته وسعة خياله وتأثيره النفسي، لأنها ترتبط بالمعاني الذهنية العقلية. فالصورة التي يشكلها الذهن، لم تكن نتاج محاكات للواقع، بل هي حالة ذهنية، مرتبطة بالأحساس، تُرسم ضمن أبعاد ودلالات معينة، فتكون (صورة غير واقعية، وإن كانت منتزعة من الواقع)، "د. عز الدين اسماعيل، الشعر العربي المعاصر، ص 10". لأن الصورة الذهنية تضع المتلقي في وضع المقارنة مع محيطه الواقعي، فهناك فارق بين الصورة الحسية والصورة التي يرسمها الخيال كبديل عن الوجود الواقعي، (حسية وذهنية) تعكس رؤى الشعراء الفكرية وعواطفهم، وتثري تجاربهم الشعرية.

فهي عند الشاعر "السماوي" لا تطرح بشكل اعتباطي، وإنما كخيار جمالي وتقني وفني، لأنها صورة لأفكاره نابعة من ذاته ومن لاوعيه، ومن خلالها تتم عملية تبادل المشاعر والأفكار بينه وبين المتلقي، وعلى المتلقي أن يتأمل ويبحث ويحلل فتكون قراءته قراءة واعية من أجل كشف المعنى الخفي ما وراء النص، والغوص في أعماقه وسبر أغواره واستنباط دلالاته، والانتقال به من مستوى حسي إلى مستوى ذهني، وفق مخزونه المعرفي ومنظوره الجمالي.

لقد أوجد الشاعر صوراً شعرية غير مألوفة، يلفها الغموض الكثيف، تدور في عوالم منغلقة، تتماشى مع متغيرات مفهوم الشعر في ظل مفهوم ما بعد الحداثة، وفلسفتها ورؤاها المتعددة، لأن الشاعر وظيفته (الوصول إلى المجهول برؤية مالا يرى وسماع ما لا يسمع)، رؤية يتجاوز بها حدود الأبعاد النفسية والفلسفية.

تشتمل بنية الصورة الفنية في نص الشاعر "السماوي" على صور متعددة، حيث أقام نصوصه على بنـاء صـوري أسطوري، كتعبير فني وفكري في النص المعاصر، ومكون رمزي وظفه توظيفاً جمالياً وإيحائياً ودلالياً، يمده بالانزياحات التي تخدم النص، بعيداً عن المباشرة والتصريح، كذلك يولد الرمز تكثيف في بنية اللغة الشعرية، وتعميق دلالتها الفنية، لأن تكثيف بنية اللغة الشعرية، كما يرى "جان كوهن" تنبع من وظيفة الصورة (فالشعرية هي تكثيفية اللغة، والكلمة الشعرية لا تُغير محتوى المعنى وإنّما تُغير شكله)، "جون كوهن، اللغة العليا: النظرية الشعرية، ص145".

أتخذ الشاعر "السماوي" في الكثير من نصوصه، الأسطورة شكلاً رمزياً، ونمطاً فنياً يصوغ من خلاله رؤاه الفنية، وينمي تجاربه الشعرية، لأن توظيف الرمز الأسطوري في النص كما يقول الشاعر الإنكليزي "ت. س. اليوت" (إفضل ما في عمل الشاعر، وأكثر ما في أجزاء هذا العمل أصالة وتفرداً، هي تلك التي يثبت فيها أسلافه الراحلين). وفي نص الشاعر السومري "يحيى السماوي" يخضع الرمز الأسطوري السومري كمعادل موضوعي له، ومركز خيال يقوم على رؤية جمالية، يمرر من خلالها رؤياه الشعرية، فالرمز الأسطوري ستار يتوارى خلفه الشاعر، لخلق رؤيا جديدة، ذات محمولات دلالية تعبر عن الواقع الحاضر.

شكل الشاعر "يحيى السماوي" رمزه الأسطوري وفق تصور خيالي، في إطار رؤية جديدة، استخدمها في استثارة المخزون العاطفي والنفسي في وجدان القارئ، لأن الشاعر يعتمد في وضع صورته الشعرية على خيال وثقافة القارئ فى فهم أجزاء الصورة، لأن هناك من يرى أن (الصورة لا تقتصر على الدلالة البصرية وإنما لها محتوى فكري)، نتيجة الأثر الذي تركته المذاهب الرمزية، والسريالية وغيرها، في بناء الصورة.

وأخيراً إخترنا عينة من نصوص الشاعر "يحيى السماوي" في قراءتنا النقدية، وهو نص (يا امرأةً زفـيـرُها أريجُ زُعـفـران) النص الذي شكل فضاءً شعرياً لأثارت المتخيل الذهني عند القارئ لغرض استنطاق الصورة الذهنية الذي يمكن أن يكون لها تأثير على العقل الباطن أو اللاوعي، إذاً سوف نكتفي بهذا القدر من القراءة كي نخرج بقيمة جمالية لنص الشاعر السومري "يحيى السماوي".

***

بقلم / حسين عجيل الساعدي

للمواضيع والقضايا منطقها الذي تستمد منه فعلها، فتجعلنا نرشف بقوة إيحاءاتها، هذا ما يمكن قوله حول " الموت في لندن " للقاص المتميز " مأمون أحمد مصطفى "، التي تمتد على مساحة أرضية ساخنة تتراوح بين " أفعى من نوع آخر " وحتى يوم من أيام المخيم، الصادرة عن دار كنعان للدراسات والنشر " عام 2010، والتي حملت في مجملها إشارات ودلالات حميمة مثقلة بالمعاني التي أبرزها القلق، والوجع، ولذعة الاغتراب متكئة على وصف دقيق مشحون برصد أدق يعانق الأفق الغوغولي بشكل واضح، وما يعنيه جدل الأسئلة المبطنة المطروحة بلغة رشيقة دون رطانة، عوضت غياب الوطن، والبعد الإبعاد عنه بإعادة المعنى المشرق إليه، وان كان الفاعل في جملة النصوص افتقد الإحساس المادي بالمواطنة، رغم امتلاكه لرمزيتها التي حملت العديد من الوخزات، والشحن المتمكن وان كان بدون ادلجة.

منذ البداية تتداخل الصور والإشارات في قصته " أفعى من نوع آخر "التقليديه التي اجتاحت النص بقوة، وأيضا حالة الحلم التي استحضرت حنان الأم ووجعها كرائحة نافذة، لذيذة تتناقض مع أي رائحة.

" تنشق رائحة غير رائحة ملابسها، غير رائحة عرقها، غير رائحة أمومتها المعهودة، رائحة تفوح من مساماتها لأول مرة، مميزة، ذات نكهة خاصة، لم يستطع أن يحدد نكهتها بادئ الأمر، لكن لحظة أن هوت البندقية على رأسه، انتشرت الرائحة لتغطيه كله، رائحة تراب معذب، يضخ شوقا" ص8.

هذا التوحد الصوفي بين الأم الحلم الوطن عوض القاص فقدانه المادي باللغة، وإعادة المعنى إلى موطنه، وهي في بعض جوانبها تلتقي مع قصة " ولادة " التي تعبر عن تصدي الجسد المغلول للفاشية الصهيونية التي تلبس ما هو أسوأ من محاكم تفتيش القرون الوسطى، والتي لا يسفهها سوى صمود الأم الأرض الشجرة التي رغم العذاب لم ولن تنكسر.

" أنت لا تريدين أن تريهم انكسارك وتلهفك، وهذا أروع ما فيك هذه الليلة، كابري ما استطعت، اضربيهم بسياط صبرك، ودعي الألم يدمي قلبك دون أن يروه " ص 110- 111.

وإذا كان القاص دخل عمق ملامح علاقة الأشياء بأشيائها كمصطلح ابستمولوجي متميز جعل " النصية " في قصة " المدينة " ملاذا ينفي عن البطل الفرد المجموع الحلم شعور الاغتراب، فهو يقدم مسروديته حينما يبرز في إحساسه بالوطن المستلب مستوى من الإحباط.

كما أن الإحساس بالتناغم بين معطيات النصوص في الشكل النهائي بدأ يوهمنا بتشكيل عالم مفقود، هو لدى الكاتب تدليلا مباشرا على إحساسه ذاك الذي راح يكونه أو يعيد تشكيله من خلال بنائه الفني.

في قصته المدينة تتوحد المرأة بالمدينة المكان، تلبس ملامحها، لتشكل الجغرافيا المكانية طرفا أصيلا في بنيان العمل. فعالم النصوص ليس مجرد الإطار المكاني للحركة، لكنه احد العوامل الواقعية التي أخذت عالم النصوص إلى العالم العياني.

عناصر المكان هنا محدودة بدقة بالغة يحتضنها طوفان من التساؤلات، والنقاط البشرية، وفسيفساء الحياة " الكرمية طول كرم ".

" استبد جمالها بي، امتلكني، استثار روحي، شهوتي للحياة، دخل طوفان عارم بأعماقي، فأدركت يقينا بان هذه المدينة مزروعة بقلبي وعقلي، وانها حين تتعرى كل صباح لتمتص أشعة الشمس، إنما تتعرى لي، لي أنا، أنا وحدي ". ص28. هنا تتسرب طقوس الحياة من الجغرافيا لتخلل بنيان القصة، فتشكل عمقها الخفي، (الحياة اليومية المقهى حركة الشارع الحراك الحياتي الرجل الذي تتأسف المدينة لموته)، إنها الممارسات الداخلية التي تمتد من الموت (الرجل صاحب الكلب) وحتى الاحتفاء بالتفاصيل الصغيرة للمناسبات الإنسانية، (فسيفساء الحياة اليومية)، فلا يصبح الإنسان تجريدا أو تهويما أو تعميما، وإنما وجود يتفرس بعمق في التاريخ والجغرافيا دون أن يخضع الأول - في حالة القاص ورؤاه - للثانية.

من العسير دفع قصته " الموت في لندن " المهداة إلى لينا أبو الرب، بكلمة واحدة ( رومانسية واقعية ملحمية )، لكن من السهل أن نعترف بمدى الاتساع الهائل للتعبير عنها، وانسحابها على العديد من الأشكال والمستويات البنائية المحتملة، فالصراع النفسي الذي ينتاب أسرة مريض السرطان التائهة في صحراء الذهول التي لا اثر للسراب فيها، حيث غزو الغربة لهم، هي حالة مواطنة معذبة، ووطئ أكثر عذابا، إنها نسيج كياني متضاد، متناقض، ملتو أيضا (والدقائق ثقيلة، تزحف كسلحفاة هرمة أعياها التعب، وأضناها المرض)ص55، وطن ينتابه العذاب بسبب التناقض الذي يعايشه، ويستقرئه الناس دون رغبة منهم، (وبدأت بالتردد اليومي على ذلك الطابق، فاكتشفت معنى التناقض، عرفته عن قرب، كان واضحا جليا في الوجوه التي تنتظر نهايتها) المتناقضة بين النهنهة والدموع، وأحاديث المستقبل والموت.

هذا التحليق الحزين للمريض على سرير المرض ينتهي برؤية فادحة بين الوحدة والتوحد من جانب، وبداية العمل عبر نهاية رحلة سابقة للفشل، ونهاية أخرى ممتدة على طول جسد النص من الناحية الأخرى، وكأنها تشي برحلة أخرى نقيضة، شاراتها تحمل وجه الحرية والفرح والبراءة، فيما يضخ الجزء الثاني وجه العزلة والعجز.

(وفي عيني كانت آية وهي ترتدي ثوب زفاف ابيض، وحيدة، ليس هناك من يمسك ذراعها، وفي عيني أمها، صورة الدكتور مجدي وهو يتقيأ الدنيا تمسكا بها وخوفا من الموت، والموسيقا تصدح، واثنتان، اثنتان فقط لا تسمعانها، لا تحسان بنغماتها، آية وأمها). ص62.

تبرز قصته " تيه " منذ البداية ملامح القتل والترويع المعلق بالخوف الذي ينتابه، والذي يبرره العذاب الإنساني الذي يصفع الصمت اللاذع الذي توسوس به قصته " ضجيج الصمت "، بما تحمله من إحالات يثقلها الكاتب، يطلقها، ثم يرسلها للمتلقي ليصل إلى فضيلة الموت كقيمة حقيقية تذكره بوجودية " كولن ولسون " وأحيانا وجودية " سارتر" المطلقة.

في هذه القصة المتميزة، كراهية للانحطاط اليومي، وهجاء مر للابتذال، وسخط على السلبية والرذيلة، وعطش موغل في رغبته التمسك بالتحقق الإنساني الكامل، هو صوت الرفض من اجل الحقيقي، وصوت الهدم من اجل البناء الصحي، والنفي من اجل الإثبات، ولكي ينتقل الإنسان الحر من خانة المفعول إلى موقع الفاعل الجاد والملتزم ... (سأذكرك وأنت تبحث هناك عن شيء تأكله، ولن أنساك مطلقا، هل تدري أني سأفكر فيك عندئذ؟ ربما زرعت فوقك شجرة، ستغوص جذورها ممزقة أحشائك، ساحبة كل ما فيك غذاء لها) ص76. ليكتمل هذا المشهد بحالة غرائبية شكلت قفلة الحلم في هذا النص الجميل، مما يدفع باستنطاقات كثيرة متداخلة أبرزها السخرية من كل شيء ... (يضحك ملء شدقيه، نظرت ليدي فإذا بمعصمي ينزف، هو يضحك ومعصمي ينزف، هو يضحك ومعصمي ينزف ص77.)

في قصته " ضياع " يتقيأ الكاتب القيم البائدة التي تصدمه، ويصطدم بها، ويواجهها في كل مكان، رغم انه (يحاول أن يوجد الصلة بين وجوده، وبين هذه الرائحة، لكنه كان دائما يفشل، فالخليط " القيء " كما هو متيقن جزء منه، من ذاته، ومكون أساسي داخل تركيبته الصعبة)، انه الرفض المطلق لكل شيء، الرفض الذي يدفعنا للتساؤل فيما إذا (كان متقزز فعلا حين غيب الخليط في جوف المغسلة، فشل كعادته في الحصول على إجابة، فقط فشل) ص81. خاصة وأنه رأى (القيء يغطي مساحات الأفق كلها )82، (ويستجمع صورة المدينة وهي تغوص بعجز متناه في جنون عاصفة من القيء، لكنه فشل في ذلك )82.

الفرز المبطن هنا نوع من الخلاص، اتخذ شكل التأرجح بين الرمل ولزوجة الماء، هو خلاص، وفي نفس الوقت بحث عما يضفي هذا الخلاص، انه فرار الخلاص إلى الغربة والبعد عن الوطن، الغربة المرادفة للأنين، الألم والوحشة التي تحتضنها أشياء العالم، ولكنها في نفس الوقت شرط العثور على النفي الذي يمنح السكينة والوعي، والذي عالجه جدل الأسئلة:

-" فكر في هذا الأمر وسأل ذاته: ما الذي يربطني بهذا الوجود"85.

-" تذكر حلمه، وعاد من فوره ليدور في دائرة فراغ، داخل فراغ". 90

في قصته " ورم " ملامح حادة تجتاح المكان بتحفز مفترس، يدقق في تفاصيل التفاصيل، في محالة تلف المسافة بين الغربة والوطن تحت إبطها، لتصفع الاغتراب وحياة الغربة أو رقمية الإنسان، عبر حقن الحفيدة بتفاصيل المكان (الوطن المكان والمكان الوطن) ليسترجع التاريخ والتراب رائحته وصحته، لأنها الإيمان الحقيقي الذي يعانق رائحة الوالدين (رائحة إيمان تتداخل وتشتبك مع رائحة أمي وأبي )103.

يتحدث الكاتب في قصة ولادة، عن التعذيب، ودورات الوجع التي لا تنتهي، ورغم أن الواقع الممارس في السجون أقوى من الوصف الذي ابتدعته القصة، إلا أن جمالية هذا النص برز في عمقه الصوفي الذي يعطي السجين عوالم جديدة من المعرفة والتأويل واستحلاب المعاني الجديدة وأبرزها " رؤية الله العودة إلى الله " 117، حيث يتحول السجين إلى قطعة من اللذة اللذيذة، اللذة المشحونة بالنصر الحقيقي، الذي يتقمصه، وهو يتقمص عظماء التاريخ في لحظة واحدة.

في نصوص هذه المجموعة تلمسنا ملامح عدة، دون إشارة فعلية للزمان والمكان بشكله المنفصل، فالحالة حضور وغياب يرفع راية، زمكانية، موحدة، ترفعها قراءة تأثرية لكتابة مغايرة تكشف قناعات هذه النصوص، ربما دون دراية من الكاتب ذاته، فالبطل في معظم هذه النصوص هو المكان الذي شكل هاجسا للكاتب منذ البداية، أكد ذلك الصور المكررة وتشابه المواقف الذي جعلها وكأنها قيمة واحدة مأخوذة  بالحلم والحرية والعدالة الحقيقية، والتي حملت جملة من الأشواق والتوق الذي لا يمكن تحققه في وطن السادة والعبيد، والمستعمروالمستعمر، أو الحضور والغياب، فالبطل الواحد الذي يشكل عقدا لجملة النصوص محكوم بالعزلة المريرة، والوحدة الموحشة، والانكفاء، انه عدم القبول بالواقع الراهن، والعطش إلى الحياة الكاملة، ودوام الحلم بها، برغم عدم القدرة على تحقيقها.

في جملة هذه النصوص، نرى انها اتكأت على جملة من الأبعاد التي استطعنا استحلابها.

1- البعد النفسي:

في هذه النصوص برز الانفصال المفضي إلى الغربة نتيجة لازمة، ووضعية عامة بائسة تشمل كل شيء، وضعيته تقتحم الداخل الإنساني، فتصيبه بالانحطاط والخيبة والتشوه، وتحول الملكات الأساسية إلى زوائد مميتة تبعث على الاشمئزاز والتقزز، وتجعل الإنسان ينحط، يترهل، ويبتذل، وتنطفئ فيه الطاقة والحرارة، فلا تبقى وسط الزحام المختلط سوى الهمهمات، انه التواطؤ بين الرفض القائم، والقبول الدائم.. " تقدم طفل صغير، شق الحشود، فوجد المدينة تنظر إلى جسد مكوم فوق القيء، جثة هامدة لا حراك فيها، يعلوها الذباب والبعوض، وتنهش جوانبها الجرذان المنتشرة هنا وهناك في المدينة " 91.

2- البعد الأمومي:

يبرز البعد الامومي هنا في حميمية المكان، الذي يؤكد أن أزمة الكاتب هنا أزمة مكانية، فرغم تركيز الكاتب على الشخصية المهاجرة دوما، إلا أن مفردات النصوص وصور حالات أبطالها، تحول في غالبها بيننا وبين الشعور بان هناك غربة تباعد بين البطل ووطنه، بل إن هناك مناطق افتراق بينه وبين المكان، ذلك أن الحدث النصي يتشكل فيها بين جملة من الاستنطاقات للمكان والذاكرة معا كما في قصص " أفعى من نوع آخر" و " الموت في لندن "، (لقد زرعت في رحمها حدثا لا يصنعه إلا الرجال)10، ( ولكني كنت واثقة، نعم واثقة، فانا اعرف بحاستي انك قادم، أنا أم، والأم تعرف كيف تتحرك الأجنة في الرحم )9.

3- البعد الموقفي (الوطني الاجتماعي)

ويبرز ذلك بشكل جيد في وصف النصوص لملامح الحياة اليومية في الأرض والوطن، وهنا صورة جلية لعمق الارتباط الوجداني للكاتب، فهو الغائب الحاضر، هو الثابت على الأرض وخميرتها التي تشكل العبر والصمود، وترفض الحياة الدوغماتية المتكلسة والرقمية، (ودار المفتاح بالقفل باكرا، نودي برقمه)11.

4- البعد الفلسفي الطقوسي:

هنا ملامح كثيرة شكلت جدل الأسئلة، وما تثيره من أمور برزت في قصته " تيه "، حيث يناقش الكاتب فلسفة التوحد، كعامل ايجابي، وليس كفعل مرضي، ربما ليهرب مما يعانيه كي يعيش عالمه الخاص والمفترض، كذلك حوار الأرواح، لقد وضح الكاتب كيف أن رؤيته لله أنقذته من عذاب المحيط والمزبلة التي يعيش فيها، والتي يشمها ويحس بها، وهنا يبرز التداخل الواضح بين هذا البعد، والبعد النفسي وكأنهما صنوان. (وجد نفسه يتنسم رائحة ما، وجلده متماسك، غير قابل للتساقط، لكن الرائحة غريبة، لا، ليست غريبة، هي معهودة، ولكن من أين تبعث بأنفاسها؟

وحين وضع رأسه بين كفيه، عرف مصدر الرائحة، فهو يجلس على مزبلة، تفوح رائحتها فتدخل بأعماقه، والديدان تزحف مزهوة على ساعديه وقدميه.

لماذا أنا وسط المزبلة؟

أجابته نفسه:

لأنك هنا تستطيع أن تشم وتحس).67

وأخيرا:

لا يسعنا القول سوى أننا استطعنا أن نتلمس من خلال هذه النصوص الإبداعية، وعبر سبيل بلاغي دون رطانة، الجدار الواقع بين الخاص والعام، وتفعيل مناطق الذاكرة بكثير من الحميمية التي تتواصل عبر إبداع المعنى من خلال إبداع الماضي الحاضر، الغياب الحضور، الفردانية والتوحد لكاتب لم يستطع خداع حواسه، وبهدف ترك المستقبل كفعل ورؤية بين يدي المتلقي. ورغم بعض الهنات التي تمثلت في الصور الوصفية لحالات العذاب اليومي التي يراها البعض أمورا تقليدية، ورغم اللغة الواقعية التي تجاوزتها قوانين الحداثة وتطور علم اللغة، رغم مناسبتها هنا لموضوعاتها المطروحة، إلا أن الكاتب نجح بشكل جيد وموفق في إبقاء الوطن كما هو دائما، الخيط السميك الذي يلملم أشلاء الكتابة والحلم الجميل، فالكلمة الموحية المتشظية، والجمل القصيرة المتدفقة والمتدافعة، عبر استاتيكيا النصوص، ظلت وظل الكاتب عبرها يصفع السخف والانحطاط، والرذيلة، رغم العديد من الانهيارات، وكأنه يرى ما لا يرى، وهو ما يحسب للكاتب بحق.

***

د. خليل حسونة

8-6-2010

...................

* الصورة للأديب مأمون احمد مصطفى

 

توطئة: لعل فعل المتابعة القرائية للفصول اللاحقة من أفعال المسرود الروائي في دﻻﻻت رواية (العمى) يرشدنا إلى جملة بنيات ممتلئة بالقواسم المسرودة وحدود الميل إلى مركزية (الاصوات المتمحورة) إستكماﻻ إرساليا - تناوبيا وتفويضيا - الى مهام السارد العليم في بث مجتزءات العوامل المسرودة بالتفصيل التحليلي الذي بات يتحرى جزيئات وكليات الملخصات في زمن المقابلات الحدوثية المحسومة من قبل عرض المسرود، كوسيلة لإحياء وظائف مديدة ومتماهية بالكشف واللاكشف عن مديات العوامل الشخوصية عبر متابعاتها وتعاقباتها (الشمولية - الآنية) في مجمل مساحة متينة متواصلة ما بين (اللحظة الإجمالية) وتلك الأوضاع التي أختارتها الأحداث في الكشف عن جزيئات (آنية) متراوحة ما بين (صوت السارد = الإشارات اللامتناهية) خلوصا بالاحداث نحو مغامرات تسيرها مسكونية (الماضي - الآتي) دون كمولية الإحساس بأن ما يحدث ما هو إلا (الدال المضاد ؟) لأوضاع وجهات حكومية غير معبر عنها عبر السرد والمسرود إلا بتلك الإشارات المتكونة من ثنائية (الشمولية = الآنية) إذ أن النوع الاول يتلخص اساسا في حاﻻت إدراكية مجملة لابعاد مرمزة، فيما تتلخص غائية أفعال العناصر المتكونة من (صوت السارد = أصوات الشخوص المسرودة) في القيمة الادنى من الكشف عن أحوال ما يحدث وما جرى عليه حال تراجيديا العماء في مواطن المتقلين في مشفى الأمراض العقلية المحوط بمواقع حصينة من افراد العساكر القتلة.

- المتن الحكائي ومسرحة الصراع الشخوصي:

أن الملاحظ في مشاهد الفصول الروائية الصاعدة من النص، ثمة بروز لمستوى مهيمنة مغامراتية تنقسم بين أوضاع الشخوص المحتجزين في ذلك المشفى وكيفية مقتضى عملية نجاتهم المسلبة من قبل حصون ذلك المشفى الكابوسي. في الحقيقة كما علمنا أن أحد الجنود المكلفين بالحراسة المشددة على ذلك المشفى قد تم اطلاق بعض من العيارات النارية على أحد ممن قامت الجهات المسؤولة بأحتجازه،وهو ذلك الفرد الذي قام بسرقة سيارة الرجل الذي اصابته الجانحة الاولى من العماء في بداية الرواية،الامر الذي غدا يكشف لنا عن مدى مظلومية هذا القتيل في حدود سياق الواقعة الحديثة من المسرود،لاظهاره لنا كونه فردا راح ضحية ذلك العدوان الذي تحرك آلياته كفة السلطة الباطشة في مستوى معين من الصورة الشمولية للحكومات :(كانت زوجة الطبيب هي الوحيدة التي تعرف الحالة البشعة لجثة الرجل المتوفى، كان الوجه والجمجمة قد تحطمها وأصبحا كسرا بفعل طلقات البندقية. / ص113 الرواية) طبعا من المعروف في الأحداث الروائية أن موجهات الموضوعة تنصب في آفاق من الثيمات التي يمكن لنا تسميتها (البراءة من الذنب - الاشباع بالذنب) فلعل هذه الزوجة للطبيب في موقع يؤجل عنها ذلك الداء النفسي المسمى ب (العمى القلبي) ذلك لأسبابا لم تطرحها الرواية ولو في الاجزاء المضمرة من مرجحاتها الشهودية الخاصة، لذا صرنا نعلم أن كل المصابين بهذا الداء النفسي،هم من اصحاب الرذائل، ذلك لبيان ما قامت به مرتبطات الأحداث الروائية في سيرورة كل حالة شخوصية مصابة بهذا العمى، إذن هذا العمى لا يتركز في ظاهرة فساد السلطة تحديدا، بل أنه مؤشرا معادلا على فساد الضمائر لدى الأوضاع الخاصة من الأفراد سيكولوجيا مما جعلنا ننظر إلى أولئك المصابين على أنهم حاﻻت آنية طرحتها مؤسسة السواد الشمولية في الآلية الحكومية. ان دراسة رواية (العمى) عبر علاقاتها مستوياتها السايكولوجية طافحة بظواهر نفسية مضطربة، مما جعلها تؤشر في مداليلها عن مدى الاحراج الذي وضعتهم فيه المؤسسة الحكومية من تفشي فساد الضمائر ومؤشرات دخائل النفس التي ما زالت قائمة بانفعاﻻتها مع الغرائز وحب المال والجشع في الحصول على ادنى علامات اللاشعور بالحرج من فعل الرذائل.على هذا النحو وجدنا رواية (العمى) تركز ملامح افرادها الفيزيولجية عبر مكونات بعيدة وقريبة من دﻻلة (العمى) الشمولي والآني، ابرازا كبيرا إلى مصدر الخيوط الناسجة لهذا العمى الذي تفشى في إرادات مزيفة من الفواعل الشخوصية: (إذ كيف يمكن أن نقارن بين سرقة سيارة وحياة الرجل الذي سرقها، وبخاصة إذا اخذنا بنظر الاعتبار الحالة المزرية لجثته. / ص117 الرواية) أن القسط الاوفر من مسرود موضوعة وفكرة الرواية، تتلخص في حدود معادﻻت نفسية خاصة، لذا نراها رواية بالمستوى الامثل والأخير من معالجة (الصراعات التطهيرية) للفرد والافراد، فضلا عن الإشارات إلى مدى انحدارية ما عليه حال السلطة الحكومية من مشروعية نفعية ونرجسية تستعرض مكوناتها وتمفصلاتها المؤسساتية ليس لغاية عميقة في بناء الفرد، إنما لانتزاعه من موضعه الطبيعي، وجه في مهاترات لا نهاية لها من العوائق.

تعليق القراءة

إن القارىء والدارس لروايتي(العمى -انقطاعات الموت) لربما يعاين حجم وفرادة أطروحة التجربة للصنعة الروائية خصوصا في رواية (انقطاعات الموت) ورواية (العمى) كما  إن الفردية والخصوصية الأدائية في أدوات وخيال هذا الروائي الفذ، عكست ذاتها في جميع أعماله المكثفة ذات الأغراض الدﻻلية التي تتطلب من الناقد بعدا ﻻ تتوافر فيه أدنى مثالب الاسقاطية والعابرية في قراءة وتمحيص المنجز.. لذا فإننا من خلال دراستنا لعوالم ساراماغو وجدنا تفردية ابعاد التصور والاختلاف في تشكيل مؤثثات الرواية عبر كافة مستوياتها الجمالية والدﻻلية والتقانية والتكنيكية المتماسة مع أعلى مستويات الصياغة الروائية ل (مملكة المسرود) الضامنة ل (الشمولية) و(الآنية) المتواترة عبر مسارات من الصلات بالمجتمع والفرد والسلطات المملوكية في كيانها الترابطي مع انقطاعات الموت وتضادات مفارقة العمى في  الحدود الملموسة واللاملموسة في نقاط رمزية وإحالية وانزياحية في الطابع والتطبع وخلوصية مقاصد المعنى المضمر.

***

حيدر عبد الرضا – كاتب وناقد عراقي

 

(الكشف عن الكامن في زنازين الصمت)

ترتكز رواية "حبانجي" للروائي السوري نصار الحسن علي عدة محاور تتداخل ضمن الإيقاع الحياتي لمدينة "الحسكة" السورية، بما لها من خصوصية ذات نمط عشائري يعزز سمة الانغلاق التي يعاني منها المجتمع عمومًا ضمن نظام الحزب الواحد، اختارها الكاتب لتكون مسرح الأحداث من قبل انتقال الراوي (الشخصية المحورية) ووالدته إلى مدينة انتمائه العائلي، حيث يمتلك والده المتوفى مكتبه كمحامٍ معروف وصاحب مكانة اجتماعية مرموقة، رغم ذلك يعمل البطل لدى مكتب صديق والده كي يكتسب الخبرة اللازمة لممارسة المهنة، حيث يطَلع على حقائق يومية ذات طابع سياسي مضطرب، رغم ما يبدو عليه من استقرار، وعلى مختلف الأصعدة داخل بلد تتعدد مشاربه الفكرية والقومية والدينية والمذهبية في قبضة سلطوية تسود كل شيء وتؤسس لإشاعة فكر الخضوع التام منذ الصغر عبر شعارات سياسية يرددها الجميع في كافة المجالات، تجديدًا لعهد الولاء المطلق، ودون أدنى التفاتة لما يحصل خارج إيقاع النظام الذي أوجدَ شخصية "حبانجي"، وفي المقابل لا بد من ظهور شخصية "صفاء درويش" بكل ما تمثله كل منهما من تضاد داخل منظومة من الأوامر والنواهي (المؤَدلجة).

"نحن نتشبث بالحياة أكثر ممن سقط، ولا زلنا نسمع صرخاته التي يتقصد أولئك أن يُسمعونا إياها؛ لنعطيهم أكثر، ويستمر التسلق والنهش في أجسادنا الضامرة بالتيه المستدام" ص117

صراع خفي ومستمر بين السلطة والشعب معتاد الانقياد، ورغم ذلك لا يتجرد نزعات  التمرد تمامًا، وإن جاء عبر شخصية المحامية الشابة، أيقونة الحرية والعدالة المرفرفة فوق الجميع، بغض النظر عن المناصب الحزبية والعلاقات المتشعبة نحو قمة الهرم السلطوي ومكائد التقارير الأمنية وقِدَم الأعراف العشائرية، فانتهت إلى ضحية حادث دهس بسيارة مارقة دون أن يعاقب الجاني ومن يقف خلفه، فالقضية تبدو عادية جدًا ولا تدعو إلى الكثير من البحث والتقصي، خاصة مع وجود زوج لا يأبه سوى بأخذ التعويض، مع أنه هو ذاته كان يمثل آلة ضغط تقليدية ضمن أعراف اجتماعية تصادر حق المرأة في أخذ مكانتها الحقيقية التي تستحقها، وفي الجانب الآخر تقف شخصية متملقة ومتسلطة في آنٍ واحد، تحمل كل الصفات التي تفرزها الثورات التي تؤسس للأنظمة الديكتاتورية عادةً، مخلب ضمن الكثير من مخالب البيروقراطية الحزبية ذات السيادة والنفوذ المتحكم بمصائر الكثيرين من ذوي المؤهلات والمناصب المرموقة، بمن فيهم القضاة الذين ألفوا الوساطة والمحسوبية كي لا يتحولوا إلى متهمين أو ضحايا بدورهم.

"أيُ عالم مجنون هذا الذي  نعيش فيه؟ غبي ونجس يمتلك كل القرارات المهمة، فقط لأنه أداة طيعة، ويزرع الخوف أينما حل... الخوف غير المبرر هو مَن أودى بنا إلى قعر الظلام والتهلكة، وكذلك السلبية المقرفة التي ترسخت فينا" ص 123

دوامة من التخبط والانكسار، يجد البطل نفسه أسيرها، وإن كانت لا تمسه بشكل مباشر، فهو ابن طبقة ميسورة الحال، ومن ناحية أخرى نشأ على سياسة تدجين العقول في المدارس، وما كانت قراءاته لأوراق القتيلة الخاصة، والتي تمثل بحد ذاتها وسيلة فضفضة لا جدوى منها داخل زنازين الصمت المُهَيمن على الجميع، إلا بدافع الفضول، نظرًا لما عرفه عن طبيعة علاقتها بوالده، كما لو أنها من ضمن إرثه الفكري والعبء المتناقل من كاهل جيل إلى آخر دون الوصول إلى جهة الخلاص، بينما تستمر سيارة (السلطة) المارقة في دهس أحلام ومستقبل بلادٍ بأسرها، فظل أسير الجمود ضمن الإطار التقليدي المحافظ على الأمن والاستقرار المهني والعائلي، خاصة وأنه الوحيد من بين أخوته الذي لم يضطر إلى السفر والإقامة في الخارج، مما جعله المسؤول بشكلٍ ما عن والدته التي تحلم ذات الحلم التقليدي لدى كل الأمهات؛ زواج ابنها كي تتكرر ذات الدورة الحياتية البعيدة عن خطر التعاطي بأي فكر يحيد عن الطريق المرسوم منذ الصغر، وخاصة كل ما يجنح نحو بلوى السياسة ولو من بعيد، دون أن تعرف أن ذلك الحلم البسيط لم يعُد يتلاءم مع طبيعة الشخصية الجديدة التي آل إليها ولدها الشاب، دون دراية منه هو أيضًا.

كثيرًا ما صار يقترن الجنس بالسياسة لدينا، ونجد مثل هذا المدلول في الكثير من النصوص الأدبية، لكن تبقى طريقة التناول موضع تباين من نص لآخر، والجنس في هذه الرواية ظل مُحتجبًا عن سياق السرد ليتجلى في النهاية رمزًا لما يتوارى خلف الكواليس، خارج دائرة الضوء التي تضم فقط ملامح الرهبة المطلة على العامة، بينما تتخفى الدعارة في أروقة المحاكم، داخل غرف مغلقة تكشف عن الكثير من الخبايا والزيف المتفرق بين أضابير القضايا المتشبثة بالرشى والمحسوبية والعلاقات المتوارية عن العيون، حيث تكتمل أبعاد الصورة الممنوعة عن الظهور للعلن إلا بعد إضافة رتوش جمالية تفرضها الأحكام الاستبدادية الماضية في انتهاج سياسة الخوف من الخطر المحدِق من قبَل أعداء الداخل والخارج.

الجنس أيضًا يقبع ضمن الأفلام الإباحية لفتيات يتم تسويق أجسادهن، دون علم منهن، وكأن هذا ما تبقى من أحلام وآمال ثوراتنا العملاقة الساعية دومًا إلى كرامة وحرية الشعوب التي عانت طويلًا من قهر الاستعمار والرجعية…

تجارة الدعارة ارتدت نحو الداخل، ضاقت حلقة (الخفايا) تلك على المحامي الشاب حتى احتوته بالكامل، كنوع من الهروب من هزائم وانكسارات الواقع المستباح من قبَل أعوان السلطة وأبواقها وأذنابها المستمرة في إتباع عقوبة (السحق) لكل جانح عن القطيع، لا سيما وأنه من ضمن طبقة تأخذ بالانحسار شيئًا فشيئا تحت وطأة الإقصاء والتهميش، فتحول الجنس لدى المثقف الشاب إلى إدمان يشبه إلى حد ما إدمان المخدرات والخمور، وكذلك الأفكار المتطرفة التي يلجأ إليها الكثير من الشباب كي يُحلِقوا خارج أسوار السلطات الحاكمة التي لا تهتم إلا بترسيخ الوضع القائم أكثر فأكثر، فالمهم هو الحفاظ على مكتسبات القصور السيادية المنيعة، وبذات ستار الشعارات المتسترة على مختلف الممارسات السادية بفعل شهوانية الطغيان.

"أن الحالة التي وُضعنا فيها ليست الموت، وإنما العجز عن الإتيان بما تمليه علينا إرادتنا، حينما تكون حرة" ص 221

التناقضات التي ألجأت الشخصية المحورية إلى غلواء الجنس، كرد فعل إزاء عجزه كمثقف ورجل قانون عن إحداث أي تغيير في مجري العدالة التي درسها لسنوات، هي ذاتها التي ألقته إلى غياهب الغيبوبة، ليجد نفسه في مواجهة نكبة فقدان وعجز من نوع آخر استولى على نصف جسده، تلاحقَ له الأخوة البِعاد عن كل ما يحصل داخل (معتقل) الوطن كي لا يرتهنوا لأقفاص التدجين أكثر فأكثر، فصار أحدهم رسامًا مبدعًا، ربما لو لم يتسكع في بلاد الغربة وظل يدور في فلَك لوحات المناسبات الوطنية لمّا استطاع التحليق برسوماته في كل مكان، مع ذلك الرسام الحُر استطاع البطل استعادة توازن خطاه التي عانت الكثير من التيه والتخبط في سوح بلاده، فما وجدَ أمامه من حل غير أن يلتئم شمل ما تبقى من العائلة، لكن ليس في البيت الذي ضمهم صغارًا، إنما خارج الوطن الذي يظل كل يوم يشهد ولادة "حبانجي" جديد.

***

أحمد غانم عبد الجليل - كاتب عراقي

29 ـ 12 ـ 2023

الموقف السلبي للروائي الفرنسي الأشهر ميشيل ويلبيك من الإسلام والمسلمين ليس جديدًا. في روايته "المنصة" الصادرة عام 2001، قام بتمجيد السياحة الجنسية في جنوب شرق آسيا وإضفاء الطابع الشعري عليها- حيث خلقت الشخصيات الرئيسية في الرواية منتجعًا جنسيًا مثاليًا، نوعًا من واحة سماوية من السعادة الصادقة والشهوانية النقية، القادرة على شفاء الغرب المتجمد في حالة من عدم الإحساس الكئيب.

لكن في النهاية، قامت مجموعة من الأصوليين الإسلاميين المسلحين بتدمير المنتجع. وفي شكل مجازي، تنبأ الكاتب بموت أفضل الأشياء الحقيقية والحية التي بقيت في الثقافة الغربية على أيدي المسلمين الأصوليين.

وفي رواية "الخضوع" (2015)، ينتقل ويلبيك من الاستعارات إلى التنبؤات الأكثر تحديدًا. خلال الانتخابات الرئاسية، وخوفًا من فوز المرشحة اليمينية مارين لوبان، تتحالف الأحزاب اليسارية مع الحزب الإسلامي، ويسفر هذا التحالف عن فوز المرشح المسلم.

بعد أن وصل المسلمون إلى السلطة، أدخلوا الشريعة الإسلامية في البلاد، ومنعوا النساء من ارتداء السراويل، وأباحوا تعدد الزوجات، وخصخصوا جامعة السوربون، وطردوا المعلمين غير المسلمين منها– باختصار، حوّلوا فرنسا إلى دولة إسلامية كاملة. يسارع العديد من المثقفين إلى اعتناق دين الغزاة (من أجل تأمين حياة مهنية ناجحة، ووصول قانوني إلى أجساد الشابات)، في حين يصبح أولئك الذين يلتزمون بالقيم الفرنسية التقليدية أقلية تعيسة ومعرضة للتمييز في بلادهم.

إن مغالاة ويلبيك في مناهضة الإسلام يكمن على السطح، ولكن من الواضح أن موقف الكاتب لا يقتصر عليه وحده بل يشمل أيضًا اليمين المتطرف في أوروبا. والحقيقة هي أن أسلمة الغرب في نظر هؤلاء المعادين للإسلام، لا تشكل خطرًا مستقلاً على أوروبا، بقدر ما هي عرض من أعراض الانحلال الداخلي لها وفساد ثقافتها. وعلى غرار الفيلسوف أوسفالد شبينغلر، الذي أعلن مباشرة بعد نهاية الحرب العالمية الأولى عن الانحدار الوشيك لأوروبا وانتصار الحضارات الشابة والمتعطشة للدماء والحيوية، يرى ويلبيك علامات تراجع الغرب في كل شيء. ويزعم إن استبدال المسلمين بالسكان الأصليين في أوروبا هو أحد أسباب هذا التراجع، وربما السبب الرئيسي، ولكنه بالتأكيد ليس الوحيد: فهو نتيجة للمرض، وليس سببًا له.

بعد سنوات من الإساءة للإسلام والمسلمين في أعماله والتصريحات الصحفية العنصرية قدّم ويلبيك مؤخرًا، اعتذاره للجالية المسلمة في فرنسا.

ففي نوفمبر الماضي قال ويلبيك خلال مقابلة مع الفيلسوف اليساري الفرنسي ميشيل أونفراي إن "رغبة الفرنسيين الأصليين، كما يقولون، ليست في أن يندمج المسلمون، بل أن يتوقفوا عن سرقتهم ومهاجمتهم. وإلا فهناك حل آخر: أن يغادروا. واعترف ويلبيك لاحقًا خلال حفل خصص لتقديم كتابه الجديد "بضعة أشهر في حياتي" أنه انجذب خلال مقابلته مع ميشال أونفراي إلى نوع من "الغباء الجماعي. وأضاف الكاتب أن "هناك خطابًا خاطئًا يربط بين الإسلام والانحراف رغم أنهما خطان متوازيان لا يلتقيان أبدًا، والمهمة الآن قد تكون محاربة الثاني، لا التضييق على الأول لأن ممارسة الشخص عقيدته الدينية بشكل دؤوب لا تؤدي إلى الانحراف وإنما المنحرفون يتذرعون فقط بغطاء الدين.

 مرض القارة العجوز

أوروبا، بحسب ويلبيك، تموت من الشيخوخة والتعب، يحتلها الغرباء، لأن الضحية لا يملك القوة ولا الإرادة للمقاومة، ونهايتها محددة سلفًا، وأفضل ما يمكن فعله هو تأخير التراجع المحتوم الذي لا مفر منه.

وفي هذا السياق ينبغي تفسير تصريحات ويلبيك بشأن أوكرانيا، التي أدلى بها الكاتب في أثناء نفس المقابلة مع ميشيل أونفراي لمجلة الجبهة الشعبية، واصفًا روسيا بأنها "ليست جارة، بل عشيقة سابقة" لأوكرانيا، وعارض علنًا مساعدة الدول الغربية للأخيرة، محملا اللوم فيما يحدث على الأمريكيين، الذين، بحسب الكاتب، "يحبون تنظيم الحروب، ويفضلون تمويلها بدلاً من المشاركة فيها بشكل مباشر. إن الحرب الحالية هي مسألة داخلية تخص "الاتحاد السوفييتي السابق" ولا ينبغي للغرب أن يتدخل فيها. النقطة المهمة ليست أن الكاتب يدعم بوتين أو يتعاطف مع أفكار "إزالة النازية" - بل إن الغرب النازف، وفقًا لويلبيك، ليس لديه الموارد اللازمة للمشاركة في صراع لا يرتبط به مباشرة ولا يشكل تهديدًا مباشرًا له.

ومع ذلك، فإن فكرة انحدار أوروبا، التي كان ويلبيك مفتونًا بها على مدار العشرين عامًا الماضية، وكراهية البشر يشكلان أساس فلسفة الكاتب، وهي سمة مميزة لبعض أجزاء العالم الفكري الغربي.

و في روايته الثانية "الجسيمات الأولية" كتب ويلبيك، إن مستقبل البشرية جمعاء بما فيها سكان أوروبا قاتم: نحن جميعًا محكوم علينا بالهلاك. ستأتي النهاية المأساوية بالنسبة للبعض مبكرًا، وبالنسبة للآخرين بعد ذلك بقليل". سيتم بسهولة استبدال نوع مصطنع جديد من المخلوقات الخالية من النشاط الجنسي والعدوان، والسمات الشخصية بالإنسانية الغارقة في اللامبالاة والنفاق والملل اليائس والقسوة التي لا مثيل لها. ويتم هذا الاستبدال على مستوى الكرة الأرضية ومن دون مشاركة المسلمين فيه. وقد طور يلبيك نفس الفكرة في رواية "إمكانات الجزيرة".

لكن رواية الكاتب الجديدة «إبادة»، تعود خطوتين إلى الوراء، إن جاز التعبير، من قداس مثير للشفقة على الجنس البشري بأسره، مرورًا بالوداع الهستيري والمرير للحضارة الأوروبية، إلى رثاء حياة إنسانية واحدة - مؤثرة ولا تقدر بثمن وفي الوقت نفسه سخيفة ولا معنى له..

جمع ويلبيك في "الـ"إبادة " وتحت غطاء واحد مجموعة كاملة من العلل الأكثر إثارة في عصرنا - من التقسيم الطبقي الكارثي للثروة إلى أزمة اللاجئين، ومن البيروقراطية اللاإنسانية للطب إلى مشاكل الإعلام، ومن الركود السياسي اليائس إلى النخبوية والفساد. وعلى عكس عادته، يبني من هذه المواد ليس دراما صاخبة، بل مأساة هادئة لرجل صغير، مؤثرة في تفاهتها.

على عكس العديد من نجوم الأدب الذين يحرصون على تفردهم، غذى ويلبيك طوال حياته المهنية، نمطيته باستمرار، مما يمنحه، في رأيه، الحق في التحدث نيابة عن الرجل الفرنسي العادي والتعبير بالكلمات عن ادعاءاته ومخاوفه ورغباته غير الواضحة. . وعلى الرغم من كل التطرف الواضح، فإن آراء ويلبيك، في الواقع، ليست بعيدة كل البعد عن رأي الرجل الفرنسي العادي في الشارع، الذي يتذمر من أن فرنسا ليست هي نفسها اليوم، وغير راضٍ عن هيمنة المهاجرين ولامبالاة الدولة.

وهذه الديناميكية ليست من قبيل المصادفة ـ ذلك أن رجل الشارع الذي يزعم ويلبيك أنه ينقل رأيه، أصبح اليوم أعلى صوتًا على نحو متزايد في مطالبة الحكومة بموقف شخصي تجاهه. ولكنه لا يلقى أي استجابة: الطبقة السياسية تتجاهل بنجاح ويلبيك نفسه (على الرغم من ثقله الشعبي الكبير) والمطلب الشعبي الذي يجسده – في الأقل، هكذا يرى الكاتب نفسه الوضع الحالي في فرنسا.

لذا فإنًّ قادة التجمع الوطني اليميني، الذين لم يدعموا ويلبيك في ادعاءاته، خذلوا "الفرنسيين العاديين"، حسب رأيه، ومع ذلك، فإنه لم يتوقع منهم شيئًا مختلفًا. وليس من قبيل المصادفة أن يتحدث الكاتب عن اليمين المتطرف بسخرية لاذعة. تبدأ الرواية كقصة إثارة سياسية: تقوم مجموعة مجهولة من النشطاء بنشر مقطع فيديو تم انتاجه ببراعة. يتم فيه إعدام وزير الاقتصاد والمال برونو، السياسي الأكثر نفوذًا في فرنسا وضامن استقرارها الاقتصادي، إن لم يكن ازدهارها.

الهجوم الإرهابي الافتراضي تتبعه هجمات إرهابية حقيقية، مدبرة ببراعة، في البداية غير دموية، ثم دموية. يبدو أن وراء هذه الأحداث قوى تدفع فرنسا إلى الحرب الاقتصادية مع الصين، وتعارض أيضا القتل الرحيم والتلقيح الاصطناعي وغيرها من الابتكارات الليبرالية، ولكنها في الوقت نفسه ليست غريبة على السحر والتنجيم. وعشية الانتخابات الرئاسية (هذا هو الوقت الذي تتكشف فيه أحداث الرواية)، تتخذ خطاباتهم لهجة مشؤومة بشكل خاص.

الشخصية الرئيسية في "إبادة"، مسؤول في منتصف العمر يدعى بول رايزون، وهو موظف مرموق في وزارة الاقتصاد والمال، وصديق مقرب من الوزير يجد نفسه منجذبًا إلى هذه القصة المذهلة والخطيرة برمتها. يجب عليه أن ينضم مع رئيسه إلى السباق)، وفي الوقت نفسه يشارك في البحث عن الإرهابيين الغامضين.

لا يحرم ويلبيك نفسه من متعة السخرية من السياسيين الفرنسيين - وهذا لا ينطبق فقط على "التجمع الوطني" الذي سبق ذكره، ولكن أيضًا على الطيف السياسي بأكمله في البلاد. ومن الجدير بالذكر، أن فرنسا في رواية" إبادة" تتبع إلى حد ما مسار روسيا. يخطط الرئيس ذو الكاريزما والشعبية، الذي قضى بالفعل فترتين مسموح بهما في قصر الإليزيه، لترشيح "بديل" باهت بشكل واضح من حزبه مكانه، حتى يتمكن من بعده من العودة منتصرًا إلى الرئاسة – ويتم تنفيذ هذه الخطة بنجاح. وبشكل عام، يظهر ويلبيك عمل السلطات الفرنسية بأكمله على أنه مزيج غريب - ولكن في نفس الوقت واقعي للغاية - من السخرية والعبثية.

ومع ذلك، سرعان ما تتراجع المكونات السياسية والبوليسية في الرواية إلى الهامش، وتضيع في تقلبات حياة بول نفسه وعائلته. أب مشلول، وزوجة أب مضحية لا عزاء لها، وأخ أصغر فاشل وحياته الشخصية الصعبة، وأخت كاثوليكية وزوجها، وكاتب عدل طيب القلب قريب من المتطرفين اليمينيين، ولكن الأهم من ذلك، التغير الذي حصل في حياة البطل حيث دبت الحرارة في سلوك زوجته برودينس، بعد عشر سنوات من العلاقة الفاترة. وهذا يحل محل ما بدا مهما بالنسبة إليه من قبل. بعد أن غادر مقر الحملة بسبب فضيحة غبية، يدرك بول بارتياح مفاجئ أن المحتوى الرئيسي لحياته أصبح الآن الحياة نفسها، المنسوجة من التواصل مع المقربين منه، والفرح الهادئ، والطعام اللذيذ، والجنس، والخسارة والمرض..

لا شك أن موضوع تراجع الغرب لا يختفي تمامًا من رواية ميشيل ويلبيك. لا تزال جميع علامات تراجع الحضارة الأوروبية موجودة، لكنها هذه المرة بمثابة خلفية للدراما الإنسانية التي تتكشف على خشبة المسرح - وهو نوع من التناظرية للمناظر الطبيعية الخريفية أو الموسيقى الرثائية خلف الكواليس. وبدلاً من «رواية الأفكار» المعتادة، يقدم ويلبيك للقارئ، في روايته الجديدة ربما للمرة الأولى في مسيرته الكتابية، «رواية عن الناس. وينتقل مما هو سياسي واجتماعي الى ما هو عائلي وفردي.

بطبيعة الحال، فإن التأكيد على أن الأدب العظيم في عصرنا يبتعد عن الموضوعات الكبيرة سيكون عاما للغاية وبالتالي غير دقيق. ومع ذلك، يبدو أن هناك اتجاهًا معينًا آخذ في الظهور. التخلي عن المنصة لمتحدثين آخرين - نشيطين للغاية وحتى مزعجين. الكتّاب الأكثر حساسية للمزاج العام، بما فيهم ويلبيك، يبتعدون عن مشكلات علم الاجتماع والسياسة ويعودون إلى المستوى "الإنساني". وحتى عندما يتحدثون عن ما هو عالمي، فإنهم يبرزون على نحو متزايد إلى المقدمة دراما فرد معين، وليس دراما فرنسا بأكملها، أو أمريكا بأكملها، أو العالم بأسره.

تنتقل الثقافة اليوم بشكل عام والأدب خصوصًا، من جلد الرذائل إلى شفاء الجروح. وتصبح الرقة والتفاهم أكثر قيمة من السخرية والشك الشامل. ميشيل ويلبيك، حفار قبور متمرس للحضارة الأوروبية، يستجيب لهذا الطلب الذي لم تتم صياغته بالكامل بعد، ولكنه موثوق به، في روايته الجديدة ينتقل إلى مهمة أكثر تواضعًا، ولكن أيضا أكثر إنسانية: البكاء على شخص معين.

***

د. جودت هوشيار

حروف تجرك على جسر الألوان، بين البداية والنهاية، تأخذك سيراً على العقول والقلوب وبلا طريق، تروي عمرك بلغة الألم، ثم تعلمك الرقص على المرافئ، بين التلال وفوق الجبال، تفتح لك كفيها لتلملم انهيار الوجوه من حولك، وتحرر ليلك من وداع قديم ؛ تفك أزرار النار بعود ثقاب، ليشتعل سعيرها في الصدور، وكاتبها يرتب الزمن في صرير حبره القادم مع الريح، ينثره بين روابي السطور، ويبقى الصباح واقفاً على جناحيها، يطرق كل الأبواب، حيث تجري الحياة بتفاصيلها المرهقة على موائد الزمن .

- " ولادة قيصرية " رواية الدكتور "وليد خالدي"، الصادرة عن دار متون المثقف للنشر والتوزيع / القاهرة، عام 2023، تأخذك،بداية، من عنوانها وصورة غلافها، إلى عالم التساؤلات: ماعلاقة الولادة القيصرية بصورة تلك المدينة وبيوتها وآثارها وبقايا من جدرانها ونوافذها؟ في اي بيت منها ستكون الولادة؟ وأية ولادة هذه التي ستكون تحت مبضع الجراح وأوجاع مابعد الولادة؟، من هو ذاك المولود القادم؟ ما نوعه، وما شكله؟، أية حاضنة ستحضنه؟ وكيف سيكون؟ أم أنه ترميز لغد سيأتي بعد نزيف وجراحة وأوجاع؟، وماعلاقة ماورد على الغلاف الخلفي للرواية؟ وما دلالة ذاك النص الذي ورد فيه:

" يتساءل بلا كلل ...!

يتساءل بقلب ثائر وحانق، وجبينه ينضح بالعرق، رمى بكامل ثقله مسنداً ظهره إلى جذع شجرة .. !!

ولكن الوساوس في جنح الظلام مزقت قلبه حتى ذاب كالجليد .. !

يسأل التاريخ التاريخ اولا، ثم يسأل نفسه ثانية، بل العشرات من الأسئلة تتدفق على شفتيه، حرة سليلة بلا تمحيص ولا رقابة .. ماالذي يريده الأسد الأبيض بعودته؟!

أتراه اشتهى الأيام التي خلت، بعدما رحل خلسة، منذ أعوام مضت، عفا الدهر    عنها، أم يطمح لإسماعنا صوت زئيره مجددا، لنتبرع بما تبقى من الدم، بدون ترخيص أو مقابل؟ ... ولم يفكر بنرجسية متعالية؟ . لم يفسر هدوءنا بالضعف والعجز وعدم المقدرة على المواجهة، حتى تسوّل له نفسه ذلك؟."

- نفتح الرواية لنقرأ إهداء قدمه الكاتب:

" إلى كل من تعبق روحه مسكاً وعنبراً ..

إلى كل من علمه حرفاً، إلى أبويه، زوجته، أولاده، أغلى الناس، وإلى رفيق دربه: " بو خليفة عبدالله " ...".

- ثم مقدمة تحمل أقوالا لمشاهير، ربما هي مفاتيح أبواب هذه الرواية:

"- "عبد الرحمن منيف ": "قد أكون تافهاً بنظركم، لايهم، ولكن في داخلي صوتاً صغيراً اطرب له، وأحب أن أسمعه دائما، وهذا الصوت يقول لي باستمرار: ارفض هذا العالم المجوس التافه، ولاتندمج به، وإن استطعت يجب أن تساهم بتغييره ."

- " جبران خليل جبران ": " في قلب كل شتاء ربيع يختلج،ووراء كل نقاب كل ليل فجر يبتسم ".

- " ديل كارنيجي ": " لاتحاول البحث عن حلم خذلك، وحاول أن تجعل من حالة الانكسار بداية حلم جديد ".

- " أدهم الشرقاوي ": " إما أن تقاوم أو تتظاهر بأنك تقاوم .. لكن لاتنحن أبدأ ".

- " ويليام شكسبير ": " وفي النهاية يرحلون جميعا.. وتبقى لك نفسك التي قتلتها من أجلهم ".

-" شمس الدين التبريزي ": " واسأل نفسك مع شروق الشمس متى ستشرق انت؟".

- نتابع لنتعرف على الأستاذ " نعيم "، بطل الرواية ومحرك أحداثها ؛ ونتعرف على كل الظروف الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والدينية والثقافية التي عاش في ظلها، فراح يرسم نفسه بين الواقع والحلم، يغتاله الوجع ويخطفه الهم، يبتلع نشرات الأخبار وضجيج الشوارع،صباح مساء، باحثاً عن مواثيق الحياة، متمرداً على دساتير وقوانين غريبة عنه وعن محيطه ؛ يرثي الماضي والحاضر، يغفو على وسادة من دبابيس، ويستيقظ على جراح ودموع أطفال وشباب .. منهم من أصابته تخمة الحزن والضياع، فتاه في منافي الغربة والوطن ؛ ومنهم من تنكر لأصله وذاته وسخر ونسي من كانوا قدوة له ومثلا ؛ فيصفهم في قوله:

-ص 21 .." يشتكي حرقة الطيور المهاجرة التي تختفي في الأفق، تتنزل على رأسها أنواع الوقائع العجيبة، مشدودة بحبال في غاية الدقة، وبحركة غير مرئية، وهو في أمس الحاجة إلى إجراء مقابلة صحفية، غير ان عدسات الكاميرا تمل التفاصيل والإسهاب في الكلام،وترى العائدة زهيدة الثمن، والإغراء فاقداً للفاعلية ولفت الانتباه، فتلتصق بها تهمة خيانة الوطن، وفي الجهة المجاورة غربان تحلق في أجواء ناعمة تضحك بخبث ".

- ص 24.. " ثم أردفها: حتى كلمة الله جردتموها من بهائها، وألبستموها شبحا مخيفا بأصواتكم المرعبة، ألا تستحون من " بلال بن رباح "؟!.."،( ذاك الصحابي الجليل الذي عُذب في الله تعالى بعد إسلامه على يديّ أبي جهل وامية بني خلف، وكان على ذلك صابرا محتسبا، يقول: أحدٌ أحد) .

- ويستمر الكاتب بلسان الأستاذ " نعيم "، ويداه تتقن السفر على جسد الكلمات، يرسم معاناته في أزقة العمر، وخيالاته التي تنفجر صورها بصمت في عينيه، وحروفه ولغته التي صارت منفاه وربطته بالوجع والعذاب، مسجونا على فراش مرضه كطائر في قفص وديدان الوقت تنهش هويته وتتسلى بقضم ماتبقى من أحلامه ؛ يفكر بما مضى، وماهو كائن، لايخشى الموت، بل يخاف على الوطن، على شبابه التائه وكل ما يمر به من أزمات نفسية واجتماعية في وطن يعاني الويلات والحروب والتمزق والانقسام، ويتغلغل فيه الحقد والطمع والكراهية والغدر في ظل ظروف سياسية واقتصادية وإنسانية تهدد وجود الإنسان والإنسانية فيه ....

-ص26.." يقرأ (محمد الماغوط ): " إن الموت ليس هو الخسارة الكبرى.. الخسارة الكبرى هو مايموت فينا ونحن إحياء " .

_" الكل متفقون على بيع كل شيء ولكنهم مختلفون على الأسعار ".

- لم تكن الجزائر وحدها حاضرة في عالم الأستاذ " نعيم "، بل حمل هموم وطنه العربي الكبير بكل قضاياه وصراعاته وأحواله ؛ نقرأ مثلا:

-ص43.. " .. فالمعركة طال عهدنا بها أكثر مما نتصور، فقد شردت كل فكرة،سبحت في البهو الفسيح، ف تحتَ كل ملف انطوت صفائحه في الزمن الماضي، و هاهي الآن كسيحة مقعدة، تطلب يد المساعدة، ولكن جذوة الطلب مصفدة الأيادي...".

-ص104.." وشارون وحاشيته في اجتماعات مغلقة مع جامعة الدول العربية، يدرسون ملف مكافحة الإرهاب، وقضية المصالحة الوطنية، وفي هذا السياق اتفق الطرفان على تعزيز العلاقات ..! وسوريا في اوج ريعان شبابها تفكر بالانتحار، وما طفقت العزلة تلبسها الشيخوخة المبكرة، وتهرم في ظروف غامضة ليتهاوى طودها، وتلفظ أنفاسها الأخيرة، والقافلة والموكب يمران مر السحاب عن يمينها وعن شمالها، ومن فوقها ومن تحتها .......".

- أما رسالته هو والدكتورة " ريم " إلى مؤسسة الشروق T.V. للإعلام والنشر:

- ص98 ...."إن القصر القديم بدأ يشيخ، ويتنازل عن كبريائه، ليدخل في الأبجديات الغامضة، فالأصوات التي تحيط به أبت أن ترسم على شفتيها معالمه الجغرافية، والرمال الناعمة فقدت ثلث جمالها الأخاذ المبهر، وكل احساس مرهف وذوق فني أصيل والطوباويات المترهلة، شاحت في وجهها كل صيانة، والعين لم تعد تبصر تلك اللوحة الفسيفسائية؛ للزخرفة التي تأسرك بسحرها، وهي تملأ ضواحيها .. آه، تصدعات وشقوق، صرفت القلوب لتتحول إلى كومة من القش، ترزح تحت نير التهميش واللا مبالاة..

كانوا على موعد مع المغتربين، وظلت بعض المسائل معلقة في حارتنا، يضحك المرء لتفاهة مضمونها، ومما يزيد من سفاهتها، تقمصها شخصيات ذات إيقاعات أجنبية، سحرتها بنغمتها الحديثة، محملة بباقة وردية آتية من مكان نجهله ؛ أنستهم انغامهم التراثية، و رأوها على أنها غراميات باهته، بالية، تنأى عن الحضارة.... " .-خاتمة .....

" ولادة قيصرية " رواية تعج بالثيمات المتنوعة والأفكار الخلّاقة والدلالات الفاضحة لواقع مُرّ تحياه الإنسانية ؛ استطاع، من خلالها، الدكتور " وليد خالدي "، وبكل مهارة وإبداع، أن يصور هذا الواقع وكل ما أثرعليه، وتأثر به ؛ مستخدما لغة الإيحاء والترميز _ في الشعر والنثر معا _ في عالم يضج بالتساؤلات والجري خلف إظهار الحقيقة والبحث عن طرق الخلاص، نقرأ مثلا:

-ص70_71 ..." .... كنت أحاول التغاضي عن العيوب، والامتناع عن التشهير بها، ولكن فداحة المشهد تفيض كنهر جارف، ذكرتني بأغنية أجنبية، تشبه سرب الطيور المهاجرة في ملامحها المتعبة بالتساؤلات الحارة:

ماذا عن شروق الشمس؟

ماذا عن المطر؟

وماذا عن كل الأشياء

التي قلت أننا سنجنيها؟

ماذا عن ميادين القتال؟

هل هناك وقت؟

وماذا عن كل الأشياء؟

التي قلت أنها لكم ولي؟

هل سبق ووقفت لحظة تتأمل؟

كل الدماء التي سفكناها من قبل؟

هل وقفت لحظة تتأمل؟

لهذه الأرض الباكية او تلك الشواطئ الدامعة؟

ماهذا الذي فعلناه بعالمنا؟

وماذا عن كل السلام؟

الذي وعدت به ابنك الوحيد؟

ماذا عن حدائق الزهور؟

ماذا عن كل الأحلام؟

وكل الأطفال القتلى والحروب؟ ........ " .

- كذلك، عندما أشار ل " وسيم الأصلع " ب (الأسد الأبيض)؛ ورمزية ما تقوله له أمه:

-ص82 ... " هذه الدندنة التي تعشقها المحافل الدولية، وتزكي صاحبها، وتجعله على رؤوس الخلائق...! ويظل عيداً تتوارثه الأجيال ".

-وهكذا، استطاع " وليد خالدي "، الإمساك بيد قارئه، يقوده بين سطوره، مع شخصياته التي اختار لها أسماء ذات دلالات عميقة في التاريخ، وحاضرة في عالمنا الحاضر، التكنولوجي والتقني المتمازج بحضارة الآخر ؛ يتألم للجانب السلبي من هذا التثاقف الذي قاد الأمة لهذا الواقع، وجعلها تغرق في بحور الوهم واليأس والضياع وفقدان الهوية، نقرأ:

-ص208 ..." الحاضر حولناه إلى كومة من الصيغ والتراكيب التي لا دلالة لها، وقدمناه إلى غيرنا نسخة مشوهة، ملبدة بالغيوم والحجب.... أنصتنا لساعات طوال إلى أحاديثهم الرنانة، فاستقطبت كمّاً هائلا من المعجبين، يصعب على المعارضين اختراق حواجزه، وقفنا على تلة نترقب المكان بمنظار من بعيد ؛ رويدا رويدا أبصرنا الطربوش والعمامة يتنحيان جانباً ليفسحا المجال للقبعة لاعتلاء العرش، فبات الطربوش والعمامة مع كل انبلاج فجر يتعرضان للإعدام من قبل عائلاتهم، تحت وقع شمس صباح ملتهبة ...".

- وفي النهاية، وبعد رحلة الألم الطويلة، وهذا المخاض الطويل الذي رسمه " وليد خالدي "، على أوراق سكنتها الشياطين، عكست أوجاع الأستاذ " نعيم " ورفاقه، وطلبته، وأبناء وطنه، وإنسانيته ؛ تارة يحاورهم، وتارة يحاور نفسه، يحلم ويتخيل، يرسم ويخطط ويتمرد، يثور ويقاوم، ولا تخمد ناره حتى في غيبوبته، وهو يخضع لعمل جراحي جراء عسر في الهضم، ليستيقظ أخيرا على ولادة قيصرية، ولد فيها الأمل بالغد ؛ أشرقت روحه من جديد، واحتضنت الآمال مولوده الجديد:

-ص 209- 210 ...." وماهي إلا دقائق قليلة، كان من خلالها يحاول رسم خطة جديدة لحياته ؛ حتى استفاق من غفوته تعلوه ابتسامة مشرقة نابضة، وصرخة مدوية من الأعماق، مدججة بلحظات الانعتاق، هنا انتابه إحساس شديد دفعه إلى أن يزيل عن كاهله كل الأفكار العالقة التي توسدت جسده حيناً من الدهر .....

وأخيراً ... " تتمدد في محاضنها الآمال المتجددة، مع نزول كل قطرة من عرق ..!!".

*** 

الشاعرة والناقدة السورية باسمة العوام

الشاعرة تملك لون شعري مختلف عن المألوف، واسلوب متميز في اللغة الشعرية بين التشديد والليونة الشفافة، تجمعها في بوتقة واحدة، في الخلق والتكوين النص الشعري من حيث (الصياغة والتعبير والرؤية الفكرية) أي تنطق وتتكلم من مشاعرها ووجدانها الداخلي، في خلطة كيميائية، نتيجة صراعات ناشبة بين الداخل والخارج، أو أنها إفرازات مديات الحياة والواقع والوجود، إن تكون المرأة في حالة حذرة، متهيئة نفسياً لكل حادث وطارئ. ولهذا نجد زفيرها الشعري منطلقاً من أعماق احاسيسها الوجدانية، بالبوح العاصف في الخيال والتصور والرؤى، في انفعالاتها العاطفية الملتهبة، امرأة لن تساوم على كيانها ووجودها، حتى في حالة الحب والعشق، نتيجة تقلبات مفردات الحياة، التي هي في صراع دائم على البقاء، لذلك ترتقي الى مستوى التحديات للمرأة، وهي تجد نفسها في عواصف هائجة في الانتهاك وسلب انسانيتها وتهميش فعلها. ومن هذا المنطلق نجد صيغة النص الشعري، هو متفجر من الداخل ويطفو على السطح، بكل التحديات والمواجهة، إنها باختصار امرأة فعل ورد فعل، وغير مسكونة لحالة الانصياع والتخاذل، بل تجد انها نداً قوياً في المجابهة والتحدي والتمرد، هذه القيمة المستخلصة في أسلوبها الشعري في قصائد المجموعة الشعرية، تضعنا أمام حالة صراع بين قطبين، في عملية إفراغ بما يجيش ويغلى في داخلها، امرأة صعبة وعصية ومتمردة، ولكنها في نفس الوقت عاطفية و حالمة بالحب كالفراشة، انها على مستوى الفعل، في المواجهة والتحدي والتمرد، انها باختصار شديد تحرص ان تملك كيان ووجود مستقل، ويتأهب لكل حادث حديث، والنص الشعري هو وسيلة للتعبير عن نفسها و جوانحها الداخلية بين امرأة متمردة، امرأة حالمة، انها تحلق في المنظور الشعري بين الطرفي الصراع ، كأنها تحلق في السماء الشعرية بجناحين مختلفين تماماً عن بعضهما البعض في المعادلة الحياتية، أو أنها مشطورة بين قطبين، ففي حلة الوجع نجد التشاؤم يغلف روحها ومعاناتها.4037 سمرقند الجابري

عن أيّ وجعٍ تتحدثُ؟

وكلّ قصةٍ مغمسةٍ بالدمِ،

أفركُها بينَ أصابِعي

بعكس عقاربِ الساعةِ

بكُلِ صَبرٍ، وبرودةِ أعصابٍ.

ورُبما... أغني،

وأنا أكِّورُ أوجاع الشهرِ الماضي،

أو كوابيسَ الشهرِ الاخيرِ من عامٍ ولّى.

كراتٌ ملونةٌ،

بحجمِ ليمونةٍ خضراءَ.

لكنها في حالة التفاؤل، نجدها امرأة اخرى من مطر الحب والعشق، امرأة عاطفية من الحرير العاطفة، أو في داخلها إمرأة اخرى رقيقة وحالمة في عشب العشق والعشاق.

إنها تمطر الان،

أيها العشاقُ...

تذكروا حبيباتَكم برسالةٍ

إبعثوا لهنَّ رابطاً لأغنيةٍ ساحرةً

مع عبارةٍ جميلةٍ

مع أمنيةِ أن (تظلّا معاً)

أو عبارة اعتذارٍ عن كلمةٍ جارحةٍ

سقطت سهوا ذاتَ يومٍ

أيها العشاقُ...

إنكم تخطؤون في حقِّنا دائِماً

ونسامحكم

يا صديقي المطرُ

أطِل هطولَكَ

كي تمنحَهُم فرصة أخرى

للمرةِ الألفِ..

هذا التناقض المتوتر يجعلها في حالة يقظة دائمة، لأنها مسكونة في امرأة اخرى في داخلها، إمرأة من نار، تصرخ وتخاف وتخشى منها بحذر، تتمرد عليها،تلعب بها بين النار الملتهبة، والماء البارد الذي يطفيء غليانها وترقص لها كالغجرية، تحاول ان تداعبها وتبتسم لها، خشية من تتفجر نزواتها الحادة.

إمرأة من نار تَجلدني

تعـوي في أعماقي منتفضة

تُخرجُ أصابعَها من أنفي

وتَجري راكضة للغابـة

لا أتبعها،

لا أقـفُ بوجهِ زئيرِ اللبوة

أقفٌ متفرجةً على خدوشِ أظافرها في الصخر

أبتسمُ بخبثٍ حين أراها تسّبُ أباهم

أو ترقص كالغجرية،

حين يفارقها وجهك

أخاف تلك المرأة التي أكبتها

أحدثها برفق،

إمرأة متأهبة لكل الاحتمالات السيئة والاسوأ، من أجل حقها في الحياة والحب، ترفض الغيوم السوداء قبل هبوطها،انها في حالة تأزم كالحياة المتأزمة بذاتها، كحالة بغداد المأزومة، كالنساء المضنيات في شقاء الحياة وعسرها، كالأمهات المخلوقات من ماء الكوثر، تحب الوجوه التي يحبها الله، نجت من الموت خمس مرات، لتعود لحقها في الحياة والحب.

أهنئ نفسي،

فلقد نجوت من الموت خمس مرات

وعدت لحياة من حقي

صرت، أتنبأ بالحب

وأقبلُ الغيماتَ قبلَ هطولِها

وأمازحَ أطفالاً ليسوا لي

وأشعرُ بالأشياءِ قبلَ حدوثِها.

فأنا يا بغداد...

أعرفُ حكايا عن النساءِ المضيئاتِ

عن الأمهاتِ المخلوقاتِ من ماءِ الكوثرِ

وأعرفُ من بعيدٍ،

الوجوهَ التي يُحبُها الله.

انها امرأة عصية ومتمردة، كأنها في حالة استنفار شديد، أو حالة حرب، في رأسها معسكر تدريب وجنود ثائرون، ونساء كادحات،

في رأسي دائِماً...

معسكرُ تدريبٍ،

وجنودُ ثائرون

نساءُ كادِحاتٌ

وأطفالٌ يتشاجروَن بوقاحة

عجائزَ يعرفِن عن ظهرِ قلبٍ،

كل حكايا الحياة.

أما وجهي...

ليس سوى تخطيطٍ سريعٍ

لإمرأةٍ متمردةٍ.

لكن من جهة اخرى نجدها امرأة عاطفية حالمة، كالفراشة تلعب بين أزهار الحب، تتشاجر كالساسة، وتتصالح كالعصافير، وتلعب كالطفلة البريئة، ترتبك وتخاف، أي أنها عاشقة من حرير الحب.

نتشاجرُ كالساسةِ،

نتصالحُ كالعصافيرِ،

نفكرُ ببعضِنا كالأمهاتِ،

نذهبُ للسيِنما كالأصدقاءِ،

نلعبُ سويةً كالأرانبِ،

نرتبكُ من الحبِ كالأطفالِ،

***

جمعة عبدالله

 

شعرية الفروقات الدالة ومكابدة مساحة التعيينات

توطئة: لعل من اللافت في ضرورة قراءة وبحث وتمحيص شعرية تجربة الشاعر الاسباني الفذ فدريكو غارسيا لوركا، وتحديدا من خلال جملة تمفصلات قصيدته موضع بحثنا (اغنية غجرية) أنموذجا لما تتسم به من الاوضاع الدوالية والدلالية في متن النص من حساسية نوعية في عضوية مركبات (تكرارية اللفظ_ إيقاع المنحى الصوتي _ خطاب الانا - حديث التخاطب- غيرية الموصوف- ذاتية التشكيل) سبرا الى متواليات تغدو حينا متطابقة في القيمة المعللة للتسمية، واخرى لا تنفك حينا عن كونها محض إحاسيس ورؤى توصيفية .

- تعددية الأحوال وتقاطع محاور المشار إليه:

ما أود أن اتحقق منه في مواضع قصيدة (أغنية غجرية) هو ذلك التعدد في أوجه مسار الأحوال التلفظية التي تتجاوز ما يوحي به من خصائص في التسمية للاشياء من قبل جهة (الفاعل التذويتي) اي ذلك الفاعل المكرس في حيثيات صورة تداخلية نسقية في هوية المكون التلفظي، لذا فإن علاقات هذا الفاعل تختص في جعل للاشياء مسمياتها واطوارها، كأنه بذلك الفاعل الذي يساق من قبل وصولات وصور حسية ضمنية ناتجة عن نسيج الذات الثانية للشاعر، وربما يمكننا توصيفه ب(الفاعل المتخيل) تكاملا مع حيثيات الصورة الأولية من أفعال وأقوال الشاعر تواصلا تقديريا مرتبطا بالتركيز والأحتواء التصوري الٱني والبعدي المجمل في الٱن نفسه من العملية القولية في مشاغل النص .

١- بناءات معادلة وقائع توفيقية:

تتمثل انطباعات وتصورات حالات القصيدة ضمن علاقات متجانسة وغير مشخصة في الحد الادنى من الواقعة الصورية والإمكانية والممكنة في استيعاب اسقاطات الدال الاختباري، اي أن هناك حالات أولية في مقاطع النص الاولى بدت من خلالها الاقتراحات المتضافرة في محاولة ما في بث الموصول الدوالي في ايسر الطرق والوسائل من الاجمال والارتجال في ما لا يمس حقيقة زمن الحال والتدرج المناسب في نمو ملاءمة ظهورية في حاصلية الصيغة المتجانسة من البوح:

خضراء..

خضراء..

أريدك خضراء، فالرياح

خضر، وخضر هي الغصون./ص11

نتبين من خلال مطالع هذه المقاطع التكراربة، بأن زمن الملفوظ ذات وتيرة توكيدية بالدال والدليل، مما جعل (خضراء.. خضراء) حدوثا إيقاعيا يتطرق الى زمن معنون في معالجة الخلوص بالتملك الإرادي (أريدك ؟)، ولكن الفاعل الذاتي، لا ينفك في معاودة للمزيد من التحقق التصوري (فالرياح خضر - وخضر هي الغصون) ولانعلم ما مدى حقيقة هذا النزوع اللوني بالحدوث الدوالي، ربما من جهة ما هو متوالية متكثرة بالامثولة الإنشادية، أو انها حالة قناعية ملازمة لمظهر توصيفي مرتجل، وقد تكون أحوالا معادلية في مرصود وقصد الموضوعة في مرٱة ذاتية الشاعر نفسه، ولو اعتبرنا هذا النزوع اللوني حالة نسبية من قيمة هامشية الدلالة، لما تركت هذه الصفة اللونية مساحة تتعدى عتبات العلاقة الأولية للنص نفسه، لتؤسسس لذاتها مشهدية تتكون من إقرارية خاصة من زمن الحال التوالدي في محاور النص . ولكننا عند متابعة المقاطع اللاحقة من النص، قد نعاين تحاورات جديدة عبر مساحة اللوحة الشعرية تتابعا:

والسفينة في العباب تلمحها العيون

والخيول ترتعي كلأ التلال

طوقت خصرها الظلال

وهي ماتزال

في الشرفة تحلم/ص11

لو دققنا في احياز علاقات محاور الدوال في رقعة إحساس المتخيل التشكيلي، لوجدنا معطيات صورية هامة في محمل أبعاد اللوحة الشعرية للنص، فمثالا هناك مفردات جاءت بحدود حالة كفيلة بجعل وظيفة خطاب الدال، تتشكل وتتمحور في وجودات تشكيلية صرفة من قيمة حركية تشتغل بخلفية وظيفة بناء اللوحة، لذا فإن السبب في مثل قولنا هذا، هو ما ترجحه جملة التعالقات الجزئية والكلية من حفظ (المساحة _ زاوية الرؤية_ حصرية الزمن السكوني) اي ان الصورة كعنصر تشييدي، هي الغالبة على وظيفة الملفوظ الحركي في الخطاب وللمد الدوالي (السفينة في العباب تلمحها العيون - والخيول ترتعي كلأ التلال) الكشف هاهنا يوحي لنا بحضور حالاتي (حسية ضمنية - نقطة مشهدية) ومن المتوقع أن تكون نقطة إنطلاق لدلالة تأسيسية ذا هيمنة فضائية سكونية الطابع والزمن والشكل والبنية الأحداثية.

2- اللاكينونة في برهنة الفاعل الحضوري:

لعل المطروح الشعري في قصيدة (أغنية غجرية) يتبنى ذلك الإجراء والتحديد بين (نقطة التلفظ) ونعني بذلك الإجراء المتحكم في إثبات حضورية الٱخر عبر هويته أو كيفيته أو دخوله في زمن أطروحة الكينونة المحددة، لذا فالملفوظ عبر تبلوراته لا يعكس سوى وظائف (خارجية) أو ربما هي حالات قصوى، يتبلور مصدرها من خلال (الوجود - اللاوجود / الوجود - فرضية مضللة) وعلى هذا النحو فإن فعل الدوال في احياز النص متوافقة من ناحية (زمن سكوني؟) ومتعارضة من ناحية كونها مقولات افعال حضورية حاسمة في وجودها الذاتي والفعلي: (وهي ماتزال - في الشرفة تحلم؟) ولعلنا نملك الى إعادة زمن واقعة (وهي ماتزال؟) الى وضعية خارج الفعل الكينوني، كوحدة مقصية ومنفصلة، وذلك بدءا من جملة العنونة المركزية الدالة (أغنية غجرية) أي أن حالات التجربة في ممكنات القصد الدلالي، لا تتعدى ذلك الحيز من وجود موقع تلفظ أو رؤية في نظر تبادل محوري وصوري . فالرائي يتصور - شيئا- عبر موقعه المتشظى والمتناثر، فهو بمرويه يعبر عن وجودا شيئيا، أكثر افقا وتوقعا بصريا، لذا فتتعدى مهمته حرفية الحضور الحاضري (العيني) في كونه مجسدا محددا ذا طبيعة قرائنية، ذلك لأن حيزه الساردي تشغله جملة تقييدات موصوفة وسكونية في المقدار والمواضعة والانعكاس والقصد :(باتت تحدق فيها من حولها الأشياء - ولكنها لا تستطيع تبادلها النظر) اي أن وجود المرئي يظل غير محددا، ولكنه حالة انعكاس لهيئة حيادية ليست بحجم اسباب موضوعة الأشياء من حولها، لذا فهي موصوفة بدقة (الرائي الفاعل) بحرية أكيدة ومعززة، ولكنها مقرونة داخل افعال تتعدى فعلية الحدوث والسطوح الوقائعي، فتظل في ذاتها كفاصلة هلامية بين ما ترى -تصدرا- وما تقوله عين الرائي توصيفا وإعادة رؤية في حدوثات واهمة.

3- طابعية سياق التكرار وانطباع الوحدة الحلمية:

يمضي لوركا في متواليات بنيات قصيدته نحو توصيف مؤولات خاصة للأمكنة والأحوال والذوات المتشيئة عبر محفوظها وصورها الاكثر غورا في حيوات الاكوان الكائنية الكامنة في اللاثوابت من احياز لغة الاشياء وأستعارتها المتحولة في حيثيات (طابع سياقية التكرار؟) وحركية (انطباع الوحدات الحلمية) من خلال متخيلها التأملي العاج بأقصى حالات الوصف للأكوان المتوالية في شفراتها وشذراتها الحالمة بطفولة وصبا كينونة التقاويم الطقوسية للزمن الحاف ب(أغنية غجرية):

جسمها أخضر، الذوائب خضراء

وفي عينيها تلمع الفضة والزمهرير

خضراء، خضراء، أريدك خضراء/ص11

إذ لا شك إطلاقا أن تنطوي القيمة اللونية المتعدية تتابعا في صيغة ملفوظها المتوال (خضراء .. خضراء) ضمن صفة تذويتية عالية الرمزية، إذ انها تتمركز من خلالها الذات الساردة حول تنفصلات ٱنويتها وبعديتها الغيرية بوصفهما بديلان عن إرهاصاتها المتوارية عن مواجهة (الزمن - الذاتية الخطية) لذا تنتهي وتبتدئ دوالية الصور والتشكلات الوضعية عبر أحوالها باللجوء الوصفي بالمخصوص اللامحدد (أريدك خضراء) إذ على ما يبدو عليه حال الجملة الواردة اعلاه، أن الشاعر يلوح نحو نقطة تذويتية لا يحكمها التخصيص في نوعه الأحوالي المحدد، بل انها حلت في صيغة (الاخر - الغائب) إستكمالا للاستجابة في مراسمها التماثلية المتولدة عن جملة إضافات الفضاء النصي (وبينما القمر، قمر الغجر، يلعب ضوءه اللأ لاء) لعل هذه الجملة تلخص لنا في رحاب كون الشاعر ما كان من وراء إحالات قصيدته، إذا انه كان يتقصد هدفا مدلوليا كليا، ولا يخصص من جهة ما محددة لدالا مركزا في محوريته الوظيفية.

- تعليق القراءة:

لعل عنف النص الشعري يتلخص في سبل علاقاته اللفظية والجمالية والدلالية، ولا يمكننا بأي حال من الاحوال اغفال ما لقصيدة لوركا موضع بحثنا، من تعيينات تتناول حمولات ومقادير تم انتقاءها بمقتضيات وظائف علامية تبلغ في مستوى خطابها الشعري أعلى مستويات النفوذ الدلالي والجمالي، دون أن أميل الى دحض ما للشاعر من تجارب شاسعة من الجواهر المدلولية والايحائية والقصديات التي تحددها قصيدته الاكثر سبيلا الى (شعرية الفروق الاحوالية) التي تصارع وتجتهد في مغايرة الاوضاع في دلالات التسمية للأشياء وطقوسها التحقيقية النوعية:

- أيها الصديق

أود لو بادلتك هذا الحصان

ببيتك ومخزن الغلال،

أن أطرح سرجي لقاء مرٱتك الجلواء

وأقايض غمد مديتي بالبساط /.ص13

لعل القارئ الى موجهات وتمركزات المد الدوالي، يكتشف أن في متن النص عدة تقانات ملفوظية وضمائرية، تأخذ دورها في بث اللقطات المدعومة بضمير (المخاطب-جهة الغائب) لتشكل في ذاتها ذاتية المروى، تعليقا في مدار افعال لجوئية، غاية في الكشف عن مدى مأزومية الذات الساردة، فهو اي -الفاعل المتخيل- يلوح لنا عبر دلالات فقدانية راحت تضج بها الدوال، إستكمالا لجدوى حوارية ومقاربة حالات تصورية لا تفارقها رؤى اضمحلال الشخصانية في حكاية اغنيته الغجرية الممنوحة في اوجه موصلات الاكتفاء بنواتية (لاخر- الغائب) بديلا حتميا ونهائيا لفراغ أو عدمية الانكشاف الحضوري الفعلي للأنا الشاعرة:

- أيها الصديق، أتمنى لو أموت

ميتة محترمة في بيتي على سرير

-على سرير من الحديد، أامكن

مغطى بالبياضات، ناصعة، مسواة،

أفلا ترى هذه الطعنة النجلاء

من ضلعي الى حبل الوريد؟.ص13

لا شك أن ٱليات جملة استنزفات الفاعل المتكلم، لا تعرب لنا عن مقدمات قصدية من شأنها الأخذ بزمام الملتبس أو الإشكالي من ظرفيات مناجاة الفاعل نفسه، ولكننا نعاين حزمة إضمارات مرمزة بغلاف اللغة والاستعارة وسائل متخفية من عين منظومة الحال الشعري، فما حقيقة طلاسم لوركا عبر صوت فاعله الشعري هل يود من خلال هذا الصوت الافعالي، التلويح لنا بأن جملة تشكيلات حضوره الٱنوي، هو ما يشكل بذاته الاستمرارية المؤلمة في تجليات الكائن البوهيمي شعريا#؟ وعلى هذا النحو وغيره، جعلت تقودنا سلسلة الافعال المرسلة في مبثوثات المتن، وكأنها حالات تأبينية مخصوصة حول مصرع تلك الصبية الغجرية:

نبئني . أين هي؟ نبئني أيها الصديق

أين تلك الصبية -خير صبايانا؟

كم مرة بقيت منك على انتظار

ما أطول ما انتظرتك، وباتت في رجاء

بوجهها الندى وذوائبها السود./ص15

تمثل إضاءات هذه المقاطع مرحلة انفراجية ما من اسرار واسباب ملحمة القصيدة . فهي بذاتها تشكل ذلك المدى من حوارية (المخاطب لذاته-مونولج) ب(أيها الصديق) تواصلا مع زمن صوتي (الشاعر - الفاعل التصوري) لذا فهي اللحظة الاسترجاعية التي راحت تتداخل بمنطق ٱخر من خارجها وداخلها - اي ان لوركا عبر متنه الشعري، جعل من صوته تفصيلا مدمجا بحساسية المخاطبة لذلك الصديق، في حين ليس هناك من ثوابت راسخة في محكومية كون لهذا الصديق وجودا بالانفراد والارتباط والمؤول، كذلك ما تعكسه ذاكرة الشاعر التي لا تتخطى حدود الوصف في سياق (شعرية الفروق) المكرسة عبر سلسة من الاختلافية والمغايرة بين مقطعية وأخرى من القول الصوري، لذا فيمكننا القول عنها ب(مكابدة مساحة المسميات؟) خلوصا لكون أن القصيدة لا تكشف وظائف الدوال عبر مسمياتها (الذاتية - الاحوالية- المكانية- الزمنية - الظرفية - الغيرية) بل انها تقترح شخصانيات مسمياتية تعاكس حقيقة وهوية التعيينات والمخصوصيات المرادة في استجابة الموضوعة الشعرية:

تترنح جثة الغجرية

جسدها اخضر، والذوائب خضراء

وعيناها التماع من فضة كالجليد.

بهذا المعنى المرمز في خانة مسرحة الدال الشيفراتي، تدفعنا غائيات باطنية الالتحام اللفظي نحو مقاربة ميلودرامية لحكاية (أغنية غجرية) وليس لكونها أغنية، سوى لمحكومها الدلالي ذا الاوضاع التشكيلية في رحاب نسق (الصوت- الإيقاع - ٱفاق الرؤية) المرتبطة بهوية سيرة (الذات - المكان - الزمن - الطقس) وهذه العناصر في مجموعها ممهدة بذلك التوصيف الملازم (خضراء .. خضراء) مخاطبا جانبا من جوانب تجليات الرؤى والاحوال التي يكتنزهما تخصيص مجال أغنيات تفتعلها الذات الساردة في باحة شرفتها وحلمها القصي بعيدا .. بعيدا في أكوان الاحتمالات والخيالات التي تعاين وحدها مصائرية تلك الهيئة الغجرية المميتة في مخزون الذاكرة ومحمولات الدال بالدال تحقيقا حلميا في فضاءات القصيدة العابرة للمخصوص والنوع والزمن كينونة الذات الساردة في غروب شرفتها الخضراء.

***

حيدر عبد الرضا

 

توطئة:  ﻻ شك في أن وظائفية الإشارات وسياقات الإحاﻻت مقرونتان ضمن (هوية النص: الحد الأدنى من الأخبار - الحد الأعلى من المروي إليه بالحكي) وهذه المؤشرات اﻻنفصالية والالتحامية، ﻻ تظهر لنا  بملامح ومستوى الأداء الافعالي السردي إلا في متواليات الفصول الروائية التي تتخذ، إلا من طبيعة تكنيكية خاصية تشغلها ظواهر متفاوتة ومتباينة من حقيقة مستويات النص التوسعية المترابطة عبر منظومة مقاييس خارجة وداخلة في تحوﻻت الزمن والعلاقة الفنية حيال الثابت واللاثبات في مرسلات الحد الأدنى من الاخبار تجردا وخروجا نحو خصائص علائقية حاسمة من (الحد الأدنى) في عواملية (المروي إليه بالحكي) لذا فإن الافتراض الحاسم في وصلات مقومات الحد الإخباري في السرد، هي مقادير ﻻ تحصى من مرجعيات النص نفسه في حدود دائرة ومساحة وصولية ما، فيما تذهب الحدود العلوية من السرد المروى إليه تلفظا ضمن مواقع وسمات دقيقة من مجاﻻت الطابع المروى إلى جملة جهات شخوصية تتأرجح بين (السيرذاتي - المرجع النصي - الرواية) ولذلك جاءتنا متمايزات حيوات المحور الشخوصي مقاربة إلى هوية تعديل خصائص (السيرذاتية=بنية المروى إليه ساردا) وبهذه الإمكانية تتضح لنا خصائص دﻻﻻت رواية (ليون الافريقي) منظورا إليها على أنها (سيرة ذاتية - الزمن - المكان - الشخصية) صعودا نحو فرز النوازع المتعلقة بالهوية ومدى الفهم لهذه النوازع في اشد ظروفها اﻻستثنائية المتصلة بحركية الأنا التأليفية في الرواية .

- الحبكة الترحالية وقضوية الاحوال المحققة

إن طبيعة الإشكالية في حدوثات الخطاب الروائي في رواية (ليون الافريقي) تتجاوز مرجعيات عديدة في واقع الخاصية السياقية للمرجع النصي نفسه، لذا تواجهنا تعارضات وتوقفات ﻻ يمكن قبولها إﻻ في مستوى (رؤية المنظور المغاير) للمظهر المرجعي في حيثيات أسلوب تصوير وتوصيف الشخوص والمحددات الزمنية والمكانية الحادثة في مبثوث صوت المروى  إليه ساردا . غير أننا وبعد مراحل مرويات عديدة من زمن اسفار المحور الشخوصي، ﻻحظنا أن المؤلف معلوف راح يختلق حدودا تطابقية تستأثر من زمن (الرائي) تأسيسا جماليا اخاذا في مروية الأكثر تشخيصا ونوعية  حدود السياق المتعين في المدونة التأريخية، وتجدر اﻻشارة هنا، إلى أن مروي (المؤلف - الرائي = الراوي) يقع في عملية خاصة من (المروي - المرهون - سردا) لذا يبقى التصنيف الاستثنائي للراوي كهيئة شهودية تتعدى مفارقة القيمة الحاصلة من (رؤية = رائي) امتدادا نحو عمق صيغتين للراو في غاية الدقة والمحكومية، الصيغة الأولى (الأدنى من الأخبار) والصيغة الثانية (الحد من الأعلى من المروي إليه بالحكي) أي كما أن الأمر لو كان مقتضى قولنا (الراوي = الشاهد = صوغ مكونات = مروية) وعلى هذا النحو يمكننا إستعادة مقصودية قولنا السابق ب (الرائي) ذلك لكون المحور عبر مراحله وعقوده العمرية الصغرى،كان ذا يرى ويروي في حدود كمن يشاهد حلما في حالة نوم، وعلى هذا صرنا في مباحثنا الجديدة نطلق عليه تسمية (الراوي = الشاهد) كحال هذه الوحدات من النص نفسه:  (وهكذا وجدتني فجأة معهودا إلي بسفارة - انا الذي لم يكن قد اتم أعوامه السبعة عشر ./ ص209 الرواية) فلو افترضنا جزما من جهة ما بأن مغزى التقييد بالزمن محكوما بالحكي كحالة تتابعية لحادثة وحدوثا، فما الجدوى من الاجزاء العلوية من مستهل كل فصل التي يحدد بها مدى التحوﻻت في زمن وقائع التاريخ ومعالجات الأوضاع في الرواية،فهل يمكن قراءة هذه المحددات من ناحية كيفية تم ادماجها في البنية السردية اللاحقة من التفعيل وعوامل المواضع المحكية كمرويات أدائية محققة من السارد والشاهد معا؟.

1- التمايزات بين خطاب شخصية وووقفات السارد الشهودي:

يتأسس المستوى السردي في رواية (ليون الافريقي) عبر تقانات عديدة، أولها تقنية اﻻسترجاع على لسان السارد المشارك - كلي المعرفة - يعود السرد  في فصل (عام تومبكتو) على حدود استرجاعية تتشكل -رويا- يتسق ومتعلقات العروج إلى: (طبلبالة الواقعة في قلب الصحراء نميدية على بعد ثلاثمئة ميل من الاطلس ومئتي ميل جنوبي سجلماسة./ص208 الرواية) وتخبرنا الرواية على حال لسان الشخصية ليون،كونها بقعة صحراوية شحيحة المياه والصيد . وتبرز عناية المؤلف الضمني بصوته اﻻسترجاعي للتبئير الداخلي، ذلك عروجا بالقدر الذي يريده المؤلف من حاﻻت استرجاعية لغرناطة، وكيفية تعلق طرح الموضوع كفكرة غير بعيدة من حاﻻت استباقية تتعلق بحياة شخصية الخال: (منذ العشية الأولى شرع خالي يحدثني عن غرناطة، قليلاً كما فعل أبي قبل بضع سنوات، وربما كان لمرض أحدهما ووهن الآخر الأثر نفسه./208 الرواية) لربما هذه الوحدات جاءت بمعنى (استباقي = استرجاعي) فيما يتأكد من خلالها ذلك المعنى الخاص من الالتفاتة المرتبطة ب(التبئير الشخصي - تداعيات رؤية -- علامة تنصيص) فعندما ينهض الاسترجاع في حدود ذكر تعلقات حقيقة ماضوية، ﻻ بد من أن هناك واصلة تستبق (موضع التبئير = موضع مبأر) عوضا عن ذلك هناك ممكنات خاصة تشيع بحصول نقطة التحول المكاني:  (وإذ وصلت إلى المدينة وأسمها -- اورزازات -  على ما أظن قيل أن السيد يصطاد السبع في الجبال المجاورة، وأنه أصدر التعليمات بأن انظم إليه. / ص209 الرواية).

- تعليق القراءة: 

إن عملية الاحتكام إلى الميثاق الروائي في عقود وحقب واسعة الامتداد لرواية (ليون الافريقي) ﻻ تعتمد بذلك القصد المرجعي ككتابة سيرة رواية تاريخية،بقدر ما راحت تحتكلم على مستحدثات الحكاية الروائية المشيدة على تمظهرات اشكال خطابية مستأثرة بلغات دﻻﻻت الشخوص والفضاءات والأزمنة، ولو أردنا تغطية كاملة للرواية،لما وجدنا غير تلك التمثيلات الكفيلةالتي تتشخص منها مسارات التشكل المرجعي - الحكائي، وانعراجاتها ضمن واصلات عبورية في الزمن والحقب التأريخية الواسعة الامتداد، خلوصا إلى اظهار مأزومية واقع الهوية الشخوصية لدى المحور الشخوصي، كما وتبقى مجمل اﻻحداث الروائية عبارة عن محموﻻت سياقية تتجه نحو خلق جدلية علائقية حادقة بين الفعل  الروائي والكينونة التأريخية الأكثر تأويلا في مشغل استراتيجية الكتابة الروائية.

***

حيدر عبد الرضا – كاتب وناقد عراقي

 

يعتبر (أفرانيو بيكسوتو) (1876 – 1947)  من أبرز رواد شعر الهايكو البرازيلي (طبيب وأكاديمي وكاتب وروائي وشاعر)، ويعزى له الفضل الكبير في إدخال شعر الهايكو إلى البرازيل الذي لم يكن معروفا في هذا البلد على نحو كاف قبل عام 1919، وهو العام الذي نشر فيه (أفرانيو) مجموعة شعرية متكونة من (1000) قصيدة رباعية وهايكو. علما كان قد زار قبلها عدة دول أوروبية خلال الفترة 1904 – 1906 لإكتساب المعرفة والاطلاع على الثقافات المختلفة. وهذا ما ذهب اليه الكاتب وشاعر الهايكو البرازيلي (خورخي فونسيكا جونيور) (1912 – 1985). نشر (أفرانيو) أكثر من (30) كتابا، منها (روزا ميستيكا 1900 وترفاس برازيليراس 1919 وهيستوريا دا ليتراتورا برازيليرا 1930 وميسانجاس 1931). وهو مؤسس (الاكاديمية البرازيلية لفقه اللغة)، وكان عضوا في الاكاديمية البرازيلية للآداب. 

 وكانت قد صدرت عدة كتب عن اليابان والثقافة اليابانية قبل هذا التاريخ، مثل (من فرنسا إلى اليابان 1879) ل (فرانسيسكو أنطونيو دي ألميدا) و(في اليابان، بعيدا الشرق – اليابان، رسائل يابانية، مذكرات قنصل في اليابان) ل (أوليفيرا ليما ولويز غيماريش فيلهو ومانويل جاسينتو فيريرا دا كونتا) وغيرهم، مثل (وينسيسلاو دي مورايس) (1854 – 1929) الذي الف عدة كتب قيمة عن الثقافة اليابانية، وبالانكليزية والبرازيلية، وقد أشاد به (والدوميرو سيكويرا جونيور) في كتابه (420 قصيدة هايكو) الصادر في عام 1981. أما طالب الطب البرازيلي (بول لويس كوتشود) (1879 – 1959) فقد سافر إلى اليابان في عام 1904 لدراسة اللغة والادب، وعند عودته إلى البرازيل في عام 1905 نشر كتابا بعنوان (على إمتداد طريق المياه) الذي تضمن ترجمة ل (72) قصيدة يابانية.                                                                        

وهنا لابد من الإشارة إلى موجة الهجرة للأشخاص من اليابان إلى البرازيل في بداية القرن العشرين، ووصول السفينة المسماة (كاساتو مارو) إلى ميناء (سانتوس) الواقع في ولاية (ساو باولو) البرازيلية بتاريخ 18 حزيران 1908، وعلى متنها (781) مهاجرا متعاقدا، بعد (50) يوما من الإبحار، وقطع مسافة (12) الف ميل بحري تقريبا. وعليه أعتبرت هذه السفينة رمزا للجالية اليابانية في البرازيل. وكان من بين هؤلاء شاعر الهايكو الياباني (أويتسوها شوهي – هيوكوتسو) (1876 – 1935) صاحب أول هايكو ياباني يتم تأليفه في البرازيل بحسب بعض المصادر. ثم برز أيضا (إيشيرو كيمورا – كيسيكي) (1867 – 1938) و(كينجيرو ساتو – نينبوكو) (1898 – 1979) وكان لهما التأثير الكبير في نشر الهايكو الياباني في البرازيل. أما (كيمورا كيسيكي) و(إيوانامي كيكوجي) فقد أصدرا في البرازيل (أوكابو 1931) المجلة الأولى المعنية بنشر الهايكو والتانكا، وكان ذلك بتشجيع ورعاية من (نينبوكو).                                                                                             

أما هيلينا كولودي (1912 – 2004) فهي أول شاعرة هايكو برازيلية. درست الرسم والموسيقى. عملت في التعليم. تعرضت في البداية إلى نقد شديد لإفتقار قصائدها إلى القافية وغيره. كتبت الشعر وهي في سن ال 12، ونشرت أول قصيدة لها بعد أربع سنوات. نشرت مجموعة هايكو تحت عنوان (كانتيكو) عام 1941، ثم (15) كتابا في مختلف الفنون الأدبية. إرتبطت بعلاقة صداقة وطيدة مع الكاتب والشاعر (كارلوس دروموند دي أندرادي) (1902 – 1987) الذي يعتبره بعض النقاد أعظم شاعر برازيلي على الاطلاق، ومع الشاعرو الصحفي والكاتب والروائي والناقد  (باولو ليمينسكي فيلهو) (1944 – 1989)، وكان من عشاق الهايكو. منحت عدة جوائز وأوسمة. منحتها الجالية اليابانية في (كوريتيبا) في عام 1993 لقب (ريكا – عطر الشعر). منحت شهادة الدكتوراه الفخرية من جامعة (بارانا الفيدرالية) 2003. تم إستحداث (مسابقة هيلينا كولودي الشعرية الوطنية) في عام 1988 تكريما لها. انتخبت رئيسة لأكاديمية باراناينسي للآداب في عام 1991. من مؤلفاتها (السمفونية اللامنتهية، لوز لا ينتهي، رحلة في المرآة، قصائد الحب المستحيل، ظل النهر وقصائد مختارة).                                                                                

نماذج من الهايكو البرازيلي (مترجمة عن الإنكليزية):

1

– فانيس زيمرمان

رياح صيفية –

ثمة كتاب هايكو

ملقى بين الركام

*

جد ياباني

جالس على مقعد الجنينة –

نظرة مبهمة...

*

صورة عتيقة –

ابتسامة الجد

على وجه الحفيد

*

نذير الشتاء -

ثمة ثلاث أوراق

على غصن شجرة الكرز

2

– موريسيو دي أوليفيرا

صباح ربيعي –

زوجان من الطيور

يتبادلان القبل بالمنقار

3

– رينيو دو أمارال بيرني

ينظر المزارع إلى السماء

و يده مطوية

ناشدا المطر

4

– ساندرا لوريتا

ثمة دفء وشمس وبحر

في الأراضي البرازيلية

الأيام المطيرة

5

– سيرجيو ميلاميتو

مرآة وأنا...

هناك صبي

يحدق في وجه رجل عجوز

6

– روزا كليمنت

يعثر الكلب السائب

على سيارة تسير

ليطاردها

*

نافذة القطار

يجري الجدار الحجري

للنفق

*

ليلة عاصفة

تعود مظلتي للبيت

قبلي

*

تأليف قصيدة هايكو

ريح مفاجئة

تصفق الباب

(الجائزة الأولى في مسابقة فلاديمير ديفيدي للهايكو 2018)

7

– فيفيان سي موراليتي

صعود ونزول

لأنثى طائر الرفراف

فراخ بحاجة للطعام

8

– جوليو أفرانيو بيكسوتو

يغني الطائر المحاكي نفس الاغنية*

مرارا وتكرارا:

لا يتعب هذا الجميل

*

طائرة

تبحث عن الوقود

آه ! ما هي إلا بعوضة

*

بتلة الزنبق هذه

تروم أن تدير لي ظهرها

دوما

***

بنيامين يوخنا دانيال

..................

* الطائر المحاكي: أو الطائر المقلد. طائر يقلد أصوات مختلف الطيور وبعض الحشرات والبرمائيات. منه 17 نوعا، مثل سوكورو والغالاباغوس وسان كريستوبال.

1 – Brazil، Afranio Peixoto. https: // livinghaikuanthology. com

2 – In the Origins of Brazilian Haiku – Guilherme de Almeida. https: // papers. iafor. org

3 – Rosa Clement، A History of Brazilian haiku. https: // www. thehaikufoundation. org

4 – Haiku in languages other than Japanese. https: // en. wikiperdia. org

 5 – The results pf the 3rd haiku contest on theme Gourds – Tri rijeke. https: // tri – rijeke – haiku. hr

6 – European Kukai – Rssing. com. https: // kukai2. rssing. com

7 – Masayuki Fukasawa، Takahama Kyoshi and immigrant Sato Nenpaku. https: // discivernikkei. org

8 – Columns ‘ The Ship Kasato – maru، 100 years of Japanese … . https: // www. ndi. go. jp

9 – The IAFOR Vladimir Devide Haiku Aword 2018. https: // iaforhaikuaward. org

10 – Columns ‘ Japanese emigrants to Brazil and haiku. https: // www. ndi. go. jp

قدمت الناقدة الجزائرية والأستاذة بجامعة سوق أهراس أ. د. سليمة لوكام للساحة النقدية العربية والجزائرية على وجه الخصوص العديد من المؤلفات المهمة منها: تلقي السرديات في النقد الغاربي، سيرة النبي محمد صلى الله عليه وسلم في كتابات الفرنكوفونيين العرب، الآخر في الثقافة والأدب حضور واستحضار، متون وهوامش، وآخرها كتاب "سرد ونقد"، وكتاب :كتابة الرواية الجزائرية باللغة العربية والفرنسية" ..

في كتابها الصادر عن دار سحر للنشر، قدمت الباحثة دراسات مختلفة في السرد والنقد، وقد حاولت أن أجد الخيط الرابط بينها رغم أنها تركت عنوانه على إطلاقيته معبرا عن تجاوزه وعدم خضوعه للاتحديد ربما من أجل الخروج من مأزق التصنيف والتوصيف، أو من أجل تحفيز المتلقي لدخول عوالمها القائمة على التعدد وكأنها تخاطب العقول قبل الأذواق، وترفض أن ينغلق الباحث على تخصص بعينه، لذلك تدعوه لأن يخوض مغامرة النبش في كل الخطابات على تغايرها واختلافها ..، وهذا ما يصنع مع جملة مزايا فرادته وتمايزه..، بل حتى ورود اللفظتين في صيغة إنكار ـ دون ألف التعريف ـ يشي بالاحتمالية ويغامر بالسؤال عن المبتغى :أي سرد؟ وأي نقد؟، تحفيزا للقارئ حتى يعيش مغامرة القراءة، وبصيغة أخرى، ينطلق من سؤال مضمر :كيف تحيا قارئا؟أو كيف تؤسس لدهشة القراءة ورحلة التأويل؟.

فعن قراءة النصوص السردية أشارت في مقدمة كتابها أن بعض النقاد حينما استعاروا المناهج، أخذوا منها ما أعانهم على قراءتها، والكشف عن دلالاتها المغيبة، بينما أغرق البعض في النزعة المدرسية التي تعول على تطبيق القواعد، وتبرر ذلك بقولها:"ليصل الجميع إلى النتيجة نفسها التي تقيم الدليل على نجاح النظرية، فكان أن ماخلصت إليه تلك الدراسات أشبه بالقوالب الجاهزة المفرغة من المتعة التي نستمرئها عند مطالعاتنا للقراءات النقدية التي تنبري لفتح النصوص لا إغلاقها، وتحسس ملامح شعريتها لا تكليسها"ص6.

وكأنها هنا تركز على العلاقة الحميمية بين النص وقارئه، وتتجاوز المناهج بعدتها الإجرائية الصارمة، التي لا تجد فيها مايحقق المتعة ولا ما يستكشف أسرار النص، لذلك تطالب بنوع من الحوارية التي تنفتح على المتعدد وترفض الوصاية النقدية أو الفكرية ..، ولربما لون العنوان يحمل دلالة الحميمية، وتقديم اسم الناقدة عليه بخلاف ما عهدناه يشرعنها ويؤكد مركزية القارئ، رغم أني أجدها أحيانا تحاول مغالبة تخصصها الدقيق فيغالبها حينما تستخدم بعض المصطلحات النخبوية المتعلقة بالسرد وإجراءاته في قراءة بعض النصوص.

موضوعات متعددة تناولها الكتاب :نماذج عن الخطاب الاستشراقي، رواية المرأة في الألفية الثالثة، سرد الآخر، المنجز السردي والنقدي الفلسطيني، سرد الخيال العلمي ونقده...

تبدو النبرة الاحتجاجية والاعتراضية في خطاباتها النقدية لكنها ترتكز على العقلانية التي لا تخرج بها إلى دائرة الانفعال، وإنما تسمها بالهدوء والموضوعية وتبرئها من التحيز، نورد مثالا عن ذلك فيما كتبته في صيغة اعتراض عن رواية الخيال العلمي، إذ يلخص الاقتباس الذي سنورده رؤيتها التي تتحفظ على ارتياد عوالم إبداعية لم يحن وقتها بعد في ظل هذا الراهن الموبوء فقط بدافع الاستعارة واللهاث وراء المنجز الغيري في محاولة للحاق به وإن على المستوى الإبداعي فقط :"وقد جرت هذه الخصيصة الرواية لأن تطأ مواطن قصية، أو خروجها من دائرة ما تتعاطاه من تيمات تتناغم مع المعطيات الفكرية والحضارية والثقافية القائمة أو الممكنة، إلى فضاءات تبدو أنها غير مؤهلة بعد لاحتواء محكيات روائية تمعن في التحليق بعيدا عما يمكن أن يشغل، حقيقة روائيا عربيا في ظل سياقات خاصة تؤطر رؤيته للعالم والأشياء، وأيضا ما يحتمل أن يشكل أفق انتظار القارئ العربي"ص133.

فمثلا عن الاستشراق وتحت عنوان "الرواية العربية استشراق ونقد " قسمته إلى عنوانين:رؤية استشراقية فرنسية للرواية العربية:بين جاك بيرك وأندريه ميكال ـ رواية المرأة العربية في الألفية الثالثة:تثبيت حضور أم تأسيس لاختلاف.

ففي: رؤية استشراقية فرنسية للرواية العربية:بين جاك بيرك وأندريه ميكال" أرادت أن تفكك خطاب الاستشراق المعاصر وان تكشف عن تناقضاته ومضمراته،

لقد ركزت الناقدة على جاك بيرك الذي وجدت أنه رفض مسمى المستشرق مفضلا عليه اسم المعرب، لأن الأول ذو حمولة إيديولوجية تؤكد المركزية الأوروبية، هذا ويفضل أنه يعرف نفسه بأنه "عابر الضفتين"، وقد ذكرني ذلك بمقال كان قد كتبه عبد الكريم الخطيبي عام 1976 عن هذا المستشرق الذي كان موظفا ساميا للاستعمار بعنوان"الاستشراق الضال عن السبيل" وقتها كانت المغرب تعيش الكثير من الأحداث منها محاولة تصفية الاستعمار وبناء الهوية ..، وهذا المقال يمكن إدراجه تحت ما يسمى النقد المزدوج، حيث يفترض نبل هدف الاستشراق والمتمثل في إقامة علاقة بين الشرق والغرب قائمة على قوانين الضيافة، لذلك فهو يبرئه من تهمة أنه وريث الإيديولوجيا الكولونيالية بل يعتبره، على العكس من ذلك، "منظرًا" لتصفية الاستعمار أكثر خطرًا من فرانز فانون..

رغم ذلك نجد الأستاذة لوكام لا تطمئن للجاهز وإنما تبحث في مضمرات خطابه، حيث تتبدى نية مغايرة لما يظهره نصه، ففي مقدمته لترجمة دراسة ندى طوميش حول الرواية عاد إلى الفترة الهيلينية والقبطية وفي الفترة الإسلامية اكتفى بالحديث عن المذهب الشافعي والفترة المملوكية، ترتاب الباحثة في نصوصه، حيث تورد مقتطفا من حديثه حينما قال:"إلى زمن قريب منا، زمن اللقيا المتوسطية فيما بين الحربين، التي تدين بطبيعتها وبطاقتها المرجعية إلى ثقافات قارتين أو ثلاث قارات في آن واحد"ص16، لذا تتساءل عن سبب عودته إلى تاريخ مصر القديم رغم أن المؤلفة لم تتحدث عنه وإنما بدأت دراستها من عصر النهضة.

لقد خلصت الباحثة إلى ميل المستشرق إلى فكرة الالتقاء والتقاطع أو "مكان التلاقي" بعد الغياب، إذ تجد أن ذلك يجعل منه مستشرقا لا يقرأ الحاضر أو يعنى بالماضي القريب فقط وإنما ينبش في التاريخ باحثا عن المرجعيات، ويعود إلى الأصول، حيث أدرك أن هناك ارتباط بين ثقافة العالم العربي الإسلامي والماضي القريب والبعيد، وتقول بخصوص ميله الواضح عن هدف الدراسة الأصلية :"كنا ننتظر بعد ذلك أن يمضي بيرك للحديث عن هذا الإبداع الأدبي النثري، لكننا ألفناه ينصرف إلى إضاءة تاريخية اجتماعية لا تدعو للاستغراب بقدر ما تحفز على الرغبة في تقصي أنحاء النظر في هذه الرؤية الخاصة"17.

انشغلت الناقدة بنقد العديد من الأفكار الاستشراقية التي نقلها النقاد العرب فيما بعد وعوملت على أساس أنها من البديهيات، فالانتقاء واضح والتحيز للغرب واضح في خطاب بيرك، الذي اعتبر النهضة هي التي جلبت الحركية إلى مصر ومعها رجال الثقافة والمعرفة، حيث اعتبر حديث عيسى بن هشام أولى ثمرات هذا التلاقح، وفي ذلك حسب الباحثة إغفال لدور البعثات المصرية إلى أوربا وخاصة فرنسا.إذ تم التركيز على الطرح السوسيولوجي التاريخي، تقول:"ارتكزت قراءة بيرك على مايصنع الأدب، والجنس الأدبي، أكثر من الجنس الأدبي نفسه، فلم يجرؤ على التطرق لإرهاصات الرواية، أو كيف تشكل جنس الرواية مالم يقدم السياقات التاريخية التي أحاطت والعوامل السياسية التي أسعفت..".

وتؤكد على انتقائيته وتحيزه من خلال بعض المقاطع التي تبدي تنكرا واضحا لأن تكون الرواية العربية المعاصرة امتدادا للتراث أي للمحكيات العربية القديمة .

أما عن أندريه ميكيل بينت أنه في مقاله "الرواية العربية المعاصرة" "حاول فيه أن يربط بين الرواية والحداثة، والرواية والشرط التاريخي، والرواية والتراث الحكائي العربي، أو ما يسميه التقاليد"ص22.بعد رصد نقاط التقاطع بين المستشرقين تنتهي الناقدة إلى أن هناك نقطة اختلاف بينهما في تعاطيهما مع الأدب العربي، إذ تجد أن كلام ميكال فيه من الوصاية والتعالي المركزي الأوروبي الذي يبتعد به عن الموضوعية ويعمق من الهوة بينه وبين الشرق، تقول:"ويشير الى حضور المؤثرات الأجنبية بعيدا عن الرؤية الاستشرافية الممعنة في التعالي، بل إننا على العكس من ذلك نجد نوعا من الحنين إلى تاريخ هذا الشرق الذي ولد بين أحضانه، ورأى النور على أرضه"ص24.

لكن بعد قراءتي لهذا النبش وجدتني أتساءل :إن كان المستشرقان قد سقطا في الفخ ذاته، وهو فخ التحيز، ولم يستطيعا التحرر من مرجعياتهما في قراءة التراث والأدب العربي الحديث والمعاصر، فلماذا تنتصر الأستاذة للأول وقد وقفت على الكثير من المضمرات التي تدل على إظهاره عكس ما يخفيه ؟هل فعلا كان الأول أكثر موضوعية وتحررا من المركزية الغربية كما تقول ؟، قرأت مقالا بعنوان حديث المستشرق الفرنسي للدكتور أحمد شتيوي يقول فيه أنه تظاهر فقط بالدفاع عن النص القرآني والتراثي، في حين يذهب البعض إلى اعتباره مجرد محب للعرب وليس مستشرقا، وبين الرأيين يظل الرهان قائما على القراءة والنبش عميقا.

في دراستها"رواية المرأة العربية في الألفية الثالثة ـ تثبيت حضور أم تأسيس لاختلاف؟

اعتمدت على تحقيب يتمثل في:الألفية الثالثة والروائيات المخضرمات "من كتبن بين نهايات القرن الماضي والألفية الثالثة" ـ الألفية الثالثة والروائيات النسويات ـ الألفية الثالثة وروائيات الأكثر مبيعا، وجدته تحقيبا بارعا ينم عن وعي نقدي، عن المثال الأخير تجد أن رواياتها لا تتميز بكثافة المعنى ولا بغزارة الرمز، فهي تركز على الحكي لذلك لا تهم غير الشباب لأنها تهتم بالتجارب العاطفية والإنسانية، تتميز بعناوين مغرية، تهتم كاتباته بأن تكون رواياتهن أكثر مبيعا فقط، وبعدد طبعاتها، كروايات خولة حمدي ...، ورغم أني أتفق معها إلى حد بعيد لكن أجدني أتحفظ على هذا الرأي حينما يتعلق الأمر ببعض رواياتها مثل :غربة الياسمين التي انشغلت فيها بقضايا المرأة ..، إضافة إلى قضايا المغتربين العرب... ورواية أين المفر التي نجد فيها تمثيلات للربيع العربي ..

ما وددت قوله في الأخير أن ما وجدته في قراءة الأستاذة عقلانية هادئة بعيدا عن الجزم واليقينية والنزعة الوثوقية، وكأن بها تنتصر لحوار معرفي بعيدا عن أحادية التفكير، فهي لا ترغب في أن تقنع القارئ أو تمارس عليه الوصاية بقدر ماتريد أن تشرع له أبواب التأويل وتحفزه على الاختلاف والاستنطاق، ولربما لون غلاف الكتاب ينزع إلى هذا التوصيف، فالأزرق السماوي في علم النفس يدل على الهدوء أثناء تقديم القراءة، وهو ماتفضله قناعة وممارسة.

***

بقلم: د. غزلان هاشمي

خمس لوحات مرسومةٍ بالكلمات، تستثمرها القراءة - لخلق مجاورات لتلك النصوص. إذ صممها الشّاعر موفق السّواد - وهو رسامُ آثار يستلهم شعريته كثيراً من ذلك الفن. فأبرز مايولع به تحويل أساطير اليوميّ والمعاش، الى إبتكارات على البياض.... تتمركز فكرة الحنين عندهُ ومهما حلقَ بخياله وأبتعد عنها - يعودُ متواصلاً مع ذلك الشّغف.

مروراً بـ(رفحاء) عندما كتبَ رواية عن لوعة الرمل... حطَّ به الرحال في أرض المنخفضات بلاد (إسبينوزا) -كان ذلك قبل سنوات، ولأنَّ المنفى يمنح الغربة بالمجان - إنطبع ماهو غريب وسرياليّ في مخيلته. التمرد عنده قليل الفوضى وخفيض الصوت، أي أنّه يُهندم العنف بالهمس.... شاعر تفاصيل لكنّه يأخذها الى العام إذ يطرزها بالحنين الجارف - فكلّ تمركز في الخاص، يحرمُ التهويم في العوالم. يتوضح التحويل عنده هكذا: نقل الحسيّ المنسجم الى فنطازيّ مشوش.... يعتمد موفق دائماً على إستحداث فكرة يُلبسها لغة مأنوسة - غير فضفاضة بفضائل الحذف بعيدة عن التجريد... ما معناه أنّ قصيدته متفكرة تعتمد على التغريب والفنطازيا - وشعريته ترجمة عذبة عن طفولة عاشت أحلام الماء، في الجنوب الرافدينيّ ذلك العتيد الذي زرع أقداره على الضفاف.

يكتب السّواد باللغة الهولنديّة وله حضورٌ مميز - فشعره مصنف في إنطولوجيات تلك اللغة، وله كتاب وحيد في العربيّة عنوانه (أسرة الفتنة)... لاتميل قصيدته الى الهايكو، لامن قريب ولابعيد - بينما يمكن العثور في فضائها، على شذرات ثرية.... أما السّرد فمقطعٌ وخاضع لمشيئة المونتاج. في اللوحات الخمس التي إخترتها - الزمان جسدٌ مُعنّى يدون أوجاعه في المنفى، أما المكان فهو استلهام المشّرق بمكنوناته الباذخة - أليس الشّرق (مهد البشريّة)؟

1- حَيرة الكرسيّ:

تُمحى الكثير من التفاصيل - بعد أنْ يتحوّل الكرسيّ الى عاشق مُتلبّك، لجلوسها على أضلاعه.... يرسمُ شاعرنا بورتريت الجلوس والارتباك، نظرة مصوبة الى الخشب المرتعش - عندما يسيحُ الجسد بأقمار على محنته، أما الناظر فهو أسير الخيزران.

من زاوية الإيكولوجيا (أعني النقد البيئي)، فالإحصاء هكذا: (الخيزران الصُّلب - نعومة ثملة- أفق يتلاشى - عتمتها البيضاء تتآخى في ودَ مفتوح).

شاهدة الشّعريّ في النص: (أنا الذي أحملُ قلباً أعزل).

[ يَظهرُ الخيزرانُ الصُّلب وهو يتطامنُ تحتها - نعومةٌ ثَملةٌ وهي حينما تتقدمُ الى الأمام أو تتراجعُ الى الوراء - يَفسحُ في المجال لأفقٍ تتلاشى فيه الأبعاد وتزول - عتمتها البيضاء تتآخى في ودّ مفتوح مع إهابِ الخيزران القمريّ أحياناً --- يذهبُ الخيزران الى محاقهِ مبكراً - فيما يكشفُ الجسدُ عن أقمارهِ الخبيئة - أبقى أنا الذي أحملُ قلباً أعزل أسيرَ الخيزران الصّلب ونعومتهِ الثّملة]

2 – مَظانّ:

أكثر من غيبةٍ صغرى يُخطفُ الغائب قلوبنا، بغيبات متقطعة في اليوم الواحد. الشّاعر يترقبُ ظهور طائر قرب النافذة - تلك مشهديّة النص، ربّما الغائب هو طائرٌ لايسمعُ إصطفاق جناحيه- هنا فعل الرّيح المرعب في إلتهام الإصطفاق والتغاريد.

الإيكولوجيا: (المخلّص - الرّيح- الطّائر - النافذة - التغريدات).

الشّذرة: (الرّيح دائماً تلتهمُ تغاريده).

شاهدة الشّعريّ في النص: (ثمة طائر يغالبُ الرّيح قبالة نافذتي).

[انا هنا أنتظرُ شيئاً غائماً وغير مؤكد - يبدو كثيفاً في الإيحاء بأنّهُ غير موجود وقائم مثل مؤمنٍ تسكنهُ فكرة عودةِ المخلّص من مَظانّ غيابه. وما يجمعني بذاك المؤمن هو الرهانُ على أنَّ الغائبَ سيعودُ من غيبته - ولكنْ مايباعدني عنه هو الوضوحُ واليقين لديه ونقيضُ ذلك ماعندي - ثمة طائرٌ يغالبُ الرّيح قبالة نافذتي - وأنا أنظرُ اليّه بلا إكتراث إصطفاقُ جناحيه لايُسمع الرّيح الرّيح دائماً ماتلتهمُ تغاريده  وإصطفاق جناحيه].

3 - قصيدة المنزل:

الإيكولوجيا تملّأ الفضاء: (الأشياء - يديّ - فناء البيت - اللّمعان - الجسد - باحة هادئة - كرات ملوّنة - أغنية طيعة).

مايجعل النص متحركاً هو تأثير الأفعال: (أمدّدُ الأشياء - أريدُ له باحة - تتقافز تحت قدميه - يجلسُ هناك)... لاستمرار سريان الإيقاع تم تكرار لازمة الفعل (أريدُ) ثلاث مرات.

الفكرةُ أنَّ الجسد يعود طفلاً - فالراوي يقوم بتلقينه بعض الحيل، كي يبعده عن فداحة العدم - فالهدفُ إعادة ترتيب الأشياء.

الشّذرة: (أمدّدُ الأشياء بين يديّ في فناء البيت).

شاهدة الشّعريٌ في النص: (حين يجلس هناك في العدم).

[أريدُ ببساطةٍ مفرطة أنْ أمدّد الأشياء بين يدي - في فناء البيت - كي أعرف سبب لمعانها

أريدُ لهذا الجسد الممسك بظلالهِ أنْ يعاود شهيقه في الإختصار والتلاشي أريدُ له باحة هادئة وكرات ملوّنة

تتقافزُ تحت قدميه واغنية طيّعة حين يجلسُ هناك بعيداً بعيداً في العدم ويعيدُ سيرتهُ الأولى  في التهجّي وطرق اللعثمة].

4 – خُدعة:

الخِداعُ حربٌ طاحنة رداً على تجهم النظرة - عندما يصنعُ المتوّجس حصانه الخشبيّ - حَصيلةٌ مرّة تتسبب بكارثة على الفور.

ماذا نتأمّل من وقفة المتجهم - بينما لاتنقشع غيماته الدّاكنة عن نجمته الأثيرة. (سيدة السّطوع تلك النجمة الزرقاء تدعى بالشّاردة Blue Straggler) ---- نص الخُدعة يستعرض أمامنا الشّكوك والأوهام -تتناهبه الهواجس لتقدمه فريسة لحرب وهمية - يقول عبد اللّطيف اللعبيّ: (الشّاعر جاسوس المشاعر)

يمكن تثبيت عناصر الطبيعة حسب السّياق لتلافي التكرار - وأهمها: (نجمتيّ الزرقاء - حصان خشبيّ - طروادة).

الشّذرة: (لا أمل في إلتفاتة عابثة منك).

شاهدة الشّعريّ في النص: (ثمة طروادة دائماً).

[في اللحظة التي ظننتُ فيها أنْ لا أمل في التفاتة عابثة منك الى هذا الكائن  الأكثر هشاشة وتقصفاً  أذ إنتظرتُ وإنتظرتُ وإنتظرت دون أنْ تكشف غيومك عن نجمتيّ الزرقاء  قررتُ أنْ أصنع حصاني أنا الآخر  كما فعل الأثينيون فثمة طروادة دائماً]

5 - في لوحةِ پول كلي:

معظم لوحات السّواد تميل الى البياض - لأنّها بقايا الأثر في الجدران. اما عن (پول كلي) فهو رسامٌ مفكر مولعٌ بأجواء الشّرق..... النّص تجاور الشّعري مع حقل الرسم - ما ابتكره الشّاعر ترجمة عن لوحته المفترضة - التي رسمها في خياله تحت تأثير عوالم (كلي) - أي أنَّ موفقاً هو من رسم السّلك الفضيّ وليس الأخر.

مفردات البيئة: (سلالم عالية - سلك فضيّ - رجل واقف - المثلثات الصفراء - الظّلال البعيدة).

الشّذرة: (يمشي على دهشة السّؤال)

شاهدة الشعريّ في النص: (صوته الذي يأتي مغموراً في السّكون)

[سلالم عالية  وآلةٌ فادحة تهرسُ الضّوء رجلٌ يقفُ الى جوارها يصنعُ سلكاً فضيّاً  ويمشي على دهشةِ السؤال

الدوائر الخافتة التي تظهر في الظّلال البعيدة  هي صوتهُ الذي يأتي  مغموراً بالسّكون]

6- في تجربة الشّاعر المبتكر - أعني عالمه الخاص

- هناك مستويات في شعره - ليست مُزاحة كلّها وقوية لكنّها مهمة كجسور لعمارة النص... تحدث الفسفرة في النص المتحرك متمثلة بفنّ (الإيبيغرام) - توهج البيت الواحد قد نسمي الطاقة المشعة تلك: (الإنزياح الماكر) - اذ يتحقق ذلك بفعالية البيت الممغنط (يمشي على دهشة السّؤال).

يمشي فعل حسيّ وشائع - دهشة مجردة أما دهشة السّؤال فأكثر تجريدا - معنى هذا أنَّ الحسيّ يسيرُ على سكة التجريد - وهو ابتكار خاص وغريب.

مايزال الحنين يرسم معظم الفضاء الشّعري - حتى لو جرفنا الى أحياز سرياليّة - من قامت بذلك تعبيريّة أخّاذة كافية ومقنعة --- لا أدري هذه الألعاب جاءت من تأمّلات قارئ - لا يضع الشّروط النقديّة حاجزاً في طريقه - في حرارة السّعي لا أحد يجزم متى سنصلُ الى النّبع؟

***

عادل مردان

بقلم: رولان بارت

ترجمة: حسني التهامي

***

ترفض الزن أية مناورة لاستباق المعنى. نحن نعلم أن البوذية تمثل حائط صد لأي تأكيد (أو نفي) وذلك من خلال الدعوة إلى عدم الانشغال بالافتراضات الأربعة التالية: هذا (أ) - هذا ليس (أ) - هذا كلٌ من (أ) وليس (أ) - هذا ليس كلا من (أ) ولا غير(أ). الآن تتوافق تلك الاحتمالات الأربعة مع النموذج المثالي كما يؤطره علم اللغة البنيوي (أ ليس أ – ليس أ ولا ليس أ (الدرجة صفر) أ وليس أ (الدرجة المركبة)؛ بعبارة أخرى، إن الطريقة البوذية على وجه التحديد هي طريقة "المعنى المنغلق": غموض الدلالة ذاتها، واستحالة النموذج. عندما أوصى البطريرك السادس تلاميذه بالإجابة على بعض الأسئلة المتعلقة بالوجود، كانت غاية وصيته خلخلة النموذج بشكل كامل، فبمجرد أن يُطرح مصطلحٌ ما، لابد أن يجنح ذهنك إلى نقيضه. (" عندما تُسأل عن العدم، ليكن جوابك بالوجود)، وإذا سُئلت عن الرجل العادي، ليكن حديثك عن السيد إلخ..")، وذلك كنوع من التهكم على النموذج اللغوي وجعل المعنى التلقائي جليا واضحا. إن المراد (بالتقنية الذهنية التي تظهر دقتها والحاجة إلى صقلها والمثابرة في تعلمها مدى تعثر الفكر الشرقي في استباق المعنى)، هو تأسيس العلامة، أي التصنيف المرتبط بالطبقات المائزة للغة.  يهدف الهايكو على أقل تقدير إلى استخدام لغة بسيطة لا تتكئ (وهذا محرم في لغتنا) على طبقات المعني المتراكبة، أو ما نطلق عليه "تصفيح" الرموز. حين يقال لنا إن صوت الضفدع هو الذي بصَّر باشو بحقيقة الزن، يمكننا إدراك (أعتقد أن هذه الطريقة في الحديث لا تزال غربية خالصة) أن باشو لم يكتشف وسط هذا الضجيج فكرة "الاستنارة"؛ فرط الحساسية الرمزية، لكنه توصَّل إلى نهاية اللغة: هناك لحظة تتعطل فيها اللغة (تلك اللحظة هي نتاج عديد من التدريبات)، إنها حالة خرق تتكشف من خلالها حقيقة الزن ويتشكل السمت الموجز والفارغ للهايكو.

إن إنكار "النماء اللغوي" أساسي هنا، لأنه ليس مسألة إيقاف للغة في لحظة ممتدة من الصمت والتأمل الصوفي العميق، أو لحظة الفراغ الذي يسكن الروح ويؤدي إلى التواصل الإلهي (الزن ليس لها إله). ما نحن بصدده من استخدام الرمز لا بد أن يتوقف: لأنه غامض، وكل ما يمكن للمرء القيام به هو تمحيص الخطاب؛ وهذا ما كان يُنصح به متدرب الكوان (أو يقترح عليه سيده حكاية طريفة): ليس لسبر أغوارها كما لو كان لها معنى، أو حتى لفهم مغزى عبثيتها (التي لا تزال تحمل معنى). فكل ماهو زن ينظر إلى الهايكو على أنه مجرد فرع أدبي من فروعه، و(تطبيق عملي هائل من شأنه تعطيل اللغة، وإرباك هذا النوع من الإشعاع الداخلي الذي يتولد داخلنا، حتى أثناء نومنا (ربما كان هذا هو السبب وراء حرمان المتدربين أحيانًا من النوم)، كي نتخلص من ثرثرة الروح اللانهائية، ومما يطلق عليه الزن بـ "الساتوري" التي قام الغرب بترجمتها إلى كلمات مسيحية غامضة كـ الاستنارة ... الإيحاءة ... الحدس)، والتي هي بمثابة تعطيل مفزع للغة وفراغ يمحو سلطة الرمز، وخرق لذلك السرد الداخلي الذي  يشكل ذاتنا؛ وإذا كانت تلك الحالة للغة  تحررًا، فذلك لأنها، بالنسبة للتجربة البوذية، توالد للأفكار الثانوية (فكر الفكر)، أو ما يمكن تسميته بالمكمل اللانهائي لدائرة الدلالة التي تعتبر لغتها ذاتها المستودع والنموذج – وتبدو كأنها عائق: بيد أنها تضحض1 الفكر الثانوي الذي يبطل اللامحدودية الفجة للغة. في كل هذه التجارب، يبدو أن الأمر لا يتعلق بسحق اللغة تحت طيات الصمت الغامض تجاه ما لا يوصف، لكنه يرتبط بقياسها وبالتخلص من فكرة الشغف باللفظ التي تمحق هوس اللعب بالبدائل الرمزية. باختصار، ما نحن بصدده من إعلاء قيمة الرمز هو عملية دلالية ستظل محل انتقاد.

إن وضع اللغة في نطاق ضيق، في الهايكو، لهو مصدر قلق لا يمكننا تصوره، لأن الأمر ليس متعلقا بمسألة الاختزال (أي تقصير الدال دون الحد من تكثيف المدلول)، لكن بصرف اهتمامنا عن أصل المعنى، كي لا يذوب هذا المعنى، أو يتلاشى، أو يصبح غامضا أو ضمنيًا أو ينفصل أو ينقسم إلى مجموعة من الاستعارات اللانهائية أو إلى مجالات الرمز. ليس اختزال الهايكو مسألة شكلية؛ فهو أبعد ما يكون عن فكرة مكتنزة تم إيجازها، لكنه حدث مختصر قادر على بلورة شكله المناسب بصورة فورية. إن العقلية الغربية غير مؤهلة، إلى حد بعيد، لاستيعاب مسألة القياس اللغوي: ليس المقصود هنا هو مدى طول أو قصر الخطاب، ولكن تأثير هذا الخطاب الذي يؤدي إلى عدم التجانس بين الدال والمدلول، إما عبر "تخفيف" الثاني بفعل هدير الأمواج المتلاحقة للأول، أو عبر "تعميق" الشكل باتجاه المناطق الضمنية للمحتوى. من الواضح أن دقة الهايكو - التي لا تُعد تصويرًا أمينا للواقع على الإطلاق، ولكنها تجانس الدال بالمدلول، والتخلص من الهوامش والأشياء الغامضة والفجوات التي عادة ما تتجاوز أو تثقب العلاقة الدلالية للألفاظ - تحتوي بداخلها على شئ موسيقي (موسيقى المعاني وليس بالضرورة موسيقى الأصوات): فالهايكو يتسم بالصفاء، حيث يسكنه فراغ يشبه فراغ نوتة موسيقية؛ ولعل هذا هو سبب قراءته مرتين من أجل إحداث صدى. إن قراءة هذه اللغة المذهلة لمرة واحدة سيكون بمثابة إضفاء معنى للدهشة والتأثير والكمال المفاجئ؛ وعند قراءتها مرات عديدة سيُكتشف المعنى الداخلي ويُحاكي العمق؛ وبين هذين الشيئين، لا يتحقق العمق ولا التفرد، لكنْ يكشف الصدى بطلان المعنى.

***

......................

هذه ترجمة الجزء الثاني من أربعة مقالات عن الهايكو من كتاب امبراطورية العلامات للمفكر والناقد الفرنسي رولان بارت. وقد نشر المقال في مجلة البيان الكويتية أيضا، العدد 643 فبراير 2024

1-   تُرَقْرِقُ أو تُبَيِّنُ

مدخل: كتاب رداء النسيان، من صنف الرواية، مؤلفا للممثل والمخرج السينمائي إدريس الروخ. عندما تتبع مسارات إدريس الروخ العملية فإنك تجده بالطبع شخصية مركبة بامتياز التكوين الاهتمامات والانشغالات.

من تم  فرواية (رداء النسيان) كُتبت انطلاقاُ مما يعيشه الفنان في الذات والزمن والفضاء. تم إبداعها بروافد من  مؤثرات التمثيل والمسرح والإخراج والإنتاج السينمائي، هذا التعدد والتنوع الغني هو الذي قادني بطلاقة نحو متابعة قراءة نص رواية ادريس الروخ بنهم وإقبال، وكنت مرات عديدة أنتقل بخيالي من عالم الكتابة ومثيراتها المحددة في عالم تناص الخطاب اللغوي والأحداث، إلى عوالم الصورة (المبركة) بالخيال، والإبحار مع فناننا في تشكيلات تنوع الأفلام والمسلسلات التي اشتغل عليها، أو مثل أدوارا كبيرة من خلالها.

تقول الكاتبة المصرية ناهد صلاح في تقديمها للرواية: (إدريس الروخ كَتب الرواية قابضاً بأصابعه على روحها... أجواء غريبة غير تقليدية (في منهجية كتابة الرواية) نقلت حكاية معقدة تتأرجح بين "الفانتازيا" والتراث الشعبي وبين الدراما النفسية) إنها بحق العلاقة الاجتماعية التقليدية التي تربط الكاتب بوسطه الأسري وفضاء النشأة والولادة والتطور العمري الاجتماعي.

 أجواء مثيرة تشبه إلى حد ما (رداء النسيان) من حيث الغوص في نقطة عميقة للنفس البشرية (الخيانة والألم والوجع). (تجد أن هنالك)  حالة روائية خالصة ونشطة... تحتضن التفاصيل العاطفية المعقدة بالتكثيف والحس والسلس في آن واحد، ما جنبها الوقوع في رُهاب التطويل...).

نعم من البدء أُقر بالمناصفة والاعتراف الضمني مع الأديبة  ناهد صلاح بأن إدريس الروخ (فنان يتمتع بخيال هائل، صادق، مفرط الحساسية بشكل مؤلم في تفاصيل مذهلة الإتقان والشاعرية) والمواقف الإجتماعية التي يمكن أن نقول بأننا ضيعناها منذ زمن (الحجر الصحي/ العلاقة الأسرية الداخلية).

عتبات مدينة مكناس المكانية من خلال النص الروائي (رداء النسيان)

حقيقة أدبية لا مناص من التنصيص عليها، أن دراسات المكان والفضاء في الروايات ما تزال شحيحة المورد، ورغم هنالك مجموعة من الإصدارات (الغربية) والتي قد لا توازي نهب الباحثين  فى هذا السياق، وما نسعى من خلال (رواية : رداء النسيان) هو وضع بعض من عتبات لتقاسيم المكان الروائي والتركيز على مدينة مكناس .

 فلم يكن المكان بالغريب عند الكاتب إدريس الروخ، لم يكن المكان بالمتخيل بل هو مكان معلوم بالتسميات والمسميات والحركة الانتقالية. مكان  يُكسب الرواية أهمية فنية كبيرة، إنه الخط الزمني المتموج للأمكنة بالحضور والغياب. أمكنة باتت تشكل لوحة رسم على قماش وتعلن صراحة هوية بطل الرواية.

حقيقة أن المكان ليس ترفا أو عنصرا عابرا في الرواية، بل هو مكان معلوم الزوايا الجغرافية بالتحديد والذكر، ويتخذ معاني ومواقع عديدة (وأنت تجوب شارع محمد الخامس بالمدينة الجديدة ، أو كما يسميها المكناسيون (حمرية/24). فلم يكن المكان (مكناس) يحضر في الرواية للتباهي، بل جاء لأجل التنبيه والتغيير (تمر بجانب النافورة التي لم تشتغل منذ أمد طويل.../24).

ما أثارني واقعية الحديث وفضح مميزات المكان، وليس المكان الذي قد تصنعه لغة المتخيل في الدلالية للرواية. فمنذ بداية الرواية تجد أنها اقتحمت تفكيرك بالتحفيز، ولما لا التطويح بك في عالم البحث بين الواقع والخيال عن الفضاء وعلاقته بالحكي والسرد، فعندما صرح الكاتب بوصف المكان (باب منصور / روامزين ...) إنه بحق نوع من التسويق لفضاءات وعوالم المدينة السياحية.

وقد وقفت على نوع من الإقحام اللين لفضاءات بالمدينة، نشترك فيها جميعا بمجموعة من الذكريات التي تبق عالقة بالذاكرة (سينما أبولو والمونديال والأطلس...أن تشاهد أفلام الحركة والهندية/ ص25). بالطبع هي ذاكرة سينمائي في (رداء التذكر) أتى بها إدريس الروخ ليستمد منها عشقه للسينما.

قد يكون الفضاء في متن رواية (رداء النسيان) متحركا، حيث وظف إدريس الروخ الأمكنة مرات بالتماهي، ومرات بالنقد والوصف، فوضع ذاته ومواقفه تتحرك بين الأمكنة وتترجل الوصف والحكي والمشي، ومرات عديدة تعطي أحكاما نوعية وذات قيمة اجتماعية.

 نوع ثان من الأمكنة المتحركة (الحافلة) يقول: (لم تكن من هواة ركاب الحافلات البئيسة أو الازدحام مع الأجساد الذابلة وسط سيارات طاكسي المليئة بالجراح والهموم وكثرة الآهات... / ص24)

نعم، بين الكاتب والأمكنة علاقة تبادلية التأثير والتأثر، وفي كلتا الحالتين يبقى المكان نوعا من الإيقاع المنظم لرواية (رداء النسيان). فالكاتب عمل على  تركيب صور للفضاءات يُماثل تصوير الأمكنة الخارجية  كمشاهد سينمائية.

فالوضع المكاني ما بين نافورة (شارع محمد الخامس بمكناس) حمرية وديور الجداد بحي بني امحمد تصبح المساحات الهندسية مادة للحكي الروائي، ولتلاحق الأحداث بالتفاعل بعضها ببعض الآخر. فالكاتب عمل على نسج الخيوط المتشابكة، لتخلق بحق شبكة العلاقات والتنافرات التي تصنع الحدث بالتوافق والاختلاف.

فقد كان فضاء رواية (رداء النسيان) أوسع شمولا من حدود المكان ومتغيراته المتعددة، فالزمن العمري بمحدداته بين الماضي الذي ما انفك يمضي، وحاضر المدينة الذي ما فتئ يأتي هو زاوية الرواية الحادة التي صنعت (تاريخ المدينة الأنيق في الماضي، والمكره بنقصان التمكين التنموي في الحاضر/ 24). إنه المكان الذي ينكشف بالفضح على مجموعة من الخلفيات اللاتنموية التي تتحرك بالمدينة، وأمامها الشخصيات أو تقع فيها الحوادث والمشاهد (وسط حمام الدرب عندما تسكب على جسدك دلو ماء ساخن/ ص24).

اختراق البطل للأمكنة ، حين أدخلنا سليمان الأحمدي إلي بيت الأسرة، حين نسيت القراءة والقراءة النقدية، واقتحمت معه عتبة الدار باستقبال الأم و مكونات الأسرة . حين تخيلت كيف هي الدار وألوان الزليج.

نعم سحبني الكاتب برفق وعشق وعشت معه (كونك كنت فقيرا ويتيما/ ص25)، ألم الفقد والوجع (أن أمك التي فقدتها حديثا... / ص25)، (كم تمنيت أن تكون بروسلي وتهجم على الزمن الذي جعل أمك أرملة/ص25) و (هكذا كانت أمه تمشي ساعات من أجل لقمة العيش)... إنها مشاهد عديدة من الألم والوجع، مرات  بالتصريح و أخرى بالاستضمار، على اعتبار أن الأمكنة تحمل تجربة المعاناة والوجع والألم لدى المؤلف.

مما أثار فضولي حين اكتشفت وصول الكاتب إلى أنسنة الأمكنة على اعتبارات التفاعل والعيش (لتفاجئهم مرة في الأسبوع بطبق من السردين المقلي مع صحن بيصارة ساخن/ ص27)

هنا باتت الدار والعيش الأسري، سندا متكاملا للبناء الروائي النسقي عند إدريس الروخ.  فلم تعد هنالك مفارقة بين تسمية الأمكنة (الحقيقية) حيث باتت الرواية تحيل القارئ لزاما على الاسم نفسه في الواقع والمتخيل، لذلك كانت حتمية الوصف والسرد في الرواية قد فرضت ذاكرتها الحاضرة لا المنسية(سلك طريقا آخر...عرج على شارع الجيش الملكي،...باتجاه شارع محمد السادس...عقبة دار السمن ...ساحة الهديم...بني امحمد ...الديور الجداد...صهريج سواني ...القصر الملكي...(المحنشة) / ص50).

فلا مناص لي من الاعتراف أن الوصف في رواية (رداء النسيان)، شكل وظائف تماثل التصوير الفني، والتدقيق في التفاصيل الصغيرة الحاملة للدلالة الكلية، حتى أنك تترجل المشي مع إدريس الروخ ذهابا وإيابا من وإلى حمرية والديور الجداد بحي بني امحمد(هكذا كان القدر يجمعه بوجعه وألمه الذي انتصرت فيه إرادة الحياة وأمل العودة إلى نور / ص38).

حين ولجت من خلال وصف الكاتب لدار الأسرة بحي الديور الجداد، اكتشفت أن الأمكنة ليست بالمغلقة في الرواية، بل المفتوحة للحكي والبرهان الصادق بتزكية الماضي بذهبيته رغم آهاته (فتحدث عن مكان أليف، وهو البيت الذي يوجد فيه الإنسان (أنسة المكان)، ثم تحدث عن المكان المتناهى فى الصغر والمكان المتناهى فى الكبر/ (سيزا).  وكما عثرت عليه فإن: (مصطلح الفضاء الروائى يتسع ليشمل العلاقات المكانية أو العلاقات بين الأمكنة والشخصيات والحوادث، ويعلو فوقها كلها ليصبح نوعاً من الإيقاع المنظم لها/ موير).

فحين قرأت النص الروائي لإدريس الروخ عن فضاء الدار (بالديور الجداد)، وجدت أنني أعاود تذكر بيت الطفولة، حتى أن عيني أدمعت وقلت كذلك (أحبك أمي وجعي)، فهذا الإحساس يوجد في دواخلنا وليس بالضرورة بشيء مفارق في الخارج !!حقيقة لا مناص من التركز عليها أن إدريس الروخ خلق آفاقا خصبة غنية واسعة في الوصف والسرد الروائي، وقد وجدت متعة قراءة  فى التعامل مع المكان الروائى بمدينة مكناس.(هكذا علمته أمه أن يزهد في الحياة وان يمشي جنب الحيط...أو جنب نفسه في الحقيقة/ ص27)

(أزقة (المدينة) التي عشقها حد النخاخ...علمته كيف يقابل الجمال بين أسوارها  الإسماعيلية...وبين أبوابها...نجمة تضيء تاريخ المغرب المجيد/ص28). أو قوله: (محطة الأمير عبد القادر... واجهة بئيسة وباب حقير وجدران عفنة...محطة مهملة في قرية منسية... / ص 108)3993 محسن الاكرمين

الشخصيات الرئيسة في رواية (رداء النسيان)"

1/ سليمان الأحمدي:

 في الرواية (يود أن ينتهي بدون نهاية) يرغب في عيش (الظلام ويبقى نائما ولا يدري هل يستيقظ أم لا...فقط يريد عيش رداء النسيان/ 190ص) و(إغلاق باب الذكريات نهائيا (سليمان) عندما خانته زوجته، لبس رداء النسيان/ ص39).... (لقد عطل زر "إحياء" الذكريات/ص 38)

سليمان الأحمدي: يعيش ازدواجية الشخصية التي تصنع التوافق بين التربية والنشأة التقليدية (موقع الأسرة في قلبه وخاصة أمه/ مكناس)، وترف حياة البذخ (الحفلات/ المنشطات الروحية/ الفنادق الفاخرة/ السكن.../ الرباط ومدن العالم التي زارها لعرض لوحاته).

سليمان الأحمدي:(اغتصب في رجولته/ حينها أنه كان غبي مورد الثقة) عندما خانته زوجته (سلمى) مع صديقه (عادل). عاش أزمة نفسية، وبات غياب حلم أمل التغيير من باب (رداء النسيان).

عاش بين الماضي والحاضر، ولم يقدر على اختيار طريق النجاة. عاش مستويات من التغرير به في زواج مفبرك كما صرحت به خادمته (زينب). عاش في صراع طبقي بين مرجعية عادل الأسرية (الحداثة/ البورجوازية)، ومورد أسرته التقليدية والتي هي (على قد الحال).

سليمان الأحمدي: (يفتح باب ذاكرته ليسد طريق النسيان ويمنعه من التسلل ليلا إلى فراشه/ ص 29)، أراد معرفة حقيقة الخيانة من زوجته (سلمى) ليتخلص من كراهة الماضي، وفي هذه المغامرة قد  لا يرجع تماما من الرباط (كما حدثه شيخ مقهى القرب من محطة الأمير عبد القادر).

سليمان طيلة الرواية لم أجده تناول المنشطات الروحية بمدينة مكناس وخاصة بمرسمه (175 حديقة كونيط)، بل كان مدمنا على القهوة السوداء والتدخين، خارج المدينة كان سلوكه من الحداثة (البعدية).

سليمان، عاش مرارة الخيانة، فلم يقدر حتى على المغامرة مع فتاة فندق الرباط، حين سترت عورته، وآوت الى فراشها، وناولته منشطات روحية، لكنه هرب بشرف وأدب...

سليمان، عمره ما ركب الطاكسي حتى الصفحة (62)،  (لم تكن من هواة ركاب الحافلات البئيسة أو الازدحام مع الأجساد الذابلة وسط سيارات طاكسي المليئة بالجراح والهموم وكثرة الآهات... / ص24)

2/ سلمى زوجة سليمان:

 فنانة بامتياز وتفرد، في عيش مُتع الحياة (الجنس الترف...البذخ)، فنانة في التمثيل والإغواء وإسقاط سليمان بتحفيز من صديقها (عادل) في شباك زواج صوري (مكيدة العمر).

لم تتكلم طيلة الرواية، وحتى في النهاية، عندما ساء وضعها الصحي والمادي، وفي مواجهة لسليمان (فيلا غير أنيقة بالرباط) لم تحرك شفتيها حتى للتبرير عمَّا حدث، بل كانت ثملة تقاسي مكر الزمان والعمر، وسوء الاختيارات (لو أنها تكلمت وقالت أي شيء...أن تنطق بحرف واحد...قد تعلني أرى حياتي المقبلة بشكل مختلف/ ص189). لكن سلمى تكلمت اللوحة المرسومة بديلا عنها أكثر مما حضرت سلمى في الأماكن والأحداث طيلة الرواية.

3/ عادل صديق سليمان:

 يقول سليمان: (هل عادل صديق عمري طعنني في ظهري؟ /ص 189). عادل (الفاسي الأصل والولادة) مارس نزق الطبقات الاجتماعية، واستغل سليمان في تزويجه بسلمى عبر مكيدة مدبرة، استغل طيبوبة سليمان، ومارس الجنس مع سلمى لما يربو عن ثلاث سنوات. استغل الثقة ورؤية ولد لبلاد (مشاركين الملحة اصعيب تخونو).

عادل شيطان الرواية، بقي يعيش حياة مزدوجة بين الكذب على زوجته (ابتسام) وعلاقته بسلمى، وحتى ليلة سقوط سليمان مغمى عليه عند شاهد عيان على الخيانة (على فراش الزوجية) ، فانه كان يمارس النفاق الاجتماعي ولم يصارح ابتسام بأنه كان هو الخائن لصديقه.

4/ زينب الخادمة:

 العلبة السوداء (لَبْوَاتْ انْوَارْ) في تلك العلاقة غير الشرعية بين عادل وسلمى وفي فراش الزوجية.

صحوة الضمير أفاقها، وأرجعت سليمان من أوربا (توقيع عقد عمل) ليقف على الخيانة الكبرى، كانت ترغب في أن تنتهي أزمتها النفسية والعودة إلى مبدأ الحياة السليم.

5/ أسرة سليمان الأحمدي:

 أسرة تقليدية من مكناس (الديور الجداد) ، تعيش أزمات حياتية (المستوى المعيشي/ الهشاشة المرتبطة بالفقر لا الأخلاق)، وأزمة الفقد (اليتم /الأب 1975)، وحديثا موت الأم، باعتبار مركزية التضامن الأسري.

أسرة تعيش بالكد والسعي، وكذا بقيم الترابط الأسري، أسرة لم يقدر الكاتب على تسمية أي أحد من أفرادها، بل ترك الجميع يتحرك بالصفات (الأم الإخوة الأخوات).

الأم كانت محور الرواية الأساسي ، والتي داوم النص السردي حكي حكاية الأسرة من خلالها وبالتفصيل الصحي، وتجدها تسكن الرواية وقلب الكاتب من البداية إلى النهاية، حتى ما بعد فقدها (أمك التي فقدتها حديثا بسبب وعكة صحية ألمت بها/ص 26).

خاتمة:

من حس الوجع (والفجع) والذي مرات عديدة كان كبيراً ولا طاقة للكاتب على رده (الخيانة بين عادل وسلمى)، (كان لا بد من التعبير عنه بدرجة ما من درجات الخصوصية، والكشف القاسي ...) فقد يكون العنوان منبها أوليا لكل قارئ(رداء النسيان وأن ينعم بدفئه/ ص103)، لكن عنوان (رداء النسيان) بات عندي عند نهاية الرواية يوازي عنوان (رداء ذاكرة نشطة). رواية نشطة من ذكريات مصادر ومراجع (الفيد الباك) للفنانين والفلسفة العالمية، إنه بحق (تناص التعامد) النوعي لا التراكمي.

***

محسن الأكرمين

.......................

* نص مداخلتي في حفل توقيع رواية (رداء النسيان) للكاتب إدريس الروخ بالمركز الثقافي (الفقيه المنوني) يوم السبت مساء 25 ماي 2024.

تُطلّ علينا الشّاعرة هيام مُصطفى قبلان في مجموعتها القصصيّة "بعدَ أن كَبُرَ الموج" وتأتينا فيها كاتبة مبدعة عميقة، مُتمكّنة من أدواتها الإبداعيّة، قابضة على ناصية اللّغة. ولستُ أقول هذا محاباة أو مجاملة، بل أقوله بكلّ صدق وبكلّ موضوعيّة ومنذ بداية المداخلة. ذلك لأنّ قصص المجموعة، بصفة عامّة، أعادتْني إلى القصّة القصيرة التي نريد. إلى فنيّة القصّة التي نفتقدها وأصبحنا نشتاق إليها ونتوق لقراءتها. فكثيرة هي المجموعات التي تصدر، والتي يريد كاتبُها أن يرى فيها مجموعة قصصيّة، إلّا أنّنا نجد أنفُسَنا أَمام، إمّا لوحات أدبيّة أو مقالات صحفيّة أو خواطر أو تأمّلات، لا نسمح لأنفسنا بتسميتها قصصًا قصيرة!

 حُكْمنا هذا على مجموعة هيام قبلان القصصيّة، جاء بعد الوقوف على أطراف العمليّة الإبداعيّة ذاتها، ممثّلة في الكاتب والنّصّ والقارئ، والعلاقة التّكامليّة بين هذه الأطراف والتي من شأنها أن تُشكّل الذّائقة الأدبيّة وترتقي بها. فالكاتبة في عملها الأدبيّ هذا، تحرص على شحن عواطف المتلقّي وانفعالاته عبر اكتمال عناصر هذا العمل وتغليفها بجماليّات تترك أثرًا لديه. إذ تُقدّم لنا قصصًا اعتمدت في نسيجها على مقوّمات السّرد القصصيّ مثل: حضور الرّاوي، الشّخصيات، الزّمان والمكان، إلّا أنّها افترضت شكلًا آخر من التّعامل مع هذه العناصر، بحيث نراها لا تُعير المكان والزّمان اهتمامًا كبيرًا، ويبقى تركيزها الأكبر على الشّخصيّة. كما أنّها تُظهر قدرة في تعاملها مع الحبكة القصصيّة، إذ تبني قصتها بناء محكمًا، وتتعامل مع اللّغة بشكل مكثّف وبإصرار على الطّاقة الفعليّة للمفردة وللجملة. فلغتها قويّة متميّزة استطاعت أن تقول الكثير، وأن تحمل العديد من الرّؤى والدّلالات المباشرة المفتوحة على دلالات أكثر عمقًا واتّساعًا.

والمعروف أنّ الشّاعرة والأديبة هيام قبلان تتعامل مع مختلف الأنواع الأدبيّة، فكتبت الشّعر والقصّة والرّواية، وإن كان الشّعر يبقى أهمّها وأقربها إليها وهو الذي يستهويها. فقد صدر لها خمس مجموعات شعريّة، وهذا ما يؤكّده حضور "هيام الشّاعرة" بشكل واضح في قصص هذه المجموعة، سواء في توظيفها للّغة الشّعريّة في السّرد أو تضمينها عدّة قصص أبياتًا شعريّة. فامتداد وشيجة الشّعر إلى هذه المجموعة القصصيّة، يؤكّد أنّ الكاتبة لم تتحرّر من طبيعة الشّعر ولا من مجازاته، وأنّ توجّهها لكتابة أجناس أدبيّة أخرى لم يكن مبتوت الصّلة عن الشّعر الذي ظلّ موصولًا بعالم هذه الأجناس، الأمر الذي أكّده الكاتب الفرنسيّ ميشال بوتور حين قال: "انقطعتُ عن كتابة الشّعر منذ اليوم الذي بدأتُ فيه كتابة روايتي الأولى، لأحتفظ لها بكلّ طاقتي الشّعريّة".

في مجموعتها هذه، لا تلتزم هيام قبلان نمطًا معيّنا في بنائها للقصّة، وإنّما نراها تغيّر في الحبكة بين قصّة وأخرى. فمثلًا في قصص: "أفقد نفسي" و "العار" و "جمرٌ وأمرٌ" تلتزم البناء الهرميّ: بداية، ذروة ونهاية. بينما في قصّة "أشتهيك يا موت" مثلًا، نراها تبدأ من النّهاية ومن ثمّ تعود بنا إلى بداية الحكاية عبر أسلوب الاسترجاع، في حين نجدها في قصّة "منفضة" تتخلّى تمامًا عن هذا البناء، وتوظّف لغة شعريّة مكثّفة جعلت القصّةَ قصيدة.

تقول الشّاعرة البحرانيّة حمدة خميس إنّ كتابة المرأة: "تنبعث من الصّراع الدّاخليّ بين المكبوت- والمُعلن، بين الرّغبة في التّحقّق- والغياب المقنّن، بين التّوق للتبدّل والتّغيير- والسّكون القسريّ. وهذا الصّراع هو الواقع الذي تعيشه كلّ النّساء بوعي أو بدونه".

وهيام قبلان في هذه المجموعة القصصيّة، تُعبّر عن حقّها، كامرأة، في القول والكتابة والحياة، عبر إبراز دور الأنثى وجعلها المستحوذة على دور البطولة والسّرد في غالبيّة القصص. وحتى القصص التي يكون فيها السّارد رجلًا، تبقى المرأة حاضرة وبقوّة، وهي الشّخصيّة التي يراقبها القارئ ويتابعها بكثافة واهتمام كبيرين، وهي التي تستدعي عطفه وانحيازه. وبناء على هذا، تطرح الكاتبة في المجموعة قضايا تخصّ المرأة، وتُصوّر حالات وتجارب وتحدّيات تعيشها المرأة وتعكس واقعها المرير، بهدف انتقاد هذا الواقع ورفضه ومحاربته. والمقصود هنا، الواقع الذي تحكمه وتتحكّم به العقليّة الذكوريّة. ويبدو أنّ استغراق نصوص هيام قبلان في قضايا المرأة وهمومها ومحاولتها الكشف عن دواخل الذّات الأنثويّة، جعلها تجد في ضمير المتكلّم أسلوبًا "يتيح تفجير طاقات الأنا النسائيّة المُثقلة بهمومها وعذاباتها ومشاعرها وأوجاعها النفسيّة". (حفيظة أحمد- بنية الخطاب في الرواية النسائيّة الفلسطينيّة) فيدعونا للتّعاطف معها والدّعوة إلى تغيير واقعها عبر طرح صُوَر مُتعدّدة للمرأة، تُمرِّر الكاتبة من خلالها فكرة أو موقفًا.

في قصّة "أفقد نفسي" مثلًا، يتعاطف القارئ مع "رحيل" التي توفّت أمّها واضطرّت للخروج للعمل ومعاركة الحياة منذ كانت طفلة صغيرة. ومن ثمّ مواجهتها "رحمة"- زوجة والدها، المرأة اللّعوب والمتسلّطة والخائنة. وهذه الصّورة للمرأة المتسلّطة نجدها كذلك في قصّة "جمر وأمر" في شخصيّة "فوز"- الزّوجة والأمّ التي تعمل في الشّعوذة وقراءة الفنجان لنساء القرية، ممّا دعاها إلى حرمان ابنتها "فاتن" من إكمال تعليمها العالي لتساعدها في أعمال البيت، ثمّ التّخطيط لتزويجها من رجل غنيّ يكبرها في السنّ. إلّا أنّ فاتن، تُفاجئُنا وتُثير إعجابنا بجرأتها وشجاعتها حين تُقرّر الهروب من البيت قبل أن تُنفّذ والدتها مُخطّطها. ولكن، هذا الإعجاب سرعان ما يخبو ويتحوّل إلى خيبة أمل حين قرّرت فاتن أن تبقى في دير الراهبات الذي لجأت إليه وتعيش فيه بقيّة حياتها. وكم كنتُ أودّ لو ذهبت الكاتبة بهذه الشّخصيّة إلى مكان آخر نراها فيه تتمسّك بحلمها بمتابعة دراستها الجامعيّة وتقاتل وترفض وتتمرّد وتُصرّ على تحقيق هذا الحلم. فلا يُمكن أن نقنع بالنّهاية التي رسمتها الكاتبة لهذه الفتاة ولا بالمكان الذي حدّدته لها لمجرّد ارتباطه بالدّين! فهذه النّهاية تعني الضّعف والتّراجع والاستسلام والتّخلّي عن الحلم، بل قَتْل الحلم الذي طالما تمسّكت به وأصرّت على تحقيقه.

 في قصّة "العار" تطرح الكاتبة، من خلال شخصيّة "سماح"- المرأة الضحيّة، حقيقة أنّ المجتمع العربيّ، للأسف، لا يزال يحصر قضيّة الشّرف بالمرأة دون الرّجل. فسماح دُمّرت حياتها عقب تخلّي خطيبها سالم عنها بعد علمه بحملها منه، وقيام والدتها بدفن المولود لغسل عارها. وتصوّر الكاتبة "سماح" في نهاية القصّة، في مشهد قاس ومؤلم، تسير هائمة على وجهها في الشّارع، تُلاعب دمية صغيرة في حضنها، تلفّها بثوب من السّواد، وتنتحب على مناديل الذّاكرة (ص 40).

أمّا القهر الجسديّ والعنف والاغتصاب الذي يقع على المرأة من قِبل الرّجل ويتركها جريحة الرّوح والجسد، فيظهر في قصّة "هناء" وهو اسم البطلة- الأرملة التي اغتُصبت من قِبل سيّد البيت الذي تعمل فيه مُستغلّا غياب زوجته: "لم يمهلها أبو سالم، حاصرها بيديه القويّتين... وهي تقاوم وتقاوم، لكنّه باغتها بجسده وقامته الطويلة، ولم يكترث بتوسّلها وصراخها ونشيجها وتركها كالذبيحة تلملم ثوبها وتغطّي عُريها" (ص 115).

هذه النّظرة الضّيّقة إلى جسد المرأة، نجدها كذلك في قصّة "أشتهيك يا موت" حيث نشهد حادثة اغتصاب الفتاة على يد صاحب مزرعة القرية مُستغلًّا حاجتها إلى مكان تلجأ إليه بعد أن قُصف بيتها الذي تسكن فيه بمفردها بعد رحيل والديها. فتصف لنا الكاتبة حالتها النّفسيّة المحطّمة وهي تغسل آثار الجريمة: "عدّت قطرات النّدى المتساقطة على حوافّ الوجع، وأغلقت أسارير القلب. تفقّدت أصابعها، وجهها، شفتيها، شعرها ليليّ الملامح، وخاصرتها التي لعقت نزف الشّوارع. لم تنتحب، ولم تجعر كذبيحة العيد على عتبة البيت. وقفت عارية كما في البدء، حافية كما النهر حين يفقد خريره. كانت فقاعات الصّابون تتناثر على الحيطان، وبرغوة طفوليّة يصرخ الجريح في أحشائها، تتأوّه، وترمي بقايا من قطع القماش الملوّثة بدم بتوليّتها إلى سلّة المهملات" (ص 30).

تقول النّاقدة نازك الأعرجيّ في كتابها "صوت الأنثى": " إنّ الخطاب السّرديّ النّسائيّ يُقدّم عدّة نماذج تصف الآخر بسلبيّة وتكون أشبه بمقاومة طبيعيّة للأيديولوجيّة الرجوليّة التي عانت منها المرأة". وهيام قبلان في مجموعتها هذه تصف تجربة المرأة المريرة مع الرّجال. فالرّجل: هو الكاذب والمخادع والجبان والحقير في قصّة "العار"، وهو الأحمق والوحش المفترس في قصّة "أشتهيك يا موت"، وهو الخائن في قصّة "خطيئة"، والضّعيف والمهزوم في قصّتي: "أفقد نفسي" و "جمر وأمر". ونراها في قصّة "ثرثرة"، تُعلن موقفها من الرّجل بشكل واضح في قولها: "النّساء هنّ النّساء، يُحببن الرّجال، يحلمن ببيت وأطفال، والرجل يحلم بامرأة تشاركه فراشه، تضاجعه بطريقته التي يحبّ، تروي ظمأه، يشتهيها قبل إفراغ شهوته، يتأبّط رجولته، ولا يفكّر إلّا بما بين فخذيه" (ص 28).

أمّا القصص الأجمل في المجموعة، برأينا، هي تلك التي كُتبت بأسلوب السّرد الذّاتيّ الذي يُمثّل البوح الشّخصيّ للكاتبة، وحيرتها وضعفها وقوّتها وإخفاقاتها وخيباتها وتطلّعاتها. ونستبعد هنا أن تُنكر الكاتبة الصّلة بينها وبين هذه النّصوص، وأن تدّعي أنّها تدخل في لعبة التّأليف القصصيّ لا غير. فهذه القصص يصعب فيها فصل الرّاوي عن الكاتب، إذ يبدو واضحًا أنّ الكاتبة وجدت فيها متنفّسًا لاسترجاع ذكرياتها وللتّعبير عن همومها ومشاعرها وألمها ووجعها. فنراها تكاشفنا بلحظات ضعفها، وتفجّر عبر الكتابة ما في أعماقها من أسرار وألم وغضب وأسئلة واحتجاج وخيبات ولوم وعتاب. ولا سيّما تلك القصص التي تتناول فيها مسألة المرض وفقدان الابن. الأمر الذي يؤكّد ما نؤمن به: أنّ الكتابة أوّلًا وأخيرًا حالة إبداعيّة إنسانيّة، ولا يُمكن سلخ الكاتب عن نصّه. كما أنّ توظيف الضّمير الأوّل في هذه القصص يُعزّز شعور القارئ بمصداقيّتها وذلك لارتباط هذا الضّمير بقول الحقيقة. فالقصّة، بصفة عامّة، تستمدّ مصداقيّتها من ارتباطها بحياة كاتبها وتجاربه، وهذا ما نشهده في قصص: "سرب ضجيج" و "دون خيار" و "فوق سرير أبيض" حيث تطرح الكاتبة تجربة الرّاوية القاسية مع المرض وكم تمنّت الوحدة بعد إصابتها به، وكأنّ مصيبة فقدانها لابنها لا تكفي، حتى يداهمها هذا المرض ويفتك بجسدها ويُضعف عزيمتها ويؤثّر سلبًا على نفسيّتها التي بدت محطّمة ويائسة على الرّغم من نصيحة الأطبّاء بأن لا تحزن وأن تحاول النّسيان وأن تتشبّث بالأمل، إلّا أنّها "تركت كلّ شيء دون خيار.. هي الحياة بمرارتها أو الموت بعلقمه، لا فرق عندها في الخيار" (دون خيار، ص 91). بالمقابل، نجدها في قصّة "سرب ضجيج" تُصرّح أنّ ألمها الأشدّ والأعمق، والذي ولن يفهمه أحد سواها، هو حؤول هذا المرض دون قُدرتها على الكتابة: "أمّي لا يُمكنها أن تعلم أنّ القصيدة لا تزورني. أعتصر بقايا فتيل لقنديل خافت، تعتقلني الكلمات، تحاصرني بالأنين، وتتهافت عليّ الهلوسات.." (ص 56). ونراها تُعيد حساباتها في فكرة الخضوع للمرض وللموت، وتتنبّه إلى أنّه ما يزال في جعبتها الكثير لتعطيه وتُقدّمه وتقوله وتكتبه: أفكار وأحلام وقصائد وإبداع. تقول: "انتعلتُ المساء، التحفتُ بالألم، باحثة عن وجهي العابث في المرايا المتكسّرة أتساءل: إن كنتُ لا شيء يا قدري، وإن كانت نهاية الغيث قد اقتربت، فمَن سيوقف هذا النّزف؟ مَن يقبض مرّة على الرّيح، أمنحه قلمي ومداد الرّوح، أمنحه ذاكرتي.. فأيّة مواجهة تدفنين أيّتها النّفس، في ظلّ المطاردة؟ وأيّ المدافن باستطاعتها محوَ ثورة الرّيح المحتومة؟" (ص 57).

إنّ حادثة فقدان الابن هدَّتها وتركت شرخًا كبيرًا في روحها وحزنًا مزروعًا في قلبها. فقد فارقها وأهداها الحزن، ومناديل الرّحيل، وذاكرةً من أشلاء صُوَر ٍمعلّقة على الحائط (فوق سرير أبيض، ص 94). هذه المأساة تأخذ حيّزًا بارزًا في هذه المجموعة حيث تُصوّر الكاتبة كيف ترك رحيله جرحًا عميقًا نازفًا وصمتًا قاتلًا وصرخة مخنوقة وغصّة موجعة ومؤلمة تُعبّر عنها بكلمات مشحونة بالألم والغضب والّلوم والتّساؤلات والقهر والخيبة، تُقطّع الفؤاد وتُدمع العين. فبرحيله تَرَك أمًّا مكلومة فقدت كلّ أمل في الحياة. فالموت أخذه بسرعة خاطفة حتى أنّها "لم تعلم كيف سبقها إليه مُحتفلًا بالأسوَد، ولم تعلم كيف تدلّى عنق النّجم، ولم تُسعفها خطواتها لتحتضن وجهه" (هودج الأحزان، ص 107). تقول: "لم يمهلني الموت كي أُسرع وأحتضن جسدك المسجّى فوق الأرض، والعيون الجاحظة التي لا ترحم تبتعد دون مبالاة.. لم تمتدّ يداي لتلامسك، ولم أهمس لك بما كنت أريد قوله قبل الوداع الأخير.." (لوم، ص 64). وتلوم نفسها وتنتقد تخاذل المجتمع الذي يتغاضى عن جرائم القتل التي تحصل: "ألومني، إذ لم أملك القدرة على انتزاع الحقّ، أو إطلاق صرختي ضدّ الباطل. طال صمتي وخيّم الليل على قلمي واختنق، كي لا أكسر عصا الطّاعة.. في مجتمع مزيّف، انعدمت فيه العدالة الاجتماعيّة والإنسانيّة.." (لوم، ص 65). وهي تعتبر أنّ الدنيا فانية، وما حدث لابنها يُثبتُ أنّ لا وجه حقّ فيها ولا عدل ولا ميزان (هودج الأحزان: ص 106). ولكن، سرعان ما تتنبّه إلى ضرورة أن تُلملم حزنها وخطورة أن تسمح للغضب أن يقودها إلى حيث لا تريد ولا ترغب. فنراها تُحكّم عقلها وتُصفّي قلبها وتنظر إلى الحياة بعين التّفاؤل والاستمرار، ليس تراجعًا أو ضعفًا أو استسلامًا، بل من موضع قوة وتحدًّ وإصرار وبوعيٍ بدورها كأمّ وشاعرة وكاتبة ومثقّفة تحمل على عاتقها واجبًا اجتماعيًّا يقضي بالإصلاح والتّوعية والتّثقيف. تقول: "هذه الأصابع العشر المجبولة بدمك، ستُضيئ من أجلك قناديل َالأمل والمدى الطويل. سأستمرُّ ولو سرت وحدى فَرْدى. إنّه زماني الخطأ" (لوم، ص 67). تشعر أنّها خُلقت في زمان لا يناسبها ولا يتوافق مع مبادئها وقناعاتها، وفي مجتمع يضيق على أفكارها وتطلّعاتها وطموحاتها وقدراتها وأحلامها. ولكنّها، ومن أجل ابنها، ستستجمع قواها وستُضيئ قناديل الأمل وستستمرّ على الطّريق التي تؤمن بها وستتحدّى وتُواجه، وستعمل على أن تكون الحياة أفضل، وأن تسود المجتمعَ قِيَمُ الحقّ والعدل والإنسانيّة. 

أمّا قصّة "شغف" فهي سيرة ذاتيّة، تُعيدنا فيها الكاتبة إلى بدايات شغفها بالقراءة والكتابة. فتُحدّثنا بسرد جميل شائق عن شدّة تأثير قراءاتها لمؤلّفات جبران خليل جبران على مسيرتها الأدبيّة. حيث كانت تقرأ داخل شجرة الرمّان في كرمهم، وقد أخفت عشقها هذا للقراءة خوفًا من ردّة فعل أهلها وأمّها بالذّات. تقول: "سترتُ السّرّ وعراء فكري، داخل شجرة الرمّان التي علق لونها بذهني، وطعمها بحلقي، كالفرح المغرّد النّابت داخل العتمة، يتفتّح على شكل حبيبات من الرمّان المتورّد. خشيتُ من إفشاء عشقي لجبران السّماويّ الذي أهداني أوّل وردة محبّة، وبعث بي روحًا متمرّدة، وعرائس مروج، ودمعة، وابتسامة، وعواصف، وموسيقى، ورملًا وزبدًا.." (ص 21). وتتذكّر حين ابتاع لها والدها ما اختارته من كتب، وكيف أدمنت في ريعان صباها مكانًا تُفرغ فيه شهوتها ومتعتها المجنونة في القراءة، وراء صخرة قرب البحر في حيفا حيث كانت تتحايل على جارتهم لتقلّها معها وتحلّفها أن لا تخبر أمّها وإخوتها، وكيف ازداد خوفها وصراعها الدّاخليّ حين تحوّل شغفها بالقراءة إلى عشق الكتابة. هذه الصّخرة التي شهدت قراءات الكاتبة الأولى، والتي تذكرها الكاتبة في أكثر من قصّة، تؤكّد قول غاستون باشلار في كتابه "جماليّات المكان": "إنّ المكان لا ينطوي على البيوت والأثاث فحسب، بل يحمل ذاكرتنا وأرواحنا وأحزاننا". أمّا الأم والأهل هنا، فيُمثّلون التحدّيات والعوائق الاجتماعيّة والدينيّة والسياسيّة، والاعتراضات الحادّة التي تُواجهها المرأة الكاتبة وتعرّضها لحيّز ضيّق من الحريّة الإبداعيّة حين تصطدم مباشرة بتقليديّة المجتمع العربيّ التي تصبح عائقًا أمام حريّة الفكر والإبداع. هذه التحدّيات وصعوبة مواجهتها تُعبّر عنها بقولها: "كسرتُ عصا الطّاعة، فلم تسكن العاصفة وتمهلني، بل صفعتني بقسوتها. لامست قدماي الأرض، ولم يُحلّق النّسر الذي أوهمني بالتّحليق معه، فالتّحليق لا يليق بالأرض، بل مكانه السماء.. رفعت عنقي قليلًا، ووجدتني بين سوط وجلاد.. ابتلعتني اللّعنات، صفّق الجبناء حولي، بينما شظايا الانكسارات اخترقت جسدي، والنسر هوى!" (ص 25).

في قصّة "بعد أن كبر الموج" توظّف الكاتبة تقنيّة "الميتا كتابة" أو "الميتا قصّ". ففي الوقت الذي يُتخيّل للقارئ أنّ الرّاوية تتحدّث إلى الرّجل الذي تُحبّ وتصف شدّة تأثيره عليها وما يُثيره فيها من أحاسيس ومشاعر، وكيف يُحاصرها ويُطوّقها ويصلب ظلّه فوق صدرها، سرعان ما يكتشف، بعد أربع صفحات، أنّها تخاطب الشّعر والكتابة وتتحدّث عنهما. فحبّ الكتابة فاض بها وتملّك أحاسيسها، ولم يعد بإمكانها التخلّص منه ومنعه عن التّدفّق والانسياب: "تلهث أنفاسي، وأدري أنّني أستسلم لسحرك العارم. حين دسستُ رائحتك بين خصلات شعري لأوّل مرّة، تجوّلتُ، تابعتَ خطواتي المهرولة، تجوّلتَ معي في شوارع المدينة ]...[ حاولتُ رميك في البحر، كما أرمي حاجيّاتي القديمة، فتصطادني أفكارك، وتحتال كصيّاد ماهر على سمكة البحر. أُقاوم الطُّعم، أرنو من صخرة شهدتْ قراءاتي الأولى، وامتصّت نهدَ الرّمال، وأُقرّر.. أقرّر أن لا أتبعك.. أقرّر أن أدخل غرفتي الصّغيرة المتعمشقة على جدرانها أحلامي الورديّة، ويسكنني ليلي لوحدي.. فلماذا تصلب ظلّك فوق صدري؟ لماذا تحاصر خاصرتي بيديك القويّتين؟ لماذا تُطوّق عنقي بسلسلة النّهايات، وأنا أمقت القيد؟". "راحتُك تتسلّق أعلى الجبين، تحضن رعشتي، تنقبض بين أصابعك، أشمّ رائحة عطرك المميّز وأُجنّ.. يا من عشقته روحي، وتراخى الانتظار لصهيل حوافره.. يا صاحب العشق المجنون، والسّفر المجنون، والليل المجنون، طيفك يتمطّى في سريري اليتيم.. تهطل فوق مساحة جسدي رغبتك المستفزّة، وماء جنونك، وتُفرغ في كأس مناي عصارةَ لقاحك" (ص 60). وعندما وقعت هذه الأوراق التي دوّنت عليها الكاتبة ما امتلكته الرّوح من متعة وما احتضنتْه من حلم، في يدي أمّها، نهرتْها: "تعالي يا بنت، بدّك تفضحينا في البلد؟ بعد ناقص تحبّي من ورانا". ولمّا أرادت الدّفاع عن نفسها، صاحت بها: "اصحي بيّك يسمعك. يا خسارة تربيتي فيك". وبكلمات تفيض بالعاطفة والصّدق تقول لأمّها: "حبّي للكتابة والقراءة ليس بيدي يا أمّي. كيف باستطاعتي أن أترك قطعة منّي، بعد أن كبُر الموجُ بداخلي؟ بعد أن بنت العصافيرُ أعشاشها بين ضلوعي، لتعيش بأمان؟ كيف؟ هل تفهمينني يا أمّي؟" (ص 63).

عن الجانب الجماليّ في هذه المجموعة، كنتُ قد تحدّثتُ في بداية المداخلة، ولكنّي أعود وأُشدّد على أنّ الكاتبة اهتمّت أن تبتعد عن السّرد الجافّ وأن تكتب بلغة شعريّة تتميّز بالكثافة والإيحاء، عبر توظيف تقنيّات مختلفة كالاستعارة والمجاز والاسترجاع والتي من شأنها أن تُضيئ أعماق الشّخصيّة ودواخلها، إذ تتّسم غالبيّة جملها بالتّساؤلات التي تعبّر عن أزمة البطلة، وبخطاب يوحي برفض واقع الأنثى المسحوقة. وتجدر الإشارة في هذا السّياق، إلى أنّ هذه اللّغة المكثّفة، والتي حقيقة أبدعت فيها هيام قبلان، لفّت بعض القصص بالغموض واستدعت قراءتها أكثر من مرّة والوقوف عند كلّ معطى وروابطه مع المعطيات الأخرى للوصول إلى فهم القصّة.

أمثلة مُختَصَرة تُبيّن جمال اللّغة: "تُحملق بجسدها المتكوّر الرّاجف، ترتطم بجسد آخر، تحسّه، يتصاعد شهيقه، تفكّ أزرار خوفها، وتلفّ ثوبها حول جرحه النّازف" (أشتهيك يا موت)، "يلتفّ الحزن حول عنق البحر، يُطوّق الرمال وهمس الموج.. ساكنة هي مدينة الحلم... منذ فجر صارخ، لم يقذف البحر أحشاءه، لا بسمكة ولا بمحارة. كلّ شيء يتخدّر، وصخور تخبّئ سرًّا، ونقشًا، وذكريات". (ص 68). "ولم ينته الحزن. قد نشلحه على جدار حديقة، تنبت من ضلعه زهرة. قد يورق في نيسان، ويرتدي زرقة البحر وربيع الغيث. قد يسافر بنا إلى حيث كان الوقت يزحف مستجديًا عيون السماء، أن ترفق بنا ولا تنسانا". (ذاكرة العسل المرّ، ص 70).

ميزة أخرى نجدها في لغتها هي ارتباطها بالجسد. وحول هذه القضيّة في أدب المرأة الكاتبة كُتب ونُظّر الكثير، من مُنطلق أنّ المرأة لا تكتب كما يكتب الرّجل، وإنّما تملك لغة خاصّة مرتبطة بالجسد ومأخوذة من عالمها (تأنيث اللّغة): "لامست عنقها الملتوي، شعرت بوخز ألم بين فخذيها، زحفت إلى الحمام، لتزيل قاذورات لعابه اللّزج فوق حقلها المصفرّ.." (أشتهيك يا موت، ص 30)، "يفرد اللّيل فخذيه متراخيًا على سرير يئنّ..."، "نهداها الهَرَمان المكوّران بلون الكرز يستفزّان شبقه، ساقاها النّاعمتان كعمودَي رخام ثلجيّين و.. كلّ ما فيها يثير ذكورته الذّئبيّة" (خطيئة، ص 110).

وأخيرًا،

إنّ جوهر الإبداع الأدبيّ الفنيّ، هو التّجربة الشّعوريّة التي تدفع الأديب إلى محاولة التّعبير عنها تعبيرًا محسوسًا. وهيام قبلان في مجموعتها هذه نجحت في قدرتها الفائقة على الإحساس بأبطالها والتّعبير عنهم بصدق وبراعة، كما نجحت في استقطاب المتلقّي وشدّه وفي اختراق قلبه وعقله، وجعله متعاطفًا وشريكًا معها في مشاعرها وأفكارها ومواقفها، عبر جماليّات النصّ وملامسته للوجدان. ولعلّ الجماليّة الأبرز والأقوى أثرًا تمثّلت في توظيفها للغة شعريّة مكثّفة، مشحونة بالعاطفيّة، تتميّز بالقوّة والعمق وبغنى الدّلالات وبقدرتها على النّفاذ إلى عمق الوجدان واستهداف البعد الإنسانيّ في الإنسان. وعليه، تبقى اللّغة، في رأينا، سيّدة هذه المجموعة وهي التي خَلَقَت قيمتها الجماليّة الفنيّة. أمّا هيام قبلان، فتبقى الشّاعرة والأديبة المبدعة المتميّزة والمتمكّنة من أدواتها الإبداعيّة. ورغم ما مرّت به من ظروف صعبة وخيبات وتحدّيات شاركَتْنا بها في هذه المجموعة، إلّا أنّها، كما نراها أمامَنا، ظلّت قويّة ومبتسمة ومُصرّة على أن تلمح الجانب المشرق للحياة، وبقيت متفائلة آملة بغد أفضل سيأتي، ومتمسّكة بحريّتها في القول والكتابة والحياة لأنّها امرأة تمقتُ القيد، كما قالت، وتأبى أن تعرف أحلامُها الحصار.

***

د. رباب سرحان

......................

* (نصّ المداخلة التي أُلقيت في أمسية إشهار الكتاب، في نادي حيفا الثّقافيّ بتاريخ 16.5.2024)

 

سردية أعترافية – التحدي الوجودي للذات

بما أن الرواية اليوم أصبحت الشغل الشاغل لجمهور عريض من الكتاب من حيث التأثير وسرد المزيد من الحكايات وجمهورها صار أكبر وأعمق وأوسع، بعد أن بلغ الإنتاج الروائي مستوى فاق حجم التوقعات بكثير، لما تنطوي على  ذلك بعد تنويري في أكثر من مجال،  الرواية اليوم تنطوي على سردية متطورة  أدواتها وعناصر تشكيلها السردي من الداخل.. الهم الذاتي الوجودي..، بما يحقق تقدما ميدانيا في فعاليات الحراك الجمالي والفني للرواية  وتفتح سبل التواصل مع المرجعيات المتاحة داخل بنية تفاعلية تنتخب منها ما يشحن الكيانات السردية المؤلفة للرواية بمزيد من القوة والتجلي، ويدفعها في اتجاه ما يتيسر لها من جرأة وبسالة في تجاوز الأطر المعتادة، والثوابت السائدة في إمكانات ثرية وخصبة تجعل من الرواية وسيلة طليعية للتنوير والتحديث.

الكاتب عبد الجبار الحمدي كتب روايته -عوالم السبع- بشغفٍ، ليخوض غمار التسريد، مستفيدا من إرثه الحكائي من القصة والرواية الغني والمتنوع، ومحاولا تأصيل هذا الشكل الأدبي، وعمد إلى تبني الرواية كنمط تعبيري يتفاعل من خلالها مع واقعه ورؤية العالم، والعالم الغرائبية متخذا من السرد آلية لإيصال صوته؛ انخراطا في قضايا مجتمعه وأمّته، مستفيدا في ذلك من مختلف المنهاج الفنية والمعرفية في رفد مشروعه السردي وقد استلهم العرفان في تجاربه  للنّهَل منها، وقد ارتهنت سردياته بطبيعة السياق التاريخي والثقافي لمرحلة التسريد في تلازم جدليٍّ مع الأسئلة الفنية المثارة في كل سياق على حدة..

وتأتي هذه الرواية حسب سياقاتها التاريخية، إلى استحضار المكوِّن العرفاني في تفسير جملة من الاسئلة في سياقنا الراهن، نزوعاً يكاد يتشكل بوصفه ظاهرة.

ويبدو لي أن الرواية الحديثة ستكون من أكثر الأجناس الثقافية والأدبية استجابة لمثل هذا الجدل والتحول باتجاه ولادة رواية جديدة تنبثق من رحم التراجيديا الإنسانية، ومن قلب الفاجعة التي عشناها ونعيشها كل يوم.

لا سيما وان البشرية اليوم، تمر بأزمة خطيرة، ومنعطف تاريخي كبير (سياسي ثقافي اجتماعي)، ربما يعاد فيه تشكيل العالم وفق أسسٍ جديدة. فقد اهتز العالم، واهتزت معه المجتمعات الإنسانية، أمام الرعب الذي فرضته العولمة على الناس في كل مكان، ووجدت فيه جميع الدول والمجتمعات، غنيها وفقيرها، شمالها وجنوبها، نفسها في حالة استسلام فجائعي أمام سلطة  فكرية نفسية -داخلية غير متوقعة –ظاهرة الاغتراب -.3976 عبد الجبار الحمدي

ومن هنا، ندرك أن العالم سيشهد تغيراً كبيراً في المفاهيم والقيم، وربما تلزمنا الحاجة لإعادة تشكيل الأنظمة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، فقد أشعرنا هذا التمزق والاستلاب  بأننا حقاً متساوون في كل شي، تماماً مثلما نشعر بأننا، بصفتنا بشراً، متساوون أمام سلطة هذا الخوف الجديد، وأن العالم الذي كنا نقول إنه قرية صغيرة قد أصبح اليوم أسرة واحدة، وأننا جميعاً -أفراداً وحكومات ومؤسسات- نتحمل مسؤولية مشتركة لحماية الكائن الإنساني، والحفاظ على  انسانيته التي تتعرض كل يوم إلى خطر التدمير بسبب السلطات العالمية والقاهرة.. الفكرية والاجتماعية والدينية -  غير العقلانية وغير الإنسانية التي تمارسها الأنظمة المحكمة دوليا في مصائر الشعوب.

ومن اجل الخلاص من هذا الشرور ارى ان نمارس التطهير من كثير من نوازع الكراهية والتعصب والانغلاق وسيكون هو الحل..

أما هذا التباعد الاجتماعي الذي لم تألفه مجتمعاتنا بعد. وأعتقد أن ثيمات جديدة ستتكرس في المتون السردية، اقرأ منها ثيمة التباعد الاجتماعي التي بدأنا نمارسها على الرغم عنا،

وثيمة العزلة التي سبق للرواية أن تناولتها، لكنها هنا عزلة من نوع جديد عاشها البشر في كل مكان..

وقد ترتبط بثيمة العزلة ثيمة قريبة منها، وهي ثيمة الخوف بأبعادها المختلفة، وهو خوف من المجهول والموت والخرافة. وقد يضرب الخوف البنية الاجتماعية من خلال الخوف من الآخر الذي عبر عنه مرة الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر بمقولته الوجودية الشهيرة «الآخرون هم الجحيم»، أو مقولة هوبز بذئبية الإنسان. لكني أعتقد أن نزعة إنسانية هيومانية تقوم على مبادئ الغيرية والإيثار ستتكرس لمواجهة أي انزلاق نحو الاستذئاب البشري، والخوف المتطرف من الآخر، وهو ما نجده اليوم من إحساس مشترك بمصائر الآخرين، المتمثل بالدور الشجاع الذي تنهض به الامم، ويخيل لي أن هذا المناخ سيعطي ضوءاً أخضر للرواية السيرية، ورواية المذكرات واليوميات، بما توفره حالة العزلة من فرصة للانتباه إلى مركزية الذات المتأملة، فلسفياً ووجودياً، في المصير البشري، وثنائية الحياة والموت، ووضع الإنسان داخل هذا الكون الغامض. وربما سيعود التركيز على توظيفات تيار الوعي والسرد السيكولوجي والمونولوج الداخلي والرواية الاعترافية. وسيكون هناك موقع متميز لعالم الطفولة والصبا والأسرة، ربما للتعويض عن غياب التواصل الإنساني.

اهمية الرواية  أنها تقارب قضية بالغة الأهمية في موضوع الهجرة والنزوح والهوية والانتماء والوطن والحرب وتفكيك الدولة والمصير، ولكل وحدة موضوعية من هذه الوحدات كيانها الإنساني الكبير، المتعلق بجملة هائلة من المفاهيم والرؤى والأفكار والقيم، وهي بحاجة إلى وعي وخبرة وتجربة ومعرفة كي تبلغ مستواها المطلوب.

عنوان الرواية العوالم السبع للروائي عبد الجبار الحمدي والمرتبطة فنيا بالرواية الحديثة من حيث كونها تسبر غور المفاهيم الوجودية والعرفانية وباطن الشخصيات،

فقد جاء في المقدمة:

(البشر خلق موسوم بعاهة التمرد وعدم الايمان بالخالق الواحد انهم كتلة من التناقضات فحتى الذي يعبدونه ربا خوفا وطمعا فمن يعرف الحقيقة في عالم تتمركز الاصفاد بين رجالات يمثلون السلطة يحكمون بأيدي من حديد على كل من يهدد ملكهم ونفوذ امتدادهم في بقائهم على راس السلطة سواء ملوك او رؤساء ولاة او خلفاء مرجعيات او قساوسة .فعالمنا سادي سحاقي مثلي الديوث فيه هو من يتسيد التعاليم...)

تتحدى الرواية كثيرا من التصورات والمعتقدات والقناعات في شكل أدبي، يحتكم للإبداع وحرية الكاتب، والحديث في تفصيلاتها وما يجري فيها محدود جدا، ولذا؛ يحق للكاتب أن يحاول ملء هذه الفراغات حسب تصوراته وخياله الجامح، حيث تناقش المسكوت عنه من الثوابت الدينية، وهي في النهاية نص أدبي إبداعي يخضع للمعايير الأدبية لا غير.

 نجح الكاتب  في إيصال المطلوب للقارئ بالمختصر المفيد دون إطالة أو إسهاب.

تميزت لغة الرواية بجمالها وشاعريتها، وجاءت عنصرا فاعلا يحسب للرواية، وعامل جذب للقارئ، بالإضافة إلى السرد السلس الممتع، ونقل القارئ إلى عوالم غيبية بما فيها من إثارة ومتعة وروعة. تهيمن على الرواية الحوارات الداخلية،فقد لجأ الكاتب إلى تقنية الميتا – نصية حيث يتعاقد مع القارئ على كتابة حكاية يروي سرديتها شخصياتها ذاتهم، وهي تأتي كرد فعل في زمن بدأ يشهد حراكا ووعيا

تضمنت الرواية مجموعة من الفصول المتعددة، واعتمدت على الراوي العليم الذي تسلم زمام الحكي على مدار الرواية، وأتاح الفرصة لبعض الأصوات أن تتحدث فقط، لتعرض تجربتها أو معلوماتها أو اهتماماتها مع الحياة

(اني اقف اليوم على اعتاب بوابات عالم واسع لقيط بالتأكيد الحرام فيه سدادة قنينة لزجاجة رميت في بحر ركبه وولج باطنه زبد السنين التي كانت بداية الخليقة بعد ان محيت ذاكرته لكثرة ما ابتلع من قصص وروايات وامصار عصور ...قد رمى بي على اعتاب ملجا لا ادري لم، لكني اعلم جيدا من اكون فانا لست ذلك المخلوق الذي جاء من العتمة الى النور المزيف لكني جئت من العدم والطلمة حاملا النور شعلة دليل لنفسي لا اخجل ابدا منها او ما يطلق عليها من الذين يعرفون خلفيتي)

في رواية الحمدي يستطيع المتلقي أن يجد ذاته المتعبة أو النافذة إلى عوالم الروح بسلاسة لغوية فيها من جدل يقيتي ما يتوق له القارئ. وأن يضيء كثيرا من الزوايا –الملجا-المعتم وأن يخترقَ جدران الألم ليصل إلى الإنسانية الحالمة والروح النقية..

لقد أتت الرواية بعنوان "عوالم سبعة" والقارئ المتمعنُ في هذا العنوان لا يفوته أن ينتبه إلى أنَّ الكاتب يسهبُ كثيرا في البحثِ عن دلالاتها العرفانية، فهو يختصرُ المسافة نحو المعنى بما يكفي لترسيخه. ثم إن هذا العنوان يصلُ بالقارئ إلى أنَّ الكاتب يترك روايته مفتوحة فهو لا يؤمن بالنهاياتِ المطلقة بل يجنحُ إلى النهاية النسبية غير المنتمية إلى سياقٍ بعينه.

الكاتب في هذا النص  امتلك رؤيةُ وقدرة على ترسيخ اللغة وصياغتها في قالبٍ يصل به إلى النافذةِ التي تطل على القلوب والعقول معا، وحاول ان يتجردُ من الواقعِ ليستعمل مفردات تخرجُ عن صمتها المعتاد ليتكلم كل جزء فيها ويخلق ما يريده هو أن يكون، أما رؤية فهي تتجاوز الزمن وحدود الجغرافيا لتنهضَ بالقارئ إلى تعميقِ فكرة العرفان بين البشرية لينصب نفسه  سفيرا- الأمل والحياة والروح.

وهذا هو التطرفُ الأجمل والفكرةُ الأكثرُ انصياعا للقلب ويطمح إلى التوفيق بين الديانات جميعها والكشف عن معناها العميق بواسطة معرفة باطنية وكاملة .

وما يلفت في هذه الإشارات الصوفية أنها جاءت في كثير من الأحيان غير مباشرة بل بالإيحاء وهذا بما لا يترك مجالا للشك بأن الكاتب يبثُّ روح السلام والمحبة في نصه الروائي ومن خلال شخصيته المركزية –حنظل عسل -.

أما الوطن في الرواية  فيتعدى حدود الأرض والمكان ليصبح روحا تتنقلُ في أرجاء الوجعِ الذي ينتمي له البطل في الأصل فيصطاده حزنا خلف حزن ووجعا خلف وجع ولا يفوته أن يصل إلى عمقٍ آخر من أعماق الوطن- وهذا ما أسميه متلازمة الوطن-.

(خرج محظوظ مصدوما كيف تعقدت الامور لم لم تسير حسب ما أراد لها كيف ظهرت هذه العجوز في حياتي فجأة والتي قلبت موازين حساباتي،،، ياللجحيم كيف للقدر ان يسير بغير المتوقع، كيف لي ان انسى اني تحت مجهر لا يمكن ان يغفلون عن مراقبتي وانا على قطعة زجاجة اختبار منظورة حذرني حنظل الاسود من قبل عن الغرور لكني لم اخذ بنصيحته ...اللعنة علبيك فشلت في ان اكون سيدك وسيد كل من حسبته صديق لي ...اللعنة)

الكاتب استطاع ان يعمق من الرؤية المكانية في هذه الرواية، مشيرا إلى أن المكان –مدينة مليلية وسبته التي تسيطر عليها اسبانيا وتعد جزء من المغرب -يشكل البعد الرؤيوي لشبكة العلاقات التي تتظافر لتشييد المكان، الذي تجري فيه الأحداث بفعل الشخصيات، فالمكان ليس مجرد تشكيل للمادة والأشياء في صورة تدرك لذاتها، إنما هي تظهر في النص من خلال زوايا نظم رؤى لتعبر عن انبثاق عالم كامل له حركته ومجاله الانفعالي. وقد قسّم السعدون بحثه إلى رؤية تشكيلية ورؤية سينمائية.

(في تفس الليلة التي غادر فيها اصدقائه جلس يفكر كثيرا في سؤال كان يلح عليه ونسي ان فتنة تنتظره وذاك ما اخبره البرنس حين همس له في اذنه ...ترى ماهي مقاييس العقيدة التي يمكنها ان تسيطر على عقل الانسان وتجعل حياته تسير ضمن منهج ثابت ...اهو عقل ام الفطرة ....)

واخيرا ان رواية «العوالم السبع» سردية مكتنزة بالواقعية -الفنتازيا، التي رسم معالمها الكاتب بمهارة عالية، فمنحنا مشاهد متشابكة ومتداخلة حد الغموض، لكن معالمها واضحة وخيوطها ممدودة بمهارة وحرفية باذخة.

وقد توقف الكاتب طويلا عند الشخصية الروائية –حنظل العسل- في هذه الرواية «  الشخصية المحورية» والتي تحظى بعناية الراوي كلي العلم أولا، ثم الراوي الذاتي في ما بعد بوصفها مركز الفعل السردي في الرواية، فهي فعلا مركز الحدث الروائي وجوهر الحبكة السردية.

كما يشير الكاتب الحمدي إلى أن الرواية لم تتوقف عند حدث مركزي، خاصة أن العنوان لربما يوحي بذلك، بل هناك امتدادات سردية تفضي إلى تفرعات كثيرة، داخلية وخارجية تتلاحم مع بعضها في إطار حبكة تشكلت أبعادها من رؤية العالم المستقبلية.

***

عقيل هاشم

(مسامير من طين) مجموعة شعرية للأديب حميد الحريزي، والصادرة عن دار رؤى للطباعة والنشر /الطبعة الأولى 2024 .

حميد الحريزي أحد أبرز الأسماء الأدبية العراقية، يكتب في مختلف الأجناس الأدبية: النقد الأدبي، الرواية طويلها وقصيرها جداً، القصة القصيرة، الشعر، إضافة الى الدراسات السياسية والفكرية. فهو بهذا مثقف موسوعي بارز، له بصمته وحضوره النشط والمثابر الغزير، في المشهد الثقافي والأدبي العراقي والعربي.

في النظر الى مجمل نتاجه الأدبي، نراه يتجه الى الكتابات الخارجة عن المشهد العام السائد في عالم الإبداع المتنوع الأجناس شكلاً  ومضموناً؛ إذ يتجه صوب الغرائبية الحكائية الشبيهة بالأساطير في رواياته القصيرة الصادمة، حيث يختار حكاياتٍ تاريخية المضامين، ممزوجة بالخيال والخلق، والأسطورة، كأنه يعيدنا الى حكايات ألف لية وليلة الخيالية المليئة بالأحداث الغريبة والشخصيات غير المألوفة. فمن رواياته القصيرة جداً (مذكرات كلب)، (أرض الزعفران) وغيرهما، ومنْ خلال حكاياتها يعرض لنا ما يعيشه الناس في بلادنا اليوم من واقع ووقائع اجتماعية وسياسية وقيمية، ناقداً وفاضحاً ورافضاً، بدل الاتجاه لتناول الأحداث والشخصيات الواقعية اليومية الحية التي تتحرك على أرضنا وبيننا ضمن ظروف سياسية واجتماعية تديرها وتتلاعب بها وتؤثر فيها سلباً، نجده يتجه هذا الاتجاه؛ ليضفي غرائبيةً، وإثارةً وتشوقاً للمتلقي، فينحت تأثيره المطلوب في نفسه. ومن منطلق اختياره الجديد للانطلاق في عالم الأدب الواسع، نجده يتجه أيضاً في شعره، صوب الصادم من القصائد، مختاراً قصيدة النثر شكلاً، وهذا بسبب موقفه الفنيّ تجاه البناء الكلاسيكي العمودي، وشعر التفعيلة، للقصيدة العربية، فهي في رأيه من القيود التي تحدّ من حرية الشاعر في التعبير، ومن الإنسيابية في ولادة القصيدة وما يريد الشاعر أن يقوله ويقدمه من افكار ومشاعر وأحاسيس منطلقة في فضاء رحب وما تحمله وتخلقه مخيلته من رؤى وصور، دون عوائق وعقبات من وزن وقافية وتفعيلات.

بعيداً عن الكتابة، التي عُرف واشتُهر بها، يكون سؤالنا:

من هو حميد الحريزي الإنسان؟

يجيب هو من خلال شعره قائلاً في نصّ (أبي "هايكو عراقي") ص ١٩:

والدُنا

تركَ لنا

بيادرَ منْ فقرٍ

فشيّدنا لهُ

ضريحاً منْ حسراتٍ

ترِكتُهُ

كرامةٌ وعِفةٌ وعزةُ نفسٍ

تعذّرَ على أبنائهِ توزيعُ الميراثِ

لأنّهُ لا يقبلُ القسمةَ

إذن هو من عائلة فقيرة، لم يرثْ عن أبيهِ مالاً، ولا أحمالاً، غيرَ بيادر من فقرٍ، فما كان منه ومن أخوته إلّا أنْ بنوا له ضريحاً من حسرات، هنا استعارة إذ شبّه كثرة وحجم حزنهم على أبيهم بضريحٍ، وهذه دلالةٌ على كمّ التأثر والأسى الذي أصابهم برحيله، وعمق الحزن الذي تركه خلفه إرثاً لهم. لكنّ الإرث الأعظم من كنوز قارون هي: الكرامة، والعفّة، والشرف، وعزة النفس، والاستقامة، ونظافة اليد، والكفاح الذي أوصل أديبنا الى ما هو عليه اليوم من مكانةٍ ثقافية عليا، لقد خلّف للأمة ولداً صالحاً ذا علمٍ، يدعو له بالخير، مثلما يدعو له الآخرون. هذا التركة الغنية ليست بمالٍ، ولا ضياع، ولا قصور كي يتقاسمها الورثة، إنّما ترك إرثاً غنياً بالقِيَم والمبادئ، والأخلاق النبيلة المُشرِّفة، التي تبقى خالدةً مع الزمن، عصيةً على التقسيم؛ لأنها وحدة صُلبة لا تتجزّأ، ولا تنقسم.

والسؤال الثاني المطروح على مائدة البحث والاستقصاء والتحليل:

من هو حميد الحريزي شاعراً؟

يجيب بنفسه أيضا شعراً قائلاً في قصيدته الموسومة بـ(قصائدي لا تصلح أنْ تكون هدايا)  ص 17 / 18:

أرسمُها

حروفاً بشرايين العين

لصوصَ شعرٍ تخرجُ من معطفي

*

فيختالُ معطفي فرحاً

أنّه أولُ مَنْ حطّمَ أمامها كلَّ

أصنام التفعيلات

*

حروفي تحملُ سحرَ

الثلجِ

وتلبسُ فستانَ

الجمرِ

قلْ ماشئتَ، فأنا لا أشبهُ غيري

قلْ ما شئتَ فأنا أقدّسُ

شِعري

فالشعرُ عنده ليس هديةً أو هبّةً، إنه شيءٌ مقدّس، سحرٌ، سحرُ ثلجٍ، ويرتدي فستاناً منَ الجَمْر. وبناءً على اعترافه هذا، فالشعر عنده محرابٌ يُصلّي فيه، ويتبتلُ مثل عابد، وينقلُ لنا ما ينزلُ عليه مِنْ وحيٍّ، وولادةٍ بعد مخاض التبتُّل والانتظار، وهو غائبٌ ذائبٌ في الذات الشعرية، لتتكوَّن وتكتملَ خَلقاً وبناءً لغويّاً بلاغياً، وكياناً منْ قصيدة، فتنطلق نافذةً منْ روحِهِ ومنْ أحاسيسهِ مثل نيزكٍ مُشعٍّ وجمرةٍ حارقةٍ؛ لتكونَ قصيدةً تكتنز بالمتضادات (الطباق بلاغياً): فهي مِنْ جمرٍ، وثلجٍ، وسحرٍ، بحيث لا تشبه غيرها من قصائد الشعراء: مَنْ كائنٌ الآن، ومَنْ كان في ما مضى من الزمان، عبر عصور الشعر المختلفة. فهو ساحر النقيضين الثلج والجمر، السحر والحقيقة الواقعية.

هو حميد الحريزي الذي لا يُشبِهُ في الشعر غيرَه. لقد خرج عنْ عباءتهم الكاتمة للنور، ومعابدهم الحجرية، وسطوة قيود الوزن والقافية؛ لينطلقَ في فضاءات شعرية جديدة، ويؤسِّس لنفسه عالمه الشعريَّ الخاصّ، بعيداً حتى عن شكل قصيدة النثر بقوانينها الموضوعة، والمتطورة، تصاعدياً فنيّاً، مع التطورات والتغيّرات الحضارية، زمنياً خارج أُطُر الكلاسيكية الشكلية السلفية المقدّسة الثابتة غير المتحوّلة، والغافية في حضن القياس الصارم، لا الانطلاق والتحرّر الحاسم. وهو ما نلقاه في دواوينه الأربعة. كلُّ ديوان له سماته شكلاً، ومضموناً، بإرادةٍ وتصميمٍ فنيٍّ خطّهُ في مسيرته الشعرية:

قلْ ماشئتَ، فأنا لا أشبهُ غيري

قلْ ما شئتَ فأنا أقدّسُ

شِعري

الشعرُ في مفهومه فنٌّ مقدسٌ، وبما أنه يقدس هذا الفنَّ الإبداعي في داخله فهو يتجه صوب البناء والمضمون الذي يراه أهلاً لهذا المقدّس، وينطلق من نفسه بما يوحى اليه، وما يؤشّر ويدلُّ عليه؛ ليكونّ عِقداً فريداً منْ صياغته لا من تقليدٍ لغيرهِ من الصيّاغ. لكنْ في الوقتِ نفسه الى جانب ثورته على الشكل وقيود التفعيلات وأوزان الشعر المنهجية الكلاسيكية في قصائده، إلّا أنه تجمعها وحدة المضمون السياسي والاجتماعي، والرؤى الفكرية والفلسفية والعقيدة السياسية الاجتماعية؛ وذلك لالتزامه الأيديولوجي اليساري، المؤمن بالعدل والمساواة والحرية والحياة الكريمة، والدفاع عن الفقراء والمضطهدين في العالم، ودعوة الجياع الى الثورة، ومهاجمة الأغنياء والمترفين، والرأسماليين المتوحشين، وعبدة الدولار الأمريكي؛ وهذا بتأثير من الفكر الاشتراكي العلمي الذي آمن به، وناضل وتحمّل منْ أجل موقفه هذا الكثير، وهو الموقف الذي ما زال متمسكاً بعروته الأيديولوجية، دون فكاك، ولا انقلاب نحو الصوب الآخر أو الصوب النشاز، أو الانزواء، ولا تراجع، ولا تغيير، ولا خيانة فكرية،  ولا تنازل، أو مساومة، أو صمت:

تساقطتْ دموعٌ

مِنْ عيونِ طفلٍ جائع

منْ عيونِ طفلةٍ يتيمة

حفرتْ أُخدوداً

في جبهةِ الأرضِ

أوقدَها

لهيبُ حسرةٍ أمٍّ موجوعةٍ

فالتهبتْ ناراً

تحلَّقَ حولَها الجياعُ

فارَ التَّنورُ

فإلى أينَ المَفرُّ

أيُّها الرغيفُ المسروق؟؟

تحوَّلْ ناراً حاميةً

في الكَرْشِ المدلوقِ

تبَّاً لكُمُ

مُلّاكَ التِّبرِ

مُلّاكَ الدولارِ

فبئسَ المالُ الفُسوقُ

(من قصيدة "الرغيف الهارب")

الرومانسية في الديوان:

في خضم الموجة المبدأية الفكرية والسياسية والاجتماعية، والالتزام بها، تناول الشاعر أغراضاً شعرية أخرى، منها الغزل الرقيق رومانسياً، وأسلوباً عذباً، ولغةً تناسب المقال والمقام، لنقرأْ ما يقول في قصيدة "قبلة شقائق النعمان" ص 88:

ما بكِ

أيَّتُها الأميرةُ الساحرةُ

أهملتِ شَعرَكِ الذهبيَّ

لتذروهُ الرياحُ

فسرقتْهُ الشمسُ

المتربصةُ

خلفَ دياجيرِ الغيومِ الهاطلةِ

أهملتِ شمَّ زهورِ الياسمين

فاستعمرَتْها العناكبُ السَّوداء

مِشطُكِ الذَّهبيُّ

أصابَهُ الضجرُ

*

النهرُ العاشقُ

يتأوَّهُ شوقاً

الى عطرِ جسدِكِ الذي

أسكرَ مويجاتِهِ الراقصةَ

*

إخلعي ثيابَ الحزنِ

حبيبتي

لتخلعَ الشَّمسُ ثيابَ الحِدادِ

ابتسمي حبيبتي

لتعانقَ

شفتيك

شقائقُ النُّعمانِ

يستمر في وجدانياته ورومانسيته الرقيقة الحارة حرارة العاطفة المتوهجة، ليثبت أنّ الأدبَ الملتزم كمفهوم فني لا يعني الجمود عند الثوابت الفكرية والسياسية إنّما يتجاوزها أيضاً الى الأحاسيس الذاتية المرتبطة بالعواطف الإنسانية كالحبّ، والحزن، والفرح، والغضب، والرضا، وغيرها، وهي حالات فردية تصيب الإنسان في كلّ زمانٍ ومكان، فإذا سدّد كيوبيد سهمه الى قلبٍ يخرّ هذا القلبُ صريع الهوى، كائناً مَنْ كان المجروح، قديساً أم من عامة الناس، ذا سطوةٍ أم صعلوكاً، مثقفاً أم أميّاً، عالماً أم جاهلاًأ؛ فالكلُّ في الهوى سوا، كما يقولون. ولْنقرأْ معاً ما يبوح به في قصيدة (وحام الزهور) ص 118:

توحَّمَتْ

وردةُ الجُوريِّ

بقطرةٍ مِنْ رضابِ

حبيبتي

توسَّلتْها أسرابُ العنادلِ

بالقُبولِ

فاشْتعلَ غَيرَةً

ندى الصَّباحِ

ولْنتزوّدْ بهذا الزاد الرومانسي في قصائد الحريزي، ولنرفعْ كؤؤسَ ذائقاتنا لِنرتشفَ رحيقَ الحبِّ في كلماته واهتزازاته القلبية العذبة، ولغته الرقيقة، التي تختلف عمّا نلقاه في صرامة النقد، وفضح القبح في الواقع السياسي والاجتماعي،  ولغته المتجاسة والمناسبة للحال والمقام والمقال، وهذا ما يمتاز به اسلوب شاعرنا الفنّي، على مقولة "لكلِّ مقامٍ مقال"، فلكلِّ ولادة قصيدة مقالها الخاصّ المتوافق مع مضمونها وولادتها. فكما أسلفتُ: فلنتزوّدْ، ولْنحتسِ كؤوسَ رحيقِ الغزلِ منْ شعره، فنثملُ وتتراقص قلوبُنا، ومن قصيدة (ورد الياسمين)  ص119

يا ملهمتي

يا مَنْ أنسيتني طولَ سنيني

يا ندى الصُّبحِ

يا بلسمَ الجُرحِ

يا وردَ

الياسمين

يا شِفاهَ الكرز

يا قُبلةَ الروحِ

يا طعمَ الشَّهدِ

هائمٌ أنا.. أحبُّكِ

نعم، أحبُّكِ

حبَّ المجانين

لكِ منّي معَ الريحِ

على ثغرِ النَّسيمِ

قُبُلاتي الملايين

كفاكِ وعوداً

روحي تكرهُ الوعودَ

كما يكرهُ القيدَ المساجين

عنوان الديوان:

اختار الشاعر عنوان الديوان من اسم احدى قصائده (مسامير طين "نصّ سائل") ص 103.

وبما أنّ عنوان أيّ كتابٍ أو نصّ هو البوابة الرئيسة والمهمة، والعتبة التي يعبر عليها المتلقي للولوج داخل المؤلَّف وما يحتويه، لذا فإنّ الدقة والصواب في اختياره عملية ليست سهلة على الكاتب، قد تكون أصعب من المضمون. لهذا جهد الحريزي أنْ يكون اسم المجموعة عتبة نصية حاذقة ومصباحاً منيراً للقارئ، يضيء زواياها كشفاً أولياً أمام عينيه ووعيه وإدراكه، وقد أجاد وأصاب برميةٍ منْ رامٍ خبير، وهو  الخبير في الأدب وفنّ الكتابة بمختلف أجناسها الأدبية، وكما أسلفنا في قراءتنا عمَّا تدور حوله قصائدُ المجموعة. فاختيار العنوان كان (مسامير) منْ (طين). فالكتابة المسمارية على ألواح الطين مربوطة بالتاريخ الحضاري العراقي القديم في الكتابة السومرية والأكدية، حيث الكتابة على الطين بما يُسمى بالخط المسماري، وهي إشارة حاذقة من الشاعر لربط قصائد المجموعة بالتاريخ العراقي السومري والأكدي. وفي العنوان تورية هي ضربة معلّم حصيف يعرفُ ما يقول وما يريد: فهو باختيار المسمار، ترابطاً مع القول العراقي (ضُرَبَهْ بِسْمار) بمعنى ضربه بمسمار أي توجيه انتقاد حادّ موجع غير مباشر الى شخص مُخاطَب ليحدث وجعاً مثل وجع المسمار إذا دُقّ في جسد من لحم. لكنّ شاعرنا وجّه المسامير الى أناس وأحداث ووقائع مرّ العراق بها ويمرّ. وهنا عتبة أولية إشارية ودلالية للمتلقي قبل تقليبه صفحات المجموعة، بحيث يمهّد الطريقَ لوعيه وادراكه وقراءته ما تتضمن قصائدُها من موضوعات ومعانٍ وغاية يتوخاها الشاعر، فهي نقدية حادّة، ولمَنْ؟ هذا ما سيكتشفه القارئ المتصفِّح المهتم، والناقد الباحث المُستكشِف، والدارس المتخصّص. وبما أنّ الأديب حميد الحريزي معروف باتجاهاته الأدبية والفكرية، يردُ مباشرةً على ذهن العارف به والمتابع له شعرياً ونثرياً، أنّ المضمونَ سياسيٌّ اجتماعيٌّ نقديٌّ حادّ.

***

عبد الستار نورعلي

للشاعر سعد ياسين يوسف نموذجاً

جدل العنونة والإهداء:

تعمل العتبات النصية عادة على تمثيل الرؤية الشعرية العامة لدى الشاعر، وهو يحاول إيجاد ما أمكن من الصلات بين العنوان الذي يرغب بوضعه لديوانه الشعري بوصفه العنونة الكبرى، أو العناوين التي يضعها لقصائده بعد ذلك بما يمكن وصفة بالعنونة الصغرى، وحين يرغب بوضع إهداء فإنه لا يضعه بعيداً عن جوهر العنونة وما تفرزه من معطيات دلالية وسيميائية ورمزية لها علاقة وثيقة حتماً بطبيعة التجربة.

ديوان "أشجار خريف موحش" للشاعر سعد ياسين يوسف يتكون من فضاء خبري تحمله مفردة "أشجار" وقد جاءت على شكل جمع نكرة، بحيث تحيل على كل ما يوجد في الطبيعة من أشجار بكل ألوانها وأصنافها ونماذجها وأشكالها، من دون تعيين أو تحديد، وهذه المفردة على مستوى التشكيل النحوي هي خبر لمبتدأ محذوف تقديره "هذه" أو "هي"، وفي الحالتين كلتيهما ثمة تركيز على الخبر بوصفه المقصد الشعري الأساس من الإشارة الخبرية، بكل ما تتمخض عنه المفردة من دلالات مفتوحة على معانٍ لا حصر لها تتصل بصورة الأشجار وطبيعتها وتاريخها وحضورها في عالم الطبيعة، ومن ثم تأتي إضافتها إلى نكرة مفردة "خريف" كي تشكّل بهذا التضايف صورة أكثر انتماء إلى الطبيعة، إذ إن "خريف" هو أحد الفصول الأربعة الرئيسة في الطبيعة؛ وله خصائص وصفات ومزايا شديدة الخصوصية، طالما استثمرها الشعراء في قصائدهم بتوجيهات رمزية وسيميائية عديدة.

من الواضح أن التعبير التضايفي "أشجار خريف" بهذه الصورة يحتاج إلى إضافات تشكيلية أخرى كي يتجلّى المعنى بشكل أوضح، لأن هذا التعبير يبقى ناقصا بانتظار حلقة لغوية تسهم في إكمال الصورة والمعنى معاً، لذا فإن النعت "موحش" يجعل المنعوت "خريف" ماثلاً في دائرة مهمة إكمال المعنى العنواني، وهنا تكتمل الصورة العنوانية كي تدلّ على أن المقصود الأصل في تشكيل العنونة هو "خريف" بعد أن يحمل صفته "موحش" من جهة، ويعود إلى حمل اللفظة الخبرية الجمعية "أشجار" من جهة أخرى.

تتجه الصورة العنوانية في تشكيلها نحو فضاء يركّز عدسة كاميرا التصوير على "خريف" موصوف بـ "موحش"، وتتجلى صفة الوحشة في الـ "أشجار" التي تنتظم مع "خريف" ومع "موحش" في تشكيل تنكيري متجانس، لا يحصل على فرصة التعريف إلا من خلال احتشاد الألفاظ الثلاثة كلها مع بعض، في سياق تركيبي لغوي واحد ينتج الصورة المأسوية التي أراد الشاعر فرضها على مساحة العنونة الكبرى، كي تلقي بظلالها بطريقة أو أخرى على عناوين الديوان الصغرى وهي ترتفع على رأس قصائد الديوان.

 تحمل هذه الكلمات في صفحة الإهداء كثيرا من القيم الدلالية التي تتفاعل مع دلالات عتبة العنونة، إذ تعدّ عتبة الإهداء موازية إلى حد ما تتوسّط العتبات النصية الأخرى، وتستخدم هنا همسات الحروف المعبرة عن عمق الإحساس بالأشياء، لتخلق مقدمة خاصة لشرح الفلسفة التي يقوم عليها الديوان وذلك من أجل إنشاء جسر يصله بالقارئ/المتلقي، ونص عتبة الإهداء المشتبك مع عتبة العنونة هو:

(إلى الذينَ أشرعوا صدورَهم /للرصاصِ... ...

أملاً بربيعٍ مبهج ٍ

ولمْ يَكُنْ سوى/خريفٍ موحشٍ)

يشكل الإهداء الجسر الذي يصل خطاب الآخر بخطاب الذات ليحمل رؤية كاملة ومتكاملة عن جوهر التجربة، وهو ما يسعى الشاعر إلى تكريسه ضمن عتبة عنوان ديوانه "أشجار خريف موحش"، من أجل تمثلات وتجليات لنموذجه الشعري الخاص، الذي يعبر عن هويته في إعلان الفضاء النصي بطريقة معينة في هذا السياق وداخل هذا المضمار، لنكتشف وعيه في عملية الاستثمار النصي الجمالي في مساحة العناصر التشكيلية. ومن خلالها يعبر في آليات السرد الشعري عن روح التجربة ووحدتها السيميائية والرمزية والأسطورية، من أجل أن يعبر عن مقولته الشعرية في نهاية المطاف.3968 سعد ياسين

ويشير -أعني العنوان "أشجار خريف موحش"- إلى حالة من الوحدة والضياع والغموض مرتبطة بمظاهر الاكتمال وتغير الألوان. وهذا مؤشر على نهاية الدورة الحيوية للطبيعة، فضلاً عن كونه رمزاً للآخر مع اندماج وانصهار حالة العزلة أو الحزن أو الخسارة. كما تهدف الصورة العنوانية على هذا النحو إلى نقل التجربة الشعرية الشخصية نحو فضاء شعري سردي درامي، لتقديم... الموضوع أمام الذات، العام على الخاص، البعيد على القريب، الشامل على الجزئي، في استراتيجية شعرية يتجلى فيها المفهوم الجديد للشعر، ويعمل وفقه على أكثر من مستوى فني وأكثر من صعيد جمالي.

ولا سيما حين يستخدم الشاعر لغة شعرية محددة جداً في طريقة استخدامها النوعية على مستوى حركة الدال والمدلول وتفاعلهما معاً، وعلى مستوى التعبير والتشكيل في اختيار نوع البناء وطريقته ومنهجه وأسلوبه، تماشياً مع طبيعة الزخم الشعري الذي يتمتع به ديوان "أشجار خريف موحش" من نواحٍ عديدة ومجالات متنوعة، لا تقف عند حدّ التنويع العنواني للقصائد وأثرها في التشكيل العام للقصيدة، ولا عند حدّ الحكاية ولا الرؤية ولا الصورة ولا أي معطى فني أو جمالي آخر في فضاء التشكيل المكاني الشعري.

اخترنا قصيدة "قيامة بابل" كعالم مصغر يمثل الحياة بأسرها فهي ذات حركة ثابتة ومستمرة في أن واحد، تشبه حركة ديناميكية الحياة في كثير من معالمها وقضاياها وحكاياتها ورؤاها وتمثيلاتها الكثيرة والمتنوعة في فضاءاتها وإحالاتها.

إن فضاء العنونة الخاص بالقصيدة "قيامة بابل" يستدعي طبقات كثيرة ذات طبيعة أسطورية وتاريخية وزمنية ومكانية، من أجل تحقيق الحدث الخبري الذي يحيل على مرجعية متنوعة في المعنى والدلالة "قيامة"، وحين تضف إلى "بابل" فإن صورة بابل بوصفها من أقدم مدن العالم وأكبر عواصم بلاد الرافدين عاصمة الإمبراطورية البابلية، ومعنى الاسم بالأكدية هو "بوابة الآلهة" الذي يتلاءم في تشكيله العنواني مع دلالة "قيامة"، وما ينفتح عليه المعنى من قيم دلالية لا حصر لها يتجلى كثير منها في طبقات القصيدة، وتعمل الطبقات بطريقة عالية التداخل والاشتباك للتعبير عن جوهر الأطروحة الشعرية التي تتبناها القصيدة، وهي أطروحة تقرأ الماضي والحاضر وتستشرف المستقبل.

طبقات القصيدة وإمكاناتها الجمالية:

شئنا في قراءتنا أن نقترب من القصيدة في سياق يتضمن وينطوي على رؤى في فضاء نقدي يحمل تفسير وتأويل معطياتها، والكشف عن خصوصياتها الجمالية، من خلال محاور نقدية عديدة، فهي قصيدة عميقة ومنفتحة إلى آفاق شعرية متنوعة، وهذا ليس بجديد على نص الدكتور سعد ياسين يوسف؛ إلا أن الشاعر في هذه القصيدة ومن خلال مقاطعها التي تتكون من سبعين مقطعاً تمكّن من طرح فضاء شعري حاوٍ لإمكانات شعرية خاصة، ولا سيما أنها تحتوي على أطول نصوص ديوان (أشجار خريف موحش).

 سعى الشاعر إلى إضافة شيء جديد للعلاقة بين درامية الفضاء المكاني والشعر. وفي كل مقطع من القصيدة توجد ثيمة ويوجد نشاط درامي خاص، يتميز باستمراره مع ما سبقه وما تلاه من جهة، إضافة إلى تميزه بنوع من الاستقلال البنيوي الذي يجعل من المرور مشهداً شعرياً درامياً متكاملاً من زاوية أخرى.

إذ قسمنا مقاطع القصيدة "قيامة بابل" على مشاهد؛ لأننا نعتقد أن الفعالية المشهدية بطابعها الدرامي هي الصورة المثلى التي عملت في المجال الشعري الدرامي داخل عموم القصيدة، ، بما يمتاز به من حساسية تصويرية / مشهدية تتجلى في عناصر التشكيل التكويني كالشخصية، والمكان، والزمان، والحدث، والصراع، وغيرها، فضلا عن وجود العناصر الشعرية الأساسية كالخيال والرمز والرؤية الشعرية وغيرها من العناصر. بما يجعل من كل مشهد من القصيدة علامة درامية تؤكد وعي الشاعر الاستثنائي الذي يدفعه نحو بناء فضاء تشكيلي شعري ودرامي في آن واحد يكشف عن قدر كبير من التماسك والتلاحم والتفاعل.

وقد حرصنا في قراءتنا على أن تكون المنهجية القرائية حرة تستجيب للرؤية والشخصية والذوق النقدي الخاص، مستفيدة من كل المناهج الحديثة التي تمكننا من مساعدة أدواتنا النقدية في العمل التحليلي والتأويلي، بما يمنح الشخصية الناقدة الفرصة الأكبر للظهور والنشوء. وهي تكشف عن المزاج النقدي الخاص، مما يجعل القراءة مجالاً ميدانا جمالياً يسهل مشاركة القارئ/ المتلقي ليكون شريكاً قادراً على التفاعل مع القصيدة مرة، ومع القراءة النقدية مرة أخرى، بعد أن أصبح المتلقي جزءاً لا يتجزأ من الفضاء الإبداعي للشاعر في خلق النصوص الأدبية أو إعادة إنتاجها من جديد.

يوصف المكان النصي بأنه أداة فنية لا يستغني عنها المبدع ليضفي نكهة خاصة على حركة إبداعه. وفي الواقع، يهيمن المكان على بطولة العمل الأدبي في بعض الأحيان، عندما يكون المكان هو هدف النص وغايته، وعلى الرغم من أن المكان يمثل الإطار الذي لا يفقد أبعاده الهندسية تماما. ويقدم التفاصيل في هذا الصدد، لكن خيال الفنان المبدع وذاته ينعكس بالضرورة في أجواء المكان وفضاءاته. ويظهر بظلال وألوان مضافة تثري العمل الأدبي وتجعله أكثر حركة ديناميكية وتأثيرا وحيوية وانفتاحا على بقية العناصر.

إن عنصر المكان يعمل شكلا تكوينيا في مساحة الفضاء النصي بصورة ذات زخم فني وجمالي عالٍ، ليكَون قدرة فاعلة تتجاوز الجماد المنفعل بذاته، وتنتقل إلى مشهد مسرحي على مستوى الفعل والتأثيرات والتأثر. ويشكل ويضيف ويعدل ويلغي ويبدع، وهذا يحدث على المستوى العاطفي والنفسي أو على المستوى الواقعي للحدث، ويأخذ شكله النصي من خلال هذه القدرة المؤثرة الفائقة ضمن المراحل والطبقات للعمل الأدبي من بداية النص حتى نهايته، ولعله في مجال الفضاء النصي الشعري هو أكثر حيوية ونشاطا عند الشعراء الذين يدركون خطورة المكان وأهميته في صياغة جماليات النص.

قصيدة "قيامة بابل" لها عنوان مكاني متحرك يوحي بأنها آتية مكانيا من فضاء الأسطورة نحو الفضاء النصي، وذلك لتصوير طبيعة الحركة الحيوية للشخصية الأسطورية "يا ابنة مردوخ" التي جاءت صورتها ممثلة في الراهن الشعري.

يرصد الشاعر بعدسة كاميرا تركز على البنية المكانية من وجهة نظر الرؤية الذاتية. ويسعى فيه إلى تصوير الفضاء النصي المكاني المتخيل الذي يرتفع فوق المكان الأرضي الطبيعي (بابل)، لارتباطه ببنية مكانية أسطورية تعيد إنتاج حدث مكاني أسطوري في أفق الحدث الشعري الملحمي المستدعى إلى فضاء المكان في القصيدة.

 وما يصاحبها من خصائص متعلقة بالجذر المكاني وحركته الدائرية في أعماق الحدث الشعري "السماء والأرض والبشر، النبات والحيوان، البحار والأنهار، الشمس والقمر"، وبالحساسية الشعرية التي يتصف بها نص الشاعر. وبالرؤية المكانية التي تنتج وتحمل كثيرا من الرؤى والأفكار والتصورات والأحلام، وتعمق صورة الحدث الشعري في المشهد بشكل لا تتوقف فيه الحركة السردية.

يأخذ الحدث الشعري المكاني في هذه الصور بعدا جدليا يشارك في صياغته وإنتاجه وسرده الدرامي، فضلا عن حركة الأفعال المضارعة في النص. وهي تحيط المكان الشعري بإنتاج شعري ذي طابع تكويني محيطي تنويري؛ في سياق رصد الصورة نحو أحد مسارات التشكيل السردي وآفاقه للإسهام في تشكيل الفضاء النصي. وقد يكون الموقع موقعا جانبيا أو أماميا أو رأسيا في القصيدة من خلال عدسة كاميرا التصوير الشعري، وذلك حسب حساسية طبيعة الفضاء النصي في القصيدة وهو يتحرك عبر الزمن والمكان، في صيغ شعرية تستدعي التاريخ والأسطورة والماضي إلى فضاء الراهن كي تتشكل الصورة المطلوبة.

الطبقة الشعريّة الأولى: فضاء النداء المكاني

تبدأ قصيدة "قيامةُ بابل" في طبقتها الشعرية الأولى ببناء مكاني يطلق إشاراته نحو فضاء مكاني ضارب في عمق التاريخ والزمن والأسطورة، وهذه الإشارة المنطلقة من عتبة الطبقة الشعرية الأولى ذات الطبيعة الاستهلالية هي طبقة ندائية؛ يستخدم فيها الشاعر أداة النداء "يا" بصورة استدعائية لأمكنة وأزمنة وشخصيات وحالات ورؤى وأفكار وقيم ونماذج وصور متعددة ومتنوعة في تشكيلاتها.

 بهذا التشكيل المنفتح على آفاق تكاد تحتوي الحياة بأسرها والتاريخ بأسره في تفعيل عميق لعلاقة الذات الشاعرة بالموضوع الشعري:

"بابلُ

يا صخرةَ الإلهِ، يا متَّكأَ العرشِ

 يا لهفةَ الطينِ إلى السَّماءِ

يا هسْهَسْةَ الجذورِ في التّرابِ

يا أصابعَ الخلودِ..

 يا صرخةَ الرّيحِ

يا شهقةَ المعابدِ

يا كلَّ الجهاتِ

يا مُختصرَ العصورِ

يا خبزَ هذهِ الأرضِ، دورتَها 

يا مُختلفَ الملائكة. 

يا بنتَ (مردوخَ)...

يا خالقَ السَّماءِ والأرضِ والبشرِ

يا خالقَ النَّبات ِوالحيوان ِ

يا قاتلَ (ثيامةِ الشّرِ) وسابغَ الخيرِ

على الحقولِ والبراري الخضراء.

يا سيدَ البحارِ والأنهارِ"

تقوم أداة النداء "يا" بدور محوري تشكيلي دائري في بناء بؤرة شعرية مركزية تدور حولها أحداث هذه الطبقة من القصيدة، وتبدأ من مركزية المكان الشعري في القصيدة "بابلُ" كي تبدأ من هذا المكان بكل ما ينطوي عليه من حساسية شعرية حفلة النداء، وتكون البداية من أعلى حلقة في تشكيل المرجعية الشعرية "يا صخرةَ الإلهِ"، مصحوبة بالمكان الخاص والمعبّر عن الحلم الدائم "يا متَّكأَ العرشِ" لرسم الصورة الفوقية العليا لمشهد الفضاء الندائي المكاني، وبماء خط شروع صالح لاستمرارية النداء وصولاً إلى المقصد والهدف.

ثم تبادر ياء النداء للاتجاه نحو الجذر المادي للمكان بكل قيمه الأسطورية من خلال العلاقة بين طبقته العليا وطبقته الدنيا "يا لهفةَ الطينِ إلى السَّماءِ"، والرغبة في العودة إلى مكان الانبعاث الأصلي التكويني، والهبوط في لقطة أخرى إلى حساسية الرؤية المكانية في نموذجها التاريخي المكاني المرتهن بالأسباب الأولى للحياة "يا هسْهَسْةَ الجذورِ في التّرابِ"، والانفتاح على رغبة حلمية أزلية لدى البشر للحصول على فكرة الدوام والاستمرار في الحياة "يا أصابعَ الخلودِ.."، والالتفات إلى الطبيعة في أوج تجليها الإيقاعي العارم "يا صرخةَ الرّيحِ"، لاستكمال الصورة المستدعاة نحو تحقيق خلاص ما في فضاء القصيدة.

تتحول الحالة الندائية بعد ذلك نحو الأمكنة القديمة في تشكيلاتها الدينية الأولى "يا شهقةَ المعابدِ"، مقترنة بالحدود التي ترسم شكل حركية الحياة فيي الوجود "يا كلَّ الجهاتِ"، في سبيل البحث عن معنى ومغزى يختزل الزمن ويختصره في مقولة واحدة ورؤية واحدة "يا مُختصرَ العصورِ"، واللجوء في مستوى ندائي آخر إلى المرجع المكاني الأصيل الذي لا مكان غيره للحياة الفعلية "يا خبزَ هذهِ الأرضِ، دورتَها"، على النحو الذي يسمح للمنادي بتوجيه ندائه نحو أدوات إلهية بوسعها أن تحقق مثل هذا الخلاص المنتظَر "يا مُختلفَ الملائكة"، ومنه نحو ابنة كبير آلهة قدماء البابليين "يا بنتَ (مردوخَ)..." من أجل الاستعانة بها لتحقيق هذا الحلم الشعري الذي لم يعد قابلا للتحقق.

من هنا تنطلق الحساسية الندائية في الطبقة الأولى الاستهلالية من القصيدة نحو لفظ "الخالق" بوصفه المدبّر الأعلى لكلّ شيء "يا خالقَ السَّماءِ والأرضِ والبشرِ /يا خالقَ النَّبات ِوالحيوان ِ/يا قاتلَ (ثيامةِ الشّرِ) وسابغَ الخيرِ/على الحقولِ والبراري الخضراء/يا سيدَ البحارِ والأنهارِ"، في صورته الكلية والشاملة وهو يهيمن على كل شيء ويسيّر كل شيء لكي يأخذ بيد صاحب النداء، ويستعيد بها صورة التاريخ في قلب الراهن والحاضر.

الطبقة الشعرية الثانية: صورة المنقِذ والمخلّص

تنجح الطبقة الأولى من القصيدة في إرساء دعائم التشكيل الشعري الحكائي في سرديته المكانية، وبناء الفضاء المكاني المطلوب بكليته الشاملة العابرة للأزمان والدهور والحالات والحكايات والقصص التي تمتد عبر الزمان والمكان، إذ إن لحظة اللجوء إلى الخالق هي لحظة استثنائية لا تخلو من رؤية صوفية غاطسة في الأعماق:

"إن غبتَ عنها ساعة ًهبتْ عواصُف

السَّماء

واجتاحَ طوفانُ التراتيلِ العيونَ 

حتى استفاقت في المَدى 

نبوءةٌ كانت:

 "أن ائتزر لهم"

في لُجةِ القيظِ في تمّوز

يا أيها المُختارُ من ذريتِها،

يا حاملَ سيفِها متشفعاً بأنليل"

تتحرك الأدوات الفاعلة في التشكيل الشعري للطبعة الثانية من القصيدة داخل رؤية شعرية، تقوم على بناء حوار بين الراوي الشعري وبين شخصية الخالق تتحرّى فيه شخصية الراوي الحصول على الحلّ المطلوب "إن غبتَ عنها ساعة ًهبتْ عواصُف السَّماء/واجتاحَ طوفانُ التراتيلِ العيونَ"، ولا شك في أن مفردة "عواصف" مقترنة بمفردة "طوفان" تشكلان علامة شعرية تستعيد جملة من ملامح الأساطير، القادرة على تثمير الصورة الشعرية في هذه الطبقة من خلال سمات ومزايا وحكايات تتجلى من وحي هاتين المفردتين، ضمن سياق مرجعي يتصل بما تحمله كل مفردة من محكي شعري في أعماقها. 

ما يلبث الراوي الشعري أن يستدعي في خضم هذا الاشتباك الشعري عالمه الخاص هنا؛ بين فضاء المكان وفضاء الزمان وفضاء الرؤية، ويتحرك هذا العالم الخاص في الإلماح إلى نبوءة سابقة "حتى استفاقت في المَدى/نبوءةٌ كانت:/"أن ائتزر لهم"/في لُجةِ القيظِ في تمّوز"، والإحالة على منطقة تاريخية ودينية خاصة يمكن أن تدفع باتجاه حلّ لغز الحكاية الشعرية، من حلال حضور الفضاء المكاني المشحون بحضور الفضاء الزمني.

يعيد الراوي الشعري الذاتي إطلاق آلة النداء في سياق شعري جديد ومنتخَب بعناية شعرية لافتة، عبر استعادة الإله السومري القديم وهو إله الرياح والهواء والأرض والعواصف كي يقوم بدوره في الشفاعة "يا أيها المُختارُ من ذريتِها،/يا حاملَ سيفِها متشفعاً بأنليل"، إذ يستيقظ الإله "أنليل" من رقاده الطويل القديم ليكون هو المنقذ والمخلّص، داخل هذه الدائرة الشعرية التي تتعالى فيها صيحات النداء في الاتجاهات كلها أملا في مصير جديد.

الطبقة الشعرية الثالثة: الاستدعاء المكاني وتخليق الرؤية

تنتقل الطبقة الثالثة من القصيدة نحو فضاء الاستدعاء المكاني الأسطوري من أجل رسم خريطة جديدة للمحتوى الشعري في القصيدة، ويتضمن هذا الاستدعاء المثول بين يدي التاريخ والأسطورة والماضي الزمني الموغل في القدم من أجل تكبير حجم الصورة الشعرية، فهي صورة كلية ومطلقة تتحرك في الاتجاهات كلها على طريق الاستجابة للعتبة العنوانية المثيرة "قيامة بابل"، نحو مسار جديد تحصل فيه الرؤية الشعرية العامة للقصيدة على بغيتها في حراك تمثيلي لا يتوقف عند حد أبداً:

"(الدّيرُ) ... مُنطلقُ النبوءةِ

والنصرُ في عرباتِكَ التي

تسابقُ الرِّياحَ ...

يا بابل،

الكرخةُ نهرُ دم ٍ

وعيلامُ انثنتْ.. تبكي نوائِحَها..

أطفأتْ نيرانَها

اكتوتْ ببابلَ ... حدَّ الفجيعة ِ

وانزوتْ.

البِشْرُ يصدحُ في الدروبِ 

(مردوخُ) عادَ

 يا راقصاتِ المعبدِ المقَّدسِ

يا كاهناتِ (اي ساكيلا)

يا شارعَ المواكب ِ

يا كلَّ أنوارِ المدينةِ هللّي

(مردوخُ) عادَ شامخاً

رايتُهُ للشّامِ... للخليج.

رايتُهُ.. بابلُ الجنائن ِ

اشتعالُ الكوكبِ... قبضةُ هذا الكونِ

لن يسرقَ مسلتَها الغزاة.

اللعنةُ، اللعنةُ حلّتْ."

إن الاشتغال على تخليق الرؤية الشعرية يعدّ من أبرز آليات الاشتغال الشعري داخل فضاء المكان بحمولته الأسطورية والتاريخية، بما ينطوي عليه من حكايات وقصص ومرويات ذات طابع شعبي يعبر من فوق الواقع "(الدّيرُ) ... مُنطلقُ النبوءةِ /والنصرُ في عرباتِكَ التي /تسابقُ الرِّياحَ..."، على النحو يسهّل انتقال النداء إلى مركز العمليات الشعرية المكاني "يا بابل"، حيث يستعيد المحكي الشعري في خضم تواصله مع الذاكرة والماضي التاريخي والأسطوري كثيرا من صور المكان وحيثياته على هذا الصعيد "الكرخةُ نهرُ دم ٍ/وعيلامُ انثنتْ.. تبكي نوائِحَها../أطفأتْ نيرانَها /اكتوتْ ببابلَ ... حدَّ الفجيعة ِ/وانزوتْ"، فتتجلى دائرة فعلية تضم الحراك الشعري بأجمعه في ظلّ فضاء يعمل على حصر الحكاية الشعرية في مسار مشترك واحد.

تتكشف الصورة الشعرية في هذه الطبقة عن رصد الحالة البشرية العامة في إيقاعها الكلي المطلق عبر المكان "البِشْرُ يصدحُ في الدروبِ"، في ظل عودة مردوخ التي تفسح المجال واسعا من جديد لإعادة حفل النداء والبحث عن الآخر "(مردوخُ) عادَ/يا راقصاتِ المعبدِ المقَّدسِ /يا كاهناتِ (اي ساكيلا)/يا شارعَ المواكب ِ/يا كلَّ أنوارِ المدينةِ هللّي"، فثمة دعوة مفتوحة للفرح والاحتفال والبهجة كي يتحول فضاء المكان إلى فضاء المطلق الشعري، لأن عودة كبير آلهة قدماء البابليين له حظوته وسطوته الكبيرة "(مردوخُ) عادَ شامخاً/رايتُهُ للشّامِ... للخليج./رايتُهُ.. بابلُ الجنائن ِ/اشتعالُ الكوكبِ... قبضةُ هذا الكونِ/لن يسرقَ مسلتَها الغزاة"، فتبرز معالم الفضاء المكاني المتعدد تاريخيا وأسطوريا "الشام/الخليج/الجنائن/الكون".

وهنا تحصل الكارثة التي يعلن عنها الراوي الشعري في ختام هذه الطبقة بما يجعل من الصورة الشعرية صورةً مأساوية "اللعنةُ، اللعنةُ حلّتْ"، وحلول اللعنة بهذا الشكل المرعب والمروّع يسهم في تخليق الرؤية على نحو من الأنحاء، ومن ثم تطوير الأداء الشعري باتجاه الانتقال إلى طبقة أخرى ترى من جديد حلم الأسطورة أو أسطورة الحلم، في سياق تمثيلي يحمل بين طياته شكل هذه العودة وفضاءاتها بين الاستدعاء المكاني من جهة، وبين التخليق الشعري للحكاية من جهة أخرى اعتماداً على هوية الشخصية والزمن والمكان والحادثة الشعرية.

تتفاعل الصورة الشعرية على يد الراوي من منطقة الإيجاب إلى منطقة السلب، ومن منطقة البعد إلى منطقة القرب، ومن منطقة الأعلى إلى منطقة الأدنى، ومن منطقة الصوت إلى منطقة الصمت، ومن منطقة الثبات إلى منطقة الحركة، في استراتيجية شعرية تقوم على منطق تشكيلي وتعبيري عابر للمشهدية التقليدية، وهي تفضي إلى حراك شعري لا يتوقف عند صورة وحيدة أو حالة وحيدة أو رؤية وحيدة، بل تنفتح على فضاء مكاني وزمني ورؤيوي

الطبقة الشعرية الرابعة: الاستباق الشعري

تتضمن الطبقة الرابعة من القصيدة نوعا من الاستباق الشعري في تشكيل سردية المحكي الشعري في القصيدة، حيث تتمكن اللعبة الشعرية من العبور إلى منطقة السرد في تفعيل آليّات السرد الزمني المعروفة، في سياق تمثيلي يسلّط فيه الراوي عدسة كاميرا التصوير الشعرية على الحادثة الشعرية بهذه الصورة الحاوية:

"غداً تستوقفُ الريحُ

(أرضَ البحرِ)،

تعيدُ أشرعةَ المراكبِ...

تستجدي عطاياكِ

البحرُ بحرُّكِ والشراعُ شراعُكِ.

بابلُ يا زمجرةَ العواصف

يا صحوَ الرخاء

يا أيقونةَ الإله

غداً ستُبعَثينَ من الترابِ

من طينه ِالفرات ِ

ترتقينَ سفحَ جنّاتِكِ العجابِ

بلا حجاب ِ

تفتحينَ للسماءِ السابعة ِ

قبضتَك.

يبدأ الاستباق الزمني الصوري في "غداً تستوقفُ الريحُ/(أرضَ البحرِ)،/تعيدُ أشرعةَ المراكبِ.../تستجدي عطاياكِ"، أي أن الفعل الاستباقي الذي ستستوقف فيه الريح أرض البحر وتعيد أشرعة المراكب هو فعل شعري درامي "تستوقف/تعيد/تستجدي"، كي تحضر الطبيعة بقوة في هذا المسار الشعري الدرامي "الريح/أرض البحر"، مع فضاء الحراك البحري "أشرعة المراكب" في صورة انزياحية واسعة.

يتعامد بعد ذلك دال البحر في صورة موازية مع الشراع "البحرُ بحرُّكِ والشراعُ شراعُكِ"، من أجل اللجوء من جديد إلى أيقونة القصيدة "بابلُ" من أجل أن يتجدد النداء في مجموعة أوصاف وحالات جديدة لفضاء المكان المركزي في القصيدة "يا زمجرةَ العواصف/يا صحوَ الرخاء/يا أيقونةَ الإله"، وما بين هذه الحالات الثلاث تتردد صورة المكان ابتداءً من الصورة العنيفة التضايفية الأولى "زمجرة العواصف" في مرجعيتها الأسطورية، ثم الصورة الهادئة والمثمرة التضايفية ايضاً "صحو الرخاء" في مجالها الفضائي الرحب، وأخيراً في الصورة التضايفية التي ترتفع إلى أعلى مقامات التشكيل "أيقونة الإله"، بكل ما تنطوي عليه هذه الصور التضايفية من إيحاءات وتمثّلات وإحالات تشتبك فيما بينها للتعبير عن جوهر التشكيل.

ويتبع هذا التعريف نوع من اللوم على رحلته الشخصية في بحثه داخل عتبات المكان والزمان: "غداً ستُبعَثينَ من الترابِ /من طينه ِالفرات" بشكل يجعل الطريق إليه هو الطريق الوحيد الذي يضمن وصولاً آمناً ومريحاً وثرياً ومنتجاً، كما توحي صورة "بلا حجاب" عبر دلالات رمزية يمكن الرجوع بها إلى مراجع أخرى، وهي تحمل مساحة درامية عميقة تنبع من صورة الدهشة الحاضرة في هذا المسار.

وينتهي السؤال الدرامي المنبثق من الآخر المؤنث نحو فضاء الراوي الذاتي الشعري بجملة "تفتحينَ للسماءِ السابعة ِ/قبضتَك/؟" كناية عن عدم القدرة على التمييز بين المسار القريب الذي يمثله المؤنث الآخر؛ ليحمل المسار البعيد المجهول في داخله مزيداً من الغموض الذي لا يمكن معرفته بسهولة، ويأتي الفعل المضارع "تفتحين" على هذا المستوى مشحوناً بطاقة درامية عميقة تكشف الصور الغامضة التي تعيشها الشخصية.

يبقى فضاء المكان بصورته الشعرية التي تحيل على التاريخ والأسطورة والمثال والحكاية والحادثة هو الفضاء الأكثر حضورا وتجليا وتأثيرا في حيوية المجال الشعري، إذ يتمكن الشاعر من بناء الصورة الكلية ومجموعة الصور الصغرى في هذه الطبقة اعتماداً على حيوية اللغة الشعرية ونشاطها الخلاق، واستثمار طاقات الدوال واللقطات والأفعال في البحث عن أرض شعرية صالحة لحركية اللغة، من أجل بلوغ هذه الطبقة مع الطبقات الأخرى في القصيدة مرحلة تكون فيها الأشياء قد أثمرت، في سياق تمثيلي رؤيوي تتلاقى فيه المرجعيات مع الأحلام في عملية اشتباك فلسفي ترفع من شأن الحكاية وتعمّق مساراتها.

الطبقة الشعرية الأخيرة: الاكتمال وصيرورة المكان

تنتهي الطبقة الشعرية الأخيرة من قصيدة "قيامة بابل" إلى صورة معينة من صور الاكتمال الشعري، من خلال فعاليات شعرية تحاول جمع كل تجليات المكان البابلي لإحياء الصورة التاريخية والأسطورية لبعث مكاني جديد، تكون فيه الصيرورة المكانية الشعرية أملا خفياً لصيرورة حياتية تنبعث من قيامة المكان:

"تمنحُكِ كتابَ أسرارِ هذا الكونِ 

من جديدٍ، نبوءةَ الإله ِ

بابلُ ستُبعَثينَ

شاءوا أَبَوا... ستُبعَثينَ.

النجومُ تشرقُ فوقَ جدرانِك.

والشمسُ والقمرُ

لجلالِ هيبتِك

كما النبوءةِ ... ساجدين."

تحظى خاتمة النص في الفضاء الدرامي بأهمية استثنائية لأنها تجيب على الأسئلة وتحسمها، وتعلن عن موضوع النص وفلسفته منذ البداية، إذ تتمتع افتتاحيات النص واستنتاجاته بمكانة حدودية استراتيجية. لأنها تمثل مرحلة العبور؛ إذ يحمل النص طاقات درامية تسدل الستار على الحكاية الشعرية، وتحمل أدواتها لتكوين الصور وتأليف اللقطات والمشاهد داخل حساسية جمالية ترى وتلمس وتشعر وتحسّ وتكّون نموذجها بقوّة اللغة، فحين تكون اللغة الشعرية قادرة على أن ترى أبعد من أهدافها الدلالية القريبة، فإنّها تتسلح بقوة سيميائية عالية تمكّنها من العبور إلى فضاء المكان الشعري بأعلى وأبلغ ما يكون من تشكيل.

يمتلئ المشهد الأخير بحساسية درامية مكثفة ومثيرة تروي حصيلة أحداث النص في طبقاته المتعددة من البداية إلى النهاية، إذ يشهد حوارا حاسما لا رجعة فيه بين شخصيتي النص الراوي الذاتي والآخر، إذ الراوي يتولى زمام المبادرة الشعرية الدرامية ويرسم نهاية إنتاج الحدث الشعري بما يحمل من خزين حكائي قادر على التأثير، ولعل من ملامح الضغط الدرامي في هذا المشهد الأخير من القصيدة بروز البنية الحوارية وتأثيرها في رسم خريطة الأحداث، وما قد تؤول إليه من نتائج تحسم البيان الشعري في فضائه المكاني، على ما يحمله هذا المكان من كنز أسطوري كثيف متعدد الأوجه والمجالات والمحاور.

يندلع صوت الآخر وينبثق بحضور لافت يوجه خطابه نحو الراوي الذاتي الشعري بقصدية عالية، وتبرز فعالية أداة النداء "يا" المستفزة لتعلن جوهر الصوت وقوة حضوره في المشهد شعرياً ودرامياً، تليها الإشارة التعريفية الأكثر وضوحاً للعناية المباشرة، "بابل". بمعنى أن الراوي يشير إلى الذات والمكان والزمان في الصورة الحاسمة والنهائية؛ وكأن شخصية الراوي الشعري تبحث عنها في الطبقات كلها والمسارات كلها.

وما أن ينتهي خطاب الأنثى المتغيرة للراوي الذاتي الشعري من تقديم رؤيته الخاصة المتعلقة بالراوي، حتى يبرز صوت الراوي الذاتي الشعري رداً على ذلك، مما يشير إلى أن الحوار قد وصل إلى مرحلة درامية يزداد فيها الإيقاع "تمنحُكِ كتابَ أسرارِ هذا الكونِ /من جديدٍ، نبوءةَ الإله"، ولا شك في أن "كتاب أسرار هذا الكون" زائداً "نبوءة الإله" يحيلان على عنوان القصيدة "قيامة بابل" بوصفه الحامل الأكبر لأسرار القصيدة.

إن هذا الحوار الاعترافي يكشف البعد الدرامي في تشكيل الفضاء المكاني بكل مقترباته وأشكاله وتحولاته وشخصياته. وما يلبث ما ينتج هذا الحوار كرد فعل مناسب على خطاب اللوم الذي أطلقته الأنثى، لتتحدى ذلك الخطاب وتصوغ رد فعل معاكساً لاقتراح العودة إلى بابل "بابلُ ستُبعَثينَ/شاءوا، أَبَوا... ستُبعَثينَ/النجومُ تشرقُ فوقَ جدرانِك/والشمسُ والقمرُ/لجلالِ هيبتِك/ كما النبوءةِ...  ساجدين."، في حراك شعري ذي زخم هائل يستحضر كل شيء تقريباً للارتفاع بمستوى التعبير إلى هذه الدرجة، إذ ترك الشاعر الطريق الطويلة في فضاء المكان الشعري العام ليقول: "ستبعثين شاءوا، أَبَوا "، أي الاستمرار على نفس الطريق ولو كان الدرب بعيدا، بقصد درامي واضح في هذا التشكيل اللغوي المتعدد الصيغ والتعبيرات والقيم التشكيلية. ويظهر هنا من خلال معنيين متناسبين لغويا، "شاءوا، أَبَوا"، بطريقة درامية عميقة.

تمثل الصفة الزمانية المكانية "قيامة بابل" النقطة التي يصل فيها الشاعر إلى مرحلة تحقيق التوازن التفاضلي بين المشاهد المتناقضة المتضادة، إنها تتحرك في سياق نشاط ديناميكي ينقل تجربة الواقع بكل آلياته. ولا شك أن هذا التصور يجعل من عنوان قصيدة "قيامة بابل" وضعا شعريا مركزيا وليس محايدا كما يبدو للوهلة الأولى.

والجملة العنوانية تبدو جملة عابرة ومكثفة ولا تنتمي إلى حال محددة وضيقة في حد ذاتها. وهو ما يعكس في سياق عنوانه المنفصل عن الجسم الشعري صورة وصفية. بشكل عام، يمكن تكراره مرات عديدة، لكن منذ لحظة دخوله لأول مرة مجال النص الشعري، يتبين أن العنوان مقصود بالتأكيد على نحو يحيل على التاريخ والأسطورة بدلالة الحاضر والراهن، وهذا القصد يتضمن في تضاعيفه العديد من الفعالية الحركية الديناميكية الدرامية على مستوى عناصر التشكيل الفضاء الشعري بتمثيلات المكان والزمان والحدث والشخصيات وغيرها.

يتمتع ديوان الشاعر سعد ياسين يوسف انطلاقا من هذه القصية المركزية والقصائد الأخرى بخصوصية وتفرد يجعله يستحق حقا هذه المكانة، على كل ما تنطوي عليه من مكنونات ومكبوتات النص، وذلك بنظرة معمقة إلى طبقات هذه التجربة وزواياها الفنية والجمالية؛ إذ ما نلبث أن نكتشف طبيعة الزخم الجمالي والموضوعي الوفير في هذه التجربة الشعرية، وهي تتوزع بين التاريخ والأسطورة والرؤية والزمن والمكان على وفق حساسية شعرية مرهفة وعارفة ومستوعبة للحال الشعرية الذاتية والموضوعية.

***

أ.د. رائدة العامري/ العراق

للشاعرة الدكتورة أ. دورين نصر بعنوان: أنثى الحلم

من العنوان نبدأ، وكلمة نحت وتعني فن وعمق وإظهار، ولكن هذا النحت هو على الهواء، ربما أرادت أن تقول غداً لن يبق منا سوى ذكرى وبضع كلمات، ولكننا نعلم علم اليقين أن الحياة ذاتها مجرد كلمة وإن كلمةٌ تحيي، وكلمةٌ تميتُ، ومن أجل هذا تهدي شاعرتنا كتابها إلى أمها باعتبارها أول الكلمات وتهديه إلى أبيها ذلك الحنين المعتق ولهفة الخريف. والمرأة في المحصلة كلمات من لهفة وحنين وترنيمة حياة.

تغازل دورين في قصائدها مثل بوح النسيم ورقة البراعم الغضة فتقول:

"فأنا حين أحببتك

رميت أحزاني

وصارت الشمس تشرق

من عيون القصيدة."

ولأننا جميعا نحتفظ في أعماقنا بطفلٍ أبدا لا يكبر، نكبر ولا يهرم، طفل يقودنا بكل يسرٍ إلى البَدء إلى سويعات الفجر، يستيقظ في لحظات الفرح ليدغدغ أمانينا، تقول في قصيدتها:

"وأنت تهمس في قلبي

فتنضج الحروف على شرفة الحياة.

وأعود طفلة صغيرة."

وما نلبث أن نكتشف فيها تلك المرأة الأنثى التي تحرص على ألا تبوح بالمكنونات كي لا تُبَكِّتُها التفاسير الفجَّة، فهي لا تصرِّحُ له بالحب علانية وتترك له جلاء كلِّ الألغاز:

"لعلي أخاف من لحظة تأتي

 أعرف فيها ما أقول."

هذه هي دورين، عطرٌ من كُلِّ الألوان، وغيرةٌ وغزلٌ وعشق وبحارٌ من هُيامٍ، ولكن حين يصير الواقع مُعتماً، وحين تتوه ابنة الحكاية، لا تجد بُداً من السَّفر عبر حلمٍ إلى وجه الابنة إنانا تستعير منها تفاصيل الحلم، وشروط اللعبة المدهشة، ومن أَولى من ملكة السماء كي تحقق لها الحُلم المستحيل لا فرق كبير في الاسم إنانا أو عشتار فالمهم هو الوصول إلى محطة الحب والجمال والصفاء والنقاء بسلام.

ولكن الويل كل الويل إن يصيب المرأة مللٌ أو يعتريها سأمٌ حينها ستصرِّحُ:

"سئمت التراتيل والغناء والضوضاء

مللت من المرآة ومن العبور."

تستمد دورين من عبق الماضي لهفةً مختبئةً بين السطور، تمشطها بخيوط الروح، تهياها للسفر في رحلة الأمل، هي تعلم أن المرء مجرد عجينة من لون الحزن تتناثر فوقها بضعة حبيبات من فرحٍ ومن سكرٍ.

تبدو مرتبكة خَجْلى، هل تبوح له بحبها علانيةً وتصرح بعشقها وحبها، وتستجمع كل شجاعتها لتهمس له

أحبك، فقط حينها تنفتح كل الزنازين ويخرج المارد من القمقم، وتتغير فصول الحكاية فتقول:

"عندما همست أحبك

صرخ المدى

واهتز صمت الليل

نام الصَّدى فأدركت حينها

أنها تبتسم"

في كلٍ منَّا جراحات لا تندمل فالوطن جرحٌ والشوق جرحٌ والهجر جرحٌ وجراح الروح أقسى الجروح

والحياة في كل معانيها صليبٌ محمولٌ على أكتافنا الممزقة، لا تنتهي عذاباتها إلا في يوم الرحيل البعيد.

ولا أطن أنها كانت مصادفة أن تقع قصيدتها "لن يكون هذا الخريف رومانسياً" إلا إشارةً ضمنيةً إلى انزياح الضوء لصالح العَتمة.

ورغم الوداعة والرِّقة التي غلَّفت معظم قصائد المجموعة لكنها حينما يتعلق الأمر بحقوق المرأة لا تجد غضاضةً في أن تكون قويةً متمردةً وحتى عنيفةً فتطلب من أمها قائلةً لها:

"لا تكوني امرأةً مطيعةً

أجمل مافي الريح

أن تكون عاتيةً

 لن أكون مثلك طائعةً."

تتأرجح عواطفها بين الشَّوق واليأس، فهي مازالت تحن إليه وتتوق إلى لقياه، ولكنها تعلم أن ذلك صار أقرب إلى المستحيل فتقول:

"عندما يهرب اللقاء من موعده

ويغرد الرَّحيل بين شظايا الفراق

وعندما يتعثر العمر بخطوته

وتبقى قوافل الشعر عالقة في زحمة الانتظار

قد ألقاك."

ورغم هذا يعتمل الشَّكُ في داخلها فيحتل اليأس أعماقها فتقول:

"غرابٌ فوق السطور يحومُ

يصغي إلى خريرِ الضوء

ويقتاتُ من دمي."

ذلك الأنا القابع في دواخلنا، توأم روحنا، والذي نتكئ عليه كلما ارتكبنا هفوةً، مثل طفلٍ في مدرسة، نلقي الَّلومَ عليه ونتحجج به كي نواري عثراتنا وزلاتنا وحتى أحزاننا، ربما ننساه في فترة فرحنا القصيرة لكنَّه لا يتركنا ولا يهجرنا، بل يبقى دوما هناك قابعاً في انتظار أوامرنا وحتى قصاصنا وتحمل كلّ خيباتنا وهزائمنا وانكساراتنا تقول دورين:

"تلك المرأة التي تراقبني لا تشبهني

 مع أن ملامحي مرتسمة على جبينها

 قد يكون وجهها حزيناً كوجهي

 لكنها تكتفي بمراقبتي."

تتكرر بضع كلمات في القصائد كأنها تحكي عن أسرارٍ ما عادت بالأسرار، فعندما يُباحُ بالسرِّ تموت كل الألغاز وتفنى، فتتكرر مراراً كلمات: المطر والوطن والحلم والقبلة والضوء والورد والشمس والليل والعتمة، فإذا أردنا أن نسقطَ ذلك على الجوهر والمضمون، نستخلص رغبةً في الوضوح والتقهقر مُكرهة نحو العتمة حينما يتوارى لون الضياء، إنه توق للفرح والمتعة والحياة، في ظل هجوم لا ينكفئ لجحافل من الأحزان. تقول دورين مرةً جديدةً:

"أدركت أني نسيت حلمي

منشوراً على حبل الغسيل

فيما كنت أنام بعينين مفتوحتين

وكل المعابر إلى أعماقي مغلقة."

يشكل الحلم مهرباً وحلاً سهلاً لنا أمام تعقيدات الحياة وانكسارات الأمل، فنلجأ للحلم لعلَّه يحقق لنا بعضاً من الامتيازات حتى ولو على شكل حُلمٍ يتبخر ويتسرب من نافذتنا عند فتح الجفون عند الصباح.

أو يكون مثل النحت على الهواء كما هو عنوان المجموعة ويخامرنا سؤال ملح على الدوام : هل الحلم عند دورين دواءٌ وشفاءٌ أم هو مجرد جُرعة مورفين؟

بالطبع يموت المرء حينما يتوقف عن الحلم، يموت المرء حينما يموت الضوء في أخر النفق، وحينما ينتحر الأمل، وتُرجم بالحجارة كُل أمنياتنا.

ربما هي دعوة لكي نبقى نحلم، لكي نبقى نحب ونعشق، ولكي نبقى نحيا ونحيا، رغم كل عصور الخيبات.

أختم بسطورٍ من قصيدة الدكتورة الأستاذة دورين نبيل سعد:

"على ضوء الحلم كنت أشعلُ أخر شمعة

فوق باقة زهور

أنا أهوى الأحلام

التي تقيم في رحم الحياة."

***

بقلم جورج مسعود عازار

 ستوكهولم السويد

توطئة: يضم الديوان أربعة وأربعين قصيدة، صاغها الشاعر منصور الفلاحي داخل نسق شعري لا يكترث لإشكاليات التجنيس في مجال النوع الأدبي والهوية الشعرية. وذلك لأن صاحبنا منصور حسم في الأمر بتسييج المقول الشعريّ داخل الموسيقى، بأدلّة هي:

- تبنّي الموسيقى في وحدة الأروية وتجانس القوافي على امتداد الديوان

- تبنّي الموسيقى الداخلية في غضون المصوغ الشعري عبر مجموعة من الآليات الإيقاعية التي لا تمتح من عروض الخليل بقدر ما تمتح من طبيعة النصوص التي تُغنِّي ذاتَها وتترنّمُ بذاتِها.

- تسمية الديوان بالترانيم، وفي الترانيم ما فيها من زخم موسيقي في جميع الثقافات.

داخل هذا النسق يتحرّك ديوان الشاعر منصور حركةً لا تتنكّر بتاتاً لمفعول الإيقاع في تربيب المعنى وفائض المعنى لنقلِ المتلقي من حالات البداهة في تلقي الخطاب اليومي، إلى حالات الاندهاش في تلقي النصوص الجميلة التي تتجاوز دغدغة العاطفة ومداعبة الوجدان إلى مساءلة الذات في علاقاتها المتشعبة بذاتها وبمحيطها وبقضاياها وقضايا الآخر القابع في مختلف النزوعات النفسية والاجتماعية والسياسية وغيرها. بمعنى أن الديوان حَمّال أوجه في صيغة الموسيقى الأخّاذة والباعثة على فكرة التشنيف ثانيا وعلى فكرة المساءلة أولاً... وعلى أفكار أخرى سيعرّيها سياق البحث ثالثا.

العتبة:

ونقصد بها قراءة عتبة الديوان، أي عنوانه الموسوم في وعيِ الشاعر بعبارة غير بريئة، وهي (ترانيم الصدى). ونقول بأنها غير بريئة لأن الشاعر هنا لا يتحدث من مساحة الإمتاع والمؤانسة الشعرية المُدغدغة لعواطف المتلقي. إنه كائن ورّطَ ذاتَه في مفهوم الجمال السائل والمتسائل والواضع لكثيرٍ من البداهات موضع السؤال. من هنا نقول بلا براءةِ صوغِ العنوان، لأن المسألة لا تتعلق بعرض الترانيم للاستمتاع، وإنما بوضعِها رهن إشارة المتلقي لمساءلتها في توجّهاتها الكاشفة عن أسرار هذا الصدى الذي اُسْنِدتْ إليه الترانيم. فكيف نستوعب الصدى وهو مجرد رجعٍ للصوت؟ وكيف يتحول الصدى من حالة فيزيائية إلى حالة كاشفة في عمق الدلالة الوجودية عن تجليات هذه الذات المتكلمة وهذه الذات المخاطبة في نفس الآن؟

والترانيم جمعُ ترنيمة، وترنّمَ المغنِّي يعني رجّعَ صوتَهُ وتغنّى به في تطرِيبٍ وتَحْنان. وأمّا الصدى فله معْنيانِ: الأول يرتبط بالعطش الشديد، والثاني، وهو ما يصبو إليه الشاعر،  ويتعلق برجعِ الصوتِ يردّه جسمٌ عاكسٌ كالجبل أو المغارة أو الفضاء الواسع... وحتّى الصدى بمفهوم العطش قد يجد مصداقيتَه في الديوان بحكم عطش الشاعر لقيم الجمال التي باتت منعدمة أو تكاد، في سياق حياة وجودية عارية من القيم. وأما الصدى بمفهوم رجع الصوت فأولى وأجدر، بحكم ارتباطه في تركيب العنوان بالترنيمة. ويكون التجانس التركيبي والدلالي في العتبة أجدر وأولى بالتأويل من أي تخريجٍ آخر، فكلاهما خارجٌ من حقل واحد هو حقل الصوتيات.

فلِمَ أسندَ الشاعر الترانيم للصدى ولم يُسنِدْها للواقع؟ ومساقُ طرح السؤال هو حقّنا كقرّاء في الاستفهام، لأن الصدى ليس حقيقة بقدر ما هو وهمُ حقيقة والدليل تبخُّر الصوت في الفضاء. وهو تبخّرٌ لا يتركُ لنا إلا فسحةً من الاستمتاع برجعه وهو يسير في قدرِ التلاشي. فنكون في وضعِ المستمتعِ بوهمِ الصوتِ لا بالصوت في وجوده الفيزيائي والحقيقي. ولا يكون الأمر حينَها إلّا لعباً يفسح أمامنا مزيدا من تكرار الصراخ ليرجع إلينا في تردد جميل يدغدغُ أسماعَنا ثم يتبخّر.

من هنا مكرُ الشاعر منصور الفلاحي، على اعتبار أن عنوانه ليس بريئاً كما أسلفنا... إنه يدين الترانيم كما يشجب الأغنيات، أي القصائد التي لا يتجاوز أثرها حدود الرجع والتردد الجميل الحامل لدلالة الاستمتاع فقط. وكأنه يدعونا إلى تجاوز القصائد التي يقف أثرُها عند حدود الجمال القشوري إلى معانقة القصائد التي لا تكون ترانيمَ في الفضاء الواهم بقدر ما يريدها قصائدَ في الواقع، ترجع إلينا لا في صداها الخاوي بل في مداها المؤثّر والفاعل والقوي والمغيّر أو على أقل تقدير، الحامل لكيمياء فكرة التغيير.

هكذا فالعنوان فاضحٌ في أول التحبير لغائية الديوان، ولرسالة الديوان، ولهدفيته البعيدة المتجاوزة لفعل الشبه والتكرار في ساحات الإبداع. ومن هنا أيضا يحقّ لنا طرح السؤال التالي: لِمَ قال الشاعر (ترانيم الصدى) ولم يقل (صدى التّرانيم) ؟ قد يبدو الأمر متشابها لا يعدو أن يكون تقديماً لمتأخر أو تأخيراً لمتقدم في التركيب. لكن العربَ علّمتْنا أن التقديم والتأخير تركيب جماليٌّ واسع الدلالات. ولا أجمل من دليلٍ، قوله الحكيم الخبير (إنّما يخشى اللهَ من عِبادِه العلماءُ) سورة فاطر، الآية 28.

إن جمالية العبارة (ترانيم الصدى) المبتدئة بمقولة الترانيم هي أشد وقعاً بلاغياً على المتلقي من تقديم الصدى، لأن الإدانَة في منظور الشاعر لا تنصبُّ على الطبيعة (الصّدى) فهي بريئة من كل مأخذ أو مآخذ. الموضوعُ في قفص الاتّهامِ هو فعل الإنسان، هو ترانيمه التي صنعها خارج الواقع، هو أغنياتهُ وقصائدهُ التي لم تكن في الموعِد كي تمارِس أدوارها في عمليات التغيير. من ثمّةَ كان تقديمُ الترانيم أقوى من تقديم الصدى، وبالتالي فالمتلقي سيدرك عمق التقديم وخلفياتِ صاحب العنوان والديوان التي تؤسس فعله الشعري الناقد والمنقود.

الديوان:

الديوانُ كتلةٌ من الهمس في أذن الوعيِ الذاتي والإنساني. خطابٌ جماليٌّ لمعانقة  فنِّ القيمة قبل اندحارِها وهزيمتها في مجالَيِ الإبداع والوجود. ينتقل فيه الشاعر من إدانَة الآخر في تخلّيه عن عشق الجمال إلى التفاؤل بالآخر في هذا العشق، يلومُ في غير عتاب ويُشرِّح في غير إيلام، وينتقد في غير تجريح. يمسك بالقضية داخل ترنيمة من ترانيمه الهادفة ويقدّمها أغنيةً جريئةً في الكشف والعراء.

و ينتقل الشاعرُ بالمتلقي في جوقةٍ عارِمة من الترانيم، مدركاً بأن الصراخَ في وجه المخاطَبِ لم يعدْ يجدي نفعاً، وأن الجمهور حالياً يحتاج إلى همس الترنيمة أكثر من حاجته إلى قرعِ الطبول بالنصيحة المفضوحة والفاضحة، أو بالتعننيف والزعيق والخطاب المباشر. وهنا مكمن الجمال في اختيار الشاعر أربعة وأربعين ترنيمة يشنّفُ بها مسامع من له قلب وألقى السمع وهو شفيف الروح  وجميل الوجدان.

فمن ترنيمة العتاب للأحباب في رقّة، إلى ترنيمة التفاؤلِ بالغد، إلى ترنيمة النوستالجيا القابعة في التاريخ الشخصيّ للذات، إلى ترنيمة الحنين للأهل والأصدقاء، إلى ترنيمة التغني بالطبيعة في تجلّيها المفعم والإيجابي، إلى ترنيمة الوطن والزمن والبحث عن النقاء في صيرورة الإنسان بعيدا عن أزمنة التعفن والعفن إلى ترانيم أخرى تتعدد بتعدد آفاق الرؤيا الشعرية لدى شاعرٍ في حجم الفاضل منصور الفلاحي. وهي رؤية تتبنّى شمولية الطّرح لقضايا الإنسان في عميق التعبير الشعري المكتوي بلظى الجرح الفردي في تغنّي الشاعر بنار العشق إلى الجرح الجمعي، وفيه همس الشاعر في أذن الزمان بقبح الجائحة وغلوائها وأثرها العبثي في صميم الأنام...

و في هذا المسار الفنّيّ، يعجّلُ الشاعر بقرار الترانيم، في إعادةِ صوغِ الإنسان من حالات التخلّي عن عشق الجمال إلى حالات معانقة الجمال. والمدخل لاقتراف هذا الإبداع هو الترنيمة لا غير. ففيها أودعَ الشاعر أسْرارَ الحب والمحبّة والعناق الأبدي للإنسان في تجلّيهِ العامر، لا في تناقضاته الهدّامة. وكأنّ الترانيم رسائل محلّقة في سماء القيم تُعلّمنا كيف نكون ومع من نكون وإلى أين ينبغي أن نصير في كينونتنا الإنسانية الممتازة.

 مكر الانزياح:

يصوغ الشاعر منصور عباراته الشعرية داخل قوالب مموسقة أخّاذة، يسعِفُها توظيفٌ ذكيٌّ لمجال الانزياح، في أفق تثوير العبارة والتركيب وإخراجهما من سطحية البداهة إلى عمق الإدهاش. فتكون البلاغة في الديوان خادمةً للمعنى ولفائض المعنى، ويكون الانزياحُ سيّد الموقف وهو يجترحُ الجمال في جلالِ المقامات الفنية والوجودية لهذه الكينونة المتأرجحة تأرجحاً سديمياً بين الذات المتكلمة والذات المخاطبة.

ينفر الشاعر من التبسيط البلاغي الذي تبدو فيه العبارة سهلة المأخذ وقريبة المنال. وبالعكس من ذلك فالشاعر يرفع الانزياح لا إلى مقام الغموض وإنما إلى مقام المكر الأدبي الذي يحترم ذكاء المتلقي. فقوله مثلا (قولوا لهم صُبحًا كنا فَأَمْسَيْنا ..) إشارة ذكية إلى حالة الغياب دون التصريح بمفرداتها البائنة بينونة كبرى. ذاك أن الشاعر يؤمن بجمالية الصوغ الشعري، وقبل إيمانه بهذا فهو يؤمن بجمالية التلقي التي لا تقف عند حدود إمتاع المستقبِل ببلاغة الرسالة، وإنما يتجاوزها إلى احترام ذكائه في مكرٍ أدبي يترك للمتلقي هامشا من الاجتهاد في اجتناء المعنى والدلالة. من هنا انزياح المقول من حالة التشبيه التقليدية المضمرة في تخريج العبارة كالتالي (نحن نشبه الصبح في الحضور ونشبه المساء في الغياب) إلى تخريجٍ ذكيٍّ يختزل الكلام في لمحِ الإشارة بدل امتداد العبارة.

ومن مكر الانزياح عبر التجاوز لبلاغات التقليد إلى مكر الانزياح عبر امتطاء صهوة المسافة بين طرفي الصورة البيانية... فلننظر إلى قول الشاعر:

وتلك الأحلام طواها الزمـن

مجهضة بلا سَترٍ بلا كفَن

يصنع الشاعر في وعيٍ فنّي مسافة توتّر – على حدّ تعبير الناقد كمال أبوديب – بين مقولة الأحلام او بين مقولة الطي. فهذه الأخيرة تستدعي مفعولاً متشيئِّاً قابلاً لفعل الطيّ، فكيف تُطوى الأحلامُ، بل كيف يمارس الزمن هذا الفعل المادّيّ والحسّي على غيرِ ممكنٍ يتّسمُ بالتجريد والزئبقية ؟ فالأحلام المصنوعة من خيال، والطيُّ فعل حسّيٌّ، فكيف يلتقيان؟ من هنا عبقرية الشعر حين يفتح المجال أمام اللاممكنات لتتحول إلى ممكنات لأن سياق الورود يتغير. فقولنا بالطيّ الواقع على الأحلام مستحيل في عالم الحقيقة، وهو ممكن جدّاً في عالم الخيال، والشعر هو الباب الواسع لاستقبال العبارة في جنوحها المحلّق كيفما كان التحليق ومهما شطّ بعيداً في سماوات الهيولى.

و قِسْ على ذلك مسافةَ التوتّر بين الأحلام والإجهاض. أي بين المجرّد والحسّي. وهذا المبحث الانزياحي الجميل متواترٌ في الديوان وفيه تتفجر شاعرية الشاعر وتنبثق قويةً وحاملة لممكنات الإدهاش الجماليّ.

و من مسافة التوتّر في تشكيل الانزياح  ينتقل الشاعر منصور إلى خلق أنساق الانسجام في تركيب الانزياح، بحيث يحرص على استثمار الحقول الدلالية في تناغم مكوناتها. والأمثلة كثيرة في الديوان وغزيرة نمثل لها بقوله:

وكل أحرفي سكارى

وقوافي ثملة حيارى!

و لا شك أن مقولة السكر ومقولة الثمالة تنسجمان أشدّ الانسجام وتحكيان معاً نسق هذا الانزياح الذاهب في البيان مذاهب التناغم اللطيف والمستميل لذائقة المتلقي كي يتفاعل أشدّ التفاعل مع الصورة في ذكاء تركيبها، وبهاءِ  ترابطها ومتين انشدادها بعضاً لبعض في علاقة بنيوية حريرية الصوغ... أنظر كيف خلق الشاعر انزياحيْنِ في واحد داخل بؤرة التناغم :

- تناغم مقولة السكر والثمالة

- تناغم مقولة الحروف والقوافي

الختم:

كانت هذه ورقة تعريفية تقدّم الديوان في عجالة لا تتغيّى مقاربة المتون في مستويات بنائها، بقدر ما هي تقديمٌ يقرّب المتلقي من محاريبه. وحسبي في ذلك أنني قرأت (ترانيم الصدى) فوجدتُني أترنّم وأغني مع الشاعر منصور همّه الذاتي وهمّه الجمعي في قصائد ارتأت أن تتقدم إلى القارئ في عباءات خضراء مموسقة تُخلِص لنسغ الرويِّ والقافية في تجانسهما ووحدتهما في كل قصيدة على حدة دون استثناء أو إغفال... ناهيك عن الإيقاعات الداخلية التي تتناسل من طبيعة التوازيات الرنّانة والتكرارات الوظيفية والجناسات العميقة والطباقات الفاضحة، وغيرها مما يضفي على كل المتون الشعرية طابع الشاعرية المتقدّمة والراقية والمصوغة في أطباق بيانية أقلّ ما يقال في حقّها أنها متون تُعانق الشعر القوي في تشكيله الممتنع على القبض إلا في حالة تسلّح القارئ بنصيبٍ من المباضع النقدية القادرة على فك شفرات المقول الشعري الـ (فلاحي) وهي الشفرات التي تتلبّسُ بلبوس السهل الممتنع.

***

نورالدين حنيف أبوشامة

البيضاء في 20 أبريل 2024

 

الأبداع الأدبي مرتبط إرتبلطا وثيقا بحياة الأنسان ومنذ أقدم العصور، كحاجة روحية تعيد للانسان توازنه، وحتى قبل أن يعرف الكتابة، كان يرسم ويقرأ مدلولات صوره على الأحجار وفي داخل الكهوف وعلى جذوع الأشجار، حيث يبدو في طفولة البشرية الفن كوسيلة سحرية لتلبية حاجات مادية وروحية أنسانية، ترتبط بالطبيعة وفيما ورائها، وقد كان الشعر أي الكلام الممغنط والمموسق المتلائم مع ما تفرزه الطبيعة من أصوات المطر والرياح والشلالات وخرير المياه، وتلاطم أمواج البحر، وحفيف أوراق الأشجار بالأضافة الى أصوات الطيور والحيوانات ...

تطور الآداب مرتبط مع تطور حياة الناس من حياة القطيع والصيد والألتقاط الى الزراعة وأكتشاف النار، الى صناعة الأدوات الحجرية البدائية، وأكتشاف المعادن كالحديد والنحاس... التطور من مرحلة المشاعية الى مرحلة الأقطاع وتشكيلاته الى عصر النهضة وهيمنة البرجوازية من خلال الثورة الصناعية في عصر النهضة، وهيمنة البرجوازية على السلطة والثقافة، فقد تطورت الفنون كافة من حال الى حال الرسم من الأنطباعية الى التجريد والسريالية والدادائية، والشعر من الوزن والقافية الى التفعلية فالنص النثري والومضة والهايكو ..، والسرد من الملحمة الى الرواية وهي مقصدنا هنا وهي شكل متطور من التفاهم البشري مع ذاته ومع الأنسان الآخر ومع الآلهة معبرا عن هذه الرغبة للتواصل مرة بالحركة والايماءة والرقص، ومرة بالصورة، وفي مرحلة متأخرة ومتطورة باللغة والكتابة، ففي البدء كانت الرواية الخيالية وحكايا الجن والآلهة الى الرومانسية ثم الرواية الواقعية بمختلف أهدافها، وكل هذا يرافق ظروف الحياة الأنسانية المعيشة في كل مرحلة وكل أسلوب أنتاج وعلاقات الأنتاج،وحسب متطلبات وحاجات وثقافة كل طبقة أجتماعية...3960 حمد الحريزي

فالرواية كما هو معلوم هي ملحمة البرجوازية بأمتياز، هي الطبقة التي عاشت في بحبوحة من الرفاهية والكسل والتمتع بوقت فائض، حيث تعتاش وتعتصر جهد وفكر ووقت الطبقات الكادحة من العمال والمهندسين المهرة، فهذا الوقت الفائض بحاجة الى مايشغله فكانت الرواية أحدى هذه الوسائل وقد تمت كتابتها باسهاب كبير بحيث كانت بعشرات الالاف من الكلمات والمئات من الصفحات عنها فمثلا رواية البحث عن الزمن المفقود 1200000 كلمة لمارسيل بروست، زمن انعزال الشعوب عن بعضها البعض، مما أدى الى عدم معرفة تفاصيل حياة وثقافة كل منها، و أختلاف المعمار بين مختلف القوميات والشعوب والطبقات الاجتماعية، مما يستدعي من الروائي الإسهاب في ذكر أدق التفاصيل حول الشخصية الروائية كالبطل والشخصيات الثانوية من حيث الشكل العام للجسم ولون البشرة والعيون والطول والقصر وقوة أو هزال البنية العضلية، طبيعة الحركات والسكنات للشخصية وما يميزها عن غيرها، شكل الملابس وموديلاتها لكل طبقة وفئة اجتماعية ومايميزكل طبقة عن غيرها وكل قومية عن سواها .

هذا كان في بداية نهوض البرجوازية وعدم تطور وسائل الأنتاج ووسائل النقل والمواصلات بين القارات وبين الشعوب، وصعوبة التواصل حتى بين مناطق ومقاطعات البلد الواحد .

وما أن اشتد ساعد البرجوازية وتمكنت من انتاج المزيد من المنتجات الجديدة والمتطورة حتى أخذت تبحث عن الأسواق الخارجية لتصريف الفائض وللحصول على المواد الأولية بأسعار رخيصة، فكان الأستعمار وأحتلال البلدان، مما تطلب تطور وسائل النقل والتواصل كالبواخر والقطارات والسيارات فوفر للشخص في هذه البلدان مزيدا من المعلومات عن الآخر في قارة أخرى وشعب آخر وبلد آخر غير بلده وقومية غير قوميته، مثلا تعرف معلومات عن الشرقي العربي والمسلم والزنجي الأفريقي والهندي الأحمر والصيني والياباني وووالخ، كما أطلع على شكل معمار السكن والعمران والطرق وما اليه من عادات وتقاليد ... وبذلك انتفت الحاجة بالنسية للروائي للأسهاب في ذكر هذه التفاصيل كما وصفها أول من شاهدها وكتب عنها، من التعريف والتوصيف للأشخاص والأماكن، فالقاريء والمتلقي قد استبطنها مسبقا وبذلك تطلب الواقع أختزال الكثير من حجم الرواية حيث تطور وسائل النقل والمزيد من وسائل التواصل بين القارات والشعوب، وضع الأديب والفنان أمام خيار لابد منه الا وهو الأبتعاد عن الأسهاب الزائد فكانت الرواية القصيرة هي المعبر عن مثل هذا العصر حيث تترواح صفحاتها بين اقل من 100 صفحة الى 200 صفحة وعدد كلمات قد لاتزيد عن 20000كلمة.حيث توفرت وسائل النقل متوسطة السرعة وانتشار التلفزيونات والسينما والسفن البخارية والسيارات، وإمكانيات السفر التي تستغرق أياما أو أسابيع أحيانا ... رافق كل هذا أفرزت الحياة متطلبات حياتية متواضعة نسبياً لاتشغل أعظم وقت الأنسان الأعتيادي، وعدم هيمنة ثقافة الأستهلاك والتسليع كما سيكون لاحقاً، مما أتاح للمثقف والأنسان من الطبقة المتوسطة وبعض طبقة العمال المهرة الوقت قد يمتد لساعات للأهتمام بالغذاء الروحي متوسط الجم والكلفة كالرواية مثلا ن فاتت بحجم يتلائم تماما مع وقته المتاح .

أما في عصرنا الحالي حيث الآلاف من الفضائيت التي تبث عن طريق الأقمار الصناعية التي تغطي كل الكرة الأرضية، والتوصيف والتعريف بأدق تفاصيل عادات الشعوب والقوميات وتقاليدها وشكل معمارها وحتى نوعية المأكل والملبس لكل منها، وحتى لشكل غرف الضيافة وغرف النوم والحدائق والمتنزهات والشوارع والساحات، والثورة الهائلة التي أحدثها الانترنيت وسهل التواصل بين شرق الأرض وغربها خلال ثوان معدودة، وبث الملايين من اليوتيربات التي تتناول أشكال وعادات وطرق حياة كل شعب من شعوب العالم من الاسكيمو الى اقصى غابات أفريقيا .

كذلك تميز عصرنا الحالي عصر العولمة الرأسمالية بهيمنة ثقافة الاستهلاك وتسليع كل شيء، مما خلق حاجات متزايدة في حياة الانسان اليومية، توفرها كنار تلنهم وقت الانسان المعاصر من أجل توفر الحد الأدنى منها.

هذا الواقع يتطلب المزيد من ضغط الوقت لكل فعالية إنسانية، في عالم لاهث راكض، خاطف السرعة في كل شيء في العمل والأكل والحديث والتمتع بما هو كمالي ومن ضمنه الغذاء الروحي للأنسان كالافلام القصيرة والكتب المختصرة ومنها الرواية لتكون بحجم يناسب وقت وجيب المتلقي للأنسان الراكض دوما، وهنا كما نرى يطرح الواقع نوعا شديد الاختزال من الرواية وما اسميناه ب الرواية القصيرة جدا ...

حيث وفر الواقع العلمي والثقافي للروائي المزيد من أمكانية الحذف والاختزال لما اصبح شائعا ومعروفا ومتداولا بين الناس من شكل الملابس وتوصيف المساكن وأثاثها، وتوصيف شخصية البطل بأقل الكلمات، وعدم وجود حاجة الى الأسهاب في سرد الحوار المضمر الداخلي للفرد التي تعبر عن مشاعره وهواجسه وتطلعاته حيث أصبح الانسان في العالم الرأسمالي معلوم الهواجس للمثقف وللعامل والرأسمالي والطالب والرجل والمرأة، وكذلك في العالم الثالث أو مايسمى بعالم الأطراف، فاختزال هذا الكم الهائل من الأشكال والمشاعر والتصورات التي إستبطنها القاريء المتلقي من خلال وسائل التواصل الأجتماعي والفضائيات واسعة الأنتشار فلا داعي أن يعرضها الروائي أمام انظار القاريء، نعم لاحاجة لي بما تعرضه لي بما يشرب ويلبس ويسكن ويفكر أنا الأسيوي صديقي من فرنسا الذي ألتقيه كل يوم عبر الصورة والصوت بواسطة الأنترنيت وربما أعرف أدق التفاصيل حول حياته الشخصية وحتى حياة عائلته .

فحينما يذكر الروائي برج ايفل أو الساحة الحمراء أو نصب الحرية في العراق أو ناطحات السحاب أو مسرح البولشوي، سرعان ما تظهر بكل وضوح كل تفاصيلها في مخيلة المتلقي لأنَّه تعرفها أما من خلال سفره الذي اصبح ميسرا لأغلبية الناس أو من خلال الفضائيات، وكذلك عند ذكر اسم أحد الأعلام في السياسةأو الأدب أو الفلسفة في العالم مثل جيفارا او ماركس او جورج واشنطن أو بوتين أو ماكرون أو بايدن أو نيرودا واراغون وكذلك مشاهير الرياضين تحضر كل تفاصيل وتاريخ هذه الشخصية في مخيلة القاريء والمتلقي لأنه شاهدها ربما آلاف المرات في التلفاز وفي وسائل التواصل الأجتماعي حيث أصبح كل بيت في العالم لايخلو من جهاز التلفاز وتوفر شيكة الانترنيت وأمتلاكه لجهاز نقال ينقل له كل شيء ...

فعندما يتحث الروائي في عصرنا الراهن حول عمارة سكنية مثلا ليس بحاجة الى توصيف وعرض محتوياتها وتأثيثها ولكنه يكتفي بعضر (الماكيت) أي النموذج المصغر للعمارة دون الدخول في تفاصيل محتوياتها من حيث السلالم والتأثيث ووسائل الإنارة والتبريد والستائر ... الخ كما كان يسرده بأدق التفاصيل الروائي في العصور السابقة على العولمة، حيث أن المتلقي قد استبطنها مسبقا من وسائل التواصل الحديثة أو عن طريق السفر المتيسر .. فلاحاجة الى توصيف الشخصية سوى ذكر علاماتها الفارقة ...

وبذلك فالرواية القصيرة جدا بحجمها المختزل كثيرا الى كتيب أو كراس جيب صغير لاتحتاج أكثر من وقت الجلوس في قطار سريع متنقل بين المدن أو زمن سفرة تمتد لساعة أو اكثر من بلد الى أخر أو سيارة على خط سريع، هذا الوقت المتاح للأنسان في عصر العولمة الحاضر، هذه الرواية التي لاتزيد كلماتها على 5000 كلمة ولاتزيد صفحاتها كما نرى على 50 صفحة وقد تكون اقل من ذلك بكثير، فالأنسان في عصرنا الحالي مشغول دوما بالعمل من أجل توفير متطلبات الحياة المادية اليومية، لاتترك له المشاغل اليومية ألا حيزاً محدودا جدا من أجل تأمين احتياجاته الروحية ومنها الرواية والفنون عموما ً.مما جعل الرواية القصيرة جدًا من متطلبات الحياة الواقعية الحالية لتوفير مايمكن من الغذاء الروحي للانسان، وحمايته من الوحدة والتوحد وجفاف الروح وتصحر المشاعر وغلاضة السلوك ..

فالرواية القصيرة جدا هي رواية وامضة وليست قابضة يكون السائد فيها التلميح وليس الأسهاب والتصريح، شخصياتها الثانوية خفيفة الظل مختزلة الكلام ومؤقتة المقام أثناء تواجدها في متن الرواية، تقول ما عندها بما قل ودل وترحل مسرعة حتى لايفوتها قطار السرد فائق السرعة ولايتضايق منها القاريء المتلقي . وهي لاتمسك بالقاريء لوقت طويل لساعات طويلة وربما لأيام كما في الرواية الطويلة والرواية القصيرة ..

وهنا بالضبط تكمن الصعوبة بالنسبة لكاتب الرواية القصيرة جداً تفوق صعوبة كتابة القصة القصيرة جدا بكثير، حيث بجب أن يمتلك الروائي الحنكة والتجربة وقوة المفردة الموحية الجذابة حتى لايسهب مراعياً شروط الرواية المعروفة كتعدد الشخصيات، وتحولات الأحداث ـ وتغيرات الزمان والمكان على الرغم من الألتزام بالاختزال الشديد والتكثيف، مع عدم التفريط بالمضمون العام للرواية، أي أن يتمكن الروائي من تقديم وجبة غذاء روحية غنية بالمضمون وبالشعرية اللغوية بأقل عدد مكن من الصحون والمقبلات.

وبذلك فنوع الرواية القصيرة جدا رشاقة لاتعني الهزال،ومضمون يستدعي سعة الخيال وحبكة لاتفرط باشتراطات جنس الرواية .

في الختام أو أن أنوه الى مايلي:

- أنا لا أدعي إني أول من كتب هذا النوع من الرواية فبالتأكيد قد كتب بعض الأدباء في العراق وخارجه الرواية ضمن الأشتراطات التي ذكرتها في هذا المنشور أو ماسبقه، ولكن حسب علمي ليس هناك من عنون روايته بالرواية القصيرة جدا وطبعها في مطبوع كما فعلت أنا منذ 2019 حيث طبعة مجموعة روايات قصيرة جدا كما ارفقها مع مقالتي هذه، سأكون ممتنا لمن يمتلك معلومة تفيدني في هذا الشأن استجابة للامانة الأدبية حول سبق الريادة .

- يسعدني كثيرا أن تحفز مقالتي هذه الزملاء النقاد وكتاب الرواية لطرح آرائهم وتصوراتهم حول هذا النوع من جنس الرواية سواء اتفقوا أو اختلفوا معي الى ماذهبت اليه، كلي أمل في أمكانية شرعنة هذا النوع الروائي وتقعيده ونشره والجمال والأبداع من وراء القصد .

***

الأديب حميد الحريزي – العراق

 

تداخل الزمكانية وإحالات الميتاحكي

توطئة: قد يصح القول في صدد دراسة نصوص القاص والروائي القدير وارد بدر السالم عبر فحوى نصوص مجموعته القصصية (المعدان) ذلك التوافر التخييلي بالأداة ومعطيات العناصر والعوامل الوسائلية المبثوثة في جملة اوجه متباينة من انتقاءات الموضوعة الحكائية المكرسة في محمل مكتسبات خاصة من احوالية الواقع الجنوبي في الاهوار والاطراف المقصية من احياز هوامش المكان المركزي -اي المدينة- وعندما نطالع طبيعة التركيبة الموضوعاتية -الحكائية،، في أنساق هذه المختارات القصصية الرائعة، تواجهنا مستويات تخييلية عابقة بمعانقة تمثيلات الاحوال والوقائع التي وكأنها من الإمكان وقوعها في مجمل إشارات الزمن والبيئة الطبيعية لتلك الأمكنة والذوات العالقة في محفل تشعباتها العبقة بروائح القصب والبردي وهسيس قامات الاعشاب المتبرعمة عند حواف ضفاف المواقع التي تقع فيها المسطحات وجداول الانهار، ناهيك عن مغزى الأسرار  التي تنبعث مع تناقلات الزوارق -المشاحيف- وما تحمله من روائح رطوبة الاجساد التي اخذت سواعدها بالتجديف لتنكشف عضلات أيديهم المتعصبة والساعية بفعل الحركة التجديفية نحو أماكن أكثر غورا بالصورة والدلالة والمنظور الايقوني المحفوف بالمحتمل الممكن سرا وجهرا، والذي لا يمكننا توكيد وحداته، سوى بالاتكاء على حقيقة تفاصيل المرادات المدلولية والسياقية المدعمة من خلال معطيات حقائق الأمكنة والازمنة في جغرافيا المواقع الأهوارية في جنوب البلاد، اي أن من اعتاد معايشة تلك الطبيعة البيئية من منظور معايشة زمنية قصيرة، لربما سوف يجد في نصوص وارد بدر السالم القصصية موضع بحثنا، اثرا ومؤثرا فاعلا ومحققا في مجموعة (المعدان) خصوصا وإن جذور هذا القاص السيرذاتية تعود الى الجنوب نفسه، فلا عجب من أن يستثمر هذا القاص المبدع من الطبيعة المكوناتية للهور بهذا  الشكل الخصيب من الأسطرة في مستوى قد بدا للقارئ منه بعيدا عن ملائمة الصحة الموضوعية في النص، وأفتقادا الى دليل المعطى الدلالي المبرهن والمعقلن في مرسلات القص. ولكننا مع قصص وارد السالم كلها في نطاق احوال هذه الدالات من موضوعة القص، بخاصة وأن للطبيعة الموقعية والموقفية لمثل هذه الاجواء من الهيئات البيئية، مراحلا أكثر صدقية من الانظمة التوظيفية في النصوص الاخرى، صحيح من جانب ما أن القاص السالم يؤثر في محمولات نصه ظروفا أكثر قربا من الايهامات من حقيقة الوقائع، ولكنها ذاتها الاختلافات تأكيدا على حجم صحة المفترضات الواقعية ذاتها وبذاتها، إذ تتماشى هذه الفرضيات الى جانب حدود اسطورة الاهوار وعوامها القريبة من الغرائبية والأكثر بروزا بمثل تلك النوعيات من معالجة تنصيصات الموضوعة في قصص (المعدان) سردا وتوصيفا ودليلا . فلو قرأنا وقائع قصة (قصة الغياب) المنصوصة في لائحة قصص المجموعة، لوجدنا أن القاص راح يتعامل مع الانظمة الأدائية في محاور النص، من خلال نقطة شواغل حكائيه إمكانية مفترضة بالواقع المعاش، اي بمعنى اصح ان موضوعة الاهوار تتطلب من الكاتب نفسه، كل هذا المدى من القابلية التصويرية بالايحاء الوصفي، ذلك بحكم كون حيوات الشخوص في وسط هذا القلب من الواقع المستنقعي، كان ويكون بمثابة الافتراض على وجود مثل هكذا حساسية فنتازية وعجائبية و معادلات رمزية، تكشف لنا عن مغزى الصور الداخلية والخارجية من ذوات الطبيعة الشخوصية لسكان هذه الاحياز من القرى المستنقعية، وما يصاحبها من خيالات تتخذ لذاتها في الغالب ذلك النمط الصياغي المؤسطر من مجال مكونات الحياة في تلك الامكنة الغارقة في اللامكان في اللاواقع في اللاوثوقية من موارد ومقادير الحقيقة المبررة، ذلك لأن وجهة نظر الكتابة تدخل الحقائق في شكلها المادي الى مجالات مفترضة من تحليقات المخيلة في الانحاء الصورية الاكثر تأويلا في مبررات العليات والاستدلالات الفرضية البحتة.

- الرؤية الاستهلالية بين علاقة السارد ومحكيات المسرود

1- كينونة التمثل في ملامح زاوية الفعل والافعال:

لربما ونحن نطالع مستهل النص القصصي -قصة الغياب- تواجهنا جملة كثيفة من العلاقات والعوامل والأدوار الشخوصية في تدبر ومتابعة دلالات غرائبية لها جانبا من الايهام برؤية تستدع معاينة الاطوار الحوادثية بمنظور (اللامرئي: تصوير - تداخل - شواهد امتداد-ارتداد عكسي)وهذه الطبيعة من المحاور هي الاساس المؤسس لأطوار موضوعة حكاية النص، ناهيك عن ما يسودها من تداعيات استعارية ووصفية تتخذ لذاتها من تقانة التداخل بين الظروف والمتقابلات المشهدية، تفعيلا في أطروحة الحبكة القصصية التي أخذت من عقول وأفئدة الناس، ردحا ملحميا في الانزواء والبطولة والغياب بعدا يتماهى مع حقيقة التفاصيل في حكاية النص الايهامية: (ما من احد يريد تصديق الحاج، إذ انه لا يمكن أن تحدث معجزة، وما من احد بمقدوره أن يصدق أية أقوال أخرى -فقريتنا ما تعودت على مثل ما أشيع ليلة البارحة، برغم أن الحاج رجل طيب وشهم، ومن الصعب عليه وعلى رجالنا أن يكون -حاشاه كاذبا- ولو أن الأمر ظل مقتصرا على ما رواه الحاج لكان بإمكاننا نسيان ما سمعناه وأعتبرنا المسألة مجرد وهم أو ليس وقع فيه الرجل شأنه بقية عباد الله / ص 45، النص القصصي) تتوزع تواترات المناوشة في مجالات التخييل السردي، في حدود ملازمات السؤال والاستفسار وتداعيات مدارية التجاذب والتقاطع، وهذا الامر ما بدا يتعامل وجذوة فعالية خلق التوتر الاستهلالي، كحالات فرعية -عتباتية- تنطلق منها الوحدات في اتون صور ومظاهر الطريق الى الحبكة التي يحاول السارد تحفيزها في قواسم وأطر تحيينية لمعانقة العلل والاسباب التي جعلت من تلاقي أحابيل الدعوة في المقاصد الوحداتية، دليلا على البدء بحكي تفصيلات تتعلق بذلك الشخصية الحاج والاخر عبدالله البلام: (عبدالله البلام كان حائرا مثل الحاج، يقسم باليمين أن عينيه لا تكذبان..فالوقت كان فجرا وباستطاعة المرء أن يرى الاشياء بوضوح .. كان علي متعبا جدا.. لم اشأ أن أتعبه بالكلام، بدا قادما من سفر ./ ص45 ص46 النص القصصي) بين شخصية (الحاج) وشخصية (عبدالله البلام) تتمحور خصال التشابه في البرهان والمشاهدة، فكلاهما قد شاهد ذلك الرجل الذي لا نعلم عنه سوى ان له في الغفير الحاشد من أهل القرية، فمن ياترى هو علي؟هل هو من ذوي الشأن الاجتماعي الرفيع؟ أم تراه كان من كبار صيادي الاسماك ربما في الهور ويمتلك العديد من ملكيات المشاحيف و مئات من شباك الصيد ربما؟ إن لم يكن عليا هذا بهذه الصفات التي يقدرها ويقيم لها أهل القرية ك هذه الفرائض الخاصة، فما يعني هو تحديدا؟ هل هو يمثل سلطة دينية أو حكومية أو عرفانية أو صوفية مثالا؟ . في الحق أن السارد لم يعرف هوية هذه الشخصية في الوحدات الاستهلالية، ولا من ناحية الوحدات الاولى من الجزء الاولي من  الحكاية، بل أنه وضعنا من خلفه القاص في خضم استيهامات مسكوكة تعجز قابلية القارئ عن فك حجب أسلوبها المسرود خطابا وحكيا.

2- الاستيهامات المؤسطرة والحلم الشخوصي بقدوم الغائب:

لو سنحت لنا الفرصة في الاسهاب بصدد الحديث المتسائل حول سرانية أهل القرية واهتمامهم الخرافي بهذا الرجل المدعو ب(عليا) لكان لنا كل الحق في سبر أسرار هذه الهيمنة العجيبة لهذا الرجل، وعندما نتقدم في قراءة النص وحوادثه سردا وحكيا، تتحقق لنا النتيجة القصوى بأن هذا الرجل هو من خارج الزمان أو هو من الخوارق: (لولا أن رجلا من قرية المعدان قال انه شاهد بعيينه الاثنتين عليا يمرق في سوق القرية مصفرا بالتراب، يجري وراءه سحابة من رائحته المعروفة، وتطير خلفه اسراب من الزنابق البرية والشقائق الملونة./ص46 النص القصصي) بهذا النحو جعل السالم شخصيته القصصية تتعدى الٱفاق العلوية من وعي وسذاجة أهل اقرية، ولكن هل كل من شاهد عليا ملء عينيه أن يواجه حلمه في بث المزيد من استطردات الحكايا التي راحت تكشف عن أن هذا الرجل يتصل في حدود قداسية خاصة تتجاوز مواقع وكيفيات كيانية وشخصانية، وتبعا لهذا راحت تتوالد حكايا عمومية وخصوصية، منها ما جعله السارد تراتيبيا في التفاصيل الخطية، ومنها ماراح يتلبس لبوس جلبابا من هيئة الاستيهامات والعجائبي: (علي غاب كما تغيب الشمس في يوم بارد، بحثنا عنه في كل القرى والبزايز، غاب منا ألف رجل في بطون الاهوار الفسيحة أياما طويلة، سوى رائحته المعروفة التي تملأ كل الامكنة  أينما حلت -رجالا ونساء واطفالا واشجارا وبيوتا و انهارا وطيور ونخلا واحلاما، القرى كل القرى، مثل قريتنا، تمارس الانتظار المجهول وتناغي طيف علي وتجمع ما تبقى من رائحته الأليفة المطهرة./ص47 النص القصصي) إن الخطاب المسرود والمروى هنا عبر وحدات القص، هو في أفضل احواله  يشكل حالات  تداخلية في المسافة والرؤية في المنظور المرجعي المرمز، فمثل هكذا تفاصيل لا تستقم إلا والقاص يماثل درجة رمزية تتعلق بأحد من الشواهد المرجعية الخاصة بالمسمى الديني والعرفاني، أعني وضوحا أن القاص راح يختزل لبوس علامة لها شأنها في المعجم السياقي وقد تم بثها في جملة صفات إعادة التوليف لها في مفترضات خاصة تتتاسب طرديا مع حيثيات حكاية أهل القرية، لذا فهي تدخلا خارقا، ولكن في حدود سياق حكايةقصصية لها تمفصلاتها المتباينة والمضمرة مع علاقة تماثلية قصدا. لذلك فالقاص يدخلنا في وحدات نصه الصاعدة الى وقائع ترددية -مونولوجية، نستشف منها ومن وراءها بأن الحدود الزمكانية للافعال السردية راحت تدمج ذاتها في دائرة حوارية استيهاية تقع خارج الزمن للحكاية:(في كل مجلس في قريتنا، في كل القرى، لا بد أن يكون علي في صحراء على فرسه البيضاء، وهو يطوي موج الرمال بصدره المدرع- يطارد الحراب ويفتح اظافرة لجداول الماء، لابد أن يكون في وحشة أدغال الهور المنعزل خلف القرى /ص50) بهذا التعامل الشفراتي راح السالم يؤثث المجال المؤسطر في حياة الشخصية المحورية لديه، انعكاسا واختزالا لذلك الأثر المرجعي الصفات، ولكنه ادخله -اي القاص- في مجال إطار رؤية تتحدث عن محور شخوصي له من الوقائع ما يخوله ان يكون مسرودا في علاقة تتم في حدود خلق عجائبي يتجاوز منظومة الاحداث المتتالية في البناء القصصي، دخولا الى عوالم داخلية من النص، تعيدنا الى وظيفة المونولوج الدائري في مثل طي هذه المحاورة: (من أنت ايتها الصبية ؟ وجدت نفسي هنا .. أحدهم سرق قلائدي وخلاخلي وأقراطي .. وتركني هنا أذرع الرمال وحيدة./ص50)

- تداخل الزمن في كيفية استرجاعية انعكاسية

أن غائية تداخل الزمن أو عكس المنظورين في منظورا صفريا، لربما هي من تقانة التقاطب الكياني بين الطرفين، أو هو التمثيل في تقنية استرجاعية انعكاسية، ولعل جميع الصلات في عملية الاستقطاب الوقائعية للصوتين هي فعلا إيحائيا في الامتزاج بين الازمنة، والاحساس بها يكون متلازما في التضمين والاستحالة في محفوظية التنوع والانشطار، كما الحال في الاجزاء المونتاجية من الوسط الجزئي للتص، فهي عملية تتصادى فيها الابعاد الزمنية وتلتحم عبر مكون تركيبي يجمع ما بين (المونولوج- المونتاج) تماثلا مع تداخل الازمنة في تفاصيل تمدد الى ما قبل زمن الحكاية: (أمي... السنوات حفرت ٱثارها في عينيك - لقد حفرت في قلبي كثيرا ياعلي-- مازلت أمي التي لا أنام إلا في حضنها - وانت ولدي السبع ياعلي -ما حكاية سنواتك ياوالدة؟)

تعليق القراءة:

لعل سياق مقتبسات هذه الحوارية، هي أعلى الاجزاء في النص القصصي (قصة  الغياب) فمنها نستشف تداخل البرزخ الزمكاني في مضمرات مدلولية لها مشخصات وتماثلات عكسية وانعكاسية في الإيحاء الماقبلي لزمن الصفر في بنية الحكاية، ولها جمالية وحدات (الميتاحكي) ضمن مستويات توالدية مرٱوية بالافعال والفعل الشخوصي المتداخل في منظورية الواقع ووسائل فضاءات البناء النصي.

***

حيدر عبد الرضا

بقلم: رولان بارت

ترجمة: حسني التهامي

***

(1) خرق المعنى

دائما ما نتصور كتابة الهايكو بالأمر اليسير؛ وهذا ضرب من الخيال، يعزز هذا التوهم بساطة النص التالي ليوسا بوسن:

إنه المساء الخريفي

كل ما يشغلني

والداي

يفتح الهايكو شهية كثير من القراء في الغرب، فنراهم يحلمون بالتجوال في مجاهل هذه العالم، وهم يحملون مفكرات صغيرة يسجلون فيها "انطباعات" ينبثق الكمالُ من شكلها الموجز، والعمقُ من رحم بساطتها (يرجع الفضل في هذا إلى أسطورة ذات طابعين: أحدهما كلاسيكي يرى أن الفن يكمن في الإيجاز، والآخر رومانسي يعزو جوهر الحقيقة إلى العفوية)  وعلى الرغم من أن الهايكو يتسم بالوضوح والبساطة؛ إلا أنه لا يعني شيئا، وبتلك الاشتراطية المزدوجة يبدو أكثر انفتاحا على المعنى، وأقرب إلى الذائقة، على طريقة مُضيّف مهذب يتيح لك حرية اختيار ما تشاء من قيمٍ ورموزٍ.

 "غياب" الهايكو (نقول ذلك عن مالك عقار يذهب في رحلة مشتت الذهن) يوحي بإحداث خروقات وانتهاكات لاغتنام المعنى الذي نعتبره نفيسا وجوهريا. عندما نقوم بـ (ترجمة الهايكو)، يتحرر من قيد الأوزان، فيمنحنا الكثير مما نصبو إليه. في الهايكو، يمكننا القول بأن: الرمز، والاستعارة، والمعنى الأخلاقي على الأغلب أشياء لا قيمة لها: فذلك النوع من الكتابة ما هو إلا بضع كلمات ومشهدا حسيا وعاطفة: في حين أن أدبنا عادة ما يتطلب قصيدة أو حدثا متشابكا، أو فكرة منمقة (في الأنماط الموجزة)، وباختصار عملا بلاغيا مُطولا. يبدو أن الهايكو يمنح الأدب الغربي أشياء غير مقبولة لديه؛ كتناول ما نعتبره تافها وعاديا، بطريقة مختزلة، عبر التقاط ما نراه وما نحسه لإحداث نوع من الدهشة؛ بينما تعزز كتاباتنا فكرة الذات: فقط ذاتك جديرة بصنع وجاهتك، مهما يكن أسلوبك في الكتابة، فإنه سينم عن معنى ويتضمن رمزا ويحمل عمقًا: وعلى أقل تقدير ممكن، ستكتنز كتاباتك.

 يبلل الغرب كل شيء بالمعنى، مثل دين استبدادي يفرض معموديته على العالم بأسره، متبعا طريقتين لكي يُجنّبَ الخطاب فراغ المعنى: الرمز/ الاستعارة والمنطق / القياس، وانطلاقا من هاتين العلامتين، يتم إخضاع اللغة بشكل منهجي (في محاولة يائسة لملء زائف قد يكشف خواء اللغة) لـ (أي من هاتين الدلالتين) أو لتلفيقات العلامات النشطة. إن الهايكو القائم على فرضيتي: البساطة والمألوف، - إذا جاز لنا التعبير في علم اللغة – لا تستهويه تلك العلامات المتعلقة بالمعنى. في حين أننا نرفقه بهذا النوع من المشاعر العامة والتي نطلق عليه "الأحاسيس الشعرية "، انطلاقا من رؤيتنا له كقصيدة شعرية، (بالنسبة لنا، عادة ما يكون الشعر دلالة على" الإطناب " و" المشاعر " و" البعد عن تجسيد الصور الحسية "، "إنها مجموعة انطباعات غير قابلة للتصنيف)؛ نحن هنا بصدد " أحاسيس مكثفة " و" رصد أمين للحظة نادرا ما تتكرر، "وفوق كل شيء لـ " الفراغ" الذي يُعدُّ لدينا (دلالة على المنجز اللغوي). في النص التالي لـ "جوكو" (Joko) ، أحد شعرائهم، سندرك مفهوم اللحظة العابرة:

كم من العابرين

جسر سيتا

تحت أمطار الخريف!

 لنتأمل نصا آخر لـ (باشو):

أعبر الطريق الجبلي.

آه! يالبهاء

الأرجوان!

هنا سرعان ما سيُقدم القارئ الغربي على تفسيرالمعنى وتوظيف الرمز موضحا أن باشو قد التقى بناسك بوذي، أثناء عبوره الطريق الجبلي؛ وعلى هذا الأساس يشير الأقحوان إلى "زهرة الفضيلة ". يظل تفسير المعنى غاية كبرى في نص ذي ثلاثة أبيات (مكون من سبعة عشر مقطعا صوتيا 5-7-5)، يحتوي على مكونات ثلاث: (مفتتح/ دهشة / قفلة):

بركة عتيقة:

ضفدع يقفز …

طرطشة الماء

في هذا النص؛ يفرض البعض القياس والاستعارة عنوة، ظنا بأن استبعاد هاتين الخاصيتين سيجعل تناول القصيدة مستحيلًا: تلك الطريقة في تناول الهايكو، هي مجرد تكرار للنص، وهذا ما فعله أحد الشُرَاح لباشو، بطريقة ساذجة وسطحية:

تمام الرابعة ...

 استيقظت تسع مرات

أتأمل القمر.

"إن القمر غاية في الجمال"، يستطرد شارح النص قائلا " لدرجة أن الشاعر يصحو من نومه مرة بعد أخرى كي يتأمله من النافذة". هكذا يسعى الغرب إلى فك شفرة النص، وتفسيره للنفاذ إلى المعنى، والولوج إليه فقط لمجرد الولوج إليه - وليس لخلخلته، تلك الحالة أشبه بمتدرب زن – حيث لا يشفع له اجتيازه الـ"كوان"1، إخفاقه في كتابة الهايكو؛ لأن فعل القراءة لديه تعطيل للّغة، وليس استفزازا لها: إنها مغامرة أدرك باشو نفسه، وهو سيد الهايكو، مدى صعوبتها وضرورتها:

فواعجبا

لمن لا يرى "الحياة عابرة"

حين يومض البرق !

***

.........................

* نشر المقال في مجلة البيان الكويتية عدد شهر يناير 2024، وهو ضمن أربعة مقالات مجتزأة من كتاب رولان بارت الشهير " امبراطورية العلامات.

* "رولان بارت" (Roland Barthes 1915-1980) فيلسوف فرنسي وناقد أدبي ومنظر اجتماعي وسميولوجي . نال شهادة في الدراسات الكلاسيكية من جامعة السوريون عام 1939. كان لفكره بالغ الأثر في تطور مدارس أدبية عدة كالبنيوية والماركسية وما بعد البنيوية والوجودية، كما كان لآرائه الفكرية تأثير كبير في تطور علم الدلالة. يعد بارت واحدا من كبار الفلاسفة الذين أرسوا تيار ما بعد الحداثة. من مؤلفاته : لذة النص، الأدب والواقع، موت المؤلف، من البنيوية إلى الشعرية، الغرفة المضيئة، هسهسة اللغة، مدخل إلى التحليل البنيوي للقصص وامبراطورية العلامات وغيرها.

  الكوان公案  .هو تدريب ذهني على موضوع ما للتأمل يلقيه المعلم البوذي على المتدرب (المريد)، ويطلب منه الإجابة بعد تأمل، وينصحه بالابتعاد عن طرق التفكير المعتادة مثل: المنطق، والمقارنة ،ومحاولة إيجاد طرق أخرى للوصول إلى صلب الموضوع وهو غالباً ما يكون الهدف الأساسي للبوذية ويطلق عليه "الاستنارة".

"بعد أن كبر الموج" مجموعة قصصيّة، صدرت عن دار الوسط للإعلام والنّشر في مئة وعشرين صفحة، وفي اثنتين وعشرين قصّة مختلفة تلامس أوتار القلوب، وتثير شغف القارئ بلغتها المتدفّقة بالمشاعر.

سيميائيّة العنوان ودلالاته العميقة المكثّفة:

هذا العنوان "بعد أن كبر الموج" مليء بالدّلالات التي تضفي على المجموعة ثراء معنويّا وبعدا أدبيّا خاصّا. هو عنوان رمزيّ مثير للفضول يمكن تفسيره بطرق شتّى، فهو يطلق العنان لخيال القارئ ويغريه بالتعمّق في هذه المجموعة لسبر أغوارها.

كما تبدو الكاتبة وكأنّها تضع نفسها في هذا العنوان الذي يشير إلى نضج اختيارها، فالموج رمز للحياة يموج بالأحداث والمشاعر، ينهمر ويتلاطم ويكبر؛ كتجاربها التي كبرت ونضجت مع مرور الوقت وحملت معها عبق الماضي وحكمة الحاضر. والموج يصوّر القوّة والصّلابة في مواجهة التّحدّيات والصّعاب، وهو أيضا رمز للحلم والرّغبة المتوقّدة في التحرّر من القيود.

يمكن ربط عبارة "كبر الموج" بشكلٍ مباشر بنموّ شخصيات القصص مع مرور الزّمن، فكما يتنامى الموج، تصبح شخصيات القصص أكثر نضجا وعمقا، تمرّ بتحدّيات تغيّرها وتطوّرها، وبالتّالي، فأحداث القصص تصبح أكثر تعقيدا. ولا تقتصر رمزيّة العنوان على ذلك فقط، بل تتّسع لتشمل طيفا من الإمكانيّات، تبعا لفهم القارئ وخيال الكاتبة ورؤيتها، وبناء سياقها السّرديّ.

إذن.. هو اختيار موفّق لمجموعة قصصيّة تعنى بموضوعات إنسانيّة متنوّعة، تشكّل فيها المرأة لوحة فنيّة حيّة بكلّ تناقضاتها، بقوّتها وضعفها، بفرحها وحزنها، بأحلامها وآلامها. ولم تغفل المجموعة أيضا، عن تصوير الرّجل بكل حالاته، مشاركا في أفراح الحياة وأتراحها، وشاهدا على متقلّباتها وتغيّراتها، متأثّرا بما حوله ومؤثّرا به.

قصص من أعماق الروح:

تطرح كلّ قصّة من القصص واقعا مختلفا، بينما تشكّل الرّسالة الكليّة للمجموعة دعوة لاستكشاف أعماق النّفس الإنسانيّة. ولعلّ التّركيز على بحث المرأة عن ذاتها، من أبرز علامات السرد النّسويّ في هذه المجموعة، فالمرأة تقاوم وتتحدّى وتواجه الصّعاب بقوّة وعزيمة.

تفتتح الكاتبة بقصّة "أفقد نفسي" (ص5)، فتجسّد صراعا داخليّا يواجهه الإنسان في خضمّ الخيانة وتأثيرها على علاقاته الاجتماعيّة والعاطفيّة.

في القصّة الثّانية "شغف" (ص20)، تغوص بنا في رحلة فلسفيّة داخل هذا الزّمن المتخبّط سعيّا لفهم طبيعته، فتمهّد للنّص بكلمات الشّاعر أدونيس الرّنانة، التي جاءت مدخلا ملهما ومثيرا للخيال، توضّح مشاعر الإنسان المتضاربة بين اليأس والأمل والفرح والحزن، وتعبّر عن نظرتها الفلسفيّة حول وجود الإنسان ومكانته في هذا الكوّن. ولا شكّ أنّها كتبت هذا النصّ متأثّرة بكتابات جبران الفلسفيّة، وما فيها من قيم إنسانيّة رفيعة، ومن تدفّق في الأسلوب ووضوح في الومضات، ومخاطبة رمزيّة وروحيّة، والتحام بالوعيّ الكونيّ.

لا نجد تسلسلا زمنيّا للأحداث في هذه القصّة، بل نجد رموزا تحتاج تحليلا عميقا، وهي لا تقاس بمعيار الأحداث الحقيقيّة، بل تفهم من خلال تعبيرها الرّمزيّ؛ فقد انبثق النصّ في ثوب نثريٍ مزخرف بالصّور البيانيّة التي تضفي عليه سحرا وجاذبيّة، تتدفّق كلماته كشلّال عذب، تاركة وراءها أثرا عميقا في نفس كلّ قارئ متذوّق للحرف. وممّا كتبته في الصّفحات (20-21-22):

تأبّطت كتاب الأجنحة المتكسرة لجبران خليل جبران، أخفيته تحت طيّات فستاني الذي كنس الطّريق الترابيّ المؤدّي إلى الكرم. أنا سلمى بحبّها العارم، وبأجنحتها المحلّقة خارج الزّمان والمكان، دعاني الوجد، وكنت ألمح طيف السيّد المسيح يمشي على الماء كالظّل، يقطع بحيّرة طبريّا هاربا من الأعداء، وقد عميت أبصارهم. لمحوه كطيف وكظل يسير حافيا فوق الماء. وبين النّبيّ والمجنون والأجنحة المتكسّرة ورمل وزبد، تتنازعني الأطياف والأفكار.

خشيت من إفشاء عشقي لجبران السّماويّ، الذي أهداني أوّل وردة محبّة، وبعث بي روحا متمرّدة، وعرائس ومروج، ودمعة وابتسامة، وعواصف وموسيقى، ورملا وزبدا.

استدعاني البحر إليه كما استدعى جبران، ووقفت على ربوع جبال الكرمل المحيطة بالكرم، وأدركت أنّني سأعطي للطّبيعة من نفسي، ومن الجمال كما أعطتني.

فهمت جبران بطريقتي، فبعضي حبر وبعضي ورق، وأنا كلاهما، وما أنبل القلب الذي بإمكانه إنشاد الفرح وهو حزين.

هكذا، ارتقيت بنفسي لوحدي، وحفظت قاموس الحياة منذ طفولتي وأنا أردد:

الحياة مثلما تتغنّى بجمالها، نستطيع أن نغنّيها بصمت، والبقيّة ستأتي.

من خلال هذا النصّ النّثريّ الصّوفيّ الرّومانسيّ، الذي قَدّمتُهُ هنا بشكل مختصر، تقدّم لنا الكاتبة وصفا غنيّا بتفاصيل رمزيّة ومشاعر جيّاشة؛ لحالتها النفسيّة والوجدانيّة، بعد قراءتها لكتاب الأجنحة المتكسّرة، فتُظهر تأثّرها الواضح بأعمال جبران الفلسفيّة، التي ذكرتها في النصّ لتجسّد رحلتها الفكريّة، معبّرة عن شعورها بالاندماج مع الكون أثناء رحلتها في البحث عن معنى الحياة.

يرمز الطّريق الترابيّ الذي وصفته إلى مسيرتها الداخليّة نحو الاكتشاف الذاتيّ، فكلمات جبران ألهمتها وأثّرت في مسارها الإبداعيّ، فشعرت وكأنّها سلمى في سيمفونيّة حبّ، ووحدة روحيّة مع جبران. وتشير عبارة "المسيح يمشي على الماء"، إلى الأمل والخلاص من المعاناة، ويمثّل البحر اللانهاية والحريّة.

أمّا جبال الكرمل فتشير إلى المكان الذي تعيش فيه الكاتبة التي نحاول استلهام أفكارها، فنجد أنّ ذكر كتاب النبيّ يجسّد شعلة التّوجيه الرّوحيّ المنير لدربها، بينما يدلّ كتاب المجنون على تفكيرها الداخليّ، ونضالاتها في سبيل التحرّر من قيود الواقع.

أما كتاب الأجنحة المتكسّرة، فيعبّر عن أحلامها وطموحاتها التي لم تُحقّق بعد، بينما نستدلّ من كتاب رمل وزبد على فناء الحياة وهشاشتها.

في هذا النصّ أيضا إشارة إلى أهميّة القراءة، إذ تؤكّد قبّلان على أهميّتها في تنمية العقل والرّوح، ودورها في صقل موهبتها ومهاراتها الكتابيّة والإبداعيّة التي تتخلّلها العاطفة والإلهام والتّعبير.

استخدمت أيضا أسلوب السّرد الذاتيّ، وركّزت على مشاعرها وأفكارها، وكذلك أسلوب التكرار، مثل: "الحياة مثلما تتغنّى بجمالها، نستطيع أن نغنّيها بصمت" و " استدعاني البحر إليه كما استدعى جبران".

كما خلقَت من اللّغة المجازيّة الغنيّة بالصّور والأسلوب السرديّ عالما من المعنى والجمال، مثل: "استدعاني البحر" و "حفظتُ قاموس الحياة".

أمّا عبارة "البقيّة ستأتي" فتركتها مفتوحة للتأويل؛ لتضيف الغموض إلى النصّ وتدعو القرّاء إلى الانخراط في تأمّلاتهم وتفسيراتهم المختلفة.

توضّح هذه العبارة أيضا، ترقّب الكاتبة لما يخبّئه لها المستقبل، فهي ترى الحياة رحلة متجدّدة ومستمرّة من التّجارب التي تلوح في الأفق، وهذا ما يتوافق مع صور البحر والطّبيعة في النصّ التي ترتبط بدورات التجدّد الدّائم.

في سياق قصّة أخرى تحمل عنوان "ثرثرة" (ص26)، تشاركنا تجربتها الشّخصيّة أثناء رحلتها من الأردن إلى البلاد، فتصف الشّعور بالتّرقب والقلق الذي ينتاب المسافرين بين المعبرين، وتسلّط الضّوء على المشاعر والأفكار التي انتابتها خلالها.

وفي سياق قصّة "اشتهيك يا موت"(ص30)، تقدّم لنا حكاية امرأة تهرب من رجل استباح جسدها، تصوّر حالة الخوف التي تسيطر عليها أثناء هروبها من معتديها، ورعبها وحالتها النفسيّة، واضطرابها بين الرّغبة في النّجاة والخوف من المجهول.

في القصّة التي تليها "العار" (ص34) تقدّم حكاية مؤثّرة وفكرة مشابهة، عن فتاة تصبح ضحيّة لخيانة خطيبها بعد أن استباحها وتركها محبطة وحيدة وحزينة، تتحمّل مسؤوليّة حملها، فتصوِّر مشاعرها المتضاربة بين الحبّ والألم والخوف.

تشكّلان هاتان القصّتان لوحتين مؤلمتين مظلمتين عن واقع العنف ضد المرأة، وتثيران أسئلة مهمّة حول مسؤوليّة الأسرة والمجتمع في حماية النّساء من الاعتداء.

تثيران أيضا فكرة ما يسمّى بالشّرف في المجتمعات الأبويّة الذكوريّة، المهووسة بتأثيم المرأة على خلفيّة هذا المفهوم الخاطئ، الذي يستخدم لتبرير العنف ضدها، حيث تعتبر رمزا لشرف العائلة وأيّ سلوك مخالف للأعراف والتّقاليد، يفسّر على أنه يلحق العار بالأسرة، فتقتل كوسيلة لاستعادة الشّرف المزعوم، الأمر الذي يمثّل ظاهرة خطيرة تهدّد حياة النّساء.

يحضرني هنا ما جاء في شعر عنترة بن شدّاد:

ولَقَد ذَكَرتُكِ والرّماحُ نَواحِلٌ مِنّي.. وَبيضُ الهِندِ تَقطرُ من دَمي

فَوَدَدتُ تَقبيلَ السّيوفِ لأَنّها..  لَمَعَت كَبارِقِ ثغركِ المُتَبَسّمِ

من رحم الزّمن العربيّ العريق، يرتسم هذان البيتان كلوحة فنيّة تُجسّد معنى الرّجولة الحقيقية. فيهما تتراقص كلمات الشّهامة والشّجاعة والشّرف، كسيف يصدّ العدوان، وتترقّرق مشاعر الإنسانيّة، لتلامس أرواحنا. فكيف إذن انحدرت هذه المعاني الساميّة لتُقيّد بأفكار رجعيّة؟

إنّ الرّجولة، إن هي إلاّ قيم إنسانيّة نبيلة، تُعلي من شأن المرأة وتُكرمها. فكيف استغلّت بعض المجتمعات هذه القيَم النبيلة، لفرض هيمنتها على المرأة، مُقحمة إيّاها في قفص من العادات والتقاليد الباليّة؟

أليست الرّجولة الحقيقيّة تكمن في تحرير المرأة من قيود الظّلم والقهر، وتمكينها من تحقيق ذاتها ومساهمتها في بناء المجتمع؟ إنها رحلة طويلة، تبدأ بخطوات صغيرة، تُكسّر قيود الجهل، وتنير دروب المستقبل.

فهل نعيد للرّجولة بريقها الأصيل ونحرّر المرأة من قيودها، لنسير معا نحو مجتمع ينعم بالعدل والمساواة؟

هذه الأسئلة وغيرها تشعل جذوة القصّتين السابقتين، وتثير التفكير حول مفهوم الشّرف والرّجولة في المجتمعات الذكوريّة.

نسير نحو قصّة "جمر وأمر" (ص41) نقرأ عن فتاة تدعى فاتن، ومعاناتها من تصرّفات والدتها المتسلّطة التي تؤثّر سلبا بأنانيتها على جميع أفراد الأسرة.

تلجأ الفتاة إلى أبيها، لكنّ شخصيّته ضعيفة، ويعجز عن المواجهة.

يفضّل الصّمت والسّكوت عن زوجته، تجنّبا لكلام النّاس وحفاظا على سمعة العائلة، فتقرّر الفتاة الهروب إلى الدّير كملاذ أخير يمنحها السّكينة والأمل والقوّة، وتكرّس حياتها للعبادة بعيدا عن قسوة الأمّ.

تسلّط هذه القصّة الضّوء على إشكاليّة وجود شخص نرجسيّ داخل المنزل، وتجسّد تأثير ذلك وتداعياته المترتبة على جميع أفراد الأسرة، كما تقدّم دعوة للتأمّل في دور الدّين في حياتنا، فهل هو ملاذ من متاعب الدّنيا، أم أداة للهروب من الواقع؟

أمّا الـقصّة المعنونة بسرب ضجيج (ص53) فتروي حكاية شابّة تعاني من التّشتّت النّفسيّ وتركّز على أهميّة الحبّ.

تستخدم الكاتبة في هذه القصّة أسلوبا سرديّا متدفّقا، يجمع بين الواقعيّة والخيال، وذلك بلغة شعريّة أنيقة، مليئة بالصّور الرّمزيّة والاستعارات. كما تعتمد على السّرد الدّاخليّ في كشف أفكار البطلة ومشاعرها للقارئ.

القصّة التّاسعة "بعد أن كَبُرَ الموج"، تحمل عنوان المجموعة بذكاء، وتصوّر صراعا داخليّا لفتاة عاشقة للقراءة والكتابة، وتحت الفراش بعيدا عن الأعين، تخبّئ ما خطّته من أفكار وخيالات وشغف، على أوراق تمثّل ملاذها الوحيد من قسوة الواقع.

لكنّ السرّ لا يطول، إذ تنكشف خباياه أمام والدتها التي تحاول قمعها؛ لتغدو الفتاة أسيرة حبّها للقراءة والكتابة، مجسّدة بذلك صراع الأجيال والقمع في بيئة لا تقدّر قيمة الإبداع، ولا تتيح مساحة للتّعبير عن الذّات، ولا تتفهّم طموحات الأفراد ولا تشجّعهم على التقدّم.

هذه القصّة ثريّة بالمعنى، تمكّن القارئ من التّماهي مع مشاعر البطلة وأفكارها، وتثير نقاشا حول حريّة التّعبير واحترام الخصوصيّة.

النّصّ العاشر بعنوان "لوّم" (ص64) وهو ليس قصّة بالمعنى التقليديّ، بقدر ما هو نصّ نثريّ مؤثّر، يظهر الألم الَّذي تعيشه أمّ جرّاء فقدان ابنها، فتعبّر الكاتبة عن مشاعر الأمومة الصّادقة والفقد والحزن، وتصف الظّلم والقهر والعنف وفقدان الأحبّة،  وتدعو إِلى التّضامن مع الأمّهات الثَّكلى في كلّ مكان.

تتميّز لغة النصّ بجمالها وصورها الشّعريّة وتعابيرها الحزينة، كما يضفي الاقتباس من أشعار سميح القاسم في نهاية السّطور عمقا ومسحة من التراجيديّا.

في قصّة "ذاكرة العسل المرّ" (ص68)، تخلق الكاتبة أجواء حالمة تثير الأحاسيس، حين تجسّد حكاية ستيفانوس وكارمن، في ظلّ مأساة إنسانيّة، ليجد كلّ منهما في الآخر ملجأ من آلامه وأحزانه، بعد أن عانيا من ويلات الحرب وفقدان الأحبّة.

أمّا قصّة "نقرات الكعب العالي" (72ص)، فتصف حالة الحزن التي تخيّم على شاب يرى في الخيال مهربا من واقعه القاتم.  تحلّق خيالاته وهو يتأمّل بشغف جمال شابّة يراها فتاة أحلامه، لكنّ القدر يتدخّل وتأخذ الأحداث منعطفا مأساويّا مفاجئا، حيث تصاب الشابّة بحادث مروّع، يطفئ شمعة حبّه وآماله وأحلامه.

وعند الحديث عن النّصّ المعنوّن بمنفضة (ص77)، فهو صورة قلميّة قصيرة ومكثّفة، تغوص بالقارئ في رحلة سرياليّة عبر دهاليز الذّاكرة والصّور المبهمة التي تثير الغموض وتحفّز على التأمّل.

يعتمد هذا النّصّ على الإِيحاء برموزه المنبثقة من العبارات الحسّيّة، التي تترك للمتلقّي مجالا للتصوّر والتخيّل لإكمال الدّلالات الرمزيّة كما يوحي بها، حيث تصبح المنفضة رمزا للأحلام والذّكريات التي تضمحلّ مع الوقت.

قصّة "رهان" (ص78) هي حكاية امرأة تنجذب إلى رجل غريب الأطوار يثير فضولها، وفي النّهاية يتحوّل هذا الانجذاب إلى ريبة وشكّ، ما يدفعها إلى الهرب.

لا يقدّم هذا النصّ تفسيرا واضحا لتصرّفات الرّجل أو لمشاعر المرأة، ما يترك الأمر مفتوحا للتأويل.

في نصّ طائر النّفايات (ص 83)، تحيك الكاتبة من الكلمات طائرا نادرا، مستهلّة سردها بكلمات الأديب حيدر حيدرِ، الَّتي تحمل معنى رمزيّا مجازيّا يتجاوز المعنى الظّاهريّ.

تتابع في نقد الواقع القاتم، فتشير إِلى عدم إيمانها بإمكانيّة التغيير أو الأمل، وتترك المعنى مفتوحا.

تتحدّث عن هذا الطّائر الغامض وتعرّف بأنواعه المختلفة، موظّفة لغة بيّنة مليئة بالرّمزيّة والصور الحيّة، لتضفِي على النّصّ تأثيرا عاطفيّا قويّا زاخرا بالإيحاءات والاشارات المُلَمّعة بالغموض، فتدفع إلى التّساؤل:

من هو طائر النّفايات هذا؟ هل هو ظاهرة متفشيّة؟ أم سلوك اجتماعيّ سلبيّ؟ أم رسم لواقع ديستوبيّ؟

في قصّة "دون خيار" (ص88)، تضعنا الكاتبة في مشهد يثير ألوانا من الحزن واللّوعة. تكتب عن صراعها مع المرض، وعن مشاعرها جرّاء الفقد؛ لتغدو الكلمات رثاء ووجدا، وتضيف إلى النصّ عمقا من خلال دمج بعض أَبيات الشّعر، الَّتي تعزّز من مشاعر الألم. وممّا كتبت:

تَلَوَّنَت الأقاحِي بِالشَّحُوبِ .. فَنُوحِي يَا مَدَامِعَ أو فَتُوبِي

أَيَغفُو العُمرُ بَعدَ فِرَاقِ نَهرٍ .. وَتَلتَئِمُ الثَّوَانِي مِن نَدُوبِي

وكأنّ الشّاعرة هنا، تعكس المشاعر المجروحة التي لم تلتئم، فالوقت برأيها لن يداوي الجراح، ولن يوقف الدّموع بعد الفقد.

تتساءل عن إمكانيّة الحياة بعد رحيل من وصفته بنهر الوجود ومصدر الحياة، تقوم بتوظيف الصّور الطبيعيّة المعبّرة، وتشير بالأقاحي إلى الزّهور التي أصابها الشحوب والذبول؛ لِتُرمِّز بذلك إلى شدّة الحزن بعد الفقد.

ثمّ تجمع شتات روحها فوق سرير أبيض داخل جدران المستشفى (ص94)، فتبوح عن مشاعرها المتضاربة بين الألم، والأمل بالشّفاء، ليغدو السّرير الأبيض مسرحا لصراع مؤلم مع المرض ومشاعر الفقد، وتغدو اللّحظات حينها اختبارا لصبرها وقوّتها.

نقرأ بعد ذلك قصّة "وفاء" (ص98) حيث تنقش البطلة ثوب ذكرياتها بخيوط الوفاء لزوجها الغائب تاركة قلبها رهينة لقيد الحنين، لكنّ شعلة الوفاء تنطفئ تدريجيّا مع مرور الزّمن، وتصبح الذّكريات عبئا ثقيلا.

تنتقل الكاتبة بعد ذلك إلى نصّ آخر بعنوان "مغفرة" (ص104) تختمه بعبارة "يسقط الحلم من حنين الذّاكرة"، وتلحقه بنصّ "هودج الأحزان" (ص106) الذي تنهيه بعبارة "الأمّ المكلومة"، وتصطحبنا إلى نصّ آخر بعنوان "خطيئة" (ص109)، ثمّ تختتم بقصّة "هناء" (ص112).

ملامح أسلوبيّة:

تتميّز هذه المجموعة بالدّمج المبدع بين السّرد والنّثر والشّعر والصّور القلميّة، هذا المزج الفريد يجعلها أكثر تشويقا وجذبا، فالسّرد يحاكي الواقع ويدخل المتلقّي في أجواء القصّص، ويسبغها النّثر بالسّلاسة والوضوح، أمّا الصّور القلميّة فتثير المشاعر وتحفّز الخيال، واللّغة الشّعريّة تكسوها بالجمال والرّومانسيّة.

تمتاز هذه المجموعة أيضا بقدرتها على خلق وحدة الأثر أو الانطباع، تماما كما وصفه "إِدغار آلان بو" الّذي عرّف الانطباع، أنّه كل ما يجب أن تخلّفه القصّة في ذهن القارئ، مؤكّدا على ضرورة أن يكون هذا الأثر واحدا ومباشرا وقويّا، ومشدّدا على أهميّة اختيار العناصر الفنيّة بعناية وتوظيفها بمهارة مع لغة قويّة، ذات إيحاءات معبّرة.

تتوفّر أكثر تلك الشّروط في قصص هذه المجموعة وأحداثها التي تركّز على جوانب الحياة اليوميّة، ببساطتها وتعقيداتها، ليغدو السرد متماشيا مع طبيعة الأفكار المتناولة، بكلّ ما فيها من ثراء.

كما نستشعر الأسلوب الأنثويّ النّاعم من خلال اللّغة العذبة، الزّاخرة بالكلمات ذات الدّلالات العاطفيّة؛ كالحبّ والأمل والحزن والفرح، التي أضافت إلى النّصوص لمسة خاصّة. ووفقا لعدسة نظريّة الاستقبال والتلقّي للمفكّر الألمانيّ "هانس روبرت ياوس" نجد أنّ عناوين القصص وضعت كبوابات، تفضي إلى عوالم مظلمة ونورانيّة في آن واحد، تشير إلى قضايا تؤرّق الكاتبة؛ فتبثّها في قصصها لتحفّز القرّاء على التّفكير في مغزى الوجود، وذلك من خلال تصوير العبثيّة والوجوديّة، والكشف عن تناقضات الحياة وصراعاتها.

كما يتجلّى تأثّر الكاتبة بكافكا، بوضوح في عناوين قصصها وأسلوبها الرّمزيّ، الذي يضيف طبقات من المعاني إلى القصص.

جاء ذلك في صور نثريّة غنيّة مقرونة بحوار تفاعليّ عاطفيّ، وسرد واقعيّ أحيانا، ورومانسيّ أحيانا أخرى، وغموض وسرياليّة مرّات ومرات، وكلّها تنصهر في بوتقة الخيال الأدبيّ، وتجتمع بشفافيّة اللّغة وانسيابها، وبفنيّة الصّور البيانيّة من وصف واستعارة وتشبيه وكناية ومجاز لغويّ، وثراء في المفردات ودقّة في التراكيب.

هذا من ناحية؛ لكن.. من ناحية أخرى فقد استهدف هذا العمل نخبة القرّاء، وذلك لغوصه العميق في الرّمزيّة.

يضفي هذا الاستغراق في الرّمزيّة على العمل بعدا من الرّقيّ والإلهام، بيدَ أنّ هذا الاستغراق صعب على القارئ العاديّ البسيط، ما يؤدّي إلى صعوبة فهمه للأفكار الواردة وتحليلها، وبالتّالي إلى عزوفه عن القراءة، وهذا الأمر يعيق وصول العمل إلى جمهور أوسع.

وبعد.. تبقى قراءة هذه المجموعة تجربة مثيرة للاهتمام؛ فكلّ جملة محكمة بعنايّة، وكلّ كلمة مختارة بدقّة، وكلّ مشهد يهدي إلى النّصّ جمالا وتأثيرا خاصّا.

***

صباح بشير

..........................

- ورقة مقدّمة إلى نادي حيفا الثقافيّ.

16.05.2024

في المثقف اليوم