قراءات نقدية

قراءات نقدية

بقلم : دوي جورج
ترجمة: د. محمد غنيم
***
يتذكر دوي جورج لعب الكلمات المبدع والحياة الحرة لهذا العملاق الأدبي الويلزي
***

هذه المسألة شخصية. ديلان توماس يهيمن على الشعر الويلزي الحديث كعملاق ذي وجنتين سمينتين وبدلة رثة. لذا، يجب على أي شاعر ويلزي يحاول أن يكون عصريًا أن يمر من خلاله أولًا، سواء أراد ذلك أم لا — وأنا منهم. ومن الصعب حتى أن نتعامل معه بألفاظ بسيطة، لذا أخشى أن يكون هذا هو ما سنعلق به هنا.. لقد كان ديلان هو الذي صنع الطقس، والآن أصبح بوسعنا نحن الباقين أن نختار بين أن نغرق في المطر، أو أن نحمل معنا مظلة، أو أن نتوجه إلى مكان آخر تماماً.
قبل خمسين عامًا، طرح الناقد هارولد بلوم نظرية شهيرة بعنوان "قلق التأثير". كانت الفكرة الأساسية التي طرحها بلوم هي أن الشعراء منذ عصر التنوير كانوا يكتبون دائمًا في ظل أسلافهم — هوميروس، دانتي، شكسبير. أما أفضل الشعراء المعاصرين أو "الأقوى"، فيحولون عقدة النقص هذه إلى ميزة. يتخذون زمام المبادرة في مواجهة ديناميكية تنتج أعمالًا جديدة. لكن، مهما كانت نجاحاتهم في هذا الصراع، تظل عملية الكتابة مليئة بالقلق:
لأن الشاعر محكوم عليه أن يتعلم أعمق رغباته من خلال الوعي بذوات أخرى. القصيدة في داخله، ومع ذلك، فإنه يختبر العار والعظمة حين يجد نفسه في قصائد—قصائد عظيمة—تتجاوز حدود ذاته.
إن ديلان توماس هو ذلك الكائن العملاق، الذي يتجول في خلفية الأدب الويلزي. ومن خلال قراءته على مر السنين، اكتشفت العديد من الرؤى المألوفة والموسيقى الغريبة التي تتعلق ببلدي، المكان الذي وصفه ديلن بشكل لا يُنسى بـ "التل الصاخب في ويلز". وغالباً ما أرى الآن، عندما ألتقط قلمًا أو أجلس أمام حاسبي المحمول، وجهه غير المبالي والمندهش قليلاً يحدق بي. ها هو هناك، مستندًا على مرفقه في العشب، ورباط عنقه مجمّع بشكل عشوائي تحت سترته الصوفية. ها هو هناك، يحتسي البيرة في زاوية من حانة فيتزروفيا، متقمصًا دوره كمغني البلاط ـ أو مهرج البلاط ـ في المشهد البوهيمي اللندني.
*
في العديد من أعظم قصائده، يجعل ديلن توماس الطليعة الفنية جذابة وغامرة كما لم يفعل أحد سواه.
أو ها هو ذا، في رسالة عام 1950 إلى الشاعر الأمريكي جون ف. نيمس وزوجته، يرسم صورة ذاتية أفضل وأكثر حيوية من أي شيء يمكنني أن أبتكره:
هل تذكرني؟ مستدير، أحمر، مكتنز، مثل تفاحة منتفخة بين الشعراء، صلب كالمسامير المصنوعة من جبن الكريما، أسناني متباعدة، أصلع، فاسد الرائحة، جامع عظيم للغبار ومغناطيس للعث، مولع بالبيرة، خائف من الكهنة، والنساء، وشيكاغو والكتاب والمسافة والوقت والأطفال والأوز والموت، عاشق، خائف من الحب، عرضة للتنقيط.
ولن أتردد في القول إن ديلان لم يكن مواطناً في جمهورية الشعر أكثر مرحاً من هذا المواطن. وتتضمن هذه القائمة العديد من تصرفاته الكوميدية المميزة: التلاعب بالأصوات، والارتجالات في اللغة العامية والعبارات المأثورة، والتبديلات الدلالية. إن عبارة "صلب كالمسامير" بحد ذاتها قد تكون نكتة ساخرة، ولكن إذا أضفنا إليها عبارة "مصنوع من الجبن الكريمي" فإن التعبير يفتح الباب أمام طبقات من التعقيد. ربما هذا شخص يظهر بطريقة ما— أنه صلب، متحفز، غير قابل للاهتزاز—ليخفي حقيقة أنه في الواقع ليس كذلك على الإطلاق. إذا اقتربت كثيراً، قد يتحول إلى كتلة لينة في يديك. صورته العامة "عرضة لأن تتقطر".
ولكن هناك كلمات أخرى حقيقية تُقال على سبيل المزاح. فهناك صورة خاطفة لجسد الشاعر الذي تقدم به العمر قبل الأوان، وقد تم تضخيمها من أجل التأثير، ولكن فقط بالطريقة التي يبالغ بها رسام الكاريكاتير الجيد في ملامح موضوعه لإثبات التشابه . في تلك المرحلة من حياته—كان في السادسة والثلاثين—بدأ سحره الشاب ذو الشعر المبعثر يبهت، تمامًا كما بدأت الأوعية الدموية في أنفه بالتوسع. كان يحقق شهرة عالمية ككاتب ومذيع ومتحدث، لكنه كان يكتسب سمعة أيضًا كـ"عاشق للمتع الحياتية". اسأل أي شخص عرفه قليلًا، وستجدهم يقولون إنه كان روح الحفل، "مجنونًا بالبيرة"، ولا يُعتمد عليه إذا أقرضته عشرة جنيهات. أما أولئك الذين عرفوه عن كثب فقد يذكرون سخاءه المتقطع، واجتهاده الذي كان يُخفيه خلف مظهره المتهور، أو خجله الذي كان يظهر بين فترات التفاخر المدعوم بالكحول—لكنهم كانوا بنفس القدر من الاحتمال أن يُتركوا دون موعد أو يخسروا أموالهم.
من حسن الحظ إذن أن كلماته كانت جميلة. فالمقطع الافتتاحي لأغنية "فيرن هيل" يمثل إعلانًا جيدًا عن متعة قراءة ديلان في أفضل حالاته:
الآن وأنا شاب وسعيد تحت فروع التفاح
حول البيت المتمايل وسعيد كما كانت العشب أخضر،
الليل فوق الوادي نجمي،
سمح لي الزمان بالتحية والصعود
ذهبيًا في أيام عينيه اللامعة،
ومكرمًا بين العربات كنت أمير المدن التفاحية،
ومرة تحت الزمان كنت أتمتع بسلطة الأشجار والأوراق
تتبعها الزهور البرية والشعير
أسفل أنهار ضوء الثمر المتساقط.
تخلد قصيدة "فيرن هيل" مزرعة كارمارثنشير حيث قضى ديلان صيف طفولته، على بعد 30 ميلاً من سوانزي، مسقط رأسه الصناعي. كتبت القصيدة في أعماق الحرب العالمية الثانية وتغمرها ألوان وردية مشبعة بتقنية الألوان الساطعة. كانت المزرعة الحقيقية خشنة كالأحذية القديمة - في قصة أكثر واقعية، كتب ديلان أنها "كانت تفوح برائحة الخشب الفاسد والرطوبة والحيوانات" - لكن هنا تتحول إلى جنة في الهواء الطلق. لا أستطيع التفكير في عمل يلتقط الوهم الكبير الذي يجلبه الطفولة السعيدة أفضل من هذا: كيف يصبح الصبي المحبوب والمرح "أمير المدن التفاحية"، يمرح في مملكته. لا يتعين عليك أن تكون قد نشأت بالقرب من مزرعة تمتد على 15 فدانًا وبهما بستان لتعرف كيف يكون الشعور بذلك.
الصوت لا يقل أهمية عن المعنى. بل يمكن القول إن الصوت جزء أساسي من المعنى مثل تعريف أي كلمة أو عبارة. إيقاعات القصيدة تتنقل وتتمايل بينما يسير الآخرون ببطء. هناك كثافة من المقاطع المخففة، مما يضفي على النص حركة مرحة تشبه خُطا الحمل الصغير. على سبيل المثال، في عبارة "سعيد كما كان العشب أخضر"، تركز في الغالب على كلمات "سعيد"، "العشب" و"أخضر"، بينما تتسارع المقاطع الأربعة الأخرى، ممتلئة بالحيوية لملء الفراغات. كل سطر في القصيدة يختلف في إيقاعه عن الآخر.
في الوقت نفسه، وبجانب هذه التغييرات البسيطة، يُنشئ ديلان تصميمًا صارمًا للقصيدة. كل مقطع من مقاطعها الستة ذات التسعة أسطر يتبع نمطًا محددًا لعدد المقاطع في كل سطر. (النمط، لمن يرغب في العد، يكون: 14، 14، 9، 6، 9، 14، 14، 7، 9 في المقاطع الأولى والثانية والسادسة، و14، 14، 9، 6، 9، 14، 14، 9، 6 في المقاطع الثالثة والرابعة والخامسة). هذا الترتيب يبدو وكأنه استهزاء بالتقاليد الشعرية العريقة التي ورثها. إذا نظرنا إلى تاريخ الشعر الإنجليزي ككل، في جوهره تاريخ الوزن الإيامبي الخماسي — الوزن المكون من عشرة مقاطع، الذي نتلمسه في أعمال تشوسر وشكسبير وميلتون ووردزوورث — فإن هذا الأسلوب يمثل طريقة رائعة للابتعاد عن الوزن الإيامبي الخماسي. خطوط ذات الـ14 مقطعًا تتوسع بغنى متجاوزة هذا الحد، بينما تنتهي الخطوط ذات الـ6 و7 مقاطع بشكل مرح مختصر. أما الخطوط ذات الـ9 مقاطع، فتداعب الوزن الإيامبي الخماسي لكنها تتملص منه دائمًا؛ إذ تزيح تلك المقطع الناقص حرفيًا هذا الوزن عن استقراره المعتاد.
أرى في كل هذا نوعًا من موسيقى الجاز الويلزية. تحمل قصيدة "تل السرخس" نفس المهارة الفنية والتلقائية التي تميز موسيقى ديوك إلينغتون وجون كولترين. فالبنية الثابتة توفر للفنان مسارًا يسمح له بالتنويع دون الابتعاد كثيرًا عن الأساس. إلى جانب الإيقاع، نجد النغمات الفردية التي تشكل اللحن، ويمنح ديلان هذه التفاصيل نفس الاهتمام. في أرجاء القصيدة، يتناغم الصوت مع الصوت—مثل "أغصان" مع "بلدان"، و"شعير" مع "نجوم"—في عرض صوتي نابض. (يُعرف هذا التناغم في الشعر بـ "التوافق الصوتي" أو التناسق بين حروف العلة). تتكرر الكلمات المفتاحية من مقطع إلى آخر، مثل "أخضر" و"زمن"، اللتين تندمجان في النهاية في العبارة البديعة "الزمن احتواني أخضر ومائلاً نحو الفناء". أمام هذه البراعة، لا يُدهش المرء حين يعلم أن توماس عمل على أكثر من مئتي مسودة للقصيدة، مصقّلاً عملاً أدرك أنه سيكون قمّة أعماله.
نُشرت قصيدة "تل السرخس" أول مرة في المجلة الأدبية هورايزون، ثم وصلت لجمهور أوسع عندما ظهرت في مجموعة ديلان بعد الحرب، وفيات ومداخل عام 1946. جذب القراء إليها بسرعة، معتبرين إياها مرثية لبراءة الطفولة وسط الدمار والرماد. كان تناغم ديلان مع المزاج العام ثمرة تجارب مؤلمة؛ فبعد أن رُفض في الفحص الطبي للجيش عام 1940، التحق بنوع من الخدمة الحربية، حيث كتب نصوصًا دعائية لوزارة الإعلام. وشهد مباشرةً، أولاً في لندن ثم في سوانزي، آثار القصف الجوي، حيث دفعته تلك التجارب إلى تخليد الحياة والموت على الجبهة الداخلية في عدة قصائد من تلك الحقبة. وتُعدّ قصيدة "رفض الرثاء لموت طفلة محترقة في لندن" الأكثر غموضًا وجمالًا من بين تلك الأعمال، حيث يرفض المتحدث فيها أي عزاء سهل، ويعاهد نفسه على ألا "ينطق بالتجديف خلال محطات الأنفاس / بأي رثاء آخر / للبراءة والشباب."
ربما كان التطور الأكثر أهمية في حياة ديلان خلال سنوات الحرب هو نوع آخر من الخدمة التي استطاع تقديمها. فبدءًا من عام 1937، وخصوصًا في أوائل الأربعينيات، أصبح حضورًا ثابتًا في محطات الإذاعة التابعة لهيئة الإذاعة البريطانية (BBC). ساهم ديلان في برامج الهيئة بإلقاء محاضرات حول موضوعات أدبية وسير ذاتية متنوعة، من "الحياة والشاعر الحديث" إلى "النفط الفارسي". وقد وُصفت الأربعينيات بأنها "العصر الذهبي للإذاعة"، حسب ويليام كريستي، حيث أصبح ديلان "ملكًا من ملوك القلعة الافتراضية." وإلى جانب كونها مصدرًا موثوقًا للمعلومات خلال الحرب، ساعدت الإذاعة البريطانية في الحفاظ على استمرارية الحياة الفكرية للأمة. وكما حدث مع ازدهار السينما في أوائل القرن العشرين، منحت الهيئة الكتاب حرية واسعة لابتكار وسائل جديدة لجمهور واسع، واستطاع ديلان أن يستثمر موهبته في هذا المجال. في يديه، أصبحت الإذاعة ملعبًا رائعًا للغة – فضاءً يمكن أن يكون شعبيًا، غير تقليدي، وشاعريًا، دون أن يشعر المستمع بالضياع.
ستؤدي هذه العلاقة السعيدة في النهاية إلى ولادة تحت حليب الخشب، وهي ربما تكون أكثر الأعمال الدرامية الإذاعية أصالة في تاريخ الإذاعة، وقمة كتابة ديلان عن ويلز. فما إن تُسمع الأحداث التي تجري في لاريغوب - المدينة الويلزية الخيالية التي اختير اسمها من قلب عبارة "Bugger all" (التي تعني "لا شيء" باللغة العامية) - حتى تصبح مستحيلة النسيان. كما أن التلاعب الغريب لديلان بالحميمية عبر الأثير يُعد أيضًا أمرًا لا يُنسى.
اقترب الآن.
فقط أنت من يستطيع سماع البيوت نائمة في الشوارع، في الليل العميق البطيء المملوء بالملح والصمت، ملفوفًا بالضمادات. فقط أنت من يستطيع أن يرى، في الغرف المظلمة، الأمشاط والملابس الداخلية على الكراسي، والقدور والمغاسل، وكؤوس الأسنان، و"لا تقتل" على الجدران، والصور الصفراء للطيور الصغيرة التي تراقب الموتى. فقط أنت من يستطيع أن يسمع ويرى، خلف عيون النائمين، الحركات والبلدان والمتاهات والألوان والانزعاجات وألوان قوس قزح والألحان والأماني والطيران والسقوط واليأس وبحار كبيرة من أحلامهم.
من حيث أنت، يمكنك أن تسمع أحلامهم.
على الصفحة، عبارة مثل "الليل البطيء العميق المملوء بالملح والصمت، المغطى بالضمادات" تبدو غير متناسقة، كأنها عبء لفظي سخيف؛ لكن على الراديو، يصبح نسج تلك الصفات الستة المتناثرة سحريًا. هنا وفي العديد من أعظم قصائده، يجعل ديلان الطليعية جذابة وغامرة كما لم يفعل أحد من قبل.
قبل أن يصل إلى "لولاريجوب"، حصل ديلان على سمعته كراوي لمنطقته الحقيقية. ظهرت سوانزي كموضوع رئيسي لأربع محاضرات إذاعية على الأقل، وهو عدد يزداد إذا أضفنا المناطق الأوسع في غرب ويلز مثل غاوير، وكارمارثنشاير، ووادي آيرون. من بين هذه البثوث التي تتجه نحو الوطن، أصبحت "ذكريات الطفولة" بلا شك الأكثر شهرة، وذلك بشكل رئيسي بسبب الجملة التالية:
لقد ولدت في بلدة صناعية ويلزية كبيرة في بداية الحرب العظمى: بلدة قبيحة وجميلة (أو هكذا كانت، ولا تزال، بالنسبة لي)، زاحفة، مترامية الأطراف، فقيرة، غير مخططة، متهالكة، ومكتظة بالسكان، ومكتظة بالضواحي المتغطرسة على جانب شاطئ طويل رائع منحني حيث كان الصبية المتغيبون وأولاد الحقول الرملية والرجال العجائز المجهولون، في حالة يرثى لها من جراء مائة بدلة خيرية، يمشون على الشاطئ، ويتسكعون، ويتجذفون، يراقبون القوارب المركونة على الرصيف، ويلقون الحجارة في البحر للكلاب النابحة المنبوذة، وفي فترة ما بعد الظهيرة من أيام السبت في الصيف، يستمعون إلى الموسيقى النضالية للخلاص ونار الجحيم التي يُوعظ بها من صندوق الصابون.
يا لها من بانوراما، يا لها من صوت. "المدينة القبيحة الجميلة" هي العبارة البطولية، شعار عكسي للفخر الذي ستجده الآن متجليًا على معالم سوانزي. على المستوى الحرفي، تلتقط هذه العبارة جمالية وقسوة المكان، لكن أكثر من ذلك، هي قطعة عبقرية من اللعب الصوتي. ثق في ديلان ليتنبه إلى الرابط الخفي بين كلمتين ظاهريًا متناقضتين. الأصوات المتشابهة للحروف المتحركة تدفعنا نحو إدراك مهم. في كثير من الأحيان في ويلز، القبح والجمال يسيران جنبًا إلى جنب؛ حيث تتلطخ رمادية أكوام الخبث ضد الخضرة المتدحرجة و"الشواطئ المنحنية الرائعة". هذه هي الأسونانس التي ترتقي إلى مستوى التعليق الاجتماعي، مما يثبت مرة واحدة وإلى الأبد أن موسيقى اللغة لم تزين فقط أبيات ديلان—بل شكلت أيضًا ملامح تفكيره نفسها.
كما هو الحال مع جميع القلق الجيد من التأثيرات الأدبية، فإن مشاعري تجاه ديلان متباينة. فعدد غير قليل من قصائده تترك لدي شعورًا بالفتور أو البرود. رغم كونها مليئة بالألعاب البصرية والرمزية، إلا أنها سرعان ما تتحول إلى شيء جاف ومكتوم. الرموز المتكررة التي تتناول الحياة والموت—الأرحام، الديدان، الحليب، القلوب، القبور، العشب—تنبض بحركة لا تتوقف، كأنها نبضات ثلاجة. شدة موسيقاه تصبح محمومة إلى درجة كبيرة: ليس التناغم والتأرجح الذي تتسم به موسيقى الجاز، بل هو الإيقاع القاسي لموسيقى التكنو الصناعية. خذ مثلًا قصيدته "Altarwise by Owl-Light":
الموتُ كلُّه استعارات، شكلٌ في تاريخٍ واحد؛
والطفلُ الذي يرضعُ طويلًا ينمو،
طائرٌ بيلُكينيٌّ من الكواكبِ
يفطمُ على شريانٍ يعبرُ من خلالهِ جنسُهُ...
وهكذا تستمر القصيدة، حيث يتدفق كل سطر أكثر فأكثر إلى اللون الأحمر، عبر عشرة أقسام بطول السوناتة. ديلان يدرك تمامًا مخاطر اختياره الأسلوبي. "الموت كله استعارات" يفتح لنا الباب لفهم الطابع المجرد للقصيدة—كيف أن كل اسم ملموس يرمز إلى شيء أكبر من نفسه—لكن هذا لا يخفف من المخاطر أو يعقد فهم النتيجة النهائية. (إذا كان أحدكم قادراً على تفسير "طائر البجع المدعوم بالكواكب" فليُرسل الإجابة عبر بطاقة بريدية إلى العنوان المعتاد). المخاطرة قد تكون عظيمة إذا نجحت، لكنني لست متأكداً أن ديلان يحقق النجاح دائمًا.
*
قصة ديلان هي قصة موهبة عظيمة، وإشاعات لاذعة، وعبث، وتحايل، وتغيرات تكنولوجية واجتماعية، وتميز يزدهر بهدوء على مرأى من الجميع.
أشعر بالحرج من هذه المشاعر، إذ إنها تجعلني أشعر بأني جزء من صف طويل من المتعجرفين والمتحذلقين. كما يشير جون غودبي، "كان العديدون يشعرون بالاستياء من توماس خلال حياته، بسبب مزيجه من الازدهار الأسلوبي، وسمعته كفوضوي، ولمسته الشعبية." ويستشهد غودبي كمثال على هذا الترفع بوصف جورج ستاينر له على أنه "محتال يروّج للمبالغات البارديّة بمهارة استعراضية لجمهور واسع، غالبًا ما يكون غير مؤهل بما يكفي [للشعور بالإطراء بمنحه نافذة على شعر يبدو عميقاً]." ويُعتبر وصف "جمهور غير مؤهل" إهانة خاصة بغيضة. لقد كان ديلان طالباً في مدرسة ثانوية تقليدية، شغفه بالتنوع وموهبته ككاتب تعلّمها بنفسه في الغالب. إضافة إلى ذلك، كان ويلزيًا—وهو ما أضفى عليه لمسة مزدوجة من التميز—وبدا أن شعره يلبي رغبة في شيء بدائي وغامض في الأجواء بين الحربين. وبالرغم من أن شعره كان موزوناً بعناية، متأثراً بكل شيء من فرويد إلى الرمزية الفرنسية إلى توماس هاردي، إلا أن ذلك بالكاد كان يلفت الانتباه. أصبح ديلان المفضّل كـ"همجي نبيل" لدى الجميع، حتى تبدلت الأذواق ووجد نفسه يُوصَف بـ"المحتال."
جاء الموت مبكراً في عام 1953، وقد تحولت ظروف وفاته إلى أسطورة من أساطير الروك آند رول. ما نعرفه بالتأكيد هو أن وفاته حدثت في نيويورك، في ختام واحدة من جولات متعددة قام بها في أمريكا منذ عام 1950، بحثاً عن المال والمغامرة. كان يدّعي كرهه لأمريكا واشتياقه العميق لزوجته وأطفاله في كل مرة يغيب عنهم. ولكن إن كان قد سافر إلى الولايات المتحدة مكرهاً، فقد أجاد خداع المعجبين والعاشقات ورواد الحانات الذين كان يصادقهم هناك. انغمس في الأوساط الأدبية المليئة بالشرب على الساحل الشرقي بحماسة متوترة، محاولاً التهرب من هموم المال، ومشاكل زواجه، وحزنه العميق على وفاة والده عام 1952.
أكثر جوانب أسطورة موت ديلان إصرارًا يتعلق بكلماته الأخيرة. ففي يوم الأحد، 8 نوفمبر، كان ديلان في جلسة شرب مكثفة في حانة "وايت هورس" في قرية غرينيتش. (لا تزال الحانة موجودة حتى اليوم وتزدهر بفضل اسمه). وبعد أن تم نقله إلى غرفة الطوارئ في مستشفى سانت فنسنت في الساعات الأولى من صباح يوم الاثنين، يُقال إنه قال: "لقد تناولتُ ثمانية عشر كأسًا من الويسكي على التوالي — أعتقد أن هذا رقم قياسي!" ثم فارق الحياة. (في بعض روايات القصة، كان يتلقى حماماً تنظيفياً عند وفاته، تحت أنظار الشاعر جون بيريمان). وكما تقول حفيدته هانا إليس، من "المرجح جدًا" أنه قال هذه الكلمات، ولكن من "المستبعد جدًا" أن تكون كمية الكحول قد بلغت ذلك الرقم. (الأشخاص الذين بحثوا في الأمر يقدرون عدد الكؤوس بين ستة إلى ثمانية). وبنظرة سريعة على ملاحظاته الطبية، يتضح أن ديلان كان رجلاً مريضاً جدًا في خريف عام 1953، إذ كان يعاني من مجموعة من مشاكل التنفس غير المشخَّصة. جعل الشرب الأمور أسوأ، لكنه لم يكن سبب وفاته بالسم.
لقد أثبت هذا الإرث المشكوك فيه، على نحو متناقض، أنه ضمانة لشهرة ديلان المستمرة. فهو يظل حتى يومنا هذا واحداً من الشعراء القلائل الذين حققوا نجاحاً باهراً، حيث تُطبع أعماله إلى الأبد، ويصوره على الشاشة وعلى خشبة المسرح عدد كبير من الممثلين بما في ذلك أليك جينيس، وأنتوني هوبكنز، وماثيو رايس. وفي الوقت نفسه، انهارت مكانته ككاتب جاد في أرض الشعر إلى حد كبير. ويبدو شعره ثرياً ومتكلفاً إلى حد مبالغ فيه مقارنة بالواقعية الاجتماعية المبتذلة التي هيمنت على الشعر البريطاني لسنوات عديدة. وعلى حد تعبير جودباي، "يشكل توماس نوعاً من الإحراج على كل مستوى تقريباً من مستويات عالم الشعر السائد. إن عمله قوي ولن يتلاشى، ويبدو أن هناك شيئاً يجب أن يقال عنه؛ ولكن لسبب ما، لا يمكن جعله يتناسب مع السرديات القياسية وبالتالي لا يتم إنجاز أي شيء". قد يتغير هذا الوضع، لكن سمعة ديلان المتقلبة ووفاته الأسطورية تظل عقبة أمام أي تقدير مناسب لكتاباته.
ترتبط أعبائي الخاصة بالقلق بكل هذا. قلت إن الشاعر الويلزي الذي يحاول أن يكون عصريًا يجب عليه أن يمر من خلاله، وأعتقد أن ذلك صحيح. لا يزال ديلان يمثل ذروة نوع معين من الضوضاء الكلتية. صوتٌ عذب وقوي، مشحون بالكتب السماوية والحديث على النار، إنه صوت مذهل. أستمع إلى موسيقاه من وقت لآخر وأجد من الصعب الهروب منه. (إذا كان هذا الفصل يتعلق بي أو بشعري، لَكنتُ قد سَردتُ أمثلة). دفع تلك الموسيقى إلى أبعد من ذلك سيؤدي إلى الفوضى؛ أما التراجع، كما فعل العديد من الشعراء الويلزيين في العقود التي تلت وفاته، فيؤدي غالبًا إلى منطقة خالية من الموسيقى على أطراف النثر. من الصعب العثور على وسيلة وسط.
ولكن لماذا ينبغي لهذه الدراما النفسية الوطنية أن تثير اهتمام أي شخص خارج ويلز؟ ربما لا، ولكنني أغرم بنفسي عندما أعتقد أنها قد تكون كذلك. إن قصة ديلان هي قصة موهبة كبيرة، وثرثرة بذيئة، وحماقة، واحتيال، وتغير تكنولوجي واجتماعي، وتميز يزدهر بهدوء أمام أعين الجميع بينما يتجه بقية العالم نحو الأسطورة. إنها تخبرنا بالكثير عن ثقافة المشاهير ورمال الذوق الثقافي المتغيرة. لا شيء من هذا يعني أي شيء، بالطبع، إلى جانب وهج التقدير الذي أحصل عليه من السير على طول ساحل ويلز والالتفات لتحية "الشاطئ المسكون" ("قصيدة في أكتوبر"). كان الشاطئ موجودًا قبل فترة طويلة من تسمية ديلان له بهذا الاسم - لكن ديلان أعطاني الكلمات التي تجعله ملكي.
***
.......................
* مقتطف من كتاب "كيف نفكر مثل الشاعر: الشعراء الذين صنعوا عالمنا ولماذا نحتاج إليهم" للكاتب داي جورج. نُشر بإذن من المؤلف، بإذن من دار بلومزبري كونتينيوم، إحدى شركات بلومزبري للنشر. حقوق النشر © داي جورج، 2024.
* المؤلف: دَي جورج / شاعر وروائي وناقد أكاديمي. كانت مجموعته الشعرية الأولى، The Claims Office (مكتب المطالبات)، من بين كتب العام حسب صحيفة إيفينينج ستاندرد، ونُشرت مجموعته الشعرية الثانية بعنوان Karaoke King (ملك الكاريوكي) بواسطة دار سيرين في يونيو 2021. نُشرت روايته الأولى The Counterplot (المؤامرة المضادة) كأصل صوتي (أوديبل) في عام 2019، وهو يعمل حاليًا على روايته الثانية. كان جورج محرر المراجعات في Poetry London في وقت سابق، وقام بتدريس الشعر والكتابة الإبداعية لسنوات طويلة في عدة جامعات. وهو حاليًا محاضر في الفنون الإبداعية والعلوم الإنسانية في جامعة كوليدج لندن (UCL).
وُلِد داي جورج في كارديف عام 1986 ودرس في بريستول ونيويورك، حيث حصل على درجة الماجستير في الفنون الجميلة من برنامج الكتابة بجامعة كولومبيا. ظهرت قصائده في العديد من المختارات، بما في ذلك كتاب الملح للشعراء الشباب وأفضل الشعر البريطاني. أحدث مجموعة له هي The Claims Office (سيرين، 2013).

 

شكلت التطورات التي مر بها الشعر ذلك الانفتاح النوعي في بنية النص، وشكل مقومات الشعر منذ عزرا باوند والفهم الجديد للشعر تغيرات عدة، وكان دعوة عزرا باوند للاختزال والايجاز لم تفهم بشكل موضوعي، بل فهمت من خلال السياقات العامة، لكن اليوت استفاد من تلك الفكرة ووسع مفهومها، والتحول الذي مر به ستيفن سبندر من الوزن نحو النثر في حينها هو كدعوة لأليوت للتواصل في تطوير مفهوم الشعر المعاصر، ونشير إلى أن الشعرية الانكليزية بالرغم من ذلك التطور النوعي، فهي تحافظ على السياقات العامة، فيما الشعرية الفرنسية انقسمت على نفسها، فمنهم من اتبع اسلوب مالارميه في كون الذات هي المحور في النص، ومنهم من تخلى عن الذات كليا، وعلى وجه الخصوص جبهة انطوان ارتو، الذي فقد جاك ماري بريفيل بعد خمس سنوات، والذي يعد من اخلص المناصرين لفن ارتو الشعري، ونشير هنا لدور متفرد قدمته الشاعرة سامانثا باريندسون  في اسلوب نثري متفرد، وكان في واجهة أخرى روفائيل البرتي يتقدم بسرعة في اكتساب مفهوم ارتو اللغوي، والذي هو أهم فهوم شعري حينها، حيث اللغة تناقض مفهومها العام للتعبير، وذلك أقصى ما بلغه الشعر في مفهومه الجديد، ولينا تجربة تقترب كثيرا من انطوان ارتو، وفي تجربة فلاح الشابندر في نصوص – حائط احدب – للمعاينة والدرس .

تشكل نصوص - حائط احدب – الصادرة من دار العارف للمطبوعات تجربة خارج السياقات العامة للشعر في التعبير الشعري وفي فيزياء النص، فالنص عند الشاعر فلاح الشابندر وحدة زمن بكثافة ايجاز  لغوي، وهذا ما يجعل وحدة الزمن تمر في اختصارات، ومن هنا تفقد الذاكرة الاجتماعية النسب العالية من دورها، ويكون للوعي والخيال الشعري التعويضات الممكنة عن ذلك الفقدان الزمني وركن الذاكرة، ومهمة اللغة الشعرية هنا ليس تجاوز الشكل الاجتماعي في اطار الوظيفة المعتادة للنص، بل امتلكت اللغو زمام الحرية التامة في التكيف التعبيري، ولم تعد ناصية وظيفة اللغة كما كانت، واللغة في التوظيف الجديد لها لابد ممن تحول اللغة من نمط إلى آخر، وذلك النمط ليس بسائد، وفيها اللغة تبحث عن نفسها لتستقر من جديد في ركن التعبير والتفسير، وهنا تتحول اللغة من كونها وسيلة تعبير إلى كيان داخل كيان النص الشعري، وتلك مهمة صعبة على الشاعر، وعليه أما ارجاع اللغة إلى الركن القديم، أو يحول اللغة إلى الكيان الشعري، ونسب الازاحة ترتفع عند ذلك الكيان، ونسب التشبيه تضمحل تماما، فالشاعر فلاح الشابندر يهدف لخلق فن شعري وليس بشعر يحتمل ذلك الفن بنسب، وذلك سائد، وهذا ما دفع الوعي الشعري عند الشاعر التوجه نحو الاستثناء، ولسنا هنا إزاء المنهج التقليدي للشعر وما يتصل به من ابعاد، بل وفي فكرة جديرة موضوعيا نؤكد لا وجود منهج ثابت للشعر، بل هناك مراحل كل منها يتصف بخصوصيته، ومثلما كانت القصيدة الموزونة هي مرحلة اتصفت بتاريخ، وسيارات اغلب مراحل الحداثة، لكن آخر مراحل الحداثة قامت بتسريع وحدات الزمن، ففي ما بعد الحداثة الشعر استفاد من تلك التحولات، واكتسب المفهوم الاكثر معاصرة له، والشاعر – ونستثني هنا كاتب الشعر – يؤمن تماما بالتجديد كظاهرة معرفة خلاقة، وليس كسياق جديد للكتابة الشعرية، ومن ذلك دخل فلاح الشابندر في الموضوعة وتجاوز السياق .

النص الشعري في مجموعة- حائط احدب – هو استثمار لما مرت به وحدة الزمن اختصار موضوعي، والنص اتجه نحو المستوى الدلالي داخل تلك التكثيف الوظيفي لكيمياء الشعر، بعد انحسار فيزياء النص إلى حد كبير، ليكون ذلك النص برغم الايجاز الموضوعي عالم لا يدرك في الادراك المباشر، بل يحتاج التأمل والامعان به، ففي النصوص التي تحررت من هيمنة النص الموازي، لتكون تلك النصوص بحرية تامة لا يمكن مجارتها، وفي النص .

تقاطعت والجنون

أطاح بي الجنون

 برفسة حافر استفهام

منهما إياي

لتفسير هكذا نوع من النصوص الشعرية لابد أن نخرج من القاعدة التاريخية للشعر، والتي تهدف لضمان معنى اجتماعي، وحسب اليوت إذا كان الشعر الوهم والايهام فمن الطبيعي سنفسد القاعدة التاريخية بالخروج الموضوعي منها، والشعر ليس الحقيقة الإنسانية حتى، بل ذلك التصور الذي يضيف لتلك الحقيقة معنى آخر بجدارة لم تعدتها، وتلك تعتبر ذلك النوع من التنازلات القيمة من الشاعر نحو انسانه، وتلك الصيغ ليست بالسهل أن يبلغها كاتب الشعر، بل يصل إليها الفنان بحسه الشعري، ويعتبر الشاعر فلاح الشابندر تجربة في الاطار النوعي، وفي النص المعنون – روزنامة – حيث التعويل على الحس المركب ما بين الذات والمعنى .

تتطاير .. تتطايح

في

ظل الركن

ومثلما تقرأ طالعك

كان عليك

أن تفهم الحياة على نحو أفضل

هنا ستكون مهمة اللغة في بعد آخر يختلف عن البعد العام لها، وعندما تبحث اللغة عن نفسها نقصد بذلك أن تتحول اللغة إلى معرفة وليس تكون في متاهة لتبحث عن تلك النفس الهاربة، وتلك النفس الهاربة هي الوعي والشعر والمعنى، وذلك المثلث تأصل في كيان اللغة، وهذا نفسره بخروج من الوجود الاساس لكينونة اللغة، والدخول في الماهية، ويرى ايلمان كراسنو بضرورة التحول نحو الرؤية الطارئة التي تنتجها رؤيا خلاقة، وذلك يعني تجاوز المهمة التقليدية للشعر، فما هو معرف ومكرس لا يحتاج من الشاعر الخوض فيه، وما طبيعة المهمة الشعرية إذا اخبرني الشاعر بأن الاشجار مثمرة، وذلك ما اجد خلاصته في الافق الاجتماعي وتداول الكلام العابر، ويخبرنا فلاح الشابندر بما لا نعرفه ولم نعيشه، وهذا هو شعر ما بعد الحداثة على اقل تقدير، وفي النص – من شاكلتي – ندخل في ما لا يفسر في الادراك المباشر للمعنى .

بافتراض مشترك ( النسيان )

إن عالما يتكون من اضدادها

بجريرة كينونة خطأ ... ( أنت )

في ذلك المقطع ثم رياضيات حسية تتجه ليس لعم القارئ، بل لتخضع وعي القراءة لتحليل تلك الرياضيات الحسية، والتي قد انتجها تمرين روحي لذات الكتابة، وفي تحليل بنية اللغة في الجمل دون فصلها نجد التعبير يناور بالأقواس، وهناك رأي لرتشارد شيبرد حول ازمة اللغة الشعرية في ظروف آخر مراحل الحداثة وما بعدها، حيث تغير نسق اللغة من التوصيل والتفسير نحو التحليل ما بعد المناورة، ودور التكثيف أو الايجاز الفني هو التفريط بالطاقة الحيوية للنص، والشاعر هو من فرض تلك الصيغ في شعر ما بعد الحداثة، ففي ما بعد الحداثة ما مات الخيال بل مات الادراك العام، والعالم الخارجي استبدل بعالم النص، وذلك المقطع على عكس التصور المنهجي يخلو من الحس، بل هو بحد ذاته اثارة حسية، ويشكل بعد الاستعارة الاستعداد على الدخول في جمل لم يزاولها، لكن بعد التجربة ارتفع مستوى الاستعارة من الاقناع إلى الادهاش، ففي النص – أمسية زجاجية – حيث التداخل أو التعارض في المعاني هو ثلم للدلالة في اصله .

على راحة الليل

ينزلق تلامس الظلال على سراب

الزجاج

نمضي

وآدمية عري أبكم

ترادف المفردات غير المنتظم في الحقل الاجتماعي لا يجعل ذلك الشعر يخلو من التفسير، وقد اشار ريلكه حول اهمية التحول نحو المضوع، ونشير هنا لكي تخرج من الحكي أو مزاولة الكلام، وفلاح الشابندر يجسد بالموضوع لا في التفسير العام المباشر، بل بما يجعل ذات الشاعر تستعد لدور الوعي، ودور الوعي يحيل للذات ليس القصد بل الغاية، وتلك الغاية لا تفرط بمفهوم الإنسان كما يفرط به القصد من أجل تعزيز النفس، والنص هو المفتاح في ما يكون من صعوبة الوصول لرمز مفهوم الإنسان، وكلما كان النص بكثافة نوعية تؤهل اللغة والمعنى والادراك، وفي النص – مؤبد العزلة – يستهل الشاعر بفكرة لا تفاوض .

تعارفنا .. وظلي

مسرات العزلة

الجنون فكرة ...

من الطبيعي في المفهوم الشعري الفكرة تمنحنا الحرية المستوى الحسي لترجمة تلك الفكرة، والعقل الراجح يدرك الفكرة في الشعر لا تفسر من خلال النص، بل كما احال بول كلي لمن يقف امام لوحاته في المنهج التجريدي، [ان ما يحس التلقي هو النص، وهنا لا نقول بذات الفكرة بل بالمجاورة لها، ومفهوم الشعر في ركن التاريخ يستوجب التفسير، فقد فرضت على الشعر مواطن لا تتوافق معه، فالأيديولوجيا بعيدة كل البعد عن صفاء ونقاء الشعر، والشاعر فلاح الشابندر وضع مفهوم الشع في ذلك الركن المهم، فكان مع حرية الشعر، وانبثقت نصوصه الشعرية منها، ويشير يونك لفكرة، أو طرح ذلك المنظور المهم، في أن الموهبة الشعرية هي مركب مستقل بنفسه، وذلك ما يكون في جوهر تفكير فلاح الشابندر، وفي النص – صديقي أيها الحب – يرتفع ايقاع البهجة، لكن لا ينحدر ايقاع الألم .

وكيف جئت مهلهلا

وذهبت وفيك أسى العمر

وحفنة رفاق تعساء

يهتم روبرت موسل بالقوة الخلاقة، ويعتبر تلك القوة تمزج المعرفة بالاستعداد النفسي، والشاعر الخلاق لا يتصف بغير معنى أو سبيل، فلا مسار يأخذ الشاعر نحو مبتغاه، وفي المسار سيرحل الجسد وتبقى الروح، وبذلك الركن الاكثر اهمية قد تعطل، والشاعر الحقيقي جوهر خلاق وليس بمظهر تمثل، وينطلق فلاح الشابندر من أفق هذه الفكرة، ويتجه لجوهر النص ليكتمل الكيان الشعري، وبذلك يمكن للنص أن يكون ذلك العالم البديل للعالم الخارجي، والبرهة الزمنية عند الشاعر هو اعظم من ظرف زمني، إلا إذا كان يتفق معها تماما، وفي نص – حائط احدب – تتجلى فلسفة الشاعر ومضمونها الشعري .

خاصرة الحائط

من بين

الجرح – الشرخ

الشاخص قدر

غير قدرنا

يرى مالكولم برادبري بصعوبة الموضوع الشعري هي الاهم والاجدر، ونوافق مع تلك الفكرة ونشير ليس ذات الموضوع تشكل الاهمية بل الصعوبة بحد ذاتها والتي هي ترفع من نسب الموضوع، والشعر ليس التعابير بل المعاني المنتجة من التعابير، وكلما ارتفعت نسب الكثافة الشعرية تطور المعاني واستعدت الاستعارة لقبول دور مغاير، وهنا يكمن نقطة ارتكاز اشتغال فلاح الشابندر الشعري، ففي النص – قلب عائم .. – تتحق الفكرة التي ذهبنا اليها حول صعوبة الموضوع .

حلمت صار عندي... سر؟

مران... العزلة لطالما تمنيت

الدائرة أكمل الأبعاد

مران الدوران ...... مران

الشعر صراحة في مرحلة ما بعد الحداثة لا يمتلك الحلول لمشاكل المجتمع، بل الشعر ذلك اللحن الخالي من المرونة وغير المتخلي عن الشجن، ولا المبتعد عن التأمل الروحي، والنص المعاصر مصفاة ضخمة لهموم الشاعر، فتبقى ولا تزول تلك الهموم الحسية المتصلة بالنص وليس بذات شخص الشاعر، ففي النص – ما يجول في خاطر الشمعة ؟؟ - هنا خلاصة فلسفية هائلة .

ما يستر ظاهر الفراغ

نقطة ... أجهلها

والتي لا يمكن أن

أكونها

تجربة الشعر عن فلاح الشابندر في نتاجه الشعري – حائط أحدب – لا تسير في ركاب الشعر في مساره العام، فهناك خصوصية التجربة، ونمط الكتابة الشعرية ليس هو المكتوب ما نعني به، بل ما نتمكن منه من القراءة الموضوعية، حيث يكون الشعر كما مفازة لا تجذبنا نحوها بل علينا تدبر الأمر، وصراحة بالنسبة لي شخصيا الشعر العظيم هو العصي على الفهم والادراك المباشر، فالشعر مجموعة احاسيس، ومن الصعب جدا العثور على تعبيرات تنيب عن ذلك الحس، والشاعر الحقيقي من فلاح الشابندر حتى لو تعارض مع نفسه من أجل بلوغ المعنى الشعري لا يتراجع، وتلك المهمة شاقة على مستوى المشاعر والحس لكنها عظيمة في النتيجة المرجوة، وتلك سعادة كبيرة في أن تكون كما انطوان ارتو لا يفهمك إلا القلة من العقول ذات العمق الفكري الرصين .

***

محمد يونس محمد

صدرت للزميل يوسف كبو مجموعته النصية (قناديل تضئ العتمة) عام 2024 والمتضمنة 78 نصاً أو لنقل 78 قناعاً استخدمهم الكاتب ليضئ من خلالهم العتمة، كون تلك الشخصيات الأدبية والتاريخية والاسطورية والدينية رموزاً يتجسدون القناديل كي يرشدوننا الى الطريق الصحيح لذا استعان بهم في تشكيل نصه فاستحضرها كونها قادرة على تجسيد رؤاه لما يربطها بدلالات ومواقف قادرة أن تضيء تجربته الادبية وتمكّنه من التعبير عن المواقف المختلفة التي يعيشها في عصره معبرا عن السمات الدالة في تلك الشخصية ويربطها ربطًا وثيقًا بين القناع الذي اختاره والأفكار التي يريد أن يعبر عنها، ويراعي في ذلك السمة المتجددة أو الصفات الحديثة التي سيضفيها الشاعر على المتلقي من خلال ذلك القناع أو الرمز.

 وبهذا يكون قد وفق في اختيار عتبة كتابه لتكون دالا تعكس المدلول ومن خلالها يسعى إلى توصيل ما يريده بسهولة إلى القارئ، فهو يضفي على نصه تشويقًا، ويكون قابلًا للتأويل والتحليل كونه يختفي وراء أقنعته الذي اختارها من شخصيات تاريخية وفلسفية وادبية، هذه الشخصيات التي تركت بصماتها في التاريخ، فهو بهذا يربط بين الماضي والحاضر، ويجعل الشخصية تنطق بلسانه من غير أن تظهر أناه.

 في مجموعته هذه استطاع الزميل يوسف أن يجعل من رموزه أقنعة ومن ثم قناديل تضئ وتقتنص الواقع وكان في مقدمتهم الفيلسوف الاغريقي سقراط الذي اتصف بالحكمة فيفتتح نصوصه قائلاً:

تراءى لي بما اعطته

عرافة دلفي من نبوءة

يصغي الى صوته الداخلي

يترنم بأناشيد الفكر

يمشي مسحورا على فرشة سماوية

والفراشات تحوم من حوله

ويختتم نصه بالقول (النهاية هي الأهم، أدانني الموت وأدانتهم الحقيقة) وهذا ما يتوافق فلسفة سقراط ليجعل منه أول القناديل ليضفي على صوته حكمته التي تكونت لديه من تجربة عاشها مع الزمن، فهو لا يريد أن يبوح لنا ذاته بل جعلها تتخفى وراء حكمة سقراط التي تتحدث عن النهاية ويكون بهذا قد تحول سقراط وآخرون من أمثال (أفلاطون، مار أفرام، هيراقليطس، بوذا...) الى رموزاً مهمة في حياته حاملين قناديلهم ليضيئوا العتبة الاولى لخريطة مسيرته.569 yousef kabo

وهكذا في الأقنعة الدينية من أمثال (المسيح، نوح، آدم وحواء، لوط، هابيل،..) الذي جعل منهم فضاءً نصياً كونهم يتسعون كثيرا لحمل ما يريد حمله من تجارب ورؤى كما في نصه (المسيح) الذي أعطى بصلبه للبشرية درسا يتفق على ما أنتهى به سقراط من القول (النهاية هي الأهم، أدانني الموت وأدانتهم الحقيقة) فاتسعت الرؤية النصية وتعمقت في نفسية الكاتب اولا ليجعلها تتسرب شيئاً فشيئاً الى نفسية المتلقي من خلال قوله:

على السلم الصاعد نحو الأزل

وفي سهو الحركة عن دورها

ذات تحلق في شاسعٍ لا نهاية له

مثخنة بمجازات السماء

سكبت ذاتها

غيرت لفائض الذهول حتمية الفناء

وبهذا جعل من المسيح رمزا يجسد ما يربو اليه الاديب يوسف كبو من غير أن يجعل ذاته تسيل فأخفى عنا الضمير المتكلم لينوب عنه الأنا الجمعية والتي تقمطت رموزه لذا فالعناصر الرمزية التي يستخدمها جعلها تستكشف لنا بعدا نفسيا خاصا في واقع تجربته الشعورية لذا تراه يتساءل في نهاية نصه (المسيح) فيقول:

ماذا لو مات المسيح بكياسة

فوق أريكة من حرير وديباج

تردد البنفسج في التشريع للمعاني

بمعنى آخر أراد أن يقول لو مات المسيح ميتة الاغنياء لفقد الرمز رمزيته وعجز أن يكون قنديلا يضئ له ولنا الدرب ويكون بهذا قد عبر من خلال نصه في التعبير عن الواقع الذي يحلم به الكاتب من غير أن يسرده لنا ليجعل رمزه هذا هو الذي يضئ لنا عتبات خرائطه لنتسلل الى أعماقه.

وفي نصه (نوح) يعكس لنا واقع الانسان الذي يراوده السؤال دوما كونه يرى الجمال قبحاً وفناءً فنظر الى المطر من خلال عدسة نوح وطيوره فرآه على شكل فناء فيقول:

لو امتلك نوح بعضاً من فقه الغيب

ورأى الزمن المتخثر فيه

لزجر الطير، وثقب قلكه

وبادر من دون شك بالسؤال

لماذا أخذ المطر شكل الفناء؟!

حتى تضخ الارض وما عليها

من عقاب السماء؟!!

رغم ما يحمله المطر من جمال وخيرات للطبيعة فلولاه لمات الانسان جوعا إلا أن الانسان لضيق بصره ولحظة يأسه تنعكس لديه الصورة فيتحول الرمز من قنديلا مضيئا الى عتمة.

وأحيانا يختار لاقنتعته رموزا اسطورية كما في (كلكامش، زوربا، آخيل، اوديسيوس..) وكما في تقمصه لشخصية كلكامش هذا العملاق الاسطوري الذي كان ثلثاه إلاه والثلث الاخر بشر، إلا أن هذا الثلث البشري أقلقه كثيرا لذا جال في البراري والبحار باحثا عن عشبة الخلود فيقول في نصه:

علمتني الأساطير

كيف كانت مغنيات اوروك

يفرشن على مسرح الكون جدائلهن

والقمر نائمُ على اخضرار اجسادهن

يقرأ لهن غموضهنّ

وصوت صدى سماوي يرنّ في اذانهنّ

علمتني الاساطير أن ألبس

شالا من الحرير وأطير

بهذا النص يكشف الكاتب عن المستور فيما يخص مغامرات الانسان وطمعه فيتقمط رمزه الضمير الجمعي لبني شعبه بدلا من أناه للايحاء بدلا من المباشرة في كشف أناه المضمرة وراء قناعه فتنساب من نصوصه دلالاتها الضمنية.

واحتلت الشخصيات المعاصرة مساحة كبيرة من مجموعته هذه (دوستوفسكي، شارلي شابلن، المتنبي، أديسون، مظفر النواب، بوشكين، باخ، بيتهوفن، نيتشه، مايكل أنجلو، فان كوخ، سبينوزا، همنغواي....) البعض منها أدبية وأخرى فنية وسياسية وفلسفية و... هذه الشخصيات التي سجلت أسمائها على التاريخ بجدارة فحاول استدعائها لتكون له بمثابة رموز وأقنعة يعبر من خلال صفاتها عن أناه الداخلية وطموحاته متجرداً من ذاتيته ليرسم لنا خريطة المستقبل وكما يقول في نصه (سارتر وكامو):

كنت جالساً في المقهى

وكان سارتر وكامو جالسين بالقرب مني

يصغيان الى صخب العدم

مكتظة عيونهم بالمدى

احتدم النقاش بينهما

خفف سمعي اليهما

وفي البدء كانت الماهية، قال أحدهما

في البدء كان الوجود، قال الآخر

ثم افترقا

حاول الاديب يوسف أن يجمع فلسفة سارتر وألبير كامو الوجودية في نصه هذا منتقداً هذا الصخب الذي خلقه لنا النقاش الفلسفي والسياسي في الماهية والذي ينتهي دائما بالفراق بمعنى آخر يريد أن يقول لنا الكون مزدحم بالتناقضات مما يدعونا للخروج من دائرة المألوف والتمرد على الواقع فتبدو الصورة المرئية لنا مخلخلة ومغايرة متجاوزة على الواقع واحتمالاته المحمولة على الاحلام الجميلة.

وهكذا في نصه (شوبنهاور) حيث استدعاه ليختفي خلفه ويشخّص من خلاله الأفكار المعاصرة التي سادت في عهد الفلسفة المثالية الألمانية  وهو يتبنّى نظامًا ماورائيًا وأخلاقيًا إلحاديًا فيقول:

وهو يرفع اللثام عن حقيقة العالم القاسية

ثمة عدم مختوم تضوعُ منه روائح غامضة

تقول بوضوح:

لا شئ في هذا العالم سوى حياة يائسة عافرة يملؤها الشؤم

تتأرجح كالبندول بين الألم والسأم، لا مسار

 موصوف يهدي الانسان الى خلاصه

في الختام أقول:

لقد نجح الآديب يوسف كبو في استدعاء هذه الشخصيات التي جعل منها رموزا ثارت على الواقع ليقتدي اثرها من خلال جعلهم قناعا تنطق عوضا عنه ما يريد قوله وما يستشرف به المستقبل بمنظور انبنى على رفض السائد من القيم والتقاليد والتي دوما تقف بالضد من حركة التغيير فلكل من هذه الشخصيات رسالتها والتي حاولت من خلالها البوح عن مكنوناتها لتقويم الواقع فتحولت لديه الى أقنعة مكنته من توسيع دلالات رؤاه وبناء عالمه أو لنقل حلمه في سياق توسيع دلالاتها للتوفيق بين الحاضر والمستقبل.

ولغياب أناه كليا وراء أقنعته جعلت نصوصه تبتعد كثيرا عن الغنائية والرومانسية لتتقمط السردية لذا كانت قريبة على القصص القصيرة أكثر من الشعرية.

***

نزار حنا الديراني

(المسرح كالطاعون، ازمة تنتهي بالشفاء او الموت، والطاعون داء اسمى لأنه ازمة كاملة لا يبقى بعدها سوى الموت او اقصى التطهير، كذلك المسرح، لأنه التوازن الاعظم الذي لا يكتسب بلا هدم).. أنتونان آرتو.
قدم العرض الافتتاحي لمسرحية (الجدار) مساء يوم السبت ٩/ ١٠/ ٢٠٢٤ وبزمن قياسي مدته ساعتان ونصف، وهو زمن لم يشهده المسرح العراقي -ربما- منذ عقود، وحرص فريق العرض على ارساء وإحياء بعض تقاليد المشاهدة المحمودة مثل عدم دخول اجهزة الهاتف النقال، والحجز المسبق ودفع ثمن تذكرة الدخول.563 wollقدم العرض بسردية منطوقة من قبل المخرج سنان العزاوي والمؤلف حيدر جمعه، مع التدعيم بسردية مكتوبة/ مقروءة على شاشة، بقصد تهيئة المتلقي للدخول في أجواء العرض، في مكان يتم التعرف عليه تدريجيا على انه سجن او مصحة، ذلك أن جميع شخصيات العرض من غير الأسوياء نفسيا، حتى عازفة البيانو التي أغنت العرض بالعزف الحي لديها عقدة، حتى القائمين على السجن/ المصحة مملوئين بالعقد الناتجة عن ظروف معيشية قاهرة أو نتيجة تعرضهم لعملية الاغتصاب والتعذيب.
العرض مجموعة حكايات تجري في فضاء أبيض، بجدران شاهقة، وصورة التكوين الأول للعرض يشير بوضوح بأن أي محاولة لتسلق الجدار تبوء بالفشل، وأن ثمة من يراقب الأمور، وتوجد شخصيات تراوح مكانها (تكرر الحركة ذاتها) برفقة موسيقى البيانو.
جميع شخصيات بلا اسماء، ولكل شخصية حكاية أغلقت عليها الأبواب وسورتها الجدران، غلب على الحكايات طابع الجنس ( المثلية، زنا المحارم -اخ مع اخته - اب مع بنته، تبادل زوجات، اغتصاب طفل في الرابعة من العمر، ام قتلت بناتها …) أما شخصيات الجلادين فقد أعطاها الإخراج ملامح حيوانية (قرد، خنزير، فيل) اما سيد المكان الذي يحكم الجميع، ويتلاعب بمقدرات الناس ومصائرهم فهو (الجوكر/ المهرج) الذي يتلون بحسب المكان والزمان وحسنا فعل المخرج والمؤلف في انهم لم يجعلوه ينطق بكلمة ليبقى في إطار صورة تجريدية متحرك ومتناسب بقوة حضوره كما هو ورق اللعب، مع الإشارة إلى أن (الجوكر/ المهرج) رمز دخيل ووافد على الثقافة المجتمعية.561 wollطرح العرض محورا فكريا هاما هو: مواجهة الوقائع والتصدي لها - حتى وإن لم تشكل ظاهرة- أم التزام الصمت وتغطيتها والهروب منها؟ وقد اختار المؤلف والمخرج المواجهة الصادمة لظواهر قد تكون فردية، ولكن لابد من دق ناقوس التحذير على الاقل، وصرح وصرخ فريق العرض بأن الفن يكشف المستور ويعلن عن القضايا المهمة المسكوت عنها ويتصدى لما في أعماق المجتمع ويظهرها بقصد معالجتها، والمعالجة هنا لا تعني وضع الحلول بقدر ما تعني تقديم طروحات فكرية بالوسائل الدرامية (الصوت والانفعال والأزياء والسينوغرافيا والموسيقى …) ذلك أن الفنان يرى ما لا يراه الآخرون او يغمضون عيونهم عنه، ولان الفنان يمتلك وسائل وأدوات ومهارات فإنه يقدم ما يراه (رؤيته) للآخرين.
توازن البصري والسمعي
تضافر عمل المنظومة البصرية مع المنظومة السمعية لدرجة التعشيق، فلا فكاك بينهما، فالكلمة المنطوقة تداخلت مع الفعل الحركي للممثلين، وكتلة الجدار الضخم التي تحركت للأمام والخلف والى الجانب وانفتاح الأبواب وإغلاقها المحكم، إلى جانب قطع التأثيث القليلة ذات الواسع والمتنوع والمؤثر، فالكرسي الدوار -مثلا- بلا مسند، صغير الحجم متعدد الاستخدامات (يستخدم للجلوس في حالة التحقيق مع القادم الجديد للسجن/ المصحة، وللتعذيب، وللوقوف، ينتقل من اليمين إلى الوسط إلى الأسفل) حيث لا توجد قطعة جامدة باستخدام واحد، الديناميكية تسيدت جميع مفاصل الفعل الدرامي، ومنها الفتحات المربعة الشكل الصغيرة الحجم في الجدار، استخدم للتسلق الجدار في بداية العرض وانتهت بظهور الأيدي من خلالها لتنهي محاولة خرق نظام السجن/المصحة، كل هذا بالتزامن مع حوارات ذات وقع شاعري قاسي وصادم مثل جملة (هل نحن بشر، هل نحن حيوانات … ملائكة … ) التي كررتها الشخصيات كثيرا بتنويع صوتي وأسلوب إلقاء لم يتشابه قط حتى يخيل للمتلقي انه يسمعها لأول مرة، رغم أنه سمعها من الدقائق الأولى وتكررت حتى في نهاية العرض. ودعمت المنظومة السمعية (لغة الحوار) بعزف البيانو الحي والتأليف الموسيقي والمؤثرات الصوتية، ويضاف إلى ذلك استخدامات عروض الفيديو بطريقة الشاشة المجزأة منحت العرض امتدادًا جماليا من خشبة المسرح إلى التقنيات الحديثة.565 woll توكيد الفعل البصري للمسموعات وتوكيد الفعل السمعي للمرئيات ليست عملية تكرارية، بقدر ما هي عملية صناعة دهشة وإبهار للمتلقي، إزاء ما يحدث وتزايد شغفه بالمتابعة والتواصل، فضلا عن ان تزامن الفعل السمعي والمرئي قبض على إيقاع العرض بإحكام عبر تقديم الفعل ونقيضه بالوقت نفسه، شخصية الفتاة - كمثال- التي أجبرتها ظروف النزوح والتهجير والفقر على الرقص في الملاهي تحكي قصة تحولها من البراءة إلى الفجور بانفعال يستدر العواطف ويثير الشفقة وبالوقت نفسه لم تتوقف عن الرقص، وتصف ابتزازها لرجل السياسي الذي بدوره انتهكها وابتزّها ببشاعة، دون أن تتوقف عن الرقص، وقد نسج المخرج فعل مساند للممثل صاحب الفعل الرئيس من قبل الممثل أو الممثلين الآخرين، شخصية البنت تسرد حكاية حريتها المفتوحة بلا حدود ودون والد ناصح ولا والدة تراقب، اندفعت البنت لممارسة كل الفواحش حتى وصلت إلى المخدرات والزواج من أخيها باحتفال مع الأصدقاء ومباركة منهم، ساندتها بالتزامن الحركي شخصية الخنزير بالتعبير عن الشهوانية والإيغال بالحيوانية، تبلور عنه اشباع فكرة الفعل ووصوله لجميع المستويات الجمهور الثقافية.566 woll مؤشرات فريق التقنيات
أسهم تولى مسؤولية مهام التقنيات فنانون متخصصين، لهم خبرات واسعة في التصميم والتنفيذ في خلق التكامل الفني للعرض، سينوغرافيا (علي السوداني) صنعت بيئة الأحداث وعمل على تحريكها بيسر رغم ضخامة قطعة الجدار، موسيقى (رياض كاظم) تناغمت مع مشاعر الممثلين وعملت على تأجيج انفعالات المتلقين، أزياء (زياد العذاري) نسجت تحولات الألوان من سيادة الأسود طوال العرض إلى بدلة الإعدام الحمراء في نهاية العرض، كيروكرافيا (علي دعيم) أخرجت الشخصيات من الانتقالات اليومية العادية إلى جماليات الحركة الايقاعية، ماكياج وأقنعة (بشار فليح) الوجوه الواضحة النظيفة للضحايا مع وضع تشوهات ترسمها يد القساة، وإضافة ملامح صغيرة تغير الوجه العادي إلى وجه حيوان مثل أنف الخنزير وإذن وخرطوم الفيل ووجه القرد، عروض سلايدات الكتابة والفيديوهات (هشام كاظم) اسهمت في دعم المجريات على الخشبة والتحمت بالمتن الحكائي للعرض.567 wollغلب حضور الشخصيات النسوية في العرض لأنهن يتعرضن للانتهاك عادة أكثر من الرجال، وكان مستوى الأداء يكاد يكون متماثل الاتقان، إذ لا توجد ممثلة متميزة في هذا العرض نهائياً لأن الجميع قدم صورة متكاملة (بالصوت والحركة والانفعالات) للشخصية المسندة اليه، مع الإشارة إلى الشخصية الرجالية الوحيدة (يحيى ابراهيم) التي قدمها بجرأة قل نظيرها في المسرح العراقي وامتلك مغايرة أدائيّة وتحولات من حالة الميول (المثلية) إلى ممارسة العنف على من تقع بين يديه من النساء، إلى حالة انفعالية تدعو للرثاء والتعاطف حين باح بموقف اغتصابه عندما كان في الرابعة من عمره.
وإن ثقلت وطأة السعة الزمنية للعرض بسبب ضعف الاعتياد على العروض الطويلة نسبيا، وقد خفف المؤلف والمخرج من ذلك بواسطة توالي الحكايات المضطردة وتصاعد وتيرة ايقاعها، حتى تلاشت ضرورة أخذ استراحة لأنها ستُفقِد العرض خطوط التواصل الوجداني المنسوجة بين الصالة/ المتلقي والخشبة/ العرض.
انتهى العرض بثورة المظلومين المكلومين المقهورين وتضامن معهم بعض السجانين، وحاولوا تحطيم الجدران وكسر الخطوط الحمراء، إلا ان محاولتهم باءت بالفشل وأصبح الجميع عميان لا يبصرون، واعتراهم الصمم فلا ينطقون، ذلك بسبب وجود أيدي كثيرة امتدّت إليهم من فتحات الجدار ومنعتهم من تسلقه، هذه الايادي كانت مخبأة لمواجهة حالات التمرد والعصيان والرفض، ظهرت في لحظة محاولة كسر الجدار، يختتم العرض بظهور وانتشار أعداد كبيرة من المهرجين ذوي البدلات الأنيقة ليقولوا: (الغلبة لنا) ولم يتح المؤلف (حيدر جمعه) ولا المخرج (سنان العزاوي) أي أمل للخلاص من استيراد العادات السيئة واستفحال الظواهر الهابطة وغزو مظاهر الثقافات الفاسدة، لأن الخلاص يكمن بإثارة الحنق والغضب في الصالة وبالفعل الحقيقي وصناعة الوعي الاجتماعي في الشارع.
***
ا. د. حبيب ظاهر حبيب

 

"بين الحلم والقلق:

النص:

أواجه القلق بفأس الهندي الأحمر.

لم تزل نظراتك معلقة في سقف البيت

السقف الذي تحدقين فيه طويلا

كلما هممت بإعادة طائر النوم إلى الفراش

كنت تحدقين في الحديقة

ترمين نظراتك الحلوة

على مناديل الأزهار

تحدقين في تقاطيع الصمت المتكىء

على الأريكة الهرمة

كما لو أنه أحد فلاسفة الإغريق

ترمين نظراتك الحلوة من الشباك

كنت تملكين نمورا شرسة من الكلمات

ترمين السحرة في الجب ولا تكترثين

يتبعك المستقبل برشاقة لاعب الجمباز

إلى مكان مجهول

أحدق في نظراتك

الملقاة على الكنبة

مثل قطع نادرة من الماس

تحدقين في تلاوين وجهي

يسقط الفراغ مثل زجاجة من يدي

والندم ذئب صغير ينمو ببطء

عندما تغيبين

أواجه القلق بفأس

لا أكلم أحدا قبل الهزيع الأخير

من الهذيان

لا أحتمل سطوع الشمس

ألتهم أطراف أصابعي

أحب رائحة الدم

سرد حكايات دراكولا

قتل المسلمات بطلق ناري مكثف

ألاحق أطفالا لم يولدوا بعد

أصطاد فلاسفة الريبة

في مفترق اللاجدوى

أصرخ أصرخ أصرخ

كما لو أني إوزة من الشمعدان

غالبا ما أنام فوق شجرة حزينة

أو أمام مبغى مليء بالغربان والعظايا

تضحك عيناي المتناسختان

ضحك من ريش وقش

أدعو جميع المنتحرين

لحفلة عشاء فاخر

بعد غيابك الهابط مثل الباشق

أقمت جزيرة صغيرة من التوابيت

ودعوت الأرامل لتربية الأسماك

في أحواض الدموع

دعوت طيور الكراكي لهذا المسرح العبثي

أنا أحب المنتحرين في هذا الوقت الحالك

أحب الموسيقى التي تتدفق بثمرات الكستناء

أطرب المهاجرين إلى دارة قلبي

ليس لي ملجأ أثير

غير نظراتك التي تطلع من المرآة

ملآى بالنور والذهب

 ***

..........................

التحليل الفني:

مقدمة: يتميز هذا النص بكثافة الصور الشعرية والرؤى المجازية التي تعبر عن حالة قلق عميقة وشعور بالتشظي الداخلي. وسنقوم بتحليل تفصيلي للجوانب الجمالية والفنية في هذا النص الفريد:

مواطن الجمال في النص:

1- الصور المبتكرة:

- يبدأ النص بصورة قوية ومباشرة، وهي مواجهة القلق "بفأس الهندي الأحمر"، مما يستحضر صورة بدائية ووحشية تعبّر عن رغبة في تحطيم هذا القلق أو مواجهته بوسائل بدائية عنيفة. هذا الأسلوب في التصوير غير متوقع ويعطي للنص طابعًا مثيرًا وعميقًا.

- تتوالى الصور المجازية بعناية في النص، مثل "ترمين نظراتك الحلوة على مناديل الأزهار"، والتي تضفي طابعًا شاعريًا حالمًا، في حين أن "تقاسيم الصمت المتكئ على الأريكة" و"نمور الكلمات" توحي بحالة من الغموض العميق.

2- التوتر بين الرقة والعنف:

النص يمتاز بقدرته على التلاعب بالتناقضات، حيث ينتقل من مشاهد حالمة ولطيفة إلى مشاهد عنيفة ومظلمة. على سبيل المثال، ينتقل الكاتب من وصف النظرات المعلقة، الحديقة والمناديل إلى مشاهد القلق، رائحة الدم، وصيد "فلاسفة الريبة".

- هذه الازدواجية تخلق شعورًا بالانقسام الداخلي، وكأن الشخصية تعيش بين عالمي السكينة والاضطراب.

3- البنية الدرامية:

- النص يسير بوتيرة سردية متصاعدة من حيث تصعيد التوتر النفسي، حيث يبدأ بوصف النظرات والسقف والنوم، ثم يتدرج إلى مشاهد أكثر قتامة مثل "يواجه القلق بفأس"، "أحب رائحة الدم"، و"أدعو المنتحرين إلى حفلة عشاء". تصاعد هذا التشدد العاطفي يخلق بنية متماسكة ومشحونة بالعواطف القوية.

- تبرز في هذه البنية صورة الفراق وغياب المحبوب كسبب رئيسي للاضطراب الداخلي، مما يعطي للنص طابعًا شخصيًا وشعوريًا مؤلمًا.

4- الرمزية والاستعارات:

- النص مليء بالرموز التي تعكس حالات معقدة مثل "النظرات كقطع نادرة من الماس"، "الندم كذئب صغير"، "جزيرة من التوابيت"، و"أحواض الدموع". هذه الرموز تعطي بعدًا فلسفيًا وعاطفيًا متنوعًا، وتسمح للقارئ بالتعمق في المعاني الخفية وراء الكلمات.

- النص يخلق عالمًا ميتافيزيقيًا وشعريًا، حيث تتداخل الحياة والموت، والفراغ والشغف، بشكل يجعل من السهل فهمه على عدة مستويات.

5- الأسلوب اللغوي:

- تتميز لغة النص بالإيقاع الشعري، مع تكرار كلمات وتراكيب معينة مثل "ترمين"، و"تحدقين"، و"أصرخ" مما يعزز الشعور بالتوتر.

- الصياغات غير المألوفة تضفي جمالية خاصة على النص، مثل "أصطاد فلاسفة الريبة في مفترق اللاجدوى"، والتي تضيف نوعًا من العمق الفلسفي وتبرز حالة الضياع.

6- النهاية المفتوحة:

- ينتهي النص بتعبير عن الحب للـ"منتحرين" و"الموسيقى التي تتدفق بثمرات الكستناء"، ويمثل ذلك انسجاماً غريبًا بين المأساة والأمل، مما يمنح النص ملامح العبثية والرومانسية السوداء.

- النهاية المفتوحة والتي تتحدث عن "نظراتك التي تطلع من المرآة ملآى بالنور والذهب"، تعطي شعورًا بوجود بصيص من الأمل، كما أنها تربط النص بأكمله حول علاقة الحب والقلق الذي ينتهي بالتصالح مع الذات.:

كلمة أخيرة:

النص يتميز بلغة مشحونة بالعاطفة والرمزية، ويعبر عن حالة نفسية معقدة تجمع بين الحب والقلق والتشظي. يوظف الكاتب أسلوبًا مجازيًا كثيفًا، يتراوح بين الوصف الحالم والعنف الداخلي، ما يجعل النص قريبًا من الشعر النثري الذي يعكس عمق التجربة البشرية وصراعها الدائم مع الذكريات والألم والخوف.

***

قراءة: أيمن دراوشة

أشّرت الصحافة الثقافية العربية، في الفترة الأخيرة، عودة الروايات الرومانسية إلى الازدهار في الغرب المتقدم، تلك الروايات التي كان انتشارها الأول هناك، بين نهاية القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع، ويؤشّر على أن بروز الرواية عامة كشكل أدبي صاعد، ترافق مع الثورة الصناعية، وصعود نجم الطبقة البرجوازية، مترتّباً، على تلك الثورة في الحقبة المذكورة، فأصبح المنتمون إلى تلك الطبقة، يعيشون أجواء الترف والبذخ، ومن ثم فإنهم بحاجة إلى أجواءٍ رومانسية، فيها من العاطفة والغرام المشبوب الشيء الكثير، فيما يرى آخرون أن ظهور الر واية ، بداية الرومانسية، يقف بالضد من صعود طبقة رأسمالية مترفة على حساب أغلبية كادحة.
وتعدُّ فرنسا الموئل الأول للروايات الرومانسية، التي ظهرت مبكراً، خلال الحقبة المشار اليها أعلاه، منها (بول وفيرجيني )عام 1789 لبرناردين دي سان بيير، و(آتالا ) عام 1801 لشاتوبريان، و(كورين) عام 1807 لمدام دوستايل و(أدولف) عام 1816 لبنجامان كونستان.
وهنا نذكر ميزات الرواية الرومانسية بشكلٍ عام، قبل أن نخوض في بعض تفاصيل ازدهارها في اميركا وبريطانيا، بوصفهما في طليعة دول العالم الغربي، إذ تمكّنت هذه الروايات من أن تكون ملاذاً لقرائها من واقعهم المزري على الأرض، ومعايشة عالم العواطف الذي تهتمّ هذه الروايات في تصويرها بأحداثٍ مشوّقة، محفّزة أخيلة القراء على خلق عوالم رومانسيّةٍ خاصّةٍ بهم. كما من شأنها أن تعزز القيم الإيجابية، مثل الحب الصادق والأمل والتفاؤل بالمستقبل، كما تلهم قراءها بالبحث عن السعادة في الحب، بحسب عوالم الروايات التي شغفوا بها. وبما أنّ حبكاتها تنشد أواصر الحب بين شخصياتها رئيسة أو ثانوية، فهي، بالمحصّلة، عاملٌ مهمٌّ في تعزيز العلاقات الإنسانية. ومن خلال سيرورة تلك العلاقات تظهر للعيان أو بالتشريح دفائن الطبيعة البشرية، إذ تكون على المحك، عند إشهار مواقفها إزاء العقبات التي تعترض العلاقات العاطفية، التي تهتمّ تلك الروايات بتصويرها، هذه المواقف قد تمثّل ثيماتٍ عميقة، تهتم ببحثها الروايات الرومانسية، مثل التضحية، والتسامح، والشجاعة في تحدي المصاعب.544 Literary novelsنشرت "الشرق الأوسط" اللندنية، مؤخراً، تقريراً عن الازدهار الحالي غير المسبوق للرواية الرومانسية، مصدر التقرير؛ خدمة نيويورك تايمز، تذكر فيه أنَّه بينما كانت الأدبيّات الرومانسية كانت ذات يوم مجالاً يتجاهله أصحاب المكتبات هنا، في اميركا، تحوّلت راهناً إلى إحدى أكثر الفئات رواجاً في عالم الكتاب، وأصبحت، إلى حدِّ بعيد، النوع الأدبي الأكثر مبيعاً، بل ذهبت بعيداً بالقول أن ازدهار الحالي "لا يعيد رسم ملامح المشهد العام لصناعة النشر فحسب، بل وكذلك صناعة بيع التجزئة"..
وعلى أرض الواقع، فإنَّه بدلاً من مكتبتين متخصّصتين بالروايات الرومانسية، أصبحت هناك شبكةٌ وطنيّةٌ متخصّصةٌ بالروايات الرومانسية تضم 30 مكتبة. وبفضل ذلك، كما ورد في التقرير المذكور ، فإنّ مبيعات الروايات الرومانسية ازدادت من 20 مليون نسخة في عام 2020 إلى 39 مليون نسخة في عام 2023 ، بفضل تنامي الإدراك بأنّ هذه الروايات لا تحمل قيمةً تجاريّةً فقط، بل قيمةً فنيةً وترفيهيّة. ومن الأرقام المدهشة في هذا السياق، ذكر التقرير بأنّ 6 من أصل 10 من أفضل الروائيين مبيعاً داخل أميركا هم كتّاب أعمالٍ رومانسيّة، حيث الشهرة الكبيرة لروائيين رومانسيين، مثل ساره جيه. ماس وأشهر مؤلفاتها سلسلة رواياتها الخيالية الرومانسية "عرش الزجاج" و"محكمة الشوك والورود"، التي بيعت منها نحو 37 مليون نسخة في جميع أنحاء العالم بـ38 لغة، وكذلك الروائية الأمريكية ريبيكا ياروس، التي تمثل جيلاً جديداً من المؤلفين الأكثر مبيعًاً، ممن يكتبون "الرومانسية" الممزوجة بـ"الخيال" في رواياتهم. وهناك أيضاَ
إيميلي هنري وكولين هوفر، ممن يتصدرون قو ائم أفضل الكتب مبيعاً. هذه الاحصائيات عن عالم الرواية الرومانسية، لا بد ان يقف وراء تدعيمها الناشرون الذين تحوّلت وجهات نظرهم إزاء هذا النوع من الروايات، فقد كانوا يعتبرونها سطحيّةً وغير جادّةـ فضلاً عن بذاءة الكثير منها، وكانت غالباً ما توضع في رفِّ خلفي، داخل المكتبة.
ولا يقتصر الأمر على أميركا، بل في بريطانيا أيضاً، وتذكر الكاتبة ندى حطيط في تقرير لها عن معرض الكتاب في لندن العام الماضي، وهو الأكثر أهمية في معارض الكتب العالمية، العام الماضي، أنِّ موجة الروايات الرومانسية تحتلّ خمس الإنتاج العالمي من الكتاب، وعلى ذلك فإنه ليس بمقدور النقاد تجاهل هذا النوع من الأدب، إذا عرفوا بأنِّ صناعة الأدب الرومانسي تتجاوز الآن ملياري دولار أميركي في مجال الكتب - مطبوعة وإلكترونيّة ومسموعة – أي نحو خمس كلِّ إنتاج الكتب الأدبيّة العالمي سنوياً.
تك توك وبوك توك
وبالتأكيد أن الترويج الإعلامي والتجاري للأدب الرومانسي جذب ملايين القراء النهمين، الذي باتوا يقتنون الكتاب تلو الآخر، خاصةً قصص الحب والغرام، التي ظهر تقدمها جليّاً على أنواع الرواية الأخرى. ويثار في الصحافة الثقافية العربية أنَّ أحد أسباب هذه المبيعات الهائلة للروايات الرومانسية الآن، يعود إلى الشعبية الكبيرة لمشاهير كتاب هذه الرواية على مواقع التواصل، حيث تذكر دار النشر الأميركية الشهيرة "بلومزبري" التي تنشر اعمال ساره جيه ماس بأنّ مقاطع الفيديو التي تحتوي على "هاشتاجات" مرتبطة برواياتها حقّقت أكثر من 14 مليار مشاهدة على TikTok . وتسهم منصة Book Tok، على الصعيد نفسه، وهي ركن تواصلي تُتداول فيه المحتويات المرتبطة بالكتب، حيث ينشر المتفاعلون تصنيفاتهم لسلاسل الروايات والكتب، وتصوّراتهم لنهاياتها.
دوافع عامة وخاصة
صعود موجة الأدب الرومانسي، خاصة الروايات، في الربع الأول من القرن الحادي والعشرين تعاضدها غايات قرّاء هذا الادب، فالرجال يهوون استعادة الانغمار بالعواطف الرومانسية السامية وليس المبتذلة، أمّا النساء فهن يرمن من هذا النوع الأدبي التزوّد بجرعات الهروب من الواقع المحمّل بنذر الأخبار السلبية، فضلاً عن إنعاش العواطف الدافئة، ومعايشة النهايات السعيدة، وهي غالباً ما تميّز هذا النمط من الروايات.
كذلك أنّ الأخيلة الرومانسية تتيح لعشاق هذا الأدب، التحليق في أمكنةِ مختلفة، وأزمنةِ مختلفةٍ أيضاً، وتضعهم في ظروفٍ ومهنٍ مغايرةٍ لما هم عليه، وتذكر ندى حطيط، المقيمة في لندن معلومةً كبيرةً مفادها بأن علماء النفس يرون في أنّ الشغف بالأدب الرومانسي" يساعد على تحسّن الصحة العقليّة عموماً، ويمكن أن يعيد الحيوية حتى لعلاقاتنا القائمة".
على أنّ الأسباب الفردية التي تميل بالأشخاص رجالاً ونساءً، نحو قراءة هذا الأدب، لا يمكنها أن تسوّغ صعود هذه الموجة الرومانسية، بل لا بد أن هناك أسباباً عامة، تتعلق بشعور الغربيين عامة، والمنتمين للطبقات الوسطى، خاصة ممن تنامى لديهم الشغف بقراءة الرومانسيات، بسوء أحوالهم، نتيجة الأزمات الاقتصادية في الغرب، وما سببّت من بطالة، فضلا عن الأزمات التي ولدّتها الحرب الروسية – الأوكرانية، من ارتفاعٍ في أسعار الطاقة، التي يتبعها ارتفاع تكاليف المعيشة، هذا فضلاً عن تفشّي جائحة كورونا، التي أدّت، بالناس عادة والغربيين خاصةً إلى إعادة اكتشاف القراءة، بالإضافة إلى كوارث التغيّر المناخي، كلّ تلك الأسباب تزيد الشعور بأنَّ الامور ليست ما يرام عالمياً. وهنا يمكن القول أنّ تعاطي هذا الادب، يُعدُّ بارومتراً لقياس مدى رداءة هذا العالم، وقوة اليأس المتنامية من العيش بواقعيةٍ في هذا العالم، ومن الأفضل الهروب منه إلى قصص الحب والنهايات السعيدة التي يُوسم بها الأدب الرومانسي.
***
باقر صاحب - أديب وناقد عراقي

يستحق "نُصب الحريّة" العديد من الأفلام وذلك لأهمية الفنيّة والرمزيّة والتاريخية. وقد سبق لبعض المُخرجين العراقيين أن أنجزوا أفلامًا وثائقية تتمحور ثيماتها على فكرة النُصب ومُنفِّذها الفنان جواد سليم والظروف والملابسات التي أحاطت بإنجاز هذا العمل النحتي الضخم الذي لم يسبق لنحّات عراقي أن أنجزَ نُصبًا بحجمه منذ 2500 سنة. ويمكن الإشارة إلى بعض الأفلام الوثائقية والبرامج التلفازية في هذا الصدد وهي "نُصب الحريّة" الذي يتحدث فيه النحّات محمد غني حكمت عن النُصب ومُبدعه على مدى 21 دقيقة. الفيلم من إخراج محمد صباح وإنتاج تلفزيون العراق سنة 2001 أمّا العمل الثاني فهو "جواد سليم . . نحّات الحريّة"، إعداد أحمد سعداوي، وإخراج محمد جميل وإنتاج تلفزيون "الشرقيّة" لسنة 2009، بينما ينضوي العمل الثالث تحت عنوان "الدّالة نُصب الحرية" للمخرج أحمد عبّاس وهو من إنتاج القناة العراقية الإخبارية وما سواها من أفلام وبرامج وتقارير يعتمد بعضها على لقاءات حيّة وأخرى مُقتبسة عن حوارات ومقابلات وأفلام سابقة.538 haidar mousaوبعد ستة عقود ونصف العقد تقريبًا على افتتاح "نُصب الحريّة" يأتي المخرج حيدر موسى دفّار الذي يتكئ رصيده الإخراجي على أربعة أفلام وثائقية وروائية متوسطة وقصيرة لينجز لنا فيلمًا وثائقيًا ناجحًا يعتمد على تقنية "الرؤوس المتكلّمة" و"الفويس أوفر" أو التعليقات الصوتية التي سلّطت الضوء على مضمون الفيلم وثيماته الفرعية الشائقة. ولكي نكون أكثر دِقة لا بدّ من الإشارة إلى أنّ المخرج قد حاورَ ثماني شخصيات عراقية وهم على التوالي: الفنانة التشكيلية نادية فليّح، والروائي علي بدر، والنحّات د. فاخر محمد، والمهندس المعماري رفعت الجادرجي، والفنان التشكيلي عادل جبار، والنحّات رضا فرحان، والفنانة آلاء حسين، ويمكن إضافة شخصية الفنانة لورنا سليم إلى قائمة المتحدثين عن زوجها، مُبدع النُصب وصانعه جواد سليم، وإن كان هذا الحديث مُقتبسًا عن لقاء سابق كما هو الحال مع حديث المهندس المعماري رفعت الجادرجي. لم تكن إطلالات المتحدثين متساوية فبعضهم ظهر لثلاث مرات مثل علي بدر وفاخر محمد، بينما ظهر رضا فرحان ونادية فليّح لمرتين، فيما اكتفى الخمسة الباقون بالظهور لمرة واحدة قائلين فيها كلّ ما يعِنُّ في عقولهم وقلوبهم وذاكرتهم القوية التي لم يؤرِّقها النسيان. أمّا الشق الثاني الذي يتمحور على التعليقات الصوتية التي سمعناها مسجّلة بصوت الفنانة آلاء حسين فقد بلغت عشرة تعليقات متفاوتة الطول والأهمية الفنية. وهناك تعليق صوتي آخر مُقتبَس لمذيع يتحدث عن رحيل الفنان جواد سليم وتشييعه إلى مثواه الأخير. وفي معرض إجابتها على سؤال إعلامية أجنبية تقول لورنا عن زوجها جواد سليم:" لقد كان ممتعًا جدًا، ولديه روح جميلة، ويحب إلقاء النُكات لكنه كان رصينًا في عمله وجديًا قَدْر تعلّق الأمر بالحياة والموسيقى والعالَم. كان دمث الأخلاق". وردًا على سؤال الانجذاب والتناغم بين الاثنين تجيب لورنا:"لا أعلم أنه التناغم ولا يمكن تفسير هذا التناغم. نحن الاثنين نحبّ الأشياء نفسها؛ نحبُّ الموسيقى لكن السؤال هو: هل أنا مُنجذبة إليه أم هو الذي انجذب إليّ؟537 jawad salemنُصب الحرية .. أهم علامات بغداد المعاصرة
تُعدّ هذه الحوارية مَدخلًا جيدًا لولوج إلى عالَم جواد سليم وشخصيته المنزلية التي لا يعرف عنها المتلقي كثيرًا. يكشف التعليق الأول بأنّ جواد سليم لم يشهد افتتاح نُصبه سنة 1961 لأنه غادرنا شابًا. "يُعدّ هذا النُصب أهم علامات بغداد المعاصرة. وليس مُصادفة أن يقف العراقيون عنده وهم يطالبون بحقوقهم المشروعة لأنّ الأحلام التي دُفِنت في النصب وفي مبدعه هي أحلام الملايين من العراقيين الذين انتفضوا على القمع والظلم وثاروا للتخلّص من العبودية والاستعمار الأمر الذي وحدّهم جميعًا واستنهض في أعماقهم أروع القيم الإنسانية وأجملها على مرّ الأوقات والعصور".
ترى التشكيلية نادية فليّح بأنّ النُصب أصبح مكانًا للتجمّع، والتعبير عن الرأي، والمطالبة بالحقوق الإنسانية المشروعة فلا غرابة أن يكتسب المكان رمزية عالية في نفوس العراقيين الأحرار. تتوقف نادية عند اللافتة التي تضم قصة مسرودة أو بيتًا من الشعر يُقرأ من اليمين إلى اليسار ويهيمن على مساحة بصرية مفتوحة متضادة الألوان يمكن ملاحظتها من قبل القادمين من الجسر أو المارين بالقرب من النُصب أو تحته.
يُذكِّرنا التاريخ القريب بأنّ هناك منْ حاول هدم النُصب وإزالته من الوجود بوصفه بُدعة أو لعنة لكن تلك الأصوات المشروخة البائسة سرعان ما تهافتت أمام هذا العمل الفني العظيم الذي يقترن بمدينة الحرية والمحبة والسلام وهي تنسج حضورها البهي المُستعاد عن مدينة عنيدة حملت مُشفّرات أور والوركاء وأكد ونينوى وسيفار وآشور وأشنونا والحضر.يعتقد علي بدر بأنّ الشيءالرمزي الكبير الذي خلقهُ جواد سليم في هذا النصب هو فضاء الحريّة الذي يعني أكبر من الثورة ذاتها لذلك سعت السلطات اللاحقة إلى هدمه وطمس معالمه لأنه يرمز إلى مرحلة لم يكونوا على وفاق حقيقي معها. ويرى أنّ جواد سليم حينما سافر إلى الغرب ودرس هناك أيقن أنه ليس بالضرورة أن يقلّد الغرب لذلك التجأ إلى ثراته وآمنَ بفكرة الأسلوب وليس بالمعنى الذي يمكن أن تجترحه من ثقافتك ومرجعياتك التراثية.
يؤمن بدر بأنّ البحر لا يرمي سمكة كبيرة دائمًا فهناك أسماك صغيرة كثيرة تنقذف إلى الشاطئ. والفن، مثلهُ مثل الأدب، حيث هناك مجموعة تأخذ كل شيء ولا تقبل بالحلول الوسطى، فإمّا أن يكون الفنان كبيرًا أو صغيرًا. ويرى بدر أنّ المرحلة الليبرالية مهمة جدًا في تاريخ العراق فحينما ظهر التيّار الليبرالي الثقافي الذي بنى الدولة والاقتصاد والمجتمع رغم حركته البطيئة التي ظهرت في بدايات القرن العشرين لكنّ حقبة الخمسينيات قد شهدت الإنجازات الحقيقية مثل الشعر الحُرّ الذي أتى به السيّاب، والرواية التي جاء بها التكرلي، ورغم ظهور الكثير من الأسماء الفنية إلّا أنّ جواد سليم كان الأهمّ ويمتلك الوعي الأكبر حيث رسم نقطة البداية للفن المعاصر وسوف يترك أثره على المشهد الفني العراقي برمته.539 Freedom Monument

التلاقح بين التراث والمُعاصرة
تنبّه صاحبة التعليق الصوتي إلى التلاقح والمزاوجة بين التراث والمعاصرة فالكُتل البشرية المثبتّة على جدارية رفعت الجادرجي تحمل ملامح قادمة من حضارات وادي الرافدين القديمة كالسومرية والأكدية والآشورية لكنها تقدّم في الوقت ملامح للإنسان العراقي المعاصر كلما دعت الضرورة إلى ذلك غير أن الشخصيات القديمة والحديثة تشخّص لحظة الحرية التي جسّدها جواد سليم في جداريته الخالدة.
نفى رفعت الجادرجي رغبة الزعيم عبدالكريم قاسم بوضع صورته داخل النصب ومع ذلك فقد ظلّ جواد سليم مرتبكًا لبعض الوقت لأنه تناهى إلى سمعه ذلك الخبر وحينما أبلغه الجادرجي بصفة رسمية بأنّ الزعيم لا يريد وضع صورته شعر بالارتياح وتخلّص من القلق الذي كان يُهيمن عليه لمدة طويلة من الزمن.
يذهب البعض إلى أبعد من حدود القلق الذي أصاب جواد سليم، فالفنان التشكيلي عادل جبّار يرى أن مرض جواد ووهنه ليس عضويًا وإنما بسبب سجنه من قِبل حكومة الجمهورية الفتية التي أرادت وضع صورة الزعيم في القطعة الدائرية التي تمثِّل الشمس التي يستضيء بها الشعب العراقي وحينما رفض سليم زجّوه في السجن الأمر الذي أفضى إلى مرضه ووفاته لكنه لم يقدّم أدلّة دامغة تُثبت حبسه أو احتجازه.
لا شكّ في أنّ الجمهورية الجديدة طلبت من جواد سليم تمجيد ثورة 14 تموز 1958 بواسطة هذا النُصب الذي يتألف من 14 قطعة من المصبوبات البرونزية المنفصلة التي يبلغ متوسط ارتفاعها 8 أمتار وتُشاهَد مثل بيت من الشعر العربي الذي يُقرأ من اليمين إلى اليسار أو سردية بصرية تصوّر ارهاصات ما قبل الثورة وفي أثنائها ثم حالة الوئام اللاحقة لها. فكل قطعة هي فكرة قائمة بذاتها لكنها تتصل بالأخرى ضمن سياق يُعبِّر عن النُصب بأكمله. ويمكن إيجاز هذه الفكرة بـ "توق العراق للحريّة منذ القِدم وتقديمه للضحايا من أجلها".
لمسات تعبيرية مُرهفة
يؤكد الفنان التشكيلي د. فاخر محمد بأنّ العراقيين قدّموا منجزًا فنيًا كبيرًا في الحضارات العراقية القديمة حيث أنجز الآشوريون أعمالًا نحتية هائلة في القصور الملكية والمعابد، كما أنجز البابليون بُوابة عشتار، وشارع الموكب لكنّ هذه الحضارات شاخت وتعرضت للانهيار ولم يُنجز العراقيون منذ ذلك الحين عملًا مثل نُصب الحرية الذي يعتبر بداية جديدة للفن العراقي وعلامة فارقة لا يمكن تجاوزها ما لم تجود علينا مخيلة النحّاتين بعمل ضخم يبزّ "نُصب الحرية" ويتجاوزه شكلًا ومضونًا. يؤكد فاخر محمد بأنّ جواد سليم نحّات محترف، وفنان تشكيلي، وتتميّز أعماله بطغيان الجوانب الرمزية والفكرية إضافة إلى التقنية العالية التي تتجلى في "نُصب الحرية"، ويلفت الانتباه إلى الحِرفية العالية في غالبية الفيغرات الموجودة مثل السجين السياسي أو الأم المنحنية على الشهيد أو الثور والعامل وغيرها من الأعمال الضخمة التي شغلت الجدارية الكبيرة بأبعادها المعروفة ( 50 × 10م) ويرتفع عن الأرض بـ 6 م. وعلى الصعيد التقني لا يرى فاخر أنّ منحوتات النصب أكاديمية خالصة منفّذة على طريقة النحت الفلورنسي أو الإيطالي الكلاسيكي الدقيق وإنما تنطوي على اختزال رائع أضاف سمة جمالية كبيرة لنصب الحرية عززت فيه الجانب التعبيري المرهف الذي يحمل روحية الفنان وخلجاته. ويذهب فاخر إلى أنّ صحة جواد سليم قد انتهت في "نُصب الحرية" وأنّ انهياره البدني قد حدث بسبب الجهود الجهيدة التي بذلها في هذا النصب الشامخ والكبير. يصف جواد أسلوبه وأشكاله وألوانه الخافتة بأنها تمتدّ في جذورها إلى فنون أسلافه التي تعود لآلاف السنين قبل الميلاد، أمّا مصادره وتفسيراته التاريخية فهي جزء لا يتجزأ من رؤى وأفكار جماعة بغداد للفن الحديث ولا يجد أي صراع بين إيمانه بالتراث والحداثة.
يُؤكد النحّات رضا فرحان على هذا التلاقح وأنّ أعضاء مدرسة بغداد للفن الحديث زاوجوا بين الموروث القديم والمعاصر وأنّ غالبية الأعمال الفنية العراقية كالمسلّات وغيرها تعتمد على تقنية الجدار وهي المعطى نفسه الذي استعمله جواد في هذا النُصب لكن مفرداته معاصرة فالجندي الآشوري القديم يختلف بالضرورة عن الجندي العراقي المُعاصر بالهيأة والملابس مثلما تختلف الأدوات التي يستعملها الفلاح المعاصر عن الأدوات التي كان يستعملها الفلّاح السومري القديم، ولكنّ هذه المزاوجة هي التي خلقت نُصبًا عظيمًا سيخّلده التاريخ لأجيال قادمة.541 alaa hussainأيقونة بغداد وبطاقتها الوطنية
لا تكتفي الفنانة آلاء حسين بمهمة التعليق الصوتي في هذا الفيلم وإنما أرادت أن تكون شخصية فاعلة تدلو بدلوها وتُعبِّر عمّا يجيش بصدرها عن هذا الأثر الفني الكبير حيث قالت كلامًا بليغًا مفاده:"بأننا نتيه جميعًا إذا كانت بغداد من دون نُصب الحرية" وأضافت:"إذا ذهبت بغداد إلى دائرة النفوس وطلبت أن يستخرجوا لها بطاقة وطنية فأنا واثقة أنّ صورة الهُوية ستكون نُصب الحريّة". فأيقونة النُصب هي بوصلة العراقيين إلى قلب بغداد النابض التي ينحني لها شجر النخيل مع شروق الشمس وغروبها.
تمكّن جواد سليم من خلال عمله في مديرية الآثار ببغداد من دراسة وتذوّق جماليات فنون الرافدين وقد صنّف الأديب جبرا إبراهيم جبرا أربعينيات القرن العشرين بأنها عهد الاكتشافات الزاخرة حيث اكتشف جواد سليم أشياء كثيرة من بينها الواسطي، والفن العربي، والنحت السومري، والآشوري، واللون عند الانطباعيين وما بعد الانطباعيين وغيرهم . . . وهؤلاء جميعًا أثّروا في حياة جواد سليم وإنتاجه الفني.
على الرغم من أهمية الجدارية التي صمّمها رفعت الجادرجي على هيأة لافتة بطول 50 مترًا وبطريقة جميلة لكن لم تكن له علاقة بمنحوتات النُصب التي ابتدعها جواد سليم من الحياة اليومية للناس العاديين الذين انبثقوا من إطار مدينة جميلة يعرفها العالم كله باسم "دار المحبّة والسلام".
تحتلف الآراء بشأن ولادة جواد سليم، فهناك من يؤكد ولادته سنة 1919 أو 1920 لكن كاتب النص فاضل محسن والمخرج حيدر دفّار يعتقدان بولادته سنة 1918 بأنقرة في أثناء خدمة والده في الجيش العثماني. نالَ جواد في سن الحادية عشرة الجائزة الفضية في أول معرض للفنون ببغداد سنة 1931، وشارك مع أخيه سُعاد في المعرض الصناعي الزراعي عندما كان طالبًا في المدرسة المتوسطة، وحصل على جائزة النحت الثانية عن تمثال الملك فيصل الأول، ودرس الفن متنقلًا بين فرنسا وإيطاليا وإنكلترا، وأسس جماعة بغداد للفن الحديث التي أخذت بنظر الاعتبار تقنيات الجمع بين التراث العربي والفن الحديث.
يتوقف النحّات نجم القيسي عند حياة جواد الأسَرية المتمكنة حيث عاش بأنقره ودرس الفن بلندن وباريس وتعمّقت موهبته النحتية وتطورت مواهبة الأخرى في الرسم والموسيقى. وكان يستفيد كثيرًا من الأدباء والفنانين والشعراء الذين يجتمعون في المقاهي والأندية الخاصة التي تتيح لهم عملية تلاقح الأفكار الفنية والثقافية.
مهندس معماري ورسّام في وقت واحد
تعلّم جواد سليم درسًا مهمًا من فن عصر النهضة وهو أن يفكّر كمهندس معماري ورسّام في وقت واحد. وقد صاغ لنفسه في أوائل الخمسينات من القرن الماضي أسلوبًا متميزًا أعطى للفنان الحرية الكاملة في تصميم الأشكال النحتية التي تروي قصة نضال الشعب العراقي في سبيل الحرية باستثناء منحوتة الجندي العراقي التي أُريد لها أن تمثّل مُقاتلًا يرتدي البزّة العسكرية من دون شطحات تجريدية حيث سافر إلى إيطاليا وإستأجر مشغلًا في فلورنسا وكان صبُّ المنحوتات يجري على قدم وساق في بلدة بستويا القريبة. يشير النحات رضا فرحان إلى قدوم شخص إيطالي قام بلحِم المنحوتات بحِرفية عالية في الجدارية.
تواصل الفنانة آلاء حسين تسليط الضوء على ثقافة جواد سليم ومعرفته الفنية الواسعة حيث تمكّن من الانسحاب من نمطية أبناء جيله واستطاع ابتكار أيقونات تاريخية ضخمة الحجم، وهائلة المغزى، وعظيمة الرؤية. وحينما قدّم محاضرة في عام 1951 ببغداد انتقد فيها الذوق العام أطلقَ عليه بعض المثقفين اسم "عدو الشعب" لكنه بعدها أصبح موضع تقدير من الفنانين والنخب العراقية. كانت موهبة جواد سليم كبيرة في النحت والرسم والموسيقى، بل امتدت أكثر من ذلك إلى البالية والمسرح وعمل ماكييرًا للمثليين المسرحيين لكن شغفه بالنحت تفوّق على الرسم وأسس جماعة بغداد للفن الحديث مع شاكر حسن آل سعيد وانضمّ إليهم محمد غني حكمت ونزيهة سليم، كما ساهم في تشكيل جمعية التشكيليين العراقيين التي مثّلت هي الأخرى مدرسة عراقية متميزة في الفن الحديث.540 jawad salemرحيل صاحب الأنامل الذكية
يتضمن هذا الفيلم أربعة اقتباسات مهمة من أفلام وثائقية أخرى لم يُشِر المخرج إلى مصادرها مثل حديث لورنا في مستهل الفيلم وتصريحات الجادرجي التي نفى فيها رغبة عبدالكريم قاسم في وضع صورته في النُصب. أمّا خاتمة الفيلم فقد تضمّنت كلام المذيع وهو يؤبن الفنان الراحل حيث قال:"مات جواد سليم وذهبت الأنامل الذكية التي كانت تصنع الفن في هذا الإستوديو. لقد ترك جواد أعمالًا فنية عظيمة نحتتها أنامله الساحرة ستظل شاهدة على عبقرية الفنان الراحل. وفي الخامس والعشرين من كانون الثاني سنة 1961م حمل طلبة وأساتذة معهد الفنون الجميلة جثمان أستاذهم وزميلهم وفقيدهم الغالي جواد سليم إلى مثواه الأخير". وعلى الرغم من قِصر المُقتَبس الرابع لكنّ أهميته كبيرة فقد جاء ضمن التعليق الصوتي الأخير للفنانة آلاء حسين التي ختمت الفيلم بالقول:"قد يكون باستطاعة عِلم النفس العثور على تأويل لموت جواد سليم الجسدي، ليس بسبب عجز في القلب لأنّ جواد سليم قال كلّ ما كان على البذرة أن تفعلهُ بانتظار المغادرة وهي إشارة وثّقها تلميذه وزميله خالد القصّاب حيث سألهُ جواد وهو على فراش الموت:"-هل باشروا بإقامة النُصب؟ فأجابهُ:- نعم. فقال جواد سليم:- سأموت مطمئنًا.
وفي الختام لا بدّ من الإشارة إلى أنّ حيدر موسى دفّار هو خرّيج قسم السينما في أكاديمية الفنون الجميلة بجامعة بغداد. أنجز عددًا من الأفلام الوثائقية والروائية القصيرة وهي "نوم ممل جدًا" و"أحلام العصافير" و"شواهد صامتة" و"إجازة" و"نصب الحرية . . أحلام وثورات" الذي فاز بالجائزة الثالثة ضمن مسابقة "فضاءات سينمائية جديدة" في مهرجان بغداد السينمائي الأول.
***
عدنان حسين أحمد – ناقد أدبي وسينمائي

 

يستقصي غرانت بارتلي الفيلم كتركيز لشخصية جيجك
ترجمة: علي حمدان
***

على عكس مظهره السطحي الذي يبدو مجرد لقطات متصلة، فإن هذا الفيلم الوثائقي عن الفيلسوف السلوفيني الملقب باسمه لا يتيح له فقط التعبير عن فلسفته، بل يسعى أيضًا ليكون تجسيدًا لهذه الفلسفة. في هذا المعنى، يسعى الفيلم إلى الكمال الفني، من خلال عكس مبادئه الفلسفية في شكله، وينجح إلى حد ما. العلامة التعجبية الموضوعة بعناية ضد اسمه في العنوان هي حالة في هذا السياق. إنها أكثر من علامة ترقيم من السخافة ما بعد الحداثة المعتادة: إنها توضح عمداً وبشكل هولوغرافي فلسفة جيجك - ومن ثم الفلسفة التي تم بناء الفيلم من خلالها.
اسمحوا لي أن أشرح لكم...
يبدأ الفيلم بخلق الكون: وجود الكون. بأسلوبه الوقح المعتاد، يشرح لنا جيجيك أن "لا شيء هناك- حرفياً ـ وأن الكون عبارة عن "فراغ مشحون إيجابياً". بطبيعة الحال، هذا هراء ميتافيزيقي لا معنى له ـ إذا أخذناه على محمل الجد. ومن السمات المميزة لأسلوب جيجيك أنه يقول كل شيء على محمل الجد، حتى تصريحاته الأكثر استفزازاً، مثل أن جوزيف ستالين كان "رجلاً أميناً". وهناك شيء من السخرية في تصريحاته المتواصلة الواثقة، وكأن جديته غير المعقولة تدعوك على وجه التحديد إلى عدم أخذه على محمل الجد؛ ولكن كل هذا جزء من الحبكة. وبينما يشرح أفكاره، يمكننا أن نبدأ في فهم كيف أن تحديه المستمر من خلال أفكار غير خاضعة للرقابة يتناسب تماماً مع نظريته الشاملة. ولأنه يأخذ الفكر على محمل الجد، فإن كل هذا الاستفزاز والتهديد موجود. انه يعمل ويعيش من خلال تفكيره.
في الفيلم نرى جيجك وهو يجري مقابلات ـ واحدة في برنامج حواري في نيويورك، وأخرى في السرير، وأخرى أثناء اللعب مع ابنه. ولإبراز غرابة جيجك نشاهد في شقته: ملصق لستالين، الذي علقه على الحائط لصدمة كل من قد يصدمه ويدفعه إلى المغادرة؛ وأدراجه وخزائنه في المطبخ حيث يحتفظ بملابسه إلى جانب أدوات المائدة (وهي علامة تعجب أخرى ضمنية هنا)؛ وأرفف كتبه حيث يحتفظ بنسختين من الكتب الأجنبية التي يمتلكها، لأسباب لم يتم شرحها بشكل كافٍ على الإطلاق. يقول جيجك أشياء مثل: "الحب اختلال كوني"، و"الواقع غبي!" و"الحب شرير ـ بالمعنى الرسمي". ولكن حتى إضافة عبارة "بالمعنى الرسمي" تشير إلى أن وراء ثرثرته أكاديمي جاد، مستعد للانقضاض. وبدلا من مجرد تصريح غبي آخر، ربما يكون هذا التصريح صحيحا.
ولإثبات جدارته الفكرية، نجد الفيلم مليئاً باقتباسات من كتب جيجيك، والتي اعتقدت أن عبارة "نحن نشعر بالحرية لأننا نفتقر إلى اللغة التي تمكننا من التعبير عن عدم حريتنا" هي من أكثرها وضوحاً. والانطباع الذي تشكل لدي، وهو حقيقة تأكدت للأسف من خلال قراءة أحد كتبه، هو أن جيجيك أكثر فعالية ووضوحاً في التواصل لفظياً من خلال الكلمة المكتوبة. فليس من السهل أن يكون المرء معبراً بشكل تلقائي ومتواصل عن أفكار عميقة كما يظهر الفيلم جيجيك؛ ولكن من المؤسف أن كتاباته تعاني من مرض الفيلسوف الشائع المتمثل في الخلط بين بساطة التعبير وغباء الفكر.
في وقت مبكر، وبعد أن طاردته مجموعات من الناس للحصول على توقيعاته في الحرم الجامعي، ادعى أنه يكره الشهرة وقال: "أنا أحب الفلسفة باعتبارها عملاً مجهولاً". أجل، هذا صحيح! المعنى الوحيد المعقول لهذا الرجل هو أنه شخص يستمتع بالاهتمام ــ بالمعنى الراقي للتأكيد من خلال فعل توصيل أفكاره المهمة. جيجك واضح، وإن كان يدفع دائمًا تعبيره عن نفسه إلى ما هو أبعد مما قد يفرضه رقيب المعقولية. ويقول إن قلقه لا ينبغي تجاهله بل قبوله. ويقول أيضًا إنه يخشى التوقف عن الحديث، في حال لاحظ الناس أنه لا يوجد شيء حقًا هناك. ولكن ما هو موجود هو أبعد ما يكون عن العدم.
إن جيجك ماركسي لاكاني. وهذه طريقة للنظر إلى المجتمع من منظور ديناميكياته النفسية. وبالنسبة له، هذه هي الطريقة التي يمكننا من خلالها فهم جوانب المجتمع مثل العنصرية الأصولية الحديثة (مثاله). إن نظرياته صعبة ومعقدة ــ تحليل نفسي دقيق للدوافع والآليات النفسية التي تعمل من خلالها "الرأسمالية العالمية المتأخرة" والتي تدعمها. ولكن كما يقول في الكلمات الأخيرة من الفيلم، فإن تقديم مثل هذه الأفكار على أنها صعبة هو "دعاية طبقية من جانب العدو". وفي النهاية يقدم لنا تحليله الثاقب للوضع الاجتماعي الاقتصادي.
في عام 1990 كان جيجيك مرشحاً لرئاسة سلوفينيا. (أين في الغرب الناطق باللغة الإنجليزية "المتقدم للغاية" يمكن اعتبار أن مثقفاً محترفاً يمكن أن يترشح لمنصب رئيس الجمهورية؟ أعتقد أن هذا الاحتمال السخيف يوضح حضارتنا وثقافتنا بشكل جيد للغاية). أعلن أحد المرشحين المنافسين أن جيجيك أكثر ذكاءً من أي منهم، ولكنه للأسف لم يفز ــ وهو تعليق واضح على العملية الديمقراطية.
إن مكانته كـ "نجم روك أكاديمي" تؤكدها رؤية مئات، وربما ألافالاشخاص، يحضرون إحدى محاضراته في بوينس آيرس. وهنا يتحدث عن إعادة اختراع اليوتوبيا - "ولكن بأي معنى؟" يشرح أنه من منطلق الحاجة إلى البقاء يجب أن نخترع مساحة فكرية حيث يتم تصور اليوتوبيا الجديدة. كما يقول لاحقًا، فإن المشكلة الحديثة لليسار هي أنهم يريدون ثورة بدون الثورة. يريد التقدميون تغيير العالم، ولكن في نفس الوقت الحفاظ على أنماط حياتهم الغنية والمريحة. أعتقد أن هذا تعبير واضح جدًا عن إحدى المشاكل المركزية للقلق الميتافيزيقي الليبرالي في القرن الحادي والعشرين. نريد منع كارثة المناخ، لكننا لا نريد قطع الرحلات الجوية الرخيصة أو ملكية السيارات الشخصية، على سبيل المثال. ولكن كما يقول جيجك، فهو لا يرى دوره في تقديم الحل الكبير، والإجابة الكبيرة التي ستخبر الثوار بالضبط ماذا يفعلون: كما يقول، "أنا لا أعرف الصيغة!" وبدلاً من ذلك، باعتباره "لاكانيًا يحمل بطاقة هوية" وله خلفية في التحليل النفسي، فإنه يرى دوره بطريقة تحليلية نفسية: استفزاز "الثوريين" حتى يصبحوا على دراية بأنفسهم والمشاكل النفسية المعاصرة التي تحاصر السياسة التقدمية على وجه الخصوص، فضلاً عن المشاكل (المختلفة) التي تحاصر العقول البشرية عمومًا داخل عملية النظام الاقتصادي الحالي.
إن إحدى هذه المشاكل العامة هي أن كل شيء أصبح محظوراً بدلاً من أن يكون كل شيء مسموحاً به: فنحن نخشى الحياة إلى الحد الذي يجعلنا عاجزين عن الاستمتاع بها تلقائياً دون أن نتأكد من أننا لا نضر بصحتنا. وفي الوقت نفسه، هناك أمر من مجتمعنا بالاستمتاع بالحياة ـ وهو الأمر الذي يستنزف أيضاً استمتاعنا، لأن استمتاعنا لم يعد يشكل بالتالي حماساً طبيعياً حراً للحياة. ولقد شعرت بأن هذا هو المجال الذي يرفض فيه جيجك بشدة الامتثال. وبدلاً من ذلك، قرر أن يستمتع بنفسه تلقائياً، من خلال أن يكون على طبيعته. ومن المؤكد أنه متحمس لأفكاره الخاصة. وهو يحاول باستمرار أن يشرح نفسه: يمكنك أن ترى الشرر يتطاير من أطراف أصابعه. ويبدو وكأنه مندهش من وجود كل هذه الأفكار المذهلة ـ فكل عبارة تبدو وكأنها رد فعل تلقائي. إن لم تكن من المتحمسين للأفكار، فإن هذا الفيلم لا يقدم لك أكثر من مقطع عرضي من حياة فرد فضولي شوهه إيمانه وتفكيره الخاص عن سلبيتنا البشرية "الطبيعية" تجاه الأفكار. ولكن هذا السلوك غير الطبيعي يشكل أيضاً جزءاً من النظرية العامة، لأنه كما يعبر عن اتفاقه مع فرويد، فإن السلوك "الطبيعي" هو "تشويه مرضي" للإنسانية الطبيعية. لذا فإن انفعاله الذي لا يمكن كبته بالتفكير يظهر كيف أن حياة جيجك توضح تفكيره. فعندما نراه يشاهد مقطع فيديو للاكان ويحتقره، فإنه يشرح كيف أن الإيديولوجية الحقيقية هي أن تكون إنساناً، وأن أسوأ تشويه للإيديولوجية هو تشويه شخص ما تماماً من خلال الضغط عليه من خلال التلاعب الاجتماعي أو الثقافي أو الإعلامي ليقوم بدور، ويصبح ما هو زائف بالنسبة له، ويصور نفسه كما لو كان شيئاً آخر غير ما هو عليه. وهذا ضغط اجتماعي شامل يدفع إلى سوء النية، وهو ما يرفض جيجك بشدة أن يقدم له خدمة فكرية أو لفظية، وهو مؤامرة من أجل التوافق لن يتواطأ الفيلم فيها أيضًا.
إن الفلسفة في حد ذاتها تقف إلى جانب فرقة اللغة. ويقول إن الغرض من الفلسفة "ليس حل المشاكل، بل إعادة تعريف المشاكل". إن المشاكل الحقيقية لا تحتاج إلى فلسفة، بل إلى حلول عملية. فلو كان المذنب متجهاً نحو الأرض، فلن تحتاج إلى فلاسفة، بل إلى أسلحة نووية. والفلسفة لا تقدم إجابات، بل تطرح سؤالاً مثل "ماذا يعني هذا؟" على سبيل المثال، "ماذا يعني أن تكون حراً؟". والطريقة التي يصوغ بها جيجك هذه المهمة هي أن الفلسفة تستكشف "آفاق الفهم الضمنية".
وعلى مدى آفاق افتراضاتنا الأولى، لا يكون المجنون مجنوناً، ولا يكون الكوميدي ممثلاً كوميدياً. وفي وقت متأخر من الفيلم، وبعد أن تم التلاعب بنا لتكوين وجهة نظر متعالية بعض الشيء عن هذا الرجل صاحب الآراء الصاخبة التي تتعدى عمداً على الحواف الدقيقة للعقل، يسأل جيجك نفسه: "لماذا أستفز دون داع؟" والإجابة: "فقط من أجل إيصال الرسالة!". لقد تخلى عن نفسه للحصول على رد فعل. إنه يعيش استنتاجاته.
إن الفيلم نفسه يطبق تفكير جيجك ـ من خلال إظهاره كما هو، ولكن بطريقة تكشف عن تصوراتنا المسبقة الموروثة. فعندما نراه أولاً في الضوء "العادي" الذي نحلل أو نفهم به عادة، نراه غريب الأطوار في تعبيره الحر عن أفكار متطرفة، وغريبة أحياناً، وبالتالي فهو شخص لا ينبغي لنا أن نأخذ تفكيره على محمل الجد. ولكن بحلول نهاية الفيلم، يتبين لنا أن هذا التفاعل هو نتيجة لتأثير معاييرنا الثقافية على توقعاتنا ووجهات نظرنا. ويوضح لنا الفيلم أن الأفكار، والتأمل، والعمق، والتعبير الحر الكامل تذبل في "التفكير العادي" بفضل التوقعات التي تغذيها الثقافة بأن هذه الأشياء لا تستحق النظر إليها. والرسالة التي يحملها النص الفرعي هي أن اقتصادنا وثقافتنا العالمية المصاحبة له تشجعنا على أن نكون أغبياء، أو على الأقل متوافقين فكرياً بشكل سلبي: ولكن جيجك يعيش تفكيره الخاص ضد هذا الركود العقلي من خلال رفضه بعناد أن يتناسب مع القالب الذي نعتقد أن التفكير والسلوك الطبيعيين يجب أن يكونا عليه. إن الفيلم يحفز هذا الإدراك بطريقة خفية ولكن مثيرة للإعجاب، وذلك من خلال جعلنا في النهاية نعيد النظر في انطباعاتنا الأولى المتلاعب بها عن هذا الرجل. إن علامة التعجب في العنوان تتناسب تمامًا مع النظرية لأن إضفاء الإثارة الساخرة على المفكر يأتي في سياق الكشف عن الافتراضات الخفية لثقافة التحفيز التي يفكر المفكر ضدها. إن العلامة هي مفتاح لأولئك الذين يعرفون كيفية فك شفرتها على وجه التحديد لأنها ترمز إلى الحاجة المشكوك فيها إلى الترويج من خلال الإحساس. ولكن من خلال وجود علامة التعجب هناك، فإنها تلفت الانتباه إلى السؤال حول سبب وجودها هناك.
***

 

لا يمكن أن يستكمل الحديث عن محمد خضير قاصًا مؤثرًا في تطور القصة العراقية والعربية الحديثة دون الحديث عن آرائه في هذه القصة، ونظرته لما يجب أن تنطوي عليه من تقنيات رمزية وأسطورية وأساليب سردية مبتكرة. وكتبه مثل (الحكاية الجديدة ، دار أزمنة عمان 1995)، و(السرد والكتاب (مقالات)_ دار الصدى، دبي ٢٠١٠)، و(الرجل والفسيل (مقالات)_ مطبعة بلورة الجنوب، البصرة ٢٠١٢) وغيرها، تأكيد على هذا الاهتمام الخاص بالقصة القصيرة نوعا أدبيا له كيانه وحدوده واشتراطاته الخاصة التي لا ينبغي أن تختلط مع غيرها من أنواع سردية أخرى كالرواية. حيث اعتدنا أن نرى كثيرا من الساردين في هذا العصر يتركونها لصالح هذه الرواية.
ولعل ميزة كتاب (حدائق الوجوه، (قصص)، دار المدى، دمشق، 2008)، الذي سنركز الحديث عنه هنا، أنه من كتب محمد خضير النادرة التي تجمع بين القصة والسيرة الثقافية، التي يمكن أن نتلمس فيها جانبًا من مصادر التأثير الأساسية في ثقافة محمد خضير وقصته القصيرة، المختلفة عن كل ما كتب من سرد قصير في العراق وغير العراق؛ فضلًا عما انطوى عليه هذا الكتاب من قصص قصيرة تشي بنفسها عن هذا النوع من التأثر والعلاقة مع بعض أساطين هذا النوع والمبدعين من أصحابه وأصحاب حدائق الوجوه بشكل عام.
وحين أهديت نسخة إلكترونية من كتابي (نجوم منطفئة في سماء ذاكرة الغريب) للصديق محمد خضير، كتبتُ له ما يلي:
"لا أدري، أخي محمد، لماذا أجد شيئا من التشابه بين كتابك حدائق الوجوه (الذي قرأته في نسخة إلكترونية هذه الأيام) وكتابي هذا الذي أهديك هنا نسخة الكترونية منه قبل صدور نسخته الورقية عن اتحاد الأدباء في بغداد قريبا. نعم، ألمح شيئا من هذا التشابه، مع معرفتي بالاختلاف الأساسي الذي يجعل من كتابي هذا نوعا من نسخة مظهّرة بالأبيض والأسود من النسخة النجتف لكتابك (لا بالمعنى السالب، بل بالمعنى غير المباشر الذي تمتلك فيها الكاميرا المركبة في رأس بستانيّك عينَ الطائر الذي يحلق عاليا ليرى كل شيء قبل أن ينقضّ على هدفه - المعنى المتخفي بين حدائقك الغُلب الملتفة على بعضها، أو يراه من بعيد تحت سطح ماء البحر أو الهور القريب)، على الرغم من اختلاف الموضوع والشخصيات المكتوب عنها في الكتابين ؛ هذا إذا جاز لي أصلا المقارنة بين كتابين يغوص الأول منهما في الأعماق بحثا عن فهم آخر للحياة الداخلية للبشر عبر قراءة بعض من رموزهم وعلاماتهم البارزة والمتميزة قراءة أخرى، وما يتصل بذلك من بيان وتبيين يقعان وراء الصور وتعبيرات الوجوه وثمار حدائقها النيئة والناضجة كما تتبدى في الإشارات والإيماءات والرسوم والقصص والمقولات والحكم القديمة والحديثة .."
وقد كتب لي جوابًا على ذلك ما يلي:
" شكرا دكتور ضياء لإرسال نسخة من كتابك نجوم منطفئة. ربما التقى كتابانا في نقطة واختلفا في نقاط كثيرة. التقيا في السيرة واختلفا في الغرض من كتابتها. اردت لكتابي أن يكون مرجعا لتربيتي السردية، انعكاسا لشخصيتي، فأصحاب السيرة فيه جزء من خبرتي السردية، وهم من امكنة شتى. وقد أضفت لكل شخص حدائقي (بستاني) حكاية تبرهن على مشاركتي البستانيين هؤلاء حياتهم وأفكارهم. بينما كتابك يراجع حياة أشخاص مستقلين عنك، وهم يتوالون في كتابك بحسب معرفتك بهم وقربك منهم زمانيا ومكانيا. أما سير حدائق الوجوه فتنتظم في نظام خاص، لا يعبأ بالزمن والمكان.
على اي حال هذا رأي أولي ريثما اقرأ كتابك وتستقر عندي وجهة نظر كاملة عنه.
تحياتي وتقديري."
وما أهدف إليه هنا ليس حشر اسم كتابي بنجومه (المنطفئة)، وبما يتضمنه من سيرة ذاتية وغيرية عني وعن بعض أصدقائي وأساتذتي من النقاد والأدباء، بمناسبة الحديث عن كتاب محمد خضير هذا بأقنعته واستعاراته وحكاياته المختلفة، وإنما هو رؤية طريقة السرد التي يكتب فيها هذا القاص البصري سيرته الذاتية، أو الجانب الخاص منها بتربيته السردية ورؤية مرجعياتها المختلفة بهذه الكيفية الخاصة في الكتابة. والسبب الذي يجعل الكاتب ميالًا لوضع هذه (الأقنعة) على وجوه أصحابه أو (بستانييه) من الشعراء والكتاب الذين اختار أن يكتب عنهم و"يبحث عن الكيان المتواري خلف الأنظار" عند كل واحد منهم، مثلما يضعها على وجه الراوي المؤلف - محمد خضير نفسه؛ فضلا عن رؤية هيمنة الجانب الاستعاري المتموج الذي تطفو كلمات الكتاب على سطحه المشبّه به، مثلما تطفو المركبات الفضائية في فضاء أثيري مصنوع من معانٍ ودلالات حافة تمزج بين الواقع ورديفه المجازي الذي يبتعد عن الدلالة الواقعية ويضيف إليها، أو يضعها وضعًا جديدًا خارج الفضاء الثقافي التقليدي، في الوقت نفسه.
- المنحى الاستعاري وخلاصة التجربة:
يبدو أن محمد خضير يبحث في هذه المرحلة المتأخرة من حياته عن حلّ لأزمته الذاتية، التي هي في الوقت نفسه أزمة إنسان العصر التي كانت كتاباته تعبيرًا مبكرًا عنها. وهي أزمة ثقافية وروحية لم تعد ثقافتنا المحلية وتراثنا السردي المتوفران قادرين وحدهما على تقديم الإجابة المناسبة لها عنده. وقد كان تعبيره ذو الطابع السردي الذي اختص به في القصة القصيرة على نحو خاص، والذي ينزع فيه نزعة بيانية وبلاغية معروفة تهدف إلى التعبير عن الواقع المعيش بطريقة مخصوصة تمزج بين الرمز والمجاز والأسطورة من أجل توسيع رقعة الحدث أو الواقعة النصية ومنحها أفقًا أكثر سعة وشمولًا، أقول إن محمد خضير لا يجد في النهاية مندوحة من اللجوء إلى الآخرين من كتاب العالم المعروفين، يتملى في حدائق وجوههم، ويتحرى عن مآلاتهم الشخصية، ويمخض الجوهري من تجاربهم لعله يجد نوعًا من العون من شأنه أن يقدم له الدعم في بحثه الحميم والمستمر عن حلّ. ووسيلته التقليدية المتبعة للتواصل مع هؤلاء الكتاب تبقى غير مباشرة وذات طبيعة استعارية مراوغة تقترب من هؤلاء الكتاب لتبتعد عنهم، في عملية مساءلة وبحث يحملان من الجهد والقوة قدر ما يحملان من جمال وأمل.
إنه "عالم الاستعارات" التي لا يعلم أحد من بني البشر، كما يقول الكاتب في مطلع كتابه، أيَّ واحدة منها "أقدم في تشبيهات هذا العالم". هذه الاستعارات التي يمكن أن نجعل مما قاله الشاعر الفارسي جعفر بن محمد الرودكي في تشبيهه للبشر ب "الضيوف في خان العالم"، انموذجا لها، وما يماثل ذلك من أقوال لشعراء وكتاب آخرين تشير إلى اجتماع البشر في "حديقة العالم" التي تبدو فيها وجوه هؤلاء البشر مثل خمائل بديعة التنسيق، حيث نحن، كما يقول جلال الدين الرومي، "ثمرات نصف ناضجة في شجرة العالم" بانتظار النضج والقطف، في هذه الحديقة المدغلة المماشي؛ حيث يهيم بستانيو العالم هؤلاء بين الوجوه المتدلية وهم يرددون تسبيحة السياب أو نداءه الذي صارت حدائق الوجوه فيه عنوانًا ودليلًا في خارطة الكتاب كله:
إليك يا مفجّر الجمال، تائهون
نحن نهيم في "حدائق الوجوه".
ونظرًا لأن الكاتب يحاول دائما أن يصف نفسه ويعبر عنها بوضوح عبر هؤلاء قدرَ الإمكان، فإن عملية الكتابة لديه تبقى عرضا مستمرا للأقنعة؛ الأقنعة التي تستخدم لتمثيل الوجود المزدوج للحياة الداخلية والخارجية للبشر بوجودهم الحي وبأخيلتهم وأحلامهم خلال إقامتهم المؤقتة على هذه الأرض.
وهذه العلاقة التي يرتبط بها محمد خضير مع الآخر هي، في الواقع، نوع مما كان يسميه الناقد الروسي ميخائيل باختين (الأنثروبولوجيا الفلسفية) التي لا تتضمن فقط وصفا لعلاقة الذات بالآخر، ومحاولة تقييم المبدع لنفسه من منظور هذا الآخر، بل أيضًا تقديم وصف لعملية الخلق والإبداع نفسها.
وباختين يقول لنا بهذا الصدد:
"في الحياة نفعل ذلك كلَّ لحظة: إننا نقيّم أنفسنا من منظور الآخرين، نحاول فهم اللحظات المقومة لوعينا ولكنها تظل خارجية بالنسبة له transgredient وأن نأخذ هذه اللحظات المقومة لوعينا من منظور الآخر..، بصورة ثابتة تمامًا يمكننا القول إننا نتفحص تأملاتنا بحياتنا الخاصة ونتفهمها عبر وعي الأشخاص الآخرين"
وفي هذه الأنثروبولوجيا الفلسفية المعقدة التي تستند فيها الذات إلى وجود إنساني آخر، يستطيع صاحب حدائق الوجوه أن يقع على تجربة جمالية وإبداعية، وحتى أخلاقية أخرى كافية لتوفير القناعة للمساعدة في تشكيل الهوية، وأيضًا للوقوف على نقص الإنسان ومحدوديته من الناحية الموضوعية التجريبية. وتحقيق الوعي الذاتي، كما يقول باختين في حديثه عن دوستوڤيسكي، يتم أيضًا عبر كشف نفسي للآخر، وبمعونته.
"فلكي أكون عليّ ان أقرأ الآخر"!
وهذا هو الذي يدفع محمد خضير للقول في جوابه السابق بأنني "أضفت لكل شخص حدائقي (بستاني) حكاية تبرهن على مشاركتي البستانيين هؤلاء حياتهم وأفكارهم"، ويدفعنا من جانبنا للقول بأن كتاب حدائق الوجوه يكشف عن النقص في الشخصية أكثر مما يكشف عن اكتمالها، بنفس الوقت الذي يكون فيه، كما سنرى، كتابا للموت فيما هو يريد أن يكون كتابا للحياة. والأنا التي يقول باختين إنها تختبئ في ذوات الآخرين، وأنها تريد أن "تكون أنا أخرى للآخرين، أن تخترق عالم الآخرين كآخر" هي التي تحاول أن تطرح عنها ثقل الأنا المتفردة، أو الأنا الموجودة لذاتها. (أنظر، تزفيتان تودوروف، المبدأ الحواري، دراسة في فكر ميخائيل باختين، ت فخري صالح، بغداد، 1992، ص 122 - 127)
مع أن (أنا) المؤلف هي الوعي الذي يطوّق الشخصية ويبقي على تماسكها السردي، ويمثل الوحدة أو العنصر الذي نقيس بالاستناد إليه الفروق والمشابه الموجودة بين الشخصيات الأدبية والشعرية والثقافية المختارة في هذا الكتاب.
ومحمد خضير يختار، كما نعرف، ستة من بين هؤلاء الآخرين الذين أسهموا في صنع سيرته الذاتية وصياغة هويته الثقافية. ستة مختارة من الكتاب أو البستانيين الكثر الذين مروا على حديقته - حديقة الأعمار الوسطى – ليضع أقنعتهم المتباينة على وجهه، وليشاركهم تجاربَ الزرع والحصاد ورؤية الثمار المتدلية وعصارتها الفلسفية والفكرية والروحية التي تمثل طينة الوجود وخلاصة التجربة الإنسانية ونسغها الحي في ذاكرة الكاتب ورؤيته الإبداعية والسردية المزدوجة، والمشاركة في إعادة كتابة السيرة الخاصة بكل واحد منهم.
خلاصة تجربة الكاتب الأجنبي أو العربي وقرينه العراقي الراصد والمتأمل والهاضم للتجربة، والقادر على إعادة إنتاجها على وفق تجربته ورؤيته الخاصة، هي موضوع حدائق الوجوه. وثمة قصص وسرديات قصيرة تتضمنها الصورة الإطارية للنص، حيث ينتقل العمل فيها من (النص) إلى (الكتاب)، بحسب مقولة رولان بارت، ورؤية محمد خضير المكمّلة والمتمثلة لها. وهو يحاول في هذه القصص والحكايات المرادفة أن يتكلم بلسانه، ويشارك بما عنده، حتى إذا واصل وضع القناع على وجهه، بنفس الطريقة التي يضعه فيها على وجوه كتّابه الآخرين.
وقد لا يكون من اللازم الإشارة إلى أن صورة هؤلاء الكتاب الذين اختار صاحب حدائق الوجوه أن يضع أقنعتهم على وجهه ليست صورتهم كما هي عندهم، أو كما رسموها لنا في كتاباتهم، بل هي بالتأكيد ما اختاره محمد خضير من ألوان هذه الصورة وخطوطها لتشكيل هويته الثقافية التي قد لا تتطابق بالضرورة مع هوياتهم، أو ما يعرفه عموم القرّاء عنهم.
وتحديد ما أخذه الكاتب أو تركه منهم ليس بالأمر السهل لأنه يتصل فقط بالمشاركة في فهم وتبنّي تجارب ثقافية أخرى، بل بذوات بشرية مختلفة قد تكون الكتابة عندها وسيلة لإخفاء الذات ووضع الأقنعة على وجوه أصحابها أكثر من الكشف عنها والوصول إلى مُستَقَر فكرها وحقيقة أوضاعها البشرية المخصوصة في المراحل العمرية والفكرية المختلفة. وبعض أتباع الفكر الهندي الذي تحدث عنه محمد خضير لدى كلامه على الشاعر طاغور، على سبيل المثال، يقولون إن الذهن لا شكل له، ويخترق كل الجهات، وأن المهم هو ملمس الحياة الواقعية لهؤلاء البشر، حيث بالعينين يكون الرائي، وبالأذنين يكون السامع، وبالأنف يشم الروائح، وبالفم يمكنه الحجاج، وباليدين يمسك، وبالساقين يسير. وواحدهم موجود في كل الجهات وكل الأزمان، وبسبب التخيلات المفتوحة يخضع الواقع للتفريق بين هذا وذاك منهم، فلكلّ منهم انعتاقه الخاص، وسيرته الداخلية المختلفة. وأرنولد توينبي يذكر في حديثه عن الكارُمه الهندية بأنها الحساب المصرفي الأخلاقي الذي يتبدل فيه الرصيد في حياة الإنسان على هذه الأرض باعتباره "فاعلًا حرّا".
وقد رويَ عن بوذا أنه قال حين خرج من جسم أمه إلى هذه الدنيا: السماء من فوق، والأرض من تحت، وأنا وحدي المكرم في هذه الدنيا. وهو قول لا يتورع محمد خضير من تبني ما يشبهه بطريقته الخاصة في تعامله مع هؤلاء الكتاب والشعراء بعد أن يمتص عصارة الثمار الموجودة في حدائقهم ليحافظ على أناه المستنبتة في تربته البصرية والعراقية، وليكون قادرًا في حديقته الخاصة بالأعمار الوسطى على رسم صورته بموازاة صورة وجه كل واحد منهم، وبطريقة مختلفة عنهم جميعًا.
وبفضل التصوّر اللساني -البنيوي المعتمد في الكتاب، يتمّ تجاوز اعتبار الكلمة مَعْقِدَ الاستعارة في البلاغة القديمة، إلى الجملة، ومنها إلى الخطاب في الدراسات الحديثة. إذ لم تعد هذه الدراسات تشمل الاستعارة باعتبارها نقلاً لمعنى الكلمة المفردة، ولا تأليفاً لصورة عبر انتظامها في الجملة، بل بوصفها مولدةً لطاقة الخطاب الاستعاري على الإحالة الخارجية، ومدى قدرته على استعادة الواقع ومحاولة بنائه من جديد بطريقة مخصوصة.
وهنا تصير الاستعارة في مجمل الكتاب استراتجيةَ خطابٍ، تنمّي طاقة اللغة الاستكشافية، وتظهر اقتدارها على إعادة تشكيل الواقع في السرد بأنواعه القصير والطويل.
-السرد الطويل الذي يمثله مجمل نص الكتاب بفصوله وعناوينه الرئيسية والفرعية الدالة،
-والقصير الذي تمثله قصص تتضمنها حياة الكاتب بمراحلها المختلفة طفلًا رضيعًا غارقًا في خرائه، وأما صبيّة لا تتخلّى عن لعبتها الصغيرة وهي تضع طفلها الأول، وصبيًا قادرًا في مسيرته اليومية إلى مجلس القابلة "الأبلّية" التي جمعت "مصاليخ" الأحياء لتعلمهم مبادئ القراءة والكتابة وقراءة ملامح الوجوه البشرية المحيطة بالمكان تحت ظلتها المسقفة بسعف النخيل، أو الطريق الترابي لمدرسته..طفلًا فقيرًا قادرًا على أن يشم رائحة الخبز أو "نزيفه" من بعيد، ومعلمًا في الهور لا يمتنع عن مصاحبة الكلاب واللصوص وسجناء الرأي من الذين يمتلئ تاريخنا العراقي بصور عذاباتهم ذات الطبيعة "القدرية" المتأبدة، ورواية حكاياتهم التي لا تخلو من رموز وألغاز حياة وموت، ثم شيخًا يختلط الزمن ويتداخل في ذاكرته السردية وهو في جلسته اليومية المعتادة في ذلك المقهى البصري "حيث جرس الدراجة المرنان يحثّ أوراق الجمّيزة في ظهيرة شباط الباردة، وفئران الساعة تقرض طوالعي المكتوبة على الاصفرار الفاقع للأوراق المتساقطة، خربشة أيامي المتعرجة، سنواتي الستون، أطاح بها جرسُ الدراجة المصلصل، فيما أسفح يومي على تخت الساعة العمومية لدائرة البريد." (محمد خضير، حدائق الوجوه، دار المدى، ص52).
- المنحى الزمني
والكتاب كلّه لا يعبأ على هذا النحو بالزمن والمكان، كما ذكر الكاتب ذلك في ملاحظته السابقة. فالعلاقات المركبّة بين قيم الزمن المختلفة تبدو شديدة التعقيد في نص الحدائق، ولكن القارئ الذي ينتقل من حاضره الكرونولوجي إلى الماضي السردي المستعاد لدى قراءة الكتاب يبقى معتمدا على طريقة معالجة الكاتب لهذه القيم، وبما يُشعر هذا القارئ بوجود نوع من التوازن والتناسب بين هذه الأزمان جميعا، على الرغم من الإحساس المتفاقم بخضوع الزمن الراهن لسطوة الزمان الماضي على نحو يتقدم فيه حاضر الماضي باستمرار ليكون حاضرًا في الحاضر الراهن نفسه. والكاتب يفعل ذلك في إطار فلسفته التي يرى فيها "بأن جدوى بعث جمال شيء ما تبدأ من لحظة زواله" (ص 7) وهو يقول: إن جمال وجوه أصحابه وهي تتفسخ يفوق جمالها وهي تحيا ! (ص 10).
- أقنعة الحدائق والوجوه
ومنذ تجاربه السردية الأولى علّم محمد خضير نفسَه أن يكبر داخل أقنعة، ويضع مسافة بينه وبين الآخرين، ليس فقط ليحمي وجهه من الانكشاف على طريقة بعض المقنعين الذين لا يريدون الكشف عن جمال وجوههم، حسب الحكايات التي أوردها في حديثه عن شيخ المعرة، وإنما أيضًا ليكون أكثر قدرة على التحرك داخل دائرة أصحاب السرديات العربية والعالمية المختارة، ولأن ذلك يمنحه الإمكانية لرؤية أشياء أخرى غير تلك التي اعتدنا أن نراها في السرديات التقليدية دون أن يسمح لأحد أن يرى وجهه في صورته الواقعيةصصص المجردة.
ومحمد خضير الذي يشاركنا علاقته مع هؤلاء الكتاب والفنانين يرينا كيفية تشكيل نفسه بواسطتهم. فهناك علاقة تبادل مزدوجة بين الذات والموضوع، بين المبدع وعمله. ونحن نتذكر استشهاد باشلار ببيت الشاعر إيلوار الذي يقول: "كم تتغير يدنا حينما نضعها بيد أخرى"، وكيف أننا "نكتشف أن السماء الزرقاء تنظر إلينا حينما نعتقد أننا ننظر إليها".
وكما يقول ميخائيل باختين، فإن من يرغب الحفاظ على نفسه يخسر نفسه، ما دمنا جميعا حواشيَ وحدودا فاصلة من الداخل، ولكي نكون علينا أن نقرأ الآخر". (تزفيتان تودوروف، المبدأ الحواري، ت فخري صالح، ص125)
ومع أن محمد خضير لا يفعل في وضعه الأقنعة على وجهه ووجوه أصحابه للتضليل أو إقامة حجاب حاجز من الغموض بينه وبين القارئ العادي على طريقة "المضنون به على غير أهله"، فإن هناك شعورا لديه بالحاجة إلى ذلك تفرضها الكتابة الاستعارية التي لا تكتفي بتصوير السطوح الواقعية المعرضة للضوء والهواء، وإنما محاولة النزول بحثًا عن طبقات أخرى أكثر عمقًا وأبعد غورا من الذي نراه في الواقع المعيش وراء عالم الخيال والحلم والأسطورة وتبدل أحوال البشر من حال إلى حال. وهو يقول إنه على "علم بتبدلات الأقنعة، فلم أمكث في كل حديقة غير أيام تكفي لسرد حكاية واحدة، ثم أنزع عني القناع، وأتقنع بآخر في حديقة مجاورة قبل عودتي إلى حديقتي الوسطى، حديقة الأعمار المتسارعة". (ص 10)
واستعراض بعض هذه الأقنعة الواردة في الكتاب يمكن أن يعطي القارئ فكرة موجزة عن طبيعة الموضوع وطريقة التناول، ولكنه لا يمكن أن يوقفه على مقدار الغنى الحكائي والبلاغي، وما يتضمنه النص من تنوع وثراء في المحتوى واللغة والأسلوب وطريقة الكتابة دون قراءة الكتاب ومباشرة الاطلاع عليه، مع الأخذ بنظر الاعتبار أن ما نراه ليس مجرد تقنية بقدر ما هو رؤية وتصور خاص للعالم والوجود من حولنا منظورًا إليه من زوايا مختلفة.
- القناع الأول هو قناع ريبندرات طاغور الذي امتزجت فلسفته بالطبيعة، واشتملت فيها روح النص المكتوب على روح العالم، واقترنت بتقاليد اليوغا الهندية الخاصة التي لم يتعلم منها الكاتب " واجبَ النظر إلى كليّة الوجود في أصغر المخلوقات، أو احترام الخلق في أحقر المخلوقات فحسب، بل علمني أيضا أن تقاليد الدارما تلزمني بقواعد قصّ توحّد أشتات الأرواح الموزعة على أقطار العالم ، ما عقل منها، وما لم يعقل" (ص61) وغير ذلك مما يسميه الكاتب (حديقة الصمت).
ومعرفة محمد خضير المدققة بجوانب الفلسفة الروحية الهندية ومصطلحاتها المختلفة، وما يرتبط بها من فضاءات وأجواء تستثير العجب والدهشة. وهو لا يتعرض لها، كما هي عند الشاعر طاغور أو غيره، كدارس أو مراقب خارجي، وإنما كمشارك وعارف بطبيعتها معرفة الخبير الداخل في أتون التجربة الخاصة، والمكتوي بنارها، والمتذوق للذائذها.
-القناع الثاني هو قناع غابرييل غارسيا ماركيز الذي حلق أمام أنظار كاتبنا فجأة في حديقة القرن "كنسر هندي، وابتعد عن الأرض، مخلّفا حاكيا حجريًا تتحشرج على قرصه أسطوانة تدور ببطء شديد."
-في حين يحتل قناع بورخس مكانة مركزية في سيرة محمد خضير السردية ومرجعيته التربوية والثقافية ذات الوجوه والأقنعة والأسماء المتعددة، منذ أن اطلع على إحدى قصصه مترجمة في مجلة الأقلام عام 1979؛ وحيث تبدو جميع الحدائق التي يرتادها هذا الكاتب دائرية أبدًا، ولا تؤدي إلى مكان في (حديقة العالم) الكبير.
-أما قناع جبران (النبي) فقد استولى هو الآخر بسحره على الكاتب، ليس فقط بما كتبه من نصوص ذات طابع نبوي سماوي، بل أيضًا من خلال قراءة ما رسمه من صور ولوحات في محترفه بنيويورك، وغير ذلك من مظاهر بهاء يحيط به، وجعله يكتسب شهرة عالمية بعد نشر كتابه النبي The prophet الذي ظهرت نسخته الأولى بالإنكليزية عام 1923.
وصاحب حدائق الوجوه الذي يهبط في وادي ذوي الظلال الخضر من الأنبياء والقديسين، يجد أن صوت البحر ونبرة الحرية في كلمات هذا الكاتب اللبناني يمكن أن يبددا جنون الحدائق الأرضية كما يعيشها، فيهرع ليعانق حكمة ابن الحدائق السماوية.
"تلك الحكمة التي أنكرها في نفسه ما لم تمتزج بأغاني الأرض والسماء، وتتمرغ بالتراب والطين، وتتكسر على الصخر والرمل."
وهو يضيف إلى علاقته الفاتنة بجبران هذا النص بلغته الساحرة المنبثقة من تماهيها مع حديقة جبران اللفّاء التي يقول إن إطلالته الملغزة بأحاديثها:
"أغرتني بأن أسمو بالجنون فوق الحكمة، فأزجّ بأسمالي الخشنة بين طيالس أساتذة الحديقة، وحكماء الفصول، وشعراء الورد، ومغنيّ الظلال، وموسيقى العزلة، واقتطع من ظلالهم الخضر نقابًا لوجهي المتقافز كجندب الهمزة، أو كضفدع الباء، أو كغراب النون. آه، ويح الحبيب حين يستعجل سفور الحبيب، والطل حين يستقطب خفر الوردة، والناي حين يستبيح أنين الشجرة. ويحي – أنا البستاني العريان – حين أستعجل قناع جبران! .." (ص139 )
-في حين لا يضم القناع المكرّس ل (حديقة الحب) شخصا بعينه من البستانيين الذين ألِفنا رؤيتهم في الفصول السابقة، فهي حديقة متسعة تضمّ حشدا من المحبين، والعشاق، والمتصوفة، الذين تتوزع حكاياتهم وشخصياتهم على شبكة واسعة من أخبارهم وقصصهم القديمة، كما وردت في طوق الحمامة لابن حزم الأندلسي، وكتاب الزهرة لمحمد بن دَاوُد، ومصارع العشاق لجعفر السراج، وتزيين الأسواق لداود الأنطاكي، وقوت القلوب لطالب المكي.
والبستاني الذي قضى ستة أيام في حديقة الحب مساوية لأيام الخلق انتقل خلالها بين موانع وعقبات، وشهد أحولا ومقامات، وجاور سرورًا وأنسا، وفارق أرواحا ذاوية، قد انتهى إلى أن يستل من وجوه الحب الكثيرة هذه خيوطا نسج بها قناعا لوجهه في مجمع العشاق الغابرين. (ص 168)
أما (شمّامة) التي يُختتم بها هذا الفصل فتبدو عند اكتمالها قصة قصيرة منفصلة عن بقية الفصل على الرغم من التمهيد الذي تقدم به المؤلف لحكايتها.
-وهي تشبه في هذا قصة (الرحماني) التي يختتم بها موضوع (حديقة الغفران) الخاصة بأعمى المعرة. إذ لا يبدو أن هناك شيئًا يربطها بحديث البستاني عن غفران أبي العلاء، اللهم إلا ما نراه من عمى الشيخ صاحب الحمامات الثلاث في هذه القصة، حيث العمى الذي يصبح بعد التجربة بصرا حديدا، وليس فقط بصيرة تتهجى عن طريق العقل وأداته السمع وبواسطته حروفَ الواقع المعاش ولغة أغانيه وموسيقاه المعماة على المبصرين.
وهي تأتي ضمن خطة الكتاب القائمة على المراوحة بين قصص وحكايات ذات دلالات واضحة وملغزة تعقب الموضوعات التي تخص البستانيين الكبار الذين يكتب عنهم ويضع على وجهه أقنعتهم.
وقد بيّن القاص بنفسه كيف أنه أضاف لكل شخص حدائقي (بستاني) حكاية تبرهن على مشاركته البستانيين هؤلاء حياتهم وأفكارهم. وهي تؤلف في معظمها جزءا لا يتجزأ من الكتاب وصورته العامة المتداخلة في تقنيتها الأسلوبية وطبيعة بنيتها السردية.
وكما هو الأمر في حدائق الوجوه الأخرى واقنعتتها، يجري هذا التبادل بين وجوه أبي العلاء والبستاني، فقد كان المعري كما يقول صاحب الحدائق "رحمانيا في قافيته، والبستاني علائيا في نغمته، وكلاهما متوحد في حديقة غفرانه ". (ص 172)
وسوى حديث البستاني الممتع في هذا الجزء عن رحلة غفران الشيخ الضرير بين الجنة والنار وموقفه من ابن القارح الذي لم يضع أبو العلاء قناعه على وجهه إلا ليبصر به خلال جولته الخيالية تلك، يتسع المقام للحديث عن الشعر الذي هو "قافية العمر" في حياة رهين المحبسين، واللغة التي هي "كون النفس ومعينها الفائض من الحروف والألفاظ إلى أبسطها، كما يفيض المعين الإلهي بالحركات والأصوات والألوان على الوجود في أبسطه.." (ص 172)
والكاتب يستعرض، على هذا النحو، كلَّ هذه الأقوال والحكايات والقصص الشخصية متبوعة، كما ذكرنا، بأخرى تمثل وحدات سردية متفرعة أو متماهية مع حياة أولئك المعلمين والبستانيين الضالعين في طرائق السرد وأزمانه ودروبه الغرائبية.. الكتّاب الذين كتب عنهم واستوحى تجاربهم واستبطنها إلى الحد الذي تتحول فيه (الأنا) الخاصة به إلى ال (هم) الخاصة بهم في ذلك الإطار الذي تندمج فيه هذه الأنا السردية أو تختفي أوتموّه على نفسها تحت ثقل قناعها الآخر الضائع في زحام الأقنعة الجماعية والفردية المتبدلة على وجه السارد بتبدل الوجوه واختلاف سحناتها ومشاريعها الفكرية والشعرية.
- الكتاب الأم
وهو ما يجعل من (حدائق الوجوه) عندي كتابَ الكتب..الكتابَ (الأم) بين أعمال محمد خضير كلها؛ المؤلَّف الجامع للنص، والمكرّس لوصف التجربة الذاتية والسيرة السردية ومرجعياتها الأساسية، وما تعلمه السارد منها وأضافه إليها، منذ بداياته الأولى في الحياة والأدب، حتى الإعلان عن مشارفة التجربة على النهاية.
نعم ، النهاية الممتلئة حدّ النضج والانفجار الباعث على الإشعاعات المنعكسة عنه في مرايا حدائق وجوه وأقنعة لا حصر لتنوعها وغناها. إنه امتداد لكتبه السردية والنقدية السابقة وتجاوز لها، في آن معا.
ومحمد خضير يقول في حوار له مع عدنان الهلالي "إن الكاتب يؤلف عددًا محدودًا من الكتب، فهو ليس معملا لتفريخ النصوص اللاإرادية. بالنسبة لي أحاول التحكم بإرادتي لصنع عدد محدود من الكتب. جيناتي السردية تقول لي ذلك. الرياح الجافة والحرارة العالية تشيرإلى ذلك أيضا. مناخنا صحراوي معاد لإنتاج الحدائق السردية اليانعة." (عدنان الهلالي، تأمل اللوحة، حوارات، الشؤون الثقافية، بغداد 2021 ، ص 9)
ومع أن الكتاب لا يبدأ من فراغ ولا من الصمت الذي يسبقه، فإن معاينة الكاتب لوجوه أصحابه البستانيين تبدأ دائما من نقطة البدء الخاصة بكيفية اتصالهم باللغة والأشياء من حولهم، ثم لانتقال من مشاركتهم القناع والمنزلة بين المنزلتين إلى رؤية الهوة المتفردة التي انتهى إليها كل واحد منهم.
وهو يذكر في مقدمته على الكتاب أنه اختار نظام الحدائق لبساطة برهانه وتناسق مكوناته وجمال فضائه. إنه تنويع جديد على موضوع قديم، واشتغال عربي وشرقي أزحتُ عنه أدغال النسيان، واستعرتُ أقنعة البستانيّين العظام للاستدلال على بواطنه وأسراره.
وإذا استثنينا القناع الموضوع على وجوه هؤلاء البستانيين باعتباره استعارة مركزية تغطي كامل النص، يظل الكتاب ذا بنية شاملة تتسع لكل الأنواع السردية، ولا تخضع لقواعد أو شروط نقدية محددة. وهو، كما الرواية، بناء منفتح وقابل لدخول أنواع سردية مختلفة مثل البورتريه والقصة القصيرة والحكاية والقصيدة الشعرية، كما التقرير والأسطورة والسيرة الذاتية والغيرية المزدوجة؛ حيث يقتضي وجود القناع وجود الوجه الذي ينفتح تحته على احتمالات متعددة، تكشف عن الهوية الفردية للمؤلف في نفس الوقت الذي تشير فيه إلى غيرها. فالوجه، كما يشير علماء النفس، هو (مرآة الآخر)، التي تختزن الوعي الجمعي. وكارل يونغ يشير إلى أن القناع لا يمثل خلاصة التجارب الشخصية، أو ما يعرف باللاوعي الفردي المختزن فحسب، بل هو أيضا حصيلةُ التجارب الجمعية من ثقافة وأساطير وحكايات شعبية.
لقد تناول محمد خضير في هذا الكتاب، كما قلنا، تجربته الخاصة في قراءة وتمثّل كتاب شرقيين وغربيين مختارين: عرب وفرس وهنود وأوربيين، ومن أمريكا اللاتينية، يجمعهم ويؤلف بينهم جميعًا نزوعُهم نحو تجاوز شكل الخطابات الأدبية والبلاغية المألوفة؛ حيث تتجاور الرومانسية مع الحلم، ويتفاعل التاريخ السيري الشخصي مع الغيري، والخيالي مع الواقعي، والفلسفي المادي مع الروحي التصوفي، في إطار قصصي وحكائي، تجسد فيه حدائق الوجوه الظاهرة والمقنعة بالرموز حقائقَ الوجود منذ بداياته السعيدة الأولى المندهشة في ذاكرة المؤلف، والتائهة في (حديقة العالم)، والمتلبثة خلال مرورها في حديقة السارد الوسطى بأعمارها "المتسارعة"، حتى نهاياتها المرتعشة المحشورة مع "الضيوف في خان العالم".
والعاطفة المعتّقة والمعمّقة التي كتب فيها محمد خضير عن هؤلاء الكتاب أو عن جوانب محددة من نصوصهم، تبعث دائما على الإحساس بالسمو والتعالي الروحي الذي يدفع إلى رؤية الأشياء في الواقع بطريقة أخرى بعد توجيهها ومزجها برؤية الكاتب الوجودية، وإلهامه الخلّاق كبستاني باحث عن الجذور ومتذوق للغريب من الثمار.
وهي، في صورة من صورها (الخاصة بالثقافة والديانات الهندية، مثلا)، نوع من الخروج على النزعة المادية المهيمنة ومعارضة للآلية التقنية الحديثة التي باعدتْ بين البشر وطبيعتهم الإنسانية المتحررة من الإلزامات التي صنعت ألوان الاغتراب الروحي والمادي في الحياة المعاصرة.
ولكي لا يضيع وجهُ السارد ويختفي تحت ثقل الاستعارات والأقنعة التي اعتاد على وضعها فوق وجهه ووجوه أصحابه المنتجبين من الكتاب والشعراء، عمد كما أسلفنا، إلى وضع مسافة بينه وبينهم في ختام حديثه عن كل واحد منهم؛ مسافة التأويل والتمثيل المجسدة في قصة أو حكاية من حكايات الكاتب التي تتصل بالموضوع الذي يسبقها، أوتنفصل عنه لتقيم، على طريقتها، رؤيتها السردية الخاصة غير البعيدة في ملامحها عن ملامح حديقة الوجه الذي يسبقها. وهو ما يعني أن حدائق الوجوه ليست مكانًا لرؤية أزهار وأشجار وآراء جديدة، وإنما أيضًا مكانًا للتفاعل بين الذاتي الخاص والآخر الخاص والعام في عالم الأدب والشعر.
- تركيب ثقافي
ومن المهم الإشارة أيضًا إلى أن العالم بالنسبة إلى محمد خضير في علاقته المنهجية بهؤلاء الكتاب عبارة عن (تركيب ثقافي) خاص، من الممكن أن يُرى ويدرس بمعزل عن بنيته (التحتية) ذات العلاقة بالاقتصاد والاجتماع والسياسية والحدود الجغرافية، وعلم النفس، ما دام الكاتب يرى نفسه قادرا على امتخاض الزبدة واستخلاص الموقف الذي ينطوي على شيء من القيم والرؤى الإنسانية الشاملة، وتجميع "شتات الأرواح الموزعة على أقاليم العالم"، مهما اختلفت ألوان وجوه أصحابها وأزمانهم وتنوعت سردياتهم ومواقعهم على الطريق الذي اختطته الخرائط المحددة بدقة في حدائق الكتاب. وذلك يحدث دون السماح للتفاصيل المرجعية الهامشية بانتهاك الخط السردي العام، أوتشويه النقاء المتصل بالذرى الروحية المنشودة في الكتابة التي تمثل فعل حياة وإثباتًا لوجود في علاقتها الجوهرية مع نفسها ومع الآخر.
وفي حوار الطبيعة والثقافة تنتصر الأخيرة في خطاب محمد خضير السردي أو أنها تتكلم في الكتاب عن هذه الطبيعة بألسنة يتكفل بها شهود آخرون. وهي، إذا تخلينا عن الصورة الرومانسية في علاقتنا معها، عالم مصنوع من المعطيات الموضوعية المستقلة عن إرادة الكاتب، في حين يبدو عالم الثقافة هو الذاكرة والمركز الذي تعكسه مرايا حدائق الآخرين وأقنعتهم التي يهيم الكاتب بين وجوهها.
ومع أن محمد خضير كتب أشياء يسيرة عن سيرته الذاتية، فمن الممكن القول إنه بلا سيرة، فهو يعيش ليقرأ ويكتب، وهذا هو كلُّ شيء.
ونحن هنا أمام تجربة متفاعلة ومتطلعة وذات جوهر روحي متموج، أكثر منا أمام معرفة مؤكدة ونهائية. وما وضعه المؤلف من فصول هذه السيرة في هذا الكتاب لا يزيد في الواقع على أمشاج وشظايا لا تشكل عنوانا لبيوغرافيا أو حياة كاملة تعنى بالتاريخ وتفاصيل الحياة اليومية بقدر عنايتها بآراء وأفكار وأخيلة متفرقة عن الحياة الموت. مجرد نوع من الحساب المختزل في محطات ووقائع متباعدة زمانًا ومكانًا في إطار الفضاء الجغرافي الذي يشكل مراحل من تشكُّل الوعي والاستعداد لليقظة الوجودية الشاملة لذلك الوعي في محطات نزولها أو توقفها الأساسية. بمعنى أن سرديات الكتاب لا تفحص الواقع القائم، بل الوجود الظاهر، والمرصود من خلال المتوفر من الكتابات السردية المخصوصة في كليته الشاملة.
وهذا الوجود لا يمثل ما جرى ويجري في الماضي والحاضر في الزمن التقليدي، بل هو حقل الأفعال الداخلية، كل ما يمكن للإنسان أن يصيره، وكل ما هو قادر على فعله في إطار الرؤية والإمكانات الإنسانية غير المتاحة في غير هذا الذي يقدمه من يسميهم "البستانيين الكبار" من أفكار وثمار عبر تجاربهم السردية والشعرية المختلفة زمانًا ومكانًا.
وقد دأب الكاتب في مجمل تجربته السردية، كما نعلم، على تفضيل ما تحسّ به عينُ خياله على ما تراه عينه الواقعية. وحدائق الوجوه تعبير وكشف عن الحياة الباطنية في صورتها الاستعارية والرمزية المعبرة. وحين تذيب ذاتُ الكاتب نفسَها على هذا النحو في عملية التأمل المستمرة في مرآة وجوه كتابه المفضلين من الذين يقرأ نماذج مخصوصة من نصوصهم، ويعيد تركيب رؤاهم، فلا يحدث ذلك فقط من أجل إعادة خلقهم وتأويلهم بطريقته الخاصة فحسب، وإنما أيضًا من أجل رؤية سلطانه عليهم، والتمتع بتفسيراته لهم على الرغم من أن وجودهم إلى جانبه لا يأتي إلا من خلال الإحساس المؤلم بالمصير المنقوص، المصير المعلق على غصن شجرة الخيال الخضراء التي سرعان ما تصفرّ أوراقها وتتساقط بعد أن تمسّها النار الواقعية وتحولها إلى هشيم تذروه الرياح.
ومحاولة الكاتب السردية المعقدة الاحتفظَ بملامح وجهه واضحة بين وجوههم لا تخلو من صعوبة، ولكنها تنجح في ألا تفقد سماتها أو تضيع وسط أقنعة وجوه كتّابه، بحيث إن رحلته معهم تشبه رحلة أبي العلاء في رسالة الغفران نحو خان العالم الآخر. وليكون حديثه معهم أو عنهم حديثَ العرّاف الحالم الذي يتخلّى عن التفاصيل الواقعية التي تلتقطها العين الباصرة، القاصرة لصالح الرؤيا التي تقودها روح المخيلة والبصيرة النافذة. والهدف النهائي يبقى متصلًا بمحاولة بناء الذات والبرهنة على قدرتها غير المحدودة على الارتفاع عن الوقائع السردية العابرة.
وبناء هذه الذات يتطلب من السارد، كما رأينا وجود (أنا) أخرى، أو ذات ثانية، وأقران من الشعراء والمفكرين والساردين المميزين يعمل التفاعل مع خبراتهم المشابهة والمختلفة في الحياة والأدب، وثمار حدائقهم النيئة والناضجة على إغناء خبرته، وتجديد الدماء في عروق جسده وتغيير ملامح وجهه من الداخل.
والسؤال هو:
- هل كان محمد خضير يبحث في هذه الأقنعة والوجوه التي تقبع تحتها عن بديل لذاته أو وجه آخر غير وجهه ..؟
وهل ينطبق عليه كمثقف ما يمكن أن يقال عن غيره من أنه لا يستطيع أن يمثل نفسه، وأنه يحتاج إلى من يمثله ..؟
أم أن الأمر، على العكس من ذلك، يتصل برغبة الكاتب في الخروج من جلده لرؤية الحياة داخل جلود ووجوه أخرى سجلت شهادتها على ما رأت وخبرت في هذه الحياة الدنيا، وفي رحلتها السردية المختلفة زمانًا ومكانا عن رحلة القاص نفسه..؟
-وهل ينتهي البحث عن الذات المفردة إلى غير القول ب(الذات عينها كآخر)، حسب طريقة بول ريكور، أي عدم قدرة هذه الذات على معرفة ذاتها وتحديد هويتها دون وجود هذا الآخر. أعني ذلك الذي يدفع إلى مزيد من الوعي بالذات، وإلى مزيد من الإحساس بالتغاير والشعور بالاختلاف وصولًا إلى الاستقلال. واللغة التي يقول عنها هولدرلين بأنها أخطر النعم هي وسيلة محمد خضير، كما كانت من قبله وسيلة أبي العلاء، للخروج من عزلته، والنعمة التي يتغلب بواسطتها على إحساسه المعتّق بوحشة الوجود من حوله. فهو ليس وحيدًا ما دام قادرًا على الكلام. الكلام الذي يرى في مراياه وتحت أقنعته وجوهَ أصحابه البستانيين الكبار من صانعي نعمة اللغة وقاطفي ثمارها النادرة.
والكتاب لا يسمح لقارئه قراءة كاتبه من خلال سيرته قراءة نفسية خارج إطار الصورة التي ترى بأن العمل الأدبي جملة معقدة من الأدلة تحيل إلى وضع نفسي سابق، وتلعب دورا تصعيديًا يدفع الرغبة المكبوتة للتعبير عن ذاتها، وأيضًا خارج إطار الصورة التي تمثل عند فرويد (قناعًا) وثوبًا للتنكر يلبسه اللوبيدو الخاضع للكبت. (أنظر، بهذا الصدد، دانييل برجيز، النقد الموضوعاتي، ضمن كتاب مدخل إلى مناهج النقد الأدبي، ت رضوان ظاظا، عالم المعرفة ، ص 129)
إنها، بكلمة أخرى، سيرة ناقصة، لا يمكن استكمال رؤية ملامح وجه صاحبها عن طريق رؤية حدائق الوجوه التي رأى نفسه في مراياها، وإنما أيضًا عن طريق المرور على كل خرائط الطريق الذي رسمته أعماله السردية والنقدية الأخرى. ونحن نتذكر الكيفية التي تحدث فيها إداورد سعيد عن سيرة جوزيف كونرادالذاتية باعتبارها "سيرة خرافية" كان الكاتب مضطرًا إلى استكمالها عن طريق بعض الروايات والقصص التي كتبها كونراد، قائلا "إن صورة الذات التي يرسمها الكاتب، واعيًا أو غير واعٍ، لا تبرز ولا تتضح معالمها إلا من خلال المقابلة بينها وبينما يختلف عنها، بل ما يبدو معارضًا لها، مستفيدا بذلك مما قالت به سيمون دي بوڤوار عن التعارض الثنائي بين الذات والآخر، وبما أتى به البنيويون عن الثنائيات المتعارضة" (أنظر تصدير محمد عناني لترجمته لكتاب إداوارد سعيد الاستشراق، ص 21- 22 ).
- حدائق الوجوه وحدائق الموت
ولست أدري لماذا يخامرني شعور، بعد قراءة (حدائق الوجوه) قراءة ثانية، بأنني أمام كتابٍ عن (الموت)، وأن المؤلف الذي يؤسس لذاته من خلال علاقاته يواجه قدره في النهاية وحيدا وهو يسجل سيرته الذاتية والثقافية والوجودية بهذه الطريقة؛ وكأن مجمل هدفه للقاء مع الآخر والوجود المحيط هو أن يلتقي بذاته، وفي سبيل ذلك يجعل من بعض بستانيي العالم الكبار من الذين يتلبس أقنعتهم وسطاء وشهودا على ذاته. وحين يقرأ طاغور أو المعري، على سبيل المثال، فإن محمد خضير، وليس طاغور أو المعري من يفكر بهما ويقوم بعملية تأويل لحسابه الخاص يعيد من خلاله إنتاج ما يختاره من نصوصهما. وهو لا يكتفي في تواصله مع الآخرين برؤية المآلات الخاصة التي تنتهي إليها نصوصهم لتتجسد في وعيه وتصبح جزءا من جسده وتجربته الروحية، وإنما هو يرى بطريقة ما في غيابه وموته الخاص غيابَ أصحابها وموتهم. وسيشكل هذا (الموت) هاجسا خفيا وعلامة شاخصة لا يمكن التستر عليها في مجمل عملية السرد التي تمثل إعادة اكتشاف معنى حياة خاصة انتظمت مع حيوات أخرى وتشابكت معها انطلاقا من وعيها بذاتها ومحدودية خياراتها. وعملية الإبداع التي تتم هكذا عن طريق الذات وبواسطة الآخر تنتهي عند التركيز على معاينة بذرة الموت وجرثومته التي ما زالت تنمو لتصل إلى قمة نضجها في حديقة الحصاد الأخير، أو ما يستعير له المؤلف تسمية (خان العالم) أو مقبرته التي تضم الأفكار والرؤى إلى جانب الأجساد المتحللة لأصحابها.
والانتقال المتدرج في فصول الكتاب من حديقة العالم، وحديقة الأعمار المتسارعة، وصولا إلى المرحلة الأخيرة التي تنتهي بالاستقرار مع الضيوف في خان العالم، يشبه، على نحو ما، الانتقالَ أو النزول المتدرج لبطل قصة الإيطالي دينو بوزاتي (الطوابق السبعة) إلى الطابق الأخير، من ناحية تمثيلها الحياةَ الإنسانية في جانبها المأساوي تمثيلا إلغوريا، يهدف إلى إيصال رسالة عن الزمن المتسارع نحو النهاية الوشيكة، حيث "الكسل" الغريب الذي يشلّ الجسد، وحيث المشهد الأخير الذي يرى فيه بطل تلك القصة جيوفاني كورتي، بعد رحلة العلاج الطويلة التي ابتدأت بالطابق الأعلى السابع من طوابق المشفى الذي دخله بسبب حمى بسيطة، وانتهت به إلى هذا الطابق الأخير، ليشهد مستغربا صورة المشهد الختامي حيث "الستائرَ الفينيسية، منصاعةً إلى أمر مبهم، تنسدل ببطء، حاجبةً عنه الضوء"، واضعة القفل ونقطة الختم الحمراء على نهاية الرحلة.
والقلق الوجودي المحدق، والزمن الهارب، وصعوبة الشرط الإنساني وعبثيته، وسخريات الواقع ومفارقاته، هي العوامل المشتركة التي نراها تجمع، من بعض الزوايا، بين قصتي الكاتبين وحكاياتهما الرمزية المقنّعة بأشكال وصور مختلفة، في إطار الأزمة الوجودية الشاملة التي تأخذ بخناق الكاتبين وتطفف عليهما الشعور المريح بقبول الحياة كما هي، والمرور دون طرح مثل هذه الأسئلة المؤرقة، على طريقة من كان جان بول سارتر يدعوهم بالأنذال coquins الذين يتقبلون حياتهم وموتهم بصمت الحيوانات وطريقتها البعيدة عن الإحساس بالوعي الشقي.
ولنتذكر أن عدد حدائق وجوه محمد خضير سبع، وأن كل حديقة من حدائقه تمثل سبع نزهات بقدر الطوابق السبعة في قصة بوزاتي. وأن الأطباء الذين رافقوا بطل قصة الإيطالي بوزاتي في رحلة حياته المرضية هم المقابل للوجوه والأقنعة والذوات البشرية المستعارة في رحلة المؤلف العراقي. علمًا بأن كلّ هذا يمكن أن يكون مجرد لقاء تدفع إليه ظروف إنسانية وفكرية ونفسية متشابهة أكثر من كونه تأثرًا وتأثيرًا أو تناصا من أي نوع، على الرغم مما رأيناه في الكتاب من روح حوار مع الآخر، ومن تركيب في المعنى.
والموت الذي قلنا إنه نضج الثمرة، أو أبرز "الأحداث الوشيكة" بتعبير هيدجر، "ما أن نولد حتى نكون عجائز بما يكفي للموت"، هو الذي يهيمن مثل ظل معتم على كامل المشهد في الحدائق أو عنكبوت يلتصق بجذور أشجارها، على نحو يكفي أن يجعل من وجودنا مع الآخر، وسيرورتنا المشتركة نحو خان العالم "وجودًا نحو الموت".
- حدائق وجوه قصيدة السياب
ومحمد خضير الذي يستعير عنوان (حدائق الوجوه) هذا من قصيدة الشاعر بدر شاكر السياب، وهو يقف في أيامه الأخيرة (أمام باب الله)، لا يخلو، في مجمل موقفه، من روح ديني يبدو فيه الكاتب أقربَ إلى صورة الزاهد الذي شبع من الحياة منه إلى صورة المتصوف الذي يريد الارتقاء في الأحوال والمقامات، أو الكشف والعيان، وما يتصل بهذه المصطلحات من هواجس وعقائد وأساطير وممارسات تتلون بلون الدين وتلتف بعباءته.
وما نراه على مدى النظر في هذه الحدائق ليس الطبيعة بأشجارها وثمارها، بل معنى الحياة والوضع الإنساني وصوره المعروضة على شاشة الوعي بوجوه أصحابه الصريحة والمقنعة مثل شريط سينمائي. وإحساس الكاتب بوجود ذنب لا وجه محددا له عنده يشبه أيضا ما كان السياب يشعر به في مرضه الأخير، مع أن تأثيره عند محمد خضير لا يقود إلى اليأس أو الاستسلام والضعف، بل إلى تعزيز الثقة بالنفس عن طريق مزيد من الاستيعاب وغزارة الفهم والمعرفة بعلامات الطريق وصواه الملغزة في تشابك حدائق الوجوه وفي حاضر الحياة وماضيها. غير أن عين السياب "التعبى" التي لا تختلف عن عيون أهل المدينة في المومس العمياء، تظل مثل عين محمد خضير "تفتش عن خيال في سواها" لأنه يعرف، فيما يبدو، بأن ابنَ بصرته العظيم الذي نفض في عمر مبكر يديه من "تراب حقله الحصيد"، كان يقصده حين قال: هناك "سواي زارعون، وسواي حاصدون" آخرون سيأتون من بعده، وأن هذا الحقل سيزدهر بثمار مملكته السوداء على يدي خليفته وابن مدينته البستاني الخبير بالزمن وتبدل الفصول، قبل أن يصل هو نفسه بدوره إلى مثل هذه النهاية، التي يقول عندها في ختام مقدمته على الحدائق إنه:
"قد لا يكون البستاني الأخير في حدائق الوجود، فلو عرفت وراء أيّ قناع أختفي قبل أن أغادر إلى خان العالم، فإني سأجهل لمن أخلف هذا القناع".
وفي هذا، كما نرى، اعتراف من نوع ما بالوصول إلى مركز الرؤية واكتمالها، وإعلان عن الانتهاء إلى نوع من الرضا والمصالحة مع النفس؛ مع ما يخالط ألوان اللوحة المركبة فيها من شعور أسيف، ومن وجود نقاط رمادية وسماء متكدرة يمتد أفقها المفتوح على اللانهاية.
ولئن جهل صاحب حديقة الأعمار الوسطى، لمن سيخلف هذا القناع، فلأن وارثيه من الزرّاع وحدائقي السرد الحاصدين من سنابله الممتلئة، والمتذوقين لثمار حكاياته وقصصه سيكونون عديدين، وليس واحدا، سواء أكانوا من بصرة الجاحظ والسياب والبركان ومحمود عبد الوهاب أو غيرهم من الراحلين أو الذين ما زالوا أحياء يرزقون. وهم قادرون، في بداية الرحلة، أو نهايتها، على أن يرددوا معه بقناع وبدون قناع نداءَ الشاعر المفتون والممتحن، الذي يمثل، كما يقول الكاتب "الرابط المشترك بين الحداثة الشعرية والحداثة السردية" وصاحب النداء الذي ينطلق من الأعماق نحو مفجّر الجمال، أو الروح الغامض الملابِس للأشياء والكامن في كلّ ثنية من ثنايا الوجود:
"إليك يا مفجّرَ الجمال، تائهون
نحن نهيم في "حدائق الوجوه"!
***
الدكتور ضياء خضير

قراءة في المجموعة 8 من قصص الشاعر عادل الحنظل

بلغة تتدفق منها الشاعرية كسيل من نور.. ينسج الكلمات بخيوط ذهبية تُضيء كل حرف من حروف هذه النصوص لتحمل روحًا.. ولكل جملة لتنبض بالحياة.. انها بمثابة لوحة بديعة تفيض بالألوان والظلال، حيث تتعانق الصور البلاغية مع الاستعارات في رقصة إيقاعية مدهشة

هذه المقاطع توقفنا في ظلال هالاتها سحبا صغيرة للتأمل استبطانا لما تمثله من تأملات فلسفية عميقة، يتجلى فيها الحس الأدبي الرفيع واللغة الشاعرية الكثيفة الرموز والمعاني. كاتبها يغوص في عالم الذات والوجود، حيث يتداخل الشعور بالذنب مع فكرة الخلاص، وتمتزج الحيرة الإنسانية بالبحث عن الحقيقة. النصوص ترتكز على الصراع النفسي الداخلي والوجودي، وتعكس تفاعلاً ذاتياً مع الواقع من خلال تجارب العزلة، الندم، والمنفى.

تكتسب هذه المقاطع أهمية أدبية خاصة لأنها تمثل انغماسًا في قضايا الإنسان الجوهرية مثل الغفران، الإيمان، الصراع مع الذات، والمواجهة مع الزمن. كل مقطع يُسلط الضوء على لحظة شعورية مكثفة، موضحًا صراع الشخصيات مع مفاهيم كبيرة كالحقيقة والكذب، الحرب والسلام الداخلي، والماضي والحاضر.

هذه النصوص تساهم في إثراء الأشكال الأدبية المعاصرة، إذ تمزج بين الشعر والنثر، بين الخيال والواقعية الرمزية، لتُعبر عن أفكار فلسفية واجتماعية بعمق واستبطان. تمكنت هذه الكتابات من تطوير أسلوب أدبي يتحدى المألوف، ويمنح القارئ فرصة للغوص في أعماق النفس البشرية، مما يجعلها متميزة في التعبير عن البعد الإنساني والوجودي.

المقاطع ليست مجرد تأملات فردية بل هي رحلة وجودية تُبنى على رمزية كثيفة، وتستدعي القارئ للتفاعل مع المعاني المستترة خلف الكلمات، وهو ما يضفي على النصوص بعدًا إبداعيًا فريدًا يجمع بين الذاتية والموضوعية في آن واحد.

01

" يُحسنُ الظنّ، لمّا يرى عُريَ الخطايا، لعلّهُ من دينٍ آخر، بلا أنبياء، بلا فضاء، يُباركُ الظُنون."

** هذا المقطع ينساب برؤيا صوفية عميقة، حيث يتجلى فيه الحديث عن الإنسان وتفاعله مع عالم الخطايا والذنوب. "يُحسن الظن" هنا لا يتعلق بالمفهوم التقليدي للإيمان، بل يرتبط بحالة روحانية أخرى، بدينٍ بلا أنبياء، بلا فضاء لأي دينٍ، وانعدام الخضوع للقيود والتصورات البشرية المألوفة. الدين في هذا النص يُعرّف عبر قوة داخلية، لا تستند إلى العقائد المتوارثة بل إلى تجربة فردية عميقة، حيث تُبارك الظنون، أي أن الشكوك والهواجس تصبح نافذة إلى الحقيقة.

الخطايا هنا تُصوَّر وكأنها مكشوفة بلا ستار، وعُريها ليس فضيحة بل كشف لحقائق النفس البشرية. الإنسان في هذه الصورة ليس مدانًا بالخطأ، بل هو متسامٍ فوق الإدانة، يقف في حقلٍ روحي مستقل. النص يُشير إلى فكرة التسامح مع الذات وتجاوز المفاهيم التقليدية، مما يفتح بابًا للفهم الإنساني الأكثر رحابة، حيث يصبح الشك في ذاته طريقًا للوصول إلى اليقين الروحي.

02

"مرفوعةٌ يداهُ الى السَماء، المُختَبئةِ وراءَ الأسقُف، يعرف، أن الدُعاءَ، بمُنتَهىٰ الخُشوع، أصدقُ الكَذِب."

** ان النظرة الصوفية التي تبلل هذا المقطع تتجلى بأدق معانيها، حيث ترتفع اليدان نحو السماء المختبئة خلف الأسقف، تلك السماء التي تمثل البُعد الإلهي الغائب والحاضر في آن واحد. اليدان المرفوعتان ليستا مجرد إشارة للتضرع التقليدي، بل تعبير عن رحلة البحث عن الإلهي في فضاء مغلق، خلف حُجب مادية وروحية. الأسقف هنا ترمز إلى الحدود التي يقيمها الإنسان بينه وبين المطلق، تلك الحواجز التي تبنيها العقول والأنظمة الدينية والمجتمعية.

"الدعاء، بمُنتهى الخشوع، أصدق الكذب" هو تصريح صادم يفتح باب التأمل حول صدق الدعاء وأبعاده. الخشوع المطلق، الذي يُفترض فيه الصفاء والإخلاص، قد يكون مجرد واجهة مزيّفة تتخفى وراءها الحقيقة الغائبة. النص يتساءل عن جوهر العلاقة بين الإنسان والسماء: هل الدعاء تعبير عن إخلاص حقيقي، أم هو طقس يؤديه الإنسان ليُطمئن نفسه، ويظل أسير ظنونه؟

هنا الكاتب يتناول الصدق والذاتية في التجربة الروحية، حيث الدعاء قد يتحول إلى مرآة تخفي وراءها الشك والريبة، وتجعل الإنسان يتساءل عن حقيقة إيمانه.

اننا نستطيع هنا ان نلمس الجانب الإنساني من وجودنا، حيث يُعبر عن الأمل والضعف، ويُحفز على التفكير في النوايا وراء الأفعال.

انه يتسم بعمق روحاني عميق، حيث تُصوَّر اليدان المرفوعتان نحو السماء كرمز للخشوع والتسليم. تبرز صورة "السماء المختبئة وراء الأسقف" الفكرة المهيبة للغيب، حيث تظل الحقائق الكبرى بعيدة عن متناول البشر، مما يخلق شعورًا بالاغتراب والبحث الدائم عن الإيمان.

عبارة "الدعاء بمُنتَهى الخشوع" تعكس الازدواجية في العلاقة بين الإنسان والإله، حيث يُنظر إلى الدعاء كوسيلة للوصول إلى الحقيقة، رغم كونه قد يُعتبر "أصدق الكذب". هنا، يسلط الشاعر الضوء على صراع الروح البشرية في التعبير عن الإيمان؛ فالخشوع في الدعاء يتجاوز الألفاظ ليصل إلى تجليات عميقة من الصدق الداخلي.

إنه دعوة للتأمل في عمق الدعاء كوسيلة للتواصل الروحي، وكسر الحواجز بين الإنسان والسماء.

03

" لم أقلْ كلّ الحَقيقة، أدركتُ رغمَ تأخّري، أنّ ما أُخفيه، لن يُبقيني بينكم، وحيداً."

هل تتجلّى هنا عمق التجربة الإنسانية بكلّ أبعادها: الروحية، الوجودية، والاجتماعية؟ انه سؤال يغرقنا في المنتظر من تفكيك دلالاته. فالقول "لم أقلْ كلّ الحقيقة" يشير إلى الصراع الداخلي الذي يعيشه الإنسان مع ذاته، بين ما يعرفه وما يخفيه عن الآخرين. فالحقيقة هنا ليست مجرد واقع ملموس، بل هي انعكاس للحياة الباطنية التي تتسم بالغموض والتردد. هناك تلميح إلى عوالم غير مرئية لا يستطيع البوح بها خوفًا من الانعزال أو الوحدة، وهو ما يظهر في العبارة "لن يُبقيني بينكم، وحيداً". هذا الصمت المجرد يفتح أبوابًا للتأويلات الصوفية؛ فكأنما الشاعر هنا يعبر عن احتجابه خلف الحجب الروحية، وكأن الحقيقة هي سرّ إلهي لا يُدرك إلا لمن بلغ صفاءً معيناً.

ان الجانب الفلسفي فيه، ينبع من الإشارة إلى أن الإخفاء قد يكون أحيانًا ضرورة وجودية، في حين أن البوح الكامل قد يعري الروح ويتركها في عزلة. إنه نصّ يلامس خفايا النفس البشرية التي تتأرجح بين الرغبة في الانتماء والخوف من الإفشاء.

04

" مَجهولٌ ذلك الجَسَد، ربّما من بَلَدٍ مَلعون، لم تتمكنْ من وضعِ علامةٍ ما، في جِسمِها المُلقى، يستَعطِفُ الجُيوب."

في هذا النص، نرى ان اللغة تنبض، ولكن بتوترٍ مذهل، حيث الجسد المجهول هو رمزٌ للتشيؤ الإنساني، لجسدٍ فقد قدسيته وتحوّل إلى وسيلة للنجاة في عالمٍ قاسٍ. الحديث عن امرأة "تبيع جسدها" يضعنا في مواجهة مع البؤس الوجودي، حيث "الجسد" لم يعد معبراً عن الروح أو الكرامة، بل عن حاجةٍ قاهرة، كأنّ هذا الجسد الملقى أصبح متسولاً يستعطف الجيوب.

"ربما من بلد ملعون" هي إشارة فلسفية إلى النفي الروحي والاجتماعي، وكأن المرأة قد نُفيت من موطنها الأصلي، ليس مكاناً جغرافياً فحسب، بل عالمًا أخلاقيًا وروحيًا. في هذا البلد، اللعنة تحلّ على الكيان الإنساني، فلا يمكن وضع "علامة" في جسدٍ مُلقى، إذ فقد الجسد هويته وبريقه الروحي.

كما لا يسعنا الا ان نحمله أبعادًا دينية وإنسانية، حيث يتم استدعاء الحضور الإلهي من خلال الغياب؛ الجسد المجهول هنا هو التذكير بضعف الإنسان حين يفقد علاقته بالمطلق ويتحول إلى ضحية لاحتياجاته الدنيوية. إنه تصوير لتمزق الذات بين الروح والجسد في عالمٍ غارق في المادية.

في هذا المقطع، تنبثق من الكلمات كروح من الغموض والاغتراب، ان استخدام "الجسد المجهول" كرمزٍ يتجاوز الحضور المادي ليتناول قضية الوجود البشري المعلّق بين الهامشية والرفض الاجتماعي. الجسد، هنا، يصبح تجلياً لأرواح تائهة، منفيّة من "بلد ملعون"، في إشارة إلى عالم محروم من البركة أو السلام، حيث ينعدم الإحساس بالكرامة ويُترك الإنسان متسولاً في الفراغ، يستجدي الجيوب.

ان التأمل حول الهوية واللامكان، وكأن الإنسان المجهول ضائع بين عالمين: عالم الجسد المادي الذي يعاني، وعالم الروح المنفية عن الانتماء. النص يسائل بعمق قضايا الإنسان المهمل والمهمش، ويعكس صورة مجتمع فاقد للروح، حيث تسود فيه اللعنات على القيم النبيلة.

أضف الى ذلك ما يتبدى في هذا الغموض المتعمّد من ابعاد وجودية، كأن الجسد في حقيقته ليس مجرد كيان مادي، بل كائن متسائل عن مصيره، انه اختزال لمأساة الإنسان المعاصر، الذي فقد علاقته بالسماء، ويبقى معلّقاً في عالم دنيوي مفرغ من الروح.

05

" من يدري، مالذي تراهُ الكلابُ في الرقاد، ربّما تَحلمُ بالعِظام، تماماً، مثل جياعِ البَشر."

يجبرنا الكاتب وبجسارة على التأمل الطويل والتدقيق فيما يطرحه فلسفيًا وإنسانيًا. فعلى السطح، قد يبدو أن النص يتحدث ببساطة عن الكلاب وأحلامها، إلا أن هذا المشهد البسيط يخفي تأملًا عميقًا في طبيعة الرغبات الإنسانية وحقيقة الحياة.

فهو يستعمل أسلوبًا أدبيًا مكثفًا يحمل دلالات رمزية واسعة. يبدأ بطرح سؤال يبدو عاديًا، "ما الذي تراه الكلاب في الرقاد؟"، ليأخذنا إلى عالم الأحلام والرغبات المخفية. اللغة هنا موحية، تعكس التأمل في المشهد اليومي، لكنه تأمل لا يخلو من بعد إبداعي يفتح أمام القارئ أبوابًا من التأويلات اللامتناهية. الربط بين أحلام الكلاب وأحلام الجياع يخلق تشبيهًا مذهلًا بين عالمين متباعدين ظاهريًا، لكنهما متقاطعان في جوهر الرغبة والاحتياج.

انه غوص في سؤال فلسفي جوهري: ما هي طبيعة الرغبة؟ الكلاب، مثل البشر، تحلم. لكن حلم الكلاب محصور في حاجاتها البسيطة، كالعظام التي ترمز إلى غذائها ووسيلة بقائها. هنا، يطرح الكاتب تأملًا حول التشابه بين البشر والكلاب في جوهر الرغبات. البشر، رغم تعقيدهم الظاهري، يحملون في أعماقهم رغبات بسيطة وأساسية، مثل الطعام والبقاء. الفرق بين الكلاب والبشر يتلاشى في الحلم، إذ إن الجوع يوحد الاثنين كقوة محركة للحياة، سواء أكان جوعًا ماديًا أو روحيًا، ففي الحلم بما يمكن أن يحقق لهم الأمان والراحة. الرقاد، في هذا السياق، يمثل الهروب المؤقت من الواقع الصعب، حيث تتحرر الأرواح، ولو لوهلة، لتعيش حلمًا يخفف من وطأة الواقع

كما يمكن قراءة النص كتأمل في الرغبة الأبدية للروح في البحث عن الكمال. الكلاب في رقادها تمثل النفوس البشرية في سعيها الأبدي نحو الامتلاء، سواء أكان امتلاءً ماديًا أو روحيًا. الحلم بالعظام هو صورة مجازية للرغبة في الاتصال بالمطلق، بالكمال الذي نبحث عنه جميعًا في حياتنا. هذا السعي الدائم نحو إشباع الجوع الداخلي يعكس معاناة الروح في محاولتها التحرر من قيود الدنيا، بحثًا عن الحقيقة الأسمى.

ان هناك إشارات خفية إلى الفقر والحرمان في النص، إذ يبدو أن الجوع الذي يعانيه البشر ليس فقط جوعًا للطعام، بل جوعًا للعدالة والكرامة. الجياع في النص لا يحلمون بالطعام فقط، بل بما يمثله هذا الطعام: حياة كريمة، أمان نفسي، واستقرار اجتماعي. الأحلام التي تراود الكلاب في رقادها تعكس أيضًا الحلم البشري بالتحرر من المعاناة اليومية.

6

" ذاتَ عٌمر، ظننتُ أنّ كلّ شيءٍ حَولي، كحَجرٍ أُلقيَ في بركة، هوَيتُ الى القاع، أبحثُ عن يَدٍ، غير يَدي"

يتأمل الكاتب/ الشاعر بعمق انسانيته كإنسان في عالم وجوده، واقتداره للانحدار نحو أعماق الذات بحثًا عن معنى يتجاوز ذاته المحدودة. الجملة الأولى "ذاتَ عٌمر" تفتح الباب لتأمل الوجود الإنساني في مجمل حياته، وهي تستدعي الزمن كعنصر متفاعل في كل تجربة إنسانية، أو استشراف لحظة الوعي العميق. الزمن هنا ليس مجرد بعدٍ خطيّ، بل هو حالة وجودية تشكّل فيها الذاكرة والحاضر والمستقبل قوسًا يربط بين اللحظات الحاسمة في حياة الإنسان.

النص يحمل تكثيفًا لغويًا يعبر عن عمق التجربة الإنسانية من خلال الاستعارات البسيطة. "الحجر" و"البركة" و"القاع" كلها رموز تتشابك لتخلق إحساسًا بالغرق أو الانحدار إلى أعماق النفس، بحثًا عن الخلاص أو الحقيقة. الاستعارة هنا هي تعبير عن رحلة داخلية، فالإنسان هو الحجر الذي ألقي في بركة الوجود، يهبط نحو القاع بحثًا عن "يدٍ غير يده"، أي بحثًا عن شيء يتجاوز ذاته المحدودة والهشة.

كما انه يُبرز جانبًا وجوديًا عميقًا، حيث يتعامل مع فكرة السقوط في الحياة والبحث عن شيء خارجي ليمنحنا المعنى أو الخلاص. سقوط الحجر في البركة يمثل صدمة الوجود، اللحظة التي يدرك فيها الإنسان أنه يتجه نحو القاع، نحو المجهول. هذا السقوط، على الرغم من طبيعته السلبية في الظاهر، يحمل في داخله بحثًا عن النور أو الخلاص. "اليد" التي يبحث عنها السارد ليست مجرد يد مادية، بل هي استعارة للدعم الروحي، للحب، للمعنى، وربما حتى للإله.

من زاوية أخرى، البحث عن "يد غير يده" يعبر عن اعتراف ضمني بأن الإنسان وحده لا يمكنه النجاة أو الوصول إلى الحقيقة بمفرده. إنها دعوة للتواضع والتسليم، ولعلها إشارة إلى الفكرة الصوفية التي تعتبر أن الوصول إلى الحقيقة أو الاتحاد مع الله يتطلب التخلي عن الذاتية والانفتاح على الآخر. إنه تجلٍّ لفكرة الفناء الصوفي، حيث يذوب الإنسان في المعنى الكلي ويتخطى حدود ذاته الفردية.

او انه يعكس حالة من العزلة والاغتراب، شعور الإنسان بأنه يسقط وحده في بركة الحياة، غير قادر على العثور على من يمد له يد العون. هنا يتجلى البعد الاجتماعي للنص، حيث يُظهر الإنسان كائنًا ضعيفًا، معتمدًا على الآخرين ليتمكن من تجاوز تجاربه ومحنه. اليد الأخرى التي يسعى لها السارد تمثل في أحد وجوهها البحث عن التضامن الإنساني، عن العائلة، الأصدقاء، أو حتى الحب. فالحياة في صورتها الأكثر قسوة تتطلب منّا أن نبحث عن من يشاركنا هذا السقوط، حتى نتمكن من التخفيف من وطأته.

اما من الناحية الدينية، فيمكن تفسير "اليد" هنا كرمز إلهي، يد الخالق الذي ينتظر أن يسلم الإنسان نفسه إليه كي يرفعه من قاع بركة الحياة. النص هنا يعيد إلى الأذهان الصورة القرآنية لنوح وهو يصارع الطوفان، باحثًا عن النجاة، أو تجربة النبي يونس في بطن الحوت. البركة قد ترمز إلى العالم المادي المليء بالآلام والأوهام، واليد التي يبحث عنها السارد هي يد الله أو اليد الرحيمة التي تنتشله من هذه التجربة القاسية.

الرمزية في النص متعددة الطبقات، "الحجر" قد يرمز إلى الجمود أو الثقل الذي يشعر به الإنسان في أوقات الفقد أو الضياع، بينما "البركة" قد تشير إلى حالة من الركود أو الظلمة. ومع ذلك، هذه الرموز تفتح أفقًا للتأمل، إذ يمكن اعتبار السقوط إلى القاع بداية لرحلة نحو النور. فكما يسقط الحجر إلى قاع البركة ثم يصعد الماء بعد ذلك إلى السطح، قد يكون سقوط الإنسان في هذه البركة بداية لصحوة روحية جديدة.

النص تعبير عن حالة إنسانية خالدة، حالة السقوط والبحث عن المعنى في وسط الفوضى. إنه نص يفتح أبواب التأمل العميق في تجربة الحياة، حيث السقوط ليس نهاية، بل بداية لرحلة نحو الخلاص. يحمل النص في طياته رسالة صوفية خفية؛ أنه في أقصى لحظات اليأس والضياع، قد نجد أملنا في يد خفية، في قوى تتجاوز حدود إدراكنا. النص يتركنا نتساءل: هل يمكننا أن نجد هذه اليد؟ وهل تكون يد الخلاص خارجنا، أم أنها تنبثق من عمق الذات المنكسرة؟

7

"ما يُبقيكَ في المَنفى، دمعةٌ بليدةٌ في عَينَيك، سؤالٌ بَغيض، تبعدُ عنهُ، كالمرَض."

هذا المقطع الأدبي المكثف يحمل في طياته الكثير من الدلالات والمعاني التي تتجاوز السطح الظاهر للكلمات، لينفتح على عالم غني بالتأملات الوجودية والفكرية العميقة. إنه نص يتحدث عن الاغتراب والمنفى، لا بالمعنى الجغرافي فحسب، بل بالمعنى الوجودي والروحي، حيث يجد الإنسان نفسه منفصلًا عن ذاته وعن جوهره الداخلي.

يتميز النص بتكثيف لغوي عميق، فالجمل القصيرة والمركزة تعبر عن مشاعر معقدة وتوترات داخلية. "دمعة بليدة في عينيك" و"سؤال بغيض" هي عبارات تصف حالات عاطفية وجودية بدقة وحساسية شديدة. الدمعة البليدة هنا ليست دمعة حزن عادية، بل هي استعارة للوجع المتجمد، الوجع الذي لم يعد يبكي بحرقة ولكنه يتراكم ببرود واستسلام. كذلك، السؤال البغيض ليس سؤالًا عابرًا، بل هو ذلك السؤال الوجودي الذي يلاحق الإنسان، ويثير في نفسه القلق والشكوك التي يهرب منها كما يهرب الإنسان من المرض، ولكنه يظل ملازمًا له، ينخر في داخله ويستنزف روحه.

ان ما يطرح هنا يوضح إشكالية الاغتراب والبحث عن الذات، وهو موضوع فلسفي محوري في الوجودية. المنفى في هذا السياق ليس مجرد مكان بعيد يُنفى إليه الجسد، بل هو حالة نفسية وروحية يعيشها الإنسان في حياته اليومية. هو الانفصال عن الذات، وعن المعنى، وعن الإجابات التي تجيب على أسئلة الوجود الكبرى. هذه الأسئلة الوجودية تُشبّه بالمرض الذي يحاول الإنسان الهروب منه دون أن يتمكن من الشفاء الكامل. النص بذلك يعبر عن فكرة أن المنفى الحقيقي ليس في المكان، بل في الداخل؛ في الروح التي تعجز عن التصالح مع ذاتها ومع العالم من حولها.

من منظور اجتماعي، النص يسلط الضوء على تأثير المنفى، سواء كان سياسيًا أو اجتماعيًا أو نفسيًا، على الإنسان. الإنسان المنفي يعيش حالة دائمة من الاغتراب عن مجتمعه وعن جذوره، وحتى عن ذاته. "دمعة بليدة" تمثل تجمد العاطفة، حيث يصبح المنفي غير قادر على التعبير عن ألمه بشكل صريح، ربما لأنه تبلد نتيجة التجارب القاسية أو لأنه أصبح معتادًا على العزلة والابتعاد عن الآخرين. هذه الدمعة تعكس أيضًا هشاشة الإنسان واحتياجه العميق إلى التواصل والاحتضان، لكن الجدران التي بناها حوله بسبب المنفى تحول بينه وبين هذا التواصل.

المنفى في النص يمكن أيضًا تأويله على أنه منفى روحي، حيث يكون الإنسان بعيدًا عن المصدر الروحي الذي يمنحه السلام الداخلي. إنه يعيش حالة من التيه، يتساءل عن معنى وجوده وعن موقعه في الكون، لكن هذه الأسئلة تصبح مصدر قلق وألم، تشبه المرض الذي يسعى للهرب منه. هذا الاغتراب الروحي يعبر عن الفقدان العميق للإيمان أو للاتصال بالقوى العليا التي قد تمنح الحياة معناها العميق.

الرمزية في النص واضحة من خلال الدمعة والسؤال. الدمعة ليست مجرد دمعة عادية، بل هي رمز للانكسار الداخلي، للتجارب القاسية التي مر بها الإنسان المنفي. هي دليل على الألم الذي أصبح جزءًا من وجوده اليومي، لكنه لا يستطيع التعبير عنه بشكل كامل. أما السؤال، فهو رمز للشك والاضطراب الداخلي الذي يصاحب الإنسان في منفاه. إنه يمثل الأسئلة الكبرى التي تحاصر الإنسان حول معنى الحياة، والعدالة، والغرض من الوجود، وهي أسئلة لا تجد إجابة شافية، مما يجعلها تشبه المرض الذي يستمر في الانتشار دون علاج.

في هذا المقطع الصغير المكثف، نجد نصًا أدبيًا يجمع بين العمق الفلسفي والرؤية الصوفية للحياة. الإنسان هنا ليس مجرد كائن حي يعيش في مكان معين، بل هو روح تسعى إلى فهم ذاتها وإلى التصالح مع وجودها. ولكن هذا السعي مصحوب دائمًا بالدموع والأسئلة التي تحاصره وتجعله في حالة دائمة من القلق. إنه نص عن الإنسان الذي يواجه منفاه الداخلي، ويبحث عن خلاصه الروحي والنفسي، في عالم مليء بالأسئلة والآلام التي لا يمكن الهروب منها.

8

لا حربَ مُقدّسة، سوى حَربي معي، الحروبُ الأخرى، يُقدّسُ فيها المَوتىٰ، والقادة."

هذا المقطع القصير يختزل عمقًا فلسفيًا وتأملًا صوفيًا حول مفهوم الحرب، يتجاوز سطحية الصراعات المادية إلى أعماق النفس الإنسانية. يبدأ النص بتقرير قاطع: "لا حربَ مُقدّسة، سوى حَربي معي"، وهو إعلان عن الصراع الداخلي، الحرب الذاتية التي يخوضها الإنسان مع نفسه. هنا تكمن القداسة، ليس في الحروب التي تُخاض في العالم الخارجي، بل في تلك المعارك النفسية والروحية التي تجعلنا نصارع ذواتنا في رحلة نحو الحقيقة والتكامل.

في هذا السياق، يتجلى بعد فلسفي عميق يتأمل في طبيعة الإنسان وصراعه مع غرائزه ورغباته وهفواته، حيث تصبح الحرب الحقيقية هي تلك التي تخوضها النفس لتطهير ذاتها والوصول إلى السلام الداخلي. هذا التأمل يعكس الروح الصوفية التي ترى في الصراع مع النفس مفتاحًا للسمو الروحي.

"الحروب الأخرىٰ، ، يُقدّسُ فيها المَوتىٰ، والقادة"، هنا يفتح النص نافذة علىٰ، الجانب الاجتماعي والسياسي للحروب، حيث تُقدَّس الضحايا والقادة في تناقض مع الحرب الذاتية التي تكرسها الروحانية. الموتى يُرفعون إلى مقام القداسة، بينما الحروب بحد ذاتها تُعري عبثية الموت والدمار. النص يرفض هذا التقديس الظاهري، ويؤكد أن القداسة الحقيقية تكمن في الصراع مع النفس، لا في النزاعات الخارجية التي تلتهم الأرواح.

النص، إذن، يمثل تأملًا إنسانيًا وفلسفيًا عميقًا، يتحدى مفهوم القداسة في الحروب ويعيد توجيه البوصلة نحو الصراع الداخلي، حيث القداسة في التغيير والتحرر الروحي.

9

علىٰ، مقعدِ التَحقيق، عارٍ تماماً، لا جُرمَ لي، سأبتكرُ واحدا، أكرهُ العُري، حينَ أُصفَع."

في هذا المقطع القصير المكثف، نُطل علىٰ مشهد وجودي يعكس عمق التجربة الإنسانية في مواجهة السلطة، العنف، والذنب الملتبس. يجلس المتكلم علىٰ "مقعد التحقيق"، وهو مقعد يحمل دلالات نفسية وفلسفية متعددة، إذ يرمز إلى لحظة المواجهة الحاسمة مع النفس ومع المجتمع. الحالة الأولىٰ التي يُعرض فيها هي "عارٍ تماماً"، العري هنا ليس فقط جسدياً، بل رمزياً وروحياً؛ إنه تجريد كامل من الحماية والأقنعة، مواجهة وجودية مع الذات والعالم بلا مواربة. هذا العري القسري يبرز هشاشة الإنسان أمام قوى القهر والتحكم.

يقول المتكلم "لا جرمَ لي"، وهي عبارة تشي ببراءة داخلية، ولكن هذه البراءة لا تحميه من العنف الذي يتعرض له. وهنا يأتي الجانب الفلسفي العميق، حيث تتجلى مأساة الإنسان في عالم يفرض عليه الإثم حتى عندما لا يكون مذنباً. في لحظة صدامه مع هذه السلطة التي تسلبه إنسانيته، يُبتكر "جرمًا"؛ إنه تمرّد على هذا الظلم العبثي. يخلق المتحدث ذنبه الخاص، في فعل مقاومة لامع يتجاوز الاستسلام للذنب المفروض عليه.

العري الذي "يكرهه" يعكس شعورًا بعدم الأمان، ليس فقط في مواجهة السلطة، بل في مواجهة ذاته المُجرَّدة. "أكرهُ العري، حين أُصفَع"، هنا نصل إلى الذروة الإنسانية للمشهد؛ الصفعة تعني إذلال الجسد والروح، لكنها في الوقت نفسه تحفز الإبداع والمقاومة. الصفعة تولد الرفض، وتكشف عن الإنسان في لحظة تحدٍ مؤلمة، حيث يتجاوز المعاناة الجسدية ليبتكر لنفسه هوية وسط هذا العنف المفروض عليه.

النص يحتضن بعدًا فلسفيًا واجتماعيًا عميقًا حول مفاهيم السلطة، الذنب، والذات، ويعيدنا إلى حقيقة أن الإنسان، في أقسى لحظاته، قادر علىٰ خلق وجوده الخاص.

10

دائي بلا انتهاء، ودَوائي أبَدي، صارا حياةً، لا أعرفُ غيرَها، سأموتُ، إن شُفيت."

هذا المقطع يفيض بمعانٍ فلسفية وصوفية عميقة تتشابك في سردية تأملية تبحر في أغوار النفس الإنسانية. "دائي بلا انتهاء، ودَوائي أبَدي"؛ هنا يبدأ النص بتقديم تناقض ظاهر بين المرض والدواء، حيث يبدو المرض وكأنه قدر أبدي لا فكاك منه، لكنه في الوقت ذاته هو الحياة ذاتها. هذا التصوير يعكس فكرة صوفية راسخة، وهي أن المعاناة ليست عبئًا بل هي جزء لا يتجزأ من الوجود، فالألم هو الحافز الأساسي للنمو الروحي، والمواجهة الدائمة مع هذا "الداء" هي الطريق الوحيد نحو معرفة الذات.

النص يرمز إلى حالة الإنسان الوجودية؛ فهو محاصر بين عالمين: الألم والشفاء، وهما وجهان لعملة واحدة. الداء هنا ليس مجرد مرض جسدي، بل هو رمز لحالة داخلية من القلق والبحث الدائم عن الحقيقة والمعنى. أما "الدواء الأبدي" فهو ربما السعي المستمر نحو الخلاص أو الكمال الروحي، وهو ما يجعل من هذه الرحلة رحلة لا نهائية.

"صارا حياةً، لا أعرفُ غيرَها"؛ هنا نجد بعدًا اجتماعيًا وإنسانيًا عميقًا، إذ يعكس هذا السطر حالة التماهي بين الإنسان ومعاناته، حيث تصبح المعاناة جزءًا لا يتجزأ من كيانه ومن وجوده اليومي. وهنا يتساءل النص: هل يمكن للإنسان أن يوجد دون صراعه؟ دون ألمه؟

ثم يأتي العمق الفلسفي في العبارة الأخيرة: "سأموتُ، إن شُفيت". الشفاء هنا لا يعني التحرر من الألم، بل يعني نهاية الوجود كما يعرفه المتكلم. المعاناة هي التي تمنح للحياة معناها، وهي التي تبقي الروح في حالة حراك مستمر نحو العمق. إن النص يعبر عن فكرة وجودية جوهرية: الإنسان يجد في الألم معنى الحياة، وفي الشفاء نهاية هذا المعنىٰ.

بتأمل صوفي عميق، يتجلىٰ هذا المقطع كحكمة تستنطق تناقضات الوجود الإنساني وتفتح آفاقًا لتأمل المعاناة كجزء من جوهر الحياة.

11

"باهتمامٍ عجيب، أنصَتَ إلى المَوعِظة، أومَأَ الشيخُ إليه، عمّا انتفع، أجاب، لم أقرأ شفاهَك جيداً، أجهلُ لغةَ القرود."

هذا المقطع يسلط الضوء على جدلية اللغة كأداة تواصلية، كما وتكشف عن الفروقات الجوهرية بين الوعي الحقيقي ولغة التصنع..

يبدأ النص بعبارة "باهتمام عجيب"، مما يشير إلى أمل عميق من المتلقي بأن يجد في الكلام نفعًا أو حكمة ترتقي بمستوى الحديث.. كأن يزيل خلافًا ويقرب قلوبًا.. يرتق فتقًا ويصلح كسرًا..

ولكن عندما أومأ الشيخ إليه، يسأله عمّا جناه من عظته/ اعتقادَا منه، انه قد أبهر مستمعيه واستحكم بلبابهم.. مكممًا افواههم ومقصيًا حيرتهم.. لنكتشف البعد والتنافر بين المتلقي الذي ترددت في كلماته الحائرة المستنكرة: "لم أفهمك جيداً، فأنا لا أتقن لغة القرود."

يستعرض هذا المقطع بتكثيف بالغ إشكالية اللغة كجسر للتواصل، لكنه جسر قد ينقطع عندما يكون القصد بعيدًا عن الصدق. "باهتمام عجيب"، لكن التجربة تصدمه بلغة خاوية كـ"لغة القرود"، حيث الكلمات تخرج مجرّدة من المعنى والإنسانية، بعيدة عن جوهر الحقيقة. التي تفضح عمق انفصال الشيخ عن الحضور بلغة مرائية، سطحية، غير نافذة، كما لو كان يتحدث ليملأ الفراغ، أو ليؤدي واجباً مُصطنعاً لا يصل بصدق إلى الآخر.

وحين يصف المتلقي اللغة بأنها "لغة القرود"، فإنه يكشف عن نقده الصريح واللاذع للتكرار الأجوف.. وانحطاط اللغة الديماغوجية المخادعة، المفتعلة والملتوية التي تفتقر للمعاني الأصيلة، والتي لا تترك في النفس إلا فجوةً من التجاهل والعزوف، حيث تتحول الموعظة إلى تقليد صوتي دون فهم.. إلى قشرةٍ تُخفي جوهرًا زائفًا..

إن هذا المقطع يكشف ببراعة فلسفية عن أزمة اللغة والتواصل، وكيفية تحول الكلام إلى وسيلة للتعالي على الآخرين، بدلًا من كونها لغة تلامس جوهر الإنسان.

12

"ندَمي، تجَنّبتُ امرأةً تُحبُني، لأجلِ امرأةٍ أحبُّها، كيفَ للموجِ أن يأتي بنِصفَين، الى شاطئٍ واحد."

في هذا المقطع الأدبي العميق، تتجلى تناقضات الروح الإنسانية، حيث يتأمل المتحدث في ندمه الذي يعكس الصراع الأبدي بين القلب والعقل. النص يبدأ بتجسيد شعور "الندم"، وهو حالة إنسانية معقدة تنشأ من القرارات الحياتية التي تحمل في طياتها ألمًا وخسارة. "تجنبتُ امرأةً تُحبُني، لأجلِ امرأةٍ أحبُّها"؛ هنا يتشكل التناقض بين القبول والحب، بين ما يُعطى للمرء دون شروط وبين ما يطارد رغبةً شخصية.

في العمق، النص لا يتحدث فقط عن العلاقة الرومانسية، بل عن اختيار إنساني عام، حيث يُفصح المتكلم عن تضحية بالحب الذي يتلقاه من أجل حبٍّ لا يملك فيه السيطرة. إنه صراع داخلي بين ما يُقدَّم وبين ما يُطارد. هذه الثنائية تثير أسئلة حول طبيعة الحب: هل هو ما يُعطى لنا، أم ما نبحث عنه نحن في الآخرين؟ هل الحب المثالي هو الذي نملكه، أم الذي نفقده؟

الرمزية تتجلى في السؤال الفلسفي المدهش: "كيفَ للموجِ أن يأتي بنِصفَين، إلى شاطئٍ واحد؟" هنا يظهر الموج كرمز لقوى الحياة الغامضة وغير المتوقعة، التي تجلب لنا قراراتنا المتناقضة. الشاطئ يمثل الملاذ أو النهاية، ولكن كيف يمكن لتيارين متضادين أن يصلا معًا إلى نقطة واحدة؟ هذه الجملة تحمل بُعدًا فلسفيًا عميقًا حول فكرة الوحدة والتكامل، وتطرح تساؤلًا صوفيًا: هل يمكن للإنسان أن يجمع بين حبّين، بين قلبين، أو بين رغبتين متناقضتين في آن واحد؟

النص يفتح نوافذ التأمل على اختيارات الحياة، الحب، والتضحيات التي تُنسج في خيوط الروح الإنسانية، مقدّمًا صورة عميقة لصراع داخلي يتجاوز حدود العلاقات الشخصية ليطال الوجود نفسه.

13

المنفى بلَدٌ حُر، خدعةٌ تتردد، يقولون الأشياءَ ذاتها، بأسلوبٍ مُختلف."

في هذا المقطع يتجلى شعور الاغتراب العميق، حيث يصبح "المنفى" رمزًا للحرية المطلقة والمقيدة في آنٍ واحد. "المنفى بلدٌ حر"، هذه العبارة تحمل في طياتها تناقضًا فلسفيًا؛ فالمنفى يُفترض أن يكون سجنًا للنفس، لكنه هنا يُصوَّر كفضاء حرّ، مفتوح على اللامحدود. الحرية هنا ليست تلك المرغوبة، بل هي حرية مشوبة بالخداع، حرية لا تُطلق الروح بقدر ما تُقيدها بأغلال من نوع آخر.

"خدعةٌ تتردد"، تعكس الإشارة إلى الخداع إحساسًا عميقًا بالوهم في عالم المنفى. الأفكار تتكرر، الكلمات تتناثر، ولكن الحقيقة تظل مغيبة. هذا الصدى المتكرر للأفكار يعكس تشابه التجارب الإنسانية في الاغتراب؛ حيث يظل الإنسان يسمع ذات الكلمات بأساليب مختلفة، ولكن المضمون واحد: عزلة، انفصال، واغتراب داخلي.

في هذا النص نجد رؤية إنسانية وفكرية تُبرّز قدرة اللغة على خلق أوهامٍ تُحاصر الذات. يتناول النص فكرة المنفى كحالة وجودية وليست فقط مكانية. المنفى هو انقطاع الروح عن نفسها، حالة من النفي الداخلي قبل أن يكون نفيًا جسديًا.

الرمزية في النص تعمّق الفهم الفلسفي للحياة في المنفى؛ إذ تعكس تكرارًا مُحبطًا للحقيقة المغيبة. يتأرجح النص بين الحرية الوهمية والواقع المعقد، ما يجعل القارئ يتأمل في معنى الحرية والنفي في حياة الإنسان.

14

"أمامَ المرآة، تبدّلَت كلُّ معالمي، رأيتُ ظِلّاً، أعرفُ ماضيه، وأنكرُ حاضرَه".

انها رحلة الذات في تأمل متجذر، يستحضر فيها الكاتب المرآة كرمز للحقيقة والكشف عن مكنونات النفس، حيث "أمام المرآة، تبدّلت كل معالمي"؛ فكأن المرآة هنا كائن كاشف، لا يعكس الظاهر فقط، بل يكشف عمق التحولات والتمزقات الداخلية. إن رؤية الظل تُمثل انعكاساً لِلأنا القديم، "أعرفُ ماضيه"، بمعنى استحضار الذات القديمة بكافة تجاربها وذكرياتها، في حين يواجه الحاضر بنوع من الضياع أو الانكار: "أنكر حاضره"، في تباين يظهر الانفصام بين الماضي والحاضر.

هذا الانعكاس يعكس عمق الصراع الداخلي بين التجارب الماضية والمستقبل المجهول، حيث تنبثق فلسفة عميقة تحاول التوفيق بين ما مضى وما هو آت. هنا، يحتل الشاعر موقع المتأمل بين قبول ماضٍ لا يزال يحمل بعض ملامح الروح، وبين حاضر ينأى عن ذاته المألوفة.

ان هذا المقطع يتأمل فلسفيًا في طبيعة الهوية وكيفية تطورها، كأن الشاعر/ الكاتب يقف بين نسختين من ذاته، يمثل كل منهما بُعداً من التجربة الإنسانية. النص ينبض بجاذبية إبداعية تتلاعب بالرموز والمرايا لتجسد رحلة الذات الباحثة عن أصالتها، في انسيابية تتأمل عمق التغيرات الدائمة والمتناقضة في جوهر الإنسان، مسلّطًا الضوء على حقيقة فلسفية تعترف بتجدد الكينونة واستمرارية التحول.

15

عَجوز، أتحدّثُ عنّي، هذا ما تقولهُ التجاعيدُ في وجهي، الجَميعُ يعرفون، إلّا أنا."

في هذا المقطع العميق، يفتح الكاتب نافذة على عالم الذات المتأملة في الزمن وتأثيراته القاسية. العبارة "عجوز، أتحدث عنّي" تعكس لحظة مواجهة مع الحقيقة الصادمة التي تفرضها التجاعيد، حيث تصبح هذه العلامات الجسدية لغة الزمن الصامتة. التجاعيد هنا ليست مجرد علامات جسدية، بل رموزٌ تحمل في طياتها سرداً خفياً لتجارب الحياة، والذاكرة التي تراكمت على مر السنوات.

النص يتناول فلسفة الزمن والهُوية بأسلوب مُكثف وبسيط في الوقت ذاته. الزمن يفرض نفسه على الجسد، لكن النفس تظلُّ عالقة في الماضي، مُقاومةً قبول فكرة الشيخوخة. هذه الثنائية بين الجسد والعقل، بين الخارج والداخل، هي ما يمنح النص عمقاً إنسانياً. "الجميع يعرفون، إلّا أنا"، عبارة تختزل اغتراب الذات عن الجسد، وكأن الروح ترفض أن تعترف بما يعكسه الجسد عليها، ما يخلق مفارقة فلسفية بين الوعي الداخلي والزمن الخارجي.

أدبياً، النص يعتمد على لغة مكثفة وقوية، حيث تتجسد الحكمة الصوفية في تقبّل ما هو حتمي، وفي الوقت ذاته، نرى مقاومة داخلية تعكس قلق الإنسان الوجودي من مرور الزمن. الفكرة تنساب بانسيابية من وصف التجاعيد كأدلة بصرية للشيخوخة إلى التأمل في هذه العلامات وكيفية استقبال الذات لها.

النص يحمل دلالات رمزية غنية. التجاعيد تصبح كالخرائط التي ترسم مسار الحياة، لكنها أيضاً قد ترمز إلى الحكمة النابعة من التجربة. من الناحية الدينية، يمكن تأويل النص كتذكير بفناء الجسد وبقاء الروح، وتحدي القبول بما هو مقدر.

إن هذا المقطع يلمس العواطف الإنسانية الأكثر رهافة، حيث يصوّر بشكل بديع الصراع بين قبول التغيير ومقاومته، وبين ما نراه في المرآة وما نشعر به في أعماقنا.

خلاصة:

المقاطع التي أمامنا تمثل تجربة تأمل عميق في الذات والوجود، حيث ينغمس النص في رحلة نفسية تكشف عن القلق الوجودي، والبحث عن الحقيقة المفقودة، والصراع بين ما هو داخلي وخارجي.

انها حالة من الاضطراب الداخلي، حيث يخوض المتكلم صراعًا مع الذات ومع الآخرين ومع الزمن. في "أمامَ المرآة، تبدّلَت كلُّ معالمي" يظهر الشعور بالاغتراب عن الذات، وكأن الهوية الحقيقية تتلاشى مع مرور الزمن. هناك إحساس بأن الذات القديمة معروفة، أما الحاضر فهو غامض ومجهول، ما يرمز إلى الفجوة بين النفس والعالم المادي.

النصوص تعكس تأملات عميقة في موضوعات مثل الندم والاغتراب والحروب الذاتية. العبارة "لا حربَ مُقدّسة، سوى حَربي معي" تعبر عن الحروب الداخلية التي يخوضها الإنسان مع نفسه، حيث يصبح الصراع الروحي أعمق وأكثر قداسة من الحروب الخارجية التي تُمجّد فيها السلطة والموت.

في هذا السياق، تتداخل الرؤى الفلسفية والدينية. هناك نقد عميق للطقوس والمعتقدات الزائفة، كما في "الدعاءَ، بمُنتَهىٰ الخُشوع، أصدقُ الكَذِب"، حيث يتعرض الإنسان لنفاق المظاهر الخارجية، متسائلاً عن جدوى الإيمان الشكلي.

الجانب الإبداعي يظهر في استخدام اللغة الشعرية الصوفية التي تفتح أبوابًا للتأمل والتفكير العميق. "دائي بلا انتهاء، ودَوائي أبَدي" تعكس حالة من الاستسلام لقدر لا ينتهي، حيث تصبح المعاناة جزءًا لا يتجزأ من الحياة، ولا يمكن للفرد الانفصال عنها إلا بالموت.

النصوص تتسلل إلى عوالم النفس المظلمة والمليئة بالتساؤلات، فهي رحلة إلى عمق الذات، حيث تتشابك الفلسفة والدين مع الحزن والاغتراب في نسيج من الكلمات المكثفة والرمزية.

**

طارق الحلفي/ شاعر وناقد

الرابط

https://www.almothaqaf.org/nesos/977591

رواية "بائع الأديان" للكاتب العراقي سالم حميد، هي عمل أدبي يتحدّى الحدود بين الواقع والخيال، حيث يمزج الكاتب ببراعة بين السرد الأدبي والتحليل التاريخي ليقدّم لنا قصة تتناول قضية تاريخية معقّدة، تجمع بين الحب والخيال والتاريخ. تتناول الرواية قصة "أيسر"، الشخصية المحورية، التي تجد نفسها في قلب العراق الحديث، حيث يتداخل الماضي العريق مع الحاضر المضطرب.
في هذه المقالة، سنسلّط الضوء على أهم جوانب الرواية، بدءًا من استخدام الكاتب للتقنيات السردية وانتهاءً بالرسائل العميقة التي تطرحها الرواية والتي تعتبر شهادة على عصور مختلفة. حيث ينقلنا المؤلف عبر الزمن إلى عصور بابل وسومر، لنعيش تفاصيلها من خلال شخصية أيسر. فقد وجد الكاتب في هذه الشخصيات القديمة رابطًا يجمعها مع الأحداث المعاصرة التي تمرّ بها الشخصية الرئيسية.
فنرى أيسر، الشخصية المحورية، وقد وُضع في موقع مركزي في بعثة استكشافية تهدف إلى التنقيب عن سرقة آثار مدينة العمارة العراقية، بَيْدَ أنّ هذه البعثة تخفي وراءها أغراضًا أكثر غموضًا وهي إشاعة البحث بين الجمهور بالبحث عن المقابر الجماعية التي شهدها العراق في حقب سابقة. في سياق هذه الرحلة، يواجه أيسر أحداثًا معقدة وغير متوقعة، إذ تتشابك حياته مع حبكة الرواية التي يكتبها، ويجد نفسه عالقًا بين أبعاد متعددة من الزمن، حيث يعود به الزمن إلى تلك الحقبة العريقة، ليعيش من جديد الصراعات الداخلية والخارجية.
الكاتب هنا يبرز قدرته الفائقة على خلق تداخل في السرد، بحيث يشعر القارئ وكأنه يسافر عبر الزمن ويعيش تلك الأحداث بنفسه من العناصر اللافتة في "بائع الأديان" هو استخدام الكاتب للضمائر المختلفة في السرد. فهو يتنقل ببراعة بين الضمير الغائب والمخاطب والمتكلم، مما يضفي على النص ديناميكية وحيوية تجذب القارئ. هذا الاستخدام المتنوع للضمائر يمنح كلّ شخصية صوتًا مميزًا، ويجعل القارئ يشعر بأنه في حوار مباشر مع الشخصيات، أو كأنه يشاهد الأحداث من بعيد، أو حتى يعيشها من داخل عقول الشخصيات.
أحد أروع عناصر رواية "بائع الأديان" هو الأسلوب الأدبي البليغ الذي يستخدمه سالم حميد. يبرز الكاتب مهاراته في استخدام اللغة بطريقة جذابة، مما يُشعر القارئ بالتوتر والتفاعل المستمر مع الأحداث. تتنوع الجمل والتراكيب بشكل يجعل النص ديناميكيًا ويحث القارئ على مواصلة القراءة بشغف. إنّ القدرة على التعبير عن الصراعات الداخلية والتفاصيل الدقيقة في نفسيات الشخصيات تُظهر براعة الكاتب وقدرته على رسم لوحة فنية متكاملة عبر الكلمات.
من العناصر المميزة في رواية "بائع الأديان" هو ارتباط الحب بالتاريخ. فالعلاقة التي تتشكل بين الشخصيات لا تحدث في فراغ، بل تتأثر بالأحداث التاريخية والسياسية التي تحيط بها. المؤلف يستخدم هذه العلاقة بين الحب كأداة لخلق ديناميكية خاصة في القصة، حيث نجد الحب لا يأتي هنا كعنصر رومانسي بحت، بل يتداخل مع الأزمات والصراعات التي تمرّ بها الشخصيات. هذا التداخل يجعل الحب يظهر في الرواية كمصدر أمل في وسط الظلام، ولكنه في الوقت أصبح وهمًا، لأنه يجد نفسه مجبرًا على مواجهة الواقع القاسي الذي يعترض طريقه.
إلى جانب السرد الدرامي، استغلّ الكاتب الرمزية بشكل جميل لخلق عمق إضافي للرواية. فقد اعتمد على قصص كلكامش وإنكيدو، وجعلها تتداخل مع أحداث الرواية، ليخلق من خلالها حوارًا بين الماضي والحاضر. هذه الرمزية تعكس ارتباط العراق بثقافته العريقة وحضارته القديمة، التي ما زالت تؤثر على حاضره. فعلى سبيل المثال، حوار كلكامش عن الخلود يجسّد فكرة الخلود التي يسعى إليها الإنسان منذ الأزل، وكيف أنّ الإنسان يعجز عن إدراك معنى الخلود الذي قد يصبح عبئًا لا طعم له كما صوره الكاتب.
هذه الرمزية تجعل القارئ يتساءل عن معنى الحياة والموت، وعن جدوى البحث عن الأبدية، كما أنّها تعكس تساؤلات أيسر نفسه، الذي يجد نفسه في خضم صراع بين البحث عن الحقيقة والعيش في ظلّ ذكريات مؤلمة من ماضيه الشخصي وماضي بلده.
نجاح رواية "بائع الأديان" يكمن في قدرتها على الجمع بين السرد القصصي العميق والتحليل الفلسفي، فهي رواية في الوقت ذاته تنقلنا إلى عالم خيالي مليء بالرمزية. المؤلف العراقي سالم حميد استطاع ببراعة أن يقدّم لنا نصًا يحمل في طيّاته رسالة إنسانية عميقة، تجعل القارئ يتأمل في حياته ومعتقداته، ويعيد النظر في قضايا مثل الخلود والموت والانتماء.
يمكن القول إنّ "بائع الأديان" ليست مجرد رواية عابرة، بل هي عمل أدبي يستحقّ القراءة والتأمل. هي دعوة للقارئ للتفكير في الإنسان وتاريخه، وفي مسعاه الأزلي للبحث عن الحقيقة والجمال وسط عالم مليء بالتناقضات. هذه الرواية تذكرنا بأنّ الماضي والحاضر هما وجهان لعملة واحدة، وأنّ الإنسان، رغم كلّ آلامه ومآسيه، يبقى دائمًا في رحلة بحث عن الخلاص.
بائع الأديان" ليست مجرّد رواية لتمضية الوقت، بل هي رحلة فكرية وروحية تدعو القارئ للغوص في أعماق النفس البشرية، ولإعادة النظر في العلاقة بين الماضي والحاضر. إنّها عمل يتحدّى القارئ ويدفعه للتفكير في معنى الوجود، وفي إمكانية العثور على الأمل في وسط الظلام.
***
فؤاد الجشي

 

اندلاع ثورة نوفمبر حدث عالمي عظيم أعطى أملا للشعوب التواقة للتحرر من بطش المستدمر الغاشم وكيف لا؟ وفئة آمنت بربها وتشبعت بقيم دينها أيقنت أن الوسيلة الوحيدة التي يفقهها العدو هو حمل السلاح والذود عن حياض الوطن فالاتفاقيات والنضال السلمي والمطالبة بالحقوق كل هذا لم يجد نفعا فكان صوت الرصاص يعلن عن ميلاد جيل ثوري جديد زعزع أركان فرنساوهذه الثورة العظيمة كان لها صدى لدى الأدباء والشعراء العرب في العراق وسوريا وفلسطين والسودان ومصر فكتب الشعراء قصائد تلتهب بالأشواق والأحاسيس الصادقة التي تعبر عن مساندة هذا الشعب الأبي الذي تكالبت عليه قوى الشر والظلام وقد جمع الكاتب والديبلوماسي الجزائري عثمان سعدي هذه القصائد من مختلف الدول العربية التي اشتغل فيها سفيرا وجمعها في كتاب قيم طبع في ثلاثة مجلدات جمع فيها 468 قصيدة وطبع الكتاب من 2021صفحة سنة 2014 بدار الأمة ..

يقول الديبلوماسي عثمان سعدي

"ومحمد مهدي الجواهري في عينيته ذات المائة بيت يعتبر فرنسا التي تزعم أنها تنشر القيم بالعالم فاجرةً تعلق صورة المسيح على سريرها، لأنها هدمت سجن البستيل رمز العبودية بفرنسا، لكنها بنت بساتيل في الجزائر:

لكِ الويل فاجرةً علّقـتْ صليبَ المسيح على المِخدعِ

تهدّم بستيلَ في موضعٍ وتبني بساتيلَ في موضــعِ..

وهذا سياسة العدو بل الغرب المنافق الذي عنده ازدواجية في الحكم على الأشياء فهو يدعو إلى الديمقراطية وحقوق الإنسان أما في تعامله مع الشعوب المستضعفة ينسى تلك المبادئ التي يتغنى بها كذبا وبهتانا..

وفي قصيدة أخرى يخلد حادثة اختطاف وقرصنة فرنسا طائرة القادة الخمسة وهي تظن أنهاستقضي على الثورة وتنهيها باعتقال قادتها وهي تجهل أن هذه الأرحام التي أنجبت القادة ستنجب غيرهم فهي ليست عقيمة وأن هذه الأمة خلقت لتبدع، أمة حيّة قادرة على الدفاع عن نفسها، يقول الجواهري:

"أمةٌ سوف تُري خالقهـا أنها قد خُلـقت كي تُبـدعا

جزرُ المغرب يا أسطورةً تُلبس الأهوالَ لونا ممتعـا

الأذى تدفع عنه بالـرّدى طاب أسلوبا لها مبتدَعــا

خمسةٌ إن بطونا حملـتْ ثِقْلَهم ما عُقمتْ أن تضعـا

جهِل الصّنعةَ نِكْسٌ أحمقٌ سرِق الباب وعاف المصنعا"

ويحدثنا الكاتب والديبلوماسي عثمان سعدي عن الشاعرة العراقية صبريّة الحَسّو، التي قابلها في بغداد فروت له ما يلي: “في عيدٍ من الأعياد كنتُ مع زوجي وأطفالي نتمتع بنِعَم العيد، وفجأة انهمرت عيناي بالدموع، فصاح أطفالي لماذا تبكين يا ماما؟ فقلت لهم: تذكرت الآن كيف يقضي أطفال الجزائر العيد، ثم توجهتُ إلى المكتب وسحبت ورقة وقلما وحررت قصيدة عنوانها: هدية إلى أطفال الجزائر”، وهي قصيدة جميلة لا يمكن إلا أن تصدر عن امرأة وأمّ. تقول فيها:

"وهناك لا تنسَيْ صِغارًا

مثل طفلك يظمأونْ

للحبّ والدفءِ الحنونْ

ليدٍ ندِيّه

ليد, يقطّعه الحنينْ

شوقا فيعتصر البقيّه

شوقا فيهمس في خُفوتٍ

لو ضم طفلته إليه

كما يضم البندقيهْ

هي ذي هديّه

قُبلٌ نقيّه

من كل أمّ في العراقْ

تعيش في ألم الجزائرْ

قبلٌ نقية

قبلٌ لأطفال الجزائرْ"(1)

أما الشاعر الكبير محمد الحريري في قصيدته " حانة فرنسية فجّرها مجاهد جزائري " وهي عبارة عن نادي للجيش الفرنسي يصف فيه كيفية تجرع جنود العدو الخمور النسيان ما يلاقونه من المجاهدين الأشاوس ثم يحدث الانفجار، الذي دمر كل شيء يقول الشاعر محمد الحريري:

"وتنادى واحد بين الحضورْ

من هم الثوار حتى يملأوا منا القبورْ

آه لو جاءونا لنلقاهم هنا

آه لو… ثم تنادَوْا:

أيها الساقي اسقِنا

قطرة من أمْننا

لستَ تدري ما بنا

لحظةً وانتثر المقهى وطارا

إنها قنبلة جاشت دمارا

بثها زَنْدٌ خفيف الأُنملهْ

قد تهاوى من ربى مشتعله

فوق حشد دنِسٍ كي يغسلهْ"..

أما الشاعر الفلسطيني برهان الدين العبوشي فيصل الثورة الجزائرية، بأنها ثورة ضد الصهاينة وليس الفرنسيين فقط، يقول:

"حيوا الجزائر واذكروا أبطالها**أيام ثاروا يفتدون جلالها

مليون ليث يعربي حلقوا**فوق العدو وحطموا أغلالها

يا ليت أمتنا تجود بمثلهم **لتذيق إسرائيل ما تنوي لها

يا بن الجزائر يا حفيد تراثنا **نجد بلادا قطعوا أوصالها

فانهض فتى وهران لب شقيقة **كن عمها في الكرب أو كن خالها

فابن الجزائر خير من عرف الفدا **وحمى البلاد يمينها وشمالها"(2)

فملة العدو واحدة فرنسي او صهيوني لأن الهدف واحد هو اغتصاب الأرض والقتل والتشريد والتكيل بالأطفال والنساء والشيوخ والأسلوب الوحيد لردع العدو هو المقاومة لتحطيم الأغلال والتحرر من قبضة المستبد عدو الحياة..

وكثير من الشعراء السودانيين تغنوا بالثورة الجزائرية وعبروا عن مساندتهم لها وهذا الشاعر السوداني الكبير محمد الفيتوري واحد منهم يقول في قصيدته:

"فالثورة مازالت تكسو

قمة الأوراس وتسقيها.

والثورة مازالت تمشي

فوق جماجم جلاديه"

فيصف لنا الثورة كثلج يكسو قمة الأوراس ونحن نعلم أن الماء مصدر الحياة والخصب والثورة هي حياة الشعب واخضرار للارض ومنبع الانبعاث بعد الموات والقحط فالثورة مستمرة تدمر العدو وتذيقه المرارة وتمشي فوق جماجم جلاديه...

وتعرض لنا د. سميرة بيطام نماذج لشعراء مصريين تغنوا بالثورة المجيدة فتقول: " البداية لنموذج الشعر العربي من مصر الحبيبة فقصيدة عبد المنعم قنديل دماء ولهيب مجدت تضحيات المجاهدين إذ يقول في إحدى أبياتها:

أرض الجزائر..رب يوم لافح سالت لديك على ضحاه جهنم

و أتى المنون إليك يبسط كفه ثم انثني وأكفه تتألم

قد راعه أن الأجنة بعثرت وتكاد من آلامها تتكلم

لم تحفلي والموت حولك جاثم وخطى اللهيب على ثراك تحوم..."

" في قصيدة للشاعر أحمد حسين عطا الله بعنوان موعد مع النصر صدح صوته ليقر بحقيقة زلزال جهادي هز أركان الاستعمار بقوله:

أبشري..أبشري فقد ضمك الفجر وألقى على يديك البشائر

و تراءى التاريخ في وجهك الحر مضيئا كأنه وجه ثائر

البطولات مشرقات على هامك مثل الشخوص مثل المنابر

و الأزاهير أنبعت في روابيك العذارى وعانقتك الغدائر"

هكذا تغنى الشعراء العرب بالثورة المجيدة ثورة المليون ونصف مليون شهيد ويحق لكل شاعر حر في دول العالم أن يتغنى بها لأنها ثورة تحرير شعبية وهي نموذج عالمي ملهم لكل أحرار الأرض ولكل من يدافع عن قضيته ضد عدو غاشم مستبد متعسف....

***

الكاتب: شدري معمر علي - الجزائر

......................

المراجع:

1- عثمان سعدي، الثورة الجزائرية في الشعر العربي الحديث، جريدة الشروق (5-11-2018)

2- سهام بوعموشة، الثورة الجزائرية في قصائد العرب: روح.نوفمبر تلهم شعراء الضاد، جريدة الشعب (7-9-2022).

3- د.سميرة بيطام، الثورة الجزائرية في شعر ومصر، جريدة أخبار اليوم (14-2-2019).

 

لا يعرف تاريخ الأدب الروسي والعالمي إلا قِلة من الكُتّاب الذين تأججت حولهم المشاعر ـ سواء أثناء حياتهم أو بعد مماتهم ـ بقدر ما تأججت حول حياة تولستوي وإبداعه وآرائه ومواقفه. وظل في قلب الحياة الفكرية في عصره نصف قرن، واستمر في إثارة عقول وقلوب النخب الثقافية في العالم حتى يومنا هذا. لا يزال مؤلف «الحرب والسلام» و»آنّا كارينينا» كاتبا معاصرا ـ فالعديد من وجهات نظره حول المشكلات الاجتماعية والثقافية والفكرية الأساسية، تبدو كما لو كانت مكتوبة اليوم.
صدر خلال السنوات الأخيرة العديد من الكتب المكرسة لسيرة تولستوي، لعل أهمها كتاب الناقد والمؤرخ الثقافي الروسي أندريه زورين الأستاذ في جامعة أكسفورد «ليف تولستوي: حيوات عصيبة» الصادر عام 1920 باللغة الإنكليزية، وقد ترجمه المؤلف إلى اللغة الروسية في العام ذاته، وصدر تحت عنوان «ليف تولستوي: تجربة قراءة». لقي الكتاب صدى واسعا في الأوساط الأدبية الغربية والروسية على حد سواء. كتاب زورين محاولة لاستكشاف مناطق جديدة تماما لقول شيء أصيل حول موضوع يبدو أنه تمت دراسته من جميع الجوانب.
هذه السيرة الجديدة الموجزة والجذابة – التي تقع في حوالي 200 صفحة ونيف – تجسّد ببراعة التطور الأدبي لتولستوي، وتحدد أوجه تشابه مثيرة للاهتمام بين رواياته والحياة الخاصة للكاتب. ويتكون من أربعة فصول موثقة على نحو كثيف ومكتوبة بشكل جميل: يتيم طموح، عبقري متزوج، مرشدٌ ديني وحيد، شخصية شهيرة هاربة .
رمزيا، يبدأ السرد بذكرى تولستوي الأولى ـ وهو يكافح في القماط الذي يمنعه من الحركة ـ وتختتم بكلماته الأخيرة: «سأذهب حيث لن يجدني أحد أو يزعجني». وبين البداية والنهاية يتجلى مصير رجل يتميز بالرغبة في تحرير نفسه – وتحرير الآخرين – من القيود المختلفة التي تكبحه: الشهوة، وحب الذات، والالتزامات بجميع أنواعها، والأعراف الاجتماعية، والاغتراب الاقتصادي، والشكليات الجمالية، إلخ. هذا الصراع مع النفس، يتخذ شكل رحلة مرهقة، «حياة دموع ورحيل ورفض». يميز زورين بين ثلاث حقب في حياة تولستوي – العازب (1828-1862)، الزوج (1862-1879)، مسيحي متحول (1879-1910). ضمن الفصول، يواصل المؤلف السرد دون الالتزام بالترتيب الزمني من أجل إعطاء لمحة موجزة عن العالم الداخلي للكاتب. يروي زورين في «يتيم طموح»، قصة وفاة والدي تولستوي بعد سنوات قليلة من ولادته، حيث تولت «عماته تربيته. انتهت مراهقته في قازان بتعلم الحياة الجنسية، وهو موضوع يؤكد زورين أهميته طوال الكتاب. حدث أول تحول في حياة تولستوي في عام 1847، عندما ترك الجامعة لتولي إدارة ممتلكاته في ياسنايا بوليانا، التي يعيش فيها بعض الوقت من حين إلى آخر. وبقية الوقت يلهو ويقامر في موسكو. وعندما تراكمت عليه الديون، هرب من دائنيه، والتحق بجيش القوقازعام 1851، حيث عاش الحرية الكاملة لمدة عامين.
بعد نشر ثلاثية « الطفولة والصبا والشباب»، أصبح تولستوي كاتبا معروفا في الأوساط الأدبية في العاصمة، وقد أصابته هذه الحياة بالملل، فقام بتغييرها هذه المرة ليكرس نفسه لتعليم الفلاحين في أرضه. في نهاية خمسينيات القرن التاسع عشر، بدأ نمط يتكرر في حياة تولستوي: التعاسة، هجر الأدب، النشاط التعليمي، بداية رواية أخرى.. وقد أسيء فهم موقفه، وبلغ هذا ذروته عندما غادر إلى أوروبا عام 1860 لدراسة طرق التدريس فيها. وبعد عودته، أغضبت مجلته التعليمية «ياسنايا بوليانا» الراديكاليين والمحافظين على حد سواء. وخضعت المجلة للرقابة، وتم تفتيش منزله في غيابه، وهي تجربة كان لديه ذكريات مريرة عنها. حتى أنه فكر في الهجرة، لكنه غير رأيه في ما بعد.
يبدأ الفصل الثاني «عبقري متزوج» بسرد لقاء تولستوي وزواجه من صوفيا بيرس. ويقارن زورين قصة هذا الزواج – التي تميزت بتبادل الرسائل المشفرة والقراءة المتبادلة لمذكرات الزوجين – مع بداية الحياة الزوجية لليفين وكيتي في «آنا كارنينا». ومن خلال هذا التوازي لا يسعى المؤلف إلى تفسير الرواية من خلال التجربة المعاشة، بل إلى قراءة التجربة المعاشة في الرواية. يبين لنا كاتب السيرة هنا تحت أي ظروف، وإلى أي مدى يمكن عكس العلاقة المعرفية بين الحياة والإبداع. يؤكد زورين الدور المحفز للزواج في العودة إلى الأدب، الذي منح تولستوي الاستقرار العاطفي والانضباط اللازمين، لإكمال مهمة طويلة الأجل. الزوجة الملهمة، المتعاطفة، حاضرة طوال فترة كتابة «الحرب والسلام»، وكذلك شقيقتها تانيا، إحدى نماذج شخصية ناتاشا. وقد وفرت «الحرب والسلام» للزوجين الاستقرار المالي.
في «مرشد ديني وحيد»، يتحدث زورين عن انغماس تولستوي في الأمور الدينية بعد نشر رواية «آنا كارنينا» قبل العودة إلى قضية الشعب. لا يركز زورين كثيرا على التسلسل المنطقي الذي يقود تولستوي من المسيحية إلى «الشعبوية»، ويعتقد أن الدافع الذي سبق كتابة «ماذا علينا أن نفعل» يكمن في ظرفين ملموسين ـ اغتيال القيصر الكسندر الثاني، واقتناء الزوجين منزلا في موسكو ـ وليس في حرصه على التوفيق بين عقيدته الاجتماعية ومذهبه اللاهوتي. ومن ناحية أخرى، يلاحظ الباحث وجود استمرارية نفسية بين رواية تولستوي «الحرب والسلام» ومناشيره السياسية: «عندما كان يجلس إلى مكتبه، طور قدرة فريدة على تقمص شخصية إنسان آخر وفهم روحه». هذه القدرة نفسها شلت فيه عمل آليات الدفاع المعتادة التي تجعلنا غير حساسين لمحن الآخرين. وهذا الضعف عزل الكاتب عن عائلته. توترت العلاقات مع زوجته عندما وقف تولستوي في كتبه ضد مؤسسة الزواج، ودعا إلى العفة التي لا يستطيع تطبيقها على نفسه.
نهج جديد
صاغ المؤلف منهج بحثه الخاص، الذي يختلف تماما عن منهجية أسلافه – المتخصصين في سيرة تولستوي وأدبه – من رافائيل لوينفيلد مرورا بفيكتور شكلوفسكي وحتى بافل باسينسكي- حيث يقترح اعتبار حياة تولستوي وعمله حبكة واحدة أو قصة واحدة بطلها هو الروائي. ويكتشف منطقا صارما في الأحداث التي تبدو عشوائية في سيرته. يؤكد زورين في الديباجة «أن أعمال الكتّاب والمفكرين العظماء لا تعكس حياتهم كثيرا بقدر ما تشكلها». ومن خلال اختيار الحقائق والاقتباسات بمهارة من نثر تولستوي ومذكراته، يبني المؤلف صورة حية للغاية للشخصية الرئيسية – الأخلاقي الذي قضى حياته كلها في محاولة كبح حياته الجنسية، والمفكر الذي خالف القواعد دائما وأصبح الأكثر تأثيرا في عصره. كتاب زورين عرض متماسك لشخصية تولستوي بأكملها. ولا يعود إلى الثنائية المألوفة عند النقاد، التي تفصل بين تولستوي الفنان وتولستوي المفكر. كان تولستوي نفسه مدركا تماما لهذا الصراع الداخلي بين الفنان والمفكر، وحاول بعد ذلك التوفيق بينهما. وعلى خلاف العديد من النقاد الذين كانوا مهتمين للغاية بتكييف هذا النموذج الثنائي، يتجنب زورين ذلك من خلال تقديم تولستوي كمجموع لجميع أنشطته المتنوعة – الروايات والمقالات والمراسلات، تعاليمه الشفهية، وكتاباته الدينية، وسلوكه وأفعاله المباشرة، وحتى مشاحناته العائلية – التي تم دمجها بسلاسة في سيرة حياته.
إذا كان مسار تولستوي يبدو مليئا بالمنعطفات غير المتوقعة من طرف إلى نقيضه، فإن كتاب زورين يظهر أن كل منعطف لم يكن سوى مظهر من مظاهر المنطق الداخلي لوجوده. وفي ضوء ذلك، فإن الأزمة الروحية التي عاشها تولستوي عام 1878، عندما رفض كل قيمه السابقة تقريبا، ليست مفاجئة: فقد كان هذا التحول تتويجا للبحث المستمر عن معنى الحياة والموت، والتأمل العميق في الذات.
هل كان تولستوي مفترسا جنسيا؟
يعد الانشغال بالجنس والموت جانبا مهما في سيرة تولستوي، ويصور زورين الكاتب باعتباره مفترسا جنسيا يكره نفسه بسبب شهوته الجنسية، ويبذل قصارى جهده للقضاء عليها. لم يخف تولستوي أبدا علاقته المعقدة برغباته الجنسية، وتروي مذكراته كل ذلك بالتفصيل. انتهت التجربة الجنسية الأولى للكاتب المستقبلي بالدموع. ويتذكر قائلا: «عندما أحضرني إخوتي إلى بيت الدعارة لأول مرة، وارتكبت هذا الفعل، وقفت بجانب سرير هذه المرأة وبكيت».. بعد مغادرة قازان، في سن التاسعة عشرة، انغمس تولستوي الشاب في مغامرات غرامية. «لا أستطيع التغلب على الشهوانية، وعندما كان في الرابعة والعشرين اعترف الكاتب في مذكراته «أحتاج إلى امرأة»، ثمّ كتب لاحقا «لم يعد هذا مزاجا، بل عادة من الفجور. كنت أتجول في الحديقة بأمل غامض ومثير للرغبة في الإمساك بشخص ما في الغابة». قبل الزواج، تمكنت الخادمات والفلاحات وسيدات المجتمع والنساء المتزوجات من التعايش في قلب تولستوي الشاب، ولكنه بعد اقترانه بصوفيا أندرييفنا أصبح زوجا مثاليا مخلصا وعاش معها ما يقرب من نصف قرن. ويطرح زورين موضوع افتتان تولستوي بالرجال من خلال سطور مزعومة من مذكرات الكاتب، ويقول إنه في نهاية حياته، اتهمت صوفيا زوجها العجوز بإقامة علاقة مثلية مع سكرتيره الشخصي فلاديمير تشيرتكوف. ولكننا، لم نجد أي مؤشر على مثل هذا الارتباط في يوميات تولستوي نفسه ويوميات زوجته صوفيا ومذكرات المقربين منهما. ومن المعروف أن علاقة صوفيا بتشيرتكوف باتت متوترة للغاية في السنوات الأخيرة من حياة تولستوي. وحاول تشيرتكوف بكل الطريق الممكنة تقويض سلطتها، داعيا تولستوي إلى كتابة وصيته وحرمان زوجته وأولاده من ميراثه المادي والفكري، وأقنعه بالهروب من منزله وهو ما حدث في الواقع، ما أدى إلى وفاته على نحو دراماتيكي.
«ويبدو أن تولستوي كان مفتونا بسر الموت. ففي رسالة إلى سيرغي، شقيقه الوحيد الذي بقي على قيد الحياة، وصف انطباعه عن «التعبير المبهج والهادئ «للوجه الساحر» لأخيه المتوفى، الذي تحرر أخيرا من معاناة لا تطاق. في ضوء ذلك، يصبح من الواضح أن الإبداع بالنسبة لتولستوي كان نوعا من محاولة العيش. ومع وجود القلم والورق بين يديه، كان بإمكانه دائما إعادة عقارب الساعة إلى الوراء، واستعادة الأحداث التي كانت مهمة بالنسبة إليه. هذه القدرة ترجع فقط إلى مهارات الكتابة الفعلية التي واصل تولستوي صقلها. سيتم تقديم الموت أكثر من مرة كأعلى نقطة في الحياة، لكن هذا لا يلغي الخوف من الفناء. «وفقا لتولستوي، فإن قدرة الكائن الحي على قبول الموت والتصالح معه تتناسب عكسيا مع وعيه بتفرده». ويقتبس زورين فقرات من كتّاب سيرة تولستوي الذين وصفوا زواجه بالمأساة، وكأنه طاغية في منزله، وركزوا على مواقفه المزعومة الكارهة للنساء، وإصراره على الولادة الطبيعية والرضاعة الطبيعية، ورفض تخدير زوجته التي كانت تتألم أثناء الولادة، والتي أنجبت له ثلاثة عشر طفلا. ودافع البعض عن صوفيا أندرييفنا، في حين أشار آخرون إلى حقيقة مفادها أنها في وقت لاحق من حياتها لم تعد تحتفظ بصورتها الملائكية التي بدت عليها في حفل زفافها في سن الثامنة عشرة، وأنها أصبحت أكثر تعصبا وتحكما مع مرور الوقت. وكانت صورة «الزوجة المثالية للكاتب العظيم من صنعها إلى حد كبير». ولكن الحقيقة ليست بهذه البساطة، بل أعمق وأعقد من ذلك بكثير.
تزوجت صوفيا أندرييفنا بيرس ليف تولستوى عام 1862 رغم الفارق الكبير في السن – في ذلك الوقت كان عمر العريس ضعف عمر العروس، التي كان عمرها 17 عاما- نشأت صوفيا بلا هموم فى كنف أبيها أندريه بيرس طبيب الأسرة القيصرية الذي عاش مع أسرته في شقة حكومية داخل الكرملين. بعد الزفاف، انتقلت صوفيا أندريفنا من موسكو إلى ياسنايا بوليانا. بدت الحياة الريفية مملة للفتاة النشيطة، لذلك وجدت أنشطة لنفسها – العزف على البيانو والقراءة والرسم.. خلال هذه الفترة، تواصل الزوجان كثيرا مع بعضهما بعضا. وفقا لمذكرات صوفيا أندرييفنا نفسها، كانت تحت تأثير زوجها تماما – «نظرت بعينيه وفكرت بأفكاره». لم يعجبها ذلك دائما، وحاولت الدفاع عن شخصيتها المستقلة. ومع ذلك، كانت هذه الفترة هي الأسعد في علاقتهما. بالتوازي مع الأعمال المنزلية، قامت صوفيا أندرييفنا بنسخ أعمال زوجها. كان حجم العمل هائلا – فقد أجرى تولستوي تصحيحات منتظمة على مخطوطاته. في وقت لاحق، أصبحت صوفيا أندرييفنا مدققة لغوية ونوعا من الوكالة الأدبية لزوجها، حيث كانت تتواصل مع لجنة الرقابة ودور النشر والطباعة. يتفق العديد من الباحثين على أنه من دونها لم يكن الكاتب ليتمكن من العمل بشكل مثمر. وفي الوقت نفسه، عانت صوفيا من عدم تحقيق ذاتها، كما يتضح من مذكراتها. وقامت بتأليف قصص وقصائد نثرية.
حتى إنها نشرت البعض منها في إحدى المجلات الأدبية في العاصمة تحت الاسم المستعار «متعبة». ومع ذلك، لم يكن لديها ما يكفي من الوقت والطاقة لتنغمس بالكامل في إبداعها، الأمر الذي كانت قلقة للغاية بشأنه. كلما زادت المسؤوليات التي تحملتها صوفيا لإدارة شؤون زوجها الأدبية، زاد ابتعاده عن الحياة الأسرية والكتابة. انغمس تولستوي تماما في خلق تعاليمه الدينية والفلسفية الخاصة، التي أطلق عليها أتباعه «التولستوية». لم يكن لدى صوفيا وقت لهذه الأمور، التي كانت منفصلة تماما عن حياتها الحقيقية، المليئة بالعمل، والكتب ورعاية الأطفال والأحفاد. أزعج هذا تولستوي، الذي أخذ أفكاره على محمل الجد للغاية. لكن زوجته لم تفهم بعض أفكاره، ولم تقبل بعضها الآخر، وقابلت نيته في التخلي تماما عن الملكية والعيش على العمل البدني حصريا برعب واضح. تدريجيا، تدهورت العلاقة بين تولستوي وزوجته تماما – كانت وجهات نظرهما مختلفة جدا. ونتيجة لذلك، قرر الكاتب أن يعيش حياة العزلة والنسك.
في 10 نوفمبر/تشرين الثاني 1910، في الساعة الخامسة صباحا، هرب تولستوي من منزله ليلا – برفقة طبيبه الخاص، ثم انضمت إليهما ابنته ألكسندرا تولستايا. ترك تولستوي رسالة موجهة إلى زوجته: «رحيلي سوف يحزنك، يؤسفني ذلك، لكن أفهميني وصدقيني أنه لم يكن بإمكاني فعل خلاف ذلك. وضعي في البيت أصبح لا يطاق. وإلى جانب كل الأشياء السيئة، لم يعد بإمكاني العيش في ظروف الرفاهية التي عشت فيها. إنني أفعل ما يفعله كبار السن عادة: يغادرون الحياة الدنيوية ليعيشوا في عزلة وصمت آخر أيام حياتهم.
دامت رحلة تولستوي لمدة أقل من أسبوعين – وفي الطريق أصيب بنزلة برد، وتطور المرض إلى التهاب رئوي حاد، ما أدى إلى وفاته في محطة أستابوفو الصغيرة، في منزل رئيس المحطة.
***
جودت هوشيار

 

مؤخرا، قضيت يوميا عدة سويعات مع رواية "زارع الريحان " لهاجر القحطاني. أقول 'سويعات' لا لأستفيد من صيغة التصغير في نحو اللغة العربية، بل فقط لأن هذا ما اقتطفته من الوقت في اليوم الواحد لقراءة الرواية، سويعات. ولأنها كانت سويعات مترعة، فقد اتسمت بصيغة 'التكبير' وليس 'التصغير' في نحو لغة الأحاسيس.

ولأني أسهر مع عملي، ولا أملك وقتا بين ذلك أردت في البداية أن أزيح الرواية عن ناظري، واتركها لأجلٍ يجلبُ نفسه، لكن عينيه، اقصد بطل الرواية والراوي، وهو يكاد ينتأ على صفحة الغلاف الواعدة بمحتوى ثرّ، تستدرجاني: نظرة ، فكلمة ، فسطر، فصفحة،  ثم بلا مقاومة صفحات ، ورأس مغرقٌ في الكتاب.

كنت أقرأها نوتة نوتة لا تغفل عيني عن حرف.

ثم هناك الرغبة الحثيثة لاستحضار الوجود المحبب لصديقة قلّما ألتقيها، وقد أهدتني مشكورة فلذة من عالمها: روايتها  الريحانية: زارع الريحان. وانتهيت مع الرواية إلى وئام: المجالسة مع وجبتي الطعام.

وبدأت رحلة العناء اللذيذ الذي تكبدته للقراءة أثناء الفطور والغداء. لا وقت ٱخر لدي. بقيت أكتافي تنحني لتقريب الكتاب لكن الشغف أكبر من احساسي بالأثر المزعج للإنحناء. صرتُ قارئا مستميتا.

التعليقات البينية لراوٍ هائج حتى في هدوئه  (الاستاذ صفاء) هي سرّ الانشداد إلى القصة وليس ألاعيب فنية في تقنية القصة أو نزعات غرائبية للإثارة والجذب.

التعليقات تترى بوقعٍ مدوٍ وجازم، وبعضها يظل صداه يتردد مع السطور التالية، فأعود لقراءته حتى يلزم زاويته من الكتاب، وهكذا عاودت الكثير من هذه التعليقات التي تتوسطُ الحوارات والأحداث بما تحمله من تشبيهات نافذة ترتمي ببساطة على الورق بدون تزويق اسلوبي:

خيلاء شيخ منتش ٍ بمشيخته نراها في الغبار المتصاعد من  سيارته التي لا تليق به، وهو يحثُها كالخيول في معارك المجد.

 وقود! نحن البشر وقود العلم ليبلغ النجاح. مفردة بليغة في هذا السياق تعبٓر عن وحشية العلم وتجرده وتجريبيته.

"عندما دار العراق دورته السنوية حول الشمس …. " عبارة  كأنها نشيد وطني حماسي يتغنى بالوطن.

تراشق متسارع بين الوصف المكاني، ووصف الوجوه والملامح وبين التصوير الخفي الحي لدواخل شخوص الرواية، هشاشة نفوسهم، أو أحيانا قليلة عمليتها ومتانتها. والشخصيات بمجملها مركبة لا تمنح مكنوناتها بسهولة.

توظيف المعالم الفيزيائية لتنطق عما يعتمل في الداخل يجعل الرواية كأنما تتحدث عن المكان والمحيط، الغرفة، الستائر، مواقع الجلوس، الركن الأخضر، الحديقة، الزهور، لكنها تتحدث عنهم، عن دواخلهم، شخوص الرواية، وهم يتنفسون ويتفاعلون لصنع الحبكة. إبداع تصويري تراه عيوننا لكنه استبطان للأعماق.

عندما أردت أن أنتخب جملاً من الرواية للاستشهاد، بدت لي متكافئة، لذا أدعها لقارىء الرواية يختبرها بذائقته. اكتفي بهذا:

"شخص عادي، أخ عادي، جار عادي" (لحظات شعوره بضآلته)

"أرضية الغرفة اللامعة انسحب زخرفها، سريري الوثير جفت طراوته، ولوحة عباد الشمس لفان كوخ ذبلت أوراقها الصفراء فوق السرير" (لحظات خيبة)

"كأني مجبر على العيش.." (اعترافات تتداعى بروعة).

الرواية فيها كم من التحليل النفسي والنظر الثاقب المستثمر لرؤى هذا العلم في اضطرابات الشخصية، يدلل على اطلاع الكاتبة في هذا الميدان، بطريقة تذكر أننا نحن مادة هذا العلم، ونفوسنا حلبته، أي أننا أيضاً في فلك هذه الحبكة مع أبطالها ولسنا قراء غرباء.

وجميل أن تعرج الرواية على جمل ذات طابع علمي، فغالبا ما نجد اليوم الروايات التي يعلو شأنها في الغرب تتعاطى مع العلم أو تتزيا بشخصيته، منطلقة من توجسات أو تنبؤات علمية حول وجودنا ومستقبلنا وكوننا أكبر من مجرد خيال علمي.

أرى أن ذلك أضفى على رواية "زارع الريحان " المزيد من الرصانة والمواكبة.

واتمنى من هذه البراعة القصصية، والمقدرة الفائقة على الإنصات للنبض العراقي، وتشخيص علته وعافيته، اضطرابه وسكونه، عظمته وتهافته، أن تلتقط لنا شيئا من الروح الباذلة المتفانية للإنسان العراقي، تلتقط عصبا من أسرار بسالته، وتخلّده فيها في عمل مقبل.

***

انعام الشريفي - مترجمة وكاتبة عراقية.

(لا يمكن للطفل أن يجري سباق المائة متر وهو مازال يحبو)... البروفيسور عبد الله الطيب

مما لا شك فيه أن موضوع الحداثة أصبح في العقود الأخيرة من أكثر المواضيع النقدية تعقيدا في الأدب العربي، وفي الشعر بخاصة بسبب "قدسيته" المعروفة عند العرب. وأستخدمُ هنا كلمة "قدسية" الشعر لأنه ديوان العرب، يجسد مآثرهم، وتاريخهم، وحضارتهم، وتقاليدهم. وجرت العادة على أن هذا الشعر لا يقبل التغيير إلا على يد شعراء لهم القدرة على تطويعه وعلى دراية ومعرفة عميقتين بتقاليده.

ونلاحظ أن التقاليد الشعرية العربية مترسّخة في أمزجة العرب وأذواقهم الأدبية، لدرجة أننا نرى عامة الناس لا تزال مرتبطةً، حتى وقتنا الحاضر- بالشعر القديم، رغم أنها تجد صعوبة كبيرة في فهمه. وعلينا أن ندرك أن للقافية والوزن دوراً كبيراً في ترويج القصيدة الشعرية وانتشارها، وانه أيضا ما زال يحتفظ بأهميته.

ومن ناحية أخرى، نجد أن عدد القائلين باضمحلال الأشكال الشعرية التقليدية القديمة، بل موتها – يزداد يوماً بعد يوم منذ الستينات. وتكاثر أيضا عدد الشعراء الرافضين لكل علاقة بالتراث والأوزان والتفعيلات. تزخر المكتبة العربية اليوم بعناوين كثيرة من شعر الحداثة وبأسماء جديدة تظهر باستمرار في هذا الميدان ومع ذلك فإن هذه الحركة الشعرية لا تزال معزولةً عن الأوساط العامة من الناس وبعض المثقفين ومنتجي الثقافة، وقد سمعت أكثر من شاعر تجاوز عمر الشباب عبّروا عن انزعاجهم لأنهم لم يكونوا معروفين لدى الأوساط الثقافية على الرغم من دواوينهم الكثيرة.

وعلينا أن نأخذ بنظر الاعتبار أن بعض الأطراف العربية البعيدة عن المركز ذات الارتباط الوثيق بالتراث والتقاليد لا يعرف قراؤها شعراء الحداثة، ولا يرغبون في قراءته، بل إن أجواءهم الاجتماعية وحياتهم البسيطة والواضحة لا تتلاءم مع غموض هذا النوع من الشعر وتعقيداته الكثيرة.

أين إذن تكمن المشكلة؟ ومن أين جاءتنا ظاهرة الحداثة؟

إن مصطلح "حداثة" ذو دلالة معجمية عربية تعني "الجديد" أو " الحديث" إلا أن علماءنا القدامى لم يستخدموه إشارة إلى التحولات الجديدة التي طرأت على الشعر العربي منذ القرن الثاني الهجري. وكلمة الحداثة تعود إلى أصلها المعجمي "حدث"، واستخدم الباحثون مصطلحات مختلفة مثل: التحديث والتجديد والحديث والمعاصرة وغيرها، إلا أن مصطلح "الحداثة" لم ينتشر إلّا بعد ترسيخ الشعر الحر في الأدب العربي.

فهل هناك اختلاف بين هذه الحداثة التي نسمع عنها اليوم والتجديد الذي قدمه شعراء البديعيات في العصر المملوكي والعثماني، أو التجديد الذي ادخله البارودي عندما بعث الشعر العربي في العصر الحديث، وأحمد شوقي عندما أسس مدرسة البيان ووفق بين الحياة المعاصرة وضرورات الشعر التقليدي، أو ممثلي جماعة المهجر الذين اخذوا باللغة العربية نحو البساطة، والشعراء الرومانتيكيين من جماعتي الديوان وأبوللو الذين اقتربوا من موضوعات الحياة اليومية، أو على الأقل طالبوا بذلك؟

وإذا أردنا أن نجيب على هذا السؤال فمن الأفضل لنا أن نطلق مصطلح "ما بعد الحداثة" على حركة الحداثة الحالية لكي نميزها عن النزعات التجديدية السابقة، التي لم تنفصم عن التراث ولم تعارضه.

وعندما نقارن بين شعراء جماعة الديوان مثل عبد الرحمن شكري والعقاد، أو خليل مطران الذي لم يختلف عنهما كثيرا في انتقادهما لشوقي وبين شعراء الحداثة المعاصرين فإننا سنجد أن الاختلاف الرئيس يكمن في أن المجددين الأوائل كانوا ينتمون إلى حركة تجديدية أو نزعة تحديثية نابعة من الواقع الثقافي المحلي وتأثرهم بطبيعة الحال بالآداب الأجنبية. وعندما رفض جماعة الديوان أسلوب احمد شوقي لتمسكه بضوابط القصيدة العربية القديمة التي لم تعد تلائم العصر، لم يتهجم هؤلاء الشعراء على التراث ولم ينادوا بدعوات ترفض البيان العربي، ولم يطرحوا في الوقت نفسه أفكارا ارتجاليةً سريعةً متناقضةً مع الواقع الثقافي العربي. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى كان هؤلاء الشعراء التقليديون أقدر من بعض شعراء الحداثة المعاصرين على مواجهة القديم بسلاحهم النقدي الجديد، إذ إنهم كانوا على صلة وطيدة بالتراث وعلى اطلاع بالآداب الأجنبية على عكس بعض الحداثويين، الذين لم يولوا اهتماما بالشعر العربي القديم ولا بالنزعات التجديدية فيه التي ظهرت في العصر العباسي ولا بالأشكال الهندسية والبديعية التي ظهرت في العصر المملوكي. المشكلة بالنسبة للحداثة العربية أنها أصبحت مزمنة ومتواصلة مع تعدد الأجيال. وانا هنا لا أقصد بالتأكيد، الشعراءَ الموهوبين الذين استطاعوا أن يوفقوا بين التقاليد والتجديد. لكن الصعوبة تكمن في أن يأتيك شاعر شاب بديوانه الذي لا يمكن أن تنتقده إذا كان خاليا من عمق الفكرة والحكمة والوزن والإيقاع والبيان، لأنه سيقول لك بكل بساطة: إنه لا يؤمن بهذه القيم الشعرية وإنه من شعراء الحداثة! وهذا يعني أن الشعراء المبتدئين من المواهب الضعيفة يستغلون التخبط الشعري، مع يقيني بأن البقاء دائما للأصلح وللمواهب الحقيقية.

ولو أردنا أن نرجع إلى جذور الحداثة الأوروبية لوجدناها مختلفة عن وضعها الحالي. يرى الفرنسي جان ماري دوميناك، رئيس تحرير مجلة ESPRIT السابقة، في كتابه "مقاربات الحداثة"، بأن الحداثة بدأت في أوروبا قبل مائتي سنة وهي مازالت مستمرة حتى وقتنا الحاضر. ويعتقد أن النقاش حول الجديد والحديث ظهر في القرن الرابع عشر، إلا أنه يقسّم الحداثة إلى ثلاث مراحل: الحداثة الأولى ابتدأت برأيه في نهاية القرن الثامن عشر وانتهت بنهاية القرن التاسع عشر (1780-1880)، أما الثانية منذ نهاية القرن التاسع عشر وانتهت في النصف الثاني من القرن العشرين (1880-1960)، أما الحداثة الثالثة فهي مستمرة حتى وقتنا الحاضر الذي يشهد أحدث أنواع التقنيات في المجال الإلكتروني والحاسوب الآلي مما له تأثير كبير على عقول البشر، المشغولين في أوروبا بمختلف أنواع التقليعات والصرعات والإدمان الاجتماعيه مثل الثورة الجنسية في الستينات وترويج المثلية، وسيكشف لنا المستقبل عن خبايا لا نعرفها من ممارساتهم الجديدة.

فالحداثةُ الجديدة إفرازٌ من إفرازات مجتمع يختلف بقيمه وتقاليده ومفاهيمه وتطوره عن المجتمع العربي اختلافا كبيرا. وهذا ما يجب أن يأخذه شعراؤنا المعاصرون والحداثويون منهم بخاصة بالحسبان.

ويُعد موضوع التجديد والحداثة من المواضيع الهامة في الآداب الأوروبية أيضا، وتشير كتب تاريخ الآداب الأوروبية إلى أن ماثيو أرنولد قد ألقى سنة 1857 محاضرة في جامعة أوكسفورد عن العنصر الجديد في الأدب فاعتبره يمثل السكون والثقة والنشاط العقلاني الحر والاحتكام إلى العقول عند الاختلاف في الآراء والتسامح...ولكن سباقة ومتلائمة مع المجتمعات الأوروبية التي تجاوزت فترة الأدب التنويري وأنجزت أهدافه التنويرية.

للحداثة الأوروبية تاريخ طويل أكثر بكثير من نظيرتها العربية، وهي إفراز من إفرازات الأوروبيين في حياتهم الجديدة بعد أن تجاوزوا صعوبات مختلفة ووصلوا إلى مستوى عال من التطور العلمي والضمان الاجتماعي، ولكنهم عانوا ويعانون في الوقت نفسه من أمراض اجتماعية كثيرة أهمها الغربة وانفصال الذات عن المجتمع، والانغلاق على النفس، عندها يصبح من السهل فهم أعمال دوستويفسكي وفوكنر وإيليوت وغيرهم.

أما الحداثة العربية الجديدة فأقول إنها ناقصة أو "عرجاء" مثل التنويرية! لأنها معزولة عن حركة المجتمع وحدثت في فترة زمنية قصيرة، ولا تتناسب مع تطوره، الذي لم يتعرض لتغييرات كبيرة، فلا يزال يعاني من البداوة حتى في الحياة السياسية، ولا تزال الآراء تُصادر بسهولة، والجيوش تتحرك حسب أهواء الزعماء ومازالت المصطلحات العلمية والكتب المترجمة يعلوها الغبار في المكتبات، ولا تزال بعض الدول العربية تعيش حياة قبلية بكل معنى الكلمة.

والحداثة العربية ظهرت في المركز منعزلة عن الأطراف والتطور الجماهيري الاجتماعي وبقيت مرتبطة ببعض المثقفين والبناء الفوقي ومحصورة بين فئة محدودة منهم او كتّاب "البروج العاجية" وجماعات الوقت الضائع. ولا يعني هذا انتقاصا من المجددين، بل إن وضعهم ونتاجاتهم معزولة عن حركة المجتمع وتطوره.

وأود أن هنا أقول للشعراء الشباب من الذين يلهثون وراء الغموض والرمز والتعقيد بطريقة مفتعلة، بأن هذا اللون من الشعر لا يجد آذانا صاغية خارج حدود المثقفين.

فمن السهل عليك أن تقرأ دوستويفسكي وتفهمه في بريطانيا أو في أي عالم مزدحم بالشوارع والدهاليز، بينما ستجد صعوبة كبيرة في قراءته في الصحراء أو في بيئة بسيطة. ولهذا لا يجب ممارسة الحداثة بدون فهمها والتسلح بالموهبة والالتصاق بالبيئة المحلية بالدرجة الأولى كي تكون القصيدة نتاجا اصيلا حقيقيا.

وإذا أردنا أن نؤرخ حركة الحداثة العربية فيجدر بنا أن نبدأ من تجارب الشعر الحر الأولى التي جابهت صعوبات كثيرة، ومع ذلك نستطيع أن نقول إن روادها كانوا على دراية بالتراث والشعر القديم، وأصحاب مواهب حقيقية وهنا يكمن سر نجاحهم.

أما بعض النتاجات الضعيفة التي تحاول الادعاء بالانتساب الى الحداثة الحالية وتتعكز عليها فهي إفراز من إفرازات وضع بعض المثقفين الشباب العرب المحبطين من الذين يتصورون أن خروجهم عن المألوف ورفض التابو يشفع لهم ويجعلهم من الشعراء المشهورين. ومن المؤسف أن هذه الحركة تظهر في جو عربي غير مستقر وغير منسجم مع التطور العلمي العاصف في أوروبا وأمريكا، فالإنسان العربي مازال حتى يومنا الحاضر يعاني من تبعات اللا استقرار مثل الفوضى والهموم المرتبطة بحياته اليومية كتأمين كسرة الخبز والحصول على الضمان الاجتماعي، هذا إضافة إلى الهم القومي والديني بسبب وجود كيان غريب في جسم الأمة مما أدى إلى الحروب وإنهاك قوى الناس وانشغالهم به. ولعل الانقلابات العسكرية وأحداث الربيع العربي خير دليل على صحة رأينا.

ولا تزال أوساط واسعة من القراء العرب تبدي إعجابها بالشعر القديم عندما تقرأه أو تسمعه، بل لا يزال الكثيرون يسخرون من قصيدة التفعيلة الواحدة أو الشعر الحر، أما قصيدة النثر أو شعر الحداثة الجديد فلم يتعودوا على سماعه واستيعابه حتى وقتنا الحاضر. وهذا يعني أن الحداثة ما زالت برجاً عاجياً وغريبةً على الذوق الشعري العربي ذي الجذور العميقة في المجتمع، وتنطبق هذه الفكرة بشكل خاص على الأوساط الثقافية في المجتمعات العربية، التي لم تحصل على فرصة الانفتاح والالتقاء بالثقافات الأجنبية.

من المؤسف أن البيئات الثقافية في بعض الدول العربية ينطبق عليها الرأي الوارد أعلاه، وهناك أساتذة أدب في الجامعات لا يتذوقون حتى الآن الشعر الحر، لكنهم يحاولون تفهمه في بعض الأحيان، أما قصائد الحداثة الجديدة فيعتبرونها هلوسةً وفوضى كلمات ليس إلا.

فهل يصبح بعض شعرائنا الحداثويين الشباب لسان حال الحداثويين الأوروبيين؟

وهنا يحضرني خبر قرأته إحدى المرات قبل عدة سنين في الصحف العربية، يقول إن ثلاثة شعراء عرب من ذوي الشهرة والسمعة في أوطانهم وخارجها، يحتفون بشاعر فرنسي مقيم في بلاده. لقد توقفت عند هذا الخبر واحترت له، فكيف يحتفي الضيف بصاحب الدار، وكان الأولى أن يحتفي الشاعر الفرنسي بضيوفه الشعراء الثلاثة المقيمين في بلاده!

إننا بحاجة ماسة إلى المزيد من الأصالة في التعامل مع الخطاب الفكري الوافد من الخارج سواء كان شعرياً أم نثرياً أم نقدياً، وهنا أذكر ما قاله الناقد غالي شكري، فقد صرح مرة: لستُ سكرتيراً لرولان بارت أو لوسيان غولدمان ولا وارثاً لهما ولست مديرَ دعاية لكتابات جريماس أو تودوروف.

وقد أورد غالي شكري قصة أحد الطلبة العرب الدارسين في جامعة السوربون، الذي أراد أن يطبق أفكار جريماس ومفاهيمه على نصوصٍ شعريةٍ عربيةٍ، فرفض جريماس نفسُه هذا الأسلوب واعتبره دبابة تسحق زهوراً صغيرةً، هي الشعر العربي الحديث.  الشيء نفسه يقال عندما نقع فريسة الصرعات النقدية في مجالات أخرى مثل الرواية، فننشغل مرة بباختين وأخرى بتودوروف أو رولان بارت أو لوكاش وأخرى بالبنيوية والمورفولوجيه والشكلانيه والسردياتيه وغيرها. وهذا نقص كبير في الثقافة، لأنها تنشغل باستهلاك الجديد من الثقافات الأخرى ولا تتفاعل معها وتعيد انتاجها وتبدع أطروحاتها وتنظيراتها.

يجب أن تكون الحداثة نتاجاً لتطور المجتمع بحيث تصبح متناسبة مع عقول أغلب المتعلمين العرب وأمزجتهم لكي يمكنها أن تقوم بدورها في الحياة. إن من يرفض الأوزان الشعرية عليه أن يفهمها ويتعلمها لأنه قد يحتاجها في حداثته أيضا، فهي اللا محدود في الإبداع وليس اللامحدود في البحث عن الأشكال السهلة، وان الأشكال الهندسية التي ابتدعها شعراء العصر المملوكي فيها الكثير من الحداثة وفيها القدرة الهائلة من المواهب الإبداعية، لكنها كرست لفنون البديعيات، ومن هنا يرى بعض النقاد أنها مجرد مضيعة وقت ليس إلا.

ومن المؤسف أن بعض الأشكال المختلفة من الحداثة لا تمت بصلة مع الواقع العربي، وهي مع الأسف الشديد ذات خصائص تخريبية في بعض الحالات، وبخاصة عندما يقوم قسم من الشباب غير المطلعين على التقاليد الشعرية القديمة، أو مثل أولئك الذين أسماهم البروفيسور السوداني عبد الله الطيب قبل أكثر من عقدين بـ "الشعارين" باستغلال الفوضى الثقافية والتصدي للموقف الأدبي وانتهاز فرص النشر المتاحة أمامه. وهذا لا يعني الدعوة إلى تضييق الخناق على حرية استيعاب الشعر القديم من قبل الأجيال الجديدة ومواقفهم الأدبية منه باستقلالية تامة، ولكن يجب أن يكونوا على معرفة جيدة به. ومن المؤسف أننا في وضع ثقافي لا يحسد عليه ولقد أشار إلى ذلك أكثر من ناقد، مثل المرحوم عيسى الناعوري الذي أشار قبل الانترنيت بأكثر من ثلاثة عقود من الزمن إلى أن أغلب الكتابات العربية المعاصرة تفتقر إلى المقومات الأدبية، وان طلاب الثانوية أصبح بإمكانهم النشر والتأليف إذا كانوا على حظ وافر من العلاقات الاجتماعية والصلات بالأوساط الأدبية ذات الممارسات البعيدة كل البعد عن الأدب. فهل هذا وضع أدبي يمكن له أن يفرز جيلاً مسلحاً بمعرفةٍ عميقةٍ عن أدبه القومي بحيث يحق له أن يصدر القرارات بشأنه؟  بل إننا نجد الهفوات في ما يكتب اليوم، ولست أول من أشار إلى هذا الأمر فقد سبقني الكثير من الشعراء، والنقد العربي يتحمل مسؤولية كبيرة أمام وضع كهذا "فإن فقدان الناقد الجاد المؤهل بثقافة نقدية عالية أفسح المجال للكثيرين بأن يسلكوا في عداد الشعراء وهم لا ينتمون إلى الشعر لا بالفعل ولا بالقول" على حد تعبير الشاعر احمد عبد المعطي حجازي1.

ومن الطريف أن بعض شباب شعراء الحداثة، يرفض بعضهم بعضاً، وهناك جيلان على الأقل من الشعراء الشباب منفصلان عن التراث ولا نجد في لغتهم ما يشير إلى أنهم قادرون على استيعاب التراث واستخلاص الجديد منه ليقدموا شعراً حديثاً حداثوياً أصيلاً فأنا اتفق مع ادونيس عندما يقول: "أطالب بالانفصال عن الرماد، لا عن اللهب" لكي يستطيع الشاعر أن " يخلق صورة جديدة" على حد تعبيره2.

ولكن قبل أن ينفصل الشاعر عن الرماد عليه أن يُكوى بالنار لكي يتحمل لهبها وقبل أن ينفصل عن التراث لا بدّ له من معرفته له بعمق، لكي يتم كل شيء عن دراية وتأنٍّ وبدون ارتجالٍ أو تأثير خارجي فحسب بمعزل عن التطور الداخلي.

وأعتقد أن البارودي وشوقي وحافظ والرصافي والجواهري وبدوي الجبل والبردوني والسياب ونازك الملائكة وقباني وأمل دُنقل وغيرهم استطاعوا التوفيق بين الشكل التقليدي وحاجات العصر الذي ينتمون إليه، ولا يمكن في الوقت نفسه أن ننكر قدرتهم على الربط بين التراث والمعاصرة ومعرفة أذواق المجتمع، وإلا فكيف نفسر انتشار شعرهم في كل الوطن العربي؟

وبرأيي أن سبب نجاحهم يكمن في موهبتهم الشعرية وثقتهم بنفسهم في استخدام إمكانياتهم اللغوية وعدم انفصالهم عن تراثهم.

ومما لا شك فيه أننا لا نريد أن يُفهم من حديثنا هذا على أنه ضد الحداثة الحقيقية ورموزها الموهوبين أو أنها دعوة موجهة للشعراء الشباب لوصف الناقة كما فعل البارودي عندما كرّسَ إحدى قصائده لمغامرات وهمية في مجتمع قبلي لاعلاقة لمصر القرن التاسع عشر به، أو حافظ إبراهيم الذي وصف سفرته بالقطار كأنه شاعر جاهلي يصفُ رحلته وهو على ظهر ناقته، ولا ندعوهم أيضا إلى نظم الشعر كما فعل القدامى، بل إن الذي نتمناه لهم هو العمل الجاد والدؤوب من أجل المعرفة المتعددة الجوانب كي يمكنهم تحقيق حداثة اصيلة. ولا بدّ من الإشارة هنا بأن ليس كل ما يُكتب من خواطر وتداعيات وأفكار عن الممنوعات والتابوهات بصوت عالٍ شعراً حداثوياً حقيقياً، وأن اللغة المفتعلة والمليئة باللعب بالألفاظ والمجازات والتوريه أو بالعكس البسيطة وغير الفنية يمكن ان تكون شعراً.

ولا بدّ لنا أن نتذكر بأن شوقي كان على معرفة جيدة بالآداب الأجنبية إلا أنه لم يستعر منها غير المسرحية، التي كان الأدب العربي بحاجة إليها، واستطاع فعلاً أن يدخلها ببراعة.

ولقد كانت ثورة مطران وغيره من جماعتي أبوللو والديوان مقبولةً، بل أصبح العديد من أفكارها وأهدافها مثل وحدة القصيدة وعصرنتها والاهتمام بالمعنى وعدم اللهاث وراء البيان والبديع والاهتمام بالذات والخيال وغيرها، من المسلمات في النقد العربي. وعلى الرغم من تأثر عبد الرحمن شكري ومطران وغيرهما بالآداب الأوروبية إلا أن دعواتهما لم تكن استفزازية بالنسبة للتراث، ولم ينفصلا عنه، كما فعل جماعة "شعر" باستثناء بعض المواقف المعتدلة التي طرحها الشاعر والمنظّر الموهوب أدونيس.

وأهم ما يمكن أن يثير الانتباه في نشاط بعض الشعراء الشباب منذ الثمانينات، هو لهاثهم وراء التقليعات الأدبية والنقدية بدون معرفة حقيقية لها لدرجة أن نصوصا شعرية تدّعي الحداثة تفتقد جماليتها بسبب الغموض المفتعل والرمز الدخيل على النص.. وكل هذا يحدث من أجل كسب سمة الحداثة، التي أصبحت تعني الغرابة بالنسبة لهم.

***

د. زهير ياسين شليبه

...........................

* نُشر هذا المقال في صحيفة الزمان اللندنية في بداية التسعينات، المقصود هنا ليس كل شعراء الحداثة، بل بعض الكتابات السطحية التي تمثل قشورها.

1- مجلة إبداع. العدد 9/ 1985 ص 8

2- أدونيس. زمن الشعر، دار العودة 1978 ص 228

قصيدة "لماذا لم ينتبه أحد؟" للشاعر التونسي فتحي مهذب هي صرخة احتجاج فلسفية ضد اللامعنى، حيث يستعرض سقوط كل ما هو إنساني ونبيل في عالم تملؤه الفوضى واللامبالاة. بأسلوب يقترب من السريالية والتعبير الوجودي، يعكس الشاعر حالة العالم الحديث، وينقل مشاعر القلق والاغتراب والعجز أمام الانهيار الكوني. يمكن تحليل هذه القصيدة من عدة جوانب أدبية وفلسفية ونفسية، ومقارنتها بآراء بعض الفلاسفة.

القصيدة تتحدث عن "سقوط" كل شيء؛ من الأشخاص إلى النجوم إلى الأرض، وكأن العالم ينهار في مشهد عبثي لا معنى له. هذه الصورة تتسق مع فلسفة ألبير كامو حول العبث، حيث يرى كامو أن الإنسان يعيش في عالم لا معنى له، وأنه يواجه باستمرار فوضى الكون اللامتناهية. هنا، يعكس الشاعر فكرة العبث بسرد أحداث يومية مؤلمة ومأساوية، تجسد عجز الإنسان عن إيجاد معنى في حياته وسط هذا الانهيار الشامل.

الشاعر يصف سقوطًا متكررًا للأشياء والأشخاص، وكأن كل ما في الحياة يسير نحو الهاوية بلا هوادة. يشير السقوط هنا إلى انحطاط القيم الإنسانية وغياب الأخلاق، مما يخلق شعورًا بعدم الاستقرار. هذه الرمزية تشبه تحليلات فريدريك نيتشه حول "أفول القيم" و"موت الإله"، حيث يرى أن القيم القديمة التي دعمت الحضارة أصبحت فارغة، مما دفع البشرية نحو أزمة أخلاقية. السقوط هنا يعكس هذه الأزمة، ويشير إلى عالم فقد تماسكه الأخلاقي والقيمي.

القصيدة تفيض بمشاعر الحزن والضياع، وكأن العالم يلفظ أنفاسه الأخيرة وسط تتابع هذه "السقوطات". تعكس القصيدة قلقًا عميقًا واغترابًا، يتفق مع نظريات سيغموند فرويد حول القلق الوجودي، الذي يعتبر نتيجة حتمية للحياة الحديثة المليئة بالتوتر والمخاطر. الشاعر هنا، يبرز شعورًا بالعجز أمام انهيار العالم، ويجسد قلقًا يوميًا يطارد الأفراد كالراعي الذي يلاحقه "حبل طويل من السحرة"، في إشارة إلى القلق المتراكم في اللاوعي الإنساني.

تتناول القصيدة سقوط "القتلة" و"قاطعي رؤوس الكلمات المضيئة" و"الراقصين على رصيف المؤامرة". هنا، يعبر الشاعر عن احتجاج ضد الظلم السياسي والاجتماعي الذي يعصف بالعالم العربي. هذه الأفكار تتماشى مع الفلسفة الثورية عند كارل ماركس، حيث يظهر الشاعر الوعي الطبقي ويندد بمن يسيطرون على مقاليد السلطة ويعبثون بمصائر الناس. الكلمات هنا تصبح وسيلة للتعبير عن هذا الظلم وللإشارة إلى التوتر بين الشعب وبين من يحكمونه بقبضة من حديد.

في عبارة "الشاعر بثقوب مروعة في حواسه الخمس" يعبر الشاعر عن عجز الشعراء والمثقفين عن التواصل مع العالم من حولهم، وكأنهم يعيشون في حالة اغتراب دائم، يتنفسون الهواء ذاته لكن بوعي مختلف. هذا الطرح قريب من نظريات جلال الدين الرومي الصوفية حول الاغتراب عن الدنيا والتوق للروحانية. يعكس الشاعر هنا رؤية وجودية للعالم، وكأن الحواس عاجزة عن إدراك عمق الانهيار الروحي.

تتجلى في القصيدة روح نقدية شديدة تجاه الإنسان المعاصر الذي فقد إحساسه بالآخرين وراح يجري خلف قناع اللامبالاة. يعبر الشاعر عن هذه الفكرة باستخدامه لعبارات مثل "الراقصون على رصيف المؤامرة" و"المهجوسون بإيقاع اللامبالاة". هذه الصورة تتقاطع مع تحليل مارتن هايدغر للوجود في العصر الحديث، حيث يرى أن البشر أصبحوا "كائنات مهملة"، تسير بلا هدف وسط الحشود، تلهث خلف رغبات سطحية عابرة، متجاهلين القيم الأعمق.

في قصيدة "لماذا لم ينتبه أحد؟"، ينجح فتحي مهذب في خلق ملحمة فلسفية عميقة من خلال تصوره لسقوط كل شيء في عالم فاقد للمعنى. القصيدة تعكس يأسًا من الواقع ورفضًا للظلم والنفاق، وتدعو ضمنيًا إلى يقظة ضمير، لتحدي هذا السقوط الأبدي. يلتقي فيها النقد الأدبي بالتفلسف الوجودي، ليظهر الشاعر صوتًا في عالم مضطرب، يبحث عن الحقيقة وسط أكوام من الأقنعة المتساقطة، في مشهد يعكس مأساة الإنسان الحديث.

***

عمر عبد العزيز

.......................................

** لماذا لم ينتبه أحد؟

يسقط وجهي

مخلفا غيمة كثيفة من الغبار

يسقط جيراني صرعى

تلاحقهم جنازير من القلق اليومي

عذابات مليئة بقذائف الهاون

يسقط الراعي وراء قطيع الهواجس

يطارده حبل طويل من السحرة

تسقط النجمة العذراء

يسقط الضوء من قبعة الخوري

ذئاب الندم الليلي

يسقط كل شيء

وجه النهار في مصيدة اللامعنى

الجسر الذي ترتاح على كتفيه

صلوات الرهبان

الشاعر بثقوب مروعة في حواسه الخمس

يسقط وجه سائق الباص من النافذة

يسقط وجه الشمس

على سرير الماء

يسقط صاحب الحصان الأحمر

بطلقة طائشة

يسقط  العميان تحت أنقاض الكلمات

مخلوقات عذبة

تسقط في النسيان

كلمات عميقة تسقط في شرك التأويل

وجه العذوبة يسقط في البئر

تسقط التوابيت على رؤوس الحكام

الحمام العائلي يسقط

الضحكات الحزينة تسقط في الوحل

يسقط لاعب الجمباز

مروض الساعات الحرجة بسكتة دماغية

يسقط العجوز مدججا بأمطار غزيرة من التجاعيد

يسقط القطار المحمل بالمنتحرين

تسقط السماء فوق الأرض

تسقط الأرض في مأزق أبدي

يسقط كل شيء

تسقط الأقنعة الكثيفة

مدبرو المكائد في الإسطبل

متعهدو حفلات الشواء العربي

القتلة وقاطعو رؤوس الكلمات المضيئة

الراقصون على رصيف المؤامرة

سائقو عربات الأموات

المهجوسون بإيقاع اللامبالاة

ستسقطون

ستسقطون

ستسقطون.

***

فتحي مهذب - تونس

تمهيد اولي: اكرمني الاستاذ بيات مرعي بروايته الثالثة (احفاد معطف السيد غوغول). عرفت الروائي بيات مبدعا موزع الاهتمامات والمواهب فهو فنان تشكيلي ومخرج مسرحي ومصمم بوسترات واغلفة كتب وصحفي وكاتب في الاجناس الادبية مميزا بعيدا عن الثرثرة والادعاءات الفارغة التي لا رصيد لها.
ذكّرني بيات المبدع المعروف على نطاق الوطن العربي أنه نال الجائزة الاولى لتصميمه بوستر بمناسبة بغداد عاصمة الثقافة العربية عام 2013. من بين مساهمين تنافسوا على الجائزة من داخل وخارج العراق. وقتها كانت طبعت لي دار الشؤون الثقافية ببغداد كتابي (الحداثة.... اشكالية التوصيل والتلقي) بالمناسبة العربية الثقافية ذاتها.
اول ما يستوقفك بالرواية هو الاهداء فيه (المعطف) رمز مزدوج على نفسه فهو تارة يكون معطفا نرتديه اتقاء برودة المناخ القارص حيث جاء في عبارة الاهداء (المعطف الذي دفأ قلبي ذات يوم شتائي) انا وجدت رمزية المعطف في الاهداء تشير الى حنان الاب الذي يستذكره الروائي طفلا. وتارة اخرى يكون المعطف دلالة محايثة غائبة عن الحضور المادي خلف السرد الانتقالي المستّل من واقع الحياة.
المعاطف المؤنسنون هم اولئك البشر المهمّشون مسلوبوا الحق بالحياة الكريمة. في محادثة لي مع المؤلف قال لي روايتي هذه هي دورة حياة تبدأ بولادة كل شيء ثم تنتهي بالاندثارتدريجيا في حتمية الموت. وبهذا اسقط الروائي بيات رمزية المعطف بدءا من حياكته وانتهاءا بحلجه اى اعادته خيوطا ثانية في هذه الدورة الحياتية التي ينتقل بها الانسان من بداية ولادته لحين موته.
عنونة الرواية هي رمزية مستعارة عن رواية (المعطف) للروائي الروسي الشهير نيقولاي غوغول. عمد الروائي بيات اسقاط ماض عاشه يمزج بين الواقعية والافكار والتداعيات الماضية التي تفرض نفسها ابداعيا تلك هي العوالم التي تنتقل بلقطات ما يسمى فلاش باك بين تصويره أجواء من الغرائبية والفانتازية التي يدخلك المعطف الرمز المخاتل في دوامتها. ويتنقل بك من إدهاش لآخر في تساؤلات بدون اجابات. انتقالات بيات مرعي في الرواية هي انتقالات متقافزة لا يستوعبها سرد منتظم يشتغل على مركزية ثيمة واحدة. بل هو يقودك نحو نهايات تاويلية مفتوحة سائبة تتوقف عندها التساؤلات العديدة. لا تجد في الرواية اجابات عن عوالم تمتزج بها الواقعية مع كل ما هو خرافي غرائبي سوى في الادهاش التساؤلي فقط هو هل الانسان معطفا ام المعطف هو الانسان؟. لعبة فانتازية لعبها الروائي بمقدرة فنيّة وحبكة سردية جميلة. على انهما مدلولان لجوهر واحد هو الانسان في دورة الحياة.
فمثلا يذكر المؤلف على لسان الراوي انه عندما دخل احد شخوص الرواية الاعور سرداب الذخيرة والاسلحة والعتاد المتروكة في القبو الذي يضم تلك المخلفات الحربية التي لم يعد لها قيمة بعد انتهاء الحرب بالمدينة. سمع الاعور وبيده الفانوس صوت نحيب آدمي ولما اراد معرفة صاحب البكاء النحيب دخل غرفة مهجورة مظلمة عفن رطوبة الروائح الكريهة تنبعث منها. واجهته بذعر صادم تكشيرة قطة سوداء (يلاحظ هنا رمزية اللون الاسود) مع هررة معها هم صغارها وقفت تدافع عنهم وتصرخ صراخا مفزعا مخيفا بوجهه وسط ظلام القبو الدامس.
ترك المؤلف مصير النحيب ومن كان صاحبه لغزا بلا جواب وغادره!؟ حيث انقلب النحيب الى قطة سوداء رمز التشاؤم والتطيّر المفزع منها وربما يذهب البعض ان حضور القطة السوداء في هذا القبو المظلم المخيف انما هي من عالم الجان المتخيّل المسكون بالذاكرة الجمعية التي كانت تتناقل وتنسج الحكايات المخيفة عن عجائب الجان التي ترتعد لها الفرائص وقتذاك تتداوله باستمتاع يشوبه الخوف المفزع مختلف الاعمار هو ما استدرج حامل الفانوس الاعور الذي يتجول في القبو لاستكشافه بعد ان هجره البشر...
رمزية المعطف في الرواية هو ليس ذلك الثوب الذي نتدفأ به من البرد القارص. بل هو عودة لعوالم متعددة متنوعة تستحضر المعطف في تجلياتها الواقعية والغامضة. استذكارات المخيّلة الابداعية للروائي بيات هو سعيه خلق توليفة من الانتقالات التي تدعوك للدهشة والتساؤل وماذا بعد ذلك ؟ اثناء مغادرتك الصورة الواقعية التي يسردها بغموض في شكل اقصوصة قصيرة صوّرها بعناية ليتركها مفتوحة النهايات امام القاريء ليستجلي هو بنفسه مراميها.؟
(فابتلع لساني واتركه على رصيف ساخن بالصمت) ص6 من الرواية
هذه العبارة الفلسفية هي للروائي بيات مرعي. وبحكم اشتغالي بالفلسفة فترة طويلة أعجبتني جدا عبارة بيات المكتنزة فلسفيا فأول مفارقة تجدها هي كيف ابتلع الراوي لسانه وهو وظيفة بيولوجية لغوية عدا وظيفتها البيولوجية في تناول الطعام.؟ وكيف ترك الراوي لسانه على رصيف ساخن بالصمت؟ وهي رمزية مجازية لترك اللسان على رصيف ساخن بالصمت الذي هو موقف من الحياة المليئة بالاحزان التي لا ينفع معها الصراخ حيث لا يسمعك احدا؟ لكن اذا نحن حللنا العبارة مجازيا نجد عبارة من سطر واحد او اقل تبهرك بصياغتها اللغوية الفلسفية التاويلية وتحيلك الى نوع من الدايلوك(الحوار) النفسي الذي يفرض حضوره الدائم على الناس المسحوقين بالحياة في ابتلاعهم السنتهم بنوع من الصمت القاتل.
ابتلاع اللسان بمعنى الصمت في العبارة التي اشرنا لها هو رمزية ماتعجز اللغة البوح والتعبير عنه من ألم وقلق وحزن دفين فيسّسلم بطل المشهد المحكي الراوي على لسان المتكلم انا لقدره الصمت المزمن في بلعه لسانه الذي هو اداة التعبير اللغوي عن مدخلات النفس ومخرجاتها في معاناتها. فيكون الصمت هو المسكوت الاجباري عما يجب ان لا يقال ويبقى خفيّا. حيث لاجدوى من الشكوى والتذّمر من الحياة فهم المعاطف المؤنسنة الذين يعيشون مرغمين مع كل ما ليس له قيمة لا في الكلام ولا في الصمت.
الملاحظة الثانية في تعبير اللغة بنصف سطر يكمن المعنى الاوضح في التكملة ان المتحدث يترك لسانه على رصيف ساخن من الصمت. نجد هنا المتكلم خرج من ابتلاع لسانه وهي عملية بيولوجية غير معقولة منطقيا ولا تجريبيا طبيعيا فاللسان اداة استنطاق اللغة كما ذكرنا حينما يمتلكه الشخص الفرد. لكن حينما يتركه – اللسان - على رصيف ساخن من الصمت فهو يقصد برمزية موحية الدلالة ان الصمت هو الصفيح الساخن الذي يشوي من يريد الحديث عما يجب أن لا يقال من المجموع الذي ابتلعوا السنتهم ولاذوا بالصمت منقذا لهم من الهلاك وليس الفرد المتكلم وحده بلع لسانه الكلام ليلوذ بالصمت الذي هو تجرّع الموت بالتقسيط..
اي اراد بيات القول في اسقاطه الخرس المكبوت انه لم يكن الوحيد الذي ابتلع لسانه خوفا من الوقوع في التهلكة بل هو قدر جميع المهمشّين المسحوقين بوقائع حياة لا نصيب لهم فيها من الراحة المادية ولا من الناحية المعنوية لمثل هذه الشرائح التي تقتات الحزن والقسوة والظلم والمرارة بصمت يشويهم على صفيح ساخن من المعاناة.
يوضح بيات مرعي على لسان احد شخوصه الصمت المكبوت بالخوف قائلا (بدأت اشعر كانني ذاك الاخرس او ذاك الذي يتعلثم في الكلام . تطاردني الكلمات كالنبال فاتعثر خوفا لاهرب مرميا على ارصفة الرصد والتامل وعلى كتفي عباءة تساؤلات لا اجابات عنها). هنا العباءة هي المعطف او هو الموقف الصامت الذي لا يستطيع البوح اللساني عما يعانيه هو و شرائح من مجتمعه المهمّشين.
لغة الرواية والحدث الكارثي
يتحدث بيات الروائي بلغة رشيقة مكتنزة بالمعاني والتاويلات الرمزية التي كان شاهد عيان على ما اصاب المدينة من خراب ودمار وتدمير نفسي تقشعر له الابدان, طبعا هو يقصد مدينته الموصل التي اكتسحتها الوحشية الهمجية الداعشية اثناء إحتلال المدينة وما تلاها من عمليات التحرير القتالي.
يقول بيات بصيغة انا المتكلم (في ذلك اليوم هجم جيش غريب على المدينة وبدأ تدمير كل شيء في طريقه, وهرب أهل المدينة خوفا من بطشهم بينما بقي القليل منهم مختبئين في منازلهم ممن لم يكن يريد المشاركة بالحرب).
الحقيقة ان مواجهة المد التدميري الداعشي اثناء احتلالهم المدينة (الموصل) او اثناء التحرير لم يكن يحتاج الى بناء جدار من الحب والسلام كما يقترح الروائي بيات. جدار الحب والسلام في ظروف وممارسات غاية في بشاعتها وهمجيتها ورعبها لم يكن يجدي نفعا معها بقدر الاحتياج وقتها الى مقاومة وطنية تاريخية سرّية كان على الشباب الانخراط في صفوفها واختيار قادة لها من الضباط العسكريين المتقاعدين من الذين لم يغادروا المدينة. من الذين نجوا من اعدامات داعش.
تشير احدى الاحصائيات أن داعش أعدم ما يزيد على 40 الفا من الناس الابرياء بالموصل من الطفل الى الشيخ الكبير نساءا ورجالا على اسباب تافهة. كان هرب بعض اهل المدينة الى كردستان او الاختباء في البيوت هما اسلوب التقاعس في الدفاع عن مدينة انتهكت محرماتها حتى الدينية الاسلامية والمسيحية في تهديم الجوامع والمساجد والكنائس ولم تسلم دور العبادة للاقليات مثل الايزيدية.
ومع كل الرعب الهمجي الذي جعل الكل لا يستطيع مراجعة نفسه وما هو واجبه في التصدي لهجمة ذلك الجراد الاسود الذي محى الاخضر واليابس جعلتهم الدهشة غير المتوقعة التي اصابت المدينة تشل قدرة التفكير الناجع بما يجب مواجهته على الارض التي يسيح بها الدم بمجانية لا مثيل لها في تاريخ الارهاب والبشاعة والجريمة.
وسجلت تلك المرحلة المظلمة الكارثية مواقف بطولية شجاعة ضّحى اصحابها من فتيات وشباب واستشهدوا بكرامة وعزة نفس فرادى مواقف شجاعة يخلدها التاريخ عاجلا أو آجلا لهم. استشهدوا بوضع الدواعش رؤوسهم الطاهرة على (بلوكة) من سمنت وضرب اعناقهم بالسيف وقطع رؤوسهم.
يتلاعب الروائي بيات مرعي باللغة تلاعبا سرديا فنيا على قدر كبير من السبك الجميل المكتنز بالمعنى الدلالي مثل قوله ( لا احد يعرف موعدا للقيامة لكي نعد السطور التي كتبناها على جدران محطاتنا. كثيرة هي الاشياء في هذا العالم لا تشبه اسماءها اطلاقا مجرد تلميح وتصريح يسير كنملة سوداء تتجول في ازقة جمجمتي. اشعر بان كل مافيّ سيتمزق ويصبح مجرد اشلاء, حتى افكاري توقفت عن الرقص فوق ما تبقى من الجدران ). لغة شفيفة موحية جماليا آسرة تقترب جدا من قول الشعر الناضج كما وفيها من التعبير الفلسفي الجميل ما يدهش قوله نملة سوداء تتجول في ازقة جمجمتي. وعبارته حتى افكاري توقفت عن الرقص فوق ما تبقى من الجدران. يمنعني ضيق المجال معالجة عبارات بيات مرعي فلسفيا وانا ملزم قراءتها نقدا ادبيا روائيا.
رحلة الذهاب الى الجحيم
ينتقل الروائي على لسان المتكلم في هذه الرحلة بعربة الاعور العودة الى ان المعاطف انما هي بشر لها تجاربها الخاصة وتاريخها. هنا المعاطف تتقمص دور البشر المهمشين المضحين ويكون مصيرهم عربة الاعور تنقلهم الى الجحيم في عربته المهترئة القديمة وقبح وجه سائقها الخالي من اية ملامح انسانية ترأف لهؤلاء المساكين من البشر المكدسين على شكل معاطف بعضها فوق بعض او الى جانب معطف آخر يمنحه نوع من ترياق الصبر عن مصيرهم المجهول الذي يقوده اليهم الاعور بعربته نحو مقصلة الحلج.
المعاطف او بالاحرى الناس المتشيئين بالمعاطف المحمولين بالعربة هي معاطف بالية وسخة قديمة رثّة جمعها الاعور من المزابل ومكبّات النفايات ومن الازقة المهجورة ومن كل مكان يأنفه ويبتعد عنه الناس. كانت عربة الاعور لا تحمل معاطف وانما اناس مهمشين لهم مشاعر واحاسيس وتاريخ وكان لهم دورا مشرفا في حماية اجساد المقاتلين بالدفء والحميمية التي تؤنس وحشة المقاتل صحبة سلاحه.
الروائي بيات مرعي في هذه الجزئية من الرواية اوقعنا في حيرة من امرنا هو اي الروائي بيات كان متعاطفا مع هذه المعاطف الآدمية المتشيئة ام هو ضدها ويصورها بصور انحطاطية مجتمعيا.؟ هل اصحاب المعاطف البشرية هم غير الناس الفقراء المعدمين الذين يصورهم بيات مرعي قائلا عما يشعرون به محمولين في عربة الاعور ( ما زلنا تحت المطر. فالبلل يثقل نسيجنا- على اعتبارنا معاطف حسب الروائي بيات- ويعطل امانينا ونحن بالعربة نمر بزقاق ضيق يلفه الغموض والظلام. وتنتشر فيه القاذورات في كل مكان من اكياس القمامة المتراكمة الى بقايا الطعام المتعفنة. والهواء الكريه الرائحة تصدره مجاري الصرف الصحي المتسربة. من المؤكد والكلام للروائي ان سكان هذا الزقاق هم من المساكين الذين يفتقدون ابسط مقومات الحياة ممن يفترشون الارض ويلتحفون السماء حين تزورهم الشمس مرات في السنة من فصل الصيف).
اقصوصات خاصية كل معطف
اراد بيات القول ان كل معطف معروض للبيع في سوق (البالة) لبيع الملابس المستعملة القديمة او المعاطف المعلقة في القبو تنتظر النشاف من بلل الطريق الممطر حينما قام الاعور بنقلها بعربة مكشوفة قديمة ليقوم الاقرع بحلجها اي اعدامها لتستعيد دورة حياتها من خيوط نسيج جديدة لحياكتها وخياطتها ثانية بزي جديد من المعاطف.
المعاطف في الرواية هي مثل الانسان لها عوالمها الخصوصية ودورة حياة صاحبها الاول الذي اشتراها وهي جديدة. ففي رحلة الذهاب الى الجحيم في نقل المعاطف الى صاحب سرداب الاقرع للحلج نجد المعاطف تجمعها ويفرقها انها جاءت من خارج المدينة على شكل بالة ملابس قديمة مستوردة من مختلف بقاع الارض ومن مختلف جنسيات وهويات اصحابها حينما إقتنوها ولبسوها اول مرة قبل رميهم لها.
يتحدث المعطف الازرق اولا يروي قصة حياته مع صاحبه قائلا اشتراني ذات يوم صحفي ياباني كان من اشهر الصحفيين في مدينته اليابانية. كان مولعا بقراءة الكتب وسير العظماء بالتاريخ من الذين تركوا وراءهم مواقف بطولية خلدّتهم.
ويسرد المعطف الازرق كل تفاصيل حياة صاحبه الذي اشتراه وما لاقاه بحياته من سجون متعددة واحكاما بالاعدام والسجن المؤبد وهروبه المتعدد الاساليب ثم يلقى القبض عليه ويودع السجن عشرات المرات.
يحاول المعطف الازرق المعلق على جدار القبو بانتظار الحلج يحاور معطفا آخر لونه بني رغبة الاستئناس بالمحادثة معه لقضاء الليل الرتيب الطويل. سأله هل انت خائف من الاعدام حلجا؟
اجابه المعطف البني بمواربة الهروب من السؤال المحرج لا لست خائفا لكني قلق لاني سافقد هويتي بالحلج. قال له المعطف الازرق اكيد انت مثلي جوعان خذ كل كسرة الخبز هذه وناولها له. ثم اردف محاولا التخفيف عنه وهو ينتظره نفس المصير الموت حلجا بماكينة الاقرع الصدئة في القبو. لا تقلق فازرارنا متينة وجيوبنا عميقة وبطانتنا دافئة واوراقنا قد اكلها العث في تلك المخازن التي مررنا بها وعرضونا اصحابها عراة في اسواق البالة للالبسة القديمة قبل مجيئنا للحلج. والان ياصديقي وصلنا مرحلة الشيخوخة. وآن لنا لقاء مصيرنا المحتوم الاعدام بماكينة الحلج. لنعود خيوطا لمن يشترينا ليصنع منا معاطف اخرى. بذلك ياصاحبي نستعيد دورة حياتنا.
كلمة ختامية
باشر المعطف البنّي يسرد على محدثه المعطف الازرق قصة حياته وتمضي الرواية بعرض حيوات المعاطف على لسان الضمير المتكلم حتى يختم بيات مرعي روايته الجميلة في لغة رمزية شفافة قائلا من الصوف ولدنا واليه نعود وهي كناية اننا معشر البشر لا فرق بين لون ولا قومية ولا دين فقد خلقنا الرب من تراب ونعود الى التراب.
الصديق العزيز بيات مرعي له ثلاثة روايات هي سلسلة من سرد روائي لا ينقل لك الواقع بل رواياته تتوارى خلف عوالم من الفنتازيا واللامعقول في خلفية انسنته الحياة التي يسردها وتشيييء الانسان. بعيدا عن المباشرة السطحية تحت ذريعة انه يتعامل مع الحياة الاجتماعية. والحقيقة هي ان الادب والفن مقتلهما في نقل الواقع بحرفية فوتغرافية وقائعية.
اعجبتني لغة الرواية فهي تصور كل شيء بنوع من التعبير اللغوي الفنتازي الذي تبهرك عوالمه المستلة من واقع لا حضور مباشر له من غير لغة تصادره جماليا لتقول ما يعجز الواقع التعبير عن نفسه. كما وجدت في الرواية المتعة لما يستهويني فيها عبارات بيات مرعي الفلسفية التي لم استطع الوقوف عندها جلها لضيق المجال.
اهنيء صديقي بيات مرعي على روايته الجميلة الهادفة انسانيا بتذكيرنا ان كل شيء بحياتنا له دورة حياة تنتهي بحقيقة الموت. واجد الذي يتهم الرواية على انها سوداوية تشاؤمية انه يتناسي حقيقة ان الوجود والانسان هو مصير قاتم اسود فان ويحضرني هنا تعبير الشاعر الفرنسي اميل سوران خطأ اننا نوجد خطأ ان نموت.
***
علي محمد اليوسف /الموصل

تُعَد مسألة تحديد المراحل التاريخية لأي أدب من آداب العالم، من القضايا النقدية المعقدة، وقد جابه الباحثون صعوباتٍ عديدة، عند كتابتهم تاريخ الآداب. تكمن صعوبة تحديد مراحل هذا الأدب أو ذاك في عدم وجود منهج واحد يستجيب لطموحات الباحثين. فالاعتماد على كل الأحداث التاريخية لا يعتبر منهجا ناجحا في كل الحالات، لأن هناك انقلابات عسكرية كثيرة ليست ثورات حقيقية ولم تسهم في تغيير المجتمع والحالة الأدبية والفكرية وأن التغييرات في الحياة الأدبية لا يمكن أن تظهر في ليلة وضحاها، بل تحتاج إلى فترة طويلة لكي تتفاعل العملية الأدبية معها وهناك من الباحثين من قسّمَ تاريخ الأدب إلى أجيال، فكثيرا ما نسمع بجيل الأربعينات والخمسينات والستينات والخ، إلا أن هذا المنهج يفتقر إلى الدقة العلمية، إذا إن الأجيال الأدبية كثيرا ما تتداخل مع بعضها.
ولجأ باحثون آخرون إلى طريقة الأنواع الأدبية، فكتبوا عن تاريخ الشعر والنثر بمختلف أنواعه (المسرحية، القصة، الرواية) أو تاريخ التيارات والمدارس الأدبية مثل: الكلاسيكية والرومانسية والواقعية. والواقعية الانتقادية ثم الواقعية الاشتراكية.
ولكل طريقة من هذه الطرق التي ذكرناها سابقا مزايا ومساوئ، فلا نعتقد هنا بوجود طريقة واحدة تتوفر فيها كل الدقة العلمية والموضوعية. ونعتقد أن الاعتماد على المنهج التاريخي في تقييم مراحل الأدب هي الطريقة الأقرب إلى الدقة والموضوعية والأكثر وضوحًا، وخاصة لطلبة الجامعات الذين يدرسون تاريخ الأدب العربي الحديث، بينما نجد أن الطريقتين الأخريين تتناسبان مع منهج النقد الأدبي والأدب المقارن.
ونشير هنا إلى أن الاعتماد على المنهج التاريخي لا يعني تسجيل كل الأحداث المهمة منها والثانوية، فالأدب كما سبق وأن أسلفنا لا يتأثر بالأحداث الصغيرة، بل بالتاريخية الكبيرة التي تهز المجتمع وتحدث فيه هزات فكرية واجتماعية واقتصادية.
ويبدو لنا من المصادر التي اطّلعنا عليها، ولا أدّعي هنا الاطلاع الكامل عليها كلّها، أن موضوع تحديد مراحل الأدب العراقي لم يكرّس له النقاد العراقيون دراسات كافية، ولهذا بقي معلقًا ينتظر الحلول.
قد يكمن السبب في حاجة النقد العراقي إلى أعمال نظرية يحصل فيها الناقد على “أجوبة جاهزة” عن مختلف مظاهر الأدب وتطوره التاريخي. فلم يعالج النقاد العراقيون هذا الموضوع في مقالات خاصة مكرسة له، عدا ما ورد في كتاب الناقد باسم عبد الحميد حمودي الموسوم “رحلة مع القصة العراقية”(1) كذلك يمكن للقارئ أن يكوّن تصورًا عامًا وبسيطا عن مراحل النثر العراقي الحديث بفضل دراسات بعض النقاد التي يكشف بناؤها عن تسلسل تاريخ النثر.
وكمثال على ذلك، يمكننا أن نذكر دراستي الدكتور الراحل عبد الإله أحمد المكرستين لفترتين تاريخيتين فقط(2). الدراسة الأولى كرست للفترة الواقعة بين 1939-1908، أما الثانية فتشير إلى مرحلة أخرى هي: منذ الحرب العالمية الثانية، إلا أن الباحث لم يحدد نهايتها كما هو واضح من عنوان الكتاب.
ولقد اختلف أكثر النقاد في تقييم مراحل الأدب العراقي بشكل عام، فمنهم من قسمه إلى أجيال ومنهم من ارتأى تقسيمه إلى مراحل قليلة، بينما زاد نقاد آخرون من عدد المراحل.
ولغرض الدخول في صلب الموضوع لا بد لنا من التطرق إلى بعض طروحات النقاد بهذا الخصوص، فإن ما طرحه الناقد المعروف الاستاذ باسم عبد الحميد حمودي على سبيل المثال من آراء حول تقسيم مراحل النقد العراقي الحديث والمعاصر يعكس هذا الاختلاف وعدم الوضوح الذي وقع فيه أكثر النقاد العراقيين، ولهذا فنحن سنولي هنا اهتماما بطريقته في تقسيم تاريخ النثر العراقي. وسنشير بإيجاز إلى آراء النقاد الآخرين حول هذا الموضوع الهام.
يقسم الأستاذ حمودى تاريخ النثر العراقي إلى ست مراحل ننقلها هنا باختصار لكي يكوّن القارئ فكرة عامة عنها.
يرى الأستاذ حمودي أن فترة البدايات تبدأ من العشرينات عند دخول بعض شباب العراق مجاهدين في جيش الشريف حسين وبداية الاضطراب الكبير الحاسم، من الولاء القلق للسيطرة العثمانية، المتجلي في تأييد عدد من العراقيين وطموحهم في الاستقلال المشوب بالتحفظ إلى التطلع الواعي لأمل تحقيق الدولة العربية الواحدة، الذي تحطم بالانكفاء إقليميا إثر تنفيذ معاهدة سايكس بيكو(3). ويَعتَبرُ الناقد حمودي القاصيّن محمود أحمد السيد وعطاء أمين أبرز ممثلي هذه الفترة. ويستمر حمودي في تحديده لمراحل النثر العراقي فيرى أن “الفترة الثانية” كما يسميها تمتد لست سنوات من 1930 حتى 1936 أي منذ توقيع معاهدة 1930. حتى انقلاب بكر صدقي – حكمت سليمان عام 1936. هكذا يحدد الأستاذ حمودي هذه الفترة، ولكنه في مكان آخر من نفس الصفحة يقول في شيء من الاختلاف عن رأيه الأول: (..... وتستمر هذه الفترة (يقصد الفترة الثانية) في رأينا حتى قيام حركة مايس 1941 وفشلها، متواصلة إلى الخمسينات وخلالها انطلقت القصة الكلاسيكية الموباسينية)(4) ويعتبر حمودي عبد المجيد لطفي، ذي النون أيوب وعبد الوهاب الأمين، حسين الرحال، عوني بكر صدقي، يوسف متى وعبد الحق فاضل من أبرز الكتاب العراقيين آنذاك. أما الفترة الثالثة فتبدأ عنده منذ 1946 أي بعد تشكيل وزارة توفيق السويدي وإجازة الأحزاب السياسية والسماح لها بالعمل العلني، وتميزت بظهور جماعة (الوقت الضائع) وفؤاد التكرلي وعبد الملك نوري وغائب طعمة فرمان.
أما (الفترة الرابعة.... فهي تمثِّل تداخلاً بين جيل الفترة الثالثة، الذي عاش الحرب العالمية الثانية وأحداث ثورة مصر وتأمين القناة 1956-1952 وبروز وتبلور فكرة القومية العربية)(5).
ويعتقد الأستاذ الفاضل حمودي أن النثر العراقي انقسم في هذه السنوات إلى مدرستين: (الكلاسيكية الواقعية المباشرة) التي مثلها جعفر الخليلي وذو النون أيوب، ومدرسة البحث عن دخيلة النفس الإنسانية المتمرِّدة المسحوقة الرافضة لواقعها)(6)، ومثلها كل من عبد الملك نوري، فؤاد التكرلي، نزار عباس، غائب طعمة فرمان وجيان وغيرهم.
وهكذا يصل الناقد حمودي إلى (الفترة الخامسة) التي بدأت من ثورة 14 تموز 1958 بدون أن يحدد نهايتها إلا أنه يحدد بداية الفترة الأخيرة التي يسميها (فترة المخاض) منذ نهاية 1959 حتى 1968. أي إن الفترة الخامسة استمرت لمدة عام ونصف العام تقريبا.
نلاحظ أن هذا التقسيم سياسي وليس أدبيًا فهو يعتمد على أغلب الأحداث السياسية والانقلابات العسكرية. إن تحديد مراحل الأدب يعتمد على أسس نظرية معروفه في النقد الأدبي في العالم كله. ومن أهم هذه المبادئ النظرية هو المبدأ التاريخي الذي اعتمد عليه أكثر مؤرخي الأدب(7).
يؤكد المبدأ التاريخي على ضرورة الاعتماد على الأحداث والهزات التاريخية الكبيرة التي تحدث تغييراً كبيرا في المجتمع الواحد أو في العالم مثل الحرب العالمية أو الثورة الفرنسية، أو إعلان الدستور العثماني عام 1908. أي تلك الأحداث التي تظهر أسبابها قبل حدوثها وتظهر بوادر ثقافتها أو بنيتها الفوقية قبل أن تحدث، فالحرب العالمية مثلا ظهرت بوادرها وأسبابها قبل أن تبدأ حيث كانت تبرم المعاهدات وتعقد الصفقات، وتزداد ثروة أصحاب الملايين بينما يتعاظم عدد الفقراء وتسوء حالتهم باضطراد، فيظهر أدب يصور حياتهم، كذلك تنتفض الشعوب ضد المعاهدات والصفقات، التي تتحكم بمصائرها فيبرز أدباء ينمون ويترعرعون في ظل الحماس القومي فيمجدون اخلاق شعوبهم وتقاليدها وقيمها الحضرية. وعندما نحدد فترة ما من فترات الأدب العربي الحديث، مثلا، منذ إعلان الدستور العثماني عام 1908، فإننا لا نعني بذلك أن الأدب العربي الحديث تغيرت مفاهيمه وقيمه منذ هذا العام، بل يجب أن نأخذ بنظر الاعتبار كل الصراع الذي كان يدور بين قوى الخير والشر من أجل تحقيق أهداف دستور 1908 وغاياته قبل هذا العام بفترة من الزمن، ويجب أن نراجع ما كتبه الأدباء شعراً ونثراً وخطابةً لنبين مضامينها المطالبة بتحقيق الدستور والديمقراطية في الدولة العثمانية.
أما أن نعتمد على حدث ثانوي مثل تشكيل وزارة توفيق السويدي ونعتبره يشكل مرحلة أدبية أو على حدث أخر مثل الانقلاب العسكري الذي قاده بكر صدقي فهذا بعيد عن الموضوعية. ونحن نتساءل هنا هل استطاع توفيق السويدي أن يقوم بتغييرات أدبية وثقافية كبيرة؟ هل أسست وزارته أدبا جديدا؟ والجواب طبعا يكون بالنفي القاطع، كذلك لم يستطع بكر صدقي ولا انقلابه العسكري أن يكون ثقافة جديدة، ولهذا فلا نجد أية ضرورة لـ” مرحلته الأدبية” التي تمتد لست سنوات فقط.
ولهذا لا نتفق مع هذا النمط من تاريخ مراحل الأدب لأنه غير مبرر تاريخيا، حتى لو انطلقنا من مبدأ التغييرات الحكومية والسياسية، لأنها لم تكن ذات طابع جدي ما عدا ثورة 14 تموز التي غيرت وجه العراق وهزت المجتمع العراقي. هذا ومن الجدير بالذكر أننا نلاحظ أن هذه الفترات التاريخية التي حددها أستاذنا الفاضل حمودي متداخلة مع بعضها وأقر هو بهذا الأمر فاعتبر مثلاً أعمال القاص العراقي محمود أحمد السيد متداخلةً بين الفترتين الأولى والثانية مبررا ذلك بقوله:
“... إن الذي يجب الإشارة إليه هنا هو أن محمود السيد لم يعش إلا سبعا وثلاثين (37) سنة قضى عشرين منها كاتبا ومؤلفا منتجا فكان بحق جيلا وحده....”(8). في الحقيقة أن المناهج الأكاديمية لا تأخذ بهذه الطريقة لتقسيم الأدب، بل يجب مراعاة الموضوعية والأسس النظرية. ويحق لنا أن نتساءل هنا مثلا: ما هي ضرورة تقسيم “جيل السيد” إلى مرحلتين؟ هل هناك ضرورة تاريخية أدبية؟ هل هناك أحداث كبيرة؟ وهل كوّن السيد مدرسة أدبية اتسمت أعمال ممثليها بخصائص أدبية مشتركة؟ والرد على كل هذه التساؤلات بالنفي طبعا.
كذلك نلاحظ أن الناقد باسم عبد الحميد حمودي حدّد بداية النثر القصصي بعشرينات القرن، أي منذ ظهور كتابات محمود أحمد السيد القصصية، ولم يشر إلى مرحلة ما قبل الحرب العالمية الثانية وما قبل إعلان الدستور العثماني التي شهدت تطورا بطيئا في النثر القصصي حيث ظهرت المقامة الخامسة “رسالة العشق” للالوسي ذات الطابع القصصي نسبيا و” الرواية الإيقاظية” لصاحبها سليمان فيضي، إضافة إلى أعمال أخرى.
أما الدكتور الفاضل عبد الإله أحمد الذي أشرنا إلى كتابيه، فهو يختلف عن غيره من الباحثين في تحديد مراحل تطور النثر القصصي العراقي الحديث والمعاصر، حيث تتميز دراساته عن غيره من النقاد بالتزامها بالمنهجية العلمية والموضوعية، إلا أنه لم يتوقف عند مسألة مراحل النثر القصصي العراقي، ولم يخصص لها بابا أو فصلا من أطروحته، بل اكتفى بالإشارة إليها عند تحديده الفترة الثانية التاريخية التي تدخل ضمن دراساته.
إن عنوان كتابه الأول الموسوم “نشأة القصة وتطورها في العراق 1939-1908” يعني أنه يحدد بدايات القصة بعام إعلان الدستور العثماني، على الرغم من إشارته إلى “المحاولات البدائية” كما يسميها، والتي مثلها أبو الثناء الألوسي. أشارالدكتورأحمد في مقدمة كتابه المذكور أعلاه، إلى أن مادة بحثه هي كل ما استطاع الحصول عليه من قصص منشورة في الصحافة العراقية منذ انطلاقتها عام 1869 حتى عام 1939، لكنه مع ذلك لم يتطرق ولم يُشر إلى وجود فترة أخرى تسبق 1908 وتتميز بكتابات ذات طابع خاص بها.
وقد كتب الدكتورأحمد عن “المقامة الخامسة” لأبي الثناء الآلوسي: إن هذه المحاولة (المقامة) في بعض مظاهرها إنما هي تعبير عن طبيعة الأدب الذي كان سائدا في زمنها.
وهو أدب يسوده التكلف والزخرفة اللفظية المصطنعة، ويسرف في استخدام البديع استخداما لا جمال فيه ولا فنية....(9).
وفي مكان آخر من مقدمته أشار الدكتور عبد الاله أحمد إلى أنه لم يعثر على محاولة واعية لإنشاء قصة ذات لون محلي إلا بعد إعلان الدستور العثماني عام: 1908.....(10).
يُعد إعلان الدستور العثماني حدثا كبيرا لا شك فيه، وله أهميته الكبيرة ليس في العراق فحسب، بل في كل الولايات العثمانية.
ولكن من الضروري هنا العودة إلى الوراء قليلا إلى عهدي سليمان باشا ومدحت باشا اللذين شهدا تطورات اقتصادية نسبية. وإن إصدار أول صحيفة عراقية (الزوراء) عام 1869 تم قبل إعلان الدستور العثماني وأن بداية زيادة صلات العراق مع العالم الخارجي ودخول الإرساليات التبشيرية إليه أيضًا تم قبل 1908، أخيرا وليس آخِراً فإن نعوم فتح الله سحار (1859-1900) لم ينشر روايته الموسومة “لطيف.. وخوشابا”(11) بعد إعلان الدستور، بل قبله وبتأثير واضح من هذه البعثات التي لعبت دورا كبيرا في نشر الثقافة الأوربية وخاصة في المناطق الشمالية من العراق.
وهكذا فإن ما قبل الحرب العالمية الأولى 1914، وما قبل 1908 تمثل مرحلة أخرى يمكن أن نسميها بداية “نهضة العراق الأدبية”(12) على حد تعبير الشاعر العراقي المعروف مهدي البصير. يتميز أدب هذه المرحلة بظهور أشكال “انتقالية” إن جاز التعبير، نجد فيها مختلف خصائص الكتابة التقليدية إضافة إلى نقل مشوه وناقص وغير صحيح لبعض الأعمال الأوربية بخاصة والأجنبية بشكل عام. ويختلف أدب هذه الفترة اختلافاً نسبياً عن كتابات المرحلة اللاحقة (أي مرحلة ما بعد الحرب العالمية الأولى) يكون تأثر الأول بروايات الفروسية والروايات التعليمية والتاريخية لقربها لمزاج الناس وذوقهم الأدبي آنذاك، بينما نجد أن النثر القصصي في قترة ما بعد الحرب العالمية الأولى والعشرينات يأخذ منحىً واقعياً وتتعمق علاقته بالأدب العربي في مصر والشام فيتأثر به، وتنتشر أيضاً بعض الأعمال الأجنبية المترجمة والمنقولة سواء عن طريق مصر أو تركيا أو أوروبا مباشرة.
إذن فإن الدكتورأحمد حدد المرحلة الأولى للقصة العراقية منذ عام 1908 حتى 1939 بنفس الطريقة نراه يحدد المرحلة الثانية في كتابه القيّم الثاني الموسوم “الأدب القصصي في العراق منذ الحرب العالمية الثانية” إذ حدد فترة دراسته من 1940 وتستمر طوال الأربعينات والخمسينات وتتوقف عند أوائل الستينات(13)، أي بعد ثورة 14 تموز 1958.
أما الباحث المعروف سيد حامد النساج فلم يتطرق هو أيضا إلى هذا الموضوع في كتابه (بانوراما الرواية العربية) ولكنه قسم تاريخ القصة العراقية إلى أربعة أجيال هي:
1- الجيل الأول: جيل الرواد، مثل محمود أحمد السيد 1903-1937 وأنور شاؤول وغيره.
2- الجيل الثاني: مثل ذي النون أيوب، وفاضل والخليلي وغيره.
3- الجيل الثالث: هو جيل ما بعد الحرب، مثل عبد الملك نوري وغائب طعمة فرمان وفؤاد التكرلي.
4- الجيل الرابع: هو جيل ما بعد ثورة تموز 1958، ويمثله إسماعيل فهد اسماعيل، عبد الرحمن مجيد الربيعي وغيرهما (14).
هنا أيضا نلاحظ أن ممثلي الجيلين الأول والثاني قد عاشوا في مرحلة واحدة تقريبا، كذلك الشيء نفسه يمكن أن يقال عن الجيلين الثالث والرابع، إذ إن ممثليهما مارسوا وما زالوا يمارسون نشاطهم الإبداعي ويشاركون في بناء العملية الأدبية المعاصرة حتى وقتنا الحاضر.
يمكن أن نأخذ بفكرة الأجيال، ولكن هذا لا يعني إلغاء مبدأ المراحل، فمن غير الممكن أن نخصص واحدةً لكل جيل. وهناك أكثر من ناقد أخذ بفكرة الأجيال واهتم بالأعلام المعروفين ونسي أن قصصا عراقية أو أعمالاً تتضمن بعض عناصر القصة ظهرت منذ بداية الصحافة العراقية أي قبل الدستور العثماني والحرب العالمية الأولى لكنها لم تأخذ مكانها ضمن تقسيم الأجيال ولن نتحدث بالتفصيل عن كل الأعمال النقدية التي قسم فيها مؤلفوها تاريخ القصة العراقية إلى أجيال أو مراحل، ولكن سنكتفي بالإشارة إليها فحسب. فالناقد العراقي الأكاديمي عبد القادر حسن أمين قسّم تاريخ النثر القصصي العراقي في رسالة ماجستير مهمة للغاية كتبها عام 1955 إلى مرحلتين:
1- مرحلة ما بين الحربين.
2- مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية (15).
أما الأستاذ الفاضل داود سلوم فيقسم تاريخ القصة إلى مرحلتين أيضا: الأولى ما قبل الحرب، وتمثل الثانية فترة ما بعد الحرب ولم يعر ثورة 14 تموز 1958 أهمية تذكر(16).
ونلاحظ أن الأستاذ سلوم ترك الفترة الأولى مفتوحة، ولم يحدد بدايتها. هذا وقد كتب الكاتب المعروف سهيل إدريس صاحب مجلة (الآداب) البيروتية عن نشاط ذي النون الإبداعي بشكل خاص وتحدث بالتفصيل عن مراحل نشاطه واعتبره من أبرز الأعلام في تاريخ النثر العراقي المعاصر، الذي مر بالمراحل التالية:(حسب مفهوم إدريس).
جيل محمود أحمد السيد وأنور شاؤول يمثل المرحلة الأولى، أما المرحلة الثانية فتبدأ من عام 1936 الذي بدأ فيه ذو النون أيوب نشاطه القصصي وتبدأ الثالثة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية(17). ولا نجد أية ضرورة لمناقشة هذا التقسيم لفقدانه مبرراته الموضوعية التاريخية الأدبية فكيف تبدأ مرحلة أدبية في سنة بحد ذاتها لمجرد أن بدأ أديب معين نشاطه فيها. ومن الجدير بالذكر أن الدكتور الفاضل سهيل إدريس كان قد بالغ في مكانة ذي النون أيوب وقد وقف القصاصون العراقيون الآخرون موقفا نقديا سلبيا من آرائه لهذا الصدد.
وقد اهتم المستشرقون المتخصصون بالأدب العربي الحديث بمواضيع مختلفة وبقضايا الشكل والمضمون لكنهم لم يكرّسوا دراسات أو مقالات لموضوع تاريخ الأدب العراقي الحديث بشكل عام وتاريخ القصة بخاصة.
فالباحثة الأذربيجانية السوفيتية نرمين خانم سلطانلي(18) تطرقت إلى مراحل القصة العراقية وأعطت رأيها بهذا الموضوع واقترحت مراحلها الأدبية، بينما لم تقدم باحثة أخرى هي: م. عماروفا ولا زميلها شوكوف(19) رأيهما بهذه “المعضلة”، بل اكتفيا بالإشارة إلى كونها ما زالت معلقة وتنتظر الحلول. قسمت نرمين خانم سلطانلي أجيال الناثرين العراقيين إلى ثلاثة هي:
الجيل الأول: جيل الرواد الذين ظهروا في بداية العشرينات من القرن، مثل السيد وذي النون أيوب وعبد المجيد لطفي وعبد الحق فاضل وغيرهم.
أما الجيل الثاني فقد ظهر أعلامه، مثل عبد الملك نوري وفؤاد التكرلي وغائب طعمة فرمان وعبد الله نيازي وجبرا إبراهيم جبرا ومهدي عيسى الصقر وغيرهم، بعد الحرب العالمية الثانية.
أما الجيل الثالث والأخير فقد ظهر بعد ثورة 14 تموز 1958، وذكرت الباحثة قصاصين عراقيين مثل: محمد خضير وموسى كريدى ومحمد كامل عارف وغيرهم كأبرز ممثليه(20).
نرى أن هذا التقسيم أقرب من غيره إلى الواقع والموضوعية وهو يتناسب مع المبدأ التاريخي إلا أننا نفضل استخدام مصطلح (مرحلة) على (جيل) لأن الأجيال تتداخل فيما بينها كما سبق وأن ذكرنا. ولهذا لا يمكن الاعتماد عليها لوحدها فقط لأن مرحلة واحدة يمكن أن تضم جيلين ولأن الأجيال تظهر كل عشرين سنة على الأقل فنحن نعتقد أن تاريخ النثر القصصي العراقي الحديث ينقسم إلى المراحل التالية:
1- مرحلة بداية عصر اليقظة حتى نهاية الحرب العالمية الأولى:
وتبدأ منذ منتصف القرن التاسع عشر عند تولي مدحت باشا حكم الولايات العراقية، وتميزت هذه الفترة بتغييرات ملحوظة في المجتمع العراقي آنذاك اقتصادياً واجتماعياً وثقافياً، حيث ظهرت الصحافة العراقية لأول مرة وبرزت نتائج الإرساليات التبشيرية فبدأ المثقفون العراقيون يتقبلون الأعمال النثرية من قصة ورواية ومسرحية. تُرجمت في هذه المرحلة بعض الأعمال الروائية والقصصية من اللغات الأجنبية، وبدأت الكتابة التقليدية المتمثلة في المقامة تتغير شيئاً فشيئاً. وظهرت في مقامة الألوسي (رسالة العشق) بعض العناصر القصصية التشويقية ونشرت صحيفة (الزوراء) ترجمة رفاعة الطهطاوي لرواية (تليماك) لمؤلفها الفرنسي فيلينون. وظهرت أعمال نثرية تاريخية وتعليمية يتوفر فيها العنصر العاطفي التشويقي.
تنتهي هذه المرحلة بانتهاء الحرب العالمية الأولى فهي تمهيد لفترة يشهد فيها الأدب العراقي تغيرا ملحوظا في الشكل والمضمون، ففيها أعلن الدستور العثماني عام 1908 الذي فتح أمام العراق والمثقفين العراقيين، على الأقل من الناحية المعنوية، فرص التعبير عن الذات والبحث عن بدائل جديدة للخلاص ولتغيير الواقع المعاش. ثم جاءت الحرب العالمية الأولى فيحدث الالتقاء بين الشرق والغرب وتزداد الاتصالات وتعمق الوعي القومي والوطني وتتوسع مدارك المثقفين العراقيين بحكم الاتصالات بمختلف بلدان العالم وبخاصة مصر، التي توسعت فيها آنذاك حركة الترجمة ونقل العلوم والآداب، وتعرف بعض المثقفين العراقيين على الآداب الأجنبية عن طريق الهند أيضا، التي كانت هي أيضاً خاضعة للسيطرة البريطانية.
2- مرحلة ما بعد الحرب العالمية الأولى حتى الحرب العالمية الثانية:
كما سبق وأن ذكرنا بأن الحرب العالمية الأولى كانت حدًا فاصلاً بين عالم مليء بالتخلف بسبب حكم الولاة العثمانيين وفترة صراع بين أعتى صنوف التأخر وبذورالتجديد، التي كانت تجاهد من أجل النهوض أمام هذا السيل الجارف من العتمة. وكان إعلان الدستور العثماني 1908 من الأحداث الهامة أيضا التي مهدت لحقبة جديدة. أي أن هذا التطور الذي نجده في المرحلة الثانية من تاريخ القصة العراقية لم يبدأ بالحرب العالمية على وجه التحديد، بل إن عناصره وبذوره الأولى تعود لفترة أقدم بقليل. وتعد ثورة العشرين الكبرى في العراق من الأحداث الهامة في هذه المرحلة فيتعمق الوعي القومي: ويزداد يوما بعد يوم الشعور الوطني ويتعمق شعورالمسؤولية لدى المثقفين العراقيين فيظهر جيل كامل من القصاصين الذين يضعون نصب أعينهم واقع مجتمعهم المتخلف ويفكرون بكيفية تغييره والقضاء على كل مظاهر البؤس والحرمان وإذلال الإنسان العراقي. وتدفعهم هذه الأحاسيس الوطنية إلى الشعور بالمسؤولية وتأنيب الضمير والذنب، فيزداد نشاطهم الثقافي بخطى حثيثة. فيصدر حسين الرحال، الشخصية العراقية المعروفة جريدته (الصحيفة) في هذه الفترة، وينشر الكاتب العراقي المعروف محمود أحمد السيد قصته الطويلة (جلال خالد) المشبعة بالمشاعر الإنسانية والأفكار الوطنية. وتتعمق ارتباطات العراق مع أشقائه العرب لدرجة أنها وصلت إلى مستوى العلاقات الشخصية بين الأدباء، مثل صلات الصداقة والإعجاب بين العراقي محمود السيد والقاص المصري محمود تيمور.
وتتميز هذه المرحلة بسعي الأدباء العراقيين النشط للتعرف على الأعمال الواقعية الأوربية مثل روايات تولستوي وأميل زولا وغيرهما من الكتاب الأوربيين، الذين أعجبَ محمود أحمد السيد إعجابًا شديدًا بأسلوب كتابتهم، وبمضامينها الجديدة، وكان يتمنى ويحلم بكتابة (روايات تحليلية كبيرة) شبيهة بأعمالهم الخالدة. وفي هذه الفترة كان المثقفون العراقيون ينهلون ثقافتهم من مصادر مختلفة ومتنوعة للغاية، من الأدب العربي القديم ومن الآداب الأجنبية عن طريق القراءة المباشرة بلغاتها الأصلية والترجمة والنقل التي قام بها المصريون والسوريون عن اللغتين التركية والفارسية.
وتطورت في هذه المرحلة القصة القصيرة وظهرت أعمال أدبية، اعتبرها مؤلفوها والنقاد العراقيون آنذاك أعمالاً روائية، وتطورت الصحافة الأدبية حيث نظمت مسابقات عديدة في مجال القصة، ودارت مناقشات مختلفة حول الأنواع النثرية مما يدل على اهتمام الأدباء بها. وهكذا فإن المتتبع لهذه المرحلة يلاحظ تطور النثر القصصي التدريجي، الذي يمثل الصراع بين القديم والجديد، فلم تقبل هذه الأنواع قبولاً حسنا في بداية أمرها.
3- مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية حتى انقلاب"ثورة" 14 تموز 1958:
شهدت هذه المرحلة تطورا سريعا في البنية الثقافية العراقية، فقد انفتحت أبواب العراق على روافد جديدة من الثقافة الإنسانية، القادمة من مصر والدول العربية الأخرى والهند وبريطانيا والاتحاد السوفييتي بحكم ارتباط العراق بالحلفاء. ويلاحظ مؤرخو الأدب العراقي انتشاراً سريعاً لمختلف الآداب الأوربية الغربية والأدب الأمريكي، الذي كان يتميز بروحيته الثورية المتحركة وتعمقت أفكارالواقعية والواقعية الاشتراكية والواقعية الجديدة وازداد تعلق الأدباء العراقيين بالآداب الأجنبية، وأخذت القصة تتبوأ مركز الصدارة، وازداد الاهتمام فيها على كل المستويات وظهر في هذه المرحلة جيل كبير من خيرة المثقفين العراقيين، كانوا مطلعين اطّلاعاً عميقا على الأدب العربي القديم إلا أنهم كانوا يبحثون عن أنواع تتناسب وتتلائم مع طموحاتهم الكبيرة من أجل إسعاد مجتمعهم العراقي فأخذوا يقرأون باللغة الأنجليزية والفرنسية والأعمال المترجمة ترجمة فنية في مصر والعراق وسوريا. وظهرت في هذه المرحلة بداية تأثير الفكر الوجودي وبدأت تطبق بعض مفاهيم سارتر الوجودية في النقد الأدبي، ومن أبرز المثقفين الذين عرفوا بهذا الاتجاه الأخوان فؤاد التكرلي ونهاد التكرلي وغيرهما.
وانتقل الأدباء والقاصون في هذه المرحلة إلى درجة راقية من درجات التطور الأدبي، فأخذوا يطالبون بكتابة القصة الفنية ورفضوا القصة الشعارية والوعظية والأدب السياسي المباشر وأطلق القاص المعروف عبد الملك نوري على هذا النوع من القصص السياسية مصطلح “مقاصة” إشارة إلى كونها مقالات قصصية أكثر مما هي فنية. واتسمت هذه المرحلة بنضج بعض الأشكال النثرية العراقية وبظهور الاتجاهات الرومانسية والواقعية الجديدة فظهرت القصة الرومانسية والتاريخية والشكل البدائي للرواية الواقعية المتمثلة بقصة “الدكتور إبراهيم” لمؤلفها المعروف ذو النون أيوب. وساعد انتشار الصحافة والروايات العراقية على تطور القصة، فتطورت في هذه المرحلة أنواع صحفية قريبة من الأدب القصصي تطورا كبيرا ونقصد بهذه الأنواع أو الأشكال: الخاطرة القصصية أو التحقيق القصصي ومختلف الأشكال التي تتضمن أسلوباً لغوياً أقرب إلى القصة منه إلى الأنواع الإعلامية، كمثال على ذلك نذكر قصص ذي النون أيوب التي تتسم بالوثائقية، لدرجة أنه أتهم لأكثر من مرة بأنه يكتب قصصه عن أشخاص حقيقيين، فقال النقاد بأن الدكتور إبراهيم، بطل الرواية المسماة باسمه هو أحد أقطاب الحكم الملكي وتعرض الكاتب لبعض المضايقات آنذاك.
وهكذا، نلاحظ أن الصحافة العراقية لعبتْ دورا إيجابيا ملموسا في تطور القصة في هذه المرحلة فانتشرت المقالات الصحفية على شكل قصص أو تحقيقات قصصية. وليست هذه هي المرة الأولى التي تظهر فيها مثل هذه الأشكال القصصية في الصحافة، فلو رجعنا إلى تاريخ الآداب الأوربية لرأينا أن هذا الشكل الصحفي الأدبي ظهر على يد استيل وزميله أديسون على صفحات مجلتيهما “الثرثار” (1711-1707) و” المشاهد” (1714-1711) وغيرهما من المجلات الإنجليزية التي أصدرها هذان الكاتبان(21).
وظهر هذا الشكل في فرنسا أيضًا في القرن 18 الثامن عشر في أعمال ل. س. ميرسيه وريتيف دي بريتون وقد حصل كتاب “لوحات باريسية” (1788-1781) لمؤلفه ميرسيه على شهرة عالمية واسعة لتميزه بالواقعية الوثائقية وبالصور الحية عن المجتمع الباريسي آنذاك. ويُسمى هذا الشكل باللغة الفرنسية Essays’ بالإنجليزيةessay, feature وله مصطلح خاص به في اللغة الألمانية، وبالروسية أوتشِرك ( ocherk)، وقد عرّفه الكاتب الروسي المعروف مكسيم غوركي خير تعريف، إذ قال عنه “إنه نوع فني يقع على حافة الحدود بين القصة القصيرة والبحث”(22).
ولهذا النوع الأدبي أشكال مختلفة مثل: ملاحظات الطريق، أدب الرحلات، قصص المحاكم، المقالات الاجتماعية ذات الصيغة القصصية والصورة الشخصية الأدبية وغيرها. والوثائقية هي أهم سمة لهذا النوع، لكنه لا ينفي، بل بالعكس يفترض وجود الخيال الفني والمبالغة في وصف المظاهر الإيجابية أو السلبية، حسب موقف الكاتب وهدفه منها. وهذا لا يعني أن القصاصين العراقيين في مرحلة ما بعد الحرب العالمية التزموا بالوثائقية، بل إن واقعيتهم كانت تصويرية، أي أن قصصهم كانت عبارة عن لقطات من الواقع الاجتماعي، ولهذا سمى بعض النقاد واقعيتهم بالأسلوب المباشر لأنهم كانوا رغم مساعيهم في كتابة قصة فنية يسقطون في المباشرة عند طرح أفكارهم الاجتماعية. كذلك شهدت هذه المرحلة ظهور مجموعة من الأدباء والمثقفين ولعوا بـ” الألعاب” الفنية في تصوير الواقع، فسَمّاهم بعض النقاد بالأدباء “السايكولوجيين” تمييزا لهم عن أدباء الواقعية الجديدة، واصطلحوا عليهم بجماعة “البروج العاجية”، ونذكر على سبيل المثال لا الحصر من هؤلاء الأدباء: فؤاد التكرلي وعبد الملك نوري، اللذين أخذا بيد القصة العراقية القصيرة نحو الأساليب الفنية المتطورة.
4- مرحلة ما بعد "ثورة" 14 تموز 1958 حتى التسعينات:
إن أهم ما يميز أدب هذه المرحلة هو ظهور أنواع مختلفة من الرواية: الرواية الاجتماعية، والنفسية، والسياسية، والرمزية. وتطورت القصة القصيرة تطورا كبيرا فأصبحت من أكثر الأنواع الأدبية انتشارا في الصحافة الأدبية العراقية. وشهدت هذه المرحلة صراعا حادا بين المدرسة الواقعية ومختلفة الاتجاهات التجديدية، بسبب انتشار الأفكار الوجودية والعدمية العبثية بعد انتكاسة الثورة والصراعات الحزبية والأحداث الدموية الكبيرة. ولقد أثرت الانقلابات العسكرية والتقلبات تأثيرًا سلبيًا كبيرًا على الأدب العراقي بشكل عام، والنثر خاصة لأنه لا ينمو إلا في ظل ظروف التطور الثقافي والاستقرار.
إلا أن الواقعية عادت وترسخت بعد نكسة حزيران 1967 وبرزت في بداية الثمانينات فظهرت الروايات العراقية الواقعية، التي أصبحت معروفة لدى القارئ العربي خارج العراق أيضًا، حيث أخذت دور النشر اللبنانية تنشر أعمالا روائية عراقية. هذا ومن الجدير بالذكر أن الرواية العراقية وصلت في هذه المرحلة إلى مستوى فني ناضج على يد غائب طعمة فرمان في رائعته رواية “النخلة والجيران”(23) (1966).
ونلاحظ أيضًا انتقال العديد من الصحفيين والقصاصين العراقيين، الذين ظهروا في الخمسينات إلى المغامرة الروائية، فظهرت مجموعة من الروايات العراقية الواقعية التي تميزت بوجود بطل "خاص" مصوّر بنوع من الفنية والسردية المتدفقة والخ من خصائص الكتابة الروائية الحقيقية، كنموذج الشخصيات الأدبية “وحريتها” في سلوكها وطرح أفكارها في الواقع القصصي.
وبدأت الروايات العراقية تطرح واقعا عراقيا محليا بلغة روائية مسهبة، لغة السهل الممتنع واخذ الروائيون يجدون مقوماتها كالحوار والحوار الداخلي وترتيب الحدث ترتيبا روائيا وانتقاء الرئيس وإهمال الثانوي من الحقائق والمأخوذة من الواقع الاجتماعي.
وفي الحقيقة أن هذه الفترة شهدت احداثا كبيرة كان لها انعكاس كبير على الأدباء العراقيين وعلى الأدب فظهر ما يسمى بأدب الحرب و” رواية الحرب” وعاش عدد من الأدباء في الخارج، متابعين كتابة أعمالهم هناك، بحيث أصبح من الصعب جدًا الإحاطة بمجمل مضامين هذه القصص والروايات لافتقارنا إلى المصادر الجديدة أولا ولأنها لا تدخل في موضوع بحثنا فنكتفي بهذا القدر.
ومن المعلوم أن هذه المرحلة تمتد إلى ثلاثين عامًا، شهدت أحداثًا كبيرة، أثرت تأثيرًاواضحاً في المجتمع العراقي والحركة الأدبية. ولهذا فيمكن للناقد أن يقسمها إلى فترات قصيرة، مثل انقلاب 17 تموز 1968 وتأسيس الجبهة الوطنية والقومية التقدمية عام 1973 ، لكن نشوب الحرب مع إيران عام 1980 لثماني سنوات يمكن اعتبارها مرحلةً كاملةً تميزت بأدب موجّه ومكرّس لها، تم وصفها بإسهاب من قبل الكاتب العراقي المعروف سلام عبّود في كتابه "ثقافة العنف في العراق". كل هذه الأحداث أثرت في الحركة الأدبية العراقية، ولكن لا يصح أن نعتبركل واحد منها بداية لحقبة قائمة بحد ذاتها.
ومن الجدير بالذكر أن الأدب العراقي، كان في كل هذه المراحل الأدبية على صلة وثيقة بالأدب العربي الحديث وبالحركات الأدبية العربية. ولا يمكن لمؤرخ الأدب بأي حال من الأحوال أن يدرس ظواهره بمعزل عن سوريا ولبنان ومصر وغيرها من الأقطار العربية. أي إن هذه التقسيمات غير منفصلة تماما عن الأدب العربي الحديث، بل لها علاقة بها بسبب التاثيرات المتبادلة وتشابه الواقع السياسي والاجتماعي، وليست بديلاً عن مراحله العامة.
5- من التسعينات حتى احتلال بغداد من قبل الأميركان: هذه مرحلة طويلة عانى فيها العراق من الحصار الاقتصادي والسياسي مما انعكس تأثيره على الأدب العراقي وظروف الأدباء العراقيين الاقتصادية والسياسية والنفسية بسبب القمع واضطرار العديد منهم الى مغادرة وطنهم إلى مختلف بلدان العالم.
6- مرحلة ما بعد الاحتلال الأميركي للعراق:
***
الدكتور زهير ياسين شليبه
.......................
* نُشر هذا المقال في مجلة "البديل" العراقية أو إحدى الدوريات العربية، في منتصف الثمانينات، لهذا لم أتطرّق بالتفصيل إلى التسعينات واكتفينا بتسمية المرحلة الأخيرة "مابعد الاحتلال"
1- باسم عبد الحميد حمودي. رحلة مع القصة العراقية (بغداد) 1980.
2- انظر: دكتور عبد الاله أحمد. نشأة القصة وتطورها في العراق (1939-1908) بغداد 1969، والأدب القصصي في العراق منذ الحرب العالمية الثانية. بغداد 1977.
3- باسم عبد الحميد حمودي. نفس المصدر ص91
4- نفس المصدر ص92
5- نفس المصدر ص93
6- نفس المصدر ص93
7- انظر قضايا تدوين تاريخ الآداب الشرقية. مجموعة من المؤلفين. موسكو. 1973، ص74.
8- باسم عبد الحميد حمودي. المصدر السابق ص 96
9- الدكتور عبد الاله أحمد: نشأة القصة.... ص9.
10- نفس المصدر ص11.
11- نعوم فتح الله سحار. رواية لطيف خوشابا. مطبعة الدومينيكان. الموصل 1891، كذلك انظر صالح جواد الطعمة. مسرحيته لطيف خوشابا. الأديب العدد 5 السنة 1960 بيروت، ص17.
12- مهدي البصير. نهضة العراق الأدبية. بغداد 1946 ص4.
13- الدكتور عبد الاله أحمد. الأدب القصصي ص8.
14- السيد حامد النساج. بانوراما الرواية العربية. القاهرة 1980 ص173-160.
15- عبد القادر حسن أمين. القصص في الأدب العراقي الحديث. بغداد 1955.
16- داود سلوم. الأدب المعاصر في العراق (1960-1938).
17- دكتور سهيل إدريس. القصة العراقية. الآداب. الأعداد 4.3.2، بيروت 1953.
18- نرمين خانم سلطانلي. الواقعية الجديدة في العراق بعد الحرب العالمية الثانية. باكو 1972.
19- م.عماروفا. أعمال ذي النون أيوب رائد القصة العراقية. موسكو. 1967، انظر كذلك ب. ف. تشوكوف. ترسخ النوع الروائي في النثر العراقي (1954-1919). موسكو. 1970.
20- نرمين خانم سلطاني. المصدر السابق ص4.
21- انظر قاموس المصطلحات النقدية الأدبية. موسكو. 1974.
22- مكسيم غوركي. الأعمال الكاملة. الجزء 47 ص250 باللغة الروسية والإنجليزية.
23- غائب طعمة فرمان. النخلة والجيران. بغداد. 1966.

نحن بصدد صياغات شعرية خلاقة امام ابتكار وتكوين النص الشعري، في تشكيلية موحدة بين الصياغة الشعرية والصياغة الفكرية، في محاولة فهم النص الدين وتحليله برؤية حديثة تستلهم المنصات الاساسية لحاضرنا الحالي، في الجوانب المتعددة من مفاصل الحياة، في الجانب السياسي والاجتماعي والفكري، في توظيف ثنائية التناص والاستلهام والفهم، لخلق صيغة حديثة للموروث الديني، في محاولة اكتشاف البعد النفسي والروحي في الأشياء المحسوسة وغير المحسوسة في النص الشعري، في جمالية التكوين اللغوي والفكري، بما يمتلك الاستاذ (واثق الجلبي) من خزين معرفي واسع الافاق في الجانب اللغوي والفكري، وتغليب الجانب الفلسفي عليهما، في مجهر المعارضات، اللغوية والشعرية والفكرية، في المعنى والرمز والدلالة، يضع قصة يوسف وتبعياتها المعروفة، امتداداً لواقعنا الحاضر، في رموزه البارزة في الصراع والتناقض والنزعات والخلافات، وفي خلق رؤية فكرية مبتكرة من داخل النص الموروث، في إدراك المتغيرات الحديثة وانعكاساتها وتأثيراتها الفكرية في مناحي الحياة والوجود، في رؤية إبداعية حديثة للبناء السلم الفكري والفلسفي عليها، وانعكاس تأثيرها التجاذبي اليوم، في المفردة الشعرية (المعارضات) في الإحساس والشعور بين الذات والعام، نبدأ من أصل حكاية يوسف الابن، في يوسف الجديد يلقي في الجب كل الشوائب التي تعيق صيرورة الحياة، لتتخلص من الجلباب القديم، ليخرج نقياُ وطاهراً من فجاجات الواقع القبيحة، ليكن على هبة الاستعداد ليمتطي القلم الشعري، وهو في اول ربيع تفتح ازهاره اليانعة ’ ليتسلق سلم الشعر مبكراً، مرتكزاً على خزين الاب ومعارفه الواسعة، في الاضاة الطريق السليم، لانه بكل بساطة الكذب والنفاق والغدر والخيانة، لا تصنع رجالاً، بل تصنع اشباه الرجال مهما كانت مكانتهم . لم يبلغهم احداً بالنبوة و الوصاية والإمامة، ولم ينصبهم احداً أوصياء لمنح صكوك الغفران أو العقاب على الاخرين . ومهما طال بغيهم، فأن حبل الكذب قصير، والبقاء لصفاء الذهن والقلب . من قصيدة الى ولدي الحبيب يوسف .


ألقيت اخوة يوسف في جبهم
ما منهمُ أمسى بذلك نبياً
لم يأتهم وحي ولا إغفاوةٌ
ملأوا السماء ملامة ودويا
ما كل من يلقي يجبِ أخوة
فيكونُ من قبل السماء وصيا
وبلغت آخرة المطاف كأنني
مطرٌ يخافُ ختامهُ المقضيا
أبحرت في غيبٍ أذوقهُ عناقهُ
وكسرتُ ازمانا فكنت نديا
ما كنت أعمى قبل وجهكَ إنها
عينيْ لبعدكَ ما رأت إنسيا

× في قصيدة أنا ويعقوب وأيوب
هذا الامتداد في التواصل في المحن بين نص الماضي ونص الحاضر، يرتسم كاهله اليوم في السراء والضراء، في الصراع والتناقض الحياتي، كأنه كالعصفور يصيد طريدته من أجل توفير الخبز، بلا موائد، كأنه كالشمع يذوب في مسالك المنافي، لم يعد هناك نبياً بعد اليوم.


قد قال يعقوب
في قصة مذهلة تكتبها القصائد
يا واثق اليوم
كنتُ فريد القلب والولائد
كنتُ نبيّ القومِ
كنتُ أباً .. ما أجملَ الأبناء
يحتشدُ الليلُ وهم كالنجم للمراصد
رأيتُ منهم واحدا .. صار الجميعُ واحد
يا واثق اليوم أنا
أهديك قلبا عاش في المواقد
ما أصعب النوم على المواقد
ما أحزن القلب .. ما أغرب الخبز بلا
موائد
إن الذي يُبقيه طيف والد
قلتُ لهُ : يعقوبُ إني عندما
تستيقظُ الشمس على الطرائد
وتركض الوديانُ كالقلائد
أحسُ قلبَ الربِ في المشاهد
يخفقُ كالعصفور في المصائد
أذوبُ كالشمعِ الذي تأكلهُ الورودُ في المنافي


×× ماذا اصاب الشعر من وهن وفقد بريق عشقه وحبه ؟، وهل ضعف الناي الشعر ليطرب العشاق والحبيبة، أم شيءُ آخر !!


قد (غادر الشعراء من مُتردم)
مهلا .. نسيتم شِعركم
فتجمهّرت كل القصائد في دمي
حتى حلمتُ
حتى بكى لفراقكم
شعري وضجتْ بالموارثِ انجمي
إذ غادروا .. في عبقرٍ سُكبوا
وراح أميرهم يبكي
يا دار عبلة .. يا دار مي
يكفيك أن تتألمي
في دار سلمى .. في دار زينب والربابْ
في كل دمعة ظبيةٍ يُرمى كتابْ


×× بغداد والموصل معيار الحب والعشق كفاتنة تملك براعة الغواية والإغراء، ويقاس الزمان بهما، عندما يشمخان، وعندما يصرخان من الوجع والضعف والوهن، عندما يورق الحب والعشق ويكون رحيقهما كالعسل، وعندما يجفان ويكون رحيقهما كالحنظل، عندما يوردان كفاتنة جميلة، وعندما يصيبهما الشرخ والشيخوخة .


تبغددي تموصلي تسرّعي تعجلي
لا تصرخي تقدمي صمتاً ولا تولولي
فوهوهتْ تغنجا من وهوهاتِ الخجلِ
تكشّفت عن جسدٍ غضٍ بلا ترّهُلِ
فوافقتْ كفي بها غصنَ النهود الأعزلِ
من كاعبٍ لعوبةٍ أدنتْ رؤوس الجبلِ
فوا لقلبي منهما من قمرٍ في يذبلِ
فتأتأتْ وكهكهتْ خفقَ جفان الثملِ
فقلتُ من أين أتى طعمُ رحيقِ العسلِ؟
قالت ومن أين أتى كفُك يا مويللي ؟
قلتُ السماء أمطرتْ من بضةٍ تَحِلُ لي
فانتصري على يدي وباغتي تطفلي
غنتْ ولانَ خصرها كسعفةٍ من بللِ


×× يوسفيات المتنبي:
يتحدث عن زائرته الثقيلة (الحمى) التي أوهنت عظامه وهربت، كأنه ارتكب جرماً، بعدما تركت جسمه منهوكاً بالضعف، تجرجره الى مدن الظلام، تأتي في الليل بالثأر، وفي الصباح تطلب الانتقام، شرب من الدواء بحراً، وفي الشكوى فقد لذة المنام .


وضيفٌ جاءني أوهى عظامي وجرّدَ قوتي بعد التمامِ
هربتُ كأنني أجرمتُ جرما فما ألفيتهُ إلا أمامي
أغطي جسميَ المنهوك لكن يُجرجرني إلى مُدنِ الظلامِ
أصارعهُ ولكن كيف يبدو ضعيفٌ في منازلةِ العِظامِ ؟
يجيءُ الليل يرديني بثأرٍ ويطلبني الصباحُ بالانتقامِ
شربتُ من الدواء المُر بحراً من الشكوى اللذيذةِ في المنامِ
وأدعو أن يُزيلَ اللهُ ضيفاً ثقيلاً لا يُقارعُ بالحسامِ
بوجهٍ شاحبٍ وهزيلِ جسمٍ يلاقي الناس بعضٌ من سقامي
كأني غيمة أمطرتُ ناراً على ذاك السرير من العظامِ
***

جمعة عبدالله – كاتب وناقد

 

بقلم: سيفيوي جلوريا ندلوفو
ترجمة: د.محمد عبدالحليم غنيم
***
سيفيوي جلوريا ندلوفو تتحدث عن صياغة وتفكيك السرديات الاستعمارية وما بعد الاستعمارية
***

إن كتابة الأدب الروائي هي تجربة متحررة—فلا توجد قواعد؛ هناك فقط قصة تنتظر أن تُروى. عندما بدأت في كتابة روايتي الأولى، نظرية الطيران، كنت أعلم أنني أريد أن تكون رواية تركز على الشخصيات وتستكشف مواضيع اجتماعية وسياسية صعبة من أجل الكشف عن شيء ما حول الحالة الإنسانية. كما كنت أعلم أنني أردت أن تعكس الرواية، التي تدور أحداثها بشكل رئيسي خلال فترة الحرب وما بعدها (من السبعينيات إلى التسعينيات)، روعة الطريقة التي كانت تُروى بها القصص في تلك الفترة في زيمبابوي.
إحدى هذه القصص الرائعة حدثت في بولاوايو في شبابي. في الثمانينيات، بدأت صحيفة كرونيكل، وهي الصحيفة الرئيسية في بولاوايو، بنشر قصص عن امرأة تدعى جين، التي كانت، وفقًا للغة المتداولة في ذلك الوقت، "سيدة الليل". أفادت التقارير بأنها كانت تترقب أن يتوقف لها رجل وحيد لكن طيب، يجد نفسه يقود سيارته ليلاً لسبب ما، وفي الصباح التالي، كان الرجل يجد نفسه وقد فقد أمواله وملابسه، وحيدًا ومرتعشًا في مقبرة، دون أن يتذكر كيف وصل إلى هناك، لكنه يتذكر أنه كانت هناك امرأة تُدعى جين، والآن لا أثر لها.
في بعض الأحيان، يُظهر عرض الشيء كما هو، دون تزيين، جوهر الشيء ذاته.
لقد كانت جين، كما قد تكون قد خمنت، شبحًا . وقد علمت لاحقًا أن النساء الأشباح مثل جين يسافرن عبر بلدان مختلفة في لحظات معينة من تاريخ تلك البلدان. لماذا زارت جين الشبح بولاوايو في زيمبابوي خلال فترة ما بعد الحرب؟ من هم هؤلاء الرجال الذين استمروا في تقديم رواياتهم عن كيفية تلاعب هذه المرأة بهم وخداعهم؟ ولماذا نشرت صحيفةا كرونيكل قصتها بهذه الدقة والإخلاص؟
كان من السهل اعتبار قصة جين مجرد أسطورة حضرية تعكس قلق مجتمع كانت فيه الأدوار الجندرية تتغير وتعيد تعريف نفسها. ومع ذلك، جاءت قصتها بعد فترة حرب امتلأت بالقصص عن وطنيين أفلتوا من القبض عليهم عبر التحول إلى أشكال أخرى، أو الاختفاء في الهواء، أو التسبب في تغييرات مفاجئة في الطقس. بعبارة أخرى، قُصت قصة جين بعد عقود من إعادة سرد الأشياء التي تبدو مستحيلة قدر الإمكان: عقود من الفولكلور الحضري وصناعة الأساطير.
عند كتابتي لرواية "نظرية الطيران"، أردت أن ألتقط نهج "أي شيء" الذي يقبل كل شيء" في السرد القصصي الذي كان شائعًا خلال فترة الحرب وما بعدها مباشرة في البلاد. وهكذا، كتبت قصة تدور أحداثها في بلد غير مسمى يشبه إلى حد كبير زيمبابوي، حيث، كما هو متوقع، كان الشخصيات أحيانًا تحلق على أجنحة فضية عملاقة. كانت القصة نقدًا لتاريخ البلاد من العنف، ولكنها أيضًا احتفالًا بكيفية اكتشافنا، نحن البشر، طرقًا إبداعية للتغلب على الشدائد.
عندما نُشر الكتاب في عام 2018، بدا الإجماع النقدي العام على أنني كتبت رواية واقعية سحرية. في البداية، جعلني هذا الوصف أشعر بعدم الارتياح الشديد. صحيح أنني كتبت رواية حدثت فيها أشياء خيالية على ما يبدو في بيئة واقعية، وبعد حدوثها، لم يتم التشكيك فيها أبدًا داخل عالم القصة. لقد كتبت رواية تم فيها جعل الماضي يعكس الحاضر والحاضر على الماضي، كل ذلك في محاولة لتقديم نقد اجتماعي وسياسي بعبارة أخرى، كانت الرواية تسير وتصدر صوتًا مثل بطة الواقعية السحرية.
ولكن ما جعلني أحذر من هذا الوصف هو أنني لم أكن أتصور أن الزيمبابويين الذين رووا قصص "جين الشبح" أو قصص القوميين المتحولين كانوا ليعتبروا أنفسهم من الواقعيين السحريين. فقد بدا ما كانوا يفعلونه جزءاً من تقليد أطول في سرد القصص، وهو تقليد يعود إلى ما هو أبعد كثيراً من صياغة فرانز روه لمصطلح "الواقعية السحرية" في عشرينيات القرن العشرين ــ وهو التقليد الذي كان يرتاح إلى الأساطير والفولكلور في الأوقات التي كانت فيها الحقيقة تبدو متقلبة للغاية وتحتاج إلى الخيال لخياطة الثغرات.
لقد دفعتني الطريقة التي تم بها تصنيف نظرية الطيران إلى التفكير بشكل نقدي في النوع الأدبي ــ بما في ذلك القواعد المرتبطة بكل نوع وكيفية تحديدها للقصص الممكنة.. عندما كتبت روايتي الثانية، تاريخ الإنسان، كنت عازمة على تحديد نوع القصة بشكل مدروس للغاية.. كنت أعلم أنه لا يمكن أن تكون من نوع يُسمح فيه بـ"أي شيء" لأن بطل القصة، إميل كويتزي، وهو موظف مدني استعماري أبيض، عاش في عالم كان فيه الحقيقة موضوعية وتظهر فقط بحرف "T" كبير، حيث كل الأشياء كانت قابلة للمعرفة والتنظيم والتصنيف، حيث كانت التسلسل الهرمي والثنائيات مهمة لأن الفصل كان أكثر أهمية من العلاقة، حيث لم تكن هناك مناطق رمادية، حيث كل شيء كان في مكانه المثالي وغير القابل للتغيير. بعبارة أخرى، عالم لا يوفر مجالاً كبيراً للسحر.
إن الواقعية، بتمثيلها الأمين والموضوعي للواقع، وتصويرها وانتقادها للظلم الاجتماعي والسياسي وعدم المساواة؛ وفحصها للنفسية البشرية والباطن؛ والتزامها باللغة غير المزخرفة، والصدق والواقعية - كانت أفضل طريقة لكشف الطبقات الخيالية داخل السرد الاستعماري. ذلك السرد قدم نفسه على أنه خيري ولطيف إلى حد كبير، وأنه يقيم النظام في عالم فوضوي، وينير المعرفة في جميع الزوايا المظلمة للعالم، بينما كان في الحقيقة وسيلة لإرساء وتعميق تفوق العنصر الأبيض.
أصبح لدي الآن وعي أكبر وتقدير لكيفية مساهمة عناصر وقواعد نوع أدبي معين في إثراء قصة تركز على الشخصيات.
في كتابي "تاريخ الإنسان"، استخدمت "الحقيقة الموضوعية" المزعومة للسرد الاستعماري لكشف خياله الذاتي للغاية. وقد سمح لي الالتزام بقواعد الواقعية بتحقيق ذلك، لأن عرض الأشياء كما هي، دون تزيين، يكشف عن جوهرها الحقيقي.
بعد أن كتبت رواية أولى، نظرية الطيران، التي كانت نقدًا للدولة ما بعد الاستعمارية، وثانية ، تاريخ الإنسان، التي كانت نقدًا للدولة الاستعمارية، خطر لي أن رواية ثالثة تتناول الانتقال بين هاتين الدولتين ستوضح كيف انتقلت من واحدة إلى أخرى. وهكذا ولدت فكرة جودة الرحمة.
وكخاتمة لم يكن أمام الرواية الأخيرة في ثلاثية "مدينة الملوك" " جودة الرحمة "، خيار سوى أن تكون قصة بوليسية لأنها لم تكن تتعلق بالتحقيق في جريمة فحسب، بل وأيضاً في طبيعة تلك الجريمة. فهل كانت الجريمة: (أ) عنف الاستعمار؛ (ب) ظلم الاستعمار؛ (ج) عدم المساواة الذي خلقه الاستعمار؛ (د) استمرار هذا العنف والظلم وعدم المساواة في عصر ما بعد الاستعمار؛ أم (هـ) كل ما سبق؟
إن أفضل روايات الغموض والتحقيق تقوم بتشريح المجتمع الذي وقعت فيه الجريمة، وتفحص وتحقق في الأحداث التي أدت إلى خصوصية الجريمة بهدف الكشف عن السياق الأوسع. في رواية جودة الرحمة، يتمثل السياق في بلد تتجزأ فيه الرواية الاستعمارية المجتمع على أساس خطوط عرقية وجندرية وإثنية تجعل العلاقات والتعاطف والفهم صعبًا، إن لم يكن مستحيلًا. إلى هذا العالم المنفصل بشدة يدخل رئيس المفتشين سبوكيس مالوي، وهو رجل أسود يحقق في قضية تأخذه عبر الخطوط العرقية لأول مرة في مسيرته المهنية. مثل العديد من سابقيه، يواجه شريرًا شديد القوة، ويتعرف على الدلائل الزائفة، ويستخدم ذكاءه الفائق وقدرته على الاستدلال ليوصلنا إلى النهاية المرضية التي تعد من أسس هذا النوع الأدبي. ومن خلال ذلك ، فإنه يضع مرآة أمام مجتمع وبلد يحتضن الاستقلال في ظل وجود الكثير من المشاكل التي لا تزال دون حل.
على الرغم من أنني ما زلت أعتبر نفسي كاتبة للروايات الأدبية، إلا أنني أصبحت الآن أكثر وعيًا وتقديرًا لكيفية تأثير عناصر وقواعد النوع الأدبي المحدد في إثراء القصة التي تركز على الشخصيات. لقد كانت تجربة كتابة ثلاثية مدينة الملوك درسًا تعليميًا.أغُلق الملف .505 Siphiwe Gloria

رواية "جودة الرحمة" بقلم سيفيوي جلوريا ندلوفو.

***
..........................
الكاتبة: سيفيوي جلوريا ندلوفو / Siphiwe Gloria Ndlovu كاتبة وصانعة أفلام وأكاديمية حاصلة على درجة الدكتوراه في الفكر والأدب الحديث من جامعة ستانفورد، بالإضافة إلى درجة الماجستير في الدراسات الأفريقية والسينما. نشرت أبحاثًا عن سارتجي بارتمان وكتبت وأخرجت وحررت الفيلم القصير الحائز على الجوائز "جرافيتي". وُلدت في بولاوايو، زيمبابوي، وعملت كمعلمة في جوهانسبرغ قبل أن تعود إلى بولاوايو. فازت روايتها الأولى "نظرية الطيران" بجائزة باري رونج للرواية في جنوب أفريقيا. في عام 2022، حصلت سيفيوي على جائزة وندهام-كامبل للرواية.
https://lithub.com/the-rules-of-the-game-how-genre-can-illuminate-theme/

قراءة في "حكاية المسموم" للقاص العراقي أنمار رحمة الله

يختلج العارف منا شهوة للطيش.. ويجفل الحاضر بيننا اباحة للذهول.. نافرين نحو الغلبة او صاخبين نذرا للهزيمة.. فتقتحمنا الزوابع إشعالًا لليأس او دسيسة للموت

"حكاية المسموم" تنطوي على أبعاد متعددة تتشابك فيها العناصر الأدبية والفكرية والفلسفية، وتتجلى فيها الرمزية العميقة مع توظيف التأملات الإنسانية والاجتماعية والدينية بشكل جليّ. الحكاية تفتح الباب لتأويلات متنوعة، ما يجعلها غنية بالمعاني والدلالات التي تستوجب الغوص في أعماقها.

1. البنية الأدبية والتقنية السردية:

تتميز الحكاية بتعدد الأصوات السردية؛ إذ يقدم الكاتب الحكاية عبر عدّة شخصيات، مما يسمح بإبراز وجهات نظر متباينة حول شخصية "المسموم" وتعاطي المجتمع معه. هذه التقنية تعزز من تعقيد السرد وتضيف بُعدًا دراميًا عميقًا، حيث يتنقل القارئ بين عدة رواة يعرضون تفاصيل حياتهم وتجاربهم مع "المسموم"، مما يشكل صورة متكاملة عن هذه الشخصية الغامضة. كل راوِ يعكس موقفه المختلف والشخصي من "المسموم"، فهناك من يتعاطف، وهناك من ينفر، وبعضهم يقف محايدًا، مما يجعل القصة أكثر ديناميكية، وابعد قصدية..

لغة الحكاية جزلة العبارات.. مليئة بالصور المجازية التي تعكس حالة القلق والاغتراب، سواء بالنسبة للـ "مسموم" أو بالنسبة للمجتمع الذي يحيط به. ان استدعاء الصور الطبيعية مثل "النهر" و"الماء" يحيل القارئ إلى معانٍ رمزية وفلسفية، حيث يكون الماء رمزًا للتطهر والبحث عن الخلاص، بينما يتحول في نهاية المطاف إلى أداة للموت.

2. الجوانب الاجتماعية والإنسانية:

القصة تتناول قضية اجتماعية حساسة، وهي مسألة "الوصم الاجتماعي" وكيفية تأثيره على الأفراد. "المسموم" ليس مجرد شخصية فردية، بل يمثل النموذج المُقصى من المجتمع بسبب الإشاعات والمخاوف غير العقلانية. المجتمع هنا يقف ضد الفرد المختلف، دون النظر إلى جوهر الإنسان أو فهم حقيقته، حيث يظهر "المسموم" كشخص لا يحمل أي خصال شريرة، لكن المجتمع قرر عزله بناءً على خلفيته وسمعته، وهذا يعكس ضعف المجتمع في التعامل مع المختلفين والغرباء.

لنرى كيف عكست الشخصيات التي تحدثت عن "المسموم" ردود الأفعال الاجتماعية المتنوعة والغرائبية:

** الضابط

الضابط.. كشخصية أسيرة العجز والتردد أمام واقع غامض ومهيب. مواجهته الأولى في المدينة الجديدة تبدأ بمشهد مأساوي يتعقد بالتدريج، حيث الانتقال من الإشراف المعتاد على انتشال جثة إلى مواجهة خوف جماعي يشبه الهلع الهذياني البدائي. هروب رجاله والصيادين، وتحذيراتهم المتفرقة عن "المسموم" تكشف عن طاقة خفية لا تُفسر بالمنطق الظاهر، وتضع الضابط في موقف وجودي حرج.. إنه مواجهة بين الفرد الذي لا يعرف (الضابط)، والجماعة التي تعرف أكثر مما تعلن.. والذي يعكس عدم فهمه للمجتمع الذي نُقل إليه حديثًا، انه يتعامل مع الأمر بواقعية باردة، مما يظهر انعزاله عاطفيًا عن القضية

الاستعارة بين الناس والأرانب المهروِلة تبرز الهشاشة البشرية أمام المجهول والخطر الغامض، في حين يشكل الأطفال، بتجمهرهم حول الجثة، رمزًا لبراءة ما.. قديمة تتصادم مع الرهبة المحيطة. النص يستبطن توتراً عميقاً حول السلطة.. الجهل.. والخوف المتوارث، والذي يضع الضابط في مواجهة مع ما لا يُرى ولا يُقال، مما يتركه متسمرًا بين الواجب والخوف.

** الزميل في الطفولة

الزميل.. يمثل أصوات المجتمع البسيطة التي تتبنى الأساطير وتصدق الشائعات بسهولة، دون أي تمحيص أو تفكير نقدي.. انه يكشف عن مدى تشكّل المفاهيم السلبية حول الفرد المختلف من خلال الشائعات والأساطير الشعبية، التي تتحول إلى حاجز نفسي قوي بينه وبين الآخرين.. "المسموم" لم يكن مذنبًا، بل ضحية لحكاية والدته ومجتمع غير قادر على تجاوز الخوف اللاعقلاني من المجهول.

الراوي/ الزميل يبرز كصوت تمزقه معاني الذنب والمشاركة في النبذ، حيث كان جزءاً من عملية العزل الاجتماعي الممنهج. الإشارات الدقيقة، مثل غسل الأكف بعد لمسه، ترمز إلى التطهير من التلوث الاجتماعي أكثر من التلوث الجسدي، مما يعمق المأساة.

"المسموم" يصبح رمزًا للإنسان المعزول والمهمش، الذي يقبل مصيره دون مقاومة، مما يعزز الإحساس بالفقدان والاغتراب.. فتكتسي بغلالة من العزلة والنبذ المجتمعي، حيث يُختزل "المسموم" في أسطورة مرعبة، مسمومة جسديًا ومعنويًا منذ ولادته.

** الحجي صاحب المقهى

شخصية "الحجي" تعكس مزيجًا معقدًا من الحيرة الأخلاقية والخوف الاجتماعي. فهو يعيش بين واجب ديني وأخلاقي يدفعه إلى عدم طرد "المسموم"، وبين خوفه من خسارة زبائنه. الحجي يبدو عاجزًا عن المواجهة الحقيقية، فيختار طريقاً وسطاً يعتمد فيه على مراعاة المشاعر في الظاهر، لكنه في الباطن يفرح عندما يتولى الآخرون طرد المسموم عنه.

هنا يبرز بوضوح مدى تداخل الخوف من المجهول مع مفاهيم الطهارة الاجتماعية والدينية، حيث ينقل الحجي ضجَره وقلقه من "المسموم" دون أن يظهر رفضاً علنياً له. التصرفات الصغيرة، كإمساك الكوب بمنديل ورميه، تُعبّر عن الاحتقار الخفي والمقاومة غير المباشرة، لكنها أيضًا تكشف عن هشاشة موقفه الأخلاقي.

الحجي يُقدّم كشخصية مترددة، تفضل الراحة الذاتية على المواجهة المباشرة، وتتلاعب بالمبادئ الأخلاقية في سبيل تحقيق توازن مريح لها..

انه توضيح للصراع بين الواجب الديني والإنساني وبين المخاوف المجتمعية التي تتغلب عليه في النهاية.

** الطليقة

شخصية الطليقة.. تمثل الضحية الكلاسيكية للزواج غير المتوازن والمبني على التضليل. إنها ترمز إلى المأساة الزوجية والاجتماعية، حيث تتزوج من "المسموم" دون أن تعرف تاريخه الحقيقي أو إشاعات المجتمع حوله.. زواجها من المسموم يظهر كيفية تأثير الإشاعات والخرافات المجتمعية في حياة الأفراد البريئين، ويعكس هروبها بعد اكتشاف هذه الحقائق واستسلامها للخوف والقلق الناتج عن تلك الإشاعات. الطليقة تفتح نافذة على تجربة شخصية مكبلة بالعار والخوف من المجتمع، وتوضح كيف يمكن للمرأة أن تصبح ضحية ليس فقط للرجل، ولكن أيضًا للظروف التي تحيط بها.

انها تقدم منظورًا إنسانيًا آخر حول العذاب الشخصي الذي يمكن أن ينجم عن التعايش مع "المسموم"، رغم أن هذا العذاب قد يكون نفسيًا أكثر من كونه حقيقيًا.

** الشيخ

يمثل الشيخ في النص شخصية السلطة الدينية التي تتأثر بضغوط المجتمع وتخضع لها، رغم عدم اقتناعه التام بالإشاعات حول "المسموم". يظهر الشيخ كرجل دين ينظر إلى "المسموم" كشخص عادي لا يرى فيه شيطانًا أو لعنة، لكنه يجد نفسه مرغمًا على اتخاذ موقف قاسٍ بناءً على مطالب المصلين الذين يهددونه بقطع الصدقات عن المسجد. الشيخ يرمز للصراع بين الواجب الديني وضغوط المجتمع، حيث ينحني للضغوط رغم عدم اقتناعه التام بها. موقفه يظهر مدى تأثير الإشاعات والخوف المجتمعي على الأفراد، حتى على من ينبغي أن يكونوا قادة أخلاقيين.

** الأم

الأم تمثل الرمز للمأساة الشخصية في حياة "المسموم"، فهي تُجسد الألم والخسارة التي عاشتها نتيجة العزلة والإشاعات التي طالتها وابنها. تعكس الأم صورة المرأة المثقفة والمستقلة التي تصطدم بالتفاهات المجتمعية والخرافات. علاقتها بالمسموم تكشف عن عمق المعاناة المشتركة بينهما، حيث تمثل الأم مصدر الحياة لـ"المسموم"، وفي الوقت ذاته ضحية رئيسية للإشاعات التي أطلقها الجيران عنها وعن ابنها. توضح الأم كيف أن المجتمع قد يستخدم الخرافات والإشاعات لتفسير الواقع بطريقة مؤذية وغير عقلانية، مما يجعلها تتأمل الألم الشخصي والظلم الذي تعرضت له هي وابنها.

من خلال هذه الشخصيات، تعكس القصة آلية تشكّل التصورات الاجتماعية وكيفية تأثر الأفراد بها، بل وتحولها إلى واقع مادي يغير حياة الناس.

3. الجوانب الدينية والرمزية:

يتعامل النص بشكل عميق مع الجوانب الدينية، خصوصًا من خلال شخصية الشيخ. فالشيخ يمثل السلطة الدينية التي تتعرض لضغوط المجتمع، حيث يحاول الحفاظ على التوازن بين الرحمة الدينية وبين الاستجابة لمطالب الجماعة. هذا الصراع يعكس كيفية توجيه الدين لخدمة المخاوف الاجتماعية بدلاً من مواجهة هذه المخاوف بالحكمة والموعظة. إذ نرى كيف تُستغل الرمزية الدينية لتحفيز النفور من "المسموم"، في وقتٍ يُفترض فيه أن يكون الدين مصدرًا للتسامح والرحمة.

النهر في القصة يحمل رمزية دينية واضحة؛ فهو يرمز إلى التطهر والخلاص الروحي، إذ يسعى "المسموم" إلى تطهير نفسه من الدنس المجتمعي عبر النزول إلى النهر. إلا أن نهايته المأساوية في النهر تشير إلى فشل هذا السعي، وكأن المجتمع، بتصوراته ومخاوفه، يحول حتى أدوات الخلاص إلى وسائل للهلاك. النهر، الذي يمكن أن يكون معبرًا عن النقاء، يتحول إلى مكان للموت، مما يعكس إحباطًا فلسفيًا عميقًا.

4. الجوانب الفلسفية:

القصة تقدم رؤية فلسفية تأملية حول الوجود والهوية والمصير. شخصية "المسموم" تمثل الإنسان الذي يحاول أن يعيش بسلام مع نفسه، لكنه يجد نفسه محاصرًا داخل تصورات الآخرين عنه. هذه الفكرة تعكس الوجودية في أبهى صورها؛ الإنسان يصنع وجوده ومعناه بنفسه، لكن المجتمع يقف كعائق دائم يحاول فرض هويته وتصوراته عليه.

كما تتناول القصة فكرة الموت والانتحار بطريقة غير مباشرة. "المسموم" لا يسعى للانتحار رغم أن المجتمع يفترض ذلك. إنه يحاول البحث عن الخلاص من خلال الطبيعة (النهر)، لكنه في النهاية يموت بطريقة تعكس العجز عن الخروج من قيد المجتمع. هذا التصادم بين الذات الفردية والجماعة يفتح الباب لتأملات فلسفية حول مصير الإنسان في ظل مجتمع لا يرحم، ويضعنا أمام سؤال مركزي: هل يمكن للإنسان أن ينجو بنفسه في عالم تحكمه الأحكام المسبقة والنبذ؟

5. الجوانب الرمزية:

رمزية السمّ تمتد عبر النص لتشمل عدة مستويات. السمّ هنا ليس مجرد مادة تسببت في عزلة المسموم، بل هو رمز للمخاوف والتصورات الاجتماعية التي تتغلغل في النفوس وتؤدي إلى نبذ الفرد المختلف. يمكننا اعتبار السمّ رمزًا للخطيئة الموروثة، حيث يعاني "المسموم" من ذنب لم يرتكبه هو شخصيًا، بل ورثه عن والدته بسبب شائعات المجتمع.

النهر، الذي يمثل التطهر في بعض الثقافات، يتحول إلى مسرح للموت، مما يعكس قسوة المجتمع الذي لا يسمح للفرد حتى بتطهير نفسه من وصمة العار. هذا يعكس نظرة فلسفية عميقة حول مفهوم الطهارة والخلاص، حيث يُحرم "المسموم" من فرصة الخلاص والاندماج، ليس لأنه لا يريد ذلك، بل لأن المجتمع لا يسمح له بذلك.

6. الخاتمة:

"المسموم" قصة غنية بالرمزية والمعاني الإنسانية العميقة. تتناول قضايا اجتماعية ودينية وفلسفية ببراعة أدبية عالية، وتعكس الصراع الأبدي بين الفرد والمجتمع، بين الرغبة في التطهر والبحث عن الخلاص، وبين القيد الذي يفرضه الآخرون على الذات. القصة تطرح أسئلة حول الهوية، الوجود، والعلاقة مع الجماعة، وتترك القارئ يتأمل في قسوة الأحكام المسبقة وكيف يمكن أن تحطم أرواحًا بريئة تبحث فقط عن القبول. إنها قصة تصفع المجتمع في وجهه وتدعو للتفكير النقدي في كيفية تعامله مع المختلف والمهمش.

***

طارق الحلفي/ شاعر وناقد

..............

الرابط

https://www.almothaqaf.com/nesos/977991

بنية العلاقات الزمنية وخطية المواقف والمواقع

توطئة: لعل من أوجه دخوﻻت الزمن في البنية السردية تتابعا من خلال العمل الروائي الذي يخلق عالما خياليا يرتبط وحدود واصلة الواقع بدرجة أو أخرى ويقدم صور وافرة لتمفصلات الحياة السردية عن طريق عامليات متعددة من العناصر الشخوصية المقرونة بظهور تلك الأحداث التي تقع في وجهات متعاضدة من (المواقف - المواقع)بلوغا بها نحو تعدد الأمكنة وإشكاليات ظروف زمن القراءة. أقول بادىء ذي بدء إن حاﻻت التنوع في توظيف دور المحور الشخوصي الفردي (المساعد = الضد) يأتي مشتملا لصدى الأسباب والعلل في مشروع موضوعة النص الروائية، لذا فإن اثبات (الرؤية - الثيمة) تتطلب جهدا كبيرا من القارىء والناقد معا، وعلى هذا الأساس قد نختلف أو نتفق مع فهم الأفعال الروائية التي تعبر عن بعض من الحاﻻت الداخلية خصوصا عندما تكون مخصوصة بوظيفة الإشارات والعلامات الضمنية. من خلال دﻻﻻت ووحدات رواية (دقات الساعة) للكاتب الكولمبي الكبير (غابرييل غارسيا ماركيز) تواجهنا انعكاسات الظروف الخارجية ضمن مواقف ومواقع التكوين النفسي، حيث كادت مجموع الوحدات الصغرى والكبرى في الرواية من أن تشكل بذاتها منظورا شخوصيا ذات ملامح محورية داخل مستويات الهيمنة الفعلية في شريط الأفعال والمواقف والمواقع في الجسد الروائي.

- التبئير الوصفي للمنظور الداخلي المتزامن مع الخارج.

تتميز رواية (دقات الساعة) بتقنية التزامن نظرا لكونها تقوم على موضعي (المواقف = المواقع) ففي حالة المواقف تتزامن الأحداث (الخارجية - الداخلية) مع قوامية المشهد الشخوصي، لذا بدا الزمن مساويا لمهام واقع الحكي، بل إنه غالبا ما يبدو اختلاطا في نزوع الحوادث نحو الأمكنة المتعددة، لذا يكاد ان يكون الزمن ايقاعا بطيئا من شأنه ترميم زمن المكان في حدود موصلات متزامنة من السرعة والأبطاء معا.

١- الطابع المتضاعف في المشهد الروائي:

من الممكن للروائي أن يتلاعب بالقارىء، ولكن ليس من الممكن إخفاء اواصر دﻻﻻته على ملكية الناقد المتفحص. تتوافر في شروط الحكي الروائي (وجهة نظر ؟) المقيدة بطرائق أسلوبية وآليات تزداد وحدة وترابط، لذا فإن إمساك خيوط السرد ﻻ تخضع دائما إلى عملية متذرعة من حكاية الحكي، اللهم إلا في حدود توظيف العلامات والرموز الإظهارية في حيثيات النص. بدءا نتعرف على شخصية الأب (آنجيل) وهو القس الوحيد في القرية: (انتصب الأب آنجيل وازاح الناموسية الدانتيل بعد أن فرك جفنيه بأصابع يديه، ثم جلس على الحصيرة ساهما لفترة تحقق في خلالها أنه حي، وتذكر تاريخ عيد القديس اليوم الثلاثاء ٤ تشرين الأول - اكتوبر - هكذا تذكر ثم أضاف بصوت خافت: القديس فرانسوا داييز. /ص5الرواية) ولعل مثل هكذا وحدات تشيء بين - دخول المؤلف وعدم دخوله - إذ نكتشف بأن وقائع القس آنجيل تتبنى حدودا زمنية مباشرة راحت تتشكل بواسطة نهج حياتي نمطي مقيدا بحدود (الموت - الحياة - رؤية الاشياء عن قرب) كنماذج للتمسك بحسن السريرة والفطرة.

٢- المنظور المكاني وإستعادة العلائق الصفاتية:

لعل شخصية الأب (آنجيل)محفوفة بسمات النوع الشعبي من الحاﻻت الطبقية، لذا فهو حالة استبطانية لمظاهر الوعي الشخوصي المشحون بصحة الشخصية الدينية السلمية فهو طيب القلب من جهة خفيف الظل، مرح الطبع، يحب الناس ويحبونه، وﻻ مصلحة خاصة لديه سوى ما تعكسه نشأته التربوية الأصلية في القرية. وما يسوغ تحققات (المنظور المكاني) في مقاربات الوحدات، هو ذلك البلوغ الوصفي النادر والجوهري، إذ جعلت مخيلة المكان بمثابة دﻻلة الفضاء المعبر عن حيوات الشخصية: (كانت الحجرة متصلة بالكنيسة بواسطة دهليز داخلي تزينه على الجانبين أصص الزهور، وكان الدهليز مغطى ببلاط متباعد قد بدأت تظهر من بينه أعشاب تشرين الأول. / ص5 الرواية) بهذا المعنى كانت تتوضح معالم حياة القس آنجيل بوصفها ضمن رؤية تتصل بالتلاقي مع ذكرى ميلاد القديس فرانسوا داسيز، وهذا الأمر بذاته ما جعل من موقعية الكنيسة ثم موقف القديس آنجيل كمقاربة تصل العلاقة والنهج ما بين ميلاد وذكر القديس فرانسوا وبين الصورة البوهيمية لحياة آنجيل قديسا في صياغة الوقائع داخل كنيسة القرية وما حولها من تفصيلات وإشكاليات مريرة.

٣- نزيف الأجراس وفخاخ الفئران الميتة:

ما يجذب الانتباه في سرد رواية (دقات الساعة) كونها مجموعة أزمنة تعاقدية جعلت تشخص ماهية الأشياء في حدود زمن العلامات أو المرموزات المضمرة، لذا كانت علاقة القس آنجيل بتلك الراهبة التي تدعى ترينيدا ثم افتقاد ذلك الموسيقي باستور فضلا عن هيام ترينيدا بنصب الفخاخ للفئران في زوايا معبد الكنيسة، ناهيك عن ذلك الفيض من الناموس الذي يخترق وجود وجيوب القرية من كل جهة ومكان، كل هذه الأدوار تتغيا في حيازة دﻻﻻت علاماتية من قبل المؤلف، إذن الأسلوب الاستعاري يتناسج ضمن رغبة ينفلت منها موضوعها باستمرار لذا نقول: ما دﻻلة السعادة الداخلية لدى القس بأقتراب ذكرى قديمة للقديس فرانسوا، هل هو محض الأستلذاذ اللاهوتي مثلا ؟ ولو إننا تتبعنا حياة ذلك الموسيقي لما وجدنا سوى المستوى العبوري على نحو قابلية حدوث أفعال بدت أكثر ملاءمة للتحول إلى فضاء جريمة قتل ؟ وإذا شئنا العودة إلى أحداث تلك الأمواج من الناموس الملتصقة بباطن صوان الأجراس وصوﻻ إلى حشود الفئران المتواجدة في كل مكان من الكنيسة هل لنا أن نعلم بأن الانزياح المعادلي في توالد خطاب دﻻلي أكثر سرية وكبتا مما نعتقد ؟. وعلى هذا النحو وجدنا الأحداث الروائية تمنحنا إحساسا ودليلا بأن هناك من يقف خلف الأبواب ويديم الانصات في خلوة لا تخلو من الزمن المفقود، أي ذلك السياق الامتدادي وتدرجاته في ممارسة حياة موفقة ببديلها الصوري: (: - نعم هكذا أبدت ترينيدا قوله، ثم اقتربت حاملة صندوق الفئران الميتة. إنهم ضاربو قيثارات. قال الأسقف: لقد مكثو ما يقارب من الساعتين وهم يرددون أغنية غبية: البحر سيفيض من دموعي. ألم يكن هذا ؟ إنها أغنية باستور الجديدة. وقف الأسقف أمام الباب وقد شملته حالة إعجاب شديد عجز عن مقاومته، كان طوال سنوات وسنوات قد استمع الى كلارينت باستور الذي كان يجلس على بعد شارعين من هذا المكان يومياً في الخامسة صباحاً. /ص6 الرواية) هكذا يتبين لنا من خلال الأحداث الشخوصية بأن العناصر العاملية في الأدوار المحورية تتشاطر في تجسيد مؤهلات (زمن الحكاية) امتدادا نحو الوحدات الفرعية من مواقف ومواقع السرد، لذا تبقى محفزات زمن الخطاب مقصودا في نسج علاقات وتواصلات ذات قيمة (فاصلة = واصلة) لنتوقف قليلا حول شخصية ذلك العمدة ونشاركه وجع أحد اضراسه، فهو من ذلك النوع من الشخصيات المتنفذة في اواصر الحكاية الروائية: (في لحظة إطلاق النار كان العمدة قد بدأ ينعس، لأنه كان قد قضى ثلاث ليال لم يغمض له جفن في خلالها بسبب آلام أسنانه، وفي صباح ذلك اليوم بينما كانت الكنيسة تعلن نداءها للصلاة كان قد تناول قرص المسكن الثامن حيث هدأ الالم نسبيا وساعده صوت تساقط المطر - على السطح المصنوع من الزنك - على النعاس./ص9 الرواية) لعل الخطاب السردي لدى (غابرييل غارسيا ماركيز)ذات تقابلات زمنية راحت تشكل بذاتها مستويين من أداة الزمن (الزمن الفيزيائي - زمن الأحداث)إذ يشكل الزمن الأول وهو ذلك المستوى الخطي الذي يكون بذاته قابلا للتقسيم والتجزئة، وهذا الزمن هو بذاته الفسحة اللاثابتة، حيث تقاس وفق احاسيس وانفعالات الدواخل الشخوصية، كحال احاسيس الاسقف إزاء ذكرى ميلاد القس فرانسوا كما ومشاعر العمدة حيال تساقط قطرات المطر على السقف مما دفعه للنعاس. اما الزمن الإحداثي، فهو ذلك المقابل النفسي الذي يطغى على متتاليات الافعال والأحداث، فهو كذلك يجري بلا توقف وﻻ نهاية وﻻ رجوع إلى الوراء، فهو يشكل استمرارا في صيرورة من المتتاليات المترابطة، تتجلى من خلال ما يعرف بالاحداث، وهذه الاحداث بطبيعتها ليست هي الزمن، بل إنها تتحقق فيه،  شأنها في ذلك شأن الزمن نفسه، لذا بدت التقابلات الثنائية للزمن في الرواية وكأنها تراكيب صورية متقاطعة في حدود دخوﻻت مظهرية للمواقف الشخوصية بطريقة مباغته غالبا، إذ نلاحظ بدورنا من أن ماركيز ﻻ يقيم أية وساطة ما في نمو شخصياته وظهورها الأولي، بل هو يقدمها بصورة اعتباطية وكأن الأحداث تجري على شريط عارضة سينمائية، فهو يباغتنا بأسماء شخوصه دون أية دﻻلة من شأنها إخضاع الشخصية ذاتها إلى عدة مشخصات تقديمية ما. فالزمن حقيقة مؤشرة في حسابات السرد تتكاثر فيه العلامات والتوقيتات التفصيلية في أكثر من مكان ومقام من الرواية.

- التبئير من منظور المتكلم

تتراءى لنا الرؤية السردية لجريمة مقتل الموسيقي باستور على يد سيزار مونتير بواسطة اطلاق عيار ناري من بندقيته. ولكن لو نظرنا للحادثة ذاتها لوجدناها خالية من الاسباب الكفيلة بهذا الفعل. عموما الحالة السردية تنتقل بنا عبر الناظم الخارجي إلى فضاء تجسيد جريمة القتل، ويتم تقديم هذه الممارسة الفعلية من ناحية المنظور المتكلم إلى خارجي من (برانية الحكي؟) امتدادا إلى تدخل العمدة في تفاصيل هذه الواقعة المضطربة.

- تعليق القراءة:

تشتمل رواية (دقات الساعة) على تفاصيل متكونة من ثنائية (المواقف - المواقع) أي ان لكل شخصية في حقيقتها ثمة موقعية خاصة سواء كانت هذه الموقعية إيديولوجية أو اجتماعية، لذا فالامر يتطلب بحضور الموقع مقابلا موقفيا من التفاصيل والمنطلقات الفعلية في زمن الأحداث. طبعا من الأكيد أن صراع الذوات في رواية (دقات الساعة) تحتل في ذاتها جغرافيا متلونة من الملامح والجهات فمنها من كان يساند الجهة الحكومية بما يتمثل به العمدة من الطغيان والجبروت، ومنها الآخر من يجسد موقعية وموقفية رجل الكنيسة، ومنها ما هو منخرط في حركات سياسية معارضة. أقول أن متواليات الأحداث الروائية محيطة بجوانب إيهامية مفرطة تشاطرها قوة الأنساق الشخوصية السجالية، لذا بدت من جهة ما الرواية محفوفة بشفافية الواقعية السحرية وكثافة صناعة الادوات التخييلية في حدود منطلقة من بنية العلاقات الزمنية التي تؤشرها خطيات الخطاب الموقعي  الموقفي.

***

حيدر عبد الرضا – كاتب وناقد

شهدت معسكرات الاعتقال في كندا في أربعينيات القرن الماضي تنظيم أولى قصائد الهايكو باللغة اليابانية، وبأقلام شعراء أسرى من أصول يابانية كانوا ضحية الموقف المعادي لليابان. فقد تضمنت مقاطعة كولومبيا البريطانية وحدها، والواقعة في أقصى غرب كندا بين المحيط الهادىء وجبال الروكي (10) معسكرات إعتقال (معسكرات إعادة التوطين)، كان أكبرها وآخرها معسكر (تاشمي) الواقع على بعد (20) كيلومترا تقريبا جنوب شرق (هوب)، وقد سجن فيه نحو (2600) شخص. ومن أشهر شعراء هذا المعسكر (هاشيرو ميازاوا، تاكيو ناكانو، تشويتشي سومي، ميدوري إيواساكي، جيري أوسامو شيكاتاني)، وأيضا (سوكيو ساميشيما – سوك) المولود في 23 تشرين الثاني 1915 في (نيو ويستمنستر – كولومبيا البريطانية)، والذي ظل يكتب قصائد الهايكو حتى مماته في 5 تشرين الأول 2017 عن عمر يناهز ال 101 عاما.

وكانت الشاعرة والناشطة (فيوليت كازوي دي كريستوفورو) (1917 – 2007) قد نشرت كتابا بعنوان (ماي سكاي 1999) متضمنا مختارات مترجمة من قصائد الهايكو المكتوبة من قبل شعراء من أصول يابانية في معسكرات الاعتقال تلك أثناء الحرب العالمية الثانية. وهي مؤلفة ستة كتب جاءت على نفس المنوال، ومنها (انعكاسات شعرية عن معسكر اعتقال بحسرة تول 1944) المنشور في عام 1984 و(سماء أيار، هناك دائما غد، مختارات من معسكر الاعتقال الياباني الأمريكي كايكو هايكو 1997).

و قد ورد الكثير من قصائد الهايكو المكتوبة في المعسكر المذكور خلال الفترة 1945 – 1946 في كتيب بعنوان (أصداء الجبال) وفي كتيب آخر بعنوان (النور الروحي). يقول (إيجي أوكاوا) زميل ما بعد الدكتوراه في قسم التاريخ بجامعة فيكتوريا في مقال له بعنوان (جمعية تاشمي للشعر): (بالنسبة لشعراء معسكر تاشمي، ربما كان الشعر أكثر من مجرد هواية، أو شيء يقومون به من أجل الترفيه عن النفس، لقد أتاح لهم الشعر فرصة للتعبيرعن مشاعرهم وتنشيط قلوبهم وأرواحم أثناء أعوام الاعتقال المروعة).

كما ورد شرح واف لهذا الموضوع بكتاب (الهايكو في كندا: تاريخ، شعر، مذكرات) لـ(تيري آن كارتر) التي أشارت في فصل (رواد الهايكو الأوائل) من كتابها المذكور إلى (دينبي كوباياشي – هوسوي وليونارد كوهين وكلير برات وباتريك لين) بإعتبارهم من رواد شعر الهايكو في كندا. ثم جاء بعدهم (هارفي جينكينز، كيم جولدبرح، روبن سكليتون، ريتشارد أولافسون، ليان ماكنتوش، بيث وغريغوري سكالا، جوانا ستريتلي، وإيفون بلومر). أما (تيري آن كارتر) فهي شاعرة وفنانة ومحررة، أصدرت ست مجموعات شعرية، ومجموعة كتب إرشادية حول شعر الهايكو، وحررت أربع مجموعات هايكو، ونظمت العشرات من الندوات وورش العمل حول الهايكو وفي مختلف بلدان العالم.

أما أول شاعر كندي نشر شعر الهايكو فهو القاص والصحفي (جان أوبيرت لورانجر) (1896 – 1942)، وكان ذلك في عام 1922، ومن خلال ديوانه الشعري (قصيدة – باللغة الفرنسية). وجاءت بعده الشاعرة والصحفية والروائية (سيمون روتييه) (1901 – 1987) من (كيبيك) التي نشرت ديوانها (المراهق الخالد – باللغة الفرنسية) في عام 1928 (كيبك – لو سولاي)، وقد تضمن إضمامة من قصائد الهايكو. وكانت متأثرة بمعلمها (بول موران) و(لورانجر). وذلك وفقا ل (لويز دوبريه) في مقدمة للطبعة الأخيرة من كتاب (سيمون) التي نشرت ثلاث مجلدات شعرية خلال الفترة 1928 – 1934. ومن أعمالها (أولئك الذين سيكونون محبوبين 1931، الاغراءات 1934، الرد على يأس الخادمة العجوز 1940، وداعا باريس 1940، مزامير الجنينة المسورة 1947، والرحلة الطويلة 1947). ومن قصائدا المترجمة إلى اللغة الإنكليزية:

ينتظرك فؤادي

السكينة اللامتناهية

للعديد من أوراق الشجر المتساقطة

أما أول مجموعة هايكو بالكامل فقد كانت من تاليف الشاعرة والفنانة والمحررة الكندية (ميلدريد كلير برات) (1921 – 1995) من (تورنتو) والمعروفة ب (كلير برات)، ونشرت في عام 1965 تحت عنوان (هايكو)، وقد أعيد نشرها من قبل (جمعية الهايكو الكندية) في عام 1979. حصلت (برات) على شهادة في اللغة الإنكليزية والفلسفة من جامعة تورنتو – كلية فيكتوريا 1944، ثم تابعت دراستها العليا في الدراسات الدولية في جامعة كولومبيا بنيويورك. كما درست الفن في مدرسة (دون) للفنون في تورنتو وفي في متحف بوسطن للفنون الجميلة رغم حالتها الصحية السيئة لاصابتها بشلل الطفال والتهاب العظام الشديد. ومن قصائدها المنشورة في مجموعتها المسماة (هايكو):

تهتز الأرض

ينقسم المعبد إلى الأبد

و ينبجس الملح متدفقا دون توقف

*

أيها الليل، أيها اللص المصاب بالبراغيث

الق بنفسك السوداء إلى القمر

و أعد إلي نومي

و هناك شعراء كثر برزوا على خارطة الهايكو الكندية، ومنهم (إريك دبليو أمان)، ولد عام 1934 في (ميونخ) وتوفى في عام 2016. حرر ونشر الهايكو الكندي خلال الفترة (1967 – 1970). ثم مجلة (سيكادا) المعنية بالهايكو خلال الفترة (1977 – 1982). ثم مجلة (كونكريت) 1979. وصفهما (كور فان دن هوفيل) في مقدمة كتابه (أنطولوجيا الهايكو) بأنهما (من أكثر مجلات الهايكو الصادرة باللغة الإنكليزية تأثيرا وتميزا من حيث المحتوى والتصميم). ومن شعره:

طريق العودة الطويل...

ثمة زنبقة نمر

تشير إلى الطريق

أما (ديبي سترينج): وهي (ديبرا ماي ماكنزي)، فهي شاعرة وفنانة ومصورة فوتوغرافية وموسيقية. ولدت عام 1955. تعيش في (وينيبيج) في (مانيتوبا). عرفت الهايكو وهي في مرحلة الدراسة الابتدائية. تكتب الهايكو والتانكا والسينريو وغيرها. حاصلة على عدة جوائز، منها جائزة (ماريان بلوجر شاببوك) 2022 عن كتابها (لغة الخسارة)، وجائزة مسابقة (سابل بوكس الدولية للهايكو – فئة السيدات 2019 )، وجائزة هايكو بلودروت 2022، وجائزة الجمعية الايرلندية للمسابقة الدولية 2021 وجائزة في مسابقة شحذ القلم الأخضر للهايكو 2018 وجائزة من مهرجان فانكوفر لزهور الكرز الدولية للهايكو 2017 وجائزة هارولد ج. هندرسون 2015 وغيرها. عضوة في (جمعية الهايكو البريطانية، جمعية الهايكو الكندية، جمعية الهايكو الأمريكية، جمعية شعراء الهايكو في شمال كاليفورنيا، جمعية الشعر النيوزيلندية، جمعية التانكا الامريكية، رابطة الهايكو العالمية، جمعية يوكي تيكاي للهايكو) وغيرها. من مؤلفاتها (شرارات زرقاء عشوائية، فواصل البراري 2020، لغة الخسارة - دار سيبل بوكس 2020). ترجم لها (هيدينوري هيروتا) إلى اللغة اليابانية.

و أيضا (جورج سويد): وهو شاعر هايكو غزير الإنتاج وعالم نفس وكاتب له أعمال موجهة للأطفال وأكاديمي متقاعد. ولد عام 1940 في (ريغا – لاتفيا)، ويعيش في (تورنتو – أوتاريو). درس في جامعة (كولومبيا) وحصل فيها على شهادة البكالوريوس في علم النفس عام 1965. حاصل على شهادة الماجستير في علم النفس أيضا وبمرتبة الشرف من جامعة (داهوزي – نوفاسكوشيا) في عام 1965. درس في جامعة (فانكوفر المجتمعية) في الستينيات من القرن الماضي، ثم في جامعة (رايرسون) حتى تقاعده في عام 2006. نشر أول قصيدة له في عام 1968، وأول مجموعة شعرية في عام 1974. وأول قصيدة هايكو في عام 1977 في مجلة (بونساي) الأمريكية المعنية بشعر الهايكو. نشر أكثر من (56) كتابا وكتيبا في كندا وفرنسا وو بولندا والبرتغال والمملكة المتحدة والولايات المتحدة الأمريكية، ومنها (42) مجموعة شعرية، أكثرها هايكو. وأولها كان في عام 1974. ترجمت أعماله إلى (23) لغة. منح عدة جوائز، منها جائزة متحف أدب الهايكو (1983 و1985 و1992). من كتبه (الهايكو العالمي: 25 شاعرا من جميع أنحاء العالم، شبه غير مرئي، أول ضوء: أولى الظلال، حلازين، لم يزل الفرح في داخلي، أريد أن أقضي وقتا ممتعا، كيف تنشأ القصيدة: ثالوث الهايكو وما بعده). ومن شعره:

تتذكر الأم حبها الأول

في الفناء الخلفي للدار

تفوح رائحة التفاح الناضج

اما (آنا يين): فهي شاعرة من أصل صيني. ولدت عام 1970 في الصين وهاجرت إلى كندا في عام 1999، وتقيم في (ميسيسوجا – أونتاريو). حاصلة على شهادة البكالوريوس من جامعة (نانجينغ)، وعلى شهادة في الكتابة الإبداعية من جامعة (تورنتو). تعمل كمبرمجة للكومبيوتر. نشرت ست مجموعات شعرية وثلاثة كتب مترجمة، منها (المرايا والنوافذ 2021) و(سبع ليالي مع الأبراج الصينية، دار بلاك موس للنشر 2015) و(أجنحة نحو ضوء الشمس، موزاييك برس 2011) و(أضواء ليلية، دار بلاك موس للنشر 2017). حاصلة على جائزة (تيد بلانتوس) 2005 وجائزة (مارتي) وجائزة الإنجاز المهني 2013، وعلى منحة دراسية من مجلس الفنون في أونتاريو ومجلس كندا للفنون، وأخرى من الولايات المتحدة الامريكية. ظهرت قصائدها في (آرك بويتري، نيويورك تايمز، تشاينا ديلي، وراديو سي بي سي) وغيرها. من قصائدها:

الضفدع الحجري

أنا الآخر أحلم بالنط

فوق البركة الجافة

و أيضا (جاكلين ماري بيرس) المعروفة ب (جاكي بيرس) المولودة في عام 1962 (فانكوفر) والمقيمة في (برنابي). وهي شاعرة هايكو ومحررة ومؤلفة (12) كتابا موجها للأطفال والشباب. تحمل شهادة البكالوريوس في الأدب الأنكليزي من جامعة فيكتوريا 1985، وشهادة الماجستير في الدراسات البيئية من جامعة يورك 1990. من مؤلفاتها (تحذير من الفيضانات – للأطفال 2012، لغز الحظ المفقود 2011، حلم إميلي 2005، اكتشاف إميلي 2004، لم الشمل 2002، بركة اليشم: هايكو مستوحى من حديقة الدكتور صن يات سين الصينية الكلاسيكية – مجموعة هايكو فانكوفر 2018).حائزة على جائزة في مسابقة (ليزلي سترات) الشعرية السنوية عن قصيدتها (حديقة مستنقع الشاي 2021). لها مقالة قيمة فازت بجائزة وطنية، نشرت في مجلة تاريخ كولومبيا البريطانية في عام 2020 بالاشتراك مع (جان بيير أنطونيو) بعنوان (الهايكو في تاشمي: إرث سوكيو – سام – ساميشيما)، وتتضمن ترجمة وتحليل (300) قصيدة هايكو كتبها شعراء أسرى من أصول يابانية في معسكر الاعتقال في (تاشمي) في كولومبيا البريطانية. وبحسب (جيسيكا بيترز) يعود الفضل في الاحتفاظ بقصائد الهايكو المؤلفة في المعسكر المذكور إلى الياباني (سام ساميشيما) (1915 – 2017).

ومن رائدات الهايكو الكندي الشاعرة (ماريان بلوجر) (1945 – 2005). حاصلة على شهادة البكالوريوس من جامعة (ماكجيل) 1967 وبدرجة ممتاز. درست الشعر على يد الشاعر والاكاديمي والناشر الكندي المعروف (لويس دوديك) (1918 – 2001). كتبت التانكا أيضا. تشمل مؤلفاتها (الرجل الذي لا أصبع له يعزف على البيانو 1981، في ليالي مثل هذه 1984، التجمع البري 1988، العشب الصيفي 1992، تاماراك وكليركوت – هايكو 1997، هبات – تانكا 1998، مقص، ورقة، امرأة 2000، قطع المساء المبكرة – هايكو 2003، ساتوريس الصغير – تانكا 2005، والأبدية 2005). منحت عدة جوائز وكرمت أكثر من مرة، منها جائزة (أرشيبالد لامبمان) للشعر 1993 وجائزة مجلس كندا للفنون 1989. ترجم لها من الفرنسية إلى الإنكليزية (غابور تيريبيس). استحدثت (جمعية الهايكو الكندية) في عام 2020 مسابقة شعرية تخليدا لذكرى الشاعرة (ماريان بلوجر) العضوة النشطة السابقة في الجمعية ومؤسستها. ومن شعرها:

ذيل السنونو

يتشبث بورقة البردي

في مهب الريح

و من الرائدات أيضا كاتبة المقال والمحررة والشاعرة (جانيك بيلو) التي تكتب الهايكو والتانكا. ولدت ونشأت في مونتريال (1946)، عاشت لفترة من الزمن في (أوتاوا) و(وينيبيج)، لتعود بعدها إلى مسقط رأسها. تكتب بالانكليزية والفرنسية. حاصلة على شهادة البكالوريوس في الادب الفرنسي والتواصل الاجتماعي من جامعة اوتاوا. مهتمة بتدريس الهايكو والتانكا منذ عام 1998. منحت عدة جوائز، منها جائزة (نواج) في مسابقة ماركو بولو الدولية الثانية للهايكو 2006 والجائزة الثانية في مسابقة ماينيتشي شيمبون الدولية للهايكو 10 – القسم الدولي 2006 وتنويه شرف في مسابقة ماينيتشي شيمبون الدولية للهايكو 11 – القسم الدولي 2007 وتنويه شرف في مسابقة ماينيتشي شيمبون الدولية للهايكو 12 – القسم الدولي 2008 وجائزة في مسابقة ماركو بولو الخامسة للهايكو 2009 وجائزة كندا – اليابان الأدبية عن مجموعة تانكا المسماة (من النفوس والأجنحة 2010).

أما (ريتشاد ستيفنسون) (1952 – 2023) فهو موسيقي ومحرر وروائي وأكاديمي وشاعر هايكو وتانكا وسينريو وهايبون. حاصل على درجات علمية في اللغة الإنكليزية والكتابة الابداعية من جامعة فيكتوريا وجامعة كولومبيا البريطانية. درس في نيجيريا لبضعة أعوام، وقبلها في كلية (ليثبريدج - - ألبرتا). نشر (40) كتابا. منها مجموعة شعرية باللغة الإنكليزية بعنوان (سحر العصافير 2004)، وأيضا (التوابيت الطائرة 1994) و(جريمة قتل الغربان 1998) و(الهبات الساخنة 2001) و(وداعا أيها الطائر الأسود 2007) و(الساعة الزمردية 2008) و(أخبار العقعق 2008) و(تفاح الرياح 2010) و(الضجة الشعرية 2024). منح جائزة (نورمان إبستاين للكتابة الإبداعية – مشتركة) 1983 وجائزة فانكوفر الأدبية للكتاب الصغير 1983، وجائزة (ستيفان ج. ستيفانسون للشعر) لنقابة كتاب ألبرتا عن كتابه (أفواه الملائكة)، وجائزة الوردة الأدبية 1997، والجائزة الثانية في مسابقة اسكتشات الاميال 2001. ومن شعره:

نهاية الفصل الدراسي

يطن النحل في أزهار التفاح

فوق قبعتي المنسوجة من القش

و أيضا الكاتب وشاعر الهايكو والرينكو (مارشال جون لويس هريسوك) المعروف ب (مارشال هريسوك) والمولود في عام 1951 في (هاميلتون – أونتاريو) والمقيم في (تورنتو – أونتاريو). متزوج من الشاعرة الكندية (كارين سوهن). حاصل على شهادة البكالوريوس في الفلسفة من جامعة تورنتو 1975. نشر في عام 1978 مجموعة شعرية بعنوان (الجناح الرفيع) وتضمنت (22) قصيدة هايكو. ساهم في تأسيس مجلة (إنكستون) للهايكو. رئيس (هايكو كندا) للفترة 1990 – 1998. نشر (11) كتابا وكتيبا. أدار أكثر من (50) جلسة رينغو. نشر في (هايكو كندا ريفيو ونشرات هايكو كندا) و(25) مجلة دورية في كندا والولايات المتحدة الامريكية. نشرت قصائد له في (مختارات من الهايكو الكندي – مطبعة ثري تريز – تورنتو 1980). من مجاميعه الشعرية (الأوراق المحترقة – هايكو 1990) و(عشبة اللبن 1987) و(بتلات في الظلام – رينكو) و(أغصان لامعة: قصائد). حاصل على عدة جوائز، منها جائزة في مسابقة جمعية الهايكو الدولية / 8. من شعره:

فتاة صغيرة مع شريطها

الدوران والدوران

تحت أشعة الشمس

و هناك شاعرة هايكو وتانكا كندية ماجدة هي (ميشلين بودري) المولودة في (مونتريال – كيبيك) في 29 حزيران 1942. من مجموعاتها الشعرية (ليلة الماء – هايكو) الصادرة باللغة الفرنسية والمترجمة إلى اللغة الإنكليزية من قبل (مايك مونتروي – دار ديفيد للنشر 2004). ومن قصائد هذه المجموعة:

حلول شهر آب

يتعالى صوت صرصور

الليل

أما (أندريه دوهايم) المولود في (مونتريال) عام 1948 فهو كاتب وشاعر غزير الأنتاج، وهو من رواد الهايكو بالفرنسية في كندا. يكتب بالفرنسية والإنكليزية. حاصل على شهادة الماجستير في الآداب من جامعة (أوتاوا) 1994. نشر (43) كتابا، منها (5) مجموعات هايكو و(4) كتب هايكو مصورة موجهة للأطفال. حاصل على جائزة الإبداع 2001 وجائزة التميز الكبرى 2011. هناك جائزة شعرية باسمه، انشأها (هايكو كندا) في عام 2021. من أعماله (قشور البرتقال 1987، آثار الأمس 1990، اللقاء الأخير 1996، أمس وإلى الأبد 2003،و الإقامات – هايكو وتانكا 2009). والقصيدة التالية من مجموعته الشعرية (قشور البرتقال – ثنائية اللغة:

في درج دولابها

الدمية التي رميتها فعلا

ثلاث مرات

و من شاعرات الهايكو البارزات بالفرنسية (جان باينشود) المولودة في عام 1962. وهي كاتبة وفنانة وكاتبة سيناريو أيضا، وتعيش في مونتريال. أصدرت منذ عام 1992 (11) كتابا بين الهايكو والأعمال المصورة للأطفال، وكلها منشورة في مونتريال، بإستثناء واحد نشر في باريس. كما ساهمت في (30) مختارات شعرية. منحت الجائزة الأولى في المسابقة الدولية للهايكو التي تديرها مجلة (ماينيتشي شيمبون) اليابانية 2022. اشتركت بعدة فعاليات أدبية في فرنسا وبلجيكا واليابان والسنغال والولايات المتحدة الأمريكية. من أعمالها (قطع الصمت 2015، السماء شاحبة للغاية 2011، وتحت أقدامنا 2003). وقصيدتها التالية فائزة بجائزة تقديرية في مسابقة الهايكو الدولية الخامسة لجمعية الهايكو الدولية (بالانكليزية):

شاحبة هي السماء كثيرا

هذا الصباح

صرت أشك حتى بوجود النجوم

و أيضا (ماريان بول)، وهي شاعرة وروائية وفنانة معروفة. درست الهايكو والتانكا والهايجا والهايبون. تكتب باللغة الانكليزية. من مؤلفاتها (مذكرات فتاة ميتة 2008، وزن الجسم – هايكو 2019، فوق وتحت خط الماء 2011، الحجارة المحولة 2004، والمسكون: قصائد عن الطبيعة والحب والخسارة 2022). تنشر في مختلف الصحف والمجلات الورقية والرقمية. حاصلة على جائزة (جين رايخولد ميموريال هايجا – فئة الوسائط المتعددة 2016). من قصائدها:

هذه الحياة البرية

المطر الذي

يلامس وجهي

و (ميشيل هايات). وهي شاعرة هايكو وتانكا، وتعمل كمدربة معتمدة في الصحة والعافية ومعلمة يوغا. لها عدة مؤلفات. نشرت قصائدها في عدة صحف ومجلات ومواقع الكترونية. ومن شعرها:

الكثير من المكياج

يخفي وجهها الجانب المظلم

من القمر

و (سي جين داونر). وهي شاعرة هايكو مرشحة لجائزة (تاتشستون) وروائية مرشحة لجائزة (الأدب الذهبي). ولدت في الولايات المتحدة الأمريكية – باسكو، وتعيش في (وايت روك – كولومبيا البريطانية – كندا). تكتب بالأنكليزية. منحت جائزة (هايكو إنفيتيشنال – مهرجان فانكوفر لأزهار الكرز 2023). عضوة في (هايكو كندا) و(جمعية الهايكو الأمريكية). من مؤلفاتها (تدوم الأكاذيب إلى الأبد – بيلا بوكس 2023) و(تحت القمر البارد). لديها حلقات تلفزيونية وأفلام. ومن شعرها:

وداعا

تلتصق ندف الثلج

بأشجار دائمة الخضرة

أما بخصوص (جمعية هايكو كندا) فقد تأسست في 21 تشرين الأول 1977 على يد الدكتور (إريك أمان) و(بيتي دريفنيوك) و(جورج سويد). ثم سميت ب (هايكو كندا) في عام 1985. وهي معنية بالدرجة الاساس بالهايكو وأيضا (التانكا، الرينجا، السينريو، والهايبون). وقد توالى على رئاستها عدة شعراء: (إريك أمان 1977 – 1979) و(بيتي دريفنيوك 1979 – 1982) و(ساندرا فورينجر 1982 – 1985) و(دوروثي هوارد وأندريه دوهايم 1985 – 1988) و(دوروثي هوارد 1988 – 1990) و(مارشال هريسوك 1990 – 1997) و(نيك أفيس (1997 – 2004) و(ديفار دال 2005 – 2012) و(تيري آن كارتر 2013 – 2018) و(كلوديا كوتو رادمور 2018 – 2022) و(أنجيلا لوك – حاليا).

نماذج من شعر الهايكو الكندي (مترجمة عن الإنكليزية)

1 – باميلا كوبر

سقوط سمكة من الاعالي –

ثمة نورس يطعم صورته

المنعكسة على الماء

***

2 – بيث سكالا

مطر طال إنهماره

ثمة جدار ثابت

بيننا وبين الجيران

***

3 – لييت جانيل

ما من خطابات في صندوق بريدي

هذا الصباح

فقط نسيج عنكبوت كبير الحجم

***

4 – سبيروس زافيريس

أهوى شجرة الدردار

القريبة

فهي تعرفني

***

5 – آنا يين

(بالنسبة لي، وظيفة الشاعر هي أن يكون مثل المرايا والنوافذ، يبحث عن الجانب الداخلي، ويتواصل مع الغير – آنا يين)

الانتقال من غرفة المعيشة

إلى السرير

عرض الفصول الأربعة

***

تحية

عند المدخل

إفتراق ظلالنا

***

يوم الجمعة...

أجادل دون توقف

حول رغبتي باللون الأخضر

***

ليلة رأس السنة الجديدة

زاخرة بالألعاب النارية

فطائر أمي

***

دار العجزة

صورتي وأنا طفلة

في علبة الدواء الخاصة بها

***

بحيرة البجع

قلب أحدهم

رسمته ذات مرة

***

زنابق برية

تفوح رائحة شعرك

من بناني

***

أوراق الشجر الخريفية

ما برحت تشغل مكانا

في حلمي

***

على جرس الباب

إشارة (اضغط رجاء)، زال

ظل الزوج السابق

***

6 – مايكل دادلي

اقحوان بري...

الذكرى الثالثة

لوفاتها

***

7 – فيرونيكا زورا نوفاك

عاصفة

ثلجية

يطويها النسيان

***

الخمرة الارجوانية

الطريقة التي الج بها العوالم

و أغادرها

***

يتدلى حذاء ابنتي

التي لم تعد للبيت

من مقبض الباب

***

8 – ريتشارد جودوين

ثمة شخص يسير وسط المياه الراكدة

في البرد القارس

تناغم أجراس الكنائس

***

9 – إريك دبليو أمان

مسيرة الإياب الطويلة:

-       تشير زنبقة النمر

إلى السبيل

***

شاحنة فورد قديمة –

لم تزل أوراق الشجر من الصيف الماضي

ملتصقة بها

***

مرور القطار المسائي

تهتز صور الموتى

على رف الموقد

***

لوحة إلانية

مبللة

بمطر الربيع

***

عشية عيد الميلاد...

تساقط الثلوج

على المواقف الفارغة للسيارات

***

تساقط الثلج في الصباح...

يسمع الصوت الخافت

لعصا الرجل الصرير

***

10 – لاريالي فريزر

يوم الافتتاح

زهرة زعفران صفراء اللون

تكتنز أشعة الشمس

***

11 – ديف ريد

جولات متأخرة

كومة بذور

دوار الشمس

***

12 – ديبي سترينج

(من المرجح أن أنجذب إلى قصائد الهايكو التي تنقلني من ذاتي إلى عالم شخص آخر من التجارب والعواطف – ديبي سترينج)

خزامى

نوضب ثيابها

بهدوء

***

القبر المنسي

لم يفضل منه

سوى العروق الناعمة لأوراق الشجر

***

مناخ قاس

تتحطم الوردة الحمراء

مصدومة

***

الإياب للوطن...

إضمامة من السماء

في جرة عتيقة

***

الرمال المنجرفة

تكتب القصيدة نفسها

أحيانا

***

قطيع من سمك الرنجة

يتحول المحيط من تلقاء نفسه

من الداخل إلى الخارج

(المركز الثاني – هايكو شينتاي)

***

سنة جديدة

كم يلزمني من الوقت

ليتوقف اشتياقي اليك ؟

***

منازل مرممة

إحتراق الخشخاش

على التل

***

غابة الصنوبر

النصيحة التي أقدمها لنفسي

و أنا يافعة

(جائزة الشرف – مسابقة سوكا ماتسوبارا الدولية 2020)

***

13 – جورج سويد

(أريد أن أصدق أنني قد حددت الأسباب الرئيسية التي دفعتني إلى كتابة شعر الهايكو، بالنسبة لي، فإن هذه الأسباب تقودني إلى مركز الشبكة كخيوط العنكبوت – جورج سويد)

وجه يتضرع

قبل أن يتحول -

زنبقة ماء

***

حرارة خانقة

تشير سعفة النخيل

إلى وجود نسمة هواء

***

نسيم ربيعي دافىء

يعدو الكلب المسن

أثناء نومه

***

أرملة شابة

تطلب كعكة حظ

إضافية

***

غزال نافق على جانب الطريق

تذوب ندفة الثلج

فوق عينه المفتوحة

***

تسحب الفتاة المراهقة مرآتها

داخل الحافلة

و تعدل هندامها

***

مقبرة ريفية

يدفن الكلب

عظمة واحدة

***

ثقب في السور

يكشف نور الشمس مساء

عن شبكة العنكبوت الموجودة فيه

***

14 – جاكي بيرس

(يساعدني الهايكو في التعامل مع الحياة، مع ملاحظة الأشياء الصغيرة من حولي، ورؤية اللحظات العادية بالشعور بالحداثة والأهمية – جاكي بيرس)

جذع شجرة القيقب –

ما زالت السماء

تحمل العرزال

***

توقف المطر عن الهطول

تقفز ابنتي إلى كل قطعة

من السماء

***

منزل واحد

لا غير

التهمه حريق الغابات

***

صبي يتمرجح

على غصن شجرة

ثمة صبي يتمرجح

***

حزن دائم

تأثير فوكوشيما

على السلمون

***

مساء بارد

معطف لامع برتقالي

على رجل متشرد

***

البرد المبكر

يجمع الجار أوراق الشجر المتساقطة

و يعيد نثرها في ساحتنا

***

15 – شيريل آشلي

خزانة مظلمة

مليئة بالمعاطق

بتلات أزهار الكرز

***

16 – غاري إيتون

عشاء مشترك

تسقط بتلة الكرز

في صحن الحساء الذي أتناوله

***

17 – ماريان بلوجر

(يحرك الشعر في نفسي نوعا من التبجيل، ليس كله، بل الكثير من أفضل ما فيه – ماريان لوجر)

حل الربيع على جدول الماء

يخطو طائر السحنون بخفة

حيث تبتسم التماسيح

***

نهاية الموسم

يقف النورس منتصبا على الرمال الباردة

في مواجهة الريح

***

يشاهد وجه أبي الشاحب

عبر النافذة المظلمة

يراقب النار المشتعلة في المخيم

***

مكشوف بوجه السماء

و مهجور

عش الصقر

***

نسيم خفيف

شرع نبات المريمية

يهمس للنجوم

***

طائر البلشون الأزرق المسن

لم يزل حاضرا

في المياه الضحلة المتلألئة

***

تطفو ورقة الشجر المتساقطة

في الوادي حيث يسود الصمت

و حيث تتصدأ عربة القطار

***

توقف الريح عن الهبوب

للحظة

يسمع هديل الحمام

***

18 – آن ماري لابيل

في زاوية فمها

كسرة خبز –

اليوم الدراسي الأول

***

19 – أغناتيوس فاي

ذوبان الثلج

ما برحت ورقة الشجر تلك

متمسكة بالسياج

***

20 – شارلوت هرينشوك

إغلاق

الباب الدوار

إنعزال

***

21 – روبرتا بيري

الباب الدوار...

ابنتي الصغيرة

تحمل طفلتها الصغيرة

***

22 – ليز آن ويكلر

بلدة صغيرة...

بواب الفندق

الملقب أيضا بالحارس

***

23 – ماكسيان بيرجر

الصمت الذي يسود بيننا

يراعات تتراقص محلقة

في الظلمة

***

24 – وينوتا بيكر

لقد استحدثت أسلحة

لتكون صديقة للبيئة

إنها تقتل برصاص أخضر !!

***

25 – أورليك نرواني

مطر الربيع الدافيء

تنساب اغنية الطائر

من وكر دفين

***

26 – ريتشارد ستيفينسون

(أجد الإلهام من مصادر مختلفة حقا، يعتمد الأمر في أي جانب من الشارع أعمل، وفي أي وقت – ريتشارد ستيفينسون)

بدون نظارتي، أستطيع أن أقسم

بأن ورقة الشجر الدائرة في الهوا

كانت فراشة

***

بقايا قهوة باردة –

ثمة نورس واحد يحوم

في السماء تحت العاصفة

***

والدي وابني

صنارة صيد واحدة

سمكة وحيدة

***

لم تزل باردة –

تغرد الطيور على أغصان

شجيرات القطن

***

توقف المطر عن الهطول –

يسمع صوت الأطفال وهم يلعبون

و نباح الكلاب

***

باب قلما يستخدم –

هل توقفت الدبابير

عن بناء وكرها ؟

***

27 – أندريا غراديدج

الاستحمام برائحة زكية

تحت مظلة

شجرة الكرز

***

28 – ليندساي فيرميولين

ظلال الدانتيل

على عتبة الشباك

و أزهار الكرز في الخارج

***

29 – لوسي بيليتر

ربيع بارد

ظلي

بلون وردي غامق

***

30 – رولاند باكر

المنزل المتصدع

حتى الظلال

لها ظلال

***

31 – سوزان كونستابل

ريح خريفية

سحابة من الغربان

تخرج من شجرة الكرز

***

32 – مارشال هريسوك

شرفة مضاءة بالفوانيس

الورقية

كعكة عيد ميلاد مخدوشة

***

نسور تطير محلقة

فوق القمة

من جرف مليء بالحفر

***

وسط الظلمة

أنتظر

صوتي

***

33 – بي. اج. فيشر

يرن

الجرس...

فراشة

***

انتقاد

فتور

عند المدخل

***

34 – ايسلينغ وأين

البيت وسط الحقول –

أخيرا، تستريح أحذيتنا

بإزاء الباب

***

35 – ألبرت شيبرز

الباب الأمامي العريض

الاستعداد للمضي قدما

الهواء النقي

***

36 – كارين هيديتنيمي

الإضاءة الأولى

من البازلاء الحلوة –

ابتسامتها عند الباب

****

37 – ميشلين بودري

سيدة الليل

الكثير من الشوارع

المزيد من الرجال

***

اكتمال القمر

انخفاض فراغ السماء

فوق الأسطح

***

القمر المكتمل

يزرق لون الليل

أكثر

***

38 – ماريان بول

يقضي الطفل نحبه

في معسكر الاعتقال

ليلة يسود فيها الصمت

***

موجة برد

حتى العصافير المنزلية

تكون صامتة

***

وعاء مليء ببذور الكرز

يحاول حفيدي جاهدا

معرفة عمري

(الجائزة الآولى – مهرجان فانكوفر لأزهار الكرز 2016)

***

التنفس بعمق

التجول بالقرب

من كشك بيع الزهور

***

مسقط الرأس

لمس الجروح

القديمة

***

السير على سطح القمر

ثمة امرأة أخرى

تتقدم للأمام

***

دوران الآرض

تلقي الهندباء

بظلها

***

لم تزهر شجيرة الليلك

بشكل كامل

بدأت أزهارها تتحلل

***

أرتدي سترتي مقلوبة

طيلة اليوم

من الداخل

***

39 – ميشيل هايات

مئذنة

حفيف السنديانات

نداء صلاة

***

غطاء من رقاقات الثلج

تمايل الأشجار بخضرتها الدائمة

أشباح أثيرية

***

40 – سي جين داونر

أول الصقيع

المسافة

التي تفصلنا

***

يوم القمامة

غرابان يتقاسمان وجبة

تغمرهما السعادة

***

أطفال في حديقة حيوانات المدينة

يطوون طيور الكركي

الورقية

***

الصقيع

يغطي المنزل الذي تركته

لنا

***

......................

1 – Welcome to Haiku Canada. https: // www. haikucanada. org

2 – T. A. Carter، A History of Haiku in Canada. https: // www. thehaikufoundation. org

3 – Terry Ann Carter، Haiku in Canada: History، Poetry، Memoir. https: // www. terryanncarter. com

4 – Canada. https: // livinghaikuanthology. com

5 – Marco Fraticelli and Claudia Coutu، Haiku Canada: 40 years of Haiku. https: // www. ekstasiseditions. com

6 – Interview with Debbie Strange. https: // thesolitarydaisy . ca

7 – World Haiku Series 2022 (24)، haiku by Debbie Strange. https: // akitahaiku. com

8 – Debbie Strange – Haiku poet Interviews. https: // haikupoetinterviews. wordpress. com

9 – The Language of Loss. https: // debbiemstrange. blogspot. com

10 – Debbie Strange. https: // inksweatandtears. co. uk

11 – World Haiku Series (10)، haiku by Debbie Strange. https: // akitahaiku. com

12 – Daily Haiku Special - Debbie Strange: Dec، 6، 2023. https: // charlottedigregorio. wordpress. com

13 – George Swede’s Haiku، Terebess Asia Online. https: // terebess. hu

14 – George Swede: Haiku Master & Secular Contemplative. https: // besharamagazine. org

15 – Western Death Haiku by George Swede. https: // www. thehaikufoundation. org

16 – George Swede. https: // www. georgeswwde. com

17 – George Swede Essay. https: // www. americanhaikuarchives. org

18 – Anna Yin – poet at allpoetry. https: // allpoetry. com

19 – Anna Yin – Asian Heritage in Canada. https: // library. torontomu. ca

20 – Yin، Anna. https: // livinghaikuanthology. com

21 – Anna Yin. https: // www. best – poems. net

22 – Anna Yin. https: // poetryinvoice. ca

23 – Jacqueline Pearce & Lean Pierre، Haiku in Tashme: The Legacy of Sukeo Sam Sameshima. https: // www. thehaikufoundation. org

24 – Sasha Khokha، Haiku Poet Documented Life in Japanese Camps. https: // www. npr.org

25 – Eiji Okawa، Tashme Poetry Society. https: // tashme. ca

26 – Emile J. Talbot، Simone Routier and the Rise of the Personal Lyric. https: // muse. jhn. edu

27 – Four haiku and a severed head by Simone Routier. www. vianegative. us

28 – Those Women Writing Haiku – Chapter 4. https: // www. ahapoetry. com

29 – Sameshima، Sukeo ‘ Sam ‘. https: // lethbringenewsnow. com

30 – A 1965 Collection of Haiku by Canadian Poet Clair Pratt. https: // thehaikufoundation. org

31 – Graphic Works of Clair Pratt. https: // library. vicu. untoronto. ca

32 – 2018 Winning Haiku. https: // v1. vcbf. ca

33 – Jacquie Pearce – March 2، 2023. https: // thehaikufoundation. org

34 – Jacquie Pearce – July 23، 2024. https: // thehaikufoundation. org

35 – Volume XXXI V، November 3: September 2022 – Jacquie Pearce. https: // www. theheronsnest. com

36 – Poetry & Hybrids: Jacque Pearce: holding on. https: // www. nacqueensquinterly. com

37 – Winner of the 1st Annual Lesley Strutt Poetry Contest – Jacque Pearce. https: // poets. ca

38 – The Living Haiku Anthology – Bluger، Marianne. https: // livinghaikuanthology. com

39 – haiku by Marianne Bluger. https: // terebess. hu

40 – 2022 Marianne Bluger Award. https: // www. haikucanada. org

41 – Poetry by Marianne Bluger. https: // www. neilyworld. com

42 – The Marianne Bluger Book and Chapbook Awards. https: // www. haikucanada. org

43 – Returning to Japan to talk about tanka – Janick Belleau. https: // jalt – publications. org

44 – Haiku: Richard Stevenson. https: // simplyhaiku. thehaikufoundation. org

45 – Richard Stevenson. https: // haikuspirit. org

46 – Richard Stevenson (poet). https: // en. Wikipedia. org

47 – Haiku by Richard Stevenson. https: // epe. lac – bac. gc. ca

48 – Quarterly Journal of Japanese Short From Poetry – Richard Stevenson. https: // simplyhaiku. thehaikufoundation. org

49 – Haiku by Richard Stevenson in Canada. https: // akitahaiku. com

50 – Marshall Hryciuk Archives. thehaikufoundation. org

51 – Marshall Hryciuk. https: // haikupedia. org

52 – Marshall Hryciuk. thehaikufoundation. org

53 – Haiku by Marshall Hryciuk – part 1. https: // akitahaiku. com

54 – The 8th HIA Haiku Contest. https: // www. haiku – hia. com

55 – Micheline Beaudry. https: // https: // haikupedia. org

56 – Micheline Beaudry Archives. https: // thehaikufoundation. org

57 – Andre Duhaime. https: // thehaikufoundation. org

58 – The 5th HIA Haiku Contest – Jeanne Painchaud. https: // www. haiku – hia. com

59 – Haiku -The Literary Kayak -Marianne Paul. www. litrary. com

60 – Butterfly Dream Wild Life Haiku by Marianne Paul. https: // neverendingstory. haikutanka. blogspot. com

61 – Marianne Paul – Gnarled Oak. https: // gnarledoak. org

62 – Marianne Paul. https: // www. versewrights . com

63 – haikuNetra – Marianne Paul. https: // haikunetra. blogspot. com

64 – International Women’s Haiku Festival 2018 – Michelle Hyatt. https: // jenniferhambrick. com

65 – Haiku Poet Interviews – Michelle Hyatt.https: // haikupoetinterviews. wordpress. com

66 – haiku about trees Archives – Michelle Hyatt. https: // thehaikufoundation. org

67 – Haiku – C. Jean Downer. https: // literaryrevelations. com

68 – Pet Profile – C. Jean Downer. https: // www. thehaikufoundation. org

69 – Volume XXV، Number 4: December 2023. https: // theheronsnest. com

يُعد النضال ضد العنصريين البيض من أبرز الموضوعات التي تناولها الأدب في دولة جنوب أفريقيا، وقد اهتم أدباء هذه الدولة بمشكلة العنصرية اهتماماً كبيراً

‏ما زالت مشاكل النظام العنصري تستحوذ على اهتمام الأدباء، إلا أنها تجسدت في أدب السبعينات بالذات ولهذا سنوجه اهتمامنا في هذه الدراسة المتواضعة إلى أدب هذه الفترة بالذات. لقد اخذ كتاب جنوب أفريقيا يتحدثون بكل وضوح عن مشكلة العنصرية في أعمالهم الإبداعية ودعوا إلى النضال المسلح ضد العنصريين البيض، ونستطيع أن نقول إن قضية النضال المسلح تجسدت بشكل خاص في أعمال كتّاب زمبابوي "روديسيا سابقاً".

وفي الحقيقة إن توجه أدباء جنوب أفريقيا إلى هذا الموضوع لا يعد أمرا غريبا، إذ إن شعوب هذه المنطقة ناضلت نضالاً واسع النطاق ضد العنصريين البيض.

ونود أن نشير هنا إلى أن اختيارنا لفترة السبعينات بالذات لم يكن من وحي الصدفة، بل لأن هذه الفترة شهدت العديد من النشاطات الجماهيرية المعادية للعنصرية على مختلف الأصعدة، وقد شاركت فيها كل الجماهير الشعبية من مختلف الفئات والطبقات الاجتماعية، التي لم تخشَ هراوات الاجهزة القمعية ولا سجونها. ويكفي هنا أن نتذكر المجزرة الدموية التي اقترفها العنصريون في حزيران 1976 ضد أهالي سوويتوا، تلك المدينة الصغيرة التي تبعد قليلا عن جوهانسبورج. كانت هذه المجزرة الدموية ضد السود في جنوب أفريقيا بمثابة الشرارة الأولى للاضطرابات والانتفاضة التي عمت كل زوايا المنطقة وارجائها. ومنذ ذلك الحين، اعتبرت هذه المجزرة التي تذكرنا بمذبحة دير ياسين في فلسطين المحتلة رمزاً لنضال شعوب جنوب أفريقيا من أجل الحرية وتحقيق أبسط الحقوق الإنسانية.

من الجدير بالذكر، إن سقوط الفاشية في البرتغال ومستعمراتها وانتصار القوى القومية والوطنية في روديسيا، الذي تكفل بتأسيس جمهورية زيمبابوي ونضال ناميبيا من أجل التخلص من الاضطهاد الاستعماري من قبل حكام جنوب أفريقيا، وأخيرا نضال الجماهير الشعبية الواسعة فيها نفسها، أدى إلى تغيير تناسب القوى السياسية لصالح المناهضين للعنصرية.

منذ تأسيس جمهورية زيمبابوي استعد بوتو لتنفيذ خطته الموجهة نحو توحيد الدول العنصرية والعسكرية ضد حركات التحرر الوطني في جنوب أفريقيا، وقد قامت القطعات العسكرية التابعة لجيش العنصريين بالهجوم على انجولا، موزانبيق، زيمبابوي، زامبيا، ليسوته وسيشيل. وأخذ الحزب القومي الحاكم يبحث عن امكانيات إنقاذ النظم التقليدية القديمة من خلال المناورات السياسية المختلفة.

ويحاول الحكام العنصريون إضفاء صبغة الليبرالية على نظامهم لكنهم وضعوا في الوقت نفسه خطة سياسية لتشكيل وزارة القانون والنظام، التي أنيط بها، باسم المواطنين البيض، مهمات وصلاحيات واسعة جدا بما فيها الوظائف القمعية البوليسية والإرهاب ليس ضد السود فحسب، بل ضد المواطنين البيض الذين لا يؤيدون القوانين العنصرية.

وقد فَضحت التنظيمات الشعبية المعروفة في القارة كلها مثل المؤتمر القومي الأفريقي في جنوب أفريقيا (تأسس عام 1912) الديمقراطية والليبرالية التي يشرف عليها العنصريون، وكشفت الصحف التقدمية كل ممارسات نظام جنوب أفريقيا الإرهابية، التي أدت إلى قتل العديد من المناضلين تحت التعذيب. وعلى الرغم من قسوة الأساليب الإرهابية إلا أن النضال ضد العنصرية ازداد وتوسع واتخذ أشكالا مختلفة بما فيها الكفاح المسلّح.

ولقد اهتم أدباء جنوب أفريقيا وزيمبابوي بكل هذه الأحداث والقضايا، التي هزت المنطقة وعانوا من صعوبات كبيرة تحدث عنها في أكثر من مناسبة الأديب المعروف الروائي الراحل لا جوما السكرتير السابق لرابطة كتاب آسيا وأفريقيا1.

ونشير هنا إلى أن المجلس المسؤول عن النشر يستطيع بكل سهولة وحسب القوانين المعمول بها في البلاد أن يمنع نشر هذا العمل الأدبي أو ذاك، بل ويحاسب الأديب صاحب النتاج النقدي والأدبي المرفوض من قبل الرقابة، على دفع ضريبة كبيرة إلى مجلس الرقابة!

إن أعضاء مجلس الرقابة لا يبالون بأهمية الكتاب المقدم إليهم، لا من حيث الشكل ولا الفكرة ولا المستوى الفني، بل كل ما يهمهم هو أن يشيد "بمنجزات" هذا النظام.

وقد أكد لاجوما على أن الفنانين الموهوبين يستطيعون رغم كل الصعوبات، تصوير النضال ضد العنصرية مهما اختلفت أشكالها، ونشير هنا إلى أهمية النقاش الذي دار حول أدب الاحتجاج في ندوة عقدتها عام 1979 جامعة رودس في جريامس تاون وحضرها العديد من أدباء جنوب أفريقيا مثل ن. جورديمي و أ. برينك.

رفض برينك في هذا النقاش الأدبي ادب الاحتجاج واعتبره أدباً شعرياً لا يحقق نجاحا ملموسا كبيرا ضد سلطة قوية تمتلك جيشا وأجهزة قمعية متمرساً في تنفيذ أعمالها الإرهابية، ويرى ان كتابا احتجاجيا مليئا بشعارات لا يكفي لمقاومة كل هذه الاجهزة القمعية2.

إن برينك لا يعتبر الكتاب الأدبي وسيلة نضالية تحقق نجاحات سريعة في الصراع السياسي، بل إنه يرى أن للنتاج الأدبي تأثيراً معنوياً بطيئاً يعمل على تغيير حياة الناس الروحية بمرور الزمن، كذلك يعتقد برينك أن الكاتب من الأفضل أن يتحول إلى مناضل سياسي، أو جندي في الجيش الشعبي ليقاتلوا ضد النظام العنصري.

إلا ان أديبا آخر، هو جورديمير، يرفض أفكار برينك ويتفق مع الأديب المعروف لاجوما ويردد أفكاره في هذا النقاش، الذي أشرنا إليه ويؤكد على أهمية التصوير الخلاق والثوري للواقع بكل صدق وإخلاص، وإذا التزم الادب تصوير البيئة في جنوب أفريقيا تصويراً صادقا فلا بد له أن يتناول موضوع العنصرية والحالة الثورية والاحتجاج الشعبي ونضاله ضد كل أشكال الإرهاب. إن صوت الاحتجاج لا بّد أن يجد طريقه إلى العمل الأدبي، إذا كان مؤلفه أديبا ملتزما بقضايا الشعب المصيرية وبواقعه الحياتي اليومي والاجتماعي المعاش3.

وقد تحدث كيورابيشة كوسيتسيلي الشاعر والصحفي المعروف في جنوب أفريقيا، في مقال له بعنوان "الثقافة والنضال التحرري في جنوب أفريقيا"، عن دور شعر المقاومة في النضال التحرري، الذي تخوضه شعوب جنوب أفريقيا.

أكد كيورابيتشه كوسيتسيلي على الوظيفة الاجتماعية والسياسية للأدب ورفض الشعر الذي لا يصور قضايا الشعب ونضاله التحرري ضد العنصرية. إن المهمة الرئيسة لكتاّبأفريقيا تتجسد في النضال ضد كل أشكال الاستغلال الاجتماعي والاضطهاد العنصري والعمل البناء والجاد من أجل تكوين ثقافة اشتراكية ثورية تعمل على تربية الأجيال القادمة تربية خلاّقه، هذا وقد كرّسَ الشاعر المعروف فاينبيرغ كتابه "الشعر ونضال شعوب جنوب أفريقيا من أجل التحرر القومي" لمثل هذا الموضوع4.

طالبَ فاينبيرغ الشعراءَ أن يتخذوا موقفا حازما تجاه سياسة العنصريين قولا وفعلا، لأن الشعر يتميز عن كل أشكال الفنون الأخرى من حيث كونه أداةً فعالةً في تحريض الجماهير الشعبية وتعبئتها في نضاله ضد العنصرية.

يدعو فاينبيرغ وبكل صراحة ووضوح إلى وقوف الشاعر إلى جانب المقاتلين الذين يمتشقون السلاح ويناضلون نضالا مسلحا ضد العنصرية.

وقد نشرت العديد من المجلات مثل سيتشابا لسان حال المؤتمر القومي الأفريقي في جنوب إفريقيا، ومجلة لوتس لسان حال رابطة كتاب آسيا وأفريقيا قصائد شعرية كثيرة لشعراء ثوريين ملتزمين بقضايا الشعب، كذلك هناك أعمال شعرية لشعراء جنوب أفريقيا نُشرت باللغة الإنجليزية في السبعينات على شكل كتب، اما لشاعر واحد أو لعدة شعراء، نذكر على سبيل المثال لا الحصر مجموعة شعرية لأسوا لد متشالي وما زيس كونيوني بلغة زولو ونشرت مجموعات للشاعرين المعروفين كيورابيتشه كوسيتسيلي ودينيس بروتوس وغيرهما.

تتميز هذه الأشعار بعاطفة جياشه، وهي مشبعة بالآلام بسبب الحالة البائسة التي يعيشها الشعب، وتدعو إلى ثورة ضد العنصريين.

نستطيع أن نلاحظ سمات عامة تتميز بها هذه الأشعار كلها، مثل وحدة موضوعاتها أو تشابهها، الشيء نفسه يقال عن الاهداف المشتركة، وفي بعض الحالات نلاحظ تشابها كبيرا في الأفكار، لأن هؤلاء الشعراء يصورون واقعا مريرا مليئا بالهموم والمعاناة المختلفة مادية كانت ام روحية. كما قلنا سابقا فإن اغلب هؤلاء الشعراء كان يدعو إلى النضال ضد العنصريين بمختلف الأشكال والطرق بما فيها الكفاح المسلح، لدرجة أن الشعر أصبح وسيلةً فعّالةً للتحريض وننقل هنا مقطعاً شعريا لأحد المقاتلين المجهولين:

خطوط الجبهة والنار

مكان لاختبار الوعي والرجولة

هنا نتخلص من الظلم والملاحقات

هذا هو المكان الوحيد

تحصل فيه على الخلود

صدقني يا أخي

أنت هنا لست الوحيد

هنا الناس والشجيرات

طعام للرصاص

هذا الإنسان الفريد

يهجم بسرعة البرق

وقوي كالرعد

شجاع وقناص

هناك يسقط العدو

كيلا ينهض من بعد

صدقني يا أخي

سيكون ضلّك هنا إلى جانب ضلّي5.

اما النثر المكتوب باللغة الإنجليزية، فإنه قد يتميز في السبعينات بطابع احتجاجي ضد السياسة العنصرية والظلم.

وفي الحقيقة إن أدب "الاحتجاج" و"أدب المقاومة" يقفان على الضد من الأدب الرجعي، الذي يمثل سياسة العنصريين، وسنتطرق في هذا المقال إلى بعض أعمال أليكس لا جوما الروائية مثل "في نهاية موسم الضباب" و "تجوال في الليل" وغيرهما، وأعمال روائية لأدباء آخرين من البيض والسود مثل "آلان شواولفيلد، دجونتى درايفر، بيتر ولهيلم كاتيو، مونجوشي ودجيرالد جوردون.

ونلاحظ أن مواقف بعض الناشرين الليبراليين البيض الذين يطرحون افكارا تقدمية تمثل فئة المثقفين الليبراليين البيض تتسم بالتعقيد وعدم الوضوح.

فالروائي الأبيض ألان شواولفيلد مثلا يطرح في روايته "السادة الشباب"6 فكر الليبراليين المتشائمين، لكنه فكر انتقادي بالنسبة لسياسة التمييز العنصري.

لم يصور ألان شواولفيلد في روايته "السادة الشباب" الحياةَ في جنوب أفريقيا تصويراً روائيا كاملا، ولم يقدم لوحةً متكاملةً لهذه الحياة، بل اكتفى بوصف بسيط لحياة السكان البيض في مدينة صغيرة، وهنا لا بدّ للروائي من تصويرهم كما هم في الواقع، أي أنهم يعيشون بعيدا عن التجمعات السكانية للأفارقة من خلال تصرفات بعض الشخصيات الواعية، هنا بالذات يكون التناقض في وجهات نظر الروائيين البيض، الذين ينادون بالأفكار الليبرالية، وهذا بالتالي ادّى إلى ظهور نزعة تشاؤمية في وسط الأدباء البيض.

* والشيء نفسه يمكن أن يُقال عن روائي آخر معروف في أدب جنوب أفريقيا، ألا وهو دجونتي درايفر فهو أيضًا يصور الوضع في جنوب أفريقيا تصويرا يتسم بالتشاؤم.

يصور الروائي درايفر في روايته "مرثاة للثوري" و"ابعث الحرب إلينا يا إلهي" حالةَ الإحباط في أوساط المثقفين الليبراليين البيض.

إن درايفر وغيره من الكتاب البيض التقدميين لا يقبل بالقوميين العنصريين، لكنه من ناحية أخرى لا يستطيع أن يرى أفقا أو بارقةَ أمل في حل هذه المشاكل العنصرية والاجتماعية. لم يكن بمقدوردرايفر أن يرى القوى الاجتماعية القادرة على تحطيم العنصرية وحل الأزمة، ولا يثق بقدرة الجماهير الشعبية الواسعة ولا بحركة الثوريين الأفارقة، الذين يعتبرهم إرهابيين عاديين".

وفي الحقيقة أن روايتي درايفر اللتين أشرنا إليهما سابقا لم تقدم لوحة كاملة وموضوعيه للحياة الاجتماعية والوضع السياسي في جنوب إفريقيا.

تصور رواية "مرثاة للثوري" مثلاً مصير مجموعة من الليبراليين البيض وهي تناضل سراً وتنظم بعض العمليات الإرهابية ضد النظام العنصري. وبسبب من حاجة أعضاء هذه المجموعة الإرهابية من الليبراليين البيض إلى خبرة العمل العسكري نراهم يلجأون إلى تنظيمات المؤتمر القومي الأفريقي السرية طلبا للمساعدة، إلا أن قادة المؤتمر يرفضون أساليب الإرهاب الفردية، التي تقوم بها مجموعة البيض فرفضوا التعاون معهم.

تقوم مجموعة الإرهابيين البيض بأعمال إرهابية فردية ويكتب لبعض أعمالها النجاح، مثل عملية نسف خزانات المياه التي أدت إلى قتل أحد الحراس الأفارقة، سيؤثر هذا العمل تأثيرا سلبيا على شخصية الصحفي كفيك، العنصر القيادي في الخط المدني لهذه المجموعة، فيخرج من التنظيم مستقيلاً عن العمل فيه وفق هذه الأساليب، وتبدأ أجهزة الأمن بمراقبة المجموعة وتستطيع القبض على بعض أفرادها.

إن شخصيات درايفر تتعاطف بكل صدق وإخلاص مع الأفارقة وتعبر عن عدم اقتناعها بالعنصرية وقوانينهما وتحاول أن تفرغ طاقتها بعمل ثوري إلا أن اغلبها غير قادر على الخروج من العمل الإرهابي الفردي ولا يمكنه معرفة القوة الاجتماعية التي يجب الاعتماد عليها في العمل السياسي، وغالبا ما تكون أسباب دخول هؤلاء الليبراليين في مثل هذه التنظيمات ذات طابع شخصي.

جيمس جيريم مثلا يمثل إحدى الشخصيات الليبرالية التي دخلت التنظيم بحماس، إلا أنه يخون مباشرة بعد سقوط المجموعة وفشل أعمالها، بل إنه أصبح الشاهد الرئيس في التحقيقات، وشخصية أخرى من شخصيات الرواية مثل ديفيس، الذي أحب فتاة سوداء، فتعرض للمحاكمة بسبب "جرأته" على اقتراف مثل هذا العمل! فيدخل في مجموعة الإرهابيين البيض كرد فعل لممارسة المحاكم العنصرية تجاه مشاعره الإنسانية. أما هانتر فيعتبر دخوله في هذا التنظيم السري تعبيراً عن علاقته بالحركة الديمقراطية الواسعة، إلا أن هذا الموضوع ينحصر في سلوك هذه الشخصية فقط ولا يطرحه الروائي بعمق.

‏بعد عام من نشره رواية "مرثاة للثوري" يصدر دجونتي درايفر روايته الثانية "ابعث الحرب إلينا، يا إلهي" التي تصور مجموعة من الإرهابيين أيضا، إلا أنهم هنا من الأفارقة، وتدور أحداثها في مدينة سان جوزيف سيتلمينت، حيث يقدم إليها الإرهابيون المدربون جيدا إلا أنهم يفشلون في أعمالهم بسبب عزلتهم عن السكان.

وتزداد الهوّة بين الإرهابيين وسكان المدينة، لأنهم لا يفهمون درجة استعداد الناس للكفاح المسلح، ويصور الروائي شخصية ارهابية متطرفة تقترف جرائم عديدة ضد المدنيين البسطاء لعدم انتمائهم للمجموعة الارهابية.

كذلك يصور الروائي درايفر شخصية المعلم المعروف بالقرية باسم يوهانس سمبل، إلا أن اسمه الحقيقي "زاك" وهو شخص نقابي معروف، سبق له أن ُسجن لنضاله ضد العنصرية.

ويكشف أحد أعضاء الفصيل المقاتل شخصية زاك الحقيقية لانه سبق له أن عمل معه في التنظيمات السرية ويستطيع فيما بعد من كسبه للعمل لصالح الفصيل. يوافق المعلم الوطني المخلص على العمل مع فصيل الإرهابيين، إلا أنه لا يتفق مع أفكارهم وأعمالهم الإرهابية، التي لا تعتمد على مساندة سكان المدينة. ورغم عدم اقتناع المعلم يوهانس زاك بأسلوب المغامرة الإرهابية، ووضعه الذي لا يحسد عليه، إلا أنه لا يستطيع أن يبقى مكتوف الأيدي ويتخذ موقفاً حيادياً تجاه نشاطهم، فيقرر المشاركة في عملياتهم العسكرية ويخاطر بحياته في عمل غير مقتنع بنجاحه .

يلاحظ الباحث أن شخصيات هذه الرواية تعاني من اليأس والإحباط والشعور بلا جدوى العمل الذي تقوم به، مثل المعلم الذي يشارك في عملية إرهابية وهو غير مقتنع بفائدتها في النضال ضد العنصرية، والدكتور الأبيض ريدمان، ذلك الرجل المتعب الذي لا يثق برسالة البيض الإنسانية ولا بمستقبل الأفارقة فكل ما يفكر به هو عمله والفتيات الإفريقيات اللاتي شغلن وقته.

كان ريد مان يعرف عاجلا أم اجلا بأنه سيقف أمام السلطات يحاكم اما بسبب علاقته مع الفتيات الملونات أو بسبب تقديم المساعدة الطبية لأحد الإرهابيين الجرحى، ولهذا كله يقرر الانتحار. كذلك تصاب الشخصية النسائية المتدينة ماري إلين بالخيبة والإحباط لعدم اهتمام الناس بأفكارها النصرانية التي تدعو إلى الإخاء والمحبة بين البشر.

في نهاية الرواية يصف الروائي مدينة سان جوزيف وهي تعاني من الوحشية والإهمال مما يؤكد السمة التشاؤمية التي تتميز بها أعمال  درايفر، بل إن عنوان الرواية بحد ذاته يشير إلى حالة اليأس والإحباط بين بعض البيض.

ويتناول الروائي بيتر ويلهلم موضوعَ العلاقات المتبادلة والتعصب القومي عند البور في روايته "الغابة المظلمة" 8 بطريقة تختلف عن الطرق السابقة، التي يستخدمها غيره من روائيي جنوب أفريقيا.

يصور ويلهيلم العنصرية من خلال مفاهيم أعضاء أسرة البرجوازي الأفريقي هندريك فان فلا آمسو وسلوكه، وينتقد الروائي أخلاقيات المجتمع البرجوازي المزيفة في جنوب إفريقيا.

تدور أحداث الرواية في منتصف السبعينات في جوهانسبورغ حيث يوجه الروائي اهتماماً خاصاً إلى وصف حياة عائلة الأفريقي الأبيض من شعب البور، هذا الشعب الذي يعود أصله إلى المستعمرين الهولنديين والالمان والفرنسيين، والذي يقود سياسة الآبارثائيد

يكاد قارىء الرواية لا يلتقي بشخصيات تمثل الأفارقة السود، ومع ذلك فنستطيع أن نقول: إن المشكلة العنصرية تعتبر من أبرز القضايا التي تناولتها الرواية، يوضح الروائي القضية الاصلية من خلال هندريك وولديه ديفد ويان. يتعرف القارئ على حياة هندريك عن طريق زوجته الثانية مادير المتحمسة للأفكار القومية للبور، الذي كان فقيراً، لكن وضعه الاقتصادي يتحسن بعد الحرب.

إن مأكثر ما يشغل بال مادير هو أن يتزوج ابن زوجها من فتاة أوروبية الأصل بيضاء نقية الدم والأصل، وكانت هذه الزوجة تنفق النقود على اجير خاص ليراقب الابن الأصغر، ويكتشف أن الأخير على علاقة بالأفريقية السمراء كريستل، وبهذا يخرق قانون "الأخلاق" ويعرض نفسه للسجن.

يزداد قلق مادير في البداية، إلا أنها تطمئن فيما بعد، حيث تستلم صورة تجمعه والفتاة الأفريقية فيضطر يان إلى إنهاء علاقته مع الأفريقية كريستل، وتعمل على إبعادها إلى أعماق الريف فيما بعد.

لا تغير مادير أفكارها حول السود "كافري"، (هكذا اصطلح على تسميتهم في جنوب إفريقيا) فهم يجب أن يعرفوا مكانهم الخاص بهم، ويجب أن لا يخرجوا منه، إلا عند الضرورة كالعمل لصالح البيض أو عند الحاجة إلى أيدي عاملة رخيصة. ولا تمانع مادير في بعض المرات من تقديم بعض الطعام للأطفال الأفارقة الجياع من ضواحي جوهانسبورغ، وتتحمس مادير كثيراً لجنود جيش جنوب أفريقيا الذين يستعدون للهجوم على موزامبيق وأنغولا، إذ إنها تعلم ان انتصار هاتين الدولتين يعني ضرب مصالح أسرة فان فلا آمس، وتتحول مشاعر السيطرة والقوه والتفكير بالمصلحة الاقتصادية للأسرة إلى الابن الاكبر دَيفيد، الذي يعتبره والده اليد اليمنى والوريث الحقيقي له، وفعلا يتطور ديفيد الابن الأكبر تطوراً سريعاً على مدى بضعة شهور!

رجع ديفيد إلى الوطن بعد إنهاء دراسته في كامبرج، ويجمع رأسمالاً بفضل الاختلاسات والاحتيال، ثم يدرك جيدا بأنه في نهاية المطاف سيكون المالك الحقيقي، ولهذا كان عليه أن يتعلم ويدخل إدارة الأمور المالية والتجارية جيدا. ثم يتحول ديفيد بالتدريج إلى رجل مدافع عن سياسة التمييز العنصري في جنوب أفريقيا لأنها هي الحل الوحيد الذي ينقذ البلاد من خطر "الانزلاق" إلى طريق أنغولا وموزامبيق، بل إنه كان يدعو للتدخل العسكري في انغولا.

اما الابن الأصغر يان فقد تعب كثيرا من نمط الحياة في بيته الذي تشرف عليه زوجة أبيه، إلا أنه كان ضعيفا لدرجة انه لا يستطيع الاحتجاج ضد سلوك زوجة العنصري، وتظهر في وعي يان أفكار متطرفة غير موضوعية، لم تشكل خطرا كبيرا، فاعتبرتها الزوجة وابن زوجها ديفيد مجرد حالة مزاجية عابرة. ويوضح الروائي أيضا أن "انتفاضة" يان على نمط الحياة في البيت حصلت بسبب ما يتعاطى من الحشيش ومأ ساته العاطفية، ويُضطر فيما بعد إلى الخروج من البيت، وترك الدراسة في الجامعة ويعيش في العزلة بحثاً عنها في قرية بعيدة، ويحاول إقناعها بالهرب من الحدود والعيش هناك بحرية وهناء.

تتسم هذه الرواية بافتقارها إلى وصف الواقع الاجتماعي الواسع، إلا أنها مكتوبة بنبرة انتقادية واضحة بالنسبة للاخلاق البرجوازية المرتبطة ارتباطا وثيقا بالأفكار العنصرية. وتذكرنا هذه الرواية برواية توماس مان "آل بودن بروك" الألمانية الشهيرة ورواية "الصخب والعنف" للكاتب الأمريكي وليام فوكنر وغيرهما من الروايات التي تصور المجتمع من خلال حياة أسرة واحدة أو عدة عائلات.

وهناك مجموعة أخرى من الأدباء التقدميين الأفارقة، ساهمت مساهمة كبيرة في بناء "أدب الاحتجاج" بناءاً راسخاً، وبدأت في السبعينات بتكوين ادب من طراز جديد، هو "ادب المقاومة" من خلال الأعمال النثرية المكتوبة باللغة الإنجليزية. اعتمدَ كتّاب "أدب المقاومة" على المنهج الانتقادي، وصوروا الواقع الاجتماعي المعاصر في جنوب أفريقيا، متناولين أكثر القضايا الاجتماعية تعقيداً. يُعد موضوع الاحتجاج ضد العنصرية ومقاومتها بمختلف الطرق موضوعاً رئيساً في أعمال أدباء جنوب أفريقيا مثل أليكس لاجوما وكريستيان برنارد، وفي النثر الموزيمبيقي وبالذات في رواية "ابن الأرض" لمؤلفها ولسن كاثيو9.

"ابن الأرض" هو العمل الروائي الأول لِولسن كاثيو وينقسم هذا العمل إلى ثلاثة أجزاء: "البداية"، "مداهمة الزمن"، "الدائرة تنغلق" يأخذ المؤلف بيد القارئ في الجزء الأول "البداية" إلى منطقة جبليه نائيه، يتحدث عن تاريخها الشيخ الجليل سيكورا، الذي رأى بأم عينيه دخول المستعمرين الأوروبيين الاوائل، واستغلالهم للأفارقة في البحث عن الماس.

وهنا يطرح الروائي شخصيتين متناقضتين: هيل الذي تتجسد فيه القسوة والعنف والاستغلال، وميلس الذي يمثل الكنيسة والأفكار الدينية الداعية إلى السلام والإخاء ورفض العنف كوسيلة لحل المشاكل بين الناس، كذلك يتعرف القارئ على زعيم قبلي جوما، المعروف بمقاومته للمستعمرين الأوروبيين، رغم علمه مسبقا بعدم جدوى وقوفه ضد جيش المستعمرين المعد إعدادا كاملاً.

أما الجزء الثاني "مداهمة الزمن" فيتحدث فيه الكاتب عن طفولة البطل الرئيس اليكسيوعن والديه وعن سنوات الدراسة ونضاله السياسي قبل سقوط النظام العنصري في روديسيا، ثم تنتقل أحداث الرواية من قرية اليكسيو إلى العاصمة سالزبوري حيث يدرس البطل في مدارسها.

هنا يصور الكاتب تبلورَ أفكار ألكسيو بفعل الأحداث السياسية والنشاطات الجماهيرية، التي تقوم بها التنظيمات السرية ويلتقي هنا مع ابنة عمه رودو وزوجها تاوي اللذين ينتميان إلى تنظيم سري.

يلاحظ القارئ أن الجزئين الأول والثاني مليئان بوصف تفصيلي للحياة والأحداث بغض النظر عن أهميتها في الرواية، أما الجزء الثالث من الرواية "الدائرة تنغلق" فقد أصدره كاتيو بعد الجزئين الأول والثاني بفترة لا بأس بها، مما يمكن ملاحظته على الأسلوب، فقد تغير تغيراً ملحوظاً.

يتعرف القارىء في "الدائرة تنغلق" على الأحداث التي أدت إلى دخول اليكسيو إلى معسكر المقاومة، كانت أجهزة الأمن تراقب تحركات ألكسيو، وتتحين الفرص لإعتقاله، وتم لها ما أرادت وحاولت أن ترغمه على العمل معها ضد الثوار، إلا أنه يهرب من السجن متجهاً نحو معسكر المقاتلين في الجبال.

هذه هي باختصار قصة دخول اليكسيو إلى معسكر المقاتلين، وتنتهي الرواية بنفس النبرة الثورية، حيث تقرأ عن عملية فدائية بطولية يقوم بها الكسيو مع مجموعة من الثوار ضد أحد مواقع الجيش.

في الجزء الثالث لا يكتفي كاتيوا بسرد الوقائع والأحداث، بل يوجه اهتماما خاصاً إلى مقومات العمل الروائي الفنية مثل الوصف الخارجي والتحليل الداخلي للشخصية الروائية ويستخدم اسلوب الحوار الداخلي في الكشف عن مشاعرها الداخلية ولهذا يبدو تحول ألكسيو هو الثوري وإنخراطه في المقاومة تحولاً منطقياً.

إضافة إلى موضوع العنصرية ومقاومتها الثورية، يُلاحظ القارئ أن هذه الرواية تناولت في الأجزاء الثلاثة موضوعات أخرى، مثل التناقض بين الطبيعة التقليدية الريفية فيأفريقيا والعنصرية الهمجية، وكذلك موضوع التحول السريع في العلاقات الاجتماعية في المدن الكبيرة. ويُعد موضوع المثقفين الأفارقة وانتقالهم إلى المقاومة المسلحة ومساهمتهم في القتال جنبا إلى جنب مع المقاتلين من أجل جمهورية موزمبيق الحرة من أهم موضوعات الرواية.

وهناك كاتب آخر معروف هو ج. مونكوشي، صاحب رواية "في انتظار المطر" 1975 قدم لنا نمطاً آخر يمثل الشباب المتأثر بالحياة الغربية10.

يقدم مونكوشي في روايته "في انتظار المطر" التي يدل عنوانها على مضمونها، شخصية ليو تسيفر العائد إلى الوطن الكبير والقرية الأم بعد الفراق.

تدور أحداث الرواية في روديسيا في فترة الخمسينات والستينات في إحدى القرى الأفريقية، التي تعيش حياة تقليدية بكل معنى الكلمة وتعاني من الجفاف. يصور الروائي معاناة الفلاحين الفقراء من إدارة المستعمرين وممارساتهم اللا إنسانية، كذلك الجوع والقحط بسبب الجفاف، فيضطر الفلاحون إلى ترك أكواخهم والرحيل إلى أماكن أخرى بحثاً عن لقمة العيش. وعندما يرجع بطل الرواية إلى الوطن يصطدم بهذه الحالة فيتجه إلى قريته التي مازالت تنبض فيها الحياة قليلا ويلتقي بافراد عائلته، وبجدّه سيكورو المدافع بلا هوادة عن التقاليد والعادات. ويكاد يكون موضوع الدفاع عن العادات والتقاليد من الموضوعات الرئيسة في الرواية متجسداً في شخصية الشيخ سيكورو وفي القرية كلها.

ومن ناحية أخرى يصور الروائي المدينة الاستعمارية ونمط الحياة فيها، الذي يختلف اختلافاً كبيراً عن القرية، وتؤثر في اقتطاف "متع المدينة". في المدينة تختلف العلاقات الاجتماعية مما هي عليه في القرية، بل حتى الصِلات بين افراد الأسرة الواحدة تعاني من الضعف والتحلل، ويلاحظ القارئ أن الحفيد جارابها يتأثر بهذا الجو الاجتماعي، فيبحث عن "الثروة والمجد" ولا يبالي الى تواصله مع أفراد أسرته وأقربائه. ليو تسيفير هو البطل الرئيسي في الرواية، تلتف حوله شخصيات مختلفة، وهو يمثل الثقافة الأوروبية، التي عرفها سطحياً، لكنه يدعي معرفتها بمستوى جيد، ويدعو لها ويهتم بأفكارها، ولهذا السبب كان يشعر بأنه لا أصل ولا قبيله له، وكان جده سيكورو يقول عنه: إنه فقد الصلة بهذه الأرض. وفي نهاية الرواية يرحل الشاب ليو تسيفير كما لو انه غريب عن قريته، التي ولد وترعرع فيها، لكنه يتركها دون رجعه .

لا نتعرف في هذه الرواية على الواقع الاجتماعي من خلال التصوير العميق الواسع له، بل عبر علاقات عائلية ولا يطلع القارىء على الأوضاع السياسية والاجتماعية كما هو الحال في رواية "ابن الأرض" التي تحدثنا عنها سابقا.

تُعد أعمال لاجوما الروائية من أبرز النتجاات الإبداعية والروائية في السبعينات، من حيث الشكل والمضمون، فأصدر روايته المعروفة "في نهاية موسم الضباب" عام 1972 ثم أصدر روايته الأخرى "وقت النهس" عام 1979 11.

توضح هاتان الروايتان بعد القراءة الأولى التطورَ الفني، الذي حصل عليه لا جوما منذ إصدار روايته الأولى "الترحال في الليل" عام 1962. إن ما يميز أعمال هذا الكاتب الأفريقي هو توظيف الفن في النضال ضد العنصرية وممارساتها القمعية، ونستطيع أن نقول وبدون مبالغه إن كل أعمال لاجوما الإبداعية صورت الواقع الاجتماعي في جنوب أفريقيا ونضال الثوار فيها ضد السلطات العنصرية والمقاومة العسكرية لها.

يلاحظ الباحث أوجه الشبه الكثيرة بين شخصية بيكس البطل الرئيس في رواية "في نهاية موسم الضباب"، وجورج آدمس بطل قصة "الدولة الحجرية" المنشورة عام 1967 من قبل لاجوما نفسه.

كلتا الشخصيتين تخوضان النضال السياسي ضد العنصرية، إلا أن القارئ يتعرف على بيكس من خلال وصف الكاتب للعمل السري، بينما نرى أن جورج آدمس بطل "الدولة الحجرية" لا يوصف من خلال تحركاته السرية. يمثل بيكس نموذجا حيا للمناضل الثوري، ويتمثل فيه الوعي السياسي المتكامل، فهو ينظر إلى الآخرين نظرة إنسانية وموضوعيه فنراه لا يحاسب الآخرين على خوفهم من الأجهزة القمعية ويعلم أن بعض رفاقه يتلكئون في توزيع المنشورات خوفا من أجهزة الأمن إلا أنه لا يحقد عليهم إطلاقا .

يصور الروائي لاجوما شخصية بيكس من خلال النشاطات السياسية وأعماله الكبيرة ويقيمه على لسان إلياس رئيس المنظمة السرية التي يعمل فيها بيكس، وهنا تظهر أهمية شخصية إلياس باعتبارها تكمل شخصية بيكس، فمن خلال التحولات في حياته يتعرف القائد على تطور الوعي عند الأفارقة وانخراطهم في النضال السياسي. إلياس وبيكس ينحدران من الطبقات العمالية الفقيرة، ولهذا فإن الروائي لا يكتفي بتصوير وعيهما السياسي المعادي للعنصرية فحسب، بل يوضح موقفهما من الطبقات الغنية وشعورهما بالاضطهاد الطبقي إضافة إلى التمييز العنصري.

ولا بدّ من الإشارة في نهاية حديثنا عن لاجوما إلى أنه يُعد أحدَ أبرز الكتّاب الأفارقة المعروفين على مستوى القارة والعالم بتوظيفه الأدب الإبداعي لخدمة الثورة ضد العنصرية، فكونت أعماله الإبداعية، جنبا إلى جنب مع روايات الأدباء الآخرين أدب المقاومة الذي لعب دورا كبيرا في النضال ضد العنصرية وممارساتها الفاشية، واستمر مع لاجوما في نفس هذا المنحى فاضحاً النظام العنصري في رواية أخرى "زمن الناس"، ولا نجد الضرورة للحديث عنها في هذا المقال إذ إن مضمونها يؤكد نفس الأفكار التي دعا لها الكاتب منذ نعومة أظفاره حتى وفاته.

من المؤسف حقا أن أدباً أصيلا وتقدميا في جنوب أفريقيا لم يجد اهتماما خاصا في النقد العربي المعاصر، علماً أن النقاد الأوربيين كتبوا عنه وأولوا اهتماماً خاصاً له.

وتكاد المكتبة العربية تفتقر إلى الدراسات النقدية والتاريخية عن الأدب الأفريقي باستثناء بعض المقالات والكتب المترجمة.

ومن المؤسف أيضا أننا لم نجد مصادر باللغة العربية عن موضوع بحثنا المتواضع، الذي نقدمه بين أيدي القراء عسى أن يساهم في التعريف بالأدب الثوري في جنوب أفريقيا.

***

الدكتور زهير ياسين شليبه

.....................................

المصادر:

* هذه المادة إعداد وترجمة بتصرف لمقالات فقدنا عناوينها.

1- La Guma A. South African Literature under apartheid, Lotus, 1975 no. 1

2- English in Africa, 1979, September, vol. 2 no 6

نفس المصدر السابق 16 - 3

4- Feinberg B. Poetry and National Liberation in South Africa. Lotus, 1974, no 4

5- المصدر السابق نفسه

6- Scholefield A.: The Young Masters, Lotus, 1971

7- Driver C. J.: Send war in our time, O Lord, Lotus, 1970

Driver C. J. Elogy for Revolution, Lotus, 1969

8- Wilhelm P. The Dark Wood. Johannesburg, 1977

9- Katiyo W.: A son of the soil, 1976

10- Mungoshi, Ch: Waiting for the Rain. Lotus, 1975

11- La Guma A.: In the Fog of The Seas`s End. 1972, Time of the Butcherbird, Lotus, 1979

طالما كانت الساحة الأدبية مليئة بالتجاذبات بين النقاد والكتّاب، حيث يطرح النقاد رؤى وتقييمات تهدف إلى إلقاء الضوء على الإبداعات الأدبية وتحليل مضامينها. في هذا السياق، كنت وما زلت أؤمن أنّ النقد يميل أغلبه إلى الذاتية بعيدًا عن التحليل المنهجي المحايد. ومع قراءتي المتواضعة لما يعج به المشهد الأدبي من آراء نقدية، يتضح أنّ العلاقات بين الأفراد تلعب دورًا بارزًا في تشكيل مسار النقد، مما يجعله يتأرجح بين الإيجابية والسلبية وفقًا لطبيعة تلك العلاقات. 

هذا الاتجاه الذاتي في النقد يمكن أن يؤدي إلى تراجع النقد المنهجي الحقيقي، الذي يعتمد على أسس علمية وتحليلية تهدف إلى تقديم قراءة شاملة للنص الأدبي. لكنّ الواقع يظهر أنّ مثل هذا النوع من النقد غالبًا ما يطغى عليه النقد النمطي الدعائي، الذي يخدم أهدافًا تسويقية بحتة، ويهدف إلى جذب القراء لشراء الكتب، بغضّ النظر عن جودتها الأدبية. هنا يصبح النقد جزءًا من اللعبة التجارية، حيث يسعى الناقد إلى الترويج للكاتب أو العمل، مما يحول العملية النقدية إلى أداة تسويقية تهدف إلى زيادة المبيعات ودعم شعبية المؤلف.

من ناحية أخرى، للنقد تأثير نفسي عميق على الكاتب، خاصة إذا كان النقد موجهًا بشكل سلبي أو غير عادل. يمكن أن يتسبب النقد القاسي في زعزعة ثقة الكاتب بنفسه، ما قد يؤدي إلى تراجع إبداعه أو تجنبه لتقديم أفكاره بجرأة. ولكن، لا بُدّ أن يُنظر إلى النقد كجزء من رحلة التعلم والتطور، حيث يمكن للكاتب الاستفادة من ملاحظات النقاد لتحسين قدراته وصقل أسلوبه. هنا يظهر دور ما أسميه "الضبط الداخلي" الذي يجب أن يتسلح به الكاتب، وهو القدرة على التمييز بين النقد البنّاء الذي يمكن أن يسهم في تطويره، وبين النقد الذي لا يقدّم سوى رأي شخصي دون قيمة إضافية.

الضبط الداخلي هو القدرة على إيجاد مسافة متوازنة بين الوهم والحقيقة، بين ما يقوله النقاد وما يشعر به الكاتب تجاه عمله. فبينما يرى الناقد في النص ما لا يراه الكاتب، فإنّ الكاتب يمتلك الرؤية الأعمق لرسالته وأهدافه من العمل الأدبي. ولهذا، فإنّ قدرة الكاتب على التعامل مع النقد، سواء كان إيجابيًا أم سلبيًا، هي ما يحدّد مدى استمراريته في الساحة الأدبية.

لا يمكن إنكار أنّ النجاح في المجال الأدبي يأتي مع تحدّيات وضغوط نفسية كبيرة. فإلى جانب التعامل مع النقد، يواجه الكاتب أيضًا ضريبة النجاح التي قد تتمثل في الضغط المستمر لتقديم أعمال جديدة تلبّي تطلّعات جمهوره. هذه الضغوط قد تؤدي ببعض الكتّاب إلى ما يشبه الانهيار النفسي، خاصة عندما يجدون أنفسهم محاصرين بين التوقعات المتزايدة من جمهورهم ورغبتهم في الحفاظ على هويتهم الأدبية.

تاريخ الأدب مليء بأمثلة لكتّاب مشهورين تأثروا نفسيًا بسبب الضغط الذي وضعوه على أنفسهم، ومنهم الكاتب الياباني ياسوناري كواباتا، الذي انتحر في عام 1972، وكذلك الكاتب الأمريكي إرنست هيمنغواي، الذي انتحر في عام 1961. على الرغم من اختلاف الظروف بينهما، فإنّ العامل المشترك بينهما كان تأثير الضغوط النفسية المرتبطة بشهرتهم ونجاحهم. هؤلاء الكتّاب، رغم إبداعهم وتأثيرهم العميق في عالم الأدب، عانوا من مواجهة الذات في ظلّ التوقعات والضغوط النفسية الكبيرة.

هذه الأمثلة تسلّط الضوء على أهمية الوعي النفسي لدى الكاتب المبتدئ والمحترف على حدٍّ سواء. فالتعامل مع النقد والنميمة والشائعات التي قد تحيط به يحتاج إلى صلابة داخلية. وهنا يظهر دور النقد البنّاء الذي يساعد الكاتب على فهم نقاط القوة والضعف في أعماله، دون أن يُغرق في دوامة الشكوك حول قدراته.

رغم الانتقادات الموجهة للنقد الأدبي، إلا أنه يبقى أداة ضرورية لفهم النصوص الأدبية وتقديمها للجمهور. النقد البنّاء يساعد على إضفاء عمق أكبر على الأعمال الأدبية، ويفتح آفاقًا جديدة للفهم. يمكن أن يكون النقد وسيلة لتشجيع القراء على النظر إلى الأعمال الأدبية من زوايا جديدة، وهو ما يعزّز من الوعي الثقافي ويثري النقاش حول الأدب.

لكن، على الناقد أن يتجنّب الوقوع في فخ الذاتية المفرطة، وأن يسعى لإيجاد توازن بين رؤيته الشخصية والمعايير النقدية المعروفة. فالنقد الذي يعتمد على منهجية واضحة وتوازن بين الذاتية والموضوعية يمكن أن يقدّم قيمة حقيقية للعمل الأدبي، ويساعد في تقدير النصوص بناءً على معايير أدبية متينة.

***

فؤاد الجشي

دِراسةٌ نَقديَّةٌ لِمُدوَّنةِ إبراهيم سَبتي الرِّوائيَّة (ضِحكةُ مُوزارتَ)

عَتباتُ النَّصِ: لَوحةُ الغِلافِ الأُولى

تشترك العتبة العنوانية الأولى للرواية مع وجه الغلاف الأوَّل بلوحةٍ صوريَّةٍ مرئيةٍ فنيِّةٍ أو رمزيَّةٍ تُسمَّى بلوحة الغلاف الأولى للكتاب شعراً أكان جنسه الأدبي أم نثراً سرديَّاً أو قصصياً، وتعدُّ واحدةً من بين أهمِّ العتبات النصيَّة التي اجترحها الناقد جيرار جينيت في عتباته النصيَّة، وأكدها لأهميتها الفنيَّة والموضوعيَّة في بيان صورة العمل الموازي للنصِّ الأدبي.

فحين تقتني رواية(ضحكةُ موزارتَ)، للكاتب العراقيّ القاصِ والروائيّ المثابر إبراهيم سبتي، والصادرة بطبعتها الأولى عام 2023م عن مؤسسة أبجد للترجمة والنشر والتوزيع في بابل- الحلة، ومن فئة القطع  المتوسِّط، وبحجمٍ نوعيٍّ وكميِّ عدديٍّ ورقي بلغ نحو(181) صفحةً، حتماً ستقعُ نظرات عينيك الثاقبة لأوِّل وهلةٍ على غلاف لوحتها الأولى أو صورتها الكليَّة الحمراء اللَّون التي تُنذر بكمية التشاؤم اللَّوني والخوف الُمُدمِي، وعدم الاستقرار النفسي الناجم عن وقع هيأتها.

وسيلفت نظرك جليَّاً وجود صورة تلك القبعة أو الطاقية السوداء البارزة الظهور من غير رأس إنسان يعتمرها، والتي تظهر في هرم الصفحة الأولى العُلوي، فضلاً عن صورة تلك البدلة الرجالية السوداء المنفصلة عن القبعة في أسفل الصفحة ذاتها. والتي ترمز موحياتها الدلالية إلى شخصٍ ما بعينه دون غيره ستتضح معالم هُويته وصورته الكليَّة بانتهاء سرديَّات أحداث الرواية.

ولكن الذي يجعلك أنْ تقف مُندهشاً ومتأمِّلاً فكرتها هو رمزية هذه الصورة التي تمثِّل العَلاقة الخطيَّة الأولى المباشرة أو غير المباشرة بين صورة لوحة الغلاف الأولى وعنوان عتبتها الرئيسة (ضحكةُ مُوزارت)، فتبحث عن المعادل الصوري الموضوعي الجامع بينهما، تلك هي الصورة الأيقونية السيميائية لثنائية شخصيَّة بطل الرواية(فؤاد)، والرمز الفنِّي الموسيقي العالمي موزارت.

أمَّا التَّظهير الصوري الآخر للكتاب أو ما يُسمَّى عُرفيَّاً بلوحة الغلاف الثانية ذات اللَّون الزهري أو الأزوردي الفاتح الدال على الأمل في المأمول بعد تجربة الألم، ففد اكتفى فيه التصوير بمجموعةٍ رباعيَّةٍ من جمع القبعات، أو ما يُسمَّى فنيَّاً بـ(طاقيَّات الإخفاءِ) المتداخلة أجزاؤها في ما بينها. فضلاً عن نصٍّ سرديِّ مُقتطع للراوي العليم(الكاتب) يتحدَّث فيه عن أساليب وطُرق المهرِّبين المحتالين لمن يروم الهجرة الشخصيَّة إلى دول أوربا خارج وطنه الأصلي العراق.

وذلك باعتبار أنَّ الرواية بُنيت فكرتها أو أكثر أحداثها السردية عن موضوع الهجرة والمغامرة السرابية الغرائبية في البحث عن الشيء المجهول، والَّتي قام بها بطل الرِّواية المدعو فؤاد من أجل إيجاد ضالته الذاتية في إثبات شخصيه القوية تُجاه مناوئيه وتَحديداً بشخصية المدعو علوان الَّذي يمّثِّل رمز الشرِّ ومصدره القمعي الموازي لشخصية فؤاد البطل المقموع الباحث عن منتجٍ ما.

عَتبةُ الرِّوايةِ العِنوانيَّةِ

(ضحكةُ موزات)، هي اللَّافتة العنوانية الرئيسة للمدوَّنة الروائية؛ كونها تمثِّل من الناحية الوظيفيَّة هُوية أوسِمة الدخول التعريفية، والهالة الضوئية اللَّافتة اسماً ورمزاً ودلالةً ومعنىً للنصِّ الموازي أو(المَتن) الحكائي، والتي تعدّ بوابة الدخول الخارجية الأولى إلى عالم الخير ليوتوبيا مدينة السرد المثالية الفاضلة، وهي أيضاً تُشير إلى واقع راهن صراع الشرِّ المِخيالي المرير وسلطة قمع فشله الجمعي الطوباوي القَصِي البعيد مع ديستوبيا الواقع الرفضي الحجاجي اليومي المرير للمواجهة مع الآخر.

فمن هذا المنطلق الدلالي الرمزي الكبير أكَّد الناقد الفرنسي جيرار جينيت أهمية العتبة العنوانية وأثرها المعنوي في تجسيد صورة العمل السردي الروائي، والكشف عن رؤى عوالمه االخفيَّة البعيدة المُضمرة الأخرى من خلال تفكيك شفراته اللُّغوية والدلالية الموحية الرامزة.فمن يتطلَّع لأول وهلةٍ روايةَ(ضحكةُ موزارتَ)، سيلفتُ نظره الفاحص بقوةٍ نظم تركيبها العنواني اللُّغوي السردي الجُملي الثنائي المتكوِّن من دالتينِ لُغويتين اسميتينِ.

الأولى الدالةُ الاسمية على معناها اللُّغوي الدلالي القريب الواضح البيان هي (ضحكةُ) الإنسان. وهي النكرة الاسمية الدالة لفظياً على مسمَّى غير معيَّن أو محدِّدٍ بما؛ ولكنَّها عندما أُضيفتْ تركيبياً إلى اسم علمٍ شخصي بعدها اكتسبت الصفة المعرفية الإضافية منه بالدلالة على إنسان معيَّنٍ ما، وهو اسم هُوية(مُوزارت) الفنَّان النمساوي.

أمَّا الدالة الاسمية الثانية لهذا التركيب العنواني القصير، فهي(موزارتُ)، اسم العلم الدالة على طابع هُويته الاسمية العالمية الموسيقية المحدَّدة وجودياً. فأصبح التركيب الصوري اللُّغوي والجُمَلي لعتبة المدونة الروائية(ضحكةُ مُوزارتَ)الدالة على هُوية موزارت الفنيَّة العالميَّة وضحكته الرمزية السيمائيَّة المعروفة.

ولكنَّ السؤال المُثير والمُهمَّ الذي لا بدَّ منه في مقام قراءة هذه الرواية وتتبُّعها فكريَّاً بدأً من مرفأِ عتبة عنوانها وانتهاءً بخاتمة أحداثها، والذي يمكن أنْ نطرحه آنياً، ما العَلاقة الخطيِّة الأولى الجامعة بين عنونة الرُّواية(ضحكةُ موزارت)، وبين مضمون ومحتوى سرديات الرواية للواقعة الحدثية الزمكانية؟ وهل هي عَلاقةٌ خطيَّة واقعيَّة سحريَّة قريبة أمْ رمزيَّةٌ تأمليَّةٌ فكريَّةٌ بَعيدةٌ؟ فمثل هذا التشاكل التعالقي الإشكالي المعنوي لفلسفة العتبة الروائية هو ما نَهمُّ بكل تأكيدٍ من خلال دراستنا النقدية التتابعية التكاملية بالكشف عنهُ وعن موحياته النسقية والبحث عن حمولاته الداخلية والخارجية.

إنَّ المعنى الدلالي القريب بين طرفي العنونة لا يَشي بعلاقةٍ واقعيةٍ بصريةٍ مرئيةٍ  مُباشرةٍ، ولا حتَّى تقريرية خطابية واضحة تدلُّ على الوحدنة والالتحام الفكري بين المعنيين القريبين، بل على العكس من ذلكَ أنَّها تُبعد المسافة بينهما وتشتت الفكر إلى مقاصد وتوقعاتٍ وتخميناتٍ لا تُفضي إلى نقطةٍ جوهريةٍ معيَّنةٍ يُستدَل بها على الطرفين المتماهيين رمزياً وإيحائياً وفنيَّاً وجماليَّاً في التعالق النصِّي بين العملين الروائي والفنِّي.

أمَّا المعنى الدلالي البعيد، فإنَّ جُلَّ موحياته الرمزية والسيمائيَّة المَفصليَّة بين الاثنين هي التي تدلِّلُ على نسقية ذلك السياق الفكري العنواني البعيد، ومن تلك القصدية في التسمية العنوانية لعتبة المُدوَّنة الروائية الشاخصة وظيفياً وإعلانياً. فعندما نغور بعمقٍ في بواطن النصِّ السردي ونشتبك فكريَّاً مع دلالة بنيته النصيَّة الداخليَّة، نصلُ معرفياً إلى نقطة الحقيقة الجوهرية الجامعةبين نصِّ العنونة ومضامين أحداث الرواية الجمعية.

والمشغل الحِفري النقدي لواقعة الأمر يتطلَّب مِنَّا نسقياً وسياقياً اللُّجوء ضمنيَّاً إلى ما أشار إليه كاتب أو مؤلِّف الرواية، أو الرَّاوي العليم إبراهيم سبتي بالرجوع سرديَّاً إلى فكرة أحداث الفيلم الأجنبي المأخوذ عن روايةٍ للكاتب الانكليزي(بيتر شافير)، والذي يحكي فيه مشاهد عن سيرة الموسيقار العبقري العالمي النمساوي المبدع الكبير(ولفغانغ أماديوس موزارت)، ويترجم فنياً ودراميَّاً لقصة حياته القصيرة جداً، والتي لا تتجاوز الخامسة والثلاثين عاماً من الإبداع الفنِّي، بداً من ولادته حتّى وفاته(1756- 1791م).

ويستعرض فيه قصَّة نظيره وعدوه الآخر المؤلِّف الموسيقي الإيطالي الشهير(أنطونيو سالييري). والمعروف عنه فنيَّاً بموسيقي البلاط الملكي وصاحب الحظوة الفنيَّة القريبة الشاخصة والمكانة الشخصية العالية في البلاد عند الملوك إبانَّ النصف الثاني من القرن الثامن عشر الميلادي، والتي تُشير توجُّهاته النسقية الخفيَّة المضمرة لموزارت إلى أنَّه:

"أولُ مَنْ حَاربَهُ وَغَارَ مِنهُ؛ لِأنَّ مُوسيقاهُ أخذتْ تَتلاشَى وَتُنسَى وَصَارتْ مِنَ المَاضِي. وَمُوسيقَى مُوزارتَ خَالدةً بًاقيةً رَغمَ صُغرِ سِنِّهِ. قَدَّم سَالييري أبغضَ مِثالٍ عَلَى المُبدعِ الَّذي يَغارُ غَيرةً عَمياءَ مِنْ صَاحبِهِ، أَيُعقلُ هَذَا أنَّنِي فِي سَالزبورغَ؟ أكادُ أسمعُ ضِحكةَ مُوزارتِ المُضطربةِ والمُتوترةِ فِي الفِيلمِ، والَّتي جَعلَ مِنهَا المُخرجُ مِفتاحَاً لِشخصيَّةِ بَطلهِ غَيرِ الاِعتياديَّةِ. إنَّها لَحظةٌ لَا تَتكرَّرُ فِي هَذَا الزَّمانِ. مَنْ يَدرِي رُبَّما لَا يُصدِّقنِي مَنْ أخبرَهُ بِذلكَ؛ لأنْ الحكايةَ لَا تَحدُثُ إلَّا فِي الأحلامِ." (ضِحكةُ مُوزارتَ، ص 130).

ونفهم من ملخص قصة هذا الفيلم الدلالية والرمزية(ضحكة موزارت) غير الطبيعية اللَّافتة التي لا يمكن أن تصدق واقعياً إلَّا في الأحلام كما يشير الكاتب، والتي حوَّلها مخرج الفيلم إلى علامةٍ أيقونيثةٍ فنيَّةٍ ودلالةٍ سيمائية رمزية. ثمِّ صارت إثر ذلك مفتاحاً شخصياً مهمَّا من مفاتيح المعرفة لبطل فيلمه غير المألوف.

فما بين شخصية بطل الفيلم الموزارتي وشخصية بطل الرواية الديستوبية الثائر ضد الظلم والقمع والاستبداد(فؤاد)،هو صفة التماهي الرمزي المُوحدن بين خطِّ الشخصيتين اللَّتين عانتا كثيراً في مسار حياتهما العملية من خلال هذه الرحلة الفنية عبر الزمان والمكان إلى الوجود؛ لتنفرجَ بعدها شدَّة الواقعة نحو الأفضل رغم قساوة الأمر ومشقته.

فمن خلال هذه الضحكة الانفراجية (الموزارتية والفؤاديَّة) الجامعة بين دلالة الرمزين الموسيقي الفنِّي والرُّوائي السردي، والتي بها تكتمل مهمَّة فؤاد بطل الرواية الغالب وتنتهي بهدوءٍ ويُسرٍ وبساطةٍ بعد ذلك العناء والشقاء والنَّصَبِ الذي لاقاه في البحث عن ضالته في رحلته السرابية البعيدة خارج الوطن وعبر بحار الخطر الزمكانية من أجل الحصول على طاقية الإخفاء التي يحلم بها للقضاء على صنوه الآخر علوان وهزيمته.

فعلوانُ واتباعه الآخرون ممن كانوا ينظرون إليه نظرةَ ازدراءٍ دونيةً جعلت منه بطلاً ارتكاسياً نكوصياً متشائماً يبحث عمَّا في داخله من طُرق الخلاص منهم، حتَّى  وإن كلَّفه ذلك الأمر الجلل حياته الشخصيَّة؛لكنَّ الأمل بالانتصار عليه كان حليفه الأخر.

ولمَّا سمع فؤاد بخبر موت نظيره ومبغضه الأول علوان، كان وقع موت علوان في نفسه الهائمة وانتصاره النهائي عليه بعد أن لاقى أشدَّ الهزائم المرَّة منه أشبهَ بضحكة موزارت التاريخية التي انتصر فيها بطل الفيلم على حاسده ومبغضه الموسيقار انطونيو سالييري . فالألمُ والأملُ هما ثنائية المعادل  الموضوعي الرابط بين فؤاد وموزارت في ضحكته المتوترة التي  كانت تمثِّل علامة الفوز أو الانتصار الكبير على عدو الإبداع:

"مَاتَ عَلوانُ وَاختفَى مِنْ حَياتِي...إنَّهُ كَلامٌ خَطيرٌ. اِرتحتُ كَثيراً وَاِنتعشتُ وَزَادنِي الخَبرُ الصَاعقُ بِالثِّقةِ المَفقودةِ مُنذُ زَمنٍ. وَشَعرتُ بِنشوةِ الفَوزِ فِي المَعركةِ، وَلَمْ أَعُدْ أحتاجُ  إلَى القُبعةِ وَلَا حَتَّى البقاءُ هُنَا..." (ضِحكةُ موزارتَ، ص 169).

إذا كان بطل الفيلم الموزارتي قد ضحك في نهاية المطاف ضحكةً غيرَ مَعهودةٍ مَيِّزته فنيَّاً عن باقي وقع الضحكات الاعتيادية، فإنَّ البطل الروائي فؤاد قد ضحك في الأخير هذه المرة على نفسه من هول شدِّة صاعقة خبر موت عدوه علوان على الرغم مما عاناه  كثيراً في سفر رحلته السيرية التي كانت غرائبياً مُجردَ سرابٍ لا أساس له من الحُلم  سعى إليه كثيراً في الحصول على الطاقية.

أُسلوبيَّةُ الكاتبِ السَّرديَّةُ

ما بين مفهوم السردية الغرائبية القادرة على إنتاج الواقع الحدثي السردي في أكثر من نمط أو إطار أسلوبي إبداعي دون الالتزام بنمطٍ رتائبي مُعيَّن ما، طالما أن قوانين الواقع الحدثي الطبيعي تبقى سليمةً مُعافاةً دون تجاوز عليها، كما يذهب لذلك الرأي تودوروف. وما بين مفهوم العجائبية في السرد التي يُقدِّمُ لها تودورف أيضاً تعريفاً دقيقاً في عملية التردُّد الكتابي الإبداعي الذي يستشعره الكائن الإنساني الذي لا يعرف غير قوانين الطبيعة الكونية، وقد يواجه بحسب الظاهر له أو يجد نفسه أمام حدثٍ غيرِ طبيعي أو اعتيادي مألوف. أي يجد نفسه أمام ظاهرةٍ غريبةٍ لا بدّ من تفسيرها من خلال المُسبِّبات الطبيعية أو المُسبِّبات فوق الطبيعية، والتردُّد بينها هو الأثر العجائبي.

فما بين مفهومي الغرائبية والعجائبية يقف الأدب المخيالي الفنتازي السوداوي ماثلاً بوجوده الخطابي ذلك الأدب الذي سعى إليه الكاتب والروائي إبراهيم سبتي في مدونته الروائية (ضحكةُ موزارتَ).هذا الأدب الذي لا يخلو من شآبيب تمظهرات الواقع اليومي المألوف، والذي هو خليط منه ومن الخيال الأسطوري الخصب للكاتب. حتَّى تراه يقف في خطابه السرديِّ بمنطقة وسطى أكثر خطراً تجمع المفهومين معاً بطريقة فنيِّة تجذب القارئ إليها وتُسحِرُعقلَهُ بفرادتها في التواصل مع النصِّ الإبداعي عبر آليات الكتابة السردية الحداثوية في الميتا سرد الحداثوي وما بعده حداثياً.

لقد حاول إبراهيم سبتي كثيراً بأُسلوبه الوسطي السوداوي هذا عبر نافذة الأدب الفنتازي المحبَّب لنفس القارئ البحث جديَّاً لشخصية بطله الارتاكسي المأزوم والمقموع بعقدة مازوشيةٍ من التسلُّط والنكوص والتهميش وفق كَمٍ كبيرٍ من ضلالات الفشل والخيبة. وأوجدَ له طرق الحُريَّة الوعرة كصخرة سيزيف من أجل العيش بكرامة واستقلال بعيداً عن كلِّ أشكال الحقد والعداوة والبغضاء التي انتهت بالظفر والانتصار الذي انتظره البطل في رحلته الشاقَّة بعد أنْ مرَّ بمدن وبلدانٍ كثيرةٍ مثل، (تركيا وصربيا ومقدونيا والمَجَر والنمسا وصولاً لألمانيا)،تلك المحطَّة الأخيرة من هذه الرحلة الزمكانية.

كلُّ هذا الذي لقيهُ فؤاد الإنسان المهمَّش المهزوز، ومَرَّ به في حِلِّه وارتحاله التاريخي يمضي قُدُمَاً في جهةٍ الهجرة الطوعية الهادفة لمقصديات خاصَّة، ومروره الأثير بمدينة الفنَّان موزارت (سالزبورغ) يعدُّ نسقاً ثقافياً بمنتهى الفرح والسعادة الغامرة للنفس وهو يمرُّ مسافراً عبر مسارات الطرق العابرة بالقرب من بيت هذا الموسيقار العبقري الذي ألَّف أكثر من سبعمائة قطعةٍ موسيقيةٍ:

"مُبدعٌ  نَالَ الإِعجابَ وَهَوَ يَقودُ أولَ أُوركسترَا فِي حَياتهِ وكَانَ فِي السَّابعةِ مِنَ العُمرِ. يَا إلهِي أَيعقَلُ أنَّي أَمُرُّ بِالقربِ مِنْ بَيتهِ؟ وَطَبعَاً لَا يَمكنُ أنْ أنسَى فِيلمَ(أماديُوس) الَّذي أخرجَهُ مِيلوشُ فُورمَان وفَازَ بِثمانِي جَوائزِ أُوسكارٍ فِي عَامِ 1948 مِنْ أصلِ أَربعينَ جَائزةُ أُخرَى فَازَ بِهَا" (ضِحكةُ مُوزارتَ، ص 129).ومثل هذا الانطباع الثقافي الفنِّي لإرث موزارت وسيرته الفنيَّة الخالدة يُضفي على أسلوب الكاتب سبتي متعةً تفوقُ مُتعتهُ وهو يُؤرخنُ عبرَ الزمن لرحلة بطله المأزوم السرديَّة.

فكم كان شعور فؤاد البطل المقموع طافحاً بالأمل عند وصوله لمدينة سالزبورغ التي وصفها، "بِأَنَّهَا قِطعةٌ مِنْ الخَيالِ الَّتي تُحيطهَا جِبَالُ الألبِ وَسِلسلةُ البُحيراتِ المُدهشَةِ الَّتي مَنحتَ المَكانَ  سِحرَاً لا يُوصفُ." (ضحكة موزارت، ص 129، 130).

فهذه المراوحة الوصفية الأسلوبية التي استحضرها الكاتب أو الراوي عن متعلقَّات الحدث السردي الأخرى وإنْ كانت ثانوية تعطي القارئ أو المتلقِّي فسحةً نفسيةً من الراحة الثقافية والمعرفية الماتعة، وهي دليل على سعة المِساحة الثقافية للمؤِلَّف.

عبر معطيات هذه الأسلوبية الدراميَّة القصصية الواثبة الأثر البنائي لفاعلية الفكرة السرديَّة  يتجسَّد المعنى الدلالي البعيد لمدونته السردية(ضِحكةُ مُوزارتَ) التي طاف بها الكاتب بمدنٍ عديدةٍ وجالَ ببلدانٍ أوربيةٍ شرقيةٍ وغربيةٍ نائيةٍ بعيدةٍ كي يُعيد الثقة والثبات لبطله المقهور قمعياً، ويحقِّق له إرادته الذاتية المستلبة بدلاً من ذلك الاهتزاز الذي خيمَ على سجل حياته الدنيوية المتهالكة.

فهذه العنونة التصريحية المُكتنزة بوظائفها المتعدِّدة قد جمعت بين سيميائية الرمز الموسيقي موزارت وضحكته الفرائدية الغرائبية غير المكشوفة،والتي أسقط الكاتب فيها أثر وقائعها التاريخية والفنيَّة بهذه الترددات الحدثية المتصاعدة الصراع على سيرة شخصية بطله المهموم حياتياً من أجل تحقيق ما عزم النية عليه في هذا السَّفر العاتي الذي لاقى فيه أمرَّ ما لاقاه من مخاطر وأهوال عصية تهزُّ مشاعر الوجدان وتوقظ صحوة الضمير النائم لتحيا راية العدل والإنصاف الإنساني.

فما بين رحلة البطل الروائي فؤاد الوهمية، وضحكة موزارت الإيحائية، هو تحقيق للذات الحلمية وإثبات لوجود الشخصية التي صيرها الكاتب المؤلف مفتاحاً رئيساً في توجيه مسارات روايته التي جاءت أفكارها الفنتازية جامعة ما بينها وبين راهن الواقعية المعيشية وعقابيلها اليومية المألوفة في هذا الأسلوب الجمعي المثير للنظر، وإلَّا ما علاقة(ضحكة موزارت) بأحداث  الرواية؟

ويبدو أنَّ سعة الثقافة المعرفية السردية المُكتنزة لأُسلوبية لكاتب أو المؤلِّف، واتِّقاد موهبته الفنيَّة الألمعية الفذة هي التي وهبته شحنة هذا الخيط الرفيع الموصل من التواصل الفكري والرمزي في التناصِّ الموضوعي مع شخصية موزارت العالمية الفنيَّة لتكون لافتةً عنوانيةً لسرديات الرِّواية.

بدليل أنَّ مفهوم الضحكة الغرائبية المتفرِّدة التي أطلقها بطل فليم موزارت العالمي والتي تَمُتُ إليهِ بصلةٍ كبيرةٍ جدَّاً هي في الحقيقة كما تُشير الشبكة المعلوماتية العنكبوتية ليوكيبيديا مأخوذة من "إشارات في رسائل كُتِبَت عنه من قبل امرأتين قابلتاهُ" في حياته. والتي تصفُ صوت هذه الضحكة بأنه يضحك بشكلٍ (معدني)، أي بطريقة ما قد تُشبه صوت المعدن حينما يخدش الزجاج، فينطلق منه صوت شبيه بهذه الضحكة الموزارتية التي أضحت علامة أيقونية أو ماركة باسمه.

وفي واقع الأمر الحدثي أنَّ فؤاداً الذي هو شخصية الرواية الأولى البطولية، هو رجل عراقي جنوبيّ سومريّ كأيِّ إنسانٍ يرغب العيش بأمن ومحبَّةٍ وسلامٍ واستقرار دون أنْ يضمرَ إيذاءً للآخرين في عالمه المحيطي الكوني الإنساني، في حين أنَّ فولفغانغ أماديوس موزارت الذي ولد بالنمسا في السَّابع والعشرين من يناير عام 1756م، وتوفي بداء الحُمَّى في الخامس من ديسمبر عام 1791م، وهو في عزِّ شبابه وتوقده الفنِّي الكبير، ويعدُّ من أشهر العباقرة الموسيقيين عالمياً.

وعلم الرغم من عمره الزمني القصير وحياته المهنية العابرة للزمن من حيث عطائه الفنِّي الكبير فقد تمكن موزارت من تأليف ستمائة وست وعشرين قطعةً موسيقية ولحنٍ فني جبَّار. ومنٍ أشهر أعماله أو مؤلفاته اللَّحنية(الناي السحري)، و(وجوبتير)، وأعمال كثيرة أُخرى وسمت فنِّه.

ويبدو من خلال أسلوبية الكاتب السردية المعمقة نسقياً، أنَّ ثيمة هذا التعالق الفكري الحميمي الأيقوني بين الرمزين المتناظرين البطل الروائي العرافي فؤاد المُهمَّش سلبياً، والمؤلف الأجنبي النمساوي موزارت المحسود إيجابياً كانت سبباً ثقافياً وفنيَّاً مُهمَّاً وناجعاً لمشروع كتابة هذه الرواية بخطى وئيدة وفق معطيات هذا الأسلوب الغرائبي العجائبي من إشكاليات الأدب الفنتازي المُدهش.

مُلخصُ أحداثِ المُدَوَّنةِ وشَخصياتُها

مدونة(ضحكةُ موزارتَ)، رواية بوليفونية متعدِّدة الأصوات تتألف من سبعة أقسامٍ أو فصولٍ تتابعية الأثر، وتحتوي أحداثها السردية الزمكانية الثابتة والمتحركة على سبعِ شخصياتٍ، أربع منها رئيسةٌ مؤثِّرةٌ نوعاً ما بمجريات واقعة الحدث السردية، وهم:(فؤاد، وحسن، وزوجة حسن، و د. يوهان هولمر)، وثلاث شخصيات أُخرى منها ثانويَّة فرعيَّة طارئة ومُكمِّلة لمجريات الحدث، وهم: (الفتاة غيداء ابنة حسن، وعلوان، والمهرِّب) النمساوي سائق السيَّارة ومرشدهم الذي أوصلهم إلى ألمانيا.

ولكنَّ الصوت الرئيس المهمَّ والغالب من شخصيات هذه الرواية، هو صوت فؤاد بطل الرواية وشخصها المقدام الأول والأخير الذي قام بأحداث الرواية التراتبية بدأً من مُستهلها الأول، وحتَّى مختتمها النهائي الأخير، والذي لم يعلن الكاتب عن ذكر اسمه الصريح وهويته الشخصية في النصف الأول من أحداث الرواية، وإنَّما اكتفى المؤلِّف بالحديث عنه بإنابة ضمير المتكلِّم(أنا) أو تاء الفاعلية في (قُلْتُ)،على لسان بطله (فؤاد)، ولم يُصرِّح بذلك علناً إلَّا في الصفة رقم(104).

وكان ذلك حينما قرَّرَ فؤاد الهجرة إلى ألمانيا للبحث عن طاقية الإخفاء في مختبر الدكتور الألماني يوهان هولمر؛ نتيجةً للظروف القمعية التي مارسها ضدها في العمل الأستاذ علوان الذي عمل له الدسائس والمكائد العديدة في دائرته من أجل تسقيطه ومحاربته لوظيفته بشتى الوسائل. وفؤاد بطل الرواية الذي يعمل موظَّفاً بقسم الإحصاء في وزارة التجارة في إحدى مدن الجنوب.

وقد لاقى  محاربةً حقيقيةً من قبل الطرف الآخر القاهر(علوان) الذي  أضمر له الشرَّ والعداء والبغضاء؛ لإزاحته عن وظيفته بِحُججٍ واهيةٍ باطلةٍ لا أساسَ لها من الصحَّة لغرض تنحيته من عمله الوظيفي من خلال ممارسته لسلطة القوة التي يتحلَّى به تُجاه مناوئيه من الموظفين الآخرين:

"بَعدَ أُسبوعٍ حَضرَ وَرَاحَ يَسألُنِي، وَكَانَ بِصحبةِ مُديري المُباشرِ أَسئلةً بَعيدةَ عَنْ اِختصاصِي وَعَنْ مُؤهلاتِي، وَيَبدو أنَّهُ اِقتبسَهَا مِنْ بُطونِ الكُتُبِ؛ لِكِي يُوصِي مُديرِي بِوضعِ عَلامةٍ مُتدنيةٍ لِي أوْ ضَعيفةٍ فِي سِجلِ تَقييمهِ السَّنويِّ؛ كَي أُعاقبَ أَوْ أُنقلَ مِنْ هَذهِ الدَائرةِ إِلَى دَائرةٍ أُخرَى أوْ يُدخلونَنِي فِي دَورةٍ تأَهيليةِ؛ لِكونِ مَعلوماتِي ضَعيفةُ ولَا أَصلحُ مُوظَّفَاً فِي الإحصاءِ كَمَا أَخبرنِي مديري." (ضِحكةُ مُوزارتَ، ص 6) .

بهذه التهمة الكيدية المُلفَّقَة أُتِّهمَ الموظَّفُ فؤاد بأنَّه ضعيف المؤهَّلات، وبحاجةٍ ماسةٍ لتقويمٍ وتأهيلٍ جديدٍ لا بدَّ منه، بل الأكثر من ذلك عُدَّ فؤادُ زورَاً موظَّفاً فاشلاً لا يرقى لمثل هذا العمل.في مثل كهذا موقف لَا إنساني كُتِبَ على فؤاد الفشل والاستلاب والركوس الذي قلبَ موازينَ حياته رأساً على عَقِبٍ دون مسوغٍ أو مبررٍ حقيقيٍ. إنَّها سلطة العداء البغيض والحسد المقيت المُبَيَّت لهُ.

إنَّ مُعاداة علوان لفؤاد الموظَّف والإنسان البسيط كانت نقطةَ البداية التي انطلقت منها شرارة القطيعة العمياء والإقصاء الديستوبي المرير، والَّتي حفَّزت فؤاداً بالرحيل عن وطنه برغبته مرغماً على ذلك الأمر عندما ضاقت به الحيل من أجل أن يعيش حراً كريماً  بعيداً عن إيذاء الآخرين له ممن ينصبون العداء والتضييق على مساحة حريته الشخصية والعملية التي يتمتَّع بها في دائرته.

كلُّ هذه المسوغات الشريرة التي مورست ضده والتي تعتمل نفس فؤاد للتخلص من غريمه علوان، مصدر الشرِّ الذي يتربص به. فكانت الخطوة الأولى التي قام بها فؤاد عندما التقى مصادفةً بأسرة المهاجر حسن العراقي في تركيا الذي كان يروم الهجرة بصحبة عائلته إلى ألمانيا. ولأسباب شخصية واجتماعية وعائليةٍ خفيةٍ بحتةٍ. وقد عبر فؤاد عن ذلك الأمر الخفي الجلل الذي يختلج نفسه لرفيقه حَسَنِ إثر لقائه به لأول وهلةٍ، كاشفاً عن هويته الشخصية وعمله الوظيفي في العراق:

"أَعملُ مُوظَّفَاً فِي دَائرةٍ تَابعةٍ  لِوَزارةِ التِّجارةِ، وَتَحديدَاً بِقسمِ الإحصَاءِ، وَأنَا مَعَكُم الآنَ لِلوصولِ إِلَى ألمانيَا إنْ كُتِبَتْ لَنَا السَّلامةُ؛ لِمقابلةِ دُكتورٍ أَلمانيٍّ وَجهَاً لَوجهٍ." (ضِحكةُ مُوزارتَ، ص104).

إبَّانَ هذه اللحظات المصيرية التي قرَّر فيها فؤاد بدء رحلته السرابية المليئة بالمفاجآت والمعاناة المضنية في البحث عن المجهول القصدي الذي يردُّ له الاعتبار الشخصي بألمانيا، بدأتْ أنساق الفشل والتأزم النفسي المرير وعقابيه الديستوبية تتوالى تترى عليه؛ مُعلِّلاً  نفسه الأمارة  بالآمال البعيدة. فما أضيقَ العيشَ لولا فسحةُ الأملِ المنشود التي تسوقه نواياه الراهنة نحو المجهول الضبابي! لتحقيق ما يسعى إليه قدره الحياتي في الحصول على بغيته السحرية من دكتور هولمر:

"أَحتاجُ مِنهُ شَيئاً، اِختراعٌ جَديدٌ، جِئتُ آخذهُ مِنهُ، سَيُغيَّرُ حَياتِي إِلَى الأبدِ، وَأعتقدُ أنَّه يَستحقُّ  المُعاناةَ وَالسَّفرَ الطَّويلَ." (ضِحكةُ مُوزارتَ، ص 105). وَقَدْ سوَّغ فؤاد أسباب رحلته الغرائبية لألمانيا قائلاً عنها: "نَعمٌ سَتكونُ لِي جَولاتٌ وَجَولاتٌ بِاستخدامِ هِذَا المُنتجِ النَّادرِ إِنْ وَفقَنِي اللهُ فِي الحُصولِ عَليهِ مِنَ الدُّكتورِ! سَآخذُ ثَأْرِي مِنْ شَخصٍ أهدَرَ كَرامتِي وَمَسحَ بِيَ الأرضَ." (ضِحكةُ مُوزارتَ، ص 105).

تُرى هل يستحق مثل هذا الثأر كلَّ هذه المغامرة التي كلفته الجهد والوقت والمال وراحة البال.  ولعلَّ هذا الثأر الذي يقصده فؤاد في حديثه لرفيقه في السفر حسن يعني به المدعو علوان رأس هرم الفساد بالدائرة وسبب مرجعه الرئيس في هذه المعاناة. وقد تقوض حُلُم فؤاد في الحصول على المخترع حينَ علم وهو في ألمانيا بخبر موت مُبغضه وصنوه في العراق علوان وطويت صفحة (طاقية الإخفاء) من سجله الشخصي مع موت علوان الذي كان السبب الأول في هجرته القسرية.

أَنساقُ دِيستوبيَا الوَجعِ المَريرِ وتَمظهراتهُ السَّوداويَّةُ

مارس فؤاد (البطل الموجوع والمقموع) أنساقاً عديدةً من مآلات الحُلم  والعمل القائم على بنية الأمل في تكريس جهوده الشخصية، وتطويع إرادته الذاتية من أجل تحقيق بغيته النفسية الذاتية البعيدة، وفي إثبات ذاته الأنوية القارَّة على المستوى الشخصي والعملي؛ لكنَّه للأسف الشديد على  الرغم من كل هذه المحاولات العملية الإجرائية الحثيثة الجادة لاقى شتَّى أنواع الوجع الإنساني المرير، وذاق كثيراً مرارة وطعم الفشل والتأزُّم والتراجع والانكسار النفسي والروحي الجمِّ المثير.

لم يلبث فؤاد من إنهاء خطوةٍ تشاؤميةٍ سوداويةٍ فاشلةٍ إلَّا وقد سعى مُجدَّداً إلى بناء خطوة جديدةٍ أخرى غيرها؛ لإثبات وجوده الكوني. ولم يترك وسيلةً ناجعةً يراها مناسبةً لمقصديات وجعه إلَّا وقد جرَّبها وسار في مركبها الصعب، مسرى البطل الآمل والطامع في تحقيق رميتها الهادفة. فلا وجود لشعور اليأس مكاناً ثابتاً في عزيمته الواثبة، ولا قرار قارٌ ثابت في لجم عنان استكانته وركونه.حتَّى وإنْ كلفه ذلك العزم الشيء الكثير للتغلُّب على حراكه من أجل هدفه البعيد المقصود.

كان نشيده الروحي والنفسي المثير بعد كلِّ عوامل الوجع والحزن والإحباط والألم المُضني ما كان يتغنَّى به الشاعر العربي إثر  الفشل: (لا تيأسنَّ إذا كبوتم مرةً     إنَّ النجاح حليفُ كلِّ مثابر). حتَّى كلفته مثابرته الفعلية وإقدامه  البطولي لا إحجامه الانهزامي في الوصول إلى ضفة المراد في أنْ يكون ثمناً باهضاً للانتصار على ثورة تأزمُّه ووجعه الديستوبي المرير الذي أوصله إلى هذا.

إنَّ فعل العامل البطولي والنفسي لفؤاد الإنسان يشي بأنّه شخصيةً غريبة وفريدة نادرة في هذا الزمن العجائبي تحمل صفات ثنائية النقيضين معاً(الألم والأمل)؛ لتخلق منها ناتجاً شخصيَّاً مُتحركاً في توجيه بوصلته الحياتية بدلاً من أنْ تدور في رَحى فَلكٍ نسقيٍّ واحدٍ مكررٍ لا جدوى من فعله. وهذا هو مكمن سرِّ مغامرته السرابية في السفر للبحث عن براءة اختراعٍ جديدة مثل قبعة الإخفاء تكفل له كرامته االمهدورة وشخصيته المعدومة، مُتخذاً نموذج(ضحكةُ موزارتَ) التاريخية الفريدة منهلاً روحياً وفكرياً في إنجاز مهمَّته الثأرية في من كان سبباً في كلِّ هذا العناء الفكري والحياتي.

ولعل أول أنساق هذا الوجع والارتداد النفسي وتمظهراته الفكرية الطافية على سطح الرواية، محاولته اليائسة بعد عام التغيير السياسي للبلد وتحوِّلاته السريعة، وعزمه على اختلاق  قصة ذاتية محبوكة يقدِّمها افتراضاً لمفوضية حقوق اللَّاجئين بالعاصمة عَمَّان في الأردنّ؛ للحصول على سمة اللُّجوء السياسي من أجل الذهاب إلى ألمانيا رسمياً، أو أي بلدٍ أوربي أخر يؤهِّله بلوغ هدفه وتحقيق وجوده الخلاصي الذاتي الأخير. لكنْ حتَّى هذه المحاولة الافتراضية عُدَّت فاشلةً ولم تلقَ في نفسه أُذناً صاغيةً مجيبةً؛ لأسباب وعراقيل وصعوبات عديدة كان لها الأثر الباغ في نفسه:

"لَا أَعتقدُ قِصتِي إنْ رَويتَهَا لَهُم سَيقتنعونَ  بِهَا. مَاذَا سَأقولُ؟ هَلْ سُجِنْتُ فِي ذَلكَ العَهدِ فِي دَائرةِ الأَمنِ مَثَلاً؟ وَأنَا لَمْ أُسجنْ. هَلْ أَودَعُونِي التَّوقيفَ بِحَجةِ رَفضِ الحُروبِ والمَعاركِ وَالبطولاتِ الَّتي ذَهبتِ بالبِلادُ؟ أنَا لَمْ أَخدمْ فِي الجَيشِ أَصلَاً وَأعفونِي بِتقريرٍ مِنْ لَجنةٍ عسَكريةٍ مُشدَّدةٍ بِأنَّني أُعانِي مِنْ ضُعفِ البِنيَّةِ الشَديدِ جِدَّاً آنذاكَ وَهِي حَالةُ وِراثيَّةٌ." (ضِحكةُ مُوزارتَ، ص 20).

لقد علَّل فؤاد أسباب فشله ومحاولته في بطلان قصته بأنَّ موظفي المفوضية يسألون الشخص اللَّاجئ في لقائه الأول عدةَ أسئلةٍ ويُسجِّلونَ أجوبتها ثُمَّ يُكرِّرون الأسئلة ذاتها في اللِّقاء الثاني، ويقارنون بين الإجابتين الأولى والثانية. فإذا اختلفت الإجابة عنهما يُرفضُ الطلب المُقدَّم للجوء. فكانت هذه هي المحاولة الأولى التي عزم النية عليها، لكنَّه تراجع عنها خوفاً من تلقى فشلاً مريباً:

"إِذنْ سَأفشلُ وَأنتكسُ اِنتكاسةَ كُبرَى؛ لِأنَّنِي بِالتأكيدِ سَأستدينُ مَبلغَ السَّفرَ إِلَى عَمَّان أوْ أيَّةَ عَاصمةٍ  أُخرَى. الطَّريقُ الثَّانِي  لَمْ أُفكرْ بِهِ؛ لِأنَّنِي لَيسَ لَدَيَّ قَريبٌ ولَا بَعيدٌ أَعرفهُ هُناكَ. وَحَتَّى إنْ وِجِدَ فَلَا أَعتقدُ أنَّهُ سَيوافقُ عَلَى طَلَبِي؛ لِكثرةِ المَشاكلِ الَّتي أَحدثَهَا أَغلبُ مَنْ دَخلَ إلَى هُناكَ بِصورةٍ غَيرِ شَرعيَّةٍ، فَصَارَ الغَريبُ مُثيرَاً لِلشكِّ وَالرِّيبةِ والظَّنِّ وَالاِتِّهامِ." (ضِحكةُ مُوزارَتَ، ص 21).

وعلى الرغم من هذا الجَيشان الشعوري والقلق والاضطراب النفسي الناشئ المحتدم من عواقب الفشل الممزوج الذي لا بُدَّ منه. ولم يبقَ من هذه المكتبة إلَّا أربعة كتبٍ منها كان لها في نفسه محبَّة خاصَّة، ولها في قلبه وقع أثير لا يمكن التفريط بها مهما كان الأمر؛ لِمَا فيها من محتوى فكري إنساني وجمالي مفيدٍ وماتعٍ ومسلٍّ شائقٍ:

"أَوَّلُها كِتابُ(المَرايَا وَالمَتاهاتُ)، وَهوَ مَجموعةُ قِصصٍ كَتَبَهَا بَورخِس، وَهوَ أحدُ أَعظمُ كُتَّاَب القَرنِ العَشرينَ. وَثانيهَا كِتابهُ(ألفُ لَيلةِ ولَيلةٍ)، وَكتِابُ القِصصِ الغَريبةِ وَالعَجيبَةُ، وَصَارَ تُراثَاً عَربيَّاً كَبيرَاً. وَثاَلثها كِتِابُ(الطَواسينَ)، لِمؤلِّفهِ المُتصوِّفِ الإشكَالِي  الحُسينُ بِنِ مَنصورِ الحَلاَجِ، أمَّا الكِتاَبُ الرَّابعُ، فًهوَ رِوايةٌ قًديمًةٌ عنُوانُهَا،(مَسرحُ الدُّمَى)، وَقَد تَمزَّق َغِلَافُهاً وَلَا أَعرِفُ كَاتبَها." (ضِحكةُ مُوزارتَ، ص 23).

ففؤاد برغم إصراره العجيب وهاجسه على السفر خارج العراق، وقراره النهائي بالرحيل السريع مهما كانت نتائجه السلبية أو الإيجابية المحتملة، فإنَّ شبح طريدة علوان وأعوانه بات أمراً مُلحَّاً وهاجساً مؤرِّقاً لنفسه يلازمه كظلِّه في قيامه وقعوده وفي حِلِّه وترحاله. على الرغم من أنه عقد العزم بالخروج من بغداد سِرَّاً خشيةَ أنْ يراه خصيمه علوان من أنْ يفشل مخطَّطه المستقبلي، ويقضي على آخر آماله الذاتية في التصدِّي له، والقضاء على مركز سلطته الاستبدادية المؤذية؟

لم يستطع فؤاد التخلُّص من ذلك الشعور بالفشل الضافي على نفسه  التشاؤمية، فغداً مُسيطراً عليه روحاً وفكراً وسلوكاً وعملاً. حتَّى حينما فكَّر قبل السفر بقضاء ليلةٍ واحدة يمكث فيها مع صاحبه في أحد الفنادق الرخيصة ببغداد، والتي تُديرهُ ثُلَّةٌ سيئة من  النساء المُبتذلات والرخيصات من بائعات الهوى اللَّيلي سلوكاً وعملاً والتي تقول إحداهن عارضةً بضاعتها الرخيصةله بسخريةٍ:

"هُنَا كُلُّ شَيءٍ تَحتاجانهُ، وَأطلقتْ ضِحكةً هَزيلةً بَاهتةً. لَا أَثرَ لِأيِّ جَمالٍ عَلى وَجهِهَا سِوَى  الرِّتوشِ والألوانِ الَّتي حَوَّلتهَا إِلَى اِمرأةٍ قَبيحةِ المَنظرِ. قَالَ صَاحبِي: بِأنَّنَا لَا نَحتاجُ غَيرَ المُكوثِ هَذهِ اللَّيلةِ وَلَا نُريدُ أيَّ شَيءٍ آخرَ. يَبدو أنَّ كَلامَهُ لَمْ يَعجبهُنَّ، فَراحتْ إحداهُنَّ تَتحدَّثُ بِصوتٍ عَالٍ  وأسمعتنًا بًعضً تًرانيمِ البًذاءةِ وَالكَلامِ المُنفلتِ،حَتَّى اِنتهتْ إلَى أنَّ هَذَا الفُندقَ لَا يَستقبلُ المُعقَّدينَ وَالخَوافينَ مِنْ نِسائهمَا أَخرجَا وَابحثَا عنْ فُندقٍ غَيرِهِ يَقبلُ بِتافهينَ مِثلكمَا!"(ضِحكةُ مُوزارتَ، ص 29).

لا أدر ي لماذا كُلَّما حاولَ فؤاد التحرُّر من الصفة التي تلاحقه،اِستَجدت طارئة أخرى من مثبطات الفشل الموجع وقتل للعزيمة التي يُخطِّط لها من أجل تنفيذ مهمته بالانتقام من مناوئه علوان السيء.

وفي سابقة أخرى لصراعه المرير مع ديستوبيا الحياة المُذلَّة، حاول فؤاد التسكُّع ليلاً في إحدى مقاهي البتاوين ببغداد لقضاء بعض الوقت، فتعرَّض له شخص مدمن خمرٍ  واعتدى عليه في مكان ضيقٍ مع اثنين أخرين من الرجال النصَّابين والمُحتالين من الذين لهم صلة بهذا الرجل اللِّصِّ الذي أشبعه بالسُّباب والتعريض والتنكيل والكلام البذيءمن أجل ابتزازه والحصول على نقوده الخاصة:

"بَعدَ أكثرِ مِنْ دَقيقتينِ بِقليلٍ رَأيتُ ثَلاثةَ أَشخاصٍ يُهرولونَ بِاتجاهِنَا عِندَمَا سَكتَ عُنْ صُراخهِ، وَاستلمنِي أحدُهُم بِالسَّبِ الَّذي لَمْ أسمعْهُ فِي حِياتِي وَجَرجرنِي فِي الزُقاقِ المُظلمِ الَّذي يُؤدِّي إِلَى الشَّارعِ العَامِ، حَاولتْ التَّخلُصَ مِنهُ؛ لَكنَّنِي فَشلتُ وَاستسلمتُ لِرغبتِهِم فِي إجبَارِي عَلَى الذَهابِ إلى سَيارةِ الشُّرطةِ الوَاقفةِ فِي الشَّارِعِ العَامِ المُضاءِ جَيَّدَاً..."  (ضِحكةُ مُوزارتَ، ص 31، 32).

والأنكى من ذلك كلِّه أنَّ أفراد الشُّرطة الذين هم أصلاً وجدوا لحفظ النظام وخدمة أبناء الشعب قد تعاطفوا مع معطيات الباطل، أي مع اللُّصوص وساندوهم بعفويةٍ، وبمؤشرٍ سَيِّءٍ كأنَّ لهم الحقَّ الشرعي العادل في الحصول على أموال فؤاد الخاصة؛ وذلك تَرضيةً لهم، واتقاءً شرِّهم، وإلَّا لم يتركوا فؤاداً من قُبيل حلِّ المشكلة والارتضاء بطريقةٍ غيرِ قانونيةٍ أي عشائريةٍ،لا تحبُّ أنْ تسيطر على زمام الوقائع الحدثية لنزوات النظام وهفوات المجتمع التي لا تنصلح إلَّا بالاجتثاث والتام:

"دَخلتُ غُرفتِي الصَّغيرةَ والعَابقةَ بِالرطوبةِ وَالغارقةِ بِرائحةِ عُفونةٍ مُتجذِّرةٍ، حَزينَاً أُقلِّبُ مَا جَرَى لِي مَعَ المَخمورِ وَأفكِّرُ بِهزيمتِي الأولَى فِي رِحلتِي هَذهِ. ظَلَلتُ أَبحثُ عَنْ وَسيلةٍ أَستردُ بِهَا نُقودِي الِّتي اَستحوذُ عَليهَا السِّكِّيرُ دُونَ وَجهِ حَقٍّ. لَا أُريدُ الهَزيمةَ أمامَ أُولئكَ الأَوغادِ الَّذينَ يَتَكِّسبونَ  بِأسلوبِ الاِفتراءِ  وَالباطلِ والتَّلفيقِ عَلَى الآخرينَ."  (ضِحكةُ مُوزارتَ، ص 33، 34).

لم ينتهِ شعور فؤاد المأزوم بهؤلاء اللُّصوص الثلاثة الذين استحوذوا على أموال منه، بل راح يشعر بالخوف  والقلق حينما يتذكَّر فعلتهم بتلك الواقعة الحدثية التي جرت معه، ويخشى على نفسه منهم. حتى بات الهروب من الفندق والتسكُّع في الشوارع والأزقة هدفه في التخلُّص من شبحهم  الذي يتراءى له باستمرار. أليس هذا التصوُّر المُوجع الذي يعتمل فؤاداً يُعدُّ فشلاً ديستوبياً قاهراً:

"ُصُعقتُ عِندمَا تَذكَّرتُ الرِّجالَ الثَّلاثةَ الَّذينَ شَهِدُوا ضِدِّي أَمامَ ضَابطِ الشُّرطةِ، كُلُّهم رَأونِي وَعَرفُوا اِسمَ الفُندقَ الَّذي أنزلُ فِيهِ. فَكَّرتُ بِمغادرةِ الفُندقِ فِي هَذَا الوَقتِ، وَأتسللُ بَينَ الشَّوارعِ والأزقةِ؛ لِأختفيَ عَنَ المَكانِ تَمامَاً. بِرغمَ خَوفِي وَذُعري، خَطَّطتُ لِهُروبِي جَيِّدَاً لَأتفادَى الوُقوعَ فِي المَصيدةِ الَّتي لَا يُمكنُ الخلاصُ مِنهَا هَذهِ المَرَّةِ."  (ضِحكةُ مُوزارتَ، ص 36).

أخذت هذه الحادثة الانهزامية الأليمة من فؤاد مأخذاً كبيراً على مستوى  الفكر والوقت والجهد والإحباط النفسي وما صاحبها من خوفٍ شديدٍ،خَشيةَ العثور عليه، خاصة ًوأنَّ أحد هؤلاء الرجال الخمَّارين الثلاثة عَثَرَ عليه فؤاد مُضرجاً بدمهِ، فانتابه شعور بالهلع والريبة في أنْ تَشكَّ الشرطة أو أصحابُ القتيل من أنَّه هو من قتله طلباً للثأر واسترداداً لنقوده التي اغتصبوها منه. فكان فؤاد دائماً في هروبٍ وقلقٍ وإرباكٍ مُسيطرٍ على مشاعره الداخلية، ومدمِّرٌ لنفسه الأمَّارة بالفشل الذريع:

"دَوَّت صَافرةُ الشُّرطةِ وَهيَ تَسيرُ بِموكبِ مِنْ ثَلاثِ سَيَّاراتٍ بِسرعةٍ لَافتةٍ  رَغمَ الزَّحامَ. خَمَّنتُ أنَّهم يَبحثونَ عَنْ شَيءٍ مَا فِي المَنطقةِ، وَلَمْ يَدُرْ فِي خُلدِي وَلمْ أُفكرْ أنَّهم سَيذهبونَ إلَّى مَكانِ الرَجُلِ القَتيلِ البَعيدِ ويَعبرونَ الجِسرَ. فَثمَّةَ مَركزٌ للشُّرطةِ قَريبٌ مِنْ الحَادثِ وَتَحديداً في شَارعِ السَّعدونِ." (ِضحكةُ مُوزارتَ،  ص9).

ونتيجةً لهذا الشعور الغامر الذي حَزَبَه فؤادَ كُليَّاً وسيطر على رؤية تفكيره؛ بسبب الإرباك والارتجاف والخوف والانكسار الشديد من صُلب الواقعة وأثرها المُقرِف، لم يشعر فؤادُ غريزياً بجوعٍ أو عطشٍ؛ نتيجة الصدمة؛ ولكون الوقت الذي  يمرُّ فيه فؤادُ كما يصفه هو، بأنه جبَّار أغلى من حياته، بدليلِ أنْ  صَافرة الانذار حين دوَّت مرَّةً أخرى لاذَ بالفرار؛ بسبب ذلك التحذير خلف مجموعةٍ من  الشباب والجنود كي يتوارى عن  الشرطة ورجال الأمن الباحثين عن الفاعل القتيل.

وعقب الانتهاء من عقابيل الجريمة السوداء التي تعرَّض لها فؤاد جراء أولئك الرجال المتسكِّعين والبوهيميين،تتوالى صور الانتكاس والنكوص النفسي والارتكاس الرُّوحي المُرِّ بالعودة إلى مصدر الأذى الأول علوان الذي كان السبب في شقائه وهجرته وبُعده عن أُسرته ووطنه وعمله ومحبيه:

"لَمْ تَنفعْ كُلُّ وَسائلِ الرَّدعِ والتَّهديدِ والمُضايقاتِ والشَّكاوَى ضِدَّ المَدعوِّ عَلوانَ الجَشعِ الَّذِي آذانِي وَقلَّلَ مِنْ قِيمتِي، حَتَّى اِضطررتُ يَوماً لِتأجيرِ رِجالٍ ذَوي جَاهٍ وَهيبةٍ وَمَكانةٍ وأرسلتَهُم  إليهِ لِترطيبِ الأجواءِ بَينِي وَبَينَهُ، وَلَمْ يَحصلُوا مِنهُ عَلَى شَيءٍ سِوَى الضِّحكِ وَالوعودِ وَالسُّخريةِ. هَكذَا هُمُ حَديثُو النِّعمةِ لَمْ يُبالُوا بِأحدٍ وَيَرونَ النَّاسَ أقلَّ قِيمةٍ مِنهُم. إنَّهُ يَتصنَّعُ الكَلامَ بِغباءٍ  مُباشرٍ مُثيرٍ لِلسخريةِ حَقَّاً، رَجلٌ فَظٌ وَثَقيلُ الظِّلِّ، عَلَيَّ مُعاقبتهُ لَأُريه مَنْ الوَفي؟!" (ضِحكةُ مُوزارتَ، 47، 48).

ويُبرر فؤاد الموظَّف والإنسان الطبيعي موقفه العدائي هذا من شخصية علوان مصدر صراعه الأبدي معه بأنَّه إنسان مسالم وطيَّب، وليس من شيمته إيذاءَ شخصٍ آخر طيلة حياته؛ ولكنَّه حينما  سار في ركاب هذا الأمر الصعب تُجاه  نقيضه علوان كان مُضطراً لفعله هذا معه في الدفاع عن نفسه. وكان مُستغرباً من فيض شعوره الذهني  حياله، مُعلِّلاً إثر هذا الاستغراب بأنَّ وراء علوان قد تكون قصةٌ غريبة ما يَضمرُها عنه وربما تكون نتائجها مهلكةً له وتهدِّدُ وجوده. وفي انعطافةٍ  استذكاريةٍ أخرى  يُخبرنا الراوي العليم (المؤلِّف) بترجمان لسان بطله علوان الذي يقول متأكداً:

"عَلوانُ لَمْ يَبِعِ البَيتِ الَّذي اِستأجرهُ أَنَا مُنذُ سَنةٍ كَمَا يَدَّعِي، وَسَمعتُ أنَّهُ يُحاولُ إخراجِي مِنْهُ؛ لِيبنيَ عُمارةً عًلًى أرضِهِ. وَهوَ لَا يَبيعُ، بَلْ يَشترِي المَزيدَ، وَأعتقدُ أنَّ حَربَهُ ضِدِّي بَدأتْ مُنذَ لَيلةِ حَادثةِ الحَقيبةِ الَّتِي رَفضتُ إدخالها إلَى بَيتِي، وَكَانتِ التَّكهناتُ تَقولُ إنَّهُ يُتاجرُ فِي المَمنوعاتِ مَعَ عِصابةٍ تَابعةٍ لَهُ. مِنْ صَاحبِ مُقهَىً مُتواضعٍ إلَى تَاجرٍ كَبيرٍ ثَريٍّ مَغرورٍ وَأخرقٍ." (ضِحكةُ مُوزارتَ، ص 48).

ويبدو لي أنَّ سبب التوتر والكراهية والعداء بينه وبين علوان كان ناتجاً عن الحسد والغيرة وربَّما صفة النجاح الشخصي. كما أنَّ أقرانَ فؤاد وأصدقاءَه يَضمرُون له الحسد خلال سنوات الدراسة  عندما كانوا يختبرونه بأسئلةٍ صعبةٍ فَيتمنون زوال نعمته العلمية وذكاءَه وفطنته العقلية الشديدة.

لم تنمحِ صورة علوان المؤذية من تفكير فؤاد، وصارت تتراءى له حتَّى في خيالاته وأحلامه ويقظته.إنَّه شبح لا يمكن إزالته من تفكيره المشدود له وهو بعيد عنه خلال هجرته وسفره للخارج:

"مَرَّ وَجهُ عَلوانَ القَبيح ِأَمامِي سَريعَاً وَكِدتُ أَصفَعهُ وَأقضمُ كَتفَهُ بِملءِ أَسنانِي لَولَا اِنتباهِي فِي اللَّحظةِ الأَخيرةِ بِأنَّها خَيالاتٌ."(ضِحكةُ مُوزارتَ، ص 58). هذه  صور الخوف التي تتراءى له باستمرار.

ومن أكثر صور التشاؤم والخوف والفشل والخذلان بشاعةً واستغفالاً وسوداويًة لِديستوبيا الواقع الإنساني المرير الذي مرَّ به فؤاد إثر سفره إلى تركيا، ومنه إلى مدينة أزمير التي تنطلق منها هجرته الدَّوليَّة إلى ألمانيا، ومنها الوصول لمختبر الدكتور يوهان هولمر. تلك الواقعة التي تعرَّض لها نتيجة وقوعه ومن معهُ بفخٍ مُعدٍّ من قبل فئة المُهرِّبين الذين احتالواعليه وعلى غيره من العرب  المهاجرين إلى أوربا، حينما أوصلوهم بسيارتهم المُهيَّأة للتهريب إلى البحر على أمل ركوب  الزوارق البحرية  بعيداً عن أعين الشرطة التركية؛ لكنَّها كانت مَكيدةً  ونَصبَاً واحتيالاً مُرَّاً عليهم:

"-أَلُو-ألُو،عَرفتهُ أنَّه السَّائقُ الَّذي تَركنَا مُنذَ سَاعةٍ.لَا تَتَحركُوا مِنْ مَكانِكُم حَتَّى العَامِ القَادمِ؛ لِأنَّني أَخافُ عَليكُم مِنَ النَّصبِ وَالاحتيالِ، فَالزورقُ لَمْ يَأتِ، لِأنَّه لَا زَورقٌ أصلَاً، وَلَا تَهريبٌ، عِيشُوا وَكُلوا غَيرَهَا حَبابينَا! وَأطلقَ ضِحكةً مَاكرةً ذَكرتنِي بِضحكتِهِ فِي المَرأبِ." (ضِحكةُ مُوزارتَ، ص 61).

هذه الواقعة الحدثية التسريدية المُوجعة الأثر، هي أوَّلُ غيثٍ من غَمام أمطار فكرة الهجرة التي أصابت فؤاد من ألاعيب وحيل المخادعين ثُلَّة المهرِّبين، والتي على إثرها ندب فؤاد حظَّه السيء العاثر حيال ما شعر به من خوفٍ وارتعاشٍ ونكوصٍ واستغلالٍ وفضيحةٍ لا يمكن إخبار عائلته بها بعد أن خسر أجرة التهريب لأوربا التي تسلَّمها المهربون منهم مُقدَّماً وأوقعوهم في المكيدة الكبيرة.

كلَّما ضاقت مِساحاتُ الفشل وصور القمع والاستبداد وروح الانكسار والخذلان التي تعرَّضت لها شخصية البطل المثابر الدؤوب فؤاد، اتسعت الرؤيا لمحاولات الإصرار والعزيمة في التغلُّب على الإخفاقات والنكوصات النفسية والعملية المريرة التي تفرضها وقائع القدر ونوازع المُسبِّبَاتِ الكيدية العارضة والتي تحول دون الوصول للهدف الموعود  في تحقيق آماد بُغيته للتغلب على علوان والقضاء عليه بالعزم على استمرار هجرته لألمانيا، وجلب تقنية الابتكار أو طاقية الإخفاء.

وإذا كانت  المحاولة الأولى  في الهروب قد فشلت في تحقيق هدفها، فإنَّ الإصرار القويَّ على تكرار غيرها بروحٍ وهمةٍ عاليةٍ هو منتهى الأمل الذي يُجدِّد عزيمته ويمنحها جلداً وصبراً وإقداماً:

"بِالرغمِ  مِنْ أنَّ الحَربَ الَّتي أَعلنَهَا ضِدِّي لَمْ تَكنْ مُتكافئةً. بَدأَ القَاربُ بِالتحرُّكِ فِي رِحلةِ البَحرِ  المُروعةِ بِالنسبةِ لِي، وَهذهِ أولُ مَرَّةٍ أَصعدُ فِي مَركبٍ فُوقَ المَاءِ فِي حَياتِي، وَبَدأتْ دَقاتُ قَلبِي تَقرعُ طُبولَ الخَوفِ. أولُ مَرَّةٍ أخطُو هَكَذَا خُطوةُ جَريئةً وَخَطرةً. هَؤلاءِ يَبحثونَ عَنْ مُوطنِ قَدَمٍ  فِي أُوربَا كَبديلٍ لَهُم وَأنَا أُغامرُ فِي هَذَا الخِضَمِ والقَلقِ كَيْ أفلحَ فِي مُعاقبةِ عَلوانَ البَشعِ الجشع. وَأتمنَّى أنْ يَتعاطفَ مَعِي الدُّكتورُ وَيُعطينِي القُبعةَ لِتجربتِهَا فِي مُهمَّةٍ لَمْ أدرِ تَحديدَاً مَدَى نَجاحِها وَتحقيقَ حُلُمِي. رُبَّما سَفرتِي هَذهِ لَنْ تَكونَ بِمستَوَى مَا فَعلتُهُ مِنْ أجلِهَا..." (ضِحكةُ مُوزارتَ، ص72).

إذن الهدف الأساسي من كلِّ هذه الأهوال والصراعات هو القضاء على  نظيره علوان ومعاقبته مهما كانت  نتائج رحلة هذا البحث عن السراب غير الواضح الذي غامر من أجله لإعلان راية الانتصار عليه.ولكنَّ الأهم في كلِّ تلك المحاولات الديستوبية المريرة، هو شحذ العزيمة والإصرار وتكرار المحاولات الفاشلة بأخرى جديدة من أجل تحقيق مشروعه الإقصائي الذي هو بمثابة صرخةٍ للوجود الهاملتي (أكونُ أو لًا أكونُ)، وإلَّا فلا فليجلَّ الخَطبُ وليفدحَ الأمرَ الصارمَ ثورةً.

ويمضي فؤاد قُدُمَاً يَطرق وسائل الهجرة الخطرة المتاحة مرتحلاً بسفره إلى ألمانيا بصحبة رفيقه العراقي حسن وعائلته، وقد جال بخاطره وهو في السيّاَرة، ماذا سيحصل له عند الدكتور هولمر من مفاجآت صادمة؟  لكنّ الأمر المزعج في ما كان يدور بِخُلدِهِ، وهو غارق في الأحلام في غير وعيه ويقظته. فقد كان هاجس الرعب والخوف في عوالمه الداخلية مسيطراً على عقله الباطن تماماً ولا يمكن الفكاك من التفكير بعلوان وما فعله به وما سيفعله بعائلته مجدَّداً في غيابه:

"لَمْ أنَمْ كَمَا فَعلَ الرُّكابُ الآخرونَ، كُنتُ أَطوفُ بِعوالمِي وَمَا سَيحصلُ لِي عِندَ الدُّكتورِ هَولمَر. لَكنَّني فَزعتُ عِندَمَا جَالَ خَاطرِي بِعلوانَ المَعتوهِ المُزعجِ الَّذِي سَبَّبَ لِيْ قِلقاً وَهوَ يَفعلُ كُلَّ أنواعِ المسَاوِئ لِطرَدي مِنْ بَيتِهِ، تُرَى مَا سَيفعلُ مَعَ عَائلتِي إنْ عَلِمَ أنَّني مُسافرٌ؟ هَواجس ٌظَلَّتْ تَدورُ فِي عَوالمَ مِنَ الإحباطَ وَالفَشلِ وَبُلوغِ اليَأسِ، كُلَّمَا صَارَ شَبحُ عَلوانَ وَقريبهِ المَسؤولِ أَمامِي إنَّهُمَا خَارجُ نِطاقِ البَشرِ الَّذينَ عَرفتهُم وَقَرأتُ عَنهُ، وَخَاصةً عَلوانُ ..." (ضِحكةُ مُوزارتَ، ص 92، 93).

والملاحظ على الكاتب إبراهيم سبتي من خلال تسريده الحكائي الفاعل لصورعقابيل هذا الفشل الموجع وتكرار الشعور بالخيبة والانكسار والتراجع أنَّه ينكبُّ بذكاءٍ وحرفيةٍ واثبةٍ ووعيٍّ في استخدام وتوظيف تقنيات الاستقدام والاسترجاع السردي الحدثي(الفلاش باك)في الحفاظ على وحدة الرواية العضوية كسجد عضويٍّ واحدٍ لا يمكن تجزئة أعضائه أو التفريط به في فصول  الرواية. فضلاً عن مزيَّة التجديد والتنوع في أسلوبية السير بمسارٍ واحدٍ رتيبٍ قد يشعر معه القارئ بالمللِ.

فتراه تارةً يركن في تصويره لمشاهد رحلة البحث عن الابتكار أو المكنون الإخفائي إلى تقنية الاستقدام أو التقديم الحدثي كي لا يشعر معه القارئ بالسأم والملل والرتابة والخمول والإهمال، وتارةً أخرى يعود مُجدَّداً إلى تقنية الاسترجاع أو الرجوع إلى الترتيب الزمكاني الحدثي اعتماداً على وتيرة الاتصال من خلال تقنية الفلاش باك الفني لمجريات الحدث الموضوعي للرواية.

فإنَّ هذه التقنيات الفنيَّة تمنح الخطاب النصِّي السردي قوةً إشراقيةً موضوعية وتزيده تماسكاً  فنيَّاً وجمالياً يجعل من المتلقي مُتشوقاً  لمعرفة الآتي من الأحداث. ومثل هذه الآليات السردية التي يناور بها الكاتب في تخليق روايته تتطلَّبُ مَهارةً عاليةً ودِربةً فنيةً من كاتبها للإمساك بتلابيب نسيج الرواية وتوجيهها بشكلٍ سلسٍ دونَ عقبات تعرقل سيرها في استكمال بقية فصولها الأُخر.

والأمر الآخر الملاحظ على بوصلة أسلوبية إبراهيم سبتي السرِدية هو إيمانه الحقيقي والثابت بقضية تغيير الأمكنة الزمانية واستبدالها بأخرى على الرغم من حبّه لمنبتِ عَيشهِ الأرضي الأول:

"لَا بَأسَ بِالتَّغيُّر، نَحنُ بِالتالِي بَشرٌ وَاجبٌ عَلينَا اِستبدالُ الأمكنةِ بِأُخرَى أفضَل رَغمَ أنَّ المَكانَ الأوَّلَ هُوَ مَنبتُ جُذُوري وَحَنينِي وَلَا أُبدِّلهُ بِأيِّ مَوقعٍ فِي الأرضِ." (ضِحكةُ مُوزارتَ، ص  104).

والأمكنة التي يتحدَّث عنها فؤاد في سفره لرفيقه المهاجر بمعيته حسن، هي في الواقع أمكنة أرضية محببة النفس، ولكن قد تكون وحدة هذه الأمكنة افتراضيةً معنوية وليست ماديةً مكانيةً بحتةً، فهو يتحدَّث عن البدائل الزمكانية ولو لفترةٍ قصيرة يقضي من خلالها حاجته الذاتية، ولا يهمُّه أيَّاً كان المكان. المهمُّ أنْ يصلَ إلى مُبتغاه الأنوي الذي بذل من أجله كلَّ غالٍ ورخيصٍ ماديٍّ.

ثانيةً يأخذنا فؤاد الراوي إلى العودة في التفكير القهري بما يفعله المهرِّبون من صور الاحتيال الكثيرة ووسائط الاستغفال المتاحة،وفرضية المكائد والخداع والريبة والجزع لجموع لمهاجرين. إنها صورة مؤلمة جِدَّاً تَظهر لهم بين الفِينةِ والفِينةِ الأخرى شوكة في تفكيره وتذهب به بعيداً مخاطرها ومآلاتها الضبابية غير الواضحة وما سيحدث لهم من مفاجآتٍ مُثيرةٍ وصادمةٍ مُذهلة:

"بَدأتُ أَسمعُ مِنْ حَسنِ كَلامَاً فِيهِ بَعضُ الرِّيبةِ في سِيرنَا، وَأنَّ الدَّليلَ المُتطوِّعَ إمَّا سَيُسلِمُنَا إِلَى الشُّرطةِ أوْ سَيأخذُنَا إِلَى التِّيهِ وَفُقدانِ الأثرِ، أوْ سَيبيعُنَا عَلَى تُجَّارِ الأعضاءِ البَشريَّةِ، وَهَذا مُمكنٌ جِدَّاً فِي مِثلِ هَذهِ الظُروفِ.. عَلينَا أنْ نَتأكدَ مِمَّا يَضمرُهُ فِي رَأسِهِ لَنَا. ضَحكتُ وَأجبتَهُ بِأنَّنا أُسوةٌ  بِالآخرينَ، نَسيرُ مَعَهُم وَنَتوقفُ معَهُم. َومَا يُصيبُهم سَيصيبنَا بِالتأكيدِ، وَلَو أَنَّ لا ثَوبَ أبيضَ فِي مَنجمِ الفَحمِ." (ضِحكةُ مَوزارتَ، ص 112). والعبارة الأخيرة بلاغتها تشير إلى سوداوية الأمر واستوائه.

ومن بين اللَّوافت الأخرى التي تثير حفيظة القارئ وتُمتِّعهُ بجمال حكاياتها الشائقة على الرغم من فداحة الرحلة وقساوتها، هي استدعاء الكاتب أو الراوي العليم واستحضاره على لسان راويه البطل فؤاد المشاهد التذكارية للمدن والرموز والشخصيات الفنيَّة العالمية من أمثال موزارت عند دخوله للأراضي النمساوية في رحلته التهريبية.وبالذات أثناء مروره بمدينة الفنَّان موزارت ومنبت أصله(سالزبورغ)،وَتَوقهِ الشديد لرؤية  بيته والاطِّلاع على معالم آثاره التاريخية والفنيَّة والجمالية:

"إِذنْ نَحنُ دَاخلُ الأراضِي النَّمساويَّةِ، وَلَنْ يَفصلَنَا الكَثيرُ عَنْ ألمانيَا. لِلأسفِ الشَّديدِ لَمْ أستطعْ رُؤيةَ مَنزلِ مُوزارتَ؛ خَشيةَ مُصادرةُ بَعضِ الوَقتِ المُهمِّ مِنْ رِحلتِنَا وَنَحنُ عَلَى عَجلٍ مِنْ أَمرِنَا، غَيرُ مُصدِّقٍ بَأنَّني فَي مَسقطِ رَأسَ العَبقريِّ الَّذي أتخيَّلُهُ كَمَا فِي الفِيلمِ وَهوَ يُؤلِّفُ مُوسيقاهُ فَتوجَّهَتْ إليهِ سِهامُ الحَاسدينَ وَالحَاقدينَ"(ضِحكةُ مُوزارتَ، ص130). والعبارة الأخير للنصِّ في تخيَّل الفيلم إشارة سيمائية واضحة وموحياتها دالة على الربط بين أحداثه والرواية، وما لَقيه بطله المِقدَام فؤاد من الحسد والحقد والعداوة والإقصاء السوداوي مثل ما لقيهُ بطل فليم موزارت من عداءٍ بَيِّنٍ.

إنَّ صيغة الاستدعاء والاستذكار هذه لموزارت ولموسيقاه ولإرثه الأرضي يشي  جيِّداً بأنَّ فؤاداً شخصية إنسانية ليست عاديةً كباقي المهاجرين الآخرين الذين لا يهمهم  الفنُّ والثقافة، بل كان من المهتمين جداً بفنِّ موزارت  وبموسيقاه وإرثه الثقافي الفنِّي. وهذا يعني بأنه قارئ ومتذوقٌ صاحب مشروع ثقافي وفكري. على الرغم من كونه مُهاجراً عادياً يروم بهجرته الوصول لمبتغاه الأخير. وقلَّما تَجدُ في الروايات البطل من صنف المثقفين المُهتمين بفنِّ المُوسيقى ورموزها الفنيَّة العالمية.

وقبيل الوصول لألمانيا وفي آخر محطَّة من محطات البحث عن السراب، وأثناء القيام بفترة أخذ استراحة قصيرة ليتمتَّعَ بها فؤاد مع صُحبة رفيقه المهاجر حسن العراقي وعائلته التي تضمُّ زوجتهُ وابنته الشابَّة الوحيدة، يتدخَّل فؤاد في نزع فتيل الخلاف الأُسري وإخماد حدَّتهِ بين العائلة. بيدَ أنَّ زوجة حسن تقمع فؤاد بردِّها المُفعم عليه وغضبها الحاد السريع اللَّافت منها في ممارسة سلطة الرفض الديستوبي والمجابهة المُباشرة معه. وهذا يعني أنَّ فؤاداً قد فشل حتَّى في إيجاد تسويةٍ أو وساطةٍ مؤقتةٍ لخلاف تلك العائلة الصغيرة المُحتَقَنة بالهمِّ والحزن، وبالتالي لقي رداً قاسياً منها:

"وَيَبدو أنَّ الزَوجةَ لَمْ تَدعْ تَدخلِي فِي إِخمادِ الفِتنةِ بَينهُمَا يَذهبُ مَعَ الرِّيحِ، فَتدخَّلتْ مُحاولِةً لَجمِي وَإسكاتِي حِينَ قَالتْ بِغضبٍ وَتوترٍ وَمِزاجٍ مُضطربٍ: وَفِّرْ كَلامَكَ لِنفسكَ، لَمْ نَطلبْ مِنكَ النُّصحَ والإرشادَ وَالتَّدخُلَ! لَمْ أَردُّ عَليهَا وَسَكتُّ أنظرُ إِلَى الطَّريقِ النَابضِ بِالجمالِ وَالدَّهشةِ، وَلَا أُريدُ أنْ أخرجَ مِنَ الحُلمِ الَّذي غَرقتُ فِيهِ. لَكنْ حَسنٌ وَبَّخَهَا وَطلبَ مِنهَا الاِعتذارَ لِي، لَمْ تَعتذرْ فَظلَّتْ تَضمرُ لِي بُغضاً كَمَا خَمَّنتُ. عَذرتُها لأنَّها لَمْ تَحفلْ وَتعِشْ اللَّحظةَ التَّاريخيةَ وَهيَ تَمرُّ فِي بَلدةِ مَوزارتَ. رُبَّما أَنَّهَا بِبساطةٍ لَمْ تَسمعْ بِهِ إطلاقَاً فَلَا طَائلَ لِلكلامِ مَعهَا..." (ضِحكةُ مُوزارتَ، ص 131) .

وعلى الرغم من اقتراب هجرة فؤاد القسريَّة من منتهاها الأخير بصحبة عائلة حسن رفيق دربه الشفيف في السفر، بيدَ أنَّ فؤاداً لم يتخلَّصْ من  شبح علوان المُفزع  ومن صورته البشعة المؤذية التي يستحضرها في أحلامه وكوابيسه وسيطرتها على  فكره وخواطره. وهذه يدلِّلُ بوضوحٍ على أنَّ فؤاداً لم يكن مرتاحاً من المدعو علوان ومن فعل سلوكياته المُضمرة والظاهرة بالقضاء عليه:

" هَدأتُهُ وَلَمْ أُبالِ بِمَا قَالت وَأخبرتُهُ إِنَّنا الآنَ دَخلنَا فِي الأراضِي الألمانيةِ وَمَا عَليكُم سِوَى الصَّبرِ وَالرَّاحةِ وَرُبَّما لَا أَراكُم مَرَّةً أُخرَى،كَانتْ تَجربةً شَيِّقَةً لَمْ أحسبْ حِسابَهَا وَبِرغم ِالجُهدِ الَّذِي بَذلتُهَ فإنَّ الكوابيسَ لَمْ تَأتنِي، ويُمكنُ لِأَنَّني لَمْ أنمْ كِفايةً. بَاغتنِي حَسنٌ:كوابيسٌ!- نَعمٌ كَوابيسٌ ذَلِكُم المَدعوعلوانُ الَّذي لَمْ تُفارقنِي صُورتُهُ وهَيْأَتُهُ القبيحةُ فِي حِلَّي وَتِرحَالي؟"(ضِحكةُ مُوزارتَ، ص 137).

ومن المفارقات اللَّطيفة التي يُوثِّق فيها فؤاد ويؤرخن زمكانياً لأنظمة تلك الدول والأمكنة، وحرص أفرادها على تطبيق القانون والالتزام به من خلال مرور سيارتهم بنقطة تفتيشٍ على الحدود الألمانية لم تكن في فكر الحسبان. والَّتي غاب عنها عنصر الشرطة لِلحظاتٍ طارئةٍ وتركها لأمر مفاجئ وسيعود بعدها لمكانه المخصَّص له.

ولكونهم مُهاجرينَ غيرَ نظاميينَ، فقد استغلَ فؤاد وحسن عدم تواجد الشُّرطي في النقطة وطلب لحظتها من المُهرِّب الشاب سائق سيارتهم التكسي التي تَقلُّهم لألمانيا انتهاز الفرصة والإفلات منها بتجاوزها طالما الشُّرطي لم يكن حاضراً فيها،غير أن المُهرِّبَ برغم كونه مخالفاً رَفضَ الاستجابة لطلبهما؛لكونه مُتقيِّداً بلائحة النظام والقانون؛لكنَّه خضع لهم أمام سلطة المال وتجاوز النقطة حالاً:

"أَشرنَا لِلسائقِ بِالتقدُّمِ وَالخروجِ مِنَ النُّقطةِ. رَفضَ خَائفَاً وَتَعجَّبَتُ مِنْ مُهرِّبٍ يَخافُ مِنْ نُقطةٍ خَاليةٍ مِنَ الشُّرطةِ.  فَأخرَجنَا لَهُ وَرقتينِ مِنْ فِئةِ مَائةِ  يُورو هَزَّ رَأسَهُ مُوافقَاً  وَانطلقَ  مُسرِعَاً. يَا لَهُ مِنْ مُهرِّبٍ يَتقيَّدُ بِالقوانينِ! تَنفستُ الصُّعداءَ وَشَكرتُ مُهرِّبِنَا الَّذِي لَمْ يَفهمْ مَا بَدَرَ مِنِّي..." (ضِحكةُ مُوزارتَ، ص 143، 134).

وعقب انتهاء رحلة فؤاد إلى ألمانيا ووصوله إلى مختبر(المستفبل القريب) للدكتور يوهان هولمر الذي يبحث فيه عن ضالته الأخيرة، راح فؤاد يُبرِّر تَعبه وتعرضه الشديد لكثير من المخاطر الجمَّة والأهوال الصعبة في البحث عن السراب مآله الذي ينقذه ويُنجيه ويُحدِّد مُستقبله الحياتي مَعَ مُبغضهِ المدعو علوان الوقح، لا لغرضٍ ترويحي ذاتي أخرَ مثل بقية الناس المُهاجرين الذين ينشدون الحياة الحُرَّة الكريمة  والعيش الرغيد، بل كان هدفه الأول والأخير هو كيفية القضاء على  وجود علوان في مدينته الجنوبية، والِّتي حرمه من العيش فيها بأمان  دائم بدلاً من التهديد:

"هَذَا الوَغدُ الَّذي أُسلوبُهُ مَعِي عَلَى رُكوبِ الأهوالِ والمَخاطرِ في أَرضِ اللهِ الوَاسعةَ. بَعدَ عَشرِ  دَقائقَ حَضرتِ المَرأةُ وَأشارتْ لِي بِالدخولِ إلَى غُرفةِ الدُّكتورِ أو مُختبرهِ بِصراحةٍ لَمْ أَرتحْ لِهذهِ الحَركةِ، وَهَلْ أنَّ كُلَّ مَنْ يَأتي  لِلدُّكتورِ يَدخلُ مَشغلَهُ؟" (ضِحكةُ مُوزارتَ، ص 147).

هذا الموقف الذي واجهه فؤاد كان سبباً من أسباب فشل مهمته في ألمانيا، والذي ستعقبه إحباطات ونكوصاتٌ  كثيرةٌ أخرى غير متوقِّعة في التفاوض من أجل الحصول على ضالة هدفه الأساس:

"لَقدْ تَحمَّلتُ كُلَّ تِلكَ الطُّرقِ المُوحشةِ وَغَيرِ قَانونيةٍ فِي السَّيرِ لِساعاتٍ كَي أَقابلَكَ. قَرأتُ أَنَّكَ تَقومُ بِتصنيعِ قُبعةِ الإخفاءِ وَهوَ الاِختراعُ الأولُ فِي العَالمِ!" (ضِحكةُ مُوزارتَ، ص 148).

هذا الكلام الإقراري لفؤاد موجَّهاً مباشرةً للدكتور يوهان هولمر، ولتقرأ كمية الامتعاض والنفور منه وعدم الارتياح لما لاقاه منه. في الوقت الذي كان هدف فؤاد من رحلته المضنية واضحاً في الحصول على سلاح تقنية قبعة الإخفاء السحريَّة التي يمتلكها صاحب الاختراع الأول الدكتور يوهان هولمر، ليس لفؤاد في الواقع هدف شرير آخر يبغي من الحصول على فائدة مادية أو إبداع:

"عَاهدتُ نَفسِي أنْ لَا تُستخدَمَ فِي غَيرِ مَحلِّهَا وَلَا أُريدُ إيذاءَ النَّاسَ، وَلَا اَستخدمُهَا فِي إهانتِهُم أوْ  سَرقتَهُم أوْ أبغِي النَفعَ المَادِي مِنْ وَرائِها. (ضِحكةُ مُوزارتَ، ص 150). هكذا دار فحوى الحوار بين فؤاد والدكتور هولمر . ومع كل  ذلك تعرَّض الحوار بينهما إلى انتكاسات عدةٍ وفشل ذريع في كلِّ مرَّةٍ يصلان لنقطة اتفاق ما بينهما، وكان النكوص والتلاشي ضالتهما الأخيرة دون حصول اتّفاق تامٍّ:

" لَقدْ خُدِعْتُ وَتَحمَّلتُ السَّفرَ المُذلَّ، وَفَشلتُ فِي نَيلِ مَطلبي الَّذِي صَارعتُ القَدرَ حَتَّى أَحصلُ عَليهِ. مَدَّ الدُّكتورُ يَدَهُ لِيسحبَهَا مِنِّي بِقوّةٍ وَقَدْ تَجَهَّمَ وَجهُهُ وَبَانَ عَلَى قَسماتِهِ الاِضطرابُ والاِنزعاجُ." (ضِحكةُ مُوزارتَ، ص 154).

هكذا يسير مؤشِّر المفاوضات الجارية وتنحرف بوصلتها عن الاتجاه الصحيح بين فؤاد والدكتور هولمر بخطواتِ فشلٍ مُتعثرةٍ.فكُلَّما وصلت إلى نقطة اتفاقٍ مُهمةٍ ظهرت الخلافات وبانت شُقَّةُ  الخلاف بينهما في إبرام العقد بسبب حساسية المنتج الجديد على الرغم من أنَّ فؤاداً يّعدُّ هذا الاتفاق الذي سار من أجله حلمَ الأحلامِ منذ نشوء الخلق، وسيخلِّدهُ التاريخ، وسيقول لكلكامش العراقي أنَّك لم تحصل على الخلود، بل أنا الذي  حصلت عليه في هذه التماهي  التاريخي الأُسطوري الذي  يرمز  إليه فؤاد في إفشال مُهمَّة كلجامش في البحث عن عشبة الخلود الأبدية لأنكيدو بطل ملحمته:

"قُلتُ فِي نِفسِي: أَيعرفُ هَذَا الدُّكتورُ جِلجامِشَ؟ هَلْ سَمِعَ بِهِ  مَثَلاً؟ أَعتقدُ أنَّ مَلحمتَهُ قَدْ قَرَأَهَا كُلَّ العَالمِ بِكُلٍّ اللُّغاتِ، إنَّها المَلحمةُ الِّتي أَخبرتَنَا بَأنَّ الأفعَى قَدْ قَضمتْ عُشبَةَ الخَلودِ وَحَرمتُ جِلجامَشَ مِنهَا يَا لِسوءِ الأقدَارِ!" (ضِحكةُ مُوزارتَ، ص 156).

هكذا يُفكِّر الراوي العليم بإدارة فكرة الحوار الحكائي في أسلوبه الأسطوري التاريخي؛ لإدامة  حركة الرواية وإسناد عناصر فاعليتها السَّرديَّة بمثل هذا البناء  التناصِّي  مع أساطير الشعوب.

وليس كُلُّ هذا ما يدور في فكر إبراهيم من أساليبَ سرديةٍ تُغذِّي فكر المتلقِّي بالنافع الجميل  والمًفيد من فنون العالم وآدابها السامية لإدامة  الزخم  الفكري  للقارئ خلال آليات التلقِّي المعرفي  السردي. وهذا يقودنا للحديث عن عتبة عنوان الفيلم العربي(طاقيةُ الإخفاءِ) لبطله المُثِّل العربيِّ المصري عبد المنعم إبراهيم؛ لكونِ محتوى الرواية له عَلاقة فنيَّة وموضوعيَّة بعنوان الفيلم وأحداثه الشائقة  لتحويلِ فيوضات حُلمهِ إلى حقيقةٍ مدهشةٍ على فضاء الواقع الإنساني الحدثي:

"إذنْ فَأنَا حُرٌّ طَليقٌ بَعدَ إجراءِ التَّجربةِ لَأرتديهَا وَأخرُجُ مِنْ هُنَا قَافِلَاً إلَى بِلادِي؛ لَأُنفِذَ مَا وَعدْتُ  نَفسِي بِهِ تُجاهَ عَلوانَ وَقَريبِهِ المَسؤولِ. ثُمَّ أعيدُهَا لِصاحبِهَا بَعدَ أنْ أُحَوِّلَ الحُلُمَ إلَى حَقيقةٍ وَلَيسَ خُدعةُ سِينمائيَّةً كًمًا فِي الفِيلمِ الَّذي مَثَّلَهُ عَبدُ المُنعمِ إبراهيمَ، وَلَا خُرافةٌ كَمَا يُشاعُ عَنهَا، وَلَا خَزعبلاتٌ. سَأثبتُ أنَّهَا أصبحتْ وَاقعَاً ملموسَاً أَمسكُ بِهِ..." (ضِحكةُ مُوزارتَ، ص 156، 157).

لقدْ فَشلَا نتيجةً لفقدانِ الثقة بينهما واتِّساع هوَّة الخلاف في من يكون من الطرفين صادقاً بوعده وفيَّاً بالتزامه إثر إتمام التجربة من قبل فؤاد والاطمئنان عليها في مدى صلاحيتها المستقبلية الناجزة:

"إنَّهُ أمرٌ صَعبٌ. ظَلَّ الرَّجلٌ يَلحُّ كَثيرَاً بِأنْ أَسرعَ فِي إجراءِ التَّجربةِ، وَأنَا غَارقٌ فِي تَفكيرِي لإيجادِ وَسيلةٍ تَقنعهُ بِأخذِهَا مَعِي[أي طَاقيةُ الإخفاءِ]. الرَّجلُ العَجوزُ مُستميتٌ بِانتظارِ نَجاحِ تَجربتهِ الَّتي أفنَى كُلَّ عِمرِهِ فِي صُنعِهَا كَمَا يَدَّعِي. كَانتْ أفكارِي تَنثالُ عَلَيَّ وَلَا أستفيدُ مِنهَا؛ لأنَّها لَا تَجعلهُ يَقبلُ بِإعطائِي القُبعةِ ذَاهبَاً بِهَا إلَى بِلادِي." (ضِحكةُ مُوزارتَ، ص 160، 161).

وعلى وفق ذلك الاتفاق المُتعثِّر بالفشل لما جَرى ويحدثُ من مفاوضاتٍ وئيدةٍ صارمةٍ، وصلت فيها  الأمور بينهما إلى آخر مَحطَّةٍ من محطَّات التعقيد والفشل الموجع التي لقيها فؤاد في سلسة مفاوضاته الساخنة مع دكتور هولمر، والتي انتهت بالفشل المرير دون الوصول إلى اتفاق نهائي.

وقد حدث ذلك الفشل وبانت مواجعه التَّأزُّميَّةُ الخاسرة لحركة البطل السوداوية من خلال حلِّ حبكة الصراع الدائر بين الخير والشرِّ، والتي انتهى إليها الكاتب إبراهيم سبتي في خواتيم روايته حينما تلقَّى البطل فؤاد في معرض اتِّصاله الهاتفي الذي أجراه مع أهله وأسرته بالذات خبراً صاعقاُ مَفاده مقتل غريمه وعدوه أسّ الحكاية في العراق المدعو علوان؛ وذلك من خلال ظروفٍ غامضةٍ كان صداها المدويُّ على نفسه أشبه بالنصر البعيد الذي تحقَّق له بعد أنْ فشل في جميع مباحثاته وخاصةً الأخيرة مع الدكتور هولمر، الأمر الذي سبب له الإغماء نتيجة وقع أثر الصدمة:

"وَلكنَّنِي وَاصلتُ اِتِّصالِي بِعائلتِي فَانسابَ صَوتُ زَوجتِي لِتطمئنَ عليَّ. تَكلَّمتُ مَعهَا بِكُلِّ جَوارحِي  وَاشتياقِي إلَى بَيتِي وَسمعتُ صَوتَ اِبنِي؛لَكنْ صَوتُ زَوجتِي عَادَعَاليَاً:-اسمع.. رَاحَ صَوتُها يَتقطَّعُ ..عَلوانُ.. مَا لَهُ عَلوانُ؟ -قُتِلَ .. مَاذا.. قُتِ..لَ .. قَتلوهُ.. كَيفَ؟ مَنْ قَتلَهُ؟ اِنقطعَ الاتِّصالُ لِنفادِ العُملةِ المَعدنيةِ. شَعرتُ بِالإغماءِ  وَالرعشَةِ تَسرِي فِي عُروقِي..." (ضِحكةُ مُوزارتَ، ص 169).

وبعد سماعه لنبأ مقتل علوان سببُ وجعه وضياعه وتشتُّته وَتِيهِهِ وتَغَرُّبه في بلاد الهجرة، ومروره  بحالةٍ من الذهول والارتعاش والصدمة غير المتوقَّعة لِمَا تَلقاه مِن خبرِ مَقتله الصادم، استعادَ فؤاد وعيه بالكامل جرَّاء المكالمة، وتنفس الصُّعداءَ، وشعر بأنه  لم يعد هناك حاجة لطاقية الإخفاء التي جنَّد نفسه لها وراح يبحث عنها في مسرى رحلته السرابية المُوجعة التي كلفته مَالاً وجهداً كبيراً:

"إنَّهُ لِكلامٌ كَبيرٌ وخَطيرٌ. اِرتحتُ كَثيرَاً وَانتَعشتُ وَزادنِي الخَبرُ الصَّاعقُ بِالثقةِ الَمفقودَةِ مُنذُ زَمنٍ. وَشَعرتُ بِنشوةِ الفَوزِ فِي المَعركةِ وَلَمْ أعُدْ أحتاجُ إلَى القُبعةِ وَلَا حَتَّى البَقاءِ هُنَا. لَمْ تَسمحْ لِي دَقائقُ الاتِّصالِ، بِإخبارِ زَوجتِي أنَّ الجَامعةَ التُّركيةَ سَتردُّ عَلَيَّ بَعدَ أُسبوعٍ حَولَ قُبولِ طَلبِي أوْ رَفضَهُ. مَعَ أنَّي لَمْ أُقَدِّمْ لِأَيةِ جَامعةٍ وَلَكنَهُ العُذرُ الَّذي سَافرتُ بِهِ." (ضِحكةُ مُوزارتَ، ص 169، 170).

وأخيراً أيقن فؤاد كلَّ الإيقانِ بأنَّ مُهمته التاريخية ومعضلته العسيرة الكبرى بالحصول على شبح قبعة الإخفاء المُنقذ من هواجس علوان وتربصاته العدائيَّة، انتفى شرط الحصول عليها، وما عاد لها أثر مُهمٌّ في تاريخ سجِّل نفسه المُتأزِّمة بِعُقدة علوان إثرَ هذه النهاية التي توفِّر له الأمن والسلم والاستقرار والعيش بحريَّةٍ كرامةٍ دونَ عدوٍ يتربَّص به كلَّ يومٍ من أيام حياته المتجدِّدة:

"فَكَّرتُ بِالأمرِ وَاِنتابنِي الفَزعُ بَأنَّ مُهمتِي قَدْ فَشلتْ وَدَخلتْ نَفقَاً مَسدودَاً خَاليَاً مِنِ بَصيصِ الضَوء.الُّدكتورُ العَجوزُ لَا يَستسلمْ بِسهولةٍ. هَكذَا هُمُ الألمانُ،التَّاريخُ أخبرنَا بِعنَادِهم  وَمُفاجآتِهُم، الحَربانِ العَالميتانِ أَحسنُ دَليلٍ عَلَى أنَّهم قَومُ لَا يُهادنونَ ولَا يَرتَضونَ التَّنازل..." (ضِحكةُ مُوزارتُ، ص 170) .

في الوقت الذي يَقرُّ فيه فؤاد إقراراً تامَّاً بوقع فشله وهزيمته المتكرَّرة في الاتفاق مع الدكتور العجوز هولمر، يََنقل لنا  الكاتب على لسان حال بطله المنكسر فؤاد حقيقةً  تاريخيةً عن مواقف الألمان وثباتهم الصعب إبَّان الحرب وعدم، قبولهم بالهزيمة، وكأنَّه يقول هذا هو خطر قائدهم العظيم (هتلر) الذي غزا العالم تَلقَّى الموت ولم ينهزم أو يقبل بالهزيمة والتراجع عن موقفه التاريخي الحربي في المعارك التي خاضها في الحربين العالمتين. إنًّهم هكذا الألمان أصحاب مواقف شاخصةٍ ليست من السهل النيل من قلاع  حصونهم المتينة، وكسر شوكتهم الحربية عالمياً.

وحسن التخلُّص الموضوعي يشير إلى أنَّ فؤاداً قد عاد مُقيداً بسلاسل الهجرة وتعليماتها الصارمة إلى وطنه بعدَ أنْ تمَّ نقله إلى تركيا عن طريق مركز إيواء العائدين إلى بلادهم  قسراً. وبعد تلك العودة السريعة والمفاجئة غير المخطَّط لها في قصَّة هجرة البطل الهارب من شرر العدو، أعلن  فؤاد عن وقع فرحة انتصاره على نقيضه الشرير علوان، وهو ينتظر بشغفٍ لحظات  نقله  إلى الأراضي  التركية  بعد منع من دخول أراضيهم  ثانيةً  خلال التفكير  بذلك مَرَّةً أخرى.

تَجلِّياتُ الخِطابِ السِّرديِّ

لقد أثبتت كلُّ مشاهد هذه الرواية بأنَّ فؤاداً هوَ رجل ُالرواية الأول وبطلها الافتراضي المهزوز،  وعلى الرغم من ثقافته المعرفية الشخصية المكتسبة فأنَّه شخصيةٌ اجتماعيةٌ مازوشيةٌ طيِّعةٌ لتلقي  سلطة القمع والاستبداد النفسي والتلذُّذ بالفشل الذريع، وهذه الشخصية المتفرِّدة تجدُ في وجع هذه النكوصات الارتكاسية المأزومة ميلاً شديداً في تنميتها وتثميرها لتتعايش بتوحدنٍ تامٍ مع معطيات الحدث.

وهي على الرغم من أنَّها تسعى دوماً إلى التحرُّر والاستقلاليَّة عن كلِّ عناصر الشرِّ التي مارسها الآخرونَ ضدها مثل علوان وغيره من فئات المجتمع ذي الصلة المتنفذة والجاه الكبير في سير العلاقة بين الحاكم والمحكوم،أي(أكونُ أو لا أكونُ).فقد تمكَّنت هذه الشخصية السلبية في نهاية  الأمر مُصادفةً لا بإرادتها من التحرُّر الوجودي من قيدها الآسر وقامت حياتها على رماد غيرها.

تعدُّ رواية(ضحكةُ موزارتَ) لمُدَوِّنَها الكاتب الألمعي إبراهيم سبتي رحلةً استكشافية شاقةً الأثر في أدبيات حداثة الميتا سرد الروائي الفنتازي للبحث عن عوالم الذات الأنويَّة الإنسانية الموَّارة. ومحاولة استنطاق مكنوناتها النفسيَّة غير القارَّة، والقابعة في تواترها الفعلي الحدثي المُتراتب عبرَ تجلِّيات القمع ومَجسَّات الألم ومشاهد التِّيهِ ومخرجات الضياع الرُّوحي والاجتماعي بشتى تمثُّلاتها ومظاهرها الديستوبية للوصول إلى ضفاف الحقيقة المغيّبة عبرأثيرأنساقها الثقافية القريبة والبعيدة.

إنَّ ثنائية العوامل المحيطية الخارجية لبنية فاعلية السرد الحكائي لهذه الرواية، والمُتمثلة بالبيئة الزمكانية ورؤية المؤلِّف وموقفه المُحايد في توزيع مشاهد الواقعة على جسد الرواية ومُتغيِّرات العصرنة وإسقاطاتها. مُضافاً لها العوامل الداخلية التي تهتمُّ بالدرجة الأولى ببنية النصِّ السردي وتماسك لغته ومنهجيته النقدية، لقد لعبتا دوراً مُهمَّاً في رسم هندسة الخطاب السردي وإخراجه إلى المتلقِّي بهذه الصورة الفنيَّة، ودعوته إلى الاقتراب منه والولوج في فضاءاته السحريَّة والواقعية والسياحة في عوالمه المعرفية الإبستمولوجية والوجودية الأنطلوجية والأكسيولوجية القيمية الثلاثة.

لقد حاول الكاتب سبتي في اللَّحظات الأخيرة من خواتيم هاوية السقوط الذاتي في بئر مستنقع الفشل المرير، أنْ ينقذ بطله (فؤاد)، ويجعله شمساً متجدِّدةً الإشراق على الآخرين بعد أنْ كان يظنُّ كلَّ الظن أنَّه يعيش على هامش الحياة القاتلة التي لا وجود لها أمام براثن الشرِّ التي تتصيَّدُ حياته.

تستمد رواية(ضحكة موزارت) قوتها الموضوعية وثيمتها الفكرية من رمزية شخصيتها الارتكاسية المرتدة عبر أحداث الرواية الزمكانية، والتي تستدعيها وتوظف فكرتها في ثنايا متنها الحكائي، وهي شخصية(فؤاد) التي لا يعرف عنها الآخرون سِرَّاً إلَّا القليل القليل من النزر اليسير. فجاءت ثيمة هذه الرواية لتعيدَ ترميمَ بناء شخصيتها القلقة المأزومة والمحتشدة بطاقةٍ كبيرةٍ من الخيبات والانكسارات الروحية والنفسية المتلاحقة، والتي أخذت من موزارت ضحكته الإشراقية.

تتميِّز هذه الرواية بخاصيةٍ فنيَّةٍ متوحدةِ وبمرونة إجناسية سرديَّة متعدِّدةٍ مرنةِ تتسع لشتى فنون السرد من رواية واسعة المساحة وقصة طويلة وأدب رحلاتٍ وسيرةٍ ذاتيةٍ أدبيةٍ ونفسيةٍ واقعيةٍ وخياليةٍ متواشجةٍ. وتسعى بتجردٍ جاهدةً للقيام بدور توثيقي بشكل مباشر أو غير مباشر لحياة كثير من المهاجرين العراقيين والعرب ممن تقطَّعت بهم سُبل حرية العيش والنجاة في واقع بلدانهم المضطهدة. وأعطت صورة واضحة عن واقعية ذلك العالم الغربي الذي تسعى إليه هذه النفوس.

لقد تَمكَّن الرائي الكاتب إبراهيم سبتي من خلال قُدرته التعبيرية والفنيَّة الإدهاشية على الإقامة الطوعية داخل أقانيم جسد الجنس الأدبي السردي الروائي والمكوث به معايشة لاِكتمال الأحداث لحين انتهاء مهمَّة البطل القناعية الفاصلة بين عنصري الخير والشرِّ.

وحرصَ المؤلِّف بعنايةٍ واجتهاد كبيرٍ على تأصيله وتأثيثه موضوعيَّاً، وثابر بتؤدةٍ فكريةٍ على تكثيف مشاهد الخطاب النصِّي الدراميَّة السوداويَّة وإبراز وقائع صوره التراجيدية التشاؤمية معنوياً ودلاليَّاً. وكان هدفه الأول في إنتاج هذا العمل التخليقي السردي الشائق هو إبراز السمات الفنيَّة والجماليَّة والإنسانية الفاضلة. واستطاع من خلال المعادل الموضوعي ضحكة موزارت التاريخية والفنيَّة أنْ يصنع لشخصية بطله ضِحكةً كوميديةً فارقةً تخلِّد اسمه البطولي وترفع من قيمة رسمه الانطلوجي الوجودي كبطلٍ قائم بذاته الإنسانية عاش أحداث الرواية الإيجابية والسلبية.

***

د. جبَّار ماجد البَهادليّ / نَاقدٌ وكاتبٌ عراقيُّ

 

المكان وشخصياته في (عن الشط وأهله) لمعن غالب سباح

تُعد النصوص الشعرية التي ترتبط بالمكان وشخصياته، انعكاسا للهوية الثقافية والسياقات الاجتماعية التي تنبثق منها، ولا يُقدَّم المكان في هذه النصوص بوصفه مجرد إطار مكاني، أو خلفية للأحداث، بل يتحول إلى كيان مشبع بالرموز الثقافية والتاريخية التي تُساهم في تشكيل هوية الشخصيات التي تتفاعل معه، إذ يُنظر إليه كتمثيل للخصوصية الثقافية.

ففي النصوص الشعرية المرتبطة بالمكان، يتم إضفاء طابع رمزي على الشخصيات التي تنبثق منه، لتصبح بمثابة تمثيل رمزي للهوية الجمعية، وحاملة للتراث الثقافي والتاريخي، ويُصبح المكان جزءاً لا يتجزأ من تكوين الشخصية داخل النص الشعري، حيث يعبر عن انتمائها الثقافي وعن تجربتها الفردية التي تعكس بدورها البنية الاجتماعية للمكان ذاته، إنَّ هذا التفاعل بين الشخصية والمكان يفتح النص الشعري على أبعاد ثقافية عميقة، ويخلق صلات متشابكة بين الذات الفردية والهوية الجمعية.

ومن تلك النصوص ما قدمه الشاعر معن غالب سباح في مجموعته الشعرية (عن الشط وأهله- نصوص عن الشامية العظيمة وأهلها الشرفاء) الصادرة عن الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق عام 2021، إذ يمكن النظر اليها من زاوية كيفية تقديمها لشخصيات معروفة داخل المدينة، وهي مدينة الشامية في محافظة الديوانية العراقية، باعتبارها رموزاً ثقافية تمثل قيماً اجتماعية محددة، حيث اطلقت الدكتورة ناهضة ستار على هذا النوع من النصوص في تقديمها للمجموعة بـ (النصية الإنسامكانية) (عن الشط وأهله: 10) حيث يعكس هذا التناول كيف يعمل الشاعر على تحويل الشخصيات إلى مرآة تعكس هوية المكان، مستفيداً من التقاليد والقيم المحلية التي يحملها كل فرد، كذلك، تصبح المدينة نفسها عنصراً فاعلاً في تشكيل الشخصيات، إذ تتخذ أبعادها الثقافية والتاريخية دوراً مركزياً في توجيه الأحداث وتكوين العلاقات، ففي نص يحمل عنوان (الأب "عليه السلام" السيد صاحب الشرع والد الشامية) يقول الشاعر:

ياااااا أبا الشهداء

جعفرُ ومحمدُ وتوفيق

شاميتُكَ

أجملُ ما فيها

أنّها إلى الآن

تَصدُقُ حينما

يُقسِمُ أبناؤها بك

وحنّاءُ امهاتهِا

وهنَّ يطبعْنَ الزغاريدَ

في ديوانِكَ نذوراً

لطلبٍ مقبول

تحبُّكَ

حدَّ انغماسِ الروحِ

وذوبانِ النفسِ

في طريقِ

الربِّ الرحيم

بالنسبة للقارئ من أبناء المدينة المطلع على تفاصيل المكان وشخصياته، تكون هذه الدلالات واضحة ومباشرة، حيث تتطابق معرفته الشخصية بالمكان والشخصيات مع ما يقدمه النص، أما القارئ الخارجي، الذي لا يمتلك الخلفية الثقافية عن المدينة وشخصياتها، يجد نفسه أمام تحدٍ في فهم الرموز والتأويلات الثقافية، لذا يستند التأويل إلى مدى معرفة القارئ بالتفاصيل الثقافية والاجتماعية التي تُثري النص، مما يخلق تبايناً في تلقي النصوص وتفسير دلالاتها بحسب الخلفيات الثقافية المختلفة للقراء، وفي نص أخر (حنوف –عطر الشامية الأصيل/ أبو عايد جايك واصل)، يقول:

النقاءُ سجيّة

والأيّامُ

شواهدُ المدّعين

الكرمُ

بقَدَرِ ما تستطيع

لا بما تَملك

حنوفُ

يا شرفَ الفقرِ

وساحاتِ البذلِ النبيل …

يا لطولك الشاهق

رغم القصر

وأنتَ وجهٌ لعملةٍ أخرى

هي أخوكَ التوأمُ إدريس

تحبانِ البراءةَ

و تمنحان ابتسامةً

تفتقتْ من قلبِ نخلةٍ

عاشقة

تُظهر مجموعة "عن الشط وأهله" للشاعر معن غالب سباح بوضوح أن النصوص الشعرية المرتبطة بالمكان ليست مجرد تعبير عن إحساس جغرافي، بل تتجاوز ذلك لتصبح تمثيلات ثقافية تعكس عمق الهوية الجماعية والفردية في تفاعلها مع السياقات الاجتماعية والتاريخية، فالتحول الرمزي للشخصيات والمكان في هذه النصوص يفتح آفاقاً جديدة لفهم كيفية توظيف الشعر في صياغة الهويات الثقافية، حيث تتشابك الدلالات بين الماضي والحاضر، الفرد والجماعة، مما يخلق بنية ثقافية تتجاوز حدود الزمان والمكان، من هنا، يمكن القول إنَّ هذه النصوص تُساهم في إثراء دراسات النقد الثقافي، بفضل قدرتها على تقديم رؤى متعددة الأبعاد تعكس والتحولات التي يشهدها الواقع الاجتماعي والهوية الثقافية في آن واحد.

***

أمجد نجم الزيدي

 

قد يجوز لنا اعتبار رواية "خط النار ممتد" من نوع السرد الروائي الإطاري كونها تتضمن عناصر هذا النوع من القص، ولأنها تعتمد في بنيتها على عدة حكايات، يصعب تفضيل واحدة على الأخرى كما سيتبيّن لنا لاحقاً.

ورغم أن عنوانها يوحي عن انتمائها إلى أدب الحرب، لكنه يؤكد أيضًا أنها لم تنته، بل لا تزال ممستمرةً، فخط النار هذا ليس ممتد فحسب، بل متوغل في العمقين المكاني والزماني وكل زمكان العمل. الزمكان هنا خير تجسيد لمجمل العلاقات الزمانية والمكانية السردية.

وكأغلب روايات الحروب، تناول هذا العمل الأدبي أيضاً موتيفَ الحب لتدور حوله شخصيات مثل عبد المنصف ومجاهد وزينات أثناء الحياة الجامعية، وقد انتهت أعوام الدراسة بحلوها ومرها لتبدأ بعد ذلك أنواع أخرى من المعاناة.

والرواية بدءًا من مطالعها المتناثرة تعرض على المتلقي عدة شخصيات متباينة، مثل المجندين من أجل تحرير الوطن، وآخرين غير مبالين: "إحدى الطالبات مددت للشمس ساقين عاريتين" "قال للشاب الذي تتدلى من عنقه سلسلة ذهبية، ويصل شعر رأسه إلى كتفيه". (ص5)

"كان الحوذي ممددًا ساقيه النحيلتين، الخاليتين من الشعر في الشمس، بينما رأسه في ظل حائط"، و"استلقى بعيدًا يلوك رغيفًا لواه على بضع طعميات باردة وأعواد فجل غير مغسولة وهو مغمض العينين في استرخاء وبلادة وعته". (ص11)

نلاحظ هنا أن المَشاهد تنتقل إلى قرية "القاضي" التي أعتبرُها كناقد أدبي تجسيداً لمفهوم "الأليجوريا"، لكن بدون تخطيط الكاتب لها أو عن قصد منه!  وربما أراد الكاتب أن يجعل منها رمزًا للوطن كله الذي يعاني من التخلف. يقول الروائي: "لكنها (القرية) ملبدة بالخرافات والجهل وسخافات اللا منطق".

ولهذا بالضبط اعتبرتُها شخصياً "أليجوريةً" أكثر من كونها رمزاً عاديّاً، لأنها تأخذ حيزاً أكبر في السرد ووصف الناس بطريقة توحي بأنه يركّزُ على فكرة الأليجوريا الشمولية النمطية (الرمزية المجازية). نقرأ في الرواية وصفاً عاماً لأبطاله، كبشر غريبي الأطوار، ومنازلهم كأنه يصنّفهم جميعاً كمجموعة بشرية تمثّل صنفاً معيناً: "وأهل القرية يوقنون أن أبطالهم دجالون"(ص17) "البيوت القديمة هذه لها رائحة الزمن المتخمر يتعرف عليه من يعود إليها بعد غيبة". (ص22)

وبمناسبة الحديث عن مكبر الصوت الذي تبرع أحدهم به للمسجد نقرأ: "وهل يوجد صوت أحلى من الذي يخرج من القلب، إنه أحلى ألف مرة من الأصوات التي تثقب الأذن". (ص22)، "هل أنت متحجرة يا قريتنا، راضية بتحجرك؟ أم تنتظرين من يرفع الغطاء عن عينيك ويرفع وجهك إلى السماء لتحط على تقاطيعه طيور الشمس؟ (ص35)

وهنا يتتبع الكاتب مسيرة الوقوع في شرك الخزعبلات، وقبل ذلك- وبعد ذلك أيضا- يطلعنا على الظلم المتفشي في المجتمع مثلما نقرأ تحت عنوان "مفاتيح على صينية شاي" (ص25) و"لقيط جنب السور" (ص37) و"منافسة غير شريفة" (ص50) و"ألاعيب رأفت القاتم" (ص30)

يعرض الكاتب في هذه الرواية على المتلقي شخصياتٍ موهمًا إياه أنها كلها حقيقية؛ حيث يذكر الأسماء كاملة، والعمل الذي كان يقوم به المجند قبل تجنيده، والشهادات المدنية الحاصل عليها، وتاريخها، بل إنه أحيانا يكاد يوثقها حيث يذكر أرقامًا وتواريخَ محددةً تجعلك تثق بأن هذا الحدث او ذاك قد حصل فعلا وليس له شيء من الخيال. وأنا لا أكاد أشك أن العديد من الشخصيات هي كذلك بالفعل، لكني واثق أن ثمة شخصيات عديدة في الرواية قد ابتدعها الكاتب ابتداعًا، ولا بدَ له من فعل ذلك ليجعل منها رابطًا يصل الروافد بالمنبع الذي تتدفق منه الأحداث، "كما أنه لا يعقل أن يذكر الكاتب شخصية حقيقية مسماة ثم يحكي عن جوانب النقص فيها بكل صراحة، أو يزج بها في بحار الغرام هكذا بكل جرأة دون أن يحتسب لذلك ألف حساب" على حد قوله في حوار خاص معه.

إذن فالشخصيات بعضها حقيقي تمامًا، بل يوهمك الكاتب أن كل الشخصيات الواردة في الرواية حقيقية، وهذا الأمر يجعلك تعيش الأحداث كما فعلَ أصحابُها، وكأنك تشاركهم أعمالهم وإنجازاتهم.

لا يختار الروائي هنا أبطاله أعمدة مقصودة ليشيد عليها البناء الدرامي، لكنهم قدموا من منطقة معينة، وعاشوا في أخرى كيفما اتفق؛ فهم إذن ليسوا أفضل رجالات الحرب ولا هم أبطال خارقين، إلا أنهم قاموا بأدوار عظيمة قد تتتسم بإخفاقات، لكنها حقّاً إنسانية، بدون تكلف أو ادعاء.

وفي "كلام في السياسة" نلاحظ أن الكاتب يؤكد فكرة "الأليجوريا" فنرى الجو العام يتسم بالخوف من التعبير عن الرأي مما يجعل العقم السياسي يستشري في المجتمع، وتتحجر الأفكار بحيث يخشى مدير المدرسة من إزاحة تمثال رئيس راحل في عهد رئيس حالي من أمام مكتبه رغم إعاقته الحركة، فما بالك لو كان هذا النصب للرئيس الحالي نفسه؟! إنها حالة الرعب، لدرجة أن المدير طلب من جميع العاملين بالمدرسة التوقيع على ورقة يقولون فيها إنهم دخلوا المدرسة فوجدوا التمثال ملقى على الأرض. "سأله أحدهم: وما الذي يوقع تمثالا ضخمًا كهذا يا حضرة الناظر بين عشية وضحاها؟ فكانت الإجابة: "وما أدراني؟ لقد حدث هذا ليلا. ربما قفز قط فوق كتفيه أو أي شيء...". (ص80)

هذه هي الكيفية التي اتخذ بها ناظر المدرسة قراره بإزاحة تمثال من أمام مكتبه. ربما جاء الكاتب بهذه الواقعة ليدلل على أن اتخاذ قرار حرب مصيرية هائلة كهذه كان شيئا هائلا.

لا شك أن الإرادة المصرية لم تنتصر إلا بعد تحررها من عدّة عوائق رغم تفشي الجهل في المجتمع، ويصف الروائي هذا الأمر بسخرية سوداء وتهكم.

نقرأ في الرواية كمثال على ذلك ما قام به ناظر آخر في فصل: "نقش على خصية" عندما استدعى عبد المنصف وصارحه: منذ أربعة أشهر وأنا لا أستطيع "النوم" مع زوجتي. وطلب منه الذهاب معه إلى أحد هؤلاء. وكان ما كان: "سأكتب لك بعض الكلمات على خصيتك وستدهش لسرعة تحسنك!". (ص106- 107)

هكذا تُبنى الأليجوريا، كل مجموعة بشرية أو كل شخص يمثّل سلوكه رمزاً معيناً مثل الشر أو الجبن والأمية والجهل، أو الخير والشجاعة والعلم والمعرفة، قد يقصد الكاتب من وراء ذلك أن يبرز وجه القيادة الآخر، الذي أدّى إلى نتائج ناصعة، "وأعني بذلك ما كان من الملازم ثان عبد الستار حجازي الذي ما كاد يصل إلى موقعه الجديد أيام حرب الاستنزاف، ويتعرف على الأفراد" من رسالة شخصية من الكاتب محمد السنباطي.

 نقرأ في الرواية " سأل الشاويش حسن سليمان:

"- هل اشتبكتم مع العدو يا حسن في الفترة الأخيرة؟

- لا يا أفندم..  نحن لا نريد كشف مواقعنا كي لا يرصدنا العدو ويضربنا بالطائرات..

- نحن موجودون هنا لكي نموت.. احفظ عني هذه الجملة.. وأرفض الجبن بأية صورة من الصور ...

وفي الفجر.. بعد ساعات من هذه الأمسية.. أمرت أفراد المدفعية باحتلال أماكنهم وكشف المدافع ووقفت أنا في نقطة قيادة وأصدرت أمرا بتدمير الأهداف المرصودة والتي لم تدمر من قبل..

وكانت تلك مفاجأة كاملة ...". (ص166- 167)

و.... انظر إلى الضباط وكيف كانوا يوافقون على منح إجازات للجنود الذين يقومون بعمل دراسات عليا في الجامعات وكيف كانوا يساندونهم ويشجعونهم.

كانوا يعطون القدوة والمثل.

ولم يكن ذلك يحدث من جانب الضباط الصغار فقط، بل على مستوى القادة الكبار أمثال الفريق عبد المنعم رياض، وقد عبر الكاتب عن ذلك أبلغ تعبير حيث عرض الأمر على هيئة مسرحية قام بها طلبة المدرسة التي كان يعمل بها عبد المنصف وزينات.

ثم انظر إلى أحد القادة وما يقوله عنه أحد جنوده بعد استشهاده: "جاءت طائراتنا لتتصدى. تقدمنا وليس بيننا وبين ممر مثلاً سوى مسافة بسيطة. تبادلنا القصف الشديد. وعلى مقربة نصف كيلو متر من الممر حصرنا قواتنا لنعرف عددنا بالضبط.. وإذا بقائد اللواء بروحه الطاهرة مع الشهداء..  أما جسده فمتفحم في الدبابة..

كنا ننظر لهذا الرجل وكأنه من جيل الصحابة أو من القادة الإسلاميين الأوائل.. لم يكن من الذين يرهبون الأهوال، بل كان يقتحمها وفي أيام انتظارنا للعبور كان متوترا جدا لأنه لم يعبر.. كان يتمنى أن يكون أول الفاتحين أو أول الشهداء.. لهذا كانت دبابته في المقدمة دائما..

بكيته كثيرا ...  لا يمكن أن أنساه أبدا ...

كنت قد تقدمت إليه بطلب للحصول على إجازة لمدة شهر لدخول امتحان الدراسات العليا في شهر يوليو 73 وذلك عن طريق قائد السرية وقد طلبني بالتليفون وأخبرني أنه صدق على إعطائي هذا الشهر لأنه لا يستطيع أن يقف في طريق العلم.. وشجعني..

بكيته كثيرا وترحمت عليه أكثر".

تتميز هذه الرواية بكثرة الحكايات، وقد يصعب على المتلقي تحديد أهمها، التي يبني الروائي عليها معمارها، وأنا شخصيا حاولت ذلك لكن برزت قصص أخرى فرضت نفسها على فضاء السرد، لكن ربما كان هناك حكاية "لقيط جنب السور" هي الأهم، كما ذكر لنا الكاتب نفسه. (ص37)

"عوج فمه في ابتسامة بلهاء، وهرش قفاه ثم تمتم:

- طفل مولود يا جناب العمدة يقول: واء واء

- ماذا يقول يا ولد؟

- واء واء

- أسمعت يا شيخ عبد الفتاح؟ أنا معك إنَّ غضب الله آتٍ لا محالة وأنت تتحمل جانبا من المسئولية لأنك تخطب الجمعة والناس ينعسون أمامك حتى تكاد أدمغتهم تتخبط في الأرض وهم مقرفصون على حصير المسجد. لماذا لا تشد انتباههم بغير الجعير؟ لماذا تتركهم ينعسون؟

- ولماذا لا تسهر أنت على الأمن؟ هه؟ لماذا تسكت على الدجالين؟

- الخطوط موصولة إلى بعضها يا حضرة العمدة. هل عرفتم أهل الطفل؟ حسبنا الله ونعم الوكيل".

عثر أحد الخفراء على هذا اللقيط وأبلغ العمدة بالواقعة فدار حوار بين الشيخ عبد الفتاح الطاهر وبين العمدة، هذا الحوار سينقطع أكثر من مئتين من الصفحات حتى تنتهي الحرب ويعود من يعود من الغائبين، إلأ ابن بسام البشراوي فلم يعد بعد.

يقلق عليه أبوه ولا يفلح سحره في إرجاعه، يسيطر عليه الشعور بالذنب لأن ابنه تنكر للمولود الذي يعيش الآن في ملجأ بعيد. شيئا فشيئا نعرف أن أم الطفل هي ابنة عبد المعين العربجي، يحاول بسام استرضاءهم ويعد بلم الشمل المبعثر متى عاد ابنه من الحرب سالما معافى. لقد وعدهم بذلك. (أنظر ص261)

أخيراً، نختم مقالنا هذا بمقطع من الرواية: "ولم يكد الحاج بسام يخطو بضع خطوات حتى سمع صوتا يناديه.. صوت صابر الفلاح الطيب المرح يكرر النداء وهو يسرع الخطى ليلحق به:

- عندي لك خبر بمليون جنيه

- عن إلهام؟

- عن إلهام!

لا يمكن أن تتساوى اللحظات ولا الأماكن ولا حتى الأشخاص.. في هذه اللحظة صار صابر غير ذلك الشخص الذي يعرفه أهل القرية.. بل أصبح ذا قيمة كبرى.. في إمكانه أن يأتي بالسعادة في كلمات ينطقها فإذا ببسام هو الأسعد.. رأيته؟

- وسلمت عليه!

قلبه يدق بعنف وهو يرمح ويكلم نفسه بصوت مسموع:

- أحمدك يارب.. أحمدك يار ب. لعنة الله عليك ياعبد المعين يا تمثال القذارة! أيمكن أن تصبح صهري في يوم من الأيام؟ إذن ستقوم القيامة قريبا!".

* محمد محمد السنباطي. خط النار ممتد. مركز الحضارة العربية، القاهرة، 2010

272 صفحة من القطع المتوسط.

***

الدكتور زهير ياسين شليبه

تمثل رواية "متاهة الأشباح" لبرهان شاوي إحدى الأعمال الأدبية المميزة التي تجمع بين العمق الفلسفي والغموض الأدبي. الرواية هي جزء من سلسلة "المتاهة"، التي تركت بصمة خاصة في الأدب العربي المعاصر. في "متاهة الأشباح"، نجد أنفسنا في عالم معقد مليء بالصراعات الداخلية والتشظي النفسي، حيث تعيش الشخصيات في حالة وجودية غامضة تتأرجح بين الحياة والموت، بين الماضي والحاضر، وبين الحقيقة والوهم. تعد هذه الرواية مرآة تعكس التحديات التي يواجهها الإنسان المعاصر في رحلته للبحث عن ذاته وهويته وسط ضجيج العالم الخارجي وتناقضاته. من خلال شخصيات معقدة ورمزية، يقدم شاوي تجربة سردية غنية بالمعاني التي تتناول أبعادًا نفسية وفلسفية، تتخطى الحدود التقليدية للسرد الروائي، وتفتح الباب أمام تأملات عميقة حول طبيعة الوجود الإنساني.

في "متاهة الأشباح"، يعتمد برهان شاوي على بناء شخصيات تحمل أبعادًا نفسية وفلسفية متداخلة، تعكس التوترات والصراعات الداخلية التي يعيشها الإنسان في مواجهة ذاته ومجتمعه. الشخصيات في الرواية ليست مجرد أدوات روائية تحركها حبكة معينة، بل هي تجسيدات حية لمفاهيم فلسفية ونفسية تتعلق بالوجود والهوية والصراع الذاتي. غالبًا ما نجد هذه الشخصيات عالقة في حالة من التعليق بين عوالم مختلفة، وكأنها تعيش في فراغ لا ينتمي إلى مكان محدد أو زمن معين. هذا التعليق بين الحياة والموت، بين الماضي والمستقبل، وبين الواقع والخيال، يعكس الصراع النفسي العميق الذي تواجهه الشخصيات وهي تحاول فهم موقعها في هذا العالم المعقد. تعيش الشخصيات في حالة دائمة من الاغتراب، حيث تبدو غريبة عن نفسها ومحيطها، مما يجعلها تدور في دوامة لا تنتهي من التساؤلات حول هويتها ومعنى حياتها. إحدى السمات البارزة لهذه الشخصيات هي أنها تحمل بداخلها شظايا من الذكريات والأحداث المؤلمة التي لم تتمكن من تجاوزها، مما يدفعها إلى البحث عن خلاص ذاتي قد لا يكون موجودًا. تتصارع الشخصيات مع أشباح الماضي التي تعيد إحياء الصدمات النفسية والأحداث المؤلمة التي أثرت على حياتها. هذه الأشباح ليست مجرد تجسيد لذكريات ماضية، بل هي قوة فعالة تؤثر بشكل مستمر على الحاضر والمستقبل، مما يضع الشخصيات في مواجهة دائمة مع ماضيها.

الشخصية الرئيسية في "متاهة الأشباح"

الشخصية الرئيسية في "متاهة الأشباح" تتجلى ككائن مثقل بالهموم والشكوك، يغوص في دوامة لا تنتهي من الأسئلة الوجوالوجودية. تعيش هذه الشخصية في عزلة نفسية تامة، حيث تبدو منفصلة عن محيطها الاجتماعي، ولكن هذه العزلة ليست اختيارية بقدر ما هي نتيجة حتمية لتجاربها السابقة. تجد الشخصية نفسها محاصرة بذكريات مؤلمة وأشباح الماضي التي تلاحقها باستمرار، وهذه الأشباح ليست بالضرورة كائنات مادية، بل هي استعارات لتجارب عاطفية ونفسية تركت أثرًا عميقًا في حياتها. تشكل هذه الأشباح عائقًا حقيقيًا أمام الشخصية في محاولاتها المستمرة للبحث عن معنى لحياتها أو عن مخرج من المتاهة النفسية التي تجد نفسها فيها. تبدأ الشخصية الرئيسية في مواجهة هذه الأشباح، محاولة التصالح مع الماضي أو على الأقل فهمه. تدرك تدريجيًا أن المواجهة ليست مجرد صراع مع أشباح الماضي، بل هي في جوهرها مواجهة مع الذات، مع الأخطاء التي ارتكبتها والندم الذي يلاحقها. تعيش الشخصية حالة من الانقسام الداخلي بين ما كانت تريده لنفسها وما فرضته عليها الحياة، محاولة باستمرار التوفيق بين هذين الجانبين المتناقضين. القيود التي تعيشها ليست فقط نتيجة لتأثير المجتمع، بل هي أيضًا نتيجة لصراعاتها الداخلية العميقة التي تجعلها عالقة في حالة من التيه النفسي، غير قادرة على تجاوز الماضي أو المضي قدمًا نحو المستقبل. تحاول هذه الشخصية الهروب من نفسها، ولكن في كل مرة تعود إلى نفس النقطة، حيث تظل محاصرة في دوامة لا تنتهي من التفكير والقلق. في نهاية المطاف، تبدو الشخصية وكأنها تسير في طريق مسدود، تبحث عن نور في نهاية المتاهة، ولكنها تدرك أن الخلاص الحقيقي قد لا يكون في الهروب من الأشباح، بل في تقبل وجودها ومواجهتها بصدق.

الصراع النفسي والوجودي للشخصيات

تتجلى إحدى أهم التيمات في "متاهة الأشباح" في الصراع النفسي والوجودي الذي تعيشه الشخصيات. هذا الصراع ليس مجرد مواجهة مع العالم الخارجي، بل هو انعكاس لحالة اضطراب داخلي تجعل حياتهم وكأنها رحلة دائمة للبحث عن إجابات لأسئلة وجودية معقدة. الشخصيات لا تجد الراحة أو الاستقرار في حياتها اليومية، بل تبدو وكأنها عالقة في حالة من التيه النفسي الذي يعوق تقدمها ويضعها في مواجهة مستمرة مع ذاتها. الشخصية الرئيسية، على سبيل المثال، تعيش في حالة دائمة من الاضطراب، حيث تحاصرها أسئلة حول الذات والمعنى والغاية من الحياة. هذه الأسئلة تدفعها إلى الغوص عميقًا داخل نفسها بحثًا عن إجابات، ولكن كلما اقتربت من الحل، تجد أن الأسئلة تزداد تعقيدًا وغموضًا. الشخصيات في الرواية لا تتعامل فقط مع اضطرابات خارجية من حولها، بل تعيش أيضًا في دوامة داخلية من الصراعات التي تجعلها غير قادرة على التواصل الحقيقي مع العالم من حولها. هذا يجعلها تعيش على هامش الحياة، حيث تبدو وكأنها تراقب كل شيء من بعيد دون أن تكون قادرة على المشاركة الفعالة. تتحرك الشخصيات في دوائر مغلقة من التفكير، عالقة بين ماضيها والحاضر، بين ما كان وما يجب أن يكون، وتكاد لا ترى مخرجًا واضحًا لهذه المتاهة النفسية. الفوضى الداخلية التي تعيشها الشخصيات تظهر بوضوح في طريقة تعاملها مع الأشباح التي تطاردها. هذه الأشباح ليست مجرد رموز للماضي أو للندم، بل تمثل أيضًا أفكارًا وظلالًا نفسية تعيق الشخصيات من التقدم في حياتها. تعيش هذه الشخصيات في حالة من الفوضى الداخلية التي تخلق حاجزًا بينها وبين الخلاص الذي تسعى إليه، سواء كان هذا الخلاص مرتبطًا بالتخلص من الماضي أو بفهم أكبر للذات. هذا الصراع المستمر يعمق شعور الشخصيات بالعجز والضياع، حيث تصبح المواجهة مع الأشباح جزءًا لا يتجزأ من بحثها عن معنى لحياتها. في النهاية، يعكس هذا الصراع النفسي والوجودي التوتر بين الرغبة في الفهم والاعتراف بالعجز عن الوصول إلى الإجابات النهائية. الشخصيات تجد نفسها في متاهة لا تنتهي، وكلما حاولت الخروج منها، واجهتها تحديات جديدة تعيدها إلى نقطة البداية.

الهوية المتشظية

إحدى النقاط المركزية في "متاهة الأشباح" هي مسألة الهوية الممزقة والمشوهة التي تعيشها الشخصيات. هذا التمزق في الهوية ليس مجرد حالة مؤقتة، بل هو جوهر وجود الشخصيات التي تعيش في عالم غير محدد المعالم، حيث تجد صعوبة بالغة في تحديد من هي أو أين تنتمي. الشخصيات غالبًا ما تكون معلقة بين الماضي والحاضر، مشوشة بين هويتها السابقة وما تحاول أن تكونه الآن، مما يولد شعورًا دائمًا بالارتباك والضياع. إنها تجد نفسها في حالة من الاغتراب النفسي، حيث تبدو غريبة عن ذاتها، غير قادرة على التصالح مع ما كانت عليه سابقًا أو التكيف مع الوضع الجديد. هذا الاغتراب ليس محصورًا فقط في الذات، بل يمتد إلى علاقة الشخصيات بمحيطها الاجتماعي. تجد الشخصيات نفسها معزولة عن المجتمع، وكأنها تعيش في عالم منفصل لا يشبه ما حولها. حتى في التفاعل مع الآخرين، يشعرون بأنهم لا ينتمون، وأن هويتهم ضائعة في ظل تغييرات اجتماعية وداخلية متسارعة. هذا الانفصال عن الذات والمجتمع يعمق الإحساس بالاغتراب النفسي والعزلة، مما يجعل الشخصيات تائهة في بحر من التساؤلات التي لا تجد لها إجابة واضحة. الهوية الممزقة تمثل أيضًا الصراع الداخلي العميق الذي تعاني منه الشخصيات بين ما كانت عليه في الماضي وما أصبحت عليه في الحاضر. الشخصيات لا تزال عالقة في ذكرياتها القديمة، وتجد نفسها غير قادرة على التوفيق بين تلك الذكريات وما فرضه الحاضر عليها من تحديات. هذه الهوية المشوهة تجعل الشخصيات تواجه صعوبة في التكيف مع واقعها الجديد، حيث تكون ممزقة بين رغبتها في الحفاظ على ماضيها وبين محاولة العثور على مكان لها في الحاضر. الصراع بين الماضي والحاضر يعزز شعور الشخصيات بالتشويش والارتباك، حيث تتأرجح بين الاثنين دون القدرة على اتخاذ موقف ثابت. هذا التمزق العميق يجعل الشخصيات تعيش في حالة من الضياع النفسي، حيث تصبح غير قادرة على تحديد من هي وما هو موقعها في الحياة. نتيجة لذلك، يتعمق الصراع الداخلي لهذه الشخصيات، ويزداد شعورها بالعجز والاضطراب، مما يجعلها عالقة في متاهة نفسية لا نهاية لها. الشخصيات في "متاهة الأشباح" لا تعاني فقط من فقدان هويتها، بل هي أيضًا محاصرة بين محاولات التصالح مع الماضي والتكيف مع الحاضر، مما يجعلها تعيش حالة مستمرة من القلق والتوتر.

في النهاية، الشخصيات في "متاهة الأشباح" ليست مجرد أدوات سردية تتحرك ضمن حبكة روائية، بل هي تمثيلات حية للصراعات النفسية والفلسفية العميقة التي يعيشها الإنسان المعاصر. من خلال هذه الشخصيات، يجسد برهان شاوي رحلة معقدة للبحث عن الذات في عالم مشوش، تغمره الظلال والأشباح التي تلاحق الشخصيات بلا هوادة، مذكرة إياها دومًا بماضيها وبأخطائها. هذه الرحلة ليست مجرد بحث عن هوية ضائعة، بل هي مواجهة مستمرة مع كل ما هو مخفي داخل النفس البشرية، بما في ذلك الألم، الندم، والأمل في التجديد. شاوي يقدم من خلال "متاهة الأشباح" فرصة للتأمل العميق في طبيعة الوجود الإنساني، حيث لا يمكن فصل الإنسان عن ماضيه، ولا يمكن الهروب من تأثيراته. الشخصيات تجد نفسها في مواجهة مع ماضيها ليس فقط كجزء من الذاكرة، بل كجزء من الحاضر الذي يستمر في تشكيل هويتها وإعادة صياغتها. إن وجود الأشباح في الرواية يمثل تجسيدًا رمزيًا للقوى النفسية التي تعصف بالإنسان وتمنعه من الوصول إلى حالة من الاستقرار الداخلي. الرواية تطرح أسئلة فلسفية حول معنى الحياة والهوية، وتدعو القارئ للتفكير في دوره في هذا العالم المعقد. من خلال تصوير الصراعات الداخلية للشخصيات، يثير شاوي تساؤلات حول ما إذا كان من الممكن حقًا الهروب من الماضي، أم أن الإنسان محكوم دائمًا بمواجهة ما حدث في حياته السابقة. هذا الصراع الداخلي بين الماضي والحاضر يشكل قلب الرواية، ويجعل الشخصيات تبدو وكأنها عالقة في متاهة لا مخرج منها، تعيد التفكير مرارًا وتكرارًا في أخطائها وندمها. في "متاهة الأشباح"، نرى كيف أن البحث عن الذات ليس مجرد عملية بسيطة، بل هو رحلة طويلة وشاقة تتطلب مواجهة الكثير من الأشباح والمخاوف التي تعيش داخلنا. برهان شاوي، من خلال هذه الشخصيات التي تتأرجح بين الواقع والخيال، يقدم لنا صورة عميقة للإنسان في صراعه مع نفسه ومع مجتمعه، موضحًا أن الرحلة نحو الفهم الحقيقي للذات قد تكون مليئة بالعثرات، ولكنها أيضًا مليئة بالإمكانيات الجديدة للفهم والتجديد.

***

زكية خيرهم

 

طريقة السرد

تتحقق في هذه الرواية أهم مقومة من مقومات النوع الروائي ألا وهي بيان  الواقع الاجتماعي المعاش حيث نقرأ فيها عن تفصيلات حياة الإنسان المكافح المصري المعاصر بتقاليد روائية عربية بامتياز حيث تختلط هنا الأساليب العربية. لكن الحدوته المصرية الانسيابية في السرد لا تزال باقية في أصل المضمون والحبكة وهذا ما يميزها عن غيرها من النتاجات الروائية العربية.

نذكر على سبيل المثال لا الحصر "وعاد منصور من الأراضي البعيده" ص 98 أو "ومرت شهور .... ودخل تدريبات جديدة مستمرة، يعود حين يعود كأنما على ظهر سحابة شفافة من الهناء تتحرك به ويقبلني في جبيني وفي رأسي ثم يدلف الى النافذة الشرقية مصدر سعادته". ص 94

أو في قصة العرّاف السيد اللوائي إذ إن الكاتب يصور طريقة تفكير العرب عندما يقعون في مصيبة حيث كثيرا ما يلجأون إلى الغيبيات أو الميثولوجيا والسحر لدرجة أن القارىء يكاد يأخذ الموضوع على محمل الجد وأن هذا الساحر يعلم الغيب حقاً. ص 119-121

الراوي هنا أنثى، بنت شابة جميلة في الثانوية، "توحيده" تحاول أن تجسد شخصية عرابي البطولية على خشبة مسرح مدرستها وبمساعدة الشاب "جلال" الذي يتزوجها فيما بعد كما سنرى في الرواية.

فالراوية إذن هي محور أحداث الرواية ومركز تحرك شخصياتها بدءا من والدتها مرورا بزوجها جلال ووالده الحاج "بهجات" وعمّها وانتهاءاً بابنهما "منصور" وجيرانه. 

ويأتي السرد في "عشيقة عرابي" على لسان بطلة الرواية "توحيده" في مواقف وهرونوتوبات متنوعة ومتشابكة بحيث يختلط الأمر في بعض الأماكن والمقاطع على القارىءغير المدقق.

 حدث هذا بالذات في الانتقالات السردية السريعة أثناء تشابك الزمكانيات بدون تمهيد أو إشارة إلى ذلك بحيث يشعر القارىء بضرورة كتابة اسم الراوية عند بداية سردها بدلا من استخدام الضمير.460 arabi

الشخصيات

يمزج الروائي محمد محمد السنباطي بمهارة التاريخ المصري الحديث بالواقع المعاصر من خلال مقارنات ومقاربات بين الشخصية البطولية عرابي والناس المصريين المشغولين بالهموم اليومية العادية.

كذلك تتداخل الهرونوتوبات التاريخية كما يقول "باختين" بنظيراتها المعاصره كما هو الحال في قصة عودة البطل المنفي عرابي من منفاه معززاً مكرما ورحيل عائلة الديب خلسة بدون توديع لهم او احتفاء أحد بهم على طريقة " روحه بلا رجعه.

لكن ماذا تريد هذه الرواية أن تقول لنا؟ هل تريد أن تطرح لنا فكرة الفروسة والرجولة التي تناولتها الرواية العربية عموما والمصرية بالذات منذ الثمانينات أم أنها رواية كشف الواقع؟.

وفي الحقيقة إنها رواية أرادت أن تكرس نفسها لكلا الموضوعتين بدون مانشيتات عريضة أو إسهاب أو تدفق لغوي سردي نابع من حماسة الكاتب لهما.

وهنا تتحقق مقومة تقليدية أصبحت من المقومات الكلاسيكية للنوع الروائي ألا وهي "بافَث" الكتابة، أو حماسة البطل كما يتجسد في قصص الصياد ومدرب الخيول الحاج "بهجات" عن زميله الراحل والد توحيده حيث تظهر فيه ملامح البطولة.  نقرأ في الرواية على لسان الصياد الحاج بهجات محدثا بطلة القصة عن والدها الراحل:"ابوكي كان زي النسمة. كان عامل زي .. زي .. انتي عارفه لما حتلاقي الشمس عاوزه تعدي من الورقة. الورقة يبقى منظرها شفاف. رهيف....". ص20 وانظر ايضا ص 23، 24

ونفس الشيء يتكرر في سلوك بطلة الرواية "عشيقة عرابي" "توحيده" حيث تصرعلى ركوب الخيل وإدخال الفرس في المسرح وهي بالتأكيد أليغوريا تجسد ملامح الفروسة في الشخصية المصرية وأن عرابي لا يزال في روحها وعقلها وكيانها.

تصف الراوية مشاعرها عن تجسيدها لشخصية عرابي في المسرحية: "تلتهب الكف بالتصفيق التلقائي، ثم تنساب أحداث المسرحية لتفضي إلى المشهد المثير وكانت الطالبات متحفزات لرؤية الحصان يدخل وانا على ظهره، والقدم في الركاب، تطلعت إلى الخديوي المندهش وقلت له بصوت خشن: جئنا نعرض مطالب الأمة. ... وكان الشارب الملصوق تحت أنفي يقوي همتي". ص 17

ويمكن قول نفس الشيء عن تسليم جلال الأمانة "طعام" لصاحبها رغم تأخره وفساده، لكنه أصر على أداء الأمانة لمن ائتمنه كنوع من الأصالة والفروسة وكي لا يشعر بتأنيب الضمير والكَثارسيس "جلد الذات".

والحاج بهجات نفسه فيه من الفروسة وملامح النبل الإنسانية ما يكفي إلا أن الروائي لا يلون بالأسود والأبيض بل يعطي شخصياته مجالا رحبا من السلوك البشري السوي ولكن ليس بمعزل عن مختلف الغرائز والرغبات، وهنا تتجسد في حقيقة الأمر سمة البوليفونيا أو تعدد النغمات التي أشار اليها باختين في كتاباته النقدية عن الرواية.

من ذلك يمكن ملاحظة تطور شخصية جلال وتصرفاته المتغيرة حيث يسلك سلوكا حالماً وعاقلاً وحكيماً عند وفاة والده فيصر على إتمام مراسم عرس أخت زوجته ص 114، لكنه في نفس الوقت لم يُخفِ حادثة حرق بيتهم عن زوجته واضطرارها إلى العودة وعدم الاحتفال مع أمها بالفرح. لذا نسمعها تتسائل معاتبة "ألم يكن من الأجدر بجلال ألا يخبرني...". ص 115

فهل يمكن أن يكون الحاج بهجات شخصا رجوليا إن جاز لي التعبير هنا و"يصادر" في الوقت نفسه تنقيطة زواج ولده يوم عرسه ص 114 على مبدأ "الولد وما ملك لأبيه" ويجسد أيضا "نضج البطل الروائي أو رجولة البطل الروائي" في رواية الثمانينات المصرية.

الاختلاف بين "عشيقة عرابي" والروايات العربية السابقة المكرسة لنضج البطل الروائي أو رجولته يكمن هنا، في كونها ليست موضوعةً مقدسة وأن بطلها ليس شخصية أسطورية تتجسد فيه مواصفات القوة والذكورة المبالغ فيها أحياناً، بل واقعية تخطئ وتصيب.

وشخصيات هذه الرواية ليست مكرسة أو موظفة جميعها لموضوعتها بحيث يُسقط الكاتب أفكاره عليها ويصمم أدواراً لها، بل يحاول أن يعطيها كما أشرت سابقا فضاءً رحبا تتحرك فيه.

ونذكر هنا بعض الأمثلة: مزج أحداث ثورة عرابي بحرب أكتوبر و مقارنة ثوار عرابي بسارقي "الغسالة" بنك العائلة ص116، ولاحظ في الوقت نفسه مقارنة عرابي بجلال الذي يبيع ذهب زوجته منذ بداية زواجهما. ص 36

ومع ذلك فهو لا ينسى أن يقول لأخيه غير الشقيق زكريا: "أنا أحد أبطال أكتوبر يا شيخ زكريا" ص86 وهي مناسبة رائعة من الروائي ليذكر القارىء بزمان الرواية.

وكنت أتمنى على الكاتب أن يكون حواره أقرب بكثير الى المحكية و أن يبتعد قدر الإمكان عن المفردات غير المستخدمة في العامية مثل فقد وغيرها، وأنا أقول ذلك وأعلم علم اليقين بأن مسألة الحوار في النتاجات السردية العربية من أعقد المهمات على الكاتب، لكني مع ذلك أصر على أن الرواية يجب أن تتميز بلغة متعددة الأصوات والنغمات والدرجات وتتجسد فيها "لغة الساعات" على حد تعبير باختين.

تتميز لغة هذه الرواية الجميلة بقصر الجمل واقتضابها أو اقتصادها اللغوي لكنها أحياناً اخذت طابعا قد يكون صعبا للقارىء غير الدقيق بسبب الانتقالات السردية بدون تمهيد لغوي لاسيما وأن التصميم الفني الطباعي لبعض فقرات الرواية افتقر إلى الإشارة الى ذلك.

وهناك اختلاط سردي بين أكثر من موضوعة فبينما يتوقع القارىء أن الراوية ستحدثه عن خطبة منصور بعد عبارة "وعاد منصور من الأراضي البعيده ..." ص 98 لكنه يقرأ عن خطبة خالته الصيدلانية. ص99

أعتقد أن القارىء أصبح عملة صعبة ونادرة ومن الضروري أن يفكر الكاتب العربي به عندما يكتب نتاجه السردي الطويل وأنا لست مع الشروح والإسهاب لكن لا بدَ  من أخذ هذا الموضوع على محمل الجد.

وقد يكون من المناسب هنا أن أشير إلى أهمية السخرية في العمل الفني وليس بالضرورة على طريقة رابليه او غوغول أو التركي نسين، ولكنها لا بدَ  أن تعكس حياتنا الواقعية بكل مافيها من مآس ٍ وأحزان وأفراح ومزاح في الوقت نفسه وفي الحوارات.

وأذكر هنا مثالا على هذا المزاح أن أم ربيع تزور قبر زوجها فيسألها جلال "ووجدته في القبر أم على المقهى؟!" ص 127

أخيرا فلا يسعني إلا القول إن هذه الرواية إضافة جديده للنتاجات الروائية العربية وتجسيد لتطورها الحديث، استخدم فيها الكاتب الرائع محمد محمد السنباطي الحلم بطريقة رائعة ص 64 وصوّر فيها العلاقة الحميمية بين الناس المصريين مهما اختلفوا في انتماءاتهم  الطبقية مثل علاقة المرأة الغنية المدام ناني بالإنسانة الفقيرة المصرية المكافحة بطلة الرواية وعائلة جلال حيث تقول لها " أنت مثل بنتي لقد أحببتك .." ص 67 وتصوير واقعي لحالة الفقر التي يعيشها المواطنون المكافحون أحفاد عرابي ص69 الذين يستحقون بالتأكيد حياةَ أفضل  بكثير من تلك التي يعيشونها والمليئة بالمعاناة.

تقول بطلة الرواية عن مكان سكنهم الجديد: " ... هنا لكل عائلة من الثلاث حجرة أما أنا فلي حجرتان، بهذا أخبرني زوجي ليخفف عني لوعة الصدمة. بعد قليل سأعرف كل شيء عن هذا المكان. في الحجرة المجاورة رجل وامرأة لا يكفا عن الشجار والنقار وتبادل الشتائم الغليظة. ... في التي يليها امرأة مات زوجها، لم تعد تلبس الأسود تاركا لها حملا ثقيلا من الأولاد والبنات ولا مورد ظاهرا لها وإن كانت تشتري لهم كل مايريدون وأكثر! ... وضعوا نظاما لدخول المرحاض لكنهم غالبا ما يكسرون هذا النظام. يرقد المصرف الراكد أمام هذا المنزل يمتص مواسير المراحيض المدفونة القادمة من المنازل المطلة عليه. تعف شركات الذباب المتحدة على المنطقة حوله، وخلف المستنقعات يمكنك أن تلمح مساحة من الحقول المزروعة تبدو كثوب نظيف ساقط من الأوساخ.؟ ص 69

***

الدكتور زهير ياسين شليبه

عن دار بصمة للنشر والتوزيع، صدر قبل أيام قليلة كتاب (أوراق الزلزال) بأسلوب السرد التوثيقي،كما جاء على هامشه. ويعبّر هذا السرد عن تصوير كارثة الزلزال التي حدثت في نواحي مراكش من خلال معايشتها، من لحظة حدوثها حتى مرور عام كامل عليها.

ويكتسي هذا السرد أهميته، لأنه ينطلق من رحم تجربة أديبٍ سجّل الحدث عبر مجسّاته الإنسانية إولا، في تصوير المحنة وانعكاساتها، وعبر أدواته الإبداعية ثانيا، في كونه أديبا وصف لنا جملة من المشاعر التي لا تستطيع الميديا تسجيلها بنفس الدقة، وذلك من خلال تصوير فزع اللحظة الأولى الذي تراءى في ملامح الناس وارتباك أجسادهم، وهم يسارعون في الهرب من بين شقوق الجدران المتهالكة من أجل الفوز بالحياة، تاركين أعز ما يملكون، بعد أن وجدوا أنفسهم تحت رحمة غضب الأرض والجبال والوديان، تلك التي شهدت ولادتهم وترعرعهم وخطواتهم الأولى، ولكنها الآن تطاردهم برقصات موت حجرية.

والكاتب محمد كروم معروف في الوسط الثقافي المغربي من خلال أنشطته الثقافية المتنوعة، سواء في إدارة مهرجانات القصة القصيرة في تارودانت أو في مدينة الصويرة، حيث اضطلع بمهمة نشر التذوّق القصصي بين تلامذة تلك المدن،فزرع فيهم بذرة القراءة والكتابة.

وللأديب عدة مجاميع قصصية ومنها (شجرة القهر) و(قريبا سأحبك). ولديه أيضا رواية (بادية الرماد) ورواية( سيدات المدينة)، إضافة إلى اهتمامه بالرحلة والذي تجلى في كتابه الموسوم (الحياطة في الرحلة إلى طاطا).

ومن خلال صورة غلاف الكتاب وعنوانه، يجد القارئ نفسه إزاء معايشة دقيقة ومتتابعة للحدث الذي وجدناه يتمحور حول ثلاث مراحل.

المرحلة الأولى: رعب اللحظة الأولى، حيث صراخ الأرض وانكسارها، وحيث الشقوق التي تغلغلت في عمق الصخور والممرات، وانبجست على قشرتها لتلامس الجدران التي بناها أبناء هذه السهوب والوديان المكسوّة بالصخور والحجر، كي يتقوا حر الصيف وقر الشتاء، ولكن الجدران تهاوت على رؤوسهم وأجسادهم، فوصف لنا لحظات الرعب والحيرة وعدم القدرة على الاستجابة للحدث وتداركه، وقد تخلل هذه المرحلة وصف الخراب، وهروب الناس إلى السهول الفسيحة خوفا من هزات ارتدادية، وعدم معرفتهم لفداحة المأساة، وعدم تمكنهم من مواجهتها للحد من نتائجها.

أما المرحلة الثانية،فهي لاستيعاب هول الزلزال، وتلمس مكامن أخطاره، ثم الإحصاء  السريع لفداحة الخسارة للبشر الذين طمروا تحت الركام، والبيوت التي تهاوت بعد أن آوتهم وترفقت بهم منذ طفولتهم، فترعرعوا بين جدرانها، والآن يجدونها قد غدرت بهم وأصبحت غير صالحة للسكن، فأخذوا منها على عجلة بعض مقتنياتهم وأوراقهم الرسمية وما تيسر من الأفرشة والملابس، وغادروها مسرعين،ليفترشوا الساحات العامة.  أما الكاتب فقد وصف لنا مشاعره حينما عاد خلسة إلى داره المتصدعة الجدران، ولكنه لم يحزن سوى لمنظر كتبه التي غمرتها الأتربة وبلعها الركام.

أما المرحلة الثالثة، فقد تحدث عن مجهولية استمرار الحياة في ظل الخصاص المُطبق للحاجات الأساسية للحياة كالخبز والماء وكل المرافق المألوفة لقضاء الحاجة ولاسيما للنساء، وبداية البحث عن الطعام جعل الناس يشعرون بأن مأساة الزلزال قد ذوّبت فيهم النوازع السلبية، ليكونوا أكثر تعاونا وتآزرا بينهم لمواجهة مصيرهم المجهول.

أما المرحلة الرابعة، فقد كانت على النقيض، تلك التي تدخلت فيها السلطة والجمعيات الخيرية لتوزيع المساعدات على النازحين، من خلال( الكود) الذي يقوم بتوزيع المال على المتضررين، ولكن هذا الكود الذي تشبثوا بالحصول عليه، تحوّل إلى رمز للفرقة الاجتماعية والتنافس بين الناس الذين تحولوا من روح التعاون والمحبة إلى تقيضها في الحسد والأنانية، وتفضيل مصلحة الذات على الآخر، بل وصل الأمر إلى العداوة.

لقد كانت روايته خالية من الأسماء، ولكن الكاتب استطاع أن يذكر بعض الضحايا بأسماء قد تكون مستعارة،ومنها زعفان الذي يحصل على الراتب الشهري بضربة حظ، تجعل جيرانه ومعارفه لا يطيقونه ويحسدونه، لاسيما وإنه قد حصل على المبلغ المالي الكبير الذي سيجعله قادرا على بناء بيت جديد، ورغم فرح زعفان بذلك ولكن سير الأحداث تُشعرك بخسارته، لأن توزيع المستحقات لا يكون مفيدا إلا إذا شمل الجميع. وقد تناولت الرواية صعوبات الحصول عليها، ولاسيما لأبناء المناطق النائية الذين شعروا بأن الجميع قد تخلى عنهم، وقرروا القيام باحتجاجات، ولكن احتجاجاتهم لم تجد صدى مناسب. ولاسيما فإن الأحداث السياسية في الشرق الأوسط ومنها طوفان الأقصى ومآسي الحرب قد حجبت الأضواء عن مأساتهم.

ثمة لمحات إنسانية وردت في سياق السرد، ومنها ما عبّر عنه الكاتب (بنظرات العتاب) التي ظهرت في أعين الحيوانات، حينما فر أصحابها للنجاة بأنفسهم وتركوا كلابهم وطيورهم وبقية مواشيهم فريسة لغضب الطبيعة. كما تناول محنة الطفولة من خلال شكوى أحد الأطفال بالحيف والتمييز والظلم من قبل أقرب الناس إليه.إضافة إلى تناول شخصية (زعفان) ولعل في الاسم دلالة على صفة الغضب في اللهجة المغربية، ومع أنه حصل على المعونة كاملة، ولكن تلك النقود لم تسعفه لشراء كبش العيد، مكتفيا بشراء كيلوين من اللحم لإرضاء رغبة أطفاله، وذلك للغلاء الذي منع أغلب الساكنة من شراء الأضاحي، كما تناول قصص الناس عن الهيليوكبتر وهم يشاهدونها لأول مرة تسرح وتمرح في فضاءاتهم، ويطلقون العنان لمخيلتهم في تفسير تحركاتها. إضافة إلى ظهور بعض الرواة من أبناء المنطقة من تفتقت مخيلته الروائية للحديث عن عيون تفجرت من تحت الأرض، ووديان برزت إلى الواجهة، وكأن هذه الروايات بلسمٌ لمداواة النفوس التي أرهقتها الكارثة.

رواية (أوراق الزلزال) شهادة من داخل الحدث، ولكن بإسلوب روائي لا يخلو من تشويق، ولقد كانت خاتمتها تختزل فحواها، حيث يخاطب الكاتب المتضررين من الزلزال بقوله:

"تأخرُ البناءِ يا زعفان لم يمنع عجلة الحياة من الدوران، انظر حواليك تر الناس: يتزاوجون،يتوالدون،يدفنون موتاهم، وينهضون كالعنقاء لمواصلة الرحلة. "

***

رحمن خضير عباس

البلدان وشعوب العالم توصف وتؤرخ بالأحداث الكبيرة والعاصفة التي تمر بها، وترسم خارطتها السياسية والاجتماعية من خلالها، التي تعتبر نقلة نوعية في نظامها السياسي والاجتماعي، وترسم الخط الفاصل بين ماضيها وحاضرها، مثل كومونة باريس، الثورة الروسية البلشفية، وجسدتهما روايات كثيرة ظلت خالدة عبر التاريخ النضالي للشعوب في الحرية والتحرر، مثل رواية (عشرة ايام هزت العالم / جون ريد) وهذه الرواية القصيرة (البركان) محاولة إحصاء وجرد يوميات انتفاضة الشباب في ساحات محافظة النجف الاشرف، كدلالة رمزية لكل الساحات المنتفضة في عموم العراق، وخاصة ام ساحات انتفاضة الشباب في ساحة التحرير في بغداد، لقد شهدت أيامها بالأحداث بأجوائها المرعبة، من المواجهات الدامية بالقتل العشوائي بالرصاص الحي والعنف الدموي المفرط في البطش لشباب الانتفاضة، اضافة الى الوسائل التحريضية ودعايات الترويج المزيفة والمنحرفة بالنعوت والصفات البذيئة بحق شبابها البطل والجسور، بأنهم جوكرية تحركهم اصابع اجنبية معادية للعراق، او انهم ابناء السفارات أو ابناء الرفيقات، أو شلل من عصابات الجريمة والسرقة، وغيرها من الصفات البذيئة والهجينة، ولكن رغم هذه الأجواء المرعبة والحيل والمكائد ومحاولات الدس والاندساس داخل التظاهر والاعتصام لتخريبها، من انفار مأجورة ومدسوسة بشكل حبيث، فان الشباب واصلوا المواجهة والتحدي، وسجلوا أروع الملاحم الاسطورية في الدفاع عن الوطن والحقوق الشرعية، التي يقرها القانون والدستور، بايام الانتفاضة سقطت الاقنعة وانكشف الزيف، وتعالى الدخان الاسود والابيض والفرق الشاسع بينهما (ادعياء الدين والوطنية ممن شوهوا سمعة المنتفضين، بالاضافة الى ووقوف المرجعية السيد السستاني على وجه الخصوص المؤيد لمطالب الثوار وحقهم في التعبير عن رأيهم.

متسائلاً:

- ألا يدعي هؤلاء أنهم يتبعون المرجعية ويمثلون بقرارتها، فلماذا إذن يضربون ساحة الاعتصام والتظاهر؟) ص31. لماذا القمع الدموي بالبطش الهمجي بالرصاص الحي والقنابل الدخانية ؟ أين وصايا المرجعية الدينية التي تقف بجانب حرية التعبير وتفهم مشاكل الشباب بالحل السلمي، طالما التظاهرات سلمية، لايملكون الشباب سوى صدورهم العارية وحب الوطن الذي يسري في دمائهم، أين صوت العقل والمسؤولية تجاه الشعب ؟ لماذا هذا الانتقام الدموي في حقده الأسود الدفين، (- استاذ لقد شهدت عاصفة صفراء هوجاء تهب على ساحة الاعتصام ترافقها بروق ورعد قوي يهز الارض، شاهدت قطعان من الذئاب المسعورة تهاجم الساحة وتمزق الخيم، شاهدت الحمائم الحمائم والعصافير والفواخت تسقط ميتة لتحترق بنيران الخيم المشتعلة، شاهدت وشاهدت........) 24. هذا الانتقام الوحشي من السلطة وأجندتها القوات الأمنية وميليشياتها المسلحة في حقدها الأسود الدفين، هذه الصورة السوداء الهمجية، يقابلها صورة بيضاء ناصعة البياض في روحها الانسانية والشعبية المتفهمة، هي روح التضامن الشعبي بالاسناد والدعم من عموم الشعب العراقي وطبقاته الشعبية، في روح التضامن والإسناد لشباب الانتفاضة، زادهم عزماً واصراراً في التحدي و الصمود والمواصلة، بل اصبحت الانتفاضة عنوان التحدي بهذا الاحتضان الشعبي الكبير لها (- أثار اعجابي واندهاشي هذا الكم والنوع الهائل من التضامن بين المنتفضين وعموم أبناء وبنات الشعب، حيث نصبت المطابخ والمطاعم وإحضار الأكل والشراب والماء بالسيارات من الأحياء ومن مختلف فعاليات الشعب الثائر ومن البيوت، لضمان استمرارية الانتفاضة وتحقيق أهدافها المشروعة، لم يحصل هذا الاندفاع إلا أثناء تأدية مرسم زيارة الاربعين للامام الحسين (ع)) ص 33. هذا الإشراق الوطني والشعبي يحمل هوية العراق الحقيقية في أصالته الشعبية، في زمن أصبحت الوطنية والوطني اشد تهمة اجرامية يعاقب عليها القانون بالسجن والموت والاغتيال والخطف كالعهود السابقة المظلمة وخوفها من كلمة وطني ومعنى الوطنية (هززت يدي مستغرباً حيث تراقصت امام ناظري عشرات علامات الاستفهام والتعجب حول كلمة (الوطني) هذا الضيف الدائم على السجون والمعتقلات المنتشرة على طول وعرض البلاد، الملاحق دوماً من قبل النظارات السوداء، اينما يذهب) الحقب السوداء التي مرت على العراق في مراحلها السياسية منذ الملكية ولحد الآن، لم ياتٍ الى العراق حاكم إلا يحمل معه سوط الارهاب والظلم والطغيان، واهمال وحرمان الشعب لا يهمه إلا الكرسي، ما عدا عبدالكريم قاسم (ماحكم العراق رئيس بي حظ وبخت وراعه الوادم وشبع اليتامه اللهم إلا عبدالكريم قاسم وكتلوه البعثية والاكطاعيه واهل العمايم بالتعاون ويه الانكلريز والامريكان وحكام الكويت وعبدالناصر) ص 19.

×× أحداث المتن السردي:

تدور أحداث السرد الروائي اليومية العاصفة في ساحات محافظة النجف الاشرف، تظاهرات الاعتصام والشوارع والساحات، يسردها الراوي العليم، وهو ناشط سياسي واجتماعي، له علاقات واسعة مع الناس ويكن له الاحترام والتقدير، بما يقدمه من مساعدة والدعم في مجاله الصحي، الطب الفني المختص بالتحاليل المختبرية، يساعد الفقراء في الاجور المالية ويدفعهم الى اطباء يهتمون بالعلاج بدلاً بالاهتمام بالأجر والدفع المالي، يقف إلى جانب انتفاضة الشباب ويدعمها بكل امكانياته، كالتزام وطني وانساني واخلاقي، ويشخص العلل الاجتماعية ويفند الدعايات الترويجية والتضليلية، التي تعمي البصر والبصيرة، في تشويه سمعة ومكانة الشباب المنتفض، في محاولة لقلب الحقائق بالتزيف المنحرف، ويعري دعايات التحريض والدس، والروائي أو السارد يربط بالرؤية الفكرية الواقعية والناضجة في ابعادها، ربط الماضي بالحاضر من العهد الملكي ولحد اليوم، عبر تناول الشخصية الرئيسية في ثلاثية المحطات، الفلاح (مظلوم) الذي انخرط في النضال السياسي والشعبي واعتنق الفكر الاشتراكي، ومدافعا عن العهد الجمهوري وزعيمه عبدالكريم قاسم، عاش وانخرط في النضال الصعب من الملكية الى العهد الجمهوري، الى انقلاب البعث ومجازره الوحشية ضد اليسار العراقي، وبعده اعطى راية الكفاح والنضال الى ابنه (كفاح) لمواصلة الطريق الثوري ثم الى حفيده، هذه الاشارة الرمزية البليغة، بأن الشعب وحركته اليسارية لم تنقطع على مواصلة النضال حتى في احلك الظروف القاسية والصعبة، وحتى رمزية اختراق رصاصة للشاب المتظاهر وهو يحمل كتاب (المحطات) بما يدل على الارهاب الفكري ينزف دماً كالنضال السياسي والشعبي. أي ان لغة الدم والنار والرصاص الحي في صدور الشباب العاري، هو نهج البطش بالانتفاضة واجهاضها بالدماء والحرق، في كل وسائل البطش، لا تفرق بين الارهاب بشقه السياسي والفكري (- أستاذ لقد شهدت عاصفة صفراء و هوجاء تهب على ساحة الاعتصام ترافقها بروق ورعد قوي يهز الارض،، شاهدت قطعان من الذئاب المسعورة تهاجم الساحة وتمزق الخيم، شاهدت الحمائم والعصافير و الفواخت تسقط ميتة لتحترق بنيران الخيم المشتعلة، شاهدت وشاهدت.......) ص24.، وكذلك تجنيد كل طاقات الدولة ومؤسساتها الخدمية والبلدية في إجهاض الانتفاضة، بكل الطرق الوحشية (أنظروا ايها الاخوة الى عشرات من الشفلات سيارات الحمل والبلدوزرات والسيارات المرافقة التي تحاصر الساحة بدلاً من ان تتوجه لتعديل الطرق والشوارع وبناء البيوت للفقراء وبناء المصانع والمعامل والمستوصفات أتت كالذئاب الجائعة لهدم الخيم على رؤوسنا ظناً منها بأنها ستقتل احلامنا بالحرية والرفاه وتحقيق دولة المواطنة وطن الجميع) ص62. هذه ثمار الحكم الطائفي والمحاصصة الطائفية، ليس في بالهم تطلعات الشعب وخدمته بالمسؤولية، وإنما الصراع على الكرسي والنفوذ، الصراع على الغنائم من يهمش اكثر، ويدفع ثمنها الشعب الأعزل بالدماء والخراب،تحرسهم القوات الأمنية والمليشيات المسلحة كي (تبقى البلاد تدور في حلقة الفساد والجهل والمحاصصة الطائفية في ظل انتخابات مزورة فاسدة ومشاركة اقلية مجتمعة، حكم هزاز غير مستقر وسط خلاف مكوناتها وانانياتها كخليط غير متجانس لا يعيش بدون ازمات مستدامة، فلا تقدم ولا تطور ولا امكانيات تحول جذري في نظام الحكم) ص 40. ان الزخم الكبير الصمود رغم سقوط مئات الشهداء وآلاف الجرحى والمعوقين والانتفاضة تزداد قوة وعنفوان في المجابهة، مما ارعب السلطة الحاكمة وتيقنت ان كرسيها أخذ بالاهتزاز العنيف، أجبرت عادل عبدالمهدي على الاستقالة من منصب رئيس الوزراء، ومجيء مصطفى الكاظمي ليلعب على الحبلين، ادامة النظام الطائفي الفاسد، وإعطاء الوعود الكبيرة للشاب المنتفض بتحقيق تطلعاتهم ومطالبهم، ودق صدره بالشرف والقسم في إيجاد قتلة المتظاهرين وتقديمهم للعدالة بالحساب العسير، لكن هذه الوعود ذهبت ادراج الرياح، فكانت في حقيقتها العملية، أشبه دس السم في العسل، لم يتحقق اي شيء وظل النهج الإرهابي على حاله كما كان، إذا كانوا افلحوا في اخمادها، ففي داخل رمادها ناراً قد تشتعل وتتفجر كالبركان، أكثر قوة وعنفوان من السابق، ان الانتفاضة حية تولد من رمادها كالطير العنقاء.

***

جمعة عبد الله – كاتب وناقد

هي صورة، لكنها لاتعكس نفس الملامح، هي انعكاس للآخر في دواخلنا، هي تجسيد للذي نريد أن نراه (المخفي) من شخصياتنا، تعري دواخلنا، وتطرح صوراً نظنها مغايرة، لكنها حقيقة ما نحن عليه. من أين تأتت الفكرة ل (حبيب السامر) ليفضح خبايا الأنفس، ليرسم صورة الحقيقة بماء الزئبق (المرآة)، والسؤال هنا ملح، أيهما الأصدق مانرى أم مايراه الآخرون من صور.

أورد السامر ذلك الجواب الضمني (أنا شكل آخر لايشبهني)، يحاول أن يجر القارئ للتيه في اجواء القصيدة المشحونة بالتخالف والتضاد، إلا أن طريقته الفائقة في توظيف الصورة التي رسمها بشكل خارج عن المألوف ولم يعتدها القارئ وفق تصور مشحون بالدلالة (في المرآة، أنا، شكل آخر، لايشبهني، التحديق، إلي، لايشبهها) لكن معظم ماجاء به السامر من دلالة مبهمة (في المرآة، شكل آخر، التحديق، لايشبهها) هذا الإبهام اضفى مزيد من الجمالية على النص وعلى الصور التي شكلها السامر ليفاجأ القارئ بهذا النص المهول بمعانيه وتشكيله وما أحتواه من صور.

في المرآة

أنا شكل آخر لا يشبهني

تطيل المرآة التحديق إلي لا أشبهها

حين نمعن النظر في هذا الجزء من النص، تتقافز إلى أذهاننا ابعاداً مترامية من مساحات الأفكار، نقف عندها لنميز أو نفرز ماذا أراد السامر من توصيف (مصقولة) المعنى الظاهر يقصد فيه (المرآة)، لكن ثمة معان أخرى تطرأ على البال حين تركز في المفردات التي وظفها الشاعر ودلالاتها وفيما تمثله من استبدال لفظي أو حتى (حركي)، ونتسائل هل هي (الحقيقة، المدينة، الحياة)، هل هي الأرض، أو الروح، أم النفس وما تحمله من خلجات، أم تراها المرأة وما تمثله من تقلبات في حياة الرجل (السامر أو أي رجل آخر من معشر الرجال) .

(أنها مصقولة) وهنا نتكلم عن المرآة، أي أنها تعكس الصورة بشكل حقيقي لاشائبة عليه، أو أنها تنقل صورة الشخص بتفاصيل وجهه نقاء ومشاعر وما أحتواه الوجه من تجاعيد وإن كان الرأس أشيب، أم أصلع أو ما أحتوى من أوصاف، لماذا دخلنا في تفصيل التوصيف، لأن السامر أرادها موصوفة فدفعنا بشرح ما تعني (مصقولة) التي وظفها في النص وأراد منها أن يلاعب المتلقي ويأخذه من يده نحو دروب التيه في النص.

الأغرب والذي يضفي الدهشة، بل الحيرى على القارئ حين يتناول هذا البيت من نص السامر تتمثل في (بلا أذرع)، وهي تمثيل لصورة انعدام الحركة وتأصيل الفعل، فهي (مصقولة) لكنها (بلا أذرع) أي أن الفعل تم نلكن نفى عنها صفة الحركة، والسؤال هنا كيف تم الفعل دون حركة، هل هي قصدية، أم حالمة، أم من وحي الخيال، أم تراها واقعة فعلاً أي حقيقة تتمثل في ذاتية الحركة.

نص غريب فعلاً، احتوى من الدهشة ما يظهره وكأن السامر يهزأ بالقدر، ويحاول أخفاء ذلك التفسير عن القارئ حتى يكتشف طلاسم النص دون أن يفك حبيب السامر تلك الطلاسم، الغرائبية التي يكتب بها كثير من الشعراء تحتمل الإنطباعية، ومنها تصوير المشهد الشعري ساعة الفعل (تكريس الحبكة) على تأويل ما حدث، ليكون النص مرآة ناقلة لمجريات الحدث بشكله الفعلي الذي تمثله الحركة.

أنها مصقولة تماما

لكنها بلا اذرع

ربما قسى علينا السامر في هذه، (مصقولة) تعبير عن السهولة عن البساطة بعيدا عن التعقيد، أراد السامر أن يقول (وجهة نظر) إن الحياة بقدر ماتحمله من مشاق وتعقيدات وتتطلب الركض والمعاناة، فهي بسيطة بقدر ما تشبه الماء ببساطته، والمرآة وهي (مصقولة) بشكل جميل يعكس للناظر الصورة التي هو عليها ببساطة ودون تعقيد.

أي نحن الذين نضفي على مجريات الحياة من تعقيد ما يجعلنا نتعكز على مختلف الأعذار التي تهبط الهمم ولا تشحذها، فنراها (بلا اذرع) فنعيش هم المعاناة ووهم عدم القدرة وتفاصيل التعقيد، ومنها نخلق لأنفسنا صوراً غير محببة من التعقيدات والعلل.

الجمال هو الحياة بما فيها من زهو الألوان والصور، جمعها السامر في قوله (مصقولة)، وجاء ب (تماما) للتأكيد و لثبات الصورة، لكنه نفى فعل التأكيد بما جاء به من عدم القدرة مورداً (بلا أذرع) كحالة جزم لفعل الحركة، والحركة لا تتم إلا بأذرعها، ومن لا أذرع له فهو عاجز، صورة شاملة للعجز القاتل والمدمر للإنسان تنهي كل فهل (الصقال) الذي أراد منه السامر أن يورد الجمال الذي عليه الحياة بصوره المختلفة، ولكن ليس بشكل لامنتهي، بل إلى حدود معينة تعمل فيها الأذرع فعلها، وما كان بل أذرع، فلا عزاء له.

شمولية النظرة التي جاء بها السامر في هذا البيت كرسها للدلالة على الحياة بشكلها العام، ومنح القارئ مساحة من لانهائية من التساؤل المفتوح على أفق المشهد، اعتمد حبيب السامر على تشتيت الكلمات وتناثرها مستخدماً عنصر الزمن للتأثير على القارىء، وهي لعبة ذكاء أراد منها المطلق في الزمن ليكون فضاء كلماته غير ساكن عبر تحريك المشهد باختلاف الرؤى وتجذر مفهموها عند المتلقي (1) .

غرفة…

مرآة تتوسطها، على حائط أملس،

تفضح، أم تكتم خيباتي لأنني عالق”.

يخط حبيب السامر مساحة الحدث بتأني حتى أنه يباعد بين الوصف والتوصيف، فيأخذ مقاسات الصورة من بعد الحدث نفسه، فنرى أن الموصوف قد تجسد بوضوح في أبعاد صوره الشعرية، يتلاعب على الحقيقة بدراية فيأتيك بها كاملة حتى حين تظن أنك لامست أطرافها، أحالك إلى لاشيء (تفضح أم تكتم خيباتي)، وأنت، (أقصد القارئ) تبقى بين الحيرى

الصورة الشعرية التي يجسدها حبيب السامر في نصوصه قادرة على ايصال مضمون الفكرة المستوحاة من القصدية الدلالية التي يضمنها النص لتبدوا وكأنها رسمت عن دراية واتقان فعلي مثلها السامر بألفاظ دلالية تحمل في طياتها عمق الحق ودلالة المعنى. هي تجسيد للحبكة بصورة ناطقة قد أبالغ إن قلت عنها (صورة مرئية) ذات دلالة واقعية، هي فلسفة أخرى أنطوت عليها نصوص السامر فأبدع في التوصيف الدلالي الذي من خلاله جعل القارئ وكأنه يلمس الأشياء الدالة فتتعمق الفكرة ويتنامى الأثر وتسمو الصنعة الشعرية باكتمال أركان الصورة النص والتي تشكل ذات الدلالة والعمق الذي يأتي به السامر في قصيدته وكأنه يداخل فيها سحر الكلمة وجوهر المضمون وتأثيرات الصورة ممزوجة بنكهة موسيقى النص وألوان مايرسم من صور، وتلك ميزة فلسفية تتسامى في نصه الذي يأخذ طريقه نحو الإبداع.

" يرسمُ السامر لوحاته بصدق وصفاء ذاتي ويعطيها إيقاعا" يزف به منارة الوجدان الإنساني في دواخله، وقد ينتهي بلون يختلطُ مع التراكيب الجمالية، أو أنه يبرز صورة مجسمة واضحة لواقعنا في ترنيمة متموجة كصخب البحر أو عاكسةٍ للنور كهدوء الشطآن، فيظل بدراية شفيفة يسهب في رسم الحقيقة كما هي، ويلج في ثنايا الحياة كأهز وجة حبٍ على أبواب العشق ويرنو كساحر أوشك على مسك الورقة الرابحة، وينجو في فلك مترف دافيء بمعانيه، فيضمن للوحته مزيجا" من ألوان مشاعر الحب أو المرارة والألم" (2) .

عمل حبيب السامر على تداخل الصور والمضامين في ثنايا النص، وأفرد أبعاداً تصويرية مدعمة بمساحات وزوايا وصفية للغرفة التي تحتوي المرآة، فجاء ب(الوسط والحائط) كدالة مكانية، وثم كتب في البوح والكتمان تضادان يكمل بعضهما البعض خلق منهما صورة التناقض والترادف، ثم آتى على التوصيف (خيباتي) توصيف الحالة التي عليها المتكلم سواء الشاعر أو من كان المشهد على لسانه، فربما يكون السامر قد نقل عن لسان شخص أخر واصفاً (خيباته)، ثم جاء بالتحديد (لأنني) مقرون بالحال (عالق)، وهنا ربما تحتمل مفردة (عالق) الزمان أو المكان.

هذا التداخل يبين قدرة الشاعر على التحكم في مفردات النص، وتقدير الصورة التكوينية أو التشخيصية للحدث عبر توظيف الدلالة الزمانية والمكانية، ومنها كما ذكرنا استطاع أن يرسم حدود نصه بدقة، كما تمكن من مزج الوصف والدلالة بقالب الشكل لتظهر الصورة مكتملة الأبعاد جزيلة الوصف رائعة في تكويناتها الموسيقية المرافقة للنص ودقيقة في تفسير الأسباب، لماذا (تفضح) لانني (عالق).

وربما يقال أن تلك الصورة مبسطة ومستهلكة في النص الشعري وحتى في الأداء، نقول نعم، ذلك لمن ينظر بفوقية ومن بعيد للنص الشعري ولايبحث عما وراء الكلمة من معنى قد يصل حد (النظرة الفلسفية) لتوظيف الكلمة أو المصطلح، أنا لا أقول أن حبيب السامر فيلسوف وله أراء فلسفية أو نظريات، ولايدعي الرجل ذلك، إلا أني ومن خلال نظرتي الخاصة للنص الشعري الذي يكتبه السامر أرى أن هناك ومضة فلسفية في تفسير نصوصه، والفلسفة في الشعر ميدان فسيح وغني وفيه الكثير من شعر الحكمة والتبصر.

نلمح آثار أقدام ممحوة

توا

بفعل جنون الموج أو ربما.

"ثمة تصورات أخرى تلتقي فيها الشاعرية بالفلسفية منها الثنائية الضدية للوجود، والحتمية التي تعني في بعض معانيها كسرا منطقيا للأشياء، وذلك في بحث الفيلسوف عن سر جبروت الزوال والعدم وانعكاساته في سلوك العبث وتصور الاجدوي، فالحتمية دون شك وفي ابسط تعريفاتها هي علاقة السبب بالنتيجة، وقد قدمها الفيلسوف علي وفق منظور منطقه ليحل به إشكالية الحيرة إزاء الموت، موت الفصول والاشياء والانسان في تصور خال من المرجعية الي نظرة الدين وتفسيره لها . ولذلك وجدنا صورتين فلسفيتين عميقتين احدهما صورة وتصوير لفعل الحتمية، في تصور تشاؤمي، عدمي وهذا الذي فعله شوبنهاور، ومن اثر فيهم من بعده، او تفسيرها بحالة طبيعية واقعية يلتقي في تصورها الفيلسوف مع القدر الإلهي . وهنا قدمها الفيلسوف محاول في تصور فهم الزوال علي انه حالة طبيعية تمر بها لكائنات حيث تافل وتتلاشي من اجل ولادة جديدة و تحدد وتطور في هذا العالم" (3) .

وللسامر القدرة على التحكم بأدوات النص وبمجمل عناصر البناء الشعري والتشكيلي سواء على مستوى المفردات من ناحية أختيارها وتوظيفها أو استخدامها الحسي وتوظيفها بتوافق مع موسيقى النص وبناءه الصورة واستخدامات الصورة وقدرتها التعبيرية عن النص بشكل كامل ومافيه من حبكة وتصور وحتى بناء الصور الفلسفية في مضامين النص وتكوينات السرد والتناول الشعري.

"استطاع السامر التحكم بمفردات النص الشعري عبر التنقل مابين الممارسة الى الانضباط الذي تتحكم به أدوات الشعر الرصينة، فالشعر هو نتاج الواقع، وأن أبلغ الأدب هو الواقعي الذي يتماشى مع التغييرات الطارئة وليس المعزول عنها أو عن بنيته المحددة بأدوات لا يتجاوزها الى غيرها" (4).

***

سعد الدغمان

...................

1- سعد الدغمان، حبيب السامر شمولية النظرة عبر مرآة الحياة، صحيفة كتابات، 25-11-2015.

2- سعد الدغمان، مرجع سابق.

3- سعاد خليل، فلسفة الشعر، صحيفة رأي اليوم، 13-8-2013 .

4- ناظم عبد الوهاب المناصير، الشاعر حبيب السامر سموكلماته برؤى خلاقة في الإبداع، موقع المرسى نيوز، البصرة، 21-jul - 22.

وهي علاقات "تايبولوجية" نمطية موضوعية، تَشابُهات أو سمات مشتركة بين الظواهرالأدبية المختلفة، (مثل الأعمال الأدبية وأساليب الكتّاب والتيارات الأدبية وآداب مختلف العصور)، وهي مرتبطة ومحددة بظروف الواقع الاجتماعي والفكري، التي تحيط بالكاتب، وتظهر هذه الصلات بغض النظر عن وعي الأدباء لها. يجب أن نميز بين العلاقات التتابعية المنشأية (مثل ترسخ الواقعية من خلال الرومانسية) وبين العلاقات الأدبية المتبادلة بين الكتّاب التي تتم بوعي منهم، مثل علاقة الشاعر الإنجليزي المعروف بايرون بالشاعر الروسي بوشكين.

ومن الضروري تحديد العلاقات النمطية لأنها تغنى الناقد في تعيين قوانين التطور الاجتماعي والتاريخي، التي يمر بها الأدب، ولأن الظروف الاجتماعية والتاريخية المتشابهة تخلق بدورها أعمالاً أدبية متشابهة مثل الاتجاهات والتيارات الأدبية المتشابهة أيضًا. وعند أخذ العلاقات التاريخية – النمطية ودراستها وتحليلها، نرى أن “التأثيرات الأدبية” تمتلك أهمية ثانوية، وبخاصة عند دراسة العملية الإبداعية. هذا من ناحية، ومن جهة أخرى نلاحظ أن العلاقات النمطية تساعد الباحث في أغلب الحالات، على تمييز السمات الذاتية والخاصة، فإن مقارنة أعمال تورغيينيف مثلاً بنتاجات غونتشاروف تعطي نتائجَ كثيرةً جدًا على عكس مقارنة الأول مثلا بأعمال كاتب روسي آخر هو سالطيكوف شدرين، أو أي كاتب آخر من ممثلي الواقعية النقدية.

إن العلاقات (الصلات) النمطية تظهر بطرق متنوعة للغاية ولأسباب كثيرة، إمّا بسبب ارتباطات تاريخية ملموسه، أو لأسباب تتحدد في الانتماءات الزمانية والفكرية التي ينحدر منها الكتّاب، وهي هنا تتسم بوجود أوجه شبه موضوعية وبتقارب لا جدال فيه. كذلك تظهر العلاقات النمطية بسبب التطور اللولبي للأدب، مثل ترسخ الواقعية النقدية والواقعية الاشتراكية والرومانسية في بداية القرن التاسع عشر حتى نهايته، أو تطور العديد من الكتّاب في بداية القرن التاسع عشر وتحولهم من الرومانسية إلى الواقعية النقدية، أو تحول بعض الكتّاب في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين من الرومانسية الجديدة إلى الواقعية الاشتراكية والخ. وتتجسد العلاقات النمطية أيضًا بظهور أعمال أدبية متشابهة، بل ومتطابقه تقريبا في آداب مختلف الشعوب مثل “أُنشودة رولاند، (قصة رولاند) ق 11” الأوروبية المكرسة للقائد العسكري رولاند (ت 778) مادة خصبة لأدب القرون الوسطى وأدب عصر النهضة، و” قصة إيغورييف” الروسيه، أو أعمال ديدرو وليسينغ وبلزاك وتيكيري ودودو وديكنز وغيرهم. وقد حددت الأبحاث النظرية والأدبية التاريخيه سمات الاتجاهات الأدبية (مثل الكلاسيكية والوجدانيه وغيرهما)، على أنها خصائص عامه لأعمال كتّاب معينين في القرن الثامن عشر فحسب، إلا أن هذه التعميمات اتسمت في الحقيقة بطابع على الرغم من أن النقد الأدبي آنذاك لم يستخدم مصطلح نمطية “تايبولوجيا”.

ولقد انشغل الأدب المقارن بدراسة العلاقات (مثل كتاب: تاريخ الأدب الفني 1814 للدكتور جون كولِن دنلوب.

ومقدمة الترجمة الألمانية لكتاب بانشاتتري 1859، ومن بعدهما الناقد الأدبي السوفييتي الراحل ألكسندر فيسيلوفسكي وأوليبريخت وكيلر وغيرهم. هذا وإن الأعمال النقدية الأوربية الغربية المعاصرة مشبعة بالنزعة المقارنة.

ورغم أهمية الملاحظات النقدية التي قدمها ممثلو المنهج المقارن في مجال العلاقات النمطيه، إلا أنها تعاني من نقص كبير أعاق ولا يزال يعيق هؤلاء النقاد من بيان قوانين تطورالأدب وكشفها. ويكمن هذا النقص في الاهتمام بتقارب بعض عناصر العمل الفني كالمضمون السردي والفكري والتغاضى عن الأسس التاريخية الملموسة للظواهر المتقاربة (المتشابهة).

ويمكن ملاحظة حضور تقاليد النقد الأدبي المقارن في هذا المجال في البنيوية المعاصرة أيضا. فقد أولى كل من كونراد وجيرمونسكي أهمية كبيرة لمسائل النمطية (التايبولوجيا) الفنية، التي تأخذ بنظر الاعتبار تمام بناء الظواهر الأدبية والأسباب التاريخية لظهورها وهناك ثلاثة مبادئ رئيسة لدراسة العلاقات النمطية، وهي:

1- ضرورة كشف الأسباب التاريخية للتقارب النمطي (التشابه).

2- لا بدّ من تحديد العلاقات النمطية بين ظواهر أدبيه متكاملة (مثل الأعمال الأدبية، الأساليب والاتجاهات).

3- من الضروري إيجاد تشابهات نمطية لا في الأدب القومي الواحد، بل في عدة آداب قومية لمختلف الشعوب.

إن الدراسة النمطية في مجال الاتجاهات الأدبية تعتبر أكثر منطقية وعقلانية ومستقبليه، فدرست مسائل أدبية مثل طابع تطور الواقعية في الأدب العالمي (مثل واقعية عصر النهضة، الواقعية التنويرية، الواقعية الاشتراكية). أخيرا فإن كونراد استطاع بأبحاثه العديدة بيان العلاقات الأدبية النمطية التايبولوجية.

***

الدكتور زهير ياسين شليبه

...............

* مصطلح: التشابه "التايبولوجي" النمطي، أنظر:  قاموس المصطلحات الأدبية، موسكو، 1974

أو: التشابه النمطي المقارِن. ويُقصد بالتايبولوجيا (أو النمطية) هنا تصنيف الظواهر حسب الخصائص الأساسية.

يُستخدم هذا المصطلح في النقد الأدبي الروسي المقارنِ ويعتمد على مفهوم النمطية الموضوعية (التايبولوجيا الموضوعية) كوحدات تقسيم الواقع المدروس، والنموذج المثالي الملموس للأشياء المتطوّرة تاريخياً.

وهي ايضاً فروع العلوم التي تتناول تحديد الأنواع المتشابهة بشكل موضوعي حسب خصائصها الداخلية أو الخارجية للظواهر أوالأشياء. والمقصود هنا مقارنة الظواهر الأدبية مثل اللغات والتيارات والمدارس والنتاجات الأدبية في مختلف بقاع العالم، وليس المعبّر عنها بلغةٍ واحدةٍ.

 

قراءة في مقالة الكاتب والروائي يحيى علوان المعنونة: ("سلمان رشدي.. المورسيكي الذي خلع "قفطان" اليسار)*

1. مقدمة: التغيرات الفكرية بين الواقعية وخيانة المبادئ

في هذه المقالة، يستعرض الكاتب بمرارة كيف يتحول المثقف من حارس للقيم والمبادئ إلى أداة تخدم السلطة، سواء كانت سلطة المال أو النفوذ السياسي. هذا التحول، الذي يشبه الانقلاب على الذات، يُعتبره خيانة لكل ما دافع عنه المثقف في مسيرته الفكرية.. لذا نجد ان الكاتب يستشهد بأمثلة معاصرة وتاريخية ليبرز هذا التناقض.. التناقض الذي يعكسه بعبارات قوية مثل "يبصقُ في البئر الذي شربَ ويشربُ الآخرون منه".

2. استعادة الروح البرجوازية: خيانة المثقف لذاته

يشير الكاتب إلى أن التحول الذي شهده سلمان رشدي ليس حادثة فريدة وفردية.. بل هو جزء من نمط متكرر في التاريخ الثقافي. ولم يُقدم رشدي الا كمثال حي للمثقف الذي تخلى عن قضاياه الأولى والمبدأية وانحاز إلى السلطة.. متناسياً وقوف المثقفين والأحرار إلى جانبه عندما كان محاصراً بالفتاوى والتهميش والقتل.. ويرى الكاتب أن رشدي لم يتحول هكذا وفجأة.. بل لان روحه البرجوازية المختبئة خلف كم من التراكمات الملتاثة والقلقة.. ظهرت عندما وجد نفسه في حاجة للحماية الشخصية. هذا الانقلاب ليس مجرد تحول في الفكر، بل هو سقوط في الخطيئة، كما يصفه الكاتب.

3. المقارنة بين الأعداء والمقاومين: من طالبان إلى غزة

في نقاش عميق حول المقاومة، يتساءل الكاتب عن المقارنة بين حركات المقاومة الشرعية والمجموعات الإرهابية مثل القاعدة وداعش.. ويرفض بشدة أي محاولة لمساواة المقاومين الفلسطينيين في غزة بتلك الجماعات، ويعتبر أن من يقوم بذلك، مثل رشدي، قد وقع في فخ السطحية والانحياز للسلطة. هذا النوع من الخطاب يعكس، كما يؤكد الكاتب فقدان البوصلة الأخلاقية والانصياع الأعمى للتيارات المتذلة والسائدة.

4. ثمن التحول: الانعزال والانكشاف

يلمس الكاتب موضوع الانعزال الذي يعاني منه المثقف بعد تحوله، حيث يجد نفسه مكروهاً وعارياً بلا محبة او تضامن أو دعم حقيقي، إلا من السلطات الدكتاتورية والإعلام الموالي للصهيونية. ويستمر الكاتب في تأمل هذا المشهد البائس، مستخدماً لغة مليئة بالاستعارات الشعرية، ليصف حالة المثقف الذي تخلّى عن مبادئه في مقابل "المال والسلطة والنجومية". هذا الانحدار، كما يراه الكاتب، يقود إلى فقدان الذات والاحترام.

5. أمثلة تاريخية: خيانة الأمهات والأصول

من هنا يروي الكاتب قصة رالف غوردانو، الذي تحول من مدافع عن الشيوعية إلى ناقد لها بعد هروبه إلى ألمانيا الغربية.. ويتوج القصة بمشهد مؤثر لوالدته التي تتبرأ منه علناً في إحدى المحافل، مما يعكس فكرة الخيانة ليس فقط للأفكار، بل للأصول العائلية والإنسانية. هذا التناقض بين ماضيه النضالي وواقعه الجديد يعكس بدقة الصراع الداخلي الذي يعيشه المثقف عندما يخون ذاته.. كما يفضح في هذا السياق" الزواج الكاثوليكي بين المؤسسات الاعلامية والسلطات الحاكمة".. بما فيها القضائية وممارساتها القمعية لمنتقديها وفاضحي توجهاتها الليبرالية الجدية

6. خيبة الوعود وثمن الفردانية

ينتهي الكاتب بتأمل في مصير "الوعود الكبرى" التي لن تتحقق في زمننا هذا. فحتى الحرية، التي اعتبرها بعض الشعراء والمثقفين قيمة عليا، أصبحت مسألة نسبية في مواجهة التبريرات السياسية والاجتماعية. الكاتب ينقد بشدة مفهوم "الفردانية" الذي رفعته الليبرالية الجديدة إلى مستوى القيمة العليا، مؤكدًا على أن هذا أدى إلى "تسطيح وتسليع كل شيء"، بما في ذلك الفنون والآداب.

7. المقالة مكتوبة بلغة أدبية مكثفة، مليئة بالاستعارات

والتلميحات التاريخية. هذا الأسلوب، رغم جاذبيته، يمكن أن يُصعب على القارئ غير المعتاد على هذا النوع من الكتابة فهم الفكرة الأساسية.. كما واستخدام الرموز التاريخية والثقافية لإبراز الانقلاب الفكري يعزز من قوة الحجة...

8. الخلاصة: سقوط المثقف بين المبادئ والواقع

الكاتب يعبر عن خيبة أمله من المثقفين الذين تخلوا عن مبادئهم وانحازوا للسلطة، ويرى في ذلك تجسيدًا للسقوط الأخلاقي. النقد الذي يقدمه للمشهد الثقافي العالمي هو نقد لاذع، يعكس تشاؤماً عميقاً تجاه إمكانية الحفاظ على المبادئ في وجه إغراءات السلطة والنفوذ.

مقالة جديرة بالقراءة..

***

طارق الحلفي - شاعر وناقد

...........................

* أخر ما كتبه الفقيد في صحيفة المثقف في// 122024-06-

https://www.almothaqaf.org/opinions/976033

مسارات ما بعد الحداثة في شعر موفق محمد

صدر حديثا عن دار "المتن" للطباعة والنشر والتوزيع في بغداد، كتاب "مسارات ما بعد الحداثة في شعر موفق محمد" للأستاذ الدكتور "رحيم الغرباوي" حاول فيه الغرباوي أن يسلط الضوء بقوة على موضوع شديد الاتساع والأهمية في الأوساط الأكاديمية والأدبية معا، كونه يتعلق بالتقنيات الفنية الحديثة والفنون البلاغية التي بدأت توظَّف على وفق مسارات جديدة في نصوصها الإبداعية، أطلق عليها الغرباوي مسارات ما بعد الحداثة.. على الرغم من أن مفهوم "ما بعد الحداثة" جاء كردِّ فعل على طروحات ومناهج الحداثة ونظرياتها الكبرى، بعد التبدل الذي طرأ على نظم الحياة في أوروبا والعالم ككل، لاسيما عقب مرحلة الخروج عن سلطة الكنيسة ومركزيتها، ونتيجة للإخفاقات التي خلفتها هذه المرحلة، مما أسهم في ظهور تيارات تنادي بضرب المركزيات الكبرى وتفتيتها، والثورة عليها، وما رافق ذلك من نهوض الهامش على اختلاف أشكاله وأنواعه.. ساعد في ذلك التطور الكبير الحاصل في عالم التكنولوجيا والإعلام، وتيارات العولمة التي غيرت الكثير من المفاهيم، وأعادت إنتاج منظومة فكرية جديدة قد تختلف عن السابق تماماً، مما أَحدَثَ تحولاً فكرياً في العقلية والمفهوم، والإبداع أيضاً.

ولما كان للنقد الفني اتجاهاته المختلفة، فإن حتما سيكون لتلك الاتجاهات الأدوات القادرة على فك تشفيرات النصوص الأدبية في محاولة للوصول إلى أعماق تلك النصوص، وتشخيص جمالياتها، وهذا العمل قد يستثمر المرئي من البنى النصية من أجل الوصول إلى ما ورائياتها من دلالات ومعانٍ، لذلك حاول الغرباوي، في تناوله لنصوص الشاعر موفق محمد، أن يسلط الضوء على فنون بلاغية هي ليست بجديدة ولا مبتدعة من قبل الشاعر، كالموتيف والتناص والمفارقة، إلا إن الجدَّة قد تحددت في قدرة الناقد الدكتور رحيم الغرباوي على تحديد مسارات ما بعد الحداثة في توظيف الشاعر لتلك الفنون البلاغية، وما تتضمنه من حمولات معرفية وظاهراتية قد منحت نصوصها عمقها واتساعها وتشظيها.. لذلك كان العنوان متوافقا تماما مع المتن، فالجديد في الكتاب الذي جاء به الغرباوي هو طريقة تحليل النصوص والبحث في ما ورائيات اللفظة والعبارة والسياق ككل، من أجل تشخيص جمالية غير واضحة علناً في النصوص، وكشف مسارات جديدة لشريح النص ونقده وإبراز قيمته الفنية بدقة ومهارة، وذلك باللعب بقوانين البلاغة وقواعدها وفنونها ومزاوجتها مع مناهج ما بعد الحداثة، للخروج بتشظي دلالي للفظة مثلا، فنراه يقول في لفظتي المأذنة والقباب الزرق: ((الشاعر موفق يمازج بين المئذنة والقباب الزرق، فكلاهما تومئان إلى المقدس، بينما العباءات السود تحمل مقدساً من وجهة نظر أخرى، إذ أوردها مجازاً مرسلاً علاقته المجاورة، وما يجاور العباءة هي الأم، وما لها من مكانة عند الله سبحانه وتعالى، فالعباءة تتطاير هامسة، وهي تطلب بعض مراد النفس والمقصود هنا الدعاء عساه أن يفتح هذا الباب المسدود، ويبدو أن الانغلاقة في عام ١٩٩٠م التي قيلت فيها القصيدة هي القرارات الصارمة التي وضعتها الأمم المتحدة بعد دخول العراق الكويت؛ ما جعل الحياة تغلق بوجه أبناء الوطن ومن الأسباب الرئيسة لذلك الحصار الاقتصادي الجائر))[ص22]

فقد زاوج في هذا النص التحليلي بين البعد الظاهراتي للفظة، والبعد البلاغي أيضاً، وليس ذلك فحسب، بل إنه جاء بتلك الحمولات الدلالية ليرمي بثقلها على الواقع المعيش للنص والشاعر، وبذلك نكون إزاء نص نقدي يمتزج فيه الفني والإيديولوجي معا، فيخرج عن امتزاجهما تحليلاً نقدياً يحمل سمة الدقة والاتساع الدلالي، والبعد عن النمطية، بشكل أسهم في حيوية النص وتشظي دلالاته.. وهذا التشظي مردَّه أن (اللفظة) في منظور الغرباوي لا تعطي دلالة واحدة، بل عدّة دلالات، ليس اعتباطية ولا تكهنية، بل هو ما يبوح به السياق النصي، فلفظة "الناي" مثلاً لها حمولاتها الدلالية التي تمكَّن السياق الشعري من تحقيقها، والتي تم رصدها من قبل الغرباوي بدِّقة، فكان للناي خمس دلالات تقريبا، ولكل منها سياقها ومسارها الدلالي، حتى أن بعض تلك المسارات متضادة تماماً، فالناي هو "الحزن والألم والحسرة، ونيران الجحيم"، وهو أيضاً "رمز فيوضات العطاء النافع"، كما أنه في نصوص أخرى " مصدر العلم والعطاء "، وهو في معنى آخر ونص آخر " وسيلة من وسائل النصح والإرشاد وصوت الحق والبراءة "، وأخيراً هو " وسيلة انبعاث الحياة".. لذلك فقد تم تسليط الضوء من قبل الغرباوي على تعدد دلالات اللفظة الواحدة، وبما يضفي على السياق الشعري أبعاد دلالية بعضها ظاهر، وأكثرها خفي غير مُعلن، لذلك يقول: (إن موتيف اللفظة يمثل الينبوع " الذي تسترسل منه القصيدة وتستمد وحدتها "؛ لما يضفيه من امتداد معنوي مشكلاً مع تشكيلات النص شبكة معرفية جمالية تستبين منها مضمراته لدى المتلقي الحاذق والقادر على قراءته قراءة استبصارية تحقق تقارباً لرؤية الشاعر التي تحمل رسالته، وهو يسعى بإبلاغها لمتلقيه، كما يحقق الموتيف له إفراغ ما يطاله من ضغوط نفسية تجعله يركز على ألفاظه في أكثر من سياق، وفي قصائد متعددة من تجربته الشعرية). [ص30]

من أجل ذلك يُعد كتاب "مسارات ما بعد الحداثة في شعر موفق محمد" دراسة جادة وفاعلة في تشخيص المسارات الجديدة للتوظيف الفني لبعض التقنيات الشعرية والفنون البلاغية التي جاءت متماهية مع الاتساع والتشظي الذي نعيشه اليوم في ظل التطور السريع في الميادين الحياتية ككل، فكان التشكيل الشعري مواكباً، على إثر ذلك، لطبيعة العصر، وللذهنية الجماهيرية أيضاً..

***

أ. م. د. محمد جري جاسم النداوي

للرّوائي الأردنيّ يحيى القيّسي

مقدّمة: تعتبر رواية "حيوات سحيقة" للرّوائيّ يحيى القيسي رحلة استكشافيّة في أعماق الوعي الجمعيّ العربيّ، ففيها يتداخل الواقع بالخيال، والتّاريخ بالحاضر.

تسعى الرّواية إلى فكّ شفرة الهويّة العربيّة المعاصرة، من خلال استحضار التّراث، واستخدام رموز الغموض والماورائيات.

في هذا التّحليل، أقوم برحلة في أعماق النّصّ لاستكشاف جوانبه المختلفة، من حيث الشّكل والمضمون، والأفكار الّتي يطرحها، وكيفية ارتباطها بالواقع المعاش.

بداية: اعتقَد الفيلسوفان اليونانيّان سقراط وأفلاطون قديما، أنّ هنالك نفسا داخل كلّ شخص فينا تبقى حيّة بعد موته لا تموت معه، وأنّ هناك عودة للحياة، وأحياء من الموتى،‏ وأنّ نفوس الموتى تبقى موجودة، ومنها تنطلق حياة أخرى جديدة.

من قلب هذه الفكرة، نسج الرّوائيّ الأردنيّ يحيى القيسي عالم روايته "حيوات سحيقة" الصّادرة عن دار خطوط وظلال عام (2021م)، وتمتدّ على (164) صفحة، مستحضرة المكان كإطار أساسيّ لها، لتقدّم للقارئ فكرة متميّزة بغموضها وجاذبيتها. يطرح الكاتب فكرته الّتي تميّزت بغرابتها، محفّزا قارئها على التّغلغل فيها، متجاوزا المعاني الظّاهريّة للنّص، باحثا عن تلك الغائرة في أعماقه. ولعلّ كتابة رواية تحمل فكرة ماورائيّة، تحتاج إلى جرأة شديدة، وكفاءة عاليّة، وذلك لإيصالها إلى القارئ وإقناعه بها على النّحو الأفضل.

الإهداء:

استهلّ الكاتب روايته بإهدائها "إلى فرسان الأنوار العلويّة في رحلتهم الأرضيّة". يتبادر للذهن لأوّل وهلة أنّ هذا الإهداء غريب غير مفهوم، لكن.. عند قراءة النّصّ والتّأمّل في معانيه ودلالاته، يستنتج القارئ ما رمى إليه الكاتب، وبالطّبع فإنّ القارئ المتفحّص، يسعى إلى فهم التفّاصيل الدّقيقة والتّداخلات العميقة الّتي تلقي الضّوء على المعاني الخفيّة في النّصّ، يحاول سدّ الفجوات الّتي خلقها الكاتب عمدا، ويتساءل عن دوافع الشّخوص وكيف تتأثّر بسياق الأحداث من حولها، يحاول أيضا فهم الرّموز الموجودة، وكيف تلعب دورا في تعزيز الفهم للرّسالة العامّة للعمل.

بشكل عامّ، يقوم القارئ المتفحّص بجهد لاستكشاف عمق هذا النّص وكشف أبعاده، تلك الّتي تُركَت بشكل مقصود؛ لتفعيل ذهن المتلقّي وتحفيز تفكيره وتشويقه.

العنوان ودلالاته:

بعد البحث عن المعنى اللّغوي لأصل كلمة "حَيَوات" نجد أنّها في صورة جمع تكسير، وجذرها (حيّي) وجذعها (حيوات)، وهي تشير الى الحياة، النّموّ والبقاء، أمّا كلمة "سحيقة" فهي صفة تدلّ على الثّبوت من سحُقَ وسحِقَ.

يقول العرب: الأزمنة السّحيقة، أيّ الغابرة، ومكان سحيق أيّ بعيد، وواد سحيق أيّ واد عميق، من هنا فعنوان الرّواية يدلّ على فكرتها غير النمطيّة وعلاقتها بالمكان، الّذي برز كعنصر مهمّ في صياغة هذا العمل، وذلك لارتباطه بالمكوّنات والعناصر البنائيّة للنّص.

تركّز الرّواية على عنوانها الّذي يحمل المعاني المتشعّبة، ومع هذا التّشعّب والتّداخل، نجده يرتبط ارتباطا وثيقا بالقلق الماثل في ثقافة الإنسان العربيّ، وتراثه الفكريّ وارتباكه أمام الحداثة.

يحمل العنوان أيضا فكرة التّطلّع إلى التّاريخ، ويؤكّد أنّ الهويّة العربيّة هي نتاج لحياة ودورات تاريخيّة محاطة بالكثير من الجدل.

يسعى النّص أيضا إلى التّوضيح وإعادة تفسير ذلك السّياق، ضمن إطار عامّ يقوم على الجدل؛ نتيجة لأسر الماضي وتأثيره على الذّات العربيّة، فكرها ومستقبلها.

بين التراث والحداثة:

يزخر التّاريخ بالعصور الّتي تميّزت بالصّراع بين التّقليد والحداثة، بين الخرافة والعلم، بين العقيدة والعقلانيّة، وعجلة التّاريخ مستمرّة، وهي تعني كامل الحياة دون استثناء، الماضي الحاضر والمستقبل، لذا يدرس المؤرّخون والباحثون الماضي؛ كتجارب للشّعوب يجب النّظر إليها والتمّعّن فيها، وذلك للاستفادة منها ومن خلاصة ما قدّمته الأمم من نشاطات عبر الزّمن في مجالات المعرفة الإنسانيّة المختلفة.

تسعى العديد من هذه الدّراسات إلى اكتشاف السّبب الجذريّ للرّكود المعاصر من خلال الاستقصاءات التّاريخيّة، بينما تسعى دراسات أخرى للكشف عن ديناميكيّة التّراث الفكريّ وقدرته على التّكيّف مع مختلف الأنظمة الاجتماعيّة والأيديولوجيّة.

من بين أهمّ مؤسّسي النّهج النّقديّ المفكّر محمد أركون، الّذي رفض الفصل بين الحضارات، وتساءل عن تاريخ المفاهيم المركزيّة، كالدّين والمجتمع، الحلال والحرام، العقل والضّمير، المعرفة التّاريخيّة والعلميّة والفلسفيّة إلخ. وعن مؤرّخي الفكر والأدب فقد تطرّقوا إلى هذه المفاهيم، لكن.. ما زالت الحواجز قائمة في طريق المعرفة، بالإضافة إلى إشكاليّات التّطبيق بين الأديان والتّاريخ والفلسفة، والعلوم المعرفيّة والسياسيّة والأدب، خصوصا ما يتعلّق بالأنثروبولوجيا الّتي لم تزل غائبة عن الأذهان بفروعها، والّتي تدرّس التّصرفات الإنسانيّة وبناء الثّقافات البشريّة، بأدائها ووظائفها في كلّ زمان ومكان، كذلك وتأثير اللّغة على الحياة الاجتماعيّة وتطوّر الإنسان بيولوجيّا، وثقافات البشر القديمة.

نستنتج ممّا سبق، أنّ القيسي دخل في روايته إلى موضوع شائك، تتشابك فيه الثقّافة بالتّراث والميثولوجيا والفكر في شبكة معقّدة من التّفاصيل والتّداخلات، ممّا يضفي على الرّواية طابعا خاصّا وعمقا تأمّليّا لصورة معقّدة، تعكس أسلوب التّفكير والثّقافة الشّعبيّة والفكريّة العربيّة، وتستكشف التّأثيرات المتبادلة بين التّراث والفكر والتّغيرات المجتمعيّة.

حبكة الرّواية:

"صالح" بطل الرّواية الّذي اقترب من الأربعين، عمل في مجال التّدريس ثمّ دليلا سياحيّا، بعد ذلك باحثا في مركز للدّراسات، قام بمرافقة فريق تلفزيونيّ لتصوير فيلم وثائقيّ عن الرّحالة والمؤرّخ السّويسري "يوهان لودفيك بركهارت"، الّذي وصل إلى شرق الأردن مكتشفا مدينة البتراء في جنوبه (1812م).

يتتبّع صالح مع الفريق الأماكن الأثريّة في الأردن، وخلال إنتاج ذلك الفيلم، انفرد صالح عن الجميع وزلّت قدمه؛ فسقط في حفرة قضى فيها ليلة قاسيّة صعبة، بعد أن سَدّ التّراب ثغرة الحفرة، فشعر بالإحباط واليأس، وأن لا أمل له بالنّجاة.

نظر حوله فاكتشف أنّ الحفرة تنتهي إلى سرداب يؤدّي إلى كهف يقود إلى مكان ما، بعد ذلك وجد إناء من الفخّار يشبه الجرّة؛ فقام بكسره، وجد فيه سائل كثيف، تذوّقه واستشعر حلاوته؛ فانتابته حالة غريبة! وكأنّ شيئا ما قد تغيّر به، بدأ يشاهد ومضات من حيوات أخرى عاشتها النّفوس الأثيريّة وانتهت إلى جسده!

غاب صالح عن الوعي، وأضحى بحالة هلوسة شديدة، راح يرى أشياء غريبة، ويتخيّل حياة مختلفة بوقائعها، وكأنّ أحد أجداده قد عاشها في أزمنة سحيقة!

في اليوم التّالي تمّ إنقاذه وإسعافه من الكسور الرّضوض والكدمات، وعاد إلى مدينة الزّرقاء حيث عائلته الّتي اعتنت به.

انقلبت حياته رأسا على عقب جرّاء ذلك الحادث الغريب، فقد عصفت الأحداث الغامضة به وبأيّامه، انهالت عليه المشاكل وتتالت عليه الأفكار السّلبيّة، بدأ يشعر بالخوف والقلق وفقد الثّقة في نفسه وفي الآخرين، بدأ يشكّ في كلّ شيء حوله، وأصبح ينظر إلى العالم نظرة تشاؤميّة، وجد نفسه في صراع دائم مع نفسه، وأخذ يفقد الأمل في الحياة.

اجتهد في البحث عن تفاسير منطقيّة لما يحدث معه، وعن إجابات للأسئلة الّتي كانت تدور في ذهنه، ثمّ لجأ إلى التّفسير الدّينيّ، وانغمس في دوّامة التّطرّف الدّينيّ، ومن خلال بعض الأقرباء وقع فريسة للتطرّف، بحث عن الخلاص، فبدأ يقرأ ويبحث في الكتب والمراجع، علّه يجد فيها بلسما شافيا لما هو فيه، فلم يساعده ذلك، لكنّ عمله مع فريق التّصوير البريطانيّ، وعلاقته مع "أليس" دفعته للتمعّن في الواقع والعودة إلى المنطق والتّفكير بعقلانيّة، والعثور على ضوء في نهاية النّفق.

أخيرا.. وبعد المعاناة، بدأ يتعلّم كيفيّة التّعامل مع هذه الأزمة، وراح يستشعر الأمل مرّة أخرى وينظر إلى الحياة بمنظور جديد، أصبح يؤمن أنّ كلّ شيء يحدث لسبب، وأنّ كلّ تجربة، حتّى لو كانت صعبة، يمكن أن تكون فرصة للتعلّم والنّمو، مدركا أنّ الحياة مليئة بالتحدّيات، ولكن.. يمكننا التّغلّب عليها إذا كان لدينا الإيمان والعزيمة.

ألهمته "أليس" بالنّظر إلى الأمور بعقلانيّة، فبدأ باستعادة توازنه العقليّ، فوجد النّور وحقّق التّحوّل الإيجابيّ؛ لينجو بنفسه من تلك الأفكار السّامة، وذلك بمساعدة العنصر الأنثوي الفعّال في الرّواية، فعلاقة صالح بأليس لم تكن مجرّد خيوط عاطفيّة زيّنت السّرد، بل كانت المحرّك الأساسيّ في تطوّر شخصيّته، وخروجه من المأزق الّذي كاد أن يؤثّر على صحته العقليّة والنّفسيّة، بدأ تأثير الحبّ الإيجابيّ يظهر عليه بشكل واضح؛ كمحفّز لتغيير نظرته إلى الحياة والمستقبل، وبفضل الدّعم العاطفيّ والتّفهّم والاحتواء الّذي قدّمته أليس، استعاد صالح توازنه العقليّ وشعر بالإلهام لتحسين وضعه النّفسيّ والمعنويّ.

أظهرت الرّواية من خلال تلك العلاقة، كيف أنّ الحبّ والاهتمام يمكّنان الإنسان من التّغلّب على التحدّيات والخروج من المواقف الصّعبة، وأنّ تأثير الحبّ على الإنسان ليس محصورا في العلاقات الرومانسيّة فقط، بل يمتدّ إلى تأثيره الإيجابيّ على النّفس والتّفاؤل والنّظرة إلى الحياة.

هلوسة أم اضطراب نفسيّ:

الهلوسة هي تجارب حسيّة لا أساس لها في الواقع، قد تكون بصريّة أو سمعيّة، وغالبا ما توصف بأنّها "رؤيّة أشياء غير موجودة" أو "سماع أصوات غير حقيقيّة".

هناك العديد من الأسباب المحتملة للهلوسة، بما فيها الاضطرابات العقليّة مثل الفصام والاضطراب ثنائيّ القطب والاكتئاب، وبعض الأدويّة والأمراض الجسديّة مثل الصّرع والأمراض الدّماغيّة والإرهاق الشّديد، أو الحرمان من النّوم، أو التّعرّض لصدمة نفسيّة أو عصبيّة كما حصل مع بطل الرّواية.

في بعض الحالات، قد تكون الهلوسة علامة دالّة على حالة طبيّة خطيرة، لذلك، من المهمّ استشارة الطّبيب المتخصّص، وبالطّبع يعتمد علاج الهلوسة على السّبب الكامن وراءها.

أدخل الكاتب موضوع الهلوسة إلى روايته بأن جعل أحد الشّخوص الرئيسيّة "صالح" يعاني من الهلوسة، فكشف بذلك عن نفسيّته وصراعه الدّاخليّ، الّذي تعمّق بسبب صدمة نفسيّة وعصبيّة، فجاءت الهلوسة كجزء من عالمه الخياليّ؛ مما خلق بعض الغموض.

كما استخدم القيسي الهلوسة؛ كرمز واستعارة لتمثيل شيء آخر كالحلم والخيال أو الجنون، فقد رأى البطل أشياء غير موجودة في الواقع، هذه الأشياء رمزت إلى مخاوفه أو رغباته أو أحلامه كإنسان عربيّ قلق، لديه الكثير من المخاوف، يحاول فهم معنى الحياة والموت، ويعيش واقعه المضطرب في مجتمع وثقافة متناقضة، متحضّرة في خارجها ومنغلقة على ذاتها من الدّاخل، تقليديّة تقاوم التّغيير، وتؤمن بالسّحر والشّعوذة والتّنجيم والماورائيات، والكثير من الخرافات. وهنا يحضرني ما قاله الشّاعر نزار قبّانى: "لبسنا قشرة الحضارة والرّوح جاهليّة"!

هذه الهلوسة عكست الصّدمة الّتي تعرّض لها صالح، وأضافت الكثير من الغموض والتّشويق، وفي النّهاية فإنّ الطريقة الّتي ربط بها الرّوائي موضوع الهلوسة في روايته، اعتمدت على أهدافه الفنّيّة والموضوعيّة الّتي سعى إليها؛ لتجسيد أفكاره ومشاعره، وأسلوبه ورؤيته ورسالته التّنويريّة.

المكان والزّمان:

تعامل القيسي مع المكان بشكل جيّد حين اتّخذ منه إطارا مادّيّا للأحداث المتخيّلة؛ فحقّق امتزاجا مكانيّا عجائبيّا بالحدث، الّذي حملت أحداثه حيّزا من السّكون إلى عالم الدّهشة السّرياليّة، فتجلّى المكان كأرض خصبة، امتزجت فيها الطّبيعة الثّقافيّة والتّاريخيّة بتفاصيلها المتشابكة الّتي عكست مركزيّة مكانيّة، ذات عمق تاريخيّ، فمنطقة البتراء النّبطيّة هي جزء من السّاحة التّاريخيّة والتّراثيّة الأردنيّة.

أمّا الزّمن فتداخل بالعديد من الأحداث؛ ليرسل القارئ إلى فترات عديدة، بدءا من زمن الرّاوي أو السّارد "صالح" المرتبط بالحاضر، ثمّ زمن رحلة "بيركهارت" وتقنيّة الاسترجاع، ثمّ أزمنة أخرى تُستعاد داخل وعي "صالح"، وتتّصل بالتّاريخ والتّراث العربيّ.

بشكل عام، يرمز الزّمن إلى الماضي والذّكريات، وإلى آمال الإنسان العربيّ وطموحاته الّتي تحكمها القيود الفكريّة العديدة، وإلى القديم والحديث والمقارنة بينهما، وقد ساهمت هذه الرّمزيّة في خلق جوّ خاص للرّواية، وإثراء كبير للزّمن السّرديّ فيها.

سرديّة الوعيّ والبحث عن الذّات:

تطرّقت الرّواية إلى العلاقة مع الثّقافات الأخرى والانفتاح على الآخر ونبذ خطاب الكراهيّة، الزّواج المختلط وقصّة الحبّ الّتي جمعت صالح بأليس، وقصّة زواج السّائحة النيوزلندية "مارغريت"، الّتي جاءت إلى البتراء ثم تزوّجت بدويّا من أهل البتراء واستقرّت فيها.

كلّ هذه الشّخوص وغيرها أدّت دورها بعناية وبرعت في شدّ انتباه القارئ، وذلك عبر حبكة متماسكة، حيكت بمهنيّة كتابيّة سرديّة عاليّة، وبأسلوب فنّيّ غنيّ بالغموض، وصور حيّة للشّخوص المتفاعلة مع نصّ تشابك وتعقّد، فظهر تأثير التّراث الفكريّ عليه، وعلى تشكيل شخوصه وطرق تفكيرهم.

بهذا الأسلوب قدّم القيسي تحليلا لتفاعلات الأفكار والقيَم في سياق مركّب لعمق التّحوّلات في المجتمع، وكيفيّة تأثيرها على الفرد والجماعة.

أمّا هيكل الحدث، فقد جسّد السّقوط في الحفرة الفعل الأساسيّ الّذي قاد البطل إلى الوعي والنّمو الروحيّ ونضج التّجربة، وذلك عبر جملة من الدّلالات حول أهميّة الوعي الفكريّ، واستخدام الحوارات الدّاخلية ونماذج الإسقاط؛ لتفسير ما حصل.

تُشَبّه فترة العزلة الّتي قضاها "صالح" في الحفرة بواقعة لا يمكن تفسيرها، غرائبيّة الأثر والتّكوين، إذ تبدو خارج نطاق المنطق، مخالفة للتوقّعات المنطقيّة للعالم الواقعيّ، فهي واقعة سرياليّة تشبه الأحلام والكوابيس، تثير في نفس القارئ مشاعر الغموض والغرابة والعجب والرّيبة.

يتمّ إنقاذ صالح ويعود إلى حياته السّابقة، لكنّه لم يعد هو نفسه، وهنا يظهر الوعيّ الجديد الّذي صاغته الظّروف، تلك الّتي خضع لها، وتبرز رؤيته المنطقيّة للماضي والحاضر، تلك الّتي تشكّلت بعد تجربة نفسيّة مريرة، ساهمت في تشكيل شخصيّته وجعلتها أكثر نضجا.

قاده هذا التّحوّل إلى تجربة قريبة من التّسامي نتيجة الخوف والقلق، إذ اقتربت تجربته من البعد الرّوحيّ وأثّرت عميقا في نفسه.

في البداية اعتقد أنّها تجربة دينيّة؛ فزاد من إيمانه حتّى وصل إلى التطرّف، وحين شعر بأنّها تجربة وجوديّة، أعاد التّفكير في قيَمه وأفكاره، لكنّه في مرحلة لاحقة وجدها تجربة نفسيّة، زادت من وعيه الذاتيّ، فعندما يتعرّض الإنسان لتجربة صعبة، يواجه التّحدّيات والصّعوبات التّي يجب التّغلّب عليها، وذلك ما يتطلّب الصّبر والتّحمّل والعزيمة.

يتعلّم الإنسان من تلك التّجارب، ويخرج منها بفهم أعمق للحياة والنّاس، وكأنّي بالكاتب يقول: التّجارب المريرة ما هي إلّا فرصة للإنسان؛ للنّمو والتّعلّم والتّحوّل إلى شخص آخر، أكثر نضجا وموضوعيّة.

اللّغة.. بين الجمال والخيال والبحث:

يجمع هذا العمل بين الخيال والبحث الفكريّ والتّوثيق التّاريخيّ، ساعيا إلى تقديم عمل سرديّ يحتفي باللّغة وجمالياتها، وقد لجأ الكاتب إلى آليّة خاصّة لإبداع نصّه الأدبيّ، فجعله متكاملا يزخر بالبلاغة والجماليّات اللّغوية الّتي تبهر القارئ، وتخلق عوالم جديدة مبهرة في الجوهر والعمق، فجاد بما في جعبته من الألوان اللّفظيّة، ولعلّ هذا ما شدّني إلى الوصول إلى آخر سطر في الرّواية دون أن أفقد شغفي بلغتها ورغبتي بالقراءة، وذلك لما يسكنها من سحر لغويّ خاصّ، يخلق الفخامة والرّقي للعمل، ويجعل منه أكثر جاذبية وثراء، ويجعل النّص أكثر إلهاما.

من ناحية أخرى فمصطلحاتها وتراكيبها صعبة، وغير سلسة للقارئ العاديّ، فهذا العمل استهدف النّخبة من القرّاء، وتناسى القارئ العادي البسيط، لكنّها وللحقّ، لغة صعبة القراءة والاستيعاب على القارئ العاديّ، ما يقلّل من متعته في القراءة، ويؤدّي إلى صعوبة فهمه لأفكارها، وبالتّالي إلى عزوفه عن قراءتها، وذلك ما يعيق وصولها إلى جمهور أوسع.

إذن، فهذه اللّغة الفصيحة البليغة تغدق علينا بفيض من الجمال، وفي الوقت ذاته تلقي بظلال من التّحدي على بعض القرّاء.

التّصنيف الأدبيّ:

بعد قراءتي لهذه الرّواية لمستها في أكثر من تصنيف، فقد تُصَنّف بالرّواية "القوطيّة" لتميّزها بأجواء الغموض، والأماكن المهجورة فيها، والمعتقدات والتلّميحات الّتي تسودها، ووجود الأماكن الأثريّة، والأطلال والماضي الذي يخزّن أسرارها.

كما يمكن تصنيفها كرواية نفسيّة عميقة، حيث تتناول رحلة البطل نحو اكتشاف الذّات وتجاوز الصّدمات النّفسيّة، مستخدمة رموزا وأحداثا غامضة تعكس أعماق اللّاوعيّ البشريّ.

قد تُصَنف أيضا بالرّواية "الملغّزة"، الّتي تعنى بالمجهول وكلّ ما يحيط به من الغموض والأسرار؛ لتقود إلى طرح الأسئلة والبحث عن الإجابات، وقد تصنّف بالرّواية "الفانتازيّة" الّتي تطرح فكرة وجود كائنات خارقة، متحرّرة من قيود المنطق، معتمدة على الخيال بشكل كامل، حيث تقع أحداثها في عالم متخيّل لا يخضع لقوانين مادّية فيزيائيّة طبيعيّة كعالمنا، إنما تصوّر عالما خاضعا لقوانين ميتافيزيقيّة، متناقضا مع التّجربة الواقعيّة.

إنّ ما يميّز "حيوات سحيقة" هو براعة السّرد، فأحداثها المتداخلة المتتاليّة تنقل القارئ إلى عالم الخيال والإثارة، وتسعى لاكتشاف الغامض وفهم المجهول؛ لتقدّم لنا لوحة فنّيّة متشابكة، تتناول قضايا الإنسان الوجوديّة في مواجهة عالم متغيّر ومعقّد.

ما وراء الفكرة:

للمفكّرين والباحثين والأدباء، أساليبهم المختلفة في تناول مسألة التّراث الفكريّ والحداثة، يعود ذلك الاختلاف إلى العوامل الأيدولوجيّة ودورها في التّعامل مع جدليّة التّراث والحداثة، انطلق بعضهم من منظور التّنوير لنقد التّراث الفكريّ العربيّ، فنادى إلى إعادة قراءة التّراث الفكريّ ليواكب العصر، العديد من الباحثين قاموا بإعادة النّظر في الفلسفة والعلوم الدّينيّة؛ لجعلها تتماشى مع  حداثة العصر والعلم، فمثلا المفكّر علي شريعتي قام بإعادة النّظر في المصادر الكلاسيكيّة الفكريّة، لإظهار توافق الأديان مع الأيديولوجيات الحديثة، ينطبق هذا الأمر على المفكّر الطّيب تيزيني، الّذي اعتمد على الجدليّة التّاريخيّة في مشروعه الفلسفيّ؛ لإعادة قراءة الفكّر العربيّ، وكذلك الفيلسوف حسين مروّة الّذي قدّم كتاب "النّزعات المادّية في الفلسفة العربيّة الإسلاميّة"، وركّز على احتواء الفلسفة والفكر الدينيّ على وجهات نظر وأساليب متقاربة مع الديالكتيك المادّي، والفلسفة العلميّة المستندة إلى المنطق ومفهوم التّناقض، وظاهرة تغيّر الأشياء باستمرار، الّتي تفسّر تطوّر الأشياء وتغيّرها عبر سلسلة من المراحل، كلّ مرحلة تقوم بنفي المرحلة السّابقة، مع الاحتفاظ ببعض عناصرها.

استخدم "كارل ماركس" الدّيالكتيك المادّي لشرح تطوّر الرأسماليّة، حين رأى أنّ الرأسماليّة تستند إلى التّناقض بين الطّبقة العاملة والرأسماليين، وبشكل عام فالدّيالكتيك المادّي يستخدم لدراسة مختلف الظّواهر الطّبيعيّة والمجتمعيّة، فهو أداة تحليليّة قويّة يمكن استخدامها لفهم العالم من حولنا، وهو يوفّر الفهم العميق للتغيّر والتطوّر.

المفكّر محمد عابد الجابري قدّم مساهماته في تحليل المعرفة في الثّقافة العربيّة ونقد العقل العربيّ، عبر دراسة المكوّنات والبنى الثّقافيّة واللّغويّة، ودراسة العقل السّياسيّ ثمّ الأخلاقيّ، ابتكر مصطلح "العقل المستقيل" ذلك العقل الّذي يتجنّب مناقشة القضايا المحوريّة الهامّة، مشيرا إلى العقليّة العربيّة وحاجتها إلى الابتكار.

يرى "أدونيس" أنّ العرب في القرن العشرين، عندما يحاولون دراسة تراثهم الماضي فإنّهم ينجذبون بشكل خاصّ إلى الإنتاج الّذي يرتبط بالتّغيير والتّحوّل.

هذا الإنتاج هو الّذي رفضه أسلاف العرب في الماضي، ولا يزال حتّى اليوم خارج بنية المجتمع العربيّ الأساسيّة، يشير أدونيس إلى أنّ هذا التّناقض هو أساس المشكلة.

في كتابه الأصول الاجتماعيّة للإسلام، طرح أستاذ علم الاجتماع محمد باميّة العديد من الأسئلة، وضّح الحاجة إلى الشّجاعة وكسر الحواجز والتابوهات؛ للوصول إلى الفهم الصّحيح، وإلى المزيد من الإثباتات التّاريخيّة والأدلّة الأركيولوجيّة، وعلم الآثار ودراسة البقايا المادّية للحضارات السّابقة، ودراسة الهياكل والأماكن الّتي بناها الإنسان مثل المدن والمعابد والمقابر، خاصّة وأنّ التّراث الفكريّ العربيّ في مجمله ضدّ الحداثة، أمّا المفكّر هشام شرابي فقد تناول التغيّرات الهيكليّة داخل العالم العربيّ خلال القرن الماضي، الّتي أدّت إلى "النّظام الأبويّ الجديد" بدلا من الحداثة، وفسّر ذلك بأنّ النّظام الأبويّ أنتجه التّفكير المجتمعيّ المفتقر إلى الإحساس بالأصالة، كما تناول السّلوكيات الاجتماعيّة، هيكل العائلة العربيّة، العجز، التّبعيّة، الوعي، المثقّف العربيّ وتحدّيات العصر.

في الواقع نحن ضحايا الموروث الفكريّ الّذي يقف حائلا بيننا وبين الحداثة، يحرمنا من الخوض في مسائل جديدة، إذ يقدّس النّاس القائم ولا يسعون إلى تغييره، ولا يفكّرون بجدواه أو صحّته، وبالتّالي فقدنا فعل الحريّة، وافتقدنا إلى التّفكير النّقدي الّذي يقودنا إلى الإبداع والابتكار.

الماورائيّات والتّراث الأدبيّ العربيّ:

تأثّرت بعض الرّوايات العربيّة بالماورائيّات، والتّراث الأدبيّ العربيّ الّذي قدّم فكرة السّحر والشّعوذة مثلا، هو تراث قديم وثريّ بالقصص والحكايا، ومن أقدم الأمثلة على ذلك هو الشّعر العربيّ القديم الّذي تطوّر من الأناشيد، الّتي توجّهوا بها إلى الآلهة.

في بدايات الشّعر الجاهليّ، ارتبط الإبداع بالإلهام، ثم تحوّل تدريجيّا إلى مهارة يتقنها الشّعراء من خلال الصّقل والتدرّب، وقد استلهم الشّعراء الجاهليّون قسوة الحروب وأساطير الأجداد، وتأثّرت نفوسهم باللّاشعور الجمعيّ، فظهرت في أشعارهم رموز وأيقونات تعكس عمق النّفس الجماعيّة، وقد شكّل الدّين والأسطورة خيالهم الشّعريّ، وبهذا، نرى أنّ الإبداع الشّعريّ في العصر الجاهليّ كان نتاجا لتفاعل معقّد بين الشّاعر ومحيطه، حتّى بدأ الشّعر ينفصل عن المعتقد، ليصبح فنّا أدبيّا مستقلّا.

في رحلة استكشاف جذور الكهانة عند العرب، يرى جرجي زيدان أنّ هذا العلم الغامض قد حمله الكلدان إلى أرض العرب جنبا إلى جنب مع علم النّجوم، تاركين بصمتهم على ثقافة المنطقة، ويستدلّ زيدان على ذلك باللّفظ العربيّ المستخدم للدّلالة على الكاهن، وهو "حازي" أو "حزاء"، وهي كلمة كلدانيّة الأصل تحمل في طيّاتها معنى "الرّائي" أو "النّاظر" أو "البصير"، كما لو أنّ الكاهن يمتلك عينا ثاقبة تخترق حجب الغيب.

تثير الكهانة جدلا واسعا بين النّاس، فبينما يعتقد البعض بصدقها ويؤمن بقدرتها على كشف المجهول، يشكك آخرون في صحّتها ويرونها مجرّد خرافات، وعلى الرّغم من انتشارها عبر العصور، إلّا أنّ العلم الحديث لم يجد أيّ دليل يثبت صحّة ادّعاءات الكهانة، فقد خضعت هذه الممارسات للعديد من الدّراسات والأبحاث، لكنّها لم تسفر عن أيّ نتائج تؤكّد فعاليّتها، فهل تُعدّ الكهانة مجرّد وهم يسلّي العقول، أم أنّها نافذة حقيقيّة على عالم الغيب؟

يبقى هذا السّؤال مفتوحا، تاركا لكلّ فرد حرّيّة الاعتقاد بما يراه مناسبا.

من الأمثلة الأخرى على التّراث الأدبيّ العربيّ الّذي قدّم فكرة السّحر والشّعوذة هي الحكايات الشّعبيّة والتّراثيّة، مثل ألف ليلة وليلة، الّتي تضمّنت مجموعة من القصص الخياليّة.

في العصر الحديث، استمرّت فكرة الغيبيّات والماورائيّات في الظّهور في الأدب العربيّ، وخاصّة في الخيال العلميّ والفانتازيا، فقد استخدمت هذه الأنواع الأدبيّة لخلق عوالم خياليّة مليئة بالمغامرات والإثارة.

يمكن القول أيضا، إنّ فكرة الغيبيّات هي فكرة عالميّة، ظهرت في العديد من الثّقافات المختلفة حول العالم، وقد لعبت هذه الفكرة دورا مهمّا في الأدب العربيّ، وفي تشكيل الثّقافة العربيّة، واستخدمت لخلق عوالم خياليّة مليئة بالمغامرات والإثارة.

في الختام:

لعلّ عملية إنتاج رواية تعتمد على فكرة غيبيّة أو ماورائيّة، هو عمل يتطلّب جرأة كبيرة من الكاتب، ومعرفة وثقافة واسعة؛ وذلك لإقناع القارئ بمضمونها ومحتواها، وهو ما يتطلّب أيضا مهارة في تناول العناصر الخياليّة والرّوحانيّة بطريقة مغايرة، تثير الفضول وتلامس الوجدان.

يتمثل التّحدّي الأكبر في جعل أفكار العمل ملهمة وجذّابة ومشوّقة؛ لتعيش في ذهن القارئ، بعد الانتهاء من القراءة وإغلاق الصّفحات، كما فعلت رواية "حيوات سحيقة" الّتي أثارت تساؤلات حول ماهيّة الوجود والحياة والموت.

***

صباح بشير – أديبة وكاتبة

........................

* هذه المقالة جزء من دراسة نشرتها في كتابي "شذرات نقديّة".

فعل التوازن بين الضرورات الفنية والمتطلبات الجماهيرية 

المسرح الشعبي تجسيد رائع لمقولة الفن للمجتمع، فهو نوع من الفنون الساعية لاستقطاب الجمهور عبر تقديم ما يتسق مع ذائقتهم، ويتوافق مع توجهاتهم، وفي الوقت نفسه يقدم افكارا ترتقي بالوعي وتنمي الذائقة بإضفاء المزيد من العناصر الفنية/الجمالية.

عمل الفنان مقداد مسلم مؤلف ومخرج مسرحية (أحوال وأمثال) على إنشاء امتداد لمسرحيّته الذائعة الصيت (الخيط والعصفور) التي عرضت عام 1984 وشهدت اقبالا جماهيريا واسعا، امتد عرضها سنة تقريبا، وما زال الجمهور يتذكرها بمحبة تقترن بالمواقف الكوميدية والممثلون الذين جسدوا شخصياتها، وبعض العبارات التي أصبحت لازمة يرددها الجمهور إلى يومنا هذا. وجاء حصاد النجاح استنادا إلى مقومات المسرحية الشعبية التي يحرص المخرجون على وجودها لكي يتمتع العرض بحضور جماهيري كثيف، منها: حضور الممثل النجم وتجسيده لشخصية رئيسية، وأن يشتمل العرض على الموسيقى والغناء والحركات الإيقاعيّة إلى جانب القفشات الكوميدية والحوار القريب من روح المتلقي، وأن تكون قاعة العرض وسط المدينة، مع اهمية الترويج الواسع للدعاية والإعلانات في وسائل عدة، وأماكن يرتادها المجتمع. 440 habib

عرضت المسرحية الشعبية (أمثال وأحوال) إنتاج وزارة الثقافة والسياحة والآثار/دائرة السينما والمسرح، على مسرح المنصور لثلاثة ايام اعتبارا من 16/ 10/ 2024، تكون العرض من فصلين بينهما استراحة، زمن الفصل الاول خمس خمسون دقيقة وزمن الفصل الثاني خمسون دقيقة، وبهذا أعاد (مقداد مسلم) الجمهور إلى زمن المسرحية الطويلة التي يقضي افراد العائلة معها أمسية كاملة، وفي هذا توافق مع المسرحيات التي لا يقل عدد صفحاتها عن مائة صفحة مثل هملت ومكبث وبيت الدمية والقرد الكثيف الشعر، والكثير من العروض التي قدمت في المهرجانات وحققت جوائز، ذلك أن المسرحية الطويلة تلبي الاشباع الفكري الجمالي المتوخى من حضور العرض المسرحي.

يدخل الجمهور إلى الصالة ليجد بيتا عراقيا بغداديا ماثلا أمامه، وتستقبل مسامعه اغاني تراثية بهدف الدخول في بيئة العرض وأجوائه، وقبل بدء حكايات العرض قدمت الشخصيات نفسها للجمهور بصورة تعريفية مباشرة، ولم يعمد المؤلف المخرج إلى تقديم هذا التعريف في طيات الحوار وتوالي الأحداث كما هو المعتاد في العروض المسرحية، ثم بدأ الفعل الدرامي بمشهد صورة تعاقب الأجيال من خلال ولادة طفل (حمامة) زوجة (يابس) الذي كثر الحديث عنه وعن بخله ولم يظهر أبداً على خشبة المسرح، وقع فعل الولادة يسار خشبة المسرح، وبالوقت نفسه يموت الجد (عصفور) يمين الخشبة وما بين اليمين واليسار تتجول الشخصيات مفصحة عن مشاعرها إزاء الولادة والموت وتتحدث وتبحث عن وصية الجد المكتوبة.441 habib

ارتكز العرض على محورين، محور البحث عن وصية الجد (عصفور) ومحور سردية الأمثال الشعبية، مع التركيز على ثيمة انشغال العائلة بتطبيقات الهواتف المحمولة والتواصل عن بعد، وفقدان التواصل الوجاهي الحي مع أفراد العائلة، وقد أوصاهم جدهم بأن يكونوا ليوم واحد في الشهر مع بعضهم، يلتقون ويتحدثون فعلا دون هواتفهم ، وإذا بهم ينفذوا الوصية الشفوية ويستمرون بالبحث عن الوصية المكتوبة، ويشغلون أنفسهم برواية الأمثال الشعبية وحكاياتها الشيقة.

اطلق المؤلف تسميات متنوعة على شخصياته فأخذ من الطيور (عصفور، كناري، حمامة) ومن الاسماك (كوسج، حوت، زورية) ومن الصفات الشخصية: (كفوشه: أي ذات الشعر غير الممشط- بردان: يشعر بالبرد، مكروده: مظلومة ومسكينة، غنية: من الثراء) و(فاهم) الذي اتفق الجميع على أنه فاهم فعلا، وافسحوا له المجال لممارسة دوره التنظيمي للعائلة، بقصد الدلالة على طبيعة الشخصية، وقد انسجم أداء الممثلين مع طبيعة الشخصيات، وشكل وحدة إيقاعية متناغمة بفعل تأطير الشخصيات جميعا -عدا شخصية واحدة- بالروح العراقية وإيقاعات الأغاني البغدادية التراثية، مما جعل للعرض ترجيعات في ذات المتلقي، وبالنتيجة نسج المخرج خيوطا كثيرة تربط بين مجريات العرض وجمهوره، مع الالتفات إلى أن تذوق الأغاني التراثية لا يمكن تعميمه على جميع الفئات العمرية الحاضرة في العرض، بسبب من تباين ذائقة الأجيال، مع الأخذ بالاعتبار ضرورة تعريف الأجيال الحديثة بالتراث بأنواعه.

كتلة المنظر ذات الطابقين ثابتة دون تغيير طوال العرض، دون الأخذ بالاعتبار ضرورة التنوع البصري في المسرحية الطويلة نسبيا، فضلا عن أن الوقت الذي استغرقته أحداث المسرحية سنة، وكانت فسحة الاستراحة بين الفصلين فرصة مواتية لتغيير المنظر جزئيا، وقد استثمر المخرج مناطق الخشبة، فكان الطابق العلوي مشغولا لفترة وجيزة لمشاهد الجيران (غنية ومكرودة) دلالة تسلطهم الفوقي على أصحاب الدار، ومنح المخرج الجارة (كفوشة) وزوجها منطقة أسفل يمين الخشبة لإجراء محاورتهم وتآمرهم وطمعهم بالحصول على شيء بعد العثور على الوصية المفقودة، اقتصر تغيير الأزياء الملحوظ على الشخصيات النسائية فقط. وقد تمت مراعاة عزل بعض المشاهد بواسطة الإضاءة عن عموم المنظر، مع اضافة ملحقات للشخصية، وتجلى ذلك في أحداث مشهد القاضي الخائن للأمانة أسفل يسار الخشبة، وأضيفت لشخصية القاضي بطن كبيرة وجبة وطربوش ولحية طويلة ساهمت بتغيير بنية الشخصية ومنحها الدلالة المتوخاة، واحدث المشهد تفاعلا، وتغييرا متصاعدا في إيقاع العرض، وكسر رتابة تكتل التمثيل في وسط المسرح.442 habib

تسيد الخطاب المباشر للجمهور حيزا كبيرا من زمن العرض من خلال فعل سرد الأمثال الشعبية وأدائها التقديمي، وفي هذا اتضحت قدرات الممثلين على تقديم أكثر من شخصية من قبل الممثل الواحد عبر تغييرات طبقات الصوت وأسلوب الإلقاء فضلا عن الاستعانة ببعض الإيماءات والملحقات الموحية، ذلك أن لعبة التمثيل داخل التمثيل احدى جماليات تأليف واخراج هذا العرض الذي بانت فيه السمات الفنية للمسرح الملحمي بوضوح، مثل الاستعانة بالتراث والحكاية داخل حكاية، وفعل القص والرواية ، المشاهد المتعددة، عدم الاندماج في الشخصيات وقطع الايهام بصدقية الأحداث، وتقديم صور مغربة للواقع.

وقد اسند المؤلف/ المخرج مهمة تنسيق حكايات الأمثال وتوزيع أدوارها إلى شخصية (فاهم) مثقف العائلة الذي يرتاد شارع المتنبي إلى (حسين علي هارف) الذي أمسك بدفتر والقى أبياتا شعرية وأشار إلى الممثلين بتقديم حكايات الأمثال بحسب أولويات تنظيمية وكانه قائد أوركسترا العرض، مع الحاجة الى المزيد من وضوح طبيعة علاقة (فاهم) بشخصية (زوريه) في الوقت الذي زرع المؤلف/المخرج حب (زوريه) لـ (فاهم) منذ بداية العرض كمعادل مكافئ لتدفق مكائد المرأتين الباحثتين عن الزواج (مكرودة المرأة العانس، وغنية المرأة الغنية التي توفي عنها ثلاثة أزواج وما زالت تبحث عن الرابع)

الشخصية الوحيدة المستثناة من الإطار المحلي التراثي والروح العراقية هي شخصية (كومار الهندي) التي دخلت في مشهدين، ورغم افتقاد حضورها مبرراته الفنية في سياق العرض التراثي، إلا أنها أعطت للعرض زخما كوميديا، ومنحته حيوية جذابة لشريحة من الجمهور الذي حضر وجل مقصده فاصل ترفيهي، وعليه كان وجود (كومار الهندي) أحد المتطلبات الجماهيرية.

ختم العرض بالعثور على وصية الجد عصفور بعد مأساة تقاتل أفراد العائلة، وماتت (زورية) البنت الرقيقة وهاجر (فاهم) المثقف الذي يعول الجميع على فعالية شخصيته، وجرح (كناري) المغني وتفرق الآخرون عدا الحفيد عصفور وأخته و (بردان) الذي يصفونه بالبلادة والبلاهة ، وهنا تحدث المفاجأة عندما يخلع (بردان) عنه سترته لتسقط منها ورقة وصية الجد (عصفور) ويتذكر بعد مرور أكثر من سنة ان جده أعطاه الوصية ووضعها في جيبه، هذا دون تعريف الجمهور بمضمون الوصية المكتوبة والإبقاء على فحوى الوصية الشفوية (اعملوا على الاجتماع مع بعضكم دون الانشغال بهواتفكم الجوالة).

إن ما فعله صاحب المسيرة الفنية الطويلة الذي أخرج مسرحية (المهندس والامبراطور) التجريبية بالأمس ومسرحية (أحوال وامثال) اليوم، الأكاديمي (مقداد مسلم) وفريق العرض الفني والتقني ليس خطوة على طريق اعادة الجمهور إلى المسرح وحسب، بل ذهبوا إلى اعداد وصناعة جمهور جديد، عسى ان تكلل جهودهم النبيلة بخطوات أخرى تضمن التواصل والديمومة وتفتح الأفق للفرق الأخرى للعمل ضمن توجهات (المسرح للمجتمع).

***

د. حبيب ظاهر حبيب

يُعرف التهكم بأنه "إلباس الجد ثوب الهزل، والهزل ثوب الجد، والوعيد لفظ البشارة، وهو في الاستعمال عبارة عن الإتيان بلفظ البشارة في موضع الإنذار، والوعد في مكان الوعيد، والمدح في معرض الاستهزاء"(1)، وهناك من الدارسين والباحثين من جعل هذا المصطلح مقابل مصطلح المفارقة(2)، وباتخاذ الشاعر من التهكم وسيلة لإبراز المفارقة ينقل الألفاظ من سياقها الخاص إلى سياق آخر مناقض لها، إذ أنَّه يوحي من خلال القول بمعنى آخر مناقض لمعناه الحقيقي(3)، فضلاً عن هذا يُعد التهكم "مجاز معقد وجد معدول به إلى الهزل، يُلبس المعرفة صلة التجاهل، ويصب الذم في قالب المدح"(4).

هذا ويرتكز التهكم على قرينة لفظية تبينه، وهنا تكمن نقطة التعارض والاختلاف بين التهكم والهجاء في معرض المدح، وإذا ما شئنا التفريق بين التهكم والهزل الذي يراد به الجد قلنا: إنَّ الهزل الذي يراد به الجد يوحي ظاهرة بالهزل، وباطنه جد، أمَّا التهكم فيكون  ظاهره جدا وباطنه هزلا (5).

وتقف السخرية ضمن الفنون القديمة التي عرفتها المجتمعات البشرية، ومارسها الإنسان والأدباء بصورة خاصة على مر العصور مثل: كوميديات ارستوفان وسوفوفكيس وغيرها التي وصلتنا من تراث المجتمع الإغريقي والروماني، وفي العصر الحديث حاول الأدباء الغربيون معالجة الاضطرابات السياسية والاجتماعية وإصلاحها عن طريق السخرية كما هو الحال عند (مولير) الذي وظف سخريته لمعالجة موضوعات اجتماعية كالنفاق والبخل، فضلاً عن (برنادشو) الذي حاول عن طريق السخرية معالجة قضايا المجتمع وعاداته البالية، هذا وكان للأدباء العرب والشعراء بصورة خاصة دور في ممارسة هذا الأسلوب؛ للتعبير بصورة هادفة عن قضايا تخص المجتمع.(6)

وتعدُّ السخرية من الأساليب الفنية الصعبة، أساسها التلاعب بحقيقة الأشياء ومقاييسها تضخيماً أو تصغيراً أو تقويماً، ويتكئ هذا التلاعب على معيارية فنية هدفها تقديم (نقد لاذع) ضمن جو من الفكاهة والإمتاع، يجنح إليها الشاعر ليسخر من الظواهر السلبية والمتناقضة التي يرصدها.

والسخرية هي نوعٌ من الفكاهة، لا يعني بها الهزل والعبث، بل إنها ترقى إلى المستوى الأكثر ذكاء ولباقة، إذ تجعل لها دلالة معينة، وهدف خاص تعمل على خدمته وتحتال عليه، وتشحن اللفظة بدلالات تتناقض وطبيعتها فيقع على عاتق المتلقي التأمل والتأويل وصولاً للمعنى المقصود.(7)

وإذا أردنا تقديم مفهوم دقيق للسخرية في الأدب فيكون من الأنسب البدء بالرؤية الغربية للمفهوم (Irony) هو المصطلح الأدبي للسخرية أصله مشتق من كلمة يونانية (eironia) والتي تعني وصفاً لأسلوب كلام إحدى الشخصيات بالملهاة اليونانية القديمة، وتسمى بـ(إيرون(eironia، ومن التعريفات التي أدلى بها الكُتَّاب  الأوربيون لمفهوم السخرية(8) "أنها طريقة من التعبير يستعمل فيها الشخص ألفاظاً تقلب المعنى إلى عكس ما يقصده المتكلم حقيقة وهي صورة من صور الفكاهة"(9).

وهناك من أشار إلى تعريف آخر على أنها "طريقة في التهكم المرير، والتندر أو الهجاء الذي يظهر فيه المعنى بعكس ما يظنه الإنسان، وربما كانت أعظم صور البلاغة عنفاً وإخافة وفتكاً".(10)

ومن تعريفات الكتاب العرب وآرائهم حول مفهوم السخرية ما قدمه (جبور عبد النور) فهو يرى فيها "وهي نوع من الهزء قوامه الامتناع عن إسباغ المعنى الواقعي، أو المعنى كله، على الكلمات، والإيحاء عن طريق الأسلوب، وإلقاء الكلام بعكس ما يقال"(11)، أما شاكر عبد الحميد فقد ترجم السخرية عن كلمة (satire) والتي تعني  نوعا من التأليف الأدبي أو الخطاب الثقافي يُبنى على انتقاد الرذائل والحماقات والنقائض الإنسانية، الفردية منها والجمعية، ويتم ذلك من خلال الرصد والمراقبة، والاتكاء على وسائل التهكم والتقليل من قدرها، وقد توقعنا السخرية في فخ الأسمية، فمن الصعوبات التي تواجه الدارس تناوب السخرية ما بين الضحك الهزلي والفكاهة والدعابة والمفارقة(12).

ويقودنا هذا إلى الإدلاء بحقيقة مهمة وهي أنَّ هناك وجه تباين واختلاف بين (السخرية في المفارقة)، و(السخرية المجردة)، إذ أنها ــ أي في المفارقة ــ تأتي لتجلي الحقائق وتقرعها بعضها ببعض دون أن تحل احدهما مكان الأخرى؛ أي تتربع على المعنى الظاهر والباطن معاً(13)، ولهذا تنبني مفارقة السخرية "على موقف يتناقض مع ما ينتظر فعله تماماً، إذ يأتي فعل مغاير تماماً للوجهة التي يجدر بالإنسان أن يقوم بها"(14).

يرى (مويك) بأنَّ عدَّ السخرية ضمن حدود المفارقة أمر فيه نظر، فليس كل سخرية أو تهكم مفارقة، وليست كل مفارقة تهكما  وسخرية، إذ أنه يرى في السخرية (sarcasm) أكثر أساليب المفارقة قسوة(15)، وتعد المفارقة "أداة أسلوبية فعالة للتهكم والاستهزاء"(16).

إنَّ تضاد مفارقة السخرية لكي يكون كذلك يجب أن يكون مؤلماً وكوميدياً في آن واحد، وهذا ما ذكره (أ. و.تومسن) في كتاب (الهزء الجاف)، إذ تتضارب العواطف في المفارقة تضارباً فكرياً وعاطفياً معاً، وعلى المتلقي أن يكون هادئاً متجرداً؛ ليدرك ويستوعب ذلك، فضلاً عن ذلك فالأذى والتسلية في المفارقة لا يمكن أن تصدر من الأساس ذاته، إذ يكمن العنصر الكوميدي في الخصائص الشكلية للمفارقة أضف إلى ذلك الغفلة المطمئنة فعلية أو مصطنعة، فالمرء يمكن أن يناقض ذاته عن قصد؛ كونه يسعى لحل تناقض على مستوى آخر، وينجم عنه تناقض مقصود مما يؤدي بدوره إلى نشوء توتر نفسي .

أما عنصر الألم الذي أشار إليه (تومسن) وسلَّم بوجوده في المفارقة فهو لا يمكن أن يصدر عن الخاصية الشكلية فيها، بل يكمن في التعاطف الذي نشعر به تجاه الضحية.(17)

وباستقصاء منتج السماوي الشعري نجد أنه غني بنصوص اتكأت على هذا الأسلوب في المفارقة، وكلُّ هذا نابع من روافد متعددة، ومنابع عملت على تفجير طاقة الإبداع لديه ففي الحقبة التي عاشها السماوي كان للسياسة الجائرة دور في ذلك، إذ حاول تمثيل هذه الاضطرابات وتعرية زيف السياسة وعيوبها في صياغة مفارقة ساخرة هادفة عملت على تنبيه المجتمع وإيقاظ وعيه، وهذا بدوره عمل على تحقيق توازن نفسي في دواخل الشاعر الذي كان يؤلمه واقع البلاد، فضلاً عن ذلك فقد كان لذات الشاعر أو شخصيته وما شهده من ظروف مليئة بالأسى والحزن دور في إنضاج طابع الحزن في داخله، ولهذا نرى السماوي يجنح إلى مزج الحزن بالسخرية في العديد من قصائدهِ، وقد يُعزى توظيف السماوي لهذا الأسلوب في المفارقة إلى دفاعه عن ذاته وآرائه إزاء من يهزأ بمبادئه وآرائه، فضلاً عن الدوافع النفسية التي تعد من أهم الأسباب لجنوح الشاعر لهذا الأسلوب، فالقلق والاحباط وإدراك التناقضات والاضطرابات في المجتمع لها دور فعَّال في التأزم النفسي للشاعر.

ولهذا جاءت الكثير من نصوصه الشعرية حاضنة ومشتملة لمثل هذا الأسلوب في المفارقة، إذ يقول في قصيدة "جلالة الملك":

جلالةَ الملك

قبلَ أن تُشيدَ لنا الجسرَ

شُقّ لنا النهر أوَّلاً

منذ أنْ نمتَ ولم تستيقظْ

ونحنُ

مستيقظون ولا ننام

في مملكتك المُخَلَّعةِ

الأبواب

جلالة الملك

من حقِّك أنْ تخرج للنزهةِ

راكباً سفينتك

ولكنْ

ليس من حقِّك

أنْ تجعلَ

دموعَ الشعبِ

نهراً للسفينة!(18)

يخاطب السماوي الحاكم أو السياسي بصيغة خطابية هي مزج بين التذلل والتبجيل والعظمة، لكن هذا التبجيل أو العظمة في خطاب السماوي مبطن يحمل في طياته سخرية مريرة هي أشد إيلاماً من التصريح المباشر، فجاء خطابه بهيئة يحاول من خلالها التماس الرحمة والرجاء، لكن لم تكن هذه التذللات والقداسة إلا سخرية من الحاكم وهذا ما نلمحه في قوله: "جلالة الملك"، فضلاً عن هذا هناك تحول مفاجئ في خطاب الشاعر إذ يلجأ في ثنايا النص إلى التصريح بغضبه وتمرده ورفضه، فيعود ليخاطب الحاكم أو السياسي في بلدهِ (العراق) قائلاً: "منذ أنْ نمتَ ولم تستيقظْ، نحنُ مستيقظون ولا ننام"، "مملكتك مخلَّعة الأبواب"، "ليس من حقِّك أنْ تجعلَ دموعَ الشعبِ نهراً للسفينة"، إذ أننا ندرك ما تعنيه العبارات من فقدان الأمان والسلام في البلاد، واستغلال الشعب وقوته لمصلحة الحاكم ورجالات السياسة، وأنَّ الشعب فاقدٌ للراحة، فيقف الشاعر موقف الرافض المتمرد، مطالباً برفع الظلم والمعاناة عن أبناء شعبه، مقدماً من خلال النص رقعة لفظية تبطن في أعماقها مدلولاً مغايراً مناقضاً، تعكس صورة نقيضة تحفل بالسلبية وتحاط بسخرية مريرة من الحاكم وإنجازاته. وتتجلى مفارقة السخرية في قصيدة "خليك في منفاك"، إذ يقول:

كلّ الذئاب اتحدتْ

واختلفتْ ما بينها الأنعامْ

*

على بقايا الزاد

في مأدُبة اللئامْ

*

دماؤها مهدورة ٌ..

فمرَّةً

تـُذبَحُ باسم جنـّـة ِ السلامْ

*

ومرَّةً باسم فتاوى

"حجّـة الإسلامْ"

*

ومرَّةً تُسْلَخُ

تنفيذاً لما رآه في منامِهِ

سماحةُ المفتي

وما فَسَّرَهُ وكيلُهُ الغلامْ

*

ومرَّةً

لأنها ترفضُ أَنْ تُهادنَ المحتلَّ

أو يكفرُ بالحريةِ التي بها بَشَّرَنا

مستعبد الشعوب ِ

جاحدُ الهدى

موزّعُ الأرزاق من بيدره الحرامْ.(19)

تحمل القصيدة مفارقات حادة، وتعالج واقعاً مريراً لشعب مغلوب على أمره، إذ تبرز المفارقة في أكثر من شطر في بنية النص، فنرى الشاعر يسخر من حالة الخنوع والاستكانة التي تسيطر على العراقيين، والتفرق فيما بينهم قائلاً: "كل الذئاب اتحدت، واختلفت ما بينها الانعام"، فيجد المتلقي نفسه أمام تصوير مفارق، إذ أن السياسين الذين أشار إليهم بلفظة (الذئاب) قد اتحدوا، في حين أن العراقيين الذي أشار إليهم بلفظة (الأنعام) لخضوعهم قد سادتْ التفرقة بينهم، فتتجلى من ثنايا النص نفثة غاضبة يعكسها امتعاضه من واقع بلاده المتردي، ولهذا فهو يسخر من حالة الذّل والهوان التي تُكبل شعب العراق، فهم يُقتلون بذريعة فتاوى يشرعها أدعياء الإسلام باسم الإسلام دين التسامح والسلام والأمان، إذ تبلغ المفارقة أقصاها فيوجه الشاعر إدانته إلى قاتلي الشعب وبأسلوب ساخر ونبرة تهكمية، ثم ينقلنا النص إلى مفارقة أخرى في قوله: "أو يكفر بالحرية التي بها بشرنا مستعبد الشعوب"، فالبشارة هي الخبر السار، لكنها في النص توحي بمعنى يغور في باطن اللفظة ليثير عقل المتلقي للتأمل في المعنى المقصود جاعلاً منه  شريكا مهماً في خلق النص، والكشف والتأويل في آنٍ واحد، حيث يتواطأ معه محاولاً الكشف عن الدلالة وتأويل اللفظة لإيجاد دلالة اخرى مقصودة حاول الشاعر الإفصاح عنها وبأسلوب ساخر، ولنا أن نقول: كيف لأعداء الحرية والسلام أن تحمل (بشارة الحرية) لشعب بات فريسة للمؤامرات فقد عكست البشارة الوعيد والجحيم والظلم والفساد الذي هيمن على البلاد.

وتتجسد المفارقة وبأسلوب ساخر ونبرة تهكمية في قصيدة "يا صاحبي"، إذ يقول:

هي أمةٌ أعداؤها منـــــــــــــها ... متى

من أين يأتينا الأمانُ و "بعضنـــــــــــا"

ومُدَجّجٍ بالحقدِ ينْخـــــــــــــــــرُ قلبهُ

حازَ العيوبَ جميعها فكــــــــــأنه

أعمى البصيرةِ فيهِ من خُيلائِـــــــهِ

إنْ قامَ يخطبُ فهو "عنترةُ" الفتــى

أمّا إذا شَهَرَ الحســـــــــــــامَ عدوُهُ

وهو "الأديب الفيلسوف" وفكرُهُ

*

طارَ الجناحُ وبعضُهُ معطـــــــــوبُ؟

لِعدوّنا والطامعينَ ربيــــــــــــــــــبُ؟

ضَغَنٌ إذا قادَ الجموعَ لبيـــــــــــبُ

مأوىً رأتْ فيهِ الكمالَ عيــــــــوبُ

مسٌ ومن صدأ الظنونِ رسيـــــبُ

و "الحارسُ القوميُّ" و "الرعبــوبُ"

عندَ النزالِ فإنهُ "شيبـــــــــــــوبُ" !

فلسٌ بسوقِ حماقةٍ مضـــــــــروبُ(20)

يعكس النص صورة لواقع الأمة الممزق، وصورة للتدخل في شؤون البلاد، إذ تفجر هذه المفارقة وجدان المتلقي وتُثير انفعاله وكأنها ثورة ضد أساليب الحكام وزعماء العرب، ساخراً من قسوتهم وجبروتهم وجهلهم وزعمهم بأنهم قادة الأمة، فالصورة الساخرة التي تتجلى في ثنايا النص قائمة على مفارقة أو مقارنة أو عرض حقائق واقعية مرتبكة المقاييس، واعني به التناقض والتضاد في المفردة التي تحمل ثنائية الدلالة الموجبة والسالبة، إذ يظهر طرف لهذه الدلالة في حين يكون الطرف الآخر كامناً في اللفظة، وبتأمل النص نجد أنه مبني على حقول دلالية تناقض حقيقتها كقوله: "الكمال عيوب"، "إن قام يخطب فهو عنترة الفتى الحارس القوميُّ والرعبوب"، "إذا شَهَرَ الحســـــــــــــامَ عدوُهُ عندَ النزالِ فإنهُ شيبـــــــــــــوبُ"، "هو الأديب الفيلسوف وفكرُهُ"، فمن المعروف أنَّ الكمال هو في التمامة والحسن في الأخلاق دون نقص أو عيب، لكن السماوي عمد إلى استخدامها في غير ما تأول إليه جاعلاً الكمال في العيوب والنقصان، ثم يطرح السماوي العديد من الصور الساخرة مستثمراً عبارات متضادة ومتناقضة، وإضفاء العديد من صور التقديس والتبجيل لهؤلاء الزعماء الذين يدعون بأنهم قادة عظماء، فتارة هو البطل الشجاع الفارس عنترة، وتارة هو العظيم الحارس القومي، وتارة هو المفكر والأديب، وكأن الشاعر عمد إلى توظيف سلاح التهكم من أجل الكشف عن حقيقة الآخر التي يراها المتلقي مفارقة ومناقضة تماماً لما هي عليه في الواقع، ثم يواصل الشاعر هجومه وبصورة مباشرة ليسخر من حقيقتهم فهم لا يتفوهون إلا بالحماقات والأكاذيب منشغلين بالخطابات، وبهذا احدثت المفارقة وبأسلوبها الساخر والنبرة التهكمية  مفاجأة للمتلقي.

ومن القصائد التي تتكئ على هذا الأسلوب في بناء المفارقة قصيدة "ما العُمر إلا ما تُعاشُ مسرَّة" فيقول:

تابَ الـلـصـوصُ وأرْجَـعـوا لحـقـولِـنـا

مـا كـان قــد ســرقــوا مــن الأنــعــامِ

والــفـاسـدون الــمُـرخِـصـون مَــروءةً

ثـابــوا الـى رُشــــدٍ وحُــســنِ خِــتــامِ

خلعـوا الـذقـونَ الـمسـتـعارةَ واسـتحى

مــن جُــرمِــهِ ذو خـــنــجــرٍ ولِـــثــامِ(21)

تأخذ نبرة التهكم والسخرية في العلو ابتداءً من مطلع النص حتى منتهاه، إذ تفيض الرؤية بالشكوى المقترنة بالخوف ممن اتخذوا من الدين والعمامة والذقون سلم سلّماً  للتحالف مع الشيطان من أجل السلطة والمال الحرام، فثمَّة تفسير على المتلقي أن يتأمله ويلتقطه من خلال القرائن الواردة، وهذا التفسير هو نقيض ما يطفو على بنية النص، وكأن الشاعر أراد أن يقول نقيض ذلك تماماً، جاعلاً من السخرية سلاحاً ضد كل من جعل الدين غطاء للصوصية والسرقة، وسلاحاً ضد من يخون العراق ويدفعه إلى الخراب من أجل اطماعه بالمال والسلطة وخيرات البلاد.

وفي قصيدة "هوامش من كتاب الحزن العراقي" يجنح السماوي إلى تأطير قصيدته بالمفارقة الساخرة ونبرة تهكمية، فيقول:

لا تـقـولـي: إنَّ جـرحَ الـيـومِ يـشـفـى فـي غـدِ

*

كلُّـهـمْ أقـسَـمَ

أنْ يـحـرسَ بـيـتَ الـمـالِ

باسـمِ الأحـدِ

*

سـادِنُ المـحـرابِ ..

والـنـاطـورُ

ربُّ الـدَرَكِ الـسِـرّيِّ

قـاضـي الـعـدلِ والشَّـرْعِ

إمـامُ المـسْـجِـدِ..

*

فـلـمـاذا ازدادتِ الــفـاقـةُ

واسْـتـشـرى وبـاءُ الـفَـسَـدِ؟

*

ولـمـاذا كـلَّـمـا يُـوعِـدُ بـالـخـبـزِ

أمـيـرُ المـؤمـنـيـنَ

ازدادَ جـوعُ الـبـلـدِ؟(22)

يفاجئنا النص بالهوة السحيقة بين ما يقوله الشاعر في أول النص من فكرة معينة، وبين ما تصل إليها الفكرة في نهاية النص من معنى مناقض تماماً ومخالفاً لما ذكره الشاعر في البداية، فالتكامل الصوري في النص الذي يتكئ على مفارقة السخرية يكون أساسه التضاد والتناقض في المعاني والنتائج وهذا بدوره  يُكسي  النص صفة المفاجأة  والدهشة، وهو ما يجعل المتلقي مندهشاً من غرابة الصورة، بدأ السماوي نصه الأنف الذكر بقوله: " كلُّـهـمْ أقـسَـمَ أنْ يـحـرسَ بـيـتَ الـمـالِ باسـمِ الأحـدِ، سـادِنُ المـحـرابِ والـنـاطـورُ، ربُّ الـدَرَكِ الـسِـرّيِّ، قـاضـي الـعـدلِ.." والمتوقع بعد هذا أن يُذكر ما يؤيد ما بدأه الشاعر، ولكن ما قامت به السلطة المسؤولة من أفعال لا تصب في المعنى الذي بدأته القصيدة، بل تعاكسه وبذلك كانت النتيجة تناقض البداية تماماً، فالبداية هي التعهد بصيانة ثروة البلاد والمال العام والكل أقسم بهذا، لكن النهاية وحقيقة الأمر المستقاة من الواقع هو أنَّ الفساد قد دبَّ وسُرق المال وثروات البلاد باسم الدين والوطنية، وهنا تكمن المفارقة الكبيرة بين طرفي الصورة، وهذا بدوره نقل النص إلى مجال السخرية، ففي الحقبة الزمنية التي ادركها السماوي مارست الحكومة التي تدعي الوطنية أشكال الظلم والجبروت ضد شعبها باسم الحرية والديمقراطية والدين، ولهذا انبرى الشعراء والمفكرون إلى مقارعتها بالكلمة المقاتلة، فقد شكَّل السماوي صوراً رائعة في نصوصه الشعرية عن أساليب السلطة الجائرة، وهو يتحدث عن وقائع عاشها العراقيون، وثمَّة تضاد وتناقض آخر في بنية النص في قوله: "كلما يوعد بالخبز أمير المؤمنين"، فالمتوقع من لدن المتلقي أن يصنع الشاعر ما يقابله بأن يزداد الخير وتوزع ثروات البلاد، لكن تعود النتائج لتكسب القصيدة صفة الدهشة والغرابة، إذ أنها ناقضت ما  بدأه الشاعر، وبدل أن يفي (الأمير) بوعده، ازاد الجوع وتفشى الفقر في البلاد.

وثمَّة قصائد أخرى في منتج السماوي اتكأت على هذا الأسلوب الساخر في المفارقة، ففي قصيدة "مقاطع من قصيدة ضائعة" يقول:

الناطِق ُ الرَّسْـمِيُّ باسم ِ القصْـر ِ

يُطـْنِبُ في الحديث ِ عن الرفاهِ..

ونعمةِ العصر الجديدِ ..

وما تحققَ من وئامِ

*

ورسائِلُ الأصحاب ِ

تسـألُ عن جوازات ٍ مُـزَوَّرَة ٍ

وعن سُـفـُن ٍ

مُـهَـيّأة ٍ لِشـَحْـن ِ الهاربينَ

إلى جنائن ِ كـَهْـف ِ مُـغْـتـَرَب ٍ

وفِرْدوس ِ الخِـيام ِ!؟

*

مَنْ ذا أُصَـدِّقُ ؟

ما يقولُ الناطق ُ الرسـميُّ باسمِ القصرِ؟

أو

ما قالـهُ الكوخُ المُـهَـدَّدُ بالضـَّرام؟(23)

تحمل القصيدة مفارقة  وتناقضا كبيرا  وفي الوقت ذاته تعالج واقعاً مريراً يعيشه العراقيون، إذ يبدأ الشاعر القصيدة بنقل خطابات الساسة والحكام وفئة المتنفذين بأمور الدولة، وما قدموه للشعب من حياة تنعم بالرفاهية في ظل الحكومة الجديدة، ولم يلبث الشاعر حتى يناقض ويفارق ما قاله في بداية النص، فيقول: "رسائل الأصحاب تسأل عن جوازات مزورة عن سفنٍ مُهيأة لشحن الهاربين إلى جنائن كهف مغترب وفردوس الخيام" فما ابتدأه السماوي والذي تمثل بخطابات المسؤولين حول منجزاتهم في البلاد، تنتظر من الشاعر أن يقدم ما يتلاقى مع هذا المعنى، ولكن يتضح للمتلقي وبإكمال النص أنه عمد إلى طرح نتائج تناقض البداية، إذ أنَّ ابناء الشعب اتخذوا من الهجرة والهروب من الوطن وسيلة لحياتهم وهو ما يؤكد أنَّ سُبل الحياة معدومة في وطنهم، ولنا أن نقول: إنَّ التفاوت بين الطرفين دفع الشاعر للتساؤل أيهما يصدق؟ ادعاءات الساسة والمسؤولين أم واقع البلاد الذي تتجلى منه صورة واقعية تعكس سياسة الأنظمة القمعية وأساليبها الاستبدادية التي يتبعها  المتنفذون في الدولة والتي تنعكس بدورها على الواقع المرير، فضلاً عن ذلك يتجلى لنا حشد من المفردات المتنافرة المتضادة والتي كان لها دور في تأجيج الدلالة وتكثيف الحدث، (جنائن، كهف مغترب)، و(فردوس الخيام) فالمغترب الهارب من الوطن يرى في ظلمة الغربة ووحشتها وقسوتها جنائن الفردوس، فأي جحيمٍ كان يأويه، وبهذا تمكن السماوي من تقديم صورة واقعية ممتزجة بالسخرية من واقع البلاد.

وفي قصيدة "سوء المنقلب" صورة أخرى من صور المفارقة الساخرة، إذ يقول:

مـا الـعـجَـبْ

أنْ يـكـونَ الـزِّفـتُ مـسـؤولاً عـن الـيـاقـوتِ فـي سـوقِ الـذَّهَـبْ ؟

*

نـحـنُ فـي عـصـرٍ بـهِ الـلـصُّ أمـيـنُ الـمـالِ ..

والـنـاطـقُ بـاسـم الـدِّيـن مَـجـهـولُ الـنَّـسَــبْ  !

*

مـا الـعـجـبْ.(24)

يبدأ السماوي نصه بعنوان "سوء المنقلب" الذي يوحي بانقلاب موازين الحياة إلى الأسوأ، ثم يعود لمزج بين السخرية وعناصر الهجاء، إذ امتلأ النص بكلمات لاذعة غامزة (الزفت مسؤولاً عن الياقوت)، (اللص أمين المال)، و(الناطق باسم الدين مجهول النسب)، فالتقابل بين طرفي العبارات المتنافرة والمتضادة يوحي بتوتر وانفعالية كبرى، وحتى لا يبادر المتلقي بالاستهجان سبقه الشاعر بقوله: "ما العجب" لأنه لا مجال للسؤال أو الاستهجان في عصر انقلبت فيه الموازين.

وفي قصيدة "ربنا قد أظلم الصبح" يستثمر السماوي المفارقة وبأسلوبها الساخر للتعبير عن رؤيته الخاصة، فيقول:

ربَّـنـا إنّـا سَـــمِـعْــنـا

هـاتــفــاً يـهــتــفُ بـالـعـدلِ الإلـهـيِّ

فـصَـدَّقـنـا كـلامَـه ْ

*

فـمَـحَـضـنـاهُ خـطـانـا ...

ومـفـاتـيـحَ بـيـوتِ الـمـالِ ...

بـايَـعْـنـاهُ لـلأمـرِ ولِـيَّـاً..

وخَـصَـصْـنـاهُ بـمـيـراثِ الإمـامـةْ

*

ثـمَّ لـمّـا أكـمَـلَ الـبَـيْـعَـةَ

بـاعَ الـصُّـحُـفَ الأولـى

وأرخـى لـلـيـواقـيـتِ ولـلـدولارِ والـجـاهِ لِـجـامَـهْ

*

ربَّـنـا قـد أظـلـمَ الـصـبـحُ

فـلا نـعـرفُ

هـلْ أنَّ مـلاكَ الـعـدلِ فـي الـقـفـطـان ِ؟

أم "إبـلـيـسُ" أخـفـى فـي الـجـلابـيـبِ غُـلامَـهْ؟

*

كـلُّـهُـمْ يـحـفـظُ آيـاتٍ

وفـي جـبْـهَـتِـهِ مـن أثـر "الـحَـكِّ" عـلامـةْ.(25)

يبدأ السماوي نصه بـ(سمعنا هاتفاً يهتف بالعدل الإلهي) ويُنهي النص بقوله: (كـلُّـهُـمْ يـحـفـظُ آيـاتٍ وفـي جـبْـهَـتِـهِ مـن أثـر "الـحَـكِّ" عـلامـةْ) إذ نلحظ مفارقة وتناقضا بين دفتي النص في بدايته الاطمئنان والسلام والسكينة، ولكن ما يُقابل هذا هو الخيبة والإحباط والذُّعر والوقوع ضحية لأدعياء الدين الذين خدعوا الشعب بطمغات جباههم وباللحية والمسبحة وسياسة يكسوها لباس الدين، لكن في حقيقتها كانت معبأة لتحقيق أطماعهم بالثروات والمال والسلطة، إذ يتجلى من ثنايا النص واقع مرير اختلت فيه الموازين وتداخلت المقاييس وفُقِد العدل والسلام، فتفيض الرؤية بالمعاناة المقترنة بالخوف ممن اتخذوا من الدين سلماً للائتلاف مع الشيطان من أجل السلطة والمال، يحدث الاستفهام الوارد في النص (هل أنَّ ملاك العدل في القفطان أم "إبليس" اخفى في الجلابيب  غلامَهْ ؟) أثر دلالي لما يوحيه من معاني ليؤكد حقيقة قائمة، كونه استفهام انكاري.

ومن صور مفارقة السخرية قوله في قصيدة "فصل من كتاب العشق":

أ سـمـاحـةَ الـشـيـطانِ شـكوى حـنـظـلٍ

يــشــكــو إلـــيــكَ مَـــرارةَ الإيــمــانِ

أ سـمـاحةَ الـشـيـطانِ واخـتـلـطَ الـصـدى

مـــا بـــيـــنَ صــوتِ ربــابــةٍ وأذانِ

الـقـائــمـون الـى الـصـلاةِ جـبـاهُـهُــمْ

كـالــقــائــمـيــن الى كـهـوفِ غــوانِ

أ ســمـاحـةَ الـشــيــطـانِ تـدري أنــنـي

ضِــــدُّ.. .. وأدري أنِــــنـــا نِــــدّانِ

مـا لــ" ابـن آدمَ " يــتَّــقــيـكَ لــسـانُــهُ

أمّــا الــفِــعــالُ فــأنــتـمــا صــنــوانِ(26)

يستهل شاعرنا نصه بكسر أفق التوقع للمتلقي، وذلك بمعارضة ما هو متعارف عليه بقوله: "أ سماحة الشيطان"، إذ تقف هذه العبارة على طرف نقيض للأصل في اللغة؛ كون مفردة (سماحة) لقب يسبق  اسماء رجال أصحاب المقام، بينما عمد الشاعر إلى اطلاق هذا اللقب على الشيطان، ومنبع هذا التناقض يكمن في واقع الشاعر فلم يعد يميز بين الشياطين والملائكة في ظل نظام المحاصصة واحزاب السياسة، فلم يرَ الشاعر من مجتمعه إلا الاستكانة والخنوع، تُملي عليه إرادته من قوى عُليا متسلطة؛ ولهذا حاول الشاعر أن يستفزهم بقلب المقدس إلى مدنس، ورفع الشيطان إلى منزلة القداسة، وكأنه أراد بهذا تحفيز عقولهم وحثها على التفكير والثورة لتغيير الواقع، ولنا أن نقول: بأنَّ عبارة (أ سماحة الشيطان) تحمل في أعماقها تضاداً مبطناً يوحي بالسخرية المريرة كانت أشد إيلاماً من التصريح المباشر، فالتحول المفاجئ والمزج بخطاب الشيطان أراد من خلاله القول: إنَّ الشياطين ساسة الصدفة وأحزابهم التي تدعي الإسلام زوراً هم الذين تسببوا في كلِّ الخراب الذي يعمُ العراق، فضلاً عن ذلك قد نلمح في ثنايا النص  حشداً من المفردات المتضادة المتنافرة والتي عملت على منح الدلالة تأثيراً أعمق وتكثيفا للحدث كقوله: "مرارة الإيمان"، "ربابة، أذان، "القائمون إلى الصلاة، القائمون إلى كهوف غوان"، ثم يعود ليعترف بأن الموازين قد قُلبت، فقد أتى الشاعر بالحقيقة المرَّة بعدما أصبح المتلقي على توافق معه، إذ أضحى يعرف أنه من المفترض أنْ يكون الشيطان ندَّاً لنا، لكن الواقع المفارق يكشف أنَّ ابن آدم هو نظير للشيطان بأفعاله.

تتسم السخرية بأنها نوع من التهكمية التي تبدو ذماً في ثوب المدح مع اتباع أسلوب عدم المباشرة(27)، إذ يخال للمتلقي بأنَّ الشاعر يمدح ممدوحه، لكن حقيقة الأمر أنه يذمه، ويتضح هذا بصورة جلية في قصيدة "يا أولي الأمر ببغداد علام الارتجاف"، إذ يقول:

يـا أولـي الأمْـرِ بـوادي الـنـخـلِ

نـامـوا مُـطـمـئـنـيـن نـشـاوى لا تـخـافـوا

*

الـجـمـاهـيـرُ الـتـي تـفـتـرشُ الـسّـاحـاتِ

لا تـحـمِـلُ غـيـرَ الـعُـشـبِ والـوردِ عـلامَ الارتجافُ ؟

*

لا تـخـافـوا

عـهـدُكـمْ مَـنِّ وسـلـوى وسُـلافُ

*

عـجَـبـاً !كـيـفَ يـخـافُ الـجـائـعَ الأعـزلَ

مَـنْ لـيـسَ مِـنَ الـلـهِ يـخـافُ ؟

*

فـعـلامَ الـحَـرَسُ الـجَـرّارُ ..؟ والأقـبـيـةُ الـسّـريـّةُ

الأحْـزِمــةُ الإسْـمـنـتُ؟ والقناص والغازات

ظِـلُّ الـلـهِ فـوق الأرضِ أنـتـم ..

والـوصِـيّـونَ عـلـى الـواحـاتِ والأنـهـارِ أنـتـم

فـلـمـاذا غـضِـبَـتُ هـذي الـضِّـفـافُ

*

زحـفـتْ فـي حَـربـهـا تـطـلـبُ خـبـزاً

خـيـلُـهـا لحن وأعلام هُـتـافُ

*

فعلامَ الارتجافُ ؟

*

صـادقاً كـان إمـامُ الـقـصْـرِ فـي فـتـواه

كُـفْـر أنْ يُـنـادي بـرغـيـفٍ بَـطِـرٌ أتْـخَـمَـهُ جـوعٌ وقـهْـرٌ ..!

كـلـكـمْ راعٍ ..

وهـذي الأرضُ مـرعـىً ..والـجـمـاهـيـرُ خِـرافُ

*

فاقسموها بـيـنـكـم قـسـمـةَ ضـيـزى

وتـصـافوا

*

لـكـم الـبـسـتـانُ ..والـبـيـدرُ والأعـنـابُ والـنـفـطُ ..

ولـلـشـعـبِ الـكـفـافُ!(28)

تؤطر المفارقة وبأسلوبها الساخر والنبرة التهكمية القصيدة بأكملها بدءاً وختاماً، إذ تحدث أثراً قوياً في ذات المتلقي، فيوزع السماوي مفارقاته على مدارات أساليب الطلب والتعجب والهجوم المباشر، ومن الجلي أنَّ صيغة أفعال الأمر التي اتكأت عليها بنية النص في قوله: "ناموا، لا تخافوا، اقسموها، تصافوا" لتبدو مفارقة في مضمونها وكأنها تؤدي مهمة توجيه سهام الشتيمة والهجوم على الآخر (الخصم) لتعريته والسخرية منه، فنظرة السماوي إلى ولاة الأمر نظرة استصغار وكأنهم الأدنى، وهو الأعلى؛ لذا أصدر أوامره سخرية منهم وتشهيراً لفسادهم؛ أي أنَّ هذا التوظيف لأفعال الأمر لم يكن توظيفاً صدفوياً، فهي أبعد ما تكون أن يطلب السماوي من ولاة الأمر (أصحاب السلطة) النوم أو أن لا يخافوا أو حثهم على أنَّ يتقاسموا خيرات العراق، وأن يتصافوا بينهم،وقد تقودنا قرائن المفارقة لتعلل الطلب، هذا وعمد شاعرنا استعمال اللغة بطريقة توحي بمعنى باطن يقتضي من المتلقي أن يكشفه، إذ استثمر عبارات توحي بالظاهر على المدح، لكن القصد منها هو السخرية وتعرية الآخر، وهذا ما يتضح في قوله: "عهدكمْ منٌّ وسلوى وسُلاف"، و"ظل الله فوق الأرض أنتم"، و"صادقاً كان أمام القصر في فتواه"، قد يظهر من خلال الأبيات أنها تحمل في ظاهرها إحساس الشاعر بالرضى والأمان والخير في ظل حكم ولاة الأمر في العراق، لكن حقيقة الأمر أراد أن يقول نقيض ذلك تماماً، ولكن السماوي لا يكتفي بمجرد الإشارة والتلميح، إذ يعمد أحياناً في ثنايا النص إلى الهجوم المباشر والتصريح بغضبه وتمرده، فيقول متسائلاً مندهشاً: "عـجَـبـاً! كـيـفَ يـخـافُ الـجـائـعَ الأعـزلَ مَـنْ لـيـسَ مِـنَ الـلـهِ يـخـافُ؟"، و"لكم البستان.. والبيدر والأعناب والنفط، وللشعب الكفاف"، ثم يعود الشاعر ليصور حالة الشعب المضطهد تحت سياط جلاديه ساخراً من حالة الاستكانة والتبعية التي تسيطر على الشعب قائلاً: "هذه الأرض مرعى.. والجماهيرُ خِراف".

إلى جانب هذا نجد مفارقة السخرية أخرى في قصيدة "نقوش على جذع نخلة"، إذ يقول:

آخرُ ما تناقَلَتْهُ نشرةُ الأخبارْ

*

أنَّ العَدُوَّ دكَّ بالمدافعِ "الكوفة"

واسْتَدارَ "للأنبار"

*

وحضرةُ "الإمامِ" ما زال على فَتْواهُ

أَنْ نُطْفِئَ نارَ حِقْدِهم

بِكَوْثَرِ الحوار!(29)

صور لنا الشاعر ردة فعل الحاكم في صورة ظاهرها المدح، وذلك جلي في قوله: "حضرة الإمام" لكن باطنها مثير للعجب والدهشة والسخرية من استكانة الحاكم والصبر والحوار دون مقاومة مقابل استباحة الدماء وتدمير البلاد.

وثمَّة نصوص أخرى تحمل في ثناياها ذلك الأسلوب الساخر، وهذا يتمثل في قوله:

ولم يَزلْ سعادةُ العُمْدةِ  في مجلسهِ

يُطْنِبُ في الحديث عن كرامة الشعب

وعن تكامُلِ  السيادةْ

خاضع وهو الذي يعرفُ أنَّ رأسَهُ

بات رهينَ صاحب  الوسادةْ

فوق سرير سلطة مُحتلَّةِ  الإرادةْ.(30)

إِنَّ التفاوت واضح بين بداية المقطع وختامه، إِذ أنَّ شاعرنا يبدأ حديثه بمدح (سعادة العُمدة)، كونه يبدي في خطاباته اهتمامه بكرامة شعبه، وتأكيده على تحقيق السيادة ومراعاة مصلحة البلاد، لكن يفاجئ المتلقي بأنَّ يقول الشاعر نقيض ذلك تماماً، إِذ أنَّ (سعادة العُمدة) مسلوب الإرادة لسلطة المحتل والدخيل، فيمسي المدح هجاء  وهجوما مباشرا  لسعادة العُمدة، وبذلك يتضح من خلال النص إدانة السماوي للسلطات الحاكمة وموقفه الرافض لسياستهم، فالاهتمام الذي يبديه (العُمدة) بكرامة أبناء شعبه وتحقيق السيادة، هو من قبيل التهكم والسخرية لحقيقة شعب مسلوب السيادة والكرامة، وبذلك يُعد "التهكم والسخرية سلاحاً  فعالاً من أسلحة المفارقة اللفظية التي تدلُّ عليها وتبشر بها، ولذلك يبدو الخطاب التهكمي والساخر أرضاً خصبة لنمو المفارقات وتكاثرها"(31)، ومثال ذلك ما ورد في قصيدة "رفقاً بالعصافير"، إذ يقول:

أيُّها الآمرون

بإطلاقِ القنابل المُسيلة

للأرواح

العصافيرُ لم تتظاهر

في

ساحةِ التحرير

نـعـرفُ أنَّ قـلـوبـكـم لا تـتـرفّـقُ بالإنـسـان

فـتـرفّـقـوا بـالـعـصـافـيـر.(32)

تخترق هذه المقطوعة نبرة تهكمية ساخرة، تحتم على المتلقي إعادة تفسير العبارات حين يتحسس وجود مفارقة، وهذا ما يوجب عليه إعادة إنتاج البنية النصية، والبحث عن الدلالة النقيضة، ممَّا يعمل على ولادة مفارقة لفظية يقدم فيها الشاعر دلالة ويريد نقيضها، إذ أنه يطلب من "الآمرون بإطلاق القنابل المُسيلة للأرواح" على سبيل التهكم، أنْ يرفقوا بالعصافير، وكيف للذين لم يرفقوا بالإنسان أنْ يرفقوا بالعصافير؟ وكأَنَّنا نلمح صورة تعكس تناقضات تستفز وعي المتلقي، وتوقظ روح الثورة، والتمرد لمحاربة قوى الظلم والطغيان.

وفي مقطع من قصيدة "نقوش على جذع نخلة" يقول السماوي:

ذكية قنابل التحريرِ

لا تصيبُ إلَّا الهدفَ المرسومَ

من قبل ابتداءِ نزهةِ القتالْ

*

ذكيَّة... ذكيَّة

تُمَيِّزُ الوَحْلَ من الزُلالْ

*

ونغمةَ القيثار من حَشْرجَةِ السُعالْ

*

ذكيَّةٌ... ذكيَّةٌ

لا تُخْطيءُ الشيوخَ والنَّساءَ والأطفالْ

*

ولا بيوتَ الطينِ ... لا أماكنَ الصلاةِ

أو مشاغِلْ العمَّالْ!(33)

من الواضح أنَّ عبارة (ذكيةٌ) والتي كررها السماوي أكثر من مرة على طول بنية النص لا يمكن قراءتها من خلال المعنى السطحي القريب لذهن المتلقي؛ أي أنَّ هناك ثمَّة معنى أعمق وأقرب إلى رؤية الشاعر الخاصة، وهو معنى يناقض تماماً المعنى المذكور، وهنا تتجلى المفارقة اللفظية، إذ أنَّ المحتل الأمريكي يملك قنابل ذكية تحدد الهدف وبدقة، ولكن هذه القنابل لا تميز الشيوخ والنساء والأطفال والمساجد!؛ أي أنَّ قنابل التحرير هذه وتطبيق الديمقراطية وشعاراتهم، ما جاءت لتحرير العراق كما زعموا، بل جاءت لاحتلال الوطن، فضلاً عن هذا يعكس تكرار لفظة (ذكية) في بنية النص الحالة الشعورية التي تُكبل الشاعر إزاء احتلال الوطن وما يعانيه  شعب العراق تحت ظل الاحتلال الأمريكي، إذ أوحت هذه القطعة الشعرية الساخرة بالواقع المأساوي الذي يعيشه الشعب العراقي، والحزن والدمار الذي خلَّفه الاحتلال باسم الحرية المزيفة، فمفردة (ذكية) لا يقصدها الشاعر بقدر ما توحي بالإدانة والاستنكار للأساليب الوحشية التي يتبعها المحتل الأمريكي ضد الإنسانية.

وفي قصيدة "جلالة الدولار" يسعى السماوي إلى بناء مفارقة لفظية تنتج أسلوباً ساخراً وبصيغة لفظية تُحتم على المتلقي أنْ يجد البديل لها؛ للوصول إلى المعنى القريب من رؤية الشاعر:

جـلالة ُ الدولارْ

*

حـاكـمُـنـا الجـديــدُ ...ظـلُّ اللهِ فـوقَ الأرض ِ...

مـبـعـوثُ إلـهِ الحـربِ والتـحـريــر ِوالـبـنـاء الإعمارْ

*

لـه يُـقـامُ الـذِكْـرُ..

تـُنـّحـَرُ الـقرابيـنُ

وتُقـرعُ الـطـبـولُ

تُرْفـعُ الأستــارْ

*

وبـاسـمِـهِ تـكـشـفُ عـن أسـرارهـا الأسـرارْ

وباسمِـهِ تـمـتـلـئ .. الـحـقـولُ بـالـسـنـبـل ِ

أو يـُصـادرُ الـرغـيـفُ

فـهـو صـاحـبُ الـعِـزَّةِ فـي الـمـدائـن ِالـمـذبـوحـةِ الأنـهـارْ

*

جـلالـة ُالـدولارْ

*

مـنـقـذُنـــا...

والـمرشــدُ الـفـقـيـــهُ ...

يُـفـتــي فيُـطـــاعُ

لا كـمـا كـانـت فـتـاوى الـسـيـد الـديـنــارْ

*

لِـحيـتـهُ الـخـضـراءُ صـهـوةُ الـمـضـاربـيـن

فـي مـصــارفِ الـحــــوارْ.(34)

تأطر القصيدة بالمفارقة اللفظية بدءاً وختاماً، إذ أنَّها أوَّل ما تصادف المتلقي وآخر ما يقرؤه، ومن الجلي أنَّ الشاعر لا يقصد ما يقوله بعبارة (جلالة الدولار، ظلُّ الله، إله الحرب والتحرير والبناء والأعمار، منقذنا، المرشدُ الفقيه)، وفي تضاد مبطن يقدم السماوي العديد من الصور التي توحي بالرضى والقبول والتقديس للدولار، ورفعه إلى مصاف إله التحرير والإعمار، إذ أنَّه المنقذ وكذلك المرشد والمفتي الذي يُطاع أمره، وإذ ما تجولنا في ثنايا النص قد نصل إلى تأويلات عدَّة تقترب من رؤية الشاعر، فالدولار قد أغوى اللصوص والساسة الفاسدين على السرقة والعمالة والخنوع للأجنبي، ولذلك فهو يُقدس ويُعظم، فضلاً عن هذا تُبين لنا القصيدة الخنوع العربي والتسلط الأمريكي، وما يرمز له بالدولار من الظلمة والواقع السياسي المرير للعراق، والتهتك الاجتماعي، وهذا بدوره يناقض تماماً القراءة الحرفية للنص، مما يعمل على ولادة مفارقة لفظية ساخرة من الواقع الذي يعيشه الشاعر

ولنا أن نقول: إنَّ أساليب المفارقة الساخرة التي اكتظت بها نصوص السماوي كانت نتيجة المفارقات التي افرزتها أزمات الفرد العراقي الذي وجد نفسه خاضعاً فاقداً الإرادة؛ أي أنَّ توظيفها لم يكن اعتباطياً أو بغرض تزيين الكلام، لكن الواقع المرير قلب الموازين في رؤى الشاعر وجعلته يتراوح بين نقيضين محاولةً منه استشراق النور وسط هذا الظلام، وبتوظيف بنية المفارقة وبأسلوبها الساخر تمكن السماوي من عرض مشكلات سياسية واجتماعية واقتصادية وإنسانية، وعالج موضوعات هادفة وفي الوقت ذاته عمل على تأجيج روح الثورة والرفض في ذات المواطن العراقي.

***

نسرين ابراهيم الشمري

...........................

المصادر والمراجع

(1) لغة التضاد في شعر أمل دنقل، د. عاصم محمد أمين بني عامر، دار الصفاء، ط1، عمان، (2005م): 39.

(2) ينظر: المفارقة في الشعر العربي الحديث: 31.

(3) ينظر: مواكب التهكم، عادل العوا، دار الفاضل، دمشق، (1995م): 12.

(4) لغة التضاد في شعر أمل دنقل:39.

(5) ينظر: المصدر نفسه:39.

(6) ينظر: سيكولوجية الفكاهة والضحك، زكريا إبراهيم، دار مصر للطباعة، (د.ط)، (د.ت): 9.

(7) ينظر: جماليات مفارقة السخرية في رواية "البحث عن العظام" لطاهر جاووت، (بحث)، حسينة بوعاش، مجلة علامات، العدد(5)، جامعة أمحمد بوقرة بومرداس، الجزائر، (2017م): 261 ـ 263.

(8) ينظر: الجانب النفسي للسخرية في الشعر العربي المعاصر "محمد اﻟﻣﺎﻏوط، وﻣﺣﻣود درويش، وأﺣﻣد ﻣطر" انموذج، فاطمة حسين العفيف، العدد(3)  مج(43)، (2016م): 2436.

(9) المصدر نفسه:2436.

(10) الجانب النفسي للسخرية في الشعر العربي المعاصر "محمد اﻟﻣﺎﻏوط، وﻣﺣﻣود درويش، وأﺣﻣد ﻣطر" انموذج، فاطمة حسين العفيف، العدد(3)  مج(43)، (2016م): 2437.

(11) المصدر نفسه: 2437.

(12) ينظر: الجانب النفسي للسخرية في الشعر العربي المعاصر "محمد اﻟﻣﺎﻏوط، وﻣﺣﻣود درويش، وأﺣﻣد ﻣطر" انموذج: 2438.

(13) ينظر: شعرية السخرية عند عز الدين مهيوبي "ملصقات" انموذجا، (رسالة ماجستير)، جواهر كزيز، بإشراف: روفيا بوغنوط، جامعة العربي بن مهدي (أم البواقي) /كلية الآداب واللغات، الجزائر،(2015م): 44.

(14) جمالية مفارقة السخرية في رواية "البحث عن العظام" لطاهر جاووت: 261.

(15) ينظر: موسوعة المصطلح النقدي (المفارقة وصفاتها): 27.

(16) المفارقة القرآنية: 17.

(17) ينظر: موسوعة المصطلح النقدي (المفارقة وصفاتها): 50.

(18) ديوان "حديقة من زهور الكلمات": 169 ــ 170.

(19) البكاء على كتف الوطن: 57 ــ 58.

(20) البكاء على كتف الوطن: 55 ــ 57.

(21) ديوان "ثوب من الماء لجسد من الجمر": 26 ــ27.

(22) لماذا تأخرت دهراً، يحيى السماوي، دار الينابيع، ط1، دمشق ــ سوريا، (2010م): 124.

(23) البكاء على الوطن: 37 كتف

(24) عيناك لي وطن ومنفى، يحيى السماوي، دار الظاهري، ط1، جدة ــ السعودية، (1995م): 23.

(25) الاختيار، يحيى السماوي، دار الرفاعي، ط1، الرياض، (1994م): 7.

(26)  قلبي على وطني، يحيى السماوي، الناشر: عبدالمقصود محمد سعيد خوخة، ط1، جدة، (1992م): 61

(27) ينظر: شعرية المفارقة في خطاب بشرى البستاني السياسي، (بحث)، عزت ملا إبراهيمي، علي باقر طاهري، حسين الياسي، مجلة اللغة العربية وآدابها، العدد(1)، (2015م): 150.

(28) الأفق نافذتي: 39

(29) نقوش على جذع نخلة: 104.

(30) المصدر نفسه: 108.

(31) المفارقة في الشعر العربي الحديث: 108.

(32) ديوان (ملحمة التكتك)، يحيى السماوي، دار الكتب والوثائق، ط1، بغداد، (2020م): 109.

(33)  نقوش على جذع نخلة:122.

للمتخيل في نص الشاعر العراقي الأستاذ الفاضل كامل فرحان

***

النص:

مابين غَسَقَ الدُّجى

 وإبْلاَجُ الصُّبْحِ

 قَلبِي

يُرَتِل تَرًنِيمَة وَجد،؟

بعْدَ سُهاد

طَيْفكٍ زارَني

حَدَثَنِي

عن أمْنِياتِ  الأمس.

عن الفرحِ  ، والهمسِ

عن وعودِ

 بالوفاءِ

 الصدق. كل الصدق

ثارَ بِي أسئلةٌ مُستَفزة

أتراهم عَبَثُو في الطريقِ

يَوُمَ كُنتُ أطوي المسافة

كسجادةُ صلاةُ

هلّ للاحاسيس ثمن؟

لِتُباعُ المشاعُر

في سوقِ النخاسِةِ

أم انَّ الوفاءَ

 شُيعُ الى مثواهِ الاخير

لتَحُلَ ساعة النسيان

***

كامل فرحان

......................

امتداد رؤيوي:

دائماً اللغة تنتمي إلى مجموعة "الأنظمة الرمزية" التي تشكل الثقافة كافة بما يتبع المنجزات الإنسانية

فهناك علاقة جدلية

داخل مجال النص منطق افصاح عن الطاقة الرمزية كي يكتمل أي نص. لقد خلص (بارت) إلى مفهوم الدلائلية/ دال ومدلول/ تميزه على صعيد الماهية السياقية.  فسيميائية الثقافة هي موضوعات تواصلية وأنساقاً دلالية  بين الناص والنص حين يتمظهر بالبحث النسق المتخفي وراء الاشارات اللفظية لكشف انتاج المعنى العام بالتوليد الدائم للدال كما سنرى ذلك في لغة الناص. فالسيميولوجيا

هو العلم الذي يدرس الدال وعلاقته مع المدلول. العلم الذي يدرس فقط المدلول يسمى: علم المعان. وحين لايتطابق الدال مع المدلول هو مايسمى بالانزياح والذي لم يترجم كلياً بالنص.

قراءة على المستوى الأسلوبي:

من المتن نرى تشكل الدجى والصبح، فلهما صلة ببعض حين يتم استخدام تلك العبارة لتوضيح البُعد الكبير بين الأمرين كمعنى.  واستحالة تجميعهما لكن يترافقان زمنياً بالتتالي. وعظمتها في السماء يمتدان إلينا أرضاً.   وتستخدم مابين/ هنا استهلالاً كنوع من التوضيح فـ(ما)، نحيلها كإسم موصول. و(بين) نؤولها قواعداياً إلى ظرفية مكانية. أي بين الدجى والصبح هناك "القلب".

القلب = بيولوجياً مرتكز الجسد بالنسبة للإنسان يمنحه الحياة

يرتل أي يتماهى بالتمهل والتأني جهراً أوغير جهر نحيلها للقرآن.

وَرتِّل القرآن تَرْتيلًا.

ترنيمة، وهي تقارب.

الترتيل، بنغمة متفانية خاشعة. بغرض أداء مايقرب العبادة

وجد، نعتبره هنا الحزن فالوجد له معانيه العدة، لكن ضمن سياقات الجملة الوجد هنا الشوق الشديد وسنح الإشتياق

فهو التوحد الروحي والذاتي للتوحد مع الإله صوفيا. فالشاعر من ابتداء المتن يعطي للحالة الشعرية الصوفية والالتزام بها من خلال ذاك بالمفردة الدينية (غسق / دجى /يرتل/صبح). ومع غياب

اللغة:

كما ننوه دائماً إن العنونة هي الجسر الواصل بين النص والمتلقي وعنوانه. وأيضاً تقديم الفكرة الجامعة للكشف عن مضمون النص وسلطته وبغيابها هنا نرى أن الناص استعاض عنها ببوحه الذاتي بسيولة لفظية قريبة للمتلقى لاتتبع الغموض أو الإبهام فكان هذابديلاً عن العنونة والتي باتت جزءا رئيسيا للنص. إنما الشاعر اعتمد الألفاظ في النص كي تظهر اللغة في الأشكال المختلفة صرفاً وتركيباً برشيمات معرفية تعطي المعنى العام بكفة تتأرجح بين الشك واليقين بانعكاسات الذات التي توسم عصوات إسناد اضلاع الشكوى والحنين في حضن أمل أخرق.

الحالة الشعورية

الناص بحالة تلاصق حسي منذ البداية مع الأنا الأخرى. فبين الغسق والانبلاج مساحة تكفي كي يبدد ذاك الوجد وهو يتغنى بهذا الكلف ليوصل الحالة الروحانية المتهجدة، بتجرد كلي أنوي فهو بهذيان اللحظة بعد ذاك الأرق. لم يتموضع ضمن حدود الكلمات وضمن نطاقها اللغوي بل كانت حالة دراماتيكية لها أثرها الفعلي. فالأرق سبب كل ذلك الوجد المتلظي ووثبة في تحريك الذات الشاعرة بعقلانية يستنبط منها الروحاني فهنا:

ما بين غَسَقَ الدُّجى

 وإبْلاَجُ الصُّبْحِ

 قَلبِي

يُرَتِل تَرًنِيمَة وَجد،؟

بعْدَ سُهاد.

إن السهاد كان حالة فاعلة مؤثرة وترشيد لنقطة دوران النص ضمن التحولات الدلالية الناجمة من المدى العمقي في معالم النص.

الحالة الشعرية والفكرة:

اعتمد الناص الوصف الدرامي فالأرق أخذه إلى هذيان وتخلقات طقوس تجعل ذاك الطيف يراوده ضمن تحول مدرك / الصدق كل الصدق/ هنا الذات تظهر مكنونها الذي هي تبتغيه من خلال مخيلة تستدعي حضور طيفها وترى من خلاله حوار مورق بفلسفة الجوارح والداخل، أي الفينومولوجيا.

عن امنيات الامس

عن الفرح  والهمس

عن وعود بالوفاء

كل ذلك كان حديث طيفها المراود أثناء السهاد بميكانيزمية جامعة لكل مستغرقات الذات للتناص بصوت الشاعر عن طيفه الذي تجلى له. فالنص يتنفس من خلال مايراه هو ذاتياً لأن الطيف هو ذاكرته الملاصقة له وسط سهده بجمل شعرية حاملها متناغم بين الدال والمدلول. وتبقى التحولات المضمنة رهن الإحتمالية:

 أتراهم عبثوا

فهذيان اللحظة المؤرقة تتراتل الصور بالذاكرة والخيال بالفكرة.

فالامنيات هي المأمول

الأمس: هو الوقت الماضي القريب

الفرح: السرور

الهمس: الصوت الخفي

الوعود: العهود أو الإلتزام

الوفاءك  الاخلاص والثبات على الوعد

الصدق: سمة حسنة وقول الحقيقة

فالذات تسوس مرتدة عن دهرية البندول. وماكان فيها من فرح وهمس ووعود. وأكدت على الوعود بالصدق. وتكرار مفردة الصدق. بمعنى أن الأنا تبحث عن أمان عن حقيقة وترنو إلى البقاء على العهد. بمحاكاة مع طيفها كناسك هجير وحدته بل لنعتبره ظله. ليستدعي قسراً الدفق الشعوري الذي يعكس الحالة النفسية الباحثة عن يقين ترغبه فهنا الدالة سحابة متسولة في صوامع الرجاء.

مسارات النص

وما تفرزه الذات هي رؤيا خاصة بصاحبها وتوجهاته. وما أثّر به الطيف فلقد غيّر المسار بأسئلة عدة لرتق فجواته. تلك الأسئلة ليست عابرة بل تستفز الذات الى حيرة مسائلة.

 اللغة وأسلوبية الناص تسير بسياق دلالي حسب طقوسه الحسية والشعورية لحظة كتابة النص فلغته مشحونة بمناخات تعبيرية مستغربة بأسلوبية فنية تصويرية تؤكد حيرته وشكه بذاك العبث

أتراهم عبثوا في الطريق

يوم كنت أطوي المسافة

كي تكون لغة فنية ابداعية تتموضع ظهوراً ضمن واقعية شعرية متحدة مع الكائن الإنساني الوجودي في حلقة تتسع غسق الدجى

وتضيق الصدق كل الصدق

بتوليفة جمل خبرية واسمية لتتخلق رهان أكبر لقدرتها التأثيرية على المتلقي. فماذا بعد ذلك الانشداه؟.

هل للأحاسيس ثمن؟

سؤال يجمع بين  الحسية وبين المادية

هذا التناقض أعطى للصورة جماليتها مع وهلة السؤال الذي استطرد من خلاله الى:

لتباع المشاعر

أيضاً هنا الصورة بارعة بين البيع والمشاعر مخاض لغوي ينفتح على دوائر عدة فالشاعر ينصب نفسه شاهداً على الإحباط ليعيد ترتيب غموضه من أجل روح مفعمة بيقينها تجبّ الذات الشاعرة لتؤثث للبرّاني التقاطاتها النفسية وتحولاتها ليتمادى الوعي لكسر الحواجز ورفع صوت المواربة ولجم الحالة. فهو مضطرب غير متيقن بل مستنكر. هل من المعقول أن تبادل المشاعر وتتنازل ويتاجر بها؟

بأبخس الأثمان؟

سوق النخاسة

أم مات الوفاء

 الوفاء شيع

(هلّ للاحاسيس ثمن؟

لِتُباعُ المشاعُر

في سوقِ النخاسِةِ

أم انَّ الوفاءَ

 شُيعُ الى مثواهِ الاخير)

حينها يكون حصاد الغفلة، كي تمسح الذاكرة ويتوجب النسيان. نعم إن الوفاء شيع مثواه الأخير. فاللغة موجعة تبدد معاني الزمن المر في تبدلات المزاج.  تناقضات عدة في زمن الاهتراء ولامكان للعهود في هذا الخواء.

خاتمة فيها كل العبرة حين تستنطق الخراب.

فما بين الخيانة والوعد فارق خطوة

وقد انكسر شراع اليقين

واستكان فحيح الصور لجنح الأمان

ففلك الخلاص صراط أَشَر

لحسية فيها كل الحيرى والأسئلة المرة

فهل ينتظر بريق الوتر

لأسماء نخرتها سوسة الرجاء

الختم وبعض التفاصيل:

لغة لها تكوينها الدلالي المسترسل بالنص وتوظيف شعري لجوهر عناصر زمكنة.

/الطريق /المسافة /

خلقت تماهي مؤثر لسياق المعاني باقتصاد لغوي وتصوير مقطعي للتعبير عن الفكرة التي تتوالد قوية ملحاحة بترابطية لغوية مكثفة لصالح النص ولتظهر مدى تفاعل الذات مع الحدثية الجوانية المنفلتة ببركانها النازح ليتمخض التوهج الدلالي بجمل النص.

أ. كامل مبدع بهي جُماني الحضور مضفي الحبور على كل من يحيط به حيثما حلّ

يسكب سلاف الجمال بلغة من عقيق

بالتوفيق الدائم

***

مرشدة جاويش

 

في المثقف اليوم