قراءات نقدية

حيدر عبد الرضا: دراسة في رواية "حياة الكاتب السرية" لغيوم ميسو

الفصل الأول ــ المبحث (5): الخطاطة المفترضة بين التخريج السردي وقرائن الموضوعة

توطئة: حققت المعايير السردية الروائية منذ الشكلانين الروس وحتى يومنا هذا مسارا هاما في صنيع وبلورة خصوصيات الشكل الروائي وبنياته وأسئلته ومحاوره، تشكلا علائقيا تنهض من خلاله جل نوازع وهواجس الحبكات الروائية على مستوى التجاوز الحكائي المؤدي إلى تعدد الحبكات والعلائق والوحدات السردية ووفق آلية نوعية تتشكل من التحولات والمشخصات السردية والمعلنة في المقصود الكتابي. من هنا نعاود فصول دراستنا المبحثية في نمو دلالات أفعال وصفات واستعادات رواية (حياة الكاتب السرية) لننظر من خلال أحداثها كونها نصا روائيا ذا حاضنة عميقة في توالد الأمكنة والأزمنة وروح الأحداث المكتومة في الأصل البعيد. ففي نسيج الأفعال النصية تكمن تلك الذوات المشخصة وتغيب عنا أحوالها منذ امتلاكها شاهدية المكوث على أرض تلك الجزيرة.. لذا فإن الإقامة المديدة في هذه البقعة المكانية لا تبيح للعابر كشف أسرارها بسهولة، خصوصا وأن الفضاء المركزي في هذا الحيز من الزمن والمكان والنوازع الشخوصية ممتلئة بمسارات مشروطة التقابل والتواتر المخصوص في غياهب محكيات أسرار الحبكة المتعرجة بأشواطها البليغة من التكتم المستديم. أقول أن ماهية سياق الانفتاح على هوية الأفعال السردية في الرواية تؤسسها براهن مفقودة: فهل نكون أمام رواية ترتق من قابلية الكتمان خيارا دلاليا في الصعود إلى جوهر محكيها الكلي؟. ولعل القارىء للرواية أخيرا يجدها موضوعة تلامس الحبكة البوليسية وتجاوبا مع دال الموت وناظميته المضاعفة في منظور حدثي مغاير.
ــ الخطاب المنقول في علامات غير مباشرة
و لعل هذا النوع من الخطاب ما نلقاه لدى شخصية السارد المشارك فهو بذاته حافظا على مدلوله الذي اتسعت إليه هذه الشخصية دون عدول حضوره الفعلي، لذا يتبدى بلفظه ملحقا إياه بما يقارب السرد بضمير المتكلم: (رفع المكتبي عينيه عن صحيفته واستقبلني بتمتمة قلقة. منذ البارحة وموجة من الاضطراب المحموم تهز سكان الجزيرة. / ص74 الرواية) تحيلنا وحدات النص إلى جملة من الحوادث التي حدثت مؤخرا في موطن الجزيرة، مثالا على حال تلك الجثة المسمرة إلى أقدام شجرة كينا في الجزيرة، حيث غدا هذا الاكتشاف المروع بجسد هذه المرأة حدثا صادما لجميع سكان الجزيرة، بخاصة وأن هذه الشجرة تلقب عادة بالخالدة، إذ أصبحت مرمزا على مر العقود لتشكل بذاتها رمزا مقوما على وحدة المنظومة العرفية لدى سكان الجزيرة.
1ــ الجزيرة السوداء: الجنرال البحري يفرض الحصار:
هكذا تتشكل بالتدرج قسمات التصور الجديد لدى سكان الجزيرة للجزيرة ذاتها، وضمن ظاهر حدوث الإشكاليات الأمنية فرض الجنرال البحري حصارا على سكان الجزيرة الغرض من وراءه تسهيل مهمة التحقيقات الجارية على قدم وساق بشأن وفاة تلك المرأة ذات الجسد المصلوب على جذع الشجرة. فالعلاقة السردية صارت تنتقل من خصوصية المبأر (فضاء الداخل الشخوصي؟) إلى نقطة بات من خلالها السرد معرفا بصيغتي (الراوي / الناظم الخارجي) فيما أخذت واصلات الخطاب المنقول شكلا برانيا وعمقه حدود التركيز على تعليلات الفاعل الذاتي والذي هو المحور رفاييل الناظم الداخلي في حكيه المبئر تبئيرا يدلل على حدود موقعية الرؤية السردية لمجرى الأحداث، فيما تكشف صيرورة هذا الحكي بين الفينة والأخرى مساحات يتفرد فيها (الناظم / المحور الفاعل) بطرح رؤيته حول الأحداث: (كنت قد رصدت في اليوم السابق حساب تويتر لشخص يدعى لوران لافوري، وهو صحافي آت من الضواحي الباريسية كان في بومون لزيارة والدته. لم يكن الرجل من الصحافيين المرموقين ـ كان سجله المهني خير مثال على اسوأ ما يمكن أن ينتج من الصحافة الزائفة. / ص75 الرواية) يبدأ ها هنا وهناك المتكلم المشارك بتأطير تفاصيل السرد، وذلك عبر تفعيل حركتي (السرد ــ التبئير) فيما تصبح الرؤية السردية ملامحا منظورة وأكثر تحولا في دورها في عملتي (الفاعل الشاهد ـ التفصيل الأخباري) وصولا إلى مرحلة تتكشف فيها معالم وأسرار سكان الجزيرة. وبسبب ما صار هذا الصحافي لافوري يتحلى بروح المثابرة وراح يستغل أوضاع الجزيرة تحت قيود الحصار، فيما راح يغطي حدوث الأخبار من على القنوات الاخبارية كافة: (عندما ظهرت صورة الصحافي على شاشتي،أمطره أوديبير بوابل من الشتائم، فقد لمح لافوري أمس من خلال برنامج اخباري إلى أن سكان الجزيرة يخفون جميعهم أسرارا مخزية وراء جدران فللهم الفارهة الشاهقة. / ص76 الرواية) مما يتيح المجال في التعرف إليه أن عائلة آل غاليناري وهم من المافيا يحكمون الجزيرة بسلطان نفوذ المال والخوف، لذا إذا وصل مثل هكذا كلام إلى آل غاليناري وتأكد كل منهم بأن هذا الحديث صادرا عن هذا الصحافي فسوف يتلقى حتما الضربة القاصمة في القريب العاجل. أقول أن بث الأخبار بطريقة تقترب من الوسيط السلبي من شأنها تحقيق التصعيد العنفواني على مستوى مستجدات أحداث الجزيرة، كما وتخبرنا بعض الوحدات المنقولة عن لسان رفاييل بأن ذلك الصحافي قام بنشر تغريدة هي عبارة عن رابط ينقر فنكشف من خلاله الخبر الآتي: (حين سمرت الفتاة البائسة على جذع شجرة الكينا العملاقة، كان جسدها مجمدا !! بالتالي لم يكن مستحيلا إذا أن تكون قد توفت منذ أسابيع عدة. / ص76 الرواية) ربما سنلاحظ بأن الفاعل الذاتي بدأ يبدي تركيزا ملحوظا حول ردود فعل أوديبير عندما تلقى هذا الخبر وراح يرتطم في جلوسه على الكرسي بطريقة توحي إلى درجة انهياره النفسي والانفعالي. وربما تكون هذه اللقطة التي راح فيها أوديبير منهارا تعد بمثابة الهامش الحاصل من مكامن استباقات الأحداث في تقديم خلفيات الرؤية عبر مواقع أكثر تلميحا وعلامة.
ــ ناثان فاولز وذكرى سعادة عابرة
1ــ بؤرة الصوت الراوي: الإشارات الزمنية المرجحة:
تتشكل دلالات رواية (حياة الكاتب السرية) ضمن مؤشرات فارقة في علامات الأنتاج الروائي الساعية إلى النمو والتصعيد في الخط المألوف للرواية الواقعية التي تعتني بوصف المكان وتحديدا مقادير الزمان وإضاءة محاور الشخوص الأكثر اختلافا وصدورا. تتراءى في مسار الأحداث الخاصة برصد حياة الكاتب ناثان فاولز غموضا ومواربة، إذ لا تلبث أن تنكشف بعض من سماته الشخصية حتى تعاود مكامن الغموض متواشجة في وحدات متواصلة من الظهورات، غير أنه رغم ذلك غدا يشكل بسلوكه الغريب ارتباطا يكاد أن يكون مدخلا لمعرفة حقيقة مشاعره من الشخصية الصحافية ماتيلد: (قرابة الساعة 11 صباحا، بدأ مزاجه يتغير. فبعد عذوبة الاستيقاظ استدرك أنه لن يرى على الأرجح ماتيلد بعد الآن. / ص77 الرواية) من المؤكد جدا أن يقدم السرد بعض مما يشعر به فاولز إزاء وقائع قد حدثت في الماضي، وبخاصة الأمر الذي كان أشد تعلقا بذلك المصح النفسي للمراهقين التابع لمستشفى كوشين، على ما يبدو أن فاولز كان قد قام بزيارة هذه المؤسسة مرة أو مرتين، فهو الآن صار يكلف وكيله الأدبي جاسبر بالبحث عن مقالات ماتيلد الصحفية التي قامت بكتابتها في السنوات الأخيرة في صحيفة لوتان، ثم بالتالي طلب من جاسبر عبر مكالمته الهاتفية معه البحث أيضا عن تلك السيدة مديرة المكتبة السمعية البصرية لدار المراهقين في العام 1998. غالبا ما تكون حالات البحث من لدن فاولز دليلا على مدى وحدته الشخصية مثالا، ولكن ما أوجه الأهمية في بحثه في سجل أرشيف ماتيلد الصحفي؟ هل كان يفتش في أسباب وعوامل قدومها إليه مجددا بعد أن كانت نزيلة في دار المراهقين الصحية تلك وما وجه رؤية الأمر مجددا من قبل حسابات فاولز الشخصية خصوصا بعد مضي كل هذه العقود على وقوع تلك الحوادث؟ ربما فاولز قد اشتبهت عليه السبل ومقادير المشاعر إزاء ماتيلد فهو في الآونة الأخيرة صار ميالا إلى ذكرياتها معه من خلال بعض لقاءاته الماضية والحاضرة معها، إذن هو لا يخشاها كما راودته به بعض حجب ذكرياته، بل هو على قدر من التحفظ إزاءها في الوقت نفسه، يتجنب إطالة الكلام معها مرارا، ويتمنى في حال حضورها المغادرة السريعة كونها فتاة تحفز مشاعره وغرائزه على نحو ما، كذلك فهو يحترس من فراساتها الصحافية في شؤون حياته الأدبية، ولكنه سرعان ما يفتقدها حين لحظة رحيلها عنه وتظل هواجس ذكراها مرتبطة ومبثوثة في مكامن خياله الخاص. تحيلنا حالات الشد والتوتر والالتباس في مواضع من حياة الشخوص المحورية في الرواية، إلى متتاليات من الفصول السردية ذا النكهة الأكثر تساؤلا عن طبيعة اللغة الروائية التي جاءتنا تتحللها العديد من إسقاطات الشخصيات التي تخفي خلفها أحقاب من المعطيات السرانية الشائكة، لذا إن أوراق الاستباقات تعد جملة ملمحات في طيات الوقائع السردية، فيما يمتد السرد بالعديد من الحوادث والأفعال الأكثر بلوغا نحو الوجه المضمر والظاهر من شواهد اسقاطات الحوادث الماضوية والحاضرية في أشد اللحظات الزمنية البعيدة عن حقيقة زمن الإشارات والأقنعة السردية.
ــ أبولين شابوي تاجرة النبيذ
1ــ الوقائع الروائية: هوامش صحافية موثوقة:
من خلال آلية الفصول الصاعدة في صيغة الخطاب الروائي نستشف بأن غيوم ميسو راح يحفز مناطق التشكيل السردي بالأحداث الأكثر وظيفية بمهنة الكاتب الصحافي، ليعرض لنا جملة استطرادات تتعلق بوضع تلك السيدة المتوفاة والتي تم التعرف على هويتها ضمن مسرح أداة المشخصات الجنائية للحادثة: (نجحت الشرطة في تحديد هوية الضحية كانت امرأة في الثامنة والثلاثين من عمرها، تدعى أبولين شابوي تاجرة نبيذ ومقيمة في منطقة شارترون في بوردو ــ المحققين ما زالوا يتحرون عما جاءت تفعله في الجزيرة. / ص82 الرواية) وفقا لإحدى احتمالات المحققين تدل بأن أبولين شابوي كان قد استدرجها أحد الأشخاص في مجيئها إلى بومون، ثم بالتالي قام بأحتجازها قبل أن يشرع في قتلها ويحفظ جثمانها في حجرة باردة أو لنقل في ثلاجة. هكذا أختتم الصحافي مقالته المنشورة في برنامج تويتر وقد كان يطالعها ضمن حدود رابطها الشخصية رفاييل. إذن أن عملية المزامنة للأحداث صارت في سياق الأخبار والتقارير الصحافية، وليسلا في مدارها الأنتاجي السردي والتبئييري، وحتى تأخذ الأحداث الصحافية مكانها الهوامشي في أسفل وصولات الاستثناء في مقصديات البناء الروائي، راح رفاييل يبحث عبر محرك الكوكل عن موقع شركة أبولين شابوي. ومما تبين أن السيدة (تاجرة النبيذ) كما أفصح بذلك الصحافي لافوري، كانت ممارسة بالفعل في مجال إنتاج النبيذ، ولكن حدود مهامها تقتصر على أكثر المبيعات والتسويق للخمور الفاخرة إلى قطاعي الفنادق والمطاعم السياحية: ولكن يبقى السؤال مطروحا هنا ما الذي حل بها إلى الجزيرة؟هل كانت في صدد صفقة تجارية مثالا مع أحد التجار فقام أحد المتربصين بها بحكم كونها سيدة ثرية فقام بمساومتها طلبا للمال أو حياتها مثالا فاختارت المسكينة الموت ترفعا منها عن مستوى فعل المساومة أو عدم درايتها الكافية بجدية اقترابها من حتفها الأخير على يدي قاتل مجهول؟.
2ــ مخطوطة الرواية في تفاصيل تبئيرية خطيرة:
لا شك أن طبيعة الآلية الأساسية المتحكمة في مستوى إنتاج علاقات الخيوط الروائية هي في الأساس عبارة عن ثنائية (الرواية داخل الرواية؟) لذا تتبدى فواعل العملية الروائية الأصل في جملة وساطات متكونة من (الدليل ــ سياق النظر ــ الوقائع المفترضة = الوقائع الجادة) وصولا إلى خصوصيات الشكل الإنتاجي الذي هو المؤشر المداري في آفاق دلالات موضوعة الرواية. حدث وأن قامت الصحافية ماتيلد بزيارة إلى منزل فاولز وقد جمع الأثنان مأدبة متكونة من الشراب وأطباق اللحم البقري الذي كان فاولز يراهن على أعداده بعد تهربه من أسئلة الصحافة بشأن هجره للكتابة في شكل لا رجعة منه. ولو دققنا قليلا في طيات سرد الفصول الصاعدة، للاحظنا بأن فاولز كان يتهكم بهذا الأمر ليس إلا، ولكن فاولز خضع إلى إلى واقع الحال وراح يقطع اللحم ثم يطبخه إلى واقعة إتمام المأدبة التي راح منها ماتيلد وفاولز يتبادلان أطراف الأحاديث في شؤون بدت لفاولز في الوهلة الأولى وكأنها عملية استدراج إلى معادوة كونه كاتبا روائيا فيما كانت ماتيلد تجرجره إلى فكرة خلق رواية متكونة من شخصية الضحية أبولين شابوي والأخر كريم عمراني: (من دون أن تتزحزح من مقعدها، رفعت كأسها الفارغة في اتجاه فاولز. أخذ زجاجة النبيذ. ونهض ليملأ كأس ماتيلد: ـ تبدأ القصة في أوقيانيا في مطلع الألفية الثالثة. وصل زوجان شابان من الضواحي الباريسية، أبولين شابوي وكريم عمراني إلى هاواي على متن طائرة بعد رحلة استغرقت خمس عشرة ساعة لتمضية عطلتهما هناك. / ص91. ص92 الرواية).
ــ شريحة الذاكرة والصور الغاطسة في قاع الحكاية
1ــ الخطاطة المفترضة بين التخريج السردي وقرائن المروى:
كل شيء ينبثق في مداليل الرواية على إنه إقصاء وترجيح واستبعاد بمعنى أن زمن السرد كمواضعة بين (الزمن المنقضي ــ الزمن الراهن ــ الزمن المتحول ــ الزمن التأويلي) أي أن عمليتي ترتيب الأحداث متكونة من (زمن سرد = زمن مروى) والسياق الحكائي في المتن السردي، يمتلك مظاهر سردية تتبع الرؤية العلائقية بين وشيجة ماضوية وحقيقة ذاكراتية، لذا ظلت أغلب فصول الرواية استراتيجية متشكلة بين وحدة (التخريج السردي) ومعادلات محكي (قرائن المروى). إذ بإمكاننا استقراء شكل العلاقات الحاصلة في الماضي على إنها الاشتقاقات والإدماجات المنعكسة بين شخصيات آفلة ولكن لها حضور في مجسد الأدوار العاملية الراهنة في الرواية مثالا على ذلك ما وجدنا في حالات مقترح الشخصية ماتيلد بالكتابة حول فكرتها الروائية التي هي بالأساس مجرد ذكرى قرائنية في زمن فعلي قد حدثت في وقائع ماضوية. لذا نتعرف من هنا على حكاية الزوجان أبولين شابوي وكريم عمراني عندما كانا يتمتعان برحلة صيفية في جزيرة هاواي، فيما كانا يتدربان على الغوص سقطت من أحدهما الكاميرا التي التقطى على شريحتها الذاكراتية جميع جولاتهم في جزيرة هاواي. سعى الغواصان المتمرسان اللذان كانا بجوارهما البحث عن الكاميرا في قاع المحيط، ولكنهما لم يظفرا بأي نتيجة: (فلم يكن من أبولين وكريم سوى الاستسلام للأمر الواقع: لقد فقدا صور عطلتهما. لكنهما نسيا هذه المسألة في الليلة نفسها. / 94 الرواية) والغريب في الأمر بعد مرور عدة سنوات عثرت السيدة فاراغو وهي سيدة أعمال تعمل لمصلحة سلسلة فنادق دولية: (هناك رصدت إليانور هذا الشيء الغامض، ركضت نحوه، وتسلقت صخرتين، ثم أنحنت لتخرجه من مكانه وترفعه إليها. كانت حقيبة مقاومة للماء وداخلها كاميرا من طراز باورشوت ماركة كانون. /ص94 الرواية) ومن المؤسف أن هذه السيدة قد فقدت الحقيبة وداخلها الكاميرا بعد أن كانت متعبة كما نسيت الكثير من مقتنياتها الخاصة وترجلت من سلم الطائرة ملهوفة في العودة إلى منزلها.
ــ تعليق القراءة:
إذا فحصنا بأختصار ما تحمله طيات الوحدات الفصولية من أحداث وأفعال، يتضح لنا قدرة الروائي غيوم ميسو على جعل الروابط السردية في أعلى مستوى من التبئير والحنكة البنائية المتواترة على وتيرة (التبئير النوعي) فالقارىء للرواية موضع مباحث دراستنا، سوف يدرك مدى تعددية الأساليب السردية التي قام بتوظيفها ميسو في السرد والأخبار والوصف وصوت السارد الكلي وبناء الحبكة والشد والإقناع الموضوعي الكبير في البناء الروائي الرصين، خصوصا وإن رؤية المؤلف ميسو لروايته لا تقتصر على صياغة اللغة وزج الأوصاف للأمكنة وتقاسيم ملامح شخوصه، بل إنه يوفر في خطابه السردي ذلك النوع من الحبكة المطردة التي لا تتوقف على مساحة معينة من معطى البناء والإنشاء السردي. عموما أقول أن الحقيبة وداخلها الكاميرا بقيت مجهولة المصير حتى حين تم العثور عليها من قبل الفريق المكلف في تنظيف الطائرة وقد تم تسليمها من الفريق إلى إدارة المطار: (وفقا للإجراءات المعتمدة، أحتفظ قسم المفقودات بالكاميرا مدة 90 يوما، بعد إنقضاء هذه الفترة، بيعت مع آلاف الأشياء الأخرى لشركة من الأباما تعمل منذ عشرات السنين على شراء الأمتعة غير المطالب بها من الشركات الأمريكية ــ في بداية خريف العام 2015 عرضت الكاميرا على رف من رفوف مركز الأمتعة غير المطالب بها. / ص95 الرواية) ومع تصاعد نسبة الإحصائيات لمبيعات الشركة مع ذكر التواريخ الزمنية بطرائق هائلة من القياس والتقدير والمقادير ووسط كل هذا وذاك يبتاع إلى: (أثنان من سكان سكوتسبور، سكوتي ما لون، أربع وأربعون عاما وأبنته البالغة من العمر أحد عشر عاما / حك سكوتي رأسه. كانت هناك صور أخرى في شريحة الذاكرة: لا شك في أن هذه الكاميرا فقدت هناك، لقد وقعت في المحيط / يشير الختم الزمني عليها إلى إنها التقطت قبل أسابيع قليلة من صور هاواي. / ص99 الرواية) هكذا تمت عملية انتقال الكاميرا في مواضع قدرية تحكمها جملة من الأسباب والأحوال النادرة والمسوغة في تقانة حبكها. ومن المصادفات الغريبة يتم العثور على بريد موقع الصحيفة الألكتروني وقد أسهب الأب وأبنته في الشرح المفصل في الرسالة التي بعثها إلى صحافية فرنسية حائزة على شهادة الماجستير في جامعة كولومبيا كان أسم هذه الصحافية هو ماتيلد موني. على هذا الأساس تتحدد مراحل بلوغ الذروة السردية في مشروع منتصف خيوط الرواية المركزة، لذا علينا فهم وتقدير حجم مخاوف الشخصية ناثان فاولز من هذه الصحافية خصوصا وإن هناك علامات وإشارات غير مكتملة توحي على وجود ثمة حساسية مرتبطة في مستوى محاور الشخوص وحاصلات النتائجية الاستحضارية والضمورية في مستويات أسرار الحكاية وخطاب السرد التفردي والمتفرد.
***
حيدر عبد الرضا

في المثقف اليوم