قراءات نقدية
عماد خالد رحمة: دراسة نقدية موسَّعة لقصيدة الشاعر توفيق أحمد المعنونة «يا شِعرُ»
تتجاوز قصيدة «يا شِعر» للشاعر توفيق أحمد حدود القول الغنائي المباشر، لتدخل تخوم الكتابة الميتاشعرية التي تجعل من الشعر موضوعاً للتأمل والاعتراف والمساءلة الوجودية. فالنص لا يكتفي بتجسيد التجربة الشعورية، بل يُحوِّل العلاقة بين الشاعر وشِعره إلى علاقة إشكالية مركّبة، تتقاطع فيها نشوة الإبداع مع كلفته النفسية، والجمال مع الفناء، والاختيار الحر مع الإكراه الداخلي. من هنا، تنبثق أهمية هذا النص بوصفه خطاباً ذاتياً واعياً بذاته، وبالشروط القاسية التي يُنتَج فيها الشعر في زمن القلق والخذلان.
وتنطلق هذه الدراسة من مقاربة نقدية شاملة، تتوسل مناهج متعددة (الأسلوبي، الجمالي، النفسي، السيميائي، والتأويلي)، بغية الكشف عن البنى اللغوية والبلاغية التي شكّلت معمار القصيدة، وعن الأبعاد الفكرية والفلسفية التي تضمرها. كما تسعى إلى قراءة النص في سياقه الثقافي والتاريخي، دون الوقوع في اختزال سيروي أو انطباعي، واضعةً القصيدة في مركز التحليل بوصفها كياناً لغوياً مستقلاً، ومنجزاً جمالياً قابلاً لتعدد القراءات. وعليه، فإن هذه الدراسة تحاول الإمساك بالقصيدة لا باعتبارها نصاً عن الشعر فحسب، بل بوصفها شهادة جمالية على مأزق المبدع الحديث، وعلى هشاشة العلاقة بين الإنسان وما يخلقه ليمنحه معنى.
أولاً: الأسس اللغوية والبلاغية
1. سلامة اللغة وبنية الأسلوب
تقوم القصيدة على لغة عربية فصيحة، سليمة من حيث التركيب والنحو، تتكئ على جُمَل فعلية متعاقبة تُنشئ إيقاع العودة والاستذكار:
وبعد سبعةِ أعوامٍ من القلقِ
وبعدما رَمَّدتْ بي جمرةُ الألقِ
هذا التوازي التركيبي (الاستفتاح بـ«وبعد إعادة افتتاح الزمن») يمنح النص تماسكًا أسلوبيًا، ويؤسس بنية زمنية ارتجاعية تتقدم عبر التراكم لا عبر السرد الخطي.
أما الانزياح البلاغي فيتجلّى في تحويل المجرد إلى محسوس:
جمرة الألق (استعارة مزدوجة تجمع الضوء بالاحتراق)
أشلاء مملكة (تفكيك الذات الإبداعية إلى أنقاض سيادية)
وهي انزياحات لا تقع في المجانية، بل تُخدم الرؤية العامة للنص بوصفه مرثية العلاقة بين الشاعر والشعر.
2. فصاحة اللفظ ووجاهة التعبير.
يتحقق التوازن بين اللفظ والمعنى عبر اختيار ألفاظ ذات حمولة وجدانية عالية (القلق، الوهج، الحرق، الفناء)، دون الوقوع في التهويم أو التضخم الخطابي. اللغة ملائمة تماماً لموضوع القصيدة، إذ لا يمكن لهذا الصراع الوجودي مع الشعر أن يُقال بلغة محايدة أو تقريرية.
نلاحظ وجاهة التعبير في مثل:
فالشعر أنتِ احتمالاتُ الضياعِ به
حيث يُختزل التعريف الفلسفي للشعر في صورة واحدة جامعة، تُعيده إلى أفق المجاز لا المفهوم.
3. الإيقاع والمعمار الصوتي
القصيدة موزونة على بحر خليلي رصين (الكامل أو ما يقاربه في التفعيلة والجرس)، مع قافية موحّدة بحرف القاف المكسور، وهو حرف حادّ، يناسب ثيمة القلق والاختناق.
التكرار: (وبعد، وأنتِ، الشعر) يعمّق البنية الإنشادية.
الموسيقى الداخلية: ناتجة عن الجناس الخفيف (قلق/حرق/عرق) والتوازي الصوتي.
الجرس: يراوح بين الانسياب والحدّة، بما يعكس توتر العلاقة مع الشعر.
ثانياً: الأسس الجمالية والفنية
1. البنية الفنية للنص
القصيدة ذات معمار شعري اعترافي، تتكئ على المخاطبة المباشرة (يا شعر)، فتُشخصن الشعر بوصفه كائناً أنثوياً متمنعاً، وتمنح النص بُعداً درامياً داخلياً.
لا شخصيات سردية بالمعنى التقليدي، لكن هناك:
ذات شاعرة متأزمة
موضوع/آخر (الشعر) يتخذ هيئة الحبيبة القاسية.
المنهج الوصفي يتداخل مع التحليل النفسي، بينما يتيح المنهج المقارن قراءة النص في ضوء تقاليد الشعر الاعترافي العربي (من السياب إلى محمود درويش في نصوصه الميتاشعرية).
2. الرؤية الفنية:
الرؤية قائمة على وعي مأساوي بالشعر: ليس خلاصاً مطلقاً، بل قيدٌ جميل، وهاوية مختارة. الشكل (الوزن، القافية، الخطاب الإنشائي) منسجم تماماً مع هذا المضمون القَلِق.
3. الطابع الإبداعي والانزياح الجمالي
تتجلّى الدهشة في قلب الصورة النمطية للشعر:
الشعر ليس إلهاماً فقط، بل حبلاً على العنق.
ليس نشوة فقط، بل نشوة الأرق.
هذا الانزياح يمنح النص طابعاً حداثياً داخل بنية تقليدية.
ثالثاً: الأسس الفكرية والفلسفية
1. الموقف الفكري:
القصيدة تطرح أسئلة وجودية حول:
١- معنى الإبداع
٢- ثمن الجمال
٣- حدود الفناء الاختياري
الشعر هنا قدرٌ لا مهنة، وامتحان أخلاقي لا متعة بريئة.
2. الأفق المعرفي
يتقاطع النص مع:
١- التصوف (الفناء، الاحتراق، العشق المؤلم)
٢- الرومانسية المتأخرة
٣- التصورات الحديثة للشعر كقلق دائم (ضمنياً)
3. البنية العميقة (الهيرمينوطيقا)
في العمق، القصيدة ليست خطاباً للشعر، بل خطاب اعتراف بالاستلاب. الشعر هو مرآة الذات، وسبب جرحها، ومصدر معناها في آن.
رابعاً: الأسس التاريخية والثقافية
1. سياق النص:
يُفهم النص ضمن لحظة ثقافية عربية مأزومة، حيث فقد الشعر مركزه الاجتماعي، وبات الشاعر يكتب من الهامش الوجودي لا من المنبر.
2. تطوّر النوع الأدبي
القصيدة تقع بين:
القصيدة العمودية المتأخرة
والقصيدة الوجدانية الحديثة ذات البعد الميتاشعري
3. التفاعل مع التراث
نلحظ صدى:
الغزل العذري
الشعر الصوفي
استعارات الخمر والاحتراق التراثية، مع إعادة شحنها دلالياً.
خامساً: الأسس النفسية
1. البنية الشعورية
يسيطر:
القلق الوجودي
الحنين الممزوج بالندم
الإصرار القهري على العشق المؤلم
2. تحليل الذات:
الذات الشاعرة تعاني علاقة اعتمادية مع الشعر، ترفض الفكاك منه رغم إدراك أذاه.
3. النبرة النفسية
النبرة مزيج من:
الاحتجاج
التوسل
الاعتراف
والقبول المأساوي
سادساً: الأسس الاجتماعية والسوسيولوجية
1. علاقة النص بالواقع
يعكس النص اغتراب الشاعر في مجتمع لا يكافئ الشعر، بل يستنزفه.
2. الخطاب الاجتماعي
الشعر يظهر كفعل مقاومة رمزية ضد الابتذال والفراغ.
3. الشاعر كفاعل اجتماعي
الشاعر هنا شاهد مأزوم، لا داعية، يمارس نقداً وجودياً لا خطابياً.
سابعاً: الأسس السيميائية
1. الرموز
الخمر: النشوة/الذنب
الحبل: الفناء/العقاب
النهر: الذاكرة/الزمن
2. الثنائيات
العشق / الفناء
النشوة / الأرق
العطاء / البخل
3. النظام الرمزي
كل المفردات تصب في شبكة دلالية واحدة: الشعر كقوة مزدوجة.
ثامناً: الأسس المنهجية
المنهج: أسلوبي–تحليلي–تأويلي
التركيز على النص لا على السيرة
غياب الإحالات الخارجية لا يخلّ بالبنية، لكن إدراجها أكاديمياً سيعزّز الدراسة
تاسعاً: الأسس الإنسانية والجمالية العليا
1. قيم الجمال والحرية
القصيدة تحتفي بالإنسان المبدع رغم هشاشته.
2. الانفتاح التأويلي
النص قابل لقراءات نفسية، فلسفية، سيميائية متعددة.
3. البعد الإنساني الشامل
يتجاوز النص خصوصية التجربة ليعبّر عن محنة المبدع في العالم الحديث.
قصيدة «يا شِعر» نص ناضج فنياً وفكرياً، ينجح في تحويل العلاقة مع الشعر إلى تجربة وجودية مكتملة، تجمع بين الاعتراف والجمال والألم، وتؤكد أن الشعر، في أرقى تجلياته، ليس زينة لغوية، بل قدرٌ يُختار رغم نزيفه.
خاتمة:
تكشف القراءة النقدية الموسَّعة لقصيدة «يا شِعر» أن الشاعر توفيق أحمد قد نجح في تشييد نص متماسك فنياً، غني دلالياً، ومشحون بوعي وجودي عميق بطبيعة الفعل الشعري وحدوده المأساوية. فالقصيدة لا تحتفي بالشعر بوصفه خلاصاً مطلقاً، ولا تدينه بوصفه لعنة خالصة، بل تضعه في منطقة التوتر الخلّاق بين العشق والفناء، حيث يصبح الإبداع فعلاً اختيارياً مشوباً بالألم، وشرطاً للمعنى لا يخلو من الاحتراق.
لقد أظهر التحليل أن اللغة في النص ليست أداة نقل، بل فضاء اشتغال جمالي وفكري، وأن الإيقاع ليس زخرفاً صوتياً، بل جزء من البنية الدلالية التي تُجسِّد القلق والتكرار والدوران حول الجرح ذاته. كما برزت الأبعاد النفسية والفلسفية بوصفها عمقاً حاكماً للتجربة الشعرية، فيما أسهمت الرموز والاستعارات في بناء نظام سيميائي متكامل، يفتح النص على تأويلات متعددة تتجاوز حدود التجربة الفردية إلى أفق إنساني أشمل.
وعليه، يمكن القول إن قصيدة «يا شِعر» تمثل نموذجاً للشعر العربي المعاصر الذي يحافظ على صرامته الفنية وجذوره الإيقاعية، دون أن يتخلى عن أسئلته الحداثية وقلقه المعرفي. إنها قصيدة تؤكد أن الشعر، حين يبلغ نضجه، لا يكون ترفاً لغوياً ولا خطاباً إنشادياً، بل ممارسة وجودية تُعرّي الذات، وتضع الإنسان وجهاً لوجه أمام ما يخلقه ليقاوم به العدم، ولو كان ثمن ذلك أن يُمسك بالحبل وهو يعرف جيداً حدَّ الخنق.
***
بقلم: عماد خالد رحمة - برلين
.......................
يــا شــعر
شعر: توفيق أحمد
وبعد سبعةِ أعوامٍ من القلقِ
وبعدما رَمَّدتْ بي جمرةُ الألقِ
*
وبعدما ضاع وجهٌ كنت آلفُهُ
كالعطر في الزهر أو كاللمع في الأُفُقِ
*
أعودُ أبحثُ عن أشلاء مملكةٍ
كانت بقيةَ ما أبقيتِ من مزقي
*
كأنني وشربتُ الكأس صافيةً
يا خمرةَ الأمسِ لم أعصرْ ولم أَذُقِ
*
قصائدي طالما عانَقْتِها طرباً
وقلتِ للنائمِ الغافي بها: أَفِقِ
*
قَصَّتْ ضفائرها حزناً على زمنٍ
أضعتِهِ وانتهى وَهْجاً على شفقي
*
أتذكرين وكم أَدْمَيتِهِ قلقاً
وكان أجملَ حتى وَهْوَ في قلقِ
*
لم يرضَ إلاّ لهيباً منكِ يسكنُهُ
بكلّ ما فيه من تَوْقٍ ومن حُرَقِ
*
أصابعي وسألتُ الزهرَ هل يَدُهُ
تلك التي نَثَرَتْ زهراً على طُرُقي
*
حسبُ الهنيهاتِ أني عشتُها أرقاً
وأنَّ للشعر منها نشوةَ الأرقِ
*
وأنَّ عشقاً أنا اخترتُ الفناءَ به
كانت نهايتُه حبلاً على عُنُقي
*
يأبى عليَّ ويَدْري كيف أُرجعُهُ
أحلى بما نال من جهدي ومن عرقي
*
لا تفتحيهِ على هَمٍّ يكلفني
عمري، فما فيه شيءٌ غيرُ محترقِ
*
فالشعر أنتِ احتمالاتُ الضياع به
وأنتِ في كل بحرٍ فكرةُ الغرقِ
*
أنا أحبك شِعراً ما ضَنَنْتُ به
فأنتِ كالوشْمِ في حِبري وفي ورقي
*
أُضيفُ أمحو أُعيدُ الذكريات إلى
نهرٍ تعتَّق أضواءً على الحَدَقِ
*
فيا البخيلةُ هَمُّ الشِّعرِ يذبحني
وقد مَنَحْتُكِ صَكَّ العَفْوِ فانطلقي







