توطئة: قسّمنا ورقتنا النقدية هذه إلى محورين: واحد متعلق بمفهوم المنقبة المرتبطة بالكرامة في سياق إشكالي يخلّص المفهوم من احتمال الجدل الفكري العقيم، ويوضّحه عبر التظهير له داخل مساقات رواية "خط الزناتي" ... والمحور الثاني متعلق بمفهوم الخط داخل الرواية باعتباره مفهوما صورياً محمّلا بصبغة ثقافية شعبية ندرِجها داخل مفهوم عالِمٍ هو الكتابة باعتبارها أكثر شساعة، وقادرة على إخراج مقولة الخط من الوجود البصري إلى الوجود اللغوي، وتحويل مجرى التخريج الدلالي من الدائرة الشعبية إلى الدائرة العالمة، في توجّه منهجي يقوم على التأويل المشروط والمستند إلى قرائن نصية من داخل المتن الروائي.
ونحن نقرأ رواية "التحول" للكاتب الفرنسي "فرانز كافكا" يطالعنا بطلها "غريغور سامسا" وقد تحوّل إلى حشرة الصرصار. في وضعٍ سردي خاص هو أن البطل المتحوّل أو الممسوخ، يمتلك حقيقة وجوده فقط داخل النص، أي داخل الرواية. بمعنى أن حقيقته تزول عند الانتهاء من فعل القراءة وإغلاق دفّتي الكتاب. فحياة هذه الشخصية أو القوة الفاعلة مرهونة بأسوار النص، ولا حقيقة له خارجها.
في حين أننا في قراءة رواية "خط الزناتي" لمؤلفها المغربي المبدع "شعيب حليفي"1 نجد أن شخوصها أو قواها الفاعلة سواء ما تعلق بالإنسان أو الحيوان أو الأشياء، نجدها تمتلك بعدها الكياني المرتبط بوجودها المحدد والمعروف والثابت والتاريخي. وما يعضد هذا التخريج الأولي شهادةُ المؤلّف في قوله (الأحداث بكل تفاصيلها.. حقائق وقعت بالفعل. ويشهد المؤلف أنه نقل كل ما جرى بأقصى ما يمكن من الأمانة والمسؤولية، وحينما أطلع كائنات هذه الرواية على ما كتبه.. أذهلهم لمعانُ التطابق، فقرروا الخروج من الواقع، بشكل جماعي، والهروب إلى الرواية لمواصلة العيش فيها)2.
و تفسير ذلك أن إمكان نفي الحقيقة عن أبطال رواية "خط الزناتي" هو نفيٌ وإلغاءٌ وإبطالٌ لِمناقِبها أو لكراماتِها. وعلى الأقل فيما يتعلّق بشخصية موسى الزناتي، المبَأّر منقبياً في سياق كل الرواية. وبالتالي فنحن أمام رواية تقع على الحافة بين ما هو تاريخي3 وما هو أدبي وما هو مقدّس. إنها نص لغوي سردي بثلاث صبغات:
- الصبغة الأدبية
- الصبغة العقدية والدينية
- الصبغة التاريخية المؤرّخة للسير الاجتماعية
هكذا تجاوزت رواية" خط الزناتي" شرط الباحث الفرنسي "تودرورف" الذي يرى أن (مشكلة الشخصية هي قبل كل شيء مشكلة لسانية والشخصية لا وجود لها خارج الكلمات، إنها كائنات من ورق)4، والذي يقف عند حدود الداخل لضمان حقيقة الشخوص، وعلى الأقل فيما يتعلق بشخصية موسى الزناتي الذي ينتصب أمامنا في الرواية بسيرته المنقبية العامرة والقوية والجديرة بالانوجاد البؤري داخل وخارج النص، بحيث ونحن نغلق دفّتي رواية خط الزناتي، لا تنغلق سيرة موسى بقدر ما تبقى مستمرة وفارضة إدهاشها عبر حقيقتها التاريخية المستمرة في صيرورتين: فنية تخييلية وواقعية اجتماعية.
أولا: محور المناقب
تطرح رواية "خط الزناتي" كثيرا من المسائل والقضايا، نختار منها في هذه العجالة مسألة الكرامات. وهي التي أثارتْ جدلاً كبيرا في تاريخ الفكر الإسلامي نتجاوزه لاعتبارٍ منهجي يحاصرنا داخل الاشتغال النقدي الروائي الذي لن يخرج بطائلٍ من الجدل الفكري والإشكالي حول الموضوع. إن مفهوم الكرامات ارتبط في أدبياته بمبدأيْن هما: مبدأ النبوة ومبدأ القدرة الإلهية. وقد اخترنا تسمية المناقب عوض الكرامات تجنباً لأدنى انزلاق عقدي يدخلنا في حيص بيصِ المجادلة التي نتجنب احتدامها في سياقنا القاضي بالبحث عن إركامٍ خاص بالمناقب لدي شخصة موسى الزناتي في رواية "خط الزناتي".
ومن جهة ثانية، فإن تسمة المناقب تُجنّبنا السقوط في مبدأ المعجزة التي انتهت بنهاية الرسل والرسالات، والتي ارتبطت بالإنبياء داخل وظائف متعددة نذكر منها إتمام المعاني وتثبيت القلوب. وهي الوظائف التي لا يمكن ضبطها في سياق المناقب الحاصلة لبعض الناس خارج تصنيف الأنبياء، مما يزيد في حذرنا من الاستعمال، لأن تراكم المناقب عند هؤلاء إذا زاد من شرعيتهم ومصداقيتهم فإنه يزيد أيضا من خوفهم وحذرهم من مطباتِ "الاستدراج الخفيّ".
- في المفهوم:
جاء في لسان العرب عن مادة نقب: النقب هو الثقب في أيّ شيء، والمنقب هو الطريق، والمنقبة هي الطريق الضيق بين دارين لا يستطاع سلوكه، والنقيبة هي الطبيعة، وقيل هي الخليقة، وفي فلان مناقب جميلة أي أخلاق5.
و نخلص من ذلك إلى المناقب في معناها المعجمي هي اسم جامع لكل ما حسن من أقوال وأفعال وخصال في ترادف مع المآثر والفضائل والمفاخر.
و في الاصطلاح فالمناقب مفهوم يمثل مجموعة من السياقات والوقائع والأحداث المرتبطة بسيرة شخص عُرف بصدق الطوية وصلاح السلوك... وقد سجل شارل بيلا (أن كلمة مناقب تطورت مـن الدلالـة علـى الفضائل والأعمال المحمودة التي يمكن أن تتجسد في سيرة شخص من الأشخاص إلى الدلالة على الخوارق والكرامات التي تنسب إلى الأولياء وذلك بحكم ازدهار التصوف والاهتمام بالمظاهر العجيبة)6.
- رصد المناقب:
في تمثيلية لا في حصر. فالسياق لا يسمح بجرد كلي لهذه المناقب على طول الرواية وسنكتفي بأبرزها في توجّه منهجي يختزل دون أن يسئ إلى التجانس بين مدخلات البحث ومخرجاته:
1 – منقبة استلهام الشرعية:
و يتعلق الأمر بتناص ديني واضح ومفعم بالدلالة . نقرأ في الرواية في سياق حديث موسى الزناتي عن الطفل الذي كانه ما يلي (قام. نظر إليهم ثم عاد ينظر إلى المربع الذي رسمه فوق التراب)7.
عن ابن مسعود قال:(خط النبي صلى الله عليه وسلم خطا مربعا، وخط خطا في الوسط خارجا منه، وخط خططاً صِغارا إلى هذا الذي من جانبه... فقال: هذا الإنسان، وهذا أجله محيطاً به أو قد أحاط به، وهذا الذي هو خارجٌ منه أملُه، وهذه الخطط الصِّغار الأعراضُ فإن أخطأه هذا نهشه هذا)8. إن هذا التجانس بين المشهدين: البشري والنبوي هو تجانس دلالي يبحث فيه السارد عن مصداقية الفعل المنقبي، وفيه يتجلى التراب لا مساحةً مسطّحة لتوضيح الرؤية المنقبية من جهة موسى بطل الرواية، ولتوضيح الرؤية النبوية في المنهج الحياتي من جهة النبي محمد صلى الله عليه وسلم بقدر ما التراب قدرٌ سيميائي غائريستوعب صيرورة الإنسان في شقّين: شقّ الوجود وشقّ الرواية.
إن التعاطي لمثل هذه الطقوسية في محراب هذا العلم هو تعاطٍ متجذر وعريقٌ يمتد إلى النبي إدريس عليه السلام.بما يفيد أن المناقب ليست غريبة عن هذه السلالة الزناتية التي أُلْهِمت في صباها قبل أن تتجذر فيها في شبابها وفي كهولتها، مانحةً إياها لقب المشيخة.
2 – منقبة الرؤية المختلفة:
و يتعلق الأمر بتصور موسى الزناتي للذات وللماحول وللعلاقة بينهما من منظور مختلف يؤسسه شرطان: شرط الصمت كمقولة مركزية تتكلم فيها الذات بالإشارة بدل العبارة. ثم شرط الكلام باعتباره خلاصات قناعية للذات المتكلمة وهي تتفاعل في صيرورتها الوجودية مع ذاتها ومع محيطها وتاريخها منتجة مجموعة من المقولات هي أقرب إلى الحكمة والفلسفة منها إلى الخطاب اليومي. ومن خصائص هذه الرؤية نذكر:
- تكسير البداهات:
قال السارد في حديث بين موسى الزناتي وعيسى السمايري (النجوم الحقيقية في حياتنا ليست تلك التي تطوف في السماء بلا إحرام، وإنما هي الكائنات التي نحيا معها)9. المتكلم هنا يُسند الضوء للكائن البشري كما يُسند له صفة العلوية والسمو، داخل شرط وجودي واحد هو أن يمتلك المعني بالأمر قدرا عاليا من الصفاء الذي أعتبره في سياق الرواية مقولة مركزية في سيرة المناقب. وهو الصفاء الذي قاد موسى الزناتي إلى اختيار طريقة جدّه الشيخ الزناتي، وهو الصفاء ذاته الذي يكسّر به البطل الروائي مرايا نفسه المركبة من الشك.10
- تأويل الزمن:
يتكرر في الرواية حرص موسى الزناتي على أن الزمن يومٌ واحد في كثيرٍ من محطات الرواية السردية والوصفية. فموسى يرى الزمن من منظور مختلف يُشاكس علم الفيزياء. وعندما يحس السارد بالعجز في متابعة دقّة العلم يُقحم الذات في انبثاقها الكشفي لتفسّر الظاهرة الزمنية في كثيرٍ من الانزياح العرفاني. قال: (كان الزمن كتلة هلامية بلا شكل، فنحتَ شكلاً ربطه بالشمس والنجوم وباقي الكواكب والأجرام والأحجار، ثم سعى باحثا عن نقطة نهاية ونسي نفسه، ورمانا فيه فتعوَّدْنا)11.
هذا الطرح ماكرٌ، يمكر بالقارئ في لطف ويستدرجه للبحث عن المفهوم خارج التأويل الذاتي الزناتي الذي تبنيه الرؤية الكشفية أكثر مما تبنيه الرؤية العلمية. ورُبّ باحث عن المفاهيم في هذه الرواية أو في غيرها من روايات المبدع شعيب حليفي لن يجد ضالّته لأن منظور المؤلّف يرفض أن يُختزل العمل الروائي التخييلي في خانة الوثيقة العلمية أو التاريخية.
3 – منقبة التفسير:
قال السارد على لسان موسى الزناتي: (النقطة هي الخروج من العدم إلى الوجود، هي الأم الولود في نقط متتالية تتفرق وتجتمع وتتحول من اللاشكل إلى الشكل والهيئة، تتفرد وتتماثل مع الهيئات العليا في نظامها وبيوتها ومعانيها)12.
هكذا فكّر موسى وهكذا تكلم موسى. والنقطة هنا لا تُؤخذ في معناها الشكلي المورفولوجي المرتبط بمقولة الخط أو الكتابة في توجّههما البصري العَلامِي، فهذا حاضر باعتباره آلة من آلات الرسم على الرمل أو الضرب على التراب. وإنما هي حاضرة في هذا المقطع باعتبارها بداية للكون يقدم السارد من خلاله تصوره للوجود والعدم. فالأصل كان نقطة، وفي البدء كانت النقطة... ثم تناسلت في انزياح لامتناهٍ رفده السارد بمقولة الأم الولود دلالة على الإخصاب المستمر.
و النقطة في تناسلها لا تكتفي بوجودها الفيزيائي المفرد بل تتحول في صيروة وسيرورة كونية شاملة على مستوى التحول والمسار. وفيها تتماثل الهيئات الفلكية العليا في نظامها وترسل إشعاعاتها السديمية. من هنا نفهم الحضور المؤنسن للحيوانات والأشياء والحشرات والأحجار في الرواية. كما نفهم قدرتها على التفكير والكلام وعلى صناعة القرار.
الحيوانات في الرواية تفسيرٌ ذكيّ لهذا التماهي المتخيّل بينها وبين الهيئات الفلكية العليا. ومن منّا يقدر على إنكار هذا التخريج ضد مبدع الخيال الذي يجرنا إلى حلبته المخيالية والتي لا يسعنا فيها إلا أن نحاوره بأدواته لا بأدواتنا العاقلة. ومن هنا أيضا نفهم قدرة سوسو على المحاورة وأشياء أخرى ونفهم أيضا تقييم القنفد للحياة والجمال ونفهم كذلك اكتئاب البغل وسيرةَ الڭرطيط وغيره... هي إذن هيولى فلكية انتسختْ في بُؤر جسدانية قريبة من الحس البشري القارئ للرواية وهو الحس الذي لا يقدر في اغلبه على التجريد، فتنفعه الرواية بهذا التقريب وعبر هذا التقريب.
4 – منقبة الحكمة:
الرواية طافحة بمحطات الحكمة التي تُنسج على ألسنة الشخوص والقوى الفاعلة إنسها وحيوانها وأشياؤها... والسارد في هذه المنقبة يرسل الكلام الحكيم مشروطاً بسياقاتها المولّدة لضرورة الحكمة لا في قصدية تلوي أعناق المتن من باب الزخرفة لتأثيت الفضاءات المحكية بجلال الحكمة. السياق العام المرتبط بسيَر الكائنات الزناتية فرض حضور الحكمة بتلقائية وظيفية تنساب في اطّراد مُحكم ودلالي.
نذكر من هذه المحطات بعضاً منها ونستحضرغيضاً من فيض ، تمثيلاً لا حصرا:
- النهار أصمّ والليل أعمى
- ماذا لو نسي الليل نفسه ونام
- الزمن مأوى الأسرار الهاربة
- الزمن يتغدّى من أعمارنا
- النظر إلى الوراء يضعف قوة القلب
- الصمت من الرجال قوة ومن النساء شك
- الحقيقة عدوٌّ لنا جميعا
و الأساس في استحضار الحكمة هو التسطير على أن التجربة أو الخبرة المُراكمة لحصاد هذا النوع من الكلام، غير واردٍ في سياق الرواية، لأن الموصوف أساساً بالحكمة والممارس لها هو موسى الزناتي، وبالنظر إلى عمر الشباب فيه تنتفي فكرة تركيم الخبرة والتجربة كأساس لبناء المنظومة الحكيمة في شخصه. يبقى أن التفسير الأولى هو أن المعني بالأمر موهوب هبةً ربّانية تسعفه في الكلام وفي السلوك وفي تقدير الأمور وفي استثمار الحدس واستعمال الحس... هكذا رأينا الحكمة في هذه القوة الفاعلة في الرواية بما هي حكمة يجريها الله على لسانها ويسمها بميسم الأصالة القوة واليقينية.
5 – منقبة التوحيد:
و لا نقصد بذلك مقولة التوحيد في بعدها العقدي أو العقيدي المرتبط بتنزيه الله عن الشريك. ونقصد بذلك منقبة قدرة الكائن الزناتي على التوحيد بين المتناقضات في تصورٍ يتميز بالانزياح الفكري عن الشبه والتكرار.
في حوار بين موسى الزناتي وعيسى السمايري:
قال عيسى: الشر فينا أعمق تجذرا واستثنائية. وهو مرآة الخير.
ردّ موسى: الشرّ بما تنعته، خطأ في التوصيف. الأصحّ القول..هو اختبار المواجهة مع الشر، وليس بالضرورة أن يكون شرّاً وإن كان من جنسه13.
يتماهى هذا التصور مع رؤية الشاعر القديم (أبو العلاء المعري) للمتناقضات التي وضعها كلها في سلّة واحدة هي الشبه والمثل. فقد جعل المعري النوح في مقام الترنم، والباكي في مرتبة الشادي، والبشير في درجة النعيّ... ورأى لاجدوى بناء الكون على قياس هذا الثنائيات. والأمر نفسه يكاد يتكرر مع رؤية موسى الزناتي مع إضاء زناتية تختلف عن المعري وتطبع الطرح الروائي بالأصالة، ويتعلق الأمر بإيمان موسى الزناتي بوحدة المتناقضات مع وضعها في خيار التدافع. قال (الأصحّ القول.. اختبار مواجهة الشر) في غير توحيد كلي وفي غير إقصاء كليّ أيضا.
6 – منقبة الحدس:
يسأل الراعي الحيْمر صديقه موسى الزناتي قائلا: هل فعلا تعلم الغيب آسّي موسى كما يقولون؟ ردّ موسى: ... الغيب يعلمه الله وحده. أنا أحدس فقط بما أرى وأحس14.
هذا البعد الحدسي المرتبط بالهبة اللدنية، سيجد مصداقيته في واقعة روائية داخل المتن الحكائي في الصفحات 95 و96 و97. وملخصّها أن الحاج المدني صديق والد موسى الزناتي ألمح برغبة ابنيْهِ في السفر إلى إسباينا مع بعض الرفقاء... أدرك موسى بحدسه أن هذا الإقدام على الرحلة لا ينبئ بخير. لم يسرّها في قلبه بل أخبر الحاج المدني بما يراوده، فانقبض قلب الحاج... فاتفقا على ادّعاء مرض والدة الابنيْن الراغبين في السفر ثم أحجما عن ذلك... بعد ذلك بيوم واحد جاء خبر حادثة سير أودت بحياة الرفقاء.
و فكرة الحدس عند موسى الزناتي لا تأتي من فراغ ولا تؤسس ذاتها على الخارق العائم في الغلو والمغالاة... إنها مبنية داخل تصور يُقرّب مفهوم الحدس عبر وسائط الإدراك الممكنة والمتأتية. فموسى يربط حدسه بالرؤية والإحساس، يستثمرهما داخل الصفاء النوعي الذي يمتلكه عبر مجاهدة نفسية تتخذ عدة آليات لتجليتها، منها النزول إلى قاع البئر والجلوس هناك ساعات مطوّلة للتأمل خارج التفكير، برأسٍ مفرغة من كل شيء.
7 – كبرى المناقب:
سألتْ سوسوموسى الزناتي: لماذا أنت وحدك تريد تغيير الناموس؟ ردّ موسى: أنا الناموس... أريد تغيير نفسي15.
و نقرأ هذا المقطع داخل التراث القائل:
تحسب أنك جرمٌ صغير \\ وفيك انطوى العالم الأكبر16.
ذاك أن تغيير الناموس الأعظم يبدأ بتغيير الناموس الأصغر، الذاتي المرتبط بحقيقة وجود موسى الزناتي لا باعتباره شخصا عاديا يعيش في منظومة مجتمعية تمارس وجودها داخل الشبه، ولكن باعتباره استثناءً حاملا لبعض الرسالة الربانية القاضية بتوريط الكائن المرصود داخل لعبة النقاء والصفاء. إن همسة موسى بإسناد مقولة الناموس إلى ذاته فيها من المعاناة أكثر مما فيها من الأنا الفرحة بمنزلتها المصطفاة. فالناموس ليس اختياراً بقدر ما هو إنزال سماوي فيه من القهر ما فيه. ولعل تجربة النبي محمد صلى الله عليه وسلم تفيدنا في ذلك وهو المرصود دون أن يعلم، لهذا القرار الإلهي الذي عبّر عنه ورقة بن نوفل وهو يخبر خديجة رضي الله عنها بما رآه في النبي...
(فَرَجَعَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إلى خَدِيجَةَ يَرْجُفُ فُؤَادُهُ، فَانْطَلَقَتْ به إلى ورَقَةَ بنِ نَوْفَلٍ، وكانَ رَجُلًا تَنَصَّرَ، يَقْرَأُ الإنْجِيلَ بالعَرَبِيَّةِ، فَقالَ ورَقَةُ: مَاذَا تَرَى؟ فأخْبَرَهُ، فَقالَ ورَقَةُ: هذا النَّامُوسُ الذي أَنْزَلَ اللَّهُ علَى مُوسَى، وإنْ أَدْرَكَنِي يَوْمُكَ أَنْصُرْكَ نَصْرًا مُؤَزَّرًا.)17.
السارد موسى الزناتي يعرف حجم ذاته ولا يتجاوزها إلى خطل الاستدراج الخفي الذي يلقي بالمريدين في أتون المغالاة والغلو والشطحات الصوفية التي لا مخرج منها. لهذا استدرك على كلامه دون تردد وهو يصحح لسوسو أنه ناموس ذاتيّ وقراره في التغيير لا يتجاوز هذه الذات الصغرى. وتأتي التأويلات بعدها لربط الذات بالكون في تصوّر معتدل ومشروع لا يلوي للنصوص أعناقا.
ثانيا: محور الخط والكتابة:
- في اللغة يكون الخط هو الطريقة المستطيلة في الشيء، والجمع خطوط، وقد جمعه العجّاج على أخطاط فقال: وشمن في الغبار كالأخطاط. والخط هو الطريق. يقال: الزم ذلك الخط ولا تظلم... قال أبو صخر الهذلي:
صدود القلاص الأُدْمِ في ليلة الدّجى \\ عنِ الخطّ لمْ يسرُب لها الخطّ سارِبُ 18.
- و في الاصطلاح، يقترن الخط اقترانا شديدا بمفهوم الكتابة في المعنى وفي الاستعمال، حتى بدا المفهومان وكأنهما شيء واحد لما بينهما أصلا من علاقة معنوية، خاصة وقوية، تستند إلى كون أحدهما من معاني الآخر في العرف اللغوي الذي نصّت عليه المعاجم كلها، مع وجود بعض التباين الدلالي بينهما، بين عمومية الكتابة كتمثيل لغوي وبين خصوصية الخط كتمثيل بصري.
الخط ظاهرة إنسانية اجتماعية عامة استخدمها الإنسان منذ أقدم العصور لتسجيل خواطره رغبة منه في تذكرها أو إيصالها إلى غيره عبر الزمان والمكان، فأفادته في مختلف شؤونه الاجتماعية حتى أصبحت تُعدّ أهم أسباب التقدم الحضاري.
و الخط مرّ بأطوار منها الصوري ثم الرمزي ثم المقطعي ثم الصوتي وأخيرا الهجائي الصرف حيث تمّ استبدال الصور الرامزة بالحروف.
- أما الخط الزناتي فهو علم الرمل، وهو علم صحيح وشريف وقديم جدا يعزوه الكثيرون إلى نبي الله ادريس عليه السلام. وأساسه هو علم النقطة الممثلة في الاسطقسات الأربعة: النار والهواء والماء والتراب. وهو علم يتمّ بطريقة سحرية من خلال الضرب على الرمل أو التراب لاستقراء الغيب. وارتبط هذا العلم باسم (الزناتي) الذي طوّره ووضع له أسساً وقواعد ضمّنها كتابه الشهير(كتاب الفصل في أصول علم الرمل).
- فعل الكتابة في الرواية:
رصدتُ حضور فعل الكتابة في رواية خط الزناتي، فوجدتها ملفتة للنظر ومستفزة للوقوف والقراءة والاستقراء. وهي تتجاوز الحضور المورفولوجي إلى تشكيل نسغ الرواية تشكيلاً مركزيا لا يمكن أن نتجاوزه. والكتابة\ الخط أو الخط\ الكتابة مقولة تفرض على القارئ استجلاءها في قيمها وأبعادها ودلالاتها.
و قد وردت علامات الخط والكتابة داخل متن الرواية بصيغ مباشرة وبأخرى غير مباشرة.
1- ورقة الزمن:
يحاول السارد أن يعكس لنا مفاهيمه الخاصة داخل قوالب الاستعارات المجنّحة والانزياحات الأكثر تجنيحا، لتأكيد المقولات في بعديها الواقعي والتخييلي. نذكر من ذلك عرضه لمفهوم الزمن عبر الكتابة المتوسلة بعلامة " الورق"... قال السارد (الزمن أشبه بأسطوانة من ورقتين بالأبيض والأسود، يراهما موسى الزناتي في حجم الكف الواحدة)19. وفكرة الورقتين تفيد فيما تفيد النسخ والنقل والتحبير وغيرها من متعلقات هذا الصفيح العذري المنتظر لفعل اجتراح البياض. لكن العلامة الفارقة هنا هي تحويل المفهوم من الورق الطباعي إلى ورق الأسطونة، وفيها يتجلى عمق الزمن في مشترك الدوران وأشياء أخرى. فمن أشدّ خصائص الأسطوانة: الدورانُ والحكي. والزمن في عمق الاستعارة وآخر المطاف يدور ويحكي هذه الكائنات. إلا أن المفارقة الموسوية الزناتية هي تأطير هذا الامتداد الزمني القاهر داخل الكف الواحدة في تصوّر يبدع فكرة إمكان امتلاك الزمن بدل امتلاكنا.
2 – طقوس الكتابة:
ترصد الرواية عبر مخيالها السردي طقوس الزناتية الموسومة بالعلم اللدني المشروط بحضور مجموعة من الممارسات يؤطرها فعل الكتابة والمحو، من قبيل بركة اليد وتمرير الراحة بتؤدة بالغة وإغماض العينين والخشوع والتركيز ورفع السبابة وخاصة اليمنى الموصولة بالاستجابة وكذا العناية بعمليتي الكتابة والمحو واستعمال اللعاب أو الريق فيما يسمّى بالنفث الموسوم بالبركة... خارج هذه الطقوسية لا يكون الأمر إلا شعوذة في فراغٍ ظاهر ولعبة تحايلية أظهر. (يمرّر على تلك المساحة راحته بحذر شديد، ثم يرفع سبّابته اليمنى بعد أن يبللها بطرف لسانه وهو مغمض العينين. بلا ارتباك، يشرع في خط خطوط ونقط بعناية وخشوع)20.
3 – سيميائية التراب:
الجميل في رواية خط الزناتي اهتمامها بالتفاصيل التي تبدو لناظرٍ أنها متجاوزة. فيما الأمر شديد الحساسية لأن التفاصيل تستبطن العمق أكثر من الأساسيات أحيانا. من أمثلة ذلك في الرواية عناية السارد بمقولة التراب أو الرمل باعتبارهما علامة مركزية في العلم الزناتي الذي لا تقوم له قائمة خارج مساحة التراب وخارج تأويل التراب. ولِمَ التركيز على التراب رغم علمنا بسرعة زوال ما يُرسم على سطحه بفعل أول ريح وأول هبة نسيم؟ التراب في الرواية أولا وفي علم الرمل ثانيا لا يؤخذ في حقيقته المتشيئة، بل يُستثمر في معناه أو في فائض معناه إن شئنا التعبير. التراب هنا يوظف باعتباره أصلا لا مساحة، وباعتباره تاريخا لا حضورا متشيئاً، وباعتباره رمزا للوجود وبداية الوجود لا ركحا لممارسة طقس الكتابة أو الخط. والتراب في الرواية مرتبط بالغيب ويجسد في حضوره عبر الممارسة الطقسيةِ فكرة الغياب. الشيء الذي يسلمنا إلى القول إن تأويل التراب لا يتم خارج النفس واستيهاماتها وهي التي تقرؤه حضورا وغيابا وآنيا وانتظارا... إن مما يؤكد قوة هذه العلامة الترابية أو الرملية هو تفضيل الرسم عليه لا بالقلم أو العود وإنما بالأصبع بدلالة الانسجام بين الأصل والفرع وبدلالة العود الأبدي على اعتبار أن المجاز المرسل هنا يتدخل لتفسير الدلالة، فالأصبع جزءٌ يُطلق في التعبير الروائي للدلالة على الكل وهو الإنسان. النتيجة هي أن الرسم يتم بالإنسان على الإنسان.(شاع بين الناس أن الشيخ الزناتي يراود الغيوب ويفتش في ثناياها الحارقة فوق الورق والجلد والتراب والرمل بأصبعه لذي كان معقوفا يختلف عن باقي أصابعه الأخرى، يخطّ ما يشتبك داخل نفسه التي هي أشبه بثقب دودي، يكتب أرقاما وحروفا ويحسب حسابا ثم يقرأ النتيجة)21.
4 – من الطقس إلى الوجود:
تهتم الرواية في مسرودها المتنوع بالانتقال من الطقس في محدوديته إلى الوجود في شساعته. بمعنى أن السارد يضمّن حكيه لبعض محطات العمر معاني أكبر من الحكي والتأريخ للحظة هاربة في الزمن. ومثال ذلك خروج السرد من منطقة سوس إلى منظقة الوجود. من بدايات التعلم إلى ملامسة نهايات الكينونة. قال السارد: (حينما أنهيتُ دراستي في التعليم العتيق بسوس، كنت قد دنوتُ من أسرار الحروف والخطوط، وستستكمل المصادفات ربط مصيري بالأقدار الرابضة في خزائن الزمن لما اشتغلتُ وفهمتُ من أكون وكيف أكون.)22
إن كينونة البطل لم تجد معناها إلا بعد معانقتها للحروف والخطوط، من ثمّة أمكنها الخروج من الوجود الفيزيائي إلى الوجود الممكن والاحتمالي القابع في خزائن الزمن. كما اتضحت له الرؤية بمعنى الكينونة سواء على مستوى الماهية (من أكون) أو على مستوى الاختيار (كيف أكون)
5 – في التفاصيل يرقد التأويل:
قال السارد (شغفتُ بتدوين التفاصيل التي تهم اليوم الواحد، لأنها تفيدني في تحبيك الكلام الموارب الذي يسير بحذر واثق على حافات المعلوم. أهوى التفاصيل التي تتيه في شقوق الزمن)23 .
6 – اختزال:
قال السارد (رغبتُ في تسجيل ما يجري، لأن يوما واحدا يكفي)24 ومصداق ذلك أن الرواية تغطي أحداث يوم واحد بنهاره وليلته فقط، فيما السرد ينساب خارج هذا الحيز حتى إنه ينقل القارئ إلى القرن الثاني عشر الميلادي حيث جذور موسى الزناتي.
7 – واقعية الرواية:
في حديث بين دويدو وموسى الزناتي ترقد الواقعية. لأن دويدو في سؤاله الغرّ والساذج يضفي على الرواية بعدها الواقعي حتى لا تنجرّ بالقارئ في استيهامات تخييلية متسيبة... (عاد إلى الحقل، دون أن يتوقف دويدو عن استعطاف موسى بأن يضرب الرمل ويجمع الأشكال والهيئات والأزمنة ليرفع الحجاب والطلاسم عن الخزائن التي دفنها العبد عاشور الضرواي قبل مقتله)25... فالشخصية الروائية دويدو جزء مهم من صيرورة الحكاية، فهو وغيره من الشخوص يمارسون دورا أساسيا في الحفاظ على توازن العمل الروائي وهو يربط في تمثل ذهني شعبي العلمَ الزناتي بالقدرة على استخراج الكنوز.
8 – انسجام:
و يتعلق الأمر بانسجام الممارسة الطقوسية مع التصور في هذا العلم الزناتي. قال السارد (جاء على لسان الشيخ الزناتي: الخط الزناتي هو منطق الخروج من ظلمة الكهف إلى وضوح الضمير السابح. ضرب الرمل، شكل الطريق، والطريق مجرد أربع نقط: نار وهواء وماء وتراب) 26 .
9 – نفسٌ صوفي:
يتجاوز العلم الزناتي الممارسة الطقوسية الشعبية المرتبطة بالبحث عن الطالع واستقراء الغيب وتفسير المنامات واستخراج الكنوز وغيرها ... إلى التعبير عن رؤية خاصة للعالم عبر بوابات الكشف والتجاوز. قال السارد (ترك الشيخ الزناتي عاشور وسبح يبحث في الحرف والكلمة وأن النقطة بدون أخرى هي عجمةٌ وتأتأة. والحرف جسد، والعدد روح الجسد وأن كل البحثالذي يجريه هو خطّ من نقطة واحدة، وأن الغاية هي رؤية العالم في نظرة واحدة ورؤية الزمان في هيئاته وأحواله في لحظة واحدة)27... وهنا نكتشف عمق الرؤية الزناتية للوجود، إنها رؤية متقدمة تروم الوصول إلى لحظة الإشراق.
خاتمة مفتوحة:
كان هذا فيضاً من غيضٍ في درس الرواية (خط الزناتي) منعني من التوغل فيها عاملٌ أساسي هو حضور كثير من المداخل لقراءتها حضوراً دوّخني، فتمثلتُ في هذا التراكمِ المسكوكةَ الفرنسية القائلة "la présence des biens nuit " فما كان منّي إلا أن أستهدف بعض هذا التراكم القوي والمفعم، واخترتُ وتحمّلتُ في اختياري كل المسؤولية...
***
بقلم: نورالدين حنيف
.......................
إحالات:
1 - شعيب حليفي، خط الزناتي، رواية، منشورات السرديات، الطبعة الأولى، 2023
2 - رواية خط الزناتي، ص6
6 - التاريخي في سياق الرواية لا يتعلق بمفهوم التاريخ المسجِّل للماضي البشري عبر التوثيق، وإنما المقصودُ سيرة القوى الفاعلة الاجتماعية.
4 - تيزفيطان تودوروف، مفاهيم سردية، ترجمة: عبد الرحمان مزيان، منشورات الاختلاف، الجزائر، ط،1 ،2005، ص 7
5 – ابن منظور، لسان العرب، تحقيق عامر أحمد حيدر، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، 2003، الجزء الأول، ص 768
6 - Pellat(Charles)E.I(n.e)TomeVI- Mamàkib- p333.
7 – رواية خط الزناتي، ص 53
8 – الحديث رواه البخاري
9 – رواية خط الزناتي، ص 14
10 – أنظر صفحة 22 من الرواية
11 – رواية خط الزناتي، ص 21و22
12 – رواية خط الزناتي، ص 29
13 – رواية خط الزناتي، ص 66
14 – رواية خط الزناتي، ص 46
15 – رواية خط الزناتي، ص 54
16 – هذا البيت يُنسب إلى على بن أبي طالب
17 – الحديث أخرجه البخاري
18 – ابن منظور، لسان العرب، دار المعارف، الجزء الخامس، ص 102
19 – رواية خط الزناتي، ص 8
20 – رواية خط الزناتي، ص 9
21 – رواية خط الزناتي، ص 23
22 – رواية خط الزناتي، ص 24
23 – رواية خط الزناتي، ص 25
24 – رواية خط الزناتي، ص 25
25 – رواية خط الزناتي، ص 41
26– رواية خط الزناتي، ص 51
27 – رواية خط الزناتي، ص 54