قراءات نقدية

قراءات نقدية

دراسة بالروسية، بقلم د. اماليا ماكروشينا

أستاذة اللغة العربية وادبها في كلية الدراسات الشرقية بجامعة سانت بطرسبورغ الحكومية

ترجمة د. فالح الحمـراني

***

ظهرت في العقود الأولى من القرن العشرين، عدد من الكاتبات العراقيات ومنهن سلمى بنت عبد الرزاق الملائكة الملقبة بِـأم نزار الملائكة، وفطينة نائب، التي كتبت تحت اسم مستعار هو صدوف العامرية، ومقبولة الحلي أو عفراء، وغيرهن. وتغيرت مكانة الكاتبات في المجتمع بالتزامن مع التحولات السياسية والاقتصادية والاجتماعية الكبرى التي تشهدها البلاد. ودخلت أسماء جديدة الساحة الأدبية العراقية لتصبح من أبرز الكاتبات العربيات. وشهد عام ١٩٣٧ نشر أول قصة قصيرة لكاتبة عراقية وذلك عندما نشرت دلال خليل صفدي ذات الأصول اللبنانية مجموعتها القصصية "أحداث ووقائع". التي رأى العديد من النقاد إن هذه القصص لم تتوافق تمامًا مع مفهوم القصة القصيرة، بل قدمت مقالات بلاغية. وكانت رسالتها الدعوةً إلى مراعاة المعايير الأخلاقية للمجتمع. وبعد حوالي عشر سنوات، وتحديدًا عام ١٩٤٨، نشرت مليحة إسحاق روايتها "عقلي دليلي". يُعد هذا العمل أكثر نضجًا من حيث المحتوى، إذ يتتبع تطور الشخصية الرئيسة على مدى عدة عقود تجدر الإشارة إلى أن الأخلاق ودور المرأة في المجتمع كانا موضوعين مفضلين في الرواية النسوية العربية. كما تناولت الكاتبات اللاحقات هذه المواضيع من زوايا مختلفة في كتاباتهن.

وركزت روايات الخمسينيات والستينيات وما بعدها على موضوع آخر: العلاقات داخل الأسرة التي تنطوي على الخيانة، وكفاح المرأة ضد المعاملة غير العادلة والقسوة والعنف ضدها. وقد سلط الناقد الأدبي عمر طالب الضوء على هذه الخطوط القصصية في أعمال سافرة جميل حافظ، وسميرة المانع وميسلون هادي وعالية ممدوح هادي ولطفية الدليمي.

دخلت لطفية الدليمي عالم القصة العراقية في السبعينيات بنشر مجموعتها "ممر إلى أحزان الرجال"، وتوالت نشر اعمالها بين القصة القصيرة والرواية التي تركت بصماتها على السرد العراقي ومثلت منعطفَا في طريقه. وهي الآن مؤلفة لأكثر من عشرين مجموعة من القصص القصيرة والروايات وخمس مسرحيات والعديد من السيناريوهات وثلاث مجموعات من المقالات. ويركز عمل الكاتبة عادة على حياة المرأة العربية، مع همومها ومشاكلها وأفكارها. فمن بوسعه الكتابة عن هذا أفضل من المرأة العربية نفسها؟ ووصف الناقد فاضل ثامر لطفية الدليمي بأنها مؤسسة نوع واقعي جديد في الأدب.

كما كتبت الدليمي في ادب الرِّحْلات والنقد والشؤون الثقافية ونظرية الرواية...وشكل تناول الواقع العراقي المعاصر الموضوع المركزي الثاني في إبداعات الكاتبة الروائية. يعاني العراق على مدى سنوات طويلة متتالية من الحروب والدمار. وغدت حياة الإنسان/ المواطن في ظل الخوف المستدام على الحياة الشخصية وحياة الأقارب مأساة للمجتمع العراقي المعاصر الذي اضطر الكثير من أبنائه مغادرة وطنهم. وعلى هذا الغرار اضطرت لطفية الدليمي، التي لم ترغب حتى اللحظة الأخير مغادرة موطنها بغداد، بالرغْم إلحاح أقاربها واصدقائها على الهجرة. وأودعت الكاتبة ألمها، وهموم شعب بِرُمَّته في رؤية ثاقبة ومروعة عن الحياة في أثناء الحرب.

وكرست دار المدى ملحقا خاصا عن ابداعاتها واقامت ندوة للاحتفاء بتجربتها الثقافية. تتناول رواية "خسوف برهان الكتبي" للأديبة تعقيدات حياة ومصاعب المثقف في العراق. وتكتب الدليمي بلغة غنية مليئة بالصور والاستعارات، واصفة معاناة شخص اضطر بيع أغلى ما لديه، كتبه. وكانت الكتب تعني كل شيء للشخصية الرئيسة- فهي حياته ذاتها. ورصد النقاد أن الكاتبة تمزج في هذا العمل أنماط أساليب مختلفة. وعلى هذا النحو تُستبدل مقاطع شعرية بصورة غير متوقعة بحوارات عن نهاية العالم، مع أنّ النص يظل في نفس الوقت واقعيا تمامَا. ومن بين الأعمال اللافتة للكاتبة رواية بعنوان "سيدات زحل"، التي صدرت عام 2012. تتكون هذه القصة، المقدمة على شكل مذكرات، من (تسعة) فصول. تم جمع التسجيلات من قبل الصحفية حنان البابلي، التي تنتمي إلى إحدى العائلات العراقية الأكثر شهرة واحترامَا. وتجري احداث الرواية على خلفية الأحداث التي هزت العراق قبل وبعد بعد الغزو الأمريكي للبلاد عام 2003. وتبدأ الكاتبة الرواية بأسئلة، التي تحاول ان تجد ايجادها في جميع أنحاء السرد. ويشبه وصف لطفية للضربات العسكرية الأولى على بغداد لقطات فيلم لإثارة رعب الناس العاديين، وأعيد سردها نيابة عن شهود عيان. ونالت الرواية شهرة واسعة لدرجة أنه أعيد نشرها ثلاث مرات.

ويحظى إنتاج لطفية الدليمي الإبداعي بتقدير كبير من قبل زملائها في القلم. على سبيل المثال، كرست الشاعرة العراقية دنيا ميخائيل التي تعيش حاليا في الولايات المتحدة، إحدى قصائدها بعنوان "ليس أنا... م. " يشبه العمل في الشكل والمحتوى، تهويدة تغنيها الأم لطفل، تعيد القارئ إلى الطفولة. يعتقد النقاد أن تجسيد صورة الأم هو لطفية الدليمي، التي كرست لها الكاتبة قصيدتها.

 ترجمت أعمال الكاتبة إلى لغات أوروبية وآسيوية، وحصلت مجموعتها "الموسيقى الصوفية"، الصادرة عام ١٩٩٤، على جائزة أفضل عمل أدبي في العام نفسه. وللأسف، لم يُنشر غير عمل واحد من اعمال لطفية الدليمي باللغة الروسية. إذ نُشرت لها قصة قصيرة بعنوان "النجاة في أرض الموت" ضمن مجموعة "لؤلؤة الشرق" النثرية العراقية الحديثة الصادرة عام 2015. ويمكن تصنيف القصة المنشورة في المجموعة ضمن النوع الأدبي الإخباري أكثر من كونها عملًا روائيًا. تصف لطفية الدليمي بألم ويأس، بضمير المتكلم، يومها المعتاد في مسقط رأسها بغداد، التي تحولت فجأة إلى ساحة حرب. وغدت الأنشطة الروتينية - كإعداد الفطور، وقراءة كتاب، ومشاهدة التلفاز - رفاهية بعيدة المنال للناس. وبدت كلمات الكاتبة مروعة: "الساعة الثامنة صباحًا هي وقت حديث يومي مع صديقتي الفنانة حنة. في وقت محدد صباحًا ومساءً، نتصل ببعضنا البعض عبر الهاتف لنتأكد من أننا ما زلنا على قيد الحياة... من عادتنا أن نخبر بعضنا البعض بتحركاتنا، كما لو كنا نؤمن أنفسنا من المفاجآت والموت العرضي".

لطفية الدليمي ليست مؤلفة قصص وروايات فحسب، بل أيضًا مسرحيات. ولذلك، مُنحت مسرحيتها "ليالٍ سومرية" جائزة أيضًا، وعلى الرغم من كل الظروف، يستمر الأدب النسائي في العراق في التطور. بدءَا من الشعر التقليدي والقصص القصيرة البسيطة في المحتوى والشكل، توصلت الكاتبات العراقيات إلى أشكال وأنواع جديدة في إبداعهن، بعد أن نجحن في العثور على مواضيع قريبة ومثيرة للاهتمام للقارئ. ووفقا لنقاد الأدب، فإن أدب المرأة العراقية له سمة محددة تميزه إلى حد ما عن آداب الدول العربية الأخرى. يكمن في حقيقة أن أدب المرأة العراقية لم يعارض أبدا أدب الكتاب الذكور، بل على العكس، أكمله، وعلى هذا تشكلت صورة موحدة ومتعددة الأوجه للعالم.

لقصيدة: "مَتاهَةُ النَّفْسِ والعِشْقِ المُعْتَذِر"، للشاعرة سمر اليازجي

تدفعنا الشاعرة سمر اليازجي للدخول إلى جوهر وكنه المعنى والمدلول الشعري عبر مدخل تأويلي عام: "لغة الحيرة وتيه المعنى".

القصيدة موضوع الدراسة تنتمي إلى نمط شعري فائق الكثافة والتعقيد، يجمع بين التموّج العاطفي والتمويه الرمزي، وبين الانكشاف الوجداني والستر التعبيري. إنها قصيدة تنبني على مفارقة جوهرية: الرغبة في البوح الموجع مقابل الحذر من الانكشاف.

في ظاهرها، تبث القصيدة لواعج عاشق، لكنها في جوهرها رؤية تأملية للوجود الداخلي في حالاته المضطربة، عبر استعارات لغوية مفرطة الدقة والامتداد، وتوظيف عالٍ للطاقة الإيحائية في اللغة.

وهذا ما يبيلنا لأن نغوص في أعماق القصيدة لنستبطن بعدها النفسي من منظور الدينامية العاطفية والوسواس القهري العاطفي.

الحراك النفسي الداخلي:

منذ المطلع، تقدّم الشاعرة سمر اليازجي صورةً شعورية محتدمة، تقول:

"شُعوري تُحرِقُ الأنفاسَ نارُهُ

يُغَبِّشُ أوضحَ الرُّؤيا غِمارُهُ"

نحن هنا إزاء شعور يحترق لا في باطن الجسد فحسب، بل في آليات التنفس ذاته؛ أي أنّ الحريق داخلي وخارجي في آن، ما يدلّ على قلق وجودي متجذّر يتجاوز الحزن العاطفي العادي. "يُغبش أوضح الرؤيا" ليس فقط اضطراباً في البصيرة، بل يدلّ على تشوّه إدراكي ناتج عن توتر داخلي، ما يقارب المفهوم النفسي لما يسمى Kognitive Verzerrung وهي تُستخدم في السياقات النفسية للإشارة إلى "التحريفات" أو "التشوهات" في التفكير والإدراك التي تؤدي إلى رؤى غير واقعية أو سلبية تجاه الذات أو العالم ، وعبارة أخرى

"التشوه المعرفي" أو "التحريف المعرفي".

مما يدل على وجود وسواس قهري عاطفي، تقول الشاعرة سمر اليازجي:

"غريبٌ حينَ أَصْدُرُ عنهُ جَهْرًا

وبَيْنَ الكَبْتِ والنَّجوى جَهارُهُ"

هنا تتجلى حالة من التردد بين الكبت والتصريح، بين الرغبة في التفجّر والاحتراس من العواقب، وهي من سمات الشخصية الوسواسية الحسّاسة في بعدها العاطفي. النفس هنا تعيش مأزقًا من التناقض: البوح معناه التعري، والصمت معناه الاختناق.

القراءة الرمزية – العاشق بوصفه استعارة كونية

1. المجاز كمسرح داخلي تقول:

"على شَطِّ المَجازِ يعيشُ قلبٌ

سَفِسطائيَّةُ المعنى مَحارُهُ"

الشط ليس مجرد مكان، بل فضاء هلامي بين برّ اليقين وبحر اللاحقيقة. "سفِسطائية المعنى" هنا ليست قدحًا في الفكر، بل إشارة إلى انعدام اليقين العاطفي، وتشظي الدلالة الوجدانية. القلب، إذ يسكن المجاز، يتحرّك في حدود متقلقلة من الحقيقة والوهم، وهي صورة رمزية لحالة اللايقين في الحب.

2. الموج والجزر، تقول الشاعرة اليازجي:

"إذا ما مَدَّ موجَ العِشقِ لَيلًا

أتى بالجَزرِ، والشَّكوى نَهارُهُ"

هنا تتجلّى ثنائية الانفعال والانكفاء، الرغبة والانكماش، الليل والنهار، وكلّها صور رمزية للمدّ والجزر النفسي في تجربة الحب. الشاعرة هنا تُسقِط الميكانيكا الكونية على الاضطراب الداخلي، في محاولة لردم الهوة بين الذات والكون.

- القراءة التأويلية – من النص إلى الفضاء الأنطولوجي

1. القصيدة كرحلة أنطولوجية:

القصيدة لا تقتصر على وصف علاقة بين عاشق ومعشوق، بل تقدّم رحلةً وجودية في قلب التيه الإنساني. نقرأ مثلاً هذا البيت، تقول:

"تَحَمَّضَ في خَوابي الخوفِ لَمّا

بَدا جهرًا على شَفَتي انتِصارُهُ"

نحن إزاء صورة كيميائية رمزية؛ "تحمّض" تدل على تفاعلات دفينة في وعاء مغلق، والخوابي هنا تمثّل اللاوعي، فيما "شفتي" هي اللسان – موضع البوح واللغة. الانتصار ليس إنجازاً خارجياً، بل القدرة على اختراق الخوف بالكلمة، أو تحويل الخوف إلى نص.

الازدواج الوجودي تقول الشاعرة سمر اليازجي:

"هو السُّبّورةُ الأنقى وأبدو

كطبشورٍ يُخَرمِشُهُ حوارُهُ"

السطران يحمِلان عمقاً رمزياً كثيفاً: الآخر / المعشوق هو السبورة (الصفحة البيضاء، المطلق)، أما المتكلم فهو الطباشير (الزائل، المؤقت). في هذا التمثيل نقرأ صراع الهوية أمام المطلق، وتوق الضعيف لترك أثره على الكائن المثالي، مع الوعي بأنه أثر عابر.

- الزمن الداخلي – انتظار دون أمل . تقول:

"عليهِ السّاعةُ السوداءُ تَدعو

وحيدًا أن يُجلّيها انتِظارُهُ"

في هذا الختام، تتبدّى القصيدة في كليتها كـ زمن مغلق، مسكون بـ"الساعة السوداء" – الزمن المعلّق. لا انتظار لمجيء أحد، بل انتظار لرفع الظلمة، لكشف المصير، لانبلاج الإجابة. وهو ما يتقاطع مع مفاهيم مارتن هايدغر حول القلق الوجودي والزمن كأفق للكينونة.

البنية الإيقاعية – بين الإيقاع والانفعال

تُكتَب القصيدة على بحر الكامل، وهو بحر واسع النبض، يمتاز بالحركة والإيقاع الطربي، لكنّ القصيدة هنا لم تستثمره للغنائية بل حوّلته إلى إيقاع داخلي مأزوم، مليء بالتقطيع، التأرجح، والتوتر.

حتى القوافي جاءت محفوفة بالانزلاق: كلها على "فاعله" المنتهية بهمزة وضمير، ما يوحي بـانغلاق العالم حول ضمير المتكلم والمخاطب، وتكرار الإحالات على الذات.

خاتمة الدراسة: العاشق كمجاز للذات المتشظية:

إنّ قصيدة "مَتاهَة النَّفْسِ والعِشْقِ المُعتذر" ليست مجرد قصيدة حبّ، بل تمثيل شعري لأزمة الذات المُحبّة في عالم لا يمنح اليقين.

هي سيرة وجدانية للقلق، للانتظار، للخيبة المتحضّرة، للحنين المشوّش، وللرغبة في لغة تبرّر العواطف دون الحاجة لبرهان.

القصيدة، في نهاية المطاف، مرآةٌ لذواتنا حين تُحبّ بشراسة، وتخاف بشراسة، ثم تكتب، لا لتشفى، بل لترى نزفها في اللغة، وتحتمله من جديد.

***

بقلم: عماد خالد رحمة – برلين

.............................

مَتاهَةُ النَّفْسِ والعِشْقِ المُعْتَذِر

شُعوري تُحرِقُ الأنفاسَ نارُهُ

يُغَبِّشُ أوضحَ الرُّؤيا غِمارُهُ

عَنيدٌ، لا يُؤرِّقُهُ اعتِبارٌ

بأنَّ مَواجِعَ العُشّاقِ غارُهُ

غريبٌ حينَ أَصْدُرُ عنهُ جَهْرًا

وبَيْنَ الكَبْتِ والنَّجوى جَهارُهُ

على شَطِّ المَجازِ يعيشُ قلبٌ

سَفِسطائيَّةُ المعنى مَحارُهُ

يُغنِّي لُؤلُئيَّ الصوتِ شِعرًا

تَضِنُّ على الفراهيديّ بِحارُهُ

لهُ في كُلِّ بارقةٍ صعودٌ

ليَبلُغَ قُبّةَ الشِّعرى مَدارُهُ

إذا ما مَدَّ موجَ العِشقِ لَيلًا

أتى بالجَزرِ، والشَّكوى نَهارُهُ

أدينُ بسُكّرِ اللُّقيا لكرمٍ

فريدٍ، لا يُحلّيه اختِمارُهُ

ولي من رَقصهِ الباكي قُطوفٌ

أُجمِّعُها إذا حانَ اعتِصارُهُ

تَحَمَّضَ في خَوابي الخوفِ لَمّا

بَدا جهرًا على شَفَتي انتِصارُهُ

وعانقني بحضنٍ سرمديٍّ

ولم يَحفِلْ بماضي البُعدِ ثارُهُ

ولمَّ الشّملَ فوقَ شتاتِ نفسي

يُزيّنُ كُلَّ ما فيها انبهارُهُ

هو السُّبّورةُ الأنقى وأبدو

كطبشورٍ يُخَرمِشُهُ حوارُهُ

هيَ الخَلَواتُ تَملأنا جُروحًا

ليَقطُرَ مِن أظافرِها اسمِرارُهُ

ألا يا مُقلقَ الرّاحاتِ، إني

مُبعثَرةٌ، ويجمعني حِصارُهُ

وأشكوهُ لِقارئةِ الخَبايا

فَتَشتِمُ كلّما لاحَ افتِرارُهُ

عليهِ العِشقُ لم يُرسِلْ ورودًا

تسرْبَلَ في بلاغتها اعتِذارُهُ

عليهِ الشوقُ لم يَكتُبْ جَوابًا

تفرَّدَ في القراطيسِ اصفِرارُهُ

عليهِ الدَّمعُ لم يَمسَحْ برِفقٍ

عُيونًا جلُّ ما فيها غُبارُهُ

عليهِ السّاعةُ السوداءُ تَدعو

وحيدًا أن يُجلّيها انتِظارُهُ

***

سمر اليازجي

 

"يغيب اللاجئون في أوطانهم ليشرقوا في أماكن اغترابهم"..

بهذه العبارة التي وردت في الصفحة 125 من روايتها "شموس الطين" تفسر الروائية ريما آل كلزلي ذاك العنوان الباعث على الخيال والتساؤل الذي اختارته عتبة أولى لعملها، وهي تشرح أكثر حين تكتب: "تلاشت أحزاني أمام إشراقة الأمل والإيجابية الساطعة التي حملوها، فغمرتني مشاعر من الصمت العميق مثل كل مرة أقابل فيها شمسا مشرقة من شموس الطين البشرية الذين قابلتهم في رحلة لجوئي"..

ومبكرا جدا، ومنذ الإهداء الذي يسبق افتتاح الرواية، يبدو الإصرار جليا على الانتصار للاجئين، ويبتعد عن تلك الصورة النمطية لمن أخذتهم بلاد المنافي، أو وجدوا أنفسهم على الرغم منهم في مخيمات لجوء تُوجع الحياة فيها بقدر موازٍ للموت، حيث ترى أن اللاجئ ليس مسحوقا  كما اعتاد كثيرون تصويره، بل كائن يتطلع إلى الحب، وإلى الجمال، فتكتب في مطلع الإهداء:

"إلى:

ـ كل لاجئ ما زال يحفل بالحب والجمال برغم مرارة الحرمان.."

ويقودنا هذا التقدير المبكر لنوغل في رواية كتبت على نحو 200 صفحة من القطع المتوسط، وذهبت إلى تناول فلسفي عميق لقضايا الانتماء، والاغتراب، والوطن، والعزلة، والموت، والحرية، والكرامة، والوعي، حيث حفلت حوارات شخصياتها الرئيسة بالتطرق إلى كل هذه المسائل. كما كُتبت بلغة شاعرية، رجحت فيها كفة ريما الشاعرة على ريما الروائية، حتى خُيّل إليّ أن جمالية بعض العبارات وشاعريتها كانت تقود الروائية خلف الشاعرة التي تفرضها عنوة في الرواية.  

يتمحور الحدث الرئيس للرواية حول مجموعة من الأصدقاء اللاجئين يجتمعون مساء كل أحد في مقهى أنوار الشرق في مدينة الأنوار، ليناقشوا ما سيطرحونه من مواضيع عبر منصة المثقفين في المدينة، يتحدثون عن كونديرا ونيتشه وتوماس هوبز وعن كتب دوستويفسكي، ويقررون أخيرا تحويل الانطلاق من قصة "دكان التوابيت" التي كتبها البطل الرئيس للرواية (عاصي) إلى فيلم توثيقي، ولأجل ذلك يتطوع بعضهم للذهاب إلى مخيم حيث يعيش لاجئون فروا من الحرب، وذلك ليوثقوا أحداث الفيلم بالصوت والصورة، مركزين على أهمية أن يتخذ موضوع الفيلم "هيأته الحقيقية بأبعادها الثلاثة، الأطفال في الداخل، وأولئك الذين في المخيمات، والأطفال في الخارج".

 وعلى خلاف الصورة النمطية للرواية التي تتصاعد نحو بؤرة مركزية لحدث رئيس ثم تنتهي إلى حل، تكتب آل كلزلي روايتها كأنها تقدم لنا معرضا بلوحات بانورامية، وتحمّل شخصياتها التي جعلتها شخصيات مثقفة فيها الكاتب والصحفي وفنانة الرسم والمخرج والفيلسوف رؤيتها حول الوطن، والانتماء، والقراءة، والوعي، والموت، وهي رؤى عميقة حتى تكاد أهمية عمقها تشغلنا عن الاكتراث بالشخصية التي تقولها، ففي الوطن والكرامة تكتب: "الوطن وهم جميل نفقد فيه أجمل لحظات عمرنا وأكثرها حيوية، لندفن في مكان آخر يختلف عنه تماما، مكان لا يشبهه حتى في لون ترابه، مكانا يمنحك كرامة برغم رفضك لوجودك فيه حتى آخر لحظة". ص 17

وفي الاغتراب تكتب: "حينما تشعر أن كل شيء حولك يرفضك، يصبح عقلك أكثر الأشياء اغترابا" ص19

وفي الانتماء تكتب: "الانتماء شعور يتمناه كل الأحرار، وأعلى أنواعه الانتماء لذاتك" ص20

وفي الوعي والحرية تكتب: "إن أشد العذابات قسوة هو امتلاك وعي بلا حرية، فتحيا به كغصن أخضر معلق على طرف غصن آخر يابس من شجرة لم تعد تورق" ص21

وكل مقولة من هذه المقولات تحتاج تأملا وتفكرا للوصول إلى اتخاذ موقف منها، سواء بالتوافق معها أو الاختلاف عليها.

تنطلق الرواية من لقاء يحدث مصادفة في ليلة رأس السنة، لكن الحدث الحالي فيها يتشعب جريا خلف ماضي كل شخصية فيها، ويبين مثل منارة حلم كل منها للمستقبل، وما بين هذه الأزمنة تراوح الكاتبة بذكاء متنقلة في الزمن الروائي دون أن تفقد قدرتها على التحكم بخيوط السرد.

لا تبدو رواية "شموس الطين" من تلك الروايات التي تُقرأ باسترخاء في جلسة واحدة أو اثنتين، بل هي رواية تقودك إلى التفكير في كل تفاصيلها، كأنما تجبرك على القراءة بأناة، وربما تجبرك كذلك على إعادة قراءتها، حتى أن كاتبتها تقودنا بتؤدة خلف التجريب الذي تحاوله في شكل الرواية، فتروي كل شخصية ما مر بها وما تفكر به بطريقتها، ليس بالقول فقط، بل أحيانا حتى بالكتابة، كما يبدو جنوحها إلى التجريب أوضح ما يكون حين تضّمن روايتها حكاية فرعية منبثقة عنها، وهي قصة "دكان التوابيت" التي بدا أنها أرادت من خلالها أن تركز على معنى محدد يتجلى في قولها: "ليست الكتابة عن الموت سوى رحلة بحث في عمق الحياة" ص155.

***

بقلم: محمد تركي الدعفيس

في هذه "الومضات" الشعرية يأخذنا الشاعر في رحلة حسية وروحية عميقة يمزج فيها الغزل العفيف بالحب الصوفي ليخلق نصوصًا مكثفة تفيض بالجمال والدهشة. إنها ليست مجرد أبيات بل هي لحظات إشراق تضيء العلاقة بين العاشق والمعشوقة وتجعل من جسد الحبيبة وروحها كونًا كاملًا للشاعر.

يفتتح الشاعر مجموعته بتشبيهات جريئة وعميقة ف "فمي طفل.. دميتُهُ شفتاك" تعكس البراءة والاعتمادية المطلقة على الحبيبة كمصدر للحياة والبهجة.  يتطور هذا المعنى في الومضة التالية حيث يصبح:

"فمي قلمٌ.. لا يُحسِنُ الكتابةَ إلاّ في دفترِ شفتيك"

 في إشارة إلى أن إلهام الشاعر وإبداعه لا يكتملان إلا بوجود الحبيبة وتفاعله معها. شفتاها هنا ليستا مجرد جزء من الجسد بل هما مفتاح الإبداع ومصدر الإلهام.

تنتقل الومضات إلى تصوير تأثير الحبيبة على عالم الشاعر فبسبب "كثرة تحديقي بقميص نومِكِ الأخضر" تتحول عيناه إلى "عشبٍ" ووسادته إلى "شجرة كرزٍ" وسريره إلى "بستانٍ"

 هنا يصبح جسد الحبيبة ونومها الأخضر مصدرًا لخصوبة العالم المحيط بالشاعر وكأنها تخلق الجمال والنمو من حوله بمجرد وجودها ونظرته إليها. يبلغ الغزل حد التعظيم في قوله: "أنا وطنٌ أنت عاصمته". وهي عبارة تختزل العلاقة في أقصى درجات الانتماء والمركزية الحبيبة ليست مجرد جزء من حياة الشاعر بل هي جوهر وجوده ومركز كيانه.

تتواصل الومضات لتصف الحبيبة المتناقضة: "البعيدة بُعدَ الشيطان عن جسدي.. القريبة قربَ الله من روحي"

هذا التناقض يكشف عن طبيعة الحب الصوفي حيث تتجاوز العلاقة الجسد لتلامس الروحانية المطلقة. حياته كلها تختزل في "قصيدة من بيتٍ واحدٍ أنتِ مطلعها". مما يؤكد أنها نقطة البداية والأساس لكل ما هو جميل وذو معنى في حياته. وتتوالى الصور البديعة التي تمجد الحبيبة:

"ما حاجتي للبساتين وعندي بتلتك؟"

 تعبير عن الاكتفاء المطلق بجمالها الذي يفوق جمال الطبيعة بأكملها.  ثم تأتي الومضة الجريئة والمشبعة بالعشق:

 "سأقشِّركِ مثلَ برتقالة لأحصي مساماتِ جسدك بالقبلات" هنا يمزج الشاعر بين الحسية الشديدة والحب العميق. محوّلًا فعل التقبيل إلى طقس مقدس لإحصاء كل جزء من جسد الحبيبة.

تختتم الومضات بنوع من الطمأنة ولكن بلغة مشبعة بالشوق والرغبة "لا تخافي من جوعي فأنا سأقضمك بهدوء.. جنوني لا أنيابَ له"

 و"لا تخافي فالطفلُ حين يجوعُ: لا يأكلُ دُميَتَهُ الوحيدة!"

هذه الخاتمة تعكس شغف العاشق الذي يصل إلى حد "القضم".  لكنه قضمٌ هادئ ليس فيه عنف بل هو تعبير عن حب امتلاكي رقيق لا يريد إيذاء المحبوبة، تمامًا مثل الطفل الذي يحافظ على دميته الوحيدة لأنه يعلم أنها كنزه الأوحد.

بشكل عام تعكس هذه "الومضات" شعرية مكثفة وتصويرًا مبتكرًا للعلاقة العشقية حيث تتحول الحبيبة إلى مركز الكون ومصدر الإلهام والطمأنينة والجمال المطلق للشاعر.

***

عادل جودة

.........................

الومضات:

فمي طفل ..

دميتُهُ شفتاك  !

//

فمي قلمٌ ..

لا يُحسِنُ الكتابةَ

إلاّ

في دفترِ شفتيك !

//

لكثرة تحديقي

 بقميص نومِكِ الأخضر:

نَبَتَ العشبُ في عينيَّ

ووسادتي غدتْ شجرةَ كرزٍ

وسريري بستانا!

//

أنا وطنٌ 

أنت عاصمته!

//

أيتها البعيدة بُعدَ الشيطان عن جسدي ..

القريبة قربَ الله من روحي:

حياتي قصيدةٌ من بيتٍ واحدٍ

أنتِ مطلعها!

//

 ما حاجتي للبساتين

وعندي بتلتك؟

//

سأقشِّركِ مثلَ برتقالة

لأحصي مساماتِ جسدك بالقبلات!

//

لا تخافي من جوعي

فأنا سأقضمك بهدوء ..

جنوني لا أنيابَ له!

//

أدخلي كوخي آمنةً مطمئنة..

لا تخافي

فالطفلُ حين يجوعُ:

لا يأكلُ دُميَتَهُ الوحيدة!

***

تتسم القصة القصيرة "الرسائل الضائعة" لأحمد ياسو بجمالية مكثفة تتجاوز ظاهر السرد البسيط إلى عمق نفسي وتأويلي ينطوي على أبعاد الهوية، والكتابة، والافتقاد، واستحالة التواصل. تنقل القصة مشهداً ظاهرياً متواضعاً: رجل كتب رسائل لحبيبته، لكنه أضاعها بعد أن ترك معطفه لخادمة، لتؤول الرسائل إلى كاتب شهير استخدمها في فيلم سينمائي دون أن ينسبها لصاحبها الأصلي. لكن خلف هذا الحدث البسيط، تتكشف شبكة معقدة من التوترات النفسية والرمزية.

أولاً: التحليل النفسي

1. الذات الممزقة وميكانيزمات الدفاع

الشخصية الساردة تعيش صراعاً داخلياً حاداً بين الرغبة في البوح والوعي باستحالة الوصول. هذا التوتر يبدو جليّاً في عبارته: "كنت أعرف أنك لن تقرأيها". هنا تظهر آلية الإسقاط النفسي، حيث يُسقِط الراوي شعوره بالعجز والخذلان على الآخر (ماريا)، ثم على الخادمة، فـ"الكاتب السارق". وبدلاً من المواجهة المباشرة مع ذاته، يلجأ إلى إعادة إنتاج المعنى بطريقة دفاعية: "أنا في قمة سعادتي لأنك ستشاهدين نفسك".

بهذا، تتحول الخسارة إلى نوع من التسامي؛ فالراوي لا ينكر الألم، بل يعيد تأويله في صورة إنجاز رمزي: رسائله، التي ضاعت، ستصل إلى الحبيبة عبر وسيط غير مباشر، ولكن على نحو أكثر علانية واحتفاء.

2. مركب النقص والتماهي

من الملفت أن الكاتب الحقيقي للرواية (الراوي) لا يُظهر أي سخط تجاه سارق النص، بل على العكس، يُغدق عليه الامتنان. هذا يشير إلى حالة من التماثل اللاواعي بين الراوي والكاتب الآخر، وكأن السارد يحقق ذاته من خلال الآخر، في نوع من التحايل على الإخفاق الشخصي. هذا التماهي يتجلى في قوله: "قام بإرسال رسائلي إليك في أبهى صورها".

هنا يمكن أن نستحضر مفهوماً من التحليل النفسي هو "التماهي بالنموذج الناجح"، حيث يسعى الفرد إلى تخفيف ألم فشله بالتماهي مع من حقق ما كان يتوق إليه.

ثانياً: القراءة التأويلية الرمزية

1. الرسائل كرمز للبوح المؤجل

الرسائل تمثل هنا اللغة الحميمية، الجسر الذي لم يُكتمل بين الراوي وماريا. ضياعها لا يُقرأ بوصفه حادثاً عرضياً، بل بوصفه علامة رمزية على استحالة التواصل. هي ليست مجرد أوراق مادية، بل تمثل الذات المتشظية، واعترافات لم تجد مستقرّها. حين "تضيع" هذه الرسائل، فإن ما يُفقد فعلياً هو إمكانية الاعتراف و"الحضور في عين الآخر".

2. ماريا كتمثيل للأنثى المتعالية / اللامتحققة

ماريا لا تظهر في القصة كفاعل مباشر، بل تظل محوراً غائباً تُبنى حوله كل الأحداث. هي شبحٌ للحب، وتُمثل "الآخر المستحيل"، الذي لا يقرأ، لا يستجيب، لا يعود. وجودها الغائب يؤسس لثيمة الفقد المؤبد، ويحوّل الرسائل إلى نوع من الكتابة للعدم. هكذا تصبح ماريا رمزاً للحب الذي لا يُطال، وللقارئ الذي لا يقرأ، وللحقيقة التي تتوارى.

3. الكاتب السارق كرمز للسوق الثقافي

في المشهد التأويلي الأوسع، يمكن اعتبار الكاتب الذي يسرق الرسائل ويحوّلها إلى فيلم تجاري رمزاً لـالمؤسسة الثقافية التي تلتهم التجارب الفردية وتعيد إنتاجها بصيغة استهلاكية. هنا يصبح "الفيلم" رمزاً لـاستلاب المعنى وتحويل الألم إلى سلعة. ومع ذلك، لا يرفض الراوي هذا الفعل، بل يحتفي به، وكأنما يعترف بعجز الذات الفردية عن البوح دون وسيط مؤسساتي أو تسويقي.

ثالثاً: الثيمة واللغة والأسلوب.

1. اللغة: العفوية المتقنة.

اللغة في "الرسائل الضائعة" تحتفي بـالبساطة المضلِّلة. ظاهرها سرد عادي، لكن بنيتها مشحونة بالدلالات العاطفية والنفسية، وكأن الكاتب يكتب ما يشبه الواقع، لكنه يقطّره إلى جوهر إنساني كثيف. الأسلوب يراوح بين الحنين والاعتراف والسخرية المُرّة، ويخلق بذلك حالة من التوتر الأسلوبي المنتج.

2. العنوان: مفارقة المعنى

العنوان "الرسائل الضائعة" يحمل إيحاءات فقدٍ وانقطاع، لكنه في الوقت ذاته يؤسس لمفارقة: فهذه الرسائل، رغم ضياعها الظاهري، تجد طريقها إلى وجهتها الأسمى. وكأن الضياع هنا شرطٌ للوصول.

خاتمة: نص عن الانكسار والتحايل الإبداعي عليه

قصة "الرسائل الضائعة" ليست مجرد سرد بسيط عن رسائل فُقدت، بل هي تأمل عميق في شروط الحب، والكتابة، والهوية، والحضور في زمن التشييء الثقافي. ومن خلال منظور التحليل النفسي، يتضح أن الراوي لا يبحث عن ماريا بقدر ما يبحث عن ذاته الضائعة. أما من المنظور التأويلي، فالنص يتجاوز حدوده ليعبر عن عالم ما بعد الحداثة، حيث لا شيء يصل مباشرة، وحيث تُعيد المؤسسات إنتاج المشاعر الفردية بلغة السينما والربح.

وهكذا تتحول القصة إلى بيان وجودي ساخر ومؤلم عن الحاجة إلى التقدير، والبحث عن صوت، حتى ولو في فم الآخر.

***

بقلم: عماد خالد رحمة - برلين

..........................

الرسائل الضائعة

الرسائل التي كنت قد كتبتها إليك ضاعت يا ماريا، لقد نسيتها في معطفي قبل أن أعطيه لتلك السيدة التي تعمل خادمة عند رجل يسكن بالطابق العاشر، عرضت خدماتها أو هكذا ظننت أنها تسدي لي خدمة ما، لكنها أخبرتني بعد ذلك بأنها ستأخذ ملابسي كل اسبوع لتغسلها لقاء بضع دولارات، الحقيقة لم اعترض على الفكرة ووافقت، لأنها ستقوم بالغسيل والكي ايضا.

في ذلك اليوم كنت أضع رسائلك كلها في جيب معطفي، وعندما سألتها أدعت أن جيبي لم يكن به شيئا، حتى ولو سنتا واحدا.

ثم عرفت بعد فترة أن تلك الرسائل التي أخذتها الخادمة، أعطتها إلى سيدها..

ها يا ماريا نسيت أن أخبرك أن سيدها هذا كاتب كبير ممن يطلقون عليهم مسمى الأدباء وقد أخذ الرسائل، وهي بصدد مشروع سينمائي، وبالطبع وضع عليها أسمه، وقد روادتني فكرة أن أكتب إليك مرة أخرى، وسأنسى الرسائل هذه المرة عمدا كي يأخذها، لأن كل الرسائل التي كتبتها كنت اعرف أنك لن تقرأيها.. أنا لم أحزن لأنها سرقت مني، بل على العكس تماما أنا في قمة سعادتي لأنك ستشاهدين نفسك، وتعرفين ما كنت قد كتبته لأجلك، فلقد قدم لي ذلك الرجل خدمة جليله لا يمكن وصفها، ولا يسعني شكره عليها، لأنك ستعرفين مقدار حبي، وعدد الأيام والشهور التي قضيتها وأنا في إنتظارك، لقد فعل ما لا أستطيع القيام به، قام بإرسال رسائلي إليك في أبهى صورها.

اه يا ماريا كدت أنسى أسم الفيلم "أحداث قصة لم تكتب بعد" بنفس عنوان رسائلي التي أخبرتك عنها قبل الرحيل.

***

أحمد حسن ياسو

 

تقدّم نجوى بركات في روايتها الجديدة غيبة مي (دار الآداب، 2025) نصاً سردياً يُقيم في المساحة الفاصلة بين الوجود والعدم، الحياة والذبول، حيث تتجلى "مي"، الشخصية المركزية، بوصفها كائناً محاصراً بالعزلة والصمت وتكرار اليوميات المتشابهة. في طابقها التاسع، تنعزل مي عن العالم، لا تربطها صلات حقيقية بأحد، لا أهل، لا أصدقاء، لا جيران، حتى التوأمان، ابناها المقيمان في الخارج، لا يظهران إلا بوصفهما غياباً مموّلاً، وعلامة على تخلي لا يُداوى.

منذ الصفحات الأولى، تنبني الرواية على مفارقة جوهرية: كيف يُمكن لحياة لا يحدث فيها شيء أن تُروى؟ بل كيف يتحوّل "العدم" اليومي إلى مادة سردية قادرة على استقطاب القارئ؟ هنا تكمن قوة النص الروائي، الذي ينهل من البلادة، من الرتابة، من العزلة، فيبني عبر التفاصيل الصغيرة شبكة من التأملات والانطباعات التي تتعالى عن الحدث، لتجعل من الغياب سردية قائمة بذاتها.

أجساد هامشية وسرديات منفية

لا تقدم مي شكواها إلى أحد، ولا تعلن احتجاجها على وحدتها، رغم أن شيخوختها قد تبرر لها ذلك. بل تختار، في عناد يشبه الترفّع، أن تواصل صمتها. لا تتفاعل مع الناطور يوسف، الذي يجلب لها حاجياتها، إلا بقدر الحاجة، كما لا تمنح شاميلي، العاملة السريلانكية، سوى هامش ضيق من التقدير. القطة التي ظهرت في حياتها ككائن دخيل، بقيت معزولة في الشرفة، بدون اسم، وكأنها استعارة للذات المغتربة التي تُحاكم نفسها بصمت وتُنفي ذاتها عمداً.

يُمكن القول إن الرواية تمارس ما يمكن تسميته بـ"كتابة النفي"، حيث لا يتم السرد من خلال ما هو واقع، بل من خلال ما هو مؤجَّل أو غائب أو مستحيل التحقق. غيبة مي ليست فقط غياب البطلة عن محيطها، بل هي أيضاً غيبة الحاضر عن الماضي، وغيبة الذات عن ذاتها، وغيبة اللغة عن الحوار.

تحوّلات الراوي وانقلاب الزمن

تنقسم الرواية إلى ثلاثة فصول، يمثل كل فصل منها تحوّلاً في المنظور السردي. في الفصل الأول، نحن أمام سرد بضمير الغائب عن مي العجوز، التي تشيخ في صمت، في عزلة مطلقة. لكن مع بداية الفصل الثاني، تنقلب البنية السردية: الراوية صارت مي الشابة، تخاطب نفسها العجوز، تقول: "يا مي..."، كما لو أن الصوت الداخلي استعاد زمناً منسياً، ليبدأ محاكمة الماضي للمستقبل، أو العكس.

يطرح هذا التحول السردي سؤالاً فلسفياً حول علاقة الزمن بالهوية. من هي "مي"؟ هل هي هذه التي نقرأها في حاضر الرواية، العجوز المنسية؟ أم تلك الشابة التي تعيد ترتيب وقائع عمرها الأول؟ ومن يتحدث في النهاية: الذات أم ظلها؟ الواقع أم الذاكرة؟ السرد هنا يتماهى مع آليات الخرف، مع اختلاط الأصوات، ويصوغ لحظة الانهيار الذهني بوصفها لحظة كشف سردي.

في هذا الفصل، تسلط الراوية الضوء على مرحلة الشباب، الحب، البدايات، التمثيل، ولحظات الاكتشاف الأول للذات. تكتب بركات، على لسان بطلتها، تعريفاً لافتاً للتمثيل، بوصفه ليس اندماجاً في شخصية أخرى، بل "احتمالاً من احتمالات الذات في ظروف مختلفة"، وهو قول يتجاوز حقيقته المسرحية إلى ميتافيزيقا الهوية.

بلاغة الختام: موت واعتراف متأخر

في الفصل الثالث والأخير، تنقل الكاتبة السرد إلى يوسف، الناطور، الذي لم يكن له قبلاً سوى دور وظيفي في الرواية. غير أن مي، في فعل تأخيري بالغ الدلالة، تكافئه بجعله شاهداً على أيامها الأخيرة، بل تجعله الصوت الذي يكتب النهاية. حتى القطة، التي ظلت مجهولة ومقصيّة، تُعطى اسماً بعد موتها، في لحظة تسامح سردي، كأنها اعتراف خجول ومتأخر بما تستحقه الكائنات من حضور.

تتحول نهاية الرواية إلى لحظة إشفاق واعتراف معاً، لا على مي فقط، بل على العالم الذي لم يمنحها فرصة حقيقية للانتماء. كل الكائنات التي دارت حولها — القطة، يوسف، شاميلي — كانت موجودة، لكن دون علاقة حقيقية. وحده الغياب هو ما ظل حقيقياً وراسخاً.

في الموازنة الجمالية والفكرية

تتسم غيبة مي بجمالية خاصة لا تقوم على حبكة تقليدية أو تحولات درامية، بل على "اقتصاد السرد"، على اللعب بالزمن، وعلى التكثيف الرمزي للغة. يتقاطع فيها البعد الفلسفي مع الشعري، لتتحول الرواية إلى تأمل طويل في ما تعنيه الوحدة، وما تتركه الشيخوخة من بقايا في الجسد والذاكرة. أسلوب نجوى بركات هنا يلامس حدود النص الشعري في لحظاته الأعلى، حين تترك اللغة تنوب عن الإحساس، وحين يتحوّل السرد إلى نوع من المونولوغ الوجودي.

الرواية بوصفها مرآة للمحو

وصفوة القول: ليست غيبة مي رواية عن امرأة مسنّة فقط، بل هي تأريخ سردي للمحو. محو العلاقات، محو الذاكرة، محو الذات. ومع ذلك، يبقى هذا المحو مكشوفاً تحت الضوء، محفوراً بجماليات اللغة، حيث لا تُروى الحياة إلا من خلال نُسخها الباهتة، ومن خلال عزلة تحوّلت إلى وطن أخير. .

***

حسن لمين - كاتب مغربي

أولا: السيرة الذاتية

علي عبد الله خليفة، مواليد مدينة المحرق بمملكة البحرين في 04 مارس 1944، لعائلة من صيادي اللؤلؤ، تلقى دروسه في البحرين وبجهد ذاتي عكف على تحصيل ثقافة عامة. شاعر وباحث في الثقافة الشعبية، يكتب أشعاره بالفصحى والعامية. نشر أولى قصائده في أوائل الستينات القرن الماضي في البحرين ولبنان، ونشر أول مجموعة شعرية عن دار العلم للملايين ببيروت 1969.

3- مجموعاته الشعرية

- أنين الصواري – مجموعة شعرية بالفصحى

- عطش النخيل – مجموعة شعرية بالعامية

- إضاءة لذاكرة الوطن – مجموعة شعرية بالفصحى

- في وداع السيدة الخضراء – مجموعة شعرية بالفصحى

- يعشب الورق ـ مختارات شعرية

- على قلب واحد – مجموعة شعرية بالعامية

- خمسون عاما من الشعر: الأعمال الشعرية الكاملة

- عصافير المسا – مجموعة شعرية بالعامية

- حورية العاشق – مجموعة شعرية بالفصحى

- لا يتشابه الشجر – مجموعة شعرية بالفصحى

- ديرة بوسع الكون - مجموعة مواويل بالعامية

- تهويدة لنجمة البحر – مجموعة شعرية بالفصحى

ثانيا: الإشكالية

تعد إشكالية هذه الدراسة في الشعر الرمزي والأسطوري للشاعر علي عبدالله خليفة، حيث تناول الشاعر الرمز والأسطورة في بنية قصائده مما أدي إلى الكثير من التأويلات في فهم القارئ للنصوص الشعريّة وأثر ذلك على فهم النص كما يجب.

إن كثرة التأويلات في النصوص الشعريّة للشاعر ساهمت بشكل كبير في إغناء النص وأضاف نوع من الإبداع الفني وساعد على نقل مواقف فكرية وسياسية كما سنرى في الدراسة الحالية.

فقد استخدم الشاعر (علي عبدالله خليفة) أدوات فنية وبلاغية متنوعة لرسم لوحة أدبية قائمة على البناء الفني والشكل والإيقاع والقافية، حيث مزج الشاعر بين لهجته العامية البسيطة ومنح القارئ العادي فرصة لتذوق شعره من خلال أسلوب المواويل الشعرية المنتشرة في أوساط الخليج العربي، أضف إلى ذلك استخدامه للغة الفصحىى لنجد أنفسنا أمام شاعر رمزي وأسطوري، يدفعنا إلى طرح عدة تساؤلات، أبرزها:

1- هل استطاع الشاعر التميز بين الرمز والاسطورة في شعره؟

2- ما أبرز مظاهر الواقعية في شعر علي عبد الله خليفة؟

3- كيف استطاع الشاعر توظيف الرمز في القصيدة؟ وما أبرز تجلياتها الفنية؟

ثالثا: التميّز بين الرمز والأسطورة

يتسم شعر علي عبدالله خليفة بعمق فلسفي يجمع بين الرمز والأسطورة لصياغة رؤى فكرية عميقة تتمثل في أسئلة وجودية تتعلق بالحياة ودور الإنسان فيها، لذلك استخدم الرمز والأساطير للتعبير عن قضايا الهوية والإنتماء من خلال استحضار الموروث الثقافي والتاريخي مما يمنح نصوصه طابعا تأمليا ليترك أثرا فكريا لدى القارئ.

يعد الرمز والأسطورة مصطلحان يستخدمان في الأدب والفكر وكلاهما يعتمدان على الإيحاء والتعبير غير المباشر، فالرمز يستخدم لتكثيف المعنى والإيحاء بأفكار متعددة.

تعدّ (النخلة) من الرموز البارزة في شعر علي عبدالله خليفة، لأنها تحمل دلالات مرتبطة بالبيئة البحرينية والهوية الوطنيّة(1).

و نرى أيضا أنه استخدم رموزا أخرى مستمدة من البيئة الطبيعية (البحر واللؤلؤ)، لتعكس تجارب الإنسان البحريني وتطلعاته.

و نراه في مواطن أخرى من شعره يوظف الأسطورة لإثراء النصوص وإضفاء أبعاد رمزية عميقة(2)، حيث تم تحليل الرمز والواقع والأسطورة في بعض قصائده مع التركيز على كيفية دمج هذه العناصر لتخلق نصوصا شعرية غنية بالمعاني والدلالات التي تعكس تجربته الإنسانية وارتباطه بالبيئة وتراثه الثقافي.

عُرف الشاعر علي عبدالله خليفة بتوظيفه الرمزية في شعره، حيث عبّر عن قضايا إنسانيّة ووطنيّة واجتماعيّة بأسلوب رمزي يفتح المجال للتأويل، ومن أبرز القضايا الرمزيّة في شعره:

1- الغربة والإغتراب

كثيرًا ما استخدم الرموز للتعبير عن شعور الإنسان بالضياع أو الابتعاد عن جذوره، مستخدمًا البحر والسفر كرموز لهذا الشعور.

2- القديم والحديث

عبّر عن هذا الصراع باستخدام رموز كالمراكب التقليدية مقابل السفن الحديثة، أو البحر كدلالة على الماضي العريق مقابل التطور السريع.

3- الحب والإنسانيّة

الحب في شعره يحمل دلالات تتجاوز العاطفة الشخصية إلى مفاهيم أوسع تتعلق بالسلام والتسامح، مستخدمًا رموزًا كالضوء، الفراشات، والعصافير.

4- الوطن والإنتماء

الوطن في شعره ليس مجرد مكان، بل حالة شعورية تتجسد في رموز مثل السفن، الأمواج، واللؤلؤ، في إشارة إلى تاريخ البحرين البحري.

5- المعاناة الإجتماعيّة

تناول قضايا الفقر والظلم عبر رموز مثل العتمة، الأبواب المغلقة، والرياح التي تعصف بالأحلام بأسلوبه الرمزي جعل شعره يحمل أبعادًا فلسفية وتأملية، ما يمنحه عمقًا وجاذبية خاصة.

رابعا: مظاهر الواقعيّة في شعر علي عبدالله خليفة

تتجلى مظاهر الواقعيّة في شعر علي عبدالله خليفة من خلال تناوله لتفاصيل الحياة اليوميّة والبيئة التي يعيش فيها، وهذا يعكس مدى ارتباطه بالبيئة البحرينيّة ووصف المزيد من التجارب والمعاناة التي عايشها الإنسان البحريني، ويظهرذلك جليا في ديوانه الشعري (أنين الصواري: 1969م)، حيث يسلط الشاعر على الجوانب الاجتماعيّة والاقتصاديّة التي تؤثر في حياة المجتمع البحريني، وقد استخدم الرموز المحليّة، مثل (النخلة) التي تحمل دلالات ثقافيّة واجتماعيّة داخل المجتمع البحريني.

ناهيك عن تعلقه الوجداني بالمكان وتفاعله مع البيئة المحيطة به مما يعزز واقعية النصوص ويجعلها أكثر ارتباطا بتجارب القراء، تناول ذلك كله في ديوانه الشعريّ (لا يتشابه الشجر) مثيرا بذلك إلى نضج التجربة التي استطاع الشاعر من خلالها أن يجعل المكان جزءا من ذاته.

و تتجلى المظاهر الواقعيّة في شعر علي عبدالله خليفة عبر تصويره الصادق لتفاصيل الحياة والمكان والرموز الثقافيّة ويبرز هموم مجتمعه بصورة دقيقة(3).

و من هنا فإن مظاهر الواقعيّة في شعريّة يتم من خلال تصويره للحياة اليوميّة والبيئة البحرينيّة المتنوعة من أبرزها:

1- البيئة المحليّة:

ينعكس ذلك بارتباطه بالبيئة حيث يظهر جمال الطبيعة ودفء الروابط الإنسانية، كقوله:(4) يغني النخيل أغنية البحر

والمدى يبسط كفوف الغيم

كي يحتضن أحلام السفن العائدة

2- اللغة البسيطة:

استخدم الشاعرفي قصائدة اللغة القريبة من الناس مما جعله مفهوما ومؤثرا.

3- التعبير عن المشاعر الإنسانية:

تناول الموضوعات التي تعكس تجارب الإنسان اليومية، فقد أظهر الجانب العاطفي، بقوله: (5)

حين احتضنت صورتك

سمعت قلب الورق ينبض

وصارت الحروق شوارع

4- الاهتمام بالتفاصيل:

فقد ركز على التفاصيل الصغيرة التي تضفي عمقا فنيا على قصائده.

و قد جسد الشاعر الصورة الواقعية للوطن الحزين مستخدما الملامح الرمزية للتعبير عن المشكلات المتفاقمة لكن هذه الصورة تضفي على قصائده قراءات مجازية متعددة، مستذكرا تاريخ بلاده كما فعل في سطور (أثار أقدام على الماء) مستذكرا بعضا من الشخصيات التاريخيّة الخالدة في نفوس المجتمع .

و يكتب قصيدة (حزن ليلى: طفول) مبينا الحزن المهيمن على حياة الأطفال الذين غدوا ضحايا القمع في تلك الحقبة الزمنية، ومن هؤلاء المضطهدين من كان معيلا لأسرة كبيرة، وما ليلى وطفول إلا طفلتان فقدتا أباهما في خضم الاستبداد، الذي استشرى في تلك الحقبة أنذاك:

دامع قلب ليلى، وكنت أسرح شعر طفول

وكانت طفول تنادي أباها الذي غيبوه وتمسح

للياسمين البرئ شذا دمعه

خامسا: الرمزيّة في شعر علي عبد الله خليفة: أصناف الرموز وتجليّات الرمزيّة

تقوم هذه الدراسة على تسليط الضوء على أبرز القضايا التي تناولها الشاعر في قصائده الشعريّة، يتجلى ذلك في ديوانه (أنين الصواري: 1969م)، حيث تناول حياة الغواصين الشاقة والحديث عن المظالم التي أكلت حياة الغواصين، وتناولت أيضا انعكاسات الوضع السياسي على المجتمع، وغير ذلك من قضايا محتلفة في دواوينه الشعريّة (في وداع السيدة الخضراء: 1992م – إضاءة لذاكرة الوطن: 1973م).

جاء كل ذلك بإسلوب شعري يتميز بالجماليّة والشفافيّة الشعريّة، حتى بلغ في ديوانه (في وداع السيدة الخضراء) ذروة فنية رائعة، تتميز بقوة الإبداع الناضج والعمق اللغوي للمعاني والظواهر الثابته والمتغيرة في الطرح الفني، مستخدما أحاسيسه الوجدانية للتعبير عن الظواهر المحيطة بمجتمعه.

نلاحظ أن شعر علي عبدالله خليفة يعتمد على الإيحاء والتلميح بدلا من التصريح المباشر، ويلجأ الشاعر إلى هذا الأسلوب لإيصال المشاعر والأفكار بطريقة غير مباشرة، إلى جانب ذلك التركيز على العواطف والإنفعالات الداخلية أكثر من الأحداث الخارجية، لذلك فإن الشعر الرمزي يتجنب الوضوح المباشر مما يجعله نصا مفتوحا لعدة تأويلات شعريّة.(6)

وتعد قصيدة الشاعر (في وداع السيدة الخضراء) من أبرز قصائده التي تحمل الملامح الرمزية، حيث وظف الشاعر الرموز بذكاء ليعبر عن قضايا اجتماعية وانسانية، فالسيدة الخضراء ترمز إلى الوطن أو الأرض أو الطبيعة، حيث يودعها الشاعر وكأنه يودع وطنا أو حالة معينة من الجمال والاستقرار.

ناهيك عن استخدام الشاعر للألوان مثل (الخضراء) الذي يرمز إلى الخصوبة والنماء، لكنه يأتي في سياق (الوداع) مما يعكس الجانب المخزن والشعور المنكسر، وفي معرض حديثه عن (النخلة) التي ترمز إلى القوة والصلابة وأنها تعد رمزا للأصالة والجذور الراسخة في الأرض، تعبيرا عن ارتباطه بوطنه، حيث يقول:

نخلة في الريح جذعها

لا تنحني..... لكن تجيد التمايلا

و نراه في قصيدة (الغريب) والتي تعكس شعوره العميق والوجداني وتجسيد مشاعر الوحدة والإغتراب والحنين وتحاكي مشاعر الغربة والإنفصال عن الوطن والأحباء.

و يعد هذا العمل الأدبي شهادة على ابداع الشاعر ورؤيته الإنسانية العميقة من خلال الوقوف على حياة الإنسان وغربته وذلك بإسلوب عميق يتسم بالجمالية الفنية.

و يظهر استخدام الرمزية في موطن عدة من قصائده كــ (القمر)، وذلك للدلالة على الوحدة والتأمل، حيث يقول:

والقمر المصلوب في أعلى السحاب

يبكي وحيدا بين أنجمه الغريبة

و نرى قي قصيدة (العائد) استخدامه (البحر والريح) كرمزين للحياة والمصير، حيث يمثل (البحر) التغييرات والمجهول بينما تعكس (الريح) التحولات التي لا يستطيع الإنسان التحكم بها، حيث نرى ذلك متجليا بقوله:

والبحر خلفي والريح تصرخ في دمي

والأفق يمتد امتداد تعاستي

و في قصيدة أخرى استخدام الشاعر (اللؤلؤ) في ديوانه الشعري (أنين الصواري: 1969م) حيث عبر عن هموم ومشاكل عمال الغوص على اللؤلؤ مسلطا الضوء على معاناتهم وتضحياتهم، فاللؤلؤ يرمز إلى الأمل المنشود الذي يسعى إليه الغواصون رغم المخاطر والصعوبات، فهو يجسد قيمة التضحية، حيث يقول: (7)

أرضي هناك

والمزارع والسهول

في موطن الأصداف

لقد أراد الشاعر علي عبدالله خليفة أن يسلط الضوء على بعض نقاط الضعف التي حفل بها المجتمع قي حقبة معينة من تاريخه المعاصر.

إن نفس هذا الشاعر يتسم بالطابع الحسي الأصيل، ولغته العربية شفافة تساير جل الأذواق والعقليات، نجده مرة يستخدم الرموز الشعريّة ويتناولها بشكل سطحي مفهوم خال من التأويل فهو يلامس القارئ العادي.

إن سمات الإبداع والجمال يكمن في النصوص التي تناولها الشاعر تدل على مجموعة من السمات الشعريّة، أبرزها: التنوع في التجربة والرؤية الدقيقة والوعي المتفتح على العالم.

سادسا: الخاتمة

يتضح من هذه الدراسة أن الشاعر استخدم الرمزية ببراعة حيث نجد (البحر، الريح، الحياة، والقمر) رموزا تعكس مشاعر (الإغتراب، الصمود، والتحولات) التي يمر بها الإنسان في رحلته عبر الحياة.

و إن استخدام الرمز بهذه الصورة يحمل دلالات لغوية وفكرية متنوعة تتكسب من خلال التجربة الشعريّة وتعميق مفهوم الإيحائية الشعريّة.

إن توظيف الرمز في القصيدة الشعريّة تعد سمة أساسية في شعر علي عبدالله خليفة، فقد وظفه بصورة تعكس ثقافته ومنسجمة مع واقعه الفكري، فقد ساهم بدرجة كبيرة في الإرتقاء بشعره.

لقد مزج الشاعر بين العامية والفصحى في كتاباته،فنراه يقول: (كان ذلك خارج إرادتي تماما ومن تجربة فعلية فإنني لا أملك خيار لغة القصيدة، وإنما هي التي تختار عند التخلق ما تريد).

سابعا: مسرد المصطلحات

1- الرمزية

مذهب أدبي فلسفي، يعبر عن التجارب الأدبية والفلسفية المختلفة بوساطة الرمز أو الإشارة أو التلميح. والرمز معناه الإيحاء، أي التعبير غير المباشر عن الأحوال النفسية المستترة التي لا تقوى اللغة على أدائها، أو لا يُرادُ التعبير عنها مباشرة.

نشأت الرمزية في أواخر القرن التاسع عشر كردّ فعل على الرومانسية والبرناسيّة، واستمرت حتى أوائل القرن العشرين معايشةً البرناسيّة والواقعية والطبيعية، ثم امتدت حتى شملت أمريكا وأوربا، والمذهب الرمزي يتميّز بخصائص عديدة، أهمّها فيما يأتي:

- الوحدة العضوية للنص الأدبي

- الاستلهام من التراث

- الغموض وتعدد المعاني

- الزخم التصويري وتراسل الحواس

2- الاسطورة

هي شكل من أشكال الأدب الرفيع، وهي قصص تقليدية ثابتة نسبيَّا مُصاغة في قالب شعري يساعد على ترتيلها وتداولها شفاهة بين الأجيال، وهي مقدسة، ولا تُشير إلى زمنٍ مُحددٍ بل إلى حقيقة أزليَّة، من خلال حدث جرى، وهي ذات موضوعات شمولية كبرى، مثل: الخلق، والتكوين، وأصول الأشياء، والموت، والعالم الآخر؛ ومحورها الآلهة وأنصاف الآلهة، وللإنسان فيها دور مكمل لا رئيسي.

3- المذهب الواقعي

تُنسَبُ الواقعيةُ للواقعِ المتواجد في الحقيقة والطبيعة، والإنسان، ويتفرّع إلى نوعين:

- الواقع الحقيقي، وهو الواقع الذي إذا أردت وصفَه فسيخرج كصورة فوتوغرافية لما هو عليه، فيكون الوصفُ صادقاً، وموافقاً لما هو موجود.

- الواقع الفنيّ، ويُقصَد به الأدب وهو لا يخرج بشكل كامل عن الواقع الحقيقي، ولا يأخذه بكامله، بل يصفه بأسلوبٍ إبداعيٍ، من خلال الزيادة، والإنقاص، وإعادة التشكيل، بحيث يخرج كعمل يُحاكي الواقعَ الحقيقي، وضمن إطاره.

4- المواويل الشعرية

هي نوع من الشعر الشعبي المغنى، يتميز بالعاطفة القوية والإيقاع الموسيقي الجميل. يُستخدم في الغناء الشعبي، خاصة في العالم العربي، ويُؤدى بأسلوب شجي يعبر عن الحزن أو الفرح أو الشوق.

5- الايحاء الشعري

هو قدرة النص الشعري على استدعاء معانٍ وأحاسيس غير مباشرة تتجاوز المعنى الحرفي للكلمات. يعتمد على الرموز، والاستعارات، والصور الفنية ليترك للقارئ مساحة للتأمل والتفسير.

6- التأويلات الشعرية

هي عمليات تفسير وتحليل المعاني العميقة والرمزية في النص الشعري، حيث يتجاوز القارئ المعنى الظاهري للكلمات ليصل إلى دلالاتها الخفية والمجازية.

***

د. شادي مجلي سكر

.....................

ثامنا: المراجع

أولا: الإنترنت

1- الموقع الرسمي للشاعر علي عبدالله خليفة

ثانيا: المجلات العلمية

1- أعمال الشاعر علي عبدالله خليفة، جريدة الأيام، العدد (13131)

2- كتاب "قراءات في تجربة علي عبد الله خليفة الشعرية" عن أسرة الأدباء والكتاب بالشراكة مع دار تدوين، ضمن سلسلة دراسات في أدب البحرين.

3- كتاب معالم الإبداع والرؤيا في أشعار علي عبدالله خليفة: الصادر عن معهد الشارقة للتراث

ثالثا: الكتب والمراجع

1- الصايغ (وجدان) كتاب باللغة الفرنسية يحمل عنوان: «شعر علي عبد الله خليفة واللؤلؤة والبحر»، ترجمة حميد العربي، في باريس عن منشورات لا رماتان، يقع في 120 صفحة عن سلسلة «مقاربات أدبية».

2- الديوان الشعري: أنين الصواري: 1969 عطش النخيل: 1980

3- يوسف (شحادة): 2008، في عالم علي عبد الله خليفة الشعريّ، دمشق – سوريا.

4- نجم، راشد (2021) صورة النخلة في شعر علي عبدالله خليفة، مملكة البحرين

الهوامش

1- صورة النخلة في شعر علي عبدالله خليفة: الدكتور راشد نجم

2- كتاب ( قراءات في تجربة علي عبدالله خليفة الشعرية: صدر عن أسرة الأدباء والكتاب

3- قراءة نقدية لأعمال الشاعر علي عبدالله خليفة: جريدة الأيام العدد 13131

4- عطش النخيل: 1980 م

5- أنين الصواري: 1972 م

6 - كتاب معالم الإبداع والرؤيا في أشعار علي عبدالله خليفة: الصادر عن معهد الشارقة للتراث

7- كتاب اللؤلؤ والبحر قراءات في شعر علي عبدالله خليفة: وجدان الصائغ

 

كوثرُ الضّااادِ

طلٌّ تروّى منهُ حرفُ الضّادِ

كي تُمزَجَ الأضدادُ بالأضدادِ

منّي استقى العشّاقُ كوثرَ صفوهِ

والحرفُ أجهض خسّة الحسّادِ

من غيمتي أمطرتُ حتّى أنتجتْ

في الكفّ سُنبلتي حبوبَ حصادِي

من غيمتي انهمرت عِذاب مشاعري

وسقيتكم من منبعِ الأجوادِ

فالعشقُ مثلُ الشّعرِ يصطحبان في

صدري سُلافَ النّبضِ للأكبادِ

الشّعرُ يكتبُني ويكتبُ قصّتي

ولسوفَ يُـهدي الذُّخرَ للأحفادِ

منّي تُرفرفُ رايةُ المعنى كمَا

في الأوجِ تعلُو رايةُ الأمجادِ

في حضرةِ الإحساسِ أمنحُ خافقي

لغةً تُرتّلُ أفضلَ الأورادِ

ربّاااهُ هبْ لي من لدُنْكَ هدايةً

فالنّورُ منك يزيدُ لي من زادِي

ربّاااهُ هبْ لي من لدُنْكَ رعايةً

في العيشِ تحرُسُني من الأحقادِ

***

الشّاعرة سميرة الزّغدودي - تونس

تقديم:

درست في القيروان التونسية وتخرجت سنة 1990، أستاذة في التعليم، شاعرة معاصرة من مدينة القيروان، تُوقّع قصائدها بـ"فتاة القيروان"، مما يشير إلى ارتباطها بتراث هذه المدينة التاريخية وإرثها الثقافي. رغم عدم توفر تفاصيل كثيرة عن مسيرتها المهنية والشعرية، إلا أن قصيدتها "كوثرُ الضّااادِ" تكشف عن عمق لغوي واهتمام بالهوية العربية، خاصة عبر رمزية "حرف الضاد" الذي يجسّد خصوصية اللغة العربية. يُستشف من شعرها ميلٌ إلى المزج بين الرومانسية والصوفية، مع تركيز على دور الشعر كحافظ للتراث وناقل للأفكار بين الأجيال.

ملخص القصيدة: رحلة العطاء والهوية

تتخذ القصيدة مساراً تأملياً يجسد "كوثر" (أو الكوثر) كمصدر للإلهام والعطاء. تبدأ باستحضار حرف الضاد كرمز للهوية العربية، ثم تتحول إلى استعارة "الكوثر" (النهر الجاري في الجنة) لتمثيل فيض المشاعر والإبداع. تروي الشاعرة كيف يُخصب عطاؤها الفكري (المُمثل بالغيوم والمطر) إنجازاتها (السنابل والحصاد)، وتؤكد أن العشق والشعر قوتان متلازمتان تُخلّدان تجربتها الإنسانية. تختم القصيدة بدعاء يطلب الحماية من الحقد والهداية الروحية، مؤكدةً دور الشعر كـ"ذخرٍ للأحفاد".

قراءة أدبية

من السطر الأول: كوثرُ الضّااادِ تُقدّم الشاعرة ثنائيةً دلالية بين الكوثر الفيض والضاد الهوية، مُستندةً إلى الإطالة الصوتية "الضّااادِ" لتعظيم الرمز. يظهر هنا تداخل الأنواع الأدبية بين الشعر الصوفي والرومانسي، وهو سمة للأدب العربي الحديث.

في السطر الثاني: طلٌّ تروّى منهُ حرفُ الضّادِ تُبرز الصورة البيانية _حرف الضاد_ ككائن حي يُروى، مما يعكس مفهوم تشعير النثر أو تحويل اللغة إلى كيان حيوي.

السطور 3-4: "كي تُمزَجَ الأضدادُ.../... خسّة الحسّادِ" تُعيد صياغة التناقض البشري (الحب/الحسد) عبر جناس "الأضداد/الحسّاد"، وتستوحي منحىً صوفياً في قبول التناقضات كجزء من الوجود.

السطور 5-8: "من غيمتي.../... للأكبادِ" تُجسّد عملية الإبداع كدورة زراعية (غيم > مطر > سنابل> حصاد)، مستخدمةً استعارة مستفيضة تستدعي فيها أسلوب تحويل الصورة الشعرية إلى عالم ميتافيزيقي.

السطور 9-12: "الشّعرُ يكتبُني.../... أفضلَ الأورادِ" تنقلب العلاقة بين الشاعر والشعر: فالشعر هو الفاعل لا المفعول به، مما يُظهر تأثراً بحداثة الشعر العربي في كسر الثنائيات التقليدية. كما تحوّل القصيدةُ الرايات إلى رموز مزدوجة: راية المعنى (فكريّة) وراية المجد (ماديّة).

السطور الأخيرة (13-16): "ربّاااهُ.../... من الأحقادِ" تحوّل المناجاة الصوفية إلى دعاءٍ وقائي، مع إطالة في "ربّاااهُ" لتضخيم الشعور بالتوسل. هنا تتحول القصيدة من خطاب ذاتي إلى رسالة إنسانية جامعة، تجسد المعاناة البشرية وتأكيد الإيمان كملاذ.

خاتمة: الشعر كوصية خالدة

"كوثرُ الضّااادِ" ليست مجرد قصيدة، بل بيانٌ عن دور الشعر كجسر بين الهوية والإبداع، والتراث والحداثة. تكشف سميرة الزغدودي عن رؤيةٍ تُعيد فيها تعريف "الكوثر" ليس كنهرٍ جارٍ في الجنة فحسب، بل كمشروع إبداعي يُخصّب اللغة ويحميها من "خسة الحسّاد" و"الأحقاد". القصيدة، برموزها المتعددة (الضاد، الكوثر، السنابل)، تثبت أن الأدب العربي الحديث قادر على توظيف التراث في صيغ مبتكرة، مستفيداً من "تداخل الأنواع الأدبية" و"جمالية العلامة السيميائية". وفي الختام، تبقى كلمات الشاعرة وصيةً للذاكرة الجمعية: الشعرُ... لسوفَ يُـهدي الذخرَ للأحفادِ.

***

بهيج حسن مسعود

القسم الأول: تجاوز التابوهات وجرأة الطرح

يهدي الكاتب شاكر نوري روايته إلى أشخاصٍ حقيقيين، عرفهم عن قرب مثل "الطفل عبد الرحمن الباعث الأول والأخير لهذه الرواية والراحلة أم جلال". ص 5

ومع ذلك، وعلى الرغم من أن الروائي يكرّس عملَه هذا لأحداث حقيقية كما أخبرني في لقاءاتنا الشخصية، فهي رواية مستمدّة من الواقع وقد تكون واقعية لكنها غير تقليدية، بل بالعكس تسعى إلى تحقيق أكبر قدر ممكن من الحداثة والفنية. تبدأ الروايةُ صفحاتِها الأولى بسرد سلس جميل يذكرنا بأسلوب الطيب صالح أحيانًا. ص 11 إلى 14

"عند استيقاظ عبد الرحمن بعد ليلة العرس يرى كل مآسي العائلة وبالذات اغتيال أبيه...". ص 14

وبشكل عام، يمكن القول إن هذه الرواية تتميز ببعض الثيمات والمواصفات مثل:

تجاوز التابوهات وجرأة الطرح:

نقرأ في الرواية: "رفع نظره الى السجادة المطرزة والمعلقة على الجدار ... ضوء... أتى من الصحن لينير وجه فارس يطعن حيوانًا وحشيًا، ... رأى صقوراً ... تنقر قضيبه الواهن ... حيامنه المنوية في ‏سبات عميق، بل وأفقدتها طاقتها في فض بكارة زوجته وانتاج ولد شبيه ... لن يولد في مملكة أقامت أمي صرحها، إلا بالمعجزة".  ص 14 "... فخفض رأسه إلى السرير خجلا من زوجته التي كانت غريبة عليه قبل قليل كاشفا لها عن عورته دون ان يفلح بفض بكارتها ... باحثا عن نقطة الدم ... تثبت رجولته وترفع رأسه عاليا بين أمه وزوجته ... وقبيلته".  ص17

قطرة الدم هذه كُرّست لها أعمال إبداعية عربية كثيرة قديمة، لكني قرأتُ روايةَ "نهاية سري الخطير" للكاتبة المغربية زكيه خيرهم، التي تناولت أيضاً هذه "القطرة" وليلة الدخلة ومنديل العذرية إنها حقّاً روايةٌ كبيرةُ بحجمها وموضوعها.2

لكن البطل هنا "بطل عسكري" حقيقي، وبلاده في حالة حرب، جندي في إجازة بعد ليلة العرس بدون أن يفضَّ بكارة عروسته ويعاني من أعراض النكسة والخذلان! وهل هناك أكبر من هذه المأساة؟ كارثة العرس هنا ليست مجرد حدثٍ بسيطٍ، بل أليغوريا، فهو ليس خاصًا به لوحده بل لقبيلته وقومه والعراق الذي كان يعيش حالة تجييش وتسييس يكرّس كل شيء بدون استثناء للحرب، السارد يتحدث عن أخيه "البطل العسكري" : "تذكّرَ ساعة ابتهاجه لرحلته بالقطار بصحبة أمي لتخطب له شيرين ... دخان ممزوج برائحة جثث حيوانات برية" ص 18

يصور الكاتب ليلةَ الدخلة، ويقدّم سردًا متميزًا عن عبد الرحمن وعروسته على لسان حاله، الراوي الأخ الكبير، "إنها المرة الأولى التي نام فيها بعيدا عن أحضان أمي ...". ص 21

ليلة الدخلة والعجز الجنسي، حدث الرواية الرئيس:

تتمحور نافذة العنكبوت على موضوعة ليلة الدخلة والعجز الجنسي، وتتطلب جرأة كبيرة في الطرح، فهي بحد ذاتها "أم" المآسي والمواجع في الثقافات الإنسانية القديمة بما فيها الشرقية إلى وقتنا الحاضر، فكيف يصف الروائي معاناة العريس من العجز الجنسي من عدة جوانب دون أن يصيب الممنوعات الشرقية في صميمها ويتخطّاها؟ إنها بالتأكيد نكبة النكبات بالنسبة للعائلة والقبيلة كلها!

نقرأ في الرواية وصفًا تدريجيا لهذه الحالة التي يعاني منها العريس العنين: "سأحاول في الليلة القادمة" ص 22، وتصويرًا واقعيًّا لحالة العريسين، "العبارة الخبيثة الفظّة التي نطقت بها زوجته في الليلة الفائتة" ص 26، و"محاولة انتحار العريس". ص 27

تكمن الجرأة هنا في إمعان الكاتب وشغفه بتناول موضوعة العجز الجنسي بالسخرية السوداء من صعوبة فض البكارة لدى أفراد القبيلة كما تشير دفاتر النفوس، تهكم فظيع، ص 81 "أحد الأسلاف عاجز"، ص80، كان أيضًا اسمه عبد الرحمن، تناولوا علاجات العجز: يقدم هنا تهكّماً رائعاً عن الجينات وتكرار الأسماء، ص 85 ، ويسرد حكاية "شراب الجن والدبس، مزجته وذوّبت فيه مخ ضبع، وأقسمت لأمي بأنه سيد الأدوية جميعًا للرجل العاجز." ص 85، "شيرين حبلى برياح الخريف" ص 90 وفي النهاية يتساءل متهكّماً بشيء من الازدراء للتقاليد البالية من وجهة نظر الراوي (الأخ المغترب الكبير): "هل فضَّ بكارتَها أم هناك فاعل آخر؟". ص 98

كذلك يتحدث الراوي بوضوح عن سبب العجز: "أي يوم كان يقصده أخي يوم اغتيال أبي يوم ختانه يوم إصابته بشظية الحرب". ص 110

ويقدم في مقطع آخر من الرواية شرحًا ووصفًا دقيقًا لسبب العجز ليؤكّد أليغوريا العجز، الحرب أصابت الذكورة العراقية في مكمنٍ: "شظية دخلت فتحة الإحليل". ص 160

الحديث عن المعتقدات:

 لا بدّ من الإشارة هنا أيضًا إلى جرأة الحديث عن الدين بشكل عام والخالق بالذات، الله في مركز السرد هنا من خلال أحاديث الناس في حواراتهم اليومية: "تصرفات الله الذي آمن به ". ص 125 و"كلما نظر إلى لذته الميتة، أبصر فيها صورة الله...". ص 126 " هل خانه الله ...". ص 127 "هذه حكمة إله نزيه، منصف بين البشر؟". ص 127 و"الوطن المقسم" ص 128 الله في مركز السرد هنا: "أضرحة الأولياء".  ص 129 وأخيرًا نلاحظُ جرأةَ حوار الأم مع الله على الطريقة الشعبية لدى الأمهات عندما يعبّرن عن معاناتهن من مصائبهنّ. أنظر: صفحات 129-130 -137

تتكرر مثل هذه الحالات الإنسانية بالذات في التغيرات المجتمعية الكبيرة مثل الحرب وتأثيراتها والفوضى كما هو الحال عند الروائي الكبير غائب ط. فرمان حيث تسمّيه إحدى بطلاته "ابو خيمة الزرقة"، وصراحة تناول هذه الموضوعة بجرأةٍ وسخريةٍ متميزةٍ في رواية "زينب" للدكتور عارف الساعدي. 3

موضوعة جنس المحارم:

تظهر في السرد تلميحات مثل: "بوادر علاقة بين شيرين وشقيق عريسها ونظرات مغرية... " ص 46 تشبه فكرة سفاح المحارم في رواية الروائيين "الصخب والعنف" لوليم فوكنر، وهروب شيرين، ص 48 لكنها "تعتكف" في غرفة العناكب لتمارسَ طقوسَها ونزواتها، ص 49 ويشبه إلى حد ما أسلوب فؤاد التكرلي في طرح الوقائع والأحداث.  "ما يفرق بيني وبينه نظراته الشرعية ونظراتي المحرمة، لكن شيرين لم تعد كما هي ... وصرخت في وجهنا فجأة: .... إنه ...". ص68

ويقول الراوي أيضًا عن المحارم: "يفصلني عن الخطيئة سوى خيط واه" 92 ونقرأ كذلك " أدركتُ بعد فوات الأوان، بأن جزءًا كبيرًا مني مات أثناء مضاجعتي لها، لا أدرى كيف وجدتُ في نفسي القوة لأقترف هذه الخطيئة، ...أفكر ... بزواجي من شيرين، لأُضفي الشرعية...". ص 92

سنرى فيما بعد أن عبد الرحمن، أخاه الصغير العريس قال في "سرديته" أثناء هذيانه وهو يعاني من الحمى على فراش الموت، إنه تزوجها أيضًا ليسترها. الذكورية وهوس الشرف والعفة والعذرية وقطرة الدم في ليلة الدخلة والقتل والموت هي اهم موضوعات هذه الرواية التي أراد شاكر نوري تعرية واقع المجتمع العراقي وحقيقته من خلال الإفصاح عنها. 

يتساءل الراوي” هل يمكن أن يكون أخي وراء دفع شيرين إلى أحضاني لِفظّي بكارتها؟ ... ربما أني فضضتُ بكارتَها في الحلم". ص 100 رغم أنه يقر صراحة بأنه فضَّ بكارتها! ص 92 هل هو تمويه مقصود؟ أم حالة شرود يعاني منها "الأخ الكبير"، أو أساء فهم رسالة والدته وتصورها تريده أن "ينقذ" الموقف عندما قالت له "افعل شيئًا لأخيك" كونه عاد من فرنسا إلى دياره مشبعًا بفهمٍ معيّن لمدنية الغرب ناسيًا تقاليده العراقية؟ 

أو، إن "صوت الكاتب" الداخلي تدارك الموقف أثناء الكتابة في مشغله؟ كذلك سنعرف فيما بعد من خلال سردية عبد الرحمن نفسه بأنها كانت تحب جنديًا حبلت منه قبل مقتله في الحرب!

إذن إنها ليست عذراء! وهل العذرية هنا رمز آخر اراد الكاتب أن يكرسه لحدث الرواية؟ سؤال قد يوجّهه القارئ إلى الكاتب، الذي أجابنا في لقائنا الشخصي: إنها لم تكن عذراء من "زواجها” غير الرسمي مع صديقها الأول".4 أنظر حوارنا مع الكاتب د. شاكر نوري المنشور في ملحق القبس الثقافي. بتاريخ 04 مايو/ أيّار 2024

وتنقم الوالدة على الأخ الكبير عندما ترى الشبه الكبير بينه وبين الجنين! أنظر تصوير ولادة الجنين. ص 142 وصف رائع للأم على لسان السارد (الاخ الكبير) حيث يقول: "حدجتني بنظرات متفجرة بالخبث والريبة من هذه الولادة العجيبة". ص 142 ويصف الجنين يشبه الاخ الكبير، ص 143

ونلاحظ أن الأم تعنّفه قائلةً: "صه أيها الكلب، يا خائن الأم والأخ، ..."، ما يذكرنا بالموضوعة نفسها في "نزوة الموت" ص 54 حيث تقول الأم لابنها: "أيها الشيطان ابتعد عني". ص 54

وهنا يبرز تساؤل: لكن الأم طلبت بنفسها من ابنها الكبير أن "يساعد" أخيه! والجواب، طبعًا: هي تعني مساعدته وتحفيزه وإرشاده لعمل ذلك، وليس أن يضاجعها بنفسه بدلًا من أخيه! لا بدّ أن الروائي أراد أن يكون الغموض في مثل هذا السرد سيد الموقف!

من المفترض أن يشبه الجنين والدَه الأصلي الجندي المقتول في الحرب وليس "الأخ الكبير"، ولا بدّ أن هذا الخلط يعكس حالة الفوضى والإرباك الذي تعاني منها الشخصيات، بالذات الأم. وإن ما تقوله الأم عن شبه المولود الجديد لعمّه (الأخ الكبير) مجرد انطباع ليس بالضرورة أن يكون صحيحًا!

وذكرَ لي كاتب الرواية شاكر نوري في مراسلاتنا عبر الواتساب وحديث شخصي معه:

"الأم تخيلتْ أن الأخ الكبير ضاجعَ عروسة أخيه، واحتمال ان يكون هو والد الجنين، لا ندري من هو الأب الحقيقي! هل هو حبيبها الأول الجندي المقتول في الجبهة؟ أم الأخ الكبير؟".

إذن فقد أراد الكاتب لهذه الحبكة أن تبقى لغزًا يريد من القارئ ان يتفاعل ويتشوق لمعرفة الحقيقة.

***

الدكتور زهير ياسين شليبه

توطئه: قبل رحيل صديقي الشاعر اللبناني الكبير محمد علي شمس الدين بأقلّ من عشرة أيام هتفت إليه وأخبرته عن عزمي لتأليف كتاب نقدي عن أعماله الشعريّة، فأجاب: هذا يغبطني، ولم أكن أعرف أن المرض كان قد تقدم به إلى ما كان عليه، وفور وفاته – رحمه الله- سارعت لكتابة هذه المقالة، ومن ثم أجلت نشرها حتى إنجاز ما وعدته به، لكن الأحداث تسارعت وثقلت، والآن أرسلها إلى صديقي الباحث والمفكر الكبير ماجد الغرباوي ليكون شاهداً على صدق وعدي إن بقي من العمر ما يكفي.

تجليات الموت والخوف في آثاره الشعريّة:

الشاعر اللبناني محمد علي شمس الدين

ينقش ظلاله الشعريّة ويمضي

مفيد خنسه

لعلّ الشاعر اللبناني الراحل محمد علي شمس الدين من شعراء الطليعة الذين تأثروا بالحداثة الشعريّة التي خط ملامحها الأولى السياب والملائكة والبياتي والحيدري، وقد سطع نجمه الشعري في مطلع السبعينات من القرن الماضي مع كوكبة من الشعراء اللبنانيين، شوقي بزيع، حسن عبدالله، جودت فخر الدين، جوزيف حرب، إلياس لحود،.....، وفي تقديري أن دراسته الجامعيّة للحقوق، ومن ثم اهتمامه بالتاريخ ونيله شهادة دكتوراه دولة فيه، كانت عاملاً أساساً في توظيف الرموز التاريخيّة في أشعاره، وهنا أتوقف عند سمتين أساسيتين في الجزء الأول من آثاره الشعريّة الكاملة، الذي يتضمن سبعة دواوين شعريّة، وهما الموت والخوف، فإذا كان الموت يتجلى في أشعاره كحقيقة حتميّة، فإنه لم يفتأ مجتهداً بالنظر إلى هذه القضيّة الوجوديّة من وجهة نظر فلسفيّة بالعودة  بعد الموت في رحلة الحياة الأزليّة، ليغدو الموت نفسه ظاهرة طبيعيّة مرتبطة بدورة التطور والنمو، أما الخوف فإنه يتجلى في أشعاره لجهة الآني والمؤقت في طور التجربة الذاتيّة  بإطارها الاجتماعي،

تمهيد:

في ديوانه الأول: (قصائد مهرّبة إلى صديقتي آسية) الذي صدر عام 1975 أي عندما كان عمر الشاعر حوالي ثلاثة وثلاثين عاماً، لا نستطيع أن نتحقق بوضوح من ظهور هاتين السمتين، الموت والخوف، لكن حضورهما أكثر ما يتجلى في كل من قصيدتيه، (مرثيّة العاشق) و(ارتعاشات اللحظة الأخيرة). وقد لاقى اهتماماً إعلاميّاً لافتاً، كما أن قصيدة (البحث عن غرناطة) منه قد ترجمت إلى الإسبانيّة، من قبل المستشرق الإسباني بدرو مارتنيز مونتابث، رئيس جامعة (الأوتونوما) في مدريد، ونُشرت في كراس خاص وقد نسبها إلى (الشعر الغرناطي).

استشهاد أول: من قصيدته (موت مطر الصقر) في ديوانه الثاني، (غيم لأحلام الملك المخلوع) 1977،

يقول الشاعر:

(قتلتني عاشقتي/ وأهالت فوق تراب القبر أغانيها/ فاخضر العظمُ وأنبت زنبقةً/ يتفيّأ في تربتها الأمواتُ/ وتحرسها أرواحُ محبيها/ وأتت عاشقتي في الليل تزور القبرَ، فأذهلها/ شبحٌ تحت الصفصاف يناديها/ صرخت من أنت؟/ وحين أشارت للقبر وفاجأها صوتي/ سقطت في صدر مغنيها/ قتلتني عاشقتي/ قتلتني/ وأنا في ظلمة قبري أبكيها).

يمكننا أن نلاحظ أن ملامح التجربة الشعريّة للشاعر محمد علي شمس الدين بدأت تتشكل فعليّاً في هذه المجموعة، وبدأت بذور النزعة التأمليّة الفلسفيّة تنبت في فضاءاته الرحبة وتزهر في حقوله الواسعة، ففي هذا التركيب الشعري يجمع الشاعر بين الحسي والعقلي، وبين الواقعي والمتخيّل،  فالشاعر على الرغم من أن حبيبته قد قتلته من فرط حبه لها، وعلى الرغم من أن المحبوبة قد غنّت فرحاً بهذا القتل، فإن عظمه المدفون في التربة قد اخضوضر ونبتت على قبره زنبقة تظلل تربة الأموات، وتحرسها أرواح من قضوا مثله بحبها، وعندما زارت القبر راعها صوته فسقطت في صدر المغني، والشاعر مازال يبكي في قبره على عاشقته التي قلته.

استشهاد (2): من قصيدة (أغنية للموت) في ديوانه الثالث (أناديك يا مليكي وحبيبي) 1977:

يقول الشاعر:

(هذا النباتُ المعرشُ فوق الجدار/ غرائزهُ/ وهذي الطيور الأليفة: أنثاهُ/ والشمس دائرة في خلايا يديه/ وعند قران الغزالة في البحر/ يبسط كفيه حتى عروق المياه/ ولكنه حين ينهض من نومه باكراً/ تسائله نجمةٌ في الفلاة/ حبيبي/ حبيبي/ هو الموت أم/ نومك الموسميّ الجميل؟).

في المعنى:

لعلّ التساؤل الذي يختم الشاعر فيه تركيبه الشعري يشير إلى المعنى الذي أراد أن يعطيه للموت، وهو النوم الموسمي، حيث يتجلى النوم بمظاهر الطبيعة المتعدّدة، النبات المعرش فوق الجدار، الطيور الأليفة، الشمس التي تمتد خيوطها لتصل إلى كلّ كائن في الوجود، كما لو أنها يد الموت، مظهر غياب الشمس في الماء، ولا بد لنا هنا من ملاحظة هذا التقابل بين البحر والفلاة، وبين النبات والطيور، وبين الغرائز والأنثى، الذي يشير بوضوخ إلى تجليات صور الموت المعنويّة بما يقابله من صور النوم الحسيّة،

استشهاد (3): من قصيدة (حوار الخوف) في ديوانه الرابع (الشوكة البنفسجيّة) 1981:

يقول الشاعر:

( - وماذا تقول الفكرة؟/ - تقول:/ - كان اثنان في حوار./ كان الحوارُ طويلاً طويلاً ولا ينتهي مثل حوار الظلّ والشجرة./ ثم تداخل القولُ واشتبك./ صار الأول يسألُ ويجيب./ والآخرُ يجيب ويجيب. والثالث صامت .... -: ولكنهما اثنان في حوار... من أين أتى الثالث؟/ -: الثالث؟ هه؟ كانْ/ في القوسِ أمام الميزان).

في المعنى:

هذه القصيدة يقدمها الشاعر على صيغة استجواب افتراضي، ويهديها إلى الشاعر الفرنسي المتمرد آرثر رامبو، ويبتدئ الاستجواب بالاستفسار (من أنت؟): فيكون الجواب: (أنا الآخر) .. وحين يسأله، - أتقيم؟،  يجيب: - لا، فيسأله – تمشي؟ فيجيب: في العقرب، وهكذا تتدحرج الأسئلة وتتوالى الأجوبة، حتى نصل إلى فكرة التركيب التي تنتج عن سائلٍ ومجيب، أو مجيب ومجيب، وإذا لا حظنا أن الميزان والعقرب والقوس أبراج متعاقبة من منازل الشمس، يمكننا أن نفهم المعنى المراد وهو أن (الآن) مفتوح على الماضي ومشرفٌ على المستقبل، فإذا كان الآن هو العقرب، فإن الميزان يمشي في العقرب إلى القوس أمام الميزان!!!، وأجد من المفيد أن أذكر قولاً للشاعر الراحل محمد علي شمس الدين خلال لقاء أجراه معه الكاتب محمد ناصر الدين، حين سأله: لمن ينحاز في محكمة يجلد فيها بطاركةُ الشعر المكرسون رامبو؟، " أنحاز إلى رامبو من دون تردد، ..... والسبب أن رامبو هو طفل الشعر النزق الذي لا يكبر، وفي داخلي جزءٌ من هذا النزق".

استشهاد (4): من قصيدة (الموت الخميس المقبل) في ديوانه الخامس طيور إلى الشمس المرّة 1984،

يقول الشاعر:

((كان رأسي ينامْ/ تماماً / حيث مرّ القطار/ يوشوش خطين لا يصلان/ بأسراره/ ويرسل للغائبين/ رسالته الغامضة:/ سلامي عليكم/ وأخبركم أنني/ متّ بعد الرحيل/ وأحيا إذا لوحت في الأصيلْ/ مناديلكم/ فاذكروني/ واعلموا أنني قادمٌ/ (بعد موتي).

وفي هذا التركيب نتبيّن أن الموت هنا يعني الهجرة والغياب، والمعنى كما نلاحظ مجازي.

استشهاد (5): من قصيدته (برق الخائف) في مجموعته الشعريّة (أما آن للرقص أن ينتهي 1988)،

يقول الشاعر:

(يلمع برق الخوف على أكتاف مدينتنا/ يلمع فوق ظهور منازلنا الحدباء/ يلمع برق الخوف على بقع الماء/ لا تسمع فوق الإسفلت سوى خطوة كلب خائف/ لا تبصر فوق الأسلاك المتدلية الأمعاء/ سوى ريشٍ خائف/ أمشي في الشارع وحدي/ لا أبصر غير ثيابٍ خائفة/ تمشي خلفي/ وأخاف/ أتدافع في كلّ جهات الشارع كالملدوغ ويلطمني خوفي/ أتلاشى/ حتى لا تبصرني عينايْ)

أي الخوف يحيط به حتى يكاد يضمحل أو يتلاشى،

أما في ديوانه السابع (أميرال الطيور) 1992، فقد بدأت تتبلور فيه رؤيته الصوفيّة للعالم، من خلال الشعر " كعمق استراتيجي للوجود، وكبرق كاشف له، ... ويضيف: إذا اعتبرنا الشعر على سبيل التمثيل بحراً، فإن قاعه هو التاريخ، وموجه هو الفلسفة، وفضاءه هو المخيّلة، لكن المعرفة على اختلاف وجوهها ... تبقى بمعناها المفهوميّة خارج القصيدة". " إذا أردت فهم العصور الحديثة ألجأ إلى أشعار السياب والماغوط وأدونيس وأنسي الحاج.

***

مفيد خنسة – ناقد وكاتب سوري

 

رواية أمير الذباب أنموذجًا

الأدب مرآة لا تعكس الواقع فحسب، بل تكشف ما يختبئ وراءه من نزعات ودوافع وصراعات نفسية.

ويليام غولدنغ الكاتب البريطاني الحاصل على جائزة نوبل سنة 1983 في روايته الشهيرة أمير الذباب" lord of the flies" الصادرة سنة 1954 يضعنا أمام تجربة إنسانية قاسية: أطفال ينجون من سقوط طائرة، يجدون أنفسهم معزولين على جزيرة مهجورة ويؤسسون مجتمعًا صغيرًا، لكنه سرعان ما ينحدر إلى الفوضى والعنف. تتحول البراءة المزعومة إلى همجية، ويبرز سؤال حارق طالما شغل الفلسفة والعلوم الاجتماعية:

- ما الذي يدفع الإنسان إلى الجريمة؟

- هل هي غريزة أصيلة تستيقظ حين تغيب الضوابط؟ أم نتاج بيئة مفككة وظروف استثنائية؟

في هذا المقال، نحاول قراءة أسباب الجريمة من خلال مرآة الأدب، مستندين إلى أمير الذباب كنموذج يعرّي القشرة الحضارية الرقيقة، ويفضح آليات العنف الكامنة في النفس والجماعة، وذلك من خلال:

- إنهيار النظام والسلطة.

- الخوف الجماعي وصناعة الأسطورة.

- نزعة السيطرة والتلذذ بالقوة.

1- إنهيار النظام والسلطة:

في بداية الرواية يحاول الأطفال بناء مجتمع متماسك يقوم على الديمقراطية والحرية والقانون، ينتخبون رالف قائدا، وتصبح الصّدَفة رمزا للشرعية. في محاولة لضمان الاستقرار والاستمرارية والنجاة. هذا الترتيب يشبه نسخة مصغرة من المجتمع البريطاني الذي جاؤوا منه، حيث القانون والتقاليد يضمنان الاستقرار.

لكن هذا النظام سرعان ما يبدأ بالتصدع؛ فالصدفة، بوصفها رمزًا للسلطة، تفقد هيبتها تدريجيًا كلما اشتد الخوف والجوع، وكلما تزايدت رغبة البعض في نيل القوة المباشرة بدل الانضباط. ومع مرور الوقت، لا يجد رالف ما يفرض به الطاعة سوى التذكير المستمر بقواعد لم تعد تعني شيئًا للجميع. حيت يقول بيأس: "لا أحد يحترم القوانين بعد الآن". هذا الانهيار لم يكن عشوائيًا، فقد تسلسلت أسبابه بوضوح من إهمال المهام الجماعية كإشعال النار وبناء الملاجئ، إلى الانشغال بالصيد والترفيه، ثم الانقسام الصريح بين جماعة رالف الذي يمثل النظام الاجتماعي وجماعة جاك الذي يمثل الوحشية البداية.

في النهاية، لم يعد هناك أي التزام أخلاقي أو اجتماعي، وصار القتل ممكنًا دون ندم. حين تحطمت الصدفة في المشهد الذي قتل فيه بيغي، كانت تلك اللحظة رمزية للغاية: الشرعية ماتت تمامًا، ولم يبق سوى العنف.

يبرهن هذا الانهيار أن النظام الاجتماعي، مهما بدا متماسكًا، قد يكون هشًا جدًا حين لا يستند إلى وعي جماعي ومسؤولية مشتركة، وأن غيابه يفتح الباب لغريزة البقاء العارية التي لا تعترف إلا بالقوة.

2- الخوف الجماعي وصناعة الأسطورة:

في أمير الذباب لا يظهر الشر فجأة، بل يبدأ بهمسات الصغار الخائفين من الوحش المختبئ في الغابة، تنتشر تلك الهمسات لتتحول إلى خوف جماعي، سرعان ما يدركه جاك ويستخدمه لفرض سيطرته على باقي أفراد الجماعة، كونه وحده من يستطيع حمايتهم منه. ففي مقابل رالف الذي تمسك بالعقل والمنطق، اختار جاك أن يضخم الأسطورة ويجعلها حقيقة لا تقبل النقاش. كلما تكرر ذكر الوحش، تعمق الخوف، وكلما زاد الخوف، ازداد اعتماد الأولاد على جاك. هنا ظهر بوضوح كيف يمكن للزعيم أن يصنع عدواً وهمياً ليبرر العنف والطاعة العمياء. "لا أحد يستطيع حمايتكم منه إلا أنا".

تحولت هذه اللعبة النفسية إلى طقوس دموية، حيث صار الصيد، والرقص حول النار، والتلويح بالرماح وسائل لتفريغ الرعب الجماعي وتبرير القسوة. وهكذا، نجح جاك في توجيه خوفهم إلى توحش منظم يخدم غايته في الهيمنة. وحين قتلوا سيمون ظنًا أنه الوحش، لم يعد هناك أي فارق بين الخوف والشر؛ فقد صارا وجهين لعملة واحدة صكها جاك بمهارة. ومع تحطم النظام، تلاشت القدرة على التمييز بين الخطر الحقيقي والوهم، وانفجر العنف بلا ضوابط. هكذا يبرهن وليم غولدنغ أن الشر ليس دائمًا قوة غامضة تولد وحدها، بل هو أحيانًا نتيجة زعيم يستغل خوف الجماعة ليزرع التوحش ويصنع سلطة تقوم على العنف.

3- نزعة السيطرة والتلذذ بالقوة:

منذ بداية الرواية، يظهر جاك كشخصية تتوق للسلطة والهيمنة. لم يكن هدفه البقاء على قيد الحياة مثل الآخرين، بل أراد إثبات تفوقه وتأكيد مكانته قائداً مطاعاً. هذه النزعة للسيطرة بدأت أولاً في صدامه مع رالف حول قيادة الجماعة، ثم أخذت شكلاً أكثر خطورة حين صار العنف وسيلته المفضلة لإظهار القوة.

في البداية، بدا الصيد ضرورةً للبقاء، لكن بالتدريج تحول إلى طقس وحشي يمنحه متعة السيطرة على الحياة والموت. اللحظة التي قتل فيها الخنزير لأول مرة لم تكن مجرد انتصار للصياد، بل كانت لحظة اكتشاف لذة القوة الخام: شهوة التسلط على الكائن الأضعف.

مع تصاعد الأحداث، صار جاك يبني سلطته على إذلال الآخرين وترويعهم. ومع كل مشهد جديد، نلاحظ كيف يغذي التوحش ذاته. العنف يمنحه احترام الجماعة وخضوعهم، والخضوع يغديه بالمزيد من الغرور والقسوة. حيت جاء على لسانه: "لا حاجة للصدفة بعد اليوم. أنا الذي يتكلم". وحين تحطمت الصدفة —رمز القانون والنظام— شعر جاك بنشوة مطلقة. لم يعد هناك من يقيده؛ لم تعد القوانين تعني شيئًا، ولا الرأفة ضرورة. وحتى الصبية الذين ترددوا في البداية صاروا يشاركونه العنف كأنه احتفال جماعي بالقوة.

ذروة هذا التلذذ جاءت حين قاد مطاردة رالف، ليس بدافع الدفاع أو الخوف، بل بدافع الرغبة في محو خصمه وإثبات تفوقه الكامل. "سنجعله يركع… ثم نفعل به ما نشاء".

هكذا تكشف الرواية أن نزعة السيطرة، حين تنفلت من كل وازع أخلاقي، تتحول بسرعة إلى لذة مرعبة في إذلال الآخر وتدميره. وهي نزعة كامنة في النفس البشرية، تنتظر الفرصة المناسبة لتتفجر إذا غاب القانون وخنق الخوف صوت الضمير.

في الختام يمكننا أن نقول إن الرواية تثبت أن الشر ليس أسطورة خيالية تسكن الغابات أو الكوابيس، بل هو طاقة كامنة في النفس البشرية، تنفجر حين يغيب الضابط الأخلاقي ويستبد الخوف بالعقول. في هذه الجزيرة الصغيرة، نشأت منظومة كاملة من العنف: زعيم يتلذذ بالقوة، جماعة تبحث عن الأمان بأي ثمن، وأساطير خرافية تبرر القسوة.

عبر شخصية جاك، يكشف غولدنغ كيف يتحول الخوف إلى أداة سلطة، وكيف تصبح السيطرة متعة في حد ذاتها، لا مجرد وسيلة للبقاء. ومع انكسار النظام وانهيار الرموز التي كانت تحفظ التوازن —الصدفة، الاجتماعات، فكرة الديمقراطية— يتلاشى الخط الفاصل بين البراءة والتوحش.

إنها حكاية تختصر كثيرًا من وجوه التاريخ الإنساني: حين يُسمح للخوف والبحث عن القوة المطلقة أن يقودا الجماعة، تكون النتيجة دائمًا كارثة. وهكذا يطرح الأدب سؤالًا أبديًا لا يفقد راهنيته:

من يحمي الإنسان من شره حين يسقط عنه قناع الحضارة؟

***

فاطمة أيت الحاج

 

عبير عزاوي. كاتبة عربيّة من سورية. مواليد ديرالزور 1972. إجازة في اللغة العربيّة وآدابها. دبلوم تأهيل تربوي في اللغة الانكليزيّة. عملت في مجال التعليم المرحلة الثانوية في مدارس دمشق. عملت مدربة في عدّة ورشات إبداعيّة للفنون السرديّة. حاصلة على عدّة جوائز في فن القصة القصيرة. رئيسة صالون الراية للإبداع، وفريق كن كاتباً، الإبداعي. البدايات كانت من الطفولة والشباب. ثم توقفت لفترة من 2007، لغاية 2020 ثم عودة إلى الوسط الأدبي. قبل التوقف تم الحصول على عدة جوائز منها:

1- جائزة سعد صائب.

2- جائزة اتحاد الكتاب العرب في سورية لعدّة مرات.

3-جائزة منابر ثقافيذة لأفضل قصة في الوطن العربي عن قصة (خبز أمي).

4- وجائزة أفضل قصة قصيرة في الوطن العربي في زمرة الأدب الملكيّة عن قصة راقصة الباليه.

5- جائزة أفضل قصة قصيرة في رابطة بني هلال عن قصة – انتظار.

6- المركز الأول في مجموعة لغتي الخالدة عن قصة – بنت العفريتة.

7- ولديها العديد من المخطوطات القصصية.

8- نشرت قصصها في مجلات عربيّة وسوريّة مثل: الموقف الأدبي والبيان والمعرفة الكويتيّة والوحدة المغربيّة.

قصة الرقص: من المجموعة القصصيّة (الرقص).

البنية الدلاليّة للقصة:

(قد يرقص الطير مذبوحاً من الألم)...نعم هو الرقص الذي لا يعرف طعماً للفرح أو السعادة ... هو الرقص الذي لا يجيده إلا الفقراء أو الذين تركتهم الحياة على هوامشها يبحثون عن ذاتهم دون جدوى.. هو الرقص الذي يجيده من عانوا حالة الفقد في زمن الجوع والقهر والحرمان والظلم والاستبداد وشهوة الدم... هو الرقص الذي تُعزف له طبول الحروب الأهليّة وأنظمة الاستبداد بكل مرجعياتها التقليديّة من طائفيّة وعرقيّة أو أيديولوجيّة، هو الرقص الذي تشتغل عليه الغيبيات والأساطير وتكفير المختلف أو تخوينه. هو الرقص الذي يشتغل عليه أصحاب الأيديولوجيات المغلقة الذين يعتقدون بأنهم وحدهم من يعرف الحقيقة المطلقة دينيّة كانت أو وضعيّة... هذه هي دلالات الرقص في مجموعة (الرقص) للقاصة "عبير عزازي"، ومنها القصة موضوع دراستنا وهي القصة الأولى من هذه المجموعة وعنوانها (الرقص).

البنية السرديّة أو الحكائيّة للقصة:

(أطفأت الحمى طفلتها الصغرى، بعد أن ودعت أبناءها واحدا تلو الآخر، بين قتيل وأسير ومفقود.)

بهذه العبارة المشبعة بطعم الفقد المر، ابتدأت القاصة " عبير" قصتها (الرقص).

فبعد موت آخر ما تبقى لها من زينة الحياة الدنيا (أولادها)، (نثرت على الطرقات خبز الميتين وأهرقت ماء الشجن، وغابت في لجة مرض أقعدها شهوراً). وفي ليلة مقمرة طحنت الحمى جسدها، نهضت من فراش المرض دون وعيها، بعزم غريب جعل أطرافها تتلوى وجسدها يراقص الهواء، ورجلاها تنقران الأرض بخطوات رشيقة.... إن جنون الدم الفائر في عروقها ازداد... أوثقوها في غرفة نائية أقصى الدار، لكنها بقيت تهتز حتى تخلصت من الحبال وخرجت إلى زقاق البيت، ترقص وعيون الجيران تشهق دهشة غير مصدقة لما ترى، فراحت ألسنتهم تلوكها مباشرة دون أن تقدر ما تعاني من فجيعتها، وما وصلت إليه من حالة أقرب إلى الجنون إن لم يكن هو الجنون نفسه... اتخذت في البداية من الأزقة الترابية الفقيرة حيث تسكن مسرحا لرقصها...ثم قادتها قدماها الرشيقتان إلى الشوارع العريضة وسط المدينة... كانوا يسخرون، ويتهكمون منها، وبعضهم راح يقذفها ببقايا طعام أو مناديل قذرة، لكن المرأة بقيت ناصعة الجبين؛ ساهمة النظرة، شاردة اللب، وترقص بلا توقف.

في قمر اليوم الثالث رقصت في وسط الساحة الكبرى للمدينة وحدث أن انضمت لها فتاة طويلة الشعر واسعة العينين ذابلة النظرات أهزلها الحزن وفقد المحبوب... شقت الجمع وخرجت ترقص غير آبهة بأصواتهم الناهرة، ولا بأياديهم الممتدة لمنعها... وفي قمر الليل الرابع ركضت من بين الجمع امرأة ذابلة الخدين، مضمرة البطن وخلفها صغيرات ممزقات الثياب، انضممن جميعا للمرأتين، وأخذن يرقصن بحرارة جعلت الجمع المبهوت يصفق بيديّه ويزفر بحنق.

(مع كل ليل قمر جديد، تنسل امرأة أو اثنتان وتزيد قافلة الراقصات. أما أول رجل انضم لحمى الرقص فكان صيادا أفقده البحر ولديه في درب التهجير. تبعه شابان لهما عيون بلون الشفق، أما آخر المنضمين فكان الناجي الوحيد من الزلزال الكبير).

هكذا راحت جموع الراقصين تتكاثر في كل يوم وهم يجوبون الشوارع الهاجعة.. وفي قمر الليلة السابعة ... سقطت امرأة ميتة وسط الساحة، وعندما اقترب منها الناس عرفوها، كانت المرأة التي بدأت حمى الرقص... ورغم كثرة الراقصين الذين يسقطون صرعى، ظل الحشد يكبر... وشاعت أخبار عن البلاد السعيدة التي يرقص فيها الناس حتى الموت.

نعم هذه هي مأساة سورية التي أحاطت بها الفاجعة من كل مكان.. فتوزع أهلها بين مهجرين في الداخل بعد أن دمرت منازلهم، وبين مهجرين في الخارج بحثاً عن الأمن والاستقرار.. وبن مصاب في عينه أو قطع في ساقه أو ساعده.. .. وبين سجين كلمة أو رأي أو موقف سياسي ضد النظام الحاكم المستبد. كل ذلك في حرب لم ترحم أحدا. قتل فيها الكثير وأخذ المقتول اسم الشهادة إن كان ظالماً أو مظلوما.

عوالم القصة:

من خلال قراءتنا قصة الرقص للأديبة " عبير عزاوي" نجد عوالم القاصة التي تجلت في عملها هذا، ليست بسيطة أو ساذجة، وإنما هي عوالم متشابكة تموج بأفكار مختلفة تحمل ثقافة الكاتبة وفلسفتا في الموت والحياة والسياسة والجنون. وهذا ما يشير في الحقيقة إلى أن القاصة عاشت أو عايشت ظروف القهر والفقد والحرمان والمرض والفقر الذي أحل بمحيطها الاجتماعي.. إن الظروف القاهرة جعلت شخصيات القاصة تحس بالفقد والضياع والغربة وهذا ما أوصلها إلى الجنون بسبب تناقضات المجتمع وصراعاته وفقدان الأمان والاستقرار.

البنية الجماليّة والفنيّة للقصة:

ما يميز القصة القصيرة في الأدب القصصي، هو اختصارها للحدث، أو اعتبارها لحظة مشحونة، لها إيحاءاتها العميقة، واكتفاؤها بعدد قليل من الشخصيات، مثلما لها مكان واحد أو مكانين، ولها زمان محدود، ولغة خاصة مركزة. هدفها في العموم إيصال فكرة معينة، أو إثارة إحساس معين لدى القارئ في وقت قصير.

العتبة السيميائيّة في عنوان القصة:

لم يأت عنوان القصة (الرقص) عبثاً، بل جاء مدروساً وبعناية فائقة. فالرقص هنا ليس هو ذاك الرقص الذي يهتز له البدن طرباً، وتحركه عواطف الإنسان وعقله وحواسه، وأجواء الفرح التي تحيط به. بل هو ذاك الراقص الذي فقد فيه الإنسان كل مشاعره وأحاسيسه الإنسانيّة، بعد أن تعرض هذا الإنسان إلى حالات من القهر والعذاب والظلم والفقر والجوع والتشرد والفقد. هنا تحت ضغط المأساة يفقد الإنسان توازنه العقلي والعاطفي والشعوري والحسي، فتأخذه مأساته إلى حالات من الجنون أو الهستيريا، لقد جاء العنوان ليشي بنوع آخر من الرقص إذن، تتغير فيه طبيعة الحركات الجسيمة التي بدأت تنال جسد وعقل الإنسان عموما وحولت حياة الراقص بكل تفاصيلها إلى جحيم. وهذا ما ينطبق عليه القول الشائع: (يرقص الطير وهو مذبوح من شدّة الألم).

لقد تبدت لنا البساطة في التشكيل الفني للقصة، حيث اعتمدت القاصة على عرض قصتها من خلال السرد القائم على الوصف، بعيداً عن أي حوار أو حتى منولوج داخلي، لقد جاء البناء السري في أسلوب بسيط وألفاظ غنيّة .. وهذا الشكل سهل وممتع لا يقدر عليه إلا الكاتب القدير والمتمرس في الكتابة، ويمتلك قدرات فنيّة تقوم على تجربة فنيّة واسعة في عطاءتها، ووضوح في الرؤية وعمقها، بحيث لم تترك القاصة في قصتها (الرقص) موضوع دراستنا أي حاجز بينها وبين المتلقي.

نعم إن ما ميز القاصة "عبير عزاوي" هنا، هو الوصف الرائع للشخصيات، هذا الوصف الذي حمل في بنيته تحليلاً نفسيّاً واجتماعيّاً، استطاعت التعبير عنه بكل سلاسة وثقة من خلال ألفاظ سهلة وبسيطة مشبعة بانفعالات عاطفيّة نجدها في قولها: (نثرت على الطرقات خبز الميتين وأهرقت ماء الشجن)، وفي (حاولت لجم أعضائها لكنها لم تستكن). و(غير أن جنون الدم الفائر في عروقها ازداد، وتوحشت حمى الرقص في شرايينها).. وبالرغم من أن القاصة "عبير" قد اعتمدت على الوصف إلا أنها لم تسهب أو تستطرد فيه، الأمر الذي جعل العمل في القصة مذهلاً، وهذا ما جعل بناء القصة متماسكاً، والشخصيات مرسومة بدقة، بحيث سيطرت القاصة على أحداث القصة سيطرة تامة.

لقد صاغت القاصة البنية السرديّة للقصة بضمير المتكلم، أو الراوي من الخلف، وهذا ما مكنها من استبطان شخصياتها وتحليلها، والقدرة في الدخول إلى عوالمها الداخليّة والجوانب الخاصة بها. كما في قولها: (حاولت لجم أعضائها لكنها لم تستكن). وفي (غير أن جنون الدم الفائر في عروقها ازداد، وتوحشت حمى الرقص في شرايينها.). و(طحنت الحمى جسدها.. أنهضتها من فراش المرض.. دفعتها بعزم غريب جعل أطرافها تتلوى وجسدها يراقص الهواء).

لم تحوز شخصيات القصة على أي اسم، وهذا ما حولها إلى رموز لها دلالات ارحب وأعمق، قدمتها القاصة للمتلقي كحالات إنسانيّة تتكرر في المجتمع، وخاصة في زمن القهر والعذاب والاستبداد والصراعات الاجتماعية، طائفية كانت أو عرقيّة أو سياسيّة.

لقد أنهت القاصة قصتها نهاية منسجمة مع النسيج العام للقصة، بحيث لم تبدو النهاية مقحمة أو غريبة.. فنهاية الجنون إذا استفحل قد يؤدي إلى الموت والانتشار بأشكال مختلفة وبأجناس وأعمار مختلفة، كما جاء في نهاية القصة.

الصورة في قصة (الرقص):

يأتي الاهتمام النقدي بدراسة بناء الصورة في الأدب بشكل عام، وفي القص الأدبي بشكل خاص، من منطلق أن الصورة أساس الخلق الفني، كونها تحمل المواقف الاجتماعيّة والفنيّة والجماليّة وخلجات الروح الداخليّة للقاص في النص الأدبي. كما وتسهم في فهم تجربة الأديب الإبداعيّة ذاته من خلال قدرة الصورة على بناء الأشكال المجازيّة التي تنقل رؤية الأديب للمتلقي. وتعمل على تحويل الواقع الحسي إلى عوالم إبداعيّة خلاقة.

لنتابع بعض هذه الصور الإبداعيّة التي جادت بها قريحة وخبرة وعمق تجربة القاصة "عبير عزاوي". وهي هنا تتكئ على صور جمعت بين الحسيّة والتخيليّة، لتترك المتلقي في حالة اندهاش من قدرتها على الغوص في أعماق شخوصها. حيث تقول:

(أطفأت الحمى طفلتها الصغرى). و(نثرت على الطرقات خبز الميتين وأهرقت ماء الشجن.). و(غابت في لجة مرض أقعدها شهورا). و(حاولت لجم أعضائها لكنها لم تستكن). أو في قولها: (وعيون الجيران تشهق دهشة). الخ

لقد استطاعت القاصة أن تجعل من صورها التخيليّة داخل قصة (الرقص)أكثر حسيّة وجماليّة، حيث تميزت القصة بحشد التفاصيل الأساسيّة للحدث، ونقل هذه التفاصيل عبر وعي حاذق للقاصة، التي استمدت هذه الصور عبر الحواس أولاً، وعبر التخيل والمجاز ثانياً، مما ساهم في رسم صور بصريّة حققت قدرتها التأثيريّة على المتلقي.

العناية باللغة:

لقد اعتنت القاصة عناية بالغة باللغة التي صيغت بطريقة أقرب إلى الشاعريّة. حيث تجد فيها الكثير من المحسنات البديعيّة، كالترادف، والمقابلة، والتورية، وكثرة الانزياحات اللغويّة، والصور البيانيّة كالتشبيه والاستعارة والكنايّة، كما ظهر لنا كل ذاك التعدد في نوعيّة الجمل التي كانت تنوس بين الخبر والانشاء، هذا إضافة إلى ورود الجمل ذات المعنى الحقيقي والمعنى المجازي، الأمر الذي يجعل المتلقي يشعر بأن مسألة التعامل مع البلاغة عند "عبير عزازي" تأتي بشكل مدروس كحرفة تمتهنها بشكل متعمد، وهذا ما حول الصفة الأدبيّة في القصة من السهل الممتنع، ومن حالة جمالية وفنية، إلى تصنيع متكلف أرهق دلالات المعنى إلى حد ما.. وهذا لا يعيب أسلوب القاصة على أية حال.

لقد جاءت اللغة في عمومها عند القاصة سليمة وفصيحة، استخدمت من قبل القاصة بقدرات تعبيريّة باهرة، وهذا يدل في الحقيقة على الثراء والغنى الفكري من حيث قدرة التعبير وقوة التصوير في آن واحد عند القاصة، كما يدل ذلك على أن القاصة حازت على لغة فنيّة خاصة بها. وهذه القدرة لا تأتي إلا من خلال وعي القاصة أيضاً بقضايا المجتمع بأفراحها وأحزانها، إضافة لعمق تجربتها.

المكان والزمان في القصة:

يعتبر كل من المكان والزمان من العوامل المؤثرة في العمل السردي عموماً، حيث يمكن أن يكونا خلفيّةً للأحداث، أو يكونا عنصرًا مهمًا في تطور القصة وسياقها. ويمكن للمكان أن يكون حقيقيًّا أو خياليًّا، ويمكن للزمان أن يكون ماضيًا أو حاضرًا أو مستقبلًا، وقد يكون المكان معبراً في دلالاته عن طبيعة المأساة الواردة في القصة، فالفقراء وأحياؤهم المتعبة في خدماتها دائما ما تكون الحاضن الرئيس لمآسي الفقراء، حيث تقول: (في بادئ الأمر طافت في الأزقة الترابيّة للأحياء الفقيرة، تتبعها عيون الناس ووشوشاتهم..). بيد أن حالة تصاعد شدّة الجنون وكثرة من أصابهم من أهل المدينة كلها، دفعها ومن جن معها للرقص: (قدماها الرشيقتان لم تتوقفا، بل قادتاها إلى الشوارع العريضة وسط المدينة... وفي قمر اليوم الثالث رقصت في وسط الساحة الكبرى).

أما الزمان فقد ارتبط في المكان وشكل الوجه الآخر للمأساة، إنه زمان تسلط دول الاستبداد وأيديولوجياته ونشر الجوع والقهر والتشرد والدم والجنون، فمع اليوم السابع كانت (قافلة الراقصين تجوب الشوارع الهاجعة كل يوم ثم تقضي الليل في ساحة المدينة، وكل يوم تزيد وفدا جديدا).

الرمز والايحاء في القصة:

لقد اعتمدت القاصة أسلوباً ممتعاً في تصوير الحدث، متكئة كثيراً على استخدام الرمز في تفرعاته الخصبة من إيحاء وإشارة وتلميح، حيث تقول: (أطفأت الحمى طفلتها الصغرى). أي قتلتها. أو في قولها: (وتوحشت حمى الرقص في شرايينها). أي فقدت القدرة على التوازن وبدأت ترقص دون وعي.

لقد اعتمدت القاصة "عبير" على تقطيع الحدث، وكسر الإيقاع وتداخله، بحيث تبدو القصة وكأنها مجموعة من الفقرات الموجزة، غير المسترسلة، ولكنها الموحدة في بنيتها الدلاليّة، قدمتها القاصة لتكشف عن ايحاءات فكريّة وفنية قويّة.

ملاك القول:

إن الكاتب أو الأديب الحقيقي هو الذي يلتزم بالواقع المحيط به، وينحاز لجذوره الاجتماعيّة والطبقيّة وتناقضاتها والعمل على تصويرها وطرح الحلول لها إن أمكن.

أو بتعبير آخر: إن الأديب الحق هو الذي يلتزم بواقعه بالقدر الذي يلتزم فيه بقيمه ومبادئه التي يبشر بها في كتاباته. (فالعناية بالطابع المحلي هي الطريق إلى العالميّة.) فلا سبيل لعالميّة الفن إلا إذا اهتم الأديب وعبر أولاً عن البيئة المحليّة التي عاش فيها. إن هموم الإنسان ومعاناته اليوم قد تختلف في الشكل، إلا انها تتلاقى من حيث الجوهر. والتجارب الأدبية بشكل عام تهدف إلى تحرير الإنسان من غربته وقهره واستلابه وجوعه ومقاومة من يعمل على امتصاص قوته وجهده وسلبه حريته وعقله.

من هذا المنطلق جاءت واقعيّة قصة (الرقص)، لقد سعت القاصة جاهدة إلى تصوير الحياة اليوميّة والأحداث الواقعيّة التي هزت سورية وشعبها خلال خمسة عشر عاماً. حيث ركزت هذه القصة على تصوير الشخصيات والمشاكل والتحديات التي واجهت قسماً كبيراً من المجتمع السوري في معاناته، فالجنون لدى معظم الشعب السوري أصبح ظاهرة تفقع العين... بيوت بمئات الآلاف تهدمت .. مليون قتيل أو شهيد لا فرق، عشرات الآلاف من المعاقين، وملايين من المشردين وعشرات الآلاف من الأرامل واليتامى والمفقودين.. لذلك راح الكل يرقص بهذا الشكل من الجنون أو ذاك، في الوقت الذي تمتلئ فيه المراقص الليليّة من الفاسدين وتجار الدم والوطن، وهم يرقصون فرحا دون مبالاة بمن يرقص من الجوع والقهر والألم والفقد.

***

د. عدنان عويّد:

كاتب وباحث من سوريا.

"بثوبِ صلاتها المطرّز بالدعاء".

صباحُ الحياةِ يا أمي": الحضورُ الغائب والرمزُ الأمومي في مرثية خلدون.

تعالج هذه الدراسة نصاً نثرياً شِعريّ اللغة كتبه الشاعر والناثر خلدون عماد رحمة في رثاء والدته الراحلة انتصار، مقارِبة إياه من زوايا نقدية نفسية وتأويلية ورمزية. يُقرأ النص بوصفه انبثاقاً وجدانياً عميقاً تتجلى فيه صورة الأم لا بصفتها فرداً غائباً، بل حضوراً متعالياً يتجاوز حدود الزمن والواقع. تقترح هذه الورقة أن الأم في النص ليست فقط أمّاً بيولوجية، بل كائناً رمزياً مركّباً يعبّر عن الأصل، والكينونة، والحقيقة المفقودة، والهوية الجذرية. من خلال تحليل الصور الشعرية، والبنية النفسية الرمزية، تسعى الدراسة إلى إظهار كيف يتحوّل الفقد إلى طقس استحضار، وكيف يتحوّل الألم إلى طاقة رمزية كاشفة عن أعماق اللاوعي الفردي والجمعي معاً.

النص الأدبي موضع الدراسة:

بثوبِ صلاتها المطرّز بالدعاء، بضحكتها الدافئة كامتلاءِ الفمِ بالحليب، بمراياها العميقةِ حيثُ أراني بكلِّ أبعادي، بأصابعها إذْ يكون المرمرُ طرياً، بعينيها الخالدتين اللتين تفضيان إلى برزخٍ يفصلني عن العالم، بحكمة صبرها ورهافة حسّها وبراعة حدسها، بلحمها ودمها، بكلِّ ما فيها… دخلتْ غرفتي.

هل أنا حيّ لأصدّق ما أرى؟ دخلتْ عليّ بفرحٍ هادئٍ فتصدّعَ جبلُ حزني، أضاءت غاباتِ عزلتي بنورٍ يشعشع من أقمارِ محيّاها، غطّت المكانَ بحريرِ حنانها، صبّت روحَها في صدري فاندهش الطفلُ الغامض في روحي، خطفتني برائحةِ عطرها السريّ الطالع من مشيتها الملائكيّة.

التبسَ عليّ صحوي، شككتُ بجسدي أتحسّسُه، غرقتُ حواسي ببحر الجنون.

جلستْ أمامي على الكنبى وقالت بصوت الحبّ:

– صباح الخير يا أمّي

صرختُ من جوفي:

– صباحُ الحياةِ يا أمّي

همست:

– أشتهي فنجانَ قهوةٍ من يدكَ

ارتبكتُ جداً حتى احترقت شجرةُ الكلام في حنجرتي، فأوحيتُ لها بلغةِ العينِ الدامعة:

– سأغلي القهوةَ على نارِ قلبي.

وضعتُ الركوة وعدتُ مُسرعاً نحوها… لم أجدها… لم أجدْ إلا ثوبَ صلاتها مُعلّقاً على كتفِ غربتي.

أولاً – القراءة النفسية: الأم كصورة أولى وكمعادل للذات:

يمثّل حضور الأم في النص حالة اندماج سيكولوجي، يُعيد القارئ إلى مفهوم "الأم الكبرى" في علم النفس التحليلي اليونغي،ـ نسبةً إلى كارل غوستاف يونغ ـ والتي تمثل الرحم الأول، والأمان الكلّي، والمصدر الذي لا ينضب للمعنى والاحتواء. هذه الأم ليست فقط واقعية، بل هي المتجلية عبر كل تفصيل شعري وحسي: ثوب الصلاة، الضحكة، المرايا، الأصابع، العينان. إنها تجسيدٌ للحنوّ الكلي.

لكن حضورها أيضاً مشبعٌ بالانفصال، لأن كل عنصر يشي بنهاية أو فقدان، بما في ذلك اللحظة الأخيرة التي لا يُبقي منها سوى "ثوب الصلاة". هذا ما يشير إلى أن الذكرى في النص لا تُستدعى فقط، بل تُعاد كتابتها كواقع بديل عن الحاضر، عبر إعادة تمثيل "زيارة طيفية" للأم.

ثانياً – القراءة الرمزية: الأم كبرولوجيا الحضور والمطلق:

تمثّل الأم في هذا النص معادلاً رمزياً لفكرة "الحق" أو "الوجود الأصلاني". فالموت لم يُلغِ كينونتها، بل منحها حضوراً مطلقاً في عالم الشاعر. تقول الرؤية الرمزية إنّ الحضور لا يتحقّق بوجود الجسد، بل بسطوة المعنى. ولهذا تتكرر في النص صور النور (يشعشع، أقمار، غابات العزلة)، وهي استعارات ترمز إلى الخروج من العتمة إلى الانكشاف.

الأم هنا ليست شخصية فحسب، بل هي مفهوم كليّ للحنان الإلهي والسكينة الوجودية. وهي التي تخرج الشاعر من غربته – "صبّت روحها في صدري" – وهذا ليس فعلاً شعرياً فحسب، بل فعل تخلّق رمزي: "خلق جديد" للذات من خلال استحضار الأم كفكرة مطلقة.

ثالثاً – التأويل الوجودي: الحضور كأفق للحب، والفقد كمعنى للحضور:

عندما تقول الأم: "أشتهي فنجان قهوة من يدك"، تتحوّل هذه الجملة إلى استعارة عميقة لممارسة الحبّ الهادئ والمشاركة الإنسانية الكاملة. إنها لحظة اندماج تتجاوز الزمن، لكنّها أيضاً لحظة انكسار، لأن الواقع لا يفي بالوعد. يفور القلب لا الركوة، ولا تصل القهوة إلى فمها، لأن الغياب أسبق من الغلي.

وفي اللحظة الأخيرة، حين لا تبقى سوى "ثوب الصلاة"، تتكثّف دلالة المفارقة بين ما هو حاضر (الثوب، الذكرى، الحب) وما هو غائب (الذات الأم). وهكذا يصبح النص مرثية وجودية، حيث الذكرى ليست للموتى بل للأحياء الذين يُقتلعون من أمومتهم فجأة.

خاتمة:

إنَّ نص خلدون عماد رحمة لا يُكتب في باب الرثاء فقط، بل في باب الميتافيزيقا الشعرية للغائب، وهو نص يوسّع مفهوم "الحضور" ليتجاوز الجسد إلى الأثر، و"الحنان" ليتحوّل إلى رؤية كونية. وفي هذا المسار، تتحول الأم من شخص إلى بنية دالة، من جسد إلى لغة، ومن ألم إلى نور. لذا فإن "صباح الخير يا أمي"، ليست تحية يومية، بل إعلان ولادة متجددة من رحمٍ يتجاوز الموت.

***

بقلم: عماد خالد رحمة – برلين .

للشاعرة الفلسطينية عفاف عمورة

تُعد قصيدة "تراتيل امرأة... ووطن" نصاً شعرياً مركباً، تتقاطع فيه الذات مع الوطن، الأنثى مع القصيدة، الحلم مع المنفى، في نسيج لغوي تتجاوز فيه الشاعرة الأطر التقليدية لتبني رؤية كونية وجودية. هذا النص يستدعي قراءة نقدية متعددة المناهج تكشف خفاياه الجمالية والدلالية.

ففي مجال المقاربة البنيوية نجد أنّ القصيدة تتوزّع على ستة مقاطع (تراتيل)، تحمل بنية دورانية مغلقة، حيث يتكرّر حضور مفاتيح دلالية مركزية: (الشعر – الوطن – القصيدة – الأنا)، مما يشكل عُقداً شبكية من العلاقات البنيوية. بخاصة وأن البنية الإيقاعية الداخلية وعلى الرغم من غياب الوزن التقليدي، قائمة على التكرار الصوتي والتركيبي،

مثل: "أنا فيك..."، "يا وطني..."، "يا شعر..."، مما يولّد موسيقى نصيّة هادئة تتناسب مع طبيعة التراتيل.

يتقاطع الزمان (الحاضر/الماضي/المطلق) مع المكان (الوطن/الغربة/المنفى) ليشكلا محورين متقابلين داخل النص، يجعلانه مفتوحاً على احتمالات عدة، بينما تحافظ الذات الشاعرة على موقعها كمركز دلالي.

أما في سياق المقاربة التفكيكية ووفق المنهج التفكيكي، نلمس في النص انزياحاً عن المعاني الثابتة: الوطن ليس محدداً جغرافياً، بل حالة وجودية متعالية تقول الشاعرة عفاف عمورة: "وسيبقى في دمي وطن غريب..."

القصيدة تتحوّل إلى كائن حي، يحيا في الذات: "أنا القصيدة..."

الشعر يصبح الخلاص والانعتاق: "الشعر يختار انتصاري في الدجى..."

النص لا يمنح معناه دفعة واحدة، بل يتشظى إلى دلالات متداخلة: الأنوثة، القصيدة، الوطن، الذاكرة، كلها ذوات تتحاور وتتداخل حتى تتقوض الفواصل بينها، لتصبح الذات والآخر، الداخل والخارج، الحلم والواقع، أوجهاً لحقيقةٍ واحدة غير قابلة للحسم.

حتى صياغة المفارقات (كالنقاء/الحلم الضائع، النصر/الذي لم يكتمل) تعزز هذا التعدد الدلالي.

وهذا ما يدفعنا للبحث في المقاربة الأسلوبية لقصيدة ( تراتيل امرأة... ووطن من شعر): القصيدة غنية بالصور البلاغية: الاستعارة: "زمرة دمي عصر الفرادة" – "المحار في محاري سره" – "أنا زهرة لم تُستباح..."

الكناية: "صوتي يتغرغر في القصيدة..."

الرمزية العميقة: البحر، النخيل، الغيم، الحقل، كلها محطات لرحلة الذات.

الإيقاع الداخلي يظهر عبر التنويع التركيبي وتكرار البنى:

"أنا فيك..."، "يا شعر..."، "وطني أنا..."

كما تُشكل الألفاظ الحسية (الضوء، الموج، الحقول، المطر) توليفة جمالية تنقل القارئ من الواقع إلى أفق شعري تأملي.

تتسم اللغة بطابع روحاني صوفي يمزج بين البُعد الشخصي (كأنثى) والقومي (كوطن) في نبرة عالية الشفافية، دون خطابية زائدة.

خاتمة:

قصيدة "تراتيل امرأة... ووطن" نص مفتوح، يعكس أزمة وجودية عميقة للذات الأنثوية الفلسطينية، عبر استدعاء الشعر كخلاص، والوطن كحلم، والقصيدة كملاذ.

البنية المحكمة، الغموض الدلالي، الزخم الأسلوبي، كلها تجعل النص قابلاً لقراءات متجددة، يستعصي على التأويل النهائي، ليبقى شاهداً على تجربة شعرية تنتمي إلى الشعر الحديث بمقوماته الكبرى: الاغتراب، الحنين، المقاومة، الأمل، الحلم.

***

بقلم: عماد خالد رحمة - برلين

.........................

تراتيل امرأة... ووطن من شعر

(1)

سيجعلني الشعرُ الأبيُّ كما أرى

وطناً... يفوقُ حدودَ هذا المُنحدَرْ

*

وطناً له سِرُّ الطفولةِ، ضحكةٌ

نَسجتْ عروقَ الضوءِ... من ماءِ الفَجَرْ

*

أخفيتهُ بين الدفاترِ خاشعاً

كي لا يراهُ العابرون بلا بَصَرْ

*

كي لا يكونَ الشرُّ... أُكسيرَ الهَوى،

أو يصبحَ المعنى طعاماً للمَضَرْ

*

الشعرُ يختارُ انتصاري... في الدُّجى،

ويرتقي بي... فوق أحقادِ البَشَرْ

*

كالعائدين من الحروبِ... تكسَّروا

لكنْ على جبهاتِهم ظلُّ الظَّفَرْ

*

فأنا من النُّسلِ الغريبِ... ندرتي

تتماهتِ الأقدارُ فيها والقدرْ

*

زمْرتُ دمي عصرُ الفُرادةِ... حفنةٌ

من ألفِ قطرةِ روحِ أنثى لم تُثرْ

*

فأنا النقاءُ... وسرُّ حلمٍ ضائعٍ،

أنا القصيدةُ... لا يُقاسُ بي العُمرْ

(2)

يا شعرُ... يا وطنَ المعاني البكرِ... يا

رُوحَ القصيدةِ... يا انعتاقَ المنتَظرْ

*

أصغي لصوتِ البحرِ... ينطقُ في دمي،

فترتجفُ الأطيارُ... ينهضُ في السَّحَرْ

*

كُلُّ الموانيءِ... كلُّ شطآنِ النوى،

تعبرُ بقلبي... حينَ يُشعلُهُ الوَتَرْ

*

كلُّ المرايا الخاشعاتِ بمحرَبي،

تكشفْ وجوديَ من ضياءٍ أو شرَرْ

*

وأمشي على حزني... كأنّي عابِرٌ

حقلَ القصيدةِ... كي أسيرَ بلا عَثَرْ

*

فينحسرُ الموجُ العقيمُ... وتبتدي

جداولُ المعنى... انطلاقاً وانفجَرْ

*

يا كلَّ أزمنةِ الفُتونِ... عبرتني

حتى غدوتُ من الضياءِ بلا أثرْ

(3)

أنا هاهنا... أمضي على وجعي الجميلْ،

أعصي النسيانَ، أُمارسُ خطوَ من غَفَرْ

*

صوتي يتغرغرُ في القصيدةِ... واقفاً

كجدارِ معبدٍ... على وترٍ... وخَفَرْ

*

في هذه الأرضِ البعيدةِ... إنني

أحيا وأُولدُ كلَّ ثانيةٍ... سَكَرْ

*

هذا هو الوقتُ العقيمُ... وجنتُنا،

هذا جَنَينا... في عبورِ المُنتَهَرْ

*

فلنُشعلَ الذكرى قناديلَ النَّجا،

ونقيمَ قدّاسَ المعابرِ... بالسَّحَرْ

*

وألفُ سلامٍ يا قصائدَ عشقي الـ

منفيةَ في زمنِ الخيلاءِ... والقهرْ

(4)

يا وطني المخبوءَ في سرِّ القصيدْ،

يا ظلَّ ذاكرةِ المحارةِ... يا بُعْدْ

*

أنا فيكَ... كالغيماتِ تسري في الدجى،

وتفيضُ من جُرحِ الترابِ... ومن وَجْدْ

*

أنا فيكَ... كالنخلِ المضيءِ... إذا انحنى،

عادَ إلى الشطآنِ ينثرُ ألفَ بُرْدْ

*

يا صمتَ غارٍ كانَ سرَّ الوحيِ... في

حَجَرٍ تكلَّمَ... ثم أزهرَ في الخُلدْ

*

إنّي المحارُ... وفي محاري سِرُّهُ،

والريحُ تسألُني... فأمنحُها العهدْ

*

وطني أنا... وأنا القصيدةُ حينما

أمشي عليهِ... يعانقُ النَّبضُ الجَسدْ

*

وأعودُ طفلاً... طاهراً... متخلِّياً

عن كلِّ شيءٍ... غيرَ ذاكرةِ الخُلدْ

(5)

يا غربتي... كم كنتِ حضنَ احتمالهِ،

يا ضفّةَ التعبِ الجميلِ... بلا أمدْ

*

يا وطنَ الأسماءِ... يا وطنَ النساءْ،

يا عزلةَ الأنثى... التي خُلِقَتْ نُدُدْ

*

أنا لا أضيعُ... فكلُّ خطوي قصيدةٌ

والكونُ قافيةٌ تسيرُ بلا حَدَدْ

*

هذا انعتاقي... لا شقيقَ لهُ سوى

صوتِ الصلاةِ... وموطني الأولِ... الأبَدْ

(6)

أنا فيك يا شعرُ... ما بينَ الحُنا

وطني الذي يختارني... بيتاً وسَدْ

*

لأعودَ في زمني القديمِ... مبللاً

بندى الحقيقةِ... بالمرايا... بالوَعَدْ

*

أنا فكرةُ النصرِ الذي لم يكتملْ،

أنا زهرةٌ... لم تُستباحْ... ولم تَزِدْ

*

أُولدُ من موجِ القصيدةِ... من رؤى،

وأعودُ أغزلُ من صهيلِ الريحِ... غدْ

*

وسيبقى في دمي وطنٌ غريبٌ...

لا يراهُ سوى القصائدِ... واليدْ.

 

(تجليات في روحي)

(كآخر ليلٍ

خلف آخر نجمة

تجليك في روحي التي قد تجلّت

بعيدان حدّ الضوءِ

حدّ انعكاسهِ

قريبان حدّ الظلّ

حد التفلّتِ

أتيت بلا وجهٍ

وغبتُ بلا خطاً

فطيفك دربي

وانتظارك وجهتي

ترددت حتى خلت صوتي تعثري

وخطّ يدي محوي

وخوفي هويتي

ولم أدر ما عيناي حتى استهلتا

بدمعي

ورأسي

وانتباهي

وسمرتي

رأيتك في هذا الدخان

وليس ما أراه

سوى هذا الدخان المشتتِ

وغادرني قبل انطفائي بشمعةٍ

وقبل اختناق الأغنيات بشهقةِ

وعدت مراراً للخيال

ولم أزل أعيد خيالي

مرة بعد مرة

هنالك

-والإنسان يبدو أخف من خطاياهُ-

خالطنا الخطايا فخفّتِ

وأرهقت أنفاساً تدلت بأضلعي إليكِ

كما أرهفتها وتدلّتِ

ضممتك لي

لا أنت عندي ولا أنا

ولا جسدٌ إلاّ شذاك ورعشتي

همست كأن الريح شُدّتْ من المدى

وحطت على أرضٍ

من الرملِ شدّتِ

فما ذرة مني

ولا منك ذرّةٌ

سوى عانقت من بعضنا

كلّ ذرّة

بلا لغةٍ

والوقت محض قصيدةٍ

ولا شفةٍ

لكننا نصف قبلةِ

وبالحسن

شعراً طاعناً في سكوتهِ

وبالقلبِ أعمى طاعناً في التفلّت

حملنا جروح العشقِ

كنتُ الفتى الذي يصابُ

وكنت السهمَ

والمرأة التي ...)

***

تجليات في روح الشاعر السعودي إياد الحكمي

لعله أصعب الكلام ذلك الذي يقال في النهايات، لأنه قد يعني ويحدد حقيقة السلوك، ولعله يوضح الحقائق التي يمكن أن تكون قد بقيت خافية لزمن طويل، القول في النهايات غالباً ما يجيء مختصراً هادفاً دالاً، عندما ندرس في الرياضيات نهاية تابع ما عند أطراف مجالات تعريفه يثيرني القول: إن هذه الدراسة تفيد في معرفة سلوك خطه البياني عند أطراف مجالات التعريف!!، وفي الحياة أيضاً عند نهايات المجالات من الحياة يصبح القول دالاّ على حقيقة السلوك، زمن الوداع والهجرة والرحيل، زمن الفراق والمخالصة والانفصال، قد تعبر عن نهايات مجالات في حياتنا كما أن زمن اللقاء والإقامة والبقاء، وزمن الألفة والحب والارتباط قد تعبر عن بدايات مجالات في حياتنا، فأطراف المجالات تعني البدايات والنهايات وأما في الحياة نعني بالنهايات نهاية المجال وليس بدايته، وهي المقابلات المناظرة لها بالنسبة لما يفترضه نوع التناظر، أما قول الشعر في النهايات يقتضي التوقف والتأمل، وهذا ما سأحاول أن أفعله في دراستي لقصيدة الشاعر السعودي إياد الحكمي (تجليات في روحي) التي تضمنتها مجموعته الشعرية (لا أسميك أيها اليأس وقتاً) الصادرة عن أكاديمية الشعر في أبو ظبي .

الفرع الأول:

يقول الشاعر:

(كآخر ليلٍ

خلف آخر نجمة

تجليك في روحي التي قد تجلّت

بعيدان حدّ الضوءِ

حدّ انعكاسهِ

قريبان حدّ الظلّ

حد التفلّتِ

أتيت بلا وجهٍ

وغبتُ بلا خطاً

فطيفك دربي

وانتظارك وجهتي

ترددت حتى خلت صوتي تعثري

وخطّ يدي محوي

وخوفي هويتي

ولم أدر ما عيناي حتى استهلتا

بدمعي

ورأسي

وانتباهي

وسمرتي

رأيتك في هذا الدخان

وليس ما أراه

سوى هذا الدخان المشتتِ

وغادرني قبل انطفائي بشمعةٍ

وقبل اختناق الأغنيات بشهقةِ

وعدت مراراً للخيال

ولم أزل أعيد خيالي

مرة بعد مرة)

يبين الشاعر في هذا الفرع صورة التجلي للحب وعقدته (كآخر ليلٍ) وشعابه الرئيسة هي: (كآخر ليلٍ / خلف آخر نجمة) و(تجليك في روحي التي قد تجلّت) و(أتيت بلا وجهٍ / وغبتُ بلا خطاً) و(ترددت حتى خلت صوتي تعثري / وخطّ يدي محوي / وخوفي هويتي) و(ولم أدر ما عيناي حتى استهلتا / بدمعي / ورأسي / وانتباهي / وسمرتي) و(رأيتك في هذا الدخان / وليس ما أراه / سوى هذا الدخان المشتتِ) و(وغادرني قبل انطفائي بشمعةٍ / وقبل اختناق الأغنيات بشهقةِ) و(وعدت مراراً للخيال / ولم أزل أعيد خيالي / مرة بعد مرة)، أما شعابه الثانوية فهي: (بعيدان حدّ الضوءِ / حدّ انعكاسهِ) و(قريبان حدّ الظلّ / حد التفلّتِ) و(فطيفك دربي / وانتظارك وجهتي).

في المعنى:

الأسلوب في هذا الفرع يجمع بين الخبري والإنشائي، وفيه يقدم الشاعر ملامح التجلي من حيث الزمان والمكان، فقوله: (كآخر ليلٍ / خلف آخر نجمة / تجليك في روحي التي قد تجلّت) أي في اللحظات الأخيرة من الليل، وبعد أفول آخر نجمة فيه بانت وظهرت في روحه التي أشرقت على نفسه، وقوله: (بعيدان حدّ الضوءِ / حدّ انعكاسهِ / قريبان حدّ الظلّ / حد التفلّتِ) أي فبانت في تجلي روحه كأنهما بعيدان بعد الضوء عن انعكاسه، والبعد هنا لا يعني المسافة بقدر ما يعني التفاوت، أي منفصلان لا تلتقيان من حيث تفاوت الكثافة في التجلي فالضوء المنعكس يكون أكثر شفافية ورقة من الضوء نفسه، ولكنهما يبدوان قريبين قرب ظل الشيء من الشيء ذاته، إنه قولٌ في النهايات التي تقدم الحديث عنها، نهاية ليل، ثم نهاية نور النجم، عند هذا الحد يبين الشاعر صورة التجلي، أولا للروح المحتجبة في النفس، وللمحبوبة المحتجبة في نفسه وروحه، وقوله: (أتيتِ بلا وجهٍ / وغبتِ بلا خطاً / فطيفك دربي / وانتظارك وجهتي) جاءت على غير ما تجيء العاشقات في الوقت الأخير من الليل، لأن مجيئها معنوي، أي تجلت له فرآها لا تحد بوجه آدمي وغابت من غير خطاً فكان حضورها كالطيف اللطيف يسعى إليه ويتوجه إليه حيث تبدو علائمه، وقوله: (ترددت حتى خلت صوتي تعثري / وخطّ يدي محوي / وخوفي هويتي) وهذا حال العاشق الي ينتظر من يهوى! أي في لحظة تجليها بدا في حالة من الحيرة بين الشك واليقين حتى ظن أن صوته لن يقدر على القول، فحاول أن يعبر كتابة حتى خال أن ما يكتبه قد غيب تجليه ولم يبق شيءٌ دال على حضوره سوى الخوف والرهبة في تلك اللحظات العصيبة، وقوله: (ولم أدر ما عيناي حتى استهلتا بدمعي / ورأسي / وانتباهي / وسمرتي) أي في تلك اللحظات ما كان يحس بوجوده الحسي وبعينيه لولا من الدموع التي انهمرت غزيرة من حرارة تلك اللحظات، وقوله: (رأيتك في هذا الدخان / وليس ما أراه / سوى هذا الدخان المشتتِ) أي رآها روية العين في هذا الدخان الذي يملأ الفراغ حتى ظنها معينة فيه، فإذا هي ممتدة إلى نهايات الدخان الذي بدا مشتتاً بعد الكثافة، وقوله: (وغادرني قبل انطفائي بشمعةٍ / وقبل اختناق الأغنيات بشهقةِ) أي وعندما غادره هذا الدخان المشتت قبل انطفاء شمعة تجليه وقبل زوال موسيقا الفرح لأغنيات اللقاء بشهقة واحدة، وقوله: (وعدت مراراً للخيال / ولم أزل أعيد خيالي / مرة بعد مرة) أي قبل الانطفاء وقبل زوال الأغنيات عاد إلى خياله لاستحضار صورة تجليها وما زال يعيد الخيال مرة تلو الأخرى من أجل ذلك.

الصورة والبيان:

يستغرق الشاعر في هذا الفرع  بوصف لحظة التجلي، على غير طرق الشعراء المتصوفين في الكتابة عن مثل هذه اللحظات، ثم يتحدث عن التجلي على ما ينحو نحوه المتصوفون، لكنه يحاول أن يتحرر من المحسوس ويرتقي إلى المعنوي، وهي اللحظات التي يعبر فيها الشاعر عن النهايات وهنا يكون الحديث في المعاني والحقائق، ولا يخلو هذا الفرع من المفردات الصوفية والتعابير الصوفية من دون تصوف، من هنا يكون الحديث عن الصورة البيانية المألوفة ليس ذا أهمية، بقدر ما تكون الأهمية للمعاني والأفكار، إنه أقرب إلى السهل الممتنع، فالجمل والتعابير والتراكيب الشعرية من شدة وضوحها يصعب توضيحها وشرحها لأن قبولها يكون بالحدوس وليس بإقامة الحجة أو الدليل. إنها البلاغة البلاغة !!، فكيف يمكن أن نوضح البلاغة في البلاغة؟!.

الفرع الثاني:

يقول الشاعر:

(هنالك

- والإنسان يبدو أخف من خطاياهُ -

خالطنا الخطايا فخفّتِ

وأرهفتُ أنفاساً تدلت بأضلعي إليكِ

كما أرهفتِها وتدلّتِ

ضممتك لي

لا أنت عندي ولا أنا

ولا جسدٌ إلاّ شذاك ورعشتي

همست كأن الريح شُدّتْ من المدى

وحطت على أرضٍ

من الرملِ شدّتِ

فما ذرة مني

ولا منك ذرّةٌ

سوى عانقت من بعضنا

كلّ ذرّة

بلا لغةٍ

والوقت محض قصيدةٍ

ولا شفةٍ

لكننا نصف قبلةِ

وبالحسن

شعراً طاعناً في سكوتهِ

وبالقلبِ أعمى طاعناً في التفلّت

حملنا جروح العشقِ

كنتُ الفتى الذي يصابُ

وكنت السهمَ

والمرأة التي ...)

يبين الشاعر في هذا الفرع صورة الكيفية للتجلي وعقدته (هنالك) وشعابه الرئيسة والثانويّة لا داعي لذكرها اختصاراً.

في المعنى:

الأسلوب في هذا الفرع خبري وإنشائي، وفيه يتابع الشاعر بيان كيفية التجليات في روحه، فقوله: (هنالك / -والإنسان يبدو أخف من خطاياهُ- / خالطنا الخطايا فخفّتِ) أي في ذلك المكان والزمان للتجلي حيث يكون للإنسان ما سعى، وما قدم لنفسه فيما مضى، يبدو الإنسان بوزنه الحسي أقل بما لا يقاس من ثقل الآثام التي ارتكبها في حياته، فأضاف كل منهما خطاياه إلى خطايا الآخر فبدت أخف ثقلاً عليهما، وقوله: (وأرهفتُ أنفاساً تدلّت بأضلعي إليكِ / كما أرهفتِها وتدلّتِ)، أي جعل أنفاسه التي تملأ صدره الحاني إليها أكثر رقة كأنفاسها التي التي رقّت واستجابت لأنفاسه ودنت واقتربت، وقوله: (ضممتك لي / لا أنت عندي ولا أنا / ولا جسدٌ إلاّ شذاك ورعشتي) أي ضمّها حيث لا شيء سوى أثريهما، عطرها ورعشته قائمتان في النفس من غير جسد، وقوله: (همست كأن الريح شُدّتْ من المدى / وحطت على أرضٍ / من الرملِ شدّتِ) أي كان همسه كالريح التي تهب على أرض رملية فتتخللها وتبعثر حباتها، وقوله: (فما ذرة مني / ولا منك ذرّةٌ / سوى عانقت من بعضنا / كلّ ذرّة) أي كان عناقاً شاملاً كاملاً بينهما، وقوله: (بلا لغةٍ / والوقت محض قصيدةٍ / ولا شفةٍ / لكننا نصف قبلةِ) أي الهمس كان من غير قول، والقبلة كانت من غير شفة لأن كلاً منهما كان في لحظة التجلي، فمثّلا معاً النصف المعنوي من القبلة من دون نصفهما الحسي، وهما في لحظة التجلي الشعري، وقوله: (وبالحسن / شعراً طاعناً في سكوتهِ / وبالقلبِ أعمى طاعناً في التفلّت) أي هناك حيث يكون الشعر ممعناً في الصمت فيما يكون القلب متحرراً من كل قيد، وقوله: (حملنا جروح العشقِ / كنتُ الفتى الذي يصابُ / وكنت السهمَ / والمرأة التي ...) أي تقاسما معاً في تلك اللحظات من التجلي جروح الهوى والعشق المقدس فكان الشاعر الفتى الذى أصيب بينما كانت القصيدة هي السهم والمرأة ترمي فتصيب.

زمن القصيدة:

الزمن في القصيدة يتقلص حتى يغدو برهة زمنية آنية، وهي لحظة التجلي، وهو زمن يتقاطع فيه الزمن الحسي مع الزمن النفسي الداخلي، إنها لحظة تشبه اللحظة الفاصلة بين آخر ليل مظلم، وغياب آخر نجمة فيه حيث تجلت مع تجلي روحه، وزمن القصيدة هو زمن تجلي روح الشاعر مع زمن تجليها، وقد قابل الشاعر بين المرأة المحبوبة وبين القصيدة الشعرية، ثم مازج بينهما من خلال تقاطع الصفات المشتركة، فبقي الجانب الحسي عبر زمن إحداثه ذا تأثير حسي من خلال الصور الشعرية المباشرة، أما الجانب المعنوي فقد كان زمنه مكثفاً إلى الدرجة التي بدا فيه الفعل متخيلاً عبر استخدام المعاني المجازية والصور البيانية، وهذا الزمن هو زمن قابل للتكرار والتبدل والتجدد، لأن قوله: (كآخر ليل) أي آخر أي ليلٍ، ولا أدري لماذا ذكرتني هذه القصيدة بقصة الأعرابية الشهيرة وإنشادها، (لها أنّة عند العشاء وأنة / سحيراً ولولا أنتاها لجنّتِ) على الرغم من اختلاف الموضوع لكن القافية نادرة ومؤثرة. ويبقى زمن القصيدة هو تقاطع أزمنة مكوناتها الحسية والمعنوية.

ضيق العبارة واتساع المعنى:

وهذا قول النفري المتصوف الكبير (كلما اتسعت الرؤيا ضاقت العبارة)، الذي ترك (مخاطباته) كنزاً غنيّاً فريداً في علم القول وفنه، وسأوضح هذا القول الذي ينطبق في مواقع متعددة من هذه القصيدة من خلال المثال التالي:

المثال:

(بعيدان حدّ الضوءِ / حدّ انعكاسهِ / قريبان حدّ الظلّ / حد التفلّتِ)

هذا البيت الشعري يستدعي التوقف والتأمل والتبصر من أجل فهمه من جهة ومن أجل محاولة الاستدلال على الأصول في طريقة وصول الشاعر إليه، وبذلك تتوضح الصورة القريبة للتجلي ومعناه لدى الشاعر، يقول: (بعيدان) أي المتجلي وهو الحبيبة هنا (القصيدة أو المرأة) وإن كنّا قد قدمنا في المعنى لما يظهر لا حقاً في القصيدة، والمُتجلَّى له، وهي روح الشاعر المتجلية أيضاً، فماذا عنى الشاعر بهذا البعد؟ هل عنى المسافة؟ من دون شك: إن البعد مسافة من حيث البعد المكاني، لكن البعد هنا بعد معنوي، وهذا يعني الاختلاف في التجلي على الرغم من الاتفاق في الصفة وهي هنا التجلي، وقوله: (حد الضوء) وذلك من أجل تقريب صورة المعنى إذ ليس للضوء حد،  لكن من أجل أن يبيّن ماذا يعني بالبعد هنا، وقوله: (حد انعكاسه) أي من أجل تقريب المعنى أيضاً،  إذ ليس لانعكاس الضوء حد، والمعنى: إن البعد بين تجليهما معاً كبعد الضوء عن انعكاسه، وهنا نتبين ماذا عنى الشاعر بالبعد: إنه التفاوت في الحضور، إذ من المعلوم أن الضوء المنعكس يكون أكثر شفافية ورقة وكثافة من الضوء نفسه، فهما بعيدان بعد التفاوت في شدة الحضور والتجلي، ولكن الذي يثيرنا ويدفعنا دفعاً للمساءلة هو قوله: (بعيدان) مما يجعلنا نتوهم أن الشاعر قد وقع في تناقض، إذ كيف يمكن يكون شيئان متباعدين من جهة وهما قريبان من بعضيهما من جهة أخرى؟!، حتى نستدرك أن هذا التناقض يكون في المعاني الحقيقية الحسية، أما في لغة الجاز فذلك ممكن وجائز، ولكي تتوضح الصورة فإن الشاعر يعطي صورة قريبة لتمثل الأمر فيقول: (حد الظل) إذ يكون ظل الشيء على هيئة ذلك الشيء من حيث الضوء الوارد إليه ومعلوم أن ظل الشيء ينعدم إذا كانت زاوية ورود الضوء على الشيء معدومة، وحين يميل الضوء في وروده إلى الشيء يميل ظله، وكلما كانت زاوية الورود صغيرة كلما كانت زاوية الانعكاس صغيرة أيضاً ويكون الظل صغيراً، وكلما كانت زاوية الورود كبيرة كان الظل كبيراً حتى ينفلت الظل ويصبح في اللانهاية حين تقترب زاوية الورود من التعامد على الشيء ذاته، وتبقى زاوية انكاس الضوء مساوية لزاوية وروده وعل الرغم من التجاور فيما بينهما فالظل يبتعد ابتعاداً كبيراً، أي متقاربان من حيث التجلي متباعدان من حيث شدة الحضور والتجلي.

التوازن وتمثيل القصيدة:

إن مركز توازن القصيدة الشعرية هو (التجلي)، لأنه يمثل نقطة انطلاقها وبؤرة انبثاقها، ويمكن اعتبار كل عقدة من عقدتيها نقطة توازن بالإضافة إلى النقاط التالية:

أولا: (التفلّت) هي نقطة تقاطع بين الفرعين الأول والثاني فهي نقطة توازن .

ثانياً: (الانعكاس) هي نقطة تقاطع بين الفرعين الأول والثاني فهي نقطة توازن .

فإذا مثلنا مركز توازن القصيدة بدائرة مركزية صغيرة ومثلنا عقدتي الفرعين على محيط دائرة متمركزة مع الدائرة السابقة،  ثم مثلنا نقاط التوازن على محيط دائرة أخرى متمركزة مع الدائرتين السابقتين، ثم مثلنا الفرعين بأشعة منطلقة من المركز إلى عقد الفروع، وبعد ذلك إذا مثلنا الشعاب الرئيسة والفرعية بأشعة منطلقة من كل عقدة من فرعي القصيدة إلى نهايات المسارات لكل فرع، نكون بذلك قد حصلنا على تمثيل دائري للقصيدة، وهذا التمثيل يمكن أن يبين كيف أن القصيدة تميل إلى التوازن. على الرغم من أنها تتكون من فرعين اثنين فقط .

القصيدة الاحتمالية والنص الممكن:

تتألف القصيدة من فرعين ويمكن إعادة ترتيبهما بطريقتين فقط،  أي يمكننا أن نحصل على قصيدتين ناتجتين من إعادة ترتيب الفرعين، وإذا لاحظنا أن الفرع الأول يتكون من تسع شعاب رئيسة فيمكن إعادة ترتيب هذه الشعاب ب(9) عاملي أي ب(362880) طريقة، وفيه ثلاث شعاب ثانوية ويمكننا إعادة ترتيبها بست طرق، وهكذا يمكننا أن نعيد ترتيب الفرعين مع شعاب الفرع الأول ب(725772) طريقة، وإذا أجرينا الطريقة نفسها على الفرع الثاني،  نجد أنه بالإمكان أن نحصل على عدد كبير من القصائد الشعرية التي يمكن أن نحصل عليها من هذه القصيدة، وكل قصيدة منها هي قصيدة افتراضية، لكنها تعتبر نصاً ممكنا ولو نظريّا، أما إذا لاحظنا أن القصيدة تتكون من ستة عشر بيتاً شعرياً فيمكن إعادة ترتيب أبيات القصيدة ب(20922798888000) طريقة، أي هناك العدد نفسه من القصائد التي يمكن أن نحصل عليها بعدد إمكانات إعادة ترتيب الأبيات في هذه القصيدة، وهو رقم كبير جداً كما نلاحظ، وكل قصيدة من هذه القصائد تمثل قصيدة احتمالية، وهي افتراضية من دون شك، والشاعر لا يعترف على أي من القصائد الممكنة، إنما يعترف بالقصيدة التي أشهرها رسماً في مجموعته الشعرية (لا أسميك أيها اليأس وقتاً) على الرغم من أنها تمثل واحدة من هذه القصائد الممكنة.

***

مفيد خنسة - ناقد

رواية موت "إيفان إيليتش" لليو تولستوي

إن فكرة التناهي، لا تتخذ في واقع الأمر، شكلاً واحدا في الآداب الغربية، فالموت الذي يقوم الرعب بتعريته، وتقديمه إلى الناس، هو الجملة الأخيرة التي تقول كل شيء، هو الحجة الصادقة، التي زادها التماهي القائم في الوعي الغربي، بين الفلسفة والدين، رهبة واسعة طاغية، في أوساط التيارات الأدبية، التي تعددت منهاج تأويلها، وفكرها المتمحور حول الحتف نفسه، فالمنية صياغة اطارها المنهجي مكتمل الدائرة عندنا نحن، لأن الوفاة في مجتمعاتنا المسلمة، مرتبطة بديمومة الحياة واستمرارها، فنحن نعجب بالفوت، ونأنس إليه، ونسعى أن يتصل شبابنا به، بعد أن تشدقنا بألفاظ التضحية، والفداء، في بيئاتنا العربية الخاصة، فحقيقة الهلاك التي لا نفكر إلا فيها، ولا نعني إلا بها، يخشاها الغرب، ويتوجس منها، ويعتبرها انجراف إلى نمط من المتاهات العصيبة، يصعب التوفيق بين مقتضياتها، فتأويلات الغرب لفكرة الفناء، لا تمضي على وتيرة متشابهة مثلنا نحن، فالغرب يقر بأن الفناء، تأويل واف لتاريخية الإنسان، ودورة تكوينه الأزلي، و يدرك بأن من المستحيل  تجاهل الربط التلازمي بين الحياة والموت، ويعينه مخزونه العقدي والثقافي، لئلا يمعن في اتجاهات ومشارب شتى، في تعليل تلك الحقيقة الغائبة الحاضرة، التي لا تطرح أي اشكالات نظرية، ترتبط بمباحث البرهان، والتأويل العقلي، فهو إذن يؤمن بهذا الترابط،ولكنه يخضعه لأدبيات التحسين والتقبيح، فالغرب لا يتدبر في كثافة وحميمية هذه الروابط، التي يزخر بها تصورنا الإسلامي لحقيقة الاندثار، لأن آدابه وما اتصل بها من أساطير وفلسفة، نشأت في منظومة بنيوية، سياقها الأيديولوجي الرائج، يقدس الحياة وينفر من الردى.

إلا أن السؤال المطروح هنا بقوة، إلى أي حد، قد أثرت هذه التيارات العاصفة، والمرجعيات الفكرية والفلسفية، التي شكلت حركة التثاقف والوعي الغربي، على "ليو تولستوي-1828-1910" وهو يخط روايته التي نحن بصددها، المرجعيات التي يجوز لنا أن ننظر إليها كعقبات مقيدة، أزرت بكنه الموت حتى في نسقه العقدي، من المؤكد أن رواية" موت قاضي" كما أسماها صاحبها، لم تتحرر من تبعاتها، أو تخرج من ضائقتها، فنحن لا نستطيع أن نتتبع المسار الاجتهادي الحر، لهذه الرواية التي خلت تفاصيلها من المعاظلة والالتواء، لأنها  بتعبير قاطع، مكبلة باشكاليات الأطر والمدلولات، التي تنهض على تصورات مغايرة للالوهية والخلق، فتلك المعاني والمفاهيم البالية، يحتاج الغرب لاعادة صياغة أصولها، وفق مقتضيات عصرنا، وتحولاته المتعاقبة،  ومن الحق أن الرواة، ينبغي أن يصطنعوا كل الوسائل من أجل اقصائها، وتحييدها عن الأعمال الأدبية، فما هي هذه المضامين والسياقات، التي كان من الممكن أن يستحدثها " ليو تولستوي" في مستقبل أيامه، وتعينه أن يمضي في هذه الحياة في غير سأم، أو ملل أو فتور؟؟. لقد اتخذ "ليو تولستوي" هذه الرواية أداة قيمة لابلاغ ما يريد أن يبلغه لقرائه، فرواية موت "إيفان إيليتش" التي تم نشرها لأول مرة عام 1886م

على وجه التحديد، تعبر عن سياقات خارجية، وبنيات اجتماعية، اصطدم بها مؤلف الرواية، وهو يتحدث إلى الكنيسة التي هجر دينها ردحاً من الزمان، ودعاها في صراحة ووضوح، إلى أن ترافقه في أفكاره، أفكاره التي كانت أوسع مجالاً، من الخصائص الصورية التي تؤمن بها كنيسته،  أخذ "ليو" يتحدث إلى وجوه "دولتها"، ويدعوهم في عزم لا يعرف الضعف، وتصميم لا يعرف التردد والفتور،  لأن يجددوا الصلة "بانجيلهم" الذي بات لا يهضمه أو يستسيغه، فتعاليم  كتابهم التي لا يقفون عندها، ولا يفكرون فيها إلا قليلا، تحثهم على نبذ العنف، وبسط السلام، و تحقيق العدل، وهم أنأى الناس عن هذه الخصال، أخذ" تولستوي" ينفق أيامه ناقداً، ساخراً، متندراً على الكنيسة وطابعها الاشكالي المعقد، والكنيسة التي انصرفت عنه، ولم تجبه، استقر في نفسها، أن تسلك معه غداة كل يوم طرقاً جديدة، تكفل لها أن يرعوي ويصمت، فتارة تلقاه رفيقة به، عطوفة عليه، وتارة يجدها نافرة منه، معرضة عنه، ساخطة عليه، فلما أضناها اصراره و تعنته، رمته بفرية الخبل والجنون، لقد كان حقاً نفور "تولستوي" من الكنيسة عاماً شاملاً، يمسه في أشد الأشياء لزوماً له، فطبيعته الإنسانية في مستوياتها المتنوعة، تتدفعها تلك التصرفات الممجوجة، عن الاحجام، والرضوخ، إلى تعاليمها، خاصة بعد أن تجافت عن قيمها الضابطة لسلوكها، واستباحت لنفسها أن تجدد في بنيتها الأصولية الكلاسيكية، بممارسات شاذة، وعسف قضّ مضاجع الأشقياء، هذا الجور  المتعاظم، كثافته المطلقة، يجوز لنا حصرها، في الزام الشرائح الكادحة، التي تجد بالكاد ما يقيم أودها، ويسد رمقها، بأن تقتطع من نفقات حياتها اليومية، لتمدها بالمال، اتخذت الكنيسة التي اعتادت على نهب الثروات، هذا  المنحى الذي لا ينسجم مع رسالتها،  و"ليو" لما رأي كل هذا الحيف والطغيان، لم يخرج أهله من الصمت إلى الكلام، ثار على هذا النظام الطبقي الملتحف بالدين، والقوى الغيبية، وأعلن في سياق محاربته لرهبانها، وقساوستها، وأساقفتها، بأن مبادئهم العقدية والدينية، إضافة لسلوكياتهم الفجة، لا تقنع الناس بأن وضعهم الراهن هو الوضع الأمثل، الذي يجب أن يرضوا به، ويشكروا الرب عليه، هذا شيء، شيء آخر جعل "ليو تولستوي" يوغل في معاداته للكنيسه، وهو احساسه الذي يخامره، بأن الكنيسة لم تجب على أسئلة جوهرية تتعلق بحياته الروحية، وذاته التي تنسجم في جوهرها مع الفلسفة الوجودية، التي تؤمن بأن مدار الغلبة، والقوة هو للنفس، التي يشتد عليها الالحاح، ويكثر حولها الاغراء، وتطوف عليها ألوان الترف، فلسفة تأتلف من الفرد، وتذعن لحقوقه، وتتغاضى عن حقوق  الجماعات، فلسفة طابعها الهلامي، هو اقصاء البعد الروحي، والتجرد من كل اعتقاد يقف حاجزاً، وسداً منيعاً، أمام رغبات الذات، وهي فلسفة من ضمن فلسفات الشك والريبة التي اجتاحت المجتمع الغربي، وعملت على تقويض هيمنة التثليث المسيحي في القرن العشرين، و" ليو" الذي أظهرت الكنيسة عجزها عن رده إلى صوابه، ظلّ يدعوها إلى المرونة والتحاور، بين أطياف مجتمعها، دون تكفير أو اقصاء، ولكن الكنيسة التي أيقنت أن "ليو" الذي يقف أمام "أكسيولوجيتها" موقف الهادم، لم تسلك معه أي طريقة ايجابية، ونحن نعد هذا الصراع الحامي بين "ليو"  والكنيسة، "آلية مهمة" لفهم الملابسات، والارتباطات، التي حولت هذا النزاع، لنبوغ ذاتي أثمر عن ميلاد هذه الرواية، "فتلستوي" الذي كان قلة من الناس، تفكر مثل تفكيره، وتحس مثل احساسه، كان من الطبيعي، بعد أن ركضت قدماه في مضمار تلك الفلسفات الحداثية المموه التي نحته عن عقيدة التثليث، أن يلجأ للأدب حتى يستأصل "قصعة" الاشمئزاز عن نفسه.

ليس بوسعنا إذن أيها السادة، أن نشغل موقفاً مغايراً، ونزعم أن "ليو" كانت غايته من وراء تأليف روايتة القصيرة جداً بين رصيفاتها، هو تسليط الضوء على الطبقة الارستقراطية، وعلى مظاهر ترفها ورفاهيتها، كلا، لم تكن تلك غايته، بل كان الهدف الذي ينشده هو أن يكفكف من غلواء امتعاضه، بعد أن ألجئته الظروف، وما اتجه إليه من فلسفة وأفكار، إلى التفريق بينه وبين الكنيسة، لقد كان كل سطر من هذه الرواية، يصدره عن طبع ساخط، فرواية "موت قاضي" إذا دققنا النظر فيها، لوجدناها في مجملها، ناقمة على الحياة التي تتلاشى بالموت والزوال، وعلى عقائدها التي تضمحل بالعبث والتعصب، وعلى حضارتها التي تندثر بالجهل والمحاباة، وعلى قوانينها التي تنتفي بالتعسف والافتعال، وعلى أخلاقها التي تتمحق بالسرف والشهوات، وعلى صلاتها التي تتداعى بالغلول والآثرة، وبطل الرواية "إيفان إيليتشي" الذي استحال طمعه في ملذات الدنيا، إلى دموع غلاظ، تحدرت على عينيه قبل رحيله، هو الشخصية المحورية التي أخفى خلفها تولستوي" شخصه"، فالقاضي إيفان استقى تصوراته وقوانينه، من عقل" تولستوي" الخالص، فالهدف الذي تسعى الرواية من تحقيقه، هو مقصد الفرد، لتحقيق غاية يفترض وجودها على نحو يقيني، وأن ينتحل هذا الفرد، من الشرائع والقوانين، ما يحقق له هذه الغاية التي رسمها لنفسه، وهو في رحلته لتحقيق تلك الغاية، يجب أن يبعد أي طابع ديني، أو تصور عقلي، أو صيغة أخلاقية، تتعارض مع هذه الغاية، التي اشرئبت إليها نفسه، هذا الترابط العام الذي اشتملت عليه تفصيلات رواية "موت قاضي"، وخصائصها التي حيدت الفضيلة، وآمنت بأن يذهب الطموح إلى أقصى مدى، تتوافق صيغها، وعناصرها، ومسلماتها، مع مبادئ ومثل الفلسفة الوجودية، التي خضع لها عقل "ليو"، وعمل على ابراز ما فيها من "سمو وعظمة"، هذه الدوافع التي أشرنا إليها آنفاً، تقضي قضاءً مبرماً، على الفارق النوعي بينها، وببن فكرة الحريات، التي يجب أن تخضع لنظم الأديان،   والقوانين الأخلاقية، فالحريات التي تقوم على أساس الشعور، وتحقيق النزعات المسلم بها، نستطيع أن نكبح جماحها، بأطر الدين، الذي يعمل على إشباع هذه النزعات، والميول، وفق رؤية واسعة تراعي الضعف البشري، حتى لا تكون سبباً من أسباب العداوة، وسبيلاَ من سبل الفرقة.

 وفكرة الندم التي نعتبرها السمة الطاغية، في محاور رواية موت "إيفان إيليتش" التي تتحدث عن قاضي حاز على نصيب وافر من رجاحة العقل، وسمة الادراك، كانت المملكة الشاملة لغاياته ومراميه، عنوانها هو  التدرج في السلم الوظيفي، حتى يصل إلى مكانة مرموقة، تؤهله لأن يتزوج من فتاة بارعة الحسن، رائعة الجمال، وأن ينجب أطفالاً، ويقتني دوراً يعمل الخدم في تنظيف غرفها، وتشجير ساحاتها، وأن يحظى بمكانة اجتماعية رفيعة، وغيرها من الضروريات، التي لا يستطيع شخصاً يريد أن ينتمي للسلالات الارستقراطية، أن يشيح بناظريه عنها، وقد تحقق له قسطاً وافراً من تلك الأماني، شرع "إيفان" بالخطو إلى الأمام، فاكترى بيتاً، في منطقة تعج بتلك الطبقات المخملية، التي يتخذ الناس حيالها ما يلزم من حيطة واحتراس، وبدأ في تأسيس ذلك المنزل الزاهي الألوان، الفسيح الأركان، ولكنه سقط عند تركيب ستائر منزله، سقطة لم يلقي لها بالاً، أردته فيما بعد، قبل أن يصل إلى حافة تلك المرحلة، التي يتعاظم فيها المرض، ويكثر فيها الكلل، ويصدح فيها الأنين، مرحلة الشيوخة التي تستفحل فيها الأخطار التي تحيط بصاحبها،، مكث إيفان ثلاثة أشهر، يغالب هذا الداء الذي بدأ ينخر في عظامه، وأثر في كليته، التي ضمرت وتقلص حجمها، وأخذ الناس في الكف عن اجلاله وتوقيره، وبات يسمع ضحك أفراد أسرته وابتهاجهم، وهم ينتظرون في نشوة وافتنان، خبر مصرعه، كانت حياته بعد المرض موحشة بما فيه الكفاية، قضاها هو ملقى على فراشه، يستقبل جموع الأطباء، وتقريع زوجته التي أمضى عمره معها في مناكفة مستمرة، على عدم انتظامه في تناول الدواء، لقد فقد "إيفان" معياره القيمي في تلك الأشهر، وتنكرت له كل عائلته عدا ابنه الصغير، وخادمه المخلص، هذه الأشهر القليلة، أخذت تجر وراءها تاريخاً طويلا، تاريخ نشأته، وتطور أشكال حياته، وأخذ الشعور التي يفرض نفسه بشدة عليه، حتى اعتلى منزلة الصدارة عنده، هو الاحساس بالندم، الندم الذي كان أشد وأعمق من علله الحسية، أتاح له التمادي في قدح نفسه وتوبيخها، على العقود التي أنفقها، من أجل مناصب يأمن في حماها، ويستريح في أرجائها، المراكز التي جعلت عقله يتمرس، ويعتاد على نوع من التقييم، كان يجد فيه سعادته، وتدفعه تلك الغبطة، لتقدير أرقى وأرفع، من التعظيم الذي سبقه، ندم" إيفان" على تبديد سنوات عمره، التي أمسى يتكهن  بنهايتها، في تحقيق طموحات، لن تحرره من تلك اللعنة التي نزلت عليه، ظلّ "إيفان" عاجراً عن التخلص من الأذى العميق الذي ألحقه بنفسه، وبقى ممتطياً ظهور جياد الندم طيلة تلك الأيام، وتجلت مواهبه في آخر أيامه، في معاتبة ربه على فداحة هذا البلاء، الذي اصطفاه به، لم يكن "إيفان" موفقاً في إظهار بؤسه لربه، حتى غدا هذا العتاب لا يحتمل، ولا يطاق، ونحن لا نعتقد أن هذا العتاب المرير، سببه هو الوهن العميق، والحسرة الرازحة، والكآبة القعساء، ولكن دوافعه هي تخفيف الوطأة عن الوجدان، لقد كان "إيفان"، في ظل شعوره بالضعف، وتوعكه المتزايد، يحتاج أن ينظر لألمه، بوصفه عقاباً وقصاصاً من ربه، حتى ينتزع من نفسه البشرية، تظاهرات الوجع المريع، أمضى "إيفان" آخر ثلاثة أيام من عمره، في استياء، وندم، وامتهان لذاته، ويقينه الراسخ أنه هالك لا محالة، "وليو تولستوي المتخفي وراء ظلال شخصية "إيفان" جعل نشاطه الذهني في آخر ثلث من هذه الرواية، هو رصد انفعالات النفس، وانكساراتها، ويضاف إلى ذلك، إشاراته التي لم تكن موجزة، أو مقتضبة، تجاه تعاطي عائلته، ومحيطه، عندما تنامى إلى أسماعهم خبر وفاة" إيفان"، فزوجته استنزفت طاقتها الفياضة، في الحصول على جنازة قليلة التكاليف، تواري فيها جثمان زوجها، كما أن وفاة زوجها التي لا تتناقض مع رغبتها، أعاقها عن تحصيل راتبه المجز، فالراتب أوفى من المعاش كما نعلم، لهذا طرحت هذه المسألة، بمزيد من العمق والصراحة، إلى صديقه المقرب، حتى يوضح لها ذريعة، تستطيع بها أن تحصل على معاش وافر، أما من أمضى العمر برفقتهم، فقد أظهرت تداعيات تلقيهم لنبأ وفاته، ثغرة هائلة تحيق بقيم الإنسان، فالحزن على "إيفان" لم يصرفهم عن لعبة الورق التي كانت بأيديهم، ولا الكمد الممض، استطاع أن يطرد تلك الآمال الواعدة، التي طافت بأذهانهم، لاعتلاء منصبه الشاغر.

رواية "موت قاضي" الجانب الموضوعي، والمهيمن عليها، هو المتاعب، والصراعات، التي خاضتها شخصية "إيفان" حتى تحقق مقاصدها، وتبرهن أن القيمة المثلى، التي لا تضاهيها أي قيمة، هي قيمة السعادة التي -في وجهة نظري- يجب أن نعتقها من كل قيد، وحتى تتحقق هذه المشاعر الفياضة، التي يمكن تحويلها إلى قاعدة، توزع البهجة على الآخرين، يجب أن تحلق الروح خارج إطار هذا الجسد.

***

د. الطيب النقر

الثلاثاء: 8/7/2025

قراءة في البنية النفسية والرمزية لقصيدة "قفزة الظل... ونبوءة الأفعى" للشاعر عمار الصالح

مدخل: القصيدة بوصفها تفجّراً داخليّاَ.

تبدو القصيدة "قفزة الظل… ونبوءة الأفعى" عملاً شعريّاً مركّباً، لا يركن إلى السرد الخطيّ، بل ينفجر شعرياً من داخل الذات، كما لو كانت الكتابة هنا ليست أداة تعبير، بل فعل مواجهة، واستحضار لما هو مكبوت ومهجوس به.

فالشاعر عمار الصالح لا يكتب عن "الأفعى" بوصفها كائناً طبيعياً، بل بوصفها قناعاً نفسيّاً، وشيفرة رمزية لكائن يتسلل، يُراوغ، ويفسد البنية الداخلية للطمأنينة. تبدأ القصيدة من مفاجأة وجودية، وتنتهي في نكوص قيمي يعيد ترتيب العلاقة مع الذات والآخر واللغة.

أولًا: البعد النفسي — بين اللاشعور والانكشاف

القصيدة تعبّر عن اضطراب داخلي حادّ، ناتج عن تسلل طيفٍ خادع (ممثلاً بصورة الأنثى/الأفعى)، وهي صورة يونغية بامتياز، تشبه "الأنِيمَا" المخاتلة التي تخرج من لاوعي الرجل لتقلب موازينه، يقول الشاعر عمار الصالح :

"لم أكن هادئاً… لم أنل راحتي"

"قفزاتك الخائنة… أفزعت وردتي"

هذا الانقلاب الحادّ من الحلم إلى الكابوس، من السكينة إلى الرعب، يحاكي لحظة الصدمة النفسية، تلك التي تُحْدِث فجوة بين ما نتوقّعه من العالم، وما يرتدّ إلينا من نواياه المبطّنة.

يتمثل القلق هنا بصورٍ نفسية عميقة:

الكوابيس التي تأتي "في عزّ النهار": انكشاف اللاوعي في وضح الإدراك.

وردة تُفزعها الأفعى: رمز لقتل البراءة، وانتهاك النقاء.

قفزات "دفعة واحدة": الصدمة كفعل لحظي يفوق التمهّل والتحليل.

ثانيًا: البعد الرمزي — الأفعى، التنين، والأقنعة.

رمز الأفعى المرقطة يسيطر على النسيج الدلالي في القصيدة، ويُحمَّل بتأويلات متعدّدة، منها:

_ الخداع والازدواجية: فالأفعى ليست فقط زاحفة، بل متخفّية، "تتسلل"، "تكمن"، "تقفز"، تماماً كما تفعل الأقنعة في المجاز النفسي.

_ الفتنة المدمّرة: تحمل في جسدها غواية، لكنها تفسد ما تلامسه، كما تفسد "الحقول" و"الآتية".

_ التنين المنقرض: رمزٌ يُستدعى للتهكم على ادّعاء القوة أو التفرّد، وفي الوقت ذاته لاستدعاء الأسطورة في قلب الواقع المنكسر.

من اللافت أنّ القصيدة توظّف رموزاَ أسطورية ونفسية بشكل متداخل:

الحقول، الورد، الوادي = رموز للخصب والسلام والأنوثة.

الأفعى، الكوابيس، الخديعة = رموز للفوضى، التهديد، الموت الرمزي.

وبهذا، تدور القصيدة حول الصراع بين رمزين:

الأول رمز الحياة (الوردة/الحقول/الماء)

والثاني رمز الفناء (الأفعى/النار/الفساد).

ثالثاً: البنية الدلالية – القصيدة بوصفها مسرحاً للمواجهة

تنهض القصيدة على بنية دلالية قائمة على الاستدراك والانكشاف:

1. الدهشة/المباغتة: "تُفاجئيني... تتسللين..."

2. التحول/الانقلاب: من وردةٍ إلى أفعى، من هدوء إلى كوابيس.

3. الإدانة/الانفجار: "قفزاتك الخائنة"، "تستفزين الحقول"، "تفسدين الآتية".

تتحرك اللغة في انزياحات شعرية تؤسس لصوت مأزوم، لا يطلب التفسير بل يعيش في نَصّ الخيبة. ويبدو العالَم الخارجي كله مسرحاً لهجوم الأفعى الرمزية، التي لا تهدّد الشاعر فحسب، بل تفسد الزمن القادم (الآتية) والحقول (الخصب) والإناء (الذات).

رابعاً: جدلية الذات والآخر في التكوين الرمزي.

يبدو الآخر في القصيدة أنثى، لكن هذه الأنثى لم تعد تمثل الحب أو الحنين، بل الاختراق المُباغت والانقلاب المفاجئ. إنها:

"تتسلل في زفة الأقنعة" → الغواية المتخفية.

"تكمن خلف الحروف" → المكر المستتر.

"تفسد الآتية" → التخريب البنيوي للزمن.

وهنا، يتحول الآخر إلى قوّة تخريبية، ليست فقط موضوعاً للرغبة، بل مصدراً للتهديد. والذات الشاعرة، رغم تماسكها الخارجي، تبدو هشّة أمام هذا التطفل. وهو ما يجعل القصيدة تنتهي لا بالحسم، بل بالتساؤل والشكّ:

"وهل قفزة... دفعة واحدة... تستطيع أن تفسد الآتية؟"

سؤال بلا إجابة، لكنه يُعلن هزيمة البراءة أمام التسلل الماكر.

خاتمة: الشعر كتقنية للمقاومة

في جوهرها، تقترح قصيدة "قفزة الظل... ونبوءة الأفعى" للشاعر عمار الصالح أنّ اللغة ليست فقط أداة كشف، بل أداة مقاومة. فالشاعر، وإن أصيب بخديعة الصورة المتسللة، لا يسقط في الانهيار، بل يحيل الجرح إلى مجاز، ويحوّل الصدمة إلى صوت.

إننا أمام قصيدة تمارس نقداً وجودياً داخلياً للخيبة، وتحاول إعادة بناء العالم لا من خلال الحنين، بل من خلال تسمية المخاتلة باسمها، وفضح "قفزتها"، وقراءة الزمن عبر رمادها.

كلمة أخيرة

"قفزة الظل… ونبوءة الأفعى" ليست مجرد نص عن الحب أو الخديعة.

إنها عملٌ تأويليٌّ مكثفٌ، يرصد خيانة المعنى، وانهيار البراءة، وتمزّق الداخل تحت وطأة المفاجآت النفسية والرمزية.

قصيدة تكتبُنا، كما نكتبها، وتُفجّر فينا سؤالاًً قديماً متجدّداً:

من أين تأتي الطعنات… ومن يزرع الأفعى في الحقل؟

***

بقلم: عماد خالد رحمة - برلين

......................

قفزةُ الظلّ... ونبوءة الأفعى

بقلم: عمار الصالح

تُفاجئيني، من زحامِ الكَلِمِ،

تأتينَ من غَفواتِ جُرحٍ مُبهمِ

تتسلّلينَ كأنّكِ الأقنـاعُ في

زفّةِ الوجوهِ بلا ملامحِ مُبْرَمِ

تَكْمُنينَ خلفَ الحرفِ، تحفرُ صمتَهُ،

وتقفزينَ إلى الكُؤوسِ من العَدَمِ

لم أَكُ هادئَ، لا ارتَحتُ في سَكَني،

منذُ استَباحتني الكوابيسُ العِظَمِ

في عزِّ ضوءِ النهارِ، بدتْ جُنوناً،

تنهشُ نعمتَ راحتي وتَهُدُّ دَمْ

ما كنتُ شاعرَ لحظةٍ مترفَ الأسى،

لكنني المصلوبُ في وَقْعِ النَّدَمِ

قفزاتُكِ الخائنةْ... يا شهوةً

أفزعتْ وردي، وأوجعتِ الحُلَمِ

يا أفعَةً مَرقّطَةً في سِحرِها،

تَغتالُ من لغتي رحيقَ التُّرْنُمِ

هل تشعلينَ الواديَ المُطفأَ الثرى؟

وتدّعينَ بأنّكِ النّارُ من قِدَمِ؟

هل تستفزينَ الحقولَ، وتُجدِبينَ

شَغَفَ الغمامِ، وتُسْكِتينَ التُّهَمِ؟

قفزةٌ... دفعةٌ من ظِلٍّ مريبْ

أفسدتِ الآتِي، وسرّ المُنْعَمِ

هذي الحقولُ انكفأتْ في حزنِها،

وجداولُ الأشواقِ جفّتْ من ألمِ

تُفاجئيني، كالعواصفِ في الضميرْ،

لكنني... لم أعد أهوى السعيرْ

إني تعلّمتُ النجاةَ من النُّبوءَة،

واخترتُ نسيانَ الخديعةِ في الحريرْ

 

كثيراً ما نقرأ في كتب التراث الأدبي هذه العبارة: وأنشد قصيدته أو أنشد الشاعر شعراً فالإنشاد هو تلاوة الشعر بنبرة خطابية مفخمة، وهو أعم من الإلقاء الذي هو قراءة القصيدة بشكل عربي سليم ونطقها بشكل صحيح مع قدرة الشاعر على توصيل الانفعالات العاطفية....وبعد فقد ورد عن حسان بن ثابت بيته الآتي:

تغنَّ في كل شعرٍ أنتَ قائلهُ / إنَّ الغناءَ لهذا الشعرِ مضمارُ

الشاعر كريم القيسي هو من الشعراء الذين يجيدون إنشاد الشعر وإلقائه وغنائه مقاماً عراقياً أصيلاً... أقول عن الشاعر كريم القيسي أيضاً: إنه أسير الحرب والحب وهذه قراءتي له وعن وقوفه على باب السياب بوصف هذا الباب عنواناً لمجموعته الشعرية.

(1) العنوان بوصفه عتبة: مع أن الشاعر ينظم قصيدة العمود إلا أنه اختار السياب عتبة لديوانه الشعري وجعله باباً لقصائده، أيعني به باب التجديد في الصورة الشعرية أم يعني به باب الحب أم الاثنين معاً؟ فقد حفل الديوان بقصائد أصنفها كالآتي:

قصائد (غزلية / صوفية / وطنية / دينية / مدائنية).

(2) المعجم الشعري: لكل شاعر معجمه الشعري الخاص به، فهو هوية الشاعر، ولاسيما أن الشاعر يمتاح من بيئته، وتراثه، ولغته، ودينه، وتجربته، فضلاً عن ثقافته الذاتية إلخ...  وقد برزت في قصائد الشاعر الألفاظ الآتية:

(ألفاظ الطبيعة / ألفاظ دينية / ألفاظ الخمرة / ألفاظ أجزاء الإنسان / ألفاظ الموت والحياة) وظفها الشاعر بانسجام لخلق المعاني والصور... يقول الناقد حازم القرطاجني (إنَّ المعاني هي الصور الحاصلة في الأذهان عن الأشياء الموجودة في الأعيان) فالشاعر ينقل لنا أحاسيسه بصياغة واقع جديد يحلم به.

(3) التناص عند الشاعر: التناص أو التعالق النصي هو الإفادة من نص آخر مشهور ومتداول لتوظيفه في نص جديد، كأن يكون نصاً قرآنياً أو شعرياً أو مثلاً دارجاً أو رمزاً أسطورياً إلخ... ويسمى أيضاً الاقتباس أو التضمين عند العرب، وقد استعمل الشاعر تناصين في قصائده هما:

تناص الامتصاص: وهو التناص الذي لا ينقل النص السابق حرفياً ولكنه يلمح إليه كما في هذا البيت (من لم يكن في الطوفان معتصما / بمركبي لا نجا ولا عبرا) فالتناص كما هو واضح مع قصة نوح وطوفانه المشهور.

تناص التحوير: وهو التناص الذي يقلب فيه الشاعر النص السابق ويعكسه؛ لكسر الجمود وإثارة الدهشة وتحقيق المفارقة والتساؤلات كما في هذا البيت:

(وقفتُ لا هدهدٌ ينبئني / ولا عفاريتٌ تنقلُ الخبرا) هنا تناص معكوس مع قصة سليمان والهدهد الذي أنبأ سليمان بعرش بلقيس ونقل الأخبار له عن طريق العفاريت لكن الشاعر ليس لديه ذلك ؛ فوقوفه هنا جاء من باب الحيرة والاغتراب لا من باب انتظار الأنباء والأخبار والعرش وقدوم المرأة، كما قدمت بلقيس على سليمان.

إن التناص عند القيسي ليس مجرد حشو لرمز ديني أو تأريخي أو سيري، بل هو عملية امتصاص ابداعي صهره بموهبته ودمجها مع تجربته الشعرية الوجدانية.

(4) شعرية المكان: يحتفي الشاعر بالأمكنة كثيراً، ولاسيما الأمكنة ذات الفضاء الواسع المفتوح، ولعل هذا الاحتفاء عوضه عن الأمكنة المغلقة التي كان فيها (أقفاص الأسر) التي عاش فيها إبان حرب الثمانينيات، وعوضه أيضاً عن صور الخراب والدمار التي رآها عندما كان يعمل مراسلاً حربياً بعد 2003 م... ومن الأمكنة التي ذكرها (بغداد / ديالى / الأنبار / هيت / حديثة / البصرة إلخ كما في هذا البيت:

(قال الذين ادعوا هيتاً حبيبتهم / بأنهم أجملُ العشاق مذ عشقوا / يسَّابقونَ وعشقي اجتازَ أولَهُم / عشرين عاماً وقالوا إنهم سَبقوا).......

***

د. مثنى كاظم صادق

.....................

* باب السياب / مجموعة شعرية / كريم القيسي / الطبعة الأولى 2023/ دار المرايا للطبع والنشر والتوزيع / بغداد / باب المعظم. 

للشاعر عبد الستار نورعلي

الشعر ليس مجرد أداة تعبيرية، بل هو مرآة تعكس الفكر والوجدان الإنساني، ويُعيد تشكيل الواقع من خلال الرموز والصور الشعرية. في قصيدة "العنقاء" للشاعر عبد الستار نورعلي، يتجاوز الشاعر الطرح التقليدي للمرأة، ليقدمها كقوة ديناميكية تمثل جوهر الحياة ومحركها الأساسي. لا تكتفي القصيدة بالاحتفاء بالمرأة، بل تطرح إشكالية علاقتها بالمجتمع، بين الحاجة إليها كمكوّن أساسي للحياة، وبين الممارسات القمعية التي تحدُّ من دورها.

القصيدة تتبنى بُعدًا نضاليًا، حيث تصبح المرأة رمزًا للمقاومة والتجدد، وهو ما يعكسه استدعاء رموز قوية، مثل العنقاء والمطر والخيول، التي تشير إلى صراع حضاري بين الجمود والتغيير. لا يقف الشاعر عند حدود الوصف، بل يدفع القارئ إلى مساءلة القيم الثقافية والاجتماعية المحيطة بالمرأة، مما يجعل النص أكثر من مجرد قصيدة؛ إنه دعوة للتحرر الفكري والإصلاح الاجتماعي.

من خلال هذه القراءة النقدية، سيتم تحليل البنية الرمزية للقصيدة، وتفكيك رؤيتها للمرأة كمفهوم ثقافي واجتماعي، إضافةً إلى استكشاف العلاقة بين الأسطورة والتاريخ والواقع، في تشكيل الخطاب الشعري لمضمون النصّ.

العنوان ودلالته:

عنوان القصيدة "العنقاء" ليس مجرد اختيار عشوائي، بل هو مفتاح تأويلي للنص، حيث يستحضر الطائرَ الأسطوريَّ الذي ينبعث من رماده، ليجسد المرأة ككيان قادر على تجاوز المحن والقيود المجتمعية. هذا الاختيار يعكس رؤية الشاعر للمرأة كرمز للتحوّل والتجدد المستمر، مما يضع القارئ منذ البداية أمام ثنائية الصراع والانبعاث التي تحكم بنية القصيدة.

الثيمة الرئيسة والمضمون:

تتجاوز القصيدة الطرح التقليدي للمرأة كمصدر للحب والعطاء، لتضعها في قلب معركة فكرية واجتماعية ضد التهميش والقمع الثقافي. من خلال استدعاء صور رمزية كالمطر، الحرير، والعصافير الفينيقية، ينسج الشاعر شبكة دلالية معقدة تربط المرأة بالحياة والحرية، مقابل قيود المجتمع التي تحاول كبح هذا الحضور الديناميكي.

المرأة بين الأسطورة والتاريخ:

يعتمد الشاعر على استعادة الرموز التاريخية والأسطورية المرتبطة بالمرأة، لكنه يعيد تأويلها وفق منظور معاصر يتحدى القراءة التقليدية. فحواء لم تعد مجرد رمز للخطيئة، وامرأة العزيز لم تعد مجرد امرأة خاضعة لرغباتها، بل تصبحان تجسيدًا لإرادة المرأة واستقلاليتها، وهو ما يعكس انحياز النص إلى رؤية متحررة من القيود النمطية.

النقد الاجتماعي والتاريخي:

تنحاز القصيدة إلى تفكيك الصورة المزدوجة التي يقدمها المجتمع للمرأة؛ فهي تُحاط بألقاب التقديس مثل "القارورة الرقيقة"، لكنها في الوقت ذاته تُحاصر بقيود تحد من دورها الاجتماعي. هذا التناقض يتم كشفه في مشاهد رمزية مثل الفتاة التي تربي أخاها ليحقق النجاح، بينما تظل هي في الظل، وكأنها مجرد "حائط مصدوع" في نسيج المجتمع، تعبيرًا عن التهميش النسوي.

اللغة والأسلوب:

تتميز القصيدة بالتكثيف الرمزي الذي يمنحها أبعادًا متعددة تتجاوز القراءة المباشرة إلى تأويلات أكثر عمقًا. فـ"العنقاء" ليست مجرد طائر أسطوري، بل تتخذ بعدًا دلاليًا يعكس قدرة المرأة على التجدد والنهوض من رماد القهر. أما "التفاحة"، فهي استدعاء ضمني لحواء، حيث تعيد الشاعرة تأويل هذا الرمز ليصبح دلالة على الإرادة النسوية بدلًا من الخطيئة.

الإيقاع والموسيقى الداخلية:

تعتمد القصيدة على الإيقاع الداخلي الناتج عن التكرار الصوتي والدلالي لبعض المفردات مثل "المثل"، "العنقاء"، "البقاء"، مما يخلق تموجًا موسيقيًا يعزّز الانفعال الشعري. كما أن التوازن بين الجمل الطويلة ذات الطابع السردي والجمل القصيرة الحادة التي تحمل صدمة شعورية، يساهم في دفع القارئ إلى التأمل وإعادة النظر في المعاني المطروحة. هذه التقنية لا تعزز فقط الإيقاع، بل تُحدث تفاعلًا ديناميكيًا بين المتلقي والنص، مما يجعل التجربة القرائية أكثر تأثيرًا وحيوية.

تحليل الأبيات الآتية التي تناولتها من قصيدة "العنقاء" يكشف عن مستوى عميق من الرمزية والتأمل، وهو يضع المرأة في قلب محوري يمثل التغيير والنهوض، مع التركيز على الصعوبات التي تواجهها نتيجة التقاليد أو الفكر السائد. لنلقِ نظرة أكثر تركيزًا على الرسائل المبطنة والاستنتاجات النهائية:

1. بداية القصيدة "المرأة كحلم غامض":

بداية القصيدة تكشف عن رمزية عميقة للمرأة كحلم يتجسد في الخيال، حيث يُصور الشاعر المرأة على أنها حلم بعيد أو غامض لا يمكن إدراكه بالكامل، كما يظهر في قوله:

حين تكون المرأةُ الأحلامْ

تنسدلُ السَّتائرُ الحريرْ،

فلا نرى أبعدَ منْ أنوفِنا.

هنا، تُقدّم المرأة كحلم بعيد، متمنّع عن التحقق، ما يعكس النظرة الاجتماعية التقليدية التي تقتصر فيها رؤية المرأة على جوانب جمالية فقط، دون أن تُدرك أدوارها الحيوية والعملية في المجتمع. تتداخل الستائر الحريرية كرمز يعكس الترف، الرقة، والمثالية، مما يعني أن المجتمع في بعض الأحيان يُحجم عن رؤية الحقيقة كاملة عن المرأة، وتظل مكانتها محجوبة تحت غطاء من الانطباعات السطحية. ويظهر الشاعر أيضًا حالة من الانغلاق الفكري في قوله "فلا نرى أبعدَ منْ أنوفِنا"، مما يرمز إلى النظرة الضيقة التي تعيق فهم دور المرأة الحقيقي في المجتمع.

2. تقدير المرأة كقوة حية ومؤثرة:

في المقطع الثاني، يتحول التصور عن المرأة من مجرد كائن جميل إلى قوة حيّة تُحرّك الوجدان والمجتمع، كما في قوله:

وخافقٌ يضربُ في صدورنا،

فكلّ نبض امرأةٍ هديرْ

والمطر الغزيرْ.

المرأة هنا تظهر كقوة فاعلة، حيث يُرمز إليها بـ "الخافق الذي يضرب في صدورنا"، ما يعكس تأثيرها العميق في نفوس الأفراد. كما يرمز الشاعر إلى طاقتها الحيوية بأنها "هدير" قوي يشبه حركة البحر التي تتجدد باستمرار، بينما يرمز "المطر الغزير" إلى خصوبة وقوة المرأة في بعث الحياة، سواء على مستوى الوجود الفردي أو المجتمعي. هذه الصورة تُظهر المرأة كمصدر للتجديد والإلهام في الواقع.

3. التساؤل حول ردود الفعل تجاه دور المرأة:

أما المقطع الثالث، فيُثير تساؤلاً هامًا حول كيف سيتعامل المجتمع مع تغير دور المرأة: هل سيختار الانفتاح الذهني على قوتها وتقديرها، أم سيقاوم هذا التغيير بالصراع والعنف؟ يتساءل الشاعر:

نفتحُ حينها عقولَنا

أم نسرجُ الخيولْ

والسَّيفَ والرُّمحَ

وصوتَ الحلمِ الغريرْ؟

الرموز في هذا المقطع، مثل "الخيول والسيف والرمح"، تمثل الصراع والتحدي، مما يشير إلى مقاومة البعض للتغيرات التي قد تأتي مع تحرير المرأة. بالمقابل، "صوت الحلم الغرير" يعكس الرغبات والطموحات غير المحققة بعد، مما يعبر عن حالة من التردد الاجتماعي في كيفية التعامل مع هذه التحولات. فبينما يرى البعض في هذا التغيير تهديدًا لقيمهم التقليدية، يراه آخرون فرصة لبلورة واقع جديد.

4. تحولات البدايات، ولادة الأمل والحلم:

في حلمٍ

يُبرعمُ الرَّبيعُ فوقَ صدرِها،

ينتظر اللحظةَ كي يدخلَ في الفؤادْ،

يُعطّرُ الروحَ بدفء روحها،

يقتطفُ العشقَ ويبدأ الحصادْ،

في هذه الأبيات، يظهر الشاعر في إطار إبداعي غني بالصور الرمزية التي تعكس فلسفته الحياتية ونظرته العميقة لدور المرأة في الوجود. يُصوّر الشاعر المرأة كحاضنة للحياة، حيث يُبرعم الربيع فوق صدرها، مما يعكس بداية النماء والتفتح. هذا التصوير لا يقتصر فقط على المعنى البيولوجي للأمومة، بل يتعداه إلى كونها رمزًا للعطاء المتجدد. كما أن "ينتظر اللحظة كي يدخل في الفؤاد" يشير إلى لحظة تحول حاسمة تتداخل فيها الأحاسيس السطحية مع الجوانب الأعمق للروح، مما يعكس التأثير العاطفي العميق للمرأة في الوجود.

في "يُعطّرُ الروحَ بدفء روحها"، يُقدم الشاعر تصورًا للمرأة ككيان روحي يمنح الحياة دِفئًا وإشراقًا، تمامًا كما يترك العطر أثرًا دائمًا. أما "يقتطفُ العشقَ ويبدأ الحصاد"، فيعكس اكتمال الدورة الإنسانية وتحوّل المشاعر إلى تجربة ملموسة، تتوج بالإنجازات التي تفيض بالعطاء. هذه الأبيات تتسم بغنى لغوي ومهارة تصويرية، مما يتيح للقارئ التفاعل مع المعاني المبطنة والتأمل في مسار النمو والازدهار الذي يوصل إلى النضج.

5. الأسطورة وتعدد دلالاتها، تفاحة الخطيئة:

في كتبِ الرِّوايةِ الأولى:

غزالةٌ تسلَّقتْ تفاحةَ البقاءْ،

وانتزعتْ تفاحةً لتقضمَ الغرامَ

واللعنةَ، والدهاءْ،

الاستدعاء للأسطورة التقليدية في قصة "آدم وحواء" عبر التفاحة يضيف بعدًا رمزيًا عميقًا. التفاحة، التي كانت رمزًا للخطيئة والمعرفة المحرمة، تُعيد إنتاج المعاني المتداخلة التي تجمع بين اللذة والعذاب، العشق واللعنة. في هذه القراءة، تظهر "الغزالة" كمخلوق برئ، لكنها تتجاوز البراءة لتصبح رمزًا للتمرد والتحدي على القيود الاجتماعية والأخلاقية. من خلال سعيها وراء التفاحة، تُظهر الغزالة رغبتها في اختبار المحرمات، مما يجعلها تتجسد كرمز للمخاطرة والتجربة التي تحمل في طياتها قدرًا من الهاء

6. جمال يوسف وصراع الرغبات:

امرأةُ العزيزِ راودَتْ فتاها عنْ نفسهِ

في حضرةِ العشقِ، وفي أمّارةِ الرَّغبةِ

في مملكةِ الأهواءْ،

استحضار قصة يوسف وزليخة في هذا المقطع يظهر الصراع بين الرغبة المكبوتة والعشق المُعذِّب. في "مملكة الأهواء"، يتجسد الصراع الداخلي للمرأة التي تتجاوز محظورات المجتمع وتتمرد على القيم التقليدية. "هيتَ لك" تصبح صرخة تحرر ورغبة خارجة عن المألوف. وفي المقابل، يظهر يوسف في هذا السياق أسيرًا لجماله، ما يعكس مأساة مزدوجة: من جهة هو في صراع داخلي مع رغباته، ومن جهة أخرى هو ضحية الجمال الذي يُستخدم كأداة للصراع بين القيم المجتمعية والتوقعات الشخصية.

7. الجمال وجدلية المأساة والمجتمع:

فانفجرتْ دماءُ صالةِ النِّساءْ،

صرخْنَ: هيتَ لكْ!

يا أيُّها الأبدعُ خلقِ اللهِ في البقاءْ

يُصور الشاعر الجمال كعنصر يثير التوتر والصراع في المجتمعات التي تحكمها تقاليد صارمة. جمال يوسف، رغم كونه هدية إلهية، يصبح مصدرًا للمعاناة والصراع بسبب التوقعات الاجتماعية والقيود المفروضة. هذه "التراجيديا" تجعل الجمال، بدلاً من أن يكون سببًا للسعادة، يصبح نقطة اشتباك بين الرغبات الفردية والأعراف المجتمعية، فيُظهر يوسف في هذا السياق كرمز للألم الناتج عن قيود المجتمع.

8. "استدعاء الأسطورة" تفاحة الخطيئة والمصير:

في كتبِ الرِّوايةِ الأولى:

غزالةٌ تسلَّقتْ تفاحةَ البقاءْ،

وانتزعتْ تفاحةً لتقضمَ الغرامَ واللعنةَ، والدهاءْ،

هنا، نجد إشارة ضمنية إلى النصوص المقدسة أو الروايات الأسطورية الأولى التي وضعت الأسس لمفاهيم الحب والخطيئة. "غزالةٌ تسلَّقتْ تفاحةَ البقاء" يرمز إلى البراءة والجمال الذي يتحدى الممنوع، كما في قصة "آدم وحواء". التفاحة في هذا السياق تتجاوز معناها التقليدي لتصبح رمزا لتجربة الإنسان المليئة بالتناقضات، من الحب إلى الخطيئة، من اللذة إلى العقاب.

9. استدعاء قصة يوسف ونساء المدينة:

امرأةُ العزيزِ راودَتْ فتاها عنْ نفسهِ

في حضرةِ العشقِ، وفي أمّارةِ الرَّغبةِ

في مملكةِ الأهواءْ

تُسلّط هذه الأبيات الضوء على قصة يوسف وزليخة من زاوية جديدة. هنا، الجمال يُعَذِّب يوسف، وتحول نساء المدينة إلى رموز للتمرد على التقاليد. في "مملكة الأهواء"، تُستعرض الرغبات المتناقضة، التي تثير الصراع الداخلي والخارجي على حد سواء، فتبرز المرأة في هذا السياق كمحرك للتغيير الذي لا يخلو من المخاطر.

10. انفجرت دماء صالة النساء، صرخن:

هيت لك!

يا أيها الأبدع خلق الله

في البقاء

"انفجرت دماء صالة النساء": يعكس هذا المشهد انبهار نساء المدينة بجمال يوسف الذي يبدو غير قابل للتحقيق، وتظهر الدماء هنا كرمز للقهر والدهشة المتزايدة.

"هيت لك": الصيحة تعبر عن رغبة مكبوتة، لكنها تحمل أيضًا تهديدًا بالخضوع للجمال كقوة خارقة للطبيعة ومصدر لتحديات اجتماعية ودينية.

11. جدلية الجمال والخضوع للمجتمع:

خُلِقتَ في أحسن تقويم

كنتَ لعبة المقدود من دُبُرٍ

وتجريح النساء

"خُلِقتَ في أحسن تقويم": استعارة من آية قرآنية تصف الجمال الذي خلقه الله بشكل مثالي، لكن هذا الجمال يوضع تحت ضغوط المجتمع الحادة التي تقيد حرية صاحبه.

"كنتَ لعبة المقدود من دُبُرٍ": استعارة تعكس غياب السيطرة الذاتية، حيث يُستغل الجمال وتصبح صاحبه مجرد أداة ضمن مؤامرات تُحاك حوله.

"وتجريح النساء": الجمال يصبح مصدرًا آخر للمعاناة، سواء لصاحبه أو لمن يتأثرون به، ما يُبرز التداخل بين النعمة والمعاناة.

12- إنّ ضلعي يتوارى اليوم خلفَ الظَّهرِ

يسقيني بساتينَ الهواء

وأناشيدَ خريرِ الماءِ صوبَ جنةِ البَّهاءْ

"إنّ ضلعي يتوارى اليوم خلفَ الظَّهرِ"هذه العبارة تعكس الشعور بالضعف أو التهميش، فالعلاقة بين الضلع والإنسان تحمل دلالات ثقافية ودينية، وقد يُفهم الضلع هنا كرمز للأنا المتوارية أو الهامشية.

"يسقيني بساتينَ الهواء": تصف هذه الصورة بساتين الهواء التي توحي بالوهم، مما يعكس حالة من التلاشي أو الآمال غير المحققة التي تظل بعيدة عن الواقع.

"وأناشيدَ خريرِ الماءِ صوبَ جنةِ البَّهاءْ": يربط الشاعر الماء كرمز للحياة والطهر بمكان بعيد عن الواقع، ما يوحي بالبعد بين الحال المثالي والواقع القاسي.

13. السَّلسبيلُ هُنَّ،

قيلَ: رفقاً بالقواريرِ، انكسرنا نحنُ،

والقارورةُ الزُّجاجُ في مكانِها

في حانةِ الصَّدرِ،

"السَّلسبيل": يرمز إلى الماء العذب من الجنة، ويُستخدم هنا ليعكس رمز الحياة والنقاء، كما يعبر عن صفات الروح الطاهرة للمرأة.

"قيلَ: رفقًا بالقواريرِ، انكسرنا نحنُ": إعادة توظيف للحديث النبوي عن النساء كالزجاج، مع نقد لحالة الانكسار التي تعانيها المرأة في الواقع، حيث يتحول الجمال إلى مصدر قسوة بدلاً من الحماية.

"والقارورةُ الزُّجاجُ في مكانِها": يظهر التناقض بين المظهر الخارجي المستقر للمرأة وبين الواقع الداخلي المهشم الذي تعيشه.

"في حانةِ الصَّدرِ": ترمز هذه العبارة إلى المكانة العاطفية للمرأة، ولكنها تحمل أيضًا إشارة إلى استهلاك المجتمع لها على الصعيد العاطفي.

"وفي أحسنِ تقويمٍ، وفي أجملِ تنظيمٍ": يعكس هذا الاستدعاء النقدي لتناقض صورة الكمال المثالية مع الواقع الذي يعاني فيه النساء من الانكسار والتهميش.

"وأشهى منْ دمِ الغزالْ": رغم جمالها، المرأة تُعامل كفريسة في مجتمع لا يقدر جوهرها، بل يراها مجرد غاية يتم استغلالها.

من خلال النصّ الآتي أدناه من القصيدة، يقدم الشاعر نقدًا اجتماعيًا يعكس التناقضات العميقة بين الصورة المثالية التي يتم تقديمها للمرأة وبين الواقع المعيش الذي يظل مليئًا بالقهر والانكسار، يقول الشاعر:

أبي وأمي أرضعاني مَثَلاً،

أختي التي ربّتني أحيا مثلاً،

أكملتُ منْ تحت يديها؛

كي تراني مثلاً،

مُدرِّساً صرْتُ،

وصارَ السِّينُ والصَّادُ مثالاً ساطعاً:

مهندساً، محامياً، مُطبِّباً،

أو عاملاً مكافحاً، أو قائداً مثقفاً

أو ناشرَ الهواءِ في الأرجاءْ،

أختي التي ربّتني أحيا مَثَلاً

ظلّتْ جوارَ الحائطِ المصدوعِ تحيا مَثَلاً،

كانتْ تصوغٌ الثوبَ بالخضرةِ، بالماءِ،

بتغريدِ الحمامْ

وحبِّ مَنْ يغزلُ مِنْ غنائهِ حلاوةَ الأحلامْ

ورايةَ السلامْ،

في مرضي

كانتْ هي الضِّمادَ والدَّواءَ والحنانْ.

في الامتحانْ

تجلسُ في فُوّهةِ البابِ وفي لسانِها

زغرودةُ النجاحْ،

في السِّجنِ زارتني

وفي العينين كبرياءْ،

لا تعبٌ مرٌّ ، ولا إعياءْ،

وقلبُها صُلْبٌ منَ الصُّمودْ

والأملِ الموعودْ،

وحينَ لفّوا الحبلَ حولَ الرَّقبةْ

أو فجّروني ارتفعتْ برأسِها، صاحتْ:

سيبقى مَثَلاً ، وخالداً،

مادمْتُ في الأحياءْ،

ما دامتِ العنقاءُ والرَّمادْ والبقاءْ.... هذه الابيات تعكس صورة عميقة عن تأثير العائلة، خاصة الأخت، في تشكيل شخصية الانسان وتحليل النص بشكل مختصر: "أبي وأمي أرضعاني مَثَلاً": يُظهر الشاعر دور والديه في غرس القيم والمبادئ منذ الصغر، بحيث تكون هذه القيم مثل الغذاء الروحي الذي يغذي الشخصية. واستخدام مفردة "مثلاً" يعبر عن أن هذه القيم لم تكن مجرد تعليمات، بل جزءًا أساسيًا من تكوينه الشخصي.

"أختي التي ربّتني أحيا مثلاً": يتناول الشاعر دور الأخت باعتبارها نموذجًا يحتذى به، ويُظهر كيف أن الأخت لعبت دورًا محوريًا في تربيته وتشكيل شخصيته، خاصة في الأوقات التي قد يفتقد فيها الشاعر أحد والديه.

"ظلّتْ جوارَ الحائطِ المصدوعِ تحيا مثلاً": يبرز هنا تماسك الأخت في وجه الصعاب، ويُرمز إلى "الحائط المصدوع" بالصعوبات الاجتماعية، ويُظهر أن الأخت رغم هذه الظروف، كانت رمزًا للصمود والمثابرة.

"كانتْ تصوغٌ الثوبَ بالخضرةِ، بالماءِ، بتغريدِ الحمامْ": يقدم الشاعر صورة فنية للأخت كرمز للعطاء والجمال، حيث كانت تزين الحياة بكل ما هو جميل ومعطاء، مما يعكس تأثيرها الإيجابي على البيئة المحيطة.

"وحبِّ مَنْ يغزلُ مِنْ غنائهِ حلاوةَ الأحلامْ": تعبر هذه العبارة عن القدرة على تحويل الألم والتحديات إلى حلم جميل، فالأخت هنا تمثل الأمل والمثابرة.

"كانت هي الضمادَ والدَّواءَ والحنانْ": في لحظات الأزمة والمرض، تظهر الأخت بمثابة الحماية والرعاية الشاملة، بما في ذلك الجوانب الجسدية والعاطفية.

"في السِّجنِ زارتني وفي العينين كبرياء": يمثل السجن في النص رمزًا للظلم والقهر، بينما زيارة الأخت تمثل الدعم العاطفي والإنساني في أوقات المحن، وتجسد الكبرياء والمثابرة في ظل الصعاب.

"وحينَ لفّوا الحبلَ حولَ الرَّقبةْ": يقدم الشاعر صورة رمزية للإعدام أو القتل في سبيل قضية سامية، ويُظهر كيف أن التضحية لا تمحو الرسالة، بل تجعل منها رمزًا خالدًا.

"سيبقى مَثَلاً وخالداً": تُجسد هذه الجملة فكرة أن النضال والتضحية لا يزولان مع الفناء الجسدي، بل يتحولان إلى إشعاع دائم، بفضل من يحيي ذكرى الشهيد ويروي قصته.

"ما دامتِ العنقاءُ والرَّمادْ والبقاءْ": العنقاء هنا ترمز إلى التجدد والأمل بعد الموت، حيث يتم الربط بين الموت والحياة، مُعبّرًا عن فكرة البقاء والنمو بعد الانكسار.

في المجمل، يعكس الشاعر من خلال هذه الأبيات قيمة العائلة، وخاصة الأخت، في تعزيز القيم الإنسانية والصمود أمام التحديات، مشيرًا إلى أن التضحية والمثابرة تظل خالدة في ذاكرة الأحياء

الاستنتاج النهائي لتحليل القصيدة:

تُقدم قصيدة "العنقاء" للشاعر عبد الستار نورعلي رؤية شعرية شاملة تركز على قيم البطولة والتضحية، حيث يتم إعادة تفسير الألم ليصبح رسالة أمل متجددة. في هذه القصيدة، يُرفض التفكير في الموت كخاتمة نهائية، بل يُعاد تعريفه كبداية جديدة، حيث تذوب الأجساد بينما تظل الأفكار حيّة وخالدة في الوعي الجماعي.

في هذا السياق، تتجاوز المرأة في القصيدة دور المشاهدة السلبية للأحداث لتصبح قوة فاعلة في التاريخ، تحول الأحزان إلى منبع للإلهام وتعكس صلابة الإرادة في مواجهة التحديات. من خلال الرموز الفلسفية العميقة مثل الحبل، الانفجار، العنقاء، والرماد، تتجسد جدلية الفناء والبعث بشكل واضح، ليصبح الموت مدخلًا لعملية الخلود التي تُغذي النضال الجماعي.

لا تقتصر القصيدة على التعبير عن تجربة فردية للفقد، بل تعلو بها لتصبح قضية جماعية تنطلق من الألم الشخصي لتؤكد إرادة الحياة واستمراريتها. من خلال هذا الأسلوب، يتمكن الشاعر من تشكيل نص شعري يعكس المزيج بين الأسطورة، الرمزية الفلسفية، والالتزام بالقضايا الكبرى. وهكذا، تبرز القصيدة في النهاية أن الموت ليس نهاية مسدودة بل بداية جديدة، تتجسد في التضحية التي تُعيد الإنسان إلى حالة من الخلود، حيث يتحول من كائن زائل إلى رمز حي يُلهم الآخرين ويقودهم نحو أفق مشرق.

من خلال هذا السياق، تعيد القصيدة تعريف دور المرأة في إطار غير تقليدي، حيث تبرز كعنصر حيوي في المقاومة والتحمل، مُظهرة أن التضحية ليست مجرد فعل إنساني عابر، بل هي مسار طويل نحو الخلود، حيث يصبح الإنسان رمزًا يُلهِم الآخرين في رحلة النضال المستمرة.

***

سهيل الزهاوي

 

لكفاح الزهاوي

يستعرض المتن الروائي عددًا من المحطات المفصلية في تاريخ العراق خلال حكم حزب البعث، كاشفًا أسلوبه البوليسي في تأسيس دولة القمع والحديد، حيث أُطلقت يد الأجهزة الأمنية لترهيب وترويع المواطنين من خلال حملات اعتقالات اتسمت بالإرهاب، استهدفت بشكل خاص أعضاء الحزب الشيوعي. هذا القمع دفع بالشباب الثوري إلى انتهاج طريق الكفاح المسلح بوصفه سبيلاً للمقاومة والصمود، ما يُبرز أن الوجدان العراقي الحي يرفض الخضوع لآلة البطش البعثية، ويتشبّث بالتحدي والرفض. كما يعكس النص عقلية النظام البعثي الشوفينية والفاشية في استهداف القومية الكردية، سواء عبر حملات التهجير القسري إلى خارج الحدود أو إلى أعماق الصحراء، وصولًا إلى استخدام الأسلحة الكيماوية، كغاز الخردل، في هجمات وحشية. الكفاح المسلح الذي خاضته فرق الأنصار لم يكن طريقًا مفروشًا بالبطولات فحسب، بل واجه معوّقات شديدة، من اشتداد الحملة العسكرية، وتلغيم الجبال والسفوح بربايا الجيش، إلى دعم المرتزقة والجحوش بالسلاح والمال لإخماد حركة الأنصار. كما غذّت السلطات الأمنية الخلافات بين الأحزاب الكردية، مؤديةً إلى اقتتال داخلي بلغ ذروته في مجزرة "بشت آشان"، التي راح ضحيتها عشرات الشباب الثوري، أولئك الذين رفعوا راية الوطن والتحرر فوق كل اعتبار، وسقطوا على أيدي زمر الحقد والعدوان. ورغم أن نضال الأنصار حمل إنجازات مشهودة، إلا أن الرواية لا تغفل عن الإخفاقات، مثل اختراق صفوف الحزب ووحدات الأنصار من قبل وكلاء الأمن، وسوء اختيار قادة الفرق ممن تنقصهم الكفاءة والخبرة. كما يسجّل النص ارتباكًا سياسيًا في تحديد أهداف الكفاح المسلح، وتعقيدًا ناتجًا عن الصراعات الكردية الداخلية، التي غذّتها السلطة المركزية دعمًا لطرفٍ على حساب آخر. لكن، ورغم هذه العوائق الهائلة، فقد أظهر الشباب الثوري صلابة لافتة، متحدّين قسوة الشتاء، والثلوج التي تغلق الطرق، والأهوال الطبيعية، حاملين روح الصمود التي تأبى الانكسار حتى في أقسى الظروف.

1- نضال:

باعتباره الشخصية الساردة، مستخدمًا ضمير المتكلم أو صوت الراوي العليم. حين اعتُقل شقيقه "حاذق"، أدرك أنه الهدف التالي، فشجّعته والدته على الهرب، لينجو بنفسه من المصير ذاته. قرر حينها التوجّه إلى كردستان للالتحاق بشقيقه الآخر "كمال"، الذي كان بدوره قد أفلت من حملة الاعتقالات.  لكي يرتب اتصاله وانضمامه الى صفوف الأنصار .  ويرتب خروجه الآمن من بغداد ( توجّهتُ إلى مكان عملي، وكنت حينها أعمل في مستشفى بعقوبة المركزي، الذي يبعد عن منزلنا ساعة تقريبًا بالسيارة. هناك طلبتُ إجازة لثلاثة أيام، اعتقدت أنها كافية للمغادرة. استعدّيت أنا وأخي قحطان لمغادرة منزلنا في بغداد دون تأخير بعد عودتي من بعقوبة." (ص229) ظلّ هاجس الهرب يُلاحقه، وسط شعور بالارتياب والحذر من نقاط التفتيش المنتشرة على الطريق، وقد شكّ به أحد الجنود بسبب رداءة الخط في دفتر الخدمة. لكن نضال تمالك نفسه وردّ بثقة ساخرة: "جان خطه مو حلو، على أساس يعدله، خطية راد يكحلها... عماها." (ص235) وصل أخيرًا إلى قرية "أحمد آروى"( برفقة مجموعة من الأنصار، ليبدأ فصلاً جديدًا في الحياة الجبلية القاسية المحاصَرة بربايا الجيش والمرتزقة، حيث عانى مع رفاقه شحّ التموين، حتى أنّ بيضتين فقط كانت توزّع على خمسين مقاتلًا! ) (ص248) جلب المياه كان مغامرة محفوفة بالمخاطر، وسط الانحدارات المكشوفة ونيران العدو، حيث تُحمَل المياه في قناني بلاستيكية على ظهور البغال. وقد استخدم نضال خبرته في التمريض لخدمة الأهالي، ما أكسبه احترامهم وتقديرهم. ورغم تهديد المرتزقة، وصعوبة الطبيعة، ظلّ الشباب يتحلّون بروح التحدي، مدركين أن كسر آلة القمع يتطلّب تضحيات، خاصة وأن العدو امتلك أدوات متطوّرة مثل مناظير الرؤية الليلية وقنّاصة يُصيبون أهدافهم من مسافات بعيدة. في مشهد بالغ التعبير، يصف الراوي اجتيازهم للمسالك المغطاة بالثلوج: "كنا حذرين بتأنٍ في خطواتنا، بسبب كثافة الثلوج المتراكمة على طول المسالك الغامضة، وانتشارها بهيئة مخيفة على المنحدرات التي يمكن أن تنهار فجأة. مضينا نقطع شوطاً كبيراً في مسيرتنا نحو القمة حتى وصلنا إليها." (ص296) ختام هذا المقطع يكشف أن الرواية لا تمجّد البطولة فحسب، بل تُجسّد تجربة التشبث بالحياة، في مواجهة آلة بطش متوحشة، وفي حضن طبيعة

2 - حازم:

يظهر "حازم" في الرواية كشخصية نضالية بارزة. خريج كلية الآداب، قسم اللغات، ومتزوج من "سهاد"، شقيقة نضال. يعمل في شركة كبيرة للإنشاءات، ويتمتع بشخصية مرحة ومحبوبة. لكنه، في خلفية حياته الاجتماعية، كان مناضلًا حقيقيًا؛ اعتُقل في انقلاب شباط الأسود 1963، ونُقل إلى سجن "نكرة السلمان" ضمن ما عُرف بـ"قطار الموت". لم يكن مجرد عضو حزبي، بل قائداً ذا خبرة عسكرية، سبق أن خدم كضابط في الجيش، وناشطًا في الحركة الطلابية، مما جعله دائمًا في مرمى المراقبة الأمنية. أُعيد اعتقاله في أواخر السبعينيات، بعد تصاعد الإرهاب في ظل الجبهة الوطنية، حيث أُعدم 31 إنسانًا بتهمة ملفّقة تتعلّق بتنظيم حزبي في صفوف الجيش. يحكي حازم عن تجربة تحقيقه القاسية: ("كانوا يعرفون كل شيء عني، حتى أدق التفاصيل عن حياتي، حركاتي، اجتماعاتي، وحتى ألوان الملابس التي أرتديها. وعندما أنكرت ما ورد في تقريرهم، أعادوني إلى الزنزانة.")  (ص115) ورغم عرض السلطات عليه تولي أي وظيفة يرغب بها، رفض ذلك بإباء، ثم غادر إلى كردستان، ومنها إلى بلغاريا. وفي عام 1982 عاد إلى الوطن والتحق بصفوف الأنصار في جبل قنديل، على سفوح بشت آشان. كلّفه الحزب بمهمة سرية إلى بغداد، لكنه تدارك الموقف سريعًا حين علم أن الأجهزة الأمنية تعرف بوجوده هناك — بسبب تغلغل عناصر الأمن في الحزب — فانسحب فورًا قبل الوقوع في الأسر. مع ذلك، سقط في هجوم مباغت نفذته قوات "أوك" (الاتحاد الوطني الكردستاني) في مجزرة بشت آشان، التي أودت بحياة عشرات الشباب. أُصيب حازم بجراح بعد نفاد عتاده، ومع أنه كان ينزف، أجهزوا عليه بوحشية. لم يكتفوا بإصابته، بل امطروه بالرصاص وهم يصرخون مبتهجين: "- فنرسله إلى الجحيم الآن، ونمزقه ببنادقنا أربًا." (ص273) وهكذا أُعدم وهو ينظر إليهم بعينين تشعّان شموخًا وثباتًا. في لحظة احتضاره، يرسم النص مشهدًا إنسانيًا غارقًا في الرمزية: "يرفع حازم رأسه، فجأة انسكب شعاع من عينيه، فسقط على شاشة الحياة، فارتسمت لوحة كبيرة تظهر عليها سهاد، وأولاده ماجد وعمر، أمام ناظريه مبتسمين، وعلى وجوههم علامات الانتظار. شدّهم الشوق إلى اللقاء ولمّ الشمل... وإذ بابتسامة عريضة تغمر وجهه."

3 - عملية الأنفال:

يرصد النص واحدة من أبشع الجرائم التي ارتكبها النظام البعثي بحقّ الشعب الكردي، متمثلة في الهجوم الكيماوي الذي استهدف قرى عديدة، وخاصة مدينة "حلبجة المنكوبة"، ضمن ما أُطلق عليه اسم "الأنفال" — محاولة يائسة لإضفاء صفة "مقدسة" على جريمة همجية. أسقطت الطائرات صواريخ محمّلة بغاز الخردل، لتسمّم الإنسان والحجر والشجر. لم تقتصر الجريمة على الغاز فحسب، بل توسّعت باستخدام شتى أنواع الأسلحة الفتّاكة، ترافقها عمليات تهجير واسعة. الغاز أثّر في الجهاز التنفسي، وتسبّب في حالات اختناق وعمى وتشوهات جلدية. اضطر الأهالي والأنصار للفرار صوب المناطق البعيدة أو خارج الحدود، وسط ملاحقة المرتزقة والجحوش المدعومين بأسلحة متطورة. "تم استخدام جميع أنواع الأسلحة الفتاكة، بما في ذلك الأسلحة الكيمياوية. وأطلق النظام على جريمته الشنيعة اسم الأنفال، ليُغلف بها طغيانه. شنّ هجومه الهمجي على القرى الكردية الآمنة بعد تهجير سكانها، وقتل من وقع في أَسره... في ذلك الوقت كنا ننتقل من قرية إلى أخرى، بينما الجيش ومرتزقته يتعقّبوننا." (ص308) 4 - العودة بعد الاغتراب:

بعد أن نجا "نضال" من الموت المحقق، غادر إلى "الاتحاد السوفيتي"، وأُدرج في زمالة دراسية نُسب على إثرها إلى "أوكرانيا"، حيث التقى بفتاة أوكرانية وتزوجها رغم اعتراض والدتها. رزق منها طفلين، ثم هاجر إلى إحدى دول أوروبا الغربية، وهناك مكث لسنوات طويلة حتى عاد إلى العراق، مختتمًا غربةً امتدّت لـ"سبعة وعشرين عامًا".

4 - رحلة العودة بعد الاغتراب:

لم تكن أقلّ قسوة من رحلة الغياب. فكل شيء قد تغيّر، حتى الأماكن التي كان يحتفظ بها في ذاكرته بدت له غريبة؛ بيته القديم، الطرقات، التفاصيل التي ظلت حية في وجدانه... أصبحت أشباحًا لا تشبهه. لكن الشوق الذي ظلّ حيًا في أعماقه، كان موجّهًا نحو والدته؛ تلك العاطفة الصافية التي لم تشوّهها السنوات، ولا ابتعد عنها الحنين: "منذ أن تركتُ الوطن، شعرتُ بأن الرحيل سيكون بلا عودة. لكن كان يراودني الأمل دوماً أن أعود يوماً ما، كي ألتقي والدتي التي اشتقتُ إلى حضنها كطفل رضيع... إلى لمسات أصابعها وهي تغرسها بين خصلات شعري، وتربّت على ظهري لتسكّن آلام ضياع السنين. لم يتوقّف قلب أمي عن الخفقان لحظة واحدة، وهاجس الانتظار يصرخ ألماً، معبّراً عن مدى ارتعاشها ويأسها." (ص391)

***

جمعة عبد الله – ناقد ومترجم

 

الشاعر العراقي: عمر عبد الناصر

تتناول هذه الدراسة قصيدة "في روح بغداد" للشاعر العراقي عمر عبد الناصر من خلال ثلاثة محاور تحليلية: الأسلوبي، الرمزي، والنفسي. وترصد كيف تتحول بغداد في النص من مدينة جغرافية إلى كائن شعري أنثوي، وتُستعاد كذاكرة جمعية، وجمالية، وحسية. تتجلى قوة النص في انسيابيته الإيقاعية، وغنائيته، وفي بنائه الرمزي الذي يُماهي بين المرأة والوطن، ويخلق بُعداً نفسياً يعكس مقاومة الفقد والانتماء من خلال الحنين واللغة.

في زمن تعاني فيه المدن العربية من التشظي والتمزق، تأتي القصيدة كفعل وجودي مضاد، حيث تتحول الكلمة إلى وسيلة لترميم الذاكرة واستعادة الهوية. "في روح بغداد" ليست مجرد قصيدة حب، بل هي نص مركّب يعيد تعريف المدينة من خلال العاطفة والرمز. بغداد هنا ليست مكاناً، بل استعارة كبرى للأنثى، للحضارة، ولحالة وجدانية يُعاد استحضارها عبر الكلمات، في محاولة للتغلب على ألم الفقد والاغتراب.

أولاً: البنية الأسلوبية – لغة التكرار والإيقاع الحسي.

تعتمد القصيدة على التكرار الإنشادي كوسيلة لبناء الإيقاع، وهو ما يتجلى في اللازمة المتكررة ،يقول الشاعر عمر عبد الناصر:  "في روح بغداد / هناك أحب أن ألقاك".

هذا البناء يُعطي القصيدة طابعاً إنشادياً يدور في حلقة وجدانية متكررة، ويُعيد تشكيل "الروح" كحيز شعري، غير مادّي، تستعاد فيه كل معاني اللقاء والانتماء. ويتعزز الإيقاع من خلال التوازي التركيبي كما فيةقوله:  "في أغانينا... في أمانينا".

اللغة في النص تتراوح بين الفصحى الرقيقة والعامية المُضمّنة داخل السياق، مما يعكس ثنائية الهوية الصوتية: الرسمية والحميمية.

ثانياً: الرمزية – بغداد كأنثى / المدينة كذاكرة:

تأخذ بغداد شكل الحبيبة. هذا التماهي ليس سطحياً بل ينبع من آلية رمزية متجذرة في الخطاب العربي حيث تتماهى الأنثى بالوطن. يقول الشاعر:

 "في سماركِ المثيرِ اللامنتهي

وفي الوجه الإلهيّ.. البهي".

الوجه البهي، والسمار، ليست صفات أنثوية فحسب، بل استعارات حضارية لمدينة ذات بعد إلهامي. الرموز المحلية (شارع الرشيد، المتنبي، شاي الهيل) تشكل "أيكونوغرافيا" يومية تُعيد تمثيل بغداد بوصفها مركزاً وجدانياً للذاكرة والهوية.

ثالثاً: البنية النفسية – الحنين كآلية دفاعية ضد الفقد.

يوظف النص آليات "التعويض الرمزي" عبر الحب لاستعادة ما فُقد. يختلط صوت العاشق بصوت المواطن، حيث يتحول اللقاء الشخصي إلى لحظة انتماء جماعي، يقول الشاعر عبد الناصر: "كلَّ ما مرّ السلام فينا

كلَّ ما مرّ الزمان فينا".

هذا التكرار ليس فقط جمالياً بل يحمل وظيفة نفسية، حيث يصبح الزمن – عبر التكرار – جزءاً من فعل المقاومة والتشبث بالحضور الداخلي لبغداد. كما أنّ استخدام الأغاني الشعبية والأمثال (مثل "ما أجوزن أنا") يحمل دلالة انتمائية: إنه عناق جماعي للثقافة والهوية من خلال اليومي والمألوف.

الخاتمة:

في قصيدة "في روح بغداد"، للشاعر العراقية عمر عبد الناصر لا يستعيد الشاعر المدينة بوصفها مكاناً، بل بوصفها حالة شعورية مركبة تتجاوز الجغرافيا والتاريخ. تتجلى قوة النص في قدرته على محو المسافات بين الذاتي والوطني، بين الأنثى والمدينة، بين الحب والانتماء. ولعل هذه القصيدة مثال حيّ على كيفية صوغ الذاكرة عبر الفن، وكيف يمكن للشعر أن يكون مرآة لروح شعب بأكمله.

***

بقلم: عماد خالد رحمة - برلين

...........................

في روح بغداد

في روحِ بغداد

هناكَ… أُحبُّ أن ألقاكِ

في ذلكِ الجمالِ الذي...

أصِرُّ أن أراهُ فيكِ دوماً، وفيها

في شارعِ الرشيد

في خطانا التي يُزيِّنُها تلاقينا

في أغانينا... في أمانينا

في روحِ بغداد

هناكَ.. أحبُّ أن ألقاكِ

وأُسلِّمُ عليكِ كلَّ ما ...

مَرّ السلامُ فينا

في روح بغداد

في زحمةِ المقاهي

وضجةِ الساحات

أرى الحياةَ تكتُبُ..

كلَّ ما قيلَ عنه انمحى

وأنا وأنتِ نهيمُ في "المتنبي" *١

و"الدرابينُ"*٢ شهودٌ "بفيِّها" *٣…

وقتَ الضحى

و"شاي الهيل"*٤ قد حانَ موعدهُ

وناظمٌ بصوتهِ صدحا

و"أم العيون السود" معي هنا

وأنا… "ما اجوزن أنا"

"وخدك الگيمر وأنا اتريگ منا" *٥

في روحِ بغداد

تحلو حكايانا

وعراقية، تحلو أغانينا

في روح بغداد

جوٌّ غريبٌ…

ساحرُ الألحان

ودجلةَ بين عينيكِ

يُغازل الشطآن

ويؤنس ليلَ العاشقينا

بغداد… بغداد يا لهذي المدينة!

في روحِ بغداد

في ذلك الوجعِ الذي لا يَنقضي

وفي الجمالِ الذي صِغنا منهُ الذكريات

في لحظةٍ فيها التقوا..

عند ثغري وثغركِ فجأةً دجلةَ والفرات

في سَمارِكِ المثيرِ اللامُنتهي

وفي الوجهِ الإلهيِّ.. البهي

وفي التفاصيلِ المُشبّعاتِ بشمسٍ…

أطفأ نارَها عصيرُ الزَبيب المُعتّق

وفي نُقوشٍ على مَبْنَىً مُنمَّق

هدّهُ الزمانُ والصيفُ والآهات

لكنه ما زال واقفاً يُقاومُ الحرَّ…

ليُثْبِتَ أن بغداد أعرق

بغداد... بغداد يا لهذي المدينة!

في روحِ بغداد

تحلو حكايانا

وعراقيةً، تحلو أغانينا

في روح بغداد

هناك أحب أن ألقاك

وأسلمُ عليكِ كلَّ ما..

مرّ السلامُ فينا

كلَّ ما مرّ الزمانُ فينا

كل ما مرَّ الحنين

وغطى ليالينا...

بغداد... بغداد يا لهذي المدينة!

 

للشاعر يحيى السماوي.. من الظمأ إلى الفاجعة

مقدمة: تُعدّ القصيدة الشعرية اليوم وسيطًا تداوليًّا مكثّفًا، تتفاعل فيه اللغة والسياق والحسّ الجمعي في لحظة جمالية متوترة. وقصيدة "نهري بلا ماءٍ..." تندرج في هذا السياق بوصفها نصًّا شعريًّا ينفتح على أفق الحسين بوصفه حدثًا رمزيًّا مؤسّسًا للوعي العربي والإسلامي، متكئًا على لغة موحية، وبلاغة سردية مكثفة، تحوّل المشهد إلى لحظة صدمة دائمة.

في ضوء النظرية التداولية، سنسعى لتفكيك هذا النص على مستوى المقاصد، والافتراضات المسبقة، وأفعال القول، لنكشف عن المشهد التداولي الذي تبنيه القصيدة عبر مشاهدها الثلاثة المتلاحقة.

تأطير تداولي أولي للنص:

تعتمد القصيدة في بنيتها على التكثيف الرمزي وتفعيل أفعال القول غير المباشرة، فتبدأ بجملة خبرية:

"نهري بلا ماءٍ"

وهي عبارة تؤسس لفعل تداولي قَصديّ يتجاوز ظاهر القول (إخبار عن نهر جاف) إلى فعل تعجّبي أو احتجاجي، يراد منه التنبيه إلى مفارقة أو خلل في نظام الوجود. من هنا تبدأ القصيدة في تفعيل الوظيفة التداولية المعروفة بـ"الإنذارية" أو "التحذيرية"، وهو ما يشيع في النص بأكمله.

التداولية والمجاز الرمزي:

"وأما غابي

فيتيمةُ الأفياءِ والأعنابِ"

يتموضع هذا السطر في الحقل التداولي المتعلق بـفقدان البركة/الحياة/الكرامة. فالنهر الذي كان يفيض أصبح يابسًا، والغابة التي كانت تستظل وتمتلئ بالثمار أصبحت يتيمة، والتعبير عن الغابة بـ"يتيمة الأفياء والأعناب" يحيل إلى انقطاع النعمة وغياب المدد.

من منظور تداولي، ينتمي هذا القول إلى ما يعرف بـ"أفعال التقييم" وهو فعل يقوم به المتكلم في الحكم على الواقع، ومنح المتلقي مفتاحًا معرفيًا للتأويل، عبر صيغة انفعالية تحمل في طيّها حزنًا وخيبة.

لحظة الصدمة التداولية

"قُتِلَ الحسينُ؟

فكيف لا يغدو الضحى

ليلاً..

وشمسُ الصبحِ دون شهابِ؟"

تتموضع هذه المقاطع ضمن نموذج "الاستفهام التقريري الصادم"، والذي يُعد في التداولية من أبرز أساليب أفعال الإقناع، فيعرض الشاعر حقيقة تاريخية (مقتل الحسين) على أنها حدث كونيّ غير قابل للتصديق.

فالسؤال التداولي هنا لا ينتظر جوابًا، بل هو "سؤال تأكيدي" يُراد منه نقل وقع المأساة إلى مستوى كوني يتجاوز حدود الجغرافيا والتاريخ.

وتفعيل الزمن النهاري (الضحى) على أنه يغدو ليلاً، وتحويل شمس الصباح إلى نجم مطفأ، كلّها أفعال لغوية تنقل التوتر من المجال النصي إلى القارئ ذاته، ليشعر بالدهشة والخذلان.

تفعيل أفعال القول الانفعالية – مشهد السماء الباكية:

"لَطمَتْ ملائكةُ السماءِ خدودَها

وبكتْ عليهِ حجارةُ المحرابِ"

هذه الذروة في القصيدة تقود إلى المشهد الأعلى في البنية التداولية: مشهد الحداد الكوني. حين تتجاوز ردة الفعل عالم البشر إلى عالم المفارق (الملائكة) وعالم الجمادات (الحجارة).

الملائكة تلطِم، والحجارة تبكي. إنهما فعلان فائقان لطبيعة الأشياء، يُفعلان لغويًا كنوع من أفعال القول الانفعالية المكثفة:

"لطمتْ" فعل انفعالي بدائي يعبر عن ذروة الحزن.

"بكتْ" فعل إنساني يتجسد في الحجر ليصبح علامة رمزية على اختلال نظام الكون بعد مقتل الحسين.

هذا المشهد يعتمد على ما يسميه التداوليون "فعل التضمين الثقافي" (Presupposition)، إذ يفترض الشاعر معرفة مسبقة لدى المتلقي بثقل حدث كربلاء، ما يجعل المعنى يتشكل بعمق داخل العقل الجمعي.

المقصدية التداولية للنص:

تقوم النظرية التداولية على تحليل نية المتكلم وموقفه من العالم. وهنا، نستطيع أن نرصد المقاصد التالية:

1. الاحتجاج الرمزي: القصيدة لا تحكي مقتل الحسين كحدث، بل كـ"نكبة كونية"، فكل شيء انقلب رأسًا على عقب.

2. التفجير القيمي: يعلن النص عبر التداولية انهيار قيم "العدالة، والنبل، والقداسة"، حين يُقتل الحسين، فينهار العالم معه.

3. إعادة تأويل الزمن: الضحى يغدو ليلًا، أي أن الزمن لا يعود وسيلة انتظام، بل هو في حالة انكسار دائم.

4. نقل الحزن من الواقعة إلى الوجود: لا يُصوّر النص حزن الإنسان، بل حزن الكون كله، وهذه قمة البلاغة التداولية.

البعد النفسي الرمزي في تشكيل الذاكرة الشعرية:

إذا أضفنا إلى التحليل التداولي بُعدًا نفسيًا رمزيًا، اتّضح أن الشاعر لا يُوجّه خطابه فقط إلى العقل الجمعي، بل إلى اللاوعي الجمعي أيضًا، حيث تتشكّل الذاكرة الجُرحية بوصفها هوية مكسورة تعيد إنتاج الحزن بوصفه آلية إدراك ووجود.

فـ"النهر بلا ماء" ليس مجرد صورة عن الظمأ، بل هو تمثيل لأنا متصدعة تبحث عن رموز الحياة في مشهد موت. و"الغابة اليتيمة" هي اللاوعي المُجتث من الأمان الأولي، من ظلّ الأم وخصب الأرض، وكل ذلك يُصاغ بصمت الصدمة.

أما سؤال: "قُتِلَ الحسين؟"، فهو تجلٍّ واضح لما يسميه علماء النفس بـ"إنكار الفاجعة"، حيث لا تصدّق النفس ما حدث، فيأتي السؤال محمّلاً بذهول الإنسان أمام الجريمة، ورفضه النفسي العميق لها، وإن أدركها عقليًا.

وحين "تلطِم الملائكة" و"تبكي الحجارة"، فإن النص يُمارس نوعًا من الإسقاط النفسي، حيث تنفجر الذات الشاعرة من الداخل، لكنها تُحوّل ذلك الانفجار إلى رموز خارجية، لتجعل من الفقد صدمة شاملة.

بهذا المعنى، فإن الشاعر يُعيد تشكيل الحدث الكربلائي لا بوصفه قصة ماضٍ، بل بوصفه كربلة الوعي والوجود واللاوعي. فالقصيدة لا تتذكّر فقط، بل "تُكابد" عبر ذاكرتها، وتُقاسم المتلقي فجيعة مستمرة تتناسل رمزيًا في ذاته وتاريخ أمته.

الخاتمة:

إن قصيدة "نهري بلا ماءٍ..." ليست مجرد خطاب رثائي حسيني، بل هي "فعل لغوي مركّب"، يُستعمل فيه الشعر كوسيط تداولي ونفسي لإعادة سرد مأساة كربلاء بوصفها لحظة انكسار كوني وأخلاقي ووجودي.

النص يفعّل استراتيجيات متعددة: الاستفهام، الاستعارة، قلب الزمن، تأنيث الأشياء، إضافة إلى تفجير الرموز اللاواعية في جسد اللغة، ليعيد بناء المشهد من جديد في ذهن المتلقي.

وحين نقرأ في ضوء التداولية والتحليل النفسي الرمزي، ندرك أن القصيدة لا تبحث عن البكاء فقط، بل تسعى إلى زلزلة البنية الذهنية التي سمحت بقتل الحسين، فتصبح مقامًا لـ"بلاغة الغضب المقدس"، وإدانة للوجود الناقص، وتذكيرًا دائمًا بأن الحقيقة الدامية لا تزال تنزف فينا.

***

رياض عبد الواحد

...........................

نهري بلا ماءٍ  ..

وأمّا غابي

فيتيمةُ الأفياءِ والأعنابِ

//

قُتِلَ الحسينُ ؟

فكيف لا يغدو الضحى

ليلاً ..

وشمسُ الصبحِ دون شهابِ؟

//

لَطمَتْ ملائكةُ السماءِ خدودَها

وبكتْ عليهِ حجارةُ

المحرابِ

//

لَعَنَ الإلهُ القاتلينَ ومَنْ لهم

أمرٌ بِسَلِّ مهنّدٍ

وحرابِ

 

يشكّل الأدب دوراً عميقاً ومؤثراً في صناعة السياسة، ويتجاوز كونه مجرد تعبير فني أو ترفيهي، ليصبح وسيلة فعالة في تشكيل الوعي، وبناء الخطاب السياسي، وحتى تحفيز التغيير الإجتماعي، فهنالك أدوارعدة يلعبها الأدب في هذا السياق، يقف في مقدمتها، تشكيل الوعي الجمعي. فالأدب؛ سواء كان رواية أو قصة قصيرة أو شعراً أو حتى مسرحاً، يمكنه أن يعكس الواقع الاجتماعي والسياسي وينقله بعمق إنساني، مما يساعد على تشكيل وعي الناس الجمعي تجاه قضايا معينة. فمن خلال القصص، وفنون الأدب الأخرى، يعيش القاريء تجارب الآخرين، مما يجعله أكثر فهماً وتعاطفاً، وبالتالي أكثر إستعداداً للإنخراط في القضايا السياسية والاجتماعية.

إن كثيراً من الكتّاب إستخدموا الأدب كمنصة لمواجهة الظلم وكشف الفساد والنفاق السياسي. إذ يمكنه أن يتسلل الى المناطق التي تعجز عنها الصحافة المباشرة للوصول اليها؛ وذلك من خلال الرمز والسخرية واللغة الإبداعية. أيّ بمعنى أنه يشكّل نقداً للسلطة وكشف ما تخفي من أمور الفساد وغيرها.

صناعة الرموز الوطنية

كما أستطاع الأدب أن يصنع رموزاً وطنية وثقافية تكون جزءاً من الهوية السياسية للدولة. فعلى سبيل المثال، شخصيات أو أبطال أدبية مثل (دون كيشوت) في الأدب الإسباني أو (إنكيدو) في الأدب السومري العراقي القديم بملحمة كلكامش، يمكن أن تتحول الى رموز تعبّر عن قيم معينة تتبناها الدولة أو المعارضة للتعبير عن شيء ما. وبذلك فهية من صناعة الأدب. فالأدب أحياناً يؤثر في السياسات بشكل مباشر، حين يتبناه السياسيون كأداة للدعاية أو التعبئة، أو حين يثير ضجة مجتمعية تدفع الحكومات الى إعادة النظر في قراراتها وطبيعة صياغتها، وأحياناً له دور في التأثير بآتخاذ القرار ذاته.

لقد شكل الأدب مصدر إلهام للثورات، فالعديد من الحركات الثورية إستلهمت قوتها من كتابات أدبية قديمة أو معاصرة، سواء من خلال القصائد الثورية أو الروايات التي تعزز قيم الحرية والكرامة والمقاومة، فالأدباء الذين رافقوا الثورة الفرنسية والثورة الروسية أو حركات التحرر العالم العربي والعالم الثالث، كانوا مؤثرين، وشكلوا حافزاً للجماهير، ونضج أفكارها، ومما لا شك فيه، فالأدب يسجل اللحظات السياسية الكبرى، في حفظ التأريخ السياسي، بطرق إنسانية وشخصية أكثر من السرد الرسمي، ويتيح للأجيال القادمة فهماً أعمق لتلك اللحظات. إذ يُعد الأدب مرآة الشعوب ولسان حالها، لكنه يتجاوز في كثير من الأحيان مجرد التوثيق أو التعبير الجمالي، ليغدو قوة فاعلة في صناعة السياسة وتوجيهها. وذلك بما يمتلكه من قدرة على التأثير في العاطفة والعقل معاً، كما يمكن أن يصبح أداة للتمرد، والنهضة، والبناء، والهدم على حد سواء. فالأدب أداة لتشكيل الوعي السياسي، فمن خلال الروايات والقصائد، والمسرحيات، إستطاع الأدب أن يرسّخ قيّماً سياسية كالحرية والعدالة والمساواة وحقوق الإنسان.

 إنّ الكلمة الأدبية لا تكتفي بالشرح، بل تجعل القاريء يعيش التجربة بكل أبعادها النفسية والإنسانية، وهو ما يُحدث تحولاً حقيقياً في المواقف والأفكار. فعلى سبيل المثال لا الحصر، روايات نجيب محفوظ، وخاصة ثلاثيته، لم تكن مجرد حكايات عن أسرة مصرية، بل كانت مرآة دقيقة للتحولات السياسية والاجتماعية في مصر في النصف الأول من القرن العشرين. لقد جعل محفوظ السياسة في كتاباته ملموسة وحيّة في عيون القاريء من خلال شخصياته وسلسلة أحداثه عبرالأجيال.

بين الأدب والسياسة تأريخ مشترك

إن المتابع للعلاقة بين تأريخ الأدب والسياسة، سيجده كان وسيلة لمقاومة القمع وتعرية الإستبداد في ظل الأنظمة الديكتاتورية، فيصبح الأدب غالباً الملجأ الأخير لقول ما لا يُقال. فالشاعر أو الروائي أو الفنان، يلتف على الرقيب بأساليب رمزية وإستعارية، لكنه يصل الى الجمهور بشكل أقوى من الشعارات والخُطب. ومثال على ما تقدم، فأن الكاتب جورج أورويل في روايته (1948) قدّم صورة عن المجتمعات الخاضعة للرقابة الشاملة، وقد تحوّلت الرواية الى تحذير عالمي من مخاطر التلاعب بالوعي والسيطرة على الفكر.

ففي فترات النضال الوطني أو بعد الإستقلال لكثير من الدول والشعوب، لعب الأدب دوراً في بناء (السردية الوطنية) أي القصة التي تروي من نحن، وما مررنا به، ولماذا نستحق السيادة والكرامة. فهو هنا يُسهم في صياغة خطاب سياسي وثقافي تلتف حوله الشعوب. فشاعرالعرب الأكبر محمد مهدي الجواهيري، ومعروف عبدالغني الرصافي وغيرهما، آستخدم الشعر كأداة للمقاومة، وبث الروح الوطنية عند العراقيين، فأصبحت قصائدهما بمثابة بيانات سياسية تعبّر عن الهوية العراقية في مواجهة فترة الحكم الملكي ومن ورائه بريطانيا.

فهو محرك للثورات والتحولات الكبرى، فالكثير من الحركات الثورية لم تكن فقط مسلحة بالسلاح، بل بالكلمة المسلحة. فالقصائد والمقالات والروايات كانت تحفز الشعوب وتغذيها بالإيمان بعدالة قضاياها. وهذا ما حصل في الثورة الفرنسية، إذ كان فولتير وجان جاك روسو، تأثيرهما الفكري الهائل على الشعب الفرنسي، حيث أسست كتاباتهما وآخرين معهم، لمفاهيم (حقوق الإنسان) و(العدالة الاحتماعية) التي شكلت جوهر مطالب الثورة آنذاك.

لقد كان العديد من السياسيين أّن أعتمدوا على الأدب في خطاباتهم وخطبّهم، وبعضهم كان أديباً بالأساس. فالأدب يمنح السياسي أدوات بلاغية وفكرية تجعله أكثر قدرة على التأثير والإقناع. كما أن اللغة الأدبية تساعد في صياغة خطابات سياسية أكثر إنسانية وأقل جموداً. كما كان الرئيس التشيلي الأسبق (بابلوا نيرودا) شاعراً، وفاز بجائزة نوبل، وكان صوته الشعري مصدر إلهام لملايين الفقراء والمظلومين في أمريكا اللاتينية.

الأدب والتأريخ البديل للسياسة

بعكس التأريخ الرسمي، يقدم الأدب صورة أكثر إنسانية وعمقاً للتجربة السياسية. قد تذكر الكتب المدرسية عن حرب أو ثورة، لكنها لا تنقل أثرها على الناس، بينما يستطيع كاتب أدبي أن يجعلك تشعر بما شعر به الضحايا، المنفيون، الثوار، وكذلك المهزومون. فعندما تقرأ رواية عن الحروب (الطريق الى تل المطران) للكاتب العراقي الراحل فؤاد التكرلي، التي تكشف لنا عن أهوال الحرب العراقية الإيرانية بعيون إنسانية مؤلمة، بعيدة عن الشعارات الرسمية، كذلك الحال لو قرأنا رواية الحرب والسلام للروائي الروسي تولستوي، فتجد مدى قوة تأثير الأدب لدى المتلقي.

إذاً، يُمكن القول إن الأدب ليس فقط شاهداً على السياسة، بل فاعل فيها ومشارك في صياغتها. هو الأداة التي تشحذ الوعي، وتفك السلطة، وتعيد تعريف المفاهيم، وتوحد الناس حول قيم ومبادئ، لا تنتهي بآنتهاء الرواية أو القصيد، بل تبدأ منها.

الأدب كجسر بين الثقافات والسياسات المختلفة

ففي عالم تتشابك فيه المصالح السياسية وتتباين فيه الأيديولوجيات، يبقى الأدب واحداً من أنقى وسائل التواصل بين الشعوب. الذي يتجاوز الحواجز اللغوية والسياسية ليكشف عن الإنسان المشترك في كل مكان. وعندما يقرأ القاريء العربي رواية أمريكية تنتقد العنصرية، أو يقرأ الأوربي شعراً منفياً عن القضية الفلسطينية، تحدث لحظة من التفاهم الإنساني والتقارب تتجاوز الدبلوماسية والسياسة.

هذا البعد الإنساني الذي يتيحهُ الأدب هو ما يجعله عنصراً مهماً في (الدبلوماسية الثقافية)، حيث تسهم الروايات والمسرحيات والشعر، كذلك الفنون، في تليين العلاقات بين الدول، وفتح أبواب الحوار غير الرسمي، وبناء صورة إيجابية للشعوب تتجاوز سياسات حكومتها.

إنّ العلاقة بين الأدب والسياسة ليست علاقة تبعية، بل شراكة معقدة ومتشابكة. فكما تستعين السياسة بالأدب لبناء خطاباتها وتجميل صورتها، فإن الأدب يحتفظ لنفسه بحق النقد والرفض والتمرد. الأدب لا يصنع السياسة فقط، بل يضعها تحت المجهر، ويحمّلها مسؤولية الإنسان، ويذكّرها دوماً بأن ما لا تقدر على تغييره القوانين، قد تغيره القصيدة أو الرواية أو الفنون الأخرى بكل أشكالها.

***

د. عصام البرّام

تسطير منهجي: سنمارس على هذا النص الروائي فنّ التأويل داخل مساحة تيماتية معيّنة درءاً لكلّ إسهاب أو تسيّب في المخرجات التحليلية. ونقصد بذلك البحث في الرواية عن ممكنات تشكّل الإنسان داخل منظوريْن: منظور المؤلّف المبادر إلى المعنى. ثم منظور القارئ المعيد لإنتاج المعنى. مستندين في ذلك على مقولة أرسطو (إنّ في كلّ كلامٍ تأويلا، من جهةِ أن اللغة تعريفٌ لأشياءِ الواقع)

و رواية (اولاد الكريان) مساحة تخييلية تعْبُرُ باللغة السردية ممكنات المعنى وفائض المعنى لتُعرّف بواقعٍ يتعيّن في الزمان وفي المكان ويتصدّر فيه الإنسان منازل ومقاماتٍ تفضح صيرورته بحرفي الصاد والسين مساراً وتحوّلاً، أكثر ممّا تمجدها في دغدغاتِ الإخبار الإمتاعي.

و يقوم منهجنا التأويليّ المتواضع على استنطاق منطوقات الرواية وملفوظاتِها داخل ثلاثِ دوائر:

- دائرة العلامة:

و فيها نبحث عن ممكنات وجود مجازية للملفوظات، وهي تحضر داخل العلامة بشقّينِ: واحدٌ صنعهُ المؤلّف وثانٍ يستنطقه القارئُ\المؤوّل في بحثه عن الدلالات، وهذه الأخيرة ليست قطْعية نهائية تحسم مُخرجاتِ العلامة بقدر ما هي تقيمُ في وضعٍ تأجيليّ، كما عبر عن ذلك جاك ديريدا.

فإذا كانت الدلالة الأولى تستمد وجاهتها من المعنى المباشر الذي ارتآه المؤلف، فإن الدلالة الثانية والثالثة وغيرها، منفتحة على الاحتمال، وتتناسل أشكال هذا الاحتمال المتعددة حسب تعدد عدد المؤوّلين.

- دائرة التقاطع:

أن كل نصّ هو حصيلة تقاطع بين ما نفهمه من النص في لحظته الحاضرة وبين جملة المعارف التي نحملها في تراثنا الإنساني والتي تساعدنا على فهم هذا النص، كموؤوّلين للعلامات في غير انقطاع أو قطيعة مع هذا التراث الإنساني، لأننا نحمله في وعينا وفي لاوعينا شئنا أم أبينا.

خذ أي تيمة في الرواية، خذ مثلا موضوعة المقاومة. فإن تمثّلها لدي القارئ لا تقف عند حدود المعنى الذي رسمه لها الروائي في نصّ (اولاد الكريان) المبادر إلى المعنى، وإنما تتداخل معه معارف المتلقي وتمثلاته الخاصة عن مفهوم المقاومة انطلاقا مما ترسّب في ذهنه عنه انطلاقا من زوايا استقباله للمفهوم الذي تتحكم فيه ثقافةٌ مختلفة ومغايرة. فالقارئ المغربي القادم من زمن السبعينات يختلف في تمثله لفعل المقاومة عن قارئ ينتمي للألفية الثانية... وقارئ الرواية القادم من دروب كوبا مثلا سيختلف تمثله للمفهوم عن قارئ قادم من سويسرا ... وهكذا، فإن المشترك المعرفي الإنساني يتحكّم في إنتاج المعنى وبالتالي سيتحكم في عمليات التأويل. مع الإشارة إلى أن عوامل أخرى لا يتسع المقام لحصرها تدخل في توجيه هذه الدائرة.

- دائرة الأسلاك الشائكة:

و تختلف عن الدائرتيْنِ قبلها بحكم ارتباطها بالاحتراز والوقاية أكثر من ارتباطها بالمنهج في صميمية تفعيله. ونقصد بذلك أننا نحتمي بها في عمليات التأويل حتى لا يتسيّب خارج القراءات المعقولة والموضوعية، وحتى لا يتحول فعل القراءة إلى فوضى يلقي فيها أيّ قارئٍ أيَّ تأويل.

و كأننا ونحن نمارس التأويل على الرواية نصنع لأنفسنا سياجا دائريا شائكاً يحذّرنا كلما شطّتْ بنا القراءة خارج مقتضيات السياق والحال والمقام وغيرها. ويمنعنا من السقوط المجاني في ركوب فوضى التأويل ولذة القراءة العابرة خارج منطق القرائن والأدلة.

تمهيد:

تتألف رواية (اولاد الكريان) من أربع وأربعين حكاية تتفاوت في الحجم. منها الشاملة ومنها المركزة، تفادياً لاستعمال مقولات الطول والقصر باعتبارهما مقياسا كمّيّاً لا يفي بأغراض التحليل والمقاربة والتأويل، وباعتبار هذا المعيار قد أصبح متجاوزا في مجال النقد.

و قد سمّينا هذه الأجزاء أو الفصول حكاياتٍ لأن السارد أسند للقوى الفاعلة مهمة الحكي عن ذواتها وعن غيرها، في تشاكلٍ فنّي يؤرجح عمليات الحكي داخل زوايا نظر متعددة ومختلفة، تضع المتلقي في استشكال التلقي الجمالي الذكي الذي يربأُ بالرواية أن تُسلِم ذاتها في مجانية رخيصة لخطية الحكي الباهت.

الحكاياتُ في منظور قراءتنا هي دوائر إنسانية تتشعب أقدارها وقضاياها ومصائرها ومبدؤها ومنتهاها لتنسجم في بؤرة من البؤر الدلالية العميقة أو العقيمة، انسجامَ تسريد لا انسجام موضوع. فكلٌّ يجري في فلكه ولكنه يتاخم أفلاك غيره في غير ذوبان وفي غير امّحاء.

من هذه الدوائر ينبع معين ثرٌّ لأشكالِ الإنسان داخل الرواية. وهنا لا نتحدث عن الشخصيات أو الشخوص أو القوى الفاعلة. فهذه آليات تنتمي لفن التخطيب الروائي التي تفتح مغاليق البناء السردي للقارئ. أما همّنا فهو تتبع تشكّلات الإنسان في رواية (اولاد الكريان) داخل منظور وجود هذا الإنسان في علاقته بذاته وبالآخر، وفي علاقته بالقضايا الاجتماعية والسياسية والثقافية والنفسية، وفي علاقته بالهوية أيضا... إننا نشتغل في هذا السياق على تجليات الإنسان في ضعفه الوجودي الموسوم بالتمزق والتشظي والتيه والضياع والحيرة، دون أن ننفي عن الرواية تغنّيها بإنسان الإرادة والقوة الكامنة في تشكّلات المقاومة، سواء لدى الرجل أم المرأة، مثلَ الحضور القوي للغريب ولمينة الحريزية استشهادا لا حصرا...

مقْوَلَةُ الإنسان*:

1 – الإنسان الضعيف: يمثّله في الرواية، العطار الطاهر والد البتول. وهو بدوره يمثل شريحة اجتماعية واسعة في واقع الرواية وفي واقعنا نحن. وأراني لا أجانب صواباً إذا أقحمتُ هذا النوع في خانةِ الهارب إلى ركن الاستسلام خشية أن يطاله شيءٌ من الأذى. وأراني أيضاً أجده في المقولة العربية العاجزة التي ترفع عقيرتها بشعار (كم حاجة قضيناها بتركها). والتّركُ هنا ليس موقفا مؤسسا على قناعة أو توطينٍ للذات بقدر ما هو سلوك غير مسؤول يركن للدعة والاسترخاء والهروب والاستسلام، في غير حضور وفي غير قرار...

الإنسان في هذه النمطية مصنوع من مادة الخوف المجاني. ( وكان خوفه من البوليس خرافيا. كان داخل سوق راسو بشكل مبالغ فيه، تخيفه كلمة سياسة وكلمة مقاومة. هاجسه الأول أن يأكل رغيفه دون عناء – الرواية ص 11).

و لا أدل على ذلك من أن السارد قد ضاق بهذه الشريحة ذرعا فقال مشمئزّا (داخل سوق راسو بشكل مبالغ فيه). بمعنى أن هناك حدّا مقبولا للخوف قد يلتمس فيه الشارد للمعني بالأمر بعض العذر، زيادةً وإيغالاً في تصوير هذه الشريحة تصويراً واخزا مُدينا وشاجبا.

لا يمثل الطاهر نفسه، في تضييقٍ لأفق الرواية وفي تعقيمٍ لانسرابها داخل نسغِ الكتابة الفنية الناقدة والمنتقدة، بقدر ما يمثّل شريحة اجتماعية سادت قديماً وتسود حاضراً وتعيش في الظل البارد الموبوء برطوبة الوجود؟

تصور الرواية الإنسانَ في هذا المقامِ ضعيفا، وخائفا، وعاجزاً أيضا عن صناعة القرارات والحلول لذاته ولذويه. ولا أدلّ على ذلك من عجزالطاهر عن استيعاب مشكلة ابنته البتول لولا أن تدخّل الغريب وصنع بدله قرارا غيرياً ينقده وماءَ وجهه.

ليست مفرداتُ الضعف والخوف والعجز صفات ملتصقة بفردٍ نكرة في الرواية وفي المجتمع، إنها مقولات وجودية تكاد تطال الجميع بما فيهم البتول ووالدتها والتباع وولد اغضيفة وعلال وعبدالقادر ومسعود وغيرهم. وهي مقولاتٌ وجودية تأخذ أحجاما مختلفة باختلاف طبيعة الإنسان الموصوف في الرواية. وتتفاقم مفرداتها في شخص الطاهر الذي رسمته الرواية في صورتيْن: صورة الطاهرالممثّل للحالة العابرة وصورة الطاهر الكينونة. وهذه الكينونة تخرج من شرنقة المفرد إلى صيغة الجمع لتدين نمطية بشرية اختارت الظل البارد الموبوء برطوبة الوجود عوض المواجهة، على حساب وجودها ووجود المقاومة والتاريخ، وإن كانت المقومة والتاريخ لا يحتاجان إلى مثل هذا الإنسان.

الخلاصة إذن، أن الرواية هنا لا تسجّل في مرآتية عقيمة ضعف الإنسان الذي تنتشله من خبايا الواقع وتلقي به في ردهات الخطاب الروائي. إنها تخييل ماكر يقبض على المعنى، ومنه معنى الضعف البشري، في أتون الإدانة والشجب الصامتيْن.

- اولاد الكريان، رواية لا تسجّل

- اولاد الكريان، رواية لا تمارس أدوار الفوتوغرافيا

- اولاد الكريان، رواية لا تنسخ الواقع بسلبية فنية عقيمة

- إنها رواية تعيد إنتاج الشكل الإنساني\البشري الضعيف في قالب تخييلي يتجاوز التوصيف والإخبار والحكي إلى إفعام الخطاب بأكثر من سؤال. وبالتالي فهي تفتح للمتلقي شهية المساءلة بعيداً جدّاً عن هدفية الإمتاع والمؤانسة.

2 – الإنسان \ الضحية:

ويتعلق الأمر باستخلاص صور الضحية من خلال البتول، الطفلة ذات الأربعة عشر ربيعاً أو خريفاً إن شئنا حقّ التعبير. وهي تمثّل الإنسان الهش الذي:

- تعرّض للاغتصاب

- ديسَ على إنسانيته

- اختزله المجتمع في بؤرة الجسد الجميل

- اختزله المجتمع في بؤرة اللذة فقط

- حرمه المجتمع من حقه في التعلم والتعليم

- رمى به المجتمع في صيرورة لا يريدها ولا تشبهه

- المجتمع يصنع قراراته بدله

- فرض عليه المجتمع وضعاً عائليا بإكراه

- حرمه من الإحساس بعاطفة الأمومة

- حرمه من ممارسة الأمومة

- جعله يعاني مأساة الفقد المبكر في فلذة كبده

- ...

والرواية في هذا المقام لم تقْسُ على الإنسان الضحية بقدر ما فضحت من خلاله شراسة الآخر وجبروته الجاهل وأنانيته المقيته ودونيته المرضية وعقمه الغريب في إنتاج أو تبني القيم الإنسانية.

تأويل الإنسان\ الضحية ليس بالأمر الهيّن في سياق رواية ذكورية بامتياز. إن كلّ ما قيل عن هذا النمط هو تحصيل حاصل، وهو تحويل تراكم الخطاب الروائي في متنه إلى متنٍ آخر يمارس عمليات التصنيف فقط. وهذا ليس مطلوباً في مقاربتنا التي تتغيّى تأويلاً أكبر وأكثر.

من هنا السؤال:

- هل كن في وعي السارد طرح مسألة الجندر؟

- هل يمارس السارد ضغطا حريريا على القارئ للالتفات والالتفاف حول ظاهرة الاغتصاب أو ظاهرة الحرمان من الحق في التعلم؟

- هل يكتفي السارد برصد الواقع المتعيّن في فترة الاستعمار والمقاومة ولوضع المرأة داخل هذا السياق الزمني والحضاري؟

- ألا تكفينا الدراسات الموثِّقة والموثَّقة النازحة من رفوف البحث العلمي لرصد واقع الأنثى بكل الدقة والعلمية الممكنتيْن ؟

- لماذا تأخذ البتول، وهي نموذج الإنسان\الضحية كل هذا الحجم السردي في الرواية؟

- لماذا تمحور الحديث عليها علما بأن الرواية وسمها صاحبها بالإسناد الذكوري (اولاد الكريان)؟

هذه أسئلة وأخرى تتناسل في هذا الاتجاه، تفيدنا أن المسألة لا تتعلق بتوصيفٍ يقدم للقارئ المعلومة عن مسألة الجندر في زمن الاستعمار والمقاومة، وإنما الأمر يتعلق بتخييل روائي يتجاوز الوثيقة والمرجعية العلمية. إنه تصور فنّيّ يروم السفر بذات المتكلم الواصف من رهان الألفية الثانية زمن تأليف الرواية (2024) إلى رهان البناء لعوالم تخييلية ممكنة تتقاطع فيها البتول الماضوية مع البتول الحاضرة وتطرح السؤال التالي: إلى أي حدّ استطاعت البتول اليوم الخروج من الأسر الثقافي؟...

و هكذا نستوعب الدرس جيّدا من السارد وهو يرمي في آذاننا وفي وجداننا أن الضحية أكبر من البتول... فالطاهر ضحية، والأم ضحية والتباع ضحية ومسعود وعلال وغيره ، ضحايا. والإنسان\الضحيةُ في الرواية ينقلب من حالة اجتماعية يمكن رصدها في دراسات علم الاجتماع، وفي غيره من العلوم، إلى حالة إبداعية تدين السياق التاريخي كله، وفيه تنبّه الرواية شرائح المتلقين إلى أبعد من وصف وتوصيف، ومن تخييل... تنبّههم إلى صيرورة استعمارية استغلت معطيات الجهل وافقر آنذاك، وحوّلتها بفعلٍ مبيّت وممنهج من استعمار مسلح إلى استعمار فكري يحلل الخلل في بنيات الإنسان والمجتمع بصورة مركبة أشد التركيب، ومستعصية أشد الاستعصاء على الفهم والاستيعاب والإحاطة والمعالجة.

تأتي الرواية لتفتح للقارئ منافذ أخرى لاستيعاب القضية من وجهة نظر أدبية تخييلية تكشف أوراق الاستعمار وتفضح صيرورته المبيّتة في الفتك بالهوية. وهي منافذ ونوافذ تجعل قراءة التاريخ ممكنة خارج قصدية الاعتبار وحده، كما دأبت الرؤية الخلدونية تفعل ذلك، إلى قصدياتٍ أخرى أكثر ارتباطا بالرؤيا بألف ممدودة ومنفتحة على ثقافة السؤال ثم الإدانة من داخل عوالم الأدب لا من داخل الوثيقة. والفرق بين العالمين لا يحتاج إلى شرح أو تفسير.

3 – الإنسان الشهواني: ندلف إلى هذا النمط من خلال ولد اغضيفة الذي رسمته الرواية جبارا في الحومة لا يُرفض له طلب، وتهابه الساكنة وتشتري رضاه بالأداء والعطايا...

لا تهمنا صورته في الرواية، وتهمنا تداعياتُ حضوره كحمولة إنسانية (بالمفهوم الوجودي لا بالمفهوم القيمي) قابلة لتفجير الكثير من التأويلات.

و هو لا يمثل ذاته فحسب، وإنما يمثل شريحة واسعة في الواقع وفي المتخيل الروائي، ارتضت أو ارتضى لها قدرها أو ارتضى لها السارد ألا تنخرط في الفعل الإيجابي (المقاومة مثلا). وانخرطت في مسالك رخيصة نتيجة ظروف ذاتية وموضوعية لم يبحث فيها السارد ولا القارئ. فهي في حكم المعلوم الرتيب والمألوف. ولد اغضيفة وفي تغييب تامٍّ لاسم الأب، يشي بالوجود الهجين، ووضعية النشاز.

تتمثل شهوانية الإنسان في سياق الرواية داخل ثلاثِ محطات: اثنتان صارختان هما: محطة اغتصاب البتول، ثم محطة اغتصاب مسعود...وثالثة مسكوتٌ عنها هي اغتصاب التباع... وهو الفعل الذي ترسمه سياقات الرواية بنوع من التكتّم والمحافظة تزيد تكتمه ومحافظتَه بلاغة السارد.

الإنسان في هذا السياق الروائي الماكرمُفْرغٌ من أدنى حسى إنساني، وأتساءل إلى أي حد كان بإمكان المغتصب أن يقف عند حدّ ممكن ؟

هذا الفراغ الإنساني مفارقٌ في ذاته ومفارق في غيريته، بدليل أنه تحوّل إلى كائن تصنعه مادة النهم واللاشبع. قال (سأكون أنا البادي. ولن يمسّها غيري. هي لي أنا وحدي من الآن فصاعدا. هل من معترض – الرواية ص 6)

لاحظ معي أيها القارئ منطلق حديث المغتصب وكلامه. إنه التصور الرخيص الذي تبنيه ثقافة الشارع، وفيها يلغي الإنسانُ الإنسانَ ويشيّؤُهُ ويقصي إنسانيته إلى درجة تحويله إلى نكرة تشبه البضاعة (هي لي أنا وحدي) في سردٍ تصويريٍّ يبلغ بالمعنى أقصى حدود القسوة والوخز الدلالي.

و في اتجاهٍ آخر، ومعاكس، يتحول الإنسان إلى كائن مفترس يترصد الضعف أينما كان وينقضّ عليه ليمارس عليه علويته المرضية وقوته الوهمية وشهوانيته المقيتة.

قال الحاكي (ولأنه بضٌّ وجميل أثار شهية ولد اغضيفة، وشهية ولد اغضيفة أمر لا مناص من إرضائه – الرواية ص 19). هذه الشهوانية تيمةٌ تتعقّبها الرواية في محطات أخرى منها شهوانية عبدالقادر وشهوانية الفقيه سي عيسى و...

و أكاد أقول إنها شهوانيات عابرة في مساحة الرواية السردية، ولكنها مرضية مادامت تمارس شبقها على البراءة. تجد هذه الحالة المرضية تعبيرها الروائي المشحون بالقسوة والنهم في قول السارد (صرف الفقيه التلاميذ وأمر البتول بأن تستظهر أمامه حزبا كاملا. " سبّح باسم ربك الأعلى ". استظهرته دون تلكؤ فأبدى إعجابه بها، عانقها، ضمّها إليه بحنان خاص. قبّل وجنتيْها، ثمّ امتصّ شفتيْها الصغيرتيْن من فرحته بنجابة تلميذته. حكت البتول لوالدتها عن فرحة الفقيه بها ولم تخفِ عنها شيئا – الرواية ص 9).

أنظر معي للوصف كيف جمع بين إدانةِ الفعل وبين وخز الفعل، في تصوير فنيّ لا يغلّف الحكاية بزينة البلاغات بقدر ما يًبرّز الفعل في أقصى حالات الهبوط المرضي للإنسان المدّعي فقها أو على أقل تقدير حملاً لكتاب الله في صدره. وكأنني بالقارئ الآن يستدعيه السارد في هذا السياق كي يكون ثالث ثلاثة ليأخذ بعنق الفقية ويوسعه ضربا مبرحا.

4 – الإنسان\ الجسد: نقصد بذلك اشتغال الرواية على تيمة الجسد كخطيئة في سياقٍ محظور تملي ضوابطَه الملةُ والدين والعرف والاجتماع وكل المواضعات.

نرصد هذه التيمة داخل شخص مسعود الملقّب في الحكاية بالمزغوب في إطار لعبة دلالية مفارقة، كما شأن السارد في توليفات علامة اسم البتول في نقيض ما وقع لها.

يقدم السارد شخصية مسعود كائناً جميلا يشبه والدته. وقد قيل عنه إنه كان أجدر به أن يُخلق أنثى.

لا يمثل مسعود ذاته في خلاء العبارة وجفاف الإشارة بقدر ما يمثل شريحة اجتماعية، هي على قلّتها تعاني قديما وحديثا من وضعٍ اعتباريٍّ لا يرحمها، ولا يضعها الموضع المناسب لتمارس حقّها في الوجود السويّ دون مواربة أو خوف أو شعور بالنقص.

و السارد هنا يمارس فعل الحكي أولا لهذه الظاهرة، وثانيا يخبرنا أن الكتابة عن هذه الظاهرة لابد أن تخرج من أقبية التابوهات إلى الاستجابة الثقافية للمستجدات والظواهر الحادثة والحاملة لعلامات النشاز في المجتمع العربي والمغربي خاصة. وحتى لا يقولّني القارئ ما لم أقل فأنا لا أتبنّى خروج الظاهرة إلى العراء والإعلان في سياق الشرعية أو اللاشرعية، فهذا مقام لا أخوض فيه.

و كأن حساسية الموضوع التي شكّلت حرجاً لبعض الكتاب العرب وجدتْ هنا وفي رواية (اولاد الكريان) يراعاً جريئاً فسح لها المجال في جمالية سرديةٍ متميّزة، للتجلّي والتمظهر أو للهمس والصراخ، أو للكشف والبيان. وفي أقل تقدير ممكن فالرواية فسحت للظاهرة مساحة فنيةً للحضور من زاوية القيم، وأقصد بذلك قيمة الحرية.

إن إشكالية علاقة الجسد بمثله إشكالية تأخذ هنا بعدين: واحدٌ واقعي تلفّه طبقاتٌ من التّكتّم والغموض بحكم رقابة الدين والأعراف. وثانٍ تخييلي يمتطي صهوة الشكل الروائي، وينحت طريقه إلى القارئ في تؤدة ملحوظة نظرا لوطأة الموضوع على المتلقي العربي. (ثم اقترب واقترب أكثر. كان يحب عينيه. نظرته كانت تشله. شرع مسعود يداعب مكامن الإثارة في خليله ويضحك. والآخر يردد: كم أحبّ ضحكتك. – الرواية ص 23). إن المتخيّل الروائي في (اولاد الكريان) لا يهمه ما وقع للجسد في صحبة الجسد بقدر ما يهمه الصدق الفني في نقل الواقعة في اتّجاهٍ، سمِّهِ أنت اعتبارا، وأسميه أنا انتقادا، ويسميه ثالثٌ جراةً، ويسميه رابع إخلاصا لنسغ العلاقة بين الواقعي والمتخيل، ويسمّيهِ خامسٌ وسادسٌ وهلم تأويلا، في إطار تحدثنا عنه في المقدمة المنهجية القاضية بترك الدلالة في وضعٍ تأجيلي إنصافاً لكل التأويلات الممكنة.

و تأويلنا للظاهرة لا يشط بعيدا ونحن نقول إن الرواية لا تدين الفعل فحسب، بل وأيضاً وأساساً، تمارس قراءتها للظاهرة داخل نسق نفسي لا ننتبه إليه إلا لماما، هو أن الشعور بالوسامة الذكورية لا ينبغي لأن يكون مدعاةً للخوف والقلق والاستلاب في الهوية الذكورية. وأركز على قراءة الرواية للجانب النفسي لأن مسار الحكي أفشى ما في قلب مسعود الذي تحوّل من كائن مستسلم إلى كائن مشتعل بروح الانتقام وعامر بالغضب.

و الأمر في آخره يكون إدانة لا لسلوك فردي وإنما هو إدانة لظاهرة جمعية موجودة في الواقع، وتدخل الرواية المجال لتقول في المسألة شيئا ممكنا تخييلياً وفنيا...

لا يسعنا في هذا المقام إلا أن نكتفي بهذه الأنماط في تشكل الإنسان داخل الرواية، علما أن المسار طويل ومتشعب، لأن الرواية تتناسل فيها الأشكال وتتداخل وتتشعب. نذكر منها الإنسان التقليدي في شخص والدة البتول وخناثة اللتين تمثلان شريحة المرأة\الشبح التي لا تمارس دورها إلا في العلاقات الاجتماعية التقليدية العادية. ولا تحضر في الرواية كأصوات متميزة وكعلامات لا تنتج الدلالة إلا داخل مقولة القبول والاستسلام للسائد.

 ومنها تشكل الإنسان السلبي والانتهازي الذي يركب الأحداث ليرتقي في السلم الاجتماعي، ونذكر هنا شخصية التباع الذي يمثل هذه الدلالة في حضورٍ روائيٍّ تباينت فيه مواقع التباع من حضور سلبي امتطى فيه المقاومة لاحتلال منصب إداري، إلى حضور إيجابي تمثل خاصة في إنقاد البتول من وضعية الانتظار، ولو بشكل عابر ومؤقت قبل أن يكتشف عجزه البيولوجي الفاتك بوجوده فتكاً صمتت عنه الحكاية، وتركته مفتوحاً في أفق تحريك تأويلات ممكنة...

- خاتمة:

لم نأل جهدا في البحث عن تشكلات الإنسان القوي في رواية (اولاد الكريان) انسجاما مع عنوان المقاربة وأخلاصا لنسغها في البحث المتواضع عن صور لهذا الإنسان في انحداره البشري. علماً أن مبدأ القوة واردٌ بشكل ملفتٍ في الرواية، وأكاد أجزم بأن المؤلّف تبنى رهان القوة في رسم معالم الإنسان داخل منظومة المقاومة عبر شخوص وقوى فاعلة لامس السارد من خلالها كثيرا من القضايا، مثل شخصية الغريب وشخصية رفائيل ومينة الحريزية وغيرهم ممّن حضروا في المتخيل الروائي حضورا ممتدّاً غيّروا من خلاله مسارات الأحداث.

و ارتأينا أن نركز على سمات الضعف لا لترجيحٍ أو مفاضلة بقدر ما الأمر قد تعلّق أساساً باختيار لزاوية نظر ونحن نروم مقاربة رواية في حجم (اولاد الكريان) وهي تتحدّانا بقدرتها الفنية على صناعة التخييل السردي داخل نسق إبداعي رمى يكل الثقل على الذاكرة والتاريخ والإنسان. وفي هذا النزوع رسمت الرواية لوحاتٍ قويّةً لغةً وحكياً وبناءً لإنسان الهامش في منطقة بيضاوية موسومة باسمٍ قدحي في الوجدان الشعبي المغربي الذي ألبسَ مفردة الكريان صبغةَ النقصان والدونية، فيما الأمر عكسٌ ونقيضٌ تمام العكس والنقيض... ذلك أن الكريان مقولةٌ مكانية مشبعةٌ بالزمان والإنسان والثقافة، وهي مقولة حمّالة أوجهٍ كثيرة، ترفل فيها دلالاتُ الثراء الفكري والثقافي والسياسي والشعبي وغيره من أشكال الثراء المعنوي. ولقد أشارت الرواية إلى ذلك في منعطفات متعددة من الحكي نذكر منها على سبيل التمثيل كلّاً من مقولة المقاومة، ومقولة التحول النسقي والوجودي في عقليات الشخوص ومصائرها مثل تحول علال وعبدالقادر من حالات التسكع والتيه إلى كينونة الإبداع والتصالح مع الذات والواقع: علال يتحول إلى مسرحي وعبدالقادر إلى ملاكم وولد اغضيفة إلى كائن ورع ومتصالح...

إن ذكاء السارد كمُنَ في الإشارات البسيطة والتفاصيل الأبسط حيث تقيم الدهشة الروائية الإبداعية، ومثال ذلك إضاءاته المتعلقة بتفاصيل الشموع وقناديل الزيت التي كان يستضيئُ بها أهل الكريان إبّان الاستعمار، وهي الأدوات نفسُها التي استضاء بها في زمن الاستقلال، في إشارة واخزة من السارد إلى أن دار لقمان بقيت على حالها، إدانةً لعمليات التغيير النازحة من قرار الاستقلال والتي لم تطل هذا الفضاء الذي يُشار إليه في كثير من السياقات أنه حيٌّ كان وراء استقلال أمّةٍ بكاملها.

***

بقلم نورالدين حنيف

......................

* المَقْوَلَةُ نشاط ذهني يفيد في تصنيف الأشياء والظواهر انطلاقا من اعتبارالمقولة استراتيجية معرفية أساسية في إدراك المفاهيم

تفضّل فأرسل لي الأستاذ الدكتور قصيّ الشيخ عسكر كتابه المثير للدهشة والجدل الذي يحمل عنوان" روايات وقصص من الخيال العلمي". وصلني هذا الكتاب بتأريخ 20.1.2011 مع كلمة إهداء لا أحلى ولا أبلغ منها حتى أني حسبتها جزءاً من قصص خياله العلمي الكثير السعة والمرونة. قرأتها بتمعن حين وصولها لي فكتبت أو خابرت الدكتور قصي ووجهت له سؤالاً واحداً: هل اختصاصك الفيزياء؟ قال كلاّ، إختصاصي اللغة والأدب العربيين ! لم يزدْ عَجَبي حسبُ إنما وازدادت حيرتي وزاد حَرَجي: ماذا عساني قادراً على الكتابة عن مثل هذا الأدب الذي رأيته ولم أزل أكبر مني ومن كل ما لديَّ من قدرات متواضعة محدودة قصيرة الباع والذراع؟ ماذا سيقول مثلي في مثل الأستاذ الدكتور البصراوي قضي الشيخ عسكر؟

الوقت والفراغ وتكالب العلل (تكسّرت النصالُ على النصالِ / المتنبي) تجمعت فوق رأسي لا حسب قانون التراكمات الكميّة والتحوّلات النوعية ولكن حسب قوانينها الخاصة وفوق وأول الجميع أحكام وقوانين العمر والزمان. أغرتني ـ ولا أقولُ أجبرتني ـ هذه الأحكام والعوامل على تقليب ما في مكتبتي من كتب منوّعة الأغراض والموضوعات وروايات أتاني أغلبها هدايا من أصدقاء ومعارف من كلا الجنسين بل ومن أناس أخيار نبلاء لا سابق معرفة جمعتني بهم. فوجئتُ بكتاب الأستاذ قصي رافعاً رأسه من بين مجاميع هذه الكتب فوسوست لي النفس الأمّارة بالخير والفضول وحب الإستطلاع أنْ أُعيد قراءة ما فيه لعل الزمن ليّن أو ألان صعوبة ما فيه من قصص خيالية لا ولن تقع في الدنيا ذات يوم. الأكثر صعوبة هو إختلاف الموضوعات بشكل بحيث لا يجد القارئ شيئاً أو خيطاً يجمعها أو يجعلها تقف في صف واحد ليقارن ويوازي ويختار الأفضل أو الأكثر إثارة. لذا قررتُ أنْ أمشي في طريق آخر عسى أنْ أحظى ببعض النجاح في محاولاتي لفهم وتحليل وتفسير قصص الأستاذ قصي. أعني أعمل مسحاً عاماً شاملاً لكافة قصص الكتاب من غير تسلسل رقمي لصفحات الكتاب. وأضع أسئلة دقيقة ثم أنتهي بتبني مخطط للنقد أو القراءة فحواه أني أفهم النصوص بعقليتي الخاصة وما فيَّ من قُدرات على التفسير والإستنتاج لا حسبما يريد ويتوقع كاتب النص. قد أقلب النصوص وأحفرها وأُنقّب تحت أديمها وما فوق هذا الأديم لأجد شيئاً يُريحني ويُقنعني وينفع القرّاء الكرام ويفكُّ الكثير أو بعض ما يعتري النصوص من غموض وإشكاليات. إتفقنا؟ إذاً فلأغامر وأرفع قلوع السفينة كملاّح سندبادي غشيم لا علمَ له بعالم الملاحة والإبحار.

في الكتاب 12 قصة ست منها قصيرة جداً وقد أطلق الأستاذ المؤلّف عليها " قصص قصيرة جداً من الخيال العلمي " ليته لم يدرجها في كتابه الطريف هذا... ليته ! شأنها شأن المسكين المغضوب عليه " حنّون " الذي لم يزدْ في الإسلامِ خَردلةً ولا النصارى لهم شغلٌ بحنّونِ. أراها زوائد خاصة وقد وضعها قصّي جميعاً في آخر الكتاب كأنه مثلي مقتنع بأنها زوائد دودية أو زوائد غير دوديّة ... مع احترامي لقرار الدكتور نجل الشيخ عسكر صاحب المعجزات.

كيف أبدأ بل وبِمَ أبدأ؟ إسعفني يا عزيزي قصي. المهمة صعبة وليتك قريباً مني لأسألك وتُجيب ... لأحاورك بحرارة وتُسهب بطرح التفاصيل. ليتك ! طيّب، أسئلتي:

1 ـ ما أهمية ودلالات الأعوام: 1956 .. 1966 ... 1973 ... 1976 ... 1986 وهل في أحدها ما يُشير إلى عام ولادتك؟ أظن أنه عام 1956 فما رأيك بظّني هذا؟ إنه ظن نظيف خالٍ من أي إثم.

2 ـ على أي أساس ومذهب جمعتَ ناساً من ديانات وقوميات وأقطار مختلفة أعني:

/ أمير عربي ...رحلت شقيقته مع عشيق

/ طالب صيني

/ صحافي يهودي من الدنمارك ...مراسل صحيفة غطّى حرب 1973 المصرية الإسرائيلية

/ جندي أمريكي قُتل في حرب فيتنام عام 1966

/ أستاذ جامعي اسمه كارلو لعله أرجنتيني.

بصراحة ... الكلام بيني وبينك: وجدتُ المراسل الصحافي اليهودي الدنماركي " موشي " مُقحماً إقحاماً أفلمْ يكنْ من الأفضل إهماله؟ أراه عديم اللون والرائحة والطعم ! في بعض قصصك ذكرتَ أنها كُتبت في العاصمة الدنماركية كوبنهاكن ! ثمَّ .. هل التقيتَ بأحد هؤلاء ممن ذكرتَ وفي أي بلاد تمَّ ذلك؟

 قصيّ والزمن والضوء واللون

هنا وهنا بالضبط يكمن بيت القصيد وهنا نجد الكاتب في فلسفته الخاصة ـ العامّة حول مبدأ " وَحدة الوجود " وأنَّ الكون وما فيه مكّون من مادة واحدة وإنْ تغيّرت وتفاوتت أشكالها وحالاتها الفيزيائية. قد يكون في صلب فلسفة الدكتور قصي أنَّ الفوتونات الضوئية هي أساس وأصل ومبتدأ مادة الكون وهي وجهة نظر تستحق الكثير من التأمّل. الألوان موجات كهروـ مغناطيسية من نفس طبيعة الضوء ولكنْ ما شأن الزمن بالضوء وهل من علاقة بينهما تربطهما بشكل خاص وطبيعة خاصة؟ على القارئ فك الشفرة بين الزمن والضوء. قرر آينشتاين منذ زمن بعيد أنَّ أكبر سرعة في الكون هي سرعة الضوء (هناك شكوك اليوم حول هذه النظرية). ولكنْ تبقى المعادلة الزمن ـ الضوء قائمة لا أحسب أنَّ الأدب والأدباء قادرون على حلّها لكنهم لا ريبَ قادرون على وضع فرضيات ونسج قصص من بنات الخيال وكل الكشوفات في بداياتها خيال وتهويمات وسياحات فضائية فلكية كأنَّ واضعيها سحرة أو من عالم آخر.

قُلْ (ولا تَقُلْ ..) لنا أستاذ قصي والرحمة لأبيك الشيخ عسكر: ما رأيك في معادلة الزمن ـ الضوء؟ هل درست نظريتي آينشتاين النسبية الخاصة والنسبية العامة؟ يبدو لي أنك فكّرت وما زلت طويلاً في مسألة البعد الرابع الذي دعاه آينشتاين " الزمكان / زمان ـ مكان " ولكن لا متسع للضوء هنا. ذكرَ قصيّ آينشتاين في الصفحة 79 فقال:

(... لحظتها تذكّرَ أنَّ هناك عالماً في القرن العشرين يُدعى آينشتاين تحدّثَ في نظريته النسبية فأشارَ إلى أنَّ الأجسامَ إذا سارت بأعلى من سرعة الضوء تحدّبت مثل الكون المدوّر ودخلت في سرمدية أبدية). لستُ متأكدّاً من مقدار صحة هذا الكلام لكني متأكد من صحة ودقة قول أينشتاين من أنَّ لا من سرعة للمادة المتحركة تفوق سرعة الضوء. وأنَّ الضوء أثناء قطعه لمسافات بعيدة جداً يفقد مساره المستقيم في قطعه للمسافات القصيرة ويتحدّب تحت تأثير تحدّب الفضاء الكوني. إذاً لا من سرعة أكبر من سرعة الضوء وأنَّ الكون مُحدّبٌ وليس مدوّراً . تمام أحدب نوتردام؟ هل حدبتك مدوّرة؟ التحدّب شئ والدائرة شئٌ آخر كما علّمتنا هندسة إقليدس.

كتطبيق حي لمقولة ونظرية وحدة المادة في الوجود (المتصوفة كذلك يقولون بوحدة الوجود) خلط الدكتور قصي نماذج من البشر من أقطار وقوميات وديانات شتى وبذل جهوداً كبيرة في التنقّل بين هؤلاء القوم وخلط أسماءَهم فخالد مرة خالد العربي ومرة أخرى هو الصيني شوان أو الأرجنتيني كارلو أو اليهودي موشي هؤلاء أقوام شتى ولغات مختلفة لكنهم جميعاً في نهاية المطاف بشرٌ من نفس النسيج والخلايا وذات الأعضاء وتؤدي هذه الأعضاء نفس الوظائف ولون دمهم هو هو مهما اختلفت الجلود في ألوانها. قال قصي على الصفحة 35 ما يلي:

(ـ موشي .. بْلْ .. كارل .. خالد ناموا

حين دخل البروفسور الغرفة الخاصّة بالمريض هبّت بوجهه احتجاجات واختلطت أصواتٌ ولغات، كل واحد من هذا الواحد الشاخص أمامه على السرير، يحاول أنْ يثقبَ الزمن ليعرفَ حقيقة الوقت الذي وُلِدَ فيه أو وقتَ حدثٍ عظيم جعله يفقد الوعي. كان كل واحد منهم متأكّداً من فعلته، أما وجوده الحالي فيفسره بأنه محاولة من الطب تغلّبت على الموت، لكن هذا الواحد المتعدد في أكثر من زمان ومكان بدأ صبرُهُ ينفد، وعندما أحسَّ البروفسور بإمكان حدوث فوضى لجأ إلى التنويم المغناطيسي وأوحى بعبقريته في ذلك العلم إلى الثلاثة بالنوم لينفردَ بشوان الصيني وهو آخَرُ مِنْ هذا الواحد الجمع الذي لمّا يكتبْ مذكّراته بعدُ:

ـ هل نحن وحدنا يا شوان؟

يتطلّعُ إليه بعينين سكنتا عند مجال مغناطيسي فبدتا أشبه بالمتجمدتين:

ـ أشعرُ كما لو أني نائم صاحٍ.

ـ أنت الثلاثة نائم، وأنت شوان الواحد صاحٍ).

الزمن نعم الزمن ! كيف يثقبُ أحدنا الزمن؟ هل الزمن جدارُ قابل للثقب بمثقب كهربائي مثلاً " درْلْ " ليرى الماضي فالزمن متصل لا ينقطع وسيأتي يوم يمكننا العلم فيه أنْ نرى مستقبلنا وما سيجري لنا من أحداث فيه وما جرى في سالف الأزمان الغابرة والسحيقة بالقِدم. هنا يحضرني شعر قاله المرحوم عبد الوهاب البياتي حول استمرارية الزمان:

وزورقُ الأبدْ

مضى غداً وعادَ بعدَ غدْ ....

هل يختلط الزمنان الماضي بالمستقبل الآتي (مضى غداً وعاد بعد غد) ! كيف يعود الماضي بعد غد والغد مستقبل لم يأتِ بعدُ؟ تدور على هذا المحور فكرة الدكتور قصي الشيخ عسكر. وحدة مادة الوجود والزمن هو هو يتحرك بثبات لا أولَ له ولا له نهاية. ماضٍ بصمت وحكمة وجلال من الأزل إلى الأبد شأنه شأن هذا الكون غير المتناهي الذي نجهل أصله ومبتدأه والحكمة من وجوده. أسأل: من هو الأول الزمن أم الكون، المادة؟ أنا أقول وأكيد قالها الفيزيائيون قبلي: لا يمكن الفصل بينهما فلا مادة ولا كون من غير زمن ولا زمن من غير المادة. فإذا كانت السرعة هي مقياس حركة المادة المتحركة فالمادة هي مقياس حركة الزمن والزمن بدوره هو وعاء المادة في سكونها وحركتها.

أتعبتنا أخانا العزيز أستاذ قصي وحرّكتنا بعد خمول كالجمود كأنك ربيع وشهر نيسان الشاعر توماس إليوت الذي يقسو على براعم الربيع إذْ يخرجها من أكمامها ومكامنها حيث كانت تنعم بالدفء والراحة والأمان. شكرأ أنك حرّكتنا وأنطقتنا وأنقذتنا لا من شهر نيسان ونحن اليوم فيه ولكن أنقذتنا من جفاف اللسان ومن أحد قوانين نيوتن للحركة (يبقى الجسمُ الساكنُ ساكناً إلاّ إذا حركته قوة خارجية / قانون عزم القصور الذاتي) .... فهل أنت نيوتن الحركة أم إليوت شهر نيسان؟

في قصة " آدم الجديد " وردت أسماء ثلاث نساء هنَّ: بسمة أو نسمة .. فقد ورد هذا الإسم مرة بسمة ومرة نسمة ... وهيلانة صديقة كارل الأرجنتيني ... وديزي صديقة الأمريكي بِلْ. لا صديقات للصيني شوان واليهودي موشي.

قُصيّ والصين

ليس واضحاً تماماً لماذا خصّ الروائي قصي الصين بهذا القْدر من المعلومات السلبية في أغلبها؟ قد يبدو الأمرُ هكذا لمن يقرأ سطوح الصفحات دون الغوص في رموزها وسياقاتها التأريخية وأبعادها السياسية. أنقل مقتطفات كأمثلة على ما قال دكتور قصي عن بلاد الصين:

ـ (أمّي ربّة بيت، أبي عامل مصنع، لم أعرف الخارج قط، صيني معزول عن العالم، ما معنى ما أكونه من التعددية يمكن أنْ يكونَ عن العزلة التي عشتها، أكثر الشعوب نفوساً قوة عظمى، بلد رائع .. صيني، إلاّ أننا معزولون عن العالم، أنا خالد النائم وبِلْ ظهرت أخيراً، أنا نائم لكنني أسمعني، وأرى حلمي من ذاتي الأخرى، لا كتب من الخارج لا جرائد لا مجلات لا إذاعات لا ملابس، إزاء هذا الوضع تمرّدتُ فسقطتُ ... الصفحات 35 ـ 36)

ـ (ومع ذلك لا أودُّ العودة إلى الصين... شوان يستعيد ذكرى التظاهرة الدموية ...الصفحة 41)

ـ (بقيت لديه قضيتان أُضطرَّ بعد تردد تجاهلهما، القضية الأولى تندرجُ ضمن العقبات السياسية، الصين بلدٌ مُغلق مجهول الداخل ... الصفحة 48)

ـ (الأربعاء 2 نوفمبر 1986

المكان: بكّين .. مشفى بكين

هو ثاني يوم أقضيه في الصين .. وهو ثالث يوم لإندلاع مظاهرات معارضة تطالب بالإصلاح .... في هذا اليوم بدأت حكومة الصين تستخدم العنف ...فيما بعد طلب مني الإشراف على حالة جريح دخل في غيبوبة، عرفتُ فيما بعد أنه أحد زعماء الطلبة البارزين وأنَّ إطلاق النار عليه حدث خطأً ... الصفحات 59 ـ 60).

لم يقلْ قصي في الصين وعنها إلاّ ما كان معروفاً عنها كلاّ في حينه وأوانه. لم يتجنَ ولم يتعسفْ ولم يبدِ أي موقف معادٍ لهذا البلد ولا لسواه من بلدان المعمورة.

قصي والألهة الثلاث

إذا اتحد البشر أو وحّدتهم طبيعتهم المادية رغم اختلافهم في دياناتهم وقومياتهم ولغاتهم (أو لُغاهم) وألوان بشراتهم فما يمنع الألهة الفوق بشرية من أنْ تتوحد؟ لا أحدَ يعرف طبيعة مادة الألهة سوى ما قال كلكامش في ملحمته المعروفة " كُتبَ الموت على البشر .. وكتب الخلود للألهة فقط ". هل صحيح هذا الكلام يا أنكيدو المسكين المنكود الذي مرض وفارق الحياة لسبب مجهول ما زال غامضاً؟ كيف خدعتك وأغرتك العاهرة شمخاء أو سمحاء وأخرجتك من عالم الحيوان ووضعتك مع البشر في سومر فاعتلّت صحتك ثم فارقتَ الحياة؟ لا قومية ولا من لغة للألهة يا قصيّ. هم لا يختصمون ولكنْ لهم أتباع معتوهون يتخاصمون ويتقاتلون ويثيرون الحروب ضدَّ بعضهم البعض الآخر. فليتوحد البشرُ ما دام غيرهم قد توحّد فغدت الألهات الثلاث ربّاً واحداً لا شريك له لا يلدُ ولم يولدْ وليس له كِفءٌ في الدنيا. هل قصد الروائي الخيالي ربّات العرب الشهيرات الثلاث اللآ ت والعُزّى ومَناة الثالثة الأخرى؟ وحّدهنَ الدين الجديد ولم يتوحّدن بالتوافق والتشاور وحسب مبدأ المحاصصة. وحّدتهنَّ قوة خارجية لا الضوء ولا الجاذبية ولا الألوان الطيفية الزاهية. قال الروائي في الصفحة 44 ما يلي:

(أظنُ أنَّ ما أمرُّ به شبيه بعصرٍ تفكّكتْ فيه الألهة قبل اندماج بعضهم, لقد تحدّثتْ الأساطيرُ القديمة عن اتحاد ثلاث آلهات في آلهة واحدة. ماذا تقولُ عن آلهة الحب والجنس والحكمة؟). واضح أنَّ الروائي كان يقصد بهذه الألهة الرابعة عشتار سومر وبابل التي رفض كلكامش الزواج منها بل وعنّفها وشتمها ولمزها في عرضها. لماذا تتزوج الألهة طالما أنها لم تلدْ ولم تولدْ؟ ألتمارسَ الجنس المقدّس في المعابد مثل صاحبتنا السيّدة عشتار أم السيد عمّار؟ خيالك جدَّ خصيب يا قصي.

 الضوء .. هاجس الدكتور قصي الأقوى

أفرد الدكتور قصي فصلين كاملين تقريباً لموضوعة الضوء وقدّم تفسيراتٍ وتنظيرات لقدرة الضوء على التأثير على وضع ونفسية الإنسان. الفصلان هما " قصة من عام 2784 " و " مُدُن الضوء ". ما الجديد في هذين الفصلين وما اجتهادات الكاتب بخصوص الضوء وقدراته على التأثير على البشر؟

أولاً أتساءلُ عن الغرض من اختيار زمن لا وجودَ له بعدُ: 2784؟ أفي الأمر خطأ مطبعي كشأن العديد من الأخطاء التي وردت في هذه الرواية؟ أم أنَّ في رأس وقصد الكاتب أمراً آخر لا يعرفه القارئ؟ أم أنه حاصل جمع الرقمين 27 و 84؟ المعنى في قلب الشاعر علماً أننا نتعامل مع روائي وليس مع شاعر.

ما سرُّ تعلّق قصي بالضوء وهو أستاذ لغة وأدب؟ لماذا يُقحمُ نفسه في أمور وموضوعات بعيدة عن اختصاصه الدقيق واهتماماته الأدبية واللغوية؟ ذلكم شأنه وهو مسؤول عنه ولا ريبَ أنه يعرف كيف يدافع عنه وكيف يُبرر.

الآن ... قصي والضوء ... في الصفحة 113 كتب الدكتور أموراً لا أدري هل استقاها من مصدر علمي مُختص أم هي من بنات أفكاره العلمية الخيالية أم من حاصل جمع الإثنين معاً؟ أقول هذا الكلام لأنني أجهل حقيقة الأمر رغم قربي ومعايشتي لعالم الضوء والفوتونات الضوئية والألكترونات وعالم الذرة على وجه العموم دراسة وبحثاً وتدريساً في العديد من الجامعات داخل وخارج العراق بلدي المُحطّم والمخروق والمحتاج للكثير من الضوء فهو في متاهة وعَتمة وفوضى لا ينفع فيها ضوء ومغناطيس ولا ما هو أكبر وأقدر من مجالات الضوء والمغناطيس. ماذا قال الروائي في الصفحة إيّاها 113؟

(... كان يتعاملُ مع الحُلُم وكأنه واقع سوف يحدث فيما بعد. فليس أمامه إلاَ أنْ يثني الضوء ثانيةً من أجل أنْ يتحقق بدقة من الخبر القديم الجديد الذي اكتشفه اُستاذه يومَ ولادته وأوكل إليه مهمّة البحث فيه فيما بعد كي يُدرك من خلال التجربة الضوئية الجديدة أعماق المستقبل ليقرأ حوادثه وهي تمرُّ أمامه بالتفصيل).

من حق الراوي أنْ يقولَ ما يشاء من فنطازيات خيالية ولكنْ الأفضل له وللقارئ أنْ يتثبّتَ من صحة أو معقولية ما يقول وإلاّ فما يقول هو الضلال بعينه وتشويه وتخريب القيم العلمية. كتّاب الخيال العلمي يلتزمون بحقائق العلم وقوانينه المعروفة لا يحيدون عنها قيد أنملة رغم ما يقدمون للقارئ من تخيلات وسياحات وتهويمات خيالية.

ما قال الروائي بعد في الضوء ومشتقات الضوء؟ (... كان هناك اختلاف جوهري بين وجهة نظر نظر يتبناها باحث حديث وأستاذ خبير لا يؤمن أساساً بنظرية الترشيح والتنصيف بل يؤكّدُ دائماً أنَّ الحلم يكونُ واضحاً إذا تعرّضَ فردٌ ما لكمية ضوء طوال اليوم أكثر مما يحتاجه جسمهُ قبل النوم / الصفحة نفسها 113). ما المقصود بالتنصيف؟ قد نفهم ترشيح الضوء أو تفريق موجاته الطيفية ولكن ما معنى تنصيف الضوء؟ ما مصادر الروائي الخيالي؟

أسىتعيرُ ما قال الروائي في الصفحة 115:

(.. أسئلة كثيرة راودت ذهنه ودفعته إلى أنْ يقرأ رسالة السماء من خلال تغيير شكل الضوء فيوحّد بينه وبين شكل الكون على الأقل كي نعرف ما يدورُ حولنا بعد سنوات. وأول ما فعله في تجاربه ثنى الضوء تدريجياً في حلقة تشبه القوس وتسليطه على النائم المستسلم للحلم، تسليط حزمة ضوء مستقيمة على نائم ثم تحديب تلك الحزمة بجزء من المائة مليون.... ).

ما هي رسالة السماء؟ أهي في توحيد الأديان وأصحابها وتابعيها أم في التدخل في شؤون الضوء ومعجزاته التي تنافس ربَّ الأديان وما يرسله هذا الرب من بشر يسمّون أنفسهم أنبياء ورُسُل؟ ثمَّ ... كيف وبأية أجهزة ووسائل يتم ثني الضوء؟

مُدن الضوء

نجد ونرى في هذا الجزء من الرواية العلمية أو علمية الخيال تكرير غير قليل للضوء وتأثيرات الضوء لكنها جميعاً إمّا غير علمية وغير دقيقة وتحتاج إلى مصدرأو دليل أو إلى تأويل علمي معقول يتقبّله عقل القارئ. أقدّم بعض الأمثلة وأطلب من الأستاذ الدكتور تفسير هذه الظاهرات تفسيراً علمياً من التفسيرات التي يعرفها الناس العاديون والعلماء المختصون وغيرهم ممن يعنيهم الأمر، فالخيال العلمي لا يعني الإحتطاب في الظلماء ولا الخبط العشوائي ولا قول الكاتب ما يريد أنْ يقول. قال في الجزء الموسوم ب " مُدن الضوء " وفي الصفحة 137 ما يلي:

(... كانت هناك فكرة واحدة تتبلوّر في ذهن البروفسور " ك " فتنصّبُ على الظلام والنور بصفتهما الحاضنة الأولى للكوابيس الثقيلة. لذلك وجد أنَّ الكوابيس عادت تجثم على صدور مرضاه بعد أنْ أعادَ التجربة ذاتها عليهم في جو معتم لا بصيصَ للنور فيه كما هو الحالُ في البيت الريفي فكانت النتائج مثلما توقّعها تماماً ...

كابوس .. إختناق

عدوانية تجبر النائم على العنف

هستيرية ..)

ماذا نفهم من هذا الكلام؟

الظلام والنور هما حاضنا الكوابيس الأولى ! بعضُ الناس يخافون الظلام ولا يطيقون البقاء فيه فما بال الضوء (النور) وما علاقته بالكوابيس الثقيلة المزعجة؟ وهل الناس في أحلامهم ليسوا هُمْ في يقظتهم أو في القليل فيهم شئ من عالم يقظتهم؟ كيف أنتقل في عالم النوم والأحلام ممن أكون أنا إلى شخص آخر مغاير لا يمتُّ لي بصلة أو يمتُّ ولكن بصلة ضعيفة واهية كخيوط العنكبوت؟ لماذا ينفصل الإنسان الحالم عن نفسه وعمّىا هو فيه؟ كيف يتحوّل ووفق أية آليات " مكانزمات " يتم هذا التحوّل؟ لا يكفي أنْ نعرض أطروحات ومفاهيم غريبة بإسم الخيال بل علينا ربطها بما هو معروف من حقائق علمية وتجارب لا تقبل الشك فيما تعرض من نتائج.

أخيراً إني أُكبر جهود الأستاذ الدكتور قصي الشيخ عسكر فيما كتب من قصص علمية خيالية خاصة وأنه ينتمي في دراساته إلى عالم آخر لا شأنَ له بالأخيلة العلمية . أُكبِرُه وجهوده وأعتذر له عمّا كتبتُ عن روايته الطريفة والمعقّدة التي لم تنلْ ما تستحق من إهتمام وعناية على حدِّ علمي حتى اليوم.

عزيزي الدكتور المتميّز قُصي الشيخ عسكر: إنك معجزة عمّنا الشيخ عسكر .

ملاحظة لا بُدَّ منها: وقعت في هذا الكتاب أخطاء أغلبها مطبعي لديَّ نماذج منها أتمنى أنْ يلتفت الدكتور إليها ويحاول تلافيها في طبعات الرواية القادمة.

 ***

د. عدنان الظاهر

9/4/2016

..........................

* روايات وقصص من الخيال العلمي. د. قصي الشيخ عسكر. الناشر: شمس للنشر والتوزيع. الطبعة الأولى القاهرة 2010 .

 

إن الفارق بين الأدب العربي، والآداب الغربية، ثابت لا يتغير، فالآداب الغربية التي نخافها أشد الخوف من جهة، ونعجب بها أشد الاعجاب من جهة أخرى، مؤلفة من وحدات أساسية بسيطة، تأصل على نحو لا يمكن انكاره، الموروث الذي يتعلق بالصيرورة والفناء، ففي الآداب الغربية نصوص طويلة مكتوبة، تهتم ببنية الوجود الإنساني، فالإنتقال من مفهوم الحياة المتدفقة بالنشاط والحركة، إلى جزئية الهمود والسكون الأبدي، ليست مجرد عبث أدبي طنان،  ولكنها مفاهيم تنتمي دون شك، إلى الكتابات المبكرة، التي انصب جهدها الفكري، في بحث نظرية نشوء الكون، وحقيقة تأويل التوافر البشري واندثاره، فنحن نرغب في التشديد أولاً، على أن الآداب الغربية، التي امتزجت جميع عناصرها، بثنائية الوجود والعدم، قد تم اقتيادها إلى هذين الشكلين عبر الثقافة الاغريقية، التي هي عبارة عن سلسلة من الأفكار الغامضة، تحتوي على نصوص ذات دلالة كبيرة، على الصعيد الديني والفلسفي،  ففرضية نشوء العالم وانعدامه، هي التي حددت أطر الآداب الغربية وتمازجها، تبعاً لتلك الفلسفة، التي يصعب تجميع أقوالها المتباينة وتنسيقها، وبناء على ذلك، نستطيع أن نقرر بشكل حاسم، أن الآداب الغربية، قد استلهمت   تلك المفاهيم التي شغفت بتكرارها، من الحضارة الاغريقية التي حملت العالم على الانبثاق،

فمن المناسب القول إذن، أننا نستطيع أن نذهب إلى أن الآداب الغربية، تنطوي على نمط جلي من الترابطات البنيوية الدينية، المستمدة من العقائد والفلسفة، وبطبيعة الحال، يفصح هذا الزعم عن تحد قائم على الافتراض المسبق نفسه، الافتراض القائل بأن الدين والفلسفة، هما اللذان دفعا الآداب الغربية، إلى اختبار الأمور، وتمحيص الحقائق، وهما من أغدقا على أجناسها أيما اغداق، وجعلت أصنافها تلك، تصمد في وجه المتاعب والصعاب.

الكوميديا الإلهية لدانتي

إن من أهم السمات الطاغية على الآداب الغربية، هي الانفتاح المحض على كل شيء، لأجل ذلك لا نجدها تتخبط في ظلماء التيه مثل أدبنا العربي، فأدبنا في مكابدة لا تهدأ، رغم أنه أمست تتجاذبه شهوات الدنيا، تماماً كالآداب الغربية، وأضحى يخوض في وحل "الأجسام البضة، والأذرع الغضة، والسيقان اللفاء، والصدور النواهد" كما تخوض فيها الآداب الغربية، التي نجحت في أن تلم بطبيعة الفكر البشري وتطوره، وحتى نترك عنا هذا الاستطراد، نقول أن بؤرة النص الابداعي في الآداب الغربية، يدور حول هذين النموذجين منذ (ملحمة جلجامش) البابلية التي تعد من أقدم الآثار الإنسانية، التي لعبت دوراً هاماً في إغناء هوية هذه الثنائية وتقويتها، مروراً بالكوميديا الإلهية "لدانتي أليغييري"، تلك الملحمة الرائعة التي ارتبطت بمفاهيم العقاب، والثواب، والمطهر، قد نهضت على دعائم متينة، ومضت بطريقة منتظمة موحدة، وفقاَ للقواعد والقوانين، التي رسمها لها صاحبها، ملحمة"دانتي" التي خطها في القرن الرابع عشر، من الحقائق التي لا تقبل الرد أو التشكيك، أن تفاصيل هذه الملحمة الغنية والمعقدة، تنسجم فلسفتها، ونظمها المعرفية، وتشبيهاتها، وصورها المحسوسة، وقدراتها التخيلية، مع اللاهوت الإسلامي، فالكوميديا الإلهية التي أسهب وأطنب مؤلفها في ذكر مظاهر الترحيب، والحفاوة، والكرم، تلك المظاهر التي اصطفى بها الخالق أهل الجنة، وأغدق عليهم من المنح والنعم والعطايا، تتناقض في واقع الأمر، مع تلك "الدوائر التسع" من الجحيم التي طاف بها "دانتي" أولاً، لقد حصر "دانتي" عنايته، في أن يظهر لنا التفاوت في  حجم التنكيل والعذاب الذي يصب على أهل هذه الدوائر بلا انقطاع، ثم يختتم رحلته التي وصل بها إلى أحسن غاية، والتي أضحت موضوعاً لمباحث أهل الفن، والعمارة، والموسيقى، والأدب، بالوصول إلى مركز الأرض، لا كواقع يقرره، بل كشرط ضروري للتطهر من أوضارالجحيم، لقد تأثر  "دانتي الإيطالي" أعظم تأثير

بأساليب اللاهوت الإسلامي ومنهاجه، فكيف "لدانتي" الذي عاش في عصر انحطاط، أن يقرر أحكاماً هذا مبلغها من الصحة والعمق، هذه الأحكام التي تستحق منا أن نعطف عليها بمقالات أخرى مترفة، تسوغ لنا بلا ريب، أن نزعم أن تفاصيلها العديدة هي التي أرغمت صاحبها على ذلك التوسع، ومن الحق أن ندعي بشكل قاطع، أن هذه التفاصيل لم تنشأ من الفلسفة الإسلامية وحدها، بيد أنها وجدت وترقت في ظلها، ولكنها ليست من صنعها، والكوميديا الإلهية التي لم تكن تصل إلى شيء مما وصلت إليه من الاتساع والتعقد، العامل الجوهري في اتساعها هو اللاهوت، والفلسفة الإسلامية، التي تسامى إليها" دانتي" وتوغل في فهمها ودراستها، وهذه حقيقة مهمة تماماً من وجهة نظري، لا نستطيع أن نتركها وشأنها، فالكوميديا الإلهية كانت عبقريتها الحقة، ستكون ضيئلة جداً، لو لم يلم الشاعر الإيطالي بفلسفة ابن سينا، وابن رشد، وعبقرية رهين المحبسين المعري في رسالته، ويتخذ من هذه المقومات مقاماً لرحلته.

هاملت لشكسبير

ونجد في مسرحية "هاملت" للكاتب الانجليزي الشهير "ويليام شكسبير"، تلك الشخصية المحورية التي أمست من أعظم الشخصيات التراجيدية التي عرفتها مسارح العالم، شخصية اعترت حياتها الكثير من الأحدات المروعة، التي استند "شكسبير" في صياغتها إلى تخيلات تذهب أحيانا مذهب الاغراق والمبالغة، شخصية شديدة الغموض والاتساع، لا تمضي على وتيرة واحدة، ومنهج مستقر، وإنما تنتقل من حال إلى حال، وتتشكل بأشكال مختلفة، فهدفها الذي شبت في كنفه، وتحركت في اطاره، هو أن تشيد ملكها، وتقهر خصومها، ولكنها لا تنتهج إلى ذلك طريقة منظمة مضبوطة، بل تسعى لأن تحقق هذه الغاية التي ارتطمت بجدار التردد والتسويف، بالتأني، والتمحيص، وكثرة التأمل، الأمر الذي قاد إلى أن تلتزم الصمت إزاء كل ما يشين مجدها، وفكرة الانتقام التي امتزجت مؤثراتها في حنايا" هاملت" واتحدت، هي التي أدت لأن ينحصر طابع حياته في ثلاثة أشياء.

أولها هو التردد، تلك النزعة التي طرأت عليه، بعد أن أدرك أن عمه هو الذي أقدم على قتل والده، من أجل أن يستحوذ على أعنة الحكم، وعمه هذا الذي سلبه الملك، لم يكتفي بقتل والده، بل تزوج من والدته المتآمرة، وجرّها إلى مخدعه، تلك الأم التي لم تصنع شيئاً من أجل أن تعيد الأمور إلى نصابها، قد أظهرت الرضا والاغتباط بالزواج من عمه، ولم يفصل بين زواجها من عمه، ومقتل والده سوى ثلاثة أيام فقط، لقد كانت نزعة التردد أكثر انتظاماً، وأبلغ نفاذاً عند "هاملت"، ولم تجد هذه النزعة الشاسعة جداً في طبعه، عقبات تعينه على تذليلها، كان كل ما يفعله "هاملت" المسكين حيالها، عينان تحدقان في الفضاء وتتأمل، ومهجة خائرة لم تحتفظ بمركزها، ولم تعرف كيف تلحق الهزيمة بخصومها، لأجل هذا السبب كانت شخصية "هاملت"، التي لم تجد من يدحضها ويعدلها،  تتعرض في غداة كل يوم، لتلك الأغلال والقوى التي تمزقها، وتشوهها، وتهيئ لها أسباب الخبل والجنون، والعته الذي كان يجاذب "هاملت" ويجاذبه، كان موضوعاً خصباً لمباحث فرويد، وإرنست جونز وغيرهم، تلك المباحث التي لم تراعي فؤاد "هاملت" الذي تصدع من الأسى، وتثبت له نوعاً من الهيبة بوصفه رجل بلاط، تحميه في الظاهر على الأقل، من أسنة علماء النفس، التي كانت أكثر تمحكاً، ولجاجة، وتعريضاً بفشله في تنفيذ مقصده الرابض في داخله.

والوهم الذي سد كل حاجات علماء النفس، وكفل لهم السعادة، كان أكثر شيئاً يضني" هاملت" ويحزنه، لأن ذاته تنفجر لهذا الوهم انفجاراً هائلا، ويشعر بنار تملأ نفسه، وتذكي حسه، "فهاملت" الذي كان يسعى لاغتيال والده بأي حجة فيما مضى، بات أبوه يتردد عليه، كلما أغمض" هاملت" عينيه، ويحثه على أخذ الثأر من عمه الذي أزهق حياته، وجعل منه شخصاً خامل الحياة، مسلوب الإرادة، ذلك الوهم الذي عكر صفو حياة" هاملت"، لم يكن يستطيع  أن يطعن عليه طعناً نهائياً، أو يجاهر بأنه اختلاق لا فائدة منه،" فهاملت" بزعت عبقريته الجمة في التماهي مع هذه الأوهام والصور، فهي التي أثرت شخصيته، وجعلت المجال يتسع لتحصيل ثمار ترفها، فلو لم تكن تلك الأوهام، والالتباسات، والحيرة، مؤثلات في طبع "هاملت"، لما وجدنا فنوناً حقيقية يتعين علينا أن نتعلمها، وأن نتمرن عليها، لولا ذلك الغموض، والعبقرية، وخصوبة الخيال، لتداعت الأسباب التي تجعلنا نتخذ من شخصية "هاملت" أنموذجا للتفرد، ونعتبرها أوثق مصدر يمكن الرجوع إليه في تصاعد المشاعر واضطرابها.

ونزعة الانتقام، الخصيصة الثالثة التي تفرعت منها عند" هاملت"، هي أمزجته المتصارعة التي لم يكن يجمع بين حيثياتها رابط، ونحن لا ندري أي هذه "الأمزجة" قد انتصر، ولكننا نجزم بأن "هاملت" قد ذهب ضحية هذه  الأهواء، فإنه من المدهش حقاً ألا نصل إلى هذه النتيجة، بعد أن اجتهدنا، وقدرنا بالضبط ما استحدثته هذه الطبائع، فقد ساءت سيرة "هاملت"، وساء تقديره للأشياء، وقادت لأن يكون القتل عملاً منظما متواصلاً في حياته، لقد رأينا هاملت يقتل خاصته ومحض وادده، الواحد تلو الآخر، ويعجز في ذات الوقت، عن قتل من عرضه لمخاطر الفوضى، بيد أن" هاملت" في جميع أحواله، لم يسعى أن يتكلف الجد لمحق هذه العناصر، التي فرغنا لها نحن وكتبنا فيها، العناصر التي لا نعتقد أن عبقرية شكسبير وحدها، هي التي صنعتها وابتكرتها ابتكاراً، فشكسبير مهما بلغ من أدوات البحث، والاستقصاء، والتعمق، لا يمكن أن يحيط بعناصر هذه الشخصية،  إذا لم يعياشها ويرصد كل حركاتها، وسكناتها وخباياها عن قرب.

***

د. الطيب النقر

السبت 5/7/2025

 

قراءة تأويلية في قصيدة «أطلّ يُبشّر بهطول المطر» لنعيمة المديوني:

في هذا النصّ الشعري تتجلّى الحساسية الأنثوية في أعلى مستوياتها التخييلية، حيث تتحوّل الذات الشاعرة إلى كائنٍ مُترقّب، يتوشّحُ الأمل، ويُعانقُ الانتظار لا بوصفه زمناً معلّقاً، بل فعلاً وجودياً يُعيد تشكيل الوجدان.

إنّ قصيدة الشاعرة التونسية نعيمة المديوني لا تُعبّر عن الحنين فقط، بل تُعيد تأثيث الحنين بلغة الحواس، وطقوس الجسد، ورموز الخصب. الرجل هنا ليس فرداً، بل رمزٌ للمطر، ولعودة الحياة، ولانبعاث الذات من رماد الغياب.

في سياق البنية الأسلوبية نلحظ تكرار الفعل «أطلّ».

يتكرّر الفعل «أطلّ» في مطالع المقاطع الشعرية، كأنّه تعويذة استحضار، أو ناقوس استبشار، والمفارقة أنّ الشاعرة المديوني تُصرّ على فعل الحضور لا عبر الحدث الكامل، بل عبر إشراق التجلّي، وكأنّ قدومه أشبه بطيف يُعلن نفسه تدريجيًا، تقول :

 "أطلّ من بين ركوم التّمنّي

والشّوق سياط ألهبتني".

هذا التكرار الأسلوبي لا يُحدث رتابة، بل يمنح النصّ إيقاعاً داخلياً نبضياً، يُجسّد تواتر الخفقان الداخلي، ويُحاكي دقّات قلبٍ ينتظر.

إن "أطلّ" ليست مجرّد فعل، بل بؤرة إيحائية تُهيمن على البناء النصي، وتفتح أبواب الاستقبال الرمزي للحبيب القادم، حاملاً حقيبة الأمل والمطر.

في مجال البنية الرمزية نجد أنّ الحبيب بوصفه المطر، والانبعاث.

الحبيب في النصّ يتماهى رمزياً مع المطر، الذي لا يُسقط الماء فحسب، بل يُعيد "تخصيب" الأرض العاطفية، تقول الشاعرة المديوني :

 "ها الحبيب قد أتى

يُبشّر بهطول المطر

يحمل بين جنبيه مُرجًا خضراء".

المطر هنا ليس مجرّد طقس، بل أُسطورة حياة. هو العودة، والخصب، والبعث. يتداخل "المطر" مع صورة الحبيب، فيندمجان في رمزٍ واحد، يُعبّر عن فعل الخلاص الأنثوي من الجمود والوحدة والموات.

كما ترتبط رموز أخرى بوظيفة الخصوبة والبعث:

المرج الأخضر: رمز النضارة.

براعم النوار: دلالة الولادة الجديدة.

العبير والشوق والأنوار: إحالات حسّية للامتلاء والبهجة.

كل ذلك يُوظَّف داخل خطاب أنثوي يحتفي بالرجولة الحقيقية، لا بوصفها سلطة، بل سنداً وأماناً وحضناً للخصب الداخلي.

من  المنظور النفسي – من الانتظار إلى الاحتواء.

تبدأ القصيدة بحالة من القلق التوقعي، تُجسّدها الشاعرة المديوني بتراكمات "الركام"، و"السهاد"، و"الألم"، تقول :

 "والشّوق سياط ألهبتني".

لكن بمجرد أن "يطلّ"، تبدأ حركة التحوّل النفسي، فتتبدّل اللغة من وصف المعاناة إلى الانفتاح على الحياة، تقول :

 "فأشعّ في الوجدان بريق أمل

زغردت سلال الأحلام

أقبرت الأحزان والضّجر".

هذه الحركية تمثل التحوّل الداخلي للذات الشاعرة، من ذات محاصَرة بالانتظار، إلى ذات ممتلئة بالحياة.

في ضوء المنهج النفسي، يمكن القول إن النصّ يُعالج لحظة التحوّل من اللايقين إلى التوازن النفسي عبر الحضور العاطفي.

وقد عبّرت الشاعرة المديوني عن ذلك بالحسّيات (العطر، الزينة، الفساتين، السمر)، وكأن الجسد نفسه ينهض ويعود إلى الحياة.

في سياق البنية الهيرمينوطيقية – التأويل وتعدّد المعنى.

القصيدة ليست فقط عن رجل وامرأة، بل عن فلسفة انتظار الحياة ذاتها. الحبيب رمز المطر، والحبيبة الأرض؛ في لقائهما تنهض البذور المختبئة.

عبارات مثل:

"يطوي فصول الأسى"

"عانقتُ قلمي أسرّ بهمس أعاد إليه الحياة".

هي إشارات إلى فعل الانبعاث الوجودي، وكأنّ اللغة نفسها تعافت حين أطلّ.

القلم، هنا، رمز الوعي والشعر والخلق، والهمس فعل الكشف، مما يعني أن الحبّ عند الشاعرة نعيمة المديوني ليس عاطفة، بل حدثٌ كوني يُعيد ترتيب العلاقة بالزمن، بالذات، وبالعالم.

ومن هنا نقرأ في القصيدة تماثلًا مع مفاهيم الهيرمينوطيقا الحديثة (غادامير، بول ريكور)، حيث لا تُفهم التجربة من ظاهرها فقط، بل من انكشاف المعنى في لحظة الحضور.

في سياق الصور الشعرية والإيقاع الجمالي. مجد أنّ القصيدة غنيّة بالصور الشعرية الأنثوية الغامرة، لكنها ليست رخوة، بل تحفر في الأعماق بدفءٍ وجسارة، تقول الشاعرة نعيمة المديوني :

"فرشت له الربوع جلّنارًا وأمل": صورة تمتزج فيها الأنوثة بالزمن الموسمي (الربيع).

"سرّحت شعري / تبعثرت خصلاته": الجسد يتهيأ، لا للغواية، بل للاستقبال الوجودي.

"صدحت أجراس المدينة بالغناء": الترقب لا يُسمع من الداخل فقط، بل تُجاوب معه المدينة، كأن الذات تُعدي العالم بأكمله بالفرح.

أما الإيقاع الداخلي، فهو نابع من التكرار البنيوي (أطلّ... أطلّ)، ومن التوازي في المقاطع الأخيرة، تقول :

 "تزيّني... تعطّري... تبرّجي..."

"زغردي... أنشري... عطّري..."

كلّها تمنح النصّ موسيقى شعورية تصاعدية، تتحول من تمهيدٍ عاطفي إلى احتفالٍ كامل بانبعاث الأمل.

في الختام:

تمثل قصيدة الشاعرة التونسية نعيمة المديوني "أطلّ يُبشّر بهطول المطر" نموذجاً متكاملاً للتعبير الأنثوي الناضج، حيث تمتزج الرؤية الحسيّة بالرؤية الرمزية، وتندمج تجربة الحب مع تجربة الانبعاث.

إنّ القصيدة لا تحتفي بالرجل كقوة ذكورية، بل كحضور إنساني يكمل نضج الذات، ولا ترى الحبّ كصراع قوى، بل كحوار أرواح متكافئة، تتقاطع في لحظة الحياة، وتبعث فينا معنى الأمان، لا الهيمنة، والدفء، لا السيطرة.

إنها قصيدة تستحق أن تُقرأ تأويليًا كـنصّ شعري مفتوح على مستويات الحلم، والذاكرة، والتحول الداخلي.

***

بقلم: عماد خالد رحمة - برلين

.......................

أطلّ يبشّر بهطول المطر

أطلّ من بين ركوم التّمنّي

والشّوق سياط ألهبتني

*

أطلّ .......

بكفّه يداعب ليالي السّهاد

يزيّن دروب مدينة أصابها الملل

*

أطلّ .......

بوجهه الصّبوح يهدّم أبراج الأنين

يلوّح للحنين

*

أطلّ ......

يحمل حقيبة سفر

يزدحم داخلها الأمل

يقترب من أسوار حديقتنا ينوي بها المستقر

*

أطلّ .......

فرشت له الرّبوع جلّنارا وأمل

سرّحت شعري

تبعثرت خصلاته تدعو لليالي السّمر

عطّرت فساتيني

أطلقت العنان لخفق

آنبرى يعزف ألحانا تغري بآلْوصال وسحر القبل

*

أطلّ .......

فأشعّ  في الوجدان بريق أمل

زغردت سلال الأحلام

أقبرت الأحزان والضّجر

*

أطلّ .......

يطوي فصول الأسى

عانقت قلمي أسرّ بهمس أعاد إليه الحياة

*

أيا فؤادا راقص الهوى

أذْهب عنه البعاد الكرى

هذه الأيّام قادمة

حبلى بالدّفء والسّمر

*

أيا أحلامي السّعيدة

ها الحبيب قد أتى

يبشّر بهطول المطر

يحمل بين جنبيه مُرجا خضراء

يدعو لآحتساء أقداح الهوى

 *

أيا دموع الرّجاء

آغتسلي من الآه والرّثاء

تزيّني ........

تعطّري .........

تبرّجي .........

ها الحبيب جاءنا يختال زاهيا

دروبنا بآلقرب مستأنسة

والهوى يغتال النّسيان منتصرا

*

يا بشائر الفرح

لا تبالي بدمع على الخدّ جرى

أقبري ساعات الأسى

هلّلي .......

راحت الجراح وحلّت بيننا الأفراح

*

أيا عيون المها

صدحت أجراس المدينة بالغناء

جاء من هفت الرّوح للقاء

لا تبالي بالذّي كان وآنقضى

*

يا مدينة الأحلام

زغردي ........

اُنشري عذب الأخبار في كل دار

ها هنا تتراقص براعم النّوّار تعانق الأنوار

تُعطّر دارنا وكل الدّيار بعبير الشّوق والهوى

***

المقدمة: يتأسس النص الومضي الماثل أمامنا على بنية اعترافية حميمية، تزاوج بين التقريرية والمجاز، وتستند إلى طاقة التخيل الإيروتيكي المقدّس، المنبعث من عمق اشتباك الذات الشاعرة مع الغياب، والرغبة، والذنب. وهو نص يُعرّف نفسه تداوليًا بوصفه خطابًا موجَّهًا إلى "المحبوبة" ولكنه، في عمقه التداولي، ينفتح على المتلقي كونه شاهدًا على اعتراف شعري يحمل طابعًا تقويميًا للذات عبر منظومة من الأفعال غير المنجزة، أو المتخيلة، في حلم ليلي جارف لم يُتوَّج بالوصال.

يعتمد هذا النص القصير – الذي يحمل عنوان (ومضة) – على الاقتصاد اللغوي الحاد، والاشتعال العاطفي المكثّف، مع اتكاء بارز على طاقة المجاز، والتكرار التوكيدي، والانزياح في توظيف الألفاظ المألوفة في سياقات جديدة. وسنقوم هنا بتحليل النص من منظور تداوليّ، يُعنى بالسياق، والمخاطب، والضمائر، ومقاصد القول، وانزياح المعنى من المباشر إلى المجازي، مع التعريج على البنية التركيبية التي تخدم الأداء التداولي للخطاب.

تداولية النصيص

جاء النصيص: "(ومضة)" مفردًا ومفتوحًا على دلالات كثيرة، منها: السرعة، الإيجاز، الانفعال الخاطف، والإشراق اللحظي. وهذا ينسجم مع طبيعة النص التي تتشكل ككثافة مشهدية متوترة، فيها حضور للزمن الليلي، والاعتراف، والاشتهاء، ولكن في مساحة سردية موجزة.

تداوليًا، العنوان لا يخاطب المتلقي مباشرة، لكنه يُعدّ بمثابة توجيه ضمني لطبيعة الخطاب: هو اعتراف خاطف، لا يحتمل الإطالة، لكنه ملتهب بالمعنى.

البنية الاعترافية والضمائر

نجد أن ضمير المتكلم المفرد ("ذنبي كبيرٌ") يفتتح النص بإعلان ذاتي صريح، من دون مقدمات. وهو ما يُوحي بأن المخاطب (المحبوبة) شديدة الحضور في ذهن المتكلم، إلى درجة إلغاء الحاجة إلى مناداة أو تمهيد. هذا ما يُعرف تداوليًا بمبدأ "القرينة السياقية"، إذ تُفهم شخصية المخاطب بواسطة السياق لا من النداء.

"ذنبي كبيرٌ ! مرّ ليلٌ كاملٌ دون لثم قرنفُل الشفتين والياقوتتين"

يتحدث المتكلم - هنا - عن "ذنب" لم يكن فعلًا حقيقيًا (بالمعنى الجنائي أو الأخلاقي)، بل هو غياب للوصال الحسي/الروحي، إذ لم "يلثم" شفتي المحبوبة. والمجاز هنا يُعزّز المقصد التداولي بالاستعاضة عن ذكر الشفاه بـ"قرنفل الشفتين"، ثم "الياقوتتين"، ما يمنح حضورها قيمة رمزية عالية.

تداوليًا، هذا يُصنّف ضمن ما يُسمى بـ"الاعتراف التضميني"، إذ لا يطلب المتكلم المغفرة لفعل مشين، بل لحلم ناقص، أو رغبة لم تتحقق، ما يضفي على "الذنب" طابعًا شعريًا لا واقعيًا.

التوتر بين الواقع والمتخيل

ينتقل النص من غياب التقبيل، إلى غياب طقوس العناية بجمال المحبوبة، إذ يقول:

"ودون تمشيطي جدائلك الحرير"

هذا الفعل – التمشيط – يندرج ضمن الأفعال الحميمية اليومية، ولكن في السياق الشعري يتحول إلى رمز للمشاركة العاطفية الحميمة. تداوليًا، يُصنّف هذا ضمن الأفعال اللغوية من نوع "الاعترافات الحلمية"، إذ يُستحضر الماضي أو الاحتمال وكأنه واقع.

ثم يتصاعد المشهد إلى لحظة التخييل الحسي – اللاواقعي:

"والركض خلف غزالة الفردوس ما بين الوسادة والملاءة والسرير"

تُقحم الذات الشاعرة هنا صورة "غزالة الفردوس"، وتوضع في إطار مكاني دقيق (الوسادة/الملاءة/السرير)، وهو ما يُعمّق الانزياح بين الواقع والحلم. فالمكان حقيقي، لكن الركض خيالي، والمحبوبة تتحول إلى كائن رمزي/أسطوري.

تداوليًا، هذه الحركة تندرج ضمن ما يُعرف بـ"الفعل التمثيلي المزدوج"، إذ  يستعمل المتكلم لغة الإيهام بالواقع لإنتاج صورة حُلُمية، ما يُعبّر عن "المعصية" التي هي في الحقيقة خيبة الشوق.

طلب الغفران والاعتذار التداولي

النقلة التداولية الأبرز في النص تأتي مع الجملة:

"فلتغفري لي إثم معصيتي"

هذا توسل مباشر، يُعطي الخطاب بُعدًا دراميًا وتفاعليًا، ويُدخل النص في مجال "أفعال الكلام الإنجازية" (Speech Acts) من نوع الطلب والاعتذار.

غير أن الاعتذار هنا غير تقليدي، فهو لا يأتي بعد خطأ واقعي، بل بعد غياب الحلم/الوصال. وهذا يعزز البعد التداولي للنص كخطاب تفاعلي يستبطن التخييل ويتجاوزه ليُنتج فعلًا تواصليًا عالي الشحنة العاطفية.

"جدي عذرًا لسادنك الموزّع بين بادية السماوة والرّصافة"

هنا ينقلنا الشاعر إلى مستوى آخر من البلاغة التداولية،  فيُحوّل ذاته إلى "سادن" (أي خادم المعبد)، ويوزع وجوده جغرافيًا – بين البادية والرّصافة – في استعارة تعكس حالة التشتت والتمزق.

السادن شخصية طقوسية مقدسة، ومثل هذا التوصيف يُحمّل الاعتذار بُعدًا ميتافيزيقيًا. هو ليس مجرد عاشق، بل خادم للمحبوبة، موزّع في الوجود، مقسوم بين جهتين، وهذا يقوي الحجة في طلب "العذر".

تقابل الجوع والعطش والقبلة

يختم النص بمشهد تقابلي شديد التداولية:

"شوقًا إلى صحنٍ من القُبُلاتِ.. يقفو جوعه عطشٌ بتوليٌّ لكأسٍ من زفير"

هنا نرصد ثلاث مستويات من الانزياح:

"صحنٌ من القبل": يحوّل المجاز الحسي إلى مادة تُؤكل، أي أن الشاعر يُجوع للقبلة.

"عطشٌ بتوليّ": يقترن بالعفاف والطهر، مما يُضفي على الرغبة بُعدًا صوفيًا.

"لكأسٍ من زفير": أي أن أنفاس المحبوبة صارت مشروبًا. وهنا ينقلب المشهد من مجاز شهواني إلى مجاز تنفسي، حميمي.

تداوليًا، هذا الجزء يمثل ذروة النص بواسطة التعبير عن الاشتياق، عبر تراكم صوري تعبيري. ويُعَدّ من نوع "التكثيف التعبيري المجازي" الذي يجعل الخطاب مفتوحًا على التأويل: هل يتكلم عن رغبة جسدية؟ أم عن طقس صوفي؟ أم عن حرمان شعري؟

الخاتمة

نص "ومضة" هو أكثر من اعتراف شعري؛ إنه خطاب مزدوج: يتحدث إلى المحبوبة ليطلب الغفران، لكنه في الوقت نفسه ينفتح على المتلقي ليصوّر له أزمة الحب الغائب والوصال الحُلُمي.

يتميّز النص بتكثيفه البلاغي، وانزياحاته التداولية من الواقعي إلى المجازي، ومن الحسي إلى الطقسي. وهو يوظف تقنيات خطابية مثل "أفعال الكلام" (طلب، اعتذار، اعتراف)، والإحالة المضمرة (ضمائر المخاطب)، والاستعارات التداولية المركبة، ما يمنحه قوة تعبيرية عالية في مساحة قصيرة جدًا.

وبذلك يتحقق للنص عنوانه: "ومضة"، لكن ومضته لا تبرق فقط على سطح اللغة، بل تتغلغل في أعمق طبقات الذات المتشظية ما بين الفراش والبادية والفردوس.

***

رياض عبد الواحد

..............................

(ومـضـة)

ذنـبـي كـبـيـرٌ!

مـرَّ لـيـلٌ كـامـلٌ

مـن دون ِ لـثــم ِ قـرنـفـل ِ الـشـفـتـيـن ِ

والـيـاقـوتـتـيـن ِ

ودون تـمـشـيـطـي جـدائـلَـكِ الـحـريـرْ

//

والـركـض ِ خـلـفَ غـزالـةِ الـفـردوس ِ

مـا بـيـن الـوسـادةِ

والـمـلاءة ِ والـســريـرْ

//

فـلـتـغـفـريْ لـيْ إثـمَ مـعـصـِـيـتـي  ..

جـِدي عـذرا ً لـســادنِـكِ الـمـوزَّع ِ

بـيـن بـاديـة ِ الـسـمـاوة ِ والـرّصـافـة ِ

مُـطـفـأَ الـيـنـبـوع ِ مُـتـَّـقِــدَ الـسـَّـعـيـرْ

//

شـوقـا ً الـى صـحـن ٍ مـن الـقـُـبُـلاتِ ..

يـقـفـو  جُـوعَـهُ عـطـشٌ  لـكـأس ٍ

مـن زفـيـرْ

 

الشاعر الذي لم يكتب

عندما نبحر مع السلوكيات المتباينة، فسوف نصل إلى المعاني المختلفة ومنها المعنى السيمانتي (النفسي) وهو أحد الكائنات التأملية في نصوص الشاعر العراقي جان دمو.

إنّ التركيب الانفعالي أو التركيب الهادئ للجملة للشعرية يبيّـن حركتها من خلال المعنى السيمانتي (النفسي)، وهو التحرر بعينه من الرقيب وتحرر المتلقي أيضا من الدخول إلى النصّ المكتوب كحالة لسانية إدراكية ذي علاقة مباشرة مع اللغة الإدراكية التي تعد من الكائنات النصية وكيفية البناء النصّي بشكله الآلي خارج التكلف؛ حيث التبدلات التي تحدث للنصّ، هي التبدلات المختلفة وكيفية المعاينة النصّية من وإلى النصّ كجامع أولي للكائنات التي تؤدي إلى الإثارة التأملية.

إنّ النصّ تأملي بدرجاته الأولى، وكذلك تعييني عندما يكون ذا علاقة مع التصور الجدلي عندما يثير الأشياء الكامة في الذات العاملة، والنصّ بجدليته ينتمي إلى المسافة الفاصلة بين الدال والمدلول، لذلك من أولى تفكرات الشاعر هي كيفية إيجاد المساحة الجمالية بتصرّف ذاتي، أي أن تكون حالة انفتاح النصّ حالة جمالية ويكون الخروج من حالات التفكر السلبي، فطبيعة عقل الإنسان، طبيعة سلبية، فالحزن عندما يتصوره الشاعر يعتبر من الحالات السلبية، ولكن هناك الحزن المجمّل الذي تكون الإثارة به توليدية فيتضاعف الجمال التأثيري بالمتلقي على أن يكون جزءا من النصّ المنظور.

نبحر في بعض نصوص الشاعر العراقي جان دمو، هذا الشاعر الذي انتمى إلى التقليلية الكتابية، فزمنية حياته لم يكتب الكثير، بل هناك مباعدات نصية بين نصّ وآخر، وقد تصل هذه المباعدات إلى فارق كبير قد يكون السنة لكي ينجز نصّا. وخصوصا أن الشاعرانتمى إلى كتابة النصّ القصير، وهو متعته الفنية عندما يكون بحالة اندماجية مع الكتابة.

امعن في صدودك أيها الواقع

فذاك قد يكون أولى بتمزيق النجوم

النجوم! قدم تبحث عمّا يماثلها، قدم تورق مع الحلم. قدم تقطع

الفأس التي صنعت لقطع الجذوع ستظل فأسا دوما.

آخر وافد الى مملكة ذراعي كان يوم الثلاثاء

بين المطر والحقيقة يسقط ظل الله

ها أنذا في سبيلي إلى ممارسة إنسانيتي

الغرفة مربعة، وكذلك القلب.

مع آخر سجائري، يتخذ القلق مكانه الأشد توحشاً.

قصيدة: الظل – جان دمو

نستطيع أن نذهب باتجاهين تخصّ الكائنات التأملية؛ فالاتجاه الداخلي؛ ويعني لنا بأن الكتابة التلقائية المعنونة، كتابة تأمّلية تفكرية، والفضاء الذي يرسمه الشاعر، هو جزء من فضاء المخيلة التي من واجبها إنجاز العمل كمنظور مواز بين الذات الحقيقية والكتابة؛ والاتجاه الثاني، هو الاتجاه الخارجي، حيث يكون مخزن الذات في تأمّلات تطبيقية وما جمعته من مؤثرات خارجية لها أحداثها الشعرية، ولكن نبقى مع كائنات الشاعر العراقية جان دمو التأملية، ومنها الكائن اليومي وكيفية الاعتناء باللحظة الكتابية ضمن المنجز الكتابي.

امعن في صدودك أيها الواقع + فذاك قد يكون أولى بتمزيق النجوم + النجوم! قدم تبحث عمّا يماثلها، + قدم تورق مع الحلم. قدم تقطع + الفأس التي صنعت لقطع الجذوع ستظل فأسا دوما. + آخر وافد الى مملكة ذراعي كان يوم الثلاثاء + بين المطر والحقيقة يسقط ظل الله + ها أنذا في سبيلي إلى ممارسة إنسانيتي + الغرفة مربعة، وكذلك القلب. + مع آخر سجائري، يتخذ القلق مكانه الأشد توحشاً

إن استقبال اللحظة الأولى من المنظور الكتابي، قد يكون تأمّلاً بولادة لحظات أخرى، والكتابة التلقائية تعتمد على التوليد الكتابي، فأنت تبدأ وسوف تنهال عليك الأفكار والجمل الشعرية المتواصلة، وهذا مانلاحظه من خلال الجملة الأولى التي بدأ بها الشاعر العراقي جان دمو، حيث أنه استطاع أن يولّد الجمل بشكلها الامتدادي لتكون المعاني متوازية مع النصّ كصورة كبرى.

نستطيع أن نقول إنّ الجملة الأولى تخضع إلى مصطلح التجريب، إذن فهي قابلة للتغيير حتى نهاية النصّ؛ ولكن في نفس الوقت طالما أنّ الشاعر جان دمو قد انتمى إلى الرمزية، فالحالة التي اعتنى بها معاني مدغمة في الذات الحقيقية، وعملية تبيانها يكون من خلال التفكر والتدبر اللذين يستوعبان اللحظة الكتابية: أمعن في صدودك أيها الواقع..

الانتماء هنا، انتماء واقعي قبل أن يبدأ بالوعي التجريبي الذي يفقده في الكتابة ويدخل منطقة اللاوعي، فالفعل الكلامي (أمعن) ساعدنا على توجهات الشاعر بمكان معين، وإلا لم يصدر فعله الاستبياني بهذه اللحظة. فالإنسان شبيهه الإنسان، والنجوم شبيهتها النجوم، لذلك حقق الشاعر معيشته الشعرية قبل استيعابها، فالعيش مع الشعر تختلف عن الاستيعاب الشعري. لذلك أطلق الأشياء بمسمياتها ومنها الفأس مثلا التي ستبقى فأسا، والنجوم الباحثة ستبقى نجوما، وهي عملية الاستدلال التصويري المرسوم في النصّ.

بالسر يتركز النوم،

في أشدّ المناطق نأيا، أقذف حاجة غامضة

ولكنني كنت على وفاق مع متطلبات الربيع

تعلمت أن أكون أنا.

وأن أترك للواقع أن يتكفل ما فسد.

المسافة تقصر، والحقيقة تتآكل.

الجمال غرفة يابسة،

مهجورة.

أتعجّل مقدم الفجر. سقوطي يمتّع

جوهر الروح.

لم أتعلم أن أتغيّب طويلا.

قصيدة: السقوط – دان دمو

يمتثل الشاعر العراقي أمام بعض النصوص القصيرة، وهي تلك النصوص التي تتغير اتجاهاتها حسب السياق المكتوب في كلّ نصّ، ومن العنونة ننقاد إلى نصّ (السقوط)، ياترى كيف حالة السقوط التي امتثلها الشاعر في وحداته اللغوية. فالاختلاف الكتابي وسرّ الحقيقة وراء ذلك، هو الاختلاف بين الدوال والمدلولات، ففي كلّ نصّ تترتّب عليه القراءات الممكنة والمختلفة واللامحدود.

بالسر يتركز النوم، + في أشدّ المناطق نأيا، أقذف حاجة غامضة + ولكنني كنت على وفاق مع متطلبات الربيع + تعلمت أن أكون أنا. + وأن أترك للواقع أن يتكفل ما فسد. + المسافة تقصر، والحقيقة تتآكل. + الجمال غرفة يابسة، + مهجورة. + أتعجّل مقدم الفجر. سقوطي يمتّع + جوهر الروح. + لم أتعلم أن أتغيّب طويلا.

يشكل النوم، أو التفكر به، وإن كان بالسرّ، أحد مزايا السلوك الفردي، فالتدبر الذي يشغل الذات الحقيقية، ليس النوم فقط، بل تظهر الأنا الموازية للتفكر السري، وهنا نطرق باب الصمت من جهة وباب التأمل الذي ينتظر الشاعر من جهة أخرى، (تعلمت أن أكون أنا.)، فليس من السهل الخروج من منطقة الأنا طالما أن الشعرية تبدأ من الذات والتي نعتبرها ملكية خاصة لاتتشابه مع الذوات الأخرى.

لقد انحنى الشاعر أمام بعض المعاني التي ظهرت من خلال الحركة الفعلية، فالفعل يتركز، من الأفعال التموضعية فهي في مكان ما، ولا تصيبها الحركة الانتقالية، بينما الفعل (أقذف) فهو من الأفعال الانتقالية، ولم يوضح الشاعر جان دمو عملية القذف (فهو يميل إلى العادة السرية) فقد وظف الإشارات لكي تتبين المعاني الإيحائية التي رسمها خلف بعض الرموز وخلف بعض الأفعال الحركية الانتقالية وكذلك الأفعال التموضعية، فالعلاقة بين (يتركز النوم) أي أن يكون المرء ليلاً، وبين الرغبة الجنسية، هذه العلاقة أثارت وضوح النصّ الذي رسمه الشاعر جان دمو.

الضفادع تشم رائحة القصيدة

مثلها مثل الغرف والورقة

ولكن حينما تثقل القصيدة بياس فائر، يشك بنتيجتها.

لقد تعلمت أن أكتب ببساطة جندي أو ربيع عقيم.

يا للهزل! أي فوضى!

أيتها الأشياء، أأنت مصممة

ألاّ تفصحي؟

أية مفارقة.

لو فقط أستطيع أن أكون ما أنا، أو أن أموت بموت الصدى.

قصيدة: صدى الضفادع – دان دمو

ننزل إلى عبقرية الشاعر ومنظوره الكتابي في النصّ؛ والهدف من وراء ذلك معتقداته والتصورات التي تشكل ضرباً من التناسق، أمّا الاعتقاد فهو الهدف النصّي ومدى ترجمته للوصول إلى أبعد نقطة رسمها الشاعر جان دمو؛ فلاشكّ أن الانفعالات والغضب زائداً الرغبة الاندفاعية، كلها تشكل وسائل في الكتابة النصّية كي يفرغ الشاعر شحناته السلبية.

الضفادع تشمّ رائحة القصيدة + مثلها مثل الغرف والورقة + ولكن حينما تثقل القصيدة بياس فائر، يشك بنتيجتها. + لقد تعلمت أن أكتب ببساطة جندي أو ربيع عقيم. + يا للهزل! أي فوضى! + أيتها الأشياء، + أأنت مصممة + ألاّ تفصحي؟ + أية مفارقة. + لو فقط أستطيع أن أكون ما أنا، أو أن أموت بموت الصدى.

عندما نطرق الجملة، وهي جملة تعني الوجود، أي القادرة على الاستدلال، نكون قد وفقنا بين الروابط التي تربط الجمل الشعرية من جهة وبين انسجام المعاني التي تمتد بعضها على بعض؛ لذلك لايكتفي الشاعر بتسمية الأشياء أو الخوض بمشتقاتها وكذلك الاستعارات التي يعتمدها، بل يرى أن يغزو الطبيعة وما آلت إله من كائنات ترغب الظهور، فقد رمز الشاعر جان دمو إلى الضفادع وأشار إلى بعض المتعلقات ومنها الغرف والورقة والجندي والربيع، كلها كانت إشارات دلالية لتنشيط النصّ،

وكلّ إشارة تحوي على المتعة الداخلية من خلال المنظور الجمالي المختلف، الذي ساعدنا بأن ننظر إلى نصوص الشاعر العراقي جان دمو وهو يقودنا بين المنظور المحلي اليومي والمنظور البعيد الذي ربّما لم يأتِ دور حضوره؛ هذه الخصائص التي تمتع بها الشاعر هي العناصر الرابطة والمؤثرة في النصّ المكتوب، وكلّ شاعر يمتلك من المتعلقات الذاتية التي تُظهر أسلوبية كتابته وتنوعها وتجعله يختلف عن الآخرين.

نحو العبور ميتاً

أساهم في تطوير الأسبوع

أسجن نفسي في ميناء السرير

أستطرف قدوم الرمل، ونواحهُ

في جذور جبهتي

غيوم كثيرة تتعثر

في

الكلام، لن أمنعك

عشب كثير يتكلم لغة الزنجي

أقفالٌ.

قصيدة: جيلي – جان دمو

عندما ينجز الشاعر منظوره الذاتي، فإنه مع الإنجاز التأملي، التأمل الذي يدور في النفس بين الشكّ في النصّ المكتوب وبين الإنجاز الحتمي، لذلك يكون الإنجاز الجوهري بعد الكتابة، أي بعد أن يكون للنصّ استعمالات جديدة لوحدات خصصت لالتقاط الابتكارات وكذلك لرسم الأبعاد والمتقاربات في النصّ الشعري المكتوب من خلال الذات المختلفة، فاختلاف الذات يؤثر على اختلافات النصّ.

نحو العبور ميتاً + أساهم في تطوير الأسبوع + أسجن نفسي في ميناء السرير + أستطرف قدوم الرمل، ونواحهُ + في جذور جبهتي + غيوم كثيرة تتعثر + في + الكلام، لن أمنعك + عشب كثير يتكلم لغة + الزنجي + أقفالٌ.

سلطة النصّ؛ هي سلطة الشاعر وما ينوي أن يرسمه من كلمات مركبة تؤدي وظيفتها ضمن الإطار النصّي، وأن يكون للشاعر بعض المفاهيم التي ينطلق منها ومن أهم تلك المفاهيم غير المنظورة هي كتابته خارج التكلف، أي أن يكون للموضوع النفسي (المدلول) الأهمية في التدخل النصّي، وما الخيال إلا بعض عناصر الشروط النفسية عندما يغيب الشاعر عن الوعي الكتابي؛ وقد لاحظنا أن الشاعر جان دمو قد أكد على مفردات تؤدي إلى النهاية (الموت) إذن الحالة التأملية قد يأس منها الشاعر وهو في دوّامة من حياة لا يستطيع أن يصرعها.

(لاتتأثر بيئة النصّ ضمن سياق الاتصال فقط بمعرفة الفرد أو مقاصده أو بوظائف النصّ في تأثيرها في مواقف أفراد آخرين وسلوكهم، فإن جماعات ومؤسسات وطبقات تتواصل أيضا تواصلا جماعيا أو عبر أفرادها من خلال إنتاج النصّ. ويبرز كذلك مكان الفرد ودوره ووظيفته في هذه الأبنية الاجتماعية من خلال سلوكه اللغوي. وقد رأينا بأن الفرد يجب أن يتصرّف من خلال سلطة أو وظيفة محددة أيضا لإنجاز أحداث لغوية معينة. "   "). وبذلك عندما يكون الشاعر متعلقا بإنجاز النصّ، فهو متعلّق لغويّ، وكذلك هناك علاقة جدلية بين النصّ والبيئة الأصلية التي ينتمي إليها، وليس هناك شرط ارتباط بالبيئة الأصلية بقدر ما تكون تلك البيئة التي عاشها في زمنية النصّ حتى وإن كانت بيئة مؤقتة.

لقد وظف الشاعر بعض المفردات الرمزية والتي من خلالها استطاع أن يصل إلى تعابير ضمن المفهوم النصّي، لتصبح تلك المفاهيم الدالة، كدلالات تقودنا إلى غايات معينة؛ مثلا: ميناء السرير؛ الرمل؛ الجبهة؛ الغيوم والزنجي؛ وهي كلها رموز وظفها الشاعر لتكون الجمل الشعرية مرتبطة ومنسجمة مع بعضها  بعض، لتؤدي وظيفتها في المفاهيم الهادفة بالنسبة للشاعر.

*** 

علاء حمد - ناقد عراقي 

.......................................

نصوص للشاعر العراقي جان دمو

الظلّ

امعن في صدودك أيها الواقع

فذاك قد يكون أولى بتمزيق النجوم

النجوم! قدم تبحث عما يماثلها، قدم تورق مع الحلم. قدم تقطع

الفأس التي صنعت لقطع الجذوع ستظل فأسا دوما.

آخر وافد الى مملكة ذراعي كان يوم الثلثاء

بين المطر والحقيقة يسقط ظل الله

ها أنذا في سبيلي إلى ممارسة إنسانيتي

الغرفة مربعة، وكذلك القلب.

مع آخر سجائري، يتخذ القلق مكانه الأشد توحشا.

**

السقوط

بالسر يتركز النوم،

في أشدّ المناطق نأيا، أقذف حاجة غامضة

ولكنني كنت على وفاق مع متطلبات الربيع

تعلمت أن أكون أنا.

وأن أترك للواقع أن يتكفل ما فسد.

المسافة تقصر، والحقيقة تتآكل.

الجمال غرفة يابسة،

مهجورة.

أتعجّل مقدم القجر. سقوطي يمتّع

جوهر الروح.

لم أتعلم أن أتغيّب طويلا.

**

صدى الضفادع

الضفادع تشم رائحة القصيدة

مثلها مثل الغرف والورقة

ولكن حينما تثقل القصيدة بياس فائر، يشك بنتيجتها.

لقد تعلمت أن أكتب ببساطة جندي أو ربيع عقيم.

يا للهزل! أي فوضى!

أيتها الأشياء، أأنت مصممة

ألاّ تفصحي؟

أية مفارقة.

لو فقط أستطيع أن أكون ما أنا، أو أن أموت بموت الصدى.

**

جيلي

نحو العبور ميتاً

أساهم في تطوير الأسبوع

أسجن نفسي في ميناء السرير

أستطرف قدوم الرمل، ونواحهُ

في جذور جبهتي

غيوم كثيرة تتعثر

في

الكلام، لن أمنعك

عشب كثير يتكلم لغة الزنجي

أقفالٌ.

للشاعرة الدكتورة ليلى الصيني.. دراسة نقدية

نقف أمام قصيدة "حافية القدمين" للشاعرة السورية الدكتورة ليلى الصيني، لا بوصفها نصاً شعرياً صرفاً فحسب، بل كبنية رمزية كثيفة تُعبّر عن تجربة أنثوية معقّدة تجمع بين الانكسار والبعث، بين الموت الرمزي والانبعاث الوجداني، بين التصوّف العشقي والتحرّر الوجودي. هي قصيدة تفيض بلغةٍ مشحونةٍ بالعاطفة، متينة في تركيبها الأسلوبي، ومليئة بالإشارات النفسية والرمزية والهيرمينوطيقية.

ففي مجال القراءة الأسلوبية – هندسة البوح وتراكيب الإيقاع تعتمد القصيدة على إيقاع داخلي غني، لا يُبنى على الأوزان التقليدية، بل يستند إلى الانفعالات اللغوية وترددات الصوت والهمس. تُكرّر الشاعرة لفظ "وحدك" لتأكيد التفرّد والتوحّد في المعشوق، كما تستثمر التكرار العاطفي في عبارات مثل:

"وحدك الفارس الذي تجاوز سرعة الضوء".

كما تقول:

 "وحدك الذي خلع الدجى بفجر الحلم".

يخلق هذا التكرار لُحمة إيقاعية تبني صورة المُخلّص. كما تُوظف مفردات ذات بعد زمني ومكاني (أيلول، سدرة المنتهى، المطر، الدجى، فجر) لتوسيع الأفق الدلالي.

أما في مجال القراءة النفسية – نجظ أنّ المعشوق كمخلّص والمعشوقة كذات جريحة تتجلى في النص ثنائية اللاوعي والوعي، عبر بروز المعشوق بوصفه "الفارس المنتظر" الذي "أيقظها من الغفلة". هو ليس شهريار، ولا هي شهرزاد، بل كيانان يتجاوزان المرويات الذكورية التقليدية. تقول د. ليلى:

 "كل جوارحي بايعتك أميراً لقلبي".

إنه فعل نفسي يعكس الحاجة إلى الاستسلام المشروط لحضور مَن يحرّرها من الخيبة والوحدة والذاكرة الجريحة. المعشوق هنا يتجسد في صورة الأب/الحبيب/المخلّص، وهي صورة مركّبة تنتمي إلى منهج علم النفس الجمعي وتنتمي إلى أرشيف الوعي الجمعي الأنثوي.

في سياق القراءة الرمزية – الأسطورة، الطفولة، والنار تنحت الشاعرة ليلى الصيني صورة البطلة التراجيدية التي "خرجت من معبد العشق حافية القدمين"، وقد "شيّعت كل الأحلام ذات حين"، و"كتبت على جدار الصمت تعويذة". هذا الخروج الأسطوري يجعلها كاهنة عصرية رفضت عبودية الحب فاختارت عري التحرّر. الحذاء هنا رمز الطفولة المهدورة، والحبّ إله مُحطّم، والمطر رفيق البقاء، تقول .

"صداقة الريح واتخذت المطر خليلا".

إنها استعارات كونية تُشير إلى علاقة الذات بالكون كبديل عن الحبيب المخذول.

 ما سبق يدفعنا لإجراء قراءة هيرمينوطيقية للقصيدة ومعرفة كنه ومستوى اللغة كأداة خلاص وتأويل في سياق هرمنيوطيقي، فوجدنا أنّ اللغة تعمل كوسيط بين المعنى والوجود، بين الداخل والآخر. النصّ لا يُكتَب لمجرد البوح، بل بوصفه محاولة لإنقاذ الذات عبر الكتابة. لذا تقول:

 "الله الله الله .... قد أفلح صوتك حين أيقظني من غفلتي".

هذا الاستدعاء الصوفي للاسم الإلهي ثلاثاً، يعكس تأويلاً روحياً لحظة التنوير. فالمعشوق صار مرآة نور، لا جسداً ولا ظلّاً، بل صوتاً داخلياً أيقظ الحضور من غيبوبته الوجودية.

أخيراً .

نجد النصّ كعتبة خلاص في "حافية القدمين"، لذا نحن إزاء نصّ شاعريّ فلسفيّ وجدانيّ، يُعيد تمثيل الذات الأنثوية لا بوصفها تابعة، بل ككاهنة تخوض طقوس الانعتاق من الحكاية، من الألم، من شهريار. القصيدة حفر في اللغة والمجاز، تأويل للهوية الأنثوية داخل عالمٍ مليءٍ بالخسارات، حيث يأتي الحبُّ لا كحكاية بل كخلاص، لا كامتلاك بل كتحوّل.

وبذلك يتحوّل النص من مجرد اعتراف عاطفي إلى رؤية شعرية تأويلية، تقيم حواراً بين الجسد والروح، بين الذات والعالم، بين الحب والحرية.

***

بقلم: عماد خالد رحمة - برلين

......................

حافية القدمين

خذني بيديك .. لا تذرني

سر بي حيث سدرة المنتهى

حيث ينمو العشق من بين أصابع الزنبق

خيوط حرير ...

إرسمني على الورق الأصفر في أيلول

لملم شتاتي شكلني طائرة ورق

وانفخ بي روحك

دعني أحلق فوق مدينة الأحلام قصة عشق

 *

أنا إمرأة لم أتبهرج بألوان الكلمات

ولم أخض بقواميس السحر

وحدك الفارس الذي تجاوز سرعة الضوء

لتشعل ألف لهفة في محراب انزوائي

وحدك الذي رفع راية العشق على جسدي المحرر

من عبودية أزمنتي

وحدك الذي خلع الدجى بفجر الحلم

وأشرع أبواب قلبي الموصدة

ولج عرش النبض فاتحاً محرراً

وتخطى حدود المعقول واللا معقول

بحضور مهيب

 ألقى خطبته العصماء

فتلقفتها عيناي بشغف ونشوة

 بنكهة فرحي ...

كل جوارحي بايعتك أميراً لقلبي

وبقبلات العشق مهرت صك إقراري

إنك فارسي المنتظر

لست شهريار ولا أنا شهرزاد

وما أغريتك بألف ألف قصة لأذوب شهداً في فمك

كل ما تعلمه إني ليلى ..

أنثى شيعت كل الأحلام ذات حين

كتبت على جدار الصمت تعويذة .. وحذاء طفلة ماتت من سنين

طوت دفاتر التاريخ ... حطمت إله الحب

وخرجت من معبد العشق حافية القدمين

صداقة الريح واتخذت المطر خليلا

هل أتيت .؟؟

لتحررني من قبضة الريح

لتأخذ بيدي بعد موت أحلامي

أغرك جفاف شفتاي .. في زمن المكياج

أم أغرتك عيناي الحالمتان بصمت

وشمعة توقد على روح الياسمين ؟!

كيف نفذت إلى أنفاسي كشراب التوت

كيف أخرجتني من بوتقة الحزن

وسكبت ماءً بارداً كي أستفيق

الله الله الله .... قد أفلح صوتك

 حين أيقظني من غفلتي لأبصر النور

 

يقول الجاحظ "القلوب المكلومة إذا قالت أوجعت، وكان لكلامها وقع لا يكون لغيرها"

في ارض العراق يتشارك الجميع الألم، فهو القاسم المشترك تتوارثه الأرواح فيتشكل من خلاله الجزء الأكبر للمخيال الجمعي، وكما يقره الباحثون، فهو البنية الرمزية التي تنبثق من الوجدان الجماعي وتتسرب إلى اللغة والصورة والرمز لتتجسد من خلالها، ولذلك كان الشعر أرضا خصبة للمخيال الجمعي، فمن خلاله تَّحول النص إلى مرآة تكشف ذلك القلق بحنين وألم الشاعر تارة وبالبحث عن الهوية المستلبة أو المهددة تارة أخرى، ومن هنا أتقدت فكرة إماطة اللثام عن هذا القلق، متجاوزا الأمكنة عابرا لتلك التنوعات الثقافية فلا يعترف بالخرائط ولا تحده ثقافة متخطيا ذلك، متسللا عبر الثقافات معانقا لذلك المشترك الثقافي، بنبرة حزينة تجمع ما بين شاعر الجنوب يحيى السماوي وشاعر الشمال جهاد الدامرجي، وصوت الانتماء المربك شاعرة الأنثى آمنة محمود ليتبدى لنا صوت يشق جدار سومر لتنهض تراتيل سومرية نازفة من الطين ذاته، ارض العراق، لتجمع بين نخيل الجنوب يحيى السماوي، وسرو الشمال، جهاد الدامرجي، وصفصافة الأعظمية آمنة محمود.

إنَّ التمثلات الشعرية للغربة والحنين والانتماء للشاعرين نراها محملة بمعاناة جماعية تتجاوز الذات الفردية، فلم تعد الغربة توحي بذلك البعد المكاني، بل نرى الشاعر يُعيد تشكيلها لتعبر عن انفصال قسري وتمزق داخلي ناتج عن الإقصاء والتهميش وتنميط الأخر ووفقا لذلك يتلاقى الشعراء.

أولا: المكان بين وجع الروح وألم الجسد.

يتعامل الإنسان مع الأمكنة وفقا لمنظومة متباينة من الدلالات كان منها ما يركز عليه الشاعر من دلالة توحي بها علاقة الروح مع الأمكنة، فتلك العلاقة تجسد لنا لحظة الهلاك لذلك الجسد إذما فارقته الروح \المكان وهذا يُشير إلى رابط نفسي ووجداني بين الشاعر والمكان [1]، وتبعا لذلك يقول السماوي ما نصه:

أأحمل ُ نخلة أمي معي ؟

أم أترك روحي هناك

وأهاجر وحدي ؟[2]

وهنا يدخلنا الشاعر في دوامة فقده لروحه متسائلا إن كان بإمكانه أن ترافقه تلك الروح التي تجسدت كائنا أخر يحاوره الشاعر، إذ يتساءل السماوي إن كان بإمكانه أن يحمل وطنه \نخلة أمه وهو يعلم بأنه ليس بإمكانه أن يحمل وطنه معه، فالعلاقة بين الشاعر \الأم \النخلة، علاقة ثلاثية الأبعاد، تتجسد من خلالها الهوية متمثلة بالمكان، وتكون الأم دليل الانتماء أما النخلة فقد كانت رمزا للمكان وامتدادا للأم، واصول الشاعر الجنوبية، فهي شامخة متجذرة كالأم تشد الشاعر إلى اصوله الجنوبية فالصورة تختزل دلالة روحية فضلا عن دلالتها المكانية.

أما سؤاله فمؤكد أن الشاعر على علم بالإجابة وهي استحالة أن يحمل الشاعر تلك النخلة، والهوية والمكان، وهنا تكمن لحظة الوجع من خلال منفى الشاعر الحقيقي ووانفصاله عن تلك الجذور.

أما الدامرجي فقد يتجسد الوطن في صورة أنثى تتوحد مع الأم والحبيبة، فكانت مصدرا يهبه الحياة وتؤكد أُصوله وتعزز انتمائه، لكن الشاعر يعيش لحظات الفقد ذاتها التي شهدها السماوي فيقول ما نصه:

"آنا كركوك

كَوزل ياريم

سن سز قالماغ

جانسيز قالما ق."[3]

يتحقق من خلال علاقة الدامرجي مع مدينته وجوده وتثبت هويته ويُعزز انتماءه، وفقدانها هو قطع لتلك الأواصر وإلغاء لهذا الوجود، وانكسار لجوهر الشاعر الداخلي، فالمدينة \كركوك، هي الأم والحبيبة الجميلة وبمجرد أن يفارقها كأنما يُفارق روحه، وهي علاقة مشابهة تماما لعلاقة السماوي مع النخلة التي لا يمكن أن يقتلعها ليحملها معه أينما حل.

يعيش الشاعران التجربة ذاتها وحالة الفقد ذاتها، فتغدوا العلاقة مع المكان

إنَّ ما يُميز قصائد (الدامرجي) هو إصراره على قولها دون ترجمة بل بلغة الأم التركمانية في العراق وهذا بحد ذاته فعل مقاومة وكأنَّ القصيدة تحاول أن تقول إنَّ لغتي موجوعة لكن رغم هذا الوجع والألم ما زالت تنطق وهذا يتفق تماما مع رؤية الناقد (د. سمير خليل) أستاذ النقد الأدبي الحديث والدراسات الثقافية في جامعة المستنصرية، إذ يقول:" إنَّ التمزق في الهوية الوطنية العراقية برر فيما بعد للتمسك المتطرف بالهوية (الكردية والسريانية والتركمانية وقبل ذلك القومية العربية) [4].

كما وتميزت اللهجة التركمانية عند (الدامرجي) بصوتها الريفي الكركوكي أو التلعفري، وهذا بدوره أضفى على المفردة الطابع المأساوي وكأننا نلمح أنيين ينبعث من صدى حروف المفردة، حتى أنَّ القارئ العربي رغم اللامفهومية قد يكون لتلك الكلمات وقعها على مسمعه.

ثانيا: الوجع الداخلي وتشظي الهوية:

يستدعي السماوي مرآته لتكون البوابة التي تنقله إلى ماض يحن إليه وذكريات يحاول استحضارها لكن المرآة تخونه والذاكرة لا تسعفه، فهو يتوسل بالذاكرة لتكون المنقذ له في الغربة، لكنها تفاجئه باستحضار مشاهد تضمر الخيبة والانكسار فلا يتذكر سوى الخسارات لذلك فهو يقول:

 أبحث في المرآة عن قميصي القديم

فلا أرى غير الحطام "[5]

فالمرآة تُعيد أنتاج الخسارة، لكنها لا تخمد صراعات الشاعر الداخلية وكأنه يرى من استحضار الماضي وتذكره المنقذ له، لكن هذا المنقذ يتعمد الفرار ليتعرى الفرد أمام ذاته لائما ومعاتبا، فلم تعد الذاكرة تملك القدرة على استحضار صورة الوطن أو صورة الأحبة وهنا يكمن الوجع ويتجدد الألم عند كل لحظة يحاول الشاعر فيها أن يمتلك زمام الأمور لكن يرد خائبا متألما.

وللأنثى كذلك جروح لا تُدمل بل تتسع وتتسع ما بين حين وحين ليتجدد الألم وكأنه يأسف على مغادرة الجسد فالذاكرة هي الحارس الأمين وكيف له أن يفرط به ويسمح له بالخروج، وهنا يكمن الوجع الحقيقي هو أن تخونك ذاتك وترتد عليك تلك القوى من الداخل لتستنزف قواك وتكون يدك هي اليد التي قطعت أنفاسك، فالوجع كصوت أنثوي قد يعلو فجأة كصرخة مكبوتة، وقد يخفت كأنين لا تسمعه إلا تلك الروح الموجوعة فهو يتوارى خلف تفاصيل الحياة، وهذا الأنين لا يعني نهايته بل يتجدد بين الحين والحين، يتمدد داخل الجسد قد يعلو حينا ويخفت كأنين خفي حينا أخرى، هذا الصوت الذي نسمعه من صدى تلك الحروف التي سطرتها الشاعرة (آمنة محمود) ، تلك الشاعرة التي لطالما مزجت بين وجع انثوي وانتماء المتعدد فوصفتها بعض القراءات بالفراشة الملونة وأنا أراها صفصافة دجلة، إذ تجذر صوتها بين ضفتي الحياة والموت معا، صفصافة انحنت على نهر دجلة دون أن تنكسر وذلك ما توحي به قصائد الصفصافة، ووفقا لذلك تقول ما نصه:

 استنطق ذاكرة المرايا فأراها

 (أنثى من ورق

أثاثها الكلمات

ودمعها الأحبار)

أتشرنق حولي

تتكدَّس شظاياي فوق شظاياها

وحين نصير كتابا لا نعود.[6]

يبدو أن الذاكرة تقود الشاعرة إلى ذكريات محملة بالألم والوجع تلك الذكريات ولشدة وجعها ووقعها جعلت منها مجرد أنثى ورقية من الممكن أن تتمزق في أي لحظة أو تحترق فصورتها التي تنعكس على المرايا كانت اللحظة المسؤولة عن ولادة الوجع، ومحاولة فرض سلطته على الشاعرة لكنها تنتفض لتطرد الوجع خارج مملكتها وتتمرد، رغم أنَّ محاولاتها الدفاعية كانت تتسم بالرقة والأنوثة، إذ نراها تتشرنق حول ذاتها كوسيلة دفاع ومع أنَّها وسيلة دفاع هشة لكن ما يُحسب لها هو تلك الأنوثة التي تتجلى بها وهي تقاوم هذا الوجع فقولها (أنثى من ورق) قد يوحي بالجمال والرقة تارة والضعف والانكسار تارة أخرى وللفظة (التشرنق) هشاشة وانطواء حول الذات وشعور داخلي بالضعف والخوف والقلق مما هو آتا، لكن هي صورة لولادة جديدة، فضلا عن ذلك فقد كانت المفردات التي شكلت الصور المجازية تحمل بصمة أنثوية واضحة، فهي تستحضر مفردات تنحدر من حيزها الأنثوي والرمزي للمرأة وهذا ما تجلى لنا من خلال (اتشرنق، امرأة من ورق) ، فتعبر من خلالها عن موقع المقاومة من الداخل لا من موقع الصدام، بعبارة أخرى من موقع تكوينها الداخلي، فهذا التحول الذي يُسببه التراكم وتكدس الألم والانكسارات إنما كان سببا في قوة الشاعرة فمن هشاشة إلى ورقة ومن ثمة إلى كتاب فأي تحول هذا تتسلح به تلك الذات الأنثوية لتؤكد تجاوزها الألم وتحقق انتصارها وتحوله إلى قوة هادئة، تستمد رقتها من جوهرها لا من ضعفها وانكسارها، ومؤكد أنَّ هذا الكتاب الذي تشكل من ألمها لا يمكن أن يوارى بل سيضل رمزا لخلودها رغم أنه نُسج من جراح هذا الجسد، والاهم من ذلك أن الصفصافة آمنة محمود بعد أن تناست هذا الوجع اختارت أن لا تعود قد يكون للماضي أو لتلك المرأة الورقية، أو إلى تذكر تلك الجراح وفي كل الأحوال كان الرحيل دون عودة المنطقة التي يتألف شعورها الداخلي مع الألم ويعتاد عليه.

وتأسيسا لذلك لنا أن نقول أنَّ كوامن الذات الداخلية للشاعرة كان مصدر للألم والوجع، فلولا الذاكرة لما تمثلت لها صورة المرأة الورقية على المرايا فأوقدت تلك الجراح التي تتوارى في كوامنها الداخلية لتتشظى منقسمة على ذاتها ما بين السقوط تارة واستجماع القوى وتجاوز تلك الجراح المتراكمة للنهوض من جديد تارة أخرى.

وللألم وقعه على روح السماوي فيقول ضمن مقطع تتجلى من خلاله فوضى الانتماء والهوية المشتتة:

وأملك من الوطن

بعض ترابه العالق بحذائي

حين عبرتُ حدوده

بجواز سفر مزُوَّر..[7]

يضمرُ نص السماوي معاناة التمزق النفسي والاغتراب وفقدان الهوية والانتماء، فأثار التراب العالقة بحذائه تعكس هذا التمزق النفسي الذي يعيشه الشاعر معلنا مرارة الفقد الكامل، فالتراب كان اثر عابر والجواز المزور كان رمز الانكسار، فكيف لأرضه، وطنه التي ينتمي لترابها، أن تكون مجرد أثار تتلاشى مع كل خطوة يخطوها الشاعر، وكيف له أن يعبر حدود وطنه بجواز يصرح بدخوله أو يمنعه من الدخول فما بين الرغبة في الانتماء وواقعه الذي لا يعترف بل وينكر انتمائه يتجلى الوجع الداخلي ليرسم لنا مفارقة تمزج ما بين الحنين والخذلان.

للدامرجي أبيات محمَّلة بالحنين والترابط العميق بين روحه كمواطن تركماني وأرضه التي ينتمي إليها ليُثبت من خلالها وجوده ويؤكد هويته التركمانية، وتبعا لذلك يقول الشاعر ما نصه:

غربته قلبم أغلار

وطنه حسرت قان آغلار [8]

فقد كانت الغربة ومفارقة الشاعر لأرضه، مدينته كركوك، مصدرا لذلك الوجع الذي أبكى قلبه ودمه، فالوجع الذي امسك قلب الشاعر بقبضته هو وجع جماعي لا فردي، مشترك والجامع هو تلك الأرض التي ينتمي إليها الشاعر والتي يبدو أنه فارقها قسرا لذلك فهو يبكي من شدة الألم فالغربة كانت توقِد نار الشوق والحنين إلى أرضه.

***

نسرين إبراهيم الشمري

...................

* ترجمة القصائد من اللغة التركمانية إلى العربية... سندس هادي شكور. (مدرسة مادة اللغة التركمانية ث جلال رضا أفندي)

المصادر

اشكالات النقد الثقافي، عبدالله الغذامي، الدار البيضاء، المغرب، ط1، 2023:132

ديوان نقوش على جذع نخلة، يحي السماوي، ديوان العرب، 2006

النقد الثقافي والممارسات الثقافية للخطاب، سميرالخليل، كنوز المعرفة، عمان، 2023:90

جهاد الدامرجي ملك القصيدة الشعبية التركمانية، مجلة صدى التركمان، أيوب بامبوغجي، 2020

 

قراءة نقدية في شعرية المقاومة بنص الجوع الناطق للشاعر محمد ثابت السميعي

يحمل عنوان قصيدة "الجوع الناطق" مفارقة بلاغية لافتة (oxymoron) إذ يحول الجوع من حالة بيولوجية صامتة إلى كيان ناطق وفاعل، و"غاضب"، في انزياح دلالي كثيف يختزل طبيعة القصيدة كلها بوصفها صرخة احتجاج جماعي ضد الجوع والخذلان والصمت العربي المريب. ومن هنا، تغدو القصيدة فعلاً بلاغياً سياسياً تسائل من خلاله الذات الشاعرة مواقف السلطة وتكشف عن بنية التواطؤ التي تعيد إنتاج المجاعة وتصادر الكرامة.

تنطلق هذه الدراسة من فرضية مفادها أن القصيدة لا تقدم الجوع بوصفه حدثاً بيولوجياً، بل كرمز ثقافي / سياسي مشحون بالمعاني. وتسعى إلى تحليل تشكل الخطاب الشعري المقاوم في النص من خلال مساءلة البنية الأسلوبية والرمزية والإيديولوجية في ضوء منهج نقدي مركب يجمع بين المقاربة الأسلوبية والتحليل الموضوعاتي والإيديولوجي.

إنّ أهمية هذه الدراسة تنبع من قراءة القصيدة باعتبارها نصاً احتجاجياً يحمل طابعاً إنسانياً معاصراً يفضح ديناميات السلطة والتهميش، ويعيد للشعر مكانته كوسيط للوعي والمقاومة....

من البنية إلى الخطاب: تمفصلات المعنى في نص الاحتجاج الشعري

تبنى قصيدة "الجوع الناطق" على تسلسل بنيوي داخلي يحاكي منطق التصعيد الدرامي ويُفعّل آلية الخطاب الاحتجاجي في مراحل متوالية. وتظهر القراءة البنيوية للنص أنه يتكون من وحدات دلالية مترابطة تؤسس خطابه من النداء إلى الإدانة:

النداء التحذيري الاستهلالي: تفتتح القصيدة بأسلوب الأمر "قِفَا"، وهو نداء مزدوج مستوحى من استهلال المعلقات ("قفا نبكِ")، ما يضفي طابعاً تراثياً على لحظة التأمل ويفتح أفقاً تأويلياً يحمل النداء بعداً أخلاقياً واستعجالياً .

التوصيف التصاعدي للمأساة: يصور الجوع باعتباره قوة مدمرة تفتك بالشعب في تصعيد درامي يحول الظاهرة من مجرد حالة اجتماعية إلى مشهد كارثي مفتوح يتجاوز الإطار المحلي إلى مستوى الأمة.

التمثيل الرمزي للمعاناة: تتجلى مأساة الجوع عبر رموز موحية كـ"الطناجر المنهكة"، و"الأبنية التي تموت"، و"الدمع"، وهي صور ذات طابع يومي مألوف، لكنها محملة بشحنة دلالية تحيل إلى السقوط الاجتماعي وانهيار البنى الحياتية.

المفارقة الأخلاقية والسياسية: يتسع النص لعرض ثنائية أخلاقية حادة بين "من لبى" و"من خذل"، بين "المنبطحين" و"المقاومين"، ما يعكس اشتغالاً عميقاً على مفاهيم العار والشرف والتخاذل في سياق يعيد ترتيب القيم.

الخاتمة التقويمية والرمزية: النص بصيغة لعن وشجب، حيث يتحول الجوع إلى قوة قضائية ,لا فقط مادية تدين الجميع وتنطق بالحكم الرمزي على المتخاذلين. تحيل "الشباك" هنا إلى رموز مركبة: قد تشير إلى الحصار أو العجز أو حتى الاحتلال ضمن مساحة رمزية مفتوحة على التأويل.

إنّ هذا التسلسل البنائي لا يخدم فقط البناء الجمالي للقصيدة، بل يشكل في جوهره بنية خطاب احتجاجي مكتمل العناصر يحشد فيه الشعري لخدمة الرسالي....

بلاغة الاحتجاج الشعري: تشكيلات اللغة والإيقاع والانزياح في "الجوع الناطق"

تتسم لغة قصيدة "الجوع الناطق" بجزالة فصيحة وتستثمر حقولاً دلالية متداخلة: دينية ("الخزي"، "اللعنة")، سياسية ("الخيانة"، "الخذلان"، "الاقتصاد")، واجتماعية ("الجوع"، "الطناجر"، "المعونات"). الشاعر ينهل من معجم عربي كلاسيكي لكنه يحمله هموماً معاصرة، ما يضفي على النص كثافة لغوية ذات بعد رسالي.

تعتمد القصيدة أدوات بلاغية متعددة، أبرزها الاستعارة والتشخيص، حيث يتحول "الجوع" إلى كائن ناطق وفاعل يمتلك إرادة وغضباً:

"قِفَا.. فالجوعُ يَدفَعُ بالأُلوفِ / لهاوية التدافعِ والهلاكِ"

"قِفَا.. فالجوعُ يَلعنكم ويدعو / عليكمْ بالمجاعةِ.. والشَّاْبَاكِ !"

بهذه الأساليب، يستثمر الجوع بوصفه رمزاً مركزياً للقصيدة تتجمع حوله بقية الدوال في مشهد احتجاجي.

كما يكثف الشاعر التوازي التركيبي عبر التكرار البنائي للأمر "قِفَا"، المستوحى من الشعر الجاهلي ("قفا نبكِ")، ما يمنح القصيدة بعداً نصياً تراثياً في خدمة قضية معاصرة، ويضفي على النصّ نبرة تحذيرية واستنهاضية.

وتبرز المقابلات والصور الجدلية في بنية القصيدة:

"يأكل نصف شعب / يفتك بالبقية" – تصوير مركب لمأساوية الجوع.

"من لبّى / من خذل" – بناء ثنائي أخلاقي واضح.

"تلقّاها بحظ وافر / يعيشون انبطاحاً في تباهٍ" – مقابلة بين الشهادة والمهانة.

إيقاعياً، تنتمي القصيدة إلى البنية الخليلية العمودية، وهي موزونة وهو ما يضفي طابعاً كلاسيكياً مهيباً يناسب البنية الخطابية ذات النفس الاحتجاجي. انتظام التفعيلات وتماسك القافية يسهمان في ترسيخ الرسالة ويقربان النص من نمط الإنشاد الجمعي.

ولعل هذا ما يجعل القصيدة تحقق ما أشار إليه الناقد صلاح فضل في حديثه عن الشعر السياسي، حين قال:

"إن الشعر حين يغدو خطاباً احتجاجياً لا يفقد شعريته، بل يضاعفها حين يستبطن القيم الجمالية في بنيته الأسلوبية."

وبذلك، تتجلى بلاغة القصيدة في قدرتها على تحويل المأساة اليومية إلى شكل فني متماسك، يشتبك مع اللغة من جهة، ومع الواقع من جهة أخرى...

الجوع بوصفه خطابًا كاشفًا: البنية الموضوعية والرمزية السياسية

لا يطرح الجوع في هذه القصيدة بوصفه حالة بيولوجية ظرفية، بل يتحول إلى رمز مركزي يفكك البُنى الاجتماعية والسياسية القائمة. إنه خطاب كاشف، يمتحن من خلاله الضمير الجمعي للأمة، كما تنفضح به هشاشة السلطة وسلوك النخب المتواطئة.

يقول الشاعر: "قِفَا.. فالجوعُ يأكلُ نِصفَ شَعْبٍ / ويَفْتِكُ بالبقيَّةِ في اشتِباكِ"، لتكون الصورة أقرب إلى ملحمة فناء جماعي.

تسير القصيدة في مسار جدلي: من الرصد المأساوي للواقع إلى التحريض، ثم الإدانة الصريحة. يخاطب الشاعر الشعوب والأنظمة على حد سواء، لكنه يمنح "الجوع" ذاته صوتاً كأنّه نبيّ ساخط أو قاضٍ يحكم على الجميع.

وتتّضح هذه النزعة في قوله:

"قِفَا.. فالجوعُ يَلْعَنُكمْ ويدعو / عليكمْ بالمجاعَةِ.. والشَّاْبَاكِ !"

ولعل استعارة "الأسد النائم" تحمل إحالة مزدوجة: فهي تعيد تدوير الصورة النمطية للعرب في الشعر السياسي (عبر النقائض والهجاء)، كما تفضح الغياب السيادي للرد الجمعي أمام المأساة.

من صوت الجياع إلى صرخة الوعي: التشكل الإيديولوجي للموقف الشعري

ينطلق موقف القصيدة من تصور جذري لوظيفة الشعر، لا بوصفه أداة جمالية محايدة، بل فعلاً يتقاطع مع الوعي والاحتجاج. وفي هذا السياق، يصدق ما قاله أدونيس:

"الشعر ليس وسيلة لتزيين الواقع، بل لتفجيره."

وهو ما تقوم به القصيدة فعلياً، إذ تنحاز للمقهورين، وتكشف بنية القهر، وتدين بالصورة الشعرية ما تعجز عنه اللغة المباشرة.

تمتلك القصيدة رؤية واضحة وانحيازاً صريحاً للمهمشين والمقهورين، مقابل إدانة قاسية لمن أسماهم الشاعر بـ"المنبطحين"، أو أولئك الذين "غضّوا عرشهم" عن رؤية المأساة. ويمكن تصنيف هذا الموقف ضمن تقاليد الشعر المقاوم، حيث تنحاز الكلمة إلى الهامش بدل المركز.

يقول: "ومَنْ لَبَّى ولاقى الموتَ عِزّاً / لنُصْرَةَ أهْلِهِ مِثْلَ المَلاكِ"، في احتفاء واضح بالشهادة والبطولة الفردية.

لكن الموقف الأيديولوجي هنا لا يقدم بلغة تقريرية، بل عبر استعارات وانزياحات تنقل الجوع من مستوى الحاجة إلى مستوى "الثورة الكامنة" التي تنتظر لحظة الاشتعال. بهذا، يحول الشاعر قصيدته إلى مانيفستو احتجاجي يتقاطع مع مزاج الانتفاضات الاجتماعية والسياسية في الوطن العربي.

ويسجل له توظيفه للتكرار، والمقابلة، والانزياح الرمزي ليجنب نصه السقوط في المباشرة، ويمنحه بعداً تأويلياً مفتوحاً....

تمثل قصيدة "الجوع الناطق" أكثر من مجرد رثاء شعري لحالة مجاعة أو أزمة اقتصادية؛ إنها نص احتجاجي مركب يتجاوز الوظيفة التقريرية نحو بناء خطاب مقاومة رمزي ومفاهيمي، يجعل من "الجوع" فاعلاً ناطقاً ومن الشعر نفسه سلاحاً في مواجهة الخذلان المؤسسي واللامبالاة المجتمعية.

ينجح الشاعر في إعادة تشكيل الجوع من كونه حالة بيولوجية إلى كونه رمزاً مركزياً في بنية الصراع القيمي والحضاري، مستنداً إلى مرجعيات دينية وأخلاقية، وشعبية. بهذا التوظيف الرمزي، يغدو النص ساحة صراع بين:

الكرامة والموت

الحق والجوع

الصوت والصمت

الوعي والخيانة

وقد كشفت القراءة، بمستوياتها البنيوية واللغوية والرمزية، عن اتساق النص في تشكيل موقف أيديولوجي صريح، دون الوقوع في المباشرة، بل عبر أدوات شعرية مثل التكرار،و الانزياح، والصورة الاستعارية المركبة.

وهو ما يجسد بدقة ما عبر عنه ت.س. إليوت بقوله:

"Genuine poetry can communicate before it is understood"،

أي أن الشعر الأصيل يحدث أثره حتى قبل أن يفهم، ما يجعل من "الجوع الناطق" نصاً احتجاجياً فعالاً لا في مضمونه فحسب، بل في طاقته الجمالية.

إن "الجوع الناطق" لا يُقرأ فقط كأدب وجداني، بل بوصفه وثيقة شعرية مقاومة تنتمي إلى لحظة تاريخية مشبعة بالألم العربي، لحظة يموت فيها الناس من أجل كسرة خبز، بينما يحيا "البعض" على حساب الصمت والتخاذل.

وعليه، فإن القصيدة تقدم نموذجاً للشعر الذي يعيد مساءلة الواقع من موقع لغوي جمالي، ويمنح "القصيدة" دوراً يتجاوز التعبير إلى المشاركة الفعلية في تشكيل الوعي…

***

دراسة نقدية من إنجاز فاطمة عبد الله

.....................

الجوعُ الناطق!

قِفَا..فالجـــوعُ يَدفـــعُ بالأُلوفِ

لهــــــــاوية التدافُــــعِ والهلاكِ

*

قِفَا..فالجوعُ يأكلُ نِصْفَ شَعْبٍ

ويَفْتِكُ بالبقيــــــةِ في اشْتِباكِ

*

وتَمتدُّ المَهـــــــــــالِك راصِداتٍ

لها وَجْــهٌ مُلَطَّـــــــــخُ بانْسِفَاكِ

*

وتَمتدُّ (الطناجِر) مُنْهَكَــــــــاتٍ

تُصَارِعُ للبقــــــــاءِ... ولابـواكي

*

ومَنْ يَشْهَدْ نِـــــداءَاتٍ..ودمعاً

وأبنيـــــةً تموتُ...بلا حِــــرَاكِ

*

سَتُدْرِكــــــــهُ...بيومٍ لامَنَــاصَ

لــــهُ مِنْـــهُ بِخِــــزيٍ..وانْتِهاكِ !

*

ومَنْ لَبَّــــى ولَاقَى الموتَ عِزًّا

لِنُصْـــرَةَ أهْـــلِهِ مِثْلَ المَـــلاكِ

*

تَلَقَّـــاها بحــظٍ وافِـــرٍ...أَحنَى

رِقابَ الكُفْرِ قســـرًا كي يَراكِ:

*

على قدميكِ تبتسمينَ دَهـــرًا

تَؤُمِّينَ الحيـــــــاةَ على هواكِ

*

ومَنْ خَذَلــــوكِ وابتلعوا لِسانًا

وغَضُّــوا (عَرْشَهُمْ) عما دَهاكِ

*

يَعيشونَ انْبِطَــاحًا في تَبَــــاهٍ

لِيَنْتَعِشَ اقتِصادَ الـ(اِحْتِكاكِ)!

*

فما طــارَتْ شَرَارَةُ دون قَـدْحٍ

ولا قـامتْ قيامـــــةُ بالسِوَاكِ

*

وهل نامتْ بِعَيْنِ العُـرْبِ أُسْدٌ

سوى جُـــبْنٍ مُقِيـــمٍ باحتِبَاكِ!

*

قفــا..فالجوعُ حَرْبٌ_إن أَرَدّتُمْ_

فخوضوهــا بِشَـجْبٍ واعْتِلاكِ

*

ولاتَقِفُوا حَيــــارى إنْ مَنَعْتُمْ

عن الجــوعى معونات الفِكَاكِ!

*

متى كُنتُمْ لها سَـنَدًا وعَـــوْنًا

لتهنـأ بالحيــــاة بلاعِــــــرَاكِ!

*

قفا.. فالجوعُ يَلْعَنكُمْ ويدعو

عليكمْ بالمجاعَةِ..و( الشَّاْبَاكِ ) !

***

الشاعر اليمني: محمد ثابت السُّمَيْعي

 

يجتهد النقد الغربي في تقسيم الروايات بحسب أنواع تشكيلاتها، فتارةً يصفها بأنها رواية الشخصية، وتارةً أخرى بأنها رواية الأفعال، وقد تكون هيّنةً مرة، ومركّبةً مرةً أخرى. وقد ينزاح الفعل الروائيّ ليَنهَضَ بسرد سيرة ذاتية، وأحيانًا يتوهّج المرجع الواقعيّ فيتحوّل إلى مرجع نصيّ، إذ يغادر واقعيّته الحرفيّة ليَنهَضَ من خلال ذاتية الكاتب ولغته وإحساسه ومشاعره ورؤاه وإسقاطاته، حذفًا واستبدالًا وإضافةً.

رواية "قوّة الأشياء" للروائي والباحث الفلسطيني عارف الأغا، الصادرة في دمشق عام 1992، هي واحدة من الروايات المعقّدة التي خاطبت العقل والنفس معًا، فبدت تارةً روايةً شخصيةً، وتارةً رواية أفعال، كما أنها رواية المرجع الواقعي المتوهّج، وهي في الآن ذاته رواية ذاتية.

قال أبو حيان التوحيدي: "ما أصعب الكلام على الكلام"، مُؤسِّسًا بذلك لنظريةٍ نقديةٍ حاز بها فضلَ السبق، أطلق عليها الحداثيّون في النقد الغربي اسم "نقد النقد"؛ حيث يتحوّل العملُ النقديّ من سلطةٍ لإصدار الأحكام المعيارية المسبقة، التي تُصادر صوت الإبداع فتقتله في مهده، إلى نقدٍ إبداعيٍّ يحمل من الأدبية ما يجعله يُوازي أو يُضاهي لغةَ الإبداع. لكن في رواية قوّة الأشياء نجد الأدب والنقد من داخل النص الأدبي في توازٍ وانسجام.

لقد جسّدت تجربة الروائي الفلسطيني عارف الأغا المقدرة القصوى للخاصّ الفلسطيني والعربي، وهو يبحث له عن مكانٍ لائق في العالم الكوني، ليُكثّف بذلك أعلى لحظات التوتر في علاقة الخاص بالعام، ويُعبّر عن أشدّ حالات معاناة المثقف الإشكالي. فقد جسّد الروائي، في هذه الرواية، قدرةً عاليةً على التقاط مفردات الحياة اليومية وانعكاسها على الحالة النفسية والفكرية والفلسفية لبطل الرواية.

ولو استعرْنا مصطلح لوكاتش عن البطل الإشكالي روائيًّا، ضمن القراءة التفسيرية التي قدّمها غولدمان، بوصفه البطل الذي يبحث عن القيم في وسطٍ متحلّل، والذي يطمح إلى بناء كليّات نوعية جديدة على أنقاض بنى تقليدية متداعية، لوجدنا أن عارف الأغا هو البطل الروائي لنصّ الحياة العربية، في رواياته مثل:

أزهار الصبار (دمشق 1990، مطبوعات الاتحاد)،

مخيّم في الريح (1986، مطبوعات النسيم)،

ورواية قوّة الأشياء.

تدور قوّة الأشياء حول شخصية عمر أيوب، الذي يجسّد الفلسطيني التائه. إذ عاش طفولته في مخيمٍ بائس بلا أبٍ ولا أم، ثم انتقل إلى عائلةٍ تبنّته، ليعيش غريبًا في المدينة، وفي مدرسةٍ بعيدة كلّ البعد عن واقعه في المخيم. وإزاء هذه الغربة الساحقة، أشعل النار في المدرسة التبشيرية انتقامًا لغربته، فاحتواه الشارع شريدًا جائعًا، لكنّه كان حرًّا هذه المرّة.

وتشاء المصادفة أن يتبنّاه رجلٌ آخر، ولكنّ عمر ينتقم مجددًا لغربته بحبّ زوجة معلّمه الأولى المهجورة. عاش صراعًا حادًّا بين خيانته وحبّه لهذا الرجل الذي أنقذه، لكن عمق التيه الذي يعيشه هذا الفتى دفعه إلى الفرار إلى الأكواخ المتناثرة على أطراف المدينة، حيث بدأ حياةً جديدة، وتعرّف إلى عائلةٍ بسيطةٍ ذات قيم أصيلة، ووقع في حبّ ابنتهم الجميلة عذاب. لكن لم يدم هذا العشق طويلًا؛ إذ تدخلت قوة الأشياء وانتهت حبيبته قتيلةً مغتَصَبةً على يد بعض الأشرار، وفقد هو ذاكرته بعد ضربة على رأسه منهم.

خلال وجوده في الأكواخ، اجتهد عمر في القراءة والتعلّم حتى أصبح كاتبًا مرموقًا، واستخدم الروائي حالة فقدان الذاكرة بشكلٍ فنتازيّ ليُظهِر أنّ الوباء الذي يجتاح المدينة هو السبب في هذا التيه. ويكتشف عمر في نهاية الرواية أنه جزءٌ من هذا الوباء، ويُعلن – من خلال ممارساته – أن لا خيار في ذاك العالم الموبوء سوى أن يكون قاتلًا أو مقتولًا. تلك هي قوّة الأشياء التي لعنها عمر، ولعنها الروائي على لسانه، إذ يقول في ختام الرواية: "اللعنة عليكم جميعًا".

خاتمة تحليلية:

رواية قوّة الأشياء ليست مجرّد عملٍ سرديّ يحكي حكاية فردية مأساوية، بل هي نصٌّ يتجاوز الخاص إلى العام، ويتحوّل من سيرة شخصية إلى مرآة كاشفة لتمزقات الذات الفلسطينية والعربية في لحظة انهيار حضاري شامل. لقد قدّم الروائي عارف الأغا عملاً أدبيًا يجمع بين الصدق الإنساني والوعي الفني والالتزام السياسي، دون أن يسقط في فخ الشعارات أو الخطابية أو المباشرة، بل اختار أن يخاطب القارئ من داخل التجربة لا من فوقها.

فنيًّا، تنتمي الرواية إلى الأدب النفسي والواقعي في آنٍ معًا، مستندة إلى بنية سردية متقنة، وزمن دائري، وشخصيات متحوّلة تتطوّر وفق صراع داخلي كثيف، وهو ما يمنح النصّ عمقًا دراميًّا لا يخلو من البُعد الرمزي والفلسفي.

أما سياسيًّا، فهي رواية تقاوم النسيان، وتفضح آليات الهزيمة في الواقع العربي، من خلال الغوص في بنية القهر الاجتماعي والاغتراب السياسي والخذلان الوطني، لتقدّم شهادةً صادقةً عن فلسطين لا بوصفها قضية، بل بوصفها ألمًا حيًّا يسكن الجسد واللغة والذاكرة.

وهكذا تُمثّل قوّة الأشياء رواية تحمل في طياتها مشروعًا للكتابة المقاومة، وتُؤسّس لوعي جديد، لا ينفصل عن الواقع، ولا يُسلّم له، بل يُحاكمه ويُعرّيه، ويُحاول استشراف مخرجٍ ممكن من تيه الذات والواقع، عبر قوّة الفن والكلمة.

رواية قوّة الأشياء هي رواية تيه الوعي في الواقع العربي والفلسطيني الموبوء؛ حيث تضيع الحدود بين القيم والأضداد، ويتماهى القاتل بالضحية، كما تتشابه مفردات الشرف والعار، ويضيع الوعي بين سطوة الرغبة والتشبّث بالمبادئ، فيقع البطلُ فريسةً لأوهامٍ ناتجةٍ عن القهر والإذلال والخذلان من قبل الأقرباء قبل الغرباء.

وما يميّز هذه الرواية أنّها تسير وفق منطق الحفر النفسي العميق في دواخل الإنسان الفلسطيني، الذي وجد نفسه مسلوب الذاكرة والهوية والكرامة والأرض والانتماء. وقد أسعف الكاتبَ في ذلك بنيةٌ لغويةٌ مُحكَمة، رشيقة، مستمدّة من الواقع النفسي والاجتماعي والسياسي، متقاطعة مع ما يمكن تسميته بالأنا الفلسطينية الجمعية، التي باتت تمثل الذات الكبرى، وسط تراجيديا عربية قاسية.

يستخدم الروائي تكنيكات روائية فنية متعددة، كـ: تقنية الراوي المشارك، وتعدد الأصوات، وتقنية الحلم، والرسائل، والاسترجاع الزمني (Flashback)، وتيار الوعي.

وقد وظّف هذه التقنيات بشكل بارع، دون أن يسقط في المباشرة أو التقريرية أو الخطابية. كما يُلاحظ في الرواية اختزال الزمن وتكثيفه في مراحل حاسمة ومفتاحية، بما يجعل كل تفصيل في الرواية يخدم الحبكة ولا يذهب سدى.

المرأة في رواية قوّة الأشياء ليست مجرّد تفصيل عابر، بل هي الذات والوطن والحبيبة والأم. إنها الحضور المهيمن، سواء كأملٍ أو كوجع، كمخلّص أو كقاتل. فـ عذاب، التي أحبّها عمر حبًّا طاهرًا، كانت تمثّل الوطن الجميل الحنون، لكنها اغتُصبت وقُتلت، تمامًا كما اغتُصبت فلسطين. أما الأم فهي الغائبة الكبرى، الغياب الذي شكّل جذر التيه في الرواية كلّها.

وبالرغم من الألم الذي يسكن النص، لا تخلو الرواية من بؤر ضوء وأمل، حيث نجد شخصية العم صالح، الذي مثّل رمز الحكمة والتعقّل، والمرأة المسنّة التي احتضنت عمر في لحظة انهيار، ليبدو أن الشعب الفلسطيني، رغم مآسيه، لا يزال يمتلك خزّانًا من الطيبة والصبر والمقاومة.

لقد استطاع الروائي الفلسطيني عارف الأغا في هذه الرواية أن:

يخلق نصّاً مفتوحًا على التأويلات.  ويقدّم بطلًا إشكاليًّا يعاني من تيه وجودي وقيمي، كما نجح في تعرية البنية الاجتماعية والسياسية العربية، دون خطابة.

إنّ البنية الأسلوبية للرواية تنوس بين السرد العادي والتدفق الشعري، في توازنٍ نادر، تُسنده لغة تصويرية قوية، موحية، ذات طابع شعري خفي، يتداخل مع لغة الواقع اليومية، مما يُنتج نغمةً سرديةً خاصة، ممهورة بختم الروائي عارف الأغا.

***

بقلم: عماد خالد رحمة – برلين

 

القصة القصيرة (شهيق وزفير) للقاصة سنية عبد عون تتجوّل في أزقة الواقع الاجتماعي العراقي؛ لتلتقط منها حكايات شخصياتها، وأحداثها، وحركتها، ومعاناة شريحة من المجتمع، وهو اختيار فنّيّ قصصي (نقدي) للكاتبة، مثلما عوّدتنا في قصصها عموماً، اختيار عن قناعة، وموقف، واتجاه، وبناء فني للظواهر السلبية والإيجابية في هذا الواقع الاجتماعي، وأثر ذلك على النفس فرديّاً وجمعيّاً.

القصة تتناول حياة امرأة عراقية، متعلمة (مديرة مدرسة متقاعدة)، ومضحية من أجل بناء شخصية ومستقبل زاهر وآمن لأولادها، بعد استشهاد زوجها في الحرب العراقية - الإيرانية الطويلة في الثمانينيات من القرن المنصرم. وهي بهذا تتناول شريحة من العراقيين وهي المرأة/بطلة القصة، ومن خلالها تصوّر معاناة المرأة العراقية في تضحيتها، وتحمّلها بمقارعة الصعاب، وشجاعتها، وإصرارها على مواصلة الحياة بثبات وقوة مع الظروف القاسية التي تمرّ بها؛ لإيصال أبنائها الى برِّ الأمان، رغم فقدان ربّ الأسرة، ومعاناتها هي، وتضحيتها الكبيرة، لكنّها راضية مقتنعة، مؤمنة بدورها الأمومي. وبذا تعطي مثالاً إيجابياً للمرأة، وهو مثال موجود في المجتمع وبكثرة. والقاصة هنا تركز في حكايتها على هذا الجانب، مع الإشارة النقدية غير المباشرة الى أحد الجوانب السلبية في الواقع، وهو النكران والإهمال، والتهميش الذي تواجهه هذه الشريحة مع عظيم تضحياتها.

تمتاز القصة بجماليتها الظاهرة، سرداً ولغةً، وأسلوباً تزيِّنه الإثارة والشدّ والفضول، والتفاعل والمعايشة، من خلال جذب المتلقي بأحداثها المتسلسلة، وجعله يتابع بشغف حتى نهايتها، وبحبكة مُحكّمة.

القصة إحدى الحكايات الواقعية التي مرّت وتمرّ بمجتمعنا، وهي تغطي بعض الظروف التي عاشها، ويعيشها المجتمع العراقي وأفراده، ففي كل بيت معاناة، وفي نفس كلِّ أمّ ألم دفين، وجرح غائر نازف، بصمت وتحمّل، خلف الظاهر الذي يخفي الكثير من الآلام، والأحزان، والأحلام التي تصطدم بمرارات الحياة، وقسوتها.

تتناول القاصة الأحداث والشخصيات ببراعة سردية فنية، ولغة غنية بالمفردات، والأساليب الصياغية المنسجمة، والمتناغمة مع الحالة الموصوفة، وبموهبة كبيرة واضحة، تعمل كلها كخلية نحل. كل واحدة تؤدي دورها، ومهمتها في الحكاية المروّية، بإتقان وحرفية عالية؛ لذا تحمل قصصها شحنات من التجربة في الحياة، والتقاط الأحداث والشخصيات من الواقع الاجتماعي، بدقة متناهية؛ لتقديم صورة فوتوواقعية، من غير السقوط في مزالق المباشرة، كتقرير صحفي إعلامي. ثم تقوم الكاتبة سنية عبد عون بصياغتها فنيّاً، وبمهارة ملحوظة.

(شهسق وزفير) قصة قصيرة، مكتنزة بكلّ قوانين، واشتراطات فن السرد القصصي، من حيث العرض بحبكة متقنة، بدايةً ووسطاً ونهايةً. والتسلسل فيها يجري بعناية وحرص؛ لتكون الأحداث مترابطة الأجزاء، واقعية مقنعة، تصل الى الخاتمة الطبيعية التي ترسمها القاصة، وهي الضربة النهائية في مسيرة الحكاية، الضربة التي تترك أثرها في المتلقي، وهو الهدف من الكتابة، ومعاناتها عند التحضير والتأليف، لإيصال الفكرة المبتغاة بعناية وحرص، والّا.. فلماذا نكتب؟

هناك ميزة أخرى مهمة، وبارزة في أدب كاتبتنا، هو الإحساس الدافع للتجربة التي تخوضها في السرد القصصي، ففيه يشعر المتلقي، ويعيش مع الشخصيات ما تعيشه، من خلال السرد المُحكّم، والوصف الدقيق، بلغة ثرية متقنة، لما تعانيه، وتمرّ به الشخصيات في حياتها اليومية، وما تحيط بها من ظروف. وهذا نابع من إحساسها هي بالحكاية وأبطالها، وكأنها حقيقةً هي البطلة التي تتناولها. وهذا نجاح فائق.

والحق أقول، شعرتُ أنا شخصياً بغصة في نهاية القصة هذه، فترقرت الدموع في عيني، واجتاح حزن نفسي فانقبضتُ، وهذا دليل على كل ما أسلفت من ذكر لما يتصف به أدبها القصصي. وقد سبق لي في الكتابة عنها من قبل أن أشرتُ الى أثر الشعر في أسلوبها السردي وبنائها اللغوي في القصة، من خلال كمية الأحاسيس، والمشاعر الصادقة التي تتناولها في الشخصيات داخل رواية الحكايات الواقعية في فنها، مثلما نقرأ  أثر السرد في نصوصها الشعرية. فالإحساس والشعور هما سيدا الشعر، وحادياه، وملاحاه، وفارسا مخياله. وهما النسيج الفنيّ الأدبي الذي يتداخل معاً في أسلوبها قصّاً وشعراً.

***

عبد الستار نورعلي – شاعر وناقد

..................................

شهيق وزفير ...قصة قصيرة

سنية عبد عون رشو

تعانق نسيمات الصباح خصلات شعرها الأشيب الذي يحمل قصصاً من ماضيها الذي لا تود ان تبوح به لأقرب الناس اليها .

كعادتها تجلس قبالة باب الدار فربما يزورها أحدهم تنتظر دون ملل مرتمية فوق كرسيها الخشبي المتهالك تحت شجيرة الياسمين . وبعد ان يخذلها الانتظار تعود الى غرفتها صامتة تجر أطراف شالها الأخضر بلون أمانيها .. وهمسات الحنين تسكن أضلاعها .

تمسك ست وداد قلما ودفترا وتكتب بسرية تامة دون ان تسمح لأحداهن ان تعرف شيئا عن مذكراتها أو ربما تكتب قصة حياتها في دفتر كأنه سجل مدرسي لونه يميل للرمادي الغامق انه يذكرها بسجلاتها المدرسية قبل احالتها على التقاعد .

عشرون عاما واسمها يتصدر لوائح مديرية التربية كأفضل مديرة مدرسة في تلك المدينة اضافة لكونها ربة أسرة وأم لثلاثة أبناء ذكور . وها هم اليوم رجال ملتحون .

أستشهد زوجها في حرب الثمان سنوات . ولن يثنيها هذا عن دورها كأم مكافحة في بيتها ومربية ناجحة في مدرستها .

متوسطة القامة ومكتنزة قليلا لكن ملامحها تنبؤ بما كانت تتمتع به من جمال في سالف أيامها . وما زالت شديدة الاهتمام بملبسها واناقتها التي عرفت عنها دائما الست وداد .

الظروف وضعتها هنا رغما عنها . وهي تتأبط سجلها وصندوق يحمل كل ذكرياتها وسرها الذي لا يعرفه سواها . كانت تكتب رسائلها التي لا ترسل ، ولا زالت تتذكر صوته حين قال لها : ان ضاعت الأيام فلا تدعي الحب ان يضيع ..انتظريني سأعود ، لكنه لم يعد وبقيت هي كما وعدته تنتظر ..وكل ما تملكه هو صوته في آخر لقاء ونظرة طويلة بدرت منه قالت كل شيء وكأنه تنبأ لفراقهم الأبدي . لم تنسَ ذلك اليوم ولكن عقلها الباطن يرفض مسألة موته في جبهة القتال وضياع جثته بين الوديان . ولتبقى تنتظر من لا يعود .

كان الجميع يحترمون رغبتها في الانعزال والصمت الذي ينهش عزلتها ..وحنينها الجارف لأبنائها الثلاثة الذين ربتهم بدور الأم والأب . لقد انشغلوا عنها تماما . لم يزرها أحدهم منذ أمد بعيد وكل ما تبقى منهم ورقة معلقة فوق جدار سريرها : اتصلي بنا عند الضرورة .

اثنتان كن يشاطرنها سكن غرفتها في دار المسنين

كانت احداهن مولعة بمتابعة المسلسلات من خلال جهاز التلفاز في قاعة الدار .وكانت تتفاعل بشدة مع احداث القصص وتذرف دموعها من اجل البطل أو البطلة ..لذا يكون تواجدها نادرا .

اما السيدة الثانية فكانت تشغل جلّ وقتها بقراءة الكف لبقية النزيلات وهي شديدة التعلق بهذه الهواية . لكنها ثرثارة قليلا

سألتها ذات مساء لماذا لم تتزوجي بعده ..؟؟ تضحك الست وداد بهدوء وهي تقول : انا متزوجة من الانتظار ...وفاء لزوجي فربما يعود لي ذات يوم .

اذن وماذا تكتبين ولمن ..؟؟

أخذت الست وداد شهيقا طويلا ثم الزفير بعده وببطء ايضا .

ثم قالت : أكتب له ..ربما يقرأه ان عاد ويشعر انني كنت هنا وكنت اتذكره ولن انساه يوما واني بقيت أحبه رغم كل هذا الغياب . انه لا يكذب حين قال لي انتظريني ..

كانت الأيام في دار المسنين تمر ببطء ولوعة . والوقت لا يقاس هناك بالساعات والأيام بل بعدد مرات شهيقها وزفيرها وبعدد زيارات ابناءها التي لم تتحقق أبدا .

وذات ليلة تموزية شديدة الحرارة شعرت الست وداد بدوار شديد مع ارتفاع درجة حرارة جسدها وعدم تقبلها لوجبة العشاء وكذلك لوجبة فطورها الصباحي في اليوم التالي . وهذه الحالة لا تشبه نشاطها اليومي المعتاد ، نقلت على أثرها للمشفى .

طلب منها الطبيب ان لا تغادر المشفى تحسبا لأي عارض .

ولكن في اليوم الثاني ازدادت حالتها سوء وأخذت تهذي مع ارتفاع شديد بدرجة حرارة جسدها .وقبل ان تغمض عينيها طلبت من الممرضة ان تحتفظ بدفترها وتعطيه لولدها البكر ان حضر .

اتصلت مسؤولة الدار على رقم ولدها البكر . وقد تأخر كثيرا في الحضور للمشفى لكنه جاء أخيرا ليستلم جثتها مسجاة داخل ثلاجة المشفى .

بقي المقعد الخشبي خاليا في دار المسنين والدفتر بين يدي ولدها البكر والياسمين مازال يتساقط بصمت فوق شاهدة قبرها كأنه يعرف تماما ان هنا يرقد قلب أحب بصمت ورحل بصمت .

تنقل ولدها البكر بين صفحات الدفتر ليجد رسائلها الموجهة له ولأخويه . كتبتها بحنان الأم ولوعة المشتاق .

..أثارت شجونه هذه العبارة في أول ورقة بالدفتر وأول سطر فيها أولادي : سامحوني ان أثقلت عليكم في طفولتكم فقد كنت أما وحيدة ومرتبكة ومسؤوليتكم كانت ثقيلة فوق أكتافي .. ربما كنتم تكرهون عصبيتي أحيانا . لكنني أحبكم يا أغلى الناس .

تساقطت دموعه فوق السطور ..لكنها تساقطت في الوقت الخطأ.

1 / 6 / 2025

بيت من الشعر الجاهلي، كلّما قرأته أدهشني، لما فيه من الدقة والغرابة والبراعة، والحكمة، وقوة الملاحظة والإدراك الفلسفي (المدرسة الجشتالتية الألمانيّة)، وجودة التعبير، والتوظيف اللغوي الموحي بشرف اللفظ والمعنى معا.

مِكَرٍّ، مِفَرٍّ، مُقْبِلٍ، مُدْبِرٍ، مَعًا

كَجُلْمُودِ صَخْرٍ حَطَّهُ السَيْلُ مِنْ عَلِ

كلّما قرأت هذا البيت من معلّقة الشاعر الجاهلي امرؤ القيس، في وصف فرسه سرعة فرسه، تبادر إلى ذهني السؤال التالي: هل كان امرؤ القيس على اطّلاع بقوانين علم الفيزياء؟ كيف استطاع امرؤ القيس المزج بين اللغة والبلاغة والعلم؟ كيف استطاع أن المزج بيان العاطفة والعقل في سياق بلاغي واحد؟ إلى أيّ مدى كان الشاعر يمتلك القدرة على دقة الملاحظة وبراعة التصوير في بيئته الصحراويّة؟ ربّما لو عاد امرؤ القيس بجسده وروحه وسألناه هذا السؤال: هل كنت - أيّها الملك الكندي الضليل - على اطّلاع على قانون السرعة في الفيزياء، في وصفك لسرعة فرسك وتشبيهه بالصخر الضخم المكوّر (جلمود) المندفع من علٍ؟ لله درّك أيها الشاعر الفحل، لقد وقفت واستوقفتَ، وبكيت واستبكيت وذكّرت واستذكرت ونزلت واستنزلت واشتقت إلى الحبيب والديار. للّه درّك، من شاعر عاشق للحبيب، وفيّ له. ربّما، سيفاجئنا بحقيقة لم نكن على علم بها. ربّما قال لنا بنبرة يقينيّة: وما تظنّون هذا الذي تسمّونه في قاموسكم العلمي (الفيزياء)؟ إنّ الشاعر لا يختلف عن المشتغل بها. فإذا كان للفيزيائيّ مخبر علميّ، فيه يلاحظ ويفترض ويجرّب ويستنتج ويستدلّ ويستقريء بعقله المجرّد من الظنون، لا تعدمه العاطفة، ليخلص للنظريّة، فإن للشاعر مخبره هو الطبيعة والخبرة والملاحظة والتجربة الشعريّة ليخلص أيضا للصورة البيانيّة وقد نضجت وأينعت وأشرقت في أبهى زيّها البلاغي، وقد امتزجت في مائها العاطفة بالعقل. فسيّان بين الشاعر والفيزيائي.

لقد كنّى عن السرعة الفائقة لفرسه، بصورة جلمود صخر مندفع من أعلى. والجلمود هو صخر ضخم، متكوّر أو حصيرة كبيرة من الصخر في علم الجيولوجيا، يقاس عادة بحجم حبيبات التربة أو هو حبيبات كبيرة جدا من الصخر لا يمكن تحريكها بسهولة. وقد سبقه بيت آخر في وصف فرسه:

وقد أغتدي والطير في وكناتها

بمنجرد قيد الأوابد هيكل

لم يشبّه امرؤ القيس فرسه بـ (حجر صغير مثلا) يتدحرج من علوّ، لأنّه كان يعلم أنّ القانون الفيزيائي، أو نظرية الفيزياء، تقول أنّ سرعة الجسم الساقط من أعلى تتناسب مع كتلته. فكلّما كانت كتلة الجسم الساقط ضخمة، كانت السرعة أكثر. (العلاقة بين كتلة الجسم وسرعته). كلّما زاد الوزن زادت السرعة وقلّ الوقت). فالكتلة النسبية – زيادة الكتلة بزيادة سرعة الجسم). وإذا كان البلاغيّون يصنّفون هذا الأسلوب في خانة الكناية عن السرعة الفائقة [مكرّ، مفرّ، مقبل، مدبر (معا)] والتشبيه (كجلمود صخر)، فإن الشاعر قد مزج بين علم البلاغة وعلم الفيزياء. فأسلوب التشبيه ظاهر في البيت (المشبّه (الفرس) والمشبه به (جلمود صخر) وأدة التشبيه (الكاف) ووجه الشبه (السرعة الفائقة). أمّا الكناية فقد وردت في قوله: [مكرّ، مفرّ، مقبل، مدبر (معا)]. نلاحظ أنّ لفظة(معا) هي التي أعطت للبيت عنصر الكناية. أما نظيرتها في علم الفيزياء فهي كالتالي: [الكتلة (جلمود صخر، هيكل + حطّه السيل من عل، الكرّ والفرّ والإقبال والإدبار (معا) وقيد الأوابد = كناية عن السرعة الفائقة للفرس.

لقد برع الشعراء العرب في العصر الجاهلي في وصف مظاهر الطبيعة المتحركة والجامدة، وصف الفيافي والأطلال والليل والكواكب والنجوم والمعارك وغيرها من ألوان الحياة اليومية.

ما يلفت النظر في هذا البيت القيسي (نسبة إلى امريء القيس)، هو دقّة اختيار الألفاط الدالة على الزمن، أي لحظة حدوث الفعل. (مكرّ، مفرّ، مقبل، مدبر، معا)

فالفعل (كرّ)، ثلاثي لازم متعدٍّ بحرف، كررت، أكرّ، يكرّ، مصدر كرور، واسم المفعول مكرور. والكرّ على العدو هجوم وحمل عليه للقضاء عليه، ومن معانيه المتداولة قولنا: على كرّ الدهور، أيّ على مرّ الأيام. ومعنى مكرّ، الخيول التي تكون خفيفة الحركة وقادرة على التحرّر، كما نقول فرس، فرس مكرّ، أيّ يتميّز بالسرعة والسهولة في الحركة والتحرّر والانقضاض على العدو. ومن معاني الكر عند أهلنا بالعراق، أنّه مكيال يساوي اثنا عشر وسقا، أيّ سبع مائة وعشرون صاعا، والصاع عند الحنفيّة 2340 كغ، وعند الجمهور 1468.8كغ.

أمّا الاسم (مفرّ) فمشتق من الفعل الثلاثي فرّ (فرر). ومنه الفرار من خطر داهم أو الانسحاب. وعلاقة (الكرّ والفرّ) بالخيل يفسّر استخدام الخيل لنظام الكرّ والفرّ. وقد وصفه والتر كانون (1) في 1915 م بقوله: (الحيوانات تتفاعل للخطر بطريقة استنفاذ عام للجهاز العصبي، ممّا يجعل الحيوان مستعدّا للقتال أو الهروب.). ونظريّة الكرّ والفرّ قائمة على عقيدة تكتيكية لاستخدام الهجمات المفاجئة القصيرة، والانسحاب قبل تمكّن العدو من الردّ بقوّة والمناورة باستمرار، وهدفها إضعاف العدو ببطء. وقد تمّ التعرّف على هذه الاستجابة، فيما بعد، (بأنّها المرحلة الأولى لحالة التعوّد العامة التي تنظّم استجابات الإجهاد في الحيوانات الفقرية وبعض الكائنات الأخرى). وقد عرف عرب الجاهلية تكتيك " الكرّ والفرّ " بلا نظام أو قاعدة أو هدف. فقد كان القتال يبدأ بالمبارزة بين أبطال القبيلتين المتخاصمتين وحسمت الكثير من الحروب بين العديد من القبائل. وقد استخدم النبيّ محمد صلى الله عليه وسلم وبعض الصحابة أسلوب الكر (الهجوم) والفر (الانسحاب)، وهو أسلوب قتالي يعتمد على المفاجأة والمناورة لتشتيت العدو وإضعافه، تم توجيه ضربة قاضية له.

واسم الفاعل (مقبل) من الفعل الثلاثي قبل ومزيده، وهو وصف شخص أو شيء قادم أو متّجه نحو مكان أو شخص، ويمكن أن يعني أيضا شخصا يهتم بشيء أو يتوجّه إليه.

الفعل أقبل، القادم، المتقدّم، المُقدِم على الشيء بنفسه. (مدبر) مشتق من الفعل الثلاثي (دبر) الذي له معان متعدّدة في لغة الضاد منها على سبيل المثال: دبر الأمر، جعله خلفه والمدبر، هو العبد التي تُعلَق حريته على حياة سيّده، كأن يقال له: أنت حر دبر حياتي، أيّ بعد حياتي، ولذا سُمِيَّ مدبرا.

وهي أفعال تدل على المطابقة في معناها، أيّ المعنى وعكسه كما هو شائع في علم البلاغة والمحسّنات البلاغية. لكن، هنا، ليس الشاعر بصدد البديع والتحسين والتنميق اللفطي، بل هو في معرض رسم خط زمانيّ معيّن، وتدفق إحساس عارم بنوعيّة اللحظة المعاشة. وهو إحساس نابع من زخم المعركة الدائرة رحاها. إنّ توظيف لفظة (معا) هو الذي أعطى لمعنى السرعة دلالتها ما فوق المنطق والعقل. فإنّ الشعاع في مساره لا يمكنه (علميا) أن يأخذ مسار الانطلاق والعودة في آن واحد، وفي اللحظة نفسها، حتى ولو اصطدم وانكسر بحاجز غير نافذ.

يقول الناقد التونسي توفيق قريرة (2)، أستاذ اللسانيات في الجامعة التونسيّة، في مقالة له بالقدس العربي بعنوان: " مقبل مدبر معا " (3)، نُشرت بتاريخ 23 ديسمبر 2024:

" لفظة (معا) التي جاءت لبيان كيفية الإقبال والإدبار هي التي أربكت المعنى المعتاد "

و يقول أيضا:

" ليس من المقبول وليس من (المعقول) أن ترى شخصا مقبلا ومدبرا في الآن نفسه "

ثم يضيف:

(أنا حين أرى ولا أتكلّم أدرك وحدي المشهد، ولكنّي حين أصفه باللغة أبنيه لي ولغيري. الرؤية والإبصار شيء أحاديّ لا يتقاسم، ولكنّه حين يُبنى باللغة يصبح موضوع تشارك)

و قد أضاف عجز البيت (جلمود صخر حطّه السيل من علٍ) معنى أكثر عمقا ووضوحا وقوّة لحركة الفرس على وجه المشابهة. فتشبيهه بـ (جلمود) وهو صخر ضخم متكوّر أو حبيبات كبيرة جدا من الصخور في علم الجيولوجيا، أكّد قوةّ الإبصار والملاحظة ودقّة التعبير عند الشاعر في صدر البيت...

براعة امرؤ القيس في رسم هذه اللوحة الفيزيائيّة في قالب بلاغي مدهش، تدلّ على أنّ الشعر العربي في العصر الجاهلي، وكذلك في العصرين الأموي والعباسي، قد بلغ ذروة التعبير عن أعماق النفس، بل قد سبق التحليل النفسي في القرن المنصرم. فرويد وغيره. ولولا توظيف كلمة (معا)، ما أخذ هذا البيت هذا الزخم كلّه، ولكانت سرعة فرس امريء القيس عادية لا تختلف عن سرعة الأفراس الأخرى، سواء انتصرت أو انهزمت.

الذكاء النابع من التجربة الشعريّة والملاحظة العميقة للأشياء والتعبير الدقيق وبراعة توظيف الألفاظ وحملها على سياقها البلاغي، كلّ هذه الأوصاف والقدرات، تدلّ على أسبقيّة الشاعر العربي قبل الإسلام (العصر الجاهلي). والسؤال الذي بقي عالقا، وبات يؤرّقني: هل كان الشاعر امرؤ القيس مطّلعا على القانون الفيزيائي: (السرعة تتناسب مع الكتلة)؟.

وإذا كان الجسم الساقط خاضع أو تتحكم فيه أو تؤثر فيه الجاذبيّة الأرضية، فإن فرس امريء القيس، له جاذبيّة من نوع آخر.

لم يكن الشاعر امرؤ القيس بعيدا عن منطق الفيزياء، وهو يصف فرسه بجلمود (صخر ضخم متكوّر) ساقط سقوطا حرا من علٍ أيّ من ذروة قمّة عاليّة، ليمثّل للمتلقي مشهد السرعة الفائقة لفرسه في عمليّة الكرّ والفرّ، والإقبال والإدبار (معا). ولم يكن مشهد (الفرّ) و(الإدبار)، سوى عمليّة التفاف على العدو، وتزوّد بقوّة (الإقبال) و(الكرّ) على العدوّ.

و لمّا كان إبداع الشاعر وعبقريته اللغوية والبيانيّة مبنيّة على الخبرة والتجربة والملاحظة والإبصار والبصيرة والفرضيات، كذلك العالم الفيزيائي يأخذ مادته الفيزيائيّة من الطبيعة المرئيّة واللامرئيّة، من المشاهدة (الإبصار)، والغوص في الماورائيّات (الميتافيزيقا)، بالأدوات نفسها. هناك، ماهو مشترك ما بين الشاعر وعالم الفيزياء، بين الشاعر المشتغل بالخيال الأدبي والفيزيائي المشتغل بالخيال العلمي. ولم يكن الشعر خال من اللمحة العلميّة، ولا كان العلم خال من الخيال.

لقد برع الشعراء العرب في وصف الخيل والتغنّي بها في حضرة السلم، وفي أتون المعارك والغزوات، كوصف أبي الطيب المتنبي لها في معركة الحدث الخالدة:

أتوك يجرّون الحديد كأنّما *** سروا بجياد ما لهنّ قوائم

و قوله أيضا مفتخرا بنفسه في بلاط سيف الدولة:

فالخيل والليل والليل والبيداء تعرفني ** والسيف والرمح والقرطاس والقلم

ووصف حسّان بن ثابت لخيول الصحابة، في ملحمة فتح مكّة:

عدمنا خيلنا إن لم تروها *** تثير النقع موعدها كداء.

****

بقلم: أ. علي فضيل العربي / روائيّ وناقد / الجزائر

...................

هامش:

(1) - والتر كانون (1871 - 1945 م) – فيزيولوجي أمريكي. اشتهر في كتابه التغيّرات الجسدية في الألم والجوع والخوف والغضب (1929) لمتلازمة الاستجابات الفسيولوجية للكائن الحي الذي يواجه موقفا يثير الخوف أو الألم أو الغضب.

(2)- توفيق قريرة، أستاذ اللسانيات بالجامعة التونسية

(3) - مقال بالقدس العربي - 23 ديسمبر 2024 م.

 

قدَّم الكاتب الروائي المصري توفيق الحكيم [ت: 1987م] في روايته "الرباط المقدس" رؤيته حول ما يجب أن يتوافر في شخصية المفكر من صفات، باعتباره أحد مصابيح الظلام التي تهتدي بها الأمَّة، وقد رمز توفيق الحكيم لشخصية المفكر في روايته باسم (راهب الفكر)، ثم أسقط عليه من الدلالات ما يرفعه إلى درجة المثاليَّة؛ فإنَّ ذلك المفكر قد «أحسَّ تبعة تأثيره في الناس فأخذ عمله مأخذ الجد، ولم يشأ أن يخادع الناس فيقول ما لا يعمل، إنه كان يؤمن بأنَّ واجب رجل الفكر والقلم أن يُدخِل على البشر الإيمان بأنَّ في إمكانهم أن يَسْموا على أنفسهم، وأن هذا الواجب يفرض عليه أن يعيش حياة سامية لا مطعن فيها ولا غبار عليها».

فهو مؤمن بقول الله تعالى (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ) [البقرة: 44]، وهذا الموقف الذي اتخذه راهب الفكر تجاه نفسه؛ هو الموقف ذاته تجاه الآخرين؛ فقد «كان دائمًا يزدري أولئك الذين ينشرون على الناس أدبًا رفيعًا وجمالًا بديعًا، ثم يعيشون حياة كلها ضَعَة وخسَّة وقُبح، الكاتب الحق في نظره هو مثَل يُحتذَى في باطنه وظاهره، وإن لم يكن كذلك فهو إذًا مهرِّج، يلبس للناس على الورق ثياب الملوك، فإذا خلا بنفسه خلعها، فبدا في حقارته كأنه شحاذ»، فهو يستمد أفكاره من الفطرة الصحيحة التي فطر الله الناس عليها، ويؤمن بقول الله تعالى (كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ) [الصف: 3].

وقد أكد راهب الفكر إيمانه العميق بمبادئه فقال: «إني لأدهش لأولئك الذين أُعطوا المقدرة على خداع الناس، فيظهرون في المجتمع في مسوح القدِّيسين، وهم في باطنهم مِن أفجر الماجنين»، ثم يستطرد الكاتب مبيِّنًا مثاليَّة راهب الفكر؛ الذي يقول واصفًا نفسه: «إني في الباطن خير بكثيرٍ منِّي في الظاهر؛ لأن الباطن مِلكي ومِن صُنعي، ولكن الظاهر مِلك الناس ومِن صُنع الظروف، لم أحاول يومًا التمثيل فأصنع للناس ظاهرًا رائعًا بِيَدي؛ بل تركتهم يصنعون لي ما شاؤوا من أردية، دون أن أحفِل بغير حقيقتي التي أعيش معها داخل نفسي، بينما أنا أبدو للناس أحيانًا هازلًا دائم الابتسامة، وفي باطني الجد، وفي طبيعتي الصرامة».

إنها المثالية التي يستوحيها توفيق الحكيم من خياله ويرجو تحقيقها، مؤكدًا أنها الصفات التي يجب أن يتحلى بها المفكر، الذي يسمِّيه في روايته أحيانًا بالأديب وأحيانًا بالكاتب، وهو في كل حالٍ يعمل في مجالات متعددة من مجالات الفكر الإنساني، وهو موقن دائمًا أنَّ «كل شيء ساكن خلا الفكر، ما الفكر إلا الحركة الكبرى».

يرى الكاتب أنَّ الفكر أساس من أسُس التوافق، ولا بدَّ من وجوده بين الأزواج، لذلك قال على لسان خطيبٍ لخطيبته التي لا تحب القراءة: «لن يُحدِث الزواج بيننا ذلك الاتصال التام الذي طالما تمنيته في زوجتي؛ فإنَّ نصف الحياة -الفكر- سيبقى خارج نطاق الزوجية»، ويبدو أن الكاتب كانت لديه رؤية عامة أو شِبه عامة حول علاقة المرأة بالثقافة في زمانه؛ فقد قال على لسان ذلك الخطيب بعد أن تزوج خطيبته واستمر في محاولات جذبِها إلى القراءة: «إني كدت أقنط من المرأة في بلادنا، ولطالما قلت لزوجتي: إنها قد تظفر منِّي بالعطف، ولكنها لن تظفر أبدًا بالإجلال الواجب لها إلا إذا عرف عقلها كيف يخاطب عقلي».

ويظهر في هذه الرواية أثر الحقبة الزمنية التي عاصرها توفيق الحكيم؛ حيث كان النوع السائد من المدنيَّة والتحضر عند المرأة هو ما يتعلق بالمظهر الخارجي، الذي اعتمد في جوهره على تقليد الغربيِّين، ويبدو هذا الأثر في قول توفيق الحكيم على لسان زوج تلك الشابة الصغيرة التي لم تكن تهتم بالقراءة حين تزوجها: «تلك الفتاة الجاهلة ذات التعليم الزائف، لا يعدو حديثها بضع عبارات فرنسية تلوكها في سماجة كلما أحرجتها الظروف، تلك الفتاة المسكينة المغرورة التي تحسب أنها متمدِّنة لأنها عرفت أن تضع بين أناملها أصبع الأحمر، تلك الفتاة التي تعرف أنَّ لها فمًا يجب أن يُملأ، ولا تعرف أنَّ لها رأسًا يجب أن يُملأ أيضًا إذا أرادت أن تجعل من نفسها شخصًا جديرًا بالاحترام».

وهذا يوضح أنَّ من مهامِّ المفكر عند توفيق الحكيم توعية الناس بأهمية الثقافة المحلية؛ فهي التي تتوافق مع التكوين النفسي والمؤثِّرات البيئية في المجتمع الذي يعيشون فيه، وقد شهدت الحقبة الزمنية التي كتب الحكيم خلالها هذه الرواية؛ إقبالًا ملحوظًا من بعض فئات المجتمع وطبقاته، على تعلُّم كلماتٍ وعباراتٍ أجنبية يرون أنها تميزهم من العامة وترفعهم فوقهم، وقد كان توفيق الحكيم ضد ذلك الاتجاه، فاهتم بنقد هذه الأفكار، والدعوة إلى الفكر الصحيح الذي يتأتَّى من خلال القراءة والمطالعة، وذلك في إطار الثقافة العربية والإسلامية التي تشكِّل هويَّتنا.

ويرى توفيق الحكيم أن المفكر يجب أن يكون ناصحًا أمينًا، يقدِّم للناس الحكمة بعد أن يعمل هو بها، لذلك ختم روايته بإحدى الحِكَم على لسان الراهب: «الشجاعة ليست في تجنُّب مزالق الجسد، وتحاشِي مواطن الزلل؛ بل في مواجهتها بمصباح الحقائق ونور المُثُل العليا»، ومن أجل هذه المُثُل عانى راهب الفكر كثيرًا في أحداث الرواية؛ فقد وجد نفسه في موقفٍ حرِجٍ أكثر من مرة بسبب كتمان الزوجة على زوجها أمر ذهابها إليه، ووقع راهب الفكر في حيرة من أمره، بين إخبار زوجها الذي بدأ يتردد إليه أيضًا وبين الكتمان، وفي كل مرة كان يوازن بين النتائج المتوقَّعة، ويحرص على الخيار الأقل ضررًا، كما كان يراعي في أفعاله ما يليق بمكانته ولو كان ضد سعادته المؤقتة؛ ويقصد الكاتب من هذه الأحداث والمواقف التي سردها في روايته؛ أن يبيِّن الصفات التي يجب أن يتحلى بها صاحب الفكر، بحيث يرتقي إلى المثاليَّة، التي يحافظ بها على مكانته، ويصون بها فِكره الذي يكتبه وينشره ليفيد به المجتمع.

***

حسن الحضري

شاعر وكاتب مصري

مقدمة: القصيدة كفضاء لمساءلة المعنى

في زمنٍ تتهاوى فيه اليقينيات وتسقط الرموز من عليائها، يصبح الشعر أكثر من مجازٍ جمالي؛ يغدو حقلًا فلسفيًا مفتوحًا لأسئلة الكينونة والعدم، الأمل واليأس، المعنى وسقوطه.

إنّ قصيدة “محكومٌ عُمري” للشاعر جورج عازار تندرج في هذا المسار الوجودي، حيث لا تحتفي باللغة كوسيلة تعبير، بل كأداة مقاومة وتفكيك. قصيدة تنبني على قلق وجودي كثيف، وتتلبّس بطيف عبثي يمحو المسافة بين الحنين والانطفاء، وبين الرغبة في النجاة والإيمان باستحالتها.

في هذا النص، تنهار رمزية الفينيق—رمز البعث والأسطورة—وتسقط فكرة الخلاص الشعري في وجه تجربة داخلية صريحة تنكر الخلود، وترى في الأمل كذبة كونية كبرى، تُصاغ فقط كي نُطيل لحظات البقاء أمام الهاوية.

فما هي الرؤية الفلسفية التي تُملي على الشاعر هذا الموقف من الرموز والأساطير؟

وكيف تُعيد القصيدة مساءلة علاقتنا بالذات، بالموت، وبالكتابة؟

وما وجوه التداخل بين الهمّ الوجودي والرمزي والنفسي والاجتماعي في بنيتها؟

تلك هي الأسئلة التي تحاول هذه القراءة استنطاقها عبر مقاربة متعددة الأبعاد: فلسفية، رمزية، عبثية، نفسية، وأسطورية.

ظلال الذات في خراب المعنى

ليست القصيدة وصفًا للحزن، بل تجسيدًا لانهياره داخليًا. إنّها تجربة من التشظي بين صوتٍ يبحث عن معنى وصدى يردّد الفراغ.

حين يقول الشاعر إنّ الأمل مجرد “حقنة مورفين”، لا يُسقط فقط فكرة الخلاص، بل يجرّد اللغة من ادّعاء الإنقاذ. كأنّ الحرف هنا لم يعد وعدًا، بل اعترافًا بمرارة الهباء.

يتسرّب الرماد من بين الكلمات، لا ليخفي النار، بل ليكشف أنّها لم تشتعل أصلًا. هنا لا يحترق الفينيق… بل يتواطأ مع الخيبة.

لا أحد يأتي من جهة الأبد

في هذا النص، لا نوافذ مفتوحة على انتظار. الانتظار نفسه مشكوك فيه، مشكوك في نواياه، في صدقه، في نهاياته.

الحنين ليس سوى انعكاس لما تبقّى من وهم. الأمكنة تطرد، البيوت تلفظ، والقبور تزداد بُعداً كلما ازداد الشاعر بحثاً عن حضن.

الهجرة هنا ليست حركة، بل حالة. غربةٌ لا تشبه المنفى، بل المنفى داخل الذات.

من رماد الأسطورة إلى فراغ الأسئلة

يتكئ الشاعر – في تهكمٍ رمزي – على “الفينيق”، فيكشف زيف بعثه. هذه الأسطورة التي طالما كانت معبراً نحو النور، تنقلب إلى قناع شاحب يغطي جثة الأمل.

لا تجدد في هذا الحطام، لا بداية تليق بنهاية مجروحة، لا ميلاد بعد الموت، فقط دورة متكررة من الخيبة.

من خلال هذا التمزّق الرمزي، تفتح القصيدة بابًا أمام سؤالٍ وجودي عارٍ: هل كان البعث دومًا كذبة شاعرية؟ وهل كان علينا أن نصدّق الخرافة كي لا نموت قبل موعدنا؟

الذات كغريبٍ في مراياها

“تتبرأُ مني ذاتي”… عبارة واحدة تختصر انفصام الشاعر عن صورته. ليست الذات هنا بيتًا، بل صدًى مشوّشًا في أروقة غريبة.

ما يظهر ليس ما يعتمل. والشاعر – وإن كتب – لا يسكن اللغة، بل يحفر فيها مجازًا هاربًا من الانطفاء. لا هو ذاته، ولا هو الآخر. كأن كل تعرّف على الذات، يُفضي إلى غربة أعمق منها.

رؤى فلسفية تتقاطع بين العدم والمقاومة

تُطلّ القصيدة من شرفة أسئلةٍ قديمة/جديدة، تتقاطع فيها الفلسفة الوجودية، والعبثية الكاموية، والنقد الرمزي، دون أن تدّعي أنها تجيب.

- عند نيتشه، تنهار القيم عندما تُصاغ بوصفها أوهامًا مريحة. وهنا يرفض الشاعر رمزية الفينيق كما رفض نيتشه فكرة “العزاء” القيمي.

- وعند سارتر، يغدو الإنسان حراً، لكن هذه الحرية عبء، لأنه مطالب بخلق معناه. الشاعر في “محكومٌ عُمري” لا يجد بيتًا، لا في اللغة ولا في الزمن. إنه كائنٌ منفي من المعنى، مطالب بالكتابة داخل الصمت.

- أما كامو، فنجده بوضوح في الموقف الأخير: لا جدوى… ومع ذلك، نكتب. لا معنى… ومع ذلك، نواجه العدم بحرفٍ لا يصدأ.

مقاربات متعددة الأبعاد

1- المقاربة الوجودية:

يغدو النص بُعدًا وجوديًا مكثفًا، يستبطن قلق الإنسان أمام هشاشة العالم. الحياة هنا ليست سلسلة من الأحداث، بل وعيٌ دائم بمحدوديتها، وانعدام قدرتها على منحنا يقينًا.

2- المقاربة العبثية:

الأمل يُعالج كمخدر. فكرة البعث تسقط رمزيًا. الزمن بلا خطية، والأحلام “أشلاء”، والبيت يلفظ… في بنية كهذه، لا يبقى إلا العبث.

3- المقاربة النفسية:

الداخل متصدع. الروح في “طقوس عزاء”، والذات تعلن انفصالها عن ذاتها. إنها تجربة ما بعد الانهيار، حيث تصبح الكتابة بديلاً عن الفهم.

4- المقاربة الرمزية الأسطورية:

جلجاميش، الفينيق، الحمام… رموز تتحوّل إلى مرايا محطّمة. لم يعد الحمام سلامًا، بل غيابًا. لم يعد جلجاميش منتصرًا على الموت، بل ضائعًا في سؤالٍ لم يلقَ جوابًا.

الأسلوب الشعري: لغة التمزق والعمق

يُشكل أسلوب الشاعر في قصيدة “محكومٌ عُمري” مرآة لصراع الإنسان مع عبثية الوجود، حيث تتداخل الصور والرموز بأسلوب مكثف ينسج بين الشعرية والفلسفية. يختار الشاعر لغةً متقطعة أحيانًا، توازي حالة التشظي النفسي والوجودي، وفيها عبارات تختزل ألمًا عميقًا مثل “حقنة مورفين” و”عتْمة الداخل” و”بقايا قزم داكن السواد”، تعبيرًا عن فراغ يلف الروح وينسف الأمل.

القصيدة لا تستسلم لسردٍ خطي تقليدي، بل تستخدم التكرار والتضاد بين الأمل واليأس، الغربة والانتماء، الحياة والموت، مما يخلق إيقاعًا يذكّر بأن الحياة ليست قصة متماسكة بل حالة تذبذب دائم.

وبهذا، يصبح الأسلوب جزءًا لا يتجزأ من المعنى، لغةً تحمل في طيّاتها استدعاءًا مستمرًا للشكّ والرفض، مع إصرار لا ينكسر على الكتابة رغم الخراب.

خاتمة: ضد النسيان… مع الذبول

القصيدة لا تحتفي بالنجاة، بل بالتسمية. لا تبشّر بخلاص، بل تُعلن عن مقاومة الهشاشة بالكلمة.

حين يخوننا الفينيق، لا يبقى لنا سوى الذكرى.

وحين يُجرّد الأمل من سلطته، تُولد الكتابة من رحم العدم، لا لتُنقذ، بل لتُبقينا شهودًا على سقوط الأساطير.

هكذا تتحوّل “محكومٌ عُمري” إلى شهادة شعرية في زمنٍ لم يعد يؤمن بالخلاص، لكنها رغم ذلك، تُصرّ على أن تقول: “لن أذبل”.

تحية للشاعر جورج عازار، وللفنان كميل يعقوب، على هذا التواطؤ العميق بين الشعر والتشكيل، بين جلجاميش الإنسان وقلق الإنسان المعاصر.

***

بقلم: د. آمال بوحرب - ناقدة وباحثة في الأنثروبولوجيا

30 جوان 2025

 

يسعى الكاتب الفرانكفونى د. محمد طعان للغوص بمكامن الكتابة من خلال مستويين في لغة الكتابة: السردية والتصويرية المكثفة للنص الروائى، الذي رسمه لنا في شخوص روايته «سيد بغداد». والكاتب لو سبرنا غور حياته الشخصية لوجدناها متشظية في عوامل الانتقال بين بيروت وأوروبا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية، وهى حالة سبغت جسد روايته وحولته إلى عالم من الغرائبية الممزوجة بالانطباع الاثنى والمذهبى أحيانا أخرى. وهنا فهو يشدو بروايته سيد بغداد أنغامه متنقلًا إلى عالم السردية الكلاسيكية للرواية العربية تارة، وإلى التناغم الفطرى للنص الدينى العفوى الذي يفرض وجوده بين أسطر الرواية تارة أخرى. قد تجد عنوان الرواية يأخذ بمداه نحو تأويلية توحى للقارئ من الوهلة الاولى أنه كاتب عراقى عاش بين العشائر العراقية المتمركزة في الجنوب من العراق، أو ربما معتنق أحد مذاهبها وذلك لكونه يشير إلى شعائرها في أكثر من فصل في الرواية. إلا أن (أهل مكة أدرى بشعابها) فلو اطلع الكاتب وعاش الحقيقة بين هذه العشائر الجنوبية من العراق واطلع عن كثب على تفاصيل حياتها، لاكتشف الاعمق مما تناوله من تفاصيل روايته، وأدرك عمق العلاقات الاجتماعية وخصوصيتها وتقاليدها وموروثها المذهبى في الشعائر الدينية لتلك العشائر، تحديدا وهو يتناول قضية ثورة سيدنا الحسين بن على بن أبى طالب في واقعة الطف (مدينة كربلاء 170كم جنوب بغداد في عام 61 للهجرة). متناولًا منها البعد الانسانى، وكيف ينتصر الحق على الباطل، في دعوة للسعى في صورة الانتماء للعسكرى الأمريكى جيمى إلى عشائر الأهوار ومناصرة الحق لهم، كما هو الحال كمعادل موضوعى في شخصية الحر الرياحى الذي ترك جيش يزيد بن معاوية وانتمى إلى جيش الحسين بن على.

لقد استخدم في روايته تقنيات تعدد الاصوات وتخالف المنظور، وتوظيف الرسائل والمذكرات وتحريك الصورة المشهدية لتركيز اللقطة النصية في الحوار، حتى يرتقى للقيمة الكبرى للعادات والتقاليد والأعراف لدى هذه العشائر الجنوبية.

وبالتالى سيكون الاقرب منها في رسم الوصف والسرد وإعطاء البعد الانسانى للشخصية وحركتها داخل البناء الروائى، فضلا عن الاقتراب من دقة الوصف خصوصا عندما يحدد شخصية السيد، وهى الشخصية المحورية التي تعتبر من الاشراف لدى هذه العشائر ويكون نسبه (نسب السيد) عائدًا إلى آل بيت النبى محمد (ص) إلا أن الكاتب تجده ينسب هذه الشخصية (السيد) إلى عشائر الفريجات أو العبيدات وهاتان العشيرتان ليستا من الاشراف!!، كما هو الحال في وصف المكان وتسميته المكررة خطأً للبعض منها كمقهى الزهراوى والاصح مقهى الزهاوى (نسبة إلى الشاعر العراقى جميل صدقى الزهاوى المتوفى 1930) أو قوله مسلم بن عقيل بن ابى طالب هو ابن خال سيدنا الحسين والاصح ابن عمه.. فضلا عن عملية خلط الراوى بين أحداث ثورتى تموز في 1958 وتموز 1968. إن الراوى محمد طعان يختزل الكثير من الرؤى في شخصية البطلة آمنة التي تسعى للبحث عن زوجها الذي كان ضحية المقابر الجماعية في عهد النظام السابق لحكم صدام حسين، فهى تضمر في داخلها لواعج لماضى يتوزع بين الحنين لحبها البريء، وتضحيتها لزوجها الضحية في الوقت نفسه، وصراعها الداخلى الذي يؤطر سلوكها والسعى للتجرد منه.لان آمنة هذه الفتاة الغجرية التي كانت تعيش في دار غجرى وفى حى يسكنه الغجر في احدى أطراف العاصمة بغداد والذى يلهو معها وطبان، تلك الشخصية التي أغمرنا بها الراوى وتسليط الضوء عليه، حيث كان هذا الاخير وزيرا للداخلية في عهد النظام السابق وقد تعلق بآمنة مذ كان يتردد على بيت امها بذلك الحى الغجرى.. فضلا عن ارتباطها بزميل زوجها واللقاءات معه للبحث عن زوجها ومساعدته لها المتكررة، والسفر بين بغداد حيث يعمل فيها هذا الاخير والعودة إلى الأهوار في جنوب العراق عند العيش مع والد زوجها السيد، هذا الارتباط المحورى أن صح التعبير عنه، والتنازع النفسى الداخلى، يقودنا إلى ادراك النمو والتطور الهارمونى والدراماتيكى للشخصية، التي تنساب إلى المتلقى بانتقالات فنية، هنا استطاع الراوى تذويب لغته السلسة والشيقة في نمط سردى بديع يتميز بالحركة والتدفق والشجون التي تطلقها آمنة وهى تنصاع إلى شخصية وطبان المحاصرة لشخصيتها، ومراقبته لها حيث تشاء من التنقل بين بغداد والأهوار في جنوب العراق.

إن مثل هكذا شخصيات كما يصفها عالم النفس يونغ، شخصية تفرز رواية من داخل رواية، فهى بحكم مركب النقص الذي يكون في تكوين شخصية آمنة، وتنازع النفس البشرية بين البيئة الغجرية التي كانت تعيشها، والانتقال إلى الأهوار والشعور القسرى الذي يلاحقها من وطبان، كفيل بأن يخلق دراما لرواية قائمة لوحدها.

وعندما تتوزع الرواية بين آمنة والسيد والعسكرى الأمريكى جيمى، تتشظى صور الأحداث بطريقة غير عشوائية بل تشظى من النوع الابداعى للراوى أو الكاتب المتمكن من توظيف أدواته في البناء الروائى لعبور اللحظات غير المرغوب فيها وتجاوزها، في أسلوب التصور الفنتازى للاحداث وللزمن الذي يسقطه الكاتب، متجاوزًا الترهل في ديناميكية الحركة التصاعدية للأحداث.. لذا يعطينا الكاتب انطباعًا من الوهلة الاولى وحتى الاخير بأننا امام مشاهدات تنطوى على احداث عاشها الروائى بواقعية سحرية صورها لنا عن الأهوار في جنوب العراق، والموروث الشعبى الذي يخاطب به شخصية السيد للعسكرى الأمريكى جيمى وكيف تحول الاخير باعتناق الدين الاسلامى..

قد يعزو ذلك إلى الإيحائية التي أراد بها الروائى من خلال شخصية العسكرى جيمى باعتناقه الإسلام بأهمية الدين الاسلامى وبرائته مما يحدث الان من ردود افعال على شبكات التواصل الاجتماعى (السوشيال ميديا) من تطرف فكرى وارهاب وأحزاب اسلامية.. ليؤكد أن المتطرفين فكريا هم أخطر من مرتزقة، وأن ما عاشه العسكرى الأمريكى جيمى خلال فترة غزو العراق لإسقاط نظام صدام حسين، كانت أكبر خدعة أمريكية، عززت لديه مفهوم كذبة دولته العظمى، بأن العراق لا يمتلك أي أسلحة دمار شامل، وأن ما عبثت به القوات الأمريكية بالشعب العراقى اثبتت له بالدليل القاطع أن أمريكا لا تحمل أي مفهوم عن حقوق الإنسان وأن الإنسانية براء منها، والذى جاءت به تحت شعار الديمقراطية وحقوق الإنسان.

ولست أدرى أن كان الكاتب د. محمد طعان قد شهد بنفسه ما عاشته بغداد بعد الغزو الأمريكى لها، أو قام بزيارة جنوب العراق والأهوار والعشائر العراقية التي تنتشر هناك، واطلع على الأعراف والعادات والتقاليد والشعائر الدينية فيها، لاتضحت له حقائق كثيرة وتصورات ربما مغلوطة عن ذلك العالم، عندما لا تتوازى فيه الجرعات المعرفية من ثقافات بين مجتمع إلى آخر، ففى البلد الواحد تختلف العادات والطقوس من شماله عن جنوبه، وبلد كالعراق، تتعدد فيه الديانات والقوميات والمذاهب والاثنيات، وبلد عريق صاحب تاريخ وحضارة، الذي كان موئلًا للكثير من القبائل التي سكنته وتسكنه حتى يومنا هذا، ومسرحًا للحروب والغزوات عبر التاريخ، يحتوى من عادات وقيم وأخلاقيات وطقوس شتى. ويقتصر أثره على هذا الحماس المشبوب لإصلاح العالم بسلاح الدين كما يتوهم المتعصبون، ولكن هذه الإشارات الثاقبة التي لا تتسنى ملاحظاتها إلا لمن تأملها بإمعان تدل على خبرة الكاتب الوثيقة بهذه العوالم وقدرته على توظيفها في سياقاتها الطبيعية بتلقائية عجيبة.

إن المؤلف قد استطاع تذويب لغته السلسة الشيقة في نمط سردى بديع يتميز بالحركية والتدفق وحكى بها شجون شخوصه وخواطرهم ونقدهم للحياة في مستوياتها المختلفة.

فإذا كان فن الرواية كما يصفها خورخى بورخيس بانها كتبت في عصور لاحقة ولكنها لم تصل إلى ذروة الفعل الانسانى، إلا أن رواية «سيد بغداد» باختلافنا مع الرأى السابق، فإنها أعطت للقارئ العربى نموذجا يحاكى الواقعية والسحرية والتنبؤ، بأن هنالك مخططا يقود العالم نحو التطرف والصراعات والانقسامات والتحديات، ليس على مستوى قيام الحروب بين دول العالم، وإنما حتى على صعيد الحروب من الاجيال الرابعة والخامسة فيما سيبقى الفن الروائى راصدًا للوجع الإنسانى الذي شهد العديد من المعالجات المعقدة لانعكاسات واقع عربى سلبًا أو إيجابًا وسريع التحول في مفاصل الحياة والإنسان ذاته.

***

د. عصام البرام

..................

* شاعر وكاتب وباحث عراقى عمل في السلك الدبلوماسى بوزارة الخارجية العراقية وهو شاعر وكاتب سياسى وأكاديمى وحائزعلى لقب المثقف العربى لعام 2015 وعضو اتحاد الكتاب العرب واتحاد كتاب مصر وأتيليه القاهرة واتحاد المؤرخين العرب وحاليا وزير مفوض بالجامعة العربية

(زاهي حوَّاس، وجو روجان: نموذجَين)

ليست براعة التصوير الفنِّي والتشكيل الشِّعري وليدة الحضارة العَرَبيَّة بعد الإسلام، لدَى العبَّاسيِّين أو الأندلسيِّين، فحسب، بل تجد نفثاتها المدهشة قبلئذٍ لدَى شعراء الجاهليَّة ومخضرميهم. هكذا قفز بنا (ذو القروح) إلى رمال العصر الجاهلي. قلت:

ـ مثل ماذا؟

ـ لا تستعجل على رزقك! سيأتيك بالأخبار من لم تزوِّد!

ـ هات!

ـ لقد تَصِل الصُّورة في الشِّعر القديم أحيانًا إلى تشكيل لوحاتٍ فنيَّة، لو عزوتها إلى المدرسة السُّرياليَّة، لما بدوت مبالغًا. خذ نموذجًا على هذا الذي نزعم من بيتٍ واحدٍ بسيط لـ(عمرو بن معدي كرب)(1)، يصوِّر فيه فَرَسه، قائلًا:

يَقُـولُ لَـهُ الفَوارِسُ إِذْ رَأَوهُ

نَرَى مَسَـدًا أُمِـرَّ عَلَى رِماحِ

فهو، في أربع كلمات «مَسَدٌ أُمِرَّ عَلَى رِماحِ» ينقل إليك صورة أبلغ من لوحة (الفِيَلة The Elephants)، التي رسمها الإسباني، رائد الفن السُّريالي، (سلفادور دالي Salvador Dali ، 1904- 1989)، عام 1948، إذ أراد- على ما يبدو- التعبير عن المفارقة بين خِلقَة الفِيْل الواقعيَّة وصورته المتخيَّلة. أو قل: بين كثافة الواقع وتسامي الخيال. وإنْ تمخَّضت لوحة دالي في النهاية عمَّا هو أقرب إلى عبثيَّة الدلالة مقارنةً بلوحة (عمرو بن معدي كرب)، الجامعة بين الواقعيَّة والسُّرياليَّة؛ حين يتحوَّل الفَرَس، ضمورًا وسُرعة عَدْو، إلى حَبْلٍ أُمِرَّ على رِماح.

ـ ما إنكار التفوُّق على الإنسان القديم إلَّا عادة مزمنة.

ـ تجلَّى من شواهدها مؤخَّرًا في ما جرى في تلك الحلقة التهريجيَّة التي ظهر فيها عالم الآثار المِصري (زاهي حوَّاس) في مواجهةٍ إعلاميَّةٍ، «بودكاست» كما تُسمَّى.

ـ أو (برود كاست) حسب رواية الفنان (حسن عسيري)!

ـ هذا أفضل تعريب! إذ يبدو أنَّ العَرَب قد عجزوا عن أن ينطقوا بمقابل لتلك التسمية «بودكاست»، وهم عمَّا دونها أعجز. ولو اقترح عليهم أحدٌ استعمال (مواجهة إعلاميَّة) بدل «بودكاست»، لما راق لهم هذا؛ حتى لا يزعلوا سيِّدهم اللُّغوي والحضاري!

ـ المهم؟

ـ كلُّه مهم! كانت تلك المواجهة غير المتكافئة مع المهرِّج الأميركي المعروف (جو روجان Joe Rogan)، ذات دلالات حضاريَّة. ولا تجنِّي في وصف جو بالمهرِّج، فهو كذلك بالفعل، شكلًا ومضمونًا، يذكِّرك بأبطال المصارعة الحُرَّة من المهرِّجين خلال القرن الماضي. لقد ظلَّ روجان هذا طوال الوقت مُصِرًّا على أن يسلِّم معه الآثاريُّ المِصْريُّ (زاهي حوَّاس) بخزعبلات غَرَبيَّة حديثة، حول بناء الأهرامات. مكرِّرًا أنَّ ثمَّة إيطاليَّين ما، لله دَرُّهما- ويكفي أنهما أوربيَّان ليُحكَم لهما بالعدالة والعِلميَّة، شاء من شاء وأبى من أبى- زَعَما أنَّ الأهرامات مبنيَّة على أعمدةٍ ضوئيَّة، بدعوَى أنها التُقِطت صُوَر لتلك الأعمدة الوهميَّة عبر الأقمار الاصطناعيَّة!

ـ يا حلاوة!

ـ إلى غير هذا من الخيالات غير المثبتة عِلميًّا، ولا المعقولة، بأيَّة أقمار. بل يبلغ التهريج أحيانًا في هذا السياق الهزلي إلى الزعم أنَّ بُناة الأهرامات إنَّما هم كائنات فضائيَّة، جاءت فبنتها ثمَّ انصرفت، ربما لتبني أهرامات أخرى على كوكبٍ آخر.

ـ ثمَّ يقال إنَّ العقل الغربيَّ عقلٌ عِلمي!

ـ الخرافة هنا لا حياء فيها، ما دامت تحقِّق هدفًا!

ـ وهو؟

ـ هو أن يقال إنَّ الشرق، و(أفريقيا) بالذات، من المستحيل تصوُّر أنها كانت ذات حضارة قبل آلاف السنين بهذا الحجم؛ فإنما الحضارة غربيَّة حصرًا، منذ الأزل وإلى الأبد، رُفِعت الأقلام وجفَّت العقول!

ـ غير أنَّ الأعجب هنا جاء عن ضجَّة الإعلاميِّين العَرَب!

ـ هؤلاء دراويش يستثيرون الشَّفقة حقًّا! ربما يضجُّ دُيوكهم اليوم لسبب، وغدًا يضجُّون لسببٍ آخَر نقيض! وأعني الأسباب السياسيَّة أو الأيديولجيَّة. إذْ شَنُّوا هجومًا على عمِّهم (حوَّاس)، منكرين عليه أشدَّ الإنكار زهوه، واعتزازه بنفسه، فقد كان جديرًا أن يقبِّل يدي (جو روجان)، وحسبُه شرفًا أنه ظهر معه!

ـ لعلَّه كان يؤزُّهم إلى ذلك بالأحرى ما عبَّر عنه المثل الشعبي »الفرنجي برنجي»، المشخِّص لعُقَد الخواجة فينا.

ـ خليطٌ من العُقَد. فكان طبيعيًّا جِدًّا أن لا يقدِّموا للمتلقِّي فكرةً عِلميَّةً واحدة، مع أو ضد. سِوَى أنَّ (حوَّاسًا) حاسَ اللقاء، وكان يدخِّن بشراهة أثناء المواجهة، أو أنه ظهر متعجرفًا، وكان ينبغي أن يستغلَّ اللِّقاء ليقدِّم دعايةً إعلاميَّةً سياحيَّةً جذابة لـ(مِصْر)، لا تُعوَّض، ولو على حساب اقتناعاته، وليَغُر التاريخ والآثار والعِلم في ستِّين داهية، المهم نيل شهادة حُسن السيرة والسلوك من العم سام...!

ـ وهم في المقابل لم يلحظوا الطَّرَف الذي يدافعون عنه، بجسده المستحيل إلى سوادٍ قاتم، لكثرة الرسوم الموشومة عليه، أكثر من أيَّة جداريَّة هيروغليفيَّة مِصْريَّة.

ـ لا تنس أنه في لقائه بـ(حوَّاس) كان يغطِّي جسده، ربما لكيلا يبدو هو الآخَر تمثالًا مليئًا بالوشوم والكتابات التصويريَّة، الدالَّة على أنَّه أكثر بدائيَّة من تماثيل قدماء المِصريِّين.

ـ ولا شاهدوا فيه أيضًا فوقيَّته وتعاليه وعجرفته؛ لأنَّ »الفرنجي برنجي» دائمًا وأبدًا.

ـ هكذا هي جمهرة الناس، مع الأسف، يعجبها الآخَر، مهما فعل بها، وتزدري أبناء أوطانها، ملتمسةً لازدرائهم كلَّ سببٍ وحُجَّة. ومن شِيَم الناس أن يقفو غالبًا مع الباطل، حيثما كان، ومع الضَّلال، حيثما وُجِد، ومع المثير للعواطف والخيالات والأكاذيب، وإنْ رفع بها عقيرته مجنونٌ رسمي.

ـ شريطة أن يكون مجنونًا فرنجيًّا طبعًا.

ـ فيما يقفون للحقِّ والعقل والعِلم بالمرصاد، ولا سيما حين يصدر من أبناء البلد.

ـ والأدهى لديهم حين يُنكِر ابنُ البلد مقولات »الفرنجي البرنجي»، وأنها محض هراء.

ـ أمَّا حينما يتجرَّأ على القول: إنَّ غير »الفرنجي البرنجي» كان لديه ذات يوم مثل ما لدَى »الفرنجي البرنجي» أو أفضل منه، ربما منذ القِدم، فهو هنا قد كفر، وفجر، وتمرَّد على ثقافة القطيع، ولا بدَّ، إذن، أن يقام عليه حَدُّ الرِّدة عَلَنًا، وإنْ معنويًّا. وعندئذٍ سيُرمَى بالجهل، والتخلُّف، وأنه قد بات فضيحةً بجلاجل أمام الغرب المتقدِّم، كيف لا، وقد شوَّه صورتنا الحَمَليَّة الوادعة في حضرة السيِّد الأبيض؟ الذي كان يجب دائمًا أن نحظى بشرف التأمين على ما يبخِّرنا به من أضاليل، عمدًا أو جهلًا!

ـ أمَّا (جو روجان)، فمهرِّجٌ يمينيٌّ متطرِّفٌ معروف، وهُمُ كُثْر!

ـ وفوق هذا لا علاقة له لا بالتاريخ ولا بالآثار، ولم يقرأ عن الموضوع، حتى لمجرَّد التحضير للمقابلة، كأيِّ إعلاميٍّ يحترم عمله. بل إنه كان لا يعرف اسم الضيف نفسه؛ فإذا هو يدعوه (زاوي)، بدل (زاهي)!

ـ ما موقعه من الإعراب، إذن؟

ـ موقعه من الإعراب: (مفعول لأجلهم)؛ محمَّلًا بما حُمِّل به من أوزار القوم، ليلقيها كيفما اتفق. إنَّما جاء لإيصال أصوات هلوسيَّة تنتاب منذ سنوات صديقه الحميم الصحفي الاجتماعي الإنجليزي Graham Bruce Hancock، الذي له خلافاته القديمة والحادَّة مع (زاهي حوَّاس). وما هذا اللقاء الأخير إلَّا حلقة لمحاولة تصفية الحسابات، بصورةٍ غير مباشرة، عبر وسيطٍ صديق، وهو روجان.

ـ كلُّ من تابع الضجَّة الإعلاميَّة، بالإنجليزيَّة أو بالعَرَبيَّة، ومهما اختلف مع (حوَّاس)، لن يجد كلمةً واحدةً عقلانيَّةً في الموضوع المثار ضِدَّه.

ـ هما تياران، يا صديقي، عَرَبيٌّ وأجنبيٌّ، عَرَبيٌّ له خطابٌ متشنِّجٌ مسيَّس، مؤدلَج، تراه يَرْدَح بمناسبةٍ وبغير مناسبة، يمنةً ويَسْرة. وتيارٌ غربي، غنيٌّ عن التعريف، في نظرته العنصريَّة ومواقفه من المختلف في هويَّته أو حضارته أو لونه. وأمَّا جَلْد الذات العَرَبيَّة من العَرَبيِّ احتفاءً بكلِّ ما هو غربي، وإجلالًا لكلِّ ما هو أميركي، فليس بجديدٍ ولا بغريبٍ على ولاء العُربان للرُّوم. وولاء العُربان للرُّوم عريقٌ جِدًّا، منذ ما قبل الإسلام. حاول الإسلام اقتلاع جذوره، لكنه عاد أقوى من ذي قبل. ولذلك، لن تجد إلَّا كلامًا مجَّانيًّا، من مثل، إنَّ هذا الخواجة أكبر صاحب «بودكاست» في العالم، وعنده عشرون مليون متابع، وقال: إن ذلك كان أسوأ لقاء...

ـ يا للهول!.. «يا شماتة أبلة أمريكا فينا»! ما علاقة «أكبر...»، و«قال...» بالحقيقة والتاريخ والآثار أصلًا؟!

ـ وما أكثر الناس، ولو حرصت، إلَّا من عيِّنة هؤلاء!

***

أ. د. عبد الله بن أحمد الفَيفي

...........................

(1) (1995)، شِعر عمرو بن معدي كرب الزُّبَيدي، تحقيق: مطاع طرابيشي، (دمشق: مجمع اللُّغة العَرَبيَّة)، 77/ 8.

شظايا الذوات في طاحونة بقايا وطن

توطئة: من الواضح أن بعض المؤولات الإظهارية المشكلة للتمفصلات النسيجية في البناء الموضوعي لنصوص مجموعة (أنقاض وطن) للقاص فلاح العيساوي، تعد بذاتها ذلك التجسيد العضوي الذي من خلاله تتم اختيارية المحاور الموضوعية في دليلها ودالها الحكائي الذي يتمثل ويحاكي علاقات واستعادات هي من الخصوصية الموضوعية والدلالية الموحدة . فالقاص العيساوي في موضوعات أقاصيص مجموعته موضع دراستنا يتوقف عند موضوعة ذات إطارية دينامية تتوحد من خلالها سباقات (الحادثة ـ الحبكة ـ التبئير) خلوصا نحو تلك الدائرة الانتاجية من فرضية معادلات الخلق النصي، وما تقتضيه توالدات البنيات الزمكانية المؤطرة للمادة القصصية من (رؤية ـ فضاء ـ صيغة) وعلى هذا النحو واجهتنا الصنعة القصصية في مواطن مستويات الكتابة لدى العيساوي، وكأن البعض منها لا يعادل مقدار الأثر الموضوعي في الواقع المتخيل، ذلك لأن طبيعة الكتابة للنصوص القصصية حلت في ملفوظات لم يحسن القاص جيدا في سبكها ولا من ناحية ما من خلال مستويات جاذبية التخييل في شرايين النصوص، بل جاءت مندرجة ضمن حكايات وبنيات تتوسل لذاتها للأبعاد القصدية والإيحائية للنص.

ــ البنية السردية والمأثور الحكائي

يشكل الإيحاء والتعمق في السمات الهواجسية في السرد القصصي، ذلك الممكن الملازم لبلاغة المادة السردية في القص . فمثلا تواجهنا قصة (أوجاع ذكرى) وقصة (عنق الزجاجة) بما يوفر دورا موضوعيا هاما في مجال الفكرة والرؤية، ولكننا عندما نعاين في تمفصلات الإجرائية السردية، نكتشف أن القاص قد بذل جهدا جهيدا في رصد أفكاره، دون أن يحول من معالجات السرد القصصي إلى أداة مبطنة بالمعنى المغاير والمتفرد، بل أنه أخذ في كل حساباته فرض أهمية وقائعية الموضوعة دون أدنى التفاتة إلى مستوى تقانة التخييل ومدى ما يشغله من الوظائف المتعددة في المعنى المؤول . ربما أنا لا أقصد من جهة هامة بأن تجربة القصص في المجموعة لا تحمل أدنى حالة تأثيرية في مستوى الإبداع إجمالا، لا أبدا أنا أقصد أن القاص العيساوي في جملة نصوصه وخطاباتها كان من اللازم عليه تأثيث فضاءات نصه بتقانات حبكوية أكثر مساءلة في أبعادها المكبوتة والضمنية في شواغل الكتابة السردية المفترضة . هناك مثالا في حيثيات قصة (أوجاع ذكرى) ثمة مفترضات غير محكومة بصدقية عين الواقع الزنزاني، إذ نلاحظ تلك الشاشة التي تظهر للمعتقل بصورة فجائية، على حين غرة كشف لنا السارد منذ عدة سطور بأن السجين: (الظلام الحالك جدا .. لا أستطيع أن أميز أصابع يدي . / ص7) بما يدلل على أن طبيعة المكان تعود إلى مزايا موحشة من الأساليب البدائية من التنكيل، فكيف حال حدوث اشتغال هذه العارضة السينمائية التي تعرض كيفية تعذيب السجناء، فهذا الأمر ما يدل بذاته أن طبيعة المكان عائدة إلى دولة أوربية مثلا، وليس في إبراز ما قام به القاص من أحداث موصوفة سلفا في مستهلات القصة كـ: (أشباح تدور حولي وأنا معصوب العينين . / ص7) كما وهناك من المواقع الحسية للشخصية ما لا يتوافق مع زمن وظروف المعتقل بحد ذاته كحالة ما في السرد أيضا: (لا أعرف ما يخبئه القدر لي في لحظات قادمة ؟ ــ الأصوات، التي تبعث القرف قي نفسي انتهت فجأة استرجعت شريط الأحداث ليومي منذ الصباح .. على عادتي تأنقت، تعطرت، تأملت نفسي في المرآة . / ص8) بمثل هذا النوع من التحول داخل ذاتية السجين (صورا بشعة لأنواع التعذيب ــ وبين هذا وذاك سياط تهوي على الأجساد تقرع أبواق الألم . / ص8) لا أعتقد من جهتي من ناحية ذاتية أن من يعتاش مثل هذه الأجواء الكابوسية له القدرة على استعادة شريط يومه حتى وأن كان الأمر مباحا قبل عملية الاعتقال . إذن هناك حالات غير مدروسة نفسيا وعاطفيا في مواضع بعض الأحداث في النص، ولكن القارىء للقصة ذاتها قد يتفاعل مع باقي بنادات المتن السردي، حيث يقوم الفاعل الذاتي في قصة (عنق الزجاجة) وقصة (ذئاب رحمية) وقصة  (عروس شنكال) بجملة أفعال تقترب من مغالاة المتخيل وانحسار صدقية الواقع، فمثلا هناك المصادفات الغريبة في قصة (ذئاب رحمية) والمنظور المباغت في حالات قصة (عنق الوجاجة) والقصة الأخرى التي تقترب من الفضاءات الرومانتيكية في (عروس شنكال) . عموما لا أود الإضافة والتعليق حول بعض ثغرات النصوص القصصية في المجموعة (أنقاض وطن) سوى القول أن موضوعات القصص ما هي إلا تجليات تسعى إلى رصد دلالات مرحلة الأرهاب ومرحلة النظام السابق في العراق، ولو حاولنا قراءة قصص المجموعة الأخرى كـ (أورتار العود ـ طائر الجنة ـ رقية العصر ـ عقدة الماضي ـ حافة الانهيار ـ أزهار بين الصخور) وقصص أخرى أشد ولوجا في دواخل الذات الناظمة وإلى أغوار منظورات العلاقات التفاعلية المأساوية التي راحت تسجل أشد مظاهر التقهقر للفرد الإنساني بين ثنائية (أنقاض = وطن) وصولا إلى أشد حالات السرد والتبئيير للأحداث والشخصيات المذابة في أفضية الذاتية والموضوعية المرسومة في آفاق بانوراما الخارج والداخل .

تعليق القراءة:

تتجلى الأحداث القصصية في مجموعة (أنقاض وطن) للقاص فلاح العيساوي، ضمن ممارسة متمحورة في كثرة الاسترجاعات والاستبطانات التي كانت تمارسها الشخصية الساردة والتي يقتضيها المقام السردي كحالة زمنية متمايزة بضمير المتكلم الذي يستعين في سرده بضميري (المتكلم ــ المبئر) وصولا إلى صيغة الشخصية المركزية التي تعد بمقام الفاعل الذاتي الذي يطرح أغلب حالات التوجس والخوف من المصير المجهول كما عاينا ذات الأمر في حال قصة (عطف الموتى) وقصة (موعد) وقصة (شروق الشمس) وقصة (خفايا الجسد) . عموما ما تم التركيز عليه في أقاصيص (أنقاض وطن) هو الاستفاضة بالوعي الفردي المأساوي المحفوف في كافة تفاصيل المحتوى المتني والمضمر في النص القصص، وقد يرتبط الاحساس بالشخصية القصصية في مجموعة العيساوي في كونها ذلك البناء النفسي للسارد المشارك، حيث تنعكس رؤيته الداخلية المعبدة تجاه سياق السرد بتلك اللغة الأكثر شفافية وبساطة وعمق في نقل أحوال وملامح صورة الفرد القاهرة في أبنية أخيلة ورؤى أرتبطت ومصير يبوح به السارد المشارك عن الملامح المأزومة للذوات الشخوصية في فضاءات أنقاض وطن .

***

حيدر عبد الرضا

في المثقف اليوم