قراءات نقدية

جمعة عبد الله: كومونة انتفاضة تشرين في رواية "البركان" للاديب حميد الحريزي

البلدان وشعوب العالم توصف وتؤرخ بالأحداث الكبيرة والعاصفة التي تمر بها، وترسم خارطتها السياسية والاجتماعية من خلالها، التي تعتبر نقلة نوعية في نظامها السياسي والاجتماعي، وترسم الخط الفاصل بين ماضيها وحاضرها، مثل كومونة باريس، الثورة الروسية البلشفية، وجسدتهما روايات كثيرة ظلت خالدة عبر التاريخ النضالي للشعوب في الحرية والتحرر، مثل رواية (عشرة ايام هزت العالم / جون ريد) وهذه الرواية القصيرة (البركان) محاولة إحصاء وجرد يوميات انتفاضة الشباب في ساحات محافظة النجف الاشرف، كدلالة رمزية لكل الساحات المنتفضة في عموم العراق، وخاصة ام ساحات انتفاضة الشباب في ساحة التحرير في بغداد، لقد شهدت أيامها بالأحداث بأجوائها المرعبة، من المواجهات الدامية بالقتل العشوائي بالرصاص الحي والعنف الدموي المفرط في البطش لشباب الانتفاضة، اضافة الى الوسائل التحريضية ودعايات الترويج المزيفة والمنحرفة بالنعوت والصفات البذيئة بحق شبابها البطل والجسور، بأنهم جوكرية تحركهم اصابع اجنبية معادية للعراق، او انهم ابناء السفارات أو ابناء الرفيقات، أو شلل من عصابات الجريمة والسرقة، وغيرها من الصفات البذيئة والهجينة، ولكن رغم هذه الأجواء المرعبة والحيل والمكائد ومحاولات الدس والاندساس داخل التظاهر والاعتصام لتخريبها، من انفار مأجورة ومدسوسة بشكل حبيث، فان الشباب واصلوا المواجهة والتحدي، وسجلوا أروع الملاحم الاسطورية في الدفاع عن الوطن والحقوق الشرعية، التي يقرها القانون والدستور، بايام الانتفاضة سقطت الاقنعة وانكشف الزيف، وتعالى الدخان الاسود والابيض والفرق الشاسع بينهما (ادعياء الدين والوطنية ممن شوهوا سمعة المنتفضين، بالاضافة الى ووقوف المرجعية السيد السستاني على وجه الخصوص المؤيد لمطالب الثوار وحقهم في التعبير عن رأيهم.

متسائلاً:

- ألا يدعي هؤلاء أنهم يتبعون المرجعية ويمثلون بقرارتها، فلماذا إذن يضربون ساحة الاعتصام والتظاهر؟) ص31. لماذا القمع الدموي بالبطش الهمجي بالرصاص الحي والقنابل الدخانية ؟ أين وصايا المرجعية الدينية التي تقف بجانب حرية التعبير وتفهم مشاكل الشباب بالحل السلمي، طالما التظاهرات سلمية، لايملكون الشباب سوى صدورهم العارية وحب الوطن الذي يسري في دمائهم، أين صوت العقل والمسؤولية تجاه الشعب ؟ لماذا هذا الانتقام الدموي في حقده الأسود الدفين، (- استاذ لقد شهدت عاصفة صفراء هوجاء تهب على ساحة الاعتصام ترافقها بروق ورعد قوي يهز الارض، شاهدت قطعان من الذئاب المسعورة تهاجم الساحة وتمزق الخيم، شاهدت الحمائم الحمائم والعصافير والفواخت تسقط ميتة لتحترق بنيران الخيم المشتعلة، شاهدت وشاهدت........) 24. هذا الانتقام الوحشي من السلطة وأجندتها القوات الأمنية وميليشياتها المسلحة في حقدها الأسود الدفين، هذه الصورة السوداء الهمجية، يقابلها صورة بيضاء ناصعة البياض في روحها الانسانية والشعبية المتفهمة، هي روح التضامن الشعبي بالاسناد والدعم من عموم الشعب العراقي وطبقاته الشعبية، في روح التضامن والإسناد لشباب الانتفاضة، زادهم عزماً واصراراً في التحدي و الصمود والمواصلة، بل اصبحت الانتفاضة عنوان التحدي بهذا الاحتضان الشعبي الكبير لها (- أثار اعجابي واندهاشي هذا الكم والنوع الهائل من التضامن بين المنتفضين وعموم أبناء وبنات الشعب، حيث نصبت المطابخ والمطاعم وإحضار الأكل والشراب والماء بالسيارات من الأحياء ومن مختلف فعاليات الشعب الثائر ومن البيوت، لضمان استمرارية الانتفاضة وتحقيق أهدافها المشروعة، لم يحصل هذا الاندفاع إلا أثناء تأدية مرسم زيارة الاربعين للامام الحسين (ع)) ص 33. هذا الإشراق الوطني والشعبي يحمل هوية العراق الحقيقية في أصالته الشعبية، في زمن أصبحت الوطنية والوطني اشد تهمة اجرامية يعاقب عليها القانون بالسجن والموت والاغتيال والخطف كالعهود السابقة المظلمة وخوفها من كلمة وطني ومعنى الوطنية (هززت يدي مستغرباً حيث تراقصت امام ناظري عشرات علامات الاستفهام والتعجب حول كلمة (الوطني) هذا الضيف الدائم على السجون والمعتقلات المنتشرة على طول وعرض البلاد، الملاحق دوماً من قبل النظارات السوداء، اينما يذهب) الحقب السوداء التي مرت على العراق في مراحلها السياسية منذ الملكية ولحد الآن، لم ياتٍ الى العراق حاكم إلا يحمل معه سوط الارهاب والظلم والطغيان، واهمال وحرمان الشعب لا يهمه إلا الكرسي، ما عدا عبدالكريم قاسم (ماحكم العراق رئيس بي حظ وبخت وراعه الوادم وشبع اليتامه اللهم إلا عبدالكريم قاسم وكتلوه البعثية والاكطاعيه واهل العمايم بالتعاون ويه الانكلريز والامريكان وحكام الكويت وعبدالناصر) ص 19.

×× أحداث المتن السردي:

تدور أحداث السرد الروائي اليومية العاصفة في ساحات محافظة النجف الاشرف، تظاهرات الاعتصام والشوارع والساحات، يسردها الراوي العليم، وهو ناشط سياسي واجتماعي، له علاقات واسعة مع الناس ويكن له الاحترام والتقدير، بما يقدمه من مساعدة والدعم في مجاله الصحي، الطب الفني المختص بالتحاليل المختبرية، يساعد الفقراء في الاجور المالية ويدفعهم الى اطباء يهتمون بالعلاج بدلاً بالاهتمام بالأجر والدفع المالي، يقف إلى جانب انتفاضة الشباب ويدعمها بكل امكانياته، كالتزام وطني وانساني واخلاقي، ويشخص العلل الاجتماعية ويفند الدعايات الترويجية والتضليلية، التي تعمي البصر والبصيرة، في تشويه سمعة ومكانة الشباب المنتفض، في محاولة لقلب الحقائق بالتزيف المنحرف، ويعري دعايات التحريض والدس، والروائي أو السارد يربط بالرؤية الفكرية الواقعية والناضجة في ابعادها، ربط الماضي بالحاضر من العهد الملكي ولحد اليوم، عبر تناول الشخصية الرئيسية في ثلاثية المحطات، الفلاح (مظلوم) الذي انخرط في النضال السياسي والشعبي واعتنق الفكر الاشتراكي، ومدافعا عن العهد الجمهوري وزعيمه عبدالكريم قاسم، عاش وانخرط في النضال الصعب من الملكية الى العهد الجمهوري، الى انقلاب البعث ومجازره الوحشية ضد اليسار العراقي، وبعده اعطى راية الكفاح والنضال الى ابنه (كفاح) لمواصلة الطريق الثوري ثم الى حفيده، هذه الاشارة الرمزية البليغة، بأن الشعب وحركته اليسارية لم تنقطع على مواصلة النضال حتى في احلك الظروف القاسية والصعبة، وحتى رمزية اختراق رصاصة للشاب المتظاهر وهو يحمل كتاب (المحطات) بما يدل على الارهاب الفكري ينزف دماً كالنضال السياسي والشعبي. أي ان لغة الدم والنار والرصاص الحي في صدور الشباب العاري، هو نهج البطش بالانتفاضة واجهاضها بالدماء والحرق، في كل وسائل البطش، لا تفرق بين الارهاب بشقه السياسي والفكري (- أستاذ لقد شهدت عاصفة صفراء و هوجاء تهب على ساحة الاعتصام ترافقها بروق ورعد قوي يهز الارض،، شاهدت قطعان من الذئاب المسعورة تهاجم الساحة وتمزق الخيم، شاهدت الحمائم والعصافير و الفواخت تسقط ميتة لتحترق بنيران الخيم المشتعلة، شاهدت وشاهدت.......) ص24.، وكذلك تجنيد كل طاقات الدولة ومؤسساتها الخدمية والبلدية في إجهاض الانتفاضة، بكل الطرق الوحشية (أنظروا ايها الاخوة الى عشرات من الشفلات سيارات الحمل والبلدوزرات والسيارات المرافقة التي تحاصر الساحة بدلاً من ان تتوجه لتعديل الطرق والشوارع وبناء البيوت للفقراء وبناء المصانع والمعامل والمستوصفات أتت كالذئاب الجائعة لهدم الخيم على رؤوسنا ظناً منها بأنها ستقتل احلامنا بالحرية والرفاه وتحقيق دولة المواطنة وطن الجميع) ص62. هذه ثمار الحكم الطائفي والمحاصصة الطائفية، ليس في بالهم تطلعات الشعب وخدمته بالمسؤولية، وإنما الصراع على الكرسي والنفوذ، الصراع على الغنائم من يهمش اكثر، ويدفع ثمنها الشعب الأعزل بالدماء والخراب،تحرسهم القوات الأمنية والمليشيات المسلحة كي (تبقى البلاد تدور في حلقة الفساد والجهل والمحاصصة الطائفية في ظل انتخابات مزورة فاسدة ومشاركة اقلية مجتمعة، حكم هزاز غير مستقر وسط خلاف مكوناتها وانانياتها كخليط غير متجانس لا يعيش بدون ازمات مستدامة، فلا تقدم ولا تطور ولا امكانيات تحول جذري في نظام الحكم) ص 40. ان الزخم الكبير الصمود رغم سقوط مئات الشهداء وآلاف الجرحى والمعوقين والانتفاضة تزداد قوة وعنفوان في المجابهة، مما ارعب السلطة الحاكمة وتيقنت ان كرسيها أخذ بالاهتزاز العنيف، أجبرت عادل عبدالمهدي على الاستقالة من منصب رئيس الوزراء، ومجيء مصطفى الكاظمي ليلعب على الحبلين، ادامة النظام الطائفي الفاسد، وإعطاء الوعود الكبيرة للشاب المنتفض بتحقيق تطلعاتهم ومطالبهم، ودق صدره بالشرف والقسم في إيجاد قتلة المتظاهرين وتقديمهم للعدالة بالحساب العسير، لكن هذه الوعود ذهبت ادراج الرياح، فكانت في حقيقتها العملية، أشبه دس السم في العسل، لم يتحقق اي شيء وظل النهج الإرهابي على حاله كما كان، إذا كانوا افلحوا في اخمادها، ففي داخل رمادها ناراً قد تشتعل وتتفجر كالبركان، أكثر قوة وعنفوان من السابق، ان الانتفاضة حية تولد من رمادها كالطير العنقاء.

***

جمعة عبد الله – كاتب وناقد

في المثقف اليوم